التهذيب في فقه الإمام الشافعي

البغوي ، أبو محمد

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الأول يحتوي على كتاب الطهارة منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فيحسن بنا ونحن نقدم هذا الكتاب المبارك لهذه الأمة المرحومة أن تضع بين يديه مقدمة تجمع طرفاً من محاسن الشريعة يتمثل في العناوين الآتية: 1 - الحاجة إلى التشريع. 2 - أقسامه. 3 - مميزاته. 4 - المصلحة العامة في التشريع. 5 - منابع التشريع الإسلامي. 6 - تطور التشريع الإسلامي. 7 - اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم. إلى غير ذلك مما نراه منشوراً بين يدي صفحات المقدمة.

الحاجة إلى الشريعة لعلنا لا نعدو الحقيقة، إذا قلنا: إن الشرائع أمر ضروري للبشرية جمعاء؛ لما جبلت عليه النفوس البشرية من التَّنَافس والتَّسَابق في أمور كثيرة، قد يؤدي التعارض فيها إلى كثير من الآلام والمصاعب. إن النفس البشرية مبنية على إدراك اللذائذ ودفع الآلام، وقد تتعارض اللذائذ والآلام، فما فيه لَذَة قوم قد يكون فيه إيلام لغيرهم، ولو قام شخص ما ليحكم في استيفاء لذائذه وإزاحة آلامه، لاستأثر باللذائذ الأقوياء، وأدى ذلك إلى الاختلال وعدم التوازن بين مصالح الناس. لذا وضعت الشرائع قوانين للمعاملات والجنايات؛ لكي تمكن الناس من استيفاء حقوقهم. وليس كل ما فيه ألم يستحق أن يُدْفع، ولا كل ما فيه لذة يجب أن يُجْلَب؛ فقد يجد الشخص في المشقة سعادة ما ويلتذ بالراحة؛ كالمريذ تلذْ له بعض المطعومات، ولكنها تسوق إلى منيته، ويشمئز من بعض الأطعمة وفيها غنيمة شفائه. يقول الحقُ تبارك وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]. فالمعتبر إذاً لواضع الشريعة إنما هو اللذة التي نطلق عليها اسم المنفعة أو المصلحة، والألم الذي نطلق عليه اسم المضرة أو المفسدة. وتتفاوت هذه المنافع بحسب شدتها وضعفها، وطول بقائها وقصره، وبحسب ما تنتجه من نتائج. والشريعة الإسْلاَمية العادلة هي مِيزَانُ المنافع والمضار، وهي التي تلاحظ ما يتفرع عنها من النتائج، ثم تفرض لها من الأحكام ما يطابقها ويلائمها.

أَقْسَامُ الشَّرائِعِ تنقسم الشرائع بصفة عامة إلى قسمين: سماوية، ووضعية، والشرائع السماوية هي ما نزل بها وحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشرائع الوضعية هي ما استقر عليه الأمر من التقاليد البشرية التي وضعها البشر من تلقاء عقولهم. ومن الملاحظ أن أصول جميع الشرائع السماوية واحدة؛ فهي تدعو كلها إلى توحيد الله - تعالى - وإفراده - سبحانه - بالعبودية والطاعات؛ يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وتدعو الشرائع السماوية جميعها إلى أصول عامة وقواعد أساسية، يقوم عليها نظام الحياةح كالعدل، والمساواة، والحرية الصحيحة؛ كما تنهى عن الظلم والعدوان. وقد نسخ الله - تعالى - من تعاليم الشرائع السابقة "الجزئيات" التي اقتضتها الظروف وطبيعة المكلفين، وأبقى منها ما يبقى به نظام المجتمع الإنساني، مستقراً على الأصل الذي دعت إليه تلك الشرائع. بينما تختلف الشرائع الوضعية باختلاف الأمم؛ فكل أمة أو دولة لها جنسيتها وقوانينها الخاصة التي تختلف عن قوانين ونظم الدول الأخرى؛ وبهذا يظهر الفرق واضحاً بين الشرائع السماوية والوضعية؛ فالشرائع السماوية- كالإسلامية مثلاً- ترى أن المسلمين جنسية واحدة وأمة منفردة، مهما تفرقوا في شعاب الأرض ونواحيها؛ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. المقارنة بين نوعي التشريع السماوي والوضعي 1 - من حيث العقل والنظر: لو تأملنا إلى حقيقة النفس البشرية، بما ركب فيها من النزعات النفسية والأهواء

البشرية والإرادات الشخصية، لوجدناها كلها تتجه تلقاء ما يحقق أطماعها ويساير أهواءها بدافع الحرص على اللذائذ، والاستئثار بها، وهم أمام هذه الإرادات والنزعات، لا يرى المرء ما يراه لغيره؛ لأن العقل البشري قاصر الإدراك مهما بَعُد مرماه. والمشرع يجب ألا يكون لهذه الاعتبارات كلها أو لبعضها، بقية من أثر في نفسه، وليس للهوى سلطان عليه، عالماً بما تقتضيه روح التشريع، متنبئاً بما يمليه الغيب وما ستظهره الحقائق. ومعلوم أنه ليس في البشر من تكون له هذه المزايا، وتتحقق عنده هذه الصفات؛ ليقود البشر ويشرع لهم ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة. ومن هنا، نعلم أن التشريع الذي يصنعه العالم بهم والمطلع على ضمائرهم يكون أحفظ لمصالحهم، وأحكم نظاماً لهم. 2 - من حيث المُشَاهدة والواقع: يشهد الواقع - في كل زمان ومكان - بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وبما اقتضته من حماية الإنسان من المفاسد والمضار التي تلحق بدينه، وعرضه، ونفسه، وماله، وكل ما يعكر صفوه وهناءه، وبالغت في الحفظ والحرص؛ حتى لقد يكون الشيء في نفسه خالياً من المفسدة. وهذا ما يدل عليه معنى التشريع المحكم الذي لا يتطرق إليه الفساد أو التناقض من أي وجه، فهل توجد في الشريعة الوضعية مثل هذه الأحكام؟ إننا لو نظرنا في الجرائم المتعلقة بالعرض والنفس والمال، وإلى جزاءات هذه الجرائم في كل من الشرائع الوضعية والسماوية - لوجدنا اختلافاً وبوناً شاسعاً بينهما. فها هي مواد قانون العقوبات الوضعية تبين لنا الجزاء الواجب إيقاعه على كل سارق أو غاصب بأية كيفية، وبأي نوع من أنواع الاختلاس والاغتصاب، وذلك إما بالأشغال الشاقة المؤبدة، أو المؤقتة، أو الحبس مع الشغل في الأعمال الشاقة، أو الغرامة. كما تقع هذه الجزاءات نفسها - عدا الغرامة - على كل من هتك العرض، وأفسد الأخلاق. ومن الملاحظ أن هذه الجزاءات لا تنفذ إلا إذا وقعت هذه الجرائم على وجه الإكراه. وبالتأمل في هذه الأحكام- ومدى تأثيره في النفوس- نرى أنها كفاح مخفف ودواء، يحد من ثورة هذه الجرائم من بقاء أصل الداء في الجسم؛ لذا نرى السارق- وقد تلقى جزاءه الذي قرره له القانون الوضعي- يعود إلى السرقة مرة أخرى؛ وهكذا بقية الجرائم. أما إذا قطعت يد السارق، أو أُخذ بالقود من القاتل- كما قررت الشريعة الإسلامية- لكان ذلك زاجراً لكل أفراد المجتمع. إن الشريعة الإسلامية الغراء اعتبرت هؤلاء المجرمين من زناة، وسُرّاق، وقتلة عضواً أشل في المجتمع البشري، بل جرثومة فساد؛ فوضعت لهذه

الأمراض أنجع الوسائل لمكافحتها واتقاء شرها، وعدم انتشار ضررها، ولا يكون ذلك إلا باستئصال شأفتها، واجتثاث أصلها من جذوره. ولقد فتحت القوانين الوضعية - بدعوى الحرية والمدنية - أبواب الشر والفجور، فالزنا وهو ما تمجُّه النفوس وتأباه الكرامات تبيحه الأنظمة الوضعية؛ كذلك الخمور وبقية الآفات. مميزاتُ التَّشْريع الإسلامي يتميز التشريع الإسلامي بثلاث خصائص أساسية هي: 1 - رفع الحرج والمشقة: يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة" وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - ما خُير بين شيئين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً. وإذا تتبعنا أحكام الإسلام، وجدنا أن جميع التكاليف روى فيها التخفيف واليسر على العباد، وقد استقرأ الفقهاء ذلك، فوجدوه على سبعة أنواع: 1 - إسقاط العبادة في حالة قيام العذر؛ كالحج عند عدم الأمن، والصوم عند العجز. 2 - النقص من المفروض؛ كالقصر في السفر. 3 - الإبدال؛ كإبدال التيمم عن الوضوء. 4 - التقديم؛ كالجمع بعرفات. 5 - التأخير؛ كالجمع بمزدلفة. 6 - التغيير؛ كتغيير نظام الصلاة في وقت الخوف. 7 - الترخيص؛ كأكل الميتة عند المخمصة، وشرب الخمر لإزالة الغُصَّة مقدّراً بقدرها.

2 - قِلَّةُ التَّكَالِيفِ: تمتاز الشريعة الإسلامية بقلة التكاليف؛ حيث سلكت طريقاً وسطاً لا مشقة فيه بكثرة التكاليف ولا إرهاق؛ ويؤيد هذا أن السلف كانوا يكرهون السؤال عن النوازل قبل حدوثها، وكانوا يكرهون الاستفتاء في المسائل المقدرة. قال - صلى الله عليه وسلم - للأقرع بن حابس- حين سأل عن الحج أفي كل عام يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت: نعم، لوجبت. ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم". وقال - صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء؛ رحمة بكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها". 3 - التدرُّجُ في التَّشْرِيعِ: من حسن تدبير الشرع وحكمته، أنه أخذ الناس في تقرير أحكامه على مهل، وعرض لهم أوامره قضية بعد قضية، متدرجاً بهم بما يلائم طباعهم وعاداتهم. لقد جاء الشرع الحنيف، والعرب يرزحون تحت وطأة شهواتهم التي تمكنت من نفوسهم، ووقعوا تحت تأثير غرائز كثيرة، لا يستطيعون الفكاك منها دفعة واحدة؛ فاقتضت الحكمة الإلهية ألاَّ يفاجَؤُوا بالأحكام جملة؛ فتثقل كواهلهم، وتنفر منها نفوسهم؛ فلذلك نزل القرآن منجماً، ووردت التكاليف متدرجة؛ لإعداد النفوس وتهيئتها لقبول كل هذه

التكاليف والأحكام. ومن ذلك أمر تحريم الخمر التي تمكنت من نفوس العرب إلى حدٍ بعيد؛ الأمر الذي جعل الحكمة الإلهية تتدرج في تشريع الأحكام التي تحرمها، فقال سبحانه في أول الأمر: {قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ثم تدرج خطوة أخرى حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]. ثم صرح بالنهي: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. هل لا بُدّ لكل تَشْريعٍ من حِكْمَةٍ؟ نعم، لا بد لكل تشريع من حكمة، تُطمئن القلوب حنى تمتثله وتقبل عليه، وهذه الحكمة قد تكون واضحة ظاهرة؛ كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" وقد تكون الحكمة خفية يعجز البشر عن إدراكها، ولس ذلك مبرراً لترك العمل بما خفي فيه موضع الحكمة، وقصر عنه إدراكه؛ فذلك تشريع الحكيم الخبير. فوائد حكمة التشربع: 1 - الإرشاد إلى استنباط الأحكام التي تقتضيها مصالح الناس، فحيثما وجدت المصلحة، وُجِدَ حكم الله. 2 - الإثارة الى أن الشارع ينبغي له أن يبين لهم ما في تشريعه من مصالحهم، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم. يقول تعالى في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وفي الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]. وفي القتل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. ولما كان التشريع الإسلامي مبنياً على جلب المصالح ودفع المفاسد، فإنه لم يضع إلا قواعد عامة وأموراً كلية، يدور عليها نظام الحياة في كل زمان ومكان، تاركاً التفصيلات الجزئية المختلفة يستنبطها المجتهدون والعلماء في ظل القواعد الكلية المقررة.

كما أن المصالح والمفاسد تترتب على الأفعال ترتب المسببات العادية على أسبابها؛ مثل ترتب منافع الأدوية ومضارها عليها؛ فإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فالعمل قد يكون مُنشئاً لمصلحة في حال أو زمان في حق أشخاص، فيستدعي الإقبال عليه، وقد ينتقل فعله إلى أن يتصل بمفسدة، فيستحق البعد عنه، ومن هنا، يجب أن يكون في نص القانون سعة ومرونة، بحيث يمكن تطبيقه على ما يجد من الحاجات والجزئيات؛ لأنه قانون عام، وضع للناس كافة في كل زمان ومكان. المصلحةُ العامَّةُ في التَّشْرِيع الإسْلامِيّ لم يقف المجتهدون من الصحابة والتابعين عند ظواهر النصوص، بل استنبطوا منها أحكاماً تلائم حالة العصر، بحيث لا تخرج عن دائرة الشرع الحكيم، واعتبروا المصلحة العامة وفقاً للشرع الحنيف. كما أن الصحابة عملوا أموراً لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار؛ ككتابة المصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر وتدوين الدواوين ... إلخ مما لم يتقدم له أمر أو نظر، وإنما فعل لمطلق المصلحة. هَلِ العُرْفُ قَانُونٌ شَرْعيٌّ مُطَاعٌ؟ من الأحكام التشريعية ما بينه الشارع على رعاية أحوال تتغير وعوائد تتجدد، وهذا النوع من الأحكام هو ما يعبر عنه بما يحتمل التفيير والتبديل ولا يلزم طرده في كل عصر، ولا إجراؤه في كل مكان بل يجري العمل فيه على ما يقتضيه العرف السائد بين الناس، ما دام الدين لا يحرم ذلك. يقول عمر بن العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" وعلى ذلك فالعادة قانون شرعي مطاع؛ لما لها في الشريعة الإسلامية بمقتضى المصلحة من هذا الأثر البيِّن، كذلك نرى لها هذا الأثر الفعال في بعض الشرائع الوضعية. التَّشْرِيعُ عِنْدَ العَرَبِ لقد استمد العرب تشريعاتهم من العرف والعادات الجارية فيهم، وآراء حكامهم في النوازل التي كانت تعرض لهم. وإذا قرأنا تاريخ العرب وتاريخ حكامهم المشهورين، وجدنا هذه الأمثلة الواضحة لكثير من الحكام؛ مثل قصي بن عبد مناف، وعبد المطلب بن هاشم، وغيرهما من الذين

أدلوا بآرائهم في كثير من المشكلات، وكان يدفعهم إلى وجه الصواب من الخصومات ما غرس في طباع الناس من حب العدل والميل إليه، بالإضافة إلى ما اقتبسوه من النصرانية واليهودية آنذاك. ومما ينكر أن العرب كانوا على جانب عظيم من الفوضى والاضطراب، حتى جاء الإسلام بنوره ومهّد لإقامة الوحدة القومية، فانهدم سلطان العادات، وقام الدين ينظم العلاقات البشرية، ويكمل ما قصرت العادات دونه، ويفي بحاجات المدينة الناشئة المتجددة؛ لذلك كان العهد الذي ظهر فيه الإسلام عهد انقلاب للحياة العربية الأخلاقية والاجتماعية، وعهد إصلاح للتقاليد والقوانين، فأبطل وأد البنات، وحرّم الربا، وبيع الغرر، وحرم زواج المقت والمتعة وطلاق الظهار ... إلخ. وامتدت حركة الإصلاح؛ لتضع للمجتمع الجديد الحدود والجزاءات للجرائم الخطيرة الني تهدد المجتمع بالفناء؛ كالزنا، والسرقة والقتل ... إلخ. وقد أقر الإسلام بعض التقاليد الجاهلية التي لا تتعارض معه؛ كإقرار نظام القسامة، وميراث الولاء؛ كذلك إكرام الضيف، ونصر المظلوم وصلة الرحم. منابعُ التَّشْرِيع الإِسْلاَمِيّ رسمت الشريعة الإسلامية لبعض أحكامها العملية بالدلائل الصريحة، ورسمت لبقيتها مناهج يهتدي بها المجتهد، وينحصر ما يتمسك به المستدل للحكم في نوعين: 1 - ما يدل بنفسه، وهو القرآن الكريم، والحديث الشريف، والقياس. 2 - ما يتضمنه الدليل ويستلزمه، وهو الإجماع. وإنما كان كذلك؛ لأنه لا ينعقد على حكم حادثة إلا إذا قام له دليل ثابت ومستند صحيح. قال في "كشف الأسرار" للبزدوي: "اعلم أن أصول الشرائع ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والأصل الرابع: القياس بمعنى الاستنباط من هذ 5 الأصول". سبب انحصار المصادر على هذ 5 الأربعة: إن الحكم إما أن يثبت بالوحي، أو بغيره، والأوّل إما أن يكون متلواً وهو الذي تعلق بنظمه الإعجاز، وجواز الصلاة، وحرمة القراءة على الحائض والجنب، أو لم يكن، والأول هو الكتاب، والثاني هو السُّنة، وإن ثبت بغيره فهو إما أن يثبت بالرأي الصحيح أو بغيره، والأول إن كان رأى الجمع فهو الإجماع، وإن لم يكن فهو القياس، والثاني الاستدلالات الفاسدة.

الأدلَّةُ على هذه المَصَادِرِ الأَرْبَعَةِ يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا} [النساء: 59]. وقد اختلفت آراء المفسرين في المراد بأولي الأمر في الآية؛ فذهب بعضهم إلى أنهم العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنهم الخلفاء الراشدون، وذهب البعض الآخر إلى أنهم أمراء السرايا. ولا شك أن المراد بطاعة الله العمل بما جاء في كتابه، وبطاعة الرسول العمل بما صح عنه من الأخبار والآثار. أما وجه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع، فهو - كما يرى الفخر الرازي - أن المراد من "أولي الأمر" "أهل الحل والعقدة" فالله - تعالى - ذكر ثلاثة طاعتهم واجبة، وهم: الله، ورسوله، وأولو الأمر، والله ورسوله مقطوع بعصمتهما؛ فوجب أن يكون أولو الأمر كذلك. أما وجه الاستدلال بالآية على حجية القياس، فقوله فيها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. حيث نرى أن موضع الآية الثانية غير موضع الآية الأولى؛ إذ لو كان الموضع واحدا، وهو السائل المنصوص على حكمها في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع - كما يفهم من الآية الأخيرة لكان قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ....} تكراراً محضاً؛ إذ يؤول الكلام إلى: أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فأطيعوا الله ... إلخ. وذلك لغو ينزه القرآن عن مثله. وحيث اختلف الموضوع، فكان محل الآية الأولى الأحكام المنصوص عليها، ويكون محل الثانية الأحكام الغير منصوص عليها أو على حكمها، وهذه يمكن تعرُّفها من النصوص الشرعية بعد معرفة العلة التي يناط بها الحكم في محل النص، وبعد معرفة تحققها في الحادثة التي لم ينص عليها، فكأن الله - تعالى - يقول: فإن تنازعتم في شيء، لا تجدون له نصًا - فردوه إلى المنصوص في الكتاب أو السنة، بإعطائه حكمه بعد الاشتراك في المناط المعتبر. وبذلك تكون الآية قد دلت على حُجية الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس. وأما مأخذ هذه الأصول من السُّنة، فالأمر ظاهر بالنسبة للكتاب الكريم الذي قال الله فيه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكان ذلك دليلاً على حُجية السُّنة من وجه آخر.

وأما الإجماع فسنده قوله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وأما القياس، فدليله من السنة حديث معاذ بن جبل، حينما بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ " فقال له معاذ: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ ". قال معاذ: أقضي بسنة نبي الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله؟ ". قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلوا، فضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله". وإذا دققنا النظر، وجدنا أن الأصل في هذه الأحكام كلها واحد، وهو قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40]. ومن هذه الأحكام، ما وصلنا بين دفتي المصحف، ومنه ما وصل على لسان رسول الله، ومنها مما لم يكن قرآناً ولا سنة، ولكنه مستنبط من ذلك وهو القياس، أو مستند إلى أحدها وهو الإجماع. وهناك أدلة أخرى أخذ بها البعض، وتركها البعض الآخر؛ مثل: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة ... إلخ. والكلام فيها مبسوط في كتب علماء الأصول. بَعْضُ الدَّعَاوَى المُفْتَرَاةِ يدعي بعض الباحثين في الشرائع والقوانين الذين هبطت عقولهم دون مستوى العقول - أن الشريعة الإسلامية أخذت بعض أصولها من الشرائع والقوانين الرومانية، ويستدلون على هذا الزعم الباطل باتحاد بعض القواعد والأصول في القانونين "الإسلامي والروماني" وبأن بلاد الشام كانت تابعة للدولة الرومانية قبل ظهور الإسلام، وقد كان القانون الروماني يحكمها، فهيأ ذلك لأولي الأمر من المسلمين أن يقتبسوا بعضاً من أصول هذا القانون. وللرد على هذه الدعوى نقول:

1 - لقد جمعت الشريعة الإسلامية بنظمها وقوانينها في مدة قصيرة، ولم ينتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الدار الآخرة حتى كانت أصولها تامّة، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف هامة في فروعها وبسط أحكامها، وهذا ما لم يكن للأمم قبلنا، مع العلم أن النظم الرومانية لم تنضج إلا على عهد القيصر "جوستنيان" عام 565، أي بعد مضي ثلاثة عشر قرناً من حياة الرومان؛ وذلك يدل دلالة قاطعة على مكانة الشريعة الإسلامية وأنها بوحي سماوي. 2 - من الناحية التاريخية يتضح لنا أنه لم يكن ثَمَّ اتصال بين العرب في شبه الجزيرة العربية، وبين أهل تلك البلاد "الشام" إلا في أحوال قليلة جداً، كالتجارة مثلاً، فلا يعقل أن يكون المسلمون قبل اتساع فتوحاتهم قد أخذوا من فقه هؤلاء الرومان، على أن هذه القاعدة قد تقررت في الدين الإسلامي قبل أن تمتد الفتوحات الإسلامية إلى الشام، ويتهيأ للمسلمين أن يطلعوا على النظم الرومانية. 3 - الاتفاق في بعض الأحكام واتحاد بعض النصوص في كلا القانونين لا ينهض دليلاً للحكم بأن القانون الإسلامي اقتبس من الروماني، فالعقل كثيراً ما يهتدي إلى أحكام تتفق مع ما ينزل من السماء من شريعة وقانون، فمثلاً قد اهتدى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أحكام في بعض ما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حوادث، وقد نزل القرآن موافقاً لما حكم به ابن الخطاب، فهل يقال - من أجل هذا التوافق -: إن الإسلام قلد عمر في رأيه؟ أقْسَامُ المَشْرُوعَاتِ الإِسْلاَمِيّة يلاحظ الناظر إلى المشروعات الإسلامية أنها تنقسم إلى قسمين: 1 - أحكام أصلية، وبكون المقصود منها الاعتقاد. 2 - أحكام فرعية، ويكون المقصود منها العمل. ومعلوم أن الأحكام الاعتقادية متعلقة بذات الله - تعالى - وأسمائه وصفاته، وبالرسل، والكتب، واليوم الآخر؛ وهذا ما يطلق عليه "علم التوحيد". والأحكام العملية هي ما تتعلق بأفعال المكلفين، من وجوب، وحرمة، وندب، وكراهة ... إلخ. والأحكام الأصلية ثلاثة أقسام: 1 - ما لا يمكن إثباته إلا بالدليل العقلي القاطع كوجود الله تعالى، وصدق الرسل في دعوى الرسالة؛ لأنه لا طريق إلى إثبات ذلك بالدليل النقلي وحده، ولا يؤثر ذلك في كونه

شرعياً؛ لأن الشارع أرشد إلى النظر والاستدلال في كثير من نصوصه. 2 - ما لا سبيل إلى إثباته إلا بالنقل؛ وذلك كالأحكام المتعلقة بتفاصيل الدار الآخرة. 3 - ما يثبت بكل من الدليلين النقلي والعقلي؛ كالحكم بأن الله عالم مريد، وبأن الأنبياء تجوز عليهم الأعراض البشرية. تطوُّر التَّشْرِيع الإسْلاَمِيّ وسوف نتكلم في ذلك عن عهدين متمايزين: 1 - العهد الأول: عهد التأسيس، وهو زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعثته إلى موته. 2 - العهد الثاني: من بعد موته - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا. 1 - التَّشْرِيعُ في عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: يلاحظ الناظر لنصوص الشرع في العهد المكي، أنها لا تكاد تتعرض لشيء من التشريع؛ وإنما كانت تدعو إلى أصول الدين وقواعده؛ فالإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والأمر بمكارم الأخلاق وتجنب مساويها. وما نزل بمكة من الآيات التي تشتمل على تشريع، لم يكن الغرض منه إلا حماية العقيدة. أما المرحلة الثانية للتشريع في عهد الرسول، فكان بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ حيث انتظم التشريع جميع أمور الدولة ونواحيها، ونظمها. وفي هذا العهد كان التشريع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وحده مستقلاً به، وما كان لأحد من المسلمين أن يشترك معه في سلطة التشريع، وكان المسلمون إذا عرض لهم حادث أو شجر بينهم خلاف، وأرادوا معرفة حكم الإسلام - رجعوا إلى الرسول، ليعرفوا ما أرادوا. اجتهاد الرسُول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وقائع عدة، وأقر الاجتهاد كمصدر للشريعة الإسلامية. وقال العلماء: إن ما فيه نص إلهي، لا يجوز للنبي أن يجتهد فيه؛ لقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الأنعام: 106]. أما ما لا نص فيه، فيجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبداً بالاجتهاد فيه؛ لأن له سلطة التشريع عن الله تعالى باعتباره مبلغاً معصوماً.

والظاهر من استقراء كلام أهل العلم، جواز الخطأ عليه - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده؛ لأنه لو لم يكن احتمال الخطأ في اجتهاده، لكان مثل الوحي في عدم احتماله. جوانبُ من اجْتِهَادِهِ صلى الله عليه وسلم 1 - في الأحكام الدينية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ لما سقت الهدى"، ويريد النبي به ما ظهر عنده من المشقة عليه ومن تبعه في سوقه الملزم دوام الإحرام إلى قضاء مناسك الحج لما سقته، بل كنت أحرمت بالعمرة ثم أحللت بعد أدائها، كما هو دأب المتمتع؛ فثبت بذلك اجتهاده في الأحكام الدينية. 2 - في الحروب: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] عاتبه الله على إذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة "تبوك". 3 - في الأمور الدينية: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ... .} [الأنفال: 68] عاتبه على أخذه برأي أبي بكر الصديق في أخذه الفداء من أسارى بدر، وتركه رأي عمر في التقتيل، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضيه. 4 - في المصلحة العامة: لما قال - صلى الله عليه وسلم- في مكة: "لا يُخْتَلَى خلاها ولا يُعْضَدُ شَجَرُهَا" قال له العباس - رضي الله عنه: "إلا الإذْخر - يا رسول الله - لبيوتنا وقبورنا" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إلا الإذخر". وهذا منه - صلى الله عليه وسلم- استثناء باجتهاده؛ إجابة للعباس؛ للمصلحة العامة. اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ في عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم تروي لنا الآثار وقوع الاجتهاد من الصحابة - رضوان الله عليهم - وقد أقرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- على ذلك وسُرّ بهذا. وقد مَرَّ بنا إقرار الرسول لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى "اليمن" ويروى أيضاً أن صحابيين خرجا في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء

فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فصوبهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال للذي لم يُعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين". ولقد كان اجتهاد الصحابة في الحالات التي تعذر الرجوع فيها إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- واستفتاؤه في الأمر؛ وعلى هذا فلا يظن أن الاجتهاد مصدر ثالث للشريعة في عهده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن اجتهاد النبي مرجعه الوحي، فإن كان صواباً أقر عليه، وإن كان خطأ نبه إلى وجه الخطأ فيه. وعلى هذا، لا يصح -نظرياً- اعتبار الاجتهاد في عصره- صلى الله عليه وسلم- مصدراً مستقلاً للشريعة؛ إذ كان مرجعه إلى السنة. القرآنُ الكريمُ مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ الأَوَّلُ عرف العلماء القرآن الكريم بأنه اللفظ العربي المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - المنقول بالتواتر، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس. وهو أيضاً حبل الله المتين من تمسك به نجا، ومن حاد عنه ضل؛ يقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157]. يقول الإمام المازني: "القرآن قاعدة الإسلام، وقطب الأحكام، ومفزع أهل الملة ووزرهم، وآية رسولهم، ودليل صدق نبيهم". ومعظم آيات القرآن تتعلق بالتوحيد، والأدلة الدالة عليه، ورد عقائد المضللين والملحدين، وإثبات الثواب والمعاد، ووصف يوم القيامة وأهواله، وما أعده للطائعين وللعاصين، وتضمن أيضاً أخبار الأمم الماضية والتنكير، وذكر أسماء الله وآلائه وبيان صفاته. وتعلقت بقية الآيات بالأحكام الفقهية وهي قليلة بالنسبة للأغراض السابقة. كيفيَّةُ نُزُولِ القُرْآنِ الكَرِيمِ يقول تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].

معنى هذا، أن القرآن الكريم لم ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة، بل كان ينزل بحسب الوقائع والمناسبات، أو جواباً لأسئلة واستفتاءات. مثال على الحالة الأولى: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] حيث نزلت في شأن "مرثد الغنوي" وقد بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى "مكة" ليحمل من المستضعفين من المسلمين، فعرضت امرأة مشركة أن يبيت عندها، وكانت ذات جمال ومال، فأعرض عنها خوفاً من الله، ثم أرادت أن يتزوجها، فقبل على شرط أن يرجع بالأمر إلى النبي، فلما رجع إليه سأله أن يأذن له في التزوج بها فنزلت الآية. مثال على الحالة الثانية: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]. وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215]. وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. وتلك الوقائع والاستفتاءات التي كان ينزل بحسبها القرآن هي ما يعرف بأسباب النزول، وللعلم بها أهمية كبرى في تفسير القرآن الكريم، ولتكون هذه الأسئلة والوقائع قرائن معنوية، يستعان بها على أن يفهم القرآن حق الفهم، وأن تعرف أسراره ولطائفه ومراميه أحسن معرفة. وقد أفرد العلماء لأسباب النزول كتباً ومصنفات كثيرة، كـ"أسباب النزول" للواحدي النيسابوري. ما حِكْمَةُ نُزُولِ القُرْآن مُنَجَّماً؟ قلنا فيما سبق: إن القرآن نزل منجماً حسب الوقائع والمناسبات، وما زال كذلك حتى كملت الشريعة بتمام نزول القرآن، وقد ذكر العلماء الحكمة في نزوله منجماً فيما يلي: 1 - ليقوي به قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم- فيعيه ويحفظه؛ يقول تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. 2 - اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون في القرآن ما هو ناسخ، وما هو منسوخ، وهذا لا يتأتى إلا فيما ينزل مفرقاً.

3 - في نزول القرآن منجماً رحمة بالعبادة؛ لأنهم كانوا قبل الإسلام في إباحية مطلقة وحرية لا حدود لها، فلو نزل عليهم القرآن دفعة واحدة لثقلت عليهم التكاليف، ونفرت قلوبهم عن اتباع الحق والإذعان له. أخرج البخاري عن السيدة عائشة أنها قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء لا تشربوا الخمر، لقوال: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا". الآيَاتُ المكّيَّةُ والمَدَنِيَّةُ يقال للآيات التي نزلت بمكة: آيات مكية، وما نزل بالمدينة يقال لها: مدنية. واختلف العلماء في ذلك؛ فيرى البعض منهم أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، معنى هذا أن ما نزل في الأسفار لا يطلق عليه مكّي ولا مَدَنيّ، فهو قسم مستقل. ويرى بعضهم أن المكي ما كان خطاباً لأهل مكة، والمدني ما كان خطاباً لأهل المدينة. ويرى البعض الآخر - وهو أشهر المذاهب- أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها ولو في "مكة". مميزات كل منهما: 1 - يرجع معظم الآيات المكية إلى توحيد الله، وإقامة البراهين على وجوده، وهدم افتراءات الملحدين؛ بينما تعرضت الآيات المدنية للأحكام الفقهية والفرائض والحدود. 2 - الآيات المكية غالباً قصيرة؛ ليتمكن الرسول والمؤمنون من حفظها؛ بخلاف المدني. 3 - كانت صيغة الخطاب المكي تارة تكون بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وتارة تكون بـ {يَا بَنِي آَدَمَ}، أما الخطاب المدني فيغلب عليه أن يكون بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، ولم يرد في الخطاب المدني بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إلا في سبع آيات معلومة. 4 - كل سورة فيها سجدة فهي مكية إلا الحج؛ فالراجح أنها مدنية.

5 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، إلا "العنكبوت"؛ لأنهم لم يكونوا بمكة غالباً. اسْتِنْبَاطُ الفُقَهَاء للأحْكَام من القُرْآنِ الكَرِيمِ تنحصر أحكام الشريعة الإسلامية في خمسة أنواع: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والجواز، وهو ما اصطلح أئمة الفقه والأصول عليه. ولا يخفى على كل بصير أن القرآن جاء في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة والإعجاز، وأن الله ساقه على سبيل الإنذار والبشارة؛ ليكون مؤثراً في النفس البشرية، والفصاحة من أعظم المؤثرات على عقول البشر وطبيعته التي تمل من تكرار عبارة واحدة. فلو جاءت الأحكام الإسلامية على سبيل: هذا واجب، هذا مندوب، هذا حرام ... إلخ. لم تكن هناك الفصاحة المؤثرة. وفي الواقع، نجد القرآن الكريم يعبر ببعض الألفاظ المصطلح عليها كالحرمة والحل؛ كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. وتارة يعبر في الوجوب بمادة "فرض": {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50]. أو يعبر عنه بـ"قضى"؛ مثل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]. أو يعبر عنه بـ"كتب"؛ مثل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. ويعبر القرآن بـ"ينهى" عن حرَّم ويعبر عنه بـ"لا يحل"؛ مثل: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. ويعبر عن الوجوب بـ"على"؛ مثل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]. ومن الصيغ المفيدة للوجوب ظاهراً وصفه بأنه بر؛ مثل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] أو وصفه بالخير؛ مثل: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]. ومن الصيغ الدالة على التحريم "لا تفعل"؛ مثل: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]. ومن ذلك فعل الأمر الدال على طلب الكف؛ نحو: {ذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120].

ومن ذلك ذكر الفعل متوعداً عليه، إما بالإثم، أو بالفسق؛ مثل: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]. وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] وقوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. وما ذكرناه سابقاً، إنما هو أمثلة فقط لهذه الأحكام الخمسة. وبالجملة، فإن الأحكام الخمسة السابقة لم ينص في الكتاب والسنة عليها. كما هي في كتب الفقه بهذه الألفاظ المعروفة في كل مسألة مسألة؛ وإنما وردت في الكتاب والسنة تلك الصيغ الدالة على السخط، أو الرضا، أو عدمهما، منطوقاً أو مفهوماً، ثم إن الصحابة ومن بعدهم من العلماء أدركوا بحسب القرآن ما دلهم على تلك الأحكام، فاصطلحوا عليها ورأوا أن الأوامر والنواهي لا تخرج عنها، فبذلوا وسعهم في الاستنباط بحسب القرآن وموارد كلام العرب وكتاباتهم. وقُوعُ النَّسْخِ فِي القُرْآنِ وقع النسخ في الكتاب والسُّنة على السواء، وهو جائز عقلاً بلا خلاف. وحكمة النسخ أن شرع الأحكام كثيراً ما يكون لمقتضيات وقتية، فإذا تغيرت هذه المقتضيات اقتضى ذلك تغير الحكم؛ رحمة من الحق- تعالى - بعباده. أما حكمة بقاء تلاوة المنسوخ، فهو التذكير بحكمة التخفيف واستحضار تلك الحالة السابقة، وثواب التلاوة، والتعبد، وغير ذلك. والنسخ في القرآن معناه: رفع حكم آية عن جميع محالها. أمثلة على ذلك: 1 - قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]. نسخها قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. 2 - قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] نسخها قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. 3 - قوله تعالى: {الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. نسخها قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]. وقد وقع النسخ في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال العلاء بن الشخير: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينسخ حديثه بعضه بعضاً كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً.

والنسخ أنواع: فمنه ما نسخ لفظه وحكمه؛ كـ"عشر رضعات معلومات يحرمن" ومنه ما نسخ لفظه وبقي حكمه؛ نحو: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله". ومنه ما نسخ حكمه وبقي لفظه كالأمثلة السابقة. وقد ينسخ قرآن بقرآن أو سُنَّة بسُنَّة أو سُنَّة بقرآن أو قرآن بسُنّة متواترة لا بخبر واحد، ولا نسخ بالعقل ولا بالإجماع؛ لأنه لا يتصور إلا بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نسخ بعده. المَصْدَرُ الثَّاني للتَّشريع السُّنّة النبويّة المطهّرة السُّنة في اللغة هي الطريقة الحسنة أو السيئة. والمقصود بها شرعاً ما أثر عنه - صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير. ويستثنى من ذلك نوعان هما غير داخلين فيما يطلب فيه الاقتداء أو التأسي: أحدهما: ما سار فيه على مقتضى العادة أو الجبلّة؛ كما ترك أكل لحم الضب، وقال: "لم يكن بأرض قومي أجدني أعافه". وثانيهما: ما قام الدليل على اختصاصه به؛ كحرمة أكل ذي الرائحة الكريهة. وقد دل القرآن دلالة واضحة على العمل بما جاء في السُّنة المطهرة؛ يقول تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير- إلا صادراً عن وحي، إلا أن الوحي قسمان: متلو وهو القرآن، وغير متلو وهو السُّنة. وقد نرى أقواماً ضلوا الطريق فنبذوا سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقالوا: في كتاب الله تبيان كل شيء، فما حاجتنا للسُنّة؟ ونسي هؤلاء قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92] وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. فقد دلت هذه الآيات وغيرها على حُجية السُّنة ووجوب الرجوع إليها والعمل بها. مَرْتَبَةُ السُّنّةِ في الاحْتِجَاجِ بها تقع السُنة في المقام الثاني بعد كتاب الله تعالى في درجة الاحتجاج؛ وذلك لأن ثبوت الكتاب قطعي، أما ثبوت السنة في الجملة فهو ظني.

ويدلنا على ذلك ما ورد في حديث معاذ - رضي الله عنه- عندما قال له الرسول: "بم تحكم؟ " قال: "بكتاب الله". قال: "فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله. وأما منزلتها من الكتاب من حيث الأحكام الثابتة بهما، فعلى ثلاثة منازل: المنزلة الأولى: سُنة موافقة لما نزل في الكتاب. المنزلة الثانية: سُنة تفسر الكتاب، وتبين مراد الله منه، وتقيد مطلقه. المنزلة الثالثة: سُنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب. أمثلة لهذه المراتب الثلاث: بالنسبة للمنزلة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه"، فإنه يوافق قوله تعالى: {وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. ومثال المنزلة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم- الوارد في تفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. ومثال ما هو من المنزلة الثالثة: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، والتحريم بالرضاع كل ما يحرم بالنسب، وإعطاء الجدة السدس، وغير ذلك. وهناك مرتبة رابعة للسُنة وهي أنها ترد ناسخة لحكم ثبت بالكتاب؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم-: "لا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ" فإنه نسخ آية الوصية في سورة البقرة.

وقوعُ النَّسْخ في السُّنَّةِ وقع النسخ في السُّنة مثلما وقع في القرآن، ودليلنا على ذلك تشريع حد الخمر؛ فإنه لم يكن شُرِع للخمر أولاً حد، ثم شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحد، لكن كان أولاً خفيفًا وهو الضرب بأطراف أثوابهم والنعال والأيدي وجريد النخيل، ثم شرع الحد بالجلد، وثبت ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإذا شرب الثانية فاجلدوه، وإذا شرب الثالثة فاجلدوه، وإذا شرب الرابعة فاقتلوه". لكنه روى أنه لم يقتل أحداً حيث ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بمن شرب الرابعة فلم يكن قتل. تخفيفاً من الله تعالى، فالقتل شرع بالسُّنة ونسخ بها. شُروطُ العَمَلِ بالسُّنَّةِ السُّنة التي يعمل بها يجب أن تتوافر فيها عدّة شروط مهمة؛ مثل: أن تكون متواترة، أو صحيحة، أو حسنة، وليس هناك قادح؛ كما إذا خالف الراوي من هو أحفظ منه، أو أتقن، أو أكثر؛ فتكون حينئذٍ شاذة، والشاذ من قبيل الضعيف الذي لا يُحتج به. والجمهور على وجوب قبول خبر الواحد الثقة الضابط عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكى الإجماع عليه في كتاب "جمع الجوامع"، وقد كان العمل بخبر الواحد شائعاً ومستفيضاً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يرسل رسله إلى الآفاق يبلغون أحكام الشريعة وهم فرادى. بينما اشترط الإمام أبو حنيفة للعمل بخبر الواحد شروطاً ثلاثة: 1 - ألا يكون عمل الراوي مخالفاً لروايته، فالعمل بما رأى لا بما روى؛ لأنه لا يخالفه إلا عن دليل ناسخ. 2 - ألا يكون فيما تعم به البلوى؛ فإن ما يكون كذلك تتوافر الدواعي على نقله متواتراً؛ ولذلك رد حديث "من مسّ ذكره فليتوضأ".

3 - ألا يكون مخالفاً للقياس على تفصيل عنده، ينبغي الرجوع إليه. واشترط الشافعي للعمل بخبر الآحاد الصحة والاتصال، وطعن في المراسيل، إلا مراسيل ابن المسيب التي وقع الاتفاق على صحتها. كذلك لم يقدم الإمام أحمد على الخبر المرفوع الصحيح عملاً، ور أياً، ولا قياساً، ولا قول صحابي. ولم يعمل المالكية بما خالف عمل أهل المدينة من أخبار الآحاد. كِتَابَةُ السُّنَّةِ من المعلوم أن السنة الشريفة لم تدون في عهد صاحبها - صلى الله عليه وسلم - بصفة مطلقة؛ وذلك لسببين: 1 - أن الأمة العربية كانت أمية، والأمي أقوى على الحفظ من الكتابة، وعلى الحفظ اعتمد جلّ الصحابة الكرام. 2 - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابتها؛ مخافة أن يختلط القرآن بالحديث. ويجب ألا يفهم هذا النهي على إطلاقه؛ لأنه ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - إجازته لبعض الصحابة في كتابتها؛ وعلى هذا يحمل النهي على طائفة مخصوصة وهم كتاب القرآن والوحي دون غيرهم؛ مخافة الخلط بينهما. ودليل إباحة كتابتها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله حتى يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مِنّي إلا حق". ومهما يكن من أمر، فإن الذي كتب من السُّنة في عهد الرسول قليل جدًّا، وظل الأمر

كذلك حتى أوائل المائة الثانية؛ حيث قيض الله من قام بتدوين السُّنة الشريفة من العلماء والفقهاء، رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً. التَّشْريعُ الإسلامِيّ في عَهْدِهِ الذَّهبيِّ ويبدأ هذا العهد من عهد الخلفاء الراشدين حتى ظهور المذاهب الفقهية، وتدوين مبادئ الشريعة من الكتب والمصنفات. والملاحظ أن التشريع في هذه الفترة قد مر بمرحلتين متمايزتين: 1 - المرحلة الأولى مرحلة الخلفاء الراشدين وأوائل التابعين إلى آخر القرن الثاني الهجري. 2 - المرحلة الثانية من وقت ظهور المذاهب الفقهية وتدوين الفقه إلى آخر القرن الرابع ممتدة إلى وقتنا هذا. أولاً: المرحلة الأولى: لقد امتدت الفتوحات ألإسلامية، واتسعت الممالك الجديدة في عهد الخلفاء الراشدين من الهند إلى الأندلس إلى غرب إفريقية، ودخل في دين الله أمم شتى؛ كفارس، والروم، والعراق، ومصر، والشام، وتفاعلت الحضارة العربية بحضارات الشرق والغرب، وتشعبت الأمور، وكثرت النوازل، وواجه المسلمون آنذاك وقائع لا عهد لهم بها، ولم يرد بها نص في كتاب أو سنة؛ لذا ظهر الفقهاء المفتون والقضاة المجتهدون في كل الأمصار، فأسسوا المبادئ وقعدوا القواعد، وقاسوا النظير على النظير والشبيه على الشبيه، وتنوعت أفكارهم ومشاربهم في كيفية الوصول إلى الضالة المنشودة، وقد تميزت هذه المرحلة بسمات أساسية منها: 1 - ظهور مواهب وأسرار الشريعة الإسلامية، وزادت سيطرة الأمة ورقابتها على متابعة الخلفاء لنصوص الشريعة وتحري اتباع الحق الواضح؛ وذلك تلبيةً لمبدأ الشورى الذي أقره الإسلام. 2 - حيث كثرت النوازل والوقائع التي لم يكن للمسلمين بها عهد- بدأ التوسع في التفريع والاستنباط، ولقد اقتصر آنذاك على ما جدّ من الحوادث، وترك ما لم يحدث؛ حرصاً على الوقت الثمين الذي صرف في تدبير أمور الدولة وإدارة شؤونها؛ كما أن هذا الاستنباط والتفريع إنما صدر منهم عن حزم وتبصُّر على أساس الشورى فيما بينهم.

3 - امتزج الفقه بالقضاء في هذه المرحلة أيما امتزاج؛ وآية ذلك أن القاضي كان من المجتهدين فيما يعرض له من الوقائع التي لا نص فيها، فتأثر الفقه والتشريع بقضائه؛ كما وجد الفقيه المستقل بالإفتاء، وقد تأثر القضاء بفقهه وفتواه، فكان من الصعب تميز الفقه "التشريع" عن القضاء في ذلك العهد؛ إذ كان الفقيه قاضياً، والقاضي فقيهاً. مَصَادرُ التَّشْريع الإسْلاَمِيّ في هذه المرحلةِ كانت مصادر الشريعة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما علمنا الكتاب والسُّنة، وفي هذه المرحلة زاد مصدران آخران وهما: الإجماع، والقياس، وبدخول هذين المصدرين تكفل لأحكام الشريعة الإسلامية المرونة والخصوبة على مر الزمن. وسوف نتكلم ها هنا عن هذين المصدرين اللذين استجدا في هذه الفترة، وهما: الإجماع والقياس، أما المصدران الآخران، أعني: القرآن والسنة، فقد سبق تفصيل القول عنهما في الكلام عن المرحلة السابقة. أولاً: الإجماع: وجد الإجماع منذ أن وجدت فكرة تنظيم الرأي من طريق الاستشارة؛ إذ كان الخلفاء والقضاة يستشيرون أهل الفقه، فإذا اجتمع رؤوس الناس وأئمتهم على أمر، قضوا به، وقد كان الإجماع مقصورًا على الصحابة، ثم امتد إلى التابعين، ثم صار أخيراً يطلق عليها إجماع المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ودليل الإجماع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". ثانياً: القياس: وهو يتضمن الرأي والاجتهاد، وقد أقر الرسول الكريم الرأي والعاملين به عند الحاجة، وقد استدللنا سابقًا بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ كذلك أقر عمر الرأي في كتابه لشريح القاضي. أما ما جرى من ذم الرأي وأهله فلم يكن القصد منه إلا أن يبعدوا عن ساحة الرأي من لم يتأهل له؛ حتى لا يجترئ الناس على الفتوى والقول في الدين بغير علم، فالرأي المذموم هو اتباع الهوى في الإفتاء من غير استناد إلى دليل أو أصل من الدين. وينبغي أن تراعى في القياس الأمور الآتية: 1 - أخذ الحكم من ظواهر النصوص إذا كان محل الحادثة مما تتناوله تلك النصوص،

وذلك بعد النظر في عامها. وخاصها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها، وغير ذلك مما يتوقف عليه الاستنتاج من الألفاظ. 2 - أخذ الحكم من معقول النص؛ بأن كان للحكم علة مصرح بها أو مستنبطة ومحل الحادثة مشتمل على تلك العلة، والنص لا يشمله؛ وذلك طريق القياس. 3 - أن تنزل الوقائع على القواعد العامة المأخوذة من الأدلة المتفرقة في القرآن والسنة، وهذا ما يقع تحت اسم الاستحسان، أو المصالح المرسلة وسد الذرائع. وهكذا كان اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بهذا المعنى الشامل؛ حيث نظروا في دلالة النصوص، وقاسوا، واستحسنوا إلى غير ذلك، وكان اعتمادهم في فتاواهم على أربعة أشياء في هذه المرحلة الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أمثلةٌ من اجْتَهادَات الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أجمعين 1 - مثال من اجتهاد الصِّديق أبي بكر: عندما واجه أبو بكر - رضي الله عنه - مسألة الردة، وجد أقواماً رفضوا أداء الزكاة رغم إقرارهم بالإسلام وأدائهم الصلاة، ولم يحدث هذا زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم- فكيف يتصرف إزاء هذه النازلة؟ رأى أبو بكر - رضي الله عنه - أنه يقاتلهم، ورغم هذا لجأ إلى الرأي والمشورة، فقال له عمر بن الخطاب: كيف نقاتلهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها" فقال له سيدنا أبو بكر: "ألم يقل: إلا بحقها؟ فمن حقها إيتاء الزكاة، كما أن من حقها إقام الصلاة، والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه.

وهكذا اجتهد الصديق، حتى وصل إلى الصواب، وهداه الله إلى الحق فقاتل المرتدين، وانتصر عليهم وظهرت كلمة الله. 2 - مثال من اجتهاد عمر رضي الله عنه: اختلف الصحابة في المسألة المشتركة، وهي التي توفيت فيها امرأة عن زوج، وأم، وأخوة لأم، وأخوة أشقاء، فكان عمر يعطي للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، فلا يبقى للأخوة الأشقاء نصيب، فقيل له: هب أن أبانا حجر في اليم، ألسنا من أم واحدة؟ فعدل عن رأيه وأشرك بينهم. ولعل في ذلك دلالة واضحة على مدى إنصاف عمر وعدله ورجوعه إلى الحق، حتى وصفه الإفرنج بأنه أكبر حاكم ديمقراطي في الإسلام. واجتهادات سيدنا عمر - رضي الله عنه - كثيرة؛ فمنها ميراث الجدة، وضرب الجزية على أهل السواد، وتدوين الدواوين، وغير ذلك. 3 - مثال من اجتهاد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: رأى عثمان - رضي الله عنه - جمع الناس على مصحف واحد بحرف واحد وترتيب واحد، وترك بقية الحروف السبعة؛ سداً للذرائع، وتوحيداً للصف الإسلامي وكلمته، وقطعًا للاختلاف والنزاع في القرآن الكريم، فوقع إجماعهم على ذلك، ثم جعل من هذا المصحف نسخًا كثيرة فرقها في عواصم البلاد الإسلامية، وحرق ما سواها إلا مصحف ابن مسعود. كما أمر بزكاة الدين، وانعقد الإجماع على ذلك، ورأى توريث المبتوتة في مرض الموت؛ معاملة لزوجها بنقيض قصده، فوافقه الصحابة على ذلك. 4 - مثال من اجتهاد علي كرم الله وجهه: وفتاواه وأقضيته - رضي الله عنه - كثيرة جداً ويكفيه فخراً أن الرسول قال في حقه: "أقضاكم علي". وقال عمر بن الخطاب: "لولا علي لهلك عمر" وذلك حينما أمر عمر برجم المجنونة التي وضعت لستة أشهر، فرد عليه علي وقال: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].

وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فيستنبط منهما معاً أن أقل الحمل ستة أشهر، وقال أيضاً: إن الله رفع القلم عن المجنون. وقد وقعت اجتهادات كثيرة لأولي الرأي وأصحاب العقل السليم من خيرة الصحابة؛ كابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت. واجتهاداتهم كثيرة ومتنوعة وهي مبسوطة في كتب الفقه لمن أرادها. المرحَلَةُ الثَّانيةِ من هذا العَهْد الثَّاني وتبدأ هذه المرحلة من وقت ظهور المذاهب الفقهية وتدوين الفقه إلى آخر القرن الرابع، ممتدة إلى وقتنا هذا. وفي هذه المرحلة نضج الفقه الإسلامي واتضحت معالمه، واتسع باب الاجتهاد المطلق والاستنباط، ونشطت الروح المعنوية للتشريع الإسلامي. ولقد كان هذا التطور والنضج مرتبطاً برقي الحياة السياسية واتساع الدولة الإسلامية في ذلك العصر، أي في عصر الدولة العباسية إبَّان تقدمها وزهوها، كما اجتمع مع ذلك السبب سببان آخران هما: 1 - اعتناق كثير من الأمم المختلفة والديانات الأخرى، كاليهود، والنصارى، ومجوس فارس، والروم، والهند - الإسلام لسماحته وسهولة مبادئه وتعاليمه، وقد وحد الإسلام بين هذا الشتات وجمع كلمته وشمله. 2 - اهتمام الخلفاء والأمراء برجال العلم والفقه؛ فقربوهم في مجالسهم، وأفسحوا لهم، وأغدقوا عليهم العطايا؛ مما نتج عنه ظهور الحوار والبحث الجدّي العميق، ونشأت حركة علمية واسعة في جميع الفروع عامة وفي الفقه أو التشريع خاصة، ودونت أحكام السنة وأصبحت علمًا مستقلاً بأصوله وأبحاثه. وفي هذا الوقت أيضاً وضع "علم أصول الفقه"، وصنفت المؤلفات العلمية واتسع النزاع العلمي بين أهل الرأي وأهل الحديث، وتكونت المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة في الكوفة، ومذهب مالك في المدينة، ومذهب الشافعي، ومذهب أحمد. كذلك ظهرت مذاهب أخرى في هذا العصر، وهي أقل شهرة وذيوعاً من المذاهب الأربعة المشهورة، وهذه المذاهب الأخرى مثل مذهب الأوزاعي، وسفيان الثوري، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري. ولما انتصف القرن الرابع وبدأت عوامل الضعف تتسلل إلى أركان الدولة العباسية -

في هذه الآونة فترت الهمم، وتقاعست عن طرق باب الاجتهاد، وماتت في الناس روح الاستقلال الفكري، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا أتباعاً لغيرهم، وأصبح العلماء عالة على فقه أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأضرابهم مما كانت مذاهبهم متداولة إذ ذاك، والتزم كل منهم لنفسه مذهباً لا يتعداه. وصار مريد الفقه يتلقى كتاب إمام معين ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دَوَّنه من الأحكام، فإذا تم له ذلك صار من الفقهاء. لذا قصر الاجتهاد عن مسايرة التطورات في المعاملات والوقائع، وكان ذلك نتيجة طبيعية للعوامل التي طرأت على الدولة الإسلامية فأصبحت دويلات يتناحر من أجلها ملوكها وولاتها. والصحيح الذي لا ينكره أحد أنه كان لعلماء هذه المرحلة رغم تحجر الأفكار وسيطرة التقليد، وضعف روحا الابتكار والاستنباط، كانت لهم أعمال جليلة، تتضمن جمع الآثار، والترجيح بين الروايات، وتخريج علل الأحكام، كما استخرجوا من شتى المسائل والفروع أصول أئمتهم وقواعدهم التي بنوا عليها فتاويهم وقد أفتى هؤلاء العلماء في مسائل كثيرة لم يكن لأئمتهم فيها نص ولكن حسب أصولهم، وبالقياس على فروعهم، كما قاموا بالترجيح بين أقوال أئمتهم والتنبيه على مسالك التعليل ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول. ويمكن أن نقسم المرحلة التي تلت هذا العهد إلى مرحلتين: 1 - مرحلة تبدأ من عصر التقليد هذا إلى نهاية القرن العاشر، ونلمح في هذه المرحلة ظهور عدد من الفقهاء الأعلام؛ كالسبكي، والرملي، والكمال بن الهمام، وابن الرفعة، والسيوطي وغيرهم وكان لهؤلاء الأعلام ملكات استنباطية وجّهوها للتأليف والتحرير، ونحا أغلبهم منحى الاختصار وجمع الفروع الكثيرة في عبارات تشبه الألغاز، مما احتاجت إلى شروح لإيضاح مبهمها، وغلبت روح الاختصار على تلك الشروح، فمست الحاجة إلى التعليق عليها، وهكذا اشتغل الناس في حل العبارات والألفاظ مما أبعدهم عن لب العلم وجوهره، ففسدت الاستعدادات وماتت المواهب. 2 - المرحلة الثانية تبدأ من القرن العاشر إلى الآن، وفيه ساءت حال الفقه كثيراً؛ لأن العلماء صرفوا جهودهم إلى دراسة الكتب السابقة وقطعوا صلتهم بتلك الكتب النفيسة القيمة التي خلفها المتقدمون. وقد انقطعت الصلة في هذا العهد بين علماء الأمصار الإسلامية، وقلت الرحلات العلمية لملاقاة العلماء في مختلف البلدان، كما أن كثرة التآليف والتصانيف أدى إلى الاشتباه والاختلاط، وعاق طلاب العلم عن الاجتهاد، وادعاه من هو ليس بأهله، وتصدى له جهال، عبثوا بنصوص الشريعة ومصالحهم. وبالجملة، فقد أقفل باب الاجتهاد، وطغى التقليد والجمود، حتى ضجَّ الناس من

التزام مذهب معين في التقاضي؛ مما أدى إلى ظهور حركة علمية جديدة في "مصر" على الخصوص تطالب باتخاذ تشريع جديد مصادره الكتاب والسنة غير مقيد بمذهب معين. هذا، ونسأل الله - تعالى - أن يأذن لشرعه أن يسود، وأن يهيئ حكام العالم الإسلامي إلى تطبيقه روحاً ونصاً. وإذ قد فرغنا من بيان حاجة الناس إلى الشريعة، نذكر المذاهب الفقهية التي اعتنت بدراسة شريعة الإسلام، وانتشرت في العالم الإسلامي مكاناً وزماناً، وسوف تُعْنَى في آخر دراستنا هذه بالمذاهب الفقهية الأربعة التي انتهت إليه المدرسة الفقهية الإسلامية إلى يوم الناس هذا!

المذاهب الفقهية تعددت المذاهب الفقهية، وانتشرت في كل مصر من الأمصار، وكتب لبعضها البقاء والاستمرار، وتزايد أتباعها عبر الزمن، وقد كان ذلك لمثل هذه المذاهب؛ لما توفر لها من بيئة علمية صالحة، استطاعت أن تحتضن هذه المذاهب، وتنشرها؛ وأن يصبح لكل مذهب مريدون وأتباع في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وينطبق كلامنا هذا على المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي. وهناك مذاهب فقهية ارتبط وجودها بالسِّيَاسَةِ، أي أنها مذاهب فقهية سياسية، وقد وجدت هذه المذاهب أتباعاً لها جيلاً بعد جيل، وقد كان ذلك من عوامل بقائها مع الزمن، ومن هذه المذاهب الفقهية السياسية: مذهب الشيعة، ومذهب الخوارج. غير أنَّ هناك بعض المذاهب الفقهية التي لم يكتب لها البقاء، ولم يوجد لها أتباع، وإنما ظل فقهها حبيس الكتب والمصنفات فحسب؛ ومن أمثلة هذه المذاهب: مذهب الحسن البصري، وابن شَرَاحِيل الشعبي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبي داود الظاهري، والليث بن سعد، وهناك مذاهب غيرها لم يكتب لها البقاء والاستمرار، غير أن كلامنا سيقتصر على هذه الأمثلة التي أوردناها؛ لشهرتها أكثر من غيرها: أولاً: مذهب الحسن البصري: * التعريف به: هو الإمام الفقيه الحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت، كان مولده سنة إحدى وعشرين

هجرية، وذلك قبل عامين من نهاية خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-. وقد تولى الحسن البصري - رضي الله عنه - قضاء البصرة في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز، ثم تركه، ونصَّب نفسه للإفتاء. وقد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة مجلدات ضخمة، كما قال ابن قيِّم الجوزية. وقال ابن قتيبة: "إنه تولى الكتابة لربيع بن زياد الحارثي بـ"خراسان". * مكانته العلمية: لقد كان الحسن البصري - رضي الله عنه - فقيهاً ومحدثاً ثقةً عظيماً؛ حيث روى عن كثير من الصحابة والتابعين أحاديث كثيرة، وكان - رحمه الله - كما تحدثنا كتب التراجم- يميل إلى الرأي في فقهه. يقول عنه أبو قتادة: "والله! ما رأيت رجلاً أشبه رأياً بعمر بن الخطاب منه". ويقول عنه أيوب: "ما رأت عيناي رجلاً قط كان أفقه من الحسن". وقد خالف الحسن البصري رأي واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد في حكم مرتكب الكبيرة، مما أدى إلى اعتزالهما مجلس الحسن، حينما اختلفا معه، وقد كانا قبلُ قد رسا عليه. وكان الحسن البصري - رحمه الله - قد ابتعد بنفسه عن الخوض في الأحداث والمشاكل السياسية التي انقسم إزاءها المسلمون إلى فرق وأحزاب، وكان يجيب - إذا سئل عن ذلك - بقوله: "تلك دماء طهَّر الله منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا". بيد أنه - رحمه الله - كان جريئاً شجاعاً في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم؛ يروى أنه ذات مرة سئل عن الأحداث السياسية التي تمر بها البلاد، فأجاب: لا تكن مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء. فقال له رجل من أنصار يزيد بن معاوية الخليفة: ولا مع أمير المؤمنين؟ فأطرق، ثم دق بيده، وقال؛ ولا مع أمير المؤمنين. * تصوفه، ومواعظه: اشتهر الحسن البصري بميله إلى التصوف والزهد، ورويت عنه كثير من المواعظ

والخطب الجليلة، حتى عده المتصوفة واحداً منهم. وكانت خطبه - رحمه الله - تشتمل على التذكير بالآخرة، والتنفير من الدنيا، والتخويف من النار، والتشويق إلى الجنة، وترقيق القلوب، وتهذيب النفوس، إلى غير ذلك من أهداف المواعظ وأغراضها. * ومن مواعظه رحمه الله: "يا ابن "يا ابن آدم لا تُرْض أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله، إن الله خَلَق الخلق، فمضوا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه، فليزدد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزد في أركانه أو بنانه". * وفاته: مات - رحمه الله - سنة عشر ومائة للهجرة بـ"البصرة"، وتبع جنازته خلق كثير. ثانياً: مذهب ابن شراحيل الشعبي: * التعريف به: الإمام الفقيه هو عامر بن شَرَاحِيل بن عبدٍ الشعبي، وأبوه عربي، وأمه من سبي "حَلُولا"، وكنيته: أبو عمرو، ومولده: سنة سبع عشرة هجرية. * مكانته العلمية: اشتهر الشعبي بالفقه، حتى أطلق عليه علامة التابعين، وقد حفظ - رحمه الله - الكثير من الأحاديث؛ لِمَا حباه الله من قوة الذاكرة، وسعة الوجدان، وممن روى عنهم الحديث: أبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من الصحابة والتابعين. يقول عنه مكحول: "ما رأيت أفقه منه". واشتهر الشعبي بوقوفه على النصوص، والتمسك بها، وكان - رحمه الله - يكره القول بالرأي، وإذا سئل عن رأي لم يعلم فيه نصاً، قال: لا أدري، ويروى عنه أنه قال: "ما كلمة أبغض إليّ من (أرأيت) ".

وقد تولى - رحمه الله - قضاء "الكوفة". * وفاته: مات سنة 104 هـ، وقيل: سنة 105 هـ، وقيل غير ذلك. ثالثاً: مذهب الإمام الأوزاعي: * التعريف به: هو الإمام الجليل: عبد الرحمن بن عمرو من "الأوزاع" قرية بـ"دمشق"، ولد سنة ثمان وثمانين هجرية بـ"دمشق"، وقد نشأ - رحمه الله- في "دمشق"، ثم رحل إلى "بيروت"، وأقام به حتى وافته المنية هناك. * مكانته العلمية: وكان الأوزاعي عالماً فقيهاً محدثاً، يحفظ كثيراً من الأحاديث، وممن روى عنهم: عطاء بن أبي رباح، والزاهدي، وابن سيرين، وخلق كثير. وكان - رحمه الله - معاصراً للإمامِ مَالِكٍ بن أنس؛ وهما يرجعان إلى مدرسة واحدة هي مدرسة الحديث. اشتهر عنه بغضه القول بالرأي؛ يقول: "إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فإياك أن تقول بغيره". وقد اشتهر مذهب الأوزاعي، وكان له أتباع كثيرون، وبخاصة في "الشام"، و"الأندلس" من أوائل القرن الثاني حتى منتصف القرن الثالث الهجري، غير أنه بعد ذلك اندثر أتباع هذا المذهب، وظلت أفكار الأوزاعي قاصرة على أمهات الكتب فحسب؛ وكان السبب في ذلك هو طغيان مذهب الإمام مالك في "الأندلس"، ومذهبِ الإمام الشافعي في "الشام". يقول ابن سعد عن الإمام الأوزاعي: "كان ثقة مأموناً فاضلاً خيراً، كثير الحديث والعلم والفقه". وكان - رحمه الله - جريئاً شجاعاً لا يهاب أحداً ما دام يتكلم بالحق، ولا يخشى

سلطاناً ما دام الصواب معه، وسِجِلُّ حياته وتاريخه حافل بمواقف الرجولة والشجاعة مع الخلفاء والأمراء. * وفاته: مات الأوزاعي - رحمه الله - بـ"بيروت"، وذلك في سنة سبع وخمسين ومائة هجرية. رابعاً: مذهب الإمام الليث: * التعريف به: هو الإمام العلامة الفقيه: أبو الحارث الليث بن سعد، ولد بـ"مصر" بناحية "قلقشندة" عام أربعة وتسعين للهجرة، وأصله من "أصفهان" في "فارس". * مكانته: رحل - رضي الله عنه - كثيراً، وطوّف على مشايخ العلم، وفقهاء المعرفة، فرحل إلى "مكة"، و"بيت المقدس"، و"بغداد"، وسمع على فقهاء ومشايخ هذه البلدان، والتقى بكثير من التابعين، وحدث عن تسعة وخمسين منهم. واشتهر عنه أنه كان زاهداً ورعاً لا يسعى إلى المناصب، بل كانت المناصب تسعى إليه، غير أنه كان يرفضها تعففاً، وانشغالاً بأمور الآخرة عن أمور الدنيا؛ يروى أن المنصور عرض عليه أن يكون والي مصر، غير أن الليث رفض ذلك، وزهد في السلطان والجاه. وتحدثنا الكتب التي ترجمت للإمام الليث أنه دارت بينه وبين الإمام مالك بن أنس مجادلات علمية، ومسائل فقهية كثيرة، كل يوضح رأيه، ويرد على الآخر، ومما كان يأخذه الليث على الإمام مالك هو تركه لخبر الآحاد إذا خالف عمل أهل "المدينة"؛ وذلك مبالغة من الإمام مالك في الأخذ بعمل أهل "المدينة". وخلاصة القول أن الإمام الليث كان فقيهاً حافظاً حُجَّةً ثبتاً ثقة؛ في علمه وأخلاقه، ومبادئه.

يقول عنه الإمام الشافعي: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به". * وفاته: مات - رحمه الله - بـ"مصر" سنة خمس وسبعين ومائة هجرية. خامساً: مذهب سفيان الثوري: * التعريف به: هو الإمام المحدث الفقيه الثقة: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي. * مولده: ولده - رحمه الله - بـ"الكوفة" سنة سبع وتسعين للهجرة. وكان معاصراً للإمام أبي حنيفة النعمان بـ"الكوفة"، غير أنهما من مدرستين متباينتين جداً؛ فأبو حنيفة من زعماء مدرسة الرأي والأخذ به، والثوري من زعماء عدم الأخذ بالرأي. والإمام الثوري إمام حُجَّة طَبَّقَتْ شهرته الآفاق، فقيه محدث؛ سمع كثيراً من الأحاديث، وحفظ كثيراً منها، وكان له مذهب خاص به، غير أنه لم يكتب له الذيوع وكثرة الأتباع، فاندثر وظلت أفكاره مقصورة على بطون الكتب والتصانيف. وكان - رحمه الله - كما روت الأخبار شجاعاً مع السلاطين والأمراء؛ كما هو حال الأتقياء من العلماء الذين لا يخشون في الحق لومة لائم. وكان - رحمه الله - أيضاً يبغض المناصب العليا، ويكره أن يكون من ذوي الجاه والسلطان؛ عَرَض عليه المهدي قضاء "الكوفة" بشرط ألا يعترض عليه في الأحكام، فما كان من الثوري إلا أن ألقى بكتاب المهدي في نهر دجلة. يقول عنه الإمام مالك: "كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب، ثم صارت تجيش علينا بالعلم؛ منذ جاء سفيان".

* وفاته: توفي - رحمه الله - بـ"البصرة" سنة إحدى وستين ومائة هجرية. سادساً: مذهب داود الظاهري: * التعريف به: هو الإمام أبو سليمان داود بن علي الأصفهاني المشهور بـ"داود الظاهري". مولده: ولد - رضي الله عنه- سنة مائتين بـ"الكوفة". * مكانته: يعتبر الإمام داود الظاهري من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، ورعاً، حافظاً، ثقة. اشتهر مذهبه في "بغداد"، و"الأندلس"، وكان له أتباع كثيرون، غير أنهم انقرضوا بعد القرن الخامس الهجري. وكان داود الظاهري متعصباً للمذهب الشافعي، غير أنه كان يرى أن القياس لا يعتبر مصدراً تشريعياً مطلقاً؛ كما اشتهر عنه الأخذ بظاهر الكتاب والسنة، وأن عمومات الكتاب والسنة تفي بكل أحكام الشريعة، وتكون له بمجموع هذه الآراء وغيرها ما يعرف بمذهب أهل الظاهر. * وفاته: توفي داود الظاهري - رحمه الله - بـ"بغداد" سنة سبعين ومائتين هجرية. تبلور المذاهب الفقهية ونكتفي بذكر الأقطاب الأربعة أركان الإسلام: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد. أولاً: المذهب الحنفي: ومصادر المذهب الحنفي وموطنه يتمهد في أن عبد الله بن مسعود، والإمام عليا قدما

إلى الكوفة واستقرا فيها، وأخذا يعلمان الناس أمر دينهم، ويلقنانهم مبادءهم، وقد كان ابن مسعود متأثراً بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، وشدة ميله للرأي، واحتياطه الزائد في الأخذ بالحديث؛ كما أن علياً كان واسع الأفق قوي الحجة. برز في مدرستها فطاحل الفقهاء؛ فهذا شريح الكندي الذي مارس القضاء حقبة من الزمن، مع ميله الشديد للأخذ بالرأي، وكان بعده الفقيه إبراهيم النخعي فقيه الرأي، وعامر بن شراحيل الشعبي، غير أنه كان رغم أنه درس في مدرسة الرأي- يكره الأخذ بالرأي، ويقف عند الآثار؛ ولذا فإنه غذى هذه المدرسة بما جمع وحفظ من أحاديث، ثم جاء من بعدهما حماد بن سليمان، فأخذ عنهما، ومزج فقه النخعي بفقه الشعبي، ولقن هذا المزيج لتلاميذه بالكوفة، وكان فيهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق جميع أقرانه، وتلقى زعامة هذه المدرسة من بعد شيخه حماد، والتفَّ حوله الراغبون في التفقه، وبرز منهم أبو يوسف ومحمد وزفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي في القرن الثاني الهجري، في أواخر العهد الأموي. وأخيراً أطلق الفقهاء على أبي يوسف ومحمد كلمة الصاحبين، وعلى أبي يوسف وأبي حنيفة كلمة الشيخين، وعلى أبي حنيفة ومحمد كلمة الطرفين، أما زفر فيسمى باسمي لقصر مدته. وفي العهد العباسي ازداد نفوذ هذا المذهب، وتغلغل في أنحاء الدولة العباسية، ووصل جميع أطرافها، وبقي حتى الآن يعتبر المذهب الرئيسي في باكستان، وبعض بلاد العراق، وتركيا، ومصر. ولقد كان لاتصال أبي يوسف بالخلفاء العباسيين، وشدة نفوذه عندهم، وتعيينه على ولاية القضاء الفضل في الانتشار السريع الذي لاقاه هذا المذهب، وفي هذا يقول ابن حزم: "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان؛ الحنفي بالمشرق، والمالكي بالمغرب ... " وهذه سنة الله في كونه إذا أقبل الحاكم على شيء تسابق الناس عليه. أما أصول هذا المذهب التي كان يرجع إليها في استنباط الأحكام- فهي أولاً القرآن، وهو المصدر الذي يرجع إليه فقهاء جميع المذاهب أو لا يختلفون عليه، وإن اختلفوا في فهم مدلوله وإشارته، وطرق الاستنباط منه، ثم يرجعون إلى السنة، وقد تشدد الفقه الحنفي في قبول الحديث، والتحري عنه وعن رواته؛ فلا يأخذون بالحديث إلا إذا كان متواتراً ترويه جماعة عن جماعة، أو كان مشهوراً اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي واحد أمام جمع منهم، ولم يخالف فيه أحدهم؛ إذ يعتبر سكوتهم إقراراً له، ثم بعد ذلك يرجعون إلى ما كان في عهد الصحابة هل أجمعوا على حكم في مثل هذه المسألة المعروضة

عليهم، وليس لها حكم ظاهر في كتاب الله، وما صح من سنة رسوله؛ فإن كان اتبعوه وإلا أخذوا بالرأي عن طريق القياس والاستحسان، وقد كان تشددهم في الحديث، وعدم أخذهم بخبر الآحاد الذي لم يرو أمام جمع من الصحابة - سبباً في توسيعهم في الاجتهاد والرأي، وسنقدم لك أئمة هذا المذهب. الإمام أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه مولى تيم الله بن ثعلبة، وقيل: إنه من أبناء فارس الأحرار، ولد بالكوفة سنة 80 هـ. وتفقه فيها، وهو من أتباع التابعين، جلس في مسجد الكوفة إلى حلقات درس علم الكلام. ويروى عن زفر بن الهذيل؛ أنه قال؛ سمعت أبا حنيفة يقول: "كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً؛ ليشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يوماً فقالت: رجل له امرأة يريد أن يطلقها للسنة، كما يطلقها؟ فأمرتها أن تسأل حماداً فترجع فتخبرني، فرجعت وأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، فأخذت نعلي فجلست إلى حماد ... ويروى أنه لازمه نحو ثماني عشرة سنة، جالسه نحو عشر سنوات، ثم حدثته نفسه أن يستقل عنه، ويكون له حلقة خاصة، ولكنه خجل من شيخه، ولما غاب حماد فترة بالبصرة جلس مكانه، وعرضت عليه نحو ستين مسألة جديدة فأفتى فيها برأيه، ولما عاد شيخه عرضها عليه فأقره على أربعين منها، فلزمه أبو حنيفة حتى مات حماد، فاختار الطلاب ابنه إسماعيل، ليجلس مكانه، غير أنه تنحى، لأنه كان متجهاً إلى الأدب والشعر لا إلى الفقه، فترأس الدرس موسى بن أبي كثير؛ لكبر سنه ومجالسته الشيوخ الكبار، ولما خرج للحج جلس مكانه أبو حنيفة، فملأ مكان حماد واستمر حتى مات. كان أبو حنيفة أعلم أهل عصره إماماً محققاً، قال فيه الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، وكان فقيهاً أميناً ثبتاً في رواية الحديث، لا يروي إلا الصحيح، واسع المال ميسور الحال، مصدر ماله تجارته، فقد كان خزازاً يبيع الخز، أزهد الناس في الجاه والسلطان. منهجه في استنباط الأحكام: بيَّنا لك من قبل أنه من مدرسة عبد الله بن مسعود؛ ولذا كان من أهل الرأي، إماماً في القياس بارعاً في الاستحسان، وقد نقل عنه أنه قال في طريق استنباطه للأحكام: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد لا في كتاب الله أو سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من

شئت، وأدع قول من شئت، ثم أخرج من قولهم على قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن بن سيرين، وسعيد بن المسيب - فلي أن أجتهد كما اجتهدوا. كان رحمه الله يتشدد في الأخذ بالحديث، على طريقة مدرسة الرأي، فيتحرى عنه وعن سنده، لا يأخذ بالحديث إلا إذا كان متواتراً أو مشهوراً عمل به فقهاء الأمصار، وهذا يضطره إلى التوسع في القياس والاستحسان، وقد رأيت مما نسب إليه أنه كان يوازن بين ما يروى عن الصحابة في المسألة الواحدة من أحكام مختلفة، ويختار أعدلها وأقربها إلى الأصول العامة، ولا يأخذ برأي التابعي إلا إذا وافق اجتهاده، وعرف بالمهارة في فقه الحديث؛ فسرعان ما يفرع من الحديث ويستخرج الأحكام بعد أن تصح روايته، وقال الأعمش لما سمع أحكاماً فقهية خرَّجها أبو حنيفة مما رواه له من أحاديث: يا معشر الفقهاء، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. خلقه ومريدوه: كان - رضي الله عنه - ورعاً تقياً محباً لأهل بيت رسول الله، كثير الصمت لا يتكلم إلا إذا سئل في مسألة فقهية فيتدفق علمه، تتلمذ عليه الكثير وأتى له الراغبون في فقه من كل جهة، برز منهم البعض فاصطفاهم وآخاهم، واستمروا معه يعاونونه في وضع المسائل والإجابة عنها، ولا يرى بأساً في مناقشتهم لرأيه، ومعارضتهم له ومخالفته إن تبينوا أن الصواب في غير دليله؛ ولذا فهم بحق قد شاركوه في تأسيس المذهب وسأقدمهم لك. القاضي أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الأنصاري أحد أصحاب رسول الله - عليه السلام - عربي الأصل، ولد سنة 113 هـ بالكوفة. محمد بن الشيباني: متفق على أنه من الموالي فهو شيباني، ولد سنة 132 هـ نشأ بـ"الكوفة"، ثم أقام بـ"بغداد"، أدرك الإمام أبا حنيفة، وتتلمذ عليه فترة قصيرة لوفاة الإمام ومحمد لم يتمم العشرين، ثم درس على أبي يوسف، ثم رحل إلى الحجاز، وحفظ الحديث، والتقى بالإمام مالك في المدينة، فدرس عليه الفقه والحديث، ومكث في المدينة في طلب العلم أكثر من ثلاث سنين؛ كما أخذ الفقه أيضاً عن الأوزاعي جمع كصاحبه من قبله بين مدرستي الرأي والحديث وعمل على التقريب بينهما، وقد كان ميسور الحال وفي بحبوحة من العيش. ثانياً: مذهب مالك: مدرسة الحديث: كانت المدينة المنورة مصدر الإشعاع العلمي فهي المقر الأصلي لأصحاب الرسول من الأنصار والمهاجرين، وبينا من قبل أنه من الطبيعي جداً أن تكون المدينة المنورة هي مقر

مدرسة الحديث، لأنها موطنه الأصلي، ولأن بها الكثير من حفظة الحديث ورواته، فهي وإن كان بها عمر الذي كان يتشدد بالأخذ بالحديث؛ فإن فيها عثمان، وعبد الله بن عمر، والسيدة عائشة، وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت، ثم كان بها بعد عصر الصحابة سعيد بن المسيب الذي كان رأس هذه المدرسة، ومن بعده كان ابن شهاب الزهري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وربيعة الرأي، وغيرهم ممن تخرج عليهم مالك بن أنس، الذي تركزت فيه مدرسة المدينة، وكان رأس مدرسة الحديث بها. مصادر المذهب وأصوله: أول مصدر يرجع إليه فقهاء هذا المذهب هو كتاب الله، فإذا لم يكن به الحكم ظاهراً يرجعون إلى سنة الرسول - عليه السلام - المتواترة، فالمشهورة مثل غيرهم من فقهاء المدرسة الأخرى، غير أن هؤلاء يقدمون خبر الواحد الثقة عن القياس، بشرط أن يكون موافقاً لعمل أهل المدينة، وإلا فهم ينظرون هل في الموضوع حكم إجماعي سابق من الصحابة يأخذون به، فإذا لم يكن اعتبروا عمل المدينة حجة يستندون إليه في أحكامهم، وقدموه على خبر الواحد الذي يخالف ما هم عليه، يقول مالك في كتابه إلى الليث بن سعد: "إن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، ونزل بها القرآن، والمالكية إذ يقدمون عمل أهل المدينة على خبر الواحد الثقة، وعلى القياس - من باب أولى؛ فإنهم يرون أن عمل أهل المدينة بمنزلة روايتهم عن الرسول، ورواية جماعة عن جماعة مقدمة على رواية فرد عن فرد، ومقدمة على الرأي، ليس هذا فحسب، وإنما يؤخرون القياس أيضاً عن قول الصحابي الحجة الثقة، إذا صحت الرواية عنه فيما لا مجال فيه للرأي، ولم يرد في المسألة حديث صحيح يعارضه، وكان يعتبر ذلك مصدراً تشريعياً، وقد كان هذا المصدر محل جدل ومناقشة، إذ الصحابي غير معصوم، واجتهاده ليس بحجة ما دام لم يكن محل إجماع، وإلا لزم التناقض. وإن كان مالك قد توسع في الأخذ بالحديث، وليس للقياس عنده المكانة التي له في المذهب الحنفي، إلا أنه كثيراً ما كان يبني أحكامه على أساس ما سماه المصالح المرسلة، والاستصلاح، والاستصحاب، وسد الذرائع؛ وبذا تجد أن مجال الرأي موجود في مذهبه ومدرسته، لكن بصورة أضيق مما عند الآخرين، فلم يكن الخلاف بين مالك والأحناف في الأخذ بالسنة أو الأخذ بالرأي، ولكن التوسع في إحدى الناحيتين؛ ومع هذا فلم يكن مالك متساهلاً في الأخذ بالحديث، بل كان شديد التحري فيما يثبت منه، لكن كما تبينت لا يشترط في الأخذ به شهرته، ولم تكن مدرسة الرأي تهمل الحديث، ولكنهم كانوا يشترطون التواتر أو الشهرة، وإلا قدموا القياس على خبر الواحد الذي لم يشتهر العمل به، ولعل

اختلاط تلاميذ أبي حنيفة بالإمام مالك وأخذهم عنه، وكذلك أخذ مالك عن ربيعة الرأي مما قرب بين المذهبين بعض الشيء. التعريف بالإمام مالك: هو مالك بن أنس بن أبي عامر وإن كان بعض المؤرخين يرون أن مالكاً وجدوده وأعمامه موالي لبني تميم بن مرة، إلا أن المشهور والمعروف أنه عربي الأصل، وانه منسوب إلى قبيلة ذي أصبح اليمنية، ولد بالمدينة سنة 93 هـ، وتثقف بها ولم يخرج منها طول حياته إلا حاجًا إلى مكة، تعلم الفقه والحديث على علماء أهل المدينة، الذين كان طابعهم الاستدلال بالسنة ولا يتجهون إلى الرأي اتجاه أهل العراق، وكان متأثراً في فقهه بالبيئة التي هو فيها، ومركز المدينة التي بها صحابة رسول الله والمحيطين به، والتي كانت موطن الحديث والسنة. معاونوه على نشر المذهب: ومن أشهر تلاميذه الذين عاونوه في نشر مذهبه عبد الله بن وهب المصري، وقد كان أعلم أصحاب مالك بالسنة والأثر، وكذلك عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب، وعبد الله بن الحكم؛ وكلهم فقهاء مصريون، بل كانوا عماد المدرسة الدينية بمصر في ذلك العهد، وعملوا على نشر مذهب مالك في بلاد مصر والسودان. ثالثاً: مذهب الشافعي: الإمام الشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، قرشي من بني طالب، ولد بغزة سنة 150 هـ، ورحلت به أمه صغيراً يتيماً فقيراً إلى مكة موطن آبائه، حفظ القرآن قبل التاسعة؛ كما حفظ الكثير من الحديث، وكان قوي الذاكرة إلى حد بعيد، ولما شب انتقل إلى البادية، وتعلم فيها لغتها كما تعلم الشعر والأدب، وبرع في فن الرواية، ثم عاد إلى المسجد الحرام، وفيه أخذ علوم الفقه والحديث، وحفظ موطأ الإمام مالك، وكان الشافعي قد قارب على الثلاثين فانتقل إلى اليمن، واشتغل على ولاية نجران، وفي سنة 184 هـ وشى به إلى الخليفة الرشيد؛ فجيء به إلى بغداد متهماً بتشيعه للعلويين ومناصرته لهم، لكنه قد خرج من هذه التهمة بقوة حجته، وشهادة محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الذي كان في حضرة الخليفة، بقي الشافعي بعد ذلك في بغداد، ودرس تعاليم مدرسة أهل الرأي على يد محمد بن الحسن وناظره، وكثيراً ما كان ينتصر لمدرسة الحديث. مصادر المذهب وأصوله: وكانت أصول المذهب الشافعي القرآن يعمل بظاهره ما لم يقم الدليل على وجوب صرفه إلى ما يخالف الظاهر، ثم السُّنة المتواترة فالمشهورة، حتى خبر الواحد الثقة، ولو لم

يكن مشهوراً؛ كما اشترط الأحناف، ولا موافقاً لعمل أهل المدينة؛ كما يقول مالك، ثم الإجماع، ثم القياس بشرط أن يكون له أصل من الكتاب والسنة، وهو لم يتوسع في القياس كما توسع الأحناف، بل روى أنه ذهب إلى بطلان الأخذ بالاستحسان، وقال: من استحسن فقد شرع، ولم يعمل بالقياس إلا إذا كانت علته منضبطة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، ولم يأخذ بقول الصحابي، ورد المصالح المرسلة، ولم يأخذ بالحديث المرسل إلا إذا كان لسعيد بن المسيب، وكان متفقاً على صحته، مع أن مالكاً والأحناف أنفسهم يأخذون بها، وهاجم أبا حنيفة ومالكاً في عدم أخذ الأول بخبر الواحد، واشتراط الثاني للأخذ به أن يكون موافقاً لعمل أهل المدينة، وقد بيَّن الشافعي أصول مذهبه في كتاب "الأم"، فيقول: "الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصح الإسناد به - فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسناداً أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل". تلاميذ الشافعي وعدم مخالفتهم له: وكان للشافعي أتباع ومريدون درسوا عليه، ونهجوا منهجه وتشبعوا بطريقة بحثه واستنباطه، وعملوا على نشر مذهبه، ومن أشهر تلاميذه في مصر يوسف بن يحيى البويطي الذي خلف إمامه في رياسة دروسه، وهو من بويط من قرى بني سويف، وإسماعيل بن يحيى المزني، وقد كان أقدر أصحاب الشافعي على المناظرة، وأكثر من دون في المذهب، والربيع المرادي، ومن الملاحظ أن تلاميذ الشافعي كانوا يتبعون إمامهم فلا يخالفونه في آرائه، اللهم إلا المزني، وفي حالات نادرة، بخلاف ما لاحظناه قبل بالنسبة لتلاميذ المذهبين السابقين، وخصوصاً تلاميذ أبي حنيفة الذي كان من طبيعة مذهبهم الاتساع في الأخذ بالرأي. أتباع الإمام أحمد بن حنبل: كان للإمام أحمد بن حنبل أتباع كثيرون شأنه شأن الأئمة والفقهاء غيره، وقد التف هؤلاء الأتباع حول ابن حنبل يتلقون عنه العلم، وينشرون مذهبه، بل يرجع إليهم الفضل الأول في تدوين آراء الإمام أحمد؛ إذ بسبب تلاميذه وأتباعه، كان لابن حنبل شأن كبير يذكر ضمن الفقهاء. ومن أتباعه - رضي الله عنه - ابناه: صالح، وعبد الله؛ حيث نشر صالح فقه أبيه، واعتنى عبد الله بمسند أبيه الذي جمع فيه الإمام أحمد الأحاديث الصحاح ورتبتها وبوبها. وهناك أيضاً: أحمد بن محمد بن هانئ وأبو بكر الأثرم، وعبد الملك بن

عبد الحميد بن مهران الميموني، وحرب الكرماني، وابن إسحاق الحربي، وأحمد بن محمد أبو بكر المروذي، وأبو بكر الخلال الذي يُعَدُّ - بحق - جامع الفقه الحنبلي. وأخيراً، فإن المذهب الحنبلي لم ينتشر انتشار باقي المذاهب الأخرى، كما أن أتباعه قلة بالقياس إلى أتباع المذاهب الأخرى "الشافعية، والحنفية، والمالكية"، ويرجع ذلك إلى أسباب منها: أولاً: أن ذلك المذهب تكوَّن، واستقر بعد نضوج المذاهب الأخرى واستقرارها. ثانياً: تزهيد ابن حنبل وأصحابه الناس للسلطان والجاه، وعدم اشتغالهم بولاية القضاء، أو غيرها من ولايات السلطان. ثالثاً: تشدد الحنابلة في الاستمساك بالفروع الفقهية. رابعاً: شدة تعصبهم لمذهبهم مما أدى إلى إثارة الفتن والأحداث في كثير من الأوقات. خامساً: مهاجمتهم للمذاهب الأخرى وأصحابها.

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ كُتُب مَذْهَبِ السَّادَةِ الشَّافعيَّة وَمَرَاتِبِ عُلمَائِهِ وَبَيَانِ مَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ اعلم أن كتب الإمام الشافعي (رحمه الله تعالى) التي صنفها في الفقه أربعة: الأم، والإملاء، والبويطي، ومختصر المزني، فاختصر الأربعة إمام الحرمين في كتابه "النهاية"؛ كذا رأيته في غير موضع للمتأخرين، لكن نقل عن البابلي- وسيأتي أيضاً عن ابن حجر- أن النهاية شرح لمختصر المزني، وهو مختصر من "الأم" اختصر الغزالي "النهاية" إلى "البسيط" ثم اختصر "البسيط" إلى "الوسيط"، وهو إلى "الوجيز"، ثم اختصر "الوجيز" إلى "الخلاصة". وفي "البجيرمي على شرح المنهج" وغيره أن الرافعي اختصر من "الوجيز" "المحرر" لكن في "التحفة": "وتسميته- أي "المحرر"- مختصراً لقلة لفظه، لا لكونه ملخصاً من كتاب بعينه" أهـ ومثله في شرح البكري على المنهاج، فتنبه. ثم اختصر الإمام النووي "المحرر" إلى "المنهاج"، ثم اختصر شيخ الإسلام زكريا "المنهاج" إلى "المنهج"، ثم اختصر الجوهري "المنهج" إلى "النهج"، وشرح الرافعي "الوجيز" بشرحين: صغير لم يسمه. وكبير سماه "العزيز"، فاختصر الإمام النووي "العزيز" إلى "الروضة"، واختصر ابن مقري "الروضة" إلى "الروض"، فشرحه شيخ الإسلام زكريا شرحاً سماه "الأسنى"، واختصر ابن حجر "الروض" إلى كتاب سماه "النعيم"، جاء نفيساً في بابه، غير أنه فقد عليه في حياته، واختصر "الروضة" أيضاً المزجد في كتابه "العباب" فشرحه ابن حجر شرحاً جمع فيه فأوعى، سماه "الإيعاب"، غير أنه لم يكمل، واختصر الروضة أيضاً السيوطي مختصراً سماه "الغنية"، ونظمها أيضاً نظماً سماه "الخلاصة" لكنه لم يتمّ؛ كما ذكره في فهرست مؤلفاته.

وكذلك اقتصر القزويني "العزيز شرح الوجيز" إلى "الحاوي الصغير" فنظمه ابن الوردي في بهجته، فشرحها شيخ الإسلام بشرحين، فأتى ابن المقري فاختصر "الحاوي الصغير" إلى "الإرشاد"، فشرحه ابن حجر بشرحين. قال ابن حجر (رحمه الله تعالى) في أثناء كلام من ذيل تحرير المقال: وقولهم: إنه منذ صنف الإمام كتابه "النهاية" الذي هو شرحه لمختصر المزني الذي رواه من كلام الشافعي (رضي الله عنه) وهي في ثمانية أسفار حاوية لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام؛ لأن تلميذه الغزالي اختصر النهاية المذكورة في مختصر مطول حافل، وسماه "البسيط"، واختصره في أقل منه وسماه "الوسيط"، واختصره في أقل منه وسماه "الوجيز"، فجاء الرافعي وشرح الوجيز شرحاً مختصراً، ثم شرحاً مبسوطاً ما صنف في مذهب الشافعي مثله، وأسفاره نحو العشرة غالباً، ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح ونقحه وحرره واستدرك على كثير من كلامه مما وجده محلاً للاستدراك، وسمى هذا المختصر "روضة الطالبين" وأسفاره نحو أربعة غالباً، ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم. فمنهم المحشون وهم كثيرون، أطالوا النفس في ذلك حتى بلغت حاشية الإمام الأذرعي التي سماها "التوسط بين الروضة والشرح" إلى فوق الثلاثين سفراً؛ كما رأيتها في نسخة كانت عندي، وكذلك الأسنوي حشى، وابن العماد، والبلقيني، وهؤلاء هم فحول المتأخرين بالمحل الأسنى، ثم جاء تلميذ هؤلاء الأربعة: الأسنوي والأذرعي وابن العماد والبلقيني، فجمع ملخص حواشيهم في كتابه المشهور، وسماه "خادم الروضة" وهو في نحو العشرين سفراً، ووقع لجماعة أنهم اختصروا الروضة ومنهم المطول ومنهم المختصر؛ كـ"الروض" للشرف المقري، فأقبل الناس على تلك المختصرات، فلما ظهر "الروض" رجع أكثر الناس إليه؛ لمزيد اختصاره وتحرير عباراته. ثم جاء شيخنا شيخ الإسلام فشرحه شرحاً حسناً جداً، وآثر فيه الاختصار؛ فانثال الناس عليه، إلى أن جاء صاحب "العباب" أحمد بن عمر المزجد الزبيدي فاختصر "الروضة" وضم إليها من فروع المذهب ما لا يحصى، ثم شرحته شرحاً مبيناً محاسنه وقد وصلت فيه إلى باب الوكالة، فأقبل عليه الذين تيسرت لهم تلك القطعة من الشرح، وكذلك اختصر صاحب "الحاوي الصغير" الشرح الكبير اختصاراً لم يسبق إليه؛ فإنه جمع حاصل المقصود منه في ورقات نحو ثمن جزء من أجزائه العشرة، فأذعن له أهل عصره أنه في بابه ما صنف مثله، فأكب الناس عليه حفظاً وشروحاً، ثم نظمه صاحب البهجة، فأكبوا عليها حفظاً وشروحاً؛ كذلك إلى أن جاء الشرف المقري صاحب "الروض" فاختصره في أقل منه بكثير وسماه "الإرشاد"، فأكب الناس عليه حفظاً وشروحاً؛ وبحمد الله لي عليه شرحان أهـ. المقصود.

وهذا خلاصة الكلام في هذا المقام، وهناك اضطراب في النقول لجملة من أهل العصر في ذلك لم أقف لها على مستند، لا سيما ما في حاشية لبعضهم على "فتح المعين"؛ فهو إن لم يكن تغييراً من النساخ غلط غريب وخبط عجيب. وقوله: "ثم جاء تلميذ هؤلاء الأربعة" يعني به الزركشي. قال العلامة العلنبجي تلميذ الكردي في تذكرة الإخوان: قال الشيخ ابن حجر وغيره من المتأخرين: قد أجمع المحققون على أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتد بشيء منها إلا بعد كمال البحث والتحرير، حتى يغلب على الظن أنه راجح في مذهب الشافعي. ثم قالوا هذا في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما، فإن تعرضا له فالذي أطبق عليه المحققون أن المعتمد ما اتفقا عليه، فإن اختلفا - ولم يوجد لهما مرجح، أو وجد ولكن على السواء- فالمعتمد ما قاله النووي، وإن وجد لأحدهما دون الآخر فالمعتمد ذو الترجيح أهـ. قال الكردي في "المسلك العدل والفوائد المدنية"، فإن تخالفت كتب النووي، فالغالب أن المعتمد: "التحقيق"، فالمجموع فـ"التنقيح"، فـ"الروضة" والمنهاج ونحو فتاواه، فـ"شرح مسلم" فتصحيح التنبيه ونكته. فإن اتفق المتأخرون على أن ما قالاه سهو، فلا يكون حينئذٍ معتمداً لكنه نادر جداً، وقد تتبع من جاء بعدهما كلاهما وبينوا المعتمد من غيره بحسب ما ظهر لهم. ثم إن لم يكن للشيخ ترجيح؛ فإن كان المفتي من أهل الترجيح في المذهب أفتى بما ظهر له ترجيحه مما اعتمد أئمة مذهبه، ولا تجوز له الفتوى بالضعيف عندهم، وإن ترجح عنده؛ لأنه إنما يسأل عن الراجح في المذهب لا عن الراجح عنده، إلا أن نبه على ضعفه وأنه يجوز تقليده للعمل به، وحيث كان كذلك فلا بأس، وغن لم يكن من أهل الترجيح- وهم الموجودون اليوم- فاختلف فيهم: فذهب علماء مصر - أو أكثرهم- إلى اعتماد ما قاله الشيخ محمد الرملي في كتبه خصوصاً في نهايته؛ لأنها قرئت على المؤلف إلى آخرها في أربعمائة من العلماء فنقدوها وصححوها، فبلغت صحتها إلى حد التواتر، وذهب علماء حضرموت والشام والأكراد وداغستان، وأكثر اليمن والحجاز إلى أن المعتمد ما قاله الشيخ ابن حجر في كتبه بل في تحفته؛ لما فيها من إحاطة نصوص الإمام مع مزيد تتبع المؤلف فيها، ولقراءة المحققين لها عليه الذين لا يحصون كثرة. ثم "فتح الجواد"، ثم "الإمداد"، ثم "شرح العباب" ثم فتاويه أهـ.

قال الشيخ العلامة علي بن عبد الرحيم باكثير في منظومته التي في التقليد وما يتعلق به: [من الرجز]: وشاع ترجيح مقال ابن حجر ... في يمن وفي الحجاز فاشتهر وفي اختلاف كتبه في الرجح ... الأخذ بالتحفة ثم الفتح فأصله لا شرحه العبابا ... إذ رام فيه الجمع والإيعابا أهـ. قال الكردي: هذا ما كان في السالف عند علماء الحجاز، ثم وردت علماء مصر إلى الحرمين وقرروا في دروسهم معتمد الشيخ الرملي، إلى أن فشا قوله فيهما حتى صار من له إحاطة بقولهما يقررهما من غير ترجيح. وقال: علماء الزمازمة تتبعوا كلامهما فوجدوا ما فيهما عمدة مذهب الشافعي (رضي الله عنه). ثم قال: وعندي لا تجوز الفتوى بما يخالفهما، بل بما يخالف "التحفة" و"النهاية" إلا إذا لم يتعرضا له، فيفتي بكلام شيخ الإسلام، ثم بكلام الخطيب، ثم بكلام حاشية الزيادي، ثم بكلام حاشية ابن قاسم، ثم بكلام عميرة، ثم بكلام حاشية الشبراملسي، ثم بكلام حاشية الحلبي، ثم بكلام حاشية الشوبري، ثم بكلام حاشية العناني، ما لم يخالفوا أصل المذهب؛ كقول بعضهم: لو نقلت صخرة من أرض عرفات إلى غيرها يصح الوقوف عليها. ثم قال: وأقول: والذي يتعين اعتماده أن هؤلاء الأئمة المذكورين من أرباب الشروح والحواشي كلهم أئمة في المذهب، يستمد بعضهم من بعض، يجوز العمل والإفتاء والقضاء بقول كل منهم وإن خالف من سواه، ما لم يكن سهواً أو غلطاً أو ضعيفاً ظاهر الضعف؛ لأن الشيخ ابن حجر نفسه قال في مسألة الدور: "زلات العلماء لا يجوز تقليدهم فيها" أهـ. قال السيد عمر في فتاويه: "والحاصل أن ما تقرر من التخيير لا محيد عنه في عصرنا هذا بالنسبة إلى أمثالنا القاصرين عن رتبة الترجيح؛ لأنا إذا بحثنا عن الأعلم بين الحيين لعسر علينا الوقوف، فكيف بين الميتين؟ فهذا هو الأحوط الأورع الذي درج عليه السلف الصالحون المشهود لهم بأنهم خير القرون" أهـ. وفي "المسلك العدل حاشية شرح بأفضل": "ورفع للعلامة السيد عمر البصري سؤال من الإحساء فيما يختلف فيه ابن حجر، والحمال، الرملي، فما المعوّل عليه من الترجيحين؟ فأجاب: إن كان المفتي من أهل الترجيح، أفتى بما ترجح عنده، قال: وإن لم

يكن كذلك - كما هو الغالب في هذه الأعصار المتأخرة - فهو راوٍ لا غير؛ فيتخير في رواية أيهما شاء أو جميعًا أو بأيها من ترجيحات أجلاء المتأخرين، ثم الأولى بالمفتي التأمل في طبقات العامة، فإن كان السائلون من الأقوياء الآخذين بالعزائم وما فيه الاحتياط اختصهم برواية ما يشتمل على التشديد، وإن كانوا من الضعفاء الذين هم تحت أسر النفوس، بحيث لو اقتصر في شأنهم على رواية التشديد أهملوه ووقعوا في وهدة المخالفة لحكم الشرع - روى لهم ما فيه التخفيف؛ شفقة عليهم من الوقوع في ورطة الهلاك، لا تساهلاً في دين الله أو لباعث فاسد؛ كطمع، أو رغبة، أو رهبة. ثم قال: "وهذا الذي تقرر هو الذي نعتقده وندين الله به؛ قال: وكان بعض مشايخنا يجري على لسانه - عند مرور اختلاف المتأخرين في الترجيح في مجلس الدرس وسؤال بعض الحاضرين عن العمل بأي الروايتين: من شاء يقرأ لـ"قالون"، ومن شاء يقرأ لـ"ورش"، وأما التزام واحد على التعيين في جميع المواد وتضعيف مقابله، فالحامل عليه محض التقليد" أهـ. وفي القضاء من "التحفة" ما نصه في الخادم عن بعض المحتاطين: "الأولى لمن بلي بوسواس الأخذ بالأخف والرخص؛ لئلا يزداد فيخرج عن الشرع، ولضده الأخذ بالأثقل؛ لئلا يخرج إلى الإباحة أهـ. وهذا الذي قاله السيد عمر البصري هو الذي يميل إليه الفقير، وقد نقله تلميذه ابن الجمال مختصرًا، وأقره في رسالته فتح المجيد، ورأيت نقلاً ع ن العلامة السيد عبد الرحمن بن عبد الله الفقيه العلوي في آخر جواب طويل: "وإذا اختلف ابن حجر والرملي وغيرهما من أمثالهما، فالقادر على النظر والترجيح يلزمه، وأما غيره فيأخذ بالكثرة، إلا إذا كانوا يرجعون إلى أصل واحد، ويتخير بين المتقاربين؛ كابن حجر والرملي خصوصاً في العمل؛ كما حرره السيد عمر بن عبد الرحيم البصري في فتوى له" أهـ. وسئل سيدنا الإمام العلامة السيد عبد الرحمن بلفقيه عما إذا اختلف ابن حجر ومعاصروه، فقال: اعزل الحظ والطمع، وقلد من شئت؛ فإنهم أكفاء أهـ. ونقل عن الإمام العلامة السيد حامد بن عامر حامد علوي أن معتمد سلفنا العلويين في الفقه على ما قاله الشيخ ابن حجر، وليس ذلك لكثرة علمه؛ فإن الشيخ عبد الله بامخرمة أوسع علماً منه، ولكن ابن حجر له إدراك قوي أحسن منه بل ومن غيره من الفقهاء المصنفين؛ فلذا اعتمده سلفنا بتريم أهـ. فما قوي مدركه هو المتقدم عند المحققين، وإن لم يقل به إلا واحد أو خالف كلام الأكثرين، ومن ثم وافق الأصحاب على كثرتهم الشافعي (رضي الله عنه) في مسائل انفرد بها

عن أكثر الأئمة؛ نظراً إلى قوة مدركه؛ ذكره في شرح "العباب"؛ قال الكردي في المسلك واعلم أني أذكر كثيراً في هذه الحاشية وأصليهما الخلاف الكائن بين الشارح م ر وشيخهما شيخ الإسلام والخطيب؛ فإنهم مما اتفق على جلالتهم، وعذري في عدم التصريح بالترجيح في كثير من المسائل المختلف فيها بينهم - ما تقدم في كلام السيد عمر وغيره؛ فإنَّ من هو أهل للترجيح لا يتقيد بما رجحه، ومن لا، فرتبته التخيير، فأي ثمرة له في الترجيح؟ نعم، وقع في كلامهم حتى "التحفة" و"النهاية" مسائل من قبيل الغلط أو الضعيف الواضح الضعف، فلا يجوز الإفتاء بها مطلقاً، وقد أوضحت جملة منها في كتابي "الفوائد المدنية" فيمن يفتي بقوله من متأخري السادة الشافعية بما لم أقف على من سبقني إليه، فليراجعه من أراد الإحاطة بذلك؛ فإنه جمع فأوعى أهـ كلام الكردي بالحرف. تنبيه: ينبغي لكل فقيه الوقوف على هذه المسائل التي وقعت في كلامهم من قبيل الغلط أو الضعيف الواضح الضعف المحررة في "الفوائد المدنية" (شكر الله سعي مؤلفها)، ولو قيل بوجوب ذلك على كل مفت؛ لئلا يقع في الإفتاء بشيء منها، لم يبعد. فائدة من "الفوائد المدنية": سئل العلامة السيد عمر البصري عن توافق عبارات "المغني" و"التحفة" و"النهاية"، هل ذلك من وضع الحافر على الحافر أو استمداد بعضهم من بعض؟ فأجاب (رحمه الله تعالى) بقوله: شرح الخطيب الشربيني مجموع من خلاصة شروح "المنهاج" مع توشحه من فوائد من تصانيف شيخ الإسلام زكريا، وهو متقدم على التحفة وصاحبه في مرتبة مشايخ شيخ الإسلام ابن حجر؛ لأنه أقدم منه طبقة. وأما صاحب النهاية فالذي ظهر لهذا الفقير من سبره أنه في الربع الأول يماشي الشيخ الخطيب الشربيني ويوشح من التحفة ومن فوائد والده وغير ذلك، وفي الثلاثة الأرباع يماشي التحفة ويوشح من غيرها أهـ. ما أردت نقله من فتاوى السيد عمر البصري. وأقول: إن ابن حجر يستمد كثيرًا في التحفة من حاشية شيخه ابن عبد الحق على شرح المنهج للجلال المحلي، والخطيب في "المغني" يستمد كثيراً من كلام شيخه الشهاب الرملي ومن شرح ابن شهبة الكبير على "المنهاج"؛ كما يقضي بذلك السبر أهـ بالحرف. تتمة: مراتب العلماء ست: الأولى: مجتهد مستقل؛ كالأربعة وأضرابهم. الثانية: مطلق منتسب؛ كالمزني. الثالثة: أصحاب الوجوه؛ كالقفال وأبي حامد. الرابعة: مجتهد الفتوى؛ كالرافعي والنووي.

الخامسة: نظار في ترجيح ما اختلف فيه الشيخان؛ كالأسنوي وأضرابه. السادسة: حملة فقه ومراتبهم مختلفة فالأعلون يلتحقون بأهل المرتبة الخامسة، وقد نصوا على أن المراتب الأربع الأول يجوز تقليدهم، وأما الأخيرتان فالإجماع الفعلي من زمنهم إلى الآن الأخذ بقولهم وترجيحاتهم في المنقول حسب المعروف في كتبهم؛ ذكره في "مطلب الإيقاظ"، وفي حواشي "المحلي" للقليوبي: "إن قدر المجتهد على الترجيح دون الاستنباط، فهو مجتهد الفتوى، وإن قدر على الاستنباط من قواعد إمامه فهو مجتهد المذهب، أو على الاستنباط من الكتاب والسنة فهو المطلق" أهـ. قال في "فتح المعين": "والمجتهد من يعرف بأحكام القرآن من العام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وبأحكام السنة من المتواتر؛ وهو ما تعدّدت طرقه، والآحاد وهو بخلافه، والمتصل باتصال رواته إليه (صلى الله عليه وسلم) ويسمى المرفوع، أو إلى الصحابي فقط ويسمى الموقوف، والمرسل وهو قول التابعي: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا، أو فعل كذا، أو بحال الرواة قوّة أو ضعفاً، وما تواتر ناقلوه وأجمع السلف على قبوله لا يبحث عن عدالة ناقليه، وله الاكتفاء بتعديل إمام عرف صحة مذهبه في الجرح والتعديل، ويقدم عند التعارض الخاص على العام، والمقيد على المطلق، والنص على الظاهر، والمحكم على المتشابه، والناسخ والمتصل، والقوي على مقابلها، ولا تنحصر الأحكام في خمسمائة آية ولا خمسمائة حديث؛ خلافاً لزاعمها - وبالقياس بأنواعه الثلاثة: من الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق؛ كقياس ضرب الوالد على تأفيفه، أو المساوي وهو ما يبعد فيه انتفاء الفارق؛ كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، أو الأدون وهو ما يبعد فيه انتفاء الفارق؛ كقياس الذرة على البرّ في الربا بجامع الطعم، وبلسان العرب: لغة، ونحو أو، صرفاً، وبلاغة، وبأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولو فيما يتكلم فيه فقط لئلا يخالفهم أهـ. وفي "التحفة": قال ابن الصلاح: "اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه أمَّا مقيد لا يعد ومذهب إمام خاص، فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع؛ فإنه مع المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع؛ ومن ثم لم يكن له عدول عن نص إمامه؛ كما لا يجوز الاجتهاد مع النص. وقال السيوطي (رحمه الله تعالى) في نقايته في المجتهد: "شرطه العلم بالفقه أصلاً وفرعًا، خلافاً ومذهباً، والمهم من تفسير آيات، وأخبار، ولغة، ونحو، وحال رواة. قال ابن دقيق العيد: "لا يخلو العصر عن مجتهد، إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة، وأما قول الغزالي كالقفال: إن العصر خلا عن المجتهد المستقل، فالظاهر أن المراد

مجتهد قائم بالقضاء لرغبة العلماء عنه، وكيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوّها عنه والقفال نفسه كان يقول لسائله في مسائل الصبرة: تسألني عن مذهب الشافعي أم عما عندي؟ وقال هو وآخرون منهم تلميذه القاضي حسين: "لسنا مقلدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه". قال ابن الرفعة: ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد. وقال ابن الصلاح: "إمام الحرمين والغزالي والشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب أهـ ووافقه الشيخان، فأقاما- كالغزالي- احتمالات الإمام وجوهاً، وخالفه ابن الرفعة، والذي يتجه أن هؤلاء - وإن ثبت لهم الاجتهاد - فالمراد التأهل له مطلقاً أو في بعض المسائل؛ إذ الأصح جواز تجزئه، أما حقيقته بالفعل في سائر الأبواب فلم يحفظ ذلك من قريب عصر الشافعي إلى الآن؛ كيف وهو متوقف على تأسيس قواعد أصولية وحديثية يخرّج عليها استنباطاته وتفريعاته؟! وهذا التأسيس هو الذي أعجز الناس عن بلوغ حقيقة مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا يغني عنه بلوغ الدرجة الوسطى فيما سبق؛ فإن أدون أصحابنا ومن بعدهم بلغ ذلك ولم يحصل له مرتبة الاجتهاد المذهبي، فضلاً عن الاجتهاد النسبي، فضلاً عن الاجتهاد المطلق أهـ ما نقله عن التحفة. ولنتعرّض لطبقات الفقهاء أيضاً من السادة الحنفية؛ إتماماً للفائدة وللاحتياج إليها لديهم في كل قضية. قال خاتمة المحققين العلامة ابن عابدين (رحمه الله) ما نصه: "وقد أوضحها المحقق ابن كمال باشا في بعض رسائله، فقال: لا بد للمفتي أن يعلم حال من يفتي بقوله، ولا يكفيه معرفته باسمه ونسبه، بل لا بد من معرفته في الرواية ودرجته في الدراية وطبقته من طبقات الفقهاء؛ ليكون على بصيرة في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين. الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة (رضي الله عنهم) ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول وبه يمتازون عن غيرهم. الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف، ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قرّرها أستاذهم أبو حنيفة في الأحكام، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب؛ كالشافعي وغيره المخالفين له في الأحكام غير مقلدين له في الأصول.

الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا نص فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضيخان وأمثالهم؛ فإنهم يقدرون على شيء من المخالفة لا في الأصول ولا في الفروع، لكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص فيها على حسب الأصول والقواعد. الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه؛ فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلاً، لكنهم - لإحاطتهم بالأصول وضبطهم للمآخذ - يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين وحكم مبهم محتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب أو أحد أصحابه برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظرائه من الفروع، وما في الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل. الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري، وصاحب الهداية، وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض؛ كقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أرفق للناس. والسادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى، والقويّ، والضعيف، وظاهر المذهب، والرواية النادرة؛ كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين؛ مثل صاحب "الكنز"، وصاحب "المختار"، وصاحب "الوقاية" وصاحب "المجموع" وشأنهم أَلاَّ ينقلوا الأقوال المردودة والروايات الضعيفة. والسابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ولا يفرقون بين الغث والسمين أهـ بنوع اختصار أهـ كلام ابن عابدين في رد المختار. وقال (رحمه الله تعالى) قبل ذلك: تتمة: قدمنا عن "فتح القدير" كيفية الإفتاء مما في الكتب، فلا يجوز الإفتاء مما في الكتب الغريبة، وفي شرح الأشباه لشيخنا المحقق هبة الله لبعلي: قال شيخنا العلامة صالح الجينيني: إنه لا يجوز الإفتاء من الكتب المختصرة؛ كالنهر، وشرح الكنز للعيني، والدر المختار شرح تنوير الأبصار؛ إما لعدم الإطلاع على حال مؤلفيها كشرح الكنز لمنلا مسكين، وشرح النقاية للقهستاني، أو لنقل الأقوال الضعيفة فيها كالقنية للزاهدي، فلا يجوز الإفتاء من هذه إلا إذا علم المنقول عنه وأخذه منه؛ هكذا سمعته منه وهو علامة في الفقه مشهور والعهدة عليه أهـ. أقول: وينبغي إلحاق الأشباه والنظائر بها؛ فإن فيها من الإيجاز في التعبير ما لا يفهم

معناه إلا بعد الإطلاع على مأخذه، بل فيها في مواضع كثيرة الإيجاز المخلّ يظهر ذلك لمن مارس مطالعتها مع الحواشي، فلا يأمن المفتي من الوقوع في الغلط إذا اقتصر عليها، فلا بد له من مراجعة ما كتب عليها من الحواشي أو غيرها، ورأيت في حاشية أبي السعود الأزهري على شرح منلا مسكين أنه لا يعتمد على فتاوى ابن نجيم ولا على فتاوى الطوري أهـ كلام ابن عابدين أيضاً بالحرف. ذِكْرُ شَيْءٍ مِن اصْطِلاَح الْفُقَهَاءِ فِي عِبَارَاتِهِمْ، وَمَا أَوْدَعُوهُ في طَيِّ إِشَارَاتِهِمْ وَفِي تَعْرِيفِ اصْطِلاَح الإِمَامِ شَيْخِ الْمَذْهَبِ يَحْيى الْنَّوَويِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) فِي الْمِنْهَاجِ وَاتِّبَاعِ الْكَثِيرِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الانْتِهَاجِ اعلم: أن الاصطلاح هو اتفاق طائفة على أمر مخصوص بينهم؛ فحيث قالوا: الإمام، يريدون به: إمام الحرمين الجويني بن أبي محمد. وحيث يطلقون "القاضي" يريدون به: القاضي حسيناً، أو القاضيين فالمراد بهما: الروياني والماوردي. وإذا أطلقوا "الشارح" معرفاً أو "الشارح المحقق" يريدون به: الجلال المحلي شارح المنهاج؛ حيث لم يكن لهم اصطلاح بخلافه، وإلا كالشارح في شرح الإرشاد؛ حيث أطلق الشارح يريد به: الجوجري شارح الإرشاد. وإن قالوا "شارح" فالمراد به واحد من الشراح لأيّ كتاب كان كما هو مفاد التنكير، ولا فرق في ذلك بين التحفة وغيرها كما أوضحت ذلك في غير هذا المحل، خلافاً لمن قال: إنه يريد: شهبة. وحيث قالوا: قال بعضهم أو نحوه، فهو أعم من شارح. وحيث قالوا: قال الشيخان ونحوه، يريدون بهما: الرافعي والنووي، أو: الشيوخ، فالمراد بهم: الرافعي والنووي فالسبكي. وحيث قال: "الشارح شيخنا" يريد به: شيخ الإسلام زكريا، وكذلك الخطيب الشربيني وهو مراد الجمال الرملي بقوله: "الشيخ". وإن قال الخطيب: "شيخي" فمراده: الشهاب الرملي، وهو مراد الجمال بقوله: أفتى به الوالد ونحوه. وإذا قالوا: لا يبعد كذا، فهو احتمال.

وحيث قالوا: على ما شمله كلامهم ونحو ذلك، فهو إشارة إلى التبريّ منه أو أنه مشكل؛ كما صرّح بذلك الشارح في حاشية "فتح الجواد" ومحله؛ حيث لم ينبه على تضعيفه أو ترجيحه، وإلا خرج عن كونه مشكلاً إلى ما حكم به عليه. وحيث قالوا: كذا قالوه أو كذا قاله فلان، فهو كالذي قبله. وإن قالوا: إن صحّ هذا فكذا، فظاهره عدم ارتضائه؛ كما نبه عليه في الجنائز من "التحفة". وإن قالوا كما أو لكن، فإن نبهوا بعد ذلك على تضعيفه أو ترجيحه فلا كلام، وغلا فهو معتمد، فإن جمع بينهما فنقل الشيخ سعيد سنبل عن شيخه الشيخ عبد المصري عن شيخه الشوبري أن اصطلاح التحفة أن ما بعد "كما" هو المعتمد عنده، وأن ما اشتهر من أن المعتمد ما بعد "لكن" في كلامه إنما هو فيما إذا لم يسبقها "كما"، وإلا فهو المعتمد عنده وإن رجح بعد ذلك ما يقابل ما بعد "كما" إلا إن قال: لكن المعتمد كذا أو الأوجه، فهو المعتمد أهـ. وعندي أن ذلك لا يتقيد بهاتين الصورتين بل سائر صيغ الترجيح كهما، ورأيت عن الشارح أن ما قيل فيه "لكن" إن كان تقييداً لمسألة بلفظ "كما" فما قبل "لكن" هو المعتمد، وإن لم يكن لفظ "كما" فما بعد "لكن" هو المعتمد أهـ وهو يؤيد ما سبق عن شيخنا الشيخ سعيد، وعلى هذا الأخير يحمل ما نقله ابن اليتيم في حواشي التحفة عن مشايخه الأجلاء أنهم تتبعوا كلامٍ الشارح، فوجدوا أن المعتمد عنده ما بعد "لكن" إذا لم ينص على خلافه أنه المعتمد، لكن رأيت نقلاً عن تقرير البشبيشي في درسه أن ما بعد "لكن" في التحفة هو المعتمد سواء كان قبلها "كما" أو غيره أهـ إلا أن يقال هو المعتمد عنده لا عند الشارح، وقد أفردت الكلام على ما يتعلق بهذا بالتأليف فليراجعه من أراده أهـ من المسلك العدل بزيادة من مختصر فتاوى ابن حجر لابن قاصي. وفي فتاوى الكردي (رحمه الله): سئل إذا سجد ثم رفع من السجود، وشك هل وضع يده أو رجله، أو اطمأنت يده أو رجله - هل يضر ذلك أو لا؟ الجواب: يجب عليه العود للسجود فوراً مطلقاً؛ على المعتمد في التحفة إن قلنا: قاعدتها حيث لم يكن في العبارة "كما" أن ما بعد "لكن" فيها هو المعتمد، وهو ما ذكرناه من وجوب العود، وإن قلنا بما ملت إليه في كتابي "الفوائد المدنية" من أن محلّ تلك القاعدة حيث لم يرد ما بعد "لكن" وقد ردّه في مسألتنا في "التحفة" فيكون المعتمد ما قبل "لكن" وهو عدم وجوب العود، وهو الذي يظهر للفقير ويؤيده اعتماده في غير التحفة كالإيعاب وشرح الإرشاد وغيره، والله أعلم أهـ.

قال في "المطلب": ويظهر من "تذكرة الإخوان" للعليجي أن اصطلاح الشمس الرملي والخطيب الشربيني كاصطلاح الشيخ في هذه الألفاظ المذكورة عن الكردي أهـ. قال العليجي: "وإذا قالوا: على ما اقتضاه كلامهم، أو على ما قاله فلان بذكر "على"، أو قالوا: هذا كلام فلان - فهذه صيغة تبري كما صرحوا به، ثم تارة يرجحونه وهذا قليل، وتارة يضعفونه وهو كثير، فيكون مقابله هو المعتمد؛ أي: إن كان، وتارة يطلقون ذلك فجرى غير واحد من المشايخ على أنه ضعيف، والمعتمد ما في مقابله أيضاً أي إن كان كما سبق أهـ كلام العليجي. وتوقف العلامة الكردي في صورة الإطلاق؛ قال: لأنه لا يلزم من تبريه اعتماد مقابله، فينبغي حينئذٍ مراجعة بقية كتب ابن حجر فما فيها هو معتمده، فإن لم يكن ذلك فيها فما اعتمده معتمد ومتأخري أئمتنا الشافعية، فحرّر ذلك وهو حسب ما ظهر للفقير، والله أعلم بحقائق الأحوال وتفصيل المعتمد من الأقوال أهـ. قال العليجي: وقال الشيخ محمد باقشير: تتبع وكلام الشيخ ابن حجر، فإذا قال: على المعتمد، فهو الأظهر من القولين أو الأقوال، وإذا قال: على الأوجه مثلاً، فهو الأصح من الوجهين أو الأوجه أهـ. وقال السيد عمر في الحاشية: وإذا قالوا: والذي يظهر مثلاً، أي بذكر الظهور، فهو بحث لهم أهـ. وقال الشيخ ابن حجر في رسالته في الوصية بالسهم: "البحث ما يفهم فهماً واضحاً من الكلام العام للأصحاب المنقول عن صاحب المذهب بنقل عام أهـ. وقال السيد عمر في فتاويه: "البحث هو الذي استنبطه الباحث من نصوص الإمام وقواعده الكليين. وقال شيخنا: "وعلى كلا التعريفين لا يكون البحث خارجاً عن مذهب الإمام وقول بعضهم في بعض مسائل الأبحاث لم نر فيه نقلاً - يريد به نقلاً خاصاً؛ فقد قال إمام الحرمين: لا تكاد توجد مسألة من مسائل الأبحاث خارجة عن المذهب من كل الوجوه أهـ. قال السيد عمر في الحاشية في الطهارة: كثيراً ما يقولون في أبحاث المتأخرين وهو محتمل؛ فإن ضبطوا بفتح الميم الثاني، فهو مشعر بالترجيح؛ لأنه بمعنى قريب، وإن ضبطوا بالكسر فلا يشعر به؛ لأنه بمعنى ذي احتمال، أي قابل للحمل والتأويل، فإن لم يضبطوا بشيء منهما فلا بد أن تراجع كتب المتأخرين عنهم؛ حتى تنكشف حقيقة الحال أهـ. وأقول: والذي يظهر أن هذا إذا لم يقع بعد أسباب التوجيه كلفظ "كل"، أما إذا وقع

بعدها فيتعين الفتح؛ كما إذا وقع بعد أسباب التضعيف فيتعين الكسر أهـ. قال شيخنا: الاختيار هو الذي استنبطه المختار عن الأدلة الأصولية بالاجتهاد، أي: على القول بأنه يتحرى وهو الأصح من غير نقل له من صاحب المذهب، فحينئذٍ يكون خارجاً عن المذهب ولا يعوّل عليه، وأما المختار الذي وقع للنووي في الروضة فهو بمعنى الأصح في المذهب لا بمعناه المصطلح اهـ كلام العليجي رحمه الله تعالى. وأما تعبيرهم بوقع لفلان كذا، فإن صرحوا بعده بترجيح أو تضعيف - وهو الأكثر - فذاك، وإلا حكم بضعفه كما حقق ذلك شيخنا خاتمة المحققين مفتي الديار اليمنية السيد محمد بن أحمد بن عدب الباري، والإمام العلامة السيد سليمان بن محمد بن عبد الرحمن مفتي زبيد في جواب سؤال قدمته إليهما في ذلك ضمن أسئلة بعد أن فتشت على نقل في ذلك فلم أظفر به، وفي "مطلب الإيقاظ": سئل العلامة الشريف عمر بن عبد الرحيم الحسيني المكي عن قول المصنفين: كذا في أصل الروضة كأصلها أو أصلها، ما المراد بما ذكر؟ فأجاب: بخط بعض الأئمة المحققين من تلامذة شيخ الإسلام زكريا بهامش نسخته الغرر لشيخه ما حاصله: أنه إذا قال قال: في أصل الروضة، فالمراد منه عبارة النووي في الروضة التي لخصها واختصرها من لفظ العزيز، رفع هذا التعبير بصحة نسبة الحكم إلى الشيخين، وإذا عزى الحكم إلى زوائد الروضة فالمراد منه زيادتها على ما في العزيز، وإذا أطلق لفظ الروضة فهو محتمل لتردّده بين الأصل والزوائد، وربما يستعمل بمعنى الأصل؛ كما يقضي به السبر، وإذا قيل: كذا في الروضة وأصلها، أو كأصلها، فالمراد بالروضة ما سبق التعبير بأصل الروضة وهي عبارة الإمام النووي الملخص فيها لفظ "العزيز" في هذين التعبيرين، ثم بين التعبيرين المذكورين فرق؛ وهو إذا أتى بالواو فلا تفاوت بينهما وبين أصلها في المعنى وإذا أتى بالكاف فبينهما بحسب المعنى يسير تفاوت، وهذا الذي أشار إليه هذا الإمام يقضي به سبر صنيع أجلاء المتأخرين من أهل الثامن والعشرين ومن داناهم من أوائل العشائر وأما من عداهم فلا التزم وجود هذا الصنيع في مؤلفاتهم لا عرض فيها من التساهل في ذلك بل في ما هو أهم منه بتحرير الخلاف، والله أعلم أهـ. وقوله: "نقله فلان عن فلان وحكاه فلان عن فلان" - بمعنى واحد؛ لأن نقل الغير هو حكاية قوله، إلا أنه يوجد كثيراً مما يتعقب الحاكي قول غيره بخلاف الناقل له؛ فإن الغالب تقريره والسكوت عليه؛ كما أفاد ذلك العلامة عبد الله بن أبي بكر الخطيب، والسكوت في مثل هذا رضا من الساكت؛ حيث لم يعترضه بما يقتضي ردّه؛ إذ قولهم: سكت عليه، أي: ارتضاه، وقولهم: أقرّه فلان، أي: لم يرده، فيكون كالجازم به. ومن فتاوى العلامة عبد الله بن أحمد بازرعة: والقاعدة أنّ من نقل كلام غيره وسكت عليه فقد ارتضاه.

قال العلامة الكردي في "كشف اللثام" من أثناء كلام: "لأنّ نقله منه وسكوته عليه مع عدم التبري منه، ظاهر في تقريره أهـ. وقال في موضع آخر منه: "وكون تقرير النقل عن الغير يدل على اعتماده هو مفهوم كلامهم في مواضع كثيرة، فقول الجمال الرملي في باب زيارة قبره (صلى الله عليه وسلم) من "شرح الإيضاح"- عند قول المصنف: "ويقف": ما نصه: "ونقل التخيير عن غيره ولم يتعقبه، لا يقتضي ترجيحه- لا يخلو عن نظر، وإن وافقه ابن علان في شرحه، وسبقهما إليه ابن حجر في الحاشية، نعم، قد يجاب عنه بأن عدم التعقب ظاهر في ترجيحه، لا أنه يقتضيه؛ فإنّ الاقتضاء رتبة فوق الظاهر كما في الشوبري على شرح "المنهج" بل في كلامهم ما يفيد أن المراد بالاقتضاء الدخول في الحكم من باب أولى، لكن الظاهر أن الاقتضاء رتبة دون التصريح؛ كما يفيده كلام "التحفة" في فصل الاختلاف في المهر أهـ. وأما قولهم: "نبه عليه الأذرعي" فالمراد أنه معلوم من كلام الأصحاب، وإنما للأذرعي مثلاً التنبيه عليه- أو: "كما ذكره الأذرعي" مثلاً فالمراد أن ذلك من عند نفسه؛ ذكر ذلك الشوبري عن شيخه الزيادي. وأما قولهم: "الظاهر كذا" فهو من بحث القائل لا ناقل له؛ ففي الإيعاب لابن حجر ما لفظه: "قد جرى في العباب على خلاف اصطلاح المتأخرين من الاختصاص التعبير بـ"الظاهر"، ويظهر، ويحتمل، ويتجه، ونحوها عما لم يسبق إليه الغير بذلك؛ ليتميز ما قاله مما قاله غيره، والمصنف يعبر بذلك عما قاله غيره ولم يبال بإيهام أنه من عنده غفلة عن الاصطلاح المذكور أهـ. وقال الكردي: "جرى عرف المتأخرين على أنهم إذا قالوا: الظاهر كذا، فهو من بحث القائل لا ناقل له أهـ. وقال السيد عمر في الحاشية: "إذا قالوا: والذي يظهر" مثلاً، أي: بذكر الظهور فهو بحث لهم أهـ. قال بعضهم: "إذا عبروا بقولهم وظاهر كذا، فهو ظاهر من كلام الأصحاب، وأما إذا كان مفهوماً من العبارة فيعبروا عنه بقولهم: والظاهر كذا أهـ. وأما تعبيرهم بالفحوى فهو ما فهم من الأحكام بطريق القطع وبالمقتضى، والقضية هو الحكم بالشيء لا على وجه الصراحة؛ كما أفتى به العلامة عبد الله الزمزمي، وقولهم: وزعم فلان، فهو بمعنى قال، إلا أنه أكثر ما يقال فيما يشك فيه؛ ذكره العلامة بحرق في شرحه الكبير على لامية الأفعال. ومن اصطلاحهم أنهم إذا نقلوا عن العالم الحي فلا يصرحون باسمه؛ لأنه ربما رجع

عن قوله، وإنما يقال: قال بعض العلماء ونحوه، فإن مات صرحوا باسمه؛ كما أفاد ذلك العلامة عبد الله بن عثمان العمودي. قال ابن حجر (رحمه الله تعالى) في كتابه "الحق الواضح": "المقرر الناقل متى قال: "وعبارته" و"كذا"- تعين عليه سوق العبارة المنقولة بلفظها، ولم يجز له تغيير شيء منها وإلا كان كاذباً، ومتى قال: قال فلان كان بالخيار بين أن يسوق عبارته بلفظها أو بمعناها من غير نقلها، لكن لا يجوز له تغيير شيء من معاني ألفاظها أهـ. وفي "التحفة" من الشهادات: "وأنه يجوز التعبير عن المسموع بمرادفه المساوي له من كل وجه لا غير" أهـ. وقولهم: أهـ ملخصاً، أي: مؤتى من ألفاظه بما هو المقصود دون ما سواه، والمراد بالمعنى التعبير عن لفظه بما هو المفهوم منه؛ ذكر ذلك عبد الله الزمزمي أهـ. قال بعضهم: "إن الشارح والمحشي إذا زاد على الأصل، فالزائد لا يخلو: إما أن يكون بحثاً واعتراضاً إن كان بصيغة البحث والاعتراض، أو تفصيلاً لما أجمله، أو تكميلاً لما نقصه وأهمله، والتكميل- إن كان له مأخذ من كلام سابقه أو لاحقه- فإبراز وإلا فاعتراض فعلي. وصيغ الاعتراض مشهورة ولبعضها محل لا يشاركها فيه الآخر؛ فيرد وما اشتق منه لما لا يندفع له بزعم المتعرض ويتوجه، وما اشتق منه أعم منه من غيره ونحوه إن قيل له مع ضعف فيه، وقد يقال: "ونحوه" لما فيه ضعف شديد، و"نحوه لقائل" لما فيه ضعف ضعيف، "وفيه بحث ونحوه" لما فيه قوّة، سواء تحقق الجواب أو لا، وصيغة المجهول ماضياً- كان أو مضارعاً- "ولا يبعد" و"يمكن" - كلها صيغ التمريض، تدل على ضعف مدخولها بحثاً كان أو جواباً. وأقول: "وقلت" لما هو خاصة القائل. وإذا قيل: "حاصله"، أو "محصله"، أو "تحريره"، أو "تنقيحه"، أو نحو ذلك - فذلك إشارة إلى قصور في الأصل أو اشتماله على حشو، وتراهم يقولون في مقام إقامة الشيء مقام آخر مرة "ننزل منزلته"، وأخرى: "أنيب منابه"، وأخرى: "أقيم مقامه". فالأوّل: في إقامة الأعلى مقام الأدنى. والثاني: بالعكس. والثالث: في المساواة. وإذا رأيت واحداً منها مقام آخر فهناك نكتة.

وإنما اختاروا في الأول التفعيل وفي الآخرين الأفعال؛ لعلة الإجمال؛ لأن تنزيل الأعلى مكان الأدنى يحوج إلى العلاج والتدريج، وربما يختم المبحث بنحو "تأمل"، فهو إشارة إلى دقة المقام مرة وإلى خدش فيه أخرى، سواء كان بالفاء أو بدونها أهـ إلا في مصنفات الإمام البوني، فإنها بالفاء إلى الثاني وبدونها إلى الأول. والفرق بين "تأمل" و"فتأمل" و"فليتأمل"- أن "تأمل" إشارة إلى الجواب القوي، و"فتأمل" إلى الضعيف، و"فليتأمل" إلى الأضعف؛ ذكره الدماميني. وقيل: معنى "تأمل" أن في هذا المحل دقة، ومعنى "فتأمل" أن في هذا المحل أمراً زائداً على الدقة بتفصيل، و"فليتأمل" هكذا مع زيادة بناء على أن كثرة الحروف تدل على كثرة المعنى. "وفيه بحث" معناه أعمّ من أن يكون في هذا المقام تحقيق أو فساد، فيحمل عليه على المناسب للحمل، و"فيه نظر" يستعمل في لزوم الفساد، وإذا كان السؤال أقوى يقال: و"القائل" فجوابه "أقول" أو تقول بإعانة سائر العلماء، وإذا كان ضعيفاً يقال: فإن قلت فجوابه قلنا أو قلت، وقيل: "فإن قلت" بالفاء سؤال عن القريب، وبالواو عن البعيد، و"قيل" يقال فيما فيه اختلاف، و"قيل فيه" إشارة إلى ضعف ما قالوا محصل الكلام إجمال بعد التفصيل. و"حاصل الكلام" تفصيل بعد الإجمال، و"التعسف" ارتكاب ما لا يجوز عند المحققين، وإن جوّزه بعضهم، ويطلق على ارتكاب ما لا ضرورة فيه والأصل عدمه، وقيل: حمل الكلام على معنى لا تكون دلالته عليه ظاهرة، وهو أخف من البطلان، و"التساهل" يستعمل في كلام لا خطأ فيه ولكن يحتاج إلى نوع توجيه تحتمله العبارة، ولا نصب قرينة دالة عليه؛ اعتماداً على ظهور الفهم من ذلك المقام و"التحمل" الاحتيال وهو الطلب، و"التأمل" هو إعمال الفكر، و"التدبر" تصرف القلب بالنظر في الدلائل، والأمر بالتدبر بغير فاء للسؤال في المقام، وبالفاء يكون بمعنى التقرير والتحقيق لما بعده أهـ من كليات أبي البقاء. والفرق بين "وبالجملة" و"في الجملة" أن "في الجملة" يستعمل في الجزئي و"بالجملة" في الكليات؛ كذا وجد بخط العلامة علوي بن عبد الله باحسن، وفي كليات أبي البقاء و"في الجملة" يستعمل في الإجمال، و"بالجملة" في التفصيل، وفي الصبان علي الأشموني و"جملة القول"، أي: مجمله، أي: مجموعه، فهو من الإجمال بمعنى الجمع ضدّ التفريق لا من الإجمال ضد التفصيل والبيان أهـ.

وقولهم: "اللهم إلا أن يكون كذا" قد يجيء حشواً أو بعد عموم؛ حثاً للسامع المقيد المذكور قبلها وتنبيهاً، فهي بمثابة نستغفرك؛ كقولك إنا لا نقطع عن زيارتك، اللهم إلا أن يمنع مانع؛ فلذا لا يكاد يفارق حرف الاستثناء وتأتي في جواب الاستفهام نفياً وإثباتاً كتابة، فيقال: اللهمّ نعم، اللهم. وقولهم: "وقد يفرق"، و"إلا أن يفرق" و"يمكن الفرق"- فهذه كلها صيغ فرق. وقولهم: "وقد يجاب" و"إلا أن يجاب"، و"لك أن تجيب"- فهذا جواب من قائله، وقولهم: "ولك ردّه" و"يمكن رده"- فهذه صيغ رده. وقولهم: "لو قيل بكذا لم يبعد" و"ليس ببعيد" أو "لكان قريباً" أو "أقرب" - فهذه صيغ ترجيح. وإذا وجدنا في المسألة كلاماً في المصنف وكلاماً في الفتوى، فالعمدة ما في المصنف، وإذا وجدنا كلاماً في الباب وكلاماً في غير الباب، فالعمدة ما في الباب، وإذا كان في المظنة وفي غير المظنة استطراد، فالعمدة ما في المظنة. ومن اصطلاحاتهم أن أدوات الغايات كـ"لو" و"إن" - للإشارة إلى الخلاف، فإذا لم يوجد خلاف فهو لتعميم الحكم. وعندهم أن "البحث" والإشكال والاستحسان والنظر لا يرد المنقول، والمفهوم لا يرد الصريح أهـ. ومن فتاوى الشيخ ابن حجر: "معنى قولهم في تكبير العيد والشهادات "الأشهر كذا والعمل خلافه"- تعارض الترجيح من حيث دليل المذهب والترجيح من حيث العمل، فساغ العمل بما عليه العمل أهـ. وقول الشيخين: "وعليه العمل" صيغة ترجيح؛ كما حققه بعضهم، وفي كتاب "كشف الغين عمن ضل عن محاسن قرة العين" لابن حجر: أن قولهم "اتفقوا"، و"هذا مجروم به"، و"هذا لا خلاف فيه"- يقال فيما يتعلق بأهل المذهب لا غير. وأما قولهم "هذا مجمع عليه" فإنما يقال فيما اجتمعت عليه الأئمة أهـ. وقال في "قرة العين" له ما نصه: أدى الاستقرار من صنيع المؤلفين بأنهم إذا قالوا: "في صحته كذا" أو "حرمته" أو نحو ذلك نظر - دل على أنهم لم يروا فيه نقلاً أهـ وسئل الشهاب الرملي عن إطلاق الفقهاء نفي الجواز هل ذلك نص في الحرمة فقط أو يطلق على الكراهة؟ فأجاب بأن حقيقة نفي الجواز في كلام الفقهاء التحريم، وقد يطلق "الجواز" على رفع الحرج أعم من أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مكروهاً، أو على "مستوى الطرفين" وهو التخيير بين الفعل والترك، أو على "ما ليس بلازم" من العقود كالعارية أهـ.

وفي باب الطهارة من "الإقناع": "يجوز" إذا أضيف إلى العقود، كان بمعنى الصحة، وإذا أضيف إلى الأفعال، كان بمعنى الحلّ، وهو هنا بمعنى الأمرين؛ لأن من أمرّ الماء على أعضاء طهارته بنية الوضوء والغسل، لا يصح ويحرم؛ لأنه تقرّب بما ليس موضوعاً للتقرّب؛ فعصى لتلاعبه أهـ. و"ينبغي" الأغلب فيها استعمالها في المندوب تارة والوجوب أخرى، ويحمل على أحدهما بالقرينة، وقد تستعمل للجواز والترجيح، و"لا ينبغي" قد تكون للتحريم أو الكراهة أهـ تحفة بزيادة من النهاية. ومن فتاوى ابن حجر ما لفظه: "وفي الاصطلاح": المراد "بالأصحاب" المتقدمون، وهم أصحاب الأوجه غالباً، وضبطوا بالزمن وهم من الأربعمائة ومن عداهم، لا يسمون بالمتقدمين ولا بالمتأخرين، ويوجد هذا الاصطلاح بأن بقية هذا القرن الثالث من جملتهم السلف المشهود لهم على لسانه (صلى الله عليه وسلم) بأنهم خير القرون، أي: ممن بعدهم، فما قربوا من عصر المجتهدين خصوا؛ تمييزاً لهم على من بعدهم باسم المتقدمين، فاحفظ ذلك؛ فإنه مهم. وقال في "التحفة" في باب الفرائض بعد قول الأصل: وأفتى المتأخرون من أثناء كلام؛ ومن هذا يؤخذ أن "المتأخرين" - في كلام الشيخين ونحوهما- كل من كان بعد الأربعمائة، وأما الآن وقبله فهم من بعد الشيخين أهـ- ومثله في النهاية أهـ ما أردت نقله من مطلب الإيقاظ بزيادة من مختصر فتاوى ابن حجر. وأما اصطلاح الإمام شيخ المذهب الشيخ يحيى النووي في المنهاج فقال (رحمه الله تعالى) ونفعنا به في منهاجه مع شرحه للجمال الرملي ما لفظه: فحيث أقول "في الأظهر" أو "المشهور" فمن القولين أو الأقوال للشافعي (رضي الله عنه)، ثم قد يكون القولان جديدين أو قديمين، أو جديداً وقديماً، وقد يقولهما في وقتين أو وقت واحد، وقد يرجح أحدهما وقد لا يرجح، فإن قوي الخلاف لقوة مدركه. قلت الأظهر المشعر بظهور مقابله؛ وإلا بأن ضعف الخلاف فالمشهر المشعر بغرابة مقابله لضعف مدركه، وحيث أقول "الأصح" أو "الصحيح" فمن الوجهين أو الأوجه لأصحاب الشافعي يستخرجونها من كلامه، وقد يجتهدون في بعضها وإن لم يأخذوه من أصله، ثم قد يكون الوجهان لاثنين، وقد يكونان لواحد، واللذان للواحد ينقسمان كانقسام القولين، فإن قوي الخلاف لقوّة مدركه، قلت: "الأصح" المشعر بصحة مقابله، وإلا بأن ضعف الخلاف فالصحيح ولم يعبر بذلك في الأقوال؛ تأدباً مع الإمام الشافعي كما قال، فإن الصحيح منه مشعر بفساد مقابله وظاهر أن المشهور أقوى من الأظهر، وأن الصحيح أقوى

من الأصح، وحيث أقول "المذهب" فمن الطريقين أو الطرق وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب؛ كأن يحكي بعضهم في المسألة قولين أو وجهين لمن تقدم، ويقطع بعضهم بأحدهما، ثم الراجح الذي عبر عنه بالمذهب: إما طريق القطع، أو الموافق لها من طريق الخلاف، أو المخالف لها كما سيظهر في المسائل، وما قيل من أن مراده الأول وأنه الأغلب، ممنوع، وإن قال الأسنوي والزركشي: إن الغالب في المسألة ذات الطريقين أن يكون الصحيح فيها ما يوافق طريقة القطع أهـ. قال الرافعي في آخر زكاة التجارة: وقد تسمى طرق الأصحاب وجوهاً، وذكر مثله في مقدمة المجموع؛ فقال: وقد يعبرون عن الطريقين بالوجهين وعكسه، وحيث أقول "النص" فهو نص الشافعي (رحمه الله تعالى) من إطلاق المصدر على اسم المفعول، سمي بذلك؛ لأنه مرفوع إلى الإمام، أو لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه، والشافعي هو خير الأمة وسلطان الأئمة أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف جدّ النبي (صلى الله عليه وسلم) والنسبة إليه شافعي لا شفعوي، ولد بغزة التي توفي بها هاشم جدّ النبي (صلى الله عليه وسلم) سنة خمسين ومائة، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر سنين، تفقه بمكة على مسلم بن خالد الزنجي، وكان شديد الشقرة، وأذن له مالك في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ورحل في طلب العلم إلى اليمن والعراق إلى أن أتى مصر فأقام بها إلى أن توفاه الله شهيداً يوم الجمعة سلخ شهر رجب سنة أربع ومائتين، وفضائله أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تستقصي، ويكون هناك أي مقابله وجه ضعيف، أو قول مخرّج من نص له في نظير المسألة لا يعمل به، وكيفية التخريج- كما قاله الرافعي في باب التيمم- أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولم يظهر ما يصح للفرق بينهما، فينقل الأصحاب جوابه من كل صورة إلى الأخرى؛ فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص، ومخرّج، والمنصوص في هذه هو المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، وحينئذٍ فيقولون: قولان بالنقل والتخريج، أي: نقل المنصوص، من هذه الصورة إلى تلك وخرج فيها وكذلك بالعكس؛ قال؛ ويجوز أن يكون المراد بالنقل الرواية، والمعنى أن في كل من الصورتين قولاً منصوصاً وآخر مخرجاً، ثم الغالب في هذا عدم إطباق الأصحاب على التخريج، بل ينقسمون إلى فريقين: فريق يخرّج، وفريق يمتنع ويستخرج فارقاً بين الصورتين؛ ليستند إليه، والأصح أن القول المخرج لا ينسب إلى الشافعي إلا مقيداً، إلا أنه ربما يذكر فرقاً ظاهراً لو روجع فيه. وحيث أقول "الجديد" فالقديم خلافه، أو "القديم" أو "في قول قديم" فالجديد خلافه، و"القديم" ما قاله الشافعي بالعراق أو قبل انتقاله إلى مصر، وأشهر رواته أحمد بن

حنبل، والزعفراني، والكرابيسي، وأبو ثور، وقد رجع الشافعي عنه، وقال: لا أجعل في حل من رواه عني، وقال الإمام: لا يحل عد القديم من المذهب، وقال الماوردي في أثناء كتاب الصداق: "غير الشافعي جميع كتبه القديمة في الجديد إلا الصداق، فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع، و"الجديد" ما قاله بمصر، وأشهر رواته: البويطي، والمزني، والربيع المرادي، والربيع الجيزي، وحرملة، ويونس بن عبد الأعلى أو عبد الله بن الزبير المكي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وأبوه، ولم يقع للمصنف التعبير بقوله "وفي قول قديم" ولعله ظن صدور ذلك منه فيه، وإذا كان في المسألة قولان قديم وجديد، فالجديد هو المعمول به إلا في نحو تسع عشرة مسألة أفتى فيها بالقديم، قال بعضهم: وقد تتبع ما أفتى فيه بالقديم فوجد منصوصاً عليه في الجديد أيضاً، وقد نبه في "المجموع" على شيئين: أحدهما: أن إفتاء الأصحاب بالقديم في بعض المسائل محمول على أن اجتهادهم أداهم إليه؛ لظهور دليله، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي؛ قال: وحينئذٍ فمن ليس أهلاً للتخريج، تعين عليه العمل والفتوى بالجديد، ومن كان أهلاً للتخريج والاجتهاد في المذهب، يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل في العمل والفتوى، مبيناً أن هذا رأيه وأن مذهب الشافعي، كذا وكذا؛ قال: وهذا كله في قديم لم يعضده حديث لا معارض له، فإن اعتضد بذلك فهو مذهب الشافعي، فقد صح أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. الثاني: أن قولهم "إن القديم مرجوع عنه، وليس بمذهب الشافعي محله في قديم نص في الجديد على خلافه، أما قديم لم يتعرض في الجديد لما يوافقه ولا لما يخالفه، فإنه مذهبه، وإذا كان في الجديد قولان فالعمل بما رجحه الشافعي، فإن لم يعلم فبآخرهما، فإن قالهما في وقت واحد ولم يرجح شيئاً - وذلك قليل- أو لم يعلم هل قالهما معاً أو مرتباً - لزم البحث عن أرجحهما بشرط الأهلية، فإن أشكل توقف فيه كما مر إيضاحه، وحيث أقول: "وقيل كذا" فهو وجه ضعيف والصحيح أو الأصح خلافه، وحيث أقول: "في قول كذا" فالراجح خلافه، ويتبين قوّة الخلاف وضعفه في قوله وحيث أقول المذهب إلى هنا من مدركه أهـ عبارة النهاية وقوله: "إلا في نحو تسع عشرة مسألة. قال العلامة الكردي في "الفوائد المدنية" قد نظمها بعضهم في قوله: [من الرجز]: مسائل الفتوى بقول الأقدم ... هي للإمام الشافعي الأعظمِ لا ينجس الجاري ومنع تباعدٍ ... والطهرُ لم ينقض بلمس المحرم واستجمرن بمجاوزٍ عن مخرجٍ ... للصفحتين ولو تلوث بالدم والوقت مُد إلى مغيب المغرب ... ثوب بصبحٍ والعشاء فقدم لا تأتين في الأخريين بسورةٍ ... والاقتداء يجوز بعد تحرم والجهر بالتأمين سُنّ لمقتدٍ ... والخط بين يدي مُصَلٍّ علم

والظفر يكره أخذه من ميتٍ ... وكذا الركاز نصابه لم يلزم ويصح عن ميتٍ صيامُ وليه ... ويجوز شرط تحللٍ للمحرم ويجوز إجبار الشريك على البنا ... وعلى عمارة كل ما لم يقسم والزوج إن يكن الصداق بيده ... فضمان يد حكمه في المغرم والجلد بعد الدبغ يحرم أكله ... والحد في وطء الرقيق المحرم أهـ. قال: وثمة مسائل أخر مذكور على القديم منها، إلى أن قال: ولو تتبعت كلام أئمتنا لزادت المسائل على الثلاثين بكثير، وقد نبه (رحمه الله تعالى) على كل فرد منها أنه مما يفتي فيه بالجديد، وبيَّن أيضاً أن الفتوى بنجاسة الماء الجاري القليل بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير كالراكد، وأن المذهب اشتراط النصاب في الركاز، وأن المعتمد أنه لا يجوز إجبار شريكه على العمارة في الجديد، وأن الصحيح أن الصداق مضمون ضمان عقد، وأن المدبوغ يحرم أكله عند ابن حجر بلا تفصيل. وأما الجمال الرملي: "يحل أكل المدبوغ من المذكى ويحرم غيره؛ سواء كان مما لا يؤكل لحمه أو من ميتة المذكى، وأن المعتمد عدم وجوب الحد بوطء أمته المحرم عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، وهو القول الجديد، وبرهن على ذلك فانظره إن شئت أهـ. قال في التحفة: وقد يقع للمصنف أنه في بعض كتبه يعبر بالأظهر، وفي بعضها يعبر عن ذلك بالأصح، فإن عرف أن الخلاف أقوال أو أوجه فواضح، والأرجح الدال على أنه أقوال؛ لأن مع قائله زيادة علم بنقله عن الشافعي (رضي الله تعالى عنه) بخلاف نافيه عنه أهـ. وفي المطلب عن فتاوى الأشخر: الصحيح أن الأقوال المخرجة على قواعد المذهب تعد منه، وقول الشربيني: الأصح أن القول المخرّج لا ينسب للشافعي؛ لأنه ربما لو روجع فيه ذكر فارقاً أهـ أي من حيث نسبته إليه، فلا يقال: قال الشافعي مثلاً، أي: وإن كان معدوداً من مذهبه بشرطه كما عن الأشخر وغيره أهـ. تتمة من "الحق الواضح": المقرر من المعلوم بين الأئمة أن ما يقع لبعضهم بعضاً؛ كقوله: هذا غلط وخطأ، لا يريدون به تنقيصاً ولا بغضاً، بل بيان المقالات الغير المرتضاة، وهذا شأن الأسنوي مع الشيخين، والأذرعي، والبلقيني، وابن العماد وغيرهم في الرد على الأسنوي بإغلاظ وجفاء، ونسبته لما هو برئ منه غالباً، لكنه لما تجاوز في حق الشيخين قيض له من تجاوز في حقه جزاء وفاقاً، ومع ذلك معاذ الله أن يقصد أحد منهم غير بيان وجه الحق مع بقاء تعظيم بعضهم لبعض، فكذا نحن ومن اعترضنا عليه واعترض علينا مع اعتقاد صلاحهم، وأنهم القدوة للناس في ذلك الإقليم، جزاهم الله خيراً ونفعنا بهم، وختم لنا ولهم بالحسنى والتوفيق أهـ مختصر فتاوى ابن حجر.

ترجمة الإمام البغوي اسمه وكنيته ولقبه ونسبه: هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، ركن الدين الملقب بـ"محيي السنة". يقول: طاش كبري زاده - في كتابه "مفتاح السعادة": ورأيت في بعض المجامع أنه لقب بـ"محيي السنة"، وسبب ذلك أنه لما صنف "شرح السنة" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أحييت سنتي بشرح أحاديثي، فلقب من ذاك اليوم بـ"محيي السنة". ويلقب - أيضاً - بـ"الفراء"، و"ابن الفراء" نسبة إلى عمل الفراء وبيعها؛ كما يقول ابن خلكان. والبغوي نسبة إلى "بغ" و"بغشور". يقول السمعاني: البغوي هذه النسبة إلى بلدة من بلاد خراسان، ومرو، وهراة، يقال لها: "بغ" و"بغشور" دخلتها غير مرة، ونزلت بها وكان بها جماعة من الأئمة والعلماء قديماً وحديثاً. وقال ياقوت الحموي: بغشور بُلَيْدَةٌ بين "هراة" و"مرو الروذ"، شربهم من آبار عذبة، وزروعهم ومباطخهم أعذاء، وهي في برية ليس عندهم شجرة واحدة، ويقال لها: "بَغْ" أيضاً رأيتها في سنة 616 هـ، والخراب فيها ظاهر، وقد نسب إليها خلق كثير من العلماء والأعيان ... ويقول النسبة إليها "بَغَويِّ" على غير قياس على أحدهما.

مولده ونشأته ورحلاته وسماعاته: لم يحدد لنا سنة ولادته سوى صاحب "معجم البلدان" فقد جاء فيه: ومولده في جمادى الأولى سنة 433 هـ. وقد انتقل من موطن رأسه "بغا" إلى "مرو الروذ" بعد الستين وأربعمائة، حيث كان عمره سبعاً وعشرين عاماً، فأقام بها، وتلقى العلم على شيوخها واتخذها وطناً ثانياً له، ولم يغادرها حتى توفي بها. ويقول السبكي: وسماعاته بعد الستين وأربعمائة، ويقول: ولم يدخل بغداد، ولو دخلها لاتسعت ترجمته .... وقال: مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة بمرو الروذ وبها كانت إقامته، ويقول في موضع آخر: قال شيخنا الذهبي: ولم يحج وأظنه جاوز الثمانين. فأما رحلاته فتفرد بذكرها ابن تغري بردي من بين المصادر التي ترجمت للبغوي حيث يقول: رحل إلى البلاد، وسمع الكثير. ولم يذكر هذه البلاد، والذي ترجمه أنه رحل من بلدة "بغشور" إلى مرو الروذ و"بنج ده"، وهما البلدان الوحيدان اللذان نصت عليهما سائر المصادر، وأن أكثر سماعه للعلم كان في "مرو الروذ". وكانت نشأته - إضافة لما ذكرنا من رحلته في طلب للعلم- نشأة الزاهد الورع. يقول ابن خلكان: ونقلت عنه- أي: المنذري في الفوائد السفرية- أنه ماتت له زوجة، فلم يأخذ من ميراثها شيئاً، وأنه كان يأكل الخبز وحده، فعدل في ذلك، فصار الخبز مع الزيت. ويقول الذهبي: وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصداً في لباسه له ثوب خام وعمامة صغيرة. ويقول أيضاً: وكان من العلماء الربانيين، كان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير.

أسرته: لم تذكر المصادر التي تحت أيدينا إلا ثلاثة من أفراد أسرته، هم: أبوه، وأخوه، وزوجته. أما أبوه: فقال عنه الذهبي: وكان أبوه يعمل بالفراء ويبيعها. وأما أخوه: فقال عنه ياقوت الحموي: وأخوه الحسن، وكان أيضاً من أهل العلم ذكره في "التحبير"- أي: السمعاني - وقال كان رحمه الله رقيق القلب، أنشد لرجل: [الوافر]: ويوم تولت الأظعان عنا ... وقوَّض حاضرٌ وأرنَّ حادي مددت إلى الوداع يدي، وأخرى ... حبستُ بها الحياة على فُؤادي فتواجد الحسن الفراء، وخلع عليه ثيابه التي عليه سنة 529. وأما زوجته: فقال ابن خلكان: ماتت زوجته فلم يأخذ من ميراثها شيئاً. مذهبه العقدي والفقهي: يعدُّ البغوي إماماً من أئمة أهل السنة والجماعة، ورجلاً من رجالات الحق والهدى، فبعقيدة السلف يؤمن وعلى مذهبهم يسير. قال الذهبي: (بورك في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام؛ لحسن قصده وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصداً في لباسه، له ثوب خام، وعمامة صغيرة على منهاج السلف حالاً وعقداً. ويقول طاش كبرى زاده: وكان متورعاً، ثبتاً، حُجَّة، صحيح العقيدة في الدين. قال السبكي في تكملة شرح المهذب: قل أن رأيناه يختار شيئاً إلا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره هذا مع اختصار كلامه، وهو يدل على نبل كبير، وهو حري بذلك؛ فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه. وتفقه البغوي على مذهب الشافعي حتى صار من أئمته، وله فيه كتاب "التهذيب" الذي يعتبر من الكتب المعتمدة عند الشافعية، وقد بلغ البغوي درجة الاجتهاد؛ كما يصفه بذلك عامة من ترجم له، وتكلم عنه.

ثقافته ومكانته العلمية: جمع البغوي اختصاصات متعددة في فروع العلم والمعرفة؛ كالتفسير، والقراءات، والحديث، والفقه. يقول التاج السبكي: "فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه- رحمه الله". شُيُوخُ الإِمَامِ البغويِّ تلمذ الإمام البغوي على كثير من كبار العلماء والفقهاء، الذين كان لهم دورٌ ملحوظ في تكوين شخصيته العلمية، وتوجيه مسارِه الثقافي والمعرفي إلى مرتبة عالية لا تنبغي إلا للإمام الغزالي. وسنذكر بإيجاز ما استطاعنا الوقوف عليه من تراجم هؤلاء الأئمة: 1 - أحمد بن أبي نصر الكوفاني، أبو بكر، شيخ الزهاد بهراة. 2 - أحمد بن عبد الرحمن الكتاني، أبو الحسن. 3 - أحمد بن عبد الرزاق الصالحي. 4 - أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمد، أبو صالح النيسابوري، الحافظ الثقة، محدث وقته بخراسان، المتوفي سنة (470 هـ). 5 - أحمد بن محمد بن العباس الخطيب الحميدي، أبو سعد. 6 - أحمد بن محمد الشريحي، أبو سعد. 7 - إسماعيل بن عبد القاهر. 8 - حسان بن سعيد، أبو علي، المنيعي المروزي، من أهل مرو الروذ، كان ثرياً سخياً متواضعاً، عابداً، توفي سنة (463 هـ). 9 - الحسين بن محمد بن أحمد، وسنفرد بحثاً في ترجمته، بعد الفراغ من ترجمة الإمام البغوي، إن شاء الله. 10 - زياد بن محمد الحنفي، أبو الفضل، ويكثر من ذكره في تفسيره "معالم التنزيل". 11 - سعيد بن إسماعيل الضبي، أبو عثمان.

12 - عبد الباقي بن يوسف بن علي بن صالح بن عبد الملك، المراغي، أبو تراب، مفتي نيسابور، الفقيه الشافعي، المتوفي سنة (492 هـ). 13 - عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني المروزي، أبو القاسم، ذكره التاج السبكي (771 هـ) في "طبقات الشافعية الكبرى" وقال: (كان إماماً حافظاً للمذهب، شيخ أهل مرو، سمع الحديث وكان كثير النقل، روى عنه البغوي، توفي سنة (461 هـ). 14 - عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر الداودي، أبو الحسن، البوشنجي، شيخ خراسان. 15 - عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري، أبو القاسم القشيري، شيخ خراسان في عصره المتوفي سنة (465 هـ). 16 - عبد الله بن أحمد الطاهري، أبو سعيد. 17 - عبد الله بن عبد الصمد بن أحمد بن موسى الجوزجاني، أبو محمد. 18 - عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم، أبو عمر المليحي الهروي، المحدث، راوي الصحيح عن النعيمي، كان صالحاً، أكثر عنه البغوي، توفي سنة 463 هـ. 19 - عبد الوهاب بن محمد الخطيب. 20 - عبد الوهاب بن محمد الكسائي. 21 - علي بن الحسين بن الحسن، أبو الحسن القرينيني، نسبة إلى ناحية بين مرو الشاهجان، ومرو الروذ. 22 - علي بن يوسف الجويني، أبو الحسن، المعروف بشيخ الحجاز، عمّ إمام الحرمين، المحدّث الصوفي، أملى بخراسان وتوفي سنة (463 هـ). 23 - عمر بن عبد العزيز بن أحمد يوسف الفاشاني، المروزي، أبو طاهر، الإمام الفاضل والفقيه البارع، والمتكلم، والأصولي. 24 - محمد بن أحمد التميمي. 25 - محمد بن عبد الرحمن النسوي، أبو عمرو. 26 - محمد بن عبد الصمد الترابي، أبو بكر المروزي، المتوفي سنة 463 هـ. 27 - محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أبو بكر. 28 - محمد بن عبد الله بن محمد بن المعلم الطوسي. 29 - محمد بن عبد الملك المظفري السرخسي، أبو منصور.

30 - محمد بن علي بن محمد بن علي بن بويه الزرّاد. 31 - محمد بن الفضل بن جعفر الخَرَقي، نسبة إلى خَرَق، قرية من قرى مرو. 32 - محمد بن محمد الشيرزي، أبو الحسن، نسبة إلى شيرز، قرية بسرخس. 33 - محمد بن أبي الهيثم الترابي، أبو بكر المروزي، المتوفي سنة 463 هـ. 34 - المطهر بن علي الفارسي. 35 - المظهر بن إسماعيل التميمي، أبو الفرج. 36 - يحيى بن علي الكشمهيني، أبو القاسم. 37 - يعقوب بن أحمد الصيرفي، أبو بكر النيسابوري، المتوفي سنة 466 هـ. تلاميذه: وهذا مسرد بتلاميذ المصنف: 1 - أسعد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن يوسف، أبو الغنائم البامنجي الخطيب، المتوفي سنة (548 هـ)، ذكره التاج السبكي في "طبقات الشافعية". 2 - الحسن بن محمد بن أبي جعفر البلخي، الشافعي، القاضي أبو المعالي. روى عنه أبو سعد بن السمعاني، وأثنى عليه، وذكر سنة وفاته سنة 548 هـ. 3 - الحسن بن مسعود البغوي، أبو علي، أخو الإمام البغوي، تفقه على أخيه، كما يذكر النووي (676 هـ) في طبقات الشافعية. 4 - عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحسين، أبو محمد النبهي، ابن أخي الحسين بن عبد الرحمن النبهي، تلميذ القاضي حسين. ذكره ابن العماد في "شذرات الذهب" 4/ 148. 5 - عبد الرحمن بن علي بن أبي العباس النعيمي الموفقي، الفقيه، المناظر، الورع، العابد، أقام عند أبي حامد الغزالي مدة، وعند البغوي مدة، وتوفي سنة (542 هـ). 6 - عبد الرحمن بن عمر الأصفر، أبو نعيم البامنجي. 7 - عبد الرحمن بن محمد، أبو القاسم بن أبي سعد الفارسي ثم السرخسي، الفقيه، الورع، المتوفي سنة (555 هـ). 8 - عبد الله بن محمد بن المظفر بن علي، أبو محمد المتولي البغوي. 9 - عمر بن الحسن بن الحسين الرازي، والد الإمام الرازي صاحب "التفسير الكبير"، ذكره طاش كبرى زادة.

10 - فضل الله بن محمد النوقاني، نسبة إلى نوقان، قصبة طوس، أبو المكارم، وهو آخر من روى بالإجازة عن البغوي، توفي سنة ستمائة، ذكره الذهبي. 11 - مثاور بن فزكوه، أبو مقاتل الديلمي اليزدي، عماد الدين الفقيه، الأديب، الشاعر، الزاهد، المتوفي سنة (546 هـ) وكان من كبار تلامذة البغوي، كما يذكر التاج السبكي. 12 - محمد بن أسعد بن محمد بن الحسين بن القاسم، مجد الدين، أبو منصور المعروف بحَفَدَة العطاري الشافعي، من أهل نيسابور، أصله من طوس، وتفقه بها على الغزالي، كان من أئمة الدين وأعلام الفقهاء، حدّث بكتابي "معالم التنزيل" و"شرح السنة" للبغوي. 13 - محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن يعقوب المروزي الزاغولي. الفاضل، الصالح، العارف بالحديث، سافر إلى هراة ونيسابور، وسمع البغويَّ بمرو الروذ. 14 - محمد بن داود بن رضوان الإيلاقي، أبو عبد الله، المتوفي سنة (539 هـ). 15 - محمد بن عمر بن محمد بن محمد الشاشي، أبو عبد الله، الفقيه العابد، حدّث عن البغوي بالأربعين الصغرى له، وتوفي سنة (556 هـ). 16 - محمد بن محمد بن علي الطائي الهمذاني، أبو الفتوح، الفقيه، المحدث، الأديب، المتوفي سنة (555 هـ). 17 - محمود بن محمد بن العباس بن أرسلان، أبو محمد العباس، توفي سنة 568 هـ، وترك أعقاباً علماء. 18 - مسعود بن أحم بن يوسف بن أحمد بن يوسف، أبو الفتح، تفقه بـ"مرو الروذ" على الإمام أبي محمد البغوي، وتوفي سنة نيف وأربع وخمسمائة. 19 - ملكدار بن علي بن أبي عمرو العمركي، القزويني، كان من أئمة المذهب الشافعي، توفي سنة (535 هـ). 20 - أبو محمد الموفق بن علي بن محمد بن ثابت الثابتي الخرقي الفقيه، توفي سنة 540 هـ. 21 - العماد التيمي. ذكره طاش كبرى زادة في "مفتاح السعادة" 2/ 410. نتاجه العلمي (تصانيفه): ترك الإمام البغوي كتباً متنوعة في التفيسر، والقراءات، والحديث، والفقه، وقد

لاقت كتبه قبول العلماء، وذاع صيتها وانتشرت، وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي: بورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول التام لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها. وتناوله للعلوم تناول الناقد البصير الفقيه ببواطن الأمور، قال السيوطي: كان إماماً في التفسير إماماً في الحديث في الفقه. ومن تصانيفه: 1 - أربعون حديثاً نص عليه الذهبي. 2 - الأنوار في شمائل النبي المختار أو "آثار الأنوار في شمائل النبي المختار". 3 - ترجمة الأحكام في الفروع: وهو باللغة الفارسية في الفقه الشافعي. 4 - تعليق على فتاوى القاضي حسين، وهي عبارة عن مسائل سئل عنها شيخه الإمام أبو علي. 5 - التهذيب في الفقه وهو كتابنا هذا: وهو كتاب جليل في فقه الشافعي - رضي الله عنه- وله مختصران؛ أحدهما للمروزي، والآخر لشهاب الإسكندري. 6 - الجمع بين الصحيحين. 7 - شرح "الجامع" للترمذي. 8 - شرح السنة وله مختصرات كثيرة. 9 - فتاوي البغوي: وتوجد منه نسخة مخطوطة في المكتبة السليمانية رقم 675: 3.

10 - فتاوي المرو الروذي: وهي فتاوي شيخ القاضي حسين. وتوجد منها نسخة في الظاهرية بدمشق رقم 2311 (374 فقه الشافعي). 11 - الكفاية في الفروع: وهو مختصر في الفقه الشافعي بالأعجمية. 12 - الكفاية في القراءة. 13 - المدخل إلى مصابيح السنة. 14 - مصابيح السنة. 15 - معالم التنزيل: وهو تفسير للقرآن متوسط الحجم جامع لأقاويل السلف في تفسير الآي محلى بالأحاديث النبوية الشريفة وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم وله عدة مختصرات. 15 - معجم الشيوخ: وهو من قبيل الفهرسة والمشيخة، والبرنامج، وهي كتب درج العلماء على تأليفها، يضمنون فيها أسماء شيوخهم، ومروياتهم من الكتب والأجزاء عنهم. وفاته: رحل إمامنا إلى الرفيق الأعلى بعد أن خلف وراءه تراثاً فكرياً ضخماً ونتاجاً علمياً بارعاً، على أنه من حملة العلم العدول، ودفن عند شيخه القاضي حسين، بمقبرة الطالقان، وقبره مشهور هنالك. وكانت وفاته - رحمه الله - في شوال ستة عشر وخمسمائة "بمرو الروذ". وذكر المنذري أن وفاته سنة ست عشرة وخمسمائة وهو الراجح والله أعلم.

بين يدي كتاب "التهذيب" للإمام البغوي يعدُّ كتاب "التهذيب" للبغوي موسوعة فقهية، ومرجعاً أساسياً للفقه الإسلامي عامة، ولمذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه- خاصة؛ فهو كتاب معتمد عند الشافعية منه ينقلون، وعليه يعتمدون، ومن تقريره وتحريره وترجيحه يستفيدون، وكيف لا؟ وهو كتاب الإمام المحدث والفقيه المفسر، العلامة الذي جمع بين أشتات العلم، وأجاد في كل فن. هذا، وبعد تتبع كتاب "التهذيب" للإمام البغوي رحمه الله وجدناه يسير على منهج التزمه في كتابه، وهو: أولاً: يذكر الإمام البغوي في بداية كل باب أو فصل أدلة ما هو بصدد الحديث عنه؛ من آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية، ويذكر شرحاً مبسطاً لما كان غريباً منها ويحتاج إلى توضيح. ثانياً: يذكر المسألة الفقهية مع الاختلاف فيها إن وجد، سواء كان بين المذاهب الفقهية أو مذهب الشافعي. ثالثاً: يذكر الفروع المندرجة تحت تلك المسألة التي ذكرها، ويحررها، ويشرحها شرحاً وافياً. رابعاً: الترجيح بين أقوال مذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه- في فرع المسألة التي يذكرها. خامساً: التوسع في الفروع الفقهية مع تحرير ما ينقله، ولعل هذا يرجع إلى ما يتصف به أهل خراسان من كثرة التفريع والترتيب؛ كما أشار إلى ذلك النووي؛ حيث قال: "اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي، وقواعد مذهبه، ووجوه متقدمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالباً، والخراسانيون أحسن تصرفاً وبحثاً وتفريعاً وترتيباً غالباً". سادساً: ذكر قولي الشافعي- رضي الله عنه- في مذهبه القديم والجديد. سابعاً: نقل آراء الصحابة والتابعين في المسألة الفقهية. ثامناً: ذكر آراء المذاهب الأخرى؛ كأبي حنيفة، ومالك وأحمد - رضي الله عنهما- مما يجعل لكتابه مكاناً في الفقه المقارن. هذا، وقد اختصر كتاب إمامنا الحسين بن محمد الهروي، وسماه: "لباب التهذيب"، ومنه أخذنا كتاب الحج الناقص في الكتاب.

تاسعاً: الحسين بن محمد بن أحمد، شيخ الشافعية بخراسان، أبو علي المَرّوذي، ويقال له أيضاً: المروروذي وهذه النسبة إلى "مرو الروذ"، وهي بلدة على وادي "مرو". قال ابن السَّمعاني في الأنساب: والوادي بالعجمية يقال له: "الروذ" فركبوا على اسم البلد الذي ماؤُه في هذا الوادي، والبلد اسماً وقالوا: "مرو الروذ" فتحها الأحنف بن قيس من جهة عبد الله بن عامر، كان بها جماعة من الفضلاء والعلماء قديماً وحديثاً. طلبه للعلم وثناء العلماء عليه: كان الشيخ - رحمه الله - عاكفاً على العلوم دراسة وتدريساً، حتى أصبح من أعلم أهل عصره، وأرفعهم منزلة، وأوسعهم فقهاً، وأشهرهم اسماً، قال عنه ابن السمعاني: "القاضي أبو محمد الحسين بن محمد بن أحمد المرو الروذي إمام عصره، صار "مرو الروذ" محط العلماء ومقصد الفقهاء بسببه وبعده". قال السبكي في طبقاته: الإمام الجليل. أحد رُفَعاء الأصحاب، ومن له الصِّيت في آفاق الأرَضِين، وهو صاحب "التعليقة" المشهورة، وصاحب ذُيول الفخار المرفُوعة المجرُورة، وجالبُ التحقيق إلى سُوق المعاني، حتى يخرج الوجه من صورةٍ إلى صورة، السامي على آفاق السماء، والعالي على مقدار النجم في الليلة الظلماء، والحال فوق فرق الفرقد، وكذا تكون عزائم العلماء، قاضٍ مكمَّل الفضل، فلو يتعرف به النحاة لما قالت في "قاض": إنه منقوص، وبحر علم زَخَرت فوائده فعمت الناس، وتعميمُ الفقهاء بها للخُصوص، وإمام تصطفُّ الأئمة خلفه، كأنهم بُنيان مرصوص. كان القاضي جبل فقهٍ منيعاً صاعداً، ورجل علمٍ من يُساجِلْه، يُساجِلْ ماجداً، وبطل بحث يترك القرن مصفراً أنامله قائماً وقاعداً. قال عنه النووي في تهذيبه: هو الإمام أبو علي الحسين بن محمد المروذي، من أصحابنا. أصحاب الوجوه، كبير القدر، مرتفع الشأن، غواص على المعاني الدقيقة، والفروع المستفادة الأنيقة، وهو من أجل أصحاب القفال المروزي، له "التعليق الكبير" وما أجزل فوائده، وأكثر فروعه المستفادة.

قال الإسنوي في طبقاته: قال عبد الغافر: كان فيه خراسان، وكان عصره تاريخاً به. وقال الرافعي في التدوين: إنه كان كبيراً، غوّاصاً في الدقائق من الأصحاب الغر الميامين، وكان يلقب بـ"حبر الأمة". قال الرافعي: سمعت سبطه الحسن بن محمد بن الحسين بن محمد بن القاضي الحسين يقول: أتى القاضي- رحمه الله- رجل، فقال حلفت بالطلاق أنه ليس أحد في الفقه والعلم مثلك، فأطرق رأسه ساعةً وبكى، ثم قال: هكذا يفعل موت الرجال، لا يقع طلاقك. وقال الرافعي أيضاً في "التذنيب": إنه كان كبيراً، غواصاً في الدقائق من الأصحاب الغر الميامين، وكان يلقب بـ"حبر الأمة". لقبه بـ"القاضي". قال النووي في "التهذيب": اعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانين كـ"النهاية"، و"التتمة"، و"التهذيب"، وكتب الغزالي ونحوها- فالمراد: القاضي حسين، ومتى أطلق القاضي في كتب متوسط العراقيين، فالمراد: القاضي أبو حامد المروروذي، ومتى أطلق في كتب الأصول لأصحابنا، فالمراد القاضي أبو بكر الباقلاني الإمام المالكي في الفروع، ومتى أطلق في كتب المعتزلة، أو كتب أصحابنا الأصوليين حكاية عن المعتزلة، فالمراد به القاضي الجُبَّائي والله أعلم. قال ابن خلكان: كلما قال إمام الحرمين في كتاب "نهاية المطلب"، والغزالي في "الوسيط" و"البسيط": قال القاضي- فهو المراد بالذكر لا سواه. قال ابن قاضي شهبة في طبقاته: متى أطلق "القَاضِي" في كتب متأخري المراوزة، فالمراد المذكور. من الرواية عنه وهي عزيزة كذا عَنْوَنَ ابن السبكي في "طبقاته"، في معرض الرواية عن القاضي حسين - رحمه الله- وقال:

أخبرنا محمد بن إسماعيل الحمويّ، قراءةً عليه وأنا أسمع، أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد البَعْليّ، أخبرنا أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين القزويني، أخبرنا الإمام أبو منصور محمد بن أسعد بن محمد، المعروف بـ"حَفَدَةَ العطارِيّ". ح: وأخبرنا جماعةٌ من مشايخنا، منهم: الحافظان أبو الحجاج المِزِّي، وأبو عبد الله الذهبي، عن أبي الحسن بن البُخاري، عن فضل الله بن محمد النُّوقَانِيّ، قالا: أخبرنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، قال حفدةُ: سماعاً، وقال فضل الله: إجازة، أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشَّاة، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد، حَفِيد العباس بن حَمْزة، حدثنا جَدِّي العباس بن حمزة، حدثنا محمد بن مُهاجر، حدثنا أبو معاوية، وعبد الله بن نُمير، وأبو أسامة، قالوا: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة". (شيوخه): أما شيوخه فإنهم خير سلف للخلف؛ فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، ومنجاة من الردى، فبهم اشتهر الدين وبه اشتهروا فأقاموا السنة، وهدموا بفضل الله البدعة، فسعت بذكرهم الركبان، وغشت مناقبهم البلدان، فتهافت الناس عليهم من كل صقع شاسع ومكان، ولا غرو فالعالم النحرير، والألمعي الكبير، قمين أن تقوم له الدنيا فلا تقعد، إلا أن يقعدها بروائع علمه، ومزيد حلمه، ويرحم الله "الإلبيري" لما ذكر العلماء فقال: [السريع]: إن أولي العلم بهذي الفتن ... تهيبوها من قديم الزمن فاستعصموا الله وكان التُقى ... أوفى لهم فيها من أوفى الجنن فهم دعاة الله في أرضه ... حقاً بهم تدفع عنا الفتن فهنيئاً لعالمنا أن ينتسب إلى هالة النور من كوكبة العلماء هذه، وهي الزاخرة الفاخرة، ذات الشهرة السائرة: [الطويل]: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع ودُونك نظماً لعقد الأنوار، من كوكبة العلماء الأخيار.

الهروي المعروف بـ"العالم" أبو بشر، أحمد بن محمد بن جعفر، الهروي المعروف بـ"العالم"، سكن بغداد، ودرس عليه أمير المؤمنين "القادر بالله". ذكره الشيخ في "طبقاته" ولم يزد عليه، وقال التفليسي في "طبقاته": ولد بـ"هراة" سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وسكن بغداد، وروى عنه القاضي الحسين وغيره، وتوفي في شهر ربيع الأول، سنة خمس وثمانين وثلثمائة. أبو بكر القفال عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، الإمام الجليل، أبو بكر القفال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنما قيل له: القفال؛ لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها حتى صنع قفلاً بآلاته ومُفتاحه وزن أربع حبات، فلما كان ابن ثلاثين سنة، أحس من نفسه ذكاءً، فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إماماً يقتدي به فيه، وتفقه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدث وأملى. قال الفقيه ناصر العمري: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله، وكنا نقول: إنه ملك في صورة إنسان. وقال الحافظ أبو بكر السمعاني في "أماليه": أبو بكر القفال وحيد زمانه فقهاً، وحفظاً، وورعاً، وزهداً، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة، وأكثرها تحقيقاً، رحل إليه الفقهاء من البلاد وتخرج به أئمة، وذكر القاضي الحسين: أن أبا بكر القفال كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء في الدروس، ثم يرفع رأسه، ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا. وقال الشيخ أبو محمد: أخرج القفال يده فإذا على ظهر كفه آثار، فقال: هذا من آثار عملي في ابتداء شبيبتي، وكان مصاباً بإحدى عينيه. ومن تصانيفه: "شرح التلخيص" وهو مجلدان، و"شرح الفروع" في مجلدة، وكتاب "الفتاوى" له في مجلدة ضخمة، كثيرة الفائدة. توفي بـ"مِرو" في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وأربعمائة، وعمره تسعون سنة.

أبو نصر المؤدب أبو نصر المؤدب، أحد أشياخ القفال، حكى القاضي الحسين في تعليقه عن القفال: أنه سمعه يقول: إن العمل الكثير في الصلاة هو الذي يحتاج إلى اليدين جميعاً؛ كربط السراويل، وتعمم العمامة، والقليل ما لا يحتاجه إليه، ونقل ابن الرفعة ذلك عنه، لا أعرف وقت وفاته وذكرته هنا؛ لأنه من نظراء أبي زيد. تلاميذه: فهم خير خلف لنعم السلف؟ إذ بهم تمت المسيرة واستمرت الشريعة منيفة منيرة، فهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحمل هذا العلم عن كل سلف عُدُولُهُ ينفون عنه تحريف الغالين، وكلام المبطلين ... " فكانوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-، فهنيئاً لهم البشرى، وطاب لهم الخلود في الدار الأخرى .... وذلك أنه لما طاب عالمنا، تطيبوا؛ كما قالوا: لا يستقيمُ الظل، ما دام العود أعوج، فاستقام العود، فاستقامت فروعه؛ وكما قيل: [الرجز]: بأبه اقتدى عديٌّ في الكرمْ ومن يُشابه أبهُ فَمَا ظَلَمْ ودونك نشراً لأسمائهم وإحصاءً لأعدادهم- جعلنا نحن الله في عدادهم. أبو سعد المتولي عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم النيسابوري، الشيخ أبو سعد المتولي تفقه بـ"مرو" على الفوراني، بـ"مرو الروذ" على القاضي الحسين، بـ"بخاري" على أبي سهل الأبيوردي؛ وبرع في الفقه، والأصول، والخلاف. قال الذهبي: وكان فقيهاً محققاً، وحبراً مدققاً. وقال ابن كثير: أحد أصحاب الوجوه في المذهب، وصنف التتمة ولم يكمله، وصل فيه إلى القضاء، وأكمله غير واحد ولم يقع شيء من تكملتهم على نسبته. قال الأذرعي: ونسخ التتمةتختلف كثيراً، وصنف كتاباً في "أصول الدين"، وكتاباً في "الخلاف"، ومختصراً في "الفرائض"، ودرس بالنظامية ثم عزل بابن الصباغ، ثم أعيد إليها.

ومولده بـ"نيسابور" سنة ست، وقيل: سبع وعشرين وأربعمائة. قال ابن خلكان ولم أقف على المعنى الذي به سمي المتولي. توفي في شوال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد، ودفن بمقبرة "باب أبرز". أبو المعالي الجويني عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، العلامة إمام الحرمين، ضياء الدين، أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني، رئيس الشافعية بـ"نيسابور"، مولده في المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، وتفقه على والده، وأتى على جميع مصنفاته، وتوفي أبوه وله عشرون سنة، فأُقْعِد مكانه للتدريس فكان يدرس، ويخرج إلى مدرسة البيهقي، حتى حصَّل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف، وخرج في الفتنة إلى الحجاز، وجاور بـ"مكة" أربع سنين يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب، ثم رجع إلى نيسابور، وأُقْعِد للتدريس بنظامية نيسابور، واستقام أمور الطلبة، وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب، والمنبر، والتدريس، ومجلس الوعظ، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر، والجمع العظيم من الطلبة؛ وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل، وتفقه به جماعة من الأئمة. قال ابن السمعاني: كان إمام الأئمة على الإطلاق، المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، لم تر العيون مثله، قال: وقرأت بخط أبي جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني، سمعت الشيخ أبا إسحاق الفيروزابادي يقول: تمتعوا بهذا الإمام؛ فإنه نزهة هذا الزمان - يعني أبا المعالي الجويني-، توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ودفن بداره، ثم نقل بعد سنين فدفن إلى جانب والده، ومن تصانيفه: "النهاية" جمعها بـ"مكة" وحررها بـ"نيسابور"، ومختصرها له ولم يكمله، قال فيه: إنه يقع في الحجم من النهاية أقل من النصف، وفي المعنى أكثر من النصف، وكتاب "الأساليب في الخلاف"، وكتاب "الغياثي" مجلد متوسط، يسلك به غالب مسالك الأحكام السلطانية، والرسالة النظامية، وكتاب "غياث الخلق في اتباع الحق" يحث فيه على الأخذ بمذهب الشافعي دون غيره، وكتاب

"البرهان" في أصول الفقه، و"التلخيص" مختصر التقريب، و"الإرشاد" في أصول الفقه أيضاً، وكتاب "الإرشاد" في أصول الدين، وكتاب "ألشامل" في أصول الدين أيضاً، وكتاب "غنية المسترشدين" في الخلاف. أبو عبد الله النيهي الحسن بن عبد الرحمن بن الحسين بن محمد بن عمر بن حفص بن زيد، أبو عبد الله النيهي. والنيهي: منسوب إلى "نِيه"- بنون مكسورة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم هاء؛ بلدة صغيرة بين سجستان وإسفرايين. تلميذ القاضي الحسين وأستاذ إبراهيم المروزي. قال ابن السمعاني: كان إماماً، فاضلاً، عارفاً بالمذهب، ورعاً، انتشر عنه الأصحاب. نقل الرافعي عنه في أوائل حد القذف فقال: ولو قال: "يا مؤاجر" فليس بصريح في القذف، وعن الشيخ إبراهيم المروزي أنه حكي عن أستاذه النيهي: أنه صريح لاعتياد الناس القذف به. وكانت وفاته في حدود سنة ثمانين وأربعمائة. أبو الفضل الأزْجاهي أبو الفضل: عبد الكريم بن يونس بن محمد، الأزْجَاهي نسبة إلى: "أَزْجاه"- بهمزة مفتوحة، وزاي معجمة ساكنة، بعدها جيم، ثم ألف ثم هاء- قرية من قرى خراسان. قال ابن السمعاني: كان إماماً، فاضلاً، متقناً حافظاً "لمذهب الشافعي"، متصرفاً فيه، ورِعاً، تفقه بـ"نيسابور" على الشيخ أبي محمد، ثم بـ"مرو" على أبي طاهر السنجي بـ"مرو الروذ"، على القاضي الحسين، سمع وأملى، وتوفي سنة ست وثمانين وأربعمائة. سعد الأستراباذي أبو محمد: سعْد - بسكون العين- ابن عبد الرحمن الأستراباذي، تفقه بـ"نيسابور"

على ناصر العُمري، وغيره، ثم رحل إلى مرو الروذ، وتفقه على القاضي الحسين، وصار من أخِصَّائه. توفي في منتصف شوال، سنة تسعين وأربعمائة، أي: بالتاء ثم السين؛ قاله عبد الغافر في "ذيله على تاريخ الحاكم" نقل عنه الرافعي في الباب الثاني: من أركان الطلاق أنَّه إذا قال: لك طلقة، لا يقع به شيء وإن نوى، ونقل عنه أيضاً: قبيل الرجعة بنحو ورقة. عبد الرزاق المعروف بـ"المَنِيعي" أبو الفتح: عبد الرزاق بن أبي علي حسّان المروروذي، المعروف بـ"المَنِيعي"- بميم مفتوحة ثم نون مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت- نسبة إلى جدّه: منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رحل المذكور إلى بغداد، وسمع كثيراً من مشايخها، وتفقه على القاضي الحسين، وعلق عنه تعليقاً، وكان إماماً وخطيباً بجامع والده بـ"نيسابور"، ودرّس به، وحدَّث وأملى وصار رئيس نيسابور. ولد في شهور سنة اثني عشرة وأربعمائة، ومات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. أبو الفرج السرخسي عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن زاز بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن زاز بن حميد، الأستاذ أبو الفرج السرخسي. فقيه مَرْو، المعروف بـ"الزاز"- بزايين معجمتين؛ مولده سنة إحدى، أو اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على القاضي الحسين. قال ابن السمعاني في "الذيل": كان أحد أئمة الإسلام، وممن يضرب به المثل في الآفاق في حفظ مذهب الشافعي، رحلت إليه الأئمة من كل جانب، وكان ديناً ورعاً محتاطاً في المأكول والملبوس. قال: وكان لا يأكل الأرز؛ لأنه يحتاج إلى ماء كثير، وصاحبه قل ألاَّ يظلم غيره. ومن تصانيفه: كتاب "الأمالي"، وقد أكثر الرافعي النقل عنه.

قال الأسنوي في "المهمات": إن غالب نقل الرافعي من ستة تصانيف غير كلام الغزالي المشروح، التهذيب، والنهاية، والتتمة، والشامل، وتجريد ابن كج، وأمالي أبي الفرج السرخسي. توفي بمرو في ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وأربعمائة. سهل بن أحمد المعروف بالحاكم، كان إماماً، فاضلاً، حسن السيرة، تفقه على القاضي الحسين، ثم دخل طوس، فقرأ بها التفسير والأصول، على شهفور الإسفرايني، ثم دخل نيسابور، وقرأ بها علم الكلام على إمام الحرمين، وعاد إلى ناحيته، وولي بها القضاء وروى عنه جماعة، منهم: الحافظ السِّلَفِيُّ، ثم حجَّ، وترك القضاء، واشتغل بالعبادة. ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة، وتوفي أول يوم من المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة بتاء ثم سين فيهما. مفتي الحرمين عبد الرحمن بن محمد بن ثابت الثابتي. الخَرقي المعروف بمفتي الحرمينِ. والخرقي: منسوب إلى خَرْق بخاء معجمة مفتوحة وراء ساكنة بعدها قاف، وهي: قرية من قرى مَرْو، تفقه أولاً بمرو على الفوراني، ثم بمرو الروذ على القاضي الحسين، ثم ببخاري على أبي سهل الأبيوردي، ثم ببغداد على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع الحديث، ثم حج وجاور بمكة سنة، ثم رجع إلى وطنه، وسكن قريته، واشتغل بالهد والفتوى إلى أن مات في ربيع الأول سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ذكره التفليسي. أبو جعفر السمنجاني أبو جعفر، محمد بن الحسين السَّمِنْجاني.

تفقه ببخاري على أبي سهل الأبيوردي، وبمروِ الروذ على القاضي الحسين، وأملى ببلخ، ومات بها سنة أربع وخمسمائة، قاله ابن السمعاني. أبو محمد البغوي الحسين بن مسعود بن محمد، العلامة، محيي السنة أبو محمد البغوي، ويعرف بابن الفراء تارةً وبالفراء أخرى. أحد الأئمة، تفقه على القاضي الحسين. وكان ديناً، عالماً، عاملاً على طريقة السلف، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان قانعاً باليسير، يأكل الخبز وحده، فعدل في ذلك، فصار يأكله بالزيت، قال الذهبي: كان إماماً في التفسير، إماماً في الحديث، إماماً في الفقه، بُورِك له في تصانيفه ورزق القبول؛ لحسن قصده وصدق نيته. وقال السبكي في "تكملة شرح المهذب" قل أن رأيناه يختار شيئاً إلا وإذا بحث عنه إلا وجد أقوى من غيره، هذا مع اختصار كلامه، وهو يدل على نبل كبير، وهو حريٌّ بذلك؛ فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه. توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه. قال الذهبي: ولم يحج، قال: وأظنه جاوز الثمانين، والبغوي منسوبٌ إلى بَغَا بفتح الباء، قرية بين هراة ومرو، وسن تصانيفه "التهذيب" لخصه من تعليق شيخه، وهو تصنيف متين محرَّر عارٍ عن الأدلة غالباً، و"شرح المختصر" وهو كتاب نفيس، أكثر الأذرعي من النقل عنه، ولم يقف عليه الأسنوي، و"الفتاوى"، و"كتاب شرح السنة"، و"معالم التنزيل في التفسير"، و"المصابيح"، و"الجمع بين الصحيحين"، وغير ذلك. العجلي أبو سعد: عثمان بن علي بن شراف العجلي- بفتح العين والجيم-، البنجديهي. قال ابن السمعاني: كان إماماً ورعاً، زاهداً، لا يمكن أحداً من الغيبة في مجلسه. تفقه بالقاضي الحسين، وسمع منه ومن غيره، ولد سنة خمس وثلاثين وأربعمائة،

وتوفي ببلده بنجديه، في شعبان سنة ست وعشرين وخمسمائة. مصنفاته: فهي مصنفات عرف فضلها الأكابر، وكفر نورها المكابر، ورغم أنفه فميسم العلاء يطوقها، ويد الأكابر تقرظها، وثناؤهم يلهج بفضلها وعلمها. فقد بذل فيها مؤلفها جهده، ونمقها بعقله قبل يده. فاقتصد ولم يسرف، وأبدع فيها وأطْرَف، وأبان المبهم وعرَّف، وهي: 1 - شرح تلخيص ابن القاص - لم يكمله -. 2 - أسرار الفقه. 3 - فتاوى القاضي حسين. 4 - شرح على فروع ابن الحداد. 5 - التعليق الكبير، كذا ذكره المؤرخون. 6 - طريقة الخلاف، وقد قام بتحقيقه الدكتور: محمد النجيمي. قال النووي في التهذيب: له "التعليق الكبير" وما أجزل فوائده، وأكثر فروعه المستفادة، ولكن تقع في نسقه اختلاف، وكذلك في تعليق الشيخ أبي حامد. وقد تعقبه الإسنوي في "طبقاته" فقال: "وللقاضي في الحقيقة تعليقان، يمتاز كل واحد منهما على الآخر بزوائد كثيرة، وسببه: اختلاف المعلّقين عنه؛ ولهذا نقل ابن خلكان في ترجمة أبي الفتح الأرغياني: أن القاضي قال في حقه: ما علق أحد طريقتي مثله، وقد وقع لي "التعليقان" بحمد الله - تعالى-. وفاته: تُوفي القاضي حسين بـ"مرو الروذ" في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة. ومن شعره: [الطويل]: إذا ما رماك الدهر يوماً بنكبةٍ ... فأوسع لها صدراً وأحسن لها صبرا فإن إله العالمين بفضله ... سيعقب بعد العسر من فضله يسرا

وصف نسخ كتاب "التهذيب" للإمام: البغوي النسخة الأولى: المحفوظة بدار الكتب المصرية، تحت رقم (488) فقه. ومسطرتها (21) سطراً، ويتكون من: الجزء الأول: وهو في ثلاثة أجزاء في مجلد واحد من أول الكتاب إلى كتاب الاعتكاف. والجزء الخامس: من أول كتاب القراض إلى نهاية كتاب البيوع. والجزء السادس: من أول كتاب النكاح إلى كتاب القصاص. والجزء الثامن: من أول كتاب القصاص إلى كتاب أهل البغي. والجزء التاسع: من أول كتاب أهل البغي إلى كتاب الضحايا. والجزء الحادي عشر: من أول كتاب الضحايا إلى كتاب أدب القاضي. والجزء العاشر: من أول كتاب أدب القاضي وينتهي بآخر الكتاب. وقد رمزنا لها بالرمز: (د). النسخة الثانية: المحفوظة بالمكتبة الأزهرية العامرة تحت رقم [(43) 914]، والموجود منها: الجزء الأول: (210) ورقة، وبأوراقه تلويث، ومسطرته (21) سطراً ويبدأ بأول الكتاب إلى باب صدقة الخلطاء. وقد رمزنا لها بالرمز: (ز).

النسخة الثالثة: بمعهد المخطوطات العربية المصورة عن مكتبة أحمد الثالث، وتتكون من: الجزء الثاني: المحفوظ تحت رقم (105) فقه شافعي، من أول كتاب البيوع إلى كتاب النكاح. الجزء الثالث: المحفوظ تحت رقم (107) فقه شافعي، من أول كتاب النكاح إلى كتاب القصاص. الجزء الرابع: المحفوظ تحت رقم (106) فقه شافعي من أول كتاب القصاص حتى آخر الكتاب. وقد رمزنا لها بالرمز: (أ). النسخة الرابعة: المحفوظة بمكتبة الأسد تحت رقم (2229). وعدد أوراقها (361) ورقة، ومسطرتها (21) سطراً وتحتوي على: جزء من: كتاب القصاص إلى آخر الكتاب وجزء آخر تحت رقم (22230) وعدد أوراقه 319 من أول كتاب البيوع إلى كتاب القصاص ونسب هذا الجزء الأخير في فهرس الظاهرية لأحمد بن محمد بن النقيب، ووجد على المخطوط عبارة "لعل هذا الكتاب جزء من أجزاء كتاب تهذيب القفال المتوفي سنة (417). وبعد مقابلة هذا الجزء بنسخة دار الكتب، وأحمد الثالث تبين أنه بنفس النص، وكذلك هو بنفس المنهج الذي سلكه البغوي في كتابه، لذلك اعتمدنا عليها كنسخة لكتاب "التهذيب" للبغوي. وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز: (ظ).

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ أَعِنْ ويسر الحمد لله رب العالمين، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، والصلاة على نبيه وصفيه، محمد سيد المرسلين وآله. قال الشيخ الإمام إمام الأئمة، ومحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود رضي الله عنه، وعن جماعة المسلمين أجمعين: أما بعد، فإن أشرف الأمور قدراً، وأعظمها أجراً- تعليم العلم. وقد من الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم- بالعلم فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وأظهر فضل آدم - صلى الله عليه وسلم - على الملائكة بالعلم فقال: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31]. وروي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع".

وروي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

وروي عن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلان: أحدهما عابدٌ، والآخر عالمٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أذناكم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على مُعلم الناس الخير". وأولى العلم بالتعلم بعد معرفة الله - تعالى- بالوحدانية والصفات والإيمان بملائكته وكتبه ورسله- علم الفقه ومعرفة أحكام الشرع؛ لأن الله تعالى خلق الخلق للعبادة، فقال جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وأرسل الرسل إلى العباد، وأنزل معهم الكتاب ليبينوا لهم الشرائع والأحكام، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. وقال جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. وقال جل ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ... الآية} [المائدة: 15، 16].

قال جل ذكره: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ....} [آل عمران: 79]. قال ابن عباس: "حكماء وفقهاء". وروي عن ابن عباسٍ، ومعاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين".

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيهٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابد". وقال سفيان الثوري رحمة الله عليه: "ليس عملاً يعمل من الفرائض أفضل من طلب العلم". وقال الشافعي رضي الله عنه: "طلب العلم أفضلُ من صلاة النافلة" وهو كما

قال؛ لأن نفع صلاته لا تتعدى عنه، ونفع علمه يتعدى إلى كافة الناس، ولأن طلب العلم فريضة، ولأن القيام بأحكام الشرع لا يمكن إلا بمعرفة علمها، وإن النافلة لا تعادل الفريضة. ثم هو ينقسم إلى: فرض عينٍ، وفرض كفايةٍ. ففرض العين هو أنه يجب على كل مكلفٍ معرفةُ علم ما هو مأمورٌ به من العبادات من

علم الطهارة، والصلاة، والصوم، وعلم الزكاة إن كان له مالٌ وعلم الحج إن وجب عليه؛ يجب أن يعرف أركانها وسننها، وما يوجبها وما يبطلها، وهو المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم".

وفرض الكفاية: وهو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ومحل الفتوى، والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحدٌ أو اثنان، أو عددٌ تقع بهم الكفاية بتعلمه سقط الفرض عن الباقين؛ لأنا لو فرضنا على الكافة الاشتغال به كفرض العين أدى ذلك إلى انقطاع معاشهم، فإذا قعد الكل عن تعلمه

عصوا جميعاً؛ بما فيه من تعطيل أحكام الشرع كغسل الميت، والصلاة عليه ودفنه، ورد السلام فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين الفرضُ قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ... الآية} [التوبة: 122]. ولا يبلغ الرجل رُتبة الاجتهاد حتى يعرف خمسة أنواع من العلم: يعرف علم كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل السلف، ولسان العرب، ووجوه القياس.

يعرف من كتاب الله عز وجل ناسخه ومنسوخه، وخاصه وعامه، ومجمله

ومفصله، وغير ذلك من الآيات التي جاءت في الأحكام. ويعرف من السنن التي جاءت في الأحكام جميع ذلك، ويعرف صحيحها وسقيمها، ومسانيدها، ومراسيلها، ويعرف ترتيب الكتاب على السنة، والسنة على الكتاب.

ويعرف أقاويل السلف في الأحكام من الصحابة فمن بعدهم إلى عصر

إجماعهم واختلافهم، فإن اتباع الإجماع فرضٌ لامتناع الاجتهاد فيه، والاجتهادُ في موضع الاختلاف مساغٌ بشرط ألا يقول قولاً تخالف فيه جماعتهم.

ويعرف علم اللغة ولسان العرب؛ لأن الخطاب ورد بلسانهم، فمن لم يعرف لغتهم لا يعرف مراد الشرع. ويعرف وجوه القياس من الجَلِي والخفي، وهو كيفية رد الفرع الذي لا يجد فيه نصاً إلى نظائره من الأصول التي وردت في الكتاب والسنة، وقد سبق مني كتاب في "معالم

التنزيل"، وكتاب في "شرح السنة"، يتضمن كثيراً من علوم الحديث، وفوائد الأخبار، وبيان الأحكام، وأقاويل العلماء، لا يستغني عن معرفتها المرجوع إليه في الفتاوى والأحكام، وهذا كتاب أنشأته بعون الله - جل ذكره- في "تهذيب مذهب الإمام المطلبي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي"، تغمده الله برضوانه سألني جماعةٌ من المرتحلين إلي من الأقطار بعدما علقوا الطريقة تهذيباً؛ ليكون لهم عوناً على الحفظ والتدريس، فرأيت إسعافهم بمطلوبهم واجباً امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما يروى عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الناس لكم تبعاً، وغن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإن أتوكم فاستوصوا بهم خيراً".

ولما رجوت في هذا الجمع من نشر العلم، وإبقائه على الخلف كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه، فإني خفت دروس العلم". وقال ربيعة لا ينبغي لأحد عنده شيءٌ من العلم أن يضيع نفسه. فيشتمل هذا الكتاب إن شاء الله على جملٍ من منصوصاتِ الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكثيرٍ من تفريعات أصحابه خرجوها على أصوله، وذكرت فيه من أقاويل الصحابة والتابعين، ومن تابعهم من العلماء لا يستغني عن معرفتها المترصد للفتوى. وخصصتُ مذهبه بالتنصيف لأمور دلت على قوة مذهبه:

منها: أنه كان من قريش، وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد، بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإن المطلب الذي هو جد الشافعي كان أخا هاشم بن عبد منافٍ الذي هو جدُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريشٍ".

وقال: "قدموا قريشاً ولا تقدموها، وتعلموا من قريشٍ ولا تعلموها".

ورُوي أنه - عليه السلام - قال: "رأيُ رجلٍ من قريشٍ أفضلُ من رأي رجلين من غيرهم". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تسبوا قريشاً، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً".

وحمل العلماء هذا الحديث على الشافعي - رضي الله عنه -؛ لأن الأئمة من الصحابة الذين هم أعلام الدين لم تنقل عن كل واحد منهم إلا مسائل معدودة، إذ كانت فتاواهم مقصورة على الوقوع، وكانت همتهم الجهاد مع أعداء الدين لإعلاء كلمة الإسلام، ثم في مجاهدة النفس بالمداومة على الطاعات، فلم يتفرغوا لتدوين العلم، وتصنيف الكتب، والأئمة الذين جاؤوا من بعدهم تشمروا لتدوين العلم وتصنيف الكتب، وجمع الفتاوى لم يكن أحد منهم من قريش، وهو القرشي الذي دون العلم، وصنف الكتب، وجمع الفتاوى فانتشر علمه في الأفق، وتمسك الناس بمذهبه، وامتلأ طبق الأرض من علمه، فكان أولى بأن يكون مراداً بالحديث. ومنها: ما كان من جده واجتهاده في نصرة الحديث، واتباع السنة حتى لقب حين قدم "العراق" بـ"ناصر الحديث"، وغلب على متبعي مذهبه لقب "أصحاب الحديث"، فلا يعرف به غيرهم. ومنها: أنه جمع القوة في الحديث والقياس، وأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها من الأحكام على ما هو معروفٌ من مذهبه، ولكل واحد من أئمة السلف سعيٌ كامل في إحياء الدين، وإبقاء العلم على الخلف، فشكر الله سعيهم ورحم كافتهم. واعلم أن كل من بلغ رتبة الاجتهاد من العلماء إذا عرضت له حادثةٌ يجب عليه أن يطلبها من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، فإن لم يجد لم يكن له أن يقلد فيها عالماً آخر، لا للعمل به، ولا للفتوى، ولا للقضاء. والتقليد هو قبول قول الغير من غير دليلٍ، بل عليه أن يجتهد، فما أدى اجتهاده إليه بنوع من الدليل عمل به، وأفتى وقضى، وإن اختلف أقاويل العلماء فيه لا يقلد واحداً منهم، بل ينظر في دلائلهم وحججهم، وعمل بما ترجح عنده من الدليل. وأما العامي ومن لم يبلغ رتبة الاجتهاد ففرضه التقليد، والأخذ بقول أهل العلم قال الله تعالى: {} [النحل: 43].

ولو اختلف على عامي اجتهاد عالمين، أخذ بقول الأفقه منهما، فإن استويا، ولم يتبين له الأفقه. أخذ بالأغلظ عليه احتياطاً. وقيل: يأخذ بأيهما شاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعثت بالحنيفية السمحة". ولو أن عالماً مجتهداً يروي له رجل عدلٌ- وإن لم يكن مجتهداً - خبراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح أو دله على إجماعٍ خفي عليه يجب عليه قبوله والعمل به، ولا يكون ذلك تقليداً، بل هو إرشادٌ إلى الدليل. وكان شيخي الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي يحكي عن شيخه أبي بكرٍ عبد الله بن أحمد القفال قدس الله روحهما العزيزة أن من يتبحر في مذهب واحدٍ من أئمة السلف، ولم يبلغ رتبة الاجتهاد، يجوز أن يفتي على مذهب ذلك الإمام، فيكون المستفتي مقلداً لذلك الإمام.

وكان شيخي يقول من عنده: وله أن يخرج على أصوله إن لم يجد له تلك الواقعة. قال الإمام محيي السنة رضي الله عنه: وهذا أحسن خصوصاً في هذا الزمان الذي قصرت فيه الهمم عن التعلم. ولو أن عامياً سأل عالماً مسألة فأفتاه ثم وقعت له تلك الحادثة مرة أخرى، هل له أن يعمل بالفتوى الأولى؟ ووقعت تلك الحادثة لعامي آخر، هل للثاني أن يأخذ بقول العامي الأول؟ أم يحتاج إلى تجديد السؤال؟ نُظر إن علم أن المفتي أفتاهُ عن نص كتاب الله، أو سنةٍ، أو إجماع، فله أن يعمل بالفتوى الأولى، وإن علم أنه أفتاه عن اجتهاد، أو شك لم يذر عما ذا أفتى، يجب عليه تجديد السؤال؛ لأنه ربما يتغير اجتهاده، وإذا تغير اجتهاده فأفتى بخلاف الأولى يجب عليه أن يعمل في الواقعة الثانية بالجواب الثاني. روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في الجدِّ بقضايا مختلفة. والإجماع حُجة وهو نوعان: أحدهما: خاصٌّ، والثاني: عامٌّ. فالعام: إجماع الأمة على ما تعرفه الخاصة والعامة، كإجماعهم على أعداد الصلوات والركعات، ووجوب الزكاة، والصوم، والحج، يكفر جاحده، فإن كان أمراً لا تعرفه إلا

الخواص كإجماعهم على بطلان نكاح المعتدة، وأن لبنت الابن السدس مع البنت الواحدة من الصلب، فلا يكفر جاحده، ويبين له الحق حتى يعود إلى الصواب. ومن الإجماع الخاص أن يجتمع العلماء من أهل عصرٍ على حكم حادثة إما قولاً أو فعلاً فهو حجةٌ، لكن لا يكفر جاحده، بل يخطأ ويدعى إلى الحق بالحجة، ولا مساغ للاجتهاد فيه. ولو اختلف أهلُ عصر في حكم حادثةٍ، ثم اتفق أهلُ عصر بعدهم على أحد القولين هل يصير إجماعاً؟ فيه وجهان: أحدهما: يصير إجماعاً؛ لأن أهل هذا العصر لو اتفقوا على حكم حادثة كان إجماعاً، فإذا وافقوا إحدى الطائفتين كان أولى.

والثاني: وهو الأصح: لا يصير إجماعاً؛ لأن هؤلاء لو كانوا في زمن العصر الأول فوافقوا إحدى الطائفتين لم يكن إجماعاً، فكذلك إذا وافقوا بعدهم؛ ولأن أهل العصر الأول اتفقوا على أن الحادثة غيرُ مقطوعٍ بها، فلا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم، فينبغي للعالم أن يكون ورعاً مجتنباً عن الأهواء والبدع، محترزاً عن الحرام والمعاصي؛ فإن الاستماع إلى المبتدع حرامٌ، ولا يجوز العمل بفتوى الفاسق، وإن كان متبحراً في العلم، فإذا سلك العالم هذا الطريق أرجو أن يكون علمه نافعاً له، ولمن أخذ عنه. وبالله التوفيق.

=====

كتاب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله أجمعين. كتاب الطهارة باب أحكام المياه قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].

وروي عن أبي هريرة قال: سأل رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".

"والطهور" هو: المطهر؛ وهو اسم لما يُتطهر به؛ كـ"السحور": اسم لما يُتسحر به، "والفطور": اسم لما يتفطر به. وقال مالكٌ: "الطهور: ما يتكرر منه التطهر كـ"الصبور": ما يتكرر من الصبر، و"الشكور": ما يتكرر منه الشكر؛ ولذلك جوز التطهر بالماء المستعمل". وقال أبو حنيفة رحمه الله: "الطهور هو الطاهر؛ ولذلك جوز إزالة النجاسة

بالمائعات الطاهرة. والحديث حجة عليهما؛ لأنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن تطهير ماء البحر لا عن طهارته؛ فأجاب بقوله: "هو الطهور ماؤه". فلولا أنهم عرفوا من الطهور المطهر لكان لا يزول إشكالهم بقوله: "هو الطهور ماؤه". وكل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض، ولم يخالطه شيءٌ- يجوز التطهر به، على أي لون كان، وأي طعمٍ وريح كانا، ويجوز بماء البحر ومياه الآبار، والماء النز؛ عذباً كان أو ملحاً أو أُجاجاً، ويجوز بماء البرد والثلج؛ لأن الكل مطهر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغسلني بالماء والبرد والثلج". فلو أمر البرد أو الثلج على أعضاء طهارته، فسال الماء- حصل الغسل وإن لم يسل، فلا يحصل به إلا مسح الرأس والخف.

ولا يكره التطهر بالماء المسخن بالنار؛ سواء كان مسخناً بنار الحطب، أو بنار السرقين؛ لأن السخونة بالحرارة، ولا نجاسة فيها؛ فإن كان شديد السخونة - يكره؛ لأنه يحرق، وربما لا يمكنه إسباغ الوضوء به. ويكره بالمشمس في الأواني؛ لقول عمر - رضي الله عنه-: إنه يورث البرص،

ولكن لو تطهر به صحت الطهارة. فأما ما حمي في الحياض والغدران، فلا يكره الوضوء به. وقيل: إنما يورث البرص، إذا شُمِّسَ في أواني الصفر في البلاد الحارة، وكان الإناء مغطى الرأس، فالشمس بحرارتها المترادفة تستخرج من الصفر زهومةً يكون فيها تعلق الماء؛ كالهباء فاستعماله مرة بعد أخرى يورث البرص. ولو تغير الماء؛ لطول المكث- جاز الوضوء به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ من بئر "بُثضاعة"، وكان ماؤها كأنه نقاعةُ الحناء. وكذلك لو وقعت بقرب الماء جيفةٌ، فنتن الماء منها - جاز التطهر به؛ لأنه لم يخالطه شيء. ولا يجوز التطهر بماء الورد والخلاف ولا بماءٍ يسيلُ من عروق الأشجار، ولا

بالعرق الذي يسيل من بدن الحيوان؛ لأنه ليس بماءٍ مطلقٍ. ولو وقع في الماء شيءٌ طاهرٌ، ولم يغيره- جاز التطهر به؛ قل الماء أو كثر، وكثر الخليط أم قل؛ حتى لو صُب في ماءٍ قليل رطلٌ من لبنٍ أو ماء وردٍ، ولم يتغير شيءٌ من أوصاف الماء- يجوز استعماله [كله] في الطهارة؛ لأن الخليط صار مستهلكاً فيه. ومن أصحابنا من قال: إن كان الماء غير كافٍ لطهارته؛ فكمله بالخليط- لا تصح الطهارة به؛ لأن غسل بعض الأعضاء يحصل بغير الماء. وإن كان كافياً لغسل أعضائه مرةً مرةً- يجوز التطهر به، واستعمال كله. وأما إذا تغير أحد أوصاف الماء بما وقع: إما لونه، أو طعمه، أو ريحه- نظر: إن كان ما وقع فيه شيئاً يخالط الماء، ويمكن صون الماء عنه؛ مثل: الزعفران والعصفر والدقيق والخبز واللبن والخل ونحوها، أو سقط فيه شيء من الثمار، وكان التغير كثيراً؛ بحيث يضاف الماء إليه - لا يجوز التطهر به. وعند أبي حنيفة رحمه الله: يجوز التطهر به؛ فيقول: ماء مضاف إلى خليطٍ يستغنى عنه، فلا يجوز التطهر به؛ كالمرقة، وماء الحمص والباقلاء المُغلى فيه. وإن كان التغير قليلاً؛ بحيث لا يضاف الماء إليه؛ بأن وقع فيه زعفرانٌ؛ فاصفر قليلاً، أو دقيق؛ فابيض قليلاً- يجوز التطهر به على الصحيح من المذهب؛ لأنه لم يسلب إطلاق اسم الماء. وإن تغير الماء بخليطٍ لا يمكن صون الماء عنه؛ كالتراب والحصاة وأوراق الأشجار تقع فيه، أو نبت فيه العشب والطحلب؛ فغيره- يجوز التطهر به؛ لأنه لما لم يمكن صون الماء منه، وقع عفواً. وكذلك لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ، أو نورةٍ، أو كحلٍ، أو وقع فيه شيءٌ منها فتغير، أو نبع من معادنها- يجوز التطهر به. ولو طرح شيءٌ من هذه الأشياء في الماء قصداً [فغيره]؛ نُظر إن غيره عن خلقته بالصنعة؛ بأن طُبخت النورة، أو طرح فيه الآجر المسحوق، أو أحرقت الأوراق؛ فطرح فيه رماداً، أو أُغلي الطحلب في الماء - لا يجوز التطهر به. وإن طرح فيه على خلقته؛ نظر: إن كان تراباً، جاز التطهر به؛ لأنه طهور؛ فلا يسلب طهورية الماء؛ كما لو صُبَّ على الماء ماء آخر.

وإن كان غير تراب؛ كالزرنيخ والنورة، أو الحجر المسحوق، أو الطحلب والعشب المدقوق، وطرح فيه - فعلى وجهين: أصحهما: لا يجوز التطهر به؛ لأن الاحتراز من القصد ممكن؛ كما لو وقع ما يمكن صون الماء عنه؛ فغيره. والثاني: يجوز؛ لأنه لما لم يكن صونُ الماء منه في الأصل، كان عفواً. نص عليه في رواية حرملة. وأما الملح الجبلي؛ كالنورة، وأما ملح الماء إذا طرح في الماء؛ حتى غيره- يجوز التطهر به؛ لأنه ماء منعقدٌ؛ كالجامد. ويجوز التطهر بماء الملاحة. وقيل؛ الملح الجبلي والماء سواء؛ في أنه لا يسلب طهورية الماء؛ لأن طبع كل واحد طبع الماء، ألا ترى أنه يذوب في الماء. وقيل: كلاهما سواء في أنه يسلب طهورية الماء؛ كما لو غلب عليه: نِفطٌ أو قارٌ أو كبريت، وليس كالجامد؛ لأنه يذوب في الشمس، والملح لا يذوب. وهذا القائل يقول: لا يجوز التطهر بماء الملاحة. والأصح هو الأول. ولو وقع في الماء ما لا يختلط به؛ فغيره؛ كالدهن والعود والعنبر- يجوز التطهر به؛ لأنه تغير مجاورةٍ؛ كما لو كانت بقرب الماء جيفةٌ؛ فتغير الماء من نتنها، وكذلك الكافور الصلب الذي لا يذوب في الماء، إذا وقع فيه؛ فغيره- يجوز التطهر به، فإن ذاب فيه فغيره، لم يجز. والقطران نوعان: نوع يخالط الماء كالدبس، فإذا غيره، لم يجز التطهر به. ونوع يعلو الماء كالدهن، فلا يمنع التطهر به وإن غلب على الماء طعمه، أو ريحه. ولو وقع في الماء ماء مستعمل، أو ماء ورد؛ لا رائحة له، أو مائع آخر؛ لا يخالف صفته صفة الماء - ففيه وجهان: أصحهما: هو أن الخليط إن كان قذراً- لو كان له لون، أو طعم، أو ريح مخالف للماء لغلب على الماء - فلم يجز التطهر به. وإن كان أقل، يجوز. والثاني: إن كان الخليط أكثر من الماء المطلق، أو مثله - لم يجز التطهر به، وإن كان أقل يجوز.

وقيل: هذا الوجه في الماء المستعمل, دون غيره من المائعات؛ لأن المتوضئ لا يمكنه الاحتزار من أن يقع في ماء وضوئه شيء مما ينفصل عن أعضائه. ولا يجوز التطهر بشيء من الأنبذة؛ لأنه ليس بماء مُطلقٍ. وجوَّز الأوزاعي: بجميع الأنبذة. وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه -: يجوز بنبيذ التّمر خاصة إذا كان في السفر عادمًا للماء؛ وإن كان مطبوخًا مشتدًا. وقال محمد بن الحسن: يجمع بين الوضوء والتيمم. واحتجوا: بما روي عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجنَّ: "ما في أدواتك؟ ". فقال نبيذٌ. قال - عليه السلام -: "تمرةٌ طيبةٌ, وماءٌ طهورٌ" فتوضأ منه.

وهذا عند أهل النقل غير ثابت؛ لأنه رواية أبي زيد؛ وهو مجهول.

وقد صح عن علقمة, عن عبد الله بن مسعود قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولئن ثبت لم يكن ذلك نبيذًا متغيرًا, بل كان ماء مُعدًّا للشرب, نبذ فيه تميرات؛ ليجتذب مُلوحة الماء. يدل عليه أن الله - تعالى - قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] نقل من الماء عند عدمه إلى التيمم, فلا يتخللهما شيء آخر؛ كما قال في الكفارة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] نقل من الرقبة إلى الصوم, ثم لا يتخللهما شيء آخر. وكل مائع لا يجوز الوضوء به والغسل, فإذا غسل به نجاسة لا تطهر؛ لأن الله - تعالى - خصَّ الماء بالتطهير؛ فلا يشاركه غيره. وجوَّز أبو حنيفة - رحمه الله - إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة؛ مثل: الخل وماء الورد والرَيق ونحوها, سوى الدهن واللبن, لأنهما لا ينعصران من الثوب؛ فيقول: مائع لا يرفع الحدث؛ فلا يرفع الخبث؛ كالدهن واللبن.

فصلٌ في الماءِ الذي لا ينجس بوُقوع النَّجاسة فيه روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث". أما إذا وقع في الماء شيء نجس لا يخلو: إما أن يكون الماء راكدًا, أو جاريًا: فإن كان راكدًا؛ نظر: إن كان أقل من قلتين, ينجس؛ سواء تغير, أو لم يتغير؛ سواء كانت النَّجاسة مما يدركها الطَّرف, أو لا يدركها الطَّرف.

وإن كان الماء قلتين فكثر؛ نظر: فإن وقعت فيه نجاسة ذائبة, فلا ينجس, ما لم يتغير؛ حتى لو صُبَّ فيه كوز بول, ولم يظهر فيه تغير, جاز استعماله كله, وإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه, ينجس؛ سواء كان التغير قليلًا أو كثيرًا. والقلتان خمسُ قربٍ. وبالوزن خمسمائة رطل؛ لأنه روي في الحديث إذا بلغ الماء قلتين بقلال هَجَرَ. قال ابن جريج: رأيت قلال هجر؛ فالقلة تسع قربتين, أو قربتين وشيئًا. فالشافعي - رحمة الله عليه - جعل الشيء نصفًا احتياطًا.

فتكون القلتان خمس قِربٍ, كل قربة خمسون منًّا. وقيل: القُلتان ستمائة رطلٍ. والأول أصح. وهذا تحديد, أم تقريب؟ فيه وجهان: أحدهما: تحديدٌ؛ فإن انتقص منه قليلٌ, كان في حكم الماء القليل. والثاني: تقريبٌ, حتى لو انتقص منه رطلٌ أو رطلان إلى ثلاثة, كان في حكم الكثرة, فإن انتقص أكثر من ثلاثة أرطال كان في حكم القلة؛ لأن الشيء قد يقع على أقل من النصف. وجعله الشافعي - رحمه الله - نصفًا احتياطًا. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: حدُّ الماء الذي لا ينجس عشر في عشر في عمق شبر. ومنهم من يقول: قدر ما لو حرَّك أحد طرفيه عند التوضؤ لا يتحرك الجانب الآخر. وذهب الحسن والزُّهري, والنَّخعي, وعطاء, ومالك إلى أن الماء القليل لا

يَنجسُ بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغيرْ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء طهورٌ لا ينجسه شيءٌ إلا ما غير طعمه أو ريحه".

وهذا اختيار إمام الأئمة, وعندنا: هو محمولٌ على الماء الكثير؛ بدليل حديث ابن عمر. وإذا نجس الماء القليل فوجه تطهيره أن يُكائر بماء طاهرٍ أو نجس حتى يبلغ قُلتين [فإذا بلغ قلتين] ولا تغير فيه - كان طاهرًا مُطهرًا؛ سواء كان الماء الذي صُبَّ عليه قليلًا أو كثيرًا. فلو فرق بعده لا يعود نجسًا. ولو صُبَّ عليه ماء طاهر حتى غلبه؛ فزال تغيره قبل بلوغه قُلتين, أو لم يكن فيه تغير فلوث بماءٍ آخر, ولم يبلغ قُلتين, هل يحكم بطهارته؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يطهر؛ لأنه ماء أقل من قلتين, وقد حَصَلتْ فيه نجاسة. والثاني: [وهو] اختيار العراقيين: يطهر لأن الماء غمر النجاسة؛ كالأرض النجسة إذا صُبَّ عليها من الماء ما يغمر النجاسة, والماء القليل إنما ينجس إذا وردت عليه النجاسة, وهاهنا ورد الماء على النجاسة؛ [كما لو] صُبَّ ماءٌ قليل على ثوبٍ نجس لا يحكم بنجاسته. فإن قلنا: يطهر, إنما يطهر إذا كان الماء الوارد أكثر منه, ثم هو بمنزلة غُسالة النجاسة طاهر غير مُطهرٍ. وإن كان الماء الوار أقل منه, أو مثله - لم يطهر, إلا أن تبلغ قُلتين.

ولو كوثر ذلك بماء وردٍ أو عرقٍ؛ حتى بلغ قُلتين يحكم بطهارته, ولو كُثر بماء مُستعمل عاد مُطهّرًا على أصح الوجهين. ولو غُمس كوزُ ماءٍ نجسٍ لا تغير فيه في قلتين من الماء - ذكر شيخنا القاضي فيه وجهين: أحدهما: يطهر؛ لأنه اتصل بماء كثير. والثاني - وهو الأصح -: لا يطهر؛ لأن الاختلاط - حقيقة - لم يوجد؛ بدليل أن صفة ماء الكوز لا تزول بهذا القدر. فأما الماء الكثير إذا نجس بالتغير, فطهارته بزوال التغير, فإن زال بطول الزمان, أو بهبوب الرياح عليه, أو بنبات العُشب تحته - عاد مطهرًا؛ وكذلك لو صُبَّ عليه ماء آخر, أو نبع من تحته ماءٌ؛ حتى زال التغير, ولو أُخذ منه بعضه حتى زال التغير؛ نُظر: إن كان الباقي بعد زوال التغير قُلتين - كان طاهرًا, وإن كان أقل من قُلتين فهو نجس. ولو طرح فيه تراب, أو جبس, أو نورةٌ غير مطبوخة؛ حتى زال التغيرُ - ففيه قولان: أصحهما: [لا] يعود طاهرًا؛ كما لو طرح فيه مسكٌ, أو زعفرانٌ, أو كافورٌ, إو نورةٌ مطبوخة لم يطهر. والثاني - وهو الأصحُ عند العراقيين -: يطهر؛ كالماء الكثير الكدورة بهذه الأشياء إذا وقعت في الماء الكثير نجاسةٌ جامدة - وهي قائمة فيه - لا يحكم بنجاسته على ظاهر المذهب إذا لم يتغير منها الماءُ, وله أن يأخذ الماء من أيِّ موضعٍ شاء, ولو قرب من النجاسة. وقال أبو إسحاق, وهو صاحب "التلخيص": "إن بعُد عن النجاسة بقدر قُلتين, فهو

طاهر, وما دونه نجسٌ. والأول أصح؛ لأنه لو نجس بمجاورة تلك النجاسة قدر قلتين - لنجس ما وراء القُلتين بمجاورة القُلتين, وأدّى ذلك إلى الحكم بنجاسة ماء البحر بتغيُّره. وإن كان الماء قدر قُلتين لا يزيد عليه, فوقعت فيه نجاسة جامدة - فعلى قول أبي إسحاق, وصاحب "التلخيص": وهو نجس. وإن أخرجت النجاسة منهما كان طاهرًا. وعلى المذهب الأصح: هو طاهر. وإن أُخذ منه شيء في إناء دفعة واحدة؛ فالمأخوذ - وباطن الإناء طاهر, وظاهر الإناء وما بقي من الماء نجسٌ؛ لأن النجاسة فيه؛ وهو أقل من قلتين. وإن أخذت النجاسة مع شيء من الماء في [إناء] دفعة واحدة؛ فباطن الإناء وما فيه نجس, وظاهر الإناء وما بقى من الماء طاهر. وقال أبو حنيفة: إن وقعت في بئرٍ نجاسةٌ ذائبةٌ, يُنزح جميع مائها. وإن ماتت فيها فأرةٌ, أو ما في جرمها, نزح عشرون دلوًا. وإن ماتت حمامةٌ, أو سنَّورٌ, أو ما في جرمها - فأربعون دلوًا. وإن مات ما هو أكبر منها من شاةٍ, أو حمارٍ ونحوه - ينزح جميع مائها. وإن بقيت فيها الفأرة, أو وقع فيها ذنبها - نزح جميع مائها. أما الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسةٌ؛ لا يخلو: إما إن كان الماءُ كثيرًا, أو قليلًا: فإن كان كثيرا؛ بأن كان في عُرض النهر قدر قُلتين؛ [فإن] وقعت فيه نجاسةٌ [ذائبة] واستهلكت فيه؛ فهو طاهر, وإن كانت النجاسةُ جامدةً تجري مع الماء؛ فما فوقها ودونها

طاهر, والجرية التي فيها النجاسة طاهرة؛ على الصحيح من المذهب. وعلى قول أبي إسحاق, وصاحب "التلخيص": ما قرب من النجاسة في عرض النهر وتحتها إلى قلتين - نجس. وإن كان الماء [الجاري] قليلًا وقعت فيه نجاسةٌ؛ نظر: إن كانت ذائبةً وتغيرت؛ فالجرية المتغيرة نجسةٌ, [وهي كالنجاسة الجامدة] التي تجري مع الماء وإن لم يتغير منها الماء - فمحلُّ النجاسة نجسُ أيضًا. وقال في القديم: "الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير"؛ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله, واختيار إمام الأئمة. وإن كانت النجاسة جامدة؛ نُظر: إن كانت تجري مع الماء؛ فمحل النجاسة من الماء والنهر نجس, وما دونه طاهرٌ؛ لأن النجاسة لم تصل إليه, والجرية التي تعقب النجاسة تغسل المحل؛ فهو في حكم غُسالة الجنابة؛ حتى لو كانت النجاسة نجاسة كلبٍ أو خنزيرٍ؛ فلا بد من سبع جريات تجري عقبيها, ثم ما وراءها طاهر. وإن كانت النجاسة واقفةً والماء يجري عليها, أو كان الماء يجري بها, ولكن جري الماء أشد؛ فمحل النجاسة نجس, وما فوقها طاهر؛ لأنه لم يصل إلى النجاسة؛ كما لو صُبَّ ماء من إناء على نجس لا ينجس الماء الذي في الإناء. وما دونها نجس, وإن بعد عن النجاسة بأكثر من قلتين؛ لأن كل جريةٍ من الماء الجاري في حكم المنفصل عن صاحبه, لا يتكثَّر بعضه بالبعض, ولذلك لم ينجس ما فوقها, فإذا اجتمع في موضع قلتان كان طاهرًا, وكذلك إذا اتصل بماء كثير مجتمع في فضاء يطهر وإن لم يختلط به؛ بأن كان هذا كدرًا, وذلك ماء صافٍ يتبين منه؛ لأن الاجتماع [قد] وجد. وإن كانت النجاسة واقفة في هذا الماء القليل والماء يترادُّ عنها فالموضع الذي يترادُّ إليه الماء نجس. وإن كان في وسط النهر حفر عميق؛ نظر: إن كان الموضع ضيقًا لا يجري فيه الماء سريعًا؛ فهو كالماء الراكد, وإن كان [الموضع] واسعًا, وجريُ الماء فيه سريع؛ فله حكم الماء الجاري, وإن كان على شط النهر حُفرةٌ يدخلها الماء من ساقية, ويخرج من أخرى إلى

النهر، فماء الحفرة في حكم الراكد، لا يتكثر بماء النهر، وغن كان متصلاً به. فإن وقعت فيه نجاسة- وهو أقل من قلتين - ينجس. وإن وقعت في إحدى الساقيتين نجاسة؛ نظر: إن كان جري الماء فيها سريعاً، فله حكم الماء الجاري، ولا يتكثر بماء النهر ولا بماء الحوض، وإن لم يكن جري الماء فيها سريعاً، فهو كالراكد. أهـ. فَصْلٌ فِي المِيَاهِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا الدَّوَابُّ روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سئل: "أيتوضأ بماء أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها". سؤر جميع الحيوانات طاهر، إذ لم يصب فيها نجاسة، إلا سؤر الكلب، والخنزير، فإنه نجس. وكذلك كل حيوان أحد أبويه كلبٌ أو خنزير، إذا ولغ في ماء ليل، أو في مائع آخر؛ قلَّ أو كثر، ينجس الإناء وما فيه. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: سؤر السباع نجس، إلا سؤر الهرة. وعنده: سؤر سباع الطير وحشرات الأرض مكروه، وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه. فإن لم يجد ماء سواه، جمع بين الوضوء به والتيمم. وحديث جابر حُجةٌ عليه. أهـ. فلو دمى فمُ رجل أو دسع البعير بجرته، ثم شرب من ماء قليل- ينجس ذلك الماء. ولو أكلت هرة فأرة، ثم ولغت في ماء قليل؛ فقد قيل: لا ينجس؛ لتعذر الاحتراز عنه،

والصحيح أنه ينجس إذا ولغت فيه. قيل: إن غابت عينه يحتمل ورودها على ماء كثير، ثم عادت فولغت في ماء قليل؛ هل ينجس؟ فيه وجهان: أحدهما: ينجس؛ لأنا تيقنا نجاسة فمها؛ فلا يزول ذلك اليقين بالشك. والثاني: لا ينجس؛ لاحتمال أنها حين غابت ولغت في ماء كثير، فطهر فمها؛ فلا يحكم بنجاسة هذا الماء بالشك. أ. هـ. ولو مات حيوان في ماء قليل، أو في مائع آخر؛ فإن كان كثيراً؛ نظر: إن كان حيواناً تؤكل ميتته؛ كالسمك والجراد، لا ينجس ما مات فيه. وإن كان لا تؤكل ميتته؛ نظر: إن كانت له نفس سائلة؛ كالفأرة والعصفور ونحوها، نجس ما مات إلا الآدمي؛ فإن فيه قولين؛ بناء على [نجاسته بالموت]. وإن لم تكن له نفسٌ سائلة؛ كالذباب والنمل والعقرب والزنبور والخنفساء ونحوها- ففيه قولان: أصحهما- وهو قول أبي حنيفة، ومالكٍ، وأكثر أهل العلم رحمهم الله-: لا ينجس ما مات فيه؛ لتعذر الاحتراز عنه. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاءً، وفي الآخر داء".

فأمر بغمس الذباب في الطعام، وقد يموت الذباب فيه، ولو كان ينجس الطعام، لكان لا يأمر بغمسه فيه. والقول الثاني- وهو القياس-: أنه ينجس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بغمس الذباب فيه وطرحه، لا بقتله، وإنما أمر به، قطعاً لهم عن عادتهم؛ لأنهم كانوا يستقذرون طعاماً يقع فيه الذباب. ولو مات حيوانٌ في طعامٍ نشؤه فيه؛ مثل: دود الخل يموت فيه، أو البقةُ على رأسه تموت فيه؛ فلا ينجسه. فإن أخرج، ثم رد إليه، فمات فيه، أو طرح في مائعٍ آخر؛ فمات فيه، هل ينجسه أم لا؟ فعلى القولين. فإن قلنا: لا ينجسُ، فلو كثر حتى تغير منه الماء ففيه وجهان: أحدهما: ينجس؛ لأنه ماءٌ تغير بالنجاسة. والثاني: لا ينجس؛ لأن ما لا ينجس الماء القليل بوقوعه فيه، لا ينجسه، وإن تغير؛ كالسمك. وبعض أصحابنا: جعلوا في نجاسة الحيوانات التي ليست لها نفسٌ سائلة بالموت- قولين؛ وهذا القائل يجعل في نجاسة بزرِ دود القز قولين؛ وليس بصحيحٍ، بل المذهب أنها تنجس بالموت؛ لا يختلف القول فيه؛ [وبه قطع العراقيون]. وبزر دود القز نجسٌ، لا يجوز بيعه، ولا ضمان على متلفه؛ كالسرقين، إنما الاختلاف في نجاسة ما يموت فيه من المائعات؛ لعموم البلوى، وتعذر الاحتراز منه. ولو وقع حيوانٌ سوى الكلب والخنزير، أو المتولد من أحدهما في ماء قليل، أو مائع آخر؛ فخرج حياً لا ينجسه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر بمقلِ الذباب في الطعام، ولم يحكم بنجاسته.

فَصْلٌ فِي التَّحَرِّي فِي المِيَاهِ المُشْتَبَهَةِ إذا اجتمع من الماء أوانٍ: بعضها طاهرٌ، وبعضها نجس، واشتبه عليه، له أن يجتهد؛ فأيها أدى اجتهاده إلى طهارته، توضأ به؛ سواء كانت الغلبة للأواني الطاهرة، أو النجسة. وكذلك الثياب إذا اشتبه عليه فيها الطاهر من النجس، يجتهد. وهل له أن يأخذ بغلبة الظن، من غير أن يجد نوعاً من الدليل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، حتى يرى نوعاً من الدليل من نقصان في أحد الإناءين، أو حركة، أو بلل على طرفه، أو أثر قدم الكلب قريباً منه؛ يستدل به على أن الكلب شرب منه؛ كما في القبلة إذا اشتبهت عليه، لا يجوز أن يأخذ فيها بغلبة الظن من غير دليل؛ وبه قطع العراقيون. والثاني- وهو الأصح-: يجوز؛ بخلاف القِبلةِ؛ لأن لها علامات ظاهرة تدل عليها، ولا دليل على طهارة الماء إلا غلبة الظن؛ فإن لم يغلب على ظنه طهارةُ واحد منها، ولم يكن معه ماء طاهر بيقين- يصلي بالتيمم، ثم يعيد؛ لأنه صلى بالتيمم، ومعه ماء طاهر. وكذلك في الثوبين، إذا لم يؤد اجتهاده إلى طهارة واحدة منها يصلي عرياناً، وأعاد. وإن أراق الأواني، أو خلط البعض بالبعض؛ حتى نجس الكل- صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه؛ لأنه ليس معه ماء طاهر، ولا يجعل كإراقة الماء سفهاً؛ لأن إراقته- ها هنا لغرض؛ وهو الخلاص عن الاجتهاد، ومن أراق الماء لغرضٍ، وصلى بالتيمم- لا تجب عليه الإعادة. أما إذا اجتهد وأدى اجتهاده إلى طهارة أحدها، ثم أراقها، أو أراق الذي أدى اجتهاده إلى طهارته- فهو كما لو [أراقه سفهاً]. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "لا يجوز الاجتهاد في الأواني، إلا أن تكون الغلبة للطاهر؛ فنقيس على الثياب؛ فإن الاجتهاد فيها جائز، وإن كان عدد النجس فيها أكثر، وكذلك الاجتهاد في القبلة جائز، وإن كانت جهةُ الصواب فيها أقل. وإذا استعمل أحد الإناءين بالاجتهاد، يُستحب له أن يريق الآخر، إلا أن يخاف

العطش؛ فله أن يمسك؛ ليشربه إذا اضطر إليه. فإن لم يرقه، فله أن يصلي بالوضوء الأول، ما لم يُحدث. فإذا أحدث؛ نُظر: إن بقي من الماء الأول شيءٌ، عليه أن يجتهد ثانياً؛ فإن أدى اجتهاده إلى طهارة الأول توضأ به، وإن أدى اجتهاده إلى طهارة الثاني لا يجوز أن يتوضأ بواحد منها؛ لأنه يصير مستعملاً للنجاسة باليقين، بل يتيمم ويصلي؛ بخلاف القبلة إذا اجتهد، وصلى إلى جهة [ثم تغير] اجتهاده في صلاةٍ أخرى إلى جهةٍ غيرها يصلي إلى الجهة الثانية؛ لأن ترك القبلة بالعذر جائزٌ، ولا يجوز الوضوء بالماء النجس بحالٍ، فإذا صلى بالتيمم يعيد؛ لأنه تيمم ومعه ماءٌ طاهرٌ. وقيل: لا يُعيد؛ لأنه ممنوع من استعمال ما معه من الماء كما لو حال بينه وبين الماء سبعٌ صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه. والأول أصح، ولا تجب إعادة الصلاة الأولى؛ لأنا لو أوجبنا الإعادة نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وذلك لا يجوز. وإن لم يبق من الماء الأول شيءٌ، فلا اجتهاد عليه حتى لو غلب على ظنه بدليل أرجح من الأول؛ أن الطاهر هو الثاني، فلا ينقض الأول من غير يقين، بل يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه. وقيل: إذا أدى اجتهاده إلى طهارة الثاني، يصلي بالتيمم، ويعيد؛ لأنه صلى بالتيمم، ومعه ماءٌ يعتقد طهارته. والأول المذهب؛ لأنه ممنوع من استعماله؛ فإن تيقن أنه استعمل النجس، عليه أن يغسل ما أصابه من ذلك الماء، ويعيد الصلاة. وإن كانت الأواني خمساً: واحد منها نجسٌ، واشتبه عليه؛ فإنه يجتهد عند كل حدثٍ حتى يستعمل منها أربعاً، ثم لا يجوز استعمال الخامس؛ فإن كان واحدٌ من الخمس طاهراً، فإذا استعمل واحداً بالاجتهاد، لا يجوز استعمال غيره؛ لأنه يصير مستعملاً للنجاسة باليقين. فإذا اشتبه عليه إناءان؛ فانصب أحدهما قبل الاجتهاد، هل له أن يتوضأ بالثاني من غير اجتهادٍ؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ماءٌ واحد شك في نجاسته؛ فالأصل أنه طاهر.

والثاني: لا يجوز- وهو الأصح عند العراقيين- كما في حال بقائهما، بل يجتهد، فإن أدى اجتهاده إلى طهارة القائم؛ توضأ به، وإن أدى إلى طهارة الهالك؛ صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه. وإذا اشتبه عليه ماءان، ومعه ماء آخر طاهر بيقين؛ فهل له الاجتهاد في الماءين المشتبهين [أم لا]؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الأصح: يجوز. وقيل: لا يجوز؛ لأن الطاهر باليقين؛ كالنص، ولا يجوز الاجتهاد مع وجود النص. والأول أصح؛ لأن النص ليس في موضع الاشتباه الذي هو محل الاجتهاد. وكذلك إذا اشتبه عليه ثوبان، ومعه ثوبٌ طاهر بيقين ومعه من الماء ما يغسلُ به أحد الثوبين، هل له الاجتهاد؟ فيه وجهان. وكذلك إذا كان معه مزادتان في كل واحدةٍ قُلةٌ من الماء، ونجس أحدها، هل له الاجتهاد، أم يجمع بينهما حتى يتيقن الطهارة؟. فيه وجهان. وكذلك لو أدى اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين، ثم غسل ما أدى اجتهاده إلى نجاسته يجوز أن يصلي في كل واحدٍ منهما على أصح الوجهين. ولو لبسهما، وصلى فيهما، يجوز؛ كما لو صلى في واحدٍ منفرداً. وقال أبو إسحاق: "لا يجوز، وتجب الإعادةُ؛ لأنه كالثوب الواحد تيقن نجاسته، وشك في زوالها. وهل يجوز للأعمى الاجتهاد في الأواني؟ فيه قولان: قال في رواية حرملة: "لا يجتهد كما في القبلة". وقال في "الأمام" وهو الأصح [عند المراوزة]: "يجوز؛ لأنه يعرف النجاسة بالشم

والذوق، أو نقصانٍ يجده في أحد الإناءين، أو حركةٍ توجد فيه؛ يعرف أن الكلب شرب منه. فإن قلنا: يجوز، فلم يجد دلالة على الأغلب عنده؛ فهل له التقليد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن من ظن من أهل الاجتهاد في شيء لم يكن له أن يقلد [فيه] كالبصير. والثاني: يجوز؛ لأنه مما يُعرف بالبصر وبغيره، فإذا لم يغلب على ظنه ثبت أن معرفته تعلقت بالبصر، فكان كالقبلة. وكل طعامين طاهرين نجس أحدهما، واشتبه عليه مثل إناءين من لبنٍ، أو خلٍّ، أو نحوهما؛ فله أن يتحرى فيهما؛ كالماء، ثم يحل له أكل ما أدى اجتهاده إلى طهارته، وإن كان أحدهما نجس الأصل؛ مثل إناءين: أحدهما ماء، والآخر بولٌ؛ فاشتبه عليه؛ فالمذهب أنه لا يجوز له التحري فيهما، وبه قطع العراقيون؛ لأن النجس منهما ليس له أصلٌ في الطهارة، بخلاف الماء النجس، ولكن يُصلي بالتيمم، ثم يعيد على أصح الوجهين. وقيل: يجوز التحري فيهما كالماء الطاهر مع النجس، ولكن لا يجوز أن يأخذ [بغلبة] الظن من غير دلالة، بخلاف الماء الطاهر والنجس؛ على أحد الوجهين. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: يجوز التحري إذا كانت الغلبة للماء، وكذلك إذا اشتبه عليه ماءٌ مطلقٌ، وماء وردٍ؛ فالمذهب أنه لا يتحرى؛ وبه قطع العراقيون؛ لأن ماء الورد ليس له أصل في التطهر، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما. وقيل: هو كما لو كان أحدهما ماء مطلقاً، والآخر مستعملاً، وإن كان أحدهما ماء مطلقاً، والآخر مستعملاً؛ فهذا مبنيٌّ على أنه إذا اشتبه عليه ماءٌ طاهر ونجس، ومعه ماء طاهرٌ بيقين؛ هل له الاجتهاد، أم لا؟ إن قلنا: لا يجوز؛ لأن له سبيلاً إلى يقين الطهارة؛ فهاهنا لا يجتهد بل يتوضأ بكل واحدٍ منهما. وإن جوَّزنا هناك، فها هنا يجتهد؛ فأيهما أدى اجتهاده إلى أنه الماء المطلق، توضأ به. وإذا اشتبه [عليه] لبنُ بقرٍ ولبن أتانٍ، أو خمرٌ وخلٌّ، أو شاة مذكاةٌ وميتة

- فالمذهب أنه لا يجوز له التحري فيه؛ وبه قطع العراقيون؛ كما لو اختلطت امرأة من محارمه بنساء محصوراتٍ، لا يجوز أن ينكح واحدة منهن بالاجتهاد. وقيل: يجوز أن يطعم واحداً بالاجتهاد؛ لأن الميتة تُباح عند الضرورة، أما إذا اختلطت امرأةٌ من محارمه بنساء غير محصوراتٍ- جاز له أن ينكح واحدةً منهن، حتى لا يؤدي إلى سد باب النكاح عليه؛ بخلاف ما لو اختلطت زوجته بأجانب، لا يجوز وطء واحدة منهن بالاجتهاد؛ لأنه لم يستبح الوطء بالاجتهاد، وها هنا يستباح بالعقد. ولو اختلطت شاةٌ له بشاءِ الغير، أو حمامةٌ بحمام الغير، له أن يأخذ واحدة منها بالاجتهاد، ثم إن نازعه من في يده؛ فالقول قول صاحب اليد. ولو نجس موضعٌ من بدنه أو ثوبه، وخفي عليه، يجب عليه غسل جميع بدنه، ولا يجوز غسلُ موضعٍ منه بالتحري لأنا تيقنا حصول النجاسة فيه؛ فلا يزول إلا باليقين، بخلاف ما لو نجس أحد الشيئين؛ لأنه إذا أدى اجتهاده إلى طهارة أحدهما، رده إلى الأصل، فلو أصاب يده المبتلة بعض ذلك الثوب، لا يجب غسل اليد؛ لأنا لم نتيقن أن يده أصابت محل النجاسة. ولو شق الثوب نصفين لا يجوز التحري؛ لاحتمال أن يكون الشق في محل النجاسة؛ فتكون القطعتان نجستين؛ ولو نجس أحد كُميه، أو إحدى يديه، أو إحدى أصبعين؛ هل يجوز له التحري؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كالثوبين؛ قاله ابن سُريج. والثاني - وهو الأصح-: لا يجوز؛ لأنه شيء واحد، كما لو نجس موضع من الثوب وأشكل. ولو فصل أحد الكمين من القميص، يجوز التحري بالاتفاق؛ كالثوبين.

ولو نجس مكان في صحراء، واشتبه يتحرى. ولو نجس مكان من بيتٍ أو بساط، واشتبه عليه: قيل: له الاجتهاد، فيصلي على الموضع الذي أدى اجتهاده إلى طهارته، ويتيمم من الموضع الذي أدى اجتهاده إلى طهارته من الأرض؛ كالصحراء، أو كالبيتين نجس أحدهما. وقيل: لا يجوز التحري، وهذا أصح؛ كالثوب الواحد ينجس موضع منه. ومن رأى ماءً قليلاً في إناءٍ أو وهدةٍ، وشك في طهارته- يجوز التطهر به، وإن وجده شديد التغير؛ لاحتمال أن يكون تغيره لطول المكث، والأصل طهارته. ولو بالت ظبيةٌ في ماء بلغ قلتين، فوجد منه طعم البول، أو ريحه، وشك أن تغيره منه، أو من شيءٍ آخر- فهو نجسٌ. نص عليه من أصحابنا من قال بنجاسته على الإطلاق؛ وإليه ذهب صاحب "التلخيص". ومنهم من قال: "صورته: أن يكون رأي الماء قبل البول غير متغير، ثم رآه عقيبه متغيراً؛ فإن لم يكن رآه قبل بول الظبية، أو بعد العهد بين رؤيته، وبين بول الظبية- فهو على طهارته. وإن ورد على ماءٍ؛ فأخبره عدلٌ بنجاسته- يجب قبول قوله؛ رجلاً كان أو امرأة؛ حراً كان أو عبداً؛ لأن خبر هؤلاء مقبولٌ. ثم إن كان المخبر عالماً يعتقد مذهبه، لا يجب أن يستفسره، وإلا فيجب؛ لأنه قد يكون ممن يرى نجاسة سؤر السباع. ولا يقبل فيه قول كافرٍ، ولا فاسقٍ، ولا صبيٍّ صغيرٍ، ولا مجنون. وإن أخبر مُراهق، فيه وجهان عند المراوزة: الأصح: يُقبل. ولو أخبره أعمى، يقبل قوله. ولو أخبره عدلٌ بطهارته، وعدلٌ بنجاسته: قال شيخنا الإمام إمام الأئمة: يُحكم بنجاسته؛ لأن عند من يخبر بالنجاسة زيادة علم.

وإذا اشتبه عليه إناءان؛ فأخبره عدل بنجاسة أحدهما بعينه، يأخذ بقوله. وإن أخبره عدلٌ [بنجاسة أحدهما] لا بعينه، له أن يجتهد. وإن أخبره عدل؛ بأن الكلب ولغ في هذا دون ذاك، وأخبره آخر؛ أن الكلب ولغ في ذاك دون هذا، يحكم بنجاستهما؛ لاحتمال أنه ولغ فيهما في وقتين. وإن أضافا إلى وقت معين؛ بأن قال أحدهما: ولغ في هذا دون ذاك في وقت كذا، وقال الآخر: ولغ في ذاك دون هذا في ذلك الوقت. قال الإمام إمام الأئمة: سبيله الاجتهاد؛ لأن النجاسة حقيقة في أحدهما لا بعينه. فَصْلٌ في المَاء المُسْتَعْمَل روي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: رأيت بلالاً أخذ وضوء

رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء؛ فمن أصاب منه شيئاً يمسح به، ومن لم يصب [منه شيئاً] أخذ من بلل يد صاحبه. الماء المستعمل في الوضوء والغسل طاهرٌ غير مطهر، لا يزال به الحدث ولا الخبث، وليس بنجسٍ؛ لأنه ماء طاهرٌ لاقى محلاً طاهراً؛ كما لو غسل به ثوباً طاهراً. وقال الحسن، والزهري، والنخعي، ومالك: "هو مطهر، أما ما انفصل عن أعضاء المتوضئ في الغسلة الثانية والثالثة، وفي المضمضة والاستنشاق، وتجديد الوضوء، والمستعمل في غسل الجمعة والعيدين- مطهر على أصح الوجهين؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولا خبثاً؛ كالمنفصل في الغسلة الرابعة. وكما لو غسل به ثوباً طاهراً، أو استعمله للتبرد والتنظف - يكون مطهراً، وكذلك لو غسل ثوباً عن نجاسةٍ، وطهر بغسلة واحدة، يستحب أن يغسله ثلاثاً، والمنفصل في المرة الثانية، والثالثة مطهر على الأصح. وفيما اغتسلت به الذمية من الحيض وجهان: أحدهما: طهور؛ كالماء الذي توضأت به الكافرة. والثاني: غير طهور؛ لأن غسلها صحيح؛ لغشيان الزوج، ووضوءها لا يصح. قال الإمام إمام الأئمة: "وما توضأ به الصبي غير طهورٍ؛ لأنه يجوز أن يصلي [بذلك الوضوء] إذا بلغ". ولا يحكم باستعمال الماء ما لم ينفصل عن محل الغسل، ولو جمع الماء المستعمل ح تى بلغ قلتين- عاد مطهراً؛ على أصح الوجهين؛ كالمياه النجسة إذا جمعت حتى بلغت قلتين.

وقيل: لا يعود مطهراً [لأن كل ماء طاهر] لا يجوز التطهر به عند القلة، فلا يجوز عند الكثرة؛ كماء الورد. فأما الماء المستعمل في غسل النجاسة يكون حكمه حكم المحل بعد انفصال الماء عنه. وسيذكر إن شاء الله في فصل غسل النجاسات. باب الأواني وتطهير النجاسات روي عن ابن عباس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما إهاب دُبغ فقد طهر" كل حيوان (لا تؤكل ميتته) ينجس بالموت، إلا الآدمي، [فإنه] لا ينجس بالموت؛ على أصح القولين. وكل حيوان ينجس بالموت يطهر جلده بالدباغ؛ وهو ما سوى الكلب والخنزير؛ وهو قول عليِّ، وابن مسعود. وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما، أو من أحدهما- فلا يطهر جلدهما بالدباغ؛ لأن تأثير الدباغ في دفع نجاسته حصلت بالموت، والكلب والخنزير نجسان في حال الحياة؛

فلا يؤثر الدباغ في تطهير جلدهما. وقال أبو حنيفة: "يطهر جلد الكلب بالدباغ. وقال الأوزاعي، وابن المبارك، وأبو ثور: "لا يطهر إلا جلد ما يؤكل لحمه، ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه. والدباغ إنما يحصل بما تدبغ به القرب من: القرظ والشب، أو ما يقوم مقامهما من: العفص وقشور الرمان، ونحوها من دواء فيه عفوصةٌ ينشف فضول الجلد، ويزيل ذهومته، ويحوله من طبع اللحوم إلى طبع الثياب؛ بحيث لا يفسد. والتجفيف بالتراب والشمس لا يكون دباغاً؛ خلافاً لأبي حنيفة - رحمه الله - حيث جعله دباغاً، ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه، حتى تجوز الصلاة عليه ومعه، ويجوز استعماله في الأشياء الرطبة. قالت سودة - رضي الله عنها -: ماتت لنا شاةٌ، فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ

فيها حتى صار شناً. وما تناثر من الأدوية عن الجلد في الدباغ نجس، فإذا دبغ الجلد لا يجب غسله بالماء بعده؛ على أصح الوجهين؛ لأنه طهارة تحصل بالانقلاب؛ فلا يفتقر إلى الماء؛ كالخمر إذا تخللت. ويحكم بطهارة ما تشرب الجلد من الأدوية؛ كالخمر إذا تخلل، يحكم بطهارة أجزاء الدن. وقيل: يجب غسله بالماء بعد الدباغ. ولو دبغ الجلد بدواء نجس، يندبغ، ويجب غسله بالماء؛ لأن نجاسة الدواء نجاسةٌ أجنبية لم تحصل من مجاورة الجلد؛ فلا تزول بانقلاب الجلد؛ كالخمر إذا وقعت فيها نجاسةٌ أجنبية، لا تطهر بالانقلاب. ويجوز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاةٍ ميتةٍ لمولاة ميمونة فقال: "هلا أخذتم إهابها؛ فدبغتموه، فانتفعتم به". فقالوا: إنها ميتة. فقال عليه السلام: "إنما حرم أكلها".

ولا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدباغ، ويجوز بعد الدباغ؛ على القول الجديد، وهو الأصح؛ لأنه جلد طاهر كجلد المذكاة. وقال في القديم: "لا يجوز بيعه؛ لأن الأصل تحريم الميتة؛ غير أن الشرع أباح الانتفاع بجلدها بعد الدباغ، فلا تتعدى الإباحة منه، وهل يحل أكله بعد الدباغ؟ نظر: إن كان جلد ما لا يؤكل لحمه لا يحل؛ لأن الذكاة لا تبيحه، فلا يبيحه الدباغ. فإن كان جِلْد ما يؤكل لحمه، ففيه قولان: أحدهما: يحل أكله؛ لأنه جلدٌ طاهر كجلد المذكاة. والثاني قديماً: لا يحل؛ لقوله - عليه السلام-: "إنما حرم أكلها". ومن قال بالأول قال: أراد به أكل ما يؤكل جنسه؛ وهو اللحم. فصلٌ قال الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ .... الآية} [يس: 78، 79]. الصوف، والشعر، والريش، والسن، والقرنُ، والعظم - فيها حياة تموت بموت الحيوان، وتنجس بنجاسة الأصل، ولا تطهر بالدباغ، حتى لو دبغ جلد ميته، وعليه شعرٌ يطهر الجلد، ولا يطهر الشعر. وهذا هو المذهب. وحكى الربيع بن سليمان الجيزي [قولاً] أن الشعر يطهر تبعاً للجلد، وعند أبي حنيفة - رحمة الله عليه-: لا حياة في شيء من هذه الأشياء، ولا ينجس بموت الحيوان. والآية حجة عليه في العظم. وقال مالك: "في العظم حياة، ولا حياة في الشعر". وقيل: للشافعي - رضي الله عنه- قول مثله، فعلى هذا شعور جميع الحيوانات طاهرة في جميع الأحوال، إلا شعر الكلب والخنزير، وما تولد من أحدهما؛ فإنه نجس في عموم الأحوال.

فإن قلنا بالمذهب الصحيح: إن في الشعر حياةً؛ فشعور جميع الحيوانات طاهرة في حال حياتها. كعينها إلا في الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما. فإذا انفصل شعر الحيوان عنه في حياته، أو انفصل ريش الطائر، نظر: إن كان غير مأكول اللحم؛ فهو نجس إلا شعر الآدمي فإنه طاهر في عموم الأحوال؛ لكرامته على ظاهر المذهب. وقيل في نجاسة شعر الآدمي بعد الانفصال عنه: قولان؛ بناءً على نجاسة بدنه بالموت. فإن قلنا بنجاسته، فإذا سقطت منه شعرةٌ أو شعرتان؛ فصلى فيها، أو سقطت في ماء وضوء يعفى عنها؛ لقلتها، وتعذر الاحتراز عنه، فإن كثرت لم يُعف عنه؛ كدم البرغوث. والأول أصح: أن شعر الآدمي طاهرٌ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق شعره، ناوله أبا طلحة؛ حتى قسمه بين أصحابه. وحكى إبراهيم البلدي، عن المزني؛ أن الشافعي- رضي الله عنه - رجع عن تنجيس شعر الآدمي.

قيل: رجع عن تنجيس شعر الآدمي خاصة؛ لكرامته؛ كما حكم بطهارة لبنه مع تحريم أكل لحمه. وقيل: "رجع عن تنجيس جميع الشعور، سوى الكلب والخنزير؛ كما صح عنده أن لا حياة فيها. فأما إذا انفصل عن حيوانٍ يؤكل لحمه شعره، أو ريشةٌ في حياته - فهو طاهر، سواء جُز، أو نتف، أو سقط - وإذا انفصل من الحيوان - سنه أو ظفره أو قرنه - يكون نجساً؛ سواءً انفصل عما يؤكل لحمه، أو لا يؤكل، إلا من الآدمي؛ فإن حكمه إذا انفصل عن حكم ميته فأما ما يؤكل لحم ميتته؛ كالسمك والجراد، فإذا انفصل عظمٌ منه، أو جزء في حياته؛ فهو طاهر كميتته. وإذا انقطع جناح طائر مأكول اللحم في حياته فما عليه من الشعر نجس (تبعاً لميته). وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: شعور جميع الحيوانات [وعظمها] طاهرة في جميع الأحوال إلا من الخنزير؛ فيقول: جزء من الميتة؛ فيكون في حكم الأصل كسائر الأجزاء، فإذا ذبح حيوان يؤكل لحمه؛ فشعره وعظمه وجلده بعد الذكاة طاهر؛ كلحمه، وما لا يؤكل لحمه فذكاته كمؤته. وعند أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله -: جلد ما لا يؤكل لحمه بعد الذكاة طاهر؛ كما بعد الدباغ؛ فيقول: الذكاة وضعت لإباحة اللحم، فإذا لم تفد هذه الذكاة إباحة اللحم، لا تفيد طهارة الجلد؛ كذكاة المجوسي. فصلٌ في استعمال النجاسات روي عن عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ألا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ، ولا عصب".

قيل: الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ. وفي إسناد الحديث ضعفٌ. واختلف نصوص الشافعي - رحمه الله - في استعمال النجاسات: فقال هاهنا: ولا يدهن في عظم. قيل: منع من استعمال الدهن في عظم الفيل؛ لأنه نجسٌ بملاقاةِ عظم الفيل.

وقال في الصلاة: "ولا يصل ما انكسر من عظمه، إلا بعظم ما يؤكل لحمه ذكياً". وقال في موضع: "ولا تدهن السفن بشحوم الخنازير". فهذه النصوص [تدل على] أنه لا يجوز استعمالها. وقال في صلاة الخوف: "ويلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير؛ من جلد قردٍ، أو فيل". وقال في موضع: "لو عجن بماء نجس، أطعم نواضحه وكلابه". وقال: "ويزيل الأرض بالسماد". وقال: "لا بأس أن يوقد بعظم الميتة". وقال: "ويسجر التنور بالعذرة". وهذه النصوص تدل على جواز استعمالها. وقال في موضع: "ولا يحل أكل زيتٍ ماتت فيه فأرة. وفي استصباحه قولان. فمن أصحابنا من جعل في استعمال النجاسات قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها محرمةٌ. والثاني: يجوز؛ كما يجوز لبس ثوب أصابته نجاسة، والتحريم في الأكل. والصحيح من المذهب التفصيلُ؛ وهو أنه لا يجوز استعمال شيءٍ منها في بدنه، ولا في ثياب بدنه. والحديث محمولٌ على هذه المواضع، إلا عند الضرورة؛ وهو أن يخاف على نفسه من حرٍ أو بردٍ، ولم يجد إلا جلد خنزيرٍ، أو ميتة فليلبسه؛ كما يأكل الميتة إذا خاف الهلاك من الجوع. وأما استعمالها في غير بدنه من دوابه أو غيرها؛ نظر: إن كانت النجاسة مغلظةً، وهي نجاسة الكلب والخنزير- فلا يجوز. وإن كانت مخففة يجوز. وعلى هذا التفصيل تخرج النصوص كلها. وفي الاستصباح بالزيت النجس قولان: أصحهما: يجوز؛ لأنه لا يستعمل في بدنه.

والثاني: لا يجوز؛ لأن السراج يقرب من الإنسان، فلا يؤمن أن يصيب بدنه أو ثيابه. وإذا انكسر عظمٌ من عظامه؛ فجبره بعظمٍ طاهر - يجوز، ولو جبره بعظم نجس، ينزع إن كان لا يخاف هلاك نفسه، ولا تلف عضوه، وإن لحقه أذى. فإن لم ينزع أجبره السلطان على نزعه، سواء اكتسى اللحم، أو لم يكتس. فإن مات، لم ينزع؛ لأن التكليف سقط بالموت. هذا هو المذهب. فإن كان يخاف من النزع تلف نفسه، أو عضوه- لا ينزع؛ لأن إبقاء الروح بالشيء النجس جائز؛ كما يباح أكل الميتة عند الضرورة. وقيل: ينزع؛ لأنه حصل بفعله. والأول المذهب. وكذلك يجوز أن يرقعه بعظمٍ نجسٍ، إذا لم يجد عظماً طاهراً، وخاف التلف. ولو داوى جرحه بدواءٍ نجس، أو فتح موضعاً من بدنه، وجعل فيه دماً والتحم، أو خاط بخيطٍ نجس- فكالعظم يجب إخراجه. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: "إن اكتسى العظم لحماً، لا ينزع؛ كما لو شرب نجساً، لا يكلف أن يتقيأ. ومن أصحابنا من قال: يجب أن يتقيأ والمنصوص في صلاة الخوف أنه كالعظم. وقيل: لا يجب؛ لأنه صار. [في معدن] النجاسة. ولو وصلت المرأة شعرها بشعرٍ نجس، يقطع، ولا تصح صلاتها ما دام معها. ولو وصلت بشعر طاهر، تصح صلاتها فيه. وهل يجوز فعله أم لا؟ نظر: إن وصلت بشعرٍ آدمي، لا يجوز؛ لأن من كرامة الآدمي ألا ينتفع بشيءٍ منه بعد موته، بل يدفن؛ ولأنها إن وصلت بشعر رجلٍ، لا يجوز لها النظر إليه إن لم يكن محرماً. وإن وصلت بشعر امرأة، لا يجوز لزوجها النظر إليه، وإن كان بشعر حيوان فلا يجوز لغير ذات الزوج، ولا لذات الزوج بغير إذن زوجها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لعن الواصلة والمستوصلة؛ ولأنها بهذا الفعل تغر زوجها.

وإن فعلت بإذن الزوج، فوجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لظاهر الحديث. والثاني: يجوز؛ لأنه زينةٌ، والزينة جائزة لها؛ لاستمالة قلب الزوج، وكذلك تغمير الوجه، والخضاب بالسواد. وتطريف الأصابع لا يجوز لها بغير إذن الزوج، وبإذنه وجهان عند إمام الأئمة، وعند شيخنا: الأصح لا يجوز. أما الخضاب بالحناء فمستحبٌ لها. فصلٌ في بيان النجاسات روي عن عبد الله بن مسعود في الاستنجاء؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأتي بثلاثة أحجارٍ قال: "فأتيته بحجرين وروثةٍ؛ فألقى الروثة وقال: "إنها ركسٌ". بول جميع الحيوانات، ودمها، وروثها، وقيؤها نجس، وكذلك ذرق الطيور كلها؛ سواء كان مأكول اللحم، أو غير مأكول اللحم.

وقيل: ما يؤكل ميتته كالسمك والجراد- فدمه، وبوله، وروثه طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وليس بصحيح، بل الصحيح أنه نجسٌ. وكان شيخي القاضي الحسين المروزي- رحمه الله- يجعل في الدم يتحلبُ من الكبد والطحال وجهين؛ كدم السمك؛ لأنه يسيل من طاهرٍ.

وقال أحمد: "بول ما يؤكل لحمه، وروثه طاهر". وقال أبو حنيفة: "ذرق الطيور طاهرٌ إلا من الدجاج؛ فإنه نجس؛ فنقول: طعام أحالته الطبيعة، فأشبه روث سائر الحيوانات. والمذي والودي نجسان؛ كالبول، وكذلك القيح، والماء الذي يسيل من القروح [إن كانت له رائحة؛ فهو نجس، وإن لم يكن له رائحة؛ فهو طاهر؛ لرطوبة البدن. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: طاهر؛ كالعرق. والثاني: نجس؛ لأنه يتحلل منه؛ فهو كالقيح]. وما يخرج من الجوف عند الولادة نجس. وعين جميع الحيوانات، ولعابها، وعرقها- طاهر، إلا الكلب والخنزير، والمتولد منهما أو من أحدهما. وميت جميع الحيوانات نجسٌ إلا ما يؤكل ميته؛ وهو السمك والجراد. وفي الآدمي إذا مات قولان ظاهران: أحدهما: نجس؛ لأنه ميتٌ لا يحل أكله؛ كسائر الميتات. والثاني- وهو الأصح-: طاهر، ولو كان نجساً لم يغسل. ومني الآدمي طاهر؛ وهو قول عبد الله بن عباس؛ وبه قال عطاء. فإن بال أو أمذى، ثم أمنى قبل غسل ذكره، ينجس المني بملاقاة البول. ومني المرأة طاهر في الأصل. واختلفوا في بلل باطن فرج المرأة: فالصحيح أنه لا يحكم له بالنجاسة؛ كباطن قضيب الرجل.

وقيل: بلل باطن فرجها نجس، فعلى هذا إذا خرج منيها منها ينجس بملاقاته. وقال مالك رحمه الله: "المني نجس يغسل: رطباً كان، أو يابساً. وحكى صاحب "التلخيص" [بنقله] قولاً عن الشافعي - رحمه الله- مثله؛ وهو قول سعيد بن المسيب؛ والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: "هو نجس؛ يغسل رطبه، ويفرك يابسه" ولو كان نجساً، لكان لا يكتفي بالفرك، كسائر النجاسات. ومني سائر الحيوانات نجسٌ، وإنما خص بطهارته بنو آدم؛ كرامة. وقيل: مني ما سوى الكلب والخنزير- طاهر؛ كالعرق. وقيل: مني ما يؤكل لحمه طاهر، وما لا يؤكل لحمه فمنيه نجس؛ كاللبن. وكل حيوانٍ يؤكل لحمه؛ فلبنه طاهر حلال، وما لا يؤكل لحمه؛ فلبنه نجس، إلا لبن الآدميات؛ فإنه طاهر؛ كرامة للآدمي. وقال الاصطخري: "لبن ما لا يؤكل لحمه طاهر كعرقه. ولو ماتت شاةٌ، وفي ضرعها لبنٌ- فهو نجسٌ، لأنه يلاقي بدنها النجس. والإنفحة طاهرة إذا أُخرجت من السخلة بعد ذكاتها، فإن أخرجت بعد موتها فنجسةٌ. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: طاهر لبنها، والإنفحة كلاهما، وكل طائر يؤكل لحمه فبيضته طاهرة يحل أكلها، ويجب غسلها إن وقعت حالة الانفصال في مكان نجس، وإن وقعت في مكان طاهر، لا يجب على قول من يقول: "بلل باطن الفرح طاهرٌ".

وعلى قول من يقول: "بلل باطن الفرج نجس"- يجب غسله. وكل طائرٍ لا يؤكل لحمه، فبيضته نجسة حرام. ولو ماتت دجاجةٌ، فخرجت منها بيضةٌ؛ نظر: إن لم يكن قد تصلب قشرها؛ فهي نجسة لا تطهر بشيء، وإن تصلب قشرها؛ فوجهان: أحدهما: أنها نجسة حرامٌ، ولا تطهر بشيءٍ؛ كما لو انفصل عضوٌ من أعضائها بعد الموت. والثاني- وهو الأصح-: أنها حلالٌ؛ وبه قطع العراقيون؛ كما لو وقعت بيضة في شيء نجس تنجس بملاقاة النجاسة، فتطهر بالغسل. وإذا مذرت البيضة، فهي طاهرة؛ كاللحم يخنذ. وإذا أحضنت تحت الدجاجة، فصارت دماً فهو نجس، وإذا صارت علقةً، أو المني إذا صار علقةً- فوجهان: أحدهما: أنه نجس؛ لأنه دمٌ يخرج من الرحم؛ كدم الحيض. والثاني: طاهر؛ لأنه دمٌ غير مسفوحٍ؛ فهو كالطحال، والكبد. والمشيمة نجسة، وهي الغشاء الذي يكون فيه الولد؛ فهي بمنزلة عضوٍ من الحي، والمدة نجسة. وفي البلغم وجهان: أصحهما: طاهر؛ كالنخامة؛ وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. والثاني: نجس كالمدة؛ وبه قال أبو يوسف. والمسك طاهر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يستعمله. وفي فأرته وجهان: أحدهما: نجسة؛ كعضو منفصلٍ عن الحيوان. والثاني- وهو المذهب-: أنها طاهرة؛ كبيضة ما يؤكل لحمه، والعسل ينفصل من النحل. ولو أكلت الدابة شعيراً؛ فراثته كذلك - فهو نجس- وهل يطهر بالغسل؟.

نظر: إن وصلت النداوة إلى باطنه؛ بحيث لو زرع لم ينبت لا يطهر، وإلا فيطهر؛ كما لو ابتلع نواةً؛ فخرجت منه؛ تطهر بالغسل، وكذلك لو خرج من فرجه دودٌ حيٌّ؛ فهو نجس للرطوبة التي عليه، فإذا غسل طهر. ولو نبت زرعٌ من سرقينٍ، أو ماء نجس- فهو نجس، فإن شقق، وخرج منه الحبةُ، يكون طاهراً. وكل شرابٍ أسكر كثيره، فهو نجس؛ كالخمر. ولا يطهر شيء من الأعيان النجسة بالانقلاب، إلا جلد الميتة إذا دُبغ، والخمر إذا تخللت بنفسها؛ يُحكم بطهارتها؛ سواء اتخذ العصير بنية الخل، أو بنية الخمر؛ فتخمر فتخلل، إلا أنه إذا اتخذه بنية الخمر كان عاصياً؛ لقصده إلى المعصية. وإذا اتخذه بنية الخل، فإذا تخمر، جاز له إمساكها إلى أن تتخلل. فإذا اتخذه بنية الخمر، فإذا تخمر، يجب إراقتها، فلو لم تُرق؛ فتخللت حلت. ولو عالج الخمر؛ بأن طرح فيها شيئاً من خلٍّ أو ملح، أو شيء آخر؛ حتى تخللت فهي على نجاستها؛ كما لو كانت [كما لو خللها] بالعلاج كان حراماً، ولا تطهر بعده بشيء. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "يجوز تخليل الخمر بالعلاج، وإذا خللت، حلت. دليلنا: ما روي عن أنسٍ قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أيتخذ الخمر خلاً؟ قال: "لا". والنهي يدل على التحريم، ولتحريمه معنيان: أحدهما: دخول صنعة الآدمي فيه بالاستعجال؛ كما لو استعجل موت قريبه؛ فقتله- لم يرثه.

والثاني: أن ما طرح فيه صار نجساً بملاقاة الخمر؛ فهو فيها بعد التحلل ولا ضرورة بنا إلى تطهيره؛ بخلاف أجزاء الدن يحكم بطهارتها، إذا صارت الخمر خلاً؛ لأجل الضرورة؛ إذ لو لم يحكم بطهارتها، لم يوجد خل طاهر. وفرع عليه القاضي شيخنا- رحمه الله- قال: "لو غلت الخمر؛ فعلت إلى رأس الدن، ثم عادت إلى أسفلها؛ فتخللت- كان طاهراً. ولو نقل الخمر من الظل إلى الشمس، أو فتح رأس الدن حتى تخللت، فوجهان: أحدهما: لا تحل؛ لدخول صنعة الآدمي فيه. والثاني: قال شيخنا إمام الأئمة- وهو الأصح-: "يحل؛ لأنه لم يخالطه شيءٌ. ولو ألقى بصلاً أو ملحاً في عصيرٍ؛ فتخمر، ثم تخلل- هل يكون طاهراً؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو الأصح-: لا؛ لأن ما ألقاه فيه نجس بملاقاة الخمر، ولا ضرورة إلى تطهيره. والثاني: يطهر؛ لأنه حصل فيه قبل أن كان خمراً؛ كأجزاء الدن. وإذا وقعت في الملاحة نجاسةٌ، فصارت ملحاً- فهو نجس، وكذلك رماد السرقين. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: طاهر. ودخان الزيت النجس نجس، والسرقين نجس؛ على ظاهر المذهب؛ لأنها أجزاء تحللت منه؛ كالرماد. وقيل: ليس بنجس؛ كالبخار الخارج من الكنيف والإصطبل. ويجوز الاصطلاء بنار السرقين. وإذا طالت المدة على النجاسة؛ فصارت بطبع التراب- فهو نجس. فصلٌ في إزالة النجاسات روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مراتٍ؛ أولاهن بالتراب، وأخراهن بالتراب".

النجاسات قسمان: نجاسة الكلب والخنزير، ونجاسة غيرهما. أما الكلب: إذا ولغ في إناءٍ فيه ماءٌ قليل، أو مائعٌ آخر؛ وإن كان كثيراً- ينجس الإناء وما فيه؛ فعليه أن يريقه، ويغسل الإناء سبع مراتٍ؛ إحداهن [مكدرةً] بالتراب؛ [لأن مسح] الإناء بالتراب؛ سواء كان قد صُبَّ الماء على التراب، أو ألقي التراب في الماء، فكدره- فجائز. وكذلك لو أصاب شيءٌ، من بدن الكلب موضعاً رطباً- يجب غسله سبعاً؛ إحداهن بالتراب. والمتولد بين الكلب وغيره كالكلب. وقال أبو حنيفة: "لا فرق بين الكلب، وسائر السباع، يغسل الإناء من ولوغه؛ كما يغسل من سائر النجاسات".

وقال مالك رحمه الله: "لا ينجس الماء بولوغ الكلب، ولكن يجب غسل الإناء سبعاً؛ تعبداً. أما الخنزير أو المتولد من الخنزير وغيره، إذا ولغ في ماءٍ قليل، أو أصاب شيءٌ من بدنه موضعاً رطباً ينجس. وكم يغسل فيه؟ قولان: أظهرهما- وهو القول الجديد-: يجب غسله سبعاً؛ إحداهن مع التراب؛ لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ لأن تحريمه بالنص، وتحريم الكلب بالاجتهاد؛ ولأنه لا يجوز اقتناؤه بحالٍ، ويجوز اقتناء الكلب عند الحاجة. وقال في القديم- وهو قول عامة أهل العلم-: "لا يجب غسله إلا مرة واحدة، ولا يجب التعفير؛ كسائر النجاسات؛ بخلاف الكلب؛ لأنهم كانوا يقربون الكلاب من أنفسهم، وألفوها؛ فغلظ الأمر فيه؛ قطعاً لهم عن عادتهم، ولم يوجد هذا في الخنزير؛ فهو كالخمر لما كانت نجاسة مألوفة، غلظ الأمر في شربها؛ بإيجاب الحد، ولم يغلظ في شرب الدم والبول. ولو أصاب دم الكلب، أو روثه موضعاً، فلم تزل العين [إلا] بعد غسلتين أو ثلاث غسلات- هل تحتسب تلك الغسلات من السبع؟ فيه وجهان: أحدهما: تحسب حتى لو زالت العين في الغسلة السابعة؛ فقد طهر؛ كما في الاستنجاء، لو حصل النقاء بالحجر الثالث، لا يجب استعمال غيره. والثاني: تحسب الغسلات التي زالت بها العين غسلة واحدة؛ فتجب بعد زوال العين ست غ سلات؛ كما أن أثر الولوغ يزول بغسلة واحدة، ويجب بعدها ست غسلات. ولا يحصل التعفير بالتراب النجس، أما الأشنان والصابون والنخالة والجص؛ هل يقوم مقام التراب، سواء كان التراب موجوداً، أو لم يكن؟ فيه قولان [واختلفوا على وجهين: أحدهما: أن القولين في حال عدم التراب، وأما عند وجود التراب؛ فلا يجوز بغيره؛ قولاً واحداً.

والثاني: أن القولين في الأحوال كلها؛ لأنه جعلها في أحد القولين؛ كالتيمم، وفي الآخر جعل كالاستنجاء والدباغ. وفي الأصلين جميعاً لا فرق بين وجود المنصوص عليه، وبين عدمه]. أحدهما: لا؛ لأنه طهارةٌ أُمر فيها بالتراب، فغيره لا يقوم مقامه كالتيمم. والثاني: تقوم مقامه؛ لأنه طهارةٌ عن خبث بالجامد، كالاستنجاء يقوم غير الحجر مقامهُ؛ وكالدباغ القرظ، والشب فيه يقوم مقامه. فإن قلنا: غير التراب يقوم مقامه، فلو غسله ثماني مرات بلا تراب فالغسلة الثامنة؛ هل تقوم مقام التراب؟ فيه وجهان: أحدهما: تقوم مقامه، لأن الماء أبلغ في التنظيف. والثاني - وهو الأصح -[عند المراوزة]: لا تقوم مقامه لأنه غلظ الأمر فيه بالجمع بين اثنين فلا يجوز الاختصار على أحدهما؛ كزنا البكر أمر فيه بالجمع بين الجلد والتغريب؛ فلا يجوز الاقتصار على أحدهما. ولو طرح التراب في خلٍّ، أو ماء وردٍ؛ فعقر به الإناء [ثم غسله بالماء] هل يطهر؟ وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الخل لا يطهر. وقيل: يطهر؛ لأن المقصود من هذه الغسلة التراب لا الماء؛ ولو ولغ كلب في إناءٍ وقعت فيه نجاسةٌ أخرى، لا يجب إلا سبع مرات؛ إحداهن بالتراب؛ لأن غسل النجاسات تتداخل حتى لو غسل الإناء من الولوغ ثلاث مرات، ثم وقعت فيه نجاسة، لا يجب غسله بعد ذلك إلا أربعاً. ولو ولغ كلبان في إناء، أو كلبٌ واحد مراراً، لا يجب غسله أكثر من سبع مئات؛ لأن النجاسة لا تتضاعف بزيادة الولوغ.

ولو ولغ كلب [في إناء] ووضع ذلك الإناء في ماء كثير لا يطهر، إلا بأن يجري عليه سبع جرياتٍ، أو تحركه فيه سبع مرات، ويكرره. وقيل: يطهر؛ لأن الإناء لو كان في هذا الماء حين ولغ الكلب فيه، لم يؤثر فيه الولوغ، فإذا وضع فيه يطهر، وليس بصحيح. وفرع ابن الحداد على الأول قال: "لو ولغ الكلب في إناءٍ فيه ماء قليل، ثم كُوثِرَ ذلك الماء حتى بلغ قلتين؛ - فالماء طاهر، والإناء نجس. أما نجاسة غير الكلب والخنزير، فليس في غسلها عددٌ، ولا تعفيرٌ، بل إن كانت حكمية فصب عليها ماءً واحداً؛ أي على جميعها، وعصر المحل- طهر، ويستحب أن يغسلها ثلاثاً. وإن كانت [عيينة]؛ كالدم والروث- يحثها، ويقرضها، ثم يدلكها بالماء؛ فتطهر، وإن بقي أثرٌ لها؛ لما روي عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: حثيه، ثم اقرضيه [بالماء]، [ثم اغسليه بالماء]، ثم رشيه، وصلي فيه".

وسئلت عائشة- رضي الله عنها- عن الحائض؛ يصيب ثوبها الدم؟ قالت: "تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرةٍ.

وإن كانت النجاسة لها رائحة، فغسلها؛ فزال الأثر، وبقيت الرائحة، فهو نجسٌ، إن لم يكن لتلك النجاسة رائحةٌ ذكيةٌ، وإن كانت لها رائحة ذكيةٌ؛ مثل: [بول المبرسم] والخمر العتيق؛ ففيه قولان: أحدهما: لا يطهر؛ حتى تزول الرائحة؛ لأن الرائحة صفتها لا تنفك عنها؛ كالطعم إذا بقي لا يحكم بطهارته. والثاني- وهو الأصح عند المراوزة-: يطهر؛ لأن الرائحة لا تدل على النجاسة؛ كمن دخل بيت الخمور فعبقت الرائحة بثوبه لا يكون نجساً بخلاف الطعم؛ فإنه لا يبقى إلا ببقاء العين، فإن كان اللون باقياً مع الرائحة، فهو نجس على الصحيح من المذهب. ولو صبغ ثوباً [بصبغ] نجس، وخضب يده بحناءٍ نجس، فغسله، فزالت العين، وبقي اللون- فهو طاهر، وإذا أراد غسل النجاسة، يجب أن يورد الماء على المحل النجس؛ حتى يطهر، فإذا أورد المحل النجس على ماءٍ أقل من قلتين، ينجس الماء، ولا يطهر المحل؛ لأن الماء إذا ورد على المحل تكون القوة للوارد؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم؛ "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء؛ حتى يغسلها ثلاثاً".

فالنبي - صلى الله عليه وسلم- منعه من إدخال اليد في الإناء، وأمره بصب الماء عليها، ثم إذا صب الماء على المحل النجس، فما دام الماء يتردد على المحل لا يحكم بنجاسته؛ لأنا لو حكمنا بنجاسته لم تكن إزالة النجاسة بماء أقل من قلتين. فإذا انفصل عن المحل، نظر: إن انفصل متغيراً فالماء والمحل نجسان، وإن انفصل غير متغير؛ نظر: إن كانت النجاسة باقية على المحل، فالمنفصل نجس، وغن كانت زائلة فالمنفصل طاهر غير مطهر؛ كالماء المستعمل في الوضوء؛ لأن البلل الباقي في المحل من بقية المنفصل، فلولا أن المنفصل طاهرٌ، لم يكن المحل طاهراً. وقال أبو القاسم الأنماطي: "المنفصل نجسٌ؛ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله؛ فحكم الماء المنفصل عن المحل حكم المحل بعد انفصال ذلك الماء عنه؛ على المذهب الصحيح. وعلى قول أبي القاسم الأنماطي حكم الماء بعد الانفصال حكم المحل بعد ورود ذلك الماء عليه، وفائدته تظهر في غسالة ولوغ الكلب إذا أصاب موضعاً، كم يجب غسل ذلك الموضع؟ فعلى المذهب الصحيح: أنه إذا أصاب من الغسلة الأولى، يجب غسل ذلك الموضع ست مرات، وإن أصاب من الثانية فخمس مرات، ومن الثالثة أربع مرات، ومن الرابعة ثلاث مرات، ومن الخامسة مرتين، ومن السادسة مرة واحدة. وإن أصاب من السابعة، لا يجب غسل ذلك الموضع، وإن أصاب من غسلة التعفير، أو من غسله بعد التعفير- لا يجب تعفير ذلك الموضع. وإن أصاب من غسله قبل التعفير، يجب تعفير ذلك الموضع؛ لأن تعفير محل الولوغ عليه باقٍ، وعلى قول الأنماطي حكم المنفصل حكم المحل قبل ورود ذلك الماء. وإن أصاب من الغسلة الأولى، يجب [عليه] غسله سبع مرات، ومن الثانية ست

مرات، ومن الثالثة خمس مرات، ومن الرابعة أربع مرات، ومن الخامسة ثلاث مرات، ومن السادسة مرتين، ومن السابعة مرة واحدة. وإن أصاب من غسلة التعفير، أو من غسله قبل التعفير- يجب تعفير ذلك الموضع. وإن أصاب من غسله بعد التعفير، لا يجب تعفيره، ولو جمعت غسلات الولوغ، فإن بلغ قلتين، فهو طاهر على أصح الوجهين؛ كالمستعمل في الوضوء، وإن لم يبلغ [قلتين] فهو نجس وإذا أصاب موضعاً، فهو كما لو أصاب من الغسلة الأولى؛ لأن تلك الغسالة فيها. وقيل: هي طاهرة؛ لأنها بمجموعها طهرت المحل؛ فكان كغسالةٍ انفصلت، ولا تعفير فيها؛ وليس بصحيح. ولو صب على محل رطبٍ بالبول قدر منوين من الماء، فانفصل أكثر من منوين في الوزن غير متغير، أو كان في إناء قليل بول؛ فصب فيه من الماء ما غمره فيه وجهان: أحدهما: هو نجس [وبه قطع القاضي في طريقته]؛ لأن زيادة الوزن أبلغ من تغير اللون. وقيل؛ هو طاهر [وهو الأصح]؛ لأن الوارد عليه من الماء قد غلبه، فجعله كالمستهلك ولكن لا يكون مطهراً لغسالةِ النجاسة، وكالماء الكثير إذا صُب منه كوب بولٍ، ولم يتغير، كان طاهراً. وإن حصل زيادة الوزن. قال الإمام إمام الأئمة: "والأول أصح، بخلاف الماء الكثير؛ لأن قوته قوة الغلبة، وقوة الغلبة تغلب زيادة الوزن، والقليل ليس له قوة الغلبة؛ بدليل أنه لو وقع فيه نجاسة يسيرةٌ، ولم يتغير ينجس، فلما لم يغلب قليل نجاسة لا أثر له، فأولى ألا يغلب ما له أثرٌ بزيادة الوزن. ولو صب الماء على الثوب النجس فعصره، أو علقه حتى سال الماء منه، أو صُبَّ الماء في الإناء النجس فقلبه يطهر. ولو لم يعصره، بل تركه في الماء، ثم الهواء حتى جفَّ،

أو صب الماء في الإناء النجس، فلم يقلبه، وتركه حتى جف- هل يحكم بطهارته؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم بطهارته؛ وهو الأصح عند العراقيين؛ كالأرض النجسة إذا صُبَّ [الماء] عليها، وتركت حتى جفت، حكم بطهارتها. والثاني- وهو الأصح عند الإمام إمام أئمة-: لا يحكم بطهارته؛ حتى يدلك ويعصر؛ لأن عصر الثوب وقلب الإناء ممكن، بخلاف الأرض. قال الإمام: "وهذا أصح؛ لأنا لو لم نشرط ذلك لم يكن بين بول الصبي الذي لم يطعم، وبين بول غيره فرقٌ؛ وقد فرق الشرع بينهما. ولو بعّض محل النجاسة في الغسل، فغسل بعضه في دفعة، والبعض في دفعة- هل يطهر؟ فيه وجهان: قال صاحب "التلخيص": "لا يطهر؛ لأن الجزء المغسول الذي يلي غير المغسول ينجس؛ لمجاورته، ثم ينجس ما وراءه؛ لاتصاله به. والوجه الثاني - وهو الأصح-: يطهر؛ لأن الثوب جامدٌ لا تتعدى فيه. النجاسة [إلى] الجزء [الذي] يلي النجاسة؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في الفأرة تموت في السمن إن كان جامداً: "ألقوها وما حولها" فلم يحكم إلا بنجاسة ما حولها.

وقيل: قول صاحب "التلخيص" فيما إذا كان يغسل الثوب في جفنةٍ فغسل نصفه، ثم أورد النصف الثاني على ذلك الماء - فلا يطهر؛ لأنه نجس بورود المحل النجس عليه.

ولو أصاب الأرض بولٌ، أو خمرٌ، أو نجاسة مائعة، فصب عليها من الماء [ما يغمرها؛ فيطهر. وهل يحكم بطهارته قبل أن تنشف الأرض من الماء؟] فيه وجهان: ولا يشترط حفر الأرض. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: لا يطهر حتى تحفر الأرض إلى الموضع الذي وصلت النداوة إليه، وينقل التراب. دليلنا: ما روي عن أبي هريرة؛ أن أعرابياً بال في ناحية المسجد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "صبوا عليه ذنوباً من ماء". ولم يأمر بنقل التراب، ولا تقدير لما يصب عليه من الماء إلا المكاثرة؛ وهي أن يكون الماء أكثر من البول حتى يغمره.

وقيل: يصب عليه سبعة أمثاله. ولو اختلط بالتراب مائعٌ نجسٌ، أو ضرب لبنٌ ببول؛ فصب عليه الماء حتى تخلل

أجزاءه، طهر ظاهره وباطنه، ولا يطهر بالطبخ. ولو صب الماء عليه بعد الطبخ، فإن كان رخواً تخلل الماء أجزاءه، وطهر ظاهره وباطنه معه. وإن كان متحجراً، لم يتخلل الماء أجزاءه، طهر ظاهره دون باطنه، [و] تجوز الصلاة عليه، ولا تجوز معه. ولو اختلط بالتراب نجاسةٌ جامدة، فلا يطهر بصب الماء، ولو طبخ فلا تطهره نارٌ، ولا غسلٌ بعد الطبخ؛ [وقال أبو الحسن المرزبان: إذا صب عليه ماء، يطهر ظاهره؛ لأن ما فيه من النجاسة يحترق؛ ولهذا يتبعه موضعه. قالوا والأول هو المذهب]؛ لأن رماد السزقين متفرقٌ في أجزائه. وإذا نجس الدهن، فلا يمكن تطهيره بحالٍ؛ لأنه ينجس كله بملاقاة النجاسة، ولا يتخلل الماء تضاعيفه؛ حتى يستخرج النجاسة. وقيل: يمكن تطهيره بأن تجعل في إناء، ويصب عليها الماء، ويحرك بخشب، ثم يترك حتى تعلو الدهن، ويفتح أسفله حتى يخرج الماء. وليس بصحيح. أما الزئبق إذا أصابته نجاسةٌ، ولم تنقطع؛ حتى صب عليها الماء يطهر؛ لأن النجاسة لم تدخل أجزاءه. وإن تقطع فهو بمنزلة الدهن، لا يمكن تطهيره؛ على ظاهر المذهب. وبول جميع الحيوانات سواء في أنه لا يطهر منها إذا أصاب موضعاً إلا بالغسل، كسائر النجاسات، إلا بول الصبي الذي لم يطعم؛ فإنه يكتفي فيه بالرش، ولا نعني بالرش أن يرش عليه الماء حتى يبتل، ولا يسيل، بل ينضحه بالماء حتى يصل إلى جميعه فيغمره؛ بحيث لو عصر ينعصر؛ فيطهر، وإن لم يدلك ولم يعصر؛ لما روي عن أم قيس بنت محصن؛ أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام. فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حجره، فبال على ثوبه؛ فدعا بماءٍ؛ فنضحه ولم يغسله.

وفي بول الصبية التي لم تطعم قولان: أحدهما: يكتفي فيه برش الماء، كبول الصبي. والثاني- وهو الأصح؛ وبه قطع العراقيون-: يجب غسله؛ لما روي عن لبابة بنت الحارث قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر".

والفرق: أن طبع الأنثى أحر، فبولها ألصق بالمحل. وقال النخعي، والثوري، وأبو حنيفة: "يجب غسله؛ كبول غيره؛ وهو الاحتياط". وبول الخنثى المشكل كبول الأنثى من أي آلةٍ خرج. وكل نجاسة تطهر بالغسل، فلا يطهرها غير الماء. هذا هو المذهب. وقال في "الإملاء" في الرضيع: "إذا أشرقت عليه

الشمس فانمحقت [آخر] النجاسة عنه، جاز الاستنجاء به، فحكم بطهارة ظاهره وباطنه. وقال في القديم: "إذا أصاب الأرض بولٌ، فجفت بالشمس، جازت الصلاة عليه. ولا يجوز التيمم به". وهذا يدل على أنه يطهر بالشمس ظاهره، ولا يطهر باطنه. وخرج من هذا أن في الجديد: غير الماء لا يطهر؛ وهو المذهب. وفي القديم: الشمس تطهر. ثم هل تطهر الظاهر والباطن، أم لا تطهر إلا الظاهر؟. [فيه قولان]:

قال أبو عبد الله الخضري: "إذا قلنا: الشمس تطهر، فالنار أولى؛ لأنها أقوى". ولو ضرب لبن بماء نجس، وطبخ، يطهر على هذا التخريج. إن كانت الأرض رطبة لم يجز الصلاة عليها، ولا التيمم منها، وإن كانت يابسة، فقولان. ولو أصاب أسفل خفه أو نعله نجاسةٌ جامدة؛ فدلكه بالأرض حتى ذهبت. قال في القديم: "تجوز الصلاة فيه". ولم يرد به أن الأرض تطهره، ولكنه [يكون] عضواً كمحل الاستنجاء إذا مسحه بالحجر، والمذهب: هو قوله الجديد: إنه لا تجوز الصلاة في ذلك الخف ما لم يغسله بالماء؛ كما لو أصابته نجاسةٌ مائعةٌ، وكالثوب تصيبه النجاسة. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: يطهر بالمسح. فصلٌ فيما يحرم من الأواني وما لا يحرم روي عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-[أنه] قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها ولا تلبسوا الحرير والديباج؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة".

الأواني المتخذة من الجلود الطاهرة، والأشياء الخسيسة؛ كالخشب، والخزف، والحديد، والرصاص، والنحاس، والصفر، والزجاج- يجوز استعمالها في الطهارة، والأكل، والشرب وغيرها، وإن كثرت قيمتها بالصنعة؛ لأن جوهرها غير نفيسٍ. وأما المتخذة من الجواهر النفيسة؛ نظر: إن كانت من ذهبٍ أو فضةٍ، يحرم استعمالها في الطهارة، والأكل، والشرب وغيرها. وقال في القديم: "تكره" والأول أصح؛ لما روي عن أم سلمة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". فلولا تحريمه لكان لا توعد عليه بالنار. ولو توضأ منها، يعصي الله تعالى، ويصح وضوؤه؛ لأن الطهارة تحصل بالماء، وهو طهورٌ. وكذلك يحرم الأكل بملعقة الفضة، واستعمال ماء الورد من قارورة الفضة، والتبخر بمجمرة الفضة إذا قعد عليه.

أما إذا أتته الرائحة من بُعدٍ فلا حرج عليه. ويستوي في تحريمه الرجال والنساء، وإن كان يجوز للنساء لُبس حلي الذهب والفضة، ولا يجوز للرجال؛ كما أن افتراش الحرير والديباج حرام على الفريقين، وإن كان يجوز للنساء لبسها دون الرجال؛ لأن الجلوس عليها للخيلاء؛ وهو حرام، واللبس للزينة؛ وهي مباحة للنساء. وهل يحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحرم؛ لأنه ليس فيه إلا حفظ المال وإحرازه؛ حتى لا يتفرق. والثاني - وهو الأصح-: أنه يحرم؛ لأن ما لا يجوز استعماله يحرم اتخاذه؛ كالطنبور والمزمار. وفائدته: تظهر فيما لو استأجر أجيراً لاتخاذه؛ هل يستحق الأجرة؟ ولو كسره [كاسر] هل يغرم الصنعة؟ إن قلنا: "يحرم اتخاذه"، لا أجرة للأجير، ولا غرم على

الكاسر، وإن قلنا: "لا يحرم"؛ فالأجير يستحق الأجرة، والكاسر يغرم الصنعة. أما الأواني المتخذة من سائر الجواهر النفيسة؛ مثل: الفيروزج والبلور، والمها ونحوها- هل يحرم استعمالها؟ فيه قولان؛ بناء على أن تحريم إناء الذهب والفضة لعينهما، أو لمعنى فيهما؛ وهو الفخر والخيلاء؟ وفيه جوابان: إن قلنا: "لعينهما"، فهاهنا لا يحرم. وإن قلنا: "للفخر والخيلاء"، فهاهنا يحرم. والأصح: أنه لا يحرم، ويكره. وعلى هذا لو اتخذ إناء من ذهب أو فضةٍ، وموهه برصاصٍ، أو صفرٍ، حتى غطى الذهب والفضة- هل يحرم استعماله، أم لا؟ إن قلنا: "التحريم لعين الذهب والفضة" يحرم. وإن قلنا: "للخيلاء"، فلا يحرم. وإن قلنا: "للفخر والخيلاء"، فهاهنا يحرم. والأصح: أنه لا يحرم، ويكره. وعلى هذا لو اتخذ إناء من ذهبٍ أو فضةٍ، وموهه برصاصٍ، أو صفرٍ، حتى غطى الذهب والفضة- هل يحرم استعماله، أم لا؟ إن قلنا: "التحريم لعين الذهب والفضة" يحرم. وإن قلنا: "للخيلاء"، فلا يحرم. وعلى عكسه: لو اتخذ إناءً من حديدٍ، أو نحاسٍ، وموهه بذهبٍ أو فضةٍ. إن قلنا: التحريم لعين الذهب [والفضة]- لا يحرم استعماله. وإن قلنا: "للخيلاء"، يحرم. أما الإناء المضبب بالذهب أو الفضة؛ نظر: إن كانت الضبة على فم الإناء؛ بحيث تمس فم الشارب- يحرم الشرب منه. وإن كان على موضعٍ آخر، أو أراد استعماله في غير الشرب، على أي موضع كانت الضبة؛ نظر: إن كان قليلاً للحاجة؛ بأن كان قد تصدع فضببه لم تكره. وإن كان كثيراً للزينة، يحرم استعماله. وإن كان كثيراً للحاجة، أو قليلاً للزينة- يكره، ولا يحرم. وقيل: يحرم. وحد الكثرة: أن يكون جزءٌ كامل منه من ذهبٍ أو فضة؛ عروته، أو شفته، أو أسفله. قال الإمام: "وبه قطع العراقيون".

يحتمل أن يقال عن الذهب: لا يجوز؛ كما أن لُبس الخاتم من الفضة يجوز للرجال، وإن كان عليه شيءٌ من ذهبٍ لا يجوز. ولو اتخذ لإنائه حلقةً أو سلسلةً من فضة أو رأساً- يجوز؛ لأنه منفصل عن الإناء لا يستعمله. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: لا بأس بالمضبب بالذهب والفضة، إذا لم يضع فاه عليه. ويجوز الوضوء من أواني الكفار، والصلاة في ثيابهم ما لم [تعلم] نجاسته؛ سواء كان من الكفار الذين يتدينون استعمال النجاسات؛ كالمجوس، أو لا يتدينونه؛ لما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- توضأ في مزاده مشركةٍ، وتوضأ عمر - رضي الله عنه- من ماء في جرة نصرانية. ويكره إذا كانوا من الكفار الذين يتدينون استعمال النجاسات، إلا بعد الغسل. والصلاة في سراويلاتهم أشد كراهيةً؛ لأنها تجاور محل النجاسة. ومن أصحابنا من قال: "إن كانوا من الذين يستعملون النجاسات [ديانة]، هل يجوز الوضوء من أوانيهم، والصلاة في ثيابهم؟ فيه قولان؛ لتعارض الأصل والظاهر: أحدهما: يجوز؛ لأن أصل الماء والثوب على الطهارة. والثاني: [لا] يجوز؛ لأن الظاهر من حالهم استعمال النجاسة.

وقال أحمد وإسحاق: "لا يجوز؛ لأن الظاهر من بعد الغسل على الإطلاق". ويستحب تغطية الأواني، ولو أن يعرض عليه عوداً؛ لما روي عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمروا الآنية، وأطفئوا السراج؛ فإن الشيطان لا يفتح غلقاً، ولا يحل وكاءً، ولا يكشف إناءً. وإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم". "باب السواك" روي عن عائشة- رضي الله عنها-، وعن أبيها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "السواك

مطهرة للفم، مرضاة للرب". والسواك سنة مستحبة؛ وهي في حالتين أشد استحباباً: عند القيام إلى الصلاة، وإن لم يكن الفم متغيراً. وعند تغير الفم بنومٍ، أو سكوتٍ، أو جوعٍ، أو أكل شيء مما يغير الفم، وإن لم يرد الصلاة. وذكر العراقيون حالة ثالثة؛ وهي عند اصفرار الأسنان. والسواك غير واجب؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا [أن]

أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". قال الشافعي- رضي الله عنه-: "ولو كان واجباً لأمرهم به؛ شق أو لم يشق". ويستحب للصائم قبل الزوال، ويكره بعد الزوال؛ لأن تغير الفم بعد الزوال من أثر الصوم؛ فيكره إزالته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: يستحب في جميع النهار، ويستحب أن يستاك بخشب [حريف] له رائحة ذكية، ويكون وسطاً؛ لا يكون خشباً يجرح اللثة، ولا ليناً لا يقلع الصفرة. ولو لقت على أصبعه خرقةً خشنة [أو كانت خشنةً] فأمرها على أسنانه قام مقام السواك.

ويستحب: أن يستاك عرضاً [ولا يقوم]، ويمره على لثته وأسنانه، ولا بأس أن يستاك بسواك غيره. ويستحب: قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة. روي عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "خمسٌ من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار". وهذه الخصال سنة، والختان واجب في حق الرجاء والنساء جميعاً. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "سنة". فنقول: أجمعنا على أن ستر العورة واجب، [و] يجوز كشف عورة المختون؛ لأجل الختان، ولولا وجوبه، لما جاز ترك الواجب لأجله. وروي عن أنس قال: "وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة".

ويستحب ترجيل الشعر وتذهينه، ويرجل غباً. ويكره نتف الشيب؛ لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم". ويستحب خضاب الشعر بالحناء، أو بالصفرة، ويكره السواد. روي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم".

وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحسن ما غير به الشيب: الحناء والكتم". ويستحب أن يكتحل وتراً؛ لما روي عن ابن عباس قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكتحل قبل أن ينام بالإثمد ثلاثاً في كل عين". وروي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من اكتحل فليوتر، ومن لا فلا حرج". والله أعلم بالصواب. "باب نية الوضوء" روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال

بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى".

لا تصح الطهارة عند الحدث إلا بالنية، [و] يستوي فيه: الوضوء، والغسل، والتيمم. وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة: "يصح الوضوء والغسل بلا نية" دليلنا بعد الخبر فنقول: طهارة عن حدثٍ؛ فتفتقر إلى النية؛ كالتيمم. أما إزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية؛ لأن سبيلها سبيل ترك المهجور؛ كترك المعاصي لا يحتاج إلى النية. والوضوء عبادة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان".

والعبادة تفتقر إلى النية؛ كالصلاة، والصوم، والحج. قالوا: "النية في التيمم منصوصٌ عليها؛ وهي قوله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. والتيمم القصد؛ بخلاف الوضوء. قلنا: "النية غيرُ منصوص عليها في التيمم، وليس المراد من القصد ما ذكروا، بل المراد منه: القصد إلى الصعيد؛ لنقل التراب إلى الوجه واليدين؛ بدليل أنه أضاف القصد إلى الصعيد، والقصد إلى الصعيد يكون بالبدن، لا بالقلب. وإن سلمنا: ففي الوضوء أيضاً منصوصٌ عليها، لأنه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]. علق وجوب غسل الأعضاء بالقيام إلى الصلاة؛ فوجب أن يكون ذلك الغسل للصلاة؛ كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2، 4]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 28]. ثم الواجب أن يجلد للزنا، ويقطع للسرقة. فإن جلد وقطع لغيرهما، لم يجز عنهما. والنية تكون بالقلب في الطهارة، وجميع العبادات من الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج وغيرها، فلو لم يتلفظ بلسانه جاز، ولو تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه- لم يجز. وينوي المحدث رفع الحدث، واستباحة الصلاة، وينوي الجنب رفع الجنابة، أو استباحة الصلاة. فلو نوى بوضوئه، أو غسله: أن يفعل فعلاً تجب له الطهارة؛ مثل: صلاة النافلة، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة والشكر، أو الطواف، أو مس المصحف- صح وضوؤه، وغسله لجميع الصلوات؛ لأن هذه الأفعال لا تباح مع الحدث؛ فتتضمن نيتها رفع الحدث. وكذلك لو نوى الجنب بغسله الاعتكاف في المسجد، أو قراءة القرآن- يصح غسله. ولو نوى فعلاً لا تندب له الطهارة؛ مثل: عيادة المريض، وزيارة الصديق، والأكل، والنوم أو التبرد والتنظف ونحوها- لا تصح طهارته. ولو نوى فعلاً يستحب له الطهارة؛ مثل: الأذان، والتدريس أو المحدث نوى

الاعتكاف في المسجد، أو قراءة القرآن، أو الجنب نوى بغسله العبور في المسجد- فيه وجهان: أصحهما: لا تصح طهارته؛ لأن هذه الأعمال لا تباح مع الحدث، فنية فعلها لا ترفع الحدث. والثاني: يصح؛ لأنه نوى ما يستحب له الطهارة، ولا يحصل الاستحباب إلا بارتفاع الحدث. ولو نوى تجديد الوضوء، أو الجنب نوى غسل الجمعة والعيد- فقد قيل: فيه وجهان؛ كما لو نوى الأذان. وليس بصحيح بل لا تصح طهارته، بخلاف ما لو نوى الأذان والتدريس؛ لأن استحباب الطهارة هناك لأجل الحدث؛ فجاز أن تتضمن نيته رفع الحدث، وتجديد الوضوء. والغسل من الجمعة والعيد مستحب [لا] لأجل الحدث والجنابة، فلا تتضمن نيته الخروج عن الحدث. ولو نوت الحائض بغسلها تمكين الزوج من الوطء جاز للزوج وطؤها. وهل يصح غسلها للصلاة؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنها نوت فعلاً يجب لها الغسل. والثاني، وهو الأصح: لا يصح؛ لأن اغتسالها وقع لما ينقض الغسل؛ وهو الجماع؛ فلا يتضمن رفع الحدث. وصحته في حق الوطء لا يدل على جواز أداء الصلاة به؛ كالذمية اغتسلت من الحيض، جاز لزوجها غشيانها، وإذا أسلمت لا يجوز لها أن تصلي به. ولو توضأ ثلاثاً ثلاثاً؛ فترك لُمعة في الغسلة الأولى، وانغسلت في الثانية أو الثالثة؛ وهو غير عالمٍ بها، ثم علم. فقد قيل: هو كتجديد الوضوء؛ لأن اعتقاده أن الحدث قد ارتفع عن العضو بالغسلة الأولى؛ فالثانية لا تتضمن رفع الحدث. وقيل: يصح؛ لأن الغسلة الثانية والثالثة يأتي بهما على حكم النية الأولى، وتلك النية نية صحيحة، مشتملة على الغسلات كلها؛ فجاز إكمال الفرض بكل غسلةٍ منها. ولو توضأ رجل، فنسي مسح الرأس فيه، ثم جدد وضوءه فمسح فيه رأسه، أو اغتسل

للجنابة؛ فترك لمعة، ثم اغتسل للجمعة، فغسلت تلك اللمعة- لا يتم به وضوؤه وغسله؛ لأنه لم يمسح، ولم يغسل اللمعة عن الفرض. هذا هو المذهب. ولو نسي وضوءه الأول، أو غسله الأول؛ فأعادهما على أنه محدثٌ أو جنبٌ، ثم تذكر- تم وضوؤه وغسله؛ لأنه أتى به على اعتقاد الوجوب. ولو نوى بوضوئه أن يصلي صلاة بعينها؛ نظر: إن لم ينف غيرها صح وضوؤه لجميع الصلوات، وإن نفى غيرها؛ بأن قال: أصلي به الظهر، ولا أصلي [به] غيره ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: تصح طهارته لجميع الصلوات؛ لأن الحدث إذا ارتفع في حق صلاة واحدة، يرتفع في حق جميعها. والثاني: لا يصح أصلاً؛ لأنه غير مقتضاه؛ فصار كما لو لم ينو؛ وكما لو شرع في صلاة الظهر بنية أن يصلي ركعة واحدة لا يصح. والثالث: يصح وضوؤه للصلاة التي عينها دون غيرها. وهذا ضعيف. ولو أحدث أحداثاً كثيرة؛ فنوى رفع واحدٍ بعينه؛ نظر: إن لم ينف [رفع] غيره، يخرج عن جميعها، وإن نفى غيره؛ فقال: نويت رفع حدث البول دون غيره- فوجهان: أحدهما: [لم] يرتفع جميعها. والثاني: لا يصح وضوؤه أصلاً. وتنوي المستحاضة وسلس البول بوضوئهما استباحة فرض الصلاة، فلا تصح طهارتهما بنية رفع الحدث؛ لأن الحدث متصل بهما لا يرتفع، وطهارتهما للنافلة كالتيمم للنافلة: وينوي المتيمم استباحة فرض الصلاة، ولا يصح تيممه بنية رفع الحدث؛ لأنه لا يرفع الحدث؛ بدليل أن تيممه يبطل برؤية الماء. وقال ابن شريجٍ: "يصح تيممه بنية رفع الحدث؛ لأنه يرفع الحدث في حق صلاة واحدة".

والأول المذهب: أنه لا يصح إلا بنية استباحة الصلاة فإذا تيمم لاستباحة فرض الصلاة، لا يجب تعيين الفريضة؛ حتى لو تيمم لفريضةٍ بعينها، جاز له أن يصلي فريضة أخرى، دون ما عينها. وإذا تيمم لفريضة، جاز له أن يصلي بذلك التيمم السنن، وما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها. ولو تيمم لنافلةٍ، أو لحمل مصحفٍ، أو سجود تلاوةٍ، أو سجود شكرٍ، أو تيمم الجنب للاعتكاف، وقراءة القرآن- صح تيممه لما نوى. وقيل: لا يصح. وهل يجوز أداء الفريضة به؟ فيه قولان: قال في الجديد - وهو المذهب-: "لا يجوز؛ لأن الفرض لا يكون تبعاً للنفل". وقال في "الإملاء" وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: "يجوز؛ كما لو توضأ لنافلة، جاز أداء الفرض به". ولو تيمم لاستباحة الصلاة مطلقاً، فهو كالتيمم للنفل. ولو تيمم لصلاة جنازةٍ، يصح؛ وهو كالتيمم للفريضة؛ على أحد الوجهين؛ لأن صلاة الجنازة فريضةٌ. وقيل: [هو] كالتيمم للنافلة؛ لأن صلاة الجنازة ليست بفرض عينٍ. ولو تيمم لأداء صلاةٍ منذورةٍ، فهو كالتيمم للفريضة؛ لأن أداء المنذورة فريضة. ولو تيممت الحائض، ونوت التمكين للزوج- ففي صحته وجهان: كما لو توضأت لهذه النية. قال الإمام إمام الأئمة: "فإن جوزنا، فهو كالتيمم لصلاة النفل. ولو نوى المتيمم فرض التيمم، أو فرض الطهارة. قيل: يصح؛ كما لو نوى المتوضئ فرض الوضوء. والأصح: أنه لا يصح؛ لأن التيمم لا يستقل بنفسه، إنما هو لاستباحة الصلاة، ولم توجد هذه النية.

ولو تيمم لفائتةٍ ظنها عليه؛ فبان أن لا فائتة عليه [لم يصح تيممه. وبمثله لو توضأ لفائتة ظنها عليه، ثم بان أن لا فائتة عليه- يصح وضوؤه. وكذلك لو ظن أن فائتة ظهر فتيمم له، ثم بان أنها عصر- لم يصح تيممه. وبمثله] يصح وضوؤه. والفرق: أن نية استباحة الصلاة في التيمم لازمةٌ من غير تعين، فإذا عين وأخطأ لم يجز؛ كما لو عين الإمام في الصلاة، أو في صلاة الجنازة عين الميت، وأخطأ- لم تصح صلاته. وفي الوضوء نية استباحة الصلاة [عين الصلاة] غير لازمة؛ لأنه يجوز أن يعدل عنها إلى نية رفع الحدث؛ فالخطأ فيه لا يضر؛ كالمصلي إذا عين اليوم، وأخطأ- تصح صلاته. وهذا بخلاف ما لو كانت عليه فائتتان؛ فتيمم لإحداهما، له أن يصلي به أخرى دون ما عينها؛ لأن ثم صح تيممه للتي عينها، وها هنا لم يصح تيممه لما عينها؛ لأنها لم تكن عليه. ولو تيمم لأداء فرضين لم يصح تيممه؛ كما لو نوى أن يصلي الظهر خمس ركعات. وقيل: يصح تيممه لواحدة منهما. ولو تيمم لاستباحة الصلاة، واعتقاده أنه جنبٌ؛ فإذا هو محدثٌ، أو اعتقاده أنه محدثٌ؛ فإذا هو جنبٌ- لا يضر؛ لما ذكرنا أن ما لا تشترط نيته، فالخطأ فيه لا يضر. ولو ظن المحدث أن حدثه بولٌ؛ فتوضأ بنية رفع حدث البول، ثم بان أن حدثه غائط أو نوم، أو الحائض ظنت أنها جنبٌ؛ فاغتسلت بنية رفع الجنابة، أو ظنت الجنب أنها حائضٌ فاغتسلت للحيض- يصح الوضوء والغسل؛ لأنه يعتقد ارتفاع الحدث عنه. فإن فعل عالماً، فلا يصح؛ لأنه ينوي رفع ما لم يخله عالماً؛ فيكون عبثاً، بخلاف ما لو كان جاهلاً؛ لأن الجاهل [يعتقد جواز] الصلاة به؛ فيصير كأنه نوى استباحة الصلاة. وقيل: يصح، ويلغو التعيين. ولو أن جنباً ظن أنه محدثٌ؛ فاغتسل بنية رفع الحدث- ترتفع الجنابة عن وجهه، ويديه، ورجليه؛ لأنه غسلها على اعتقاد الوجوب، ولا ترتفع عن سائر الأعضاء. ولو أن محدثاً ظن أنه جنبٌ؛ فاغتسل بنية رفع الجنابة؛ نظر: إن رتب أعضاء وضوئه - خرج عن الحدث، وغن لم يرتب فيه وجهان؛ بناء على أن الحدث هل يحل جميع البدن، أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يحل إلا الأعضاء الأربعة؛ بدليل أنه لا يجب إلا غسلها. والثاني: يحل جميع البدن؛ لأنه ليس بعض البدن أولى بأن يحله الحدث من البعض؛ غير أن الله - تعالى- خفف عن عباده؛ فرفع الحدث عنهم بغسل هذه الأعضاء الظاهرة؛ لما أن الحدث يتكرر في اليوم مراراً، ويشق على الإنسان غسل جميع البدن، عند كل حدثٍ، بخلاف الجنابة؛ فإنها تقع في الأيام مرةً واحدة. فإن قلنا: "يحل جميع البدن" يخرج عن الحدث؛ لأن الترتيب إنما يجب إذا اقتصر على غسل الأعضاء الأربعة، فإذا غسل جميع البدن، سقط عنه الترتيب؛ كما في الغسل. فإن قلنا: "يحل الأعضاء الأربعة" لا يخرج عن الحدث. [و] قال مالكٌ: "الخطأ في الحدث يمنع صحة الطهارة". وقال ربيعة: "إن أخطأ من نوع إلى نوع، مثل: إن أخطأ من حدث البول إلى الغائط، أو من الحيض إلى الجنابة - تصح طهارته، وإن أخطأ من جنسٍ إلى جنسٍ؛ مثل: إن أخطأ من الحدث إلى الجنابة، أو [من] الجنابة إلى الحدث- لا يصح. ووقت النية في حق المتوضئ عند غسل أول جزء من الوجه، ويستحب أن ينوي عند المضمضة والاستنشاق، وتستديم النية إلى أن يغسل جزءاً من الوجه. فلو نوى عند غسل الوجه، ولم ينو قبله- صح وضوؤه، ولا يحصل له ثواب المضمضة والاستنشاق. ولو نوى عند المضمضة والاستنشاق، وعزبت نيته قبل غسل شيء من الوجه- ففيه وجهان:

أحدهما- وهو الأصح-: لا يصح وضوؤه؛ لأن ما قبل غسل الوجه يصح الوضوء بدونه؛ فلا يكون محلاً للنية. والثاني: يصح؛ لأنه نوى عند فعلٍ من أفعال الوضوء. وقيل: إن انغسل في المضمضة والاستنشاق شيءٌ من بشرة الوجه- صح وضوؤه، وإلا فلا. وهذا ضعيف؛ لأنه وإن انغسل بعض من وجهه في المضمضة والاستنشاق فلم يغسله عن الفرض؛ بدليل أنه لا يجوز الاقتصار عليه، بل يجب غسله ثانياً عن الفرض. ولو نوى عند غسل اليدين في الابتداء، ولم ينو عند المضمضة فقد قيل: فيه وجهان؛ كما لو نوى عند المضمضة، ثم عزبت نيته. والمذهب: ألا يصح وضوؤه وجهاً واحداً؛ لأن غسل اليدين في الابتداء ليس من السنن المختصة بالوضوء، إنما أمر به؛ خيفة أن تكون أصابتها نجاسةٌ؛ فهو كما لو نوى عند الاستنجاء، ولم ينو بعده- لا يصح وضوؤه، ولو نوى عند غسل الوجه، ثم عزبت نيته قبل أن يتم وضوءه لا يضر؛ لأنه يشق عليه ذكر النية إلى آخر العبادة، وكذلك في الصلاة والصوم. وأما استدامة النية حكماً شرط، وهو [أن] لا ينوي شيئاً آخر. فلو نوى عند غسل اليدين التبرد والتنظف؛ نظر: إن كان ذاكراً للنية الأولى، يصح وضوؤه. وكذلك لو نوى في ابتداء الوضوء رفع الحدث مع التبرد والتنظف- يصح وضوؤه؛ لأن ما يحصل بدون النية، فضمه إلى النية لا يفسدها؛ كما لو صلى فريضة، وقصد مع أداء الفريضة التعليم، أو كبر في الصلاة، ونوى معه الإعلام- يصح. ولو ترك النية الأولى، ونوى التبرد والتنظف عند غسل اليدين- لا يصح ما غسل بنية التبرد والتنظف، وعليه أن يعيد ذلك بعد تجديد النية. ولو كان ناسياً للنية الأولى- فهو كما لو رفضها- لا يصح ما غسل بنية التبرد والتنظف؛ على ظاهر المذهب. وقيل: يصح وضوؤه؛ لأنه مستديمٌ للنية الأولى في حال النسيان؛ فلا يضر نية

التبرد والتنظف، وليس بصحيح؛ لنا نجعله مستديماً للنية الأولى حكماً إذا لم ينو شيئاً آخر. وعلى هذا لو غسل المتوضئ أعضاءه إلا الرجل، فسقط في النهر؛ فغسلت رجله؛ فإن كان ذاكراً لنية الوضوء تم وضوؤه، وإن كان ناسياً لم يصح غسل الرجل عند الوضوء؛ على ظاهر المذهب ولو كان على عضوٍ من أعضاء وضوئه نجاسةٌ- فلا يصح غسله عن الوضوء ما لم يغسل النجاسة، ولو نواها تزول النجاسة، ولا يحسب عن الوضوء. قال إمام الأئمة رحمه الله: "ورأيت أنه يُحسب عنهما". ولو فرق النية على أعضاء الوضوء؛ فنوى عند غسل كل عضو رفع الحدث عن ذلك العضو- ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح وضوؤه؛ حتى ينوي في الابتداء رفع الحدث عن الجملة؛ كما لو فرق نية الصلاة على أفعالها. والثاني: يصح. وهذا أصح؛ لأن تفريق أفعال الوضوء جائز، فجاز تفريق النية على أفعالها، بخلاف الصلاة؛ فإن تفريق أفعالها لا يجوز، فلا يجوز تفريق النية على أفعالها والله أعلم بالصواب. باب سنة الوضوء بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. إذا أراد الرجل أن يتوضأ؛ يبدأ فيسمى الله- تعالى-؛ لما روي عن سعيد بن زيدٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه".

والمراد [منه]: نفي الفضيلة لا نفي الجواز. والتسمية سنةٌ، لو تركها يصح وضوؤه. وقال أحمد رحمه الله: "لا يصح". وقال إسحاق: "إن تركها عمداً لا يصح وضوؤه، ولو نسي التسمية في ابتداء الوضوء، سمى في أثنائه". والسنة: أن يغسل يديه إلى الكوعين ثلاثاً في ابتداء الوضوء؛ سواء قام من النوم، أو لم يقم؛ غير أنه إن قام من النوم، يستحب ألا يغمس يديه في الإناء؛ حتى يغسلهما؛ لتوهم نجاسة أصابتهما، فلو غمس فيه قبل الغسل، ولم يعلم بها نجاسةً لم يضر الماء.

وإن لم يقم من النوم؛ فإن شاء غمس يديه في الإناء، وإن شاء صب عليهما [فغسلهما]؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده". وقال الحسن: "يجب غسل اليدين في ابتداء الوضوء"؛ وهو قول إسحاق وقال أحمد: "إن قام من نوم الليل، يجب غسل اليدين، ثم بعد غسل اليدين يأخذ الماء بيمينه للمضمضة. وقال في رواية المزني: "يغرف غرفة لفيه وأنفه". وقال في رواية البويطي: "يغرف غرفةً لفيه، وغرفة لأنفه". فمعنى رواية البويطي: أنه يغرف غرفةً؛ فيتمضمض بها ثلاثاً، ثم يغرف غرفة أخرى؛ فيستنشق بها ثلاثاً. وهذا رواية علي- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في رواية المزني. قيل: أراد به: يغرف غرفة واحدة؛ فيتمضمض بها ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً. وقيل: أراد به: أنه يغرف غرفةً؛ فيتمضمض ويستنشق مرة، ثم يغرف غرفة أخرى؛ فيفعل مثل ذلك، ثم يغرف غرفة ثالثة كذلك وهذا رواية عبد الله بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الأصح. والمضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء والغسل جميعاً. وقال الحسن: "هما واجبان فيهما"؛ وهو قول ابن المبارك، وإسحاق. وقال الثوري وأبو حنيفة: "واجبان في الغسل، سنتان في الوضوء" فنقيس الغسل على الوضوء؛ لأن غسل الوجه واجبٌ فيهما، والفم والأنف على الوجه.

والمبالغة سنة في المضمضة والاستنشاق. إلا أن يكون صائماً؛ فلا يبالغ، لما روي عن عاصم بن لقيط بن حبرة، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً". والمبالغة في المضمضة: أن يأخذ الماء بفمه، ويديره فيه، ويبلغه إلى أقصى الحنك، ثم يمجه.

وفي الاستنشاق: يأخذ الماء بأنفه، فيبلغه إلى خياشيمه، ويمتخط بشماله، ثم يأخذ الماء بيديه؛ فيغسل جميع وجهه ثلاثاً. وحد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. والبياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، ووتدا الأذن ليسا من الوجه؛ غير أنه لا يمكن تعميم الوجه بالغسل إلا بغسلهما، وموضع الصدغين من الرأس، والنزعتان من الرأس؛ وهو ما انحسر عنه الشعر من جانبي الرأس، ويستحب غسلهما. وفي موضع التربيع وجهان: قال ابن شريج: "من الوجه". وقال أبو إسحاق: "من الرأس". فإن كان الرجل أصلع؛ بأن ذهب شعر مقدم رأسه؛ فموضع الصلع من الرأس. وإن كان أغم، بأن انحط منبت شعره إلى الجبهة، فما على الاستواء من الوجه وغيره فمنبت الشعر؛ لأن الاعتبار بغالب الأحوال. وقيل: إن اتصل شعره بالحاجب، فما على الاستواء من الوجه، وإن لم يتصل فوجهه من منبت الشعر. وخمسه من الشعور على الوجه يجب غسل ظاهرها وباطنها في الوضوء والغسل، وإن كانت كثيفةً. ويجب غسل البشرة التي تحتها؛ وهي الحاجبان، وأهداف العينين والعذارُ، والشاربُ، والعنفقة، وكذلك حكم الشعر النابت على الخدين؛ لأن الغالب من هذه الشعور الخفة، وكثافتها نادرة. أما اللحية والعارض؛ نظر: إن كانت خفيفةً يجب غسل ظاهرها وباطنها. وإن كانت كثيفة؛ وهو ألا ترى البشرة من تحتها- يجب إمرارُ الماء على ظاهرها، ولا يجب غسل باطنها في الوضوء، ويجب في الغسل؛ لأن مبنى الوضوء على التخفيف؛ لأنه يتكرر في اليوم مراراً، ومبنى الغسل على الاستقصاء لأنه يجب في الأيام مرة؛ فلا يشق عليه [مراراً] غسل باطنها في الأيام مرة. وإن كان بعض لحيته خفيفاً، والبعض كثيفاً- يجب إيصال الماء إلى باطن الخفيف دون الكثيف.

وإذا نبتت لامرأةٍ لحيةٌ كثيفة، يجب إيصال الماء إلى باطنها؛ لأنه نادرٌ؛ كما إذا كثف شعر الذراع يجب إيصال الماء إلى ما تحته في غسل اليدين. والخنثى المشكل فيه كالمرأة. وفي ما استرسل من اللحية عن حد الوجه، أو خرج من العارض نحو الأذنين- قولان: أصحهما: أنه يجب إمرار الماء على ظاهرها؛ لأنه شعرٌ نابتٌ على الوجه؛ كشعر الخدين. القول الثاني- وهو مذهب أبي حنيفة-: لا يجب؛ لأن الشعر النازل عن الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه؛ وكذلك النازل عن حد الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب الغسل. ويستحب إدخال الماء في العين؛ نص عليه في "الأم"؛ لأن ابن عمر- رضي الله عنه- كان يفعله وليس بسنةٍ؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم ينقل عنه [أنه] فعله، بخلاف المضمضة، والاستنشاق؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يفعلها؛ ولأن باطن الفم والأنف يتغير، وداخل العين لا يتغير. وتخليل اللحية سنةٌ؛ لما روي عن أنس؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماءٍ؛ فأدخله تحت حنكه، [فخلل به لحيته]. وقال: "هكذا أمرني ربي". ثم

بعدها يفرغ من غسل الوجه، يجب عليه غسل اليدين مع المرفقين. والسنة: أن يغسل يده اليمنى أولاً ثلاثاً، ثم اليسرى مثل ذلك، ويستحب أن يغسل ما فوق المرفق، ويمر يده إلى نصف العضد فما فوقه، وكذلك في غسل الرجلين إلى نصف الساق فما فوقه؛ لما روي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل". وعن أبي حازم: قال: "كنت خلف أبي هريرة- وهو يتوضأ- فكان يمر يده حتى يبلغ إبطه. فقلت: "يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ قال: سمعت خليلي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وإن طالت أظافيره، وخرجت من رؤوس الأصابع- يجب غسلها قولاً واحداً. فإن كان الرجل أقطع اليدين من الكوع، أو من نصف الساعد- يجب عليه غسل ما فوقه [مع المرفقين]. وإن كان أقطعهما من فوق المرفقين، فغسل اليدين عنه ساقط، ويستحب أن يمس موضع القطع الماء؛ إطالة للغرة. وإن كان أقطعهما من المرفق، بأن أبين المفصل- نقل المزني- رحمه الله-: أن لا

فرض عليه فيهما. ونقل الربيع: أن عليه غسل ما بقي. فقد قيل: فيه قولان: أحدهما: يجب عليه غسل طرف عظم العضد؛ لأنه مغسولٌ في حال الصحة. والثاني: لا يجب؛ وهو في حال الصحة مغسول تبعاً لا مقصوداً. وقيل- وهو الأصح-: يجب عليه غسل طرف العضد قولاً واحداً، وفي نقل المزني: "خلل [أو] أراد به: إذا كان مقطوع طرف عظم العضد، فلا فرض عليه فيه. ولو انقطعت جلدةٌ من ساعده، وبقيت متدلية على الساعد مثل آية عليها يجب عليه غسلُ جميعها، وغسل ما ظهر من تحتها. وإن جاوز القطع المرفق، وبقيت متدلية على العضد- لا يجب غسل تلك الجلدة؛ لأنها صارت أصلاً في غير محل الفرض. ولو انقطعت الجلدة من الساعد، فاتصل رأسها بالعضد؛ وهي متجافيةٌ- يجب أن يغسل من الجلدة ما في محاذاة المرفق والساعد؛ ظاهراً وباطناً، ولا يجب غسل ما فوق المرفق. وإن اتصل ظاهر الجلدة بظاهر الساعد والعضد- لا يجب قلعها، بل يغسل ما ظهر منها إلى المرفق. ولو تقطعت الجلدة من العضد، وبقيت متدلية على الساعد مثل آية عليها، لا يجب غسلها. وإن جاوز القطع المرفق، وبقيت متدلية على الساعد- يجب غسل جميع الجلدة [ظاهرها وباطنها]؛ لأنها صارت أصلاً [في محل الفرض]. ولو انقطعت الجلدة من العضد، فاتصل رأسها بالساعد؛ وبقيت متجافية- فيجب أن يغسل منها ما في محاذاة المرفق والساعد: ظاهراً وباطناً. وإن اتصل ظاهرها بظاهر العضد والساعد [لا يجب قلعها، بل يجب] غسل ما ظهر منها إلى المرفق [ولا يجب غسل ما فوق المرفق] ولو غسل ظاهر الجلدة، ثم زالت الجلدة، يجب غسل ما ظهر من تحتها؛ بخلاف ما لو أمر الماء على ظاهر لحيته الكثيفة، ثم خلقت لحيته- لا يجب غسل ما ظهر من تحتها؛ لأن جواز غسل ظاهر الجلدة

للضرورة، وقد زالت، وفي اللحية اكتفى بغسل ظاهرها لا لضرورة؛ لأن إيصال الماء إلى باطنها ممكن، بل لأنه الوجه المأثور بغسله، وقد أتى بما أمر به. ثم بعد غسل اليدين، يجب عليه مسح الرأس، وحد الرأس: ما تشتمل عليه منابت الشعر المعتاد. وفرض المسح يسقط عنه بما ينطلق عليه اسم المسح، وغن كان قدر شعرة واحدة في أي موضع شاء من الرأس؛ سواء مسح بأصبع واحدة، أو بخشبٍ، أو بخرقةٍ، أو غيرها. وقال صاحب "التلخيص": "يجب عليه أن يمسح بقدر ثلاث شعرات" وعند مالك: [يجب] مسح جميع الرأس. وعند أبي حنيفة: يجب مسح ربع الرأس. [قال إمام الأئمة]: "وجب ألا يسقط الفرض عنه، إذا مسح أقل من قدر الناصية؛ لأن ظاهر القرآن يوجب التعميم، والسنة خصته بقدر الناصية؛ وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- مسح بناصيته، وعلى عمامته. ولم ينقل أنه - عليه

السلام- مسح أقل من هذا. والروايات الصحيحة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -[أنه] مسح برأسه مرةً واحدة؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وحكاه أبو عيسى في "جامعه" عن الشافعي رحمه الله. والمشهور من مذهب الشافعي: أن التكرار فيه مسنونٌ ثلاثاً بثلاث مياهٍ جددٍ؛ ويروى ذلك عن أنس؛ وهو قول عطاء.

والسنة في المسح: أن يغمس يديه في الإناء، أو يصب الماء عليهما، ولا يمسك الماء بيديه، ثم يضعهما على مقدم رأسه ملصقاً طرف إحدى السبابتين بالأخرى، واضعاً إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ويحسب الذهاب والرد مرة واحدة؛ لأن بالذهاب تبتل بواطن شعور مقدم الرأس، وظواهر شعور مؤخره، وبالرد تبتل بواطن شعور المؤخر، وظواهر شعور المقدم. فإن كان أمعط وله ذؤابةٌ مسترسلةٌ؛ فلا فائدة في الرد، ولو رد لا يحسب مرة أخرى؛ لأن البلل صار في حكم المستعمل؛ لحصول مسح جميع الرأس. ولو مسح رأسه، فيقوم مقام المسح؛ لأنه مسحٌ وزيادة. [وفيه وجه: أن الغسل لا يقوم مقام المسح] ولو وضع يده المبتلة على رأسه؛ ولم يحركها، أو قطر عليه قطرة ماء؛ ولم تسل- حصل المسح على الصحيح من المذهب.

وقال الشيخ القفال: "لا يحصل ما لم يحرك اليد، أو تسيل القطرة؛ لأنه مسٌّ. وليس بمسح". ولو مسح على أصول شعره، ولم يصل البلل إلى البشرة - جاز. فإن مسح على شعر يزايل منبته؛ نظر: إن كان الموضع الممسوح من الشعر يخرج عن حد الرأس لو مد - لم يجز؛ كما لو مسح على الدؤابة المسترسلة. وإن كان [الممسوح] لا يخرج عن حد الرأس- فوجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنه غير خارج عن حد الرأس. والثاني: لا يجوز؛ لأنه زائل عن منبته؛ كالخارج عن حد الرأس. وإن كان بعض رأسه محلوقاً، والبعض عليه شعرٌ- فهو بالخيار: إن شاء مسح على الشعر، وإن شاء على الموضع المحلوق. ولو أدخل يده تحت شعره، ومسح على البشرة، ولم يمسح الشعر- يجوز، بخلاف ما لو أدخل يده تحت لحيته الكثة؛ فغسل بشرة الوجه، ولم يغسل ظاهر اللحية- لم يجز؛ لأنه مأمورٌ هناك بغسل الوجه، والوجه ما تقع به المواجهة، والمواجهة تقع بظاهر اللحية؛ فلم يجز ترك غسله. ولو مسح على شعره، ثم حلقه، لا يجب إعادة المسح؛ كما لو توضأ، ثم قلَّم ظفره- لا يجب [عليه] غسل ما ظهر من تحته. وإن كان على رأسه عمامةٌ، ولا يريد نزعها- يمسح بناصيته، ويستحب أن يمسح على العمامة؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولو مسح على العمامة، ولم يمسح شيئاً من الرأس- لا يجوز. وقال الأوزاعي، وأحمد: "يجوز إذا كان محنكاً؛ لحديث المغيرة. فيقال: "إنما سقط الفرض عنه بمسح الناصية، ولا بمسح العمامة. ثم بعد مسح الرأس، السنة: أن يمسح أذنيه؛ ظاهرهما وباطنهما ثلاث مرات بثلاث مياه جددٍ؛ فيدير المسبحتين في باطنهما يفضي بهما إلى الصماخين، ويمر الإبهامين على

ظاهرهما، فلو أمسك المسبحة وألإبهام عن مسح الرأس لمسح الأذنين- جاز. وقال في رواية البويطي: "ويأخذ لصماخيه ماء على [حد مستوى] ماء الأذنين. والأذنان ليستا من الوجه، ولا من الرأس. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه وجماعة: "هُما من الرأس؛ يمسحان بالبلل الفاضل عن مسح الرأس". وقال الزهري: "هما من الوجه يغسلان معه". وقال الشعبي: "باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس". واحتج الشافعي- رضي الله عنه-: بأن البياض المستدير بالأذن لما لم يكن من ارأس مع قربه من الرأس، [واستوائهما في الخلقة؛ فالأذن مع بعدها من الرأس] واختلافهما في الخلقة أولى. وهذا صحيح إن لم يثبت فيه حديث. ويستحب مسح العنق تبعاً للرأس والأذن؛ إطالة للغرة: ثم بعده يجب عليه غسلُ الرجلين مع الكعبين، والسنة: أن يغسل أولاً رجله اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى كذلك.

والكعبان: هما [الكعبان] الناتئان من جانبي القدمين.

ومسح الرجل لا يقوم مقام الغسل؛ لأن كل من روى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه غسل رجليه.

وروي عن عبد الله بن عمرو؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رأى قوماً، وأعقابهم تلوح؛ لم يمسها الماء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء".

وكيفية غسلهما: أن ينصبهما، ثم يصب الماء عليهما بيمينه، ويدلكهما بيساره، ويجتهد في ذلك العقب؛ خصوصاً في الشتاء؛ فإن الماء يتجافى عنها لخشونتهما. وتخليل الأصابع سنةٌ، إذا كان الماء يصل إليها من غير تخليلٍ؛ فإن كانت الأصابع ملتفة؛ لا يصل الماء إلى باطنها؛ إلا بالتخليل يجب التخليلُ، ويخلل بخنصر يده اليسرى من باطن القدم؛ فيبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى. وإن كانت على رجله شقوقٌ، يجب إيصال الماء إلى باطنها؛ فإن أذاب فيها شحماً، أو عجيناً، أو خضبت بالحناء يجب إزالة عين الحناء، والعجين، والشحم؛ لأنها تمنع وصول الماء إلى البشرة. ولو كانت لرجل يدان أو رجلان في جانب واحد؛ نظر: إن كان يبطشُ بهما، ويمشي بهما- يجب غسلهما، وإن كان يبطش بإحداهما، فهي أصليةٌ يجب غسلها مع المرفق والكعب.

أما الزائدة إن نبتت في محل الفرض: يجب غسلها؛ كالأصبع الزائدة، وإن نبتت فوق المرفق والكعب، يجب أن يغسل من الزائدة بقدر ما تحاذي المرفق والكعب الأصلية، دون ما فوقها حتى لو لم تصل الزائدة إلى المرفق والكعب الأصلية، لا يجب غسل شيء منها؛ [كسلعة] تكون على عضده. قال الإمام [إمام الأئمة]: "إذا كانت الزائدة منبتها فوق الساعد والكعب، ولم يكن شيء منها متصلاً بمحل الفرض- لا يجب غسلها. وإن كانت في محاذاة الفرض متدلية؛ كالجلدة التي انقطعت من عضده؛ فبقيت متدلية، فإن اتصل شيءٌ منها بمحل الفرض، يجب غسل ما في محاذاة محل الفرض ويستحب أن يقول بعد الفراغ من الوضوء- ما روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين- فتحت له ثمانية أبواب [من] الجنة؛ يدخل من أيها شاء". ويستحب: ألا يُنشف الأعضاء من بلل الوضوء والغسل؛ لما روي عن ميمونة قالت: "وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- غسلاً فاغتسل، فناولته ثوباً، فلم يأخذه؛ فانطلق وهو ينفض يديه [أراد به: المسح لا النفض المنهي عنه].

ولأنه أثر عبادة؛ فيستحب ألا يزيلها. فإن فعل لم يكره؛ لما روي عن معاذ بن جبلٍ قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ، مسح وجهه بطرف ثوبه". ويستحب: ألا يستعين بغيره على وضوئه لغير ضرورة، فإن فعل لم يكره؛ لأن المغيرة بن شعبة صب الماء على النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى توضأ. فإن صب عليه إنسانٌ، يستحب أن يقوم على يساره؛ لأنه أمكن وأحسن في الأدب. ولو فرق وضوءه، أو غسله؛ نظر: إن كان التفريق يسيراً يجوز، وإن تفاحش؛ نظر: إن كان بعذرٍ؛ بأن نفد ماؤه؛ فطلب، أو خاف من شيء؛ فهرب- جاز- وإن كان بغير عذرٍ، فقولان: في الجديد- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: يجوز؛ كالتفريق اليسير، وكما لو كان بعذرٍ. وفي القديم- وبه قال مالك-: لا يجوز؛ كما لو فرق أفعال الصلاة، لا تصح صلاته. وحد التفريق المتفاحش: أن يجف العضو المغسول مع اعتدال الهواء، فإن تباطأ جفافه؛ لبرودة الهواء، أو تسارع إليه الجفاف؛ لحرارة الهواء- فلا عبرة به.

فإن جوزنا البناء، هل يجب تجديد النية عند البناء؟ فيه وجهان: الأصح: أنه يجب. والترتيب في الوضوء واجبٌ؛ وهو أن يبدأ بغسل الوجه، ثم بعده يغسل يديه، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه؛ كما ذكر الله تعالى. فلو توضأ وترك الترتيب عاماً أو ناسياً، وصلى- لا تصح صلاته [كما لو ترك الترتيب في أفعال الصلاة- لا تصح صلاته]. وقال الثوري، وأبو حنيفة: "الترتيب سنةٌ؛ وهو قول أكثر أهل العلم [وإليه ميل إمام الأئمة]. ولو أنه غسل أعضاء وضوئه دفعة واحدة [لا] يصح وضوؤه [وقطع العراقيون؛ بأنه لا يجب إلا غسل الوجه]. ولو اغتسل المحدث بنية رفع الحدث، ولم يرتب أعضاء وضوئه- ففيه وجهان: إن قلنا: الحدث يحل جميع البدن، يخرج عن الحدث. وإن قلنا: يحل الأعضاء الأربعة لا يخرج عن الحدث؛ لترك الترتيب. وهو الأصح. فعلى هذا لو انغمس في ماء، وخرج من غير مكثٍ- فهو كما لو غسل الأعضاء دفعة واحدة، وإن مكث يسيراً صح، لحصول غسلِ الأعضاء على الترتيب. ولو أجنب رجل، ولم يحدث؛ بأن لف على قضيبه خرقة، وأولج في فرج امرأة [و] لم يمسها، أو احتلم قاعداً، أو أنزل بالنظر- يجب عليه الغسل، ولا ترتيب عليه في غسل أعضاء الوضوء. فأما إذا كان جنباً محدثاً؛ سواء تقدمت الجنابة على الحدث، أو تقدم الحدث، فهل يدخل الحدث في الجنابة؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: يدخل؛ حتى لا يجب غسل أعضاء الوضوء إلا مرةً واحدة؛ عن الجنابة والحدث جميعاً، ولا يجب عليه الترتيب؛ لأنهما حدثان ترادفا؛ فتداخلا؛ كالحيض مع الجنابة؛ وكما أن العمرة تدخل أعمالها في الحج في القران. والوجه الثاني: لا يدخل حتى يجب غسل أعضاء الوضوء مرتين: مرة عن الحدث مرتباً، ومرة عن الجنابة كيف شاء؛ لأن موجبها مختلف، فلا يتداخلان؛ كما أن حد الشرب لا يدخل في حد الزنا.

والوجه الثالث: يدخل فيه الغسل [والترتيب]؛ فلا يجب غسل أعضاء الوضوء إلا مرةً واحدة، ويجب الترتيب؛ لأن الغسل في الطهارتين موجودٌ؛ فتتداخلان، [و] لا ترتيب عليه في الغسل؛ وهو فرضٌ في الوضوء؛ فلا يسقط. [قال صاحب "التلخيص" ولا يجوز تثليث الوضوء عمداً، إلا في هذه المسألة، وجوابه يخرج على ظاهر المذهب. وحكى أبو حاتم القزويني وجهاً رابعاً: أنه يقتصر على الغسل؛ لأنه يحتاج أن ينوبهما؛ لأنهما عبادتان متجانستان: صغرى وكبرى؛ فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال، دون النية؛ كالحج والعمرة]. وعلى هذا فرع ابن الحداد: لو أن جنباً غسل جميع بدنه إلا رجليه، ثم أحدث يجب عليه غسل الوجه، واليدين، و [مسح] الرأس مرتباً. أما غسل الرجلين: فعلى الوجه الأول: لا يجب إلا مرة واحدة، إن شاء قدم [على] الأعضاء الثلاثة، وإن شاء أخر؛ لاجتماع الحدث والجنابة في الرجل؛ فسقط حكم الحدث.

وعلى الوجه الثاني: يجب غسل الرجلين مرتين؛ مرةً عند الحدث بعد الأعضاء الثلاثة، ومرةً عند الجنابة متى شاء. وعلى الوجه الثالث: لا يجب غسلهما إلا مرةً واحدة بعد الأعضاء الثلاث. وتقديم اليمنى على اليسرى في غسل اليد والرجل- سنةٌ في الوضوء، فلو قدم غسل اليسرى جاز لأن الله - تعالى- جمع بينهما في الذكر فقال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. وكذلك كل فعل مستحب؛ فالبداية فيه باليمين؛ كدخول المسجد يبدأ فيه بالرجل اليمنى [وإذا خرج يقدم اليسرى. وعكسه دخول الخلاء يبدأ فيه بالرجل اليسرى]، وإذا خرج يقدم اليمنى. وإذا سلم عن الصلاة يبدأ باليمين، وإذا لبس النعل، أو القميص، أو السراويل- يبدأ باليد اليمنى والرجل اليمنى، وفي النزع يبدأ باليسرى. والمصافحة باليمين، والاستنجاء باليسار. روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يُحب التيامن ما استطاع؛ في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله".

وفرائض الوضوء ستةٌ: "النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح شيء من الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين، والترتيب". وفي القديم: الموالاة فريضة؛ فتصير سبعاً. والسنن ثلاثة عشر: التسمية، وغسل اليدين إلى الكوعين، والمضمضة، والاستنشاق، والمبالغة فيهما، وتخليل اللحية، والبداية باليمنى في غسل اليد والرجل، وإطالة الغرة، ومسح جميع الرأس، ومسح الأذنين، وتخليل الأصابع، وغسل كل عضوٍ مرتين أو ثلاثاً، والموالاة على قوله الجديد". وبعضنا يجعل التسمية، وغسل اليدين في الابتداء، وتخليل الأصابع، والغسلة الثانية من الهيئات، ويجعلها دون السنن. ويكره أن يزيد غسل الأعضاء على الثلاث؛ لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً. ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا؛ فقد أساء، وتعدى، وظلم". وتجديد الوضوء مستحبٌ؛ وهو أن يكون على الطهارة؛ فيتوضأ.

عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ على طهرٍ، كتبت له عشر حسناتٍ". وإنما يستحب التجديد إذا كان قد صلى بالوضوء الأول صلاةً؛ فرضاً أو نفصلاً. فإن لم يكن قد صلى به، يكره التجديد؛ لأنه يصير كأنه زاد الوضوء على الثلاث. ولو نذر أن يتوضأ. قال القاضي حسين- رحمه الله-: "ينعقد، وعليه تجديد الوضوء بعدما صلى بالأول صلاة، فإن توضأ- وهو محدثٌ- لم يخرج عن نذره؛ لأنه واجب شرعاً وإن جدد الوضوء قبل أن يصلي بالأول- لم يخرج عن نذره. ولو نذر التيمم لا ينعقد؛ لأنه لا يجدد. وقال بعض أصحابنا: "لا يلزم الوضوء بالنذر؛ لأنه غير مقصود في نفسه؛ كما لو نذر التيمم لا ينعقد". فصلٌ فيما يمنع منه المحدث قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ .... الآية} [الواقعة: 77، 78، 79]. وروي عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزمٍ: ألا يمس القرآن إلا طاهرٌ.

لا يجوز للمحدث الصلاة، ولا الطواف، ويجوز له الاعتكاف، وقراءة القرآن. ولا يجوز سجود التلاوة، ولا يجوز له حمل المصحف، ولا مس ما هو منسوب إليه من جلد، أو غلاف [أو] صندوق هو فيه، أو خريطة هو فيها. وقال الحكم، وحماد: "يجوز للمحدث والجنب حمله ومسه". وقال أبو حنيفة: "يجوز مسه إلا الموضع المكتوب". وإن كان المصحف في صندوقٍ من الثياب، أو في عدلٍ من الأمتعة يجوز للمحدث

حمله. نص عليه [عند أصحابنا]؛ وبه قطع أصحابنا بـ"العراق"؛ لأنه لا يقصد حمل المصحف. وقيل لا يجوز؛ لأنه حامله. ولو قرأ القرآن من مصحف بين يديه؛ من غير أن يمسه- يجوز. ولو قلب أوراقه بخشبة، أو كتب القرآن من غير أن يحمل المكتوب، أو يمسه- فوجهان: أحدهما: يجوز؛ [وبه قطع العراقيون]؛ لأنه لم يمسسه. والثاني: لا يجوز؛ لأن ما فعله منسوبٌ إليه، ولا يجوز حمل لوحٍ كتب عليه القرآن. وعلى المعلم تكليف الصبيان الطهارة؛ لحمل المصحف واللوح، وكتبة القرآن، فإن لم يفعل أثم المعلم. وقيل: يجوز للصبيان حملها محدثين؛ لأن طهارتهم ناقصة؛ فلا معنى لاشتراطها. ولو حمل المحدث كتاباً فيه آياتٌ متفرقةٌ من القرآن، أو كتب المحدث يجوز. ولو حمل تفسير القرآن؛ نظر: إن كان القرآن بغير خط التفسير- لا يجوز؛ لأن القرآن فيه مقصودٌ، وإن كان الكل بخط واحدٍ يجوز. ويجوز حمل ما نقش عليه آيةٌ من القرآن من درهمٍ، أو ثوبٍ، أو خشبةٍ. ويكره تنقيش الجدر والثياب بالقرآن، وبأسماء الله تعالى. ولا يجوز كتبة القرآن بالنقش النجس. ولا تجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفر؛ لما روي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. وأما إذا كتب إليهم كتاباً، وكتب فيه آيةً من القرآن يجوز؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- كتب إلى

هرقل كتاباً، وكتب فيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... الآية} [آل عمران: 64]. ويجوز تعليم الكافر القرآن إذا كان يرجو إسلامه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. وقيل: لا يجوز؛ كما لا يجوز بيع المصحف [منه]؛ بخلاف الاستماع؛ لأن المستمع لا يتلقف ما يستخف به. أما إذا رآه معانداً، لا يجوز تعليمه بحال. وحيث جوزنا لا يجوز له حمل المصحف؛ لأنه غير طاهر. فصلٌ فيما يمنع منه الجنب روي عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن". كل ما يحرم على المحدث يحرم على الجنب، وزيادة شيئين: وهما قراءة القرآن، والاعتكاف؛ فلا يجوز للجنب، ولا للحائض، ولا للنفساء أن تقرأ شيئاً من القرآن، وإن كان كلمةً. وجوز أبو حنيفة- رحمه الله- أقل من آية. وقال مالك: "يجوز للحائض قراءةُ القرآن؛ لأنه ربما يمتد زمان حيضها فتنسى القرآن".

وقيل: هذا قول الشافعي- رحمه الله - في القديم. أما إذا قال عند ابتداء أمر تبركا: "بسم الله"، أو عند الفراغ تيمناً: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 1]، أو عند المصيبة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، أو ركب دابة فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] ولا يقصد قراءة القرآن- يجوز. وكذلك لو تكلم بكلمة توافق نظم القرآن، أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة أو الإنجيل، أو ذكر الله - سبحانه- وسبح، أو صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم- فجائز. [و] قالت عائشة- رضي الله عنها-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه". ولا يجوز للجنب المكث في المسجد، ولا للحائض؛ لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل المسجد لحائضٍ، ولا جنبٍ".

أما المرور في المسجد يجوز لهما، إذا كان للمسجد بابان؛ يدخل من واحد، ويخرج من آخر، وكانت الحائض قد شدت نفسها؛ بحيث لا يتلوث من دمها المسجد، أو كان بعد انقطاع دمها قبل العسر؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: "لا يجوز المرور". وقال أحمد، والمزني: "يجوز للجنب المكث في المسجد؛ لأن المشرك لما لم يمنع من دخول المسجد، فالمسلم الجنب أولى". قلنا: المشرك إنما لا يمنع إذا لم نتحقق جنابته، فإن تحققنا، فوجهان: أحدهما: يمنع؛ كما يمنع المسلم. والثاني: لا يمنع؛ لأنه لا يعتقد تعظيم المسجد، فلا يؤاخذ بحرمته؛ بخلاف المسلم؛ كما أن المسلم يحد بشرب الخمر؛ لأنه يعتقد تحريمها، والكافر لا يحد. ولو أجنب رجل والماء في المسجد- ليس له أن يدخل المسجد؛ فيغتسل فيه، بل إن كان معه إناء يتيمم، ويدخل المسجد؛ فيخرج الماء وإن لم يكن معه إناءٌ يصلي بالتيمم، ثم يعيد. ولو احتلم في المسجد، خرج. فإن خاف على نفسه، أو على ماله، أقام فيه؛ للضرورة. فإن وجد تراباً غير تراب المسجد، تيمم للإقامة. والله أعلم.

باب الاستطابة روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لغائط، ولا بولٍ، وليستنتج بثلاثة أحجار. ونهى عن الروث والرمة، وأن يستنجي الرجل بيمينه. وإذا أراد قضاء الحاجة، يضع ما كان معه من شيءٍ عليه اسم الله - عز وجل-. وإن كان في صحراء، يذهب حتى لا يراه أحد؛ لما روي عن جابر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد البراز، انطلق حتى لا يراه أحدٌ. ويستتر بشيء من شجر، أو حائط؛ لما روي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثباً من رملٍ فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم".

ولا يرفع ذيله؛ حتى يدنو من الأرض؛ لما روي عن أنس قال: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض". ويطلب لبوله مكاناً ليناً، فإن كان صلباً، لينه بشجر أو غيره؛ حتى لا يرتد إليه البول؛ لما روي عن أبي موسى الأشعري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" يعني: ليطلب لبوله مكاناً. ولا يبول في مهاب الرياح ويبول قاعداً؛ لما روي [عن] عمر [بن الخطاب رضي الله عنه] أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال له: "لا تبل قائماً". وهذا نهي تأديب، فإن كان به عذرٌ، أو كان المكان ضيقاً، فلا بأس به؛ لما روي

عن حذيفة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أتى سباطة قومٍ، فبال قائماً".

ويحترز عن قضاء الحاجة في الطريق، وتحت الأشجار المثمرة، وحيث يستظل الناس؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا اللاعنين. قالوا: وما اللاعنان، يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم". ولا يبول في المستحم؛ وهو موضع الوضوء والغسل؛ لما روي عن عبد الله بن

مغفلٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبول الرجل في مستحمه. وقال: "إن عامة الوسواس منه". ولا يبول في جحرٍ؛ لما روي عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبال في الجحر. قيل لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: يقال:

إنها مساكن الجن. وإن أراد دخول الخلاء قدم رجله اليسرى، وإذا خرج قدم اليمنى، وعند الدخول يقول ما روي عن أنس [قال]: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". وروي عن علي؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء- أن يقول: بسم الله".

وإذا خرج يقول ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" يعني: أسألك غفرانك. وإذا قعد لقضاء الحاجة، يعتمد على رجله اليسرى؛ لأنه أيسر لقضاء الحاجة، ويستر رأسه، ولا يذكر الله بلسانه، ولا يكلم أحداً، وإذا سلم عليه أحدٌ لا يرد [عليه] السلام، وإذا عطس لا يحمد؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخرج الرجلان يرضبان الغائط كاشفين [عن] عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك". وروي عن ابن عمر قال: "مر رجلٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبول، فسلم عليه؛ فلم يرد عليه".

ولا يجوز استقبال القبلة، ولا استدبارها على قضاء الحاجة في الصحراء؛ لحديث أبي

هريرة. ويجوز في البنيان؛ لما روي عن ابن عمر قال: "ارتقيت فوق بيت حفصة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستدبر القبلة، مستقبل الشام". وقال الثوري، وأبو حنيفة: "لا يجوز الاستقبال، ولا الاستدبار؛ لا في الصحراء، ولا في البنيان". والفرق بين الصحراء والبنيان [يعد الجيران] الصحراء، ولا تخلو عن مُصَلٍّ جني، أو إنسي، أو ملكٍ، فربما يقع بصر مثل على عورته، وأما الخشوش في الأبنية إنما تحضرها الشياطين، ولأن الأماكن تضيق في البنيان؛ فربما لا يمكنه تحريف كنيفه. ونعني بالبنيان: ما يكون مسقفاً، أو محوطاً يمكن تسقيفه.

وإن كان في بستانٍ، فقعد بقرب الجدار، جاز الاستقبال والاستدبار. وإن قعد بعيداً لم يجز. ولو جعل في الصحراء بين يديه سترةً، وجلس قريباً منها مستقبل القبلة- جاز. وينبغي أن تكون تلك السترة فوق سترة المصلي؛ بحيث تستر أسافل بدنه. روي عن ابن عمر؛ أنه أناخ راحلته مستقبلاً القبلة، ثم جلس يبول إليها. فقيل له: أليس قد نهي عن هذا؟ قال: إنما نهي عن ذلك في الفضاء؛ فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس. ولا يستقبل بفرجه الشمس والقمر. وإذا أحدث الرجل؛ نظر: إن كان حدثه نوماً، أو لمس امرأة، أو مس ذكراً، أو خرجت منه ريح- فلا استنجاء عليه. وإن خرجت من أحد سبيليه عينٌ؛ نظر: إن كان ما يوجب الطهارة الكبرى؛ كالمني، أو [دم] الحيض، أو النفاس- فيجب به الغسل، ولا يغنيه الاستنجاء. وإن كان مما يوجب الطهارة الصغرى؛ نظر: إن كان معتاداً؛ مثل: الغائط والبول- يجب عليه الاستنجاء؛ قلت النجاسة، أو كثرت؛ إما بالماء، [أو بالحجر]. ويجوز الاقتصار على أحدهما، والماء أولى؛ لأنه يزيل العين والأثر جميعاً، والحجر لا يزيل الأثر. ولو جمع بينهما؛ فاستعمل الحجر أولاً، ثم غسل بالماء- كان أفضل؛ لقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]. نزل في شأن أهل "قباء"؛ كانوا يتبعون الماء الحجر. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "لا معنى للاستنجاء بالحجر وجوباً، بل إن كانت النجاسة

قدر درهم بغلي وأقل- كان عفواً، ولا استنجاء عليه، وإن كانت أكثر؛ فيجب الغسل بالماء. وإذا استنجى بالماء؛ يصب الماء بيمينه، ويدلك المحل بشماله، فإذا فرغ يستحب أن يمسح بشماله الأرض، ثم يغسلها؛ لما روي عن أبي هريرة قال: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الخلاء أتيته بماءٍ في [تورٍ أو ركوةٍ]؛ فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر؛ فتوضأ. وفي الاستنجاء يبدأ بغسل قبله؛ كما في مسح الرأس؛ يبدأ بمقدم رأسه. وإن خرج من أحد فرجيه غير المعتاد من دمٍ، أو قيحٍ، أو مذي- يجب عليه الاستنجاء. وهل يجوز أن يقتصر على الحجر، أم لا؟ فيه قولان [ظاهران]: أصحهما: يجوز؛ كما لو خرج المعتاد.

والثاني: لا يجوز ما لم يغسله بالماء؛ لأنه الأصل وجوب غسل النجاسات؛ غير أنه جوز الاقتصار على الحجر في المعتاد؛ لأنه يكثر ويتكرر، وخروج غير المعتاد يقع نادراً. ولو خرج منه حصاةٌ، أو نواةٌ، أو خرج المعتاد يابساً، ولم يتلوث المحل؛ هل يجب الاستنجاء؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجب؛ كما لو خرجت منه ريحٌ. والثاني: يجب تعبداً؛ كما لو حصل النقاء بحجرٍ واحد، يجب استعمال حجرين آخرين؛ تعبداً. [قال القفال إذا استعمل الثالث وزالت النجاسة بالحجر، لا يجوز؛ لأنه أدى به للفرض]؛ فعلى هذا هل يجوز أن يقتصر على الحجر في خروج الحصاة والنواة؟ فيه قولان؛ لأنه غير معتادٍ. ولو انسد المخرج المعتاد، وانفتح على بطنه مخرجٌ؛ يخرج منه الغائط والبول- نظر: إن انفتح دون المعدة، ينتقض الوضوء بخروج المعتاد منه؛ لأن الإنسان لابد له من مخرج حدثٍ. وهل يجوز الاقتصار على الحجر؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ لأن الخارج معتادٌ. والثاني: لا يجوز، بل يجب الغسل بالماء؛ وهو الأصح؛ لأن الخرج غير معتادٍ. وإن انفتح فوق المعدة؛ هل ينتقض الوضوء بخروج المعتاد منه، [أو تقيأ خلاله]؟ فيه قولان: أحدهما: بلى. كما لو كان دون المعدة. والثاني: لا ينتقض؛ لأن الوضوء إنما ينتقض بما أحالته المعدة، ثم انحط منها إلى المخرج. وإن لم ينسد [المخرج] المعتاد، وانفتحت على بطنه ثقبةٌ يخرج منها المعتاد؛ فإن كانت فوق المعدة لا ينتقض الوضوء منه، وإن كانت دون المعدة فقولان: فحيث قلنا: ينتقض الوضوء بخروج المعتاد منه، هل ينتقض بخروج غير المعتاد منه، وبخروج الريح، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما ينتقض؛ لأن كل مخرجٍ ينتقض الوضوء بخروج المعتاد منه- ينتقض

بخروج غير المعتاد منه؛ قياساً على المخرج المعتاد. والثاني- وهو الأصح-: لا ينتقض؛ لأنا نجعله كمحل الحدث في المعتاد خاصة، لضرورة أن الحيوان لا بد له من محلٌ حدثٍ، ولا ضرورة في غير المعتاد. وكذلك هل يجب الوضوء بمس تلك الثقبة؟ وهل يجب الغسل بالإيلاج فيها؟ فعلى وجهين: الأصح: لا يجب؛ كما لا يجب الحد بالإيلاج فيها، ولا يجب سترها عن الأبصار؛ فحيث قلنا: لا ينتقض الوضوء؛ فيجب غسل ذلك المحل بالماء. وإن قلنا: ينتقض الوضوء؛ فهل يجوز أن يقتصر على الحجر؟ نظر: إن كان الخارج غير معتاد لا يجوز؛ لأن الخارج والمخرج جميعاً غير معتادٍ. وإن كان الخارج معتاداً، فقولان: إن اعتبرنا الخارج يجوز، وإن اعتبرنا المخرج لا يجوز، بل يجب الغسل بالماء. وإذا بال أو تغوط، يجوز له الاقتصار على الحجر، وإن عدا المخرج، إذا لم يتفاحش، فإن تفاحش لا يجوز. هذا هو المذهب. وفيه قولٌ آخر: إذا عدا المخرج لا يجوز. وفيه قول ثالث: يجوز ما لم يخرج إلى ظاهر الأليتين. وعلى هذا القول يجوز في البول ما لم يجاوز الحشفة. والأول أصح. والمرأة في الاستنجاء من الخلاء كالرجل في البول، يجوز لها الاقتصار على الحجر، إن كانت بكراً. وإن كانت ثيباً، فالغالب أنها إذا بالت تعدى البول إلى أسفل فرجها، فإن تحقق ذلك وجب الغسل بالماء، وإلا فيجوز الاقتصار على الحجر [والخنثى المشكل إذا خرج البول من أحد عضويه، فيجب عليه الغسل بالماء، ولا يجوز الاقتصار بالحجر] لاحتمال أن العضو الذي يمسحه بالحجر عضوٌ زائد. وإذا خرجت النجاسة من غير الفرج يجب الغسل بالماء، فلو تغوط فقبل أن يستنجي بالماء قام حتى انضمت أليتاه- وجب الغسل بالماء؛ لتحول النجاسة عن المكان الذي لاقته عند الخروج، وكذلك لو لم يستنج حتى جف المحل وجب الغسل؛ لأن الحجر لا يقلع النجاسة بعد الجفاف.

ويجب في الاستنجاء استعمال الحجر؛ حتى يحصل النقاء؛ وهو ألا يبقى إلا أثر لاصق، لا يزيله إلا الماء. ثم إن حصل ذلك بحجر، أو بحجرين- يجب إكمال الثالث؛ لقوله عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجار". وإن لم يحصل النقاء بثلاثة أحجارٍ، يجب أن يزيد، ثم إذا حصل النقاء بعد الثالث بشفع، يستحب أن يزيد واحداً؛ حتى يختم بالوتر، وإن لم يزد جاز؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من استجمر فليوتر، ومن لا فلا حرج". وقال مالك: "إذا حصل النقاء بأقل من ثلاثة أحجار- لا يجب إكمال الثالث؛ لهذا الحديث" [وعندنا هذا] فيما بعد الثالث؛ بدليل قوله عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجار". ولو استنجى بحجرٍ كبير في ثلاثة مواضع- كان كثلاثة أحجار. واختلفوا في كيفية الاستنجاء بالحجر: فقال أبو إسحاق: "يأخذ حجراً؛ فيضعه على مقدم صفحته اليمنى، ويديره إلى مؤخرها، ثم يأخذ الثاني؛ فيضعه على مقدم صفحته اليسرى، ويديره إلى مؤخرها، ثم يأخذ الثالث؛ فيمسح به المسربة". وقال ابن أبي هريرة: "إذا فعل هكذا لا يكون ماسحاً جميع المحل بثلاثة أحجار، بل يأخذ حجراً؛ فيضعه على مقدم صفحته اليمنى على مكان طاهر، ويديره إلى مؤخر تلك الصفحة، ومن مؤخر صفحته اليسرى إلى مقدمها، ثم يأخذ الثاني؛ فيضعه على مقدم صفحته اليسرى، ويديره إلى مؤخرها؛ ومن مؤخر اليمنى إلى مقدمها، ويمر بالثالث على الصفحتين والمسربة". وقيل: "يأخذ حجراً؛ فيضعه على مقدم المسربة، ويديره إلى مؤخرها، ويضع الثاني على مؤخرها، ويديره إلى مقدمها، ويحلق بالثالث". [ولم ينقل العراقيون إلا الوجهين الأولين] وهذا كله بيان السنة. فلو استنجى بثلاثة أحجارٍ كيف شاء؛ بحيث لا تنتشر، وحصل النقاء- جاز.

وإنما قلنا: "يضع الحجر على مكانٍ طاهر"؛ لأنه إذا وضعه على محل النجاسة نشرها، ولم يجز بعده إلا الغسل بالماء". وإنما قلنا: "يدير الحجر"؛ حتى يرفع كل جزء طاهر من الحجر جزءاً من النجاسة فلو جرفه انتقلت النجاسة من محل إلى محل؛ فيجب بعده الغسل بالماء. ويستنجي بشماله؛ لما روي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى". فلو استنجى بيمينه، كان مكروهاً، وسقط الفرض عنه؛ لأن الاستنجاء يحصل بالحجر؛ وهو صالحٌ للاستنجاء به. وإذا بال، يجب أن يستبرئ بعده؛ وهو أن يمكث بعد البول ساعة، ويمشي خطوات، ويتنحنح، ويمر أصبعه على العرق الذي تحت أنثييه، ويجر ذكره بشماله؛ حتى يخرج ما فيه من بقية البول، ثم يمر ذكره على حجرٍ، أو ارض، أو جدارٍ في ثلاثة مواضع بشماله، فإن لم يجد إلا حجراً صغيراً أخذه بين عقبيه، فإن لم يمكنه أخذه بيمينه ويمر عليه قضيبه بشماله؛ بحيث لا يحرك يمينه؛ حتى لا يكون مستنجياً بيمينه فلو أمر القضيب على مكانٍ واحد مرتين يجب الغسل بالماء؛ لأن بعض ما زايله من النجاسة في المسحة الأولى يعود إليه في الثانية. فصلٌ فيما يجوز به الاستنجاء قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وليستنج بثلاثة أحجار" ونهى عن الروث والرمة. والاستنجاء لا يختص بالحجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن الروث والرمة دل ذلك على أن الحكم غير مقصورٍ على الحجر، بل يجوز بكل جامدٍ طاهرٍ قالعٍ غير محترم؛ كالمدر والخرف والخشب وغيرها. ولا يجوز بمائع غير الماء، ولا بشيء رطب، ولا بشيء نجس؛ كالرجيع، وعظم الميتة ونحوها. فلو استنجى بشيء منها لا يسقط الفرض عنه، ويجب الغسل بالماء؛ لأنه حدثت هناك نجاسةٌ أجنبية، ولا يجوز أن يستنجي بحجر قد استنجى به مرةً، إلا أن يغسل بالماء ويجفف.

ولو استنجى بالحجر الثاني والثالث، ولم يتعلق به شيءٌ من لوث- جاز الاستنجاء به. ولو استنجى بشيء أملس من زجاجٍ، أو قصبٍ، أو حديدٍ أملس- لا يسقط الفرض عنه؛ لأنه لا يقلع النجاسة، ويجب الغسل بالماء؛ لأنه ينشر النجاسة. ولو استنجى بمحترمٍ من مطعومٍ، أو ورق مصحفٍ، أو عضوٍ من أعضاء حيوانٍ يعصي الله تعالى، وهل يسقط الفرض عنه؟ إذا كان قالعاً فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه معصيةٌ. والثاني: يسقط؛ لأنه قلع النجاسة. فإن قلنا: لا يسقط، فلو استنجى بعده بالحجر يجوز؛ لأنه لم ينشر النجاسة ولم يزدها. ولو استنجى بشيء مأكول ما في جوفه؛ كالجوز واللوز ونحوه- يكره، ويسقط الفرض عنه. فإن زايله القشر؛ فاستنجى بقشره- لم يكره. ولو استنجى بعظمٍ ذكي طاهرٍ، يعصي الله تعالى؛ لأنه مطعومٌ؛ روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن". ثم إن كان العظم عليه زهومةٌ لا يسقط الفرض عنه، ويجب الغسل بالماء لأنه لا يقلع النجاسة، بل ينشرها. وإن كان قالعاً، فوجهان. ولو استنجى بجلد طاهرٍ، فيه ثلاثة أقوال: قال في رواية عن حرملة: "لا يجوز؛ لأنه في معنى الرمة". وقال في رواية البويطي: "يجوز؛ لأنه طاهرٌ قالعٌ؛ كالحجر". وقال في "الأم"- وهو الأصح-: "إن كان مدبوغاً يجوز؛ سواء كان جلد ذكي، أو جلد ميتةٍ؛ لأنه تحول بالدباغ عن طبع اللحم إلى طبع الثياب. وإن كان جلد ذكي لم

يدبغ- لا يجوز؛ لأنه طعام؛ فإن الشاة قد تسمط؛ فيؤكل جلدها، فإن كان عليه شعرٌ يحول بين النجاسة والجلد، فاستنجى بالوجه الذي عليه الشعر- يجوز مع الكراهية". ويجوز الاستنجاء بالقابس والفحم الصلب. وقال في رواية البويطي: "ولا يستنجى بعظمٍ ولا حممةٍ، وقد جاء ذلك في الحديث". قيل: أراد بالحمم': العظم المحترق. وقيل: أراد بها: الفحم الرخو الذي يتناثر إذا أصابه غمزٌ فلا يقلع النجاسة، وأما التراب: فقد نص على أن الاستنجاء به؛ لأنه يلتصق بالمحل؛ فلا يقلع النجاسة. وقيل: يجوز؛ لأن ما يلتصق بالمحل في المرة الأولى يتناثر في الثانية. ولو بال أو تغوط ثم توضأ قبل الاستنجاء- يصح وضوؤه. ولو تيمم قبل الاستنجاء، ففيه قولان: أحدهما: [يصح] تيممه؛ كالوضوء. والثاني- وهو الأصح-: لا يصح تيممه، بخلاف الوضوء؛ لأن الوضوء يراد لرفع الحدث؛ فجاز أن يرفع الحدث، وثم مانعٌ عن الصلاة؛ ولذلك جاز لصلاة الوقت قبل دخول الوقت. والتيمم يراد للصلاة؛ ولذلك جاز لصلاة الوقت قبل دخول الوقت. والتيمم يراد للصلاة؛ ولذلك لا يجوز لصلاة الوقت قبل دخول الوقت. وإذا تيمم قبل الاستنجاء، لا يعقبه استباحة فلم يجز. ولو تيمم وعلى بدنه نجاسةٌ في غير محل الاستنجاء- هل يصح تيممه؟

فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ كما لو كان على محل الاستنجاء. والثاني: يصح- وهو الأصح-؛ لأن النجاسة على البدن لا تزال إلا بالماء؛ وهو عادمٌ للماء، فلو لم يصح تيممه امتنع عليه أداء الصلاة، وفي محل الاستنجاء يمكنه أن يستنجي بالحجر، ثم يتيمم؛ حتى لو كان معه ما يكفي لإزالة النجاسة؛ فتيمم قبل غسلها- لم يصح تيممه؛ لإمكان إزالتها قبل التيمم. وقال الشيخ أبو زيد: "التيمم قبل الاستنجاء صحيحٌ، ثم إن طلب الماء للاستنجاء، بطل تيممه، وغن استنجى بحجرٍ، ولم يطلب الماء لا يبطل تيممه. باب الحدث قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ [أو] أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ... الآية} [النساء: 43]. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة من أحدث؛ حتى يتوضأ".

نواقض الوضوء أربعةٌ: - خروج الخارج من أحد السبيلين. - والغلبة على العقل. - ولمس الرجل المرأة. - ومس الفرج ببطن الكف. فإن خرج من أحد فرجيه شيء؛ معتاداً كان أو غير معتادٍ؛ عيناً أو ريحاً؛ خرجت من الدبر أو من القبل- ينتقض وضوؤه؛ حتى لو أدخل في [إحليله] قطنةً؛ فخرج قليل منها- أينتقض وضوؤه؟ وبالإدخال لا يبطل. وقال ربيعة: "خروج غير المعتاد لا ينقض الوضوء"؛ وبه قال مالك، إلا في دم الاستحاضة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "خروج الريح من القُبل لا ينقض الوضوء، وإذا زال عقله بجنونٍ، أو إغماءٍ، أو مرضٍ، أو سكرٍ- ينتقض وضوؤه، قل ذلك أو كثر؛ على أي حالٍ كان". وقيل: "قل من يغمى عليه إلا وينزل، فإن تيقن الإنزال وجب الغسل، وإن لم يتيقن يستحب أن يغتسل، ولا يجب". وأما النوم: فأوائله؛ وهو النعاس لا توجب الوضوء، فإن تمكن من النوم ينتقض وضوؤه، قل ذلك أم كثر؛ سواء كان في الصلاة، أو خارج الصلاة؛ على أي حال كان؛ قائماً أو ساجداً، إلا أن ينام قاعداً متمكناً بمقعدته من الأرض، فلا ينتقض وضوؤه؛ على ظاهر المذهب؛ سواء كان مستنداً، أو لم يكن؛ لأن النوم لا ينقض الوضوء بعينه، ولكن تسترخي به المفاصل، فيتيسر خروج الخارج منه، وهو لا يشعر، فنومه على هذه الصفة كان حدثاً، وإذا نام قاعداً، فلا يخرج منه شيء إلا هو يشعر به؛ فلم ينتقض الوضوء. وقال في رواية البويطي؛ وهو اختيار المزي: "إنه ينتقض وضوؤه" وجعل النوم حدثاً

على أي حال كان؛ لما روي عن علي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "وكاء السه العينان؛ فمن نام فليتوضأ". وهذا على ظاهر المذهب محمولٌ على غ ير حال القعود؛ لما روي عن أنسٍ قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ينتظرون العشاء؛ فينامون قعوداً؛ حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضوؤن. فلو نام قاعداً فسقط؛ نظر: إن انتبه قبل أن زالت مقعدته- لم ينتقض وضوؤه وغن لم ينتبه حتى زالت مقعدته- ينتقض وضوؤه". وقال مالك: "قليل النوم لا ينقض الوضوء".

وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن المبارك: "إذا نام على هيئةٍ من هيئات الصلاة- لا ينتقض وضوؤه، وإن لم يكن في الصلاة؛ حتى يستلقي أو يضطجع". وللشافعي- رحمه الله- قول في القديم: "أن من نام في الصلاة، لا ينتقض وضوؤه". فصلٌ في الملامسة قال الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. قال عبد الله بن عمر: "قبلة الرجل امرأته، وجسها بيديه من الملامسة" فمن قبل امرأته، أو جسها بيديه؛ فعليه الوضوء. وإذا لمس الرجل امرأته، أو أمته، أو أجنبية؛ وهو أن تصيب بشرته بشرتها، ولا حائل بينهما- ينتقض وضوؤه بأي عضوٍ؛ لمس بشهوة أو غير شهوةٍ؛ عمداً أو سهواً؛ وهو قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود. وكذلك إذا لمسته المرأة، ينتقض وضوؤها؛ وهو قول الزهري، والأوزاعي، ومالك. وفي الملموس قولان: أصحهما: ينتقض وضوؤه؛ لأنهما يشتركان في ابتغاء اللذة؛ كما أنهما يستويان في وجوب الغسل عليهما بالجماع". وقال في رواية حرملة: "لا ينتقض وضوء الملموس؛ لأن الفعل من اللامس دونه". وقال الحسن: "لا ينتقض وضوؤه باللمس"؛ وهو قول ابن عباس. وقال أبو حنيفة: "لا ينتقض إلا أن يتجردا، ويتعانقا، وينشر لها". وقال مالك: "إن لمس بشهوة ينتقض، وإن كان وراء حائلٍ، وإن كان بغير شهوةٍ لا ينتقض". وعندنا: وراء الحائل لا ينقض الوضوء؛ سواء كان الحائل رقيقاً، أو صفيقاً. ولو لمس شعر امرأة، أو ظفرها، أو سنها- لا ينتقض الوضوء؛ لأن لا يلتذ بلمس الشعر والسن والظفر، إنما يلتذ بالنظر إليها.

ولو لمس امرأة من محارمه؛ بنسبٍ، أو رضاع، أو صهرته- فقولان: أصحهما: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن الله - تعالى- سلب الشهوة عن قلوب الرجال على محارمهم؛ فهو كما لو لمس رجل رجلاً، أو امرأةٌ امرأةً. والثاني: ينتقض؛ لظاهر القرآن. فإن قلنا: بالأول، فلا ينتقض، وإن كان شهوةٌ؛ كما لو لمس رجلٌ رجلاً بشهوة. ولو لمس صغيرةً أجنبية لا تشتهى، فعلى هذين القولين. ولو لمس صغيرةً من محارمه، ترتب على الكبيرة: إن قلنا ثم: لا ينتقض وضوؤه، فها هنا أولى وإلا فوجهان. والمذهب أنه لا ينتقض؛ لأنه اجتمع فيها سببان لسلب الشهوة: الصغر، والمحرمية. ولو لمس عجوزةً لا تشتهى، أو امرأة ميتةً: قيل: فيه وجهان [وهو طريقة العراقيين] كالصغيرة. وقيل- وهو الأصح-: ينتقض وضوؤه؛ كما لو لمس يداً شلاء من امرأة حيةٍ. ولو لمس يداً، أو عضواً قطعت من امرأة- لا ينتقض وضوؤه؛ لأن الحكم معلقٌ بلمس المرأة؛ وذلك العضو لا يسمى امرأةً. فصلٌ في مس الفرج روي عن بسرة بنت صفوان؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ".

وقالت عائشة- رضي الله عنها-: "إذا مست المرأة فرجها توضأت". إذا مس رجل ذكر نفسه، أو ذكر غيره؛ من صغير أو كبير؛ حي أو ميت؛ قريب أو أجنبي، أو ذكراً سُل من حي؛ ببطن الكف، أو بطن الأصابع- ينتقض وضوؤه، ولا ينتقض وضوء الملموس؛ لأن الحكم علق باللمس، ولم يوجد ذلك من الملموس وكذلك المرأة إذا مست فرجها، أو فرج غيرها- ينتقض وضوؤها؛ وهو قول عمر، وابن عمر، وابن عباسٍ، وسعد بن أبي وقاصٍ، وجماعةٍ من التابعين. وقال الثوري، وأبو حنيفة وابن المبارك: "لا ينتقض الوضوء بمس الفرج"؛ وهو قول علي، وابن مسعود. وقال مالك: "إن مس قصداً، ينتقض [الوضوء] ". ولو مس بظهر الكف أو بالساعد- لا ينتقض ولو مس برؤوس الأصابع، أو بما بين

الأصابع- نظر: إن كان مما يلي بطن الكف ينتقض وإن مس بموضع الاستواء، فوجهان: أصحهما: لا ينتقض. ولو مس ببطن أصبعٍ زائدةٍ، فإن كانت على سنن الأصابع الأصلية ينتقض وضوؤه، وإلا فلا. ولو مس بيده الشلاء، ينتقض [وضوؤه]. ولو كانت له كفان، فإن كانتا عاملتين؛ فبأيهما مس ينتقض وضوؤه. فإن كانت إحداهما عاملةً، فإن مس ببطن العاملة ينتقض وإن مس ببطن الأخرى، لا ينتقض. ولو مس أنثييه، أو أليتيه، أو أعجازه، أو عانته- لا ينتقض وضوؤه وكذلك لو مست المرأة ركبها: وهو ما ظهر من الفرج- لا ينتقض حتى تمس أحد طرفي فرجها. ولو مس ذكراً مقطوعاً، أو قطع جزءاً منه؛ فمسه- فوجهان: أصحهما: ينتقض وضوؤه؛ بخلاف ما لو مس يداً مقطوعة من امرأة؛ لأن لمس المرأة غير موجود هناك، وهاهنا مس الذكر موجود. وكذلك لو مس البقية الباقية من مجبوبٍ، ينتقض. ولو مس حلقة الدبر، ينتقض وضوؤه؛ على القول الجديد؛ وهو المذهب؛ لأنه أحد الفرجين؛ كالذكر. وقال في القديم، وبه قال مالكٌ: "لا ينتقض". ولو خلق لرجل ذكران، فإن كانا عاملين؛ فأيهما مس ينتقض وضوؤه. وإن كان أحدهما عاملاً، فإن مس العامل ينتقض وضوؤه، وغن مس غير العامل لا ينتقض. ولو مس فرج بهيمةٍ، لا ينتقض وضوؤه؛ لأنه لا حرمة لها؛ بدليل أنه لا يحرم النظر إليها، ولا يعتد عليها بوجوب التستر. أما الخنثى المشكل: ففي مس الدبر كالواضح، أما في مس القبل، فيؤخذ في أمره باليقين، ويطرح الشك؛ فكل موضع يحتمل بقاء طهره، ويحتمل انتفاضه- لا يحكم بانتقاضه؛ حتى يتحقق قطعاً. فإذا مس الخنثى ذكر نفسه، لا ينتقض وضوؤه؛ لاحتمال أنه

أنثى، وهذا عضوٌ زائد. ولو مس فرجه، لا ينتقض؛ لاحتمال أنه ذكرٌ، وهو شقٌ زائدٌ. ولو مسهما جميعاً، ينتقض وضوؤه، وكذلك لو خرج من أحد فرجيه شيءٌ، لا ينتقض وضوؤه؛ حتى يخرج منهما. فإن خرج من أ؛ د فرجيه منيٌّ يجب الغسل؛ لأن خروجه من ثقبه غير الفرج يوجبه. فلو مس الخنثى ذكره، وصلى الظهر، ثم مس فرجه وصلى العصر- يجب عليه إعادة صلاة العصر؛ لأن الحدث فيها يقينٌ، ولا يجب إعادة صلاة الظهر. ولو مس ذكره، وصلى الظهر، ثم أحدث؛ فتوضأ ومس الفرج، وصلى العصر- لا يجب إعادة واحدة منهما. وإن كان الحدث يقيناً في إحداهما لا بعينها، لأنهما حدثان أمضت كل واحدة منهما باجتهاد صحيح، فيقين الخطأ في إحداهما [لا بعينها] لا يوجب الإعادة؛ كما لو صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين، لا يجب إعادة واحدة منهما. فإن صلى صلوات بعد مس الذكر، ثم زال الإشكال، وبان أنه رجلٌ- يجب عليه إعادةُ تلك الصلوات؛ كما لو حكم بالاجتهاد، ثم بان النص بخلافه - يرد الحكم. ولو مس رجلٌ ذكر الخنثى المشكل- ينتقض وضوء الماس؛ لأن الخنثى إن كان ذكراً، فقد مس ذكره، وإن كان أنثى فقد لمسها. ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لاحتمال أنه رجل. وإن مس رجلٌ فرج الخنثى، لا ينتقض وضوؤه، لاحتمال أن الخنثى رجل. ولو مست امرأة فرج الخنثى ينتقض وضوؤها؛ لأن الخنثى إن كانت امرأةً، فقد مست فرجها، وإن كان رجلاً، فقد لمسته، ولا ينتقض وضوء الخنثى. ولو مست المرأة ذكر الخنثى، لا ينتقض وضوؤها؛ لاحتمال [أنه أنثى. ولو أن خنثيين؛ مس كل واحد ذكر صاحبه- لا ينتقض وضوؤهما؛ لاحتمال] أنهما امرأتان، وكذلك لو مس كل واحدٍ فرج الآخر؛ لاحتمال أنهما رجلان. ولو مس أحدهما ذكر الآخر، ومس الآخر فرجه- ينتقض وضوء واحد منهما لا بعينه، وكل واحد يبني على يقين نفسه، ويصلي. ولو مس خنثى ذكر خنثى، وفرج خنثى آخر- ينتقض وضوء الماس؛ كما إذا كان الممسوس واحداً. ولو أولج خنثى ذكره في فرج- امرأة، أو دبرها- ينتقض وضوء المولج فيها

بالإخراج، ولا غسل عليها، ولا وضوء على الخنثى؛ لاحتمال أنه أنثى. ولو أولج رجلٌ ذكره في فرج الخنثى، لا ينتقض وضوؤهما؛ لاحتمال أن الخنثى رجلٌ. ولو أن خنثيين أولج كل واحد ذكره في فرج الخنثى، لا ينتقض وضوؤهما؛ لاحتمال أن الخنثى رجلٌ. ولو أن خنثيين أولج كل واحد ذكره في فرج الآخر- لا ينتقض وضوؤهما؛ لاحتمال أن الخنثيين رجلان. ولو أولج كل واحدٍ ذكره في دبر الآخر- ينتقض وضوؤهما بالإخراج، ولا غسل على واحدٍ منهما؛ لاحتمال أنهما امرأتان. ولو أولج هذا ذكره في دبر ذاك، وذاك في فرج هذا - ينتقض وضوؤهما؛ لأن أخس أحوالهما أن نجعلهما امرأتين؛ إذ لو قدرناهما رجلين، أو رجلاً وامرأة وجب الغسل عليهما؛ فكل موضعٍ لا يوجب الغسل عليه، لا يحكم ببطلان صومه وحجه، ولا يوجب على المرأة المولج فيها عدة، ولا يوجب لها مهراً. قال الإمام إمام الأئمة: "والخنثى الذي حكمنا بزوال الإشكال في حقه؛ فإذا خرج من العضو الآخر له بولٌ، فهو كما لو خرج من ثقبةٍ على بطنه. وإن كان مشكلاً فخرج من الفرجين شيء- ينتقض وضوؤه، وإن خرج من أحدهما، فكالخروج من الثقبة". ولو أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو دبرها، وأولج رجل في فرجه- وجب الغسل على الخنثى، وبطل صومه وحجه، ولا كفارة عليه في الصوم، إن لم يوجب على المرأة [إلا احتياطاً]. فصلٌ خروج النجاسة من غير السبيلين- لا يوجب الوضوء؛ وهو قول أكثر الصحابة والتابعين. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن المبارك: "إذا افتصد، أو احتجم، أو خرج دمٌ من موضع آخر؛ فسال، أو قاء ملء الفم- ينتقض وضوؤه. والقهقهة لا تبطل الطهارة؛ وهو قول عامة أهل العلم. وقال أبو حنيفة: "القهقهة في الصلاة تبطل الطهارة، إلا في صلاة الجنازة".

وأكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أكل كتف شاةٍ، ثم صلى ولم يتوضأ. وما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "توضؤوا مما مست النار"- منسوخ.

قال جابرٌ: "كان آخر الأمرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما غيرت النار". وقال أحمد: "أكل لحم الجزور يوجب الوضوء"؛ وهو قول الشافعي في القديم؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". [وهذا عند الأكثرين

منسوخٌ، أو محمول على غسل اليد والفم. خص به لحم الجزور؛ لأن له زهومةً ليست لغيره من اللحوم]. وحكى القاضي قولاً: أن أكل لحم الجزور يوجب الوضوء؛ وليس بمشهور. والمستحب أن يتوضأ من الضحك في الصلاة، ومن الكلام القبيح؛ لما روي عن ابن مسعودٍ: "لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة- أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب". وقالت عائشة: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء". قال ابن عباس: "الحدث حدثان: حدث اللسان، وحدث الفرج، وأشدهما حدث اللسان". فصلٌ في الشك في الطهارة روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً؛ فأشكل عليه؛ أخرج منه شيءٌ، أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد؛ حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً".

إذا تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فله أن يصلي؛ لأن الأصل بقاء الطهارة. وإن وقع هذا الشك في الصلاة مضى في صلاته [ولا يجوز أن يخرج، ويبطل العبادة. وقال مالك: عن وقع هذا الشك في الصلاة، مضى في صلاته]. وإن كان خارج [عن] الصلاة، فلا يصلي حتى يتوضأ. والحديث حجةٌ عليه؛ لأنه لم يفصل بين الحالين، فلو شك في الحدث، وتوضأ على الشك، ثم بان أنه كان محدثاً- لم يصح وضوؤه؛ لأن وضوؤه لم يستند إلى أصل حدثٍ. ولو تيقن الحدث وشك في الطهارة لا يجوز [له] أن يصلي حتى يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء الحدث. فلو توضأ، ونوى أنه كان محدثاً- فهو فرض طهارته، وغلا فهو تجديد وضوئه على الفرض؛ حتى لو زال شكه بعد ذلك، وتيقن الحدث لا يجب [عليه] إعادة الوضوء؛ لأنه استند إلى يقين حدثٍ. ولو تيقن الطهارة، وتيقن أنه رأى رؤيا بعدها، ولا يذكر نوماً- فعليه الوضوء، ولا يحمل على النوم قاعداً؛ لأنه خلاف العادة. وإن شك أنه كان رؤيا، أو حديث نفسٍ- فلا وضوء عليه؛ لأن الأصل بقاء الطهارة. ولو تيقن الطهارة والحدث، ولم يدر أيهما كان أسبق- فينظر إلى الحالة التي قبلها: فإن كان في تلك الحالة متطهراً، فهو الآن محدثٌ؛ لأنه تيقن حدثاً رافعاً لتلك الطهارة، وشك في طهارة رافعةٍ لهذا الحدث، والأصل بقاء الحدث. وإن كان في تلك الحالة محدثاً، فهو الآن متطهرٌ؛ لأنه تيقن طهارة رافعةً لذلك الحدث، وشك في حدثٍ رفع هذه الطهارة، والأصل بقاؤها. ولو سمع من بين رجلين صوتُ حدثٍ، وكل واحد ينفيه عن نفسه، يجوز لكل واحد منهما أن يبني على يقين نفسه؛ فيصلي. فلو اقتدى أحدهما بالآخر، فصلاة الإمام صحيحةٌ، وصلاة المأموم باطلة؛ لأنه ينفي الحدث عن نفسه، ويجعله في إمامه، ولا يصح الاقتداء بإمام هو عنده محدثٌ.

وإن كانوا جماعة؛ فسمع من بينهم صوت حدثٍ، وكل واحدٍ ينفيه عن نفسه، ثم أم كل واحد في صلاةٍ، واقتدى به الآخرون- فعلى كل واحد منهم إعادة آخر صلاة كان فيها مأموماً؛ مثلاً: كانوا خمسة [و] أم كل واحدٍ في صلاة من الصلوات الخمس، وبدؤوا بالصبح- فعلى إمام الصبح والظهر والعصر والمغرب إعادة صلاة العشاء، وعلى إمام العشاء إعادة صلاة المغرب؛ لأن كل واحد منهم إذا اقتدى بآخرٍ، كأنه ينفي الحدث عن نفسه، وعن إمامه؛ حتى يتعين في الآخر؛ فلا يمكنه نفيه عنه". هذا قول ابن الحداد؛ وهو الأصح. وقال صاحب "التلخيص": "صلاة الأئمة صحيحة، وعلى كل واحدٍ [منهم إعادة كل صلاةٍ كان فيها مأموماً؛ لأن لكل واحدٍ أن يجتهد في حدث نفسه، وليس [له] أن يجتهد في حدث الغير؛ لأنه لا علامة يتميز بها المتطهر عن المحدث". أما إذا اجتهد خمسة نفرٍ في خمس أوانٍ؛ واحد منها نجس، واشتبه، وتوضأ كل واحد منهم بواحد، وأم كل واحد الباقين في صلاة؛ فعلى كل واحدٍ منهم إعادة آخر صلاةٍ كان فيها مأموماً بالاتفاق؛ لأن الاجتهاد في الأواني جائزٌ؛ فكأن كل واحد منهم اجتهد في إنائه وإناء إمامه؛ إلى أن تعينت النجاسة في الآخر. وقيل: مسألة الأواني كمسألة الحدث على الاختلاف، إلا أن يجتهد كل واحدٍ في إناء إمامه؛ كما اجتهد في إناء [نفسه، وأدى] اجتهاده إلى طهارته، حينئذٍ لا يجب [إلا] إعادة آخر صلاةٍ كان فيها مأموماً [بالاتفاق]. ولو امتنع الخامس من أن يؤمهم في العشاء فصلوا خلف واحد منهم [ولو اختلف واحد من الأولين فعلى الخامس إعادة المغرب] ولا إعادة على الباقين. ولو كان واحد من الأواني الخمس طاهراً، واشتبه؛ فاجتهد خمسة؛ واستعمل كل واحد منهم واحداً، ثم اقتدى بعضهم بالبعض يجب على المأمومين الإعادة بالاتفاق؛ لأن الطاهر فيها واحد، وكل واحد [منهم] يعين الطهارة فيما استعمله، فيكون اقتداؤه بمن يعتقد أنه استعمل النجس.

وإن كانوا خمسة، وسمع من بينهم صوتان- فهو كالصوت الواحد ما لم يعلم أنهما من شخصين، فإن علم أنهما من اثنين، أو كان خمس أوانٍ: اثنان نجسان؛ فاجتهد خمسةٌ، واستعمل كل واحد واحداً أو أم كل واحدٍ في صلاة، واقتدى به الآخرون- صح صلاةُ كل واحد خلف اثنين، وبطل خلف اثنين. ولو كان النجس ثلاثة، جاز صلاةُ كل واحد خلف واحد، ولا تصح خلف ثلاثٍ. باب ما يوجب الغسل قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... الآية} [المائدة: 6].

وروي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان- فقد وجب الغسل؛ وإن لم ينزل". موجبات الغسل أربعة: اثنان يختصان بالنساء؛ وهما: الحيض والنفاس. واثنان يشترك فيهما الفريقان: أحدهما: الموت. والثاني: الجنابة. وغسل الجنابة يجب بأحد أمرين: إما نزول المني، أو تغيب الحشفة في الفرج؛ وإن لم ينزل. والمني ماءٌ أبيض ثخينٌ، له رائحة كرائحة الطلع، يخرج بدفقةٍ ولذةٍ، تعقبه فترةٌ، وإذا يبس تكون رائحته كرائحة البيض وقد يرق [ويصفر] من المرض، ويحمر من كثرة الجماع. ومني المرأة أصفر رقيق، فمن أيهما خرج بشهوةٍ، أو بغير شهوة- وجب عليهما الغسل. وإذا خرج من غير الإحليل، يجب. وقال أبو حنيفة: "إذا خرج لمرض، لا يجب الغسل". وأما المذي: وهو رقيقٌ يخرج عند حركة الشهوة، والودي: ماء أبيض ثخين يخرج

بعد البول؛ فهما يوجبان الوضوء؛ كالبول. روي عن علي- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل". وإذا غيب حشفته في فرجٍ، أو دبرٍ من آدمي، أو بهيمة حي أو ميتٍ- وجب الغسل، وإن لم ينزل. وعند أبي حنيفة: لا يجب الغسل في البهيمة ما لم ينزل. وإن غيب بعض الحشفة، لا يجب. وإن كان مقطوع الحشفة؛ فغيب من الباقي بقدر الحشفة- وجب الغسل، وإن كان الباقي أقل من الحشفة، لا يجب. ولو لف على ذكره خرقةً؛ فأولج- وجب. ولو احتلم فلم ينزل، لا غُسل عليه، ولو احتلمت المرأة فأنزلت، وجب عليها؛ كالرجل؛ لما روي عن أم سلمة قالت: "جاءت أم سليمٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسلٍ إذا احتلمت؟ قالت: "نعم، إذا رأت الماء".

ولو أمنى فاغتسل [ثم خرج] منه المني- وجب عليه إعادة الغسل؛ سواء كان بعد البول، أو قبله. وقال الحسن، والأوزاعي: "إذا كان قبل البول، لا يجب إعادة الغسل؛ لأنه بقية مني، اغتسل منه مرةً". ولو استدخلت امرأة مني رجل، هل يجب عليها الغسل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجب؛ لأنه لم يوجد جماعٌ، ولا نزول مني. وقيل: يجب. فعلى هذا: لا فرق بين أن تدخله في فرجها أو دبرها؛ كتغييب الحشفة. وإذا خرج منها مني الرجل، لا غسل عليها؛ سواء حصل فيها بالاستدخال، أو بالجماع. والاحتياط أن تغتسل إذا كان من جماعٍ؛ لأنه لا يؤمن من امتزاج المنيين. ولو رأى على ثوبه أثراً لم يدر أنه منيٌّ أو مذيٌ: فإن اغتسل وصلى في ذلك الثوب- جاز؛ لاحتمال أنه منيٌّ، ولو توضأ وصلى فيه من غير أن يغسله- لم يجز؛ لأنه إن كان مذياً فهو نجس، وغن كان منياً فيجب عليه الغسل. وكذلك لو توضأ، وترك فيه الترتيب- لا يجوز، والاحتياط: أن يغتسل، ويرتب أعضاء وضوئه، ويغسل الثوب. وقال عطاء، والشعبي، والنخعي: "إذا رأى بلةً وجب الغسل، وإن لم يتيقن أنه منيٌّ". ولو رأى على ثوبه منياً، ولا يذكر إنزالاً؛ نظر: إن احتمل أنه أصابه من غيره، بأن كان يلبسه غيره- فلا غسل عليه، ويستحب أن يغتسل؛ لاحتمال أن يكون منه. وإن لم يحتمل من غيره، فعليه الغسل، وإعادة الصلوات من آخر نومةٍ نامها فيه، والاحتياط أن يعيد من أول نومةٍ نامها فيه. وإن لم يكن صلى فيه بعد النوم، اغتسل، ولا يجب قضاء الصلاة، وكذلك إن لم يكن [نام فيه، اغتسل لما يستقبل].

أما غسل الحيض والنفاس يجب بخروج الدم؛ لأن الغسل [المتعلق بالخارج يتعلق بطهوره؛ كغسل الجنابة] يجب بخروج المني. ووقت جوازه: انقطاع الدم؛ كالوضوء يجب بخروج لحدث، ووقته القيام إلى الصلاة، كالوطء يوجب العدة عند الطلاق. ولو ولدت امرأة ولم تر الدم، يجب عليها الغسل على ظاهر المذهب؛ لأن الولد من منيهما؛ وخروج المني يوجب الغسل. وقيل: لا يجب؛ لأنها لم تر الدم. وكذلك هل يفسد به الصوم؟ فعلى وجهين: ولو ألقت علقةً، هل يجب عليها الغسل؟ فوجهان: أصحهما: يجب؛ كالمضغة ولو أجنبت حائضٌ فلا فائدة لغسلها، إلا على قول من يجوز للحائض قراءة القرآن. قال الشيخ إمام الأئمة: "ويستحب أن تغتسل؛ تنظيفاً". وإذا أراد الجنب النوم، أو الأكل، أو الشرب قبل الغسل- يجوز، ويستحب أن يغسل فرجه، ويتوضأ، وكذلك إذا أراد العود؛ لما روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا كان جنباً، فأرد أن يأكل أو ينام- توضأ للصلاة". وأما الحائض: فلا يستحب لها الوضوء للأكل، والشرب، والنوم؛ لأن الوضوء لا يؤثر في حدثهان ويؤثر في حق الجنب؛ فإنه يرفع الجنابة عن أعضاء وضوئه.

فصل روي عن قيس بن عاصمٍ، أنه أسلم؛ فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يغتسل بماءٍ وسدرٍ". إذا أسلم كافر، ولم يكن وجب عليه الغسل في حال كفره- يستحب له أن يغتسل، ولا يجب؛ لأن خلقاً كثيراً أسلموا، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- أحداً منهم بالاغتسال. وقال مالك: "يجب الغسل للإسلام، ولو وجب عليه الغسل، واغتسل في حال كفره- يجب عليه إعادة الغسل بعد الإسلام؛ لأن الغسل قربةٌ لا تصح من الكافر؛ كالوضوء. وقال أبو بكر الفارسي: "لا يجب إعادة الغسل [بعد الإسلام]؛ لأن غسل الكافر

صحيح؛ بدليل أن الذمية إذا طهرت من الحيض تحت مسلم؛ واغتسلت- جاز للزوج غشيانها". والأول [أصح و] هو المذهب، وليس إذا صح غسلها لحق الزوج ما يدل على أنه يجوز أن تصلي به؛ كالمجنونة إذا طهرت من الحيض، وغسلها زوجها- جاز له غشيانها، وإذا أفاقت يجب عليها إعادة الغسل. ولو توضأ كافر أو تيمم، ثم أسلم- لا يجوز أن يصلي [به] حتى لو أن ذميةً طهرت من الحيض؛ فتيممت عند عدم الماء لغشيان الزوج، ثم أسلمت قبل أن يصيبها الزوج- لا يجوز أن تصلي به. ولو اغتسل مسلمٌ أو توضأ، ثم ارتد، ثم أسلم- لا يجب عليه إعادة الغسل والوضوء. وقال أبو بكر الفارسي: "يجب إعادة الوضوء، ولا يجب إعادة الغسل". ولو تيمم، ثم ارتد، ثم أسلم؛ هل يجب إعادة التيمم؟ وجهان: أحدهما: لا يجب؛ كالوضوء. والأصح: أنه يجب؛ لأنه أضعف، ومن شرطه أن تعقبه العبادة. ولو اغتسل أو توضأ [صبي] يعقل عقل مثله، ثم بلغ- لا إعادة عليه. ولو تيمم، ثم بلغ؛ فوجهان: أصحهما: لا إعادة عليه؛ بدليل أنه لو صلى بذلك التيمم قبل البلوغ، ثم بلغ- والوقت باقٍ- جازت صلاته؛ فكذلك إذا صلى بعد البلوغ. فصلٌ في الاغتسالات المسنونة روي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة، فليغتسل".

وعن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم". وأراد بالمحتلم: البالغ، والمراد من الوجوب: وجوب الاختيار. غسل الجمعة سنة في حق من يريد حضور الجمعة دون من لا يريد حضورها، بخلاف غسل العيد؛ فإنه سنةٌ في حق الكافة من النساء والعبيد والصبيان؛ لأنه لإظهار السرور، وهو عام. وغسل الجمعة لإزالة الرائحة الكريهة؛ حتى لا يتأذى به من بقربه؛ فيختص بمن يريد الحضور. وعند مالكٍ: غسل الجمعة واجبٌ. والدليل على أنه غير واجب: ما روي عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل". قوله: "فبها ونعمت" أي: بالسنة أخذ، ونعمت الخصلة.

ويستحب أن يغتسل للجمعة حالة الرواح إلى الجمعة، فلو اغتسل بعد طلوع الفجر الصادق- يحسب، ولو اغتسل قبله، لم يحسب؛ بخلاف غسل العيد يحسب؛ على أصح القولين قبل طلوع الفجر الصادق عند السحر؛ لأن صلاة العيد تؤدى في أول النهار، فإذا اغتسل قبل طلوع الفجر، يبقى أثره إلى وقت الصلاة. وصلاة الجمعة تؤدى بعد الزوال؛ فلا يبقى أثره. وفيه قول آخر: أن غسل العيد أيضاً لا يحسب، إلا بعد طلوع الفجر؛ كغسل الجمعة. والأول أصح. ولا يصح الغسل إلا بالنية؛ فلو وافق يوم الجمعة يوم العيد؛ فاغتسل لهما غسلاً واحداً- يكفي، ولو نوى أحدهما، حصل الثاني. وإن كان جنباً؛ فنوى غسل الجنابة

والجمعة والعيد- حصل الكل، ولو نوى غسل الجمعة والعيد، لم يخرج عن الجنابة. وهل يحسب عن غسل الجمعة والعيد؟ وجهان. ولو نوى غسل الجنابة، ولم ينوِ غسل الجمعة- خرج عن الجنابة، وهل يحسب عن غسل الجمعة والعيد؟ فيه قولان: أصحهما: يحسب؛ كمن دخل المسجد، وصلى فرضاً، يحسب عن تحية المسجد. والغسل من غسل الميت، والوضوء من مسه- سنةٌ؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" ويروى: "من مسه فليتوضأ" والمراد من الحمل: المس أيضاً.

وقيل: لا يؤمر من مسه بالوضوء، وتأول الحديث على مس الفرج منه، أو أراد بقوله: "من حمله فليتوضأ" أي: من أراد حمله، فليتوضأ من قبل؛ حتى يكون بصفة يمكنه الصلاة عليه. والاغتسالات المسنونة ستة عشر: غسل الجمعة، والعيدين، والخسوفين، والاستسقاء، والغسل من غسل الميت، وغسل الكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق.

وسبع اغتسالات في الحج: الغسل للإحرام، ولدخول "مكة"، وللوقوف بـ"عرفة"، وللوقوف بـ"مزدلفة" غداة يوم النحر، وثلاث اغتسالات لرمي أيام التشريق؛ لأن هذه المواضع يجتمع لها الناس، فاستحب لها الغسل. ولم يذكر الغسل لرمي جمرة العقبة؛ لأنه [قد] اغتسل يومئذٍ للعيد، وللوقوف بـ"مزدلفة" ولأن وقته موسعٌ من [نصف] الليل إلى آخر النهار، ولا يجتمع لها الناس في وقت واحد. وزاد في القديم: "الغسل لطواف الزيارة، وطواف الوداع". وتغتسل الحائض جميع هذه الاغتسالات، إلا غُسل الطواف؛ فإنها لا تطوف. وقال في القديم: "وتغتسل من الحجامة والحمامة. أما الحجامة: فقد ورد فيه أثرٌ. وأما [من] الحمام قيل: أراد به إذا [تنور] تغتسل، وغلا فلا". وقيل: الاختلاف الأيدي في ماء الحمام. [و] قال الشيخ [إمام الأئمة: "المراد] من الغسل للحمام عندي: أن يدخل الحمام فيعرق؛ فيستحب ألا يخرج من غير غسلٍ، ويستحب لمن أراد مقاربة الناس، والاجتماع معهم- أن يغتسل ويتنظف ويتطيب، لئلا يتأذى بقربه أحدٌ". وآكدُ الاغتسالات المسنونة غسل الجمعة، والغسل من غسل الميت. وفيهما قولان: أصحهما وهو اختيار المزني-: غسل الجمعة؛ لأن الأخبار فيه أصح. وذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوبه. باب كيفية الغسل روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ بغسل بدنه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يشرب شعره الماء، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثياتٍ".

فرضُ الغسل شيئان: النية، وغسل جميع البدن كيف شاء، والسنة أن يبدأ؛ فيسمى الله تعالى، ويغسل يديه ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء، ثم يغسل فرجه وما عليه من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. وهل يستحب تأخير غسل الرجلين إلى آخر الغسل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يؤخر؛ وهو ظاهر رواية عائشة. والثاني: يؤخر؛ وهو رواية ميمونة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه أخر غسل الرجلين؛ وبه قال أبو حنيفة. ثم إن كثر شعر رأسه، يدخل أصابعه العشر في الماء؛ فيخلل بها أصول شعره؛ حتى

يبتل، فيتيسر وصول الماء إلى باطنها. ثم يصب الماء على رأسه [ثلاث] حثيات من ماءٍ بيديه ولا يجب نقضُ الضفائر إذا وصل الماء إلى باطنها من غير النقض، فإن لم يصل إلا بالنقض، يجب أن ينقضها؛ لما روي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "تحت كل شعرةٍ جنابةٌ؛ فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر".

وعند مالك: لا يجب نقض الضفائر، ولا إيصال الماء إلى ما تحت الشعور الكثيفة، والحديث حجةٌ عليه. ثم يفيض الماء على سائر جسده ويبدأ بميامنه، ويستحب إمرار اليد على ما أمكنه من جسده، ولا يجب. وقال مالك: "يجب". ويجب إيصال الماء إلى باطن الأذنين والغضون وبواطن الشعور الكثة، ولا يجب إدخال الماء في العينين. ولو ترك المضمضة والاستنشاق فقد أساء ويجزيه، ويستحب أن يعيد المضمضة والاستنشاق. وغسل المرأة من الحيض والنفاس كغسل الجنابة، إلا أنه يستحب لها في غسل الحيض والنفاس أن تأخذ فرصةً من مسكٍ [على قطنة]؛ فتدخلها في فرجها؛ لإزالة تغير حصل من الدم؛ [لما] روي عن عائشة قالت: "جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- تسأله عن الغسل من الحيض فقال: "خذي فرصة من مسكٍ، فتطهري بها. فقالت: كيف أتطهر بها؟ قالت عائشة: " [فقلت]: تتبعي بها آثار الدم".

فإن لم تجد مسكاً، فطيباً آخر، وإن لم تجد فالماء كافٍ. ويجب على المرأة الثيب في الغسل إيصال الماء إلى محل الافتضاض، وما يبدو منها عند القعود؛ لأنه صار في حكم الظاهر؛ كالشقوق على الرجل؛ بخلاف الفم والأنف، لا يجب إيصال الماء إلى [باطنهما لأنهما] على الحالة الأولى. وقيل: لا يجب إيصال الماء إلى باطن الفرج، وهذا على قول من يجعل بلل باطن الفرج نجساً. وقال: لأنه تزداد النجاسة إذا غسلته. وقيل: يجب في غسل الحيض والنفاس؛ لإزالة الدم، ولا يجب في غسل الجنابة؛ كباطن الفم، يجب غسله إذا نجس، ولا يجب غسله في غسل الجنابة. فصل روي عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنبٌ" فقيل: كيف يفعل يا أبا هريرة. قال: يتناوله تناولاً".

ويكره الاغتسال في الماء الدائم، فلو اغتسل فيه؛ نظر: إن كان الماء قدر قلتين يدفع الجنابة عنه، ولا يصير الماء مستعملاً، وإن اغتسل فيه جماعة. فإن كان الماء أقل من قلتين؛ نظر: إن انغمس فيه ثم نوى، خرج عن الجنابة، وإذا خرج يصير الماء مستعملاً، وإن نوى ثم انغمس فيه. [فقد] صار الماء مستعملاً. وهل يخرج عن الجنابة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يخرج؛ لأن الماء صار مستعملاً؛ بملاقاة أول جزء من بدنه. والثاني- وهو الأصح-: أنه يخرج من الجنابة؛ لأن الماء ما دام يتردد على العضو، لا يحكم باستعماله ما لم ينفصل. ومن قال: بالأول، قال: ذاك إذا ورد الماء على المحل. وأما إذا أورد المحل على الماء القليل، فلا. كما في غسل النجاسات. ولو قعد فيه إلى سرته ثم نوى ثم مقل فيه- ترتفع الجنابة عما دون سرته. وفيما فوقها وجهان: الأصح: [ترتفع]. ولو انغمسا في ماء قليل، ثم نويا معاً، خرجا عن الجنابة. ولو انغمس فيه أحدهما، ونوى، ثم انغمس فيه الثاني قبل خروج الأول- ترتفع الجنابة عن الأول. وفي الثاني وجهان: أحدهما: ترتفع؛ لأن الماء لم ينفصل (عن) الأول، فلا يحكم باستعماله. والثاني- وهو الأصح-: لا ترتفع؛ لأن ما يتصل بالثاني في حكم المنفصل عن الأول. قال الشيخ إمام الأئمة (رحمة الله عليه): فإن قلنا بالوجه الأول؛ فلو خرج أحدهما قبل الثاني، فلا يحكم بالاستعمال في حق الثاني، وكذلك لو شرعا معاً ثم خرج أحدهما- لا يحكم بالاستعمال في حق الثاني ما لم يخرجا.

ولو أدخل جنبٌ يده في ماءٍ قليلٍ، ولا نجاسة عليها، ولم ينو لا يضر [الماء] إذا نوى. ثم أدخل يده فيه أو محدث يتوضأ من إناءٍ صغيرٍ، فبعد غسل الوجه، أدخل يده فيه؛ نظر: إن أدخل بنية إزالة الحدث، صار الماء مستعملاً. وإن قصد أخذ الماء، ولم ينو إزالة الحدث- لا يصير مستعملاً. ولا يكره استعمال فضل الجنب والحائض للرجال والنساء جميعاً؛ لما روي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- من إناء واحدٍ، تختلف أيدينا فيه من الجنابة". وإذا اغتسلا من إناء واحد، كان كل واحد مستعملاً فضل صاحبه. وكره الشعبي والنخعي الوضوء بفضل الحائض والجنب.

والإسراف في الماء حرامٌ، وإن كان على شط البحر. وماء الوضوء والغسل غير محصورٍ قدره، بل عليه غسل المغسول، ومسح الممسوح، وحد الغسل: أن يسيل الماء على العضو، وقد يرفق الرجل بالقليل؛ فيكفي، ويجرف بالكثير؛ فلا يكفي. ويستحب ألا ينقص عما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم- روي عن عائشة- رضي الله عنها-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع- ويتوضأ بالمد". والله أعلم بالصواب.

باب التيمم قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].

قال ابن عباس: الصعيد: التراب. وروي عن حذيفة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ججُعلت لنا الأرض مسجداً، وجعلت

تربتها طهوراً، إذا لم نجد الماء". والتيمم من خصائص هذه الأمة، فمن عجز عن استعمال الماء؛ لعدمٍ أو مرضٍ- تيمم

جنباً كان أو محدثاً؛ لما روي عن عمران- رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لجنب: "عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك". والتيمم ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين مع المرفقين. وهو قول: أكثر أهل العلم.

وقال سعيد بن المسيب، والشعبي، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد- رحمة الله عليهم-: ويمسح اليدين إلى الكوعين؛ روي ذلك عن علي، وابن عباس رضي الله عنهما. وقال الزهري: ويمسح إلى الإبطين؛ روي عن عمار؛ أنه مسح إلى الإبطين. وكل ذلك مرويٌّ لكنه منسوخ. بما روي عن ابن الصمة أنه قال: "مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد [عليَّ] حتى قام [إلى جدارٍ] يحثه بعصاً كانت معه، ثم وضع يده على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على السلام. ومسح الوجه واليدين في التيمم يكون تارةً بدلاً عن غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت، وتارة عن غسل الأعضاء الأربعة في حق المحدث، وتارة يكون بدلاً عن جزء يسير من بدنه، في حق من على عضو من أعضاء طهارته جراحةٌ لا يقدر على غسل محلها. ولا يحصل التيمم إلا بالتراب، يعلق باليد منه غبارٌ؛ على أي لون كان ويجوز

بالسبخ والبطحاء إذا كان فيهما غبار ويجوز بالطين الأحمر والأصفر، وبالطين الأرمني والذي يؤكل، وطين الدواب إذا دق كالمدر الدقوق. وأما الرمل قال في القديم: يجوز به التيمم. وقال في "الأم": لا يجوز؛ فحيث جوز أراد به الرمل ألذي له غبارٌ يعلق باليد، وحيث لم يجوز، أراد به الأحمر الذي ........ له يعلق باليد. ولا يجوز الزرنيخ والنورة والجص والكحل، ولا بالذر والرماد، وما ليس بتراب. وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه-: يجوز بما كان من طبقات الأرض؛ كالزرنيخ والنورة والجص ونحوها. ولا يجوز بالطين المقلي ولا الآجر المدقوق، ولا الحجارة المسحوقة، ولا بالتراب المحترق فإن أصابته نار؛ فاسود ولم يحترق- جاز. قال الشيخ- رحمه الله-: وسئل القاضي- رضي الله عنه- عن تراب الأرضة. قال: إذا أخرجته من خشبٍ، لم يجز التيمم به؛ لأن أصله ليس بتراب؛ كالحنطة إذا عفنت صارت تراباً وإن أخرجته من مدرٍ جاز، وإن كان مختلطاً بلعابها؛ لأن لعاب الأرضة طاهر؛ كتارب مزج بخل أو ماء وردٍ، ثم جفف- يجوز التيمم به. ولو ضرب بيده على ثوبٍ أو على ظهر حيوانٍ عليه غبار وعلق باليد؛ فتيمم به- جاز. ولو ضرب على أرض صلبة، أو صخرةٍ لا غبار عليها- لم يجز؛ لأنه مأمور بالمسح؛ فيقتضي ممسوحاً [به]. وقال أبو حنيفة: يجوز. وعند مالك: إذا ضرب يده على ما تصاعد من وجه الأرض من شجر، أو نبات لا غبار عليه- جاز. وحمل الصعيد عليه. والحديث حجةٌ عليه؛ [حيث جعل] التراب

طهوراً. ولو طلى الطين على عضوٍ أو ضرب يده على تربةٍ نديةٍ- لم يجز؛ لأنه لا يعلق باليد منها غبارٌ. ولو اختلط بالتراب نجاسةٌ، لا يجوز التيمم به، وإن كان التراب كثيراً، والنجاسة قليلة. وكذلك لو تيمم بتراب مقبرةٍ منبوشةٍ، لم يجز؛ لاختلاط صديد الموتى به. وكذلك لو اختلط بالتراب شيءٌ طاهر من دقيقٍ، أو زعفرانٍ، أو نورةٍ- لا يجوز التيمم به وإن لم يظهر عليه؛ لأنه قد تعلق بالعضو شيء منه؛ فيمنع وصول التراب إليه. وقال الشيخ إمام الأئمة- رحمه الله-: لو كانت يده نجسةً؛ فضربها على تراب طاهر، ومسح به وجهه- جاز؛ لأن الممسوح به طاهر؛ كما لو أخذ بيد نجسة حجراً طاهراً؛ فاستنجى به- جاز. قال الشيخ إمام الأئمة: ولا يصح مسح اليد النجسة عن التيمم قبل غسلها؛ كما لا يجوز غسلها عن الوضوء، ولا يجوز التيمم بالتراب المستعمل؛ وهو أن يأخذ من وجه متيمم أو يده أو ما تناثر منه بعد المسح. وقيل: يجوز التيمم بما يتناثر منه، والمستعمل الغبار الباقي على الوجه. والأول أصح. ولو تيمم جماعةٌ بكثيب من ترابٍ جاز؛ لأن كل واحد يستعمل فضل صاحبه، والقصد إلى التراب شرطٌ لصحة التيمم، حتى لو سفت الريح التراب على وجهه، فأمر عليه يده، ونوى - لم تصح؛ بخلاف ما لو وقف في المطر، ونوى الوضوء؛ فسال الماء على أعضائه- صح وضوؤه؛ لأن ثمَّ هو مأمور بالغسل، وقد وجد. وهاهنا [هو] مأمور ب التيمم، والتيمم القصد، ولم يوجد منه القصد إلى التراب. ولو وقف في مهب الريح قصداً بنية التيمم؛ حتى أصاب التراب وجهه ويديه؛ فمسحه بيده- فوجهان: أظهرهما: لا يجوز؛ لأنه لم يقصد التراب حقيقة، بل التراب أتاه. ولو اجتمع التراب على رأسه، أو على عضوٍ غير عضو التيمم؛ فأخذ ما عليه، ومسح به وجهه ويديه- جاز. ولو أخذ من عضو التيمم؛ نظر: إن أخذ من وجهه، لا من تراب التيمم؛ فمسح به يده، أو أخذ من يده؛ فمسح به وجهه - جاز.

وكذلك لو أخذ من إحدى يديه؛ فمسح به الأخرى. ولو أخذ من وجهه ورد إليه، أو من يده ورد إليها- فوجهان: أحدهما: يجوز؛ لوجود النقل؛ كما لو أخذ من وجه غيره. والثاني: لا يجوز؛ لأن أخذه منه، ورده إليه كمسح اليد عليه بلا نقلٍ. وقيل: إذا أخذ من الوجه ورد إليه، أو من اليد ورد إليها- لم يجز. وإن أخذ من الوجه ورد إلى اليد، أو أخذ من اليد ورد إلى الوجه فوجهان. ولو يممه غيره بإذنه، أو معك وجهه ويديه في التراب- نظر: إن كان معذوراً لمرض، أو قطع يد- جاز. نص عليه. وإلا فوجهان: قال "صاحب التلخيص": لا يجوز. ومن أصحابنا من قال: يجوز؛ كما لو غسل غيره أعضاءه في الوضوء. وكذلك لو صب غيره التراب على يديه؛ حتى مسح وجهه، أو كان على كمه أو يده تراب؛ فمسح به وجهه- فيه وجهان. كيفية التيمم [وكيفية التيمم]: [أن] يسمي الله، وينوي ويضرب كفيه على التراب. ونص على أنه يفرق [بين] أصابعه؛ [موبه قال العراقيون]. وإن كان التراب ناعماً يعلق باليد من غير ضربٍ؛ ويستديم النية إلى مسح جزءٍ من الوجه، فلو ابتدأ النية بعد أخذ التراب، أو نوى مع الضرب، وعزبت نيته قبل مسح شيء من الوجه- لم يصح. قال الشيخ- رحمه الله-: لأن القصد إلى التراب- وإن كان واجباً- فليس هو بركنٍ مقصود، إنما المقصود منه نقل التراب لمسح الوجه، وهو المقصود، فكان وجود النية عند الركن المقصود شرطاً. ولو أحدث بعدما أخذ التراب، بطل قصده؛ فعليه أن يأخذ ثانياً؛ كما لو غسل بعض وجهه، ثم أحدث، عليه إعادة ما غسل، ثم بعد مسح الوجه يضرب ضربةً أخرى، ويفرق بين أصابعه، ويمسح يديه؛ فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى؛ [بحيث لا يجاوز طول أنامله اليمنى عرض أصابعه اليسرى، ثم يمر يده اليسرى على ظهر

كفه اليمنى. فإذا بلغ الكوع، ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير كفه إلى بطن الذراع؛ فيمسح ببطن كفه اليسرى بطن ذراعه اليمنى، وتكون إبهامه اليسرى منصوبةً؛ فيمسح ببطنها ظهر إبهامه اليمنى، ثم يضع بطون أصابع يده اليمنى على ظهور أصابعه اليسرى، فيمسح يده اليسرى؛ كما وصفنا، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعه؛ وذلك واجب؛ لأن الراحتين إ لى الآن كانتا ماسحتين؛ فلا يسقط] فرض الكف؛ لكونها ىلة لمسح عضوٍ آخر. فإن قصد بإمرار الراحتين على الذراع مسح الراحتين حصل مسحهما؛ إذ لا فرق بين أن يمسح الراحة بذراعه، أو براحته الأخرى. [وكيف] ما أوصل التراب إلى الوجه واليدين؛ بضربتين أو بأكثر؛ بيده، أو بخرقةٍ، أو

بخشبة - جاز. ولو ضرب [يده] على التراب، ثم وضعها على وجهه، ولم يمرها- جاز على أصح الوجهين؛ كما ذكرنا في مسح الرأس في الوضوء، ولا يجب إيصال التراب إلى بواطن الشعور الخفيفة على الوجه والذراع؛ لأنه يشق عليه، بل يمسح ظاهرها، وكذلك المرأة إذا كانت لها لحيةٌ، لا يجب إيصال التراب إلى باطنها؛ بخلاف الوضوء يجب فيه إيصال الماء إلى مواطن الشعور الخفيفة؛ لأن الماء يتخللها من غير مشقةٍ. وهل يجب إمرار التراب على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الوجه؟ فيه قولان:

أصحهما: يجب؛ كما في الوضوء. وذكر الشافعي- رحمه الله- تفريق الأصابع في الضربتين: فذهب بعض أصحابنا [وهو طريقة قاضينا الحسين] إلى أنه لا يفرق في الأولى؛ حتى لو فرق في الأولى دون الثانية لم يصح مسح ما بين أصابعه؛ لأنه مسحها بتراب أخذ قبل مسح الوجه؛ فيكون كمن مسح يديه بتراب كان عليه من غير نقله. وإن فرق بين الضربتين فوجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه أخذ لليد تراباً جديداً. والثاني: لا يجوز؛ لأن بعض ما أخذ في الضربة الأولى باقٍ بين أصابعه؛ فيصير كما لو كان على وجهه تراب؛ فنقل إليه غيره؛ من غير أن ينفض الأول- لم يجز. قال الشيخ-[إمام الأئمة]-: والمذهب عندي: أنه لو فرق أصابعه في الضربتين، يجوز؛ كما نص. ولا بأس بأخذ تراب اليد قبل مسح الوجه؛ حتى لو ضرب يديه على التراب؛ فمسح بيمينه جميع وجهه، ومسح بشماله يده اليمنى- يجوز. والترتيب واجبٌ في المسح، لا في أخذ التراب. ولا يُسن التثليث في التيمم، ولا تجديد التيمم، ويستحب إمرارُ التراب على العضوين. ولو بقي على وجهه أو يديه شيء لم يمسه التراب- لم تصح صلاته. ولو أخذ التراب قبل دخول وقت الصلاة، ثم مسح بعد الوقت- لم يجز. وفرائض التيمم خمسة: النية، والقصد إلى التراب لنقله، ومسح جميع الوجه،

ومسح اليدين إلى المرفقين، والترتيب، وهو أن يمسح الوجه قبل اليدين.

وبعض أصحابنا زادوا عليها طلب الماء؛ فجعلوها ستاً؛ وذلك شرط جواز التيمم في حق المسافر، دون المرض والجريح؛ فإن التيمم جائز له مع وجود الماء. وسنن التيمم ثلاثٌ: التسمية وتقديم [اليد] اليمنى على اليسرى في المسح، والموالاة. وفي القديم: الموالاة فرض.

فصلٌ في طلب الماء روي عن أبي ذر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن

لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته؛ فإن ذلك خيرٌ".

ويجوز للمسافر أن يصلي بالتيمم إذا عدم الماء، ولا يجب عليه الإعادة؛ سواء كان سفره طويلاً، أو قصيراً، ولا يصح تيممه إلا بعد طلب الماء؛ لأن الله - تعالى- قال: {فَلَمْ

تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ولا يقال لمن [لم] يطلبوا شيئاً: لم يجدوا؛ كما قال الله - تعالى- في الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ثم لا يجوز له المصير إلى الصوم، إلا أن يعجز عن الرقبة، بعد طلبها. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يجب طلب الماء، إلا أن يرى علامةً من خضرةٍ أو طيراً يقع، أو قافلةً، ولا يجب تحمل المشقة العظيمة في طلب الماء، بل يطلب من رحله ورفقائه، ويسألهم عن موضعه. وإن كان في قاع مستوٍ لا حائل دون نظره، نظر عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه، وإن كان دون نظره حائل قريب من شجر أو تل- عدل إليه؛ فنظر وراءه. فإن كان يخاف لو عدل عن الحائل على نفسه، أو ماله من عدو أو سبعٍ، أو يخاف الوحدة أو الانقطاع، أو يخاف ضياع رحله، أو فوت الصلاة- تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنهم لو دلوه على ماءٍ حقيقة، أو رأى الماء يقيناً، ويخاف شيئاً من هذه الأشياء، لو أتاه- لا يلزمه أن يأتيه، بل يصلي بالتيمم، ولا يعيد. وإن كان في قافلة عظيمة، وقف ينادي: من يجود بالماء، من يبيع ماء، إن كان معه ثمنه؛ حتى تنقطع القافلة، أو يبقى من الوقت قدر إمكان الصلاة حينئذٍ يتيمم، ويصلي، ولا يعيد. وإنما أمرناه بذلك؛ لأن كل ساعة تمر عليه، من يجب الطلب منه، ولو قل رفقاؤه- لا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه بل ينادي عليهم. ولو بعثوا من يطلب لهم الماء، جاز. فإن طلب دون أمرهم، لم يسقط عنهم الطلب؛ فهو كطلب الرقبة في الكفارة لو طلب له غيره بأمره، جاز؛ بخلاف القبلة ليجتهد له غيره؛ لأنه أمر خفي، وهذا ظاهر. ويجب تجديد الطلب لكل تيمم، وإن طال مقامه في مكان واحد؛ لأنه قد يعثر على بئر خفيت عليه، أو يرى من يدله على الماء، حتى لو تيمم، فقبل أن صلى أحدث- يجب إعادة الطلب، غير أن الطلب الثاني يكون أخف من الأول. ولو طلب الماء في أول الوقت، وتيمم في آخر الوقت- جاز إذا لم يبرح مكانه، وكذلك لو تيمم في أول الوقت، ولم يبرح مكانه؛ فصلى في آخر الوقت، أو بعد خروج الوقت- جاز. وإن برح مكانه لم يجز، إلا بعد أن يجدد الطلب، ويتيمم ثانياً ولو كان معه

ماء، ولكنه محتاج إليه؛ لشربه، أو لسقي دوابه، أو يحتاج إليه رفيقه، ما لم يصل إلى ماء آخر- فهو كالمعدوم، وله أن يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه. وكذلك لو كان على طرف بئرٍ، أو في سفينة في البحر غير قادرٍ على آلة الاستسقاء- يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه، ولو لم يكن معه ماء، ووجده يباع بثمن المثل في موضعه، ومعه ثمنه من أي نوع من المال، وكان فاضلاً عن نفقته، ونفقة من معه من العياب والدواب، ما دام في سفره، عليه أن يشتريه. فإن لم يفضل ماله عن نفقته ونفقة عياله في سفره، أو فضل ولكن بيع الماء بأكثر من ثمن مثله، في مثل ذلك المكان- لا يجب أن يشتري، وإن قلت الزيادة، إلا أن يكون قدراً يتغابن الناس بمثله، وإن لم يكن معه ثمن الماء، ولكن صاحبه يبيعه بنسيئةٍ، أو أقرضه رجلٌ ثمن الماء- يجب عليه أن يشتري ويستقرض، إن كان له [في] بلده مالٌ يؤديه. وإن لم يكن، لا يجب. وقيل: لا يجب الاستقراض؛ لأنه اكتسابٌ، ولا يجب الاكتساب لتحصيل الماء؛ بخلاف ما لو بيع منه نسيئةً؛ لأنه [تحصيل الماء]. ولو وهب له الماء، يجب القبول. ولو وهب له ثمن الماء، لا يجب [القبول]؛ لأن الماء يتسامح به من غير منةٍ، ولا يتسامح بالثمن إلا بمنةٍ ولا يلزمه قبول المنة. ولو أقرضه الرجل الماء، [يجب قبوله على الأصح. ولو وهبه الماء] ولم يقبل، وصلى بالتيمم فهل يجب الإعادة؟ وجهان: كما لو أراقه سفهاً. قال الشيخ إمام الأئمة: هذا إذا تيمم بعدما هلك الماء في يد الواهب، أو رجع الواهب عن قوله، فإن كان الماء قائماً، والواهب على هبته لا يصح تيممه، وهل يجب أن يسأل الماء، ويستوهب إذا غلب على ظنه أن صاحبه يهبه؟ قيل: لا يجب؛ كالرقبة في الكفارة. والأصح: أنه يجب، نص عليه في رواية البويطي؛ بخلاف الرقبة؛ لأن الرقبة لو وهبت له لا يلزمه القبول، وقبول الماء واجب عليه، لو وهب له؛ فيلزمه السؤال. ولو كان على طرف بئرٍ، وليس معه ما يستقي به الماء؛ فأعار منه رجل آلة الاستسقاء- يجب عليه أن يقبل. ولو وهب منه، لا يلزمه القبول، ولو باعه أو أجره- يجب أن يشتري، ويستأجر إن كان معه مال.

وكذلك العريان في الثوب، لو وجد ثوباً يباع أو يؤجر، ومعه الثمن والأجرة- يجب أن يشتري، ويستأجر. ولو أعير منه، يجب القبول، ولو لم يفعل وصلى، يجب الإعادة، ولو وهب منه، لا يجب القبول. ولو كان معه منديلٌ نفيسٌ تنقص قيمته لو استقى به، أو احتاج إلى شقه. سئل عنه القاضي حسين- رحمه الله- فقال: إن كان النقصان الذي يدخله قدر أجر مثل الحبل- يلزمه أن يستقي به، وإن كان أكثر لا يجب. ولو وجد العريان الذي لا ماء معه ماء وثوباً يباعان، ومعه ثمن أحدهما- يجب عليه شراء الثوب؛ لأنه لا بدل له، والوضوء بدلٌ؛ وهو التيمم. وكذلك يجب على السيد أن يشتري لعبده ما يستر به عورته، ولا يجب أن يشتري له ماء الطهارة في السفر. ولو كان معه ماء يحتاج إليه لوضوئه، ليس له أن يدفعه إلى صاحبه؛ ليتطهر به أو يغسل به ميتاً، ويختار لنفسه التيمم؛ لأن فرضه الوضوء، وفرض صاحبه التيمم. فلو وهبه من صاحبه، أو باعه منه؛ وهو غير محتاج إلى ثمنه- نظر: إن باع، أو وهب قبل دخول وقت الصلاة- صح، ويصلي بالتيمم. وإن فعل بعد دخول الوقت، ففيه وجهان: أصحهما: لا يصح؛ لأن استعماله واجبٌ عليه. والثاني يصح؛ لأن له فيه عوضاً؛ وهو جلب مودة صاحبه. فإن قلنا: يصح، يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه. وإن قلنا: لا يصح البيع والهبة، فلا يصح تيممه، ما دام الماء قائماً في يد صاحبه. فإن تلف، فهو كما لو أراق الماء سفهاً. فإن كان ماؤه يفضل عن فرض طهارته، يستحب أن يجود به على صاحبه، ولا يجب. وليس للمسافر أن يتوضأ بمائه وثم من يموت عطشاً؛ مسلماً كان أو ذمياً، أو لصاحبه دابة، أو كلب غير عقور عطشان، [بل] يجب عليه أن يسقيه هبةً أو بيعاً، ويتيمم. فإن لم يفعل، للمضطر أن يكابره، ويأخذ منه [الماء] قهراً وليس له أن يكابره على أخذ الماء للوضوء، ولا على أخذ الثوب منه؛ [ليستر عورته في الصلاة. إذا لم يكن مالكه مضطراً مثله؛ كالماء. ولو كان معه ماء؛ فأراقه قبل دخول الوقت، لغير غرضٍ، فإذا دخل الوقت

يتيمم، ويصلي، ولا إعادة عليه. [ولو أراقه] بعد دخول الوقت، نظر: إن أراقه لغرض من تبردٍ، أو تنظفٍ أو نحوه- تيمم، وصلى، ولا إعادة عليه [وإن] أراقه سفهاً، يصلي بالتيمم. وهل يجب عليه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه مفرطٌ في تضييع الماء. والثاني: لا يجب؛ لأنه كان عادماً للماء حالة التيمم، والتفريط كان في إراقة الماء؛ كما لو قتل الرقبة في الكفارة، جاز له أن يكفر بالصوم. فإن أوجبنا الإعادة، لا يجب إلا إعادة صلاة واحدة. وقيل: يعيد ما صلى بالتيمم إلى أن أحدث. ولو اجتاز بماء في أول الوقت، ولم يتوضأ؛ حتى بعد- صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه. ولو دخل على المسافر وقت الصلاة- وهو عادم للماء- فله ثلاثة أحوال: إحداها: إذا كان لا يرجو وجود الماء في آخر الوقت- فالأفضل أن يعجل الصلاة بالتيمم في أول الوقت. [الحالة] الثانية: إذا كان يرجو وجود الماء في آخر الوقت، ولا يتيقن- فإن شاء: عجل الصلاة بالتيمم، وإن شاء أخر؛ حتى يصل إلى الماء. وأيهما أفضل؟ فيه قولان: أصحهما: التعجيل بالتيمم أفضل؛ كما أن تعجيل الصلاة منفرداً في أول الوقت أفضل من تأخيرها إلى آخر الوقت؛ ليصلي بالجماعة. والثاني- وبه قال مالك، وسفيان، وأبو حنيفة- رحمة الله عليهم-: التأخير أفضل؛ ليصل إلى الماء. الحالة الثالثة: إذا كان الماء على طريقة يتيقن الوصول إليه قبل خروج الوقت- فالأفضل أن تؤخر الصلاة حتى يتوضأ؛ لأن الطهارة فريضة، والتعجيل فضيلة؛ فانتظار الفضيلة أولى. فإن صلى بالتيمم في أول الوقت، جاز.

وقال في "الأم": لا يجوز، بل يؤخر؛ حتى يأتي الماء. والأول المذهب؛ لما روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه أقبل من "الجرف" حتى إذا كان بالمربد، تيمم؛ فصلى العصر، ثم دخل "المدينة" والشمس مرتفعة، ولم يُعد الصلاة. أما إذا كان الماء على يمينه، أو يساره، أو ورائه، ويمكنه أن يأتيه في وقت الصلاة- لا يلزمه أن يأتيه؛ لأن فيه زيادة مشقة عليه؛ كما لو وجد الماء يباع بأكثر من ثمنه، لا يلزمه الشراء. قال الشيخ إمام الأئمة: إلا أن يكون [الماء] قريباً من موضع طلبه، ويمكنه أن يأتيه من غير خوفٍ، ولا تعب يلزمه؛ سواء كان على يمينه أو على يساره أو أمامه. وقيل: إذا كان يمكنه أن يأتي الماء في الوقت من غير خوفٍ، فلا فرق بين أن يكون على يمينه أو يساره، أو أمامه. وهل يجوز أن يصلي بالتيمم، أم يجب أن يأتي الماء فيتوضأ؟ فيه قولان: فأما إذا كان معه ماء، ويخاف فوت وقت الصلاة لو اشتغل بالوضوء- يجب عليه أن يتوضأ، ولا يجوز أن يصلي بالتيمم. وقيل: يصلي بالتيمم لحق الوقت، ثم يتوضأ ويعيد الصلاة. والأول المذهب. ولو اجتمع قومٌ على رأس بئرٍ، وآلة الاستسقاء واحدة، [وأخذوا] يتناوبون فيها، فمن [علم أن النوبة تصل إليه في الوقت- يصبر حتى يتوضأ، ومن] علم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت، فلا نص للشافعي في هذه المسألة. وذكر فيما لو اجتمع قوم في سفينة، وفيها مكان يتسع لقيام رجل واحد؛ فيتناوبون الصلاة فيه، فمن علم أن

النوبة تنتهي إليه في الوقت، يصبر حتى يصلي فيه قائماً، ومن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد الوقت قال: يصلي في الوقت قاعداً. وقال في جماعة من العراة بينهم ثوبٌ واحد؛ يتناوبون الصلاة فيه: فمن علم أن النوبة تنتهي إليه في الوقت، يصبر حتى يصلي فيه، ومن علم أن النوبة لا تأتيه إلا بعد الوقت، ذكر فيه قولين: أحدهما: يصلي في الوقت عارياً. والثاني: ينتظر الثوب، وإن فات الوقت. فمن أصحابنا من جعل الكل على قولين: أحدهما: يراعي حق الوقت؛ كمن لا ماء معه يصلي بالتيمم. وغن علم أن يجده بعد الوقت. والثاني: يصبر؛ حتى يصلي بعد الوقت لابساً وقائماً؛ لأن الثوب موجود؛ وهو قادر على القيام. ومنهم من قال في السفينة: يصلي قاعداً في الوقت، قولاً واحداً؛ لأن القيام بدلاً وهو القعود، وفي انتظار الثوب قولان؛ لأنه لا بدل للستر، فمسألة انتظار [آلة الاستسقاء] كمسألة السفينة؛ لأن للوضوء بدلاً وهو التيمم. فإن قلنا: يصلي في الوقت بالتيمم، أو عارياً أو قاعداً، في السفينة- فهل تجب الإعادة إذا قدر على الثوب والماء [و] على القيام؟ فيه قولان أصحهما: أنه يجب الإعادة؛ كالعاجز الذي معه ماء، ولا يجد من يعينه على الوضوء ويصلي بالتيمم، ثم يعيد. ولو اجتمع جنب وحائض وميت، وثمَّ ما يكفي لواحد منهم- فصاحب الماء أولى به من غيره، فإن فضل عن المالك، وأراد أن يجود به على واحدٍ منهم، أو هجموا على مباح- فالميت أولى به استحباباً؛ لأن الحي يصل إلى الماء، فإن كان الحي يحتاج إليه للشرب، أو لسقي الدواب، ما دام في سفره- فهو أولى به، ويتيمم الميت فيدفن؛ حتى لو كان الماء للميت، يجوز للحي أن يأخذه لشربه، وسقي دوابه، ويغرم ثمنه لورثة الميت، إذا وصل إليهم باعتبار قيمة المفازة، وليس له [أن] يأخذ ماء الميت للطهارة، وإن كان على بدن الحي نجاسةٌ فيه وجهان:

أصحهما: الميت أولى بالماء المباح؛ لأن غسله خاتمة أمره. والثاني: الذي على بدنه النجاسة أولى به؛ لأنه لا بدل لغسل النجاسة، ولغسل الميت بدل، وهو التيمم؛ فإن كان على بدن الميت نجاسة، فهو أولى به وجهاً واحداً. ولو اجتمع جنبٌ وحائضٌ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: الحائض أولى؛ لأن حدثها أغلظ؛ بدليل أنه يمنع الغشيان، والجنابة لا تمنع. والثاني: الجنب أولى؛ لأن وجوب الغسل عليه بنص الكتاب. والثالث: هما سواء، يقرع بينهما. ولو اجتمع جنبٌ ومحدث؛ نظر: إن كان الماء يكفي للجنب، ويفضل عن المحدث- فالجنب أولى به؛ لأن حدثه أغلظ. وإن كان لا يكفي للجنب، ويكفي للمحدث- فالمحدث أولى به؛ لأنه يستفيد به كمال الطهارة. ولو اجتمع محدٌ، ورجل على بدنه نجاسة- فالذي على بدنه نجاسةٌ أولى، وكذلك ل كان على بدنه نجاسة؛ وهو محدث، ووجد من الماء ما يكفي لأحدهما يغسل به النجاسة؛ لأنه لا بدل له؛ ولأنه لو توضأ به، وصلى مع النجاسة- يجب عليه الإعادة، ولو غسل النجاسة، وتيمم للحدث- لا يجب الإعادة. وكذلك لو كان محرماً، وعلى بدنه طيبٌ؛ وهو محدث- يبتدئ بغسل الطيب. فلو تيمم المحدث قبل غسل النجاسة، لا يصح؛ لأنه لا يعقبه استباحة الصلاة. ولو كان مع المسافر من الماء ما لا يكفي لأعضاء وضوئه، إن كان محدثاً، أو لغسل جميع بدنه إن كان جانباً؛ هل يلزمه استعمال؟ فيه قولان: أحدهما- وهو قوله الجديد، وبه قال عطاء-: يجب أن يغسل به بعض أعضائه؛ لأنه قادر عليه، ثم يتيمم للباقي على الوجه واليدين؛ كما لو كان بعض أعضائه جريحاً، يجب عليه غسل الصحيح منها. وقال - في القديم- وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة، وأكثر أهل العلم-: لا يجب استعماله، بل يتيمم؛ كما لو وجد في الكفارة بعض رقبةٍ، لا يجب إعتاقه، بل ينتقل إلى

الصوم؛ بخلاف ما لو كان بعض أعضائه صحيحاً، يجب غسله؛ لأن العجز هناك في المؤدي؛ فيجب عليه أن يأتي بما قدر عليه؛ كمن عجز عن القيام في الصلاة يصلي قاعداً؛ وكما لو كان فقد بعض الأعضاء، يجب عليه غسل الباقي. وهاهنا العجز في المؤدى به موجود بعضه، كفقد كله؛ كالرقبة للكفارة. فإن قلنا: يلزمه استعماله، يجب أن يستعمله أولاً، ثم يتيمم. فلو قدم التيمم، لا يصح، ثم إن كان محدثاً، يغسل به وجهه، ثم بدنه على الترتيب، إلى أن ينفذ الماء. وإن كان جنباً، غسل أي عضو شاء، والأولى أن يغسل أعضاء وضوئه ورأسه. ولو وجد المسافر الثلج، ولم يجد ما يذيبه، والهواء بارد، تيمم وصلى، ولا إعادة عليه. وهل يلزمه مسحُ الرأس به؟ قيل: قولان؛ كمن وجد من الماء ما لا يكفي لغسل أعضائه. وقيل- وهو الأصح-: لا يجب؛ لأن الترتيب واجب في الوضوء، ومن أوجب استعمال بعض الماء، يوجب تقديمه على التيمم، وهاهنا لا يمكن تقديم مسح الرأس مع بقاء فرض الوجه واليد عليه. ولو كان عادماً للماء، ووجد [من] التراب ما يمسح به عضواً، هل يلزمه مسحه. قيل: فيه قولان. وقيل: يلزمه قولاً واحداً. وهو الأصح؛ لأنه لا بدل له؛ كالعريان إذا وجد ما يستر به بعض عورته، يلزمه ستره. وكذلك إذا وجد من الماء ما يغسل به بعض أعضائه؛ وهو عادم للتراب، هل يلزمه استعماله؟ فعلى هذا لا خلاف. فصلٌ في المتيمم يجد الماء روي عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر؛

فحضرت الصلاة- وليس معهما ماء- فتيمما وصليا، ثم وجدا في الوقت؛ فأعاد أحدهما الصلاة، ولم يُعِد الآخر. ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك. فقال للذي لم يُعِدْ: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك". وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين". والصحيح: أن الحديث مرسلٌ عن عطاء، [وليس] فيه ذكر أبي سعيد. إذا وجد المتيمم الماء، بطل تيممه، ولا يجب إعادة ما صلى بالتيمم، وإن كان وقت الصلاة باقياً.

وقال عطاء وطاوس والزهري: يجب إعادة الصلاة بالوضوء إن كان الوقت باقياً، ولو وجد الماء في خلال الصلاة، مضى في صلاته، ولا إعادة عليه، بخلاف المستحاضة

إذا انقطع دمها في خلال الصلاة، تبطل صلاتها؛ لأن المستحاضة قد أحدثت بعد الطهارة حدثاً، وجوزنا صلاتها معه؛ لأجل الضرورة، وقد زالت الضرورة، ولم يوجد من المتيمم بعد تيممه حدثٌ. ورؤية الماء ليست بحدث؛ بدليل أنه لو كان معه ماء- وهو محتاج إليه لشربه- يجوز له أن يصلي بالتيمم، غير أن القدرة على استعمال الماء يعيد حكم حدثه السابق. وإذا وجد الماء في خلال الصلاة فهو غير قادر على استعماله شرعاً؛ لأن حرمة الصلاة تمنعه؛ فصار كمن لا يقدر على استعماله لمانع حسي من لص أو سَبُعٍ يمنعه عن الماء، لا يبطل تيممه. وجعل بعض أصحابنا في بطلان صلاة المتيمم يجد الماء، والمستحاضة ينقطع دمها جميعاً- قولين؛ بنقل جواب إحدى المسألتين إلى الأخرى. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم: تبطل صلاة المتيمم بوجود الماء؛ كالمعتدة بالأشهر ترى الدم في خلالها تنتقل إلى الأقراء. قلنا: لأنها لم تتلبس بالمقصود. نظيره فيما نحن فيه؛ أن يرى الماء في أثناء التيمم يبطل تيممه، ونظيره ما نحن فيه من المعتدة: أن ترى الدم بعدما اعتدت بالأشهر ونكحت، لا يجب عليها أن تعتد بالأقراء. إذا ثبت أن صلاته لا تبطل بوجود الماء؛ فهل يستحب له الخروج عن الصلاة؟ فيه وجهان: أصحهما: يستحب، حتى يستأنفها بالوضوء للخروج عن الخلاف. والثاني: لا يجوز أن يخرج؛ لما فيه من إبطال العمل، والله - عز وجل- يقول: {} [محمد: 33] فإذا [لم يخرج، فكما] فرغ من الصلاة والماء قائم، يبطل تيممه، وإن تلف الماء قبل فراغه من الصلاة؛ نظر: إن لم يعلم بتلفه حتى سلم [فلما سلم] بطل تيممه؛ لتوهم القدرة على الماء. وإن علم بتلفه قبل الفراغ من الصلاة، فلا يبطل تيممه؛ على الصحيح من المذهب؛ حتى يجوز له أن يتنفل [بعده] بذلك التيمم. وقال صاحب "التلخيص": قد بطل تيممه بوجود الماء، إلا في [حق] الصلاة

الواحدة؛ لاشتغاله بها، وإذا سلم لم يجز له أن يصلي إلا بتيمم جديد. ولو وجد المتيمم الماء في خلال صلاة النفل، لا تبطل صلاته؛ كالفرض. ثم ينظر إن شرع فيها بنية مطلقة، أو بنية أن يصلي ركعتين -[لا] يجوز أن يزيد على ركعتين، وإن نوى أربعاً وأكثر، له أن يتم ما نوى، ولا يزيد عليها؛ [وبه قطع العراقيون]. وقال الشيخ- رحمه الله-[وإن] نوى ركعتين، يجوز أن يزيد عليها؛ لأن حرمة التحريم قائمة، ما لم يسلم. وإن كان تيممه للمعةٍ لم يقدر على غسلها؛ فوجد في خلال الصلاة [ماء] قريباً منه- لا يؤمر بغسلها في الصلاة؛ بخلاف العريان يجد الثوب قريباً منه في الصلاة، يجب عليه ستر العورة؛ لأنه لم يأت عن ستر [العورة] ببدلٍ، وقد أتى عن غسل اللمعة ببدلٍ؛ وهو التيمم. ولو شرع المسافر في الصلاة بالتيمم، ثم نوى الإقامة- نظر: إن لم يجد الماء، مضى في صلاته؛ لأن نية الإقامة ليست بأكثر من وجود الماء، وكذلك لو اتصلت السفينة بدار الإقامة في خلال الصلاة بالتيمم- لا تبطل صلاته. وهل يجب الإعادة؟ وجهان: أظهرهما: لا يعيد؛ كالمتيمم يجد الماء في خلال الصلاة. وقيل [هاهنا]: يعيد؛ لأن الإقامة حصلت بصنعه، بخلاف ما لو وجد الماء. والأول أصح. أما إذا وجد الماء في خلال الصلاة، ثم نوى الإقامة تبطل صلاته؛ لأنه مقيم صحيح واجدٌ للماء؛ فلا تصح صلاته بالتيمم. قال صاحب "التلخيص" تخريجاً. وقيل: لا تبطل صلاته؛ لأنه افتتحها مسافراً عادماً للماء. والأول أصح تغليباً لحكم الحضر. فإن قلنا: لا تبطل صلاته، هل يجب الإعادة؟ حكمه حكم ما لو نوى الإقامة، ولا ماء معه. ولو تيمم، ثم وجد من الماء ما لا يكفي

لأعضاء وضوئه. إن قلنا: يجب استعماله، يبطل تيممه. [(وإن قلنا: لا يجب استعماله، لا يبطل تيممه)]. ولو أن جنباً اغتسل؛ فنفذ الماء، وبقيت لمعةٌ من بدنه، ثم أحدث، يتيمم لها تيمماً واحداً. ولو تيمم، ثم وجد من الماء ما يكفي لغسل اللمعة. فإن قلنا: يلزمه استعمال القليل من الماء، بطل تيممه؛ لأن الماء لا يتعين لغسل اللمعة، ثم الأولى: أن يستعمله في اللمعة ثم يعيد التيمم للحدث. وإن قلنا: لا يجب استعمال القليل من الماء، فلا يبطل تيممه في حق الحدث؛ فيغسل به اللمعة، ويصلي. قال الشيخ- رضي الله عنه-: ولو تلف الماء، يجب [عليه] إعادة التيمم؛ لأن تيممه قد بطل في حق اللمعة. ولو وجد ذلك القدر من الماء؛ فتيمم قبل استعماله- نظر: إن تلف الماء، يجب [عليه] إعادة التيمم؛ لأن تيممه لم يقع عن اللمعة. وإن غسل به اللمعة، هل يجب إعادة التيمم للحدث؟ إن قلنا: يجب استعمال القليل من الماء يجب، وإلا فلا يجب، وله أن يصلي بذلك التيمم. قال الشيخ: هذا إذا كان الماء يكفي للمعته، ولا يكفي لأعضاء وضوئه، فإن كان يكفي لوضوئه، ولكن لو غسل اللمعة لا يكفي له الفضل- بطل تيممه على القولين؛ لأنه كافٍ لكل واحد منهما، ولا يتعين عليه أحدهما؛ حتى يقال: يصح تيممه في حق الآخر. ولو تيمم عند عدم الماء، ثم رأى قافلةً بطل تيممه؛ لأنه وجب عليه طلب الماء منهم. ووجوب طلب الماء على المتيمم يُبطلُ تيممه؛ فإن طلب، ولم يجد؛ يعيد التيمم. وكذلك توهم القدرة على الماء يبطل التيمم؛ مثل: أن رأى بعد التيمم سراباً ظنه ماء،

أو رأى ماء ظنه طاهراً؛ فبان نجساً، أو رأى بئراً ظن أن فيها ماء؛ فلم يكن، أو ظن أنه يمكنه نزولها؛ فلم يمكن- بطل تيممه، ويعيده بعد زوال التوهم. أما إذا رأى رجلاً عادياً، فلما وقع بصره عليه؛ علم أن لا ماء معه، أو رأى بئراً. علم أن لا ماء فيها أو لا يمكنه أن يستقي منها- لا يبطل تيممه. ولو رأى المتيمم ماء، وثم سَبُع أو عدو يمنعه منه- نظر: إن رأى الماء أولاً، ثم رأى المانع- بطل تيممه. وإن رأى المانع أولاً، أو رآهما معاً- لا يبطل تيممه. ولو سمع بعد التيمم رجلاً يقول: أودعني فلان ماءً أو غصبت من فلان ماءً- لا يبطل تيممه. ولو قدم ذكر الماء؛ فقال: معي ماء أودعنيه فلان، أو غصبته من فلان فقد قيل يبطل تيممه؛ لأنه أطعمه في الماء بتقديم ذكره، ثم أزال طعمه بذكر الوديعة والغصب. وذكر القاضي- رحمه الله-[أنه] وإن قدم ذكر الماء، يحتمل ألا يبطل تيممه؛ على قول من لا يُبغض الأقارير. قال شيخنا: هذا ضعيف. ولو نسي المسافر الماء في رحله؛ فصلى بالتيمم- يجب عليه الإعادة؛ لأن الفرض لا يسقط بالنسيان؛ كما لو نسي غسل عضوٍ من أعضاء الوضوء؛ وصلى، أو نسي الرقبة في الكفارة؛ فصام- لا يحسب وحكى أبو ثور قولاً؛ وهو قول أبو حنيفة: أنه لا يجب الإعادة وكذلك لو نسي أن يكون له رجل، ولو ضل رحله في الرحال، أو ضلت راحلته وله عليها ماء، أو حال بينه وبينها عدو أو حريق؛ فصلى بالتيمم- لا إعادة عليه. ولو ضل الماء في رحله، تيمم، وصلى وأعاد؛ [لأنه زاد] وقيل: لا يعيد؛ كما لو ضلت راحلته. ولو طلب الماء في رحله، فلم يجد؛ فذهب ليطلبه من موضعٍ آخر، فوضع رجل ماء في رحله وصلى بالتيمم- لا إعادة عليه. وإن لم يطلب الماء من رحله؛ لعلمه: أن لا ماء فيه وكان قد وضع فيه غيره الماء- يجب الإعادة على الأصح. ولو عثر على بئر بعدما صلى بالتيمم؛ نظر: إن علم البئر، ثم نسيها، فهو كنسيان الماء؛ يجب الإعادة. وإن لم يعلمها؛ نظر: إن كانت في موضع طلبه مكشوفةً، يجب الإعادة، وإن لم يكن في موضع طلبه أو كانت مغطاة؛ فظهرت لا يجب الإعادة.

ومن لم يجد الماء في الحضر، فإن كان محبوساً، أو كان لتلك القرية نهر انقطع ماؤها، أو بئر انحسر ماؤها- يجب عليه أن يصلي بالتيمم، ثم يعيد إذا وجد الماء؛ سواء كان الرجل مقيماً، أو مسافراً؛ لأن القرى تبنى على المياه؛ فعدم الماء فيها نادراً. وقال مالك، والأوزاعي- رحمة الله عليهما-: لا يعيد الصلاة ولو لم يجد ماء، ولا تراباً، يجب أن يصلي لحق الوقت، ثم يعيد إذا وجد أحد الطهورين. ولا يجوز له حملُ المصحف، وإن كان جنباً لا يجوز له قراءة القرآن إذا صلى، بل يذكر الله بدل القراءة؛ لأن الجنب ممنوع من قراءة القرآن، وسائر الأركان يأتي بها تشبهاً، وقراءة القرآن حقيقة. وكذلك الحائض إذا انقطع دمها، ولم تجد أحد الطهورين- لا يجوز للزوج غشيانها. وأما الجنب إذا لم يجد الماء في الحضر وصلى بالتيمم؛ هل له قراءة القرآن؟ فيه وجهان: وكذلك: هل يجوز له حمل المصحف؛ محدثاً كان أو جنباً؟ فيه وجهان: والأصح: يجوز. وكذلك إن كانت حائضاً؛ فتيممت، جاز للزوج غشيانها. وقال في القديم: من لم يجد ماء ولا تراباً، يجوز له تأخير الصلاة إلى أن يجد أحد الطهورين. ويستحب أن يصلي. قال مالك، وأبو حنيفة، وكثير من أهل العلم: يؤخر الصلاة. وإذا لم يجد ماء ولا تراباً؛ فشرع في الصلاة، ثم أ؛ دث- بطلت صلاته؛ كالمستحاضة إذا أحدثت في الصلاة حدثاً جديداً، تبطل صلاتها. ولو وجد أحد الطهورين في خلال الصلاة، بطلت صلاته. وكذلك من شرع في الصلاة في الحضر بالتيمم، ثم وجد الماء- بطلت صلاته؛ لأنه لم يشرع فيها ببدلٍ صحيح؛ ولهذا وجبت عليه الإعادة، ولا يجوز أداء صلاة العيد والجنازة للمقيم السليم مع وجود الماء بالتيمم. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا خاف قوتهما لو اشتغل بالوضوء. وبالاتفاق لا يجوز أداء صلاة الجمعة بالتيمم مع وجود الماء، وإن خاف فوتها؛ مع أنها آكد، فما دونها أولى.

فصلٌ فيما يستباح بالتيمم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. إلى قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]. ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة؛ غير أن الدليل قد قام في الوضوء: أنه يجوز أن يصلي به فرائض فيبقى التيمم على ظاهره. قال ابن عباس: لا يصلي مكتوبة غلا بتيمم. التيمم يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل، غير أن المتيمم لا يجوز له أن يجمع بين لاتي فرض بتيمم واحد، ولا بين طوافي فرض، ولا بين صلاة فرض، وطواف

فرض. ولا بين منذورين، ولا بين منذورة ومكتوبة، بل يجب أن يحدث لكل صلاة تيمماً بعد طلب الماء؛ وهو قول جماعةٍ من الصحابة والفقهاء. وقال سعيد بن المسيب، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة: يجوز أن يجمع بين فرائض بتيمم واحد، ما لم يحدث. وبالاتفاق يجوز أن يجمع بين فريضةٍ وما شاء من النوافل قبلها وبعدها، وأن يسجد للتلاوة والشكر، ويحمل المصحف، وإن كان جنباً أن يقرأ القرآن، ويعتكف بعد الفريضة وقبلها. ولو جمع بين فريضة وصلاة جنازة، نص على جوازه، ونص على أنه: لا يجوز أداء صلاة الجنازة على الراحلة؛ كالفريضة. فمن أصحابنا من جعل فيها قولين: أحدهما: لا يجوز في الموضعين؛ لأن صلاة الجنازة فريضة. والثاني: يجوز؛ لأنها ليست من فرائض الأعيان. وقيل المسألة على حالين، إن كانت صلاة الجنازة متعينة عليه لا يجوز حتى يجدد لها تيمماً ولا يجوز على الراحلة ولا قاعداً مع القدرة على القيام فإن، لم تكن متعينة عليه يجوز. وقيل: يجوز بعد الفريضة بتيمم واحد؛ لأنها ليست بفرض عينٍ، ولا يجوز على الراحلة، ولا قاعداً مع القدرة على القيام؛ لأنه معظم صلاة الجنازة؛ وهو القيام، وهو يخل به. وكذلك لو تيمم وصلى على جنازة [ثم أراد] أن يصلي على جنازة أخرى- فعلى هذا الاختلاف. والأصح جوازه.

ولو جمع بين طواف فرضٍ وركعتي الطواف، هذا يبنى على أن ركعتي الطواف فريضة أم نافلة؟ وفيه قولان: إن قلنا: نافلة، يجوز. وإن قلنا: فريضة فوجهان: الأصح: لا يجوز؛ حتى يجدد التيمم لركعتي الطواف. والثاني: يجوز؛ لأنها [تبع لركعتي الطواف] وكذلك الوجهان في الجمع بين [الخطبة] وصلاة الجمعة؛ بتيمم واحد. ولو صلى بالتيمم فريضة، ثم أدرك جماعة؛ فصلاها معهم بذلك التيمم- يجوز؛ لأن الفريضة منهما واحدة. ولو نسي صلاة من صلوات يوم وليلة، لا يدري عينها، [وأراد أن يصليها بالتيمم- يجب أن يزيد على عدد التيمم، على عدد ما فاته من الصلوات. فإن لم يُزد في عدد التيمم]، يجب عليه قضاء خمس صلوات، ويجوز فعل الكل بتيمم واحد؛ لأن الفرض منهما واحد. ولو نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة، ولا يدري عينهما وأراد أن يصلي بالتيمم- يجب أن يزيد عدد التيمم على عدد ما فاته من الصلوات، فإن لم يزد في عدد التيمم يزيد في عدد الصلوات، وأيهما فعل جاز؛ غير أن صاحب "التلخيص" يقول: [يصلي] خمس صلوات بخمس تيممات؛ فيزيد في عدد التيمم. وقال ابن الحداد: يزيد في عدد الصلوات، ويصلي ثماني صلوات بتيممين؛ فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء. [ويجب أن يترك في المرة الثانية من الصلوات ما ابتدأ بها في الأول. حتى لو صلى بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء]. وبالثانية الصبح والظهر والعصر والمغرب- لا يسقط عنه إلا أحد الفرضين؛ لاحتمال أن [يكون] أحد فرضيه عشاء، والفرض الآخر إحدى الصلوات الثلاث. أما الظهر أو العصر أو المغرب، فبالتيمم الأول صحت تلك الصلاة، ولم يصح العشاء. وبالتيمم الثاني: تصح العشاء.

ولو نسي ثلاث صلواتٍ من صلوات يوم وليلة، أو أربع صلوات ولم يدر عينها- فعلى قول صاحب "التلخيص" يتيمم خمس تيممات، ويصلي خمس صلوات. وعلى قول ابن الحداد: إذا نسي ثلاث صلواتٍ يتيمم ثلاث تيممات، ويصلي تسع صلوات؛ فبالتيمم الأول: يصلي الصبح والظهر والعصر، وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب، وبالثالث: العصر والمغرب والعشاء. وإذا نسي أربع صلوات، يتيمم أربع تيممات، ويصلي ثماني صلوات. فبالتيمم الأول: يصلي الصبح والظهر، والثاني: الظهر والعصر، وبالثالث: العصر والمغرب، وبالرابع: المغرب والعشاء. ولو نسي صلاتين من صلوات يومين؛ نظر: إن علم أنهما مختلفتان، فهو كما لو نسيهما من يوم وليلة. وإن علم أنها متفقتان، [أو] شك لم يدر أنهما متفقتان، أو مختلفتان- يأخذ بأسوأ- الأحوال؛ وهو أنهما متفقتان؛ فيجب عليه أن يصلي عشر صلوات بتيممين، كل خمس منها بتيمم. ولو تيممت الحائض، وصلت فريضة- جاز للزوج غشيانها بعده، ولا يجب تجديد التيمم بعده لكل وطأةٍ. ولو وجد الماء في خلال الفعل، يجب قطعه. ولو أن جنباً تيمم، ثم أحدث- بطل تيممه في حق الصلاة، ولا يجوز أن يصلي، ولكن يجوز له قراءة القرآن والاعتكاف في المسجد؛ لأن تيممه قام مقام الاغتسال؛ فارتفع به تحريم القرآن والاعتكاف، فلا يعود ذلك إلا بجنابةٍ جديدة، أو بوجود الماء؛ فإن وجود الماء يعيد حكم الحدث السابق، ولم يوجد من الجنب بعد التيمم شيءٌ منها، إنما وجد الحدث، والحدث لا يحرم الاعتكاف ولا القراءة؛ فهو كما لو اغتسل الجنب، ثم أحدث يحرم عليه الصلاة، ولا يحرم القراءة والاعتكاف، وكذلك الحائض إذا تيممت، ثم وطئها الزوج، بطل تيممها في حق الصلاة وقراءة القرآن والاعتكاف، لحدوث الجنابة ولا يبطل في حق الغشيان؛ لأن تحريم الغشيان قد ارتفع بالتيمم [الأول] فلا يعود إلا بحيضٍ جديد، أو بوجود الماء. إذا ثبت أن الجنب إذا تيمم، ثم أحدث لا يبطل تيممه، في حق القراءة والاعتكاف؛ فلو أنه وجد من الماء ما لا يكفي لغسله، ويكفي لوضوئه؛ فإن قلنا: يجب استعمال القليل من الماء، بطل تيممه في الكل؛ فيستعمله، ثم يعيد التيمم.

وإن قلنا: لا يجب استعمال القليل منا لماء، فتيممه باقٍ في جواز القراءة والاعتكاف؛ كما كان، وبطل في حق الصلاة؛ لأنه وجد من الماء ما يكفي لحدثه الذي حدث، فإذا توضأ، جاز له أن يصلي. والله أعلم. باب جامع التيمم قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الآية [المائدة: 6]. لا يجوز أداء الصلاة بالتيمم، إلا بأحد العذرين: إما السفر، أو المرض.

ومجموعهما العجز عن استعمال الماء ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت في العذرين جميعاً. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: يجوز. وظاهر القرآن حجةٌ عليه؛ حيث أوجب الطهارة عند القيام إلى الصلاة، غير أن الدليل قام في الوضوء؛ أنه يجوز قبل الوقت؛ فبقي التيمم على ظاهره، ويشترط في عذر السفر طلب الماء بعد دخول الوقت، ولا يحسب الطلب قبل دخول الوقت، ولا يتيمم لصلاة [الخوف إلا بعد أن يبتدئ الخوف] ولا لصلاة الاستسقاء إلا بعد الخروج إلى الصلاة، ولا لصلاة الجنازة إلا بعد غسل الميت، ولا لتحية المسجد إلا بعد دخول المسجد، ولا للفائتة إلا بعد أن يذكرها؛ حتى لو تيمم لفائتةٍ يظنها عليه، ولا يتحقق ثم تيقن- لا يجوز فعلها به. ولو تيمم لفائتةٍ هو ذاكرها قبل دخول وقت الفرض، ثم دخل الوقت؛ فأراد أن يصلي صلاة الوقت، دون الفائتة. ولو تيمم لصلاة الوقت بعد دخول وقتها؛ وهو لا يذكر فائتةً، ثم تذكر فائتة، وأراد أن يصلي الفائتة، دون صلاة الوقت- يجوز على أصح الوجوه.

وقيل: لا يجوز؛ لأنه يريد أداء صلاة لو تيمم لها، لم يصح. وقال الشيخ أبو زيدٍ: إن تيمم للفائتة، ثم دخل وقت الصلاة- لا يصلي صلاة الوقت؛ لأنها لم تكن واجبةً عليه، حال التيمم. وإن تيمم لصلاة الوقت، ثم تذكر فائتة، يجوز أن يصليها؛ لأن الفائتة كانت واجبةً عليه حالة التيمم، وإن كان لا يذكرها. والأول أصح؛ لأن التيمم إذا صح لصلاة يجوز أداء غيرها به؛ كما لو كانت عليه فائتتان يذكرهما فتيمم لإحداهما- جاز له أن يصلي الأخرى، دون ما عينها، وكذلك لو دخل عليه وقت الصلاة، وتذكر فائتة؛ فتيمم لإحداهما- جاز له أن يصلي الأخرى دون التي تيمم لها. ولو تيمم لفائتة هو ذاكرها، ثم تذكر فائتة أخرى؛ فأراد أن يصلي به الثانية دون الأولى- يجوز على ظاهر المذهب. وعلى الوجه الثاني: لا يجوز. فصلٌ في المرض المبيح للتيمم روي عن جابرٍ بن عبد الله قال: "خرجنا في سفرٍ؛ فأصاب رجلاً منا حجرٌ؛ فشجه في رأسه؛ فاحتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصةً في التيمم قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك. فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إن لم يعملوا، فإنما شفاء العي السؤال؛ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقةً، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده".

كل مرضٍ لا خوف فيه من استعمال الماء؛ كالصداع والحمى اليسيرة لا يبيح التيمم؛ لأن الماء لا يضره، وإنما ينفعه. "قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "الحمى من فيح جهنم؛ فأبردوها بالماء" وإن كان به مرضٌ يخاف من استعمال الماء الهلاك؛ كالجدري والحصبى، أو به جراحةٌ يخاف من استعمال الماء تلف العضو، أو يخاف مرضاً يفضي إلى الهلاك- يصلي بالتيمم، ولا إعادة عليه. وإن كان لا يخاف التلف، ولكن يخاف شدة الضنا، وزيادة العلة والوجع- فقولان: قال: في "الأم" [لا يتيمم] لأنه لا يخاف التلف. وقال في "الإملاء"، وفي القديم- وهو الأصح- وهو قول أكثر أهل العلم: يباح له التيمم؛ لأنه يفضي به إلى الخوف. وكذلك إذا كان يخاف إبطاء البرء، وبقاء الشين القبيح، الذي يشوه الخلقة؛ كالسواد الكثير في الوجه ونحوه- يباح له التيمم؛ على أصح القولين. فأما [بقاء] الشين اليسير؛ مثل: أثر الجدري، والسواد القليل- لا يبيح التيمم. وإذا أشكل أمر المرض، فلا يقبل في كونه مخوفاً إلا قول طبيب مسلم عدلٍ، وإن كان عبداً أو امرأة، ولا يجوز الاعتماد على قول المراهق؛ على أحد الوجهين.

وقيل: في الفاسق أيضاً وجهان. وإن كان بعض أعضاء [طهارته] صحيحاً، والبعض جريحاً، يخاف من استعمال الماء فيه - يجب عليه أن يغسل الصحيح، ويتيمم لأجل الجريح على الوجه واليدين. وقال أبو حنيفة: إن كان أكثر أعضائه صحيحاً، غسل الصحيح، ولا تيمم عليه، وإن كان الأكثر جريحاً يكفيه التيمم، ولا يجب غسلُ الصحيح. وحديث جابر دليلٌ على وجوب الجمع بين التيمم والغسل. وإن كانت الجراحة على محل التيمم- يجب إيصال التراب إلى محل الجراحة؛ لأنه لا خوف من إمرار التراب عليه. وكذلك إذا كانت للجراحة أفواهٌ مفتحةٌ يجب إيصال التراب إلى ما تفتح منها؛ لأنه في حكم الطاهر. وإن كانت على الجراحة لصوقٌ، يجب عليه رفع اللصوق؛ للتيمم. فإن خاف من نزع اللصوق أن ينقطع اللحم الرطب، لا ينزعه؛ وهو كالجبيرة. ثم إن كان هذا الجريح جنباً فإن شاء قدم غسل الصحيح من أعضائه ثم تيمم. وإن شاء قدم التيمم على الغسل؛ بخلاف المسافر إذا وجد [من] الماء ما لا يكفي لأعضاء طهارته. وقلنا: يجب استعماله- يجب أن يستعمله أولاً، ثم يتيمم؛ لأن المسافر أبيح له التيمم؛ لعدم الماء، ولا يصير عادماً للماء ما لم يستعمل ما معه، وأبيح للجريح التيمم؛ للخوف من استعمال الماء في محل الجراحة مع وجود الماء؛ فيجوز له تقديم التيمم. وإن كان محدثاً، والجراحة على أعضاء طهارته؛ هل يجب عليه الترتيب في التيمم مع الوضوء، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنهما طهارتان، بل إن شاء تيمم وغسل المقدور عليه من أعضائه، وإن شاء قدم الغسل، ثم تيمم، وإن شاء تيمم في خلال غسل الأعضاء. والوجه الثاني: يجب عليه الترتيب؛ لأن التيمم مع غسل الصحيح من الأعضاء هو الوضوء التام؛ فيترتب على هذا: إن كانت الجراحة على وجهٍ، يجب تقديم التيمم على غسل اليد، ثم إن أمكنه غسلُ بعض الوجه؛ فإن شاء قدمه على التيمم، وإن شاء تيمم

قبله؛ لأنه [لا] ترتيب في غسل عضوٍ واحد وإن كانت الجراحة على يديه، يجب تأخير التيمم عن غسل الوجه، وتقديمه على مسح الرأس. وإن كانت على رجله، يجب تأخير التيمم عن مسح الرأس. وقال الشيخ إمام الأئمة- رحمه الله-: على هذا الوجه إذا كانت الجراحة على يده ورجله، فلا بد من [تيممين]: أحدهما: عن غسل اليد بعد غسل الوجه، وقبل مسح الرأس. والآخر: عن غسل الرجل بعد مسح الرأس، فإذا غسل الصحيح من أعضائه، وتيمم للجريح، وصلى فريضة، فإذا أراد فريضة أخرى يجب عليه تجديد التيمم، ولا يجب إعادة الغسل، إلا أن يكون محدثاً، والجراحة على غير الرجل. وقلنا: يجب الترتيب، فحينئذٍ إذا عاد التيمم للفريضة الأخرى- يجب عليه غسل ما بعد العضو الجريح؛ لأجل الترتيب. وإن كان جنباً والجراحة على غير أعضاء وضوئه، فغسل الصحيح وتيمم للجريح، ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة- يجب عليه الوضوء، ولا يجب إعادة التيمم؛ لأن تيممه من غير أعضاء الوضوء؛ فلا يؤثر فيه الحدث. وإذا برئت الجراحة، وهو على طهارته- يجب عليه غسل محل الجراحة، ويجب غسل ما بعدها، إن كان محدثاً، والجراحة على أعضاء طهارته؛ لمراعاة الترتيب. وهل يجب استئناف الوضوء، أو إن كان جنباً هل يجب استئناف الغسل أم لا؟ فيه قولان؛ كالماسح على الخفٌ إذا نزع الخف، وهو على طهارة المسح يجب عليه غسلُ الرجلين وهل يجب استئناف الوضوء؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجب، وهذا بخلاف ما قبل الاندمال إذا صلى بالتيمم فريضة، [ثم أراد فريةً] أخرى يجب إعادة التيمم، ولا يجب استئناف الوضوء قولاً واحداً؛ لأن هناك لم ينتقض بشيءٍ من وضوئه، والتيمم طهارة منفردة ارتفع حكمها؛ فلا يكون سبباً لنقض طهارةٍ أخرى؛ كالجنب إذا اغتسل، ثم أحدث، لا يبطل غسله. وهاهنا إذا اندملت الجراحة، وجب غسل محل الجراحة؛ وهو من جملة الوضوء؛ فيصير كأن طهره انتقض في ذلك المحل؟ وإذا بطل بعض الوضوء، بطل كله. وقيل: فيما قبل الاندمال إذا تيمم لفريضة أخرى أيضاً قولان، وليس بصحيح.

وإذا توهم الجريح اندمال الجرح بعد التيمم؛ فرفع اللصوق؛ لينظر إليه فإذا هو لم يندمل لا يبطل تيممه؛ بخلاف المسافر يتوهم وجد الماء يبطل تيممه؛ لأن توهم الماء يوجب الطلب، وطلب الماء يبطل التيمم. وإذا برئت الجراحة لا يجب عليه إعادة الصلوات التي صلاها بالتيمم، إلا أن يكون على جرحه دمٌ لم يمكنه غسله؛ فتجب الإعادة على ظاهر المذهب. وقيل في القديم- وهو اختيار المزني-: لا يجب الإعادة وإن خاف إن غسل ما حوالي الجرح من الصحيح أن يصيب الماء الجرح يحتال في إفاضة الماء عليه؛ على وجه لا يصيب الجراحة فإن لم يمكنه لمس ما حواليه الماء من غير إفاضة، ويجزيه. فإن أمكن غسل ما حواليه، ولكن الجراحة على ظهره لا تنالها يده، أو كان الرجل أعمى أو أقطع لا يمكنه إفاضة الماء عليه؛ من غير أن يصيب الجرح يستعين بغيره [في غسل] ما حواليه؛ فإن لم يجد من يعينه، غسل ما قدر عليه، وتيمم وصلى. ثم إذا وجد من أعانه على غسله، وأعاد الصلاة؛ كالزمن الذي بقربه ماء، ولا يجد من يناوله يصلي بالتيمم، ثم يغتسل. وإذا انكسر عظم على أعضاء طهارته، واحتاج إلى وضع الجبائر عليه، وضعها على الطهارة، ولا يدخل تحت الجبيرة من الصحيح إلا قدر الحاجة. وإذا تطهر، يجب عليه أن يمسح الجبيرة بالماء. فإن كان جنباً مسحها متى شاء، وإن كان محدثاً فإذا وصل إلى غسل ذلك العضو يمسح عليها، وهل [يجب] تعميم الجبيرة بالمسح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ كما لا يجب تعميم الخف بالمسح. والثاني- وهو الأصح-: يجب؛ لأنه مسحٌ أبيح للضرورة؛ فيجب فيه التعميم؛ كمسح الوجه [في التيمم] بخلاف مسح الخف؛ فإنه رخصة ليس ببدلٍ؛ بدليل جوازه مع القدرة على غسل الرجل. ومن تمام الرخصة ألا يوجب عليه التعميم؛ حتى لا يفسد خفه، وهل يجب عليه التيمم مع مسح الجبيرة؟ ظاهر ما ذكر في "المختصر" يدل على أنه لا يتيمم. وقال في "الأم": يتيمم.

قيل: فيه قولان: أحدهما: يتيمم؛ كالجريح. والثاني: لا يتيمم؛ لأنه أتى عما تحت الجبيرة ببدلٍ؛ وهو مسح الجبيرة؛ فلا يلزمه بدلٌ آخر. وقيل: هو على حالين: فإن كان ما تحت الجبيرة مجروحاً؛ بحيث [لا يمكنه] غسله- يجب عليه التيمم؛ كالجريح. وإن أمكنه غسله- لو كان ظاهراً- فلا يجب عليه التيمم؛ كالماسح على الخف لا يلزمه التيمم. وإن كانت الجبيرة على محل التيمم [لا يجب مسح] الجبيرة بالتراب؛ لأن مسح التيمم على ما يواري [المحل] لا ينفع، ويجوز استدامة الجبيرة بلا تأقيت، إذا كان في نزعها خوف تلف العضو، وإبطاء البرء؛ على أصح القولين. ومتى نزعها- وهو على طهارة المسح- يجب عليه غسلُ ذلك المحل، وغسل ما بعده من أعضاء الطهارة، إذا كان محدثاً؛ لأجل الترتيب- وهل يجب استئناف الوضوء [إذا] كان جنباً؟ هل يجب استئناف الغسل؟ فيه قولان؛ كالماسح على الخف ينزع الخف- أصحهما: لا يجب وهل يجب عليه إعادة الصلوات التي صلاها بالمسح؟ نظر: إن كان وضع الجبيرة على غير الطهارة، يجب، وإن وضعها على الطهارة [فيه] قولان: أظهرهما: يجب؛ لأنه عذرٌ نادر. والثاني- وهو قول أكثر أهل العلم-: لا تجب الإعادة وإن كان على جرحه لصوقٌ يخاف من نزع اللصوق، ولا يخاف من إيصال الماء إلى الجرح، أو [خدش] [عضو] من أعضائه، وطلى عليه شيئاً، أو وثبت أنفه فألصق عليه بإقلاء، ويخاف من نزعه؛ كالجبيرة.

وقال شيخنا: وكذلك الشقوق على الرجل إذا احتاج إلى تقطير ما يتجمد فيها. وكذلك الفصد. ولو أجنب، ومعه ماء، ولكنه يخاف على نفسه [من] البرد لو اغتسل ولم يجد ما يسخن به الماء؛ نظر: إن أمكنه أن يغسل أعضاءه قليلاً [قليلاً] ويجففه- فعل، وإن لم يمكنه أن يغسل ما يقدر عليه من الأعضاء الظاهرة، ويتيمم لأجل سائر الأعضاء. ثم إن كان في الحضر، يجب عليه [إعادة] الصلاة إذا زال العذر. وإن كان في السفر فقولان: أحدهما: لا يجب عليه [الإعادة]؛ كما لو صلى بالتيمم؛ لعدم الماء في السفر. والثاني - وهو الأصح-: يجب الإعادة؛ لأنه عذر نادر؛ كما لو كان معه ثوبٌ نجس يخاف الهلاك من الحر أو البرد لو نزعه؛ فصلى فيه، ثم يعيد. وعند أبي حنيفة: لا يجب الإعادة [في كل حال]. فصلٌ في الأعذار التي تسقط الإعادة وهي قسمان: عام ونادر. فالعام منها: كالمريض يصلي قاعداً أو نائماً؛ للعجز، والمسافر لا يقدر على الماء، أو معه ماء؛ وهو محتاج إليه لشربه، والمريض يعجز عن استعماله؛ فصلى بالتيمم، والمقاتل يصلي بالإيماء- فلا إعادة عليهم. والعذر النادر قسمان: نادر يدوم، ونادر لا يدوم: فالذي يدوم: كعذر المستحاضة، وسلس البول، والمذي، ومن استرخت مقعدته يدوم خروج الحدث منه. ومن به دملٌ، أو جرحٌ سائل، أو رعافٌ دائم- يصلون مع الحدث والنجاسة، ولا إعادة عليهم؛ لأن هذه الأعذار وإن كانت نادرة، ولكنها لما دامت التحقت بالعذر العام لما يلحق صاحبها من المشقة في الإعادة. وأما الذي لا يدوم كالمريض الذي لا يخاف من استعمال الماء، ولكنه لا يجد من يناوله أو لا يجد من يحوله إلى القبلة، أو الأعمى الذي لا يجد من يدله على القبلة، والجريح يصلي بالتيمم؛ وعلى جرحه دم، والماسح على الجبيرة في قولٍ، ومن لم يجد في الحضر ماء فصلى بالتيمم- فيجب عليهم الإعادة.

وعلى قوله القديم- وهو اختيار المزني-: لا إعادة عليهم- والمذهب الأول؛ كمن أصابته نجاسة من غيره، ولا يقدر على غ سلها، وكالذي لا يجد ماءً ولا تراباً يصلي لحق الوقت، ثم يعيد قولاً واحداً. وفي هذا المعنى من منع من استقبال القبلة قهراً، [أو عن] القيام في الصلاة- صلى كما أمكنه، ويجب عليه الإعادة. ولو كان محبوساً في مكان نجس، فدخل عليه وقت الصلاة- يجب عليه أن يصلي على النجاسة، وعليه الإعادة؛ على ظاهر المذهب. وفي القديم: لا إعادة عليه. وكذلك العريان إذا وجد ثوباً نجساً، هل يصلي فيه، أم يصلي عارياً؟ فيه قولان: الأصح: أنه يصلي عارياً قائماً، ويتم الركوع والسجود، ولا إعادة عليه؛ سواء كان في الحضر، أو في السفر؛ لأن الثوب يعز وجوده في السفر والحضر، والناس يضنون [به]؛ بخلاف ما لو صلى بالتيمم في الحضر، يعيد؛ لأنه لا يعز وجود الماء في الحضر، والناس لا يضنون به؛ فعدم القدرة [عليه] في الحضر نادرٌ والمربوط على الخشبة [أو من] شد وثاقه على الأرض- يجب أن يصلي؛ كما أمكنه، ثم يعيد؛ لأنه عذر نادر. والغريق إذا بقي على لوحٍ يصلي، كما أمكنه، ثم لا يعيد ما صلى إلى القبلة بالإيماء. وما صلى إلى غير القبلة فيه قولان: أحدهما: لا يعيد؛ كما لو صلى بالإيماء إلى القبلة. والصحيح: أنه يعيد؛ بخلاف [ما] لو صلى بالإيماء؛ لأن حكم الإيماء أخف من ترك القبلة، ألا ترى أن المريض يصلي بالإيماء، ولا يعيد. وإذا لم يجد من يحوله إلى القبلة يصلي إلى غيرها، ثم يعيد. والفرق بين المريض إذا صلى إلى غير القبلة، يعيد قولاً واحداً. والغريق لا يعيد على أحد القولين؛ لأن العذر الذي يمنع الغريق عن الركوع والسجود؛ وذلك العذر منعه عن الاستقبال- وهو الغرق؛ فاستويا في سقوط الإعادة. وفي المريض العذر الذي يمنعه عن الركوع والسجود هو عذر المرض، والمرض لا

يعجزه عن استقبال القبلة، لو وجد من يحوله، فكان المانع فقد الغير؛ فأشبه الأعمى إذا لم يجد من يهديه إلى القبلة، يصي ويعيد. وكل موضع [أوجبنا] عليه الإعادة، فأيهما فرضه؟ فيه أقوال: أصحها- نص عليه في "الأم": الثانية فرضه؟ لأن الأولى لو كانت فرضه، لم يلزمه الإعادة؛ كمن لم يجد ماء ولا تراباً فصلى، ثم أعاد- كانت الثانية فرضه. وقال في "الإملاء": كلاهما فرض؛ لأنه مخاطب بفعل الأولى، وقد ترك بعض الأعمال فيها ولا يمكن إفراد تلك الأعمال بالقضاء؛ فوجب إعادة الكل. وخرج قول: أن الله يحتسب [الفريضة] أيتهما شاء؛ كما لو صلى فريضة وحده، ثم صلاها بالجماعة. وعلى القول الذي خرج من القديم: أن الإعادة غير واجبة عليه، الأولى فريضة والثانية نافلة. والله أعلم. باب: ما يفسد الماء وبيان النجاسات مذكور في الباب الأول من الكتاب والله أعلم باب: المسح على الخفين روي عن أبي بكر- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أرخص للمسافر ثلاثة أيامٍ

ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر؛ فلبس خفيه- أن يمسح عليهما. المسح على الخفين جائز للمحدث إذا توضأ عند عامة العلماء ومدته: مقدرة عند أكثر أهل العلم؛ فيمسح المقيم: يوماً وليلة، والمسافر: ثلاثة أيام ولياليهن.

وابتداء المدة من أول حدثٍ يحدثه بعد لبس الخف؛ لأنه عبادةٌ مؤقتةٌ؛ فيكون أول وقتها من حين جواز فعلها؛ كالصلاة، ثم يمتد من حين أحدث إلى ذلك الوقت من اليوم الثاني إن كان مقيماً، وإن كان مسافراً، فإلى ذلك الوقت من اليوم الرابع؛ فأكثر ما يصي المقيم بالمسح من فرائض الوقت ست صلوات؛ مثل: أن يحدث في آخر وقت الظهر؛ فيمسح، ويصلي الظهر. وفي اليوم الثاني يعجل الظهر في أول الوقت. إن جمع لعذر [مطر]؛ فيتصور: أن يصلي سبع صلوات، وأكثر ما يصلي المسافر بالمسح ست عشرة صلاة وإن جمع: فيتصور سبع عشرة صلاة. وله أن يقضي من الفرائض بالمسح ما شاء. وقال مالك - رحمة الله عليه-: مدة المسح لا تتقدر، بل له أن يمسح ما شاء ما لم يلزمه غسل؛ وهو قول الشافعي- رضي الله عنه- في القديم. وروي ذلك عن عمر، وعثمان- رضي الله عنهما-. وقال الأوزاعي وأحمد: المدة مقدرةٌ، وابتداؤها من وقت المسح. وإذا لزم الماسح غسل جنابة، أو لزم المرأة غسل حيض أو نفاس- وجب غسل الرجلين، لما روي عن صفوان بن عسال المرادي؛ أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابةٍ، لكن من بولٍ وغائطٍ ونومٍ.

وهذا لأن الجنابة لا تتكرر في اليوم؛ فلا يشق عليه نزع الخف، وغسل الرجل؛ بخلاف الحدث؛ كما أن الجنب عليه غسل محل الاستنجاء. ويجوز للمحدث أن يقتصر على الحجر؛ لأن الحدث يتكرر في اليوم مراراً. وكذلك لو أراد غسلاً مسنوناً، نزع الخف، وغسل الرجل، فلو لزمه غسل؛ فصب الماء في الخف حتى تغسلت رجله- جاز عن الغسل، ولكن لا يجوز بعده المسح؛ حتى ينزعه؛ فيلبسه ثانياً، وكذلك بعد انقضاء مدة المسح لو لم ينزع الخف، وغسل الرجل في الخف. ثم وضوؤه، ولكن لا يجوز المسح بعده؛ حتى ينزعه؛ فيلبسه ثانياً. ولو دميت رجله في الخف؛ فغسلها فيه- لم يبطل المسح، وغن لم يمكن غسلها فيه، نزع الخف، وغسل الدم، ولا يكون مسح الخف بدلاً عنه. ولا يجوز المسح حتى يلبس الخف على كمال الطهارة، فلو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخل الخف- لا يجوز المسح؛ لأنه لبس الخف الأول قبل كمال الطهارة، فإذا نزع الأول، ولبسه ثانياً بعد لبس الثاني- جاز المسح بعده. وقال الثوري، وأبو حنيفة- رحمة الله عليهما-: إذا غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلها- جاز المسح؛ وهو اختيار المزني رحمه الله. ولو لبس الخف على الطهارة؛ فقبل أن وصل الرجل إلى قدم الخف، أحدث- لم يجز المسح؛ لأن الرجل حصلت في مقرها؛ وهو محدث. ولو أدخل الرجل في ساق الخف قبل الغسل، ثم غسلها في الساق، ثم أدخلها موضع القدم- جاز المسح.

ولو أخرج الماسح رجله من قرار الخف إلى ساق الخف- لا يبطل مسحه. نص عليه؛ بخلاف الابتداء؛ لم يجز المسح ما لم يصل الرجل إلى قرار الخف؛ لأن الأصل هناك عدم جواز المسح؛ فلا يباح إلا باللبس التام. وفي النزع الأصل: جواز المسح، فلا يبطل [إلا] بالنزع التام. وقيل: إذا أخرج الرجل إلى ساق الخف، يبطل المسح؛ كما في الابتداء لا يمسح. ولو تطهرت المستحاضة، أو سلس البول، ولبس الخف- هل يجوز له المسح؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأن حدثه دائم؛ فلا يحصل لبس الخف منه [على] كمال الطهارة. والثاني: يجوز له المسح لفريضة واحدة، وما شاء من النوافل؛ فإذا أحدث بعد ما صلى فريضة، فله أن يمسح للنوافل، وإن أحدث قبل أن صلى فريضة، يمسح لفريضة واحدة. فإذا أراد الوضوء لفريضة أخرى، عليه نزع الخف، وغسل الرجل. وإذا انقطع دمها قبل أن صلت فريضة، فهو كما لو أحدثت؛ فلها أن تمسح لفريضة واحدة على هذا الوجه. وقيل: لا يجوز المسح هاهنا وجهاً واحداً؛ لأنه لم يبق لطهارتها حكمٌ بعد انقطاع الدم؛ فصارت كمن لبس الخف محدثاً. ولو لبس الخف على التيمم لا يجوز المسح؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث. وخرج ابن سريج وجهاً: أنه يرفع الحدث في حق فريضة واحدة؛ فله أن يمسح لفريضة واحدة، وما شاء من النوافل؛ كما ذكرناه في المستحاضة؛ وهو ضعيف؛ لأن التيمم يبطل بوجود الماء، ويعود إلى حالته الأولى؛ فيكون كمن لبس الخف محدثاً. وكذلك الجريح إذا غسل الصحيح من أعضائه، وتيمم للجريح، ثم لبس الخف- لم يجز له المسح؛ على الصحيح من المذهب. ولو ابتدأ المسح مسافراً، ثم صار مقيماً؛ نظر: إن أقام بعد مضي يوم وليلة- عليه نزع الخف، وإن أقام قبل مضي يوم وليلة تيمم يوماً وليلة مسح المقيمين بالاتفاق. ولو ابتدأ المسح مقيماً، ثم سافر يمسح مسح المقيمين، تغليباً لحكم الحضر؛ كما لو كان في أحد طرفي صلاته مقيماً- لا يجوز له القصر. وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسح مسح المسافرين؛ اعتباراً بالمال.

ولو لبس الخف في الحضر وأحدث، ثم سافر قبل المسح، مسح مسح المسافرين؛ حتى لو توضأ في الحضر، ومسح على أحد الخفين، ثم سافر؛ فمسح [في السفر] على الخف الآخر- له أن يمسح مسح المسافرين؛ لأنه لم يتم المسح في الحضر. وقال المزني: إذا أحدث في الحضر، ثم سافر؛ فتوضأ يمسح مسح المقيمين؛ لأن ابتداء المدة كان في الحضر. ولو أحدث في الحضر ولم يسافر؛ حتى خرج وقت الصلاة، ثم سافر ومسح- يمسح مسح المسافرين. [ونقل العراقيون عن أبي إسحاق؛ أنه يتم مسح مقيم، ونقل عن أبي علي بن أبي هريرة؛ أنه يتم مسح المسافرين]. وقال أبو إسحاق: يمسح مسح المقيمين؛ لأنه عاصٍ بإخراج الصلاة عن الوقت، ولا رخصة للعاصي. والأول المذهب؛ كما لو فاتته صلواتٌ يجوز قضاؤها بالتيمم في السفر. ولو شك المسافر في ابتداء مسحه؛ كان في الحضر، أو في السفر- لا يزيد على مسح المقيمين؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين عليه؛ فلا يسقط عنه إذا شك في سبب الرخصة، فلو مسح اليوم الثاني على الشك، ثم زال الشك في اليوم الثالث، وعلم أنه ابتدأ المسح مسافراً- فعليه إعادة صلوات اليوم الثاني؛ لأنه صلاها على الشك، ويجوز له أن يصلي- بالمسح في اليوم الثالث. ثم إن كان على مسح اليوم الأول، ولم يحدث في اليوم الثاني- له أن يصلي في اليوم الثالث بذلك المسح. وإن كان قد أحدث في اليوم الثاني، ومسح على الشك- يجب عليه إعادة المسح لصلوات اليوم الثالث. وهل يجب استئناف الوضوء؟ فعلى قولي تفريق الوضوء. الأصح: لا يجب، ويجوز إعادة صلوات اليوم الثاني بالمسح في اليوم الثالث. ولو شك في انقضاء مدة المسح، يجب عليه نزع الخف. وإذا نزع الماسح الخف بعد انقضاء المدة، أو في خلالها؛ وهو على طهارة المسح- يجب عليه غسل الرجلين، وهل يجب استئناف الوضوء؟ فيه قولان:

أصحهما- وهو قول الثوري، وأبي حنيفة-: لا يجب؛ لأنه غسل تلك الأعضاء مرة؛ كما لو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم نزع الخف قبل المسح- لا يجب عليه إلا غسل الرجلين. وقال في القديم- وهو قول الأوزاعي، وابن أبي ليلى، وأحمد-: يجب استئناف الوضوء؛ لأن الوضوء قد انتقض في الرجل؛ فينتقض في سائر الأعضاء، وليس أصل القولين تفريق الوضوء؛ لأن التفريق بالعذر جائز، والعذر هاهنا موجود؛ لأن التفريق اليسير جائز. وهاهنا لو نزع الخف عقيب المسح في الحال قبل جفاف الأعضاء- ففي وجوب استئناف الوضوء قولان، بل أصلهما: أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل؟ فيه جوابان مستنبطان من هذين القولين: أحدهما: لا يرفع؛ لأنه مسحٌ بدل الغسل كالتيمم. والثاني: يرفع؛ لأنه مسح بالماء؛ كمسح الرأس في الوضوء. فإن قلنا: لا يرفع الحدث عن الرجل، فلا يجب استئناف الوضوء؛ لأن الحدث قد ارتفع عن سائر الأعضاء، إلا عن الرجل؛ فلا يجب إلا غسل الرجل. وإن قلنا: يرفع الحدث عن الرجل؛ فيجب استئناف الوضوء؛ لأن نزع الخف بمنزلة حدثٍ جديد؛ حتى أوجب غسل الرجلين، والحدث يتجرأ؛ فيجب غسل سائر الأعضاء. فصلٌ في الخف الذي يجوز المسح عليه روي عن المغيرة بن شعبة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- توضأ ومسح على خفيه.

وروي عنه؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- توضأ ومسح الجرموقين. يشترط في الخف ثلاث شرائط؛ حتى يجوز المسح عليه: أحدها: أن يكون صفيق الأعلى؛ بحيث لا ينشف الماء. الثاني: أن يكون قوي الأسفل؛ بحيث يمكن متابعة المشي عليه.

الثالث: أن يكون سائراً للقدمين مع الكعبين؛ فإن كان فيه خرقٌ في موضع الكعبين، أو فيما دونهما يظهر منه شيءٌ من الرجل أو اللفافة- لا يجوز المسح عليه، وإن كان الخرق قليلاً قدر رأس الإشفي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق- رحمة الله عليهم-: يجوز المسح عليه، وإن تفاحش الخرق ما دام يستمسك [في] الرجل؛ وهو قول الشافعي- رضي الله عنه- في القديم.

وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه-: إن كان الخرق أقل من ثلاثة أصابع، يجوز المسح عليه، ولو تخرق خفه في خلال المدة، بطل المسح. وإن كان في خلال الصلاة، بطلت صلاته، وعليه غسل الرجلين؛ كما لو نزعه؛ بخلاف المتيمم يجد الماء في خلال الصلاة، لا تبطل صلاته؛ لأن الاحتراز عنه غير ممكنٍ، وعن تخرق الخف ممكن؛ بألا يلبس خفاً أشرف على الخرق؛ كالأمة إذا شرعت في الصلاة مكشوفة الرأس؛ فعتقت، والثوب بعيد بطلت صلاتها؛ لأن الاحتراز عنه ممكن؛ بألا تصلي إلا وعليها خمارٌ. ولو تخرقت ظهارةُ الخف والبطانة صفيقة، أو انخرقت البطانة والظهارة صفيقةٌ، أو تخرق ما فوق الكعب- جاز المسح عليه. ولو تخرقت الظهارة، والبطانة رقيقة- لم يجز المسح عليه. ولا يجوز المسح على جورب الصوف، واللبد، إلا أن يركب طاقةً فوق طاقةٍ؛ حتى يتصفق وينعل قدمه؛ بحيث يمكن متابعة المشي عليه ولا يجوز على الجورب من الجلد الذي يلبس مع المكعب؛ حتى يكون بحيث يمكن متابعة المشي عليه وحده، أو يكون ملصقاً بالمكعب. وإن كان المسحي له شرائح تفتح وتشد، وإذا فتحت ظهرت الرجل- يجوز المسح عليه إذا كانت مشدودة، وإن فتحت الشرائح بطل المسح، وإن لم تظهر الرجل؛ لأنه إذا مشي عليه بعد الفتح تظهر [الرجل]. ولو اتخذ خفاً من خشب أو حديدٍ، جاز المسح عليه، إذا أمكن المشي عليه؛ فإن لم يمكن؛ لثقله أو رقته، لم يجز. وكذلك لا يجوز على الخف الواسع الذي لا يتثبت في الرجل، ولا الضيق الذي لا يمكن المشي عليه، وإن كان ضيقاً يتسع بالمرور عليه- جاز. ويجوز المسح على خف واسع الفم ترى القدم في قراره؛ بخلاف ما لو صلى في قميص واسع الجيب ترى منه عورته- لم يجز. ولو كان ضيق الجيب، لكنه وقف على طرف سطح ترى عورته من تحت ذيله صحت صلاته؛ لأنه مأمور بالستر من الأعلى والجوانب، وفي الخف من الأسفل والجوانب. ولو مسح على خف مغصوبٍ؛ فصلى، صحت صلاته، وإن كان عاصياً بالغضب؛ كما لو صلى في ثوب مغصوبٍ.

وقال صاحب "التلخيص": لا يجوز صلاته [بالمسح] على خف مغصوب؛ مقيماً كان، أو مسافراً؛ لأن المسح رخصةٌ لا تثبت للعاصي، كما لو لبس خفاً من ذهبٍ أو فضة، لا يجوز المسح عليه. وإذا كان أقطع الرجل، وبقي في محل الغسل شيءٌ، فلبس عليه خفاً من خشب لا يمكنه متابعة المشي عليه إلا بالعصا- نظر: إن كان أخذه العصا لحدة الخف، لم يجز المسح عليه، وإن كان لجراحة الرجل، يجوز؛ كالمقعد إذا لبس الخف، يجوز له المسح عليه. وإن كان مقطوع إحدى الرجلين؛ فلبس الخف في الرجل الأخرى- جاز المسح عليه. فصلٌ في مسح الجرموق وهو خفٌ يلبسه فوق خف؛ فينظر فيه إن كان الأسفل متخرقاً أو ضعيفاً؛ بحيث لو انفرد- لا يجوز المسح عليه فهو كاللفافة، ويجوز المسح على الأعلى. وإن كان الأسفل؛ بحيث لو انفرد جاز المسح عليه، والأعلى ضعيف، أو متخرق؛ فالأعلى كالوقاية لا يجوز المسح عليه، بل يدخل يده تحته؛ فيمسح على الأسفل؛ فلو مسح الأعلى؛ فدخل الماء جوفه؛ فأصاب الأسفل، نظر: إن قصد المسح على الأسفل أو عليهما- جاز، وإن قصد مسح الأعلى لم يجز، وإن لم يخص واحداً، بل كان على النية الأولى؛ فقصد المسح في الجملة- فيه وجهان. وإن كان كل واحد منهما؛ بحيث لو انفرد- جاز المسح عليه؛ فهل يجوز المسح على الأعلى؟ فيه قولان: أظهرهما- وهو قوله الجديد-: لا يجوز، لأن الخف ممسوح في الطهارة؛ فلا يجوز المسح على ما يواريه؛ كالعمامة لا يجوز المسح عليها؛ لأنها تواري ممسوحاً؛ وهو الرأس. وقال في القديم، وهو مذهب أبي حنيفة وقول أكثر أهل العلم: يجوز المسح على الأعلى؛ لأن المسح على الخف جوز؛ رفقاً بالعباد؛ لاحتياجهم إلى لبسه، ولما يلحقه من المشقة في نزعه عند كل وضوء؛ فكذلك يحتاجون إلى لبس الجرموق في الأسفار والأوقات الباردة؛ فجاز لهم المسح عليه. فعلى هذا لو لبس ثالثاً ورابعاً بعضها فوق بعض-

جاز المسح على الأعلى، فإن كان الكل متخرقاً إلا الأعلى، جاز المسح على الأعلى بلا خلاف، وكان ما تحته كاللفائف. وإن قلنا: لا يجوز المسح على الجرموق؛ فأدخل يده تحته، ومسح على الخف- يجوز؛ كما لو مسح الرأس تحت العمامة، أو مسح على الجبيرة في كمه. وعلى هذا القول لو تخرق الخفان تحت الجرموقين: فإن كان حالة الخرق على طهارة اللبس، له أن يمسح بعده على الجرموقين؛ لأن الجرموق صار أصلاً. وإن كان محدثاً في تلك الحالة، لم يجز؛ كما لو أحدث اللبس لا على كمال الطهارة، وكذلك إن كان على طهارة المسح على الجرموق؛ لأن مسحه لم يكن جائزاً. وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموق؛ فلأي معنى يجوز؟ ذكر ابن سريج فيه ثلاث معاني: أصحها: أن الخف بدلٌ عن غسل الرجل، والجرموق بدل البدل. والثاني: [أن] الأسفل يصير كاللفافة، والخف هو الأعلى. والثالث: أنهما كخف واحد؛ فالأعلى ظهارةٌ، والأسفل بطانةٌ. وفائدة هذه المعاني تتبين في مسائل: منها: لو لبس الخف على [كمال الطهارة] ثم لبس الجرموق محدثاً فإن قلنا: الأعلى بدل البدل، أو الأسفل كاللفافة لا يجوز المسح عليه. فإن قلنا: الأعلى كالظهارة يجوز؛ كما لو ركب ي خفه طاقةً، وهو محدث. ولو لبس الجرموق على طهارة المسح. إن قلنا: مسح الخف يرفع الحدث عن الرجل، يجوز المسح على الجرموق. وإن قلنا: لا يرفع؛ فهو كما لو لبس الجرموق محدثاً. ولو لم يمسح على الجرموق وأدخل يده تحته؛ فمسح على الخف. إن قلنا: الأعلى بدلُ البدل، [يجوز]؛ كما لو غسل الرجل في الخف. وإن قلنا: الأسفل كالبطانة أو كاللفافة، لا يجوز. ولو لبس الجرموق في إحدى الرجلين إن قلنا: الأعلى بدل البدل، لا يجوز المسح

على الجرموق؛ كما لو لبس الخف في إحدى الرجلين، لا يجوز المسح عليه. وإن قلنا: الأسفل كاللفافة يجوز المسح على الجرموق والخف الآخر؛ لأن الخف إنما يصير كاللفافة إذا لبس الجرموق فوقه؛ فهذا كما لو كان على إحدى رجليه لفافةٌ دون الأخرى. وإن قلنا: الأعلى الظهارة يجوز أيضاً. ولو لبس الجرموقين، ومسح عليهما، ثم نزع الجرموقين؛ وهو على طهارة المسح. إن قلنا: الأعلى بدلُ البدل، لا يجب نزع الخفين، بل يعيد المسح على الخفين. وهل يجب استئناف الوضوء؟ فيه قولان. وإن قلنا: الأسفل كاللفافة، يجب عليه نزع الخفين، وغسل الرجلين. وفي استئناف الوضوء قولان. وإن قلنا: الأعلى كالظهارة، لا يجب عليه شيء؛ كما لو تخرقت ظهارة خفه؛ والبطانة ضعيفة. وكذلك لو نزع أحد الجرموقين بعد المسح. إن قلنا: الأعلى بدل البدل، يجب عليه نزع الجرموق الثاني، ويعيد المسح على الخفين. وإن قلنا: الأسفل كاللفافة، يجب عليه نزع الخفين، وغسل الرجلين. وإن قلنا: الأعلى كالظهارة، لا شيء عليه. ولو تخرق الجرموقان، أو أحدهما، فهو كما لو نزعه. وإن قلنا: الأعلى بدلُ البدل، عليه نزع الجرموقين، وإعادة المسح على الخفين. وإن قلنا: الأسفل كاللفافة، عليه نزع الخفين، وغسل الرجلين. وإن قلنا: الأعلى كالظهارة، لا شيء عليه. ولو تخرق الخفان تحت الجرموقين، يجوز المسح على الأعلى على المعاني كلها، وإن كان على طهارة المسح لا يبطل مسحه، وإن كان محدثاً، فيمسح على اللبس الأول. وإن تخرق إحدى الخفين: إن جعلناه كالبطانة وكاللفافة، لا شيء عليه، وإن جعلنا الأعلى بدل البدل، يجب عليه نزع الجرموق الذي لم يتخرق الخف تحته، ويعيد المسح على ذلك الخف. وفي استئناف الوضوء قولان. ولو تخرق الخفان والجرموقان أو تخرق الخف والجرموق من رِجلٍ واحدة، عليه نزع

الكل، إلا على قول من يجعل الأعلى كالظهارة وكان خرقُ الخف والجرموق في محلين مختلفين- فلا شيء عليه، كما لو تخرقت ظهارة الخف في موضع، والبطانة في موضع آخر وليس بصحيح. ولو [تخرق] الخف من رِجلٍ، والجرموق من الأخرى: إن جعلنا الأعلى كالظهارة، لا شيء عليه، وإن جعلنا الأسفل كاللفافة، عليه نزع الكل، وإن جعلنا الأعلى بدل البدل، عليه نزع الجرموق المتخرق، وأعاد المسح على الخف الذي تحته. ولو لبس خفاً ذات طاقين غير ملتصق إحداهما بالأخرى، وحرفهما واحد؛ فمسح على الطاقة الأولى- فهو كمسح الجرموق، ولو مسح على الطاقة الثانية، فكمسح الخف تحت الجرموق. قال الشيخ إمام الأئمة: عندي لا يجوز المسح على الطاقة الثانية، ويجوز على الأولى؛ لأن الكل خف واحد؛ فمسح الطاقة الثانية كمسح باطن الخف. فصلٌ في كيفية المسح روي عن المغيرة بن شعبة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- مسح أعلى الخف وأسفله. والحديث ضعيف الإسناد. الواجب من المسح: أن يمسح قدر ما ينطلق عليه اسم المسح؛ من ظهر الخف. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: يجب أن يمسح قدر ثلاث أصابع.

والسنة: أن يمسح أعلى الخف وأسفله؛ فيغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، ويضع أصابعه اليمنى على أطراف أصابع الرجل مفرقاً بين أصابعه، ثم: يمرر اليمنى إلى ساقه؛ واليسرى إلى أطراف أصابعه. روي ذلك عن ابن عمر؛ وهو قول الزهري، ومالك، وقال الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة: لا يمسح أسفل الخف. وهل يستحب مسح عقب الخف؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى؛ كالأسفل. والثاني: لا؛ لأن السنة ما حدثت به. فلو مسح أعلى الخف، ولم يمسح أسفله- جاز، ولو مسح أسفله، أو عقبه، أو حرفه، ولم يمسح أعلاه- لا يجوز. وقال أبو إسحاق: يجوز؛ لأنه مسح على ما يواري المغسول؛ كما لو مسح الأعلى. ولو مسح ساق الخف أو تراجع، لم يجز؛ لأنه لا يواري المغسول. ولو مسح باطن الخف، لم يجز. قال علي- رضي الله عنه-: لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهر خفه.

باب الحيض قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. الحيض: اسمٌ لدمٍ يرخيه الرحم؛ وهو شيء كتبه الله- تعالى- على بنات آدم، وله وقتٌ وتقديرٌ وحكمٌ؛ فالمرجع في وقته وتقديره إلى الوجود؛ وهو غالب العادات؛ لأن ما ورد به الشرع مطلقٌ، ولا حد له في اللغة يرجع فيه إلى العزف والعادة؛ فوقته بعد استكمال المرأة تسع سنين، فلو رأت الدم قبل هذا السن لا يكون حيضاً. قال الشافعي- رضي الله عنه-: وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء

"تهامة" يحضن لتسع- سنين. وأقل الحيض يومٌ وليلةٌ. وقال في موضعٍ: يومٌ. قيل: فيه قولان: والمذهب: أنه يومٌ وليلةٌ، وحيث قال: يومٌ أراد: بليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً؛ وهو قول علي رضي الله عنه. قال عطاءٌ: من النساء من يحضن يوماً، وتحيض خمسة عشر [يوماً]؛ وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وبه قال مالكٌ في الأكثر. وعنده: لا تقدير لأقله. وقال الثوري وأبو حنيفة: أقله: ثلاثة أيامٍ وأكثره: عشرة أيام. وأقل الطهر خمسة عشر يوماً بالاتفاق، ولا نهاية لأكثره. ويحرم في الحيض عشرة: إيتاء الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والمكث في المسجد، والطواف، ومس المصحف وقراءة القرآن، والسجود، والغشيان، والطلاق في حق بعض النساء ولا تصح طهارتها؛ لأن الطهارة تراد للصلاة، ولا تجوز صلاتها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة". ولا يجوز لها الصوم. والحيض يمنع جواز الصلاة، ووجوبها، ويمنع جواز

الصوم، ولا يمنع وجوبه؛ حتى أنها إذا طهرت يجب عليها قضاء الصوم، ولا يجب قضاء الصلاة؛ لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كنا نحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم نطهر؛ فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة. وهذا لأن الصلاة يتكرر وجوبها في اليوم مراراً، وربما تكون [المرأة] نصف دهرها حائضاً؛ فلو أمرناها بالقضاء لشق عليها، والصوم شهرٌ واحدٌ في السنة، وأكثر ما يفوتها بالحيض نصفه؛ فلا يشق عليها قضاؤه. ولا يجوز لها الاعتكاف والمكث في المسجد؛ [لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "إني لا أُحل المسجد لحائضٍ، ولا جنب" ولا يجوز لها الطواف]؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة وحاضت في الحج: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت".

ولا يجوز لها مس المصحف، ولا السجود؛ لأن الطهارة شرط فيهما ولا تصح طهارتها. ولا يجوز للزوج غشيانها؛ فإن وطئها مستحلاً كفر، وإن فعل غير مستحل، عصى الله - تعالى- واستغفر، ولا كفارة عليه؛ في قوله الجديد، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والشعبي، وابن المبارك، وأبو حنيفة؛ لأنه وطء محرم للأذى؛ فلا يتعلق به الكفارة، كالوطء في الدبر. وقال في القديم- وهو الأحوط-: إن كان في أول الدم يتصدق بدينارٍ، وإن كان في آخره، أو بعدما انقطع الدم قبل الغسل- يتصدق بنصف دينار، وهو قول الأوزاعي وأحمد، وإسحاق؛ لما روي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إذا وقع الرجل بأهله- وهي حائضٌ- إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينارٍ، وإن كان أصفر فنصف دينار".

وروي عن ابن عباس موقوفاً عليه إن أصابها في الدم فدينارٌ، وإن أصابها انقطاع الدم، فنصف دينار.

وقال الحسن: عليه ما على المجامع في نهار رمضان، ويجوز تقبيل الحائض ومضاجعتها بعدما شدت عليها إزاراً، ويستمتع بما فوق سرتها ودون ركبتها، ويحرم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها؛ على ظاهر المذهب؛ وهو قول أكثر أهل العلم. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه". وروي عن

معاذ قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عما يحل للرجل من امرأته؛ وهي حائض: قال: "ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل". وقال أبو إسحاق: لا يحرم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها؛ وهو قول عكرمة، ومجاهد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"؛ يعني: الجماع. ولأنه فرجٌ حرم الاستمتاع فيه؛ للأذى، فلا يحرم مما حواليه؛ كالدبر. ولا يحل للحائض شيء من محظورات الحيض بعد انقطاع دمها ما لم تغتسل، أو تيمم عند عدم

الماء، إلا الصوم والطلاق؛ فإنها لو طهرت بالليل، ونوت الصوم، واغتسلت بالنهار- صح صومها. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن طهرت لأكثر الحيض، جاز للزوج غشيانها قبل الغسل، وإن طهرت لدون ذلك، فلا يحل حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاة. والآية حجةٌ عليه؛ لأن الله - تعالى- قال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] يعني: انقطاع الدم {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن. {فَاتُوهُنَّ} فلم يأذن بالإتيان، إلا بعد الاغتسال. والله أعلم. فصلٌ في المستحاضة روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أستحاض؛ فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ألا إنما ذلك عرقٌ، وليس بحيضٍ فإذا أقبلت حيضتك؛ فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي. ويروى: "فإذا أدبرت فاغتسلي"؛ ويروى قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان

دم الحيض؛ فإنه دمٌ أسود يعرف؛ فإن كان ذلك، فامسكي عن الصلاة". دم الاستحاضة دمُ عرقٍ لا يتعلق به شيء من أحكام الحيض، وقد يكون منفصلاً عن دم الحيض؛ كالصغيرة قبل بلوغها تسع سنين، أو البالغة ترى الدم أقل من يوم وليلة، وقد يكون متصلاً بدم الحيض؛ كالبالغة يتصل بها الدم، حتى يجاوز خمسة عشر يوماً؛ فكم يكون حيضها؟ فلا يخلو إما إن استحيضت مميزةً أو غير مميزة؛ وهي التي ترى الدم على نوعين، بعضه أقوى، وبعضه أضعف؛ كالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأصفر، والثخين أقوى من الدقيق، والمتغير أقوى من المشرق؛ فيجب عليها أن تعمل

بالتمييز؛ فيكون الدم القوي لها حيضاً، والضعيف استحاضةً. وعند أبي حنيفة: لا تعمل بالتمييز، بل ترد إلى عادتها إن كانت معتادةً وإن كانت مبتدأةً، فإلى أكثر الحيض. والحديث حجة عليه، وإنما يعمل بالتمييز بثلاث شرائط: أحدها: ألا ينقص الدم القوي عن يوم وليلة. والثاني: ألا تزيد عن خمسة عشر يوماً. والثالث: ألا ينتقص الدم الضعيف بين الدمين القوي عن خمسة عشر يوماً؛ لأنه طُهرٌ في حق المميزة، والطهر لا ينتقص عن خمسة عشر يوماً؛ فإن انتقص الدم القوي عن يوم وليلة، أو زاد على خمسة عشر يوماً، أو انتقص الدم الضعيف عن خمسة عشر [يوماً] فهي كمن رأت الكل على لونٍ واحدٍ. ولو كانت ترى يوماً وليلة دماً أسود، ثم يوماً وليلة أحمر، ثم أسود، ثم أحمر؛ فإن انقطع على خمسة عشر يوماً فالكل حيضٌ، وإن جاوز، فهو كما لو رأت الدم كله على لونٍ واحدٍ؛ لأن الدم الضعيف لم يبلغ أقل الطهر. وإذا اجتمع دمان قويان، ومجموعهما لا يزيد على خمسة عشر يوماً، تجعل الكل حيضاً؛ مثل: إن رأت خمسة أيام دماً أسود، ثم خمسةً دماً أحمر، ثم أصفر واستمر، وزاد على خمسة عشر؛ فأيام السواد والحمرة حيضٌ، وما بعدهما استحاضةٌ. وإذا تغير دم المميزة من القوة إلى الضعف في خمسة عشر في الشهر الأول الذي استحيضت فيه؛ فإنها تدع الصلاة والصوم رجاء الانقطاع على خمسة عشر؛ فإن انقطع خمسة [عشر] فما دونها؛ فالكل حيضٌ؛ حتى لو رأت خمسة دماً أسود وخمسةً أحمر، وخمسة أصفر، وانقطع يكون الكل حيضاً، إلا على قول من لا يجعل الصفرة في غير أيام العادة- حيضاً. فتقول: حيضها عشرة أيام، فإذا جاوز خمسة عشر حينئذٍ- تغتسل، وتقضي صلوات أيام الدم الأضعف، ثم في الشهر الثاني إذا تغير الدم من القوة إلى الضعف- تغتسل وتصلي، وتصوم. ولو انقطع على خمسة عشر، تجعل الكل حيضاً؛ لأن الغالب أنه لا ينقطع على عادة الشهر الأول، وإذا اختلفت عادتها في التمييز بالزيادة والنقصان، تعمل على اختلاف

عادتها؛ مثل: إن كانت عادتها من كل شهر خمسة أيام دماً أسود، وباقي الشهر أحمد؛ فجاءها شهرٌ، ورأت فيه ستة أيام دماً أسود، ثم أحمر، وجاوز خمسة عشر يوماً فحيضها فيه ثلاثة أيام. ولو جاءها بعد ذلك شهر؛ فرأت في جميعه الدم على لونٍ واحدٍ، فحكمها حكم المعتادة إذا استحيضت ترد إلى عادتها. ولو أن مبتدأة رأت شهراً دماً أحمر، ثم في الشهر الثاني رأت خمسة أيامٍ دماً أسود، وباقي الشهر أحمر، ثم في الشهر الثالث رأت الكل أحمر، فحيضها في الشهر الأول حيض المبتدأة وفي الثاني حيضها خمسة أيام على التمييز، وفي الثالث أيضاً خمسة أيام؛ لأنها أقرب العادات. هذا إذا تقدم الدم القوي. فأما إذا تقدم الأضعف على الدم الأقوى؛ نظر: إذا لم يزد على خمسة عشر [يوماً]، مثل: إن رأت مبتدأة خمسة دماً أحمر، ثم خمسة أسود، وانقطع، أو رأت خمسةً دماً أحمر، ثم عشرة أسود، أو عشرة أحمر، ثم خمسة أسود، وانقطع- ففيه وجهان: أصحهما- وهو المذهب-: أن الكل حيضٌ؛ كما لو تقدم السواد. والثاني: حيضها أيام السواد؛ لأنه أقوى، ولا يتقوى به الدم الضعيف؛ لأنه سابق. ولو رأت خمسة دماً أحمر، ثم خمسةً أسود ثم خمسةً أحمر، وانقطع- فعلى الوجه الأول؛ وهو المذهب: الكل حيضٌ. وعلى الوجه الثاني: حيضها أيام السواد مع الحمرة التي تتبعها والخمسة الأولى دم فسادٍ. وإن جاوز خمسة عشر، فلا يخلو: إما إن أمكن الجمع بين الابتداء والتمييز أو لم يمكن. فإن أمكن الجمع؛ مثل: إن رأت خمسةً دماً أحمر، ثم خمسة دماً أسود، ثم أحمر، وجاوز خمسة عشر- ففيه وجهان: أحدهما: حيضها أيام السواد؛ لأنه اعتبار صفة الدم؛ فهو أولى من اعتبار السبق.

والثاني: يجمع بين الابتداء والتمييز؛ فحيضها عشرة أيام؛ لأن للخمسة الأولى قوة السبق، وللثانية قوة الدم؛ فاستويا. وكذلك: لو رأت [خمسة دماً أحمر، ثم عشرة أسود، ثم أحمر، أو رأت عشرة أحمر، ثم خمسة أسود، ثم أحمر]؛ فعلى الوجه الأول: حيضها أيام السواد. وعلى الوجه الثاني: حيضها خمسة عشر يوماً. وقيل: حيضها حيض المبتدأة من ابتداء الحمرة. وإن لم يمكن الجمع بين الابتداء والتمييز؛ مثل: إن رأت سبعاً دماً أحمر، ثم عشرة دماً أسود- فعلى الوجه- الأول: حيضها أيام السواد، وعلى الوجه الثاني: حيضها حيض المبتدأة من ابتداء الحمرة. ولو رأت خمسة عشر يوماً دماً أحمر، ثم خمسة عشر دماً أسود- فعلى الوجه الأول: حيضها أيام السواد، وعلى الوجه الثاني: حيضها حيض المبتدأة من ابتداء الحمرة. ولو رأت خمسة عشر يوماً دماً، أحمر، ثم خمسة عشر دماً أسود- فعلى الوجه الأول: حيضها أيام السواد، وعلى الوجه الثاني: حيضها حيض المبتدأة؛ من ابتداء ما رأت الدم ولا يتصور مستحاضةً تدع الصلاة شهراً كاملاً إلا هذه على الوجه الأول؛ وذلك أنها تدع الصلاة أول ما رأت الدم؛ رجاء الانقطاع، فإذا لم ينقطع، وتغير إلى السواد، بان أن ما مضى كان استحاضةً، وحيضها أيام السواد؛ فتترك الصلاة إلى آخر الشهر، ثم تغتسل، وتعيد صلوات أيام الحمرة. ولو رأت خمسة أيام دماً أحمر، ثم رأت ستة عشر دماً أسود- فقد بطل العمل بالتمييز هاهنا؛ لأن الدم القوي زاد على خمسة عشر فحيضها حيض المبتدأة؛ من ابتداء الحمرة؛ لا يختلف القول فيه. ولو رأت ستة عشر يوماً دماً أحمر، ثم عشرة دماً أسود: فإن قلنا: بظاهر المذهب: إن المبتدأة تردُ إلى يوم وليلة، فهاهنا يومٌ وليلة لها حيضٌ؛ من ابتداء الحمرة، وأيام السواد حيضٌ؛ لا يختلف القول فيه، لأن بينهما طهراً كاملاً وكذلك إذا كان عددُ أيامِ الحمرة أكثرهن ستة عشر. وإن قلنا: ترد المبتدأة إلى ست أو سبع في هذه الصورة- فعلى الوجه الأول: حيضها أيام السواد، وعلى الوجه الثاني: ست أو سبع من ابتداء الحمرة، ولو أن معتادةً استحيضت مميزة؛ فإنها تعمل بالتمييز على الصحيح من المذهب؛ كالمبتدأة إذا استحيضت

مميزة؛ لأن التمييز اعتبار صفة الدم؛ فهو أولى من اعتبار زمانه؛ كالعدة بالأقراء تقدم على الأشهر. وقال ابن خيران، والإفصطخري: -تعمل بالعادة؛ وهو قول أبي حنيفة- رحمه الله-. وإن كانت نسيت عادتها، فحكمها حكم ناسيةٍ لا تمييز لها. والمذهب الأول: أنها تعمل بالتمييز. بيانه: امرأة عادتها: أنها تحيضُ من كل شهر خمسة أيام وتطهر خمسةً وعشرين؛ فجاءها شهر؛ فرأت فيه ستة أيام دماً أسود، ثم ثلاثة أيام، ثم أحمر، وجاوز خمسة عشر، فحيضها أيام السواد على الصحيح من المذهب. وعلى قول ابن خيران والإصطخري: حيضها خمسة أيام؛ على عادتها [القديمة]. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه: على قياس قول من يذهب إلى الجمع بين العادة والتمييز في المسألة التي بعدها، يجب أن يكون حيضها في هذه المسألة أكثر المدتين من العادة أو التمييز. ولو كانت عادة حيضها خمسة أيام من أول كل شهر، والباقي طهرها، جاءها شهر، ورأت الخمسة أيام [الأولى] دماً أحمر ثم خمسة دماً أسود، ثم أحمر، وجاوز خمسة عشر- فثلاثة أوجه: أحدها: حيضها أيام السواد، وعلى قول ابن خيران، والإصطخري: الخمسة الأولى على العادة. والوجه الثالث: تجمع بين العادة والتمييز، فحيضها عشرة أيام، وكذلك إذا كانت عادتها بالتمييز، بأن كانت ترى من أول كل شهر خمسة أيام دماً أسود، وباقي الشهر أحمر؛ فجاءها شهر، ورأت الخمسة الأولى دماً أحمر، ثم خمسةً دماً أسود، ثم أحمر، واستمر-

فعلى الوجه الأول: حيضها أيام السواد، وعلى الوجه الثاني: حيضها الخمسة الأولى وعلى الوجه الثالث: حيضها عشرة أيام. وإذا لم يمكن الجمع بين العادة والتمييز؛ بأن كانت عادةُ حيضها خمسة أيام؛ من أول الشهر جاءها شهر، ورأت خمسة عشر يوماً دماً أحمر، ثم خمسةً أسود: فمن قال: تعمل بالتمييز، فحيضها أيام السواد وصار طهرها أربعين يوماً. ومن قدم العادة، قال: حيضها الخمسة الأولى على عادتها. ومن ذهب إلى الجمع، قال: هاهنا [الجمع] لا يمكن، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فحيضها حيض المبتدأة من ابتداء الحمرة، ولو كانت عادتها خمسة أيام من أول الشهر جاءها شهرٌ، ورأت عشرين يوماً دماً أحمر، ثم خمسة دماً أسود؛ فالخمسة الأولى لها حيضٌ على عادتها وأيام السواد حيضٌ؛ لأن بينهما طُهراً كاملاً لا يختلف القول فيه. فأما إذا استحاضت المرأة غير مميزة؛ فلا يخلو: إما إن كانت معتادةً أو مبتدأةً، أو ناسيةً: فإن كانت معتادةً؛ بأن كانت تحيض من كل شهرٍ خمسة أو عشرة، وتطهر الباقي؛ فجاءها شهر، واستحاضت فيه- فإنها ترد إلى عادتها في الحيض والطهر؛ سواء ثبتت عادتها بحيضٍ وطهرٍ صحيح، أو بالتمييز؛ وسواء كانت تحيضُ في كل شهرٍ مرةً، أو في كل شهرين. لما روي عن أم سلمة؛ أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاستفتت لها أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال عليه السلام: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر؛ فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ولتستثفر، ثم لتصل".

والمعتادة: إذا جاوز الدم عادتها أول مرة، لا تغتسل، بل تدع الصلاة؛ رجاء أن ينقطع على خمسة عشر أو دونها؛ فيكون الكل حيضاً، وإن جاوز خمسة عشر حينئذٍ تغتسل، وتقضي صلوات الأيام التي جاوزت عادتها، ثم في الشهر الثاني؛ كما [إذا] انقضت أيام عدتها، تغتسل، وتصلي، وتصوم، ثم إن جاوز الدم خمسة عشر، صحت صلاتها وصومها. وإن انقطع على خمسة عشر، فالكل حيضٌ، ويجب عليها قضاء صيام تلك الأيام كلها. والعادة تثبت بمرةٍ واحدة حتى لو حاضت مبتدأة أول مرة. خمسة أيام، وطهرت بقية الشهر، ثم في الشهر الثاني استمر بها الدم، وجاوز خمسة عشر- فحيضها من شهر الاستحاضة خمسة أيام وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا تثبت العادة بأقل من مرتين، والعادة المستقرة قد تزداد وتنتقص، وتنتقل، والحكم للآخر إذا استحيضت بعده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها". وبيان الزيادة: امرأةٌ عادة حيضها من أول كل شهر خمسة أيام جاءها شهر؛ فرأت فيه ستة أيام دماً، وانقطع؛ فحيضها في هذا الشهر ستة أيام، وطهرها أربع وعشرون فإذا استحيضت في الشهر الثاني نردها إلى ستة أيام في الحيض وفي الطهر إلى أربع وعشرين. وبيان النقصان: امرأة عادةُ من أول كل شهر خمسة أيام، ثم جاءها شهر؛ فرأت فيه ثلاثة أيام دماً، وانقطع؛ فحيضها في هذا الشهر ثلاثة أيامٍ، وطهرها سبعٌ وعشرون. فإذا استحيضت بعد هذا الشهر تردها إلى ثلاثة أيام في الحيض، وفي الطهر إلى سبع وعشرين. ولو أن مبتدأة رأت ثلاثة أيام دماً، وانقطع، ثم في الشهر الثاني رأت خمساً، وانقطع، ثم استحيضت في الشهر الثالث- تردها إلى خمسٍ. ولو رأت أول مرة خمساً، ثم في الشهر الثاني ثلاثاً، ثم استحيضت في الشهر الثالث- تردها إلى ثلاثة. وبيان الانتقال: امرأة عادتها من أول كل شهر خمسة أيام جاءها شهرٌ؛ فرأت الخمسة الأول نقاءً، والخمسة الثانية دماً، واستحيضت؛ فالخمسة الثانية لها في هذا الشهر حيضٌ

وبعدها ثلاثون يوماً طهراً؛ لأن العادة الأخيرة في الطهر؛ وعلى هذا أمرها أبداً ما دام الدم متصلاً. وقال أبو إسحاق المروزي رحمه الله: ليس لها في شهر الانتقال حيضٌ، فإذا تم الشهرُ فحيضها خمسة أيام من الشهر الذي بعده؛ على عادتها القديمة. والمذهب الأول. وإذا رأت في شهر الانتقال الخمسة الثانية دماً، وانقطع، ثم بعدها بعشرين يوماً رأت الدم، واستحيضت- نجعل لها الخمسة الأولى بعد العشرين حيضاً وعشرين يوماً طهراً؛ لأنها العادة الأخيرة. هكذا أبداً يكون لها من كل خمس وعشرين يوماً خمسةٌ حيضٌ. ولو رأت في شهر الانتقال الخمسة الثانية دماً، وانقطع، ثم في الشهر الثاني رأت الخمسة الثانية أيضاً، واستحيضت- فالخمسة الثانية لها حيضٌ. وعاد طهرها إلى خمسٍ وعشرين. ولو كانت عادتها خمسة أيام من أول كل شهر، جاءها شهر؛ فرأت الخمسة الأولى على عادتها دماً، وانقطع، ثم عاودها الدم في هذا الشهر بعد مضي خمسة عشر يوماً، واستحيضت- فالخمسة الأولى لها حيضٌ، والخمسة الخامسة حيضٌ، ثم بعدها خمسة عشر يوماً طهرٌ؛ لأنها العادة الأخيرة في الطهر، وكذلك لو رأت الخمسة الخامسة دماً وانقطع، ثم عاودها لدم بعد خمسة أيام في ابتداء الشهر على عادتها القديمة، واستحيضت فالخمسة الخامسة لها حيضٌ، ولا حيض لها في ابتداء الشهر ما لم يتم خمسة عشر. وقال أبو إسحاق: الخمسة الخامسة دم فسادٍ، وحيضها خمسةُ أيام من الشهر الذي بعدها على العادة القديمة. ولو كانت للمرأة عاداتٌ مختلفةٌ، فلا تخلو: إما أن يكون لها دورٌ مستقيم، أو لم يكن. فإن كان لها دورٌ مستقيمٌ؛ بأن كانت ترى في الشهر بثلاث أيام دماً، وانقطع، ثم في شهرٍ خمسة أيام، ثم في شهرٍ سبعة أيامٍ، ثم يعود؛ فترى ثلاثاً، ثم خمساً، ثم سبعاً. وأقل مدة تستقيم هذه العادة ستة أشهر؛ فإذا استحيضت عقب الشهر الثالث، ترد إلى الثالث أبداً، وإن استحيضت عقب الشهر الخامس، ترد إلى الخمس أبداً، وإن استحيضت

عقب شهر السابع ترد إلى السابع أبداً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها" فردها إلى الشهر الذي قبل الاستحاضة، ولأن العادة كما ثبتت بمرة، تنتقل بمرةٍ واحدة. والوجه الثاني: ترد إلى دور عادتها، فإن استحيضت عقب الشهر الثالث ترد إلى الخمس، ثم إلى السابع، وإن استحيضت عقب الشهر الخامس ترد إلى السبع، ثم إلى الثالث، وإن استحيضت عقب الشهر السابع، ترد إلى الثالث، ثم إلى الخامس. فإن قلنا: ترد إلى ما قبل الاستحاضة، فهل يجب عليها أن تعمل بالاحتياط ما بين أقل عادتها إلى أكثر عادتها؛ ففيه وجهان: أحدهما: لا بد لها بعد الأيام المردود إليها ما للطاهرات، وعليها ما على الطاهرات؛ كما في العادة المستقيمة. والثاني: تعمل بالاحتياط. وبيانه: أنها إن استحيضت عقب شهر الثلاث، ورددناها إلى الثلاث، فبعد مضي الثلاث تغتسل وتصلي وتصوم، ثم بعد انقضاء الخمس تغتسل، ثم تغتسل بعد انقضاء السبع، ويجتنبها زوجها في هذه المدة. بعد مضي السبع حتى تقضي صيام الكل؛ لاحتمال أنها كانت حائضاً، ولم يصح صومها، ولا تقضي الصلاة؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد صلت، وإن كانت حائضاً فلا صلاة عليها. وإن استحيضت عقب شهر الخمس، تترك الصلاة والصوم إلى انقضاء الخمس، ثم تغتسل وتصلي وتصوم، ويجتنبها زوجها إلى انقضاء السبع، ثم بعده تغتسل وتصلي، وتقضي صيام الكل، وتقضي صلوات اليوم الرابع والخامس؛ لاحتمال أنها كانت طاهرةً، ولم تصل. وإن استحيضت عقب الشهر السابع، تترك الصلاة والصوم إلى انقضاء السبع، ثم تغتسل، وتقضي صلوات اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع. وإن لم يكن لها دورٌ مستقيم بأن كانت ترى في بعض الشهور ثلاثاً، وفي بعضها خمساً، وفي بعضها سبعاً بلا ترتيب، ولكن أوائلها متفقةٌ؛ فإذا جاءها شهرٌ، واستحيضت فيه؛ فإنها ترد إلى ما قبل الاستحاضة أبداً. ثم هل تعمل بالاحتياط، إما بين أقل العادات وأكثرها؟ فعلى وجهين كما ذكرنا.

وإن لم تعرف عادة الشهر الذي استحيضت بعده؛ فإنها ترد إلى أقل العادات، وتعمل بالاحتياط ما بين أقلها وأكثرها، وإن كان لا يتفق أوائل حيضها بأن كانت تحيض في بعض الشهور في أوله، وفي بعضه في وسطه، وفي البعض في آخره ترد إلى ما قبل الاستحاضة. فإن أشكل عليها أمر الشهر الذي قبل الاستحاضة- فهي كالناسية؛ فمن أول الشهر إلى انقضاء أقل عادتها تتوضأ لكل فريضةٍ، وبعدها إلى آخر الشهر تغتسل لكل فريضة. فصلٌ في المبتدأة إذا استحيضت المبتدأة، فإلى ماذا ترد؟ فيه قولان: أصحهما: إلى أقل الحيض؛ وهو يومٌ وليلة، من ابتداء ما رأت الدم، وباقي الشهر؛ وهو تسع وعشرون لها طهرٌ؛ لأن سقوط الصلاة والصوم عنها في يوم وليلة بيقين، وفيما زاد عليه شك، والفرض لا يسقط بالشك. القول الثاني: ترد إلى ست أو سبع غالب عادات النساء؛ لما روي عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضةً كثيرة شديدةً، فجئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- أستفتيه، فقال: "إنما هي ركضةٌ من ركضات الشيطان؛ فتحيضي ستة أيامٍ، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي؛ فصلى أربعةً وعشرين ليلة وأيامها، أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي وكذلك افعلي في كل شهرٍ؛ كما تحيض النساء، وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن".

وقوله: "ست أيامٍ، أو سبع" ليس على التخيير، بل على التنويع، ومعناه: إن كانت عادة نسائك ستاً فتحيضي ستاً، وإن كانت سبعاً، فسبعاً. ومن قال بالأول، أجاب بأن حمنة لم تكن مبتدأة، بل كانت معتادةً، شك النبي - صلى الله عليه وسلم- في عادتها أنها ستة أو سبعة. وعند أبي حنيفة رحمه الله. ترد المبتدأة إلى أكثر الحيض؛ وهو عشرة أيام، وعلى القولين جميعاً تترك الصلاة في الشهر الأول إلى خمسة عشر؛ رجاء أن تنقطع على خمسة عشر، فما دونها؛ فيكون الكل حيضاً فإذا جاوز خمسة عشر [تغتسل] وتقضي صلوات أربعة عشر يوماً؛ على القول الأصح. وعلى القول الآخر: صلوات ما وراء الست والسبع، ثم في [أول] الشهر الثاني إذا جاوز الزمان المردود إليه اغتسلت وصلت. وإذا رأت المبتدأة أول ما رأت الدم، تدع الصلاة والصوم؛ لأن الظاهر أنه حيضٌ. وقيل: لا تدع بأول الرؤية؛ لأنا لا نعرفه حيضاً ما لم يمض يومٌ وليلة. فإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع؛ فالعبرة بعادة نساء عشرتها من جهة الأب والأم جميعاً. فإن كانت عادة بعضهن سناً، وعادة بعضهن سبعاً ترد إلى الأغلب؛ فإن استويا، فإلى الست؛ لأنها أقل، وإن كانت عادتهن أقل من ست، أو أكثر من سبع، ففيه وجهان: أقيسهما: ترد إلى عادتهن. والثاني: ترد إلى الست أو السبع، لأنها الأغلب من عادات النساء؛ لظاهر الخبر، فإن اعتبرنا عادة نساء عشيرتها، فلم يكن لها عشيرةٌ. بعادة نساء بلدها وقبيلتها؛ فإن لم يكن في قبيلتها أحدٌ فبأقرب القبائل إليها، فإذا رددناها إلى يوم وليلة، أو إلى ست أو سبع- فهل يجب عليها بعد هذه الأيام أن تعمل بالاحتياط إلى تمام خمسة عشر يوماً؟ فيه قولان:

أصحهما: لا، بل فيما بعدها، لها ما للطاهرات، وعليها ما على الطاهرات تصلي وتصوم، وتقضي فيه الفوائت، ويأتيها زوجها؛ كما بعد خمسة عشر يوماً؛ وكالمعتادة بعد انقضاء أيام عادتها. والقول الثاني: يجب عليها العمل بالاحتياط بخلاف المعتادة؛ لأنا رددناها إلى يقين حيضٍ اعتادته؛ فعلى هذا يجب عليها أن تغتسل لكل فريضةٍ بعد الأيام المردود إليها، ويجب عليها أن تصوم، وتطوف إن كان عليها طواف؛ ويجتنبها زوجها، ولا يصح فيها قضاء الفوائت من الصوم والصلاة والطواف؛ لاحتمال أنها حائضٌ، فلا يصح منها قضاؤها، ثم بعد انقضاء خمسة عشر تغتسل وتقضي الصيام والطواف الذي أتت به في هذه الأيام، ولا تقضي فرائض الأوقات، لأنها إن كانت طاهرةً فقد صلتها، وإن كانت حائضاً فلا صلاة عليها. وحكى البويطي قولاً عن الشافعي رحمه الله: أن المبتدأة ترد إلى أقل الحيض، وأقل الطهر. والمذهب الأول: أن لها في كل شهر حيضاً وطهراً واحداً [والله أعلم]. فصلٌ في المرأة ترى الصفرةَ والكدرة روي أن نساء [المهاجرين] كن يبعثن إلى عائشة- رضي الله عنها- بالدرجة فيها الكرسف فيها الصفرة؛ فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد: الطهر من الحيض. قال الشافعي رحمه الله: والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض؛ لا خلاف أن المعتادة إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام عادتها يكون ذلك حيضاً. فأما المبتدأة إذا رأت الصفرة أو الكدرة، أو المعتادة إذا رأت في غير أيام عادتها:

فذهب الأكثر من أصحابنا إلى أن كل زمان يجعل فيه الحمرة حيضاً، ويجعل الصفرة والكدرة فيه حيضاً، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. ومعنى قول الشافعي- رحمه الله- "في أيام الحيض" أي: في أيام إمكان الحيض حيضٌ. وذهب صاحب "التلخيص"، و .... كان يذهب أبو إسحاق، ثم رجع عنه: أنها لا تكون حيضاً في غير أيام العادة؛ وهو قول ابن المسيب، وعطاء، وأكثر الفقهاء؛ وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد؛ لما روي عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة، والصفرة بعد الطهر شيئاً. فإن جعلناها حيضاً، فلا يشترط أن يتقدمها شيء من الدم القوي؛ كما في أيام العادة. وقيل: يشترط أن يتقدمها شيء من الدم القوي؛ حتى يستتبع الضعيف؛ فعلى هذا كم يشترط؟ فيه وجهان: أصحهما: لحظة. والثاني: يوم وليلة؛ حتى يتقوى فيستتبع الضعيف. خرج من هذه الجملة: لو أن مبتدأة رأت خمسة أيام صفرةً أو كدرةً- وانقطع فهو حيضٌ عند الأكثرين من أصحابنا.

وعلى قول صاحب "التلخيص" ومن شرط تقدم السواد ليس بحيض؛ وهو قول أكثر الفقهاء. ولو رأت خمسةً دماً أسود، ثم خمسة أصفر، أو معتادة عادتها خمسة، رأت هكذا- فالكل حيضٌ عند الأكثرين وعلى قول صاحب "التلخيص": حيضها أيام السواد. ولو رأت المبتدأة خمسةً دماً أصفر، ثم خمسة أسود، وانقطع- فعند الأكثرين: حكمه حكم ما لو رأت خمسةً دماً أحمر، ثم خمسةً أسود- فالكل حيضٌ؛ على أصح الوجهين: وعلى الثاني: حيضها أيام السواد. وعلى قول صاحب "التلخيص" ومن يشترط تقدم السواد: حيضها أيام السواد. ولو رأت خمسة صفرة ثم خمسة عشر سواداً، فعلى قول صاحب "التلخيص"، ومن يشترط تقدم السواد: حيضها أيام السواد. وعلى قول الآخرين: تبنى على أن الابتداء؛ هل يترك بالتمييز، أم لا؟ إن قلنا: يترك، فحيضها أيام السواد. وإن قلنا: لا يترك، فحيضها حيضُ المبتدأة من ابتداء الصفرة. ولو رأت خمسةً صفرةً وستة عشر سواداً: على قول صاحب "التلخيص"، ومن يشترط تقدم السواد حيضها حيضُ المبتدأة من ابتداء السواد. وعلى قول الآخرين: حيضها حيض المبتدأة من ابتداء الصفرة؛ لأن التمييز قد بطل ها هنا. ولو رأت خمسة دماً أحمر، [ثم خمسةً أصفر]، ثم خمسةً أسود، [فعند الأكثرين حكمه حكم ما لو رأت عشرة دماً أحمر، وخمسة دماً أسود] فالكل حيضٌ على أصح الوجهين. وعلى الثاني: حيضها أيام السواد وعلى قول من لا يجعل الصفرة حيضاً حكمها حكم ما لو رأت خمسة دماً وخمسة نقاءً ثم خمسة دماً- يبنى على القولين في تلفيق الدم إن قلنا: نلفق فحيضها أيام الحمرة والسواد. وإن قلنا: لا نلفق، فالكل حيض.

فصلٌ في الناسية روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن سهلة بنت سهيلٍ استحيضت، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن تغتسل لكل صلاة. وقال الشيخ إمام الأئمة: هذا الحديث في مستحاضةٍ نسيت عادتها، فأمرها بالاغتسال عند كل صلاة؛ لأنه ما من وقت صلاةٍ إلا ويحتمل فيه انقطاع دم الحيض، ووجوب الغسل عليها. أما الناسية وتسمى: متحيرة، لا يخلو: إما إن لم تذكر شيئاً من طهرها، أو حيضها، أو ذكرت شيئاً. فإن لم تذكر شيئاً؛ بأن كانت معتادةً نسيت عادتها، أو جنت صغيرة؛ فأفاقت والدم بها متصل- ففيها قولان. أحدهما: حيضها حيض المبتدأة من أول كل هلالٍ؛ فالشهر في حق المستحاضة نوبةُ حيضها وطهرها، طالت أم قصرت، وفي حق هذه ما بين الهلالين. وقال الشيخ القفال: إذا أفاقت المجنونة، والدم بها متصلٌ فشهرها ثلاثون يوماً، وابتداؤه من وقت الإفاقة؛ لأن تلك الحالة حالة توجه الخطاب عليها. والقول الثاني- وهو الأصح-: لا نجعل لها حيضاً بيقين، [ولا طهراً بيقين] بل يجب عليها أن تأخذ بالاحتياط أبداً؛ لأنه ما من حالةٍ من أحوالها إلا ويحتمل فيها الحيض والطهر والانقطاع، والاحتياط يكون في أربعة أشياء: في الصلاة، والطواف، والصوم، والغشيان. أما إذا لزمتها العدة، فحكم بانقضائها في ثلاثة أشهر؛ لأن الأغلب في أحوال النساء أن تكون لهن في كل شهر حيضةٌ، ولو لم نحكم بانقضاء عدتها، لبقيت في حيال الزوج أبداً، وفيه إضرارٌ بها. أما الغشيان: فلا يجوز للزوج أن يغشاها أبداً؛ فلو فعل، عصى الله تعالى. وأما الصلاة: فيجب عليها أن تصلي صلوات اليوم والليلة، كل صلاة مرتين بست اغتسالاتٍ.

بيانه: إذا دخل عليها وقت الظهر تغتسل وتصلي الظهر، ثم إذا دخل وقت العصر تغتسل وتصلي العصر، فإذا غربت الشمس تغتسل وتصلي المغرب، ثم تتوضأ؛ فتقضي الظهر، ثم تتوضأ؛ فتقضي العصر. وإنما أوجبنا قضاءهما؛ لاحتمال أن دمها انقطع قبل غروب الشمس؛ فلم يصح فعلهما في أول الوقت، ولزمها قضاؤهما بإدراك آخر الوقت. ولا يجب الغسل لقضائهما؛ لأن الانقطاع إن كان قبل الغروب، فغسل المغرب كافٍ لهما، وإن كان الانقطاع بعد الغروب؛ حتى لم يصح غسلها للمغرب، ولا يجب عليها قضاء الظهر والعصر، ثم إذا دخل وقت العشاء تغتسل وتصلي العشاء، ثم إذا طلع الفجر تغتسل وتصلي الصبح، ثم تقضي المغرب والعشاء بوضوءين؛ لاحتمال أن دمها انقطع قبل طلوع الفجر فلم يصح فعلهما في أول الوقت، ولزمها قضاؤهما بإدراك آخر الوقت- ثم إذا طلعت الشمس تغتسل، وتقضي الصبح؛ لاحتمال أن الدم انقطع قبل طلوع الشمس، فلم يصح فعل الصبح في أول الوقت. قال الشيخ إمام الأئمة- رحمه الله-: ولو قدمت قضاء الظهر والعصر بعد غروب الشمس على أداء المغرب - فعليها أن تغتسل لقضاء الظهر، وتتوضأ لقضاء العصر، ثم تغتسل لصلاة المغرب. وكذلك في المغرب والعشاء إذا قدمت قضاءهما بعد طلوع الفجر على فعل الصبح، فتحتاج إلى ثمانٍ اغتسالاتٍ. بوضوءين. قال الشيخ: ولو كانت تغتسل لكل صلاة، وتصليها مرة حتى يمضي الشهر، فلا يجب عليها إلا قضاء صلوات يومين؛ لأن أشد أحوالها أن يكون ابتداء حيضها في صلاة، والانقطاع في الأخرى. ويحتمل كون الصلاتين متفقتين؛ فيكون لمن نسي صلاتين من صلوات شهر، وشك أنهما متفقتان، أو مختلفتان- فلا يجب عليه إلا قضاء صلوات يومين. وإن كانت على هذه المرأة فائتة، يجب عليها فعلها ثلاث مرات بثلاث اغتسالاتٍ؛ فتغتسل في أي وقت شاءت وتصليها، ثم تمهل بعد فعلها قدر إمكان فعلها مع الغسل، ثم بعد زمان الإمهال إلى تمام خمسةً عشر من ابتداء الشروع تغتسل [في] أي وقت شاءت وتصليها مرة أخرى. ثم بعد كمال خمسة عشر تمهل قدر إمكان فعلها مع الغسل، ثم- تغتسل ثالثاً وتصلي. ولو أنها أمهلت في أحد الطرفين دون الثاني، لا يسقط الفرض عنها؛ إن لم تمهل في الطرف الأول، بل حصلت الثانية متصلة بالأولى؛ فيحتمل انقطاع حيضها في الثانية،

وابتداء حيض الثاني في خلال الثالثة؛ فيبطل الكل. وإن لم تمهل في الطرف الثاني، بل حصلت الثانية والثالثة متصلين بعد انتهاء خمسة عشر؛ فيحتمل انقطاع حيضها في الأول والابتداء في الثانية؛ فيغسل الكل. ولو كانت عليها فائتتان؛ فأرادت قضاءهما معاً، اغتسلت أي وقتٍ شاءت، وصلت إحداهما، ثم توضأت عقيبها وصلت الأخرى، ثم أمهلت قدر إمكان فعلهما مع الغسل، ثم بعد زمان الإمهال إلى تمام خمسة عشر صلتهما مرة أخرى بالاغتسال الأول، والوضوء للثانية، ثم بعد كمال خمسة عشر أمهلت قدر إمكان فعلهما، ثم صلتهما بالغسل للأول، والوضوء للثانية؛ سواء اتفقت الصلاتان عدداً، أو - اختلفتا؛ وحكم الطواف حكم الفائتة؛ يجب فعله ثلاث مرات بثلاث اغتسالات، ولا يجب الغسل لركعتي الطوافل؛ وهل يجب الوضوء لهما، أم لا؟ إن قلنا: ركعتا الطواف نفلٌ، لا يجب. وإن قلنا: فرض، يجب. وقيل: لا يجب؛ لأنهما تبعٌ للطواف. وأما الصوم، فإن كان عليها صوم يوم، يجب عليها أن تصوم ثلاثة أيام؛ تصوم يوماً متى شاءت، ثم تمهل يوماً إلى تمام خمسة عشر من اليوم الأول؛ تصوم يوماً آخر وتمهل يوم السادس عشر، وتصوم يوم السابع عشر. ولو لم تمهل في أحد الطرفين، لا يسقط الفرضُ عنها؛ كما وصفنا في الصلاة. قال الشيخ إمام الأئمة- رحمه الله-: وإذا لم تُمهل، تحتاج أن تصوم أربعة أيام لصوم يومين، ثم بعد كمال خمسة عشر تصوم يوم السادس عشر، والسابع عشر. وكذلك في الطواف والصلاة تحتاج إلى فعلها أربع مرات تطوف مرتين بغسلين، ثم بعد كمال خمسة عشر تطوف مرتين آخرتين بغسلين، وكذلك الصلاة. ولو كان عليها صوم يومين، يجب عليها أن تصوم ستة أيام؛ تصوم يومين، ثم إلى كمال السادس عشر تصوم يومين آخرين، ويسميان يومي الاشتراك، ثم تصوم السابع عشر والثامن عشر. ولا يجب الإمهال، بل يجوز [أن تصوم] اليومين المتوسطين متصلاً بالأولين، أو بالآخرين، أو تصل أحد اليومين باليومين الأولين، والثاني بالآخرين، أو تصوم بينهما. وفي صوم اليوم الواحد، لو صامت أربعة أيام هكذا؛ بأن صامت يوماً، ثم صامت

يومي الاشتراك إلى كمال السادس عشر. ثم صامت يوم السابع عشر، ولم تُمهل- سقط الفرض عنها وإن كان عليها صوم ثلاثة أيام، يجب عليها أن تصوم ثمانية أيام؛ تصوم ثلاثة أيام، ثم تصوم يومي الاشتراك إلى كمال السادس عشر، ثم تصوم من السابع عشر ثلاثة أيام. وكذلك إن كان عليها صوم أربعة أيام فأكثر، يجب عليها أن تصوم ذلك العدد، ثم تصوم يومي الاشتراك إلى كمال السادس عشر؛ متى شاءت، ثم تصوم من السابع عشر ذلك العدد على التوالي. وإن كان عليها صوم أربعة عشر يوماً؛ يجب عليها صوم ثلاثين يوماً على التوالي، فإذا دخل عليها شهر رمضان، يجب عليها أن تصوم جميع الشهر؛ فيحسب لها منه أربعة عشر يوماً، ثم تصوم شهراً آخر؛ فيتم لها ثمانيةٌ وعشرون يوماً؛ فيبقى لها من قضائه صوم يومين؛ فتصوم ستة أيام؛ كما وصفناه. وإن خرج شهر رمضان ناقصاً؛ فيحصل لها الصوم ثلاثة عشر يوماً، وإن كان عليها صوم شهرين متتابعين، يجب عليها صوم أربعة أشهر وعشرين يوماً .... متتابعات؛ فيحصل لها الصوم أربعة أشهر؛ صوم ستة وخمسين يوماً، وتصوم عشرين صوم أربعة أيام. ولا يجوز التفريق؛ لأن التتابع فيه فرصة. فأما إذا كانت الناسية تذكر شيئاً من حيضها أو طهرها- فكل زمان يحتمل فيه قطعُ الدم، يجب عليها أن تغتسل فيه لكل صلاة. وكل زمان لا يحتمل فيه الانقطاع، عليها أن تتوضأ لكل صلاة؛ سواء كان زمان شك، أو يقين طهر، وتصوم، وفي زمان الشك يجتنبها زوجها؛ كما في يقين الحيض ثم لا تخلو هذه المرأة: إما إن عرفت قدر حيضها أو لم تعرف. فإن لم تعرف؛ فلا يخلو: إما إن عرفت موضع حيضها من الشهر، أو لم تعرف. فإن لم تعرف؛ مثل: إن قالت: لا أذكر شيئاً إلا انقطاع دمي؛ كأن يكون بالليل- يجب عليها أن تغتسل لصلاة الليل أبداً، وتتوضأ لصلوات النهار. ولو كان على هذه صوم يوم، يجب عليها أن تصوم يومين بينهما أربعة عشر يوماً. ولو قالت: كان انقطاع دمي وقت الزوال- يجب عليها أن تغتسل كل يوم وقت الزوال، وتتوضأ لسائر الصلوات.

ولو قالت: لا أحفظ شيئاً، إلا أني كنت لا أخلط الشهر بالشهر؛ تعني: كنت في الطرفين طاهرةً- فتقول لها: ساعة عن آخر الشهر، وساعة من ليلة الهلال طُهرٌ بيقين، وبعده زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع، تتوضأ لكل صلاةٍ إلى انقضاء يوم وليلة، ثم بعده يحتمل الانقطاع تغتسل لكل صلاة؛ إلى أن يبقى من الشهر ساعةٌ. ولو قالت: كنت لا أخلطُ الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس طاهرةً؛ فساعة من آخر الشهر، وساعة من أوله طُهرٌ بيقين، وبعده زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع؛ تتوضأ لكل صلاة إلى مضي يوم وليلة، ثم تغتسل لكل صلاةٍ إلى انقضاء اليوم الرابع، وليلة الخامس، ثم يوم الخامس طهرٌ، ثم بعده يوم وليلة زمانُ شكٍّ لا يحتمل فيه الانقطاع؛ تتوضأ لكل صلاة، ثم بعده يحتمل الانقطاع، تغتسل لكل صلاة إلى أن يبقى من الشهر ساعةٌ. ولو عرفت موضع حيضها؛ مثل: إن قالت: كان حيضي أول الشهر؛ فيوم وليلة من أول الشهر لها حيض بيقين، ثم بعد غسل لكل صلاة، إلى انقضاء خمسة عشر يوماً؛ لأنه يحتمل فيها انقطاع الدم، ثم بعده طهر بيقين. ولو قالت: كان انقطاع دمي في آخر الشهر؛ فيوم وليلة من آخر الشهر لها حيضٌ، وتغتسل بعده، والنصف الأول من الشهر طهر، وبعده زمان الشك لا يحتمل فيه الانقطاع، تتوضأ لكل صلاة إلى أن يبقى من الشهر يوم وليلة. ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، أو كنت أخلط بياض شهر بسواد شهرٍ- فساعتان لها حيضٌ بيقين؛ ساعة من آخر الشهر، وساعة من أول ليلة الهلال، ثم بعده زمان الشك، ويحتمل فيه الانقطاع؛ تغتسل لكل صلاة إلى أن يبقى من اليوم الخامس عشر ساعة، ثم تلك الساعة، وساعة من الليلة السادس عشر طهرٌ بيقين، ثم بعده زمان الشك، ولا يحتمل فيه الانقطاع، تتوضأ لكل صلاة إلى أن يبقى من الشهر ساعة. ولو قالت: كنت أخلط سواد شهرٍ بسواد شهر- فساعةٌ من آخر ليلة الثلاثين، ويوم الثلاثين، وساعة من ليلة الهلال لها حيضٌ بيقين، وبعده زمانُ شك، يحتمل فيه الانقطاع، تغتسل لكل صلاةٍ إلى أن يبقى من ليلة الخامس عشر ساعة، ثم تلك الساعة. ويوم الخمس عشر، وساعة من ليلة السادس عشر طُهرٌ بيقين، وبعده زمان شك، يحتمل فيه الانقطاع، تتوضأ لكل صلاة إلى أن تبقى من ليلة الثلاثين ساعة. ولو قالت: كنت أخلط بياض شهر. [ببياض شهر]، فساعة من آخر يوم الثلاثين،

والليلة الأولى من الشهر الثاني، وساعة بعد طلوع الفجر لها طُهرٌ بيقين، ثم بعده زمان شك، يحتمل فيه الانقطاع، تغتسل لكل صلاة إلى أن تبقى من يوم الخامس عشر ساعة. ثم تلك الساعة، وليلة السادس عشر وساعته بعد طلوع الفجر طُهرٌ بيقين، ثم بعده زمانٌ شكٍ لا يحتمل فيه الانقطاع؛ تتوضأ لكل صلاة، إلى أن يبقى من الشهر ساعةٌ. ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر بيوم وليلة- فيوم وليلة من آخر الشهر ويوم وليلة من أوله لها حيضٌ ثم بعده زمان شك، يحتمل [فيه] الانقطاع، تغتسل لكل صلاة إلى انقضاء يوم الرابع، ثم يوم الخامس عشر والسادس عشر مع ليلتهما طهرٌ بيقين، ثم بعده زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع، تتوضأ لكل صلاةٍ إلى انقضاء التاسع والعشرين. ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس حائضاً- فساعة من آخر الشهر إلى انقضاء خمسة أيام من الشهر الثاني لها حيضٌ بيقين، ثم بعده زمان شكٍ يحتمل فيه الانقطاع؛ تغتسل لكل صلاة، إلى أن تبقى من اليوم الخامس عشر ساعة، ثم بعده إلى انقضاء العشرين طهرٌ بيقين، ثم بعده زمان شكٍ لا يحتمل فيه الانقطاع؛ تتوضأ لكل صلاةٍ إلى أن يبقى من الشهر ساعة. ولو قالت: كنت أخلطُ الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس طاهرةً، فساعة من آخر الشهر، وساعة من أوله حيض بيقين، ثم بعده زمان شك يحتمل فيه الانقطاع؛ تغتسل لكل صلاةٍ [إلى انقضاء اليوم الرابع، ويوم الخامس طهر بيقين إلى أن يمضي من ليلة السادس عشر ساعةٌ، ثم بعده زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع تتوضأ لكل صلاة]، إلى أن يبقى من الشهر ساعة. فأما إذا عرفت المستحاضةُ الناسية قدر حيضها، إلا أنها قد أضلته- لا تخلو: إما أن أضلته في جميع الشهر، أو في أيام بعينها من الشهر. فإن أضلت في جميع الشهر؛ بأن قالت: حيضي خمسة أيام أضللتها في جميع الشهر؛ نظر: إن قالت: كنت لا أخلط الشهر بالشهر- فإنها تتوضأ لكل صلاة من أول الشهر إلى انقضاء اليوم الخامس؛ لأنه يحتمل فيه الطهر والحيض، ولا يحتمل الانقطاع، ثم بعده يحتمل الانقطاع؛ تغتسل لكل صلاةٍ إلى آخر الشهر. فإن عرفت انقطاع دمها في وقت معلومٍ- فبعد انقضاء الخامس تغتسل لكل يوم في

ذلك الوقت؛ فتتوضأ لسائر الصلوات. وإذا صامت هذه شهر رمضان، يحصل لها صوم أربعة وعشرين يوماً؛ لأنه قد يقع النهار مشتركاً بين الطهر والحيض؛ فيبطل صوم ستة أيام. فإن عرفت انقطاع دمها بالليل، يحصل لها صوم خمسة وعشرين يوماً، ثم إذا أرادت قضاء صوم الخمسة، تصوم عشرة أيام على التوالي؛ ويتصور سقوط الفرض عنها بصوم ستة أيام إذا فُرِّقت؛ وهو أن تصوم يوماً، وتمهل أربعة، ثم تصوم يوماً، وتمهل أربعة هكذا، حتى تصوم ستة أيام في ستة وعشرين يوماً. فإن قالت: كان حيضي خمسة أيام أضللتها، ولا أدري: هل كنت أخلط الشهر بالشهر، أو لا أخلط؟ فهي كمن لا يحفظ شيئاً؛ يجب عليها أن تغتسل لجميع الصلوات أبداً. وإن قالت: أضللت خمسة في الشهر، وكنت لا أخلط العشر بالعشر- فعليها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى من كل عشرة، وفي الخمسة الثانية تغتسل لكل صلاة. ولو قالت: أضللتُ- عشرة أيام في الشهر، وأعلم أني كنت لا أخلط العشر بالعشر- فلا غسل عليها إلا عند انقضاء كل عشر؛ فتتوضأ لسائر الصلوات. ولو قالت: أضللت خمسة في الشهر، وكنت إما اليوم الخامس، أو الخامس والعشرين حائضاً أو قالت: كنت إذا كنت يوم الخامس حائضاً، كنت يوم الخامس والعشرين طاهرة، وإذا كنت يوم الخامس طاهرةً، كنت يوم الخامس والعشرين حائضاً- فعليها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى، ثم بعده تغتسل لكل صلاة إلى انقضاء اليوم التاسع، ثم بعده إلى انقضاء العشرين طهرٌ بيقين، ثم بعده زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع؛ تتوضأ لكل صلاةٍ إلى انقضاء الخامس والعشرين، ثم بعده تغتسل لكل صلاةٍ إلى انقضاء التاسع والعشرين ويوم الثلاثين طهرٌ بيقينٍ. ولو قالت: كنت أحيض من الشهر خمسة عشر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم. معناه: أني كنت أحيضُ أربعة عشر يوماً من أحد النصفين، ويوماً من النصف الآخر فإن كان اليوم من النصف الأول، فأول حيضها الخامس عشر، وآخرها التاسع والعشرون. وإن كان اليوم من النصف الثاني، فأول حيضها اليوم الثاني من الشهر، وآخره السادس عشر، فلها يومان من الشهر طهرٌ بيقين: اليوم الأول والآخر، ويومان حيضٌ بيقين؛ وهو الخامس عشر والسادس عشر وعليها غسلان: غسلٌ عند انقضاء السادس عشر، وغسلُ عند انقضاء التاسع والعشرين. ولو قالت: كنت أحيضُ أربعة عشر يوماً، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم- فأربعة

أيام لها طُهرٌ بيقين: يومان من أول الشهر، ويومان من آخره؛ فيومان لها حيضٌ بيقين الخامس عشر والسادس عشر، وعليها غسلان عند انقضاء السادس عشر، وغسل عند انقضاء الثامن والعشرين. ولو قالت: كنت أحيضُ خمسة عشر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيومين؛ فيومان في أول الشهر، ويومان من آخره طهرٌ بيقين، وأربعة أيام من وسطها حيضٌ بيقين؛ أولها الرابع عشر، وعليها غسلان: غسلٌ عند انقضاء السابع عشر، وآخر عند انقضاء الثامن والعشرين، هكذا كلما زاد الخلط بيوم زاد طهر يومين؛ يوم من أوله، ويوم من آخره، وحيضٌ يومين من وسطه إلا أن تقول: كنت أخلط بثمانية؛ فحينئذٍ لا تزيد شيئاً فيكون حكمه حكم ما لو قالت: كنت أخلط سبعة؛ لأنه إذا كانت ثمانية من أحد النصفين، يكون سبعة من النصف الآخر؛ فيكون لها أربعة عشر طهرٌ بيقين؛ سبعة من أول الشهر، وسبعة من آخره، وأربعة عشر حيضٌ بيقين؛ سبعة من أول الشهر، وسبعة من آخره، وأربعة عشر حيضٌ بيقين؛ أولها اليوم التاسع، وآخرها الثاني والعشرون، واليوم الثامن والثالث والعشرون زمان الشك، وعليها غسلان عند انقضاء الثاني والعشرين، وعند انقضاء الثالث- والعشرين. ولو قالت: كنت أخلط بتسعة، فهو كما لو قالت: كنت أخلط بستة. ولو قالت: كنت أخلط [من الشهر] بعشرة، فهو كما لو قالت: بخمسة. وقس عليه. ولو قالت: كنت أخلط من الشهر خمسة عشر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أدري هل كنت أخلط بأكثر، أم بأقل، وتعرف أن اليوم كاملٌ في الخلط، فيومان لها طُهرٌ بيقين: أحدهما من أول الشهر، والآخر من الآخر، ويومان من وسطه حيضٌ؛ كما ذكرناه، غير أنه يجب عليها أن تغتسل بعد السادس عشر [لكل صلاةٍ إلى انقضاء] التاسع والعشرين. فإن لم تعرف أن الخلط فيما زاد على اليوم بجزء وبأكثر- يجب عليها أن تغتسل بعد السادس عشر كل صلاة إلى انقضاء التاسع والعشرين. ولو قالت: كنت أحيضُ خمسة عشر، وكنت أخلط النصف بالنصف بجزءٍ- فلها جزءٌ من آخر الشهر، وجزءٌ من أوله طهرٌ، وجزءٌ من آخر الخامس عشر، وجزءٌ من ليلة السادس

عشر حيضٌ بيقينٍ، وعليها غسلان: غسل بعد جزءٍ من ليلة السادس عشر، وغُسلٌ حين يبقى من آخر الشهرة جزءٌ، وتتوضأ لسائر الصلوات. فإن قالت في هذه الصور: كنت أخلط النصف بالنصف بجزءٍ، ولا أدري هل كنت أخلط بأكثر أم لا؟ فالحكم عندي هكذا. إلا أن هاهنا بعد جزء من ليلة السادس عشر تغتسل لكل صلاة، إلى أن يبقى من الشهر جزءٌ؛ لاحتمال الانقطاع فيه. فأما إذا أضلت حيضها في أيام بعينها من الشهر؛ نظر: إن كان حيضها لا يزيد على نصف الأيام المنسي فيها، تتوضأ لكل صلاةٍ إلى انقضاء عدد أيام حيضها؛ لأنه لا يحتمل فيه الانقطاع، وبعده تغتسل لكل صلاةٍ إلى انقضاء الأيام المنسي فيها؛ لاحتمال الانقطاع فيه؛ مثل: إن قالت: أضللت ثلاثة أيام في العشرة الأولى من الشهر- فإلى انقضاء ثلاثة أيام؛ تتوضأ لكل صلاةٍ، وبعدها تغتسل لكل صلاةٍ إلى انقضاء العشرة، ثم بعد طُهرٌ بيقين. ولو قالت أضللت خمسة في العشر الأول، فإلى انقضاء خمسة أيام تتوضأ لكل صلاة، ثم إلى تمام العشر تغتسل لكل صلاةٍ، وإن كان عدد حيضها يزد على نصف الأيام المنسي فيها، فيكون لها حيضٌ بيقين؛ وذلك أنا نقدم حيضها في الأيام المنسي فيها أقصى ما يمكن؛ فتؤخر أقصى ما يمكن؛ فما دخل من الأيام في آخر التقديم، وأول التأخير حيضٌ، وقبلها زمان شك لا يحتمل فيه الانقطاع تتوضأ لكل صلاةٍ. وبعدها زمان شك يحتمل فيه الانقطاع تغتسل لكل صلاة. بيانه: إذا قالت: قد أضللت ستة أيام في العشرة الأولى، فإذا قدمنا حيضها أقصى ما يمكن، يكون حيضها من ابتداء الشهر إلى انقضاء السادس، وإذا أخرنا أقصى ما يمكن، يكون ابتداء حيضها من اليوم الخامس إلى انقضاء العاشر؛ فاليوم الخامس والسادس يدخلان في آخر التقديم، وأول التأخير؛ فهما حيضٌ بيقين، وأربعة أيامٍ من أول الشهر؛ تتوضأ لكل صلاةٍ، وبعد اليوم السادس تغتسل لكل صلاة أربعة أيام إلى انقضاء العشر. ولو قالت: أضللت سبعة في العشر الأولى، فثلاثة أيام من أول الشهر؛ تتوضأ لكل صلاة، ثم أربعة أيام لها حيضٌ، وبعده ثلاثة أيام؛ تغتسل لكل صلاةٍ. ولو قالت: أضللت ثمانية في العشرة الأولى؛ فيومان من أولها؛ تتوضأ لكل صلاة، ثم ستة أيام لها حيضٌ، وبعده يومان؛ تغتسل لكل صلاة. ولو قالت: أضللت تسعةً في العشرة الأولى- فيوم من أول الشهر؛ تتوضأ لكل صلاةٍ، ثم ثمانية أيام لها حيضٌ، وبعده يوم واحد؛ تغتسل لكل صلاة.

ولو قالت: أضللت خمسة في العشرة الأولى، وأعلم أني كنت طاهرةً. في اليوم الثالث- فالثلاثة الأولى لها طهرٌ، وإنما أضلت حيضها في سبعة أيام بعدها؛ ففي اليوم الرابع والخامس تتوضأ لكل صلاة، ثم ثلاثة أيام لها حيضٌ بيقين؛ وهي اليوم السادس والسابع والثامن، وبعده يومان؛ تغتسل لكل صلاة. ولو قالت: كنت في اليوم الثالث حائضاً- فهذه أضلت حيضها في السبعة الأولى، وثلاثة أيام من آخر العشر مع بقية الشهر لها طُهرٌ بيقين، ويومان من أول العشر، تتوضأ لكل صلاة، ثم ثلاثة أيام لها حيض بيقين؛ وهو اليوم الثالث والرابع والخامس، ثم بعدها يومان: السادس والسابع؛ تغتسل لكل صلاة. فإن قالت: حيضي خمسة أيام في العشرة الأولى، وكنت يوم السادس طاهرةً- فهذه قد نطقت بما أزال الشك؛ فيكون حيضها الخمسة الأولى. ولو قالت: كنت يوم الخامس طاهرةً، فحيضها الخمسة الثانية. فصلٌ في التلفيق إذا رأت المرأة يوماً دماً ويوماً نقاءً، ثوم يوماً دماً، ويوماً نقاءً، أو رأت يوماً دماً، ويومين نقاءً، ثوم يوماً دماً، ويومين نقاءً، ثم [يوماً] دماً. أو رأت أكثر لكن لم يتخلل بين الدمين أقل الطهر- فلا يخلو: إما أن انقطع على خمسة عشر، أو جاوز خمسة عشر: فإن انقطع على خمسة عشر، فما دونها، فلا خلاف أن أيام الدم حيضٌ، وفي أيام النقاء قولان: أصحهما- وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: أنها حيضٌ؛ لأن الحائض لا يسيل منها الدم على الدوام، بل ساعة فساعة، ثم ساعات الانقطاع لا تجعل طهراً. والقول الثاني: وهو اختيار ابن سريج: أن الدماء تلفق؛ فيجعل أيام النقاء طهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم وصلي". والإدبار إنما يعرف بالانقطاع؛ فلو أن امرأةً رأت يوماً دماً، وليلة دماً، ثم رأت ثلاثة عشر يوماً نقاءً، ثم يوماً وليلة دماً- فعلى القول الأول [الخمسة عشر] كلها حيضٌ. وعلى القول الثاني: اليوم الأول والخامس عشر حيضٌ، وما بينها طُهرٌ.

فإن قيل: إذا جعلتم أيام النقاء طهراً وجدت أن تنقضي عدة المرأة في ستة أيام إذا كانت ترى يوماً دماً ويوماً نقاءً، هكذا حتى مضت ستة أيام. قلنا: لا تنقضي؛ لأن عليها أن تعتد بأقراء كوامل، وهذا كله قرءٌ واحدٌ؛ تفرق عليها، هذا إذا رأت في كلِّ دفعة أقل الحيض، فإن لم تبلغ في كل دفعة أقل الحيض؛ بأن كانت ترى نصف يوماً دماً، ونصف يومٍ نقاء، أو ساعة فساعة إلى خمسة عشر- نظر: إن بلغ مجموع الدم في خمسة عشر أقل الحيض- فالصحيح من المذهب: أنه يبنى على قول التلفيق؛ وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق، وأكثر أصحابنا. فإن قلنا: لا يلفق الدم، فالكل حيض. وإن قلنا: يلفق، فساعات الدم حيضٌ، وساعات النقاء طهرٌ حتى إن رأت يوماً بلا ليلةٍ أو أقل دماً، ثم في آخر خمسة عشر رأت ما يتم به يوم وليلة دماً، وانقطع- كان الخمسة عشر كلها حيضٌ على القول الأول. وعلى القول الثاني: الدمان حيضٌ وما بينهما طهرٌ. ومن أصحابنا من قال: الكل دمُ فسادٍ، إلا أن يتقدمها أقل الحيض دفعةً واحدة، ويتأخرها أقل الحيض فتستتبع أيام النقاء؛ كما في الزكاة، ما لم يكن المال المختلط نصاباً [لا] يستتبع غير المختلط. فإن كان في أحد الطرفين يوم وليلة دون الثاني- فاليوم والليل لها حيض، والثاني دمُ فسادٍ. ومن أصحابنا من قال: إذا تقدمها أقل الحيضِ؛ يستتبع الساعات المتفرقة. ولو رأت يوماً وليلة دماً، وأربعة عشر نقاءً، ثم يوماً وليلة دماً- فالأول حيضٌ، والثاني استحاضةٌ؛ لا يختلف القول فيه؛ لأن الثاني خارجٌ عن خمسة عشر، وإن كان بينهما خمسة عشر نقاء، فكلاهما حيضٌ؛ لا يختلف القول فيه، وما بينهما طُهرٌ كاملٌ، فأما إذا لم يبلغ مجموع الدم في خمسة عشر أقل الحيض- فهو دم فسادٍ. ولو ن امرأة رأت أول ما رأت يوماً وليلةً دماً، وانقطع- يجب عليها أن تغتسل على القولين، وتصلي وتصومن ويجوز للزوج غشيانها؛ لأنها لا تدري هل يعود الدم، أم لا؟ ثم إذا عاد الدم، تدع الصلاة والصوم، ثم إذا انقطع تغتسل، وتصلي، وتصوم، وتطوف، ثم بعد خمسة عشر: إن قلنا: الدماء لا تلفق، يجب عليها قضاء الصيام والطواف؛ لأنه بان أنها كانت حائضاً، فلم يصح صومها وطوافها، ولا يجب عليها قضاء الصلوات.

وإن قلنا: الدماء تلفق لا يجب عليها قضاء صيام أيام النقاء في الشهر الثاني، إذا قلنا: الدم يلفق يفعل هذا، تغتسل كلما انقطع الدم، وتصلي، وتصوم في أيام النقاء، ولا قضاء لما فعلت. وإن قلنا: لا تلفق [لا] تدع الصلاة والصوم أيام النقاء؛ لأن الغالب أن الدم يعود على عادة الشهر الأول، وغن لم يعد بان أنها كانت طاهرةً، وتقضي صلوات أيام النقاء. ولو رأت أول ما رأت نصف يوم دماً، أو أقل من يوم وليلة، وانقطع- فلا غسل عليها، إلا على قول من يقول: إن الدم يلفق؛ فالاحتياط أن تغتسل؛ لأن الدم إذا عاد، تبين أن الغسل كان واجباً عليها؛ فإذا تكرر ذلك، يجب عليها أن تغتسل عند كل انقطاع؛ على هذا القول. هذا إذا انقطع دم ذات التلفيق على خمسة عشر. فأما إذا جاوز خمسة عشر؛ نظر: إن كانت مميزةً، فأيام الدم القوي لها حيضٌ، وفي النقاء المتخلل بينهما قولان، وما بعدهما دمُ فسادٍ. مثل: إن كانت ترى يوماً وليلة دماً أسود، ثم يوماً وليلة نقاءً، ثم دماً أسود ثم نقاءً، ثم دماً أسود، ثم نقاء، ثم أحمر الدم؛ فكانت ترى يوماً دماً أحمر، ثم [يوماً] نقاءً؛ حتى جاوز خمسة عشر. فإن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام؛ وهي أيام السواد مع النقاء المتخلل بينهما. وإن قلنا: تلفق، فحيضها ثلاثة أيام؛ وهي أيام السواد، وإن لم تكن مميزة؛ لا تخلو: إما إن كانت معتادةً أو مبتدأة: فإن كانت معتادةً، ترد إلى عادتها؛ مثل: إن كانت عادتها من كل شهرٍ خمسة أيام، جاءها شهر؛ فرأت فيه يوماً دماً، ويوماً نقاءً، هكذا حتى جاوزت خمسة عشر. فإن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام على التوالي من أول الشهر وإن قلنا: بتلفيق الدماء، فاختلف أصحابنا فيه. منه من قال: تلفق من أيام العادة؛ فيكون حيضها ثلاثة أيام: الأول والثالث والخامس. ومنهم من قال: تلفق قدر العادة. من جملة خمسة عشر يوماً؛ فحيضها خمسة أيام الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع.

ولو كانت عادتها ستة أيام من كل شهر، فجاءها شهرٌ؛ فرأت يوماً دماً ويوماً نقاء، هكذا حتى جاوزت خمسة عشر. فإن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام على التوالي؛ لأن اليوم السادس لها نقاءٌ لم يتخلل بين دمي الحيض، وإنما نجعل أيام النقاء حيضاً على هذا القول، إذا تخللت بين دمي الحيض. وإن قلنا: تلفق الدماء فإن قلنا: تلفق من أيام العادة، فحيضها ثلاثة أيام: اليوم الأول والثالث والخامس. وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فحيضها هذه الأيام مع السابع والتاسع. ولو كانت عادتها عشرة، فجاءها شهر، فرأت فيه يوماً دماً، ويوماً نقاءً، هكذا حتى إذا جاوز خمسة عشر. إن قلنا: الدماءُ لا تلفق، فحيضها تسعة أيام على التوالي؛ لأن اليوم العاشر نقاءٌ لم يتخلل بين دمي الحيض. فإن قلنا: تلفق الدماء: فإن قلنا: تلفق من أيام العادة، فحيضها خمسة أيام من التسعة: اليوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فحيضها ثمانية أيام هذه الأيام مع الحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر؛ لأنه لم يوجد في خمسة عشر إلا ثمانية أيام دماً. ولو كانت عادتها خمسة أيام من كل شهر، فرأت اليوم الأول من الشهر نقاءً، والثاني دماً، ثم نقاءً، ثم دماً، هكذا حتى جاوز خمسة عشر، فهذا مبنيٌ على أن المعتادة إذا جاءها شهرٌ؛ فتأخر دمها عن عادتها، واستحيضت؛ هل تنتقل عادتها، أم لا؟ على قول أبي إسحاق: لا تنتقل، بل تراعي أيامها المتقدمة، فإن وجد فيها أو في بعضها دمٌ، فهو حيضٌ، وإن لم يوجد فلا حيض لها في هذا الشهر؛ [على ما ذكرناه]. والصحيح من المذهب أن العادة تنتقل؛ فعلى هذا: إن قلنا: إن الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام على التوالي، أولها اليوم الثاني. وإن قلنا: تلفق، فإن قلنا: تلفق من أيام العادة، فحيضها ثلاثة أيام [على التوالي] الثاني والرابع والسادس؛ لأنا إذا نقلنا عادتها فمن أول اليوم الثاني إلى خمسة أيام من عادتها.

وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فحيضها خمسة أيام: الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر. وعلى قول أبي إسحاق إن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها ثلاثة أيام: الثاني والثالث والرابع. وإن قلنا: تلفق، الثاني والرابع، فاليوم الثاني والرابع. ولو كانت عادتها خمسةً، جاءها شهر؛ فرأت قبله بيوم دماً، ثم اليوم الأول من الشهر الثاني نقاءً، ثم دماً، ثم نقاءً، حتى لو جاوزت خمسة عشر، إن قلنا: بظاهر المذهب: إن العادة تنتقل بأول مرة: إن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها خمسة أيام على التوالي، أولها اليوم الأخير من الشهر. وإن قلنا: تلفق: فإن قلنا: تلفق من أيام العادة، فحيضها اليوم الأخير، واليوم الثاني والرابع من الشهر الثاني. وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فهذه الأيام مع السادس والثامن وعلى قول أبي إسحاق: إن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها اليوم الثاني والثالث والرابع من الشهر الثاني. وإن قلنا: تلفق، فيومان الثالث الثاني والرابع، ولو كانت عادتها من كل شهر خمسة، فجاءها شهر، فرأت يومين دماً، ويومين نقاءً، ثم يومين دماً، ثم نقاءً؛ هكذا حتى جاوز خمسة عشر فإن قلنا: الدماء لا تلفق، فحيضها في هذا الشهر خمسة أيام على التوالي، فاليوم الخامس لها حيضٌ، والسادس استحاضةٌ. وإن قلنا: تلفق، فإن قلنا: تلفق من أيام العادة، فحيضها اليوم الأول والثاني والخامس. وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فحيضها خمسة أيام؛ هذه الأيام مع اليوم السادس والتاسع، واليوم العاشر استحاضةٌ، ثم في الشهر الثاني يكون ابتداء الشهر نقاءً. وإن قلنا: بظاهر المذهب: إن العادة تنتقل بأول مرةٍ: فإن قلنا: الدم لا يلفق، فحيضها خمسة أيام على التوالي؛ أولها اليوم الثالث من الشهر، وآخرها اليوم السابع. وإن قلنا: تلفق: فإن قلنا تلفق من أيام العادة، فحيضها ثلاثة أيام: الثالث والرابع والسابع. وإن قلنا: من جملة خمسة عشر، فحيضها خمسة أيام؛ هذه الأيام مع اليوم الثامن والحادي عشر.

وعلى قول أبي إسحاق: العادة لا تنتقل بأول مرة، فحيضها في هذا الشهر اليوم الثالث والرابع فحسب؛ سواء قلنا: الدم يلفق أو لا يلفق؛ لأن اليوم الأول والثاني والخامس نقاءٌ، ثم في الشهر الثالث يتخلل النقاء من دم الحيض؛ فيكون حيضها خمسة أيام على التوالي إن قلنا: لا تلفق الدماء. وإن قلنا: تلفق، فثلاثة أيام، فما دامت ترى هكذا، يكون حيضها على قول أبي إسحاق: في شهر يومان، وفي شهر إما خمسة، أو ثلاثة على اختلاف القولين. ولو كانت عادتها من كل شهر سبعة أيام، فجاءها شهر، ورأت خمسة أيام دماً، وانقطع، ثم عاودها الدم وزاد على يوم وليلة؛ نظر: إن تخلل بين الدمين خمسة عشر، فهما حيضان وما بينهما طهرٌ، وإن لم يتخلل بينهما أقل الطهر؛ نظر: إن عاودها الدم بعد تمام خمسة عشر يوماً من ابتداء الدم الأول، فالثاني دمُ فسادٍ، وإن عاودها قبل تمام خمسة عشر؛ مثل: إن عاودها اليوم العاشر؛ نظر: إن انقطع على خمسة عشر من ابتداء الدم الأول، فالدمان حيضٌ، وفي النقاء المتخلل بينهما قولان. إن قلنا: لا تلفق الدماء، فالكل حيضٌ. وإن قلنا: تلفق، فالنقاء طهرٌ، وإن استمر حتى جاوز خمسة عشر: فإن قلنا: الدم لا يلفق، فالخمسة الأولى حيضٌ والثاني دمُ فسادٍ. وكذلك إذا قلنا: الدم يلفق من أيام العادة. وإن قلنا: يلفق في جملة خمسة عشر، فالخمسة الأولى لها حيضٌ، مع اليوم العاشر والحدي عشر. ولو عاودها الدم اليوم السابع، واتصل؛ فجاوز خمسة عشر. فإن قلنا: الدم لا يلفق، فحيضها سبعة أيام على التوالي. وإن قلنا: يُلفق من أيام العادة، فحيضها الخمسة الأولى مع اليوم السابع والثامن، فإن كانت المرأة مبتدأة، رأت يوماً وليلة دماً، ثم يوماً وليلة نقاءً؛ حتى جاوز خمسة عشر. فإن قلنا: بالقول الأصح: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة، فاليوم الأول مع ليلته حيضٌ، والباقي طُهرٌ. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع، يبني على قولي التلفيق. وإن قلنا: لا تلفق الدماء فإن رددناها إلى ست، فحيضها خمسة أيام على التوالي؛ لأن اليوم السادس طهر لم يتخلل بين دمي الحيض، وإن رددناها إلى سبع، فحيضها سبعة

أيام على التوالي وإن قلنا: نلفق الدماء: فإن قلنا: تلفق من الأيام المردودة إليها، فإن رددناها إلى ست، فحيضها اليوم الأول والثالث والخامس، وإن رددناها إلى سبعٍ، فحيضها أربعة أيام؛ هذه الأيام مع اليوم السابع وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فإن رددناها إلى ست، فحيضها ست أيام من أيام الدماء وإن رددناها إلى سبع، فسبعة أيام من أياما لدماء. ولو أن هذه المرأة كانت تغتسل وتصوم، وتصلي أيام النقاء، وتدع الصلاة والصوم أيام الدماء؛ حتى جاوز خمسة عشر، وقلنا بالقول الذي يقول: إن [أيام] الدماء لا تلفق كم يجب عليها من قضاء الصيام والصلاة؛ فإن قلنا: المبتدأة ترد إلى يوم وليلة، يجب عليها قضاء [صلوات صلاة] سبعة أيام؛ وهي أيام الدماء، سوى اليوم الأول؛ لأنها كانت في حكم الطاهرات في هذه الأيام، ولم تصل، ولا يجب قضاء صلوات أياما لنقاء؛ لأنها إن كانت حائضاً، فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرةً، فقد صلت. وفي الصوم قولان، بناء على أنه هل يجب عليها أن تعمل بالاحتياط؟ فيما بين الأيام المردود إليها والخمسة عشر. فإن قلنا: يجب عليها العمل بالاحتياط، ويجب عليها قضاء صوم خمسة عشر يوماً؛ لاحتمال أنها كانت حائضاً في أيام النقاء، فلم يصح صومها. وإن قلنا: لا يجب العمل بالاحتياط، فعليها قضاء صيام ثمانية أيام؛ وهي أيام الدماء التي لم تصم فيها. وإن قلنا: ترد المبتدأة إلى ست أو سبع، فيجب عليها قضاء صلوات خمسة أيام، وإن رددناها إلى ست، وإن رددناها إلى سبع قضاء أربعة أيام؛ وهي أيام الدماء التي لم تُصَل فيها. وأما الصوم فعلى قول الاحتياط، عليها قضاء صيام خمسة عشر يوماً. وعلى القول الآخر: إن رددناها إلى ست، فعليها قضاء صوم عشرة أيام. وإن رددناها إلى سبع، فصوم أحد عشر يوماً، ثم هذه المبتدأة يكون ابتداء حيضها الأول من ابتداء رؤية الدم، وحيضها الثاني أقرب الدمين من ثلاثين زائداً أو ناقصاً. فإن استوت الزيادة والنقصان، تعتبر الزيادة؛ حتى لا يقع لها في شهر واحد حيضان. بيانه: إن كانت ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فحيضها الثاني اليوم الحادي والثلاثين،

وإن كانت ترى يومين دماً ويومين نقاءً، فهذه ترى اليوم الحادي والثلاثين، والثاني والثلاثين نقاء، فيكون حيضها الثاني اليوم الثالث والثلاثين، ولا تجعل التاسع والعشرين والثلاثين حيضاً حتى لا يقع في شهر واحد حيضان. ولو كانت ترى ثلاثة دماً، وأربعة نقاءً، فيكون ابتداء حيضها الثاني اليوم التاسع والعشرين، ولا يجعل ابتداؤه السادس والثلاثين؛ لأنه أبعد من الثلاثين. ولو كانت المبتدأة ترى يوماً بلا ليلةٍ دماً، ثم ليلة نقاءً حتى جاوز خمسة عشر، وقلنا بظاهر المذهب: إن أقل الحيض يوم وليلة يبنى على أن المبتدأة إلى ماذا ترد؟ إن قلنا: ترد إلى يوم وليلة: فإن قلنا: الدماء لا تلفق، فليس لهذه المرأة حيضٌ. وكذلك إن قلنا: تلفق من الأيام المردود إليها؛ لأن الليلة نقاءٌ لم يتخلل بين دمي الحيض وإن قلنا: تلفق الدماء- من جملة خمسة عشر منها- لها حيضٌ. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع. فإن قلنا: لا يلفق الدم، فإن رددناها إلى ست، فحيضها من ابتداء ما رأت الدم إلى غروب الشمس من اليوم السادس، فإن رددناها إلى سبع، فإلى غروب الشمس من اليوم السابع. وإن قلنا: تلفق الدماء فإن قلنا: تلفق من الأيام المردود إليها، فحيضها ست نهارات رددناها إلى ستةٍ وسبعةٍ نهارات، رددناها إلى سبعٍ دون الليالي. وإن قلنا: تلفق من جملة خمسة عشر، فحيضها اثنا عشر نهاراً إن رددناها إلى ست، وأربعة عشر نهاراً إن رددناها إلى سبع. وذكر محمد ابن بنت الشافعي طريقاً في ذات التلفيق المبتدأة، أو المعتادة إذا جاوز دمها خمسة عشر: فقال: إن لم يتصل الدم من خمسة عشر بما بعدها، فأيام الدماء فيما دون خمسة عشر كلها حيضٌ، وفي النقاء المتخلل بينهما قولان، وما وراء خمسة عشر دمُ فسادٍ؛ كما لو انقطع على خمسة عشر.

وإن اتصل الدم بما بعدها، فترد إلى ما ترد إليه المبتدأة إن كانت مبتدأة، إن كانت مبتدأة، وإن كانت معتادة فإلى عادتها. بيانه: إذا كانت ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً؛ حتى جاوز خمسة عشر، فحيضها خمسة عشر إذا قلنا: لا تلفق الدماء؛ لأن اليوم السادس عشر نقاءٌ، وإن كانت ترى يومين دماً، ويومين نقاءً، فحيضها أربعة عشر يوماً، وإن كانت ترى ستة دماً، وستة نقاء، فقد اتصل الدم بما بعد خمسة عشر يوماً، فترد إلى حيض المبتدأة، وإن كانت معتادةً، فإلى عادتها. فصلٌ في النفاس روي عن أم سلمة قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين يوماً. والنفاس: اسمٌ لدمٍ يخرج عقب الولادة، وحكمه حكم الحيض غير أنهما يختلفان بالتقدير، فأقل النفاس لا غاية له؛ وهو قول مالكٍ، والأوزاعي، وأكثره ستون يوماً؛ وهو

قول عطاءٍ، والشعبي، وغالبه أربعون يوماً. وقال الثوري، وأبو حنيفة: أكثره أربعون يوماً؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وأقله عند الثوري ثلاثة وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون.

وإذا رأت المرأة الدم على الحبل لا يكون نفاساً، وهل يكون حيضاً؟ فيه قولان: قال في الجديد- وهو الأصح؛ وبه قال مالك-: هو حيضٌ؛ لأنها رأت الدم بصفة الحيض في وقته؛ كالحائل، غير أن العدة لا تنقضي؛ لأنه لا يدل على براءة الرحم. وقال في القديم- وبه قال أبو حنيفة-: لا يكون حيضاً، بل هو استحاضةٌ، يجب عليها أن تصلي وتصوم؛ لأن فم الرحم ينسد في زمان الحبل، فلا يخرج دم الحيض. فإن جعلناه حيضاً فلو رأت بعده بأقل من خمسة عشر يوماً، فالدم الخارج بعد الولادة نفاسٌ، والأول ليس بنفاسٍ؛ وهو حيض على الصحيح. وقيل: الأول دمُ فسادٍ؛ لأنه لم يتخلل بينهما طُهرٌ كاملٌ، والأول أصح؛ لأن الطهر الكامل إنما يشترط بين الدمين إذا كانا من جنسٍ واحد، وهاهنا أحد الدمين نفاسٌ، والآخر حيض، فلا يشترط بينهما طهرٌ كامل. واختلف أصحابنا في الدم الخارج مع الولد: منهم من قال- وهو الأصح-: لا يكون نفاساً؛ لأنه لم يخرج عقب الولادة؛ فهو كالخارج قبل الولادة. وقال أبو إسحاق: هو نفاسٌ؛ أنه خرج مع نفس كالخارج بعده. وقيل: هو كالخارج بين الولدين. ولو أتت بتوأمين، فالدم الخارج بين الولدين، هل يكون نفاساً؟ فيه وجهان: أصحهما، وبه قال محمد بن الحسن: ليس بنفاسٍ وهو كالخارج قبل الولادة؛ لأنه خرج قبل فراغ الرحم. والثاني: وبه قال صاحب "التلخيص"، وهو قول أبي حنيفة-: هو نفاسٌ؛ لأنه خرج عقب نفسٍ؛ فعلى هذا مدة أكثر النفاس من أي وقت تكون؟ فيه وجهان: أحدهما: من ولادة الأول؛ لأنا لو اعتبرنا من ولادة الثاني تزيد مدة النفاس على الستين. والثاني- وهو الأصح-: يعتبر من ولادة الثاني، وإن زاد على الستين؛ لأنهما نفاسان، دخل أحدهما على الآخر؛ كما لو وطئ امرأة بالشبهة، يجب عليها أن تعتد ثلاثة أقراءٍ، فلو شرعت في العدة، ثم وطئها في خلال العدة، تستأنف العدة، وإن زاد مجموعهما على ثلاثة أقراء؛ لأنهما عدتان.

وإذا اتصل بالنفساء الدم حتى جاوز الستين، فقد دخلت الاستحاضة. على النفساء. وإن كانت مميزة، فأيام الدم القوي لها نفاسٌ، والباقي استحاضةٌ، وإن كانت معتادةً ترد إلى عادتها في النفاس وإن كانت مبتدأةً، ففيها قولان: أصحهما: ترد إلى أقل النفاس، وهو لحظة. والثاني: ترد إلى غالب العادات؛ وهي أربعون يوماً، وتعيد ما تركت بعدها من الصلوات. ولو رأت صفرة أو كدرةً في أيام الستين؛ فإن كانت في أيام عادتها، فهو نفاسٌ، وإلا فعلى الاختلاف الذي ذكر في الحيض. الأصح أنه نفاسٌ. وقد قيل: إن زاد دم النفساء على الستين، فالستون [لها] نفاسٌ، وما بعدها استحاضةٌ، بخلاف الحائض إذا زاد دمها على خمسة عشر، لا ترد إلى أكثر الحيض؛ لأن النفاس يقين؛ فكان أقوى، والحيض من حيث الظاهر. وهذا وجه ضعيف. وقيل: الستون نفاس، وبعده حيضٌ. وهذا أضعف من الأول، بل المذهب ما ذكرنا أن الاستحاضة دخلت على النفاس؛ فصار كما لو دخلت على الحيض. ولو انقطع دم النفساء، ثم عاد في مدة الستين، وانقطع على الستين- نظر: إن لم يبلغ النقاء بين الدمين أقل الطهر- فالدمان جميعاً نفاس، وفي النقاء المتخلل بينهما قولان: فإن قلنا: الدم لا يلفق، فهو نفاس. وإن قلنا: يلفق، فطهر. وإن انقطع على خمسة عشر يوماً، ثم عاد- ففيه وجهان: أصحهما: أن الدم الثاني حيضٌ، ومابينهما طهر. [والثاني]- وبه قال أبو حنيفة-: أن الثاني نفاسٌ؛ كالأول؛ لأنها رأته في زمان النفاس، وفي النقاء المتخلل بينهما قولان. فإن قلنا: الثاني حيضٌ، فلو لم يبلغ الدم الثاني أقل الحيض، ففيه وجهان:

أحدهما: هو دمُ فسادٍ. والثاني: هو نفاس. وفرع أبو إسحاق على قولنا: إن الثاني دم حيضٍ؛ قال: لو أن امرأة كانت عادة حيضها خمسة أيام، وطهرها خمسة عشر يوماً، فولدت ورأت عشرين يوماً دماً، ثم طهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدم، واتصل؛ فجاوز خمسة عشر- قال: عشرون يوماً لها نفاسٌ، وخمسة عشر طُهرٌ، ثم بعدها تحيض خمسة عشر، وتطهر خمسة عشر على عادتها. ولو طهرت عشرين، ثم رأت الدم، واتصل، فقد تغير طهرها؛ فتحيض بعد معاودة الدم خمسة، وتطهر عشرين؛ هكذا أبداً. فصل في طهر المستحاضة روي عن عروة عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فذكرت خبرها قال: "ثم اغتسلين ثم توضئي لكل صلاةٍ". وأكثر الحفاظ على أن هذا اللفظ موقوفٌ على عائشة. يجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل فريضةٍ بعد غسل الفرج وحشوه وتعصيبه ولا يجب عليها إعادة الصلاة. وإن كان الدم يسيل على بدنها وثوبها إذا لم يكن ذلك لتفريطٍ منها في حشو الفرج والتعصيب، وكذلك سلس البول والمبتلى بالمذي، ولا يجوز لها الجمع بين صلاتي فرضٍ بوضوء واحد ولا بين طوافي فرض، ولا بين منذورتين. ولو طافت طواف فرض فهل يجوز لها أن تصلي ركعتي الطواف بتلك الطهارة؟ هذا يبنى على أن ركعتي الطواف فرضٌ، أو تطوعٌ؟ إن قلنا: تطوعٌ يجوز. وإن قلنا: فرضٌ لا يجوز. وقيل: يجوز؛ لأنها تبع للطواف.

ويجوز لها أن تجمع بين فريضةٍ واحدة وما شاءت من النوافل قبل الفريضة وبعدها في الوقت وبعده، ويجوز للزوج غشيانها. وهل يجب غسل الفرج والتعصيب لكل فريضة؟ نظر: إن كانت العصابة زالت عن موضعها، وكان الدم يسيل مع الشد، يجب، وغلا فوجهان: أصحهما: يجب [عليها] كالوضوء. وكذلك لو خرج منها ريحٌ قبل أن صلت، يجب عليها الوضوء. وهل يجب تجديد التعصيب؟ فيه وجهان، ولا يصح وضوؤها لصلاة الوقت قبل دخول وقتها. ولو توضأت في أول الوقت وصلت في آخره، أو بعد الوقت؛ نظر: إن كان تأخيرها للاشتغال بأسباب الصلاة من ستر عورةٍ، أو نصب سترةٍ، أو أذان وإقامة، وانتظار جماعةٍ أو جمعة- يجوز. وإن أخرتها بلا عذرٍ، فوجهان: أحدهما: يجوز؛ كالمتيمم في أول الوقت، ويصلي في آخره يجوز. والثاني- وهو الأصح-: لا يجوز، بخلاف المتيمم؛ لأنه لم يحدث به حدثٌ بعد التيمم، وهاهنا الحدث بها متصل؛ فيجب أن يكون اشتغالها بعد الوضوء بأسباب الصلاة. وقيل: لها التأخير ما لم يخرج وقت الصلاة، فإذا خرج الوقت لم تصل بعده. وقال ربيعة: يجوز لها أن تصلي ما شاءت ما لم يصبها حدثٌ غير الدم. وقال أبو حنيفة: يجوز لها أن تجمع بين فرائض بوضوء واحد؛ ما دام الوقت باقياً، وبخروج الوقت تبطل طهارتها، وإن لم تكن قد صلت بها. وعند زُفرٍ: يبطل وضوؤها بدخول الوقت لا بخروجه. وعند أبي يوسف: يبطل بكل وحد منهما فعند أبي حنيفة إذا توضأت لصلاة قبل الوقت لا يمكنها أن تصلي تلك الصلاة بذلك الوضوء؛ لأن دخول وقت كل صلاة يكون بخروج وقت أخرى، وينتقض وضوؤها بخروج الوقت إلا صلاة الظهر؛ فإنها إذا توضأت قب الزوال، ثم زالت الشمس- لها أن تصلي الظهر. وعند أبي يوسف وزفر: لا يجوز؛ لأن دخول الوقت عندهما ينقض الطهر. ولو انقطع دم المستحاضة بعدما توضأت، أو سلس البول بعدما توضأ، نظر: إن لم

يكن الانقطاع عادة، بطلت طهارتها؛ لأن الصلاة جوزت لها مع الحدث؛ لأجل الضرورة، وقد زالت الضرورة. ولو عاودها الدم قبل إمكان فعل الطهارة والصلاة. ففيه وجهان: أصحهما: وضوؤها بحاله؛ لأن الانقطاع إذا لم يدم قدر إمكان فعل الطهارة والصلاة- لا يؤثر في الطهارة. والثاني يجب عليها إعادة الوضوء. ومهما حكمنا ببطلان طهارتها بانقطاع الدم فتوضأت بعد انقطاع الدم، وشرعت في الصلاة، ثم عاد الدم، فهو حدثٌ جديد، يجب عليها أن تتوضأ، وتستأنف الصلاة وإن كان الانقطاع عادةً لها، نظر: إن كان زمان الانقطاع في عادتها يسيراً لا يمتد قدر إمكان الطهارة والصلاة، ولا ينتقض طهرها، وإن امتد على خلاف العادة، بان أن طهرها منتقضٌ. وإن كان زمان الانقطاع في عادتها يمتد قدر إمكان الطهارة والصلاة، ينتقض طهرها، فلو عاد قبل إمكان فعلها على خلاف العادة. هل عليها إعادة الوضوء؟ فيه وجهان. فإن قلنا: يجب إعادة الوضوء، فلو كانت شرعت في الصلاة، ثم عاد الدم، هل يجب استئناف الصلاة؟ فيه وجهان بناءً على ما لو صلى رجل خلف خنثى مشكلٍ، يجب عليه الإعادة؛ لاحتمال أن الخنثى امرأةٌ، فلو لم يعد حتى بان الخنثى رجلاً ففي وجوب الإعادة قولان: أصحهما يجب؛ لأنه كان شاكاً حالة الشروع في الصلاة في جواز صلاته خلفه، كذلك هاهنا هذه كانت مأمورةً بالوضوء حالة الشروع في الصلاة شاكة في بقاء طهارتها؛ فيجب عليها الاستئناف في كل موضعٍ قلنا: ينتقض طهرها بانقطاع الدم، فلو كان الانقطاع في خلال الصلاة، تبطل صلاتها على ظاهر المذهب، بخلاف المتيمم يجد الماء في خلال الصلاة لا يبطل تيممه؛ لأنه لم يتحدد، ثم حدث بعد التيمم، فلو شكت في انقطاع دمها، فهو كعدم الانقطاع. ولو كان به جرحٌ سائل، أو رعافٌ دائم، أو دم يسيل سيالةً، عليه غسله لكل فريضة ويعصبه، ولا وضوء عليه، ولا يجبُ عليه إعادة الصلاة، فلو انقطع في خلال الصلاة تبطل صلاته على ظاهر المذهب؛ كما ذكرنا. فلو قال أهل البصر: إن هذا الانقطاع لا يبطل، ويعود في ساعة، فهو كما لو لم ينقطع، وصلاته صحيح، وإن كان به جرح غير سائل؛ فانفجر في خلال الصلاة، أو ابتدأت الاستحاضة في خلال الصلاة، يجب عليها أن

تنصرف، وتغسل الجرح، وتتوضأ المستحاضة، وتستأنف الصلاة. وسلس البول إذا كان يسيل بوله قائماً، واستمسك قاعداً، كيف يصلي؟ فيه وجهان. أصحهما: قاعداً؛ حفظاً للطهارة. قال الشيخ: وعلى الوجهين لا إعادة عليه؛ لأنه من الأعذار التي تدوم. والله أعلم تم الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني وأوله: "كتاب الصلاة"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الثاني يحتوي على الكتب التالية الصلاة - العيدين - صلاة الخسوف- الجنائز منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطاهرين: كتاب الصلاة قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]. وعن عبد ابن ابن عمر، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:- "فهي الإسلام على خمس شهادة أن لا

إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".

الصلاة أقوى أركان الدين بعد كلمة التوحيد والرسالة وهي معدة بخمس لا يفرض أكثر منها، إلا أن ينذر صلاة، فتلزمه بنذره. روى طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أهل "نجد" ثائر الرأس يسمع دوي صوته، ولا نفقة ما يقول حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل عليَّ غيرهنَّ؟ فقال: "لا إلا أن تطوع" قال: "وصيام شهر رمضان" قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلا أن تطوَّع". وذكر له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تطوَّع" قال: فأدبر الرجل؛ وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه؛ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أفلح إن صدق". وأول ما فرض الله- تعالى- على هذه الأمة قيام الليل، ثم نسخ بهذه الصلوات، وكان الله- عز وجل- فرض ليلة المعراج على الأمة خمسين صلاة، ثم ردها إلى خمس وقال: "يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشرة، وذلك خمسون صلاة" [ثم ردها إلى خمس] ويروي: "هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدى

وهذه الصلوات مؤقتة يجب أداؤها في مواقيتها. قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أي: فرضها مؤقتاً وأبين آية في المواقيت في القرآن قوله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] إلى آخر الآيتين. قوله: "سبحان لله" أي: سبحوا الله؛ يعني: صلوا الله "حين تمسون" أراد: صلاة المغرب والعشاء. "وحين تصبحون": صلاة الصبح "وعشيّاً": صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] صلاة الظهر. وروي في بيان المواقيت عن ابن عباس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أمَّني جبريل عند باب البيت مرتين؛ فصلَّى بي الظهر حين كان الفيءُ مثل الشراك، وصلَّى بي العصر حين كان كلُّ شيء بقدر ظله، وصلَّى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلَّى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلَّى بي الفجر حين حرِّم الطَّعام والشَّراب على الصَّائم، وصلَّى بي الغد الظُّهر حين كان كل شيء قدر ظلِّه، وصلَّى بي العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثليه، وصلَّى بي المغرب لوقته الأوَّل لم يؤخِّرها، وصلَّى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى بي الفجر حين أسفر. ثم التفت فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين وروي عن بريدة أن رجلاً سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن وقت الصلاة، فقال: "صلِّ

معنا هذين" يعني: اليومين. فصلَّى يومين، فذكر قريباً من معنى حديث ابن عباس وقال في المغرب في اليوم الثاني، وصلى بي المغرب قبل أن يغيب الشفق.

فصلٌ في بيان المواقيت روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم يحضر المغرب، ووقت المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس". وعن أبي هريرة مثل معناه: الوقت للصلاة وقتان: وقت المقيم المترفه، ووقت غير المقيم المترفه.

أما وقت المقيم المترفه: [فأول وقت الظهر] يدخل بزوال الشمس؛ وهو أن تزول من الارتفاع إلى الانحطاط وتسهل معرفته بأن يقصد خشبة مستوية على مكان مستو من الأرض، فإذا طلعت الشمس يكون ظل كل شيء في جانب المغرب، فما دامت الشمس في الارتفاع، كان الظلُّ في الانتقاص، فإذا استوت الشمس في كبد السماء لا يبقى لشيء ظلٌّ في الصيف في بعض البلاد التي هي على خط الاستواء، فإذا زالت الشمس ظهر أدنى ظل في جانب المشرق، ودخل وقت الظهر، وفي أكثر البلاد يبقى لكل شيء ظل في وقت الاستواء في جانب المغرب، فإذا زالت الشمس تحول ذلك الظل إلى جانب المشرق، ودخل وقت الظهر، فأعلم رأس الظل المتحول من الخشبة المغصوبة علامة لمعرفة وقت العصر، ثم يمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الظل المتحول؛ النصف الأول منه للاختيار، والنصف الثاني للجواز، فإذا صار ظل الخشبة مثلها من موضع العلامة لا من أصل الخشبة، وزاد أدنى زيادة دخل وقت العصر، وتلك الزيادة من وقت العصر، ولكن قلَّما يعرف خروج وقت الظهر إلا بها. وقال ابن المبارك وإسحاق: بعد ما صار ظلُّ كل شيء مثله بعد أربع ركعات وقت الظهر والعصر جميعاً. وقال مالك: بعدما صار ظلُّ كل شيء مثله: دخل وقت العصر، ولا يخرج وقت الظهر حتى يصير ظل [كل] شيء مثليه؛ لأن جبريل- عليه السلام- صلَّى الظهر في اليوم الثاني حين صلَّى العصر في اليوم الأول. قلنا: كان ذلك على التعاقب؛ لأنه صلاهما في وقت واحد؛ وذلك أنه ابتدأ العصر في اليوم الأول حين صار ظلُّ [كل] شيء مثليه؛ وفرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله. وقال أبو حنيفة:- يمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ثم يدخل وقت العصر. والأحاديث حجة علي. ويمتد وقت العصر إلى غروب الشمس، فإلى أن يصير ظل كل شيء مثليه وقت الاختيار، وبعده وقت الجواز بلا كراهية إلى أن تصفرَّ الشمس. ويكره تأخيرها إلى اصفرار الشمس بلا عذر؛ لما روى عن أنس عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس؛ حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام؛ فنقر أربعاً؛ لا يذكر الله فيها إلا قليلا".

فإذا غربت الشمس دخل وقت صلاة المغرب، ولها وقت واحد أم وقتان؟ فيه قولان: قال في الجديد: لها وقت مقدر بالفعل؛ وهو أن يتطهر، ويستر عورته، ويؤذن ويقيم، ويصلي خمس ركعات. وقيل: قدر ركعتين بين الأذان والإقامة؛ وهذا قول مالك، والأوزاعي: أن لها وقتاً واحداً؛ لأن جبريل- عليه السلام- صلَّاها في اليومين في وقت واحد. وقال في القديم: لها وقتان تمتدُّ إلى وقت غيبوبة الشفق؛ النصف الأول للاختبار، والنصف الثاني للجواز؛ وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأحمد وإسحاق قال الشيخ إمام الأئمة: وهذا أصح؛ لحديث بريدة، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاها في يومين في وقتين وهذا متأخر ناسخ لحديث ابن عباس، ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إذا غاب الشفق، دخل وقت العشاء، والشفق الذي يدخل بغيبوبته وقت العشاء، وهو الحُمرة التي تعقب غروب الشمس؛ وهو قول عمر- رضي الله عنه- وعليِّ وأكثر أهل العلم. وقال الأوزاعي، وأبو- حنيفة: هو البياض الذي تعقب الحمرة؛ وهو قول عمر بن عبد العزيز ويمتد وقت العشاء إلى طلوع الفجر الصادق. وإلى متى يمتد وقت الاختيار وفيه قولان: أصحهما: إلى ثلث الليل؛ لحديث جبريل والثاني، وبه قال الثوري وابن المبارك، وأبو حنيفة إلى نصف الليل وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه" ثم بعد ذهاب ثلث

الليل، أو نصفه وقت الجواز إلى طلوع الفجر الصادق. والفجر فجران: كاذب، وصادق. فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً نحو السماء، ولا يخرج بطلوعه وقت العشاء ولا يدخل وقت الصبح، ولا يحرم الطعام والشراب على من يريد الصوم، ثم يغيب ذلك، ويطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ينتشر عرضاً في الأفق، فبطلوعه يدخل وقت الصبح، ويحرم الطعام والشراب على الصائم؛ وهو أول النهار. روي عن سمرة بن جندب قال. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن المستطير في الأفق" ويمتد وقت الصبح إلى طلوع الشمس، وإلى أن يسفر وقت الاختيار، وبعده وقت الجواز بلا كراهية، تأخيرها بلا عذر إلى طلوع الحمرة.

فصل: في تسمية صلاة المغرب والعشاء والصبح روي عن عبد الله المزني، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: قال:- "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال: فتقول الأعراب: هي العشاء". وعن عبد الله بن عمر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم [المغرب قال: فتقول الأعراب]: هي العشاء". إلا أنهم يعتمون بالإبل". وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هي العشاء إلا أنهم يعتمون بالإبل". يعني يؤخرون ردها إلى المعاطن. ويكره تسمية المغرب: عشاء، وتسمية صلاة العشاء: عتمة؛ للحديث. قال الشافعي- رحمة الله عليه-: وسمى الله- عز وجل- صلاة الصبح قرآن الفجر؛ فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وسماها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صبحاً في قوله: "من أدرك من الصبح ركعة، فقد أدرك الصبح". فلا أحب أن تسمى بغير هذين الاسمين؛ فلا يقال: صلاة الغداة ولا غير ذلك.

فصل: [في وقت الصلاة] روي عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة في أول وقتها". الصلاة تجب بأول الوقت، وتستقر بمضي إمكان فعل الصلاة مع الطهارة؛ غير أنه لو أخرها إلى آخر الوقت، فأداها في الوقت جاز، ولم يأثم.

وقال أبو حنيفة: الصلاة تجب بآخر الوقت؛ غير أنه لو صلى في أول الوقت، يسقط الفرض عنه. ولو أخر الصلاة عن أول الوقت بلا عذر، فمات قبل الأداء لا يموت عاصياً؛ على أصح الوجهين؛ بخلاف ما لو أخر الحج بعد الوجوب، فمات قبل إمكان الأداء- يموت عاصياً؛ لأ، وقت الحج العمر، وآخر العمر غير معلوم، فكان التأخير متاحاً به؛ بشرط أن يبادر الموت، وآخر الوقت في الصلاة معلوم، فلم ينتسب إلى التفريط إذا لم يؤخر عن الوقت. وقيل: في الصلاة لا يموت عاصياً، وفي الحج وجهان؛ والفرق ما ذكرنا؛ والأول أصح ولو أخر الصلاة بلا عذر إلى حالة لا يمكنه أداء جميعها في الوقت كان عاصياً. ولو شرع فيها حين يمكنه أداء جميعها في الوقت، غير أنه مدها بطول القراءة؛ حتى خرج الوقت- لم يأثم؛ وهل يكره؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لإخراجه بعض الصلاة عن الوقت بلا عذر. والثاني: لا يكره. لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قرأ سورة "الأعراف" في صلاة المغرب، ولاشك في خروج الوقت قبل تمامها. وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه طوَّل القراءة في صلاة الصبح؛ فلما سلم، قيل له: كادت الشمس أن تطلع. فقال: "لو طلعت ما وجدتنا غافلين". ولو صلى صلاة بعضها في الوقت، وبعضها خارج الوقت- نظر: إن صلى في الوقت ركعة، فالكل أداءٌ على الصحيح من الذهب؛ لما روي عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك من الصبح ركعة فقد أدرك الصلاة". وقيل: ما صلى في الوقت أداء، وما صلى بعده قضاء، حتى لا يجوز للمسافر قصر تلك الصلاة على قول من لا يجوز قصر القضاء. وإن صلى في الوقت أقل من ركعة، فالكل قضاء. وقيل: ما صلى في الوقت أداء.

ولو طلعت الشمس في خلال الصبح لا تبطل صلاته؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس- فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس- فليتم صلاته". وقال أبو حنيفة: إذا طلعت الشمس في خلال الصلاة، تبطل صلاته؛ وبالاتفاق لو غربت في صلاة العصر، لا تبطل. [والله أعلم]. فصل: "في تعجيل الصلوات" روي عن عائشة قالت: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة لوقتها الأخير مرتين؛ حتى قبضه الله عز وجل. أداء الصلاة في أول وقتها أفضل من تأخيرها إلى آخر الوقت؛ لما روي عن ابن عمر؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله". قال الشافعي- رضي الله عنه-: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون عن المقصرين.

وفي صلاة العشاء قولان: أحدهما: تعجيلها أفضل كسائر الصلاة. والثاني: تأخيرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل ونصفه". وإذا اشتد الحر، فالإبراد بصلاة الظهر أفضل، لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" والإبراد فضيلة في حق من يصلي بالجماعة في مسجد تنتابه الناس من البعد؛

وهو أن يؤخر عن الوقت قليلاً؛ بقدر ما يحصل للحيطان ظل يمشي فيه القاصد إلى الصلاة فتصلَّى في آخر أول الوقت، ولا تؤخر إلى آخر الوقت. وقليل الإبراد رخصة؛ فلو تحمل المشقة، وصلى في أول الوقت- كان أفضل؛ والأول أصح. ولو صلى في بيته وحده، أو كانوا مجتمعين في مسجد كبير؛ فصلوا جماعة، فلا يبردون؛ لأنهم لا يلحقهم المشقة في التعجيل. وقيل: يبردون؛ لوجود الحر؛ وهل يبرد لصلاة الجمعة؟ فيها وجهان:-. أحدهما: بلى؛ كما يبرد الظهر في سائر الأيام. والثاني: لا يبرد؛ لأن الإبراد؛ لتتكامل الجماعة [أفضل]، والناس يبتكرون إلى الجمعة؛ فتتكامل الجماعة في أول الوقت. وعند أبي حنيفة: تأخير الصلاة إلى آخر الوقت أفضل إلا الصبح بـ "مزدلفة" يصلونها بغلس واحد؛ والحديث حجة عليه. وروي عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى "المدينة"، والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها وكان ينقتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالسنين إلى المائة. وسئل جابر عن صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخَّر، والصبح بغلس.

فصل: روي عن أنس؛ أن أبا موسى الأشعري صلى بهم الصبح بليل، فأعاد بهم الصلاة، ثم صلى فأعاد ثلاث مرات. إذا اشتبه وقت الصلاة على رجل مقيم أو غيره يجتهد، والبصير والأعمى فيه سواء؛ لأن الأعمى يعرفه بالأعمال والواجبة والأوراد. فإن لم تكن دلالة، يؤخر إلى أن يغلب على قلبه دخول الوقت، والاحتياط أن يؤخر إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخره عنه، خرج الوقت؛ فإن صلى بلا اجتهاد أو شاكاً؛ بأن لم يغلب على قلبه دخول الوقت، يجب عليه الإعادة، وإن وافق الوقت. وإن صلى بالاجتهاد، ثم بان؛ أنه صلى قبل الوقت يجب الإعادة وإن بان؛ أنه صلَّ بعد الوقت، صحَّت صلاته، وكانت قضاء؛ حتى لو كان مسافراً وصلاها قاصراً، يجب إعادتها تامة؛ على قول من لا يجوز قصر الغائية. وقيل: يكون أداء، وصار ما بعد الوقت كالوقت؛ لأجل الضرورة، ولا يجب القضاء على من قصرها. والأول أصح. ولو أخبره عدل بدخول الوقت؛ نظر: إن أخبره عن مشاهدة؛ بأن كان قد رأى الشمس قد زالت، أو الفجر [قد طلع] أو بالشفق قد غاب- يجب قبول قوله، وإن أخبره عن اجتهاد، لا يقلده، بل يجتهد بنفسه، وكذلك لو صلى بالاجتهاد، ثم أخبره عدل عن مشاهدة أنك صليت قبل الوقت- عليه الإعادة وإن أخبره عن اجتهاد، فلا إعادة عليه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

وهل يجوز تقليد المؤذن العدل العالم بالمواقيت؟ فيه وجهان:-. أصحهما: يجوز. نص عليه؛ لما روي عن الحسن؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم". فصل: في وقت الأذان روي عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا؛ حتى ينادي ابن أم مكتوم". لا- يحسب الآذان- لصلاة الوقت قبل دخول وقتها، إلا أذان الصبح؛ فإنه يحسب قبل طلوع الفجر عند أكثر أهل العلم. وعند أبي حنيفة، والثوري: لا يحسب وحديث ابن عمر حجة عليه والمعنى فيه: أن تعجيل الصلاة في أول الوقت مستحب، ووقت الصبح يدخل وأكثر الناس نيام، فقلنا: يؤذن قبل طلوع الفجر؛ لتنبيه النوام، ويستعدوا للصلاة، فيدركوا أول الوقت.

وإذا أذن قبل الوقت، يؤذن قريباً من السَّحر؛ يقدم على الوقت بمقدار سبع الليل؛ على سبيل التقريب، ولا يحسب قبله. وقيل يحتسب بعد ذهاب وقت اختيار العشاء، وليس بصحيح، لأنه يؤدي إلى

اشتباه أذان الصبح بأذان العشاء. ويستحب أن يكون مؤذنان: أحدهما يؤذن قبل طلوع الفجر، والآخر يؤذن بعده؛ كما كان للنبي- صلى الله عليه وسلم. ثمن من أذن أولاً، فهو أولى بالإقامة؛ فإن كان المؤذن واحداً، يستحب أن يؤذن مرتين: مرة قبل طلوع الفجر، ومرة بعده. فإن اقتصر على مرة واحدة جاز، وبعد الفجر أولى. وإن اقتصر على ما قبله، جاز، ولا تحسب الإقامة إلا بعد دخول الوقت؛ لأنها الافتتاح الصلاة، ولا يجوز الافتتاح قبل الوقت. فصل: [في وقت العذر والضرورة] روي عن أبي هريرة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:- من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس- فقد أدرك العصر. أما وقت غير المغيم المترفه فقسمان: وقت عذر، ووقت ضرورة. أما وقت العذر: هو أن يجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء بعذر سعر، أو عذر مطر؛ فيضطر إلى أن يجمع بينهما في وقت الأولى، فجميع وقت الظهر يكون وقتاً للعصر، إلا بمقدار أربع ركعات. من أوله. وإن قصر الصلاة، فمقدار ركعتين من أوله، لأن تقديم أداء العصر على الظهر لا يجوز إذا جمع بينهما في وقت الظهر، وكذلك جميع وقت المغرب يكون وقتاً للعشاء، إلا مقدار ثلاث ركعات من أوله. وإن جمع بينهما في وقت الثانية؛ فهل يجوز تقديم العصر على الظهر في الأداء، وتقديم العشاء على المغرب؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز، فعلى هذا يكون جميع وقت العصر وقتاً للظهر، [وجميع] وقت العشاء وقتاً للمغرب، وإن لم يجوز تقديم الثانية على

الأولى في الأداء، فجميع وقت العصر وقت للظهر، إلا مقدار أربع ركعات من آخره، وإن قصر، فمقدار ركعتين. وأما وقت الضرورة: هو الوقت الذي يصير فيه من أهل وجوب الصلاة عليه بزوال العذر، مثل: أن يبلغ صبي، أو يفيق مجنون، أو مغمي عليه، أو تطهر حائض أو نفساء؛ وقد بقي من الوقت مقدار ركعة- تلزمه تلك الصلاة. وفي معناه الكافر يسلم، وإن لم يكن معذوراً بالكفر، وإن زال العذر؛ وقد بقي من الوقت قدر تحريمة [ركعة] أو أقل [من ركعة]، هل يلزمه تلك الصلاة؟ فيه قولان:-. * قال في القديم- وهو اختيار المزني- لا تلزمه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك ركعة من الصبح، فقد أدرك الصلاة" وهذا لم يدرك ركعة. وقال في الجديد:- تلزمه تلك الصلاة؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت؛ كما لو أدرك قدر ركعة. والمراد من الحديث: أنه إذا أدى ركعة في الوقت، يكن مدركاً للوقت، وإذا أدى أقل من ركعة لا يكون مدركاً للوقت، وها هنا تلزمه الصلاة قضاء؛ كما يلزم النائم ثم إذا زال العذر قبل طلوع الشمس بعد طلوع- الفجر- لا يلزمه إلا صلاة الصبح وإذا زال قبل غروب الشمس، فعلى قوله الجديد: تلزمه صلاة الظهر والعصر بإدراك تحريمة قبل الغروب. وكذلك إذا زال قبل طلوع الفجر بقدر تحريمة، تلزمه صلاة المغرب والعشاء جميعاً؛ لأنهما صلاتان كان وقت إحداهما وقتاً للأخرى في العذر، فكذلك في الضرورة، ولا يشترط إدراكه إمكان الطهارة. وفي القديم: لا تلزمه الصلاة بإدراك أقل من ركعة، وإذا أدرك مقدار ركعة قبل الغروب، هل يلزمه الظهر مع العصر أو أدرك قبل طلوع الفجر مقدار ركعة، هل يلزمه المغرب مع العشاء؟ في القديم قولان: أحدهما: يلزم؛ لأن وقتهما في العذر واحد، فكذلك في الضرورة. والثاني: لا يلزم حتى يدرك مع هذه الركعة قدر إمكان الصلاة الأخرى، فيشترط أن يدرك من وقت العصر قدر خمس ركعات، حتى يلزمه الظهر والعصر، ومن وقت العشاء قدر أربع ركعات حتى يلزمه المغرب والعشاء؛ ثلاث ركعات للمغرب، وركعة للعشاء، وهل يشترط في القديم إدراك إمكان الطهارة قولان:

الأصح: لا يشترط، لأن الطهارة لا تختص بالوقت. وعند أبي حنيفة: لا يلزم الظهر بإدراك وقت العصر، ولا المغرب بإدراك وقت العشاء، وإنما تجب عليه الصلاة بعد زوال العذر إذا امتدت سلامة الحال إلى أن يمضي إمكان فعل الطهارة والصلاة. فإن زال العذر في وقت العصر، ثم عاوده العذر؛ بأن أفاق مجنون، ثم عاوده الجنون، أو بلغ صبي ثم جن أو طهرت حائض ثم جنت، أو أفاقت مجنونة ثم حاضت، نظر: إن عاوده العذر بعد إمكان ثماني ركعات تلزمه صلاة الظهر والعصر. ولو عاوده قبل إمكان أربع ركعات، لا تلزمه الصلاة، وإن عاوده بعد إمكان أربع ركعات، تلزمه صلاة العصر دون الظهر، إلا أن يكون مسافراً؛ فتلزمه الصلاتان لإمكان القصر، وإن زال العذر في وقت العشاء، ثم عاوده بعد إمكان أربع ركعات تلزمه صلاة العشاء. قال الشيخ: ولا تلزمه المغرب؛ لأنه لم يدرك إمكان الصلاتين، والوقت لصلاة العشاء، فهو أولى بالوجوب. وإن عاوده بقدر إمكان ثلاث ركعات. قال الشيخ رضي الله عنه: يجوز أن تلزمه صلاة المغرب؛ فإنه لم يصر مستحقاً للعشاء وكان يتوقف فيه القاضي رحمه الله؛ لأن المغرب إنما لزم تبعاً للعشاء، فإذا لم تلزمه العشاء لم يلزمه المغرب. والإغماء كالجنون، في أنه إذا استغرق جميع وقت العذر، والضرورة تمنع وجوب الصلاة. وعند أبي حنيفة: لا تسقط الصلاة بالإغماء ما لم يزد على يوم وليلة. فأما إذا أدرك شيئاً من أول الوقت، ثم جن أو أغمي عليه، أو حاضت المرأة، نظر: إن كان بعد مضي إمكان فعل الصلاة، يستقر عليه الفرض؛ حتى لو شرع في الصلاة في أول الوقت، وطول القراءة، فجن في خلالها، أو حاضت المرأة. ولو خفف القراءة أمكنه إتمامها- يلزمه القضاء. ولو أدرك من أول وقت الظهر مقدار ركعتين؛ وهو مسافر- لزمته الصلاة؛ لأنه لو قصر أمكنه أداؤها. ولو أدرك أكثر من وقت الظهر، لا يلزمه العصر، أو أدرك أكثر وقت المغرب، لا تلزمه العشاء لأنه لم يمكنه أداء العصر والعشاء في هذا الوقت؛ غلاف ما لو أدرك وقت الثانية، تلزمه الأولى، ولو كان مسافراً، لا تلزمه الثانية بإدراك وقت الأولى وإن أمكنه الجمع؛ لأن الجمع رخصة لا تلزم. ولو شرب مسكراً، أو زال عقله، أو شرب دواء؛ فزال عقله وهو عالم بأنه يزيل العقل- يلزمه قضاء الصلوات والصوم الذي فاته وأقل زوال

العقل، أو السُّكر: قال الشافعي رضي الله عنه: أن يختلط عقله؛ فيذهب عنه بعض ما لم يكن يذهب عنه قبل، وإن قل، ثم يتوب إليه. ولو شرب شراباً لا يراه مسكراً؛ فسكر؛ نظر إن كان يعرف أنه من جنس المسكر، ولكن يظن أن ذلك القدر لا يسكر؛ لقلة- يلزمه قضاء الصلاة. ولو لم يعلم أنه من جنس المسكر، لا يلزمه القضاء؛ كما في الإغماء. ولو وثب، أو تدلَّى من موضع؛ فزال عقله- نظر: إن فعل لحاجة، لا يجب قضاء الصلاة، وإن فعله عبثاً، أو لغير حاجة، يجب؛ بخلاف ما لو ألقى نفسه من شاهق، فتكسرت رجله، فصلى قاعداً- لا قضاء عليه؛ على الأصح؛ لأن سقوط الصلاة عن العاجز عزيمة وعلى من زال عقله رخصة، ولا رخصة للعاصي، ولا يجب على الحائض قضاء الصلوات، ويجب على المرتد قضاء ما فاته في الردة من الصلوات. وعند أبي حنيفة: لا يجب قضاؤها قال:- وما فات في الإسلام يسقط بالردة قضاؤها وهذا لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى إغراء من كثرت عليه الفوائت على الردة؛ طلباً لفراغ ذمته؛ وذلك محال. ولو حاضت المرتدة، لا يجب عليها قضاء صلوات أيام الحيض. ولو جُنَّ المرتد، يجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون؛ لأن سقوط الصلاة عن الحائض عزيمة، فإنها تكلف بترك الصلاة، وعن المجنون رخصة، والمرتد عاص؛ فلا رخصة له. ولو جنَّ السكران، يجب عليه أن يقضي من الصلوات قدر ما يمتد زمان السكر، ولا يجب عليه قضاء ما زاد عليه من أيام جنونه؛ بخلاف الجنون المتصل بالردة؛ لأن زمان الردة يمتد وهو في زمان الجنون مرتد؛ فيجب عليه القضاء، وزمان السكر لا يمتد فهو في حال جنونه غير سكران، فلم يجب القضاء. ولو شربت المرأة دواء حتى ألقت الجنين، ونفست- لا يجب عليها قضاء الصلوات؛ على الصحيح من المذهب. وقيل: يجب القضاء؛ كالعاصي بشعره لا يترخص. والأول المذهب؛ لأن سقوط الصلاة عن النفساء عزيمة؛ كالمرتدة إذا حاضت، لا قضاء عليها.

فصلٌ: فيمن تجب عليه الصلاة روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". وتجب الصلاة على كل بالغ، عاقل، طاهر. أما الصبي والمجنون، فلا صلاة عليهما، وكذلك الحائض والنفساء.

أما النائم إذا فاتته صلوات، يجب عليه القضاء؛ لما روي عن أبي قتادة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نسي أحدكم صلاة، أو نام عنها- فليصلها إذا ذكرها".

والكافر الأصلي مخاطب بالشرائع، إلا أنه إذا أسلم، لا يجب عليه قضاء الصلوات التي تركها في حال الكفر؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وذلك لأن في إيجاب القضاء عليه تنفيره عن الإسلام؛ فعفي عنه، ولا يؤمر أحد، ممن لا صلاة عليه بها، إلا الصبي، فإنه إذا بلغ سبع سنين، يؤمر بالصلاة، ويضرب على تركها إذا بلغ عشراً، لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مروا أولادكم بالصلاة؛ وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها؛ وهم أبناء عشر سنين وفرِّقوا بينهم في المضاجع".

فيجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة، والصلاة، والشرائع بعد بلوغ سبع سنين، وأن يأمروهم بها، حتى يعتادوا [أداءها]. فإذا بلغوا عشراً، يضربوهم على تركها؛ تأدباً؛ لاحتمال البلوغ في هذا السن بالاحتلام، ولأنه يحتمل الضرب في هذا السن. وفيه: دليل على أن الختان قبل العشر لا يجوز؛ لأن ألمه فوق ألم الضرب، ويؤمر بالصوم في السن الذي يؤمر بالصلاة، إذا كانت الأيام قصاراً والصبي يطيقه وأجرة تعليم الفرائض في مال الابن، فإن لم يكن له مال؛ فعلى الأب فإن لم يكن له أب فعلى الأم. وهل يجوز إعفاء الأجرة من مال الصبي على تعليم ما سوى الفاتحة من القرآن، والأدب والعلم؟ وجهان ولو صلى صبي في أول الوقت؛ فبلغ، والوقت باق، يستحب أن يعيد الصلاة، ولا يجب على ظاهر المذهب. ولو بلغ في خلال الصلاة بالسن، يجب أن يتمها، ولا قضاء عليه؛ كما لو بلغ في خلال الصوم، أتمه، ولا قضاء عليه؛ لأنه أدى وظيفة وقتها بشرائطها؛ كالأمة إذا صلت مكشوفة الرأس، ثم عتقت، والوقت باق لا تجب عليها الإعادة. وقال ابن سريج: إذا بلغ بعد الفراغ منها والوقت باق، تجب [عليه] الإعادة. ولو بلغ في خلالها، استحب أن يتمها، ثم يجب أن يعيدها؛ وبه قال أبو حنيفة. ولو صلى مسافر وعبدٌ صلاة الظهر يوم الجمعة في أول الوقت، ثم أقام المسافر، وعتق العبد قبل فوات الجمعة- لا يجب عليها الجمعة. ولو صلى صبي صلاة الظهر، ثم بلغ قبل فوات الجمعة، هل تجب عليه الجمعة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا تجب؛ لأنه أدى وظيفة وقته؛ كالمسافر والعبد. والثاني:- وبه قال ابن الحداد: يجب، لأنه كان مأموراً بحضور الجمعة؛ كما كان

مأموراً بأصل الصلاة، وقد ترك ما أمر به، بخلاف المسافر والعبد، فإنهما كانا مأمورين بصلاة الظهر لا بالجمعة، وقد أياه. فصل: فيمن فاته وقت الصلاة روي عن أبي قتادة قال: "ذكروا للنبي- صلى الله عليه وسلم- نومهم عن الصلاة، فقال: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة؛ فإذا نسي أحدكم صلاةً، أو نام عنها- فليصلها إذا ذكرها". من فاتته صلاةٌ عن وقتها بنسيان، أو نوم- فلا إثم عليه، ووقت قضائها موسعٌ، ويستحب أن يقضيها حين ذكر. وقيل: يجب قضاؤها حين ذكر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "فليصلها إذا ذكرها". وإذا فاتته صلوات، فيستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء؛ فلو ترك الترتيب في قضائها، جاز. ولو دخل عليه وقت فريضة، وتذكر فائتة؛ نظر: إن كان في الوقت سعة، يستحب أن يبدأ بالفائتة، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز، وإن ضاق الوقت؛ بحيث لو بدأ بالفائتة، فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت؛ حتى لا تفوت. ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت، أتمها، ثم قضى الفائتة بعدها ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها، ولا يجب. وقال أبو حنيفة: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم يزد على صلوات يوم وليلة، حتى لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم، بطل فرض الوقت، فيقضي الفائتة،

ثم يعيد صلاة الوقت، إلا أن يكون الوقت ضيقاً، فلا تبطل. ولو فاتته صلاة لا يدري عينها، يجب عليه قضاء خمس صلوات. ولو نسي صلاتين أو ثلاث صلوات من يوم وليلة، لا يدري عينها- لا يجب إلا قضاء خمس [صلوات]؛ لأن الفرض لا يخرج عنها. ولو نسي صلاتين من صلوات يومين؛ نظر: إن علم أنهما مختلفتان، لا يجب إلا قضاء خمس صلوات. وإن علم أنهما متفقتان، أو شك فيه- يجب عليه قضاء عشر صلوات، ومن ترك صلاة متعمدة حتى خرج وقتها، لا يصير كافراً ما لم يجحد وجوبها، ووقت قضائها مضيق؛ فيؤمر بالقضاء؛ فإن لم يفعل، يستتاب؛ كما يستتاب المرتد، فإن لم يفعل يقتل؛ وهو قول مكحول، وحماد بن زيد، ومالك. وسواء كان يقول: لا أصل، أو يقول: أصلي، ولا يفعل، وهل يمهل ثلاثاً؟ فيه قولان؛ كالمرتد وإن ترك صلاة الظهر لا يقتل؛ حتى يخرجها عن وقت العذر والضرورة؛ بأن تغرب الشمس. وكذلك لو ترك المغرب لا يقتل حتى يطلع الفجر. وقيل: لا يقتل ما لم يترك ثلاث صلوات. وقال النخعي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد، وغسحاق: يكفر بترك الصلاة عمداً؛ وبه قال قليل من أصحابنا؛ لما روي عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". وهذا عند الآخرين محمول على الوعيد، أو على ترك الجحود.

وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: تارك الصلاة لا يقتل، بل يحبس، ويضرب؛ كتارك الصوم؛ وهو قول الزهري، وبه قال المزني. ويقتل تارك الصلاة بحز الرقبة، ثم يغسل، ويصلَّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين؛ كالمقتول في الحد. وقال صاحب "التلخيص": تنخس فيه حديدة ويقال له: قم فصلِّ، فإن قام ترك، وإن لم يقم زيد في النخس، حتىي صلِّيَ، أو يموت. فإن مات لا يصلَّى عليه، ولا يغسَّل، ولا يكفَّن، ويدفن؛ فيسوى قبره. وإن أراد الإمام معاقبته، فقال: صليت في بيتي، يصدق. ولو أسلم كافر في دار الحرب، ولم يصلِّ مدَّة، ثم خرج إلينا وادعى الجهالة بوجوب الصلاة يجب عليه قضاؤها. وعند أبي حنيفة: لا يجب، كما لو ارتكب ما يوجب الحدَّ، وادعى الجهالة بالتحريم لا يحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات والفرض لا يسقط بالجهل. [والله أعلم]. "بابُ الأذان" أقام النبي- صلى الله عليه وسلم- بـ "مكة" بعد الوحي ثلاث عشرة سنة يصلِّي بلا أذان ولا إقامة؛ فلما هاجر إلى "المدينة"، اهتم بالصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل: انصب راية عند حضور الصلاة؛ فلم يعجبه ذلك، فذكر له القُنْعُ، يعني: الشبُّور؛ فلم يعجبه. وقال: "هو من أمر اليهود". فذكر له الناقوس. فقال: "هو من أمر النَّصارى" فانصرف عبد الله بن زيد؛ وهو مهتم لهم النبي- صلى الله عليه وسلم- فأرى الأذان في منامِهِ. قال أنس بن مالك: ذكر النار والناقوس؛

فذكر اليهود والنصارى؛ فأمر بلالاً؛ أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. الأذان والإقامة مشروعان لفرائض الأوقات، ويستحب أن يؤذن ويقيم قائماً، مستقبل القبلة، لا يزيل قدميه عن موضعهما إلا بعجزٍ؛ فيقعد، أو كان راكباً مسافراً؛ فيؤذِّن قاعداً ويلوي عنقُه في الحيعلتين من غير أن يزيل قدميه عن مكانهما؛ لما روي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح؛ فأذَّن فلمَّا بلغ حيَّ على الصَّلاة، حيّ على الفلاح- لوى عنقه يميناً وشمالاً، ولم يستدبر.

وكيفيته: أن يلتفت يميناً؛ فيقول: حيَّ على الصَّلاة مرتين، ثم يلتفت شمالاً؛ فيقول حيَّ على الفلاح مرتين. وقيل: يقول: حيَّ على الصلاة مرة عن يمينه، ومرة عن يساره، وكذلك حيَّ على الفلاح. والأوَّل أصحُّ. ولا يلتفت في سائر الكلمات؛ لأن الحيعلة دعاء وخطابٌ مع الناس؛ فيلتفت ليسمع أهل النواحي؛ كما يلتفت في الصلاة عند السلام دون غيره، ولا يلتفت في الإقامة؛ لأن المقصود منها إعلام الحاضرين. وقيل: يلتفت؛ كما في الأذان. ولو أذَّن قاعداً، أو مستدبر القبلة- حسب أذانه. والترجيع في الأذان سنَّةٌ؛ وهو أن يأتي بالشهادتين مرتين مرتين. يخفض بهما صوته، ثم يمد [بهما] صوته؛ فيأتي بهما مرتين أخريين؛ روي عن أبي محذورة قال: ألقى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه؛ فقال: "قل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال: ارجع؛ فمد من صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح؛ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله".

وعند أبي حنيفة: لا يُرَجِّعُ. والحديث حجة عليه؛ فلو ترك الترجيع، يحسب آذانه؛ كما لو ترك التثويب في أذان الفجر. ويستحب للمؤذن أني ضع مسبِّحتيه في صماخي أذنيه، لما روي عن عون بن أبي حجيفة، عن أبيه قال: رأيت بلالاً يؤذن وأصبعاه في أذنيه.

ويستحب أن يؤذن متطهراً؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة؛ فينبغي أن يكون هو بصفة تمكنه أن يصلي؛ ولأنه يستحب أن يصلي بعد الأذان ركعتين؛ لما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "بين كل أذانين صلاة"، ثم قال في الثالثة: "لِمَن شاء". فلو أذَّن، أو أقام محدثاً، [أو جُنباً] يحسب أذانه مع الكراهية. وأذان الجُنُب أشد كراهية من آذان المحدث؛ لأن الجنابة، أغلظ؛ فإنها تمنع قراءة القرآن. والمُكْثَ في المسجد، وإقامة المُحدث أشد كراهية من أذان المحدث؛ لأن الإقامة تعقبها الصَّلاة؛ فهو إذا ذهب ليتطهر بعدها، يشقُّ على القوم انتظاره. ولو أحدث في خلال أذانه أئمَّهُ، فلما توضأ، وبنى جاز إذا لم يطل الفصلُ. ويستحب رفع الصوت بالأذان ما أمكنه ما لم يجهده؛ روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطبٍ ويابس". ويرفع صوته في الإقامة، دون ما يرفع في الأذان؛ لأنَّ الإقامة للحاضرين، فلو أذَّن سِرّاً؛ بحيث لم يسمع إلا نفسه لم يحسب أذانه للجماعة، ويحسب إذا أراد أن يصلي

منفرداً ويستحبُّ أن يؤذن على مكان مرتفع، ليكون مؤته أبلغ إلى الإسماع؛ كان بلال يؤذِّن على ظهر بيت امرأة من بني النجار بيتها أطول بيت حول المسجد. أما الإقامة: فلا يحتاج فيها إلى مكان عال؛ لحصول الإعلام بالأذان. ويستحب ألا يتكلم في أذانه، ولو سلَّم عليه رجل، يجيب بالإشارة، ولا يشمِّت العاطس؛ فإذا فرغ، ردَّ السلام، وشمَّت العاطس. ولو عطس هو حمد الله في نفسه، وبنى فلو رد السلام، أو شمَّت في خلاله، أو تكلَّم بما فيه مصلحةٌ- لم يكره؛ لأنه ليس بأكثر من الخطبة، وقد تكلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم- في الخطبة وإن تكلم في الأذان، أو نام، أو سكت- بنى على أذانه إن كان يسيراً؛ فإن طال، استأنف، ولو أغمي عليه في خلال أذانه فأفاق، والفصل قريب بنى. ويستحب أن يستأنف، بخلاف ما لو تكلَّم يسيراً، لا يستحبُّ الاستئناف، لأنه بالإغماء خرج من أن يحسب أذانه. ولو ارتد في أذانه والعياد بالله- ثم أسلم- نصَّ على أنه لا يبني ونص في المعتكف إذا ارتدَّ، ثم أسلم؛ أنه يبني على اعتكافه: فمنهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يبني؛ كما لو تكلم. والثاني: يستأنف؛ لأنه عبادة واحدة؛ فتبطل بالرِّدَّة؛ كالصلاة، والحج. ومنهم من قال: يجوز البناء، حيث لم يجوز أراد به إذا طال زمان الرِّق ولو ارتد بعد الفراغ من الأذان، ثم أسلم؛ فأقام- جاز. ويستحب أن يؤذن غيره، ويقيم؛ لأن ردته تورث شبهة في حاله. ولو أغمي عليه في خلال أذانه، وارتد- ليس لغيره أن يبني على أذانه؛ على الصحيح من المذهب. وخرج قول من الخطبة: نه يبني. والأوَّل هو المذهب؛ بخلاف الخطبة؛ لأنها كلام مع الحاضرين؛ والأذان لإعلام الغائبين؛ فاختلاف الأصوات فيه يؤدي إلى التباس الأمر على السامعين. ويستحبُّ أن يؤذِّن مترسلاً؛ وهو أن يأتي بكلماته منفصلاً مبيِّناً من غير تمديد مجاوزٍ للحدِّ، ولا تغنِّ ولا تطريب ويقيم مدرجاً؛ وهو أن يأتي بكلماتها حدراً من غير تفصيل. لما روي عن جابر؛ أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: إذا أذَّنت فترسَّل، وإذا أقمت فاحدُر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشّارب من شربه،

والمعتصرُ إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتَّى تروني قد قمت. فلو أذَّن مدرجاً، وأقام مترسلاً يحسب أذانه. ولو ترك الترتيب لم يحسب، حتى يرجع إلى حين تركه؛ مثل: أن قدَّم: "حي على الفلاح" يعيده بعد "حي على الصلاة". ولو زاد في الأذان ذكراً، أو زاد في العدد لم يفسد أذانه. ويستحبُّ للمؤذِّن أن يقعد بين الأذان الإقامة قعدة؛ لانتظار الجماعة، وأن يتحول عن موضع الأذان إلى غيره للإقامة؛ فإن في رؤيا عبد الله بن زيد قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان خضران، فقام على جذم حائط، فأذَّن ثم قعد قعدة، ثم استأخر غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت للصلاة فذكر الإقامة.

والتثويب سنَّة في أذان الصُّبح؛ وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين: الصَّلاةُ خيرٌ من النوم، مرتين. وكرهه في الجديد؛ لأن أبا محذورة لم يحكه. فمن أصحابنا من جعله على قولين. والصحيح: أنه سنةٌ قولاً واحداً. روي ذلك عن عمر، وابن عمر، وبه قال ابن المبارك، وأحمد. والشافعي إنما كرهه في الجديد؛ لأنه لم يبلغه عن أبي محذورة، وقد ثبت عن أبي محذورة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له: "فإن كان صلاة الصُّبح، قلت: الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".

وعن بلال، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا تثويب في شيء من الصلاة، إلا صلاة الفجر وإذا أذن للصبح مرتين، وثوَّب في الأول لا يثوب في الثاني؛ على أصح الوجهين.

فصلٌ: فيما يشرع له الأذان من الصلوات روي عن مالك بن الحويرث قال: قال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي؛ فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبرُكُم". الأذان والإقامة مشروعان لفرائض الصلوات، إذا أديت في مواقيتها؛ وهما سنتان مؤكدتان. وقيل: هما فرضان على الكفاية في موضع من البلد، أو موضعين وأكثر على قدر سعة البلد؛ بحيث يبلغ النِّداءُ جميع البلد، فإن تركوا قوتلوا عليه، لأنه شعار الإسلام. وإن قلتا: إنه سنَّة، فإذا اجتمع أهل بلد على تركه؛ هل يقاتلون عليه؟ وكذلك صلاة العيد. فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ليس بفرض. والثاني: بلى؛ لأنه من شعار الإسلام والدِّين. ولا أذان ولا إقامة للصَّلاة المنذورة، ولا لشيء من السُّنَةِ؛ سواء كانت تؤدَّى جماعة أو فُرادى، إلا أن ينادى فيما يؤدي جماعة من

السنن؛ مثل: صلاة العيدين، والخسوفين، والاستسقاء: الصلاة جامعة، وينادى في صلاة التَّراويح: الصلاة جامعة إذا صلِّيت جماعة. ولا أذان، ولا إقامة لصلاة الجنازة، ولا قول: الصلاة جامعة، إذا صُلِّيَت جماعة. والإقامة سنَّة لقضاء الفائتة، وهل يسن لها الأذان؟ فيه ثلاثة أقوال: قال في "الأم": لا يؤذَّن لها؛ وهو قول الأوزاعي، وإسحاق؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: حبنا يوم الخندق عن الصلاة؛ حتى كان بعد المغرب هوياً من الليل فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلالاً، فأقام الظهر؛ فصلّاها، ثم أقام العصر؛ فصلاها، ثم أقام المغرب؛ فصلّاها، ثم أقام العشاء؛ فصلّاها.

وقال في القديم: يؤذِّن لها ويقيم؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد؛ لما روي عن أبي قتادة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان في سفر فقال: "احفظوا علينا صلاتنا" يعني: صلاة الفجر، فضرب على أذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس، فقاموا فساروا هنية، ثم نزلوا فتوضَّأوا وأذّن بلال، فصلُّوا ركعتي الفجر، وركبوا.

وقال في "الإملاء": إن كان يرجو اجتماع قوم يصلُّون معه، يؤذّن ويقيم، وإلا فيقيم ولا يؤذِّن. وإن كان عليه فوائت؛ فقضاهن على التوالي، هل يؤذن للأولى منها؟. فعلى الأقوال، ويقيم لكل واحدة من الأخريات، ولا يؤذِّنُ. ولو دخل عليه وقت فريضة، وعليه فائتة؛ فإن بدأ بصلاة الوقت أذَّن لها وأقام، ثم أقام للفائتة، ولم يؤذِّن. وإن بدأ بالفائتة؛ فهل يؤذِّن لها؟ فعلى الأقوال الثلاثة، ثم يقيم لصلاة الوقت؛ ولا يؤذن؛ لحديث أبي سعيد الخدري. فإن طال الفصل بين قضاء الفائتة، وأداء صلاة الوقت، أذَّن وأقام لصلاة الوقت. وإن جمع بين صلاتين لعذر سفر أو مطر نظر إن جمع بينهما في وقت الأولى أذَّن وأقام للأولى، وأقام للثانية، ولم يؤذن.

وإن جمع في وقت الثانية، يقيم لكل واحدة منهما، ولا يؤذن للثانية. وهل يؤذن للأولى فعلى أقوال الفائتة. والأصح: لا يؤذن؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- جمع في الحج بين الظهر والعصر بـ "عرفة" في وقت الظهر بأذان وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء بـ "المزدلفة" بإقامتين. ويستحب للمنفرد إذا أراد أن يصلي أني ؤذن. ويقيم. ويستحب للمرأة أن تقيم ولا تؤذن؛ لأن الأذان؛ لإعلام النَّاس وفي موتها فتنة. فلو صلى الرجل بلا أذان [ولا إقامة] أو صلَّت المرأة بلا إقامة- جاز، وترك الإقامة في حق المرأة أحق من ترك الأذان في حق الرجل. ولو صلى المنفرد في بيته بأذان مؤذِّن الجماعة- جاز، ولو أذن لنفسه، كان أحبَّ إلينا. ولو حضر مسجداً بعدها أقيمت الجماعة؛ نظر: إن لم يكن له إمام راتب لم يكره إقامة الجماعة فيه ثانياً، بل يستحب. وإن كان له أمامٌ راتبٌ، فقولان: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة: يكره إلا بإذن الإمام. والثاني: لا يكره، ولا يرفع صوته بالأذان الثاني، بل يؤذّن في نفسه، حتى لا يلتبس الأمرُ على الناس؛ فيظنون دخول وقت صلاة أخرى. ويستحب للمسافر أن يؤذّن، ويقيم للصلاة؛ كالمقيم؛ لما رويَ عن مالك بن الحويرث، قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا وابن عمّ لي، فقال لنا: "إذا سافرتما، فأذنا وأقيما، وليؤمَّكُما أكبركما". وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر؛ لأن السفر يؤثر في تخفيف العبادات؛ كقصر الصلاة، وفطر شهر رمضان، ولأن الأذان يجمع بين الناس، والقوم يكونون مجتمعين في السفر. وعند أبي حنيفة: تركه في الحضر أخفُّ. ولو أذَّن راكباً يحسب آذانه، والأولى أني نزل للإقامة؛ لأنها تتَّصل بالصلاة.

فصلٌ: "في إجابة المؤذِّن" روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:-. "إذا سمعتم المؤذن يؤذن، فقولوا مثلما يقول المؤذن" ويستحب لمن سمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذن، فإذا قال: حيَّ على الصلاة، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك إذا قال: حيَّ على الفلاح. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول في الإقامة

مثل ذلك. فإذا قال: قد قامت الصلاة يقول: أقامها الله وأدامها. فإذا فرغ من الأذان يستحب للمؤذن والمستمع أن يصلِّي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن يقول ما روي عن جابر؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته- حلت له شفاعتي يوم القيامة". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاةً، صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة".

ويجيب المؤذن وإن كان محدثاً أو جنباً، وإن كان في قراءة، أو ذكر قطعه، وأجاب، ثم عاد إليه؛ لأن ما فيه لا يفوت. وإن كان في الصلاة، يستحب ألا يجيب؛ حتى يفرغ. فلو أجاب في خلال الصَّلاة، لم تبطل صلاته. وهل يكره؟ فيه قولان: أحدهما: يكره؛ لأنه اشتغال بغير الصلاة. والثاني: لا يُكره؛ لأن الصلاة محل الذِّكر، وإن أجاب في خلال الفاتحة يستأنف الفاتحة. ولو قال: حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح الصلاة خير من النوم، أو قال: قد قامت الصَّلاة عملاً، بطلت صلاته؛ لأنه كلام. وإن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأقامها الله وأدامها لم تبطل صلاته؛ لأنه ذكرٌ ودعاءٌ؛ كما لو سلَّم عليه رجل في الصلاة، فأجاب وقال: وعليك السلام، أو قال للعاطس: يرحمك الله عملاً- بطلت صلاته؛ لأنه خاطبه، وإن قال: وعليه السَّلام. ويرحمه الله، أو اللهم سلم عليه وارحمه- لم تبطل صلاته؛ لأنه دعاءٌ؛ والصلاة محل الدعاء للمؤمنين. ويستحبُّ الدعاء بين الأذان والإقامة؛ لما رُويَ عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لا يُرد الدُّعاء بين الأذان والإقامة". فصلٌ: في الإقامة روي عن ابن عمر قال: كان الأذان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرتين، والإقامة مرة

مرة؛ غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. والأذان مثنى مثنى، وهو تسع عشرة كلمة، على قول من يذهب إلى الترجيع، وعلى قول من لا يُرجِّع خمس عشرة كلمة. والإقامة فرادى عند أكثر أهل العلم؛ وهي إحدى عشرة كلمة عند الأكثرين يقول في الابتداء: الله أكبر مرتين، وفي الانتهاء مرتين، ويقول: قد قامت الصلاة مرتين. هذا هو المذهب؛ وهو قوله الجديد. وقال في القديم: يقول في الابتداء: الله أكبر مرة، وفي الانتهاء مرة، ويقولك قد قامت الصلاة مرة، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة، والثوري: الإقامة مثنى مثنى. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة. إن رجَّع في الأذان وثنَّى الإقامة، ومثله قول الشَّافعي؛ لما روي عن أبي محذورة؛ أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة. فصلٌ في صفة المؤذن روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤذِّن لكم خياركم، وليؤمَّكُم أقرؤكم". ينبغي أن يكون المؤذّن عدلاً ثقة عارفاً بالمواقيت يحفظ على الناس أوقات صلواتهم،

ويستحب أن يكون المؤذن صيتاً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: لعبد الله بن زيد: ألقِ ما رأيت على بلال، فليؤذِّن؛ "فإنه أندى صوتاً منك". وينبغي أن يكون حسن الصَّوت؛ لأنه أرق لسامعه، ويستحب أن يكون ممن جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو أحد من الصحابة الأذان فيهم إذا كان مرضياً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمَّا جعل الأذان بـ "مكة" إلى أبي محذورة أقرته الصحابة في أولاده. ويستحب أن يكون المؤذِّن حراً بالغاً؛ فلو أذَّن عبد أو صبي أو فاسق- يحسب أذانه؛ كما يصح إمامته، ولا يحسب الكافر ولا المجنون؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة. ولا يحسب أذان المرأة؛ لأنها لا تكون إماماً للرجال، وكذلك الخنثى المشكل، وهل يحسب أذانُ السَّكران؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كالمجنون. والثاني: يحسب إذا أتى به مرتَّباً؛ لأنه مخاطب. ويُكره أن يكون الأعمى مؤذِّناً؛ لأنه يقع له الغلط في الوقت؛ فإن كان معه بصيرٌ يؤذّن قبله، أو يعلمه [بالوقت] فلا يكره؛ كما أنَّ ابن أم مكتوم كان يؤذِّنُ بعد بلال، ولا يؤذّن؛ حتى يقال له: أصبحت أصبحت. ويستحب أن يكون للمسجد مؤذنان، كما كان للنبي- صلى الله عليه وسلم- بلال، وابن أم مكتوم الأعمى فإن كان أكثر، جاز. ويستحبُّ ألّا يزيد على أربعة، ثم يؤذّن على الترتيب، إن كان في الوقت سعةٌ. وإن كان فيا لوقت ضيقٌ، وقف كلُّ واحد في ناحية من المسجد، وأذَّن إن كان المسجد كبيراً، وإن كان المسجد صغيراً، فلا يؤذِّنُون معاً متفرقين، ولا بأس أن يقفوا معاً،

ويؤذنوا إن كان اختلاف أصواتهم لا يؤدِّي إلى التشويش، فإن أدى إليه، أذَّن واحدٌ منهم، فإن تنازعوا، يقرع بينهم؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:- "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه- لا يستهموا عليه". ثم إن أذنوا على الترتيب؛ فأسبقهم أذاناً أولاهم بالإقامة، وإن أذنوا معاً؛ فإن اتفقوا على إقامة واحد، وإلا أقرع بينهم. وإن أقاموا معاً، فلا بأس إن لم يؤدِّ إلى التشويش. وقال في "الأم":- ولو أذَّن المؤذِّن الأوَّل، فخرج الإمام لم ينتظر أذان غيره، وإن خرج في خلال الأذان الثاني، قطع الأذان؛ لأن مراعاة أوَّل الوقت أولى من مراعاة حال الأذان الثاني، ولا يبطئ الإمام الخروج؛ ليفرغ المؤذن الثاني. ويستحب أن يقيم من أذَّن؛ لما روي عن زياد بن الحرث الصُّدائيِّ قال: أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أؤذن في صلاة الفجر؛ فأذَّنت، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن أخا صداء قد أذَّن؛ ومن أذَّن، فهو يقيم".

فلو أذَّن واحدٌ، وأقام غيره، جاز؛ لما روي؛ أنَّ عبد الله لما ألقى الأذان على بلال، فأذن قال: أنا رأيته وأنا كنت أريده يا رسول الله. قال: "فأقم أنت". ويستحب أن يكون المؤذِّن غير الإمام؛ لأن المؤذن يحتاج إلى انتظار القوم، والإمام يكون منتظراً؛ فلا يكون منتظراً. فصلٌ: "في فضل الأذان، وثواب من احتسبه" روي عن معاوية أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة". وعن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أذن سبع سنين محتسباً، كتب براءةٌ من النار".

اختلفوا في أن الأذان أفضل، أم الإقامة؟. منهم من قال: الإمامة أفضل؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- اختار الإمامة. والثاني- وهو الأصح: أن الأذان أفضل؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:- "الأئمة ضمناء، والمؤذِّنون أمناء؛ فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين".

فالنبي- صلى الله عليه وسلم- جعل الإمام ضامناً، والمؤذِّن أميناً، وحال الأمين أحسن من حال الضمين، والدعاء بالمغفرة خيرٌ من الدعاء بالإرشاد. والنبي- صلى الله عليه وسلم- لم يختر الأذان؛ لأنه دعاء للجماعة والجماعة سنَّةٌ؛ فكانت تفترض بدعائه؛ لأن إجابته- عليه السلام- إذا دعا فريضة. وقيل: إن وجد من نفسه كفاءة الإمامة؛ فالإمام في حقِّه أفضل، وإلا فالأذان أفضل. ويستحب للمؤذِّن أن يتطوَّع بالأذان، فإن طلبه للرِّزق رزقه الإمام من مال المصالح؛ وهو خُمُس خُمُس الغنيمة والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أن يرزقه من أربعة أخماس خمس الغنيمة والفيء؛ لأنهما لأقوام مخصوصين؛ كما لا يجوز أن يرزقه من مال الصَّدقات. ولا يجوز أن يرزقه من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنها للغانمين وهل يجوز أن يرزقه من أربعة أخماس الفيء؟ فيه قولان إن جعلناها للمصالح جاز، وإن جعلناها للمرتزقة فلا، ولا يجوز للإمام أن يرزقه من مال بيت المال؛ وهو يجد أميناً يتطوَّع بالأذان، فإن وجد متطوعاً، غير أن الذي يطلب الرزق أحسن صوتاً؛ هل يجوز أن يرزقه، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ نظراً لبيت المال. والثاني: يجوز؛ لأن صوته أبعث للناس على الجماعة. وإن كان في البلد مساجد؛ نظر؛ إن لم يكن جمعهم في مسجد واحد، يجوز أن يرزق عدداً من المؤذنين بقدر ما تقع بهم الكفاية. وإن أمكن جمعهم في مسجد واحد، فيه وجهان: أحدهما: لا يرزق الكل؛ نظراً لبيت المال؛ كما لو كان في مسجد مؤذنان، لا يرزق إلا واحداً.

والثاني: يجوز أن يرزق الكل؛ حتى لا تتعطل المساجد. هذا إذا رزقهم من بيت المال. فأما إذا رزق الإمام من مال نفسه، أو واحد من عرض الناس، يجوز أني رزقهم جميعاً، وإن زادوا على قدر الكفاية، ويجوز مع وجود المتطوع، وهل يجوز الاستئجار على الأذان؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كالحج، وتعليم القرآن. والثاني: وهو الأصح: لا يجوز؛ لأنه يعمل لنفسه، ونقعه يعود إليه؛ كما لا يجوز على الإمامة في الصلاة، ولا يجوز على القضاء؛ وإن كان يجوز أن يرزق القاضي من بيت المال. فإن قلنا: يجوز، فإن استأجر الإمام من بيت المال لا يحتاج إلى بيان المدة، بل إذا قال: استأجرتك؛ لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهر بكذا- جاز؛ وإن استأجر من مال نفسه، أو واحد من عرض الناس استأجره، هل يشترط بيان المدة؟ فيه وجهان: أما الإقامة: فلا يجوز الاستئجار عليها؛ لأنه لا يلحقه فيها كلفة، وفي الأذان كلفةٌ؛ لمراعاة الوقت، وإذا استأجر للأذان تدخل الإقامة، والله أعلم بالصواب. باب: استقبال القبلة قال الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

[البقرة: 149] والمراد بالمسجد الحرام: الكعبة؛ كما صرَّح به في آية أخرى، فقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وروي عن ابن عباس قال: لما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- البيت دعا في ناحية ولم يصلِّ؛ فلما خرج، ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة".

لا يجوز لأحد أن يصلِّي فريضة، ولا نافلة، ولا صلاة جنازة، ولا أن يسجد لتلاوة أو شكر، إلا متوجهاً إلى الكعبة إلا في حالتين: إحداهما: حال المقاتلة؛ إذا كان القتال مباحاً، يجوز ترك استقبال القبلة فيها في الفرض والنَّفل جميعاً. الحالة الثانية: صلاة النافلة في السفر، يجوز متوجهاً إلى الطريق حال السَّير؛ راكباً كان، أو ماشياً، تستوي فيه السُّنن الرواتب وغيرها مما ليس بفرض. لما روي عن ابن عمر قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي في السفر على راحلته؛ حيث توجهت به؛ يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض. ويوتر على راحلته؛ وذلك لأن الإنسان قد يكون له أورادٌ ووظائف، ويحتاج إلى السفر لطلب المعاش؛ فيجوز له ذلك؛ حتى لا تنقطع أوراده. وعند أبي حنيفة: لا يجوز ذلك للماشي، ويجوز في السفر الطويل والقصير جميعاً؛ على الصحيح من المذهب. وفيه قول آخر أنه لا يجوز إلا: في السفر الطويل؛ كقصر الصلاة، وبه قال: "مالك". ولا يجوز للمقيم؛ لأنه يمكنه أن يصلي متمكناً، ثم إن كان المسافر ماشياً، يجب عليه استقبال القبلة في ثلاثة مواضع: عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع، وعند السجود، ويجب أن يسجد متمكناً على الأرض؛ لأنه لا يشق عليه ذلك، ويتشهد ماشياً. وهل يجب عليه استقبال القبلة عند السلام؟ فيه وجهان:-

أصحهما: لا يجب، كما في سائر الأركان. والثاني: يجب؛ لأنه أحد طرفي الصلاة؛ كالافتتاح. ولو وطئ نجاسة، تبطل صلاته. وإن كان يصلي على الدابة؛ أي دابة كانت، هل يلزمه أن يستقبل القبلة عند افتتاح الصلاة؟ قيل: لا يلزمه؛ كما يأتي سائر الأركان إلى الطريق، والصحيح: أنه ينظر إن كانت الدابة واقفة، يمكنه أن ينحرف عليها، وأن يدير رأسها إلى القبلة، أو كان في السير، لكن زمان الدابة بيده، يمكنه صرفها إلى القبلة، يفتتح إلى القبلة، ثم يأتي سائر الأركان إلى الطريق؛ لما روي عن أنس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سافر، وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته، وكبر، ثم صلى حيث وجهه ركابه.

وإن كانت الدابة مقطورة لا يمكنه صرفها إلى القبلة، أو لم تكن مقطورة، ولكنها حرون يشقُّ عليه إدارتها، يفسح لها الطريق، ويومئ بالركوع والسجود إلى الطريق، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يجب وضع الجبهة على عرف الدابة، ولا على السرج والإكاف. ويجب أن يكون ما يلاقي بدنه أو ثياب بدنه من الدابة والمتاع طاهراً فإن كل السرج نجساً؛ فألقى عليه ثوباً طاهراً- جاز، ولو بالت الدابة، أو وطئت نجاسة لا تبطل صلاته، وإذا ركض الدابة لا تبطل صلاته؛ لأنه لا يستغنى عنه. ولو أعادها بغير عذر أو كان ماشياً؛ فقعد بغير عذر هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان:- أصحهما: لا تبطل صلاته؛ لأنه أحدث أفعالاً من غير عذر. ولو أخرج الدابة عن الطريق إلى جهة القبلة- لا تبطل صلاته، وإن أخرجها إلى غير القبلة متعمداً، بطلت. وإن كان ناسياً ظن أنه ليس في الصلاة، أو كان مخطئاً ظن أن ذلك طريقة- لا تبطل صلاته إن لم يطل الفصل. فإذا علم، رجع إلى الطريق، وأتم صلاته، وسجد للسهو، فإن طال الفضل، بطلت صلاته. وإن جمحت الدابة؛ فخرجت عن الطريق إلى غير القبلة؛ نظر: إن ردها في الحال، تبطل صلاته، ولا سجود عليه، وإن لم يردها مع العلم والإمكان، بطلت صلاته، وإن تركها ناسياً أو مخطئاً، أو غلبته دابته- لم تبطل صلاته، إلا أن يطول الفصل، فإذا رجع أتم

صلاته؛ قاله الشافعي- رحمه الله- ويسجد للسهو. وقيل: لا يسجد؛ لأنه فعل الدابة، فإذا بلغ المنزل في خلال الصلاة، يجب أن ينزل فيتم الصلاة متمكناً إلى القبلة، وكذلك إذا دخل بلد إقامة، أول ما يدخل البنيان، أو ينوي الإقامة- يجب أني نزل؛ فيتم الصلاة متمكناً إلى القبلة، وإن دخل بلداً مجتازاً، له أن يتم الصلاة راكباً. فإن كان له بها أهل، هل يصير مقيماً بدخولها؟ فيه قولان: إن قلنا: يصير مقيماً، يجب أن ينزل، فيتم الصلاة متمكناً. ولو كان يصلي على الأرض؛ فركب من خلال الصلاة يستأنف الصلاة نص عليه. ولو افتتح الصلاة والدابة واقفة، ثم سيرها- جاز وإن كان المسافر على دابة في مهد يمكنه استقبال القبلة في جميع الصلوات- يجب عليه ذلك، إذا لم يشق عليه؛ كراكب السفينة يجب عليه أن يصلي إلى القبلة. ويجوز سجود الشكر والتلاوة على الدابة متوجهاً إلى الطريق، ولا يجوز أداء الفريضة على الدابة متوجهاً إلى الطريق. فلو كان عليها سرير يمكنه الوقوف عليه، وإتمام أركان الصلاة إلى القبلة؛ نظرٌ إن كانت الدابة واقفة، جاز، وإن كانت تسير، أو حمل السرير رجال، فساروا- ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما يجوز في السفينة. الثاني: وهو الأصح-: لا يجوز، نص عليه في "الإملاء"؛ لأن سير الدابة منسوب إليه، بدليل أنه يجوز الطواف عليها؛ بخلاف السفينة؛ فإنها كالدار مقام فيها. ولو صلى المنذورة على الدابة، أو سائراً- ففيه قولان؛ بناءً على أن مطلق النذر على ماذا يعمل؟. إن قلنا يحمل على أقل إيجاب الله تعالى، فلا يجوز، وإلا فيجوز، وكذلك ركعتا الطواف. إن قلنا: فرض، لا يجوز سائراً، وإلا فيجوز. ولا يجوز لراكب السفينة أن يصلي النافلة حيث توجهت به كالفريضة. ولو افتتح إلى القبلة فدارت السفينة دار مع السفينة إلى القبلة.

وإذا دخل على المسافر وقت الفريضة؛ فخاف الانقطاع عن القافلة نزل لأداء الفرض، أو خاف على ماله- صلى على الدابة، ثم أعاد إذا نزل. "فصلٌ" روي عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:- "ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ". وأراد به مشرق الشتاء، ومغرب الصَّيف؛ لا يجوز تركُ استقبال القبلة في غير الحالتين اللتين ذكرناهما. ثم لا يخلو: إما إن كان قريباً من الكعبة، أو بعيداً منها: فإن كان قريباً منها؛ بأن كان في المسجد الحرام، أو في "مكة"- عليه أن يتوجه إلى عين الكعبة بجميع بدنه، فإن استقبلها ببعض بدنه، لم يجز. وقيل: يجوز، ولا يصح.

ومعاينة الكعبة ليس بشرط؛ فإن صلوات أهل "مكة" في دورهم جائزة. وإن كانوا لا يرون الكعبة. وإذا صلوا صلوا جماعة في المسجد الحرام، يستحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستدرين بالبيت، وإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام يجوز؛ فلو امتد الصفُّ خلفه، لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة. وعند أبي حنيفة: يصح؛ لأن عنده الجهة كافية، وتجوز الصلاة في الكعبة، ويتوجه إلى أي جهة شاء؛ ولو توجه إلى الباب والباب مردود، أو كان مفتوحاً لكن العتبة شاخصة، قدر مؤخرة الرحل- جاز، وإن كانت العتبة دون مؤخرة الرَّحل لم يجز ولو صلوا جماعة في البيت، واختلفت جهة الإمام والمأموم جاز؛ كيف ما وقفوا، إلا أن يجعل المأموم ظهره إلى وجه الإمام؛ فلا يجوز لأنه تقدم على إمامه في الجهة التي توجه الإمام إليها. ولو وقف الإمام في البيت، والمأموم خارجاً متوجهاً إلى أي جهة كان- جاز. ولو وقف الإمام خارجاً، والمأموم في البيت- جاز، ويتوجه إلى أي جهة شاء، إلا إلى الجهة التي يتوجه إليها الإمام؛ لأنه حينئذ يكون سابقاً عليه. ولو صلى على ظهر الكعبة، لا يجوز، إلا أن يكون بين يديه شيء من بناء البيت؛ مثل: مؤخرة الرحل وقال ابن شريج: يجوز، وإن لم يكن بين يديه شيء من بناء البيت إذا وقف؛ بحيث يمكنه السجود؛ وبه قال أبو حنيفة؛ كما لو صلى على جبل أبي قبيس يجوز متوجهاً إلى هذا البيت. قلنا: ثم لم يقف على مكان البيت، فعدّ مستقبلاً له، وإذا وقف على مكانه لا يعدُّ مستقبلاً له؛ حتى يكون بين يديه شيء من بنائه. ولو وقف في آخر السطح، وتوجَّه إلى الطرف الآخر، وكان الجانب الذي وقف فيه أخفض من الذي استقبله جاز، ولو نبت على ظهر البيت شجرة أو زرع؛ فتوجه إليه- جاز، ولو غرز خشبة، لم يجز؛ على أصح الوجهين؛ كما لو وضع بين يديه متاعاً، لم يجز فإن كانت الخشبة مبنية فيه، أو مسمَّرة، جاز. ولو انهدم البيت- والعياذ بالله- فوقف في عرصته، فهو كما لو صلى على سطحه، وإن كان بين يديه من بنائه قدر مؤخرة الرجل، أو جمع ترابه تلّاً؛ فتوجه إليه أو حفر حفرة، ووقف فيها- جاز، وإن لم يكن بين يديه شيء منه، لم يجز، ولو وقف وراء العرصة فتوجه إليه- جاز، وإن لم يكن بين يديه شيء ولو نقل تراب الكعبة أو الأبنية إلى موضع آخر، فبنى بيتاً فتوجه إليه لم يجز؛ لأن القبلة بكَّةٌ، وهي مكان البيت.

وإن كان المُصلَّى بأرض "مكة"، وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه؛ فهل له أن يجتهد؟ نظر: إن كان الحائل أصلاً؛ كالجبال، فله الاجتهاد، وإن لم يكن أصلياً؛ كالأبنية فعلى وجهين: أحدهما: له الاجتهاد؛ لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة؛ كما في الحائل الأصلي. والثاني: لا اجتهاد له؛ لأن فرصة الرجوع إلى العين فلا تتغير بالحائل الحادث، وإن كان غائباً عن "مكة"؛ نظر: إن كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة، أو وجد محراباً، أو علامة للقبلة في طريق هي جادة المسلمين، يجب أن يتوجه إليها، ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة؛ لأن هذه العلامات كالنصب، أما في الانحراف يمنة، أو يسرة يجوز أن يجتهد مع هذه العلامات؛ كان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه عن الحج: تياسروا يا أهل مرو. وكذلك لو أخبره مسلم مكلفٌ عدلٌ عن دليل: بأن قال: رأيت آبائي المسلمين، أو جماعة من المسلمين اتفقوا على هذه الجهة- عليه قبوله؛ سواء كان المخبر رجلاً، أو امرأة، أو عبداً، وليس هذا تقليداً، بل هو قبول الخبر من أهله؛ كما في الوقت لو أخبره عدلٌ: أني رأيت الفجر قد طلع، والشمس قد زالت- يجب قبول قوله؛ ولو أخبره كافرٌ، لا يقبل قوله، ولو أخبره صبيٌّ- حكى الخضري نصاً عن الشافعي؛ أنه لا يقبل، وحكى أبو زيد نصاً؛ أنه يقبل؛ فأخبر به الخضري، فقال المسألة على حالين؛ حيث قال: "يُقبل" أراد به إذا دلَّه على مِحراب، أو أخبر بدليل، وحيث قال: "لا يُقبل" أراد إذا أخبره باجتهاد. وكان الشيخ القفال يجعل في قبول خبر الصبي وجهين أما خبر الفاسق لا يُقبل. ولو دخل دار إنسان ولم يعرف القبلة، يستخبر صاحب الدار، ولا يجتهد. ولو دخل مسجداً بالليل، وكان أعمى، يمسُّ المحراب بيده؛ فصلى إليه جاز؛ فإن وجد في كل جانب حفرة لم يدر أنها المحراب، صبر حتى يتبين أو يخبره مخبرٌ؛ فإن خاف فوات الوقت، صلى إلى أي جهة شاء، ثم أعاد. وإن كان في مغارة، أو في بلاد الشرك؛ فاشتبهت عليه القبلة- يجتهد لطلب القبلة. وكذلك لو رأى غلاماً في طريق يقل فيه مرور الناس، أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون؛ فلا يدري من يصيبها، أو رأى محراباً في قرية؛ لا يدري بناه المسلمون، أو المشركون، أو كان في قرية صغيرة للمسلمين اتفقوا على جهة؛ يجوز وقوع الخطأ لأهلها- فإنه يجتهد، والاجتهاد طلب القِبلة بالدليل ودلائل القِبلة: الشمس والقمر والنجوم والرياح؛ فأوهاها الرِّيحُ؛ لأنها تختلف، وأقواها القُطب؛ وهو نجم صغير من بنات النَّعش الصُّغرى

بين الفرقدين والجدي؛ لأنه لا يزول؛ فيجعله المصلِّي في بلادنا خلف أذنه اليمنى. ومعرفة دلائل القِبلة فرضٌ على العين، أم فرض على الكفاية؟ فيه قولان. أصحهما: فرض على العين؛ يجب على كل بصير أن يتعلمها؛ لأنها تحصل في ليال ذوات عدد، بخلاف تعلُّم العلم كان فرضاً على الكفاية؛ لأنه لا يحصل إلا بأن يجعل معظم عمره فيه؛ والمطلوب بالاجتهاد عين الكعبة؛ على ظاهر المذهب. وفيه قول آخر: المطلوب جهتها. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الكعبة حرمٌ صغير مستحيل يتوجه إليها أهل الدنيا. والأول أصحُّ؛ لأن الحرم الصغير كلما ازداد القوم عنه تباعداً، ازدادوا له محاذاة؛ مثل غرض الرُّماة، والخط وسط الدائرة. وقال أبو حنيفة: المشرقُ قبلةُ أهل المغرب، والمغرب قبلة أهل المشرق، والجنوب قبلةُ أهل الشمال، والشمال قبلة أهل الجنوب. وقال مالك: الكعبة قبلةُ أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل "مكة" و"مكة" قبلة أهل الحرم، والحرمُ قبلة أهل الدنيا. فصل: [الاشتباه في القبلة والاجتهاد فيها] الأعمى إذا اشتبهت عليه القبلة ففرضه التقليد؛ وهو أن يسأل بصيراً؛ فيأخذ بقوله؛ لأنه ليس له آلة المعرفة؛ فإن لم يجد من يقلده، يصلِّي على التخمين ثم يعيد، وإن وافق القِبلة. وأما البصير فينظر فيه، إن كان عالماً بدلائل القِبلة لم يجز له التقليد، بل عليه أن يجتهد، حتى لو صلَّى بالتقليد، يجب عليه الإعادة، وإن خاف فوت وقت الصَّلاة إن اشتغل بالاجتهاد يصلِّي لحقِّ الوقت على التخمين، ثم يجتهد، ويعيد الصلاة. وقال ابن سريج: يجوز له التقليد، إذا خاف فوات الوقت، وكان إذا ضاق به الوقت يقلد الملاحين في أمر القبلة، والتقليد: هو أن يخبره ذلك الرجل عن الاجتهاد، فيأخذ به. فأما إذا أخبره بمحل القُطب، أو بمنزل من منازل القمر، وهو عالمٌ به فالأخذ به لا يكون تقليداً، بل هو قبول الخبر ممن يلزمه قبول خبره؛ كما لو أخبره بطلوع الفجر، يجب عليه قبول قوله، وإن كان البصير جاهلاً بدلائل القِبلة، هل له التقليد، أم لا؟.

وجهان بناء على أن معرفة دلائل القِبلة فرضٌ على العين أم على الكفاية؟. إن قلنا: فرضٌ على الكفاية، له أن يقلِّد. وإن قلنا: فرض على العين، ليس له أن يقلد، بل يتعلم في الوقت. وإن لم يمكنه في الوقت، يصلي على التخمين، ثم يعيد إذا عرف الدليل، واجتهد، أو وصل إلى النصيب وإن كان البصير، بحيث لو عرف لا يتعرف، فهو كالأعمى، وإن كان عالماً بالدليل؛ غير أنه كان يوم غَيْمٍ، خفيتْ عليه الدَّلائلُ قال في موضع: هو كالأعمى. وقال في موضع: ومن دلَّهُ من المسلمين- وكان أعمى وسعه اتباعه، ولا يسع بصيراً خفيت عليه الدلائل اتباعه. فمن أصحابنا من جعل على قولين. أحدهما وهو اختيار المزني: له أن يقلد؛ كالأعمى. والثاني: لا يجوز له التقليد؛ لأنه معه آلة الاجتهاد؛ بخلاف الأعمى، بل يصلِّي على التخمين، ثم يعيد. ومنهم من قال- وهو الأصحُّ-: ليس له التقليد قولاً واحداً، وحيث قال: هو كالأعمى لم يرد به في جواز التقليد، بل أراد به كالأعمى إذا لم يجد من يقلِّده، يصلي، ثم يعيد. ومن كان محبوساً في موضع لا يمكنه فيه الاجتهاد- حكمه حكم من خفيت عليه الدلائل؛ فحيث جوَّزنا له التقليد، فإنما يجوز أن يقلِّد مسلماً مكلَّفاً عدلاً عالماً بالدلائل؛ رجلاً كان أو امرأة أو عبداً. ولا يجوز أن يقلِّد مشركاً، ولا صبيّاً، ولا فاسقاً. ولو اجتهد رجلان، فأدَّى اجتهاد كلِّ واحد منهما إلى جهة أخرى، غير جهة صاحبه- لا يجوز لأحدهما أن يقتدي بالآخر؛ لأن عند كل واحد منهما أنَّ صاحبه مخطئ. ولا يجوز أن يقتدي بمن هو عنده أنه مخطئٌ، ولو أدى اجتهادهما إلى جهة واحدة، واختلفا في الانحراف يمنة ويسرة، فلا يجوز لأحدهما أن يوافق صاحبه في الانحراف. وهل يجوز اقتداء أحدهما بالآخر؟ فيه وجهان. أحدهما: وهو قول الأكثرين: يجوز؛ لأنه مخالفة يسيرة؛ كالاختلاف [في الفروع]، لا يمنع من جواز الاقتداء.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه مخالفة ظاهرة في جميع الصَّلوات؛ بخلاف الاختلاف في الفروع؛ لأن تلك المخالفة غير ظاهرة. فصل إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى، وأراد قضاء فائتة- فقد قيل: لا يلزمه أن يجتهد ثانياً، بل يصلي بالاجتهاد الأول؛ لأنه ثبت أن تلك الجهة قِبلةٌ؛ فله أن يصلي إليها ما لم يتبيَّن خلافه. والمذهب: أنه يجب أن يجتهد. ثانياً؛ حتى لو صلَّى إلى الجهة الأولى بلا اجتهاد، يجب عليه الإعادة؛ لأن كل صلاة بمنزلة حادثةٌ أخرى؛ فتقتضي اجتهاداً جديداً. قال الشيخ إمام الأئمة: وإن صلى بالاجتهاد الأوَّل بعد الفريضة ما شاء من النوافل، يجوز؛ فإذا اجتهد للصَّلاة الثانية؛ فأدَّى اجتهاده إلى جهة أخرى- نظر؛ إن كان الدَّليل الثاني دون الأوّل، صلّى إلى الجهة الأُولى، ولا إعادة عليه. وإن كان أوضح من الأول، صلَّى إلى الجهة الثانية، ولاء المادة عليه، حتى لو صلَّى أربع صلوات بأربع اجتهادات إلى أربع جهاتٍ- لا يجب إعادة شيء منها، وإن تيقنَّا الخطأ في ثلاث منها؛ لأن لكل واحد حكماً مضى بالاجتهاد؛ فلا ينتقض بغير الاجتهاد، كالقاضي إذا تغير اجتهاده بعدما قضى بالاجتهاد؛ فلا ينقضه إلا بنصٍّ يخالفه. وإن كان الدَّليل الثاني مثل الأول، يصلِّي الصَّلاة الثانية إلى أي جهتين شاء، ثم يعيده؛ لتردده حالة الشروع فيها، ولا يصلِّي هذه الصلاة إلى جهة ثالثة غير الجهتين الأوليين؛ لأن اجتهاده أبطل الجهتين الأخريين؛ فلا يجب إعادة الصَّلاة الأولى. وأما إذا تغير اجتهاده في خلال الصلاة- نظر: إن كان الدليل الثاني دون الأول أو مثله، لا يتحول، بل يتم صلاته إلى تلك الجهة، ولا إعادة عليه؛ لأن التردُّدَ حدثَ في خلال الصلاة ولم يكن له تردُّدٌ حالة الشروع. وإن كان الدليل الثاني أوضح من الأول، عليه أن يتحول في الحال ويبني على صلاته، على أصح الوجهين، حتى لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بأربع اجتهادات- لا يجب عليه الإعادة؛ كالصلوات، لأن لو ألزمناه الاستئناف، نقصتا ما أدى من هذه الصلوات بالاجتهاد؛ والاجتهاد لا ينقص بالاجتهاد.

وفيه وجه آخر: أنه يستأنف الصلاة؛ لأنها صلاة واحدة؛ فلا يمكن تصحيحها باجتهادين مختلفين؛ كالحادثة الواحدة، لا يتصور إمضاؤها باجتهادين مختلفين، وليس كالحكم؛ لأن الحكم قول الحاكم: حكمت، ولا يتصور تغير الاجتهاد في أثنائه، وإنما يتغير قبله أو بعده؛ فإن تغير قبله، لزمه الحُكم بالاجتهاد الثاني، وإن تغير بعده، فقد أتم الحكم، ولا ينقص الاجتهاد بالاجتهاد، كما لو تغير اجتهاده ها هنا بعد الفراغ من الصلاة. أما في الصلاة يتصور تغير الاجتهاد في أثنائها، ففي إلزامه الاستئناف إبطال ما مضى من صلاته ولم يجز. فوزان الحكم من الصلاة أن يأتي بما لا يقع عليه اسم الصلاة بأن يقول: الله؛ فقبل أن يتم التكبير، تغير اجتهاده- يلزمه أن يبتدئ التكبير إلى الجهة الثانية. ولو اجتهد جماعة، وأدى اجتهادهم إلى جهة واحدة؛ فصلوا جماعة، واقتدوا بواحد منهم، ثم تغير اجتهاد بعضهم- نظر: إن تغير اجتهاد واحد من المأمومين، يتحوَّل، ويخرج عن متابعة الإمام. ثم قال الشافعي: القياس: أنه كالمسألة الأولى؛ منهم من قال: أراد به في جواز البناء، وفيه قولان؛ فيكون حكمه حكم من خرج عن صلاة الإمام بالعذر؛ لأنه لم يتغير اجتهاده. ومنهم من قال: ها هنا يجوز البناء قولاً واحداً؛ وهو الأصح؛ لأنه لم يفارق الإمام، بل فارقه الإمام؛ فحيث قال الشافعي كالمسألة الأولى، أراد: في أنه لا يتابعه، بل ينوي مفارقته، ويتم الصلاة منفرداً. هذا كله في تغير الاجتهاد. أما إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم بان، له يقين الخطأ- هل يجب [عليه] الإعادة؟.

فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد-: تجب الإعادة؛ كالقاضي إذا قضى بالاجتهاد، ثم بان النص بخلافه، يجب عليه نقض قضائه. وقال في القديم- وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني-: لا تجب الإعادة؛ لأنه كلف الاجتهاد، وقد أدى ما كلف؛ ولا فرق بين أن يتبين له يقين الخطأ مع يقين الصواب، أو دون يقين الصواب. وقيل: القولان فيما إذا بان له يقين الخطأ مع يقين الصواب؛ فإن بان يقين الخطأ دون يقين الصواب، لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه لا يأمن من وقوع مثله في القضاء. وإن بان له الخطأ في خلال الصلاة، ففي الجديد: يجب الاستئناف. وفي القديم: وجهان؛ كما لو تغير اجتهاده في خلال الصلاة. وإذا بان الخطأ في الانحراف والجهة واحدة، فلا إعادة عليه، وإن كان في خلال الصلاة، ينحرف ويبني؛ لأن الانحراف القليل يعفى عنه؛ كالالتفات في الصلاة لا يبطل الصلاة؛ ولأن يقين الخطأ لا يتبين على بعد المسافة في الانحراف، فإن قربت المسافة من "مكة"، وتيقن الخطأ في الانحراف حينئذ- يبنى على أن الفرض إصابة العين، أم إصابة الجهة؟ فإن قلنا: إصابة الجهة، لا يجب الاستئناف. وإن قلنا: إصابة العين، فيكون على قولين؛ كما لو تيقن الخطأ في الجهة. فكل موضع أوجبنا عليه الإعادة، فالأعمى الذي صلى بتقليده، يجب عليه الإعادة. وإذا انحرف، فالأعمى ينحرف معه، وعلى الأعمى أن يجدد التقليد لكل فريضة. وإذا اختلف على الأعمى اجتهاد رجلين يستحب أن يقلد أوثقهما وأبصرهما؛ فإن قلد الآخر، جاز؛ لأنه مجتهد. قال الشيخ الإمام إمام الأئمة: هو بمنزلة العامي إذا اختلف عليه اجتهاد مفتيين، ففي وجه: يجب أن يأخذ بقول الأعلم. والثاني: بأيهما شاء. وإن شرع الأعمى في الصلاة بدلالة رجل، فقال له آخر: أخطأ بك فلان نظر: إن أخبره الأول عن يقين، لا يلتفت إلى قول الثاني، وإن كان الثاني يخبره عن يقين، عليه أن يتحول، ويسأنف؛ على المذهب الصحيح؛ كما لو بان يقين الخطأ.

وإن أخبره كل واحد عن اجتهاد؛ نظر: إن كان الثاني دون الأول أو مثله، لم يتحول، ولا إعادة عليه، وإن كان أعدل من الأول، أو أهدى إلى القبلة- عليه أن يتحول، ثم يبني، أم يستأنف؟ فعلى الوجهين. وإن لم يعلم أيهما أعلم، فهو كما لو كان مثل الأول لا يتحول، وإن أخبره بعد الفراغ بعد الصلاة، لا يجب عليه الإعادة، وإن كان الثاني أعلم من الأول؛ كما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ من الصلاة. ولو شرع الأعمى في الصلاة بالتقليد؛ فرد الله إليه بصره في خلالها- يجتهد؛ لأنه صار من أهل الاجتهاد؛ فلا يجوز البناء على التقليد. فإن أدى اجتهاده إلى هذه الجهة، مضى في صلاته، وإن أدى إلى جهة أخرى، يتحول ثم هل يبني، أو يستأنف؟ فعلى الوجهين. وإن احتاج إلى كثير نظر في الاجتهاد، يجب الاستئناف؛ كالعُريان يجد الثوب؛ وهو بعيد عنه، تبطل صلاته. ولو شرع بصير في الصلاة بالاجتهاد فكف بصره في خلالها؛ فجاء رجل فقال: أخطأت- نظر: إن كان ثقة، ويخبره عن نظر، عليه أن يتحول، ويستأنف الصلاة؛ على ظاهر المذهب، وإن كان يخبره عن اجتهاد، لا يدع اجتهاده باجتهاد غيره، فإن استدار عنها، أو أدار غيره، بطلت صلاته؛ فعليه أن يرجع إلى قول الغير. والله التوفيق. باب صفة الصلاة قال الله تعالى:- {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] الإخلاص: عمل القلب؛ وهو النية. وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" الصلاة لا يصح إلا بالنية، ومحلها القلب؛ فلو لم يتلفظ بلسانه، جاز ولو تلفظ، ولم ينو بالقلب، لم يجز، ويجب أن ينوي حالة التكبير. فلو ابتدأ بالنية بعدما أتى بشيء من التكبير- لم يجز، فلو نوى قبل التكبير، واستدام بقلبه إلى أن فرغ التكبير- صح، وعزوبها بعده لا يمنع الجواز؛ لأنه يشق عليه حفظها إلى آخر الصلاة. ولو عزبت نيته قبل أن يبتدئ همزة التكبير، لم يجز، ولو قرن بهمزة التكبير، ثم

عزبت قبل الفراغ من التكبير- ففيه وجهان: أصحهما: لا يصح؛ لأن انعقاد الصلاة يكون بالفراغ من التكبير، فيشترط اقتران النية به؛ كالشهود في النكاح يشترط حضورهم إلى الفراغ من الإيجاب والقبول. والثاني: يصح؛ لأن استصحاب النية تكريرها، ولا يشترط تكرير النية بعدما قرنها بابتداء الصلاة؛ كما لا يشترط ذكرها في سائر الأركان. ومن أصحابنا من قال: يجب أن يبتدئ النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان؛ بحيث يكون فراغه منها مع الفراغ من التكبير وهذا لا يصح؛ لأن التكبير من الصلاة؛ فلا يصح الإتيان بشيء منه قبل كمال النية. وعند أبي حنيفة: إذا قدم النية على التكبير بزمان يسير- جاز أما كيفية النية: نظر: إن كانت الصلاة إحدى الفرائض الخمس، يجب عليه ثلاث نيات: فعل الصلاة، والفريضة، والتعيين؛ فيقول: نويت أن أصلي فرض الظهر، أو نويت أداء فرض صلاة العصر، أو شرعت فرض صلاة المغرب؛ ينوي الصلاة؛ لتمتاز العبادة عن العادة، وينوي الظهر؛ ليمتاز عن العصر، وينوي الفرض؛ ليمتاز عن النفل. وهل يشترط نية الوقت؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ كاليوم. والثاني: يشترط؛ ليمتاز الأداء عن القضاء. ولو ترك نية الفرض؛ فقال: نويت أداء صلاة الظهر، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الظهر لا يكون إلا فرضاً. والأصح: أنه لا يجوز؛ لأن من صلى [فرض] الظهر وحده، ثم صلاها جماعة فالثانية ظهر، وليس بفرض. ولو قال: نويت أن أصلي فرض الوقت، لا يغني عن ذكر الظهر؛ على أصح الوجهين؛ لأن من قضى فائتة في هذا الوقت؛ فهو وقتها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: وليس بظهر، ولا يشترط نية عدد الركعات، ولا تعيين اليوم؛ لا في الأداء. ولا في القضاء؛ حتى لو فاتته صلوات الظهر؛ فإنه ينوي كل مرة قضاء فرض صلاة الظهر، فلو نوى أول ظهر فاته، أو آخر ظهر فاته فحسنٌ. فلو أخطأ في عدد الركعات، لا يصح؛ لأن الظهر لا يكون ركعة، ولا ثلاث ركعات، فهو لم ينو أداء ما عليه؛ ولو عين اليوم، وأخطأ، صح في الأداء.

أما في القضاء إذا كان عليه صبح يوم السبت؛ فنوى قضاء صبح يوم الأحد- لم يجز؛ لأنه لم ينو قضاء ما عليه؛ بخلاف الأداء؛ لأن معرفته بالوقت تلغي خطأ اليوم، ولا يجب نية القضاء والأداء، حتى لو قال: نويت أداء فرض صلاة الصبح التي فاتتني، أو في ذمتي، أو قال لصلاة الوقت؛ نويت قضاء فرض صلاة صبح الوقت- يجوز؛ لأن معناهما واحد. قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وأراد به الأداء. ويقال: قضيت دين فلان، وأديته بمعنى واحد. وقيل: لا يجوز أن يقضي الفائتة بنية الأداء؛ حتى يعيد بالقضاء، أو ينوي أن يصلي صلاة ظهر مفروضة فاتته. والأول أصح؛ لأن الشافعي- رحمه الله- قال من صلى يوم الغيم بالاجتهاد؛ فوافق بعد الوقت أنه يجزئه قضاء وإن كان عنده أنه يصلي في الوقت، وفي صلاة الجمعة ينوي أن يصلي فرض الجمعة مقتدياً بالإمام، ويصح بهذه النية؛ سواء قلنا: الجمعة ظهر مقصور، أو فرض آخر. ولو نوى الظهر المقصور، لا يصح على قولنا إنها فرض آخر، وإن قلنا: ظهر مقصور، جاز. وفي السنن الرواتب يشترط ثلاث نيات؛ كما ذكرنا في الفرض؛ يقول: نويت أن أصلي سنة الظهر، أو سُنة العصر، وفي الصبح وفي الوتر يقول: أن أصلي سُنة الصبح وسُنة الوتر؛ ولا يضيفه إلى العشاء، وفي التراويح يقول: نويت أن أصلي التراويح ويعين النية في صلاة العيد والخسوف والاستسقاء؛ فيقول نويت أداء سنة صلاة عيد الفطر، أو الأضحى، أو سنة صلاة الخسوف، أو الاستسقاء. أما النوافل لا سبب لها تجوز بنية مطلقة؛ فيقول: نويت أن أصلي، ثم إن نوى عدداً لا يزيد عليه، ولا ينقص إلا بعد تغيير النية، وإن لم ينو عدداً، صلى ما شاء ويستحب أن يسلم عن شفع، ويجب على المأموم نية الاقتداء بالإمام، أو نية الجماعة؛ فلو ترك نية الاقتداء بالإمام، أو نية الجماعة، أو ترك نية الاقتداء- انعقدت صلاته منفرداً؛ فلو تابع الإمام في أفعاله، بطلت صلاته. ولا يجب تعيين الإمام؛ فلو عين وأخطأ؛ بأن نوى الاقتداء بـ "زيد"، فإذا هو "عمرو"- لا تصح صلاته؛ كما أن تعيين الميت في صلاة الجنازة ليس بشرط، فلو عين وأخطأ، لا تصح.

ولا يجب على الإمام نية الجماعة إلا لحيازة الفضيلة؛ لأن صلاته غير متعلقة بصلاة المأموم؛ حتى لو شرع في الصلاة وحده؛ فاقتدى به إنسان- تصح صلاة المقتدي، ويجوز فضيلة الجماعة، ولا يحصل للإمام فضيلة الجماعة، إلا أن ينوي في أثناء الصلاة؛ فيجوز الفضيلة. وكان القاضي الإمام حسين يقول: يجب في صلاة الجمعة على الإمام نية الإمامة؛ لأن الإمام لا تحصل له الجمعة إلا بالقوم، كما لا يحصل للقوم إلا بالإمام. ولو شك المأموم في نية الاقتداء؛ نظر: إن تذكر قبل أن يحدث فعلاً على متابعة الإمام أنه قد نواه صحت صلاته، وإن أحدث فعلاً على متابعته قبل التذكر، بطلت صلاته، لأن حالة الشك في حكم الانفراد، والمنفرد لا يجوز له أن يتابع في الصلاة غيره؛ حتى لو وقع له هذا الشك في التشهد الأخير، لا يجوز أن يقف سلامه على تسليم الإمام. ولا يصح الاقتداء بإمامين؛ لأنه لا يمكنه متابعتهما؛ لاختلافهما في الأفعال. ولو اقتدى بأحدهما لا بعينه، لم يجز، وكذلك لو اقتدى بمن هو مقتد بغيره، لم يجز. ولو رأى رجلين واقفين: أحدهما بجنب الآخر يصليان جماعة، ولا يدري أيهما الإمام- لا يجوز أن يقتدي بأحدهما؛ حتى يتبين له الإمام؛ فإن اقتدى بمن ظنه إماماً؛ بأن كان على يمين القبلة، ثم بان بعد الفراغ أنه كان مأموماً- تجب عليه الإعادة، ولو اشتبه الأمر على الواقفين، نظر: إن كان عند كل واحد منهما أنه مأموم، فصلاتهما باطلة؛ لأن كل واحد مقتد بمن يعتقد أنه مقتد به؛ وكذلك إن كان كل واحد منهما شاكاً؛ لا يدري أنه إمام أو مأموم فصلاتهما باطلة؛ وإن كان عند كل واحد أنه إمام، صحت صلاتهما؛ لأن الإمام في حكم المنفرد، وإن كان أحدهما شاكاً دون الآخر، فصلاة الشاك باطلة، أما غير الشاك إن كان يظن أنه إمام تصح صلاته، وإن كان يظن أنه مأموم لا تصح، وإذا شك في صلاته، أنه هل نوى، أم لا؟ نظر: إن تذكر قبل أن أحدث فعلاً، أو أتى بركن- صحت صلاته، وإن تذكر بعد أن أحدث فعلاً على الشك؛ بأن كان قائماً فركع، أو راكعاً فرفع رأسه- بطلت صلاته. ولو قرأ "الفاتحة" على هذا الشك، بطلت صلاته؛ نص عليه. وقيل: لا تبطل صلاته؛ لأن حكم الذكر أخف من حكم الفعل؛ بدليل أنه لو كرر

الفاتحة لا تبطل صلاته، ولو كرر ركوعاً أو سجوداً تبطل صلاته. قال الشيخ إمام الأئمة رحمه الله: ولو قرأ التشهد على هذا الشك، فهو كما لو قرأ الفاتحة، ولو سكت قليلاً؛ ليتذكر، لا تبطل صلاته؛ وإن طال سكوته، فيه وجهان: أصحهما: تبطل صلاته، وهذا بخلاف المسافر إذا شك في نية القصر، ثم تذكر في الحال، يلزمه الإتمام؛ لأنه تأدى جزء من صلاته على التمام؛ لأن حالة الشك كحالة عدم النية، وإذا تأدى جزء من صلاته على التمام وإن قل، يلزمه الإتمام؛ كما لو اقتدى بمقيم لحظة، يلزمه الإتمام؛ ها هنا نجعل زمان الشك كأنه مشتغل بغير الصلاة؛ فيكون كمن فعل فعلاً يسيراً في الصلاة لا تبطل به صلاته. ولو نوى الخروج عن الصلاة أو ترك النية أو رددها بين الخروج وعدم الخروج، بطلت صلاته. ولو نوى أنه سيخرج إن دخل فلان؛ هل تبطل صلاته في الحال، أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: تبطل؛ كما لو شرع في الصلاة على هذه النية لا تنعقد صلاته. والثاني: لا تبطل ما لم يدخل فلان؛ بخلاف الشروع؛ لأن التردد يمنع انعقاد الصلاة، وهذا بخلاف ما لو قال: إن دخل فلان، تركت الإسلام- كفر في الحال؛ لأن الخروج عن الإسلام غير مباح بحال، والخروج عن الصلاة في الجملة مباح. ولو نوى صائم الخروج عن الصوم، أو ترك النية، هل يبطل صومه؟ فيه وجهان: أصحهما: تبطل؛ كالصلاة. والثاني: لا تبطل؛ بخلاف الصلاة؛ لأنها أفعال تباشر، فلا يصير عبادة إلا بالنية، وما أتى به بعد رفض النية عمل بلا نية؛ فلم يصح، والصوم مجرد كف، وبرفض النية لم يرتفع الكفُّ، وكذلك المعتكف إذا نوى الخروج عنه، ولم يخرج عن المسجد؛ هل يبطل اعتكافه؟ فيه وجهان. ولو نوى الصائم؛ أنه سيخرج إن جاء فلان، فلا يبطل صومه؛ وإن جاء فلان، هل يبطل؟ فيه وجهان. ولو شرع في صلاة الظهر، ثم صرف النية إلى العصر- بطل ظهره، ولا يصير عصراً .. وهل يبقى نفلاً؟ فيه قولان: أحدهما: تبطل؛ كما لو ترك أصل النية.

والثاني: تبقى نفلاً؛ لأنه ترك صفة النية لا أصلها، ويجوز أداء النفل بمطلق النية، وكذلك لو صرف نية الفرض إلى التطوع، أو نية السُّنة إلى الفرض لا يكون فرضاً ولا سُنة، وهل يحصل نفلاً؟ فيه قولان. ولو كانت عليه فائتتان: ظُهر وعصر؛ فشرع في إحداهما، ثم شك في معقوده- نظر: إن تذكَّر قبل أن أحدث فعلاً، حصل له معقودة، وإن لم يتذكر؛ حتى أحدث فعلاً لا تحسب عن واحدة منها. وهل يبطل، أم يكون نفلاً؟ فيه قولان. وعلى هذا لو افتتح فريضة، فكبَّر هاوياً إلى الركوع، فأتى ببعض حروف التكبير في حال الانحناء، أو افتتح فريضة قاعداً مع القدرة على القيام، لا تنعقد فرضاً؛ وهل تنعقد نفلاً؟ فيه قولان. وكذلك المريض إذا كان يصلي قاعداً للعجز؛ فقدر على القيام؛ فلم يقم- بطل فرضه. وهل يبقى نفلاً؟ فيه قولان: المنصوص: أن صلاته تبطُل، وكذلك لو احرم بالظُّهر قبل الزوال؛ هل ينعقد نفلاً؟ فيه قولان: المنصوص: أنه ينعقد نفلاً. ولو شرع في صلاة الظهر؛ فصلى ركعة ثم في الثانية ظن أنه عصر، وتذكر في الثالثة؛ صح ظهره، ولا يضره توهمه في الثانية؛ أنه عصر؛ لأن ما لا يجب أصل نيته، فالخطأ فيه لا يضر؛ كما أن الإمام ليس عليه نية اقتداء القوم به؛ وإذا نوى إمامه جماعة؛ فاقتدى به غيرهم- جاز؛ كذلك ليس عليه أن ينوي في خلال الصلاة تعيينها من ظهر أو عصر؛ فإذا توهم أنه عصر، فإذا هو ظُهر- لا يضر. قال الشيخ- رحمه الله-: عندي فيه إشكال ينبغي ألا يحسب ما أتى به على اعتقاد أنه عصرٌ؛ لأنه وإن لم يكن تعيُّن النية في خلال الصلاة، فاستدامة حُكمه واجب؛ فإذا أخطأ في الدوام، فقد بطل حكم استدامته؛ ألا ترى أن ما لا يشترط أصل نيته، فالشك فيه لا يمنع الجواز، وفي خلال الصلاة فعل أصل النية ليس بشرط. ثم لو شك في أصل النية، وأتى بفعل على الشك- بطلت صلاته؛ لأن استدامة حكمه شرط وإن لم يكن أصل النية شرطاً.

وسئل القاضي- رحمه الله- عمن شرع في ركعتي الفجر؛ فقنتّ؛ ظاناً أنه في فرض الصبح، فلما سلَّم تذكر. قال: صلاته باطلة؛ لأنه في الحقيقة شكَّ في أصل النية؛ أنه نوى الفرض، أو النفل، وقد أحدث أفعالاً قبل التذكُّر. فصلٌ: في التكبير روي عن علي- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". لا تنعقد الصلاة إلا بالتكبير؛ وهو أن يقول: الله أكبر؛ ولو قال: الله الأكبر، ينعقد. وعند مالك: لا ينعقد. ولو قال: الله أكبر، أو الله العظيم، لا ينعقد؛ لأن التعظيم بالكبرياء على وجه المبالغة لم يوجد.

وعند أبي حنيفة: ينعقد بكل اسم من أسماء الله- تعالى- إلا أن يذكره على سبيل

الدعاء، أو النداء. فالدعاء: كقوله: اللهم، والنداء، كقوله: يا الله. قال: لا تنعقد به الصلاة والحديث حُجة عليه؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل التحريم بالتكبير. ولو قال: الله أكبر كبيراً، ينعقد؛ لأنه أتى بالتكبير، ثم ضم إليه زيادة ذكر، والصلاة محل الذكر. وكذلك لو قال: الله أكبر وأعظم وأجل، أو قال: الله أكبر من كل شيء، ينعقد. ولو قال: الله الكبير الأكبر، لا ينعقد. ولو قال: الأكبر الله، أو أكبر الله: ظاهر كلامه في "الأم يدل على أنه لا يجوز. ولو قال عند التسليم: وعليكم السلام: نص على أنه يجوز؛ فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك الترتيب؛ كما لو ترك الترتيب في "الفاتحة". والثاني: يجوز؛ لأنه ليس من المعجز؛ فهو كما لو ترك الترتيب في التشهد يجوز. ومنهم من فرق بينهما؛ وهو الأصح قال: الأكبر الله لا يجوز؛ لأنه مأمور بالتكبير؛ وذلك لا يعرف تكبيراً. وإذا قال عند التسليم: وعليكم السلام، يجوز؛ لأنه مأمور بالتسليم، ويعرف ذلك تسليماً. ولو مد التكبير بين "اللام" و"الهاء" في كلمة "الله" يجوز؛ ولم مد في موضع آخر. لم يجز. والتكبير والتسليم من الصلاة. وقال أبو حنيفة: ليسا من الصلاة، بل التكبير للشروع؛ والتسليم للخروج. وفائدته: أنه لو كبَّر مع الزوال عنده يجوز. وقال صاحب "التلخيص": لو كبَّر أربع مرات يدخل في الصلاة بالأوتار، ويخرج بالأشفاع؛ وهذا إذا نوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة، ولم ينو الخروج عن الصلاة بين كل تكبيرتين؛ فبالأولى شرع في الصلاة، وبالثانية يخرج، وبالثالثة شرع، وبالرابع يخرج؛ لأن من شَرَع في صلاته، ثم نوى افتتاح الصلاة بطلت صلاته. ولو نوى الخروج بين كل تكبيرتين، فبالنية يخرج، وبالتكبير يشرع. ولو لم ينو بالتكبيرة الثانية والثالثة افتتاحاً،

ولا خروجاً- صح شروعه بالتكبيرة الأولى، وسائر التكبيرات مجرد ذكر لا يبطل الصلاة. ولا يجوز لمن يحسن العربية أن يكبِّر بلسان آخر، ولا أن يأتي بشيء من أذكار الصلاة بغير العربية. وعند أبي حنيفة: يجوز أن يأتي بجميع الأذكار بأي لسان شاء، وإن كان يحسن العربية كأصل الشهادة. والدليل على أنه لا يجوز: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يذكر إلا بالعربية. وأما أصل الشهادة: فقد قيل: يجب أن يأتي بالعربية إن كان يحسنها، والصحيح: جوازه بأي لسان شاء؛ لأن مبناه على الاعتقاد، واللسان يعبر عنه؛ فجاز أن يعبر بأي لسان شاء. وإذا كانت الصلاة متعبَّداً بها، ليست بعبارة عما في الضمير- فلا يجوز العدول عما جاء به الشرع. وإن كان لا يحسن العربية، يجب أن يتعلم؛ فلو أسلم كافر، ودخل عليه وقت الصلاة قبل إمكان التعليم- يجب عليه أن يصلي، ويأتي بالتكبير، وسائر الأذكار المفروضة والمسنونة، وما يريد أن يدعو به من دين أو دنيا بلسانه، إلا الفاتحة؛ فإنه إن لم يحسنها، يأتي بذكر آخر بدلها؛ فإن لم يحسن الذكر بالعربية، أتى به بلسانه، ولا يأتي بالفاتحة بلسانه؛ لأن القرآن معجزة لا يجوز تغييره؛ ولو كان مغيره قرآناً، لم يكن معجزاً. ثم هل يجب عليه إعادة تلك الصلوات؟ نظر: إن أتى عليه زمان إمكان التعليم؛ فتوانى يجب عليه إعادتها، وإن لم يمكنه التعليم للُكْنَةٍ بلسانه، أو لقصر المدّة- لا يجب الإعادة. وقيل: الأذكار المسنونة لا يجوز أن يأتي بها بلسانه، بل يتركها إن لم يحسن بالعربية؛ لأنه لا ضرورة إليها؛ بخلاف الفريضة؛ والأول أصح. وقيل: يجوز أن يدعو في الصلاة بالفارسية، وإن كان يحسن العربية. وإن كان الرَّجل أخرس، أو مقطوع اللسان- أتى بما قدر عليه من التكبير والذِّكر، ويحرك الأخرسُ لسانه. وإن كان أصمَّ أعمى أخرس، عليه أن يحنِي ظهره، ويضع جبهته، ويقف بجنب من يدُلّه على الأفعال. وإن أراد أن يصلي جماعة، فلا يقوم حتى يفرغ المؤذِّن من الإقامة؛ لأنه لا يدخل في الصلاة قبل فراغِهِ. ولا يكبر الإمام حتى يأمر بتسوية الصفوف؛ فيقول: استووا، ويستحب للقوم إن يسووا الصفوف، ويسدُّوا الفُرَجَ.

روي عن أنس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أتموا الصف الأول، ثم الذي يليه؛ فما كان من نقصٍ، فليكن في الصف الأخير". وعن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسوِّي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا، كبَّر. وروي عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا، ولا تختلفوا؛ فتختلف قُلُوبُكُم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَي، ثُمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وعن عمر- رضي الله عنه- أنه كان يُوَكِّلُ رجلاً بإقامة الصفوف؛ فلا يكبر حتى يخبر بأن قد استوت الصُّفوف. وعند أبي حنيفة: يكبر إذا بلغ المؤذِّنُ قوله: "قد قامت الصَّلاة". ويجهر الإمام بالتكبير؛ ليسمع القوم، والقوم يسرُّون به. ولا يجوز لمأمُوم أن يبتدئ بالتكبير؛ حتى يفرغ الإمام من التكبير؛ لأن شُرُوع الإمام في الصلاة يحصل بالتكبير، فلا يصح اقتداؤه به قَبْلَ شُروعه في الصلاة؛ فلو كبر معه، لم تنعقد صلاته؛ كما لو كبر قبله؛ لأنه يعلق صلاته بصلاته؛ وهو ليس في الصلاة.

فصل: في رفع اليدين روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع رفعها كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده ربَّنا ولك الحمد وكان لا يفعل ذلك في السُّجود. وعن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كان إذا دخل الصلاة كبَّر؛

فرفع يديه، وإذا ركع رفع يديه وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والسُّنة للمصلي إذا كبَّر للافتتاح: أن يرفع يديه، وكذلك إذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. قال الشيخ- رحمه الله-: ولم يذكر الشافعي- رضي الله عنه- رفع اليدين عند القيام من الرَّكعتين، ومذهبه: اتِّباعُ السُّنة. وثبت ذلك برواية ابن عمر من طريق نافع؛ روى عنه عبد الله بن عمر وأيوب، وروى جماعة من الصحابة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رفع اليدين في هذه المواضع الأربع؛ منهم: علي، وأبو هريرة، ووصف أبو حُميد السَّاعديُّ صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يدي جماعة من الصحابة، وذكر رفع اليدين في هذه المواضع الأربع؛ فصدقه كلُّهم على ذلك؛ وهو قول أكثر أهل العلم.

وقال الثوري، وأبو حنيفة: لا يرفع اليدين إلا عند الافتتاح؛ ويروى ذلك عن الشَّعبي والنَّخعي. والسُّنة: أن يرفعهما؛ حتى تكون كفَّاه حذو المنكبين. وعند الثوري، وأبي حنيفة: يرفع؛ حتى تكون كفَّاه حذو الأذنين.

وروى مالك بن الحويرث؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا كبَّر رفع يديه؛ حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. وعن وائل بن حُجر قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرفع إبهاميه في الصلاة إلى شحمة أذنيه. ويجمع الشافعي بين هذه الأحاديث؛ فقال: يجعل كفَّيه حذو منكبيه، وإبهاميه عند شحمة أذنيه، ورءوس أصابعه عند فروع أذنيه والأحاديث الصحيحة كلها حذو أذنيه. والسُّنة: كشف اليدين عند التكبير، والتفريق بين الأصابع. وروي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا كبر للصلاة، نشر أصابعه وكذلك كل موضع أمرناه برفع اليدين. وفي كيفية رفع اليدين مع التكبير ثلاثة أوجه:

أصحهما: وهو رواية عبد الله بن عمر-: أنه يرفع يديه غير مُكبِّر، ثم يكبر، ثم يرسل اليدين غير مكبِّر: والثاني: يبتدئ التكبير مع ابتداء رفع اليدين، ويمدّه؛ حتى ينهيه مع انتهاء الإرسال؛ وهذا رواية وائل بن حجر. والثالث: يرفع يديه غي رمكبر، ثم يبتدئ التكبير، ويمدّه؛ حتى ينهيه مع انتهاء الإرسال؛ وهذا رواية أبي حميد الساعدي. وإن ترك رفع اليدين؛ حتى أتى ببعض التكبير رفعهما في الباقي، وإن ترك؛ حتى أتم التكبير، لم يرفع بعده؛ لأن الرَّفع هيئة التكبير، وقد انقضى التكبير. وإن لم يمكنه رفع اليدين إلى المنكبين؛ لعلة بهما- رفعهما إلى حيث يمكنه، وإن أمكنه فوق المنكبين ودونهما، ولم يمكن حذوهما- رفعهما فوق المنكبين؛ لأنه إتيان بالسنة والزيادة؛ كمن لا يقدِرُ على القعود، ويقدر على القيام والاضطجاع يقوم في موضع القعود في الصلاة. وإن كان بإحدى يديه علّة، لا يمكنه رفعها- رفعَ الأخرى. وإن كان مقطوع الكفّ، رفع الساعد. وإن مقطوع السَّاعد، هل يرفع العضُد؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه يرفَعُ. والثاني: لا يَرفعُ. لأن العضُد في حال الصحة غير مرفوع. وبعد الفراغ من التكبير، يجمع بين يديه، فلو تركهما مرفوعتين، أو مرسلتين، يُكره وتصح صلاته. والسُّنة: أن يأخذ كوعَه الأيسر بكفِّه الأيمن، ويضعها على نحره تحت صدره؛ لما روي عن قبيصة بن هُلبٍ، عن أبيه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يؤمُّنا، فيأخذ شماله بيمينه.

وروي عن وائل بن حجر، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كبَّر، ثم أخذ شماله بيمينه، ويروى عنه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرُّسغ والساعد. وعند أبي حنيفة: يضع كفَّه اليمنى على ظهر كفه اليسرى؛ فيضعهما تحت السُّرة .. والله أعلم. فصل: في دعاء الاستفتاح روي عن علي- رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه إذا كان إذا استفتح الصلاة كبَّر، ثم قال: "وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوَّل المسلمين".

وروي: "وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بين يديك، والشر ليس إليك، والمهديُّ من هديت، أنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". ثم المصلي بعد تكبير الافتتاح السُّنة: أن يقرأ دعاء الاستفتاح سراً. والاختيار عند الشافعي: "وجهت وجهي ... "؛ كما رواه عليٌّ- رضي الله عنه- يستحب: أن يقرأ جميع ذلك، ويقول: "وأنا من المسلمين"؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان أول المسلمين؛ فيصح أن يقول ذلك، ولا يصح ذلك من غيره. وعند أبي حنيفة: يقرأ ما روي عن عائشة قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا افتتح الصلاة قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرُك وهو قول الثوري، وأحمد، وإسحاق.

وعند مالك: بعد أن يكبّر، يقرأ الفاتحة. وروي عن أبي هريرة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسكِتُ بين التكبير والقراءة إسكاتةً. فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتُك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين نخطاياي؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي؛ كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبَرَدِ. فإن نسي دعاء الاستفتاح؛ فإن تذكر بعد ما شرع في القراءة، أو في التعوُّذ- لم يعد إليه؛ لأنه هيئة فات وقتُها؛ نصَّ عليه. وإن ذكر قبل القراءة، وقبل التعوُّذ عاد إليه. فرْعٌ على هذا لو أن مسبوقاً أدرك الإمام في التشهد، كبر، وقعد، فلما قعد سلم الإمام قام، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لأن وقته قد فات بالقعود .. ولو سلم الإمام قبل قعوده لا يقعد، ويقرأ دعاء الاستفتاح ولو أدركه في "الفاتحة"؛ فلما كبر، أمَّن الإمام يؤمِّنُ معه، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لأنه يسيرٌ. ثم بعد دعاء الاستفتاح، يتعوَّذ؛ فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. وهذا قول عامة أهل العلم، إلا مالكاً؛ فإنه يقول؛ لا يتعوَّذُ. وروي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه".

قيل: همزُه: طعنه، ونفخه: كِبْر، ونفثه: سحره؛ وهل يجهر بالتعوذ في صلاة الجهر؟ فيه قولان: في الجديد يسرُّ؛ لأنه ذكرٌ قبل "الفاتحة"؛ كدعاء الاستفتاح؛ روي ذلك عن ابن عمر في القديم يجهر؛ لأنه ذكر مشروع بعد دُعاء الاستفتاح؛ كالفاتحة؛ يروى ذلك عن ابن أبي هريرة. والتعوذ سنَّةٌ في الركعة الأولى؛ وهل يسنُّ في سائر الركعات؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن القراءة في الصلاة واحدة؛ فيكفي لها تعوُّذُّ واحد. والثاني: يسن؛ لوقوع الفصل بين القراءتين. والأصح إنما هو الأول؛ فإن ترك التعوذ في الركعة الأولى، يتعوذ في الثانية. فصلٌ: في القراءة روي عن عبادة بن الصامت؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

القراءة في الصلاة واجبة، وتتعيَّن قراءة الفاتحة، لا يجوز غيرها مكانها إذا كان يحسنها. وعند أبي حنيفة؛ لو قرأ آية طويلة أو قصيرة، جاز. والحديث حجَّة عليه. وسورة "الفاتحة" سبع آيات، والتسمية آية منها؛ وهل هي آية من كلِّ سورة؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ لأنها مكتوبة في المصاحف بخطِّ القرآن. والثاني: لا، وإنما كتبت للفصل بين السورتين. قال ابن عباس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يعرف فصل السُّورتين؛ حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم. ومن ذهب إلى أن التسمية من "الفاتح'" ابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة؛ وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. وعند مالك، والأوزاعي، وأبي حنيفة: التسمية ليست بآية من "الفاتحة"؛ فابتداء الآية الأولى عنده: "الحمدُ لله"، والآية الأخيرة: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ". وعندنا: ابتداء الآية الأخيرة "صِرَاطَ الَّذِينَ". وروي عن أم سلمة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قرأ فاتحة الكتاب؛ فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، وعدَّها آية. وعند الشافعي: يجهر بالتسمية في صلاة الجهر؛ في الفاتحة،

والسورة جميعاً؛ وهو قول عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير. وذهب أكثر الصحابة، وأهل العلم إلى الإسرار بالتسمية.

ولو ترك قراءة الفاتحة، أو حرفاً أو تشديدة منها عمداً أو سهواً- لا تصح صلاته؛ فإن تذكر بعدما ركع، يجب أن يعود إلى القيام، وإن تذكر بعد ما قام إلى الركعة الثانية، فهذه الركعة أولاه. وقال في القديم: إذا نسي "الفاتحة"، صحت صلاته؛ تقليداً لعمر- رضي الله عنه- فإنه نسي القراءة في صلاة المغرب؛ فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسن، قال: فلا بأس. وتجب مراعاة الترتيب في الفاتحة؛ حتى لو ترك حرفاً من كلمة، لم يحسب ما بعدها؛ حتى يعيد تلك الكلمة، وما بعدها. ولو أدخل فيها ذكراً آخر، يجب استئنافها؛ قلَّ أم كثر. وإن كان ناسياً، يبني إلا أن يطول؛ فيستأنف. ولو كان المأموم في خلال الفاتحة، فأمن الإمام فأمن معه، أو فتح على الإمام قراءته، أو سجد إمامه للتلاوة، فجسد معه أو مرَّ بآية رحمة فسأل الله- هل يجب استئنافها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو فتح على غير إمامه، أو أجاب المؤذن، أو عطس؛ فحمد الله. والثاني: لا يجب؛ لأنها من مصلحة الصلاة. ولو كرَّر آية، لا يجب استئنافها. ولو سكت في خلالها يسيراً، لا يجب استئنافها؛ فإن طال، استأنف. ولو قرأ نصف "الفاتحة"، ثم شك؛ هل أتى بالتسمية؛ فأتمها، ثم تذكر أنه قرأها يعيد ما قرأ بعد الشك، ولا يجب استئناف الفاتحة، لأنه لم يدخل فيها غيرها. وعند ابن سُريج: تبطل صلاته إذا لم يعد إلى التسمية، ولو نوى قطع "الفاتحة"؛ نظر: إن جرى على سرد قراءته، ولم يسكت عليه- لا يجب استئنافها؛ لأن القراءة باللسان، ولم يقطعها، وإن سكت معه، وإن قلَّ يجب استئنافها؛ كالمودع لا يصير ضامناً بنيَّة التعدي؛ فإن ضم إليه فعل النَّقْل، يضمن؛ ولو كرر قراءة الفاتحة عمداً، لا تبطل صلاته، ولا يلزمه سجود السهو إن سها. وقال أبو يحيى البلخيُّ: تبطل صلاته؛ كما لو زاد ركوعاً أو سجوداً، وهذا

لا يصح؛ لأن الفعل أقوى من الذِّكر؛ بدليل أنه لو كرر الفعل المسنون؛ وهو التشهد الأول- تبطل صلاته، ولو كرر الذكر المسنون؛ وهو قراءة السورة- لا تبطل صلاته. والسُّنة: أن يقرأ القرآن على الترتيل؛ لقوله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] وهو ترك العجلة عن الإبانة؛ وكل ما زاد في الإبانة، فهو أحب إلينا؛ ما لم يبلغ التمطيط. والسُّنة بعد الفرغ من قوله: "وَلا الضَّالِّينَ" أن يقول: "آمين"، ولا يصله بالقراءة؛ لأنه ليس من القرآن؛ وهو مخفَّف الميم، ويجوز ممدوداً أو مقصوراً. ويجهر الإمام والمنفرد بالتأمين في صلاة الجهر، ويؤمن المأموم بتأمين الإمام؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أمَّن الإمام، فأمِّنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه". وهل يجهر به المأموم؟ فيه قولان: أصحهما: يجهر به؛ لما روي عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة. وذكر ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين، ويقول من خلفه: آمين حتى إن للمسجد للجَّة. والقول الثاني: يسر بالتأمين؛ كما يسرُّ بالقراءة.

وقيل: إن كان في القوم كثرةٌ يجهرون به؛ حتى ينتهي إلى آخرهم، وإن كان المسجد صغيراً، وفي القوم قلةٌ يسمعون تأمين الإمام، يسرون به. وعند أبي حنيفة: يسر الإمام والمأموم جميعاً؛ فلو نسي الإمام التأمين، أمن المأموم جهراً؛ ليسمع الإمام؛ فيأت به. ولو قرأ المأموم الفاتحة مع الإمام، وفرغ قبله، فالأولى ألَّا يؤمن؛ حتى يؤمن مع الإمام. وهل يجب على المأموم قراءة الفاتحة؟ نظر: إن كانت الصلاة صلاة سرٍّ، يجب، وإن كانت صلاة جهرٍ، ففيه قولان: أحدهما: لا يقرأ، ويروى ذلك عن ابن عمر، وعروة بن الزبير؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وهو قول الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. والثاني: يجب أن يقرأ، والآية محمولة على الخطبة، والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاة الفجر فقرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرءون خلف إمامكن" قلنا: نعم يا رسول الله قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يقرأ المأموم؛ سواء جهر الإمام، أو أسر؛ يروى ذلك عن زيد بن ثابت، وجابر. فإن قلنا: لا يقرأ المأموم إذا جهر الإمام، فلو كان بعيداً لا يسمع قراءة الإمام، أو كان أصم- هل يقرأ؟ فيه وجهان:

أصحهما: يقرأ؛ لأنه لا يسمع قراءة الإمام حتى يؤمر بالإنصات؛ ولو جهر الإمام في صلاة السر، هل يقرأ المأموم؟ في وجهان: أصحهما: يقرأ؛ لأن صفة هذه الصلاة السر. والثاني: لا يقرأ؛ اعتباراً بفعل الإمام. وعلى عكسه: لو أسرَّ الإمام في موضع الجهر، هل يقرأ؟ فعلى وجهين: إن راعينا صفة الصلاة، لا يقرأ، وإن راعينا فعل الإمام، يقرأ؛ فحيث قلنا: يقرأ المأموم، يقرأ: بحيث يسمع نفسه، ولا يغلب جاره، وكذلك سائر الأركان يأتي بها سراً كذلك؛ فلو لم يسمع نفسه وهو سميع لم يحسب؛ لأنه تفكر أو تحريك شفة ولسان ليس بقراءة؛ وأقلّ القراءة ما يسمع نفسه؛ فإن كان أصم، رفع صوته قدر ما لو كان سميعاً لسمع؛ وإذا أوجبنا قراءة الفاتحة على المأموم في صلاة الجهر، يستحب للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة قدرَ ما يقرأ المأموم "الفاتحة"؛ روى عن سمرة بن جندب أنه حفظ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سكتتين: سكتة إذا كبَّر، وسكتةً إذا فرغَ من قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}. فصدقه أبي بن كعب.

وكره أبو حنيفة، ومالك السَّكتة، فلو قرأ المأموم مع الإمام أو قبله، تحسب قراءته. ثم السُّنة: أن يقرأ بعد الفاتحة سورة أخرى؛ وهي سُنَّة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأوليين من سائر الصلوات؛ وهل يُسنّ في الركعتين الأخريين، وفي الثالثة من المغرب؟ فيه قولان: أحدهما: لا يُسَنُّ؛ لما رويَ عن أبي قتادة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويمسعنا الآية ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في المغرب. والقول الثاني: يقرأ السُّورة في الأخريين؛ لما روي عن أبي سعيد الخُدري؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة: قدر ثلاثين، وفي الأخريين: قدر خمسة عشر آية، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة: قدر خمسة عشر آية، وفي الأخريين: قدر نصف ذلك، وهل يفضل الأولى على الثانية في الركعتين الأوليين، وكذلك في صلاة الصبح؟ فيه وجهان:

أحدهما: يفضل؛ لحديث أبي قتادة. والثاني: لا يفضل؛ لحديث أبي سعيد الخُدري. ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح بطوال المفصَّل، وفي الظهر شبهاً به، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصَّل، وفي المغرب بقصار المفصَّل. وإن قرأ من موضع آخر، يراعي ذلك القدر؛ فإن كان إماماً، لا يزيد عليه إلا برضاء القوم، وإن كان منفرداً، طوَّل ما شاء؛ فلو قرأ في الصبح بقصار المفصل، وفي المغرب طواله- جاز؛ فإنه روى عقبة بن عامر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قرأ المعوِّذتين في صلاة الصبح. وعن عمرو بن حريث قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}.

وعن جبير بن مطعم: قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بـ "الطور". وروي أنه- عليه السلام- قرأ في المغرب بـ "الأعراف". وقراءة سورة قصيرة يتمها أولى من بعض سورة طويلة؛ كما لو ضحَّى شاة منفرداً، كان أولى من المشاركة في بدنةٍ. قال الشيخ: في الأضحية وجهان، كذا هذا. ولو قرأ السورة قبل الفاتحة، لا يحسب، ويعيد بعد قراءة الفاتحة. لا يسن للمأموم قراءة السورة في صلاة الجهر، وفي صلاة السر وجهان: أصحهما: يقرأ، وكذلك إذا كان لا يسمع قراءة الإمام لبعد أو صمم. ويستحب للمصلي، وللقارئ إذا مرَّ في قراءته بآية رحمةٍ أن يسأل الله الرحمة، وإذا مرَّ بآية عذاب أن يتعوذ، وبآية تنزيه أن يسبح، وبآية مثل أن يتفكر قليلاً؛ إماماً أو منفرداً، ويفعله المأموم بقراءة الإمام. روي عن حذيفة أنه صلى مع النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ما أتى على آية رحمة إلا وقف

وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوَّذ. وروي عن أبي هريرة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: من قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، فليقل. بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}، فليقل: بلى؛ ومن قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ}. وعن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ}، قال: "سبحان ربي الأعلى". وعند أبي حنيفة: لا يقول شيئاً من ذلك.

فصلٌ روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال جاء رجلٌ إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً؛ فعلمني ما يجزيني". قال: "قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" فقال: يا رسول الله هذا الله، فمالي؟ قال: "قل: اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني". وإذا كان الرجل لا يحسن الفاتحة، ولا شيئاً من القرآن- يجب أن يأتي بسبعة أنواع من الذِّكر بالعربية؛ كما جاء في الحديث. وهل يشترط معادلة الحروف بحروف "الفاتحة"؟ فيه وجهان.

وقيل: يجب أن يقرأ ما جاء في الحديث. وإن كان يحسن غير الفاتحة من القرآن، يجب أن يقرأ سبع آيات من غيرها، ولا يقتصر على التسبيح، ولا يجوز أن ينقص عن سبع آيات، وإن كانت الآيات طويلة. ولو قرأ سبع آيات أقصر من آيات الفاتحة، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما لو فاته صوم يوم طويل، جاز قضاؤه في يوم ساعاته أقصر. والثاني: يشترط مراعاة عدد الحروف؛ كعدد الآيات، بخلاف الصوم؛ فإنه يشق عليه مراعاة ساعات النهار، ولو قرأ آيتين مكان آية، يجوز. وقيل: يجب أن يعدل حروف كل آية بآية من الفاتحة؛ على الترتيب. قال الشيخ: هذا لا يصح، وإن كان لا يحسن إلا آية من القرآن فيه وجهان: أحدهما: يجب أن يكررها سبعاً. والثاني: وهو الأصح لا، بل يجب أن يقرأها، ويأتي بستة أنواع من الذِّكر، وإن كان يحسن بعض الفاتحة، فهكذا في وجه يكرر ما يحسن، ويغني ذلك عن البدل. والثاني: وهو الأصح يقرأ ذلك القدر، ويأتي عن الباقي بالبديل. لأنه لا يكون الشيء الواحد أصلاً وبدلاً، ثم إن كان يحسن النصف الأول من "الفاتحة" يقرؤه ثم يأتي بالبدل عن النصف الثاني وإن كان يحسن النصف الثاني يأتي عن النصف الأول بالبدل ثم يقرأ الثاني مراعاةً للترتيب. وقيل: لا يجب ترتيب بين البدل والأصل، كيف ما قرأ جاز. وإن كان لا يحسن القرآن عن ظهر قلب، يجب أن يقرأ من المصحف، فإن لم يملك مصحفاً، يجب أن يشتري إن وجد ثمنه، أو يستأجر، أو يستعير، وإن كان بالليل يحصل السراج وإن كان يصلي بالبدل؛ فتعلم "الفاتحة" بعد ما فرغ من الصلاة- لا يجب إعادتها إن لم يكن مقصراً في التعليم، وإن تعلم في خلال الصلاة؛ نظر: إن كان بعد ما ركع، لا يجب أن يعود إلى القيام، وتلك الركعة محسوبة له، وإن تعلم قبل الركوع؛ نظر: إن تعلم قبل أن يشتغل بالبدل، أو في خلاله- يجب أن يقرأ "الفاتحة"، وإن تعلم بعد الفراغ من البدل، فيه وجهان: أحدهما: يجب أن يقرأ الفاتحة؛ لأنه قدر عليها في محلها. والثاني: لا يجب؛ لأنه قدر على الأصل بعد الفراغ من البدل؛ كما لو وجد الرَّقبة في الكفارة بعد الفراغ من الصوم، لا يجب الإعتاق. وقيل: إذا تعلَّم في خلال البدل لا يجب أن يقرأ؛ كما لو وجد الرقبة في خلال الصوم؛ وليس بصحيح.

وتطويل القيام في الصلاة أفضل من تطويل الركوع والسجود؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] والمراد من القنوت طول القيام. روي عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصلاة طول القنوت". ولأن الذكر في القيام قراءة القرآن، وفي الركوع والسجود التسبيح، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح؛ وإذا طول القيام بالقراءة، هل يكون الكل فرضاً؟ فيه وجهان: أحدهما: الفرض من القيام قدر الفاتحة؛ لأنه لو اقتصر عليه، جاز. والثاني: يكون الكل فرضاً؛ كالمسافر إذا أتم الصلاة أربعاً كان الكل فرضاً، وإن كان يجوز له الاقتصار على ركعتين. ولو قام في الصلاة على إحدى قدميه، أو مستنداً إلى جدار يكره، ولكن تصح صلاته، وإن كان لو فرع السناد يسقط، ولو طأطأ رأسه قليلاً جاز، ولو وقف منحنياً بين الركوع والقيام، أو متمايلاً زائلاً عن سنن القيام مستنداً إلى شيء- لم يجز. وذكر القاضي الإمام حسين- رحمه الله- وجهين فيما لو وقف منحنياً بين الركوع والقيام وكذلك لو نسي التشهد الأول؛ فتذكر بعد بلوغه هذه الحالة- هل يجوز أن يعود فيه وجهان. ويكره أن يضع يده على خاصرته؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يصلي الرجل مختصراً.

فصلٌ: في الركوع روي عن رفاعة بن رافع قال: جاء رجل؛ فصلى في المسجد، ثم جاء؛ فسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل" فقال: علمني يا رسول الله كيف أصلي؟ قال: "إذا توجهت إلى القبلة فكبِّر، ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، ومكن ركوعك وامدد ظهرك، فإذا رفعت فأقم صلبك وارفع رأسك؛ حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت فمكن السجود، فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة حتى تطمئن".

إذا فرغ المصلي من القراءة، يجب عليه أن يركع، والسُّنة: أن يكبر، وكذلك في كل خفض ورفع إلا في الاعتدال عن الركوع؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يكبر في كل خفض، ورفع، وقيام، وقعود وأبو بكر وعمر. ويبتدئ التكبير قائماً، ويرفع يديه حذو منكبيه، وهل يمد التكبير؟ فيه قولان. قال في الجديد: يمد إلى أن يهوي إلى الركوع؛ حتى لا يخلو جزء من الصلاة عن الذكر، وكذلك جميع التكبيرات للانتقالات يمدها من الذكر الذي ينتقل عنه إلى أن يدخل في الثاني، إلا تكبيرة الافتتاح، فإنه يحذفها على الأصح. وقال في القديم: يحذف التكبير. وفرض الركوع أن يهوي بحيث لو أراد أن يضع راحتيه على ركبتيه أمكنه ذلك، والسُّنة أن يأخذ ركبتيه بكفيه، ويفرَّق بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد ظهره وعنقه، ويسوي ظهره، ولا يخفض رأسه عن ظهره، ولا يرفعه وإن كان أقطع إحدى اليدين، وضع الأخرى على الرُّكبة، فالسُّنة أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وذلك أدنى الكمال؛ لما روي عن ابن مسعود؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات- فقد تم ركوعه وذلك أدناه، فإذا سجد؛ فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات- فقد تم سجوده؛ وذلك أدناه".

وروي عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74 - 96] قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "اجعلوها في سجودكم". ولو زاد التسبيحات على الثلاث؛ فجعلها خمساً؛ أو سبعاً- كان أفضل، إلا أن يكون إماماً فلا يزيد على الثلاث تخفيفاً على القوم. ولا يقرأ في الركوع والسجود، ولو فعل فهو كما لو قرأ في التشهد، والدليل عليه: ما روي عن ابن عباس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً، فأمَّا

الركوع، فعظِّموا فيه الربَّ، وأما السجود؛ فاجتهدوا فيه من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم". والطمأنينة واجبة في الركوع وفي الاعتدال عنه وفي السجود، وبين السجدتين؛ حتى لو تركها لا تصح صلاته. وعند أبي حنيفة غير واجبة، والدليل على وجوبها: ما روي عن أبي هريرة؛ أن رجلاً دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم- جالس في ناحية المسجد، فصلى، ثم جاء فسلم عليه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "وعليك السلام، ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ" فرجع فصلى، ثم جاء فسلم عليه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "وعليك، ارجع وصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ". فقال: علمني يا رسول الله، فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فاسبغِ الوضوء، ثم استقبل القِبلة فكبِّر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلواتك كلها". وروي عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تجزي صلاةُ

الرَّجل؛ حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود". والتسبيح في الركوع والسجود سنَّة. وقال أحمد وإسحاق: واجب؛ كالقراءة في القيام والقعود واجبة. قلنا: القيام والقعود مشترك فيهما العادة والعبادة؛ فشارطنا فيهما الذكر؛ لتمتاز العبادة عن العادة بخلاف الركوع والسجود؛ فإنه لا تشترك فيهما العادة؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يحني ظهره لمخلوق، بل هو محض عبادة لله- عز وجل- فلم يشترط فيهما الذِّكر للامتياز. فإذا فرغ من الركوع يرفع رأسه، ويبتدئ مع الرفع: سمع الله لمن حمده إلى أن يعتدل، ويرفع يديه حذو منكبيه مفرقاً بين أصابعهما، فإذا استوى قائماً قال: ربَّنا لك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، يقوله الإمام والمأموم جميعاً؛ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". وقال الشعبي، وأبو حنيفة، ومالك وأحمد: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، ويجمع المنفرد بينهما، والاعتدال عن الركوع واجب.

وعند أبي حنيفة: ليس بواجب؛ فلو هوى من الركوع إلى السجود، يجوز؛ وحديث أبي هريرة حجَّةٌ عليه. فصلٌ: في السجود روي عن أبي حميد الساعدي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سجد مكَّن أنفه وجبهته من الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفَّيه حذر منكبيه. ثم بعد ما اعتدل المصلِّي عن الركوع، يجب عليه أن يهويَ إلى السجود، ويبتدئ التكبير قائماً، ولا يرفع يديه. وهل يمد التكبير، أم يحذفه؟. فعلى القولين؛ والسُّنة: أن يضع أولاً ركبتيه على الأرض، ثم كفيه، ثم جبهته وأنفه؛ هذا قول أكثر أهل العلم؛ لما روي عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

وقال مالك والأوزاعي: يضع يديه قبل ركبتيه. وروي عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين".

ولا يُكفِتُ الثياب والشَّعر، ووضع الجبهة في السجود على مكان السجود واجب، ويجب أن يعتمد بجبهته على مسجده متحاملاً عليه بثقل عنقه ورأسه، وإن سجد على شيء متخلخل من قطن أو حشيش، يجب أن يتحامل عليه؛ حتى يتكابس ويثبت جبهته، فإن لم يفعل لم يجز؛ لأنه لم يستقر ساجداً، ولو سجد على مكان مرتفع، أو على ظهر إنسان جاز، إذا كان ارتفاعه قليلاً؛ بحيث لا يخرج عن حد الساجدين، وحدُّه: أن يكون أسفل بدنه أعلى من أعالي بدنه، ووضع الأنف غير واجب. وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ لحديث ابن عباس. والثاني: وهو الأشهر-: لا يجب؛ لأنه لو وجب وضعهما لوجب الإيماء بها عند العجز؛ كالجبهة، ويجب أن يضع الجبهة مكشوفة على موضع سجوده، حتى لو سجد على كفه أو كُمِّه أو كور عمامته أو ناصيته، أو على شيء يرتفع بارتفاعه من ذيل أو تكَّةٍ- لا يجوز. وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأكثر أهل العلم: لو سجد

على كُمِّه، أو عمامته، أو على ثوب هو لابسه يجوز. وعند أبي حنيفة: لو وضع الأنف مكان الجبهة يجوز؛ فلو كان بعض جبهته مكشوفاً، جاز .. ولو سجد على جبينه، لم يجز؛ ولا يجب في السجود كشف الركبتين والقدمين؛ بدليل الإجماع على أن الصلاة في السراويل والخف جائزة. وهل يجب كشف اليدين إذا أوجبنا وضعهما؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجب؛ لكونهما مستورين في الغالب؛ كالرُّكبتين. والثاني: يجب؛ كالوجه. والسُّنة في السجود: أن يضع يديه حذو منكبيه، ويضم بين أصابعهما، ويجافي مرفقيه عن جنبيه؛ بحيث لم يكن عليه ثوب روئيت عفرة إبطيه؛ ولا يفرش ذراعيه، بل يرفع مرفقيه على الأرض، وثقل بطنه عن فخذيه، ويفرِّج بين رجليه، وينصب قدميه موجهاً أصابعهما نحو القِبلة. روي عن البراء قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا سجدت، فضع كفَّيك، وارفع مرفقيك".

وعن ميمونة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سجد جافي بين يديه؛ حتى لو أن بهيمة أرادت أن تمرَّ تحت يديه لمرَّت، ويقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدنى الكمال، ويجوز أن يدعو فيه بما أحبَّ لما روينا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "وأمَّا السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم". وروي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وروي عن علي- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي"، وإذا سجد قال: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين". ولو هوى ليسجد، فسقط على الأرض بجبهته، نظر إن وضع جبهته بنيَّة الاعتماد لم يحسب عن السجود، وإن وضع بنيَّة السجود، أو دام على نيَّته الأولى، أو لم يحدث نيَّة الاعتماد تحسب، وإن أراد السجود، فسقط على جنبه، فانقلب حتى مست جبهته الأرض إن

انقلب يريد السجود حسبن وإلّا فلا. قال الشيخ: هذا إذا هوى ليسجد فقسط، فأما إذا لم يقصد الهويَّ، فسقط على جنبه فانقلب، لم يحسب حتى يعود إلى القيام، لأن الانتقال عن الرُّكن واجب، كما قال الشافعي: لو رفع عن السجود رأسه لينتقل، يجب أن يعود، ثم بعدما فرغ من السجود يكبر، فيرفع رأسه حتى يعتدل جالساً، والجلوس والطمأنينة فيه واجب. وعند أبي حنيفة لا يجب الاعتدال، فإذا رفع رأسه قدر ما يمر السيف بين جبهته والأرض عرضاً جاز، وخبر أبي هريرة ورفاعة حجة عليه. وروي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً. وروي عن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قال: "سمع الله لمن حمده" قام حتى يقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى يقول قد أوهم. والسُّنة أن يقعد مفترشاً، ولا يقعي إقعاء الكلب، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الإقعاءَ.

ويقول بين السجدتين ما روي عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". ثم يُكبِّر فيسجد السجدة الثانية، كما ذكرنا، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية نص ها هنا أنه إذا استوى قاعداً نهض. وقال في "الأم": يقوم من السجدتين اختلف أصحابنا في أنه هل يجلس عقيب السجدتين؟. منهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما: أنه إذا رفع من السجدة الثانية رأسه في الركعة الأولى، أو في الركعة الثالثة من صلاة ذات أربع ركعات، يجلس جلسة خفيفة، لا يدعو فيها بشيء، ثم يقوم معتمداً على يديه، وتسمى جلسة الاستراحة. والقول الثاني: يقوم، ولا يجلس؛ لما روي عن وائل بن حجر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً، وهذا قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد، والأول أصح؛ لما روي عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي، فإذا كان وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً. وقال أبو إسحاق: هي على حالين إن

كان ضعيفاً جلس للاستراحة، وإن كان قوياً لم يجلس. وإن قلنا: يجلس متى يبتدئ التكبير؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: يبتدئه مع رفع الرأس، ويمده حتى يجلس ويقوم حتى لا يخلو جزءٌ من صلاته عن الذِّكر. والثاني: إذا جلس يقطعه، ويقوم غير مكبِّر. والثالث: يرفع رأسه غير مكبر، ويبتدئ التكبير جالساً، ويمد حتى يقوم، ولا يكبر تكبيرتين، ولا يرفع يديه إذا قام إلى الثانية، ويصلي الركعة الثانية كالأولى، إلا أنه لا يقرأ دعاء الاستفتاح فإذا أتمها يقعد للتشهد، والاعتدال عن الركوع والقعود بين السجدتين ركنان مقصودان، لو أطالهما فألحقهما بالقيام الذي هو للقراءة، والقعود الذي هو للتشهد تبطل صلاته، إلا حيث ورد الشرع، وهو القنوت في صلاة الصبح، أو في الوتر، أو في صلاة التسبيح، ولا يمد جلسة الاستراحة إلا في صلاة التسبيح لورود السُّنة فيه. فصلٌ: في التشهد روي عن أبي حميد الساعدي أنه وصف صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فإذا في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدَّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته إذا صلى ركعتين يقعد للتشهد، ثم إن كانت الصلاة ذات ركعتين، كصلاة الصبح، فالقعود للتشهد فرض، وإن كانت ذات أربع ركعات، أو ثلاث ركعات كالمغرب، فالتشهُّد الأول سنة والثاني فرض قعوداً وقراءة. وقال أحمد: القعود للتشهد الأول فرض غير أنه لو ترك ناسياً تصح صلاته، وقال أبو حنيفة القعود للتشهد الثاني فرض، والقراءة ليست بفرض فإذا قعد قدر أقل التشهد كفى، وهو قول الزهري، فيقيس القعود على القيام. والسُّنة أن يقعد في التشهد الأول في كل قعود لا يعقبه التسليم مفترشاً، هو أن يقعد

على رجله اليسرى، ويخرج اليمنى عن وركه اليمنى وينصبها ويوجه أصابعها نحو القبلة، وفي التشهد الأخير يقعد متوركاً، وهو أن يميط رجليه، ويخرجهما عن وركه اليمنى، فيضجع اليسرى، وينصب اليمنى ويوجه أصابعها إلى القبلة، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، وكذا يجلس في سجود التلاوة خارج الصلاة وفي سجود الشكر. وقال الثوري، وأبو حنيفة: يجلس في التشهدين مفترشاً. وقال مالك: يجلس فيهما متوركاً، والحديث حجة عليهم، ولأن التشهد الأول يقصر، ويعقبه القيام، فكان الافتراش فيه أولى ليكون أقرب إلى القيام. روي عن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- في الركعتين الأوليين كأنه على الرَّضف حتى يقوم، ويكره الإقعاء في الجلوس، وهو أن يضع أليتيه على عقبيه. وقيل: هو أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه. فإذا قعد للتشهد الأخير، وعليه سجود السهو قال الشيخ القفَّال: يقعد مفترشاً، وكذلك بين سجدتي السهو؛ لأنه جلوس لا يعقبه السَّلام. والسُّنَّةُ في التشهد أن يبسط يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويفرق بين أصابعها، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض بين أصابعها ويقبض الخنصر والبنصر، ويرسل المسبِّحة، وكيف يفعل بالإبهام والوسطى؟ فيه ثلاثة أقوال: أصحها: يقبضها أيضاً، وفي كيفيته وجهان: أصحهما: كأنه عاد ثلاث وخمسين، رواه ابن عمر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

والثاني: يقبضها كأنه عاد ثلاث وعشرين. والقول الثاني: بين الإبهام والوسطى وهي رواية وائل بن حُجرٍ، ثم في كيفيته وجهان: أصحهما: يحلِّق برأس الأنامل. والثاني: يضع أنمله الوسطى بين عقدي الإبهام. والقول الثالث: يرسل الإبهام مع المسبِّحة، ويقبض الثلاث. واختار الشافعي في التشهد رواية ابن عباس، قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد، كما يعلمنا القرآن، فكان يقول: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله". واختار الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك، وأحمد رواية عبد الله بن مسعود، قال: كنا إذا صلينا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- قلنا: "السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان" فلما انصرف النبي- صلى الله عليه وسلم- أقبل علينا بوجهه فقال: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" وكلا الحديثين صحيح فأيهما قرأ جاز. واختار الشافعي رواية ابن عباس؛ لموافقته القرآن في قوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].

وذكرُ التسمية في أول التشهد غير صحيح عند أهل الحديث، وذكر بعض أصحابنا أنه يقول: "باسم الله وبالله" ويرفعه عن جابر.

وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه كان يُعلِّم الناس التشهد، يقول: إذا جلس أحدكم فليقل: "بسم الله خير الأسماء، التحيات الصَّلوات [الطيبات] المباركات لله" وأول فرض التشهد قال الشافعي- رحمه الله-: أن يقول: التحيات لله، سلامٌ عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباده الله الصَّالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسوله". قال ابن سُريج أقلُّه أن يقول: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي [ورحمة الله وبركاته] وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله. وقال تدخل الرحمة والبركة في السلام، ولو ترك الترتيب فيه يجوز؛ لأن المقصود منه الذِّكرُ، وهو حاصل، ولا يجوز إبداله بغيره، ولا أن يأتي بمعناه مع القدرة، لأنه ذكر مفروض كالفاتحة. وإذا بلغ في التشهُّد قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" أشار بالمسبِّحة عند قوله: "إِلّا الله" إشارة إلى الوحدانية، وهل يحرك أصابعه عند الإشارة؟ فيه وجهان:

أحدهما: بلى، وهو رواية وائل بن حجر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ثم رفع أصبعه، فرايته يحركها يدعو بها. والثاني: لا يحرك؛ لما روي عن عبد الله بن الزُّبير أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يشير بأصبعه إذا دعا، ولا يحركها لا يجاوز بصره إشارته، ولا يشير بأصبعين؛ لما روي عن أبي هريرة أن رجلاً كان يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أحِّد أحِّدْ". فإذا فرغ من التَّشَهُّدِ يصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- فريضة في التشهد الأخير عند الشافعي، وهل هي سنَّة في التشهد الأول؟ قولان: أحدهما: وهو قول أكثر أهل العلم ليست سنَّة؛ لأنه بنى على التخفيف.

والثاني: سنَّة؛ لأن كل جلسة شرع فيها التشهد شرعت فيها الصَّلاة، كالتشهد الأخير، فعلى هذا إذا تركها يسجد للسَّهو، كما لو ترك التشهد الأول. وعند أبي حنيفة إذا صلَّى في التشهد الأول يسجد للسهو، وهي سنَّةٌ في التشهد الأخير عنده، وعند أكثر أهل العلم، وتفرد الشافعي بإيجابها. وكيفية الصلاة ما روي عن كعب بن عجرَةَ قال: سألنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلِّم؟ قال: "قولوا اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيدٌ. وهل يجب الصلاة على الآل في التشهد الأخير؟ فيه وجهان. فإن قلنا: لا يجب، وهو المذهب، فهي سنّة، وهل يجب بتركها سجود السَّهو؟ فيه وجهان: الأصح: لا يجب، وكذلك إذا قلنا: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- سنّة في التشهد الأول حتى يجب بتركها سجود السهو فإذا ترك الصلاة على الآل، هل يسجد السَّهو؟ فيه وجهان.

وأقل فرض الصلاة أن يقول: اللهم صلِّ على محمد، فإن أوجبنا على الآل يقول: وآله. وعند ابن سريج: يكفي أن يقول: وأشهد أن محمداً رسول الله. ونص الشافعي على أنه لو قال: وصلى الله على رسول الله، لم أرَ عليه إعادةً. قال الشيخ إمام الأئمة: وفيه دليل على أنه لو قال: اللهم صلِّ على النبي أو على أحمد جاز، ولو كرر التشهد أو الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- لا تبطل صلاته، ثم بعد ما صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول يقوم معتمداً على يديه، ويصلي الركعتين الأخريين كالأولين، غير أنه لا يجهر فيهما بالقراءة في صلاة الجهر، ويقرأ الفاتحة، ولا يقرأ السورة في أحد القولين. وقال أبو حنيفة: لا يجب القراءة إلا في ركعتين. وإذا فرغ من الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير يستحبّ أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وله أن يدعو بما أحبَّ من أمر الدنيا والآخرة؛ لما روينا عن ابن مسعود عن النبي- صلى الله عليه وسلم- "ثم ليتخيَّر من الدُّعاء أعجبه إليه فيدعو". ولا يجوز بالفارسية على الصحيح من المذهب إذا كان يحسن العربية. وعند أبي حنيفة لا يجوز أن يدعو إلا بدعاءٍ ورد في خبر، ويستحب أن يقول بما روي عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم" فقال له قائل ما أكثر ما تستعيد من المغرم! فقال: "إن

الرَّجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف". وروي عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: يا رسول الله: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرَّحيم". ويستحب أن يكون دعاؤه أقل من التشهد والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه تبع لهما، فإن زاد فلا يضر، إلا أن يكون إماماً فيكره له التطويل، ويكره إطالة التشهد الأول، فلو فعل لم تبطل صلاته، نصَّ عليه، ولو سها لا يسجد للسهو. والله أعلم. فصلٌ: في السَّلام روي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله حتى يُرى بياض خدِّه الأيمن، وعن يساره السلام عليكم حتى يرى بياضُ خدِّه الأيسر.

إذا فرغ المصلِّي من التشهد الأخير يجب عليه أن يسلم، وهو رُكن، من أركان الصلاة، لا يتم الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة: إذا أتى بشيء يضادّ الصلاة مختاراً من كلام، أو حدثٍ خرج عن الصلاة وتمت صلاته، وإن أحدث ناسياً قال: لا يخرج عن صلاته، بل يتوضأ ويبني، وإذا وقع المُبطِلُ لا باختياره، مثل انقضاء مدّة المسح ورؤية المتيمم الماء، وطلوع الشمس، قال: تبطل صلاته. دليلنا عليه قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مفتاحُ الصلاة الوضوء وتحريمها التَّكبير وتحليلها التَّسليم". جعل التحليل بالسلام، فثبت أنه لا يحصل بغيره، وأقل فرض السلام أن يقول: السلام عليكم مرّة واحدة إلى أيَّ جهة كان، فلو نقص منه حرفاً فقال: السلام عليك لم يجز، ولو تعمد بطلت صلاته، وكذلك لو قال: سلام عليكم بلا تنوين، ولو قال: سلام

عليكم بالتنوين ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه نقص الألف واللام، وإن تعمد بطلت صلاته. والثاني: يجوز، والتنوين يقوم مقام الألف واللام، ولو قال: عليكم السلام يجوز؛ لأنه يعرف تسليماً. وقال ابن سريج: لا يجوز، ولو قال: سلامي عليكم، أو سلام عليكم لم يجز؛ لأنه خصّ ولم يعم، وتبطل صلاته إن تعمد. ولو قال: السلام عليهم لا يحصل به التحليل، ولا تبطل صلاته؛ لأنه لم يخاطبهم، بل دعا لهم، والصلاة محل الدعاء للمؤمنين، وتمام السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله مرتين. والسُّنَّة أن يبتدئ السلام مستقبل القِبلة، ويتمه ملتفتاً، فحيث يكون انقضاء سلامه مع تمام الالتفات، ففي التسليمة الأولى يلتفت عن يمينه حتى يرى من على يمينه خدَّه الأيمن، وفي التسليمة الثانية يلتفت عن يساره حتى يرى من على يساره خدَّه الأيسر، ولو بدأ باليسار يُكره، ويجوز، هذا هو المذهب أنه يسلم تسليمتين. وقال في القديم: تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وفيه قول: آخر: أنه إن كان إماماً، وفي القوم كثرة يسلم تسليمتين، حتى يصل إلى آخرهم، وإن كان في القوم قلة سلم تسليمة واحدة. وهل تجب نية الخروج عن الصلاة؟ فيه وجهان. أظهرهما: لا يجب، كسائر العبادات لا يجب فيها نيَّة الخروج. وقال صاحب "التلخيص": يجب؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فيفتقر إلى النية كالتحريم. فإن قلنا: يجب أن ينوي مع التَّسليمة الأولى، فلو نوى قبلها بطلت صلاته ولو سلم ولم ينو بطلت صلاته، ولا يجب تعيين النية عند الخروج؛ لأن الخروج متعيّنٌ عما شرع فيه، بخلاف الشروع يحتاج فيه إلى تعيين النية؛ لأنه متردد، فلو عين وأخطأ إن قلنا: لا يجب نية الخروج عن الصلاة لا يضر؛ لأن ما لا يجب نيَّته فالخطأ فيه لا يضر، كتعيُّن اليوم في الصلاة لا يجب، فلو عين يوماً وأخطأ تصح صلاته. وإن قلنا: يجب نيَّة الخروج، وإن تعمَّد بطلت صلاته، وإن سها سجد للسهو، ويعيد

السلام مع النية، وكذلك لو سلم وترك النية، وقلنا: هي واجبة، فإن تعمَّد بطلت صلاته، وإن سها سجد للسهو، وسلم ثانياً مع النية. ويستحب أن ينوي بالتسليمة الأولى الخروج عن الصلاة، والسلام على من على يمينه من الملائكة، وإن كان إماماً، فعلى من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن والإنس، وبالتسليمة الثانية السلام على من على يساره من الملائكة، ومسلمي الجنِّ والإنس، والمأموم ينوي هكذا، ثم إن كان على يمين الإمام ينوي معها بالتسليمة الثانية الرد على الإمام، وإن كان على يساره، فبالتسليمة الأولى ينوي الرد، فإن كان في محاذاته، فبأي التسليمتين شاء، ولو نوى بعض المأمومين الرد على البعض يجوز، وهذا كله مستحبٌ، فلو لم ينو فمطلق سلامه يقع هكذا، إلا بنية الخروج، فإنها واجبة في وجه. وروي عن سمرةَ قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نسلِّمَ على أنفسنا، وأن يسلِّم بعضنا على بعض. ويستحب أن يذكر الله بعد الفراغ من الصلاة. وروي عن المغيرة بن شعبة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دُبُر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ".

وعن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سلّم من صلاته قال بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، له النعمة وله الفضل، وله الثَّناء الحسنُ، لا إله إلا الله مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون". وعن ثوبان قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف عن صلاته استغفر ثلاثاً وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، ويقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبُر الصَّلاة "اللهم إني

أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذُ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر". والسُّنة للإمام إذا سلَّم عن صلاته ألا يمكُثَ في موضع صلاته ليعلم الدَّاخلُ فراغَهُ؛ ولأن المستحبَّ للمأموم أن يقوم ما لم يقُم الإمام، وربما يكون له شُغل شقَّ عليهم انتظاره. روي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللَّهم أنت السَّلام ومنك السَّلامُ تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام". فإن كان خلف الإمام نساءٌ فيمكث قدرَ ما ينصرف النساء، ولا يختلطن بالرجال. روي عن أم سلمة أن النساء في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كنَّ إذا سلَّمن من المكتوبة قُمن، وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن صلَّى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام الرجال، ثم إن كانت الصلاة مما يتنفل بعدها، فالمستحبُّ أن يرجع إلى بيته لأداء السُّنة، فإن لم يفعل يُستحب أن يتأخر عن موضع فرضِهِ قليلاً ليكثر مواضع السجود، فلو صلَّى في مكانه جازَ. وعند أبي حنيفة يُكرَهُ للإمام أن يتطوع في مكانِهِ ولا يكره للمأموم. وإن كانت الصلاة مما لا يتنفل بعدها نظر إن أراد الانصراف انصرف إلى جانب بيته، أو مداسِهِ أو حاجته، فإن استوى الجانِبان، فاليمين أحبّ إلينا، وإن أراد المُكْثَ في المسجد ينصرف، ويستندُ إلى المِحرابِ، ويستحب أن ينصرف عن يمينه؛ لما روي عن أنس أن

النبي- صلى الله عليه وسلم- كان ينصرف عن يمينه، وفي كيفيته وجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة يدخل يمينه في المِحراب، ويساره إلى الناس، ويجلس عن يمين المِحراب. والثاني وهو الأصح: يدخل يساره في المِحراب، ويمينه إلى القوم، ويجلس على يسار المحراب؛ لما روي عن البراء قال: كنا إذا صلَّينا خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحببنا أن نكون على يمينه، يقبل علينا بوجهه، ولأنه ربَّما يكون معه مأموم واحد واقف على يمينه، فإذا فعل هكذا يكون مُقبلاً عليه بوجهه. ويستحبُّ للمأموم ألا يبتدئ السَّلام حتى يفرغ الإمام من التسليمتين، وكذلك المسبوق لا يقوم إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين، فلو سلم المأموم، أو قام المسبوق بعد فراغه من قوله: السَّلام عليم جاز ولو سلَّم أو قام المسبوقُ قبل أن يبتدئ الإمام السلام بطلتْ صلاتهما، ولو ابتدئ المأموم السَّلام مع الإمام، أو قبل فراغه من قوله: عليكم هل يجوز؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز، كما لو ابتدأ التكبير معه لا يصح. والثاني: يجوز، كما لو أتى بسائر الأركان معه، ولو قام المسبوق قبل فراغه من قوله: عليكم بطلت صلاته، ولو مكث المسبوق ساعة بعد فراغ الإمام من التسليمتين، نظر إن كان ذلك موضع تشهده جاز، وإن لم يكن بطلت إن تعمَّد، وإن سها فعليه سجود السهو. فصلٌ قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]. ينبغي للمصلِّي أن يكون في صلاته خاشعاً مقبلاً بقلبه عليها، حافظاً بصره، لا يلتفت يميناً وشمالاً، فيكون بصره على موضع سجوده في القيام، وفي الركوع على ظهر قدميه، وفي السجود على أنفه، وفي القعود في حجره.

روي عن أبي ذرِّ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه". وعن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد" فلو كان ينظر إلى جانب لحاجةٍ لم يُكره؛ لما روي عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلو عنقه خلف ظهره. ويكره أن يرفع بصره إلى السماء؛ لما روي عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلواتهم" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهيَّن عن ذلك أو ليتخطَّفنَّ أبصارهم".

ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه عن الصلاة؛ لما روي عن عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى في خميصة لها أعلام ينظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي". ويكره مسح الحصى؛ لما روي عن أبي ذرِّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإنَّ الرحمة تواجهه".

روي عن معيقيب أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد، قال: "إن كان قاعداً فواحدة". ويُكره التثاؤب، لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "التثاؤب في الصَّلاة من الشيطان، فإذا تثاؤب أحدكم فليكظم ما استطاع".

وفي رواية: "فليضع يده على فيه". ويكره أن يشبِّك بين أصابعه، أو يفرقع أصابعه .. روي عن كعب بن عُجرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبِّكنَّ بين أصابعه، فإنه في الصلاة" ويكره أن يصلِّي الرجل متلثِّماً، ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة؛ لأن وجهها ليس بعورةٍ. روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن السَّدلِ في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه، وأراد بالسَّدْلِ إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، كرهه الثَّوري والشافعي، ورخَّص فيه مالكٌ في الصلاة؛ لأن المصلي ثابت، وغير المصلي يمشي فيه فيكون من الخُيلاء. فصلٌ: في الجهر بالقراءة قال الله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. السُّنَّة أن يُسِرَّ بالقراءة. في صلاة الظهر والعصر، وفي الركعة الثالثة من صلاة المغرب، وفي الأخريين من صلاة العشاء، ويجهر بالقراءة في صلاة الصُّبح، وفي الأوليين من صلاة المغرب والعشاء إن كان إماماً أو منفرداً. أما المأموم فيُسرُّ بالقراءة. وعند أبي حنيفة: المنفرد يُسِرُّ، وعندنا يجهر؛ لأنه لا ينازع غيره، ولا هو مأمور بالإنصات إلى غيره كالإمام، والجهرُ مخصوص بالقراءة وتابعها، وهو التَّأمين، أما سائر الأذكار يسر بها إلا أن يكون إماماً، فيجهر بالتكبيرات إعلاماً للقوم. وجملته أن صلاة الليل يجهر فيها بالقراءة، أما صلاة النهار إن كان لها نظير بالليل

كالظهر والعصر يُسِرّ فيها بالقراءة، وإن لم يكن لها نظير بالليل كالصبح والجمعة والعيدين والاستسقاء يجهر فيها بالقراءة، ويسر في صلاة كسوف الشمس، ويجهر في صلاة خسوف القمر، ولو فاتته صلاةٌ بالليل، فقضاها بالليل يجهر فيها، ولو فاتته بالنهار وقضى بالنهار يسر، ولو فاتته بالليل وقضى بالنهار، أو فاتته بالنهار قضى بالليل، فيعتبر وقت القضاء أو وقت الفوات؟ فيه وجهان: قال الشيخ- رحمه الله-: الأصح أن يعتبر وقت القضاء، وإذا تطوَّع بالليل، فالسُّنة ألا يرفع صوته بليغاً، ولا يخفض جداً لقوله تعالى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 10]. روي عن أبي قتادة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، وقال لعمر: "مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك" قال: أوقظ الوسْنَانَ وأطرُدُ الشيطان، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر- رضي الله عنه-: "ارفع من صوتك شيئاً" وقال لعمر- رضي الله عنه-: "اخفض من صوتك شيئاً". فصلٌ: في القُنُوت قال ابن عباس: قنَتَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب

والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: سمع اللهُ لمن حمده من الرَّكعة الأخيرة يدعو على أحياء من سليم على رعْل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه. وعن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قنت شهراً، ثم تركه.

وذهب الشافعي إلى أنه يقنت في صلاة الصبح بعد ما رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية، وفرغ من قوله: ربَّنا لك الحمد إلى آخره، وقال: تركه النبي- صلى الله عليه وسلم- في الصلوات غير الصبح، وهو قول عليٍّ. وقال عروة: يقنت في الصبح قبل الركوع. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك، وأكثر أهل العلم: لا يقنت في الصبح. واتفقوا على القنوت في الوِتر، غير أن الشافعي يقول: يقنت في النِّصف الأخير من رمضان، وهو قول ابن عمر وأبي بن كعب، وبه قال الزهري وأحمد. وقال مالك: يقنت في جميع شهر رمضان. وقال النَّخعي، والثوري وابن المبارك، وأبو حنيفة: يقنت في جميع السَّنَة، ويقنت عندهم قبل الرُّكوع، وبعد الفراغ من القراءة يرفع يديه فيُكبر، ثم يقنت. والذِّكر في القنوت ما روي عن الحسن بن علي- رضي الله عنه- قال: علَّمني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في الوتْر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك

تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يزلُّ من واليت، تباركت ربَّنا وتعاليْتَ". وإن كان إماماً لا يخص نفسه، ويذكر بلفظ الجمع، فيقول: اللهم اهدنا، وعافنا، وتولنا، وبارك لنا، وقنا، ويجوز إبدال هذه الكلمات بغيرها من الدَّعوات، بخلاف التشهد، فإنه فرضٌ، أو من جنس الفرض، ثم إن كان الرجل منفرداً يُسِرُّ بالقنوت، وإن كان إماماً فيه وجهان:

أحدهما: يُسِرُّ كما يسر بسائر الدعوات في الصلاة، فعلى هذا يقرأ من خلفه. والثاني وهو الأصح: يجهر؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يدعو على واحدٍ، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدُد وطأتَك على مُضَر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك فعلى هذا يؤمن القوم خلفه في الكلمات الخمس التي هي دعاء، ويذكرون معه الكلمات الثلاث التي هي ثناءٌ سرّاً.

وهل يجهر بالتأمين؟ فيه وجهان، كما في تأمين القراءة، فعلى هذا إن كان المأموم لا يسمع قنوت الإمام لبعد أو صمم، هل يقنت؟ فيه وجهان، كما في قراءة السورة. وعند أبي حنيفة إذا قنت الإمام في الوتر سكت المأموم. وقال محمد بن الحسن: يقرأ معه، وهل يرفع يديه في القنوت؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يرفع كسائر الأدعية في الصلاة لا يُسَنّ فيها رفع اليدين. والثاني: يرفع، كما لو دعا خارج الصلاة. ويروى رفع اليدين في القُنوت عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، فعلى هذا هل يمسح بهما وجهه؟ وجهان: الأصح: لا يمسح، ويستحبُّ أن يصلِّي على النبي- صلى الله عليه وسلم- في القنوت. قال عمر بن الخطاب: إن الدُّعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد فيها شيء حتى تصلي على نبيك. وقيل: لا يصلي فإن فعل، فهو كما لو قرأ الفاتحة في التشهد؛ لأنها ذكر مفروض نقله إلى غير محلّه، ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول. ولو قنَتَ قبل الركوع، فهو كما لو قرأ التشهد في القيام، وكذلك لا يقرأ القرآن في

القنوت، فإن قرأ قال الشافعي في "الأم": كرهته إلا أنه لا تبطل صلاته، ويسجد للسهو. قلت: وكذلك لو قرأ في الركوع. ولو حدث له أمر أو خاف عائقة يجوز أن يزيد في دعاء القُنوت، ولو نزلت بالمسلمين نازلةٌ يجوز أن يقنت في جميع الصلوات، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- على قَتَلة أهل بئر معونة، وعند عدم نزول النازلة هل له أن يقنت في جميع الصلوات؟ فيه قولان: أصحهما: لا يقنت. وقال في "الإملاء": إن شاء قنَتَ، وإن شاء لم يقنت بعد الركوع في. فإن قلنا: لا يقنت، فلو دعا بعد الركوع في غير محل القنوت، فإن دعا مطلقاً لا ينوي به القنوت، لم يسجد للسهو وإن نوى القنوت سجد للسهو. والفرق أن الدعاء لغير القنوت غير مقصود فإذا أتى به لم يسجد للسهو ودعاء القنوت مقصود فإذا أتى به في غير موضعه سجد للسهو. فصلٌ: في بيان أقل ما يجزئ من عمل الصلاة روي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وكان ينهي عن عقبة الشيطان، ونهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع، وكان يختم الصلاة بالتسليم. الصلاة تشتمل على أركان، وأبعاض، وهيئات، فالأركان هي الفرائض إذا ترك شيئاً منها لا تصح صلاته، والأبعاض من جملة السُّنن لو ترك شيئاً منها تصح صلاته، ولكن يلزمه

سجود السهو، والهيئات هي السنن التي لو تركها فات حظه من ثوابها، وتصح صلاته، ولا يلزمه سجود السهو بتركها. أما الأركان فثلاثة عشر: النية، وتكبيرة الافتتاح، والقيام، وقراءة الفاتحة، والركوع حتى يطمئن فيه، والرفع من الركوع حتى يعتدل ويطمئن، والسجود حتى يطمئن فيه، والجلوس بين السجدتين حتى يطمئن فيه، والجلوس للتشهد في آخر الصلاة، وقراءة التشهد، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-، والتسليمة الأولى، وترتيب أفعالها. وإذا أوجبنا نية الخروج، فتكون أربعة عشر، وإذا أفردت السجود الثاني يكون خمسة عشر، وبعضنا يفرد الطمأنينة في الركن عن الركن، فيقول: الركوع والطمأنينة فيه، والاعتدال والطمأنينة فيه، والسجود والطمأنينة فيه، والقعود بين السجدتين والطمأنينة فيه، فيكون في الركعة الأولى خمسة عشر ركناً مع الترتيب، وفي كل ركعة بعدها ثلاثة عشر، وفي التشهد الأخير أربعة سوى نية الخروج، فكل صلاة هي ذات ركعتين يكون فيها اثنان وثلاثون ركناً. وأما الأبعاض فأربعة: القعود للتشهد الأول، وقراءة التشهد فيه، والقيام في محل القنوت، وقراءة القنوت في صلاة الصبح وفي الوتر، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول على أحد القولين، فيكون خمساً، وما سواها هيئات ذكرنا تفصيلها. وعند أبي حنيفة فرائض الصلاة سبعة: الدخول فيها بذكر الله، والقيام، وقراءة القرآن، والركوع، والسجود، والقعود، ومقدار التشهد الأخير، والخروج منه وعنده النية من أسباب الدخول. أما شرائط الصلاة قبل الشروع فيها خمسة: الطهارة عن الحدث والخبث، وسترُ العورة، واستقبال القِبلة، والعلم بدخول الوقت يقيناً أو اجتهاداً بغلبة الظن، والعلم بفرضية الصلاة ومعرفة أعمالها، فإن جهل الرجل فرضية أصل الصلاة، أو علم أن بعض الصلوات فريضة، ولكن لا يعلم فرضية الصلاة التي يشرع فيها لا تصح صلاته، وكذلك إذا كان لا يعرف فرضية الوضوء. أما إذا علم أن الصلاة التي شرع فيها فرض، لكن لا يعرف أركانها، نظر إن كان يعلم أن بعض أفعالها فرض، والبعض سُنة، لكنه لا يعرف الفرض من السُّنة، لا تصح صلاته، وإن كان يعتقد أن جميع أفعالها، فرض، ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح صلاته؛ لأن معرفتها فرض عليه، فإذا لم يعرف، فكأنه ترك ركناً من الصلاة.

والثاني: يصح؛ لأنه ليس فيها أكثر من أنه أدى سُنَّة باعتقاده الفرض، وذلك لا يؤثر في أداء الفرض، فإذا لم تصح صلاته، فهل يصح وضوءه في هذه الصورة؟ فيه وجهان. فصلٌ: في ستر العورة قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وروي عن أبي هريرة أن سائلاً سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: "أولكلكم ثوبان؟ ". المستحبُّ للرجل أن يلبس أحسن ما يجد في الصلاة، يتعمم، ويتقمص، ويرتدي، فلو صلى في إزار وسراويل وستر عورته، جاز. وعورةُ الرجل ما بين السُّرة والرُّكبة، فإن ظهر شيء منه في الصلاة مع وجود الساتر لا تصح صلاته، والسرة والركبة ليسا بعورةٍ. والصلاة في القميص أحبُّ إلينا من الإزار، والإزار أحب إلينا من السراويل، لأن الإزار يتجافى عن العورة، فلا يصفها، فإن الإزار واسعاً التحَفَ به، وخالف بين طرفيه على عاتقيه؛ لما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا صلَّى أحدُكُم في

ثوبٍ واحد فليخالف بطرفيه على عاتقيه. وعن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصلِّينَّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيءٌ". ولو صلى في قميص واسع الجيب يرى عورته من الأعلى، لا تصح حتى يزره؛ لما روي عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد قال: "نعم وأزرِرْهُ ولو بشوكةٍ" وهذا بخلاف ما لو صلى في إزار على طرف سطح يرى عورته من تحته، تصح صلاته؛ لأنه مأمور بالسَّتر من الأعلى، وإن كان واسع الجيب، غير أن لحيته وتمنع نفوذ الأبصار إليها ففيه وجهان:

أصحهما: يجوز، كما لو كان على إزاره ثقبة، فجمع عليها الثوب بيده يجوز، ولو وضع يده على الثقبة فكاللحية، ولو صلَّى في ثوب رقيق لا يستر لون عورته لا تصح صلاته، وكذلك لو ستر عورته بزجاج يرى من تحته لون عورته، ولو طَلَى الطين على عورته، أو كان يصلِّي قاعداً، فجمع التراب على عورته، أو وقف في ماء كدرٍ تصح صلاته على الأصح، فإن كان الماء صافياً لا يستر لون عورته لم تصح، ومن لم يجد ثوباً يستر به عورته يصلي عارياً، وكيف يصلي؟ فيه قولان: أصحهما: يصلي قائماً بين الركوع والسجود؛ لأن المقدور عليه لا يسقط بالمعجوز عنه، ولا إعادة عليه. والثاني: يصلي قاعداً، وهو اختيار المُزنيّ ليكون أستر، وهل يتم السجود على الأرض أم يدني جبهته من الأرض؟ فيه قولان. فعلى هذا يجب الإعادة، ولو وجد من الثوب ما يستر به بعض عورته، يجب أني ستر بذلك القدر، ويبدأ بالسَّوءتين، فإن وجد ما يستر به أحد الفرْجين يستر القُبُل رجلاً كان أو امرأة؛ لأنه لا حائل دون القُبُل، ودون الدُّبُر حائل من الأليتين، ولأنه يستقبل بالقُبُل القِبلة، وإن كان العُريان خُنثى ستر قُبُله، فإن كان الثوب يكفي لأحد قُبُليه يستر أيهما شاء، والأولى أن يستر آلة النساء إن كان هناك رجل، وإن كانت امرأة فآلة الرجال، وإن كان رجل وامرأة عاريان والثوب واحد، فالمرأة أولى به، فإن لبسه الرجل، فقد أساء، وتصحُّ صلاة المرأة عارية، وإن كان خُنثى ورجل فالخُنثى أولى به، وإن كان خنثى وامرة، فالمرأة أولى به، وإن وجد العريان ثوباً نجساً عليه ستر العورة به، وهل يُصلِّي فيه أم يصلي عارياً؟ فيه قولان: أحدهما: يُصلِّي فيه كما يلبسه لمنع أبصار الناس، ثم يعيد الصلاة.

والثاني: وهو الأصح يصلي عارياً ثم [هل يصلي قائماً؟ الأصح أنه] يُصلّي قائماً، ولا تلزمه الإعادة. وقال أبو حنيفة: يتخير العُريان بين أن يصلي عارياً، أو في الثوب النجس، ولو كان طرف من الثوب نجساً ولا يجد ما يغسله هل يجب قطعه أم لا؟ نظر إن كان النقصان الذي يدخله أكثر من أجر مثل الثوب لا يجب أن يقطعه، وإلا فيجب ولو وجد العُريان ثوباً للغير لا يجوز أن يلبسه، غير أنه لو لبسه وصلَّى فيه صحت صلاته، كما لو صلى في ثوب مغضوبٍ صحت صلاته، وإن كان عاصياً بالغصب، وكما لو غصب ماء فتوضأ به صحت صلاته، ولو وجد الرجل ثوباً من ديباج، المذهب أنه يلبسه، ويصلي فيه. قال الشيخ- رحمه الله-: ويجب لُبْسُهُ لستر العورة عن الأبصار. فصلٌ: [فيما تفترق المرأة عن الرجل في الصلاة] روي عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تُقبل صلاة حائض إلا بخمار" وأراد بالحائض البالغة لا فرق بين الرجال والنساء في أركان الصلاة، إلا أنهما يفترقان فيما يؤول إلى الستر. صلاة المرأة في البيت أفضل منها في المسجد، وداخل البيت أفضل من الصّحن، والصّفة، ولا أذان للنساء، ولا تجهر المرأة في الصلاة كجهر الرجال، بل تسمع نفسها ومن حولها من النساء، ولا تجهر في موضع فيه رجال أجانب، وتضم مرفقيها إلى جنبيها في الركوع والسجود، وتلصق بطنها بفخذيها في السجود، وتضم رجليها، ويستحب أن تتخذ جلباباً غليظاً تلبسه فوق ثيابها ليكون متجافياً عنها، فلا يحكي ثيابُها بدنها، وإذا نابها شيء

في الصلاة، فأرادت الإعلام، فإنها تصفِّقُ، والرجل يسبِّح؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". ولا نعني بالتصفيق ضرب الكف على الكف؛ لأنه يشبه اللهو، بل تكون آخذة كوعها اليسرى بكفها الأيمن، فتضرب ظهر اليسرى ببطن اليمنى. ويجب عليها ستر العورة، كما يجب على الرجل، غير أنهما يفترقان في العورة، فعورة الرجل ما بين السُّرَّة والركبة، والمرأة إن كانت حرَّة فجميع بدنها عورة إلا الوجه

والكفَّين، ونعني بالكفَّين بطن الكفين وظهرهما إلى الكُوعين، وفي أخمص قدميها قولان. الأصح: أنه عورة، كظهر القدم، فلو ظهر شيء من بدنها ولو شعرة من رأسها سوى الوجه والكفين لا تصح صلاتها.

وعند أبي حنيفة: إذا ظهر من السَّوْءة قدر درهم أو من سائر البدن أقل من ربع العضو صحت صلاتها. قلنا: صلت مكشوفة بعض العورة مع القدرة على الستر، فوجب ألا تصح، كما لو زاد على قدر الربع، أما الأمة ففي عورتها وجهان: أصحهما: ما بين السُّرة والركبة كالرجل. والثاني: عورتها ما لا يبدو في الفضلة والمهنة. ولو انكشف من عورة المصلي في خلال الصلاة بريح أو غيرها، إن ستر في الحال صحت صلاته؛ لأنه معذور، وإن لم يستر في الحال علم به أو لم يعلم بطلت صلاته. ولو صلّت الأمة مكشوفة الرأس تصح صلاتها؛ لأن رأسها ليس بعورة، فلو عتقت في خلال الصلاة يجب عليها ستر الرأس، ثم إن علمت بالعتق في الحال والثوب قريب منها سترت رأسها، وبنت على صلاتها، وإن لم تستر في الحال إما لجهل بالعتق أو لبُعد الثوب عنها بطلت صلاتها. وخرج قول ممن صلى وعلى ثوبه نجاسة لم يعلمها أنَّ ها هنا إذا لم تعلم بعتقها لا تعيد، والمذهب وجوب الإعادة في الموضعين. وخرج قول من سبق الحدث عن القديم أن الثوب إذا كان بعيداً عنها مشت إليه، وسترت رأسها، وبنت على صلاتها، وكذلك العُريان إذا وجد الثوب في خلال الصلاة، وهو قريب منه لبسه، وبنى على صلاته، وإن كان بعيداً بطلت صلاته. فصلُ: فيما يفسد الصلاة روي عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة قبل أن يأتي أرض "الحبشة" فيرد علينا فلما رجعنا أتيته لأسلم عليه، فوجدته يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليّ فأخذني ما قرُب وما بعد، فجلست حتى إذا قضى صلاته، قال: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإنَّ ما أحدث ألا تَكَلَّموا في الصلاة".

إذا تكلم في صلاته، أو سلَّم في غير موضعه عمداً بطلت صلاته، وإن كان ناسياً لا تبطل صلاته، وعليه سجود السهو، وإن تكلم جاهلاً بأن الكلام يبطل الصلاة، نظر إن كان قريب العهد بالإسلام لا تبطل صلاته، كالناسي، وإن كان بعيد العهد بطلت صلاته؛ لأنه كان عليه أن يتعلَّم، ولو أكره حتى تكلم، أو أكره حتى فعل فعلاً لا يلائم الصلاة بطلت صلاته؛ لأنه نادر، بخلاف النسيان، فإنه عام هذا كما لو قيل له: إن تطهَّرت بالماء قتلناك، والماء موجود، أو قيل له: إن قمت في الصلاة قتلناك، فصلى بلا وضوء، أو قاعداً تجب عليه الإعادة. وكذلك لو حوَّل رجل وجه المصلي عن القِبلة، فصلى مستدير القِبلة يجب الإعادة، وإن كثر كلام الناسي تبطل صلاته على ظاهر المذهب؛ لأنه يقطع الموالاة، ولأن الاحتراز عن الكثير ممكن، فإن وقع يكون نادراً. وقال النَّخَعِيُّ، وأبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة. لنا ما روي عن أبي هريرة، قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشاء، فسلم في ركعتين، ثم أتى جذعاً في قِبلة المسجد، فاستند إليه مغضباً، وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يتكلما، وخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله قصرت الصلاة، أو نسيت؟ فنظر النبي- صلى الله عليه وسلم- يميناً وشمالاً فقال: "ما يقول ذو اليدين؟ " فقالوا: صدق لم تصلِّ إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر، فرفع ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع.

وفي رواية "وسلم". وقال الأوزاعي: كلام العَمْدِ إذا كان من مصلحة لا تبطل الصلاة مثل أن يقوم الإمام

في محل القعود، فقال له: اقعُد أو يقعد في محل القيام، فقال: قم، واحتج بهذا الحديث. قلنا: النبي- صلى الله عليه وسلم- كان ناسياً، وذو اليدين كان جاهلاً بكونه في الصلاة؛ لأنه كان يقدر

قصر الصلاة، والقوم كانوا يجيبون النبي- صلى الله عليه وسلم- وإجابة النبي- صلى الله عليه وسلم- فرضٌ على من دعاه، وإن كان في الصلاة لا تبطل الصلاة بإجابته لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] وبدليل أنك تخاطبه في الصلاة فتقول: سلام عليك أيها النبي، ومثل هذا الخطاب مع غيره يبطل الصلاة. ولو تكلم بكلام موافق نظمه نظم القرآن مثل إن دق رجل الباب فقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، أو أراد دفع كتاب إلى رجل فقال: {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ} [مريم: 12] نظر إن لم يكن قصده به قراءة القرآن بطلت صلاته، وإن قصد قراءة القرآن وإعلامه لا تبطل صلاته كما يرفع صوته بالتكبير إعلاماً. وعند أبي حنيفة: تبطل صلاته، وكذلك لو عطس أو بشَّر بشيء في الصلاة، فحمد الله. وإن فتح القراءة على إمامه، أو على غير إمامه، أو نبَّه إمامه، أو غير إمامه بذكر من أذكار الله- تعالى- أو رفع صوته بالقراءة إعلاماً لا تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: إن فتح على غير إمامه بطلت. ولو قرأ القرآن من المصحف، أو من مكتوب لا تبطل صلاته، سواء كان يحسن عن ظهر القلب، أو لا يحسن. وعند أبي حنيفة تبطل صلاته. ولو وقع بصره على شيء فتفكر فيه أو تفكر في مسألة، أو استمع لكلام متكلم لا تبطل صلاته، ولو أنَّ في صلاته أو بكى أو تنحنح، أو نفخ فظهر منه حرفان بطلت صلاته، وإن لم يظهر منه حرفان لا تبطل صلاته، سواء كان بكاؤه لمصيبة الدنيا أو الآخرة. وعند أبي حنيفة إن بكى لمصيبة الدنيا تبطل صلاته، والتبسُّمُ لا يبطل الصلاة، والقهقهة تبطلها، فإن سبق الكلام إلى لسانه من غير قصد أو غلب عليه الضحك، أو غلب عليه السُّعال لا تبطل صلاته.

ولو تنحنح الإمام، فظهر منه حرفان هل يدوم المأموم على متابعته؟ ذكر القاضي- رحمه الله- وجهين: أحدهما: يدوم، ويحمل على أنه مغلوب؛ لأن الأصل بقاء العبادة. والثاني: لا يتابعه؛ لأن الأصل صحته وإن كان مختاراً. ولو سلم ناسياً في غير محله، نظر إن تذكر والفصل قريب يبني على صلاته، وإن عمل أعمالاً أو فارق مُصلَّاه بنى حيث هو، ولا يعود إلى مُصلاه، وإن طال الفضل استأنف. وكذلك لو نسي ركناً من الصلاة فتذكَّر بعد ما سلم وطال الفصل استأنف الصلاة والمرجعُ في الطول والقرب إلى العادة؛ لأنه ليس له حدّ في الشرع، وقدر الشافعي الطول بقدر ركعة لا طويلة ولا قصيرة، وما دونها قصير، وإن كان قد شرع في صلاة أخرى، ثم تذكر فالثانية غير منعقدة، لأنه في حكم الأولى، ثم إن ذكر والفصل قريب بنى، وما أتى به من الأعمال بعد ما أحرم بالثانية لا يحسب عن الأولى، وإن ذكر بعد طول الفصل، فهما باطلان. فصلٌ روي عن علي بن طَلْقٍ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليُعِدِ الصلاة". إذا أحدث متعمّداً في صلاته بطلت صلاته، وإن سبقه الحدثُ قال في الجديد، وهو المذهب: تبطل صلاته؛ لأن الطَّهَارة شرط صحة الصلاة، وقد بطلت الطهارة. وقال في القديم، وبه قال أبو حنيفة: لا تبطل صلاته، بل يتوضأ، ويبنِي على صلاته. وفرّع على قوله القديم قال: لو سبقه الحدثُ فخرج وبالَ لا تبطل صلاته؛ لأن الطَّهارة

قد انقضت بالحدث الأول، فهذا البول لا تأثير له في بطلان الطهارة، وهو عمل قليل لا يبطل الصلاة وعند أبي حنيفة شيء من الأحداث لا تبطل الصلاة إذا غلب على المُصَلّي إلا شيئان: أحدهما: القهقَهَةُ. والثاني: إذا غلب عليه النَّوم فاحتلم قالوا: تبطل صلاته، وعلى قولنا القديم إذا نام في الصلاة فاحتلم فاغتسل وبنى، كما لو سبقه الحدث. والعمل القليل في الصلاة لا يبطلها، وإن كان عمداً لما روي عن أبي قتادة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اقتلوا الأسوَدَيْن في الصَّلاة: الحيَّة والعقرب". وهذا بخلاف الكلام القليل عمداً يبطل الصلاة؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، ولا يمكن

الاحتراز عن العمل القليل من تحرُّك أو حكة أو نحوها. والعمل الكثير يبطل الصلاة، وإن كان سهواً، والمرجع فيه إلى العادة مما يعدّه الناس قليلاً مثل: إشارة بردِّ السلام، أو حملِ صبي، أو وضعه، أو لبس ثوب خفيف، أو نزعِهِ، أو قتل حيَّة بضربة أو ضربتين لا تبطل الصلاة، وكذلك مشيُ خطوتين، أو دفع مارٍّ بين يديه دفعتين لا تبطل صلاته، فإن من ضرب ثلاثاً، أو خطا ثلاث خطوات، أو دفع ثلاث مرات على التَّوَالي بطلت صلاته، وكذلك لو حكَّ ثلاثاً نفسه على التوالي بطلت صلاته، ولو فرق الضَّربات، أو الخطوات بأن ضرب ضربتين ثم بعد زمان ضرب ضربتين لا تبطل صلاته. قال الشيخ: وحدُّ التفريق عندي أن يكون بين الأوليين والأخريين قدرُ ركعةٍ؛ لحديث أمامة، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يضعها ويحملها في كل ركعة وإن أكل في الصلاة شيئاً عمداً وإن قلَّ بطلت صلاته، كما يبطل به الصوم حتى لو كان بين أسنانه شيء، أو نزلت نُخامة من رأسه، فابتلعها عمداً بطلت صلاته، فإن وصل إلى حلقه، ولم يمكنه إمساكها لم تبطل صلاته وإن أكل ناسياً لا تبطل صلاته فإن كثر بطلت، ولو مضغ علكاً بطلت صلاته، فإن أمسكه في فمه ولم يمضغ، نظر إن كان جديداً يذوب ويتصل إلى جوفه بطلت صلاته، كما لو أمسك في فمه سكرة وإن كان مستعملاً لا تبطل صلاته كما لو أمسك في فمه حصاة أو إجَّاصَة. أما إذا عمل في الصلاة عملاً ليس منها، ولكنها من جنس أعمالها، مثل أن زاد رُكوعاً أو سجوداً عمداً بطلت صلاته، وإن فعل ناسياً لا تبطل صلاته، وإن زاد على ركعة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلّى الظهر خمساً، فسجد للسهو، ولم يُعِدِ الصلاة، ولو كرر قراءة الفاتحة، أو قراءة التشهد لا تبطل صلاته، وعند أبي حنيفة إذا زاد ركوعاً أو سجوداً عمداً لا تبطل صلاته ما لم يكملها ركعةً وإن سكت في الصلاة طويلاً نظر إن كان لغرض بأن نسي شيئاً ليتذكر لا تبطل صلاته وإن كان لغير غرض ففيه وجهان.

فصلٌ: في سُترة المُصلِّي روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلَّى أحدُكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، وإن لم يجد فلينصب عصاةً، فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطاً ثمَّ لا يضره ما مر بين يديه". ويستحب للمصلي أن يكون بين يديه سترٌ، من جدار أو أسطوانة، ويدنو منها بحيث لا يكون بينه وبينها إلا قدر مكان السجود، وهو ثلاثة أذرع، وكذلك بين الصفين في صلاة الجماعة. روي عن سهل بن سعدٍ قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي وبينه وبين القِبْلة قدرُ ممرِّ الشاة.

فإن كان في صحراء يغرز بين يديه عصا، أو يضع شيئاً قدر مؤخِّرة الرحل، ويجعل السُّترة على جانبه الأيمن، أو الأيسر؛ لما روي عن المقداد بن الأسود قال: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي إلى عودٍ ولا عمودٍ ولا شجرة، إلا جعله على جانبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً. وعن موسى بن طلحة عن أبيه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا وضع بين يديه مثل مؤخرة الرِّحل فليُصلِّ ولا يبال من وراء ذلك؛ فإن لم يجد المُصلِّي شيئاً يضعه بين يديه يخُطُّ خطّاً. وإن فرش مصلى فكالخط، فإذا صلَّى إلى سُترةٍ لا يجوز لأحد أن يمرَّ بينه وبين السترة، فإن أراد إنسان أن يمر بين يديه له أن يدفعه. روي عن أبي جهم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم المارُّ بين يدي المصلِّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين يوماً خيرٌ له من أن يمرَّ بين يديه قال أبو نصرٍ: وهو الراوي

للحديث: لا أدري قال: "يوماً أو شهراً أو سنةً".

وروي عن أبي سعيد الخُدري قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا صلى أحدكُم إلى شيءٍ يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان". فإن لم يجعل بين يديه سُترة أو وقف بعيداً من السترة فلا حرج على من مرَّ بين يديه، وليس له دفعه؛ لأنه الذي ضيَّع حظَّ نفسه، ولو مرَّ بين يدي المصلي مارّ لا تبطل صلاته أي شيء كان. قالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي بالليل، وأنا معترضة بينه وبين القِبْلَةِ كاعتراض الجنازة.

وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم فإنما هو شيطان". وعن عائشة أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، وهو قول أحمد، وإسحاق، ويكره أن يصلي وبين يديه إنسان يستقبله بوجهه، روي أن عمر ضرب على مثله بالضرة. فصلٌ: في المسبوق ببعض الصلاة روي عن عليٍّ ومعاذ قالا: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام". إذا أدرك رجل بعض صلاة الإمام يصلي معه ما أدرك، وما أدركه أول صلاته، وإن كان آخر صلاة الإمام، فإذا سلم الإمام قام، وأتمَّ صلاته، وما يأتي به بعد الإمام آخر صلاته، وهو قول عليّ وأبي الدرداء، وقول أكثر أهل العلم.

وقال الثوري، وأبو حنيفة: ما أدركه آخر صلاة المسبوق، كما هو آخر صلاة الإمام، والدليل على أن ما أدرك أول صلاته اتفاقنا على أنه لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا سلم الإمام، وقام فصلى ركعة يقعد في الثانية، ولو كان ما يقضي آخر صلاته لكان لا يقعد، وكذلك لو أدرك الركعة الثالثة من الوتر، وقنت مع الإمام، فإذا أتم صلاته يقنت في الثالثة، وكذلك عندنا لو أدرك الركعة الثانية من الصبح وقنت مع الإمام فإذا قام الإتمام صلاته يقنت ثانياً في الركعة الثانية، ولو أدرك ركعة من صلاة المغرب، فإذا قام لإتمام الباقي يجهر في الركعة الثانية، ويسر في الثالثة، ولو أدرك ركعتين من صلاة ذات أربع، فإذا قام لإتمام صلاته نص على أنه يقرأ الفاتحة مع السورة في الأخريين. قيل: هذا جواب على القول الذي قال: إنه يقرأ السورة في الركعات كلها. وقيل: أراد به إذا لم يكن قراءة السورة في الأوليين مع الإمام يقرأ في الأخريين، كما لو ترك التعوذ في الركعة الأولى قضى في الثانية، وكما قال: لو ترك قراءة سورة "الجمعة" في الركعة الأولى من صلاة الجمعة قرأها مع سورة "المنافقين" في الركعة الثانية، وإذا قام المسبوق لقضاء ما فاته يقوم مكبراً، نظر إن كان ذلك في محل تكبيرة بأن أدرك معه ركعتين يقوم مكبراً، وإن لم يكن محل تكبيره بأن أدرك معه ركعة أو ثلاث ركعات فيه وجهان. قال القفال: يقوم غير مكبر، لأنه ليس محل تكبيره. وقال أبو حامد: يقوم مكبراً. أما إذا كان يقوم مع الإمام يكبر معه، ولو أدرك الإمام في الركوع يكبر للافتتاح، ثم لا يجوز أن يشتغل بقراءة الفاتحة، بل يكبر، ويهوي إلى الركوع، وكذلك لو أدركه قائماً، فلما كبر ركع الإمام يركع معه، وتحسب له تلك الركعة، وتسقط عنه القراءة وقيامها؛ لأنه أدرك معظم الركعة، فجعل مدركاً لها ترغيباً في الجماعة، فلو أدرك الإمام في الركوع، فكبر تكبيرة واحدة، نظر إن نوى تكبيرة الافتتاح صحت صلاته؛ لأن تكبيرة الركوع سُنة لا يمنع تركها صحة الصلاة، ولو نوى تكبيرة الركوع لم يصح، وكذلك لو نواهما؛ لأنه لم يخلص النية للفرض. وقيل: ينعقد نفلاً كمن أخرج خمسة دراهم، ونوى الزكاة والتطوع يكون تطوعاً، ولو أدرك الإمام في الركوع، فكبر وهوى، وكان هو في الهوى، والإمام في الارتفاع، نظر إن بلغ حدّاً يمكنه وضع الراحتين على الركبتين، والإمام لم يرتفع عن هذا الحد صار مدركاً للركعة، وإن بلغ هذا الحد بعدما ارتفع عنه الإمام لم يصر مدركاً لها. ولو أدركه في الركوع فكبر، ولم يركع حتى رفع الإمام رأسه بطلت صلاته، كما لو

تخلف عن الإمام بغير عذر حتى سبقه بركن كامل، ولو أدرك الإمام بعد ما اعتدل عن الركوع، أو أدركه في السجود، فكبر يجب عليه أن يتابعه بعد ما كبر في الركن الذي هو فيه حتى لو لم يفعل بطلت صلاته، وإن تابعه لا تحسب له تلك الركعة، وهل يكبر للانتقال إلى الركن الذي فيه الإمام؟ نظر إن أدركه حالة الاعتدال ينتقل معه إلى السجود مكبراً، وكذلك في سائر الانتقالات الذي ينتقل مع الإمام يكبر مع الإمام، وإن لم يكن محسوباً له، وإن أدركه بعد ما سجد، أو في السجود الثاني، أو في التشهد هل يكبر للانتقال إليه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكبر، كما لو أدرك في الركوع ينتقل إليه مكبراً. والثاني: لا يكبر؛ لأنه لم يدرك محل التكبير. ولو أدركه في التشهد فكبر وجلس هل يقرأ التشهد، أو أدركه في السجود هل يسبح؟ فيه وجهان: أصحهما: يتابع الإمام في الذكر، كما يتابعه في الفعل، كما في سجود السهو، لم تابعه في السجود تابعه في تسبيحه. والثاني: لا؛ لأنه ليس في ترك الذِّكر مخالفة ظاهرة، فأمرناه به، ولو أدركه في السجود فقبل أن يسجد رفع الإمام رأسه لا يسجد؛ لأنه لزمه المتابعة، وقد ارتفعت المتابعة. وإذا أدرك الإمام في القيام، وخاف ركوعه لا يقرأ دعاء الاستفتاح، ويشتغل بقراءة الفاتحة؛ لأنها فرضٌ، فلو ركع الإمام، وهو في خلال الفاتحة هل يتمها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يركع معه، ويسقط عنه ما بقي من الفاتحة. والثاني: يتم الفاتحة؛ لأنه أدرك محلها، ثم يتبع الإمام. والثالث: وهو الأصح إن لم يكن قرأ شيئاً من دعاء الاستفتاح يقطع القراءة، ويركع معه، وهو مدرك للركعة؛ لأنه لم يدرك من القيام إلا قدر قراءة بعض الفاتحة، فيسقط عنه الباقي، كما لو لم يدرك شيئاً من القيام يسقط عنه جميعها، وإن كان قد قرأ شيئاً من دعاء الاستفتاح يقرأ بقدره من الفاتحة؛ لأنه أدرك من القيام بذلك القدر، ثم هو كالمتخلف عن الإمام بالعذر، وسواء كان عالماً بأن ليس له الاشتعال بدعاء الاستفتاح، أو جاهلاً؛ لأنا لما أمرناه بقراءة الفاتحة كان معذوراً. أما المأموم الموافق إذا قرأ دعاء الاستفتاح، فركع الإمام أو كان بطيء القراءة، فركع الإمام قبل فراغه من الفاتحة، فإنه يتم الفاتحة، وهو كالمتخلف بالعُذر.

ولو نسي المأموم الفاتحة فتذكر بعد ما ركع مع الإمام، أو شك في قراءتها بعدما ركع مع الإمام لا يجوز أن يعود؛ لأنه فات محل القراءة، فإذا سلم الإمام يقوم ويصلي ركعة، كما لو قام إلى الركعة الثانية مع الإمام، ثم تذكر أنه نسي سجدةً من الأولى لا يعود، بل يتابع الإمام، ثم يقضي ركعة، ولو ركع الإمام، فقبل أن يركع المأموم معه تذكَّر أنه لم يقرأ الفاتحة، أو شكَّ في قراءتها، أو تذكّر قبل أن يركع الإمام فركع الإمام قبل كمالها لا تسقط عنه القراءة، لأنه لا يعذر بالنسيان، ثم فيه وجهان: أحدهما: يركع معه ثم يقضي ركعة، كما لو تذكَّر بعد ما ركع معه. والثاني: يقرأ الفاتحة، ويتمها؛ لأنه في محل القراءة. ولو قام الإمام إلى الركعة الخامسة ساهياً، فأدركه مسبوق في هذه الركعة، فاقتدى به، نظر إن كان عالماً أنها خامسة لا تنعقد صلاته على الصحيح من المذهب، كما لو اقتدى بجنبُ عالماً بجنابته. وقال الشيخ القفال: تنعقد صلاته جماعة؛ لأن الإمام في الصلاة، ولكن لا يتابعه في أفعاله، بل كما كبَّر يقعد للتشهد، ينتظر الإمام؛ لأن التشهد محسوب للإمام، وكذلك لو نسي الإمام سجدة من الركعة الأولى، فأدركه رجل في الركعة الثانية في القيام، واقتدى به وهو عالم هل تنعقد صلاته؟ فعلى هذين الوجهين إن قلنا: تنعقد يسجد وينتظر الإمام ساجداً، وإن كان جاهلاً بحال الإمام تنعقد صلاته، فإذا صلى مع الإمام تلك الركعة تحسب له ما أتى به مع الإمام، فلو أدركه في الركوع في هذه الركعة لا تحسب له تلك الركعة؛ لأن القراءة إنما تسقط عنه بإدراك ركوع هو محسوب للإمام، وهذا الركوع غير محسوب للإمام، فهو كما لو نسي الإمام الفاتحة. فركع فأدركه مسبوق فيه، أو كان الإمام محدثاً أو ترك تسبيحات الرُّكوع واعتدل لا يجوز أن يعود إلى الركوع فعاد فأدركه مسبوق لا يكون مدركاً للركعة. أما إذا أدرك الإمام في الركوع فركع معه، ثم في السجود سبق الإمام الحدث كان مدركاً لتلك الركعة؛ لأنه أدرك ركوعاً محسوباً للإمام. فصلٌ: في صلاة المريض روي عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبٍ".

لا يجوز أداء صلاة الفرض قاعداً مع القدرة على القيام، ولا نائماً مع القدرة على القعود، فإن عجز عن القيام يصلِّي قاعداً، ولا ينتقص ثوابه، والعجز ألا يكون له آلة القيام أو لا يمكنه القيام إلا بمشقة شديدة، وكيف يقعد في محل القيام؟ فيه قولان: أصحهما: يقعد مفترشاً؛ لأنه قعود لا يعقبه السلام كالقعود للتشهد الأول. والثاني: يقعد متربعاً. يروى عن ابن عمر وأنس؛ لأنه قعود بدل عن القيام، فيكون مغايراً لسائر القعدات، فإذا عجز عن القعود يصلِّي نائماً، وكيف ينام؟ فيه قولان: أصحهما: ينام على جنبه الأيمن مستقبل القِبلة، كما يضجع الميت في اللحد؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "فإن لم يستطع فعلى جَنبٍ". والثاني: وبه قال أبو حنيفة: ينام مستلقياً ورجلاه إلى القبلة، يوضع الميت على المغتسل فإن قلنا بالأول فلو نام على جنبه الأيسر مستقبل القِبلة جاز، ويكون تاركاً لسُنَّة التَّيامُنِ، فإن عجز عن الاضطجاع على الجنب صلى مستلقياً ورجلاه إلى القِبلة، وإذا صلى نائماً، ولم يمكنه وضع الجبهة على الأرض في السجود يومئُ بالركوع والسجود برأسه،

ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويدني جبهته من الأرض ما أمكنه، ولا يشترط وضع الجبهة على الوسادة، فإن كان به صداع أو رمدٌ لا يمكنه وضع الجبهة على الأرض، ويمكنه أن يضع على وسادة لا تخرج عن حد الساجدين يجب وضعها على الوسادة روي أن أم سلمة كانت تسجد على مخدة لرمد بها. ولو عجز عن الإيماء بالرأس يومئ بعينيه، فإن عجز يتفكر بالقلب، ولا قضاء عليه، ولا ينتقص ثوابه، ولا يسقط الفرض منه ما دام العقل معه. وعند أبي حنيفة: إذا عجز عن الإيماء بالرأس سقط عنه الفرض، ولو لم يمكنه القيام إلا معتمداً على غيره أو مستنداً إلى جدار، يلزمه أن يصلي قائماً مستنداً. وقيل: لا يلزمه ذلك، بل يصلي قاعداً، فإن صلى قائماً مستنداً جاز. وإن كان بظهره علة لا تمنعه من القيام، وتمنع من الركوع والسجود لزمه القيام، ويركع ويسجد على قدر طاقته. قال الشيخ- رحمه الله-: يحني بالركوع قائماً، وبالسجود قاعداً، فإن لم يمكنه أن يحنيَ ظهره في الركوع والسجود حنى رقبته، وإن أمكنه القيام والاضطجاع، ولا يمكنه القعود يتشهد، ويأتي بالجلوس قائماً. قلنا: لأنه قعود وزيادة وإن تقوَّس ظهره حتى صار كأنه راكعٌ أو كانت به علة، لا تمكنه الاعتدال، وأمكنه القيام على هيئة الراكعين يجب أن يقوم كذلك، ويرفع رأسه وإن كان بعينيه وجع وهو قادر على القيام، فقيل له: إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له ترك القيام كالمريض. والثاني: لا يجوز؛ لما روي عن ابن عباس أنه لما وقع في عينه الماء فقال له الأطباء: تمكث سبعاً لا تصلي إلا مستلقياً فسأل عائشة وأم سلمة فنهتاه.

وإذا كان يصلي قائماً فعجز عن القيام في خلال الصلاة يقعد، ويبني على صلاته، وإن عجز عن القعود ينام، ويبني، وإن كان يُصلي قاعداً للعجز فقدر على القيام في محل القيام عليه أن يقوم، فإذا كان يصلي نائماً فقدر على قيام، أو قعود- عليه أن يقوم أو يقعد ويبني. وعند أبي حنيفة: النائم إذا قدر على قيام، أو قعود لا يبني فيقيس على بناء القيام على القعود، وإن كان يصلي قاعداً، فقدر على القيام في خلال الفاتحة، فقرأ بعض الفاتحة في الارتفاع لا تحسب، وعليه أن يعيد ما قرأ في الارتفاع بعدما اعتدل قائماً؛ لأن الواجب عليه في هذه الحالة أن يقرأ بقية الفاتحة قائماً، وحالة الارتفاع دون حالة القيام، وإن كان يصلي قائماً فعجز عن القيام في خلال الفاتحة، فقرأ بعضها في خلال الهويّ تحسب؛ لأن الواجب عليه أن يقرأ قاعداً، وحالة الهويّ فوق حالة القعود، فحيث قلنا: لا يحسب لا تبطل صلاته ولا سجود عليه إن كان ساهياً. ولو قدر المريض على القيام بعد القراءة قبل أن يركع يجب أن يقوم فيركع، وليس له أن يقوم راكعاً؛ لأن الهوي من القيام شرط، وبمثله لو قدر على القيام في خلال الركوع، فله أن يقوم راكعاً، ولا يجوز أن يستوي قائماً، ثم يركع؛ لأنه يصير كأنه زاد ركوعاً. قال الشيخ- رحمه الله-: فلو قام من الركوع وسجد جاز؛ لأن ركوعه قد تم قاعداً، ولو قدر على القيام بعدما اعتدل عن الرُّكوع، واطمئن لم يلزمه أن يقوم فيسجد؛ لأن الاعتدال ركن قصير لا يمد. وقيل: يلزمه أن يقوم فيسجد كما لو قدر بعد القراءة يلزمه أن يقوم فيركع، ولو قدر بعد الركوع قبل أن يعتدل عليه أن يعتدل قائماً، ثم يسجد، فإن كان في الركعة الثانية من صلاة الصبح قدر بعدما رفع من الركوع، واطمأنّ قبل أن يقنت، عليه أن يقنت قائماً، فلو

قنت جالساً بطلت صلاته ولو قدر أن يصلي قائماً منفرداً، ويخفف القراءة. وإذا صلى جماعة يحتاج أن يقعد في بعضها فالأفضل أن يصلي قائماً منفرداً؛ لأن القيام فرض، والجماعة فضيلة، فمراعاة الفرض أولى، فلو صلى مع الإمام وقعد في بعضها جاز، وكذلك لو أمكنه أن يصلي بأمِّ القرآن وحدها قائماً، وإن زاد عجز صلى بأمر القرآن قائماً، فلو ابتدأ السورة، وعجز فقعد جاز، ولا يجب أن يقطع السورة فيركع. وأما السُّنن والتطوعات يجوز أداؤها قاعداً مع القدرة على القيام، ويكون ثوابه على النصف من ثواب القائم؛ لما روي عن عمران بن الحصين قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال: "من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد". فلو صلى مضطجعاً مع القدرة على القيام والقعود هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز بدليل الحديث، وثوابه نصف ثواب القاعد. والثاني: لا يجوز؛ لأن عماد الصلاة الفعل، وهو يترك أكثر أفعالها مع القدرة عليها، ولو صلى بعض النافلة قائماً، والبعض قاعداً جاز. فصلٌ: في سجود التِّلاوة روي عن ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد ويسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته.

سجود التِّلاوة مشروع عند عامة العلماء، وهو سُنَّة عند أكثرهم. وقال أبو حنيفة: واجب، والدليل على أنه غير واجب ما روي عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- و"النَّجم" فلم يسجد فيها، ولو كان واجباً لأمره النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال عمر بن الخطاب: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. وعدد سجود القرآن أربع عشرة، وبه قال أبو حنيفة لأن عندنا في "الحج" سجدتين وسجود "ص" سجود شكر ليس من عزائم السجود. وعند أبي حنيفة سجود "ص" سجود تلاوة ولا سجود في آخر سورة "الحج"، والدليل على أن سجود "ص" ليس من عزائم السجود ما روي عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سجد

في "ص" وقال: سجدها داود توبة، وسجدتها شكراً. وعن ابن مسعود أنه كان لا يسجد في "ص"، وقال: إنما هي توبة نبيٍّ. والدليل على أن في سورة "الحج" سجدتين ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله فضلت سورة "الحج" بأن فيها سجدتين قال: "نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأها". وقال ابن سُريج: عدد سجون القرآن خمس عشرة، وهو قول إسحاق بن راهويه؛ لما روي عن عمرو بن العاص أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أقرِأَه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث

في المُفَصّل، وفي سورة "الحج" سجدتان. وقال مالك: سجود القرآن إحدى عشرة وليس في المفصل سجود وهو قول الشافعي في القديم؛ لما روي عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحوَّل إلى "المدينة"، والدليل على أنه يسجد فيها ما روي عن أبي هريرة قال: سجدنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}، و {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} واتفقوا على مواضع السجود إلا في "حم السجدة" فإن فيه وجهين:

أصحهما: يسجد عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ}. وقيل: عند قوله: {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. ويجوز سجود التلاوة في الصلاة وغير الصلاة، أما سجدة "ص" لو سجدها خارج الصلاة فحسنٌ ولو سجد في الصلاة فيه وجهان: أصحهما: تبطل صلاته، كما لو سجد للشكر في الصلاة. والثاني: لا تبطل صلاته؛ لأن سببه تلاوة القرآن، فإن كان الإمام حنفياً، فهو كما لو ترك قراءة الفاتحة على اعتقاده. وإذا قرأ آية السجدة في الصلاة يكبر فيهوي، ولا يكبر للافتتاح، ولا يرفع يديه، ثم يكبر فيرفع رأسه ويقوم ولا يجلس للاستراحة، فإذا قام يستحب أن يقرأ شيئاً ثم يركع، فلو لم يقرأ وركع جاز، ولو قام راكعاً ولم يعد إلى القيام لم يجز؛ لأن عليه أن يبتدئ الركوع من القيام، وإن كان خارج الصلاة يستحب أن يكبر للافتتاح، ويرفع يديه حذو منكبيه، ويستحب أن يقوم فيكبر، ثم يكبر فيجسد ثم يكبر فيرفع، ولا يتشهد وهل يسلم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يسلم. والثاني: وبه قال عطاء يسلم؛ لأنه مفتقر إلى الإحرام فيفتقر إلى السلام، وقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: وأقله أن يضع جبهته بلا شروع ولا سلام، ويقول في سجود التلاوة ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول في سجود القرآن بالليل: "سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته".

وإن قال ما يقول في سجود صلاته جاز، ولو قرأ آية السجدة في الصلاة قبل الفاتحة يسجد، بخلاف ما لو قرأ في الركوع أو السجود لا يجوز أن يسجد؛ لأن القيام محل القراءة حتى لو قرأ آية السجدة في الصلاة، فهوى يسجد فشك، هل قرأ الفاتحة؟ فإنه يسجد للتلاوة، ثم يعود إلى القيام فيقرأ الفاتحة؛ لأن سجود التلاوة لا يؤخر، وإذا سجد التالي يستحب أن يسجد معه من يسمع تلاوته، سواء كان التالي في الصلاة، أو لم يكن في الصلاة، ويتأكد الاستحباب بشرطين: أحدهما: أن يكون مستمعاً لقراءته قاصداً، فإن لم يكن قاصداً إلى استماعه إنما سمعه مارّاً فلا يتأكد. قال ابن عباس: السَّجدة لمن جلس لها. الثاني: أن يسجد التالي، فإن لم يسجد التالي لا يتأكد في حق المستمع، ولو سجد فحسن روي عن عطاء بن يسار أن رجلاً قرأ عند النبي- صلى الله عليه وسلم- السجدة، فسجد فسجد النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم قرأ عنده آخر السجدة، فلم يسجد فلم يسجد النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله قرأ فلان عندك السجدة فسجدت، وقرأت عندك السجدة فلم تسجد، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "كنت إماماً فلو سجدتَ سجدتُ". وإذا سجد المستمع مع التالي لا يلزمه نيَّة الاقتداء به، ويجوز أن يرفع قبله، أما الإمام إذا سجد في الصلاة يجب على المأموم متابعته، ولو لم يسجد الإمام لا يجوز للمأموم أن يسجد؛ لأن متابعة الإمام فرض عليه، ولا يجوز للمصلِّي أن يسجد للتلاوة، غير إمامه، فلو فعل بطلت صلاته، فإذا فرغ فحسنٌ أن يسجد، كما يجيب المؤذّن بعد الفراغ من الصلاة. ولو سجد الإمام للتلاوة، فلم ينتبه المأموم حتى رفع رأسه لا يجوز أن يسجد، ولو علم قبل أن يرفع رأسه يسجد، فلو كان في الهُويّ، فرفع رأسه يرجع معه، ولا يسجد. وكذلك الضعيف الذي هوى مع الإمام قبل أن يصل إلى الأرض قام الإمام يقوم معه، ولو

قرأ رجل آيات السجدة في مكان واحد، أو في الصلاة في ركعة واحدة: يسجد لكل آية، ولو قرأ آية واحدة مراراً، فإن سجد للأولى يسجد للثانية، وإن لم يسجد للأولى يكفيه للكل سجود واحد. وقال أبو حنيفة: يكفيه سجود واحد سجد أولاً أو آخراً، وبه قال ابن سُريج. ولو تلا في سجود التلاوة لا يسجد ثانياً. والركوع لا يقوم مقام السجود، وعند أبي حنيفة يقوم مقامه. ولو قرأ آية السجدة في الصلاة، فلم يسجد وركع، ثم بدا له أن يسجد ليس له ذلك؛ لأنه شرع الفرض كما لو ترك التشهد الأول، وقام لا يجوز أن يعود إلى التشهد، فإن كان قبل بلوغه حدّ الراكعين يجوز أن يسجد. ولو هوى يسجد للتلاوة، ثم في خلال الهُويّ بدا له ألا يسجد، فرجع جاز، كما لو قعد للتشهد الأول، فقرأ بعضه، ثم قام صحَّت صلاته، ولو بلغ حد الراكعين فبدا له أن يركع عن فرض الصلاة يجب أن يعود إلى القيام، ثم يركع؛ لأنه لم يقطع القيام لقصد الرُّكوع، كما قال الشافعي- رضي الله عنه-: لو رفع رأسه من الركوع لينتقل يجب عليه أن يعود. ويشترط في سجود التلاوة الطهارة عن الحدث، وطهارة الثوب والمكان عن النَّجاسة، وسترُ العورة، واستقبال القِبْلَةِ، كما في الصلاة، وإن كان في السّفر سائراً، فإن كان راكباً سجد بالإيماء إلى الطريق، وإن كان ماشياً سجد على الأرض متمكناً إلى القِبلةِ. ولو قرأ وهو غير متطهر فتطهر، فحسن أن يقضي، وكذلك المستمع إذا لم يكن على الطَّهارة، فحسن أن يتطهر، ويقضي ولا يتأكّد. وعند أبي حنيفة- رحمه الله- يجب عليه أن يقضي إلا أن يكون السامع حائضاً فلا يقضي، وكذلك لو قرأ الإمام في الصلاة آية السجدة، ولم يسجد لا يجوز للمأموم أن يسجد، فإذا فرغ من الصلاة وسلم، فحسن أن يقضي ولا يتأكد. ولو قرأ في الأوقات المنهية عن الصلاة سجد، وعند أبي حنيفة لا يسجد، ويقضي بعده. والله أعلم بالصواب. بابُ سُجُود السَّهْوِ روي عن أبي سعيد الخُدريّ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا شك أحدكم في صلاته

فلم يدر كم صلَّى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم.

فإن كان يصلي خمساً شفعها بهاتين السجدتين، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان. الشَّك في الصلاة قسمان: شك في أصل الصلاة أنه هل صلاها أم لم يصلها؟ فالأصل أنه لم يُصلّ، وعليه أن يصليها. وشك في أفعالها، مثل أن شكَّ أنه صلى ثلاث ركعات، أم أربع ركعات؟ عليه أن يبني على اليقين، فيأخذ بالأقل، وهو أنه صلى ثلاثاً، فيصلي ركعة أخرى، ويسجد في آخر صلاته سجدتين للسهو، ولا يأخذ بغلبة الظن. وعند أبي حنيفة: إن وقع له هذا أول مرة بطلت صلاته، وإن اعتاد ذلك يتحرَّى، ويأخذ بغلبة الظن، والحديث حُجَّة عليه. ولو شك برُكنٍ من أركان الصلاة، أنه هل أتى به أم لا؟ فالأصل أنه لم يأت به، ثم ينظر إن لم يصل إلى ذلك الركن في الركعة الثانية، يعود إليه مثل أن شك في الركوع، أو في السجود أنه هل قرأ الفاتحة في هذه الركعة أم لا؟ يجب عليه أن يعود إلى القيام، فيقرأ ويعيد الركوع والسجود، وما أتى به لا يحسب؛ لأن الترتيب واجب في أفعال الصلاة، وإن وصل إلى ذلك الركن في الركعة الثانية، مثل أن قام إلى الركعة الثانية، وشك هل قرأ الفاتحة في الركعة الأولى، فهذه الركعة أُولاهُ، فإن كان قد ركع أو سجد في الثانية يمضي في صلاته، وهذه أُولاه فيصلي بعدها ثلاث ركعات إن كانت الصلاة [ذات] أربع ركعات، ويسجد للسهو في آخر الصلاة، ولو شكَّ بعد الفراغ من الصلاة أنه صلّى ثلاثاً أو أربعاً أو شكَّ في

ركن أنه هل أتى به أم لا، لا يلزمه شيء؛ لأن الظاهر أنه أدَّاها على التمام، ولو اعتبر الشَّك الطارئ بعد الفراغ من الصلاة لضاق الأمر على الناس. وقيل: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: حكمه حكم ما لو تيقن الترك إن كان الفصل قريباً بنى، وإن طال استأنف. قال الشيخ- رحمه الله-: عندي إن هذا وقع الشك والفصل قريب، فهو كما لو وقع في الصلاة وإن كان بعد طول الفصل فلا يعتبر. ومحل سجود السهو قبل السلام، وهو قول أكثر أهل العلم، بدليل حديث أبي سعيد. وعند أبي حنيفة، والثوري يسجد بعد السلام، ثم يتشهد ويسلم. وذهب قوم إلى أنه إذا سجد بعد السلام يتشهد ويسلم. وقال بعضهم: يسلم، ولا يتشهد فقال مالك: إن كان سهوه بزيادة فعل يسجد بعد السلام، وإن كان بنقصان فقبل السلام، وإن شك في عدد الركعات بنى على اليقين وسجد بعد السلام. وإذا قام إلى الخامسة في صلاة ذات أربع ركعات، ثم تذكر يجب أن يعود إلى التشهد سواء قيد الخامسة بالسجود، أو لم يقيد، وسواء قعد في الرابعة، أو لم يقعد حتى لو صلَّى خمس ركعات ساهياً سجد للسهو وسلم وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن قيد الخامسة بالسجود عاد وسلم، وسجد للسهو، وإن كان قد قيد بالسجود، نظر إن لم يكن قعد في الرابعة بطلت صلاته، وإن قعد في الرابعة ضم إليها ركعة أخرى حتى يصير شفعاً، فأربعة فرض، وركعتان نفل، وبه قال الثوري. والدليل على ما قلنا ما روي عن عبد الله بن مسعود ـن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمساً فقيل، له: أزيد في الصلاة فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمساً فسجد سجدتين بعدما سلم، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- إن لم يكن قعد في الرابعة لم يعد الصلاة، وإن كان قد قعد لم يضم إليها ركعة أخرى. ثم عندنا إذا عاد إلى القعود، نظر إن لم يكن قد تشهَّد في الرابعة، أو شك هل تشهد أم لا؟ فيجب عليه أن يتشهد، ثم يسجد للسهو، [ويسلم] وإن كان قد تشهَّد سجد

للسهو، ويسلم ولا تجب إعادة التشهد على ظاهر المذهب. وفيه وجه آخر: أنه يعيد التشهد حتى يكون منتقلاً من ركن التشهد إلى السلام؛ لأن الموالاة شرط. وعلى هذا لو شك في السجود أنه هل ركع أم لا؟ أو تيقن أنه ترك الركوع، عليه أن يعود إلى الركوع، ويجوز أن يقوم راكعاً على ظاهر المذهب. وعلى الوجه الآخر يقوم، ثم يركع، كما قال الشافعي. ولو قدر المريض على القيام بعد القراءة لا يقوم راكعاً، بل يعتدل قائماً، ثم يركع، والأول أصح كما لو قام إلى الخامسة ساهياً بعد السجود، ثم ذكر، فلا يعود على السجود، بل يجلس ويتشهد. ولو شكَّ في عدد الركعات، أو في ركن من أركان الصلاة أنه هل أتى به أم لا؟ ثم تذكَّر أنه قد أتى به هل يلزمه سجود السهو؟ نظر إن كان مفعوله من وقت الشك إلى زمان التذكر مما يقطع على المغيب أن عليه فعله لا يلزمه سجود السهو، وإن كنا لا نقطع أن عليه فعله يلزمه سجود السهو. بيانه: إذا شك في القيام من صلاة الظهر أن هذه ثالثته أم رابعته؟ فبنى على اليقين فركع وسجد على هذا الشك، ثم تذكر قبل القيام إلى الركعة الأخرى أنها ثالثته، أو رابعته لا يلزمه سجود السهو؛ لأن هذه الأفعال كانت عليه في المحتملين جميعاً قطعاً، فإن لم يتذكر حتى قام إلى الركعة الأخرى يلزمه سجود السهو، وإن تذكر أنها كانت ثالثته، وهذه رابعته؛ لأنا لم نكن نقطع على المغيب أن عليه فعل هذا القيام؛ لأنه كان في أحد المحتملين أنه قام إلى الخامسة. وإن وقع له هذا الشك في ركن، وزال الشك قبل الانتقال عن ذلك الركن، وكان ذلك الركن في أحد المحتملين قبل التذكر زائداً مثل أن شك في التشهد أنه صلى أربعاً أم خمساً؟ ثم تذكر أنه صلى أربعاً أو لم يتذكر لا سجود عليه؛ لأنه في الحقيقة شك في أنه هل سها أم لا؟ والأصل أنه غير ساهٍ. ولو وقع له هذا الشك في السجود، فتذكر قبل أن يرفع رأسه أنه في الرابعة لا سجود عليه، وإن رفع رأسه، ثم تذكر أنه في الرابعة، نظر إن وقع له هذا الشك في السجود الأول، فرفع رأسه وسجد الثانية، ثم تذكر عليه سجود السهو، وإن وقع في السجود الثاني، فلا سجود عليه؛ لأن الرفع أمر لابدّ منه، فهو كما لو تذكر في السجود.

ولو شَكّ في التشهد أن هذا تشهده الأول، أو الثاني، فقرأ التشهد الثاني على الشك، ثم تذكر بعد ما قام، عليه سجود السهو، وإن بان أنه تشهده الأول؛ لأن هذا القيام زائد في أحد المحتملين، وإن تذكر قبل أن قام، سواء تذكر أنه تشهده الأول أو الثاني، لا سجود عليه؛ لأنه في أحد المحتملين عليه إلا أنه إذا بان أنه تشهده الثاني يجب عليه أن يعيد ما قرأ من التشهد في حال الشك؛ لأنه قراءة بنيَّة السُّنة. ولو شك في القيام في صلاة المغرب أنها أولاه أو ثانيته؟ فأخذ باليقين أنها أولاه، فأتم تلك الركعة، وقام على الثانية، ثم تذكر، نظر، إن تذكر أنه قام على الثالثة، عليه سجود السهو لترك التشهد الأول، وإن تذكر أنه قام إلى الثانية، فلا سجود عليه. وإن كان في أحد المحتملين أنه قام على الثالثة، وترك التشهد الأول، لأن هذا القيام في المحتملين كان عليه وسجود السهو لو لزمه [لزمه] بترك التشهد الأول، وبان أنه لم يتركه. فصلٌ روي عن عبد الله ابن بحينة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه كبّر، وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم.

القعود للتشهد الأول، والقنوت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان سُنتان لو ترك واحداً منهما ناسياً يلزمه سجود السهو، ولو ترك عامداً ففيه وجهان: أصحهما: يسجد؛ لأنه إذا لزمه السجود بالسهو فبالعمد أولى؛ لأنه أفحش. والثاني: وبه قال أبو حنيفة- لا يسجد؛ لأنه سجود مضاف إلى السهو، فلا يلزم بالعمد، فإذا نسي التشهد الأول قعوداً أو قراءة، فقام ثم تذكر بعدما اعتدل قائماً لا يجوز أن يعود؛ لأن القيام فرض، فلا يجوز أن يعود منه إلى السُّنة، فإن عاد عالماً بطلت صلاته، وإن

عاد ساهياً لم تبطل صلاته، فإن تذكر عليه أن يقوم في الحال ولو عاد جاهلاً بالحكم هل يعيد؟ فيه وجهان: أصحهما: يعذر كالناسي؛ لأنه مما يخفى على العوام، وإن قام فتذكر قبل أن يعتدل قائماً يعود ويتشهد، وهل يسجد للسهو أم لا؟ ينظر إن كان إلى الجلوس أقرب، وهو أن يكون قبل انتصاب الساقين لا يسجد للسهو، وإن كان إلى القيام أقرب سجد للسهو؛ لأن ذلك القدر لو فعله عمداً في غير موضعه تبطل صلاته. والدليل عليه ما روي عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإن استوى قائماً، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو، وكذلك لو ترك القنوت، فتذكر بعدما وضع جبهته على الأرض

لا يجوز أن يعود، فإن عاد بطلت صلاته، وإن تذكر قبل أن يضع جبهته يعود، ويقنت، ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين يلزمه سجود [للسهو]، وإن عاد قبل بلوغه هذا الحدَّ لا يلزمه سجود السهو. ولو كان يصلي مع الإمام فترك الإمام التشهد الأول، وقام، أو ترك القنوت وسجد لا يجوز للمأموم أن يشتغل به، فلو فعل بطلت صلاته، بل يجب عليه متابعة الإمام، فلو خرج عن متابعته وتشهد، فهو خروج بالعذر. ولو قعد الإمام للتشهد الأول، فقام المأموم ساهياً، يجب عليه أن يعود؛ لأن متابعة الإمام فرض، فإن لم ينتبه حتى قام الإمام لا يجوز أن يعود، فلو نسي الإمام التشهد، فقام، وقام المأموم معه، ثم عاد الإمام لا يجوز للمأموم أن يعود معه، بل يخرج عن متابعته، فلو انتظره قائماً وحمل عوده على النسيان هل يجوز؟ فيه وجهان. ولو ترك التشهد الأول عمداً، ثم عاد قبل أن اعتدل قائماً، نظر إن عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب بطلت صلاته، وإن عاد قبله لا تبطل صلاته، وكذلك القُنُوت. فصلٌ إذا جلس في الركعة الأولى على اعتقاد أنها ثانيته، نظر إن زاد جلوسه على جلسة الاستراحة يلزمه سجود السهو، سواء قرأ شيئاً من التشهد، أو لم يقرأ، وإن فعله عمداً بطلت صلاته، وإن لم يزد، نظر إن لم يقرأ شيئاً من التشهد، لا سجود عليه؛ لأن هذا الجلوس سُنة، ولو أوجبنا سجود السهو لقصده عن غيره، لأوجبنا بمجرَّد عمل القلب، ومجرد عمل القلب لا يوجب سجود السهو. وإن قرأ شيئاً من التشهد وإن قلَّ، فهو كما لو تشهد في القيام أو قرأ الفاتحة في التشهد ساهياً، فيلزمه سجود السهو، كما لو سجد أو ركع في غير محله، هذا هو المذهب،

وقيل: لا يلزمه سجود السهو؛ لأن حكم الذِّكر أخف من حكم الفعل ولو فعله عمداً، والمذهب أن صلاته لا تبطل. وقيل: تبطل، وكذلك لو مد الاعتدال عن الركوع في غير محل القنوت [بالقنوت]، أو بذكر آخر، أو بالسكوت، أو أطال القعود بين السجدتين عمداً، بطلت صلاته، ولو سها يلزمه سجود السهو، فلو لم يطل، لكنه قرأ [فيه] التشهد، أو الفاتحة، أو قنت، فالمذهب أنه يلزمه سجود السهو، وإن تعمد فالمذهب أن صلاته لا تبطل. واعلم أن سجود السهو إنما يجب بأحد أمرين: إما بترك مأمور، أو بارتكاب منهيّ أما ترك المأمور، فما يوجب عمده بطلان الصلاة يوجب سهوه سجود السهو، مثل أن يترك ركوعاً أو سجوداً أو قراءة، وما لا يوجب عمده بطلان صلاته، مثل إن ترك قراءة السورة، وتكبيرات الانتقالات والتسبيحات والجهر والإسرار وغيرها من السنن، فسهوه لا يوجب سجود السهو إلى الأبعاض، وهي التشهد الأول قعوداً وقراءة؛ والقنوت والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول على أحد قولين، فإن تركها عمداً لا توجب بطلان الصلاة، ولو تركها سهواً يلزمه سجود السهو. وأما ارتكاب المنهي، فما يوجب عمده بطلان الصلاة، يوجب سهوه سجود السهو، إن لم تبطل الطهارة، وذلك مثل أن يتكلم أو يسلم في غير موضعه، أو يعمل عملاً، أو يزيد ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً. وما لا يوجب عمده بطلان الصلاة، فسهوه لا يوجب سجود السهو، مثل الالتفات، والخطوة والخطوتين، إلا نفل القراءة، فإن عمده لا يوجب بطلان الصلاة على ظاهر المذهب، وسهوه يوجب سجود السهو. أما إذا أحدث فيستوي عمده وسهوه؛ لأنه يبطل الطهارة في الحالين. فصلٌ الترتيب في أركان الصلاة واجب، فإن ترك عمداً بأن سجد قبل الركوع، أو ركع قبل القراءة، بطلت صلاته، وإن سها عليه أن يعود إلى الركن المتروك. بيانه: إذا نسى السجدة الأخيرة من الركعة الأولى فقام، ثم تذكَّر، لا يخلو إما أن يذكر قبل أن يسجد، أو بعد ما سجد.

فإن تذكر قبل أن يسجد في الثانية، عليه أن يعود لإتمام الركعة الأولى، حتى لو كان في الركوع لا يجوز أن يعتدل قائماً، بل يهوي، ثم ينظر إن كان قد قعد بين السجدتين في الركعة الأولى يهوي إلى السجود، هذا هو المذهب. وإن لم يكن قد قعد بين السجدتين، فإنه يجلس، ثم يسجد. وقيل: يهوي إلى السجود، ولا يجلس؛ لأن الجلوس بين السجدتين للفصل بينهما، وقد حصل الفصل بالقيام، وليس بصحيح؛ لأن الجلوس فريضة، فلا يقوم القيام مقامه، كما لا يقوم الجلوس مقام التشهد. وإن كان قد جلس بين السجدتين بنية جلسة الاستراحة، أو بنية التشهد الأول، فقد قيل: يعود ساجداً، ويحسب هذا الجلوس غير الجلوس بين السجدتين. والمذهب أنه لا تحسب، لأنه جلس بنيَّة السُّنة، فلا يقوم مقام الفرض، كما لو سجد للتلاوة، أو للسهو لا يقوم مقام [سجود] الفرض، بل عليه أن يجلس ثم يسجد. وإن وقع هذا في الركعة الأخيرة، فجلس بنيَّة التشهد الأخير، قام مقام القعود بين السجدتين؛ لأنه فرض. أما إذا تذكَّر بعد أن سجد في الثانية نظر إن تذكر في السجدة الأولى، وكان قد قعد بين السجدتين، تمَّت الأولى بهذه السجدة، فعليه أني قوم، فإن لم يكن قد قعد بين السجدتين، فلا تتم أولاه بهذه السجدة، بل يقعد، ثم يسجد الثانية حتى يتم الركعة الأولى، ثم يقوم، وأعماله في الثانية كلا عملٍ إلا هذه السجدة الواحدة. وإن تذكر في السجدة الثانية تمَّت الأولى بإحدى السجدتين، إما بالأولى إن كان قد قعد بين السجدتين، أو بالثانية إن لم يكن قد قعد، فيقوم إلى الركعة الثانية. وإذا صلى صلاة ذات أربع ركعات، ففي التشهد الأخير تذكر أنه نسي سجدة منها، نظر إن علم أنه نسيها من الأخيرة سجدها، واستأنف التشهد، وسجد للسهو وسلم، وإنما قلنا: يسجد للسهو؛ لأنه طوَّل الجلوس بين السجدتين بالتشهد، فإن لم يكن طوَّل، ولا قرأ شيئاً من التشهد لا يلزمه سجود السهو، وإن علم أنه تركها من إحدى الركعات الثلاث، أو لم يدرِ أنه ترك من الركعة الأخيرة، أو من إحدى الثلاث يأخذ بأسوأ الأحوال، وهو أنه تركها من إحدى الثلاث، فعليه أني قوم ويصلي ركعة، ويسجد للسهو. وإنما قلنا: يصلي ركعة؛ لأنه إن تركها من الأولى تمَّت الأولى بالثانية، وأعماله في

الثانية كلا عملاٍ، وإن ترك من الثانية تمَّت الثانية بالثالثة، وأعماله في الثالثة كلا عمل. وإن ترك من الثالثة تمَّت الثالثة بالرابعة وأعماله في الرابعة كلا عملٍ، فعليه أن يصلِّي ركعة. وإن تذكر أنه نسي سجدتين، ولا يدري كيف تركهما من الرَّكعة الأخيرة، أو من إحدى الركعات، وعلم أنه تركهما من ركعة واحدة، حصل له ثلاث ركعات، فعليه أن يقوم ويصلِّي ركعة، وإن شك لم يدرِ أنه تركهما من ركعة واحدة، أو من ركعتين، يحصل له ركعتان لاحتمال أنه ترك واحدة من الأولى، وواحدة من الثانية تتم الأولى بالثانية، وتتم الثالثة بالرابعة، واعماله فيما بينهما كلا عملٍ، فيقوم ويصلِّي ركعتين. وإن تذكر أنه نسي ثلاث سجدات لا يدري كيف تركها؟ يحصل له ركعتان، يجعل كأنه ترك من كل ركعة من الأوليات سجدة. وإن نسي أربع سجدت تجعل له ركعتان إلا سجدة، يجعل كأنه ترك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، تمت الأولى بالثانية، وصارت رابعته ثانيته، فيسجد في الحال سجدة، حتى تتم هذه الركعة، ثم يقوم ويصلّي ركعتين. وإن نسيَ خمس سجدات، حصلت له ركعة، يجعل كأنه ترك من الأولى سجدة، ولم يسجد في الثانية، ولا في الثالثة، وسجد في الرابعة سجدة، تتم الأولى بهذه السجدة، فيقوم ويصلي ثلاث ركعات. ولو ترك ست سجدات، يحصل له ركعة. وإن ترك سبع سجدات فركعة إلا سجدة يسجد في الحال سجدة، ثم يقوم، ويصلي ثلاث ركعات، هذا كله فيما إذا علم أنه قعد بين السجدتين، ثم نسي السجدة الثانية، أو قلنا بالوجه البعيد أن القيام يقوم مقام القعود بين السجدتين. فإن قلنا: لا يقوم مقامه، ولم يكن قعد بين السجدتين، أو شكّ هل قعد أم لا؟ فإذا شك في أربع سجدات، لا يحصل له إلا ركعة ناقصة سجدة، ثم قعود للتشهد الأخير، يقوم مقام القعود بين السجدتين، فيسجد سجدة أخرى، ويقوم ويصلّي ثلاث ركعات. ولو أن مسافراً شرع في الظهر بنيَّة القصر، فصلاها أربع ركعات ساهياً، وترك من كل ركعة سجدة حصلت له ركعتان، وصحت صلاته، فيسجد للسهو، ويسلم، وكذلك الجمعة لو صلاها أربعاً سهواً. كذلك لو قعد للتشهد في صلاة الصبح، فتذكر أنه ترك ركوعاً، نظر إن علم أنه ترك من الأولى، تمَّت الأولى بركوع الثانية، وما قبل الركوع لغوٌ، فيقوم ويصلي ركعة، وإن علم أنه ترك من الثانية يعود إلى القيام، ثم إلى الركوع، ويعيد السجدتين والتشهد.

وإن شك لم يدرِ من أيهما ترك، يجعل كأنه ترك من الأولى، فيقوم ويصلّي ركعة ولو كان في الركوع من الرَّكعة الثانية، فتذكر أنه ترك الفاتحة من إحدى الركعتين، نظر إن علم أنه ترك من الأولى، فهذه الركعة أولاه يتمُّها، ويصلي ركعة أخرى، وإن علم أنه تركها من الثانية يعود إلى القيام فيقرأ ثم يركع. وإن شك لم يدر من أيهما ترك، يجعل كأنه ترك من الأولى، وحصل له قيام وركوع، فيمضي في ركعة فيتمها، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى. وإن تيقَّن في آخر الصلاة أنه ترك ركناً يعرف عينه، يجب عليه أن يصلي ركعة كاملة إذا تحقق الإتيان بالنية والتكبير، فإن شك في واحد منهما عليه استئناف الصلاة. فصلٌ إذا شك المصلّي أنه هل سها أم لا؟ أو هل ارتكب منهياً؟ فلا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم السهو، وكذلك لو شك في الجملة أنه هل ترك مأموراً أم لا؟ فلا سجود عليه. أما إذا شك مفصلاً، نظر إن كان في ارتكاب منهي، مثل أن شك هل تكلم ناسياً؟ أو هل سلم في غير موضعه؟ أو هل شك في عدد الركعات فبنى على اليقين؟ فالأصل أنه لم يفعل، ولا سجود عليه وإن شك في ترك مأمور، مثل أن شك هل ترك مأمور كذا؟ فالأصل أنه لم يأت به، وكذلك لو شك هل قعد للتشهد الأول، أو هل قنت أم لا؟ فالأصل أنه لم يأت به، فعليه سجود السهو ولو تيقن السهو، لكنه لم يدرِ أنه ترك مأموراً وارتكب منهياً يجب عليه سجود السهو؛ لأن السهو يقينٌ، ولو تيقَّن السهو، وشكّ أنه هل سجد لسهو أم لا؟ فالأصل أنه لم يسجد، فعليه أن يسجد، وكذلك لو شك أنه سجد للسهو واحدة أو ثنتين، سجد سجدة أخرى، فإذا سجد ثم تحقق أنه كان قد سجد سجدتين، لا يلزمه أن يسجد ثانياً؛ لأنه سهو في سجود السهو، والسهو في سجود السهو لا يوجب سجود السهو، حتى لو تكلم في سجدتي السهو، أو في أحدهما، أو سلّم بينهما لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه لا يمن من وقوع مثله في السجود فيؤدي إلى ما لا يتناهى كما يقال في اللغة: التصغير لا يُصغّر. وقال صاحب "التلخيص": إذا سها بعد سجدتي السهو، يلزمه سجود السهو؛ لأن السجود السابق لا يجبر سهواً وقع بعده، والأول المذهب للاتفاق على أنه لو سجد ثلاثاً لا يلزمه سجود السهو. أما السهو بسجود السهو موجب سجود السهو، مثل أن شك هل قعد للتشهد الأول أو هل قنت أم لا؟ فسجد للسهو، ثم بان أنه قد أتى به، يلزمه أن يسجد ثانياً، لأن سهوه هذا السجود، فعليه جبرُهُ.

وسئل القاضي عمَّن ظن أن سهوه ترك القنوت، فسجد للسهو، ثم بان أنه لم يتركه بل تكلم ناسياً، قال: عليه أن يسجد للسهو ثانياً؛ لأنه قصد بالأوليين جبر ما هو مجبور، وجبر الخلل عليه، وإن كان عنده أنه ترك القنوت، وتكلم ناسياً، فسجد للسهو، ثم بان أنه لم يترك القنوت، لا يلزمه إعادة سجود السهو. وقيل: لا يلزمه أن يسجد ثانياً في الموضعين، وقطع به في كرَّة أخرى؛ لأن سجود السهو لجبر الخلل، وقد قصد جبر الخلل. ولو سها في صلاة سهوين، أو أكثر، لا يلزمه إلا سجدتان، بدليل حديث ذي اليدين أن النبي- صلى الله عليه وسلم- تكلّم ومشى، ولم يزد على سجدتين، وتأخير سجود السهو عن حالة السهو إلى آخر الصلاة لهذا المعنى، فلو كان لا يتداخل لكان يؤمرُ بالسجود حالة السهو، كسجود التلاوة يأتي به حالة ما يتلو. ولو سها في صلاة الجمعة، فسجد للسهو، فقبل أن سلم خرج الوقت، يجب عليه إكمال الظهر ويسجد ثانياً في آخر صلاته، وكذلك المسافر لو شرع في الصلاة بنيَّة القصر، فسها وسجد للسهو، فقبل أن سلّم نوى الإتمام، أو صار مقيماً، عليه أن يتم الصلاة، ويسجد ثانياً في آخر صلاته؛ لأن محلَّ سجود السهو آخر الصلاة، وسجود السهو سُنَّة، فلو نسي سجود السَّهو وسلم، نظر إن تذكر، والفصل قريب، سجد، فلو لم يفعل فصلاته صحيحة، وإن طال الفصل، ففيه قولان: قال في الجديد: لا يسجد؛ لأن محله الصلاة، فبعد طول الفصل لا يبنى، كما لو ترك ركناً من الصلاة، فتذكر بعد ما سلم، وطال الفصل لا يبنى. وقال في القديم: يسجد بعد طول الفصل؛ لأنه جبران عبادة، فيجوز أن يتراخى عنها، كجبران الحج، فحيث قلنا: يسجد بعد السلام فسجد، هل يعود إلى حكم الصلاة؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن محلّ سجود السهو قبل السلام. والثاني وهو المذهب لا يعود على حكم الصلاة؛ لأنه تخلَّل عنها بالسلام، بدليل أنه لو سجد جاز، ولو كان سلامه غير محسوب للزمه الرجوع، وفائدته تتبين في مسائل. منها: أنه لو تكلم عامداً، أو أحدث بعد ما عاد إلى السجود، هل تبطل صلاته؟ إن قلنا: عاد إلى حكم صلاته تبطل، وإلا فلا، وهل يكبر للافتتاح؟ وهل يتشهد بعد السجدتين؟ فيه وجهان:

أحدهما: يتشهَّد؛ لأن سجود الصلاة بعده يتشهد. والثاني: وهو الأصح لا يتشهد؛ لأن المتروك هو السجود، فلا يلزمه معه شيء آخر. والصحيح: أنه لو سلّم، سواء قلنا: يتشهد أو لا يتشهد، ولو ترك سجود السهو عمداً وسلّم، فبعد طول الفصل لا يسجد، وهل يسجد على قرب الفصل فيه وجهان: أصحهما: لا يسجد؛ لأنه قطع الصّلاة بالسلام العمد. فصلٌ روي عن معاوية بن الحكم قال: بينما أصلِّي أنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: ما شأنكم تنظرون إليَّ فلما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا سها المأموم خلف إمامه فلا سجود عليه ويتحمل عنه الإمام. فإن معاوية بن الحكم لم يأمره النبي- صلى الله عليه وسلم- بالسجود، مع أنه تكلم خلفه، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "الأئمة ضمناء والضمين من يتحمل، فلو سها الإمام يجب على المأموم سجود السهو، فالإمام لما لزمه سهو نفسه تحمَّل عنه سهوه، فلو سها الإمام ولم يسجد للسهو، فالمأموم يسجد؛ لأن سهو الإمام أوقع خللاً في صلاة المأموم، فعليه جبرُهُ فقال

المزني: لا يسجد المأموم؛ لأنه لزمه متابعة الإمام، كسجود التلاوة، فإذا تركه الإمام لا يأتي به المأموم. قلنا: لأن سجود التلاوة يكون في خلال الصلاة، فإذا تركه الإمام لا يجوز للمأموم مخالفته، وسجود السهو يأتي به بعد مفارقة الإمام، فلا يكون فيه مخالفة الإمام، فلو ترك الإمام سجود السهو وسلّم، ثم عاد ليسجد، فهل على المأموم موافقته لا يخلو إما أن يسلم المأموم معه، أو لم يسلم، فإن سلَّم معه ناسياً فإذا سجد الإمام يسجد معه، فإن لم يفعل هل تبطل صلاته أم لا؟ إن قلنا: عاد الإمام إلى حكم صلاته بطلت، وإلا فلا، وإن سلَّم المأموم عمداً ذاكراً للسهو، فإذا عاد الإمام لا يلزمه متابعته، وصحَّت صلاته، وإن لم يسلم المأموم، فعاد الإمام ليسجد، نظر إن عاد بعد أن سجد المأموم للسهو، فلا يجوز أن يتابع الإمام؛ لأنه قطع صلاته عن صلاة الإمام بالسجود، وإن عاد قبل أن يسجد المأموم إن قلنا: عاد إلى حكم صلاته يلزمه متابعته، فإن لم يفعل بطلت صلاته. وإن قلنا: لم يعد إلى حكم صلاته لا يجوز أن يتابعه، بل يسجد منفرداً، فإن تابعه بطلت صلاته، وكذلك إذا كان خلف الإمام مسبوق، فبعد تسليم الإمام قام المسبوق لقضاء ما فاته، فإذا عاد الإمام ليسجد لا يتابعه المسبوق؛ لأنه قطع صلاته عن صلاة الإمام بالقيام. وإن كان الإمام حنفياً فسلّم قبل أن يسجد للسهو، فلا يسلم معه المأموم، بل يسجد قبل السلام منفرداً، ولا ينتظر سجود الإمام؛ لأنه فارقه بالسلام. ولو سها الإمام، ثم سبقه الحدث، فالمأموم يتم صلاته منفرداً، ويسجد للسهو. ولو سها المأموم، ثم سبق الإمام الحدث لا يسجد للسهو؛ لأن الإمام تحمل عنه. ولو قام الإمام إلى الخامسة ساهياً، فخرج المأموم عن متابعته، نظر إن خرج قبل بلوغه حد الرَّاكعين لا سجود عليه؛ لأنه فارقه قبل أن يحقِّق سهوه، وإن خرج بعد بلوغه حدّ الراكعين سجد للسهو؛ لأن سهو الإمام لحقه. ولو سجد الإمام في آخر صلاته سجدتين يجب على المأموم متابعته، ويحمل على أنه سها، ولم يطلع عليه المأموم حتى لو لم يسجد إلا واحدة سجد المأموم أخرى، ويحمل على أن الإمام نسيها، بخلاف ما لو قام الإمام إلى الخامسة لا يجوز للمأموم أن يتابعه حملاً على أنه ترك الفاتحة في ركعة؛ لأنه لو تحقق ذلك لم تكن له متابعته؛ لأن المأموم قد أتى به يقيناً. قيل للقاضي- رحمه الله-: لو كان مسبوقاً بركعة أو شاكّاً في قراءة الفاتحة في ركعة،

قال: لا يجوز أن يتابع الإمام في الخامسة؛ لأن الواجب عليه قضاء ما فاته منفرداً، وإذا سها الإمام وخلفه مسبوق يجب على المسبوق أن يسجد مع الإمام في آخر صلاته، سواء أدرك سهو الإمام، أو لم يدرك، فلو لم يسجد الإمام في آخر صلاته لا يجوز للمسبوق أني سجد في آخر صلاة الإمام حتى لو سجد بطلت صلاته؛ لأن ذلك يلزمه لمتابعته الإمام، ثم إذا تم المسبوق صلاته، هل يلزمه أن يسجد في آخر صلاة نفسه، سواء سجد مع الإمام أو لم يسجد؟ نظر إن أدرك سهو الإمام فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المُزنيّ- رحمه الله- لا يسجد؛ لأنه لمتابعة الإمام، وقد ارتفعت المتابعة. والثاني: وهو الأصح نصّ عليه في "الأم"- أنه يسجد؛ لأن سهو الإمام أوقع خللاً في صلاته، وما أتى مع الإمام كان لمتابعة الإمام، فلا يكون محسوباً له؛ لأنه في غير محله، وإن لم يدرك سهو الإمام ترتب على ما لو أدركه إن قلنا ثم لا يسجد في آخر صلاته، فها هنا أولى وإلا فقولان، والأصح أنه يسجد حتى لو اقتدى بهذا المسبوق بعدما فارق الإمام مسبوق آخر، وبذلك المسبوق ثالث، فعلى كل واحد أن يسجد لمتابعة إمامه، ثم يسجد ثانياً في آخر صلاته. ولو سها المسبوق في قضاء ما فاته عن قلنا: لا سجود عليه لسهو الإمام في آخر صلاته سجد لسهو نفسه. وإن قلنا: يلزمه أن يسجد لسهو الإمام يكفيه لذلك سجدتان لسهوه وسهو الإمام، ولو سلّم المسبوق بتسليم الإمام ساهياً، ثم تذكر يتم صلاته، ويسجد للسهو؛ لأن سهوه بالسلام كان بعد مفارقة الإمام، فلو قدر المأموم الموافق أن إمامه قد سلم فسلّم، فبان أنه لم يسلم، عليه أن يسلم معه، ولا سجود عليه، ولو تيقَّن المأموم في التشهد أنه ترك الفاتحة في ركعة، أو شك في فواتها، فإذا سلَّم الإمام، عليه أن يقوم ويُصلِّي ركعتين، ولا سجود عليه؛ لأن سهوه كان خلف الإمام، فلو سها في هذه الركعة سجد للسهو؛ لأنه منفرد. فصلٌ: في سجود الشُّكر روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه رأى نغاشياً فسجد شكراً لله عز وجل.

وعن أبي بكر أنه سجد حين بلغه فتحُ "اليمامة". وسجد على حين بلغه قتل ذي الثّدية. سجود الشكر سنة لنعمة تحدثن أو بليَّة تندفِعُ. وعند أبي حنيفة بِدعة، والحديث حُجة عليه، ولا يشرع لجميع النِّعَم، لأن نعم الله متواترة لا تُحصى، بل لنعمة طال ما كان يرقبها أو بليَّة طال ما يتوقع انكشافها، أو رأى مبتلىً ببليَّة أو بمعصية، ولو أراد أن يصلي أو يتصدق شكراً فحسن، ثم إن كان يسجد لنعمة حدثت له من شفاء مريض، أو حدوث ولد، أو قدوم غائب، يجوز أن يظهره، وإن كان لبليَّة في غيره، ينظر فإن كانت به علة أو زمانةٌ يخفى السجود عنه حتى لا يضجر به المُبتلى، فيحمله ذلك على الكُفران، وإن لم يكن معذوراً بأن كان في فسق أو فجور، فيظهر السجود بين يديه لعله يحمله ذلك على التوبة. ولا يجوز سجود الشُّكر في الصلاة، فلو فعل بطلت صلاته. وإذا أراد أن يسجد يستقبل القِبلة، ويكبر، ويرفع يديه، ثم يكبر للهُوِيِّ، ثم يكبر فيرفع، ولا يتشهد وهل يسلم؟ فيه وجهان كما ذكرناه في سجود التلاوة. ويسجد الرَّاكبُ في السَّفَرِ بالإيماء إلى الطريق، والماشي يسجد على الأرض مستقبل القبلة، ويشترط فيه الطهارة عن الحدث، وطهارة الثوب والمكان عن النجاسة، كما في سجود التلاوة. والله أعلم. باب الصلاة بالنَّجاسة قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. قد ذكرنا أن شرائط جواز الصلاة خمسة، وذكرنا حكم الطَّهارة عن الحدث، وستر العورة، والقِبلة، والوقت، ومن شرائطه [طهارة] البدن، والثوب، والمكان عن النَّجاسة، فلا خلاف أن القليل من دم البرغوث والقمل والبعوض، وما يخرج من بدن الإنسان من الدم والقيح والصديد يكون عفواً تصح الصلاة معه، سواء كان على بدنه، أو [على] ثوبه؛ لأن الإنسان قلّ ما يخلو عن بثرةٍ ببدنه يخرج منها شيءٌ.

وعن البرغوث والقمل فيشق عليه الاحتراز فعفا عنه الشرع حتى لا يضيق الأمر على النَّاس، فإن كثر ذلك وعرق في ذلك الثوب حتى انتشر، هل يكون عفواً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعفى؛ لأن الكثير لا يشق الاحتراز عنه. والثاني: يعفى؛ لأن هذا الجنس يتعذر الاحتراز عنه، فوقع عفواً، وإن أصابه دمٌ من غيره، فلا يعفى عن كثيره، وهل يعفى عن قليله؟ فيه قولان: أحدهما: قاله في "الإملاء" [لا يعفى]، لأنه لا يشق الاحتراز عنه. وقال في "الأم" وهو الأصح: يعفى؛ لأن مما يتعافاه الناس في العادة. والمرجع القليل والكثير إلى العادة. وقال في القديم: ما دون الكف عفو، ولا يعفى عن الكف. وقال في موضع: يعفى عن قدر دينار من الدم، وحكم ونيم الذُّباب وبول الخُفَّاش حكم الدم لتعذر الاحتراز عنه. أما سائرا لنجاسات مثل: البول والعذرة والخمر، فلا يعفى عن شيء منها، وإن قل إذا أدركه الطرف إلا محل الاستنجاء، فإنه عفو بعد المسح بالحجر، وإن كان لا يدركه الطرف، نظر إن أصاب بدنه، فلا يعفى عنه؛ لأنه يشعر به إذا أصابه، وإن أصاب ثوبه ففيه قولان: أصحهما: لا يعفى؛ لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز عنها كالذي يدركه الطرف. والثاني: يعفى؛ لأنه قد يصيب ثوبه ولا يشعر به فكان عفواً. ولو حمل في الصلاة مستنجياً بالحجر، أو رجلاً على ثوبه نجاسة معفوة هل تصح صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنه نجاسة معفوة. والثاني: لا تصح؛ لأنه عفو في حق من عليه لتعذُّر الاحتراز عنه، فلا يكون عفواً في حق غيره. وقال أبو حنيفة: النجاسات قسمان: مغلَّظة ومخففة، فالمغلَّظة مثل العذرة، والخمر، وبول ما لا يؤكل لحمه، فقدر الدِّرهم البغلي منها يكون معفواً، والمخففة بول ما

يؤكل لحمه، فإن لم يزد على ربع الثوب، أو ربع العضو يكون عفواً. ولو صلى وعلى ثوبه نجاسة غير معفوة لم يعلمها يجب عليه الإعادة على قوله الجديد، وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة، كما لو بان محدثاً، وكذلك لو وقعت عليه في خلال الصلاة، ولم يشعر حتى مضى زمان تجب عليه الإعادة. وقال في القديم: لا تجب الإعادة؛ لما روي عن أبي سعيد الخُدري قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم" قالوا: رأيناك ألقيت نعلك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ جبريل أتاني فأخبرني أن فيها قذراً" أو قال: أذى إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه ويصلِّي فيهما". ومن قال بالأول حمل ذلك الأذى على ما يستقذره الإنسان من الطاهرات كالنُّخامة ونحوها أمر بمسحه تنزيهاً للمسجد عنها، وكذلك لو صلى، ثم علم أن على إزاره ثقبة يظهر منها العورة يجب عليه الإعادة على الصحيح من المذهب. أما إذا علم النجاسة، فنسي وصلّى تجب الإعادة، وخرج قول من نسي الماء في الرَّحل من قوله القديم أنه لا يعيد. وعند مالك إن كان الوقت باقياً يعيد، وإن كان فائتاً فلا يعيد. قلنا: الإعادة إذا وجبت، فلا تسقط بفوات الوقت، كما لو بان محدثاً، فإذا أوجبنا الإعادة يجب عليه إعادة كل صلاة تيقن كونها معه فيها حتى لو صلّى صلوات في مكان واحد لم يفارقه، ولا يتصور حدوثها في ذلك المكان يجب عليه إعادة كلها، وإن احتمل حدوثها بعد الفراغ من الصلوات لا تجب إعادة شيء منها.

وقال أبو حنيفة: إن كانت النجاسة رطبة يجب عليه إعادة صلاة واحدة، وإن كانت يابسة، فإن كان في الصيف يعيد صلاة واحدة، وإن كان في الشتاء يعيد صلوات يوم وليلة، ولو وقعت عليه نجاسة في خلال الصلاة، نظر إن كانت يابسة، فلما أصابته سقطت، أو نفض الثوب حتى سقطت، أو ألقى الثوب الذي وقعت عليه في الحال صحَّت صلاته، وإن استقرت عليه أبطلت صلاته، وإن وقعت على مُصلّاه، فإن نحَّاها بيده أو كُمِّه بطلت صلاته؛ لأنه قصد النجاسة، وإن تنحى عنها أو ألقى عليها ثوباً صحَّت صلاته. وإن كان عليه ثوب طاهر وطرف منه موضوع على نجاسة، كالعمامة طرف منها على رأسه، والطرف الآخر منها على النجاسة فإن كان بعيداً منه لا تصح صلاته؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة، وكذلك لو شد حبلاً على وسطه، وطرف منه متصل بنجاسة أو مشدود في [عنق] كلب لم تصح صلاته؛ لأنه إذا مشى انجر معه. أما إذا كان أحد طرفيه تحت قدميه، والطرف الآخر متصل بالنجاسة تصح صلاته؛ لأنه كالبساط تحت قدميه، ولو صلى على طرف بُساطه، والطرف الآخر نجس، يجوز؛ لأن البساط كالأرض، ولو أخذ طرف حبل بيده، والطرف الآخر منه نجس أو متصل بنجاسة، هل تصح صلاته؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تصح؛ لأنه حامل للنجاسة، كما لو كان مشدوداً على وسطه. والثاني: تصح لأنه مباين عنه. والثالث: يفصل، فإن كان الطرف الآخر نجساً، أو متصلاً بعين النجاسة بأن كان في عنق كلب لا يصح، وإن كان متصلاً بشيء طاهر بأن كان متصلاً بساجور أو خرقة، والسَّاجور والخرقة في عنق الكلب، أو في عنق حمار، وعليه حمل نجاس صح. ولو بسط ثوباً على موضع نجس وصلَّى عليه، أو صلى على سرير وقوائمه على النجاسة تصح، سواء كان يتحرك بتحركه أو لا يتحرك. وقال أبو حنيفة: إن كان يتحرك بتحركه لا تصح، ولو كان على مُصلّاه نجاسة، فإن كانت تلاقي بدنه أو ثياب بدنه لا تصح صلاته، وإن كان لا يلاقيه، ولكن في محاذاة صدره إذا ركع وسجد، هل تصح صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنها لا تلاقيه.

والثاني: لا تصح؛ لأن النجاسة ظاهرة في موضع صلاته. ولو حمل في الصلاة صبياً أو طائراً تصح صلاته، وإن كان باطنه نجساً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت أبي العاص. ولو جعل نجاسة في قارورة فسدَّ رأسها، فحملها لا تصح صلاته؛ لأن تلك النجاسة أودعها بصنعته، ونجاسة باطن الحيوان خلقة في معدتها، فهو كنجاسة باطن المصلِّي. وتجوز الصلاة في ثوب الحائض والنفساء، وفي الثوب الذي ينام فيه، ويجامع فيه أهله إذا لم يعلم به نجاسة؛ لأن الأصل طهارته. قالت ميمونة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يصلِّي في مرطٍ بعضه عليَّ وبعضه عليه وأنا حائض. فصلٌ: في مواضع الصلاة روي عن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". الصلاة في المقبرة مكروهة، فلو صلى، نظر إن بسط ثوباً فصلى عليه، أو صلى على تربتها وهي جديدة لم تنبش تصح صلاته، وإن كانت منبوشة لا تصح صلاته على تربتها لاختلاط صديد الموتى بها، وإن شك في نبشها هل تصح صلاته على تربتها؟ فيه قولان:

أحدهما: لا تصح؛ لأن الظاهر من أمر المقبرة النجاسة، والأصل انشغال ذمته بغرض الصلاة، فلا تسقط عنه بالشك. والثاني: يصح؛ لأن الأصل طهارة الأرض، وكذلك لو صلى في الشارع الذي هو ممرُّ الدواب، أو أصابه وحل الطريق، فصلى معه، فعلى قولين: أحدهما: لا تصح: لأن الظاهر من أمر الطريق بول الدواب وروثها. والثاني: تصح؛ لأن الأصل طهارة الماء والتُّراب، وكان القاضي الإمام- رحمه الله- يبني عليه الصلاة في ثياب الأساكفة الذين يستعملون الهُلب والقصَّابين والصبيان الذين لا يحترزون عن النجاسات، والكفَّار الذين يتديَّنون باستعمال النجاسات، فنجعلها على قولين. وروي عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: في "المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى".

والنهي في كلها تُنزيه إلا الصَّلاة فوق ظهر الكعبة لا يجوز، لأنه لا قِبلة له. وأما المزبلة والمجزرة، فالنهي فيها لنجاسة المكان، فإن بسط ثوباً طاهراً، وصلى عليه، صحت صلاته. وأما قارعة الطريق، فالنهي فيها لنجاستها غالباً، ولما أن مرور الناس يشغله عن الصلاة، فلو بسط ثوباً لا تزول الكراهة، وتصح صلاته. وأما الحمام فلأنه محل غسل النجاسات، ودخول الناس يشغله عن الصلاة، فإن صلى فيه والمكان طاهر تصح مع الكراهة. وأما معاطنُ الإبل؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة، ولأ، فيها نفاراً فربما تنفر، فتشغله عن الصلاة، فإن كان المكان طاهراً، وصلى فيه تصح صلاته مع الكراهية، ولا تكره في مراح الغنم إذا كان المكان طاهراً، لأن لها سكينةً لا يشغل بها قلب المصلِّي. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل". وإن كان الرجل محبوساً في حُشٍّ أو مكان نجس، فدخل عليه وقت الصلاة يجب عليه أن يصلي، وهل يضع جبهته على الأرض في السجود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب وضعها؛ لأنه قادر عليه. والثاني: لا يضع، بل يدني جبهته من الأرض بحيث لو زاد عليه أصاب الأرض؛ لأن الصلاة تجزئ بالإيماء، ولا تجزئ مع النجاسة، وعلى القولين يجب عليه الإعادة، وإن

كان معه ثوب زائد على ستر عورته يجب أن يبسطه ويُصلي عليه، وإن كان الثوب واحداً لو بسطه يحتاج أن يصلي عارياً ففيه قولان: أحدهما: يستر عورته، ويصلّي على النجاسة؛ لأن ستر العورة مأمور به لحقِّ الله- عزَّ وجلَّ- وحق العباد. والثاني: يبسط ويصلي عارياً، وهو الأصح؛ لأن صلاة العُريان محسوبة، ومن صلَّى على النجاسة تلزمه الإعادة، كما لو كان محدثاً، وعلى بدنه نجاسة، ووجد من الماء ما يكفي لأحدهما يلزمه صرفه إلى غسل النجاسة، ويتيمَّمُ للحدث حتى لا يلزمه الإعادة. باب الساعات التي يُكره فيها صلاة التطوع روي عن أبي سعيد الخُدري قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس".

خمسة أوقات في النهار لا تجوز صلاة التطوع فيها: وقتان تعلَّق النهي فيهما بالفعل، وهو بعد ما صلَّى الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رُمح، وبعد ما صلى العصر حتى تغرب الشمس، وتعلق النهي بالفعل من حيث إن من لم يُصلِّ الصبح والعصر يجوز له أن يتطوَّع، ولا يجوز ذلك لمن صلاهما. وثلاثة أوقات تعلق النهي فيها بالزَّمان، وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وعند دنوِّها من الغروب حتى تغرب. والدليل عليه ما روي عن الصُّنابحي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا آذنت

للغروب قارنها، ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في تلك الساعات.

وقيل: أراد أن الشيطان يدني رأسه من الشمس في هذه الساعات، حتى أن من سجد لها يكون ساجداً للشيطان، وإنما لا يجوز في هذه الأوقات فعل صلاة لا سبب لها. أما مالها سببٌ مثل قضاء الفرائض وقضاء السُّنن، والأوراد التي فاتته، وصلاة الخسوف، وتحية المسجد، إن اتفق دخوله، وسجود التلاوة والشكر، فلا يكره، يروى ذلك عن علي وابن عباس وهو قول جماعة من أهل العلم، وقال أبو حنيفة الوقتان اللذان تعلَّق النهي فيهما بالفعل يجوز فيهما قضاء الفرائض، ولا يجوز غيرها، ولا يجوز في الأوقات الثلاثة صلاةٌ ما إلا عند غروب الشمس عصر يومه حتى قال: لو فاتت ركعتا الفجر لا يقضيها بعد فرض الصبح حتى ترتفع الشمس، وبه قال الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. والدليل على جوازه ما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل بيت أم سلمة بعد صلاة العصر، فصلى ركعتين، فسألته أم سلمة، فقال: "أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان. وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رأى قيس بن فهد يصلي ركعتين بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان" قال: إني لم أكن صليت ركعتي الفجر، فسكت النبي- صلى الله عليه وسلم-. ولو شرع في هذه الأوقات في صلاة لا سبب لها، هل تنعقد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تنعقد لأنه منهي عنه، كما لو صام يوم العيد لا تصح. والثاني: تنعقد؛ لأن هذه الأوقات قابلة للصلاة في الجملة، بخلاف يوم العيد، وكذلك لو نذر أن يصلّي في هذه الأوقات، هل ينعقد نذره على هذين الوجهين؟ فإن قلنا: ينعقد نذره يستحبّ أن يصلي في وقت آخر، كمن نذر أن يضحِّي بشاة،

ونوى أن يذبحها بسكين مغصوب صح نذره، وذبحها بسكين غير مغصوب. أما إذا نذر أن يصلِّي مطلقاً يجوز أن يصلِّي في هذه الأوقات، ولو قضى في هذه الأوقات فائتة لا يصير ذلك سبباً يجوز أن يتنفل فيها بعده. وروي عن عائشة قالت: ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأتيني بعد العصر إلا صلى ركعتين، وكان ذلك مخصوصاً به، فإنه كان يداوم على العمل قالت عائشة كان إذا صلى صلاة أثبتها وروي عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد العصر وينهي عنها. ولو قصد دخول المسجد في هذه الأوقات ليصلي التحية هل يكره؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، كما لو قصد فعل الصلاة. والثاني: لا يكره؛ لأن دخول المسجد مباح، ثم التحية ترتب عليه، كما لو وقع الدخول اتفاقاً، ولو أراد أن يحرم في هذه الأوقات بحجِّ أو عمرة لا يصلي ركعتي الإحرام على الأصح لأن سببهما الإحرام وهو متأخر، فربما لا يحرم، كما يكره صلاة الاستسقاء والاستخارة في هذه الأوقات؛ لأنها للدعاء وهو متأخر، ولو تطهَّر في هذه الأوقات جاز أن يصلي ركعتين. وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لبلال عند صلاة الفجر: "حدِّثني بأرجى عملٍ عملتهُ في الإسلام فإني سمعت دويَّ نعليك بين يدي في الجنة" قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. ولا تكره الصلاة يوم الجمعة عند الاستواء لمن حضر الجمعة؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة.

أما من لم يحضر الجامع، هل له أن يصلي في هذا الوقت؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو مخصوص بمن حضر الجامع، فإنه قد يبتكر إلى الصلاة، فيغلبه النوم، فيحتاج إلى دفع النوم عن نفسه بركعتين يصليهما. أما من لم يحضر أو حضر، ولكن لا يؤذيه النوم، فلا يفعل، كما لا يفعل وقت الطلوع والغروب. والوجه الثاني: الرُّخصة عامة في حق من حضر، ومن لم يحضر لفضيلة الوقت. قال الشيخ- رحمه الله-: وهذا أصح لما روي عن أبي قتادة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كره الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة وقال: "إنَّ جهنم تسجر إلا يوم الجمعة". وروي عن أبي ذرِّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرُب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة".

أما ما تُسنُّ له الجماعة فخمسة: صلاة العيدين، والخسوفين، والاستسقاء، فهذه الخمس آكد من السُّنن التي لا تُسَنُّ لها الجماعة، ومن جميع التطوعات لشبهها بالفرائض في سُنة الجماعة، وآكد هذه الخمس صلاة العيدين، لأن لها وقتاً معلوماً من حيث الزَّمان كالفرائض، ثم صلاة الخُسوف؛ لأن وقتها مضيق يفوت بالانجلاء، ثم صلاة الاستسقاء، لأن فعلها ممكن في جميع النهار، وتقبل التأخير. أما ما لا تُسَنُّ له الجماعة فآكدها السُّنَنُ الرواتب، وهي ثنتا عشرة ركعة سوى الوتر. روي عن عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السُّنة بنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر". وأقل السُّنن الرواتب عشر ركعات سوى الوتر؛ لما روي عن ابن عمر قال: صلَّيت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته. وحدثتني حفصة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر. وفي رواية: وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي في بيته ركعتين، والأفضل والأكمل أن يصلي بعد الظهر أربعاً، وقبل العصر أربعاً؛ لما روي عن أم حبيبة

قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار". وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله امرأ صلَّى قبل العصر أربعاً". وروي عن عليٍّ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصلّي قبل العصر أربع ركعات وروي أنه كان يصلي قبل العصر ركعتين.

واختلفوا في هذا الاستثناء، فمنهم من قال: لا فرق بين "مكة" وغيرها، والاستثناء لأجل ركعتي الطَّواف، وذكر أنه يجوز أن يطوف بالبيت أيَّ وقت شاء، وإذا طاف يصلي ركعتي الطواف؛ لأنها صلاة لها سبب ومنهم من قال: الاستثناء لشرف البقعة، وذلك أن الناس يتناوبونها من البلاد البعيدة، والصلاة فيها أفضل من الصلاة في سائر البقاع فمن حضرها له أن يصلي في أي وقت شاء استكثاراً للفضيلة؛ لأنه لا يمكنه أن يأتيها في كل وقت لبعد الشُّقة، وكثرة المشقة. وكره قوم الصلاة في هذه الأوقات بـ "مكة كما في البلاد، وبه قال مالك، والثوري، وأصحاب الرأي، والحديث حُجَّة لمن رخص، والله أعلم.

باب صلاة التطوع روي عن ثوبان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "استقيموا ولن تحصوا واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". والصلاة أفضل عبادات البدن، وهي منقسمة إلى فرائض ونوافل. فالفرائض خمسة بالشَّرع لا يزيد عليها إلا أن ينذر صلاة، فيلزمه بالنذر، والنَّوافل على ثلاثة سُنن ومستحبات، وتطوعات. فالسُّنن ما واظب عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمستحب ما فعل مرة أو مرتين والتطوع ما ينشئه الإنسان باختياره، واسم التطوع والنافلة يطلق على ما عدا الفرائض. ثم جملة السُّنن قسمان: قسم تُسَنُّ له الجماعة، وقسم لا تُسنُّ له الجماعة.

وآكد هذه السُّنن ركعتا الفجر والوتر، فمن ترك واحداً منهما كان أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل، وفي الوتر وركعتي الفجر أيهما آكد؟ فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد الوتر آكد؛ لما روي عن خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله أمدَّكم بصلاة هي خيرٌ لكم من حُمُرِ النّعَم الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر". والثاني: ركعتا الفجر آكد؛ لما روي عن عائشة قالت: لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها". ثم بعدهما سائر السنن الرواتب سواء في الوكادة، وما يفعل من هذه السُّنن قبل الفرائض يدخل [وقتها] بدخول وقت الفريضة، ويبقى إلى أن يذهب وقت الفريضة، وما كان بعد الفريضة يدخل وقتها بالفراغ من الفريضة، ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفريضة؛ لأنها تابعة للفريضة، والسُّنن بعد صلاة الجمعة كهي بعد صلاة الظهر. وقال أبو حنيفة وإسحاق: يصلي بعدها أربعاً، لما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلِّ بعدها أربعاً". ثم بعد السُّنن الرواتب: صلاة الليل ثم صلاة الضُّحى، ثم السنن التي تتعلق بفعل مثل: ركعتي الإحرام، وتحية المسجد، وركعتي الطواف إذا قلنا: إنها سُنَّ'، ثم بعده ما لا يتعلق بسبب، وهو تطوع يبتدئ به الإنسان من عند نفسه. فصلٌ: في الوتْرِ وصلاة الليل روي عن عبد الله بن عُمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي

أحدهم الصبح صلى ركعة واحدة توتِرُ له ما قد صلّى". الأفضل في تطوعات الليل والنهار أن يصليها مثنى مثنى، يسلِّم من كل ركعتين، وبه قال مالك وأحمد. وإذا صلى قبل الظهر، أو قبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم؛ لما روي عن عليّ قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقرَّبين، ومن تبعهم من المسلمين المؤمنين. وقال الثوري، وأبو حنيفة: تطوعات الليل أربعاً أربعاً أفضل، ويصلي قبل الظهر والعصر أربعاً بتسليمة واحدة؛ لما روي عن أبي أيوب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح له أبواب السماء".

ولو شرع في نافلة، نظر إن لم ينو عدداً سلم من أي عدد شاء من واحدة إلى عشرة أو أكثر. يروى أن عمر مر بالمسجد، فصلى ركعة، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة، قال: إنما هي تطوُّع من شاء زاد، ومن شاء نقص، غير أن الأولى أن يسلم على شفعٍ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الليل مثنى مثنى". وإن نوى عدداً لا يجوز أن يزيد عليه، ولا أن ينقص عنه إلا بعد تغيير النية [فلو] فعل عمداً من غير تغيير النية بطلت صلاته. بيانه: شرع فيها بنيَّة أن يصلي أربعاً، فسلم عن ركعتين، نظر إن نوى قبل السلام الاقتصار على ركعتين جاز، وإن سلم قبل تغيُّر النية عمداً بطلت صلاته، وإن سلم ساهياً أتم أربعاً، وسجد للسهو، ولو بدا له بعد ما سلم ساهياً أن يقتصر على ركعتين يسجد للسهو ويسلم ثانياً؛ لأن التسليم الأول لم يكن محسوباً. ولو شرع فيها بنيَّة ركعتين، فقام إلى الثالثة، نظر إن نوى الزيادة، ثم قام صحَّت صلاته، وإن قام قبل تغير النِّية عمداً بطلت صلاته، وإن قام ساهياً يعود ويسجد للسهو، ويسلم، فلو بدا له بعد ما قام ساهياً أن يتم أربعاً يعود إلى القعود ثم يقوم؛ لأن هذا القيام لم يقع محسوباً.

وقيل: يمضي قائماً، ويسجد للسهو في آخره حتى لو أتم أربعاً ساهياً، ثم نوى إكمال أربع يصلّي ركعتين أخرتين، وإذا شرع فيها بنيَّة أربع، فهو بالخيار إن شاء صلاها بتشهد واحد، وإن شاء بتشُّهدين يقعد في الثانية والرابعة. فإن صلى بتشهد واحد يقرأ السورة في الركعات كُلّها، وإن صلى بتشهدين هل يقرأ في الأخريين؟ فعلى القولين كالفرائض وإن نوى ستَّ ركعات، فإن شاء صلى بتشهد واحد، وإن شاء بتشهدين يقعد في الرابعة والسادسة، وكذلك إن نوى أكثر ولا يزيد على تشهدين، ولا يجعل بين التشهد الأول والآخر أكثر من ركعتين. وقيل: له أن يتشهد في كل اثنتين، ولا يسلم. أما صلاة الوِتْرِ فسُنَّةٌ مؤكدة. وعند أبي حنيفة: الوتر واجب، والواجب عنده أحطُّ رتبة من الفرض، وأعلى من السُّنة، واختلفوا في عدده، فعندنا- وعليه تدل الأخبار- أنه يجوز أن يوتر بواحدة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وبإحدى عشرة، وثلاث عشرة. روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الوتر ركعة من آخر الليل". وعن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الوتْرُ حقٌّ على كل مسلم، فمن أحب أن يوتِر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتِر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتِر بواحدة فليفعل".

وعن ابن عباس أنه رقد عند النبي- صلى الله عليه وسلم- فاستيقظ فتسوَّك وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ...} [آل عمران: 190] حتى ختم السُّورة، ثم قام يصلي ركعتين أطال فيها القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث. وعن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها

بخمس لا يجلس إلا في آخرها. وعن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: يا أمَّ المؤمنين أنبئيني عن وترِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: كنا نعدُّ له سواكه وطهوره، فيبعثه الله إلى ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوَّك ويتوضّأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض فلا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلّم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنّ وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول، فتلك تسع يا بُنيّ. وكان نبي الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاةً أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نومٌ أو وجعٌ عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبيّ الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآن كلَّه في ليلة، ولا صلّى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان.

فإن أوتر بثلاث فإن شاء صلّى بتشهد واحد، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- في خمس، وإن شاء بتشهدين، كما فعل في سبع وتسع. وإن أوتر بخمس، فإن شاء صلّى بتشهد واحد، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- وإن شاء بتشهدين يقعد في الرابعة والخامسة، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- في سبع وتسع. وإن أوتر بسبع، فإن شاء صلى بتشهدين، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقعد في السادسة والسابعة، وإن شاء بتشهد واحد، كما فعل في الخمس، وإن أوتر بتسع، فكذلك إن شاء صلى بتشهدين كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقعد في الثامنة والتاسعة، وإن شاء بتشهد واحد كما في الخمس، وإن شاء أوتر بإحدى عشرة، فإن شاء صلّى بتشهد واحد، وإن شاء بتشهدين، ويقعد في العاشرة والحادية عشرة. وإن أوتر بثلاث عشرة ركعة، فإن شاء قعد بتشهد واحد، وإن شاء بتشهدين يقعد في الثانية عشرة والثالثة عشرة، ولا يزيد على تشهدين، ولا يجعل بين التشهد الأول والآخر إلا ركعة واحدة. وقيل: إن شاء فعل هكذا، وإن شاء جلس في كل ثنتين، ويتشهد ولم يسلم، وهل يجوز أن يزيد الوتر على ثلاث عشرة ركعة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يجوز أن يوتر بأقل. والثاني: لا يجوز، لما روي عن عائشة أنها سئلت بكم كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: لم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة. وعند أبي حنيفة: الوتر ثلاث ركعات بتشهدين وتسليمة كالمغرب، إلا أنه يجهر في الركعات كلها. [ويقنت] وعند مالك: ثلاث [ركعات] بتشهدين وتسلمتين، ولا يتكلم بعد التسليمة الأولى. وذهب جماعة إلى أنه يوتر بواحدة، وروي ذلك عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء وغيرهم.

واختلف أصحابنا في أن الوِتر بواحدة أفضل أو بثلاث موصولة أفضل. منهم من قال: بثلاث موصولة أفضل؛ لأنه فعل أهل "المدينة"، ولأن العلماء اتفقوا على جواز الثلاث. واختلفوا في إفراد الوتر، وهو اختيار الشيخ أبي زيد قال؛ ثلاث بتشهدين وتسليمة. ومنهم من قال: الإتيان بواحدة أفضل؛ لأنه اجتمع فيه قول النبي- صلى الله عليه وسلم- وفعله، فالقول ما روينا عن ابن عمر: الوتر ركعة من آخر الليل، والفعل ما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم في كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة، فإن فعل هكذا فحسن، وإن لم يفعل يصلي قبل الوتر ركعتين بنيَّة التهجد ويسلم، ثم يوتر بواحدة ليحوز فضيلة الثلاث، وليس المراد من قولنا: الوتر بواحدة أفضل أن يقتصر على ركعة واحدة، بل المراد منه أن إفرادها عما قبلها أفضل من وصلها بما قبلها. فصلٌ: في قيام رمضان روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

فتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر. وروي عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، وإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلّي بصلاته الرَّهط فقال عمر: إني أراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل ثم عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، وروي أنه وظّف عليهم عشرين ركعة. ومن السُّنن الرواتب صلاة التراويح في شهر رمضان عشرون ركعة بعشر تسليمات، والأفضل أن يصليها جماعة أو منفرداً، نظر إن كان الرَّجُلُ لا يحسن القرآن، أو تختل الجماعة بتخلفه، أو يخاف النوم والكسل ففعلها جماعة أفضل، وإن لم يكن شيء من ذلك ففيه وجهان: أحدهما: الجماعة أفضل؛ لأن عمر بن الخطاب جمعهم على أبي بن كعب. والثاني: منفرداً أفضل؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى ليالي في المسجد، ثم لم يخرج باقي الشهر، وقال: "صلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

والأول أصح، وإنما لم يخرج النبي- صلى الله عليه وسلم- خشية أن تفرض عليهم. والقنوت في الوتر سُنَّة، وعندنا يقنُتُ في النصف الأخير من شهر رمضان بعد الركوع. وعند أبي حنيفة يقنت في جميع السَّنة قبل الركوع. وقيام الليل من سُنن المرسلين، ودأب الصالحين. روي عن أبي أُمامة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: عليكم بقيام الليل فإنَّه دأب الصالحين قبلكم وهو قُربة إلى ربَّكُم ومكفرة للسيئات ومنهاةٌ عن الإثم". وإذا أراد قيام بعض الليل، فآخر الليل أفضل لقوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] وإذا جزأ الليل أثلاثاً، فالجزء الأوسط أفضل؛ لأنه وقت غفلة الناس.

روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً". ويكره أن يقوم الليل كله؛ لما روي عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومن صلى بالليل جعل آخر صلاته بالليل الوتر؛ لما روي عن عبد الله بن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً".

والاحتياط ألا ينام إلا بعد الوتر؛ لما روي عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي- صلى الله عليه وسلم- بثلاث لأدعُهُنَّ حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. فإذا كان الرجل قد اعتاد قيام الليل فيؤخر الوتر. روي عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل". وعن عائشة قالت: من كل الليل أوتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أوَّل الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السَّحر. وإذا أوتر ونام، ثم قام للصلاة لا يعيد الوتر وقيل: يصلي ركعة حتى يصير ما مضى شفعاً يسمى ذلك نقض الوتر، ثم يصلي ما شاء، ثم يوتر ثانياً، يروي ذلك عن ابن عمر، وبه قال إسحاق. ولا يحسب التراويح، ولا الوتر قبل صلاة العشاء، فلو صلَّى فرض العشاء على أنه متطهر، ثم أحدث فتوضأ، ثم أوتر، ثم ظهر أنه كان محدثاً في فرض العشاء يجب عليه إعادة صلاة العشاء، ويعيد الوتر بعدها، كما لو طاف وسعى، ثم بان أنه كان محدثاً في الطواف يجب عليه إعادة الطَّواف، والسَّعي جميعاً، ويستحب أن يقرأ في الوتر ما روي عن عائشة أنها سئلت بأي شيء كان يوتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: كان يقرأ في الأول {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين.

وعن أُبيِّ بن كعب قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم في الوتر قال: "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات يرفع في الثالثة صوته". وصلاة الضُّحى سُنَّة أفضلها ثمان ركعات؛ لما روي عن أم هانئ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح "مكة"، فاغتسل وصلى ثمان ركعات لم أرَ صلاة قط أخف منها، غير أنه

يُتم الركوع والسجود، وذلك ضحى. وقالت معاذة: سألت عائشة كم كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء، وأقلُّها ركعتان؛ لحديث أبي هريرة "ركعتي الضُّحى".

وعن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". ووقت صلاة الضحى من حين ترتفع الشمس إلى وقت الاستواء. روي عن زيد بن أرقم قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أهل "قباء" وهم يصلُّون الضحى فقال: "صلاة الأوَّابين إذا رمضت الفصال من الضحى". ويستحبُّ لمن دخل المسجد ألا يجلس حتى يُصلّي ركعتين تحيَّة المسجد، لما روى أبو قتادة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال إذا دخل أحدكم فلا يجلس حتى يصلي ركعتين فإذا دخل

رجل وحضرت الجماعة لا يشتغل بالتحية، بل يصلي الفرض معهم، وتحصل به التحية، ولا يقعد وإن كان المؤذن في الإقامة، ولو دخل المسجد، فصلى فريضة أو سُنَّة، أو قضى ورداً حصلت تحيَّة المسجد، سواء نواها أو لم ينوها، ولو نوى التحية مع الفرض لا يضرُّ، كما لو كبَّر وقصد به إعلام الناس، ولو صلَّى على جنازة أو سجد لتلاوة أو شُكر لا يحصل به تحية المسجد. فصلٌ إذا فاتته سُنَّة من هذه السنن الرواتب، هل تقضي؟ فيه قولان، وكذلك صلاة العيد، وصلاة الضحى إذا فاتت هل تقضي؟ فيه قولان: أحدهما: لا تقضي؛ لأنها صلاة نفل كصلاة الخسوف والاستسقاء لا تقضى بعد الانجلاء. والثاني: وهو المذهب أنها تقضى؛ لأنها صلاة راتبة في وقت كالفرائض، وليس كالخسوف والاستسقاء؛ لأنها غير راتبة، وإنما تفعل لعارض، وقد زال العارض. وعند أبي حنيفة: لا تقضى إلا ركعتا الفجر إذا فاتتا مع الفرض، فإن قلنا: تقضى، فالمذهب أنه يجوز قضاؤها أبداً في أي وقت كان، ونقل المُزنيّ أنه لا تقضى الوتر بعد ما صلّى صلاة الصُّبح، ولا ركعتي الفجر بعد أن يقام الظهر. اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: هذا قول الشافعي أنه لا يقضى الوتر بعد صلاة الصبح؛ لأنه تبعٌ للعشاء، فلا تجعل تبعاً للصبح، ولا يقضي ركعتي الفجر بعد صلاة الظُّهر؛ لأنها تبع للصبح، فعلى هذا الاعتبار بدخول وقت الصبح والظهر أم بفعل الصلاة؟ فيه وجهان. ومن أصحابنا من قال وهو المذهب: يجوز قضاؤها في جميع الأوقات، والشافعي لم يقل: ولو فاتته ركعتا الفجر حتى صلّى الظهر، بل قال: حتى أقام الظهر، وكذلك قال: لو فاته الوتر حتى يقام الصبح لم يقض، وأراد بهذا إذا أقيم لصلاة الوقت لا يشتغل بقضاء ما فات من ركعتي الفجر والوتر، بل يصلي صلاة الوقت، ثم يقضي ما فاته، وكذلك جميع الصلوات إذا أقيم لها لا يشتغل بسنّتها، بل يصلِّي الفرض، ثم بعده يصلّي السُّنَّة وهو قول أكثر أهل العلم؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة

إلا المكتوبة" وعند أبي حنيفة يشتغل بالسُّنة إذا علم أنه مُدرك مع الإمام ركعة، ومن قال: يشتغل بالسُّنة مجاهد، ومكحول، وحماد بن أبي سليمان، والحديث حُجَّة عليهم. بابُ صلاة الجماعة روي عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبع

وعشرين درجة".

الجماعة في صلاة الجمعة فرض عين، وفي سائر الصلوات ليست بفرض عين، وهل هي فرض على الكفاية؟ فيه وجهان: أظهرهما: أن سُنَّة مؤكدة شرعت لاكتساب الفضيلة.

والثاني: وهو قول ابن سُريج فرض على الكفاية إذا قعد أهل قرية أو محلَّة عن إقامتها عصوْا وقوتلوا عليه؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد هممت أن آمُر بحطب يحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمُر رجلاً فيؤمَّ الناس ثم أخالف على رجال لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو حسنتين لشهد العشاء".

وروي عن أبي الدرداء أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. وقال عطاء، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق: الجماعة فرض عين لا يجوز تركها من غير عذر، وأقل الجماعة اثنان. روي عن أبي موسى الأشعري أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الاثنان فما فوقها جماعة".

ويجوز إقامة الجماعة في البيت، وفي المسجد الكبير الذي يكثر فيه أفضل من المسجد الصغير. روي عن أُبيِّ بن كعب أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الرَّجُل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرَّجلين أزكى من صلاته مع الرَّجل وما كَثُرَ فهو أحبُّ إلى الله تعالى". فإن كان المسجد الصغير أقرب إليه، نظر إن كان لا تختلُّ الجماعة فيه بغيبته، فالأولى أن يخرج إلى المسجد الأعظم، وإن كان يختلُّ، فالأفضل أن يُصلّي في المسجد الأقرب، حتى لو لم يكن فيه أحد يُؤذِّن ويقيم، ويصلّي فيه منفرداً ويخفف، ثم يخرج إلى المسجد الأعظم فيصلّي معهم ليحوز فضيلة الجماعة. وقيل: إن كان لا تختل الجماعة في المسجد الأصغر بغيبته، فالأولى أن يصلي فيه، ثم يخرج إلى المسجد الأعظم، ويجوز تركُ إتيان الجماعة بالعذر بأن يكون مريضاً، أو عارياً لا لباس له، أو يخاف على نفسه أو ماله في الطريق، أو كان هارباً من سلطان، أو كان عليه قصاص يرجو عفوه، أو يطلب ضالَّة له، أو كان مخفياً من غريم يطالبه ولا وفاء له، أو وجب عليه حدّ، أو يخاف ضياع متاعه.

روي عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من سمع النِّداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر قالوا: يا رسول الله وما العذر قال: خوف أو مرضٌ".

أما إذا كان خوفه من حق هو في منعه ظالم، أو وجب عليه حدّ لا يقبل العفو، فلا يكون عذراً. والمطرُ عذرٌ، والبرد الشديد عذر. روي عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرِّحال. والوحلُ عذرٌ على أصح الوجهين، والرياح العاصفة عذر بالليل دون النهار، وما جاز له ترك الجماعة جاز ترك الجمعة به، وإن كان به جوع أو عطش غالب يبدأ بالأكل والرب، ولا يأكل للشبع، بل يأكل لقماً يسكن فورةَ جوعه؛ لما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا وُضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء". وكذلك إذا كان يدافع أحد أخبثيه ببول أو غائط أو ريح يكره له معه حضور الجماعة، بل يفرغ نفسه، وإن فاتته الجماعة لما روي عن عبد الله بن الأرقم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط".

وعن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان". هذا إذا كان في الوقت سعة، فإن كان يخاف فوت الوقت لو اشتغل بالأكل أو الشرب، أو قضاء الحاجة يبدأ بالصلاة. وقيل: يشتغل بقضاء الحاجة، وإن فات الوقت، ثم يقضي، كما لو خاف فوت الوقت لو اشتغل بالوضوء، يجب عليه أن يتوضأ. ويستحب للرجل إذا أتى الصلاة أن يأتيها ماشياً من غير إسراع؛ لما روي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وأتوها تمشُون، وعليكم السَّكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا. وصلاة الجماعة مستحبة للنساء، لكنها في حق الرجال آكد، وجماعتهن في البيت أفضل؛ لما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خيرٌ لهن".

وإذا أرادت المرأة حضور المسجد بجماعة الرجال، جاز إذا كان لا يخشى منها الفتنة، وإذا خرجت لا تمس طيباً؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". وإذا خرجن فليخرجن تفلات، وإذا صلين جماعة يقوم إمامهن وسطهن ليكون أستر. روي عن عائشة أنها صلَّت بنسوة العصر، فقامت وسطهن. وإمامة الرجال لهن أولى من إمامة النساء، حرّاً كان أو عبداً، لكن لا يجوز أن يخلو الرجل بهن من غير محرمٍ، وإذا أمَّهُنَّ رجل يقوم أمامهُنَّ، ولا يقوم وسطهن، ومن صلّى منفرداً. ثم أدرك جماعة يصلون يستحب له أن يصلِّي معهم ثانياً أي صلاة كانت ليحوز فضيلة الجماعة، وينوي الفرض كالأولى، وهو قول الحسن، والزُّهري، وأحمد، وإسحاق. وقال النَّخعي، والأوزاعي يصليها ثانياً إلا الصبح والمغرب. وقال أبو حنيفة: إلا الصبح والعصر والمغرب؛ لأن الصبح والعصر لا يتنفَّل بعدها، والمغرب وتر النهار، فيصير شفعاً. والدليل على أنه يصليها ثانياً ما روي عن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجَّته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد "الخيف"، فلما قضى صلاته وانحرف، فإذا هو برجلين في آخر القوم، ولم يصليا معه، قال: "عليَّ بهما" فجيء بهما ترتعد فرائصُهما قال: "ما منعكما أن تصليا معنا" فقالا: يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا قال: "فلا تفعلا إذا صليتُما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة".

وإذا صلى ثانياً أيهما تكون فرضاً؟ فيه قولان. قال في الجديد، وهو المذهب: الأولى فرضه للخبر ولأن الفرض قد يسقط عنه بالأولى، والثانية لحيازة الفضيلة. وقال في القديم: يحتسب الله بالفريضة أكملها وهو قول ابن عمر. ولو صلى صلاة جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى هل يعيدها معهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعيد؛ لأنه حاز الفضيلة. والثاني: وهو الأصح يستحب أن يعيد، كما لو صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة. وقيل: يعيد الظهر والمغرب والعشاء، ولا يعيد الصبح والعصر. وقيل: إن كان في الجماعة الثانية فضيلة زائدة بأن كان الإمام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان أفضل يعيد، وإلا فلا. وإذا أخَّر الإمام الخروج للصلاة يستحب أن يبعث إليه ليحضر، وإن خيف فوت أول الوقت يستحب أن يتقدم غيره؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فقدَّم الناس أبا بكر حتى صلى بهم. وإن لم يكن أحد يتقدم صلى منفرداً، ثم إن جاء الإمام صلى معه ثانياً، ولو شرع في الصلاة منفرداً، ثم أقيمت الجماعة قال: أحببت أن يكمل ركعتين يكونا له نافلة، ويبتدئ الصلاة مع الإمام، وإن أراد أن يترك نية الفرض، فيبقى نفلاً، ويسلم عن ركعتين، ويكره أن يقطع صلاته فيبطلها. قال الشيخ: وإن كانت الصلاة ذات ركعتين، أو ذات أربع، ولكنه قد قام إلى الثالثة يتمها ثم يشرع مع الإمام، فلو لم يسلم، بل نوى الاقتداء بالإمام، ووصل صلاته بصلاته، هل يجوز؟ فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد يجوز؛ لأن أبا بكر كان يصلي بالناس في مرض

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فوصل أبو بكر صلاته بصلاته. والإمام يكون في حكم المنفرد، ولأنه لما جاز أن يصلي بعض الصلاة منفرداً، ثم يصير إماماً بأن يقتدي به جماعة جاز أن يصلي بعضها منفرداً، ثم يصير مأموماً. وقال في "الإملاء": لا يجوز، وهو الأصح في طريقة القاضي وتبطل صلاته؛ لأنه خالف الإمام في التحريمة، كما لو حضر معه، وأحرم قبله. فمن أصحابنا من قال: القولان فيما إذا اتفقا في الركعة، فإن اختلفا بأن كان الإمام في ركعة، والمأموم في أخرى متقدماً عليه، أو متأخراً عنه لا يجوز. والصحيح: أن لا فرق بين الحالتين، ثم إن اختلفا في الركعة بأن يقعد المأموم في موضع قعود الإمام، ويقوم في موضع قيامه، فإذا تمت صلاة الإمام، ولم تتم صلاة المأموم، فإذا سلم الإمام يقوم المأموم، ويتم صلاته كالمسبوق، وإذا تمت صلاة المأموم، ولم تتم صلاة الإمام لا يتابعه في الزيادة، بل إن شاء خرج عن متابعته، وسلم وإن شاء انتظر في التشهد حتى تتم صلاته، فيسلم معه. فإن سها الإمام بعد أن اقتدى به أو قبله، فإذا أتم صلاته منفرداً سجد في آخر صلاته على أصح القولين كالمسبوق، وإن سها الإمام، نظر إن سها بعد أن وصل صلاته بصلاة الإمام يحمل عنه الإمام، وإن سها قبل أن وصل صلاته بصلاته، فلا يتحمل عنه الإمام، فإذا سلم الإمام يسجد هو في آخر صلاته. وسئل القاضي عمن شرع في فائتة، ثم افتتح جماعة صلاة الوقت، قال: أستحب أن يقتصر على ركعتين ليصلي تلك الصلاة معهم؛ لأن الفائتة لا تشرع لها الجماعة، وبمثله لو شرع في فائتة وقت العصر في يوم فانكشف الغيم، وخاف فوت الوقت يسلم الفائتة عن ركعتين؛ لأن مراعاة حق الوقت أولى من مراعاة الجماعة، ألا ترى أن أداء جميع الصلاة في الوقت أولى من انتظار جماعة يصلي معهم بعض الصلاة في الوقت، والمسبوق إذا أدرك

الإمام في التشهد الأخير يكبّر ويقعد للتشهد معه، ويصير مدركاً لفضيلة الجماعة، وقد ورد أخبار في فضل التكبيرة الأولى. روي عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق". اختلفوا فيما يصير مدركاً للتكبيرة الأولى؛ منهم من قال: يدرك الركوع مع الإمام ومنهم من قال: لا يكون مدركاً حتى يدرك شيئاً من القيام. ومن حضر بعد فراغ الإمام من الصلاة يستحب لبعض من صلى مع الإمام أن يقوم، فيصلي معه ليحصل له الجماعة؛ لما روي عن أبي سعيد الخُدري أن رجلاً جاء وقد صلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" فقام رجل وصلى معه. والأولى للإمام ألا ينتظر أحداً في الصلاة حتى تكون صلاته خالصة لله- تعالى- فلو أحسَّ بداخل فانتظره، نظر إن انتظره في قيام أو سجود لا يجوز؛ لأنه لا فائدة له في ذلك الانتظار. وإن انتظره في الركوع قال في موضع: لا ينتظر، وقال في موضع: لا بأس أن ينتظره، فحصل قولان، وكذلك إذا انتظره في التشهد الأخير فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز أن ينتظره حتى تكون خالصة لله- عز وجل- لا يدخلها تشريك. والثاني: يجوز؛ لأن الجماعة لحصول الفضيلة، فيجوز الانتظار فيها لفضيلة تحصل للمأموم، ففي الركوع ينتظر ليحصل للمأموم إدراك الركعة، وفي التشهد الأخير ينتظر

لتحصل له فضيلة الجماعة، كما ينتظر فراغ قوم، ومجيء قوم في صلاة الخوف، وكما يرفع الصوت بالتكبير لإعلام القوم، ولا يكون تشريكاً. فإن قلنا: لا يجوز، فلو فعل هذا هل تبطل صلاته؟. قيل: فيه قولان، بناءً على أنه لو زاد على انتظارين في صلاة الخوف، هل تبطل صلاته أم لا؟ وفيه قولان. وقيل وهو المذهب: لا تبطل صلاته قولاً واحداً. أما إذا كان يصلي في مسجد محلَّةٍ أو سوق، ويطول القراءة ليجتمع الناس، أو يؤم مسجداً وثَمَّ رجل شريفٌ يصلّي فيه، فيطول القراءة لأجله، فهذا مكروه. والسُّنَّة للإمام أن يخفِّف الصلاة، ولا يطولها، فينفّر القوم عن الجماعة، وفي التخفيف لا يترك من أبعاضها وهيئاتها شيئاً. روي عن أنس قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتمّ من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن كان يسمع بكاء الصبي، فيخفف مخافة أن تفتتن أمه. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفِّف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء". وعن أبي مسعود أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل

فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ، ثم قال: "إنَّ منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوَّز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". وإذا رضي القوم بالتطويل يجوز أن يطوّل، وإن رضي بعضهم دون بعض فليخفِّف؛ مراعاةً لحق الضعيف. باب صلاة الإمام قاعداً بقيام روي عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فوجد النبي- صلى الله عليه وسلم- خفَّة فجاء فقعد إلى جنب أبي بكر فأمَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وهو قاعد وأَمَّ أبو بكر الناس وهو قائمٌ. إذا مرض الإمام الرَّاتب، أو حدث به عذر يستحب أن يستخلف في الإمامة قادراً، كما استخلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر في مرضه، فلو صلى بهم قاعداً يجوز، وهم يصلون خلفه قياماً عندنا، وعند أكثر [الفقهاء]. وقال مالك: لا يجوز اقتداء القائم بالقاعد. وقال أحمد، وإسحاق: إذا صلى الإمام قاعداً، فالقوم يقعدون خلفه؛ لما روي عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كبر فكبِّروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون.

وهذا منسوخ بحديث عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى قاعداً، وأبو بكر والناس خلفه قياماً وهذا متأخر، فإنه كان في مرض موته. وكذلك يجوز اقتداء القائم والقاعد بالنائم إذا وقف على أفعاله، ويجوز اقتداء القاعد بالقائم، واقتداء النائم بهما ووافقنا أبو حنيفة في القائم والقاعد. أما النائم فلا يجوز اقتداؤه بهما، ولا اقتداؤهما بالنائم، ولو كان يصلِّي الفرض قاعداً فقدر على القيام فلم يقم بطلت صلاته على ظاهر المذهب. وفيه قول آخر: تنقلب صلاته نفلاً. فإن قلنا: بأنه تبطل صلاته، فكل من عرف حاله من المأمومين، ووقف على متابعته بطلت صلاته، ولمن لم يعرف حاله لا تبطل صلاته. والله أعلم.

فصلٌ: في الاستخلاف الإمام إذا سبقه في خلال الصلاة الحدث أو رَعَفَ وانصرف هل يجوز له الاستخلاف؟ فيه قولان: في الجديد وهو الأصح: يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه صلى بعض صلاته خلف من لم يكن إماماً له في ابتداء الصلاة، وذلك لا يمنع صحَّة الصلاة، فإن أبا بكر كان يصلّي بالناس في مرض النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- وجلس إلى جنب أبي بكر، واقتدى به أبو بكر- رضي الله عنه- والقوم. وقال في القديم: لا يجوز؛ لأن هذه صلاة واحدة، فلا تجوز خلف إمامين، كما لو اقتدى بهما في حالة واحدة. وإن قلنا: يجوز فلا فرق بين أن يحدث الإمام عمداً، أو سبقه الحدث، أو ينصرف عمداً من غير سبب، ولو لم يستخلف الإمام أحداً، فتقدَّم رجل بغير إذنه جاز، وشرطه أن

يكون الخليفة قد اقتدى بالإمام قبل حدثه، فإن لم يدرك شيئاً من صلاة الإمام لا يجوز أن يتقدم خليفة. وعند أبي حنيفة: يجوز الاستخلاف إذا سبقه الحدث، ولا يجوز أن يتقدم أحد دون إذنه، فإن خرج عن المسجد، ولم يستخلف بطلت صلاتهم، وإذا تقدم الخليفة، فمن شاء من القوم ثبت على متابعته، ومن شاء أتمَّ صلاته منفرداً. ولا يجب على من ثبت على متابعته نيَّة الاقتداء بالخليفة؛ لأنه نوى الجماعة في الابتداء. وقيل: تجب نيَّة الاقتداء بالخليفة؛ لأنه بعد ذهاب الإمام في حكم الانفراد، ولذلك يلزمه سجود السهو إذ سها، وإن كان الخليفة مسبوقاً يجب عليه مراعاة نظم صلاة الإمام، يقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه، فإن كان في صلاة الصبح، وأدركه مسبوق في الركعة الثانية، فإذا أحدث الإمام وتقدم هذا المسبوق يقنُتُ في هذه الركعة؛ لأنه موضع قنوت الإمام، ويقعد للتشهد في هذه الركعة ثم يقوم، ويتم صلاته، ويقنت في الركعة الثانية لنفسه، فإذا تمَّت صلاة الإمام، فقام الخليفة لإتمام صلاته لا يجوز لمن تمَّت صلاته من القوم متابعته، بل إن شاءوا خرجوا عن متابعته وسلموا، وإن شاءوا ثبتوا جالسين حتى يتم الخليفة صلاة نفسه، فيسلم بهم. وإذا كان الإمام قد سها قبل اقتداء هذا المسبوق به، أو بعده سجد المسبوق للسهو في آخر صلاة الإمام ومتابعة القوم، ثم إذا قضى بقية صلاته سجد ثانياً على القول الأصح أن المسبوق يسجد في آخر صلاته لسهو الإمام، وإن كان المسبوق لا يعرف نظم صلاة الإمام هل يجوز أن يتقدم؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه لا يمكنه مُرَاعاة نظم صلاة الإمام. والثاني: يجوز، فإذا أتمَّ ركعة يرقب للقوم، فإن همُّوا للقيام قام، وإلا قعد، ولا يمنعه قبول قول غيره من أن يكون خليفة كالإمام إذا أخبره أن الباقي من الصلاة كذا له أن يقبل قوله ويتقدم. ولو سها الخليفة قبل حدث الإمام، فقد تحمل عنه الإمام سهوه، لو سها بعد حدثه عليه سجود السهو، وعلى من دام على متابعته، كمن كان يصلّي منفرداً فسها، ثم اقتدى به رجل، يلزمه أن يسجد معه للسهو.

ولو سها بعض القوم، نظر إن سها قبل حدث الإمام، أو بعد تقدُّم الخليفة، فلا سجود عليه؛ لأن الإمام قد تحمَّل عنه، وكذلك الخليفة، وإن سها بعد حدث الإمام قبل تقدُّم الخليفة، فعليه أن يسجد للسهو بعد تسليم الخليفة؛ لأنه كان وقت السهو في حكم الانفراد، وإن كان يصلي الظهر خلف من يصلي الصبح، فأحدث الإمام وتقدم هذا الذي يصلي الظهر يقنت في الركعة الثانية؛ لأنه محل قنوت الإمام، ولا يقنت في آخر صلاة نفسه، وإن كان يصلي الصبح خلف مني صلي الظهر، فأحدث الإمام وتقدم هو لا يقنت في آخر صلاته. قال الشيخ إمام الأئمة وهو صاحب الكتاب: يحتمل أن يقال: يقنت في المسألة الأخيرة، ولا يقنت في الأولى، وإنما يؤخذ عليه مراعاة نظم صلاة الإمام إذا اتفقت الصلاتان، وإن اختلفتا يراعي نظم صلاة نفسه بعد مفارقة الإمام، كما في عدد الركعات. ولو تقدم الخليفة، وسبقه الحدث يجوز للثالث أن يتقدم، فإذا سبقه الحدث يجوز لرابع أن يتقدم، وعلى الكل مراعاة نظم صلاة الإمام الأول، ويشترط أن يكون كل من تقدم قد أدرك شيئاً من صلاة الإمام الأول، واقتدى به قبل حدثه، ولو ذهب الإمام وتوضأ، ثم عاد، واقتدى بخليفة ثم أحدث الخليفة، فتقدم الإمام الأول جاز، ولو أحدث الإمام، فتقدم رجلان، وتابع كل واحد منهما بعض القوم جاز إلا في الجمعة؛ لأنه لا يجوز إقامة جمعتين في موضع واحد. باب اختلاف الإمام والمأموم روي عن جابر قال: كان معاذٌ يصلي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصليها لهم هي له تطوع، وهي لهم مكتوبة العشاء. اختلاف نيَّة الإمام والمأموم لا تمنع الاقتداء، حتى يجوز أداء الفرض خلف من يصلي النفل، وأداء النفل خلف مني صلي الفرض، ويجوز أداء فريضية خلف من يصلي أخرى سواء كان الإمام قاضياً أو المأموم، وسواء اتفقت الصلاتان في عدد الركعات مثل أن كان أحدهما يصلي الظهر، والآخر يصلي العصر، أو اختلفا مثل أن كان أحدهما يصلي الظهر، والآخر يصلي الصبح أو المغرب، وهو قول الأوزاعي، وأحمد. وقال الزهري، وربيعة، ومالك: اختلاف النيَّة يمنع الاقتداء. وقال أبو حنيفة: يمنع إلا النَّفل خلف مَن يصلي الفرض يجوز، والحديث حجة عليه ولمن جوَّز، ولأن الاقتداء يقع في الأفعال الظاهرة، وذلك ممكن مع اختلاف النية، ثم إن كان صلاة الإمام أقل عدداً بأن كان يصلي الظهر خلف من يصلي الصبح أو المغرب، فإذا تمَّت صلاة الإمام وسلَّم قام المأموم، وأتم صلاته كالمسبوق، وإذا قنَتَ الإمام تابعه، كما يقعد في المغرب في الجلسة الأخيرة معه، كالمسبوق يقعد في موضع بقعود الإمام، ويقنت

في موضع قنوته، وإن كان صلاة الإمام أقل عدداً بأن كان يصلي الصبح أو المغرب خلف من يصلي الظهر، فإذا تمَّت صلاة المأموم لا يجوز إن يتابع الإمام في الزيادة، بل إذا قام هو بالخيار إن شاء خرج عن متابعته وسلّم، وإنشاء انتظره في التشهد حتى يسلم معه، فإن وقف الإمام في محل القنوت يسيراً قنت المأموم، وإن لم يقف يتابعه ولا يشتغل بالقنوت. وقيل: إن كان صلاة المأموم أقل عدداً فيه قولان؛ لأنه يحتاج إلى الخروج عن صلاة الإمام قبل فراغه، والأوّل أصحّ، وإن كانت الصلاتان مختلفتين في الأركان، مثل أن اقتدى في فريضة بمن يصلي صلاة الخسوف، أو صلاة الجنازة، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه متابعته مع اختلاف الأفعال. والثاني: وبه قال الشيخ القفال يجوز؛ لأن المقصود من الاقتداء اكتساب الفضيلة، كما لو أدرك الإمام في التشهد الأخير اقتدى به جاز، فعلى هذا في صلاة الخسوف يتابعه في الركوع الأول، فإذا رفع رأسه خرج عن متابعته، وإذا أدركه في القيام الثاني تابعه في الركوع، وصلى معه تلك الركعة، ويركع معه في الثانية، ثم يخرج عن متابعته، وإذا أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين كان مدركاً للركعة، وفي صلاة الجنازة إذا كبَّر الإمام الثانية خرج عن متابعته حتى قال القفال: إذا اقتدى بمن يسجد شكراً أو تلاوة جاز، وكما كبَّر كبَّر لا يهوي إلى السجود معه، بل يخرج عن متابعته. وتجوز إمامة الأعمى؛ لما روي عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استخلف ابن أم مكتوم يؤمّ الناس، وهو أعمى، والأعمى والبصير سواء في الإمامة. وقال أبو حنيفة: البصير أولى؛ لأنه أحفظ لثوبه عن النجاسات. قلنا: الأعمى أحفظ لقلبه عن التفرُّقات. وتجوز الصلاة خلف الصبي الذي يعقل، والبالغ أولى منه، وكره عطاء، والشعبي، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة إمامة الصبي. وتجوز إمامة العبد، والحرُّ أولى منه؛ لأنه أكمل حالاً، ويجوز اقتداء المقيم

بالمسافر، واقتداء من غسل الرجلين بمن مسح على الخُف، واقتداء المتوضئ بالتيمِّم، والمتوضئ وغاسل الرجل أولى بالإمامة. وقيل: المقيم أولى من المسافر. ولو اجتمع جماعة من العراة فصلّوا جماعة يجوز، ويقف إمامهم وسطهم ليكون أستر قال في القديم: الأولى أن يُصلُّوا فرادى، ولو كان فيهم لابس، فهو أولى بالإمامة، ويقف قدامهم، فلو تقدم عارٍ، واقتدى به اللابس يجوز. وعند أبي حنيفة لا يجوز. ولو اقتدى طاهر بِسَلِسِ البول، أو اقتدت طاهرت بمستحاضةٍ فيه وجهان: أصحهما: يجوز، كما لو اقتدى رجل على ثوبه نجاسة عفوة، أو اقتدى بمن استنجى بالحجر. والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن صلاة الإمام صلاة ضرورة، ولو اقتدى بمربوط على خشبة يصلي بالإيماء إن قلنا: عليه الإعادة لا يصحّ الاقتداء به. وإن قلنا: لا يجب عليه فيصح كالمريض بالإيماء، ولو صلّى خلف جُنُب أو مُحدث أو خلف مَن على ثوبه نجاسة غير معفوة، وهو عالم بحال الإمام لا تصحّ صلاته، وإن اقتدى به، وهو غير عالم بحاله، فلما فرغ علم، لا تجب عليه الإعادة، سواء كان الإمام عالماً بحالة يتعمَّد الإمامة، أو كان جاهلاً، هذا قول أكثر أهل العلم؛ لما روي عن عمر بن الخطَّاب- رضي الله عنه- أنه صلَّى بالناس، ثم رأى على ثوبه أثر احتلام، فاغتسل وأعاد الصَّلاة، ولم يأمر القوم بالإعادة. وقال حمَّاد، وأبو حنيفة: تجب الإعادة، وروي ذلك عن عليٍّ- رضي الله عنه-. وقال مالك: إن كان الإمام عالماً بحدِثِهِ، فتعمَّد الإمامة لا تصح صلاة القوم خلفه. وتكره إمامة من يلحن في القراءة، ثم ينظر إن كان لحناً لا يحيل المعنى بأن نصب الدَّال من "الحمد" ورفع الهاء من "لله" صحّـ صلاته، وصلاة من اقتدى به. وإن كان لحناً يحيل المعنى، أو يعطّله، نظر إن كان يطاوعه لسانه، ويمكنه التعلم لا تصح صلاته، ولا صلاة من خَلفه، كما لو تكلم في صلاته، وإن كان في الفاتحة، فصلاة من هو في مثل حاله خلفه صحيحة، ومن لم يكن في مثل حاله وإن كان لا يطاوعه لسانه فصلاته صحيحة، ثم كان ذلك في غير الفاتحة فصلاة القوم خلفه صحيحة فاقتداؤه به كاقتداء

القارئ بالأمِّي، وذلك إذا كان الإمام أرتَّ، وهو الذي يبدل الرَّاء بالتاء، أو ألثغَ، وهو الذي يبدل السين بالثاء، تصح صلاة من هو في مثل حاله خلفه. ولو اقتدى بأحدهما من هو صحيح اللسان، أو الأرثّ مع الألثغ اقتدى أحدهما بالآخر، فهو كاقتداء القارئ بالأُمي؛ لأن كل واحد أمي في الحرف الذي لا يحسنه، ويكره إمامة التمتام والفأفاء، ولكن تصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما لا يبدلان حرفاً بآخر، وهل يجوز اقتداء القارئ بالأمي؟ فيه قولان: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة، وهو قوله الجديد- لا يصح؛ لأن الإمام ناقص، كما لو اقتدى رجل بامرأة لا تصح. وقال في القديم: يجوز؛ لأن القراءة رُكن من أركان الصلاة، فيجوز للقادر عليه أن يقتدي بمن هو عاجز عنه كالقيام يجوز للقائم أن يقتدي بالقاعد. ونعني بالأُمي من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، وإن كان يحسن جميع القرآن سواها، وبالقارئ من يحسن الفاتحة وإن كان لا يحسن غيرها من القرآن، وهذا في أمي لا يطاوعه ولكن لم يأت عليه من الزمان ما يمكنه فيه التَّعلُّم، وإن مضى عليه زمان إمكان التعلُّم، فلم يتعلم عليه أن يصلي لحقِّ الوقت، ولا يصح الاقتداء به؛ لأن صلاته بشرط الإعادة كالمقيم إذا لم يجد ماء، فصلّى بالتراب أو من لم يجد ماءً ولا تراباً فصلى لحقِّ الوقت لا يصح الصلاة خلفه. ولو أن رجلين كل واحد منهما يحسن نصف الفاتحة اقتدى أحدهما بالآخر، هل تصح صلاة المأموم؟ نظر إن كان كل واحد يحسن ما يحسن صاحبه يصح الاقتداء، وإن كان أحدهما يُحسن النصف الأول والآخر النصف الآخر، فلا يصح على أصحِّ القولين. ولا يصح اقتداء الرجل بالمرأة لنقصان المرأة قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ألا لا تؤمَّنَّ امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً".

ويجوز اقتداء المرأة بالرجل، وبالمرأة، ويجوز اقتداء المرأة بالخُنثى المشكل، وإذا أم خنثى النساء، يتقدم عليهن؛ لاحتمال أنه رجل، ولا يجوز اقتداء الرجل بالخنثى؛ لاحتمال أن الخنثى امرأة، فلو فعل يجب على الرجل الإعادة، فإن لم يُعِد حتى بان الإمام رجلاً هل تسقط الإعادة عنه؟ فيه قولان. وكذلك لا يجوز اقتداء الخنثى بالخنثى، لاحتمال أن الإمام امرأة، والمأموم رجل، وإذا اقتدى به يجب على المأموم الإعادة، فلو لم يعد حتى بانا رجلين أو امرأتين، أو بان الإمام رجلاً فهل يسقط الإعادة؟ فيه قولان: أصحهما: لا تسقط؛ لأن الاقتداء لم يكن صحيحاً لاشتباه الحال. والثاني: تسقط اعتباراً بما ظهر من بعد، وكذلك لا يجوز اقتداء الخنثى بالمرأة؛ لاحتمال أن الخنثى رجل، فلو فعل ولم يُعِد حتى بان الخنثى امرأة، فعلى القولين. ولو صلى خلف إنسان ظنه رجلاً فبان امرأة أو خنثى يجب عليه الإعادة، وكذلك لو ظنَّه قارئاً فبان أمياً على قولنا: إن الصلاة خلف الأمي لا تصح، وكذلك لو بان مجنوناً وكذلك لو بان الإمام كافراً تجب الإعادة، بخلاف ما لو بان الإمام محدثاً أو جُنباً لا إعادة على المأموم؛ لأن الحدث ليس بنقض، ولأن الطهارة والحدث يتعاقبان، فقد يكون الرجل طاهراً، فيحدث من غير أن يطلع عليه، فلم ينسب المقتدي إلى التَّفريط، بخلاف الكُفر، فإن الغالب أن صاحبه يظهره، ومن كان على دين لا يتركه، فانتسب المقتدي إلى التفريط، بترك التفحُّص، فإن كان كفراً يسترُ كالزَّندقة، وكُفر القرامطة والدَّهرية ففي وجوب الإعادة وجهان:

أصحهما: لا إعادة عليه؛ لأنه قلَّ ما يطلع عليه، فإن صاحبه لا يظهره، وكذلك إن بان مرتداً؛ لأن المرتد يخفي كفره خوفاً من القتل، فإن كان قد علمه مرتداً فنسي تجبُ الإعادة، وإمامة الكافر لا تكون إسلاماً. وعند أبي حنيفة إن صلى إماماً في الحضر يكون إسلاماً. قلنا: لو كان إسلاماً لكان لا يفرق الحكم بين أن يفعله إماماً أو في جماعة أو وحده، كما إذا أتى بكلمة التَّوحيد يحكم بإسلامه، سواء أتى بها في جماعة أو وحده، وعكسه الصوم وأداء الزكاة لا يكون إسلاماً على أي وجه فعلها، ويجوز الصلاة خلف الفاسق وتكره. وروي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلاة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر". ويجوز خلف ولد الزنا، وغيره أولى منه، ويجوز خلف أهل البدع والأهواء، والصلاة خلف المبتدع أشد كراهية منها خلف الفاسق؛ لأن فسق الفاسق يفارقه في الصلاة، واعتقاد المبتدع لا يفارقه، ويجوز خلف المخالفين في الفروع، ولا يكره حتى تجوز صلاة الشافعي خلف الحنفيّ، ولو صلى الحنفي على وجه، لا يراه الشافعي بأن أبدل الفاتحة بغيرها، أو لم يعتدل عن الركوع والسجود أو مس فرجه أو لمس امرأته، ولم يتوضأ، وعلمه الشافعي فاقتدى به هل يصح أم لا؟ قال الشيخ القفال: يصح اعتباراً باعتقاد الإمام؛ لأنا لا نقطع بخطئه. وقال الشيخ أبو حامد: لا تصح اعتباراً باعتقاد المأموم؛ لأنه يعتقد فساد صلاة الإمام. ولو صلى الحنفي على خلاف مذهبه بأن افتصد ولم يتوضأ، أو توضأ بما دون قُلّتين وقعت فيه نجاسة، فصلّى، هل يصح اقتداء الشافعي به؟.

على قول الشيخ القفال لا يصح اعتباراً باعتقاد الإمام. وعلى قول الشيخ أبي حامد يصح اعتباراً باعتقاد المأموم. ولو صلى شافعيٌّ صلاة الصبح خلف حنفي فإن مكث الحنفي بعد الركوع قليلاً قنت المأموم، وإن لم يمكث ليس له أن يشتغل بالقنوت، بل يتابعه، ثم سواء قنت أو لم يقنت هل يسجد للسهو إذا سلّم الإمام؟ إن اعتبرنا اعتقاد الإمام لا يسجد، وإن اعتبرنا اعتقاد المأموم يسجد؛ لأن اعتقاد المأموم أن الإمام لزمه سجود السهو بترك القنوت ولحقه سهوه، وعلى عكسه لو صلى الحنفيّ خلف شافعي، فلو وقف مع الإمام قائماً حتى قنت لا تبطل صلاته، ولو ترك الإمام القنوت ساهياً يسجد للسهو، ويتابعه المأموم، فلو ترك الإمام سجود السهو، على المأموم أن يسجد إن اعتبرنا اعتقاد الإمام يسجد، وإن اعتبرنا اعتقاد المأموم فلا يسجد. فصلٌ روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلمنا يقول: "لا تبادروا الإمام إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعُوا، فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". يجب على المأموم متابعة الإمام، وهو أن يجري على أثره في الأفعال متأخراً عنه قال البراء بن عازب: كنا نصلي خلف النبي- صلى الله عليه وسلم- فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحنِ أحد منا ظهره حتى يضع النبي- صلى الله عليه وسلم- جبهته على الأرض. فإذا أتى بالأفعال مع الإمام يكره، وتفوته فضيلة الجماعة؛ لأنه مأمور بالمتابعة لا بالموافقة، ولكن تصح صلاته إلا تكبيرة الافتتاح، فإنه لو ابتدأها قبل فراغ الإمام منها لم يصح اقتداؤه به، ولو بدأ السلام معه فيه وجهان. ولو تقدّم على الإمام بأن ركع قبلهُ أو سجد قبله لم يجز؛ لما روي عن أبي هريرة قال

محمد- صلى الله عليه وسلم-: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحوِّل الله رأسه رأس حمار. فلو أنَّ المأموم خالف الإمام، لا يخلو إما أن خالفه بالتقدم عليه، أو بالتأخر عنه، فإن خالفه بالتقدم عليه، نظر إن لم يسبقه برُكن كامل لا تبطل صلاته، مثل أن كان الإمام في القيام، فركع قبله، ولم يرفع حتى ركع الإمام، أو كان الإمام في الاعتدال عن الركوع، فسجد المأموم قبله، ولم يرفع حتى سجد الإمام لا تبطل صلاته؛ لأنها مخالفة يسيرة. ثم إن ركع، أو رفع قبل الإمام عمداً، لا يجوز أن يعود، فإن عاد بطلت صلاته؛ لأنه زاد ركناً، فإن رفع رأسه سهواً بأن سمع حساً ظن أن الإمام رفع رأسه فرفع، هل يجب أن يعود؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب حتى لو لم يُعِد بطلت صلاته، كما لو رفع رأسه لينتقل يجب عليه أن يعود. والثاني: وهو الأصح لا يجب، بل إن شاء عاد، وإن شاء لم يُعِد بخلاف ما لو رفع رأسه لينتقل يجب أن يعود؛ لأنه لم يقطع الرُّكن، فلو كان هو في العود فرفع الإمام رأسه. قال الشيخ: على الوجه الأول يضع جبهته، وعلى الوجه الآخر، وهو الأصح إن شاء وضع جبهته، وإن شاء عاد مع الإمام. أما إذا سبق الإمام بركن كامل مقصود عمداً، مثل أن ركع قبل الإمام، فرفع رأسه، والإمام بعد في القيام بطلت صلاته، وكذلك لو كان الإمام في الاعتدال عن الركوع، فسجد المأموم قبله، ورفع بطلت صلاته. ولو سبقه بركن غير مقصود، مثل أن كان الإمام في الركوع، فرفع قبله وسجد، أو كان الإمام في السجود الأول، فرفع قبله، وسجد الثانية هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان:

أحدهما: تبطل؛ لأنه سبقه بركن كامل؛ لأن الاعتدال عن الركوع والقعود بين السجدتين ركنان في الصلاة. والثاني: وهو المذهب لا تبطل صلاته؛ لأن الاعتدال عن الركوع تبعٌ للركوع، والقعود بين السجدتين تبع للسجود، وهو لم يسبقه بركن مقصود، كما لو رفع أو سجد قبله، ولم يزد عليه لا تبطل صلاته، هذا إذا خالف الإمام بالتقدم عليه. أما إذا خالفه بالتخلف عنه، لا يخلو إما أن يتخلف عنه بغير عذر أو بعذر، فإن تخلف بغير عذر، مثل أن ركع الإمام، وهو في خلال قراءة السورة، عليه أن يقطعها أو يتابعه، فإن لم يفعل أو اشتغل بتسبيحات الركوع والسجود حتى سبقه الإمام، فهو كما لو تقدم على الإمام. فإن سبقه الإمام بركن كامل مقصود، مثل أن ركع، ورفع، وهو بعد في القيام أو سجد ورفع، وهو بعد في الاعتدال بطلت صلاته. وقيل: لا تبطل صلاته حتى يشتغل الإمام بركن آخر مقصود، مثل أن يدوم في القيام حتى يركع، ويرفع ويسجد، أو يدوم في الاعتدال عن الركوع حتى يسجد الإمام، ويرفع ويسجد الثانية، حينئذ تبطل صلاته، وهذا القائل يقول: يشترط أن يسبقه الإمام بركنين، ولا يشترط فراغه من الركن الثاني، بخلاف المأموم إذا سبق الإمام بركن كامل تبطل صلاته؛ لأن من شرط المأموم أن يجري على أثر الإمام، فتخلُّفه عنه بركن واحد لا يضر، ولا يجوز له التقدم عليه، فإذا تقدم بركن كامل بطلت، وإن سبقه بركن غير مقصود بأن دام في الركوع حتى رفع الإمام وسجد، أو دام في السجود حتى رفع الإمام رأسه وسجد الثانية، فالمذهب أن صلاته لا تبطل؛ لأن الإمام لم يسبقه بركن مقصود، كما ذكرنا في تقدم الإمام. أما إذا تخلف عن الإمام بعذر بأن كان بطيء القراءة، فرفع الإمام، وهو في خلال الفاتحة، عليه أن يتمَّها، أو زُحِم عن بعض الأركان حتى سبقه الإمام، عليه أن يجري على أثره ما لم يسبقه بثلاثة أركان مقصودة، ولا يحسب فيها الاعتداء عن الركوع والقعود بين السجدتين على ظاهر المذهب، فإن زاد على ثلاثة أركان ففيه وجهان: أحدهما: أن يجري على أثره أبداً، ويراعي نظر صلاة نفسه؛ لأنه معذور.

والوجه الثاني: الذي حُكي لنا أنه يخرج عن متابعته: لأن الاقتداء للموافقة، ولا يمكنه موافقة الإمام. قال الشيخ: وهو صاحب الكتاب: الخروج عن المتابعة ثابت [له]، ويكون كمن خرج عن متابعة الإمام بالعذر، فإن اختار المقام على متابعته يجوز، ثم فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أنه يجري على متابعته. قال الشيخ: والثاني: أن يوافق الإمام في الركن الذي هو فيه، ثم يقضي ما فاته بعد ما سلّم الإمام، وهذا أصح كما قال الشافعي في الجمعة: إذا ازدحم المأموم عن السجود في الركعة الأولى، فلم يمكنه السُّجود حتى ركع الإمام في الثانية، ثم أمكنه السجود ففيه قولان: أحدهما: يشتغل بالسجود. والثاني: وهو الأصح يتابع الإمام في الركوع، ثم إذا سلَّم الإمام يقضي ركعة، كذلك ها هنا، وإذا سمع المسبوق بركعة حساً ظنَّ أن الإمام قد سلم فقام، وقضى ركعة، ثم بان الإمام لم يسلم لم يحسب له تلك الركعة، فإذا سلم الإمام قام وقضى ركعة، ولا يسجد للسهو؛ لأنه كان خلف الإمام، فلو سلم الإمام وهو قائم هل يقعد أو يمضي؟ فيه وجهان. وفائدته: أنه لو لم ينتبه لتسليم الإمام في حال قيامه حتى صلى ركعة إن قلنا: عليه القعود لم تحسب له تلك الركعة، وإلا حسبت. فإن قلنا: لا تحسب له تلك الركعة يسجد للسهو؛ لأنه زاد في صلاته بعد تسليم الإمام. وإن قلنا: تحسب، فلا سجود عليه. ولو سها الإمام في صلاته، فإن كان سهوه في قراءة فتح المأموم عليه، وجهر به حتى سمعه الإمام، وإن كان في فعل تركه سبَّح ليعلم، فإن لم يقع للإمام أنه سها، كأنه قام إلى ركعةٍ، وعنده أنها رابعته، وعند المأموم أنها خامسته، فنبهه لا يعمل الإمام بقول المأموم، لأنه شك في فعل نفسه، فلا يأخذه بقول غيره، كالحاكم إذا نسي حكمه، فشهد عنده شاهدان لا يأخذ به. وقيل: إذا كان في القوم كثرة يركن القلب إليهم يقلدهم الإمام، وكذلك هل يُقلد

بعض المأمومين بعضاً؟ فيه وجهان إذا ثبت أن الإمام لا يأخذ بقول المأموم، فالمأموم هل يتابعه أم لا؟. نظر إن كان سهو الإمام في ترك فرض بأن قعد وفرضه القيام، أو قام وفرضه القعود لا يجوز أن يتابعه؛ لأنه إنما يلزمه المتابعة في أفعال الصلاة، وما يأتي به ليس من أفعال الصلاة، وإن كان سهوه في ترك سُنَّة مقصودة بأن ترك التشهد الأول، أو القنوت، عليه متابعته؛ لأن متابعته فريضة لا يجوز أن يشتغل عنها بالسُّنَّةِ. وإن نسي التسليمة الثانية، أو سجود السهو لا يتركه المأموم؛ لأنه يأتي به بعد سقوط المتابعة عنه. فصلٌ إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الإمام فأتم صلاته هل تبطل صلاته؟ فيه قولان: أحدهما: تبطل لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه". والثاني: لا تبطل؛ لما روي عن جابر أن معاذاً كان يصلي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم يرجع فيصليها بقومه، فصلى ليلة مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم أتى قومه فأمَّهم، فافتتح سورة "البقرة" فتنحَّى رجل من خلفه، فصلى وحده، فقالوا له: نافقت، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنك أخَّرت العشاء، وإن معاذاً صلى معك، ثم رجع فأمَّنا، فافتتح سورة البقرة، فلما رأيت ذلك تأخَّرت وصلّيت، وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فأقبل النبي- صلى الله عليه وسلم- على معاذ فقال: "أفتّان أنت يا معاذٌ؟ أفتّانٌ أنت يا معاذ؟ اقرأ بسورة كذا" ولم يأمر الرجل بالإعادة لمفارقته الإمام. واختلفوا في محل القولين. منهم من قال وهو المذهب: القولان فيما إذا خرج عن متابعة الإمام بغير عذر، فإن نخرج بعذر بأن كان ضعيفاً لا يصبر على طول القراءة، أو عرض له شغل، أو قام الإمام إلى الخامسة، أو ترك سُنّة مقصودة كالتشهد الأول والقنوت لا تبطل صلاته قولاً واحداً لحديث معاذ. وقيل: القولان فيما إذا خرج لعُذرٍ، فإن خرج لغير عذر تبطل صلاته. وقيل: في الكل قولان. وعند أبي حنيفة: تبطل صلاته بكل حال، والحديث حُجّة عليه. والله أعلم بالصواب.

بابُ موقف الإمام والمأمُوم روي عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، والنبي- صلى الله عليه وسلم عندها، فقام من الليل

يُصلِّي، فقمت عن يساره، قال: فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشِّق الأيمن. إذا كان مع الإمام رجل واحد يقوم على يمين الإمام، وكذلك الصبي، فإن قام عن يساره أو خلفه كُره، وصحّت صلاته. وإن وقف على يساره ولم يعلم، علَّمه الإمام، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم بابن عباس. وإن كان معه رجلان أو رجل وصبي قاما خلف الإمام صفاً واحداً، وإن كان معه امرأة قامت خلف الإمام، وإن كان رجل وامرأة قام الرجل عن يمينه، والمرأة خلفهما وإن كان رجلان، أو رجل وصبي وامرأة، قام الرجلان أو الرجل والصبي خلف الإمام صفاً وقامت المرأة خلفهما؛ لما روي عن أنس قال: صليت أنا ويتيم خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيتنا وأم سليم خلفنا. ولو كان معه رجل وامرأة وخنثى قام الرجل عن يمينه، والخنثى خلفهما، والمرأة

خلف الخنثى، فالخنثى يتخلف عن الرجل؛ لاحتمال أنه امرأة، ويتقدم على المرأة؛ لاحتمال أنه رجلٌ. ولو كان خلفه جماعة من الرجال والنساء والصبيان، يقف الرجال خلف الإمام، ثم الصبيان ثم النِّسوان؛ لقوله عليه السلام: "ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى". وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "خير صفوف الرِّجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرُّها أولها". فلو وقف صبي في صف الرجال، ثم دخل رجل لا ينحِّيه، ولو وقفت امرأة يؤخرها الرجل إذا دخل، ولو وقفت المرأة بجنب إمام الرجال، أو اقتدت به يكره، ولكن تصح صلاته. وقال أبو حنيفة: إذا اجتمعا في الرُّكوع بطلت صلاة الإمام والقوم جميعاً، ولو وقفت في صف الرجال، واقتدت به قال: تصح صلاة الإمام، وصلاة من أمامها وصلاتها، وتبطل صلاة رجل عن يمينها ورجل عن يسارها. وقال في صلاة الجنازة: لا تبطل صلاة أحد، والدليل عليه ما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي صلاته من الليل، وأنا معترضة بينه وبين القِبلة كاعتراض الجنازة. فإذا كان نوم المرأة بين يدي المصلي لا تبطل صلاته، فوقوفها بجنبه مصلّية أولى ألّا تبطل صلاته، ولو تقدَّم المأموم على الإمام فيه قولان: أصحهما: وهو قوله في الجديد- لا تصح صلاة المأموم، لأن هذه المخالفة أبلغ من المخالفة في الأفعال. وقال في القديم، وبه قال مالك: تصح صلاته؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام، وذلك لا يمنع جواز الصلاة، كما لو وقفوا مستديرين بالكعبة يجوز وإن كان بعض المأمومين أقرب إلى الكعبة من الإمام، قلنا: لأن ثمَّ لم يتقدم المأموم

على الإمام في الجهة التي توجَّه الإمام إليها، فصحّت صلاتهم، وها هنا تقدَّم عليه في جهة الإمام فلم يجز، والاعتبار في التقدم بالعقب، فإن تحاذى العقبان، جاز، وإن تقدمت أصابع المأموم، أو موضع جبهته في السجود، وإن تقدم عقب المأموم على الإمام لا يجوز، وإن تأخرت أصابعه، أو موضع سجوده عنه. ولو دخل رجل والإمام في الصلاة مع جماعة لا يقف منفرداً خلف الصف، بل يدخل في الصف إن وجد فُرجة، وإن لم يجد فُرجة في الصف الذي يليه، وفي الصف فُرجة فله أن يخرُق الصف ليقف في الفرجة؛ لأنهم فرّطوا بترك إتمام الصف الأول، ولو لم يجد فُرجة في الصف يجر إلى نفسه رجلاً من الصف يقف معه. فلو وقف منفرداً خلف الصف، واقتدى بالإمام صحّت صلاته. وقال النخعي، وحماد بن أبي سليمان. [وأحمد، وإسحاق]: لا تصح صلاته، والدليل على جوازه ما روي عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف، فذكر ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "زادك الله حرصاً ولا تعُد" فالنبي- صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بالإعادة مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف وحده.

وإن كان مع الإمام رجل واحد واقف على يمينه، فدخل رجل، يتأخر المأموم قليلاً ليقف معه الداخل. وقال الشيخ الإمام القفال: يتقدم الإمام قليلاً؛ لأنه يرى أمامه والمأموم لا يرى خلفه والسُّنَّة ألا يكون موقف الإمام أرفع من موقف المأموم؛ لما روي عن حذيفة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقف في مقام أرفع من مقامهم" أو نحو ذلك. وكذلك لا ينبغي أن يكون موضع المأموم أرفع من موضع الإمام، لأنه إذا كره أن يعلو الإمام فأن يكره أن يعلو المأموم أوَّلي. فإن أراد الإمام تعليم المأمومين أفعال الصلاة فالسُّنة أن يقف على موضع عال؛ لما روي عن سهل بن سعد قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، والناس وراءه، فجعل يصلّي عليه ويركع، ثم يرجع إلى القهقرى فيسجد على الأرض، ثم يعود إلى المِنْبَر، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: "إنما صنعت هذا لتأتمُّوا بي ولتعلموا صلاتي".

والسُّنة للقوم أن يصلوا الصفوف ويتموا الصف الأول، ويقفوا بقرب الإمام، ويختاروا يمين الإمام؛ لما روي عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا تصفُّون كما تصُف الملائكة عند ربِّها" قلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمُّون الصفوف الأولى ويتراصُّون في الصف". وروي عن البراء عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول"، ويروى "إن الله وملائكته يصلون على مَيَامِنِ الصفوف". فإن تباعدت الصفوف، أو بعُد الصف الأول عن الإمام، نظر إن كانوا جميعاً في مسجد واحد، صحت صلاتهم مع الإمام، وإن بعدوا عن الإمام أو اختلف بهم للبناء، وكان بين الإمام والمأمومين حائلٌ بأن كنا الإمام في صُفَّة المسجد، والقوم في صحنه، أو على سطحه، أو في بيت المسجد، أو على المنارة، والمنارة في المسجد، أو كان القوم في الصحن، والإمام في البيت، أو على السطح، تصح صلاتهم إذا علموا صلاة الإمام؛ لأن جميع المسجد موضع الصلاة، وقد جمع الكل. وإن كان بين الإمام والمأموم نهرٌ في المسجد، نظر إن حفر النهر بعد بناء المسجد، فالنهر مسجد لا يمنع الاقتداء، وإن حفر قبله فهما مسجدان غير متصلين، فلا تصح صلاة المأموم حتى يتصل الصف من أحدهما بالثاني، وإن كانوا في غير المسجد، نظر إن كانوا في فضاءٍ مملوك أو موات، فإن كان بين المأموم أو بينه وبين الصف الآخر ثلثمائة ذراع. وأقل،

صحت صلاته خلفه، وأخذ هذا التقدير من صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- بـ "ذات الرقاع" فإنه تنحى عن العدو بطائفة قدر رمية سهم، بحيث لا يصيبهم سهم العدو، فصلى بهم ركعة، ثم انصرفوا إلى وجه العدو في الصلاة، وهم كانوا في مصافّهم في حكم صلاة الإمام. وهذا التقدير على طريق التقدير لا التحديد على ظاهر المذهب، حتى لو زاد ذراعٌ، أو ذراعان، أو ثلاثة يجوز، فإن زاد أكثر لم يجز، وهذه المسافة تعتبر من الصف الأخير، حتى لو وقف خلف الإمام صفوف، وبين كل صفين هذا القدر حتى امتد أكثر من فرسخ، والإمام يطيل الركوع والسجود حتى يتهيأ للقوم متابعته جاز. وإن كان الصحراء بعضه ملكٌ رجل، والبعض ملك آخر، أو بعضه موقوف، فوقف الإمام في ملك هذا، والمأموم في ملك ذاك، أو في الوقف جاز، وإن لم يتصل الصف، وكذلك السطوح المستوية بعضها ملك رجل، والبعض ملك آخر، أو سطوح أبنية مختلفة. وقيل: يشترط اتصال الصفوف من أحد الملكين بالثاني، وليس بصحيح. ولو وقف الإمام على صعود في الصحراء، والمأموم في هبوط، أو على عكسه، يجوز إذا لم يكن بينهما أكثر من ثلثمائة ذراع، كما لو وقف بعضهم على دكَّةٍ، والبعض نازلاً عنها، جاز والطريق بين الصفين في الصحراء لا يمنع الاقتداء؛ لأن الصحراء كله طريق. وإن كان بين الإمام والقوم أو بين الصَّفين نهر إن كان النهر صغيراً، بحيث يمكن الوثوب إلى الجانب الآخر لا يمنع الاقتداء، وإن كان كثيراً بحيث لا يعبر إلا بالقنطرة فعلى وجهين: أصحهما: وهو المذهب لا يمنع الاقتداء كالسفينتين في البحر وقف الإمام في إحداهما، والمأموم في الأخرى يجوز، وإن كان بينهما ماء. والثاني: يمنع إلا أن يكون عليه قنطرة، أو كان الماء قليلاً يمكن الوقوف في وسطه؛ لأنه حينئذ لا يمنع الاستطراق. وإن أقيمت الجماعة في دار ينظر إن جمعت الإمام والمأموم بقعة واحدة من صحن، أو صُفَّة، أو بيت جاز الاقتداء على ثلثمائة ذراع من غير اتصال كالصحراء، وإن كان في الصَّحن دكّة أو سرير، وقف أحدهما عليه، والآخر نازلاً عنه جاز. وإن اختلف بهما البناء، فلابد من اتصال الصف من أحد البناءين بالثاني، مثل أن كان الإمام في الصحن، وبعض المأمومين في صُفَّة على يمين الإمام، أو على يساره، يشترط أن يقف رجل في الصحن متصلاً بالصُّفَّة، ورجل على طرف الصفة متصلاً بمن في الصحن،

بحيث لا يكون بينهما موقف رجل، فإن كانت الفُرجة بينهما يسيرة بحيث لا تسع لموقف رجل لا يمنع الاقتداء، ثم كل من وقف في الصفة على ثلثمائة ذراع تصح صلاتهم، تبعاً لمن حصل به الاتصال. ولو وقف في الصُّفة رجل، أو جماعة قدَّام من حصل به الاتصال، واقتدى بالإمام في الصحن لا يجوز، وإن كان خلف الإمام؛ لأن صلاة من في الصفة إنما تصح تبعاً لمن حصل به الاتصال، فلا يجوز أن يتقدّم عليه، وإن وقف خلفه من حصل به الاتصال يجوز، حتى فرَّع القاضي رحمه الله قال: لو كبَّر من في الصُّفة بعد تكبير الإمام، وقبل أن يكبر من حصل به الاتصال لا تصح. قال الشيخ: لأن المبادرة بالتكبير أبلغ في المخالفة من التقدم في الوقوف، وإن كانت الصُّفة التي وقف فيها المأموم وراء الإمام، فيشترط أن يقف رجلٌ أو صف في آخر الصحن متصلاً بالصُّفة، وصفّ في أول الصفة، بحيث لا يكون بينهم وبين مَن في الصحن أكثر مما يكون بين الصفين من ذراعين أو ثلاثة أذرع، وهو قدر إمكان السجود، ثم لو كان في الصفة بيت، ووقف بعضهم في البيت يشترط اتصال الصف من الصُّفة بالبيت، وهو أن يقف رجل في الصفة، ورجل في البيت متصلين بالعتبة، وإن كانت العتبة عريضة تسع لموقف رجل، فلا يحصل الاتصال حتى يقف عليها رجل متصل برجل في الصُّفة، ولا يشترط اتصال صف البيت والصفة بالواقفين بجنب العتبة. ولو وقف بعضهم على سطح، أو على طرف صُفَّة مرتفعة، والإمام في الصَّحن، نظر إن كان ارتفاعه بحيث لا يحاذي رأس من في الصحن رجل مِن على السطح لم يصح اقتداء مَن على السطح به، وإن كان حضيضاً بحيث يُحاذي رأس من في الصحن رجل من على السطح جاز إذا حصل الاتصال، وهو أن يقف رجل على طرف السطح، ورجل في الصحن متصلاً به، وحكم المدارس والخانات والرِّباطات حكم الدُّور. وذكر العراقيون من أصحابنا أن اختلاف البناء لا يمنع الاقتداء في شيء، كما في المساجد، إلا أن يكون بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، فإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة كالشباك، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز للحائل الذي يمنع الاستطراق.

والثاني: يجوز؛ لأنه يشاهدهم، كما لو كان معهم. وإن كانوا في البحر، والإمام في سفينة، والمأموم في أخرى، نظر إن كانتا مكشوفتي الرأس صح الاقتداء، إذا كان بينهما ثلثمائة ذراع كالدِّكَّتين في الصحراء، غير أن المستحب ألا يقتدى به، حتى تكون إحدى السفينتين مشدودة بالأخرى، أو كان الريح رخاءً، بحيث يأمَنُ من تقدم سفينة المأموم، فإن اقتدى به، ثم تقدمت سفينة المأموم بطلت صلاته، إلا أن يرد في الحال كالدَّابَّة التي يصلي النافلة عليها إذا خرجت عن الطريق، وإن كانت السفينتان مسقفتين، يشترط اتصال الصف من إحداهما بالأخرى كالبيتين، والسفينة الكبيرة التي فيها بيوت كالدار، وحكم السُّرادقات في الصحراء حكم السفن المكشوفة في البحر، والخيام كالبيوت. ولو وقف الإمام في المسجد والمأموم خارج المسجد في فضاء غير مملوك من مواتٍ متصل بالمسجد، وفي حريم المسجد، وهو موضع متصل بالمسجد لمصلحة يطرح فيه الثلج والقمامة، فلا يكون مسجداً تصح صلاة المأموم وإن لم يتصل به الصف من المسجد؛ لأنه كالمسجد في الإباحة، وإنما يجوز بشرطين: أحدهما: ألا يكون بينه وبين المسجد حائل. والثاني: أن يقف على ثلثمائة ذراع فأقل وتعتبر ثلثمائة ذراع من آخر خط المسجد على ظاهر المذهب؛ لأن المسجد مبني للصلاة، ولذلك جوَّزنا صلاة المأموم فيه، وإن بعد عن الإمام. وقال صاحب "التلخيص": يعتبر من آخر صف المسجد، وإن لم يكن في المسجد غير الإمام، وإن كان للمسجد حريم، ووراءه مواتٌ، فوقف المأموم في الموات يجوز على ثلثمائة ذراع، ويعتبر من آخر خطة المسجد على الوجه الأصح. وقيل: من الحريم. وقيل: من آخر صف في المسجد. وإن كان الموات والحريم منفرداً عن المسجد بجدار. نظر إن كان للمسجد باب مفتوحٌ ووقف المأموم في مقابلة الباب على ثلثمائة ذراع جاز، ثم لو اتصل، وخرجوا عن محاذاة الباب لا يضر، وإن لم يكن ثمَّ باب، أو كان مردوداً، أو لم يقف أحد في مقابلة الباب لم يصح الاقتداء والدرائز الصغير لا تمنع الاقتداء، والحجَلَةَ الكبيرة التي تمنع الاستطراق تمنع الاقتداء وإن كان يرى الناس في المسجد، وإن كان الفضاء المُتصل بالمسجد مملوكاً فوقف المأموم فيه، أو وقف في طريق متصل بالمسجد، فلا يصح حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء، والطريق؛ لأنه يفارق المسجد بخروجه عن الإباحة.

وكذلك لو وقف الإمام على سطح المسجد، والمأموم على سطح متصل به يشترط اتصال الصف من سطح المسجد بالسطح المملوك، فإن لم يتصل لم يجز، ولأنه لم يجمعهم حرمة المكان، ولا حرمة الاتصال. وكذلك لو وقف المأموم في دار مملوكة بجنب المسجد يشترط اتصال الصف، وهو أن يقف رجل في آخر المسجد متصلاً بعتبة الدار، وآخر في الدار متصلاً بالعتبة، بحيث لا يكون بينهما موقف رجل، فإن لم يكن كذلك لا يجوز. روي عن عائشة أنها قالت لنسوة يصلين في حجرتها: لا تصلِّين بصلاة الإمام فإنَّكُن دونه في حجاب. وإن كان بجنب المسجد فضاء غير مملوك، ووراء الفضاء ملك، فوقف واحد في الفضاء على ثلثمائة ذراع يجوز، فإن وقف واحد في المِلك يشترط اتصال الصف من الفضاء بالمِلك. ولو وقف الإمام في المسجد، والمأموم على سطح بجنب المسجد، غير سطح المسجد، نظر إن كان الجدار للمسجد، فوقف عليه رجل، ووقف بجنبه غيره، حتى خرج إلى السطح الملك جاز، وإن لم يكن الجدار للمسجد، فلا يجوز إلا أن يكون السطح حفيضاً بحيث يحاذي رأس من في المسجد رجل من على السطح، ووقف واحد من المسجد بجنب السطح، وآخر على طرف السطح، بحيث لا يكون بينهما موقف رجل، وكذلك لو وقف في سرداب مملوك بجنب المسجد، ولو وقف على جبلٍ مشرفٍ على المسجد، بحيث ترى صلاة الإمام، أو للقوم في المسجد، وهو في مواتٍ، نظر إن لم يكن بين المسجد، وبين موقفه ملكٌ جاز على ثلثمائة ذراع، وإن كان بينهما مواضع مملوكة لم يجز إلا باتصال الصف. وكذلك لم يجوِّز الشافعي الصلاة على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد؛ لأن بينهما دوراً وحوائل والله أعلم. باب صفة الأئمة روي عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً، ولا يؤمَّ الرَّجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس في بيته على تكرُمته إلا بإذنه.

الخصال المعتبرة في الإمامة ستَّة: الورع، والفقه، والقراءة، والهجرة، والسن، والنسب، فالمكتسب من هذه الخصال، الورع، والفقه، والقراءة والسن والهجرة مقدمة على غير المكتسب وهو السن، والنسب. ومن الخصال المكتسبة تقدم الورع حتى إن الأورع الذي يحسن فرائض الصلاة أولى بالإمامة من الأفقه والأقرأ؛ لأن الإمامة سفارَّةٌ بين الله وبين الخلق، فأولاهم بها أكرمهم عند الله- تعالى- يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فإن استويا في الورع، فالأفقه أولى من الأقرأ، وهو قول عطاءٍ ومالك، والأوزاعي. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق: الأقرأ أولى لظاهر الحديث. قلنا: إنما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- الأقرأ: لأن الصحابة كانوا يتعلمون العلم أولاً، ثم القرآن، فقرَّاؤهم كانوا فقهاء، وفي زماننا يتعلمون القرآن أولاً، ثم يتعلمون الفقه، فلا يكون كل قارئ فقيهاً وإنما قدمنا الفقه على القراءة؛ لأن ما يجوز به الصلاة من القراءة محصور، وما يقع من الحوادث في الصلاة لا يحصى، فالفقيه أهدى إليها، وأعرف بها من القارئ، فإذا استويا في الفقه، فالأقرأ أولى ممن هو أقدم هجرة وإسلاماً، فإذا استويا في القراءة، فالذي هو أسلم، وهاجر أولاً أولى من الأسنِّ والأنسب، وكذلك المسلم الأصلي أولى من الذي أسلم بعد الكُفرِ، فإن استويا في الإسلام والهجرة، فالأسنّ والأنسب أولى، فإن كان أحدهما أسنَّ، والآخر أنسب بأن كان شيخ عجمي، وشاب قرشي، ففيه قولان. في الجديد: الأسن أولى؛ لما روي عن مالك بن الحويرث قال: قال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبرُكم".

ولأن السن فضيلة في نفسه، والنَّسب في آبائه. وقال في القديم النسب أولى؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، وقال: "قدموا قريشاً". وإن استويا في السن والنسب، ولكن أحدهما أقدم إسلاماً، فهو أولى من الآخر، فإن كان الآخر أسنّ وأنسب، ففيه قولان: أحدهما: الذي أبوه أقدم إسلاماً أولى، كما لو أسلما بأنفسهما. والثاني: الأسنّ والأنسب أولى؛ لأنه فضيلة في ذاته، ثم بعد هذه الخصال يقدم من فيه زيادة فضيلة من نظافة الثوب، وطيب الصناعة، وحسن الصوت، وحسن الوجه ونحوهما، وإذا اجتمع هؤلاء، والسُّلطان أو نائبه حاضر، فهو ومن قدمه أولى من غيره، وإن كانت هذه الخصال في غيره، كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج. وإذا اجتمع مع إمام المسجد، فإمام المسجد أولى، كان لابن عمر مولىً يصلي في مسجد، فحضر فقدمه مولاه فقال ابن عمر: أنت أحقُّ بالإمامة في مسجدك. وإذا اجتمع هؤلاء في دار إنسان، فصاحب الدَّار أولى بالإمامة منهم. قال ابن مسعود: من السُّنة ألا يؤمَّهم إلا صاحب البيت، ويعني بصاحب الدار ساكن الدَّار، سواء كان يسكنها بإجارة أو عارية حُرّاً كان أو عبداً، حتى لو اجتمع مالك الدَّار مع المستأجر، أو المستعير، فالمستأجر والمستعير أولى بأن يتقدّم، أو يقدم من شاء، ولا يتقدم غيره بغير إذنه، فإن كان يسكنها عبد وسيده حاضر، فالسيد أولى. وإن كان العبد مأذوناً في التجارة، فإن كان العبد مع غير السيد، فالعبد أولى، وإن كان الدار للكاتب وسيِّده حاضر، فالمُكاتب أولى، وإن كانت الدار مشتركة بين رجُلين، فإن كان أحدهما حاضراً فهو أولى، وإن كانا حاضرين لا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما، ولا يتقدم أحدهما إلا بإذن الآخر، وإن كان أحدهما حاضراً، والمستعير من الآخر فهو كحضورهما. وإذا كان السُّلطان أو نائبه حاضراً، أو الحاكم، فهو أولى من صاحب البيت بالتقدم

والتقديم، والخليفة أولى ممن دونه من الوُلاة. وروي عن أبي أُمامة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا تُجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخطٌ، وإمام قومٍ وهم له كارهون". وهذا إذا كره القوم إمامته لمعنى غير محمود في الشرع مثل أئمة الظلم، أو من يغلب عليها، وهو غير مستحق لها، فإن لم يكن شيء من ذلك، وكان مستحقاً للإمامة، فاللوم على من كرهه، وإن كرهه بعض القوم، نظر إن كرهه الأقل، فلا تكره إمامته حتى يكرهه أكثر القوم؛ لأن أحداً لا يخلو ممن يكرهه. والله أعلم. باب صلاة المسافر قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] الآية. روي عن يعلى بن أُميَّة قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس، فقال عمر: عجبت مما عجبت، فسألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".

رخص السفر ثمانية: أربعة منها لا يجوز إلا في السَّفر الطويل، وهي قصر الصلاة، والفطرُ في شهر رمضان، والمسحُ على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن، والجمع بين صلاتين. وأربعة يجوز في السَّفر الطويل والقصير جميعاً، وهو التيمُّم عند عدم الماء، وأكلُ الميتة، وترك الجمعة، وصلاة النَّافلة إلى الطريق على أصح القولين. وحدُّ السفر الطويل هو ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، فتكون خمسة عشر فرسخاً وثلث، كل ثلاثة أميال فرسخ. وقال في موضع: ثمانية وأربعون ميلاً، فتكون ستة عشر فرسخاً، وهو الاحتياط وقال

في موضع: أربعة برد، وكل بريد يكون أربعة فراسخ، ويكون ذلك مسيرة يومين. وقال الثوري، وأبو حنيفة: حدُّ السفر الطويل مسيرة ثلاثة أيام، ودليلنا ما روي عن ابن عمر، وابن عباس أنهما كانا يصليان ركعتين يفطران في أربعة برد. وقال عطاء لابن عباس: اقصُر إلى "عرفة" قال: لا ولكن إلى "جدة" "وعسفان" والطائف". قال مالك: بين "مكة" "والطائف" "وجدة" "وعسفان" أربعة برد، ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والرحال، وفيما دونه لا تتكرر. قال الشافعي- رضي الله عنه-: وأحب ألا يقصر في أقل من ثلاثة أيام، إنما قال ذلك للخروج عن الخلاف، ولا فرق بين أن يكون سفره في برٍّ أو بحر، والخوف ليس بشرط لجواز القصر. قال ابن عباس: سافر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين "مكة" "والمدينة" آمناً لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين. والقصرُ والفِطر رخصتان يجوز أن يتم الصلاة، ويصوم رمضان، وهو قول عثمان، وابن مسعود؛ لما روي عن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قصر الصلاة،

وأتم، إلا أن الصوم أفضل من الفطر إذا كان لا يجهده الصوم. أما الصلاة ففيها قولان: أحدهما: إتمامها أفضل كالصوم. والثاني: وهو الأصح القصر أفضل؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- "فاقبلوا صدقته" ولأن فيه قبول الرخصة مع فراغ الذمة، بخلاف الصوم، فإنه إذا أفطر تبقى ذمته مشغولة بالقضاء، وغسل الرِّجل أفضل من المسح على الخف؛ لأن المسح على الخف بدل، والإتيان بالأصل أولى، كما لو وجد في السفر ما يباع بأكثر من ثمن المثل، له أن يصلي بالتيمم، فلو اشترى الماء وتوضأ كان أفضل. وقال أكثر أهل العلم: القصر واجب في السفر لا يجوز الإتمام، وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، وابن عباس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة- أن فرض المسافر ركعتان، حتى لو صلَّى أربعاً لا تصح صلاته. وعند أبي حنيفة: إن لم يقعد في الثانية بطلت، وإن قعد فالأخريان نفل. قال الشافعي: وأكره ترك القصر رغبة عن السُّنة، أراد به إذا كان يجد الرجل في نفسه من القصر، كراهية، فيواظب على الإتمام، يكره له الإتمام، وكذلك المسح على الخفَّين، وسائر الرخص إذا كان يثقل عليه، فالأولى أن يأخذ بالرخصة حتى تزول عنه تلك الكراهية، ثم إن شاء أخذ بالعزيمة، ولا يجوز القصر إلا في صلاة الظهر والعصر والعشاء بردّها إلى ركعتين، أما صلاة الصبح والمغرب، فلا يقصران؛ لأنه لم يرد به الشرع. والمقيم إذا نوى السفر يصير مسافراً لمجرد النية، ولا يجوز له أن يترخص حتى يخرُج؛ لأن الله- تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء: 101] علق جواز القصر على الضرب في الأرض، بخلاف المسافر إذا نوى الإقامة في موضع الإقامة يصير مقيماً، وإن لم يمسك عن المشي؛ لأن الأصل في الإنسان الإقامة، فيعود إليها بمجرد النيَّة، والسفر عارض لا يثبت حكمه إلا وجود فعل السفر، نظيره مال القُنُية لا يصير للتجارة بالنيَّة حتى ينضم إليها التصرف، وينقطع حكم التجارة بمجرد نيَّة القُنْية. ويجب أن ينوي الخروج إلى مسافةٍ يقصر فيها الصلاة، ويفارق بنيان البلد أو القرية

التي فيها، والمواضع المنسوبة إليها من السور والمقابر المتصلة بها حتى يجوز له القصر، وإذا بلغ خرابات البلد، فإن كان وراءها عمران، فحتى يفارقها، وإن لم يكن وراءها عمران، فله أن يقصر فيها؛ لأنها صارت مهجورة، ولا يجوز الجمعة فيها، ولا يشترط مجاوزة المزارع.

وإن كانت قريتان متصلتان لا انفصال بينهما، فيشترط مفارقتها، وإن كان بينهما

انفصال، فإذا فارق قريته جاز له القصر بين القريتين، وإن كان من أهل الخيام فحتى يفارق البيوت المتلاصقة والمتنابذة، ويفارق فناء خلته من مطرح الرَّماد، وملقى السِّماد، ومتحدث النادي، وملعب الصبيان، ومعاطن الإبل، وإن كان مستقره على صعود، فحتى يهبط، أو في هبوط فحتى يصعد، ولا يشترط أن تغيب البيوت والخيام عن بصره، وإن كان مسافراً في البحر والساحل متصل بالبلد، فحتى يركب السفينة وتجري. وإن كانت السفينة كبيرة لا تتصل بالساحل، ويُنقل المتاع إليها بالزوارق، فله أن يقصر في الزورق، فكل موضع شرطنا مفارقته لجواز القصر، فإذا عاد من سفره، وبلغ ذلك الموضع صار مقيماً لا يجوز له القصر. وإذا اتصلت السفينة بالساحل، والساحل متصل بالبلد لم يجز له القصر. وإذا فارق البلد، ثم عادل حاجة من تجديد طهارة، أو عيادة مريض، أو حمل متاع نسيه، نظر إن كان ذلك بلد إقامته أو بلداً نزله، فنوى فيه إقامة أربع عاد مقيماً ولا رخصة له حتى يفارقها ثانياً، وكذلك لو نوى أن يعود لمثل هذا الشغل صار بالنية مقيماً. أما إذا لم يكن مقيماً في تلك البلدة، فبالعود إليها لا يصير مقيماً، وله أن يقصر فيها. أما إذا كان قد نوى إقامة أربع، فنوى الخروج [إلى قرية] لحاجة على أن ينصرف فيجعل ذلك البلد طريقاً، ويرجع إلى بلده له أن يقصر إذا فارق هذا البلد؛ لأن الإقامة قد زالت بنيَّة السفر. ولو ركب السفينة، فسارت، وثبت له حكم السفر، ثم هبَّت ريح، فردَّت السفينة إلى مقرها لا ينقطع حكم السفر، حتى لو كان في خلال الصلاة بنيَّة القصر، جاز له القصر، بخلاف ما لو عاد إلى البلد لشغل؛ لأن ثمَّ عاد إلى بلد إقامته باختياره، ورجوع السفينة لم يكن باختياره. وقال في رواية البويطي: فإن خرجوا من البلد، وأقاموا في موضع حتى يجتمعوا، أو يخرجوا لم يجز لهم الترخص؛ لأنهم لم يقطعوا بالسفر، فإن قالوا: ننتظر يومين وثلاثة، فإن لم يخرجوا سرنا جاز لهم القصر؛ لأنهم قطعوا بالسفر. ويشترط أن ينوي سفراً يبلغ مسافة القصر، فإن لم يقصد ذلك، بل خرج هائماً على وجهه لا يدري أين يذهب، أو خرج لطلب غريم، أو عبد آبق لا يدري موضعه لا يجوز له أن يقصر، وإن سار مائة فرسخ.

وكذلك البدويّ إذا رحل منتجعاً، على أنه متى وجد مكاناً معشباً أقام، لم يجز له القصر، فإن وجد الغريم، أو العبد الآبق، وعزم على الرجوع إلى بلده، فإن كان من ذلك الموضع إلى بلده، مسافة القصر، له أن يقصر، وإن كان أقل فلا يقصر. وإن خرج لطلب الغريم، وموضعه معلوم، وكان على مسافة القصر، له أن يقصر، وإن خرج فنوى مسافة القصر، ثم نوى أنه إن وجد غريمه، أو عبده رجع، نظر إن نوى هذا قبل أن يفارق عمرانات البلد فلا رخصة؛ لأنه غير النية قبل أن انعقد له حكم السفر، وإن نواه بعد مفارقة عمرانات البلد، ففيه وجهان: أحدهما: لا قصر له، كما لو كانت هذه النية في الابتداء. والثاني: وهو الأصح- له القصر إلى أن يجد الغريم أو العبد، فإذا وجده صار مقيماً؛ لأنه انعقد له سبب الرُّخصة، فبتغير النية لا يتغير حتى يوجد المغير للنية، وكذلك لو نوى الخروج إلى مسافة القصر، ثم بعد ما فارق البلد نوى أن يقيم في بلد دون مقصده الأول، نظر إن كان من مخرجه الأول إلى مقصده الثاني مسافة القصر، جاز له أن يقصر ما لم يدخل مقصده الثاني، وإن كان من مخرجه الأول إلى مقصده الثاني أقل من مسافة القصر، هل له أن يقصر إلى مقصده الثاني؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لو أنشأ السفر إلى هذا المقصد، لا يجوز له القصر. والثاني: وهو الأصح- له أن يقصر ما لم يدخل مقصده الثاني؛ لأنه انعقد له سبب الرُّخصة، فلا تتغير ما لم يوجد غيره، كما ذكرنا في طلب الغريم. ولو نوى الخروج إلى بلد لا يقصر إليه الصلاة، ثم بعد الخروج نوى أن يجاوز إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فابتدأ سفره من حين غيَّر النيَّة، فإن كان من هذا الموضع إلى مقصده الثاني مسافة القصر، جاز له أن يقصر، وإن كان أقل فلا يجوز له. ولو نوى بلداً لا تبلغ مسافة القصر، وعزم أن ينصرف في يوم، أو يومين لا يباح له القصر وإن كان مسافة الذِّهاب والرجوع تبلغ مسافة القصر. وإن نوى بلداً تبلغ مسافة القصر، وفي عزمه الانصراف في يومين، أو ثلاثة أيام، هل يصير مقيماً بدخول مقصده؟ فيه قولان: أحدهما: يصير مقيماً؛ لأن مسافة الرجوع منقطعة عن مسافة الذهاب.

والثاني: وهو المذهب لا يصير مقيماً، وله القصر في أيام مقصده، كما في الانصراف؛ لما روي عن أنس قال: خرجنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- من "المدينة" إلى "مكة"، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى "المدينة" قيل له: أقمتم بـ "مكة" شيئاً؟ قال أقمنا بها عشراً. فلا فرق على ظاهر المذهب بعد ما نوى مسافة القصر بين أن يدخل مقصده إذا لم يُرد إقامة أربع، وبين أن يدخل بلداً على طريقه، فإن كان في عزمه أن يقيم في مقصده أربعة أيام، فبدخوله يصير مقيماً. وإن لم يكن في عزمه إقامة أربع، فجاوز أربعاً، ففيه أقوال ستأتي إن شاء الله عزَّ وجلَّ. وإن نوى الخروج إلى مسافة القصر، فقبل أن يدخل مقصده نوى أن يجاوزه إلى بلد آخر، فلا يصير مقيماً بدخول مقصده الأول، فله أن يقصر فيه؛ لأنه بناء سفر على سفر. وإن نوى المُجاوزة بعد دخول مقصده، فقد صار مقيماً بدخول مقصده، فلا يجوز له القصر حتى يخرج عن مقصده الأول، ويشترط أن يكون بين مقصده الأول والثاني مسافة القصر. وإذا سافر العبد بسير المولى، أو المرأة بسير الزوج، ولم يعرفا مقصد المولى والزوج لا يجوز لهما القصر. ولو نوى العبد أو المرأة مسافة القصر، فلا عبرة بنيتهما؛ لأنهما تحت أمر المولى والزوج، فلو عرفا مقصد المولى والزوج إلى مسافة القصر، جاز لهما القصر، فإن نوى المولى والزوج الإقامة لا يثبت حكم الإقامة للعبد والمرأة. قال أبو حنيفة: للعبد أن يترخص تبعاً للسيد، وإن لم يعرف مقصده، وبإقامته يصير مقيماً، وكذلك المرأة مع الزوج.

وإذا سار الجندي بسير الأمور، ولم يعرف مقصد الأمير، لا قصر له، فلو نوى هو بنفسه مسافة القصر جاز له القصر؛ لأنه ليس تحت يد الأمير، ولو نوى مسافة القصر، ثم في خلال الطريق نوى الرجوع، أو ردد النيَّة بين أن يرجع، أو يمضي صار مقيماً في الحال، فإن رجع لا قصر له، إلا أن يكون من مرجعه إلى بلده مسافة القصر، وإن مضى فلا قصر له، إلا أن يكون من ذلك الموضع إلى مقصده مسافة القصر. ولو كان له إلى مقصده طريقان: أحدهما يبلغ مسافة القصر، والآخر لا يبلغ، فسلك الأبعد، ينظر إن سلك لغرض من سهولة، أو أمنٍ أو نزهةٍ، أو قصد زيارة، أو عيادة، له أن يقصر، وإن سلك الأبعد لغير غرضٍ، فهل له القصر؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، وهو اختيار المزني- له أن يقصر؛ لأنه سفر مباح، كما لو لم يكن له طريق سواه. والثاني: لا قصر له؛ لأنه طوَّل الطريق على نفسه لغير غرض، كما لو سلك الأقرب، وجعل يضرب يمنة ويسرة حتى طال الطريق لا قصر له. أما إذا كان كلُّ واحد من الطريقين مسافة القصر، وأحدهما أطول، فسلك الأطول جاز له القصر، وإن طال مقامه في سلوكه. فصلٌ إذا دخل المسافر بلداً، ونوى إقامة ثلاثة أيام، أو ثلاثة ونصف لا يصير مقيماً، وله القصر، وإذا نوى أربعة أيام، أو تنجيز حاجة لا تنجَّز إلا في أربعة أيام يصير في الحال مقيماً، وهو قول عثمان، وبه قال سعيد بن المُسيب، ومالك؛ لأن المسافر لا يدوم سيره ليلاً ونهاراً، بل يستريح قليلاً، وما دون الأربع في حد القِلّة، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "يُقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً فإذا زاد على الثلاث كان في حدِّ الإقامة". وقال أبو حنيفة، والثوري: له القصرُ ما لم ينوِ إقامة خمسة عشر يوماً.

إذا ثبت أن الأربع مدة الإقامة، فهل يحسب يوم الدخول، أو يوم الخروج؟ ففيه وجهان: أحدهما: يحسب، كما في مسح الخُفّ يحسب يوم الحدث ويوم نزع الخفّ. والثاني: وهو الأصح- لا يحسب حتى لو دخل البلد يوم السَّبت أول النهار، وعزم على أن يخرج يوم الأربعاء آخر النهار، لا يصير مقيماً؛ لأن العادة أن المسافر لا يداوم على مسير جميع النهار، إنما يسير في كلِّ يوم بعضه، فهو في يومي الدخول والخروج سائر في بعض النهار، فلم يُحسب في مدة الإقامة. روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل "مكة" عام حجّة الوداع يوم الأحد، وخرج يوم الخميس إلى "منى" كل ذلك يقصر. ولو نوى المسافر إقامة أربعة أيام في غير موضع الإقامة في مفازةٍ أو سفينة هل يصير مقيماً؟ فيه قولان: أظهرهما: يصير مقيماً؛ لأنه نوى الإقامة. والثاني: لا يصير مقيماً؛ لأنه ليس موضع الإقامة، وكذلك لو نوى إقامة أربعة أيام على حرب، فعلى قولين: أصحهما: لا يقصر كالأمن، وليست هذه المسألة أن يقيم على حرب، على أنه متى انقضى خرج في قول لا يقصر. والثاني: له أن يقصر؛ لأن الإقامة في الحرب ليست إليه، وأصله أن الاعتبار بالنيَّة، أو بالموضع، وهذا بناءً على ما لو دخل المسافر بلداً له به أهل ومال وعادته المقام- مجتازاً هل يصير بدخوله مقيماً؟ فيه قولان: أحدهما: يصير مقيماً لأنه موضع إقامته. والثاني: لا لأنه لم ينو الإقامة، فإن قلنا: يصير مقيماً لا يجوز له القصر ما لم يخرج عن هذا البلد، ويقصد مسافة القصر، إن قلنا هناك: يصير مقيماً؛ لأنه موضع إقامته، فها هنا لا يصير مقيماً؛ لأنه ليس موضع الإقامة. وإن قلنا: لا يصير مقيماً لعدم النيَّة، فها هنا يصير مقيماً لوجود النيَّة. ولو دخل بلداً على أنه يخرج في يومين أو ثلاثة، وزاد مقامه على أربعة أيام من غير

أن يعزم المقام، أو قصد تنجيز شغل يتنجَّز في يومين أو ثلاثة [أيام]، فامتدَّ، أو لم يجد الرُّفقة، فله أن يقصر إلى أربعة أيام، فإن جاوز الأربع، نصَّ على أنه يتم، ونصَّ فيما لو كان على حرب خائفاً أنه يقصر سبعة عشر، أو ثمانية عشر. قال في "الإملاء" له أن يقصر ما لم يجمع مكثاً، اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: في المسألة ثلاثة أقوال خائفاً كان أو آمناً: أحدها: إذا جاوز أربعاً أتمّ، كما لو عزم على إقامة أربع؛ لأنه مدة الإقامة. والثاني: له أن يقصر سبعة عشر، أو ثمانية عشر يوماً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقام في حرب هوازن سبعة عشر، أو ثمانية عشر يقصر. والثالث: له أن يقصر أبداً ما لم ينو إقامة أربع. روي أن ابن عمر أقام بـ "أذربيجان" ستة أشهر يقصر، وهو اختيار المُزنيّ. ومنهم من قال: الآمن لا يقصر أكثر من أربعة أيام، والأقوال الثلاثة في المُحارب؛ لأن للحرب أثراً في تغيير صفة الصلاة، بدليل أنه يجوز في حال المحاربة ترك الركوع والسُّجود والقِبلة. أحدها: إذا جاوز أربعاً أتمَّ. والثاني: يقصر ما لم يمض مدة إقامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بـ "مكة"، واختلفوا في مدة إقامته، روى عمران بن حصين ثمانية عشر يوماً، واختلفت الرواية عن ابن عباس في مقام

النبي- صلى الله عليه وسلم- بـ "مكة" عام الفتح، روي أنه أقام تسعة عشر، وروى سبعة عشر وروى خمسة عشر، فاعتمد الشافعي رحمه الله على رواية عمران بن حصين في ثمانية عشر لسلامتها من الاختلاف. والقول الثالث: يقصر أبداً؛ لما روي عن جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقام بـ "تبوك" عشرين يوماً يقصر، هذا كله إذا نوى الإقامة لقضاء حاجةٍ الغالب قضاؤها في ثلاثة أيام، له أن يقصر أربعة أيام، فإن زاد فعلى الاختلاف، فإن احتمل قضاؤها في ثلاثة أيام، واحتمل في أكثر، فهل له أن يقصر؟ فعلى قولين.

فصلٌ لا يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة حتى ينوي القصر حالة الشروع في الصلاة، فلو أطلق النية لزمه الإتمام. وعند أبي حنيفة: لا يحتاج إلى نيَّة القصر؛ لأن القصر عنده عزيمة، فلو شرع في الصلاة بنيَّة القصر، ثم نوى الإتمام، أو ردَّد النية بين أن يُتم، أو يقصر، أو نوى الإقامة، أو كان في سفينة، فاتصلت السفينة ببلد الإقامة لزمه الإتمام، وإن كان قبل السلام بلحظة؛ لأن العبادة إذا اشترك فيها السفر والحضر يغلب حكم الحضر؛ لأنه الأصل، كما لو شرع في الصلاة مقيماً فجرت السفينة، لم يجز له القصر. ولو شكَّ في نية القصر لزمه الإتمام، وإن تذكر في الحال قبل إحداث فعل أنه نوى القصر؛ لأن حالة الشك كحالة عدم النيَّة. وإذا تأدّى جزء من الصلاة على التمام لزمه الإتمام، وكذلك لو شك أنه ابتدأ الصلاة مقيماً، أو في السفر يجب الإتمام. ولو شرع في الصلاة بنيَّة القصر، ثم أفسدها، له أن يقصرها، ولو شرع فيها بنية الإتمام [أو] مطلقاً، أو اقتدى بمقيم، ثم أفسدها لم يجز له أن يقصرها بعده؛ لأنه التزم الإتمام بالشروع الأول. وكذلك لو شرع مقيم في الصلاة فأفسدها، ثم خرج إلى السفر لم يجز قصرها ولو شرع بنية الإتمام، أو اقتدى بمقيم، أو متمٍّ، ثم بان أنه كان محدثاً لم يلزمه الإتمام؛ لأن الشروع لم يكن صحيحاً. ولو شرع في الصلاة بنيَّة القصر، ثم قام إلى الثالثة ساهياً، ثم تذكر يجب أن يعود، ويسجد للسهو، ويسلّم، فلو نوى الإتمام، عليه أن يقعد، ثم يقوم. وقيل: له أن يمضي قائماً، فلو صلى على السهو ركعتين، ثم تذكر فبدا له أن يُتمّ

يجب، عليه أن يصلّي ركعتين أخريين، ولو قام إلى الثالثة عامداً قبل أن ينوي الإتمام أو الإقامة، بطلت صلاته. ولو اقتدى مسافر بمقيم، أو مسافر متمّ لحظة، لزمه الإتمام، ولو اقتدى بمن لم يدر أنه مقيم أو مسافر، فقال: إن كان مسافراً قاصراً قصرت، وإلا أتممت، فبان الإمام مسافراً قاصراً، لزمه الإتمام؛ لأنه كان شاكاً في كونه مسافراً، والأصل هو الإقامة. وبمثله لو اقتدى بمن علمه مسافراً، لكنه شك في نيَّته، فعلّق نيته على نيته، فقال: إن قصر قصرت، وإن أتم أتممت، جاز، فإن قصر إمامه جاز له أن يقصر معه؛ لأن الظاهر أن المسافر يقصر، ولا يمكنه الوقوف على حقيقة نيَّته، فجاز التعليق عليها، فلو أحدث الإمام وخرج، فإن أخبره أني كنت نويت القصر، فله أن يقصر، وإن لم يخبره، وشكّ في حاله، لزمه الإتمام؛ لأنه شاكٌ في جواز الرُّخصة. ولو قام هذا الإمام إلى الثالثة، نظر إن علم المأموم أنه نوى الإتمام، عليه الإتمام، وإن علم أنه ساهٍ، وقل ما يعرف إلا أن يكون الإمام حنفياً لا يرى الإتمام، فلا إتمام عليه، بل إن شاء خرج عن متابعته، وسجد للسهو وسلّم، وإن شاء انتظره حتى يعود. وإن شك في حاله أنه قام ساهياً أو متمّاً، عليه الإتمام، وإن بان ساهياً، وليس له أن يخرج عن متابعته، فيقصر؛ لأن قيامه في أحد المحتملين للإتمام، ويتقوى هذا الجانب بأن الأصل عدم السهو. ولو افتتح الصلاة خلف مسافر قاصر بنيَّة القصر، ثم شك في نية إمامه، فله أن يقصر إذا قصر إمامه؛ لأن هذا الشك لو اقترن بالشروع لم يمنع القصر، وبمثله لو شك أن إمامه مقيم، أو مسافر، لزمه الإتمام، وإن بان مسافراً، ولو اقتدى بمتمًّ، أو بمن شك في سفره، فبان الإمام محدثاً، لزمه الإتمام، وإن كان إمامه مسافراً قد نوى القصر؛ لأنه التزم الإتمام بالاقتداء به، وإن اقتدى بمن علمه مسافراً، فبان مقيماً محدثاً، نظر إن بان كونه مقيماً، أو لزمه الإتمام وإن بان كونه محدثاً أو لا، أو بانا معاً لم يلزمه الإتمام؛ لأن اقتداءه به لم يصح، ولأنه اعتقده مقيماً فلم يلزمه حُكم صلاته. ولو اقتدى بمن علمه مسافراً، ثم فسدت صلاته، أو صلاة إمامه بحدث أو غيره، ثم بان أنه كان مقيماً، عليه الإتمام، لأن اقتداءه به كان صحيحاً، ولو اقتدى مسافر بمقيم، ونوى القصر تنعقد صلاته، وتلغو نيَّة القصر، بخلاف المقيم إذا شرع في الصلاة بنيَّة القصر لا تنعقد صلاته؛ لأن المقيم ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله، إنما لزمه الإتمام

لعارض، فلا يضره نيَّة القصر، كما لو شرع في الصلاة، ثم نوى الإتمام يتمها، فإن قيل: كيف يحصل له الركعتان الأخريان وهو لم ينوهما؟. قال الشيخ- رحمه الله-: بنيَّة القصر لا ينتفي الإتمام، بدليل أنه إذا صار مقيماً باتصال السفينة بدار الإقامة يلزمه الإتمام، وإن لم ينوِ. ولو شك المسافر هل نوى الإقامة أم لا، أو دخل بالليل بلداً شكّ هل هذا مقصده أم لا؟ فلا يجوز له القصر؛ لأن الأصل وجوب الصلاة عليه تامةً، وهو يشك في سبب الرُّخصة، وجواز القصر كما لو شك في بقاء مدة المسح لا يجوز له المسح. ولو صلى الظُّهر بنيَّة القصر خلف مسافر يصلّي العصر بنيَّة القصر، جاز له أن يقصر. ولو صلّى خلف من يُصلّي المغرب مقيماً، كان أو مسافراً، لا يجوز له القصر. ولو صلى خلف من يصلي الصبح مقيماً كان أو مسافراً، هل له القصر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لاتفاق الصلاتين في العدد. والثاني: وهو الأصح والمذهب- لا يجوز؛ لأنه اقتدى بمتمٍّ. ولو صلّى خلف من يصلي الجمعة، قيل: إن قلنا: الجمعة ظُهر مقصور، له أن يقصر. وإن قلنا: فرض آخر، فكالصُّبح. والمذهب أنه لا يجوز له القصر، سواء قلنا: الجمعة ظهر مقصور، أو فرض آخر؛ لأن صلاة الإمام صلاة مقيم، بل هو أولى من الصبح؛ لأن الجمعة في السفر لا تجوز. ولو اقتدى جماعة من المسافرين والمقيمين بمسافر قاصر، فإذا سلّم الإمام أتم المقيمون صلاتهم؛ لما روي عن عمران بن حُصين قال: غزوات مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وشهدت معه الفتح، فأقام بـ "مكة" ثمانية عشر ليلة لا يُصلّي إلا ركعتين، يقول: "يا أهل البلد صلُّوا أربعاً فأنا سفرٌ". فلو رَعف الإمام، وتقدم مقيم خليفة، فكل من دام من المسافرين على مُتابعة الخليفة يجب عليه الإتمام، ومن أتم صلاته منفرداً، فلا إتمام عليه، وإذا عاد الإمام واقتدى بخليفته، فكذلك عليه الإتمام، وإن صلى منفرداً له أن قصر.

فصلٌ إذا فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لا يجوز له قصرها اعتباراً بحالة الفوات؛ لأنه ثبت في ذمته صلاة تامة. وقال المزني: له أن يقصر، كما لو فاتته صلاة في حالة القدرة، ثم مرض جاز له أن يقضيها قاعداً اعتباراً بحالة القضاء. قلنا: لأن إزالة المرض ليس إليه، فربما يموت، والصلاة في ذمته، وقطع السفر وإتمام الصلاة بيده، فيلزمه الإتمام، فلو فاتته صلاة في السفر، هل يجوز قضاؤها قصراً؟ فيه قولان: أصحها: وهو قوله في الجديد- لا يجوز؛ سواء قضاها في السفر، أو في الحضر، والوقت شرط لجواز القصر كما في الجمعة. وقال في القديم: يجوز قضاؤها قصراً، سواء قضاها في السفر، أو في الحضر، وبه قال أبو حنيفة اعتباراً بحالة الفوات. وقال في الإملاء: إن قضاها في السفر جاز قصرها، وإن قضاها في الحضر، فلا يجوز، فعلى هذا إن كان قد تخلل بين السفرين إقامة، هل يجوز له القصر؟ فيه وجهان. فإن قلنا بقوله الجديد: إن الوقت شرطٌ لجواز القصر، فلو شرع في الصلاة بنيَّة القصر، فخرج الوقت في خلالها، نظر إن كان قد صلى ركعة في الوقت، جاز له قصرها، وإن صلى أقل من ركعة، يجب إتمامها. وقال صاحب "التلخيص": يجب عليه الإتمام، وإن صلى في الوقت ركعة، كما في الجمعة إذا خرج الوقت قبل أن يسلم، يجب عليه أن يصلي أربعاً، والأول أصح؛ لأن الجمعة أكدت بشرائط من العدد والجماعة والخُطبة، ودار الإقامة، والقصر لم يؤكد بشيء منها، وكذلك لا يشترط أداء جميعها في الوقت. ولو أن مقيماً أخَّر الصلاة من أوَّل الوقت، ثم سافر في آخر الوقت قبل خروج الوقت، جاز له قصر تلك الصلاة؛ لأن الوقت باقٍ. وقال ابن سُريج: لا يجوز له القصر؛ لأن الصلاة تجب بأول الوقت، وهو كان مقيماً في أول الوقت، ألا ترى أن المرأة إذا حاضت بعد إمكان فعل الصلاة في أول الوقت يلزمها تلك الصلاة؟. قلنا: أصل الصلاة وجوبها بأول الوقت، ومقدار يستقر عليه بآخره، كما في الجنابة يعتبر أصل الضمان بحالة الجنابة، ويعتبر المقدار بالمال.

فصلٌ الأخذ بالرُّخصة إنما يجوز إذا كان سفره طاعةً، أو كان مباحاً كتجارة أو نزهة أو زيارة أو نحوها، فإن كان سفرة معصية، مثل أن خرج لقطع الطريق، أو هرب العبد من مولاه، أو المرأة من زوجها، أو هرب من غريمه مع القدرة على أداء حقه، فلا رخصة له في هذا السفر. وقال أبو حنيفة: يجوز للعاصي بسفره أن يترخص قلنا: الرخصة إنما جوزت للمسافر تخفيفاً، عليه، وإعانة له على تحمُّل المشقة، والعاصي لا يجوز إعانته على ما هو فيه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. إذا ثبت أنه لا يترخص، فلا يجوز له قصر الصلاة، ولا فطرُ شهر رمضان، ولا الجمع بين الصلاتين، ولا المسح على الخُفّ ثلاثة أيام، ويجوز أن يمسح يوماً وليلة؛ لأنه في

حكم المقيمين وقيل: لا يجوز، والأول المذهب. وإذا عدم الماء يجب عليه أن يصلي بالتيمم، ويجب عليه الإعادة؛ لأنه في حم المقيم. وقيل: لا يجب؛ لأنه صلى بالتيمم، حيث يعدم الماء غالباً، والأول المذهب. ولو كان معه ماء، ويخاف العطش لا يجوز أني صلي بالتيمم حتى يتوب، فإن لم يتُب، وتوضأ به ومات عطشاً كان عاصياً من وجهين: أحدهما: لعصيانه. والثاني: لإعانته على قتل نفسه، حيث لم يتُب حتى يتوصل إلى الشرب. وكذلك لو اضطر إلى أكل الميتة لا يجوز له أكلها حتى يتُوب، بخلاف المقيم العاصي؛ لأن احتياجه إلى الميتة ليس لما يتعاطاه من المعصية. وقيل: المقيم المضطر إذا كان عاصياً لا يجوز له أكل الميتة ما لم يتُب. وإذا خرج إلى سفر مباح، غير أنه يرتكب المعاصي في الطريق جاز له الترخص؛ لأن الرخصة سبب السَّفر المباح، وسفره مباح. ولو أنشأ سفر معصية، ثم تاب، فمن ذلك الموضع ابتدأ سفره، فإن كان من ذلك الموضع إلى مقصده مسافة القصر، جاز له القصر بعده، وإلا فلا. ولو أنشأ سفراً مباحاً، ثم غير النيَّة إلى المعصية، فهل له الترخص؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لو أنشأ السفر بهذه النية. والثاني: له ذلك؛ لأن سفره انعقد على الإباحة. ولو جرح رجل في قطع الطريق، وخاف الهلاك من استعمال الماء، هل له أن يصلي بالتيمم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا حتى يتُوب، فإن لم يتُب وغسل الجرح، ومات كان عاصياً من وجهين. والثاني: وهو الأظهر- له التيمم؛ لأنه غير عاصٍ باستدامة الجرح، وهل يعيد؟ وجهان. ولو ألقى نفسه من شاهق، أو وثب لاعباً فتكسَّرت رجله وصلى قاعداً، هل عليه القضاء إذا برئ؟ ففيه وجهان: أحدهما: يجب كما لو زال عقله بالإلقاء.

والثاني: وهو الأصح- لا يجب؛ لأن سقوط القيام عن العاجز عزيمة، وعمن زال عقله رخصة، ولا رخصة للعاصي. فصلٌ: في الجمع بين الصلاتين روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كنا على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء. يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر الطويل يروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وهو قول عطاء، وطاوس، ومجاهد، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقال النخعي، وأبو حنيفة: لا يجوز الجمع بحال إلا في الحج يجمع بين الظهر والعصر بـ "عرفات" وبين المغرب والعشاء بـ "مزدلفة"، والحديث حُجة لمن أجازه، ولا يجوز في السفر القصير على ظاهر المذهب، ولا يجوز الجمع بين العشاء والصبح، ولا بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، وفي الجمع هو مخير، إن شاء قدم العصر إلى وقت الظهر، فجمع بينهما في وقت الظهر، وإن شاء أخَّر الظهر إلى وقت العصر، يجمع بينهما في وقت العصر، وكذلك المغرب مع العشاء إذا بقي المسافر في منزل يوماً أو يومين أو ثلاثة، فله الجمع، ولكن الأفضل أني صلي الصلوات في أوقاتها، فإن كان سائراً، فالمستحبُّ أن يفعل كما فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم-. روي عن معاذ بن جبل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان في غزاة "تبوك" إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر حتى ينزل العصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء.

وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخَّر المغرب حتى تنزل العشاء، ثم جمع بينهما، وروى ابن عباس مثله. وإذا جمع بينهما في وقت الثانية يجب أن يؤخّر الأولى بنيَّة الجمع حتى لو أخَّر لا بنية الجمع حتى خرج وقت الأولى عصى الله- تعالى- وصارت صلاته قضاءً لا يجوز له قصرها على قول من لا يجوز قصر القضاء. وإذا جمع في وقت الأولى، لا يجوز إلا بثلاث شرائط: أحدها: نية الجمع. والثاني: مراعاة الترتيب. والثالث: الموالاة. أما النيَّة يجب أن ينوي حالة الشروع في الأولى الجمع، فلو نوى بعد الفراغ من الأولى لم يجُز الجمع. وعند المزني يجوز إذا نوى على قرب الفصل، وإن نوى في خلال الصلاة الأولى أو مع التسليم عنها، نص في "الجمع بعذر السفر" أنه يجوز. وقال في "الجمع بعذر المطر" .. ينوي عند افتتاح الأولى، فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين: أحدهما: لا يجوز حتى ينوي الجمع عند افتتاح الأولى كنيَّة القصر. والثاني: يجوز؛ لأن الجمع هو ضمُّ الثانية إلى الأولى، وقد نوى قبل هذه الحالة. ومنهم من فرق بينهما على ظاهر النص، فقال في المطر: يجب أن ينوي مع افتتاح الأولى لأن استدامة المطر في خلال الصلاة الأولى- غير شرط لجواز الجمع فلم يكن محلاً للنية، وفي السفر يجوز؛ لأن استدامة السفر الذي هو سبب الرُّخصة شرط في خلال الصلاة الأولى، فكان محلاً للنية. والترتيب بين الصلاتين شرط، حتى لا يجوز تقديم العصر على الظهر، ولا تقديم العشاء على المغرب في الأداء، فإن قدم لا يصح عصره ولا عشاؤه ويعيدهما بعد الظهر وبعد المغرب. والمُوالاة شرط، حتى لا يجوز أن يتنفل بين الصلاتين، وألا يطيل [المقام] بينهما،

فإن أطال بطل الجمع، وعليه أن يؤدي الثانية في وقتها، والإقامة للصلاة الثانية سُنَّة لا تقطع الجمع. وقال أبو إسحاق: لا يجوز الجمع بالتيمُّم؛ لأنه إذا اشتغل بطلب الماء للصلاة الثانية يطول الفصل بينهما، والمذهب جوازه، ويطلب للثانية طلباً خفيفاً، ولا ينقطع به الجمع؛ لأنه من مصلحة الصلاة كالإقامة. ويتفرع على هذا لو جمع بين الظُّهر والعصر في وقت الظهر، وبعد الفراغ منها تذكَّر أنه نسي سجدة من إحدى الصلاتين نظر إن علم أنه تركها من الظهر لم تصح الصلاتان، فعليه أن يعيدها، وله أن يجمع بينهما، وكذلك لو بان فسادُ الظهر بسبب آخر، وإن علم أنه تركها من العصر، فإن كان الفصلُ قريباً سجد، وصحَّت الصلاتان، وإن طال الفصلُ بطل الجمع، وعليه إعادة العصر في وقته، وإن شك لم يدر من أيهما ترك، فعليه إعادة الصلاتين جميعاً لاحتمال أنه تركها من الأولى ولا يجوز الجمع لاحتمال أنه تركها من الثانية، وإذا جمع بين الصلاتين في وقت الثَّانية وهل يجوز تقديم العصر على الظهر في الأداء وتقديم العشاء على المغرب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ بل عليه مراعاة الترتيب، كما لو جمع بينهما في وقت الأولى. والثاني: وهو الأصح يجوز؛ لأن الوقت لها [والأولى] تبع، وكذلك هل يجب الموالاة بينهما؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجب الترتيب، ولا الموالاة، فإن قلنا: الترتيب شرط، فلو قدم العصر صح عصره؛ لأن الوقت له، ولكن يصير الظهر قضاء، وكذلك إذا ترك الموالاة، وقلنا: هي [شرط] يصير الظهر قضاء ولا يجوز قصرها على قول من لا يُجوِّز قصر القضاء. أما قصر العصر يجوز بكلِّ حال، وإذا جمع بين الصلاتين، ثم بعد الفراغ منهما صار مقيماً قبل دخول وقت الثانية، هل يجب عليه إعادة الصلاة الثانية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن وقت الأولى صار وقتاً للثانية، فقد أدَّاها في وقتها، كما لو قصر الصلاة، ثم صار مقيماً لا تجب الإعادة. والثاني: يجب إعادتها في وقتها؛ لأن السفر قد زال، والوقت بين يديه، وإن صار مقيماً قبل الشروع في الثانية يجب عليه أن يصلي الثانية في وقتها. وإن صار مقيماً في خلال الثانية ترتب على ما لو صار مقيماً بعد الفراغ منها إن قلنا: يعيدها، فها هنا بطل عصره، وإلا فوجهان:

أحدهما: يعيد، كما لو نوى الإقامة في خلال صلاة العصر يجب إتمامها. والثاني: لا يعيد، بخلاف العصر؛ لأن هناك إذا ألزمناه حكم الإقامة لا يؤدي إلى إبطال ما مضى من الصلاة، وها هنا يؤدي إلى ذلك، فإن قلنا: تبطل عصره، هل يبقى نفلاً؟ فيه قولان. وإن صار مقيماً بعد ما مضى في وقت الثانية قدر إمكان الصلاة لا يجب الإعادة وجهاً واحداً، وإذا جمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، فيصلي سُنَّة المغرب بعد الفراغ من فرض العشاء، ثم يصلي سنة العشاء ثمَّ يصلي الوتر. فصلٌ: في الجمع بعذر المطر روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر.

قال مالك: أرى ذلك في مطر. يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بعذر المطر في السفر والحضر جميعاً في وقت الأولى، وهل يجوز في وقت الثانية؟ فيه قولان: في القديم: يجوز كما في السفر. وفي الجديد: لا يجوز، بخلاف السفر؛ لأن استدامة السفر إليه، واستدامة المطر ليس إليه، فربما تمسك السماء قبل دخول وقت الثانية. فإن قلنا: يجوز التأخير فلو أمسكت السماء قبل وقت العصر، لا يجوز الجمع فيصلي الظهر في آخر وقته كالمسافر إذا أخَّر بنية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت العصر، ويشترط وجود المطر عن افتتاح الصلاة الأولى، وعند الفراغ منها وفي افتتاح الثانية، فلو انقطع في خلال إحدى الصلاتين، وبعد الفراغ من الثانية لم يضر، ولو كان منقطعاً حالة التسليم من الأولى، أو انقطع بعد الفراغ من الأولى قبل الشروع في الثانية لم يجز الجمع. وفرَّع القاضي الإمام على هذا فقال: لو قال الرجل بعد الفراغ من الصلاة الأولى: أنظر هل أمسكت السماء؟ بطل الجمع؛ لأنه شك في سبب الجمع، وإنما يجوز هذا الجمع في مساجد الجماعات التي ينتابها الناس من بعد، فيشق عليهم المشي في المطر، ويشترط أن يكون المطر، بحيث يبُلّ الثياب، فإن كان لا يبُلّ الثياب، فلا يجوز. وإن كان المسجد في كنٍّ لا يتأذى بالمطر إذا حضره، أو صلى في بيته منفرداً أو جماعة، أو صلَّت النساء في بيوتهن، هل يجوز الجمع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الرخصة بسبب المطر، وهو موجود. والثاني: وهو الأصح- لا يجوز؛ لأنهم لم يلحقهم الأذى، ولا يجوز الجمع بغير المطر من الوحل، والريح، والظلمة، والبرد، [والمرض] ونحوها، والسفان مطر وزيادة، ولا يجوز بعذر الثلج؛ لأنه يبل الثياب إلا أن يكون رخواً ذائباً فهو كالمطر. وجوز الجمع بعُذر المطر جماعة من السلف يروى ذلك عن ابن عمر، وفعله عروة وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك، وأحمد.

وجوز الحسن وعطاء الجمع بعُذر المرض. وجوز ابن سيرين الجمع إذا كانت له حاجة ما لم يتخذه عادة، وذهب إليه؛ لما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً بـ "المدينة" من غير خوف ولا سفر قيل لسعيد بن جبير: لم فعله؟ قال سألت ابن عباس فقال: لئلا يخرج أحدٌ من أمته والله أعلم بالصواب. باب وجوب الجمعة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فُرض عليهم، يعني يوم الجمعة، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبعٌ اليهود غداً والنصارى بعد غدٍ".

روي عن أبي الجعد الضمري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من ترك ثلاث جُمع تهاوُناً بها طبع الله على قلبه". صلاة الجمعة فريضة، ولوجوبها خمس شرائط: العقل، والبلوغ، والحُرية، والذُكورة، والاستيطان، فلا يجب على الصبي، ولا المجنون، كما لا تجب سائر الصلوات، ولا على المرأة ولا على العبد. روي عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-:

"تجبُ الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً، ولا تجب على المسافر".

روى جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأة أو مسافراً أو عبداً أو مريضاً". ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت، وهو بعد الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، والعدد، والجماعة، والخطبة، ودار الإقامة، فلو خرج الوقت قبل أن يسلم يجب أن يكملها أربعاً. أما العدد فأربعون رجلاً من أهل الكمال، وهو قول عُبيد الله بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أحمد، وهل يشترط أن يكون الإمام زائداً على الأربعين؟ فيه وجهان: الأصح: لا يشترط. وقال أبو حنيفة: ينعقد بأربع مع الإمام.

وقال الأوزاعي: تنعقد بثلاث. وقال ربيعة: باثني عشر. ودار الإقامة شرط، فكل قرية اجتمع فيها أربعون من أهل الكمال، وهو أن يكونوا أحراراً، عاقلين، بالغين، ذكوراً، مستطونين لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفاً إلا ظعنَ حاجةٍ، يجب عليهم إقامة الجمعة كما تجب على أهل المصر الجامع ثم إن كانوا لا يسمعون نداء البلد يجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وإن كانوا يسمعونه فهم بالخيار بين أن يحضروا البلد للجمعة، وبين أن يقيموها في قريتهم، وإذا حضروا البلد لا يكمل بهم العدد؛ لأنهم في حُكم المسافرين. وإن كانوا أهل خيام وأخبية اجتمعوا في موضع لا يجوز لهم إقامة الجمعة هناك؛ لأنهم غير مستوطنين، فإن الشتاء إذا جاء أحوجهم إلى الظعن، وحكمهم حكم جماعة من المسافرين نزلوا على طرف بلد، ونووا إقامة أربع. وكذلك أهل البلد لا يجوز لهم أن يخرجوا إلى الصحراء، فيجتمعوا، وإذا انهدم أبنية البلد، وأقام أهله على عمارته، فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها؛ لأنهم في موضع الاستيطان. وإن كانوا أهل خيام وخباء لزموا عين ماء لا يظعنون عنها في صيف ولا شتاء، هل عليهم إقامة الجمعة هناك؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنهم مستوطنون. والثاني: لا يجوز وهم كالقسم الأول؛ لأن أبنيتهم ليست أبنية المقيمين. أما أهل الدواليب والأسراب الذين توطَّنوا، فكأهل القرى، وكل قرية لم يكن فيها أربعون من أهل الكمال، وإن كانوا أكثر عدداً ممن ليس من أهل الكمال لا يجوز لهم إقامة الجمعة فيها، وهل يجب على أهل الكمال منهم حضور البلد، أو حضور موضع الجمعة؟ وكذلك أهل الخيام والمسافرون الذين نزلوا على طرف بلد، ونووا إقامة أربع؟ نظر إن كان لا يبلغهم نداء البلد لا يجب عليهم حضورها، ولكنهم لو حضروها، وصلوا الجمعة سقط الفرض عنهم، وإن كان يبلغهم نداءُ البلد يجب عليهم حضور البلد للجمعة، ولكن لا يكمل بهم عدد الأربعين. روي عن عبد الله بن عمرو أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الجمعة على من سمع النداء".

وقال أبو حنيفة: لا جمعة على أهل القرى، إنما يجب على أهل مصر جامع، والمصرُ الجامع عنده أن يوجد فيه [أربعة]: سلطان قاهر، وطبيب حاذق، ونهر جارٍ، وسوق قائم. وفي سماع النداء يشترط سماع من ليس بأصم نداء مؤذّن جهوريّ الصوت في وقت تكون الرياح ساكنة، والأصوات هادئة، ولا يشترط سماع جمع القرية، ومن أي موضع يكون يعتبر سماع النداء؟. منهم من قال: من وسط البلد على نشزٍ. ومنهم من قال: يشترط سماع كل القرية من طرف البلد الذي يليهم في موضع تجوز إقامة الجمعة فيه، فإن كانت قريتان إحداهما قريبة من البلد، لكنها لا تسمع النداء لكونهم في هبوط، والأخرى أبعد منها، لكنها تسمع النداء لكونها على صعود، فعلى أهل القرية البعيدة حضور الجمعة، وهل يجب على أهل القرية القريبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأن النداء لا يبلغهم.

والثاني: يجب؛ لأن الصوت يمرُّ عليهم، غير أنهم لا يسمعون النداء؛ لأنهم في وهدةٍ، كما لو دخل بيتاً فلم يسمع النداء. أما البلد إذا كان كبيراً يجب على من بعُد داره من الجامع حضور الجمعة، وإن لم يسمع النداء؛ لأن خطة البلد يجمع الكل، فلو اجتمع أربعون رجلاً للجمعة، ثم انفضوا، لا يخلو إما أن انفضوا قبل افتتاح الخطبة، أو في خلالها، أو بعد الفراغ منها، أو في خلال الصلاة، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة، سواء انفض الكل، أو انفض واحد من الأربعين، فلا يبتدئ الخطبة حتى يجتمع أربعون؛ لأن الوقت شرط في الخطبة حتى لو ابتدأ الخطبة قبل الوقت لا يجوز، كذلك العدد شرط فيها، كما هو شرط في الصلاة. وإن انفضوا في خلال الخُطبة، نظر إن عادوا والفصل قريب بنى على خطبته، فإن أتى بشيء من أركان الخطبة في غيبتهم أعاده؛ لأن سماع الأربعين للخطبة شرط، وإن عادوا بعد طول الفصل، عليهم استئناف الخطبة على قوله الجديد، وهو المذهب. وفي القديم: المُوالاة ليس بشرط، فله أن يبني على خطبته، وإن لم يعد الأولون، بل جاء مكانهم آخرون يستأنف بهم الخطبة، سواء جاءوا بعد طول الفصل أو قبله. وإن انفضوا بعد الفراغ من الخُطبة قبل الشروع في الصلاة، نظر إن رجعوا والفصل قريب صلى بهم الجمعة بتلك الخطبة، وإن رجعوا بعد طول الفصل، أو جاء آخرون لم يسمعوا الخطبة لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بتلك الخطبة. قال الشافعي- رحمه الله-: "أحببت أن يبتدئ خطبته، فإن لم يفعل صلاها بهم ظهراً. اختلف أصحابنا في أنه هل يجب أن يعيد الخُطبة ليصلي بهم الجمعة، أم يجوز أن يصلي بهم الظهر؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن سُريج يجب إعادة الخُطبة؛ لأن إقامة الجمعة ممكن، فلا يجوز تركها، والمراد من قوله: أحببت الإيجاب؛ لأن كل واحد مستحب. والوجه الثاني قاله أبو إسحاق: لا يجب، بل يستحب؛ لأنه لا يأمن من انفضاضهم ثانياً فيصير ذلك عذراً في ترك الجمعة، وكذلك لو انفض واحد من الأربعين الذين سمعوا الخُطبة وحضر أربعون آخرون؛ لأن شرط الجمعة أن يعقدوا الصلاة بالأربعين الذين سمعوا الخطبة. أما إذا انفضوا في خلال الصلاة، نظر إن حضر أربعون آخرون، وشرعوا في الصلاة، ثم انفض الأولون الذين افتتح بهم الصلاة، يجوز أن يكمل بهم الجمعة؛ لأنه لم ينتقص

العدد في شيء من الصلاة وإن انفضوا ولم يحضر آخرون، ففيه أقوال: ذكر في الجديد قولين: أصحهما: بقاء الأربعين [من أهل الكمال شرطٌ إلى آخر الصلاة كالوقت] فإن انتقص واحد قبل أن يسلم يجب عليه إكمال الظهر. والثاني: إن بقي معه اثنان حتى تكون صلاته جماعة جاز أن يُتِمّ بهما الجمعة؛ لأن مطلق الجمع ثلاثة. وقال في القديم: إن بقي معه واحد، له أن يتمّ الجمعة؛ لأن أقل الجمع اثنان وخرج قول أنه يتم الجمعة، وإن بقي وحده، وهو قول أبي يوسف أن العدد شرط حالة الإحرام، وذلك لأنه يمكنه ألا يفتتح بأقل من أربعين، ولا يمكنه حفظهم في خلال الصلاة. وقال المزني- رحمه الله-: إن انفضوا بعد ما صلى بهم ركعة، له أن يتم الجمعة، وإن بقي واحد، وإن كان في الركعة الأولى أتمها ظهراً، وإن انتقص واحد، وهو قول أبي حنيفة- رحمه الله- في العدد الذي يشترطه، غير أن عند أبي حنيفة أن قيد ركعة بسجدة واحدة أتمها جمعة. وعند المزني لابدّ من ركعة كاملة، واحتج المزني بأن المسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة، فكذلك الإمام إذا صلى مع القوم ركعة أتمها جمعة. قلنا: لأن جمعة المسبوق تبنى على جمعة كاملة مفروغ عنها، بخلاف جمعة الإمام، وهذا بخلاف ما لو أحدث الإمام في الركعة الثانية، فالقوم يكملون الجمعة وحداناً؛ لأن القوم تبع للإمام، فبعد ذهاب المتبوع جاز للتابع أن يبني صلاته على صلاة المتبوع، والمتبوع لا يبني على صلاة التابع. قال الشيخ: وهو صاحب الكتاب رحمه الله: والصحيح من هذه الأقوال هو الأول، وهو أن العدد شرط من أول الصلاة إلى آخرها لولا ما قاله المزني. فصلٌ: في الزحام إذا ركع المأموم في الجمعة، أو في صلاة أخرى، ثم زحم عن السجود، نظر إن أمكنه أن يسجد على ظهر رجل فعل، وإن لم يفعل حتى رفع الإمام رأسه بطلت صلاته. روي عن عمر أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه، ولو لم

يمكنه، فهذا عذر للخروج عن متابعته، فإن كان في الجمعة فخرج عن متابعته، فصلى الظهر، فهو كمن صلى الظهر قبل فوات الجمعة، وإن لم يخرج عن متابعته، فلما قام الإمام إلى الركعة الثانية أمكنه السجود سجد، وإن سبقه الإمام بركنين؛ لأنه معذور؛ فإذا سجد وقام إلى الركعة الثانية، ولم يدرك قراءة جميع الفاتحة مع الإمام هل يسقط عنه القراءة؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط كالمسبوق ويركع مع الإمام. والثاني: وهو الأصح لا تسقط عنه؛ لأنه أدرك ما قبل الركوع، بخلاف المسبوق، فيقرأ الفاتحة، ويجري على أثر الإمام، وهو كالمتخلف بالعُذر، وإن لم يمكنه السجود حتى ركع الإمام في الركعة الثانية، ثم قدر عليه ماذا يفعل؟ قال في الجديد وهو الأصح: يتابع الإمام في الركوع؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أدركتم فصلوا" وهذا مدرك للركوع. وفي "الإملاء" قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يشتغل بالسجود، ويجري على أثر الإمام، وبه قال أبو حنيفة لقوله عليه السلام: "وما فاتكم فأتموا". والتفريع على القولين، فإن قلنا: يتابع الإمام، فلا يخلو إما أن يتابعه، كما أمرناه، أو يشتغل بالسجود، فإن تابعه فأي الركوعين يحسب له؟ فيه وجهان: أحدهما: الأول؛ لأنه وقع صواباً، والركوع الثاني لموافقة الإمام. والوجه الثاني: الركوع الثاني يكون محسوباً له؛ لأن السجود من هذه الركعة يكون محسوباً له، كذلك الركوع. وفائدته إذا قلنا: يحسب له الثاني، فإذا صلى هذه الركعة مع الإمام حصلت له ركعة من الجمعة. وإذا قلنا: يحسب الأول حصلت له ركعة ملفقة من الركعتين الركوع من الركعة الأولى والسجود من الثانية، فمثل هذا هل تحسب له من الجمعة؟ ففيه وجهان: أصحهما: وهو قول أبي إسحاق يحسب من الجمعة؛ لأنه صلى ركعة مع الإمام.

وقال ابن أبي هريرة: تحسب من الظهر، ولا تحسب من الجمعة حتى يكون إدراك الكل من ركعة واحدة، ولا تفريع عليه، بل نقول على الوجهين: إذا صلى هذه الركعة مع الإمام حصلت له ركعة من الجمعة. أما إذا خالف أمرنا، واشتغل بالسجود، نظر إن نوى الخروج عن متابعة الإمام، فهو كمن خرج عن متابعة الإمام بغير عذر، إن قلنا: لا تبطل صلاته بالخروج عن المتابعة لا تصح جمعته، وهل يصح ظهره؟ فعلى قولين كغير المعذور إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة، هل يصح ظهره؟ قولان: الأصح: لا يصح، فإن قلنا: لا يصح ظهره، هل تبطل صلاته، أم تكون نفلاً؟ فيه قولان. وإن سجد ولم ينو الخروج عن متابعة الإمام، نظر إن كان عالماً بأن عليه المتابعة، بطلت صلاته، ففي الحال يكبر، ويركع مع الإمام ليدرك ركعة من الجمعة، وإن كان جاهلاً ظن أن فرضه السجود لا تبطل صلاته، ولا يحسب له سجود، فإذا فرغ من السجود، وأدرك الركوع مع الإمام كان مدركاً لركعة، وأي الركوعين يكون محسوباً فعلى الوجهين، كما ذكرنا، وإذا فرغ من السجود، والإمام قد سجد في الثانية سجد معه، وحصلت له ركعة ملفقة من ركعتين، فالأصح أن يكون محسوباً من الجمعة، وإن كان الإمام في السجود الثاني سجد معه هذه السجدة، ثم إذا سلم الإمام يسجد سجدة أخرى، وتمت له ركعة من الظهر، فيقوم ويصلي ثلاث ركعات؛ لأنه لم يصلِّ مع الإمام ركعة كاملة، وكذلك إذا فرغ من السجود، وقد سلم الإمام سجد سجدتين، ويضم إليها ثلاث ركعات. فأما إذا قلنا: يجب عليه أن يشتغل بالسجود، فلا يخلو إما إن كان يسجد، كما أمرناه، أو تابع الإمام، فإن سجد كما أمرناه، فإذا فرغ من السجود، وأدرك الإمام في الركوع من الركعة الثانية، هل يسقط عنه قراءة الفاتحة؟ فعلى وجهين: الأصح: لا تسقط، وإن كان قد سجد الإمام في الثانية، أو قعد للتشهد، فإنه يقرأ ويشتغل بقضاء ما فاته، ويجري على أثره، وهو مدرك للجمعة يسلم مع الإمام، وإن لم يمكنه السجود في الركعة الأولى حتى يسلم الإمام، أو سجد واحدة قبل تسليمه، وسجد بعده حصلت له ركعة من الظهر؛ لأنه لم يحصل له ركعة كاملة على متابعة الإمام. وقيل: تحسب من الجمعة؛ لأن هذا السجود يبنى على ركوع أتى به مع الإمام.

أما إذا خالف أمرنا، واشتغل بالركوع مع الإمام، نظر إن كان عالماً بطلت صلاته وإن كان جاهلاً لا تبطل صلاته، ولا يحسب ركوعه، فإذا سجد معه حسب سجوده، وحصلت له ركعة من الجمعة، وإذا قعد الإمام للتشهد، هل يقعد معه أم يقوم، ويشتغل بالركعة الثانية؟ فيه وجهان: أحدهما: يقوم، ولا يخرج عن متابعته؛ لأنه تفريع على قولنا: إنه يشتغل بما فاته، ويجري على أثر الإمام. والثاني: يقعد معه، فإذا سلم الإمام قام، وصلى ركعة وتمَّت جمعته كالمسبوق، أما إذا لم يمكنه السجود حتى سجد الإمام في الركعة الثانية سجد معه على القولين جميعاً. ثم إن قلنا: يجب عليه متابعة الإمام حصلت له ركعة ملفقة وإن قلنا: يجب عليه الاشتغال بما فاته حصلت له ركعة من الجمعة، هذا إذا زحم في الركعة الأولى. أما إذا زحم عن السجود في الركعة الثانية، فلم يمكنه السجود حتى سلم الإمام سجد سجدتين بعد تسليم الإمام، وتشهد وتمت جمعته كالمسبوق إذا لم يمكنه السجود. وإن كان مسبوقاً أدرك الإمام في الركعة الثانية، فركع معه، ثم زحم عن السجود، نظر إن أمكنه أن يسجد سجدتين قبل تسليم الإمام سجدهما، وحصلت له ركعة من الجمعة. وإن لم يمكنه حتى سلم الإمام، أو سجد سجدة واحدة قبل تسليمه، ثم سلم الإمام سجد الثانية، ثم يقوم، ويتم الظهر؛ لأنه لم يصل مع الإمام ركعة كاملة. وقيل: يحسب له ركعة من الجمعة؛ لأن هذا السجود ينبني على ركوع أتى به مع الإمام، هذا كله فيما إذا زحم. أما إذا ركع مع الإمام في الركعة الأولى، وسها حتى ركع الإمام في الركعة الثانية من أصحابنا من قال: هو كالزحام على القولين. ومنهم من قال: ها هنا يتبعه في الركوع قولاً واحداً؛ لأنه مفرط في السهو، فلم يعذر في الانفراد عن الإمام. قال الشيخ: والأول أصح أنه كالزحام، وكل موضع قلنا: يتم الظهر، فهو صحيح على قولنا: إن الجمعة ظُهرٌ مقصور.

أما إذا قلنا: الجمعة فرض آخر، وهو شرع فيه بنية الجمعة، من أصحابنا من قال: يستأنف الظهر. ومنهم من قال: [يجوز أن] يُتم الظهر، وإن جعلناه فرضاً آخر؛ لأنهما فرض وقت واحد، كما لو خرج الوقت في خلال الصلاة، نصَّ على أنه يتمها ظهراً. فصلٌ: في الاستخلاف في الجمعة إذا أحدث الإمام في صلاة الجمعة، هل يجوز أن يستخلف رجلاً؟. فيه قولان كسائر الصلوات: أصحهما: وهو قوله الجديد- يجوز، فإن قلنا: لا يجوز الاستخلاف، أو جوزنا، ولكن لم يتقدم أحد، نظر إن أحدث الإمام في الركعة الأولى أتموها ظهراً؛ لأنهم لم يصلوا مع الإمام ركعة، فإن أحدث في الركعة الثانية أتموها جمعة إلا أن يكون مسبوقاً أدركه في الثانية، فإنه يتم الظهر. وإن قلنا: يجوز الاستخلاف، فإنما يجوز أن يستخلف من اقتدى بالإمام قبل حدثه، فأما من لم يقتد به، فلا يجوز استخلافه، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن سمع الخطبة فيه وجهان: الأصح: لا يشترط، كما لو لم يحدث الإمام صحَّت جمعة المأموم، وإن لم يسمع الخطبة. فإن قلنا: لا يشترط، فإن تقدم رجل أدرك الإمام في الركعة الأولى قبل أن يركع، أو في الركوع من الركعة الأولى جاز، ويتم بهم الجمعة، سواء أحدث الإمام في الركعة الأولى، أو في الثانية، حتى لو اقتدى به رجل قبل أن يركع في الأولى، فلما اقتدى به أحدث الإمام، وتقدم هو جاز أن يصلي بهم الجمعة. وإن تقدم رجل لم يدرك مع الإمام الركعة الأولى، فإن أدركه بعد ما رفع رأسه من الركوع الأولى، أو أدركه في الركوع من الركعة الثانية، فهذا المسبوق يتم لنفسه الظهر؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، والقوم خلفه يتمون لأنفسهم الجمعة، فإذا أتمَّ الخليفة ركعة جلس مراعاة لنظم صلاة الإمام، فإذا بلغ موضع السلام أشار إلى القوم، وقام، فالقوم إن شاءوا وخرجوا عن متابعته وسلموا، وإن شاءوا ثبتوا جالسين حتى يتم الخليفة الظهر، فيسلم بهم، وهذا الخلاف فيما لو أدرك الإمام في الركعة الأولى، وتقدم رجل أدركه في الركوع أتمها جمعة، وإن لم يصل مع الإمام ركعة؛ لأن هناك تأكد إدراكه، حيث أدرك الإمام في وقت كانت جمعة القوم موقوفة على الإمام، وكان الإمام ركناً في جمعتهم، فحصلت الجمعة للخليفة، وفي الركعة الثانية لم يتأكد إدراكه؛ لأنه أدرك الإمام في وقت لم

تكن جمعة القوم موقوفة على الإمام، فإنهم لو أتموا الجمعة فرادى جاز، فلم تحصل له الجمعة. ثم هذا المسبوق الخليفة تحصل له ركعة من الظهر، ولا يجعل كمن صلى الظهر، قبل فوات الجمعة؛ لأنه لما تقدم صارت الجمعة فائتة في حقه. فإذا تقدم هذا المسبوق، فأدركه مسبوق، واقتدى به، ونوى الجمعة، فصلى معه ركعة من آخر صلاته كان مدركاً للجمعة على الوجه الذي يقول: يجوز أداء الجمعة خلف من يصلي الظهر؛ لأنه صلى ركعة خلف من يراعي نظم صلاة إمام الجمعة، بخلاف الخليفة يصلي الظهر؛ لأنه لم يصلِّ ركعة مع إمام الجمعة، ولا خلف من يراعي نظم صلاته. قال الشيخ: وعندي إنما يصلي المسبوق الجمعة إذا أدرك الخليفة في الركعة الأولى التي هي صلاة الإمام. أما إذا أدرك في الركعة الثانية، أو الثالثة، فلا يصلي الجمعة؛ لأن الجمعة قد فاتت حين تمت صلاة الإمام. قال الشيخ: ولو أدرك المسبوق في الركوع من الركعة الثانية، فركع وسجد مع الإمام، فلما قعد للتشهد أحدث الإمام، وتقدم المسبوق، له أن يُتمَّ الجمعة؛ لأنه صلى مع الإمام ركعة، ولو أحدث الإمام بعد الخُطبة قبل أن يُحرِم بالصلاة، إن قلنا: لا يجوز الاستخلاف في الصلاة، فها هنا لا يجوز أن يؤمَّ غيره، بل يصلون الظهر؛ لأن الخطبة في الجمعة بمنزلة ركعتين في الصلاة، فلما لم يجز أن يصلي ركعتين خلف إمام آخر، كذلك لا يجوز أن يخطب واحد ويؤم آخر. وإن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، فإن استخلف من سمع الخطبة يجوز، وإن استخلف من لم يسمع لا يجوز، كما في الصلاة لا يجوز استخلاف من لم يدرك الإمام في الصلاة. وكذلك لو خطب رجل، فبادر أربعون ممن سمع الخُطبة، وعقدوا الجمعة قبل الإمام جاز، وإذا فعله من لم يسمع الخطبة لم يجز، فإن لم نجوز وحدث بالخطيب عُذر، وأرادوا الجمعة استأنف الخطبة. وإذا صلى مع الإمام ركعة من الجمعة، ثم خرج عن متابعته بعذر أو بغير عذر، وقلنا: لا تبطل صلاته يجوز أن يتمها جمعة، كما لو أحدث الإمام، أو أبطل صلاته بعد ما صلى بهم ركعة، جاز لهم أن يتموها جمعة. فصلٌ يجوز ترك الجمعة بالعذر، والعذر ما ذكرنا في باب الجماعة.

ولو مرض له قريب أو صِهرٌ، وكان منزولاً به، أو لم يكن منزولاً به، ولكن ليس له متعهد، جاز له ترك الجمعة. روي عن ابن عمر- رضي الله عنه- يستجمر للجمعة فدعى لسعيد بن زيد وهو يموت، فأتاه وترك الجمعة، وكذلك الأجنبي إذا كان منزولاً به، أو لا متعهد له، جاز ترك الجمعة له؛ لأنه لا يجوز تضييعه. فأما إذا لم يكن منزولاً به، وله متعهد غيره، لكن المريض يستأنس به، فإن كان أجنبياً لا يجوز ترك الجمعة به، وإن كان قريباً جاز. والناس في الجمعة على أربعة أقسام: قسم يجب عليهم حضور الجمعة، ويكمل بهم العدد، وهم الأحرار، العاقلون، البالغون، الذكور، المستوطنون، الذين لا عذر لهم، ولو لم يحضروا عصوا. وقسم لا يجب عليهم حضورها، ولو حضروها وصلوا الجمعة، سقط الفرض عنهم، ولكن لا يكمل بهم العدد، وهم العبيد، والنسوان، والصبيان، والمسافرون، والخنثى المشكل [كالمرأة] ومن بعضه حر كالعبد. وقسم يجب عليهم حضورها، ولا يكمل بهم العدد، وهم غير المستوطنين مثل المسافر الذي نوى إقامة أربع وأهل الخيام الذي يبلغهم نداء أهل البلد وأهل القرى الذين انتقصوا عن الأربعين، ويبلغهم نداء البلد. فأما الغريب الذي طال مقامه في بلد، وفي عزمه الرجوع إلى بلده كالمتفقِّه والبحَّار، عليهم حضور الجمعة، وهل يكمل بهم العدد؟ فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: يكمل بهم العدد؛ لأنهم مقيمون. والثاني: وهو الأصح قاله أبو إسحاق- لا يكمل بهم؛ لأنهم غير متوطِّنين. وقسم لا يجب عليهم حضورها، ولو حضروا تمّ بهم العدد، وهم المريض، والممرض، ومن له عذر، وكل هؤلاء لو حضروا الجامع، وصلوا الجمعة، سقط الفرض عنهم. وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة، فإذا حضر لا يفترض عليه الجمعة، بل له أن يصلي الظهر إلا المريض، والممرض، والمعذور، فإنه إذا حضرها تجب عليه الجمعة؛ لأن المانع من وجوبها عليه لخوف المشقة بحضورها، فإذا تحمل المشقة، وحضرها زالت

العلة، بخلاف العبد، والمسافر، والمرأة، فإن المانع من وجوبها عليهم صفة فيهم، وذلك لا يزول بحضور الجامع، حتى لو كان المريض، أو الزَّمِن بيته قريباً من المسجد يمكنه حضورها، يجب عليه حضورها، والزَّمِنُ إذا وجد مركباً ملكاً، أو إجارة، أو عارية، أو الأعمى إذا وجد قائداً بأجرة، وله مال أو مجاناً يلزمه حضورها. وقال أبو حنيفة: لا جمعة على الأعمى، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة يجوز له أداء الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة، وإن كانوا جماعة يجوز أن يصلوا جماعة وفرادى، غير أن المستحب أن يؤخروا حتى يصلي الإمام الجمعة، وإذا صلوا جماعة، قال الشافعي: أحب إخفاء الجماعة لئلا يتهموا. قال أصحابنا: فإن كان عذرهم ظاهراً لم يكره لهم إظهار الجماعة؛ لأنهم لا يتهمون مع ظهور العذر. وقال أبو حنيفة: لا يصلي جماعة في المصر إلا الجمعة، فأما من يجب عليه حضور الجمعة إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة، هل يصح؟ فيه قولان. قال في الجديد وهو الأصح: لا يصح؛ لأن فرضه الجمعة. وقال في القديم: يصح؛ لأنه أدى وظيفة وقته. وقال أبو حنيفة: ظهره موقوف، فإن خرج إلى الجمعة أو عزم على الخروج إليها بطل ظهره، فإن لم يدرك الجمعة أعاد الظهر. ومن وجب عليه حضور الجمعة لا يجوز له أن يسافر بعد الزوال يوم الجمعة قبل أن يصلي الجمعة، فإن فعل كان عاصياً، ولا يجوز له الترخُّص ما لم تفُت الجمعة، ثم من حيث بلغ يكون ابتداء سفره، ولو سافر قبل طلوع الفجر الصادق، فلا حرج عليه. ولو خرج بعد طلوع الفجر، نظر إن كان سفراً واجباً، أو سفر طاعة؛ كالحج والغزو، جاز؛ لما روي عن ابن عباس قال: بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة في سريَّة، فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه، وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم ألحقهم فلما

صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ " قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال: "لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم". وإن كان سفراً مباحاً، فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن وقت الصلاة لم يدخل قبل طلوع الفجر. والثاني: لا يجوز؛ لأن الرَّواح قد يجب في هذا الوقت على من بعُد داره عن المسجد، كما بعد الزوال؛ لأن وجوب السبب كوجوب الفعل، فلما لم يجز السفر بعد وجوب الفعل لم يجُز بعد وجوب السبب. وعند أبي حنيفة يجوز الخروج بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت، فإذا كان لا يفارقه إلا بعد خروج الوقت لم يجُز حتى يصلي الجمعة؛ لأن الصلاة عنده تجب في آخر الوقت. ولا يكره البيع يوم الجمعة قبل الزوال، أما بعد الزوال، فإن كان قبل ظهور الإمام على المنبر يكره، وإن كان بعد ظهور الإمام يحرم لقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. وأما إذا تبايع رجلان، وأحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر أثِما جميعاً؛ لأن أحدهما توجه عليه الفرض، والآخر يشغله عن الفرض، أما البيع فلا يبطل؛ لأن النهي غير مختص بالعقد، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة. وإذا اتفق يوم عيد ويوم جمعة، فحضر أهل السواد فصلوا العيد، فهل عليهم الجمعة؟ اختلف أصحابنا فيه؛ منهم من قال: تجب لأن من لزمته الجمعة في غير يوم العيد لزمته في يوم العيد كأهل البلد. ومنهم من قال: نص الشافعي عليه [في "الأم"] أنه لا يجب عليهم الجمعة، ولهم أن ينصرفوا، ويدعوا الجمعة؛ لما روي عن عثمان أنه قال في خطبته: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليفعل، من أراد أن ينصرف فلينصرف، ولم ينكر عليه أحد.

وذلك لأنهم إذا قعدوا لم يتهتّوا بالعيد، وإذا انصرفوا ثم رجعوا للجمعة شق عليهم، والجمعة تسقط بالمشقة. والله أعلم.

باب الخطبة وما يجب في صلاة الجمعة روي عن أبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة قالا: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها". روي عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي حين تميل الشمس. وعن ابن عمر قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب. الخُطبة واجبة لصلاة الجمعة، ولا تحسب قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صعد الإمام

المنبر، فإن لم يكن منبرٌ فيقف على مكان مرتفع ليبلغ صوته جميع الناس، فإذا بلغ الدرجة التي تلي المستراح أقبل بوجهه على الناس، وسلَّم عليهم، والقوم يردون السلام، ثم قعد وأذّن المؤذن. روي عن السائب بن يزيد أن الآذان كان أوله للجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- فلما كان خلافة عثمان- رضي الله عنه- كثر الناس فأمر عثمان بأذان ثان، فأذن به فثبت الأمر على ذلك. قال الزهري: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، وهذا كما قال، وهو أن بعد ما خرج الإمام، وصعد المنبر ليس لأحد ممن هو في المسجد أن يبتدئ الصلاة، سواء صلى السنة، أو لم يصل. ولا بأس أن يتكلم في حال الأذان ما لم يبتدئ الإمام الخطبة، وكذلك بعد الفراغ من الخطبة، ولا يكره الكلام قبل أن يشرع في الصلاة. والفرق أن قطع الكلام ممكن متى ما ابتدأ الإمام الخطبة، وقطع الصلاة لا يمكن فربما يفوته سماع أول الخطبة، والفرق بين الخطبة حيث لا يتكلم المستمع في خلالها، ويتكلم في خلال الأذان- أن الأذان كلمات معلومة، والمقصود منه الإعلام بالصلاة، وهم حضور، والخطبة موعظة لابد من تفهمها، غير أن الأولى ألا يتكلم في خلال الأذان، ويشتغل بإجابة

المؤذن، وإذا فرغ المؤذن قام الإمام وابتدأ الخطبة، ولا يجوز لأحد بعده أن يبتدئ الصلاة، فإن دخل داخل لا يجلس حتى يصلي ركعتين عند أكثر أهل العلم. وعند أبي حنيفة، والثوري يجلس ولا يصلي، والدليل على ما قلنا ما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب فجلس، فقال له: "يا سُليك قم فاركع ركعتين، وتجوَّز، فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما. ثم إن كان الداخل قد صلى السُّنة يصلي ركعتين تحية المسجد، وإن لم يصلِّ في بيته السُّنة يصلي بنيَّة السُّنة، ويحصل به تحية المسجد.

وإن دخل الإمام في آخر الخطبة لا يصلي حتى لا تفوته أول الصلاة مع الإمام، وعلى القوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الإمام، وينصتوا ويستمعوا الخطبة؛ لقوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]. والأمر في الخطبة بالإنصات هو السكوت، والاستماع أن يشغل سمعه بسماع الخطبة، والإنصات فرض أم سُنَّة؟ فيه قولان. قال في الجديد: سُنة فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر سليكاً بالصلاة، ولو كان واجباً لأمره بالإنصات. وقال في القديم: الإنصات فرض؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إذا قلت لصاحبك: "أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". فإن قلنا: فرض، فإن كان بعيداً عن الإمام لا يسمع الخُطبة، هل يجب عليه الإنصات، أم له أن يشتغل بصلاة أو ذكر؟ فيه وجهان. فلو دخل رجل والإمام يخطب، فسلم أو عطس رجل.

فإن قلنا: الإنصات واجب لا يجوز رد السلام باللسان، ولا تشميت العاطس. ويستحب أن يرد السلام بالإشارة. وإن قلنا: الإنصات سُنة يجوز رد السلام، وتشميت العاطس، وهل يجب رد السلام؟ فيه وجهان: أصحهما: يجب؛ لأنه فرض، والإنصات سُنَّة. والثاني: لا يجب؛ لأن المسلم ضيَّع حظَّ نفسه، حيث سلم في غير موضعه، كما لو سلم على من يقضي حاجته. وهل يستحب تشميت العاطس؟ فعلى هذين الوجهين. ولو رأى رجلاً يقع في بئر أو عقرباً يذب عنه لم يحرم كلامه قولاً واحداً؛ لأن الإنذار يجب لحقّ الآدمي، والإنصات لحقِّ الله تعالى، ومبناه على المُساهلة. ويجب على الإمام أن يخطب قائماً خطبتين، مستقبل الناس يجلس بينهما جلسة خفيفة قدر قراءة "قل: هو الله أحدٌ، والقيام فيهما فرض، إلا أن يعجز، فيخطب قاعداً، كما في الصلاة، والقعود بينهما فرض إذا خطب قائماً، وإذا خطب قاعداً لعجز لا يجب أن ينام بين الخطبتين، بل يسكت قليلاً، وإذا عجز عن القعود خطب مضطجعاً. وعند أبي حنيفة يجوز أن يخطب قاعداً مع القدرة على القيام، وكان القاضي- رحمه الله- يقول: يجب أن ينوي الخُطبة وفرضيتها؛ لأنها فريضة كالصلاة. ولو خطب مستقبل القِبلة تحسب قبلته، وهل يشترط الطهارة عن الحدث في الخطبة، وطهارة البدن والثوب والمكان عن النجاسة وسترُ العورة؟ فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد يشترط؛ لأنها بدل عن ركعتين كالصلاة. وقال في القديم: لا يشترط، كما لا يشترط فيها استقبال القِبلة. ولو خطب جُنُباً لا تحسب قولاً واحداً؛ لأن قراءة القرآن فيها شرط، ولا تحسب قراءة الجُنُب، وهل يحرم الكلام فيها؟ فيها وجهان: الأصح لا يحرم؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كلَّم سُليكاً الغطفاني. وهل يشترط التتابع؟ فيه قولان. في الجديد، وهو المذهب: يشترط حتى لو طال فيه الكلام، واشتغل بشيء آخر

يستأنف، ولا يستحب الدعاء للوالي على التخصيص في الخطبة. سئل عطاءٌ عن ذلك فقال: إنه محدث، وإنما كانت الخطبة تذكيراً. ويستحب للخطيب أن يأخذ بيده اليسرى عصاً أو سيفاً أو قوساً، يعتمد عليه، فإنه روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب يعتمد على عتيرة اعتماداً، فإن لم يأخذ شيئاً يسكن جسده ويديه، إما بأن يجعل اليمنى على اليسرى، أو يقرَّهما في موضعهما ليكون أقرب إلى الخشوع. ويقوم على يمين المنبر ويرفع صوته بالخُطبة، ولا يلتفت يميناً وشمالاً، فإن خطب سرّاً لم تحسب كالأذان، ولابد من أن يسمع الخُطبة أربعون، فلو خطب بأربعين كلهم صمٌّ، أو بعضهم ذكر القاضي وجهين: أصحهما: لم يجز، كما لو لم يسمعوا لبعدهم عن الإمام. والثاني: يجوز، كما لو سمعوا ولم يعرفوا معناها. ويجب أن يخطب بالعربية، ويستحب أن يخطب مترسلاً مبيناً معرباً لا يأتي بكلمات مبتذلة لا تنجح في القلوب، ولا يستغرب، بحيث لا يفهم، ولا بما ينكره العوامّ لقصور فهمهم، ولا يمد الكلمات مداً يجاوز الحد ولا يعجل عن الأفهام، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام، ولا يطوّل فيملَّ الناس، بل تكون خطبته قصداً بليغاً جامعاً. روي عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً.

وفرائض الخطبة خمسة: التحميد، وأقله أن يقول: الحمد لله، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-، والوصية بتقوى الله، ولفظ الوصية غير شرط على الأصح، وقراءة آية من القرآن، والدعاء للمؤمنين. وعند أبي حنيفة: إذا قال: سبحان الله، والحمد لله جاز، وهذا ضعيف من حيث إنه مأمور بالخُطبة، والخطبة اسم لكلمات من وجوه ضم بعضها إلى بعض، وما ذكر لا يسمى خُطبة، ولا قائله يسمى خطيباً، فثلاث من هذه الخمس شرط في الخُطبتين: التحميد، والصلاة، والوصية بتقوى الله. أما الدعاء للمؤمنين فرض في الثانية، فلو دعا في الأولى تحسب. وقراءة القرآن واجبة في إحداهما، ففي أيهما قرأ جاز، ويستحب أن يقرأ فيهما، وترتيبها أن يبتدئ بالتحميد، ثم بالصلاة، ثم بالوصية، ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ومحل القراءة غير معين، ففي أي موضع قرأ جاز، بخلاف الصلاة، فإن أذكارها متعيَّنة، كذلك محلها. وإذا حصل الخطيب يُلقَّنُ إن كانت الخُطبة معهودة يعرفونها، كما يفتح على الإمام القراءة، ولا يلقن ما دام يتردد، فإذا سكت لُقِّن، وإن لم تكن الخطبة معروفة لا يلقن. وإذا قرأ في الخُطبة آية سجدة، نزل وسجد على الأرض، وسجد الناس معه، كذلك فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم يصعد ويتم الخُطبة. فإن كان المنبر عالياً يطول الفصل إذا نزل فلا ينزل، فإن كان في أعلى المنبر مكان السجود سجد عليه، وإلا ترك، فإن نزل وطال الفصلُ استأنف الخُطبة على قوله الجديد. وفي القديم بنى، ويستحب أن يختم خطبته بقوله: أستغفر الله لي ولكم. وإذا أغمي على الخطيب هل يبني غيره على خطبته؟ فعلى قولي الاستخلاف في الصلاة: إن لم ينجوز يستأنف الخطبة، وإن جوزنا يشترط أن يكون الذي يبني ممن يسمع أول الخطبة. فإذا فرغ من الخطبة أخذ في النُّزول، وأخذ المؤذن في الإقامة، ثم يتقدم فيصلي بهم

ركعتين، يقرأ في الأولى بأم القرآن، وسورة "الجمعة"، وفي الثانية بأم القرآن، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، ويجهر بالقراءة. روي عن عبد الله بن أبي رافع قال: صلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بهما في الجمعة. وروي عن النُّعمان بن بشير قال: كان رسول الله- يقرأ في العيدين، وفي الجمعة {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وإذا اجتمع العيد، والجمعة في يوم واحد، قرأ بهما في الصلاتين، ولو أدرك مسبوقٌ في الركوع من الركعة الثانية، فقد أدرك الجمعة، فإذا سلّم الإمام قام وصلى ركعة أخرى، وتمت جمعته؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة، وإن أدرك بعد ما اعتدل من الركوع الثاني يصليها أربعاً" هذا قول أكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة: إن أدركه في التشهد يجوز أن يصليها جمعة، والحديث حُجة عليه، فإذا قام المسبوق بركعة لقضاء ما فاته، فخرج الوقت، فالمذهب أنه يتمها ظهراً، كما لو خرج الوقت قبل أن يسلِّم الإمام يجب على الإمام إكمال الظهر. وقيل: يتمها المسبوق جمعة؛ لأن جمعته تنبني على جمعة كاملة، وهي جمعة الإمام، فلو صلى مع الإمام ركعة، وقضى ما فاته، ثم تذكر في التشهد أنه نسي سجدة من إحدى الركعتين نظر إن تركها من الثانية سجدها، وأعاد التشهد وسجد للسهو، ويسلم، وإن تركها من الأولى أو شك لم يدر من أيهما ترك، يأخذ بأسوأ الأحوال، وهو أنه تركها من الأولى حصلت له ركعة من الظهر، فيتمها أربعاً؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة. ولو صلى الإمام الجمعة ثلاث ركعات ساهياً، فأدركه مسبوق في الثالثة، فاقتدى به، وصلى معه تلك الركعة، وهو جاهل، يحصل له ركعة من الظهر؛ لأن تلك الركعة غير محسوبة للإمام. ولو أدركه المسبوق في الثانية ظنها أولاه، فصلى معه الركعتين تمَّت جمعته، ويسلم مع الإمام، فحصلت له الركعة الأولى على متابعة الإمام، والثانية على حكم الانفراد. وإن كان الإمام نسي سجدة من إحدى الأوليين فقد تمت جمعته إذا صلى ثلاثاً؛ لأنه إذا تركها من الأولى تمَّت الأولى بالثانية، وصارت الثالثة ثانية، وإن كانت من الثانية تمت الثانية بالثالثة أما في حق المسبوق لا يخلو إما إن ترك من الأولى، أو من الثانية، فإن ترك من الأولى، نظر إن أدرك المسبوق في الثانية، فاقتدى به وهو جاهل، فصلى الركعتين معه اختلفوا فيه. قال الشيخ القفال: تمَّت جمعته، فيسلم مع الإمام، ويكون كالمسبوق يصلي مع الإمام ركعة منفرداً، غير أن ها هنا الركعة الأولى في حكم الانفراد، حتى لو كان أدرك الركوع من الركعة الثانية لا تحسب هذه الركعة، والثانية محسوبة له من الجمعة، فإذ سلم الإمام قام وصلى ركعة. ومن أصحابنا من قال: إذا أدرك الثانية معه، وصلى الركعتين معه جاهلاً بأن كان الإمام ترك سجدة من الأولى لا يتم جمعته حتى يضيف إليها ركعة أخرى؛ لأن الثانية غير محسوبة للإمام، فلم يجز أن تقع جائزة للمأموم عن الجمعة فإدراك ركعة من الجمعة بعدها لا تصير جائزة من الجمعة؛ لأن انفراد المأموم بركعة إنما يصحُّ إذا كان قد أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فتكون الثانية تبعاً للأولى، فهو كما لو صلى ركعة منفرداً، ثم وصل

صلاته بصلاة الإمام، وإن أدرك المسبوق في الثالثة إما في القيام، أو في الركوع كان مدركاً لركعة من الجمعة؛ لأن الثالثة محسوبة للإمام، وإذا سلم الإمام قام وصلى ركعة. وإن كان الإمام ترك السجدة الثانية، فينظر في المسبوق إن أدركه في الثانية، وصلى الأخرتين معه، كما فعل الإمام حصلت له ركعة من الجمعة، وإذا سلم الإمام قام [وصلى]، وقضى ركعة، ولا يجعل مدركاً ركعة ملفقة؛ لأن أفعال الإمام في الثالثة لاغيةٌ إلا سجدة، وتجعل تلك السجدة كأنه سجدها في الثانية، والركعة الملفقة أن تكون أفعال الإمام كلها محسوبة، غير أن المأموم أتى ببعض الركعة معه في الأولى، وبالبعض في الثانية، وإن أدركه المسبوق في الثالثة، فاقتدى به جاهلاً حصلت له ركعة من الظهر؛ لأن أفعال الإمام في هذه الركعة غير محسوبة إلا سجدة. أما إذا لم يدرِ الإمام أنه نسي السجدة من الأولى، أو من الثانية، فيأخذ في حق المسبوق بأسوأ الأحوال، وهو أنه ترك من الثانية حتى أنه إن أدرك في الثانية يحصل له الركعة من الجمعة، وإن أدرك في الثالثة فركعة من الظهر. فصلٌ: [في خروج الوقت في الجمعة] إذا خرج الوقت في خلال صلاة الجمعة، يجب أن يتمَّها ظهراً. وعند أبي حنيفة: تبطل صلاته. وعند مالك: إن صلى ركعة في الوقت أتمَّها جمعة كالمسبوق إذا صلى ركعة مع الإمام أتمها جمعة. قلنا: لأن جمعة المسبوق تنبني على جمعة كاملة، وهي جمعة الإمام. وإذا شك في خروج الوقت، نظر إن شك قبل الشروع في الصلاة، يجب أن يصليها ظهراً. وإن شك في خلالها فقد قيل: يتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاء الوقت، وصحة الفرض. وقيل: يتمها ظهراً، كما لو شك قبل الشروع في الصلاة يصليها ظهراً، ولو وقع له هذا الشك

بعد الفراغ من الصلاة، فلا إعادة عليه؛ لأن الأصل بقاء الوقت ومضى الصلاة على الصحة، وإن ضاق الوقت ورأى أنه خطب خُطبتين خفيفتين يصلي ركعتين لم يذهب الوقت لزمهم الجمعة، وإن رأى أنه لا يمكن ذلك صلى الظهر. والله أعلم. فصل: [فيمن تصح خلفه الجمعة] تصح الجمعة خلف المسافر والعبد، إذا كان القوم أربعون من أهل الكمال، ولو صلى خلف صبي أو متنفل فيه قولان: أحدهما: يجوز كسائر الصلوات. والثاني: لا يجوز، بخلاف سائر الصلوات، فإن آداها منفرداً يجوز، ولو صلى خلف من يصلي صبحاً أو عصراً، هل يجوز قيل: فيه قولان، كما لو صلى خلف متنفل. وقيل: يجوز؛ لأن الإمام يصلي الفرض. ولو صلى خلف مسافر يصلي الظهر مقصوراً إن قلنا: الجمعة ظهرٌ مقصور جاز. وإن قلنا: فرض آخر، فهو كما لو صلى خلف من يصلي الصبح. ولو صلى خلف رجل فبان الإمام محدثاً أو جنباً لم تصح جمعة القوم، بخلاف سائل الصلوات، لأن أداءها منفرداً يجوز، وأداء الجمعة منفرداً لا يجوز، وإذا كان الإمام محدثاً، فصلاة القوم في حكم الانفراد. وذكر صاحب "التلخيص" قولاً أنه يصح جمعة القوم، كسائر الصلوات، وليس بصحيح والسلطان ليس بشرط لانعقاد الجمعة، لأن علياً- رضي الله عنه- صلى الجمعة، وعثمان- رضي الله عنه- محصور. وعند أبي حنيفة: لا تصح الجمعة إلا خلف سلطان، أو مأذون من جهته. فصلٌ: [في إقامة جمعة واحد أو أكثر في بلد] لا يجوز إقامة الجمعة في بلد واحد، وإن عظم وكثر أهله، إلا في موضع واحد، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده لم يجمعوا إلا في موضع واحد. وجوز أبو يوسف في موضعين، ولم يجوز في ثلاث، ولو جاز في موضعين لجاز في مساجد العشائر، كسائر الصلوات. واختلفوا في "بغداد" فقال ابن سريج، وإسحاق؛ إذا كان البلد كبيراً لا يضبطهم

المكان الواحد، جاز إقامتها في موضعين فأكثر على حسب الحاجة، وعلى هذا أمر "بغداد"؛ لأنا لو لم نجوِّز لزم إذا كان البلد كبيراً بعيد الأطراف، لا يمكن قطعها في يوم أن يكلفوا الخروج للجمعة يوم الخميس، ويطول الزَّمان بانتظار إلى أن ينتهي التكبير إلى آخرهم. ومن لم يجوز حمل أهل "بغداد" على أنها كانت قرىً متفرقة فاتصلت أبنيتها، وفي مثل هذا يجوز. وكذلك جاز لمن خرج من "الكرخ" مسافراً، وبلغ مدينة "منصور" أن يقصر الصلاة؛ لأنها بلد آخر. وإذا أقيمت جمعتان في بلد، ففيه خمس مسائل: إحداها: إذا سبقت إحدى الجمعتين، وعرف السابق فهي صحيحة، وعلى الآخرين إعادة الظهر والسبق يقع بتحريمة الصلاة على الصحيح من المذهب، فمن سبق بها فجمعتهم صحيحة، وإن سبقت الأخرى بالخُطبة، أو بالتسليم. وقيل: الاعتبار بسبق الخطبة. الثانية: إذا وقعتا معاً فهما باطلتان، ويعيدون جميعاً الجمعة. الثالثة: إذا احتمل وقوعهما معاً، واحتمل السبق، فهكذا يعيدون الجمعة. الرابعة: إذا سبقت إحداهما، وعلمت السابقة، ثم اشتبهت، فعلى الطائفتين جميعاً إعادة الظهر، ولا يجوز إعادة الجمعة لعلمنا بصحة الجمعة التي سبقت. الخامسة: إذا سبقت إحداهما يقيناً، ولم يعلم السابقة، نص الشافعي- رضي الله عنه- على أنهم يعيدون الجمعة؛ لأنه إذا لم تعلم السابقة كان كما لو احتمل وقوعهما معاً، واحتمل السبق. وقال الربيع: فيه قول آخر، وهو القياس- أنهم جميعاً يعيدون الظهر، لأنا تيقنَّا

صحة إحدى الجمعتين، فلا معنى لإعادة جمعة أخرى، هذا إذا لم يكن في واحدة سلطان، أو كان مع كل واحدة مأمور من جهة السلطان، فإن كان في إحداهما سلطان دون الأخرى، وسبقت الأخرى، ففيه قولان: أحدهما: السابقة هي الجمعة؛ لأن السلطان وإن لم يكن شرطاً لصحتها، فليس لأحد أن يتقدم عليه. ولو أن طائفة شرعت في صلاة الجمعة فأخبروا أن طائفة أخرى سبقتهم قال الشافعي: أحببت أن يستأنفوا ظهراً، ولو أتموها ظهراً لم يبن لي أن عليهم الإعادة، مثل القول في جواز إكمال الظهر مع شروعهم فيها بنيَّة الجمعة، فخرَّجوا من هذا قولين أن الجمعة ظهر مقصور، أو فرض آخر. إن قلنا: ظهر مقصور أتمُّوها ظهراً. وإن قلنا: فرض آخر يستأنفون. ونص في أن الوقت إذا خرج في خلال الجمعة أتمها ظهراً. وخرج قول آخر أن الجمعة تبطل بخروج الوقت، وهل تبقى نفلاً؟ فيه قولان. ولو أن الإمام لم يمكنه إقامة الجمعة لخوف يصلي الظهر بالناس، ثم زال الخوف، والوقت باقٍ لا يجب عليهم الجمعة، كالمسافر إذا صلى الظهر، ثم صار مقيماً، والإمام لم يصل الجمعة لا تجب عليه الجمعة. ولو صلى الظهر بطائفة في الخوف فزال الخوف، والوقت باقٍ، نص على أنه إن بقي أربعون لم يصلوا الظهر، أمر من يخطب ويصلي بهم الجمعة، وأكره أن يفعل هو بنفسه فإن فعل جاز وفيه دليل على جواز الجمعة خلف المتنفل؛ لأن صلاة الإمام نافلة، وفيه قول آخر لا يجوز إمامته، والله أعلم.

باب التبكير إلى الجمعة والهيئة لها روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرَّب بدنةً ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة". فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر. قوله: غُسل الجنابة، أي: غسل كغسل الجنابة، واختلفوا في هذه الساعات. قيل: هي ساعاتٌ لطيفة بعد الزوال؛ لأن الرواح اسم للخروج بعد الزوال. وقيل: أراد ساعات النهار من وقت طلوع الفجر، وذلك بلفظ الرَّواح؛ لأنه خروج لأمر يكون بعد الزوال، وهذا القائل يقول: ساعات الليل والنهار لا تنتقص عدداً صيفاً ولا شتاءً عن اثني عشر، لكنها تطول وتقصر. وقيل: تنتقص، فيعود في الشتاء ساعات النهار إلى تسعٍ، وليس المراد من الحديث حقيقة الساعات، بل المراد منه بيان فضل السابق على من جاء بعده. التبكير إلى صلاة الجمعة سنَّة مستحبة، والسُّنة أن يغتسل ويتنظف ويأخذ الشعر والظفر والسِّواك، وما يقطع تغير الرائحة من جميع جسده حتى لا يتأذى به جاره، ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، وأفضل الثياب البيض.

وإن لبس مصبوغاً فيلبس ما صبغ غزله ثم نسج، ولا يلبس المصبوغ للزينة، فإنه لباس النساء. ويستحب للإمام من حُسن الهيئة أكثر مما للناس؛ لأنه منظور القوم، ويستحب أن يعتمَّ ويرتدي، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتمُّ ويرتدي ببردٍ. ويستحب أن يأتيها ماشياً، وكذلك إلى العيد، والجنازة، وعيادة المريض، فإنه روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه ما ركب في عيد ولا جنازة، ولم يذكر الجمعة؛ لأن باب حجرته كان في المسجد، ولأنه إذا مشى تكتب خطواته، فيكثر ثوابه، ولا يسعى لقوله عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاة فأتوها تمشون، ولا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون وعليكم السَّكينة". وإن كان به عذرٌ لا بأس أن يركب وتسير دابته على هيئته، ولا يشبِّك بين أصابعه، ولا يفرقع في الطريق، ولا في المسجد، كما لا يفعل في الصلاة؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة". وإذا حضر المسجد لا يتخطى رقاب الناس لما روينا في الحديث. قال الشافعي- رضي الله عنه-: فإن لم يكن للإمام طريق لم يكره له أن يتخطَّى رقاب الناس، وإن دخل وليس له موضعٌ وبين يديه فرجةٌ لا يصل إليها إلا بأن يتخطى الرقاب لم يكره أن يتخطى ليصل إلى الفرجة، ولا يجوز أن يقيم رجلاً من مجلسه ليجلس فيه. روي عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لا يقمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه لكن يقول: أفسحوا. وإن فرش الرجل ثوباً، فجاء آخر لم يجلس عليه، فإن نحَّاه وجلس مكانه جاز، وإذا قام من موضعه لحاجةٍ، فجلس آخر مكانه، ثم عاد الأول، فالمستحبُّ أن يرد مكانه إليه؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع فهو أحق به".

قال الشافعي: وأحب إذا نعس ووجد مجلساً لا يتخطى فيه غيره أن يتحوَّل؛ لما روي عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نعِس أحدكم، فليتحول من مجلسه ذلك". ويستحب أن يختار الدُّنُوَّ من الإمام؛ لماروي عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "م غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغُ، كان له بكُلِّ خطوةٌ عملُ سنةٍ، أجرُ صيامها وقيامها".

وإذا حضر قبل الخُطبة يشتغل بذكر الله- عز وجل- ويكثر الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- لما روي عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ فيه" ويستحب أن يكثر فيه من الدعاء؛ لأن فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء. روي عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلمٌ يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه". قال: وهي ساعة خفيفة. وقال أبو موسى: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة".

وروي عن أنس عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "التمسوا الساعة التي يُرجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس". وروي عن جابر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "التمسوا الساعة التي تُرجى في يوم الجمعة آخر ساعة بعد العصر" والله أعلم. بابُ صلاة الخوفِ قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ...} [النساء: 102] كان المسلمون إذا حل بهم خوف يؤخرون الصلاة عن وقتها، ثم يقضونها كما فعلوا يوم "الخندق" إلى أن نزل صلاة الخوف، ولها حالتان: إحداهما: أن يكون العدو قارين في معسكرهم. الحالة الثانية: أن يكون في حال التحام القتال. أما الحالة الأولى، فلا يخلو إما أن يكون العدو في غير ناحية القِبلة، أو كانوا في ناحية القِبلة يراهم المسلمون إذا حملوا، فإن كانوا قارين في معسكرهم في غير ناحية القِبلة، أو كانوا في ناحية القِبلة، ولكن بينهم وبين المسلمين حجابٌ لا يرونهم، فالإمام يجعل القوم طائفتين، فتقف طائفة وجاه العدو، وتحرسهم، ويتنحَّى الإمام بطائفة عن العدو إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو، فيشرع معهم في الصلاة مستقبل القِبلة، فإذا صلى بهم ركعة، وقام إلى الثانية منتصباً خرجت تلك الطائفة عن متابعته. ولو خرجت بعد ما رفع رأسه من السجود الثاني جاز، والأول أولى، فإذا خرجت عن متابعته صلت الركعة الثانية، وسلَّمت، ثم ذهبت إلى وجاه العدو، وأتت الطائفة الثانية،

واقتدت بالإمام، والإمام يطيل القراءة إلى فراغ الطائفة الأولى، ومجيء الثانية. ثم نقل المُزني- رحمه الله- أن الإمام يقرأ بعد مجيء الطائفة الثانية بأمِّ القرآن، وسورة. ونقل الربيع أنه يقرأ بقدرِ أم القرآن، وسورة. واختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: هل يقرأ الإمام في انتظاره مجيء [الطائفة] الثانية؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقرأ حتى تأتي الطائفة الثانية؛ لأنه قرأ مع الطائفة الأولى قراءة تامَّة، كذلك يقرا مع الثانية قراءة تامَّة. والثاني: وهو الأصح يقرأ؛ لأن أفعال الصلاة لا تخلو عن ذكر. ومنهم من قال، وهو الأصح: يقرأ قولاً واحداً، وما نقله الربيع أولى؛ لأن السُّنة للإمام إذا قام أن يشتغل بقراءة الفاتحة، ولا يقدم غيرها عليها ولا يقف ساكتاً ثم بعد مجيئهم يقرأ بقدرِ أم القرآن، وسورة فيصلي بهم الركعة الثانية، فإذا قعد للتشهد لا يقعدون معه، بل يقومون ويتمُّون الصلاة لا يخرجون عن متابعته، والإمام ينتظرهم في التشهد، فإذا علم أنهم قضوا ركعتهم وتشهدوا سلَّم بهم هكذا روى صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم "ذات الرقاع" ورواه عن سهل بن أبي حثمة.

وإذا قعد للتشهد، وقامت الطائفة الثانية، فالإمام هل يتشهد في حال الانتظار أم لا يتشهد حتى يقعدوا؟. قيل: فيه قولان، كما قلنا في القراءة، والمذهب أنه يتشهد قولاً واحداً، بخلاف القراءة، فإنه قد قرأ مع الطائفة الأولى، فلا نقرأ في الركعة الثانية حتى تأتي الطائفة الثانية، ولم يتشهد مع الأولى فلا معنى للتأخير. وقال أبو حنيفة: إذا صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة، وقام فتلك الطائفة لا يتمون صلاتهم، بل يذهبون إلى وجاه العدو في خلال الصلاة، فيقفون سكوتاً، وتأتي الطائفة الثانية، فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ويسلم وهم لا يسلَّمون، بل يقومون في خلال الصلاة إلى وجاه العدو، وتعود الطائفة الأولى إلى مكانهم، فيتمون صلاتهم، ثم يذهبون إلى وجاه العدو، [وترجع الطائفة الثانية إلى مكانهم، فيتمون صلاتهم، ثم يذهبون إلى وجاه العدو] وهذا رواية ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى بذات الرِّقاع كذلك. وذهب الشافعي إلى رواية صالح بن خوات بن جبير لموافقة القرآن، فإن الله تعالى

قال: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] أي: إذا صلوا، فهذا يدل على أنهم أتموا صلاتهم. وقال: "ولتأت طائفة أخرى لم يصلُّوا فدل على أن الطائفة الأولى قد صلت، ولأنه ذكر ذهاب الطائفة مرة، ولم يذكر الرجوع لإتمام الصلاة، ولأنه أدعى لحقِّ الصلاة حتى

لا يكثر فيها العمل، وأحوط لأمر الحرب حتى لا يمنعهم اشتغال القلب بالصلاة عن محاربة العدو، ولو احتاجوا إليها، فلو صلوا مثل ما رواه ابن عمر هل يجوز أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، وهو من الاختلاف المباح. والثاني: لا يجوز، وخبر ابن عمر منسوخ بخبر سهل بن أبي حثمة. ولو صلى كل واحد منهم منفرداً، أو صلى الإمام بطائفة تمام الصلاة، وأمر غيره حتى صلى بالطائفة الثانية جاز. ولكن أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- كانوا يتنافسون في الاقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم- فآسى الله بينهم، فحازت إحدى الطائفتين فضيلة التحريم، والأخرى فضيلة التسليم. ولو صلى بالطائفة الأولى تمام الصلاة، ثم جاءت الطائفة الثانية، فصلى بهم تلك الصلاة ثانياً جاز، فتكون الثانية نفلاً للإمام، وفرضاً للقوم، هكذا صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببطن نخل. ولا يشترط استواء الطائفتين في العدد، غير أن المستحبَّ ألا تنتقص كل طائفة عن الثلاث، فإن جعل الأكثر في مقابلة العدو، وصلى بثلاث، وإن صلى بالأكثر حرسهم ثلاثة، فإن صلى بواحد أو اثنين حرسه رجلان، أو رجل بأن كان في مضيق يسده رجل واحد وصلى بالأكثرين جاز، هذا إذا صلى بهم الصبح، أو كانوا في سفر فصلى بهم ركعتين قصراً، فإن صلى بهم صلاة المغرب يجعلهم طائفتين، فيصلي بالأولى ركعتين، ويتشهد بهم، فإذا قام خرجوا عن متابعته، وأتموا صلاتهم ثم أتت الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة، فإذا قعد قاموا، وأتموا لأنفسهم، وسلَّم بهم الإمام. وإنما قلنا: يصلي بالطائفة الأولى ركعتين؛ لأنهم سابقون، فهم أولى بالزيادة، ولأنه إذا صلى بهم ركعة وبالثانية ركعتين زاد في صلاة الطائفة الثانية تشهد، فلو صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم قام وخرجوا عن صلاته، وأتموها لأنفسهم، ثم صلى بالثانية ركعتين جاز وهكذا فعل عليٌّ- رضي الله عنه- ليلة "الهرير"، فإذا صلى بالطائفة الثانية ركعتين يقعدون

معه للتشهد؛ لأنه موضع قعودهم، ثم يقومون ويتمُّون صلاتهم، وينتظرهم الإمام حتى يسلم بهم. والأول أولى، وهو أن يصلي بالأولى ركعتين، وإذا صلى بالأولى ركعتين. قال الشافعي- رضي الله عنه-: إن ثبت قائماً فحسن، وإن ثبت جالساً فجائز، وهو كما قال: إن الأولى أن ينتظر في القيام في الركعة الثانية فراغ الطائفة الأولى، ومجيء الثانية. فلو قعد للتشهد الأول، وخرجت الطائفة الأولى من صلاته، وانتظرهم الإمام جالساً يجوز وإنما قلنا: انتظارهم في القيام أولى؛ لأن إطالة القيام بالقراءة أفضل من إطالة القعود، ولأنه إذا انتظر في التشهد لا يدري الطائفة الأولى متى يقومون؟ وإذا أتت الثانية يحتاجون إلى إحداث فعل غير محسوب لهم، وهو القعود. وإن كان هذا في الحضر فصلى بهم صلاة ذات أربع ركعات يصلي بطائفة ركعتين، فإذا قام إلى الركعة الثالثة خرجوا عن متابعته، وأتموا لأنفسهم، ولو انتظرهم جالساً في التشهد الأول، فجائز، ثم تأتي الطائفة الثانية، فيصلي بهم ركعتين، فإذا أتموا سلم بهم، ولو فرَّقهم أربع فرقٍ فصلى بكل طائفة ركعة فهل يجوز؟ وهل تصح صلاة الإمام؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الأصل أن الانتظار في الصلاة لا يجوز، غير أنا جوزنا انتظارين لورود الشرع به، فلا يجوز أكثر. والثاني: وهو الأصح يصح؛ لأنه لما جاز انتظاران للحاجة إليها، فقد يحتاج إلى أن يجعل ثلاثة أرباع الجيش في مقابلة العدو لكثرة العدو، فيحتاج إلى أربع انتظارات، فإن جوزنا فالطائفة الثانية هل يتابعون الإمام في التشهد الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لا تتابعه الطائفة الأخيرة في التشهد الأخير. والثاني: يتابعونه، ثم إذا قام خرجوا عن متابعته؛ لأن الإمام لا يستبدُّ بشيء من صلاة الخوف دون القوم. فإن قلنا: لا يجوز أن يفرِّقهم أربع فرق ففعل، فصلاة الطائفة الأولى والطائفة الثانية صحيحة؛ لأنهم فارقوا الإمام قبل بطلان صلاته، وصلاة الطائفة الثالثة والرابعة تبطل إن علموا بفساد صلاة الإمام وتابعوه، وإن جهلوا فلا تبطل؛ لأن صلاة الإمام تبطل بانتظار مجيء الطائفة الثالثة وكذلك في صلاة المغرب.

وإن فرَّقهم ثلاثاً وقلنا لا يجوز، فصلاة الطائفة الثالثة تبطل إذا علموا بفساد صلاة الإمام. وقال ابن سريج: في صلاة المغرب صلاة الكل صحيحة، وفي ذات الأربع تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، وتبطل صلاة الطائفة الرابعة لأن للإمام انتظارين: انتظار في الركعة الأولى، وانتظار في الثانية، وتبطل صلاة الإمام بالانتظار [في] الثالثة، والطائفة الثالثة فارقوه قبله، والأول المذهب. والمنصوص أن للإمام أن ينتظر قدر ما انتظر النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو عليه السلام انتظر في الركعة الأولى فراغ الطائفة الأولى، ومجيء الثانية، وفي الركعة الثانية انتظر فراغ الطائفة الثانية فحسب. فإذا زاد على ذلك، وانتظر مجيء الثالثة بطلت صلاته، فالطائفة الثالثة اقتدت به بعد بطلان صلاته. فلو سها بعضهم في صلاة الخوف، لا يخلو إما أن سها الإمام أو بعض المأمومين، فإن سها الإمام، نظر إن سها في الركعة الأولى، فالطائفة الأولى إذا أتموا صلاتهم يسجدون للسهو، ويسجد الإمام مع الطائفة الثانية في آخر صلاته، وإن سها في الركعة الثانية، فلا سجود على الطائفة الأولى؛ لأنهم فارقوه قبل السهو، وسجدت الثانية مع الإمام في آخر الصلاة، وإن سها بعض المأمومين، نظر إن سها واحد من الطائفة الثانية، فالإمام يتحمل عنه، سواء سها في الركعة الأولى، أو في الثانية؛ لأنه في الركعتين في حكم متابعة الإمام، وإن فارقوه في الثانية فعلاً، وإن سها واحد من الطائفة الأولى [نظر إن سها في الركعة الأولى] يتحمل عنه الإمام، وإن سها في الثانية بعد ما فارق الإمام يسجد للسهو في آخر صلاته. أما إذا كان العدو في ناحية القِبلة على رأس جبل وفي مستوى من الأرض، بحيث لو حملوا رآه المسلمون لا يسترهم شيء، فالإمام يصلي بهم جميعاً فإذا ركع ركعوا معه، وإذا سجد لا يسجد معه الصف الأول، أو بعض الصف الأول، بل يحرسونهم قائمين في السجدتين، فإذا قام الأول ومن سجد معه في الركعة الثانية سجدت الطائفة الحارسة، ثم قامت في الركعة الثانية يركعون معه جميعاً فإذا سجد سجد معه الذين حرسوا في الركعة الأولى وحرسهم الصف الثاني، وبعضهم قائمين، فإذا قعد للتشهد، ومن سجد معه سجدت

الحارسة، ولحقته فسلم بهم جميعاً، كذلك فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بـ "عسفان" عام "الحديبية" سنة ست من الهجرة، فلو تأخرت الطائفة التي حرست أولاً إلى الصف الثاني في الركعة الثانية، وتقدمت الطائفة الثانية للحراسة كان أحوط لأمر الحرب، وهو عمل قليل لا يبطل الصلاة، فلو حرس الصف الثاني في الركعة الأولى والصف الأول في الثانية جاز، ولو حرست طائفة واحدة في الركعتين جميعاً هل تصح صلاة تلك الطائفة؟. قال الشافعي: رجوت أن يجزئهم، ولو أعادوا كان أحبَّ إلي، وهو على جوابين بناءً على القولين في الإمام إذا زاد على انتظارين. وهل يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؟ قال ها هنا: أحب أخذه. وقال في موضع آخر: وأكره وضعه. من أصحابنا من جعل في وجوب حمل السلاح قولين: أحدهما: لا يجب، بل يستحب احتياطاً. والثاني: يجب؛ لأن الله- تعالى- قال: {وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] أمر بالأخذ، والأمر للوجوب وأيضاً قال: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] رفع الجناح في وضع السلاح عند العذر دل على أنه يعصي بوضعه عند عدم العُذر. ومنهم من قال: يجب قولاً واحداً. قوله: "وأكره الوضع"- أراد كراهية التحريم. ومنهم من قال: لا يجب قولاً واحداً، لأن السلاح إنما يجب حمله للقتال، وهو في الصلاة غير مقاتل، فحيث قلنا: يأخذ إنما يأخذ إذا كان طاهراً، فإن كان نجساً لا يجوز

أخذه، وكذلك إذا كان كبيراً يشغله حركته وثقله كالتُّرس الكبير والجعبة، يؤذي جاره كالرُّمح، فإنه لا يؤخذ إلا أن يكون في حاشية القوم، فلا بأس بأخذ الرمح. الحالة الثانية: من أحوال صلاة الخوف: أن يكون في حال المسابقة والتحام القتال، فإنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم، كما أمكنهم إلى القِبلة وغير القِبلة يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الرجوع، فلا يجب على الماشي استقبال القِبلة في الركوع والسجود، ولا الافتتاح، ولا يجب وضع الجبهة على الأرض. وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي، بل يؤخر، والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239]. قال ابن عمر: مستقبلي القِبلة، وغير مستقبليها. قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يضرب في الصلاة ضربتين، أو يطعن طعنتين على التوالي من غير ضرورة، ولا يجوز أن يضرب ثلاثاً على التوالي فإن فعل بطلت صلاته إلا لضرورة بأن قصده عدو، فلم يندفع بضربتين، أو اندفع وقصده آخر، فاحتاج إلى أن يوالي بين الضربات لا تبطل صلاته بذلك.

وكذلك لا بأس أن يصلي ممسكاً عنان دابته، فإن نازعته فجذبها مرتين، ولم ينحرف عن القِبلة جازت صلاته، فإن كثرت بطلت صلاته، وإن جذبته عن القِبلة فرجع إلى مكانه بنى، وإن لم يمكنه حتى طال أعاد الصلاة، وذلك أن الانحراف عن القِبلة إنما يعفى عنه إذا كان بسبب العدو لا بسبب الدابة، ولو صاح على العدو بطلت صلاته، كما لو تكلم؛ لأنه لا ضرورة إليه، وإذا نجس سلاحه وضعه في الحال، فإن لم يجد بُداً من إمساكه صلى معه، ثم أعاد وإن أمسكه من غير حاجة إليه بطلت صلاته، ولو كان يصلي على الدابة في شدة الخوف، فأمن في خلال الصلاة. قال الشافعي: نزل فبنى على صلاته، ولو كان يصلي حال الأمن إلى القِبلة، ثم حدث الخوف، قال: ركب واستأنف وعلل بأن عمل النزول أخف من عمل الركوب. اعترض عليه المزني فقال: قد يكون الفارس أخف ركوباً، وأقل شغلاً لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس. واختلف أصحابنا فيه، منهم من أجرى على الظاهر، وقال بالركوب تبطل الصلاة بكل حال، وبالنزول لا تبطل. وأجاب المزني بأن نزول كل فارس يقابل بركوبه فمن ثقل نزوله كان ركوبه أثقل، ومن خف ركوبه كان نزوله أخف. ومنهم من فصل وقال: إذا خف نزلوه بنى، فإن كثر عمله في النزول استأنف. وإذا ركب بطلت صلاته إن أمكنه أن يقاتل راجلاً، وإن لم يمكنه واضطر إلى الركوب ركب وبنى، وإن كثر عمله؛ لأنه ليس بأكثر من الطعن والضرب. وخرج منه أنه إن لم يضطر إلى الركوب فركب استأنف، وإن اضطر إليه فوجهان، وإن نزل وخف نزوله بنى، وإن ثقل فوجهان. وإن نزل واستدبر القِبلة في النزول بطلت صلاته؛ لأنه ترك القبلة من غير خوف، ولو انهزم العدو لم يجز لهم أن يصلوا في طلبهم صلاة شدة الخوف؛ لأن الصلاة فرض وطلبهم تطوع، فإن خافوا منهم الكمين أو التحرُّف للقتال جاز ولا إعادة عليهم، ولو صلوا في حال الأمن صلاة شدة الخوف لا يصح، ولو صلوا صلاة "عسفان" تصح صلاة الإمام، ولا تصح صلاة القوم؛ لأنهم تخلَّفوا عن الإمام بركنين، ولو صلوا صلاة "ذات الرقاع" ففيه قولان، بناءً على أنه هل يجوز للإمام انتظار المأموم بغير عُذر؟ وهل يجوز للمأموم الخروج عن صلاة الإمام بغير عذر؟ وفيه قولان.

ولو رأوا سواداً أو تلّا فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف بالإيماء، ثم بان أن لم يكن عدواً ففيه أقوال: أصحها: وهو قوله الجديد: يجب عليهم الإعادة؛ لأن الفرض لا يسقط بالخطأ. وقال في "الإملاء": لا إعادة عليهم؛ لأن العلة الخوف، وكانت موجودة وقال في القديم: إن كان في دار الإسلام يجب الإعادة، وإن كان في دار الحرب فلا يجب؛ لأن الغالب من أمر دار الحرب الخوف والعدو. ولو رأوا العدو حقيقة، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم ظهر أنه كان بينهم وبين المسلمين حاجزٌ من ماء، أو خندق يمنع العدو عنهم، أو ظهر للمسلمين مددٌ يمنعهم، أو ظهر بقربهم حصنٌ أمكنهم التحصن به، أو ظنوا أن بإزاء كل مسلم مشركين فبان أقل- ففي وجوب الإعادة قولان: أصحهما: يجب الإعادة. ولو صلى في هذه الأحوال صلاة "عسفان"؛ هل على القوم الإعادة؟ فيه قولان؛ كما لو صلوا صلاة شدة الخوف. ولو صلوا صلاة "ذات الرقاع" إن قلنا: يجوز في حال الأمن، فها هنا يجوز، وإلا فعلى قولين؛ كما لو صلوا صلاة شدة الخوف. ولو صلوا صلاة "بطن نخل" يجوز؛ لأنه يجوز في حالة الأمن. والكمين إذا صلوا قعوداً خوفاً من أن يراهم العدو جاز، ويجب عليهم الإعادة؛ كالمحبوس في الحشِّ يصلي، ويعيد. والله أعلم. بابُ: من له أن يصلي صلاة الخوف كل قتال كان: مفروضاً أو مباحاً، جاز أن يصلي فيه صلاة شدة الخوف؛ فالمفروض هو: أن يكون بمقابلة كل مسلم مشركان فأقل، والمباح: أن يكون بمقابلة كل مسلم أكثر من مشركين. فلو ولَّى ظهره هارباً: نظر إن كان بمقابلة كل مسلم أكثر من مشركين، جاز أن يصلي في الهرب صلاة الخوف متوجهاً إلى الجهة التي يهرب إليها. وإن كان بمقابلة كل مسلم مشركان فأقل، لا يجوز أن يصلي صلاة شدة الخوف في الهرب؛ لأنه عاص، إلا أن يكون متحرِّفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة؛ فله أن يصلي صلاة الخوف في حالة التوالي.

وإن كان قتال معصية، لا يجوز أن يصلي صلاة الخوف. وفي قتال أهل البغي يجوز لأهل العدل أن يصلوا صلاة الخوف، ولا يجوز لأهل البغي. وكذلك لو قاتل أهل الرُّفقة مع قُطَّاع الطريق؛ فلأهل الرفقة أن يصلوا صلاة الخوف، ولا يجوز لقُطَّاع الطريق. وكذلك لو قصد رجل نفسه، أو حريمه، أو حريم غيره، أو إتلاف ماله- وكان حيواناً- له أن يصلي صلاة الخوف في دفعه وإن قصد أخذ ماله، أو قصد إتلاف ماله- ولم يكن حيواناً فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف؟ فيه قولان: الأصح: أنه يجوز؛ لأن الدفع عن ماله مباحٌ له؛ كالدفع عن نفسه. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من قُتل دون ماله، فهو شهيدٌ".

والثاني: لا يجوز؛ لأن حرمة الروح أعظم. وهذا بناءً على أنه: هل يجوز أن يدفعه عن ماله بالقتل؟ فيه قولان: الأصح: جوازه. ولو هرب من قصاص- وجب عليه يرجو عفوه- أو هرب من غريم- يطالبه وهو معسر- له أن يصلي صلاة الخوف. ولو غشيهُ سيلٌ في بطن واد؛ ولم يجد نجدةً، فهرب أمامه؛ إبقاء لروحه أو دوابه، أو قصده سبعٌ أو خاف حريقاً فعدا- فله أن يصلي صلاة الخوف. وإن وجد نجوةً- يمكنه أن يرتفع إليها- لم يجز أن يصلي صلاة الخوف [إن وجد نجوة]. فإن فعل أعاد فإن أمكنه تخليص نفسه بالارتفاع إليها، ولا يمكنه تخليص ماله إلا بالهرب فهرب؛ فإن كان المال حيواناً، جاز له أن يصلي صلاة الخوف. وفي غير الحيوان قولان: الأصح: جوازه.

باب: ما له لُبسهُ روي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم". لا يجوز للرجال لبس الحرير والديباج، ولا لبس خاتم الذهب، ولا لبس الدِّرع المسنوج بالذهب، ولا القباء بأزرار الذهب؛ إلا عند الضرورة؛ بأن يخاف على نفسه من حرٍّ أو برد، ولم يجد غيره؛ فيجوز له لُبسه. وكذلك لو كان به جربٌ أو حِكَّةٌ أو قمل، له لبس الحرير. روي عن أنس قال: رخَّص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزُّبير بن

العوام في قميص الحرير من حِكَّة كانت بهما. ويروى أنهما شكوا القمل، فرخص لهما. وكذلك لو فاجأه الحرب، ولم يجد إلا خفافاً من ديباج، أو درعاً منسوجاً بالذهب، أو بيضة مطلية بالذهب- جاز لبسها؛ لأجل الضرورة، وإن وجد غيرها لم يجز. ولو لبس ثوباً عليه طراز أو علم من إبريسم بقدر أربع أصابع جاز، فإن زاد لم يجز، فإن كان من ذهب لم يجز بحال إذا حصل له منه شيء. والفرق بين الذهب يحرم قليله، ولا يحرم قليل الإبريسم على الرجال: أن الشرف والخُيَلاء موجود في قليل الذهب؛ فإن نفاسته يعرفها الخاص والعام: بخلاف الإبريسم. ولو خاط ثوباً بإبريسم جاز لبسه، ولو رقعه بقليل من ديباج جاز. روي أنه كان للنبي- صلى الله عليه وسلم- جُبَّة مكفوفة الجيب والكُمَّيْنِ والفرجين بالديباج. ولو لبس جبة محشوة بالقزِّ أو الإبريسم، جاز على الأصح؛ لأن الشرف فيه غير

ظاهر. فإن كانت ظهارتها أو بطانتُها من إبريسم، لم يجز. ولو نُسج ثوبٌ من قطن وإبريسم؛ كالعتابى: نظر إن كان الأكثر منه الإبريسم لا يجوز، وإلا فيجوز مع الكراهية؛ كالخز سُداؤه إبريسم، ولحمته صوف جاز؛ لأن اللُّحمة أكثر من السُّداء. فإن كانت اللُّحمة من الإبريسم لا يجوز، وإن كانا نصفين فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأن [التحريم] لغلبة المُحرَّم، والمحرم ليس بغالب. وقال الشيخ القفال- رحمه الله-: إن كان ما يظهر للعين منه الإبريسم لم يجز، وإلا فيجوز، ولا ننظر إلى الكثرة. ويجوز للنساء لُبس الحرير والديباج، وحليِّ الذهب. أما الجلوس على الديباج حرامٌ على الرجال والنساء جميعاً؛ لأنه من الخيلاء؛ وهو حرام على الفريقين .. واللبس للزينة، والزينة مباحة للنساء. وجوز أبو حنيفة للنساء افتراش الحرير والديباج. أما إذا بسط فوق الديباج ثوباً من قطن، وجلس عليه، أو قعد على حشيَّة من قطن حُشيت بالإبريسم فجائز. ويجوز للصبيان لبس الديباج؛ لأنه لا خطاب عليهم؛ غير أن الصبي إذا بلغ سنّاً يؤمر فيها بالصلاة يُنهى عن لُبس الديباج حتى لا يعتاد. قال الشافعي: ولا أكره للرجل لُبس اللؤلؤ إلا للأدب، وإنه من زيِّ النساء لا للتحريم، ولا أكره لبس ياقُوتٍ ولا زبرجدٍ إلا من جهة الشرف والخُيلاء. ويجوز أني لبس فرسه وأداته جلد ميتةٍ غير مدبوغ، سوى جلد الكلب والخنزير؛ لأنه لا تعبُّد على الفرس والأداة. أما جلد الكلب والخنزير: فلا يجوز؛ لغلظ حرمتهما.

كتاب العيدين

"كتابُ العيدين" روي عن أنس قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدنية- ولهم يومان يلعبون فيهما- فقال: "ما هذان اليومان؟ " قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله

قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفِطر". صلاة العيد سُنَّة مؤكدة. وقال الإصطخري: فرض على الكفاية. وقال أبو حنيفة: واجبة، وليست بفريضة.

فإن قلنا: هي سنة- وهو المذهب- فإذا اتفق أهل بلد على تركها؛ هل يجب قتالهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقاتلون عليه؛ كسائر التطوعات إذا تركوها. والثاني: يقاتلون عليه؛ لأنه من شعار الإسلام، ففي تركها تهاونٌ بالشرع، بخلاف سائر التطوعات؛ فإنها تؤدي فرادى، فلا يظهر تركها. ولا يشترط في صلاة العيد ما يشترط في الجمعة من: عدد الأربعين، والجماعة، ودار الإقامة. [هذا هو المذهب؛ كصلاة الخسوف. وفيه قول آخر- وبه قال أبو حنيفة-: يشترط فيه ما يشترط في الجمعة من: العدد، والجماعة، ودار الإقامة]. ولا تؤدي في بلد إلا في موضع واحد. ويستحب إظهار التكبير ليلتي العيد في: المنازل، والمساجد، والطرق، والأسواق؛ مسافرين كانوا أو حضوراً. وفي يوم العيد في طريق المصلَّى، وبالمصلَّى حتى يفتتح الإمام الصلاة. أما من كان حاجاً: فذكره التلبية ليلة الأضحى. وقال أبو حنيفة: لا يسن التكبير ليلة الفطر. والحجة عليه: قوله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وروي مثل قولنا عن ابن عمر، وعروة، وبه قال ابن المسيب، وأبو سلمة. ويستحب أن يغتسل يوم العيد، ويتنظَّف، ويحلق الشعر، ويقلم الظفر، وما يقطع الرائحة، ويتطيب، ويلبس أحسن ما يجد ويتعمَّم. والثياب البيض أحبُّ إلينا. ومن لم يكن له إلا ثوب واحدي ستحب أن يغسله لعيده وجمعته، يستوي فيه من يريد حضور المصلَّى، ومن لا يريد؛ لأن المقصود منه إظهار الزينة والجمال؛ وذلك عام لجميع المسلمين. ويستحب للقوم بعد ما صلوا الصبح يوم العيد: أن يغدوا إلى المصلى؛ لأخذ مجالسهم، ويختاروا قرب الإمام، ويكون خروج الإمام في وقت يمكنه افتتاح الصلاة. وهو بعد ارتفاع الشمس قيد رُمح؛ حتى لا يحتاج إلى انتظار القوم. ووقت صلاة العيد من حين ترتفع الشمس إلى وقت الزوال. ويستحب في عيد الفطر بعد دخول وقت الصلاة: أن يؤخر الخروج قليلاً، ويعجل الخروج في عيد الأضحى؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى عمرو بن حزم: أن عجل

الأضحى، وأخِّر الفطر، وذكِّر الناس. والمعنى فيه: أن في عيد الفطر يخرج صدقة الفطر قبل الصلاة؛ فيؤخر الصلاة لأجلها. والسُّنة في عيد الفطر: أن يطعم شيئاً قبل الخروج إلى الصلاة، ولا يطعم في عيد الأضحى حتى يرجع؛ لما روي عن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهنَّ وتراً. وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر، حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي. والسنة للإمام والقوم: أن يمشوا إلى المصلى؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- ما ركب في عيد، ولا جنازة قط. فإن عجز عن المشي ركب. أما في الرجوع: فله أن يركب مع القدرة؛ لأنه رجوع عن الطاعة، فلا يحتسب خطاه.

ويستحب أن يصلي صلاة العيد في الصحراء؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى الصحراء؛ لأنه أرفق بالناس؛ فإنه يحضرها القاصي والداني، والنساء والصبيان. فإن كان المسجد واسعاً يسعهم، ففي المسجد؛ خصوصاً إذا كان له شرف أفضل؛ لأن الأئمة لم يزالوا يصلون بـ "مكة" في المسجد صلاة العيد. كذلك في "بيت المقدس". فإن خرج إلى الصحراء يجوز. وإن كان المسجد ضيقاً، فالصحراء أولى؛ حتى لا يقع الناس في الزِّحام؛ لضيق المكان. فإن كان عذر من مطر وغيره، يصلي بهم في المسجد [الجامع]. فلو تفرقوا في المسجد، جاز. وإذا خرج الإمام إلى المصلى، يستحب أن يأمر من يصلي بضعفة الناس الذين لا يمكنهم حضور المصلى في موضع من المصْرِ. وليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة، فإذا بلغ الإمام المصلى ينادي: "الصلاة جامعة". ويفتتح الصلاة بالتكبير، فإذا كبر للافتتاح يقرأ دعاء الاستفتاح، ثم يكبر سبع تكبيرات سوى تكبيرة الافتتاح، يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة ويستحب أن يقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فإذا فرغ من التكبيرة السابعة تعوذ، وقرأ بأم القرآن، وسورة "ق". فإذا قام إلى الركعة الثانية، كبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام، يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة من هذه الخمس، ويسبح بين كل تكبيرتين؛ كما في الركعة الأولى، ثم يقرأ بأم القرآن، وسورة {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} ويجهر بالقراءة. وقال مالك: يكبر في الأولى سبعاً مع تكبيرة الافتتاح؛ وهو قول ابن عباس. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأولى ثلاثاً قبل القراءة سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية ثلاثاً بعد القراءة، ولا يقرأ بين التكبيرتين شيئاً.

دليلنا: ما روي عن عروة، عن عائشة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان يكبِّر في الفطر والأضحى: في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً. وعن جعفر بن محمد: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر- كبروا في العيدين والاستسقاء سبعاً وخمساً، وصلوا قبل الخُطبة، وجهروا بالقراءة. وعن علي مثله؛ وهذا قول أكثر أهل العلم. روي عن [أبي واقدٍ] الليثي، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ يوم الفِطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.

وعن النعمان بن بشير قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. ولو نسي التكبيرات الزوائد، فتذكرها بعد ما ركع مضى، ولا يعود، ولو عاد بطلت صلاته. ولا يسجد للسهو؛ كما لو ترك التعوذ، وقراءة السورة. ولو تذكر قبل الركوع: نظر إن كان قبل أن يبتدئ القراءة كبر، وإن تذكر بعد ما ابتدأ القراءة، أو فرغ منها- في الجديد: لا يكبر؛ كما لو ترك دعاء الاستفتاح، فتذكر بعد ما اشتغل بالتكبيرات أو بالقراءة لا يعود إليه. وفي القديم: يكبر، ثم يعيد القراءة؛ لأنه في محل التكبير؛ وهو القيام، بخلاف دعاء الاستفتاح؛ لأنه لافتتاح الصلاة، وقد فات الافتتاح. ولو أدرك الإمام بعد ما فرغ من التكبيرات، لا يكبر؛ كما لو أدركه بعد الركوع

لا يقرأ. وقال في القديم: يكبر؛ لأن محله القيام وقد أدركه. ولو ترك الإمام بعض التكبيرات؛ هل يأتي به المأموم؛ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو ترك القنوت لا يأتي به المأموم؛ لأنه ليس فيه كثير مخالفة. وقال الشيخ رحمه الله: ولا خلاف: أنه لو أتى به لا تبطل صلاته؛ بخلاف القنوت؛ لأن الإمام انتقل عن ركن القنوت، وها هنا لم ينتقل عن محلِّ التكبير. وإذا أدركه مسبوق في الثانية يكبر معه خمساً، فإذا قام للثانية لا يكبر إلا خمساً؛ لأن في قضائه ترك سنة أخرى، بخلاف صلاة الجنازة؛ يقضي بعد تسليم الإمام ما فات؛ لأنها أركان؛ وقيل: إن أدرك الإمام في الثانية، كبر سبعاً. ولو صلى العيد خلف من يكبر ثلاثاً أو ستاً؛ هل يتبع الإمام في رأيه؟ فيه قولان: أحدهما: يتبعه؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ فلا تختلفوا عليه". وكما لو صلى الصبح خلف من لا يرى القنوت، لا يقنت، ويتابع الإمام. والثاني: يكبر على اعتقاده؛ لأنه ليس فيه مخالفة ظاهرة، بخلاف القنوت. ولو صلى على جنازة خلف من يكبر خمساً؛ هل يتبعه؟ فعلى قولين؛ كصلاة العيد. وقيل: في صلاة الجنازة لا يتابعه في الخامسة؛ وبه قال أبو حنيفة؛ وعنده: يتابع في صلاة العيد في سبع تكبيرات؛ لأن السبع صحيح؛ وكثير من العلماء عليه اليوم، وليس على الخمس في صلاة الجنازة أحد اليوم، وإن كان في الصدر الأول فهو متروك في صلاة الجنازة وإذا لم يتبعه ماذا يفعل؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة: يسلم. والثاني: ينتظر الإمام حتى يسلم معه، فإذا فرغ الإمام من صلاة العيد، صعد المنبر، وأقبل بوجهه على الناس، وسلم. وهل يجلس قبل الخطبة؟ فيه وجهان: أحدهما: نص عليه الشافعي في الأم-: يجلس بقدر أذان، ثم يقوم؛ كما في خطبة الجمعة. والثاني: لا يجلس، بخلاف الجمعة؛ فإنه يجلس فيها؛ لفراغ المؤذنين، وليس في العيد أذان. ويخطب خطبتين قائماً يجلس بينهما جلسة خفيفة- كما ذكرنا في خطبة الجمعة- ويستحب أن يفتتح الخُطبة الأولى بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات.

قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: هو من السنة. وتجوز خطبة العيد قاعداً مع القدرة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- خطب على راحلته يوم العيد؛ لأنها ليست بفرض؛ كصلاة العيد تجوز قاعداً. وأركان الخطبة ما ذكرنا في خطبة الجمعة. ثم بعد ما أمرهم في الخُطبة بطاعة الله، ونهاهم عن معصيته- علمهم في عيد الفطر كيفية إخراج صدقة الفطر، وكميتها. وفي عيد الأضحى علَّمهم الأضحية، وما يجوز منها، وما لا يجوز، وإلى متى يجوز؟ وحضَّهم عليها، ودعا للمؤمنين. ثم نزل، وانصرف. ومن حضر- والإمام يخطب- جلس، واستمع الخطبة، ثم قضى الصلاة: إن شاء في الصحراء، وإن شاء في بيته إذا رجع. وإن كان يصلي في المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا صلى صلاة العيد كان أولى؛ كما لو دخل المسجد وعليه مكتوبة فأداؤها أولى، ويحصل في ضمنه تحية المسجد؛ قاله أبو إسحاق. وهو الأصح. وقال ابن أبي هريرة: يصلي تحية المسجد، ولا يصلي صلاة العيد؛ لأن الإمام لم يفرغ من سنة العيد؛ فلا يشتغل هو بالقضاء. ويستحب: أن يرجع إلى بيته من غير الطريق الذي جاء. روي عن أبي هريرة قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد من طريق، رجع في غيره.

واختلفوا في: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم كان يفعله؟ قيل: كان يفعله حذراً من كيد المنافقين؛ كما كان إذا أراد سفراً ورَّى بغيره والصحيح: أنه كان يسلك الطريق الأبعد في الذهاب؛ لأنه ذهاب إلى الطاعة فتحتسب خطاه، ويرجع من الأقصر. ويجوز التنفُّل قبل صلاة العيد وبعدها؛ في البيت، وفي الطريق، وبالمصلى ولا يكره. وقال أبو حنيفة: يكره بالمصلَّى قبل صلاة العيد، وبعدها: ويجوز للمنفرد، والعبد، والمسافر، والمرأة- أن يصلوا صلاة العيد في البلد، وفي الطريق وإذا فاتت يقضي، بخلاف صلاة الجمعة؛ فإنها معدولةٌ عن فرض بشرائط. ويستحب للعجائز اللاتي لا يخاف منهن الفتنة حضور المصلى للعيد، ويتنظفن بالغسل، ولا يلبسن شهرة الثياب، ولا يتطيَّبن. روي عن أم عطية قالت: أمرنا أن نخرج الحيَّض يوم العيدين، وذوات الخدور؛ فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، وتعتزل الحُيَّض عن مصلاهم. قالت امرأة: إحدانا

ليس لها جلبابٌ. قال: "لتلبسها صاحبتها من جلبابها". ويستحب تزيين الصبيان بالصبغ والحلي؛ لإظهار السرور؛ ذكوراً كانوا، أو إناثاً؛ لأنه عيد المسلمين، وليس على الصبيان تعبد؛ فلا يمنعون من لُبس الحلي. فصلٌ: في التكبيرات التكبيرات المرسلة في ليلتي العيد سُنَّة، من حين تغرب الشمس إلى أن يفتتح الإمام صلاة العيد بالمصلى. أما التكبيرات المقيَّدة بأدبار الصلوات: فمختصة بعيد الأضحى، ومتى يبتدئ بها؟ المشهور من المذهب: أنه يبتدؤها عقيب صلاة الظهر من يوم النَّحر، ويختم عقيب الصبح من آخر أيام التشريق: فيكون مكبراً خلف خمس عشرة صلاة؛ وهو قول ابن عباس، وابن عمر؛ لأن الناس فيه تبعٌ للحاج؛ وهم يبتدئون التكبير عقيب الظهر يوم النحر، وذكرهم قبل ذلك التلبية.

وقال في موضع: يبتدئ التبكير عقيب صلاة الصبح من يوم "عرفة"، ويختم عقيب العصر من آخر أيام التشريق؛ فيكون مكبراً خلف ثلاث وعشرين صلاة؛ يروى ذلك عن عمر وعلي، وهو مذهب مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ ليكون جامعاً في التكبير بين الأيام المعلومات والمعدودات. وقال في موضع: يبتدئ التكبير عقيب صلاة المغرب ليلة النحر، ولم يبين متى

يقطع؟ قال أصحابنا على هذا: يقطع عقيب الصبح من آخر أيام التشريق؛ فيكون مكبراً خلف ثماني عشرة صلاة. فمن أصحابنا من جعل المسألة على ثلاثة أقوال، ومنهم من قال: مذهبه القول الأول. وحيث قال: يبتدئ عقيب الصبح من يوم "عرفة"- حكاية مذهب الغير، وحيث قال: عقيب المغرب من ليلة النحر- أراد به: التكبيرات المرسلة. وقال أبو حنيفة: يبتدئ عقيب الصبح من يوم "عرفة"، ويختم عقيب العصر من يوم النحر، فيكون مكبراً خلف ثماني صلوات؛ ويروى ذلك عن ابن مسعود. ثم لا خلاف أن التكبير مشروع عقيب فرائض الأوقات في هذه الأيام لنقل الخلف عن السلف. وفيه ثلاثة معاني. أحدها: لأنها فريضة مؤداة في وقتها في أيام التكبير. والثاني: لأنها صلاة مشروعة في أيام التكبير. والثالث: لأنها صلاة مفعولة في أيام التكبير، وفائدتها تبين في السنن الرواتب. وصلاة العيد هل يكبَّر خلفها؟ فيه قولان: إن قلنا: بالمعنى الأول لا يكبر. وإن قلنا: بالمعنيين الآخرين يكبر. فلو صلى في أيام التكبير نافلة؛ هل يكبر خلفها؟ إن قلنا: بالمعنيين الأولين لا يكبر، وإن قلنا بالمعنى الثالث يكبر. وإن فاتته صلاة في أيام التكبير، فقضاها في غير أيام التكبير- لا يكبر خلفها؛ لأن التكبير مختص بهذه الأيام. وإن فاتته في هذه الأيام، وقضاها فيها: فإن قلنا: بالمعنى الأول لا يكبر، وإن قلنا: بالمعنيين الآخرين يكبر. ولو فاتته في غير أيام التكبير، وقضاها في أيام التكبير إن قلنا: بالمعنيين الأولين لا يكبر: وإن قلنا بالثالث يكبر. وهذا التكبير مسنونٌ في حق الرجال والنساء، والمقيم والمسافر؛ سواء صلى في الجماعة أو منفرداً وقال أبو حنيفة: لا يكبر المنفرد، ولا المرأة، ولا المسافر. ولو نسي التكبير خلف الصلاة، فتذكر- والفصل قريب- كبر، وإن فارق مصلاه كبَّر حيث كان، وإن كان بعد طول الفصل هل يكبر؟. فيه وجهان؛ بناءً على أنه لو نسي سجود السهو، وتذكر بعد طول الفصل هل يسجد؟ فيه قولان. المسبوق بركعة لا يكبر مع الإمام؛ لأن صلاته لم تتم، فإذا أتم صلاته كبر. والتكبير: أن يقول: الله أكبر ثلاث مرات نسقاً. وعند أبي حنيفة: يقول مرتين.

قال الشافعي: وما ذكر من ذكر الله فحسن. وذكر الزيادة في "الأم" فقال: يكبر ثلاثاً، ويزيد: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعدهُ، ونصر عبدهُ، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر. فصلٌ إذا شهد شاهدان يوم الثلاثين من رمضان: أنَّا رأينا الهلال البارحة: نظر إن صحت عدالتهما قبل الزوال، فالإمام يأمر الناس بالفطر، ويخرج فيصلي بهم صلاة العيد. وإن صحت عدالتهما بعد الزوال قبل غروب الشمس؛ سواء شهدا قبل الزوال أو بعده، أو صحت عدالتهما قبيل الزوال بزمان يسير لا يمكنهم الصلاة يأمرهم الإمام بالفطر. وهل يصلي بهم صلاة العيد من الغد؟ فيه قولان: أصحهما: يصلي؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق؛ لما روي عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- أن ركباً جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلّاهم. وقياساً على الفرائض إذا فاتت تقضى.

والثاني- وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، واختيار المزني-: لا يصلي من الغد، كصلاة الخسوف لا تقضى بعد الانجلاء. واحتج المزني- رحمه الله- بفصلين: أحدهما: قال: لو جاز القضاء من الغد، لجاز اليوم بعد الزوال؛ لأنه أقرب إلى الوقت. والآخر: أنه لو جاز من الغد، لجاز بعد شهر. قلنا: أما اليوم بعد الزوال، ففيه وجهان: أحدهما: إن أمكنه جمع الناس، يصلي اليوم بعد الزوال. والثاني: لا يقضى إلا في ضحوة الغد؛ كالوقوف بـ "عرفة" إذا فات لا تقضى من الغد، إنما يقضى في مثل وقته من العام المقبل. وأما بعد الغد إذا جوزنا القضاء؛ فهل يجوز أم لا؟ فيه قولان: أصحهما: يجوز. وقد نص الشافعي على أن الإمام لو كان مشتغلاً بالجهاد أيام العيد، فإذا فرغ قضى. والثاني: لا يقضي بعد الغد؛ لأن الغد يتصور أن يكون وقت الصلاة العيد بأن يخرج الشهر كاملاً. أما إذا شهد الشهود بعد غروب الشمس من يوم الثلاثين لا تقبل شهادتهم كما لو شهدوا في اليوم الثاني؛ لأن شوَّال قد دخل يقيناً، وليس في قبول شهادتهم إلا المنع من صلاة العيد، وإبطال صوم قد مضى. وكذلك لو شهدوا يوم الثلاثين قبل الزوال، أو بعده، وصحت عدالتهما بعد غروب الشمس، ففيه قولان: أصحهما: حكمه حكم ما لو شهدوا بعد الغروب، فلا يحكم به. والثاني: حكمه حكم ما لو صحَّت عدالتهما بعد الزوال قبل الغروب؛ فهل يعيد من الغد؟ فيه قولان. والله أعلم.

كتاب صلاة الخسوف

كتابُ صلاة الخسوف روي عن أبي بكرة قال: خسفت الشمس على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- فخرج يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وثاب إليه الناس فصلى بهم ركعتين فانجلت الشمس. فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد وإذا كان كذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم". وذلك أن ابناً للنبي- صلى الله عليه وسلم- مات يقال له: إبراهيم. فقال الناس في ذلك. وعن عائشة: أن الشمس خسفت على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبعث منادياً: الصلاة

جامعةً. فتقدم فصلى أربع ركوعات في ركعتين، وأربع سجدات. قالت عائشة ما ركعت ركوعاً قط، ولا سجدت سجوداً قط- كان أطول منه. صلاة الخسوف سُنَّة فإذا خسفت الشمس أو القمر؛ فيخرج الإمام إلى المسجد الجامع بعد أن يغتسل، ولا يخرج إلى الصحراء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاها في المسجد؛ ولأنه يقع بغتة فلا يحضرها أهل السَّواد، فيسعهم المسجد؛ ولأنه ربما ينجلي إذا امتد الزمان؛ لاجتماع الناس. فإذا حضر الجامع ينادي: الصلاة جامعة؛ بلا أذان ولا إقامة، فيصلي بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان وقيامان وسجودان؛ يطول فيهما القراءة والتسبيح؛ سواء وقع الكسوف بعد العصر أو قبله أو وقت الزوال؛ لأنها صلاة لها سبب، فيجوز في جميع الأوقات. وكيعيتها: أنه يفتتح الصلاة، فإذا فرغ من أم القرآن قرأ سورة البقرة- إن كان يحفظها، أو ثلثمائة آية من موضع آخر- ثم يركع؛ فيمكث فيه بقدر قراءة مائة آية من سورة البقرة- يسبح الله- ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ويرفع يديه، ثم يقرأ فاتحة الكتاب وسورة آل عمران أو قدر مائتي آية من سورة البقرة من موضع آخر، ثم يركع بقدر ثمانين آية من البقرة- يسبح الله عز وجل- ثم يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ويرفع يديه، ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم ويقرأ بأم القرآن وبقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة ثم يركع فيسبح الله- تعالى- بقدر سبعين آية من سورة البقرة ثم يرفع فيقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ويرفع يديه ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم ويقرأ بأم القرآن وبقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة، ثم يرفع

فيقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ويقرأ فاتحة الكتاب وبقدر مائة آية من سورة البقرة، ثم يركع فيسبح بقدر خمسين آية، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين ويتشهد ويسلم .. وهل يطيل السجود؟ فيه قولان: أصحهما: يطيل؛ كالركوع؛ فالسجود الأول كالركوع الأول، والسجود الثاني كالركوع الثاني. والثاني: لا يطيل؛ كما لا يزيد في التشهد، ولا يطيل الجلوس بين السجدتين، ثم بعد الفراغ من الصلاة يخطب خطبتين. وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين؛ كسائر الصلوات. وقال أحمد: يصلي ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات. ويروي في الحديث: أنه- عليه السلام- صلى ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات. ويروي خمس ركوعات.

فمن أصحابنا: من جمع بين الأخبار، وقال: إن انجلى سريعاً صلى ركعتين؛ كسائر الصلوات، وإن امتد زاد إلى خمس ركوعات. ومنهم من قال: لا يزيد على ركوعين؛ لأن الحديث فيه أصح وأشهر، فلو زاد في القراءة- على ما ذكرنا- أو نقص؛ فلم يقرأ في كل قيام إلا فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص، أو لم يزد على الفاتحة- جاز. وصلاة خسوف [القمر] مثل صلاة خسوف الشمس، ويخطب لها؛ كما يخطب لخسوف الشمس إلا أنه يسر بالقراءة في صلاة خسوف الشمس؛ لأنها صلاة نهار، ويجهر في صلاة خسوف القمر؛ فإن ابن عباس حكى صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- في خسوف الشمس فقال: قرأ نحواً من سورة البقرة، ولو جهر لكان لا يقدر. وروي: أنه قال: كنت إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما سمعت منه حرفاً. وقال أبو يوسف: يجهر في خسوف الشمس. وقال أبو حنيفة: لا جماعة، ولا خطبة لصلاة خسوف القمر، بل يصلي منفرداً. وإذا لم يصلِّ حتى تجلى فلا يصلي بعده؛ لما روي عن جابر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا حتى ينجلي" دلَّ على أنه لا يصلي بعد التجلِّي. وإذا انجلت وهو

في الصلاة أتمها، ولو جلَّلها سحاب أو جبل؛ فلم يدر: هل تجلى أم لا؟ فله أن يصلي؛ لأن الأصل بقاؤه. ولو خسفت الشمس فلم يصلِّ حتى غربت الشمس؛ وهي كاسفة، لا يصلي بعده. وكذلك لو خسف القمر فلم يصل حتى طلعت الشمس، لا يصلي؛ لأن سلطان الشمس النهار، وسلطان القمر الليل؛ وقد ذهب. ولو وقعت الخطبة بعد غروب الشمس أو بعد طلوعها، فلا بأس. ولو خسف القمر، فلم يصل حتى غاب خاسفاً بالليل- يصلي؛ لأن سلطانه، باقٍ؛ ولو طلع الفجر؛ وهو خاسف، ووجد خسوف القمر بعد طلوع الفجر- هل يصلي؟ فيه قولان. قال في القديم: لا يصلي؛ لأن سلطان القمر قد ذهب بطلوع الفجر. وقال في الجديد: يصلي- وهو الأصح- لأن ظلمة الليل في هذا الوقت باقية؛ فينتفع بضوء القمر، ولأنه لا وقت في الليل والنهار إلا وهو صالح لإحدى صلاتي الخسوف. فإن قلنا: يصلي فلو غاب خاسفاً بعد طلوع الفجر يصلي؛ كما لو غاب بالليل خاسفاً ولو امتد الخسوف، وهو في الصلاة؛ هل يزيد ركوعاً ثالثاً ورابعاً؟ ولو انجلى وهو في القيام هل يقتصر على ركوع واحد؟ وجهان: أصحهما: لا يتغير حكم الصلاة؛ فلا يزيد ولا ينقص ولو صلى ولم ينجل هل يصلي ثانياً؟ فيه وجهان: الأصح: لا يصلي. ولو أن مسبوقاً أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى، كان مدركاً للصلاة؛ فيسلم مع الإمام ولو أدركه في الركوع الأول من الركعة الثانية، كان مدركاً لركعة؛ فإذا سلم الإمام، قام وصلى ركعة بركوعين. ولو أدركه في الركوع الثاني من الركعة الأولى وفي القيام الثاني، فلا يكون مدركاً لتلك الركعة، ثم يقضي ركعة بركوعين أم بركوع واحد؟ فيه قولان: أصحهما: بركوعين؛ لأن الركوع الثاني تبعٌ للأول، فلا يكون بإدراكه مدركاً لشيء من الركعة؛ كما لو أدركه في السجود. وذكر صاحب "التقريب" قولاً: أنه يقضي ركعة بركوع واحد. ولو اجتمع: عيد وخسوف واستسقاء وجنازة، بدأ بصلاة الجنازة؛ لأنه يخشى على الميت التغير. فإن لم يكن حصرت الجنازة، أو حضرت ولم يحضر وليُّها- فالإمام يفرد

جماعة ينتظرون الجنازة، وهو يشتغل بغيرها. وإذا صلى على الجنازة لا يتبعها، بل يأمر من يتولَّى دفن الميت، وهو يشتغل بغيرها. ثم إن كان يخاف فوت صلاة العيد يبدأ بصلاة العيد، ثم يصلي الخسوف، ثم يخطب لها، ويذكر فيها شأن العيد والخسوف، ولا بأس أن تقع خطبة العيد بعد الزوال. وإن كان لا يخاف فوت صلاة العيد، ففيه قولان: أصحهما: يبدأ بصلاة الخسوف؛ لأنه يخاف فوتُها بالانجلاء، ثم يصلي صلاة العيد، ثم يخطب لهما. وقال في رواية البويطي: يبدأ بصلاة العيد؛ لأنها آكد ويؤخر الاستسقاء إلى يوم آخر. ولو خسفت الشمس في وقت الجمعة: نظر إن كان في آخر وقت يخاف فوتها، يبدأ بصلاة الجمعة؛ يخطب لها، ويصلي، ثم يصلي للخسوف، ويخطب. وإن لم يخف فوت الجمعة، فعلى القولين: أصحهما: يبدأ بصلاة الخسوف؛ لأنه يخاف فوتها؛ فيصلي ركعتين خفيفتين، ثم يخطب للجمعة، ويذكر فيها شأن الخسوف، ولا يخطب لهما؛ لأن التشريك بين الفرض والنفل لا يجوز، بخلاف الخسوف والعيد قلنا: يخطب لهما؛ لأنهما سنتان، وذكر شأن الخسوف في خطبة الجمعة لا يضر؛ كما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استسقى في خطبة الجمعة. وفي رواية البويطي: يبدأ بالجمعة؛ لأنها آكد. ولو وجد الخسوف في وقت الوِتر والتراويح، يبدأ بصلاة الخسوف، وإن خاف فوت الوتر والتراويح. وكذلك إن خاف فوت ركعتي الطواف؛ لأن صلاة الخسوف آكد؛ لأنها إذا فاتت لا تقضى، بخلاف الوتر والتراويح وركعتي الفجر. وجملته: أنه إذا اجتمع أمران، وخاف فوتهما، أو لم يخف فوت واحد منهما- بدأ بالآكد، وإن خاف فت أحدهما بدأ بالذي يخاف فوته. ولا يؤمر بالصلاة جماعة؛ لأنه من الآيات سوى الخسوف؛ مثل: الزلازل والصواعق والرياح الشديدة؛ لأنه- لم ينقل؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى جماعة لآية سواها، لكنه يستحب أن يصلي منفرداً، أو يدعو. روي عن ابن عباس: قال: ما هبَّت ريح قطُّ إلا جثا النبي- صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه. قال: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً".

قال ابن عباس في كتاب الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت: 16] {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] {يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]. روي عن ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: "اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك". بابُ: الاستسقاء روي عن عباد بن تميم، عن عمه؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس يستسقي؛ فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما- وحوَّل رداءه، ورفع يديه فدعا واستسقى، واستقبل القِبلة.

صلاة الاستسقاء سُنَّة عند جدوبة الزمان، وانقطاع الأمطار، أو غور العيون، وانبثاق الأنهار؛ فيخرج الإمام بالناس إلى حيث يصلي العيد؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى الصحراء؛ ولأن الجمع يكثر فيه، فلا يسعهم إلا الصحراء. ويستحب أن يأمرهم قبل ذلك بصوم ثلاثة أيام، وبالتوبة، والخروج عن المظالم، والتقرب إلى الله- عز وجل- بما استطاعوا من الخير. ثم يخرج بهم في اليوم الرابع- وهم صيام- وإذا أرادوا الخروج يغتسلون، ويتنظفون بما يقطع الرائحة من سِواك وغيره، ويخرجون في ثبات وتواضع متبذلاً لأنه يوم الخشوع والتضرع ولا يتطيب؛ لأن الطيب للزينة، وليس هذا يوم الزينة، بخلاف يوم العيد. روي عن ابن عباس في الاستسقاء: قال: خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- متبذِّلاً متواضعاً متضرعاً.

ويستحب: إخراج الصبيان، ويتنظفون، ويخرج كبار النساء من لا يخشى منهن الفتنة. ويستحب إخراج البهائم، فتوقف في جانب؛ لتكثر الضجة والصِّياح؛ فيكون أقرب إلى الإجابة. ويستسقي بأهل الصلاح، وأهل بيت النبوة. روي عن أنس؛ أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس بن عبد المطلب؛ فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا وتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. ويكره إخراج أهل الذمة إلى مصلى المسلمين؛ لأن المسلم إذا خرج يؤمر بالتوبة، والخروج عن المظالم؛ فذنب الشرك أعظم الذنوب فإن خرجوا متميزين عن المسلمين في ذلك اليوم، أو في يوم آخر لم يمنعوا؛ لأن الله- تعالى- يجيب دعوة الكافر؛ تعجيلاً لحظِّه من الدنيا. قال الشافعي في الكبير: لا أكره من خروج صبيانهم مع المسلمين ما أكره من خروج رجالهم؛ لأن ذنوبهم أقل، ولكن يكره لكفرهم. ووقته بعد بروز الشمس إلى الزوال مثل صلاة العيد؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- فعل في هذا الوقت. وإذا خرج ينادي: "الصلاة جامعة"، ويصلي بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة؛ كما في العيد؛ يكبر في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام،

ويرفع يديه حذو منكبيه مع كل تكبيرة، ويقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب بـ {ق}، وفي الثانية {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} ومن أصحابنا من قال: يقرأ في الأولى بـ {ق}، وفي الثانية سورة نوح؛ لأن فيها ذكر الاستسقاء. قال الله- تعالى- إخباراً عن نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 10، 11] ويجهر بالقراءة، ثم بعد الفراغ من الصلاة يخطب قائماً خطبتين؛ كما في العيد، إلا أنه يبدأ بالاستغفار بدل التكبير، ويكثر في أثنائها الاستغفار، ويقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 10، 11]. فإذا قام إلى الخطبة الثانية، وأتى ببعضها- حول وجهه إلى القبلة، وحول رداءه؛ فجعل طرفه الأسفل الذي على شقة الأيسر على عاتقه الأيمن، وطرفه الأسفل الذي على شقة الأيمن على عاتقه الأيسر؛ فيحصل به التقليب والتنكيس. فلو حوله ولم ينكس جاز. هذا وإذا كان الرداء مربعاً؛ فإن كان مثلثاً أو مدوراً جعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وما على عاتقه الأيسر على عاتقه الأيمن. وقال أحمد وإسحاق: كيف ما كان الرداء يجعل اليمين على الشمال، والشمال على اليمين. روى عبد الله بن زيد قال: استسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصةٌ سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها، فيجعله أعلاها، فملا ثقلت عليه قلبها على عاتقه. ويستحب للناس أن يفعلوا ذلك. وهذا كله للتفاؤل لتقلُّب الزمان إلى الخصب. وإذا تحول إلى القِبلة رفع يديه، ودعا سراً والناس كذلك يفعلون. روي عن أنس: قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء؛ فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه.

وروي عن أنس: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء [والسنة هذا أنه إذا دعا لرفع البلاء يجعل ظهر كفيه إلى السماء]، وإذا سأل الله شيئاً جعل كفيه إلى السماء. ويستحب أن يكون من دعائهم: اللهم أنت أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، فقد دعوناك؛ كما أمرتنا، فأجبنا؛ كما وعدتنا. اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا وسعة رزقنا. ثم يدعون بما شاءوا من دين ودنيا. ويبدأ الإمام ويبدءون بالاستغفار، ويفصل به كلامه، ويختم به. ثم يُقبل بوجهه على الناس، فيحضهم على طاعة ربهم، ويصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويقرأ آية أو آيتين، ويقول؛ أستغفر الله لي ولكم ثم ينزل. ويدعون أرديتهم محولة حتى يرجعوا إلى منازلهم، فينزعونها مع سائر الثياب. فإن سقاهم الله، وإلا عادوا من الغد بعده للصلاة والاستسقاء حتى يسقيهم الله؛ فإن الله يحب الملحين في الدعاء. فإن سقوا قبل أن يصلوا، صلوا شكراً وطلباً للزيادة. وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء، بل يخطب ويدعو، وإن كانت ناحية جدبة والأخرى خصبة، يستحب لأهل الخصبة أن يستسقوا لأهل الجدبة، وللمسلمين، ويسألوا لأنفسهم الزيادة. ويجوز لأهل البوادي والمسافرين الاستسقاء بالصلاة والخطبة؛ كأهل المصر؛ لأن أهل البوادي أحوج إليه. ويجوز للإمام أن يستسقي بغير صلاة وخلف الصلوات، وفي خطبة الجمعة. ولو نذر الإمام أن يستسقي، يلزمه أن يخرج بالناس، ويصلي بهم ولو نذر واحد من عرض الناس أن يستسقي، لزمه أن يصلي منفرداً ويستسقي، فإن نذر أن يستسقي بالناس لا ينعقد؛ لأن الناس، لا يطيعونه، إلا أن ينذره الإمام. وكذلك لو نذر أن يخطب- وهو من أهله- لزمه [و] هل يجوز قاعداً مع القدرة على القيام؟ فعلى وجهين؛ كالصلاة المنذورة. وكان القاضي- رحمه الله- يقول: إذا نذر أن

يستسقي، يلزمه الاستسقاء. وهل يلزمه الصلاة؟ قال: يحتمل وجهين. باب: الدعاء في الاستسقاء روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً هنيئاً مريعاً غدقاً مجللاً عاماً طبقاً سحّاً دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللاواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الفرع واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والعُرْيَ والجوع واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً". يستحب أن يذكر هذا كله في الخطبة، ويزيد ما شاء من الدعاء. روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: "صيِّباً نافعاً". وروي عن المطلب بن حنطب؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا محقٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، اللهم على الظِّراب ومنابت الشجر، اللهم حوالينا ولا علينا".

ويستحب أن يبرز لأول المطر. روي عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مطر فحسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربِّه".

كتاب: الجنائز

كتابُ: الجنائز بسم الله الرحمن الرحيم روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هادم اللذات" يعني: الموت.

وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببعض جسدي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وعدَّ نفسك من أهل القبول". ينبغي للعبد أن يكون مستعداً للموت، يكثر ذكره، يخاف الله ويرجوه. وقيل: ينبغي أن يكون خوفه في الصحة أكثر؛ ليرتدع عن المعاصي، ورجاؤه في المرض أكثر؛ ليكون حسن الظن بالله؛ لما روي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". وروي عن أنس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل على شابٍّ- وهو في الموت- فقال: "كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله- يا رسول الله وأخاف ذنوبي. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف".

ويكره للإنسان أن يتمنى الموت؛ لما روي عن أنس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يتمنى أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لابدَّ فاعلاً؛ فليقل: اللهم أحييني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي". وعيادة المريض سنة؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "خمس تجب للمسلم على أخيه: ردُّ السلام، وتشميتُ العاطس، وعيادة المريض، وإتِّباع الجنازة، وإجابة الدَّعوة".

وإذا عاد المريض، يستحب أن يدعو له. روي عن أنس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل على مريض قال: "أذهب البأس ربَّ الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، لا شافي إلا أنت، اشف شفاءً لا يغادر سقماً". وإذا وجده منزولاً به لقَّنَهُ قول: لا إله إلا الله؛ [لما روي] عن أبي سعيد الخدري، عن النبي- صلى الله عليه سولم- قال: "لقنُّوا موتاكم قول: لا إله إلا الله".

وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه لا إله غلا الله دخل الجنة".

ولا ينبغي أن يلح عليه حتى لا يضجر، بل يذكره بين يديه. وإذا قال مرة لا يعيد عليه ما لم يتكلم. روي عن عبد الله بن المبارك؛ أنه لما حضره الوفاةُ، جعل رجل بين يديه يلقنه: لا إله إلا الله، ويكثر عليه. فقال له عبد الله: إذا قلت مرة، فأنا على ذلك ما لم أتكلم. ويستحب أن يقرأ عنده سورة "يس"؛ لما روي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا يس على موتاكم". وإذا حضرت الوفاة يحول وجهه إلى القبلة، وفي كيفيته وجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة-: يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة؛ كما يوضع في اللَّحد. والثاني: يضجع مستلقياً، ورجلاه إلى القِبلة؛ كما يوضع على المغتسل، ويتولى أرفقهم به إغماض عينيه؛ لأن البصر يتبع الروح؛ فتبقى عينُهُ مفتوحة. روي عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة وقد شخص بصره؛ فأغمضه.

ويشد لحيه الأسفل بعصابةٍ عريضة تأخذ جميع لحييه، ويربطها فوق رأسه حتى لا يسترخي لحيُهُ الأسفل؛ فيبقى فوه منفتحاً؛ فيكون فيه قبح منظر، وربما يدخله شيء من الهوامِّ، ويلين مفاصله؛ بأن يرد ساعده إلى عضده، ثم يمدها، ويرد ساقيه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه، ثم يمدها ويلين أصابعه؛ حتى تتباقى ليِّنة على غاسله؛ لأنه إذا برد لا يمكن تثنية مفاصله، ويخلع عنه ثيابه، فإن لم يفعل أدخل يديه في كمُّيه حتى لا يحتاج إلى تمزيقه إذا برد، ويوضع على سرير أو لوحٍ حتى لا يقصده الهوامُّ، ولا تغيره نداوةُ الأرض، ويوضع على بطنه سيف أو حديدة حتى لا تنتفخ بطنه، فإن لم تكن حديدة فقطعة طين رطب، ويسجَّى بثوب خفيف؛ لما روي عن عائشة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفي سجِّي ببرد حبرة. ولا يجمع عليه أطباق الثياب حتى يسارع إليه الفساد، وتجعل أطراف الثوب الذي ستر عليه تحت رأسه ورجليه؛ لئلا ينكشف. ويبادر إلى تجهيزه وغسله ودفنه، ولا ينظر له غائب، وإذا مات فجأة ترك حتى يتيقن موته. "بابُ غُسل الميِّت" روي عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفِّيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتُنَّ ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتنَّ فأذنَّني". فلما فرغنا أذنَّاه؛ فأعطانا حقوه فقال: "أشعرنها إيَّاه".

غسل الميت فريضة يخاطب به كل من علم بموته، غير أنه إذا قام به البعض، سقط الفرض عن الباقين. وكيفيته: أنه يوضع على المغتسل مستلقياً، ورجلاه إلى القبلة، ويكون المغسل كالمُنحدر أسفله حتى لا يثبت عليه الماء، ويعاد تليين مفاصله، ويطرح عليه ثوب يستره من سرَّته إلى ركبتيه حتى لا يقع بصرُ الغاسل على عورته؛ لما روي عن علي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تُبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميتٍ". وعند أبي حنيفة: يلقى على فرجه خِرقةٌ، وفخذه مكشوفة، ويستر موضع غسله حتى لا يرى الميت أحد إلا غاسله، ومن لابدّ له من معونته، ويغضون أبصارهم إلا فيما لا يمكن؛ وهو أن يعرف الغاسل ما غسل وما بقي. ويستحب أن يتخذ إناءين: إناء يغرف به من الماء المجموع في مرجل، أو إجَّانَة؛ فيصب منه في الإناء الذي يلي الميت حتى لو تطاير شيءٌ من بدن الميت لا يصيب الإناء الذي يغرف به. ويستحب: أن يغسله بالماء البارد؛ لأنه أبقى لجسمه ولحمه، إلا أن يكون الهواء بارداً أو بالميت ما لا يزيله إلا الماء المسخَّنُ، حينئذ يغسله بالمسخن. والغسل في القميص أولى؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- غسل في قميص؛ وعند أبي حنيفة:

الأولى أن يجرد. وقبل الغسل يعد خرقتين نظيفتين، والميت ملقىً على ظهره؛ فيبدأ الغاسل، فيجلسه إجلاساً رفيقاً يجعل يده اليمنى على كتفه، وإبهامه في نُقرة قفاه، فيجعله كالمائل، ثم يمر يده اليسرى على بطنه إمراراً بليغاً؛ ليخرج شيء إن كان، والماء يصب؛ ليخفي رائحة ما يخرج، وإحدى الخرقتين ملفوفة على يساره، فيبلغه إلى أليتيه؛ فيغسل قُبُلَهُ ودبره ومذاكيره وعانتهُ؛ كما يستنجي الحي، ولا يمس عورته بيده، ثم يلقي تلك الخرقة، ويغسل يده، ثم يلف الخرقة الأخرى على يده، فيدخل إصبعه في فيه، ويمرها على أسنانه بشيء من الماء ولا يغفر فاه، وهو كالسواك، ثم يدخل طرف إصبعه في أنفه بشيء من الماء؛ ليزيل أذى إن كان، ثم يوضئه؛ كما يتوضأ الحي ثلاثاً. وعند أبي حنيفة: لا مضمضة فيه، ولا استنشاق، وإن كان فمه نجساً يجب غسله، ثم يغسل رأسه ولحيته بالسِّدر والخطميِّ، ويسرح رأسه ولحيته بمشطٍ واسع الأسنان تسريحاً رفيقاً حتى لا ينتف شعره، فإن انتتف منه شيء عاده إليه. وعند أبي حنيفة: لا يسرح. ثم يبدأ بميامنه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال للاتي يغسلن ابنته: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها" فيغسل صفحة عنقه اليمنى، وصدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، ويغسل ما حوله من المكان حتى إذا حوَّله يكون المكان نظيفاً. ثم يحرفه على جنبه الأيسر؛ فيغسل قفاه وظهره وفخذه وساقه اليمنى، وما تحته من المغتسل، ثم يحرفه على شقه الأيمن؛ فيغسل قفاه وظهره وفخذه وساقه اليسرى، ويغسل ما تحت قدميه، وما بين فخذيه. وهذا كله؛ لئلا يكبَّه على وجهه.

ويستحب: ألا يمس بدنه إلا بخِرقة؛ فإنه روي أن علياً- رضي الله عنه- غسَّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبيده خِرقة يتبع بها تحت القميص. ثم يصُبُّ على جميعه الماء القراح، ويستحب أن يجعل فيه كافوراً، فإن حصل النقاءُ بغسلة واحدة فاقتصر عليه، جاز. ويستحب: أن يغسله ثلاثاً، وإن لم يحصل النقاء بواحدة، عليه أن يزيد حتى يحصل النقاء. ثم إن حصل بشفع، يستحب أن يختم بالوَتْرِ، والغسل بالسدر والخطمي لا يكون محسوباً من الثلاث، ولا الذي يزيل به السِّدر، إنما المحتسب ما يصب عليه من الماء القراح، فيغسله بعد زوال السدر ثلاثاً. وإن كان على بدنه نجاسةٌ، فيغسله بعد زوال النجاسة ثلاثاً، فإن لم يتغير الماء بالسدر والخطمي، يحسب ذلك من الثلاث، ويجعل في كل ماء قراح كافوراً، فإن لم يفعل ففي الأخيرة. وقال أبو حنيفة: يغسل مرة واحدة بالماء القراح، وأخرى بالسدر، وثلاثاً بالماء القراح، ولا أعرف الكافور. ويستحب أن يدخل بين أظافيره عوداً ليِّناً. يخرج ما فيها من النُّفِّ، ويتبع أذنيه؛ فيخرج ما فيها من الأف، ويمسح بطنه في كل مرة بأرفق من الأولى، ويقعده في آخر الغسلات، فإن خرج منه شيء أنقاه. قال الشافعي؛ وإعادة غسله اختلفوا فيه: فمنهم من قال: يعيد الغسلات؛ لأنه ظهر الحدث، وقرئ بضم الغين. ومنهم من قال: يغسل ذلك المحل؛ وبه قال أبو حنيفة، وقرئ بنصب الغين. قيل: يعاد الوضوء، فالحي يحدث. ويتفرع عليه: لو مسَّ رجل امرأة بعد ما غسلت إن قلنا: بخروج الخارج يجب إعادة الغسل أو الوضوء؛ فها هنا كذلك. وإن قلنا: لا يجب إلا غسل ذلك المحل؛ فها هنا لا يجب شيء. ولو وطئت بعد الغسل إن قلنا: هناك يجب إعادة الغسل والوضوء؛ فها هنا يجب

إعادة الغسل. وإن قلنا: هناك يجب غسل المحل؛ فها هنا لا يجب شيء. ولا خلاف أنه يجب على الفاعل الغسل. والمرأة في غُسلها كالرجل ويجعل شعرها ثلاثة قرون، ويفتل ضفيرة فيلقي خلفها؛ لما روي عن أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي- صلى الله عليه وسلم- فضفرنا شعرها ثلاثة قرون؛ فألقيناها خلفها. وعند أبي حنيفة: يجعل شعرها ضفيرتان يلقيان على صدرها. وهل تجب النية في غسل الميت؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه غسل واجب؛ كغسل الجنابة. والثاني: لا يجب؛ لأن النية تكون على المغتسل، وهو ليس من أهلها. وفائدته: تتبين فيما لو وجد ميت في ماء، هل يجب غسله؟ إن شرطنا النية يجب، وإلا فلا؛ ولأن الغسل قد حصل. وهل يجوز غسل الكافر المسلم؟ إن قلنا: النية شرط لا يجوز، وإلا فيجوز. وهذا أصح؛ لأن الشافعي نص على أنه يكره للذمية غسل زوجها المسلم، ويجوز. ثم بعد الفراغ من غسل الميت ينشفُّ أعضاؤه بخرقة حتى لا يبتلَّ الكفنُ؛ فيتسارع إليه البلى. وهل تقلم أظافير الميت؟ وهل يؤخذ شعر إبطه، وعانته؟ وهل يقص شارب الرجل؟ فيه قولان: أحدهما: بلى، كما يتنظَّف الحي بهذه الأشياء. والثاني: لا يؤخذ، ويكره لو فعل. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأنها تصير إلى البلى. ولا يحلق شعر رأسه. لأن أخذه غير مشروع في غير المناسك. ولا يختنُ الميت، ويستحب أن يكون عند غسل الميت مجمرٌ طيب لا ينقطع، إلى أن يفرغ من غسله حتى يغلب ريحه رائحة ما يخرج منه. وإذا رأى الغاسل من الميت شيئاً لا يتحدث به؛ لما عليه من ستر أخيه، وقد يحدث بالميت سوادٌ لغلبة الدم، والتواءُ عنق لتشنج أصابه. فإذا تحدث به، أساء الناس فيه الظن. وإن كان الميت مُحرماً لا ينقطع حكم إحرامه بالموت؛ فلا يجوز أن يحنَّط ويطيب، ولا أن يلبس المخيط، ولا يستر رأسه. وإن كانت امرأة لا يُستر وجهها، ولا يؤخذ شعره وظفره؛ وهو قول عثمان وعلي وابن عباس. وعند أبي حنيفة: هو كسائر الموتى؛ وهو قول ابن عمر.

والدليل على ما قلنا: ما روي عن ابن عباس؛ أن رجلاً كان مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فوقصته ناقته وهو محرم؛ فمات. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اغسلوه بماء وسدرٍ، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبِّياً". أما التجمير عند غسله: فلا يمنع منه؛ كما لا يحرم على المحرم الجلوس عند العطَّار. وإذا ماتت المعتدة الحادة، هل يجوز تطييبها؟ ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه كان حراماً عليها في الحياة؛ كالمحرم. والثاني: يجوز؛ لأن التحريم في حال الحياة كان لإظهار التفجُّع على فراق الزوج، وقد زال ذلك؛ بخلاف المحرم؛ فإنالتحريم في حقه كان لحقِّ الله تعالى؛ وذلك لا يزول. فصلٌ: فيمن يغسِّل الميت قال الشافعي: أولاهم بغسله أولاهم بالصلاة عليه. وهذا إذا كان الميت رجلاً، وله عصباتٌ من القرابة؛ فترتيبهم في غسله كترتيبهم في الصلاة عليه؛ حتى أن الأب أولى من الابن، والابن أولى من الأخ، وإن كان الميت امرأة فلا. فإن الزوج أولى بغسلها من الأب؛ لأنه ينظر إلى ما لا ينظر إليه الأب، [والأب] والقريب أولى بالصلاة عليها؛ لأن الصلاة للدعاء ودعاء الأب والقريب أرجى لأنه أشفق، وكذلك الخال أولى بالغسل من ابن العم؛ لأنه محرم وابن العم أولى بالصلاة عليها. وترتيب نساء القرابة في غسل المرأة هو أن أولاهنَّ ذات رحم محرم، ثم ذات رحم غير محرم. تقدم

منهن الأقرب فالأقرب حتى أن العمة أولى من بنت العم: فإن اجتمعتا في المحرمية؛ فمن كانت في محل العصوبة لو كانت ذكراً كانت أولى؛ حتى أن العمة أولى من الخالة؛ لأنها، اجتمعتا في المحرميَّة، والعمة في محل العصوبة لو كانت ذكراً. ونساء القرابة أولى بغسل الميت من نساء الأجانب، ونساء الأجانب أولى من رجال القرابة، ورجال القرابة أولى من رجال الأجانب؛ حتى يجوز للأب والأخ [وابن الأخ] والعم غسلها إذا لم تكن امرأة. وكذلك في حق الرجل رجال القرابة أولى بغسله من رجال الأجانب، ورجال الأجانب أولى من نساء القرابة، ونساء القرابة أولى من النساء الأجانب. ويجوز لكل واحد من الزوجين غسل صاحبه بعد الموت. قالت عائشة- رضي الله عنها-: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه. وغسلت أسماء زوجها أبا بكر، وغسل عليُّ امرأته فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو حنيفة: لا يجوز للزوج غسل زوجته، ويجوز للزوجة غسل زوجها ثم إلى متى تغسل المرأة زوجها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما لم تنقض عدَّتُها. والثاني: ما لم تنكح. والثالث: أبداً، وإن نكحت.

وهل يقدم الزوج على نساء الأقارب في غسل المرأة؟ وكذلك المرأة هل تقدَّم على رجال الأقارب في غسل الزوج؟ فيه وجهان: أحدهما: تقدم؛ لأن أحد الزوجين يرى من الآخر ما لا يراه غيره من الأقارب. والثاني: الرجل أولى بغسل الرجل من المرأة، وإن كان من الأجانب، والمرأة أولى بغسل المرأة من الزوج وإن كانت أجنبية. وإذا غسل أحد الزوجين صاحبه يلف خرقة على يده. وكان القاضي- رحمه الله- يقول: وإن مسَّ بيده يصح الغسل، ولا يبنى على القولين في انتقاض طُهر الملموس؛ لأن الشرع أذَّن له، أما وضوء اللامس ينتقض. ويجوز للمسلم غسل زوجته الذِّمية إن شاء، وهل تغسل الذمية زوجها المسلم؟ فعلى وجهين؛ بناءً على اشتراط النية في الغسل وإذا طلق. امرأته طلاقاً رجعياً، ثم مات أحدهما في العدة لا يجوز للآخر غسله لمسه؛ لأن لمسها، والنظر إليها كان حراماً في حال الحياة. ويجوز للسيد غسل أمته، ومدبرته وأم ولده، ومكاتبته؛ لأن الكتابة ترتفع بموتها، فإن كانت الأمة مزوجة أو معتدة؛ فلا يجوز له غسلها، ولا يجوز للمكاتبة ولا المزوجة ولا المستبرأة ولا المعتدة غسل سيدها: وهل يجوز للأمة، والمدبرة، وأم الولد غسل السيد؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كالمرأة تغسل زوجها. والثاني: وهو الأظهر لا يجوز؛ لأن حكم ملكه انقطع بالموت؛ فعتقت المدبرة وأم الولد، وصارت الأمة للوارث، بخلاف الزوجة؛ فإن حقوقها لا تنقطع بالموت، ولذلك يتوارثان. والخنثى المشكل البالغ إذا مات. من أصحابنا من قال: يشتري جارية من ماله حتى تغسله، فإن لم يكن له مال تُشترى من بيت المال. وقال الشيخ أبو زيد وهو الأصح: يجوز غسله للرجال والنساء جميعاً؛ استدامة لحال الصِّغر؛ فإن في صغره لو احتيج إلى غسله حياً أو ميتاً جاز غسله للرجال والنساء. وقيل: يغسله من يغسل المرأة في قميص. وقال أبو حنيفة: لا يغسله أحد، بل يُيَمَّمُ، ويدفن.

ولو مات رجل؛ وليس هنا من يغسله إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة؛ وليس هناك إلا رجل أجنبي ففيه وجهان: أحدهما: ييمم، ويدفن. والثاني: يلف خرقة على يده، ويغسله في قميصه، ويغُضُّ طرفه ما أمكن. فإن لم يمكن إلا بالنظر يجوز؛ لأنه موضع ضرورة؛ كما يحل النظر إلى بدنها للمعالجة إذا كان بها علة. وإذا مات مسلم فالمسلم الأجنبي أولى بغسله من أقاربه الكفار، وإن جوزنا للكافر غسل المسلم وإن مات مشرك؛ فأقاربه الكفار أولى بغسله من المسلمين، ولو غسله مسلم يجوز؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر عليّاً بغسل أبيه أبي طالب. ويجوز إتباع جنازته ودفنه، ولكن لا يصلى عليه؛ لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84]. وإذا مات ذمي، وليس له قريب يتولى أمره- لا يجب على المسلمين غسله، وهل يجب تكفينه ودفنه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما يكسوه في حياته، ويطعمه. والثاني: لا يجب. والحربي لا يجب تكفينه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر بإلقاء قتلى بدر في القليب. وهل يجب مواراته؟ وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- فعله. والثاني: لا يجب؛ بل يجوز إغراء الكلاب عليه وكذلك المرتد. فإن تأذَّى به الناس يورى.

بابُ الكفن روي عن عائشة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. تكفين الميت واجب، والسُّنة أن يكفن الرجل في ثلاث أثواب بيض رباط، ليس فيها قميص ولا عمامة. واختلفوا في هذه اللفائف: قيل: كلها مستوية في الطول والعرض، يأخذ كل واحد جميع بدنه. وقيل: وهي متفاوتة فالأسفل إزارٌ يأخذ ما بين سرته وركبته، والثاني أكبر يأخذ من عنقه إلى كعبه، والثالث أوسع يستر جميع بدنه؛ ولو زيد قميص وعمامة لم يكره، ونجعلهما تحت الثياب، والزيادة على الخمس مكروهة. والمرأة تكفَّن في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وثلاثة لفائف. وهل يسنُّ لها القميص؟ فيه قولان: فإن قلنا: بقميص، فهو بدل أحد اللفائف، ولا يزاد على الخمس؛ فهي: إزار، وخمار، ودرعٌ، ولفافتان. والخُنثى المشكل كالمرأة، والثوب الغسيل أحب إلينا من الجديد. قال الصديق- رضي الله عنه-: "الحي أحوج إلى الجديد من الميت". وما روي عن جابر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" أراد به: حُسن المنظر، لا الثمين؛ فإن المغالاة في الكفن مكروهة.

روي عن علي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تغالوا في الكفن: فإنه يسلب سلباً سريعاً". والأبيض أحبُّ إلينا من المصبوغ في حق الرجال والنساء جميعاً؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: [إن] من خير ثيابكم البيض؛ فليلبسها أحياؤكم، وكفِّنوا فيها موتاكم". ولا يجوز تكفين الرجال في الديباج، ويجوز تكفين النساء فيه، غير أن القطن أحبُّ إلينا. والفرض من الكفن ثوبٌ سابغٌ يستر جميع بدن الميت. والمستحب أن يجمَّر الكفن بالعود، إلا أن يكون الميت مُحرماً، والعود أحب إلينا من المسك وغيره المرَّاة وهو النَّي أولى، والمسك جائز. ثم يبسط أحسن الثياب وأوسعها، ثم الثانية فوقها، ثم الثالثة التي تلي الميت؛ لأن الحي يظهر أحسن ثيابه. ويذر فيما بين الأكفان والميت الحنوط والكافور، ثم يوضع الميت فوق العليا منها مستلقياً، ثم يأخذ شيئاً من قطن منزوع الحب؛ فيجعل فيه الحنوط والكافور. فيدخل فيما بين أليتيه إدخالاً بليغاً؛ ليرد شيئاً إن جاء منه عند التحريك. فقد قيل: يدخل في صرمِهِ؛ لأن مجرد الإلصاق بالصَّرم لا يمنع خروج الخارج، إنما يمنعه الإدخال. ولا يكره ذلك؛ لما فيه من المصلحة. وقيل: يكره الإدخال، بل يفضي إليه، ثم يجعل تحتها شيئاً كالسُّفرة يضم أليتيه، ثم يأخذ خرقة مشقوقة الطرفين تأخذ أليتيه وعانته؛ فيشدها عليه فوق السفرة كالتُّبَّان الواسع، ثم نأخذ شيئاً من قطن؛ فيجعل عليه حنوطاً، أو

كافوراً؛ فيضعه على منافذه من العين والأذن والفم والمنخر والجروح النافذة. ويجعل الطيب على مساجده وهي الأعضاء السبعة إلزاماً، ويحنط رأسه ولحيته بالكافور، ويوضع الميت على الكفن؛ بحيث ما يفضل من الثوب الأعلى يكون عند رأسه أكثر مما عند رجليه؛ فإن الحي يجعل فضل ثيابه على رأسه، وهي العمامة، ثم الثوب الذي يلي الميت تثنى ضفَّته التي تلي شقَّه الأيسر على شقه الأيمن، والتي تلي الأيمن على الأيسر، والثانية كذلك، ثم الثالثة؛ كما يشتمل الحي بالقباء، وما فضل عند رأسه جمعه جمع العمامة، ثم يرد على وجهه، وما فضل عند قدميه رده على ظهور قدميه إلى حيث يبلغ. وإن خيف من انتشار الأكفان عند الحمل يشدُّ عليه ثم يحلُّ إذا وضع في القبر. وكفن الميت يكون من رأس تركته، وكذلك الحنوط ومؤنة الدفن مقدمة على الديون والوصايا والميراث؛ كما أن كفاية الحي تكون مقدمة على ديونه، إلا أن يكون عليه زكاة، والمال الذي وجب فيه الزكاة قائم؛ فالزكاة مقدَّمة على الكفن والقبر؛ لأن ذلك [القدْر] تعلق به حقُّ المساكين؛ فيجعل كالمعدوم؛ كما لو كان المال مرهوناً، أو كان عبداً جانياً لا يباعُ الرَّهنُ، ولا العبد الجاني في الكفن. ويكفن في ثلاثة أثواب من تركته إن لم يكن عليه دينٌ يستغرق التركة. فإن قال بعض الورثة: لا نكفنه إلا في ثوب واحد؛ ففيه وجهان: أحدهما: يكفن في ثوب واحد؛ لأنه الواجب. والثاني: وهو الأصح-: يكفن في ثلاثة أثواب؛ لأنها الكفن المسنون. فإن اتفقوا على ثوب واحد جاز، وإن اختلفوا في الغلظ والرِّقَّة يراعي حال الميت فيما كان يلبس. ولو لم يترك إلا ثوباً واحداً، كُفِّن فيه، ولا يجب على من هو في نفقته، ولا على المسلمين أن يتموه ثلاثاً. وإن كان عليه دينٌ يستغرق التركة؛ فقال الغرماء: لا نكفِّنُه إلا في ثوب واحد- ففيه وجهان: أحدهما: يكفن في ثلاثة أثواب؛ كالحي المُفلس لا يباع عليه ثوب يحمله. والثاني: يكفن في ثوب واحد؛ لأنه لا يحتاج إلى التقلُّب؛ بخلاف الحي.

فإن مات- ولا مال له- نظر إن كان في نفقة الغير فعلى المنفق عليه كفنه ومؤنة دفنه، حتى يجب كفن أم الولد والمكاتب على سيده، وإن لم يكن في نفقة الغير فكفنه في بيت المال. هل يكتفي بثوب واحد، أم يكفن في ثلاثة أثواب؟ فيه وجهان. فإن لم يكن في بيت المال مال، فعلى عامة المسلمين كفنُه، ومؤنة دفنه، ولا يجب إلا ثوب واحدي ستر جميع بدنه. وإن لم يكن له إلا ثوب قصير لا يعم البدن غُطِّي به رأسه؛ لما روي عن خباب بن الأرت قال: قتل مصعب بن عمير يوم "أحد"، فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "غطُّوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر". بابُ الشهيد ومن يصلَّى عليه ويغسَّل روي عن جابر، وعن أنس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ على قتلى أحد، ولم يغسِّلهم.

فالمقتول من المسلمين في قتال أهل الشرك شهيد لا يغسل، ولا يصلَّى عليه؛ سواء قتله مشرك، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد عليه سلاحه أو سهمه الذي رماه إلى الكفار، أو رمحته دابته، أو تردَّى في وهدة، أو سقط عن دابته، أو عدت عليه دابة، أو لم يعرف سبب موته؛ رجلاً كان أو امرأة، حراً كان أو عبداً، صبياً كان أو بالغاً؛ لأن القتل قد طهره؛ فلا حاجة [به] إلى غسل ابن آدم. وقال أبو حنيفة: لا يغسل الشهيد، ولكن يصلى عليه، وإن كان صبياً فهو كسائر الموتى عنده. ولو جرح في الحرب، فانكشف الحرب، وبه رمقٌ- فمات فهو كالمقتول في المعترك. ولو عاش بعد تقضِّي الحرب أياماً، ثم مات- ففيه قولان؛ سواء طعِمَ أو لم يطعم، تكلم أو لم يتكلم: أحدهما: هو كالمقتول في المعترك؛ لأنه مات بجرح وجد فيه. والثاني: يغسل ويصلى عليه؛ لأنه عاش بعد انقضاء الحرب؛ كما لو مات بسبب آخر. وقال أبو حنيفة: إن طَعِمَ أو تكلم أو صلى فيه، فهو كسائر الموتى.

وخرج أصحابنا على هذا لو دخل مشرك، أو أكثر دار الإسلام سارقاً، فقتلوا مسلماً هل يغسل؟ وهل يصلى عليه؟ فعلى جوابين. ولو استشهد جُنُب: ففيه وجهان: أصحهما: لا يغسل؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ فإن حنظلة بن راهب قتل يوم "أحد" وهو جُنُب فلم يغسله النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: "رأيتُ الملائكة يغسِّلونه". والثاني: وبه قال أبو حنيفة-: يغسل؛ لأن الشهادة إنما تؤثر في غسل يجب بالموت؛ كما أنه لا يغسل عنه نجاسة حصلت بالقتل. وإن أصابته نجاسة من موضع آخر يغسل. وينزع من الشهيد الخِفاف والفراء والجلود، وما ليس من عام لباس الناس، ويدفن في قميصه وخرقة بدمائه. روي عن ابن عباس قال: أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقتلى "أُحد" ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. ولو أراد أهل الشهيد تكفينه، لم يمنعوا من ذلك، وإن أرادوا غسله؛ منعوا منه، وإن أرادوا الصلاة عليه هل يمنعون؟ فيه وجهان. أما من مات في المعترك فجأة أو بمرض، أو قتله مسلم عمداً، أو كان يرمي إلى صيد؛ فأصابه- فهو كسائر الموتى؛ كما لو قتل في غير المعترك عمداً أو خطأ.

والباغي إذا قتله العادل يغسل، ويصلى عليه؛ لأنه ظالم مقتول. وقال أبو حنيفة: لا يصلى عليه؛ عقوبة له. أما العادل إذا قتله الباغي؛ ففيه قولان: أحدهما: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ كالمقتول في معترك الكفار، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: هو كسائر الموتى؛ لأنه قتيل مسلم؛ كقاطع الطريق إذا قتل واحداً من أهل الرفقة، ومن قصد إلى حريم رجل وقتله يغسل ويصلى عليه. ومن قال بالأول أجاب: بأن قتال أهل العدل مع أهل البغي على تأويل الدين، بخلاف قاطع الطريق. وقيل: من قتله قاطع الطريق؛ كمن قتله الباغي من أهل العدل. وقال أبو حنيفة: من قتل ظلماً بماله فهو شهيد. وسوى المقتول شهيداً في هذه الأمة في ثواب الآخرة- جاء به الحديث؛ كالمبطون، والغريق، والمطعون، وصاحب الهدم، والحريق، والمرأة تموت في الطَّلق ولكنهم في حكم الطنيا كسائر الموتى في أنهم يغسَّلون، ويصلى عليهم. "فصلٌ: في مسائل متفرِّقة" إذا ألقت المرأة علقة أو مُضغة لم يظهر فيها شيءٌ من خلق الآدميين، فليس لها غسل، ولا تكفين، ويُوارى؛ كما يوارى دمُ الرجل إذا افتصد أو احتجم.

وإن أسقطت سُقطاً، نظر: إن استهل، ثم مات، غسل وكفن وصلى عليه؛ كسائر الموتى وإن لم يستهل، نظر: إن تحرك غسل وكفن. وهل يصلى عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يصلى عليه، كما يغسَّل. والثاني: لا يصلى عليه؛ لأن الصلاة تكون على من فارقه الروح، ولا يعلم ذلك؛ لأن الحركة لا تدل على الحياة والغسل لخروجه عن مجامع اللَّوث. وإن لم يتحرك كفن في خرقة، ولا يصلى عليه، وهل يغسل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يغسل؛ كما لا يصلى عليه. والثاني: يغسل لخروجه عن محل اللَّوث، وإن ماتت امرأة في بطنها جنين حي يتحرك، هل يشق بطنها؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لما روي عن عائشة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: كسرُ عظمِ الميِّت ككسره حياً". والثاني: نشق؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأن نالحيَّ تبقى حياته بلحم الآدمي الميت. فإن قلنا: لا يشق، فلا تدفن ما لم تسكن الحركة. ولو ابتلع دُرَّة لإنسان ومات شق بطه وردت، وقيل: لا تُشَقُّ ويعطي القيمة من تركته. والأول أصح وإن كانت الدُّرَّة له، ففيه وجهان: أحدهما: يشق بطنه؛ لأنها صارت للورثة.

والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: لا يشق؛ لأنه أتلفها في حياته؛ كالطعام أكله. ولو وجد عضواً من أعضاء ميت يغسل، ويصلى عليه، ويكفن، ويدفن إذا علم أن صاحبه ميت؛ صلى عمر- رضي الله عنه- على عظام بـ "الشام"، وصلت الصحابة على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ألقاها طائر بـ "مكة" من وقعة "الجمل". وقال أبو حنيفة: لا يصلى عليه ما لم يكن أكثر من النصف، أو يكون الرأس معه. ولو اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين صلى عليهم، وقصد المسلمين بالنيَّة، ولو صلى عليهم واحداً واحداً، ونوى الصلاة عليه إن كان مسلماً- جاز، ويقول: اللهم اغفر له إن كان مسلماً. وعند أبي حنيفة: لا يصلى عليهم، إلا أن يكون أكثرهم مسلمين. "باب حمل الجنازة" روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه حمل جنازة سعد بن معاذٍ بين العمودين.

المستحب حمل الجنازة من الجوانب الأربعة، وهو أن يبدأ بياسرة السرير المقدَّمة؛ لأن فيها يمين الميت؛ فيضعها على عاتقه الأيمن، ثم يتقدم أمامها معترضاً بين يديها؛ فيضع يامنةِ السرير المقدَّم على عاتقه الأيسر، ثم يصير إلى يامنة المؤخرة؛ فيضعها على عاتقه الأيسر. وإنما قلنا: يصير من ياسرة المؤخَّرة إلى يامنة المقدمة معترضاً بين يديها حتى لا يكون ماشياً خلف الجنازة؛ ولأن البداية برأس الميِّت أولى. فإن كثر الناس ولم يمكن الحملُ من الجوانب حمل بين العمودين؛ كما جاء في السُّنَّة؛ وهو أن يجعل الخشبة المعترضة بين العمودين من مقدمة الجنازة على كاهله، ثم إن قوي على أخذ العمودين بيديه فعل؛ فيحصل الحمل بثلاثة، وإن لم يمكنه حصل الحملُ بخمسة، ولا يتصوَّر الحمل بين العمودين من مؤخر الجنازة. وذهب: بعضنا إلى أن الحمل بين العمودين أفضل. وعند أبي حنيفة: الحملُ بين العمودين بدعةٌ. والمشي أمام الجنازة أفضلُ من المشي خلفها؛ لما روى سالم، عن أبيه؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعُمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة.

وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل؛ وهو قول علي رضي الله عنه. وقال أحمد: إن كان ماشياً يمشي أمامها، وإن كان راكباً فخلفها. ويعني: بالمشي أمامها: أن يمشي قريباً منها؛ بحيث لو التفت رأى الجنازة، لا أن يتقدم؛ فيقعد بالمصلَّى ينتظر حضورها. فإن سبق إلى المقبرة فهو بالخيار؛ إن شاء قام حتى تُوضع الجنازة وإن شاء قعد؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع الجنازة حتى توضع، وقام الناس معه ثم قعد بعد ذلك، وأمرهم بالقعود. والمشي بالجنازة: الإسراع، وهو فوق سجيَّة المشي دون الخبب، والرَّمل في الطواف. والخبب: دون شدة السعي، وبين الصفا والمروة: السعي الشديد في خلال الطريق. روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة؛ فخيرٌ تقدِّمونها إليه، وإن تك سوى ذلك؛ فشرٌّ تضعونه عن رقابكم".

والسُّنَّة: ألا يركب؛ لما روي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ما ركب في عيد ولا جنازة. فإن ركب في الانصراف، فلا بأس. روي عن جابر بن سمرة، قال: أُتِيَ النبي- صلى الله عليه وسلم- بفرسٍ معروف؛ فركبه حين انصرف من جنازة أبي الدحداح، ونحن نمشي حوله. ويكره أن تتبع الجنازة بنارٍ ونائحةٍ. قال عمرو بن العاص: إذا أنا مِتُّ فلا تصحبني نائحة ولا نار. ومثله عن أبي موسى. بابُ الصلاة على الميت ومن أولى بها الصلاة على الميِّت فرض على الكفاية، وفي العدد الذي يسقط بهم الفرض أوجه: أحدها: يسقط برجُل واحد؛ حراً كان أو عبداً؛ لأن الجماعة ليست بشرط فيها، ولو شرط العدد لشرط الجماعة؛ كالجمعة. والثاني: يسقط برجلين؛ لأن الاثنين أقلُّ الجمع. والثالث: بثلاثة: لأنها الجمع المطلق. والرابع: بأربعة عدد حملة الجنازة، وليس الشرط أن يصلوا جماعة، فلو صلوا فرادى جاز ولو صلى عليه جماعةٌ من النساء لا يسقط بهن الفرض، ولو صلى جماعة من المراهقين فيه وجهان: أحدهما: لا يسقط به الفرض؛ كالنساء.

والثاني: نص عليه: يسقط به الفرض؛ لأن المراهق يصلح إماماً؛ حتى قال: القريب المراهق أولى بالصلاة على الميت من الأجنبي البالغ. ولو أمَّ صبي في صلاة الجنازة يجوز، ولو صلَّت جماعة من النساء على جنازة جاز؟ ويصلين فرادى؛ لأن النساء لا تسنَّ لهن الجماعة في الصلاة على الميت، فإن صلين جماعة؛ فلا بأس؟ ويقف إمامهن وسطهن، وإن كان الفرض لا يسقط بهن. وإن بان حدث الإمام، أو بعض المأمومين بعد الصلاة؛ فالفرض ساقطٌ إذا بقي من المتطهرين قدرُ الكفاية. والوليُّ أولى بالصلاة من الوالي؛ لأن هذا من قضاء حقِّ الميت؛ كالتَّكفين والدفن، ولأنها من الأمور الخاصة؛ فالولي فيه أولى من الوالي؛ كولاية التزويج. وقال أبو حنيفة: الوالي أولى، ثم إمام المسجد أولى، ثم الولي. وهو قول الشافعي في القديم. وأولى الأولياء الأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل. وإنما قدَّمنا الأب على الابن؛ لأن المقصود منه الدُّعاء، وشفقة الأب أكثر؛ فيكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة ثم الأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب. وقيل: فيه قولان؛ كما في ولاية النكاح: أحدهما: الأخ للأب والأم أولى. والثاني: هما سواء. والأصح هو الأول؛ أن الأخ للأب والأم أولى قولاً واحداً؛ لأن قرابة الأم تثبت لهم ولاية الصلاة على الميت في الجملة؛ فيرجح بها، ولا يثبت بها ولاية النكاح؛ فلم يثبت بها الترجيح. ثم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب، ثم العم للأب ثم ابن العم للأب والأم، على هذا الترتيب، ثم عمُّ الأب، ثم عم الجد؛ على ترتيب عصبات الميراث. وإذا اجتمع وليان في درجة واحدة فالأسنُّ أولى من الأفقه والأقرأ إذا كان يحسن الصلاة؛ لأن دعاءه أقرب إلى الإجابة، فإن لم يكن الأسن محموداً فالأفقه أولى، فإن استويا يقرع بينهما، فإن كان أحدهما رقيقاً فالحر أولى، والعبد المكاتب القريب أولى من الأجنبي الحر. وإن كانا قريبين- والرقيق أقرب- ففيه وجهان:

أحدهما: الحر أولى، لأنه من أهل الولاية، كما لو استويا في الدرجة، كان الحر أولى. والثاني: العبد القريب أولى؛ لأن مبناها على الشفقة، والرِّق لا ينافيها؛ كما كان أولى من الأجنبي الحر. فإن لم يكن أحدٌ منا لعصبات، فأب الأم أولى من الأخ للأم، ثم الخال، ثم العم للأم. "فصلٌ: في وقت الصلاة على الميت ودفنه والترتيب بين الجنازات" تجوز الصلاة على الميت ودفنه في أي وقت كان من ليل أو نهار، وفي الأوقات التي نهى عن صلاة التطوُّع فيها، ولا يكره. وقال أبو حنيفة: يكره في الأوقات المنهية الصلاة دون الدفن. وقال الحسن: يكرهان جميعاً. ولا تحسب الصلاة قبل غسل الميت، ويُكره قبل أن يكفن، ويجوز. والسُّنة: أن يصلى على الميت جماعةٌ، كذلك كان [يصلي] النبي- صلىلله عليه وسلم-. ويجوز فرادى؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- مات؛ فصلى الناس عليه فوجاً فوجاً. وإذا اجتمعت جنائز، يجوز أني صلى عليهم دفعة واحدة. وكيف يوضع؟ نظر إن كانوا من جنس واحد؛ بأن كانوا جميعاً رجالاً أو نساءً ففيه وجهان: أصحهما: يوضع بعضها خلف بعض، ويقدم الإمام أفضلهم. والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: يوضع صفاً واحداً رأس كل واحد على رجل الآخر، ويقف الإمام في مقابلة الآخر حتى تكون الجنائز على يمينه. وإن كانوا أجناساً؛ مثل أن اجتمعت جنازة رجل وامرأة، وصبي وخنثى- يوضع بعضها خلف بعض؛ يقرب الرجل من الإمام، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. روى عمار بن أبي عمار؛ أن زيد بن عمر بن الخطاب وأمه؛ أم كلثوم بنت علي

ماتا؛ فصلى عليهما سعيد بن العاص؛ فجعل زيداً مما يلي الإمام، وأمه مما يلي القِبلة. وفي القوم الحسن، والحسين، وأبو هريرة، وابن عمر، ونحو من ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن اجتمعت جنازة من الخناثى يوضع صفاً واحداً؛ رأس كل واحد عند رجل الآخر، حتى لا تتقدم المرأة على الرجل. ولو وضعت جنازة امرأة، ثم حضرت جنازة رجل أو صبي- ننحِّي جنازة المرأة، وتوضع جنمازة الرَّجل أو الصبي بين يدي الإمام، وولي المرأة أولى بالصلاة، لسبقها. ولو وضعت جنازة صبي، ثم حضرت جنازة رجل- يوضع خلف الصبي، ولا نُنَحِّي جنازة الصبي؛ لأن الصبي يقف في صف الرجال، والمرأة تتأخر. ولو وضعت جنازة رجل، ثم حضرت جنازة خنثيين يوضعان خلف الرجل؛ صفاً واحداً. ولو افتتح الإمام الصلاة على الجنازة، ثم حضرت أخرى- توضع حتى يفرغ الإمام، فيبتدئ الصلاة على الأخرى. وإذا اجتمعت جنائز وأولياء، فولى السابق أولى بالصلاة عليهم؛ سواء كان السابق رجلاً أو امرأة أو صبياً. وإن حضروا معاً، أقرع [الإمام] بينهم، وإن لم يرض كل ولي بغيره، صلى كل واحد على ميته. والسُّنة: أن يقف الإمام في صلاة الجنازة عند [رأس الرجل، وعجيزة المرأة؛ ليكون أستر عن أعين الناس. وقيل: عند]. صدر الرجل، وعجيزة المرأة وهو قول أحمد. روي عن سمرة، قال: صليت وراء النبي- صلى الله عليه وسلم- على امرأة ماتت في نفاسها؛ فقام وسطها. وقال أبو حنيفة: يقف عند صدر الميت؛ رجلاً كان أو امرأة.

ولا يكره إدخال الميت المسجد؛ للصلاة عليه. وقال أبو حنيفة ومالك: يكره. والدليل على ما قلنا: ما روي عن عائشة، قالت: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على سهيل ابن البيضاء في المسجد. وتجوز الصلاة على الميت الغائب بالنية؛ سواء كان على سمت القبلة، أو لم يكن، والمصلي يستقبل القبلة وقال أبو حنيفة: لا يجوز. والدليل على جوازه: ما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى؛ فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات.

وإن كانت الجنازة معه في البلد، فهل يجوز أن يصلّى عليها غير موضوعة بين يديه، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما لو كان غائباً. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يمكنه حضورها. أما إذا كانت الجنازة حاضرة؛ فوقف المصلي قدامها، وجعلها خلف ظهره- فلا يجوز؛ كما لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام. ولو اقتدى بإمام يصلي على حاضر، ونوى هو الصلاة على غائب- يجوز؛ لأن اختلاف نية الإمام والمأموم لا يمنع صحة الصلاة. ويكره نعيُ الميت للناس، والنداء عليه للصلاة. قال حذيفة: إذا متُّ فلا تؤذنوا بي أحداً إني أخافُ أن يكون نعياً. فصلٌ: في كيفية الصلاة على الميِّت روي عن جابر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كبَّر على الميت أربعاً، وقرأ بأمِّ القرآن بعد التكبيرة الأولى.

يشترط في صلاة الجنازة الطهارة عن الحدث والنجاسة، وستر العورة، واستقبال القِبلة؛ كما في سائر الصلوات، ويكبر أربع تكبيرات. ولو كبر خمساً، فيه وجهان: أحدهما: تبطل صلاته؛ كما لو زاد ركوعاً في الصلاة. والثاني: وهو الأصح: أنه لا تبطل صلاته؛ روي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- فعله إلا أن الأربع أولى؛ لأنها التي استقر عليها الأمر، واتفقت الصحابة عليه. وإذا أراد الشروع في الصلاة ينوي عند التكبيرة الأولى أداء فرض الصلاة على هذا الميت. فإن كانوا جماعة؛ فينوي الصلاة عليهم، فإن لم يعرف عددهم؛ فإن كان خلف إمام يجب أن ينوي الاقتداء بالإمام، ولو نوى الصلاة على من يصلي عليه الإمام- جاز، ولا يعين الميت، فإن عيَّن وأخطأ؛ بأن نوى الصلاة على زيد، فإذا هو عمرو، أو على رجل؛ فإذا هو امرأة- لم تصح صلاته. وإذا نوى كبر، ورفع يديه حذو منكبيه، وكذلك يرفع يديه في سائر التكبيرات. وعند أبي حنيفة: لا يرفعها إلا في التكبيرة الأولى. قال الشيخ- وهو صاحب الكتاب- رحمه الله-: وبعد الفراغ من كل تكبيرة يجمع يديه تحت صدره، وبعد التكبيرة الأولى يتعوَّذ، ويقرأ فاتحة الكتاب. وهل يقرأ دعاء الاستفتاح؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا يقرأ؛ لأن مبناها على التخفيف وكذلك هل يقرأ السورة بعد الفاتحة، فعلى وجهين: وقيل: في التعوذ وجهان. قال الشيخ: المذهب أنه يتعوذ؛ لأجل القراءة، ويسرُّ بالقراءة؛ ليلاً كان، أو نهاراً. وقيل: إن كان بالليل يجهر: والأول المذهب؛ لأنها قُربة شرعت فيها الفاتحة دون السورة؛ كالثالثة من المغرب. وقال أبو حنيفة: لا يقرأ الفاتحة، بل يحمد الله، ويُثنى عليه. والحديث حجَّة عليه. ثم يكبر الثانية، فيحمد الله، ويصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يكبر الثالثة، ويخلص الدعاء للميت؛ فيقول: "اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج عن روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك، وأنت غنيٌّ عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فرد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، ولقِّه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وأفسح له في قبره وجاف الأرض عن جنبه، ولقِّه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين". وروي عن عوف بن مالك، قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظت من دعائه، وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزوله، ووسِّع مدخله، وغسِّله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه، من الخطايا؛ كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار". حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت.

وروي عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذَكَرَنا وأنثانا، اللهم من أحييت منا؛ فأحيه على الإسلام، ومن توفيت منا؛ فتوفه على الإيمان". ثم يكبر الرابعة، ولم يذكر عقبها دعاء. وقال البويطي من أصحابنا: يقول: "اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنَّا بعده" ثم يسلم، وفي كيفيته قولان: أصحهما: يسلم تسليمتين: إحداهما عن يمينه، والأخرى عن يساره، كما في سائر الصلوات. وقال في "الإملاء": يسلم تسليمة واحدة، يبدأ بيمينه، ويختم بشماله. فيقول: السلام عليكم ورحمة الله؛ لأن مبنى هذه الصلاة على التخفيف. وأقل ما يجزئ منها أربع تكبيرات، وقراءة الفاتحة عقيب الأولى، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- عقيب الثانية والدعاء للميت عقيب الثالثة، بما يقع عليه اسم الدعاء، والتسليم عقيب الرابعة. ولا يجوز قاعداً مع القدرة على القيام، وإن صلى عليه غيره؛ فهو يصلي قائماً؛ لأنه ينوي الفرض. ولو سها فيه؛ فلا سجود عليه؛ لأنه ليس فيها سجود الأصل. ولو أدرك الإمام مسبوق في خلال الصلاة؛ فإنه يكبر، ولا ينتظر تكبيرة الإمام. وعند أبي حنيفة: ينتظر تكبيره حتى يكبر معه. وفائدته: أنه إذا أدركه بعد الرابعة يكبر، وكان مدركاً للصلاة. وعند أبي حنيفة: لا يكبر.

ولو أدركه بعد ما كبَّر للأولى، فكما كبر الإمام الثانية يكبر معه الثانية، وسقط عنه القراءة؛ كما لو أدرك الإمام في الركوع في سائر الصلوات. وإذا أدركه بعد التكبيرة الثانية أو الثالثة، فإذا كبر يشتغل بقراءة الفاتحة؛ لأن ما أدركه أول صلاته. وإذا فاته بعض التكبيرات يوافق الإمام فيما أدرك، فإذا سلم الإمام قضى ما فاته من التكبيرات والدعاء. ويستحب ألا تُرفع الجنازة حتى يتمها، فإن رفعت؛ لم تبطل صلاته. وفيه قول آخر: أنه يقضي التكبيرات نسقاً من غير دعاء؛ لأن الجنازة تُرفع قبل فراغه، فلا معنى لدعائه بعد ما رفع الميت. والأول أصح. ومن صلى على جنازة مرَّةً، لا يستحب أن يصلي ثانياً؛ لأنه لا يتطوَّع بها. فإن كان قد صلى وحده، ثم أراد أن يصلي مع جماعة، فيه وجهان: أحدهما: يستحب؛ كما في سائر الصلوات. والثاني: لا يصلي ثانياً؛ لأنه لا يتنفَّل بها. ومن لم يدرك الصلاة حتى دفن يصلي على القبر. وكذلك لو دفن ميت قبل أن يصلي عليه لا يُنبش القبر، ويصلي على القبر؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقبر دفن ليلاً. فقال: "متى دُفِن هذا"؟ قالوا: البارحة. قال "أفلا آذنتموني" قالوا: دفنَّاه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك. فقام؛ فصففنا خلفه- قال ابن عباس، وأنا فيهم- فصلى عليه.

وعند أبي حنيفة: لا يصلي على القبر، إلا أن يكون وليّاً لم يصل.

وإلى متى تجوز الصلاة على الميت بعد الدفن؟ فيه أربعة أوجه:

أحدها: يجوز إلى شهر؛ ذكره صاحب "التلخيص". والثاني: يصلي ما دام في القبر منه شيء، وبعده لا يصلي؛ لأنه إذا بلي الكل لم يبق ما يصلي عليه. وكذلك يجوز دفن ميت آخر فيه. والثالث- وهو الأصح-: من كان من أهل فرض الصلاة يوم موته، فله أن يصلي عليه أبداً؛ لأنه كان من أهل الخِطاب بالصلاة عليه. أما من كان صغيراً يوم موته، أو ولد بعد موته- فلا يصلي عليه. والرابع- وهو الأضعف-: يجوز أبداً؛ لأن القصد من الصلاة الدعاء، ويجوز الدعاء في كل وقت؛ فعلى هذا الوجه إما لم تجُز الصلاة على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- لنهيه- عليه السلام-؛ فإنه عليه السلام قال: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقيل على هذا الوجه: يجوز الصلاة على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى قبور الأنبياء-

عليهم السلام- فرادى، والنهي عن الصلاة عليها جماعة؛ حتى لا يزدحموا عليها؛ ليتخذوها مساجد، ويحكى هذا الوجه عن أبي الوليد. وقال: أنا أصلي اليوم على قبور الأنبياء والصالحين. فصلٌ: في دفن الميت روي عن جابر، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى "أحد" في بثوب] واحد، ثم يقول أيهم أكثر قرآناً" فإذا أشير إلى أحد، قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلوا. دفن الميت فرض على الكفاية، والدفن في المقبرة أولى؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يدفن الموتى بـ "البقيع"، ولأنه يحصل له الدعاء من المارة، وممن يزوره، ويجوز في البيت؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- دُفن في حجرة عائشة. فإن قال بعض الورثة: ندفن في المقبرة، وقال بعضهم: في البيت دفن في المقبرة؛ لأن بعض من له حق في البيت غير راض به. وإذا تنازع رجلان في موضع من مقبرة مسبلة؛ يقدم السابق منهما، فإن جاءا معاً؛ أقرع بينهما. ويستحب أن يعمق القبر قدر قامة وبسطةٍ، ويوسع واللحد أولى من الشقِّ إذا كانت الأرض صُلبة؛ وهو أن يحفر في جدار القبر الذي يلي القبلة، فإن كانت الأرض رخوة؛ يشق الوسط. وقال أبو حنيفة: الشق أولى من اللحد. ودليلنا: ما روي عن عروة؛ قال كان بـ "المدينة" رجلان: أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد. فقالوا: أيهما جاء أولاً عمل عمله، فجاء الذي يلحد؛ فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اللحد لنا، والشقُّ لغيرنا". ويستحب: أن يوضع الميت على شفير القبر، ورأسه عند رجل القبر، ثم يسلُّ من قبل رأسه إذا أمكن؛ لما روي عن ابن عباس؛ قال: سُلَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل رأسه. وأول ما يدخل القبر رأسه. وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة على عُرض القبر مما يلي القِبلة ويقول من يدخله القبر؛ ما رُوي عن ابن عمر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أدخل الميت القبر قال: "بسم الله وبالله وعلى ملَّة رسول الله"، وفي رواية: "على سُنَّة رسول الله". ويضجع الميت في

اللحد على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، ويجعل تحت رأسه لبِنَة، ويسند إلى جدار اللحد لئلا يستلقي على ظهره، ويقدم رأسه ورجلاه إلى اللحد؛ كالمقوَّس حتى لا ينكبَّ على وجهه، ولا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء؛ فإنه روي عن ابن عباس قال: جُعِلَ في قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- قطيفةٌ حمراء. ثم ينصب اللَّبَن على اللحد، ويسد فرجَ اللبن، ثم يحثي على شفير القبر ثلاث حثيات من التراب بيديه، ثم يهال بالمساحي. روي عن جعفر بن محمد عن أبيه؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعاً. ويستحب ألا يزاد في القبر أكثر من ترابه الذي خرج منه؛ حتى لا يرتفع جداً، ويشخص عن وجه الأرض قدر شبر. روي عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فكشفت لي عن ثلاثة قبور؛ لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصَةِ الحمراء. ويستحب أن يُرشَّ عليه الماء، ويوضع عليه الحصبَاءُ، فإنه روي؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم-

رشَّ على قبر ابنه: إبراهيم، ووضع عليه حصباء. وقال جابر: رُشَّ قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربةٍ، بدأ من قبل رأسه، حتى انتهى إلى رجليه. ويكره رش ماء الورد، ويستحب أن يوضع عند رأسه صخرة أو علامة. روي عن عبد المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون فدفن، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نأتيه بحجر، فلم نستطع حملها. فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- وحسر عن ذراعيه، وحملها؛ فوضعهما عند رأسه، وقال: "أعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". وتسطيح القبر أولى من التسنيم؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- سطَّح قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء من حصباء العَرصةِ. وعند أبي حنيفة: التسنيم أولى، ويستحب لمن صلى على الجنازة أن يتبعها حتى تدفن؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من اتَّبع جنازة مسلم إيماناً

واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها، ويفرغ من دفنها- فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كلُّ قيراط مثل أُحُد. ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن يدفن- فإنه يرجع بقيراط". ويستحب لمن فرغ من دفن الميت أن يقف عليه ساعة يستغفر للميت، ويسأل الله له التثبيت؛ لما روي عن عثمان قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الرَّجل وقف عليه وقال: "استغفروا- لأخيكم، وادعوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل". ويكره أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، ويكتب عليه. روي عن جابر قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "أن يجصَّص القبر، وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه" وفي رواية: "وأن يُكتب عليه وأن يوطأ". وإن بنى عليه في المقبرة يهدم؛ لأنه يضيق المكان على الناس، فإن دفن في ملكه وبنى لا يهدم. ويكره أن يضرب على القبر المِظلة؛ فإن عمر- رضي الله عنه- رأى مظلة على قبر فأمر برفعها، وقال: دعوه يظله عمله. ولو دفن ميت في أرض مغصوبة ينبش، ويخرج، ولو دفنه الوارث في تركته لا ينبش. ولو استعار أرضاً ليدفن فيها ميتاً، فللمعير الرجوع قبل الدفن، وبعد ما دفن لا رجوع له،

حتى يصير الميت تراباً، وإذا صار الميت تراباً في المقبرة جاز نبش قبره، ودفن غيره فيه، وقيل أن يصير تراباً لا يجوز، ويرجع إلى أهل الخبرة بتلك الأرض، ولا يسوي التراب على القبر القديم: ليتصور بصورة الجديد حتى يدفن فيه غيره. ولو حُفِر قبرٌ؛ فوجد فيه عظام- يعاد التراب عليه. ولو دفن ميت قبل الغسل، أو إلى غير القبلة- ينبش القبرُ، ويغسل، ويحول إلى القبلة ما لم يتغير، فإن تغير لا يُنبش؛ لأن التوجه إلى القبلة يسقط بالعُذر، وإن دفن قبل أن يصلي عليه يصلي على القبر، وإن دفن من غير كفنٍ، هل ينبش؟ فيه وجهان: أحدهما: ينبش، ويكفن؛ كما يُنبش للغسل. والثاني: لا ينبش؛ لأن المقصود من الكفن السَّتر، وقد حصل الستر بالدفن. ولو دفن في ثوب مغصوب، أو وقع خاتم إنسان، أو متاع آخر في القبر يُنبش، ويرد الثوب والمتاع إلى المالك. ويكره أن يجعل الميت في التابوت، إلا أن تكون الأرض رخواً أو نديّاً، ولو أوصى به لا تمتثل وصيته إلا في مثل هذا الموضع ثم التابوت يكون من رأس المال. ويكره نقل الميت من بلد إلى آخر، وإن مات رجل في سفينة: فإن كان الساحل قريباً؛ دفن في البر، وإن لم يكن؛ غسل وكفن وصلى عليه، ثم وضع على لوح، فطرح في الماء. ولا يجمع بين اثنين في قبر واحد، فإن كثر الموتى، ودعت إليه الضرورة- جاز، ويقدم إلى القبلة أفضلهم، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرَّجلين من قتلى أُحُدٍ، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن". فإذا أشير له إلى أحد قدَّمه في اللَّحد. وروي عن هشام بن عامر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال يوم "أحد": "احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد وقدِّموا أكثرهم قرآناً".

وإن كان أب وابن قدم الأب، أو أم وبنت قدمت الأم. ولا يجمع بين الرجل والمرأة، فإن وقعت ضرورة، قدم الرجل إلى القِبلة، وجعل بينه وبين المرأة حاجزٌ من تراب، ولا تقدم الأم على الابن. وإن كان رجل وامرأة خنثى وصبي، قدم الرجل إلى القبلة، ثم الصبي خلفه، ثم الخُنثى، ثم المرأة، وجعل بين الرجل والخنثى، وبين الخنثى والمرأة حاجز. ولا يدفن كافر في مقبرة المسلمين، ولا مسلم في مقبرة الكفار. ولا يدخل الميت القبر إلا الرجال؛ سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ لأنه يحتاج إلى بطش وقوة؛ فالرجل أقوى عليه، وأولاهم بذلك أولاهُم بالصلاة عليه. وإن كان الميت امرأة، فزوجها أحق بدفنها، ثم ذو محارمها فالأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم. فإن لم يكن لها محرمٌ، فمملوكها أولى من ابن العم؛ لأنه كالمحرم. فإن لم يكن فالخصيان، فإن لم يكونوا فذو رحم غير محرم، ثم أهل الصلاح من المسلمين. ويستحب أن يكون الذين يدخلونه القبر وتراً: ثلاثاً أو خمساً، وكذلك عدد الغاسلين؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- دفنه علي، والعباس، وأسامة بن زيد.

ويستحب أن يستر القبر بثوب عند الدفن؛ سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ كما يستر موضع الغسل. روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ستر قبر سعد بن معاذ بثوب لما دفنه. ويكره الجلوس على القبور والاتكاء عليها ووطؤها إلا لضرورة؛ بأن يريد دفن ميت، أو زيارة قبر؛ لما روي عن أبي مرثدٍ الغنوي قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لأن يجلس أحدكم على جمرة؛ فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبر". ويستحب زيارة القبور؛ لما روي عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "كُنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فقد أُذِن لمحمد في زيارة قبر أمِّه، فزوروها؛ [فإنها] تذكِّركم الآخرة".

ويكره ذلك للنساء؛ لقلة صبرهن وكثرة جزعهنَّ. وكيفية الزيارة؛ كزيارة ذلك الميت في حياته من القرب والبعد. وإذا خرج للزيارة يدعو لهم. روي عن بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلِّمُهم إذا خرجوا إلى المقابر: "السلام عليكم أهل الديار؛ من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".

"باب التعزية والبكاء على الميت" روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من عزَّى مصاباً فله مثل أجره".

التعزية لأهل الميت سنة؛ وهي أن يأمرهم بالصبر، ويدعو للميت بالمغفرة، ويكون ذلك بعد الدفن، ولا تعزية بعد الثلاث؛ لأنه لتسكين قلب المصاب، والغالب أنه يسكن قلبه بعد ثلاث ويقول في تعزية المسلم للمسلم: أعظم الله أجرك، وغفر لميِّتك. ويقول في تعزية المسلم بولده الكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك. ويجوز تعزية الذمي بقرابته، ثم إن كان الميت مسلماً يقول: غفر الله لميتك، وأحسن عزاءك. وإن كان الميت كافراً يقول: أخلف الله عليك ولا نقص عددك. وهذا لأن في زيادة عددهم كثرة الجزية للمسلمين. ويكره الجلوس للتعزية؛ فإنه محدثٌ، وكل محدث بدعة. ويستحب للجيران، ولقرابة الميت الأبعدين؛ أن يصنعوا لأهل الميت الأقربين الذين أوجعتهم المصيبة طعاماً يسعهم ليومهم وليلتهم، ويلحهم على أكله. روي عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعيُ جعفر قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوا- لآل جعفر طعاماً؛ فإنَّه جاءهم أمرٌ يشغلُهُم". وإذا اجتمع النساء ينحن، ويندبن؛ فلا يجوز أن يتخذ لهم طعاماً؛ لأنه عونٌ لهن على المعصية.

فصلٌ: "في البكاء على الميت" روي عن أنس بن مالك قال: دخلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أبي سيف القين- وكان ظئراً لإبراهيم- فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك- وإبراهيم يجود بنفسه- فجعلت عيناً رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يابنُ عوفٍ، إنها رحمةٌ" ثم أتبعها بأخرى فقال: "إنَّ العين تدمعُ والقلب يحزنُ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". البكاء على الميت مباح قبل زهوق الروح وبعده، وقبل زهوق الروح أولى، أره منه للقلق على فراقه. أما النياحة والندب؛ وهو أن يعد شمائله، وضرب الخدود وشق الجيوب- حرام، ومعصية. روي عن عبد الله بن عمر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يرحمُ.

وعند عبد الله بن مسعود قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليَّة". وروي عن عمر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الميت ليعذَّب ببكاء أهله عليه". وتعذيب الميت ببكاء الحي؛ لما أنهم كانوا يوصون بالناحية؛ فعذبوا بذلك. والله أعلم بالصواب. تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله: "كتاب الزكاة"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الثالث يحتوي على الكتب التالية الزكاة - الصيام - الحج - البيوع منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

=====

كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الزَّكَاةِ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ...} الآية [البينة: 5] وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].

وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى "اليمن": "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم: فادعهم [إلى] أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخبرهم أن الله قد فرضعليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم. فإن من أطاعوا لك بذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب". الزكاة أحد أركان الإسلام، فمن منعها عصى الله - عز وجل -ثم إن كان في قبضة الإمام، أخذ منه الزكاة كرهاً، وإن لم يكن في قبضته، أو امتنع بجماعة، قاتلهم الإمام على

منعها وأخذها منهم كرهاً. قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. وإن منعها منع جحود، كان كافراً، وقتل بسبب الردة. وروي عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه؛ تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها، ردت عليه أولاها؛ حتى يقضي بين الناس". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم،

فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد". زكاة العين تجب في ثلاث أشياء: في الحيوان، والجواهر، والمستنبتات؛ فلا تجب في الحيوان إلا في النعم، ولاتجب في الجواهر إلا في الذهب والفضة، ولاتجب في المستنبتات إلا فيما هو قوت من الزروع والثمار في النخيل والكروم، وأما سائر الأموال: فلا زكاة فيها، إلا أن يتجر فيها؛ فيجب عليه زكاة التجارة. "باب زكاة الإبل" روي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". لا زكاة في الإبل حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً، ففيها شاة جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، ثم لا يزاد حتى تبلغ عشراً ففيها شاتان، ثم لا يزاد حتى تبلغ خمس عشرة ففيها ثلاث شياة، ولا يزاد حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت ففيها أربع شياة، حتى تبلغ خمساً وعشرين، فإذا بلغت سقطت الشياه، وفيها بنت مخاض؛ وهي التي استوفت سنة، وطعنت

في الثانية؛ لأن أمها تمخض في تلك المدة؛ فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، وهي التي استوفت سنتين؛ لأن أمها ترضع ولداً آخر. فإذا بلغت ستاً وأربعين، ففيها حقه؛ وهي التي استوفت ثالث سنين؛ لأنها تستحق الحمل والإنزاء. فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة؛ وهي التي استوفت أربع سنين؛ لأنها تجذع السن؛ أي: تسقطها. ووراء الجذعة أسنان للإبل الثنية والسديس وغيرهما، ولكنها لا تجب في الزكاة إلا أن يتبرع رب المال به. فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، فإذا زاد على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون. ثم بعدها تستقر

الفريضة على نصابين وسنين؛ فيجب فيكل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ولا تتغير الفريضة إلا بعقد كامل؛ وهو عشرة. فإذا اجتمع عدد من بنات لبون، وزاد عقد؛ فأبدل بنت لبون بحقة، ثم إذا زاد عقد آخر أبدل بنت لبون أخرى بحقة؛ هكذا حتى يصير الكل حِقاقاً، ثم إذا زاد عقد آخر بعدها أبدل ثلاث حقائق بأربع بنات لبون. بيانه: في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، فإذا صار مائة وثلاثين ففيها بنتاً لبون وحقة، فإذا بلغت مائة وأربعين ففيها ابنة لبون وحقتان، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حِقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين ثلاث بنات لبون وحقة، وفي مائة وثمانين ابنتا لبون وحقتان، وفي مائة وتسعين ثلاث حِقاق وبنت لبون، وفي مائتين أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، يجب عليه أحدهما؛ لأنها أربع خمسينات وخمس أربعينات. إذا ثبت أن في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون فهل لهذا الواحد قسط من الواجب؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن المغير للفرض له قسط من الواجب كالمعاشر. والثاني: لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زادت على مائة وعرين، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". ولو جعلنا لتلك الواحدة قسطاً من الواجب، لكان في كل أربعين وشيء بنت لبون، وقد يتغير الفرض؛ فمن لا قسط له كمن مات عن أبوين وأخوين، فالأخوين لا ح لهما في الميراث، ويتغير بهما فرض الأم؛ فإنهما يردان الأم من الثلث إلى السدس. ولو زاد على مائة وعشرين شقص بعير، وإن قل؛ هل تتغير به الفريضة؟ فيه وجهان.

قال الإصطخري: تتغير؛ فيجب فيها ثلاث بنات لبون؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:"فإن زادت على عشرين ومائة" وقد حصلت الزيادة. والثاني - وهو الأصح والمذهب -: لا يتغير؛ لأن مبنى الزكاة على إن الواجب يتغير فيها بالأشخاص لا بالأشقاص. وقال أبو حنيفة: إلى مائة وعشرين؛ كما قلنا: إن فيها حقتين، ثم بعده قال: يستأنف الحساب؛ فيجب في كل خمس شاة مع الحقتين إلى مائة وخمس وأربعين قال: فيها ابنة مخاض مع الحقتين. فإذا بلغت مائة وخمسين، ففيها ثلاث حقاق، ثم يستأنف الحساب بإيجاب الشياه مع الحقاق الثلاث إلى مائة وخمس وسبعين، ففيها ابنة مخاض وثلاث حقاق، وفي مائة وست وثمانين بنت لبون وثلاث حقاق، وفي مائة وست وتسعين أربع حقاق إلى المائتين تكون عفواً، ثم بعد المائتين يستأنف الحساب، وعلى رأس كل خمسين أربعة تكون عفواً لا يتعلق بها الواجب. دليلنا: ما روي عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب تاب الصدقة، فلما قبض عمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض.

وعن أنس: أن أبا بكر تب له كتاب الصدقة لما وجهه إلى "البحرين" وفي كل واحد منهما: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". وعند مالك: إنما تستقر الفريضة إذا زادت على مائة وعشرين [عشرة]، فصارت مائة وثلاثين؛ فحينئذ في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة؛ فتكون فيها ابنتا لبون وحقة. فإذا زادت على مائة وعشرين أقل من عشرة لا يتغير الواجب. فصل: [فيما إاوجبت عليه سن ولم توجد عنده] روي عن أنس؛ أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم-: من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة؛ فإنها تقبل منه الحقة،

ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما من بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، إلى أن قال: ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين؛ فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون؛ فإنه يقبل منه، وليس معه شيء. إذا وجبت عليه سِنٌّ وهي موجودة عنده، لايجوز أن يعطي سناً دونها، ويجوز أن يعطي سناً فوقها متبرعاً، ولا يأخذ شيئاً. أما إذا لم تكن السن الواجبة موجودة عنده، أو كانت معيبة، يجوز أن يعطي سناً دونها، ويعطي معها شاتين، أو عشرين درهما، أو يعطي سناً فوقها، ويأخذ من الساعي شاتين أو عشرين درهماً. بيانه: إذا وجبت عليه جذعة، وليست عنده وأعطي حقة مكانها مع شاتين أو عشرين درهماً - جاز، ولا يجوز تفريق الجبران؛ فيعطي شاة وعشرة دراهم؛ كما لا يجوز تفريق الكفارة الواجبة؛ فيطعم خمساً ويكسو خمساً من المساكين؛ سواء كانت الشاتان أو الدراهم مع الحقة تبلغ قيمة الجذعة، أو لا تبلغ؛ فلا ينظر إليه؛ لأنه الواجبة بالنص؛ وكذلك لو وجبت عليه حقة، وليست عنده؛ فأعطي بنت لبون مع الجبران، أو وجبت عليه بنت لبون، وليست عنده؛ فأعطي بنت مخاض مع شاتين، أو عشرين درهماً - يجوز ولو وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده؛ فأعطى بنت لبون، وأخذ من الساعي شاتين أو عشرين درهماً يجوز. قال الشيخ: فلو أراد الساعي أن يعطي شاة وعشرة دراهم، ورضي به رب المال - يجوز؛ لأن ذلك حقه؛ فله أن يرضى بالتفريق؛ كما يجوز ألا يأخذ شيئاً، بخلاف الإعطاء؛ فإنه أداء عبادة؛ فيتبع فيها النص. وكذل لو وجبت عليه بنت لبون، وليست عنده؛ فأعطي حقة، وأخذ الجبران، أو وجبت عليه حقة، وليست عنده؛ فأعطى جذعة، وأخذ الجبران- جاز. ولو وجبت عليه جذعة، وليست عنده جذعة ولا حقة؛ فأعطي بنت لبون مع جبران أربع شياه، أو أربعين درهماً - يجوز، أو يجوز أن يعطي أحد الجبرانين غنماً، والآخر دراهم؛ بأن يعطي شاتين مع عشرين درهماً؛ كما لو لزمته كفارتان؛ يجوز أن يطعم عن أحدهما، ويكسو عن الأخرى.

وكذلك لو وجبت عليه حقة، وليست عنده حقة ولا بنت لبون؛ فأعطي بنت مخاض مع جبرانين يجوز. [ولو وجبت عليه جذعة، وليست عنده جذعة ولا بنت لبون؛ فأعطي بنت مخاض مع جبرانين يجوز]. ولو وجبت عليه جذعة، وليست عنده جذعة ولا حقة ولا بنت لبون؛ فأعطي بنت مخاض مع ثلاث جبرانات: ست شياه أو ستين درهما - يجوز. وكذل في الارتقاء؛ لو وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده بنت مخاض ولا بنت لبون؛ فأعطى حقة؛ وأخذ جبران ستين، أو لم يكن عنده حقة؛ فأعطي جذعة، وأخذ ثلاث جبرانات -يجوز. وإذا احتاج الإمام إلى إعطاء الجبران، وليس في بيت المال دراهم -باع شيئاً من أموال المساكين، وصرف إلى الجبران. ولو وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده - يؤخذ منه ابن لبون ذكر؛ سواء كانت قيمته أقل من قيمة بنت المخاض، أو أكثر، ولاجبران له. ولا يجوز أخذ الذكر في الزكاة، إذا كان بعض ماشيته إناثاً إلا في هذا الموضع، وأخذ التبيع من زكاة البقر، وإنما لم يوجب الجبران؛ لأن فضل سن ابن اللبون بمقابلة فضل أنوثة بنت المخاض؛ فاستويا. ولا يجوز أخذ ابن اللبون مع وجود بنت المخاض، ويجوز أخذه مع القدرة على تحصيل بنت المخاض؛ لأنه بدل كامل؛ فمن حيث إنه بدل لا يجوز أخذه مع وجود الأصل، ومن حيث إنه بدل كامل يجوز أخذه مع القدرة على تحصيل الأصل. ولو لم يكن عنده بنت مخاض، ولا ابن لبون؛ فأيهما وجده اشتراه، وأعطي ولو وجدهما جميعاً هل يجوز أن يشتري ابن اللبون؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه عادم لبنت المخاض. والثاني: وهو الأصح -: لا يشتري غلا بنت المخاض؛ لأنهما لو استويا في الوجود لم يجز إخراج ابن اللبون، كذلك عند عدمهما إذا أمكن تحصيلهما. ولو وجبت عليه بنت مخاض - وهي موجودة- لكنها كريمة سمينة، وإبله مهازيل-

لا يجبر على إعطائها، بل يشتري بنت مخاض عَدلاً بين غذاء المال وخياره. وهل يقبل منه ابن اللبون في هذه الحالة؟ قيل: لا يقبل؛ لأنه واجد لبنت مخاض تجزئ. والمنصوص أنه يقبل؛ لأن بنت المخاض - لما لم يجب إخراجها - كانت المعدومة؛ كما لو كانت إبله سماناً، وعنده بنت مخاض مهزولة - جاز إخراج بنت اللبون. ولو وجبت عليه بنت اللبون في ست وثلاثين، وليست عنده - لا يجوز إخراج حق ذكر؛ لأنه لم يرد به النص؛ ولأن بنت اللبون تساوي الحق في ورود الماء والشجر، والامتناع من صغار السباع، ويفضل بالنوثة؛ فلم تكن زيادة قوة الحق معتبرة. ولا يجوز تكثير الجبران مع إمكان التقليل؛ مثل: أن وجبت عليه حقة، وليست عنده، وعنده بنت لبون وبنت مخاض - لا يجوز إخراج بنت المخاض مع جبرانين؛ لأنه يمكنه إعطاء بنت اللبون؛ ليقل الجبران. وكذلك لو وجبت عليه بنت لبون، وليست عنده وعنده حقة وجذعة - لا يجوز أن يعطي الجذعة، [ويأخذ جبرانين، بل يعطي الحقة؛ ليقل الجبران. فلو أعطي الجذعة] ورضي بجبران واحد، يجوز، وهو متبرع بالزيادة. ولو وجبت عليه حقة، وليست عنده، وعنده جزعة وبنت لبون؛ فرب المال بالخيار؛ إن شاء نزل؛ فأعطي بنت اللبون مع جبران سن واحدة، وإن شاء ارتقى، فأعطي الجذعة، وأخذ جبران سن. وكذل لو وجبت عليه بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض وحقه فله الخيار؛ إن شاء أعطي ابنة المخاض مع جبران سن، وإن شاء أعطي الحقة، وأخذ جبران سن. والخيار بين الدراهم والشاة في الجبران إلى من يعطي؟ فإن أن المعطي هو الساعي، فعليه أن يختار ما هو الأنفع للمساكين، والخيار في النزول والارتقاء إلى رب المال؛ لأن له أن يدع النزول والارتقاء جميعاً، ويحصل السن التي وجبت عليه. وفيه وجه آخر: أن الخيار فيه إلى الساعي؛ كما في المائتين؛ الخيار إلى الساعي في أخذ الحقاق، وبنات اللبون. ولو وجبت عليه حقة، وليست عنده، وعنده جذعة وبنت مخاض؛ فهل له أن ينزل إلى بنت المخاض؛ فيعطي مع جبرانين؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز، بل يعطي الجذعة؛ ليقل الجُبران. والثاني: هو بالخيار؛ إن شاء نزل فأعطي بنت المخاض مع جبرانين، وإن شاء ارتقى فأعطي الجذعة، وأخذ جبران سن؛ لأن الجهة مختلفة التقليل في الأخذ والتكثير في الإعطاء، وإنما لا يجوز تكثير الجبران مع إمكان تقليله إذا كانت الجهة واحدة في الأخذ والإعطاء. وكذلك لو وجبت عليه بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض وجذعة؛ هل يجوز إعطاء الجذعة وأخذ جبرانين، أم يعطي ابنة مخاض مع جبران واحد؟ فعلى وجهين. ولو وجبت عليه جذعة، وليست عنده، وعنده ثنية؛ فأخرجها متبرعاً - يجوز، وهل يجوز أن يخرجها، ويأخذ الجبران؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما لو أخرج الجذعة عن الحقة. والثاني-وهو الأصح -: لا يجوز أخذ الجبران؛ لأن الثنية لا مدخل لها في الزكاة؛ فلا يقابل الزيادة التي فيها بالجبران؛ كما لو وجبت عليه بنت مخاض، وليس عنده إلا الفصيل- لا يجوز أن يعطي الفصيل مع البران. ولو وجبت عليه سن؛ وهي حامل أو ذات در، أو أكرم إبله - ليس للساعي أخذها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:"إياك وكرائم أموالهم". فإن تبرع رب المال، وأعطاها، يجب أخذها؛ لأنها أقرب إلى النفع، بخلاف ما لو أسلم في سن؛ فأتى بها حاملاً، له ألا يقبل؛ لأنه ربما يريدها للعمل، وغير الحامل أقوى على العمل، فإن لم يتبرع رب المال بها، له أن ينزل إلى سن دونها؛ فيعطي مع الجبران، أو يرتقي إلى سن فوقها، ويأخذ الجبران. فصل: [في الواجب في مائتين من الإبل] يجب في مائتين من الإبل أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لأنها أربع خمسينات، وخمس أبعينات ثم لا يخلو عن ستة أحوال: إما أن يكون الصنفان موجودين أو مفقودين، أو أحد الصنفين موجوداً دون الآخر، أو أحدهما وبعض الآخر، أو بعض كل واحد منهما، أو بعض أحدهما، فإن كانا موجودين، فالخيار إلى الساعي؛ يأخذ الصنف الذي هو أنفع للمساكين، بخلاف الجبران، جعلنا الخيار فيه على رب المال في النزول والارتقاء؛ لأن هناك لرب المال ترك النزول والارتقاء، وتحصيل السن التي وجبت عليه؛ فكان الخيار إليه، وهاهنا ليس له ترك الصنفين والانتقال إلى غيرهما فلو أخذ الساعي أدنى الصنفين؛ نظر: إن

أخذه عالماً به، أو لم يجتهد - لا يقع عن الزكاة؛ سواء كان رب المال عالماً به، أو جاهلاً؛ فعلى رب المال إخراج الزكاة، ويسترد من الساعي ما أخذه إن كان قائماً، أو قيمته إن كان هالكاً. وإن أخذ الساعي الأدنى بالاجتهاد، فوقع له أنه الأجود؛ نظر: إن كان رب المال عالماً، فالمذهب أن الفرض لا يسقط؛ كما لو كانا عالمين؛ وكما لو أخفى رب المال أجود الصنفين. وقيل: حكمه حكم ما لو كانا جاهلين، وإن كانا جاهلين؛ نظر؛ إن كان ما أخذ قائماً في يد الساعي، رده وأخذ الأجود، وإن كان قد تلف في يده، فما أخذ الساعي محسوب عن الزكاة. وهل يجب عليه إخراج الفضل؟ فيه وجهان: أحدهما: لايجب؛ لأن الإمام أخذه بالاجتهاد؛ وكما لو أخذ القيمة بالاجتهاد، تحسب عن الزكاة. والثاني - وهو المذهب-: يجب عليه إخراج الفضل، لوقوع البخس في حق المساكين؛ بخلاف ما لو أخذ القيمة؛ لأن ثم لم يبخس حقهم؛ فعلى هذا إن كان النقصان شيئاً يسيراً، يجوز أن يعطي من الدراهم، ويعطي بنفسه إلى المساكين، وإن كان كثيراً؛ بحيث يؤخذ به جزء من البعير، هل يجوز أن يعطي من الدراهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يجب من الإبل؛ لأنها الواجب. والثاني: يجوز؛ لأنه ليس بأصل الزكاة، ولكنه جبر نقص؛ كما في الجبران. فإن قلنا: يجب جزء من البعير، لا يجوز أن يخرج من غير هذين الصنفين. ومن أي صنف يخرج؟ فيه وجهان أحدهما: من الصنف الأجود؛ لأنه الواجب. والثاني: من الصنف الذي أخذه الساعي، حتى لا يؤدي إلى تفريق الفريضة. فإن قلنا: يجب عليه جزء من البعير، يجب الدفع إلى الساعي على قولنا: إنه لا يجوز أن يفرق زكاة الأموال الظاهرة بنفسه. وإن قلنا: يعطي من النقد، هل يجوز أن يفرق بنفسه فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه من جنس المال الباطن.

والثاني: يجب الدفع إلى الساعي؛ لأنه جبران المال الظاهر؛ كالدراهم في الجبران. وإن كان الصنفان مفقودين، معيبين؛ فإن شاء نزل؛ فأخرج خمس بنات مخاض مكان خمس بنات لبون، مع خمس جبرانات عشر شياه أو مائة درهم، وإن شاء ارتقى؛ فأخرج أربع جذاع مكان أربع حقاق، واسترد أربع جبرانات، وليس له أن يعطي أربع بنات مخاض مكان أبع حقاق مع ثمان جبرانات، ولا أن يعطي خمس جذاع مكان خمس بنات لبون، ويسترد عشرة جبرانات؛ لإمكان تقليل الجبران؛ بأن يجعل الجذاع مكان الحقاق، ويجعل بنات المخاض مكان بنت اللبون. وإن كان أحد الصنفين موجوداً أخذ الموجود، وليس له أن يكلفه تحصيل الصنف الآخر، وإن كان أنفع للمساكين، ولايجوز النزول، ولا الارتقاء مع الجبران. وكذلك إذا كان أحد الصنفين موجوداً، وبعض الآخر؛ فيأخذ الصنف الموجود، والناقص كالمعدوم. فإن كان بعض كل واحد موجودا؛ بأن وجد ثلاث حقاق، وأربع بنات لبون؛ فهو بالخيار بين أن يجعل الحقاق أصلاً؛ فيعطيها مع بنت اللبون مع جبران سن، وبين أن يجعل بنات اللبون أصلاً؛ فيعطيها مع حقة، ويسترد جبران سن. ولو أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع كل بنت لبون جبران-ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما يجوز أن يعطي ثلاث حقاق وبنت لبون. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يمكنه أن يعطي ثلاث حقاق وبنت لبون؛ حتى يقبل البران؛ ولأنه إذا أعطى هكذا يبقى عنده بعض الفرائض، ويعدل إلى الجبران. قال الشيخ: فلو جعل الحقاق أصلاً؛ فأعطاها مع جذعة، وأخذ جبران سن، أو جعل بنات اللبون أصلاً. فأعطاها مع بنت مخاض وجبران سن -يجوز. ولو وجد بعض أحد الصنفين؛ بأن لم يجد إلا حقتين -أخرج الحقتين مع جذعتين، وأخذ جبران سنين. فلو ترك الحقتين، وجعل بنات اللبون أصلاً؛ فأخرج خمس بنات مخاض مع خمس جبرانات - جاز، وكذلك لو لم يجد إلا ثلاث بنات لبون، أخرجها مع بنتي مخاض، وجبران سنين. ولو ترك بنات اللبون؛ فجعل الحقاق أصلاً؛ فأخرج أربع جذاع مكانها، وأخذ أربع جبرانات - جاز. وإذا كان الصنفان موجودين، فلا يجوز التفريق؛ فيأخذ حقتين وابنتي لبون ونصف.

قال الشيخ: فإن أعطي ثلاث بنات لبون مع حقتين متبرعاً -جاز؛ كما لو أعطي حقة مكان بنت لبون، ولو كانت له أربعمائة من الإبل؛ فيجب فيه عشر بنات لبون، أو ثمان حقاق. فلو أراد أن يفرق؛ يخرج خمس بنات لبون، وأربع حقاق؛ هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: قال الإصطخري. لا يجوز؛ كما في المائتين. والثاني- وهو المذهب-: يجوز بخلاف المائتين؛ لأنها أول فريضة ثبت فيها الخيار، وهذا معادها؛ فصار كالجبران الواحد لا يجوز تفريقها؛ فيعطي شاة وعرة دراهم، ويجوز في الجبرانين أن يعطي في أحدهما الدراهم، وفي الآخر الشياه. فصل: فيها إذا كانت إبله أو ماشيته مراضاً" إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، لم يجز للساعي أن يكلفه الصحيح في الزكاة، بل يأخذ وسطاً من المراض؛ لا يأخذ الأردأ ولا الأعلى. فلو لم يجد الساعي فيها السن التي وجبت، فاشترى رب المال مريضة تليق بماله جاز، وإن أراد أن يعطي سناً دونه مع الجبران يجوز، ولا يجوز أن يعطي في الجبران شاة مريضة؛ لأنه يؤدي عما في الذمة، وما في الذمة لا يكون إلا صحيحاً. ولو أراد الساعي أن يأخذ سناً فوقها، ويعطي الجبران لا يجوز؛ لأنه ربما يريد قيمة الجبران على ما أخذ في الصدقة، وفيه ترك النظر للمساكين. ولو كان بعض إبله صحاحاً، والبعض مراضاً - لم يجز أن يأخذ مريضة حتى لو كانت جميع إبله إلا واحدة، لم ينك له أخذ مريضة، ولا يجب إخراج تلك الصحيحة بعينها، بل يأخذ صحيحة لائقة بماله. مثل: أن ملك ثلاثين من الإبل: خمسة عشر منها صحاح، وخمسة عشر مراض، فعليه صحيحة بقيمة نصفه صحيحة ونصف مريضة؛ لأن نصف ماله مراض؛ بأن كانت قيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وقيمة كل مريضة ديناران؛ فعليه صحيحة بقيمة ثلاث دنانير. ولو وجبت عليه سنان، ونصف ماله مراض؛ مثل: أن ملك ستاً وسبعين من الإبل - يجب فيها ابنتا لبون. [وإن كان] نصف إبله مراض؛ هل يجوز أن يأخذ صحيحة ومريضة؟ أو مل مائتين من الغنم: مائة صحاح، ومائة مراض هل يجوز إخراج صحيحة ومريضة؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ وهو الأصح عند الشيخ الإمام؛ كما لو ملك مائة ضأن، ومائة معز، يجوز إخراج ضائنة وماعزة. والثاني: يجب عليه إخراج صحيحتين من عين بماله؛ حتى لو لم يكن في ست وسبعين إلا صحيحة واحدة، يجب عليه إخراج صحيحتين. ولو ملك خمساً من الإبل كلها مراض، يجب عليه شاة صحيحة، لأنها في الذمة. فلو أخرج منها بعيراً يجوز، وإن كانت قيمته أقل من قيمة شاة، وكذلك لو ملك خمساً صحاحاً من الإبل؛ فأخرج منها بعيراً قيمته أقل من قيمة شاة يجوز. ومن أصحابنا من قال: يجوز في المراض إذا كانت قيمته أقل؛ لأنه لا يعتقد التبرع، ولا يجوز في الصحاح؛ لأنه يعتقد أن يعطي أكثر مما عليه متطوعاً، وأقل ما في التطوع ألا ينقص عن الأصل. والمذهب جوازه في الموضعين؛ لأنه لو أخرج هذا البعير عن خمس وعشرين يجوز، ولا ينظر إلى قيمته، فإذا أخرجه عن خمس من الإبل أولى أن يجوز، وإذا أخرج بعيراً عن خمس من الإبل؛ هل يون كله فرضاً، أم يكون خمسة فرضاً؟ فيه وجهان ينبنيان على أصل؛ وهو أن الواجب في خمس من الإبل شاة، أو خمس بعير؟ وفيه جوابان: أحدهما: الواجب فيها شاة، وهي الأصل؛ لأن الشرع أوجب فيها شاة، والبعير بدل عنها. والثاني: فيها خمس بعير؛ لأنه لما أوجب في خمس وعشرين بعيراً - علمنا أن في كل خمس منها خمس بعير؛ غير أنه أوجب الشاة ترفيهاً؛ لأنه يشق على أرباب الأموال إخراج الشقص. فإن قلنا: الأصل هو الشاة، فإذا أخرج بعيراً يكون كله فرضاً كالشاة. وإن قلنا: الأصل هو البعير؛ فيكون خمسة فرضاً، وأربعة أخماسه تطوعاً. ولو أخرج بعيراً من عشر من الإبل، أو من خمسة عشر، أو من عشرين - هل يجوز أم لا؟ إن قلنا: الأصل هو الشاة، فلا يجوز حتى يخرج من عشر بعيرين، ومن خمسة عشر ثلاثة أبعرة، ومن عشرين أربعة أبعرة.

وإن قلنا: البعير هو الأصل؛ فيجوز، وإن أخرجه من عشر يكون تبرعاً بثلاثة أخماسه، وإن أخرجه من خمسة عشر يكون متبرعاً بخمسيه، وإن أخرج من عشرين يكون متبرعاً بخمسة. وإن كانت إبله كلها كراماً، لا يؤخذ نوع دونها؛ كما لا يؤخذ من اللئام كريمة وإن كانت كلها كباراً من جهة السن؛ بأن كانت فوق الجذاع والثنايا -ليس له أن يأخذ منها - واحدة، إلا أن يتبرع رب المال. فإن لم يتبرع يجب عليه أن يحصل السن التي وجبت عليه. وإذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثاً - لا يجوز أخذ الذكر في الزكاة، إلا في موضع وردت السنة به. وهو أخذ التبيع من ثلاثين من البقر، وأخذ ابن اللبون بدل بنت المخاض من خمسة وعشرين من الإبل؛ لما روي عن أنس؛ أن أبا بكر - رضي الله عنه -كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -: "ولا يخرج من الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيساً إلا ما شاء المصدق". والواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل الشاة، وهل يجوز إخراج شاة ذكر؛ سواء كانت إبله ذكوراً، أو إناثاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كالشاة في أربعين من الغنم، وكسائر أسنان الإبل كلها إناث. والثاني: يجوز؛ لأن الشرع أوجب شاة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى؛ كالشاة في الأضحية، كذاك في الجبران إذا كان المعطي رب المال هل يجوز أن يعطي شاة ذكراً؟ فيه وهان. ويجب من الضأن الجذعة، ومن المعز الثنية، ولا تجوز الجذعة من المعز، ولا تجب الثنية من الضأن، إلا أن يتبرع رب المال، ولا يختص بشاة بلدة حتى لو كانت غنمه معزاً، له أن يشتري جذعة من الضأن، أو ضاناً له، يشتري ثنية من المعز للزكاة. وإن كانت ماشيته كلها ذكوراً يأخذ منه الذكر، إذا كان لا يؤدي إلى التسوية بين

نصابين؛ كما في زكاة الغنم؛ فإن أسنان الواجب فيها لا تختلف باختلاف النصب، وكذلك زكاة الإبل. إذا ملك خمساً وعشرين ذكوراً يؤخذ منه ابن مخاض ذكراً، أو ملك ستاً وأربعين ذكوراً يؤخذ منه حق ذكر، أو إحدى وستين يؤخذ منه جذع ذكر، فإن كان يؤدي إلى التسوية بين نصابين؛ مثل: أن ملك ستاً وثلاثين بعيراً ذكراً، هل يؤخذ منه ابن لبون ذكر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل عليه بنت لبون؛ لأن في خمس وعشرين ابن لبون عند عدم [بنت مخاض]، فلو أخذنا من ست وثلاثين ابن لبون أدى إلى التسوية بين النصابين. والثاني - وهو الأصح -: يؤخذ؛ فيخرج منها ابن لبون فوق ما يخرج من خمس وعشرين. فصل: [في حلول الحول في الزكاة] روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". ومثله عن ابن عمر.

حلول الحول على المال شرط لوجوب الزكاة، كما أن النصاب شرط؛ لأن الزكاة للمواساة مع الفقراء؛ فشرطنا النصاب حتى يبلغ المال مبلغاً يحتمل المواساة؛ لأن القليل لا يحتمل المواساة، وشرطنا الحول حتى ينمو فيه المال، فلا يشق على رب المال المواساة. أما الثمار تجب الزكاة فيها ببدو الصلاح، وفي الزروع بالإدراك، وإن لم يتم الحول؛ لأن إدراكه نماء، ويشترط حلول الحول على جميع النصاب، حتى لو تلف بعض ماله قبل الحول، أو باعه؛ حتى انتقص النصاب انقطع الحول، ولا زكاة عليه. ويشترط إمكان الأداء وهو ألا يشتغل بشيء يهمه من أمر دينه أو دنياه، ووجد من يجوز الدفع إليه، ثم إمكان الأداء شرط الوجوب، أم شرط الضمان والاستقرار؟ فيه قولان: أصحهما -وبه قال أبو حنيفة-: شرط الضمان والاستقرار. كما أن الصلاة تجب

بدخول الوقت، وتستقر بمضي إمكان الأداء. والثاني- وهو قول مالك -: هو شرط الوجوب؛ كما هو شرط وجوب الداء بالاتفاق؛ بدليل أنه لو تلف ماله بعد الحول قبل إمكان الأداء لا زكاة عليه، بخلاف الصلاة؛ لأن بعد دخول وقت الصلاة يمكنه أداء الصلاة، والاشتغال بأسبابها. وها هنا لا يمكنه الأداء. إلا بعد وجود المستحق. والأول أصح؛ بدليل أنه لو تلف ماله بعد الحول قبل إمكان الأداء سقطت الزكاة، ولو تلفت بعد الحول، وقبل الأداء لا تسقط عنه الزكاة وعلى القولين يكون ابتداء الحول الثاني من تمام الحول الأول، لا من وقت إمكان الأداء. ولو حصل النتاج بعد الحول قبل إمكان الأداء، يضم إلى الأصل في الحول الثاني. وعند مالك: يضم إليه في الحول الأول، وابتداء الحول الثاني من وقت إمكان الأداء. وفائدة القولين فيما لو تلف بعض ماله بعد الحول قبل إمكان الأداء؛ نظر: إن كان الباقي نصاباً يجب عليه زكاته، وإن كان أقل من نصاب لا تجب عليه زكاة ما تلف وهل تجب عليه زكاة ما بقي؛ مثل: أن ملك خمساً من الإبل؛ فتلف منها واحدة بعد الحول قبل إمكان الأداء: إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، فلا زكاة عليه؛ كما لو تلف قبل الحول. وإن قلنا: شرط الضمان، فعليه أربعة أخماس شاة، لأنه وجبت عليه شاة بحلول الحول، ولم يستقر عليه بالإمكان إلا أربعة أخماسها. وكذلك لو ملك ثلاثين من البقر؛ فتلفت منها عشرة بعد الحول قبل إمكان الداء. إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، فلا زكاة عليه. وإن قلنا: شرط الضمان، فعليه ثلثاً تبيع. "فصل: في الوقص" الوقص وهو ما بين النصابين، هل يتعلق به شيء من واجب النصاب الأول، أو يكون عفواً؟ فيه قولان. قال في الجديد- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة - يكون عفواً، وهو يتبع النصاب

الذي بعده؛ كالوقص وهو ما دون النصاب. وقال في رواية البويطي: ليس بعفو؛ فذا ملك تسعاً من الإبل، فعلى القول الأول: يجب في خمس منها لا بعينها شاة، والباقي عفو. وعلى القول الثاني: يجب عليه شاة في الكل؛ لحديث أنس:"في أربع وعشرين فما دونها من الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض". فجعل الفرض في النصاب وفيما زاد؛ ولأنه حق لله - تعالى - تعلق بنصاب من المال؛ فيتعلق به وبما زاد؛ كقطع السرقة، فإنه إذا سرق أكثر من نصاب يتعلق القطع بالكل. وكذلك لو أوضح رأسه موضحة كبيرة، يجب فيها خمس من الإبل، ويتعلق بالكل. وفائدته: تتبين فيما لو هلت الزيادة بعد الحول، وقبل إمكان الأداء مثل: أن ملك تسعاً من الإبل؛ فهلك منها أربعة بعد الحول، وقبل إمكان الأداء ماذا يجب عليه؟ إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، يجب عليه شاة؛ كما لو تلفت الزيادة قبل الحول. وإن قلنا: شرط الضمان إن قلنا: الوقص عفو، فعيه شاة وإن قلنا: ليس بعفو، يجب عليه خمسة أتساع شاة؛ لأن الشاة وجبت في جميع التسع؛ وقد تلفت منها أربعة ولو تلفت منها خمسة بعد الحول قبل مكان الأداء إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب؛ فلا زكاة عليه؛ لأن النصاب قد انتقص قبل الوجوب. وإن قلنا: شرط الضمان إن قلنا: الوقص عفو فعليه أربعة أخماس شاة؛ لأن الشاة وجبت في خمس، وقد تلفت منها واحدة. وإن قلنا: ليس بعفو، فيجب أربعة أتساع شاة؛ لأن الشاة وجبت في التسع، وقد هلكت منها خمسة. ولو ملك ثلاثين من الإبل، فهلك منها عشر بعد الحول قبل إمكان الأداء. إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، يجب عليه أربع شياه. وإن قلنا: شرط الضمان، فإن قلنا: الوقص عفو؛ فعليه أربع أخماس بنت مخاض؛

لأنها وجبت في خمس وعشرين، وقد تلف خمسها. وإن قلنا: ليس بعفو، فعليه ثلثا بنت مخاض؛ لأنها وجبت في ثلاثين، وقد تلف منها ثلثها. ولو تلف ماله بعد الحول قبل إمكان الأداء، فلا زكاة عليه. وإن أتلفه لا يسقط عنه الزكاة؛ لأنه مفرط بالإتلاف. وإن أتلفه غيره. إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، لا زكاة عليه، كما لو أتلفه قبل الحول. وإن قلنا: شرط الضمان ينبني على أن الزكاة تتعلق [بالعين]، أم بالذمة؟ وفيه قولان. إن قلنا: تتعلق بالذمة تسقط، وإن قلنا: تتعلق بالعين، ينتقل حق المساكين إلى قيمته؛ كالمرهون إذا أتلفه إنسان، أو العبد الجاني إذا قتل -يتعلق حق المرتهن والمجني عليه بقيمته. وإذا هلك ماله بعد الحول، وإمكان الأداء؛ بأن وجد الإمام أو الساعي في الأموال الظاهرة، أو وجد المساكين في الأموال الباطنة؛ فلم يدفع إليهم حتى هلك - لا تسقط عنه الزكاة؛ سواء طالبوه أولم يطالبوه. وعند أبي حنيفة: تسقط عنه الزكاة بتلف المال بعد الإمكان. فنقول: عبادة يتكرر وجوبها، فإذا أخرها بغير عذر لا يسقط؛ كالصلاة والصوم. ولو وجد المساكين في الأموال الظاهرة؛ فلم يدفع إليهم حتى يدفع إلى الساعي، فتلف: إن قلنا: لا يجوز تفريقها بنفسه، لا يضمن، وتسقط عنه الزكاة. وإن قلنا: يجوز، فعلى وجهين: أحدهما: يضمن؛ لأنه منعه عمن لو دفعه إليه جاز. والثاني: لا يضمن: لأنه منعه ليدفع إلى الأفضل. وكذل لو ظفر بالساعي في الأموال الباطنة؛ فلم يدفع إليه ليدفع بنفسه، أو ظفر بالمستحقين من الأجانب؛ فلم يدفع إليهم ليدفع إلى أقاربه أو جيرانه، فتلف -هل يضمن؟ فيه وجهان.

وجملته: أنه إذا منعه من الأفضل حتى هلك - ضمن، وإن منع؛ ليدفع إلى الأفضل - فعلى وجهين؛ فكل موضع أوجبنا الضمان، فلا فرق بين أن يكون أفرز قدر الصدقة من ماله، أو لم يفرز، وإن كان قد دفع إلى وكيله، تلف عنده؛ فيكون من ضمان الموكل. أما إذا دفع إلى الإمام أو إلى الساعي سقط الفرض عنه؛ لأنه دفعه إلى نائب المستحقين، وإن تلف في يد الإمام، أو الساعي من غير تفريط؛ بأن لم يجد المستحقين، أو كان مشتغلاً بتعرف أحوالهم، أو كان الإمام ينتظر اجتماع المال، إذ لا يجب عليه قسمة كل قليل بين المساكين؛ لأنه يشق عليه - فلا ضمان عليه. وإن أخر القسمة بغير عذر، فهو كما لو أتلفه؛ فعليه الضمان من مال نفسه، ولا تبعة على رب المال؛ سواء طالبه المساكين، أو لم يطالبوه، وإنما ضمن الإمام؛ لأنه كما يجب على رب المال الإخراج بعد الإمكان، يجب على الإمام التفريق بعد الإمكان، والساعي إنما يضمن بتأخير القسمة إذا كان الإمام فوضه إليه، فإن لم يفوض إليه، فلا يضمن. "باب صدقة البقر السائمة" روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر معاذاً حين بعثه إلى "اليمن" أن يأخذ من ثلاثين تيعاً، ومن أربعين مسنة.

لا زكاة في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغتها ففيها تبيع؛ وهو ما استوفى سنة، وطعن في الثانية سمي تبيعاً؛ لأنه يتبع الأم في المسرح. فلو أعطى تبيعة جاز، وهو متبرع بالزيادة، ثم لا يزاد حتى يبلغ أربعين، ففيها مسنة، وهي التي استوفت سنتين، وطعنت في الثالثة، ثم لا يزاد حتى تبلغ ستين، ففيها تبيعان، ثم تستقر الفريضة؛ فيجب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ولا تتغير الفريضة إلا بعقد كامل.

فإذا اجتمع عدد من الأتبعة، فإذا زاد عقد أبدل تبيعاً بمسنة حتى يصير الكل مسنات، ثم ذا زاد عقد، فأبدل مسنتين بثلاثة أتبعة؛ ففي سبعين تبيع ومسنة، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي مائة مسنة وتبيعان، وفي مائة وعشرة مسنتان وتبيع، وفي مائة وعرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة؛ يختار الساعي ما هو الأنفع للمساكين - كما قلنا في الإبل - ولا مدخل للجبران في زكاة البقر. فإن وجبت عليه مسنة، ولم يجد، لم يكن له أن يعطي التبيع مع الجبران؛ لأن السنة لم ترد به، ويقوم المسن الذكر مقام التبيع، وهو بالزيادة متبرع. وعند أبي حنيفة: في خمسين بقرة مسنة وربع، وعنه رواية أخرى كمذهبنا. وقال سعيد بن المسيب والزهري: يجب في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين، ثم فيها تبيع ولو وجبت عليه مسنة في أربعين أو خمسين؛ فأخرج تبيعين - يجوز؛ لأنه أخرج أعلى من المنصوص عليه؛ لأن التبيعين لما جاز عن ستين، فأولى أن يجوز عن أربعين؛ كما لو أخرج بنت اللبون بدل بنت المخاض. قال الشيخ: وعندي لا يجوز أن يخرج تبيعين بدل مسنة؛ لأن الشرع أوجب في أربعين سناً زائدة؛ فلا يجبر نقصان السن بزيادة العدد؛ كما لو أخرج عن ست وثلاثين ابنتي مخاض، لا يجوز. والله أعلم. "باب صدقة الغنم السائمة" روي عن أنس؛ أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم-:"وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، وإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة". لا زكاة في الغنم السائمة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها ففيها شاة جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز ثم لا يزاد الواجب حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، ثم لا يزاد حتى تبلغ [مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه. ثم لا يزاد حتى] تبلغ أربعمائة، ففيها أربع شياه، ثم بعده في كل مائة شاة، والشاة الواجبة الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز. والجذعة: ما استوفت سنة، سميت جذعة؛ لأنها تجذع السن، والثنية: مااستوفت سنتين. وقيل: الجذعة ما استوفت ثمانية أشهر إلى سنة. وقيل: إن كانت ربيعية فإنها تجذع

بعد ثمانية أشهر، وإن كان خريفية، فبعد سنة. فإن أجذعت الضائنة، أو استكملت سنة فلم تجذع- جازت، وكذلك في الأضحية. ولا تقبل الجذعة من المعز. وقال مالك: تجوز الجذعة منهما. وقال أبو حنيفة: لا تجوز منهما دون الثنية. وفي الأضحية اتفاق. ولا تقبل العوراء والعرجاء والمعيبة في الزكاة؛ كما لاتجوز في الأضحية. وقد يجوز في الزكاة ما لا يجوز في الأضحية؛ وهو ما لا ينقص القيمة والمنفعة؛ كقطع بعض الأذن والشرقاء والخرقاء؛ لأن المقصود من الأضحية اللحم، وفيه نقصانه، ومن الزكاة النفع بالدر والنسل؛ ولك لا يؤثر فيه. ويجوز في الضحايا الذكر، ولا يجوز في الزكاة إذا كان بعض ماشيته إناثاً، وإن كانت أغنامه فوق الثنايا، لا يؤخذ شيء منها، إلا أن يتبرع رب المال. فإن لم يتبرع، يجب عليه تحصيل جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا مدخل للجبران في زكاة الغنم. فإن كان بعض أغنامه كراماً، والبعض لثاماً، أخذ من الوسط، وتعد السخال والعجاجيل والفصلان على رب المال مع الأمهات في النصاب، ولايؤخذ شيء منها؛ كما لا يؤخذ الخيار؛ مثل: الأكولة؛ وهي السمينة التي تعد للأكل، ولا الربى وهي التي معها ولدها، ولا الماخض، ولا فحل الغنم؛ وهو الذي يعد للضراب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم". وإنما تؤخذ الوسط؛ وهي الجذعة والثنية؛ فإن أعطي شيئاً من هذه الخيار متبرعاً - يقبل منه. "فصل: في ضم النتاج إلى الأمهات في الحول" النتاج يضم إلى الأمهات في الحول؛ حتى لو حدثت - وقد بقي من حول الأمهات يوم- فإذا تم حول الأمهات بعد النتاج مع الأمهات، وتؤخذ الزكاة من الكل، وإن حدث النتاج بعد تمام الحول يضم إلى الأمهات في الحول الثاني. وفائدة الضم: إنما تتبين إذا كانت الأمهات نصاباً، وتم بالنتاج نصاب آخر، فإن لم يكن الأمهات نصاباً وتم بالنتاج؛ فيبتدأ الحول من اليوم الذي تم فيه النصاب بالنتاج. وإن كانت الأمهات نصاباً ولم يتم بالنتاج نصاب آخر، فلا تظهر فائدة الضم.

مثل: أن ملك مائة شاة، فنتجت عشرين سخلة، فلا فائدة في الضم؛ لأن الواجب في جميعها شاة واحدة. ولو نتجت إحدى وعشين سخلة، أو ملك مائة وعشرين؛ فنتت واحدة في آخر الحول، فإذا تم الحول، عليه شاتان. ولو ملك مائة وعشرين؛ فخرج بعض الحمل من بطن واحدة، وتم الحول قبل الانفصال، فلا حكم له ما لم ينفصل الجميع قبل الحول. أما إذا استفاد من جنس ماشيته شيئاً بشراء، أو قبول هبة أو إرث، أو قبول وصية؛ فلا يضم إلى ماشيته في الحول. وعند أبي حنيفة: لا يضم إلى المزكي بدله؛ وهو أن يكون له دراهم؛ فأخرج زكاتها، ثم اشترى بها ماشية. قال: لا يضم إلى ما عنده في الحول، بل يستأنف للمستفاد بالشراء حول آخر. فنحن نقيس عليه؛ فنقول: مستفاد أصل بنفسه تجب الزكاة في عينه، فيقتضي في الزكاة حولاً بنفسه؛ كالمستفاد من غير جنسه، وكالمزكي بدله. فلو اختلف الساعي، ورب المال: فقال رب المال: حصل هذا النتاج بعد الحول، وقال الساعي بل حصل قبله. أو قال رب المال: هذا مستفاد من موضع آخر. وقال الساعي: بل نتاج ماشيتك؛ فالقول قول رب المال. فإن اتهمه، حلفه. إذا ثبت أن المستفاد لا يضم ما عنده في الحول، يضم إليه في النصاب؛ مثل: أن ملك عشرين من الإبل فبعد ستة أشهر ملك عشراً، فإذا مضت ستة أشهر، تم حول العشرين عليه أربع شياه؛ لأنها كانت منفردة في بعض الحول. ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، تم حول المستفاد؛ فيجب عليه ثلاث بنات مخاض؛ لأنها كانت في جميع حولها مع عشرين. ثم بعد ستة أشهر عليه ثلثا ابنة مخاض، ثم بعد ستة أشهر أخرى، عليه ثلث بنت مخاض؛ هكذا يزكي أبداً. وقال ابن سريج: لا يضم المستفاد إلى الأصل في النصاب؛ كما لا يضم في الحول؛ فعليه في العشرين، كما تم حولها أربع شياه، وفي المستفاد إذا تم حولها شاتان. وعلى هذا لو ملك ثلاثين من البقر ستة أشهر، ثم اشترى عشراً فإذا تم حول الأصل عليه تبيع، ثم إذا تم حول المستفاد عليه ربع مسنة. ثم إذا تم حول الأصل ثانياً عليه ثلاثة أرباع مسنة؛ هكذا يزكي أبداً. وعند ابن سريج: لا ينعقد الحول على العشرة؛ حتى يتم حول الأصل؛ فيخرج التبيع؛ ثم يستأنف الحول على الكل، وعلى هذا لو ملك أربعين شاة أربعة أشهر، ثم ملك

أربعين أخرى، ثم بعد مضي أربعة أشهر ملك أربعين أخرى، فإذا مضت أربعة أشهر من وقت الشراء الأخير - تم حول الأربعين الأولى؛ فعليه فيها شاة؛ لأنها كانت منفردة في بعض حولها، فإذا مضت أربعة أشهر أخرى، تم حول المستفاد الأول؛ فعليه فيها نصف شاة؛ لأنها كانت في بعض حولها مع أربعين، وفي بعضه مع ثمانين؛ فيغلب حكم الأقل؛ فإذا مضت أربعة أشهر أخرى تم حول المستفاد الثاني؛ فعليه فيها ثلاث شياه، ثم بعده عند انقضاء كل أربعة أشهر ثلاث شياه. وعند ابن سريج: يجب عليه في كل أربعين إذا تم حولها شاة. "فصل: في صغار الماشية" قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لساعيه: سفيان بن عبد الله الثقفي اعتد عليهم بالسخلة، يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربى والماخض، ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية؛ فذلك عدلبين غذاء الغنم وخياره. إذا كانت ماشيته صغاراً وكباراً، لا تؤخذ منه صغيرة؛ حتى لو كانت فيها كبيرة واحدة، لا يؤخذ منه صغيرة، بل عليه كبيرة لائقة بماله؛ مثل: أن ملك أربعين من الغنم، وعشرون منها صغار - يجب عليه كبيرة بنصف قيمة كبيرة، ونصف قيمة صغيرة. أما إذا كان الكل صغاراً سخالاً أو فصلانا أو عجاجيل، وإنما يتصور أن يتم الحول وهي صغار؛ بأن يضمها إلى الأمهات في آخر الحول، ثم ماتت الأمهات قبل الحول، وبقيت الصعار نصاباً، فإذا تم حول الأمهات تجب الزكاة في الصغار. وقال أبو القاسم الأنماطي: إذا ماتت الأمهات، أو انتقص نصابها، انقطع الحول عن الصغار. والمذهب الأول؛ لأنها جملة حادثة في الحول؛ فهلاك بعضها إذا لم ينقص النصاب، لا ينقطع الحول؛ ما لو بقي من الأمهات نصاب. إذا ثبت أن الزكاة تجب في الصغار، فكيف تؤخذ [فيه] قولان: قال في الجديد- وهو الأصح -: عليه صغيرة لائقة بماله، ثم تؤخذ أنثى إن كان بعضها أنثى، إلا من ثلاثين عجلاً يؤخذ عجل ذكر.

وقال في القديم: يجب عليه كبيرة لائقة بماله؛ وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: لا تجوز في الصغار، إلا أن يكون فيها كبيرة واحدة: ذكر أو أنثى، ثم في الجديد إنما تؤخذ صغيره إذا كان لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير؛ مثل زكاة الغنم. وكذلك يخرج من خمس وعشرين فصيلاً فصيلٌ، ومن ثلاثين عجلاً عجل، فإن كان يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير؛ ففيه وجهان؛ مثل: أن ملك ستاً وثلاثين، أو ستاً وأربعين فصيلاً، هل يؤخذ منه فصيل أو ملك أربعين عجلاً، هل يؤخذ منه عجل؟ أحدهما: لا يؤخذ، بل عليه الفرض المنصوص بالقسط؛ فيقوم النصاب من الكبار، ثم تقوم فريضته، ثم يقوم النصاب من الصغار؛ فتؤخذ كبيرة بالقسط؛ فعليه بنت لبون في ست وثلاثين، وحقه في ست وأربعين، ومسنة في أربعين عجلاً على هذا التقدير؛ لأنا لو أخذنا الفصيل أدى إلى التسوية بين النصاب الأول والثاني. والوجه الثاني - وهو الأصح-: يؤخذ؛ لأن المأخوذ يكون من جنس المأخوذ منه، ويجتهد حتى يأخذ من ست وثلاثين فصيلاً فوق ما يأخذه من خمس وعشرين، ومن ست وأربعين فوق ما يأخذه من ست وثلاثين. ولو ملك ستاً وثلاثين بنى مخاض، هل يؤخذ ابن مخاض؟ فعلى هذين الوجهين: أحدهما: لا، لأنه لا يؤخذ من خمس وعشرين، بل عليه ابن لبون. والثاني: يؤخذ فوق ما يأخذ من خمس وعشرين. ولو ملك خمساً من الإبل؛ فنتجت خمس فصال، ثم ماتت الأمهات قبل الحول، فإذا تم حول الأمهات على الفصال، لا يؤخذ منه سخلة، بل عليه شاة كاملة؛ فلو أعطي فصيلاً، يؤخذ على القول الجديد. فصلٌ: فيما يضم من المال المال الزكاتي يضم بعضه إلى بعض في النصاب عند اتفاق الجنس، وإن اختلفت الأنواع؛ وذلك في الإبل مثل: المهرية والأرحبية والمجيدية، وفي البقر: العراب والجواميس، وفي الغنم: الضأن والمعز، ثم كيف تؤخذ الزكاة؟ فيه قولان: أحدهما: تؤخذ من الأغلب، فإن استوى النوعان، أخذ الساعي ما هو أنفع للمساكين.

والقول الثاني: يؤخذ باعتبار القيمة من كل نوع بحصته. مثل: أن ملك ثلاثين ضأناً، وعشراً معزاً. فعلى القول الأول يخرج جذعة من الضأن، وعلى الثاني يخرج جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز بقيمة ثلاثة أرباع ضائنة، وربع ماعزة فيقال: لو كان الكل ضأنا، كان أقل ضائنة تجزئ قيمتها عشرون، ولو كان الكل ماعزاً كان أقل ماعزة تجزيء قيمتها اثنا عشر فيخرج جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز قيمتها ثمانية عشر. وإن كان النصف ضأناً، والنصف معزاً - يخرج واحدة بقيمة نصف ضائنة، ونصف ماعزة. ولو ملك خمساً وعشرين من الإبل: عشر مهرية، وعشر أرحبية، وخمس مجيدية - فعلى القول الأول: عليه بنت مخاض؛ بقيمة نصف مهرية، ونصف أرحبية؛ لأن هذين النوعين أغلب، وعلى القول الثاني عليه بنت مخاض بقيمة خمسي مهرية، وخمس أرحبية، وخمس مجيدية. بيانه: أقل مهرية تجزيء قيمتها عشرة فخمساها أربعة، وأقل أرحبية تجزيء قيمتها سبعة ونصف فخمساها ثلاثة، وأقل مجيدية تجزيء قيمتها خمسة فخمسها دينار؛ فعليه بنت مخاض من أي الأنواع شاء، قيمتها ثمانية دنانير، وهذا بخلاف الثمار لا يأخذ من الأغلب، ولا باعتبار القيمة، بل يأخذ من الوسط؛ لأنه شق عليه التمييز بين أنواع الثمار. ولو مل أربعين ضأنا؛ فأعطي منها ثنية من المعز؛ باعتبار القيمة، أو ملك أربعين معزاً؛ فأعطي جذعة من الضأن - هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ ما لا يجوز البقر من الغنم، والأصح جوازه، لاتفاق الجنس كالمهرية عن الأرحبية. قال القاضي - رحمه الله-: ويحتمل ألا يؤخذ المعز من الضأن؛ لأن المعز دون الضأن، ويؤخذ الضأن من المعز؛ كما تؤخذ المهرية من المجيدية، ولاتؤخذ المجيدية من المهرية. فصلُ: فيما لو مل أربعين من الغنم إذا ملك أربعين من الغنم ثلاثة أحوال، لم يؤد زكاتها؛ نظر: إن حصل عند انقضاء كل حولٍ: إما مع تمام الحول، أو قبله نتاج واحد عيه ثلاث شياة؛ لأن النصاب لا ينتقص بإخراج زكاة الحول [الأول]؛ كما لو ملك ثلاثاً وأربعين ثلاث سنين. وإن لم يحصل نتاج فكم يجب عليه؟ فيه قولان؛ بناء على أن الزكاة تتعلق بالعين، أو بالذمة؟ وفيه قولان.

قال في القديم: تتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها؛ لأن العبادات تعلقها بالذمم؛ كالصلاة والصوم والكفارة وصدقة الفطر. والدليل عليه: أنه يجوز أن يعطي حق الفقراء من غيرها، ولو كانت متعلقة بالعين، لكان لا يجوز؛ كما أن حق الشريك لايجوز للشريك الآخر أداؤه. وقال في الجديد- وهو الأصح؛ وبه قال أبو حنيفة -: تتعلق بالعين؛ كتعلق حق الشريك بمال الشركة؛ بدليل أنها تسقط بهلاك المال بعد الحول قبل إمكان الأداء؛ كحق المضارب والشريك يسقط بهلاك المال. فإن قلنا: تتعلق بالذمة، يجب عليه ثلاث شياه لثلاث سنين؛ على ظاهر المذهب الذي يقول: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. فإن قلنا: يمنع، لا يجب إلا شاة واحدة للسنة الأولى؛ لأن تلك الشاة دين في ذمته، فيمنع وجوب الزكاة للسنة الثانية. وإن قلنا: تتعلق بالعين، فلا يجب إلا شاة واحدة للسنة الأولى؛ لأن المساكين ملكوا واحدة منها في الحول الأول؛ فانتقص النصاب. ولو ملك خمساً من الإبل ثلاث سنين لم يؤد زكاتها. إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، يجب عليه ثلاث شياه، على ظاهر المذهب الذي يقول: الدين لا يمنع وجوب الزكاة. وإن قلنا: تتعلق بالعين، فقد قيل: هو كالقول الأول الذي يقول: إن الزكاة تتعلق بالذمة؛ لأن الواجب ليس من جنس ماله. فإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة، عليه ثلاث شياه، وإلا فشاة واحدة. والصحيح: أن حكمه حكم ما لو كان الواجب من جنسه، وحق المساكين يتعلق بعينه؛ بدليل أنه إن لم تحصل الشاة، فللإمام أن يبيع جزءاً من الإبل في الشاة ولو أدى منها بعيراً، يجوز بالاتفاق؛ فلا يجب عليه إلا شاة واحدة للسنة الأولى. ولو ملك خمسة وعشرين بعيراً ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فعليه ثلاثة بنات مخاض وإن قلنا: بالعين، فعليه بنت مخاض للسنة الأولى، وأربع شياه للسنة الثانية، وأربع للسنة الثالثة. فصلٌ: [هل تجب الزكاة في المال المغصوب ونحوه؟] المال المغصوب والمجحود والضال ايجب على المالك إخراج زكاته ما لم يرجع

إليه، فإذا رجع إليه بعد سنين؛ هل يلزمه إخراج زكاته لما مضى؟ نصَّ في المواشي: أنه يزكيها لأحوالها، وقال في الدراهم والدنانير: لا يجوز فيها إلا واحد من قولين: إما أن لا زكاة فيها؛ لأنه يحول دونها. وإما أن يزكي للأحوال كلها؛ لأن ملكه عليها باق اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل فيها قولين: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة-: لا يجب عليه زكاتها؛ لأن نماء الملك كان منقطعاً عنه؛ كما لو باعه سنين، ثم اشتراه. والثاني - وهو الأصح-: يجب أن يزكيها لأحوالها؛ لأن مِلكه كان باقياً عليها؛ كالمرهون. ومنهم من قال: يجب أن يزكيها لأحوالها قولاً واحداً وحيث قال: لا يجوز فيها إلا واحد من قولين، أراد به: ملكاً؛ فإنه يقول: يجب عليه زكاة العام الأول دون ما بعده؛ فقال لا يجوز إلا واحد من قولين. أما ما قلت: وهو أن يزكيها لأحوالها، أو ما قال أبو حنيفة: إنه لا زكاة عليه فيها- فإما أن يفصل بين عام وعام فليس ذلك بقياس. ومنهم من فرق بينهما على ظاهر النص: فقال في الماشية: يجب أن يزكيها لأحوالها؛ لأنها تعود إليه بنمائها، وفي الدراهم والدنانير قولان؛ لأنها لا تعود إليه بربحها؛ لأن الربح الذي حصل عليه يكون للغاصب؛ حتى لو كانت الماشية غصبها أهل الحرب، أو عبيده أبقوا: فذهبوا بها، وأتلفوا الدر والنسل -فهي كالدراهم والدنانير. خرج منه: أنها إذا عادت إليه من غير نماء، ففي وجوب زكاتها لما مضى قولان. فإذا عادت إليه مع النماء، ففيه طريقان: أحدهما- وهو قول ابن سريج -: يلزمه زكاتها قولاً واحداً. والثاني- وهو الصحيح-: أنه على قولين. أما إذا أسر رب المال، وحيل بينه وبين المال؛ حتى مضت أحوال فهل تلزمه زكاتها؟ فيه طريقان: أحدهما: فيه قولان؛ كما لو غصب المال. والثاني: يجب قولاً واحداً؛ لأنه كان في الأسر يملك بيعها ممن شاء؛ فكان كالمودع، بخلاف المغصوب. فإن قلنا: يجب أن يزكيها لأحوالها، فلو كان نصاباً واحداً، وعاد إليه بعد ثلاثة

أحوالٍ، فهو كما لو كانت في يده، ولم يخرج زكاتها ثلاثة أحوال؛ على ما ذكرنا. ولو كانت له أربعون شاة، فضلت منها واحدة ثم وجدها - إن قلنا: لا زكاة في الضالة حتى يجدها، ستأنف الحول؛ سواء وجدها بعد ما تم الحول أو قله؛ لأنه إذا ضل انقطع الحول. وإن قلنا: فيها زكاة، فإن وجدها قبل الحول بنى على الحول وإن وجدها بعد الحول، أخرج الزكاة عن الكل. وإن كان ماله مدفوناً، فنسي، ثم تذكر بعد سنين - فكالمغصوب؛ سواء كان في داره أو خارجاً. وقيل هاهنا: يجب قولاً واحداً، وهو بالنسيان غير معذور. وقال أبو حنيفة: إن دفنه في حرزه، فإذا وجد زكى لما مضى، وإن دفنه في غير حرزه، فلا زكاة عليه؛ لأنه خارج عن يده. "فصلٌ: فيما إذا تنازع الساعي ورب المال" إذا طالب الساعي رب المال بالزكاة؛ فقال رب المال: هذه وديعة عندي، أو لم يحل عليها الحول، أو هي معلوفة، أو بعتها في خلال الحول ثم اشتريتها، أو أديت الزكاة إلى ساع آخر، أو دفعت بنفسي - حيث جوزنا، فالقول قول رب المال. فإن اتهمه الساعي أحلفه، فإن لم يحلف، اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: لا شيء عليه؛ لأنه ليس هاهنا من يرد اليمين عليه، ولا يجوز القضاء بالنكول؛ حتى لو كان مساكين البلد محصورين. وقلنا: نقل الصدقة لا يجوز؛ فهم يحلفون، ويستحقون. ومنهم من قال: تؤخذ منه الزكاة؛ لأن الظاهر أن ما في يده ملكه، وأنه لم يبعه؛ فهو في الحقيقة يقر بوجوب الزكاة، ثم يدعي سقوطها، إلا أنا قبلنا قوله؛ لأنه أمين. فإذا لم يحلف صار كأنه لم يدع أداء ولا بيعاً، والأصل وجوبها عليه، ولا يكون قضاء بالنكول وحده، وإن كان لو حلف لا يأخذ منه شيئاً؛ كالمرأة إذا نكلت عن اللعان يحدها لا بنكولها وحدها، بل بلعان الزوج؛ لأن لها إسقاطه عن نفسها باللعان، فإذا لم تفعل استوفى. ومنهم من قال - وهو الأصح، وبه قال ابن سريج -: إن تصور بصورة المدعي عليه؛ بأن قال: هي وديعة عندي، أو لم يحل عليه الحول، أو ها النتاج حدث بعد الحول - فلا نحكم عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته.

وإن تصور بصورة المدعين؛ بأن قال: أديتُ إلى ساع آخر، أو فرقتها بنفسي؛ فهو يقر بالوجوب، ويدعي سقوطه وكذلك لو ادعى: أنه باع، ثم اشترى، فهو مقر بوجود النصاب، وتمام الحول في يده، ويدعي حدوث سنة السقوط، لا يقبل قوله، وعليه الزكاة. وذكر صاحب "التلخيص" وجهاً آخر: أنه يحبس حتى يقر؛ فيؤخذ منه، أو يحلف؛ فيبرأ؛ لأن القضاء بالنكول لايجوز، وترك الزكاة لا يجوز؛ فلا وجه إلا هذا. ولو نقل رب المال فأخفي بعض ماله؛ لتقليل الصدقة - عُزر عليه. فإن ادعى الجهالة لم يعزر وأخذت الصدقة منه. وإن قال: أخفيت لأؤدي بنفسي؛ فإن الساعي جائرٌ: فإن كان كما يقول، لم يعزر، وإلا عزر. والله أعلم. باب صدقة الخلطاء روي عن أنس؛ أن أبا بكر تب له [فريضة الصدقة] التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يُجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية". الخلطة في المواشي بين الشركاء تجعل أموالهم مال الواحد في حق الزكاة، إذا كان الشريكان جميعاً من أهل وجوب الزكاة عليهم؛ فتارة تؤثر الخلطة في [إيجاب الزكاة] وتكثيرها، وتنفع المساكين، وتارة تؤثر في تقليلها ويضر المساكين ففي النصاب الأول ينفع المساكين إذا كان بين رجلين أربعون من الغنم مختلطة، عليها فيها شاة إذا تم الحول. ولو انفرد كل واحد منهما بنصيبه، لا زكاة عليهما، ويضر المساكين فيما إذا كان بينهما ثمانون شاة، أو كان بين ثلاثة مائة وعشرون شاة مختلطة. لايجب عليهم إلا شاة واحدة. ولو انفرد كل واحد بنصيبه، كان على كل واحد شاة، ولا يشترط أن يكون نصب كل واحد نصاباً في ثبوت حكم الخلطة؛ حتى لو كانت أربعون شاة مشتركة بين أربعين رجلاً، يجب عليهم فيها شاة، بل الشرط أن يكون مجموع المختلط نصاباً. وعند مالك: لا حكم للخلطة؛ حتى يكون نصيب كل واحد نصاباً.

وقال أبو حنيفة: لا تأثير للخلطة، وعلى كل واحد أن يزكي زكاة الانفراد إذا كان نصيبه نصاباً، والحديث حجة عليه؛ فإن فيه:"لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. فهذا نهي يتناول الساعي، ورب المال جميعاً من جهة صاحب الشرع، نهاهما عن الجمع والتفرق؛ لتقليل الصدقة، ونهى الساعي عنهما؛ لتكثير الصدقة، فجمع رب المال أن يكون لرجلين لكل واحد أربعون من الغنم متفرقة؛ فأراد الجمع؛ لتقل الصدقة، وتعود إلى شاة واحدة وتفريقه: أن يكون بينهما أربعون مختلطة، فأراد التفريق؛ لتسقط الصدقة. وجمع الساعي -: أن يكون لرجلين لكل واحد عشرون من الغنم متميزة، فأراد الجمع؛ ليأخذ منهما شاة، وتفريقه: أن يكون بينهما ثمانون مختلطة، فأراد أن يفرق؛ ليأخذ شاتين؛ فليس لهما ذلك. ثم هذا النهي لمن يقصد به تغيير حكم الزكاة، فن لم يقصد فهو تصرف في ملكه لا يمنع منه. والجمع في خلال الأول لا يغير حكم الزكاة في ذلك الحول، والتمييز يغير إن كان قبل الحول؛ لأن المال إذا كان منفرداً في بعض الحول يغلب حكم الانفراد. وإنما يثبت حكم الخلطة، إذا كان الخليطان من أهل وجوب الزكاة عليهما، وإن كان أحدهما ذميا أو مكاتباً؛ فلاحكم للخلطة. فإن كن نصيب المسلم الحر نصاباً، عليه زكاة الانفراد، وألا فلا شيء عليه. والخلطة نوعان: خلطة مشاركة، وخلطة مجاورة: فخلطة المشاركة ألا يتميز نصيب أحدهما عن الآخر؛ بأن ورثا ماشية أو ابتاعاها معاً؛ فما من جزء منها إلا وهو مشترك بينهما. وخلطة المجاورة: أن يكون لكل واحد منهما ماشية متميزة، فخلطاها؛ يعرف كل واحد منهما عين ماله وكلا الخليطين سواء في حكم الزكاة، ويشترط مضي الحول على المالين. والسوم: أن يكون مجموعهما نصاباً، ويشترط في خلطة المجاورة شرائط؛ وهي أن يجتمعا في: المراح، والمسرح، والمشرب، وموضع الحلاب الراعي والفحولة. روي عن سعد بن أبي وقاص؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "والخليطان ما اجتمعا على الفحل الراعي والحوض" فنص على هذه الثلاثة، ونبه على ما سواها - ونعني بالاجتماع

على الفحل: أن يكون الفحل مرسلاً، لا يميز أحدهما ماشيته عند الإنزاء، ولا يكون لكل واحد راع على الانفراد، بل من يرعى وسقي هذه يرعى ويسقي تلك، ولا يشترط أن يكون الفحل مشتركاً بينهما. وقيل يشترط. فإن تميزا في مُراح، أو مسرح ومشرب، أو موضع حلبٍ، أو راعٍ، أو في الإنزاء - فلا يكونا خليطين، ولا يشترط أن يحلب أحدهما فوق لبن الآخر، ثم يقتسما، ولا أن تكون الغلة مشتركة بينهما؛ ولا يضر تعدد الرعاء والمرعى والحالب والفحل والحوض والبئر التي يسقي منها، إذا لم يتميز غنم أحدهما عن غنم الآخر في شيء منها. وإن ميز أحدهما ماشيته في شيء منها قصداً، وإن كان يسيراً - انقطع حكم الخُلطة. ثم من كان نصيبه نصاباً، عليه زكاة الانفراد، إذا تم الحول من يوم ملكها، لا من يوم ميزها. وإن تفرقتا من غير قصد؛ بأن يكون لماشية كل واحد منهما هادٍ، وتعودت كل واحدة اتباع هاديها؛ فتفرقتا - لا يرن كان يسيراً، إلا أن يراها المالكان فيقراها عليه، أو جاء أحد الخليطين، وأخذ هادي غنم صاحبه؛ حتى لا يتبعه غنمه - فترتفع الخلطة لو تفرقتا من غير قصدٍ، ولم يعلم المالكان؛ حتى طال الزمان؛ هل ترتفع الخلطة؟ فيه وجهان، وكذلك لو فرقهما الراعي في شيء منها؛ هل ترتفع الخلطة؟ فيه وجهان. وكذلك هل يشترط القصد إلى الخلطة لثبوت حكمها؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ لأنه يتعين بها الفرض. والثاني: لا يشترط؛ لأن الخلطة إنما أثرت في حكم الزكاة؛ لتأثيرها في خفة المؤنة؛ باتحاد الراعي والمُراح والمسرح، ولخفة المؤنة تأثير في أمر الزكاة؛ ولذلك لا تجب الزكاة في المعلوفة، وإنما تجب في السائمة، وخفة المؤنة حاصلة بالاختلاط من غير القصد، ونظير هذين الوجهين القصد إلى السوم؛ هل هو شرط لوجوب الزكاة؟ فيه وجهان. واتفاق الحول ليس بشرط لثبوت حكم الخلطة. وقال ابن سريج: اتفاق الحولين شرط. والأول المذهب. أما مُضيُّ الحولِ على الاختلاط شرط؛ فإن كان في شيء من الحول منفرداً وإن قل كان الحكم للانفراد.

وتفصيله: إذا كان بين رجلين نصاب من الماشية مختلطة؛ لا يخلو: إما أن كان نصيب كل واحد منهما نصاباً، أو لم يكن. فإن لم يكن؛ لا يخلو: إما أن اتفقا في الحول، أو اختلفا. فإن اتفقا، بأن كان لكل واحد عشرون من الغنم؛ فخلطاها - ينعقد الحول من يوم الخلط، فعند انقضائه عليهما شاة، فإن اختلفا في الحول بأن كان لرجل أربعون من الغنم، باع نصفها مُشاعاً بعد ستة أشهر، أو باع معيباً، ولم يميز، بل سلم الكل إلى المشتري؛ ليحصل تسليم النصف - ينعقد حول المشتري من يوم الشراء؛ فإذا مضت ستة أشهر من يوم الشراء تم حول البائع، فعليه نصف شاة، ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، تم حول المشتري فعليه نصف شاة، هكذا يزكيان أبداً؛ كلما مضت ستة أشهر، يجب على كل واحد نصف شاة، إذا أديا الزكاة من موضع آخر؛ حتى لم ينتقص النصاب. وقيل: لا زكاة على المشتري إذا تم حوله على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، لأن حول الأول إذا تم زال ملكه عن قدر الزكاة؛ فانتقص النصاب. أما إذا قلنا: تتعلق بالذمة، فعليه نصف شاة. وقيل على القولين: عليه الزكاة؛ لأن الأول إذا أدى الزكاة من غيرها لم يزل مله عن العين؛ فلم ينتقص النصاب. ولو باع نصفها معيباً، وأقرن التسليم، ثم خلطا في الحال - فهل يبطل حكم الخلطة بهذا التفريق اليسير؟ فيه وجهان. إن قلنا: يبطل، يستأنف الحول من وقت الخلط. وإن قلنا: لا تبطل؛ فهو كما لو لم يتفرقا. ولو لم يسلم إلى المشتري؛ حتى تم الحول، فالمذهب: أن المبيع قبل القبض إذا تم عليه الحول - يجب فيه الزكاة. وقيل: فيه قولان؛ كالمغصوب. فإن قلنا: يجب فيه الزكاة، فهو كما لو سلم. وإن قلنا لا يجب، فها هنا يجب على البائع عند تمام حوله نصف شاة، ثم إذا تم حول المشتري من يوم قبض، يخر نصف شاة. ولو كان بينهما أربعون مختلطة؛ فجاء رجل بعشرين وخالطهما، ثم أخذ الخليطين الأولين ميز ماله فلا شيء على المميز عند تمام الحول، وعلى الذي بقي في الخلطة

نصف شاة عند تمام حوله، وعلى الثالث نصف شاة إذا تم حوله من يوم الخلط. أما إذا كان نصيب كل واحد منهما نصاباً؛ لا يخلو: إما إن اتفقا في الحول، أو اختلفا: فإن اتفقا؛ نظر: إن انعقد الحول على الاختلاط؛ بأن ملكا ثمانين شاة مختلطة أو ملكا متفرقين؛ فكلما ملكا خلطا، فإذا تم الحول من يوم ملكا يزكيان زكاة الأخلاط عليهما شاة واحدة. وإن انعقد الحول على الانفراد؛ بأن ملك كل واحد أربعين شاة أول المحرم، وخلطا أول صفر؛ فإذا جاء المحرم تم حولهما يزكيان زكاة الانفراد؛ فيجب على كل واحد منهما شاة، لأن مال كل واحد منفرداً في بعض الحول؛ فيغلب حكم الانفراد. ثم في السنة الثانية يزكيان زكاة الاختلاط؛ فيجب عليهما شاة واحدة؛ على كل واحد نصفها. هذا هو المذهب. وقال في القديم: في السنة الأولى أيضاً يزكيان زكاة الاختلاط، فعليهما شاة؛ لأن الاعتبار في قدر الزكاة بآخر الحول؛ بدليل أنه لو ملك مائة وإحدى وعرين شاة؛ فتلفت منها واحدة قبل الحول بيوم- لا يجب عليه إلا شاة واحدة والأول المذهب؛ كما لو كان لكل واحد أقل من نصاب؛ فخلطا قبل الحول بيوم - لا يزكيان زكاة الاختلاط وإن اختلفا في الحول بأن ملك أحدهما أول المحرم أربعين، وملك الآخر أول صفر أربعين، ثم خلطا أول رجب؛ فإذا جاء المحرم، ثم حول الأول؛ فعليه شاة، ثم إذا جاء صفر، تم حول الثاني؛ فعليه شاة، ثم بعده يزكيان زكاة الاختلاط فعلى الأول عند أول كل محرم نصف شاة، وعلى الثاني عند أول كل صفر نصفها. وعند ابن سريج: يزكيان أبداً زكاة الانفراد؛ لاختلاف الحول، وإن كان الاختلاط مقترناً بملك الثاني؛ مثل: أن ملك رجل أربعين أول المحرم، وملك آخر أربعين أول صفر - فكما ملك خلطا؛ فإذا جاء المحرم، يجب على الأول شاة، وإذا جاء صفر، ثم حول الثاني؛ فعليه نصف شاة، ثم بعده على كل واحد نصف شاة عند تمام حوله. ولو ملك رجل ثمانين من الغنم، فباع نصفها مشاعاً من رجل أول صفر، فإذا جاء المحرم، ماذا يجب على الأول؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: يجب عليه شاة؛ لأنه ملك نصاباً إلى آخر الحول، وكان منفرداً في بعض الحول؛ فيغلب حكم الانفراد.

ومن أصحابنا من قال: لا يجب عليه إلا نصف شاة. قال الشيخ: وهو الأصح عندي؛ لأن الحول انعقد على ثمانين، وبقي له نصفها، وكان ذلك النصف مختلطاً بأربعين في جميع الحول فإذا جاء صفر، ثم حول المشتري؛ فعليه نصف شاة بالاتفاق، ثم بعده على كل واحد عند تمام حوله نصف شاة. قال الشيخ: وهذا لو كان بين رجلين ثمانون من الغنم؛ فباع أحد الخليطين نصيبه في خلال الحول مشاعاً - فعلى الذي بقي في الخلطة إذا تم حوله نصف شاة، ثم إذا تم حول المشترين عليه نصف شاة. هكذا يزكيان أبداً ولو كان لرجل ثمانون من الغنم ببلدين؛ في كل بلد أربعون؛ فباع بعد ستة أشهر نصف أحد الأربعين مشاعاً، فإذا تم حول البائع، نص: أن عليه شاة؛ تغليباً لحكم الانفراد؛ ويخرج الوجه الآخر. قال الشيخ: وهو الأقيس؛ أن عليه ثلاثة أرباع شاة، على قولنا: إن الخلطة خلطة ملك، ويحتمل أن يكون النص جواباً على قولنا: إن الخلطة خلطة عين. أما المشتري إذا تم حوله، فعليه ربع شاة، إذا قلنا: الخلطة خلطة ملك. وإن قلنا: خلطة عين، فنصف شاة. نص عليه. أما إذا كان ثمانون شاة بين مسلم وذمي من أول المحرم؛ فأسلم الذمي أول صفر، فإذا جاء المحرم يجب على الأول شاة بالاتفاق؛ لأن حكم الخلطة لا يثبت بين المسلم والذمي؛ فكأنه انفرد بالأربعين جميع الحول، ثم إذا جاء صفر يجب على صاحبه نصف شاة، ثم بعده يجب على كل واحد عند تمام حوله نصف شاة. وإن كنا نصيب أحدهما نصاباً؛ بأن ملك أربعين من الغنم ستة أشهر، ثم جاء رجل وخلط بها عشرين، فإذا مضت ستة أشهر من يوم الخلط، تم حول صاحب الأربعين؛ فعليه شاة. وإذا مضت ستة أشهر أخرى، تم حول صاحب العشرين؛ فعليه ثلث شاة؛ لأن ماله كان مع أربعين في جميع الحول، ثم بعد ستة أشهر أخرى يجب على صاحب الأربعين ثلثا شاة. ولو كان لرجلين لكل واحد أربعون شاة غير مختلطة، فبعد مُضي ستة أشهر باع أحدهما نصف أغنامه بنصف أغنام صاحبه مشاعاً وتقابضا، فإذا مضت ستة أشهر من يوم البيع، يجب على كل واحد نصف شاة من العشرين الباقية في ملكه؛ لأنها كانت مختلطة في جميع الحول بعشرين، ثم بعده حكم الخلطة ثابت، والحول مختلف، وإحدى الأربعينين متميزة عن الأخرى؛ فكل ستة أشهر يجب على كل واحد ربع شاة؛ لأن الكل ثمانون؛ فيجب في كل عشرين منها ربع شاة.

ولو كان بينهما ثمانون مشتركة؛ فاقتسما بعد ستة أشهر: إن قلنا: القسمة إفراز حق، فإذا مضت ستة أشهر من يوم القسمة - يجب على كل واحد منهما شاة؛ كما في خلطة المجاورة إذا ميز وإن قلنا: بيع فيما بقين ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، تم الحول من وقت القسمة؛ فعلى كل واحد نصف شاة فيما تجدد ملكه عليه، ثم هكذا في كل ستة أشهر؛ كما لو كان بينهما أربعون شاة، فبعد مُضي ستة أشهر اشترى أحد الشريكين نصيب صاحبه- يجب عليه عند مضي كل ستة أشهر نصف شاة. فصلٌ: في التراجع رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية الحديث في خلطة المجاورة؛ لأن في خلطة المشاركة إذا أخذ الساعي واحداً منهما يكون المأخوذ من ماليهما جميعاً، فلا يثبت فيه التراجع، إلا أن يكون المأخوذ من جنس المال؛ بأن يكون بينهما خمس من الإبل وجدها الساعي في يد أحدهما؛ فأخذ منه شاة، رجع هو على صاحبه بنصف قيمتها، ويكثر التراجع في خلطة المجاورة. فإن كان بينهما أربعون شاة يجوز للساعي أن يأخذ الشاة من نصيب أيهما شاء، فإذا أخذ الشاة من نصيب أحدهما، رجع المأخوذ منه بنصف قيمتها على خليطه، ولا يرجع بنصف قيمة شاة؛ لأن الشاة ليست بمثلية، فإن اختلفا في قيمته، فالقول قول المروع عليه؛ لأنه غارم. فلو أخذ الساعي من أحدهما شاة رُبي أو ماخضاً أو ذات در - فلا يرجع هو على خليطه بنصف قيمة المأخوذ، إنما يرجع بنصف قيمة الواجب؛ لأنه مظلوم بأخذ الزيادة من جهة الساعي؛ فليس له أن يرجع على غير من ظلمه. فإن كان المأخوذ قائماً في يد الساعي، يسترده رب المال، وإن كان تالفاً استرد منه الفضل، والفرض ساقط عن رب المال، وإن أخذ الساعي أكثر من الحق بتأويل؛ بأن أخذ كبيرة من السخال على قول مالك رحمه الله، فإنه يرجع على خليطه بنصف ما أخذ منه؛ لأنه والٍ أخذه بالاجتهاد، فلا ينقض عليه اجتهاده، وإن أخذ منه القيمة؛ هل يرجع على خليطه بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما: لايرجع؛ لأن القيمة لا تجزئ في الزكاة. والثاني- وهو الأصح-: يرجع؛ لأن الوالي أخذه بالاجتهاد؛ كما لو أخذ الكبيرة عن السخال.

وإن وجبت عليهما شاتان أو أكثر، فن لم يجد الفرض إلا في مال أحدهما، له أخذه منه، وإن وجد ما يجب على كل واحد منهما في ماله، ففيه وجهان: أحدهما - قاله أبو إسحاق-: يأخذ من كل واحد ما وجب عليه، وليس له أن يأخذ من مال الآخر. وقال ابن أبي هريرة - وهو الأصح -: له أن يأخذ من أي المالين شاء؛ سواء وجد الفرض في نصيبهما، أو في نصيب أحدهما؛ لأنا جعلنا المالين بالخلط كالمال الواحد. ولو كان بينهما مائة وخمسون شاة: لأحدهما مائة، وللآخر خمسون - عليهما شاتان، والثلثان على صاحب المائة، والثلث على الآخر؛ فإن أخذ الساعي [الشاتين] من صاحب المائة، رجع هو على صاحبه بقيمة ثلث الشاتين، ولايرجع بقيمة ثلثي شاة؛ لأن قيمة اشاتين تختلف. ولو أخذهما من صاحب الخمسين، رجع هو على الآخر بقيمة ثلثي الشاتين لا بشاة وثلث، ولو أخذ من كل واحد شاة، رجع صاحب المائة على صاحب الخمسين بقيمة ثلث شاة، ورجع صاحب الخمسين عليه بقيمة ثلثي شاة. ولو كان بينهما سبعون من البقر: لأحدهما أربعون، وللآخر ثلاثون - يجب فيها مسنة وتبيع، ولا نقول: تجب المسنة على صاحب الأربعين، والتبيع على صاحب الثلاثين، بل تجب المسنة والتبيع عليهما على صاحب الأربعين أربعة أسباعها، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعها. فلو أخذ الساعي الشاتين جميعاً من صاحب الأربعين، رجع هو على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباعها، وإن أخذهما من صاحب الثلاثين، يرجع هو على الآخر بأربعة أسباعها، ولو أخذ المسنة من صاحب الأربعين، والتبيع من [صاحب] الثلاثين- رجع صاحب الأربعين بثلاثة أسباعها على صاحب الثلاثين، ورجع صاحب الثلاثين بأبربعة أسباع التبيع على صاحب الأربعين، ولو أخذ من صاحب الأربعين التبيع، ومن صاحب الثلاثين المسنة، رجع صاحب الأربعين بثلاثة أسباع التبيع على صاحبه، ورجع صاحبه عليه بأربعة أسباع المسنة. فصلٌ: فيما إذا كانت الماشية متفرقة" إذا كانت ماشية الرجل متفرقة في القرى والبلاد، يجمع بين الكل في حق الزكاة؛ حتى

لو ملك مائتي شاة في مواضع؛ في كل موضع عشرة أو أقل أو أكثر؛ فإذا تم الحول، عليه شاتان. أما إذا كان بعض ماله مختلطاً، والبعض منفرداً؛ نظر: إن كان المختلط أقل من نصاب، فلا حكم للخلطة، مثل: أن كان بين رجلين عشرون شاة مختلطة؛ لكل واحد عشرة، ولكل واحد بموضع آخر ما يتم به نصاب كل واحد منهما؛ فيجب على كل واحد زكاة الانفراد، وإن كان المختلط نصاباً؛ مثل: أن كان بينهما أربعون شاة مختلطة، ولأحدهما ببلد آخر أربعون؛ فكيف يزكيان؟ فيه قولان، وأصل القولين أن الخلطة خلطة ملك، أم خلطة عين؟ فيه قولان: أصحهما: أن الخُلطة خلطة ملك؛ لأن الخلطة تجعل المالين المال الواحد، ومال الواحد وإن كان متفرقاً يضم البعض إلى البعض؛ فها هنا نجعل كأن صاحب الستين خلط جميع الستين بعشرين صاحبه؛ فيجب عليهما شاة؛ ثلاثة أرباعها على صاحب الستين، وربعها على صاحب العشرين. والقول الثاني: الخلطة خلطة عين؛ لأن الخلطة كاسمها؛ فلا يثبت حكمها غلا في القدر المختلط؛ فعلى هذا يجب على صاحب العشرين نصف شاة؛ لأن جميع ماله مختلط بعشرين، وفي أربعين شاة شاة؛ فيخصه نصف شاة، وماذا يجب على صاحب الأربعين المنفردة فيه خمسة أوجه: أصحها: عليه شاة، نص عليه؛ لأن بعض ماله منفرد، وبعضه مختلط؛ فيغلب حكم الانفراد، وجملته: ستون وفيها شاة. والثاني: يجب عليه ثلاثة أرباع شاة؛ لأن جملة ماله: ستون، وبعض ماله مختلط بعشرين؛ فتكون جملته: ثمانين؛ فيكون في ستين منها ثلاث أرباع شاة. والثالث- قاله أبو زيد والخضري: يجب عليه خمسة أسداس شاةٍ، ونصف سدس شاة، توجب في الأربعين المنفردة بحساب ما لو كان ل ماله منفرداً، ولو كان له منفرداً كان ستوناً، وفي ستين شاة؛ فيخص الأربعين منها ثلثاها، ويوجب في العشرين المختلطة بحساب ما لو كان الكل مختلطاً كان ثمانون، وفي ثمانين شاة شاة،

فيخص العشرين منها ربعها والثلثان مع الربع يكون أحد عشر سهماً من اثني عشر، وهو خمسة أسداس ونصف سدس. والوجه الرابع: يجب عليه شاة وسدس؛ نوجب في الأربعين المنفردة بحساب ما لو كان الكل منفرداً؛ فيون ثلثي شاة؛ نوجب في العشرين المختلطة ما أوجبنا على شريكه، وهو نصف شاة؛ فيون شاة وسدس. والوجه الخامس يجب عليه شاة، ونصف شاة للأربعين المنفردة، ونصف للعشرين المختلطة؛ وهو ضعيف؛ لأن ملك الرجل الواحد عند اتفاق الجنس لا يفرد بعضه عن بعض. ولو كان بين رجلين أربعون مختلطة، ولكل واحد منهما أربعون ببلد آخر - فعلى هذا الاختلاف: فإن قلنا بالقول الأصح: وهو أن الخلطة خلطة ملك، يجب عليهما شاة على كل واحد نصفها؛ لأن جملة المال مائة وعشرون، وفيها شاة، ولكل واحد منهما نصفها. وإن قلنا: الخلطة خلطة عين، فماذا يجب على كل واحد منهما؟ فعلى الأوجه الخمسة: أصحها: على كل واحد شاة؛ تغليباً لحكم الانفراد. وعلى الوجه الثاني: يجب على كل واحد ثلاثة أرباع شاة؛ لأن جميع مال كل واحد ستون، وهي مختلطة بعشرين. وإن قلنا في الصورة الأولى: إنه يجب على صاحب الأربعين المنفردة خمسة أسداس شاة ونصف سدس شاة - فهاهنا لا يجب على كل واحد منهما إلا خمسة أسداس شاة؛ نوجب في الأربعين المنفردة بحساب ما لو كان الكل منفرداً؛ فيكون ثلثي شاة، ونوجب في العشرين المختلطة بحساب ما لو كان الكل مختلطاً؛ فيكون مائة وعشرين، وفي مائة وعشرين شاة شاة فيخص العشرين منها سدس شاة. وعلى الوجه الرابع: يجب على كل واحد شاة وسدس وفي الأربعين المنفردة ثلثا شاة وفي العشرين المختلطة نصف شاة. وعلى الوجه الخامس: على كل واحد شاة ونصف شاة للأربعين المنفردة ونصف شاة للعشرين المختلطة. ولو كان لرجل ستون شاة؛ فخلط بكل عشرين رجلاً له عشرون؛ فإذا تم الحول ماذا يجب على كل واحد منهم؟

إن قلنا: الخلطة خلطة ملك، يجب على صاحب الستين نصف شاة؛ لأن ماله مختلط بمال ثلاثة لهم ستون؛ فجملته: مائة وعشرون، وفيها شاة، وله نصفها، وفيما يجب على كل واحد من خلطائه وجهان: أحدهما - وهو اختيار صاحب "التقريب" -: يجب على كل واحد سدس شاة؛ فيضم ماله إلى مال خليطه، وخليط خليطه، وجملته: مائة وعشرون، ولكل واحد منهم سدسها. والثاني: يضم مال كل واحد إلى مال خليطه دون خليط خليطه، فيصير كأنه خلط عشرين بستين من صاحبه، وجملته: ثمانون، وله ربعها؛ فيجب على كل واحد ربع شاة. وإن قلنا: الخلطة خلطة عين، يجب على كل واحد من الخلطاء نصف شاة، وماذا يجب على صاحب الستين؟ فيه وجهان: أحدهما: عليه شاة بضم غنمه بعضها إلى بعض؛ وتجعل كأنها منفردة. والثاني: يجب عليه ثلاثة أرباع شاة؛ لأنه لا يمكن ضم كل عشرين من غنمه إلى واحد من الثلاثة؛ فيضم الكل إلى واحد منها؛ فتصير ثمانين، وفيها شاة؛ فتكون في ستين منها ثلاثة أرباعها. وذكر ابن الحداد: لو كان لرجل عشر من الإبل؛ فخالط بخمس منها رجلاً له خمسة عشر، وبخمس منها رجلاً آخر له خمسة عشر قال: على صاحب العشرة ربع بنت لبون، وعلى كل واحد من خليطيه ثلاث شياه؛ فخلط أحد القولين بالآخر؛ فإياب ربع بنت اللبون على صاحب العشرة جواب على قولنا: إن الخلطة خلطة ملك، وإيجاب الشياه على الخليطين جواب على قولنا: إن الخلطة خلطة عين، ونخرجها على القولين. أما إن قلنا: إن الخلطة خلطة ملك، فعلى صاحب العشر ربع بنت لبون؛ لأن مجموع الأموال أربعون، وفيها بنت لبون، ولصاحب العشرة ربعها؛ فان عليها ربع بنت لبون، وفيما يجب على كل واحد من خليطيه؟ وجهان: أحدهما: على كل واحد ثلاثة أخماس بنت مخاض؛ فيضم مال كل واحد إلى مال خليطه دون خليط خليطه، فيكون خمسة وعشرون، وفيها بنت مخاض، ولكل واحد منهما ثلاثة أخماسها. والثاني: يضم مال كل واحد منهما إلى مال خليطه، وخليط خليطه؛ فيجب على كل واحد ثلاثة أثمان بنت لبون.

وإن قلنا: الخلطة خلطة عين، يجب على كل واحد من الخليطين ثلث شاه؛ لأنا لا نضم ماله إلا إلى الخمسة المختلطة؛ فتكون عشرون؛ فيكون في خمسة عشر منها ثلاث شياه، وفيما يجب على صاحب العشرة وجهان: أحدهما: يجب على كل واحد شاتان يفرد ل خمسة من ماله عن الأخرى. والثاني - وهو الأصح -: على كل واحد خمساً بنت مخاض؛ لأن ماله لا يفرد بعضه عن بعض، فيجعل كأنه خلط العشرة بخمسة عشر؛ فيكون خمسة وعشرون، وفيها بنت مخاض؛ فيقابل العشرة خمساها. "فصلٌ: في الخلطة في غير المواشي" هل تثبت الخلطة في غير المواشي من الدراهم والدنانير والزروع والثمار؟ أما خلطة المشاركة؛ بأن ورثوها، أو اشتروها مشاعة ففيها قولان: قال في الجديد - وهو الأصح-: تثبت لأنهما كما يرتفقان بالخلطة في المواشي، لخفة المؤنة باتحاد الراعي والمرعى والمسرح- يرتفقان بالخلطة ي غيرها باتحاد الحارس والمتعهد؛ وكذا البيت وغيرها. وقال في القديم: لا تثبت الخلطة فيها بخلاف المواشي؛ لأن لها أوقاصاً، ونصباً؛ فالخلطة إن ضرت رب المال مرة، نفعت أخرى، ولا وقص في الناض والمعشرات، فالخلطة تضر رب المال في النصاب الأول، ولا يثبت له نفع بإزائه فيما بعده. وهل تثبت خلطة المجاورة في هذه الأشياء؟. في الجديد بأن يكون لكل واحد صنف معلوم من نخيل، أو زرع في قطعة من أرض في حائط واحد، أو دراهم كل واحد في كيس أحرزها في صندوق واحد أو خزانة واحدة فيه قولان: أصحهما: تثبت خلطة المشاركة؛ لأنهما يرتفقان باتحاد الحارس والعامل والسقي والزرع ومكان الحفظ وغيرها. والثاني: لا تثبت؛ لأن كل نخلة متميزة عن الأخرى في مكانها الذي تشرب منه، وإن اتحد الحارس والمجري؛ كالماشيتين إذا اتفقا في المراح، واختلفا في المشرب، لا يثبت بينهما حكم الخلطة، فإن قلنا: تثبت الخلطة فيها، فلو كانت نخيل موقوفة على جماعة معينين في حائط واحد فأثمرت؛ فإن بلغت مجموع أنصبائهم نصاباً، يجب عليهم الزكاة،

وإن لم يكن نصيب [كل] واحد إلا شيء قليل. فإن قلنا: لا تثبت حكم الخُلطة، فلا زكاة على أحدٍ منهم؛ حتى يكون نصيبه على الانفراد نصاباً. وفرعوا على قول ثبوت الخلطة لو استأجر أجيراً؛ ليتعهد نخله على ثمرة نخلة بعينها بعد خروج ثمرها قبل بدو الصلاح فيها، وشرط القطع؛ فلم يتفق القطع، حتى بدا الصلاح - فعلى الأجير عشر ثمرة تلك النخلة، إن كان في جميع الحائط خمسة أوسق، وإن لم يكن على تلك النخلة إلا قنوان فلو استأجر أجيراً؛ يرعى غنمه على شاة بعينها، فحال الحول والغنم كلها- يجب على الأجير زكاة تلك الشاة. ولو أن جماعة ورثوا نخيلاً، أو اشتروها مشاعة وعيها ثمرة لم يبد صلاحها؛ فاقتسموها بعد ما أثمرت - نص على: أنه إن كان قبل بدو الصلاح، ثم بدا فيها الصلاح، فكل من بلغت حصته خمسة أوسق يجب عليه الزكاة، ومن لا فلا زكاة عليه. وإن اقتسموا بعد بدو الصلاح، فعليهم العشر إن بلغ مجموع الحصص نصاباً، وإن لم يبلغ نصيب كل واحد نصاباً؛ لأنها كانت مجتمعة حالة وجوب الزكاة. وأجاب على قولنا: إن الخلطة تثبت في الثمار، وأجاب على قولنا: إن القسمة إفراز حق. فإن قلنا: القسمة بيع؛ وهو المذهب -لا تصح هذه القسمة؛ لن بيع الثمر بالثمر على رءوس الأشجار لا يجوز. وإن اقتسموا مع الأشجار، فهو بيع مال الربا بجنسه مع غيره؛ فلا يجوز أيضاً. باب من يجب عليه الزكاة روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".

كل مسلم تام المِلك مَلك نصاباً من المال الزكوي حولاً كاملاً - يلزمه الزكاة؛ فيجب في مال الصبي والمجنون، ويخاطب الوليُّ بإخراجها من ماله، وهو قول عمر، وابن عمر، وعائشة، وجماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة: الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبالاتفاق يجب عليهما العشر وصدقة الفطر. والحديث حجة عليه. ولا يجب على الكافر؛ كما لا يجب عليه الصوم والصلاة وأما المرتد: فلا تسقط عنه ما وجب عليه حال في الإسلام، أما إذا جاء الحول على ماله في الردة، فهذا يُبنى على أن ملكه؛ هل يزول بالردة؟ فيه أقوال: إن قلنا: يزول ملكه فلا زكاة عليه، وإذا ارتد في أثناء الحول انقطع الحول، فإذا عاد إلى الإسلام ابتدأ الحول. وإن قلنا: لا يزول ملكه، فلا ينقطع حوله، وعليه الزكاة إذا تم الحول، فإذا أخرج في حال الردة جاز؛ كما لو أطعم عن الكفارة؛ بخلاف الصوم لا يصح منه؛ لأنه عمل البدن؛ فلا يصح إلا ممن يكتب له، وإن مات في الردة يخرج من ماله. وإن قلنا: ماله موقوف؛ فإن مات أو قتل في الردة، بان أن مِلكه كان زائلاً، ولا زكاة عليه. وإن أسلم، بان أنه لم يزك، وعليه الزكاة. ولا تجب الزكاة على المُكاتب؛ لأن مِلكه ضعيف؛ بدليل أنه لا يرث ولا يورث منه، ولا يعتق عليه قريبه؛ كالعبد المأذون له في التجارة؛ فإن عجز صار ما في يده للمولى، وابتدأ الحول، وإن عتق وبقي في يده المال الزكوي ابتدأ الحول من يوم عتق.

أما من نصفه حر ونصفه رقيق إذا ملك بنصفه الحر نصاباً -هل يجب عليه الزكاة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه ناقص بالرق كالعبد. والثاني - وهو الأصح-: يجب عليه الزكاة؛ لأن ملكه بنصفه الحر تام. ولو ملك رجل عبده مالاً زكوياً: فإن قلنا - بقوله الجديد؛ وهو المذهب -: إن العبد لا يملك، فزكاته على المولى. وإن قلنا: بقوله القديم: إنه يملك، فلا تجب زكاته على أحد. فصل: في الوقت الذي يجب فيه الصدقة روي عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أتاكم المصدقُ، فلا يفارقنكم إلا عن رضى".

يجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الصدقات؛ لأن جمعها وتفريقها على المستحقين - واجب عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذها؛ ولأن من الناس من لا يعرف ما يجب عليه، ومن يحب أن يصرف إليه فإذا بعث الإمام ساعياً، فلا يبعث إلا حراً عدلاً ثقةً؛ لأن هذه ولاية وأمانة؛ وليس العبد والفاسق من أهلهما، ولا يبعث إلا فقيهاً يعرف ما يؤخذ، وما لا يؤخذ، وقد يحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له، وإنما يبعث السعاة في الوقت الذي يوافي حلول الحول على الأموال، إن اتفقت أحوالهم. فإن كان ذلك في زكاة الثمار والزروع، فوقت وجوبها إدراك الثمار، واشتداد الحبات في الزروع؛ وذلك لا يختلف. وإن كان في المواشي، واختلف أحوال الناس فيها، فيبعث في المُحرم؛ لأنه ول السنة الشرعية؛ شتاء كان أو صيفاً، فينبغي أن يكون خروجه قبل الحرم؛ حتى يوافي أرباب الأموال في أول المحرم، فلا يتأخر الأداء عن أول الحول ثم من تم الحول على ماله أخذ الساعي زكاته، ومن لم يتم حوله يستحب لرب المال تعجيل الزكاة، فإن لم يفعل لم يجبر عليه؛ فيقيم الساعي نائباً يأخذ صدقته إذا تم حوله، وينصرف. ويأخذ صدقة المواشي على مياه أهلها إذا أوردوها الماء؛ ليس له أن يكلف أرباب الأموال جمع المواشي في البلد؛ لأن فيه مشقة عليهم، ولا عليه أن يتبع مراعيها في المفاوز؛ لأن فيه مشقة عليه. وإن كان لرب المال ماءان أمره الساعي أن يجمعها عند أحدهما، وإذا حرنت الماشية في الربيع عن الماء بالكلأ، حصر الساعي عليهم؛ حيث كانت؛ قريبة أو بعيدة؛ فأخذ الزكاة في أفنيتهم في مُراحها؛ فإذا أراد إحصارها، جمعها في حيرة؛ يخرج منها واحدة بعد أخرى، وينصب في بابها خشبة ثبت كل شاة وصل غليها؛ ليكون أسهل في العدد، ويقف رب المال أو نائبه على باب الحظيرة، والساعي أو نائبة من الجانب الآخر يعدانها. فإن اختلفا في الإحصاء؛ نظر: إن لم يكن في اختلافهما تكميل نصاب؛ بأن قال رب المال: مائة وعرة، وقال الساعي: مائة وعشرون؛ فلا معنى لهذا الاختلاف؛ لأن زكاة العددين واحد. وإن كان فيه تكميل نصاب؛ بأن قال رب المال: مائة وعشرون، وقال الساعي: مائة وإحدى وعشرون -يُعاد الإحصاء ولو أخبره رب المال قبل الإحصاء بالعدد؛ وهو ثقة -قُبِل منه.

ويستحب إذا أخذ الزكاة، أن يدعو لرب المال؛ لقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ...} [التوبة: 103] أي: ادع لهم. روي عن عبد الله بن أبي أوفي قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل على آل فلان. فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقيل: كان هذا اللفظ مخصوصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم-ليس لأحد أن يصلي على أحد إلا على الأنبياء، أو على آلهم تبعاً لهم أما أن يقول: اللهم صل على أبي بكر وعمر فلا، وجاز ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم لأن الصلاة حقه؛ فله وضعها فيمن شاء؛ كصاحب المجلس يرفع من أراد في مجلسه، ولا يفعله غيره. قال الشافعي: أحب أن يقول آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أنفقت. باب تعجيل الصدقة روي عن علي؛ أن العباس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل؛ فرخص له في ذلك.

كل مال يجب فيه الزكاة بالحول والنصاب يجوز تعجيلها بعد وجود النصاب قبل الحول. وعند مالك - رحمه الله-: لا يجوز والحديث حجة عليه. ووافقنا مالك في: أنه يجوز تعجيل كفارة اليمين قبل الحنث، وأبو حنفة يجوز تعجيل الزكاة، ولايجوز تعجيل الكفارة.

فنقول: هذا حق مالي أجل؛ للرفق، فصار تعجيله قبل محله كالدين المؤجل، ودية الخطأ، أما تعجل الزكاة قبل النصاب لا يجوز بالاتفاق. مثل: أن ملك تسعة وثلاثين من الغنم؛ فعجل منها شاة، أو ملك مائة وتسعين درهماً؛ فعجل منها خمسة؛ حتى إذا أكمل النصاب، كان ذلك زكاته لم يجز؛ لأنه لم يوجد سبب الوجوب؛ كما لو أدى الثمن قبل وجوب البيع. ولو عجل صدقة عامين، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجوز؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تسلقت من العباس صدقة عامين". والثاني- وهو الأصح -: لايجوز؛ لأن زكاة السنة الثانية لم ينعقد حولها، وتعجيل الزكاة قبل انعقاد الحول لا يجوز؛ كما لو عجل الزكاة قبل كمال النصاب. وقوله: "تسلفت منه صدقة عامين" أي: مرتين، وصدقةمالين لكل واحد حول منفرد.

فإن قلنا: يجوز، إنما يجوز إذا ملك زائداً على نصاب واحد؛ بحيث يبقى في يديه بعد تعجيل الزكاة نصاب كامل؛ مثل: أن ملك اثنين وأربعين شاة أو أكثر؛ فعجل منها شاتين، فإن لم يملك الأربعين أو إحدى وأربعين فعلى وجهين: أحدهما: يجوز؛ كما لو عجل عن نصاب واحد صدقة عام يجوز. والأصح: أنه لا يجوز؛ لأنه إذا عجل زكاته سنتين، ينتقص النصاب للسنة الثانية قبل دخولها؛ فيصير معجلاً للزكاة قبل النصاب. ولو ملك نصاباً واحداً؛ فعجل زكاة نصابين؛ مثل: أن ملك ثمانين شاة؛ وهو يرجو حصول السخال منهن، وأخرج شاتين؛ حتى إذا كمل النتاج نصابين كانتا زكاتهما - جازت زكاة نصاب واحد، وفي زكاة السخال وجهان. وكذلك: لو ملك خمساً من الإبل؛ فعجل منها شاتين؛ فتم الحول، وهن بالنتاج عشر -هل تجوز الشاة الثانية؟ فعلى وجهين: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه تقديم الزكاة على النصاب. والثاني: يجوز؛ لأن السخال جعلت كالموجودة في الحول في وجوب زكاتها إذا تم حول الأمهات، كذلك جعلت كالموجودة في تعجيل زكاتها. ولو ملك أربعين شاة، فعجل منها شاة، ثم ولدت أربعين سخلة، وماتت الأمهات، وبقيت السخال -هل يجزئه ما أخرج عن زكاة السخال؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه عجل الزكاة عن غير السخال؛ فلا يجزئه عن السخال. والثاني: تجزئه؛ لأنه لما كان حول الأمهات حول السخال، كانت زكاة الأمهات زكاة السخال. ولو اشترى بمائتي درهم عرضاً للتجارة؛ فأخرج عنها زكاة أربعمائة، ثم حال الحول - والعرض يساوي أربع مائة - أجزأه؛ لأن الاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول؛ حتى لو اشترى سلعة تساوي مائة؛ فعجل زكاة مائتين؛ فحال الحول-وهي تساوي مائتين - جاز ما عجل عن الزكاة؛ على ظاهر المذهب، وإن لم يكن يوم عجل نصاباً؛ لأن الحول ينعقد. أما المعشرات من الزروع يجوز إخراج زكاتها بعد اشتداد الحب في الزروع، وبدو الصلاح في الثمار، ولا يجوز قبل نبات الزرع، وقبل خروج الثمرة. أما بعد ما تسنبل، وانعقد الحب بعد ما اشتد، وبعد خروج الثمرة قبل بدو الصلاح، أو بعد ما أطلعت النخلة هل يجوز؟ فيه وجهان. قال ابن أبي هريرة: يجوز؛ كزكاة المواشي قبل الحول.

وقال أبو إسحاق - وهو المذهب-: لا يجوز؛ لأن العُشر يجب بسبب واحد؛ وهو اشتداد الحَب، وإدراك الثمرة، ولم يوجد، ولأنه لا نصاب له قبل الإدراك؛ فصار كما لو قدم الزكاة على النصاب. أما صدقة الفطر يجوز تعجيلها بعد دخول شهر رمضان؛ فإن ابن عمر كان يبعث صدقة الفطر إلى الذي يجمع عده قبل الفطر بيومين؛ ولأن وجوبها بشيئين: برمضان، وبالفطر منه، وقد وُجد أحدهما؛ وهو دخول شهر رمضان. وهل يجوز تعجيلها قبل دخول رمضان؟ فيه وجهان؛ كتعجيل صدقة عامين الأصح لا يجوز، فإذا عجل الزكاة فتلف ذلك المال في يد المسكين، أو أكله قبل الحول - يجعل ذلك كالباقي على ملك رب المال؛ حتى يحسب عن الزكاة يوم حلول الحول. ولو عجل زكاة نصاب ثم تم بالنتاج نصاب آخر قبل الحول بيوم - يجب عليه أن يُخرج شاة أخرى؛ حتى لو ملك مائة وعشرين شاة؛ فعجل منها شاة؛ فهلكت الشاة في يد المسكين، أو أكلها، ثم نتجت واحدة قبل الحول-عليه شاة أخرى، ويجعل المعجلة كالقائمة؛ حتى يكون عددها مائة وإحدى وعشرين؛ فيجب فيها شاتان. أما إذا ملك مائة وعشرين غير واحدة؛ فعجل منها شاة معلوفة، أو اشترى شاة؛ فأخرجها عن زكاتها - جاز، فلو نتجت واحدة قبل الحول؛ لايجب عليه شاة أخرى؛ لأن المعلوفة والمستفاد لا يتم بها النصاب، وإن جاز إخراجها في الزكاة. ويشترط أن يكون المدفوع إليه يوم حلول الحول بصفة الاستحقاق، والدافع بصفة وجوب الزكاة عليه؛ حتى يحتسب عن الزكاة، فإن مات المدفوع إليه قبل حلول الحول، أو ارتد أو مات الدافع، أو هلك ماله؛ فأعسر، أو انتقص النصاب، أو ارتد على قولنا: إن ملك المرتد يزول -لم بحسب ما عجل عن الزكاة. فإن أيسر المدفوع إليه؛ نظر: إن أيسر بما دفع إليه، أو به وبمال آخر- يحسب عن الزكاة؛ لأنه يدفع إليه الزكاة؛ ليستغني؛ فلا يجوز أن يكون غناه مانعاً من الإجزاء، وإن أيسر بمال آخر، لم يحسب عن الزكاة. ولو خرج عن الاستحقاق بعد الحول؛ وقع الزكاة موقعه، وإن خرج عن الاستحقاق قبل الحول؛ بأن ارتد، أو أيسر، وعاد مستحقاً يوم حلول الحول - هل يسحب عن الزكاة؟ فيه وجهان:

أحدهما: يحسب، لأنه دفع إليه. وهو بصفة الاستحقاق. والثاني: لا يحسب؛ كما لو عجل زكاته، ثم هلك ماله قبل الحول، ثم استفاد مالاً آخر قبل الحول - لا يحسب الأول عن الزكاة. وعند أبي حنيفة: الاعتبار بيوم الدفع، فإن كان يوم الدفع بصفة الاستحقاق، حسب عن الزكاة، وإن زال الاستحقاق بعده. ولو عجل شاة عن مائة وعشرين شاة، ثم تبعت واحدة، قال: لاتجعل المعجلة؛ كالباقية، ولا يجب عليه شاة أخرى، فكل موضع قلنا: لا يحسب عن الزكاة، فهل له أن يسترد من المسكين ما دفع إليه؟ نظر: إن أخبر المسكين أنها زكاة معجلة، يسترد؛ كما لو عجل أجرة الدار، ثم انهدمت الدار قبل انقضاء المدة - يسترد ما عجل به، ون لم يخيره، وأطلق الدفع إليه، هل يسترد أم لا؟ نص في "الأم": إذا أعطي يسترد. ونص في رب المال أنه إذا دفع بنفسه لا يسترد. ومن أصحابنا من جعل فيهما قولين: أحدهما: يسترد: كما لو دفع مالاً إلى إنسان؛ على ظن أن عليه ديناً؛ فمل يكن - يسترد ما دفع إليه. والثاني: يسترد: لأن الصدقة تنقسم إلى فرض وتطوع، فإذا لم تقع عن الفرض، تقع عن التطوع؛ كما لو أخرج زكاة ماله الغائب؛ على ظن أنه قائم؛ فبان تالفاً، يقع تطوعاً. ومنهم من فرق؛ على ظاهر النص؛ فقال: يسترد الإمام دون رب المال؛ لأن رب المال يعطي من ماله الفرض والتطوع، فإذا لم يقع الفرض كان تطوعاً، والإمام لا يعطي من مال الغير إلا الفرض؛ فكان مطلق دفعه كالمتقيد بالفرض. ومنهم من قال: لا فرق بين الإمام ورب المال، والمسألة على حالين؛ حيث يسترد، أراد به: إذا علم المسكين أنها زكاة معجلة وحيث قال: لا يسترد، أراد به: إذا لم يعلمه بالتعجيل؛ سواء أعلمه أنها زكاة مفروضة، أو لم يعلمه. فعلى هذا: إذا اختلفا: فقال الدافع: أعلمتك، وأنكر المدفوع إليه - ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الدافع مع يمينه؛ كما لو دفع ثوباً إلى إنسان، واختلفا: فقال الدافع: عارية، وقال القابض: هبة - فالقول قول الدافع مع يمينه. والقول الثاني: القول قول المدفوع إليه مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على دفع ناقل للملك. فحيث قلنا: يسترد إذا هلك مال رب المال؛ فلو أنه أتلف ماله، أو بعض ماله؛ حتى

انتقص النصاب -فهل له أن يسترد ما دفع إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسترد؛ كما لو هلك ماله بغير فعله. والثاني: لا يسترد؛ لأنه مفرط بإتلاف المال؛ فحيث قلنا: يسترد؛ فإن كانت العين قائمة، أخذها، ودفع إلى المستحق. وإن كان الدافع هو الإمام، أخذ، ودفع إلى آخر، ولا يحتاج إلى إذن جديد من جهة رب المال؛ وإن كانت العين تالفة في يد المدفوع إليه، لزمته قيمتها؛ إن كانت متقومة، ومثلها؛ إن كانت مثلية وتؤخذ من تركته إن كان قد مات. وكيف تعتبر قيمتها؟ فيه وجهان: أحدهما: تعتبر بيوم التلف؛ كالعارية. والثاني: بيوم الدفع؛ لأن ما حصل فيه من الزيادة حدث في ملكه؛ فلم يلزمه ضمانها. وهل يحتاج الإمام في أخذ القيمة إلى إذن المالك؟ فيه وجهان؛ وإن كانت العين قائمة، لكنها تغيرت، لا يخلو: إما إن تغيرت بزيادة، أو نقصان: فإن تغيرت بزيادة؛ نظر: إن كانت متصلة؛ كالسمن والكبر، يستردها مع الزيادة. وإن كانت منفصلة؛ كالولد واللبن، فهل يسترد الزيادة معها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل تبقى الزيادة للمسكين؛ لأنها حدثت في ملكه، كولد المبيعة يبقى للمشتري إذا رد الأصل بالعيب. والثاني: له أن يسترد الزيادة؛ لأنه لماخرج عن الاستحقاق، ظهر أنه لم يملكه. وإن تعين نقصان، هل يلزمه أرش النقصان؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ كما يلزمه ضمان العين. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه نقص حصل في ملكه؛ فلا يؤاخذ بضمانه. أما إذا بان المدفوع إليه أنه لم يكن بصفة الاستحقاق يوم الدفع إليه؛ بأن كان رقيقاً أو كافراً أو غنياً - يسترد مادفع ليه بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ويغرمه أرش النقصان، وإن كان يوم حلول الحول بصفة الاستحقاق؛ لأن الدفع لم يقع محسوباً؛ فحيث قلنا: لاتحسب عن الزكاة، فعلى رب المال إخراج الزكاة ثانياً، إن كان ما بقي في يده نصاباً، وإن كان أقل من نصاب، فإن قلنا: لا يسترد ما عجل، أو قلنا: يسترد، ولكن لو ضم إليه ذلك لا يبلغ نصاباً - فلا زكاة عليه وإن كان معه ما يبلغ نصاباً: فإن كان قائماً في يد من أخذه، عليه إخراج الزكاة ثانياً، وإن كان تالفاً فهو كالدين: إن كانت ماشية فلا زكاة عليه؛ لأن ما على المسكين قيمة الشاة؛ فلا يكمل به نصاب الماشية، وإن كان نقداً، فعلى قولي الزكاة في الدين.

ولو عجل من ألف شاة عشر شياه، ثم تلف ماله قبل الحول إلا أربعمائة غير عشرة، وما عجله قائم في يد المسكين- يضم المخرج إلى ما عنده على قولنا: إنه يسترد؛ حتى يصير أربعمائة؛ تحب من الزكاة أربع، ويسترد ستاً؛ لو عجل من خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض؛ فبلغت ماله بالنتاج ستاً وثلاثين قبل الحول - فعليه فيها بنت لبون، وصارت بنت المخاض في يد المسكين بنت لبون؛ يستردها ويخرجها ثانياً، أو يخرج بنت لبون أخرى. قال الشيخ: فلو كان المخرج هالكاً، والنتاج لم يزد على أحد عشر؛ حتى كان مع المخرج ستاً وثلاثين، وجب ألا يجب بنت لبون؛ لأنا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا كنا نحسبه عن الزكاة، وهاهنا لا نحسب عن الزكاة؛ فيصير كهلاك بعض المال قبل الحول. ولو عجل الزكاة قبل الحول، لم يكن له أن يسترد من المسكين؛ لأنه تبرع بالتعجيل، كما لو عجل ديناً مؤجلاً، لا استرداد. فصلٌ: فيما لو أخذ رب المال مالاً للمساكين رُوي عن أبي رافع؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكراً؛ فجاءته إبل الصدقة، فمرني أن أقضيه إياه. فإذا أخذ رب المال مالاً للمساكين قبل حلول الحول؛ فلا يخلو: إما أن أخذه على جهة القرض، أو على جهة الزكاة، فإن أخذه على جهة القرض؛ لا يخلو: إما أن استقرض

بمسألة المساكين أو بغير مسألتهم: فإن استقرض بغير مسألتهم؛ نظر: إن لم يكن بهم حاجةٌ، فالقرض يقع للإمام، وعليه الضمان من خاص ماله، سواء تلف في يده، أو دفع إلى المساكين، ثم إن دفع إلى المساكين متبرعاً، لم يرجع عليهم؛ فإن أقرضهم، فكأنه أقرضهم من مال نفسه، ويرجع إليهم وإن كانت بهم حاجة؛ فاستقرض لهم؛ نظر: إن هلك في يد الإمام، يجب عليه الضمان من خاص ماله؛ بخلاف ولي اليتيم يستقرض ليتيم شيئاً لحاجته؛ فهلك في يده من غير تفريط - يكون الضمان على الصبي؛ لأنه يلي أمر متعين ليس من أهل التصرف؛ بدليل أنه يتصرف في ماله بالتجارة، وولاية الإمام في أخذ الزكاة على جماعة غير متعينين، وفيهم أهل رُشد لا يولي عليهم؛ بدليل أنه لا يتصرف في مالهم بالتجارة، ولا يجوز منع الصدقة عنهم من غير عذر. وعند أبي حنيفة: يكون من ضمان المساكين؛ فيقضيه الإمام من مال المساكين؛ كولي اليتيم؛ وبه قال بعض أصحابنا؛ كما لو أخذ بعد الحول؛ فهلك عنده - يكون من ضمان المساكين. والأول المذهب؛ حتى قال أصحابنا؛ لو كان مساكين قرية متعينين، وكلهم صغار، واحتلت أوالهم؛ فاستقرض لهم الإمام؛ فتلف في يده - لا ضمان عليه؛ كقيم الصبي يستدين له. وإن أوصله إلى المساكين، فالضمان عليهم؛ فالإمام يون طريقاً فيه. فإن حال الحول على أموال البائس والمسكين بصفة الاستحقاق - يقضيه الإمام من مال الصدقة، أو يجعله محسوباً للمقترض من الصدقة؛ حتى لو مات المسكين بعد الحول جاز للإمام قضاؤه من مال الصدق؛ لأن الاعتبار بيوم حلول الحول، وإن لم يكن يوم حلول الحول من أهل الصدقة بردة، أو موت أو استغناء بمال آخر - فليس للإمام قضاؤه من مال الصدقة، بل يقضي من مال نفسه، ثم يرجع على المسكين إن وجد له مالاً. أما إذا استقرض للمساكين بمسألتهم، فالضمان عليهم؛ سواء تلف في يد الإمام، أو أوصله إليهم؛ كما لو استرض للغير مالاً يؤديه؛ فتلف في يده - يكون من ضمان الموكل؛ وهل يكون للإمام طريق فيه؟ نظر: إن علم المقرض به يستقرض للمساكين بمسألتهم، لا يرجع عليهم. وإن ظن أنه يستقرض لنفسه، أو يستقرض للمساكين بغير مسألتهم - فله أن يرجع على الإمام، ثم الإمام يقضيه من مال الصدقة، أو يجعلها محسوبة عن زكاة صاحب القرض. ولو دفع رب المال مالاً على الإمام فرضاً للمساكين من غير مسألتهم؛ فتلف في يد الإمام- لا ضمان على أحد؛ لأنه وكيل رب المال؛ كما لو دفع مالاً إلى إنسان؛ ليقرضه من آخر؛ فهلك عنده - لا يجب الضمان؛ وإن استقرض بمسألة رب المال والمساكين جميعاً؛ فهلك عنده، فمن ضمان من يكون عنده؟ فيه وجهان: أحدهما: من ضمان رب المال؛ لأن الخيار في الدفع والمنع إليه.

والثاني: يكون من ضمان الفقراء؛ لأن النفع فيه لهم، والضمان على من تكون له المنفعة كضمان العارية يكون على المستعير؛ لأن المنفعة له ولو أخذ الإمام المال من رب المال على جهة الزكاة المعجلة؛ حتى يحسبه عن الزكاة عند حلول الحول -فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الاستقراض؛ فإن أخذ بغير مسألة المساكين؛ لخلة أو حاجة بهم، ثم هلك في يده قبل الحول - ضمنه من مال نفسه لرب المال، وعلى رب المال إخراج الزكاة ثانياً، وإن أوصله إلى المساكين حبسه عن الزكاة، إن كانوا بصفة الاستحقاق يوم حلول الحول، وإن خرجوا عن الاستحقاق؛ إما الدافع أو المدفوع إليه، استرده من المدفوع إليه، وإن لم يوجد له مال ضمنه الإمام من مال نفسه؛ لأنه أخذه على أن يحتسب له من الزكاة؛ فإذا لم يحتسب، ضمنه. وإن استعجله بمسألة الفقراء؛ فإن دفع إليهم وحال الحول - وهو بصفة الاستحقاق - وقع موقعه، وإن كانوا خرجوا عن الاستحقاق، يجب عليهم الضمان، وعلى رب المال إخراج الزكاة وإن تلف في يد الإمام قبل الحول، ضمنه من مال المساكين. فإن لم يكن للمساكين مال، ففيه وجهان. أحدهما: على رب المال إخراج الزكاة؛ لأن ما دفع لم يقع عن الصدقة. والثاني: تسقط عنه الزكاة؛ لأن الإمام نائب المساكين، وقد أخذ منه، ولا ضمان على الإمام؛ لأنه أخذ بمسألة المساكين؛ فينر على هذا الوجه حتى يحول الحول على أموال أرباب المال؛ فيأخذ من أرباب الأموال لهم، ويصرفها إلى قوم آخرين عن جهة رب المال. وإن تعجل الإمام بمسألة رب المال، فإن أوصلها إلى المساكين؛ فحال الحول - وهم بصفة الاستحقاق - وقع موقعه. وإن خرجوا عن الاستحقاق، رجع رب المال على المساكين دون الإمام. وإن هلك في يد الوالي من غير تفريط من جهته، فلا ضمان عليه، ولا على المساكين، ويجب على رب المال إخراج الزكاة ثانياً، إن تعجل بمسألة المساكين ورب المال، فمن ضمان من يكون؟ فيه وجهان. وإن هلك المعجل في يد الإمام بعد حلول الحول، تسقط الزكاة عن رب المال؛ سواء استعجله الإمام، أو عجله رب المال؛ لأن الحصول في يد الإمام أو الساعي بعد الحول - كالوصول إلى المساكين؛ كما لو أخذه بعد الحول، ثم الإمام إن فرط في الدفع إليهم ضمن من مال نفسه، وإلا فلا ضمان على أحد. "باب النية في إخراج الصدقة" رُوي عن عمر بن الخطاب؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات".

الزكاة تفتقر إلى النية؛ لأنها عبادة؛ كالصلاة والصوم. ومحل النية القلب؛ فلو نوى بقلبه، ولم يتلفظ باللسان جاز، ولو ذكر بلسانه ولم ينو بقلبه، لم يجز؛ على أصح الوجهين؛ كالصوم والصلاة. وفيه وجه آخر: يجوز؛ لأنه تجزيء فيه النيابة؛ فلما ناب فيها شخص عن شخص، جاز أن ينوب فيه اللسان عن القلب. ولا يلزم الحج؛ حيث تجزيء فيه النيابة، ويشترط فيه النية بالقلب؛ لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج، وفي الزكاة ينوب عنها من ليس من أهل وجوب الزكاة عليه؛ فنه لو أناب عبداً أو كافراً بأداء الزكاة يجوز، ويجوز للمرتد إخراج زكاة ماله. وكيفية النية: أن ينوي هذا فرض زكاة مالي، أو فرض صدقة مالي، أو فرض يتعلق بمالي، أو ينوي الصدقة المفروضة أو الواجبة. ولو قال: صدقة مالي، أو الصدقة مطلقاً، لم يجز؛ لأن الصدقة قد تكون نفلاً؛ كما لو أعتق رقبة ونوى العتق مطلقاً، لا يقع عن الكفارة. وقيل: لو نوى صدقة المال، أو صدقة مالي، جاز. ولو قال: زكاة مال، جاز؛ لأن الزكاة اسم الفرض المتعلق بالمال؛ ولو نوى أن هذه زكاة، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لو نوى الصدقة. والثاني: يجوز؛ لأن الزكاة اسم للفرض. ويجب أن ينوي عند الدفع إلى المستحق، أو إلى الإمام؛ فلو نوى قبل الأداء، أو حالة الإفراز، ولم ينو حالة الأداء- فيه وجهان: أحدهما: لايجوز؛ كما في الصلاة. والثاني: يجوز؛ كالصوم، ولأن التوكيل في أدائه جائز، ويشق عليه أن يقرن النية بتفريق الوكيل. ولو وكل وكيلاً بدفع الزكاة، ونوى حالة الدفع إلى الوكيل، جاز. ون لم ينو حالة تفريق الوكيل؛ كما لو دفع إلى الإمام، ونوى أو لم ينو حالة الدفع إلى الوكيل ثم نوى - نظر: إن نوى قبل تفريق الوكيل جاز، وإن نوى بعده لم يجز؛ كما لو دفع بنفسه إلى الفقير، ونسي، ثم نوى بعده - لم يجز؛ ونية الوكيل لا تقوم مقام نيته. ولو دفع إلى الإمام ولم ينو، فالمذهب: أنه لا يجوز؛ كما لو دفع إلى الوكيل، ونية الإمام لا تقوم مقام نيته. وقيل: إذا دفع إلى الإمام ولم ينو، جاز؛ لأن الإمام لا يدفع إليه إلا الفرض؛ فاكتفى بهذا الظاهر عن النية. والأول أصح؛ لأن الإمام نائب الفقراء.

ولو دفع إلى الفقير ولم ينو لم يجز، كذلك إذا دفع إلى نائبه. ولو امتنع رب المال عن أداء الزكاة، فللإمام أن يأخذها منه كرهاً. ثم إن نوى رب المال حالة أخذه، سقط عنه الفرض؛ ظاهراً وباطناً؛ وإن لم ينو رب المال؛ نر؛ إن نوى الإمام يسقط عنه الفرض ظاهراً؛ حتى لا يبنى عليه. وهل يسقط في الباطن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسقط؛ لأنه لم ينو، والباقي سقط، ونية الإمام تقوم مقام نيته؛ كنية الولي في إخراج زكاة اليتيم تقوم مقام نية المالك. وإن لم ينو واحد منهما لم يسقط الفرض عنه في الباطن، وهل يسقط في الظاهر؟ فيه وجهان. وكذلك المتغلبون كأهل البغي والخوارج إذا أخذوا الزكاة العشر كرهاً، لا تجوز في الظاهر، وهل تسقط في الباطن؟ وفيه وجهان؛ كالإمام يأخذ من الممتنع. أما المساكين إذا أخذوا الزكاة من رب المال قهراً عند امتناعه، لا يسقط الفرض عنه؛ لأنهم ليس لهم ولاية القهر. ولو كان ماله غائباً مثلاً: مائتا درهم، فأخرج خمسة، أو أربعون شاة؛ فأخرج شاة، فقال: إن كان مالي سالماً فهذا زكاته، وإلا فهو تطوع، فن كان سالماً جاز عن زكاته، وإلا كان تطوعاً؛ لأن إخراج الزكاة عن الغائب هذا يكون. وإن لم يقله؛ حتى لو أخرج خمسة عن ماله الغائب، فبان ماله تالفاً كان تطوعاً، ولا استرداد له، إلا أن يشترط؛ فيقول: إن كان مالي سالماً فهذه زكاته، وإلا فأرجع، فإن بان تالفاً له الرجوع؛ كمن أعتق رقبة عن كفارته، ثم ظهر به عيب يمنع الجواز عن الكفارة لا يرد العتق. فإن شرط؛ فقال: أعتقه عن كفارتي جاز، وإلا فهو رقيق؛ فظهر به عيب يمنع الجواز عن الكفارة- كان رقيقاً. أما إذا أخرج خمسة؛ فقال: هذه زكاة مالي الغائب؛ إن كان سالماً، أو نافلة؛ فبان سالماً - لم يجز عن الكفارة؛ لأنه لم يجزم النية، بل رددها بين الفرض والتطوع. ولا يجب تعيين النية في الزكاة؛ حتى لو كان نصابان من المال: أحدهما حاضر، والآخر غائب؛ مثل: أن ملك أربع مائة درهم مائتان حاضرتان، ومائتان غائبتان؛ فأخرج خمسة دراهم عن أحدهما، ولم يعين، ثم أخرج خمسة أخرى - جاز. وكذلك لو ملك أربعين شاة، وخمساً من الإبل؛ فأخرج شاتين بنية الزكاة، ولم يعين - جاز. ولو أخرج خمسة وقال: هذا عن مالي الغائب إن كان قائماً، وألا حق الحاضر، فإن كان الغائب قائماً وقع عنه، وألا وقع عن الحاضر. ولو أخرج خمسة مطلقاً، ثم بان تلف أحد المالين، أو تلف بعده - له أن يحتسبها عن الآخر. ولو عين عن أحد المالين، ثم بان تلفه، لم يكن له صرفه إلى الآخر.

ولو قال: هذه عن مالي الغائب أو الحاضر، يجوز؛ لأنه نوى عن الفرض، وإن لم يعين بخلاف ما لو قال: عن مالي، أو عن نافلة، لم يجز. ولو أخرج خمسة، وقال: ن كان مات أبي، وورثت ماله، فهذه زكاته؛ فبان موت الأب - لا يحسب عن الزكاة؛ لأن الأصل حياة الأب؛ بخلاف الغائب إذا شك في تلفه؛ لأن الأصل ثم بقاء المال. "فصلٌ: في إخراج القيم في الزكاة" لا يجوز إخراج القيم في الزكوات، إنما يجب ما ورد به الشرع. وعند أبي حنيفة، يجوز أن يعطي أي جنس شاء؛ باعتبار القيمة؛ حتى يجوز البعير عن البعير، والكلب عن الشاة، وجوز شاة سمينة عن شاتين؛ باعتبار القيمة، ولم يجوز صاعاً جيداً عن صاعين رديئين، وقال: لأن الجودة لا قيمة لها في دواب الأمثال؛ بدليل أنه يجوز بيع صاع جيد بصاع رديء. وجوز مالك أحد النقدين عن الآخر، ولا يجوز إخراج المكسر عن الصحاح إذا كان بينهما تفاوت، ويجوز إخراج الصحيح عن المكسر ويجب بوزن المكسر مثل: أن وجبعليه دينار مكسر، وخمس دوانق صحاح بمقابلة دينار مكسر - يجب عليه إخراج دينار، ولا يجوز أن ينقص عن الوزن؛ لفضل الصحيحة. باب ما يسقط الصدقة عن الماشية لا يجب الزكاة في النعم، إلا أن تكون سائمة في حميع الحول؛ لما روي عن أنس؛ أن أبا بر كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة؛ ولأن العوامل المعلوفة لا تقتني للنماء، إنما تقتنى للاستعمال؛ فلا يجب فيها الزكاة؛ كثياب البدن، ومتاع الدار؛ لأن علفها ربما يقوم بفوائدها، ووجوب الزكاة في المال؛ لحصول الفوائد. أما العوامل والنواضح إذا كانت سائمة، هل يجب فيها زكاة؟ وهان: أصحهما: يجب؛ كغير العوامل. والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: لا يجب؛ لأن العمل ينقص الدر والنسل؛ وإن كانت سائمةن فعليها في أثناء الحول قصداً، وإن قل ينقطع الحول، على أصح الوجهين.

وقيل: لا ينقطع؛ حتى يبلغ العلف قدراً لا يبقى الحيوان دونه. ولو علفها لا عن قصد؛ بأن ركب واحدة منها إلى البلد؛ لحاجة؛ فألقى بين يديها علفاً أو علفها يوماً أو يومين بعذر الثلج- فهل ينقطع الحول؟ فيه وجهان: أحدهما: ينقطع؛ لوجود العلف. والثاني: لا ينقطع؛ كما لو لبس ثوب التجارة لا بنية القنية، لا تسقط الزكاة. ولو كانت له سائمة؛ فنوى أن يعلفها، لا تصير معلوفة بمجرد النية؛ حتى يعلف. وكذلك لو كانت له معلوفة، ونوى أن يسميها، لا تصير سائمة، حتى يسيمها. ولو كانت له سائمة؛ فغصبها غاصب وعلفها، هل ينقطع الحول فيه وهان: أصحهما: ينقطع؛ لارتفاع شرط الزكاة؛ وهو السوم، كما لو ذبح الغاصب شاة من النصاب قبل الحول؛ حتى انتقص النصاب، انقطع الحول. والثاني: لا ينقطع؛ كما لو غصب ذهباً وصاغ منه حلياً، لا ينقطع به الحول. من قال بالأول، فرق بأن صياغة الغاصب محرمة؛ فمل يكن لها حكم، والعلف غير محرم؛ فقطع الحول؛ كعلف المالك. وعلى عكسه: لو غصب معلوفة وأسامها الغاصب حولاً، وقلنا: يجب الزكاة في المال المغصوب؛ فهاهنا وجهان: أحدهما: تجب الزكاة؛ لأنها كانت سائمة حولاً، وإن لم يقصد المالك؛ كما لو غصب حنطة فزرعها، وجب العشر فيها. والثاني: لا يجب؛ لأن المالك لم يقصد إلى إسامته، كما لو رتعت الماشية بنفسها، وليس كالحنطة؛ لأن القصد إلى الزراعة، ثم ليس شرط. وكذلك قلنا: لو تبدد طعامه فنبت، وجب العشر فيه. وقيل: إذا ضلت ماشية سنة فرتعت، ففي وجوب زكاتها وجهان: فإن قلنا: إذا أسامه الغاصب، يجب فيه الزكاة، فعلى من تجب؟ فيه وجهان: أحدهما: على الغاصب. والثاني: على المالك؛ لأن نفع خفة المؤنة عائد إليه؛ فعلى هذا: إذا خرج المال، هل يرجع على الغاصب؟ فيه وجهان: ولا تجب الزكاة على المتولد بين الظباء والأغنام، ولا في المتولد بين البقر الأهلي والوحشي؛ لأنه لم يتمخض نعماً؛ ما لو ملك عشرين ضأناً وعشرين ظبياً. وكما لا يسهم للبغل من الغنيمة؛ لأنه لم يتمخض فرساً. وعند أبي حنيفة: إن كانت الأم من الأغنام، وتشبه خلق الشياه -يجب فيها الزكاة،

ولا تجب في غير النعم من الحيوانات؛ كالخيل والبغال والحمير والعبيد. وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في الخيل إذا كانت كلها أو بعضها إناثاً - قال: يجب في كل فرس سائمة دينار. والحجة عليه: ما روي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وهل يجب في الماشية الموقوفة الزكاة، إن قلنا بظاهر المذهب -: إن الملك في الوقف زال إلى الله تعالى، فلا يجب. وإن قلنا: للموقوف عليه، فيه وهان: أحدهما: يجب؛ كسائر أملاكه. والثاني: لا يجب؛ لأن مِلكه عليها ضعيف؛ بدليل أنه لا يملك التصرف فيه. "باب المبادلة بالماشية" إذا بادل المال الزكوي في خلال الحول، ينقطع الحول؛ سواء بادل بجنسه؛ كالإبل بالبقر، والغنم بالدراهم والدنانير، وكذلك لو بادل بعض النصاب؛ حتى بقي في ملكه أقل من نصاب؛ بخلاف حول التجارة - لا ينقطع بالمبادلة؛ لأن زكاة التجارة تجب في القيمة، والقيمة باقية في ملكه وقت المبادلة؛ لأن ملكه لا يزول عن أحدهما إلا ويملك الآخر. فإن

قصد بالمبادلة الفرار من الصدقة، يكره، وإلا فلا تكره، وفي المحالين ينقطع الحول. وقال مالك: إن قصد بالمبادلة الفرار لا ينقطع الحول، وإن لم يقصد ينقطع، إلا أن يبادل بجنسه؛ فلا ينقطع. وعند أبي حنيفة: مبادلة بعض النصاب بالجنس لا تقطع الحول؛ بناء على أصلين له؛ وهو أن نقصان النصاب في أثناء الحول عنده يقطع الحول، والمستفاد يبني حوله على حول ما عنده. ولو بادل مبادلة فاسدة، لا ينقطع الحول؛ سواء سلم إلى المشتري، أو لم يسلم. فإن علفها المشتري، فهو كعلف الغاصب، هل ينقطع الحول؟ فيه وجهان. وإن كانت معلوفة؛ فأسامها المشتري، فهو كما لو أسامها الغاصب. وإذا بادل مبادلة صحيحة، ثم رده المشتري بعيب، أو تقايلا قبل مضي الحول في يد المشتري - فالمردود عليه يستأنف الحول؛ سواء رد بعد القبض، أو قبله. وعند أبي حنيفة: إن رد قبل القبض، أو بعده بقضاء القاضي، ينبني على الحول الأول. ولو أقامت حولاً في يد المشتري، فقد وجبت عليه الزكاة؛ فإذا ردها بعيب قديم نظر: إن كان قبل أداء الزكاة، لم يكن له ذلك؛ لتعلق حق الزكاة بها؛ سواء قلنا: تتعلق الزكاة بالعين، أو بالذمة؛ لأن الساعي يجوز له أخذ الزكاة من عينها؛ كمن اشترى عبداً؛ فجنى في يده جناية، لم يكن له رده بعيب قديم يجده به؛ لتعلق أرش الجناية برقبته. ولا فرق بين أن تكون سائمة تجب الزكاة في عينها، أو عرضاً للتجارة تجب الزكاة في قيمتها؛ لأنه إذا تعذر أخذها من المشتري تؤخذ من عينها، وإن كان المشتري أدى الزكاة؛ نظر: إن أدى من موضع آخر غير هذا المال، فله ردها بالعيب، وإن أدى من غير هذا المال، فهل له رد الباقي، واسترداد حصته من الثمن. فعلى قولين؛ كما لو اشترى عينين، فهلكت أحداهما في يده، ووجد بالأخرى عيباً - هل له ردها؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يرد، يسترد أرش العيب. ولو باع المال الزكوي في خلال الحول، يشترط الخيار، ففسخ البيع إن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، أو موقوف - ينبني على حوله، وبالبيع لم ينقطع الحول. وإن قلنا: للمشتري، يستأنف البائع الحول. ولو باع وقد قرب الحول؛ فتم الحول في زمان الخيار، فإن قلنا: الملك للبائع في زمان الخيار، تجب الزكاة على البائع، وإن تم البيع. ثم هو كما لو باعه بعد وجوب الزكاة. وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا زكاة على البائع، لأن ملكه قد زال قبل الحول،

فإذا فسخ البيع، يستأنف الحول. وإن قلنا: الملك موقوف، فإن فسخ البيع تجب الزكاة على البائع، وإن تم فلا يجب على أحد، والمشتري يبتديء الحول. أما إذا باع المال الزكوي بعد الحول، ووجوب الزكاة فيه [و] قبل أدائها - هل يصح، أم لا؟ إن قلنا: تتعلق الزكاة بالذمة، يصح بيعه، والمشتري بالخيار: بين فسخ البيع، وإجازته، لأن الساعي أخذ الزكاة من عينه، فإن أدى البائع الزكاة من موضع آخر، سقط خيار المشتري، وإن أخذ الزكاة من عينه، بطل العقد فيما أخذه الساعي، وفي الباقي قولان. فإن قلنا: لا تبطل، فله الخيار إن كان جاهلاً بالحال، فإن أجاز لا يجب إلا بحصة ما بقي من الثمن. وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالعين، فالبيع باطل في قدر الزكاة، وفي الباقي قولان. بناء على قولي تفريق الصفقة. ولا نعني بقولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين: أن المساكين ملكوا واحداً منها بعينها، بل نعني به: أنهم ملكوا من الكل جزءاً يتعين ذلك بالإخراج في واحدة؛ كما يتعين حق الشريك بالقسمة. فإن قلنا: يصح في الباقين فللمشتري الخيار: بين فسخ العقد في الباقي، وبين الإجازة بحصته من الثمن، فإذا أدى البائع الزكاة من موضع آخر لا يسقط خياره؛ لأن العقد لا ينقلب صحيحاً في قدر الزكاة. وإن قلنا: بطل العقد في الكل، فلأي معنى بطل؟ فيه وجهان: أحدهما: لأنه جمع بين الحلال والحرام. والثاني: لجهالة الثمن؛ لأن الثمن يوزع عليهما؛ باعتبار القيمة، فلا يدري حالة العقد كم يقابل ما يصح فيه العقد؟ ولو باع ثمر حائط وقد وجب فيه العشر؛ نظر: إن قال: بعتك إلا العشر يصح، وإن باع الكل، فهو كما ذكرنا. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، يصح البيع في الكل، وللمشتري الخيار، وإن أدى البائع العشر من موضع آخر سقط خياره. وإن قلنا: تتعلق بالعين، لا يصح، وهل يصح في الباقي؟ ترتب على الماشية. إن قلنا هناك: يصح، فهاهنا أولى، وإلا فقولان؛ بناء على المعنيين: إن قلنا:

المعنى هناك: أنه جمع بين الحلال والحرام، فهاهنا لا يصح. وإن قلنا: جهالة الثمن، يصح؛ لأنه معلوم بالحراثة؛ فيلزمه تسعة أعشاره، وله الخيار، وبأداء الزكاة من موضع آخر لا يسقط خياره، وفي الموضعين قول آخر: أنه إذا جاز العقد فيما صح فيه العقد يخير بجميع الثمن. والأصح: أنه يخير بحصته، هذا إذا باع قبل الخرص، فإن باع بعد الخرص: إن قلنا: الخرص غيره، فهو كما لو باع قبل الخرص. وإن قلنا: تضمين، صح بيع الكل؛ لأن حق المساكين صار في ذمته بالخرص. ولا فرق في بيع الماشية التي وجبت فيها الزكاة بين أن يكون الواجب فيها من جنسها، أو من غير جنسها؛ مثل: خمس من الإبل يجب فيها شاة. وحكم بيع مال التجارة إذا وجب زكاته حكم الثمار؛ على الصحيح من المذهب؛ بدليل سقوط الزكاة عن جميعها إذا هلك المال قبل إمكان الأداء، وقبل زكاة - التجارة، وزكاة المواشي إذا كانت صدقتها من غير جنسها لا يمنع البيع؛ والأول أصح. ولو رهن ماشية وجبت فيها الزكاة فكالبيع: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، صح الرهن، وللمرتهن الخيار في فسخ البيع، إن كان الرهن مشروطاً وكان جاهلاً به، فإن أدى الزكاة من موضع آخر سقط خياره. وإن قلنا: تتعلق بالعين، لا يصح في قدر الزكاة أو في الباقي هل يصح ترتب على البيع. إن قلنا: يصح البيع، يصح الرهن. وإن قلنا: لا يصح البيع، ففي الرهن قولان؛ بناء على المعنيين. إن قلنا: المعنى في البيع الجمع بين الحلال والحرام، لا يصح. وإن قلنا: جهالة الثمن، يصح؛ لأنه لا عِوض للرهن؛ ليصير مجهولاً. فإن قلنا: لا يصح الرهن، فإن كان الرهن مشروطاً في البيع، هل يبطل البيع ببطلان الرهن؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يبطل، فللمرتهن الخيار إن كان جاهلاً، وبأداء الزكاة من موضع آخر لا يسقط خياره. أما الماشية المرهونة إذا جال عليها الحول يجب فيها على الراهن الزكاة، فإن أدى من موضع آخر بقي الرهن فيها، وإن لم يؤد فللساعي أخذ الزكاة منها، فإن كانت الزكاة من غير

جنسها مثل خمس من الإبل - فيباع جزء منها في الزكاة. ثم إذا أخذت الزكاة منها، فإن قلنا: تتعلق الزكاة بالذمة، يجب على الراهن أن يرهن قيمته مكانه، أو مثله إن كان مثلياً. وإن قلنا: تتعلق بالعين، لا يجب أن يرهن قيمته مكانه، ولا خيار للمرتهن؛ لأن استحقاق الزكاة طرأ على دوام الرهن؛ كما لو هلك الرهن بعد القبض. "فصل في مسائل متفرقة" إذا اشترى نصاباً من الماشية، ولم يقبض؛ حتى مضى حول في يد البائع -هل يجب الزكاة على المشتري؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كالمغصوب. ومنهم من قال - وهو المذهب -: يجب عليه الزكاة؛ لأنه يقدر على أخذه من البائع فيها متى شاء؛ بخلاف المغصوب. ولو أصدق امرأته نصاباً من الماشية مثلاً: أربعين شاة ملكتها المرأة بالعقد، فإذا مضى حول، تجب عليه الزكاة؛ سواء قبضت أو لم تقبض، دخل بها الزوج أو لم يدخل؛ وسواء قلنا: الصداق في يد الزوج مضمون عليه ضمان العقد، أو ضمان اليد، هذا هو المذهب. وإذا قلنا: ضمانه ضمان العقد، يخرج فيه الطريق الذي ذكرنا في البيع قبض القبض؛ أنه على قولين؛ كالمغصوب. وعند أبي حنيفة: إن كان قبل القبض لا يجب عليها زكاته؛ لأنه له نصفه لو طلقها. قلنا: هذا المعنى موجود بعد القبض قبل الدخول، ويجب فيه الزكاة كذلك قبل القبض. ثم إذا طلقها الزوج قبل الدخول؛ نظر: إن طلقها قبل الحول، عاد إلى الزوج نصفها، فإن لم يميزا فحكم الخلطة ثابت بينهما. فإن تم الحول من يوم الإصداق، يجب على المرأة نصف شاة، وإذا تم من يوم الطلاق، يجب على الزوج نصف شاة. وإن طلقها بعد الحول؛ نظر: إن لم تؤد المرأة الزكاة، عاد نصفها إلى الزوج شائعاً، ثم إذا جاء الساعي وأخذ من عينها شاة، رجع الزوج عليها بنصف قيمتها؛ لأن الزكاة كانت عليها. فإن أدت المرأة الزكاة؛ نُظر: إن أدت من موضع آخر أخذ الزوج نصف الشاة، وإن أدت من عينها، فالزوج كيف يأخذ حقه؟ فيه أقوال: أحدها: يأخذ حقه فيما بقي مثلاً: كانت قيمة النصاب أربعين شاة فالزوج يأخذ عشرين شاة منها، وتجعل ما أخرجت عن الزكاة من نصيبها.

والثاني: يأخذ نصف ما بقي من الأغنام، ونصف قيمة الشاة التي أخرجت من الزكاة؛ لأن ما أخرجت كان من الحقين شائعاً. والثالث: هو بالخيار: بين أن يأخذ نصف الباقي، ونصف ما أخرجت في الزكاة، وإن شاء ترك الأغنام إليها، وأخذ نصف قيمة الكل. ولو ورث رجل مالاً جارياً في حول الزكاة؛ سائمة كانت أو مال تجارة - هل ينبني حول الوارث على حول الموروث؟ فيه قولان قال في الجديد - وبه قال أبو حنيفة -: لا بل يبتدئ الوارث الحول من يوم ملك؛ كما لو مله بشراء واتهاب؛ حتى لو كان مال تجارة، فلا ينعقد الحول؛ حتى يتصرف الوارث فيه بنية التجارة. وقال في القديم ينبني حول الوارث على حول الموروث؛ لأنه يخلفه في الملك؛ حتى إذا تم حول الموروث، تجب الزكاة عليه؛ سواء علم الوارث، أو لم يعلم. فإن قلنا: لا ينبني وكانت سائمة، ولم يعلم الوارث بموته؛ حتى مضى حول - فهل يجب عليه الزكاة، أم يبتدئ الحول من يوم علمه؟ فيه وجهان؛ بناء على أن القصد إلى السوم هل هو شرط؟ فيه وجهان. ولو عجل زكاة ماله قبلا لحول، ثم مات، نص الشافعي على أن ورثته يقومون مقامه؛ فأجزأ عنهم ما أجزأ عنه. وهذا جواب على قوله القديم: إن حول الوارث ينبني على حول الموروث. أما على القول الآخر: لا يجزيء عنهم، وهذا خارج على قول من يجوز تعجيل صدقة عامين؛ فإذا مات الموروث، استأنف الوارث الحول، واحتسب بما عجل أبوه قبل الموت. والأصح: أنه لا يحتسب، بل إذا تم الحول من يوم الموت، يجب عليهم الزكاة. ولو أوصى لإنسان بنصاب من السائمة، فمات الموصي، وحال عليها الحول من يوم موته قبل قبول الموصى له - إن قلنا يملك الموصى له بالموت، يجب عليه الزكاة، ون كان لو رده يرتد؛ كما لو وهب لابنه سائمة، وسلم؛ فحال الحول عليها - يجب عليه زكاتها، وإن كان للأب الرجوع فيها. وإن قلنا: الملك في الوصية مُراعى. فإن قيل: [بان] بأنه ملك بالموت، فهل على الموصى لهم زكاته؟ فيه وجهان:

الأصح: لا يجب؛ لأن ملكه لم يكن مستقراً عليه. وإن قلنا: يملك بالقبول، فلا زكاة على الموصى له. ثم إن قلنا: قبل قبوله باق على مل الميت، فلا زكاة على أحد. وإن قلنا: ملك الوارث؛ حتى يكون النماء له؛ فهل تجب الزكاة على الوارث؟ فيه وجهان: الأصح: لا تجب؛ لأنه قد أوجب الملك فيه لغيره. "فصلُ: في الزكاة في الدين" إذا كان ماله ديناً على إنسان؛ نظر: إن كان غير لازم مثل: مال الكتابة، لا يلزمه زكاته؛ لأن ملكه غير تام عليه؛ فإن العبد يقدر على إسقاطه. وإن كان لازماً؛ نظر: إن كان ماشية، فلا زكاة عليه فيها؛ لأن تعيينها وسومها شرط، وإن كانت دراهم، أو دنانير، أو عروضاً للتجارة -قال في القديم: لا زكاة فيها؛ لأنه ليس عليها حقيقة ملك؛ كملك المكاتب. وقال في الجديد - وهو المذهب-: إنه ن كان على ملء، وفي مقدرته تجب عليه زكاته، ويجب الإخراج في الحال؛ ما لو كان ماله وديعة عند إنسان يجب عليه زكاته. وعند أبي حنيفة: يجب، ولكن لا يجب الإخراج في الحال حتى يقبض. وإن كان الدين مؤجلاً، فهل يجب عليه زكاته؟ فيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم المغصوب، وفيه قولان. والثاني: يجب عليه قولاً واحداً؛ لأن التأجيل كان بصيغة. فإن قلنا: يجب، فلا يجب الإخراج ما لم يقبض، فإذا قبض أخرج لما مضى. وإن كان الدين على معسر فهو كالمغصوب، وإن كان على جاحد؛ نظر: إن كان له بينة عاد له وإن لم يقدر على إثباتها؛ فهو كما لو كان على معسر. وإن كان ماله غائباً، يجب عليه فيه الزكاة، ثم إن لم يكن الطريق منقطعة، يجب الإخراج في الحال، وإن كان منقطعاً فلا حتى يصل إليه. وقيل: إن كان الطريق منقطعاً، فكالمغصوب. فإن قلنا: لا تجب الزكاة في المغصوب والدين، فإن كان في يده أقل من نصاب، وما

يتم به النصاب مغصوب أودين، فلا زكاة عليه فيما في يده؛ حتى يقبض ما يتم به النصاب، ثم يبتدئ الحول. وإن قلنا: تجب الزكاة في المغصوب والدين، أو كان ماله غائباً، ولكن لا يجب الإخراج، حتى يصل إليه، فإن كان في يده أقل من نصاب، أو قبض منهما أقل من نصاب - هل يجب إخراج زكاة ذلك القدر. إن قلنا: إمكان الأداء شرط الوجوب، لا يجب؛ لأنه ربما لا يصل إليه الباقي. وإن قلنا: شرط الضمان، يجب؛ لأن هلاك ما لم يصل إليه لا يسقط عنه زكاة القدر الذي في يده. "فصلٌ: في الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ " ولو ملك رجل نصاباً من المال الزكوي، وعليه دين يستغرقه، أو ينقص المال عن النصاب - فالدين هل يمنع وجوب الزكاة فيه أم لا فعلى قولين. قال في الجديد وهو المذهب: لا يمنع وجوب الزكاة؛ فيخرج الزكاة منها، والباقي للغرماء؛ لأنا إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فالذمة تتسع لتعلق حقوق بها. وإن قلنا: تتعلق بالعين، فالدين الذي في ذمته لا يمنع تعلق الحق بعين ماله؛ كما لو جنى عبده، يتعلق أرش الجناية برقبته، وإن كان عليه دين. وقال في القديم وبه قال أبو حنيفة: الدين يمنع وجوب الزكاة؛ لأن المال الذي في يده بغرض الانتزاع من يده لحق الغرماء. فإن قلنا: يمنع وجوب الزكاة، فلا فرق بين أن يكون الدين لله تعالى؛ كالعشر والكفارة والنذر، أو كان للعباد، وبين أن يكون حالاً أو مؤجلاً لمسلم أو ذمي أو مكاتب، وبين أن يكون من جنس مال الزكاة أو من غير جنسه؛ حتى لو ملك نصاباً من الإبل، ونصابا من البقر، ونصاباً من الغنم، ونصاباً من النقدين، وحصل له نصاب من الزروع والثمار وعليه دين لا من جنس واحد منهم انتقص على الكل، فإن خص كل واحد قدراً ينتقص النصاب به - لا زكاة عليه في شيء منها على هذا القول. وقيل: إن كان الدين من جنس تلك النُّصب، يختص بجنسه، وإن كان له مال من مال الفيئة والعقار ما بقي بالدين، فيجب الزكاة في المال الزكوي قولاً واحداً، وكذلك إذا كان ماله أكثر من نصاب، ودينه لا يزيد على تلك الزيادة، يجب الزكاة في النصاب. فإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة، فلو حجر عليه القاضي لحق الغرماء، هل

ينقطع الحول. وهل يمنع الوجوب؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنع قولاً واحداً؛ لأنه ضعف ملكه بامتناع الصرف؛ فصار ماله كمال المكاتب، وقد قال الشافعي - رحمه الله -: ولو قضى عليه، وجعل لهم ماله؛ حيث وجدوه لم يكن عليه زكاة؛ لأنه صار لهم. والثاني: على قولين؛ ما قبل الحجر؛ لأن ملكه لم يزل بالحجر، وإن امتنع تصرفه؛ كالمرهون والمراد من النص: أن يتبع الحاكم ماله من الغرماء، وكان معلوماً له ولهم؛ فقد زال بالبيع ملكه، وانقطع الحول. ولو كان له نصاب من الورق؛ فقال: لله علي أن أتصدق بهذا، أو بعشرة منها؛ فلم يتصدق بها؛ حتى مضى عليه حولٌ - هل يجب عليه زكاتها من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كالدين هل يمنع الزكاة، وكما لو نذر مطلقاً أن يتصدق بعشرة. ومنهم من قال هاهنا: لا يجب قولاً واحداً؛ لأن عين ذلك مستحق الصرف إلى المساكين. ولو وجد رجل نصاباً من المال لقطة، نظر: إن أمسكها المالك، أو عرفها سنة؛ فظهر مالكها قبل أن يختار الملتقط التملك لا شيء على الملتقط وهل يجب على المال زكاته؟ فعلى قولي المغصوب. وإن عرفها سنة، واختار تملكها، فزكاة الحول الأول هل تجب على المالك؟ فعلى القولين. وأما زكاة سائر السنين بعد اختيار التملك، هل تجب على الملتقط فعلى القولين في أن الدين هل يمنع الزكاة؛ لأن قيمتها دين عليه. الأصح: أنه يجب. وهل يجب على المالك الزكاة في القيمة التي في ذمة الملتقط؟ فعلى قولي وجوب الزكاة؛ لأن قيمتها دين عليه. الأصح: أنه يجب. وهل يجب على المالك الزكاة في القيمة التي في ذمة الملتقط؟ فعلى قولي وجوب الزكاة في الدين. وإذا وقعت الغنيمة في يد الإمام، يجب تعجيل قسمتها إذا لم يكن عذر؛ فإذا عجل قسمتها، فكل من أصابه نصاب من المال الزكوي ابتدأ الحول، ولم يتفق قسمتها؛ حتى مضى حول؛ نظر: إن كان قبل إقرار الخمس، فلا زكاة فيها؛ لأن الغانمين لم يملكوها في قول. وفي قول: ملكوا ملكاً ضعيفاً؛ بدليل أنه يجوز للإمام أن يخص كل طائفة بنوع من المال، ولو ملكوها لم يجز إبطال حق بعضهم من نوع منها إلا برضاها. أما بعد إقرار الخمس، فلا زكاة في الخمس؛ لأنه ليس لمالك متعين، أما الأربعة الأخماس؛ نظر: إن

أفرز الإمام نصيب كل طائفة، واختاروا تملكه، أو كانوا محصورين فجعلها لهم، واختاروا تملكه - يجب عليهم الزكاة إذا تم الحول، وكان مجموع النصباء نصاباً؛ كالمال بني الخلطاء، وإن لم يفرز نصيب كل طائفة، ولم يكونوا محصورين، فلا زكاة فيها؛ لأن كل واحد لا يدري ماذا نصيبه من الأعيان، وإن أقرروا وكانوا محصورين ولم يختاروا التملك - فهل عليهم الزكاة؟ فيه وجهان. فصل إذا أكرى داره سنة بعشرين ديناراً، فبعد مُضي السنة يجب على الآجر الزكاة في الأجرة إن كانت عيناً، أو كانت ديناً، وقلنا بظاهر المذهب: إن الزكاة تجب في الدين. ولو أجر داره أربع سنين بمائة وستين ديناراً، فبعد مُضي أربع سنين، تجب زكاة جميعها لأربع سنين؛ وهو ستة عشر ديناراً: وفي كيفية إخراجها قولان أصحهما يجب عليه أن يخرج كل سنة زكاة حصة ما مضى، ويوقف الأمر في الباقي؛ لاحتمال أن الدار تنهدم، فيجب عليه رد باقي الأجرة، فإذا سلمت حينئذٍ يؤدي عن الباقي حصة ما مضى. بيانه: يؤدي عند تمام الحول الأول زكاة أربعين ديناراً؛ وهو دينار؛ لأن ملكه استقر على هذا القدر؛ فإذا مضى الحول الثاني يجب عليه زكاة ثمانين ديناراً لسنتين؛ وهو أربعة دنانير، ويحط عنه ما أدى؛ وهو دينار؛ فعليه ثلاثة دنانير. فإذا مضى الحول الثالث عليه زكاة مائة وعشرين لثلاث سنين؛ وهو سبعة دنانير، ويحط عنه ما أدى؛ وهو أربعة دنانير فعليه خمسة دنانير. فإذا مضى الحول الرابع استقر ملكه على الكل؛ فعليه زكاة مائة وستين لأربع سنين؛ وهو ستة عشر ديناراً، ويحط ما أدى؛ وهو تسعة دنانير؛ فعليه سبعة دنانير. والقول الثاني - وهو اختيار المزني، والبويطي -: يجب عليه أن يؤدي كل سنة زكاة مائة وستين ديناراً؛ لأنه ملك كلها بالعقد، وإن كان يتوهم سقوط بعضها بانهدام الدار؛ كما أن المرأة يجب عليها زكاة الصداق قبل الدخول، وإن كانت تتوهم عود بعضه إلى الزوج بالطلاق. ولو أكرى داره أربع سنين بعشرين ديناراً - فعلى القول الأصح -لا زكاة عليه ما لم تمض أربع سنين، ثم عليه نصف دينار، ويمضي حول لا ينبني عليه؛ لأنه لا يتم ملكه إلا على ريعها، إلا أن يكون له ذهب مع هذا الريع ناضاً؛ فيجب عليه زكاتها. وعلى القول الآخر: إذا تم الحول الأول، عليه نصف دينار، ثم لا ينبني عليه بعده؛ لانتقاص النصاب، إلا أن يؤدي الزكاة من موضع آخر؛ فعليه كل سنة نصف دينار.

باب زكاة الثمار رُوي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسمل - قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من الثمر صدقة". لا يجب العشر في الثمار، إلا في ثمر النخيل والكرم؛ لأن الشرع لم يرد إلا به؛ ولأنهما مما يعظم منفعتهما، فإنهما من الأقوات والأموال المدخرة المقتناة؛ كالأنعام. ولا يجب في طلع النخل؛ لأنه ليس بثمر. وعند أبي حنيفة: يجب في الثمار كلها من التين، والتفاح، والرمان، والسفرجل وغيرها، وفي جميع الخضراوات.

وعند أبي يوسف ومحمد: يجب في الثمار، ولا يجب في البقول والخضراوات. وأوجب الشافعي في القديم العشر في: الزيتون والورس والقرطم وهو حب العصفر. واختلف قوله في القديم في الزعفران والعسل، فقال: من أوجب العشر في الورس يحتمل أن يوجب في الزعفران لنهما طيبان ويحتمل ألا يوجب؛ لأن الورس شجر له ساق، والزعفران نبات؛ فإن أوجبنا في الورس والزعفران يجب في قليله وكثيره؛ لأنه لا يوسق. ولا يجب في الزيتون حتى يكون خمسة أوسق، ويخرج من الزيتون. ويجوز أن يخرج من الزيت؛ فإنه أنفع من الزيتون؛ فإن أوجبنا في العسل، يخرج من كل عشر قرب قربة. والمذهب الأول: أنه لا يجب في شيء منها الزكاة، إلا في تمر النخيل والكرم، ويشترط فيه النصاب؛ وهو أن يون تمر النخل قدراً يحصل منه خمسة أوسق من التمر، وتمر الكرم قدراً يحصل منه خمسة أوسق من الزبيب. والزكاة وجوبها بُدُرُّ الصلاح، والنصاب يعتبر بعد الجفاف، والوسق ستون صاعاً كل صاع أربعة أمداد، كل مد رطل وثلث؛ فيكون الوسق؛ مائة وستون صاعاً، وجملة الأوسق الخمسة ثمانمائة من وهو للتحديد أو للتقريب؟ فيه وجهان: أحدهما: للتقريب؛ فإن انتقص منه شيء وإن قل لم تسقط الزكاة؛ لأن حمل البعير يزيد وينقص. والثاني: للتحديد، فإن انتقص منه شيء - وإن قل - لا تجب الزكاة، ثم ما زاد على هذا يكون بحسابه. ولا وقص للمعشرات بخالف المواشي؛ لأنا لو أجبنا فيما زاد على النصاب بحسابه في المواشي، تثبت الشركة لجماعة في شاة واحدة، ويعتبر واحد؛ وفيه ضرر على أرباب الأموال، ولا ضرر فيه على أرباب الثمار والزروع؛ لأنها تجزئ. وعند أبي حنيفة: لا نصاب للمعشرات؛ حتى يجب في عشر ثمرات ثمرة، وفي عشر حبات حنطة حبة. وأبو يوسف اشترط النصاب فإذا أثمرت نخلة عاماً، ولم يبلغ نصاباً، ثم أثمرت عاماً آخر - لا يضم ثمر العام الثاني إلى الأول في تكميل النصاب؛ وإن كان إطلاع ثمر العام الثاني قبل أن يجد تمر العام الأول. وإن كانت له نخيل تثمر في كل عام مرتين، لا يضم الحمل الثاني إلى الأول؛ لأن كل حمل كثمرة عام آخر. أما إذا أدرك بعض ثماره قبل بعض في عام واحد؛ مثل: أن يكون له نخيل تهامية ونخيل نجدية؛ فربما يدرك التهامية والنجدية بعد بُسر وبلح -فهل يضم أحداهما إلى الأخرى في تكميل النصاب؟ نظر: إن أطلعت النجدية قبل بدو الصلاح في التهامية، يضم؛ لأن النجدية موجودة يوم وجوب الزكاة في التهامية، وإن أطلعت النجدية

بعد بُدُو الصلاح في التهامية قبل جُذادها - ففيه أوجه: أصحها: لا يضم أحداهما إلى الأخرى؛ كثمرة عامين. والثاني: يضم؛ كما لو أطلعت قبل بدو الصلاح في التهامية. والثالث: إن أطلعت النجدية قبل بُلُغ التهامية أوان الجُذادِ يضم، وإن أطلعت بعده فلا يضم؛ كما لو أطلعت بعد الجُذَادِ فلا يضم؛ فحيث قلنا: يضم: فجُذتِ التهامية، ثم أطلعت التهامية ثانياً قبل جُذَادِ النجدية لا يضم، وإن كان قبل بُدُو الصلاح في النجدية؛ لأنا جعلنا النجدية من تمر العام الأول؛ حيث ضممناها إليها من الأول؛ فلا يضم إلى تمر عام آخر، ولا يضم التمر إلى الزبيب؛ لاختلاف الجنس، وإن كان في حائط أنواع من التمر من البردي والكبيس والجعرور يضم بعضها إلى بعض في النصاب، وكذلك أنواع العنب يضم بعضها إلى بعض. ثم إن قل كل نوع منها أخذ الزكاة من الوسط، وإن كثر كل نوع منها نظر؛ إن كثر عدد الأنواع؛ بحيث يشق الأخذ من كل نوع أخذ من الوسط، وإن قل عدد الأنواع، وكثر كل نوع منها- أخذ من كل نوع بحصته، ولا تترك الأنواع إلى نوع واحد. وإن كان في حائطه رطب؛ لا يصير تمراً، أو عنب؛ لا يصير زبيباً - يجب فيه العشر. وكيف يعتبر نصابه؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط أن يكون الرطب قدراً لو كان يتجفف لحصل منه خمسة أوسق من التمر، وكذلك العنب؛ لأن اعتبار النصاب يكون بعد الجفاف؛ كالذي يصير تمراً. والثاني: إذا كان الرطب أو العنب خمسة أوسق، يجب فيها الزكاة؛ لأنه ليس لهذه التمرة حالة جفاف، فلا يعتبر تلك الحالة ولا خلاف أنه يضم الذي لا يصير تمراً إلى الذي يصير تمراً في حق النصاب، وكذلك العنب الذي لا يصير زبيباً يضم إلى الذي يصير زبيباً. "فصلٌ: في خرص الثمار" روي عن عتاب بن أسيد؛ أن رسول الهل - صلى الله عليه وسلم - قال: "في زكاة الكرم يُخرص كما

يُخرص النخيل فيؤدي زكاته زبيباً؛ كما يؤدي زكاة النخل تمراً". الزكاة تجب فيتمر النخل والكرم ببدو الصلاح؛ وهو أن يظهر فيه أثر الحمرة والصفرة، وبتموه العنب، وفي الزروع باشتداد الحب. وإذا بدا الصلاح في الثمار، يبعث الإمام من يخرصها على أربابها، والخرص يكون في الثمار لا في الزروع؛ لأنه لا يمكن الوقوف عليها. ويشترط أن يكون الخارص مسلماً عدلاً عالماً بذلك الأمر. وهل يكتفي بخارص واحد، أميشترط أن يكون اثنان؟ فيه قولان؛ كالقاسم:

أحدهما: يكتفي بالواحد؛ القائف والقاضي. والثاني: يشترط اثنان؛ كالمقوم والمزكي.

روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامى أهل خيبر على نصف التمر والزرع، وكان يبعث عبدالله بن رواحة، فيخرص بينه وبينهم.

وروي أنه كان يبعث مع عبد الله بن رواحة غيره فيطوف الخارص بالنخيل والكرم؛ فيرى جميع ثمارها لا يرى بعض الأشجار، ويقيس عليها الباقي؛ لأنها تتفاوت. وإذا رأى الكل، يقول: رطب هذه النخيل كذا، ويحصل منه من الثمر كذا، وكذلك العنب. ثم بعد الخرص يخلي بينها وبين المالك، فإذا صار تمراً أو زبيباً أخذ عُشرها. ولا يجوز الخرص قبل بُدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح في بعضه، فهو كما لو بدا في كله في جواز الخرص إن كان النوع واحداً. وإن كان النوع مختلفاً؛ فبدا الصلاح في أحد النوعين، هل يجوز خرص الكل؟ فيه وجهان. ولا يجوز بعد بُدُو الصلاح للمالك أن يأكل منه شيئاً، ولا أن يتصرف فيه ما لم يخرص عليه. فإن لم يبعث الحاكم خارصاً، أو لم يكن حاكم، يتحاكم رب المال إلى عدلين يخرصان عليه. والخرص تضمين؛ على أصح القولين، فبعد الخرص بقول الخارص

لرب المال ضمنتك نصيب المساكين من الرُّطب؛ لتعطي مكيلة خرصي، ويقبله رب المال. ثم بعد الخرص يجوز لرب المال بيع كله، وأكل كله وحق المساكين في ذمته. وفيه قول آخر: أن الخرص غيره؛ لأنه ظن؛ فلا يصير به حقهم في ذمته. فعلى هذا: لا يتصرف المال إلافي تسعة أعشارها. والأول أصح. وعند أبي حنيفة: لا حكم للخرص، وربما يقولون: الخرص تخويف لرب المال. الحديث حجة عليه. ولو أصابت الثمار جائحة، أو سرق من الشجرة، أو من الجرين قبل الجفاف - نظر: إن سرق الكل، أو ذهب الكل بجائحة، فلا زكاة عليه؛ وإن ذهب البعض؛ نظر: إن كان الباقي نصاباً، فعليه زكاة ما بقي، وإن كان أقل من نصب يُبنى على أن إسكان الأداء شرط الوجوب، أم شرط الضمان إن قلنا: شرط الوجوب، لا زكاة عليه. وإن قلنا: شرط الضمان، يجب عليه حصة ما بقي من الزكاة. أما إذا سرق بعد الجفاف، وإن كان الأداء، أو ترك في الجرين أكثر من العادة؛ حتى سرق - يجب عليه زكاة الكل؛ كما لو ضيعه حتى سرق؛ فإن ادعى رب المال هلاك الثمرة؛ نظر: إن ادعى بسبب خفي من سرقة، أو جائحة أصابت بعض ماله، قُبِلَ قوله مع يمينه؛ واليمين مستحبة أم واجبة؟ فيه وجهان. فإن ادعى أمراً ظاهراً من نهب، أو غارة، أو جائحة عامة، وعرف ذلك - صدق بلا يمين؛ وإن لم يعرف، لم يقبل قوله إلا ببينة. وإن عرف، ولم يعم، واحتمل أنه لم يصبه - حلف. وإن ادعى إجحافاً في الخرص؛ نظر: إن ادعى أن الخارص تعمد ذلك لم يقبل؛ كما لو ادعى على الحاكم الميل وعلى الشاهد الكذب - لا يقبل إلا ببينة. وإن ادعى أنه غلط في الخرص؛ نظر: إن لم يتبين المقدار لم يسمع، وإن تبين نظر؛ إن ادعى غلط محتملاً؛ مثل: أن ادعى في مائة وسق غلط خمسة أوسق، يقبل، فإن أبهم أحلف. واليمين مستحبة، أم واجبة؟ فيه وجهان.

وإن ادعى نقصاناً فاحشاً لا يقع بمثله الغلط؛ كالثلث والربع - لا يقبل، ويحط عنه القدرُ المحتمل؛ على أصح القولين. وقيل: لايحط؛ دعواه محال. ولو ادعى بعد الكيل غلطاً في الخرص يسيراً بقدر ما يقع بين الكيلين - فهل يحط؟ فيه وجهان: أصحهما: يحط؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، والإحالة على الخرص أولى. والثاني: لا يحط؛ لاحتمال أنه وقع في الكيل، ولعله لو كيل ثانياً وفي؛ كما لو اشترى حنطة مكايلة، وباعها مكايلة، فانتقص بقدر ما يقع بين الكيلين -لا يرجع على الأول؛ لأنه كما احتمل أنه لنقص في الأول، احتمل أنه لزيادة في الثاني. ولو أن رب المال أهلك الثمرة قبل الجفاف، أو أكلها؛ نظر: إن فعل قبل بُدُو الصلاح، فلا زكاة عليه، إلا أنه إن قصد به الفرار من الصدقة كُره، وإن لم يقصد الفرار، بل أراد الأكل والإطعام، أو التخفيف عن الشجرة - فلا يكره. وإن فعل بعد بُدُو الصلاح، ضمن حق المساكين. ثم ينظر إن كان بعد الخرص: فإن قلنا: الخرص تضمين، ضمن عشرة للمساكين تمراً، وإن قلنا: الخرص غيره، ضمن قيمة عشرة رطباً. وإن كان قبل الخرص، ضمن قيمة عشرة رطباً قولاً واحداً؛ لأن قبل الخرص لا يصير التمر في ذمته للمساكين، وعُزر على هذا الاستهلاك إن كان عالماً. وقيل: إذا قلنا: الخرص تضمين، يجب عشرة تمراً؛ ل، الثمرة لما بدا صلاحها فإذا تلف، فهو الذي منع الخرص؛ فصار كما لو أتلفه بعد الخرص. فأما إذا كان رطباً لا يصير تمراً؛ فأتلفه بعد الخرص أو قبله - يجب قيمة عشرة رطباً قولاً واحداً؛ لأنه ليس له حالة جفاف؛ حتى نوجب التمر. ولو أصاب حائطه عطش يعلم أنه لو ترك الثمرة على الشجرة احتلبت ماءها وضربها في قابل فله قطع الثمرة؛ لأن المساكين إن تضرروا به في الحال، انتفعوا في قابل. ثم المستحب أن يخبر الإمام؛ حتى يبعث من يقطع بمحضره؛ فيكون نائباً عن المساكين؛ لأن الثمرة مشتركة بينه وبين المساكين، ثم يأخذ حق المساكين. ثم قال الشافعي: ويؤخذ ثمن عشرها، أو عشرها مقطوعة: فمن أصحابنا من قال: يتخير الإمام بينهما؛ فيختار باجتهاده ما هو أنفع للمساكين. ومنهم من قال وهو الأصح-:

ليس هذا على طريق التخيير، بل هو تعليق القول؛ وهو بناء على أن القسمة بيع أم إفراز حق؟ إن قلنا: إفراز حق أخذ عشرة. وإن قلنا: بيع، فلا يجوز قسمته؛ فيباع الكل، ويأخذ الإمام عشر ثمنه؛ وكذلك العِنب الذي لا يصير زبيباً، والرطب الذي لايصير تمراً، أخذ الإمام عشرة مقسوماً: إن قلنا: القسمة إفراز حق. وإن قلنا: بيع، أخذ كله؛ فيكون عشرة للمساكين على الشيوع، ثم باعه مع المالك، وأخذ عشر ثمنه مقسوماً على هذا القول يجب عليه رده، ويكون شرياً في بيعه؛ كما ذكرنا. ولو اشترى نخلة مثمرة، أو ورثها قبل بُدو الصلاح؛ فبدا فيها الصلاح بعد الشراء والإرث بيوم - يجب عليه العشر. ولو باع نخلة مثمرة من ذمي قبل بُدو الصلاح؛ فبدا الصلاح في يد المشتري، ثم ردها بعيب - لا تجب الزكاة على أحد؛ لأن الثمرة كانت للذمي يوم بدو الصلاح، والذمي لا زكاة عليه. ولو باعها من مسلم، فبدا الصلاح في يد المشتري، ثم وجدبها عيباً - لا رد له إلا برضا البائع؛ لأنه تعلق بها حق الزكاة، فإن أدى الزكاة من موضع آخر له الرد؛ ولو باعها بشرط الخيار للبائع؛ فبدا الصلاح في زمان الخيار: إن قلنا: المِلك في زمان الخيار للبائع، فالزكاة عليه وإن تم البيع، وإن قلنا: للمشتري فالزكاة عليه، وإن فسخ البيع، وإن قلنا: موقوف، فإن تَمَّ البيع فالزكاة على المشتري، وإن فسخ فعلى البائع. ولو اشترى ثمرة قبل بُدو الصلاح يشترط القطع؛ فلم يتفق القطع؛ حتى بدا فيها الصلاح - فقد وجب فيه العشر. فإن رضيا بالترك ترك، والعشر على المشتري، وإن لم يتراضيا لا تقطع الثمرة؛ لضرر المساكين. ثم فيه قولان: أحدهما: يفسخ البيع؛ لتعذر إمضاء البيع، فإن البائع يطالب بالقطع لشرطه، والقطع متعذر لحق المساكين؛ وهذا قول مخرج. والقول الثاني- وهو الأصح -: لا ينفسخ البيع؛ لأنه عيب لحق المبيع بعد المبيع، بل إن لم يرض البائع بالترك يفسخ البيع بينهما. وإن رضي البائع، وأبي المشتري، ففيه قولان: أحدهما: يفسخ البيع؛ لأنه اشتراها بشرط القطع، وقد يعذر؛ كالبائع إذا لم يرض يفسخ. والثاني- وهو الأصح -: لا يفسخ، ويجبر على الترك؛ لأن القطع لحق البائع؛ حتى

لا تحتلب الثمرة ماء الشجرة، وإذا رضي بالترك ترك. ولو رضي البائع، ثم رجع له ذلك؛ لأن برضاه أعاره النخل من المشتري، وله الرجوع عن العارية؛ فحيث قلنا: ينفسخ البيع ففسخ، على من يجب العشر؟ فيه قولان: أصحهما: على المشتري؛ لأن بدو الصلاح كان في ملكه ما لو رده بعيب بعد بدو الصلاح. والثاني: على البائع؛ لأن الفسخ كان بشرطه؛ فصار كما لو لم يخرج عن ملكه. فإن قلنا: يجب على المشتري، فإذا جاء الساعي، وأخذ من غيره الثمرة، فللبائع أن يرجع على المشتري بما أخذ. ولو مات رجل، وله نخيل مثمرة؛ سواء كانت مطلعة أو مؤبرة لم يبد فيها الصلاح، وعليه دين؛ فبدا فيها الصلاح - يجب العشر على الورثة؛ لأنها ملكهم قبل أن تباع في الدين؛ بدليل أنهم لو أرادوا إمساكها، وأداء الدين من موضع آخر - يجوز. وإن لم يؤد الورثة الزكاة من موضع آخر، أو لم يكن لهم مال؛ فتقدم الزكاة على حق سائر الغرماء؛ سواء قلنا: الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة؛ كالمرهون إذا وجب فيه الزكاة تقدم حق [سائر] المساكين على حق المرتهن. ثم بعد أداء الزكاة ن لم يف الباقي بالدين، فعلى الورثة أن يغرموا قدر الزكاة من أموالهم للغرماء. قال الشافعي - رحمه الله -: هذا على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة. وإن قلنا: تتعلق بالعين، فلا يغرمون؛ كما ذكرنا في الرهن. باب زكاة الزرع قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وروي عن أبي سعيد الخدري؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في حَب ولا ثمرة صدقة؛ حتى تبلغ خمسة أوسق". ولا يجب العشر في شيء من الزروع، إلا فيما يُقتات غالباً فيما يزرعه الآدميون، ويدخرونه؛ مثل: الحنطة والشعير والدخن، والذرة، والأرز، والمنج، واللوبيا والفول والعدس والعلس؛ وهو الحنطة الشامية تكون في كمام حبتان والسلت، وهو

الشعير العاري يكون لونه لون الحنطة، وطبعه طبع الشعير في البرودة. أما ما لا ينبته الآدميون، وإن كان يقتات في بعض الأوقات؛ كالقت وحب الحنظل والبزور البرية - فلا زكاة فيها؛ كما لا يجب في الحيوانات الوحشية من الظباء وبقر الوحش، وكذلك ما لا يكون قوتا، وإن أنبته الآدميون؛ كالبقول وبزورها والإسيبوش والسمسم والحلبة والجلجلان وبزر الكتان والبطيخ والقثاء والفجل والسلق والجزر والقنبيط وبزورها - فلا زكاة فيها، وكذلك

الترمس؛ وهو يشبه الباقلي؛ غير أنه أصفر منه. والعصفر والكرسف لا شيء فيها. وعند مالك: في كل ما يعم منفعته ويدخر؛ كالسمسم، والحلبة، وبزر الكتان، والقطن. وعند أبي حنيفة: يجب في جميع الخضروات، وكل ما ينبته الآدميون، إلا الحشيش والحطب والقصب الفارسي. أما قصب السكر: قالوا: يجب فيه العشر. ونحن إنما لم نوجب في غير القوت؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ من غيرها. ووجوب الزكاة يكون عند اشتداد الحَب، وآداؤه يون بعد الجفاف والتنقية. والنصاب فيه شرط؛ وهو أن يكون خمسة أوسق بعد التنقية. والأرز والعلس يدخران مع العشر؛ فلا يجب العشر في واحد منهما؛ حتى يكون خمسة أوسق دون العشر؛ لأنهما لا يُطبخان مع العشر، ولا يؤكلان معه؛ فالعشر منهما بمنزلة التين في الحنطة. أما الذرة والحنطة فيهما العشر إذا كان خمسة أوسق مع العشر الذي هو نخالة؛ لأنهما

يُطحنان مع ذلك العشر، ويؤكلان مع تلك النخالة. وإذا حصل نصاب من الحب، فما زاد يكون بحسابه، وإن كان قليلاً؛ كالثمار. ولا يضم صنف من الحبوب إلى صنف آخر في تكميل النصاب، ويضم الأنواع بعضها حكم الصورة الثانية حكم ما لو زرع في سنة مراراً في فصول مختلفة وفيه أقوال. وقال ابن سريج: صورة هذه المسألة في الذرة زرعت فنبت، والتفت؛ فغطى بعضها بعضاً؛ فسنبل ما أصابته الشمس، وحصد، ثم تسنبل ما كان مغطى - ضم الثاني إلى الأول؛ لأن الكل زرع واحد. وقال ابن إسحاق: حكمه حكم زرع فصلين. وفيه أقوال: وشبه الشافعي - رحمه الله - مسألة الكتاب بما لو اختلف ابتداء البذر؛ بأن بذر البعض، وبذر البعض بعده بشهر - ضم الثاني إلى الأول. "فصلٌ: في قدر الصدقة" روي عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سُقي بالنضح نصف العُشر".

يجب في المسقي من الثمار والزروع بماء السماء والبئر الذي يخرج الماء إليه بطبعه من غير أن يحمل إليه مؤنة ثقيلة - العشر، وكذلك في البعل؛ وهو الذي يشرب بعرقه؛ فإن احتاج في سقيه إلى مؤنة ثقيلة، يجب فيه نصف العشر؛ كالمسقي بالنواضح والدواليب؛ وكذلك ذا كان يُسقى من قناة أوعين تكثر مؤنتها؛ بأن كانت لاتزال تنهار ويصوب ماؤها؛ فتحتاج إلى استحداث حفر- فهو كالبئر التي ُنزح منها بالسواقي. أما إذا لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الأول، وكسحها في بعض الأقات - فسبيله سبيل النهر في وجوب العُشر؛ وذلك لأن مبنى الزكاة على أن المؤنة إذا كثرت خف الواجب، وإذا خفت كثر الواجب؛ وكذلك وجبت الزكاة في الماشية السائمة دون المعلوفة. وإن كان الزرع يسقى بالجاري، أو بماء السماء مرة، وبالنضح أخرى - نظر: فإن استويا؛ بأن كان نصف عيشه بماء السماء، ونصفه بالنضح- ففيه ثلاثة أرباع العُشر، وإن كان أحدهما أكبر ففيه قولان: أحدهما: الاعتبار بالأكثر، وإن كان أكثر عيشه بماء السماء ففيه العشر، وإن كان بالنضح فنصف العشر. والثاني - وهو الأصح-: يقسط على السقيات. وإن كانثلثا عيشه بماء السماء، وثلثها بالنضح - فعليه خمسة أسداسه العشر: ثلثا

العشر، وثلث نصف العشر، والاعتبار في معرفة الأكثر بالمدة أم بعدد السقيات فيه وجهان مثل: أن كان من يوم الزراعة إلى الإدراك ثمانية أشهر، احتاج في ستة أشهر؛ وهو زمان الشتاء والربيع إلى سقيتين، يسقى فيهما بماء السماء، وفي شهرين؛ وهو زمان الصيف إلى ثلاث سقيات، يسقى إلى بعض عند إيقاف الحبس. وقال مالك: يضم القطنية بعضها إلى بعض، ويضم الحنطة إلى الشعير؛ ولا يُضمان إلى القطنية. وعندنا: لا يضم؛ لأن كل واحد صنف آخر منفرد باسم خاص؛ كما لا يضم الثمر إلى الزبيب، والعلس لا يضم إلى الحنطة ولا إلى الشعير؛ على الوجه الأصح؛ لأنه صنف آخر. وقال صاحب التقريب: يضم إلى الحنطة؛ لأن لونه لون الحنطة. وقيل: يضم إلى الشعير؛ لأن طبعه طبع الشعير. والأول المذهب. ولا يضم زرع عام إلى زرع عام آخر في النصاب؛ كما ذكرنا في الثمار. وإن كان زرعاً يُزرع في سنة واحدة مراراً؛ كالذرة يزرع في أوقات مختلفة في خريف وصيف وربيع -هل يضم بعضها إلى بعض فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يضم، وزروع الفصول كزروع السنين. والثاني: إن اجتمع زرع الكل في سنة واحدة، ضم بعضها إلى بعض، وإن كان حصاد الثاني خارج السنة، ونعني بالسنة: اثني عشر شهراً بالعربية؛ فينبغي أن يكون من وقت الزرع الأول إلى زرع الثاني أقل من ثاني عشر شهراً؛ لأن الزراعة هي الأصل، والحصاد فرع، والاعتبار بالأصل أولى. والثالث: الاعتبار بوقت الحصاد. وإن اجتمع الحصادان في سنة واحدة ضم، وإن كان زرع الأول خارجاً من السنة؛ لأنه حالة الوجوب؛ فاعتباره أولى. والرابع: يشترط أن يكون الزرعان والحصادان في وقت واحد؛ وهو أن يكون بين زرع الأول وحصاد الثاني أقل من اثني عشر شهراً. قال الشافعي: والذرة تزرع مرة؛ فتخرج وتحصد، ثم تستخلف في بعض المواضع - فهو زرع واحد. واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة: منهم من قال - وهو الأصح -: أراد به الذرة الهندية تزرع؛ فتسنبل، ثم تحصد سنابلها، ويبقى ما فيها؛ فيخرج منها سنابل أخر. والثاني: يضم إلى الأول؛ لأنه زرع واحد؛ بخلاف النخلة إذا حملت في سنة مرتين،

لا يضم الثاني إلى الأول؛ لأنها أصل يبقى؛ فتثمر سنين. والذرة زرع لا يبقى سنين، فإذا خرج من ساقها؛ فيكون في حكم الأول مضموماً إليه؛ كزرع تعجل إدراك بعضه، وتأخر إدراك بعضه. ومنهم من قال: أراد به غير الهندية من الذرة تسنبل؛ فتقع العصافير على سنابلها، أو على سنابل الهندية؛ فتتبين حباتها، أو تتبين بالريح، ثم تنبت تلك الحبات المنثورة في تلك السنبلة؛ فالكل زرع واحد. ومن قال بهذا، قال في الصورة الأولى: لا يضم الثاني إلى الأول؛ كالنخلة تثمر مرتين في سنة، لا يضم الثاني إلى الأول. ومن قال بالأول، قال بالنضح. فمن اعتبر عدد السقيات، قال عليه نصف العشر؛ لأن عدد السقيات بالنضح أكثر، ومن اعتبر الزمان قال: عليه العشر؛ لأن مدة السقي بماء السماء أطول، وإن جهل عدد الذي سقي بل واحد منهما جعلا نصفين، فعليه ثلاث أرباع العشر. ولو زُرع زَرع على الماء الجاري، فانقطع الماء؛ فاحتيج إلى سقيه بالنضح، أو زرع على النضح؛ فجاء السيل فسقي به - فهل يتعين حكم مازرع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعتبر؛ لأن الأصل ما زرع عليه، وما حدث نادر؛ فعلى هذا: إن كان مزروعاً على ماء السماء، ففيه العشر، وإن كان على النضح، فنصف العشر، ولا عبرة بما حدث من بعد. والثاني - وهو الأصح -: يتغير، ثم الاعتبار بالأغلب، أم يقسط؟ فعلى القولين. وإذا أراد الساعي أخذ العشر كان تسعة آصع لرب المال وصاع للمساكين وفي نصف العشر أن لرب المال تسعة عشر صاعاً ثم صاعاً للمساكين؛ وإنما بدأنا بالمالك؛ لأن حقه أكثر؛ ولأن نصيب الماسكين يظهر بنصيب رب المال. فإن لم يكن لرب المال شيء، فما زاد يُكال للمساكين، ولا يؤخذ العشر من الزرع، إلا بعد الجفاف والدياسة والتنقية من التبن؛ كما لا يؤخذ من ثمر النخل والكرم إلا بعد الجفاف. وإن أخذ قبله عليه رده؛ إن كان قائماً، أو قيمته؛ إن كان تالفاً، ويأخذ اليابس. "فصلٌ: فيما إذا زرع أرضاً وعليها خراج" إذا زرع أرضاً، وعليها خراج بحق؛ وذلك يكون في موضعين: أحدهما: أن يفتح الإمام بلداً عنوة، وصارت أراضيها للغانمين؛ فأبدلهم الإمام عنها،

ووقفها، وضرب عليها خراجاً معلوماً؛ كما فعل عمر - رضي الله عنه - بسواد "العراق". والثاني: أن يفتح البلد صلحاً؛ على أن تكون الأراضي للمسلمين، وأهلها الكفار يسكنونها بخراج معلوم يؤدون - فالأراضي فيء للمسلمين والخراج الذي ضرب عليهم الإمام بمنزلة أجرة الأرض لا يسقط بإسلامهم، فمن زرع من المسلمين أرضاً من هذه الأراضي، يجب عليه الخراج إذا جاء وقته، ويجب عليه عشر الزرع. وعند أبي حنيفة؛ لا يجب عليه العشر، والخراج يمنعه. وكذلك لو اكترى أرضاً للزراعة فزرع، يجب على المتكري عندنا الكراء، وعشر الزرع. وعند أبي حنيفة: يجب العشر على المكري؛ لأن العشر عنده؛ حق الأرض، وعندنا: هو زكاة الزرع؛ فهو كما لو اكترى حانوتاً للتجارة، يجب عليه كراء الحانوت مع زكاة التجارة لا يمنع أحدهما الآخر، كذلك هاهنا. ويخرج هذا على أن الذمي والمكاتب لا يجب عليهما العشر، وكذلك الضيعة الموقوفة على المسجد والرباط؛ فزرعها القيم لا عشر في زرعها. وكذلك لو وقف بستاناً على الفقراء، أو على المسجد - لا يجب العشر في ثماره. وعند أبي حنيفة: يجب العشر في هذه المواضع. "باب زكاة الذهب والورق" قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وقال ابن عمر: كل مال يؤدي زكاته، فليس بكنز؛ وإن كان مدفوناً، وكل مال لا يؤدي زكاته، فهو كنز، وإن لم يكن مدفوناً. وروي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". وعن أنس؛ أن أبا بكر تب له فريض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وفي الرفة رب العشر". لا تجب الزكاة في الورق؛ حتى يبلغ خمس أواقٍ؛ وهي مائتا درهم؛ كل أوقية أربعون

درهماً، فإذا بلغتها ففيها خمسة دراهم؛ وهي ربع العشر، وما زاد فبحسابه، والاعتبار بوزن "مكة"؛ كل درهم ستة دوانق كل عشرة دراهم منها سبعة مثاقيل ذهب. ولا تجب الزكاة في الذهب؛ حتى تبلغ عشرين مثقالاً، فإذا بلغتها ففيها نصف دينار؛ وهو ربع العشر، وما زاد فبحسابه، ولا وقص للدراهم والدنانير؛ كالثمار. وعند أبي حنيفة: لها أوقاص، وقال: لا شيء في الدراهم بعد المائتين ما لم يبلغ أربعين درهماً؛ فحينئذٍ فيها درهم، ولا في الدنانير بعد العشرين؛ حتى تبلغ أربعة دنانير. وأبو يوسف معنا، وليس المواشي؛ لأن الأوقاص فيها الاحتراز عن إيجاب الشقص، وفيه ضرر، ولا ضرر في إياب الشقص في التقدير؛ وسواء كان الذهب أو الورق مطبوعاً أو تبراً أو سبيكة، ولا يجب؛ حتى يملك مائتي درهم نقرة خالصة، أو عشرين ديناراً ذهباً خالصاً. فإن انتقص منه شيء وإن قل، لا زكاة فيه، وإن كان يروج رواج الوازنة وأكثر. وعند مالك: إن كان النقصان قدراً يتسامح فيه مثل حبة ونصف دانق - تجب الزكاة، وإن كان أكثر فلا يجب، إلا أن يروج رواج الوازنة نصاباً. ولا يكمل نصاب أحد النقدين بالآخر؛ كما لا يملك نصاب التمر بالزبيب. وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة: يضم أحدهما إلى الآخر في النصاب، ثم عند مالك وأبي يوسف: يضم من طريق الإجزاء، وعند أبي حنيفة: يضم إلى طريق القيمة، ويعتبر بأسرعهما نصاباً، ويشترط أن يكون النصاب كاملاً من أول الحول إلى آخره؛ حتى لو انتقص النصاب في خلال الحول، ثم مكل استأنف الحول من يوم كَمُل النصاب. وعند أبي حنيفة: النصاب شرط في أول الحول وآخره في جميع أموال الزكاة، فإذا انتقص النصاب في أثناء الحول، لا ينقطع الحول. والخبر حجة عليه؛ حيث قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وما زاد بعد نقصان النصاب لم يحل عليه الحول؛ فلا يجوز إيجاب الزكاة فيه، وإن كانت دراهمه أو دنانيره مغشوشة، فلا زكاة فيها؛ حتى يكون قدراً يحصل منها نصاب خالص، فإن كان قدراً يحصل فيها مائتا درهم خالصة؛ فأخرج الزكاة من المغشوشين - يجوز، ويجب أن يخرج قدراً يكون فيه خمسة دراهم نُقرة خالصة. ويكره للرجل إمساك الدراهم المغشوشة؛ لئلا يغر بها غيره. وعند أبي حنيفة: إذا ملك مائتي درهم مغشوشة، تجب عليه الزكاة إن كانت الغلبة

النقرة، وإن كان بعض دراهمه أجود وبعضها أردأ؛ بأن كان أسود أو أصلب؛ وكلها نقرة - يضم بعضها إلى بعض في النصاب، وتخرج الزكاة من كل بحصته فإن كانت كبيرة مختلطة لا يمكنه التمييز بين الجيد والرديء، أخذ من الوسط، ولو أعطي الجيد عن الرديء، كان أفضل. ولو أعطي الرديء عن الجيد، لا يسقط عنه الفرض؛ قال الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]. وإن كان له ذهب مخلوط بعضه، فإن عرف قدر كل واحد منهما، أخرج زكاتهما، وإن لم يعرف ميزه بالنار، وأخذ بالاحتياط؛ فيخرج الزكاة عن كل واحد منهما على أكثر ما يتوهم. ولا يكفي في الاحتياط أن يُجعل القدر المشكوك فيه ذهباً؛ فيخرج عنه زكاة الذهب؛ لاحتمال أنه فضة. ولايجوز الذهب عن الفضة، بل يخرج عن القدر المشكوك فيه زكاة الذهب والفضة جميعاً. فإن كانت له فضة ملطوخة على لجام، أو مُموهاً بها سقف بيت - نظر: إن كان لو عرض على النار لا يحل منه شيء، فهو مستهلك لا زكاة فيه، وإن كان يحصل منه نصاب، أو يحصل منه شيء، وعنده ما يتم به النصاب- يجب عليه الزكاة. "باب زكاة الحُلي" روي عن عائشة؛ أنها كانت تلي بنات أختها يتامى في حجرها لهن الحلي؛ فلا تخرج منه الزكاة. وعن ابن عمر؛ أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب؛ فلا يخرج منه الزكاة. الحلي المُتخذ من الذهب والفضة، إن كان محظوراً يجب فيه الزكاة؛ سواء كان محظوراً بعينه؛ كالأواني والقوارير والقصاع والملعقة والمجمرة والسرير والخوان، أو كان محظوراً لبسه؛ كالرجل يتخذ حلي النساء؛ ليلبس، أو يلبس غلمانه، أو المرأة تتخذ حُلي الرجال؛ لتلبس بنفسها، أو تلبسه جواريها، أو تعيره من النساء. أما الحلي المُباح، هل يجب فيه الزكاة، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ وهو قول ابن عمر، وعائشة، وجابر؛ وبه قال الشعبي، ومالك، ولأنه مُعد لاستعمال مباح؛ كالعوامل من الإبل والبقر. أحدهما: لا يجب؛ وهو قول ابن عمر، وعائشة، وجابر؛ وبه قال الشعبي، ومالك، ولأنه معد لاستعمال مباح؛ كالعوامل من الإبل والبقر.

والثاني: يجب؛ وهو قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس؛ وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة؛ لما رُوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن امرأتين أتتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفي أيديهما سواران من ذهب. فقال لهما: "أتؤديان زكاته" قالتا: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحبان أن يسوركما الله بسوار من نار؟ " قالتا: لا. قال: "فأديا زكاته". ولأنه من جنس الأثمان؛ فأشبه ما لو كان معداً للقنية، لا للاستعمال. فمن الحلي المباح أن تتخذ المرأة لنفسها عقداً أو خاتماً أو سواراً، أو خلخالاً من ذهب أو فضة، وهذه الأشياء حرام للرجال إلا خاتم الفضة. فإن اتخذ الرجل أسنان خاتمه من ذهب، أو سناً واحدة - فهو حرام. فإن اتخذ من فضة مموهة بذهب فيه وجهان. ولو اتخذ الرجل حلية سيفه، أو سكينه الذي هو للحرب، أو رمحه، أو منطقته من فضة - فمباح، ولا يجوز من الذهب؛ وهو حرام في حق النساء؛ سواء كان من ذهب أو فضة. فإن اتخذ الرجل حلية السرج واللجام أو بُرة الناقة من الذهب- فحرام، وإن اتخذه من فضة فوجهان: أحدهما: مُباح؛ كحلية المنطقة والسيف. والثاني- هو الأصح، والمنصوص -: أنه لا يباح؛ لأن هذه حلية الدابة؛ بخلاف - جلية السيف والمنطقة؛ فإنها حلية الرجل في الحرب. وهل يجوز تحلية المصحف بالذهب فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كسائر الكتب.

والثاني - يجوز؛ وبه قال أبو حنيفة، إكراماً للمصحف. ولا يجوز تمويه سقف المسجد بالذهب، ولا أن يتخذ له قنديل أو مسرجة منهما. ولا يجوز تحلية سكين العلم والمهنة والمقراض والمقلمة والدواة والمرآة بالذهب. وهل يجوز بالفضة فيه وجهان أحدهما: يجوز؛ كالسيف. والثاني: لا يجوز؛ لأنها ليست آلة الحرب. والتطبيب القليل في الإناء للزينة مكروه؛ وهو في وجوب الزكاة كالمحرم. قال الشيخ: والأولى أن يكون كالمباح. ولو قُطع أنفه، أو قلعت سنة؛ فاتخذ أنفاً وسناً من ذهب أو فضة - جاز. وكذلك لو قطعت أُنملته. ولو قطعت يده، أو أصبعه، لايجوز أن يتخذها من ذهب، أو فضة؛ لأنها لا تعمل. فإن قلنا: لا زكاة في الحلي، فإن انكسر الحلي؛ نظر: إن كان الكسر يسيراً يمكن التحلي به مع ذلك الكسر - فلا زكاة فيه، وإن بان البعض عن البعض؛ بحيث لا يمكن التحلي به إلا بالإصلاح- نظر: إن أرصده لا للإصلاح ففيه الزكاة، ويبدأ الحول من يوم الانكسار، وإن أرصده للاصلاح، ففيه وجهان: أحدهما: يجب فيه الزكاة؛ لأنه ليس بحلي، فهو كورق يريد أن يتخذ منه حُلياً يجب فيه الزكاة. والثاني: لا يجب؛ لأنه كان حلياً، ويرصده للإصلاح؛ كما لو كان الكسر يسيراً. ولو اتخذ الرجل حُلي النساء لجواريه ونسوانه، أو ليعير من النساء، أو اتخذت المرأة حلي الرجال لزوجها وبنيها وغلمانها- فهو مباح. ولو اتخذ الرجل حلي النساء - ولا نية له - أو المرأة حلي الرجال؛ ولا نية لها - ففيه قولان: أحدهما: يجب الزكاة؛ لأن الظاهر أنه يتخذه لنفسه. والثاني: لاتجب؛ لأن الاتخاذ مباح؛ فلا شغل شغل الذمة بالشك. ولو ورث رجل حلي النساء؛ فأرصده لنفسه، أو لغلمانه، أو روث حلي الرجال؛ فأرصده لنسائه جواريه، أو ورثت امرأة حلي الرجال؛ فأرصدته لنفسها، أو لجواريها، أو بناتها، أو ورثت حلي النساء؛ فأرصدته لغلمانها- فهو حرام تجب فيه الزكاة. ولو أمسك الرجل حلي النساء لزوجته وجواريه، أو المرأة أمسكت حلي الرجل لزوها وغلمانها - فمباح. فإن غير النية؛ لبعده إلى الحظر، يستأنف الحول من وقت تغيير

النية. ولو اتخذت المرأة لنفسها خلخالاً ثقيلاً أو سواراً خارجاً عن العادة في الوزن، وقلنا: لا زكاة في الحلي -فيه وجهان: أحدهما: لا زكاة فيه؛ كما لو اتخذت عدداً من الخلاخيل. والثاني: يجب؛ لأنه قيد، وليس بزينة، وإنما أبيح لها الزينة. ولو اتخذ لصبي حلياً، يجوز. قال الشافعي: ويزين الصبيان بالصبغ والحلي. ولم يفصل بين أن يكون من ذهب أو فضة، ثم في وجوب الزكاة قولان. قال الشيخ: اتخاذه من الذهب، أو ما لا يجوز استعماله بعد البلوغ يوجب أن يكون محظوراً؛ لأن الصبي وإن كان لا يعصي بلبسه لصغره، فالولي مأمور بمنعه عنه؛ حتى لا يعتاده. وكل حلي حرمناه على الذكور، فهو محرم على الخنثى؛ لجواز كونه رجلاً. وهل عليه الزكاة؟ قيل: تجب للتحريم. وقيل: فيه قولان؛ كالحلي المباح؛ لأن التحريم غير حقيقة. ولو اتخذ حُلياً مباحاً، وأجره ممن يجوز، هل تجب فيه الزكاة؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب؛ لأنه معد لطلب النماء؛ كما لو اشترى حلياً للتجارة. والثاني: هو على قولين: لأن ما يحصل من الأجرة شيء قليل؛ فلا يؤثر في إيجاب الزكاة؛ كأجرة العوامل من الإبل والبقر؛ فهو كما لو اتخذه للإعارة. وكل موضع أوجبنا الزكاة في الحلي، فيجب في وزنه، لا في قيمته؛ حتى لو كان وزنه خمسمائة، وقيمته ألف -تجب عليه زكاة خمسمائة؛ فيجعل ربع عشرة للمساكين - كما قلنا- في الرطب الذي لا يصير تمراً. وقال ابن سُريج: تخرج زكاته بالقيمة من موضع آخر. وكل حُلي مباح لبسه لبعض الناس، فمن كسره يضمن الصنعة، وكل حلي لا يباح لأحد من الناس؛ فمن كسره هل يغرم صنعته فيه وجهان. ولا تجب الزكاة في اليواقيت والفيروزج واللاليء وحلية البحر، ولا في شيء من الجواهر غير الذهب والفضة، ولاتجب في المسك والعنبر، إلا أن تكون للتجارة. وقال أبو يوسف يجب في العنبر الخمس؛ وهو شيء دسره البحر.

"باب زكاة التجارة" رُوي عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماساً قال: مررت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى عنقي أدمة أحملها. فقال عمر: ألا تؤدي زكاتها يا حماس. فقلت: يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه التي على ظهري، وأهبة في القرظ. فقال: ذلك مال فضع فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة؛ فأخذ منها الزكاة. زكاة التجارة واجبة في جميع الأموال عند أكثر العلماء؛ وهي ربع العشر، وتبج في القيمة؛ حتى لا يجوز إخراجها عن العين. وعلق القول في القديم في وجوب زكاة التجارة، فلم يوجب في قول؛ وبه قال داود. فإن قلنا يجب، فهل يجب في العين، أم في القيمة فعلى قولين آخرين في القديم: أحدهما: يخرج ربع عشر القيمة. والثاني: يخرج ربع عشر العين، والمذهب وجوبها، ويجب في القيمة، والحول والنصاب فيه شرط. وهل يشترط كمال النصاب في جميع الحول؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يشترط؛ كما في المواشي والنقود. والثاني: يشترط في أول الحول وآخره؛ فإن انتقص في خلال الحول، لا يضر؛ وهو قول أبي حنيفة. والثالث - وهو المذهب-: ايشترط النصاب، إلا في آخر الحول؛ حتى لو اشترى بدراهم شيئاً للتجارة، انعقد الحول. فإذا تم الحول وقد بلغ قيمة ما في يده نصاباً؛ يلزمه الزكاة؛ لأن زكاة التجارة تجب بالقيمة، ويشق مراعاة النصاب في القيمة في جميع الحول؛ لأنها تختلف باختلافرغبات الناس بخلاف المواشي والنقود؛ فإن زكاتها تجب في العين؛

فيمكن حفظها إلى آخر الحول. فإن قلنا: يشترط النصاب في آخر الحول، فقومنا العرض في آخر الحول؛ فلم يكن قيمته نصاباً - هل يبتدئ الحول الثاني؟ فيه وجهان: أصحهما: يلي، ويسقط حكم الحول الأول؛ حتى لو كمل النصاب بعده، لا زكاة عليه ما لم يتم الحول الثاني، وكان نصاباً في آخره؛ كالنتاج الحاصل في الحول الثاني لا يحسب في الحول الأول. والوجه الثاني: لا يسقط حكم الحول الأول، بل متى بلغت قيمته نصاباً بعد شهر أو شهرين، تجب الزكاة، ثم يبتديء الحول الثاني؛ لأن قيمته إذا بلغت نصاباً في اثني عشر شهراً، أخذنا منه الزكاة، وكذلك في أربعة عشر شهراً، ولا ينعقد حول التجارة إلا بشرطين: أحدهما: أن العقد يُعقد معاوضة. والثاني: أن ينوي حالة العقد أنه يتملكه للتجارة؛ فلو كان له غرض للقنية، فنوى أنه للتجارة، أو اشترى لا للتجارة، ثم نوى بعد ذلك أنه للتجارة - لا يصير للتجارة ما لم يبعه بنية التجارة؛ بخلاف ما لو كان له غرض للتجارة؛ فنوى أنها للقنية، صار للقنية، وانقطع الحول. والفرق: أن القنية أصل في الأموال، والتجارة عارضة؛ فمجرد النية يعود إلى الأصل، ولا يزول الأصل بمجرد النية، ما لم يضم إليه فعل التجارة. كالمقيم لا يصير مسافراً لمجرد النية ما لم يوجد فعل السفر؛ لأن الإقامة هي الأصل، والمسافر يصير مقيماً بمجرد النية. ولو اشترى عرضاً بنية التجارة بنقد لا بعرض أو بدين حالاً أو مؤجلاً - انعقد حول التجارة في حقه، وفي حق شريكه إذا لم ينوه، ثم بعده إذا بادل عرض التجارة، لا يحتاج إلى نية جديدة عند كل ترف. فلو باع عرضاً بعرض، ونوى المتبايعان جميعاً التجارة - صار ما قبض كل واحد منهما للتجارة؛ فلو تقابلا ذلك البيع أو ترادا بالعيب، لا يبطل حكم التجارة. ولو اتهب شيئاً بنية التجارة، أو قبل الوصية، أو ورث مالاً، أو استقرض، ونوى التجارة - فلا يصير للتجارة؛ لأنه لم يملكه بطريق التجارة. ولو اتهب بشرط الثواب بنية التجارة، يصير للتجارة. ولو صالح عن دين له في ذمة إنسان على عرض بنية التجارة - كان للتجارة؛ سواء كان

ذلك الدين ثمناً، أو قرضاً، أو بدل إتلاف. أما إذا صالح عن دم العمد على مال، أو خالع زوجته على مال أو أودع أحداً على مال، ونوى التجارة، أو المرأة نكحت على صداق، ونوت التجارة في الصداق، أو أجر نفسه أو ماله على مال بنية التجارة - فهل يكون للتجارة؟ فيه وجهان: أحدهما - وبه قال أبو يوسف -: بلى؛ لأنه ملكه بعقد معاوضة؛ بدليل ثبوت الشفعة في هذه العقود؛ فيقوم العرض في آخر الحول بنقد البلد. والثاني - وبه قال محمد بن الحسن -: لا يكون لها؛ لأنه لم يملكه بعين مال. وعلى هذا: لو كان الرجل يتصرف في المنافع، بأن كان يستأجر المستغلات بنية التجارة؛ ولو أجرها، هل يجب عليه زكاة التجارة؟ فيه وجهان. ولو بادل مال التجارة بمنفعة دار، هل ينقطع الحول؟ فيه وجهان. ولو باع عرضاً للقنية لا بنية التجارة؛ فرد عليه بالعيب، أو فسخ البيع؛ فنوى التجارة عند الاسترداد - لا يصير للتجارة لأن الفسخ ليس بتجارة. فصلٌ: في انبناء حول الربح على حول الأصل إذا باع عرض التجارة بعرض لا ينقطع الحول، وإن كان فيه ربح، فحول الربح ينبني على حول الأصل، فإذا تم حول الأصل تقوم العروض التي في يده. فإن كانت قيمتها نصاباً، عليه أن يزكي عن الكل، وإن كان فيه ربح كبير؛ حتى لو اشترى عرضاً بمائتين؛ فصار قيمته قبل الحول بيوم ثلثمائة فأكثر؛ إما بزيادة في نفسها، أو بارتفاع السوق - عليه زكاة جميع قيمتها، إذا مضى اليوم وتم الحول. وإن ظهر الربح بعد الحول؛ بأن كانت قيمته يوم الحول مائتين، فصارت بعده ثلثمائة: إما بارتفاع السوق، أو بأن عين إنسان فباعه منه بثلثمائة، يكون الربح مضموناً إليه في الحول الثاني؛ كالنتاج الحاصل بعد الحول؛ هذا إذا لم يصر المال ناضاً. فإن صار ناضاً؛ نظر: إن صار ناضاً من غير جنس رأس المال؛ بأن كان قد اشترى بالدراهم، فصار ناضاً دنانير - تقوم الدنانير بالدراهم، وإن كان فيه ربح يبنى حول الربح على حول الأصل؛ كالعروض. أما إذا صار المال ناضاً من رأس جنس رأس المال، وفيه ربح؛ مثل: أن اشترى عرضاً بمائتي درهم، فباعه في خلال الحول بثلثمائة، فتم الحول، وهي في يده، أو اشترى بها عرضاً قيمته ثلثمائة، فهل يبنى حول الربح على حول الأصل؟ فيه قولان: أحدهما: ينبني؛ كما لو لم يصر ناضاً، وحول النتاج ينبني على حول الأصل - فعليه

أن يزكي عن ثلثمائة عند تمام الحول. والثاني- وهو الأصح-: لا ينبني، بل يستأنف للربح حول من وقت ما نض، فإذا تم حول الأصل يزكي عن المائتين، ثم إذا مضى حول من وقت ما نض يزكي عن المائة؛ لأن هذا الربح لم يحصل من غير النصاب؛ فهو كالمستفاد بالكسب من موضع آخر يستأنف له الحول؛ بخلاف النتاج؛ فإنه حصل من غير ماله؛ بدليل أن النتاج حصل في يد الغاصب، يجب عليه رد النتاج. وإذا غصب مالاً فربح فيه، لا يجب عليه رد الربح؛ على أصح القولين، وليس كما لو لم ينض؛ لأن الربح هناك كامن لم يتميز عن الأصل، والزكاة تجب في القيمة، وقيمة الثاني والأول جنس واحد. وعلى هذا: لو اشترى بمائة درهم عرضاً للتجارة، فباعه بعد ستة أشهر بثلثمائة، واشترى بها عرضاً؛ فتم الحول؛ وهو في يده قيمته ستمائة؛ إن قلنا: يضم الربح إلى الأصل، يجب عليه ستمائة. وإن قلنا: لا يضم، تجب عليه زكاة ثلثي السلعة؛ وهو أربعمائة؛ لأن ثلثي السلعة يشتري بمائتي الأصل، ثم بعد مضي ستة أشهر أخرى يتم حول الربح؛ فيخرج زكاة الثلث الباقي. وعلى هذا لو ملك مائتي درهم؛ فاشترى بها عرضاً للتجارة، ثم أربعة أشهر من يوم ملك الأصل نضت العروض بثلثمائة؛ فاشترى بها عرضاً فبعد أربعة أشهر نضت أربعمائة؛ فحال الحول وهي في يده، أو صرفها إلى عرض وقيمتها أربعمائة - إن قلنا: يضم الربح إلى الأصل، يجب عليه زكاة أربعمائة. وإن قلنا: لايضم، ففي آخر الحول من يوم ملك المائتين يزكي عن المائة، ثم بعد أربعة أشهر يُزكى عن مائة، ثم بعد أربعة أشهر أخرى يزكى عن المائة الأخرى، فإن بقي ذلك العرض في يده لم يزد ولم ينقص، هكذا يزكي عن مائتين، ثم بعد أربعة أشهر أخرى يزكي عن مائة، ثم بعد أربعة أشهر أخرى يُزكى عن مائة. فرع ابن الحداد على هذا؛ إذا ملك عشرين ديناراً؛ فاشترى بها من ساعته عرضاً للتجارة، ثم بعد ستة أشهر بأربعين ديناراً، واشترى بها سلعة باعها بعد الحول بمائة؛ إن قلنا: يضم الربح إلى أصل المال، يجب عليه أن يُزكى عن المائة. وإن قلنا: لا يضم، يجب عليه زكاة خمسين؛ لأنه اشترى هذه السلعة بأربعين؛ عشرون منها ربح، وربح على العشرين ستين نصفها يتبع أصل ماله؛ وهو عشرون، فخرج زكاة الأصل وربحه؛ لأن ربحه كان كامناً وقت حلول حوله، ثم بعد ستة أشهر أخرى يجب

عليه زكاة عشرين؛ لأنها نضت ربحاً في خلال الحول، ولا يضم إليه ربحه؛ لأنه صار ناضاً قبل تمام حوله، ثم بعد ستة أشهر أخرى يُزكي عن ثلاثين. فإن كانت الخمسون الأولى في ملكه، فقد تم حولها ثانياً، فعليه خراج زكاتها مع هذه الثلاثين. ولو اشترى عرضاً أقل من نصاب؛ مثل: أن اشترى بمائة درهم، أو بعشرة دنانير؛ فباعه بعد ستة أشهر بمائتي درهم، وبقيت عنده إلى آخر الحول من يوم الشراء الأول - فإن قلنا: حول الربح على حول الأصل يجب عليه زكاة مائتين. وإن قلنا: لا ينبني، عليه زكاة مائة الأصل؛ لأنه ون لم ينك نصاباً فهو في حكم النصاب ما لم يبعه، ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، تم حول المائة الثانية - فعليه زكاتها. هذا إذا قلنا بظاهر المذهب: إن النصاب شرط في آخر الحول دون أوله. أما إذا قلنا: يشترط في جميع الحول؛ فابتدأ حوله من يوم البيع، فإذا تم زكي عن الكل. ولو اشترى عرضاً بنصاب من الدراهم، فصار ناضاً في خلال الحول بأقل من نصاب - نظر: إن نض بغير جنس رأس المال؛ مثل: أن يشتري بمائتي درهم، فصار ناضاً بعشرة دنانير - لا ينقطع الحول. فإذا تم الحول يقوم الدنانير بالدراهم، وإن نض بجنس ما اشترى بأقل من نصاب، هل ينقطع الحول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينقطع؛ كما لو نض بغير جنسه. وكما لو انتقص قيمة العرض، ولم ينض. والثاني: ينقطع؛ لأن الحول انعقد على غير الدراهم، وقد انتقص نصابها؛ بخلاف ما لو نض من غير جنس رأس المال؛ لأن الحول تم لم ينعقد على عينه، إنما انعقد على قيمته، ونقصان القيمة في خلال الحول لا يضر في زكاة التجارة. ولو اشترى بمائتي درهم عرضاً للتجارة؛ فباعه بعشرين دينار، فتم الحول وهي في يده يقوم الدنانير بالدراهم؛ كالعروض فإن كانت قيمتها نصاباً من الدراهم أخرج الزكاة، وإن لم تبلغ قيمتها نصاباً نم الدراهم - فهل يسقط حكم الحول، أم لا؟ يسقط؛ حتى إذا بلغت قيمته بعد ذلك بأيام نصاباً يلزمه الزكاة؛ فعلى ما ذكرنا من الوجهين: فإن قلنا: يسقط، ويبتدئ الحول، فهل تنتقل الزكاة منا لدراهم إلى الدنانير؟ فيه وجهان: أحدهما: لاتنقل؛ كما لو كان عرضاً، ولم يبلغ قيمته نصاباً، لا ينتقل إلى نقد البلد.

والثاني: ينتقل، وبطل حق الدراهم؛ حيث لم يبلغ قيمة ما في يده نصاباً، والدنانير في نفسها نصاب، واعتبار نفسها أولى من اعتبار قيمتها. فإن قلنا: تنتقل الزكاة إلى الدنانير، فمن أي وقت يحسب حول الدنانير؟ فيه وجهان: أحدهما: من وقت التقويم؛ لأن حول الدراهم بطل عند التقويم. والثاني: من وقت ما نضت العروض نصاباً من الدنانير؛ لأن ملك العشرين حصل له من ذلك الوقت. فصلٌ: في بيان الحول إذا اشترى عرضاً للتجارة بنصاب من أحد النقدين إما بمائتي درهم، وبعشرين ديناراً؛ فابتدأ الحول من يوم ملك تلك الدراهم، أو الدنانير، وحول التجارة ينبني على حول النقد؛ لأن زكاتهما واحد؛ فإن وجوب الزكاة في النقدين بكونهما مرصد للتجارة، فليس صرفهما في التجارة إلا جعلهما مبهمة بعد ما كانا معينة؛ فهو كما لو أقرض دراهم من مليء. وكذلك لو كان له في ذمة إنسان نصاب من أحد النقدين، وقلنا: تجب الزكاة في الدين؛ فاشترى منه به عرضاً للتجارة - ينبني حول التجارة على حول الدين، وكذلك لو كانت له سلعة للتجارة؛ فباعها بنصاب من أحد النقدين بنية القنية انبنى حول النصاب على حول التجارة في وجوب الزكاة. أما إذا اشترى بأقل من نصاب من أحد النقدين، أو بعرض من ثوب، أو متاع عرضاً للتجارة- ينعقد الحول من يوم الشراء. ولو اشترى بنصاب من السائمة عرضاً للتجارة، فالمذهب: أن حول التجارة يكون من وقت الشراء، وينقطع حول السائمة، ولا ينبني حول التجارة على حول السائمة؛ لأن زكاتهما مختلفة، وزكاة النقد والتجارة متفق؛ وهو ربع العشر؛ ولأن زكاة التجارة في القيمة، والقيمة تكون في النقدين. وقال الإصطخري: ينبني حول التجارة على حول السائمة؛ لأن الشافعي قال: ولو اشترى عرضاً للتجارة بدراهم، أو دنانير، أو بشيء يجب فيه الصدقة من الماشية - لم يقوم العرض؛ حتى يحول الحول من يوم أفاد الثمن، والمراد من النص عند الآخرين: أن يملك الماشية؛ فكما ملكها صرفها إلى عرض التجارة؛ فلا يكون بين ملك الماشية، وشراء العرض فضل. ولو اشترى عرضاً للتجارة بنصاب من أحد النقدين في الذمة، وله مائتا درهم أو عشرون ديناراً نقدها في ثمنه ينقطع حول النقد، وينبني حول التجارة من يوم الشراء؛ لأن هذه الدراهم والدنانير لم يتعين الصرف فيها؛ سواء نواه، أو لم ينوه.

ولو ملك رجل نصاباً من أحد النقدين؛ فبادله بجنسه، أوبادل الدراهم بالدنانير - نظر: إن لم يكن الرجل صيرفياً بعقد نية التجارة، ينقطع الحول، وإن كان صيرفياً بادله بنية التجارة، فهل ينقطع الحول؟ فيه قولان: قال في القديم: وبه قال أبو حنيفة: لا ينقطع الحول؛ كما لو اشترى بها عرضاً للتجارة. وقال في الجديد: ينقطع الحول، ويبتديء الحول على ما اشترى؛ لأن التغابن لا يجري في مبادلة النقد بالنقد، ولا يكثر الربح فيه، والتجار لا يعدونه من باب التجارة، ولا يطلبونبه الربح؛ فهو كما لو بادله لا بنية التجارة؛ ولأن السلعة بيع للدراهم والدنانير في التجارة؛ بدليل أنه يقوم السلعة بها، فجاز أن ينبني حولها على حول الأصل. أما النقود فلا يتبع بعضها بعضاً؛ فلا ينبني حول بعضها على بعض. "فصلٌ: في التقويم" زكاة التجارة تجب في القيمة، وبماذا يقوم ماله في آخر الحول؟ لا يخلو: إما أن يكون أصل ماله الذي اشترى به مال التجارة من جنس النقدين، أو لم يكن: فإن كان من جنس النقدين؛ لا يخلو: إما أن كان نصاباً، أو لم يكن؛ فإن كان نصاباً؛ مثل: أن اشترى بمائتي درهم، أو بعشرين ديناراً عرضاً للتجارة - يقوم في آخر الحول بجنس ما اشترى، فإن بلغ نصاباً أخرج الزكاة، وإلا فلا زكاة عليه. وإن كان الجنس الآخر هو نقد البلد، ولو قوم به بلغ نصاباً؛ فلا ينظر إليه؛ حتى لو اشترى بمائتي درهم عرضاً، فكان في آخر الحول في يده عشرون ديناراً يقوم بالدراهم؛ كالعرض. فإن بلغت قيمتها نصاباً من الدراهم زكى من الدراهم، وإن لم تبلغ فلا زكاة عليه. ولو باع العرض بعد الحول بالدنانير، يقوم العرض بالدراهم لا الدنانير؛ لأنه كان في يده يوم حلول حول العرض، وفي منقول المزني - رحمه الله - خلل. فإن كان رأس ماله أقل من نصاب من أحد النقدين؛ بأن اشترى بمائة درهم أو بعشرة دنانير، ففي آخر الحول ماذا يقوم؟ فيه وجهان: أحدهما: يقوم بجنس ما اشترى؛ كما لو اشترى بنصاب منها. والثاني: يقوم بنقد البلد؛ كما لو اشترى بعرضٍ؛ لأن ما دون النصاب كالعرض في أنه لا زكاة فيه.

وإن كان أصل ماله سلعة اشترى بها عرضاً للتجارة، ففي آخر الحول يقوم ما في يده بنقد البلد، فإن بلغ نصاباً، زكى، وإلا فلا زكاة عليه. وإن كان في البلد نقدان، يقوم بأغبهما، فإن كان سواء يقوم بما هو أنفع للمساكين فإن كان التقويم بأحدهما يبلغ نصاباً، وبالآخر لا يبلغ - يقوم بالذي يبلغ نصاباً، وإن استويا فيه ففيه ثلاثة أوجه أحدهما: يقوم بأيهما شاء؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. والثاني: يقوم بالدراهم؛ لأنها أكثر استعمالاً. والثالث: يقوم بنقد أقرب البلاد إليه، وإن كان رأس ماله كلا النقدين؛ مثل: أن اشترى بمائتي درهم وعشرين ديناراً عرضاً للتجارة صفقة واحدة ففي آخر الحول يقوم ما اشترى بالدراهم بالدراهم، وما اشترى بالدنانير يقوم بالدنانير، وطريق معرفته: أن يقوم أحد النقدين بالآخر يوم الشراء، فإن كان قيمة مائتي درهم عشرين ديناراً، فيومئذ علمنا أن شراء نصفه وقع بالدراهم، وشراء النصف بالدنانير. فن كان قيمة مائة درهم عشرة دنانير، علمنا أن شراء الثلث وقع بالدراهم، وشاء الثلثين [وقع] بالدنانير؛ فيقوم الثلث بالدراهم، ويقوم الثلثان بالدنانير. فإن بلغ نصاباً، زكى، وإلا فلا زكاة عليه، ولا يضم أحدهما إلى الآخر، وحول كل واحد يعتبر من يوم ملك ذلك النقد. وإن كان رأس ماله أقل من نصاب من النقدين؛ مثل: أن اشترى بمائة درهم وعشر دنانير عرضاً، ففي آخر الحول إن قلنا: ما دون النصاب كالعرض يقوم الكل بنقد البلد. وإن قلنا: يقوم بجنس ما اشترى، فما اشتراه بالدراهم يقوم بها، وما اشتراه بالدنانير يقوم بها؛ كما ذكرناه. ولو اشترى بمائتي درهم وعشرة دنانير، فحول ما يقابل الدراهم يكون من يوم ملك النصاب، وحول ما يقابل الذهب من يوم شراء العرض. فإذا تم الحول من يوم ملك الدراهم، يقوم ما يقابل الدراهم بها، ثم إذا تم الحول من يوم شراء العرض، يقوم ما يقابل الدنانير، وبماذا يقوم؟ فيه وجهان: فإن قلنا: بالدنانير، لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر، لا يضم أحدهما إلى الآخر. وإن قلنا: يقوم بنقد البلد، ونقد البلد دراهم، يضم أحدهما إلى الآخر. وكذلك لو اشترى بمائتي درهم وبعرض، فما يقابل الدراهم يقوم بالدراهم، وما يقابل العرض يقوم بنقد البلد، فإن كان نقد البلد دراهم يضم أحدهما إلى الآخر، وإن كان دنانير فلا يضم.

ولو اشترى بنصاب من الدنانير: نصفها صحاح ونصفها مكسر، وبينهما تفاوت - يقوم ما يخص الصحاح بالصحاح، وما يخص المُكسر بالمكسر. ولو ملك مائتي درهم؛ فاشترى بمائة منها عرضاً للتجارة - يقوم في آخر الحول بجني ما اشترى وجهاً واحداً؛ لأنه اشتراه ببعض ما انعقد الحول عليه. قال الشيخ: وابتداء الحول من يوم ملك الدراهم. ولو ملك مائتي درهم؛ فاشترى بها عرضاً للتجارة، ثم بعد مُضي ستة أشهر من يوم ملك الدراهم، ورث مائة؛ فاشترى بها عرضاً للتجارة، فحول هذه المائة من يومورثها. قال الشيخ: فإذا تم حول الأصل يقوم، فن لم يبلغ نصاباً يضم إليه المستفاد؛ حتى تؤخذ الزكاة من الأصل، لا من المستفاد؛ لأن النصاب في مال التجارة شرط في آخر الحول؛ فكان في آخر الحول نصاباً مع المستفاد، ثم إذا تم حول المستفاد من يوم ورثه، يقوم العرض الذي في يده بالفضة؛ لأن الشراء وقع بما انعقد الحول عليه؛ لأنه كما ورثها انعقد الحول عليها بالضم إلى مال التجارة، فإذا قومناه فلم يبلغ نصاباً إلا بالضم إلى الأول - يضم؛ حتى تؤخذ الزكاة من المستفاد. فرع لابن الحداد: لو اشترى شقصاً مشفوعاً بعشرين ديناراً للتجارة؛ فحال الحول، وقيمته مائة دينار - يجب عليه زكاة مائة، ويأخذ الشفيع بعشرين. ولو اشترى بمائة؛ فحال الحول، وقيمته عشرون - عليه زكاة عشرين واحدة الشفيع بمائة. فصلٌ: في اجتماع زكاتين إذا اشترى للتجارة ما يجب الزكاة في عينه؛ مثل: أن اشترى نصاباً من السائمة، ونخيلاً للتجارة؛ فأثمرت، أو أرضاً مزروعة؛ فأدرك الزرع - فلا يجب زكاة العين والتجارة جميعاً، وأيهما يغلب؟ فيه قولان: أصحهما: زكاة العين؛ لأنها أقوى؛ فإنها مُجمع عليها، وزكاة التجارة مختلف في وجوبها. والثاني - وهو قوله القديم فيه: قال أبو حنيفة: تغلب زكاة التجارة؛ لأنها أعم وأنفع للمساكين. واختلفوا في محل القولين: منهم من قال: القولان فيما إذا لم يسبق حول أحدهما؛ بأن اشترى بمال لا يجب فيه الزكاة نصاباً من السائمة للتجارة، ينعقد الحول من يوم الشراء؛ فلا يختلف حول زكاة العين والتجارة. أما إذا سبق حول أحدهما، يغلب السابق؛ مثل: أن اشترى بمال التجارة نصاباً من

السائمة، أو كان له نصاب من أحد النقدين ستة أشهر؛ فاشترى به نصاباً من السائمة بنية التجارة - يغلب زكاة التجارة؛ لأن حولها من يوم ملك الثمن؛ وهو سابق. ولا يتصور أن يسبق حول زكاة العين في السائمة؛ لأن المبادلة فيها تقطع الحول. قال الشيخ: يتصور في الثمار؛ وهو أن يشتري نخيلاً للتجارة؛ فبدا الصلاح في ثمارها قبل أن يحول حول التجارة - تغلب زكاة العين؛ لأن السابق وجد بسبب وجوبه، وليس هناك معارض. ومنهم من قال: في الكل قولان؛ سواء سبق حول أحدهما، أو لم يسبق. وهذا أصح؛ حتى لو اشترى خمساً من الإبل بمائتي درهم، أقامت عنده ستة أشهر - ففي قول: عليه زكاة العين؛ وهو شاة إذا تم الحول من يوم الشراء. وفي قول: عليه زكاة التجارة إذا تم حول الثمن. فإن قلنا: يغلب زكاة التجارة، فلا عبرة بنقصان النصاب في أثناء الحول، فإذا تم الحول يقوم ثمن النخل والجذع وأرض الجذع وفي الزرع تقوم الأرض والزرع، وفي السائمة تقوم مع درها ونسلها وصوفها، وما اتخذ من لبنها. فإن بلغت نصاباً، أخرج ربع عشرها، وإن لم تبلغ نصاباً، فهل يصار إلى زكاة العين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنا أعرضنا عنها. والثاني - وهو الأصح -: تؤخذ زكاة العين إن كان نصاباً، لأن سقوط زكاة العين لأجل زكاة التجارة؛ وهي غير واجبة: فعلى هذا يخرج العُشر من الزرع والثمار في الحول؛ لأنه لا حول لها بعد بدو الصلاح، واشتداد الحب. أما السائمة: هل يجب إخراج زكاتها في الحال، أم يستأنف لها الحول من وقت التقويم؟ فيه وجهان: فإن قلنا: تغلب زكاة العين، يجب عليه إخراج العشر من الثمار والزروع، إن بلغت خمسة أوسق، وإخراج السنين الواجبة من السائمة والسخال تضم إلى الأمهات، فإذا أخذنا زكاة السائمة لا يبقى لإيجاب زكاة التجارة موضع، فإذا أخذنا زكاة العين من الثمار والزروع، هل تجب زكاة التجارة في قيمة جذع النخلة وبين الزرع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن المقصود منها الثمار والحب، وقد أخذنا زكاتها. والثاني: تجب؛ لأن هذه الأشياء لا يجب فيها زكاة العين؛ فيبقى فيها زكاة التجارة. وأما أرض النخيل، وأرض الزرع، فهل تجب في قيمتها زكاة التجارة؟ قيل: فيه وجهان: كالجذع.

وقيل: تجب وجهاً واحداً؛ بخلاف الجذع والتبن؛ لأن الثمرة والحب خارجاً من عين الجذع والتبن؛ فكان المخرج عن الكل بخلاف الأرض؛ فإن الجذع والتبن مودع فيهما. فإن أوجبنا زكاة التجارة في هذه الأشياء، فلم تبلغ نصاباً - هل نضم فيه الثمرة والزرع إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه قد أدى زكاتهما. والثاني: يضم ليكمل نصاب التجارة، وفي النخيل حتى يعقد قدر ما يخص النخيل، لا لإيجاب الزكاة فيه مرة أخرى. ولو انتقصت سائمة في النصاب في أثناء الحول، ينتقل إلى زكاة التجارة، وهل ينبني حول التجارة على قولي زكاة العين، أم يستأنف الحول؟ فيه وجهان هذا كله في اجتماع النصابين. أما إذا اشترى نخيلاً أو أرضاً مزروعة للتجارة، فخرجت أقل من خمسة أوسق، أو اشترى من السائمة أقل من نصاب بنية التجارة - يجب عليه زكاة التجارة، إذا تم الحول وقيمتها نصاباً قولاً واحدا؛ لأن زكاة العين لا تجب هاهنا؛ ما لو اتهب نصاباً من السائمة بنية التجارة، عليه زكاة العين إذا تم حولها؛ لأن حول التجارة لم ينعقد بالاتهاب. فلو اشترى أقل من نصاب من السائمة بنية التجارة، فبلغت بالنتاج نصاباً في خلال الحول، وكانت قيمته أقل من نصاب في آخر الحول - من أصحابنا من قال: لا زكاة عليه؛ لأن الحول انعقد على زكاة التجارة؛ فلا يبدل. ومنهم من قال: ينتقل إلى زكاة العين، فعلى هذا حولها يعتبر من يوم تم النصاب بالسخال، أو من وقت نقصان قيمتها عن النصاب؟ فيه وجهان. فإذا اشترى نصاباً من السائمة للتجارة، ثم اشترى بعدها بعد ستة أشهر عرضاً. إن قلنا: زكاة التجارة تغلب، لا ينقطع الحول. وإن قلنا تغلب زكاة العين، ينقطع الحول، ويبتديء حول التجارة من يوم شراء العرض. ولو اشترى أرضاً للتجارة، وزرعها ببذر للقنية، يجب عليه العشر في الزرع قولاً واحداً، وزكاة التجارة في الأرض قولاً واحداً. وإذ كان له رقيق للتجارة، يجب عليه زكاة فطرهم مع زكاة التجارة، لنهما حقان يجبان بسببين مختلفين: أحدهما: حق المال،

والآخر: حق البدن؛ وهو زكاة الفطر؛ فإنها طُهرة للصائم عن الرفث واللغو. وكذلك يجب على الأحرار؛ فلا يتداخلان كجزاء الصيد في الإحرام، والقيمة إذا كان الصيد مملوكاً لا يتداخلان. وعند أبي حنيفة: لا تجب صدقة الفطر في رقيق التجارة. "بابزكاة مال القراض" إذا دفع ألف درهم قراضاً إلى رجل؛ حتى يتصرف فيها، ويكون الربح بينهما نصفين، فإذ حال أطول عليه، وفيه ربح، فزكاة رأس المال تكون على رب المال، وزكاة الربح على من تكون؟ هذا ينبني على أن العامل هل يملك نصيبه من الربح بنفس الظهور، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -: يملك بنف سالظهور؛ لأنه شرط له نصف الربح، وقد حصل؛ كما في المساقاة يملك العامل نصيبه من الثمار بنفس الخروج. والقول الثاني- وهو الأصح. وهو اختيار المزني -: لا يملك إلا بعد المُقاسمة؛ كما في الجعالة يستحق العامل الجعل بعد الفراغ من العمل؛ ولأنه لو ربح على الألف ألفاً، ثم خسر؛ حتى عاد إلى الألف - لا يكون للعامل فيه شيء. ولو ملك نصف الربح، وصار ربع المال له، لكان بالنقصان لا يبطل حقه عن ربع الباقي؛ لأن من ملك شيئاً زائداً ملكه ناقصاً؛ كما لو مات رجل عن زوجة وأخ، كانت التركة بينهما أرباعاً؛ فلو هل أكثر التركة، لا يبطل حق الزوجة عن ربع الباقي؛ وكما في المساقاة، لو هلك بعض الثمرة، لا يبطل حق العامل عن الباقي؛ فلما سقط هاهنا حق العامل بهلاك الربح، دل أنه لم يملك شيئاً منه. فإن قلنا: لا يمل إلا بعد المُقاسمة، فزكاة الجميع تكون على المال، وحق الربح ينبني على حول الأصل، ثم إذا أخرج الزكاة من مال القراض فما حكم المخرج؟ فيه وجهان: أصحهما: يحتسب من الربح؛ كالمؤن التي تلزم المال من أجرة الدلال والكيال. وقد نص الشافعي - رحمه الله - على أن صدقة فطر عبيد القراض تكون من مؤن المال. والوجه الثاني: يجعل؛ كأنه استرد طائفة من المال؛ فيكون من الربح، ورأس المال جميعاً؛ حتى إن كان رأس المال ألفاً والربح خمسمائة؛ فيكون ثلثا المخرج من رأس المال وثلثه من الربح، والوجهان يبنيان؛ على أن الزكاة تتعلق بالعين، أو بالذمة. إن قلنا: يتعلق

بالعين؛ فهو كسائر المؤن. وإن قلنا: بالذمة، فكأنه استرد بعض المال. وإن قلنا: يملك العامل نصيبه من الربح بنفس الظهور، فيجب على رب المال زكاة رأس المال، وزكاة نصيبه من الربح. ولا يجب عليه زكاة نصيب شريكه وهل تجب على العامل زكاة نصيب نفسه؟ اختلف أصحابنا فيه. قيل: فيه قولان؛ كالمال المغصوب؛ لأن العامل لا يقدر على النصيب كيف شاء؛ المغصوب. وقال صاحب "التقريب": يجب قولاً واحداً؛ لنه يصل إليه متى شاء بالفسخ، فهو كدين له على مليء. فإن أوحد نصاباً ومجموع المال نصاب، فمن أثبت الخلطة في النقدين، تجب عليه الزكاة، ومن لم يُثبت فلا توجب، إلا أن يكون له من جنسه [ما يكمل به] نصيبه معه نصاباً، فتجب عليه زكاة نصيبه، ولا يجوز للعامل [الأخذ] من مال القراض. فلو فعل، فهو كما لو أتلف بعض المال، ولا [له أن يأخذ] من موضع آخر في الحال؛ لأنه لا يدري هل يسلم له الربح، أم لا؟ ويخرج لما مضى وقيل: يجب الإخراج في الحال؛ لأنه يصل إليه متى شاء رب المال [و] يكون من يوم ملك رأس المال، إن كان رأس المال [باقياً وإن] لم يكن، فمن وقت الشراء للتجارة، وحول حصته من الربح يبني [على حول الأصل] وحول العامل يكون من وقت ظهور أدنى شيء من الربح، وإن كان أحدهما ذمياً أو مكاتباً، والآخر حُراً مسلماً - نظر: إن كان [ذلك] بعد المُقاسمة. فإن قلنا: يملك بنفس الظهور، فلا زكاة على [العامل]، ويجب على رب المال زكاة رأس المال، وحصته من الربح إن بلغت نصاباً. وإن لم تبلغ، فلا تكمل بنصيب العامل؛ لأن حكم الخلطة لا يكون بين الحر المسلم؛ وبين الذمي والمكاتب. ون كان رب المال ذمياً مكاتباً: ن قلنا: لا يملك العامل إلا بعد المقاسمة، فلا زكاة [في المال؛ لأن جميعه ملك الذمي وإذا لم يبلغ] نصاباً فعلى الاختلاف الذي ذكرناه. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم: رب يسر ووفق للخير باب زكاة المعدن والركاز رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لبلال بن الحارث المُزني معادن القبلية؛ وهو من ناحية الفرع؛ فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. المَعْدنُ: اسم للمال المخلوق في الأرض. والرِّكازُ: المدفون، ولا شيء فيما يستخرج من المعدن، إلا في الذهب والفضة. وعند أبي حنيفة يجب من كل جوهر يتطبع ويصير على المطرقة؛ كالحديد والنحاس؛ قياساً على الذهب والفضة. فتقول: كل مال لو ورثه، لا يبتدئ الحول عليه، ولا يتكرر الحق فيه إذا بقي من ملكه، فإذا استخرج من المعدن لا يجب فيه شيء؛ كالفيروزج، ثم ماذا يجب في الذهب والفضة المستخرجين من المعدن؟ فيه ثلاثة أقوال:

أصحهما: ربع العشر؛ لحديث بلال بن الحارث. والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: يجب فيه الخمس؛ لأنه يب فيه الحق بالوجود؛ كالركاز. والثالث - وبه قال مالك -: إن وجد ندرة مجتمعة من غير تعب ومؤنة، ففيه الخمس وإن أصابه بتعب، ومؤنة، ففيه ربع العشر؛ لأن المؤنة إذا كثرت، قل الواجب، وإذا قلت المؤنة كثر الواجب؛ كالزرع المسقي بالسماء يجب فيه العشر، وفي المسقي بالنضح نصف العشر؛ لكثرة المؤنة. فإن قلنا: يجب فيه ربع العشر، فيشترط فيه النصاب، لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض؛ كالزرع. وهل يشترط فيه الحول؟ فيه قولان: أصحهما: لا يشترط؛ كما في الثمار والزروع. والثاني: يشترط؛ كسائر الزكاوات. وإن قلنا: الواجب فيه الخمس، لا يشترط فيه الحول. وفي النصاب قولان؛ كالركاز. وعلى القولين: مصرفة مصرف الصدقات. وقيل: إذا قلنا: فيه الخمس، فمصرفه مصرف الفيء؛ الخمس لأهله، والباقي له؛ وبه قال أبو حنيفة أن مصرفه مصرف الفيء. وإذا اشترطنا النصاب؛ فليس من الشرط أن يكون المستخرج في نفسه نصاباً، بل إذا استخرج قدراً، وله مال لو ضم إليه بلغ نصاباً، يجب عليه إخراج ربع عشر المستخرج على قولنا: إن الحول ليس بشرط فيه؛ مثل: أن ملك تسعة عشر ديناراً، واستخرج من المعدن ديناراً - يجب أن يخرج ربع العشر من الدينار المستخرج في الحال، ثم إن أخرج ربع العشر من موضع آخر غير هذه العشرين - ينعقد الحول على العشرين. وإن قلنا: الحول يشترط في المستخرج من المعدن، فلا شيء عليه في الحال، وينعقد الحول عليه في الكل بإخراج الدينار. وإن قلنا: الواجب في المعدن الخمس، يجب عليه إخراج الخمس من هذا الدينار في الحال، وإن قلنا: النصاب شرط؛ لأنه مع ما عنده وكذلك الركاز إذا وجد أقل من نصاب، وعنده ما يكمل به نصاب. وإن قلنا: النصاب شرط دون الحول، فأصابه دفعات، هل يضم البعض إلى الكل في تكميل النصاب نظر: إن كان العمل متتابعاً، والنيل غير منقطع، ضم البعض إلى البعض، ولا يشترط بقاء ما استخرج في ملكه. وإن لم يقطع العمل، ولكن حضر المعدن فلم يجد

النيل؛ نظر: إن كان يسيراً يوماً أو يومين، ثم وجد، ضم الثاني إلى الأول، ون طال الزمان ففيه قولان: قال في الجديد - وهو الأصح -: يضم؛ لأن نيل المعدن لا يدوم. وقال في القديم - وبه قال مالك: لا يضم: كما لو قطع العمل، والمعدن غير حافر، ثم عاد؛ نظر: إن قطع لغير عذر، لا يضم الثاني إلى الأول؛ طال الزمان أو قصر. وإن قطع لعذر من: مرض، أو هرب عبد، أو بعذر أذاه - ضم ما يجد بعد زوال العُذر إلى ما قبله؛ طال الزمان أو قصر. ولا فرق بين أن يون المعدن في موات، أو في ملكه في وجوب الحق فيما يستخرج منه. وعند أبي حنيفة: إن كان في ملكه، لا يجب فيه الحق. وإن استخرجه من معدن في ملك الغير، فهو لصاحب الملك، فإذا أخذه المالك أخذ منه الحق؛ ويجب حق المعدن بالوجود؛ على ظاهر المذهب الذي يقول: إن الحول فيه ليس بشرط، ويجب الإخراج بعد التمييز؛ كما أن عُشر الزرع يجب إخراجه بعد التنقية؛ فلو أخرج قبل التمييز عن الحجر والتراب، لا تقع عن الزكاة، والساعي ضامن لما أخذه، وعليه رده. وإن تلف؛ فن اختلفا في مقداره، فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه غارم، ولو ميزه الساعي، ثم حسبه المال عن الزكاة، جاز، ومؤنة التمييز على المالك، إلا أن يتبرع به الساعي، فلو تلف بعضه قبل التمييز في يد المالك، فهو كتلف بعض المال قبل الإمكان. فصلٌ: في الركاز رُوي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجب في الركاز الخُمس" والباقي للواجد وله شرطان:

أحدهما: أن يجده مدفوناً في موات لم يجر عليه ملك مسلم، أو القلاع العادية، والقرى القديمة التي لم تكن عامرة لأهل الإسلام، ولا لأهل العهد.

والثاني: أن تكون بضرب الجاهلية. والحول فيه ليس بشرط؛ لأن الحول في الأموال الزكوية بحصول النماء اولفائدة، والركاز نفسه فائدة. وهل يشترط فيه النصاب وهل يختص بالنقدين؟ قال الشافعي - رحمه الله -: لو كنت أنا الواجد لخمست القليل والكثير، والذهب والفضة وغيرهما. فمن أصحابنا من قال هذا تعليق القول منه، وجعل في اشتراط النصاب، وفي وجوب الحق في غير الذهب والفضة قولين. ومنهم من قال- وهو الأصح-: بشرط النصاب، ولا يجب في غير الذهب والفضة قولاً واحداً، وما قاله الشافعي - رضي الله عنه - احتياط؛ للخروج عن الخلاف. فإن قلنا: النصاب ليس بشرط، يخرج الخمس عن قليله وكثيره، والباقي للواجد.

وإن قلنا: النصاب شرط، فإن وجد أقل من نصاب، ولم يكن عنده ما يكمل به النصاب - فكله للواجد. وإن كان عنده ما يكمل به النصاب، ضم إليه؛ لإخراج الخمس من الركاز ولو وجد مائة، وعنده نصاب من جنسه، ووجد الركاز مع تمام الحول في النصاب الذي عنده - يجب إخراج الخمس من الركاز، وربع العُشر من النصاب؛ لأن الحول لا يعتبر في الركاز في النصاب. ومصرف خمس الركاز مصرف الصدقات. وقيل: إذا قلنا: لا يعتبر النصاب، ولا يختص بالنقدين، فمصرفه مصرف الفيء. والأول المذهب. ولو وجد الركاز بضرب الإسلام، فهو لقطة؛ في أي موضع وجد؛ كما لو كان على وجه الأرض. وقال الشيخ القفال: لا يكون لقطة؛ لأنه محرز بالدفن؛ كالإبل الممتنعة من السباع، توجد في صحراء - تدخل بالأخذ في ضمانه والأول المذهب. وإن لم يعرف أنه من ضرب الجاهلية بأن ضرب مثله في الإسلام والجاهلية، أو كان إناء أو حلياً لم يدر أنه من دفن الجاهلية أو الإسلام - فالمنصوص أنه لقطة؛ تغليباً لحكم الإسلام. ومن أصحابنا من قال: هو ركاز؛ لأن الموضع الذي وجده فيه يشهد له، وإن وجده في قرية مسكونة، أو في خربة جرى عليها ملك في الإسلام، أو في العهد، أو في ميناء، أو في مسجد، أو كان في موات، لنكه شيء لا يبقى مدفوناً من وقت الجاهلية - فهو لقطة. فإن وجده في ملك غيره، فهو لمالكه إن ادعاه بلا يمين، بأي ضرب كان. فإن لم يجد مالكه فللورثة، وإن لم يدعه مال الدار، كان لمن تلقى المالك الملك من جهته؛ هكذا حتى يرجع إلى من أحياها. وإن وجده في ملك نفسه؛ نظر: إن كان هو الذي أحياها، فهو ركاز. وإن ملكها من غيره، دفع إلى من يملكها منه. فإن تنازع فيه مُكترى الدار أو مستعيرها مع مالكها، كان للمكتري أو للمستعير؛ لأن اليد له، وإن وجده في أرض موقوفة، فهو لمن في يده الأرض. وإذا وجد العبد ركازاً أو استخرج من المعدن شيئاً، فهو لسيده يخرج الحق منه، والباقي له. وإذا وجده، أو استخرجه مكاتب، له فهو له، ولا حق عليه فيه؛ كما لا زكاة عليه في ماله. وإذا وجده أو استخرجه ذمي في دار الإسلام، فلا حق فيه؛ لأنه ليس من أهل وجوب

الزكاة، ويمنع الذمي من أخذ المعدن والركاز من دار الإسلام؛ كما يمنع من إحياء الموات. باب زكاة الفطر رُوي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس؛ صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبدٍ، ذكر أو أنثى من المسلمين. زكاة الفطر فريضة على كل مسلم؛ صغيراً كان أو كبيراً؛ ذكراً كان أو أنثى، حُراً أو عبداً، إذا ملك فضلاً عن قوته يوم العيد وليلته وعند أبي حنيفة: هي واجبة، وليست بفريضة. والحديث حجة عليه. ولا تجب على الكافر. وفي المرتد أقوال: كما في زكاة المال. وهل تجب على المكاتب فطرة نفسه؟ فيه وجهان:

أصحهما - وهو المذهب -: لا تجب؛ كما لا تجب عليه زكاة ماله؛ لأن ملكه ضعيف. والثاني: تجب في كسبه؛ كما أن نفقته تكون في كسبه. وكما يجب على المسلم فطرة نفسه، يجب عليه فطرة كل مسلم يلزمه نفقته ابتداء عند القدرة؛ لما رُوي عن ابن عمر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون فيجب عليه فطرة من تلزمه نفقته من الوالدين وإن علوا، والمولودين وإن سفلوا، وإن كانوا معسرين صغاراً أو مجانين أو زمنى. فإن كانوا موسرين، فلا تجب فطرتهم، فإن كانوا عقلاء كباراً غير زمني. فإن كانوا موسرين، فلا تجب فطرتهم، فإن كانوا عقلاء كباراً غير زمني، ففي وجوب فطرتهم قولان. ولا تجب فطرة الجنين، ولا تجب فطرة غير الوالدين والمولودين من الأقارب؛ كالإخوة، وبني الإخوة، والأعمام، والأخوال؛ كما لا تجب نفقتهم. ويجب على الزوج فطرة زوجته غنية؛ كانت أو فقيرة، حرة كانت أو أمة أو مكاتبة؛ كما يجب نفقتها. وعند أبي حنيفة: لا يجب فطرة الزوجة على الزوج. والحديث حجة عليه. ويجب فطرة خادم الزوجة، وفطرة زوجته الرجعية. أما فطرة المبتوتة الحامل إن قلنا:

النفقة للحمل، لا تبج. وإن قلنا: للحامل، تجب. ولا تجب فطرة الناشزة، ولا تجب فطرة الزوجة الأمة إذا لم يئويها سيدها معه بيتاً بل فطرتها على سيدها. وهل تجب فطرة زوجة الأب المعسر الزمن، وفطرة أم ولد الأب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما يجب نفقتها. والثاني - وهو الأصح-: لا يجب؛ بخلاف النفقة، لأنه بسبب فقد النفقة يثبت لها سخ النكاح، ثم يجب على الابن تزويجه، وبسبب فقد الفطرة لا يثبت لها الفسخ. ولا يجب على العبد فطرة زوجته؛ حرة كانت أو أمة. وهل يجب على المكاتب فطرة زوجته؟ فعلى وجهين؛ كفطرة نفسه. المذهب: أنه لا يجب. ويجب على السيد فطرة عبيده وإمائه، وفطرة المدبر، وفطرة أم الولد، والمعلق عتقة بالصفة؛ كما يجب نفقتهم، ويجب فطرة عبده المرهون، والجاني، والمغصوب، والذي في إجارة الغير، وعبده الآبق والغائب إذا علم حياته. وإذا شك في حياته فقولان: أحدهما: يجب؛ لأن الأصل حياته. والثاني: لا تجب؛ لأن الأصل براءة ذمته. ويجب الإخراج في الحال؛ لأنها لا تجب لمعنى النماء؛ بخلاف زكاة المال، ويجب فطرة العبد المأذون له في التجارة وعبيده، ولا يجب على المولى فطرة مكاتبه، ولا عبيد مكاتبه. وهل يجب على المكاتب فطرة عبيد نفسه؟ فعلى وجهين؛ كفطرة نفسه. ولا تجب فطرة العبد الموقوف على أحد، وكذلك قيم المسجد إذا اشترى عبداً لخدمة المسجد، لا تجب فطرته. ويجب فطرة العبد المشترك على السادات؛ على كل واحد بقدر ملكه. وعند أبي حنيفة: لا يجب فطرة العبد المشترك. ومن نصفه حر، ونصفه رقيق، إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فيجب نصف فطرته على مولاه، ونصفها في ماله، إن ملك بنصفه الحر نصف صاع فاضلاً عن نصف قوته ليوم الفطر وليلته، وإن كان بينه وبين السيد مهايأة فهذا من المؤن النادرة، هل تدخل في المهايأة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تدخل؛ فيكون عليهما في أي يوم كان. والمذهب: أنه تدخل في المهايأة. فإن أهل هلال شوال في نوبة السيد، فعليه جميع فطرته، وإن أهل في نوبة العبد، فعليه جميعها. وكذلك العبد المشتر إذا كان بين السيدين مهايأة.

إذا ثبت أن فطرة الزوجة والعبد على الزوج والمولى، فالوجوب يلاقيها، ثم يتحمل عنها الزوج والمولى، أم لا في الزوج والمولى ابتدأ؟ فيه قولان: أحدهما: يلاقي الزوجة والعبد؛ لأن في الحديث: "عُلَى كل حر وعبد" دل على أن الوجوب يلاقي العبد. والثاني: يلاقي الزوج والسيد؛ لأنه قال:"عن الحر والعبد ممن تمونون" دل على أن الوجوب على من تمونون. وكل إذا وجبت فطرته على قريبه، فالوجوب يلاقي المؤدي أو المؤدى عنه؟ فيه قولان: وفائدته: تتبين فيما إذا كان الزوج معسراً، وهي غنية، لا يجب على الزوج فطرتها، وهل تجب عليها فطرة نفسها؟ إن قلنا: الوجوب يلاقيها، يجب؛ لأنه ليس هاهنا من يتحمل عنها. وإن قلنا: يلاقي الزوج، لا يجب. فإن كانت الزوجة أمة، والزج معسر، فهل يجب على سيدها فطرتها؟ فيه قولان؛ كالحرة. وقيل - وهو الأصح -: يجب قولاً واحداً؛ لأنها لا تخرج عن قبضه المولى بالتزويج؛ بدليل أنه يجوز أن يسافر بها، ولا يجبر على تسليمها إلى الزوج، بل هو متبرع بتسليمها؛ فلا يسقط بذلك ما وجب عليه من الزكاة، والحرة غير متبرعة بالتسليم؛ لأنه يجب عليها تسليم نفسها؛ فسقطت الفطرة، وكذلك العبد لا يجب عليه فطرة زوجته. وهل يجب عليها فطرة نفسها، إن كانت حرة؟ قيل: فيه قولان؛ كما لو كان الزوج حراً معسراً. وقيل: يجب قولاً واحداً؛ لأن الزوج ليس من أهل أن يخاطب بالفطرة. وإن كانت زوجة العبد أمة، فالمذهب: أنه يجب على سيدها فطرتها، وكذلك إذا كان الزوج مكاتباً وقلنا: لا يجب عليه فطرة نفسه، فحكم زوجته حكم زوجة العبد. ولا يجب على المسلم فطرة عبد الكافر، ولا قريبه الكافر، ولا زوجته الذمية؟ لحديث ابن عمر قال: "على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين" ولأنها لتطهير المؤدي عنه، والكافر ليس ممن يطهر بالصدقة.

وعند أبي حنيفة: يجب على المسلم فطرة عبده الكافر، وهل يجب على الكافر فطرة عبده المسلم وأم ولده المسلمة؟ إن قلنا: الوجوب يُلاقي المولى، لا يجب. وإن قلنا: يلاقي العبد، ثم يتحمل عنه المولى، يجب. وقيل: في وجوب فطرة المسلم على قريبه الكافر قولان، كالعبد المسلم. ولو تكلف من وجبت فطرته على قريبه، فأخرجها من موضع آخر بغير إذن من عليه، أو أخرجت المرأة فطرتها دون إذن الزوج - هل يجوز أم لا؟ إن قلنا: الوجوب يلاقيها، ثم يتحمل الزوج والقريب، يجوز؛ لأنهما أخرجا ما وجبت عليهما. وإن قلنا: يلاقي الزوج والقريب، لا يجوز؛ كما لو أخرج زكاة ماله عنه بغير إذنه. وإذا أهل شوال، وله أب معسر فقبل أن يخرج الابن فطرته أيسر الأب - إذا قلنا: الوجوب يلاقي الأب، فعليه فطرة نفسه، ولا يجب على الابن. وإن قلنا: يلاقي الابن ابتداء، فعلى الابن فطرة الأب. "فصلٌ: فيمن لا يلزمه إخراج صدقة الفطر" من لم يفضل عن قوته وقوت عياله، ومن تلزمه نفقته لليلة الفطر ويومه - شيء - لا يجب عليه فطرته وفطرة غيره. وإن فضل قدر صاع من أي جنس من المال، كان عليه فطرة نفسه، ولا يجب فطرة غيره؛ حتى لو أخرج ذلك الصاع عن غيره، يكون فرضه في ذمته. فإن فضل عن قوته بعض صاع، هل يلزمه إخراجه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ كما في الفارة إذا وجد نصف رقبة، لا يجب إعتاقه. والثاني- وهو الأصح -: يلزمه إخراجه؛ لأن صدقة الفطر تتبعض؛ كما لو مل نصف عبد، يلزمه بسببه نصف صاع، والكفارة لا تتبعض. ولو كان له عبد محتاج إلى خدمته، هل يباع بعضه في صدقة الفطر عن العبد، وعن نفسه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، وهو كالمعدوم؛ كما في الكفارة. والثاني: يباع؛ كما يباع في الدين؛ بخلاف الكفارة، فإن لها بدلاً. والأول أصح؛ فإن الشافعي نص على أنه لو كان لابنه الصغير عبدٌ، وهو محتاج إلى خدمته - يجب على الأب نفقه ذلك العبد وفطرته.

وعند أبي حنيفة: لا يجب صدقة الفطر ما لم يملك نصاباً من المال، ولو لم يملك شيئاً وقت الوجوب، ووجد بعضه، لا يلزمه؛ فإن كان واجداً يوم الوجوب، فلم يخرج؛ حتى تلف ماله بعد الإمكان - كانت في ذمته. ولو فضل عن قوته صاعان، وله زوجة وقريب، يخرج عن الزوجة، وإن كان له قريبان، يخرج عمن هو أولى نفقته. فصلٌ: في وقت الوجوب صدقة الفطر متى تجب؟ فيه أقوال: أصحهما: تجب بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان، إذا أهل هلال شوال؛ لحديث ابن عمر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر من رمضان وحينئذٍ يكون الفطر في رمضان. وقال في القديم - وهو مذهب أبي حنيفة -: يجب بطلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن حقيقة الفطر تكون في قوت كان يصوم فيه قبله. وفيه. قول ثالث: أنه يجب بإدراك الوقتين. يخرج من هذا: أنه لو ولد له مولود قبل غروب الشمس، ومات بعد الغروب، أو ملك عبداً قبل الغروب، أو نكح زوجته، وماتا بعد الغروب - تجب فطرتهم؛ على القول الأول. ولا تجب على القولين الآخرين. وكذلك لو أسلم كافر قبل الغروب، ومات بعد الغروب، ولو ولد أو ملك العبد، أو أسلم الكافر بعد الغروب، ومات بعد طلوع الفجر - فلا يجب فطرته؛ على القول الأول والثالث، وتجب على الثاني. ولو ولد أو ملك أو أسلم بعد الغروب، ومات قبل طلوع الفجر - فلا تجب فطرته على الأقوال كلها. ولو اشترى عبداً بعد غروب الشمس، أو باعه بعد طلوع الفجر، فعلى القول الأول: تجب فطرته على البائع الأول، وعلى القول الثاني: تجب على المشتري الثاني، وعلى القول الثالث: لا تجب على أحد. ولو دخل وقت الوجوب - وهم عنده - فماتوا قبل إمكان الأداء - فيه وجهان: أحدهما: تسقط؛ كزكاة المال تسقط بهلاك المال.

والثاني: لا تسقط؛ لأنها تجب في الذمة، فلا تسقط بموت المرأة؛ ككفارة الظهار. ولو باع عبداً بشرط الخيار؛ فأهل هلال شوال في زمان خيار الشرط وخيار المكان، إن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع: فعليه فطرته، وإن تم البيع بينهما. وإن قلنا: للمشتري، فعليه وإن فسخ البيع. وإن قلنا موقوف فإن تم البيع، يجب على المشتري، وإن فسخ فعلى البائع. وإن تم البيع بينهما، ثم فسخ بعد هلال شوال بعيب، أو تحالف- فزكاة الفطر على المشتري. فلو مات عن رقيق بعد هلال شوال، فزكاة فطره، وفطرة رقيقه في ماله مقدماً على لميراث والوصايا، وهو كزكاة المال. وهل يقدم على ديون العباد؟ فيه أقوال: أقيسها أن الكل سواء. وإن مات قبل هلال شوال عن رقيق، ثم أهل هلال شوال، فصدقة فطرهم على الورثة، وإن بيعوا في دين الميت بعده. ولو أوصى لإنسان بعبد، فمات الموصي بعد هلال شوال، ففطرته من تركته، وإن مات قبل هلال شوال نظر: إن قبل الموصى له قبل هلال شوال، فعلى الموصى له فطرته، ون لم يقبل؛ حتى أهل شوال، يُبنى على أن الموصى له متى يملك الوصية؟ إن قلنا: يملك بالموت، فعليه فطرته، وإن رد الوصية. وإن قلنا: يون موقوفاً فإن قبل فتكون عليه، وإن رد فعلى ورثة الموصى. وإن قلنا: يملك بالقبول، فالملك قبل القبول لمن يكون؟ فيه وجهان: أصحهما: للورثة؛ فعلى هذا عليهم فطرته. والثاني: يكون باقياً على ملك الموصى، فعلى هذا لا يجب فطرته على أحد؛ لأن الزكاة لاتجب ابتداء على الميت. وقيل: يجب في تركته، ولو مات الموصى قبل هلال شوال، ومات الموصى له بعد هلال شوال قبل لقبول-قام وارثه مقامه في القبول، ويقع الملك للموصى له بقبول الوارث. وكل موضع أوجبنا الفطرة عليه لو قبل بنفسه، فإذا قبل وارثه يجب في تركته، فإن لم يكن له تركة فلا يجب على الوارث؛ كمن أوصى له ببعض من يعتق عليه، فقبل وارثه بعد موته، عتق وقوم على الميت الباقي؛ وإن كان له تركة هذا إذا كان موت الموصى له بعد غروب الشمس، فإن كان موته مع غروب الشمس أو قبله، كانت الصدقة على ورثة الموصى

له إذا قبلوا؛ لأن الملك حصل للموصى له قبل هلال شوال، ووقت وجوب الصدقة كان في ملك الوارث. ولو أوصى برقبة عبده لإنسان، وبمنفعته لآخر، وقبلا، وأهل شوال - ففطرته على الموصى له بالرقبة. ولو وُهِبَ له عبد فقبل، فأهل شوال قبل القبض، فالمذهب: أنه لا يملكه قبل القبض، وفطرته على الواهب. فصلٌ: في مكيلة زكاة الفطر روي عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب. يجب إخراج صدقة الفطر، وطعام الكفارة مما يُقتات غالباً من الحبوب، أو من التمر والزبيب، ولايجوز من الأقوات النادرة؛ كالقت وحَب الحنظل، وأشباه ذلك؛ وإن كان ذلك قوته وقوت بلده. ويجب من هذه الأقوات العامة ما هو غالب قوت البلد. وقال أبو عبيد بن حربويه: تجب من غالب قوت نفسه.

قال إمام الأئمة: والصحيح: أنه تجب من غالب قوت أمثاله في البلد، فإن كان مثله يقتات الحنطة، وهو يقتات الشعير - يجب عليه الحنطة. وإن كان مثله يقتات الشعير، وهو يقتات الحنطة. فهل يجوز له إخراج الشعير فيه وجهان: القياس: أنه يجوز. ولو عدل عن قوت البلد إلى قُوتٍ أعلى، فإن كان قوته الشعير؛ فأخرج الحنطة، جاز وزاد خيراً. وإن عدل إلى شيء دونه؛ مثل: أن كان قوته الحنطة؛ فأخرج الشعير - لايجوز. وإن كان قوتهم تمراً؛ فأخرج حنطة أو شعيراً - جاز؛ على الأصح؛ لأنه أبلغ في الاقتيات. وإن كان قوتهم حنطة، وشعيراً؛ فأخر تمراً، لم يجز؛ على الأصح. وإن كان قوتهم اللحم، أو ثمرة لا عشر فيها، فلا يجوز أن يُخرج منها، بل يخرج من غالب قوت أقرب البلاد إليه. فإن كان يقربه بلدان متساويان، وقوتهما مختلفٌ، أخرج من قوت أيهما شاء، وإن كنا قوتهم الأقط ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا عشر فيه؛ كاللحم. والثاني: يجوز؛ ظاهر الحديث. والجبن كالأقط، ولا يجوز المصل؛ لأنه منزوع الزبد. وإن كان قوت لبناً فهل يجوز منه؟ ترتب على الأقط: إن لم يجز الأقط، فاللبن أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن الأقط مما يُدخر للاقتيات، واللبن لا يدخر. وإن كان أهل البلد يقتاتون أصنافاً مختلفة، يخرج من الأغلب، فإن لم يكن بعضها أغلب فالأفضل أن يخرج من أفضلها، ومن أيها أخرج جاز. وإن كان له عبد غائب، وقوت بلد العبد مخالف لقوت بلد المولى - فمن أيهما يجب إن قلنا: الوجوب يلاقي المولى، فيخرج من قوت بلد المولى. وإن قلنا: يلاقي العبد، فمن قوت بلد العبد. ومن أي نوع أدى لا يجوز أقل من صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم- والصاع أربعة أمداد، كل مد رطل وثلث؛ فجملة الصاع: خمسة أرطال وثلث. وعند أبي حنيفة: الصاع أربعة أمداد، كل مد رطلان؛ فجملته: أربعة أمداد.

وعنده. يجوز من البُر نصف صاع، ويجب من غيره صاعٌ. وإن كان في البلد قوتان متساويان، لا يجوز أن يفرق الصاع؛ فيخرج نصف صاع من هذا، ونصف صاع من ذلك. وكذلك إذا كان قوته الشعير، فلا يجوز أن يخرج نصف صاع حنطة، ونصف صاع شعيراً؛ كما في كفارة اليمين، لا يجوز أن يطعم خمسة، ويكسو خمسة. ولو كان عبد بني اثنين في بلدين قوتهما، مختلف، ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما - قاله ابن سريج-: يخرج كل واحد منهما بقدر ملكه من غالب قوته، وقوت بلده. والثاني - قاله أبو إسحاق-: لا يجوز التفريق، بل عليهما صاع من أدنى القوتين؛ لأن تفريق الصاع لا يجوز، ولو أوجبنا من أعلى القوتين؛ لتضرر به صاحب أدنى القوتين. والثالث: يخرجان صاعاً من غالب قوت بلد العبد، وكذلك إذا كان العبد بعضه حراً، وبعضه رقيقاً، وقوت العبد والمولى مختلف. ولو ملك عبدين وقوته الشعير؛ فأخرج عن أحدهما الحنطة، وعن الآخر الشعير، أو ملك نصفين من عبدين، وأخرج عن أحدهما نصف صاع بُرٍّ، وعن الآخر نصف صاع شعير - يجوز. ولا يجوز أن يخرج في صدقة الفطر خبزاً، ولا دقيقاً ولا سويقاً؛ لأن الحب يصلح لما لا يصلح له الدقيق. وكذلك لا يجوز إخراج القيمة. وعند أبي حنيفة: يجوز كل ذلك. ولا يجوز حب معيب ولا مسوس فإن كان قديماً لم يتغير طعمه ولونه، جاز. ويستحب أن يخرج صدقة الفطر ليلة العيد أو يومه، قبل الخروج إلى صلاة العيد؛ لما روي عن ابن عمر قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى صلاة. ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "اغنوهم عن الطلب في هذا

اليوم" فإن أخر حتى خرج يوم العيد، عصى الله تعالى، وعليه القضاء. ويستحب أن يقيمها بنفسه، فلو دفع إلى الأمام، أو طرحها إلى من يجمع عنده؛ ليفرقها - جاز. ويجب على الولي إخراج صدقة فطر الصبي والمجنون من مالهما، ولو أخرج عنهما من مال نفسه عنه متطوعاً؛ نظر: إن كان أباً أو جداً، جاز، وجعل كأنه ملكه، ثم يولي عنه في الأداء. وإن كان وصياً أو قيماً، لا يجوز إلا بإذن الحاكم، فإذا أذن، جعل كأنه يملك للصبي منهما، ثم أذن لهما في الإخراج. ولو قال رجل لآخر: أد عني زكاة فطرتي؛ ففعل، جاز؛ كما لو قال: اقض ديني. "باب صدقة التطوع" رُوي عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول". صدقة التطوع أمر مندوب إليه، عظيم الأجر والثواب.

وروي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها؛ ما يربي أحدكم فلوه؛ حتى يكون مثل الجبل". وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وإخفاء صدقة التطوع أفضل؛ لقول الله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وروي عن ابن مسعود؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صدقة السر تطفيء غضب الرب". وذلك لأن الإخفاء أبعد من الرياء. أما إعطاء الفرض فالإعلان به أفضل؛ ترغيباً

للناس فيه، ونفياً للتهمة عن نفسه بمنع الزكاة؛ كما أن الصلاة المكتوبة في المسجد بالجماعة أفضل، والتطوع في البيت. ويجوز أن يدفع صدقة التطوع إلى الفقراء، والأغنياء، والكفار؛ لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] قل نزلت في علي - رضي الله عنه- حين أطعم أسيراً حربياً. ويجوز أن تدفع إلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم، وهو أولى من الدفع إلى الجانب. روي عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، ألى أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنما هم بني فقال: "أنفقي عليهم، ولك أجر ما أنفقت عليهم". وقالت امرأة عبد الله بن مسعود لبلال: سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتجزيء الصدقة عني على زوجي، وأيتام لي في حجري؟ فسأله فقال: "نعم لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". ولا يجوز للرجل أن يتصدق صدقة التطوع؛ وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته، أو نفقة عياله؛ لما روي أبو هريرة؛ أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله عندي دينار قال: "أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر. قال: "أنفقه على ولدك". قال عندي آخر قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر. قال: "أنفقه على خادمك". قال: عندي آخر. قال: "أنت أعلم".

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت". ولا يجوز أن يتصدق إلا بما يفضل عن دين إن كان عليه؛ لأنه حق واجب؛ فلا يجوز تركه بالتطوع. فإن فضل عن حاجته، يستحب أن يتصدق به؛ لما روي عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتصدق الرجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره؛ حتى قال: ولو بشق مرة وهل يستحب للرجل أن يخرج عن جميع ماله؛ فيتصدق به؟ اختلف الأخبار فيه، روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". وروي أن الصديق - رضي الله عنه -خرج عن جميع ماله؛ فلم يُنكر النبي - صلى الله عليه وسلم-.

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء: "تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك" وقال لبلال: "أنفق يابلال، ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً". ووجه الجمع بين هذه الأخبار: أن الرجل إذا قويت نفسه، وتم يقينه؛ بحيث ألا يضطرب عليه حاله إذا أصابته فاقة - فالأفضل أن يتصدق بجميع ماله. وكذلك كان حال الصديق، وبلال - رضي الله عنهما - وإن لم يكن له تلك القوة، فالأولى أن يتصدق عن ظهر غنى. والله أعلم ومن يتصدق بشيء، وأخرجه في زكاة أوكفارة، ثم باعه المتصدق عليه - يكره للمتصدق أن يشتريه. روي عن عبد الله بن عمر؛ أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله، ثم وجده يباع؛ فأراد أن يبتاعه. فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك. فقال: "لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك" ولأنه إذا علم أنه تصدق عليه، ربما يحابي معه في الثمن؛ فيكون كنم رجع في بعض صدقته. فإن باعه المسكين من أجنبي؛ فاشتراه المتصدق من الأجنبي، أو اشترى وكيل المتصدق من المصدق ليه، ولم ين الوكيل معروفاً به - لم يكره، ولكن الأولى ألا يفعل.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وروي عن عائشة قالت: كانوا يصومون يوم عاشوراء قبل أن يُفرض

رمضان، فلما فرض الله رمضان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:"من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه". صوم رمضان فريضة على كل مسلم مكلف مقيم قادر طاهر، وهو أحد أركان الإسلام، وكان صوم يوم عاشوراء واجباً؛ فنسخ بصوم شهر رمضان؛ وحين نزل صوم شهر رمضان، جعل الله القادر مخيراً بين أن يصوم، وبين أن يفطر، ويفتدي. وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 185] وذهب ابن عباس إلى أن الآية غير منسوخة؛ وهي في الشيخ الكبير الذي لا يستطيع، يفطر ويفدي، وكان يقرأ:

"وعلى الذين يطوقونه فدية" أي: يكلفون الصوم، ولا يطيقونه؛ فعليهم الفدية. ولا يصح الصوم إلا بالنية؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-:"إنما الأعمال بالنيات" ولأنه عبادة، فتفتقر إلى النية؛ كسائر العبادات. ثم إن كان الصوم فرضاً، فلا يصح إلا بنية من الليل قبل طلوع الفجر؛ سواء كان صوم رمضان، أو صوم نذر، أو كفارة.

وعند أبي حنيفة: يصح صوم رمضان، والنذر المعين بنية من النهار قبل الزوال. والحجة عليه: ما روي عن حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له".

ولأنه صوم مفروض، فأشبه صوم القضاء والفارة. ولو نوى مع طلوع الفجر، فوجهان: الأصح: لا يجوز؛ لأن طلوع الفجر أسرع من نيته؛ فيقع جزء من النية بالنهار. وأما صوم التطوع يجوز بنية من النهار قبل الزوال؛ لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

كان يدخل على أزواجه فيقول: "هل من غداء"؟ فإن قالوا: لا، قال: إني صائم". وقال المزني: لا يجوز صوم النفل إلا بنية من الليل. والحديث حجة عليه، ولأنحكم النفل أخف من حكم الفرض؛ ألا ترى أن [أداء] صلاة النفل تجوز قاعداً مع القدرة على القيام، ولا يجوز أداء الفرض قاعداً؛ مع القدرة على القيام. ولو نوى صوم التطوع بعد الزوال، لايصح، وروى حرملة قولاً: أنه يجوز؛ لأنه تطوع؛ فمن شاء زاد، ومن شاء نقص. والمذهب الأول؛ لأنه قد فات معظم النهار؛

كالمسبوق إذا أدرك الإمام بعد ما رفع رأسه من الركوع، لا يكون مدركاً للركعة؛ لأنه فاته معظم الركعة. وإذا نوى صوم التطوع بالنهار، رفعن أي وقت يصير صائماً؟ فيه وجهان: أحدهما: من وقت النية؛ لأن العبادة لا تسبق النية. والثاني- وعليه الأكثرون -: من أول النهار؛ لأن صوم بعض النهار لا يصح. وعلى الوجهين جميعاً إن كان قد جامع في أول النهار ثم نوى، لا يصح صومه؛ لأن الإمساك من أول النهار شرط. فإن جعلناه صائماً من وقت النية؛ كصلاة الجمعة انعقادها بالشروع فيها، ويشترط تقدم الخطبة عليها؛ ليصح شروعه في الصلاة. ولا يصح نية صوم الغد قبل غروب الشمس، وبعده يجوز في جميع الليل؛ بخلاف الصلا يشترط أن يقرن النية بالتكبير؛ لأنه لا يشق عليه ذلك، والشروع في الصوم يحصل بطلوع الفجر، ويشق عليه مراعاة طلوع الفجر؛ حتى يقرن به النية. ولو نوى بالليل، ثم أكل بعده، أو شربن أو جامع - لا تبطل نيته؛ لأن هذه الأفعال تُضاد الصوم، ولاتضاد النية. ويجب أن ينوي في كل ليلة من رمضان صوم الغد، وكذلك في الكفارة. وعند مالك: لو نوى في الليلة الأولى صوم جميع الشهر، أو في الكفارة نوى في الليلة الأولى صوم الشهرين - جاز. قلنا: صوم كل يوم عبادة على حدة؛ لأنه يتخلل اليومين زمان يُضاد الصوم؛ وهو زمان الليل؛ كالصلاتين يتخللهما الصيام؛ فلابد لكل واحد من نية جديدة. ويجوز صوم التطوع بنية مطلقة، أما صوم الفرض يجب فيه تعيين النية؛ فيقول بقلبه: نويت أن أصوم غداً من فرض هذا الشهر، فإن قال: نويت أن أصوم غداً من الفرض، أو من فرض رمضان - ففيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه لم يعين هذا الشهر. وقيل: يجوز؛ لأن هذا الشهر لا يقبل غير فريضة. ولو قال: نويت أن أصوم غداً من رمضان هذا الشهر، فوجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه لم ينو الفرض، ولو نوى في رمضان أن يصوم غداً عن نذر أو قضاء كفارة أو تطوع - لم يصح؛ لا عن رمضان، ولا عن ما نوى؛ مسافراً كان، أو مقيماً.

وقال أبو حنيفة: تعين صوم رمضان ليس بشرط، فلو نوى صوم الغد مطلقاً، أو عن تطوع، يقع عن رمضان. ولو نوى قضاء أو نذراً أو كفارة. قال: إن كان مقيماً يقع عن رمضان، وإن كان مسافراً يقع عما نوى؛ فيقيس صوم رمضان عن صوم القضاء والكفارة في تعيين النية. ولو نوت الحائض بالليل صوم الغد قبل انقطاع دمها، ثم انقطع بالليل - هل يصح صومها بتلك النية؟ نظر: إن كانت مبتدأة؛ يتم لها خمسة عشر بالليل، أو معتادة عادتها خمسة عشر - يصح، وإن كانت معتادة عادتها أقل من خمسة عشر، وتتم عادتها بالليل - فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن العادة معمول بها. والثاني: لا يجوز؛ لأن العادة قد تختلف؛ فلا تكون نيتها مجزومة، وإن لم يكن لها عادة، أو كانت لها عادة مختلفة، لا يصح. ولو شك في النية؛ فتذكر بعد ما مضى أكثر النهار، أنه نوى، صح صومه؛ كما لو شك في نية الصلاة، فتذكر قبل إحداث ركن. ولو نوى الصائم الخروج من الصوم، أو قال: أبطلت الصوم، أو تركت النية- هل يبطل صومه؟ فيه وجهان: أصحهما: يبطل، للصلاة؛ لأن النية شرط في جميعه، فإذا رفض النية في أثنائه، بقي الباقي بلا نية. والثاني: لا تبطل؛ وبه قال أبو حنيفة؛ بخلاف الصلاة؛ لأنها أفعال تباشر، فلا تصير عبادة، إلا بالنية، ما يأتي به بعد رفض النية فعل بلا نية؛ فلم يصح والصوم مجرد كف - كان القياس أن يصح بلا نية، غير أنا شرطنا النية، لتتميز عن العادة، وقد وجدت النية. فإن قلنا: تبطل، فإن كان هذا في خلال صوم قضاء أو منذور، فرفض نية الفرضية- هل يبقى نفلاً؟ فيه وجهان. وكذلك لو نوى الانتقال إلى صوم آخر، لا ينتقل إليه. وهل يبطل ما هو فيه؟ فعلى وجهين. فإن قلنا: يبطل؛ فإن كان في غير رمضان، هل يبقى نفلاً؟ فيه وجهان. وإذا قال: إذا جاء فلان خرجت عن صومي، فإذا جاء فلان، فعلى وجهين. فإن قلنا: يخرج إذا جاء فلان، ففي الوقت هل يخرج؟ فعلى وجهين كالصلاة.

"فصلٌ: في رؤية الهلال" رُوي عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا؛ حتى تروا الهلال، ولا تفطروا؛ حتى تروه. فإن غُم عليكم، فاقدروا له". ويروي: "فإن غُم

عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين". يجب صوم رمضان برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين، ولا يجوز تقليد

المُنجم في حسابه؛ لا في الصوم، ولا في الإفطار. وهل يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه فيه وهان. أحدهما: يجوز؛ لقوله عليه السلام: "فاقدروا له" ولأن القمر يعرف وقوعه بعد الشمس بالحساب. والثاني: لا يجوز أن يعمل بقوله؛ لأن الشرع علق الحمك برؤية الهلال، ومعنى قوله: "فاقدروا له": هو كمال الثلاثين. وإذ رأى الهلال بالنهار يوم الثلاثين، فهو لليلة المستقبلة؛ سواء رأى قبل الزوال، أو بعده. وقال أبو يوسف: إذا رأى قبل الزوال، فهو لليلة الماضية، واليوم من الشهر الثاني. ولو رأى الهلال ببلد، ولم ير ببلد آخر؛ نظر: إن كان البلدان متقاربين، وجب على أهل البلدين الصوم والفطر رؤية أحد البلدين. وإن كانا متباعدين؛ بأن كان بينهما مسافة القصر، فهل يجب على أهل البلد الذين لم يروا الهلال الاقتداء بالذين رأوا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو قربت المسافة. والثاني- وهو الأصح -: لا يجب؛ لأن سير القمر يختلف ذا تباعدت البلدان، فلكل بلد حكم رؤية أنفسهم. والدليل عليه: ما روي عن كُريب قال: رأينا الهلال بـ "الشام" ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيت؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأينا ليلة السبت؛ فلا نزال نصوم؛ حتى يكمل العدد، أو نراه. قلت: ولا تكفي رؤية معاوية؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإذا رأى الهلال ببلد، ثم انتقل إلى بلد آخر رأى فيه الهلال بعده بيوم، وقلنا: لا يلزم أحد البلدين حُكم الآخر - فالمنتقل غليه له حكم البلد المنتقل عنه، إذا

كمل ثلاثين: نفطر؛ كمن أجر يجب الكراء بنقد البلد المنتقل عنه. وقال الشيخ القفال: حكمه حكم المنتقل إليه. روي أن ابن عباس أمر كُريباً حين قدم "الشام" أن يقتدي بأهل "المدينة". وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال، يحكم به في الصوم والفطر جميعاً، ولا يشترط فيه العدالة الباطنة. وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال، لا يحكم به. وإذا شهد على هلال رمضان هل يحكم به؟ فيه قولان: أقيسها، وهو اختيار المزني: لا يحكم به، كما في هلال شوال.

والثاني: لا يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصوم. روي أن علياً شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان، فصام، وقال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان. ولا فرق: بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة. وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة يثبت بقول واحد، وإن كانت السماء مصحية يشترط الاستفاضة؛ وهو أن يشترط عدد القسامة. فإن قلنا: يقبل قول الواحد، فلا يقع الطلاق المعلق، والعتق المعلق بهلال رمضان،

ولا يحل به الدين؛ لأن هذه الأشياء تثبت بقول الواحد. فإن قلنا: تثبت بقول الواحد، فيشترط أن يكون ذلك الرجل عدلاً، ولا يثبت بقول صبي، ولا فاسق. وهل يثبت بقول عبد، أو امرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأن ما يثبت بقول الواحد، يقبل فيه قول العبد والمرأة؛ كما في رواية الأخبار، وهذا طريقه الخبر؛ لأن هذا أمر يستوي فيه المخبر والمخبر، والشهادة ما يكون الشاهد منه بريئاً. والثاني - وهو الأصح -: لا يثبت؛ لأنها شهادة فرع؛ بدليل أنه يشترط فيه لفظ الشهادة، ولاتقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل؛ بخلاف الأخبار؛ فنه لو روي خبراً عن حاضر يسمع، ولا يقبل من المراهق، وروايته مسموعة؛ على أحد الوجهين. وهل يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة؟ فيه قولان؛ كالحدود. وقيل: يثبت قولاً واحداً؛ لأنه لا يسقط بالشبهة؛ بخلاف الحدود؛ كما تثبت الحقوق المالية التي هي لله - عز وجل - مثل الزكاة، وإتلاف بواري المسجد وغيرها. فإن قلنا: تثبت، فما حكم عدد الفرع؟ إن قلنا: لا يثبت الأصل إلا بعدلين، فحكم شهود الفرع في العدد حكم سائر الشهادات. وإن قلنا: يثبت الأصل برجل واحد. فإن قلنا: طريقه طريق الأخبار، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل من واحد؛ كالرواية تُقبل من واحد عن واحد. والثاني - وهو الأصح-: لا تُقبل إلا من اثنين؛ لأنه ليس بخبر من كل وجه؛ بدليل أنه لا يقبل فيه: أخبرني فلان عن فلان؛ أنه رأى الهلال؛ حتى يقول: أشهد على شهادة فلان. وإن قلنا: ليس طريقه طريق الأخبار، فلابد من رجلين يشهدان على شهادة شاهد الأصل، ولو شهد عدلان على رؤية هلال رمضان، فصام الناس بشهادتهما ثلاثين يوماً، ولم يروا الهلال ليلة الحادي والثلاثين - يجب عليهم أن يفطروا من الغد، سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة. وغلط ابن الحداد؛ حيث قال: إن كانت السماء مصحية، يجب عليهم أن يصوموا. أما إذا شهد واحد على هلال رمضان، وقلنا: يحكم به، فصاموا ثلاثين يوماً، ثم لم يروا الهلال - نظر: إن كانت السماء مغيمة، فعليهم أن يفطروا من الغدو إن كانت مصحية، ففيه وجهان.

ومنهم من لم يُفصل بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة. قال: وفيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لهم الإفطار؛ لأن الفطر لا يثبت بقول الواحد. والثاني: لهم أن يفطروا؛ لأن ثبوت الفطر في ضمن الصوم؛ كالنسب والميراث لا يثبت بشهادة النساء على الانفراد. ولو شهدن على الولادة، يثبت في ضمنه النسب والميراث. ومن رأى هلال رمضان وحده، يجب عليه أن يصوم، وكذلك لو رأى هلال شوال وحده، يجب عليه أن يفطر؛ حيث لا يراه أحد؛ لأنه إذا ظهر الفطر عرض نفسه للتهمة، وعقوبة السلطان، وإذا صام برؤيته وحده، فأفطر بالجماع يجب عليه الكفارة. وقال الحسن وعطاء: لا يصوم برؤيته وحده، ولا يفطر. وقال أبو حنيفة: يصوم برؤيته وحده، ولا يفطر، وإذا صام برؤيته وحده، فإذا جامع قال: لا كفارة عليه؛ لأن فطر الناس شبهة في سقوط الكفارة عنه. وكذلك قال: لو صام بنية من النهار؛ فجامع، لا كفارة عليه. فنقول: فطر لا يكون شبهة في حقه؛ من عرف طلوع الفجر، لزمته الكفارة، وإن لم يعرفه غيره؛ كما لو أفطر أهل قرية بعذر المرض، وهو صحيح صائم؛ فجامع -لزمته الكفارة، وإن لم يعافه غيره. وإذا رُؤي رجل يطعم يوم الثلاثين من رمضان بلا عُذر - يعزر عليه، فلو شهد أنه رأى الهلال، لا يقبل؛ لأنه متهم في شهادته بإسقاط التعزير عن نفسه. أما إذا شهد أولاً، فردت شهادته، ثم أكل، لا يعزر؛ ما لو توجه الحكم على رجل فروي فيه خبراً على وفق دعواه لا تقبل، وإن كان عدلاً، فإن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً فلم يؤذن له، فانصرف فدعاه فسأله، فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الاستئذان ثلاثاً" فلم يعتمده؛ حتى شهد عليه غيره. ولا يجوز أن يصوم يوم الشك عن رمضان؛ وهو يوم الثلاثين من شعبان. إذا وقع الشك في رؤية الهلال؛ بأن وقع في ألسن الناس أن الهلال قد رؤي، ولا

يقول عدل: إني قد رأيت، أو تقول جماعة من العبيد والصبيان والفُساق: إنا قد رأيناه - فلا يجوز لأحد أن يصوم هذا اليوم عن رمضان، ولا عن تطوع لا سبب له؛ لما روي عن عمار بن ياسر قال: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. فإن صامه عن قضاء، أو نذر نذره من قبل، أو عن كفارة، أو وافق تطوعاً كان يصومه - فلا يكره؛ لما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدموا شهر رمضان بصيام، إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم".

ولو نوى صوم يوم الشك عن تطوع لا سبب له، هل يصح؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يصح؛ لأنه منهي عنه، وفعله معصية؛ كما لو صام يوم العيد. والثاني: يصح؛ لأن هذا اليوم قابل للصوم في الجملة؛ بخلاف يوم العيد. وكذلك لو نذر صوم يوم الشك، هل ينعقد نذره؟ فيه وجهان فإن قلنا: ينعقد، صام يوماً آخر، فن صام في هذا اليوم، يخرج عن نذره. ولو نوى ليلة الشك أن يصوم غداً من رمضان، فبان بعد ما أصبح أنه من رمضان لا يصح صومه؛ لأنه شرع فيه على الشك، وعليه القضاء؛ كما لو أصبح مفطراً، ثم ثبت بشهادة الشهود؛ أنه من رمضان يلزمه إمساكه بقية النهار، وعليه القضاء.

ولو عقد بقلبه من غير شك؛ أن غداً من رمضان، ونوى وسمع من ثقة؛ أنه رأى الهلال، أو سمع من زوجته، أو جاريته؛ أني رأيت الهلال؛ وهو يثق بقولها، أو شهد عند القاضي عدل، فلم يحكم القاضي بقوله، ثبت دقه عند رجل فنوى وصام - صح صومه، وعليه أن يصوم بقوله. ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان أن يصوم غداً من رمضان إن ثبت، وإن لم يثبت فهو مفطر أو متطوع؛ فبان من رمضان- لم يصح صومه؛ لأن الأصل كان بقاء شعبان؛ فنيته لم تستند إلى أصل في الصوم. ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان أني صائم غداً من رمضان إذا كان منه، وإن لم يكن فمفطر؛ فبان أنه من رمضان - صح صومه؛ لأن الأصل بقاء رمضان، ومطلق نيته كان يقع هكذا. أما إذا نوى ليلة الثلاثين من رمضان أني أصوم غداً من رمضان إن كان منه، أو أفطر؛ فكان من رمضان - لم يصح صومه؛ لأنه لم يجزم النية، كما لو نوى أن يصوم أو لا يصوم، لا يصح صومه. وإذا اشتبه على الأسير شهر رمضان، يجب أن يجتهد فيصوم شهراً بالاجتهاد؛ كما يجتهد في القبلة، وفي وقت الصلاة؛ حتى لو صام شهراً من غير اجتهاد، لم يصح؛ وإن وافق شهر رمضان. وإذا اجتهد، وصام شهراً؛ نظر: إن وافق شهر رمضان، أو شهراً بعد رمضان -صح صومه، ثم إذا وافق شهراً بعد رمضان، يكون قضاء أم أداء؟ فيه جوابان:

أحدهما: يكون قضاء؛ لأنه أتى به بعد الوقت. والثاني: يكون أداء، وجعل ما بعد الوقت وقتاً للعذر؛ كما لو جمع بين الظهر والعصر في وقت العصر، يكون أداء. وفائدته: تتبين فيما لو كان شهر رمضان ثلاثين، وهذا الشهر الذي صامه ناقص، هل يلزمه إتمام ثلاثين أم لا؟ إن قلنا [قضاء] يجب عليه إتمام ثلاثين. وإن قلنا: أداء، لا يجب؛ كما لو صام في رمضان، وكان ناقصاً، وعلى عكسه لو كان شهر رمضان ناقصاً، وهذا كامل، هل يجوز أن يفطر يوماً منه، أم لا؟ إن قلنا: قضاء، يجوز؛ لأن الواجب عليه قضاء تسع وعشرين. وإن قلنا: أداء، لا يجوز، بل يجب إتمامه. وإن وافق شوال يجب عليه قضاء يوم العبد، وإن وافق ذي الحجة يجب قضاء يوم العيد، وأيام التشريق. وعلى الوجهين: إذا جامع لا كفارة عليه؛ لأنه لا يون له حرمة شهر رمضان.

وإن وافق شهراً قبل رمضان؛ نظر: إن علم ورمضان بين يديه أو بعضه، فعليه أن يصومه. وإن لم يعلم؛ حتى مضى رمضان، هل يجزيء ما صام عن رمضان؟ فيه قولان: قال في القديم: يجزئه؛ لأنه بالاجتهاد كالحجيج إذا أخطؤوا فوقفوا يوم الثامن يكون محسوباً. وقال في الجديد - وهو الأصح - لا يجزئه؛ لأن العبادة لا تسبق الوقت؛ كما لو اجتهد في وقت الصلاة؛ فوافق قبل الوقت، لا تصح صلاته. والقولان يبنيان؛ على أنه إذا وافق شهراً بعد رمضان يون قضاء أو أداء. إن قلنا: يكون قضاء، فلا يصح؛ لأن القضاء لا يسبق الوقت. وإن قلنا: أداء، لا يصح؛ لأنه لما جاز أن يصير ما بعد الوقت كالوقت للعذر، كذلك ما قبله جاز أن يصير كالوقت؛ كما في الجمع بين الصلاتين؛ يصير وقت إحدى الصلاتين وقتاً للأخرى؛ قدم أو أخر. "فصلُ: في وقت الدخول في الصوم والخروج منه" قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] والمراد من الخيط الأبيض: طلوع الفجر. يدخل الصائم في الصوم بطلوع الفجر، ويخرج منه بغروب الشمس. وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبل الليل - من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم. ويجوز للصائم الأكل، والشرب، والمباشرة بالليل إلى طلوع الفجر. ولو شك في طلوع الفجر، يكره له الأكل والشرب والجماع بعده، فإن فعل جاز؛ لأن الأصل بقاء الليل؛ بخلاف ما لو أكل شاكاً في غروب الشمس يقضي، ويلزمه القضاء إذا لم يتبين؛ لأن الأصل هناك بقاء النهار؛ فإن بان أنه أكل بعد غروب الشمس، فلا قضاء عليه.

لو أكل شاكاً في طلوع الفجر؛ فبان أنه كان طالعاً - نقل المزني؛ أن عليه القضاء؛ كما لو أكل شاكاً في غروب الشمس، فإذا هي لمتغرب. فمن أصحابنا من وافقه؛ فقال في الموضعين: يجب القضاء؛ وهو قول مالك. ومن أصحابنا من قال: إذا أكل شاكاً في طلوع الفجر؛ فبان طالعاً، لا قضاء عليه؛ لأن الأصل كان بقاء الليل؛ بخلاف ما لو أكل شاكاً في غروب الشمس؛ فبان أنها لم تغرب، يجب القضاء؛ لأن الأصل هناك بقاء النهار، وتحريم الأكل. والشافعي لم يلزمه القضاء إذا بان الفجر طالعاً، بل قال: واجب تأخير السحور، فإذا خشي الفجر أمسك، وأحب تعجيل الفطر؛ فإذا بان أن الشمس لم تغرب، أعاد. فحيث قلنا: يجب القضاء، فإن كان قد جامع، قضى، ولا فارة عليه في الموضعين جميعاً؛ لأن كفارة الجماع تسقط بالشبهة فيه. ولو طلع الفجر، وفي فيه طعام، يجب أن يلفظه، فإن ابتلعه فسد صومه، ولو أمسكه ساعة، ثم لفظه، لا يفسد صومه. ولو طلع الفجر- وهو جامع وعلم به-يجب أن ينزع في الحال؛ فإن نزع في الحال، لا يفسد صومه. قال المزني - رحمه الله - وزفر: عليه القضاء؛ لأن المفسد قارن انعقاد الصوم؛ فمنع الانعقاد. قلنا: النزع ترك للجماع، فلا يفسد الصوم؛ كما لو حلف لا يلبس ثوباً، وهو لابسه، فنزعه - لا يحنث. وإن نزع ثم أولج ثانياً، فسد صومه، وعليه القضاء والكفارة. وإن مكث، ولم ينزع، فسد صومه، وعليه القضاء. ونص على أنه: يلزمه الكفارة. وقال في "الإملاء": إذا قال لامرأته: إذا قربتك، فأنت طالق ثلاثاً؛ فإذا غيب الحشفة، طلقت ثلاثاً، وعليه النزع. فلو مكث، لم يذكر هناك وجوب المهر. واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يجب هناك المهر، ويجب هاهنا الكفارة، كما لو نزع وأولج. والثاني: لا يجب واحد منهما؛ لأن ابتداء الفعل كان مباحاً. ومنهم من فرق بينهما - وهو الأصح - فقال: هاهنا يجب الكفارة؛ لأن ابتداء هذا الفعل لم يتعلق به الكفارة، فجاز أن يتعلق بانتهائه حتى لا يخلو الجماع في نهار رمضان

عمداً عن الكفارة، وهناك يعلق المهر بابتداء الفعل؛ لأن مهر النكاح يقابل جميع الوطئات؛ فلم يجب بدوامه مهر آخر. وعند أبي حنيفة: لاتجب الكفارة. ولو أصبح الرجل جُنُباً من جماع، أو احتلام، ووقع غسله بالنهار - صح صومه. روي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يُدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم. وكذلك الحائض إذا طهرت بالليل ونوت الصوم، ولم تغتسل؛ حتى طلع الفجر - صح صومها. فصلٌ: فيما يُبطل الصوم روي عن عبد الله بن عمر قال: "من استقى وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء، فلا قضاء عليه". وروي عن أبي هريرة مرفوعاً: "الصائم إذا تقيأ عمداً بطل صومه". ولأي معنى بطل؟ قيل: لنفسه؛ الإنزال يبطل الصوم، وإن لم يصل به إلى جوفه شيء. وقيل: لأن القيء لا يخلو: من أنا يعود شيء إلى البطن، فإذا تعمد القيء، جعل كأنه تعمد الابتلاع. فأما إذا ذرعه القيء، فلا يبطل صومه.

وجملته: إذا وصل شيء من الخارج إلى أحد جوفي التغذي بالاختيار مع ذكر الصوم، يبطل صوم الصائم، وأحد جوفي التغذي: الدماغ، والثاني؛ البطن، وهذا يطرد، ولا ينعكس بالحيض، وإنزال المني، والجماع، والقيء، والجنون، والإغماء؛ فإنها تبطل الصوم؛ وإن لم يصل بها شيء إلى جوف التغذي. خرج من هذا: إذا أكل شيئاً متعمداً وإن قل، أو شرب، أو استعط، أو قطر شيئاً في أنفه، أو أذنه؛ حتى وصل إلى الدماغ، أو احتقن، أو قطر في إحليله شيئاً فوصل إلى المثانة - فسد صومه. وقيل: إذا صب في أذنه شيئاً لا يفسد صومه، وإن ظهر أثره في الدماغ؛ لأنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ، وإنما يصل إليه من المسام؛ كما لو اكتحل لا يبطل صومه وإن وجد طعمه. وكذلك لو ابتلع ما لا يؤكل من حصاة، أو درهم، أو استف تراباً - بطل صومه. والحلق كالجوف؛ فوصول الواصل إليه كالوصول إلى الجوف. ولو قطر في إحليله شيئاً، ولم يصل إلى المثانة، وأدخل فيه ميلاً - هل يبطل صومه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يبطل صومه؛ لأنه لم يصل إلى جوف التغذي؛ هو المثانة؛ كما لو وضع في فيه شيئاً. والثاني: يبطل؛ كما لو وصل إلى حلقه، ولم يصل إلى المعدة.

وإن كان على بطنه جائفة، أو على رأسه مأمومة؛ فوضع عليها دواء؛ فوصل إلى جوفه، أو إلى خريطة دماغه - بطل صومه؛ وإن لم يصل إلى باطن الأمعاء، أو إلى باطن الخريطة، سواء كان الدواء رطباً أو يابساً. وعند أبي حنيفة: إن كان الدواء يابساً، لا يبطل صومه. ولو شق بطن نفسه، أو شق غيره بإذنه، يبطل صومه. وإن فعل بغير أمره، لا يبطل. وعند أبي حنيفة: إذا شق بطن نفسه، لا يبطل صومه، ولو شق فخذه، أو كان على فخذه جراحة؛ فوضع عليه دواء؛ فوصل إلى مُخهِ - لا يبطل صومه؛ لأنه ليس جوف التغذي. ولو كان به باسورٌ؛ فخرجت مقعدته، ثم عادت، لا يبطل صومه. فإن ردها بإصبعه، ففيه وجهان: الأصح: لا يبطل؛ لنه مضطر إليه؛ كما لا يبطل طُهر المستحاضة بخروج الدم. ولو ابتلع الريق، لا يبطل صومه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. وإن خرج إلى ظاهر فمه، فرده وابتلعه، بطل صومه. وإن أخرج لسانه وعليه ريق، ثم رده؛ فابتلعه، ففيه وجهان ولو جمع الريق في فمه، فابتلعه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل صومه؛ لأنه وصل جوفه من معتده؛ كم لو ابتلعه متفرقاً على العادة. والثاني: يبطل؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، كما لو قلع ما بين أسنانه فابتلعه. ولو دميت لثته؛ فابتلع الدم، أو الريق المتغير، بطل صومه. ولو بزق الدم؛ حتى عاد الريق أبيض، لا يجوز ابتلاعه؛ لأنه نجس ولو ابتلعه، فالمذهب: أنه يبطل صومه. وقيل: لا يبطل؛ لأن ابتلاع الريق مباح، وتلك النجاسة حكمية؛ كما لو ذاق شيئاً؛ فوصل الطعم إلى حلقه. ولو قتل خيطاً مصبوغاً؛ فتغير ريقه؛ فابتلعه، بطل صومه. ولو قلع النخامة من صدره، أو جذبها من رأسه؛ فحصلت في فمه؛ فابتلعها - بطل

صومه، وإن لم تصل من حلقه إلى فمه: بحيث يمكنه أن يبزقها، لا يبطل وكذلك لو نزلت من رأسه، فلم يشعر بها؛ حتى وصلت إلى حلقه - لم يبطل صومه. وداخل الفم والأنف في حكم الظاهر في بعض الأحكام؛ وهو وجوب غسله إذا نجس، وأنه لو ابتلع منه نخامة، أو خرج إليه القيء، يبطل صومه. ولو وضع فيه شيئاً لا يبطل، وفي حكم الباطن من حيث إنه لا يجب غسله في غسل الجنابة، ولو ابتلع منه الريق، لا يبطل صومه. ولو ابتلع طرف خيط، والطرف الآخر خارج، يبطل صومه. ولو ابتلع بالليل، فأصبح وأحد طرفيه خارج، فإن تركه كذلك، لا تصح صلاته، وإن نزعه أو ابتلعه، بطل صومه؛ فالأولى أن ينزع أو يبتلع؛ حتى تصح صلاته، ثم يقضي الصوم؛ لأن الصوم يترك للقضاء؛ فإن نزعه وهو نائم، لم يبطل صومه. ولو وصل إلى جوفه غبار الطريق، أو غربلة الدقيق، أو طارت ذبابة في حلقه - لا تبطل صومه؛ لأنه مضطر إليه. ولو فتح فاه؛ حتى وصل الغبار إلى جوفه، ففيه وجهان: أصحهما: لا يبطل؛ لأن الاحتراز عنه لا يمكن؛ فوقع عفواً. فلو أكل ناسياً، لا يبطل صومه؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي وهو صائم؛ فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه". وإن أكل كثيراً، ففيه وجهان:

أحدهما: يبطل صومه؛ لأنه ناسٍ؛ كما لو أكل قليلاً. والثاني: يبطل؛ لأن الاحتراز عن الكثير ممكن في الغالب. وإن أكل جاهلاً؛ بأن الأكل يبطل الصوم، فلا يعذر، إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام، أو ناشئاً ببادية لا يعرف الأحكام؛ فلا يبطل صومه. ولو أوجر الطعام كرهاً، أو نائماً، لا يبطل صومه. وكذلك لو جومعت المرأة كرهاً وإن خوف حتى أكل بنفسه، أو خوفت المرأة حتى مكنت من نفسها؛ فوطئت - ففيه قولان: أحدهما: لا يبطل صومه؛ لأنه مكره، كما لو أوجر الطعام.

والثاني: يبطل؛ لأنه فعل ما ينافي في الصوم؛ لدفع الضرر؛ كما لو شرب دواء لدفع المرض، أو شرب لدفع العطش. ولو أعمي على الصائم، وقلنا: لا يبطل الإغماء؛ فأوجر دواء لصلاحه - هل يبطل صومه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يبطل؛ كغير المغمي عليه إذا أوجر كرهاً. ولو تمضمض؛ فوصل الماء إلى جوفه، واستنشق؛ فوصل الماء إلى دماغه - هل يفسد صومه؟ نقل المزني فيه قولين. واختلف أصحابنا في محل القولين: فمنهم من قال- وهو الأصح -: إن القولين فيما إذا لم يبالغ، فإن بالغ بطل صومه؛ لأن المبالغة منهي عنها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم- للقيط بن صُبرة: "بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً". ولو كان وصول الماء إلى الباطن بالمبالغة لا يبطل الصوم، لم يكن للنهي عن المبالغة معنى. ومنهم من قال: هي على قولين: بالغ، أو لم يبالغ: أحدهما: يبطل صومه؛ وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار المزني؛ لأنه وصل الماء إلى جوفه بفعله مع ذكر الصوم. والثاني: لا يبطل؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره؛ كغبار الطريق. ولو دمي فمه؛ فغسله؛ فوصل الماء إلى جوفه، فكالمضمضة. ولو غل فمه تبريداً، أو مضمض أربعاً؛ فوصل الماء إلى جوفه في المرة الرابعة، فإن بالغ بطل صومه، ون لم يبالغ ترتب على المضمضة؛ فهذا أول بوجوب القضاء؛ لأنه غير مأمور به.

ولو كان بين أسنانه شيء من الطعام، فابتلعه، فسد صومه. وإن جرى به الريق من غير قصد، نقل المزني: أن لا قضاء عليه، ونقل الربيع: أن عليه القضاء. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كما لو وصل الماء إلى جوفه في المضمضة. ومن أصحابنا من قال: لا قضاء عليه قولاً واحداً؛ لأن الأكل كان مباحاً له؛ فوصوله إلى جوفه كان بسبب مباح. وهذا القائل يقول: إذا مضمض، ولم يبالغ، فوصل الماء على جوفه - لا قضاء عليه. ويُكره للصائم التسوك [بعد الزوال]؛ لما فيه من إزالة الخلوف، ولا يكره قبله؛ فلو استاك فوصل شيء من رطوبة السواك إلى جوفه، فسد صومه، وإن وصل الطعم إلى جوفه لم يفسد. ويكره له مضغ العلك؛ لأنه يحلب الفم، ويجففه، ويزيل الخلوف. ثم إن كان مستعملاً، لا يبطل الصوم. وإن كان جديداً يتفتت فوصل منه شيء إلى الجوف بطل صومه؛ كما لو وضع في فمه سُكرة؛ ثم ابتلع الريق، فسد صومه. ويجوز للصائم أن يكتحل، وأن يضع الدهن على رأسه، وأن ينزل في الماء وينغمس فيه ولو وجد أثراً في باطنه. ويجوز أن يحتجم؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم. ويجوز أن يُقبِّل زوجته؛ غير أنه يكره للشباب؛ خوفاً من حركة الشهوة، ولا يُكره للشيخ، وتركه أولى. روي أن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه. أما على من تحركه الشهوة تحرم القبلة.

وإذا جامع الرجل امرأته بالنهار عمداً، بطل صومه. فإن كان في نهار رمضان، يجب عليه القضاء والكفارة العظمى؛ وهو عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ كما في كفارة الظهار. والدليل: ما روي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلكت قال: "ما شأنك؟ " قال: واقعت أهلي في رمضان قال: "تستطيع عتق رقبة؟ " قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تُطعم ستين مسكيناً؟ " قال: لا. قال: "اجلس" فجلس فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر" العرق: المكيل الضخم. قال: "خُذ هذا فتصدق به". قال: أعلى أفقر منا؟ فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه. قال: "أطعمه عيالك".

وعند مالك: كفارة الجِماع على التخيير. وإن جامع ناسياً، لا يبطل صومه؛ كما لو أكل ناسياً، وكذلك إن كان نائماً؛ استدخلت المرأة ذكره، لا يبطل صومه؛ كما لو احتلم. ولو جامع الرجل مكرهاً؛ فهل يتصور إكراه الرجل على الوطء؟ فيه وجهان: إن قلنا: لا يتصور؛ حتى يجب عليه الحد إن كان في زنا، فهاهنا يفسد صومه، وعليه الكفارة. وإن قلنا: يتصور، فهل يبطل صومه؟ فيه قولان؛ كما لو أكره على الأكل: فإن قلنا: يبطل صومه، لا كفارة عليه؛ لأنها تسقط بالشبهة. ولو زنا أو تلوط أو أتى بهيمة في نهار رمضان، فعليه القضاء والعقوبة والكفارة، أنزل، أو لم ينزل. أما المرأة الصائمة إذا جُومعت وهي مُكرهة، أو نائمة لا يبطل صومها؛ وإن كانت طائعة، بطل صومها. وفي الكفارة قولان: أحدهما - وبه قال أبو حنيفة-: يجب عليها الكفارة؛ ما تجب الكفارة على الرجل فعلى هذا: إن كان الزوج صائماً عليهما كفارتان، وإن كان مفطراً فعليها الكفارة دونه، وإن كان أحدهما موسراً فعلى الموسر العتق، وعلى الآخر الصوم. والقول الثاني - وهو الجديد -: إذا جامعها زوجها؛ وهو صائم، لا يجب إلا كفارة واحدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الأعرابي إلا برقبة واحدة. فعلى هذا: تلك الكفارة على الرجل وجانبها خلو، أم يجب عليها والزوج يتحمل عنها؟ فيه قولان: أحدهما: هي على الرجل وجانبها خلو؛ لأنه غُرم مالي يختص بالجماع؛ فيجب على الرجل؛ كالمهر. والثاني: هي عليها، والزوج يتحمل عنها؛ كثمن ماء الاغتسال. وفائدته: تتبين في أنا إن قلنا: جانبها خلو، فلا كفار على المرأة؛ سواء كان الزوج صائماً أو مفطراً أو نائماً؛ فاستدخلت فرجه، أو وطئت بالشبهة، أو بالزنا. وإن قلنا: الزوج يتحمل عنها، فإنما يتحمل إذا وجبت عليها الكفارة، فإن كان الزوج مفطراً أو ناسياً، أو استدخلت ذكره، فيجب عليها الفارة، ولا يتحملها الزوج. وكذلك إذا كان الزوج مجنوناً؛ فوطئها، لا يتحمل الزوج؛ لأنه لا كفارة عليه. وكذلك

لو زنا بامرأة، أو وطئها بالشبهة عالماً بالصوم، فعليها الكفارة، ولا يتحمل الواطيء عنها؛ لأن التحمل يكون بالملك؛ ولا ملك هاهنا. وكذلك إذا كانت كفارتهما الصوم، فلا يتحمل الزوج عنها؛ لأن الصوم لا يجزيء فيه التحمل، بل يجب على كل واحد صوم شهرين. وإن كانت كفارة أحدهما بالعتق، وكفارة الآخر بالإطعام، ففيه وجهان: أحدهما: إذا أتى الزوج بما عليه، سقط عنها. والثاني: يجب على كل واحد أن يُكفر بما عليه؛ لأن التحمل كالتداخل؛ فلا يجزيء عند اختلاف الجنس. وقيل: إن كان الرجل من أهل العتق، وهي من أهل الصوم أو الإطعام؛ فأعتق الزوج رقبة - يجوز عنهما؛ لأن من فرضه الصوم أو الإطعام يجوز إعتاقه. وإن كانت المرأة أمة، فهي من أهل الصوم لا يجوز غعتاقه عنها، وإن كان هو من أهل الصوم، والمرأة من أهل العتق والإطعام - يجب على الرجل كفارتان: يصوم عن نفسه، ويطعم أو يعتق عنها؛ لأن النيابة تجزيء في الإطعام والإعتاق. وإن كان الرجل من أهل الإطعام، وهي من أهل الصوم، أطعم هو عن نفسه، وعليها الصوم؛ لأنه لا يُجزيء فيه النيابة. ولو باشر امرأته فيما دون الفرج؛ أو لمسها بشهوة، أو قبلها إن لم ينزل لا يبطل صومه، وإن أنزل بطل صومه، ولا كفارة عليه؛ لأن الكفارة تجب بالجماع ولم يوجد. وإن أنزل بنظر أو فكرة، لا يبطل صومه؛ كما لو احتلم. وكذلك لو جامع قبل طلوع الفجر؛ فأخرج مع الفجر؛ فأنزل - لا يبطل صومه؛ لأن الفعل كان مباحاً؛ وهو مضطر إلى الإنزال. ولو استمنى بيده، بطل صومه، ولا كفارة عليه. ولو جامع في يوم واحدٍ مراراً، لا يجب إلا كفارة واحدة؛ لأن الفطر قد حصل بالجماع الأول، والثاني لا يصادف الصوم؛ كما لو أفطر بالأكل، ثم جامع أو فأخذ؛ فأنزل، ثم أولج - لا كفارة عليه. ولو جامع في يومين عليه كفارتان؛ سواء وجد الجِماع الثاني بعد ما كفر عن الأول، أو قبله. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن كفر عن الأول، لا يجب إلا كفارة واحدة. وبالاتفاق لو جامع في عامين عليه كفارتان؛ وإن أكل الصائم ناسياً؛ فظن أن صومه قد بطل، فجامع بعده عامداً - يبطل صومه بالجماع، ولا كفارة عليه؛ لأنها تسقط بالشبهة. وكذلك لو شك في النية؛ فجامع، ثم تذكر أنه كان قد نوى - يجب عليه القضاء، ولا كفارة عليه.

ولو أصبح المسافر صائماً؛ فأفطر بالجماع، والمريض الذي يباح له الفطر أصبح صائماً، ثم جامع: إن نوى الترخيص، لا كفارة عليه، وإلا فوجهان: أصحهما: لا كفارة عليه؛ لأن الفطر مباح له؛ فيصير شبهة في سقوط الكفارة. وكذلك الصحيح إذا أصبح صائماً؛ فمرض ثم جامع، لا كفارة عليه إن نوى الترخيص. أما المُقيم إذا أصبح صائماً؛ فسافر، ثم جامع، يجب عليه الكفارة؛ لأن الفطر لا يباح له إذا أصبح مقيماً. أما المقيم الصحيح إذا أصبح صائماً؛ فأفطر بالجماع، ثم سافر في آخر النهار، أو مرض مرضاً يبيح الفطر - لا تسقط عنه الفارة. وعند أبي حنيفة: يسقط بالمرض. أما إذا أفطر بالجماع؛ فجن في آخر النهار، أو المرأة أفطرت بالجماع، وقلنا: يلزمها الكفارة، فحاضت في آخر النهار- هل يسقط عنه الكفارة؟ فيه قولان: أحدهما: لا تسقط؛ كما لو مرض؛ أو سافر في آخر النهار. والثاني: تسقط؛ لأن الحيض والجنون في آخر النهار بعدم الصوم في أوله؛ بخلاف المرض والسفر. "فصلٌ: في الفطر الذي يوجب الفدية" من أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر، يجب عليه القضاء، ويعصي الله - تعالى - ويعزره السلطان، ولكن لا تجب الكفارة العظمى. وهل تجب الفدية الصغرى؛ وهي أن يطعم عن كل يوم مسكيناً مُداً من الطعام؟ فيه وجهان: أصحهما: يجب؛ لأنها لما وجبت على المرضعة مع كونها معذورة، فلأن يجب على غير المعذور أولى. وقال أبو حنيفة: إن تناول ما يقصد أكله، يجب عليه الكفارة العظمى، وإن ابتلع حصاة أو نواة، لا يجب. وقال مالك: كل فطر يعصي به، يجب فيه الكفارة العظمى، إلا القيء؛ فإن الطبع لا يميل إليه. وعندنا: يختص ذلك بالجماع؛ لورود الشرع به؛ فلا يُقاس عليه سائر أنواع الفطر؛ كما لا يقاس عليه سائر أنواع الفطر؛ كما لا يقاس عليه القيء، وابتلاع الحصاة مع استوائهما في بطلان الصوم، ووجوب القضاء.

والمرأة الحامل، أو المرضعة إذا أجهدها الصوم، لها أن تفطر، ثم تقضي ولا فدية عليها؛ كالمريض. وإن كان خوفها على الولد من الصوم، فلها أن تفطر، ثم تقضي، وعليها الفدية لأنه فطر بسبب إحياء نفس عاجزة عن الصوم؛ كالشيخ الهِمُّ يفطر ويفدي. والفدية: هي أن يطعم كل يوم مسكيناً مداً من الطعام من غالب قوت البلد، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد. سُئل ابن عمر عن المرأة إذا خافت على ولدها؛ فقال: تفطروتطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من الحنطة؛ وهذا قول مال وسفيان وأحمد. وفي الحامل قول آخر: أن لا فدية عليها؛ لأن ضرر الجنين متصل بها، بخلاف المرضعة؛ فكانت الحامل كالمريض. وعند أبي حنيفة: لا فدية عليها؛ وهو اختيار المزني. وإن كانت المرضعة مسافرة أو مريضة؛ فأفطرت إن نوت بالفطر الترخص بعذر السفر والمرض - فلا فدية عليها، وإلا فوجهان؛ كالمسافر يفطر بالجماع. ولو أفطر لتخليص غريق، جاز، وعليه القضاء. وفي الفدية وجهان أحدهما: يجب؛ كما تجب على المرضعة. والثاني: لا تجب؛ لأن فطرة ليس لإحياء نفس عاجزة عن الصوم؛ فإن الغريق غير عاجز. والشيخ الكبير الذي يُجهده الصوم، له أن يفطر؛ وهل يلزمه الفدية؟ فيه قولان. وكذل المريض الذي لا يرجى زوال مرضه-قال في القديم - وبه قال مالك -: لا فدية عليه؛ كالمريض الذي مرضه مرجو الزوال. وقال في الجديد - وهو المذهب -: يجب عليه الفدية؛ فيطعم عن كل يوم مسكيناً مُداً من الطعام؛ روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة. ولو خرج رمضان تسعاً وعشرين، لا يجب عليه إلا تسعة وعشرون مُداً. ولو فاته صوم في صبائه، ولم يقض؛ حتى كبر وعجز، تجب الفدية قولاً واحداً؛ وإن كان الشيخ الكبير معسراً، هل يلزمه الفدية إذا قدر؟ فيه قولان؛ كالمكفر إذا لم يقدر على شيء، ثم قدر- هل يلزمه الكفارة؟ فيه قولان.

ولو أن عبداً كبيراً أفطر بعذر الكبر، ثم مات من قبل أن أعتق، فلا فدية عليه، وإن أعتق ترتب على الحر المعسر إذا أيسر إن قلنا: لا يجب، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن العبد لم يكن وقت الفطر من أهل الفدية؛ بخلاف الحر. ولو أفطر الكبير بعذر الكبر، ثم قدر على الصوم لا يلزمه الصوم؛ بخلاف المعضوب إذا أحج الغير، ثم قدر، يلزمه يحج في قول؛ لأنه كان مخاطباً بالحج، لا بأداء المال، والشيخ الكبير لم يكن مخاطباً بالصوم، بل كان مخاطباً بالفدية. قال الشيخ: عندي إذا قدر قبل أن يفدي، يجب عليه أن يصوم، وإن قدر بعد ما فدي؛ فيحتمل أن يكون كالحج؛ لأنه كان مخاطباً بالفدية على توهم أن عُذره غر زائل، وبان خلافه؛ المعضوب لم يكن مخاطباً؛ بأن يحج بنفسه، إنما كان مخاطباً بأن يحج الغير عنه على توهم أن عذره غير زائل. "فصلٌ: فيما يبيح الفطر" قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. صوم شهر رمضان فريضة على كل مسلم عاقل بالغ إذا كان مقيماً قادراً؛ حُراً كان أو عبداً؛ رجلاً أو امرأة، إذا كانت طاهرة؛ فالكافر لا يصح صومه، وإذا أسلم لا قضاء عليه؛ لقوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] والمرتد لا يصح صومه، وإذا عاد إلى الإسلام يجب عليه القضاء، ولا يجب على الحائض والنفساء، إذا طهرتا يجب عليهما القضاء. قالت عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. ويجوز الفطر بعذر المرض والسفر وشرط السفر وشرط المرض أن يجهده الصوم، ويلحقه به ضرر يشق عليه

احتماله. أما المرض اليسير الذي لا يجهده، فلا يبيح الفطر. ثم إن كان المرض مطبقاً، له ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع فإن كان محموماً حالة الشروع فيه، له ترك النية، وإلا فيجب أن ينوي من الليل، ثم إذا أخذته الحمى بالنهار أفطر.

وشرط السفر أن يكون ستة عشر فرسخاً، ويكون مباحاً؛ فيجوز له أن يفطر فيه. ولو صام كان أفضل، إلا أن يجهده الصوم، فالأول أن يفطر؛ لما روي عن جابر قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمان غزوة تبوك [إذ] مر برجل في ظل شجرة يرش الماء عليه فقال: ما بال هذا" قالوا: صائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "ليس من البر الصيام في السفر".

والدليل على أنه يتخير بين الصوم والفطر إذا كان قادراً: ما روي عن أبي سعيد الخدري. قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام، ومنا من أفطر؛ فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. ولو أصبح صائماً في السفر، جاز له أن يفطر، وإن كان يعرف أنه يصل إلى مقصده قبل الغروب؛ لما روي عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى "مكة" عام الفتح في رمضان؛ فصام؛ حتى بلغ كُراع الغميم، فصام الناس معه. فقيل: يا رسول الله، إن الناس شق عليهم الصيام. فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشربه والناس ينظرون إليه.

ولو أصبح صائماً في السفر، فلم يفطر، حتى دخل عُمرانات البلد - لم يجز له أن يفطر، وكذل المريض إذا أصبح صائماً، ثم بريء في خلال النهار، لايجوز أن يفطر. ولو أصبح صائماً في الحضر، ثم خرج إلى السفر، لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم؛ فلو فعل، عصى الله؛ من دخل في الصلاة مقيماً، ثم سافر في خلالها، لا يجوز له قصرها، ولو جامع فيه، يجب عليه الكفارة. وعند أبي حنيفة: لا تجب. وعند أحمد، والمزني: يجوز له أن يفطر. ولو نوى المقيم بالليل، ثم خرج إلى السفر قبل طلوع الفجر- نظر: إن فارق عُمرانات البلد قبل طلوع الفجر، له أن يفطر؛ لأن ابتداء صومه كان في السفر، وإن فارقها بعد طلوع الفجر، لا يجوز أن يفطر. ولا يجب على الصبي والمجنون صوم رمضان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي؛ حتى يبلغ، وعن المجنون؛ حتى يفيق، وعن النائم؛ حتى يستيقظ" ويؤمر الصبي بعد بلوغه سبع سنين إذا أطاق الصوم، ويضرب على تركه إذا بلغ عشر سنين؛ كالصلاة. وإذا بلغ الصبي، أو أفاق المجنون بعد مضي أيام من رمضان -يجب عليه أن يصوم ما بقي منه، ولا يجب عليه قضاء ما مضى. وعند أبي حنيفة: إذا أفاق المجنون، وقد بقي جزء من رمضان، لزمه قضاء جميع الشهر. أما إذا بلغ الصبي؛ نظر: إن كان نوى من الليل، ثم بلغ في خلال النهار بالسن، أو بالاحتلام - يجب عليه إتمام صوم ذلك اليوم، ولا يجب قضاؤه. وقيل: يستحب له إتمام ذلك اليوم، ويجب القضاء؛ لأنه لم ينو الفرض؛ فهو كتطوع شرع فيه يستحب إتمامه؛ والأول أصح.

فلو جامع في ذلك اليوم بعد البلوغ، تجب الكفارة عليه، ولو جامع قبل البلوغ؛ فلا كفارة عليه؛ بخلاف المراهق إذا جامع في الحج يجب عليه الفدية؛ لأن المال في الحج ألزم؛ ولذلك قلنا: إذا جامع ناسياً يفسد حجه في قول، وفي الصوم لا يبطل. وإن لم يكن قد نوى الصوم من الليل؛ أكل أو لم يأكل، هل يلزمه قضاء ذلك اليوم؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه؛ كما تلزمه الصلاة إذا أدرك شيئاً من الوقت. والثاني: لاتلزمه؛ بخلاف الصلاة؛ لأنه يمكنه الشروع في الصلاة في الوقت، ولا يمكنه الشروع في الصوم في الوقت؛ فهو كما لو زال العذر بعد ذهاب الوقت لا يلزمه القضاء. أما المجنون إذا أفاق في خلال النهار، هل يجب عليه قضاء ذلك اليوم؟ قيل: فيه قولان؛ كالصبي. وقيل: لا يجب هاهنا قولاً واحداً؛ لأنه لم يكن مأموراً بالصوم في أول النهار، والصبي كان مأموراً به. ولو أسلم كافر في خلال النهار، هل يجب عليه قضاء ذلك اليوم؟ قيل: فيه قولان؛ كالصبي. وقيل: يجب قولاً واحداً؛ لأنه كان مخاطباً بالصوم في أول النهار. بخلاف الصبي؛ فإنه لم يكن مخاطباً. أما إذا أغمي على الرجل أياماً من رمضان، أو جميع الشهر؛ فإذا أفاق، لزمه القضاء؛ بخلاف المجنون؛ لأن الجنون يزيل العقل؛ فزال عنه الخطاب، والاغماء لا يزيل العقل، بل يغشيه؛ فهو كالمرض؛ ولذلك يجوز الإغماء على الأنبياء عليهم السلام، ولا يجوز الجنون عليهم. وقال ابن سريج: الاغماء كالجنون؛ في أنه إذا استغرق النهار لا يجب القضاء؛ كما في الصلاة يستوي الإغماء والنون في إسقاط القضاء إذا استغرق الوقت. قلنا: إنما فرقنا بين الصلاة والصوم في الإغماء؛ لأن الصلوات تتكرر في الأيام، وربما يمتد زمان الإغماء؛ فيشق عليه القضاء، والصوم لا يتكرر في السنة، فلا يشق عليه القضاء ما فات منه، ولذلك أوجبنا قضاء الصوم على الحائض، ولم نوجب قضاء الصلاة. وعلى المغمي عليه القضاء؛ فإن نوى من الليل، ثم أغمي عليه في النهار، هل يبطل صومه نص في الصوم على أنه إذا كان مفيقاً في جزء من النهار، يصح صومه. وقال في الظهار: إذا كان مفيقاً حالة طلوع الفجر، صح صومه. وقال في "اختلاف الحديث": إذا حاضت المرأة، أو أغمي عليها، يبطل صومها؛ ففيه

دليل على أنه إذا كان مُغمى عليه في جزء من النهار وإن قل، لا يصح صومه؛ كالحيض إذا وجد في جزء من النهار يبطل الصوم. وقال المزني: صح صومه، وإن استغرق الإغماء جميع النهار إذا كان قد نوى من الليل؛ كما لو نام جميع النهار يصح صومه. وخرج ابن سريج قولاً من الظهار أنه يشترط أن يكون مفيقاً في طرفي النهار وقت طلوع الفجر، ووقت غروب الشمس. فمن أصحابنا من جعل المسألة على خمسة أقوال، ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد؛ وهو أنه إذا كان مفيقاً في جزء من النهار يصح صومه؛ كما قال هاهنا. وما ذكر في الظهار ليس المراد منه تعيين حالة طلوع الفجر، بل قصده بيان إفاقته في جزء من النهار. وجوابه في اختلاف الأحاديث يرجع إلى الحيض، والقولان الآخران ليسا للشافعي - رضي الله عنه -. وقيل: المسألة على قول واحد؛ أنه يشترط أن يكون مقيماً حالة طلوع الفجر؛ لأنه أول حالة الشروع في الصوم؛ كالنية في الصلاة يعتبر أولها. وما قال في الصوم أراد به: الجزء الأول من النهار. وجوابه في اختلاف الأحاديث: راجع إلى الحيض. أما ما ذكره المزني أنه وإن استغرق جميع النهار يصح صومه؛ كما لو نام جميع النهار. وقال أبو الطيب بن سلمة إذا نام جميع النهار، ولم ينتبه في جزء منه - لا يصح صومه؛ كما لو أغمي عليه جميع النهار. والمذهب: أنه يصح صوم النائم؛ بخلاف الإغماء؛ لأن الإغماء يزيل الخطاب؛ ولذلك لا يجب عليه قضاء الصلوات، والنوم لا يزيله؛ فإنه إذا نبه تنتبه؛ فلم يسقط عنه القضاء. ولو جُن الصائم في خلال النهار، فقد قيل: هو كالإغماء. والمذهب: أن صومه يبطل؛ لأن الجنون مناف للصوم؛ فإنه يزيل العقل، ولا يجب عليه قضاء ذلك اليوم ولو نوى بالليل، ثم شرب دواء فزال عقله، فان زائل العقل بالنهار - هل يصح صومه ترتب على الإعماء: إن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والأصح: أن عليه القضاء؛ لأنه كان بصنعه ولو ارتد الصائم، أو حاضت المرأة الصائمة، بطل صومها، وعليها القضاء.

"فصلٌ: فيمن يلزمه التشبه بالصائمين" إذا أفطر يوماً من رمضان عمداً، عصى الله - تعالى - وعليه الإمساك، والتشبه بالصائمين. وكذلك لو نسى النية من الليل، فيلزمه التشبه؛ حتى لو أكل شيئاً عصى الله عز وجل. وكذلك لو أصبح يوم الثلاثين من شعبان مُفطراً للشك، ثم ثبت أنه من رمضان - يجب عليه الإمساك والتشبه. ولو طهرت الحائض والنفساء في خلال النهار لا يلزمها التشبه. ولو أصبح غر صائم بعذر سفر، أو مرضن ثم أقام وبريء في خلال النهار - نظر: إن كان أكل شيئاً، لا يلزمه التشبه بالصائمين، وله أن يأكل، لكنه يُخفي الأكل عن الناس؛ حتى لا يتهم. وإن كانت امرأته قد طهرت من الحيض، جاز له وطؤها. وإن لم يكن أكل شيئاً. قيل: إن أقام أو بريء، هل يلزمه التشبه؟ فيه وهان: أصحهما: لا يلزمه. وقال أبو حنيفة: يلزمهما التشبه؛ سواء أكلا أو لم يأكلا؛ كالأكل عامداً. قلنا: هناك ما أبيح له الأكل، وهاهنا المسافر والمريض أبيح لهما الأكل، وليس كيوم الشك إذا ثبت كونه من رمضان يجب عليه التشبه، مع أن الأكل مباحاً له؛ لأن هناك أبيح له الكل لأن الشهر لم يتحقق؛ فإذا تحقق لزمه التشبه. والمسافر والمريض أبيح لهما الأكل مع تحقق الشهر، فلم يلزمهما. ولو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي، أو أسلم كافر في خلال النهار - هل يلزمهم التشبه إن قلنا: يجب عليهم قضاء صوم ذلك اليوم، يلزمهم التشبه، وإلا فلا يلزم. والتشبه يختص برمضان، فمن نذر صوم يوم بعينه، ثم أفسده، أو لم ينو من الليل - يجب عليه القضاء، ولا يلزمه التشبه بالصائمين في ذلك اليوم. "فصلٌ: في تعجيل القضاء" من أفطر يوماً من رمضان بغير عذر، عصى الله - تعالى - وإذا خرج رمضان يلزمه تعجيل قضائه، ويعصي بالتأخير. وإن كان في السفر، وإن أفطر بعذر، يستحب له أن يعجل القضاء، فلو أخر يجوز، بشرط أن يقضي قبل دخول رمضان الثاني.

رُوي عن عائشة قالت: إن كان ليكون على صيام من رمضان، فما أقضي منه؛ حتى يأتي شعبان تعني: بالشغل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولو فاتته أيام، يُستحب أن يقضيها متتابعة، فلوقضاها متفرقة جاز، فإن كان عليه صوم اليوم الأول، فقضى ونوى اليوم الثاني - فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأن تعيين اليوم ليس بواجب عليه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يقضي غير ما عليه؛ كما لو كان عليه عتق عن كفارة اليمين؛ فنوى عن الظهار -لم يجز. فإذا أخر القضاء؛ حتى دخل رمضان الثاني؛ نر: إن لم ينقطع عذره إن دام مرضه، أو سفره، حتى مات - فلا شيء عليه؛ كما لو تلف ماله بعد الحول قبل إمكان الأداء، لا زكاة عليه؛ بخلاف الشيخ الهِمِّ إذا مات يطعم عنه؛ لأن الإطعام كان واجباً عليه في الحياة. وإذا أخر القضاء بلا عذر إلى رمضان الثاني، يجب عليه أن يقضي، ويطعم عن كل يوم مسكيناً مداً من غالب قوت البلد. وعن أبي حنيفة - رحمه الله - لا يجب الفدية بسبب التأخير. وإن كان عليه قضاء أيام، يجوز أن يصرف الأمداد كلها إلى مسكين واحد؛ لأن فدية ل يوم بمنزلة كفارة أخرى. فإن فدى، ولم يقض؛ حتى مضى رمضان آخر، عليه القضاء، والفدية ثانياً. فن لم يقض، ولم يفد؛ حتى مضى رمضانان، هل تتداخل الفديتان؟ فيه وجهان: أحدهما: تتداخل؛ كالحدود تتداخل. والثاني: لا تتداخل؛ لأنه من الحقوق المالية، وزاد بالتأخير عن كل رمضان فدية. فإن كان قد أفطر متعمداً وقلنا يلزمه الفدية، فلا تدخل فدية الإفطار في فدية التأخير؛ لأن موجبهما مختلف. وكذلك لو أفطر بالجماع، فكان من أهل الإطعام؛ فأخر القضاء، لا تدخل فدية التأخير في الكفارة؛ كما لو كفر - بالصيام لايدخل القضاء في صوم الكفارة. ولو جعل فدية التأخير قبل دخول رمضان الثاني؛ ليؤخر القضاء مع الإمكان - هل يجوز؟ فيه وجهان؛ بناء على جواز تعجيل الكفارة في الجنب المحظور. ومن مات وعليه صوم عن قضاء رمضان، أو عن نذر وكفارة - هل يجوز لوارثه أن يصوم عنه؟ فيه قولان: قال في القديم: يصوم عنه؛ لما روي عن عائشة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من

مات وعليه صوم صام عنه وليه" وبه قال أحمد وإسحاق ولأنه عبادة تجب الكفارة بإفسادها، فجاز أن يقضي عنه بعد الموت؛ كالحج. وقال في الجديد: يطعم عنه؛ لما روي عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:"من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً" والصحيح أنه موقوف على ابن عمر؛ وهذا قول مال، وسفيان، وأبي حنيفة. ولأنه عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة، فلا تدخل بعد الموت؛ كالصلاة. فإن قلنا: يجوز أن يصوم وليه، لا يجب عليه ذلك، إلا أن يتبرع. ولو صام عنه أجنبي، فيه وجهان ولو أمر الولي أجنبياً؛ حتى صام بأجرة أو غيرها، يجوز؛ الحج. فإن قلنا: يطعم عنه، فإن كان قد أخر القضاء عن رمضان الثاني؛ فمات، لا تدخل فدية التأخير في فدية القضاء؛ حتى لو قام عشرة أيام من رمضان؛ فأخر فمات أول رمضان الثاني - يجب عليه عشرون مدا: عشرة عن أصل الصوم، وعشرة بسبب التأخير. ولو أخر القضاة؛ حتى بقي من شعبان عشرة أيام؛ فمات - لا يجب عليه إلا فدية أصل الصوم، ولا يجب عليه فدية التأخير؛ لأنه لم يكن مفرطاً بالتأخير إلى هذا الوقت. ولو مات يوم الخامس والعشرين من شعبان، يجب عليه خمسة عشر مداً عشرة عن أصل الصوم وخمسة عن التأخير؛ لأنه مفرط بتأخير خمسة؛ فنه لو عاش لم يمكنه قبل رمضان إلا قضاء خمسة أيام. ولو مات وعليه صلاة لاتقضي عنه، ولا تسقط عنه بالفدية، وكذلك الاعتكاف.

وقال أبو حنيفة: يُطعم عنه عن كل صلاة نصف صاع حنطة، أو صاعاً من غيرها. وحكى البويطي عن الشافعي: من مات وعليه اعتكاف، اعتكف عنه وليه. وفي رواية: يطعم عنه أولياؤه. قال الشيخ: لا يبعد تخريج هذا في الصلاة؛ فيطعم عن كل صلاة حداً. ولو نذر أن يعتكف يوماً صائماً؛ فتعر عليه، فلم يعتكف ومات - فإن قلنا: يجوز إفراد الصوم عن الاعتكاف، فلا يعتكف عنه الولي. وهل يصوم؟ فعلى قولين. فإن قلنا: لا يجوز إفراد الصوم، فإن قلنا: لا يصوم عنه الولي، فهاهنا لا يصوم، ويطعم. وإن قلنا: يصوم عنه الولي، فهاهنا يعتكف عنه الولي صائماً؛ وإن كانت النيابة لا تجزيء في الاعتكاف، فهاهنا تجوز تبعاً للصوم؛ كما لا تجوز النيابة في الصلاة، وتجوز في ركعتي الطواف؛ تبعاً للحج. ولو شرع في قضاء رمضان، أو فيصوم الكفارة فأفطر بعذر، أو بغير عذر بالجماع أوغيره - لا كفارة، إنما تجب الكفارة بالجماع في أداء رمضان؛ لحرمة الوقت. ثم ينظر إن كان قد أفطر بغير عذر، فالقضاء عليه مضيق، وإذا أفطر في القضاء يعصي. وكذلك إذا كانت الكفارة لزمت بسبب غير مباح؛ كالقتل بغير حق، فلا يجوز له الفطر؛ لأن التكفير مضيق عليه. وإن كان أفطر رمضان بعذر؛ كالمرض والسفر، أو في صوم كفارة - لزمته بسبب لم يكن عاصياً فيه؛ فلا يعصي في القضاء. والله أعلم. "فصلٌ: فيمايلزم الصائم من السنن والآداب" روي عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".

السنة للصائم تعجيل الفطر بعد ما تيقن غروب الشمس، ويستجب له أن يتسحر بالليل؛ فيكون أقوى على الصوم. روي عن أنس؛ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا فلما فرعا من سحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة قيل لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. ويستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى الماء؛ لما رُوي عن سليمان بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجد التمر فليفطر عليه، ومن لم يجد التمر فليفطر على الماء؛ فإنه طهور". ويستحب أن يقول عند الفطر ما روي عن معاذ: قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" ويجب على الصائم أن يصون جوارحه بصون بصره عن النظر إلى مالا يحل، ولسانه عن الغيبة والمشاتمة.

روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فلي سلله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

وعن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصوم جنة؛ فإذا كان أحدكم صائماً؛ فلا يرفث ولا يجهل؛ فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم".

والسنة أن يكثر الصدقة في شهر رمضان، والجود والسماحة أمر مندوب إليه في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر استحباباً؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليكن في أهل الحاجة من الصائمين والقائمين بعض مؤناتهم؛ ليتفرغوا للعبادة. روي عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان. وكان جبريل يلقاه في كل ليلة في رمضان؛ فيعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة. باب صيام التطوع، وما يستحب منه، وما نهي عنه رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنا خبئنا لك حيساً. قال: "أما إني كنت أريد الصوم، ولكن قريبه".

من شرع في صوم تطوع، أو في صلاة تطوع، يستحب له أنيتمه، ولا يخرج منه من غير عذر، فإن خرج جاز، ولا قضاء عليه؛ غير أنه يكره إذا لم يكن له عذر. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء؛ سواء خرج بعذر، أو بغير عذر، ويعصي إن خرج بغير عذر. وقال مالك: إن خرج عن صوم التطوع بغير عذر عليه القضاء. وبالاتفاق: لو شرع في صلاة ظنها عليه، أو في صوم ظنه عليه؛ فبان أنه لم يكن عليه -جاز له الخروج منه، ولا قضاء عليه. أما حج التطوع والمظنون إذا شرع فيه، لا يجوز الخروج منه؛ لأن مبناه على اللزوم. والوصال في الصوم من خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يصوم يومين فأكثر، ولا يطعم بالليل شيئاً؛ فمن واصل، عصى الله تعالى. روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والوصال إياكم والوصال إياكم والوصال" قالوا: فإنك تواصل، يا رسول الله. قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت فيطعمني ربي ويسقيني" وهذا العصيان لقصده إلى الوصال، وألا فالفطر قد حصل بدخول الليل؛ كالحائض إذا صلت عصت، وإن لم ين لها صلاة؛ فإن طعم بالليل شيئاً وإن قل، خرج عن النهي.

وصوم الدهر مكروه؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لتصوم الدهر" قلت: نعم. قال "إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين وتفهت له النفس لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر له قلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "فصم صوم داود؛ كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى".

روي عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة، أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطر كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله - صلى الله عليه وسلم -.

وروي أن عائشة كانت تصوم الدهر. فقيل لها: أتصومين الدهر وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام الدهر؟ قالت: من أفطر يوم النحر والفطر فلم يصم الدهر. ولو نذر رجل صوم الدهر، يلزم، ويكون يوم العيدين والتشريق مستثنى لا يصومها؛ وكذلك يصوم رمضان عن الفرض، لا عن نذر. وإن فاته صوم رمضان بعذر، أو بغير عذر، جب قضاؤه، ويكون ذلك مستثنى عن نذر صوم الدهر؛ كأداء رمضان، ولا فدية عليه. ولو أفطر يوماً من الدهر لا يمكنه القضاء؛ لأن جميع الأيام مستحق للصوم. وهل عليه الفدية لما أفطر؟ نظر: إن أفطر بعذر، لا فدية عليه، وإن أفطر بغير عذر، يجب عليه الفدية. ولو نذر صوم الدهر، ثم نذر صوماً آخر، لا ينعقد الثاني؛ لأن جميع أيامه مستحقة لنذر صوم الدهر. وإن لزمه صوم عن كفارة، يصوم عن الكفارة، ويفدي عن النذر. ولو نذرت المرأة صوم الدهر، للزوج منعها، ولا قضاء، ولا فدية عليها. فإن أذن لها الزوج، فمل تصم، أو بعد موت الزوج، لا يمكن القضاء، ويجب الفدية. وصوم يوم "عرفة" مستحب لغير الحاج؛ وهو أفضل أيام السنة. روي عن أبي قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "صيام يوم عرفة كفارة سنتين: السنة التي قبلها، والسنة التي بعدها. وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة".

أما الحاج فيستحب له ألا يصوم يوم "عرفة"؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصمه؛ وأن الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه عن الدعاء. وصوم عاشوراء كفارة سنة. روي عن ابن عباس قال: ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يتحرى صيامه على الأيام إلا هذا اليوم يعني: يوم عاشوراء. واختلف العلماء في يوم عاشوراء: قال بعضهم: هو اليوم العاشر من المحرم. وقال بعضهم: هو اليوم التاسع. وروي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود" وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. ويستحب صوم الإثنين والخميس؛ لما روي عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صوم الإثنين والخميس. وعن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس

وأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم".

ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده". وإفراد يوم السبت بالصوم مكروه؛ لأنه يوم اليهود. روي عن عبد الله بن بسر عن أخته (الصماء) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا

تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم؛ فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه". ويستحب صيام أيام البيض؛ وهي اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من الشهر. روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام،

فضُم ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر". ويستحب أن يصوم ستة أيام من شوال؛ لما روي عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام من رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، ان كصيام الدهر".

والأفضل أن يصوم الست متتابعاً من أول شوال بعد يوم العيد؛ لأن تعجيل العبادة أفضل. وعند أبي حنيفة: يفرقها في الشهر. ولا يجوز صوم يومي العيد، وأيام التشريق؛ لما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى ن صوم يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر.

وعن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب. ولو صام يوم العيد لا يصح، ولو نذر صومه لا ينعقد. وقال أبو حنيفة: ينعقد نذره، ويصوم يوماً آخر، وكذلك أيام التشريق، ولو صام فيها لا يصح.

وقال في القديم: يجوز للمتمتع إذا لم يجد الهدي، ولم يصم ثلاثة أيام في الحج - أن يصوم أيام التشريق؛ وهو قول ابن عمر، وعائشة. ثم رجع عنه الشافعي في الجديد. أما صوم آخر، لا يجوز فيها بالاتفاق.

وإذا انتصف شعبان، يكره الصوم استقبالاً للشهر، إلا أن يوافق صوماً كان يصومه من قبل. رُوي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا". ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه. روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير رمضان إلا بإذنه". "باب الاعتكاف" قال الله تعالى لإبراهيم: {طَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

روي عن عائشة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده. الاعتكاف سُنة مستحبة، وهو من الشرائع القديمة، ويجوز في جميع الأزمنة؛ ليلاً ونهاراً؛ غير أن في شهر رمضان في العشر الأواخر أفضل؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلباً لليلة القدر. وليلة القدر أفضل ليالي السنة، خص الله بها هذه الأمة. قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] وهي باقية في الأمة إلى يوم القيامة، وعامة العلماء على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر. روي عن عبد الله بن مسعود؛ أنه قال: من يقم الحول يصب ليلة القدر.

قال زر بن حبيش: سألت أبي بن كعب؛ فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال- رحمه الله -: أراد لا ينكل الناس، أما أنه علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة تسع وعشرين. فقلت: بأي شيء يقول ذلك، يا أبا المنذر؟ قال: قال بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطلع الشمس يومئذ لا شعاع لها. ومال الشافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، واعتكف عاماً؛ حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين؛ وهي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها؛ فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر" فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش؛ فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. وقد مال أيضاً إلى ثالثة وعشرين؛ لما روي أيضاً عن عبد الله بن أنيس؛ أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أكون بباديتي، وني أصلي لهم فمر بي ثلاثة من هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصلي فيه. فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين.

ويستحب أن يطلبها في العشر في لوتر منها؛ لما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تحزروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وإنما أخفى الله - عز وجل - هذه الليلة؛ حتى لا يتكل الناس عليها؛ فيدعوا إحياء سائر الليالي، بل يحبوا جميع ليالي العشر؛ فيكثر ثوابهم؛ كما أخفي ساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة؛ فيشغل الإنسان أكثر ساعاته بالدعاء؛ فيكثر ثوابه. والاعتكاف يختص بالمسجد، ويجوز في جميع المساجد، والمسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة؛ أما العبد والمسافر والمرأة، فلهم أن يعتكفوا في أي مسجد شاءوا لأنه لا جمعة عليهم. ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها، ففيه قولان:

أصحهما: وهو قوله الجديد -: لا يصح؛ لأن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكفن في المسجد ولأن مكان صلاتها في البيت ليس له حكم المسجد، بدليل أنه يجوز تغيره، ويجوز للجنب الجلوس فيه. وقال في القديم: يجوز؛ لأن مكان صلاتها؛ كالمسجد في حق الرجل. ولو نذر أن يعتكف في مسجد عينه؛ نظر: إن عين مسجداً غير المساجد الثلاثة؛ وهي المسجد الحرام، ومسجد المدينة والأقصى - فلا يتعين، وله أن يعتكف في أي مسد شاء؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض في الحرمة والفضيلة. وكذلك لو نذر أن يصلي في مسجد عينه غير هذه الثلاث، جاز له أن يصلي في أي مسجد شاء. ومن أصحابنا من قال: إن عين مسجداً. للاعتكاف، تعين؛ بخلاف الصلاة؛ لأن الاعتكاف اختصاص بالمسجد؛ حتى لا يجوز في غيره، والصلاة يجوز أداؤها في غير المسجد. فإذا عين لها مسجداً لا يتعين، أما إذا عين للاعتكاف والصلاة مسجداً من المساجد الثلاثة؛ نظر: إن عين المسجد الحرام يتعين، ولا يخرج عنه للاعتكاف، والصلاة إلى غيره؛ لما روي أن عمر قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد

الحرام". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أوف بنذرك". ولو عين مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو المسجد الأقصى - هل يتعين، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يتعين؛ كما لو نظر أن يصلي، أو يعتكف في المسجد الحرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص هذه المساجد بشد الرحال إليها. ورُوي عن أبي سعيد الخدري؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا".

والثاني: لا يتعين؛ لأنه لا يجب قصدهما بالنسك، وله أن يصلي ويعتكف في أي مسجد شاء؛ كما لو عين مسجداً آخر. فإن قلنا: يتعين، ويلزم: فإن عين المسجد الحرام، فلا يخرج عن نذره بالاعتكاف والصلاة في غيره؛ لأنه أفضل المساجد. روي عن عبد الله بن الزبير؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي".

وإن عين مسجد المدينة، يخرج إذا أتى به فيه، أو في المسجد الحرام، ولا يخرج إذا أتى به في مسجد آخر. روي عن جابر؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك "مكة" أن أصلي في بيت المقدس ركعتين. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صل هاهنا" ثم أعاد عليه. فقال "صل هاهنا" فأعاد عليه فقال: "فشأنك إذاً". وإن عين المسجد الأقصى، فيخرج عن نذره إذا أتى به فيه، أو في المسجد الحرام، أو في مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أفضل، ولا يخرج به إذا أتى في مسجد آخر. "فصلٌ: فيمن يصح منه الاعتكاف" ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل؛ فلو اعتكف كافر أو مجنون، لا يصح؛ كما لا يصح صلاته وصومه. ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها؛ لأن الزوج يستحق الاستمتاع بها، ولا للعبد أن يعتكف بغير إذن سيده؛ لأن منفعته مستحقة للسيد، فإن اعتكفت المرأة بإذن الزوج، أو العبد بإذن السيد - يجوز له أن يخرجه؛ لأنه تطوع لا يلزم بالدخول فيه.

ولو نذر أحدهما اعتكافاً ينعقد، ويعتكف العبد بعد العتق، والمرأة بعد الفراق، فإن أذن لهما الزوج والسيد؛ فدخلا وإن كانا عيناً زماناً للنذر لم يجز لهما إخراجهما؛ لأن الخروج منه لا يجوز؛ فلا يجوز لهما الإخراج؛ كما لو كان الزمان متعيناً. وإن لم يكن متتابعاً، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إخراجهما؛ لوجود الإذن منهما. والثاني: يجوز؛ لأن الإذن غير متعين له. وإن نذرت المرأة بإذن الزوج، أو العبد بإذن السيد، فإن لم يكن متعلقاً بزمان، لم يجز له أن يدخل بغير إذن الزوج، أو المولى؛ لأنه ليس على الفور. وإن كان متعلقاً بزمان بعينه، جاز لهما أن يدخلا بغير الإذن. ولو اعتكف المكاتب بغير إذن المولى، هل له إخراجه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه لا حق له في منفعته. والثاني: له ذلك؛ لأنه يتضرر بقعوده عن تحصيل المال. أما من نصفه حر ونصفه رقيق، فإن لم يكن بينه وبين المال مهايأة فهو كالعبد، وإن كنا بينهما مهايأة ففي اليوم الذي هو للمولى؛ كالعبد في يوم نفسه كالحر. "فصل: في الاعتكاف بصوم وبغير صوم" والأفضل أن يعتكف صائماً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في رمضان، فإن اعتكف بغير صوم جاز؛ حتى لو اعتكف بالليل، أو في يوم العيد وأيام التشريق، يجوز؛ لما

روي عن ابن عمر أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال "أوف بنذرك". ولو كان الصوم شرطاً في الاعتكاف، لم يجز بالليل وحده. وعند أبي حنيفة: الصوم شرط لصحة الاعتكاف؛ حتى لا يصح الاعتكاف في يوم العيد، وأيام التشريق. وبالاتفاق: لو اعتكف أياماً يكون بالليالي معتكفاً، وإن لم يكن صائماً، ولو كان الصوم شرطاً لخرج عنه باللي؛ كما يخرج عن الصوم. ولو نذر أن يعتكف يوماً صائماً، يجب أن يعتكف صائماً؛ حتى لو أفطر يلزمه أن يستأنف اعتكاف يوم صائماً، ولا يجوز إفراد الصوم عن الاعتكاف. وكذلك إذا قال: أعتكف يوماً بصوم أو قال: أصوم معتكفاً، لا يجوز إفراد أحدهما عن الآخر. هذا هو المذهب. ولو اعتكف عن نذره في رمضان، لا يخرج عن نذره. وفيه وجه: أنه يجوز إفراد أحدهما عن الآخر فإن اعتكف صائماً فأفطر، يتم الاعتكاف، ويستأنف صوم يوم بلا اعتكاف. ولو صام يوماً عن النذر، ثم اعتكف يوماً آخر يجوز. ولو اعتكف رمضان خرج عن نذر الاعتكاف، وعليه صوم يوم؛ لأنهما عبادتان مختلفتان؛ فلا يلزم الجمع بينهما بالنذر، كما لو نذر أن يصلي ويصوم، ولا يلزم الجمع بينهما بالنذر. والمذهب الأول؛ لأن الصوم صفة مقصودة في الاعتكاف؛ فيلزمه بالنذر؛ كالتتابع. ولو قال: لله علي أن أعتكف يوماً، وأنا فيه صائم؛ لا يجوز الإفراد وجهاً واحداً. ولو اعتكف في رمضان يجوز؛ لأنه لم يلتزم الصوم بالنذر، إنما وصف نفسه في الاعتكاف بصفة، وقد وجد؛ كما لو قال: أعتكف في رمضان.

ولو نذر أن يصلي معتكفاً، يلزمه الاعتكاف والصلاة [و] هل يجوز إفراد أحدهما عن الآخر؟ ترتب على الصوم: إن جوزنا هناك، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن بين الاعتكاف والصوم مجانسة من حيث إن كل واحد كف وإمساك، والصلاة أفعال تباشر، ولذلك جعل بعض العلماء الصوم شرطاً في الاعتكاف. ولاخلاف أنه لا يلزمه الصلاة إلا ركعتين، وإن كان نذر اعتكاف أيام مُصلياً، لا يلزمه كل يوم إلا ركعتان. "فصلٌ: في النية في الاعتكاف" النية شرط في الاعتكاف؛ حتى لو مكث أياماً في المسجد بلا نية، فلا يكون معتكفاً. فإن دخل ونوى، كان معتكفاً؛ وإن لم يمكث إلا ساعة.

وإن كان الاعتكاف فرضاً، يجب أن ينوي فرض الاعتكاف؛ ليتميز عن التطوع. فلو دخل في الاعتكاف، ثم نوى الخروج، هل يخرج؟ فيه وجهان؛ كالصوم. ولا تقدير لزمان الاعتكاف؛ فلو نذر اعتكاف ساعة تنعقد، ولو نذر أن يعتكف مطلقاً، يخرج عن نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدق؛ فتصدق بما شاء من قليل وكثير. وقد قال الشافعي: يجب أن يعتكف يوماً. وإنما قال ذلك؛ للخروج فإن أبا حنيفة لا يجوز اعتكاف أقل من يوم. وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، يستحب أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس من بعد العشرين؛ حتى لا يفوت شيء من ليلة الحادي والعشرين؛ لاحتمال أن تكون ليلة القدر، ويخرج بعد غروب الشمس من ليلة العيد، والمستحب أن يمكث فيه ليلة العيد، ويخرج منه إلى المُصلى [و] يرجع من المصلى إلى بيته. ولو نذر اعتكاف العشر الأواخر، يدخل قبل غروب الشمس من يوم العشرين، ليستوفي العشر، ويخرج إذا دخل ليلة العيد؛ سواء خرج الشهر ناقصاً أو كاملاً؛ لأن العشر عبارة عن ما بعد العشرين إلى آخر الشهر.

وكذلك لو قال: هذه العشر. فإن قال: عشرة أيام من أخر شهر رمضان، فخرج الشهر ناقصاً، عليه أن يضم غليها يوماً بليلته، فإن دخل المعتكف يوم التاسع عشر، خرج بانقضاء الشهر، فإذا دخل المسجد بنية الاعتكاف؛ فلم ينو مدة، فإذا خرج لقضاء حاجة، أو أكل، أو لأداء شغل كان خرج من الاعتكاف. فإذا عاد يحتاج إلى تجديد النية، وإذا دخل بنية أن يعتكف عشرة أيام، وكان نذر اعتكاف عشرة أيام مطلقاً؛ فدخل المعتكف بنية العشرة - له الخروج لقضاء حاجة، والعبادة، وأداء الشهادة، ولما شاء؛ لأن التتابع لا يلزمه؛ فإذا خرج وعاد، هل يحتاج على تجديد النية نظر: إن خرج لأمر لا يقطع التتابع نظر: إن كان أمراً لابد له منه؛ كالبول والغائط ولاغتسال والآذان - فلا يحتاج على تجديد، وإن كان لأمر له منه بُد، وطال الزمان، ففيه وجهان. ويمكن بناء الوجهين على الوجهين في أنه إذا فرق الوضوء، وطال الفصل فبعد النية هل يحتاج إلى تجديد النية؟ فيه وجهان. "فصل: في تتابع الاعتكاف وتفريقه" إذا نذر اعتكاف عشرة أيام مطلقاً، يستحب أن يعتكف متتابعاً، ولو فرق يجوز. ولو نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعاً، يلزمه التتابع. ولو نوى بقلبه التتابع، هل يلزمه التتابع؟ فيه وجهان: الأصح: أنه لا يلزم؛ كما لو نذر الاعتكاف بقلبه لا يلزم. ولو نذر أن يعتكف عشرة متفرقة، يجوز متفرقاً ومتتابعاً، لأن التتابع أفضل؛ فجاز أن يسقط الأدنى بالأفضل؛ كما لو نذر أن يعتكف في غير المسجد الحرام، كان له أن يعتكف في المسجد الحرام. كان له أن يعتكف في المسجد الحرام. وإذا نذر عشرة أيام متتابعاً، أو شهراً بعينه متتابعاً؛ فخرج بغير عذر - يلزمه استئناف العشر، أو الشهر متتابعاً. ولو نذر أن يعتكف من هذه العشرة، أو عشرة من الآن، أو قال شهراً عينه؛ مثل: أن كان شهر رجب، أو عشرة أيام من أول رجب - يلزمه أن يعتكف متتابعاً؛ لأن الوقت متعين فإن خرج بغير عذر، لا يلزمه الاستئناف وإن فاته ولم يعتكف تلك العشر، أو ذلك الشهر، يجب عليه قضاؤه، ولا يلزمه التتابع في القضاء؛ لأن التتابع في أدائه كان لحق الوقت، فذا فات سقط التتابع؛ كالتتابع في صوم رمضان لازم، فإذا صار قضاء لا يلزمه فيه التتابع. ولو نذر اعتكاف عشرة أيام بعينها متتابعاً، أو قال: اعتكف شهر رجب متتابعاً، فإذا خرج بال عذر هل يلزمه الاستئناف؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح عندي -: يجب؛ ما لو نذر أياماً بعينها متتابعة.

والثاني: لا يجب؛ لأن التعيين يغني عن التقييد بالتتابع في وجوب التتابع فيلغو ذكر التتابع. قال الشيخ: وكذلك إذا صار قضاء، هل يلزمه التتابع في القضاء؟ فعلى هذين الوجهين. ولو نذر اعتكاف يوم، يلزمه أن يدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس، ولا يلزمه الليل. وإن دخل نصف النهار، ومكث إلى ذلك الوقت من اليوم الثاني- جاز، ولو خرج بالليل، أو فرق اعتكاف يوم على ساعات الأيام - هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما لو نذر أن يعتكف شهراً يجوز تفريق الشهر على أيام الشهر. والثاني: لا يجوز؛ لأن اليوم يعرف منه اليوم المتصل دون الساعات. ولو نذر اعتكاف يوم من الآن، يلزمه دخول المعتكف في الوقت إلى ذلك الوقت من اليوم الثاني، ولا يجوز أن يخرج بالليل؛ لأنه يقتضي يوماً متتابعاً. ولو نذر اعتكاف يومين، هل يلزمه اعتكاف الليلة المتخللة بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزم، إلا أن يريد بياض النهار؛ كما لو نذر اعتكاف عشرة أيام، يلزمه مع الليالي، إلا أن يريد الأيام دون الليالي؛ فلا يلزمه الليالي. والثاني: لا يلزمه، إلا أن ينوي، أو يقيد بالتتابع. وقيل: له إذا نذر اعتكاف عشرة أيام، هل تلزمه الليالي؟ فيه وجهان: وإن نذر اعتكاف ليلتين، هل يلزمه النهار المتخلل بينهما فعلى هذين الوجهين. أما إذا نذر اعتكاف شهر، تلزمه الليالي والأيام؛ لأن الشهر اسم يتناول الكل ولو نذر اعتكاف شهر، ونوى الأيام، فيه وجهان: قال الشيخ القفال: لا تلزمه الليالي؛ كما لو نذر عشرة أيام، أو ثلاثين يوماً، وأراد الأيام. والثاني- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة-: تلزمه الليالي؛ لأن اسم الشهر يتناول الكل. ولو استثنى بقلبه الليالي يصح الاستثناء بالقلب ولو نذر اعتكاف شهر غير متعين، فدخل المعتكف، فالشهر يكون بالهلال، وإن خرج ناقصاً، وإن دخل في خلال الشهر، فيعتكف ثلاثين يوماً. ولو نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم ليلاً، لا يلزمه شيء، وإن قدم

نهاراً يلزمه أن يعتكف بقية النهار. وهل يلزمه أن يقضي من يوم آخر بقدر ما مضى من النهار؟ فيه قولان: أصحهما: لا، لأن وقت الوجوب من حين قدم فلان. والثاني: يجب؛ كأنه قال: لله علي أن أعتكف اليوم الذي يتصور فيه قدوم فلان، فإذا قدم تبينا أن الاعتكاف لزمه من أول النهار، ولا يلزمه الليلة المتخللة؛ وهذا بناء على ما لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم نهاراً - هل يلزمه شيء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم، لأن صوم بعض النهار لا يتصور؛ فعلى هذا: هاهنا لا يلزمه الاعتكاف بقية النهار. والثاني: يلزمه صوم يوم كامل، وكأنه نذر أنيصوم اليوم الذي يتصور فيه قدوم فلان؛ فعلى هذا: يجب أن يتم الاعتكاف يوم. اختار المزني: أنه يستأنف اعتكاف يوم؛ حتى يون اعتكافه موصولاً، ونحن نقول: الأولى أن يعتكف بقية النهار، ومن الغد بقدر ما مضى؛ لأن الإتيان بالعبادة في وقتها أولى؛ فإن قدم فلان، وهو مريض أو محبوس؛ فإذا زال العذر، يقضي يوماً كاملاً على أحد القولين. وعلى القول الثاني: يقدر ما كان باقياً من النهار حالة قدوم فلان؛ لأنه فرض وُجد شرطه في المرض؛ فثبت في الذمة؛ كصوم رمضان. وقال القاضي أبو حامد: لايلزمه؛ لأن ما لا يقدر عليه لا يدخل في النذر؛ كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه؛ فحاضت فيه. فصلٌ: فيما يقطع التتابع ويبطل الاعتكاف رُوي عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف أدنى إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.

إذا نذر اعتكافه متتابعاً؛ فخرج من المسجد بغير عذر، أو انتقل إلى مسجد آخر بغير عذر - بطل اعتكافه، وانقطع التتابع؛ فعليه الاستئناف، وإذا أخرج رأسه بغير عذر من المسجد، لا يبطل اعتكافه. ون أخرج رجليه معتمداً عليهما، كان خارجاً. فإن مد رجليه قاعداً؛ فأخرجهما، لم يكن خارجاً. وكذلك لو حلف ألا يدخل دار فلان، فأدخل فيها رأسه أو رجليه غير مُعتمد عليهما - لم يحنث. وإذا خرج لقضاء الحاجة من البول أو الغائط؛ سواء كانت داره قريبة أو بعيدة، إذا لم يكن متفاحشاً لا يبطل اعتكافه، فإن كان بعيداً متفاحشاً؛ بحيث تذهب أكثر أوقاته في التردد - نر: إن لم يجد في الطريق موضعاً يقضي فيه حاجته، أو كان دخول دار صديق له لا يبطل اعتكافه، وإن وجد ولم يكن تمنعه المروءة ففيه وجهان. وإن كانت له داران: أحدهما أقرب؛ فذهب إلى الأبعد، بطل اعتكافه؛ لأنه لا حاجة إليه. وقال ابن أبي هريرة: لا يبطل اعتكافه، ولا يجوز أن يخرج لتجديد الوضوء، ولا للوضوء عن النوم مع إمكان أن يتوضأ في المسجد في طست أو إناء. ولو احتلم؛ فخرج للاغتسال، لا يبطل اعتكافه. ولا يجوز أن يخرج من المسجد للأكل؛ فإن خرج بطل اعتكافه؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد. وقال أبو إسحاق: يجوز، ولا يبطل اعتكافه؛ لأنه يستحي من ذلك. ولا يجوز أن يخرج لعيادة مريض، ولا لصلاة جنازة، فإن فعل بطل اعتكافه.

ولو خرج لقضاء الحاجة؛ فعاد في الدار، أو في الطريق مريضاً ماراً، أو قعد قعدة خفيفة- لم يبطل اعتكافه. وإن مكث عنده ساعة، أو احتاج إلى العدول عن الطريق، أو الوقوف للاستئذان - بطل اعتكافه وكذل إذا خرج لقضاء الحاجة؛ فأكل شيئاً في الطريق ماراً، أو جلس فحسا حسوة أو حسوتين، أو أكل لقمة أو لقمتين. ولو صلى في الطريق على جنازة، بطل اعتكافه عن لم تتعين، وإن تعين فوجهان. وإن حاد عن الطريق لأجله بطل، وإن دُعي لأداء شهادة إن تعين عليه يجب الإجابة، وألا فعلى وجهين: فإن قلنا: لا يجب الإجابة، فإذا أجاب وخرج، بطل اعتكافه، وانقطع التتابع. وإن قلنا: يجب الإجابة، هل يبطل اعتكافه؟ وفيه وجهان: الأصح: يبطل؛ وهو المنصوص. وإن خرج للأذان والمنارة في رحبة المسجد لا يبطل اعتكافه. وإن كانت خارجة عن رحبة المسجد، ففيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: يجوز، ولا يبطل اعتكافه؛ لأنها بنيت للمسجد؛ كما لو كانت في رحبة المسجد. والثاني: لا يجوز، ويبطل اعتكافه؛ لأن الأذان في المسجد جائز. والثالث - وهو الأصح -: يجوز للمؤذن الراتب، ووقع زمان الأذان مستثنى، ولا يجوز لغيره، ويبطل اعتكافه. ولو خرج إلى والٍ أو غيره ليعلمه الصلاة، بطل اعتكافه. ويُكره الأذان للولاة، ويجب الخروج لصلاة الجمعة، ولا يجوز تركها للاعتكاف. وإذا خرج لهان هل يبطل اعتكافه فيه قولان: أحدهما: لا يبطل اعتكافه، لأنه خرج لما لابد منه؛ كما خرج لقضاء حاجة. والثاني -وهو الأصح-:يبطل؛ لأنه يمكنه الاحتراز عنه؛ بأن يعتكف في الجامع؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج؛ كما لو شرع في صوم الشهرين المتتابعين في شعبان لا يكون محسوباً؛ لأنه يخرج منه بصوم رمضان. فإن قلنا: يبطل اعتكافه؛ فإن كان اعتكافه أقل من أسبوع، ابتدأ حيث شاء من أول الأسبوع؛ وإن كان أكثر من الأسبوع، يجب أن يبتدئه في الجامع؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة، وإن كان قد عين مسجداً للاعتكاف سوى الجامع، وقلنا: يتعين؛ يجب الخروج للجمعة، ويعصي لو تركها، ثم هل يبطل تتابعه؟ فيه وجهان.

وإن قلنا: يبطل، فلا يخرج عن نذره، إلا أن يمرض؛ فتسقط عنه الجمعة، أو يتركها عاصياً، ويمضي في اعتكافه. ولو حاضت المرأة المعتكفة، يجب عليها الخروج، ثم إن كانت مدة نرها لا تخلو عن الحيض غالباً؛ بأن نذرت أكثر من خمسة عشر - لا يبطل السابع؛ لأن طهرها قد لا يزيد على خمسة عشر، فإذا طهرت بنت على اعتكافها. وإن كان خمسة عشر، أو أقل، فعلى جوابين؛ بناء على أنه هل يقطع تتابع صوم اليمين؟ فيه قولان. وكذلك لو نفست؛ فإن لزمتها عدة طلاق أو وفاة، عليها أن تخرج للاعتداد، فلو مكثت عصت، ولكن تخرج عن نذر الاعتكاف. وإن خرجت فهل تبنى بعد انقضاء العدة، أم تستأنف؟ فيه قولان: الأصح: تبني؛ بخلاف ما لو خرج لأداء الشهادة الواجبة عليه، قلنا: يستأنف؛ على الأصح؛ لأن الشهادة تتحمل للأداء، وإذا اختار التحمل فقد جلب إلى نفسه الأذى، والنكاح لا ينعقد للفراق، والعدة لزمتها بلا اختيار منها.

وإن كان اعتكافها بإذن الزوج، وأذن الزوج في الاعتكاف لها عشرة أيام - هل لها إكمال تلك العشرة بعد طلاق الزوج، أو وفاته؟ فيه قولان: فإن جوزنا إكمالها؛ فخرجت، بطل اعتكافها، وإذا خرجت من العدة استأنفت. فإن أحرم المعتكف، فإن أمكنه أن يتم الاعتكاف، ثم يخرج فيحج لا يجوز أن يخرج؛ لأنه غير محتاج إليه. فإن خاف فوت الحج، خرج للحج، وبطل اعتكافه؛ فإذا فرغ استأنف. ولو مرض مرضاً لا يؤمن معه تلويث المسجد؛ كانطلاق البطن، وسلس البول، والجُرح السائل؛ فخرج - لا يبطل اعتكافه؛ كما لو خرج لقضاء الحاجة. وإن كان مرضاً يسيراً يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة؛ فخرج - بطل اعتكافه؛ وإن كان مرضاً يحتاج فيه إلى الفراش، ويشق معه المقام في المسجد - فله الخروج. وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان:

فإن قلنا: يبطل، فإذا بريء، عاد وبنى، فإن مكث بعد البرء، وجب الاستئناف. فإذا جوزنا البناء، فزمان خروجه لا يكون محسوباً من مدة الاعتكاف. ولو جُن أو أغمي عليه؛ فأخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج باختياره، وكذلك لو حمل العاقل؛ فأخرج مكرهاًن فإذا أفاق وأطلق بنى. ولو خرج ناسياً، لم يبطل، كما لا يبطل الصوم بالأكل ناسياً أو أكره؛ حتى خرج، فعلى قولين. ولو أخرجه السلطان؛ نظر: إن أخرجه لإقامة حد ثبت عليه بإقراره، أو لدين هو قادر على أدائه وهو مماطل - بطل اعتكافه. وإن ثبت عليه حد بالبينة؛ فأخرجه لإقامته، فهل يبطل اعتكافه؟ فيه وجهان. وإن أخرجه ظُلماً فعلى قولين كالمكره. وكذلك عن خاف من شيء؛ فخرج، أو خاف من الم؛ فخرج واستتر فيه قولان. ولو سكر المعتكف، ثم أفاق نص الشافعي على أنه يستأنف. وقال: لو ارتد ثم عاد،

بنى على اعتكافه؛ فقيل: فيهما قولان، وليس بصحيح. واختلفوا فيه منهم من قال: لا يبطل فيهما الاعتكاف إذا لم يخرجا من المسجد. وقوله في السكر: يستأنف، أراد به: إذا خرج أو أخرج لإقامة الحد عليه. ومنهم من قال: قوله في الردة: يبني، أراد به: إذا ارتد ساعة يسيرة، ولم يطل. وإن طال زمان الردة استأنف، وزمان السكر يمتد؛ فيجب الاستئناف. وهذا لا يصح؛ لأن ما يبطل الاعتكاف لا فرق بين قليله وكثيره؛ كالخروج من المسجد. ومنهم من قال- وهو الصحيح-: يبطل اعتكافه في الموضعين جميعاً؛ خرج من المسجد، أو لم يخرج؛ لأن السكران خرج عن أن يكون من أهل المسجد، قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وأراد مواضع الصلاة، والمرتد خرج من أن يكون من أهل العبادة. ونصه في الردة فيما إذا لم يكن اعتكافاً متتابعاً؛ بأن نر اعتكاف عشرة أيام مطلقاً؛ فاعتكف خمسة أيام، ثم ارتد - والعياذ بالله عز وجل - فإذا عاد، لا يجب إعادة ما اعتكف. ونصه في السكر في الاعتكاف المتتابع. ومنهم من فرق على ظاهر النص؛ فقال: السكران يستأنف؛ لأنه ممنوع من المسجد؛ لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] والمرتد إذا عاد بنى؛ لأن الكافر ممنوع من المسجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس الأسارى في المسجد فكل موضع جوزنا له الخروج للعذر، ولم يبطل اعتكافه، فإذا زال العذر، فعليه أن يعود، فإن لم

يَعُدْ بطل اعتكافه. وكل موضع أبطلنا اعتكافه، يجب عليه الاستئناف بنية جديدة. وإن لم يبطل اعتكافه وجوزنا البناء؛ فإن [كان] خروجه لأمر لابد منه، وكان يسيراً؛ كقضاء الحاجة، والاغتسال، والأذان- فلا يجب تجديد النية إذا عاد، وإن طال فعلى وجهين. قال الشيخ: البناء على الوضوء. ولا يجوز للمعتكف أن يجامع امرأته؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فلو جامعها عالماً، عصى الله - عز وجل - وبطل اعتكافه؛ سواء جامع في المسجد، أو خرج لقضاء الحاجة؛ فجامع. ولو جامع ناسياً، لا يبطل اعتكافه؛ كما لا يبطل صومه. ولو لمسها بغير شهوة، يجوز؛ فإن عائشة كانت تُرجل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف. ولو لمسها بشهوة، أو قبلها، أو باشرها فيما دون الفرج فهو حرام على المعتكف. وهل يبطل بها اعتكافه؟ فيه قولان: أحدهما - وهو الأصح -: يبطل بها الاعتكاف؛ لأنها مباشرة محرمة في الاعتكاف فيبطل الاعتكاف؛ كالجماع. والثاني: لا يبطل؛ لأنها مباشرة لا تبطل الحج؛ فلا تبطل الاعتكاف؛ كالقبلة بغير الشهوة. واختلفوا في محل القولين: منهم من قال: محل القولين إذا لم ينزل الماء فإن أنزل بطل؛ ما يبطل الصوم بالإنزال. ومنهم من قال: محل القولين إذا أنزل فن لم ينزل فلا يبطل به الاعتكاف؛ كما لا يبطل الصوم. ومنهم من قال: أنزل أو لم ينزل، ففيها قولان. ولو استمنى إن قلنا: إذا أنزل باللمس لا يبطل اعتكافه، فهاهنا أولى، وإلا فعلى وجهين: وكل موضع لزم المعتكف غسل الجنابة إما من احتلام، أو من جماع ناسياً، أو باشر دون الفرج؛ فأنزل، وقلنا: لا يبطل اعتكافه، فمكث في المسجد، يعصي الله عز وجل، ولا يحسب زمان الجنابة عن الاعتكاف، وكذلك زمان السكر إذا لم يخرج عن المسجد؛ لأنهما ممنوعان عن المسجد قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] يعني: موضع الصلاة، إلى أن قال: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]

وقيل: تحسب فيهما؛ لأنه ليس فيه إلا أنه عاصٍ؛ ما لو أكل حراماً. وقيل: لا يحسب زمان الجنابة، ويحسب زمان السكر، لأن عصيان الجُنب لأجل المُكثِ في المسجد، وعصيان السكر ليس لأجل المُكث، بل لشرب الخمر. والأول المذهب؛ حتى لو نذر اعتكافاً؛ فاعتكف جنباً، لا يحسب، كما لو نذر أن يقرأ القرآن؛ فقرأ جنباً، لا يحسب نذر؛ لأن النذر للقربة، وما يفعله معصية. وقال الشيخ: والمرأة المعتكفة إذا حاضت ولم تخرج، لا يحسب زمان الحيض، وكذلك إذا ارتد، ولم يخرج؛ لأن المرتد ليس من أهل العبادة. وإذا نذر اعتكاف يوم بعينه؛ فمنعه سلطان، أو نذرت المراة؛ فمنعها زوجها؛ حتى مضت المدة - لا قضاء عليها؛ كما لو نذرت صوم يوم بعينه؛ فحاضت فيه، لا قضاء عليها، ولا فدية. وإذا نذر اعتكافاً متتابعاً، وشرط الخروج لعارض، مثل: أن قال: أخرج لعيادة مريض، أو لصلاة الجنازة - صح نذره، وله أن يخرج للأمر الذي استثناه؛ كما يخرج لقضاء الحاجة؛ لأن المستثني شرطاً كالمستثني شرعاً. فإذا خرج لذلك الأمر، فإذا عاد، هل يحتاج إلى تجديد النية؟ فيه وجهان: وإذا مكث بعد قضاء ما استثناه بطل اعتكافه. وإذا خرج لما استثناه، هل يجب قضاء زمان الخروج؟ نظر. إن كان اعتكف عشرة أيام بعينها، لا يجب لمن ينذر اعتكاف ذلك القدر، وإن نذر اعتكاف عشرة متتابعة لا بعينها، يجب قضاؤه؛ وإن خرج لما لابد منه؛ كالغائط، والبول لا يجب قضاؤه. ولو نذر صلاة، وشرط أنه إن عرض له عارض كذا، خرج، هل ينعقد؟ فيه وجهان: الأصح: أنه لا ينعقد؛ كما لو شرع في الصالة بهذا الشرط لا ينعقد. لو نذر صوماً، وشرط أنه إن أضافه إنسان، أو جاع أكل - ففيه وجهان: أحدهما: ينعقد؛ كالاعتكاف. والثاني: لا ينعقد؛ الصلاة، بخلاف الاعتكاف؛ لأن اعتكاف بعض النهار يجوز، ولا يجوز صوم بعض النهار. ولو نذر حجاً، وشرط أنه إن عرض له عارض خرج انعقد نذره؛ لأن الإحرام على هذا الشرط ينعقد. ثم في القديم: يجوز له الخروج لذلك العارض. وفي الجديد: لا يجوز؛ لأن مبنى الحج على اللزوم؛ بدليل أنه لا يخرج عنه بالفساد.

فصلٌ يجوز للمعتكف أن يتزين باللباس، وأن يتطيب، وأن يتزوج، ويزوج؛ كما يجو ذلك للصائم، ويجوز تدريس العلم، ومجالسة العلماء، والنطق بما لا إثم فيه. ولو شاتم أو جادل، لا يبطل اعتكافه، ويحبط ثواب عمله، كالصائم إذا فعله. ويجوز أن يأكل ويشرب، وأن يضع المائدة، ويغسل يده في الطست؛ بحيث لا يلوث المسجد. ويجوز نضح المسجد بالماء المطلق، ولايجوز بالمستعمل، وإن كان طاهراً؛ لأنه يعاف منه. ويجوز أن يمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته، وأن يبيع ويشتري إذا لم يكثر ذلك، فإن أكثر كره؛ لأنه يجعل المسجد موضعاً للبيع والشراء، ولكن لا يبطل به اعتكافه. وإن عمل عملاً مباحاً يسيراً، أو خاط شيئاً من ثوبه، لم يكره فإن قعد يحترف بالخياطة، أو بحرفة أخرى، كره.

كتاب الحج

كتاب الحج وهو واجب في العمر مرة واحدة، وكذا العمرة على الجديد.

ثم النظر في أقسام: الأول: في الشرائط والمواقيت: وشرط ونوعه عن الفرض: الإسلام، والحرية، والتكليف، وشرط وجوبه هذه الشرائط مع الاستطاعة، وهي أن يكون قادراً على الراحلة والمشي، فيما دون مسافة القصر، واجد النفقة للذهاب والإياب، فاضلاً عما يحتاج إليه من المسكن والدين والنكاح، قادراً على الثبوت على الراحلة، بشرط أن يكون الطريق آمناً، ولا بحرفيه على قول ...

وعند وجود محرم أو نسوة ثقات: ن كانت امرأة -: لم يلزمها الخروج وحدها على الأصح، وإذا وجب فهو على التراخي، فإن مات قبل حج الناس أو هلك ماله قبل إياب الناس-: تبين عدم الاستطاعة، وفي الأخيرة وجه. ثم يبدأ بحج الإسلام، ثم بالقضاء، ثم بالنذر، ثم بالتطوع، فإن غير -: لغا، ووقع على الترتيب المستحق.

ويجوز الاستنابة في حق الميت، ومن لا يثبت على الراحلة، وكذا في حج التطوع على أصح القولين، وإن استأجر المعضوب، حيث يُرجى زواله، فمات، أو بالعكس -: لم يحسب على أحد القولين؛ فعلى هذا: يقع الحج عن الخير، ثم لا أجرة له، على أصح القولين. وتجب الاستنابة إذا قدر عليها، وإن بذل ولده الطاعة في احلج-:وجب قبوله، وكذا الأجنبي؛ على الأصح، ولا يجب قبول المال من الولد؛ على الأصح، ويجب تعيين الميقات في الإجارة؛ على أحد القولين؛ وإن خالف الأخير، فأحرم عن نفسه بالعمرة، ويحج المستأجر من مكة -: سقط من أجرته ما بين مخرجه إلى أن أحرم في قول، وما بين الميقات والإحرام في قول. وإن لم يعتمر عن نفسه، وأحرم من مكة، أو أحرم بعد مجاوزة الميقات، أو ترك مأموراً، أو تمنع وقد استؤجر للإفراد-: لزمه الدم، وهل يحط شيء من الأجرة قولان. وإن ارتكب محظوراً -: لزمه الدم، ولا حط، ولو مات الأجير في أثناء الحج -: انفسخت الإجارة، إن كانت على عينه، وإن كانت في ذمته -:استؤجر من تركته من يحج عنه، إن كان قبل الإحرام، وإن كان بعد التحلل -: يجبر ما بقي بالدم، ويحط عنه بقدره من الأجرة، ولم يستأجر عليه، وإن كان قبل التحلل -: فالفرض باقٍ على المستأجر، ولم يستحق لما عمل شيئاً؛ في أحد القولين، ولا يُستأجر عليه على الجديد. وإن استأجر للقران، فقرن أو تمتع، أو للتمتع، فتمتع أو قرن -: فالدم على المستأجر؛ في أصح القولين، وإن جامع الأجير -: لم تنفسخ الإجارة، وإن وردت على الذمة، ويقع القضاء عن الأجير؛ على أصح القولين؛ كالأداء. أما الميقات، الزماني للحج: فشوال، وذو القعدة، وتسعٌ من ذي الحجة، إلى طلوع

الفجر يوم النحر وجميع السنة وقت العمرة؛ فإن أحرم بالحج قبل وقته -: انعقد بالعمرة.

والميقات المكاني للحج: هو مكة في حق المقيم بها، فإن أحرم خار مكة في الحرم -: لزمه الدم؛ على أصح القولين؛ كما لو كان بخارج الحرم. أما الآفاقي: فميقات من توجه من جنب المدينة: ذو الحليفة، ومن الشام: الجحفة، ومن اليمن: يلملم، ومن نجد اليمن والحجاز: قرن، ومن المشرق: ذات عرق، وفي حق الساكن فوق الميقات: مسكته، وفي حق من جاوزه لا على قصد النسك، حيث عن له، ون أحرم، ورأى ميقاته: فعليه دم، فإن عاد قبل دخول مكة -: سقط، وإن كان بعد طواف القدوم والسعي -: لم يسقط، وكذا قبل السعي؛ على الأظهر. أما العمرة: فميقاتها كميقات الحج إلا في حق المقيم بمكة: فإن ميقاته طرف الحل، فإن أحرم من مكة، ثم خرج إلى الحل بعد السعي -: لا يتحلل عن العمرة؛ على أحد القولين. لأنه لم يجمع بين الحل والحرم، ويتحلل في القول الآخر، مع لزوم دم الإسادة. ويتحقق وقوع الحج والعمرة على ثلاثة أنواع. الأول: الإفراد، وهو: أن يأتي بكل واحد من ميقاته. الثاني: القران، وهو أن يحرم بهما جميعاً، فيتحد الميقات والفعل، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف، وإن عكس -: لم يصح؛ على أحد القولين. الثالث: التمتع، وهو أن يفرد العمرة، ثم يحرم بالحج من جوف مكة.

وعلى القارن دم، وكذا على المتمتع عند خمس شرائط: أن يقدم العمرة على الحج، ويحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم قبل أشهر الحج، وأتى بأعمال العمرة في أشهر الحج -: فلا دم عليه؛ على أصح القولين، وأن يقع النسكان في سنة واحدة. وألا تكون على مسافة القصر من مكة في وجه، ومن الحرم في وجه. وأن يحرم بالحج من مكة، لا من الميقاتن وقيل: يشترط نية التمتع، ووقوع النسكين من شخص واحد، فإن عجز عن الدم-: صام عشرة أيام: ثلاثة قبل يوم النحر، ولا يجوز قبل شروع في الحج، وقيل: يجوز في أيام التشريق، وأما السبعة-: توقتها بالرجوع إلى الأهل، لا بالفراغ من الحج؛ على الجديد. وإذا فاتت الثلاثة-: يجب التفريق بين قضاء السبعة والثلاثة على الأصح بمقدار يوم، أو بما يقع التفرقة بينهما في الأداء على اختلاف القولين؛ بناء على الخلاف في جواز صوم

أيام التشريق، وأن المراد من الرجوع ماذا؟ وإن مات بعد إمكان الصوم -: أطعم عنه عن كل يوم مُد، وإن كنا قبل التمكن في صوم الثلاث -: لا شيء عليه؛ في أصح القولين، وإن كان في صوم السبع بنى على أن المراد من الروع ماذا؟ وإن وجد المعنى قبل الشروع في الصوم -: يبنى على أن العبرة في الكفارات بحالة الأداء أو الوجوب وإن كان بعد الشروع في الصوم-: لم يلزمه خلافاً للمزني، وأفضل هذه الأعمال: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، وقال في موضع: التمتع أفضل من الإفراد. القسم الثاني: في أعمال الحج والعمرة: وأركان الحج خمسة: الإحرام، وينعقد بمجرد النية، فإن أطلق ثم عين أو أحرم كإحرام غيره -: صح، وكان كذلك، فإن مات الغير بعد الإحرام: فإنه ينوي القران تبرأ عن الحج، وكذا عن العمرة، وإن جوزنا إدخال العمرة على الحج، وكذلك: إن نسي ما أحرم به، إلا إذا كان بعد الطواف، فإنه لا تبرأ ذمته من الحج؛ لاحتمال أنه كان محرماً بالعمرة؛

فلم يصح إدخال الحج عليها بعد الطواف. وسنن الإحرام: الغسل، والطيب، وركعتا الإحرام، والتلبية، ولا يلبي حالة طواف القدوم على الجديد؛ كما في طواف الإفاضة. ومن قصد مكة لزيارة وتجارة، وهو حر مكلف من غير أهل الحرم-: لزمه الإحرام بحج أو عمرة، على أصح القولين. والصبي المميز يحرم بنفسه، ويحتاج إلى إذن الولي؛ على قول الأكثرين. وغير المميز يحرم عنه وليه، وفي القيم والوصي وجهان:

الثاني: الطواف، وواجباته سبعة شرائط: الصلاة سوى حرمة الكلام، وجعل البيت على اليسار، والابتداء بالحجر الأسود، والعدو سبعاً، وركعتا الطواف على أحد القولين، وأن يكون في المسجد خارجاً بجميع بدنه عن البيت، وشرط وقوعه عن الفرض؛ أن يكون بعد الوقوف.

وسنته المشي، وتقبيل الحجر الأسود، ومس الركن اليماني باليد، والرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، والهينة في البواقي، والاضطباع في الجميع، والرمل والاضطباع مختصان بطواف القدوم على الجديد، ويُشرع ذلك في كل طواف يعقبه السعي على القديم. وإن طاف الولي بالصبي، ونوى عن نفسه أو أطلق -: حُسب عنه، وهل يحسب عن الصبي؟ فيه وجهان، وإن نوى عن الصبي -: يقع عنه أو عن الصبي أو عنهما فيه أوجه. وإن نواهما -: يقع عنهما أو عن الحامل وجهان، وحكم السعي حكم الطواف. الثالث: السعي بين الصفا والمروة، وشرطه: أن يقع بعد طواف ما.

وسنته البداية بالرقي إلى الصفا بقدر ما يرى الكعبة، وسرعة المشي إلى المروة، إذا بقي بينه وبين الميل الخضر نحو ستة أذرع إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين. الرابع: الحضور من عرفة لحظة من زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر. وإن عتق العبد، أو بلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة -: وقع عن حجة الإسلام، وعليهما دم، في أحد القولين. وإن وقفوا اليوم الثامن من خطإ -: لم يحسب على الأصح، بخلاف اليوم العاشر. الخامس: الحلق والتقصير، وأقله ثلاث شعرات، وفيه قول آخر: أنه استباحة محظور، وليس بركن.

وأركان العمرة أربعة، وهي: ماعدا الوقوف، أما الواجبات المجبورة بالدم -: فهو الإحرام من الميقات، والرمي في يوم النحر وأيام التشريق، وكذا طواف الوداع، والمبيت بمزدلفة، وبمنى ليالي التشريق، والجمع بين الليل والنهار بعرفة على الجديد، فلو ترك المبيت بمزدلفة ليلة النحر -: لزمه دمان؛ على أصح القولين، ودم واحد في الثاني.

وأما الرمي: فهو رمي سبعين حصاة: سبعة يوم النحر إلى جمرة العقبة، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى ثلاث جمرات، ووقته في أيام التشريق: بين الزوال والغروب، وفي يوم النحر بعد انتصاف ليلة النحر إلى غروب الشمس يوم النحر، فإن بقي في النفر الأول، ثم نفر قبل الغروب -: سقط عنه المبيت والرمي بين العد. ولا يجوز في الرمي إلا الحجر، وإن رمى حجرين، فرمية واحدة، ولا يكفي الوضع، وإن ترك رمي يوم قضى؛ على أصح القولين في اليوم الثاني، ويجب رعاية الترتيب في القضاء؛ على الأصح، ولا يقضي رمي يوم النحر في أيام التشريق؛ على الأصح، وإن ترك رمي الجميع -: لزمه أربعة دماء، وقيل: دمان، وقيل: دم واحد ولليلة مُد، ولليلتين مدان، ولثلاث دم، وقيل لواحدة درهم، وقيل: ثلث شاة. وكذا: ن ترك حصاة أو حصاتين، ويكمل الدم بثلاث حصيات.

قواعد أربع الأولى: للحج تحللان يحصل أحدهما باثنين؛ بالطواف والرمي، والحلف إن جعلناه نسكاً، ويحصل الثاني بالثالث، وإن جعلنا الحلق استباحة محظور: يحصل الأول بالرمي أو الطواف، والثاني بالثاني، ويحل بين التحللين جميع المحظورات، وكذا الصيد على الجديد. [ولا يحل الوطء والنكاح والمباشرة فيما دون الفرج، على الجديد]. ويدخل وقت التحلل بانتصاف ليلة النحر، ويستحب أن يبدأ يوم النحر بالرمي، ثم بالذبح، ثم بالحلق. الثانية: الطواف في الحج ثلاثة: طواف القدوم، والزيارة، والوداع، والأول: سنةٌ، والثاني: ركن، والثالث: واجب في حق كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، ولم تكن حائضاً، فإن طاف ومكث قليلاً، أو اشتغل بغير أسباب الخروج -: أعاد، وإن ترك الطواف، ثم عاد عن مسافة القصر -: لم يسقط عنه الدم؛ على الأصح، ونص على أن التارك يعود قبل مسافة القصر يعد مفارقة الحرم، والحائض لاتعود، ولاخلاف أنهما يعودان قبل مفارقة الحرم. الثالثة: الخُطب المسنونة في الحج أربعة: د خطبة اليوم السابع من ذي الحجة بمكة؛ ليأمرهم بمناسكهم، وبالعدو إلى منى. وخطبة يوم عرفة بنمرة، وخطبة يوم النحر وخطبة يوم النفر الأول بمنى يودع الحاج. وكلها واحدة، وبعد الهر، إلا يوم عرفة؛ فإنها اثنتان، وقبل الصلاة، ولكن بعد الزوال. الرابعة: الجمع مشروع بين الظهر والعصر، بعرفة، في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة ليلة النحر في وقت العشاء.

القسم الثالث: في محظورات الحج. وهي تسعة: الأول: اللبس ويحرم على الرجل ستر الرأس بكل ما يعد ساتراً، وليس المخيط الذي خاطته الخياطة أو النسيج أو العقد، وإحرام المرأة في وجهها، وليس

لها لبس القفازين، على أصح القولين؛ كالرجل، ويحل ذلك للمعذور مع لزوم الفدية، إن ستر قدراً يُعهد ذلك لغرض شجة أو غيرها، إذا كان عامداً، ولو لبس سراويل يتأتى منه، إزار أو .. لبس خفاً مقطوع الأسفل من الكعبين، مع وجود النعل -: ففي وجوب الفدية وجهان: أصحهما: يجبُ في الثاني دون الأول. والثاني: الطيب، وتجب الفدية على العالم والعامد في استعمال كل ما هو طيب، ويتخذ منه الطيب دون ما يراد للأكل، إذا عبق به عينه، فإن عبق به الريح دون العين، أو كان طيباً لا يُتخذ منه الطيب؛ كالريحان الفارسي: فقولان. الثالث: ترجيل شعر الرأس أو البدن، بإحراق أو نتف أو امتشاط موجب للفدية،

وإن كان خطأ، ويكمل الدم في ثلاث شعرات، وفي واحدة مُد، وقيل: درهم، وقيل: ثلث شاة. الخامس: القلم وكسر الأظافر، وهو كالحلق، وإن حلق الحلال شعر الحرام بإذنه -: فالفدية على المحرم، وكذا إن كان ساكتاً؛ على الأصح، وإن كان مكرهاً -: فعلى الحالق على أظهر القولين. السادس: الجماع: ووقوعه قبل التحلل الأول موجب للفساد؛ بشرط أن يكون عامداً؛ على أصح القولين، وتجب به الفدية والإتمام والقضاء على الفور؛ على الأصح، ويتأدى به ما كان يتأدى بالأداء من فرض الإسلام أو غيره، ولا يجب القضاء بإفساد القضاء، وإن جامع الصبي -: بطل حجه، وعليه بدنه، إن جعلنا عمده عمداً، ولزمه القضاء على المذهب، كالعبد، ثم هل يجب القضاء في زمان الرق وفي الصبي؟ قولان، وحكم الصبي في الإتلافات، مثل القلم وقتل الصيد والحلق حكم البالغ، وكذا في الاستمتاعات عند العمد، إن قلنا: عمده عمد -: وجب الفدية، وكان الإحرام بإذن الولي، أو قلنا: يحتاج إلى إذنه -: فهيعلى الولي أو الصبي؟ قولان؛ وكذلك نفقته للحج.

ومن جامع امرأته المحرمة برضاها-: ففي تعدد الفدية ما ذكرناه في كفارة الصوم. وأما الوقاع بعد التحلل الأول، وبعد الإفساد: فلا يوجب إلا الفدية؛ على أحد القولين. وإن أحرم مجامعاً -: لم ينعقد إحرامه، أو ينعقد صحيحاً أو فاسداً؟ خلاف، ويجب أن يُحرم في القضاء من حيث أحرم عنه في الأداء، ولا يجب مراعاة الزمان، وتسد العمرة بفساد القران، هل يفوت بفوات الحج في القران؟ وجهان. السابع: مقدمات الجماع موجبة للفدية. الثامن: النكاح والإنكاح.

التاسع: الصيد، ويضمن المحرم بالمباشرة والتسبب وإثبات اليد بالعمد والخطإ كل صيد مأكول أو متولد منه ومن غيره، مستأنساً كان أو وحشياً، مملوكاً أو مباحاً، فإن دل حلالاً على صيد -: عصى، وحرم أكله، ولم يلزمه الجزاء؛ على المذهب، وما ذبحه بنفسه -: فهو حرام عليه، فإن أكل لا جزاء عليه بالأكل، وهو ميتة في حق غيره؛ على أحد القولين، وإن أحرم وفي ملكه صيد -: هل يلزمه إن سأله؟ قولان، وإن وجب-: ففي زوال ملكه قولان، وإن اشترى صيداً أو ورثة: فالمذهب لا يملك في الأول، ويملك في الثاني

أما الجزاءُ -: فهو مثله من النعم، أو طعام بمثل قيمة النعم، أو صيام بقدر الطعام لكل مُد يومٌ، وهو على التخيير، وإن لم يكن مثلياً -: فقدر قيمته طعام أو عدل ذلك صيام، ويحكم بالمماثلة عدلان، والعبرة في قيمة الصيد بمحل الإتلاف، وفي قيمة النعم بمكة. وما دون الحمام يلحق به في قول، ويضمن بالقيمة في قول، ون فدى الذكر بالأنثى -: فيه أقوال: يفرق في الثالث بين أن تلد أو لم تلد، وإن فدى الأنثى، بالذكر -: لم يجز؛ على الأصح. وإن جرح صيداً -: ضمن نقص قيمته على النص وإن أزمَنَ صيداً -: ضمن تمام القيمة أونقصانها؟ وجهان، وجزاءُ الصيد في حرم مكة كجزاء الإحرام، ويجب على من رمى من الجبل إلى الحرم وبالعكس، ولو قطع السهم في مروره هواء الحرم -: فوجهان، ونبات الحرم محرم قطعه، أعني: ما نبت بنفسه، ولم يكن مؤذياً، وكذا ما أنبته الآدميون؛ على أصح القولين، وفي الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، وفي الحشيش قيمته، إلا إذا نبت مكانه أو أخذه للدواء. وحرم المدينة حرم مكة في التحريم دون الجزاء، وفي القديم: يسلب الصائد، وفي ضمان صيد وَجِّ الطائف وجهان. فروع الأول: الإحصار العام من المسلمين والمشركين مبيح للتحلل، وكذا الخاص؛ على

أصح القولين، ولا يبيح المرض، وإن شرط على الجديد، ولا يتحلل قبل الذبح على قول، ولا قبل الحلق إن جعلناه نُسكاً، وإن قلنا: لا بدل له -: يتحلل بالنية في قول، ويصير إلى أن يجد الهدى في قول، وللسيد أن يحلل عبده، ثم هو المحصر، وللزوج أن يحلل زوجته عن الفرض؛ على أحد القولين، والوالد يحلل الولد عن التطوع على قول، ومن فاته الحج -: فيتحلل بأفعال العمرة، ويلزمه القضاء بخلاف المحصر، ولو قعد بعد الوقوف عن البيت، فلا قضاء؛ على الصحيح، ودم القربات يراق في الحجة الفائتة أو المقضية؟ قولان.

الثاني: في ترتيب الدماء، أما دم التمتع والقران -: فدم ترتيب وتقدير، وجزاء الصيد دم تعديل وتخيير، ودم الحلق دم تخيير وتقدير، عن شاء أراق الدم، وإن شاء قوم وأطعم كل مسكين مُداً، وإن شاء صام عن كل مد يوماً، والواجبات المجبورة بالدم فيها دم تعديل وترتيب، وقيل: دم تخيير، ودم الجماع بدنة أو بقرة أو سبع من الغنم، فإن عجز قوم

البدنة دراهم، والدراهم طعاماً، والطعام صوماً، وقيل: دم تخيير، ودم الإحصاء لا بدل له في قول، وفي قول: بدله كبدل التمتع، وقيل كدم الحلق. الثالث: من باشر جميع المحظورات -: لم يتداخل إلا إذا اتحد الجنس فيما سوى القيد من الاستهلاكات؛ فإنه يتداخل بشرط أن يكون على الولاء، وكذلك: يتداخل فيما سوى الوطء من الاستمتاعات عند اتحاد الجنس، وقصر الزمان، وإن طال -: فلا يتداخل؛ على الجديد.

كتاب البيوع

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين. كتاب البيوع قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء 29]. البيع: هو معاوضة مالٍ بمالٍ، وهو نوعان: بيع وصف وبيع عين. فبيع الوصف: هو السلم. وبيع العين: هو أن يبيع عيناً معلومة بثمن معلوم، فيقول البائع: بعتُ منك هذا بكذا، ويقول المشتري، اشتريتُ أو ابتعت، أو يقول البائع: ملكتك هذا بكذا، فيقول: تملكت أو قبلت؛ فيصح إن كان المبيع حاضراً يراه المتبايعان، مقدوراً على تسليمه. فصلٌ، في بيع العين الغائبة وإن اشترى شيئاً لم يره المشتري، سواء كان غائباً عن المجلس، أو كان حاضراً؛ لكنه في وعاء -: ففي صحة البيع قولان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة، رحمة الله عليه، وأكثر أهل العلم -: يصح، لأن المبيع معلوم العين مقدور على تسليمه؛ كالعين المرئية.

والثاني - وبه قال الحكم، وحماد، واختاره المزني -: أنه لا يصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -"نهى عن بيع الغرر، وفيه غرر من حيث إنه لا يعلم بقاؤه.

ولأنه مجهول الوصف؛ كما لو أسلم في شيء ولم يصفه؛ فعلى هذا: فإن ذكر جميع أوصافه لا يصح؛ لأن طريق معرفة العين: العيان، وهو لم يعرفه بطريقه؛ كما لو أسلم في شيء، ولم يصفه لا يصح، ون شاهده؛ لأن طريق معرفته الوصف. ولو باع ما لم يره البائع - فقد قيل: فيه قولان؛ كما لو اشترى ما لم يره. وقيل: لا يصح؛ وهو الأصح؛ لأن المبيع ملكه، والاعتماد فيه على علمه؛ فإذا لم يعلم، فلا يُعذر بالجهالة. وكذلك لو رهن عيناً غائبة، أو وهبها، أو أجرها، أو أجر داره بعين غائبة، أو جعل رأس مال السلم عيناً غائبة، ثم سلم في المجلس - ففي صحة العقد قولان: وكذلك لو تزوج امرأة على عين غائبة ثم سلم في المجلس - ففي صحة العقد قولان - وكذلك لو تزوج امرأة على عين غائبة أو خالعها على عين غائبة؛ فالنكاح صحيح، والبينونة في الخلع واقعة. وفي صحة المسمى قولان: فإن قلنا: لا يصح، يجب على الزوج في النكاح، وعلى المرأة في الخلع مهر المثل.

وكذلك لو صالح عن القود على عين غائبة يسقط القود، وفي صحة المسمى قولان: فإن قلنا: لا يصح، تجب عليه الدية. ولو ساقى على حائط لم يره، ففيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين؛ البيع. والثاني: لا يصح قولاً واحداً؛ لأن المُساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليه غرر عدم الرؤية، بخلاف البيع. فإن قلنا: شراء الغائب لا يصح، فرؤية كل شيء على حسب ما يليق به؛ فإن اشترى داراً يجب أن يرى جميع بيوتها وحوائطها وسقوفها وسطوحها. أو [اشترى] بستاناً يرى جميع أشجاره، ومسايل مائه. فأما ما كان من التوابع؛ كعروق الأشجار، وأساس الجُدُر، لا يشترط رؤيتها. وإن كان رقيقاً، فيرى ما ليس بعورة منه، ويشترط رؤية الشعر على أصح الوجهين. وقيل: لا يشترط؛ كالعُكَنِ، والمغابن. ولا يشترط رؤية الأسنان، واللسان، وأسنان الدابة؛ على الأصح. وإن كانت دابة، يجب أن يرفع السر والإكاف عنها. إن كان ثوباً صفيقاً؛ كالديباج والبُسُط يرى لا الوجهين منه، فإن كان الثوب رقيقاً لا يختلف وجهاه، يكتفي برؤية أحد الوجهين. وإن كان كتاباً، يجب أن يرى جميع أوراقه، أو [اشترى] قرطاساً يرى كل طاقة منه، أو كُبَّة غَزْلٍ قلبها. وإن كان سكراً أو فانيذاً في قراروةٍ رآه من وراء القارورة لا يصح؛ لأنه لا يحصل به

حقيقة المعرفة، بخلاف السَّمكِ في الماء الصافي، يجوز بيعه [إذا كان يراه تحت الماء، وكذلك الأرض إذا كان عليها ماء صافٍ يراها تحته]؛ لأن الماء من صلاحه ومحل حياته [ولا يمنع معرفته]. ولو وكل وكيلاً بالشراء، يشترط رؤية الوكيل؛ لأنه من أحكام العقْد، فتعلق بالوكيل؛ كالإيجاب والقبول. وإن رآه الوكيل، ولم يره الموكل، صح العقد، وإن رآه الموكل دون الوكيل، لا يصح. وإن قلنا: شراء الغائب يصح، فيشترط ذِكْرُ الجِنْس والنوع، فإن قال: بعتك ما في كُمي أو ما في كفي، أو بعتك حيواناً أو رقيقاً لا يصح؛ حتى يقول: بعتك عبدي أو جاريتي أو فرسي أو حماري ويذكر نوعه: فيقولك عبدي الهندي أو التركي، أو ثوبي الهروي أو المروي. ثم إن كان له عبدان من هذا النوع، يجب أن يذكر ما يقع التمييز به بين المبيع، وغيره من: وصف، أو سن، أو المكان الذي هو فيه. فإن لم يكن إلا واحد؛ فهل يشترط وراء ذكر النوع ذكر وصف آخر؟ فيه وجهان: أصحهما، وبه قال أبو حنيفة رحمة الله عليه-: لا يشترط؛ لأن خيار الرؤية ثابت له؛ فلا معنى للاستقصاء في الوصف. والثاني: يشترط ذكر الصفات. ثم فيه وجهان: أحدهما: يشترط ذكر صفات السلم. والثاني: معظم الصفات؛ وهو ما يوصف به المدعي عند القاضي، ثم إن رآه المشتري يثبت له الخيار، وإن كان قد وصفه البائع بجميع أوصافه، ووجده المشتري؛ كما وصفه؛ لأنه بيع الخيار؛ فذكر الوصف فيه لا يسقط خياره. ويجوز للمشتري الفسخ قبل الرؤية، ولا تجوز الإجازة؛ لأن المانع من اللزوم عدم الرؤية، فلا يلزم قبل الرؤية بخلاف الفسخ "جاز"؛ لأن الفسخ دليل عدم الرضا، وعدم الرؤية مناسب له، والإجازة دليل الرضا؛ فلا يناسبه عدم الرؤية. وإذا باع شيئاً لم يره وجوزنا، فهل يثبت للبائع الخيار إذا رآه؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ كما يثبت للمشتري؛ بدليل أنهما استويا في خيار المكان والشرط. والثاني - وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة: لا خيار له؛ لأن جانبه أبعدُ عن الخيار،

بدليل أنه لو باع شيئاً على أنه معيب؛ فبان صحيحاً - لا خيار له، ولو اشترى على أنه صحيح؛ فبان معيباً - له الخيار. وإذا رأى المشتري المبيع بعد الشراء، فخيار الرؤية على الفور، أو على التراخي؟ فيه وجهان: أصحهما - وبه قال أبو إسحاق يمتد بامتداد مجلس الرؤية؛ لأنه خيار ترو ثبت بأصل الشرع؛ كخيار المكان. والثاني- وبه قال ابن أبي هريرة - يكون على الفور؛ كخيار العيب. وهل يثبت خيار المكان في شراء الغائب؟ فيه وجهان: أصحهما: يثبت؛ كما في شراء الحاضر؛ فإذا تفرقا قبل الرؤية، سقط خيار المكان، وبقى خيار الرؤية. والثاني: لا يثبت؛ لأن خيار الرؤية ثابت؛ فيغني عن إثبات خيار المكان. فإذا ارتفع خيار الرؤية حينئذ، ثبت خيار المكان. ولو شرط نفي خيار الرؤية، لا يصح العقد؛ بخلاف ما لو شرط نفي خيار المكان، جاز فيقول؛ لأن ثمَّ قدر أى المبيع، وعلمه؛ فنفي الخيار لا يمكن غرراً في المبيع. وفي شراء الغائب لم ير المبيع حقيقة، ولم يعلمه؛ فنفي الخيار يمكن غرراً في المبيع؛ فلم يجز، خيار الرؤية لا يمنع الملك؛ لأنه خيار اطلاع؛ كخيار العيب. وقيل: هو كخيار الشرط. ولو قبض المبيع وباعه قبل الرؤية، لا يصح؛ بخلاف ما لو باع في زمان الخيار، جاز؛ على الأصح؛ لأنه يصير به مُجيزاً للعقد، وهاهنا لا تصح الإجازة قبل الرؤية. ولو تلف المبيع في يد المشتري قبل الرؤية، فهو كتلف المبيع في زمان الخيار، هل ينفسخ البيع؟ فيه وجهان. ولو اشترى شيئاً رأى بعضه، ولم ير البعض، نظر: إن كان شيئاً لا يُستدل برؤية بعضه على رؤية كله؛ مثل: إن اشترى ثوباً مطوياً لم ينشر، أو دابة عليها إكافٌ أو سرج، أو داراً رأى بعض أبنيتها دون البعض؛ فهو كما لو لم ير شيئاً منه ففي صحة البيع قولان؛ كالعيب لا فرق بين أن يكون ببعض المبيع، أو بكله في ثبوت الخيار. وإن كان مما يستدل برؤية بعضه على رؤية كله؛ مثل: إن اشترى صبرة حنطة، أو

شعير، أو شيء من الحبوب، أو تمر، أو لوز؛ رأى ظاهرها، أو كان في وعاء؛ فرأى أعلاه، أو كان سمناً أو دهناً، أو خلا في إناء؛ فرأى أعلاه صح العقد؛ لأن الغالب أن أجزاءُه لا تختلف. ولا خيار له إذا رأى باطنه، إلا أن يخرج أسفله أردأ من أعلاه، أو يظهر تحت الصبرة دكة، أو في أسفل الوعاء غلظ خارج عن العادة؛ فيثبت له الخيار. ولو كانت تحت الصبرة حفرة، فما في الحفرة لا يدخل في البيع. وإن اشترى صبرة من بطيخ، أو عنب؛ فرأى ظاهرها فهو كشراء الغائب؛ لأنها تختلف. وإن كانت الحنطة في بيت؛ وهو مملوء منها، فرأى بعضها من الكوة، أو من الباب؛ فإن كان يعرف الطول والعرض من البيت، صح، وإن لم يعرف، لم يصح. وكذلك الجمد في المجمدة، والثلج في المثلجة. ولو أخرج كفاً من الوعاء؛ فأراه، ثم باعه ما في الوعاء - ففيه وجهان: أصحهما - هو كشراء الغائب؛ لأن المبيع غير مرئي. والثاني - وبه قال أبو حنيفة هو كما لو رأى أعلاه من الوعاء، فيصح. ولو اشترى جوزاً أو لوزاً في القشرة السفلى، يجوز، وإن لم ير اللُّبَّ الذي هو المقصود؛ لأنه يتستر بما فيه صلاحه. فإن باع اللب الذي فيه وحده، لم يجز. ولو اشترى شيئاً رآه قبل العقد، ولم يره حالة العقد - نظر: إن كان ذلك مما لا يتغير في الغالب؛ كالأراضي والحجار، والحديد، والنحاس، ونحوها، أو إن كان مما يتغير والمدة قريبة لا يتغير في مثلها - صح الشراء. وإن كان مما يتغير، فقد قيل: فيه قولان؛ كشراء ما لم يره. وقيل - وهو الأصح - يصح قولاً واحداً؛ لأنه قد رآه من قبل وعلمه، والأصل بقاؤه على ما رآه.

فعلى هذا: لا خيار له عند الرؤية؛ إلا أن يجده متغيراً عما رآه؛ فله الخيار؛ لأجل التغير. فلو وجده متغيراً؛ فاختلفا: فقال البائع: كان هذا التغير موجوداً يوم الرؤية؛ فلاخيار لك. وقال المشتري: بل حدثبعد؛ فلي الخيار - فالقول قولُ المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدعي عليه الرضا بالتغير، وهو ينكر. فرع: ولو اشترى عينين: إحداهما حاضرة، والأخرى غائبة صفقة واحدة: فإن قلنا: شراء الغائب لا يصح، فلا يصح العقد في الغائبة، وفي الحاضرة قولان؛ كما لو باع ماله. وما ليس له صفقة واحدة، ففي صحته فيما له قولان. وإن قلنا: شراء الغائب يصح، فقد جمع بين مختلفي الحكم؛ لأن الحاضرة لا يثبت فيه الخيار، ويثبت [الخيار] في الغائبة. وفي مثل هذا العقد قولان: أصحهما: يجوزُ العقد فيهما جميعاً، ثم يجوز له رد الغائبة، وإمساك الحاضرة. وإذا اشترى عينين غائبتين؛ فأراد الفسخ في أحداهما هل له ذلك؟ فعلى قولي تفريق الصفقة في الرد بالعيب. فرع: ولو ملك عبدين، فقال: بعتك أحدهما، ولمي بين - لا يصح العقد؛ كما لو قال: بعتك شاة من هذا القطيع، ولم يبين فلو كان له واحد، فقال: بعتك عبدي من هذه العبيد، أو شاتي من هذا القطيع، ولم يبين [للمشتري] فقد قيل هو كشراء الغائب، وإن كان يرى الكل؛ لأنه لا يعرف المبيع بعينه. فإذا بين فللمشتري الخيار، كما لو رأى الغائب. قلت: والذي عندي أن هذا البيع باطل؛ لأن المبيع غير متعين، بخلاف الغائب؛ فهو كما لو قال: بعتك عبداً منها، ولم يضف إلى نفسه لا يصح. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: إذا قال: بعتك عبداً من هذه العبيد الثلاث على أنك تختار أيهم شئت يجوز. ولم يجوز في الأربع، ولا يتبين الفرق بينهما. فرع: ولو اشترى جوهرة ظنها عقيقاً، فإذا هي زجاج صح العقد إن كانت لها قيمة، ولا خيار للمشتري إذا علم؛ لأنه اغتر بعلمه؛ كما لو اشترى دابة ضخم البطن ظنها حاملاً، فلم يكن، لا خيار له.

فإذا قال البائع: بعتك هذا العقيق، أو بشرط أنه عقيق؛ فبان زُجاجاً لم يكن له قيمة -لا يصح العقد. وإن كانت له قيمة، ففي صحة البيع قولان. وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد؛ فإذا هو جارية، أو هذا الفرس، فإذا هو حمار أو بغل؛ فإن كان المشتري عالماً به، صح العقد، ولا خيار له. وإن لم [يكن عالماً] فقولان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة -: لا يصح؛ اعتباراً بلفظه. والثاني - يصح؛ تغليباً لإشارته. فإن قلنا: يصح يثبت الخيار للمشتري. والله أعلم. باب خيار المتبايعين روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". فرع: خيار المكان ثابت في البيع يجوز لكل واحد من المتبايعين فسخ العقد ما لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رحمة الله عليهم: لا يثبت خيار المكان، والخبر حجة لمن أثبته.

وقوله عليه الصلاة والسلام:"إلا بيع الخيار" استثناء يرجع إلى مدة الخيار؛ معناه: كل واحد بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا قبل التفرق؛ فيلزم العقد. وقيل: هذا استثناء يرجع إلى مفهوم مدة الخيار، معناه: إذا تفرقا، لزم العقد، إلا أن يتبايعا؛ بشرط خيار الثلاث؛ فيبقى خيار الشرط بعد التفرق. وقيل: الاستثناء يرجع إلى أصل الخيار، معناه: كل واحد بالخيار، إلا أن يشترط نفي خيار المكان؛ فلا خيار لهما. وللشافعي -رضي الله عنه - ثلاثة أقوال في البيع، بشرط نفي [خيار] المكان: أصحهما: أن البيع باطل؛ لأنه خلاف قضية العقد كما لو باع بشرط ألا يملك. والثاني: البيع صحيح ولا خيار له؛ لأن الخيار فيه نوع غرر؛ لأنه يمنع مقصود العقد، غير أن الشرع أثبته، رفقاً بالمتبايعين؛ فنفيه لا يمنع (صحة) العقد. والثالث: البيع صحيح، والشرط باطل؛ لأنه خلاف قضية العقد، وله الخيار. فرع: ولو اختلف المتبايعان في الفسخ؛ نظر: إن اتفقا على عدم التفرق، فدعوى من يدعي الفسخ فسخ؛ لأن الفسخ له ثابت. وإن اختلفا في التفرق؛ نظر: إن جاءا معاً، غير أن أحدهما يقول: كنا تفرقنا، ولزم العقد، والآخر ينر التفرق، ويريد الفسخ - فالقول قول من يريد الفسخ مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التفرق، وعلى الآخر البينة. وإن جاءا متفرقين، غير أن أحدهما يدعي أني كنت فسخت قبل التفرق؛ فالقول قول من يدعي اللزوم مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الفسخ. فصل في العقود التي يثبت فيها الخيار رُوي عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير أعرابياً بعد البيع".

العقود قسمان: جائز، ولازم؛ أما الجائز: فلا يثبت فيه خيارُ المكان، ولا خيار الشرط؛ سواء كان جائزاً من الطرفين؛ كالشركة والوكالة والقراض والجعالة؛ لأنهما أبداً بالخيار، أو كان جائزاً من أحد الطرفين؛ كالرهن والضمان، والكتابة، فإنها لازمة من جهة الراهن، والضامن، والمولى، جائزة من جهة المرتهن، والمضمون له، والمكاتب؛ لأن أحدهما أبداً بالخيار، فلا معنى لإثبات خيار المكان والشرط له، والآخر شرع فيه على حقيقة الغبن؛ فإن الراهن هو الذي حبس ماله بالدين، والضامن شغل ذمته بدين الغير، والمولى في الكتابة باع ماله بماله، وحجر على نفسه التصرف في ماله، وإثبات الخيار للنظر، وتدار الغبن؛ فلا يثبت لهم؛ وقد رضوا بالغبن؛ حتى لو شرط الخيار للراهن، أو للضامن، أو للمولى في الكتابة يبطل العقد. أما العقود اللازمة فقسمان: عقد على العين، وعقد على المنفعة. أما العقد على العين فقسمان: قسم يشترط فيه قبض البدلين في المجلس؛ مثل: عقد الصرف، وبيع الطعام بالطعام، أو قبض أحد البدلين؛ كالسلم يثبت فيها خيار المكان، ولا يثبت خيار الشرط؛ لأن شرط هذين العقدين أن يتفرق المتعاقدان؛ ولا علقة بينهما؛ تحرزاً عن الربا في الصرف، وبيع الطعام بالطعام، وعن الكاليء بالكاليء في السلم؛ فلو أثبتنا الخيار، لبقيت العلقة بعد التفرق.

وقسم لا يشترط فيه القبض في المجلس؛ كسائر بيوع الأعيان يثبت فيها خيار المكان والشرط جميعاً، وكذلك التولية والتشريك، وصُلح المعاوضة إن لم ينك القبض فيه شرطاً في المجلس يثبت فيها الخياران جميعاً. ولا خيار في صلح الحطيطة؛ لأنه إبراء، وثبوت الخيار في العقد؛ لينر هل له فيه حظ أم لا؟ وهو عالم في صلح الحطيطة أن لا حظ له فيه. أما الإقالة: فهي فسخ على أصح القولين؛ فلا يثبت فيها واحد من الخيارين، وإن قلنا: هي بيع يثبت فيها الخياران. ولا يثبت في الحوالة وإن جعلناها معاوضة في طريق؛ لأنها ليست بحقيقة معاوضة، ولو ان معاوضة لبطلت؛ لأنها بيع دين بدين. وقيل: إن جعلناها معاوضة يثبت فيها خيار المكان، وليس بصحيح. ولا يثبت الخيار في الهبة إن لم يكن فيها ثواب، وإن وهب بشرط الثواب، أو قلنا: مطلقها يقتضي الثواب - ففيه وجهان: أحدهما: يثبت فيها الخيار؛ كالبيع. والثاني: لا يثبت لأن العوض فيها غير مقصود، كالنكاح. وأما القسمة إن كان فيها رد، فهي بيع يثبت الخيار، وإن لم يكن فيها رد؛ نظر: إن

كان بالجبر والقرعة، فلا خيار فيها؛ لأن الجبر ينفي الخيار، وإن كان بالتراضي، فيبني على أن القسمة بيع أو إفراز حق؟ فيه قولان إن قلنا: إفراز حق، فلا يثبت فيها الخيار. وإن قلنا: بيع، ففيه وجهان: أحدهما: يثبت فيها الخيار؛ كسائر البيوع. والثاني: وهو الأصح - لا يثبت؛ لأن هذه قسمة لو امتنع منها جُبر عليها قهراً؛ والجبر المنفعة فقسمان منفعة لا تستباح بالإباحة؛ ومنفعة تستباح بالإباحة. أما ما لا تستباح؛ مثل: عقد النكاح لا يثبت فيه واحد من الخيارين؛ لأنه عقد وُصلة لا عقد معاوضة؛ فلو شرط الخيار في النكاح، بطل العقد، ولو شرط في الصداق، صح النكاح، وفسد الصداق، ووجب مهر المثل. وكذلك الخلع لا يقبل الخيار؛ فلو شرط فيه الخيار، وقعت البينونة وفسد المسمى، ووجب عليها مهر المثل. وكذلك الصلح عن القود؛ لو شرط فيه الخيار، سقط القود، وبطل الشرط، ووجبت الدية. وأما العقد على المنفعة التي تستباح بالإباحة، وهو الإجارة؛ هل يثبت فيها الخيار؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: لا يثبت فيها واحد من الخيارين؛ لأن عقد الإجارة عقد غرر؛ لأنه عقد على

معدوم، جوز رفقاً بالناس، والخيار غرر؛ لأنه يمنع مقصود العقد؛ فلم يجز ضم غرر إلى غرر. وقال صاحب "التلخيص": يثبت فيها الخياران؛ كالبيع. وقال أبو إسحاق: يثبت فيها - خيار المكان؛ لأنه يسير؛ ولا يثبت خيار الشرط، ولا فرق بين الإجارة على العين، أو على مدة معلومة، أو على منفعة في الذمة؛ على الصحيح من المذهب. وقيل: إذا كانت الإجارة على مدة لا يثبت فيها خيار الشرط؛ لأنا عن حسبنا المدة على المكري زدنا في المدة، وإن حسبنا على المكتري نقصنا من المدة، وفي خيار المكان وهان؛ لأنه يسير. قال الشيخ القفال رحمه الله: الوجوه الثلاثة في إجارة العين. أما الإجارة في الذمة يجب فيها تسليم الأجرة في المجلس؛ فيثبت فيها خيار المكان دون خيار الشرط؛ كما في السلم. وإن قلنا: يثبت الخيار في الإجارة المعينة؛ فمدة الخيار على من تحسب نظر: ن كان قبل تسليم العين إلى المستأجر، تحسب على الآجر، وإن كان بعد التسليم، ففيه وجهان؛ بناء على أن المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمان الخيار، فمن ضمان من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: من ضمان المشتري؛ فعلى هذا يحسب على المستأجر، وعليه تمام الأجرة. والثاني: يكون من ضمان البائع؛ فعلى هذا يحسب على الآجر، فيحط بقدر ما يقابل تلك المدة من الأجر. أما عقد المساقاة: هل يثبت فيه الخيار؟ قيل: فيه ثلاثة أوجه؛ كالإجارة. وقيل - وهو الأصح: لا يثبت فيه واحد من الخيارين وجهاً واحداً؛ لأن الغرر فيه أكثر من حيث الجهالة، وأن كل واحد من رب المال، والعامل لا يدري ماذا يحصل له؛ فلا يُضم إليه غرر الخيار. أما عقد المسابقة والمناضلة: إن قلنا: ذلك عقد جائز، فهو كالجعالة، وإن قلنا: لازم، فكالإجارة.

(فصلٌ: فيما ينقطع به خيار المجلس) وكل عقد ثبت فيه خيار المكان، فيسقط ذلك الخيار بأحد أمرين:

إما بالتفرق، أو بالتخاير.

فرع: أما التفرق: فهو التفرق عن مكان العقد بالبدن، والمرجع فيه إلى العُرف فما يعرفه الناس تفرقاً يلزم به العقد؛ فن كانا في سوق أو في صحراء، فبأن يتفرقا؛ بحيث لو كلمه على العادة لا يسمع كلامه. وإن كانا في البيت، فبأن يخرج أحدهما، وإن كانا في صحن، فبأن يدخل أحدهما بيتاً أو يصعد سطحاً. ولو داما في ذلك المجلس مُدة أو قاما يمشيان معاً لايلزم العقد؛ وإن طالت المدة. ولو أرخى بينهما ستر، أو شق بينها نهر لا يلزم. ولو بُني بينهما جدار من طين أو جص، فوجهان: أصحهما: لا يلزم؛ لأنهما في مجلس العقد. ولو أكرها على التفرق؛ بأن حُملا، أو حُمل أحدهما؛ والآخر لا يمكنه أن يتبعه - لا يبطل خيارهما. وإن أمكنه الفسخ باللسان؛ فلم يفعله؟ لأن السكوت عن الفسخ لا يبطل خيار المكان؛ كما في المجلس. ولو ضُربا حتى تفرقا بأنفسهما؛ فهل يبطل خيارهما؟ فيه قولان؛ بناء على حنث المُكره. ولو هرب أحدهما، ولم يتبعه الآخر مع الإمكان بطل خيارهما، وإن لم يمكنه متابعته. قلت: بطل خيار من هرب، دون الآخر. [لو حمل أحدهما وما تبعه الآخر مع الإمكان، لا يبطل خيار المحمول، ويبطل خيار الآخر]. فرع: أما التخاير: أن يقولا في المجلس: تخايرنا، أو ألزمنا العقد، أو اخترنا إمضاء العقد سقط الخيار. ولو قال أحدهما: اخترت، أو التزمت بطل خياره، ولا يبطل خيار الآخر؛ كما في

خيار الشرط إذا أبطل أحدهما خياره، لا يبطل خيار الآخر. ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر، أو خيرتك؛ فقال الآخر؛ اخترت - بطل خيارهما. ولو لم يقل الآخر: اخترت، لا يبطل خياره، وهل يبطل خيار القائل فيه وجهان: أحدهما - وهو الأصح - يبطل؛ لأن قوله: اختر رضا منه باللزوم؛ فصار كما لو قال: اخترت، فاختر. والثاني- لا يبطل؛ لأن قوله: اختر تفويض الاختيار، فإذا اختار صاحبه، جعل كأنه تولى الاختيار عن نفسه، وعن صاحبه؛ فإذا لم يختر، فلا حكم له. وإذا اشترى من ولده الطفل لنفسه شيئاً، ثبت فيه خيار المكان، ثم إذا فارق المجلس، لزم العقد؛ على أصح الوجهين. وإن كان عقد صرف؛ ففارق قبل أن يقبض - بطل العقد. وقيل: لا يلزم العقد إلا باختيار اللزوم؛ لأنه [لا] يفارق نفسه بمفارقة المجلس. وفي الصرف على هذا الوجه يجوز أن يقبض بعد مفارقة المجلس ما لم يبطل الخيار [باختيار اللزوم]. فصل في ملك المبيع في زمن الخيار لمن؟ رُوي عن ابن عمر -رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُل بيعين لا بيع بينهما؛ حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار". الملك في زمن الخيار لمن يكون؟ نظر: إن كان الخيار لهما؛ كخيار المكان أو تبايعا بشرط خيار ثلاثة أيام لهما جميعاً - ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: الملك للمشتري؛ لأنه بيع تم صحيحاً بالإيجاب والقبول؛ فثبوت الخيار فيه لا يمنع الملك؛ كخيار العيب. والثاني: الملك للبائع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا بيع بينهما؛ حتى يتفرقا" وبدليل أنه تنفذ فيه تصرفات البائع، ولا تنفذ تصرفات المشتري.

والثالث - وهو الأصح: الملك موقوف، فإن تم البيع بينهما؛ بمضي الخيار، بان أن الملك كان للمشتري، فإن فسخ بان أنه كان للبائع؛ لأن سبب زوال الملك؛ وهو البيع قد وُجد؛ فلا يمكن القطع بأن الملك للبائع، وحق الاعتراض للبائع ثابت؛ فلا يقطع بالملك للمشتري؛ فقلنا بالوقف. وإن كان الخيار لأحدهما، ففيه قولان: أحدهما: هو كما لو كان الخيار لهما. وفيه ثلاثة أقوال: والقول الثاني - وهو الأصح: أن الملك لمن له الخيار؛ بدليل أن تصرف الآخر فيه لا ينفذ فيه. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: إن كان الخيار لهما، أو للبائع - فالملك للبائع، وإن كان للمشتري، فليس لواحد منهما، حتى يمضي زمان الخيار. أما التفريع على الأقوال فيما إذا كان الخيار لهما. فإن كان المبيع عبداً أعتقه البائع في زمان الخيار نفذ عتقه على الأقوال كلها، وكان [الإعتاق] فسخاً للعقد؛ لأنا إن قلنا: إن الملك للبائع، فقد أعتق ملك نفسه. وإن قلنا [الملك] للمشتري، فحق الفسخ ثابت للبائع؛ فكان إعتاقه اختياراً للفسخ. وإن أعتقه المشتري، بطل خياره. وهل ينفذ عتقه، أم لا؟ إن قلنا: الملك للبائع، لا ينفذ، وإن تم العقد بينهما؛ لأنه أعتق ملك غيره. وإن قلنا: موقوف، فالعتق موقوف؛ فإن تم البيع بينهما، بان أنه كان نافذاً، وإن فسخ فلا. وإن قلنا: الملك للمشتري، فالمذهب: أنه لا ينفذ عتقه أيضاً: لما فيه من إبطال حق البائع من الاسترجاع؛ فإن اختار البائع إمضاء البيع، فالعتق نافذ، وإلا فلا وفيه وجه آخر: أن عتقه ينفذ على هذا القول؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ فعلى هذا هل يبطل خيار البائع؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل، وليس له إلا الثمن.

والثاني: لا يبطل خياره، ولكن لا سبيل له إلى العتق، بل إذا فسخ العقد، أخذ قيمة العبد؛ كما لو باع عبداً بثوب؛ فأعتقه المشتري، ثم وجد البائع بالثوب عيباً ورده، أخذ قيمة العبد. والمذهب هو الأول: أن عتقه لا ينفذ، بخلاف البائع إذا أعتق ينفذ عتقه؛ لأن عتقه فسخ، والفسخ أغلب من الإجازة؛ بدليل أن أحد المتبايعين إذا اختار الفسخ في زمان الخيار، والآخر الإجازة - كان الفسخ أولى. ولو اشترى من يعتق عليه، فهل يثبت فيه خيار المكان أو الشرط، أم لا إن قلن: الملك للبائع أو موقوف، فلهما الخيار، ولا يحكم بالعتق؛ حتى يمضي زمان الخيار. ثم إن قلنا: الملك للبائع، عتق حين مضى الخيار. وإن قلنا: موقوف، بان أنه عتق بالشراء. وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا خيار للمشتري، ويثبت للبائع، ولايحكم بالعتق؛ على ظاهر المذهب، حتى يمضي زمان الخيار؛ فيحكم بعتقه يوم الشراء. وفيه وجه آخر: أنه يعتق على هذا القول، وفي خيار البائع وجهان؛ ما ذكرنا في الإعتاق، والمذهب الأول. فإن قيل: إذا أعتقه المشتري على قولنا: إن الملك للبائع أو موقوف -أبطلتم خياره، وفي شراء [القريب] أثبتم الخيار للمشتري. قلت: لأن في شراء الأجنبي وُجد من المشتري كمال الرضا بعد الشراء بالإقدام على العتق؛ فسقط خياره، وفي شراء القريب لم يوجد إلا الرضا بأصل العقد، والرضا بالعقد لا يكون رضا باللزوم؛ ولذلك ثبت الخيار في البيوع، فقلنا يثبت الخيار. قلت: ويحتمل أن يُقال: الملك للمشتري، أنه يثبت به خيار في شراء القريب، على ظاهر المذهب الذي يقول: إنه لا يعتق في الحال؛ لأنه لم يوجد منه إلا الرضا بأصل العقد. وإن كان المبيع جارية؛ فوطئها أحدهما في زمان الخيار، نظر: إن وطئها البائع، كان فسخاً للبيع؛ على الأقوال كلها، بخلاف الرجعة، لاتحصل بالوطء؛ لأن الرجعة لتدار ملك النكاح، وابتداء ملك النكاح لا يحصل بالفعل؛ فتداركه لا يحصل إلا بالقول،

وفسخ البيع ها هنا لتدارك ملك اليمين، وابتداء ملك اليمين يحصل بالفعل؛ مثل: الاحتطاب، والاحتشاش، والاغتنام؛ فتداركه يحصل بالفعل. وهل يحل هذا الوطء للبائع، أم لا؟ إن قلنا: الملك له فيحل، وإلا فلا. ولو قبلها البائع، أو لمسها بشهوة، أو استخدمها، أو كانت دابة، فربها كان فسخاً للبيع؛ كالوطء والعتق. وإن وطئها المشتري، فهو وطء حرام؛ على الأقوال كلها؛ لأنا وإن قلنا: الملك له، فهو ملك ضعيف، لثبوت حق الفسخ للبائع؛ فهو كملك المكاتب لا يبيح الوطء؛ غير أنه لو وطئها لا حد عليه؛ لشبهة الملك؛ على الأقوال كلها، ثم نظر: إن وطئها بإذن البائع، بطل خيارهما جميعاً، ولا مهر على المشتري، وإذا أحبلها، كانت أم ولد له، ولا يجب عليه قيمة الولد. وإن وطئها بغير إذن البائع، سواء كان البائع عالماً به أو جاهلاً - بطل خياره، ولا يبطل خيار البائع. وكل لو قبلها المشتري، أو لمسها بشهوة، أو استخدمها، أو كانت دابة؛ فركبها -بطل خياره. وهل يجب المهر على المشتري بالوطء؟ لا يخلو: إما إن تم البيع بينهما، أو فسخ: فإن تم البيع، إن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف، لا يجب. وإن قلنا: للبائع، يجب. وإن فسخ البيع بينهما، فإن قلنا: الملك للبائع أو موقوف، يجب عليه المهر للبائع. وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا يجب. ولو أحبلها المشتري، فالولد حُر ثابت النسب. وهل ينفذ استيلاده، أم لا إن قلنا: الملك للبائع، لا ينفذ. ثم إن تم العقد بينهما أو فسخ، ثم ملكها بعده - هل تكون أم ولد له؟ فعلى قولين؛ كمن استولد جارية الغير بالشبهة، ثم ملكها. وإن قلنا: الملك موقوف، فأمر الاستيلاد موقوف إن تم العقد بينهما - بان أنه قد نفذ، وإن فسخ فلا؛ حتى يملكها، [فإذا ملك] فيه قولان.

وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا يحكم بنفوذه في الحال؛ على ظاهر المذهب؛ لما فيه من إبطال حق البائع؛ كما في العتق. فإذا تم البيع تبين نفوذه. وهل يجب على المشتري قيمة الولد؟ حكمه حكم المهر إن تم العقد بينهما، وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف، لا يجب. وإن قلنا [الملك] للبائع، يجب. وإن فسخ البيع بينهما إن قلنا: الملك للبائع أو موقوف، يجب. وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا يجب. أما سائر التصرفات؛ مثل: البيع، والإجارة، والرهن، والهبة، والتزويج. إن وجد من البائع في زمان الخيار شيء منها - فهو فسخ للبيع. والمذهب: أنه تصح هذه العقود؛ كما لو أعتقه، كان فسخاً، ونفذ العتق. وقيل: لاتصح هذه العقود؛ لأن هذه الألفاظ تعينت للفسخ؛ فلا ينعقد بها عقد آخر؛ كما لو كبر وشرع في الصلاة، ثم كبر ثانياً؛ ينوي الشروع خرج من الأولى، ولايشرع في الثانية، وليس كالعتق؛ لأنه له غلبة؛ بدليل إن إعتاق المشتري قبل القبض ينفذ، ويكون قبضاً، وبيعه لا ينفذ. ولو عرضه البائع على البيع، أو وكل ببيعه، أو وهب، أو رهن، ولم يقبض هل يكون فسخاً للبيع؟ فيه وجهان. ولو وجد من المشتري هذه التصرفات، لا يصح شيء منها لإبطال حق البائع وهل يبطل به خياره؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل؛ كما لو أعتق. والثاني: لا يبطل؛ لأن للعتق من القوة ما ليس لغيره. أما إذا عقد المشتري شيئاً من هذه العقود مع البائع، أو مع غيره بإذنه، فالمذهب أنه تصح هذه العقود، وجعل كأن البائع اختار إمضاء البيع، ثم اشتراه، أو انتهبه. وكذلك لو أمر البائع ببيعه؛ فباعه، صح؛ على ظاهر المذهب، وكان إجازة؛ كما لو أمره بإعتاقه. وكذلك لو اشترى حنطة؛ فأمر البائع بطحنها في زمان الخيار - كان إمضاء للبيع.

أما إذا كان الخيار لأحدهما، فلا ينفذ تصرف الآخر فيه، وينفذ تصرف من له الخيار، ثم إن كان الخيار للبائع، فتصرفه فسخ للبيع، وإن كان للمشتري، فتصرفه إجازة؛ حتى لو باعه، أو وهبه، أو رهنه، أو أجره، أو كانت جارية، فزوجها - لزم البيع، وصحت هذه العقود. وقيل: لا تصح هذه العقود؛ لأن هذه الألفاظ تعينت للإجازة؛ فلا ينعقد بها عقد آخر. والأول هو المذهب، والمنصوص عليه. ولو عرضه على البيع؛ هل يصير به مجيزاً للبيع؟ فيه وجهان: ولو تبايعا عبداً بجارية؛ فأعتقهما أحدهما في زمان الخيار، والخيار لهما، لا ينفذ عتقه فيهما، بل ينفذ فيما باع، وكان فسخاً. وإن كان الخيار لأحدهما، فالصحيح أن الملك لمن له الخيار، فإذا أعتقهما من له الخيار، نفذ عتقه فيما اشترى؛ على أصح الوجهين؛ لأنه ملكه، وليس للبائع خيار؛ حتى يمتنع عتق المشتري لحقه، وكان إجازة. وقيل: ينفذ فيما باع، وكان فسخاً. وإذا حصلت من المبيع زوائد في زمان الخيار؛ الكسب، والولد، والثمرة، ومهر الجارية فلمن يكون؟ لا يخلو: إما إن تم البيع بينهما، أو فسخ: فإن تم العقد، إن قلنا: الملك للمشتري، أو موقوف، تكون الزوائد للمشتري. وإن قلنا: الملك للبائع، فتكون [الزوائد] له. وإن فسخ العقد: إن قلنا: الملك للبائع، أو موقوف - فتكون للبائع. وإن قلنا: الملك للمشتري، فتكون له. وإن كانت حاملاً يوم الشراء؛ فوضعت في زمان الخيار -فالولد لمن يكون؟ هذا ينبني على أن الحمل هل له قسط من الثمن؟ وفيه قولان: أصحهما: له قسط من الثمن؛ فعلى هذا: إن تم العقد، فيكون للمشتري. وإن فسخ، فللبائع؛ كما لو اشترى عبدين. والثاني: ليس له قسط من الثمن؛ فعلى هذا: حكمه حمك زيادة حدثت بعد الشراء.

ولو زيد في زمان الخيار في الثمن، أو في الأجل، أو في الخيار- فإن قلنا: الملك للبائع، تلتحق بالعقد. وإن قلنا: للمشتري، أو موقوف، وتم العقد - فلا تلتحق. وإن قلنا: موقوف، ففسخ، فقد التحق، وارتفع بارتفاع العقد؛ لا فرق فيه بين خيار المكان والشرط. وقيل: إن كان في خيار المجلس، تلتحق بالعقد، وإن كان في خيار الشرط، فلا تلتحق؛ لأن مجلس العقد كحالة المُقاولة؛ بدليل أنه يصلح لقبض رأس مال الصرف والسلم. ولو حط بعض الثمن، فيحط عن المشتري، على الأقوال كلها. ثم من قال: تلتحق بأصل العقد؛ فإن كان المبيع شقصاً من ربع؛ وله شفيع، فالزيادة تلزم الشفيع؛ كما تلزم المشتري، وما حط ينحط في حق الشفيع؛ ما ينحط في حق المشتري. وإن قلنا: لا تلتحق، فالزيادة لا تلزم المشتري، ولا الشفيع، والحط يعمل في حق المشتري، ولا يعمل في حق الشفيع، كما لو زاد أو حط بعد مُضي زمن الخيار. ولو حط جميع الثمن، وقلنا: تلتحق بأصل العقد، فيفسد؛ كما لو باع بلا ثمن، وكذل ما ألحق به مما يفسد العقد من شرط فاسد، أو خيار أو بيع أو أجل مجهول. فإن قلنا: تلتحق الزيادة بالعقد، يفسد العقد، وإلا فلا. ولو باع بيعاً فاسداً ثم حذف الفاسد في المجلس - لا ينقلب صحيحاً؛ لأنه لا عقد هاهنا؛ حتى يكون لمجلسه حكم. وعند أبي حنيفة: إذا زيد في الثمن بعد زمان الخيار، تلتحق بالعقد. فنقول: زيادة لا تلزم الشفيع مع إقراره بها؛ فلا تكون تلك الزيادة ثمناً واجباً بالعقد؛ كما لو زيد بلفظ الهبة. ولو تلف المبيع في زمان الخيار، إن قلنا: الملك للبائع، ينفسخ العقد، سواء تلف أو أتلفه متلف. وإن قلنا: الملك للمشتري، أو موقوف؛ [نظر]: إن تلف بآفة سماوية قبل القبض،

ينفسخ البيع؛ لأن التلف قبل القبض في غير زمان الخيار يوجب انفساخ العقد، ففي زمان الخيار أولى، وإن تلف بعد القبض [في غير الخيار، يوجب انفساخ العقد، ففي زمان الخيار أولى، وإن تلف بعد القبض] هل ينفسخ العقد؟ فيه قولان: أصحهما: لا ينفسخ؛ لأنه دخل في ضمان المشتري بالقبض، وإن كان الفسخ ثابتاً له؛ كما لو قبضه، وبه عيب، فتلف - يكون من ضمان المشتري. والثاني: ينفسخ؛ لأنه هلك قبل إبرام العقد؛ كما لو تلف قبل القبض. فإن قلنا: لا ينفسخ، فالمذهب أن الخيار لا يسقط؛ فإن أجازا، فعلى المشتري الثمن، وإن فسخا، فالقيمة. قلت: إتلاف البائع فسخ، وإتلاف المشتري إجازة، سواء كان قبل القبض أو بعده؛ فعليه القيمة، والخيار قائم، فإن فسخا، فالقيمة للبائع، وإن أجازا، فللمشتري. ولا يجب على واحد من المتبايعين تسليم المعقود عليه في زمان الخيار؛ فلو تبرع بالتسليم جاز، ولا يبطل به خياره، ولا يجبر الآخر على تسليم ما عنده، ولمن سلم أن يسترد ما دفع على الصحيح من المذهب. وقيل: ليس له أن يسترد ما دفع، كما لو سلم المبيع في غير زمان الخيار متبرعاً، لم يكن له رده إلى جنسه؛ لاستيفاء الثمن، وله أن يأخذ ما اشترى دون إذن صاحبه. فصلٌ (هل يورث الخيار أم لا؟) إذا باع شيئاً بشرط الخيار؛ فمات من له الخيار في زمان الخيار؛ يثبت ما بقي من

الخيار لوارثه؛ لأنه خيار لازم تعلق بعين المبيع؛ فيثبت الوارث؛ كخيار الرد بالعيب. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يثبت للوارث، بل يلزم العقد بموته؛ فلو لم يعلم الوارث بموته؛ حتى مضت المدة لا تعاد، ولا يلزم العقد، بل يثبت للوارث الخيار بعد العلم على الفور.

وقيل: يمتد بامتداد مجلس العلم. أما إذا مات أحد المتبايعين في مجلس العقد، نص على أنه يثبت خيار المكان لوارثه. وقال في المكاتب: إذا اشترى شيئاً؛ فمات في مجلس البيع، وجب البيع. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يلزم البيع؛ لأنه خيار يسقط بمفارقة المكان؛ فبمفارقة الدنيا أولى أن يسقط. والثاني: يثبت للوارث، ولسيد المكاتب إذا مات المكاتب؛ كخيار الشرط، وخيار العيب يثبت لهما؛ لأنه تفرق اضطرار؛ بخلاف مفارقة المكان. ومنهم من قال: يثبت للوارث، ولمولى المكاتب قولاً واحداً، وهو الأصح. وقوله في المكاتب: "وجب البيع لم يرد به: لزوم البيع، بل أراد به: أن البيع بموته لا يبطل، وإن ارتفعت الكتابة. ومنهم من فرق على ظاهر النص، وقال: يثبت للوارث؛ لأنه خليفة المورث، ولايثبت للمولى؛ لأنه ليس بخليفة مكاتبه. وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة شيئاً، أو الوكيل بالشراء، ومات في مجلس العقد، فهل يثبت الخيار للمولى والموكل؟ حكمه حكم المكاتب. فإن قلنا: لا يورث خيار المكان، فيبطل خيار الميت، ولا يبطل خيار الحي، حتى يفارق المجلس. وإن قلنا: يورث؛ فإن كان الوارث حاضراً في مجلس العقد، فيمتد الخيار بينه وبين

الحي إلى أن يتفرقا، أو يتخايرا. وإن كان الوارث غائباً، فخيار الحي يسقط بمفارقة مجلس العقد، وخيار الوارث قائم إلى أن يصل الخبر إليه. ثم يكون على الفور، أم يمتد بامتداد مجلس العقد فيه وجهان. فإذا ثبت الخيار للوارث: إما خيار المكان، أو الشرط، وكان له وارثان فسخ أحدهما، وأجاز الآخر. قيل: لا ينفسخ في شيء حتى يتفقا. والصحيح: أنه فسخ في الكل؛ كما لو فسخ احد المتبايعين، وأجاز الآخر يغلب الفسخ؛ وكالمورث في حياته لو فسخ في البعض، وأجاز في البعض، كان فسخاً. ولو جُن أحد المتبايعين في زمان الخيار، لا يبطل العقد؛ لأنه قعد يفضي إلى اللزوم؛ بخلاف الوكالة تبطل بالجنون، ولا يسقط الخيار، فيقيم الحاكم من ينظر له؛ فإن رأى النظر في الفسخ فسخ، وإن رأى في الإجازة أجاز، فن فعل ما فيه النظر ليس للمجنون بعد الإفاقة رده، وإن ترك النظر له رد ما فعله. وإن خرس أحدهما يفسخ، أو يجيز بالإشارة أو بالكتابة، فن لم يعقل الكتابة ولا الإشارة، فهو كالمجنون. فصل (في خيار الشرط) روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما - أن رجلاً ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا بايعت فقل لا خلابة".

ويروى أن ذلك الرجلان حبان بن مُنقذٍ أصابته أمة في رأسه. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" وجعل له الخيار ثلاثاً. كل عقد جاز فيه خيار الشرط، فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام؛ فلو شرط خيار أربعة

أيام، فسد العقد، وبحذف الزيادة لا ينقلب صحيحاً. وقال أبو حنيفة: إذا حذفت الزيادة قبل دخول اليوم الرابع، ينقلب صحيحاً.

فنقول: بيع فسد لمعنى؛ فزوال ذلك المعنى لا يُوجب انقلابه صحيحاً؛ كما لو باع آبقاً فعاد، أو خمراً فتخللت، أو باع بمائة وزق خمر، فحُذف زق الخمر. وإن باع؛ بشرط خيار ثلاثة أيام، يكون ابتداء المدة من وقت العقد، على الصحيح من المذهب، وإن كان خيار المكان ثابتاً. وإذا تفرقا قبل مضي الثلاث، يرتفع خيار المكان، ويبقى خيار الشرط، وإن تم الثلاث قبل التفرق ارتفع خيار الشرط، وبقي خيار المكان. ولو أوجب أحدهما البيع في المجلس، سقط خيار المكان والشرط جميعاً في حقه. وقيل ابتداء خيار الشرط من وقت التفرق، أو التخابر؛ لأن خيار المكان وقت العقد ثابت؛ فلا معنى لإثبات خيار الشرط. والأول أصح؛ لأن وقت التفرق غير معلوم؛ فيصير

خيار الشرط مجهولاً؛ حتى لو شرط خيار الثلاث من وقت التفرق يبطل العقد. فإن قلنا: يثبت من وقت التفرق؛ فأوجب أحدهما البيع في المجلس، سقط خيار المجلس؛ وهل يسقط خيار الشرط؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط، لأن مقتضاهما واحد. والثاني: لا يسقط؛ لأن خيار الشرط لم يثبت بعد. ولو تبايعا؛ بشرط خيار الثلاث لهما؛ فأسقط أحدهما خياره، لزم العقد في حقه، ولا يسقط خيار صاحبه. ولو أسقط خيار اليوم الأول، سقط الكل؛ لأن العقد بعد اللزوم لا يعود جائزاً. ولو أسقط اليوم الثاني، سقط خيار اليوم الثاني، والثالث، وبقي خيار اليوم الأول. ولو شرط في العقد خيار غد دون اليوم، لا يصح. وكذلك لو قال: على أنك بالخيار اليوم وبعد غد دون الغد، لا يصح. (فصلٌ: في شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما أو لأجنبي) ولو شرط الخيار لأحد المتبايعين بعينه دون الآخر جاز، ويثبت لمن شرط له دون الآخر، ولو شرط لأحدهما خيار يوم وللآخر يومين أو ثلاث، جاز. ولو شرط الخيار لأجنبي، أو اشترى عبداً وشرط خيار الثلاث للعبد بعينه - فالمذهب: أن العقد صحيح، ويثبت الخيار، للمشروط له؛ لأنه ربما يحتاج إلى نظر الأجنبي، لمعرفته بالمبيع. وفيه قول آخر: أن العقد لا يصح؛ لأنه حكم من أحكام العقد؛ فلا يثبت لغير العاقد؛ كسائر الأحكام. فإن قلنا: يصح العقد، فهل يثبت الخيار للمتبايعين؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يثبت؛ لأنه خيار ثابت بالشرط، فلا يثبت لغير من شرط له؛ كما لو شرط لأحد المتبايعين، لا يثبت للثاني. والثاني- وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: يثبت؛ لأنه لما ثبت لغير العاقد؛ فالعاقد أولى.

وكذلك لو شرط أحد المتبايعين خياره لأجنبي ثبت للأجنبي على الأصح. وهل يثبت له؟ فيه وجهان: فإن قلنا: لا يثبت للعاقد؛ فإذا مات الأجنبي في زمان الخيار، هل يثبت للعاقد؟ فيه وجهان. أصحهما: أنه يثبت. فإذا أثبتنا الخيار للعاقد، والأجنبي يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ من غير مؤامرة الآخر؛ فلو أجاز أحدهما، وفسخ الآخر؛ كان الفسخ أولى. والوكيل بالبيع لا يبيع بشرط الخيار، إلا بإذن الموكل، فإذا أذن له؛ فباعه بشرط الخيار، ثبت الخيار للوكيل. وهل يثبت للموكل؟ فيه وجهان؛ كما إذا شرط للأجنبي، هل يثبت للعاقد؟ فيه وجهان، غير أنهما يفترقان [في شيء] من حيث إن الوكيل لا يتصرف بالفسخ، ولا الإجارة إلا على وجه النظر؛ لأنه مؤتمر، والأجنبي يفعل ما يشاء؛ لأنه لم يفوض إليه على وجه الائتمار، ولو شرط الوكيل الخيار للموكل؛ يثبت للموكل دونه. ولو اشترى شيئاً فقال: اشتريته على أن أآمر فلانا، فإن أمرني بالإجازة أجزت، وإن أمرني بالفسخ فسخت، نص على جوازه، ثم إذا أراد الفسخ، أو الإمضاء، لم يجز إلا بمؤامرة فلان؛ وصورته: أن يشترط مؤامرة فلان في ثلاثة أيام، فإن أطلق لا يجوز؛ كما لو باع بشرط الخيار مطلقاً. وقيل: هذا يجوز وإن لم يبين للمؤامرة مدة. وقد زاد على الثلاث؛ كخيار الرؤية يجوز أن يزيد على الثلاث؛ والأول المذهب: أنه لا يجوز حتى يقيد المؤامرة بالثلاث، ثم إذا مضت ثلاثة أيام ولم يؤامر فلاناً، أو آمره ولم يشر إليه بشيء - لزم العقد، ولا ينفرد هو بالفسخ، ولا الإمضاء في مدة الثلاث؛ حتى يؤامر فلاناً؛ لأنه لم يجعل نفسه مستبداً بالرأي. وقيل: ينفرد، وحمل النص على الاحتياط. ولو اشترى شيئين صفقة واحدة، وشرط الخيار في أحدهما بعينه، ففي صحة البيع قولان؛ للجمع بين مختلفي الحكم. فإن قلنا: يصح، فله الخيار فيما شرط دون الآخر، وكذلك لو شرط في أحدهما خيار يوم، وفي الآخر خيار يومين.

ولو شرط الخيار فيهما، ثم أراد الفسخ في أحدهما فعلى قولي تفريق الصفقة في الرد بالعيب. ولو باع شيئاً من رجلين صفقة واحدة، وشرط الخيار لأحد لمشتريين دون الآخر ففي صحة البيع قولان: الأصح: جوازه، فلو شرط لهما، ثم أراد أحدهما الفسخ في نصيبه، جاز؛ كما في الرد بالعيب. ويجوز الفسخ بخيار الشرط، أو المكان من غير حضور صاحبه وعلمه، غير أن المستحب أن يشهد، حتى لا يؤدي إلى المنازعة، وكذلك الرد بالعيب. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا يجوز الفسخ بخيار الشرط، إلا بمحضر صاحبه، ولا يشترط رضاه. وفي الرد بالعيب قال: إن كان قبل القبض فكذلك، وإن كان بعد القبض فلا يجوز إلا برضا صاحبه، أو قضاء القاضي. فنقول: رفع عقد؛ فلا يشترط فيه حضور مَنْ لا يشترط رضاه؛ كالطلاق لا يتوقف على حضور المرأة. والله أعلم. باب الربا قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه". الربا حرام. والربا في اللغة [عبارة عن] الزيادة، وطلب الزيادة بالبيع غير حرام، والتحريم مختص ببعض الأموال في بعض الأحوال، وجاء بيانه في الحديث. روي عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله - صلى لله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، [ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب،

والبر بالشعير، والشعير بالبر]، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يداً بيد كيف شئتم. ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ستة أشياء من مال الربا، وعامة أهل العلم على أن الحكم غير مقصور عليها، بل ثبت الربا فيها لأوصاف ومعان فيها نبه الشرع عليها، فيثبت الحكم في كل ما توجد فيه تلك الأوصاف من الأموال. فصل في مذاهب الفقهاء في تعليل حكم الربا ثم اختلفوا في تلك الأوصاف: فذهب الشافعي - رضي الله عنه -إلى أن العلة في

الدراهم والدنانير النقدية العامة، وكونهما ثمنين للأشياء غالباً، ولا يقاس غيرهما عليهما؛ كما اختص بهما تقويم المتلفات. والعلة في الأشياء الأربعة الطعم؛ فأثبت الربا في جميع المطعومات؛ لما روي عن معمر بن عبد الله قال كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

"الطعام بالطعام؛ مثلاً بمثل" فعلق الحكم باسم الطعام، والحكم إذا علق باسم مشتق، كان ذلك علة فيه، القطع في السرقة، والحد في الزنا؛ علق باسم السارق والزاني، ثم كانت السرقة والزنا علة فيهما. وقيل في القديم: العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن؛ فكل مطعوم هو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، وما ليس بمكيل ولا موزون لا يثبت فيه الربا؛ وهو قول سعيد بن المسيب. وعند مالك رحمة الله عليه: العلة في الدراهم والدنانير النقدية؛ كما قلنا، والعلة في الأشياء الأربعة القوت؛ وما يستصلح به القوت؛ فإن الملح مما يستصلح به القوت. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: العلة في النقدين الوزن، وفي الأشياء الأربعة الكيل. فأثبت الربا في جميع الموزونات مثل: الحديد والنحاس والقطن ونحوها، وفي جميع المكيلات مثل: الجص والنورة ونحوها؛ حتى قال يجوز بيع حفنة من حنطة بحفنتين؛ لأن هذا القدر غير مكيل، وهذا لا يصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا البُرَّ بالبر إلا سواء بسواء". واسم البر يتناول القليل والكثير؛ فثبت أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا متساويين. إذا ثبت أن الطعم علة، فيثبت الربا في كل ما هو مخلوق للأكل والشرب؛ من: الحبوب، والثمار، والتوابل والبقول والمائعات المشروبة، وثبت في الماء؛ وسواء فيه ما يؤكل وحده، أو مع غيره؛ كالزعفران والملح، [ويثبت فيما يؤكل للتداوي كالإهليلج والبليلج والسقمونيا وغيرها]، ولا يثبت فيما يؤكل نادراً؛ كالإذخر والبلوط

والخضروات التي تؤكل في الربيع، ويثبت في الراب والطرثوث؛ كما يثبت في الجزر والثوم والبصل والهيشر. فصل في أنواع الربا والربا نوعان: ربا الفضل، وربا النساء؛ فإذا تبايعا مالاً بمال، ولم يكن واحد منهما مال الربا؛ مثل: الثياب، والخشب، والحيوانات - لا يثبت فيها واحد من نوعي الربا؛ فيجوز نقداً ونسيئة ومتفاضلاً؛ سواء كان الجنس مختلفاً أو متفقاً.

وكذلك إذا كان أحدهما مال الربا دون الآخر، يجوز نقداً ونسيئة. وإن كانا ربويين؛ نظر: إن لم يتفقا في العلة مثل: إن سلم أحد النقدين في مطعوم، أو باع مطعوماً بأحد النقدين نقداً أو نسيئة فجائز، وإن اتفقا في العلة نر: إن كان الجنس واحداً مثل: أن باع الدراهم بالدراهم، أو الدنانير بالدنانير، أو باع شيئاً من المطعومات بجنسه؛ فيثبت فيه لا نوعي الربا؛ حتى لا يجوز إلا متماثلين في معيار الشرع إن كانا مكيلين؛ ففي الكيل، أو موزونين؛ ففي الوزن، ويشترط قبضهما في مجلس العقد. وإن كان الجنس مختلفاً؛ مثل: إن باع الدراهم بالدنانير، أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه؛ كالحنطة بالشعير؛ فيثبت فهي ربا النساء دون ربا الفضل؛ حتى يجوز متفاضلاً وجزافاً، ولكن يشترط التقابض في المجلس. وعند أبي حنيفة: لا يشترط التقابض إلا في الصرف؛ وهو بيع أحد النقدين بالآخر، أو بجنسه؛ والخبر حجة عليه حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، إلى أن قال: إلا يداً بيد"، والمراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -:"إلا يداً بيد" إيجاب التقابض؛ فسوى فيه بين بيع الذهب بالذهب، والبر بالبر؛ فدل أن الكل سواء في

وجوب التقابض، ثم قال في آخر الحديث: "ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير؛ يداً بيد كيف شئتم" فأوجب التقابض عند اختلاف الجنس؛ بقوله: "يداً بيد"، وأباح التفاضل بقوله: "كيف شئتم"، فلو تصادفا أو تبايعاً طعاماً بطعام، وتفرقا قبل أن يتقابضا بطل العقد. ولو تقابضا بعض كل واحد من العوضين، ثم تفرقا - بطل في غير المقبوض، وهل يبطل في المقبوض؟ فيه قولان؛ كما لو باع شيئين؛ فتلف أحدهما قبل القبض ينفسخ العقد في التالف، وهل ينفسخ في الآخر؟ فيه قولان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا ينفسخ. ولو طال مقامهما في المجلس، أو فارقا ذلك المكان، ولم يتفرقا ثم قبضا - جاز. ولو تخايرا في المجلس قبل التقابض، أو في السلم تخايرا قبل قبض رأس مال السلم - بطل العقد؛ لأن التخاير بمنزلة التفرق. وقال ابن سريج: لا يبطل العقد؛ لبقاء المجلس؛ فعلى هذا: إذا تقابضا فلا خيار؛ لأن العقد قد لزم بالتخاير. ولو وكل أحدهما وكيلاً بالقبض؛ نظر: إن قبض الوكيل قبل مفارقة الموكل مكان العقد- جاز، وإن فارق الموكل قبل قبض الوكيل، بطل العقد؛ وهذا بخلاف ما لو مات أحد المتبايعين قبل القبض، قام وارثه مقامه في القبض على قولنا: إن خيار المكان يورث؛ لأنه يقبض لنفسه، وقد أقامه الله مقام مورثه، والوكيل يقبض لغيره؛ فلا يجوز قبضه في حال لا يجوز للموكل العاقد. إذا باع غير مال الربا بجنسه، يجوز متفاضلاً وجزافاً نقداً ونسيئة؛ حتى لو أسلم ثوباً في ثوب، أو في ثوبين، أو باع رطل نحاس أو حديد برطلين، أو باع حيواناً بحيوانين يجوز؛ لما رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل".

هل يشترط أن يكون بين رأس مال السلم وبين المسلم فيه تفاوت في وصف؟ فيه وجهان: الصحيح من المذهب: أنه لا يشترط، بل يجوز أن يسلم ثوباً في ثوب مثله في الوصف. وعند أبي حنيفة - رحمة الله عليه -: لا يجوز إسلام الشيء في جنسه. فنقول: مالان لم يجمعهما علة تحريم ربا الفضل، فذكر الأجل لا يمنع بيع أحدهما بالآخر؛ كما لو أسلم ثوباً هروباً في مروي يجوز بالاتفاق. وعند مالك: يجوز متساوياً، ولا يجوز متفاضلاً. وعنده: إذا باع حيواناً بحيوانين؛ وهي مأكولة اللحم لا يجوز إذا أريد بهما الذبح. فصل: في بيع الرطب باليابس روي عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك.

لا يجوز بيع الرطب بالرطب، ولا بيع الرطب بالتمر، وكذلك لا يجوز بيع العنب بالعنب، ولا يجوز بيع العنب بالزبيب؛ لأن المماثلة فيه شرط حالة الكمال؛ وهي حالة الجفاف، وعدم المماثلة حالة الجفاف متيقن في بيع الرطب بالتمر. وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ وفي بيع الرطب بالرطب المماثلة مجهولة في تلك الحالة؛ لأنه ربما ينقص أحدهما بالجفاف أكثر من الآخر، والجهل بالتماثل في الربا يقين التفاضل. وعند أبي حنيفة رحمه الله: يجوز كل ذلك، وأكثر أهل العلم على أن بيع الرطب بالرطب، والعنب بالعنب يجوز، ولا يجوز بيع الرطب بالتمر، ولا العنب بالزبيب. أما بيع التمر بالتمر، أو الزبيب بالزبيب يجوز بالاتفاق متساويين في الكيل، وكذلك كل ثمرة لها حالة جفاف؛ كالمشمش والخوخ والبطيخ الذي يفلق والكمثرى التي تفلق، والرمان الحامض لا يجوز بيع رطبه برطبه، ولا بيع رطبه بيابسه، ويجوز بيع يابسه بيابسه متساويين في الكيل إن كان يمكن كيله، وإن كان يتجافى في المكيال مثل: مفلق البطيخ ونحوه فيجوز وزناً. أما ما ليس له حالة جفاف مثل: العنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتمر والبطيخ الذي لا يفلق، والكمثرى والرمان الحلو، والقرع والباذنجان والبقول - فهل يجوز بيع بعضه ببعض عند اتفاق الجنس؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنها ليست على هيئة الادخار. والثاني: يجوز؛ لأن هذه الحالة أكمل أحوالها؛ كبيع اللبن باللبن، فإن جوزنا بشرط المماثلة في الوزن وإن تفاوت العدد، فإذا اختلف الجنس يجوز بيع بعضه ببعض؛ متفاضلاً وجزافاً، يداً بيد، حتى يجوز بيع رمانه بسفرجلتين، وتفاحة برمانتين، والبطيخ مع

القثاء جنسان، وفي القثد مع القثاء وجهان. وقال في "الأم": ولا يجوز بيع ركيب هندباء بركيب مثله، ويجوز بيعه بركيب جرجير أو غيره، متفاضلاً ومتماثلاً، يداً بيد. ولا يجوز بيع التمر بالتمر، أو أحدهما، أو كلاهما منزوع النوى؛ لزواله عن حالة الادخار. أما بيع مفلق المشمش بمثله، أو مفلق الخوخ بمثله منزوع النوى يجوز؛ على الأصح، لأن العادة في تجفيفه نزع النوى، ولا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالمبلولة، ولا المبلولة بالجافة، ولا بيع المقلية بالمقلية؛ ولا بغير المقلية؛ لزوالها عن حال الكمال. ويجوز بيع الحديث بالعتيق؛ لأن العتاقة بعد حصول الجفاف، إن أثرت إنما تؤثر في خفة الوزن، لا في تصغير الحبة؛ فلا يظهر ذلك في الكيل، فإن كان في الحديث نداوة لو زالت لظهرت في الكيل - لم يجز، ويجوز بيع الجيد بالرديء. ويجوز بيع البيض بالبيض وزناً وإن كان عليه قشر؛ لأنه من صلاحه؛ كالنوى في التمر. وكذلك يجوز بيع الجوز بالجوز وزناً، واللوز باللوز كيلاً، ويجوز بيع لب الجوز بلب الجوز، وبيع لب اللوز بلب اللوز. وقيل: لايجوز؛ لأنه زال عن هيئة الادخار بالإخراج عن القشر؛ كالتمر الذي نزع عنه النوى، ولا يجوز بيع الجوز بلبه. فصل في معيار الشرع الذي تُرعى المساواة به وكل ما جاز بيعه بجنسه من مال الربا يشترط المساواة بينهما في معيار الشرع. ومعيار الشرع الكيل أو الوزن؛ فما كان مكيلاً لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً، كما لا يجوز جُزافاً.

وإذا استويا في الكيل، فلا يضر التفاوت في الوزن، وما كان موزوناً لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً. وإذا استويا في الوزن، لا يضر التفاوت في الكيل. ثم كل شيء يتجافى في المكيال، يباع وزناً، وما لا يتجافى في المكيال؛ فينظر فيه؛ فإن كان مكيلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مكيل لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، وما كان موزوناً على عهده - صلى الله عليه وسلم - فهو موزون، ولا يجوز بيعه بجنسه كيلاً. ولا ينظر إلى ما أحدث الناس بعده، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يعتبر غالب عادات البلدان فيه؛ فالدراهم والدنانير موزونة والأشياء الأربعة المطعومة مكيلة، والملح إن كان قطعاً كباراً فموزونة. وما لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كان ولم يدر أنه كان يُكال أو يوزن، أو كان يُكال مرة ويوزن أخرى، ولم يكن أحد الأمرين أغلب - ففيه وهان: أحدهما: تعتبر المساواة في الكيل؛ لأنه الأصل في المطعومات. والثاني: تعتبر المساواة في الوزن؛ لأنه أحصر وأقل تفاوت. وقيل: يعتبر غالب عادة بلد البيع. وإذا كان بين رجلين شيء من مال الربا، فأراد قسمته، فالقسمة بيع؛ على أصح القولين، فلا يجوز قسمة المكيل وزناً، ولا قسمة الموزون كيلاً. وما لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ كالعنب والرطب واللحم الرطب لا يجوز قسمته أصلاً. وإن قلنا: القسمة إفراز حق يجوز قسمة المكيل وزناً، والموزون كيلاً، ويجوز قسمة العنب والرطب واللحم بالوزن. ولا تجوز قسمة الثمار بالخرص على رؤوس الأشجار؛ لأنا إن قلنا: بيع، فبيع بعضه ببعض لا يجوزه، وإن قلنا: إفراز حق، فالخرص ظن لا يعلم نصيب كل واحد على الحقيقة، وفي الزكاة جوز بالخرص، لأنه ليس للمساكين فيه حقيقة شركة؛ بدليل أنه يجوز أداء حقهم من موضع آخر. وقيل: إذا قلنا: القسمة إفراز حق، يجوز قسمة ثمر النخيل والكرم بالخرص. فصل في تحريم بيع مال الربا بجنسه جزافاً رُوي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع

الصبرة من التمر لا تعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر". لا يجوز بيع مال الربا بجنسه جُزافاً؛ مثل: إن قال: بعتك هذه الصبرة من الحنطة بتلك الصبرة، أو هذه الدراهم بتلك الدراهم؛ لأنهما إن خرجتا متفاضلتين؛ فليقين التفاضل، وإن خرجتا متساويتين؛ فللجهل بالتماثل حالة العقد. ولو قال صاحب الصبرة الصغيرة: بعتك هذه الصبرة بما يقابلها من صبرتك، أو هذه القطعة من الذهب بقدرها من دينارك، أو هذا الإناء من الفضة بما يوازيه من فضت - يصح ثم إن كالا أو وزنا في المجلس وتقابضا، تم العقد والزيادة من الكبيرة لبائعها، وإن تقابضا الجملتين وتفرقا قبل الكيل، والوزن - فقد قيل: يبطل العقد؛ لأنهما تفرقا مع بقاء العُلفة بينهما؛ كما لو تفرقا قبل القبض. والصحيح من المذهب: أن العقد لا يبطل؛ لوجود التقابض في المجلس. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بتلك الصبرة مكايلة أو كيلاً بكيل، أو بعتك هذا الدينار بذلك الدينار موازنة أو وزناً بوزن؛ فإن كالا أو وزنا وخرجا متساويين صح العقد، وإن خرجا متفاضلين، ففيه قولان: أصحهما: البيع باطل؛ لأنه قابل الجملة بالجملة؛ وقد ظهر الفضل بينهما. والثاني: يصح في الكبيرة بقدر ما يقابلها من الصغيرة؛ لأنه قابل صاعاً بصاع، وثبت الخيار لمشتري الكبيرة؛ لأنه لم يسلم له جميعها. فحيث قلنا: يصح العقد؛ فلو تفرقا بعد التقابض قبل الكيل والوزن، هل يبطل أم لا؟ فيه وجهان: الأصح: لا يبطل. وإن كان الجنس مختلفاً بأن باع صبرة من حنطة بصبرة من شعير لا يعلم كيلها - يجوز. فإن قال: بعتك هذه بتلك صاعاً بصاع، أو قال صاعاً بصاعين؛ فإن خرجا على ذلك جاز، وإن زاد أحدهما ففي صحة البيع قولان: أصحهما: لا يجوز. فإن جوزنا، فالزيادة غير مبيعة، ولمشتريها الخيار.

فصل في بيع الربوي بجنسه إذا كان مع أحد العوضين أو كليهما غيره روي عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب - وهي من المغانم تباع - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة؛ فنزع وحده. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"الذهب بالذهب وزناً"، ويروي: "لا تباع حتى تفصل". إذا باع مال الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء آخر - لا يجوز مثل: إن باع مُد عجوة ودرهم بمدى عجوة أو درهمين، أو بمد عجوة ودرهم، أو باع قفيز حنطة

وقفيز شعير بقفيزي حنطة أو بقفيزي شعير، أو بقفيز حنطة وقفيز شعير. وعند أبي حنيفة - رحمة الله عليه-: يجوز؛ حتى لو باع ثلاثة أكرار حنطة، وثلاثة أكرار شعير، وثلاثة أكرار تمر بِكُرِّ حنطة، وكُر شعير، وكر تمر - يجوز، ويقع كل شيء في مقابلة غير جنسه. والحديث حجة عليه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء". والتساوي هاهنا غير موود من قبل أن الصفقة إذا اشتمل أحد شقيها على مختلفي القيمة، توزع ما في الشق الآخر عليهما باعتبار القيمة؛ بدليل أنه لو باع شقصاً من دار وسيفاً بألف - توزع الألف عليهما باعتبار القيمة؛ حتى لو كانت قيمة الشقص ألفاً وقيمة السيف خمس مائة، أخذ الشفيع الشقص بثلثي الألف. وهاهنا لو باع صاع حنطة وشقصاً من دار بصاعي حنطة، وقيمة الشقص مثلاً قيمة الحنطة؛ فالشفيع يأخذ الشقص بصاع وثلث فيبقى الصاع الذي مع الشقص بمقابلة ثلثي صاع. وكذلك لو اشتمل أحد الشقين، أو كلاهما على مختلفي النوع؛ مثل: إن باع مد عجوة ومد صيحياني بمدى عجوة أو بمدى صيحاني، أو باع صاعاً من حنطة جيدة وصاعاً من حنطة رديئة بصاعين جيدين أو رديئين، أو بصاع جيد وصاع رديء - لا يجوز.

وكذلك لو باع ديناراً جيداً وديناراً رديئاً بدينارين وسطين لا يجوز، هذا إذا قابل ما في أحد الشقين بالآخر مطلقاً. فأما إذا باع مد عجوة ودرهم "بمد عجوة ودرهم"، وقال: المد بمقابلة الدرهم والدرهم بمقابلة المد، أو قال المد بإزاء المد والدرهم "بإزاء الدرهم"؛ فقبل المشتري عليه - يجوز؛ لأنه بمنزلة صفقتين. أما إذا خلط الجيد بالرديء، أو الحنطة النقية بالنجسة، ثم باع صاعاً منه بمثله، أو باعه بصاع جيد، أو بصاع رديء - جاز؛ لأن أحد النوعين إذا لم يتميز عن الآخر، لا يوجب التوزيع بالقيمة، بل تتوزع بالأجزاء؛ فيصير كما لو باع صاعاً جيداً بصاع رديء؛ فجائز. أما إذا باع مال الربا بغير جنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء آخر - نظر: إن باعه بما لا يوافقه في علة الربا؛ مثل: إن باع ديناراً ودرهماً بصاع حنطة، وبصاع شعير - يجوز. وإن باعه بما يوافقه في العلة، نظر: إن كنا القبض في الكل شرطاً في المجلس؛ مثل: إن باع صاع حنطة، وصاع شعير بصاع تمر وصاع ملح - فيجوز، وإن كان القبض في البعض شرطاً في المجلس، مثل: إنباع درهماً وصاع حنطة بصاع شعير، ففيه قولان؛ للجمع بين مختلفي الحكم؛ لأن ما يقابل الدرهم من الشعير لا يشترط فيه التقابض، ويشترط فيما يقابل الحنطة منه. ولو باع داراً بذهب، فظهر فيها معدن الذهب - ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: لا يصح، كما لو باع داراً مموهة بالذهب دنانير، وكان التمويه بحيث يحصل منه شيء من الذهب لا يصح؛ كما لو باع بقرة بلبن بقرة؛ فبانت البقرة لبوناً - لا يصح. والثاني: وهو الأصح: يصح؛ لأن المعدن تبع، كما لو باع داراً وفيها بئر ماء بدار فيها بئر ماء - يجوز؛ لأن الماء في البئر تبع الدار. أما إذا باع داراً مموهة بالذهب دنانير، وكان التمويه بحيث لا يحصل منه شيء من الذهب، يصح البيع. ولو أجر حُلياًّ من ذهب بذهب، يجوز، ولا يشترط القبض في المجلس؛ لأن الأجرة بمقابلة المنفعة لا بمقابلة العين، فلا يكون رباً. ولو باع صاع حنطة بصاع حنطة، وفيهما أو في أحدهما قصل أو زؤان؛ قل أم

كثر، أو حبات شعير أو مدر - لم يجز؛ لأنه إن كان في أحدهما؛ فليقين التفاضل، وإن كان فيهما؛ فللجهل بالتماثل. أما إذا كان في أحدهما قليل تراب، أو دقاق تبنٍ - فيجوز؛ لأنه يدخل في تضاعيف الحنطة؛ فلا يظهر في الكيل. أما إذا باع موزوناً من مال الربا بجنسه، وفيهما أو في أحدهما قليل تراب، أو دقاق تبن - لم يجز؛ لأنه يؤثر في الوزن؛ فيمنع التماثل؛ ولو باع صاع حنطة بصاع شعير، وفي الشعير حبات حنطة، وفي الحنطة حبات شعير - جاز؛ لأن المساواة بين المقصودين غير شرط؛ فيعفى عن قليل ما يخالطه بما ليس بمقصود. فصل في بيع الربوي المطعوم بفروعه وبيع فروعه بعضها ببعض لا يجوز بيع الحنطة بكل ما يُتخذ منها من المطعومات من الدقيق والسويق والخبز وغيرها؛ لأن الحنطة إذا غيرت عن هيئتها، خرجت عن حالة المال، ولا تعرف المساواة، بينهما في حالة الكمال. وكل ما يُتخذ من الحنطة من دقيق أو خبز، فلا يجوز بيع بعضه ببعض. [وحى البويطي قولاً أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يجوز بيع الحنطة بالدقيق] ويجوز بيع دقيق الحنطة بدقيق الشعير وخبزه، متفاضلاً وجزافاً، يداً بيد. ولا يجوز بيع العنب بكل ما يتخذ منه من عصير ودبس وخل غيرها، ولا بيع الرطب بكل ما يتخذ منه، ويجوز بيع عصير العنب بعصير العنب، وبيع عصير الرطب بعصير الرطب متساويين في الكيل؛ لأنه على كمال حاله؛ فإن معظم منفعته في هذه الحالة؛ فهو كبيع اللبن باللبن، والدهن بالدهن. ولا يجوز بيع عصير العنب بدبسه ولا بخله، ويجوز بيع خل العنب بمثله، وبيع خل

الرطب بمثله متساويين في الكيل؛ لأنه على هيئة الادخار. ولا يجوز بيع دبس العنب بمثله؛ لأن أخذ النار منها يتفاوت ولا بيع دبسه بخله؛ لأن أصلهما واحد، ويمكن أن يُتخذ الخل من الدبس. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب، ولابيع خل التمر بخل التمر؛ لأنه لا يخلو عن الماء؛ فلا يعرف التماثل بين الخلين، وذلك لا يجوز بيع خل العنب بخل الزبيب، ولا خل الرطب بخل التمر؛ لأن في خل الزبب والتمر ماء؛ فتعدم المماثلة بين الخلين. فإذا اختلف الجنس؛ مثل: إن باع عصير العنب بعصير الرطب، أو خل العنب بخل الرطب، أو دبس أحدهما بدبس الآخر - يجوز متفاضلاً وجزافاً يداً بيد؛ كبيع العنب بالرطب. والخلول أجناس مختلفة إذا اختلفت أصولها، وإن اتفقت أساميها، وذلك الأدهان؛ لأنها فروع أصول [ربوية] مختلفة؛ فكان حكمها حكم أصولها؛ كدقيق الشعير مع دقيق الحنطة؛ بخلاف اللحمان؛ مثل: لحم الغنم، ولحم البقر والإبل جعلناها على أحد القولين جنساً واحداً؛ لأن أصولها غير ربوية، وحكم الألبان حكم اللحمان. لا يجوز بيع خل الزبيب بخل التمر؛ لأن فهيما ماء، والماء فيه ربا ولا تعرف المماثلة بين الماءين؛ فن باع خل الزبيب بخل الرطب يجوز؛ لأن الماء في أحدهما، والمماثلة بين الخلين غير شرط. ولا يجوز بيع السمسم بدهنه، ولا بكسبه، ويجوز بيع دهنه بدهنه متساويين في الكيل، ويجوز بيع كسبه بكسبه متساويين في الوزن إذا لم يكن فهي خلط، فإن كان فيه خلط فلا يجوز، ولا يجوز بيع طحينه بطحينه؛ كبيع الدقيق بالدقيق، ويجوز بيع دهنه بكسبه متفاضلين؛ لأنهما جنسان مختلفان يداً بيد، وكذلك الجوز واللوز بما يتخذ منه. فإذا اختلف الجنس؛ بأن باع دهن الجوز بدهن السمسم، أو شيئاً مما يتخذ من أحدهما بالآخر - يجوز متفاضلاً وجزافاً يداً بيد. والأدهان المطيبة مثل دهن الورد، والبنفسج، والنيلوفر -كلها جنس واحد؛ لأنها

دهن السمسم. فإن طرحت أوراق هذه الأشياء في الدهن؛ حتى يطيب - لايجوز بيع بعضه ببعض؛ لأنه اختلط به ما يمنع التماثل. وإن ربا السمسم في الورد، ثم استخرج دنه - جاز بيع بعضه ببعض متساويين. والأدهان المتخذة للتداوي مثل: دهن الخروع والخردل ودهن نوى الخوخ والمشمش - يثبت فيها الربا، ونوع من الدهن يتخذ لغير الأكل مثل دهن بزر الكتان، ودهن السمك لا ربا فيه؛ لأنه غير مطعوم. وقيل: فيه ربا؛ لأن دُهن السمك يأكله الملاحون، ودهن بزر الكتان يؤل في أول ما يستخرج، ثم يتغير بمرور الزمان عليه. ويجوز بيع اللبن باللبن متساويين في الليل إذا كان الجنس واحداً؛ سواء كانا حليبين أو رائيين أو حامضين، أو كان أحدهما حليباً والآخر حامضاً أو رائباً؛ فإن كان مغليين، أو أحدهما - لا يجوز؛ كبيع الدبس بالدبس، ولا يجوز بيع الهريد بالهريد، ولا بيع اللبأ باللبأ؛ لتأثير النار فيه. لا يجوز بيع اللبن بل ما يتخذ منه من مخيض وزبد وسمن، ويجوز بيع المخيض بالمخيض إذا لم يكن فيهما ماء، ويجوز بيع السمن بالسمن متساويين في الكيل إن كان ذائباً وإن كان جامداً ففي الوزن. ولا يجوز بيع الزبد بالزبد؛ لأنه لا ينفك عن قليل مخيض؛ فيمنع المماثلة، ويجوز بيع المخيض بالزبد وبالسمن متفاضلين، وإن كان في الزبد قليل مخيض، وفي المخيض قليل زبد، لأن المقصودين مختلفان في الجنس؛ كبيع الحنطة بالشعير، وفي أحدهما قليل قصل أو زؤان.

ولا يجوز بيع الزبد بالسمن؛ لأن السمن يتخذ من الزبد، ولا يجوز بيع الأقط بالأقط، ولا المصل بالمصل، ولا الجبن بالجبن؛ لأن حالة كماله كونه لبناً، ولا تعرف المماثلة بين اللبنين؛ ولأنه لا يخلو عن شيء يخالطه. وإن كان الجنس مختلفاً؛ مثل: لبن البقر مع لبن الغنم والإبل - فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلين يداً بيد. وكذلك يجوز بيع لبن أحد الصنفين بما يتخذ من لبن الصنف الآخر. ولبن الغنم ضانيها وماعزها جنس واحد، ولبن الوعل مع المعز الأهلي صنفان. وفيه قول آخر أن الألبان كلها صنف واحد؛ فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر، إلا على الوجه الذي ذكرنا في بيع لبن الغنم بلبن الغنم. والأول المذهب. ولو باع لبن الشاة بشاة حية غير لبون - يجوز نقداً ونسيئة، وإن باع بشاة لبون؛ نظر: إن كانت مستفرغة الضرع حالة البيع، بأن حلب لبنها، ثم بيعت في الحال - يجوز، وإن كان في ضرعها لبن في تلك الحالة، لا يجوز؛ لأن اللبن في الضرع له قسط من الثمن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في مقابلته صاعاً من التمر في المُصراة. وكذلك لو باع شاة لبوناً بشاة لبون في ضرعها لبن - لا يجوز فإن كانتا أو أحداهما مستفرغة الضرع؛ بأن حلبها، ثم في الحال باعها، جاز. ولو باع بن الشاة ببقرة لبون في ضرعها لبن أو بقرة لبوناً بشاة لبون في ضرعها لبن: إن قلنا: الألبان جنس واحد، لا يجوز. وإن قلنا بظاهر المذهب: إن الألبان أجناس مختلفة - فهل يجوز البيع فيه قولان؛ لأنه جمع بين مختلفي الحكم من حيث إن ما يقابل اللبن من اللبن يشترط التقابض فيه، وما يقابله من الحيوان لا يشترط. ولو باع شيئاً عُرض على النار من مال الربا بجنسه - فهو على قسمين قسم يعرض على النار؛ ليتميز ما ليس منه عنه؛ كالفضة والذهب يعرض على النار؛ ليتميز الغش عنه، والسمن يعرض على النار، ليتميز المخيض عنه؛ فيجوز بيع بعضه ببعض. وقسم يعرض على النار؛ للطبخ؛ كاللحم، لا يجوز بيع مطبوخه بمطبوخه، ولا بيع مطبوخه بنيه.

وكذلك الدبس لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ على اهر المذهب، وفي بيع السكر بالسكر، والفانيذ بالفانيذ وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ كبيع الدبس بالدبس. والثاني: يجوز؛ لأن للنار فيه نهاية لا يجاوزها؛ بخلاف الدبس، فإن تأثير النار فيه مختلف. ولا يجوز بيع قصب السكر بالسر، ولا بقصب السكر؛ كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر، ولا بالرطب. ولو باع السكر بالفانيذ إن كان أصلهما مختلفاً - جاز، وإن كان واحداً، فكبيع الفانيذ بالفانيذ، وكذلك بيع قصب السكر بالفانيذ إن كان أصلهما واحداً، لا يجوز، وإن كان مختلفاً يجوز، كبيع الرطب بالعنب. ويجوز بيع العسل بالعسل إن كان مصفى بالشمس، متماثلين في الكيل. وإن كان مصفى بالنار، فعلى وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن النار قد تعقد أجزاءه. والثاني: يجوز، لأن عرضه على النار؛ لتصفيته عن الشمع، وهي نار لينة لا تعقد أجزاءه؛ كالشمس. ولا يجوز بيع الشهد بالشهد؛ لأنه لا يعرف تماثل العسلين؛ لما فيهما من السمع؛ بخلاف النوى في التمر؛ لأنه من صلاحه. وكذل لا يجوز بيع العسل بالشهد؛ ليقين التفاضل، ويجوز بيع الشمع بالشمع متفاضلاً وجزافاً، نقداً ونسيئةً؛ لأنه ليس مال الربا. وكذل يجوز بيع الشمع بالعسل وبالشهد، وأما عسل الرطب وهو رُبٌّ يسيل منه - يجوز بيع بعضه ببعض متساويين في الكيل، ويجوز بيعه بعسل النحل متفاضلاً وجزافاً يداً بيد؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ كما يجوز بيع العسل بالدبس. فصل في استبدال ما في الذمة بغيره روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير؛ فآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق؛ فأخذ مكانها الدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فقال: "لا بأس به بالقيمة".

إذا باع شيئاً بدراهم، أو بدنانير في الذمة - يجوز الاستبدال عن الثمن في الذمة، على قوله الجديد وهو المذهب، لحديث ابن عمر، وكما يجوز الاستبدال عن القرض، وبدل الإتلاف. وقال في القديم: لا يجوز الاستبدال عنه؛ كما لا يجوز عن المسلم فيه قبل القبض، ولا فرق في جواز الاستبدال بني أن يكون بعد تسليم المبيع أو قبله. ولو باع شيئاً بغير الدراهم والدنانير في الذمة - فالمذهب: أنه كالدراهم والدنانير في جواز الاستبدال عنه. وقيل: لا يستبدل عن غير الدراهم والدنانير، وأصله: أن حد الثمنية ماذا؟ لأن ما يثبت في الذمة ثمناً يجوز الاستبدال عنه، وما يثبت مثمناً لا يجوز. فالصحيح أن حد الثمنية ما يجعله المتبايعان ثمناً؛ وهو ما ألصق به باء الثمنية؛ فعلى هذا: يجوز أن يستبدل عن غير النقدين. وقيل: إذا كان أحد العوضين من أحد النقدين، فهو ثمن بكل حال، وما ليس بنقد مثمن؛ فعلى هذا الاستبدال عن غير النقدين لا يجوز.

وإذا باع شيئاً بدراهم أو دنانير معينة تتعين؛ حتى لا يجوز إعطاء مثلها مكانها، ولو تلفت قبل القبض ينفسخ العقد، ولو وجد مشتريها بها عيباً لم يكن له أن يستبدل، بل عن شاء فسخ العقد، وإن شاء رضي به. وقال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: الدراهم والدنانير لا يتعينان بالتعيين، حتى يجوز لبائعها إعطاء غير ما وقع عليه العقد من جنسه، وإذا تلفت قبل القبض لا ينفسخ العقد، وإذا وجد بها عيباً يستبدل؛ لأن المقصود منها رواجاً لا أعيانها وغيرها يعمل عملها. فنقول: أجمعنا على أنها تتعين في الغصب والوديعة، وما يتعين في الغصب والوديعة يتعين في العقد؛ كالسلع، يؤيده: أنه لو أخذ صاعاً من صبرة، فباعه بعينه يتعين؛ حتى لا يجوز أن يعطي صاعاً آخر من تلك الصبرة، مكانه، ون كان يعمل عمله كذا. هذا إذا أراد أن يعطي مثلها بغير رضا مشتريها. فأما إذا تراضيا على أن يأخذ مشتريها مثلها، أو شيئاً آخر من غير جنسها، فهو بيع المبيع من البائع، يجوز بعد القبض، ولا يجوز قبله. وإذا باع شيئاً بدراهم أو دنانير، يشترط أن تكون معلومة بتعيين، أو وصف، أو كونه غالب نقد البلد؛ فلو باع بدينار أو بدرهم مطلقاً؛ نظر: إن كان نقد البلد واحداً انصرف إليه وصح، وإن كان في البلد نقود مختلفة انصرف إلى أعمها وأغلبها، إلا أن يقيد بغيره، فينصرف إلى ما قيده به. وإن استوت النقود كلها في الرواج، لا يصح العقد ما لم يقيد بواحد منها. وكذلك تقويم المتلف يكون بغالب نقد البلد؛ فإن كان في البلد نقدان مستويان، فالقاضي يعين واحداً للتقويم. ولو باع شيئاً بدراهم مغشوشة يصح العقد؛ على ظاهر المذهب؛ لأن المقصود منها رواجها، ولو باع بدرهم مطلقاً، ونقد البلد مغشوش، يجب درهم من ذلك. ومن أصحابنا من قال: لا تصح المعاملة بالدراهم المغشوشة، فلو باع بدرهم مطلقاً، ونقد البلد مغشوش - لا يصح؛ لأن المقصود ما فيه من النقرة؛ وهي مجهولة؛ كما لا يجوز بيع تراب المعدن وتراب الصاغة، لأن المقصود ما فيه من الذهب والفضة، وهو مجهول.

ولو كان نقد البلد فلوساً أو دراهم عطرسه - يجوز التصرف فيها، ومطلق العقد ينصرف إليها. ولو باع شيئاً وسمي نقداً يعز وجوده في البلد - هل يصح؟ هذا ينبني على أن الاستبدال عن الثمن هل يجوز، أم لا؟ إن قلنا: يجوز، صح العقد؛ ثم إن وجد ل النقد، وإلا يستبدل. وإن قلنا: لا يجوز الاستبدال، لا يصح العقد؛ ما لو أسلم في شيء يعز وجوده. وإن كان ذلك النقد موجوداً، فانقطع: إن قلنا: يجوز الاستبدال يستبدل. وإن قلنا: لا يجوز، فهو كما لو انقطع المسلم فيه. وإذا باع شيئاً بدراهم، وأوجبنا نقد البلد؛ فأبطل السلطان ذلك النقد- ليس له إلا ذل النقد؛ كما لو أسلم في حنطة، فرخصت يس له إلا الحنطة. وقيل: يتخير البائع بين أن يجيز العقد؛ فيأخذ النقد الأول، وبين أن يفسخ؛ فيسترد ما أعطي؛ كما لو تعيب المبيع قبل القبض. ولو باع سلعة أو تصارفا وتقابضا، ثم جاء مشتري الدينار به معيباً، فأنكر صاحبه أن يون ذلك الذي أعطاه - نظر: إن كان العقد ورد على دينار في الذمة، فالقول قول من يرد مع يمينه؛ لأن الأصل اشتغال ذمة صاحبه به، هذا هوا الأصح عندي. وفيه وجه آخر: القول قول الدافع مع يمينه. وكل لو أتى المسلم بالمسلم فيه معيباً، وقال المسلم إليه: ليس هذا ما دفعته إليك - فالقول قول المسلم مع يمينه؛ على الأصح. ولو كان قد تلف في يد المسلم؛ فادعى به عيباً، حلف، وغرم التالف، وطالبه بالجيد. وإن كان العقد قد ورد على معين، فالقول قول من أعطاه مع يمينه؛ لأن الذي يرده يريد فسخ العقد، والأصل مضيه على السلامة، إلا أن يكون المعين نحاساً لا قيمة له؛ فالقول قول من يرده؛ لأنه يدعي فساد العقد، والأصل بقاء ماله على ملكه. فصل في الصرف روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا

الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز". يشترط في بيع أحد النقدين بالآخر تقابض البدلين في المجلس، وإن كان الجنس مثقفاً يشترط التساوي في المعيار، ولا يشترط أن يون معيناً حالة العقد؛ حتى لو تبايعا ديناراً بدينار أو بدرهم وأحدهما أو كلاهما في الذمة -جاز، ثم عليهما أن ينقدا ويتقابضا في المجلس، وإن لم يكن معهما فاستقرضا وتقابضا جاز. وكذلك لو تبايعا طعاماً بطعام موصوفين في الذمة ثم عينا وتقابضا، جاز. وإذا تصارفا في الذمة، يشترط بيان الوزن؛ فإذا عينا، لا يجوز التقابض جزافاً إلا بالوزن. وإذا تعاقدا على معينين، يجوز جُزافاً عند اختلاف الجنس. وإذا تصارفا على معينين، ثم خرج أحدهما مستحقاً أو خرج نحاساً لا قيمة له- فالعقد باطل، وإن خرج بعضه بهذه الصفة، فالعقد في ذلك القدر باطل، وفي الباقي قولان: فإن قلنا: يجوز؛ فلمشتريه الخيار بين الفسخ والإجازة، فإن أجاز يجيز بحصته من

الثمن إن كان الجنس واحداً؛ لأن الفضل بينهما حرام، وإن كان الجنس مختلفاً فعلى قولين أصحهما: يجيز بحصته من الثمن. والثاني: يجيز بجميع الثمن. وإن خرج أحدهما رديئاً، نظر: إن كان من جنس النقرة، غير أنها خشنة أو سوداء - فالمشتري بالخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أجاز، ولا يجوز الاستبدال. وإن خرج البعض بهذه الصفة، له أن يفسخ العقد في الكل؛ فلو أراد أن يفسخ في القدر الرديء، ويجيز في الباقي - فهل يجوز، أم لا فيه قولان: فإن جوزناه، يجيز بحصته من الثمن قولاً واحداً؛ لأن العقد فيه صح على الكل؛ فإذا ارتفع في بعضه، سقط بقدره من الثمن. فأما إذا تصارفا في الذمة وتقابضا، ثم خرج أحدهما مستحقاً أو نحاساً لاقيمة له: فإن كان في مجلس العقد يستبدل، وإن كان بعد التفرق بطل العقد؛ لأنهما تفرقا قبل قبض ما ورد عليه العقد. ولو خرج رديئاً؛ بأن كانت نقرة، إلا أنها خشنة؛ فإن كان قبل التفرق فهو بالخيار إن شاء رضي به، وإن شاء استبدله. وإن كان بعد التفرق، فهل له الاستبدال؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: لا يجوز، بل إن شاء فسخ، وإن شاء أجاز؛ لأن الاستبدال قبض بعد التفرق؛ وذلك لا يجوز في الصرف. والقول الثاني: وهو الأصح: يجوز الاستبدال، ولا فسخ له؛ لأن المقبوض عما [في] الذمة إذا خرج رديئاً لا يفسخ به العقد؛ كالمسلم فيه إذا خرج رديئاً، ولا يكون قبضاً بعد التفرق؛ لأن قبض الأول قبض تام؛ بدليل أنه لو رضي به جاز، وهذا بدل يقيمه مقام الأول؛ حتى قال أصحابنا: إذا رد الرديء، يجب أن يأخذ بدله قبل التفرق عن مجلس الرد، فإن تفرقا قبل قبض البدل، بطل العقد. وإذا خرج بعضه بهذه الصفة بعد التفرق؛ فإن جوزنا الاسبتدال يستبدل ذلك القدر، وإن لم نجوز فهو بالخيار: إن شاء فسخ العقد في الكل، وإن شاء أجاز، فلو أراد أن يفسخ

في القدر الرديء، ويجيز في الباقي - فعلى قولين؛ بناء على تفريق الصفقة. وحكم رأس مال السلم إذا وجد المسلم إليه به عيباً - حكم بدل الصرف؛ على التفصيل الذي ذكرنا. ولو تصارفا وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما اشترى عيباً بعد ما تلفت في يده - والعيب مما يجوز الرضا به - بماذا يرجع؟ لا يخلو: إما أن يكون معيناً، أو في الذمة. فإذا كان معيناً نظر: إن كان الجنس مختلفاً؛ مثل: إن باع ديناراً بدراهم، أو حليباً من ذهب بدراهم؛ فتلف الدينار والحلي عنده، ثم علم به عيباً يسترد من الثمن بقدر العيب؛ كما في غير الصرف. وإن كان الجنس متفقاً؛ بأن باع ديناراً بدينار، أو حلياً من ذهب بذهب، ثم وجد به عيباً بعد التلف، ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: يسترد من الثمن بقدره؛ كما في غير الصرف. وقيل: يأخذ الأرش من غير جنس ما أعطى؛ لأنه إذا استرد بعض الثمن، ظهر الفضل في أحد العوضين. وهذا ضعيف؛ لأنه لو امتنع الأول للفضل، لامتنع أخذ غير الجنس، لأنه يصير كبيع ما الربا بجنسه مع غيره. وقال ابن أبي هريرة: يُغرم ما تلف عنده، ويفسخ العقد، ويسترد ما أعطى؛ فإن كان قد تعيب في يده، يغرم أرش النقصان ويفسخ. والأول المذهب؛ لأن المماثلة في مال الربا تشترط في العقد، وحالة العقد كان العرضان متماثلين، واسترجاع بعض الثمن حق ثبت له ابتداء؛ فلا يراعى فيه معنى الربا. فأما إذا تصارفا في الذمة وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما اشتراه عيباً بعد التلف - نظر: إن كانا في مجلس العقد، يغرم ما تلف عنده ويستبدل، وإن كان بعد التفرق؛ فإن جوزنا الاستبدال فهكذا؛ وإن لم نجوز الاستبدال بعد التفرق؛ فإن كان الجنس مختلفاً يسترد من الثمن بقدر العيب؛ وإن كان الجنس متفقاً فعلى الأوجه الثلاثة. أصحها: يسترد من الثمن بقدر العيب. وكذلك لو باع طعاماً بطعام، ثم وجد بما اشترى عيباً بعد ما تلف عنده. وكذلك لو وجد المسلم إليه برأس مال السلم عيباً بعد ما تلف عنده، فإن كان رأس مال السلم معيناً ثم يسقط من المسلم فيه بقدره مثل: إن كان العيب ينقص عشر قيمته؛ فتسقط عشر المسلم فيه، وإن كان في الذمة فعينه. فإن كان في المجلس يُغرم ما تلف عنده

ويستبدل، وإن كان بعد التفرق، فإن جوزنا الاستبدال فكذلك، وإن لم نجوز، فيسقط من المسلم فيه بقدره؛ كما في المعين. فصل في وجوب المساواة بين الربويات عند اتحاد الجنس رُوي عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا فقال: لا، والله يا رسول الله: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاث؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل، بيع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً. لايجوز أن يبيع مال الربا بجنسه، ويأخذ فضلاً إلا بواسطة عقد آخر، مثل: إن أراد بيع دينار صحيح بدينار ودانق مكسر، يبيع الدينار بالدراهم، أو بثوب، ثم بعد ما تقابضا وتفرقا أو تخايرا، يشتري بالثوب أو بالدراهم الذهب المُكسر، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل خيبر أن يبيع الجميع بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم الجنيب. فلو باع الدينار بالدراهم، ثم اشترى بالدراهم الذهب المكسر قبل قبضها - لم يجز، ولو اشترى بعد قبضها قبل التفرق، أو التخاير -فالمذهب جوازه، ويصير به مجيزاً للعقد الأول. ولو لم يتبايعا، بل أقرض الدينار الصحيح من صاحبه، واستقرض منه ديناراً ودانقاً مكسراً، ثم أبرأ كل واحد منهما صاحبه، أو وهب كل واحد منهما ما معه لصاحبه، أو تبايعا ديناراً بدينار، ثم باع المكسر، ووهب الزيادة منه - جاز إذا لم يشترط في إقراضه أو هبته أو بيعه إقراض الآخر أو هبته؛ فإن فعل، لم يصح واحد منهما. ولو باع حُليا من فضة بفضة لا يجوز طلب الفضل للصنعة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل".

ولو كان معه دينار قيمته عشرون درهما؛ فباع نصفه مشاعاً من رجل بعشرة، وسلم الكل إليه، ليحصل تسليم النصف - يجوز. ولو باع كله بعشرين، ولم يكن مع مشتريه إلا عشرة دراهم، فدفعها إلى البائع، واستقرض عشرة من بائع الدينار غير هذه العشرة، ورد إليه من ثمن الدينار- يجوز. ولو استقرض هذه العشرة التي دفعها إليه، هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما لو استقرض غيرها. والثاني: لا يجوز؛ لأن ملك بائع الدينار لم يستقر عليها. والله أعلم. باب بيع اللحم باللحم وبالحيوان لحوم الحيوانات صنف واحد أم أصناف مختلفة؟ فيه قولان: أصحهما؛ وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني - رحمة الله عليهما -: أنها أصناف مختلفة، لأنها فروع أصول مختلفة؛ كالأدقة. والثاني: كلها صنف واحد؛ لأنها اشتركت في الاسم الأخص أول حالة دخولها في الربا اشتراكاً لا يتميز إلا بالإضافة؛ فأشبهت أنواع التمور كلها جنس واحد. وليس كالثمار؛ لأنها لم تشترك في الاسم الأخص، إنما اشتركت في الاسم الأعم ولكل صنف منها اسم على حدة؛ فكانت أجناساً مختلفة، ولا كالأدقة؛ لأنها ليست أول حالة دخولها في الربا؛ فإن أصولها ربوية مختلفة؛ فكان حكمها حكم أصولها. فإن قلنا جنس واحد، فلحوم جميع الحيوانات: أهليها ووحشيها، بريها وبحريها - جنس واحد. وإن قلنا بالقول الأصح: إنها أجناس مختلفة، فلحم كل صنف جنس آخر، واختلاف النوع لا يوجب اختلاف الجنس، فلحوم الغنم ضانيها وماعزها صنف واحد، ولحوم البقر جواميسها وعرابها جنس واحد، ولحوم الإبل مع اختلاف أنواعها جنس واحد، ولحوم الإبل والبقر والغنم أجناس، والبقر الوحشي مع الأهلي جنسان، وكذلك الوعل مع المعز الأهلي.

وفي الطيور الحمام كلها جنس واحد، وهو ل ما عَبَّ وهدر مثل: اليمام والفواخت والقُمري، والدبسي. وقيل: كل نوع صنف آخر. والأول أصح. والعصافير مع اختلاف أنواعها صنف واحد. وحيوان البحر مع حيوان البر صنفان، وحيوان البحر السمك مع اختلاف أنواعها صنف واحد، وفي السمك مع سائر حيوانات البحر قولان، وكذلك سائر حيوانات البحر مع اختلاف أنواعها فيها قولان: أحدهما: كلها جنس واحد؛ لأن الكل يسمى حوتاً. والثاني: أجناس مختلفة؛ لأن كل صنف ينفرد باسم خاص كحيوانات البر. فإن قلنا: اللحوم أجناس مختلفة، يجوز بيع بعضها ببعض عند اختلاف الجنس متفاضلاً أو جزافاً، نياً ومطبوخاً، رطباً ويابساً، يداً بيد. وإن قلنا: جنس واحد؛ فباع لحم حيوان بمثله، مثل: إن باع لحم الشاة بلحم الشاة - نظر: إن كانا رطبيين أو أحدهما، لايجوز؛ بخلاف الثمار يجوز بيع بعضها ببعض في قول في حالة الرطوبة؛ لأن معظم الانتفاع بها حال رطوبتها، وإن كانا قديدين يابسين يجوز متساويين في الوزن، وإن كانا مملحين فإن كان عليهما أو على أحدهما من أثر الملح ما يظهر في الوزن - لم يجز، وإلا فيجوز. وإن كان فيهما، أو في أحدهما عم يجوز؛ على أصح الوجهين؛ كالنوى في التمر. وقال أبو إسحاق: لا يجوز، حتى يكونا منزوعي العظم؛ لأن العظم فيه ليس من

صلاحه؛ بخلاف النوى في التمر؛ بدليل أن بيع التمر بالتمر منزوع النوى لا يجوز، ويجوز بيع اللحم باللحم منزوع العظم. أما إذا استخرج العظم من أحدهما، ثم بيع بما فيه العظم لا يجوز، ولا يجوز بيع المشوي منه بالمشوي ولا بالنيء. ويجوز بيع شحم البطن بشحم الهر ولحمه، متفاضلاً وجزافاً، رطباً ويابساً؛ لأنها جنسان، ولحم اظهر مع شحم الظهر ولحمه، متفاضلاً وجزافاً، رطباً ويابساً؛ لأنها جنسان، ولحم الظهر مع شحم الظهر جنس واحد، والآلية مع الشحم واللحم أجناس، وسنام البعير مع شحم ظهره وبطنه جناس، ولحم الرأس والأكارع مع لحم الظهر جنس واحد، والكبد والطحال والقلب والرئة والكرش أجناس مختلفة، واللحم معها جنس آخر. قلت: وبيض الطيور جنس واحد، أم أجناس؟ فكاللحمان. فصل في بيع اللحم بالحيوان روي عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان. إذا باع لحم الحيوان بحيوان مأكول اللحم، لا يجوز، سواء باع بجنسه، أو بغير جنسه؛ مثل: بيع لحم الشاة بالبقر.

روي عن ابن عباس رضي الله عنه- أن جزوراً نحرت على عهد "أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فجاء رجل: "بعناق" فقال؛ أعطوني جزءاً بهذه العناق. فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: لا يصلح هذا. ولو باع اللحم بحيوان غير مأكول من عبد أو حمار - فيه قولان: أصحهما: وهو المنصوص في أكثر الكتب: لا يجوز، لظاهر الخبر. وفيه قول آخر: أنه يجوز. قلت: ولا يجو بيع سنام البعير وإليه الشاة بالحيوان؛ لأنه في معنى بيع اللحم بالحيوان، وجاء في الحديث؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -"نهى أن يباع حتى بميت". ويجوز بيع البيضة بالدجاج؛ لأن البيضة لم تنك حية فارقها الروح. ولو باع بيضة بدجاجة في جوفها بيض، لا يجوز؛ كبيع اللبن باللبن. باب ثمر الحائط يباع أصله روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع".

إذا باع نخلة قبل خروج طلعها يخرج الطلع على ملك المشتري. وإن باع بعد خروج الطلع قبل تشققه، فالطلع يدخل في مُطلق بيع النخلة. وإن باع بعد تشقق الطلع؛ سواء أبر أو لم يؤبر - فالثمرة تبقى على ملك البائع؛ لأنها ظهرت من كمامها بالتشقق؛ فلا تتبع الأصل، إلا أن يبيعها مع النخلة؛ فيكون للمشتري؛ هذا كما أن الحمل يدخل في مطلق بيع الأم، ولو باع الأم بعد خروج الولد، لا يتبعها الولد إلا أن يبيعه معها. وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه -: الطلع لا يدخل في مطلق بيع النخلة. وقال ابن أبي ليلى: المؤبرة تدخل. ومنطوق الحديث حجة على ابن أبي ليلى، ومفهومه على أبي حنيفة؛ ولأن ماله حالة كمون وظهور في أصل الخلقة يتبع الأصل في حال الكون، كالحمل في البطن. ولو باع نخيل حائط بعضها مؤبرة والبعض مطلعة صفقة واحدة، يبقى الكل على ملك البائع، سواء اتفقا في النوع، أو اختلفا؛ لأن المؤبرة كاملة؛ فتستتبع الناقصة. وقيل: إن كان النوع مختلفاً أبر أحد النوعين دون الثاني؛ فلا تستتبع، بل تدخل غير المؤبرة في البيع. والأول المذهب. فإن أفرد المطلعة بالبيع يدخل الطلع في البيع؛ لأنه إنما يكون تبعاً للمؤبرة إذا جمع بينهما في البيع، فإذا أفرده، فلا يكون تبعاً له، بل يكون تبعاً للأصل. ولو كان بعض نخيله مؤبرة، والبعض لم يخرج طلعه، فباع جميع الحائط؛ ففي الطلع الذي يخرج من بعد وجهان: قال ابن أبي هريرة: يكون للمشتري؛ لأنه خرج من ملكه، ولايتبع المؤبر؛ لأنه لم يكن موجوداً يوم بيعه. والثاني: يتبع المؤبرة ويكون للبائع؛ لأنه من ثمر عامة؛ كالطلع الظاهر. ولو باع نخيل حائطين صفقة واحدة: ثمر أحدهما طلع، وثمر الآخر مؤبرة؛ بعضها أو كلها- فثمر الحائط الذي أبر بعضها، أو كلها، يبقى للبائع، وثمر الآخر يدخل في البيع،

سواء كان النوع مختلفاً أو متفقاً؛ بخلاف الحائط الواحد؛ حيث قلنا: يبقى الكل على ملك البائع؛ نفياً للضرر عنهما باختلاف الأيدي، وسوء المشاركة. ولو باع نخلاً فخلا مطلعاً، يدخل طلعه في البيع؛ كطلع الإناث. وقيل: يبقى طلعه للبائع، بخلاف طلع الإناث؛ لأن المقصود من الفحل طلعه، وهو ظاهر، ومن الإناث ثمرتها، وهي غير ظاهرة، فتدخل في البيع. ولو باع نخيل حائط بعضها فحول، وبعضها إناث قد تشقق طلع أحد النوعين، يبقى الكل على مل البائع، على ظاهر المذهب. والكُرسف نوعان: نوع منه: له ساق يبقى سنين، يثمر كلسنة؛ مثل: كرسف "الحجاز"؛ فهو كالنخل إن باعه قبل خروج الجوزق يخرج على مل المشتري، وإن باعه بعد خروج الوزق قبل تشققه يدخل في مطلق بيع الشر، وإن باعه بعد تشققه أو تشقق بعضه يبقى الكل للبائع. والنوع الثاني منه: زرع لا يبقى إلا سنة واحدة، فإن باعه قبل خروج الجوزق، أو بعد هرت بالخروج عن الشجرة، فتسترها بالنور تستر ثمر النخل بعد التأبير بما عليها من القشر خروجه قبل أن يتكامل فهي القطن - لا يجوز إلا بشرط القطع؛ كبيع الزرع الأخضر؛ فإذا باعه بشرط القطع، فلم يتفق القطع حتى خرج الجوزق - يكون للمشتري؛ لأن الأصل له. وإن باعه بعد ما تشقق الوزق، جاز مطلقاً، ويدخل الكُرسف في البيع، ويبقى إلى أوان اللقاط؛ بخلاف الثمر المؤبر لا يدخل في بيع الشجرة؛ لأن شجرة النخلة مقصودة لثمرة عام قابل، وهاهنا لا مقصود إلا هذا الموجود؛ فدخل في البيع. فإن تكامل فيه القطن، ولم يتشقق، فلا يصح بيعه؛ على أصح الوجهين، وكذلك بيعه على وجه الأرض قبل التشقق؛ لأن المقصود منه القطن؛ وهو مستتر بما ليس من صلاحه، بخلاف الجوز في القشرة السفلى [يجوز]؛ لأن القشر عليه من صلاح اللب وشجر المقل مثل النخلة، هذا كله في شجرة تخرج ثمرتها في كمام، ثم تتشقق. أما سائر الأشجار المثمرة، فعلى أقسام:

قسم تخرج ثمرته ظاهرة مثل التين والعنب؛ فإن باع أصله قبل خروج الثمرة، يخرج على ملك المشتري، وإن باع بعد خروجها يبقى للبائع، وإن ظهر بعضها: فما ظهر منها للبائع، وما يظهر بعده يون للمشتري، وكذل ماتخرج ثمرتها من كمام لا يزايلها إلا عند الأكل؛ كالرمان والموز، فإن باعه بعد ظهور ثمرته يبقى للبائع، وكذلك ما تخرج ثمرته وعليها قشر لا يزايلها في أول خروجها؛ كالجوز واللوز والرانج، والفستق ونحوها، فإذا باعها قبل خروجها تخرج على ملك المشتري، وإن باعها بعد خروجها تبقى للبائع، بخلاف الطلع؛ فإنه لا يتشقق في الابتداء، ولا يكون للثمرة إدراك إلا بعد تشققه؛ فكان قبل التشقق بمنزلة غصن الشجرة بخلاف الجوز، فإن قشرته لا تتشقق، ولا يكون للثمرة إدراك إلا ببقائها عليها؛ فكان كقشر الرمان. وقسم يكون في "نور" يتناثر منه؛ كالتفاح والكمثرى والمشمش والسفرجل؛ فإن باع أصلها بعد انعقاد الثمرة، يبقى للبائع، سواء تناثر عند النور، أو لم يتناثر. ولو باع قبل انعقاد الثمرة، يكون للمشتري، وإن خرج نورها. وقال أبو إسحاق: إن كان بعد انعقاد الثمرة قبل أن يتناثر منه النور يدخل ف البيع، واستثارها بالنور كاستتار ثمر النخل بالطلع، والأول أصح؛ لأن الثمرة هاهنا ظهرت بالخروج عن الشجرة، فتسترها بالنور كتستر ثمر النخل بعد التأبي ربما عليها من القشر الأبيض لا يمنع بقاءها على ملك البائع. وقسم من الأشجار يقصد ورده فهو قسمان: قسم يخرج ورده ظاهراً كالياسمين؛ فن باع أصله قبل خروج ورده يجوز ويخرج على ملك المشتري، وإن باع بعد خروج ورده يبقى الورد على ملك البائع، وإن باعه بعد خروج بعضه فما خرج منه للبائع، وما لم يخرج على ملك المشتري. وقسم يخرج ورده في كمام، ثم يتشقق؛ كالورد المعروف من: الأحمر، والأبيض، والأصفر؛ فإن باع أصله بعد خروجه قبل تشققه دخل في البيع، وإن باع بعد تشققه يبقى ما تشقق على ملك البائع؛ كثمرة النخلة، إلا أنهما يفترقان فيما إذا كان قد تشقق بعضه؛ ففي

الورد ما تشقق يبقى للبائع وما لم يتشقق يدخل في البيع، وإن كان الكل على شجرة واحدة؛ بخلاف ثمر النخل، حيث قلنا: يبقى الكل للبائع؛ لأن ما تشقق من ثمر النخل لا يقطع، بل يترك إلى إدراك الكل؛ فاستوى حكم الكل، وفي الورد ما تشقق تم إدراكه ويجتني في الحال، ولايترك إلى تشقق الباقي؛ لأنه يتناثر ويفسد؛ فكان حكم ما تشقق منه مقطوعاً عما لم يتشقق. هذا كله كلام في الثمار. أما أغصان الشجرة وأوراقها تدخل في مطلق بيعها. وقال أبو إسحاق: إذا باع شجرة الفرصاد في وقت الربيع بعد خروج أوراقها تبقى الأوراق للبائع؛ لأنها مقصودة؛ كثمار سائر الأشجار. والمذهب: أنها تدخل في البيع؛ كما لو باعها في وقت الخريف؛ وكأوراق سائر الأشجار. ولو باع شجرة رطبة وعليها غصن يابس، لا يدخل في البيع، لأنه مما يقطع كالثمرة. قلت: ويحتمل أن يدخل؛ لأنه جزء من أصله؛ كالصوف على ظهر الغنم. وكل موضع حكمنا ببقاء الثمرة للبائع، يبقى إلى أوان الجُذاذ، والقطاف، إلا أن يشترط على نفسه قطعها؛ فيؤمر بالقطع؛ لأنه التزم تفريغ المبيع. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: يؤمر بقطع الثمرة في الحال إذا باع مطلقاً؛ فإن شرط التبقية إلى أوان الجذاذ، فسد العقد، فنقول: مطلق العقد يحمل على العرف والعادة، والعادة في الثمار التبقية إلى أوان الجذاذ: فلا يكلف قطعها في الحال. كما لو باع سفينة في وسط البحر؛ فلا يُكلف [البائع بالتفريع] حتى تبلغ إلى الساحل، أو باع داراً له فيها أمتعة يكلف تفريغها على العادة. وإذا بلغت الثمرة أوان الجذاذ؛ وهو أن يتكامل نضجها - يكلف البائع القطع، وليس له تركه؛ حتى يستحكم، وإن كان بسراً جرت العادة بقطعه قبل أن يرطب، كلف القطع بعد ما صار بسراً؛ فإن كان لا يقطع إلا رطباً، لا يكلف القطع؛ حتى يصير رُطباً.

وإذا احتاجت الثمرة إلى السقي، فالسقي على البائع، وليس للمشتري منعه من دخول حائطه للسقي؛ فإن لم يأتمنه نصب القاضي أميناً يسقيها، ومؤنته على البائع، وليس للبائع من السقي إلا قدر ما فيه صلاح ثمره. فإن كان في السقي منفعة لصاحب الثمرة والشجرة جميعاً، فلكل واحد منهما أن يسقي، فإذا امتنع أحدهما من السقي، لا يجبر عليه؛ لأنه يضر بنفسه. فإن كان في السقي منفعة لأحدهما، ومضرة للآخر، قال ابن أبي هريرة: لمن له المنفعة أن يسقي؛ لأن الآخر قد رضي بالضرر؛ حيث أقدم على هذا العقد. وقال أبو إسحاق: يقال لمن له المضرة: أترضى بضرر السقي؟ فإن رضي، وألا فيقال لمن له المنفعة: أترضى بترك حقك من السقي؟ فإن رضي، وألا يفسخ العقد بينهما؛ لتعذر إمضائه. ولو امتنع البائع من السقي، والمشتري يتضرر به؛ بأن كانت الثمرة تجتلب ماء الشجر - يجبر البائع على السقي إن أمكن. فإن لم يمكن السقي؛ لانقطاع الماء، ففيه قولان: أحدهما: يكلف قطع الثمرة؛ دفعاً للضرر عن المشتري. والثاني: لا يجبر؛ لأنه استحق تركه إلى أوان الجذاذ، والمشتري رضي بالضرر حين أقدم على هذا العقد. وكذلك لو أصاب الحائط عطش، والثمرة تضر بالشجرة - هل يكلف القطع؟ فيه قولان. هذا إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة. فإن لم يكن له نفع، وللمشتري ضرر، يكلف القطع. فصل في حكم اختلاط الثمار المبيعة بغيرها إذا باع ثمرة على شجرة بعد بدو الصلاح - والشجرة تثمر في السنة مرتين كالتين ونحوه - نظر: إن علم أن الحمل الثاني إذا خرج لا يختلط بالأول، أو إذا اختلط أمكن التمييز بين الحملين - يصح البيع مطلقاً. وكذلك لو لم يعلم أنه يختلط، أو لا يختلط - يجوز بيعه مطلقاً. وإذا علم أن الثاني إذا خرج يختلط بالأول اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما - فلا يصح البيع إلا بشرط أن يقطع المشتري ثمرته عند خوف الاختلاط.

فإذا باع بهذا الشرط، فلم يتفق القطع، حتى خرجت الثمرة الثانية، واختلطت بالأولى؛ بحيث لا يتميز؛ فقد اختلط المبيع بغيره؛ لأن الثمرة الأولى للمشتري، والثانية للبائع- ففيه قولان: أحدهما: يبطل البيع؛ لتعذر تسليم المبيع؛ كما لو تلف المبيع قبل القبض، ينفسخ العقد. والقول الثاني: لا يبطل؛ لأن المبيع قائم، بل يقول الحاكم للبائع أتسمح بترك الثمرة الحادثة إلى المشتري، فإن ترك أجبر المشتري على القبول. فإن لم يسمح، يفسخ العقد بينهما. هذا إذا باع الثمرة، فأما إذا باع الشجرة، وعليها ثمرة ظاهرة تبقى للبائع، والشجرة مما تثمر مرتين، والثانية إذا خرجت تختلط بالأولى اختلاطاً لا يتميز؛ فالثمرة الثانية تكون للمشتري - فلا يصح البيع إلا بشرط أن يقطع البائع ثمرته عند خوف الاختلاط. فإذا باع بهذا الشرط فلم يتفق القطع؛ حتى خرجت الثانية، واختلطت بالأولى - نقل المزني - رحمه الله - على قولين: أحدهما يفسخ البيع. والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: أتسمح بترك الثمرة القديمة إلى المشتري؟ فإن ترك أجبر على القبول، وإن لم يترك يقال للمشتري: أتسمح بترك الثمرة الحادثة إلى البائع؟ فإن ترك أجبر البائع على القبول، فإن لم يرض ينفسخ العقد بينهما؛ بخلاف المسألة الأولى، حيث قلنا: يدعى البائع إلى ترك حقه، ولا يُدعي المشتري؛ لأن المبيع هناك هو الثمرة، فإذا ترك المشتري حقه لا يبقى بمقابلة الثمرة شيء، وهاهنا المبيع هو الشجرة، فترك الثمرة الحادثة إلى البائع لا يخلي الثمن عن العوض. فمن أصحابنا: من ذهب إلى هذا؛ أن المسألة على قولين هاهنا أيضاً، ومنهم من قال - وإليه ذهب ابن خيران: إن العقد هاهنا لا ينفسخ قولاً واحداً؛ لأن الاختلاط لم يوجد في المبيع، بل يدعى كل واحد إلى ترك حقه قطعاً للمنازعة؛ فإن لم يترك وتنازعا؛ نظر: إن كانت الثمرة والشجرة في يد البائع، فالقول قوله مع يمينه في قدر ما يستحق المشتري، وإن كانتا في يد المشتري، فالقول قوله مع يمينه فيقدر ما يستحقه البائع. ومن قال بالأول، أجاب: بأن الاختلاط وإن لم يوجد في المبيع هاهنا، ولكن المقصود من الشجرة ثمرتها، وقد اختلط المقصود بغيره، فنزل منزلة اختلاط المبيع. قلت: والقياس عندي: ألا يعترض على العقد في الصورة الثانية؛ لأن الاختلاط لم يوجد في المبيع، وبالفسخ لا يرتفع النزاع؛ لأن الثمرة الحادثة لا تعود إلى البائع؛ فلا معنى

للفسخ؛ كما لو اشترى داراً، وفيها لكل واحد حنطة؛ فاختلطت الحنطتان- لا ينفسخ العقد في الدار، بل إذا تنازعا في المقدار، فالقول قول من في يده في نصيب الآخر؛ كما قال ابن خيران. واختار المزني أن الاختلاط إن كان بعد القبض، لا ينفسخ العقد؛ لأن المبيع خرج عن ضمان البائع، وإن كان قبل القبض ينفسخ العقد؛ كما لو اشترى حنطة؛ فانثالت عليها حنطة أخرى للبائع بعد القبض - لا ينفسخ العقد، وإن كان قبل القبض ينفسخ العقد. فمن أصحابنا من ذهب إلى هذا، وقال: القولان فيما إذا وُجد الاختلاط قبل القبض، وكذل الحنطة إذا انثالت عليها حنطة أخرى قبل القبض، هل ينفسخ العقد فيه قولان: أما بعد القبض، فلا ينفسخ، بل القول قول المشتري في قدر حق البائع، لأنه صاحب اليد. فإن كان المشتري قد أودع الحنطة من البائع بعد القبض - فالقول قول البائع فيما يستحقه المشتري؛ لأنها في يده. ومن أصحابنا من قال: في اختلاط الثمار قولان؛ سواء كان قبل القبض أو بعده، وفي الحنطة إن كان بعد القبض لا ينفسخ قولاً واحداً. والفرق: أن في الحنطة تم التسليم بالقبض، وانقطعت العلائق بين البائع والمشتري؛ فلم يؤثر الاختلاط في العقد، وفي الثمار لم تنقطع العلائق بين البائع والمشتري بالتخلية، فإن للبائع دخول الحائط وتعهد النخيل بالسقي والحفظ؛ لأجل الثمرة، أو لأجل النخيل. فالاختلاط بعد التخلية كهو قبلها، حتى قال بعض أصحابنا: لو اشترى حنطة مكايلة؛ فقبضها قبل الكيل، فانثالت عليها حنطة أخرى - ففي انفساخ العقد بينها قولان، لبقاء علقة الكيل بينهما. ولو باع الباذنجان أو الخربز فلا يخلو إما إن باع حملهما أو أصلهما: فإن باع حملهما؛ نظر: إن كان صغاراً لم يبلغ أوان الاجتناء، لا يجوز إلا بشرط القطع في الحال. وإن بلغ أوان الاتناء أو يدا الصلاح في بعض الخربز؛ فإن كان لا يخشى خروج غيره جاز بيعه مطلقاً ويترك حتى يتلاحق الصغار، وإن كان يخشى خروج غيره؛ وهو الغالب في أمر هاتين الشجرتين - فلا يجوز إلا بشرط القطع عند خوف الاختلاط.

فلو باع بشرط القطع؛ فلم يتفق القطع حتى خرج غيره، واختلط بالأول - ففي انفساخ البيع قولان، كالثمار. وإن باع أصل الباذنجان والخربز؛ نظر: إن كان قبل خروج الحمل، فلا يجوز إلا بشرط القطع أو القلع؛ كالزرع الأخضر. فلو شرط القطع، فلم يتفق القطع حتى خرج الحمل، فهو للمشتري؛ لأن الأصل له، وإن كان قد خرج نوره حالة البيع يدخل ذلك في المبيع، وإن كان بعد خروج الحمل. قلت: يجوز بيعه مطلقاً إذا كان لا يخشى اختلاط غيره، كزرع اشتد حبه يبيعه لا يشترط قطعه على المشتري، والحمل الموجود يبقى للبائع، وما يحدث بعده يكون للمشتري. فإذا كان يخشى اختلاط الحملين، فلا يجوز إلا بأن يشرط على البائع قطع الموجود عند خوف الاختلاط. فلو شرط [القطع] فلم يتفق القطع؛ حتى اختلط الحادث بالموجود - ففي انفساخ البيع ما ذكرنا من الطريقين في الثمار. ولو باع القرط في الأرض، وهو القث، فلا يجوز إلا بشرط القطع أو القلع. فإن باع بشرط القلع، فلم يقلع، حتى ازداد، فما حدث يكون للمشتري؛ لأنه ملك أصله. وإن باع بشرط القطع، فليس له القلع؛ لأن ما يحدث بعده يكون للبائع، فلو لم يتفق القطع، حتى ازداد، نفي انفساخ البيع ما ذكرنا من القولين. فإن قلنا: لا ينفسخ، يدعى البائع إلى ترك حقه فإن لم يترك يفسخ البيع بينهما، ولا يدعي المشتري إليه؛ لما ذكرنا أنه إذا ترك حقه لا يبقى بمقابلة الثمن شيء. ومن أصحابنا من قال هاهنا: لا ينفسخ العقد قولاً واحداً، بل إن سلم البائع حقه، وإلا فسخ العقد بينهما؛ لأن هاهنا لم تحدث ثمرة أخرى، بل زاد المبيع في نفسه زيادة غر متميزة؛ كالثمرة إذا كبرت وكالسمن في الحيوان، والكبر في الشجر؛ والأول هو المذهب أنها على قولين، وليس ككبر الشجرة والثمرة، وسمن الدابة؛ لأن ثَمَّ لم تحدث عين لم تكن، بل تغيرت صفة المبيع بزيادة غير منفصلة؛ فكانت تلك الزيادة تابعة للأصل، وهاهنا في القت حدثت أعيان لم تكن من الأغصان، والأوراق وهي منفصلة عما كان، إلا أنا لا نعرفها؛ لاختلاطها ببدل على الفرق بينهما: أن في سمن الدابة وكبر الشجرة والثمرة يجبر البائع على تسليمه مع الزيادة، ولاينفسخ البيع بينهما، وف القت لا يجبر على تسليم الزيادة، ويفسخ العقد.

وكذلك لو باع "القصيل"؛ بشرط القطع، فلم يتفق؛ حتى ازداد وطال، أو باع شجراً مختلفاً؛ "كالخلاف"، والقصبن بشرط القطع، حتى ازداد وطال، أو باع ورق الفرصاد في أول خرجه، بشرط القطع، فلمي قطع حتى خرج غيره، أو باع الزرع بقلاً؛ بشرط القطع حتى ازداد - ففي انفساخ البيع قولان، كالقت. قلت: عندي إذا كانت المقاطع معلومة؛ مثل: أغصان الفراصيد يتبين مقاطعها، فما يحدث من الأوراق فوق المقطع أو أطول - يكون للمشتري. وفي القت والكراث إذا طال، إنما انفسخ؛ لأن ما يحدث من أصله الذي لم يبع غير متميز عما باع؛ لأنه لا يعرف مقاطعها بعد الزيادة. فصل في بيان الألفاظ التي تطلق على المبيع وتتأثر بالقرائن المنضمة إليها إذا باع أرضاً فيها أبنية وأشجار؛ هل تدخل في البيع؟ نظر: إن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها، أو بما فيها دخل الكل في البيع. وإن قال: دون ما فيها، لا يدخل، وإن قال: بعتك هذه الأرض مطلقاً، نص: عن البناء والشجر يدخل في البيع، ونص فيما لو رهن أرضاً؛ أنه لا تدخل في الرهن اختلف أصحابنا فيه: منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، فجعلهما على قولين: أحدهما: يدخل؛ لأنها مثبتة في الأرض؛ كأجزاء الأرض. والثاني: لا يدخل؛ لأن اسم الأرض لا يقع عليها. ومنهم من قال: لا يدخل. وحيث قال: يدخل، أراد به: إذا قال: بعتك بحقوقها. ومنهم من فرق بينهما - وهو الأصح - وقال: يدخل في البيع، لأن البيع قوي يزيل الملك؛ فيستتبع البناء والشجر والرهن ضعيف لا يزيل الملك؛ فلا يستتبع البناء والشجر، بدليل أن ما يحدث فيها من الأشجار بعد البيع يكون للمشتري، وما يحدث بعد الرهن لايكون مرهوناً. أما إذا قال: بعتك هذه الدار، فما فيها من البناء يدخل في البيع، وكذلك في الرهن؛ لأن الدار اسم يقع على البناء والأرض وفي الأشجار التي فيها ما ذكرنا من الاختلاف.

ولو قال: البستان أو هذا الكرم بما فيها من الأشجار يدخل في البيع، وفي البناء ما ذكرنا من الاختلاف، والحائط يدخل. ولو قال: هذه الدار بستان، دخل فيه الأبنية والأشجار كلها، ولو كان وراء الدار بستان متصل بها لا يدخل، ولو قال: هذا الحائط بستان أو هذه المحوطة - يدخل فيه الحائط المحيط به والأشجار. وإن كان في وسطه بناء، فعلى الاختلاف. ولو قال: بعتك هذه القرية، دخل فيها الأبنية، وما دار عليه الحائط من الأراضي، وفي الأشجار التي في وسطها ما ذكرنا من الاختلاف، ولا تدخل مزارعها في البيع، وإن قال: بحقوقها؛ لأن القرية اسم للأبنية، وإن قال: بمزارعها دخلت فيه. ولو باع أرضاً، لا يدخل فيه الشرب، ومسيل الماء. فإن شرط، أو قال: بحقوقها دخل. ولو باع أرضاً، وفيها زرع؛ نظر: إن كان زرعاً لايُجز مراراً وليست له ثمرة بعد ثمرة؛ كالحنطة والشعير ونحوها- لا يدخل في البيع؛ لأنه ليس للتأبيد كالمنقولات. ويصح بيع الأرض؛ بخلاف الدار المكراة لا يصح بيعها في قول؛ لأنها تحت يد حائلة، والأرض هاهنا في يد البائع أمكنه تسليمها؛ غير أنها مشغولة بمنقول للبائع؛ فيلزمه تفريغها على العادة؛ وهي بعد بلوغه أوان الحصاد. ولا خيار للمشتري إن كان عالماً بالزرع، وإن كان جاهلاً فله الخيار، فإن أجاز فلا أجرة له على البائع لمدة بقاء الزرع فيها؛ لأن منفعة تلك المدة وقعت مستثناة للبائع؛ كما لو باع داراً مشغولة بالمتعة لا يستحق المشتري أجر مثل مدة التفريغ. فإذا بلغ الزرع وان الحصاد، كلف البائع قطعة، وإن كان في تركه زيادة. فإذا قطعه؛ نظر: إن لم يكن عروقها مضرة بالأرض لم يكلف قلعها، وإن كانت مضرة بالأرض؛ كالذرة كلف قطع العروق، وعليه تسوية الأرض، لأنه نقص دخل الأرض، لتخليص ملكه، كما لو كان في الدار المبيعة متاع كبير يضيق باب الدار عنه - ينقض الباب، وعلى البائع ضمانه. وإن كان فيها النواة بذرت للنبت تدخل في البيع؛ على ظاهر المذهب؛ كالأشجار. وإن كان فيها زرع يُجز مراراً القت والنعناع والطرخون والكرفس والقصب

الفارسي، ونحوها - فالجزة التي هي ظاهرة حالة البيع تبقى للبائع، وأصله: هل يدخل في البيع كالأشجار؛ فإن قلنا: يدخل، فلا يجوز؛ حتى يشترط البائع على نفسه قطع ما هو ظاهر منه، لأنه يزيد؛ فيختلط المبيع بغير المبيع. وكذلك لو كان فيها اشجار خلاف يقطع من وجه الأرض كل مدة - فهي كالقصب الفارسي. أما إذا كان فيها جذوع خلاف عليها قوائم، فهي بمنزلة أغصان سائر الأشجار، حكمها حكم الأصل. وإن كان فيها زرع يثمر مراراً النرجس والبنفسج وشجر الباذنجان والموز والكرسُف الحجازي - فما كان منها ظاهراً في هذه الثمار حالة البيع، يبقى للبائع، والأصل يدخل في البيع، على أصح الطرق، كسائر الشجار المثمرة لا تدخل ثمارها الظاهرة في مطلق بيع الأرض، وفي الأصل اختلاف، والطلع يتبع الأصل، والكرسف الخراساني كالزرع لا يدخل في مطلق بيع الأرض. وكذلك إذا كان فيها جزر أو فجل أو سلق أو ثوم أو بصل - لا يدخل شيء منها في بيع الأرض. ولو كان فيها بذر، فالبيع صحيح في الأرض، والبذر لا يدخل في الأرض، ويبقى إلى أوان الحصاد، كما ذكرنا في الزرع - وللمشتري الخيار إن كان جاهلا في فسخ البيع. ولو كان فيها حجارة مدفونة، فلا يدخل في البيع؛ كالكنوز إن لم يكن تركها مضراً ولا قلعها؛ بأن كان لا تنتقص قيمة الأرض، ولا يفوت في نقلها مدة لمثلها أجرة؛ فلا خيار للمشتري، وعلى البائع نقلها وتسوية الأرض. وكذلك إن كان الترك مضراً ولا قلعها؛ بأن كان لا تنتقص قيمة الأرض، ولا يفوت في نقلها مدة لمثلها أجرة؛ فلا خيار للمشتري، وعلى البائع نقلها وتسوية الأرض. وكذلك إن كان الترك مضراً دون القلع، كلف البائع النقل، ولا خيار للمشتري؛ كما لو اشترى داراً أو استأجر - وبالوعتها منسدة، أو حشها ممتليء، أو عارٍ سطحها - فقال المشتري: أنا أنقيها، وأصلحها في زمان يسير - لا خيار له. أما إذا كان كل واحد من الترك والقطع مضرين، فللمشتري الخيار إن كان جاهلاً؛ سواء كان جاهلاً بأصل الأحجار، أو كان عالماً بالأحجار جاهلاً بأن قلعها مضر، فإن أجاز أو كان عالماً بالضرر لا خيار له، وعلى البائع نقل الأحجار، وتسوية الأرض، سواء نقل قبل قبض المشتري أو بعده.

وهل يجب ضمان نقص يبقى في الأرض بعد القلع، وأجر مثل مدة النقل نظر: ن قلع قبل قبض المشتري لا يجب؛ لأن جناية البائع على المبيع قبل قبض المشتري، كافة سماوية نصيبه؛ فإذا أجاز المشتري البيع لا يجب على البائع ضمانها. وقيل: جناية البائع كجناية الأجنبي؛ فعلى هذا حكمه حكم ما لو قلع بعد القبض. وإن قلع بعد قبض المشتري، يجب ضمان النقص، وأجر المثل؛ كما لو جنى على المبيع بعد التسليم يجب عليه ضمانه. وقيل: لا يجب أجر مثل مدة النقل؛ لأنها وقعت مستناة. وفي ضمان النقص وجهان؛ سواء قلع بعد القبض، أو قبله. ولو ترك البائع الأحجار إلى المشتري، لا يجب قبولها، ولا يسقط به خياره؛ لأن الضرر مع بقاء الأحجار موجود. وإن كان قلع الأحجار مضراً دون الترك، فلا خيار للمشتري إن كان عالماً، وللبائع قلعها، وعليه تسوية الأرض. وإن كان جاهلاً، فله الخيار. فلو ترك البائع الأحجار إلى المشتري، سقط خياره. ثم هل يكون تركها تمليكاً للمشتري، أو قطعاً للخصومة؟ فيه وجهان. وفائدته: أن المشتري لو قلعها يوماً؛ هل يجب عليه ردها إلى البائع أم لا؟ إن قلنا: تمليك لا يجب وإلا فيجب. وكذلك هل يجوز للبائع أن يرجع فيها بعد ما ترك؟ إن قلنا: تمليك فلا يجوز، وإلا فيجوز؛ فإذا رجع، يكون خيار المشتري باقياً. ولو قال البائع: أنا أقلع الأحجار، وأعطي أرش النقصان الذي يدخل الأرض - لا يسقط به خيار المشتري؛ ما لو اشترى شيئاً؛ فود به عيباً، وقال البائع: أنا أغرم أرش العيب - لا يسقط به خياره. ولو كان فوق الأحجار غراس؛ نظر: إن كانت الغراس موجودة يوم البيع؛ فاشتراها مع الأرض - فالضرر الراجع إلى الغراس من الأحجار كالضرر الراجع إلى الأرض في إثبات الخيار؛ فكل موضع أوجبنا ضمان نقص دخل الأرض، يجب ضمان نقص يدخل الغراس. وإن كان الغراس أحدثها المشتري بعد الشراء، أو قلع الأحجار يضر بالغراس دون

الأرض - نظر: إن غرسها المشتري عالماً بالحجار، فللبائع قلع الأحجار، ولا يجب عليه ضمان نقص دخل الغراس؛ لأن المشتري متعد بالغرس. وإن كان جاهلاً بالأحجار حالة الغرس، فهل له الخيار؟ فيه وجهان: أصحهما: لا خيار له؛ لأن الضرر لا يرجع إلى المبيع، إنما يرجع إلى الغراس؛ وهي غير مبيعة. والثاني: له الخيار؛ لأن الضرر يعود إلى حق المبيع؛ فكان كالعائد إلى المبيع. فإن قلنا: لا خيار له، فإن كان الضرر يعود إلى الأرض، فلا فسخ له أيضاً؛ لأن الغراس ينقص قيمة الأرض نقص بسبب الغراس، حينئذ له الفسخ. وإذا قلع البائع الأحجار، يجب عليه أرش نقص دخل الغراس. وإن كان فوق الأحجار زرع للبائع أو للمشتري، يترك إلى أوان الحصاد، فإن كان للبائع، لم يكن للمشتري تكليفه قلع الأحجار إن كان يضر بالزرع، وإن كان للمشتري لم يكن للبائع قلعها؛ لأن له نهاية؛ بخلاف الغراس، فإنها للتأبيد. ولو باع داراً، فيدخل فيها كل ما هو مثبت فيها للتأبيد، مثل: السقوف، والأبواب المنصوبة، والإسطوانات الراسخة، والحجلة والمعاليق المثبتة، والأحجار التي في طيء البئر، وأساس الجُدر، ولا يدخل في البيع ما فيها من المنقولات، كالأقفال والسلاليم غير المسمرة والسرر، والرفوف غير المطينة، والكنوز والدفائن. أما ما كان مثبتاً لا للتأبيد؛ كالسلالم المثبتة، والرفوف المثبتة، والخوابي وإجانة القصار ومعجن الخباز، ومنجار الدهان، وصندوق الطحان، والأوتاد المثبتة في الأرض أو الجدر والحجر السفلاني من الرحي - ففيها وجهان:

أصحهما: يدخل في البيع: لأنها مثبتة فيها. وقيل: لا يدخل؛ لأنها لم تثبت للتأبيد، إنما أثبت لكيلا تتزعزع عند الاستعمال: فإن قلنا: يدخل الحجر السقلاني من الرحى، ففي الفوقاني وجهان: أحدهما: لا يدخل، لأنه منقول. والثاني: وهو الأصح: يدخل؛ لأنه لا يتم الانتفاع بالمثبت إلا به. وكذلك ألواح الدكان، ومفتاح المغلاق المثبت فيها وجهان. الأصح: يدخل، ويدخل فيه البئر؛ كالسرداب، ولا يدخل الرشا والدلو والبكرة، وفي صندوق رأس البئر وجهان. أصحهما: يدخل. أما ماء البئر؛ فعلى قول أبي إسحاق: لا يكون ملكاً ما لم يُحرزه في إناء؛ بدليل أنه يباح لمستأجر الدار أن ينتفع به، بل صاحب الدار أحق به من غيره؛ فإن أحرزه غيره ملكهن وليس لمالك الدار انتزاعه منه؛ فعلى هذا يصير المشتري أحق بذلك الماء من البائع. وقال ابن أبي هريرة: الماء في البئر مملوك لمالك الدار؛ كالحشيش الذي ينبت في ملكه. نص عليه في القديم؛ فعلى هذا: لا يدخل في مطلق بيع الدار، وما هو ظاهر منه حالة البيع من غير شرط، لأنه منقول، وما يظهر بعد البيع يون للمشتري، وعلى هذا: لا يصح البيع، حتى يشترط أن الظاهر من الماء للمشتري؛ لأنه إذا لم يشترط يختلط ماء البائع بماء المشتري؛ فينفسخ البيع. وإن كان في الدار معدن؛ نظر: إن كان من المعادن الباطنة؛ كالذهب والفضة ونحوهما - دخل في البيع لأنه من أجزاء الأرض، وإن كان من المعادن الظاهرة؛ كالنفط والقير والكبريت والملح ونحوها - فهو كالماء على قول أبي إسحاق: غير مملوك، ويصير المشتري أحق به. وعلى قول ابن أبي هريرة: هو مملوك، ولا يدخل في البيع ما هر منه إلا بالشرط. ولو باع داراً في سكة نافذة، لا يدخل حريمها في البيع، ولا الأشجار التي على حريمها؛ لأن حريمها ممر لعامة المسلمين.

وإن كانت في سكة غير نافذة، فيدخل الحريم فيه، ويملك المشتري منها ما يملك البائع. وفي الأشجار التي على الحريم ما ذكرنا من الاختلاف في الأرض التي فيها أشجار. والطريق في السكة غير النافذة مشتركة بين أهل السكة؛ فلو باع واحد منهم نصيبه من الطريق، جاز إن استثنى لنفسه حق الاستطراق، وإن لم يستثن فلا طريق له إن أمكنه فتح باب في سكة أخرى. وإن لم يمكنه ففيه أوه. أحدها: البيع باطل. والثاني: صحيح، ولا طريق له؛ لأنه ضيع حق نفسه بترك الاستثناء. والثالث: صحيح، وله حق الاستطراق. ولو باع بيتاً في دار فالمشتري يستحق الممر؛ فإن شرط نفي الممر، نظر: إن أمكن فتح باب في جانب آخر صح البيع، وإلا فلا يصح. ولو باع داراً، واستثنى لنفسه بيتاً، فله الممر، وإن نفى الممر؛ نظر: إن أمكن اتخاذ ممر في موضع آخر، جاز. وإن لم يمكن، فيه وحهان: أحدهما: لم يجز، ما لو باع، ونفى الممر. والثاني: جاز، ولا ممر له؛ لأنه لا يعود ضرره على المبيع، والبائع بخس بحقه؛ حيث نفى الممر. والله أعلم. باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار رُوي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع الثمار، حتى يبدو صلاحها". وعن أنس - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمار؛ حتى

تزهى". قيل يا رسول الله: وما تُزهى؟ قال: "حتى تحمر". وقال - صلى الله عليه وسلم-:"أرأيت إذا منع الله الثمرة؛ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه". ذكرنا في الباب الأول: بيع الأصول، وهذا الباب في بيع الفروع. إذا باع ثمرة على الشجرة دون الشجرة، نظر: إن كان قبل بُدو الصلاح فيها، فلا يجوز إلا بشرط القطع، فلو باع مطلقاً أو بشرط التبقية، لا يصح البيع. وإن كان بعد بدو الصلاح، يجوز مطلقاً وبشرط القطع؛ سواء كان أصل هذه الثمرة مما يدوم؛ كالنخيل والأعناب والتفاح ونحوها، أو لا يدوم، كالبطيخ والباذنجان. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: يجوز بيعها مطلقاً قبل بدو الصلاح وبعده، ولا يجوز بشرط التبقية في الحالين، والخبر حجة عليه، حيث فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ما قبل بدو الصلاح وبعده. والفرق بين الحالين: إن قبل بدو الصلاح يخشى هلاكها بورود العاهة عليها؛ لصغرها ورقة نواتها؛ فإذا تلفت، لا يبقى بمقابلة الثمن شيء؛ وذلك معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إذا منع الله الثمرة؛ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه"؟ وإذا باع بشرط القطع جاز؛ لأنه إذا قطعها لا تأتي عليها الآفة، وبعد بدو الصلاح يأمن من العاهة في الغالب، لكبرها وغلظ نواتها؛ فلم يمتنع بيعها مطلقاً. وإنما ألحقنا المطلق بشرط التبقية؛ لأن مطلق العقود يحمل على العادة، والعادة في الثمار التبقية.

ونعني ببدو الصلاح: أن يظهر فيها أثر النضج؛ فإن كانت الثمرة ذات لون، فحتى يظهر فيها أثر لونها من حمرة، أو صفرة، أو سواد. فإن لم يكن لها لون العنب الأبيض؛ فحتى تنمو وتلين، ويظهر فيها أثر الحلاوة، وتزول عنها [العفوصة والحموضة]. وإن كان زرعاً، فحتى يشتد حبه، وبدو الصلاح في الخوخ والكمثرى والمشمش والإجاص والتفاح-: أن يطيب؛ بحيث يستطاع أكله، وفي البطيخ: أن يرى فيه أثر النضج، وفي القثاء: والقثد أن يتناهى في الكبر، وتكمل، بحيث يُجتنى في الغالب، وكذلك الباذنجان. ولا اعتبار بالأكل في القثاء والباذنجان، لأنه يستطاب أكله صغارا؛ فلا يجوز بيعه في تلك الحالة مطلقاً؛ بخلاف الخوخ والتفاح. وإذا بدا الصلاح في بعض الثمر دون البعض، سواء كان في بعض الحبات أو في شجرة دون أخرى، جاز بيع كلها مطلقاً؛ سواء كان النوع واحداً أو مختلفاً، وبدا الصلاح في أحد النوعين. وقيل: إذا كان النوع مختلفاً، وبدا الصلاح في أحد النوعين دون الثاني يشترط القطع في النوع الذي لم يبد فيه الصلاح؛ كما لو كان الجنس مختلفاً. هذا إذا جمع بينهما في البيع، فإذا أفرد بالبيع ما لم يبد فيه الصالح، فلا يجوز إلا بشرط القطع؛ لأن الناقص غنما يتبع الكامل إذا مع بينهما في العقد. أما إذا كان الجنس مختلفاً؛ كالعنب مع الرطب، وبدا الصلاح في أحدهما دون الآخر؛ فباعهما - لا يجوز؛ حتى يشترط القطع فيما لم يبد فيه الصلاح. ولو باع ثمر حائطين بدا الصلاح في أحدهما دون الآخر صفقة واحدة - فلا يجوز؛ حتى يشرط القطع فيما لمي بد فيه الصلاح وإن كان النوع واحداً. وقال مالك -رحمة الله عليه -: بدو الصلاح في نوع من الثمار بمنزلة بدوه في أجناسه في البلد.

أما إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح فيها مع الشجرة، يجوز مطلقاً، تبعاً للشجرة؛ ولأن الثمرة إذا هلكت بالآفة، تبقى الشجرة بمقابلة الثمن. ولو باع الثمرة مع الشجرة بشرط القطع، لا يجوز؛ لأنه يمنعه من التصرف في ملكه؛ وهو تبقية الثمرة على شجرته. ولو كانت الثمرة لواحد، والشجرة لآخر؛ فإن باع الشجرة بعد خُروج الثمرة؛ فبقيت الثمرة للبائع، ثم باع مالك الثمرة الثمرة من مالك الشجرة قبل بُدو الصلاح - فلا يجوز إلا بشرط القطع، وإن كان يجمعهما مِلك مالك واحد؛ لأنه أفرد الثمرة بالبيع، فلو تلفت، لا يبقى بمقابلة الثمن شيء. وإذا باع بشرط القطع، يجوز للمشتري تبقيتها؛ لأن الأصل ملكه، وشرط القطع كان لحقه؛ حتى لا يذهب ماله بالآفة؛ فإذا رضي به، فله ذلك. وكذلك لا يجوز بيع الزرع البقل إلا بشرط القطع، ولو باعه بعد اشتداد الحب وحبه ظاهر يجوز مطلقاً، وبشرط القطع. ولو باعه مع الأرض، يجوز مطلقاً؛ سواء كان قبل اشتداد الحب أو بعده، ولو شرط القطع لا يجوز. ولو باع الزرع البقل من مالك الأرض، لا يجوز إلا بشرط القطع، ثم يجوز للمشتري تبقيته؛ لأن الأصل ملكه. فلو استأجر أرضاً سنة للزراعة؛ فزرعها، ثم بعد مي ستة أشهر باع الزرع البقل من مال الأرض بشرط القطع - فللبائع تكليفه القطع في الحال؛ لأن الأرض في إجارته؛ لينتفع بها بقية المدة. وكذلك لا يجوز بيع القت والبقول في الأرض دون الأرض، إلا بشرط القطع أو القلع؛ سواء كان ذلك مما يجز مراراً، أو لا يُجز إلا مرة واحدة، غير أن ما يُجز مراراً إذا باعه بشرط القطع لا يجوز قلعه؛ لأنه لم يملك الأصل، وما لا يُجز إلا مرة واحدة يجوز، وإن باعه مع الأرض يجوز مطلقاً. وإذا باع الثمرة قبل بُدو الصلاح، أو الزرع البقل؛ بشرط القطع - فللبائع مطالبته بالقطع؛ فلو سامح وترك إلى أوان الجُذاذ والحصاد، جاز. وكذلك لو باع الشجرة أو الأرض، أو أجر الأرض منه بعد بيع الثمرة والزرع - يجوز للمشتري تبقيتها. ولو باع ورق الفرصاد قبل أن يتناهى، لا يجوز إلا بشرط القطع، وإن كان بعد ما

يتناهى يجوز مطلقاً؛ وبشرط القطع، ثم يلتقطه المشتري وليس له قطع الأغصان. ولو باع مع الأغصان، يجوز إذا بين مقاطعها. قلت: وإذا باع الغصن، دخل فيه ما عليه من الأوراق. ولو باع نصف الثمرة مشاعاً قبل بدو الصلاح، أو نصف الزرع البقل - لا يصح؛ لأن بيعه في هذه الحالة لا يجوز إلا بشرط القطع، ولا يمكن قطع نصفه إلا بقطع الكل؛ فكأنه يلتزم ضرراً في غير البيع، كما لو باع نصف سيف معيناً لا يجوز. فإن باع نصفه مع الشجرة أو مع الأرض، يجوز، ولو باع نصفه بعد بدو الصلاح دون الأرض مطلقاً يجوز، ولا يجوز بشرط القطع. ولو كان الزرع البقل والأرض مشتركاً بين رجلين؛ فباع أحدهما نصيبه من الزرع من صاحبه -لا يجوز، وإن شرط القطع. ولو باع مع نصيبه من الأرض، جاز. ولو باع أحدهما نصيبه من الزرع بنصيب صاحبه من الأرض - لا يجوز مطلقاً، ويجوز بشرط القطع، ثم على مشتري الزرع قطع جميعه، لأنه لما شرط قطع نصفه، ولا يتأتى ذلك إلا بقطع الكل - فكأنه التزم تفريغ الأرض لمشتريها؛ كما لو اشترى أرضاً وفيها زرع بقل، يبقى للبائع، ويبقى إلى أوان الحصاد؛ فلو شرط القطع في البيع، يجب قطعه. ولو باع شجرة وعليها ثمرة، لم يبد فيها الصلاح، تبقى للبائع من غير شرط القطع، ويبقى إلى أوان الجذاذ، وكذلك الزرع البقل في الأرض؛ حتى لو باع نخله مطلعة، واستثنى الطلع لنفسه - جاز من غير شرط القطع، ويبقى إلى الإدراك؛ لأنه استدامة ملك؛ فإن شرط على نفسه القطع، يكلف القطع. ولو باع شجرة يابسة في الأرض، يكلف نقلها، وإن كانت رطبة تبقى أبداً، إلا أن يبيع بشرط القلع، فيكلف القلع. وإذا باع مطلقاً، لا يدخل المغرس في البيع؛ لأنه لم يبع الأرض. وكذلك لو باع أرضاً، واستثنى لنفسه شجرة فيها تبقى أبداً، ولا يبقى له الغرس؛ حتى لو قلع الشجرة يوماً يكون مكانها لمشتري الأرض. وعند أبي حنيفة: يدخل المغرس في البيع؛ وقال به بعض أصحابنا؛ ولا يصح ذلك. وإذا باع ثمرة على شجرة بعد بدو الصلاح أو باع الزرع بعد اشتداد الحب - يبقى إلى

أوان الجذاذ والحصاد، ويجب السقي على البائع إلى أن يتم إدراكه؛ سواء كان قبل التخلية أو بعدها؛ لأن التسليم واجب عليه، والسقي من تتمة التسليم؛ فهو كالكيل في المكيل، والوزن في الموزون يكون على البائع. ولو شرط السقي على المشتري، أو الكيل أو الوزن - يبطل العقد؛ لأنه خلاف قضية العقد. أما الجُذاذ والصاد يكون على المشتري؛ لأنه بمنزلة التسليم، وليس للبائع من السقي إلا مقدار ما يسلم الثمرة من التلف. فصل في اشتراط ظهور المقصود من الثمار والزروع عند البيع إذا باع ثمرة لا حائل دونها؛ كالعنب، والتين، والتفاح، والكمثرى - يجوز؛ سواء باعها على الشجرة، أو على وجه الأرض. وكذل ما له كِمام واحد لا يزايله إلا عند الأكل؛ كالرمان، والبطيخ، والموز ونحوها. أما ماله كمامان يزايله أحدهما، ويبقى الآخر إلى وقت الأكل؛ كالجوز، واللوز، والفستق والرانج ونحوها - يجوز بيعها في القشرة السفلى؛ لأنها من صلاحه، ولا يجوز في القشرة العليا؛ لا على القشرة، ولا على وجه الأرض؛ لتستر المقصود بما ليس من صلاحه. وفيه قول آخر: أنه يجوز بيعها في حال الرطوبة في القشرة العليا؛ لأن رطوبتها مقصودة وبقاؤها في القشرة العليا. وكذلك الفُول يجوز بيعه في القشرة السفلى بكل حالٍ، ولا يجوز في القشرة العليا؛ على الأصح.

وفيه قول آخر: أنه يجوز في حال الرطوبة. ولو باع اللوز في القشرة العليا قبل انعقاد السفلى، يجوز؛ لأن كله مأكول؛ كالتفاح. قلت: وكذلك إذا باع الورد قبل التفتق، والجوزق قبل أن يتكامل فيه القطن بشرط القطع يجوز؛ لأن ما فيه لم يدرك؛ فلا يكون مقصوداً، بل المقصود منه عينه كعلف الدواب وبيع الطلع يجوز بشرط القطع. ولو باع الزرع بعد اشتداد الحب؛ نظر: إن كان زرعاً ترى حباته في السنبلة؛ كالشعير والسلت والأرز - يجوز بيعه مع السنبلة بعد الحصاد، وقبله مع الأرض ومفرداً. وكذلك العلس؛ لأنه يدخر في كمامه، ويفسد إذا ادخر بلا كمام. وإن كان زرعاً لا ترى حباته في السنبلة؛ كالحنطة، والذرة، والسمسم ونحوها- لا يجوز بيعها في السنبلة دون السنبلة. ولو باعها مع السنبلة، فقولان: في الجديد - وهو الأصح: لا يجوز؛ لأن المقصود مستتر بما ليس من صلاحه؛ كما لو ديس الكدس؛ فباعه قبل التنقية، أو باع الحب الذي فيه - لا يجوز، وكبيع تراب الصباغة لايجوز. وقال في القديم، وبه قال أبو حنيفة: يجوز، لأنها تُدخر في السنبلة. وكذلك لو باع "المُحَّ" أو العدس أو الحمص في القشرة العليا-لا يجوز؛ على أصح القولين؛ فحيث قلنا: لا يجوز، فلو باعه مع الأرض أو باع الجوز واللوز في القشرة العليا مع الشجرة -فقد قيل: لا يصح في الزرع والجوز وهل يصح في الشجرة والأرض؟ فعلى قولين: والصحيح: أن العقد في الكل باطل؛ لجهالة أحد المقصودين. وكذلك لا يجوز بيع الجزر والسلق والفجل والبصل والثوم في الأرض؛ لأن المقصود

منه ما هو في الأرض، وهو متستر، ولا ينبني على شراء الغائب؛ لأن ثم يمكنه رد المبيع بعد الرؤية بصفته، وهاهنا لا يمن. ولو باع أوراق هذه الأشياء؛ بشرط القطع، يجوز؛ لأنها ظاهرة. ولو قلع هذه الأشياء، ثم دفنها فباعها، فهو كبيع الغائب. ولو باع القنبيط في الأرض قبلا لقلع، جاز؛ لأنه يون ظاهراً، وكذلك نوع من السلجم يكون ظاهراً على وجه الأرض؛ فيجوز بيعه. وكذلك إذا كان بعضه ظاهرا؛ لأنه يستدل برؤية بعضه على رؤية كله. فلو باع الأرض مع هذه الأشياء التي مقصودها في الأرض - فقد قيل: لا يصح البيع في هذه الأشياء، وفي الأرض قولان، بناء على تفريق الصفقة، والصحيح من المذهب: أن البيع في الكل باطل. كذلك لو باع أرضاً مبذورة مع البذر، فالمذهب أن البيع باطل؛ لأن الصفقة إذا اشتملت على مقصودين، وأحدهما مجهول- لا يصح العقد في الكل؛ لأنه لا يمكن توزيع الثمن عليها. ومن جوز في الأرض أوجب عليه جميع الثمن. وذلك على القول الذي يقول: إنه إذا باع ماله وما ليس له، وقلنا: يصح العقد فيما له وللمشتري الخيار، فإذا أجاز يجيز بجميع الثمن. ولو باع شاة مذبوحة قبل السلخ، لا يجوز؛ سواء باعها جملة، أو باع الجلد دون اللحم، أو اللحم دون الجلد؛ لأن المقصود هو اللحم؛ وهو مجهول؛ بخلاف ما لو باع الحيوان يجوز؛ لأن المقصود عين الحيوان لا ما فيه. ولو سلخ الجلد، ثم باع المسلوخ ظاهراً، يجوز وإن لم ير باطنه؛ ما لو باع صبرة رأى ظاهرها. ولو رد المسلوخ إلى الجلد، ثم باعه، فعلى قولي بيع الغائب.

ولو باع الرءوس والأكارع قبل الإبانة - لا يجوز، وبعد الإبانة يجوز مشوية كانت أو نيئة؛ لأن الجلد الذي عليه مأكول؛ كما لو باع شاة مسموطة؛ لأن جلدها مأكول لحمها. فصل في الاستثناء في بيع الثمار إذا قال: بعتك مُدًّا من ثمرة هذا الحائط، لا يجوز؛ لأنه لا يدري كم اشتراه، وربما لا يحصل مُد، والمبيع ينبغي أن يكون معلوما، إما بالعيان، أو بالجزئية، أو بالوصف. وكذلك لو قال: بعتك ثمر هذه النخيل إلا مُدا، أو إلا صاعاً - لا يصح؛ لأن الاستثناء المجهول يجعل الباقي مجهولاً. وكذلك لو قال: بعتك نخلة من هذه النخيل، أو قال: بعتك هذه النخيل إلا واحدة ولم يعين - لا يصح. فإذا علم بالجزئية، فقال بعتك ثلث ثمر هذه النخيل، أو قال: بعتك ثمر هذه النخيل إلا ثلثها، أو قال: إلا قدر الزكاة منها، أو قال: بعتك ثلث هذه النخيل، أو بعتك هذه النخيل إلا ثلثها - يجوز. ولو قال: بعتك ثمر هذه النخيل بثلاثة آلاف درهم، إلا ما يخص ألفاً منها؛ فإن أراد ما يخص ألفاً بتوزيع الثمن على المثمن - يجوز؛ فكأنه استثنى الثلث. وإن أراد ما يساوي ألفاً منها عند التقويم، لم يجز؛ لأنه مجهول. وكذلك كل جملة معلومة من أرض أو ثوب، باع منها جزءاً شائعاً، أو استثنى جزءاً شائعاً - يجوز؛ بأن قال بعتك ربع هذا الثوب، أو قال بعتك هذا الثوب إلا ربعه. ولو قال: بعتك عشرة أذرع من هذه الأرض، أو قال: ذراعاً من هذا الثوب نظر: إن كانت الذرعان معلومة، مثل: إن كانت الأرض مائة ذراع، أو كان الثوب عشرة أذرع - جاز، وجعل كأنه باع عشرة شائعاً. وعند أبي حنيفة: لا يجوز. وإن كانت الذرعان مجهولة، لا يصح. ولو قال: بعتك ثلث هذه الصبرة، أو قال: بعتك هذه الصبرة من الحنطة إلا ثلثها - يصح. ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة بكذا، أو قال: عشرة آصعٍ منها؛ كل صاع

بدرهم -نص الشافعي - رضي الله عنه - على جوازه. واختلف أصحابنا فيه: منهم من قال- وهو الأصح-: يجوز، سواء كانت الصيعان معلومة أو مجهولة، والمبيع صاعاً منها لا بعينه؛ حتى لو تلف جميعها إلا صاعاً تعين العقد فيه؛ بخلاف ما لو باع صاعاً من ثمر النخيل، لا يجوز؛ لأنها تختلف، وأجزاء الصبرة الواحدة قل ما تختلف، والبائع إن شاء سلم الصاع من أعلى الصبرة، أو من أسفلها [يحوز] وإن لم يرها المشتري؛ لأن رؤية بعضها كرؤية كلها. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا البيع، إلا أن تكون الصيعان معلومة؛ فيكون المبيع جزءاً شائعاً منها؛ مثل: إن كانت عشرة آصع؛ فيكون المبيع عشر الصبرة. ولو تلف بعض الصبرة، يتلف من المبيع بقدره، فإن تلف نصفها، فيتلف نصف المبيع، وهذا هو القياس؛ كما لو قال بعتك هذه الصبرة غلا صاعاً منها، لا يجوز، إلا أن تكون الصيعان معلومة، فيكون المستثنى جزءاً شائعاً، وكما لو باع ذراعاً من ثوب أو من أرض، لا يصح ما لم تكن الذرعان معلومة. وهذا القائل حمل النص على ما إذا كانت الصيعان معلومة. ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع منها بدرهم، أو هذا الثوب كل ذراع منه بدرهم، أو هذه الأرض كل ذراع بدينار - يجوز، سواء علما عدد الصيعان والذرعان، أو جهلاً؛ لأنه وجه العقد على جميع الصبرة. والثمن يصير معلوماً بالكيل والذرع. وكذلك لو قال: بعتك هذه الأغنام بكذا، لا يجوز؛ وإن كان يعرف عدد الكل؛ لأنها معدودة تختلف قيمتها؛ فلا يدري كم العشرة من جملتها؛ بخلاف الأرض أو الثوب يبيع منها عشرة أذرع. ولو قال: بعتك من هذه الصبرة؛ كل صاع بدرهم - لا يصح؛ لأنه لم يبع جميع الصبرة، غنما باع بعضها، ولم يبين قدر ما باع. ولو باع موضعاً معيناً من الأرض؛ فقال: بعتك من هاهنا إلى ذلك الموضع في جميع العرض- جاز. ولو قال: بعتك من هاهنا عشرة أذرع؛ فإن أشار إلى المنتهى، جاز، وإن لم يُشر فوجهان:

أحدهما: يصح؛ لأنه يعلم المنتهى بالذرع. والثاني: لا يصح؛ لأنه قد ينتهي إلى موضع جيد ورديء؛ فيختلفان. ولو باع ذراعاً معيناً من ثوب؛ فإن كان الثوب نفيساً، لم يجز؛ لأن البائع لا يقدر على تسليمه إلا بضرر يدخل عليه من غيره. وإن كان صفيقاً لا ينتقص بالخرق، جاز كالأرض. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم؛ كل صاع بدرهم، أو هذه الأرض بعشرة دنانير؛ كل ذراع بدينار؛ فن خرج كما زعم، صح البيع، وإن خرج زائداً أو ناقصاً، فعلى قولين: أحدهما - وهو الأصح-: لا يصح العقد؛ لأن الإشارة إلى الصبرة يقتضي تسليم جميعها؛ وتسمية الثمن تقتضي تسليم كله. وإذا خرج زائداً يقتضي تسليم بعضها، وإذا خرج ناقصاً يقتضي تسليم بعض الثمن؛ فيفسد العقد؛ للتناقض. والثاني: يصح؛ لأنه باع تلك الصبرة؛ فعلى هذا إن خرج ناقصاً، فللمشتري الخيار؛ فإن إجاز، بكم يجيز؟ فيه وجهان: أحدهما: [يجيز] بجميع الثمن؛ لأنه قابل الصبرة به. والثاني: بحصته؛ لأنه قابل كل صاع بدرهم؛ وإن خرج زائداً، فالزيادة لمن تكون؟ فيه وجهان: أظهرهما: للمشتري؛ لأنه اشترى جميع الصبرة، فعلى هذا لا خيار له. وفي البائع: وجهان: أصحهما: لا خيار له؛ لأنه رضي ببيع كل الصبرة بما سمي. والوجه الثاني: الزيادة للبائع؛ فعلى هذا: لا خيار له، وفي المشتري وجهان: أصحهما: له الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الصبرة. فأما إذا قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة؛ على أنها عشرة آصع، أو هذا الثوب بعشرة؛ على أنها عشرة أذرع، أو هذه الأرض بألف؛ على أنها جريبان - فإن خرج - كما زعم - صح البيع، وإن خرج ناقصاً، يصح وللمشتري الخيار. فإن أجاز أجاز بجميع الثمن؛ لأنه جعل الثمن عشرة، ولم يقابل كل صاع بدرهم؛ فوجود النقصان فيه كعيب يوجد بالمبيع؛ فله الخيار فيه. فإن أجاز، فعليه كل الثمن، ولو خرج زائداً فيه قولان:

أحدهما: لا يصح البيع. والثاني: يصح، وللبائع الخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أجاز، وكله للمشتري. قلت: الصحيح عندي في هذه الصورة إذا خرج زائداً أن العقد يصح على جميعها بما سمي من الثمن؛ لأنه لم يقابل كل صاع بدرهم، ولا خيار للبائع؛ فوجود الزيادة فيها نقص يشترطه البائع بالمبيع؛ فلم يكن؛ كما أن وجود النقصان فيها بمنزلة سلامة يتوهمها المشتري؛ فلم تكن. فصل في وضع الجوائح رُوي عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح". وأراد ببيع السنين: بيع ما يثمر نخله سنين لا يجوز؛ لأنه بيع ما لم يُخلق. إذا باع ثمرة على الشجرة بعد بُدو الصلاح؛ فأصابتها جائحة من حر أو برد أو حريق أو ريح أو جراد - نظر: إن كان قبل التخلية يكون من ضمان البائع: فإن تلف كلها ينفسخ البيع، وإن تلف بعضها ينفسخ في ذلك القدر، وفي الباقي قولان: أصحهما: لا ينفسخ، وللمشتري الخيار، وإن أجاز يجيز بحصته من الثمن. وإن كان بعد التخلية؛ فمن ضمان من يكون؟ فيه قولان: قال- في الجديد؛ وبه قال أبو حنيفة -: يكون من ضمان المشتري؛ لأن بالتخلية حصل التسليم؛ كما لو هلك المبيع بعد القبض. والدليل عليه: قول النبي - صلى الله عليه وسلم-:

"أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه". ولو كانت الجائحة من ضمان البائع، لم يكن آخذاً لمال أخيه؛ لأنه يجب عليه رد الثمن. وقال في القديم: يكون من ضمان البائع؛ لحديث جابر بن عبد الله؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بوضع الجوائح"، ولأن بالتخلية لم تنقطع العلائق بين البائع والمشتري؛ فإنه يجب على البائع السقي؛ حتى تدرك الثمار؛ فهو كما لو أكرى داراً، وسلمها إلى المكتري، فانهدمت في خلال المدة، يكون من ضمان المكري. ومن قال بالأول، حمل الحديث على الندب والاستحباب، أو على ما إذا أصابته الجائحة قبل التخلية. فإن جعلناه من ضمان البائع؛ فتلف بعضها، ينفسخ العقد فيه، وفي الباقي قولان فإن قلنا: لا ينفسخ، فللمشتري الخيار: إن شاء فسخ في الباقي، وإن شاء أجاز بحصته من الثمن، كما قبل التخلية. وقال مالك بوضع الثلث فصاعداً، ولا يوضع ما دونه؛ لأنه قليل لا يخلو عنه الثمرة. ولو فات بعضها بجناية آدمي؛ بأن غصب أو سرق بعد التخلية - فيكون من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ لأن الاحتراز عنه ممكن بإقامة الحُراس؛ ولأنه يمكنه الرجوع على الجاني بالضمان؛ بخلاف ما لو أصابته آفة سماوية. ولو أصاب الثمرة عطش بانقطاع الماء؛ فتلف بعض الثمرة، أو كلها بعد التخلية: فقد قيل: فيه قولان: وقيل؛ وهو الأصح-: يكون من ضمان البائع قولاً واحداً؛ لأن السقي على البائع، فهو نقص حدث بسببه.

ولو باع الثمرة؛ بشرط القطع، فلم يقطعها بعد التخلية؛ حتى أصابتها جائحة- فمن ضمان من تكون؟ قيل: فيه قولان؛ كما ذكرنا. وقيل: يكون من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ لأن التفريط من جهته بترك القطع؛ ولأنه لا عُلقة بينهما؛ لأنه لا يجب السقي على البائع. وقيل هاهنا تكون من ضمان البائع قولاً واحداً؛ لأن ما شرط فيه القطع، فقبضه يكون بالقطع والنقل، فإذا تلف قبله يكون كتلف المبيع قبل القبض. ولو باع الثمرة مع الشجرة؛ فأصابت الثمرة جائحة بعد التخلية -يكون من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ بخلاف ما لو باع الثمرة وحدها؛ لأن ثم لم تنقطع العلائق بينهما؛ لاتصال الثمرة بملك البائع، وهاهنا بخلافه. ولو تلفت الثمرة قبل التخلية، بطل العقد [في الثمرة]. وفي الشجرة قولان. أما إذا باع نخلة مطلعة، فتلف الطلع قبل التخلية: فإن قلنا: الطلع له قسط من الثمن، فالكثمرة المؤبرة. وإن قلنا: لا قسط له، فالمشتري بالخيار إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أجاز بجميع الثمن؛ كما لو حدث بالمبيع عيب قبل القبض. فصل في تلف المبيع قبل القبض إذا باع شيئاً، فالمبيع في يد البائع مضمون عليه بالثمن؛ حتى لو تلف في يده ينفسخ العقد، ويسقط الثمن. وقال مالك وأبو ثور: يدخل المبيع في ضمان المشتري بمجرد العقد، ويكون أمانة في يد البائع؛ حتى إذا تلف لا شيء عليه، وعلى المشتري الثمن. وعندنا: لو تغيب المبيع من يد البائع فالمشتري بالخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أجاز وعليه جميع الثمن. ولو اشترى أرضاً فغرقها بحر قبل القبض، أو ركبها رمل - فللمشتري الخيار. وقيل: ينفسخ العقد؛ كما لو تلف المبيع. ومن قال بالأول، قال في التلف: وقع اليأس عز

التسليم، وهاهنا لم يقع [اليأس]. ولو اشترى درة فوقعت في لجة البحر - ينفسخ العقد، ولو وقعت في موضع يتصور إخراجها، أو اشترى عبداً؛ فنهبه العساكر أو أبق - فالصحيح أن العقد لا ينفسخ، وللمشتري الخيار. وقيل: ينفسخ. أما إذا غصبه غاصب معلوم، فلا ينفسخ، وله الخيار. وإذا أجاز، لا يجب تسليم الثمن، وإن كان قد سلم. قال الشيخ القفال: ليس له أن يسترده؛ فيحبسه على تسليم المبيع؛ لأنه يمكنه فسخ البيع، وإن أجاز، ثم بدا أن يفسخ، له ذلك؛ لأنه ضرر يتجدد كل ساعة؛ كما لو انقلع المسلم فيه، فأجاز، ثم بدا له أن يفسخ، فله ذلك. ولو جحد البائع العين قبل التسليم، فللمشتري أن يفسخ البيع؛ لتعذر الوصول إليه؛ كما في الإباق. أما إذا تلف المبيع قبل القبض بجناية جاني -نظر: إن أتلفه المشتري، صار قابضاً، واستقر عليه الثمن؛ لأن القبض مستحق له؛ فجعل إتلافه كقبضه، وإن أتلفه أجنبي، لا ينفسخ العقد، على الصحيح من المذهب، والمشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، والبائع يرجع بقيمته على المتلف، وإن شاء أجاز، وأدى جميع الثمن، وأخذ القيمة من المتلف. وفيه قول آخر: إن العقد ينفسخ بفوات التسليم؛ كما لو تلف. وإن أتلفه البائع، فالمذهب أن العقد ينفسخ؛ كما لو تلف بآفة سماوية؛ لأن المبيع مضمون عليه بالثمن، فإذا أتلفه سقط الثمن. وفيه قول آخر: أن إتلافه كإتلاف الأجنبي لا ينفسخ به البيع، وللمشتري الخيار: فإن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز، وأدى الثمن، وأخذ القيمة. ولو جنى على المبيع قبل القبض؛ بأن كان عبداً؛ فقطعت يده - نظر: إن قطعها المشتري، يستقر عليه من الثمن بنسبة ما انتقص من قيمته؛ فن انتقص نصف قيمته يستقر عليه نصف الثمن، وإن انتقص أقل أو أكثر، فبتلك النسبة من الثمن، ولا خيار له بسبب هذه الجناية؛ لأنه حصل بفعله. قلت: ولا رد له بعيب قديم يجده؛ لأنه تعيب في ضمانه.

ولو اندملت الجراحة، وهلك العبد قبل القبض - انفسخ العقد، وعلى المشتري ما استقر عليه بالجناية من الثمن. وإن قطع يده أجنبي، فعلى الأجنبي نصف قيمته وللمشتري الخيار؛ فن فسخ البيع أخذ البائع من الجاني نصف القيمة، وإن أجاز فعليه جميع الثمن للبائع، ورجع على الجاني بنصف القمية، بخلاف المشتري؛ حيث أوجبنا عليه ضمان ما انتقص من الثمن؛ لأن ضمان المشتري ضمان عقد ورد على مالية العبد؛ فيجب عليه من المسمى بقدر ما يقابل نقصان ماليته. وضمان الأجنبي ضمان عدوان؛ فيجب عليه ما يجب بالتعدي. ولو قطع البائع يده، فللمشتري الخيار: فإن فسخ البيع لا شيء له على البائع، وإن أجاز فعليه جميع الثمن، ولا شيء له على البائع؛ لأن جنايته كآفة سماوية تصيب المبيع، كما لو شُلت يده قبل القبض، وأجاز لا شيء له. وإن قلنا: جناية البائع كجناية الأجنبي، يرجع على البائع بنصف قيمته إذا أجاز البيع، والأول المذهب. ولو أمر المشتري صبياً لا تمييز له، أو أعجمياً بإتلاف المبيع قبل القبض؛ ففعل - يستقر عليه الثمن؛ كما لو فعل بنفسه. ولو أمر عاقلاً مميزاً، فهو كإتلاف الأجنبي. ولو استعمل البائع المبيع قبل القبض، لا أجرة عليه؛ على ظاهر المذهب، وإن جعلنا جنايته كجناية أجنبي يجب. ولو باع شيئين صفقة واحدة؛ فهلك أحدهما قبل القبض - انفسخ العقد فيه. وهل ينفسخ في الثاني؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا ينفسخ، فله الخيار، وإن أجاز عليه حصته من الثمن. ولو باع نصف عبد، ثم أعتق البائع النصف الآخر قبل القبض، وهو موسر - عتق كله، وانفسخ البيع، ويسقط الثمن؛ كما لو أتلف المبيع. وإن قلنا: جنايته كجناية أجنبي، فللمشتري الخيار؛ فإن أجاز أخذ قيمة ما اشترى؛ كما لو أعتقه البائع بعد التسليم. ولو أن المشتري أبرأ البائع عن ضمان المبيع قبل القبض - هل يبرأ؛ حتى لو تلف يكون من ضمان المشتري، فلا ينفسخ البيع؟ فيه قولان: أحدهما - يبرأ؛ كما لو أبرأ الغاصب عن ضمان الغصب يبرأ.

والثاني - وهو الأصح: لا يبرأ؛ بخلاف الغصب؛ لأن ضمان الغصب ضمان جناية لحق المالك؛ فيسقط بإسقاطه، وضمان المبيع حق الشرع؛ فلا يسقط بإسقاط أحد والله أعلم. باب المزابنة وبيع العرايا رُوي عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -"نهى عن المحاقلة والمزابنة".

عقد المزابنة والمحاقلة باطل. فالمزابنة: بيع الرطب على الشجرة بالتمر على وجه الأرض؛ باعتبار الخرص. والمحاقلة: بيع الزرع بعد اشتداد الحب بجنسه نقياً. قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل؛ سواء بيع الزرع بالقمح، قلت: أفسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم. أما إذا باع قصيل الحنطة قبل اشتداد حبه؛ سواء تسنبل، أو لم يتسنبل بالحنطة النقية - يجوز؛ لأن القصيل غير مأكول؛ كبيع التبن بالحنطة يجوز. وعند مالك - رحمه الله -: المحاقلة استكراء الأرض بالثلث والربع، والمزابنة:

ضمان الصبرة بقدر معلوم؛ مثل: أن يقول: أضمن ل صبرتك هذه بعشرين صاعاً، فإن زاد فلي، وإن نقص فعلي؛ وهذا بالاتفاق حرام؛ لأنه قمار ومخاطرة. وما ذكره من تفسير المحاقلة: أنها استكراء الأرض بالثلث والربع - جاء ذلك في تفسير المخابرة؛ وكل منهي عنه. فصل في العرايا روي عن جابر - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن المزابنة".

والمزابنة: بيع التمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرية. بيع العرايا جائز؛ وهو: أن يبيع رطب نخلة أو نخلتين؛ باعتبار الخرص بقدر مكيلته من التمر. سميت عرية: لأنه يُعرى: أي يفرد نخلة أو نخلتين ببيع رطبها. وعند أبي حنيفة، ومالك: العرية: أن يُفرد نخلة أو نخلتين؛ فيهب ثمرتها لرجل؛ حتى يجتني كل يوم، ثم يتأذى بدخوله حائطه. فعند مالك: يشتريها منه بخرصه تمراً، ولا يجوز ذلك لغير صاحب الحائط. وعند أبي حنيفة: يجوز أن يشتريها مجاناً، ويجوز أن يعطيه بخرصها تمراً. والعرية رخصة استثناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزابنة؛ لحاجة الفقراء إليه. روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه سمي رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرُّطَب يأتي، ولا فقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر؛ فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.

وهذه الرخصة وإن جاءت بسبب الفقراء، فالحكم لا يختص بهم، بل يعم كل الفقراء والأغنياء جميعاً؛ على الصحيح من المذهب؛ كالرَّهل في الطواف [والاضطباع] أمر به، إظهاراً للقوة مع الكفار، ثم عم جميع الأزمنة. وبيع العرايا جائز فيما دون خمسة أوسق من التمر، ولا يجوز في أكثر منها. وهل يجوز في خمسة أوسق؟ فعلى قولين منشؤهما من شك الراوي في الحديث؛ وهو ما روى مال عن داود بن الحصين؛ عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق". أو - في خمسة أوسق الشك من داود.

وأصح القولين: هو اختيار المزني؛ أنه لا يجوز في خمسة أوسق؛ لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر؛ فلا يباح بالشك، وإنما لا يجوز أن يزيد على هذا القدر في صفقة واحدة. فلو كان في حائطه ألف وسق من التمر، وباع الكل بيع العرايا بعقود مختلفة في كل عقد أقل من خمسة أوسق - جاز؛ سواء باع من واحد، أو من جماعة في مجلس واحد، أو في مجالس متفرقة. ولو باع الرطب رجل من رجلين بالتمر صفقة واحدة - يجوز فيما دون عشرة أوسق، ولا يجوز في أكثر، وفي العشر قولان. ولو باع رجلان من رجل، فعلى وجهين: أصحهما: حُكمه حكم ما لو باع رجل من رجلين؛ لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع؛ كما تتعدد بتعدد المشتري؛ كما في الرد بالعيب. والثاني: وبه قال صاحب التلخيص-: حكمه حكم ما لو باع واحد من واحد لا يجوز في أكثر من خمسة أوسق؛ اعتباراً بمشتري الرطب؛ لأن الرخصة جاءت لحاجة المشتري إلى الرطب، والمشتري هاهنا واحد. ولا يجوز بيع العرايا إلا بعد الخرص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر؛ فيطيف الخارص بالنخلة فيقول رطبها كذا وإذا صار تمراً تحصل منه أربعة أوسق، فيبيعه بأربعة أوسق من التمر كيلاً. ويجب التقابض في المجلس؛ وهو أن يسلم التمر إلى البائع بالكيل، والبائع يخلي بينه وبين النخلة. وإن كان التمر غائباً، فباع الرطب بكيله في الذمة، ثم أحضر، وكال عليه في المجلس - جاز، ثم إن لم يظهر بينهما تفاوت؛ بأن أكل مشتري الرطب الرطب، فذلك وإن جففه مشتري الرطب فخرج متفاوتاً؛ فإن كان التفاوت قدر ما يقع بين الكيلين - لا يضر، وإن كان أكثر فالعقد باطل. وقيل: يصح في الكثير بقدر القليل، ولمشتري الكثير الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميعه. ولو باع الرطب على النخل بالرطب على النخل، أو بالرطب على الأرض باعتبار

الخرص في قدر العرية - المذهب: أنه لا يجوز؛ لأنه لا حاجة إلى مثل هذا البيع، فإن من له رطب قل ما يشتري الرطب. وقال ابن خيران: يجوز؛ لأنه قد يشتهي من رطب جاره. وقيل: إن اختلف النوعان يجوز، وإن اتفقا فلا. أما إذا باع الرطب على الأرض بالتمر، أو بالرطب على الأرض - لايجوز؛ لأنه جوز لحاجة المشتري إلى الرطب؛ حتى يأكله على مر الأيام طرياً مع الناس، ولا يحصل ذلك من الرطب الموضوع على [وجه] الأرض؛ لأنه يتسارع إليه الجفاف؛ ولأن المخصوص لا يُقاس عليه غيره. ويجوز بيع العرايا في العنب؛ كما يجوز في الرطب، ولا يجوز في سائر الثمار؛ على أصح القولين؛ لأن الخرص لا يتأتى فيها؛ لتفرق ثمارها في تضاعيف أوراقها؛ بخلاف العنب والرطب، فإن ثمرتها عناقيد متدلية ظاهرة يمكن خرصها. ولو باع الرطب على الشجر بجنس آخر من الثمار على الشجر، أو على الأرض - يجوز من غير الخرص؛ قل أو كثر، ويتقابضان. باب بيع الطعام قبل أن يستوفي روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يستوفيه"، ويروي: "حتى يقبضه".

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يُباع حتى يستوفي". وقال ابن عباس برأيه: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. من اشترى شيئاً، لا يجوز له بيعه قبل أن يقبضه؛ عقاراً كان أو منقولاً، باع بإذن البائع أو بغير إذنه، أدى الثمن أو لم يؤده. وجوز أبو حنيفة بيع العقار قبل القبض. وقال سعيد بن المسيب: والحسن وأحمد: ما ليس بمكيل، ولا موزون يجز بيعه قبل قبضه. وقال مالك: إن اشترى طعاماً كيلاً، لا يجوز بيعه قبل القبض. أما إذا اشتراه جُزافاً أو غير الطعام، يجوز. ولو وهب المبيع قبل القبض، أو رهنه، أو أقرضه، أو تصدق به - فعلى قولين: أصحهما: لا يجوز كالبيع. والثاني: يجوز إن كان بعد أداء الثمن؛ بخلاف البيع؛ لأن التسليم فيه مستحق؛ وهو لا يقدر عليه. وفي هذه العقود التسليم غير مستحق، والمقصود فيها يتوقف على قبض المتهب من الواهب، فجاز أن يتوقف على قبض الواهب. ولا خلاف أن هذه العقود لا تكون قبضاً ما دام المبيع في يد البائع، بل إذا قلنا: تصح هذه العقود، فإذا قبضه المشتري، ثم سلم غليه تمت هذه العقود. وكذلك إذا قبضه المتهب أو المرتهن، أو المستقرض بإذن المشتري من البائع - تم البيع، وتمت هذه العقود. ولو أجره قبل القبض، لا يصح كالبيع؛ لأن التسليم فيه مستحق. وكل عقد منعناه قبل القبض فلو عقده بإذن البائع لا يصح أيضاً لحق الشرع. وإن كانت جارية؛ فزوجها قبل القبض، صح التزويج؛ لأن التسليم فيه غير واجب وإذا دخل بها الزوج لايكون كقبض المشتري؛ لأنه يقبض المنفعة بحكم النكاح لا العين؛

بخلاف المتهب؛ فإنه يقبض العين بحكم الملك. ولو أعتق المبيع قبل القبض، يعتق؛ لأن العتق له غلبة؛ بخلاف البيع؛ بدليل أنه لو أعتق العبد الآبق يجو، ولو باعه لا يجوز. وقيل: إن أعتق قبل توفية الثمن، وكان الثمن حالاً فهو كإعتاق المرهون؛ لأن حبس المبيع ثابت للبائع؛ لاستيفاء الثمن؛ كالمرتهن يحبس المرهون؛ لاستيفاء الدين. والمذهب هو الأول؛ بخلاف الرهن؛ لأن عقد الرهن للحجر عن التصرف، والراهن حجر على نفسه التصرف برهنه. فامتنع عتقه والشراء لإطلاق التصرف، غير أن بيعه لم ينفذ؛ لعدم القدرة على التسليم، ونفوذ العتق لا يستدعي القدرة. قلت: ولو استولد المُشتري الجارية قبل القبض، أو استولدها أبوه، نفذ، وحصل القبض؛ لأن الاستيلاد أقوى من العتق؛ لأنه فعل؛ بدليل أن استيلاد المجنون والأب ينفذ، وعتقهما لا ينفذ. ولو كاتبه قبل القبض، لا يصح. ولو باعه المشتري من البائع قبل القبض صح أو أجره منه فالمذهب: أنه لا يصح؛ كما لو باع من غيره، أو أجر. وقيل: يجوز؛ لأن التسليم غير متعذر؛ كبيع المغصوب من الغاصب يجوز؛ وكبيع الدين ممن عليه يجوز، ولا يجوز من غيره. ولو وهبه من البائع، أو رهنه، فالصحيح: أنه على قولين؛ كما لو رهنه، أو وهبه من غير البائع. وقيل: لا تصح هذه العقود مع البائع قولاً واحداً؛ لأنه لا يجوز أن يكون نائياً عن المشتري في القبض؛ بخلاف الأجنبي. فإن قلنا: يصح مع البائع، فإذا أذن له في القبض؛ فقبض مالك في الهبة، وفي الرهن يتم الرهن ولا يزول ضمان العقد حتى إذا تلف في يده ينفسخ العقد. وإذا رهنه من البائع بالثمن الذي اشتراه به قبل القبض - نظر: إن كان الثمن حالاً لا يجوز؛ لأن حق الحبس ثابت له. وإن كان الثمن مؤجلاً قلت: هو كما لو رهن منه بدين آخر. فصل في القبض روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - يتبايعون جُزافاً - يعني: الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم؛ حتى يؤوه إلى رحالهم". قبض كل شيء على حسب ما يليق به، والمرجع فيه إلى العادة؛ فإن كان شيئاً خفيفاً من دراهم أو دنانير أو ثوب ونحوه - فيقبضه باليد، وإن كان ثقيلاً، فينقله إلى مكان آخر. وكذلك الطعام يشتريه جُزافاً، فإن اشتراه مكايلة أو موازنة؛ فقبضه، نقفله بالكيل أو الوزن، وإن قبضه جزافاً كان فاسداً، غير أنه دخل في ضمانه، ولا يتصرف فيه. وإن كان رقيقاً أمره بالانتقال عن موضعه، وإن كان دابة يقودها أو يسوقها، وإن كان عقاراً أو شجراً ثابتاً أو ثمراً باعه على الشجرة قبل أوان الجُذاذ؛ فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتسليم مفتاح الدار إليه. ولا يشترط حضورهما المبيع. وقيل: يشترط حضورهما. وقيل: يشترط حضور المشتري دون البائع؛ فإن جوزنا مع الغيبة، هل يشترط مُضي زمان يمكن المصير إليه؟ فيه وجهان.

الأصح: يشترط. وإن كانت الدار المبيعة مشغولة بمتاع البائع، لا يحصل التسليم؛ حتى يفرغها، وكذلك السفينة يبيعها، وفيها متاع البائع. وإن كان متاع البائع في بيت من الدار، يحصل تسليم الدار بالتخلية، إلا في ذلك البيت. والتخلية في المنقول لا يكون قبضاً؛ لأن نقله ممكن. ولو اشترى داراً، وفيها أمتعة مع الأمتعة صفقة واحدة؛ فخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الدار، ولا يحصل في الأمتعة؛ حتى ينقلها. وقيل يحصل تبعاً للدار. والأول أصح؛ فإذا نقل المتاع من زاوية إلى أخرى في تلك الدار، حصل القبض. ولو نقل المشتري المبيع في دار البائع من زاوية إلى أخرى - نظر: إن فعل بإذن البائع، حصل القبض، وصار كأنه استعار [تلك] الزاوية التي نقل إليها من البائع. وإن نقل دون إذنه، لا يحصل القبض؛ حتى لا يجوز أن يتصرف فيه، لكن دخل في ضمانه؛ سواء كان بعد توفية الثمن، أو قبله. ولو نقله من دار البائع إلى دار نفسه بغير إذنه، أو قبض ما يقبض باليد دون إذنه - نظر: إن كان بعد توفية الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، حصل القبض، وينفذ تصرفه فيه. وكذلك المكتري يجوز له قبض ما اكترى دون إذن المكري بعد توفية الكراء، أو كان الكراء مؤجلاً؛ [كما للمرأة] بعد تسليم النفس قبض الصداق دون إذن الزوج. وإن كان قبل توفية الثمن، والثمن حال، لا يصح قبضه، وعليه رده؛ لأن حق الحبس ثابت للبائع؛ لاستيفاء الثمن، ولا ينفذ تصرفه فيه، غير أنه دخل في ضمانه؛ حتى لو تلف يستقر عليه الثمن، ولو تعيب عنده لا يمكنه رده بعيب قديم يجده إلا برضا البائع؛ لحدوث العيب في ضمانه. ولو جاء البائع بالمبيع؛ فوضعه بين يدي المشتري - نظر: إن قال المشتري: ضعه فوضعه. حصل التسليم، وإن لم يقل شيئاً، أو قال: لا أريده، فوجهان: أصحهما: حصل التسليم؛ لأن التسليم واجب عليه؛ فيقع عن الواجب؛ كالغاصب إذا

وضع المغصوب بين يدي المالك يبرأ عن الضمان. والثاني: لا يحصل؛ كما لا يحصل الإيداع بمجرد الوضع بين يدي المودع. فإن قلنا يحصل التسليم، ينفذ تصرف المشتري فيه، ولو تلف لا يبطل العقد. ولكن لو خرج مستحقاً، لا يجب الضمان على المشتري؛ لأن ذلك الضمان ضمان الغصب، والنقل شرط لوجوب ضمان الغصب. ولو كان له على آخر دين فجاء به، أو بالمسلم فيه؛ فوضعه بين يدي رب السلم والدين - هل يحصل التسليم؟ يرتب على المبيع: إن قلنا ثَمَّ: لا يحصل، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن ملكه غير متعين في الدين والمسلم فيه؛ بخلاف المبيع. ولو دفع المشتري وعاء إلى البائع؛ ليجعل المبيع فيه؛ ففعل - لا يحصل التسليم؛ لأن قبض المشتري لم يوجد، والوعاء هل يكون مضموناً على البائع؟ نظر: إن كان المبيع متعيناً فلا؛ لأن البائع استعمله في ملك المشتري بإذنه، وإن كان سلماً أو قرضاً فإن جعله في الوعاء، ضمن الوعاء؛ لأنه استعمله في ملك نفسه. ولو جاء البائع بالمبيع؛ فامتنع المشتري عن قبضه- أجبره الحاكم على القبض، فإن امتنع أن كان غائباً، قبضه الحاكم، أو يأمر من يقبض عنه؛ ليبرأ البائع. وكذلك الغاصب إذا أتى بالمغصوب عند غيبة المالك، يجب على الحاكم أخذه؛ ليبرأ الغاصب. ولو وكل المشتري وكيلاً بقبض المبيع جاز، ولو وكل عبد نفسه أو مكاتبه، يجوز. ولو وكل عبد البائع، أو أم ولده بإذنه أو بغير إذنه - لم يجز؛ لأن أبدى هؤلاء يد البائع؛ كما لو قال للبائع: اقبض لي من نفسك، لا يجوز. ولو وكل ابن البائع أو مكاتبه، يجوز، ولو وكل عبده المأذون له في التجارة، فعلى وجهين. قلت: والأصح عندي: لا يجوز. ولو قال للبائع: وكل من يقبض لي عنك يجوز، ويكون القابض وكيل المشتري. ولو وكل صبياً بالقبض لم يجز، ولو تلف في يد الصبي، فيكون من ضمان البائع؛ بخلاف ما لو دفع الوديعة إلى صبي؛ بإذن المودع، فهلك عنده - يكون من ضمان المودع؛ لأنا نجعل كأن المودع أمره بإتلاف الوديعة، فيكون من ضمان المُودع. ولو أمر البائع بإتلاف المبيع؛ فأتلف، يكون من ضمان البائع.

ولو باع شيئاً والمبيع في يد المشتري، فلا يحصل القبض للمشتري قبل توفية الثمن، إن كان الثمن حالاً إلا بإذن البائع. فأما بعد توفية الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً لا يحتاج إلى إذن البائع في القبض، ويشترط مُضي إمكان القبض؛ على أصح الوجهين. فإن كان المبيع في داره، يشترط أن يمضي من الزمان بقدر ما يمكنه الرجوع إلى بيته ويقبض، ولا يصح تصرفه فيه قبله، فإن تلف قبله ينفسخ العقد. وهل يشترط نقله؟ فيه وجهان. أحدهما: بلى؛ لأن قبض المنقول بالنقل. والثاني: لا؛ لأن النقل للإخراج من يد البائع إلى المشتري، والمبيع هاهنا في يد المشتري. فإن قلنا: لا يشترط النقل، فهل يشترط أن يحضره ويشاهده؟ فيه وجهان: الأصح: لا يشترط. فصل في أقسام المال المستحق للإنسان عند غيره كل ما كان مضموناً على الغير بعقد معاوضة يتوهم انفساخه بتلفه - لا ينفذ تصرف المالك فيه؛ كالمبيع قبل القبض؛ حتى لو أجر داره بثوب للآخر، بيع الثوب قبل القبض، ولا للمستأجر أجرة الدار قبل القبض؛ لانه ملك المنفعة بعقد معاوضة. وهل يجوز للمرأة بيع عين الصداق قبل القبض؟ فيه قولان: إن قلنا: ضمانه على الزوج ضمان عقد، لا يجو. وهذا أصح. وإن قلنا: ضمان يد، يجوز؛ كالعارية في يد المستعير. وكذلك هل يجوز للزوج بيع بدل الخلع قبل القبض؟ فعلى قولين. وكذلك لو صالح عن القود على مال، هل يجوز بيعه قبل القبض؟ فعلى قولين. أما إذا صالح عن الدية على مال وجوزنا، أو كان له على إنسان دين؛ فصالح عنه على عين - لا يجوز بيعها قبل القبض. أما ما كان مضموناً على الغير بعقد مفسوخ، ينفذ تصرف المال فيه قبل الاسترداد؛ مثل: إن باع عبداً بثوب، وتقابضاً، ثم وجد بالثوب عيباً وفسخ العقد - ينفذ تصرفه في العبد قبل أن يسترد، وتصرف البائع في الثوب قبل أن يرد إليه. وكذلك إذا فسخ البيع بالفلس، وعقد السلم بانقطاع المسلم فيه- نفذ تصرفه في المبيع، وفي رأس المال قبل أن يسترد.

ولو تقايلا البيع قبل التقابض، هل ينفذ تصرف كل واحد منهما فيما باع قبل أن يسترد؟ إن قلنا: الإقالة فسخ ينفذ. وإن قلنا: بيع فلا. وكذلك الشفيع إذا دفع الثمن وتملك الشقص، جاز له بيعه قبل القبض. وكذلك ما كان مضموناً على الغير لا بعقد المعارضة؛ كالعارية في يد المستعير. والمال في يد المستام، والمقبوض بحكم البيع الفاسد والهبة الفاسدة - ينفذ تصرف المالك فيه. وكذلك لو باع المغصوب من الغاصب، أو ممن يقدر على أخذه منه - يجوز. فرع: وكذلك ما كان أمانة في يد الغير كالوديعة في يد المودع، والمال في يد الوكيل بالبيع، ومال الشركة في يد الشريك، وفي يد القارض بعد فسخ القراض، والمرهون في يد المرتهن بعد افتكاك الرهن، والمال في يد المستأجر بعد انقضاء المدة ينفذ تصرف المالك فيه. ولا يجوز للمتهب بيع الموهوب والمتصدق به قبل أن يقبض؛ لأنه لا يملكه قبل القبض، ولو وهب لابنه شيئاً وسلم، ثم رجع، له بيعه قبل أن يسترد، وكذلك لو بلغ رشيداً، وماله في يد قيمه، جاز له بيعه. ولو احتطب العبد واكتسب أو أوصى له بشيء - فقبل: ينفذ تصرف السيد فيه قبل أن يقبض. وكذلك لو رمي إلى صيد فأزال امتناعه أو نصب شبكة؛ فتعلق بها صيد- جاز بيعه قبل أخذه؛ لأنه ملكه. ولو وقع في ملكه صيد فكسر؛ حتى لا يمكنه الخروج - فهو أولى به من غيره، ولكن لا يملكه. وكذلك لو أفرخ طائر في ملكه، كان أولى به من غيره، ولكن لو باعه لا يصح؛ لأنه لا يملكه ما لم يأخذه. والموقوف عليه الشجرة يجوز له بيع ثمرتها بعد ما خرجت قبل أخذ الشجرة. ولو ورث مالاً، جاز له بيعه قبل أخذه؛ لأن ملكه عليه تام؛ فإن كان مورثه قد اشتراه، ولم يقبضه -لم يجز له بيعه ما لم يقبضه؛ لأن المورث كان لا يملك بيعه في حياته.

أما إذا اشترى من مورثه شيئاً؛ فمات البائع قبل قبض المشتري - نفذ تصرفه فيه؛ لأنه لو لم يكن قد اشتراه، كان تصرفه فيه نافذاً. فإن كان معه وارث آخر، لم يكن له أن يتصرف في قدر حق الآخر قبل القبض؛ حتى لو لم يكن أدى الثمن، فللوارث الآخر حبس قدر حقه؛ لاستيفاء نصيبه من الثمن. وإن كان على الميت دين فحق الغرماء في الثمن، ويجوز بيع الوارث العين المشتراة. ولو أوصى له بشيء فقبله بعد موت الموصي، نفذ تصرفه فيه قبل أن يقبض، ولو تصرف فيه بعد الموت قبل القبول. إن قلنا: يملك بالموت نفذ، وإن قلنا: بالقبول أو موقوف، فلا ينفذ. ولو باع واحد من الغانمين نصيبه شائعاً قبل القبض - نظر: إن كان معلوماً جاز؛ مثل: إن كانوا عشرة، فالخمس منها لأهل الخمس، وما بقي بينهم على عشرة أسهم؛ فيكون نصيبه سهمان من خمس وعشرين، فباعه شائعاً جاز؛ سواء أفرزه السلطان، أو لم يفرزه؛ حتى لو ترك واحد من الباقين حقه بعد بيع أحدهم نصيبه يكون للآخرين، ولا تدخل في البيع تلك الزيادة التي صارت له بالترك. ونص الشافعي -رضي الله عنه - على أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل القبض. واختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: أراد به إذا وكل رجلاً بقبضه؛ فقبضه وكيله، ثم باعه الموكل- جاز. فأما قبله فلا يجوز؛ لأنه لم يملكه. ومنهم من قال: إذا أفرزه السلطان وأعلمه، فباعه قبل أن يقبضه - جاز، ويد الإمام يده في الحفظ؛ حتى لو تلف يتلف من حقه. ولو دفع ثوباً إلى صباغ ليصبغه بأجرة؛ فصبغه؛ فإن كان دفع الأجرة جاز له بيعه قبل أن يسترد، وإن كان قبل أن يدفع لا يجوز؛ لأن للصباغ حبسه؛ لاستيفاء الأجرة؛ المبيع قبل القبض. وقيل: إن صبغ، لا يجوز بيعه أيضاً إذا كان قد استأجر الصباغ ليصبغه؛ لأن للصباغ حبسه؛ لإيقاع عمله فيه. ولو دفع ثوباً إلى قصار فقصره، هل له بيعه قبل الاسترداد؟ نظر: إن كان قد دفع الأجرة يجوز، وإن كان قبل دفعها؛ فإن قلنا: القصارة عين لم يجز؛ لأن للقصار حبسه؛ لاستيفاء الأجرة.

وإن قلنا: القصارة أثر جاز؛ لأنه ليس له حبسه لاستيفاء الأجرة، وكذلك الدابة يروضها والذهب يصوغه. فصل في إجراء الكيلين في السلم روي عن الحسن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان" يعني: صاع البائع، وصاع المشتري. ويروي موصولاً عن أنس وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم. إذا أسلم زيد إلى عمرو في طعام، وأسلم عمرو إلى بكر في مثله، ثم قال عمرو لزيد: احضر معي؛ حتى اكتاله من بكر لك ففعل - لم يجز؛ لأن عمراً لم يقبضه لنفسه، وما أخذه زيد مضمون عليه؛ لأنه قبضه بدلاً عن حقه، ولا ينفذ تصرف فيه؛ لأنه بض فاسد، وتبرأ ذمة بكر عن حق عمرو؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه دفعه إلى زيد بإذنه، ولا ينفصذ تصرف عمرو فيه؛ كالمقبوض جزافاً. وفيه وجه آخر: أنه لا تبرأ ذمة بكر؛ بناء على ما لو باع نجوم مكاتبه لا يصح، فإن قبضها المشتري من المكاتب هل يعتق فيه قولان. ولو قال عمرو لزيد: أحضر معي؛ حتى أكتاله من بكر لنفسي، ثم تأخذه أنت بذلك

الكيل؛ فقبض عمرو لنفسه صحيح، ولا يصح قبض زيد منه بذلك الكيل، ويكون ما لو قبض زيد جُزافاً. فلو كال عمرو على زيد بعد قبضه صح، ثم إن زاد أو نقص؛ فتكون الزيادة لعمرو والنقصان عليه إن كان قدراً يقع بين الكيلين، ولو كان أكثر علم أن الغلط وقع في الكيل الأول؛ فيجرع على الدافع بنقصانه، ويرد الفضل إليه. ولو أخذ الأول؛ وهو عمرو لنفسه في المكيال، ولم يخرجه؛ فسلم على زيد كذل - هل يصح في حق زيد؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الأصح عندي: لا يصح؛ حتى يخرجه "من" المكيال، ثم يجعله فيه ثانياً للكيل على زيد. والثاني: يصح؛ لأن استدامة الكيل كابتدائه؛ كما لو اشترى كيلاً من طعام؛ فأخرجه البائع في مكياله - يجب عليه أخذه، وإن لم يبتدأ كيلاً بعد البيع وكذلك لو لم يحضر عمرو، بل قال لزيد: اذهب إلى بكر، واقبض لنفسك مالي عليه فقبض - لم يصح، وتبرأ ذمة الدافع، على أصح الوجهين. ولو قال: اقبضه لي، ثم اقبض مني بذلك الكيل، صح قبضه لعمرو، وتبرأ ذمة الدافع، ولا يصح قبضه لنفسه، وإذا قبض لنفسه دخل في ضمانه. ولو قال: اقبض لي، ثم كل مني على نفسك فقبضه لعمرو صحيح، وهل يصح اكتياله لنفسه؟ فيه وجهان: الأصح: لا يجز؛ لأنه لا يكون أميناً على الغير فيما يقبض لنفسه. فإن قلنا: يصح، برئت ذمة عمرو عن حقه بعدما اكتال لنفسه. وإن قلنا: لا يصح، فلا تبرأ. وقيل: اكتيال زيد لنفسه أمانة في يده، وبعده مضمون عليه. وعلى هذا: لو اشترى صبرة حنطة مكايلة واتكالها، ثم باعها مكايلة - يجب أن يكيلها ثانياً على المشتري؛ فإن باعها جزافاً، لا يجب أن يكيلها ثانياً. ولو اشترى صاع حنطة فقبضه في المكيال، ثم باع صاعاً، وسلم إليه قبل إخراجها عن المكيال - هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان. ولو أسلم في طعام؛ فدفع المسلم إليه دراهم إلى المسلم، وقال: اشتر بها لنفسك الطعام الذي لك عليَّ - لا يصح التوكيل ولا الشراء؛ لأنه لا يجوز أن يشتري لنفسه بمال الغير شيئاً.

فإن ذهب واشترى نظر: إن اشترى بعين تلك الدراهم، لا يصح الشراء، وإن اشترى في الذمة يقع العقد له، ويجب أن يدفع الثمن من مال نفسه. ولو قال: اشتر لي، ثم اقبضه لنفسك ففعل، صح الشراء، ولا يصح قبضه لنفسه؛ لأن القبض لم يحل لمن وقع له الشراء، فإذا قبض لنفسه دخل في ضمانه، وهل تبرأ ذمة الدافع؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين. الأصح: تبرأ. ولو قال: اشتر لي واقبض لي، ثم اقبض مني لنفسك بذل الكيل - صح الشراء، والقبض للموكل، ولا يصح قبضه لنفسه. وقيل: إن قبضه لنفسه أمانة في يده، وبعده مضمون عليه؛ فلو قال كل مني على نفسك ففعل، ففيه وجهان: ولو استحق طعاماً أو شيئاً آخر على إنسان ببيع أو سلم مكايلة أو وزناً فقبضه جزافاً، أو قال الذي عليه: خذ؛ فإنه كذا كيلاً أو وزناً؛ فصدقه وقبضه- فالقبض فاسد، غير أن المعطي تبرأ ذمته عن مقدار ما يتصادقان عليه؛ لأنه دخل في ضمان الآخذ، ولا ينفذ تصرف الآخذ فيه؛ سواء باع الجميع أو باع القدر الذي يتحقق أنه له؛ لأنه باعه قبل وجود القبض المستحق بالعقد، فإن كال عليه الدافع أو وزن، صح، ونفذ تصرفه فيه. ولو كال القابض على نفسه بغير إذن الدافع - لم يصح، وإن كال بإذنه فوجهان: الأصح: لا يجوز، ولو أمره بأن يأمر غيره ليكيل عليه، جاز؛ لأنه لا يكون قابضاً لنفسه من نفسه؛ كما لو وكل ببيع متاعه من نفسه لا يجوز، ولو وكله بأن يأمر رجلاً؛ حتى يبيع منه يجوز. ولو تلف في يده قبل الكيل والوزن؛ فاختلفا؛ فقال الدافع: كان قدر حقك، وقال الآخذ: كان أقل، أو قال الدافع كان أكثر من حقك؛ فعليك رد الفضل، وقال القابض: لم يكن أكثر - فالقول قول القابض مع يمينه. ولو اشترى طعاماً كيلاً؛ فأخذه وزناً، أو اشتراه وزناً؛ فأخذه كيلاً - فهو كما لو أخذه جزافاً. ولو قبضه بالكيل أو الوزن؛ كما اشترى، ثم جاء وادعى أنه خرج أنقص - نظر: إن كان يدعي نقصاناً قليلاً يقع مثله في الكيل يقبل، وإن ادعى أكثر هل يقبل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقبل، والقول قول الدافع مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه أوفاه؛ بخلاف ما لو ان القبض فاسداً اكن القول قول القابض في القدر.

والقول الثاني- وهو قول أبي حنيفة: القول قول القابض؛ لأن الأصل اشتغال ذمة الدافع بحقه؛ وهو الأصح عندي. وكذلك لو دفع إليه ديناراً عن حق له عليه؛ فجاء به رديئاً وقال: هذا ما دفعته إليَّ، وأنكر الدافع - فالقول قول مَنْ؟ فيه وجهان: أحدهما: القول قول الدافع مع يمينه. والثاني- وهو الأصح عندي -: القول قول القابض مع يمينه؛ لأن الأصل اشتغال ذمة الدافع بحقه. فصل في بيع الدين يجوز الاستبدال عن القرض، وبدل الإتلاف، ولا يجوز عن المسلم فيه قبل القبض. وهل يجوز عن الثمن في الذمة والأجرة؟ فيه قولان: أصحهما - وهو قوله الجديد -: يجوز، كالقرض. وقال في القديم: لا يجوز؛ كالمسلم فيه. ولو كان الصداق في ذمة الزوج؛ هل للمرأة الاستبدال عنه، أو بدل الخلع في ذمة المرأة هل للزوج الاستبدال عنه إن جعلنا ضمان الصداق ضمان يد، يجوز كبدل المتلف. وإن قلنا ضمان عقد، فكالثمن. فحيث جوزنا الاستبدال، ينظر فيه؛ فإن كان ما في ذمته مال الربا؛ فاستبدل منه شيئاً يوافقه في العلة؛ مثل: إن استبدل من الدراهم دنانير ومن الحنطة شعيراً - يشترط قبض البدل في المجلس. وهل يشترط أن يكون البدل معيناً حالة العقد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ كما لو تصارفا في الذمة، ثم عينا وتقابضا يجوز. والثاني: يشترط؛ لأن أحد البدلين دينٌ؛ فإن لم يكن الآخر معيناً أشبه بيع الدين بالدين. وإن استبدل شيئاً لا يوافقه في العلة؛ مثل: إن استبدل عن الدراهم طعاماً أو ثوباً، أو استبدل عن الطعام دراهم - نظر: إن كان معيناً يجوز.

وهل يشترط قبض البدل في المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو ظاهر النص-: يشترط؛ لأن أحد العوضين دين فلو لم يقبض الثاني أشبه بيع الدين بالدين؛ كما يشترط قبض رأس مال السلم في المجلس. والثاني - وهو الأصح -: لا يشترط؛ كما لو باع ثوباً بدراهم في الذمة لا يشترط قبض الثوب في المجلس. والنص محمول على ما إذا استبدل من مال الربا شيئاً يوافقه في العلة. ولو استبدل شيئاً في الذمة، هل يجوز أم لا؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين: فإن جوزنا يشترط التعيين في المجلس؛ حتى لو تفرقا قبلا لتعيين بطل العقد. وهل يشترط القبض؟ فيه وجهان: ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال، ويجوز استبدال الحال عن المؤجل، ويصير كأن من عليه المؤجل عجله، هذا في بيع الدين ممن عليه. أما إذا باع الدين من غير من عليه؛ مثل إن كان له على زيد عشرة دراهم؛ فاشترى من عمرو ثوباً بتلك العشرة، أو قال لعمرو: بعتك العشرة التي في ذمة زيد لي بثوبك هذا؛ فاشتراه عمرو - فالمذهب: أنه لا يجوز؛ لأنه غير قادر على تسليمه. وفيه قول آخر: أنه يجز على حسب ما يجوز ممن عليه؛ فعلى هذا يشترط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن عليه، وبائعه يقبض العوض في المجلس؛ حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل. ولو كان لرجلين لكل واحد على ثالث دين؛ فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه - لا يجوز؛ سواء اتفقا في الجنس أو اختلفا؛ لأن بيع الدين بالدين ممن عليه لا يجوز؛ فمن غير من عليه أولى؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- "نهى عن الكاليء بالكاليء".

ولو كان لرجلين لكل واحد منهما على صاحبه دين من جنس واحد، ووصف واحد؛ سواء كانا سلمين أو قرضين، أو أحدهما قرض والآخر بدل إتلاف أو سلم - ففيه أقوال: أحدها: بنفس الوجوب يتقاصان ويسقطان؛ كما لو كان له على مورثه مال؛ فمات المورث سقط. والثاني: لا يسقط؛ حتى يتراضيا؛ بأن يجعل أحدهما بالآخر قصاصاً؛ فإن لم يفعلا، فلكل واحد منهما مطالبة صاحبه بما عليه؛ لأن المقاصة كالحوالة، وفي الحوالة يشترط رضا المُحيل والمحتال.

والثالث: إذا رضي أحدهما صار قصاصاً؛ لأنه إذا رضي أحدهما، فقد رضي بأداء ما عليه مما له في ذمة الآخر؛ فليس للآخر أن يمتنع؛ لأنه يجز لمن عليه الدين أداء الدين من حيث يشاء من ماله. والرابع: لا يصير قصاصاً؛ حتى ينفذ أحدهما ما عليه، ويسلم إلى الآخر، ثم يأخذه عما عليه؛ حتى لا يون بيع الدين بالدين. أما إذا كان الدائنان مؤجلين؛ نظر: إن كانا مؤجلين بأجل واحد. قيل هو كما لو كانا حالين، والصحيح أن حكمه حكم ما لو كانا مؤجلين بأجلين مختلفين، أو أحدهما حال والآخر مؤجل -لا يصير قصاصاً، وكذلك لو كانا من جنسين، أو وصفين مختلفين لا يصير قصاصاً؛ حتى ينفذ أحدهما ما عليه ويسلم، ثم يشتريه بماله على الآخر. وإذا كان له على رجل دراهم صحاحٌ؛ فقال من له الدين: أسقطت وصف الصحة لا يسقط. إن كان مؤجلاً؛ فقال من عليه أسقطت الأجل هل يسقط؟ فيه وجهان أصحهما عندي: لا يسقط؛ كوصف الصحة. والثاني: يسقط؛ لأن الأجل فسحة في العقد؛ فيسقط بالإسقاط؛ الخيار. ولو كان له على رجل دين حال وهو مماطل فقال: أدِّ حقي؛ حتى أبيعك شيئاً؛ فأدى - لا يلزمه البيع، وليس للمعطي أن يسترد ما دفع؛ لأن الدفع كان واجباً عليه. ولو قال: أعط أفضل أو أجود؛ حتى أبيعك ذا، ففعل - لا يجب البيع، وللمعطي أن يسترد ما أعطى، وإن أعطى أكثر يسترد الزيادة. وكذلك لو كان الدين مؤجلاً، فقال من له الدين: عجل قبل المحل؛ حتى أبيعك شيئاً فعجل - لا يجب البيع، وله أن يسترد ما عجل. وكذلك لو قال: عجل البعض؛ حتى أبرئك عن الباقي، فعجل - لا يجب الإبراء؛ وللمعجل أن يسترد ما أعطى. وكذلك في السلم لو قال: أبرأتك عن نصفه؛ بشرط أن تعجل الباقي، والحق مؤجل - لا يصح الإبراء. أما من غير شرط لو أخذ بعضه، وأبرأه عن الباقي - يصح. وقال مالك: لا يصح.

باب بيع المُصراة روي عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصروا الإبل والغنم للبيع؛ فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر". وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "من اشترى شاة مصراة، فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها، رد معها صاعاً من طعام لا سمراء".

فرع التصرية: أن يربط أخلاف الناقة أو البقرة أو الشاة؛ فيترك حلابها أياماً؛ حتى يجتمع اللبن في ضرعها، ثم يبيعها؛ فينها المشتري كثيرة اللبن، مشتق من: صريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه. فهي حرام، ويثبت بها الخيار للمشتري.

وعند أبي حنيفة: لا يثبت بها الخيار، والخبر حجة عليه. ولا جماعنا: على أنه لو باع طاحونة حبس ماءها زماناً، ثم أرسله حالة البيع؛ فإن المشتري أنها أبداً كذلك، ثم علم - ثبت له الخيار.

ثم إذا ظهر على التصرية بعد ما حلب لبنها: إن شاء أمسكها، ولا شيء له، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر بدل اللبن الذي حلب؛ قل اللبن أم كثر، ولا يرد اللبن إذا كان قائماً لذهاب طراوته بالحلب؛ نقص حدث به؛ ولأن ما حدث من اللبن بعد البيع كان للمشتري، فقد اختلط المبيع بغيره، ولا يعرف قدر حق كل واحد منهما؛ فأوجب الشرع صاعاً من تمر؛ قطعاً للخصومة بينهما؛ كما أوجب الغرة في إتلاف الجنين. فإن لم يكن حلب اللبن، لا شيء عليه. فإذا أراد أن يعطي بدل التمر شيئاً آخر، اختلف أصحابنا فيه.

قال ابن سريج: يجب في كل بلد صاع من غالب قوت ذلك البلد؛ تمراً كان أو حنطة أو شعيراً، والنبي - صلى الله عليه وسلم- "أوجب التمر"؛ لأنه كان غالب قوت أهل "الحجاز"، وقوله: "لا سمراء" يعني: لا يجب السمراء. وقال أبو إسحاق: التمر هو الأصل في جميع البلاد؛ فإن عدل إلى ما هو أعلى منه؛ بأن أعطى مكانه قمحاً - يجوز، وإن عدل إلى ما هو دونه لا يجوز؛ إلا برضا البائع.

وقوله:"لا سمراء"؛ يعني: لا "يجبر" عليه، إلا أن يتطوع. ولو أعطى مكانه ذهباً، أو ورقاً، أو شيئاً مما لا يُقتات، أو رد اللبن الذي حلبه - فيجوز برضا البائع على الوجهين، ولا يجوز دون رضاه. ولو عز التمر؛ حتى بلغت قيمة صاع من التمر قيمة الشاة المبيعة - عليه التمر. ولو اشترى شاة بصاع من تمر؛ فوجدها مُصراة بعد الحلب - يردها وصاعاً من تمر، ويسترد الصاع الذي هو الثمن. فإذا علم بالتصرية قبل مُضي ثلاثة أيام، فالرد يكون على الفور، أم يمتد إلى ثلاثة أيام من يوم العقد؟ فيه وجهان: أصحهما: يكون على الفور، كما لو علم بعد الثلاث. والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام؛ لظاهر الحديث. والأول أصح. وقوله في الحديث: "فهو بالخيار ثلاثة أيام" بناء للأمر على الغالب؛ لأن الغالب أنه لا يقف على التصرية قبل ثلاثة أيام، ويحمل نقصان اللبن في اليومين على تبدل المكان، وتفاوت العلف وغير ذل، ويخرج عليه: أنه لو اشترى شاة - وهو عالم بأنها مُصراة - فهل له "الخيار"؟ فعلى هذين الوجهين: الأصح: لا يثبت. ويثبت خيار التصرية في النعم، وفي كل حيوان مأكول اللحم، ويجب رد صاع من التمر.

ولو اشترى جارية، فوجدها مُصراة له الرد بعد حلب اللبن، وهل يجب رد صاع من التمر؟ فيه وجهان: أحدهما- يجب؛ كالنعم. والثاني- وهو الأصح: لا يجب؛ لأن لبن الآدمية لا يُعتاض عنه في العادة. وقيل: لا ترد الجارية بعيب التصرية، بل يأخذ الأرش. ولو اشترى أتانا؛ فوجدها مصراة؛ هل له ردها؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى. لأن لبنها مقصور لتربية الجحش. والثاني: لا؛ لأن لبنها غير مشروب. فإن قلنا: ترد، لا يجب بسبب اللبن شيء؛ لأنه نجس. ولو اشترى مصراة؛ فزال عيب التصرية، ودام لبنها على القدر الذي ابتاعها - يسقط حقه من الرد، ولو لم يزل ولكن المشتري رضي بالتصرية، ثم وجد به عيباً آخر بعد ما حلب لبنها، له ردها بالعيب الذي وجد، وعليه صاع من تمر. ولو لم يوجد من البائع قصد إلى التصرية، بل لم يتفق حلابُها أياماً؛ فاجتمع اللبن في ضرعها، أو ربط أجنبي ضرعهما - فيثبت الخيار للمشتري؛ على أصح الوجهين؛ فيرد صاعاً

[من التمر]؛ كما لو كان بالمبيع عيب لا يعلمه البائع. ولو اشترى لبوناً غير مُصراة؛ فحلب لبنها، ثم وجد بها عيباً وردها -عليه صاع من التمر بدل ما حلب من اللبن. ولو أرسل الزنبور في ضرع الشاة؛ فانتفخ؛ فنها المشتري لبوناً، فلم يكن-هل له الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لوجود التدليس؛ كما لو حمر وجه الجارية المبيعة. والثاني- وهو الأصح-: لا رد له؛ لأنه لا لبن فيها؛ فلم يوجد التدليس؛ كما لو اشترى بقرة منتفخة البطن نها المشتري حاملاً؛ فلم يكن -لا خيار له. ولو أرسل الزنبور في خد الجارية؛ حتى انتفخ؛ فظن المشتري أنها سمينة - له الرد؛ كما لو حمر وجهها. ولو أعلف الدابة؛ حتى انتفخ بطنها؛ فنها حُبلى - فوجهان. والله أعلم. باب الخراج بالضمان والرد بالعيب روى عن مخلد بن خفاف؛ أنه ابتاع غُلاماً فاستغله، ثم أصاب به عيباً - فقضى له

عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - برده وغلته. فأخبر عروة - رحمه الله - عمر عن عائشة - رضي الله عنها - ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا "أن الخراج بالضمان" فرد عمر قضاءه، وقضى لمخلد بن خفاف -رحمه الله - بالخراج.

من باع شيئاً؛ وبه عيب، وهو عالم به - يجب عليه أن يعلم به المشتري؛ فإن كتم، فقد غش. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا". غير أن البيع صحيح، وللمشتري الخيار إذا علم بالعيب؛ بدليل حديث المصراة.

فصل هل الفسخ بالعيب يرفع العقد من أصله أم من حينه والفسخ بالعيب لا يرفع العقد من أصله؛ حتى لو كان المشتري قد استخدمه، أو أجره وأخذ الأجرة، أو كان عبداً قد اكتسب في يده، أو شجرة قد أثمرت، أو بهيمة ولدت، أو جارية وُطئت بشبهة، وأخذ مهرها - فجميع هذه الزوائد تبقى للمشتري؛ فيرد الأصل، ويسترد جميع الثمن؛ سواء حصلت تلك الزوائد قبل القبض أو بعده، وسواء رد الأصل قبل القبض أو بعده. وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما -: الرد بالعيب يرفع العقد من أصله. ثم عند ابن أبي ليلى يرد الأكساب، والزوائد معه. وعند أبي حنيفة: الولد والثمرة يمنعان رد الأصل بالعيب، والكسب والغلة لا يمنعان الرد، لكن إن رد قبل القبض رد معه الغلة والكسب، وإن رد بعده يبقى له. والحديث حجة عليهم؛ ولأن حدوث الزوائد معنى لا يدخل نقصاً في المبيع، ولا يتضمن رضاً بالعيب، فلا يمنع الرد بالعيب؛ كالاستخدام. أما الزوائد المتصلة؛ كالسمن في الحيوان، وكبر الشجر، وتعلم القرآن، والحرفة للعبد-تكون تبعاً للأصل، فإذا رد الأصل لا شيء للمشتري بسببها. ولو اشترى جارية أو شاة حاملاً، ثم وجد به عيباً - وهي حامل بذلك الولد - ردها كذلك. ولو وضعت الولد، ثم علم بها عيباً؛ هل عليه رد الولد معها؟ فيه قولان؛ بناء على أن الحمل هل يعرف؟ وهل له قسط من الثمن؟ فيه قولان: أصحهما: يعرف، وله قسط من الثمن؛ بدليل أن تصح الوصية بالحمل وللحمل، ويجوز إعتاقه، وتجب الكفارة بقتل الجنين، وترد الجارية المشتراة بسبب الحمل، ولا تؤخذ الحامل في الصدقة، وتجب الخلفة في الدية، ولولا أنه يعرف، لم تتعلق به هذه الأحكام، وأنه ينفصل عن الأم؛ فينتفع به؛ كاللبن في الضرع. والثاني: لا يعرف، وليس له قسط من الثمن؛ لأنه متصل بها؛ كعضو من أعضائها؛ ولأنه لا يفرد بالبيع، ومن قتل امرأة حاملاً لا يُفرد الجنين بالضمان. فإن قلنا: له قسط من الثمن، يرد الولد مع الأصل؛ كما لو اشترى عينين. وإن قلنا: ليس له قسط من الثمن، يرد الأصل، ويبقى له الولد؛ كالحادث بعد البيع.

ويخرج على هذا: أنه هل يجوز للبائع حبس ذلك الولد؛ لاستيفاء الثمن؟ وأنه لو هلك ذل الولد قبل القبض هل يسقط شيء من الثمن؟ إن قلنا: له قسط من الثمن، له حبسه؛ لاستيفاء الثمن، وإذا هل يسقط بحصته من الثمن. وإن قلنا: لا قسط له، لا يجوز حبسه، ولو تلف لا يسقط شيء من الثمن، وهو أمانة في يد البائع ما لم يطالبه المشتري بتسليمه؛ فيمتنع؛ كالولد الحادث بعد البيع. وكذلك هل يجوز للمشتري بيع ذلك الولد قبل القبض؟ إن قلنا له قسط من الثمن لا يجوز، كالأم، وإلا فيجوز؛ كالزوائد الحادثة بعد البيع. ولو اشترى نخلة مطلعة فأبرها، ثم وجد بها عيباً وردها - فالثمر لمن يكون؟ فيه قولان؛ كالحمل يخرج. وقيل: يرد مع الأصل؛ لأنه كان مشاهداً يوم البيع قابلاً للإفراد بالبيع؛ فكان مع الأصل كالعينين بخلاف الحمل. أما إذا اشترى نخلة حائلاً فأطلعت، ثم وجد بها عيباً وردها -هل يبقى الطلع للمشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد مع الأصل؛ كالجارية إذا حبلت بعد البيع، ثم ردها بالعيب. والثاني: يبقى الطلع للمشتري؛ لأنه يقبل الإفراد بالبيع، كالثمرة المؤبرة. ولو اشترى شاة على هرها صوف؛ فجزه، ثم استنجز، فاطلع على عيب بها - نظر: إن لم يجز الصوف الثاني، ردها ذلك مع الصوف الذي جزه، وإن كان قد جز الثاني ردها مع الأول، ويبقى له الثاني؛ لأنه حدث في ملكه، بخلاف ما لو باع أرضاً، وفيها كُراثٌ أو قثٌ مجزوز؛ فنما في يد المشتري، ثم اطلع على عيب بالأرض - ردها ويبقى الكراث والقث الظاهر للمشتري؛ لان الصوف بمنزلة جزء من الحيوان، فلا يجوز إفراده بالتملك؛ بخلاف القث؛ بدليل أنه لو باع الشاة يدخل في البيع الصوف الذي على ظهرها، ولو باع أرضاً وفيها كراث أو قث ظاهر - لا يدخل في البيع. ولو زاد المشتري في البيع شيئاً يصنعه؛ بأن كان داراً؛ فعمرها، أو ثوباً؛ فصبغه، ثم اطلع على عيب به - نظر: إن أمكنه نزع الزيادة من غير أن يدخله نقص، نزعها ورد الأصل، وإن لم يمكنه، بأن رضي البائع بأن يرده، ويون معه شريكاً في الزيادة رده، وإن أبى أمسكه وأخذ أرش العيب. ولو تلف المبيع قبل القبض بعد حصول الزوائد، انفسخ العقد وسقط الثمن، وتلك

الزوائد لمن تكون؟ فيه وجهان: أصحهما - وبه قال ابن سريج -: يرتفع العقد من حينه، وتكون للمشتري؛ ما لو فسخ بالعيب. والثاني - يرتفع العقد من أصله، والزوائد للبائع؛ بخلاف الرد بالعيب؛ لأنه فسخ بالاختيار. ولو باع عبداً بثوب؛ فقبض الثوب، ولم يسلم العبد - جاز له بيع الثوب، وإن كان لا يجوز لمشتري العبد بيعه. فإذا باع الثوب، ثم هلك العبد قبل القبض، بطل العقد في العبد، ولا يبطل في الثوب، لخروجه عن ملكه؛ سواء كان سلمه إلى مشتريه، أو لم يسلم، ويغرمه قيمة الثوب لبائعه. وكذلك لو باع عبداً بألف؛ فقبل تسليم العبد اشترى بتلك الألف ثوباً، ثم هلك العبد قبل التسليم - انفسخ العقد فيه، ولا ينفسخ في الثوب. ولو اشترى جارية ثيباً؛ فوطئت، ثم اطلع على عيب بها - نظر: إن وطئت بعد القبض بشبهة، أو وطئها المشتري - - ردها بالعيب ولا شيء عليه. وعند أبي حنيفة وطء الثيب يمنع الرد بالعيب. وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها المهر؛ ويروي ذلك عن عمر رضي الله عنه. ووافقنا أبو حنيفة في أن البائع لو وطيء قبل القبض الجارية "مكرهة"، لا يثبت للمشتري الخيار، وما لا يثبت به الخيار للمشتري إذا وجد من البائع قبل القبض لا يمنع المشتري من الرد بالعيب، كالاستخدام. أما إذا وطئها أجنبي، أو البائع؛ وهي طائعة - فهو زنا يمنع الرد بالعيب القديم، إلا برضا البائع؛ لأن الزنا عيب حدث في يده. فإن وطئت قبل القبض؛ لا يخلو إما عن وطئها المشتري، أو البائع، أو الأجنبي. فإن وطئها المشتري لا يصير قابضاً، وله الرد بالعيب القديم، ولا مهر عليه؛ فإن تلفت الجارية قبل القبض، انفسخ العقد وهل عليه المهر للبائع إن قلنا: يرتفع العقد من حينه، لا يجب. وإن قلنا: من أصله، يجب. وإن وطئها أجنبي؛ نظر: إن كانت الجارية مُكرهة أو جاهلة، لا خيار للمشتري بسبب

هذا الوطء، وعلى الواطيء المهر للمشتري، وإن كانت طائعة فللمشتري الخيار؛ لأنه زنا حدث قبل القبض. وإن وطئها البائع، عليه الحد إن كان عالماً؛ كالأجنبي، وللمشتري الخيار عن كانت عالمة طائعة، وألا فلا خيار له، ولا مهر على البائع؛ على المذهب الصحيح الذي يقول: إن جناية البائع قبل القبض كآفة سماوية. فأما إذا كانت الجارية بكراً؛ فافتضت، نظر: إن افتُضت بعد القبض الرد للمشتري بعيب قديم يجده إلا برضا البائع؛ لأن زوال البكارة نقص حدث في يده، سواء افتضها البائع، أو المشتري، أو أجنبي. وإن افتضت قبل القبض، فهو كجناية جنيت على المبيع قبل القبض؛ فينظر: إن افتضها المشتري، استقر عليه من الثمن بقدر ما انتقص من قيمتها، ثم إن سلمت الجارية؛ حتى قبضها، فليس عليه إلا الثمن. وإن هلكت قبل القبض، انفسخ العقد وعلى المشتري بقدر نقص الافتضاض من الثمن. وهل عليه مهر مثل الثيب؛ إن افتضها بآلة الافتضاض؟ فعلى وجهين: إن قلنا: يرتفع العقد من حينه، لا يجب، وألا فيجب. وإن افتضها أجنبي؛ نظر إن افتضها بغير آلة الافتضاض، عليه ما انتقص من قيمتها، وإن افتضها بآلة الافتضاض فعليه المهر. وهل يفرد أرش الافتضاض عن المهر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، بل عليه مهر مثل بكر، ويدخل فيه أرش الافتضاض. والثاني: يفرد، فعليه أرش الافتضاض، ومهر مثل ثيب ثم المشتري إن أجاز العقد فالكل له، وإن فسخ فبقدر أرش الافتضاض للبائع، لأن الجارية عادت إليه ناقصة، وباقي المهر للمشتري؛ كالزوائد. وإن افتضها البائع، فللمشتري الخيار؛ فإن فسخ العقد، لا يجب على البائع أرش الافتضاض؛ لأنها عادت إليه ناقصة. وهل يجب عليه مثل مهر الثيب إن فعل بآلة الافتضاض؟ إن قلنا: جنايته كافة سماوية، لا يجب؛ وهو المذهب. وإن قلنا: كجناية أجنبي، يجب.

وإن أجاز العقد، فلا شيء على البائع إن قلنا: جنايته كآفة سماوية. وإن قلنا: كجناية أجنبي، يجب عليه أرش الافتضاض؛ وإن فعل بآلة الافتضاض، فالمهر. وهل يفرد أرش الافتضاض عن المهر؟ وجهان. فصل في تفريق الصفقة في الرد بالعيب إذا اتحد العاقد والمعقود عليه، لا يجوز تفريق الصفقة؛ مثل: إن اشترى عبداً أو داراً؛ فوجد به عيباً، وأراد رد بعضه - ليس له ذلك؛ لما فيه من الإضرار بالبائع بتشقيص ملكه عليه، فإن رضي به البائع، يجوز؛ على أصح الوجهين؛ لأنه حقه، وقد رضي به. وإذا قال: فسخت في نصفه، فيه وجهان: أحدهما: كان فسخاً في الكل؛ لأن الفسخ أغلب؛ بدليل أنه لو فسخ أحد المتبايعين، وأجاز الآخر - كان فسخاً. والثاني: كان مجيزاً في الكل؛ لأنه رضي بالعيب في بعضه.

أما إذا اشترى شيئين صفقة واحدة، ثم وجد بهما أو بأحدهما عيباً- فله فسخ العقد فيهما، ولم يكن له رد الصحيح دون المعيب؛ فإن أراد رد المعيب وحده، أو كانا معيبين؛ فأراد رد أحدهما - هل يجوز أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الصفقة وقعت مجتمعة؛ فلا يجوز تفريقها؛ كما لو كان المبيع واحداً، فأراد رد بعضه. والثاني: يجوز؛ لأنه لا يتبعض الملك عليه في عين واحدة. هذا إذا لم يكن منفعة أحدهما متصلة بالأخرى، فإن كانت منفعة أحدهما متصلة بالأخرى؛ مثل: زوج خف أونعل أو مصراعي باب؛ فأراد رد أحدهما، فلا يجوز قولاً واحداً؛ لأن فيه إضراراً بالبائع؛ العين الواحدة يرد بعضها. وقيل: فيه قولان أيضاً. ولا فرق بين أن يرد قبل القبض أو بعده. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: لا يجوز التفريق قبل القبض، ويجوز بعده، إلا أن تتصل منفعة أحدهما بالآخر. فلو تلفت إحدى العينين والقائمة معيبة؛ فإن جوزنا التفريق، يرد القائمة، ويسترد بحصتها من الثمن. فلو اختلفا في قيمة التالفة؛ مثل: إن كانت قيمة القائمة ألفاً، فقال البائع: قيمة التالفة ألف؛ فلا يلزمني إلا رد نصف الثمن، وقال المشتري: بل خمسمائة؛ فعليك رد ثلثي الثمن - فالقول قول من؟ فيه قولان: أصحهما: القول قول البائع مع يمينه؛ لأنه غارم؛ كالغاصب مع المال إذا اختلفا في

قيمة المغصوب، كان القول قول الغاصب؛ ولأن البائع ملك جميع الثمن بالبيع، فلا يرجع عليه إلا بما يقر به. والثاني: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الهلاك كان في يده. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، ماذا يفعل؟ فيه قولان: أحدهما: يغرم قيمة التالفة [الألف] ويردها مع القائمة، ويفسخ العقد. فعلى هذا: لو اختلفا في قيمة التالفة، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الهلاك وجد في يده، وهو الغارم. والقول الثاني - وهو الأصح-: لا فسخ له، بل يرجع بأرش العيب؛ لأنه لو حدث عنده عيب بالمبيع، لا يمكنه الرد بالعيب القديم؛ فالهلاك أكثر منه. فعلى هذا: لو اختلفا في قيمة التالفة، مثل: إن كانت قيمة القائمة ألفاً، والعيب ينقص عشر قيمتها؛ فقال البائع: قيمة التالفة ألف؛ فعليَّ رد عشر نصف الثمن، وقال المشتري: بل خمسمائة؛ فعلي رد عشر ثلثي الثمن - فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: القول قول البائع مع يمينه. فأما إذا تعدد العاقد، مثل: إن باع رجلان عبداً من رجل صفقة واحدة، ثم اطلع على عيب به - يجوز له رد نصيب أحد البائعين. وكذلك لو اشترى رجلان عبداً من رجل صفقة واحدة، ثم وجدا به عيباً - يجوز لأحد المشترين رد نصيبه. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: لا يجوز لأحد المشترين رد نصيبه. وحكاه أبو ثور عن الشافعي - رضي الله عنه -. والأول المذهب؛ لأن تعدد العاقد يوجب تعدد الصفقة في حق الرد؛ كما لو تعدد البائع، يجوز رد نصيب أحد البائعين. ولو اشترى رجلان عبداً من رجلين، فقد اشترى كل واحد ربع العبد من كل واحد من البائعين؛ فلكل واحد أن يرد الربع إلى أحدهما. ولو اشترى رجلان عبدين من رجلين، فكل واحد منهما اشترى من كل واحد ربع كل عبد؛ فإذا وجدا بهما عيباً، فلكل واحد منها رد جميع ما اشترى من أحدهما عليه. ولو أراد أحدهما رد ربع أحد العبدين على أحدهما - فعلى قولين؛ لأنه تتبعض الصفقة على واحد في عبدين.

ولو وكل رجلان رجلاً بالبيع أو بالشراء - فالاعتبار في تعدد الصفقة بالعاقد، أم بالمعقود له؟ اختلف فيه: منهم من قال - وبه قال ابن الحداد، وهو الأصح: الاعتبار بالعاقد؛ لأن أحكام العقد تتعلق به. وقال الشيخ أبو زيد والخضري: الاعتبار بالمعقود له؛ لأن الملك يقع له. وقال الشيخ أبو إسحاق: في جانب البائع الاعتبار بالمعقود له؛ لأنه لا تعلق للعقد بوكيل البائع؛ بدليل أنه لو خالف موكله لا يصح البيع؛ ولو أنكر "المالك" وكالته، كان البيع باطلاً. وفي جانب المشتري الاعتبار بالعاقد؛ لأن العقد له تعلق بوكيل المشتري؛ بدليل أنه لو خالف موكله، يقع العقد للوكيل، ولو أنكر الموكل وكالته كان العقد لازماً للمشتري. خرج من هذا أنه لو وكل رجلان رجلاً ببيع عبد لهما، أو أحد الشريكين وكل صاحبه؛ فباع الكل - فعلى الوجه الأول: لا يجوز للمشتري رد نصيب أحدهما؛ وهو أحد الموكلين، لأن العاقد واحدٌ، وعلى الوجهين الآخرين: يجوز. ولو وكل رجلان رجلاً بشراء عبد، أو وكل رجلاً بشراء عبد له ولنفسه؛ ففعل - فعلى قول ابن الحداد، وأبي إسحاق: لا يجوز لأحد الموكلين رد نصيبه. وعلى قول أبي زيد والخضري: يجوز؛ لتعدد المعقود له. وقيل في هذه الصورة: إذا كان البائع عالماً أنه يشتري لرجلين، يجوز لأحدهما رد نصيبه؛ لأن البائع قد رضي به، وإن كان جاهلاً فلا. ولو وكل رجلان رجلاً ببيع عبد، ووكل رجلان رجلاً بشرائه؛ فباع أحد "الوكيلين" من الآخر - فعلى قول ابن الحداد: حكمه حكم ما لو باع واحد من واحد لا يجوز التفريق. وعلى قول أبي زيد: حكمه حكم ما لو باع اثنان من اثنين. وعلى قول أبي إسحاق: حكمه حكم ما لو باع رجلان من واحد. وقس عليه تعدد الوكيل، دون الموكل. ولو اشترى شيئاً من رجل، ومات الرجل المشتري عن ابنين، ووجدا به عيباً؛ فأراد أحدهما الرد دون الآخر - ليس له ذلك؛ لأن الصفقة وقعت متحدة. وهل له أخذ الأرش لنصيبه؟ نظر:

إن وقع اليأس من رد صاحبه؛ بأن رضي به، له أخذ الأرش، إلا أن يرضى البائع بقبول نصفه فيرده. وإن لم يقع اليأس من رد صاحبه، فإن كان غائباً أو جاهلاً فوجهان: أصحهما: له أخذ الأرش؛ لتعذر الرد. والثاني: لا؛ لأنه ربما يوافقه صاحبه في الرد. وكل لو اشترى رجل بوكالة رجلين لهما شيئاً، وقلنا: الاعتبار بالعاقد - ليس لأحد الموكلين رد نصيبه [بالعيب]. وهل له أخذ الأرش؟ فعلى هذين الوجهين: ولو اشترى شيئاً واحداً بصفقتين: نصفه بصفقة، والنصف الآخر بصفقة أخرى من ذلك الرجل، أو من غيره- جاز له رد أحد النصفين بالعيب دون الثاني؛ لتعدد الصفقة. فصل فيما يثبت الرد من العيوب والخلف إذا اشترى شيئاً؛ فوجد به عيباً كان موجوداً يوم العقد، أو حدث قبل القبض - له الرد. والعيب: ما ينقص القيمة عند التجار؛ مثل: الجنون والجُذام والبرص والشلل، والعرج، والعمى، والعور، والصمم، وكونه مقطوع إصبع أو أنملة. أو كونه "أخفش"، أو أعمش، أو أعشى، أو أجهر أو أفقم، أو أخشم أو مُتدرد الأسنان،

أو لا يعرف طعم الأشياء، أو يجده خُنثى أو خصيا، أو له إصبع زائدة، أو سن شاغية، أو وجد الجارية مستحاضة، أو وجده سارقاً أو آبقاً أو شرباً، أو مقامراً، أو وجده زانياً، أو وجد به بخراً أو صناناً؛ عبداً كان أو جارية - فله الرد. وعند أبي حنيفة تُرد الجارية بكونها زانية أو بالبخر والصنان، ولا يرد الغلام؛ أنه يستفرش الجارية؛ فيتضرر بهذه العيوب منها. قلنا: يتضرر أيضاً بزنا الغلام؛ فإنه يجلد هره، ولا يأتمنه على أهله، ويتضرر بصنُانه وبخره عند المكالمة ويعافه. ولو زنى مرة في يد البائع، ثم تاب، وحسنت حالته -يجوز للمشتري رده به؛ بخلاف الشرب المتقادم لا يثبت الرد إذا كان تاب عنه؛ لأن سمة الزنا لا تزول عنه؛ بدليل أنه لا يحد قاذفه إذا كان حراً، وإن كان تائباً، وسمة الشرب نزول. ولو وجده يبول في الفراش؛ فإن كان صغيراً دون سبع لا رد له، وإن كان كبيراً له الرد. وعند أبي حنيفة: ترد الجارية دون الغلام. ولو وجد العبد يمكن من نفسه يرده؛ صغيراً كان أو كبيراً. وقال أبو حنيفة: لا يرد به الصغير؛ لأنه يخدع. قلنا: إذا اعتاده في الصغر يستمر في عادته في الكبر. ولو وجده مغنياً أو حجاماً، لا رد له؛ لأنه يمكنه [رده و] منعه عنه. ولو وده ولد زنا، لا رد له؛ لأن نسب المملوك لا يقصد؛ فإن الغالب منهم لا يُعرف نسبهم. ولو وجده أقلف أو مختوناً لا رد له. وقيل: يرد العبد الكبير إذا كان أقلف؛ لأنه يخاف عليه؛ فإن كان صغيراً، أو كانت أمة صغيرة كانت أو كبيرة - لايرد. فإن شرط أنه مختون؛ فبان أقلف، له الرد، ولو شرط أنه أقلف؛ فبان مختوناً، لا رد

له؛ حتى لو باع عبداً أقلف؛ فختنه البائع قبل التسليم، أو له سن شاغية؛ فقلعها، أو إصبع زائدة، فقطعها؛ فاندمل -لا خيار للمشتري. ولو قلعه المشتري بعد القبض، فاندمل، ثم وجد به عيباً قديماً - له الرد؛ كما لو اشترى عبداً؛ فحجمه أو فصده أو دابة؛ فبزغها، ثم وجد بها عيباً - له الرد. ولو اشترى جارية؛ فوجدها لا تحيض؛ نظر: إن كانت صغيرة، أو بلغت سن الآيات، فلا رد له. وإن بلغت سناً تحيض فيها أكثر النساء؛ بأن بلغت عشرين سنة، ولم تحض، أو كانت لها عادة؛ فجاوزت عادتها - له الرد. ولا تُرد لكبر السن، وترد الجارية والدابة بكونها حاملاً، ولا ترد الجارية بكونها عقيماً، ولا الغلام بكونه عنيناً. ولا يرد واحد منهما بونه أكولاً أو زهيداً، وترد الدابة بكونها زهيدة؛ لأنه نقص في الدواب، ولا ترد بونها أكولة، وترد بونها جموحاً لا تركب إلا بمشقة. ولو اشترى داراً؛ فوجدها مثقلة بالخراج أو منزل الجنود - لا رد له إن كانت الدور التي بقربها مثلها؛ فإن كانت هذه أكثر خراجاً أو أكثر نزولاً، له الرد؛ فإن لم يكن على ما بقربها خراج، فله الرد، وإن قل خراجها. ولو وجد الجارية مزوجة، أو وجد العبد ذا زوجة - له الرد؛ لأن التزويج ينقص القيمة؛ لأن منفعة بُضع الأمة تكون مشغولة بالزوج، ومكاسب العبد مصروفة إلى نفقة الزوجة ومهرها. ولو علم العبد ذا زوج، ولكن لم يعلم أن عليه مهراً، أو لم يعلم قدره- فله الرد؛ كما لو اشتراه عالماً بالعيب، ولم يعلم مقداره له الرد. ولو لم يعلم الجارية مزوجة؛ حتى وطئها الزوج بعد القبض - نظر: إن كانت ثيباً، فله الرد. ووافق فيه أبو حنيفة، وإن كانت بكراً؛ فافتضها، فنقص الافتضاض من ضمان من يكون فيه وجهان.

أحدهما - من ضمان البائع؛ لأن سببه؛ وهو النكاح قد وجد في يده. والثاني -: وهو الأصح عندي: يكون من ضمان المشتري؛ لحدوثه في يده. فإن قلنا: من ضمان البائع يجوز للمشتري الرد بسبب التزويج، فإن تعذر الرد؛ لحدوث عيب، أو هلاك - يرجع بما بين قيمتها بكراً غير مزوجة، ومزوجة مفتضة من الثمن. وإن قلنا: يكون من ضمان المشتري، فلا رد له بسبب التزويج؛ لنقص الافتضاض، بل يرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمتها بكراً غير مزوجة، وبكراً مزوجة من الثمن. وإن كان عالماً بالتزويج أو علم ورضي به، ثم وجد بها عيباً بعد ما افتضها الزوج في يد المشتري؛ فهل له الرد بهذا العيب؟ إن قلنا: الافتضاض من ضمان البائع، له الرد بالعيب القديم، وإلا فلا رد له إلا برضا البائع، فإن لم يرض، رجع بالأرش، وهو ما بين قيمتها مزوجة ثيباً سليمة، ومزوجة ثيباً معيبة. ولو اشترى جارية ثيباً من أبيه أو ابنه، فوطئها، ثم علم بها عيباً - له الرد؛ ون حرمت بوطئه على البائع؛ لأن التحريم على البائع ليس بنقص. وكذلك لو اشترى جارية رضيعة؛ فأرضعتها أم البائع أو ابنته، ثم علم بها عيباً - له الرد؛ "كما" لو أرضعت امرأة رجل أمته بلبنه، لا شيء عليها، وإن حرمت الجارية على المولى. وكذل لو اشترى جارية؛ فوجدها أخته من الرضاع، أو من النسب أو موطوءة ابنه -لا رد له؛ لأنها إن لم تحل له تحل لغيره. ولو وجدها أمه، أو اشترى عبداً؛ فوجده أباه، فقد عتق عليه، ولا رد له. ولو وجد الجارية مجوسية، أو وثنية، أو مرتدة - له الرد؛ لأنها محرمة على كافة الناس. ولو وجدها كتابية، أو وجد العبد كافراً أصلياً أي كفر كان - نظر: إن كان قريباً من بلاد الكفر لا تقل الرغبات فيه، بسبب كفره -لا رد فيه. وإن كان في بلاد الإسلام؛ بحيث تقل الرغبات في الكافر- له الرد. أما إذا وجد العبد مرتداً، فله الرد. ولو اشترى عبداً؛ بشرط أنه مسلم، فبان كافراً - له الرد. ولو شرط أنه كافر؛ فبان

مسلماً، قيل: له الرد؛ لأن الكافر يرغب في شرائه المسلمون والكفار، والمسلم لا يرغب فيه إلا المسلمون، وقلة الرغبات تنقص القمية؛ كمن اشترى عبداً؛ بشرط أنه خصي، فبان فحلاً، له الرد. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -، وهو اختيار المزني: أنه لا رد له. ومن أصحابنا من قال: إن كان قريباً من بلاد الكفر، له الرد، وإلا فلا. ولو وجد الجارية معتدة، له الرد، ولو وجدها محرمة أو وجد العبد محرماً، له الرد إن أحرم بإذن المولى. وإن أحرم دون إذنه، فلا رد له؛ لأن له تحليله. ولو اشترى جارية، فوجدها بكراً أو ثيباً، لا رد له؛ لأنه ليس بعيب؛ فإن وجدها رتقاء أو قرناء له الرد؛ لأنه عيب. ولو شرط أنها بكرٌ، فكانت ثيباً، له الرد. ولو شرط أنها ثيب؛ فبانت بكراً، لا رد له؛ على أصح الوجهين؛ لأنه زيادة منقبة فيها، كما لو شرط في العبد أنه غير كاتب؛ فبان كاتباً لا رد له. وقيل: له الرد بالبكارة لأنه قد يضعف عن مباشرة البكر؛ فيرغب في الثيب. والأول المذهب؛ لأنه لا اعتبار برغبته، إنما الاعتبار بزيادة القيمة، وبالبكارة تزداد القيمة، وتكثر الرغبات فيها. ولو اشترى جارية مزوجة، على أنها بكر؛ فكانت ثيباً- هل له الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا رد له؛ لأنه لا غرض للمشتري فيها، وأن منفعة بضعها مستحقة للزوج. والثاني- وهو الأصح: له الرد؛ لأن رقبة بضعها مملوكة له؛ بدليل أنها لو وطئت يكون المهر له. ولو وجد الجارية جعدة أو سبطة الشعر، لا رد له؛ لأنه ليس بنقص.

ولو شرط أنها جعدة؛ فإذا هي سبطة، له الرد. ولو شرط أنها سبطة؛ فبانت جعدة، فعلى وجهين: أصحهما: لا رد له؛ لأن الجعودة في الشعر زيادة. وإن كان شعرها أحمر، لا رد له. وإن كان أبيض؛ نظر: إن كان لكبر السن، لا رد له، وإن كان أبيض قبل أوانه فله الرد؛ لأنه علة. ولو سود البائع شعرها أو جعده؛ فظنه المشتري كذل، فظهر عليه بعده - له الرد؛ للتدليس. وكذلك لو حمر وجهها؛ وظنها حسناء، له الرد؛ بخلاف ما لو ألبسه ثوب الكتبة، أو الخبازين؛ فظنه المشتري كاتباً أو خبازاً فلم يكن - لا رد له؛ على ظاهر المذهب؛ لأن الإنسان قد يلبس ثوب غيره عارية؛ فلم يكن فهي تدليس، بل هو اغترار من جهة المشتري، واللون لا يستعار، فكان تغييره تغريراً من البائع. فرع: ولو شرط في العبد أنه كاتب أو خباز؛ فلم يكن له الرد؛ فإن كان يحسن منه ما يقع عليه الاسم، لا رد له، ولا تشترط النهاية فيه. ولو شرط في العبد، أنه فحل؛ فبان خصياً - له الرد، وكذلك لو شرط؛ أنه خصي؛ فبان فحلاً؛ لأن الأغراض تختلف بهما. وكل موضع أثبتنا له حق الرد بالعيب أوب الخلف في الشرط - فهو على الفور؛ حتى لو أخر الفسخ بعد العلم مع الإمكان لبطل حقه من الرد. ثم إن كان البائع حاضراً أو وكيله، رد عليه بنفسه، أو بوكيله، ولايحتاج إلى حضور مجلس الحاكم. وإن كان البائع غائباً، رده بمحضر الحاكم؛ حتى يضعه الحاكم عند عدل، فإن علمه في الليل؛ فأخر إلى طلوع النهار، لا يبطل حقه في الرد. وهل يشترط الإشهاد إن أمكنه؟ فيه وجهان: الأصح: لا يشترط، ولا أن يقول بلسانه: فسخت. ولو استعمل المبيع بعد العلم بالعيب، أو قال للعبد: اسقني - بطل حقه. ولو ركب الدابة؛ لسقي أو للرد، بطل حقه، إلا أن تكون جموحاً لانتقاد للسقي. وقال ابن سريج: لا يبطل، وبه قال أبو حنيفة. ولو علفها، لا يبطل حقه، وكذل لو حلبها: لأن اللبن له.

قال صاحب "التلخيص": لو اشترى دابة؛ فضرب عليها سرجاً أو إكافاً أو أعذرها أو أنعلها، ثم اطلع على عيب بها؛ فإن ترك السرج والإكاف عليها، بطل حقه من الرد، وإن ترك العذار لا يبطل؛ لأن يترك السرج والإكاف مستعمل، وبترك العذار غير مستعمل؛ لأنه يحتاج غليه لقودها. ولو نزع النعل يبطل حقه؛ لأن نزعه يعيب الدابة بالنقبة التي تبقى، فإن كانت النقبة موجودة عند البائع، فأنعلها المشتري - فبالنزع لا يبطلحقه من الرد؛ فحيث قلنا: لا ينزع النعل؛ فلو ردها مع النعل يجبر البائع على قبولها. ثم ترك النعل إليه تمليك، أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا: تمليك؛ فإذا نزعه البائع، لايجب رده إلى المشتري، وإلا فيجب. فحيث أثبتنا له الرد بالعيب؛ فقال البائع لا ترد؛ حتى أغرم لك أرش العيب، فله الرد، فلو صالحه عن الرد على شيء أو على حط بعض الثمن - لا يصح؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه خيار فسخ؛ فلا تجوز المصالحة عنه على مال؛ خيار المكان والشرط. وقال ابن سريج؛ يجوز؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه حق يئول إلى المال؛ بدليل أنه إذا تعر الرد يأخذ الأرش، فهو كحق القصاص تجوز المصالحة عنه على مال. فإن قلنا: لا تجوز المصالحة على مال، يجب على المشتري رد ما أخذ؛ وهل يبطل حقه من الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه أخر - الرد مع الإمكان. والثاني - وهو الأصح-:لا يبطل؛ لأنه ترك بمقابلة عوض؛ فإذا لم يسلم له العوض، كان على حقه من الرد؛ كمن باع عبداً بثوب، فإذا لم يسلم له الثوب، لا يبطل حقه من العبد. وإذا زال العيب قبل العلم، أو بعد العلم قبل الرد- سقط حق الرد؛ لأن الضرر قد زال. [أما إذا صالح عن العيب على مال، وجوزنا؛ فزال العيب - لا يجب رد المال؛ لأنه أخذ على جهة المعاوضة]. ولو اشترى شاة سمينة؛ فهزلت قبل القبض، ثم سمنت - هل للمشتري الفسخ؟ فيه

وجهان؛ بناء على ما لو غصب شاة سمينة؛ فهزلت، ثم سمنت، ثم ردها - هل يجب ضمان السمن الأول، أم ينجبر بالثاني فيه وجهان: إن قلنا: ينجبر بالثاني، فلا فسخ له، وإلا فله الفسخ. وإذا رد البيع بالعيب، يسترد الثمن إن كان قائماً، فإن كان معيناً أخذ عينه، وإن كان في الذمة؛ فنقده هل يتعين حقه فيه، أم للبائع أن يعطي مثله؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يعطي مثله؛ لأن حق البائع لم يكن متعيناً فيه حالة العقد؛ فحق المشتري لا يتعين فيه عند الفسخ. والثاني: يتعين فيه حقه؛ لأنه تعين بالقبض؛ فصار كالمتعين في العقد. وإن كان الثمن تالفاً، أخذ مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان متقوماً أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض؛ لأن قيمته إن كانت يوم العقد أقل؛ فزادت، فتلك الزيادة لمشتريه. وإن كانت أكثر؛ فانتقصت، فذلك النقصان حصل في ضمنا بائعه ولو أراد أن يستبدل منه شيئاً يجوز؛ كالقرض. وإن كان الثمن قد خرج عن ملكه ببيع أو هبة، أو كان شقصاً مشفوعاً أخذه الشفيع - فهو كالتالف يأخذ قيمته. وإن كان قد خرج "عن ملكه"، ثم عاد إليه، أو كان عبد؛ فكاتبه، ثم عجز - له أن يأخذ عينه؛ على أصح الوجهين؛ لأنه وجد عين ماله. وقيل: يأخذ بدله، ولا يتعين حقه فيه؛ لأن البائع ملكه من غيره. وإن كان الثمن ناقصاً؛ نظر: إن كان نقصان جزء بأن كان قد اشترى داراً بثوب وعبد، وتلف الثوب عند البائع؛ فإذا رد المشتري الدار، يسترد العبد، وقيمة الثوب. وإن كان نقصان وصف من شلل أو عور ونحوه، فلا يغرمه الأرش؛ على الأصح. ولو كان زائداً بزيادة متصلة، أخذها، ولا شيء عليه. فصل فيما يثبت الرجوع بالأرش إذا وجد المشتري بالمبيع عيباً بعد ما هلك في يده؛ بموت أو قتل، أو كان طعاماً أكله أو عبداً أعتقه أو جارية قد استولدها، أو داراً أوقفها -يرجع بالأرش؛ وهو أن ينر كم انتقص من قيمته بسبب العيب؛ فيرجع بتلك النسبة من الثمن.

مثل: إن انتقص عُشر قيمته، فيرجع بعشر الثمن؛ سواء كان الثمن أكثر من القيمة أو أقل؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن. وكيف تعتبر قيمته؟ قيل: تعتبر قيمته بيوم عقد البيع؛ لأن الثمن قابل المبيع يومئذ والأصح: أنه تعتبر بأقل القيمتين من يوم البيع إلى يوم القبض. وقال أبو حنيفة: إن كان المبيع طعاماً؛ فأكله، أو عبداً؛ فقتل: أنه لا يرجع بالأرش. أما إذا كان المبيع قائماً، لنه تعلق به حق الغير، لا يخلو: إما إن خرج عن ملكه، أو لم يخرج: فإن خرج عن ملكه؛ نظر: إن خرج بعوض؛ بأن باعه، أو وهبه؛ بشرط الثواب - فلا يرجع بالأرش؛ لمعنيين: أحدهما: لأنه استدرك الظلامة؛ بأن باعه كما اشتراه. والثاني: لأنه ربما يعود إليه؛ فيرده. وفائدة المعنيين: تتبين فيما لو وهبه مطلقاً، فهل يرجع بالأرش؟ فيه وجهان: إن قلنا بالمعنى الأول، يرجع؛ لأنه لم يستدرك الظُلامة. وإن قلنا بالثاني: فلا؛ لأنه ربما يعود إليه فيرد؛ حتى قال بعض أصحابنا: لو كان وهبه من ابنه، فلا يرجع بالأرش؛ لأنه يمكنه أن يرجع في الهبة، ثم يرد؛ كما لو لم يخرج عن ملكه. والصحيح: أنه خارج عن ملكه. فلو باعه [المشتري]، ثم المشتري الثاني رد عليه بالعيب - فله رده على الأول. وإن كان علم بالعيب في يد الثاني؛ حتى ولو كان باعه بشرط الخيار، وعلم بالعب في زمان الخيار، فلم يفسخ حتى فسخ المشتري، أو رده بالعيب - له أن يرد على الأول، ويترك الفسخ لا يبطل حقه من الرد. ولو أراد المشتري الثاني أن يرد على البائع الأول - لم يكن له ذلك؛ لأنه لم يتلق الملك منه؛ ولأن البائع الثاني ربما يرضى به؛ فلا يرد. وإن تلف المبيع في يد المشتري الثاني، أو كان عبداً؛ فأعتقه، ثم علم بالعيب - له أن يرجع بالأرش على البائع الثاني، ثم البائع الثاني يرجع على الأول.

فإذا اختلف الثمنان جنساً أو قدراً، فكل واحد يرجع بما نقصه العيب من ثمنه؛ حتى لو كان ثمن الأول عشرة، وثمن الثاني عشرون، والعيب يُنقص عُشر قيمته - فالمشتري الثاني يرجع بدرهمين على بائعه، ثم بائعه يرجع على الأول بدرهم. وهل للبائع الثاني أن يرجع على الأول بالأرش قبل أن يغرم للمشتري الثاني؟ فيه وجهان؛ بناء على المعنيين: إن قلنا: عدم الرجوع بالأرش؛ لاستدراك الظلامة، فلا يرجع على الأول ما لم يغرم للمشتري الثاني الأرش، حتى لو أبرأه المشتري الثاني على الأرش، لارجوع للبائع الثاني على الأول بشيء. وإن قلنا: المعنى فيه: أنه ربما يعود إليه؛ فيرد هاهنا وقع اليأس عن العود إليه؛ فيرجع بالأرش، وإن أبرأه المشتري الثاني. ولو حدث بالمبيع عيب في يد المشتري الثاني، ثم ظهر على عيب قديم - فنه يعرض الرأي على البائع الثاني؛ فإن قبله مع العيب الحادث أخذه، ثم يعرض الرأي على البائع الأول؛ فإن قبله وألا أخذ أرش العيب القديم منه. فلو أن البائع الثاني لم يقبله مع العيب الحادث، بل غرم الأرش- هل يرجع بالأرش على البائع الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنه يقول: كان عليك أن تقبله مع الحادث، ثم تعرض الرأي عليَّ لعلِّى أقبله. والثاني: يرع؛ كما لو تلف في يد المشتري الثاني، ورجع بالأرش على البائع الثاني، يرجع هو على الأول. أما إذا باع المشتري المبيع، ثم عاد إليه لا بطريق الرد؛ بأن اتهبه أو ورثه، أو قبل الوصية؛ أو كان باعه بعوض، ثم وجد بالعوض عيباً فرده، واسترد المبيع - هل له رده بالعيب على الأول؟ فيه وجهان أحدهما: لا؛ لأنه استدرك الظلامة بالبيع. والثاني: يرد؛ كما لو رد عليه بالعيب يرده. وإن عاد إليه بطريق الشراء، ثم وجد به عيباً قديماً كان في يد البائع الأول - فعلى من يرد؟ فيه أوجه تنبني على المعنيين: إن قلنا: استدرا الظلامة، فهاهنا يرد على الثاني؛ لأنه استدرك ظلامة البيع الأول. وإن قلنا: بالمعنى الآخر، فيه وجهان:

أحدهما: يرد على الأول؛ لأن المبيع قد عاد إليه. والثاني: يرد على أيهما شاء؛ لأن كل واحد من العقدين مثبت للرد؛ فعلى هذا عن رد على الثاني، ثم هو رد عليه - له أن يرد على الأول. فأما إذا خرج المبيع عن ملكه بغير عوض؛ بأن وهبه، ثم عاد إليه -نظر: إن عاد إليه بغير عوض: فإن قلنا: ليس له أخذ الأرش؛ لأنه ربما يعود إليه، فهاهنا يرد. وإن جوزنا له أخذ الأرش، فوجهان: أحدهما: لا رد له، وحقه في الأرش. والثاني: له الرد؛ لأن أخذ الأرش كان لتعذر الرد، وقد زال. وإن عاد إليه بعوض؛ بأن اشتراه ثانياً: فإن قلنا: إذا عاد إليه بغير عوض، لا رد له؛ فهاهنا يرد على الثاني. وإن قلنا: إذا عاد إليه بغير عوض، له الرد على الأول؛ فهاهنا من يرد؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: على الأول. الثاني: يرد على الثاني. والثالث: يتخير بينهما؛ فعلى أيهما شاء رد. ولو باع عبداً من رجل، ثم اشتراه منه، ثم اطلع على عيب حدث في يد مشتريه - له أن يرد عليه. وإن اطلع على عيب كان في يده؛ نظر: إن كان مشتريه قد علم به، له أن يرد عليه؛ لأنه قد رضي به؛ فلا يمكنه أن يرده عليه. وإن لم يعلم؛ نظر: إن اشتراه بغير جنس ما باعه، أو بأكثر؛ له رده؛ لأن مشتريه إن رد إليه، يحصل له فائدة؛ وهو عود الثمن الأكثر إليه. وإن اشتراه بمثل الذي باعه، فهل له الرد؟ فيه وجهان أحدهما: لا؛ لأن مشتريه يرده عليه؛ فلا فائدة له في رده. والثاني - وهو الأصح-: له الرد؛ لأن مشتريه ربما يرضى به؛ فلا يرده. قلت: ولو تلف في يده، ثم ظهر على عيب قديم به؛ هل يرجع بالأرش على مشتريه؟

فكل موضع أثبتنا له رد المبيع، لو كان قائماً، فله أن يرجع بالأرش، وإلا فلا. ولو اشترى شيئاً؛ فباع نصفه، ثم وجد به عيباً، لم يكن له رد النصف الآخر؛ لما فيه من التشقيص على البائع، ولا له أخذ الأرش للنصف الذي باعه؛ لأنه استدرك ظُلامته. وهل له أخذ الأرش للنصف الثاني؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى؛ لتعذر الرد. والثاني: لا؛ لأنه ربما يعود إليه النصف الآخر؛ فيرد الكل إليه. والأول أصح؛ كما لو حدث عنده عيبٌ؛ وود به عيباً قديماً، ولم يرض البائع بأخذه - فللمشتري أن يأخذ الأرش، ولا ينتظر زوال العيب الحادث. ولو باع نصفه من بائعه، ثم وجد به عيباً؛ هل هـ رد النصف الثاني؟ قيل: له ذلك؛ لأنه ليس فيه تبعيض الملك عليه. والصحيح من المذهب: أن ليس له ذلك؛ لأن فيه تبعيض الصفقة. وهل له أخذ الأرش للنصف الثاني؟ فعلى وجهين؛ كما لو باع نصفه من غير بائعه. ولو اشترى عبداً؛ فباع نصفه، ثم مشتري النصف عتق ما اشترى، ثم وجد به عيباً قديماً - نظر: إن كان موسراً عتق كله، وعليه قيمة نصيب البائع الثاني، ثم البائع الثاني يرجع بأرش النصف الذي لم يبعه على بائعه؛ لأنه لم يتخلص عن ظلامته بالبيع، بل يقوم على المعتق ناقصاً؛ كما لو تلف عليه المبيع يرجع على بائعه بالأرش؛ وإن أخذ قيمته من المتلف، ثم المعتق إن رجع عليه بأرش نصيبه، يرجع هو على بائعه، وإن لم يرجع، هل له أن يرجع على بائعه؟ فوجهان، كما لو أتلف المبيع في يد المشتري الثاني. وإن كان المعتق معسراً، يوقف العتق على نصيبه، ويرجع البائع بأرش نصيبه. وهل يرجع بأرش النصف الذي باعه. فإن رجع عليه مشتريه رجع، وإلا فوجهان. أما إذا تعلق بالمبيع حق الغير، ولم يخرج عن ملكه، ثم وجد به عيباً؛ مثل: إن كاتبه، أو رهنه وسلمه، لم يكن له رده لحق الكتابة والرهن. وهل له أخذ الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لتعذر الرد. والثاني: لا يأخذ؛ لأنه قد يخرج عن الكتابة والرهن؛ فيمكنه رده؛ فعلى هذا: إذا عجز المُكاتب، أو افتك الرهن رده، وإذا عتق بأداء النجوم أخذ الأرش؛ لأنه عتق على

حكم ملكه، وإن أخذ عليه عوضاً؛ كما لو أعتقه؛ بخلاف ما لو باعه. وإن أجر المبيع، ثم وجد به عيباً؛ إن قلنا: بيع المُكراة لا يجوز، فهو كما لو رهنه. وإن قلنا: يجوز، يعرض الرأي على البائع؛ فإن رضي به مسلوب المنفعة مدة الإجارة، رد عليه، ويترك في يد المستأجر، حتى تمضي مدته، وإن لم يرض به فهل للمشتري أن يأخذ الأرش، أو يصبر؛ حتى تمضي مدة الإجارة؛ فيرد؟ فيه وجهان. ولو غصب المبيع أو أبق، لايمكنه الرد؛ لأن الرد مع الحائل لا يصح. وهل له أخذ الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لتعذر الرد. والثاني: لا؛ لأنه لم يقع اليأس من العود إليه، بل يصبر؛ فإن عاد إليه رده، وإن هلك أخذ الأرش. فصل في العيب الحادث مانع من الرد إذا اشترى شيئاً؛ فحدث به عيب عند المشتري، ثم اطلع على عيب قديم به، سواء حدث الحادث بآفة سماوية، أو بجنايته، أو جناية غيره - يُعرض الرأي على البائع؛ فإن رضي به مع العيب الحادث رده إن شاء، ون لم يرد فلا أرش له، وإن لم يرض به البائع رجع عليه بأرش العيب القديم. وعرض الرأي على البائع يكون على الفور؛ فن أخر مع الإمكان، بطل حقه من الرد والأرش. وإن لم يرض به البائع، أخذ الأرش لا يكون على الفور، بل متى شاء أخذ. وإن قال البائع: رده مع أرش العيب الحادث، فللمشتري إمساكه، وتغريمه أرش العيب القديم. ولو قال المشتري: أرده مع أرش العيب الحادث، فللبائع ألا يرضى، ويغرم أرش العيب القديم. وقال مالك، وابن أبي ليلى: للمشتري رده مع أرش العيب الحادث. وإن كان العيب الحادث مما يزول غالباً من: حُمى، أو صداع، أو رمدٍ - فهل له أن ينتظر زواله؛ حتى يرده سليماً، أو يعرض الرأي على البائع؟ فيه قولان:

أحدهما: له ذلك؛ لأن الغالب أنه يزول. والثاني: لا، بل يُعرض الرأي على البائع على الفور؛ فإن أخر، بطل حقه. فلو زال العيب الحادث قبل العلم بالعيب القديم، أو بعد العلم به قبل عن قضى له بالأرش - له الرد. وإن زال بعد ما قضى له بالأرش؛ أخذه أو لم يأخذه - هل له الفسخ، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما: بلى؛ لأن المانع من الفسخ هو العيب الحادث، وقد زال. والثاني- وهو الأصح عندي-: لا فسخ له؛ لأن قبول الأرش قد تأكد بالحكم؛ فسقط حق الفسخ. وقيل: إن كان قبل أخذ الأرش له الفسخ، وإن كان بعد أخذه فلا فسخ له. ولو زال العيب القديم فلا أرش له، وإن كان قد أخذه فعليه رده. وقيل: في وجوب رده وجهان؛ بناء على ما لو نبتت سن المجني عليه بعد أخذ الدية، هل عليه رد الدية؟ فيه قولان. ولو اشترى عبداً؛ فوجد بعينه بياضاً، وحدث عنده بياض آخر، ثم زال احد البياضين، واختلفا: فقال البائع: زال القديم؛ فلا شيء لك، وقال المشتري: بل زال الحادث؛ فلي الفسخ - تحالفا، وأخذ المشتري أرش أحد البياضين. فإن اختلف البياضان، أخذ أرش أقلهما؛ لأنه اليقين، والبائع يستفيد بيمينه رد الفسخ، والمشتري يستفيد بيمينه أخذ الأرش. ولو اشترى عبداً محترفاً؛ فنسي الحرفة، أو نسي القُرآن، أو زوجه المشتري، أو كانت جارية فزوجها، ثم ود به عيباً قديماً - فهو كعيب حدث في يده؛ يعرض الرأي على البائع؛ فإن رضي بهن وإلا أخذ أرش العيب القديم. ولو اشترى عبداً؛ فأقر على نفسه بدين معاملة، أو أقر بدين إتلاف، وكذبه المولى، ثم وجد به عيباً قديماً - ل الرد؛ لأنه لا ضرر على المولى فيه؛ لأنه يتعلق بذمته لا برقبته. وإن أقر "المشتري" عليه بدين الإتلاف، لا رد له بغير رضا البائع؛ فإن لم يرض أخذ الأرش. فإن عفا المُقر له بعد أخذ المشتري الأرش، فهل له رد الأرش، وفسخ البيع؟ فيه وجهان. وكذلك كل موضع حكمنا له بالأرش؛ لخروجه عن ملكه بغير عوضٍ؛ أو رهن، أو

كتابة، أو إباقٍ؛ فأخذ الأرش، ثم زال المانع - هل له رد الأرش، وفسخ البيع؟ فيه وجهان. الأصح عندي: لا فسخ له. وإن كان المشتري دبر العبد، أو علق عتقه بصفة، ثم وجد به عيباً - له الرد؛ لأنه لا يمنع البيع. فصل في اختلاف المتبايعين في العيب إذا اختلف المتبايعان في العيب؛ نظر: إن اختلفا في أصل العيب، فقال المشتري به عيب خفي، وأنكر البائع - فالقول قول البائع، وعلى المشتري إثباته بالبينة؛ لأن الأصل سلامته. وكذلك لو اختلفا في صفة به؛ هل هي عيب أم لا؟ فإن قال واحد من أهل العلم به: إنه عيب رده، وألا فالقول قول البائع؛ إنه ليس بعيب.

ولو اتفقا على العيب، واختلفا: فقال المشتري: كان موجوداً يوم العقد، وقال البائع بل حدث عند المشتري، وكل واحد منهما محتمل - فالقول قول البائع؛ لأن المشتري يروم فسخ العقد، والأصل مُضية على السلامة؛ فيحلف البائع على البت لقد باعه بريئاً من هذا العيب، وإذا حلف لا رد للمشتري، ولا أرش له، وإن نكل حلف المشتري ورده. وقال المزني - رحمه الله -: وجب أن يحلف لقد أقبضته بريئاً من العيب؛ لاحتمال حدوثه بعد البيع قبل القبضن ويكون ذلك من ضمان البائع. قلنا: يمينه على وفق دعوى المدعي؛ فإن ادعى أنه باعه معيباً؛ يحلف على أنه باعه بريئاً، وإن ادعى أنه أقبضه معيباً، يحلف لقد أقبضه بريئاً. ولو ادعى أنه باعه معيباً، أو قال: أقبضه معيباً، فأجاب البائع: إنه لا يلزمني تسليم

شيء إليك، ولا تستحق بهذا العيب رداً، وحلف عليه - جاز، ولا يكلف أن يحلف أنه لم يبع، أو لم يقبض معيباً؛ لاحتمال أنه باعه معيباً، ولكن المشتري قد رضي به؛ فتكون يمينه جائزة؛ على أنه لا يلزمني تسليم شيء إليك. فإذا حلف البائع أنه باعه، أو أقبضه بريئاً من العيب، ثم اختلف المتبايعان في الثمن - تحالفا وانفسخ البيع بينهما. فلو قال البائع بعد الفسخ للمشتري: إني قد حلفت أني بعته بريئاً من العيب، فاغرم لي أرش العيب - ليس له ذلك؛ لأن كان في الدعوى الأولى مدعى عليه؛ فقبلنا قوله، والآن صار مدعياً فلا يقبل قوله، ولكن له تحليف المشتري على أنه لا يلزمه تسليم شيء إليه. ولو اتفقا على أن العيب كان موجوداً يوم البيع، أو حدث قبل القبض؛ فقال البائع قد علمته ورضيت به، أو قال: أخرت الفسخ مع الإمكان، وأنكر المشتري - فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرضا، وبقاء حق الرد. فصل في بيع ما مأكوله في جوفه وفيه عيب إذا اشترى شيئاً مأكوله في جوفه؛ مثل: الرمان، والبطيخ، والرانج، والجوز، واللوز، والبيض، فكسره؛ فوجده فاسداً - نظر: إن لم يكن لفاسده المكسور قيمة؛ كالبيضة يجدها مذرة بعد ما كسرها، أو شواها - يسترد جميع الثمن، وكان البيع باطلاً؛ لوروده على ما لا قيمة له. وإن كان لفاسده المكسور - قيمة؛ كالرانج، وبيض النعامة - يمكن الانتفاع بقشره بعد الكسر؛ وكالبطيخ يخرج حامضاً أو مُراً، أو يجد بعضه مُدوداً- نظر: إن كسره كسراً لا يمكن معرفة فساد باطنه إلا به، بأن كسر الجوز، وقور البطيخ تقويراً صغيراً؛ فوجده حامضاً أو شقه فوده مُدوداً؛ فإنه لا يمن معرفته إلا بالشق، أو ثقب موضع العلامة من الرانج - فهل له الرد؟ فيه قولان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني: لا رد له إلا برضا البائع؛ كما لو اشترى ثوباً فقطعه، ثم وجد به عيباً، بل يرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمته صحيحاً سليم اللب وفاسد اللب من الثمن. والقول الثاني: له الرد؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة العيب إلا به؛ كما لو اشترى ثوباً؛ فنشره أو مُصراة؛ فحلبها، ثم علم بالعيب - له الرد. فإن قلنا: له الرد، فهل يغرم أرش الكسر؟ فيه قولان.

أحدهما: بلى؛ كما في المُصراة إذا ردها يرد معها صاعاً من التمر. والثاني - وهو الأصح-: لا يغرم؛ لأنه إذا لم يتوصل إلى معرفة العيب إلا بالكسر؛ فكأن البائع سلطه عليه. وليس كالمصراة؛ لأن هناك يغرم الصاع بمقابلة ما بقي عنده من اللبن. وإن قلنا: يغرم الأرش، يجب عليه ما بين قيمته صحيحاً فاسد اللب، ومكسوراً فاسد اللب، ويغرم من القيمة لا من الثمن؛ لأن العقد يرتفع بالرد. أما إذا كسره كسراً يمكن معرفة العيب بدونه؛ بأن رض بيض النعامة، أو قور البطيخ تقويراً كبيراً، وأمكن معرفة حموضته بدونه، أو كسر الرانج، وأمكن معرفة فساد باطنه بفتح موضع العلامة، أو كسر البيضة، وأمكن معرفة فسادها بالقلقلة - فلا رد له، ويرجع بالأرض. وكذلك لو اشترى ثوباً مطوياً؛ فنشره، ثم وجد به عيباً، وانتقص قيمته بالنشر، ولم يكن معرفة العيب بدون النر - فهل له الرد؟ فعلى قولين. ولو اشترى رُماناً مطلقاً؛ فوجده حامضاً أو مُرا - لا رد له؛ لأنه ليس بعيب؛ بخلاف البطيخ يجده حامضاً؛ لأن حموضة البطيخ عيب. فإن شرط في الرمان أنه حلو؛ فبان حامضاً، نظر: إن عرف حموضته بغرز إبرة فيه، له الرد. وإن شقه فلا رد له، بل يرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمته حلواً وحامضاً من الثمن. فإن عرف حموضته بغرز إبرة فيه، ثم بعد ذل شقه، بطل حقه من الرد والأرش جميعاً. فصل في بيع العبد المرتد بيع العبد المرتد جائز؛ لأن ردته لا تسلب ماليته، وليس فيه إلا خوف الهلاك؛ كالمريض المدنف يجوز بيعه. ثم إن قُتل قبل القبض، انفسخ البيع، وإن قبضه المشتري: فإن كان عالماً بردته، أو علم ورضي به لا شيء له، وإن كان جاهلاً بردته فله الرد. فلو لم يعلم حتى قتل. قال ابن سُريج: يرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمته مستحق القتل، وغير مستحق القتل من الثمن؛ كما في سائر العيوب، والقتل يكون من ضمان المشتري.

ومن أصحابنا من قال: يرجع بجميع الثمن؛ وبه قال ابن الحداد؛ وهو الأصح؛ لأنه قتل حصل بسبب كان عند البائع، فيكون من ضمانه. وكذلك إذا اشترى عبداً، وبه جرح سار، أو مرض مخوف فمات - نظر: إن مات قبل القبض فينفسخ البيع، وإن مات بعده فمن ضمان من يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: من ضمان البائع، فيرجع بجميع الثمن. والثاني: من ضمان المشتري؛ فيرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمته صحيحاً ومجروحاً جرحاً سارياً. أما إذا كان به مرض غير مخوف [مثل: صُداع] أو حمى لم يعلمه المشتري، فازداد في يده ومات- فيرجع بالأرش؛ لأنه مات بزيادة مرض، لا بسبب كان في يد البائع. ولو باع عبداً قتل في المحاربة نظر: إن تاب قبل القدرة فهو كبيع العبد الجاني، فإن أخذ قبل التوبة فهو كبيع - العبد المرتد؛ على الصحيح من المذهب لأن قتله حتم لا يقبل العفو. وقيل: كبيع العبد الجاني. ولو باع عبداً قد جنى جناية موجبة للمال أو أتلف مالاً لإنسان؛ فتعلق الضمان برقبته - نظر: إن باعه بعد اختيار الفداء جاز. وإن باعه قبل ذلك، نظر: إن كان البائع معسراً لا يصح البيع؛ لأنه تعلق برقبته حق المجني عليه، ففي بيعه إبطال حقه. وإن كان موسراً فيه قولان: أصحهما: لا يصح؛ لأنه تعلق برقبته حق المجني عليه؛ كبيع المرهون لا يصح، بل هذا أولى؛ لأن حق الجناية آكد من حق الرهن؛ بدليل أن العبد المرهون إذا جنى يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن؛ فيباع في الجناية. والثاني - وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني -: يصح البيع، ويصير السيد مختاراً للفداء؛ بخلاف المرهون؛ لأن هناك منع المالك نفسه من التصرف بعقده، وفي الجناية بخلافه.

وإن كانت الجناية موجبة للقود؛ فاختلفوا في جواز بيعه. منهم من قال: فيه قولان؛ كما لو كانت الجناية موجبة للمال. ومنهم من قال: يصح قولاً واحداً؛ لأنه ليس فيه إلا استحقاق القتل؛ كبيع المرتد. ومنهم من قال: هذا يبني على أن موجب العمد ماذا؟ وفيه قولان: إن قلنا: موجبة القود، فيصح بيعه؛ كبيع المرتد. وإن قلنا: موجبه أحد الأمرين: إما القود أو الدية، فعلى قولين؛ كالجناية الموجبة للمال؛ فحيث وزنا البيع فقتل في يد المشتري، فكالمرتد يقتل. أما إذا أعتق العبد الجاني؛ نظر: إن كان موسراً ينفذ إعتاقه، وعلى السيد الفداء. وإن كان معسراً فلا ينفذ؛ بخلاف إعتاق المرهون؛ حيث اختلف القول فيه؛ موسراً كان أو معسراً؛ لأن في الجناية إن كان موسراً ينتقل حق المجني عليه من رقبة العبد إلى ذمة المولى؛ وهو يقدر على نقل حق المجني عليه إلى ذمته باختيار الفداء، وفي المرهون لا يقدر، وإن كان معسراً فلا ينفذ؛ لأن حق المجني عليه متعلق برقبة العبد لا غير، فلو نفذنا يقدر، وإن كان معسراً فلا ينفذ؛ لأن حق المجني عليه متعلق برقبة العبد لا غير، فلو نفذنا إعتاقه مع الإعسار بطل حق المجني عليه. وفي الرهن حق المرتهن في ذمة الراهن؛ وهو بعد نفوذ العتق ثابت في ذمته. ولو استولد الجارية فإن كان معسراً لا ينفذ استيلاده وإن كان موسراً ينفذ؛ كالعتق، وعلى السيد الفداء. ولو باع عبداً وجب عليه قطع السرقة، يصح قولاً واحداً؛ وهو كعيب به، ثم إن كان المشتري عالماً، لا خيار له إذا قطعت يده. وكذلك إذا باعه وقد وجب عليه قطع القصاص، وجوزنا البيع، فإن كان جاهلاً ولم يعلم؛ حتى قبضه وقطعت يده في يد المشتري - فالقطع من ضمان من يكون؟ فيه وجهان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة -: من ضمان البائع؛ لأن السبب وجد في يده؛ فعلى هذا له الرد. والثاني- وبه قال ابن سريج، وهو قول أبي يوسف، ومحمد -: يكون من ضمان المشتري، فلا رد له، بليرجع بما بين قيمته سارقاً وغير سارق.

وإن كان عالماً بكونه سارقاً؛ فقطعت يده، لا شيء له. فلو وجد به عيباً قديماً بعد القطع، فهل له الرد أم لا؟ إن جعلنا القطع من ضمان البائع فله الرد، ون جعلناه من ضمان المشتري فلا رد له، بل يرجع بالأرش؛ وهو ما بين قيمته سارقاً غير مقطوع معيباً، وغير معيب. فصل هل يملك العبد أم لا؟ روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع". العبد إذا احتطب أو احتش، يكون ملكاً للسيد؛ فلو ملكه غير المولى شيئاً، يكون ملكاً للمولى. فأما إذا ملكه المولى شيئاً فقبل، فهل يملك فيه قولان: أحدهما - وهو قول الجديد، وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة -: لا يملك؛ لأنه مملوك كالبهيمة؛ ولأنه لا يملك بالإرث؛ فلا يملك بالتمليك. وقال في القديم - وبه قال مال: يملك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من باع عبداً وله مالٌ ... أضاف المال إليه دل على أنه يملك. ومن قال بالأول: أجاب بأن ملك الإضافة ليست إضافة ملك؛ كما يقال: سرج الدابة، وغنم الراعي؛ يدل عليه أنه قال: "فما له للبائع" إضافة إلى البائع بعد ما أضافه إلى العبد؛ فثبت أن إضافته إليه مجاز، وغلى مالكه حقيقة؛ حيث حكم ببقائه له بعد بيعه. فإن قلنا: يملك فللمولى أن يرجع متى شاء. وعلى القولين جميعاً: لو باعه الولي بعد ما ملكه مالاً، أو أعتقه لا يتبعه المال، بل يبقى للمولى. ولو باعه مع المال؛ فإن قلنا: لا يملك العبد، فيتشرط أن يكون المال الذي معه معلوماً، ويكون عيناً، فإن كان ديناً، أو مجهولاً، أو كان دراهم، وباعه مع العبد بدراهم - لا يصح البيع. وإن قلنا: يملك بالتمليك، فباعه مع المال، يصح؛ سواء كان المال مجهولاً أو ديناً أو ربوياً وباعه بجنسه؛ لأنه تبع له؛ كحقوق الدار تتبع الدار في البيع مع كونها مجهولة، وكذلك الحمل في البطن؛ غير أن حقوق الدار والحمل تدخل في البيع من غير الذكر، ومال

العبد لا يدخل في البيع إلا بالذكر؛ لأن حق الرجوع ثابت للمولى فيه، فإذا باعه ولم يذكر المال كان راجعاً. ولو باع عبداً؛ فثياب بدنه هل تدخل في البيع؟ فيه وجهان: أصحهما: لا تدخل؛ كسرج الدابة، والعذار على رأسها. والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: يدخل؛ لأن العادة لم تجر بنزع الثياب من العبد. والنعل في رجل الدابة تدخل في البيع. وأما بُرة الناقة إن كانت من خشب أو حديد تدخل، وإن كانت من فضة أو ذهب فلا تدخل. فصل في حكم التدليس في البيع رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من غشنا، فليس منا". التدليس في البيع حرام، ويأثم به الرجل. وهو أن يكون بالمبيع عيب؛ فيكتم أو يكذب في الثمن؛ غير أنه لا يمنع صحة البيع بدليل خبر المصراة. ثم التدليس قسمان: قسم: يثبت الخيار للمشتري؛ كالتصرية، وتجعيد شعر الجارية، وتحمير وجهها. وقسم: لا يثبت؛ كما لو ألبسه ثوب الكتبة والخبازين، ومن هذا النوع إذا قال: طلب مني بذا، وكان كاذباً، أو كذب في رأس المال - فلا خيار للمشتري، إلا في المرابحة.

وكذلك لو باع بغبن فاحش على المشتري، لا خيار للمشتري؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحبان بن منقذ، وكان يغبن في البيع: "إذا ابتعت فقل: لا خلابة" وجعل له الخيار ثلاثاً؛ فلم يثبت الخيار بالغبن، إنما أثبته بالشرط. وقال مالك: إن كان الغبن أكثر من الثلث، فله الخيار. فصل في بيع ما يترتب عليه معصية يكره بيع العصير، والعنب، والرطب ممن يتخذ الخمر والنبيذ، وكذلك بيع السلاح والسيف ممن يقطع الطريق، إلا أن العقد يصح؛ لأنه لا يتيقن منه ذلك. ولا يجوز بيع السيف والسلاح من أهل الحرب، ولا الوصية لهم به؛ فإن فعل، فلا ينعقد؛ لأن الغالب أنه يقاتل بها المسلمين. وهل يجوز بيع السلاح من أهل الذمة؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنهم ي ذمة المسلمين؛ فلا يقاتلونهم ويجوز من أهل البغي، ويجوز بيع الحديد من أهل الحرب؛ لأنه لا يتعين للسلاح. ويكره مبايعة من أكثر ماله ربا أو حرام؛ خوفاً من أن يقع في الحرام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ الراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه".

إلا أن العقد صحيح؛ لإمكان الحلال فيه؛ فإن تيقن كونه من الربا أو من الحرام، أو مختلطاً بشيء منه - فلا يصح البيع. باب بيع البراءة والاستبراء في البيع روي أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -"باع غلاماً بثمانمائة درهم بالبراءة". فقال الذي ابتاعه: "بالعبد داء لم تسمه لي". فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه؛ فقضى عثمان على عبد الله بن عمر؛ أن يحلف: لقد باعه بالبراءةن وما به داء يعلمه. فأبى عبد الله بن

عمر؛ أن يحلف، وارتجع العبد، وباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم". إذا باع شيئاً، بشرط البراءة من العيوب، نظر: إن أعلمه بالعيب؛ فقال: على أني بريء من عيب الإباق أو السرقة، أو على أن به برص أو جراحة، وأراه مكانها - صح البيع،

وحصلت البراءة عما سماه دون غيره من العيوب. أما إذا لم يعلم، بل قال: بعتك بشرط أني بريء من كل عيب به، أو بشرط ألا يرد بالعيب - ففيه أقوال: أقيسها: ألا يبرأ عن عيب ما؛ علمه البائع أو لم يعلمه؛ لأن الرد بالعيب ثبت للمشتري بعد العلم؛ فلا يصح إسقاطه قبله؛ كما لو أسقط حق الشفعة قبل البيع. والثاني: يبرأ عن [كل عيب]؛ علمه البائع فكتمه أو لم يعلمه؛ لأنه إسقاط حق لا يتضمن تمليكاً؛ فيصح مع الجهالة؛ كالطلاق. والثالث: وهو الأصح -: يفصل بين الحيوان وغيره، ففي غير الحيوان لا يبرأ عن عيب ما؛ علم أو لم يعلم؛ لأنه تتيسر معرفته، وفي الحيوان يبرأ عن العيوب الباطنة التي لا يعلمها؛ لأنه قل ما يوقف عليها، ولا يبرأ عن عيب هو ظاهر؛ علم أو لم يعلم، ولا عن عيب بباطنه وهو عالم به؛ لأثر عثمان - رضي الله عنه-؛ ولأن الحيوان يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه، وقل ما يبرا من عيب يظهر أو يخفي؛ فلو لم تصحح البراءة عما بباطنه وهو لا يعلمن أدى ذلك إلى ألا يلزم العقد على الحيوان. ولو باع عبداً على أن به برصاً ولم يره موضعه، فهو كشرط البراءة مطلقاً. فحيث قلنا: يبرأ، إنما يبرأ عن عيب كان موجوداً يوم العقد، فأما ما حدث بعد البيع قبل القبض لا يبرأ عنه، وله أن يرده به. ولو شرط البراءة عن عيب يحدث بعد البيع قبل القبض، لا يصح قولاً واحداً. وعند أبي حنيفة: تصح البراءة عن العيوب الموجودة، وعما يحدث بعد البيع قبل القبض. وعند مالك - رحمه الله-: لايبرأ عن شيء، إلا في موضعين. أحدهما: أن يبيع الحيوان من النخاس. والثاني: أن يبيع القاضي مال ميت في ديونه، يجوز بشرط البراءة؛ لأن النحاس يشتري الحيوان للذبح؛ فإذا لم يذبح، يطلب طريقاً إلى الرد، والقاضي يخاف من رده بعد تفرقه ثمنه في ديونه؛ فجاز بشرط البراءة فيه.

فحيث قلنا: لا يبرأ عن عيب ما، هل يصح البيع؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ كما لو باع غائباً على أن لا خيار له إذا رآه. والثاني: يصح؛ لأن الظاهر سلامة المبيع، فهذا شرط يوافق ظاهر الحال؛ كما لو باع على أن لا عيب به، ولم يشرط البراءة - يصح، ثم إذا وجد به عيباً له الرد. وإن قلنا: يبرأ عما لم يعلم من العيوب، ولم يبرأ عما علمه - فاختلفا: فقال المشتري: علمت فكتمت، وقال البائع: لم أعلم - فالقول قول البائع مع يمينه؛ فيحلف بالله بعته وما علمت به عيباً كتمته؛ بدليل حديث عثمان - رضي الله عنه-. ولو اختلفا: فقال البائع: بعتك بشرط البراءة، وقال المشتري لم تشترط البراءة. إن قلنا: شرط البراءة يبطل البيع، فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأنه يدعي عدم البيع. وإن قلنا: لا يبطل، تحالفا. وقيل: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشرط. وكذلك لو قال المشتري: اشتريت بشرط أنه كاتب، وأنكر البائع- تحالفا. وقيل: القول قول البائع مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشرط.

فصل في الاستبراء من اشترى جارية لا يحل له وطؤها إلا بعد الاستبراء، ولكن تسلم الجارية إليه؛ سواء كانت حسناء أو قبيحة. وقال مالك: إن كانت قبيحة تسلم إليه، وإن كانت حسناء توضع على يد امرأة ثقة؛ حتى تمضي مدة الاستبراء؛ لأنه لا يؤمن من أن يطأها المشتري قبل الاستبراء؛ وهذا يشبه ضرب الأجل في الأعيان، والأعيان لا تقبل الآجال المعلومة المشروطة؛ فكيف تثبته هاهنا بلا شرط مع الهالة؛ لأن مدة الاستبراء مجهولة. ولو اشترى عيناً غائبة؛ على أن يسلم في موضع كذا، أو بلد كذا - يجوز؛ كما في السلم، وإن كانت حاضرة لم يجز أن يعين مكاناً للتسليم؛ لأن العين لا تقبل الأجل، وتأخير تسليمه في مكان آخر نوع أجل. ولو اشترى جارية مطلقاً، لم يكن له مطالبة البائع بكفيل بالعهدة؛ لأنه ضيع حقه بترك الشرط؛ سواء أراد البائع سفراً، أو لم يرد. وقال مالك: إن أراد البائع سفراً، له مطالبته بالكفيل، وبالإنفاق. ولو اشترى داراً، له مطالبة البائع بالكفيل من غير شرط. ولو اشترى جارية؛ فأتت بولد، فالولد ملك للمشتري، وإن أتت به في الحال؛ فلو ادعى البائع أني كنت وطئتها قبل البيع، وهذا الولد مني - نظر: إن صدقه المشتري، أو قامت بينة أنه أقر قبل البيع بوطئها، وباعها قبل الاستبراء - فالبيع باطل، والجارية أم ولد للبائع. وإن كذبه المشتري؛ ولا بينة للبائع، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ يحلف بالله: لا يعلم أن الولد منه؛ سواء أتت به لأقل من ستة اشهر من وقت الشراء، أو لكثر؛ فإذا حلف، "فهما رقيقان له". وهل يثبت نسب الولد من البائع؟ فيه قولان؛ ما لو أقر بنسب عبد الغير. الأصح: يثبت؛ لأنه لا ضرر على المشتري منه. وقال أبو حنيفة: إن أتيت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فالقول قول البائع، ويُرد البيع. ووافقنا فيما لو ادعى البائع؛ أني كنت أعتقتها، أو استولدتها قبل البيع، أنه لا يقبل. ولو أقر بوطئها عند البيع، فإن كان قد استبرأها، ثم باعها، فإن أتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء - فالبيع باطل، والجارية أم ولده.

وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، لم يلحقه؛ لأنه لو أتت به في ملكه قبل البيع لم يلحقه، وإن لم يستبرئها البائع لحق البائع، وكانت أم ولد له والبيع باطل. ولو باع الإمام جارية ضائعة أو لقطة، ثم حضر المالك؛ فادعى أنه كان قد أعتقها، أو استولدها هل يقبل؟ فيه قولان: أحدهما: لايقبل؛ كما لو باعه بنفسه، أو باعه وكيله. والثاني: يقبل؛ فيحكم ببطلان البيع وعتق العبد، ويرد الثمن إلى المشتري؛ لأنه ليس في دعواه تكذيب نفسه؛ بخلاف ما لو باع بنفسه؛ فإن دعواه تكذبه. وإذا باعه وكيله، ففعل وكيله منسوب إليه [فلم يقبل قوله]. والله أعلم. باب: بيع المرابحة بيع المرابحة جائز؛ وهو: عقد ينبني فيه ثمن البيع الثاني على ثمن البيع الأول على جهة الأمانة مع زيادة تنضم إليه.

فنقول: اشتريت هذا بكذا، وبعتك بما اشتريت وربح كذا، أو على العشرة درهماً أو درهمين. ولو ضم إلى رأس ماله زيادة، ثم ضم إليه ربحاً، يجوز؛ مثل: أن يقول: اشتريت بمائة، وبعتك بمائتين وربح كذا. ولو لم يسم الثمن الأول. فقال بعت بما اشتريت وربح كذا؛ فإن كان ثمن المبيع الأول معلوماً عندهما، جاز. وإن لم يعلم أحدهما، لم يجز؛ كما في غير المرابحة.

وكذلك لو اشترى بكف من دراهم؛ لا يعرف وزنها، لا يصح بيعه مرابحة ما لم يعرفها. ثم بيان رأس المال في المرابحة يكون بلفظين: أحدهما: أن يقول: اشتريته بكذا، أو في معناه: ثمنه كذا. الثاني: أن يقول قام علي بكذا، أو يقول: هو علي بكذا، أو قال: رأس مالي فيه كذا -فهو كقوله: اشتريته بكذا؛ لأن رأس المال عبارة عما ملكها به دون ما أنفق عليه. ثم كل ما أنفق عليه من أجرة الدلال، والكيال، والحمال، والحارس، وكراء البيت -يجوز أن يضم إليه في لف: قام عليِّ، أو هو عَليَّ، ولا يجوز في لفظ الشراء، ورأس مالي؛ مثل: إن اشتراه بمائة، وأنفق عليه خمسين، ويقول: قام عليَّ بمائة وخمسين، فبعتك به وربح كذا - يجوز. وفي لف الشراء: لا يجوز الضم، بل يقول اشتريت بمائة، وأنفقت عليه خمسين؛ فبعتك بجميعه، وربح كذا، وإن كان قد عمل شيئاً من هذه الأعمال بنفسه أو غلامه أو تلميذه، أو أمسك في بيته - لا يجوز أن يضم البيع، وأجرة عمله، وكراء بيته في واحد من اللفظين؛ لأن عمله لا يتقوم في حقه، إلا أن يقول: اشتريتهن أو قام علي بمائة، وأجرة عملي فيه كذا؛ فبعتك بها وربح كذا-[صح]. وكذلك لو اشترى ثوباً بعشرة؛ فقصره بدرهم، أو رفاه، أو داراً وطينها - ضم إلى العشرة الأجرة في لفظ قام دون لفظ الشراء. فإن عمل بنفسه، لا يضم في واحد منهما. وإن صبغه، ضم إليه ثمن الصبغ في لفظ: قام عليَّ دون لفظ الشراء، بل يفرد. وإنما يضم إليه مؤنة غرمها؛ للاسترباح. فأما ما غرم، لاستيقاء ملكه؛ مثل: نفقة العبد، وكسوته، وعلف الدابة - فلا يضم إليه في شيء من الألفاظ. وكان القاضي الإمام يقول: إن علف الدابة فوق العادة؛ للتسمين؛

فسمنت - يجوز أن يضم إليه في لفظ: قام عليَّ. وأما أجرة الطبيب: إن اشتراه مريضاً ضم إليه في لفظ: قام عليَّ، وكذلك أجرة الختان. د وإن اشتراه صحيحاً، فمرض، فلا يضم في شيء من الألفاظ؛ لأنه لاستبقاء ملكه؛ كالنفقة. وكذلك لو جنى العبد جناية؛ ففداه، أو غصب؛ فأعطى شيئاً، واسترده - لا يضم إليه. ولو اشترى شيئاً بعشرة؛ فخرج عن ملكه، ثم اشتراه بخمسة؛ فرأس ماله خمسة - لا يجوز أن يضم إليه ثمن الشراء الأول. ولو اشتراه بعشرة؛ فباعه بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة؛ فرأس ماله عشرة، ويخبر بعشرة، ولا يلزمه أني حط عنه ربح البيع الأول؛ وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: رأس ماله خمسة؛ حتى قال: لو اشتراه بعشرة، وباع بعشرين، ثم اشتراه بعشرة- فلا يجوز بيعه مرابحة. فنقول: عقود البائع لاتجمع في المرابحة؛ كما في الخسران؛ فإنه لو اشترى شيئاً بعشرين وباعه بعشرة، ثم اشتراه بعشرين فيخبر عن رأس ماله بعشرين، ولا يجوز أن يخبر بثلاثين. ولو حط بعض الثمن؛ فباعه بلفظ؛ قام عليّ، يخبره بما بقي؛ سواء حط في المجلس، أو بعده؛ حتى لو ط الكل لا يجوز بيعه مرابحة بلفظ: قام عليَّ. وفي لف الشراء يخبر بما اشترى به؛ سواء حط الكل أو بعض، أو حط بعد زمان الخيار؛ ولا يجب أن يخبره بالحط.

وإن حط في مجلس العقد، فرأس ماله ما بقي؛ إن قلنا: يلتحق بالعقد. وكذل إن زيد في الثمن في زمان الخيار؛ وقلنا يلتحق بأصل العقد؛ فرأس ماله ما استقر عليه العقد بعد الحط والزيادة. ولو تعيب المبيع في يد المشتري؛ فباعه مرابحة - يجب أن يخبره بحدوث العيب عنده؛ حتى لو لم يخبره يثبت للمشتري الخيار، مع علمه بالعيب؛ لأجل الجناية. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: لا يجب أن يخبره. فنقيس على ما لو تعيب بجناية جان، يجب أن يخبره. ولو اشتراه معيباً، ورضي بالعيب، يجب أن يخبره، ولو تعيب المبيع في يده، ثم وجد به عيباً قديماً؛ فلم يمكنه الرد، وأخذ الأرش؛ مثل: إن اشتراه بعشرة، واسترد درهماً للأرش - يخبرعن رأس ماله بتسعة في لفظ: قام علي. وفي لفظ الشراء يقول: اشتريته بعشرة، ويخبره بالعيب واسترداد الأرش. ولو اشترى عبداً بمائة؛ فجنى عليه، وأخذ الأرش - ففي لف الشراء يقول: اشتريته بمائة، ويخبره بالجناية. وفي لف: قام علي، يحط الأرش من الثمن؛ مثل: إن اشترى عبداً بمائة؛ فقطعت إحدى يديه، وانتقص من قيمته ثلاثون، وأخذ الأرش خمسين - ففي بيع المرابحة يقول: قام عليَّ بسبعين؛ لأنه لم ينتقص من قيمته إلا ثلاثون، ولا يجب أن يخبره بالعشرين الزائدة؛ لأن وجوبهما ليس للنقص، بل لشرف كونه آدمياً. ولا يجب أن يخبره بحدوث الناية في يده بعد أن أعلمه بقطع اليد. ولو انتقصت من قميته بالجناية سبعون، وأخذ الأرش خمسين يقول قام علي بخمسين، وانتقصت بالجناية من قميته عشرون. ولا يجب أن يخبره في بيع المرابحة بما أخذ من كسب العبد، وغلة الدار، وما حصل من ولد الجارية والدابة، وثمن الشجرة، ولبن الشاة، والصوف الذي جزه، ومهر الجارية الثيب. وإن كانت حاملاً يوم الشراء؛ فولدت، أو في ضرعها لبن؛ فحلبه، أو على ظهرها صوف، فجز، وعلى النخلة طلع؛ فقطع - يحطه من الثمن.

وإذا اشترى شيئاً، فباعه نصفه مرابحة، يجوز، ويسمى نصف الثمن. ولو اشترى شيئين صفقة واحدة، وأراد بيع أحدهما مرابحة - يجوز، إذا علما فيه قيمة السلعتين يوم الشراء؛ لأن الثمن يتوزع عليهما باعتبار ذلك اليوم؛ فما يخص أحدهما يكون رأس ماله. وعند أبي حنيفة: إذا اشترى شيئين لا يجوز بيع أحدهما مرابحة، إلا في المكيل والموزون. ولو اشترى شيئاً بعرض؛ فباعه مرابحة بلف الشراء يقول: اشتريته بعرض قيمته كذا؛ وإن قال بلفظ: قام عليَّ، سمي قيمة العرض. قال القاضي الإمام - رحمه الله-: يجب أن يخبره أنه اشتراه بالعرض؛ لأن العادة التشديد إذا بيع بالعرض. وإذا اشترى شيئاً إلى أجل [يجوز بيعه مرابحة حالاً، ولا يجب أن يخبره بالأجل، لأن سبب الأجل] يزاد في الثمن. وإذا اشترى من ابنه الطفل، يجب أن يخبر به؛ لأنه إذا اشترى من ابنه يزيد في ثمنه؛ نظراً له، وإن اشترى من ماكتبه أو زوجته، لا يجب أن يخبر به. ولو اشترى من ابنه البالغ أو أبيه، لا يجب أن يخبر؛ على أصح الوجهين. وإن اشتراه بدين له على آخر، نظر: إن كان على مليٍّ وفيّ، لا يجب أن يخبر به، وإن كان على مماطل مشوف، يجب أن يخبر به؛ لأنه قد يشتريه من بأغلى؛ ليتخلص من التقاضي. ولو ملك شيئاً بغير عوض، فلا يمكن بيعه مرابحة؛ فإن اتهب بشرط الثواب، يجوز. ولو أجر داره بثوب، ثم أراد بيع الثوب مرابحة بلفظ الشراء - لا يجوز. ويجوز بلفظ: قام عليَّ، ويسمى أجر مثل الدار. وكذللو خالع زوجته على مال، أو نكحت امرأة على مال، وأراد أن يبيع ذلك المال مرابحة بلفظ الشراء - لا يجوز، ويجوز بلفظ: قام علي، ويسمى مهر المثل. وكذلك لو صالح عن دم العمد على مال، فلا يجوز بيع ذلك المال مرابحة بلفظ الشراء، ويجوز بلفظ: قام علي، ويسمى الدابة. ويجوز البيع بالمواضعة؛ كما يجوز بالمرابحة؛ بأن يقول اشتريته بكذا.

وبعتك بوضيعه الواحد من كل عشرة، أو بعتك محاطة بخسران درهم من كل عشرة ثم كم يحط؟ فيه وجهان: أحدهما - وبه قال محمد بن الحسن-: يحط من كل عشرة درهم. فإن كان قد اشترى بعشرة، فيكون بيعاً بتسعة، فإن في المرابحة يزاد على العشرة واحد، وفي الوضيعة ينقص عن العشرة واحد. والثاني - وهو الأصح، وبه قال أبو يوسف - يحط من كل عشرة جزءاً من [درهم] أحد عشر جزءاً؛ فيون بيعاً بتسعة دراهم، وجزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم؛ لأن الربح في المرابحة [جزء] من أحد عشر، فالحط في الوضيعة يكون جزءاً من أحد عشر. فصل في الخيانة إذا ظهرت الخيانة في بيع المرابحة؛ بأن قال: اشتريته بمائة درهم، فبعتك مرابحة على العشرة درهماً، ثم بان أنه اشتراه بتسعين - فالبيع صحيح؛ سواء غلط أوخان؛ وسواء ثبتت خيانته بإقراره، أو ببينة قامت عليها. هل يحط الخيانة [والغلط]. فيه قولان: أصحهما - وهو المذهب-: يحط؛ لأنه تمليك باعتبار الثمن الأول، فإذا أخبر بزيادة يحط؛ كالشفعة، فيون هذا بيعاً بتسعة وتسعين؛ وبه قال أبو يوسف. والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: لا يحط؛ لأن البائع لم يرض بدون ما سمي. فإن قلنا: لا يحط، فيثبت للمشتري الخيار؛ لأجل التدليس إن كان جاهلاً به. فلو حط البائع الخيانة، هل يسقط خياره؟ فيه وجهان. وإن قلنا: يحط، فلا خيار للمشتري؛ لأنه كان راضياً بمائة وعشرة، فبالأقل أولى، ولا خيار للبائع؛ لأن التدليس كان من قبله.

وقيل: إن كان غالطاً، فله الخيار؛ لأنه لم يقصد التدليس. فإن كان خائناً، فلا خيار له. أما إذا وقع الغلط بالنقصان؛ بأن قال: اشتريته بمائة؛ فبعتك بربح كذا، ثم قال: غلطتن إنما اشتريته بمائة وعشرة- نظر: إن صدقه المشتري، فالعقد باطل؛ على الصحيح من المذهب؛ لتعذر إمضائه. وقيل: صحيح؛ بما سماه، وله خيار. والأول المذهب. وإن ذهب المشتري، فلا يقبل قول البائع؛ لأنه سبق منه إقرار بخلافه، ولو أقام عليه بينة لا تسمع؛ لأن إقراره يون بينته وهل له تحليف المشتري؟ نظر: إن أول قوله الأول بما يحتمل؛ بأن قال: أخبرني وكيلي؛ أنه اشتراه بمائة، فبان أنه كان غالطاً، أو ورد منه كتاب؛ فبان مزوراً - له تحليفه. [وإذا أقام على مثله بينة تسمع فإن لم تؤول، هل له تحليفه؟] فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا تسمعبينته. والثاني: له تحليفه، رجاء أن يقر خوفاً من اليمين الفاجرة. فعلى هذا: إذا نكل، هل تُبرأ اليمين إلى البائع، أم لا إن قلنا: النكول ورد لليمين بمنزلة البينة، لا ترد؛ لأن بينته غير مسموعة. وإن قلنا: بمنزلة إقرار المدعي عليه، ترد. فإن قلنا: له تحليفه، يحلف على نفي العلم؛ أنه لا يعلم أن رأس ماله مائة وعشرة؛ لأنه يمين على نفي فعل الغير. فإذا نكل حلف البائع على القطع؛ أنه اشتراه بمائة وعشرة، فإذا حلف - قلت: يرد البيع.

فصل في التولية والتشريك التولية: أن يشتري شيئاً، ثم يقول لغيره: وليت هذا العقد - يجوز، ويشترط قبول المولى في المجلس. فيقول: توليت أو قبلت؛ فبملكه، ويختص بالثمن الذي اشتراه: جنساً وقدراً ووصفاً. والتشريك: بأن يقول لغيره: أشركتك فيه؛ فيقول: قبلت، ويجب أن يبين قدر ما يشركه فيه: نصف أو ثلث. ويلزمه من الثمن بقدر ما يقابله، وكل واحد منهما بمنزلة بيع جديد، ولكن جاز بلف التولية والتشريك؛ كالصلح، والسلم، بيع، ويجوز بغير لفظ البيع. وذكر الثمن الأول ليس بشرط، إذا كان معلوماً عندهما. ولا يصح واحد منهما قبل قبض المبيع. ولا في السلم قبل القبض. وقال مالك: يجوز قبل القبض؛ كالإقالة.

قلنا: الإقالة فسخ، والتولية بيع جديد، ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض، ويتحدد بهما الشفعة. ولو كذب في ثمن البيع، الأول، لا تصح التولية ولا التشريك. ولو اشترى شيئاً بعرض، أو أجر داره على عرض، لا تصح فيه التولية، ولا التشريك؛ لأنه يختص بجنس الثمن الأول، ولا مثل للعرض. ولو حصل شيء من الزوائد المنفصلة بعد الشراء قبل التولية والتشريك، تبقى للمولى. ولو حط البائع بعض الثمن؛ نظر: إن حط بعد التولية، ينحط عن المولى، وعن الشريك بقدر شركته. وإن حط الل، ينحط عنهما؛ لأنه وإن كان بيعاً جديداً، فهو في الحقيقة نقل العقد من الأول إلى الآخر؛ فيصير كأن الأول كان نائباً عن الآخر. وإن حط قبل التلوية، أوالتشريك؛ نظر: إن حط الكل، ينحط عن المشتري، ولا تصح التوليةن ولا التشري بعده. وإن حط بعضه، فلا يجوز، إلا بقدر ما بقي. البيع بالرقم لا يجوز؛ وهو أن يبيع بالثمن المكتوبن وهما لا يعرفانه. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: يجوز، إذا علم في المجلس. والله أعلم. باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل إذا باع شيئاً إلى أجل وسلم، ثم اشتراه قبل حلول الأجل- يجوز؛ سواء اشتراه بمثل ما باع، أو بأقل، أو بأكثر، كما يجز بعد حلول الأجل. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا اشتراه قبل حلول الأجل بأقل مما باع- لا يجوز؛ وإن اشتراه بمثله أو بأكثر جاز. [وقال]: وإن اشتراه بعرض له، يجوز؛ سواء انت قيمته أقل من الثمن الذي باع به، أو أكثر، فنقيس على هذا الموضع. وقالوا: لو اشترى حالاً أو بأجل أقل يجوز؛ ولو اشترى بأطول لا يجوز.

فصل في الإقالة رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أقال أخاه المسلم صفقة كرهها، أقال الله عثرته يوم القيامة". الإقالة بعد البيع جائزة؛ وهو: أن يقول المتبايعان: تقايلنا أو تفاسخنا العقد. أو يقول أحدهما: أقلت؛ فيقول الآخر: قبلت، أو اجزت. ولابد من رضاهما، ولا يختص بحالة الندم.

وإذا ندم أحدهما على ما اشترى، يستحب للآخر أن يقيله، ولا يب. ولا يشترط تسمية الثمن في الإقالة. ولو تقايلا بأكثر من الثمن، أو أقل، أو بجنس آخر، أو وصف آخر - فالإقالة فاسدة، والبيع بحاله.

وعند أبي حنيفة: تصح الإقالة وتلغو الزيادة والنقصان. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: لو استقاله على أن ينره بالثمن، لم يجز؛ لأن الأجل زيادة. ويجوز للورثة الإقالة بعد موت المتبايعين. والإقالة بيع أم فسخ؟

فيه قولان: قال في القديم؛ وبه قال مال - رحمه الله-: بيع؛ لأنه تمليك بالتراضي. وقال في الجديد - وهو المذهب-: فسخ؛ بدليل اختصاصها بالثمن الأول. ولو كان بيعاً جديداً، لجاز بغير الثمن الأول، ومع غير البائع. وهل يجوز قبل القبض فقد قيل: إن قلنا: بيع لا يجوز. وإن قلنا: فسخ، يجوز. وقيل: يجوز قولاً واحداً قبل القبض، ويكون فسخاً. وكذلك تجوز الإقالة في السلم بعد القبض وقبله. وقيل: إن قلنا: الإقالة بيع، لا يجوز قبل قبض المسلم فيه. والمذهب: جوازه وكان فسخا، ولو تقايلا في بعض المسلم فيه يجوز. وعند مالك -رحمه الله عليه-: لا يجوز. وعند أبي حنيفة: الإقالة قبل القبض فسخ، وبعد القبض بيع إن كان بتراضيهما، وإن كان بأمر الحاكم ففسخ. ومن فروع الإقالة: أنه يتجدد بها الشفعة إن قلنا: بيع. وإن قلنا: فسخ، فلا يتجدد. ولو تلف المبيع في يد المشتري بعد الإقالة، أو تعيب - إن قلنا: فسخ، يغرم المشتري قيمته إذا تلف أقل ما انت من يوم البيع إلى يوم القبض، وإن تعيب يغرم أرش العيب. وإن قلنا: بيع؛ فغن تلف فهو تلف المبيع في يد البائع، تنفسخ الإقالة والبيع بحاله. وإن تعيب، فالبائع بالخيار: إن شاء أجاز الإقالةن ولا شيء له، وإن شاء فسخ، وأخذ الثمن. ولو استعمله المشتري بعد الإقالة: إن قلنا فسخ، عليه أجر المثل للبائع؛ وإن قلنا: بيع، فهو كالبائع يستعمل المبيع لا شيء عليه. وهل تجوز الإقالة بعد تلف المبيع؟ إن قلنا: بيع، لا تجوز. وإن قلنا فسخ، فوجهان: أحدهما: لا تجوز؛ كالفسخ بالعيب لا يجوز بعد التلف.

والثاني - وهو الأصح-: تجوز؛ كالفسخ بالتحالف. ولو اطلع البائع على عيب به حدث في يدالمشتري قبل الإقالة. إن قلنا: الإقالة فسخ، لم يكن له رد الإقالة. وإن قلنا: بيع، له رد الإقالة إن كان جاهلاً. ولو تقايلا في الصرف. إن قلنا: فسخ لا يشترط التقابض في مجلس الإقالة. وإن قلنا: بيع، يشترط. ويجوز للمشتري حبس المبيع؛ لاسترداد الثمن على القولين جميعاً. والله أعلم. باب تفريق الصفقة اختلف قول الشافعي - رضي الله عنه - في تفريق الصفقة؛ على ما سيأتي في شرح بعضها في مواضعها من الكتاب، وسنذكرها هنا جملة تدلك على مجموعها؛ فنقول: تفريق الصفقة قسمان: تفريق في الابتداء، وتفريق في الانتهاء. أما التفريق في الابتداء: وهو أن يجمع في العقد بين شيئين متفرقي الحكم؛ وذلك قسمان: أحدهما: أن يون كل واحد منهما قابلاً للعقد على الانفراد. والثاني: أن يكون أحدهما مما لا يقبل العقد على الانفراد. فإن كان كل واحد يقبل العقد على الانفراد؛ نظر: إن كان يمتنع إدخال أحدهما على الآخر؛ مثل؛ إن يجمع بين أختين في النكاح، أو بين خمسة نسوة - فالعقد في الكل باطل، لأن الجمع بينهن حرام، وليست بعضهن أولى بتصحيح العقد عليهن من البعض. وغن كان لا يمتنع إدخال أحدهما على الآخر؛ نظر: إن كان حكمهما متفقاً، مثل: إن جمع بين عبد وثوب، أوضيعة متاع - يصح العقد، ويوزع الثمن عليهما باعتبار القيمة. وإن كان حكمهما مختلفاً؛ مثل: إن جمع بين الشراء والكراء.

فيقول بعت عبدي هذا، وأجرتك داري سنة بكذا - ففيه قولان: أصحهما: يصح العقد فيهما؛ لأن العقد ائز عليهما على التعاقب. فلا يمتنع الجمع بينهما؛ كما لو باع شقصاً من دار وثوباً صفقة واحدة، يجوز. وإن كان يختلف حمكهما؛ من حيث ن الشقص يثبت فيه الشفعة دون الثوب. والثاني: لا يصح العقد فيهما؛ لاختلافهما في حكم العقد؛ من حيث إن التأقيت شرط لصحة الإجارة؛ وهو يبطل البيع. ومن هذا النوع لو جمعبين بيع عين وسلم، أو بن بيع صرف وغيره؛ بأن باع ديناراً أو ثوباً بدراهم؛ لأن القبض في المجلس شرط في السلم، وفي الصرف - غير شرط في غيرهما - ففيهما قولان: أحدهما: باطلان. والثاني: صحيحان. ومنها: لو جمع بين النكاح والبيع، يصح النكاح، وفي صحة البيع والمسمى في النكاح قولانك أحدهما: يصح، ويوزع المسمى على قيمة المبيع، وعلى مهر مثل المرأة. والثاني: لا يصح، ويجب في النكاح مهر المثل. وبعضنا لا يجعل هذا النوع من باب تفريق الصفقة؛ لأن الحكم في مثله أن يصح العقد فيهما على أحد القولين، أو لا يصح فيهما على القول الآخر. فلا تفريق فيه، بل التفريق أن يجمع بين شيئين يصح العقد في أحدهما، ولا يصح في الآخر. أما هذا القسم؛ وهو أن يجمع بين شيئين، وأحدهما لا يقبل العقد؛ سواء كان ما لا يقبل العقد له يمة؛ مثل: ن مع بين عبده وعبد غيره، أو بين عبده ومكاتبه، أو أم ولده، أو لم يكن له قيمة؛ مثل: أن يجمع بين عبد وحر، أو بين عصير وخمر، أو بين مذكاة وميته، أو بين شاة وخنزير. هل يصح العقد فيما يقبل العقد من عبده القن، والعصير والمذكاة والشاة؟ فيه قولان: أصحهما - وهو اختيار المزني-: يصح؛ لأنهما مبيعان معلومان مختلفان في الحمك؛ فيأخذكل واحد حكم نفسه؛ كما لو باع شقصاً من دار وسيفاً، تثبت الشفعة في الشقص، وإن لم تثبت في السيف.

وكما لو شهد فاسق وعدل، لا ترد شهادة العدل بانضمام شهادة الفاسق إليه. والثاني: لا يصح؛ لأن العقد واحد؛ فإذا بطل بعضه بطل كله. ولأي معنى بطل؟ فيه معنيان: أحدهما: لأنه جمع بين حلال وحرام؛ فتغلب الحرام على الحلال. والثاني: لجهالة الثمن؛ لأن المسمى يتوزع عليهما باعتبار القيمة؛ فلا يدري كم يخص الحلال منه. ومن أصحابنا من قال: هذا فيما إذا كان ما لا يقبل العقد له قيمة؛ مثل: عبد الغير والمكاتب وأم الولد؛ فإن لم يكن له قيمة؛ كالخمر والميتة والخنزير. فهل يصح العقد فيما يقبل العقد؟ يترتب على الأول: إن قلنا ثَمَّ: لا يصح، فهاهنا أولى، وإلا فقولان: والأصح عندي هاهنا: أن العقد لا يصح؛ لأن توزيع الثمن لا يمكن إلا بتقدير شيء ليس له ذلك فيما باعه. وقال أبو حنيفة: إن كان ما لا يصح فيه العقد مما يقبل العقد في الجملة - يصح البيع في الآخر؛ مثل: عبده وعبد غيره. وإن كان مما لا يقبل العقد؛ كالحر والعبد، لا يصح فيهما. فصل في ما يلزم المشتري من الثمن فإن قلنا: العقد صحيح فيما يقبل العقد، فالمشتري إن كان جاهلاً فله الخيار، وإن أجاز أو كان عالماً لا خيار له؛ فكم يلزمه من الثمن؟ فيه قولان: أحدهما: جميع الثمن؛ لأنه لا فساد في الثمن، وإذا كان أحد المبيعين لا يقبل العقد يقع جميع المسمى في مقابلة الآخر. والثاني - وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة -: لا يلزمه إلا حصته من الثمن؛ لأنه قابل الثمن بهما جميعاً؛ فلا يقع كله بمقابلة واحد منهما. فإن قلنا: يلزمه حصته من الثمن، فنقدر الحر رقيقاً، والخنزير بقراً، والميتة مُذكاة، ويوزع الثمن على قيمتهان ونقدر الخمر عصيراً؛ فتوزع عليهما باعتبار الأجزاء.

ومن أصحابنا من قال: إن كان ما لا يقبل العقد لا قيمة له فيلزمه جميع الثمن قولاً واحداً؛ وبه قال صاحب "التلخيص"؛ لأن ما لا قيمة له لا يمكن تقويمه. فحيث قلنا: يلزمه جميع الثمن، فلا خيار للبائع؛ لأنه لا ضرر عليه. وإن قلنا: يلزمه حصته من الثمن، ففيه وجهان: أحدهما: يثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع ما سمي من الثمن. والثاني- وهو المذهب-: لا خيار له؛ لأن التفريط وجد من جهته؛ حيث باع ما لا يقبل العقد، وجعل بعض الثمن بمقابلته. ولو باع شيئاً يتوزع الثمن عليه بالأجزاء؛ مثل: إن باع صاعي حنطة؛ وأحدهما لغيره، أو صاعاً واحداً، ونصفه لغيره، أو باع عبداً واحداً؛ ونصفه لغيره - هل يصح في نصيبه؟ هذا يُبنى على ما لو باع عبدين وأحدهما لغيره: إن قلنا هناك: يصح فيما له، فهاهنا يصح، وللمشتري الخيار، فإن أجاز، كم يلزمه من الثمن؟ فيه قولان. وإن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا هل يصح، أم لا؟ فعلى قولين، بناء على المعنيين: إن قلنا: المعنى في بطلانه الجمع بين الحلال والحرام، فهاهنا لا يصح. وإن قلنا: جهالة الثمن، فهاهنا يصح؛ لأن ما يقابل ملكه معلوم، وهو النصف وله الخيار؛ فإن أجاز لزمه حصته. ولو باع شيئاً من مال الربا بجنسه، ثم خرج بعض أحد العرضين مستحقاً، وقلنا: يصح في الباقي، وأجاز، لا خلاف أنه لا يلزمه إلا حصته؛ لأن لفضل بينهما حرام. وعلى هذا: لو وهب عبده وعبد غيره، أو رهنهما - فهل يصح فيما له؟ أوجمع في النكاح بين أخته وأجنبية، هل يصح نكاح الأجنبية؟ يترتب على البيع: إن قلنا ثَمَّ: يصح فيما له، فهاهنا يصح. وإن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا على قولين؛ بناء على المعنيين: إن قلنا: المعنى هناك الجمع بين الحلال والحرام، فهاهنا لا يصح. وإن قلنا: جهالة العوض، فهاهنا يصح؛ لأنه ليس في الهبة والرهن عوض يصير مجهولاً، وفي النكاح جهالة العوض لا تمنع صحة النكاح. ولو جمع بين معلوم ومجهول في البيع، لا يصح في المجهول.

وهل يصح في المعلوم؟ يُبنى على ما لو كانا معلومين، وأحدهما ليس له. إن قلنا هناك: لا يصح فيما له، فهاهنا لا يصح في المعلوم. وإن قلنا هناك: يصح، فهاهنا قولان؛ بناء على أنه كم يلزمه في الثمن؟ إن قلنا هناك: يلزمه جميع الثمن، فهاهنا يصح، وعليه جميع الثمن. وإن قلنا هناك: يلزمه حصته من الثمن، فهاهنا لا يصح؛ لأن توزيع الثمن على المعلوم والمجهول لا يمكن. وقيل هاهنا: هل يصح العقد في المعلوم؟ فعلى قولين؛ كما لو باع عبده وعبد غيره: فإن قلنا: يصح، فله الخيار، وإذا أجاز يلزمه جميع الثمن قولاً واحداً. وهذا الاختلاف فيما إذا باعهما بثمن واحد، وجمع بينهما إيجاباً وقبولاً. وأما إذا فرق بينهما، وسمي لكل واحد ثمناً؛ بأن قال بعت هذا العبد بألفٍ، وهذا الآخر بألف، وقال المشتري: قبلت في هذا وفي هذا؛ وأحدهما له - يصح فيما له، بما سمى من الثمن قولاً واحداً. ولو جمع المشتري بينهما في القبول؛ فقال: قبلت فيهما، وقلنا: لا يجوز تفريق الصفقة - فقد قيل: لا يجوز هاهنا؛ للجمع في القبول. والمذهب: جوازه؛ لأن قبوله يترتب على الإيجاب، والإياب وقع متفرقاً؛ فالقبول أيضاً يقع متفرقاً. ومن جُملة التفريق في العقد: أن يفرق المشتري في القبول ما أوجبه البائع جملة: مثل: أن يقول: بعتك هذا العبد بألف، فقال المشتري: قبلت في نصفه بخمسمائة، لا يصح؛ لأن البائع لم يرض بالتشقيص. وكذلك لو قال: بعتك هذين العبدين بألف، فقال: قبلت في هذا، وأشار إلى أحدهما بخمسمائة - لم يصح؛ لأن قيمتهما تتفاوت؛ فلا يقع في مقابلة أحدهما نصف الثمن. ولو قال: قبلت في هذا بما يخصه من الثمن عند التوزيع - لا يصح أيضاً؛ لأنه مجهول. وبمثله لو قال في النكاح: زوجتك هاتين المرأتين بكذا، او كان ولياً لهمان فقبل في أحداهما بعينها -يصح؛ لأن جهالة الصداق لا تمنع صحة النكاح. ولو كان المشتري اثنين، فقال البائع: بعتكما لهذين العبدين بألف، فقال أحدهما: قبلت في هذا بخمسمائة وأشار إلى أحدهما - لم يصح؛ لأنه أوجب لكل واحد نصف كل عبد.

ولو قال أحدهما: قبلت في نصفها بخمسمائة، أو كان العبد واحداً، فقال: اشتريت نصفه بخمسمائة - هل يصح أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه في حكم صفقتين بتعدد المشتري؛ كما في الرد بالعيب يجوز لأحد المشتريين رد نصيبه بالعيب. والثاني - وهو الأصح -: لا يصح؛ لأن الإيجاب وقع جملة، فلا يجوز التفريق في القبول، وليس إذا تفرقت الصفقة في الرد بالعيب ما يدل على أنها تتفرق في القبول؛ كما إذا باع من رجل عبدين؛ فقبل في أحدهما، لا يجوز. ولو قبلهما، ثم أراد رد أحدهما بالعيب، يجوز في قول. ولو كان البائع اثنين فقالا لرجل: بعناك هذا العبد بألف، فقبل نصيب أحدهما بعينه بخمسمائة - فعلى وجهين: ولو أن رجلين باعا عبدين مشتركين بينهما صفقة واحدة بثمن واحد - يجوز. وكذلك لو باع رجل عبدين من رجلين صفقة واحدة، يجوز. ولو كان العبدان غير مشتركين بينهما، بل كان لكل واحد أحدهما بعينه، فباعاه صفقة واحدة - ففيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الثمن يتوزع عليهما باعتبار القيمة، وقيمتهما تختلف فيكون مجهولاً؛ لأن كل واحد منهما لا يدري كم نصيبه من الثمن. والثاني: يصح؛ لأن الجملة معلومة، ونصيب كل واحد يصير معلوماً بالتوزيع بعده. وكذلك لو باع رجل عبدين له من رجلين، من كل واحد أحدهما بعينه صفقة واحدة بثمن واحد - هل يصح أم لا؟ فعلى قولين: وكذلك لو استأجر رجل دارين من رجلين غير مشتركين بينهما صفقة واحدة؛ بأجرة واحدة - ففي صحته قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن كل ما يخص كل واحد من الأجرة مجهول. والثاني: يصح، ويوزع المسمى على أجر مثل الدارين. أما التفريق في الانتهاء فقسمان:

أحدهما: بالاختيار، مثل: إن اشترى شيئين صفقة واحدة، وأراد رد أحدهما بالعيب - هل يجوز؟ فيه قولان ذكرناهما في باب الخراج بالضمان. والثاني: بغير الاختيار، مثل: إن اشترى شيئين؛ فتلف أحدهما قبل القبض، ينفسخ العقد فيه. وهل ينفسخ في الآخر مقبوضاً كان، أو غير مقبوض؟ فقد قيل فيه قولان؛ كما لو جمع في العقد بين ما يجوز، وما لا يجوز. والمذهب: أنه لا ينفسخ في الثاني قولاً واحداً؛ لأن الفساد لم يكن في العقد، كما في النكاح. ولو حمع بين أخته وأجنبية، ففي صحة نكاح الأجنبية قولان: ولو نكح أختين، ثم ارتفع نكاح أحدهما بردة أورضاع - لا يرتفع نكاح الخرى، فعلى هذا للمشتري الخيار في القائم، وإن أجاز يجيز بحصته من الثمن قولاً واحداً؛ لأن المسمى صح في مقابلتهما جميعاً. فإذا هلك أحدهما، لا تنصرف حصته إلى الآخر؛ بخلاف ما لو كان الفساد في العقد؛ لأن هلاك أحدهما لا يقابله العوضن فجاز أن يقع الكل في مقابلة الآخر. فإن قبض أحدهما وهلك في يده، أو كان عبداً؛ فأعتقه، ثم هلك الآخر قبل القبض - ينفسخ العقد فيه، ولا يفسخ فيما تلف عنده. وهل للمشتري أن يفسخ العقد فيه، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، وتُرد قيمته؛ كما تفسخ بالتحالف بعد الهلاك. والثاني: لا، بل عليه حصته من الثمن؛ كما لا يفسخ البيع بالعيب بعد تلف المبيع. وعلى هذا، لو اشترى شقصاً مشفوعاً قبل إن علم الشفيع باعه مع ثوب من رجل، ثم جاء الشفيع - فهو بالخيار إن شاء أخذ الشقص بالشفعة بالعقد الثاني بحصته من الثمن، وإن شاء بالعقد الأول. فإن أخذه بالعقد الأول، انفسخ البيع الثاني في الشقص، وهل ينفسخ في الثوب؟ حكمه حكم ما لو تلف أحد المبيعين قبل القبض. وعلى هذا لو انقطع المسلم فيه عند المحل، هل ينفسخ العقد أم لا؟ فيه قولان. ولو انقطع بعض المسلم فيه؛ سواء كان الباقي مقبوضاً، أو لم يكن.

فإن قلنا ينفسخ العقد بالانقطاع، ينفسخ هاهنا في المنقطع، وهل ينفسخ في الباقي؟ حكمه: حكم ما لو تلف أحد المبيعين قبل القبض، والمذهب: أنه لا ينفسخ وله الفسخ؛ فإن أجاز، فلا يجب إلا حصته من رأس المال. وإن قلنا: لا ينفسخ السلم بالانقطاع وللمسلم الخيار، إن شاء فسخ في الكل، وإن شاء أجاز [في الكل]، فإذا أراد أن يفسخ في القدر المستقطع ويجيز في الباقي - هل يجوز، أم لا؟ فعلى قولين؛ بناء على تفريق الصفقة في الرد بالعيب، وعلى هذا لو اكترى داراً منه، فسكنها نصف المدة، ثم انهدمت الدار - انفسخ العقد في المستقبل، ولا ينفسخ في المدة الماضيةن وهل له أن يفسخ؟ فيه وجهان. كما لو تلف أحد المبيعين قبل القبض، والآخر مقبوض تالف؛ لأن ما استوفاه المكتري كالتالف. فإن قلنا: لا فسخ له، يجب عليه من المسمى بقدر ما يقابل المدة الماضية. وإن قلنا: له الفسخ؛ ففسخ، فعليه أجر المثل للمدة الماضية، والله أعلم. باب اختلاف المتبايعين رُوي عن عبد الله بن مسعود؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: إذا اختلف البيعان، فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار".

ويروى: إذا اختلف المتبايعان، تحالفا. إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن، فقال البائع: بعتك بألف. وقال المشتري: لا، بل بخمسمائة. أو في جنسه، أو في وصفه، أو في المبيع. فقال البائع: بعتك هذا العبد، فقال: بل هذه الجارية، وكان الثمن معيناً متفقاً عليه. أو في قدره؛ فقال بعتك هذا العبد، فقال: بل العبد والجارية. أو اختلفا في أصل الخيار، أو في قدره، أو في أصل الأجل، أو قدره أو في الثمن، أو في قدره، أو شرط الرهن، أو في قدره أو جنسه، أو في شرط الكفيل - فإنهما يتحالفان؛ لأن كل واحد مُدع ومدعي عليه. فالبائع مدع زيادة الثمن، ومدعي عليه تملك العين بالأقل. والمشتري مدع تملك العين بالأقل، ومدعي عليه الزيادة؛ ولذلك سُمعت من كل واحد منهما. ومن حيث إن كل واحد مدع سمعت بينتهن ومن حيث إن مدعي عليه، قبلت يمينه. وكذل لو اختلفا في السمل في قدر المسلم فيه، أو في الأجل، او في قدره يتحالفان. وكذلك في الإجارة، والنكاح، والخلع، والكتابة - يتحالفان.

ولا فرق بين أن يكون اختلافهما في حال قيام السلعة، أو بعد هلاكها. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: إذا اختلفا، والسلعة قائمة، تحالفا، وبعد هلاك السلعة لا يتحالفان، بل القول قول المشتري مع يمينه. فإن قتله أجنبي قال: يتحالفان؛ لأن اليمة تقوم مقامهما، وإذا اختلفا في الأجل، أو الخيار، أو الرهن - فالقول قول من يبقيه عنده. وعند مالك: إذا اختلفا، فالقول قول من السلعة في يده. وقال أبو ثور: القول قول المشتري مع يمينه. والحديث حجة عليهم، وقوله عليه السلام: "القول قول البائعن والمبتاع بالخيار" معناه: المبتاع بالخيار بين أن يمسكه بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف، ويرد المبيع. وكذلك إذا اختلف الوارثان بعد موت المتبايعان يتحالفان. وعند أبي حنيفة: لا يتحالفان، بل القول قول من في يده العين. هذا إذا اتفقا على صحة العقد. لكن كل واحد يدعي صحته على غير الوجه الذي يدعيه صاحبه. أما إذا كان أحدهما يدعي فساد العقد؛ بأن قال البائع: بعتك بألف، وقال المشتري: بألف وزق خمر، أو قال أحدهما: عقدنا على خيار أربعة، أو أجل مجهول، أو شرط فاسد - فالقول قول من؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو الأصح-: القول قول من يدعي الفساد مع يمينه؛ لأن الذي يدعي الصحة يدعي تملك المال على الآخر، وهو ينكر؛ كما لو اختلفها في أصل البيع، فالقول قول من ينكره مع يمينه. والثاني: القول قول من يدعي الصحة؛ لأن الظاهر من أمر العقود الصحة، وعدم الفساد؛ حتى لو قال أحدهما: بعتك بألف، وقال الآخر: بل بخمر، أو بثمن مجهول فالقول قول من يدعي الصحة؛ فعلى هذا الطريق؛ إذا قال أحدهما: بعتك بألف، وقال الآخر: بل بخمسمائة وزق خمر، وحلف على نفي الفساد - يتحالفان في الثمن. وقيل: إذا اختلفا في شرط فاسد، أو في فاسد، ضم إلى الثمن الصحيح؛ كما في الصورة التي ذكرنا - ففيه وجهان؛ بناء على تبعيض الإقرار. وفيه قولان: إن قلنا: لا يبعض - وهو الأصح- فالقول قول من يدعي الفساد.

وإن قلنا: ببعض، فالقول قول من ينفي الفساد؛ لأن صاحبه مقر بالبيع، ويدعي ما يدفعه؛ فلا يقبل. أما إذا قال البائع: بعتك بألف، وقال الآخر: بل بزق خمر، أو بثمن مجهول - فالقول قول من يدعي الفساد، بلا خلاف؛ لأنه لم يقر بشيء يلزمه. ثم في التحالف يجوز للحامك أن يبدأ بأيهما شاء، وأيهما أولى بالبداية به؟ نص في البيع على أنه يبدأ بيمين البائع، ونص في النكاح إذا اختلف الزوجان: يبدأ بيمين الزوج؛ وهو بمنزلة المشتري؛ فقد قيل: فيه قولان: أحدهما: يبدأ بيمين البائع، وفي السلم في يمين المسلم إليه؛ لأنه بائع السلعة، وفي الكتابة بيمين السيد؛ لأنه بمنزلة البائع، وفي النكاح بيمين المراة؛ لأنها بمنزلة البائعة. والثاني: يبدأ بيمين المشتري. ومن أصحابنا من فرق بينهما؛ على ظاهر النص. قال في البيع: يبدأ بيمين البائع؛ لأن جانبه أقوى من حيث إن ملكه تم بالعقد على الثمن في ذمة المشتري؛ حتى يتصرف فيه بالحوالة والإبراء. وملك المشتري لا يتم على المبيع بالعقد. وفي النكاح: يبدأ بيمين الزوج؛ لأن ملكه تم على البُضع بالعقد؛ حتى يتصرف فيها، وبعد التحالف لايزول ملكه عنها؛ فكان جانبه أقوى. ثم كيفية اليمين؛ ظاهر ما نص هاهنا يدل على أنه يحلف كل واحد منهما يميناً واحدة يجمع فيها بين النفي والإثبات؛ لأنه قال: فأيهما نكل عن اليمين، وحلف صاحبه، حكم له. فهذا يدل على أن يمين الحالف كان على النفي والإثبات جميعاً؛ لأنه إذا حلف على مجرد النفي، لا يقضي له بنكول صاحبه ما لم يحلف على الإثبات. ونص فيما لو تداعى رجلاً داراً في أيديهما، حلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه. ثم لابد للإثبات من يمين آخر: اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهما يميناً واحداً، يجمع فيها بين النفي والإثبات؛ فيحلف البائع بالله: ما بعته بخمسمائة، إنما بعته بألف.

ويحلف المشتري بالله: ما اشتريته بألف، إنما اشتريته بخمسمائة، ويقدم يمين النفي، لأن اليمين أبداً تكون على النفي، فلو قدم الإثبات يجوز. والقول الثاني: يحلف كل واحد على النفي وحده، ثم على الإثبات. وكذلك في دعوى الدار، يحلف كل واحد على نفي ما يدعيه صاحبه، ولا يحلف على الإثبات؛ لأن يمين الإثبات لا معنى له قبل نكول صاحبه. والبائع في دعوى الألف مدع، فلا يقبل بيمينه قبل نكول صاحبه، ثم بعدما حلفا على النفي يحلفان على الإثبات. ومن أصحابنا من فرق بينهما؛ وهو المذهب؛ فقال: [في التداعي] في الدار يحلف كل واحد على النفي؛ لأن منفي ل واحد ممتاز عن مثبته؛ لأن منفي كل واحد ما في يده ينفي عنه ملك صاحبه. ومثبته ما في يد صاحبه؛ فلا معنى ليمينه فيه قبل نكول صاحبه، وهاهنا يحلف كل واحد يميناً واحداً، يجمع فيهما بين النفي والإثبات. لأن منفي كل واحد في ضمن مثبته؛ لأن العقد واحد اختلفا في صفته. فإذا جمع البائع بين النفي والإثبات، لم يكن فيه تحليف المدعي على ما في يد المدعي عليه قبل نكوله؛ فجاز الجمع. ولا خلاف أنه لا يُقضى لأحدهما ما لم يحلف على النفي والإثبات جميعاً. فإن قلنا: يحلف يميناً واحدة؛ يجمع فيه بين النفي والإثبات؛ فإذا حلف أحدهما، ونكل الثاني، نقضي للحالف. وإن قلنا: يحلف على النفي، فإذا حلف أحدهما، يعرض اليمين على الثاني، فإن نكل حلف الأول على الإثبات وقضى له، وإن نكل عن يمين الإثبات لا نقضي له؛ لاحتمال أنه صادق في نفي ما يدعيه، وصاحبه كاذب فيما يدعيه. ولو نكل الأول عن اليمين حلف الآخر على النفي والإثبات، ونقضي له، فإذا حلف على النفي، فالصحيح أنه يفسخ العقد بينهما. ولا معنى ليمين الإثبات بعده؛ لأن الموجب للفسخ جهالة الثمن؛ وهي حاصلة؛ كما في تداعي الدار إذا حلفا على النفي فلا معنى ليمين الإثبات بعده.

وقيل ها هنا: تعرض يمين الإثبات عليهما، فإن حلفا تم التحالف، وإن نكل أحدهما قضى للحالف. ولو اختلفا في عين المبيع: فقال البائع: بعتك هذا العبد، وقال الآخر: بل هذه الجارية. فإن كان الثمن معيناً متفقاً عليه، يتحالفان -كما ذكرنا - فيما لو اتفقا على المبيع، واختلفا في الثمن. وإن كان الثمن في الذمة، فقد قيل: يتحالفان - كما ذكرنا - كما لو اختلفا في قدر المبيع. والمذهب: أنهما دعوتان مختلفتان؛ فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه صاحبه؛ كما لو ادعى رجل على إنسان عبداً، أو ادعى ذاكعلى هذاجارية من غير بيع - يحلف كل واحد على نفي دعوى صاحبه. إذا قال البائع: بعتك هذا العبد، وقال المشتري: بل هذه الجارية، وأقام كل واحد بينة - يسلم للمشتري الجارية؛ لأنه أقام عليه البينة. أما البائع فقد أقر ببيع العبد، وزوال ملكه إلى المشتري؛ وقامت عليه البينة. فإن كان العبد في يد المشتري أقر في يده، وإن كان في يد البائع، ففيه وجهان: أحدهما: يسلم إلى المشتري، ويجبر على قبوله؛ لأن البينة قامت على ملكه. والثاني: لا يجب؛ لأنه ينكر ملكه، بل يقبضه الحاكم، وينفق عليه من كسبه. وإن لم يكن له كسب، وكان النظر في بيعه، باعه، وحف ثمنه. وكذلك لو اختلفا في الجهة: فقال: بعتك بألف، وقال الآخر: بل وهبتني بألفن يحلف كل واحد على نفي ما يدعيه صاحبه، ثم بعدما حلفا يجب على مدعي الهبة رده بزوائده. ولو قال: بعته بألف، وقال الآخر: بل رهنتنيه - حلفا على النفي، وأعطى الألف، واسترد العين. وعلى عكسه لو قال: رهنتكه بألف قبضته قرضاً، فقال: بل بعت بألف. فالقول قول المالك؛ يحلف بالله ما باعه، ويرد الألف، ولا يمين على الآخر، ولا يكون رهناً؛ لأنه لا يدعيه. وإن كان الثمن مؤجلاً، أو له على آخر دين مؤجل، فاختلفا في انقضاء الأجل - فالقول قول منعليه الحق مع يمينه؛ لأن الأجل له، والأصل بقاؤه. ولو أن المتبايعين تقايلا البيع، أو وجد المشتري بالمبيع عيباً ورده بعدما قبض البائع الثمنن ثم اختلفا في الثمن فقال البائع: ألف، وقال المشتري: ألفان - فالقول قول البائع

مع يمينه؛ لأن البيع قد ارتفع، والمشتري مدع للزيادة، فالقول قول المنكر. فصل إذا اختلف المتبايعان، وتحالفا، فقد قيل: ينفسخ العقد بالتحالف؛ كما يفسخ النكاح باللعان. وليس بصحيح، بل المذهب: أنه لا ينفسخ العقد بمجرد التحالف؛ بخلاف اللعان؛ لأنه سبب فرقة من الزوج؛ كالطلاق؛ بدليل أنه ارتفع النكاح بمجرد لعان الزوج. وهاهنا العقد صحيح بأحد الثمنين في الباطن، لكن تعذر الوصول إلى معرفته، فلا ينفسخ به العقد؛ لأن النية أقوى من اليمين. ثم لو أقام بينة على ما يقول، لا ينفسخ العقد؛ فباليمين أولى ألا ينفسخ. ولكن الحاكم بعد التحالف يدعو كل واحد إلى موافقة صاحبه. فيقول للمشتري: تعطي ما يقوله البائع؛ فإن أعطى أجبر على القبول، وإن لم يعط، يقول للبائع: أترضى بما يقوله المشتري، فإن أبى يفسخ العقد بينهما. ثم فيه وجهان: أحدهما: يفسخ الحاكم العقد بينهما؛ لأنه مجتهد فيه؛ كفسخ النكاح بالعنة. والثاني: لهما الفسخ بأنفسهما، ولكل واحد منهما بانفراد إذا لم يوافقه صاحبه؛ كالفسخ بالعيب، وإذا فسخ العقد يرتفع في الظاهر من حينه. وهل يترفع في الباطن. نظر: إن كان البائع صادقاً فيما يقول، يرتفع في الباطن؛ لأنه تعذر وصوله إلى حقه؛ ما لو فسخ بسبب الإفلاس. ولو كان البائع كاذباً، ففيه وجهان: أحدهما: يرتفع، لتعذر إمضاء العقد؛ كما في الرد بالعيب. والثاني: لا يرتفع إلا ظاهراً؛ لأنه لم يتعذر عليه الوصول إلى ما ثبت له على المشتري لو صدق. فإن قلنا: يرتفع في الباطن، يجوز لكل واحد منهما أن يتصرف فيما عاد إليه تصرف الملاك، وإن كانت جارية جاز للبائع وطؤها. فإن قلنا: لا يرتفع في الباطن، لم يجز للبائع التصرف فيه. وقيل: لا يرتفع العقد إلا ظاهراً؛ سواء ان البائع صادقاً أو كاذباً؛ لأن سبب الفسخ

جهالة الثمن؛ وهو في الظاهر؛ فعلى هذا لو كان البائع كاذباً لا ينفذ شيء من تصرفاته، وإن كان صادقاً فله على المشتري الثمن، وقد ظفر بماله يبيعه ويستوفي منه حقه، ولا يتصرف بشيء آخر. وإذا فسخ العقد بالتحالف، يجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً، وإن كان تالفاً عليه رد قيمته؛ باعتبار يوم التلف؛ سواء كان أكثر من الثمن الذي يدعيه البائع، أو أقل. وقيل: عليه قيمته أكثر ما كانت في يوم القبض إلى يوم التلف. ولو اختلفا في القيمة؛ فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم. وإن كان قد تعيب في يده يغرم أرش العيب؛ بخلاف ما لو رد المبيع بالعيب، والثمن قد تعيب في يد البائع - أخذه، ولا أرش له؛ على الأصح؛ لأن الفسخ بالعيب ليس لمعنى يرجع إلى أصل العقد، والفسخ بالتحالف يرجع إلى أصل العقد؛ لأن هذا الاختلاف لو وجد حالة العقد منع العقد؛ بخلاف العيب. وإن كان المشتري أعتقه، أو وقفه، أو باعه، أو وهبه وأقبضه، أو عتق عليه بالملك - فهو كما لو كان تالفاً. وإذا رد فما حصل من الزوائد من كسب، أو ولد، أو ثمر شجر، أو مهر جارية وطئت - يبقى للمشتري. فإن كانت بكراً فافتضت في يده، يجب عليه أرش الافتضاض، وإن كان زوجها ردها وما بين قيمتها مزوجة وخلية. وإن كان رهنه، فالبائع بالخيار: إن شاء صبر؛ حتى يُفتك الرهن، وإن شاء أخذ قيمته. وإن كان قد أبق، أو كاتبه، أخذ القيمة. وإن كان قد أجره، إن قلنا: بيع المؤاجر لا يجوز، فكالرهن. وإن قلنا: يجوز، أخذه، ويترك في يد المستأجر؛ حتى تقضي مدته. والأجر المسمى للمشتري، وعلى المشتري للبائع أجر مثل [تلك] المدة الباقية بعد الفسخ.

وإن كان قد أجره من البائع، أخذ البائع العين بعد التحالف قولاً واحداً. وهل تفسخ الإجارة؟ وجهان: كما لو باع الدار المُكراة من المكتري. فإن قلنا: لا تفسخ، فعلى البائع الأجر المسمى للمشتري، وعلى المشتري أجر مثل المدة الباقية للبائع. اختلاف المتبايعين في الثمن ولو باع عبداً واختلفا في الثمن: فقال البائع: إن كنت بعته بخمسمائة فهو حر. وقال المشتري: إن كنت اشتريته بألف فهو حر. ثم تحالفا، أو تحالفا أولاً، ثم حلفا بالحرية - فالعبد لا يعتق في الحال؛ لأنه ملك للمشتري، وبزعمه؛ أنه صادق في يمينه. فإن فسخ العقد بينهما، أو عاد إلى البائع بسبب آخر، عتق عليه بزعمه؛ أن المشتري كاذب، وقد عتق عليه العبد؛ كمن أقر بحرية عبد الغير، ثم اشتراه، يُحكم بحريته. وهل يعتق في الباطن، أم لا؟ نظر: إن كان البائع كاذباً لم يعتق؛ لأنه حين حلف بالحرية لم ينك العبد ملكاً له، وإن كان المشتري كاذباً عتق عليه. ولو أن البائع صدق المشتري بعدما حلف بالحرية؛ نظر: إن حلف البائع أولاً بالحرية، ثم المشتري - فكما فرغ المشتري من يمينه صدقه البائع. فإذا عاد بعده إلى البائع، لم يعتق؛ لأنه لم يوجد منه تكذيب المشتري بعد حلفه بالحرية؛ حتى يكون إقراراً بحريته. وإن حلف المشتري أولاً، ثم حلف البائع، ثم صدقه - عتق إذا عاد إليه؛ لأن في يمينه بعد يمين المشتري تكذيباً له، وإقراراً عليه بحرية العبد. ولو أن المشتري صدق البائع، حُكم بحريته. وإن كان قد فسخ العقد بالتحالف، رد الفسخ؛ كما لو رد العبد المبيع بالعيب، ثم أقر أني كنت أعتقته - رُد الفسخ، وحكم بعتقه. فصل في حكم البيع بثمن مؤجل إذا باع شيئاً بثمن مؤجل، ليس للبائع حبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن؛ لأنه رضي بتأخير حقه، ولو لم يتفق التسلمي حتى حل الأجل، له مطالبته بالثمن، ولكن ليس له حبس المبيع؛

لأن العقد لم يثبت له ذلك. وإن كان الثمن حالاً. يجوز للبائع حبسه؛ لاستيفاء الثمن. وإذا أخذ بعض الثمن؛ هل يجب أن يسلم من المبيع بقدره؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ حتى يقبض الكل؛ كالرهن لا يفتك شيئاً منه ما لم يأخذ جميع الدين. الثاني: يجب أن يسلم بقدر ما أخذ من الثمن؛ لأن كل جزء من المبيع بمقابلة جزء من الثمن؛ بخلاف الرهن؛ فإنه محبوس بالحق، وبكل جزء من أجزائه ليس بعوض عن الحق. ولو تبرع البائع بتسليم المبيع قبل القبض، لم يكن له بعد ذلك رده إلى حبسه. وكذلك لو أعاره من المشتري. فأما إذا أودعه من المشتري، فلا يسقط حقه من الحبس. ولو غصبه المشتري يعصي الله تعالى، وللبائع أن يرده إلى حبسه. فلو اختلف المتبايعان في التسليم: فقال البائع: لا أدفع المبيع؛ حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أؤدي الثمن؛ حتى أقبض المبيع - ففيه أربعة أقوال: أحدها: لا يُجبر واحد منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ فإذا سلم أحدهما ما عنده، أجبر الآخر، ويمنعهما الحاكم من التخاصم. والثاني: يجبر أن يكلفهما الحاكم إحضار المبيع والثمن. ثم يسلم الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، لا يبالي بأيهما بدأ، أو يأمر بوضعهما عند عدل، ثم يسلم العدل المبيع إلى المشتري، والثمن إلى البائع؛ لأن الحاكم نُصب لفصل الخصومات. كما لو كان لرجلين لأحدهما على الآخر دراهم، وللآخر عليه دنانير - أجبرهما على الأداء. والثالث - وهو الأصح -: يُجبر البائع على تسليم المبيع؛ لأن ملك المشتري غير مستر على المبيع قبل القبض؛ بدليل أنه لا يتصرف فيه. ولو تلف في يد البائع، ينفسخ البيع، وملك البائع مستقر على الثمن قبل القبض؛ بدليل أنه يتصرف فيه بالإبراء، وقد أمن هلاكه. والرابع- وبه قال مالك، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما-: يُجبر المشتري أولاً على تسليم الثمن؛ لأن حقه متعين في المبيع، وحق البائع غير

متعين في الثمن؛ فيجبر على التسليم؛ حتى يتعين. هذا إذا كان الثمن في الذمة، فإن تبايعا عيناً بعين، فلا يأتي فيه إلا قولان: أحدهما: يجبران. والثاني: لا يجبران. ولو أجر داره بأجرة في الذمة، واختلفا في التسليم - ففيه أربعة أقوال؛ "كالبيع". فإن قلنا بالقول الأصح: إنه يجبر البائع، فسلم المبيع؛ فإن كان الثمن حاضراً مع المشتري أجبر على دفعه، وإن كان غائباً نظر: إن كان معه في البلد أمره بإحضاره، وحجر عليه في المبيع، حتى لا يتصرف فيه، سواء كان له مال أو لم يكن. وهل يُحجر عليه في سائر أمواله، أم لا؟ إن كان ماله يفي بديونه مع هذا البيع لا يُحجر عليه، وإلا فحجر عليه. ثم إن كان ماله غائباً عن البلد؛ نظر: إن كان إلى مسافة القصر، لا يكلف البائع الصبر إلى إحضاره، وماذا يفعل؟ فيه وجهان: أصحهما: تُباع السلعة في حقه؛ من له دين على الآخر؛ فظفر بغير جنس حقه، يباع في حقه. والثاني: يفسخ العقد، ويأخذ غير ماله؛ كما لو أفلس المشتري بالثمن. فإن كان دون مسافة القصر، ففيه وجهان: أحدهما: حُكمه حكم ما لو كان في البلد؛ يوقف السلعة، ويؤمر بإحضار الثمن. والثاني: حكمه حكم ما لو كان إلى مسافة القصر. وإن كان المشتري معسراً لا مال له، فهو مفلس، والبائع أحق بسلعته. ولو باع شيئاً؛ فهرب المشتري قبل أداء الثمن؛ فإن كان مفلساً، أخذ البائع عين ماله، وألا فتباع السلعة في حقه. ولو اشترى رجلان شيئاً من رجل، وغاب أحدهما - فللحاضر أن يعطي نصف الثمن، ويأخذ نصيبهن وليس له أن يأخذ نصيب الغائب، وإن أدى حصته من الثمن؛ لأنه لا ولاية له على الغائب. ولو اشترى رجل بوكالة رجلين شيئاً؛ فأدى نصف الثمن عن أحدهما - لا يجب على

البائع تسليم النصف، على الأصح؛ لأن العاقد واحد. قلت: ويحتمل أن يُقال إذا كان البائع عالماً: إنه يشتريه لرجلين. فإذا أخذ نصيب أحدهما، يجب عليه تسليم نصفه. فإن كان البائع وكيل رجلين؛ فإذا أخذ نصيب أحدهما من الثمن؛ يجب عليه تسليم النصف. والله أعلم. باب الشرط الذي يُفسد البيع رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان من شرط ليس في تاب الله، فهو باطل".

أقسام الشرط الشرط في البيع قسمان: قسم يقتضيه مطلق العقد: مثل: أن يبيع بشرط أن يملك، أو يتصرف فيه، أو يرد بالعيب، أو يحبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن - فلا يمنع صحة العقد. وقسم لا يقتضيه مطلق العقد: وهو قسمان:

قسم هو من مصلحة العقد: مثل: شرط خيار التلف، وشرط الأجل في الثمن، أو شرط رهناً، أو كفيلاً معلوماً؛ فيصح العقد والشرط. وقسم ليس من مصلحة العقد: مثل: أن يبيع بشرط ألا يملك، أو لا يتصرف فيه، أو لا خيار عليه في ثمنه، يعني: إن خسرت، أضمن لك النقصان. أو قال: بعتك على أن تؤدي ديناً عليَّ، أو تبيع مني كذا، أو ترد المبيع إليَّ متى شئت - فهذا كله يفسد البيع، إلا بشرط واحد؛ وهو:

أن يبيع عبداً، بشرط أن يعتقه المشتري، فالمذهب: أن البيع والشرط صحيحان؛ لما رُوي عن عائشة - رضيالله عنها- أنها اشترت بريرة على أن تعتقها بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وخرج فيه قول آخر، وبه قال أبو حنيفة: أن البيع باطل؛ كما لو باع بشرط أن يبيع، أو يهب - لا يصح. وهذا إذا باع؛ بشرط أن يعتقه مطلقاً، أو قال: يعتقه عن نفسك. فأما إذا قال: بشرط أن يعتقه عني، لا يصح. ولو باع؛ بشرط أن يكاتبه أو يدبره، فقد قيل: هو كشرط الإعتاق. والمذهب: أنه لا يصح، والعتق مخصوص بالسنة؛ لغلبته. إذا ثبت أن البيع بشرط العتق يجوز، فإن أعتقه المشتري، فقد وفى بالشرط، ولا يجوز أن يعتقه عن كفارته، وإن امتنع هل يُجبر عليه، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر عليه، وللبائع الخيار إن لم يعتق؛ كما لو باع بشرط أن يرهن بالثمن شيئاً لا يجبر عليه، وللبائع فسخ العقد. والثاني: يجبر عليه؛ لأنه حق الله - تعالى- ما لو نذر إعتاق رقبة يلزمه. فإن مات قبل أن يعتق، يجب على وارثه إعتاقه. ويجوز للمشتري استخدامه قبل أن يعتقه، وكسبه يكون له. وإن كانت جارية له وطؤها. ولو قتل يجب على القاتل قيمته للمشتري، ولا يجب أن يشتري بها عبداً آخر يعتقه؛ لأن من يعود إليه نفع العتق قد مات. ولو مات قبل العتق، لا شيء على المشتري إلا الثمن المسمى؛ لأنه لم يلتزم إلا ذلك. وقيل: يجب على المشتري ما بين قيمته مشتري مطلقاً ومشتري بشرط العتق. ولو باع بشرط أن يعتقه والولاء للبائع، فالمذهب: أن البيع لا يصح؛ كما لو باع بشرط أن يكون كسبه للبائع.

وفيه قول آخر: إن البيع صحيح، والشرط باطل؛ لما رُوي عن عائشة -رضي الله عنها - قالت: جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسعة أواق؛ في كل عام أوقية؛ فأعينيني؛ فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، فيكون لي ولاؤك، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم ذلك؛ فحاءت وقالت: إني عرضت عليهم ذلك؛ فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"خذيها واشترطي لهم الولاءن فإنما الولاء لمن أعتق". فدل أن البيع صحيح، والشرط لاغ. والأول أصح. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واشترطي لهم الولاء" - تفرد به هشام، ولم يروه سائر الرواة؛ لا يعتمد عليه؛ لأنه لا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم- أنه يأمر أهله باشتراط ما لا يجوز. ولو باع داراً؛ واستثنى لنفسه سكناها، أو دابة، واستثنى لنفسه ظهرها - إن لم يبين مدة لا يصح العقد، ون بين مدة فقد قيل: فيه قولان؛ كبيع الدار المُكراة. والمذهب: أنه لا يصح البيع قولاً واحداً؛ لما روي عن جابر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا .... ولأنه شرط ما لا يقتضيه العقد، ولا هو من مصلحة العقد- فلا يصح؛ كما لو باع بشرط ألا يسلم إليه. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: يصح البيع. ولو باع بشرط أن يحبس المبيع؛ لاستيفاء الثمن، نظر: إن كان الثمن مؤجلاً، لا يصح العقد. وإن كان حالاً: فإن قلنا يُجبران على التسليم، أو يجبر البائع - لم يصح البيع. وإن قلنا: لا يجبرانن أو يجبر المشتري على تسليم الثمن، يصح؛ لأنه من قضية العقد. ولو باع شيئاً إلى العطاء أو إلى الحصاد، أو إلى أجل مجهول- فالبيع فاسد. وكذلك لو باع إلى شهر من يوم قبض المبيع، لا يصح؛ لأنه لا يدري متى يقبض. وكذلك لو باع ثوباً على أنه عشرة أذرع؛ فإن لم يكن أبدله بغيره فباطل.

"فصل في تملك المشتري شراء فاسداً" إذا اشترى شيئاً شراء فاسداً فقبضه، لا يملك. وعند أبي حنيفة: إذا اشترى بخمر أو خنزير، أو شرط فاسد، فهو فاسد؛ غير أنه إذا قبضه يملك، وينفذ تصرفه فيه؛ غير أنه يجوز للبائع أن يسترده بجميع زوائده المتصلة والمنفصلة. ولو تلف في يدهن أو باعه، أو كان عبداً، فأعتقه، قال: يجب عليه قيمته، إلا أن يشتري بشرط العتق، فإن العقد فاسد. وإذا تلف في يده، قال: يجب عليه الثمن. وقالوا: لو اشترى شئاً بميتة أو دم؛ فقبضه، لا يملك؛ لأنه باطل فنحن نقيس عليه؛ فنقول: مبيع مسترد بالزوائد المتصلة والمنفصلة؛ فلا يكون الملك فيه ثابتاً للمشتري؛ كما لو باع بميتة، أو دم. إذا ثبت أنه لا يملك المقبوض بالعقد الفاسد، فعليه رده، وعليه مؤنة الرد كمغصوب. ولا يجوز حبسه؛ لاسترداد الثمن؛ لأن المالك لم يرهنه، وعليه أجر مثل المدة التي بقيت في يده. وإن تعيب في يده، يجب عليه أرش مثل النقصان. وإن تلف عنده، يجب عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم الهلاك. وفيه وجه آخر: يعتبر قيمته يوم التلف؛ كما في العارية؛ لأن أخذه برضا المالك. والأول هو المذهب؛ لأنه مخاطب بالشرع برده كل ساعة؛ بخلاف العارية. وما حدث في يده من الولد والثمرة مضمون عليه. وكذلك كل زيادة متصلةحدثت في يده من سمن، أو تعليم حرفة؛ فزالت - يضمن؛ كالمغصوب. وإن كانت جارية وطئها المشتري؛ إن كانا جاهلين، فلا حد عليهما، ويجب المهر. وإن كانا عالمين؛ [نظر]: إن كان قد اشتراها بميتة، أودم - يجب عليهما الحد. وإن اشتراها بخمر، أو خنزير، أو شرط فاسد - فلا حد؛ لاختلاف العلماء في الإباحة. كما لو وطيء في النكاح بلا ولي لا يجب الحد، ويجب المهر.

وإن كانت بكراً؛ فافتضها، يجب أرش الافتضاض. ولو استولدها، فالولد حر، وعليه قيمته إذا خرج حياً باعتبار يوم السقوط؛ بخلاف ما لو اشترى جارية؛ فاستولدها؛ فخرجت مستحقة - يغرم - قيمة الولد، ويرجع على البائع؛ لوجود الغرور من جهته. وهاهنا يستقر عليه قيمة الولد؛ لأنه لم يوجد غرور من البائع، والجارية لا تصير أم ولد له. فإن ملكها بعد ذلك، ففيه قولان: فإن خرج الولد ميتاً، لا يجب به شيء؛ لأنه لا يدري: هل نفخ فيه الروح، أم لا؟ وإن دخل الأم نقص، يجب عليه أرش النقصان. وإن ماتت في الطلق، يجب عليه قيمتها، وكذلك لو وطيء جارية الغير بالشبهة، وأحبلها؛ فماتت في الطلق -يجب عليه قيمتها؛ لأنه مملوكة تضمن باليد، تلفت بفعل منسوب إليه غير مستحق له. ولو زنا بامرأة حرة أو أمة؛ فأحبلها؛ فماتت في الطلق - نظر: إن كانت طائعة، لا يجب ضمانها؛ لان النسب هناك غير ثابت؛ فكان السبب مقطوعاً عنه. وإن كانت مُكرهة، فعلى قولين: أحدهما: يجب الضمان؛ لأنها تلفت بسببه. والثاني: لا يجب؛ لأن السبب مقطوع عنه بنفي النسب. وكذلك لو نكح حرة، أو أمة؛ فأولدها؛ فماتت في الطلق -لا يجب الضمان؛ لأن الوطء مستحق له. ولو وطيء حرة بشبهة، أو بنكاح فاسد؛ فماتت في الطلق - هل تجب الدية؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كما تجب القيمة في الأمة. والثاني: لا يجب؛ لأن ضمان الأمة أسرع ثبوتاً؛ بدليل أنها تضمن باليد، والحرة لا تضمن باليد. ولو اشترى شيئاً شراء فاسداً، ثم باعه من آخر، فهو كالغاصب يبيع المغصوب، فإن

تلف في يد الثاني، وقيمته في يدهما سواء، أو زادت في يد الثاني - فالمالك يرجع بجميعها على أيهما شاء، وقرار الضمان يكون على الثاني. وإن كانت قيمته بيد الأول أكثر؛ فانتقصت ثم باعه، فضمان ذلك النقصان على الأول لا يرجع به على الثاني، وبالباقي يرجع على أيهما شاء، والقرار على الثاني. فكل نقص حدث في يد الأول لايون الثاني مطالباً به، وما حدث في يد الثاني يون الأول مطالباً به، ثم هو يرجع على الثاني. وكذلك أجر المثل؛ لأن يد الأول كان سبباً في يد الثاني، ويد الثاني لم تكن سبباً في يد الأول. "فصل في الشرط المخالف لقضية العقد" إذا اشترى زرعاً؛ وشرط على البائع حصاده، أو ثمرة؛ وشرط عليه جُذاذها - فالبيع باطل؛ لأنه شرط مخالف قضية العقد. وكذلك لو اشترى صرماً على أن يخبره على حقه بعشرة، أو نعلاً من حديد؛ على أن ينعل به دابته، أو كرباساً؛ على أن يخيط له قميصاً، أو لبناً؛ على أن يسلم إليه مطبوخاً، أو وقر حنطة؛ على أن يحمله إلى بيته، أو صبياً رضيعاً؛ على أن على البائع إتمام رضاعه، أو ثوباً؛ على خف نساج ينسج بعضه على أن يتم نسجه - فالبيع باطل. وقيل في هذه المواضع: شرط العمل؛ وهو الإجارة باطل؛ لأنه شرط العمل على البائع في شيء لم يتم ملكه عليه. وفي صحة البيع قولان؛ كما لو باع عبده، وعبد غيره. والمذهب هو الأول. وكذلك لو سمى لكل واحد شيئاً؛ وقال: اشتريت منك هذا الزرع بدينار؛ على أن تحصده بدرهم، وهذا الصرم بعشرة؛ على أن تحوزه على خفي بدرهم - لا يصح؛ لأنه جعل الإجارة شرطاً في البيع، فهو في معنى بيعتين في بيعة؛ وذلك منهي عنه. ولو أفرد كل واحد منهما؛ فقال: اشتريت هذا الزرع بدينار، واستأجرتك بدرهم، حتى تحصده، أو قال: اشتريت هذا الصرم بعشرة، وأحرزه على خفي بدرهم. فقال:

بعت، وقبلت الإجارة - صح الشراء؛ لأنه لا شرط فيه، ولا تصح الإجارة؛ لأنه استئجار على عمل فيما لم يتم مله فيه، فإن أحد شطري الإجارة وُجد قبل تمام البيع؛ كما لو قال: استأجرتك؛ لتخيط لي هذا الثوب، والثوب غير ملوك له- لا يصح. فصل في تعيين جهة الزيادة والنقصان إذا قال: اشتريت منك هذه الصبرة؛ كل صاع بدرهم؛ على أن تزيدني صاعاً، أو على أن أنقصك صاعاً؛ ولم يعين جهة الزيادة أو النقصان - لا يصح؛ لأجل الجهالة. وإن عين جهة؛ نظر: إن عين جهة الزيادة؛ فقال: على أن تزيدني صاعاً؛ نظر: إن أراد أن يهب له صاعاً، أوي بيع من موضع آخر - فلا يصح - لأنه شرط عقد في عقد. وإن أراد: أنها إن أخرجت عشرة أصوع، أعطيك تسعة دراهم - نظر: إن كانت الصيعان مجهولة لم يصح؛ لأنه لا يدري كم يخص كل صاع منها؛ ما لو قال: بعتك هذه الصبرةكل صاع بدرهم إلا شيئاً لا يصح، وإن كانت الصيعان معلومة يصح. فإن كانت عشرة أصوع؛ كأنه باع كل صاع وتسعة بدرهم. وإن عين جهة النقصان، فقال: اشتريت هذه الصّثبرة؛ كل صاع بدرهم؛ على أن أنقصك صاعاً - نظر: إن أراد بها: أنها عن خرجت عشرة أصوع، أعطيك عشرة دراهم، وأرد إليك صاعاً- لا يصح؛ لأنه كشرط هبة في البيع. وإن أراد: أنها عن خرجت تسعة أصوع، أعطيك عشرة دراهم - نظر: إن كانت الصيعان مجهولة، لا يصح؛ لأنه لا يدري كم يخص كل صاع منها، وإن كانت معلومة يصح، كأنها كانت تسعة أصوع؛ فيكون كل صاع بدرهم وتُسع درهم. قلت: وإن أراد: أنها إن خرجت عشرة أصوع أخذ تسعة بتسعة دراهم، وإن كانت الصيعان مجهولة لا يصح، وإن كانت الصيعان معلومة يصح؛ كما لو قال: بعتك هذه الصبرة إلا صاعاً. "فصل في بيع السمن في الظرف والمسك في الفارة" بيع السمن في الظرف يجوز إذا رأى اعلاه؛ سواء باعه مع الظرف، أو دون الظرف. ما لو باع طعاماً آخر في الظرف. ولو باع السمن وحده؛ كل من بدرهم يجوز، وإن كان لا يعرف في الحال وزنه؛ لأن الجملة معلومة، والثمن بالوزن يصير معلوماً. ولو باع كل من بدرهم؛ على أن يزنه بظرفه - نظر: إن كان قال:

واطرح وزن الظرف، يجوز؛ سواء عَلِمَا وزن الظرف حالة العقد، أو لم يعلما. وإن لم يذر طرح وزن الظرف، نظر: إن قال: والظرف لي، لم يجز؛ لأنه يلزمه الثمن ما لم يبع منه. وإن قال: الظرف مبيع، أو بعتك هذا السمن مع الظرف؛ كل من بدرهم؛ فإن لم يكن للظرف قيمة لم يجز؛ لأنه يوجب عليه ثمن ما لا قيمة له. وإن كانت له قيمة، ففيه وجهان: أصحهما: يصح، وإن اختلفت قيمة السمن والظرف؛ كما لو باع الفواكه المختلطة، أو الحنطة المختلطة بالشعير. والثاني: لا يصح؛ لأن المقصود هو السمن؛ وهو مجهول؛ بخلاف الفواكه المختلطة؛ فإن كلها مقصودة؛ فهو كبيع المسك المختلط بغيره - لا يجوز. ومن قال بالأول أجاب: أن المسك هناك غير متميز عن الغش، وهاهنا المقصود متميز عن غير المقصود؛ فيجوز. وقيل: إن عَلِمَا دون السمن والظرف يجوز، وإن لم يعلما لا يجوز؛ لأن الظرف قد يكون خفيفاً وثقيلاً؛ ففيه غرر. ولو باع المسك في فارة قبل إخراجه منها، لا يجوز؛ لأن المقصود هو المسك؛ وهو مهول؛ سواء كان رأس الفار مفتوحاً، أو لم يكن؛ وسواء باع المسك دون الفار، أو مع الفار؛ كما لو باع شاة مذبوحة قبل السلخ؛ بخلاف الجوز، يجوز بيعه؛ لأن القشر عليه من صلاحه. وقال ابن سريج: يجوز بيع فارة المسك مع المسك، كالجوز. ولو أخرج المسك من الفارة وأراه، ثم رده إليها فباعه - يجوز. ولو رأى الفارة دون المسك؛ فرد إليها، ثم باعه: إن كان رأس الفار مفتوحاً يرى أعلاه - يجوز. وإن كان مسدوداً؛ فعلى قولي بيع الغائب. قلت: وكذلك لو لم يروا واحداً منهما بعد الإخراج. ولو باع المسك؛ كل مثقال بدينار، يجوز ولو باع كل مثقال بدينار مع الفار - فيه وجهان، كالسمن مع الوعاء.

ولا يجوز بيع المسك المختلط بغيره؛ لأن المقصود هو المسك؛ وهو مجهول. وكذلك بيع اللبن المشوب بالماء. باب النهي عن بيع الغرر رُوي عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر". بيع الغرر باطل. والغرر: ما خفي علكي علمه؛ فكل بيع كان المبيع فيه مجهولاً، أو غير مقدور على تسليمه - فهو غرر باطل. منها: ثمن عسب الفحل، حرام، لما رُوي عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل".

والمراد منه: الكراء؛ وهو أن يستأجر فحلاً؛ ليطرقه على الإناث. وقد رُوي صريحاً، أنه - عليه السلام - "نهى عن ثمن عسب الفحل". وهذا؛ لأنه إن أخذ العوض على مائه، فماؤه لا قيمة له. وإن أخذ على فعله، فلا يدخل ذلك تحت قدرته. أما إعارة الفحل للإنزاء من غير شرط عوض - فجائز، مستحب؛ لما فيه من صلاح الخُلق. ثم لو أثابه المستعير عليه شيئاً، فلا بأس. وقال مالك: يجوز استئجار الفحل للإنزاء؛ كما يجوز لتأبير النخل. قلنا: تأبير النخل عمل معلوم؛ فجاز الاستئجار عليه؛ بخلاف ضراب الفحل. ومن جملة الغرر: أن يبيع ما ليس عنده، ثم يشتري، فيسلم إليه؛ فلا يجوز؛ لما روي عن حكيم بن حزام؛ أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه يأتيني الرجل يسألني عن بيع ما ليس عندي. قال: "لا تبع ما ليس عندك".

ومنها: بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والطير المنفلت، والحمل في البطن - لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، ولايدري وجود الحمل وحياته؛ فإن باع الآبق ممن يقدر على رده، والمغصوب من الغاصب، أو من يقدر على أخذه منه - يجوز. ولو باع حاملاً، يدخل الحمل في البيع. ولو قال: بعتك هذه الجارية وحملها، أو هذه الشاة ولبنها، وكانت لبوناً - لا يصح؛ على أصح الوجهين؛ لأن اللبن في الضرع، والحمل في البطن لا يقبل البيع على الانفراد، إنما يدخل في البيع تبعاً؛ فلا يجوز أن يجعله مقصوداً. وقال الشيخ أبو زيد: يجوز؛ لأنه لما دخل في مُطلق البيع، وذكره لا يمنع الجواز؛ كما لو قال: بعتك هذه الدار بحقوقها، أو هذا الجدار وأساسه - يجوز. ولو قال: بعتك هذه الجبة وحشوها. قيل: فيه وجهان؛ كالحمل. وقيل: يجوز وجهاً واحداً؛ لأن الجُبَّة اسم لها مع الحشو؛ فهو كأساس الجدار؛ بخلاف الحمل واللبن؛ فنه لا يتناولهما اسم الشاة. فإذا سماها صارا مقصودين، وأخذا قسطاً من الثمن؛ وهما مجهولان؛ فلم يصح. ولو قال: بعتك هذه الجارية، أو هذه الشاة، على أنها حامل، أو بشرط أنها حامل - ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لما شرط الحمل، كأنه عقد عليهما. والثاني: يجوز خرَّجه صاحب "التلخيص"؛ كما لو اشترى شاة؛ على أنها لبون، يجوز. ومن قال بالأول، أجاب عن اللبون؛ بأنه ليس ببيع اللبن في اللبون، بل هو شرط

صفة فيها؛ بدليل أنها لو لم يكن في ضرعها لبن وقت البيع، بأن كان قد حلبها - لا خيار للمشتري إذا كان لبوناً؛ كما لو اشترى على أنه كاتب أو خباز، جاز. أما الحمل: فيشترط وجوده حالة العقد؛ وهو مجهول جعله مقصود؛ فلم يجز. ولو كان الحمل لواحد، والأم لآخر، فلا يجوز لمال الحمل بيع الحمل؛ لا من مالك الأم، ولا من غيره. وكذلك لا يجوز لمالك الأم بيعها؛ لا من مالك الحمل، ولا من غيره. ولو كان الحمل حراً، لا يجوز بيع الأم. هذا؛ كما لا يجوز استثناء الحمل في البيع. ولو وكل أحد منهما صاحبه؛ فباعهما، لم يجز؛ لأن حصة الحمل من الثمن مجهول. ولو باع السمك في الماء؛ نظر: إن كان في حوض صغير يقدر على أخذه باليد من غير كُلفةٍ - يجوز إن كان الماء صافياً يراه تحت الماء. وإذا كان كدراً لا يراه، فعلى قولي بيع الغائب. وإن كان في مصنعة كبيرة، ولا يقدر على أخذه بالشبكة، أو في أجمة، أو في بئر يلحقه كلفة في أخذه - لا يجوز؛ كالعبد الآبق. وكذلك إذا باع الحمام في برج مغلق عليه الباب؛ فإن قدر على تناوله من غير تعب جاز، وإن ان في برج بير لا يقدر على أخذه إلا بتعب لم يجز. ولو باع الحمام بعدما خرج عن البرج، أوالنحل بعد خروها عن الكوارة، لا يجوز، وإن كانت من عادتها العود؛ لأنه ليس لها عقل يحمله على الوفاء؛ بخلاف العبد الذي بعثه لشغل جاز بيعه. فصل في بيع الفضولي وشرائه ولا يجوز بيع مال المكلف المطلق دون إذنه.

فلو باع رجل ما له دون إذنه، لا يصح العقد؛ لأنه لا يقدر على تسليمه؛ كبيع الآبق. وقال في القديم - وبه قال أبو حنيفة ومال -: يكون البيع موقوفاً على إجازة المالك، فإن أجاز صح. وكذلك لو زوج ابنة الغير، أو أمته، أو طلق زوجته، أو أعتق عبده- لا يصح. وعندهما يتوقف على الإجازة. وبالاتفاق لو طلق زوة صبي، أو أعتق عبده، لا يصح. أما إذا اشترى شيئاً للغير بغير أمره؛ نظر: إن اشترى بعين مال ذلك الرجل؛ فهو كالبيع، لا يصح. وإن اشترى في الذمة؛ نظر: إن لم يسم فلانا، صح العقد للعاقد. وإن سمى فلاناً؛ نظر: إن أضاف الثمن إليه، فقال: اشتريته بكذا في ذمة فلان، فكالبيع - لا يصح. وإن قال: اشتريته لفلان بكذا، ولم يضف الثمن إليه - ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح العقد.

والثاني: تُلغى التسمية، ويصح العقد للعاقد. وإن اشترى بعين مال نفسه المعين شيئاً؛ نظر: إن لم يسم الغير، يقع للعاقد؛ سواء كان بإذن ذلك الغير؛ أو دون إذنه. وإن سمى العين؛ فقال: اشتريت عبدك بثوبي لفلان - نظر: إن كان فلان لم يأمره، فالتسمية لاغية. وهل يقع للعاقد، أم يبطل؟ فيه وجهان: فإن كان فلان أمره به، هل تلغى التسمية أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن أحد العوضين له؛ فلا يصير بدله لغيره. فعلى هذا: حكمه حكم ما لو لم يأمر، يبطل، أم يقع للعاقد؟ فعلى وجهين: والثاني: لا تُلغى التسمية؛ لأنه وكله به. فعلى هذا: يقعُ العقد للآمر، ويكون ما وقع قرضاً عليه، أم هبة؟ فيه وجهان. ومن الغَرَرِ، أن يبع جذعاً في بناء، أو نصفاً معيناً من إناء، أو سيفاً - لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه تسيمه إلا بهدم البناء، وكسر الإناء أو السيف؛ فيدخل عليه ضرر من غيره. وكذلك لو باع نصفاً معيناً من ثوب، أو ذراعاً معيناً: فإن كان الثوب نفيساً ينتقص قيمته بالقطع لم يجز، وإلا يجوز. وكذلك لو باع نصف خشبة معينة يجوز؛ لأنها لا تنتقص بالقطع. ولو باع نصفاً معيناً من جدار؛ نظر: إن باع النصف الأسفل، لم يجز؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم الأعلى. فإن باع النصف الأعلى؛ فإن كان من لبن باعه إلى نصف معين - يجوز. وإن كان من طين لا يجوز، ولو باع نتاج نتاجها لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم. ولا يجوز بيع اللبن في الضرع؛ لأنه مجهول؛ ولأنه يزداد، وما يحدث لا يكون داخلاً في البيع. ولو باع صاعاً من اللبن في الضرع بعدما عرف أن فيه لبناً؛ بأن حلب منه قليل - فقد قيل: يجوز؛ كما لو كان في إناء؛ ولما روي عن ابن عباس: أنه ان يكره بيع اللبن في الضرع، إلا بالكيل. والأصح: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يدري وجود هذا القدر في الحال؛ لأنه يحدث شيئاً فشيئاً.

وقيل: إنه يخرج من العروق إذا أخذ في الحلاب. وما روي عن ابن عباس إلا بالكيل أراد به: إذا أسلم في اللبن، يجوز. ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم؛ لأنه إن لم يشترط القطع، فهو يزداد، وما يزداد لا يكون داخلاً في البيع. وإن شرط القطع فلا يمكن استيفاؤه؛ لأنه يتألم به الحيوان. وقال مالك: يجوز بيعه بشرط الجَزِّ؛ كالقث في الأرض. قلنا: لأنه ثمر يمكن استيفاؤه من غير ضرر. أما إذا باع الصوف على ظهرها بعد الذكاة يجوز؛ لأن استيفاءه ممكن. ولو أوصى لإنسان بالصوف على ظهر الحيوان، أو باللبن في الضرع، وهو موجود في تلك الحال - يجوز؛ لأن الوصية تقبل من الغرر ما لا يقبله البيع؛ كما لا يجوز بيع الحمل في البطن، وتجوز الوصية به. والله أعلم. باب: بيع حبل الحبلة وغير ذلك من المناهي رُوي عن عبد الله بن عمر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة. وكان يتبايعه أهل الجاهلية؛ وذلك: أن يبيع شيئاً إلى أن ينتج نتاج هذه الدابة؛ فلا يصح، لأنه بيع إلى أجل مجهول.

ولو باع نتاج نتاجها، لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم. وروي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الملامسة والمنابذة".

والمُلامسة: أن يأتي بثوب مطوي، أو في ظُلمة الليل؛ فيلمسه المشتري، فيقول صاحبه: بعتك هذا؛ بشرط أن لمسك يقوم مقام نرك إليه، ولا خيار لك إذا رأيته - فهذا باطل؛ لما فيه من الغرر. والمنابذة: أن يقول: انبذ إليك ثوبي، وتنبذ إليَّ ثوب؛ على أن كل واحد بالآخر، أو قال: انبذ إليك ثوبي بعشرة؛ فيكون النبذ بيعاً. فلا يصح؛ لعدم التواجب. وقال ابن سريج المعاطاة بيع؛ وبه قال أبو حنيفة في الأشياء التافهة. ومن جعل المعاطاة بيعاً، قال ببطلان المنابذة بالمعنى الذي بطل به الملامسة؛ وهو أن يبيع ثوباً بثوب مطويين؛ على أنه لا خيار لهما بعد النشر؛ فلا يصح. وروي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة. وله تأويلات: أحدها: أن يقول: أرمي بهذه الحصاة؛ فعلى أي ثوب وقع يكون مبيعاً منك، أو إلى أي موضع بلغ من الأرض يكون مبيعاً منك - فلا يصح؛ لأن المبيع مجهول. الثاني: أن يقول: أرمي بهذه الحصاة، فإذا وقع على الأرض كان الثوب مبيعاً منك بعشرة - فلا يصح؛ لعدم التواجب. الثالث: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة، على أنك بالخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة، ويقع - فلا يصح؛ للخيار المجهول.

فصل: لا يصح من الأعمى شراء الأعيان ولا بيعها وعند أبي حنيفة: يجوز؛ كما يجوز للبصير. ونحن جوزنا شراء الغائب على أحد القولين؛ لأنه يراه بعد البيع؛ فتزول الجهالة. والأعمى ليست له آلة المعرفة، فتمكن من بيعه جهالة لا تزول؛ فلم يجز. فإذا أراد الأعمى أن يشتري شيئاً أو يبيع، يوكل من يتولاه؛ فيجوز لأجل الضرورة. ولو رأى شيئاً في حال بصارته، ثم عمي، فاشتراه أو باعه. إن كان ذلك الشيء مما يتغير في تلك المدة لا يجوز، وإلا فيجوز. ولو اشترى شيئاً لم يره في حال بصارته، وجوزنا شراء الغائب؛ فعمي قبل الرؤية - هل ينفسخ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفسخ؛ كما لو اشترى في حال العمى. والثاني: لا ينفسخ؛ لأن المانع لم يكن مقترناً بالعقد؛ فعلى هذا يوكل من يرى عنه، وله الخيار. وكما لا يجوز بيع الأعمى، لا تجوز هبته. ولو أسلم الأعمى في شيء، أو قبل السلم؛ نظر: إن عمي بعد بلوغه أوان التمييز، ومعرفة الألوان -يجوز، ثم يُوكل من يقبض عنه الوصف المشروط، وهل يصح قبضه بنفسه؟ فيه وجهان: وإن عمي قبل بلوغه أوان التمييز أو كان أكمه - ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه يعرف الصفات بالسماع. والثاني - وهو الأصح -: لا يصح؛ لأنه لا يعرف حقيقة الأوصاف. فحيث جوزنا، إنما يجوز إذا كان رأس المال موصوفاً معيناً في المجلس؛ فإن كان معيناً، لم يجز؛ كبيع العين. ويجوز للأعمى أن يؤاجر نفسه؛ لأنه يعرف نفسه. ولا يجوز أن يؤاجر عبده، وكذلك لا يجوز أن يكاتب عبده.

ولو قبل العبد الأعمى على نفسه الكتابة يجوز. "فصل في النهي عن بيعتين في بيعة" روي عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة". وله تفسيران: أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بألف حالة، أو بألفين إلى شهر- لا يجوز؛ لأنه لا يدري أيهما الثمن. وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد، أو هذه الجارية - لا يصح؛ لأنه لا يدري أيهما المبيع. أما إذا قال: بعتك هذا العبد بألف حالة، وبألفين؛ إلى شهر - يصح؛ لأن الثمن معلوم؛ وهو ثلاثة آلاف؛ بعضها حال وبعضها مؤجل.

وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد بألف، وهذه الجارية بألفين؛ فقبل في أحدهما بعينه - جاز. ولو قال: بعتك هذا العبد؛ نصفه بألف، ونصفه بألفين - جاز. ولو قال: بعتك بألف؛ نصفه بستمائة لم يجز؛ لأن ابتداء كلامه يقتضي توزيع الثمن على المثمن بالسوية، فأخذه يناقضه. التفسير الثاني: أن يقول: بعتك هذا العبد بألف؛ على أن تبيعني دارك، أو تشتري مني داري - لا يصح؛ لأنه جعل الألف، ووفق البيع الثاني ثمناً؛ فإذا بطل الشرط، بطل بعض الثمن؛ فيبقى الباقي مجهولاً. أما البيع الثاني، إن كانا عالمين ببطلان الأول - صح. وإلا فلا يصح؛ لأنه يبيعه على حكم الشرط الفاسد. "فصل في النهي عن النجش" روي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش. والنجش: الخديعة؛ وهو: أن يتقدم رجل إلى سلعة تباع فيمن يزيد؛ فيزيد في ثمنها، ولا يريد شراءها؛ ترغيباً للناس فيها.

فهو عاص بهذا الفعل. ثم إذا اغتر رجل فاشتراها، يصح العقد؛ لأنه لا فساد في العقد. وهل يثبت له الخيار إذا علم؟ نظر: إن فعله الناجش بغير التماس البائع، لا خيار للمشتري، وإن فعل بالتماسه ففيه قولان: أحدهما: له الخيار؛ للتدليس؛ كالتصرية. والثاني: لا خيار له؛ لأن التفريط من جهته؛ حيث اغتر بقوله، ولم يستعن بغيره. فصل في البيع على بيع الأخ والسوم على سوم الأخ رُوي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض". ويروى: لا يسوم الرجل على سوم أخيه. صورة البيع على بيع أخيه: أن يشتري رجل شيئاً وهو مغتبط به؛ فجاء رجل في مجلس الخيار إلى المشتري، وقال: افسخ هذا البيع؛ حتى أبيع منك خيراً منه بأرخص.

أو جاء إلى البائع، وقال: افسخ؛ حتى أشتري منك بأكثر، فهذا حرام. ثم إن كان قصد فسخ العقد بينهما؛ وهو لا يريد شراءه، عصى الله - تعالى- سواء كان عالماً بالحديث، أو لم ينك عالماً بالحديث؛ كما في النجش. وإن أراد شراءه: فإن كان عالماً بالحديث يعصي، وإلا فلا؛ بخلاف النجش؛ حيث قلنا: يعصي به، وإن لم يكن عالماً بالحديث؛ لأن النجش خديعة، وليست الخديعة من أخلاق أهل الشريعة، ولا يخفى ذلك على عاقل، والبيع على بيع أخ مما يخفى بحكمه على الناس؛ فتوقف العصيان فيه على قصد مخالفة الحديث. فلو فسخ مع الأول، وعقد مع الثاني، صح العقد؛ لأن الفسخ ثابت له في المجلس. صورة السوم على سوم الأخ: أن يأخذ شيئاً ليشتريه؛ فقبل أن يشتري جاء رجل، فقال: رده؛ حتى أبيع منك خيراً منه. وقال للمالك: خذه لأشتريه بأكثر، فهو حرام إن كان تراضيا على شيء، أما إذا لم يتراضيا على شيء فلا يحرم. فإن وجد دلالة الرضا؛ بأن طلب المشتري بعشرة، فقال: أسامحك ونحو ذلك - فهل يحرم الدخول عليه؟ فيه وجهان. هذا إذا كان البيع في موضع مستقر. فأما إذا كان الشيء يطاف به فيمن يزيد، ولم يقع الرضا من المالك بشيء - فلا حرج على من يزيد على ما طلب به غيره. وعند أبي حنيفة: المراد بالبيع على بيع الأخ: هو السوم؛ لأن عنده خيار المكان لا يثبت في البيع؛ فلا يتصور البيع على البيع.

"فصل في بيع الحاضر للبادي" روي عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بيع حاضر لباد؛ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". صورته: أن أهل البادية كانوا يحملون إلى البلد متاع البادية من الصوف والأقط ونحوها؛ يبيعونها بسعر اليوم؛ ليرجعوا إلى البادية على سرعة؛ لما عليهم من المؤنة في المقام بالبلد، وكان من ذلك رفق وسعة لأهل البلدة. وكان الرجل من أهل البلد يأتي البدوي، ويقول: ضع متاعك عندي؛ حتى أبيعه لك على مر الأيام بأغلى وارجع أنت إلى باديتك. فليس للبلدي أن يفعل ذلك؛ لما فيه من قطع رفق أهل البلد؛ فإن فعل وهو عالم بالحديث، يعصي الله - تعالى - وإن لم يكن عالماً به لا يعصي. ولو فعل، وباع للبدوي، صح البيع؛ لأن النهي ليس في العقد؛ كالبيع في وقت الشراء. هذا إذا عرض البلدي عليه ذلك، فأما إذا التمس ذلك منه رب المال، وأراد رب المتاع أن يقيمه بالبلد، ويبيعه على مر الأيام؛ فعرض البدوي نفسه عليه، والتمس تفويضه إليه - فهو مأجور عليه، غير مأثوم. وإنما يحرم في الصورة الأولى إذا كان يظهر من متاعه سعة لأهل البلد. فإن كان لا يظهر منه سعة لكبر البلد، وقلة ذلك المتاع، أو كان السعر رخيصاً، ومثل ذلك المتاع عام الوجود - فهل يجوز للبلدي أن يبيع له ذلك؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لظاهر النهي. والثاني: يجوز؛ لأنه لا ضرر فيه على أهل البلد. ثم هذا فيما يعم مساس الحاجة إليه من أطعمة القرى والصوف. وأما ما تقع الحاجة إليه نادراً، فلا يدخل تحت النهي. "فصل في تلقي الركبان" رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلقوا الركبان للبيع".

وفي رواية: فمن تلقاها، فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق". وصورته: أن يقع الخبر بقدوم عيرٍ تحمل المتاع، فيتلقاها رجل؛ ليشتري منهم شيئاً.

بأرخص قبل أن يقدموا البلد، ويعرفوا سعره -فهذا الرجل إن كان عالماً بالحديث يعصي، وإلا فلا؛ غير أنه إذا فعل واشترى يصح الشراء، ولا خيار للبائع قبل أن يقدم السوق. فإذا قدم السوق له الخيار عن كان مغبوناً؛ بأن اشتراه المشتري بأرخص من سعر البلد؛ سواء أخبره المشتري بسعر البلد أو كذب، أو لم يخبر. أما إذا لم يكن مغبوناً؛ بأن اشتراه بسعر البلد، أو بأكثر- فهل له الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لظاهر الخبر. والثاني - وهو الأصح-: لا خيار له؛ لأنه لم يخنهم. قلت: وكذلك إذا اشتراه بأقل، والبائع عالم بسعر البلد، أو أخبره المشتري؛ فصدق -لا خيار؛ على الأصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الخيار بقدوم السوق؛ ليقف على غبن خفي عليه حالة البيع. أما إذا لم يقصد التلقي، بل خرج لشغل آخر؛ فرأى عيراً مقبلة؛ فاشترى منهم شيئاً- لا يعصي، ولا خيار للبائع إذا قدم السوق، وإن كان مغبوناً. وقيل: إن أخبره المشتري بسعر البلد وكذب، فله الخيار. والله أعلم. باب: النهي عن بيع وسلف رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع وسلف. وصورته: أن يقول: بعتك عبدي بكذا؛ على أن تقرضني عشرة - فلا يصح البيع؛ لأنه

جعل الألف ورفق القرض ثمناً، فإذا أبطل شرط القرض يسقط بمقابلته بعض الثمن؛ فيبقى الباقي مجهولاً، وإذا أقرضه بعد ذلك يصح؛ لأنه لا شرط فيه. ولو قال: أقرضتك هذه العشرة؛ على أن تبيعني عبدك - لا يصح الاقتراض؛ لأنه قرض جر منفعة، وكل قرض جر منفعة فهو ربا؛ حتى لو أقرضه شيئاً؛ على أن يرد أجود أو أكثر، أو أقرضه المكسر؛ على أن يرد الصحيح -لا يجوز؛ سواء شرط المستقرض على نفسه، أو شرط عليه المقرض. أما إذا استقرض مطلقاً، ثم رد أفضل، أو أكثر من غير شرط - جاز. والدليل عليه: ما روي عن أبي رافع قال: استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكراً فجاءته إبل الصدقة؛ فأمرني أن قُضي الرجل بكره. فقلت: لا أجد إلا جملاً خياراً رباعياً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء". ولو أرضه ليرد إليه ببلد آخر، لا يجوز؛ لأنه يجر إلى نفسه نفع أمن الطريق؛ فإن لم يشرط؛ وكتب له إلى بلد آخر من غير شرط - جاز، ولو شرط فيه أجلاً؛ نظر: إن كان للمقرض عليه نفع؛ بأن كان أيام نهب -لا يجوز، وإن لم يكن يجوز؛ لأنه نفع المستقرض ونفع المستقرض لا يفسد القرض؛ لأن القرض جوز لنفع المستقرض؛ حتى لو أقرضه الصحاح؛ ليرد المكسر، أو أقرضه ألفاً؛ على أن يقرضه المقرض ألفاً أخرى - لا يفسد به القرض؛ لأنه وعد، ولا يلزم الوفاء به. وكذلك لو وهب شيئاً؛ على أن يهبه الواهب شيئاً آخر - لا تفسد الهبة؛ بخلاف ما لو باعه عبداً؛ على أن يهب له البائع ثوباً، لم يصح البيع؛ لأن الأصل: البيع على العوض، فإذا التزم مع المبيع هبة أو قرضاً، فلم يشتره المشتري غلا على شرط عقد - يفسد. وكذلك لو شرط فيه أجلاً، لا يلزم الأجل. وعند مالك: يلزم الأجل. ويجوز شرط الرهن والكفيل في القرض؛ لأنه توثيق الحق؛ فلا يعد نفعاً يبطل القرض؛ كما أن شرط الرهن في البيع جائز، ولا يجعل عقداً في عقد. فصل في أن الإقراض مستحب ويشترط فيه الإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك كالبيع والهبة.

ويصح بلفظ القرض والسلف، وبما في معناه؛ بأن يقول: ملكتك هذا؛ على أن ترد عليَّ بدله. فإن قال: ملكتك؛ ولم يذكر رد البدل، فهو هبة. فإن اختلفا: فقال الدافع: أردت القرض. وقال الآخذ: بل الهبة - فالقول قول الآخذ مع يمينه؛ لأن الظاهر منه الهبة. ولا يثبت فيه خيار المكان، ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار لإثبات الفسخ. وفي القرض يجوز لكل واحد منهما فسخه متى شاء، وهل يملك المستقرض بنفس القبض؟ فيه جوابان: أصحهما: يملك؛ لأنه قبض يفيد التصرف؛ كما في الهبة. والثاني: لا يملك إلا بالتصرف؛ لأنه ليس معاوضة، ولا تبرعاً محضاً؛ لأنه يجب عليه بدله، ولا يحكم له بالملك إلا بعد استقرار بدله عليه. وإن تصرف بما يزيل الملك من بيع أو هبة أو إعتاق أو إتلاف - يحكم له بالملك قبل ذلك، فإن رهن أو أجر زوج، أو كانت حنطة؛ فطحنها، أو شاة، فذبحها - هل يحكم له بالملك؟ فيه وجهان: أحدهما: يملك؛ لأنه تصرف تَصَرُّف الملاك. والثاني: لا يملك؛ حتى يتصرف بما يزيل الملك. فعلى هذا: إن كان قد زوج أو رهن أو أجر، لا تصح هذه العقود. وفائدة الاختلاف في الملك: أنه لو أقرضه شيئاً؛ فقبل أن يتصرف فيه، تقاضاه المقرض - هل يجب عليه رد عينه؟ إن قلنا: يَملِكُ بنفس القبض، لا يجب رد عينه، بل له أن يؤدي بدله من موضع آخر. وإن قلنا: لا يملك، يجب عليه رد عينه. فإن أقرضه حيواناً؛ فإن قلنا: يملك بالقبض، فنفقته على المستقرض، وإن أقرضه أباه يعتق عليه. فإن قلنا: لا يملك بالقبض ما لم يتصرف، فنفقته على المُقرض، ولا يعتق أبوه قبل التصرف فيه. قلت: يحتمل أن يقال: يعتق، ويحكم له بالملك قبله؛ كما لو أنشأ إعتاق الأجنبي. وكل ما جاز السلم فيه، جاز استقراضه.

قال الشافعي - رضي الله عنه-: ولا باس باستسلاف الحيوان كله إلا الولائد. أما العبيد: فيجوز استقراضها؛ كسائر الحيوانات. أما الجواري: نظر: إن استقرضها من لا يحل له وطؤها، جاز. وإن كان ممن يحل له وطؤها، ففيه قولان؛ بناء على أنه متى تملك؟ إن قلنا: تُمْلَكُ بالتصرف، جاز. وإن قلنا: بالقبض، فلا يجوز؛ لأنه ربما يطؤها بحكم الملك، ثم يردها بعينها؛ فيكون في معنى إعارة الجارية للوطء؛ وذلك لا يجوز. فحيث جوزنا في المحارم؛ فاستردها المقرض قبل تصرف المستقرض - هل عليه الاستبراء، أم لا؟ إن قلنا: ملك المستقرض بالقبض يجب، وإلا فلا يجب. وما لا يجوز السلم فيه؛ كالجواهر، والأشياء التي لا تضبط بالصفة، لا يجوز استراضه. وشبهه بالسلم من حيث إنه يعجل شيئاً، ويكون عوضه في ذمته، وفي استقراض الخبز وجهان؛ كالسلم فيه: الأصح: لا يجوز. ويجوز استقراض المكيل وزناً، والموزون مكيلاً؛ كالسلم. وقال الشيخ القفال: لا يجوز قرض المكيل بالوزن. ويختص ذلك بالسلم؛ لأنه لا ربا بين رأس مال السلم، وبين المسلم فيه. حتى قال: لو أتلف على إنسان مائة مَنَّ من الحنطة، يجب عليه أن يرده وزناً. وكذلك لو باع شقصاً بمائة من الحنطة، لا يأخذه الشفيع بالحنطة وزناً، بل ينظر: كم تكون تلك الحنطة، فيأخذه كيلاً. وكان القاضي الإمام - رحمه الله-يقول- وهو الأصح عندي-: إنه يأخذ بمثله وزناً؛ ما اشتراه، وكذلك في الإتلاف والقرض؛ كما في السلم. وإذا استقرض مثلياً هل يجب عليه رد المثل؟ وإذا استقرض متقوماً، فعلى وجهين: أحدهما: يجب [قيمته]؛ كما لو أتلفه على غيره، يجب عليه القيمة.

والثاني - وهو المذهب -: عليه رد المثل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- استسلف بكراً فأمر برد مثله. فإن أوجبنا القيمة، فتعتبر قيمته بيوم القبض: إن قلنا: يملك القبض. فإن قلنا: بالتصرف، فبالأكثر من يوم القبض إلى أن يتصرف. وقيل: إذا قلنا: يجب القيمة، يجوز استقراض ما لا يسلم فيه؛ كالجواهر ونحوها. وإذا أقرضه شيئاً ببلد، ثم لقيه ببلد آخر، فإن لم يكن لنقله مؤنة؛ كالدراهم والدنانير- يجوز للمقرض مطالبته برده، وللمستقرض رده. وإن كان لنقله مؤنة، ليس للمقرض مطالبته بمثله، ولا للمستقرض رد مثله؛ لما في نقله من المؤنة، إلا أن يتراضيا عليه. ويجوز للمقرض مطالبته بقيمته؛ باعتبار بلد الإقراض. وكذلك لو غصب مثلياً؛ فأتلفه، ثم لقيه ببلد آخر: فإذا أخذ القيمة، ثم اجتمعا في بلد الإقراض - هل له رد القيمة، ومطالبته بالمثل؟ أو هل للمستقرض أن يطالبه برد القيمة؟ فيه وجهان. والله أعلم. باب تجارة الوصي قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282]. وروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة". يجوز للولي أن يتصرف في مال الصبي والمجنون؛ على وجه النظر؛ سواء كان الولي أباً، أو جداً، أو وصياً، أو قيماً. فيجوز له أن يبيع ماله بنقد البلد، وبالعرض، ونسيئة، إن رأى النظر فيه. وإذا باع نسيئة، يجب أن يزيد على ثمن النقد، ويشهد عليه، ويأخذ رهناً؛ فإن لم يفعل، ضمن. ويجوز أن يسافر بماله، ويبعث على يد أمين، إن كان الطريق آمناً. ولو كان الطريق

مخوفاً، فلا يجوز، فإن فعل صار ضامناً. ولا يجوز أن يهب بشرط الثواب؛ لأنه لا ينعقد بالهبة العوض؛ كما لا يجوز أن يعتق عبده، ولا أن يكاتبه. ويجوز للأب والجد أن يبيع مال ولده الطفل، أو المجنون من نفسه، ويشتري له من نفسه، ويتولى طرفي العقد. ولا يجوز ذلك للوصي والقيم؛ لأن الأب والجد كامل الشفقة. فينظر لولده أكثر مما ينر لنفسه، وليس للوصي والقيم له من كمال الشفقة مما يترك نظر نفسه لحق المولى عليه. وإذا نظر لنفسه بخس لحق المولى عليه. ولو باع مال ولده من نفسه، هل يحتاج إلى لفظين؟ فيقول: بعت، واشتريت، أم يكتفي بأحدهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج إلى لفظين؛ ما لو باع من غيره، يشترط وجود لفظ البيع والشراء. والثاني: يكتفي بلفظ واحد؛ كما أن الشخص الواحد قام مُقام شخصين يقوم اللف الواحد مقام لفظين. وكذلك يجوز للأب والجد؛ أن يبيع مال أحد ولديه الصغيرين من الآخر، ويتولى طرفي العقد. ولو باع مال ولده من نفسه نسيئة، ولم يرتهن [له] شيئاً من نفسه - يجوز، لأنه مؤتمن على ولده؛ بخلاف ما لو باع من غيره نسيئة، يجب أن يرتهن. ولا يجوز للولي اقتراض مال الصبي، ولا المجنون، ولا الإيداع من غير ضرورة. فإن وقعت ضرورة؛ بأن وقع خوف من حريق، أو غرق، أو فتنة، أو أراد سفراً - حينئذ، يجوز أن يقرض ماله. أما القاضي يجوز أن يقرض ماله من غير ضرورة؛ لأن ولايته عامة؛ فيشق عليه حفظ جميع أموال اليتامى بنفسه. فكل موضع جوزنا الإقراض، فهو أولى من الإيداع؛ لأن القرض يكون مضموناً، فإن لم يجد من مستقرض حينئذ يودعه من أمين، ولو أودعه مع وجود من يقرضه منه.

ففيه وجهان: الأصح: لا يجوز؛ لأنه ترك النظر له. وإذا أقرض قرضاً، يجب أن يقرض من مليء وفيٍّ أمين، فإن أقرض من ذمي، أو من غير أمين صار ضامناً، والملاءة غير شرط في المودع، وهي شرط في المستقرض. والأمانة شرط فيهما. وإذا أقرض: فإن رأى أخذ الرهن يأخذه، وإلا لم يأخذ. ويجوز أن يستقرض للصبي عند الحاجة؛ بأن يكون ماله غائباً، أو له متاع والسوق كاسد؛ وهو يحتاج إلى النفقة في الحال؛ فيستقرض له إلى أن يحضر ماله، أو ينفق سوق متاعه وهو أولى من بيع عقاره، ولا يجوز بيع عقاره إلا لغبطة أو حاجة. فالغبطة أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره، وشريكه يرغب في شرائه؛ بأكثر من ثمنه، أو كان في جواره من يشتريه بأكثر؛ وهو يجد مثله من موضع آخر بأرخص، أو كان مثقلاً بالخراج. والحاجة: أن يكون به حاجة إلى النفقة والكسوة، وغلة عقاره لا تقوم بكفايته - يجوز له بيعه؛ لأن حفظ نفسه أولى من حفظ ماله. ومطلق بيع الأب والجد العقار يحمل على النظر؛ فلا يحتاج إلى إثباته عند الحاكم، والحاكم يسجل على بيعه. أما الوصي والقيم؛ فلا يبيع العقار، ولا يسجل عليه الحاكم إلا ببينة تقوم عند الحاكم على الغبطة والحاجة. وإذا كان بين بالغ وصبي ربعٌ منقسم؛ فطلب البائع القسمة، هل يجبر قيم الصبي على القسمة؟ نظر: إن كان للصبي منه نفع يجبر، ويعطي من مال الصبي حصته من مؤنة القسمة. وإن لم يكن له نفع، فيه قولان: أحدهما: لا يجبر إلا بعد أن يغرم البالغ من حصة الصبي من مؤنة القسمة. والثاني: يجبر. قلت: وهو الأصح.

ويعطي الأجرة من مال الصبي؛ لأنه مؤنة تلزمه بسبب ملكه؛ كما لو كان للصبي حمار زمن يكون علفه في ماله. ولا يجوز للولي أن يكاتب عبد الصبي؛ لأنه إتلاف لا نظر للصبي فيه. وعند أبي حنيفة: يجوز. وبالاتفاق لو أعتق عبده مجاناً أو على مال، لا يجوز. ولو كاتب؛ فأدى النجوم، لا يعتق؛ بخلاف الكتابة الفاسدة من المالك إذا وجد فيها أداء النجوم يعتق؛ لأنه تعليق؛ ولا يصح التعليق إلا من المالك. وإذا بلغ الصبي، أو أفاق المجنون؛ فادعى على الولي؛ أنه باع ماله بغير نظر وغبطة نظر: إن كنا الولي أباً أو جداً، فالقول قولهما مع يمينهما؛ سواء كان عقاراً أو غيره، وعلى المدعي البينة. وإن كان وصياً أو قيماً، لا يقبل قوله في العقار، إلا ببينة تقوم على الغبطة والنظر. وفي غير العقار وجهان: أحدهما: لا يقبل قوله؛ كما في العقار. والثاني: يقبل؛ لأنه يشق عليه الإشهاد في كل شيء يبيعه من ماله. كما يقبل قوله في قدر ما أنفق عليه. وقيل: في قدر ما أنفق عليه أيضاً وجهان. وكذلك لو ادعى على من اشتراه من الولي؛ أنه لم يكن له فيه نظر: فإن كان قد اشتراه من الأب أو الجد، فالقول قول المشتري مع يمينه، وإن كان قد اشتراه من الوصي والقيم، فعلى ما ذكرنا. ويستحب للولي أن يشتري للصبي العقار؛ فهو أولى من التجارة؛ لأنه يحصل له الغلة، ويبقى له أصله. وإن لم يكن له فيه نظر؛ بأن كان مثقلاً بالخراج والمؤن أو كان في موضع أشرف على الخراب - لا يجوز. ويجوز أن يبنى له الدور والمساكن. قال الشافعي - رضي الله عنه -: ويبنيه بآجر وطين، ولا يبنيه بجص؛ لأن الآجر لا يخلص عن الجص صحيحاً، ولا بلبن؛ لأنه يتلف في العمارة.

ولو أشار الولي إلى عين من مال الصبي أن هذا بعته من فلان، يقبل قوله. ولو قال: هذا الفلان، ولم يقل: بعته منه، هل يقبل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يقبل، ما لم يقل: بعت. والثاني: يقبل، ويحمل على أنه باعه. نظيره: لو أقر بحمل امرأة بمال مطلقاً، هل يقبل؟ فيه قولان. ويجب على الولي أن يخرج من مال الصبي ما يلزمه من الزكوات والكفارات والعشر وصدقة الفطر وأروش الجنايات، وإن لم يطلب. ونفقة القريب لا تخرج إلا بعد الطلب، وينفق عليه، ويكسوه بالمعروف من غير إشراف، ولا إقتار. وإذا بلغ الصبي، واختلفا: فقال الولي أنفقت عليك، وأنكر الصبي. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأنه أمين؛ كما لو اختلفا في قدر النفقة. فالقول قول الولي مع يمينه، إن كان ما يدعيه قصداً. وإن اختلفا في المدة؛ فقال الولي: أنفقته عشر سنين، وقال الصبي: بل خمس سنين - فيه وجهان. قال الإصطخري: القول قول الولي؛ كما لو اختلفا في قدر النفقة. وقال الأكثرون: القول قول الصبي؛ لأنه اختلاف في المدة، والأصل عدمها. ولو ادعى الولي دفع المال إليه بعد البلوغ، وأنكر الصبي. فالمذهب، وهو المنصوص: أن القول قول الصبي؛ لأن الولي يدعي الدفع إلى غير من ائتمنه؛ كالملتقط إذا ادعى رد اللقطة إلى مالكها، كان القول قول المالك. وقيل: القول قول الوصي؛ كما في النفقة. والأول المذهب؛ بخلاف النفقة؛ لأن الإشهاد على قدر ما ينفق متعذر، وعلى الرد غير متعذر، وقد أمر الله - تعالى- بالإشهاد عند دفع المال إلى الصبي؛ فقال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]، ولو كان قوله مقبولاً، لم يأمر بالإشهاد. ويجوز للولي أن يخلط ماله بمال الصبي، ويؤاكله؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ...} [البقرة: 220].

وكذلك المسافرون يخلطون أزوادهم، ويتعاهدون، وإن كانوا يتفاوتون في الأكل. وهل يجوز للولي أن يأخذ من مال الصبي نفقته إذا كان اشتغاله بالقيام عليه يمنعه من كسبه؟ نظر: إن كان غنياً فلا، وإن كان فقيراً يجوز؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. ثم الفقير إذا أخذ نفقته هل يلزمه الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وهو قول الحسن وعطاء؛ لأن الله - تعالى- أباح له الأكل من غير شرط ضمان؛ كالإمام يأخذ الرزق من بيت المال. والثاني: يلزمه الضمان؛ وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير؛ كالمفطر يباح له أكل طعام الغير، ويلزمه الضمان. فصلٌ: في تصرفات الصبي لا يصح شيء من تصرفات الصبي؛ لا في حق نفسه، ولا في حق غيره؛ سواء أذن له الولي فيه، أو لم يأذن. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: ينفذ تصرفه بإذن الولي إذا كان يعقل؛ حتى قال: لو باع ماله بالبخس بإذن الولي، يجوز، وإن لم يجز للولي ذلك. قلنا: امتناع تصرفه لعدم البلوغ، وهو باقٍ؛ فنقول: ما ينتقل إلى الصغير بعد البلوغ في حكم ماله، لا ينتقل إليه في الصغر؛ قياساً على حفظ المال. ولا يصح تدبير الصبي ووصيته؛ كسائر تصرفاته؛ على القول الأصح؛ وبه قال أبو حنيفة. وفيه قول آخر: إنه يصح تدبيره ووصيته، إذا كان يعقل؛ وبه قال مالك؛ لأن له فيه نظراً بعد الموت؛ فلا ضرر عليه في الحال؛ لأن ملكه لا يزول. ولو اشترى صبي شيئاً، أو استدان؛ فتلف في يده، أو أتلفه - لا شيء عليه في الحال، ولا بعد البلوغ. وإن كان قد أدى الثمن، فلوليه أن يسترده. وهذا بخلاف العبد، إذا استقرض شيئاً، أو اشترى بغير إذن المولى؛ فتلف في يده،

أو أتلفه - يتعلق الضمان بذمته؛ يتبع به إذا عتق؛ لأن الحجر على الصبي لحق نفسه. فإذا لم يجب الضمان في الحال، لا يجب بعد البلوغ، والحجر على العبد لحق المولى؛ فإذا أزال حقه بالعتق، ضمن. ولو أودع رجل من صبي شيئاً؛ فتلف عنده، لا ضمان عليه. ولو أتلفه، هل عليه الضامن؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ كما لو أتلف مال إنسان من غير إيداع يضمن. والثاني: لا ضمان عليه؛ لأن المالك هو الذي سلطه عليه بالإيداع؛ كما لو باع منه شيئاً؛ فأتلف، لا يضمن. ولو أودع عند عبد شيئاً؛ فتلف عنده، لا يضمن. فإن أتلفه، يجب الضمان، ثم يتعلق برقبته أو بذمته. فيه قولان: فإن قلنا: لا ضمان على الصبي، فيتعلق بذمة العبد؛ كدين المعاملة. وإن قلنا: يضمن الصبي، فيتعلق برقبة العبد. ولو كان للصبي وديعة عند إنسان؛ فدفعها المودع إلى الصبي - يجب عليه الضمان؛ سواء دفع بإذن الولي، أو دون إذنه؛ كما لو أتلفها بإذنه. ولو كانت الوديعة للولي، أو لغيره؛ فدفعه إلى الصبي بإذن المالك - لا ضمان على المودع؛ كما لو أمره بإتلافه؛ فأتلفه، لا يضمن. ولو غصب صبي شيئاً؛ فهلك عنده، يلزمه الضمان. فإن علم به الولي، يجب أن يأخذه؛ فيرده إلى المالك. فلو لم يفعل؛ حتى هلك عند الصبي، فالضمان في مال الصبي، والولي يكون طريقاً فيه. فإن أخذه الولي؛ فهلك في يده، نظر: إن تلف بعد التمكن من الدفع إلى المالك، فالضمان على الولي، والصبي طريق فيه. فإن تلف قبل التمكن، فالضمان في مال الصبي. والولي هل يكون طريقاً؟ قيل: فيه وجهان؛ بناء على ما لو أخذ المغصوب من الغاصب؛ ليرد إلى المالك - هل يضمن؟ فيه قولان:

وقيل: لا يكون طريقاً؛ لأنه مأمور بأخذه من الصبي؛ بخلاف من أخذه من الغاصب. ولو غصب عبد شيئاً؛ فهلك عنده، أو أهلكه- يتعلق الضمان برقبته. وإن علم به المولى؛ فلم يأخذ؛ حتى هلك عنده، ففيه قولان: أحدهما: يتعلق الضمان برقبة العبد فحسب. والثاني: يتعلق برقبته، وسائر أموال المولى؛ لأنه متعد بتركه في يده. ولو أخذه المولى، فهلك في يده، نظر: إن تمكن من الرد إلى المالك؛ فلم يفعل - ضمن في جميع ماله. وإن لم يتمكن، ففي رقبة عبده. والله أعلم. بابُ: مداينة العبد قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]. لا يصح تصرف العبد بغير إذن الولي؛ فلو اشترى شيئاً، أو استقرض بغير إذنه، فهو فاسد. فإن كان عين ما أخذ قائماً في يده، استرده المالك، وإن تلف في يده أو أتلفه، يتعلق الضمان؛ وهو القيمة بذمته؛ يتبع به إذا اعتق. فإن كان قد أدى الثمن من مال المولى، فللمولى أن يسترده. فإن أخذ المولى من العبد ما اشتراه، أو استقرض عليه -رده إلى البائع والمقرض. فإن تلف عنده، فالمالك إن شاء: طالب المولى بالضمان، وإن شاء طالب العبد. غير أنه إن طالب المولى يطالبه في الحال، وإن أراد مطالبة العبد يطالبه بعد العتق. ولو رآه السيد في يد العبد؛ فلم يأخذ، لا ضمان عليه. أما إذا اشترى العبد شيئاً، أو استقرض بإذن المولى - يصح، ويكون ملكاً للمولى؛ فإن تلف في يد العبد، يكون من ضمان المولى. ويجوز للعبد أن يؤاجر نفسه بإذن السيد. وهل يجوز له بيع نفسه ورهنه بإذن السيد؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه قال صاحب "التلخيص" -: يجوز؛ لأن كل تصرف صح من السيد في عبده، صح من العبد بغذنه؛ كبيع عبد آخر للسيد. والثاني: لا يجوز؛ لأن إذن السيد [في عبده] إنما يصح ما دام ملكه عليه، وتصرفه

فيه نافذاً، والملك بالبيع يزول، وبالرهن يمتنع تصرفه. والأول أصح. ما أن بيع السيد بنفسه يجوز، وإن كان بالبيع يزول ملكه. وعلى هذا: لو أمر رجل عبد إنسان؛ حتى يستأجر نفسه من سيده له، أو يشتري نفسه من سيده؛ ففعل- يصح؛ على ظاهر المذهب. ولا يحتاج إلى إذن السيد قبل الشراء؛ لأن بيعه بنفسه منه إذن له بالشراء. وفيه وجه آخر: أنه لا يصح؛ لأن يد العبد يد السيد؛ كما لو قال للسيد: اشتر عبدك من نفسك - لا يصح. وكذلك لو قال اشتر من سيدك داره، فعلى هذين الوجهين، والمذهب: جوازه. فصل: في إذن العبد في التجارة يجوز للسيد يأذن لعبده في التجارة. ثم ينظر: إن دفع إليه مالاً، وقال: اتجر فيه، فلا يتصرف إلا في ذلك القدر، وله أن يستدين، ويشتري في الذمة بذلك القدر، ولا يزيد. وإن قال اجعله رأس مالك، وتصرف فيه كيف شئت - وله أن يتصرف بأكثر منه، وإن لم يدفع إليه مالاً فله أن يشتري في الذمة والتصرف. ومتى صح الإذن في التجارة، فهل له صرف أكسابه من الاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد، والإخراج من المعدن، وقبول الوصية، والاتهاب إليه؟ ففيه وجهان: أصحهما: له ذلك، ويقضي منها ما لزمه من الديون، ولا يجوز للمأذون أن يؤاجر نفسه. وعند أبي حنيفة: يجوز. وهل له أن يؤاجر أموال التجارة من الدور والعبيد؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ كما يجوز له بيعها، وكالمكاتب يؤاجر أمواله، ولأن المنفعة من فوائد المال تملك العقد عليه؛ كالصوف واللبن يبيعه. والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا التصرف ليس من باب التجارة؛ بدليل أنه لو حلف ألا يتجر؛ فأر شيئاً، لا يحنث.

ولا يجوز للمأذون أن ينفق على نفسه من مال التجارة؛ لأن ما يحصل بكسبه وتجارته ملك للمولى؛ فلا ينفقه إلا بإذنه، بل نفتقه على سيده. وعند أبي حنيفة: يجوز. ولا يجوز أن يضيف أو يتصدق بشيء، ولا يجوز أن يبيع نسيئة، ولا بدون ثمن المثل، ولا أن يسافر بمال التجارة. فلو باع نسيئة أو بغبن فاحش، لا يصح. ولو أذن لعبده بالتجارة في نوع يجوز، ولا يتصرف في غيره من الأنواع. وكذلك لو أذن له في التجارة شهراً أو سنة، لا يتصرف بعده. وعند أبي حنيفة: إذا أذن في نوع يتصرف في جميع الأنواع. وإذا سمى مدة تعم؛ وهذا لا يصح؛ لأنه يتصرف في مال المولى؛ فهو كالوكيل لا يجاوز ما أمره به الموكل؛ كما لو أذن له في التجارة، لا يجوز أن ينكح. وبالاتفاق: لو دفع إليه عشرة؛ ليشتري بها شيئاً، لا يصير مأذوناً في التجارة. ولو رأى السيد عبده يتصرف؛ فسكت، لا يكون سكوته إذناً في التجارة. وعند أبي حنيفة: يكون إذناً. وبالاتفاق: لا يصح التصرف الذي رآه عليه. ولو رآه ينكح؛ فسكت، لا يكون سوته إذناً به في النكاح؛ فنقيس عليه. ولا يجوز معاملة المأذون مع المولى بخلاف المكاتب يجوز أن يعامل المولى؛ لأن المكاتب يتصرف لنفسه، والمأذون يتصرف للمولى؛ كالوكيل. ولو اشترى المأذون شقصاً، والمولى شريكه، لا شفعة له فيه. ولا يجوز للعبد المأذون أن يوكل بالبيع، ولا أن يتوكل بغير إذن المولى؛ كالوكيل لا يوكل؛ بخلاف المكاتب يجوز له أن يُوكل؛ لأنه يتصرف لنفسه، والعبد يتصرف لمولاه. وإذا أبق العبد المأذون له في التجارة، لا يصير محجوراً عليه، وله أن يتصرف في البلد الذي خرج إليه، إلا أن يكون السيد قد خص تصرفه بهذا البلد؛ فلا يصح تصرفه في غير هذا البلد. وقال أبو حنيفة: يصير بالإباق محجوراً عليه. فنقول: العصيان لا يوجب الحجر؛ كما لو ضرب مولاه، ولو أذن لجاريته في التجارة، ثم استولدها، لا يكون حجراً. وعند أبي حنيفة: يكون حجراً.

وبالاتفاق: لو أذن لأم ولده في التجارة، يجوز. قلنا: لما لم يمنع الاستيلاد ابتداء الإذن لم يرفع دوامه. ولو كان بين رجلين عبد؛ فأذن له أحدهما في التجارة، لا يصح تصرفه؛ لأنه يتصرف بجميع بدنه؛ فالحجر باقٍ ما لم يوجد الإذن منهما؛ كما لا يتزوج بإذن أحدهما؛ حتى يوجد منهما. والعبد المأذون إذا لزمته ديون المعاملة؛ فيقضي تلك مما في يده من مال التجارة وهل يقضي مما احتطب، واحتش؟ فيه وجهان: أصحهما: يقضي. ولا يقضي ديوناً لزمته بسبب الخيانة من أكسابه، ولا من مال التجارة، بل هي في رقبته. ولو جنى عليه جناية، أو كانت جارية؛ فوطئت بالشبهة - فلا يقضي ديون تجارته من الأرش والمهر. وإذا حجر عليه المولى، يصرف ما في يده من مال التجارة إلى ديونه؛ فإن لم يف بها، لا تباع رقبته فيها. وعند أبي حنيفة: تُباع رقبة المأذون في ديونه. قلنا: كل رقبة لا يتصرف المأذون فيها لا تباع في دينه؛ كسائر عبيد المولى، أو دين لزمه برضى من له الدين؛ فلاتباع رقبته فيه؛ كدين معاملة لزمه بعد الحجر. وهل يقضي من كسب يكتسبه بعد الحجر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يقضي، بل يكون في ذمته يؤديه بعد العتق. والثاني: يقضي؛ لأنه لزمه بإذن المولى، وكذلك لو باعه المولى، صار محجوراً عليه. ولا يقضي دينه من كسب يكتسبه في يد المشتري؛ على أصح الوجهين. بل يكون في ذمته، حتى يعتق. ولو قتل المولى عبده المأذون، لا يجب عليه قضاء ديونه إن لم يكن في يده من مال التجارة ما يفي بالديون. ولو أتلف المولى ما في يده من مال التجارة، إن لم يكن على المأذون دينٌ، لاشيء

على المولى، فإن كان عليه دين، فعلى السيد قيمة ما أتلف بقدر الدين؛ فإن كان الدين أكثر، لا يجب عليه الزيادة. ولو تصرف المولى في المال الذي في يد العبد ببيع أو هبة، أو كان عبداً؛ فأعتقه، فإن لم يكن على العبد دين جاز ونفذ. وقيل: لا ينفذ ما لم يحدث حجراً. والأول أصح. وإن كان عليه دين فلا ينفذ تصرفه دون إذن الغرماء، وإن أذن العبد، والغرماء جاز، والدين في ذمة العبد. وإن أذن الغرماء، ولم يأذن العبد، فيه وجهان: الأصح: لا يجوز؛ لأن الدين يتعلق بذمة العبد؛ وهو لم يرض به. وإذا اشترى المأذون من يعتق على مولاه بغير إذن، فيه قولان: أصحهما: لا يصح؛ لأن أذن له في التجارة؛ فيقتضي ما ينتفع به، ويربح عليه؛ كالعامل في القراض إذا اشترى بمال القراض من يعتق على رب المال، لا يصح. والقول الثاني: أنه يصح للسيد؛ كما لو وكل وكيلاً ليشتري له عبداً، فاشترى ابن الموكل - يصح. فعلى هذا: إن لم يكن على المأذون دين عتق على المولى، وإن كان عليه دين: فقولان؛ كما لو اشترى بإذن المولى. وإن اشترى بإذنه، صح الشراء. ثم إن لم يكن على العبد دين، عتق على المولى. وإن كان عليه دين: فيه قولان: أحدهما: لا يعتق؛ لتعلق حق الغرماء به. والثاني: يعتق، ويغرم قيمته للغرماء. وإذا عتق العبد، وأدى ما لزمه من الديون بعد العتق - لا يرجع على المولى؛ لأنا لو أثبتنا الرجوع لألزمناه في حال رقِه؛ ولو دفع إلى عبده ألفاً؛ ليتجر فيها؛ فاشترى بها شيئاً؛ فتلف الثمن في يده - نظر: إن كان قد اشترى بعين الألف انفسخ العقد، وإن اشترى في الذمة ففيه أوجه: أحدها: ينفسخ العقد؛ لتعذر أداء الثمن.

والثاني: لا ينفسخ، والثمن في كسب العبد. والثالث: على السيد الثمن؛ لأن العقد وقع له؛ فعلى هذا: إذا أدى السيد ألفاً أخرى، هل للعبد أن يتصرف فيها؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا، إلا بإذن جديد؛ لأن الإذن الأول قد ارتفع بهلاك المال. والثاني: له ذلك بالإذن السابق، نظيره: العامل في القراض إذا اشترى بجميع مال القراض شيئاً مختلف الثمن، ففي وجه: ينصرف العقد إلى العامل، وعليه الثنم. وفي وجه: يجب على رب المال الثمن، فعلى هذا رأس مال القراض كم يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: الثمن الأول. والثاني: الأول والآخر. فإن قلنا: هناك رأس مال القراض الثمن الأول؛ فلا يتصرف هاهنا في الألف الثانية إلا بإذن جديد. وإن قلنا: رأس المال جميع ما أخذ، فهاهنا يتصرف في الألف الثانية. وعلى هذا: لو اشترى المأذون بعرض شيئاً، فبعد ما تلف ما اشترى خرج العرض مستحقاً - فالقيمة على المولى، أم في كسب العبد؟ فيه وجهان. ولو أقر المأذون على نسه بدين معاملة يقبل، ويقضي مما في يده. فلو أقر بعد الحجر بدين لزمه قبل الحجر، هل يزاحم المقر له الغرماء؟ فيه قولان. فصل: في إقرار العبد إذا أقر العبد على نفسه بدين معاملة، يتعلق بذمته، يتبع به إذا عتق؛ سواء صدقه المولى أو كذبه، إلا أن يكون مأذوناً له في التجارة، فتقبل، ويتعلق بما في يده من مال التجارة. ولو أقر بدين إتلاف من قتل خطأ، أو هلاك مال - لا فرق فيه بين المأذون في التجارة وغير المأذون. فإن صدقه المولى، يتعلق برقبته؛ يباع فيه، إلا أن يختار السيد الفداء؛ فلا يباع. وإذا بيع فيه، ولم يف قيمته بدينه، هل يتبع بالباقي إذا أعتق؟

فيه قولان- اصحهما، وهو قوله الجديد-: لا يتبع؛ لأنه تعلق برقبته فحسب. وفي القديم: يتبع به إذا عتق، ويتعلق ذلك برقبته وذمته جميعاً. فإذا كذبه، يتعلق بذمته، يتبع به إذا عتق، إلا أن تقوم عليه بينة؛ فيتعلق برقبته. وإن أقر السيد على عبده بدين إتلاف، وكذبه العبد - تعلق الأرش برقبة العبد؛ لأن رقبته مملوكة للمولى؛ فيقبل إقراره في ماليته، ولا يتبع بالفضل إذا عتق؛ كما لو أقر على عبدٍ بدين معاملة، لا يقبل؛ لأنه لا يتعلق بماليته. ولو أقر العبد على نفسه بما يوجب عقوبة من زنا أو شرب، أو قذف، أو قصاص؛ طرفاً، أو نفساً، أو قطع سرقة - يقبل. وإن كذبه المولى، فيقام عليه. ولو أقر السيد بما يوجب عقوبة لا يقبل؛ لان السيد متهم فيه، فربما يريد إتلاف مهجته لغيظ داخله منه؛ فلا يمكنه إلا بهذا الطريق، والعبد غير متهم فيه؛ فإنه لا يقصد إتلاف مهجته؛ لإبطال حق المولى من ماليته. وقال ابن أبي ليلى، وأحمد ومحمد بن الحسن، والمزني - رحمة الله عليهم-: لا يُقبل إقرار العبد على نفسه بالعقوبة؛ لأن رقبته ملك للسيد، والإقرار في ملك الغير لا يقبل. قلنا: عند انتفاء التهمة تقبل؛ كالشهادة إقرار على الغير، وتقبل عند انتفاء التهمة. ولو أقر العبد على نفسه بسرقة موجبة للقطع، يقبل قوله في القطع. وهل يُقبل في المال؟ فيه قولان: أصحهما: لا يقبل؛ كما لو أقر بسرقة غير موجبة للقطع، ويتعلق بذمته، إلا أن يصدقه المولى. والثاني: يقبل؛ لأن التهمة انتفت من إقراره بإيجاب القطع على نفسه، فعلى هذا: إن كان المسروق قائماًن يسلم على المقر له. وإن كان تالفاً، تباع رقبته فيه. ولو أقر العبد على نفسه بالقصاص، فعفى على مال أو مطلقاً. قلنا: مطلق العفو يوجب المال؛ فيتعلق المال برقبته مع تكذيب المولى؛ لأن إقراره

كان بالعقوبة، والمال يثبت أو يتعين بالعفو؛ وهو لم يكن على يقين من العفو، فلم يكن متهماً. وقيل: إذا قلنا: موجب العمد أحد الأمرين، فهل يتعلق المال برقبته فيه قولان؛ كما في الإقرار بالسرقة، والأول أصح. وكل ما يقبل إقرار العبد فيه مثل: القصاص، وحد القذف؛ فالدعوى فيه تكون على العبد. وما لا يقبل إقراره فيه من مال، يتعلق برقبته عند تصديق المولى- فالدعوى تكون على المولى. فلو ادعى على العبد؛ نظر: إن كانت له بينة، تسمع؛ وإن لم يكن له بينة، فهذا يُبنى على أن النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار، أم بمنزلة البينةظ وفيه قولان: إن قلنا: بمنزلة البينة تسمع؛ رجاء أن ينكل؛ فيحلف المدعي؛ فتكون كالبينة. وإن قلنا: بمنزلة الإقرار؛ فلا تسمع. ولو ادعى على العبد دين معاملة، وله بينة، هل تسمع فيه وجهان؛ كما لو ادعى ديناً مؤجلاً. أحدهما: لا تسمع؛ لأنه لا يلزمه في الحال شيء؛ كما لو لم تكن بينة. والثاني: تسمع؛ لأنه يخاف موت الشهود؛ فيتعر عليه إثبات حقه. والله أعلم. باب: بيع الكلاب رُوي عن أبي مسعود الأنصاري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن ثمن الكلبن ومهر البغين وحلوان الكاهن".

ولا يجوز بيع الكلب، معلماً كان أو غير معلم. ومن قتله لا ضمان عليه. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع المعلم منه، وتجب القيمة على من قتله. والخبر حجة عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- جمع بين ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن؛ ثم مهر البغي وحلوان الكاهن حرامان، كذلك ثمن الكلب.

ولا يجوز اقتناء الكلب إلا لصاحب صيد يصيد، أو صاحب ماشية أو حرث يحرسهما؛ لما روي عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو ضار، نقص من عمله كل يوم قيراطان". ويجوز اقتناؤه؛ لحراسة الدور؛ على الأصح؛ كما يجوز للحرث.

وهل يجوز اقتناء الجرو للتعليم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا [يُنتفع به]. والثاني: يجوز؛ لأنه يصير منتفعاً به؛ كبيع الجحش، يجوز، وإن لم يكن فيه منفعة في الحال؛ لأنه يصير منتفعاً به. فإن جوزنا، إنما يجوز إذا كان من نسل المعلم، وهل يجوز لغير الصياد اقتناء كلب الصيد للإعارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لعدم الضرورة. والثاني: يجوز؛ كما يجوز للرجل حفظ حُلَيِّ النساء؛ للإعارة من النساء. وكل كلب جاز اقتناؤه، تجوز الوصية به على طريق نقل اليد، لا على طريق نقل الملك؛ كالسرقين. وكذلك يورث؛ كجلد الميتة.

وتجوز إعارته. وفي هبته وجهان: الأصح: جوازه؛ كالوصية به، وهل تجوز إجارته؟ وجهان: أحدهما: لايجوز كالبيع. والثاني: يجوز؛ لأن عقد الإجارة يرد على المنفعة، والانتفاع به مباح. ولو غصب كَلباً؛ فأمسكه مدة، هل يجب أجر المثل؟ فعلى هذين الوجهين. فصلٌ: فيما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه رُوي عن جابر بن عبد الله؛ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". كل عين طاهرة منتفع بها لم يحلها حرمة إبطال الملك - يجوز بيعها.

حتى يجوز بيع الدور، والعقارات، والخشب، والثياب، والجواهر، والأطعمة، والحيوانات؛ مأكولة كانت؛ كالنعم، أو غير مأكول؛ كالحمار والبغل والجوارح التي تُصاد

بها من السباع والطيور. ويجوز بيع السنور. ويجوز بيع ما يُستأنس بصوته من الطيور؛ كالعندليب والبلبل، والببغاء، أو بلونه؛ كالطاووس. ويجوز بيع نحل العسل، ودود القز، والفراش الذي يخرج من الفيلج والعلقة لأن كلها منتفع بها. ولا يجوز بيع ما كان نجس العين؛ كالكلب، والخنزير، والخمر، وجلد الميتة قبل الدباغ، والبول، والدم، والسرقين. وعند أبي حنيفة: يجوز بيع السرقين، وجلد الميتة قبل الدباغ. ولا يجوز بيع بزر دود القز؛ لأنه نجس. ويجوز بيع الفيلج وإن كان في باطنه دود ميت؛ لأنه من مصلحته؛ كالحيوان يجوز بيعه مع نجاسة باطنه. وفأرة المسك طاهرة؛ على الأصح؛ فيجوز بيعها. فأما ما نجس لعارض؛ نظر: إن كان مما يطهر؛ كالثوب ينجس، يجوز بيعه، وإن كان لا يطهر؛ كالخل النجس، والدبس النجس والصبغ [النجس]، والدهن والماء النجس - لا يجوز بيعه. وكذلك لا يجوز بيع ما لا ينتفع به؛ مثل: حشرات الأرض من: الحيات، والعقارب، والخنافس، والنمل، والفأرة. ومن السباع: الأسد والذئب، ونحوهما.

والحدأة والرخمة، والبعاث لا يجوز بيع شيء منها. وكذلك لا يجز بيع الحمار الزمن؛ لأنه لا منفعة فيه؛ بخلاف العبد الزمن؛ فإنه يتقرب إلى الله - تعالى- بإعتاقه. ولا يجوز بيع ما حله حرمة إبطال الملك، كالوقف، وأم الولد، والمكاتب. وكذلك لا يجوز بيع الأصنام، وبيع كل صورة متخذة من طين، أو خشب، أو ذهب، أو فضة. وكذلك ما يقصد به اللهو؛ كالملاهي، والمزامير، وإن كان محلولها يصلح لمباح؛ لأنها على هيئتها آلة الفسقن فإذا غُيرت بحيث تصلح لمباح يجوز بيعها. ويكره بيع الشطرنج؛ كاللعب به، ولا يجوز بيع النرد. ويجوز بيع لبن الآدميات؛ لأنه لبن طاهر؛ كلبن البقر. وعند أبي حنيفة: لا يجوز. والله أعلم بالصواب. باب: السلف رُوي عن ابن عباس؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ "المدينة"، وهم يُسلفون في الثمر

السنة والسنتين، وربما قال: والثلاث. قال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". السلم هو: عقد على موصوف في الذمة يبدل بعطية عاجلاً.

ولصحة السلم سبع شرائط: شرطان في رأس مال السلم. أحدهما: تسليمه في مجلس العقد. والثاني: أن يكون معلوم المقدار في أحد القولين. وخمس شرائط في المسلم فيه. أحدها: أن يكون ديناً. والثاني: أن يون معلوم المقدار. الثالث: أن يكون موصوفاً بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها. الرابع: أن يكون عام الوجود عند المحل المشروط. الخامس: أن يعين مكان التسليم؛ في قول. وهل يشترط لفظ السلم؟ وجهان: أصحهما: يشترط؛ فإن عقد بلف البيع، فقال: اشتريت منك ثوباً موصوفاً في ذمتك بهذه الدراهم. فإن قلنا: لفظ السلم غير شرط، فهذا سلم يجب تسليم الدراهم في المجلس، ولا يجوز الاستبدال عن الثوب. وإن شرطنا لفظ السلم؛ فهذا بيع لا يجب تسليم الدراهم في المجلس، ولا يجوز الاستبدال عن الثوب، على أصح القولين؛ كالأثمان. ولو قال: اشتريت ثوباً موصوفاً، أو [كُرَّ] حنطة في ذمتك بدينار في ذمتي - يجوز. ثم إن جعلناه سلماً، يجب تعيين الدينار والتسليم في المجلس، ويجوز شرط الرهن والكفيل في السلم. ويجوز السلم حالاً ومؤجلاً، وعند أبي حنيفة: لا يجوز حالاً. قلنا: الأجل فيه نوع غرر من حيث نه قد يكون قادراً عليه في الحال، ويعجز عن المحل؛ فلما جاز مؤجلاً فحالاً أولى. ولو أسلم مطلقاً، ولم يتعرض للحلول والتأجيل، يجوز، على أصح الوجهين.

ويكون حالاً؛ كالثمن في البيع. وفيه وجه آخر: أنه لا يصح؛ لأن مطلق العقود تحمل على العادة، والعادة في السلم التأجيل، فإذا أطلق، فكأنه شرط أجلاً مجهولاً، ولو لم يذكر في العقد أجلاً، وذكر في مجلس العقد - يلزم؛ على الصحيح من المذهب. وإذا أسلم مؤجلاً يشترط بيان الأجل بالأيام، أو بالشهور، أو بالسنين؛ فإن قال: إلى يوم كذا، حل الأجل إذا انتهت ليلة ذلك اليوم، ولو قال: إلى شهر كذا؛ أو إلى أول شهر كذا حل بانتهاء الشهر الذي قبله. ولو قال إلى عشرة أيام، يكمل اليوم الأول بالحادي عشر؛ فإذا انتهى على الوقت الذي عقد فيه، حل الأجل. ولو قال: إلى شهرين، فالشهر الذي عقد فيه ينكسر - لا محالة - فيكمل ذلك الشهر بالشهر بالثلث يوماً، والشهر الثاني يكون بالهلال؛ سواء خرج كاملاً، أو ناقصاً. ولو قال: إلى سنة، يحمل على السنة الهلالية. ولو قال إلى سنة شمسية، يجوز؛ لأنها معروفة؛ كالنيروز. والمهرجان. ولو قال: بالعدد، فيكون ثلاثمائة وستين يوماً. فإن قال إلى سنة فارسية أو رومية، يتقيد به. ولو قال: إلى آخر شهر كذا، لا يصح؛ حتى يبين؛ لأن اسم الآخر يقع على جميع النصف الآخر. ولو قال: إلى آخر شهر ربيع أو جمادي، صح، وحمل على الأول منهما. وقيل: لا يصح؛ حتى يبين. والأول أصح؛ لأنه نص على انه لو جعل الأجل إلى النفر حمل على النفر الأول. قلت: على قياس هذا إذا قال: إلى آخر شهر كذا، وجب أن يقع بدخول النصف الآخر. ولو قال: محله في يوم كذا، أو في شهر كذا، فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: يجوز الحمل، ويحمل على أوله؛ كما لو قال لامرأته: أنت طالق في يوم كذا، أو في شهر كذا. والثاني- وهو الأصح -: لا يصح؛ لأنه يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر؛ فلابد من البيان؛ بخلاف الطلاق؛ فإنه يجوز إلى أجل مهول. فإذا أعلم زماناً، تعلق بأوله.

ولو قال: إلى السذج والمهرجان والنيروز، يجوز؛ لأنه صار معلوماً؛ ما لو قال: إلى عيد الأضحى. ولو قال: إلى فصيح النصارى؛ نظر: إن لم يكن معلوماً عندهما، لا يجوز، وإن كان معلوماً عندهما يجوز. وقيل: إنما يجوز مع علمهما إذا كان في المسلمين عدلان يعرفان. فإن لم يكن، لم يجز؛ لأنهما ربما يختلفان. ولا يقبل قول النصارى فيه. ولو قال: إلى الربيع أو إلى الخريف، لا يجوز؛ لأنه يختلف؛ كما لو قال: إلى الحصاد. ولو قال: إلى العطاء؛ فإن أراد وصوله، لم يجز، وإن أراد خروجه وقد ضرب الإمام له وقتاً معلوماً جاز. ولو اسلم في شيء واحد إلى أجلين؛ كأن أسلم في وقري حنطة؛ أحدهما يوفي بعد شهر، والثاني بعد شهرين - ففيه قولان: أصحهما: يجوز. وكذلك لو أسلم في شيئين على أجل واحد، فيه قولان. والمذهب جوازه، وهل يشترط بيان موضع التسليم؟ نظر: إن كان موضع العقد لا يصلح للتسليم؛ بأن كان عقداً في مفازة، أو سفينة - يجب بيانه. وإن كان صالحاً للتسليم، فيه قولان: أحدهما: يجب بيانه؛ قطعاً للنزاع؛ كما لو باع بدراهم، وفي البلد نقود - يجب تعيين واحد منهما. والثاني: لا يجب، ويتعين مكان العقد للتسليم. ومن أصحابنا من قال: القولان، فيما إذا لم يكن لنقله مؤنة. فإذا كان لنقله مؤنة، يجب بيان التسليم قولاً واحداً - وبه قال أبو حنيفة - أنه يجب بيانه إذا كان لنقله مؤنة. فإن قلنا: يتعين مكان العقد، لا نعني به عين ذلك الموضع، بل تلك المحلة. فإن عين مكان التسليم، أو قلنا: يتعين مكان العقد، فأتى به في غير ذلك الموضع - لا يجب قبوله إن كان لنقله مؤنة.

أو كان الموضع مخوفاً، وإن لم يكن، ففيه وجهان؛ بناء على ميقات الزمان إذا أتى به قبل محله. فلو رضي وأخذه في موضع آخر - ليس له أن يكلفه مؤنة النقل. ولو طالبه المستحق في بلد آخر، إن لم يكن - لنقله مؤنة - يجب الأداء، وإلا فلا، كالقرض، وبدل الإتلاف، إلا أن في القرض وبدل الإتلاف يأخذ القيمة. وفي السلم لا يأخذ. ثم تفصيل تلك الشرائط: تسليم رأس المال في المجلس شرط، ولا يشترط تعينه في وقت العقد. حتى لو قال: أسلمت إليك ديناراً في ذمتي في كذا، ثم عين وسلم - يجوز، وإن كان في الذمة يشترط بيان المقدار. وإن كان معيناً ففيه قولان: أصحهما: لا يشترط، والمشاهدة كافية؛ كما في بيع العين، إذا قال: بعتك هذا بهذه الدراهم، وهو لا يعرف وزنها - يجوز. والثاني: يشترط بيان المقدار، إن كان مكيلاً بالكيل وإن كان موزوناً بالوزن، أو مذروعاً بالذرع. وبيان صفاته؛ لأنه ربما ينقطع المسلم فيه، بعد تلف رأس المال فلا يدري بماذا يرجع. ولا فرق بين أن يكون السلم حالاً أو مؤجلاً. ولو تفرقا قبل قبض رأس مال السلم - ينفسخ العقد. ولو جُعل رأس مال السلم منفعة دار، أو عبد مدة معلومة - جاز، وتسليمه بتسليم العين. فلو أحال برأس مال السلم على إنسان - لا يجوز، وإن قبض في المجلس؛ لأن بالحوالة، يتحول الدين إلى غيره، فالمحال عليه يؤديه من جهة نسه، لا من جهة المسلم. ولو كل المسلم إليه إنساناً بقبض رأس مال المسلم - يجوز، إذا قبض الوكيل قبل مفارقة الموكل مجلس العقد. ولو كان له في ذمة الغير دينارٌ، فقال: أسلمت إليك الدينار الذي في ذمتك بكذا- لم

يجز؛ لأنه بيع الدين بالدين. ولو كان رأس مال السلم عبداً، فأعتقه المسلم إليه قبل القبض - ففيه وجهان: أحدهما: يعتق، وصار قابضاً كما في بيع العين. والثاني: لا يعتق؛ لأنه قبض حكمي، ولا يكتفى بالقبض الحكمي في رأس مال السلم، كما لا تجوز الحوالة به. ومن قال بالأول فن القبض قبض حكمي يتصل بعين ما وقع عليه العقد؛ فجاز، بخلاف الحوالة. ولو وجد المسلم إليه برأس [مال السلم] عيباً، وكان معيناً - فهو بالخيار؛ إن شاء فسخ العقد. وإن شاء أجاز. وإن كان قد تلف عنده، أو كان عبداً قد أعتقه مثلاً - وكان العيب ينقص عُشر قيمته سقط عشر المسلم فيه. فصل في بيان شرائط المسلم فيه يشترط أن يكون ديناً، ولو قال: أسلمت إليك في هذا العين؛ لا يصح. وقيل: يكون بيعاً مراعاة للمعنى ولا يصح. ويشترط بيان مقداره بالكيل والوزن، وإن كان مذروعاً فبالذراع أو معدوداً فبالعدد، فلو أسلم في الكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً - جاز؛ لأن بيان المقدار يحصل بكل واحد منهما. وإذا سمي مكيالاً يجب أن يكون معروفاً. فإن عين مكيالاً، نظر: إن كان له نظائر في البلد - جاز، وله أن يكيل بأيهما شاء. وإن لم يكن له نظائر في البلد، أو قال: أسلمت غليك في مليء عشر غضارات من هذه نُظر: إن كان السلم مؤجلاً لم يجز؛ لأنه ربما يتلف ذلك المكيال، فيتعذر التسليم.

وإن كان حالاً، فيه وجهان: أحدهما: يجوز، ويسلم في الحال. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ربما يتعذر. ولو بيَّن الكيل، وقال: كل كيل كذا وزنه وزن كذا - لا يجوز؛ لأنه قل ما يتفق ذلك. وكذلك لو أسلم في ثوب وصفه، وقال: وزنه وزن كذا - لا يجوز؛ لأنه قل ما يتفق ذلك. ويشترط أن يكون موصوفاً بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها؛ فإن أسلم في شيء يدق معرفتهن كالدبابيج المنقشة والأدوية ونحوها؛ إن لم يعرف المتعاقدان أو أحدهما صفته - لم يجز. وإن عرفا جاز، إذا كان في البلد من يعرف ذل الوصف، من أهل تلك الصنعة وأقله عدلان. حتى إذا تنازعا يرجعان إليه، نص عليه. وقيل: لا يشترط ذلك، وذكره الشافعي احتياطاً. ولو أخرج صاعاً من حنطة، فقال: أسلمت إليك مائة من مثل هذه الحنطة، أو ثوباً، وقال: أسلمت إليك في هذا- يجوز، وكان كما لو وصفه. ويشترط أن يكون عام الوجود عند المحل المشروط. وإن كان قد أسلم حالاً ففي الحال، وإن أسلم مؤجلاً وهو في الحال منقطع، أو ينقطع قبل حلول الأجل، ويوجد عند المحل -يجوز. وعند أبي حنيفة: لا يجوز، حتى يكون عام الوجود من وقت العقد إلى المحل. وحديث ابن عباس حجة عليه؛ لأنهم كانوا يسلفون في الثمار سنتين أو ثلاث، والثمر لا يبقى سنتين بل ينقطع، دل على أن الوجود عند المحل شرط. فلو انقطع المسلم فيه عند المحل، هل ينفسخ العقد؟ فيه قولان: أحدهما: بلى، كالمبيع إذا تلف قبل القبض. والثاني: لا ينفسخ؛ لأنه لم يتعين ثمر هذا العام، والعقد لاقى الذمة، فأشبه المشتري إذا أفلس بالثمن، لا ينفسخ العقد، ولكن يثبت للبائع الخيار؛ كذلك هاهنا يثبت للمسلم الخيار. فإن فسخ، وقلنا: ينفسخ، يسترد رأس المال إن كان قائماً.

وإن كان تالفاً فمثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان متقوماً، وإن أجاز العقد، ثم بدا له أن يفسخ قبل الوجود - له ذلك؛ لأنه ضرر يتجدد كل ساعة. ونعني بالانقطاع، أن لا يوجد في تلك البلدة ونواحيها. فإن كان يوجد في نواحيها على أقل من مسافة القصر - يجب حملها من مسافة القصر. وقيل: إنما يجب حملها من مسافة القصر لو خرج إليها بكرة يمكنه الرجوع إلى أهله ليلاً. فإن كان فوق ذلك فهو منقطع، وإن كان موجوداً في البلد مع بعض الناس، ولكن لا يبيعه مالكه - فهو منقطع. ولو أسلم في حنطة ضيعة بعينها، أو حنطة قرية صغيرة - لا يجوز؛ ما لو أسلم في ثمرة رجل بعينه؛ لأن الغالب فيه الانقطاع، فإن أسلم في حنطة قرية كبيرة، لا ينقطع غالباً - جاز. فصل ويجوز السلم في كل ما يمكن ضبطه بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها. وفي الدراهم والدنانير وجهان: أصحهما: يجوز السلم فيها؛ كسائر الأموال. وقيل: لا يجوز؛ لأنهما ثمنان فلا يجعلان مثمنين. ولا يجوز في العقار؛ لأن المكان فيه مقصود. فلابد من بيانه، وإذا بين المكان يتعين، والسلم في المعين لا يجوز. ويجوز السلم في الحيوان، آدمياً كان، أو دابة، أو طائراً. وعند أبي حنيفة: لا يجوز السلم في الحيوان. والدليل على جوازه ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن اشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل".

ويجب بيان أوصافه، وإن كان عبداً أو جارية يبين نوعه أنه تركي أو هندي. ويبين أي نوع من التركي، ويبين لونه إن أبيض أو أسود. ويصف سواده بالصفا أو الكدورة. ويصف شعرهن ويبين سنه، أنه ابن سبع، أو أصغر أو أكبر، وأنه محتلم أو غير محتلم. ويصف قامته بالطول والوسط. وإذا بين سنه، فأتى بما يقرب منه - يجب قبوله؛ لأنه لا يوقف على حقيقته، حتى لو شرط سبع سنين، لا يزيد عليه ولا ينقص - لا يصح العقد؛ لأنه يندر وجوده. ويعتمد في معرفة سنه على قول بائعه، إن كان ولد في الإسلام، أو كان جليباً؛ فنرجع إلى النحاسين. وقيل: لا يجوز في الجليب؛ لأنه لا يعرف سنه، ولا يقبل فيه قول الكفار. ولو أسلم في عبد وجارية وصفها - جاز، ثم إذا أتى بها والغلام ولد الجارية - يجب القبول. ولو شرط ذلك في العقد - لم يجز؛ لأنه يندر وجوده. ولا يجوز السلم في نادر الوجود. ولو أسلم في جارية حبلى أو دابة لبون أو حامل - لا يجوز؛ لأنه يندر وجودها حاملاً، أو لبوناً مع سائر الوصاف. ويصف البعير بأنه من نعم بني فلان، ويبين نوعه ولونه وسنه، وكذلك سائر الدواب. ويصف التمر بأنه برني أو صيحاني أو جعرور، ويصف الحنطة بأنها شامية أو (ميسانية) أو نجشية، ويصفها بالزالة والدقة. وإن اختلفا حصاد عام أو عامين - يبين. ولا يشترط ذكر الجيد؛ لأن مطلقه يقتضي الجيدة، ولو ذكر يجوز، ولو شرط الأجود لا يجوز؛ لأنه ما من جيد يأتي به إلا ويمكنه أن يقول: قد يكون أجود من هذا، فلا ينقطع (النزاع). ولا يجوز في الرديء؛ لأنه ما من رديء يأتي إلا ويكون فوق هذا رديئاً.

وهل يجوز في الأرديء؟ نص على أنه لا يجوز، كالأجود، والأصح جوازه، ويجبر على قبول ما يأتي به من ذلك النوع. ولا يجوز السلم في المعيب، ويجوز في العسل المصفى بالشمس، ويوصف بالبياض والصفرة، أو الخضرة، ويبين وزنه. وهل يجوز في المصفى (في النار)؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن للنار فيه نهاية المصفى بالشمس، والأصح أنه لا يجوز؛ لأن النار تعيبه. ويجز في الشهد، وإن كان فيه شمع؛ لأنه خلقة، كالنوى في التمر، ويجوز في الشمع. ويبين في اللحم أنه لحم بقر، أو إبل، أو غنم ضائن، أو ماعز ذكر أو أنثى، خصي أو غيره، رضيع ام فطيم، راعية أو معلوفة. ويبين موضعه من يد أو رجل أو ظهر، أحمر أو أبيض، ويبين وزنه. ولا يجوز في الأعجف؛ لأنه عيب. ولا يجب أن يشترط بلا عظم؛ لأن العم خلقة فيه، فإن أتى به وفيه عظم على العادة - يجب قبوله. ولو شرط بلا عظم يجوز، ولا يجب قبول العظم، ويجوز في لحم الصيد إذا كان عام الوجود ويبين موضعه وجنسه. ويجوز في الطيور الصغار من الحمام والعصافير، ويبين نوعه ووزنه. وكذلك في السمك، ولا يجوز عدداً، إلا أن يسلم في الحي منها؛ فيجوز عدداً. ويجوز في اللحم المملح والقديد إذا لم يكن عين الملح عليه، ويجوز في الشحم والآلية. ويجوز في اللبن، ويصفه كما يصف اللحم، أنه لبن أي نوع، راعية أو معلوفة.

وكذلك في السمن والزبد [الفائتة، الحلوب من يومين]، ومطلق ذكر اللبن يقتضي حلب يومه، فإن الفائتة لعيب لا يجوز السلم فيه. ولا يجوز في كل ما هو مختلط بغيره كالأقط والجبن والحلواء؛ لأنه لا يمكن وصف ما فيه. وقيل: يجوز فيما خالطه غيره للحاجة مثل: خل الثمر وفيه الماء، واللبن وفيه الإنفحة، والسمك المالح وفيه الملح؛ لأنه من مصلحته. ولا يجوز السلم فيما مسته النار؛ كاللحم المطبوخ، والمشوي؛ لأنه لا نهاية للنار فيه. ولا يجوز في الدبس والسكر والفانيذ والرانب واللبأ على أصح الوجهين؛ لتأثير النار فيها؛ كاللحم المشوي. وفيه وجه آخر: يجوز؛ لأن للنار فيها نهاية السمن، ويجوز في الرقيٌ. ويجوز في الثياب [والديباج النفيس] ن ويبين في الثوب أنه من قطن أو كتان، او أبريسم، وأنه نسج بلد كذا، ويبين طوله وعرضه بالذرعان، ودقته وصفاقته. ولا يجوز في العتابي؛ لأنه قطن وأبريسم. وما عمل عليه بالإبرة، فإن كان من أبريسم وعمل عليه بالأبريسم - جاز. وإن كان من قطن عمل عليه بالأبريسم - لم يجز، وإن أسلم في ثوب مصبوغ: نظر؛ إن صبغ غزله ثم نسج- جاز، وإن صبغ بعد النسج لم يجز؛ لأنه لا توقف عليه. ويجوز في الصوف والشعر والوبر، ويبين أنه ربيعي أو خريفي، فحل أو أنثى، ويبين لونه وقبائله ووزنه. وفي الشعر يذكر أنه طويل أو قصير، ومطلقه يقتضي النقي من البعر. ويجوز في المغسول إذا كان لا يعيبه الغسل. وبين في القطن بلده، وأنه لين أو خشن، أبيض أو أسمر، حليج أو غير حليج.

ويجوز في حب القطن، وفي الجوزق المشقوق، وفي الأبريسم، ويذكر غلطه، ودقته، ولونه، ووزنه. ويجوز في النحاس، ويبين وزنه ولونه. وكذلك في الشبه. ويجوز في الحديد، ويبين أنه ذكر، أو أنثى، ويذكر بلده، ومقصوده أنه يريد آلة الحرث، أو الحرب، ويذكر وزنه. ويجوز في الخشب، ثم إن كان المقصود منه الوقود يذر نوعه، وأنه دقاق أو غلاظ من جثة الشجر ة أو أغصانه. ويذكر وزنه، ومطلقه يقتضي الجاف، ويجب قبوله، وإن كان معوجاً. وإن أراد للبناء كالجذوع، والإسطوانات، يبين طولها وغلظها ونوعها، ولا يجب بيان الوزن؛ لأن العادة لم تجر بوزنها. ولا يجب في المخروط؛ لأنه يختلف أعلاه وأسفله. ويجوز في الخشب التي يُعمل منها القسي والسهام ويبين طوله وغلظه، ولا يجوز في القسي المعمولة؛ لأنها تشتمل على أشياء مختلفة. ولا في السهام؛ لاختلاف طرفيها ووسطها، في الدقة والغلظة، فلا يمكن ضبطها بالصفة، وإن كان عليها ريش أو عصب فهو أفسد. ويجوز السلم في الأشجار الصغار للغراس عدداً، يبين نوعه، وطوله، وغلظه. ويجزو في أغصان الخلاف للغرس وزناً، كالحطب. ويجوز في حجار الأرحى، والأواني، والأبنية قبل النحت، ويذكر النوع، والطول، والعرض، والغلظ. ولا يجب بيان الوزن، ولا يجوز في الحجارة المنحوتة للرحى. ولا يجوز في البرام المعمولة، والطناجير والقماقم؛ لأنه قل ما يتفق وزنها

وسعتها على ما صفان من الصفات، إلا أن يكون لهم قالب يصوغون عليه، ولا يختلف؛ فيجوز. ويجوز في الجص والنورة والطين والزجاج. ويجوز في اللبن والآجر، ويبين الوزن والعدد، فيقول: كذا لبنة وزنها كذا، ثم ذل على التقريب، فإذا أتى بما يقرب منه يجب قبوله. ويجوز فيما يعم ووده من أنواع العطر؛ كالمسك، والكافور، والعنبر. ويذكر وزنه ونوعه، ويذكر في العنبر أنه أشهب أو أخضر فتات أو قطاع. ولو شرط القطاع لا يجب قبول الفتات. ولا يجوز في التد، والغالية والمعجونات؛ لأنها أشياء مختلطة. ويجوز في الدهن والطيب؛ مثل دهن البنفسج، والورد، إن ربى السمسم فيه، ثم استخرج منه الدهن، فإن طرح الورد في الدهن - لم يجز. ويجوز في متاع الصياد له، كالإهليلج والبليلج ونحوها. ويجوز في الترياق إذا كان من نبات لم يخالطه شيء، فإن خالطه شيء لا يجوز السلم فيه. وهل يجوز بيعه؟ نظر: إن خالطه شيء طاهر - يجوز، وإن خالطه شيء نجس من لحوم الحيات، ولبن ما لا يؤكل لحمه - فهو نجس، لا يجوز بيعه. وأما السم: إن كان يقتل قليله وكثيره - فلا يجوز بيعه. وإن كان ينفع قليله كالسقمونيا يجوز بيعه والسلم فيه.

فصل فيما لا يجوز السلم فيه لا يجوز في القسي المعمولة، ولا في السهام، ولا يجوز في اللآليء الكبار، واليواقيت والجواهر والمرجان؛ لأنه يحتاج أن يصف كل واحدة كونها لؤلؤة مدحرجة صافية وزنها كذا، فيندر وجودها. فإن أسلم في اللآليء الصغار كيلاً أو وزناً، وكان عام الوجود - جاز. ويجوز السلم في الثمار والفواكه من الجوز واللوز، والرانج، والبطيخ، والقثاء، والرمان، ونحوها وزناً، ولا يجوز عدداً. وكذلك البيض. ولو أسلم في بطيخة أو سفرجلة - لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يصف جثتها ووزنها، وقلما توجد. ولا يجوز في البقول حزماً حتى يبين وزن كل نوع، ويصفه بالصغر والكبر. ولا يجوز في الرؤوس والأكارع؛ لأنها تشتمل على أباعض مختلفة، كلها مقصودة، ولا يمكن وصفها بخلاف الحيوان؛ لأن المقصود جملته. وفيه قول آخر؛ أنه يجوز السلم فيها كالحيوان، فعلى هذا: إنما يجوز بعد التنقية وزناً. ولا يجوز في الجلود على خلقها؛ لأن بعضها يكون أدق، وبعضها أغلظ؛ فلا يمكن ضبطها، والوقوف على عطفاتها. ويجوز في قطع الجلود والأديم وزناً. ويجوز في مربعات الصرم وزناً. ولا يجوز في الخفاف والنعال لأنها طاقات تشتمل على أشياء مختلفة من الجبس، والغرى، والخيط، وغيرها.

ويجوز في النعال السبتية التي هي طاقة واحدة، ويجوز في البياض عدداً، ويبين طوله وعرضه. والله أعلم. باب التسعير روي عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله: سعر لنا، فقال: "إن الله هو المسعر، القابض الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة دم ولا مال".

التسعير: أن يقول الإمام: بيعوا من طعام كذا كل من بكذا، فالأولى ألا يفعل ذلك، وهل يجوز؟ نظر: إن كان [في] وقت رخص الأسعار، وسون الأسواق - لا يجوز، وإن كان في وقت الغلاء واضطراب الأسواق: فعلى وجهين: أحدهما: وبه قال مالك: يجوز، نظراً للناس. والثاني: وهو الأصح: لا يجوز؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم، فلا يجوز الحجر عليهم فيها. والدليل عليه ما رُوي عن عمر أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة وبين يديه غرارتان فيهما زبيباً، فسأله عن سعره، فأخبره، فقال عمر - رضي الله عنه -: إما أن ترفع في السعر، وإما أن تُدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر - رضي الله عنه - حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني، إنما هو [شيء] لسبب أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. فإذا جوزنا إنما يجوز في الأطعمة، ويحتمل في علف الدواب أيضاً، أما في غيرها فلا يجوز. والاحتكار في الجملة حرام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يحتكر إلا خاطيء".

والاحتكار هو: أن يشتري صاحب المال الكثير الطعام في وقت الغلاءن والضيق، ولا يدعه للضعفاء، ثم يحبسه حتى يبيعه منهم بأغلى، إذا انتهت بهم الحاجة. أما من اشترى في الرخص وكساد الأسواق، وحبسه ليبيع في وقت الغلاء بأغلى - فلا بأس به، وهو كالجالب، وقد جاء في الحديث: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون". ولو اشترى شيئاً لنفقته ونفقة عياله في وقت الغلاء وفضل منه شيء فباعه بأغلى جاز، وكذلك لو حبس غلة ضيعة ليبيع بأغلى - لا يدخل تحت الوعيد، لكن الأولى أن يمسك نفقة سنة لنفسه وعياله ومؤناته، فإن خاف غلاء فنفقته سنتين، ويبيع الفضل. وهذا الوعيد فيما هو قوت في الحبوب، وفي الثمر، والزبيب دون سائر الأطعمة.

باب امتناع ذي الحق من أخذه إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه بعد المحل؛ كما أسلم فيه جنساً ونوعاً ووصفاص - يجب على المسلم قبوله، ولا يجوز قبول غير جنسه؛ لأن الاستبدال عن المسلم فيه قبل القبض - لا يجوز. ولو أتى بجنسه ونوعه، غير أنه رديء لا يجبر على القبول، ولو قبل جاز، ولو كان أجود أجبر على القبول. ولو أتى بجنسه من نوع آخر؛ مثل إن أسلم في عنب أبيض فأتى بأسود، أو في زبيب طائفي، فأتى بنوع آخر، وفي ثوب هروي فأتى بمروي، أو في عبد تركي فأتى بهندي - لا يجبر على القبول. وهل يجوز له قبوله؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه استبدال كما لو أتى بجنس آخر. والثاني: يجوز، لأن الجنس واحد؛ كما لو رضي بالرديء عن الجيد. ولا يجوز أخذ الدقيق عن الحنطة. وإذا أسلم في شيء يوصف، فأتى بأقل مما يقع عليه اسم ذلك الوصف - يجبر على قبوله، ولا يشترط النهاية فيه. ويجب أن يسلم الحنطة نقية من الفصل، والزوان، والترابن والمدر، إلا القليل الذي لا يؤثر في طعمه، ولا يؤثر في كيله، فيجب القبول معه؛ لأنه قل ما يخلو عنه. ويجب أن يسلم الثمر جافاً، والرطب صحيحاً غير متشدخ. ولو أسلم في لحم طير - ليس له أن يزن عليه الرأس، والرجل من دون الفخذين. وفي لحم الحيتان لا يزن عليه الرأس، والذنب من حيث لا لحم عليه، وإن أسلم في الحيتان الصغار يجوز أن يزن عليه الرأس والذنب. وفي الطيور الصغار، كالفراخ وكالعاصفير - يزن عليه الراس دون الرجلين؛ لأن رءوسهما تؤكل، ويجب تسليمها بعد تنقية الأجواف من الأحشاء. ولو أسلم في شيء وزناً، لا يجوز أن يأخذه كيلاً، ولو أسلم كيلاً لا يجوز أن يأخذه وزناً.

وعند الكيل لا يزلزل الصاغ، ولا يضع الكف على جوانبه، بل يسوي مع رأس المكيال، ولو أتى بالمسلم فيه قبل محله، أو له على آخر دين مؤجل، فأتى به قبل محله - هل يجبر صاحب الحق على قبوله نُظر: إن كان له غرض في الامتناع، بأن كان أيام نهب، أو عند خوف غرقن أو كان حيواناً يحتاج إلى علفه، ويخاف هلاكه. أو كانت ثمرة يريد أكلها عند المحل طرياً - لا يلزمه قبوله، وإن لم يكن له غرض، نظر: إن كان للدافع غرض صحيح؛ كالمكاتب يعجل نجومه ليعتق، أو كان بالدين رهن، وهو يريد - فكاكه، أو به ضامن يريد إبراره - يجبر على القبول. فإن لم يكن لواحد منهما غرض ففيه قولان: أصحهما: يجبر على القبول؛ لأن فراغ ذمة المدين غرض ظاهر. وإن كان الحق حالاً يجبر على القبول، ولا يراعي غرض صاحب الحق، فكل موضع أوجبنا القبول، فلم يقبل أخذه الحاكم. وإن كان رب الدين غائباً، فأتى به الحاكم - هل يجب أن يقبله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب كالبيع إذا أتى به؛ يجب على الحاكم قبضه. والثاني: لا يجوز أن يقبل؛ لأنه لا نظر للغائب فيه، من حيث إن الدين في الذمة لا يخشى عليه الهلاك، وإذا صار عيناً يُخشى عليه الهلاك. والله أعلم. تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع وأوله: "كتاب الرهن"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الرابع يحتوي على الكتب التالية الرهن - التفليس - الحجر- الصلح- الحوالة- الضمان- الشركة الوكالة - الأقرار- العارية- الغصب- الشفعة- القراض- المساقاة الأجازة- إحياء الموات- العطايا والحبس- اللقطة منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب الرهن

سم الله الرحمن الرحيم كِتابُ الرَّهْنِ قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] , أي: ارهنوا واقبضوا. وروي عن عائشة - رضي الله عنها-؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى طَعَامًا منْ يَهوديً إلى أجلٍ ورهنهُ دِرعًا منْ حديدٍ". والرهنُ جائز لتوثيق الدَّين في السفر والحضر جميعًا, والمرهون يشترطُ أن يكون عَيْنًا.

والمرهونُ به يشترط أن يكون دَينًا, حتى لو أخذ رَهنًا عن المغصوب أو المستام أو المُستعار - لا يجوز؛ لأن المقصود من الرّهن بيعُه, واستيفاء حقه من ثمنه عند تَعذرٍ الاستيفاءِ, ولا يمكن استيفاء العين من ثَمنِ الرّهن. ثم كل دين هو لازم؛ مثل: أروش الجنايات, وبدل المتلفات والقرضِ, والثمن في البيع, والمسلم فيه, والأجرة في الإجارة - ومال الصُّلح -؛ والصَّداق في النكاح, وبدل الخلع, يجوز أخذُ الرّهن بها. وإن كان بعضها يعرض للسقوط؛ كالثمن قبل قبض المبيع, والأجرة قبل العمل, وقبل استيفاء منفعة العين؛ فإنها تَسقط بهلاك المبيع, وهلاك العين الُمستأجرة. وكذلك الصّداق قبل الدخول يسقط الطلاق نصفه, وتردّه المرأة, ويجوز الرهن به.

وكذلك ما ليس بلازمٍ, ولكنه يُفضي إلى اللزوم؛ كالثمن في زمان الخيار - يجوز الرهنُ به. أما ما لا يُفضي إلى اللزوم؛ كالدية على العاقلة, ونجوم الكتابة - لا يجوز الرهن به؛ لأن الرهن يرادُ لتوثيق الدّين, ومال الكتابة لا يمكن توثيقه؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه. وكذلك الديةُ تسقط بإعْسار العاقلة؛ فلا يمكن توثيقه, وكذلك بدل الجَعَالة لا يجوز الرهن به قبل الفراغ من العمل, وبعده يجوز؛ لأنه قد لزم. وقيل: تجوزُ بعد الشروع في العمل, قبل الفراغ منه, والأصح: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يصيرُ لازمًا بنفسه إلا بالعمل, بخلاف الثّمن في زمان الخيار. أما مال المسابقة والمناضلة, إن جعلناه إجارةً, جاز الرهنُ به, وإلا فكالجعالة. أما العملُ في الإجارة, نظر: إن كانت الإجارة على عمل الأجير لعينه - لا يجوز الرهن به؛ لأن استيفاء عمله من غيره لا يمكن. وإن كان على عملٍ في الذمة - يجوز؛ لأنه يمكنه استيفاؤه من الرهن بأن يباع؛ فيستأجر من ثمنه من يعمل. ولا يجوز الرهن قبل ثبوت الحق؛ بأن قال: رهنتك هذا بألف أستقرضه منك, أو بثمن عبد أشتريه منك, وكذلك الضّمان, وجوز أبو حنيفة الرّهن والضمان قبل ثبوت الحق. وإذا قبضه قبل ثبوت الحق يكون مأخوذًا على جهة سوم الرّهن, فإذا أقرضه بعده صَارَ رهنًا, قلت: لا يصير رهنًا حتى يقول: رهنت به, ولو اقترن الرهن بوجوب الدّين - يجوز؛ مثل أن يقول: بعتك هذا العبد بألف, وارتهنت دارك, فقال المشتري: اشتريت ورهنتُ, أو قال: أقرضتك هذه الألف, وارتهنت عبدك, فقال: استقرضتُ ورهنتُ, أو قال المشتري: اشتريت عبدك بألف, ورهنتك داري, فقال البائع: بعتُ وارتهنت. وشرطه: أن يوجد أحد مصراعي الرّهن بين مصراعي البيع. والثاني: بعد مصراعي البيع, فإن تقدم أحدُ مصراعي الرهن على مصراعي البيع؛ بأن قال البائع: ارتهنت وبعت, وقال المشتري: اشتريت ورهنت, أو وجد مصراعا الرهن بين مصراعي البيع؛ بأن قال البائع: بعت وارتهنت, وقال المشتري: رهنت واشتريت - لم يصح.

وكذلك في القرض, لو قال: أقرضتك وارتهنت, فقال المستقرض: رهنتُ واستقرضت - لايصح, ولو قال: بعتك هذا بكذا على أن ترهنني دارك. فقال: اشتريت ورهنت - هل يشترط لفظ الارتهان بعده من البائع؟: فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو قال: اشتر داري بكذا, وارهن منّي دارك, فقال: اشتريت ورهنت - صحَّ, ولا يشترط أن يقول بعده: ارتهنت. والثاني - وهو الأصح: يشترط أن يقول بعده: ارتهنت؛ لأن الذي وُجد منه شرط الإيجاب لا الاستيجاب؛ كما لو قال: افعل كذا لتبيعني دارك؛ يكون استجابًا. فصلٌ ولا يلزم الرهنُ إلا بالقبض, سواء مشروطًا في البيع, أو كان رهن تبرع؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] , وعند مالك: يلزم قبل القبض؛ كما يقول في سائر التبرعات.

وقبض المنقول يكون بالنقل, وقبض العقار, وما لا ينقل؛ كالأشجار الثّابتة يكون بالتّخلية. فإن امتنع الراهن عن تسليم الرهن - لا يجبرُ عليه؛ لأنه لم يأخذ عليه عوضًا, إلا أن الرهن إذا كان مشروطًا في البيع, ولم يسلم الراهن الرهن - يثبت للبائع فسخ البيع. وإذا سلم الراهنُ إلى المرتهن لزم من جهة الرّاهن, سواء كان مشروطًا في البيع, أو كان رهن تبرع؛ فلا يجوز أن يسترد الرهن ما دام شيئًا من الحق باقيًا, وهو جائزٌ من جهة المرتهن متى شاء رده. ولو رهن شيئين, وسلّم أحدهما - كان ما سلم مرهونًا بجميع الحق. وقال أبو حنيفة: يكون مرهونًا بحصّته. وبالاتفاق: لو سلمها إليه, ثم أدى نصف الحق - لا يفتكُّ أحدهما. وكذلك لو تلف أحدهما بع التسليم - يكون الآخر مرهونًا بجميع الحَقِّ. ولو رهن دارًا, وسلم فانهدمت تكون العُرصة وآلات البناء مرهونة بجميع الحق, ويشترط أن يكون المتراهنان مُكلفين مطلقين, حالة الرّهن وحالة القبض. فلو رهن في حال الإطلاق, ثم جُنَّ أحدهما؛ أو حُجر عليه بالسّفه أو بالفلس, فقبض في تلك الحالة - لا يصح القبض, سواء كان أذن له في القبض حالة الإطلاق, او لم يأذن. ولو كانا مُكلفين مطلقين حالة الرهن والقبض, ولكن تخلل بينهما حالة جُنُون أو إغماءٍ أو حجرٍ - لايبطل الرّهن.

ويصح القبض بعد زواله, بخلاف الشركة والوكالة, يبطلان بالجنون والإغماء؛ لأنهما لا يُفضيان إلى اللزوم. والرهن يفضي إلى اللزوم؛ كالبيع في زمان الخيار, لا يبطل بجنون أحد المتابيعين؛ لأنه يفضي إلى اللزوم بمضيّ الخيار. ثم إذا جُنّ أحدهما, أو حُجر عليه بعد الرهن وقبل القبض - فالقبض ينصب قيّمًا في ماله. فإن جن المرتهن, أو حجر عليه فقيّمه يقبض الرهن إن سلم إليه. وإن لم يسلم, وكان الرهن مشروطًا في البيع, فإن رأي النظر في فسخ البيع - فسخ, وإلا فلا. وإن جنَّ الراهن؛ أو حجر عليه, ليس لقيّمه تسليم الرهن, إن لم يكن مشروطًا في البيع. وإن كان مشروطًا في البيع, ولم يخف الفسخ من المُرتهن, أو كان نظره في الفسخ - لا يسلم الرهن, وإن خاف الفسخ ونظره في الإجارة - يُسلم الرهن. وإن مات أحدُ المتراهنين فوارثه يقوم مقامه في التسليم والقبض, ولو قبض المرتهن الرهن بغير إذن الراهن - لا يصح, وعليه ردُّه, ولو أذن له في قبضه, ثم رجع قبل قبضه - لا يجوز أن يقبضه بعده, ولو جُنّ أو أغمي عليه بعد الإذن - بطل الإذن. ولو أودعه الراهن, أو أعاره من المرتهن - لا يحصل به قبض الرهن. ولو دفع إليه مطلقًا؛ فيه وجهان: أحدهما: يقع عن الرهن, كما لو باع شيئًا, ثم سلم إلى المشتري - يقع عن البيع. والثاني: يكون وديعة بخلاف البيع؛ لأن التسليم تم واجبٌ, فوقع مطلقه عن الواجب, وتسليم الرهن غير واجب؛ فلم يقع مطلقه عنه. فإذا كان الرهن في يد المرتهن, فقال الرّاهن: ما أقبضتك رهنًا بل أودعتك, أو أكريتك, أو أجرت من فلان فأسكنك, أو قبضت بغير إذني. وقال المرتهن: [لا] , بل أقبضتني رهنًا, فالقول قول الرّاهن مع يمينه, فإن اتفقا على الإذن, فقال الرّاهن: رجعت قبل القبض, وقال المرتهن: لم ترجع - فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأًصل بقاء الإذن, وعدم الرجوع.

فإن اتفقا على الإذن, فقال الراهن: لم يقبض, وقال المرتهن: بل قبضت - نظر: إن كان الرهنُ في يد المرتهن - فالقول قوله مع يمينه. وإن كان في يد الراهن, فالقول قوله مع يمينه؛ لأن اليد تصدقه. ولو شرطًا وضع الرّهن علي يدي عدلٍ, فقال الرّاهن: دفعته إلى العدل, وصدقه المرتهن, وأنكر العدل - فالقول قولُ العدل مع يمينه, ولا خيار للمرتهن؛ لأنه مقرٌّ بحصول المرتهن التسليم. ولو كان الرهنُ في يدَ أحد المتراهنين, واتفقا على التسليم إلى العدل, وأنكر العدلُ - فلا معنى لإنكار العدل بعد اتفاقهما على لُزوم الرّهن. فإن اتفقا على إقراره في يد المرتهن, وإلا وضعه الحاكم على يدي عدلٍ. ولو أن الراهن باع الرهن قبل التسليم, أو رهنه من غيره, وأقبضه, أو رهنه فسلّمه, أو جعله صَدَاقًا لزوجته, أو جعله أجرة دار ليستأجر بها, أو كان عبدًا فأعتقه أو كاتبه, أو كانت جارية فوطئها وأحبلها - بطل الرهن. ولو أجره, أو كانت أمة فزوّجها - صحَّ التوزيج والإجارة, ولا يبطل الرهن. وكذلك لو وطئها ولم يحبلها - فالرهن بحاله, ولو دبره قبل التسليم. قال الشافعي: يبطل الرهن. وقال الربيع: تخريجًا لا يبطل؛ لأنه يمكنه الرجوع عن التدبير, والأول المذهب؛ لأن مقصود التَّدبير منافٍ لمقصود الرَّهن, فصار بالتدبير راجعًا عن الرهن. ولو رهنه من غيره, ولم يقبضه, أو وهبه فلم يسلم - فعلى قياس ما قال الشافعي؛ يبطل الرهن الأول, وعلى ما خرَّجَه الربيع, لا يبطل. ولو رهن جزءًا شائعًا من شيءٍ, يجوز, ويكون تسليمه بتسليم كله. وعند أبي حنيفة: رهنُ المشاع لا يجوز, سواء رهن من شريكه أو من غيره.

وبالاتفاق: والإشاعة الطارئة لا تبطل الرّهن, بأن يبيع نصف الرّهن من المرتهن؛ فيبقى الرهنُ في الباقي شائعًا. وإذا كان بين رجلين دار, فرهن أحدهما نصيبه من بيت فيها بغير إذن شريكه - فيه وجهان: قال الشيخ: والمذهب عندي: أنه لا يجوز. وكذلك لو باعه؛ لأنهما إذا اقْتسما ربما يقع هذا البيع في نصيب شريكه, فإن رهن بإذن شريكه جاز. ولو أن الراهن أعار الرّهن من المرتهن, أو أكراه منه - يجوز. ولا يبطل الرهن. وكذلك لو أكرى دارًا من إنسان, ثم رهنها منه - يجوز. ولا يمنع اجتماع الإجارة - والرّهن. وعند أبي حنيفة: الإجارة والرهن لا يجتمعان, فأيهما تأخَّر رفع الأول. وبالاتفاق: لو أعار من المرتهن لا يرتفع الرّهن. وإن كانت الإجارة قبل تسليم الرهن, ثم سلم إليه من جهة الإجارة - لا يحصل به قبض الرهن.

فإن سلم عنهما جميعًا - جاز وتمَّ الرهن. وإن سلم عن الرهن دون الإجارة - جاز عنهما؛ لأن التسليم عن الإجارة مستحقٌ؛ فيقع عنه. ولو أن المرتهن أودع الرهن من الراهن بعد ما قبضه - لا يبطل الرهنُ. وإقرار الراهن بإقباض الرهن مقبول عند الإمكان. فإن قال: رهنت اليوم دارًا ببلد كذا من فلان وأقبضته - وهو غائب عن تلك البلدة - لا يصحُّ الإقرار؛ لأنه لم يمض زمان إمكان القبض. فلو أقر في موضع الإمكان ثم أنكر, وقال: ما أقبضت - لم يقبل قوله, وهل له تحْليف المرتهن؟ اختلف أصحابنا فيه, فمن أصحابنا من قال: له تحليفه على أنه أقبضه؛ لأنه يحتمل أن يكون إقرار الراهن بالإقباض وعدًا منه بأن يقبضه لا في حقيقة. وقال أبو إسحاق: ليس له تحليفه, وهذا أصح؛ لأنه يكذب نفسه بالإنكار, إلا أن يؤول الإقرار الأول تأويلًا, فيقول: كنت أقبضتُ باللسان, وظننت أنه صحيحٌ فأقررت, أو ورد على كتاب من وكيلي أنه أقبضه فأقررت بذلك, فبان أنه كان مزورًا؛ حينئذٍ تُسمع دعواه, ويحلف المُرتهن. ولو رهن شيئًا, وهو في يد المرتهن حالة العقد, أو وهب منه وهو في يد المُتهب - فيشترط مُضي إمكان القبض. وقيل: لا يشترط الإذنُ في القبض؛ كما في البيع. والأول المذهب بخلاف الجميع: لا يشترط فيه الإذن؛ لأن الإقباض تمَّ واجب؛ فوقع القبض المُستديم عن الواجب. وفي الرّهن والهبة - لا يجب الإقباض, فيشترط الإذنُ في القبض؛ لأن القبضَ المستدام ليس قبض ولا هبةٍ. فإن لم يشترط الإذن في القبض - فمضيُّ الإمكان من وقت العقد, وإن شرطنا فيكون مضى إمكان القبض من وقت الإذن في القبض, حتى يجوز - للرّاهن الرجوع فيه قبله. ولو تلف الرهنُ قبله - كان للمرتهن فسخ البيع, إن كان الرهن مشروطًا فيه؛ كما لو تلف في يد الرّاهن. ومضي إمكان القبض, هو أن يمضي من الزمان قدر ما يمكنه المصير إليه, ونقله حيث ما كان.

وهل يشترط أن يحضره ويشاهده, أو يبعث إليه وكيله ليشاهده؟ - فيه وجهان: أحدهما: يشترط, وهو ظاهر النَّص ليعلم بقاؤه. والثاني - وهو الأصح: لا يشترط؛ لأن الأصل بقاؤه, والنص محمول على الاحتياط. فإن قلنا: يشترط أن يحضره, هل يشترط أن ينقله؟ -: فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ لأن قبض المنقول يكون بالنقل. والثاني - وهو الأصح: لا يشترط؛ لأن النقل للإخراج من يد الراهن والعين ههنا في يد المرتهن؛ فلا معنى للنقل. فَصْلٌ ولو غصب شيئًا, ثم رهنه المالك من الغاصب - صح الرهن؛ ولا يزول ضمان الغصب. وقال أبو حنيفة: يزول ضمان الغصب, وهو اختيار المُزني؛ كما لو أودع المغصوب من الغاصب - يزول ضمان الغصب. قلنا: لأن الوديعة مع الضّمان لا تجتمعان؛ بدليل أن المرتهن لو تعدّى في الرهن يصير مضمونًا عليه مع بقاء الرّهن, فإذا لم يمنع دوام الرهن ابتداء الضّمان مع قوة الدوام, فلأن لا يرفع ابتداء الرهن دوام ضمان الغصب مع ضعف الابتداء - أولى. وكذلك لو وَكَّل المالك الغاصب ببيع المغصوب أو إعتاقه, أو أجره منه أو قارضه, أو كانت جاريةً فزوجها منه - يصح التوكيل, والإجارة, والتزويج؛ ولا يزول ضمان الغصب. وكذلك المقبوض بحكم شراء الفاسد, أو بحكم العارية, والسوم إذا وهبه المالك منه - يصحُّ الرهن. وإذا أذن في قبضه تمَّ الرهن, ولا يزول ضمان الغصب. فصْلٌ يجوز للحاكم والوليَّ أن يرتهن للصبي, وللمجنون, وللمحجور عليه بالسفه, وأن يرهن ماله, بشرط النظر. وصورة الارتهان بشرط النّظر: أن يكون له دينٌ مؤجلٌ في ذمة إنسان ورثه, فتبرع من

عليه الدين برهنٍ سلمه إليه؛ يجوز أن يرتهن. أما إذا كان الدين حالًا, فلا يجوز أن يؤخره بالارتهان. وكذلك لو أقرض ماله عند ضرورة, فارتهن, أو باع من ماله شيئًا نسيئةً, وارتهن بالثمن - يجوز. أما إذا باع ماله نسيئةً بثمن النقد, أو أقرض ماله من غير ضرورةٍ فارتهن - فلا يجوز. وإذا سلم: فالولي والآخذ ضامنان للمال يطالبان به, والقرار على من تلف في يده. والارتهان فاسدٌ, غير أنه أمانةٌ في يده. وصورة الرهن على النظر, أن يكون الصبي محتاجًا إلى النفقة والكسوة, أو أداء حقٍّ وجب عليه, أو مؤنة ضيعةٍ, فاستقرض له وليه شيئًا إلى أن يُدرك - فله ضيعته, أو له دينٌ مؤجلٌ على إنسان ينتظر حلول أجله, أو له متاعٌ كاسدٌ يرجو إنفاق سوقه, ورهن بما استقرض شيئًا من ماله - يجوز. فإن لم يكن له مالٌ منتظرٌ يؤدي منه الدّين - فبيع ما نريد رهنه من ماله في الحال لنفقته - أولى من الاستقراض؛ لأنه ربما يتلف الرهن؛ فيبقى الدَّين عليه. وكذلك لو وجد الوُّلي ضيعةً تباع, وللصبي في شرائها غبطةٌ, ولا ثمن له في الحال, فاشترها بدين ورَهَن شيئًا من ماله, أو كان زمان نهب, فاشترى له عقارًا, أو رهنه بثمنه, أو اشترى له ما يساوي ألفين بألف نسيئةً, ورهن من ماله ما يساوي ألفًا, إذا كان لا يُباعُ إلا بالرهن - فكل ذلك جائزٌ؛ لما فيه من النظر. ولو رهن بألفٍ للثمن ما يساوي ألفين - لا يجوز. وكلُّ موضع جوزنا الرَّهن يجب أن يرهن من أمين, يجوز الإيداع عنده, ولا فرق بين الأب والجد, وغيرهما من الأولياء, غير أن الأب والجد يجوز لهما أن يرهنا لأنفسهما من مال الصبي ويرهنا منه. ويتولّيان طرفي العقد, ولا يجوز ذلك لغيرهما من الأولياء. وهل يشترط لفظان؟ فيه وجهان: كما قلنا في البيع. وهل يشترط مُضي إمكان القبض أم لا؟ إن قلنا: يشترط لفظان, يشترط مضيُّ إمكان القبض, وإلا فلا. فإن قلنا: لا يشترط مُضي إمكان القبض لا يشترط النَّقل, وإن قلنا: يشترطُ فهو كما

لو رهن شيئًا هو في يد المُرتهن. ولو كان له على ولده الصغير دينٌ - فلا يجوز أن يرتهن به شيئًا؛ لأنه رهنُ تبرُّع, وليس له أن يتبرع بمال الطفل, إلا أن يشتري له من نفسه شيئًا بشرط الرهن - فيجوز. ويجوز للمكاتب أن يرهن ماله بشرط النظر؛ كولي اليتيم, وهل له الارتهان؟ ظاهر نصَّه ههنا يدلُّ على أنه يبيع بالدين ويرتهم, وقال في الكتابة: غير أن المكاتب لا يبيع بالدّين. واختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قال: لا يجوزُ أن يبيع بالدين ويرهن؛ لأنه أحسن حالًا من المولى عليه؛ فإن المولى عليه لا ينفذ تصرفه, والمكاتب ينفذ تصرفه, وحيث قال: لا يبيع بدينٍ, أراد به إذا لم يأخذ رهنًا. ومنهم من قال: ليس له أن يبيع بالدين, وما قال ههنا أراد به إذا باع بثمن مُعجَّلٍ, فقال المشتري: خذ رهنًا حتى آتيك بالثمن من البيت - فيجوز. والعبد المأذون له في التجارة؛ كالمكاتب إن دفع إليه السيد مالًا يتجر فيه. وإن لم يدفع إليه مالًا, بل قال: اتجر بجاهك - فله أن يبيع ويشتري في الذمة حالًا ومؤجلًا, ويرهن ويرتهن؛ لأنه لا ضرر فيه على المولى, فإن حَصَلَ فيه فضل فهو للسيد, ثم هو فيه كالمكاتب. فصْلٌ ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ كالحر؛ وأم الولد, والمكاتب, والوقف؛ لأن المقصود من الرهن بيعه عند المحل, واستيفاء الحقَّ من ثمنه, ولا يجوز بيع هذه الأشياء. وكذلك لا يجوز ما لا يقدر على تسليمه, كالعبد الآبق, والطَّير المنفلت. ولا رهن المجهول؛ كما لا يجوز بيعه, إلا المبيع قبل القبض؛ فإنه لا يجوز بيع, ويجوز رهنه في قول. وكذلك بيع الأم, ولها ولد صغير دون سبع سنين - لا يجوز دون الولد في قول, ويجوز رهنًا؛ لأنه لا تفريق فيه, فإن منفعة الرّهن تكون للراهن؛ فيمكنها تعهَّد الولد. ثم إذا احتيج إلى بيع الأم في الدَّين - تباع مع الولد, ويوزع الثمن على قيمتها, فما قابل الأم يصرف إلى دين المرتهن, وما قابل الولد للرّاهن. وكذلك لو جُنَّت الأم ولها ولد صغير - تُباع مع الولد بقدر قيمة الأم للمجني عليه.

وكذلك لو باع عبدًا مسلمًا من كافر - لا يجوز على أصح القولين. ولو باع منه مصحفًا, أو شيئًا من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصحُّ على ظاهر المذهب. ويجوز الرهنُ على ظاهر المذهب, فيوضع على يد مسلم عدلٍ, وكل ما جاز رهنه إلا المدبر, والمعلق عتقه بصفة - يجوز بيعه, ولا يجوز رهنه في قولٍ. وكذلك المنافع يجوز بيعها بلفظ الإجارة, ولا يجوز رهنها. وكذلك لو كان له دينٌ في ذمة - إنسان - جاز بيعه منه, والاستبدال عنه, ولا يجوز رهنه. ولو رهن عبدًا, ثم أعتقه الرّاهن بعد التسليم - هل يعتق؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: يعتق؛ وبه قال أبو حنيفة, سواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ كما لو أجر عبده, أو زوج أمته, ثم أعتقهما عتقًا. والثاني: لا يعتق؛ لأن العتق يلاقي محل الرهن؛ بدليل أن رهن الحر لا يجوز, ولا يلاقي محل الإجارة والتزويج؛ بدليل أن إجارة الحر, وتزويج الحرة - يجوز؛ ففي تنفيذ العتق إبطال حق المرتهن؛ فلم يجز. والثالث - وهو الأصح: إن كان الراهن معسرًا لا يعتق؛ لأن فيه إبطال حق المرتهن, وإن كان موسرًا يعتق, وعليه أن يرهن قيمته مكانه؛ كالعبد المشترك بين اثنين أعتقه أحدهما؛ فإن كان معسرًا لا يعتق نصيب الشريك, وإن كان موسرًا يعتق وعليه قيمته. وإن قلنا: ينفذ إعتاقه على الإطلاق؛ فإن كان موسرًا عليه أن يرهن قيمته باعتبار يوم الإعتاق. وإن كان معسرًا ينظر حتى يوسر؛ فيرهن قيمته مكانه. أما إذا وطئ الراهن الجارية المرهونة بعد التسليم - يعزَّر. ثم إن لم يحبلها فالرهن بحاله, ولا مهر عليه, ولا حد؛ لأنها ملكه, فإن كانت بكرًا فافتضها - يجب عليه أرش الافتضاض, ويكون رهنًا معها, وإن أحبلها فالولد حرُّ ثابت النسب, ولا يجب عليه قيمة الولد؛ لأن ولد المرهونة لا يكون رهنًا. وهل تصير الجارية أم ولدٍ؟ فيه ثلاثة أقوال؛ كما في العتق. فإن قلنا: ينفذ الاستيلاد, عليه أن يرهن قيمتها مكانها, فإن كان معسرًا فحتى يوسر. وإذا قلنا: لا ينفذ عتق الراهن, فلو بيع العبد في الدّين, ثم عاد إلى ملك الراهن - لا يحكم بعتقه, وإن قضى الدين وافتك الرهن, هل يعتق؟

فيه وجهان: أحدهما: لا يعتق؛ كالمحجور عليه بالسفه, إذا أعتق عبدًا, ثم زال الحجرُ عنه - لا يحكم بنفوذ عتقه. والثاني: يعتق؛ لأن الراهن من أهل الإعتاق, إلا أن عتقه ههنا لم ينفذ لحق المرتهن, فإذا زال حقه عتق؛ كالمريض إذا أعتق عبدًا, وعليه دينٌ - لا يعتق. فإذا أبرأه صاحب الدين عتق, بخلاف المحجور عليه بالسفه؛ لأنه لا حكم لتصرفه, كالصبي. وقيل: إذا افتكَّ الرهن عتق قولًا واحدًا. وإذا بيع في الدين, ثم عاد إليه - هل يعتق؟ فيه قولان كالاستيلاد. والأول أصحُّ, بخلاف الاستيلاد فإته - فعل, فكان أقوى من العتق الذي هو قول؛ بدليل استيلاد المجنون, والمحجور عليه بالسفه ينفذ, وعتقهما لا ينفذ. أما الاستيلاد: إن قلنا: لا ينفذ فلا تباع في الدين ما دامت حاملًا؛ لأن في بطنها ولدًا حرًا, ولو وضعت الحمل حينئذ تباع في الدين, فإن دخلها نقصٌ بالولادة - فعلى الراهن أرش النقصان, يجعله رهنًا معها. وإن ماتت في الطلق يجب أن يرهن قيمتها مكانها, باعتبار يوم الوطء؛ لأنه سبب التلف؛ كما لو جرحها, وبقيت ضمنةً إلى أن ماتت - يجب قيمتها باعتبار يوم الجُرح. وقيل: بيوم الموت. وقيل: أكثر ما كانت من وقت الوطء إلى الموت. والأول المذهب. وإن سلمت عن الولادة, فإن قُضي الدين وافتك الرهن - كانت أم ولدٍ للراهن. وإن احتيج إلى بيعها, فإن كان الدينُ يستغرق جميع قيمتها تباع كلها, وإن لم يستغرق, تباع بقدر الدين. وإن كان في التشقيص نقصانٌ؛ بأن كانت قيمتها ألفًا, والدين مائة - يباع عُشرها, فإن كان العشر لا يشتري بمائة لأجل التشقيص - يزاد بقدر ما يشترى بالمائة, بخلاف العبد القنَّ إذا كان عشره لا يُشترى بمائة ويشترى جملته بألفٍ - يباع كله؛ دفعًا للضرر عن المالك, وههنا بَطَلَ حق المالك بالاستيلاد, فيراعى حق العتاق. فإذا بيعت في الدين, ثم ملكها الرهن بعده - هل تكون أمَّ ولدٍ؟ -: فيه قولان: كما لو استولد جارية الغير بالشبهة, ثم ملكها هل تكون أم ولدٍ له؟

فيه قولان: وقيل ههنا تكونُ أُمَّ ولد له قولًا واحدًا؛ لأن الاستيلادُ وجِدَ فى الملك, بخلاف الموطوءة بالشُّبهة. ولو رَهَنَ مديره, نُصَّ على أن الرّهن مَفْسُوخٌ. واختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قالَ: لا يصحُّ الرَّهنُ؛ لأن المولى قد يموتُ فجأةٌ؛ فيعتق المديرُ, ويبطلُ مقصودُ الرَّهنِ. ومنهم من قال: فيه قولان؛ بناء على أن التدبيرَ وَصيةٌ, أم تعليقُ عتق بصفة؟ وفيه قولان: فإن قلنا: وَصِيَّةٌ يصحُّ الرهنُ, ويكون رُجوعًا على التَدبيرِ. وإن قلنا: تعليق عتق بصفة, فهو كما لو رَهن المعلقُ عتقه بصفة, ويحتمل وجود الصفة قبل محلِّ الدَّين وبعده. ولو رَهَنَ المعلقُ عتقه بصفة- نُظرَ: إن عتقه بدين حالِّ, أو بِدَينٍ مُؤجلٍ, ويعلم حلول الأجل قبل وُجود الصفة- يصحُّ الرهنُ, ويباع فى الدَّين عند المحلِّ. فلو لم يتفق البيعُ حتى وجدت الصِّفة هل يعتقُ أم لا؟ هذا يُبنى على أن الاعتبارَ فى العِتقِ المعلقِ بحالة التعليق, أم بحالةِ وجودِ الصِّفةِ؟ فيه قولان: إن قلنا: بحالة التعليقِ, يعتقُ, وللمرتهن الخِيارُ فى فَسْخِ البيع المشروطِ فيه. وإن قلنا: الاعتبارُ بحالةِ وجودِ الصفَةِ, فهو كما لو أنشأ إعتاق المرهونِ. ولو كان يتحقق وجودُ الصفة قبل محل الدين- لا يصحُّ الرهنُ؛ لأنه إذا أعتق قبل مَحلِّ الَّين لا يحصُلُ مقصودُ الرَّهْنِ. وخرج قول مَن رهن ما يتسارع إليه الفساد؛ أنه يصح الرهن, إذا أشرف على وُجودِ الصِّفة يباع, ويكون ثمنه رَهنًا. والأولُ المذهب. وإن كان يحتملُ وجود الصِّفة قبل حُلولِ الدين, ويحتملُ حُلول الدَّين قبل وجود الصفة- ففى صِحةِ الرَّهْن قولانِ: أصحهما: لا يَصحُّ؛ لأنه قد توجد الصِّفة قبل المحلِّ, ولا يحصلُ مقصودُ الرَّهنِ. والثانى: يَصِحُّ؛ لأن الأصلَ بقاؤه؛ كما لو رَهَن حيوانًا يَجوزُ, وإن كان يتوهَّم موته قبل المَحِل.

ولو دبر المرهونُ يجوز؛ لأنه يمكن بيعُه عند المَحلِّ, فإذا حل الدَّين يباع بقدر الدَّين, والباقى مدبرِّ. ولو علق عتق المرهونِ بصفة فهو كإفشاء الإعتاقِ. ولو وقف المرهونُ: ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالعِتقِ؛ لأنه حَقٌّ لله تعالى لا يمكن إسقاطه. والثانى: لا يَصحُّ؛ لأنه تصرفٌ لا يقبل السِّرايَةَ, كالبيعِ وَالهِبةِ. فَصْلٌ إذا آلت المرهونة بِولدٍ فادَّعى الرَّاهنُ أنى كنت وَطئتُها قَبلَ الرهن, أو بعد الرهن قبل التَّسليمِ, وهذا الولدُ مِنى- نظر: إن صدقه المرتهن, أو قامت عليه بينة - فالرهنُ باطلٌ سَواءٌ آلت لأقل من ستةِ أشهرٍ من وقتِ الإقباض أو أكثر, إذا كان لدون أربع سنين من وقتِ الإقباض, وهى أُمُّ ولد له. ولا يَجبُ أن يرهن قيمتها؛ لأنه بان أن الرَّهن لم يكن صحيحًا, وللمرتهن فسخُ البيع المشروطِ فيه الرهْنُ. وإن كذَّبه المرتهنُ, ولم يكن له بينة- هل يُقبل قوُل الراهنِ؟ فيه قولان: وكذا لو ادَّعى: أنى كنتُ أعتقها قبل الرَّهنِ, أو قبل التَّسليم- هل يقبل؟: فيه قولان: أصحُّهما: لا يقبل؛ لما فيه من إبطالِ حَقِّ المرتهنِ, كما لو باعَ جاريةٌ, ثم ادَّعى أنه كان قد أعتْقها أو استولَدَها- لا يقبلُ. والثانى: يقبل؛ لأنه غيرُ متهمٍ فى هذا الإقرار, فإنه يقرُّ فى مِلكِ نفسِهِ, بخلاف ما لو باعها ثم ادعى العتق او الاستيلاد- لا يقبل؛ لأن إقراره فى مِلكِ الغيرِ. فإن قلنا: يقبل كانت أم ولد. وإن ادعى العتق كان حرًا, وللمرتهن الخيارُ فى فَسْخِ البيع المشروط فيه هذا الرهن. وإن قلنا: لا يقبلُ, فهو كإنشاء هذا الاستيلادِ والعِتقِ. وقد نص على أنه لو أقرَّ بعتقه لم يَضرَّ المرتهن. فإن كان موسرًا أخذت منه قيمته, وكان رَهنًا. وإن كان معسرًا بيع فى الرَّهنِ ومتى رجع إليه عتق؛ لأنه مقرٌّ أنه حرٌّ, أجاب على قولنا: إن إعتاق المرهون ينفذ إذا كان المعتق موسرًا.

وكذلك لو ادَّعى الرَّاهنُ: أنَّى كنتُ قد بِعتُهُ قبل التَّسليم, أو وَهَبْتُهُ وأقبضتُه, أو رَهنتُهُ من آخر وأقبضته, أو هو مَغصُوبٌ من فُلانٍ, أو أقر بجنايةٍ- مُوجبةٍ للمالِ, أو رهن عَبدًا مجهول النسب وسلم, ثم ادعى أنه ابنه- هل يقبلُ قولهُ فى إبطال الرَّهنِ؟ فيه قولان: وكذلك لو أجرَّ دارًا, ثم ادعى أنى كنت أجرتُها من غيره, أو بِعتها, أو أجر عبدًا ثم ادعى أنى كنت أعْتَقْتُهُ- هل يقبلُ؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا يقبل فافتكَّ الرهنُ, أو بيع فى الدَّين, ثم عادَ إليه- يحكم بنِفوذِ الاستيلادِ والعتقِ. وإن كان قد أقرَّ به لإنسان سلّم إليه؛ كمن أقرَّ بحريةِ عبد الغير ثم ملكه- يحكم بِحُريتهِ. فِصْلٌ ولو أذِنَ المرتهنُ للراهن فى بَيع المرهون أو إعتاقه, أو فى وطءِ الجارية المرهونةِ؛ فباع أو أعتق- صَحَّ البيعُ والعتق, وبَطَلَ الرهنُ, ولو وطئها ولم يُحبلها لا يبطلُ الرَّهْنُ. ولو أذن, ثم رجع قبل أن يبيع أو يعتق, او أذن فى الوطء, فرجع قبل أن يَطأَ, أو بعد الوطء قبل الإحبالِ- صَحَّ رجوعُه, فلو باعه بعدما رجع- لا يَصِحُّ البيعُ. ولو أعتقَ واستولدَ فهو كإنشاءِ العتقِ والاستيلاد بغير الإذنِ. ولو لم يعلم برجوعه, فباعه أو أعتقه, أو استولدها- هل ينفذ؟ فيه وجهان: بناء على أن الوكيلّ إذا عزل, هل ينعزل قبل بلوغ الخَبَرِ إليه؟ فيه قولان: أصحهما: ينعزلُ, وحكمه حكم ما لو أنشأ هذه التَّصرفاتِ بغير الإذن. وإن قلنا: لا يَنعزلُ فهو كما لو فعل بالإذنِ. وإذا باعَ أو اعتَقَ أو استولدَ, ثم اختلفا, فقال الرَّاهنُ: أذنت لى فيه, وأنكر المرتهنُ- فالقولُ قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عَدَمُ الإذن. فإذا حَلَف فهو كما لو فَعَلَ بغير إذنِهِ, وإن نَكَل حلفَ الراهنُ, وهو كما لو فعل بإذنه.

وإن نكلَ الراهنُ, هل يردُ اليمين على الجاريةِ والعبْدِ؟ فيه قولان: بناء على أن وَارثَ الميتِ إذا نَكَلَ عن يمين الرَّدِّ هل يحلفُ الغريم؟ فيه قولان: ولو اتفقا على الإذن, واختلفا فى الرُّجوع, فقال المرتهن: كنت رجعت, وأنكر الرَّاهنُ- فالقول قولُ الرَّاهنِ مع يمينه؛ لأن الأصلَ عدمُ الرُّجوع. ولو اتفقَا على الرُّجوعِ, غير أن الراهن يقول: كنت قد بِعْتُ وأعتقتُ, أو وَطئتُ قبل رجوعك. وقال المرتهنُ: رجعتُ قبل ذلك. نظر: إن قال الرَّاهن أولًا: وطئت, أو اعتقت, أو بِعتُ, ثم قال المرتهن: كنت رجعت قبل ذلك- فالقولُ قولُ الراهن مع يمينه, وجعل كأنه رجع بعد بَيعه وإعتاقه. وإن قال المرتهنُ أولًا: رجعت, ثم قال الرَّاهنُ: كنت قد بعت أو اعتقت- فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه؛ كالوكيل بالبيع, إذا قال: بَعتُ, فقال الموكل: قد عَزَلتُك, فالقولُ قولُ مَنْ سبق قوله. ولو اتفقا على الإذن, واختلفا فى الوَطءِ, فقال الراهن: وطئت, وأنكر المرتهنُ فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه. وكذلك لو اتفقا على الوَطءِ - واختلفا فى المُدَّة - فقال الراهنُ: مضت مدة إمكان الولد منه, وأنكر المرتهنُ أو اتفقا على مُضى مدةِ الإمكان, ولكن قال المرتهنُ: هذا الولدُ ليس منها, إنما التقطتهُ أو استعارتْهُ - فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه, لأن الأصلَ بقاءُ الرَّهْنِ. ولو اتفقا على الوَطء - ومضى المدة والولادة, واختلفا, فقال الراهنُ: هذا الولدُ مِنِّى, وقال المرتهنُ: بل من زوج أو زِنا - لا يقبل قولُ المرتهنِ, بل القولُ ما يقولُه الرَّاهنُ, بلا يمين. فَصْلٌ فى وَطْءِ المُرْتَهِنِ إذا وطئ المرتهنُ الجاريةَ المرهونةَ- نُظِرَ: إن وطئها بغير إذن الراهن, فهو كما لو وطئ غير المرهونة. فإن كان عالمًا عليه الحدُّ, والمهر إن كانت مُكرَهةً, وإن كانت طائعة, فلا يجب على الصَّحيح من المذهب. والولدُ رقيقٌ للرَّاهن غيرُ ثابتِ النَّسبِ. وإن ادّعى الجهل بالتحريم, فلا يقبل إلا أن

يكون قريبَ عهدٍ بالإسلام, أو نَشِأ بباديةٍ بعيدةٍ من المسلمين؛ كما لو زنى بامرأة, ثم ادَّعى الجَهْلَ بتحريم الزِّنا. ولو وَطِئها بالشُّبهة فلا حدَّ, ويجب المهرُ, وإذا أولدها فالولدُ ثابتُ النسب, وعليه قيمتهُ للراهن كوطءِ غير المرهونةِ. أما إذا وطئها بإذن الراهن- نظر: إن كان عالمًا بالتحريم, فالمذهبُ: أن عليه الحَدَّ؛ كما لو وطئ بدون إذنه, وقيل: لا حَدَّ؛ لاختلافِ العلماءِ. فإن عطاء كان يُجوزُ وطءَ جاريةِ الغير بإذن مَالِكِهَا. وليس بصحيح؛ لأن صورةَ الاختلاف لا تصيرُ شبهةٌ من غير دليلٍ. فلو وطئها عالمًا, أو ادَّعى الجهل بالتخريم عند وُجودِ الإذن من المالك- يقبل ويُدرأ عنه الحَدُّ, وإن طال عهدُه بالإسلام, او نشأ فيما بين المسلمين فقيل: لا يقبل, إلا أن يكون قَريبَ عَهْدِ بالإسلام, أو نشأ فى باديةٍ, أو موضعَ بَعيدٍ من المسلمين؛ كما لو وطئها بغير إذن الراهن وادَّعى الجَهَالةَ. والأول أصحُّ, بخلاف ما لو وطئ بغير إذن الرَّاهنِ؛ لأن أمرَ التحريمِ يَخْفى على العوام عند وُجودِ الإذن؛ كما خفى على إعطاء مع علمه؛ فقبل قوله. وعند عَدَم الإذن لا يخفى, إلا على مَنْ كان قريبَ العهدِ بالإسلام, فلم يقبلْ قولُه إلا فى هذه الحالةِ. فإذا ادَّعى الجَهالة ودَرَأنا الحدَّ- فإن أولده الولدُ حرٌّ ثابتُ النَّسبِ وعليه قيمته, وهل يجبُ المهرُ؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأن الإذنَ من الحرِّ المستوجِب للمهر فى الوطء- يوجب سُقُوطَ المهرِ؛ كالحرَّة إذا زَنَتْ لا مَهْرَ لَهَا. والثانى: وهو الأصحُّ؛ وبه قال أبو حنيفة: يجب المهرُ؛ كما تجب قيمة الولد؛ ولأن وجودَ المهرِ بالوطءِ حيث لا يَجبُ الحدُّ- حق الشرع, فلا يسقطُ بالإذن, كالمُفوضةِ تستحقُ لمهر بالدخول فإن قلنا: يجب المهرُ بذلك إذا لم تكُنِ المرأةُ طائعةٌ, فإن كانت طائعةٌ, وقلنا بطواعيتها- يسقط المهرُ؛ فلا يَجِبُ. فكل موضع أثبتنا النَّسب, فالجارية لا تصير أُمَّ ولدِ له فى الحال. فإذا مَلَكَها بعده فعلى قولين.

ولو ادَّعى المرتهنُ أن الراهنُ قد بَاعها منه, أو أ'مرها, أو وهبها وأقبضها, وأنكَرَ الرَّاهنُ- فالقولُ قولُ الراهن مع يمينه. فإن حَلَفَ فالأمُ والولدُ رقيقان له, وإن نَكَلَ وحلفَ المرتهن كانت أمَّ ولدِ له, والولد حُرٌّ. فإن حلف الراهنُ, وحكمنا برقهما, ثم ملكهما المرتهنُ بَعْدَه- كان الولد حُرّا, والأمُّ أمَّ وَلَدٍ له, لا يختلفُ القولُ فيه؛ لإقراره السابق, أنه استولَدَها فى المِلْك؛ كمن أقرَّ بحرية عبد الغيْرِ, ثم ملكه- يحكم بحريته. فَصْلٌ إذْنِ المُرتَهِنِ لِلرَّاهِنِ بالتَّصرُّفِ بالمَرْهُونِ إذا أذن المرتهنُ لِلرَّاهنِ فى بيع العبدِ المرهونِ مطلقًا, أو فى إعتافهِ على مالٍ, فباع أو أعتق- صَحَّ وبَطَل الرهنُ. ولا يجب أن يرهنَ ثمنه مكانِهِ, سواء كان الدَّيْنُ حالًا أو مؤجلًا. غير أن الدَّينَ إذا كان حالًا عليه أداء الدَّين من ثمنه, أو من مَوضِعٍ آخَرَ. وعند أبى حنيفة: يجب أن يرهنَ ثمنه مكانه إن كان الدَّينُ مُؤجَّلًا. وبالاتفاق لو أذن له فى إعتاقه مطلقًا, فأعتق - لا يجب أن يَرْهَنَ ثمنه مكانه, وهذا بخلاف ما لو باعَ المولى العبدَ الجانى بإذن المجنىِّ عليه- لا يبطل حَقَّه من الأرْشِ؛ لأن الأرشَ هناك نظيرُ الدَّينِ- ههنا؛ فلا يسقط بالإذن فى البيعِ. ولو أذن له فى بيعه, بشرط أن يُؤدِّى حقَّه من ثَمَنِهِ- والحقُّ حالٌ - يجوز؛ لأنه قضيةُ الرهن. وإن أدَّى من موضع آخر- يجوز. وإن كان الحقُّ مؤجلًا, فأذن له فى بيعه, بِشرطِ أن يعجِّل حَقَّهُ من ثمنه- فالإذن فاسد, ولا يصحُّ البيعُ. وقال المزنىُّ: يصحُّ البيع لوجود الإذن, فيلغو الشرط, وعليه أن يَرْهَنَ ثمنه مكانه؛ وبه قال أبو حنيفة؛ كما لو وكل وكيلًا بِبيعِ شَئٍ, على أن له عُشرَ ثمنه, أو شرط له جُعلًا مَجهولًا فباع- يصح الإذن, والبيع صحيح, ويلغو الشرط, وللوكيل أجرُ المثلِ. قلنا: لأن الفسادَ هناك ليس فى الإذن, بل فى جَهالةِ الجُعلِ, والجعلُ فى مقابلة منفعةِ الوكيل, لا فى مُقابلة الإذن؛ لأنه شرطه على نفسه؛ فلم يفسِدِ الإذْنُ. وههنا الشرط فاسد فى مقابلة الإذن, لأنه شرط تعجيل الحقِّ لنفسه؛ كأنه قال: لاَ إذنَ

لك حتى تُعَجَّلَ حقَّى؛ فيفسد الإذنُ. أما إذا أذن له فى بيعه, وشرط أن يَرْهَنَ ثَمَنَهُ مكانه, سواء كان الحقُّ حالًا أو مؤجلًا - ففيه قولان: أحدهما: الإذن فاسِدٌ, ولا يصحُّ البيع؛ كما لو شَرَطَ تعجيلَ الحقِّ. والثانى: يَصِحُّ الإذن والبيع, وعليه أن يرهن ثمنه؛ لأنه لم يشترط لنفعه زِيادةٌ لم تكن, فإنَّ نَقْل الحقُ من غير الرهن إلى بَدَلِهِ من قَضيَّة العقدِ, ألا ترى لو قيل: المرهونُ قاتل يغرم قيمته, ويكون رهنه مكانه. فلو باعه الراهنُ ثم اختلفا, فقال المرتهن: أذنت لك, بِشَرْطِ أن تَرْهَنَ ثمنه, فقال الراهن: لا بل مطلقًا. فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا فى أصْلِ الإذن- كان القولُ قَوْلَه. ثم إن كان هذا الاختلافُ قبل البيع- لا يجوزُ للراهن بيعه بعده. ولو باعه لا يَصحُّ, فإن كان بعد البيع, وحلف المرتهن- إن قلنا: الإذنُ صحيحٌ, يجب على الراهن أن يرهن ثمنه. وإن قلنا: الإذن فَاسدٌ, فإن صدق المشترى المرتهن, ردَّ البيع, وكان رَهْنًا. وإن كذبه قال الشيخ: نُظِر: إن أقَرَّ أنه كان موضع مرهونًا, ويدعى أن الإذنَ كان مطلقًا؛ كما يقول الراهن - فيمينُ المرتهنِ حُجَّةٌ عليه, وعليه رَدُّهُ. وإن أنكر كونه مرهونًا, حلف, وعلى الراهن أن يَرْهَن قيمتَهُ. فَصْلٌ فى رهن أرض الخراج رَهْنُ أرْضِ الخَرَاجِ لاَ يجوزُ. وهو أن: يفتحَ الإمامُ بلدًا عَنوةٌ, وصارت الأراضى لِلغانِمينَ, فاستطاب الإمام أنْفُسَ الغانمين بمال أعْطاهُمْ, وأخذها منهم فوقفها, وضرب عليها خراجًا معلومًا؛ كما فعل عمر بسواد العراق. أو فتح بلدًا صُلحًا على أن الأراضى للمسلمين, والكفار يَسكُنونَها بخراجٍ مَعلومٍ, فلا يجوز رَهْنُ هذه الأراضى؛ كالأرض الموقوفة. فإن كانَ فيها غِراسٌ من أصل تلك الأشجارِ, أو بناء من تلك التُّربة- فلا يصحُّ رهنُ ذلك الغرس والبناء, كالأصل.

وإن حَدَثَ الغراسُ والبناءُ بعد الوقف والصلح مِنْ مالِكِ لَهُ- جاز رهنُ البناء والغراسِ. ولو رهن الأرض مع الغراس والبناء- لا يصحُّ فى الأرض. وفى الغراسِ والبناءِ قولان؛ كما لو رهن شيئين وأحدهما ليس له- هل يصحُّ فيما له؟ فيه قولان. وكذلك لو رهن الأرضَ مطلقًا, ولم يعترض للغراس والبناء, وقلنا: إن الغراسَ والبناء يتبع الأصل. فهل يصحُّ الرهنُ فى البناء والغراس؟ فيه قولان. وإذا صحَّ الرهنُ فى الغِراسِ والبناء- فالخراج يكونُ على الرَّاهن, فلو أدى المرتهنُ الخراجَ بغير إذن الراهن- فهو متبرع. لا يرجع عليه, فإن أدى بإذنه رجع عليه, سواء شَرَط الرجوع, أو لم يشترط؛ كما لو اكترى دارًا, ثم أكْراها من غيره, والمكترى الثانى أدى الكِراءَ عن الأول بغير إذنه- لا يرجع عليه, وإن أدَّى بإذنه رجع عليه. فإن قال الرَّاهنُ: أدِّ الخراج على أن ترجع, والغراس والبناء مَرهونٌ منك بالحَقَّين- فهو كما لو زاد فى الدَّين على رهنٍ واحدٍ. وفيه قولان. ويجوز رهنُ العبدِ المرتدِّ؛ كما يجوز بيعُه, ثم إن كان عالمًا, لا خيار فى فسخ البيع المشروط فيه, وإن كان جاهلًا, فإن قتل قبل القبضِ انفسَخَ البيعُ, وإن قتل بعده فمن ضَمَان من يكون؟ فيه وجهان؛ كما فى البيع. فإن جعلناه من ضَمانِ الرَّاهنِ, فللمرتهن فَسْخُ البيع. وإن جعلناه من ضَمانِ المرتهنِ- فلا فَسخَ له, ولا أرشَ؛ كما لو مات فى يده وعلى هذا: لو رهنَ عبدًا, وجب عليه القطعُ فى السَّرقة, والمرتهنُ جاهلٌ, فقطع قبل القبض- له فسخُ البيعِ المشروطِ فيه. وإن قطع بعده فوجهان. ولو رهن عبدًا فى عنقه جِنايةٌ, نظر: إن كانت موجبةٌ للمال, أو عفا على مالٍ - نظر: إن رَهنَهُ بعد اختيار الفداء- جاز, وإن رهنه قبله فهو كبيعه, إن كان الرَّاهنُ معسرًا لا يَصِحُّ الرهن, وإن كان موسرًا فعلى قولين: أصحهما: لا يصح؛ لأنه كالمرهون فى حَقِّ المجنى عليه, ورهن المرهون لا يَصِحُّ, بل حَقُّ الجناية أقوى من حَقِّ المرتهن, بدليل أن العبدَ المرهونَ إذا جنى يُقدَّم حَق المجنىِّ عليه على حَقِّ المرتهن, وسواء كانت قيمته مستغرقةٌ بالدَّينِ أو لم تكن. والثانى: يصحُّ, ويصير مختارًا للفداءِ.

فإن قلنا: لا يصحُّ, فلو عفا المجنىُّ عليه عن حقه لا ينقلب الرَّهنُ صحيحًا؛ لأنه وَقَعَ فاسدًا. وإن كانت الجنايةُ موجبةٌ للقصاص, فقد قيل: فيه قولان, كالموجبة للمال. وقيل: يصحُّ قولًا واحدًا؛ لأنه ليس فى الإستحقاق القتل, كرهن المرتدِّ, وقيل: ينبنى على أن مُوجِبَ العمدِ ماذا؟ وفيه قولان: إن قلنا: موجب العمد القَوَدُ, فيصح كرهن العَبدِ المرتدِّ, وإن قلنا: موجبه أحدُ الأمرين, فعلى قولين, كالجنايةِ الموجبة للمال. فَصْلٌ إذا رهن عَينًا بدين, ثم رهن بذلك الدين عينًا أُخرى- يجوز ولا يفتكُّ شئٌ منها إلا بعد أداء جميع الحقِّ؛ كما لو رهنها معًا. وإذا رهن عينًا بدين, ثم استقرض من المرتهن مالًا آخر, وجعله مَرهونًا بِالحقّين جميعًا- نظر: إن تفاسخا الرهنَ الأول, ثم رَهنهُ بالحقَّين جميعًا- جاز. وإن لم يتفاسخا, فقولان: قال فى القديم, وهو اختيار المُزنىِّ: يجوز؛ كما لو زادَ رهنًا آخرَ على دَينٍ واحد. وقال فى الجديد, وهو الأصح؛ وبه قال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لأن الرهنَ مشغولٌ بدينٍ, فلا يجوز شغله بدينٍ آخر قبل فِكاكه؛ كما لو رَهنهُ من غير هذا المرتهن لا يجوزُ, وليس كما لو زاد فى الرهن؛ لأن الرهنَ لا يشغل الدينَ, بدليل أن تَصرُّفَ رَبِّ الدين ينفذ فى الدَّين بعد الرَّهن؛ كما لو كان ينفذ قبل الرَّهن, وتصرف الراهن لا ينفذ فى الرَّهن قبل أداءِ الدَّين. فإن قلنا: لا يجُوز, فلو اختلفا, فقال الراهن: رَهنْتُ بألفٍ, ثم زدنا ألفًا أُخرى, وقال المرتهن: بل رهنت بألفين مَعًا. فالقول قولُ المرتهن مع يمينه؛ لاتفاقهما على صِحَّةِ الرَّهن, ولو اتفقا على أنه كان مرهونًا بألف, غير أن المرتهنَ يقول: تفاسخنا العقد الأول فيه, وعقدنا بعده على ألفين. فقال الراهن: بل زدنا ألفًا على العَقد الأول- فالقولُ قولُ الراهن مع يمينه؛ لأن الأصلَ عَدَمُ الفسخِ, وقيل: القولُ قولُ المرتهن؛ لأن الظاهر أن العقدَ الثانى لا يكون إلا بعد فسخ الأول, والأول أصحُّ, حتى لو شَهد شاهِدان أنه بألف ثم بألفين- فلا يحكم أنه رَهنٌ بألفين بعد فسخ الأول ما لم يُصرح الشُّهود أن الثانى كان بَعدَ فسخِ الأول.

ولو رهن بألف, ثم زاد ألفًا, وجعله رهنًا بهما, وأشهدَ شاهدين؛ أنه رهن بألفين, وعلم الشَّاهدان حال الرهن فى الباطن- فإن كان اعتقادهما أنه لا يجوز ذلك- لا يجوز أن يشهدا إلا بما جرى فى الباطن, فإن اعتقد جوازه, فهل لهما أن يَشهدا أنه مرهونٌ بألفين؟ -: فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لاعتقادهما جوازه. والثانى: لا يجوز إلا بما عليه الأمر فى الباطن؛ لأن الاعتبارَ فى الحكم باجتهاد الحاكم لا باعتقاد الشَّاهد. فَصلٌ وإذا رهن عبدًا وأقبضه, ثم أقرَّ أنه كان قد جنى جنايةً موجبةً لمال, أو أتلف مَال إنسانٍ- نظر: إن لم يدعه المقرُّ له, لم يقبْل قبولُ الراهن, وهو رَهْنٌ بحاله. وإن ادَّعاهُ المقر له, نظر: إن صدقه المرتهن, سلّم فى الجِنايةِ, وللمرتهن الخيارُ فى فَسخِ البيع المشروط فيه ذلك الرَّهن, وإن كَذَّبه المرتهنُ, هل يقبل قولُ الرَّاهنِ؟ فيه قولان: أصحهما؛ وبه قال أبو حنيفة, واختاره المزنى: لا يُقبل لتعلُّق حَقِّ المرتهن به؛ كما لو باع عبْدًا, ثم أقر عليه بجنايةٍ لا يقبل: والثانى: يقبل؛ لأنه يقرُّ فى ملك نفسه فلا تُهمة. فإن قلنا: لا يقبل, فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه, يحْلِفُ بأنه لا يعلم أنه قد جنى, ويحلف على نَفْى العلم؛ لأنه يمينٌ على نفى العلم لِفِعل الغير, فإذا حلف بقى العبدُ مَرهونًا. وهل يعرمُ الرَّاهن حَقَّ المجنىِّ عليه؟ - فيه قولان: أحدهما: يغرم, وهو اختيار المزنى؛ لأنه حال بين العبد والمجنى عليه لعقد الرَّهْن؛ كما لو قتله. فإن كان موسرًا يغرم فى الحَالِ؛ وإن كان معسرًا فحتى يُوسرَ. والثانى: لا يغرم, لأنه لم يقرَّ بشئٍ فى ذمته, بل أقر فى رَقَبةِ العبدِ, والعبد ليس فى يَدهِ؛ كما لو أقرَّ بعبدِ الغير لإنسان, لا يلزمه شَئٌ. وكذلك لو أقر بأن المرهون مَغْصوبٌ هل يقبل؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا يقبل, فهل يغرم قيمته لِلمغْصُوبِ منه؟

فيه قولان: قال الشيخ القفال: إذا أقر بأنه مغصوبٌ يغرم القيمةَ؛ لأنه متعدٍ بالغَصْبِ, غير معتدٍ بجناية العبد. فإن قلنا: يغرم حَقَّ المجنى عليه, يغرم أقل الأمرين من أرْشِ الجناية, أو قيمة العبد. وإن قلنا- وفيه قول آخر, يغرم كَمَالَ أرْشِ الجِنايةِ. والأول أصَحُّ, فإن قلنا: يغرم, فإذا افتكَّ الرهنُ بعد ما غرم- لا يجب تسليمه فى الجناية؛ لأنه قد فدى, إلا أن يكون قد أقر بِغَصْبِ, فيجب ردُّه على مالكه, ويسترد ما غرم. و'ن قلنا: لا يغرم القيمة, فإن بيع فى الدين لا شئَ عليه, وإن افتك الرهن, أو بيع فى الدين, ثم مَلَكَه بعده- عليه تسليمُه فى الجنايةِ. وكذلك لو قلنا: عليه الغرمُ, فقبل أن يغرم عاد إليه- يجب عليه تسليمثه فى الجنايةِ. هذا إذا حلف المرتهنُ, فإن نًكَل, فعلى مَنْ تُردُّ اليمين؟ فيه قولان: أحدهما: على الرَّاهن؛ لأن الملك فى العبد له؛ كمن مات وعليه دَيْنٌ, فادعى وارثه من جهته مالًا على إنسان, فأنكر المدَّعى عليه, ونَكَل عن اليمين, فرد اليمين على الوارث, لا عَلَى الغُرَماءِ. والثانى: يردُّ على المجنىِّ عليه؛ لأن الحقَّ له, والراهن لا يدَّعى لنفسه شيئًا, بخلاف وارث الميت, يحلف دون الغُرماء؛ لأن الأصلَ هناك هو الوارث؛ بدليل أن دعواه لا تَسقطُ بتكذيب الغرماء. والأصل ههنا هو المجنىُّ عليه؛ بدليل أن تكذيبه يُسقِطُ إقرارَ الرَّاهن. فإن قلنا: يرد على الراهن, فإن حلف بيع العبد فى الجناية, لا خِيار للمرتهن؛ لأن بزعمه أن الرَّهن صحيحٌ, وإنما أخرج من يده بنُكوله, وهو معنى طَرَأ بعد القَبض. قال الشيخ: وفيه إشكالٌ من حيث إن النُّكُول وردَّ اليمين؛ إما أن يكون بمنزلة إقرار المدعى عليه, أو بمنزلة البَيِّنة, من جهة المدعى, وأيهما وجد يثبت الخيار. ثم إن كان الأرشُ يستغرق جميع قيمته يباع كله, وإلا يباع بقدر الأرْش, والباقى هل يكون رَهْنًا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون رَهْنًا؛ لأنا حكمنا بصحَّةِ الرهن, وأخرجنا بعضه عن الرهن بسبب

الجناية, فصار كما لو جَنَى بعد الرَّهن, يباع بقدر الجناية؛ والباقى يكون رَهنًا. والثانى, وهو الأصح: لا يكون رهنًا؛ لأن نْكُول المرتهنِ, ويمينَ الراهن كالإقرار من المرتهن بأنه كان جانبًا؛ فلم يصحَّ الرهنُ فى شَئٍ منه؛ كما لو قامت بيّنة عَلى جنايته. وإن نَكَل الرَّاهنُ عن اليمين, هل ترد اليمينُ على المجنى عليه؟ -: فيه قولان: أحدهما: بلى؛ لأن الحقَّ له. والثانى: لا؛ لأن يمينَ الرد لا ترد. فإن قلنا: تُرد, وقلنا فى الإبتداء: عند نُكول المرتهن تُرَدُّ على المجنى عليه, فإن حَلَفَ, بيع العبدُ فى الجناية, ولا خيار للمرتهن, وإن نكل بَطَل حقُّه, والعبدُ مرهونٌ. هذا كله تفريغ على قولنا: (إن إقرار الرَّاهن لا يقبلُ) فإن قلنا: يقبل إقراره, فهل يَحْلِفُ؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحلف؛ لأن التحليفَ للتخويف؛ لعله يرجع عن قوله إن لم يكن صادقًا, ورجوعه هاهنا لا يُقبل. والثانى: يحلف لحق المرتهن. فإن قلنا: لا يحلف, يباع العبد فى الجناية, وللمرتهن الخِيارُ فى فَسخ البيع المشروط فيه هذا الرهن, إن قلنا: يحلف, يحلف على البت أن العبد جَانٍ؛ لأنه يمين على الإثبات, فإن حَلف يباعُ العبدُ فى الجناية إذا لم يَفد السيد. فإن لم يستغرق الأرش قيمته يُباع بقدر الأرشِ. والباقى هل يكون رَهْنًا؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ كما لو قامت بينةٌ على الجناية, فعلى هذا لو فَدَى السيد لا يعود رَهْنًا إلا بعقدٍ جديدٍ. والثانى: يكون رهنًا؛ لأن إخراجه عن الرَّهن بسببِ الجنايةِ. فما فضل عن الأرش يبقى رَهْنًا؛ كما لو جنى بعد الرهن. وإن نَكَل الراهنُ عن اليمين حلف المُرتَهِنُ, وكان العبدُ رهنًا, وإن نكل بيعَ فى الجناية, ولا خيار له, هذا إذا أقرَّ الراهنُ أن المرهونَ جَنَى قبْلَ الرَّهْنِ. أما إذا أقر أنه جنى بعد الرهن والتسليم, فَكَذَّبه المرتهنُ لا يقبل قول الراهن, سواء

وافقة العبد, أو خالفه؛ لأن الأصلَ بقاءُ الرهن, فلا يقبل قَوْلُ من يَرُومُ إبطاله. ثم إن بيع فى الدَّين لا شئ للمجنىِّ عليه على الراهن؛ لأنه أقرَّ بجنايته بعد الرهن؛ فلا يصير متلف الرهن عليه شَئٌ. فإن بيعَ فى الدَّين, ثم مَلَكه يومًا- يلزمه تسليمه فى الجناية, بخلاف ما لو أقر أن أُمَّ ولد جنت, يجب عليه الغرمُ للمجنى عليه, وإن كان الاستيلادُ سابقًا على الجنايةِ؛ لأن جناية أم ولده تكونُ عليه, لو قامت عليها بينةٌ, وجناية المرهون لا تكُونُ عليه, لو قامت عليها بَيِّنَةٌ. ولو أقرَّ المرتهنُ عليه بِدَيْنِ جِنايةٍ- لا يقبلُ قولهُ على الراهن, وإن صَدَّقَهُ العبد. وإن بيعَ فى الدين يسلم الثمن إلى المرتهن, ولا يلزمه دفْعُ الثمن إلى المجنىِّ عليه؛ لأنه لم يقر بعين العبدِ؛ إنما أقرَّ بحقِّ فى رقبته, والعبد لغيره. فإذا بيع فى دَين مالكه, لا يلزمه دَفْعُ الثمن إلى غيره. والورعُ أن يَدفعَ الثَّمنَ إلى المجنىِّ عليه. وإقرارُ العبدِ المرهون على نفسه, كإقرار غير المرهون, إن أقر بعقوبة تُقام عليه. ثم إذا قتل فى الجناية, هل للمرتهن الخيارُ فى فَسخ البيع المشروط فيه؟: قال الشيخ: ينظر: إن أقر أنه لزمه قبل الرهن, أو قبل التَّسليم- فله الخيار. وإن أقر أنه لزمه بعد القبض- فلا خيار له. وإن أقرَّ بدين إتلاف يتعلَّق بذمته, إن كذبه المولى أو صَدَّقَه- فهو كما لو أقر عليه المولى هل يقبل؟ فيه قولان. فَصْلٌ فى جِنايةِ المَرْهُونِ إذا جَنَى العبدُ المرهونُ قبل القبض- يبطُلُ الرَّهْن على الأصَحِّ؛ كما لو جنى قبل الرهن. وإن جَنى بعد القبض, لا يبطل الرَّهن, ولكن يُقَدَّم حَقُّ المجنىِّ عليه على حق المرتهن؛ لأن حَقَّه يتعين فى ذمة العبد يسقط بهلاكه, وحقَّ المرتهن فى ذِمَّة الراهنِ لا يسقط بهلاكِ الرَّهنِ. ثُم إن كانت الجنايةُ موجبةٌ للقصاص- فللمجنى عليه أن يَقْتَصَّ, ويبطل الرَّهن, ولا خيار للمرتهن فى فَسْخ البيع المشروط فيه؛ لأنه حدث بعد القبْضِ.

وإن كانت الجنايةُ موجبةٌ للمال, أو عفى على مال- يباع فى الجِنايةِ, فإن لم يستغرق الأرْشُ جميعَ قيمته يُباع بقدر الأرش, والباقى يَكُونُ رَهْنًا. وإن دَخَلَهُ نقصٌ بالتَّشْقِيصِ يباع كُلُّهُ, وما فضل من قيمته عن الأرش يكون رَهْنًا, وما بيع فى الدَّيْنِ إذا عاد إلى مال الراهن لا يكون رَهْنًأ إلا بِعقْدٍ جَدِيدٍ؛ لأن الرهنَ قد بطل فيه. ولو عفا المجنىُّ عليه عن الأرْش, أو فَداهُ الراهنُ- بقى العبدُ رهنًا. ولو فدى المرتهنُ, نظر: إن قال: فدى بغير إذن الرَّاهِن- لا يرجع عليه. وإن فدى بإذنه رجع عليه؛ ولا يكون العبدُ رهنًا بما فدى. ولو قال الرَّاهِنُ للمرتهن: افْدِ حتَّى يكونَ العبدُ مرهونًا بالحقَّين جميعًا- نص على جوازه, فمن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كما لو زاد فى الدَّين على رَهْنٍ واحِدٍ, فأجاب على أحد القولين. ومنهم من قال, وهو الأصحُّ: يجوز قولًا واحدًا؛ لأنه من مَصلحةِ الرَّهن, فإن فدَى الرهن فى فدائه. ولو جنى العبدُ المرهونُ على سيده؛ نظر: إن كان عمدًا فله القِصاصُ إن كان طرفًا, ولوارثه إن كان نَفسًا. وإن كان خطأ, أو عَفَا على مال فهو هَدرٌ, والرهن بحاله؛ لأن المولى لا يثبت له على عبده مال, سواء كانت الجنايةُ على الطرف, أو على النفس, وسواء قلنا: يثبتُ المالُ للوارثِ ابتداء, أو قلنا: يثبتُ للمورثِ, ثم ينتقل إلى الوارثِ. وإن جنى على ابن السَّيد أو على أخيه, وهو وارثه, فإن كان عمدًا فللسيد أن يقتص, طرفًا أو نفسًا. وإن كان خطأ, أو عفا على مال, نظر: إن كان طرفًا يُباع فى الجناية, كما لو جنى على أجنبىِّ. وإن كان نفسًا فهذا يبنى على أن دِيةَ النفس تثبت للوارث ابتداء, أم تثبت للموروثِ ثم تنتقل إلى الوارث؟ وفيه قولان: إن قلنا: تثبت للوارث ابتداء فهو هَدرٌ, والرهن بحاله. وإن قلنا: تثبت للموروث, ثم تنتقل إلى الوارث, فصار أرْشُ الجنايةِ لمالك العبد- هل يسقط؟ فيه وجهان, بناء على أن المجنىَّ عليه إذا ملك العبد الجانى هل يَسْقُط الأرشُ؟ فيه وجهان: إن قلنا: يسقط, فالرهنُ بحاله.

وإن قلنا: لا يسقط, فله إخراجه من الرَّهن. أما إذا جنى العبدُ المرهونُ على عبد آخر للرَّاهن؛ نظر. إن لم يكن المجنىُّ عليه مرهونًا- فللسيد أن يقتصَّ, إن كان موجبًا للقِصاصِ. وإن كان خطأً, أو عفا على مال- فلا يثبتُ المال, والرهن بحالهِ؛ لأنه لا يثبت للمولى على عبده مَال. وإن كان الجنىُّ عليه مرهونًا أيضًا, نظر: إن كان مَرهونًا عند غير مرتهن العبد الجانى, فإن كان عمدًا- للمولى أن يقتص, وبطل الرَّهْنانِ جميعًا. وإن كان خَطَأٌ, أو عفا على مال- يثبت المالُ لحقِّ المرتهن, ثم إن كانت قيمة القاتل والمقتول سواء, أو كانت قيمةُ القاتل أقلَّ- فيه وجهان: أحدهما: ينقل القاتلُ إلى مرتهن المقتول؛ لأنه لا فائدة فى بيعه. والثانى: يُباعُ العبدُ القاتل, ويرهن ثمنه عند مرتهن المقتول. وإن كانت قيمةُ القاتل أكثر؛ فعلى الوجه الأول, ينقل من العبدِ القاتل بقدر قيمة المقتول إلى مُرتَهَن المقتولِ. وعلى الوجه الثانى: يباع بقدرِ قيمةِ المقتول, ورُهن عند مرتهن المقتولِ, والباقى مَرهونٌ عند مرتهن الجانىِ. وإن عفا السَّيدُ مطلقًا, إن قلنا: مطلق العفو يوجب المال, فيثبت كما ذكرنا فيما لو عّفا على مالٍ. وإن قلنا: لا يوجب, صَحَّ العفو, وهو رهن عند مرتهنه كما كان, وبطل حَقُّ مرتهن المقتول, كما لو كان القتلُ موجبًا للقصاص, وقتله السيدُ. ولو عفا مجانا إن قلنا: مطلق العفو لا يوجبُ المالَ, لا يثبت المال, وإلا فوجهان: أصحهما: لا يجب؛ لأن القتلَ لا يوجبه, فعفوه على المال بمنزلةِ اكتساب المالِ, ولا يجب الاكتسابُ لحقِّ المرتهن, فيكون العبدُ رهنًا عند مُرتهِنِهِ, كما كان. وإن كان القاتلُ والمقتولُ مرهونين عند رجُلٍ واحد - قال الشافعى - رحمه الله عليه-: كانت الجنايةُ هدرًا. قال أصحابنا: إن استوت قيمةُ العبدين, واتفق الدَّينان فى القدر والحلول التأجيل- ترك على حاله؛ لأنه لا فائدة فى النقل, سواء اتفق الدينان فى الجنس أو اختلفا. وإن اختلف الدَّينان فى التأجيل, فإن كان المقتول مرهونًا بالدَّين الحالِّ, والقاتل بدينٍ مؤجَّلٍ- فيبيعه فى الدَّين الحالِّ؛ لأن له فيه فائدةً, وهو الوصولُ إلى الدَّينِ الحالِّ. وكذلك إذا كان المقتولُ مرهونًا بِدين حالِّ, أو كان XXX

مؤجلين, والقاتل مرهون بأجل أطول- له نقل القاتل إليه, ويطالبه بالدين الحالِّ فى الوقت, أو عند حُلُولِ الأجل الأقصر. وإن اختلف الدَّينان فى القدر, واستوت قيمةُ العَبْدين, نظر: إن كان المقتولُ مرهونًا بالأقل- فلا فائدة فى النَّقلِ. وإن كان المقتولُ مرهونًا بالأكثر- فله نقلُ القاتِل إلى الأكثر؛ لأن له فيه فائدة. وإن اختلفت قيمةُ العبديْن, والدَّينان سواء- نظر: إن كان قيمةُ المقتول أكثر- لا ينقل, وإن كانت قيمةُ القاتل أكثر؛ بأن كانت قيمته عشرون, وقيمة المقتول عشرة- له نقلُ نصفه إلى الدَّين الآخر, وباقيه على ما كان. وإن كانت قيمةُ القاتل عشرون, وهو مرهونٌ بخمسةَ عشَر, وقيمةُ المقتولِ خمسة, وهو مرهون بخمسة- له نقل رُبُعِهِ؛ فيصير القاتل مرهونًا بعشرين. فكلُّ موضع قلنا: ينتقل ببيعه, فيحفظ ثمنه أم يحفظ عَيْنُهُ بالدَّين الآخر؟ فيه وجهان: ولو أمر السيد عبده المرهونَ بالجنايةِ, فجنى- نظر: إن كان العبدُ مميزًا, يعلم أنه لا يجوز له طاعةُ سيده فى الجناية- فهو كما لو جنا يغير إذن السيد, سواء كانَ العبدُ بالغًا أو صبيًا إلا أن السيد يأثَمُ بأمره. وإن لم يكن مميزًا؛ لصغره, أو جنونه, أو كان أعجميًا يَرى طاعةَ سيده فرضًا فيما يأمره به- فالجانى هو السيدُ؛ فعليه القصاص إن كانت الجنايةُ موجبةٌ للقصاص, والعبد رهْنٌ كما كان. وإن كانت الجنايةُ موجبةً للمال, أو عفا على مال- فالضَّمان على المولى, وهل له تعلُّق برقبة العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه كالآلة, ولا يجوز بيعُه فى الجناية. والثانى: له تعلُّق برقبته؛ لأنه من أهله, فإنه لو جنى من غير إذن السيد- يتعلَّق الأرشُ برقبته. فعلى هذا, إن بيع فى الجناية, فعلى السيد أن يرهن قيمَتَهُ مكانه, وإن كان السيد مُفلسًا, فحقُّ المجنى عليه يقدم فى قيمته على سَائرِ الغُرماءِ. ولو جنى هذا العبدُ الصغيرُ على اجنبىِّ, فقال السيدُ: أنا أمرتُه- لا يقبل قولُه فى حق المجنى عليه عن رقبته, بل تباعُ رقبته فى الجناية, وعلى السَّيد أن يرهن قيمته

مكانه, لإقراره, وإن كان أرشُ الجناية أكثرَ من قيمته فَعَلَيه الفَضْلُ. ولو جَنى على العبد المرهون, فالخصمُ فيه هو السيدُ؛ لأنه مالِكٌ للعبد, ومالك بدله؛ كما لو غصبت العين من يدِ المستأجر, فالخصمُ هو الأخيرُ. فإن أحب المرتهن يحضر خصومته, فإن عَفَا على مالٍ أخذه رَهنًا. فلو قعد الرَّاهنُ عن الخصومة, هل للمرتهن أن يخاصم؟ فيه قولان: كوارث الميت إذا أقام شاهَدًا على دَيْن الميتِ, ولم يحلف, هل يحْلِفُ الغريمُ؟: فيه قولان: أصحهما: لا يحلف. وإن ادعى الرَّاهن على رجُلً, فأنكر المدَّعى عليه_ فالقولُ قولُه مع يمينه, فإن نكل حَلَفَ الرَّاهنُ. فإن نَكَل الرَّاهن عن اليمين, فهل يحلف المرتهنُ؟ فيه قولان: بناء على أن المفلس إذا نَكَل عن يمين الرَّدِّ, هل يحلفُ الغريمُ؟ فيه قولان: فإذا أقرَّ المدَّعى عليه, أو قامت عليه بَينَةٌ, أو حَلفَ الرَّاهنُ بعد نُكُول المدَّعى عليْه- تثبت الجنايةُ. ثم إن ثبتت موجبة القصاص- للراهن أن يُقتَصَّ, وبطل الرَّهنُ. وإن عفا على المالِ يثبت الملكُ, ويكون مَرْهونًا. ولو قال الراهن: لا أقتصُّ ولا أعفو. فهل للمرتهن إجباره على اختيار أحدهما؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن له حقًّا فيه. والثانى: هذا يبنى على أن مُوجِبَ العمدِ ماذا؟ وفيه أقوال: إن قلنا: موجبه أحدُ الأمرين, يجبر على التَّعيُّن. وإن قلنا: موجبه القَودُ, فلا يُجبَرُ؛ لأنه يملك إسقاطه؛ فلأن يملك تأخيره أولى. ولو عَفا الراهِنُ عن القصاص مطلقًا؛ إن قلنا: مطلقُ العفو يُوجبُ المالَ- يجب المال. وإلا فلا, وهو الأصحُّ. ولو عفا على أن لا مال عليه, هذا يبنى على أن مُوجبَ العمدِ ماذا؟: إن قلنا: موجبه أحدُ الأمرين؛ لا يصحُّ العفوُ عن المال, وإن قلنا: موجبه القودُ, إن

قلنا: مطلقُ العفو لا يوجب المال- لا يجب شئٌ, وبطلَ الرهنُ. وإن قلنا: مطلق العفو يُوجِبُ المال: ففيه وجهان: أحدهما: يجبُ المال لتعلُّق حَقِّ المرتهن به. والثانى, وهو الأصحُ: لا يجب؛ لأن القتل لم يوجبه, إنما يَجِبُ بعفو الرَّاهن, أو عفا على مالٍ, وعفوه على المال بمنزلة اكْتِسابِ المالِ. ولا يجب عليه الاكتسابُ لحقِّ المرتهن, فحيث قلنا: يَجِبُ المال, أو كانت الجناية خَطَأً. ولو عفا الرَّاهنُ عن المال لا يصح عَفْوُه لتعلُّق حَق المرتهن به. وفيه قول: أنه يكون موقوفٍا, فيؤخذ من الجانى ويرهن. فإن افتك الرهن بإبراء أو قضاء- يحكم بِصِحَّة العفو, ويرد المال على الجانى, وإن بيع فى الدين بان أن العفو كان باطلًا. فلو أراد الرَّاهنُ أن يُصالح الجانى عن الأرشِ على حيوان أو غيره- لا يجوز من غير رِضا المرتهن. كما لا يجوزُ إبدالُ الرهن بغيره من غير رِضاهُ, فإن صالحَ بإذنِ المرتهن- صحَّ الصُّلح. وما أخذه يكون مَرْهونًا, فيوضع عند مَنْ كان الرهن موضوعًا عنده, ومنفعة الرهن ونَمَاؤُهُ خارج من الرهن؛ كأصل الرهن. ولو عفا المرتهنُ عن الأرش, لا يصح عفوه؛ لأنه ليس بِمِلكِ له. وهل يسقطُ بهذا العفو حقُّه عن الوثيقة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط كما لو صرّح, فقال: أسقطت حَقِّى عن الوثيقة, فكان الأرشُ للراهن. والثانى: لا يسقطُ؛ لأن الذى وجد منه هو العفوُ, والإبراءُ عن الأرْشِ؛ وذلك لم يصح فلا يصحُّ الذى فى ضمنه. وإن كان المرهونُ جاريةٌ, فجنى عليها إنسان, فأسقطت جَنِينًا مَيِّيتًا- يجب على الضَّارب عُشْرُ قيمة الأم, ولا يكون رَهْنًا؛ لأنه بدل الولد, وولد الرهن لا يكون رَهْنًا. فإن دخل الأمِّ نقصٌ فبقدر أرش الُّقصان يكون مرهونًا. وإن كانت بهيمةٌ, فألقت جَنينًا مَيِّتًا, يجب على الضَّارب ضمانُ ما نقص من قيمة الأم, ويكون رهنًا, ولا يصحُّ عفوُ الرَّاهِن.

وإن كانت جاريةٌ, فجنى عليها, فألقت جنينا حيًا, ومات- ماذا يَجِبُ على الجانى؟ فيه قولان: أحدهما وهو الأصحُّ: قيمة الجنين حيًّا, وأرش نقص [ما] دخل الأم, ثم قيمة الجنين للراهن وأرش النُّقصانِ. والثانى: عليه أكثرُ الأمرين من أرْش النقصان, أو قيمة الجنين؛ فعلى هذا إن كان أرشُ النُّقصانِ أكثر يكون رَهْنًا, ولا يجوز عفوُ الراهن عنه. وإن كانت قيمةُ الجنين أكثر, فبقدر أرْشٍ يكون رَهنًا. ولو جنى على العبدِ المرهونِ, ولم يُعرف الجانى, فأقر رَجُلٌ أنه هو الجانى, فإن صَدَّقَةُ الراهنُ دون المرتهن- فالأرش للراهن, ولا حَقَّ للمرتهن فيه. وإن صدقَة المرتهنُ دون الرَّاهن- كان الأرشُ مرهونًا, فإن لم يَقْضِ الراهنُ دينه صُرِف الأرشُ إلى دينه, وإن قضى الدين, أو أبرأه المرتهن- ردالأرش إلى المقرِّ. قال الشيخ وهو صاحب الكتاب: قد ذكر الشافعى - رضى الله عنه -: أن الخَصْمَ فيما جَنَى على العَبْدِ, سيدُه. وذكر أصحابنا: أن السَّيد إذا لم يخاصم المرتهنُ على الأصحِّ. وقال الشيخ القفال ورأيته بِخَطِّ شيخى فيما سأل عنه: أنه لو ادعى على رجل أن هذه العين التى فى يدك ملكُ فلان رهنها منِّى المرهون, فهلك فى يدك, فيلزمك قيمته, كما تُسمع الدَّعوى على المالِك. قلت: القياس عندى أن تسمع الدَّعوى, وبعد تلفها تُسْمَعُ دَعْوى القيمة, وفى الإجازة [لا] تسمع دعوى القيمة بعد تَلَف العَيْنِ؛ لأنه لا حَقَّ للمستأجر فى القيمة. وكذلك كُلُّ موضع تعلَّق له حَقٌّ بعين, فتسمع دعواه على صاحِبِ العين؛ كما يدعى على المالك, بخلاف ما لو ثبت له دَيْنٌ فى ذمَّةِ إنسان, فلا دعوى له على غريمه؛ لأنه لم يتعلق حَقُّه بعينٍ من أعيانِ مال الغْرِيمِ. فإن مات من عليه الدَّينُ والتركة, فى يد إنسان, وحَجَر عليه القاضى, وماله فى يد غيره- فله أن يدعى عليه. والله أعلم.

فَصْلٌ: تَغَيُّرُ المرْهونِ فى يَدِ المُرْتَهِنِ إذا رَهَنَ عصيرًا حلوًا وسلّم, فصار خلًّا فى يد المرتهن- فهو رهْنٌ, وإن صار خمرًا بَطل الرهنُ؛ لأنه لا يمكنُ استيفاءُ الحقِّ من ثمنها؛ كالحيوان يموت, ولا خيارَ للمرتهن؛ لأنه حدث فى يده. فلو عاد خلّا بعده, يعودُ الرهنُ كما يعود الملكُ, ولو رهنه شاة, فماتت فى يد المرتهن, ثم دبغ جلدها, هل يَعُودُ الرهنُ فى الجلد؟ فيه وجهان: قال ابن خيران: يعودُ, كالخمر يَتَخَلَّلُ. وقال أبو إسحاق: لا يعود؛ لأنه صار مالًا بمعالجته وصنعته, بخلاف الخمر يَتَخَلَّلُ. ولو صار العصيرُ خمرًا قبل التسليم, ثم عاد خلّا- هل يعودُ الرهنُ؟ ذكر القاضى الإمام - رحمه الله - وَجْهين: أحدهما: بلى؛ كما لو تَخَلَّل فى يَدِ المرتهنِ. والثانى: لا؛ لأنه بطل قبل تمامه, وللمرتهن الخيارُ فى فَسْخِ البيع المشروط فيه, سواء قلنا: يعودُ الرهنُ, او لا يعود؛ لأن الخلَّ يكونُ أنقصُ من العصير. والرهن إذا انتقص قبل القبض يثبت للمشترى الخيار, ولو كان الرهنُ مشروطًا فى البيع, فاختلفا, فقال المرتهنُ: أقبضتنى خَمْرًا على الخيار. وقال الراهن: بل أقْبَضْتُكَ عصيرًا, أو تخمر عندك, ولا خيار لك- نظر: إن اتفقا على أنه كان عصيرًا يوم العَقْدِ- فالقولُ قولُ من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: القولُ قولُ الراهن مع يمينه؛ لأن المرتهن يَرُوم فسخ العقد, والأصلُ بَقاؤُه؛ كما لو وجد بالرهن عَيبًا, فقال: كان موجودًا يوم العقد ويوم التسليم قبل الفسخ, [فلى الفسخ] , وقال الراهن: بل حَدَثَ عندك, فالقولُ قولُ الراهن مع يمينه. والقول الثانى: قولُ المرتهن مع يمينه, بخلاف العيب؛ لأنه لا يمنع صِحَّة العقدِ والقبض. وكونه خمرًا يمنع صِحة العقد والقبض, والمرتهن ينكر أن يكُون قبض مالًا, والأصلُ عدمُ القبض. فإن قلنا: القولُ قولُ الراهن, فإذا حَلَف لا خيار للمرتهن. وإذا قلنا: القولُ قولُ المرتهن, فإذا حلف له فَسْخُ البيع. وإن اختلفا فى حالة العقد, فقال المرتهن: كان

خمرًا يوم البيع, وقال الرَّاهن: بل كان عصيرًا فتَخَمَّرَ عندك, فهذا يبنى على أن فَسَادَ الرهن, هل يوجب فَسَادَ البيعِ؟ وفيه قولان: إن قلنا: يوجب فساده, فالقولُ قولُ المرتهن مع يمينه؛ لأنه يُنكِرُ البَيْعَ, والأصلُ عدمه. وإن قلنا: لا يوجب فساد البيع, فالقولُ قولُ مَنْ يكونُ؟ فعلى قولين. وكذلك لو رَهَنَةُ عبدًا فسلمه مَلْفوفًا فى ثوب فوجده ميتًا, واختلفا, فقال [له] الراهن: ماتَ عندك. وقال المرتهن: بل كان ميتًا- ففيه قولان, خرّجه القاضى حسين, وعلى هذا, لو باع لَبنا فى إناء, فبقى عند البائع ليلة, ثم أتى المشترى بإناء فَصَبَّ فيه, فعلتْهُ فأرةٌ ميتةٌ. واختلفا؛ فقال البائع: كانت فى إنائك فَعَلتْ. وقال المشترى: بل كانت فيه عندك, نظر: إن قال: كانت فيه وقت العقد, فالقولُ قول المشترى مع يمينه؛ لأنه ينكرُ البيعَ. وإن قال: وقعت فيه بعد البيعِ عندك, فالقولُ قولُ من؟ فعلى هذين القولين. فَصلٌ إذا رَهَنَ نخلةٌ مثمرةٌ؛ نظر: إن كان بعد تأبير الثَّمرةِ- فالثمرة لا تدخلُ فى مطلق الرَّهن؛ كما لا تدخل فى مُطلق البيعِ. وإن كانت الثمرة طُلعا, ففيه قولان: أحدهما: يدخل فى الرَّهن كما يدخُلُ فى البيع. والثانى- وهو الأصحُ: لا يدخل؛ لأن الرَّهن [ضعيف] لا يزيل الملك, فلا يستنبع الثمرة, بخلاف البيع؛ بدليل أن ما خَرَّج من الثمار بعد الرَّهن لا يكون مرهونًا, وما يخرج بعد البيعِ يكون للمشترى وكذلك حكم الهِبَةِ. ولو رهن حيوانًا حاملًا, فوضعت الحَمل, فالولدُ هل يكون رهنًا؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كما لو باعها يدخلُ الولدُ فى البيع. والثانى: لا؛ كالولد الحَادِثِ من بعده. ولو رهن شاةً, وفى ضَرعِها لَبنٌ, لا يدخل اللبنُ فى الرَّهنِ, وإن كان على ظهرها

صُوفٌ, هل يدخل [فى الرهن]؟: فيه قولان: أحدهما: يدخل؛ كأغصان الشَّجرة, وأوراقها, تدخل فى مُطلقِ رَهْنِ الشَّجرة. والثانى- وهو الأصحُّ: لا يدخلُ؛ لأن العادة فيه الجَزُّ كالثمرة. وكَاللَّبنِ فى الضَّرعِ, بخلاف الأغصان والأوراق. فإن رهن شجرة تُقطع أغصانها فى العادة, ثم تخلفه, كالخلاف. أو تُقطع أوراقها كالفِرصادِ, والآسِ - هل يدخل الغصنُ والورقُ فى الرهن؟ - فعلى القولين. أما إذا رَهَنَ شاةً, ولا صوف على ظهرها فحدث بعده- يكون خارجًا عن الرهن؛ كاللَّبن الحادثِ, والثَّمرة الحادثةِ. ولو رهن أرضًا, وفيها أبنيةٌ وأشجارٌ- لا تدخلِ الأبنيةُ والأشجارُ فى الرَّهْنِ على ظاهر المذهب. إلا أن يَرْهَنَ معها, ولو رَهَن الأشجارِ لا تدخل مَغَارُها, ولا البياضُ الذى بين الأشجار فى الرَّهنِ. ولو رَهَنَ أرضًا وفيها أشجار, فاختلفا, فقال الرَّاهن: رَهنتُك دون ما فيها, وقال المُرتَهنُ: بل رَهَنتنِى بما فيها؛ نظر: إن كان الرهنُ مشروطًا فى البيع يَتَحالفانِ, ويُفسخ البيعُ بينهما, وإن كان رَهْن تبرع, فالقول قولُ الرَّاهن مع يمينه. ولو رَهنها مع الأشجار, ثم أشارَ الراهنُ إلى شَجَرَةِ, وقال: هذه حَدَثَت بَعْدَ الرَّهن فهى خارجةٌ عن الرَّهنِ. وقال المرتهن: بل كانت موجودةً يَومَ الرَّهنِ, وكلُّ واحد محتملٌ- فالقولُ قولُ الراهن مع يمينه, فإذا حلف هل للمرتهن قلعُ تلك الشجرة؟ حكمه حكم الحادث من بعده. ولو رَهَنَ أرضًا بيضاءَ, فحمل الماء إليها النَّوى, فنبت فيها نَخيلٌ. أو دفن الراهن فيها نَوّى, أو غرس أشجارًا, وكانت تَحْتّ التراب فنبتت- فالأشجار خارجةٌ عن الرهن, وليس للمرتهن قَلْعُها قبل محِلُ الدَّين؛ لأن الراهن ربما يَقضى الدَّين عند المَحلُ. فإذا حَلَّ الدينُ؛ نظر: إن كان بالقلع لا تزداد قيمة الأرض, أو تزداد لكن قيمة الأرض

إذا بيعت وفيها الأشجارُ, يفى بدينه- فليس له قَلْعُها. وإن كانت قيمةُ الأرض إذا بيعت وفيها الأشجار- لا يفى بدينه, وتزداد قيمتها بالقلع, سواء وفت بالدين أو لم تف- فللمرتهن قَلْعُها, إلا أن يَأذن الراهن فى بيعها مع الأشجارِ. وأن يدفعَ إلى المرتهنِ من ثمنها قيمةَ الأرض فارغةٌ لا شجر فيها؛ فحينئذ لا يقلع. وإن كان الراهنُ محجورًا عليه بالفَلَس, فليس للمرتهن قلعُ الأشجار؛ لتعلق حقِّ الغير بها, بل ينازعُ الأرض مع الأشجار, فما يقابل من الثمن يكون للمرتهن, فيقدم له على سائر الغُرَماء- وما يقابل الأشجار لسائر الغرماءِ. ثم إن كانت قيمةُ الأرض والشجرة عند الاجتماع, مثل قيمة كُلِّ واحدٍ عند الانفراد؛ فيُدفع ثَمَنُ الأرض إلى المرتهن, وثمن الشجر إلى الغُرماءِ. وإن انتفضت قيمة الأرض بالاجتماع, فيحسب النُّقصانُ على الأشجار؛ مثل إن كانت قيمةُ الأرض فارغةٌ عشرون, وقيمة الأشجار عَشَرةٌ, وعند الاجتماع يشترى بخمس وعشرين. فيباع بخمس وعشرين: عشرون منها للمرتهن؛ لأن حَقَّه فى أرض فارغة, وكان قَلعُ الأشجار ثابتًا له؛ لنقصان حَقِّه, فمنع منه لحقِّ الغرماءِ, وكان النقصانُ محسوبًا عليهم. وإن زادتِ القيمةُ, بالاجتماع فتقسط الزيادةُ عليها, فتكون أثلاثًا: الثلثان من تلك الزيادة مع قيمةِ الأرض للمرتهنِ. أما إذا رهن أرضًا, وكان المالكُ قد دَفَن فيها نويات قبل الرهن, فتثبت فى يد المرتهن- ليس له قَلعُها بحالٍ, سواء كانت الأرضُ تفى بدينه أو لا تفى, بل هو كعيبٍ يجده بالرهن. فإن كان جاهلًا به له فسخ البيع المشروط فيه, فإذا أجاز وحلّ الحق, وينعت الأرض مع الأشجار, فيوزع الثمن على الأرض والأشجار, وللمرتهن قيمة أرض مَشغُولةٍ بالأشجار؛ لأنها كانت موجودةٌ يوم العقد, وقد رَضِى به. وعلى هذا, لو رهن جاريةٌ ولها ولدٌ صغيرٌ, فإذا بيعت فى الدَّين, وقلنا: لا يجوز التفريقُ بين الأمِّ والولد- تباع مع الولد, والراهن مُفلِسٌ يوزع الثَّمن على قِيمةِ الأمِّ والولد, وللمرتهن فيها قيمة جارية ذات وَلدٍ. فإن حدث الولد بعد الرهن والتسليم من زوج أو زِنا, وبيعت مع الولد- فللمرتهن قيمةُ جارية لا وَلَد لها.

فَصلٌ: رَهْنُ مَا يَتَسَارعِ إلَيه الفَسادُ إذا رَهَنَ شيئًا يتسارع إليه الفساد من طعام رَطْبٍ, أو ثمرة لا تَتَجَفَّفُ أو جَمْدًا أو بَقْلًا- نظر: إن رهنه بدين حالِّ, أو بدينٍ مُؤجَّلٍ يتحقق حلوله قبل فَسَادهِ- يصح الرهن, ويباعُ فى الدَّينِ قبل فسادَهِ. وإن لم يبع حتى فَسَد, نظر: إن كان الراهنُ قد أذِنَ للمرتهنِ فى بيعه, فلم يبع- ضمن. وإن لم يأذن, فلا يضمن. وإن رهنه بدينٍ مؤجلٍ يتحقَّق فساده قبل المَحِلِّ- نظر: إن أذِنَ لَهُ فى بيعِهِ عند خوف الفساد- جاز. وإن شرط ألا يبيعه لم يَجُز. وإن أطلق فقولان: أحدهما: لا يَصِحُ؛ لأن المقصودَ من الرهن بيعُه عند المَحلِّ, وهذا لا يبقى إلى المَحِلِّ. والثانى: يصحُّ: فإذا خيف الفسادُ, يباع, ويكون ثمنه رهْنًا مكانه, وعليه نص, بخلاف رهن المدير لم يجز على الأصحِّ؛ لأنه قربة, والظاهر أنه لا تَبْطُلُ قربتُه. والغالبُ من الطَّعامِ أن المالك لا يَدَعَهُ للفسَادِ, بل يبيعُه. فإن قلنا: لا يصحُّ؛ فإن احتمل الفساد قبل المحلِّ, واحتمل حُلُول الدَّين قبل الفساد- ففيه وجهانِ. ولو رهن ثمرةً يمكن تجفيفها- يصحُ الرهنُ, ومؤنةُ التَّجفيفِ على الرَّاهِنِ, فإن تعذَّر منه- باع الحاكمُ بعضه, وأنفق على تَجفيفِ الباقى, أما إذا رَهَنَ الثمرةَ على الشَّجرةِ, لا تخلو؛ إما أن يرهنها مع الشَّجرةِ أو دونها. فإن رهنها مع الشجرة, نظر: إن كانت الثمرة يمكن تجفيفها- حاز, سواء كان الحقُّ حَالًا أو مؤجلًا, وسواء كان بعد بُدُوِّ الصلاح أو قبله. وإن كان لا يمكن تجفيفها, وقلنا: لا يصحُّ رهن ما يتسارع إليه الفسادُ- فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يصحُّ الرهنُ فى الثَّمرة, وفى الشجرة قولان. ومنهم من قال: يصِحُّ فيهما قولًا واحدًا, وتكون الثمرةُ تبعًا للشَّجرة, وإن رهنها دون الشجرة نظر: إن كان لا يمكنُ تجفيفُها, فهو كما لو رَهَنَ ما يتسارعُ إليه الفسادُ على وجه الأرض.

وإن أمكن تجفيفها ينظر: فإن كان بعد بُدُوِّ الصَّلاح- يجوزُ مطلقًا, وإن كان قبل بُدُوِّ الصَّلاحِ هل يحتاجُ إلى شَرْطِ القطْعِ؟: فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كما لو باعها, لا يجوز إلا بشرط القطْعِ. والثانى: لا يَحتاجُ؛ لأن بِتَلَفِها لا يبطُل حقُّ المرتهن, وفى البيع يبطل حقُّ المشترى بتلفِها. فإن قلنا: لا يحتاج إلى شَرطِ القطع وهو الأصحُّ, أو كان بعد بُدُوِّ الصَّلاحِ, فذلك إذا كان الحقُّ حالًا؛ فيؤمر ببيعه. أو كان الحقُّ مؤجلًا, ويحلُّ الأجل مع بلوغ الثمرة أوان الجِذاذِ, أو يحل بعد بلوغه أوانَ الجِذاذِ؛ فإن كان يحلُّ قبل بلوغه أوانَ الجِذاذِ, فإن شَرَطَ قَطْعَها عند المحلِّ- جاز. وإن أطلق فقولان: أصحهما: لا يصح؛ لأن العادة فى الثمار التبقية إلى أوان الجِذاذ ومطلق العقد, يُحْمَلُ على العادَةِ. فإذا أطلق يصير كأنه رهن على ألا يبيعه عند المَحِلِّ, إن امتنع الراهنُ من فَكَّهِ, فيصير كأنه شرط بيعه؛ كما لو رهنه بِدَيْنٍ حالِّ. ولو رهن زرعًا بَقْلًا فى الأرض, فهو كرهن الثمرة على الشجرة قبل بُدُوِّ الصَّلَاحِ, فيصح, وهل يحتاجُ إلى شَرْطِ القطعِ؟ فيه قولان: هذا هو المذهب. وقال صاحب (التلخيص): لا يجوز رهنُ الزرع البقل بِحقِّ مُؤجَّل, وإن شرط القطع عند المَحِلِّ قولًا واحدًا, بخلاف الثمرة؛ لأن زيادة الثمرة فى عظم الجثة فيتبع الرَّهن, كَسَمنِ الدابة, وكبر الودِىِّ, فجاز. وزيادة الزرع بالطول, فهو كثمرة أخرى تخرج, فيختلط بالمرهونِ ولا يتميز؛ ولأن للزرع حالةٌ لا يجوز بيعه فيها, وهو إذا تَسَنْبَل, فربما يصادف حُلولُ الحقِّ تلك الحَالَةَ. أما إذا رَهَن الزرع بعد اشتداد الحَبِّ, فإن كان زَرعًا تُرى حباته فى السنبلةِ- جاز رهنُه.

وإن كان لا يُرى, ففيه قولان, كالبيع, والأصح: أنه لا يجوز. وكُلُّ موضع جَوَّزنا رَهْنَ الثمرة على الشَّجرةِ- فعلى الرَّاهنِ مؤنةُ السَّقْى والجِذاذِ والتَّجفيفِ كَنَفَقَةِ المرهُونِ. فإن لم يكن للراهن شَئٌ, باع الحاكم جزءًا منه, وأنفق عليه, فإن اتفق المُتراهنان على تَركِ الَّقى- جاز, بخلاف نفقة الحيوان حيث يجبرُ عليه؛ لحُرمة الحيوان. وإن أراد أحدهما قطعَ الثمرة دون الآخر, فإن كان قبل أوان الجِذاذِ, لا يجاب إليه, إلا أن يَتَراضيا عليه. وإن كان بعد أوان الجِذاذِ يُجابُ إليه, فتقطع ويباع فى الدين, إن كان حالًا, إن كان مؤجلًا يمسكه رهنًا. وإذا رهن ثمرةٌ على شجرة بثمرٍ فى سنة مرتين, وتختلط الثانيةُ بالأولى- نظر: إن كان الحقُّ حالًا أو كان مُؤجلًا, ولكن يتحقق حلولُ الأجلِ قبل خروج الثمرة الثانية, أو بعد خروجها قبل اختلاطها بالأولى- وصح الرهن. وإن كانت تختلطُ الثانيةُ بالأولى قبل حُلول الأجل- نظر: إن شرط قطع الأولى قبل اختلاط الثانية بها- يصحُّ الرهنُ, وإن شرط ألا يقطع: لا يصح, وإن أطلقَ, فعلى قولين: أصحهما: لا يصحُّ الرهنُ؛ كما لا يصحُّ البيع. والثانى: يَصحُّ, فإذا خيف الاختلاط يُقطعُ, ويباعُ. فإن قلنا: يصحُّ, أو رهن بشرط القطع, فلم يتفق القطع حتى خرجت الثانية, واختلطت بالأولى, فهل يَبْطُل الرهنُ؟ فعلى قولين, كالبيع. فإن قلنا: لا يبطل: فإن سمح الراهن بأن تكون جميعُ الثمرة رهنًا, وتباع فى الدَّين, أو اتفقا على أن يكون نصفُ الكلِّ أو ثلثه رهنًا, والباقى خَارجٌ عن الرَّهنِ- يجوز. وإن لم يتفقا, واختلفا فى القدر المرهون- فالقولُ قولُ الرَّاهن مع يمينه؛ كما لو رهنه حِنطةٌ فاختلطت بحِنطةٍ أُخرى للراهن, واختلفا- فالقولُ قولُ الرَّاهن مع يمينه. وقال المزنى: القولُ قولُ المرتهن مع يمينه؛ لأن اليدَ له؛ كما لو تنازعا فى مِلكٍ. فالقولُ قولُ صاحب اليد. قلنا: اليد لا تدلُّ على الرهن, وإنما تدلُّ على الرهن, وإنما تدلُّ على الملك؛ بدليل أنهما لو تنازعا فى أصلِ الرَّهن, فقال مَنْ فى يده: رهنتنى, وأنكر المالك- فالقول قول المالك مع يمينه.

فصل رُوي عن سَعيد بْنِ المسيب أنَّ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - قالَ: (لاَ يُغلقُ الرَّهنُ مِنْ صَاحبِهِ الذى رَهَنَهُ, لَهَ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ). وروى موصولًا عن ابن المسيب عن أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -.

الرهنُ أمانةٌ فى يدِ المرتهن, لا يسقط بهلاكه شئٌ من الدَّين, إلا أن يتَعدَّى المرتهنُ فيه, فيصير ضَامنًا. وعند أبى حنيفة والثورى: الرهن مضمونٌ بالأقلٌ من قيمته أو الدين, فإن كانت قيمتُه

أقل من الدَّين يسقط بهلاكه من الدَّين بقدر قيمته، وإن كان قيمته أكثر من الدين، يسقط الدين بهلاكه، ولا يضمن الزيادة. وقال الشعبي، والنخعي: هو مضمون بجميع الدَّين بالغاً ما بلغ، والحديثُ حجَّة عليهم؛ حيث قال: "له غنمه" يعني: للراهن زيادته، "وعليه غرمه" يعني: نقصانه: ولأن ما تبرع وثيقة للدَّين لا يسقط الدين بهلاكه، كالكفيل إذا مات. ولو رهن شيئاً بشرط أن يكون مضموناً على المرتهن- كان فاسداً، ولا يكون مضموناً

عليه؛ لأن ما كان أمانة لا يصير بالشرط مضموناً؛ كما لو دفع إليه وديعة، أو دفع إليه مالاً قراضاً، أو أجَّر داره بشرط الضمان؛ لا يكون مضموناً، وما لا يكون صحيحه مضموناً، لا يكون فاسده مضموناً. ولو رهن منفعة دار لا يصح، فلو سلم الدار لا تكون مضمونة على المرتهن، لا عينها ولا منفعتها؛ لأنها مقبوضة بحكم الرهن الفاسد، بخلاف ما لو أجر إجارة فاسدة وسلم- يضمن المستأجر منفعتها؛ لأنه تبرع منه على شرط ضمان المنفعة، فإن سكن المرتهن الدار، أو أسكنها غيره- يضمن أجرة المثل؛ لأنه يتعدى بإتلاف المنفعة. ولو دفع عبداً أو شيئاً إلى رب الدين، فقال: خذ هذا بحقك، فقبل- ملكه رب الدين؛ كما لو باعه منه، ولو لم يقبل دخل بالأخذ في ضمانه بحكم البيع الفاسد. ولو قال: استوف حقك من ثمنه، فهو أمانة في يده. ولو قال: خذ هذا الكيس بحقك، فإن كان ما فيه معلوماً، وكان جنس حقه وقدره- ملكه. وإن كان أكثر لا يملكه، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وكذلك إذا كان ما فيه مجهولاً، ولو قال: خذه واستوف حقك منه، فهو أمانة في يده قبل أن يستوفي منه حقه، فإذا استوفى دخل في ضمانه ما أخذه بحقه. ولو دفع إليه شيئاً، فقال: رهنتك هذا بحقك، فإذا حل الأجل فهو مبيع منك. أو إذا لم أقضك حقك فهو مبيع منك؛ فهذا فاسد؛ كالرهن المؤقت، وهو أن يقول: رهنتك شهراً، يعني: إذا مضى الشهر يخرج عن الرهن، ثم هو أمانة في يده قبل حلول الحق؛ لأنه يمسكه بحكم الرهن الفاسد. وبعد حلول الحق يكون مضموناً عليه؛ لأنه في يده بحكم البيع الفاسد. فإن كان ذلك أرضاً غرس فيها المرتهن، نظر: إن غرس قبل حلول الأجل، يقلع مجاناً، وإن غرس بعده نظر: إن كان عالماً بفساده يقلع مجاناً، وإن كان جاهلاً، لا يقلع مجاناً، ولكن الراهن [فيها] بالخيار بين ثلاثة أشياء: إما أن يتملكها بالقيمة، أو يقرها بالأجرة، أو يقلعها، ويضمن أرش النقصان.

فصل ما يشترط لبيع الرهن لا يجوز للمرتهن بيع الرهن عند المحل إلا بإذن الراهن، فإن أذن له في بيعه عند المحل، فباع بحضرة الراهن- صح. وإن باع بغيبته: فيه وجهان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة: يصح لوجود إذن المالك. والثاني وعليه نص: أنه لا يصح؛ لأنه يبيعه في حق نفسه، فيكون متهماً؛ لأنه ينظر لنفسه أكثر مما ينظر لمالكه. فحيث قلنا: يصح، إنما يصح إذا باع لمالكه، فإن باع لنفسه لا يصح؛ لأنه ليس بمالك له، ولا يجوز أن يبيع مال الغير لنفسه. ولو قال الراهن: بعه لنفسك، لا يصح التوكيل، ولو قال: بعه لي، واقبض الثمن لنفسك، صح بيعه، ولا يصح قبضه لنفسه، فإن قال: اقبضه لي، ثم اقبض مني لنفسك، صح قبضه للراهن، وهل يصح قبضه منه لنفسه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يصح، فإن امتنع الراهن من أن يبيع، أو يأذن في البيع- أجبره الحاكم على أن يبيع، أو يأذن في بيعه، فإن لم يفعل، باعه الحاكم. وعند أبي حنيفة: لا يبيعه الحاكم، بل يحبسه حتى يبيع. فإن حل الحق، والراهن غائب، أثبت بالبينة عند الحاكم حتى يبيعه، فإن لم يكن له بينة، له أن يبيعه بنفسه؛ كمن ظفر بغير جنس حقِّه من مال المدينون، ولا حجة له عليه- يجوز أن يبيعه بنفسه، كمن ظفر بغير جنس حقه من مال المديون، ولا حجة له عليه- يجوز أن يبيعه بنفسه، ويستوفي حقه من ثمنه. ولو وضعا الرهن عند عدل، فالعدل حافظ لهما جميعاً، لا يجوز له دفعه إلى أحدهما إلا بإذن الآخر. فإن فعل كان ضامناً، ويسترد إن كان قائماً. وإن تلف عند من دفعه إليه؛ فإن كان دفعه إلى المرتهن، فإن كان الحق حالاً، والقيمة من جنس الدين، يتقاصان، وإن لم يكن من جنسه، أو كان الحق مؤجلاً- يؤخذ منه قيمته، والراهن إن شاء غرم العدل، وإن شاء غرم المرتهن، وقرار الضمان على المرتهن. فإذا أخذت القيمة كان رهناً عند العدل، وإن دفعه العدل إلى الراهن، فالمرتهن يرجع بكمال قيمته.

وإن كان أكثر من حقه، فيغرم أيهما شاء، والقرار على الراهن، فتؤخذ القيمة منه، وتوضع عند العدل رهناً. فإن غصب المرتهن الرهن من العدل- كان ضامناً، فلو رده إلى العدل برأ؛ لأنه أمين الراهن، فيده في الحفظ كيد الراهن؛ كما لو غصب الوديعة من المودع، أو العين المستأجرة، ثم رده إليهما- يبرأ عن الضمان. وكذلك لو غصبه من المرتهن، ثم رده إليه- يبرأ، ولو غصب من المستعير أو المستام، ثم رد إليه- هل يبرأ؟ فيه وجهان: أحدهما: يبرأ؛ لأن المالك قد رضي كونه في يده. والثاني: لا يبرأ؛ لأن يد المستعير والمستام، يد ضمان؛ فلا تحصل براءة الغاصب بالرد غليهما؛ كما لو غصب من الغاصب، ثم رده إليه- لا يبرأ. ولو جعلا الرهن على يدي عدلين، هل ينفرد أحدهما بحفظه؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه يشق اجتماعهما على حفظه. والثاني: لا؛ لأن الاعتماد كان عليهما؛ كما لو وكل رجلين بالبيع لا ينفرد به أحدهما، وهذا أصح. فإن قلنا: لا ينفرد يجعلانه في حرز لهما. وإن قلنا: ينفرد، فإن اتفقا على أن يحفظه أحدهما- كان عنده، وإن تشاحا، فإن كان الشيء مما لا ينقسم- يحفظ هذا مدة وذلك مدة. وإن كان مما ينقسم، يقسمان، فيحفظ كل واحد نصفه، فإن فعلا، ثم سلم أحدهما إلى الآخر نصفه- جاز. ولا يجوز للعدل بيعُ الرهن إلا بإذن المتراهنين، فإذا أذن له الراهن في بيعه، إذا حل الحق- يجوز بيعه، وهو وكيل من جهته، ولكن لا يبيع إلا بإذن المرتهن. وإذا أذنا له يجوز له بيعه في غيبتهما؛ لأنه لا يبيع لنفسه، وإذا رجع أحدهما عن الإذن قبل البيع- لم يجز البيع. وكذلك لو مات أحدهما قبل البيع ينعزل في حقه، ولا يجوز للعدل إذا باعه، حيث جوزنا أن يبيعه إلا بنقد البلد حالاً، فلو باع بغير نقد البلد، أو نسيئة، أو بدون ثمن المثل-

لا يصح، فإذا سلم إلى المشتري صار ضامناً، فإن كان قائماً يسترد، ويكون مضموناً على العدل. ولكن يجوز له بيعه؛ لأن الإذن لم يرتفع، فإذا باعه وأخذ الثمن- فالثمن لا يكون مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعد فيه. وإن هلك في يد المشتري في البيع الفاسد- فالراهن بالخيار؛ إن شاء ضمن العدل، وإن شاء ضمن المشتري، وقرار الضمان على المشتري؛ لأن الهلاك كان في يده. ولو باعه العدل بثمن المثل، ثم جاء آخر وطلبه بأكثر- نظر: إن كان بعد التفرق عن المجلس- لا يردُّ البيع الأول. وإن كان قبل التفرق، عليه أن يبيع من الثاني، فإن لم يفعل، فالبيع الأول مردود. وقيل: لا يلزمه البيع من الثاني، ولكن يستحب ذلك؛ لأنه لا تتحقق هذه الزيادة؛ لجواز أن يكون قصد الزائد، إفساد العقد الأول. والأول المذهب؛ لأن مجلس العقد، كحالة المعاقدة، ولا يجوز العقد بثمن المثل، وثمَّ من يطلب بأكثر. فلو رجع الثاني نظر: إن كان قبل التمكن من البيع منه- فالبيع الأول بحاله، وإن كان بعد التمكن فقد انفسخ الأول؛ فعليه تجديد العقد مع الأول أو مع غيره. وإن باعه العدل بإذنهما، فأخذ الثمن- فهو من ضمان الراهن. وعند أبي حنيفة: من ضمان المرتهن. ولو تلف في يد العدل، ثم خرج الرهن مستحقاً- فالمشتري بالخيار، إن شاء رجع بالثمن على العدل، وإن شاء على الراهن، والقرار على الراهن. حتى إذا أخذ من العدل يرجع [العدل على الراهن، ولو مات الراهن فأمر الحاكم العدل] أو غيره ببيعه، فباع وتلف الثمن، ثم خرج مستحقاً- فالمشتري [بالخيار] يرجع بالثمن في تركة الراهن، والعدل هل يكون طريقاً في الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه نائب الحاكم، والحاكم لا يطالب به، كذلك نائبه. والثاني: يكون طريقاً؛ كما لو باعه بإذن الراهن يكون طريقاً.

ولو قال العدل: تلف الثمن في يدي، قبل قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، ولو قال: دفعته إلى المرتهن، وأنكر المرتهن- فالقول قول المرتهن مع يمينه، فإذا حلف رجع على الراهن بحقه. والراهن يرجع على العدل؛ لأنه متعد بترك الإشهاد. ولو قال أحد المتراهنين للعدل: بعْ بالدراهم، وقال الآخر: بالدنانير- لا يبيع بواحد منهما، بل المتراهنان يرفعان الأمر إلى الحاكم؛ ليبيعه بنقد البلد، ولا يجب على العدل أن يأتي الحاكم. وإن رأى الحاكم أن يبيعه بجنس حق المرتهن- جاز. وليس لأحد المتراهنين نقل الرهن من العدل الذي اتفقا عليه إلى عدل آخر، إلا أن يتفقا عليه. وإن تغير حال العدل فأيهما دعا إلى إخراجه من يده- له ذلك، ولكن لا يفعل بنفسه إلا باتفاقهما، فإن لم يتفقا ترافعا إلى الحاكم حتى يضعه عند عدل آخر. وكذلك لو مات العدل، أو كان الرهن في يد المرتهن، فمات المرتهن- لا يترك الرهن في يد وارثه، إلا أن يتفقا عليه، وإن لم يتفقا، وضعه الحاكم عند عدل. إن أتلف العدل الرهن عمداً- أخذت قيمته ووضعت عند آخر. وإن أتلفه مخطئاً، لا يخرج به عن العدالة، فتأخذ القيمة منه وتوضع عنده؛ كما لو أتلفه متلفٌ. ولو أتلفه متلفٌ في يد العدل بعد ما أذنا له في بيعه- فليس للعدل بيع قيمته؛ لأن من أمر ببيع شيء لا يكون مأموراً ببيع بدله، ومن استحفظ شيئاً كان مستحفظاً بدله. ولو أراد العدل رد الرهن- له ذلك، ثم إن كانا حاضرين أو وكيلهما رد غليهما، فإن دفع إلى أمين، أو إلى الحاكم مع حضورهما- ضمن، وإن كانا غائبين نظر: إن أراد العدل سفراً، فدفعه إلى الحاكم- لم يضمن، وعلى الحاكم قبوله إذا دفع إليه. وإن دفعه إلى أمين بغير أمر الحاكم- وثمَّ حاكم- يصمن، وإن لم يكن ثمَّ حاكم، لا يضمن. وإن لم يرد سفراً، فدفعه إلى غير الحاكم- ضمن، سواء كان ثمَّ حاكم أو لم يكن، وإن دفعه إلى الحاكم هل يضمن؟ فيه وجهان، وكذلك الوديعة. ولو ادعى العدل هلاك الرهن في يده- يقبل قوله مع يمينه، وكذلك لو ادعى الرد غليهما؛ كالمودع إذا ادعى هلاك الوديعة، أو ردها- يقبل قوله، وكذلك المرتهن لو ادعى

هلاك الرهن، يقبل قوله مع يمينه، سواء خفي هلاكه أو ظهر. وعند مالك: إذا خفي هلاكه لا يقبل. ولو ادعى رده هل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأنه أمين كالمودع. والثاني: لا يقبل؛ لأنه كان يمسكه لمنفعة نفسه؛ بل القول قول الراهن مع يمينه، والله أعلم. فصلٌ إذا رهن عبد الغير بدين نفسه بإذن المالك- يجوز، بخلاف ما لو باع مال الغير لنفسه لا يجوز؛ لأن البيع إزالة الملك بعوض؛ فلا يجوز أن يملك هو الثمن، والمثمن ليس له. أما الرهن فاستيثاق، والاستيثاق يحصل بما لا يملك؛ كما يحصل بالكفالة وبالإشهاد، فإذا رهن مال الغير بدينه، يسلك به مسلك العارية، أو مسلك الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: مسلك العارية؛ لأنه نوع انتفاع بمال الغير. والثاني وهو الأصح: يسلك به مسلك الضمان؛ لأنه ضمن دين الغير في رقبة عبده، وذمته فارغة؛ كما لو أذن لعبده في ضمان دين ففعل- صح، وليس كالعارية، لأن منفعة العارية تكون للمستعير، وههنا منفعة الرهن تكون للمالك لا لمن رهنه. وهل يجب بيان ما يرهنه به؟ إن قلنا: عارية، لا يجب؛ لأن جهة الانتفاع معلومة، وإن قلنا: ضمان، يجب أن يبين الجنس والقدرُ المرهون منه والأجل. وعلى القولين، لو بين لا يجوز أن يتجاوزه، فإن قال: ارهن بعشرة- لا يجوز أن يرهن بأكثر. فإن رهن بأقل جاز، ولو قال: ارهن بدراهم- لا يجوز أن يرهن بدنانير، وقال: بدنانير- لا يجوز أن يرهن بدراهم. ولو قال: ارهن من فلان- لا يجوز أن يرهن من غيره. ولو قال: بدين حال- لا يجوز [بدين مؤجل]؛ لأنه لا يمكنه مطالبته بفكه في الحال، ولو قال: بمؤجل- لا يجوز أن يرهن بحال؛ لأنه يباع في الدَّين في الحال.

قلت: ولو استعار ليرهن من واحد، فرهن من اثنين- لا يجوز؛ لأنه رهنه من غير من أمره. ولو استعاره ليرهن من اثنين، فرهن من واحد- لا يجوز؛ لأنه إذا رهن من اثنين يفتكُّ نصفه بأداء نصف الحق، وإذا رهن من واحد لا يفتك شيء منه إلا بأداء جميع الحق. ولو استعار عبداً من رجلين، فرهنه من واحد- جاز. فإذا قضى نصف الحق عن نصيب أحدهما بعينه، هل يفتك بنصيبه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يفتك؛ كما لو كان العبد لواحد، ورهنه من واحد، فأدى نصف الحق- لا يفتك شيء من الرهن. والثاني: يفتك؛ كما لو رهن رجلان من رجل، فأدى أحدهما نصيبه- يفتك نصفه. فإن قلنا: يفتك، فهل للمرتهن الخيار في فسخ البيع، إن كان الرهن مشروطاً فيه، وكان جاهلاً به؟ فيه قولان، لابن سريج: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه لا ضرر عليه. والثاني: له الخيار؛ لأن قضية الرهن ألا يفتك شيء منه إلا بعد أداء جميع الحق، وها هنا لم يحصل له مقتضاه. وإذا رهن عبد الغير بدينه، فإن قلنا: عارية- للسيد أن يطالب بفكاكه، ويسترده متى شاء، حل الدين أو لم يحُل ثم إن كان الرهن مشروطاً في البيع- يجوز للمرتهن فسخ البيع إن كان جاهلاً بالحال. وإن قلنا: ضمان، ليس للمالك أن يسترده، بل إن كان الدين حالاً يطالب الراهن بفكه، وإن كان مؤجلاً فلا مطالبة له حتى يحلَّ الأجل، كمن ضمن ديناً مؤجلاً، ليس له مطالبة المضمون عنه بتعجيله حتى تبرأ ذمته. فإذا حل الأجل فأراد المرتهن إنظار الراهن- فللمالك أن يقول: إما أن تطالبه بحقك حتى يفتك الرهن، أو ترد إلي مالي، كما في الضمان، إذا مات المضمون عنه، حل الدين عليه، ولا يحل على الضامن. ثم إن لم يطلب ربُّ الدين حقه من التركة- للضامن أن يقول له: إما أن تطلب حقك من التركة، أو تبرئ ذمتي؛ لأني أخاف فوات التركة عند المحل، ولو بيع الرهن في الدين، رجع المالك على الراهن بقيمته على القولين جميعاً، ولو بيع بأكثر من قيمته، فإن قلنا، عارية، ليس للمالك إلا قيمته، والباقي للراهن.

وإن قلنا: ضمان، رجع بالثمن، سواء بيع بقدر قيمته، أو أقل أو أكثر، ولو باعه المالك، أو أعتقه، إن قلنا: عارية- يصح بيعه وإعتاقه، وكان رجوعاً، وإن قلنا: ضمان، فلا يصح بيعه وإعتاقه، كإعتاق المرهون. فإن قلنا: ينفذ. فعلى المالك أن يرهن قيمته مكانه. ولو هلك في يد المرتهن؛ إن قلنا: عارية- تجب القيمة على الراهن؛ كما لو هلك في يد الراهن، وإن قلنا: ضمان لا شيء عليه. ولو جنى العبد، فبيع في الجناية، إن قلنا: عارية- فعلى الراهن قيمته للمالك، وإن قلنا: ضمان، لا شيء عليه. ولو قال المديون لإنسان: ارهن عبدك من فلان بديني، ففعل- جاز، وكان نائباً عنه؛ كما لو أخذه ورهنه، ولو رهن المالك عبد نفسه بدين الغير دون إذنه- جاز، وهو متطوع. فلو بيع في الدين لا رجوع على المديون بشيء؛ كما لو قضى دينه بغير إذنه، والله أعلم. بابُ الرهن والحميل في البيع لا يصح الرهن ولا الضمان إلا مقترناً بثبوت الحق، أو متراخياً عنه، فإن باع بشرط أن يرهن منه شيئاً- عينه بالثمن، أو بشرط أن يتكفل فلان بالثمن- جاز، سواء كان الثمن حالاً أو مؤجلاً. وكذلك لو شرط المشتري أن يعطيه البائع فلاناً كفيلاً بالعهد- يجوز، ثم إن لم يرهن لا يجبر عليه. وكذلك إن لم يتكفل فلان، ولكن ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع، إن لم يعط المشتري الرهن والكفيل؛ فإن أجاز العقد، فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا نفع له في الرهن والكفيل، إنما النفع للبائع بتوسيع محل طلب الحق عليه. وإذا تكفل غير من عينه، أو دفع إليه عيناً أخرى رهناً- لا يسقط به خيار البائع. وإذا باع بشرط الرهن، هل يشترط أن يذكر أنه يكون عند المرتهن أو عند عدل؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط، قطعاً للنزاع، حتى لو تركا ذكره لا يصح الرهن. والثاني: لا يشترط، ثم إن لم يتفقا على شيء، وضعه الحاكم عند عدل، ولو باع بشرط أن يرهن منه شيئاً، ولم يعيِّن، أو أحد عبديه ولم يعين، أو على أن يتكفل الثمن رجل، ولم يعين- فالشرط فاسد للجهل، وهل يصح البيع؟

فيه قولان: وكذلك لو شرط رهناً فاسداً من خمر، أو خنزير، أو ميتة- ففي صحة البيع قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه أمر يرتفع به أحد المتعاقدين، فشرطه مع الجهالة يفسد البيع كالأجل، والخيار المجهول. والثاني، وهو اختيار المزني: يصح؛ لأنه من جملة الزوائد في العقد؛ بدليل أنه يجوز إفراده عن البيع، ففساده لا يوجب فساد البيع؛ كالصداق في النكاح، لا يوجب فساده فساد النكاح. فإن قلنا: يصح البيع، فللبائع الخيار إن كان جاهلاً. ولو باع بشرط أن يرهن عبد فلان- لا يصح الشرط؛ لأن العادة لم تجزه، بخلاف ما لو شرط كفالة فلان- جاز، ثم في صحة البيع قولان: ولو باع بشرط أن يشهد شاهدين وعينهما- جاز. وإن لم يعينهما هل يصح الشرط؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح كما لو شرط رهناً أو كفيلاً مجهولاً، فعلى هذا هل يفسد البيع؟ فيه قولان. والثاني، وهو المذهب: يصح الشرط بخلاف ما لو شرط رهناً أو كفيلاً مجهولاً، لأن أعيان الشهود غير مقصودة، وإنما المقصود عدالتهما، بحيث يمكن إثبات الحق بشهادتهما. والأغراض تختلف باختلاف المرهون والكفلاء لاختلافهم في الأمانة. فلو شرط شاهدين معينين فلم يتحملا، هل له الخيار أم لا؟ إن قلنا: لو لم يعين الشاهدين يصح الشرط، فلا خيار له؛ لأنه لا يمكنه إشهاد آخرين. وإن قلنا: لا يصح الشرط فله الخيار. ولو باع بشرط الرهن فهلك الرهن قبل القبض، أو تعيب، أو وجد به عيباً قديماً، فله فسخ البيع. ولو حدث العيب بعد القبض، فلا فسخ له. ولو اختلفا فقال الراهن: حدث بعد القبض، وقال المرتهن: بل قبله، فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن المرتهن يروم فسخ البيع، والأصل سلامته. ولو قبض الرهن فتلف أو تعيب عنده ثم وُجد به عيباً قديماً، فلا أرش له؛ لأنه لم

يتملكه [بعوض]، وهل له فسخ البيع المشروط فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما: له ذلك؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن. والثاني: وهو الأصح والمنصوص: أنه لا فسخ له؛ لأن فقد الصفة لا يثبت حق الفسخ بعد التلف كما لو هلك المبيع عنده ثم وجد به عيباً، لا يثبت له فسخ البيع. ومن قال بالأول، قال: في البيع يستدرك الظلامة بأخذ الأرش، ولا أرش ههنا فكان له الفسخ. والثاني، وهو المذهب: لا يثبت الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يثبت إذا أمكنه رد العين كما أخذ، حتى فرع أصحابنا عليه: وقالوا: لو رهن شيئين فسلم أحدهما، فتلف في يده- لا يجب على الراهن تسليم الثاني؛ لأنه رهن غير مقبوض، ولا خيار للمرتهن؛ لأنه لا يتمكن من رد ما قبضه. ولو باع شيئاً، وشرط أن يكون المبيع نفسه رهناً بالثمن- لا يصح البيع؛ لأن الثمن إن كان مجهولاً لا يجوز له حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وإن كان حالاً فحبس المبيع له ثابت لاستيفاء الثمن. فلا معنى للحبس بحكم الرهن، وبين الحبسين اختلاف، من حيث إن هلاك الرهن لا يسقط الدين، وبهلاك المبيع المحبوس يسقط الثمن، والمالك ينتفع بالرهن، والمشتري لا ينتفع بالمبيع قبل القبض. وكذلك لو شرط أن يقبض المبيع، ثم يرده إليه رهناً- لا يصح البيع. أما إذا لم يشرط ذلك في البيع، بل رهنه بالثمن، من غير شرط أن يرهنه بعد القبض- جاز. وإن رهنه قبل القبض، والثمن مؤجل. قلت: فهو كما لو رهن منه بدين آخر، وإن كان حالاً، فلا؛ لأن الحبس له ثابت. فصلٌ في الاختلاف إذا اختلفا في الرهن، فقال رب الدين: رهنتني عبدك، وأنكر المالك. أو قال الراهن: رهنتك عبدي، وقال المرتهن: بل دارك؛ فإن كان الرهن مشروطاً في البيع يتحالفان. ثم إن لم يوافق أحدهما الآخر، يفسخ العقد بينهما. وإن كان رهن تبرُّع، فالقول قول الراهن مع يمينه.

وكذلك لو قال الراهن: رهنتك عبدي بألف، وقال المرتهن: بل بألفين- فالقول قول الراهن مع يمينه، ولا ينظر إلى قيمة العبد. ولو ادعى رجل على رجلين، وقال: رهنتماني عبدكما هذا بألف، وقبضته منكما، فكذباه- فالقول قولهما مع يمينهما. وإن صدَّقه أحدهما، وكذَّبه الآخر- فنصيب المصدِّق رهن بخمسمائة، والقول قول المكذب مع يمينه في نصيبه. ولو شهد المصدق للمدعي على شريكه- تقبل شهادته، ويحلف المدعى معه؛ ويكون الكل مرهوناً. ولو كذبه كل واحد في حق نفسه، وصدق في حق شريكه، فشهد على شريكه- هل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن المدعي يقول: كل واحد كاذب. والثاني: تقبل؛ لأن كذبه غير معلوم، ويجوز أن يكون نسي، ثم يحلف المدعي مع كل واحد منهما، ويكون العبد رهناً عنده. ولو ادعى رجلان على واحد، وقالا: رهنتنا عبدك هذا بألف، وقبضناه؛ فإن كذَّبهما حلف يمينين، فإن صدق أحدهما، وكذب الآخر- فنصفه مرهون عند المصدق، ويحلف في حق المكذب. ولو شهد المصدق للمكذب تُقبل شهادته؛ لأنه لا يجرُّ نفعاً إلى نفسه؛ كما لو كانت داراً في يد رجلين، وجاء ثالث، وادعى نصيب أحدهما، فشهد له الشريك الآخر- تقبل. هذا إذا أنكر الرهن، فإن أنكر المال، فشهادة المصدق هل تقبل أم لا؟ نظر: إن ثبت المال إرثاً، لا تقبل؛ لأنه ما من جزء من الميراث إلا وهو مشترك بين جميع الورثة، ولا تقبل شهادة بعض الورثة للبعض في الميراث؛ لأنه يشهد لنفسه، إن ثبت المال قرضاً، أو إتلافاً، أو بيعاً- تقبل. ولو دفع شيئاً إلى رجل؛ ليرهنه عند آخر، فيستقرض له شيئاً ففعل، ثم اختلفا، فقال الراهن: أمرته أن يرهنه بخمسة، وقال المرتهن: بل بعشرة؛ نظر: إن صدّق الوكيل الراهن، فللمرتهن أن يدعي خمسة على الوكيل، ويحلف الوكيل، وإن صدق الوكيل المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه، فإذا حلف كان رهناً بخمسة، على الراهن أداؤها، وعلى الوكيل خمسة. وإذا كان لرجل على آخر ألفان، أحدهما بها رهنٌ، أو ضمانٌ، والأخرى لا رهن بها

ولا ضمان، أو أحدهما ثمن مبيع محبوس لاستيفائها، أو أحدهما حالة والأخرى مؤجَّلة، فأدى من عليه إحدى الألفين- نظر: إن دفع عن التي بها الرهن، أو الضمين، أو ثمن المبيع- افتكَّ الرهن، وبرئ الضمين، وخرج المبيع عن الحبس. وإن دفع عن الأخرى فلا يفتكُّ ولا يبرأ. فإن دفع عنهما وقع النصف عن هذا، والنصف عن ذاك. وإن اختلف الدينان، أحدهما بألف والآخر خمسمائة، يقع أثلاثاً. وإن دفع مطلقاً، فوجهان: أحدهما: يقع عنهما. والثاني: قاله أبو إسحاق: للدافع أن يصرفه إلى أيهما شاء. فلو اختلفا، فقال الدافع: دفعت عن الذي به الرهن والضمين. وعن ثمن المبيع المحبوس، وقال القابض: بل عن الآخر- فالقول قول الدافع مع يمينه، والاعتبار ببينة الدافع لا بينة القابض. ولو أبرأ رب الدَّين عن أحد الدينين، ثم اختلفا، فقال المدينون: أبرأت عن الذي به الرهن أو الكفيل، وقال رب الدين: عن الآخر- فالقول قول رب الدين مع يمينه. ولو كان له عبدٌ فجاء رجلان، فادعى كل واحد منهما أنك رهنت مني جميع هذا العبد، وأقبضتني؛ فإن كذبهما- فالقول قوله مع يمينه يحلفُ يمينين. وإن صدق أحدهما يسلم إلى المصدق، وهل للآخر تحليفه؟ فيه قولان: أصحهما: لا يحلفه؛ لأن اليمين لطلب الإقرار، وهو لو أقرَّ للثاني بعدما أقر للأول- لا يقبل إقراره. والثاني: له تحليفه، بناء على ما لو قال: غصبت هذا من فلان، لا بل من فلان آخر، يسلم إلى الأول، وهل يغرم قيمته للثاني؟ فيه قولان: إن قلنا: يغرم قيمته للثاني، فههنا للثاني تحليفه، فإن نكل حلف المكذِّب، وعلى المالك أن يرهن قيمته مكانه. وإن قلنا هناك: لا يغرم للثاني شيئاً، فههنا: هل له تحليفه أم لا؟ هذا يبني على أن النكول وردَّ اليمين بمنزلة الإقرار، أم بمنزلة البيِّنة. إن قلنا: بمنزلة الإقرار، ليس له تحليفه، وإن قلنا: بمنزلة البينة، له تحليفه، فإن نكل حلف المكذب، وعلى المالك أن يرهن قيمته. وقيل: إن قلنا: كالبينة، يسلم العين إلى الثاني، وليس بصحيح؛ لأن النكول ورد

اليمين بمنزلة البينة في حق المتداعيين لا في حق ثالث، وههنا تعلق به حق الأول. وإن صدقهما جميعاً، نظر: إن لم يدَّعيا السبق أو ادعيا. وقال المدعى عليه: لا أعلم السابق منهما- ففيه وجهان: أحدهما: الرهن باطل في حقهما؛ كالنكاحين إذا تعارضا؛ لأنه لا يجوز أن يكون كل العبد مرهوناً عند كل واحد منهما. والثاني: يرهن من كل واحد نصفه؛ لأنه يقبل التشريك، بخلاف النكاح. فإن صدق أحدهما في السبق فهو له، والاعتبار بالقبض، حتى لو صدّق أحدهما بسبق العقد، وصدّق الآخر بسبق القبض- فهو لمن سبق قبضه. هذا إذا كان العبد في يد المصدق، أو في يد المالك، أو في يد ثالث؛ فإن كان في يد المكذِّب- ففيه قولان: أحدهما: هو لمن في يده لا للمصدق. والثاني، وهو الأصح: (هو) للمقرِّ له بالسبق؛ لأن اليد لا تدل على الرهن. فإذا أرجحنا باليد، فقال الذي في يديه: قد قبضه كل واحد منا- يبطل حقه، ويسلم الكل إلى المصدق؛ لأن صاحب اليد أقر للمصدق بقبض ما بعد. وإن كان العبد في أيديهما جميعاً، ففي النصف الذي في يد المصدق- يرجح جانبه، وفي النصف الآخر، قولان. ولو قال: رهنت هذا العبد من زيد، وأقبضته بعد ما كنت رهنته من عمرو وأقبضته، فلمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون لزيد لتقدمه في اللفظ. والثاني: لعمومه؛ لأن آخر الكلام يدل على أن قبضه كان سابقاً، وهذا أصح. والوجهان يبنيان على تبعيض الإقرار، إن قلنا: يبعض، فهو لزيد، وإن قلنا: لا يبعَّض فلعمرو. والله أعلم. باب الزيادة في الرهن روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الظهر يركب إذا كان مرهوناً، ولبنُ الدَّرِّ يشرب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته".

منافع الرهن للراهن، فيسكن الدار المرهونة، ويركب الدابة، ويستخدم العبد، ويلبس الثوب. وإذا انتفع بالحيوان نهاراً ردَّه إلى المرتهن، أو إلى العدل الموضوع على يده بالليل؛ لأنه لا يطيق العمل دائماً. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: تعطل منافع الرهن، ويرش لبنه على ضرعه حتى يجف، والحديث حجة عليه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل منفعته لمن عليه نفقته، ونفقته بالاتفاق على الراهن، فدل على أن منافعه له. وإنما يجوز أن ينتفع به على وجه لا تنتقص به قيمته، ولا يتضرر به المرتهن. فإن أراد أن يسافر على الدابة، أو يكريه ممن يسافر به- ليس له ذلك، وإن كان ثوباً تنتقص باللبس قيمته- لا يجوز أن يلبسه. وللمرتهن ألا يدفع الرهن إليه للانتفاع إلا بشاهدين إذا خاف إنكاره، وإن خاف خيانته دفعه إلى الحاكم حتى يؤاجره عليه، ويدفع الأجرة إليه. وإن كان أرضاً لا يجوز له أن يغرسها، ولا أن يبني فيها؛ لأنها تنتقص قيمتها بالغراس والبناء. ولا يجوز أن يزرع زرعاً ينقص قيمتها. فإن أراد زرع ما لا ينتقص قيمتها؛ نظر: إن كان الدَّين حالاً، أو مؤجلاً يحل قبل استحصاد الزرع- لا يجوز، وإن كان يستحصد الزرع قبل حلول الأجل- جاز. ثم إذا تأخَّر استحصاده لآفة، ليس للمرتهن قلعه، بل يبقى إلى أوان الحصاد. وحيث قلنا: ليس له أن يزرع ففعل، أو غرس أو بنى، فلا يقلع قبل حلول الأجل، ويقلع بعده إذا كانت قيمة الأرض مشغولة لا تفي بدينه، ويزداد قيمتها بالقطع. وكذلك لا يجوز أن يؤاجر الرهن إذا كان الدَّين حالاً، أو مؤجلاً، ولكن يحل الأجل قبل انقضاء مدة الإجارة. فإن أجر مدة تقضى قبل حلول الأجل- جاز، وتجوز الإعارة؛ لأنه يجوز له أن يرجع فيها متى شاء. ولا يجوز تزويج الجارية المرهونة؛ لأنه تنتقص قيمتها، ولا يجوز له وطؤها إن كانت بكراً، أو كانت ثيباً، ولكن يخشى منها العلوق، شابَّة كانت أو عجوزة؛ لأن العجوزة قد

تحبلُ، سواء عزل أو لم يعزل؛ لأن الماء قد يسبق إلى رحمها فتحبل. وإن كانت صغيرة لم تبلغ مبلغ العلوق فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن العلوق ليس له وقت معلوم بل يحصل بغتة. والثاني: قاله أبو إسحاق: يجوز؛ لأنه لا ضرر عليه. فحيث قلنا: لا يجوز الوطء، فليس للسيد أخذها للخدمة؛ خوفاً من أن يطأها، إلا أن تكون ممن لا يحل له وطؤها. ويكره رهن الجواري، إلا من امرأة أو محرم لها، أو كانت صغيرة لا تشتهى؛ فلا يكره، فإن كانت كبيرة رهنها من رجل توضع على يد امرأة ثقة، أو على يد رجل عدل له امرأة ثقة؛ حذراً من وطء المرتهن. وإن كان الرهن حيواناً فحلاً، يجوز أن ينزيه على الإناث؛ لأنه لا ضرر فيه، كالركوب، وإن كان أنثى أراد أن ينزي عليها فحلاً؛ نظر: إن كانت تلد محلَّ الدين، أو يحل الدين قبل ظهور الحمل- يجوز، ولو كان يحلُّ بعد ظهور الحمل قبل الولادة، إن قلنا: الحمل لا يعرف- يجوز؛ لأنها تباعُ مع الحمل. وإن قلنا: يعرف فلا يجوز؛ لأن الحمل لا يكون رهناً، ولا يمكن بيعها دون الحمل. ويجوز أن يفعل به ما فيه مصلحة الملك من حجامة العبد، وفصده، وسقي الدواء، وودج الدابة، وتبزيغها. ولا يجبر الراهن عليه، بخلاف النفقة يجبر عليها؛ لأنها لا تعيش بدونه، وتعيش من غير حجامة وفصدٍ، وشرب دواء، ولا يتحقق الشفاء منها. وله ختان العبد المرهون، إذا كان في سن يحتمل، ويندمل الجرح قبل حلول الأجل، فإن لم يندمل لم يجز. وإن كانت بيده أكلة يخاف من تركها، ولا يخاف من قطعها- جاز له قطعها، وإن كانت يخاف من تركها ومن قطعها- لم يجز قطعها، وإن كانت ماشية، إذا كان يخرج بها في طلب فلاة- نظر: إن كان الموضع الذي فيه مخصباً- لا يجوز؛ لأنه مخاطرة بها من غير حاجة، وإن كان الموضع الذي فيها مجدباً- جاز. وإن اختلفا في موضع النجعة واختار الراهن جهة، والمرتهن جهة أخرى- فاختيار الراهن أولى؛ لأنه يملك العين والمنفعة جميعاً. وإن كانت أرضاً، وفيها نخلات، فأراد الراهن تحويل بعضها إلى مكان آخر، يسأل

أهل البصر، فإن قيل: لا يثبت ما يحول، ليس له ذلك. وإن قيل: يثبت، وكان يزداد به ثمن الأرض، أو ثمن النخل- له ذلك. وكذلك لو قيل: الأكثر لثمن الأرض قطع بعضهن- له ذلك، وما قطن فرهن، ومؤنة الرهن تكون على الراهن؛ مثل نفقة العبد وكسوته، وكفنه إذا مات، وعلف الدابة، وسقي الكرم، ونحوها. وإن احتاج إلى بيت يحفظ الرهن فيه، ولم يتبرع به المرتهن أو العدل الذي عنده- فعلى الراهن مكان الحفظ وكراء البيت، فإن لم يكن للراهن شيء، أو كان غائباً يبيع الحاكم جزءاً منه، فيكتري به بيتاً. فلو أعطاه المرتهن بإذن الراهن على أن يرجع عليه، ويكون الرهن محبوساً- فهو كما لو فدى جناية الرهن على أن يكون الرهن محبوساً به، وفيه طريقان. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: مؤنة الحفظ، وسقي الكرم على المرتهن. فوافقت في نفقة العبد، وعلف الدابة. فصلٌ في الزوائد إذا حصلت في الرهن زوائد متصلة، مثل سمن الدابة، وكبر الودي والثمار- فهي مرهونة؛ لأنها تتبع الأصل. وإن كانت منفصلة، مثل إن رهن جارية أو دابة حائلاً فولدت، أو حصل منها لبنٌ أو صوف، أو كانت شجرة حائلاً فأثمرت، أو طائراً فباضت، أو جارية فوطئت بشبهة وأخذ المهر- فالولد واللبن والثمرة والصوف والبيض والمهر كلها للراهن خارجة عن الرهن. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: زوائد الرهن مرهونة؛ كما لو باع شيئاً تكون زوائده للمشتري. قلنا: لأن البيع يزول، فكانت الزوائد تبعاً للملك، وبالرهن لا يزول الملك، بل يثبت للمرتهن حق حبس، فهو كما لو أجر حيواناً، لا يثبت حكم الإجارة في الولد، وكذلك ولد الجانية لا يتعلق ضمان الجناية برقبته، وولد الضمين لا يكون مؤاخذاً بالضمان؛ كذا هذا [مثله].

ولو رهن حاملٌ، واحتيج إلى بيعها، وهي حامل بذلك الحمل- تباعُ كذلك في الدَّين، وإن كانت حاملاً يوم الرهن فولدت- هل يكون الولد رهناً؟ فيه قولان: إن قلنا: الحمل يعرف، يكون رهناً، يباع الولد مع الأم كما لو رهن شيئين، فإن قلنا: لا يعرف، فالولد خارج عن الرهن، كالحادث. وإن كانت حائلاً يوم الرهن، فحبلت، هل تباعُ حاملاً أم لا؟ إن قلنا: الحمل يعرف، لا تباع حتى تضع، وإن قلنا: لا يعرف فتباع، وهو كزيادة متصلة. ولو رهن نخلة حائلاً فأطلعت، هل تباع مع الطلع في الدَّين؟ قيل: فيه قولان: كالحمل، وقيل: الطلعُ خارجٌ عن الرهن، لأنه زيادة تقبلُ الإفراد بالبيع، بخلاف الحمل، فعلى هذا يجوز بيع النخل في الدين، ويستثنى الطلع، بخلاف الجارية الحامل لا تباع، إذا لم يجعل الحمل رهناً حتى تضع؛ لأن استثناء الحمل، لا يجوز. ولو رهن نخلة مطلعة، وقلنا: الطلع يدخل في الرهن، ورهنها مع الطلع، فإذا حل الحق والثمر طلع- يباع مع الطلع. وإن أبر الطلع- قطع أو لم يقطع- هل يباع الطلع في الدين؟ قيل: فيه قولان، كالحمل يخرج، وقيل: يباع قولاً واحداً؛ لأنه كان مشاهداً يوم الرهن، يجوز أن يفرد بالعقد؛ كما لو رهن عينين. ولو جنى على الرهن، فأرش الجناية مرهون مع الأصل؛ لأنه بدل نقص قائم بالرهن، ليس في باب الزوائد. ولو وطئت وهي بكرٌ، فنقدر أرش الافتضاض من المهر يكون رهناً، والباقي للراهن. باب رهن رجلين إذا رهن رجلان شيئاً من رجل يجوز. ثم إذا أدى أحد الراهنين ما عليه، أو أبرأه المرتهن- افتكَّ نصيبه دون نصيب صاحبه. وكذلك لو رهن [رجل] من رجلين شيئاً، وسلم إليهما، ثم أدَّى حق أحدهما، أو أبرأه أحدهما- يفتكُّ نصيبه.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا رهن رجل من رجلين، ثم أدى حق أحدهما- يبقى الكل مرهوناً عند الآخر. قلنا: هو لم يرهن من كل واحد إلا نصفه، فلا يصير كله مرهوناً عند واحد؛ كما لو باع من رجلين، لا يستبدُّ بكله أحدهما. ولو رهن رجلان شيئاً مشاعاً من رجل، وأدى أحدهما ما عليه وافتكَّ نصيبه- يجوز له مقاسمة شريكه إن كان الشيء منقسماً، وهل يحتاج في القسمة إلى إذن المرتهن أم لا؟ هذا ينبني على أن القسمة بيع، أم إفراد حق؟ ففيه قولان: إن قلنا: بيع، يشترط إذنه، لأن بيع المرهون لا يجوز إلا بإذنه. وإن قلنا: إفراد حق لا يشترط. وكذلك قبل أداء أحدهما حقه، أراد الراهنان القسمة، أو رهن واحد من اثنين، فأدى نصيب أحدهما، وأراد مقاسمة الآخر، هل يشترط رضاه؟ فعلى قولين، وقد ذكرنا بقية مسائل هذا الباب في "باب الرهن يجمع بين شيئين". والله أعلم. بابُ ما يفسد الرهن إذا شرط في الرهن ما هو قضية الرهن؛ بأن قال: رهنتك على أن تحبسه إلى أداء الحق، أو تتقدم بثمنه على سائر الغرماء، أو لا يبيعه إلا بإذنه، ونحو ذلك- يصحُّ العقد، سواء كان الرهن مشروطاً في البيع، أو لم يكن. وإن شرط خلاف قضية العقد؛ نظر: إن لم يكن فيه نفعٌ للمرتهن؛ بأن قال: رهنتك على ألا تبيعه عند [محل الدَّين]، أو لا تبيعه إلا بما يرضاه الراهن، أو لا تبيعه بعد المحل إلا بعد شهر، أو لا يكون لك فيه حقُّ الحبس، أو لا تتقدم بثمنه على [سائر] الغرماء، أو إن بعته تبيعه بأكثر من [ثمن المثل]- فالرهن فاسد، وهل يفسد به البيع المشروط فيه؟ فعلى قولين؛ فإن قلنا: يصح البيع، فللبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له الرهن. وإن شرط شرطاً فيه نفع للمرتهن، سواء شرطه الراهن، أو شرطه المرتهن بنفسه؛ مثل إن شرط أنه إن أدى الحق لا يفتكُّ الرهن، أو أن منفعة الرهن تكون للمرتهن- فالشرط فاسدٌ، وهل يفسد الرهن؟

نظر: إن كان رهن تبرع، بأن كان له على إنسان دينٌ، فرهن به منه شيئاً بهذا الشرط- ففي فساد الرهن قولان، سواء شرط المنافع لنفسه ملكاً، بأن قال: اسكن الدار المرهونة، أو اركب الدابة، أو يكون نتاجه وزوائده ملكي، أو شرط رهناً؛ بأن قال: منافعه، أو نتاجه وزوائده تكون مرهونة عندي. أحد القولين، وهو الأصح: يفسد الرهن كما يفسد البيع بالشرط الفاسد. والثاني: لا يفسد؛ لأن هذا الرهن تبرعٌ من الراهن، فشرط معه تبرعاً آخر. فإذا لم يلزم الثاني لا يبطل الأول. وكما لو أقرضه عشرة دنانير صحاحاً على أن يرد إليه المكسر- صح القرض، وإن لم يلزم الشرط، فكذلك لو رهن منه داراً على أن يرهن منه داراً أخرى؛ فالشرط فاسد؛ وهل يصح الرهن في هذه؟ فعلى قولين: وإن كان الرهن مشروطاً في البيع؛ نظر: إن شرط الزوائد لنفسه ملكاً؛ بأن قال: على أن: سكنى الدار لي، أو ظهر الدابة لي، أو نتاجها وثمرة الشجرة- فالبيع باطل؛ لأنه جعل الثمن المسمى، ومنفعة الرهن، وهي مجهولة ثمناً للمبيع، وجهالة بعض الثمن تمنع صحة البيع. وتكون الزوائد والمنافع مضمونة عليه؛ لأنها مقبوضة بحكم البيع الفاسد. وإن شرط أن تكون الزوائد رهناً فالشرط فاسد. وهل يفسد الرهن في الأصل؟ فيه قولان: وإذا حكمنا بفساد الرهن فهل يفسد البيع بفساده؟ فيه قولان. وإن قلنا: يصح البيع، فللبائع الخيار، سواء قلنا: يصح الرهن في الأصل، أو لا يصح؛ لأنا إن قلنا: لا يصح الرهن في الأصل- فلم يسلم له الرهن. وإن قلنا: يصح، فلم يسلم له الشرط، وهو رهن الزوائد. ولو قال: أقرضني ألفاً، على أن أرهنك داري، ودابَّتي على أن لك منفعتها- نظر: إن شرط له المنافع ملكاً- فالقرض فاسد؛ لأنه قرض جرَّ منفعة؛ فيكون رباً. وإن شرط رهناً فالقرض صحيح؛ لأن شرط الرهن في القرض يجوز والشرط فاسد للجهالة، وفساده لا يوجب فساد القرض؛ لأنه لا يجرُّ إلى نفسه نفعاً لا يباح له مثله، وهل يفسد الرهن في الأصل؟ فعلى قولين: لأنه زيادة للمرتهن. ولو كان لرجل عليه ألف، فقال من عليه: زدني ألفاً، على أن أرهنك بألفين داري، أو بألف الأولى داري- لا يصح إقراض الألف الثانية؛ لأنه يجرُّ به إلى نفسه نفع الارتهان بالألف الأولى، ولا يصح بالألف الأولى.

ولو قال من عليه الألف: بعني عبدك بألف حتى أرهنك داري بألف الأولى، أو قال: بألفين جميعاً- لا يصح البيع ولا الرهن؛ لأنه جعل الألف منفعة الارتهان بالألف الأولى ثمناً، وإذا فسد الشرط سقط بعض الثمن، فبقي الباقي مجهولاً. ولو كان عليه دين مؤجل، فقال لرب الدين: أرهنك داري به، على أن تزيدني في الأجل، ففعل- فالرهن فاسدٌ. ولا يزداد الأجل. ولو قال: رهنتك هذا الحق بما فيه بكذا، فإن كان ما فيه معلوماً عندهما- صح الرهن منهما جميعاً في الحق، وفيما فيه. وإن كان ما فيه مجهولاً، لا يصح الرهن فيما في الحق. وهل يصح في الحق أم لا؟ فعلى قولين: أصحهما وعليه نص: أنه يجوز. ولو قال: رهنتك هذه الخريطة وما فيها. وما في الخريطة مجهول، نص عليه أنه لا يصح الرهن في الخريطة، إلا أن يقول: رهنتك هذه الخريطة دون ما فيها- يصحُّ. وفرق بأن الظاهر من الحق بأنه يكون ثميناً ذا قيمة، فيكون مقصوداً، فصح الرهن فيه وإن بطل فيما فيه، والظاهر من الخريطة أنها لا تكون ثمينة ذات قيمة، فيكون المقصود ما فيها، فإذا لم يصح ما فيها- لم يصح فيها، حتى لو كانت الخريطة ثمينة من ديباج؛ فيصح الرهن فيها في قول؛ كما يصح في الحق. وإن أفرد الخريطة بالرهن صح الرهن فيها، وإن قلت قيمتها؛ لأنها بالإفراد صارت مقصودةً. وإن لم يكن لها قيمة فلا تصح رهناً بحال؛ كبيع ما لا قيمة له- لا يصح. باب الرهن غير مضمون سبق الكلام فيه. والله أعلم.

كتاب التفليس

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب التفليس روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه، فهو أحق به من غيره".

وروي "أيما رجل مات، أو أفلس". العاقل البالغ الرشيد: إذا كان ماله يفي بديونه- لا يجوز الحجر عليه، وإن لم يف ماله بديونه- يجوز للحاكم أن يحجر عليه، ولكن بعد مساءلته الغرماء أو مساءلة

بعضهم، ويمنعهن التفرق حتى لا يزداد غرماؤه، وإذا كان ماله يفي بديونه، ولكن ظهر عليه أمارات الفلس: بأن كان خرجه أكثر من دخله، هل يحجر عليه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه مليء. والثاني: يحجر عليه؛ لأن ظاهر حاله أن يعجز، فيدخل الضرر على غرمائه. فإذا حُجر عليه- فحجره يفيد أمرين: أحدهما: تعلق حقوق الغرماء بماله، حتى لو استحدث ديناً- لا يشارك الآخر الأولين في ماله. والثاني: إن باع منه شيئاً، ولم يقبض ثمنه، ووجد البائع عين ماله [له] أن يفسخ البيع، ويأخذ عين ماله، إن شاء. وإن كان قد قبض بعض الثمن-: يجوز أن يفسخ في قدْر ما بقي من الثمن. وكذلك: لو لم يكن قبض شيئاً من الثمن-: فله أن يفسخ في بعض المبيع؛ لأنه يشقص الملك على نفسه؛ بخلاف الرد بالعيب: لا يجوز أن يبعض المبيع؛ لأنه يشقص الملك على البائع. نظيره: لو رجع في نصف ما وهب من ابنه- جاز، وهل له أن يفسخ بغير إذن الحاكم؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه مختلف فيه؛ كفسخ النكاح بالإعسار بالنفقة. والثاني: له ذلك، لأنه ثبت بالسنة؛ كفسخ النكاح بخيار العتق. وإن حكم حاكم بالبيع من الفسخ، فقال الإصطخري: ينقض حكمه؛ لأنه مخالف لنص السُّنة. وقيل: لا ينقض؛ لأنه مختلف فيه.

ولو أنَّ البائع باعه، أو أعتقه، أو كانت جارية وطئها- هل يكون فسخاً؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يكون فسخاً. ولو كان المشتري وماله وفاء بالدين-: لم يكن للبائع أخذ عين ماله؛ كما في الحياة، فإن لم يكن وفاء-: جاز. وقال الإصطخري: له أخذ ماله، وإن كان ماله وفاء بالدين؛ لقوله- عليه السلام-: "أيما رجل مات أو أفلس". وعند مالك- رحمة الله عليه-: إن أفلس في حياته-: للبائع أخذ ماله، فإن مات مفلساً- فلا. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يجوز الحجر بسبب الإفلاس، غير أنه لو حجر عليه وأمضاه حاكم-: نفد، ثم ليس للبائع أخذ عين ماله؛ بل يضارب الغرماء بالثمن، والحديث حُجة عليه. ثم حق الفسخ، هل يكون على الفور؟ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون على الفور؛ كخيار الرد بالعيب. والثاني: يكون على التراضي؛ كخيار الرجوع في الهبة من الابن. وإذا أراد الفسخ، فقال الغرماء: لا نفسخ حتى نقدمك على أنفسنا-: فله الفسخ؛ لأنه ربما يظهر غريم آخر؛ فلا يرضى بتقديمه. ولو قالوا لواحد منهم: لا تفسخ، حتى أعطيك الثمن من مالي-: فله أن يفسخ، ولا يقبل ما يعطى؛ كالمشتري: إذا وجد بالمبيع عيباً؛ فبذل البائع الأرش-: له ألا ينتقل، ويفسخ البيع؛ فلو قبل من الغريم مالاً أعطاه، ثم ظهر غريم آخر: لا يزاحمه فيه، أما بعد موت المديون: إذا قال الوارث: لا تأخذ مالك، حتى أقدمك على الغرماء: فله أخذ ماله؛ لأن الغرماء لا يرضون به، فلو قال: لا تأخذ؛ حتى أؤدي حقك من مالي-: فقد قيل: لا فسخ له؛ لأن الوارث خليفة الموروث-: فله تخليص المبيع لنفسه بأداء الثمن. ثمَّ: إذا ظهر غريم آخر-: لا يزاحمه فيما أخذ؛ لأنه ليس من التركة. وقيل: لا يسقط حقه من الفسخ؛ كما لو قال الغرماء؛ لأنه استحق الفسخ؛ فلا يسقط حقه بتبرعهم؛ كالمرأة إذا استحقت فسخ النكاح بإعسار الزوج، فتطوع إنسان ببذل نفقتها-: لا يسقط حقها من الفسخ، وإن كان المشتري، ولكنه امتنع من دفع الثمن؛ فلا حجة للبائع، أو كان المشتري غائباً أو مات ملياً.

ولكن لو امتنع الوارث من دفع الثمن- هل للبائع فسخ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا فسخ له؛ لأنه لم يوجد عيب الفلس. والثاني: له ذلك؛ لتعذر الوصول إلى الثمن؛ كما لو أفلس. وإن كان البائع باعه منه مع العلم بفلسه- هل له الرجوع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو اشترى- سلعته عالماً بعيبها: لا رد له. والثاني: له الفسخ. ولو أفلس المشتري بالثمن، وخرج المبيع عن ملكه ببيع، أو هبة، أو إعتاق، أو وقف، أو كتابة، أو كانت جارية استولدها المشتري-: فلا فسخ له؛ لأن رد هذه العقود لا يمكن، وهو لا يقبل إلا عين ماله. وكذلك: لو كان المشتري رهنه وسلَّمه، أو استحق بجناية-: فلا فسخ له، والمرتهن والمجني عليه أولى به، فإن أمكن أن يقضي حق المرتهن والمجني عليه ببيع بعضه-: بيع بقدر حقهما، ورجع البائع في الباقي، وإن كان قد دبَّره، أو علق عتقه بصفة-: للبائع أخذه، وإن كان قد أخذه، وقلنا: بيع المؤاجر لا يجوز-: ضارب الغرماء. فإن قلنا: يجوز-: فهو بالخيار، إن شاء أخذه مسلوب المنفعة، وإن شاء ترك وضارب الغرماء. وإن كان المبيع صيداً، والبائع محرمٌ-: لم يكن له الرجوع فيه؛ لأن المحرم ليس من أهل تملك الصيد؛ كما لا يشتريه. وإن كان المبيع خرج عن ملك المشتري، وعاد إليه- هل له أخذه؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره؛ كما لو لم يخرج عن ملكه؛ وكما لو كان رهنه أو آجره، وقد افتكَّ الرهن، وقد انقضت مدة الإجارة. والثاني: ليس له أخذه؛ لأن المشتري لم يتلق هذا الملك منه. وكذلك: لو كان قد باعه وردَّ إليه بالعيب، وإن كان قد عاد إليه ببدلٍ-: نُظر: إن كان قد أدى حق البائع الثاني، فهل للأول أخذه؟ فعلى وجهين. وإن لم يوجد حق الثاني-: فأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الأول أولى؛ لأن حقه أسبق. والثاني: الثاني أولى به؛ لأن ملكه أقرب.

والثالث: هما سواء. وإن كان المبيع قد زاد في يد المشتري- نظر: إن كانت الزيادة متصلة؛ كالسِّمن والكبر-: فللبائع أخذه زائداً، ولا شيء عليه. وإن حدثت زوائد منفصلة؛ مثل: ثمرة الشجرة وكسب العبد والولد واللبن-: فالبائع يأخذ الأصل، فتبقى الزوائد للمشتري، وإن كان قد تغير المبيع بنقصان- لا يخلو: إما إن كان نقصاً لا يتقسط عليه العوض، أو يتقسط: فإن كان لا يتقسط عليه العوض- نظر: إن كان النقص حكمياً؛ كالزنا، والسرقة، والإباق، ونسيان الحرفة، والتزويج: [فـ] إن كان عبداً، أو جارية-: فالبائع بالخيار، إن شاء فسخ البيع وأخذ المبيع ناقصاً ولا شيء له، وإن شاء تركه وضارب الغرماء بالثمن. وكذلك إذا كان النقصان حسياً مما لا يتقسط عليه الثمن، حصل بآفة سماوية؛ كالعمى؛ والعور، والشلل، وسقوط عضو من الأعضاء، وانهدام الدار من غير أن يذهب شيء من عينها-: فهو بالخيار، إن شاء أخذه ناقصاً ولا شيء عليه، وإن شاء ضارب الغرماء بالثمن؛ كما لو تعيَّب المبيع في يد البائع بعيب من هذه العيوب-: فالمشتري بالخيار بين أن يأخذ بجميع الثمن، أو يفسخ البيع ويرجع بالثمن. وإن حصل هذا النقصان بجناية جانٍ- لا يخلو: إما إن جنى عليه أجنبي أو المشتري؛ فإن جنى عليه أجنبي-: فللبائع أن يأخذ، ويضارب الغرماء بأرش النقصان من الثمن؛ لأن المشتري أخذ ضمان ذلك النقصان، وذلك في مقابلة جزء كان يستحقه البائع؛ فاستحق ما يقابله، كما يقول فيمن أشترى عبداً، فقطع أجنبي يده من يد البائع-: فالمشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع، وبين أن يأخذ المبيع، ويطالب الجاني بالأرش، غير أن البائع يضارب الغرماء بالنقصان من الثمن؛ مثل: إن ينقص عشر قيمته: يضارب الغرماء بعشر الثمن؛ سواء كانت الجناية لها أرش مقدر، أو لم يكن، والمفلس: يرجع على الجاني بالمقدَّر إن كان لها أرش مقدرٌ، ومثل: إن قطع إحدى يديه-: رجع عليه بنصف قيمته. وإن قطع كلتا يديه-: فبطل قيمته وضارب الغرماء بأرش النقصان من الثمن؛ لأن المبيع في يد المشتري مضمون بالثمن، وإن جنى عليه المشتري-: فهو كما لو حصل النقصان بآفة سماوية؛ فالبائع إن شاء أخذ المبيع ولا شيء عليه، وإن شاء ترك وضارب الغرماء بالثمن. أما إذا كان النقصان فيما يتقسط عليه العوض؛ مثل: إن يشتري عبدين أو صاعي حنطة، فتلف أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس-: أخذ البائع القائم بحصته من الثمن، فضارب الغرماء بالباقي، وكذلك المبيع إذا كان داراً فانهدمت، وفات شيء من آلتها؛ حتى

لو باع نخلة وعليها تمر مؤبَّر مع التمر، فتلف التمر بجائحة أو أكلها المشتري، ثم أفلس-: فالبائع يأخذ الشجر بحصتها من الثمن، ويضارب الغرماء بحصة الثمر. وكيفية اعتباره: أن يقال: كم قيمة النخل، وعليها التمر؟ فيقال: مائة، فيقال: كم قيمتها من غير التمر؟ فيقال: تسعون، فيأخذ النخلة بتسعة أعشار الثمن، ويضارب الغرماء بالعشر، ويعتبر قيمة التمر أو العين الهالكة بأقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض؛ لأن قيمتها: إن كانت يوم العقد أقل، فزادت-: فتلك الزيادة حصلت في يد المشتري، ليس له استردادها، وإن كانت أكثر، فانتقصت-: فذلك النقصان مضمون على البائع. وقول الشافعي- رضي الله عنه-: يكون أُسوة للغرماء في حصة التمر يوم قبضه. أراد به: إذا كانت قيمتها يوم القبض أقل، أما قيمة النخلة أو العين القائمة التي يأخذها-: يعتبر بيوم العقد؛ لأن قيمتها إن كانت يوم العقد أقل، فزادت-: فتلك الزيادة متصلة يكون للبائع أخذها، وإن كانت أكثر، فانتقصت-: فذلك النقصان من ضمان البائع. بيانه: كانت قيمة النخلة يوم البيع مائة، وقيمة الثمن خمسين، فباعهما بمائة، وتلف التمر-: يأخذ النخلة بثلثي الثمن، ويضارب الغرماء بالثلث، فإن تغيرت قيمة أحدهما- لا يخلو: إما إن تغيرت قيمة النخلة أو قيمة التمر: فإن تغيرت قيمة التمرة- نظر: إن تغيرت بالنقصان؛ مثل: إن كانت قيمتها يوم العقد خمسين، فعادت إلى خمس وعشرين، ثم قبض، وتلف في يد المشتري-: فالبائع يأخذ النخلة بأربعة أخماس الثمن، ويضارب الغرماء بالخمس. وإن تغيرت بالزيادة بأن بلغت قيمتها مائة-: أخذ النخلة بثلثي الثمن، وضارب الغرماء بالثلث؛ كما لو لم يزد، وإنما لم تعتبر زيادة قيمتها، لأنه يؤدي إلى أن قيمتها لو بلغت مائتين-: أخذ البائع النخلة مجاناً، وضارب الغرماء بأكثر مما باع به. وإن تغيرت قيمة النخلة، سواء تغيرت بالزيادة أو بالنقصان-: أخذها بثلثي الثمن، وضارب الغرماء بالثلث. ولو باع عبدين بمائة قيمتهما سواء، فأخذ خمسين، وتلف أحد العبدين في يد المشتري، ثم أفلس، واختار البائع الفسخ في العبد الآخر-: ماذا يأخذ البائع؟ فيه قولان: أحدهما: يأخذ العبد الباقي بما بقي من الثمن، ويكون المقبوض من الثمن بإزاء التالف؛ كما لو رهن عبدين بمائة، وأخذ خمسين وتلف أحد العبدين-: كان الثاني مرهوناً بما بقي. والقول الثاني- وهو اختيار المزني- رحمه الله-: يأخذ نصف العبد القائم بنصف ما

بقي من الثمن، ويضارب الغرماء بالباقي؛ لأن الثمن يتوزع على المبيع فما أخذ من الثمن كان بمقابلة العبدين جميعاً-: فقد أخذ نصف ثمن العبد القائم؛ فليس له أن يرجع إلا في نصفه؛ بخلاف الرهن: فإنه لا توزيع فيه، بل يكون كله مرهوناً بكل جزء من أجزاء الدين. فصلٌ إذا باع جارية أو دابة حاملاً، فقبل الوضع أفلس المشتري، أخذ البائع حاملاً، وإن كانت حائلاً يوم البيع، فحبلت، وولدت، ثم أفلس-: أخذ البائع الأم، وبقي الولد للمشتري، إلا أنها إذا كانت جارية، لا يفرق بين الأم والولد، فإما أن يعطى الباقي قيمة الولد، فيأخذ مع الأم، وإما أن تباع الأم مع الولد، فيأخذ البائع ثمن الأم، والمفلس ثمن الولد، وإن باعها حاملاً، فوضعت، ثم أفلس-: هل للبائع أخذ الولد؟ إن قلنا: الحمل يعرف-: أخذها البائع مع الولد؛ كما لو باع شيئين، وإن قلنا: لا يُعرف-: يبقى الولد للمشتري. ولو باعها حائلاً، فحبلت، فأفلس المشتري قبل الوضع-: فهل للبائع أخذها مع الحمل؟ منصوص الشافعي- رضي الله عنه-: أنه يأخذها مع الحمل، وهذا بناءً على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ إن قلنا: الحمل لا يعرف-: أخذها حاملاً؛ كما لو زاد المبيع زيادة متصلة. وإن قلنا: يعرف-: ليس له أخذها مع الحمل، ولكن: ترجع في الأم، والحمل يكون للمفلس؛ كأنه أوصى بحملها لرجل. وقيل: لا رجوع له على قولنا: الحمل يُعرف، بل يضارب الغرماء. ولو باع نخلة وعليها ثمر مؤبَّر، فأفلس المشتري، والتمرُ قد أدركت، أو جدت-: أخذها البائع مع التمر؛ لأنها زيادة متصلة، وكذلك: لو باع أرضاً مزروعة مع الزرع، فأفلس، وقد استحصد الزرع-: أخذها مع الزرع. وقيل: إذا كان الزرع قصيلاً يوم البيع، فصار حباً-: لا يأخذه، والأول المذهب؛ أنه يأخذه كالتمر يدرك؛ لأنه لم يكن تبعاً للأرض، فكان لا يدخل في مطلق بيع الأرض، فبيعه مع الأرض كبيع شيئين. ولو باع نخلة حائلاً فأثمرت وأبَّرت، وأفلس المشتري ليس للبائع أخذ الثمن بل يأخذ

النخلة، ويترك التَّمر إلى أوان الجداد سواء كان التأبير قبل الإفلاس أو بعدما أفلس-: لم يختر البائع الفسخ حتى أبرها؛ لأن المبيع يعود إلى البائع باختيار الفسخ، لا بالإفلاس. وكذلك: لو باع أرضاً، فزرع فيها المشتري، ثم أفلس-: فللبائع أخذ الأرض، ويترك الزرع إلى أوان الحصاد، وليس له طلب الأجر، بخلاف ما لو أكرى أرضاً، فزرع فيها المكتري، ثم أفلس بالكراء-: يجوز للآخر أن يفسخ الإجارة؛ فيأخذ الأرض، ويترك الزرع إلى الحصاد بالأجر؛ لأن المكتري شرع فيه؛ ليضمن المنافع؛ والمشتري؛ لم يشرع فيه؛ ليضمن المنافع، فلو أراد الغرماء أو بعضهم قطع التمر أو الزرع قبل أوان الجداد، أو الحصاد-: لهم ذلك، لأنه لا يجب عليهم تأخير حقهم؛ لتنمية مال المفلس، إلا ألا يكون لها قيمة؛ فلم يكن لهم قطعها؛ وكذلك: لو أراد المفلس قطعها-: لم يكن للغرماء منفعة؛ لأنه لا يلزمه تنقية ماله لأجل الغرماء، إلا أن يكون لها قيمة، ولا يعتبر رضا البائع إلا أن يكون له عليه دين آخر؛ فهو كسائر الغرماء. ولو باع نخلة مطلعة-: دخل الطلع في البيع، فإذا أفلس المشتري والتمر طلع للبائع-: أخذ النخلة مع الطلع، وإن أفلس، والطلع قد أبر: هل له أخذ التمر؟ قيل: فيه قولان؛ كالحامل إذا وضعت- هل له أخذ الولد؟ فيه قولان. وقيل: له أخذ التمر قولاً واحداً؛ لأن الطلع كان مشاهداً يوم البيع، فأمكن إفراده بالبيع؛ فصار كما لو باع شيئين، والحمل لم يكن مشاهداً-: يمكن إفراده بالبيع؛ فكان كزيادة منفصلة حصلت: فإن قلنا: له أن يأخذ التمر: فإن كان الطلع قد أكله المشتري-: ضارب الغرماء بحصته من الثمن؛ كما ذكرنا في التمر المؤبر. وإن قلنا: ليس له أخذه؛ فيأخذ النخلة، ولا يضارب الغرماء بشيء، كما لو أتلف أجزاء المبيع. ولو باع نخلة حائلاً، فأطلعت في يد المشتري، ثم أفلس بالثمن قبل التأبير- هل للبائع أخذها مع الطلع؟ فيه قولان: قال في رواية المزني: يأخذها مع الطلع؛ كما لو باع نخلة مطلعة: يدخل الطلع في البيع؛ فكما تبعها في البيع- تبعها في الفسخ؛ كزيادة متصلة. وقال في رواية الربيع: يأخذ النخلة دون الطلع، ويبقى الطلع إلى الإدراك والجداد،

كالثمرة المؤبَّرة؛ لأنه أخذ بطريق القهر؛ بخلاف البيع: فإنه تمليك بالتراضي. فإن قلنا: يأخذ مع الطلع، فأبرت الثمر، ثم اختلفا، فقال البائع: اخترت الفسخ قبل التأبير، وقال المشتري: بعد التأبير-: فالقول قول المفلس مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الفسخ؛ يحلف بالله، لا أعلم أنك فسخت قبل التأبير، وإنما قلنا: يحلف على العلم؛ لأنه يمين على نفي فعل الغير، ولو لم يحلف المفلس- هل يحلف الغرماء؟ فيه قولان: والمذهب: أنهم لا يحلفون، فلو شهد عدلان من الغرماء للبائع أو شهد واحد، وحلف البائع معه أنه اختار قبل التأبير: أخذ النخلة مع الثمرة؛ كما لو صدَّقه الغرماء والمفلس. ولو شهد منهم عدد أكبر للمفلس-: لا يُقبل؛ لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفع الثمر، فإنها إذا كانت للمفلس-: تباع في حقوقهم. ولو صدَّقه المفلس، وكذبه الغرماء-: ففيه قولان؛ كالمفلس يقر ويبين فيلزمه قبل الحجر وهل يقبل في مزاحمة الغرماء؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا يقبل-: يجوز للبائع تحليف الغرماء؛ أنهم لا يعلمون فسخه قبل التأبير؛ بخلاف المسألة الأولى، إذا كذبوه جميعاً، وجعلنا القول قول المشتري، فنكل-: قلنا: لا يحلف الغرماء على أصح القولين؛ لأن- هناك-: توجهت اليمين ابتداء على المشتري؛ فإذا لم يحلف: لا يحلف الغرماء؛ لأنهم ينوبون مناب المشتري، واليمين لا تدخلها النيابة، وههنا: توجهت اليمين ابتداءً على الغرماء؛ فجاز لهم أن يحلفوا. وقيل: في هذه المسألة- أيضاً- قولان؛ كالأولى، والأول أصح. ولو صدقه الغرماء، وكذبه المفلس-: فللمفلس أن يرفع الأمر إلى القاضي، حتى يُجبر الغرماء على أخذ التمر أو براء ذمته عن قدره من الدَّين، فإذا أخذوا- حينئذ: يأخذها البائع منهم؛ لأنهم أقروا له بها، فلو أن المفلس باع الثمرة، وصرف إليهم ثمنها-: لا يجب عليهم دفعه على البائع، ويتملكونه؛ لأنهم لم يقروا للبائع بالثمن، وإن صدقه بعض الغرماء، أو شهد واحد أو اثنان منهم، فردت شهادتهم؛ لفسقهم-: يُعطى الثمرة إلى المكذبين؛ رفقاً بالمصدقين؛ لأنها لو دفعت إلى المصدقين-: أخذها البائع منهم، وإليه أشار الشافعي- رضي الله عنه- فمن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يفرقه إلا على المكذبين، بخلاف ما لو صدقه الكل؛ لأن هناك-: إذا عدل عنهم-: لا يجد جهة أخرى-: يصرف إليها. وقال أبو إسحاق: له أن يفرق على الجميع؛ كما لو صدقوه جميعاً وحمل النص على ما إذا اختار المفلس أن يفرق على المكذبين، وإذا دفعناها إلى المكذبين، ولم يف

بحقوقهم-: فهم يضاربون المصدقين بجميع دينهم أم بقدر ما بقي؟ فيه وجهان: أحدهما: بقدر ما بقي؛ لأنهم يعتقدون أنهم أخذوا بعض الدين من مال المفلس. والثاني: بجميع الدين؛ لأن المصدقين يعتقدون أن ذمة المفلس لم تبرأ عن شيء من دينهم. ولو باع أرضاً فغرس أو بنى فيها المشتري، ثم أفلس بالثمن-: يجوز للبائع أن يرجع في الأرض، ولم يكن له إجبار المفلس على قلع الغراس، ثم ينظر: إن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس أو البناء-: لهم ذلك، وعلى المفلس تسوية الأرض، وأرش ما نقص، أو حدث في الأرض بسبب القلع؛ لأنه نقص حصل لتحصيل ماله، وتُقدم على ذلك سائر الديون؛ لأنه لإصلاح ماله؛ كنفقة العبيد، وأجرة الحمَّال، وإن لم ينفقوا-: فالبائع يأخذ الأرض، وهو بالخيار في الغراس والبناء، إن شاء تملكها بالقيمة، وإن شاء قلعها وضم أرش النقصان؛ بخلاف ما لو زرعها المشتري-: ليس للبائع تملك الزرع ولا قلعه؛ لأن لحصاده وقتاً معلوماً، والبناء والغراس للتأبير، فلو أراد البائع أن يأخذ الأرض ويترك الغراس والبناء للغرماء- هل له ذلك؟ فيه قولان. أحدهما- وهو اختيار المزني-: له ذلك؛ كما لو اشترى ثوباً، وصبغه بصبغ من عنده، ثم أفلس-: يجوز للبائع أن يرجع في الثوب والغرماء شركاء معه في الصبغ. والقول الثاني: ليس للبائع أن يأخذ الأرض، ويترك الغراس والبناء؛ لأن فيه ضرراً على المفلس والغرماء؛ لأنه يبقى لهم غراس، بلا أرض ولا شرب، وبناء بلا ممر، ولأن من يشتري البناء والغراس لا يستقر عليه ملكه، فإن للبائع قلعها بعد البيع، فيثبت للمشتري رد المبيع بسببه بخلاف الصبغ؛ فإن إفراده بالبيع لا يجوز، فإن لم يجوِّز: فالبائع يضارب الغرماء بالثمن أو يتملك الغراس والبناء بالقيمة أو يقلع، ويضمن أرش النقصان؟ وإن جوَّزنا له الرجوع في الأرض، فرجع، فإن اتفق البائع والغرماء على بيع الأرض مع الغراس والبناء-: جاز، ويقسم الثمن بينهم على قيمة الأرض، وعلى البناء والغراس. ولو أراد المفلس والغرماء بيع الغراس والبناء، وامتنع البائع عن بيع الأرض-: هل يجبر عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يجبر؛ كما يباع الثوب المصبوغ؛ دفعاً للضرر. والثاني: لا يجبر؛ لأن بيع كل واحد على الانفراد ممكن؛ بخلاف الصبغ. ولو لم يتفقا فباع المفلس والغرماء البناء والأشجار-: جاز للبائع بعده أن يتملكها بالقيمة، أو يقلعها ويضمن أرش النقصان، وللمشتري الخيار في فسخ البيع، إن كان جاهلاً بالحال.

وإذا اشترى حباً، فبذره، فنبت الزرع، أو اشترى أرضاً مبذورة مع البذر، وقلنا: يجوز، وهو بعيد، فنبت الزرع أو اشترى بيضة، فأحضنها تحت دجاجة، فأخرجت فرخاً، فأفلس المشتري بالثمن-: هل للبائع أن يرجع فيه؟ فعلى وجهين: أصحهما: يرجع؛ لأنه وجد عين ماله؛ إلا أنه متغير؛ فصار كالوديِّ إذا كبر، فصار نخلاً، والجدي إذا صار شاة. والثاني: لا يرجع؛ لأن الزرع غير الحَبِّ، والفرخ غير البيض، والذي اشتراه قد هلك. ولو باع زرعاً بقلاً مع الأرض، فأفلس، وقد اشتد حبُّهح: هل له الرجوع في الزرع؟ فقد قيل: فيه وجهان؛ كالحبِّ ينبت، والصحيح: أنه يرجع فيه؛ لأنه عين ماله. ولو اشترى عصيراً، فتخمَّر، ثم تحلل، وأفلس بالثمن-: أخذه البائع، ولا شيء له. قال الشيخ الإمام: ويحتمل غيره. فصلٌ في زيادة المبيع إذا زاد المبيع في يد المشتري بإحداث فعل فيه- لا يخلو: إما إن دخل عليه شيء آخر، أو لم يدخل: فإن دخل بأن كان ثوباً، فصبغه المشتري بصبغ من عند نفسه، أو السويق إذا لتَّه بشيرج من عنده، ثم أفلس بالثمن- نُظر: إن لم تزد قيمته بالصبغ؛ بأن كانت قيمته عشرة، وبعد الصبغ- أيضاً- عشرة- أخذه البائع. وكذلك إذا انتقصت قيمته عن عشرة-: أخذه ولا شيء له ولا عليه، وإن زادت قيمته-: فله ثلاثة أحوال: إحداهما: ألا تزيد قيمته على قيمة الثوب والصِّبغ، ولا ينقص، مثل: إن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ خمسة، وقيمته بعد الصِّبغ خمسة عشر-: فللبائع فسخ البيع في الثوب، والغرماء شركاء معه بسبب الصبغ، فيباع بخمسة عشر، عشر منها: للبائع، وخمسة: للغرماء، وللبائع أن يمسكه، ويرد خمسة، وفي كيفية تنزيل هذه الشركة وجهان: أحدهما: ثلثا الثوب، وثلثا الصبغ للبائع، وثلثهما للمشتري؛ لأن مال كل واحد لا يتميز من الآخر؛ فصارا شريكين فيه؛ كالزيت يخلطه. والثاني: جميع الثوب للبائع، وجميع الصبغ للمشتري كالأرض يغرسها.

الحالة الثانية: أن تنقص القيمة بأن كانت قيمته بعد الصبغ ثلاثة عشر، فالنقصان يجعل من الصبغ؛ لأنه مستهلك في الثوب، والثوب قائم، فباع الثوب بثلاثة عشر: عشرة منها للبائع، وثلاثة للغرماء. الحالة الثالثة: أن تزيد القيمة، فتصير عشرين، فما زاد بعمله على قيمة الثوب والصبغ عين أم أثرٌ؟ فيه قولان؛ كالنقصان: إن قلنا: عينٌ-: فنصف الثوب للبائع، ونصفه للمشتري والغرماء. وإن قلنا: عمله أثرٌ-: فالثلثان للبائع، والثلث للمشتري. فلو ارتفع السوق أو غُبِن إنسان، فبيع الثوب منه بثلاثين: فإن قلنا: عمله عينٌ فخمسة عشر منها للبائع، والباقي للغرماء؛ لأن ما زاد بسبب الصبغ كعين مال المشتري، وكان الثوب بينهما نصفان، وقد ربح عليه عشرةً؛ فيكون بينهما. وإن قلنا: عمله أثرٌ-: فالكل بينهما أثلاث. وإن اشترى ثوباً بعشر وصبغاً من آخر بخمسة، فصبغه به، ثم أفلس، ثم فسخ البائعان البيع-: فهما شريكان فيه؛ كما ذكرنا في البائع والمشتري، إذا صبغ ثوبه؛ فإن كانت قيمته خمسة عشر-: فالثلثان لبائع الثوب، والثلث لبائع الصبغ، وإن كانت قيمته بعد الصبغ ثلاثة عشر-: فقد وجد بائع الثوب عين ماله، وبائع الصبغ بعض ماله؛ فكان لبائع الثوب عشرة، ولبائع الصبغ ثلاثة، وإن كانت قيمته بعد الصبغ أحد عشر-: فهو بين بائع الثوب وبائع الصبغ: عشرة لبائع الثوب، ودرهم لبائع الصبغ. وإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرين: فعلى ما ذكرنا: إن قلنا: عمله كالعين-: كانت الزيادة للمفلس: عشرة لبائع الثوب، وخمسة لبائع الصبغ، وخمسة للمفلس والغرماء، وإن قلنا: عمله أثرٌ-: فالثوب بين البائعين أثلاثاً: فالثلثان لبائع الثوب، والثلث لبائع الصبغ. ولو اشترى ثوباً بعشرة، واشترى من آخر صبغاً بدرهم، واستأجر أجيراً بدرهم حتى صبغه: فإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرة-: أخذه بائع الثوب، وبائع الصبغ مع الأجير- يضاربان الغرماء، وإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرة-: أخذه بائع الثوب، وبائع الصبغ مع الأجير يضاربان الغرماء، وإن كانت قيمته بثمنه-: لا شيء له في الثوب. وإن كانت قيمته بعد الصبغ خمسة عشر: إن قلنا: فعل الأجير عين-: فالأجير يكون شريكاً مع البائعين؛ يباع الثوب بخمسة عشر: عشرة لبائع الثوب، ودرهم لبائع الصبغ، ودرهم للأجير، وثلاثة للغرماء.

وإن قلنا: فعل الأجير أثرٌ-: لا شركة له فيه، بل يكون بين البائعين: يباعُ؛ فيجعل الثمن بينهما على أحد عشر سهماً: عشرة لبائع الثوب، وسهم لبائع الصبغ. ولو اشترى صبغاً، وصبغ به ثوباً لنفسه، ثم أفلس-: فللبائع الرجوع في عين ماله من الصبغ، ويكون شريكاً مع المشتري؛ كما ذكرنا في البائعين، فإن كان فيه نقصٌ-: فالنقصان يكون من الصبغ؛ حتى لو لم يزد قيمته على قيمة الثوب-: فالصبغ مستهلك؛ فبائعه يضارب الغرماء، ولا شركة له في الثوب. أما إذا أحدث المشتري به فعلاً-: لم يدخل عليه شيئاً آخر، مثل: إن اشترى ثوباً، فقصره، أو خاطه بخيط من ذلك الثوب، أو اشترى حنطة فطحنها، أو دقيقاً فخبزه، أو شاة فذبحها، أو جلداً فدبغه، أو لحماً فشواه، أو طبخه، أو عبداً فعلمه القرآن أو الحرفة، أو الشِّعر المباح، أو الكتابة، أو دابة فراضها، أو أرضاً فضرب من تربتها لبناً أو بنى فيها من تربتها، ثم أفلس بالثمن-: فللبائع فسخ البيع، وأخذ المبيع، وهل يكون المفلس شريكاً معه؟ فيه نظرٌ: إن لم تزد قيمته بهذه الأعمال-: لا يكون شريكاً؛ لأن عمله مستهلك لا أثر له فيه، وإن انتقصت قيمته- لا شيء للبائع عليه، وإذا أخذ العين، وإن زادت قيمته-: فهذا مبنيٌّ على أن هذه الأعمال عينٌ أم أثر؟ وفيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني-: أنها أثرٌ؛ لأنها زيادة وصف، كسمن الدابة بالعلف، وكبر الودي بالسقي. والثاني: أنها عين، وهو الذي اختاره الشافعي- رضي الله عنه- لأنها زيادة حصلت بسبب يجوز أخذ العوض عليه، فإنه يجوز الاستئجار على هذه الأعمال؟ بخلاف تسمين الدابة وتكبير الودي؛ فإنه لا يجوز الاستئجار عليها؛ لأنها تحدث لا بصنع منه؛ فإنه قد يبالغ في العلف، ولا يسمن. ومن أصحابنا من قال: تعليم القرآن والشعر والكتابة والحرفة-: لا يكون عيناً قولاً واحداً؛ لأنه ليس بيد المعلم إلا التلقين، وقد يجتهد في التلقين، ولا يتعلم، فهو كسمن الدابة، والأول أصح، وبه قال "صاحب التلخيص": أنه على قولين؛ لأن الاستئجار عليه جائز. فإن قلنا: إنها أثرٌ لا شركة للمفلس فيه؛ كالزيادة المتصلة.

وإن كان المشتري استأجر أجيراً على هذه الأعمال-: فالأجير يضارب الغرماء بأجرته. وإن قلنا: إنها عين-: فالغرماء شركاء معه: فإن شاء البائع- ردَّ ما زاد بسبب هذه الأعمال، أو تباع؛ فيكون له بقدر قيمة العين، والباقي للغرماء. فإن اشترى الثوب بعشرة، واستأجر أجيراً له بدرهم، فقصره، فصارت قيمته خمسة عشر؛ عشرة منها للبائع، ودرهم للأجير، وأربعة للغرماء. وإن كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجر أجيراً بخمسة، فقصره، فصارت قيمته أحد عشر: إن لم يختر الأجير فسخ الإجارة-: تباع بإحدى عشرة: عشرة للبائع، ودرهم للغرماء، والأجير يضارب الغرماء بخمسة، وإن اختار الفسخ-: فعشرة للبائع، ودرهم للأجير، ويضارب الغرماء بأربعة. فإن قيل: إذا جعلتم فعل الأجير عيناً، وزادت بفعله خمسة، وأجرته درهم-: وجب أن تكون جميع الزيادة له، وإن كانت أجرته خمسة، ولم يزد إلا درهم-: ألا يكون له إلا درهم-: قلنا: وإن جعلناه عيناً-: فليس له ذلك بحقيقة عين؛ بل فيه معنى الأثر، فنعتبرهما، فنجعل الزيادة الحاصلة بعمله كالمرهون في حقه بأجرته، فإن كان قيمة عمله أكثر-: ليس له إلا قدر أجرته، وإن كان أقل-: فبالزيادة يحاص الغرماء. فصلٌ [فيما إذا كان المبيع من ذوات الأمثال] إذا كان المبيع من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه كالحبوب والأدهان يخلطها بجنسه- نظر: إن خلطه بمثله أو بأردأ؛ بأن اشترى صاع حنطة قيمته درهمان، فخلطه بصاع قيمته [درهم]، فخلطه بمكيلة قيمته درهم، ثم أفلس-: فقد وجد البائع عين ماله: فإن شاء أخذ منه مكيلته، وإن شاء ضارب الغرماء بالثمن، وإذا أخذ مكيلته فلا يرجع بأرش النقصان؛ إذا كان خلطه بأردأ؛ لأن المشتري لم يكن متعدياً بالخلط بخلاف ما لو غصب زيتاً، فخلطه بأردأ-: أخذ المالك مكيله وأرش النقصان؛ لأن الغاصب كان متعدياً بالخلط. وقال أبو إسحاق: إذا خلط بأردأ، وأبى البائع أن يأخذ مكيلة زيته ناقصاً-: فيباع الزيتان، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما؛ فالثلثان للبائع، والثلث للمفلس؛ لأنه إذا أخذ مثل زيته بالكيل-: كان أنقص من حقه، وإن كان أخذ أكثر من زيته-: كان ربا كمن باع صاعاً من زيت بأكثر، والأول المذهب: أنه يأخذ مكيلته ناقصاً إن شاء، أو يترك كما لو حدث بالمبيع عيب عند المشتري.

أما إذا خلطه بأجود بأن اشترى مكيلة زيت، قيمته درهم، فخلطه بمكيلة قيمته درهمان-: فهل له أن يفسخ العقد، ويرجع في عين ماله؟ فيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني-: له أن يفسخ العقد، ويكون شريكاً مع الغرماء بقدر قيمة زيته؛ كما لو خلطه بمثله، وكالثوب صبغه. والثاني: لا فسخ له؛ بل يضارب الغرماء بالثمن؛ لأنه لا يمكن أخذ ماله إلا زائداً، وليس كالثوب يصبغه، والسويق يلته؛ لأن الثوب بعينه موجود؛ وكذلك السويق، إلا أن صفته تغير اتصال غيره به، وههنا: عين ماله كالفائت بالخلط، وخرج قول من ههنا إلى ما لو خلط بأردأ أنه لا فسخ له، وليس بصحيح. فإن قلنا: له أن يفسخ، فيرجع في عين ماله-: ففي كيفيته قولان: أصحهما: أنه يباع الزيتان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما؛ فيكون الثلث للبائع، والثلثان للمفلس والغرماء. والثاني- حكاه البويطي-: أنه يأخذه من هذا الزيت بقيمة مكيلته؛ فيأخذ ثلثي مكيلة، وهذا غير صحيح؛ لأنه يصير كأنه باع مكيلة زيت بثلثي مكيلة. أما إذا خلط المبيع بجنس آخر؛ بأن خلط الزيت بألبان-: فهو كما لو تلف المبيع؛ فلا فسخ له، بل يضارب الغرماء. ولو اشترى زيتاً، فأغلاه، فذهب ثلثه بالإغلاء، ثم أفلس البائع-: إن اختار الفسخ أخذه بثلثي الثمن، وضارب الغرماء بالثلث؛ لأنه نقصان، سواء كانت قيمته زائدة على الثلثين أو ناقصة. ولو اشترى عصيراً، فأغلاه، فذهب ثلثه، ولم ينتقص قيمته-: فمن أصحابنا من قال: هو كالزيت: للبائع أن يأخذ الباقي بثلثي الثمن، ويضارب بالثلث الغرماء. ومنهم من قال: إذا لم تنتقص قيمته-: يأخذ البائع، ولا شيء له؛ لأن الذاهب من العصير ماء، ولا قيمة له؛ بخلاف الزيت؛ فإن الذاهب منه زيت متقوم. فصلٌ [في بيان إجارة المفلس] إذا أجر أرضاً أو شيئاً آخر من إنسان، ثم أفلس المكتري بالأجرة-: يجوز للآجر فسخ الإجارة؛ لأن المنافع في الإجارة كالعين في المبيع، ثم إذا أفلس المشتري بالثمن، والمبيع قائم-: ثبت للبائع الفسخ؛ وكذلك: إذا أفلس المكتري، والمنافع باقية-: كان للآجر الفسخ.

وإذا أفلس، وقد مضى بعض المدة في المدة الباقية فلا يفسخ في المدة الماضية؛ لأنها كالتالفة، ويضارب الغرماء بما يقابل المدة الماضية من الأجر المسمى، كما لو باع عبدين، فتلف أحدهما، ثم أفلس-: فإنه يضارب بثمن ما تلف، ويفسخ فيما بقي-: فإن فسخ الإجارة، والأرض مشغولة بزرع المكتري-: فإن قلع المفلس والغرماء الزرع- أخذ الأجراء الأرض؛ فإن لم يقلعوا ليس للآجر قلعه، بل يتركه إلى أوان الحصاد بأجر المثل. ويقدم حقه في أجر المثل على الغرماء؛ لأن تحصيل مال المفلس كأجرة الدلال والكيال في بيع ماله: فإن لم يقدموا حقه له قلعه مجاناً، وكذلك: لو اكترى دابة، فأفلس المكتري في خلال الطريق، وفسخ المكري الإجارة-: ليس له ترك متاعه في المفازة؛ بل يحمله إلى موضع الأمن بكراء المثل، ويقدم فيه حقه على الغرماء، ويستحق لما مضى قبل الفسخ بقدر من المسمى، ويضارب الغرماء، وإن أراد بعض الغرماء قطع الزرع قبل أوان الحصاد تعجيلاً لحقوقهم، وأراد بعضهم التبقية-: يقدم قول من يريد القطع إلا أن يكون له قيمة فلا يقطع، فإن كان الأجر لم يأخذ أجره المدة الماضية-: فهو كواحد من الغرماء-: له أن يقطع الزرع-: إن كانت له قيمة، ولا يؤخره إلى الإدراك، فإن اتفقوا على ترك الزرع إلى الحصاد، أو ترك الثمرة إلى الجذاذ-: تكون مؤنة السقي في مال المفلس، فإن تطوع به، وأخذ من الغرماء-: لم يرجع عليه بشيء، وإن لم يتطوع، فطلب الأجرة-: يقدم حقه على سائر الغرماء، وإن اتفقوا جميعاً فهم سواء، ولو أفلس المستأجر، والأرض فارغة-: لم يفسخ الأجير الإجارة، بل يؤاجرها الحاكم على المفلس، والآجر يضارب الغرماء بأجرته. ولو أسلم في شيء، ثم أفلس المسلم إليه-: فللمسلم فسخ العقد، إن كان رأس ماله قائماً، ويأخذه، وإن كان تالفاً-: فلا فسخ له، ويضارب الغرماء بالمسلم فيه، فإن لم يكن في ماله من جنس المسلم فيه كما يخصه من مال المفلس-: يشتري به المسلم فيه، وإن كان المسلم فيه منقطعاً، ورأس ماله تالف، وقلنا بالانقطاع-: لا ينفسخ العقد، فأفلس المسلم إليه، هل للمسلم فسخ العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا فسخ له؛ لأنه يحتاج في الحالين إلى مضاربة الغرماء: إن فسخ فبرأس المال، وإن لم يفسخ فبالمسلم فيه. والثاني: له الفسخ؛ لأن له فيه فائدة، وهو أن ما يخصه من مال المفلس يسلم إليه من جهة رأس المال؛ فإن لم يفسخ لا يسلم إليه؛ بل يوقف ليشتري به المسلم فيه. فلو قسم مال المفلس، وأفرد نصيبه، ثم هاج بالمسلم فيه-: رخص بحيث يوجد بما خصه جميع المسلم فيه؛ ليشتري ويسلم غليه، وإن كان توفير حقه دون سائر الغرماء؛ لأن الاعتبار بيوم القسمة، وإن تلف المقرر باسمه-: كان من ضمان المفلس، وحق المسلم في

ذمته لا يرجع على الغرماء بشيء. فصلٌ [في بيان الديون التي على المفلس] إذا سأل الغرماء الحجر على المديون-: نظر: إن كانت الديون مؤجلة، أو بعضها حالة والبعض مؤجل، وماله يفي بديونه الحالة-: لا يحجر عليه، وإن كان ماله لا يفي بديونه الحالة يحجر عليه، وإذا حجر عليه، هل تحل ديونه المؤجلة؟ فيه قولان: أحدهما: يحل؛ لأن بالحجر يتعلق حق الغرماء بعين ماله؛ فيحل الأجل به، كما لو مات المديون. والثاني- وهو اختيار المزني-: لا يحل؛ لأن الذمة قائمة، وبالموت خربت الذمة؛ فحل الأجل. فإن قلنا: تحل الديون المؤجلة، فيقسم ماله على جميع غرمائه. ومن باع منه شيئاً بثمن مؤجل، والمبيع قائم عنده-: فله أن يفسخ البيع، ويأخذ عين ماله. وإن قلنا: لا تحل الديون المؤجلة-: يصرف ماله إلى ديونه الحالة. ومن باع شيئاً بثمن مؤجل، والمبيع قائم، هل يصرف ذلك في ديونه الحالة؟ فيه وجهان: أصحهما: يصرف؛ كسائر الأموال. والثاني: لا يصرف؛ لأنه كالمرهون في حق بائعه، فيوقف، حتى يحل الأجل، فيأخذه إن شاء. فصلٌ في تصرف المفلس تصرف المفلس نافذٌ قبل الحجر؛ كتصرف من لا دين عليه، أما بعد الحجر فوصيته وتدبيره جائز؛ فإن فضل ماله عن الدين-: ينفذ؛ لأن كل واحد منهما تصرف بعد الموت-: لا ينفذ إلا في الفاضل عن الدين، وهما يقبلان الغرر والخطر، وكذلك خلعه جائز؛ لأن له أن يطلق مجاناً. أما إذا باع المفلس شيئاً بعد الحجر، أو وهب، أو أعتق عبداً، أو كاتبه، فهل يصح؟ فيه قولان: أصحهما-: وهو اختيار المزني-: لا يصح؛ لتعلق حق الغرماء بماله؛ كما لا يجوز

بيع المرهون؛ لتعلق حق المرتهن به، ولأنه محجور عليه كالسفيه. والثاني: يكون تصرفه موقوفاً، فإن أفتك الحجر عنه، وفضل ذلك عن الغرماء-: بان أنه كان صحيحاً، وإن لم يفضل كان مفسوخاً؛ فعلى هذا: يؤخر بيع هذه الأعيان عن سائر الأموال، ويبدأ بنقض الأضعف عن هذه التصرفات. فإن كان قد باع عيناً، ووهب أخرى، وأعتق عبداً-: يبدأ بنقض الهبة؛ لأنها أضعف، فإنه لا عوض فيها، ثم ينقض البيع؛ لأنه يقبل الفسخ، ثم بالعتق؛ لأنه أقوى هذه التصرفات. ومن أصحابنا من قال: القولان في تصرفه، إذا لم يجعل القاضي ماله لغرمائه، أما إذا حجر عليه، وجعل ماله لغرمائه، فحيث وجده فلا ينفذ تصرفه قولاً واحداً؛ لأن فيه إبطال ما فعله القاضي؛ فقد قال الشافعي- رضي الله عنه- إذا جعل ماله لغرمائه-: لا زكاة عليه. ومن أصحابنا من قال: ما دام ملكه باقياً، ففي نفوذ تصرفه قولان. وتجب الزكاة على أظهر القولين، و"حيث يوجب الزكاة" أراد: إذا باع ماله من غرمائه، وكان معلوماً حينئذ-: لا ينفذ تصرفه، ولا زكاة عليه. أما إذا اشترى المفلس شيئاً في الذمة أو قبل السلام-: يجوز؛ لأنه يكون في ذمته إلى قضاء الديون؛ فليس له أن يقضيه ما في يده من المال، ثم إذا أراد بيع ما اشتراه في الذمة-: منع منه؛ كما لو احتطب أو احتش، فأراد بيعه: فلو باعه فعلى القولين. وقال "صاحب التلخيص": و [لا] يجوز بيع المفلس، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون محجوراً عليه في دين رجل، فباع ماله بجميع ذلك الدين فيه؛ ليبرأ ذمته-: فيجوز، فمن أصحابنا من وافقه، وقال: لأن الحجر عليه لدينه خاصة؛ فجاز بيعه منه؛ لبراءة ذمته؛ كما لو باع الرهن من المرتهن-: يجوز، وإن لم يجز من غيره. وعلى هذا: لو كان محجوراً عليه في دين جماعة، فباع ما له منهم بجميع ديونهم-: جاز، ومن أصحابنا من قال: هو كما لو باع من غيره-: لا يصح على أصح القولين، ما لم يرفع الحاكم الحجر عنه؛ لأن الحجر على المفلس لا يكون مقصوراً على حق غريم واحد، فربما يكون له غريم في الباطن-: فهو لا يُعرف؛ فلا يصح بيعه منه خاصة بخلاف الرهن؛ لأن الحق فيه خاص للمرتهن؛ بدليل: أنه لو باعه منه ههنا ببعض ذلك الدَّين أو باعه من غير غريمه بإذن غريمه-: لا يجوز، ويجوز كل ذلك في الرهن، وهذا لأن الحجر على المفلس بإذن الحاكم، فرفعه كان إليه بخلاف الرهن. ولو أجر رجل داراً، ثم أفلس، وحجر عليه-: لا يفسخ الكراء، وحق المكتري مقدم

على سائر الغرماء؛ كما لو رهن شيئاً، ثم حجر عليه: يقدم حق المرتهن. ويجوز أن يباع الدار المكتراة على المفلس مسلوب المنفعة؛ إذا جوزنا بيع المكراة؛ وكذلك: لو باع شيئاً، ثم أفلس البائع، وحجر عليه قبل تسليم المبيع-: يجب عليه تسليم المبيع، ولم يكن له الرجوع فيه، ويقبض الثمن؛ لأن البيع سبق الحجر. وإذا باع شيئاً بشرط الخيار، ثم أفلس البائع وحجر عليه، أو المشتري، أو هما في زمان الخيار وحجر عليهما-: نص على أنه يجوز لكل واحد منهما فسخ البيع وإجارته؛ لأنه ليس ببيع مستحدث، فمن أصحابنا من أجراه على ظاهره، وهو الأصح، وقال: المفلس ممنوع من إنشاء العقد، لا عن إجارة بيع الحجر. وقال أبو إسحاق: يراعى حق المفلس، إن كان الحظ له في الفسخ-: لم تجز الإجارة، وإن كان في الإجارة- لم يجز الفسخ، ومن أصحابنا من ذكر تفصيلاً، فقال: إن فعل ما فيه نظر من فسخ إجارة- جاز، وإن فعل ما لا نظر فيه- نُظر: إن منع دخول الشيء في ملكه-: جاز، وإن أخرج عن ملكه-: لم يجز. بيانه: إذا أفلس المشتري: إن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع-: يجوز للمشتري الإجارة والفسخ، وإن لم يكن له فيه نظر؛ لأنه بالإجارة يدخل الشيء في ملكه، وبالفسخ: يمنع دخول الشيء في ملكه. وإن قلنا: الملك له في زمان الخيار: فإن أجاز جاز؛ لأنه يبقى الشيء في ملكه، وإن فسخ، ونظر في الإجارة-: لم يجز؛ لأنه يخرج الشيء عن ملكه. وإن أفلس البائع-: فإن قلنا: الملك للمشتري فللبائع الفسخ والإجارة؛ لأنه بالفسخ: يدخل الشيء في ملكه، وبالإجارة: منع دخول الشيء في ملكه، وليس له الإجارة، لأنه يخرج الشيء عن ملكه. ولو وهب هبة تقتضي الثواب، وقلنا: الثواب يقدر بما يُرضي الواهب، ثم أفلس-: فله أن يرضى بما شاء؛ لأنا لو ألزمناه طلب الفضل، كنا ألزمناه بقبض المسلم فيه معيباً، ولا تغير صفته إلا بإذن الغرماء؛ لتعلق حقوقهم به. فصلٌ [في تعلق الديون بالمحجور عليه] إذا حجر الحاكم على المفلس- يتعلق بماله كل دين لزمه قبل الحجر، سواء فيه دين المعاملة أو دين الجناية والإتلاف. أما ما لزم من الديون بعد الحجر، فهل يشارك مستحقه الغرماء القيمة؟ نُظر: إن ثبت

ذلك باختيار مستحقه كالقرض وثمن المبيع-: فلا يشارك الغرماء بالقيمة بشيء أخذ منه حقه، وإن لم يفضل فحتى يجد؛ لأنه لما عامله مع علمه بإفلاسه-: فقد رضي بذمة خربة، وإن لم يعلم بإفلاسه-: فقد فرط حين دخل معاملته على غير يقين؛ فيلزمه الصبر. وإن لزم ذلك الدين بغير اختيار مستحقه بجناية أو إتلاف مال-: ففيه وجهان: الصحيح: أنه يشارك الغرماء القيمة؛ لأنه لم يكن من جهته التفريط-: فلا يلزمه أن ينتظر. وقيل: لا يشاركهم؛ لأنه وجب بعد الحجر، وتعلق حق الأولين بالمال؛ فيتأخر عن حقهم كدين المعاملة. ولو أقر المفلس بمال لإنسان- لا يخلو: إما إن أقر بدين لزم قبل الحجر أو بعده: فإن أقرَّ بدين لزم قبل الحجر، سواء كان دين معاملة أو دين جناية-: لزم الإقرار في حقه، وهل يلزم في حق الغرماء؛ حتى يزاحمهم المقر له؟ فيه قولان: أصحهما: يلزم، ويزاحمهم؛ كما لو ثبت بالبينة، وكالمريض إذا أقر بدين لإنسان: يزاحم غرماء الصحة. والثاني: لا يلزم، وهو كدين لزم بعد الحجر؛ لأنه تعلق به حق الأولين؛ كما لو رهن شيئاً، ثم أقر به لآخر: لا يقبل إلا أن تقوم- عليه بينة؛ فيلزم، وكذلك: لو أقر بعين لإنسان، فقال: هذه لفلان، غصبته منه أو أخذته منه، أو أخذته على جهة السوم، أو عارية، هل يقبل في مزاحمة الغرماء؟ فيه قولان: أحدهما: يقبل، ويسلم على المقر له. والثاني: يوقف، فإن فضل عن الغرماء يسلم إليه؛ وإلا يباع في الدين والقيمة في ذمته في دينه المقر له، أما إذا أقر بدين معاملة-: فلا يقبل في حق الغرماء؛ فكذلك: لو قامت عليه ببينة، فإن فضل عن الغرماء شيء دفع إليه، وإن أقر بدين إتلاف- ففيه وجهان: أحدهما: يتأخر كدين المعاملة. والصحيح: أنه كما لو أسند إلى ما قبل الحجر، فعلى القولين. ولو ادعى رجل على المفلس مالاً لزمه قبل الحجر، فأنكر، ولم يحلف، وحلف المدعي- ثبت المال، وهل يشارك الغرماء القيمة أم لا؟ إن قلنا: النكول وردُّ اليمين كالبينة- شاركهم. وإن قلنا: كالإقرار- فعلى القولين. ولو أقر المفلس على نفسه بما يوجب عقوبة من قصاص أو حد- يقبل.

قال الشيخ الإمام: وإن عفى عن القصاص على مال، فهو كدين الجناية يقر به، وكذلك: لو أقر بسرقة موجبة للقطع- قُبل قوله في القطع، وهل تسلم إليه العين المسروقة؟ - فعلى القولين. ولو جنى عبد المفلس على نفسه؛ بما يوجب على إنسان-: يقدم حق المجني عليه من ثمنه، وعلى سائر الغرماء كالعبد المرهون، فإذا جنى يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن. ولو جنى على المفلس أو على عبده: فإن كانت الجناية موجبة للقصاص-: يجوز للمفلس أن يقبض من غير إذن الغرماء، وإن كانت موجبة للمال-: ليس له ولا لوارثه، إن كان يعفو عن المال دون إذن الغرماء. فصلٌ هل يحبس المحجور عليه روي عن كعب بن مالك؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجر على معاذ وباع عليه ماله". من ركبته الديون لا يحبسه الحاكم بل يأمر ببيع ماله، فإن لم يبع لا يحجر عليه؛ بل يبيع الحاكم عليه ملكه إلا أن يشاء الغرماء الحجر، حتى لا ينوي تراجع ماله، فيحجر عليه. وإذا حجر عليه يستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس حاله؛ فلا يعاملونه إلا على بصيرة. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يبيع الحاكم ماله عليه، بل يأمره بالبيع إلا الدراهم والدنانير، قال: يجوز أن يصرف أحدهما في الآخر، والحديث حُجة عليه.

وإذا أراد الحاكم بيع ماله-: يستحب أن يبيع بحضرته، أو يحضره وكيله؛ لثلاث معان: ليكون أبعد من التهمة، وليخبر بعيب إن كان به حتى لا يرد، وليخبر بما اشترى؛ فيكون المشتري أشد رغبة في شرائه، وكذلك في بيع الرهن، ويقدم بيع المرهون في حق المرتهن وبيع العبد الجاني في حق المجني عليه؛ لتعجيل حق المرتهن والمجني عليه من ثمنه، فإن فضل من شيء ضم الفضل إلى سائر أمواله لسائر الغرماء، وإن بقي من دين المرتهن شيء تحاص الغرماء فيه، هذا إذا رهن وسلم قبل الحجر. أما إذا رهن بعد الحجر، أو رهن قبل الحجر، وسلم بعده-: لم يصح، ويكون جميع الغرماء فيه سواء، ويبدأ ببيع ما يخاف عليه الفساد من ماله من طعام رطب وشواء ونحوه، ثم يبيع الحيوان؛ لأنه يحتاج إلى النفقة، ويخشى عليه الهلاك، ويؤخر بيع العقار والمساكن؛ فإنه لا يخشى عليه الهلاك والسرقة. ويباع كل شيء في سوقه؛ لأن كل شيء يطلب في موضعه، ويجب أن يبيع بثمن المثل نقداً، فلو باع نسيئة: لم يصح، وإذا باع نقداً: لا يسلم المبيع قبل قبض الثمن، فإن فعل ضمن، وما حصل من أثمان ماله إلى أن يقسمه يقرضه من مليٍّ أمين، إن وجد، فإن لم يجد يقول للغرماء: ارتضوا بمن يوضع الأثمان على يديه فيمن ينادي على الأمتعة في السوق، فإن فعلوا؛ وإلا يختار الحاكم أميناً لذلك الأمر، وفي الإيداع: يشرط الأمانة، ولا يشرط الملاءة؛ بخلاف القرض: فيشرط فيه الأمانة والملاءة، ورزق المنادي والدلال من بيت المال؛ لأنه مال المصالح، وهم يقومون بمصالح المسلمين، فإن لم يكن في بيت المال مال، فمن مال المفلس؛ وكذلك: أجرة الكيال والوزان والحمال وكراء البيت الذي يوضع فيه مال المفلس مقدماً على سائر الغرماء؛ لأنه لتحصيل مال المفلس لحق الغرماء، فلو لم يقدر لم يرغب أحد في تحمل تلك المؤن، وإن وجد الحاكم من يتطوع بشيء من ذلك لم يجز إعطاء الأجرة، وما تلف من ثمن متاع في يد الأمين-: فهو في ضمان المفلس، سواء تلف في حياة المفلس أو بعد موته. وعند أبي حنيفة: إن تلف بعد موته-: فمن ضمان الغرماء. وإذا باع الحاكم ماله في حياته وبعد موته، وأخذ الثمن، وتلف، ثم خرج المبيع مستحقاً-: يرجع المشتري بالثمن في مال المفلس، ولا يكون الحاكم طريقاً فيه، ولو نصب الحاكم أميناً يبيعه، ثم خرج مستحقاً بعد تلف الثمن، هل يكون الأمين طريقاً في الضمان؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا يكون طريقاً كالحاكم. والثاني: يكون طريقاً؛ كالوصي أو الوكيل بالبيع: يكون طريقاً في وجوب الضمان في مال الصبي والموكل، ثم المشتري إذا رجع في مال المسلم أو الأمين: إذا جعلناه طريقاً وأخذ منه، هل يقدم حقه على سائر الغرماء؟ فيه قولان: قال في رواية المزني: يقدم؛ لأنه مؤنة تحصيل ماله كأجرة الدلال والكيال. وقال في رواية الربيع: يضارب الغرماء؛ لأنه دين كسائر الديون. ويباع على المفلس جميع أمواله حتى الخادم والمسكن الذي يحتاج إليه، وإن كان زمناً، ثم يسكن الرباط والمساجد، وعلى الناس كفايته بخلاف الكفارة لا يباع فيها الخادم والمسكن الذي يحتاج إليه؛ لأنها حق الله تعالى تجري فيه المسامحة، ولأن لها بدلاً، وهو الصوم. ولا يجب قسمة كل قليل من الأثمان يحصل حتى يجتمع الكل، ويعرف الحاكم عدد الغرماء، ثم يقسمها، ويقف نصيب من كان منهم غائباً، وإن لم يفرغ من بيع ماله، إن لم يكن له كسب-: يجب أن ينفق عليه، وعلى عياله كفايتهم، وينفق على قريبه الذي يلزمه نفقته؛ لأنه موسر ما لم يزل ملكه إلى الغرماء؛ فيجب عليه نفقة القريب. وإذا قسم ماله، يترك له قوت يوم وليلة له ولعياله، ويُترك له ثوب يليق بحاله من قميص وسراويل ومنديل ومُكعَّب، إن كان في الشتاء فجبة معها ولعياله مثلها، وإن كان ذا مروءة يتعمم ويتطلس ويتخفف: يترك له ذلك، وإن كان يلبس غوالي الثياب فوق عادة أمثاله-: لا يترك ذلك، بل يترك ما يليق بحال أمثاله، وإن كان يقتر على نفسه، فيلبس دون عادة أمثاله-: فلا يزاد له عليه بعد الحجر. ويباع عليه مركوبه، وإن كان ذا مروءة بخلاف ثياب البدن، ولا يترك له مضرَّبة ولا مقرمة. وإذا قسم مال المفلس بين الغرماء، وقضى دينه، هل يزول الحجر عنه؟ فيه وجهان:

أحدهما: يزول؛ لأن الحجر عليه لحفظ المال على الغرماء، وقد قال ذلك المعنى كالمجنون إذا أفاق. والثاني: لا يزول حتى يفتك الحاكم الحجر؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم؛ فلا يزول إلا به كالحجر على المبذر. وإذا قسم مال المفلس، ثم ظهر غريم آخر يشاركهم بالحصة؛ مثل إن كان له غريمان، دين كل واحد ألف، ومال المفلس ألف-: أخذ كل واحد خمسمائة، ثم ظهر غريم ثالث دينه ألف-: يأخذ من كل واحد ثلث ما أخذ. وإن كان واحد منهما أتلف ما أخذه، فإن كان موسراً، أخذ منه ثلثه، وإن كان معسراً-: فالغريم الذي ظهر له أن يأخذ من الأجرة نصف ما أخذ لأنهما في الاستحقاق سواء، فما تلف يكون من حقهما جميعاً؛ كما لو تلف بعض مال المفلس قبل القسمة، ثم إذا أيسر الذي تلف عنده، فيترك له حصير، وإذا مات المفلس-: يكفَّن من رأس ماله، وهل يكفن في ثلاثة أثواب، أم يكتفي بثوب واحد؟ فيه وجهان، وكذلك: حنوطه ومؤنة غسله ودفنه: يكون من رأس ماله بالمعروف، وكذلك: من مات من عبيده وأم ولده، وكذلك: كفن زوجته ومؤنة دفنها، إن أوجبنا على الزوج. وإذا لم يكن للمفلس مال-: لا يؤمر بالاكتساب لأجل الغرماء، ولا يؤاجر نفسه، ويؤاجر عبيده، وهل يؤاجر أمَّ ولده، في الدار الموقوفة عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يؤاجر؛ كما يؤاجر عبده القن. والثاني: لا يؤاجر؛ لأنه لا يقبل البيع؛ كما لا يؤاجر نفسه. وقال عمر بن عبد العزيز، وأحمد، وإسحاق: يؤاجر نفس المفلس. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان كسوباً يؤمر بالكسب-: أخذ منه ثلث ما أخذ، وكان بينهما. أما إذا ظهر غريم ثالث، وظهر للمفلس مال قديم أو حادث-: يدفع إلى الغريم الثالث من المال الذي ظهر بقدر ما أخذ الأولان، ثم الباقي يجعل بينهم أثلاثاً، ولو كان الغريم الذي ظهر حدث بعد الحجر-: فلا يشارك الأولين حتى لو ظهر مال قديم، وغريم حادث بعد الحجر-: صرف المال القديم إلى الغرماء القديمة، فإن كان الغريم حادثاً، والمال- أيضاً- حادث-: حصل باحتطاب أو احتشاش بعد الحجر، قال الشيخ- رحمه الله-: أو استدانة لوجود ركاز-: صرف ذلك إلى الغرماء القديمة والحادثة جميعاً. وإذا أكرى رجل داره من رجل سنة، وقبض الأجرة، وتصرف فيها، ثم أفلس، وحجر

عليه، ثم انهدمت الدار في أثناء المدة-: فالمكتري يرجع على المفلس بأجرة ما بقي، وهل يشارك الغرماء- نُظر، إن انهدمت قبل قسمة المال بين الغرماء-: يشاركهم فيه، وإن انهدمت بعد قسمة المال، هل يشاركهم فيما اقتسموا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه دين-: وجب بعد القسمة؛ كما لو استقرض مالاً بعد القسمة. والثاني: يشاركهم وهو الأصح؛ لأنه دين وجب بسبب يستند على ما قبل الحجر، وهو الإجارة؛ فصار كما لو انهدمت الدار قبل القسمة، وليس كالقرض؛ لأنه لا مستند بثبوته إلى ما قبل الحجر؛ بدليل أن المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة، والمكتري يشاركهم قبل القسمة، ويشاركهم بعدها. فصلٌ في بيان دعوى الورثة إذا مات رجل، وعليه دين، فادعى وارثه من جهته على إنسان ديناً، وأقام شاهداً، وحلف معه-: ثبت الدين؛ ولو لم يحلف، هل للغريم أن يحلف؟ فيه قولان: قال في الجديد- وهو الأصح-: لا يحلف؛ لأن للغريم حقاً في مال هو ثابت للميت، فأما أن يثبت له مالاً بيمينه فلا؛ كما لو أوصى له بشيء، فمات قبل القبول، ولم يقبل وارثه: لا يصح قبول الغريم. وفي القديم: له أن يحلف؛ لأن له حقاً في تركته كالوارث، وكذلك: لو لم يكن للوارث شاهداً، ونكل المدعى عليه عن اليمين، ولم يحلف الوارث، هل للغريم- أن يدعي؟ فعلى هذا الاختلاف: فإن قلنا: يحلف الغريم لا يحلف إلا على قدر حقه. أما المفلس إذا ادعى ديناً على إنسان، وأقام شاهداً، ولم يحلف، ونكل المدعى عليه، ولم يحلف المفلس يمين الرد-: فهل للغريم أن يحلف؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان، كما في غرماء الميت، ومنهم من قال: غريم المفلس لا يحلف قولاً واحداً؛ لأن الحق ثبت للمفلس، فامتناعه عن اليمين يورث ريبة في ثبوته؛ فلم يكن للغريم أن يحلف، وفي غريم الميت: ثبت الحق للميت، فهو لم يمتنع عن اليمين، والغريم والوارث سواء في الإطلاع عليه، فلما جاز للوارث أن يحلف- جاز للغريم، لأنهم غرماء الميت. باب حبس المفلس قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].

من ركبته الديون، وله مال-: يأمره الحاكم ببيع ماله، فإن لم يفعل-: باع عليه الحاكم، فإن كتم ماله-: حبسه وعزره؛ حتى يُظهر ماله، ولصاحب الحق ملازمته.

قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لي الواجد يُحل عرضه وعقوبته" قوله: "عِرضه" يعني: يقول له: يا ظالم، يا مانع الحق، ونحوه، وأراد بالعقوبة: الحبس. فإن ادعى تلف ماله، لم يقبل إلا ببينة، إن لم يصدقه الغرماء، ولا يحلف مع البينة، ولا يشترط أن تكون البينة من أهل الخبرة الباطنة؛ لأن هلاك المال يكون ظاهراً يطلع عليه، وإن لم يكن له بينة له تحليف الغرماء؛ لأنهم لا يعلمون تلف ماله. وإن ادعى الإعسار- نُظر: إن لزمه ذلك الدين يعوض من ابتياع أو استقراض-: لا

يقبل قوله إلا ببينة تقوم على هلاكه، فإن لم يكن له بينة-: له تحليف الغرماء؛ أنهم لا يعلمون تلف ماله. وإن ادعى الإعسار- نُظر: إن لزمه ذلك الدين بعوض من ابتياع أو استقراض-: لا يقبل قوله، إلا ببينة تقوم على هلاكه، فإن لم يكن له بينة-: له تحليف الغرماء؛ أنهم لا يعلمون إعساره، وإن لزمه بغير عوض من ضمان أو أرش جناية أو صداق امرأة-: يقبل قوله؛ أنه معسر، ويحلف عليه، فإن كانت البينة على إعساره-: تسمع. ويشترط أن تكون البينة من أهل الخبرة الباطنة؛ لأنه قد يكون له مال في الباطن ولا يعرف حاله إلا أهل الخبرة: يشهدون أنه معسر لا يملك إلا ثياب بدنه وقوت يومه، ولا يشترط أن يقولوا: هو من أهل الصدقة، ولو قالوا، لا يضر. وقال مالك- رحمة الله عليه-: لا تسمع الشهادة على الإعسار؛ لأنه شهادة على النفي. قلنا: الشهادة على النفي، إنما لا تسمع إذا لم يغلب على الظن صدق الشهود، فإن غلب يسمع؛ كما إذا شهد أنه وارث فلان لا يعرف له وارثاً سواه، فإذا أقام البينة على الإعسار، هل يحلف مع البينة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحلف وجوباً بعد إقامة البينة؛ كما إذا ادعى ملكاً، وأقام بينة: لا يحلف معها، ولو حلف احتياطاً استحساناً-: يجوز، إذا قال صاحب الحق: إنه يعلم إعساري. والثاني- وهو الأصح-: يحلف؛ لأنه يجوز أن يكون له مال في الباطن لا يطلع عليه الشهود، فإن لم يكن له بينة، ولم يحلف على إعساره أو أقام بينة، وقلنا: يحلف معها وجوباً، فلم يحلف-: حُبِس. وإن قلنا: لا يحلف مع البينة، أو قلنا: يحلف فحلف-: يخلَّى سبيله، وإذا خلينا سبيله-: لم يكن للغرماء ملازمته؛ لأنه لا يعامله الناس مع ملازمته الغرماء-: فلا يحصل له ما يؤدي ديونه. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: للغرماء ملازمته. وعنه رواية أخرى: أنه بعدما أقام البينة على الإعسار أو هلاك المال-: يحبس شهراً. ومنهم من يقول: يحبس حتى يضجر، فيظهر مالاً إن كان له، والله يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ أمر بإنظار المعسر؛ فدل أنه لا يجوز ملازمته ولا حبسه. وعندنا: إذا لم تقم البينة على إعساره، وحلف الغرماء أنهم لا يعلمون إعساره،

وحبسناه-: فلا غاية لحبسه أكثر من انكشاف حاله عند الحاكم، ولا يغفل عن المساءلة عن حاله في الحبس، فادعى بعد الحبس أنه قد صح عند الغرماء إعساري-: له تحليفه ثانياً، وثالثاً، هكذا حتى يمضي زمان، وإذا خلَّى سبيله، هل ينفك الحجر عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينفكُّ عنه؛ لأنه كان سبب المال، وظهر أن لا مال له. والثاني: لا ينفك حتى يرفعه الحاكم الذي حجر عليه، فإذا قلنا: ينفك إذا استفاد مالاً له أن يتصرف ما لم يحدث الحاكم عليه حجراً. فإن قلنا: لا ينفك- فليس له أن يتصرف بما يستفيد، فلو ادعى الغرماء بعدما خلى سبيله: أنه قد استفاد مالاً- سُئل-: فإن أنكر، فالقول قوله مع يمينه، وعلى الغرماء إقامة البينة. ولو شهد شاهدان؛ أنا رأينا في يده مالاً يتصرف فيه-: أخذ ذلك الغرماء، وإن أقر بأنهم رأوا مالاً في يده أو شهد عليه الشهود، فقال: إنه لفلان أخذته مضاربة أو ادعيته-: كان لفلان إذا ادعاه، ولا حق للغرماء فيه، وإن أنكر فلان: أن يكون له-: صرف إلى الغرماء، وإن قال: هو لفلان الغائب-: وقف حتى يحضر فلان، فإن ادعاه له؛ وإلا صُرف إلى الغرماء، وهل يحبس الأبوان بدين الولد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يحبسان بشيء من ديون الولد؛ نفقة كانت أو غيرها؛ لأن الحبس عقوبة، ولا يتعاقب الوالد بالولد. والثاني: يحبس؛ لأنه يجب عليه الأداء، ويؤمر أن يعمل، ويكتسب نفقته. وقال أبو حنيفة: لا يحبس إلا في نفقة الولد، إن كان صغيراً أو زمناً. فصلٌ في سفر المديون إذا أراد المديون السفر- نظر: إن كان الدَّين حالاً- فلرب الدَّين منعه حتى يقضي الدين، وإن كان الدين مؤجلاً- نظر: إن كان السفر مخوفاً- لم يكن له منعه، ولا مطالبته برهن ولا كفيل، وإن لم يكن بقي من الأجل إلا قليل، ويتحقق انقضاؤه قبل عوده؛ لأنه ضيَّع حظ نفسه، حيث أجَّل، ولم يشترط رهناً ولا كفيلاً. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان يعلم حلول الأجل قبل رجوعه- له منعه حتى يعطيه كفيلاً، وإن كان السفر مخوفاً من جهاد أو ركوب بخر، فهل لرب الدَّين منعه؟ فيه وجهان: أصحهما: ليس له منعه؛ لأنه لا يملك المطالبة به في الحال. والثاني: له منعه؛ لأن الغالب من أمر هذا السفر الهلاك؛ فيضيع حق صاحب الحق. وقيل: في السفر المخوف: إن لم يخلف وفاء- له منعه، وإن نخلف- فوجهان.

كتاب الحجر

كتابُ الحجر قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وقال جل ذكره: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].

فالسفيه: المبذِّر، والضعيف: الصبي، والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ: هو المغلوب على عقله. والحجر نوعان: حجرٌ على إنسان لحق نفسه، وحجرٌ عليه لحق غيره. فالحجر لحق الغير خمسة: حجر المفلس لحق الغرماء، وحجر المريض لحق الورثة، والحجر على الراهن لحق المرتهن، وعلى العبد لحق المولى، وعلى المكاتب لحق الله- تعالى- وحق المولى. وكل هذه الأنواع خاصة تكون في بعض الأشياء دون البعض؛ فإن إقرار هؤلاء بما يوجب العقوبة صحيح، ويصح منهم النكاح والطلاق، والمفلس يشتري والمريض يبيع ويشتري بثمن المثل، وينفذ تبرعه في الثلث، والراهن يتصرف في عين المرهون. وأما الحجر لحق نفسه فثلاثة: حجر السفيه، وحجر الصبي، وحجر المجنون:

فحجر السفيه خاص، وحجر الصبي والمجنون عام، وفكاك حجر المفلس يكون بقسمة ماله على الغرماء، وفكاك الحجر عن الراهن بقضاء دين المرتهن، وفكاك الحجر عن العبد والمكاتب بالعتق، وفكاك الحجر عن السفيه بإيناس الرشد وإطلاق القاضي، وعن المجنون بالإفاقة، وعن الصبي بالبلوغ.

والبلوغ يحصل بأربعة أشياء: اثنان يشترك فيهما الرجل والمرأة؛ وهو: السن، والإنزال بالاحتلام أو غيره.

واثنان تختص بهما المرأة، وهو: الحيض، والحبل. أما السن: هو أن يستكمل خمسة عشر سنة قمرية؛ لما روي عن ابن عمر قال: "عرضت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في جيش، وأنا ابن أربع عشرة سنة؟ فلم يقبلني"، ويُروى: "لم يرني"، و"عُرضت عليه من قابل في جيش، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فقبلني"، ويُروى: "ورآني بلغت". و [هل] يحكم بالبلوغ بالطعن في الخامس عشر فيه؟ وجهان: أصحهما: لا يحكم حتى يستكملها أو يطعن في السادس عشر. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: سن بلوغ الغلام ثماني عشرة سنة، وسن بلوغ الجارية سبع عشرة سنة، والحديث حجة عليه. وأما الإنزال: فهو إنزال المَنِيِّ: فمتى وُجد من الرجل أو المرأة بتسع-: يحكم ببلوغه؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَاذِنُوا} [النور: 59]، ولا يكون ذلك قبل استكمال تسع سنين. أما الحيض: فهو بلوغٌ؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تُقبل صلاة حائض إلا بخمار"؛ فدل

أنها تصير بالحيض من أهل وجوب الصلاة عليها، وإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين-: يحكم ببلوغها، فإن رأت الدم قبله-: لا يكون حيضاً، وقيل: إذا رأت الدم قريباً من التسع-: فهو حيض، والتسع للتقريب لا للتحديد: فإن قلنا بالأول: فلو رأت الدم قبل تسع سنين، وامتد حتى زاد على تسع سنين، ولم يزد على أكثر الحيض-: اختلفوا فيه؛ منهم من قال: ما رأت قبل تمام التسع دم فسادٍ، وما رأت بعد تمامها حيضٌ، ومنهم من قال: الكل حيض؛ لاتصال بعضه بالبعض. أما الحبل: فلا يتحقق حتى تضع، فإذا وضعت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستَّة أشهر وشيء؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، هذا إذا كانت ذات زوج، فإن كانت مطلقة، وأتت بولد يلحق الزوج، ويحكم ببلوغها قبل الطلاق، حتى لو أتت به لدون أربع سنين من وقت الطلاق-: يحكم بالبلوغ قبيل الطلاق. والإنبات بلوغ في المشركين، وهو نبات الشعر الخشن حول الفَرْج، لا الزَّغب والشعر الضعيف. والدليل عليه: ما روي عن عطية القرظي، قال: "عُرضنا على النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة؛ فكان من أنبت قُتل، ومن لم يُنبت خُلِّي سبيله، وكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي". ثم الإنبات في الكفار حقيقة بلوغ أم أمارة البلوغ؟ فيه قولان:

إن قلنا: هو حقيقة بلوغ فيهم- فيكون بلوغاً في المسلمين. وإن قلنا: أمارة بلوغ فيهم، فهل يكون في المسلمين أمارة بلوغ؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون أمارة؛ كما في حق الكفار؛ لأن الإشكال حق نفع في حق المسلمين؛ كالنفع في حق الكفار. والثاني- وهو ظاهر النص-: لا يكون أمارة في حق المسلمين؛ لأن المسلمين يمكن الوقوف على معرفة بلوغهم بالسن بالرجوع إلى آبائهم المسلمين، وفي الكفار: لا يقبل فيه قول الكفار. وعند أبي حنيفة: الإنبات يكون بلوغاً في المسلمين وفي الكفار، ونبات شعر الإبط قريب من نبات شعر العانة. أما نبات الشارب: فلا يحكم به، وكذلك: ثقلُ تراجع الصوت، ولغة نتوء طرف الحُلقوم، ونهود الثديين، وانفراق الأرنبة: لا يحكم بشيء منها. أما الخنثى المُشكل: إن أمنى من الذكر والفَرج-: حكم ببلوغه؛ لأنه إن كان رجلاً فهو أمنى من الذكر، وإن كانت أنثى فقد أمنت من الفرج، ولو أمنى من الذكر دون الفرج، أو من الفرج دون الذكر-: لا نحكم ببلوغه؛ لاحتمال أن يحيض من الفرج، وكذلك: لو حاض من الفرج، ولم يُمن من الذكر، أو أمنى وحاض من الفرج-: لا نحكم ببلوغه، ولو أمنى من الذكر، وحاض من الفرج-: نحكم ببلوغه؛ لأنه إن كان رجلاً فقد أمنى من الذكر، وإن كانت امرأة فقد حاضت من الفرج. وإذا بلغ الصبي لا يزال الحجر عنه، ولا يُدفع إليه ماله، حتى يختبر، فإن كان رشيداً- فُكَّ الحجر عنه، ودُفع المال إليه، ولا يُستدام الحجر عليه. قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. والاختبار: يختلف باختلاف أحوال الناس، وإن كان الصبي من أبناء التُّجار فيختبر في أمر البيع والشراء، وإن كان من أولاد الزراعيين ففي الزراعة والإنفاق على الأجراء والعبيد، وإن كان محترفاً ففي أمر تلك الحرفة، وإن كانت امرأة ففي أمر البيت وحفظ الأقمشة، ولا يحصل ذلك بمرة واحدة، بل مرتين فأكثر؛ لأن المرة الواحدة قد توافق الصواب، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يُصان عن السوق والاختلاط مع الناس؛ فاختباره أقرب ممن اعتاده، واختلفوا في وقت الاختبار، منهم من قال: بعد البلوغ؛ لأن المقصود منه نفود

تصرفه، ولا يصح تصرفه قبل البلوغ؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى ....} الآية [النساء: 6]، واليتيم اسم لمن لم يبلغ، والولي يدفع إليه شيئاً يسيراً من المال، وينظر إليه في مساومته ومماكسته، وإذا آل الأمر إلى البيع عقده الولي، ولا يدفع المال إليه، ولا يصح تصرفها إلا بعد اجتماع أمرين: البلوغ، والرشد، وإذا اجتمعا دفع المال إليه، رجلاً كان أو امرأة، نكحت أو لم تنكح. وعند مالك- رحمة الله عليه-: إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها حتى تنكح، فإذا نكحت دفع المال إليها، ولكن لا ينفد تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تصر عجوزاً. والرشد: هو أن يكون مصلحاً في دينه وماله؛ فالصلاح في الدين ألا يرتكب من المعاصي ما تردُّ به شهادته، والصلاح في المال: ألا يكون مبذراً، والتبذير: أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنياوية، ولا مثوبة أخروية؛ مثل: أن ينفق في أنواع الفسق، أو يرمي في البحر، أو يغبن في البيع غبناً فاحشاً، نحو ذلك، فإن كان ينفق ماله في وجوه الخير؛ من الصدقة، وضيافة أهل الخير، وبناء المساجد-: فلا يكون مبذراً، وكذلك: إذا كان تصرفه في مباح بأن يشتري الجواري، وينكح أربع نسوة، ويلبس اللَّيِّن، ويأكل الطيب؛ لأن المال معد لهذه الوجوه، فإن بلغ مفسداً في دينه مفسداً لماله-: لا يزول الحجر عنه، ولا يُدفع المال إليه، ولا ينفذ تصرفه.

وقال أبو حنيفة -رحمة الله عليه-: إن كان مصلحاً لماله يسلم إليه، وإن كان مفسداً في دينه، فإن كان مفسداً في المال لا يسلم إليه حق يبلغ خمساً وعشرين سنة. قلنا: الله- جل ذكره- علق دفع المال إليه بالبلوغ، وإيناس الرشد، ولم يفصل بين من يبلغ خمساً وعشرين وبين من لم يبلغ. وإذا بلغ رشيداً، ودُفع المال إليه، ثم صار مبذراً في ماله-: يعاد الحجر عليه. وإن صار مفسداً في دينه، هل يعاد؟ فيه وجهان: أصحهما: يعادُ؛ كما يستدام في الابتداء. والثاني: لا يعاد بخلاف الابتداء؛ لأن الأصل هناك الحجر، وههنا زواله. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا بلغ رشيداً، ثم عاد سفيهاً-: لا يحجر عليه.

ومثل قولنا يُروى عن عثمان وعلي والزبير- رضي الله عنهم- وذلك ما روي أن عبد الله بن جعفر اشترى سبخة بثلاثين ألفاً، فبلغ علياً- رضي الله عنه- فعزم أني سأل عثمان أن يحجر عليه؛ فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير، فذكر أن علياً- رضي الله عنه- يُريد أن يسأل عثمان- رضي الله عنه- أن يحجر عليه، فقال الزبير- رضي الله عنه-: أنا شريكك، فجاء علي إلى عثمان- رضي الله عنهما- فسأله أن يحجر عليه، فقال: كيف أحجر على من كان شريكه الزبير؟! وجه الدليل، منه: أنهم اتفقوا على جواز الحجر على المبذر. وإذا بلغ الصبي غير رشيد-: يستديم الحجر عليه من كان ولياً له في الصغر من أب، أو جد، أو وصي أو قيم، وإن لم يكن له قيم فلا يزول الحجر عنه، والحاكم يستديم. وإذا بلغ الصبي رشيداً، هل يزول الحجر عنه؟ فيه وجهان: قال ابن سُريج: يزول؛ كالمجنون، إذا أفاق: يزول الحجر عنه بالإفاقة. والثاني- وهو الأصح-: لا يزول حتى يرفع الحجر عنه. ثم إن كان له أب أو جد: يرفع الحجر عنه؛ كما يستديم إذا لم يكن رشيداً، وهل يرفعه الوصي والقيم؟ فيه وجهان: أحدهما: يرفعان، كالأب والجد. والثاني: لا يرفعان؛ لأنهما يليان بالتفويض، وإنما فوض غليهما الحفظ والتصرُّف؛ لإزالة الحجر، بل يزيله الحاكم. فإن قلنا: لا يزول عنه الحجر- فقبل أن يرفع الحجر عنه: حكم تصرفاته حكم تصرفات المحجور عليه بالسفه. أما إذا بلغ الصبي رشيداً، أو زال الحجر عنه، ثم عاد سفيهاً-: فقد قيل: يصير محجوراً عليه بنفس السفه وليس بصحيح. والصحيح: أنه لا يعود الحجر حتى يحجر عليه الحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، ولا يحصل من الأب والقيم؛ بدليل أن علياً- رضي الله عنه- أتى عثمان- رضي الله عنه- وسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر، وإذا عاد بعده رشيداً-: لا يزول الحجر عنه ما لم يرفعه الحاكم؛ لأن الحجر كان منه، ولا يرفعه الأب والجد.

وإذا جنَّ الرجل-: يصير محجوراً عليه بنفس الجنون. وإذا بلغ الصبي مجنوناً-: فأمره إلى من كان يلي أمره في الصغر من أب، أو جد، أو قيم، وإن بلغ عاقلاً، ثم جُن، وله أب أو جد-: فالصحيح من المذهب: أن أمره إلى الأب والجد دون الحاكم؛ كمن بلغ مجنوناً. وقيل: أمره إلى الحاكم؛ لأن ولاية الأب قد زالت بالبلوغ، فلا يعود بعده كمن بلغ رشيداً، ثم عاد سفيهاً: كان أمره إلى الحاكم. فصل في تصرفات السفيه إذا حجر القاضي على رجل بالسفه-: ينبغي أن يُشهد عليه؛ حتى لا يعامله الناس، والإشهاد غير شرط لانعقاد الحجر، ولو اشترى المحجور عليه بالسفه شيئاً، سواء اشترى في الذمة أو بعين، أو باع شيئاً أو وهب أو اتهب أو أعتق، أو كاتب عبداً-: لا يصح شيء منها، ولو اشترى شيئاً، وقبضه، فتلف في يده، أو أتلفه-: لا ضمان عليه في الحال، ولا يعد فكاك الحجر عنه؛ كالصبي إذا اشترى، فهلك في يده، أو أهلكه وليه- له أن يسترد الثمن من البائع، إن كان قد قبض، وكذلك لو استقرض شيئاً، فهلك في يده: يتعلق الضمان بذمته حتى يعتق؛ لأن الحجر على العبد لحق المولى؛ فإذا زال حقه- ضمن، والحجر على السفيه لحق نفسه، فإذا لم يضمن في الحال-: لا يضمن بعده؛ كالصبي غير أن الصبي لا يكون مؤاخذاً بينه وبين الله تعالى، والسفيه: يكون مؤاخذاً؛ لأنه مُكلف. ولو اشترى السفيه بإذن الولي، أو باع، وعيَّنه الولي، هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ كالنكاح. والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ بخلاف النكاح؛ لأن المقصود من النكاح الوصلة، والمال فيه تبعٌ؛ بدليل أنه ينعقد ذلك من غير المال، والحجرُ عليه لحفظ المال دون البدن، والمقصود من البيع: المالُ؛ فلم يصح منه. ولو أتلف السفيه مالاً لإنسان، أو غصبه-: يلزمه الضمان؛ كما لو قتل إنساناً: يلزمه القصاص. ولو أودع رجل منه شيئاً، فتلف في يده-: لا ضمان عليه، ولو أتلفه: فقولان، فكذلك الصبي. أحدهما: يضمن؛ كما لو أتلف مالاً من غير إيداع. والثاني: لا يضمن؛ لأن التفريط وجد من جهة المالك؛ حيث أودعه.

ويقع طلاق السفيه، ويصح منه الخلع والمراجعة بغير إذن الولي، ويصح نكاحه بإذن الولي، ولا يصح بغير إذنه، ويصح إحرامه بالحج بغير إذن الولي، ثم إن كان حج التطوع-: للولي أن يحلله، إن كان ما يحتاج إليه للحج زيد على نفقته. ولو نذر أن يتصدق-: تعين، ولا ينعقد نذره، ولو نذر في الذمة ينعقد، ولو حلف انعقد يمينه، وإذا حنث كفَّر بالصوم، فمن حيث إنه مكلف صح يمينه، ومن حيث إنه ممنوع من التصرف في المال-: كفَّر بالصوم كالعبد. وإذا أقر لإنسان بمال-: لا يقبل إقرار؛ كالصبي سواء أقر بعين، أو بدين معاملة، أو بدين إتلاف، أو سرقة، أو جناية خطأ، أو عمد سواء أقر بدين لزمه قبل الحجر أو بعده، وإذا انفك الحجر عنه-: لا يطالب بما أقر؛ فلو ادعى عليه دين معاملة لزمه قبل الحجر، أو دين إتلاف لزمه قبل الحجر أو بعده- نُظر: إن كانت له بينة عليه-: تسمع، وإن لم تكن له بينة-: هل تسمع أم لا؟ إن قلنا: النكول وردُّ اليمين بمنزلة الإقرار-: لا تسمع، وإن قلنا: كالبينة-: تسمع. وإن ادَّعى معاملة بعد الحجر-: لا تسمع، وإن كان عليه بينة، ولو أقر على نفسه بما يوجب عقوبة من حد أو قصاص-: يقبل، ويقام عليه. ولو أقر بسرقة موجبة القطع-: يقبل قوله في القطع، وهل يقبل في المال؟ فيه قولان. ولو أقر بقصاص، فعفا على المال-: ثبت المال، ولو أقر بنسب-: يثبت النسبُ؛ لأنه ليس بمال، ثم ينفق عليه من بيت المال؛ لأنه محجورٌ عليه في المال كالعبد، والله أعلم.

كتاب الصلح

كتاب الصُلح روى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً". ويُروى هذا مرفوعاً إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-. المصالحة عن المال جائزة، إذا كان المدعى عليه مقراً، ثم لا يخلو: إما أن كان المصالح عنه عيناً أو ديناً: فإن كان عيناً- نُظر: إن كان صلح معاوضة، مثل: إن ادعى داراً، فأقر له بها فصالحه على عبد أو ثوب-: صح، وهو بيع ثبت فيه خيار المكان، وخيار الشرط، والرد بالعيب، والشفعة.

وإن كان المدعى به ديوناً، وصالحه على ما يوافقه في العلة؛ مثل: إن صالحه من الحنطة على الشعير، أو من الدراهم على الدنانير-: يشرط القبض في المجلس. وما يفسد البيع من الغرر والجهالة والشرط الفاسد-: يفسد هذا الصلح. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا كان المصالح عنه مجهولاً-: جاز الصلح. وبالاتفاق: لو كان المصالح عليه مجهولاً-: لا يصح؛ فنقيس عليه؛ لأن المصالح عنه أحد العوضين في الصلح؛ كالمصالح عليه. ولو صالحه عنه على منفعة دار، أو خدمة عبد مدة معلومة-: جاز، فكأنه استأجر الدار أو العبد بالعين التي يدعيها، وإن كان صلح حطيطة؛ مثل [أن] ادعى عليه داراً أو عيناً أخرى، فصالحه على نصفها-: صح، وجعل كأن المدعي وهب منه نصفه؛ فيشترط منه ما يشترط فيما لو وهب من رجل شيئاً، وهو في يد المتَّهب من القبول ومضيِّ إمكان القبض، وفي الإذن في القبض قولان، وهل يصح بلفظ "الصلح"؛ بأن قال: صالحتك على نصفها-، أم يشترط أن يكون لفظ صالح للتمليك؛ كالهبة، والتمليك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح إلا بلفظ صالح للتمليك؛ لأنه هبة؛ فلا يصح بلفظ الصلح. والثاني: يصح؛ لأن اللفظ موضوع له؛ كما يحصل التمليك في العُمرى بلفظ الإعمار. أما إذا كان المُصالح عنه ديناً- نُظر: إن كان صلح معاوضة، مثل: إن ادعى عليه دراهم، فصالحه على عين-: جاز، وهل يشترط قبض المعيَّن في المجلس؟ - نُظر: إن كان المصالح عنه مال الربا، وصالحه على ما يوافقه في العلة-: يشترط؛ وإلا فعلى وجهين: أحدهما: يشترط حتى لا يكون بيع دين بدين. والثاني: لا يُشترط؛ لأنه بيع عين بدين؛ كما لو باع عيناً بثمن في الذمة. ولا يشترط قبض العين في المجلس، وإن لم يكن ما صالح عليه معيناً حالة الصُّلح، هل يجوز؟ فيه وجهان:

فإن جوزنا: يشترط التعيين في المجلس، وفي القبض وجهان؛ كما ذكرنا في الاستبدال عن الدين. وإن كان صلح حطيطة؛ مثل: إن صالح عن ألف درهم على خمسمائة-: صح، ولا يشترط قبض الخمسمائة الباقية في المجلس؛ لأنه ليس بمعاوضة، وهل: يصح بلفظ الصلح؛ فيقول: صالحتك على خمسمائة؟ فيه وجهان: أصحهما: يصح. والثاني: يشترط لفظ الإبراء؛ فيقول: صالحتك على خمسمائة، وأبرأتك عن الباقي، أو يقول من عليه: ابرئني عن خمسمائة، وخذ الباقي. ولو صالح عن ألف درهم على خمسمائة معينة، هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز. وقيل: لا يجوز؛ لأنه بيع ألف بخمسمائة، وإن كان له على إنسان دينٌ، فصالحه من جنسه على أكثر؛ لم يصح، ولو صالح عن ألف صحاح على خمسمائة مكسرة-: جاز، ويسقط عنه خمسمائة، ولا يلزمه قبول المكسر في الخمسمائة الباقية، بل هو وعد إن شاء وفى به، وإن شاء لم يف. ولو صالح عن ألف مكسَّرة على خمسمائة صحاح-: لم يجز، ولا يسقط شيء؛ لأنه شرط فضل الصحة في مقابلة ما أسقط؛ وكذلك: لو صالح عن ألف حالة على خمسمائة مؤجلة: جاز، وسقطت عنه خمسمائة، ولا يلزم الأجل في الباقي. ولو صالح عن ألف مؤجلة على خمسمائة حالة-: لم يجز؛ لأنه جعل الحلول في الباقي بمقابلة ما أسقط من المال. ولو مات عن اثنين، قال أحدهما لصاحبه: تركت نصيبي من الميراث إليك، فقبل-: لم يصح؛ لأنه حق لازم لا يترك بالترك، بل إن كان عيناً لابُد من تمليك وقبول، وإن كان ديناً فمن إبراء، وكذلك: لو قال أحد الشريكين للآخر أو رب الدَّين للمدينون: تركت الدين إليك؛ لأن معناه: تركت الخصومة. ولو قال أحدهما: صالحتك من نصيبي على هذا الثوب-: صح إذا كانت التركة معلومة الجنس، والقدر، وإن كانت التركة ديناً في ذمة أحدهما، فصالحه من نصيبه على شيء-: جاز، وإن كان ديناً في ذمة أجنبي، فصالح أحدهما صاحبه من نصيبه على شيء-: لم يجز؛ لأن بيع الدين من غير من عليه-: لا يصح.

ولو مات عن اثنين، وتركته ألفا درهم ومائة دينار في ذمة أحدهما، فصالحه الآخر من نصيبه على ألفي درهم-: جاز، نص عليه، فصار مستوفياً حقه من الدراهم، ومعتاضاً عن الدنانير بالألف الثانية، ويشترط قبض الألف التي اعتاضها عن الدنانير في المجلس، ولا يشترط قبض الأخرى. وإن كان له في يد إنسان ألف درهم وخمسون ديناراً، أو مات رجل عن اثنين، وتركته ألفا درهم ومائة دينار، هي في يد أحدهما، فصالحه أخوه على ألفي درهم من نصيبه-: لم يجز؛ لأنه بيع ألف درهم وخمسين ديناراً بألفي درهم. هذا كله في الصلح على الإقرار، أما إذا ادعى على إنسان مالاً، عيناً أو ديناً، فأنكر فصالحه على شيء-: لا يصح. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يجوز؛ وقال: أجوِّز الصلح ما يكون على الإنكار. قلنا: الصلح على المال معاوضة، والمعاوضة تستدعي المال من الجانبين، ولم يوجد ههنها؛ لأن المال للمدعى عليه بحكم اليد فإذا بدَّل في مقابلته عوضاً، فكأنه يشتري مال نفسه، وذلك: لا يصح، ولا يصح الصلح عن الدعوى على شيء، لا في حال الإقرار ولا في حال الإنكار؛ لأن الدعوى لا تعتاض عنه. ولو أنكر المدعى عليه المال، ثم طلب الصلح-: لا يكون ذلك إقراراً؛ لأنه يريد بذلك قطع الخصومة، فإن قال: بعني أو هب لي، أو كانت جارية، فقال: زوجنيها-: كان إقراراً، ولو قال: آجرني، أو أعرني؟ فيه وجهان، وإن كان ديناً، فقال: أبرئني: كان إقراراً. فصلٌ [في الصلح مع الأجنبي] في الصلح مع الأجنبي- لا يخلو: إما أن يكون في حال إقرار المدعى عليه، أو في حال إنكاره: فإن كان في حال إقراره- لا يخلو: إما إن كان المدعي عيناً أو ديناً: فإن كان عيناً- جاء أجنبي إلى المدعي، فقال: فلان مقر أن لك في يده داراً غير أنه لا يظهره؛ مخافة ألا تصالحه، فأمرني أن أصالحك على نصفه، أو على هذا الثوب، والثوب ملكه، فصالحه عليه-: صح الصلح.

ولو قال: أمرني أن أصالحك على هذا الثوب، والثوب ملكي-: فهو كما لو قال: اشتريت ثوب فلان بعبدك لي، وفيه وجهان: أحدهما: لا يصح. والثاني: يصح، ويكون ما يعطي قرضاً على المدعى عليه أم هبة؟ فيه وجهان: ولو قال: وكلني أن أصالحك على عشرة دراهم: إن قال: في ذمته، فصالح عليه-: صح، والمدعي يطالب المدعى عليه بالعشرة، وإن قال: على عشرة في ذمتي-: فهو كما لو قال: اشتريت ثوباً بعبدك لي، وإن صالح عن المدعى عليه بغير إذنه-: لا يجوز؛ لأنه يبتاع له مالاً بغير إذنه. ولو قال: صالحني على ثوبي هذا، وعليَّ عشرة في ذمتي لا يملكه، فصالحه-: جاز؛ كما لو باعه منه، وإن كان المدعى ديناً، فجاء أجنبي، فقال: فلان يقر أن لك عليه ديناً، فوكلني أن أصالحك على نصفه، أو على هذا الثوب، والثوب ملكه، فصالحه-: صح. ولو قال: على ثوبي هذا-: فيه وجهان: أحدهما: يصح، ويسقط الدين عن المدعى عليه؛ كما لو ضمن دين إنسان، وأدى عنه عوضاً: جاز. والثاني: لا يصح؛ لأنه يبيع شيئاً بدين على الغير بخلاف الضمان، فإن تم ثبت الدَّين في ذمة الضامن؛ فيجوز إن ترك عنه عوضاً. فلو قال: صالحني على الألف التي لك على فلان على خمسمائة-: يصح، سواء قال: بإذنه أو بغير إذنه؛ لأن قضاء دين الغير بغير إذنه-: يجوز. ولو قال: صالحني عن الدَّين الذي لك على فلان على ثوبي هذا لآخذه، أو على عشرة في ذمتي لأحد: لا يجوز، لأنه بيع الدَّين من غير من عليه الدين. أما إذا كان المدعى عليه منكراً فجاء أجنبي، وقال: فلان منكر أن لك في يده شيئاً، أو في ذمته ديناً، وأنا لا أعلم أيضاً صدقك، فصالحني على هذا الثوب-: لم يصح؛ سواء كان الثوب للأجنبي أو للمدعى عليه؛ كما لو صالح مع المدعى عليه، وهو منكر. ولو قال: فلان منكر أن لك في يده عيناً، وأنا أعلم صدقك، فصالحني على ثوبي هذا، أو على عشرة في ذمتي لآخذها منه-: فهو كبيع المغصوب من غير الغاصب، إن كان الأجنبي قادراً على أخذه منه-: وإلا فلا يصح، وفي الدين هذا لا يصح؛ لأنه منع الدين من غير من عليه الدين.

ولو قال: فلان منكرٌ، وأنا أعلم صدقك، فصالحني على ثوبي هذا؛ لتنقطع الخصومة بينكما-: هل يصح أم لا؟ - نُظر: إن كان المدعى عيناً؟ - فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن المدعى عليه منكر. والثاني: يصح، وعليه نص؛ لأن الصلح يجري بين المدعي والأجنبي، والأجنبي مقر له بما يدعيه. وإن كان المدعى ديناً- قيل: فيه وجهان؛ كالعين، والمذهب: أنه يصح قولاً واحداً؛ فالنص محمول عليه؛ بخلاف العين؛ لأنه لا يقدر على أن يملِّك الغير عيناً بغير إذنه، ويملك قضاء دينه بغير إذنه، ثم لا يرجع على المدعى عليه بشيء؛ لأنه تبرع بالأداء عنه؛ وعلى هذا: لو مات رجل، وخلف عدة من الورثة، فجاء رجل وادعى داراً من التركة: أن الميت غصبها منه؛ فإن أقرُّوا وصالحوه على شيء-: يجوز. ولو دفعوا ثوباً مشتركاً بينهم إلى واحد منهم ليصالحه عليه-: جاز. ولو قال: صالحه عنا على ثوبك، ففعل- نُظر: إن لم يسمهم في الصلح له-: أخذ جميع الدار، وإن سماهم-: هل يلغي التسمية؟ فيه وجهان: إن قلنا: يلغي- ففيه وجهان: أحدهما: وقع الصلح للعاقد في كله. والثاني: يبطل في نصيب الشركاء، وهل يبطل في نصيبه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. فإن قلنا: لا يلغي التسمية- صح الصلح لهم، ويكون الثوب للذي أعطى هبة لهم، أم يكون قرضاً عليهم؟ فعلى وجهين. وإن جاء واحد منهم، فصالحه على ثوب دون إذن الباقين، وهم مقرون- نُظر: إن صالحه ليملك جميع الدار-: جاز، وإن صالح لتكون الدار له ولأصحابه-: تلغو تسمية الأصحاب ثمَّ، وفيه وجهان: أحدهما: صح الصلح له. والثاني: بطل في نصيب أصحابه، وفي نصيبه قولان؛ بناءً على تفريق الصفقة. ولو أسلم كافر مع ثمان نسوة، ومات قبل أربع منهن-: توقف الميراث بينهن. ولو صالح بعضهن عن حصتها على عوض، أو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ومات قبل البيان-: توقف الميراث بينهما. ولو صالح إحداهما عن حقها على شيء-: لم يجز؛ لأنها تصالح عن شيء لم يثبت لها.

فلو ادعى زرعاً مثلاً على رجل، فأقر، فصالحه على شيء-: لما جاز من غير شرط القطع؛ كما لو باع نصف الزرع البقل مشاعاً-: لا يجوز؛ لأن بيع الزرع البقل-: لا يجوز إلا بشرط القطع، ولا يمكن قطع نصفه إلا بقطع كله. ولو ادعى داراً على رجل، فأقر، فصالحه على عبد، فخرج العبد مستحقاً، وردَّه بعيب، أو هلك قبل القبض-: أخذ الدار، وإن وجد به عيباً بعدما هلك أو تعيب في يده-: أخذ من الدار بقدر ما انتقص بقيمة العبد؛ كما لو باع الدار بعبد. ولو صالحه عن الدار على خدمة عبد بعينه سنة-: يكون كما لو استأجر العبد بعين الدار. ولو مات العبد في خلال المدة-: انفسخ العقد في المدة الباقية، والمذهب: أنه لا يفسخ في المدة الماضية، وسلم للمدعى عليه من الدار بقدر ما يقابل المدة الماضية. ولو صالحه عن الدار على أن يسكنها سنة-: فتصير كأن المدعي أعار الدار من المدعى عليه سنة؛ فلا يلزم: متى شاء رجع. ولو صالحه على أن يسكنها سنة على خدمة عبد-: جاز؛ فهو كما لو أجر داره سنة بمنفعة عبد: ثبت فيه ما يثبت في الإجارات. فصلُ في بيان شروع الأجنحة وغيرها في الطريق إذا أشرع جناحاً من ملكه إلى هواء الطريق أو بنى شيئاً ساباطاً- لا يخلو: إما إن كان الطريق نافذاً أو غير نافذٍ: فإن كان نافذاً- نُظر. إن كان يضرُّ بالمارة-: يمنع منه، وينقض عليه، وإن كان لا يضر-: لا يعترض عليه، ويرجع في الضرر إلى حال الطريق، فإن كان الطريق ضيقاً لا تمر فيه القوافل، ولا يجوز فيه الفوارس-: ينبغي أن يكون الجناح بحيث يمر الماضي فيه منتصباً؛ لأن الضرر يزول به. وإن كان الطريق يمر فيه القوافل، ويجوز فيه الفوارس-: ينبغي أن يكون عالياً بحيث يمر العماري على الجمل تحته، ويمر الراكب منتصباً. وقال أبو عبيد بن حربويه: ينبغي أن يكون ممراً لراكب، ورمحه منصوب تحته؛ لأنه ربما يزدحم الفارسان، فيحتاج إلى نصب الرمح. والأول المذهب؛ لأنه يلزم أن يخففوا أرماحهم؛ فيضعوا أطرافها على الأكتاف.

وإن بنى وصالحه الإمام على شيء-: لا يجوز؛ لأن إفراد الهواء بالعقد-: لا يجوز، ولأنه إن كان مضراً بالمارة فيمنع لضرر الناس، ولا يباح بالعوض؛ كالبناء في الطريق والقعود في المضيق، وإن كان لا يضر بالمارة-: فذلك حق له؛ فلا يجوز أخذ العوض عليه؛ كالمرور في الطريق. وإن كان الطريق غير نافذ-: فكل من داره أسفل منه-: له أن يمنعه عن ذلك، سواء تضرر به أو لم يتضرر، ولأن له شريكاً في هواء ذلك الطريق، وهل لمن داره فوقه أن يمنعه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له منعه، لأنه لا حق له فيه. والثاني: له منعه؛ لأن الشركة مشتركة بين جميع أهلها بدليل أنهم لو اقتسموها وبنوا فيها-: يجوز، فلو صالحه أهل السكة على شيء-: لم يجز، وكذلك: لو أخرج جناحاً إلى دار جاره بغير إذنه-: كان له منعه، فإن أراد أن يصالحه على شيء-: لم يجز- لأنه صلح على مجرد الهواء. ولو نصب دكة على باب داره في طريق نافذ، أو غرس شجرة إن ضر بالمارة- منع؛ وإلا فلا يمنع. ولو غرس غيره شجرة في فناء داره-: لا منع لصاحب الدار؛ لأنه ممر عامة المسلمين إلا أن يضر بالمارة؛ فيمنع. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا اعتبار بالضرر، بل إن خاصمه إنسان-: نزع، ضر أو لم يضر، وإن لم ينازع- ترك. ولو أشرع جناحاً في سكة نافذة، ثم رفعه، فبادر، فأخرج جناحاً منع من إعادة الجناح الأول-: جاز؛ لأن الأول ثبت له الارتفاع بالسبق، فإذا رفع: جاز لغيره أن يرتفق؛ كما لو قعد في طريق واسع، ثم انتقل جاز لغيره القعود فيه. ولو كان باب داره في سكة غير نافذة، وفتح باباً آخر فيها- نُظر: إن فتح فوقه- جاز، ولا يمنع، لأنه يبخص بحقه بنقصان الممر، وإن فتح أسفل منه: فلمن هو أسفل منه أن يمنعه، وهل لمن فوقه منعه؟ فيه وجهان.

وكذلك: لو حوَّل الميزاب إلى الأعلى-: لم يمنع وإلى الأسفل-: فوجهان: ولو كان ظهر داره يلي سكة غير نافذة، فأراد أن يفتح باباً-: لم يكن له ذلك إلا بإذن جميع السكة، سواءٌ فيه من هو أسفل منه أو فوقه؛ لأن من هو أسفل منه-: يتضرر بالمرور عليه، ومن فوقه: يتضرر بمروره عليه؛ وإنما يشترط في هذه المواضع إذن من باب داره في هذه السكة، أما من يلي ظهر داره هذه السكة-: فلا يشترط إذنه. ولو أراد من ظهر داره إليها فتح كوة فيها-: لا يمنع؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه. ولو رفع الجدار-: لم يمنع، إلا إذا أراد الاستطراق؛ فيمنع، ولو فتح باباً، فقال: لا أريد أن أجعله طريقاً؛ بل أقفله وأسمره هل يمنع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يمنع؛ لأنه لما جاز له رفع الجدار، ففتح الباب دونه-: فأولى أن يجوز. والثاني: يمنع؛ لأن الباب دليل الاستطراق. ولو أراد فتح باب في سكة نافذة-: جاز؛ لأنه له حق الاستطراق في الشارع لو كانت له داران باب كل واحدة في سكة أخرى غير نافذة، وظهر إحداهما يلي الأخرى، ففتح بينهما باباً، ورفع الجدار بينهما؛ ليتسع داره-: لا يمنع؛ لأنه يتصرف في ملكه، ولو أراد سد أحد البابين- ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يزيد في الممر في أحد السكتين. والثاني- وهو الأصح-: يجوز: لأنه يتصرف في ملكه، ويبخس بحقه، وكذلك: لو كانت إحدى الدارين إجارة، ففعل بإذن الآجر، أما إذا كان مسيل ماء كل دار في سكة أخرى، فأراد جمعهما في سكة واحدة غير نافذة-: يمنع منه، ولو اجتمع أهل سكة غير نافذة، فسدوا بابها-: جاز لهم ذلك، ولو امتنع واحد منهم-: لم يكن للباقين سد بابها. ولو اتفقوا وسدوا بابها، ثم أراد واحد منهم أن يفتحه-: لم يكن له ذلك إلا بإذن الباقين، فكما لا يجوز في الابتداء السداد إلا بالاتفاق، فإذا اتفقوا وسدوا-: لا يجوز الفتح إلا بالاتفاق، ولو اتفقوا أو اقتسموا صحن السكة بينهم-: جاز، ولو أراد أهل أعلى السكة [أن يقتسموا أعلاها]-: لم يكن لهم ذلك؛ لأن أهل أسفل السكة يتضررون به، ولو أراد

أهل أسفلها، هل يجوز لأهل الأعلى منعهم؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس لهم ذلك؛ لأنهم لا يتضررون به؛ فإنه ليس لهم حق المرور فيه. والثاني: لهم ذلك؛ لأن صحن السكة لجميعهم، فإذا بنى رجل بيتاً، واحتاج إلى وضع الجذع على جدار الجار، أو على جدار مشترك بينه وبين غيره، ولم يأذن الجارُ-: هل يجبر؟ فيه قولان: قال في "القديم": يُجبر عليه؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله، لأرمين بها بين أكتافكم". وفي الجديد: لا يُجبر عليه، والحديث محمول على الاستحباب؛ لما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"، ولأنه لا ينتفع بملك الغير من غير ضرورة؛ فلا يجوز إلا بإذنه؛ كالبناء في أرض الغير، والحمل على دابة الغير: لا يجوز إلا بإذنه.

وإن قلنا: يجبر: إنما يجبر إذا كان صاحبه لا يحتاج إليه، وكان صاحب الجذع يحتاج إليه؛ بأن كان ثلاث حوائط له، وحائط للجار، فإن كان حائطان للجار-: لا يجبر عليه؛ وكذلك: إذا أراد أن يحمل عليه خشباً ثقيلاً لا يحتمله الجدار، أو يبني عليه أزجاً-: لا يجبر عليه. فإن قلنا: يُجبر، فصالحه عليه على مالٍ-: لم يجز؛ لأن من وجب له حق لا يؤخذ منه عليه عوض.

فإن قلنا: لا يجبر-: يجوز، وإذا عمل رجل ساباطاً، فأراد وضع الجذوع على جدار الجار، فصالحه على شيء، أو باع رأس جداره؛ ليبني عليه-: جاز. ويجب أن يبين طول ما يبيعه وعرضه، ويبين ما يضع عليه من الجذوع، إن كانت حاضرة: نُظر إليها، وإن كانت غائبة: وصفها، وذكر سُمك البناء، فإن انهدم الجدار، وبناه مالكه ثانياً-: له أن يعيد عليه ذلك الجذع أو جذعاً في ثقله؛ وإن أجر رأس جداره للبناء عليه-: يجوز، ويجب أن يبين الموضع، وما يضع عليه والمدة والأجرة، فإذا مضت المدة قلعها، فإذا انهدم الدار، هل يجبر على بنائه؟ نظر: إن كان قد أجر، فقد انفسخ العقد، وإن كان باع فهل يجبر على البناء؟ فيه قولان، سيأتي، إن شاء الله تعالى. ولو أعار رأس جداره؛ ليضع عليه خشبة أو يبني عليه-: جاز، ويجب أن يبين [له] ما يضع عليه؛ كما ذكرنا؛ بخلاف ما لو أعار أرضاً للبناء-: لا يجب بيان آلات البناء؛ لأن الجدار لا يحتمل ما يحمل عليه، والأرض تحتمل، ثم قبل البناء: يجوز للمعير أن يرجع، وبعد البناء: لم يجز له قلعه مجاناً؛ بل يتخير بين أن يقرَّه بالأجرة، أو يقلعه ويضمن أرش النقصان؛ كما لو أعار أرضاً للبناء؛ غير أن في الأرض لمالك الأرض: أن يتملك البناء بالقيمة، وليس ذلك لمالك الجدار؛ لأن الأرض أصل؛ فجاز تملك البناء؛ تبعاً لها، والجدار تبعٌ؛ فلا يتملك البناء تبعاً له. وقيل: في الجدار: ليس له طلب الأجرة، ولا القلع بأرش النقصان؛ كما لو أعار أرضاً، ليدفن فيها ميتاً، فدفن-: لم يملك نبشه ولا طلب الأجرة. ولو أنا لمستعير رفع الجذوع-: لم يكن له إعادتها إلا بإذن جديد. ولو سقط البناء، هل للمستعير إعادتها، إن كان عينها، أو إعادة مثلها إن كانت موصوفة بغير إذن جديد؟ فيه وجهان: الأصح: ليس له إعادتها إلا بإذن جديد. أما إذا كان قد غير الجذوع؛ فأراد إعادة غيره-: لا يجوز، ولو سقط الجدار، فبناه مالكه- نظر: إن بناه بغير تلك الآلة-: لم يجز للمستعير إعادة بنائه؛ إلا بإذن جديد، وإن بناه بتلك الآلة-: ففيه وجهان: الأصح: ليس له ذلك إلا بإذن جديد؛ لأن الإذن الأول لم يتناول إلا مرة واحدة.

أما إذا وجدت جذوع على حائط، ولم يعرف سببها، فتلفت وسقطت-: جاز إعادة مثلها؛ لأن الظاهر أنها بحق ثابت. ولو ادعى بيتاً على رجل، فأقر، فصالحه على أن يبني على سطحه-: جاز، وصار كأنه أعاره سطح بيته للبناء: يجب أن يبين ما يضع عليه؛ وكذلك: لو باع أو وهب سطح بيته للبناء: يجوز، ويجب أن يبين ما يضع عليه، وإذا أجر بين المدة؛ كما ذكرنا في رأس الجدار. وعند أبي حنيفة، والمزني- رحمة الله عليهما-: لا يجوز بيع سطح البيت؛ كما لو أشرع جناحاً، فصالحه على شيء: لا يجوز. قلنا: الجناح في الهواء غير مستند إلى قرار بخلاف السطح، ولو ادعى بيتاً، فأقر له بسفله دون علوه، فصالحه على أن يبني على سطحه-: جاز بعد أن يبين ما يضع عليه؛ فكأنه يباع السفل بحق البناء على العلو، وإن كان في ملكه شجرة، فاستعلت، وخرجت أغصانها إلى هواء دار الجار-: فللجار مطالبته بإزالتها، فإن لم يفعل: فله تحويلها عن داره، فإن لم يمكن تحويلها: له أن يقطعها. ولو أوقد ناراً تحتها، فاحترقت-: لا شيء عليه، وإن لم يجبر المالك. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: ليس له قطعها، ولكن يوقد تحتها ناراً حتى تحترق الأغصان، فلو صالح الجار مالك الشجرة على شيء؛ حتى تبقى الأغصان- نظر: إن لم تكن الأغصان مستندة على جدار-: لم يجز؛ لأنه صالح على مجرد الهواء، وإن كانت مستندة- نظر: إن كانت رطبة-: لم يجز؛ لأنها تزداد، ولا يقف ضرره على موضع واحد. وإن كانت يابسة: يجوز؛ كما لو صالحه على وضع خشبة على جداره، ولو طال عرق شجره، فدخل دار الجار-: فهو كانتشار الأغصان. ولو باع رجل مسيل ماء في أرضه: جاز، ويجب بيان الطول في العرض، ولا يجب بيان العمق؛ لأنه يملكه إلى أسفل الأرضين. وقيل: يجب؛ لأنه يملك حق إجراء الماء على السطح، وإن أجر-: يجب بيان الطول والعرض والعمق والمدة، وإن أعار: لا يجب البيان؛ لأن له الرجوع متى شاء؛ بخلاف رأس الجدار؛ لأنه لا يحتمل ما يحمل؛ وكذلك: لو كان له على رجل دينٌ،

وصالحه منه على أن يجعل له مسيل ماء في أرضه-: يجوز بعد البيان؛ كما يجوز البيع والإجارة، وفي هذا الموضع: لا يجوز له دخول أرضه دون إذنه، إلا أن يريد تنقية النهر، ثم عليه إخراج ما يخرجه من النهر عن أرضه. ولو أجر مسيل ماء المطر على سطحه، أو باعه، أو أعاره-: جاز بعد البيان، ويجب أن يبين السطوح التي يسيل ماؤها عليه؛ لأن السطح لا يحتمل كل ما يجري عليه بخلاف الأرض؛ فإذا بين، ثم بنى المشتري، أو المستأجر سطحاً آخر يريد إجراء مائه عليه-: لم يجز. ولو أن البائع أو الآجر بنى على سطحه بناء منع الماء-: فللمشتري والمستأجر نقب بنائه، وإجراء الماء فيه، وإن كان عارية-: فهو رجوع، وإذا اشترى أو استأجر مسيل ماء-: لم يكن له إلقاء الثلج فيه، ولا أن يترك الثلج على سطحه حتى يذوب، فيسيل الماء عليه، ولو استأجر ملقى الثلج-: لم يكن له إسالة الماء فيه. فصلٌ [في دعوى الدار] إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، فأقر لأحدهما بنصفها-: هل يكون الآخر شريكاً معه؟ نُظر: إن ادعى أنا وثناها-: يكون الآخر معه شريكاً فيه، وإن قالا: ابتعناها، أو اتهبناها، وقبضناها- نُظر: إن قالا: ابتعنا أو اتهبنا وقبضنا معاً-: يكون الآخر شريكاً فيه، وإن لم يقولا: "معاً" لا يكون شريكاً فيه، وكذلك: لو قالا: هذه الدار لنا أو بيننا، فأقر لأحدهما بنصفه-: لا يكون الآخر شريكاً معه؛ كما لو ادعى كل واحد نصفها؛ فحيث قلنا: يون الآخر شريكاً: فلو صالح المقر له عن ذلك النصف على شيء بغير إذن الآخر-: لا يصح في نصيب شريكه، وفي نصيبه قولان. أما إذا أقر لأحدهما بجميع الدار- نُظر: إن وجد من المقر له قول يدل على كون الدار بينهما؛ بأن قال: هذه الدار لنا، أو بيننا، أو ابتعناها، أو اتهبناها وقبضناها، سواء قال: "معاً" أو لم يقل-: يكون نصفه لصاحبه، وإن لم يوجد منه قول يدل على كونها بينهما-: لا يكون الآخر شريكاً [له] معه، ودعواه النصف محمول على أحد معنيين: إما إن خاف إنكار المدعى عليه، لو ادعى جميعاً، أو كانت له بينة على نصفها، فأراد إثباته بالبينة، ثم يدعي الباقي.

فصلٌ [في التنازع في الجدار] إذا تنازع رجلان في جدار بين ملكيهما- نُظر: إن كان متصلاً ببنائهما، أو منفصلاً عن بنائهما-: حلف كل واحد منهما، ويكون الجدار بينهما إلا أن يقيم أحدهما بينة؛ فيكون له، ولا يرجح بأن يكون جانب أحدهما منقوشاً أو أرصاف اللبن الصحيح من جانبه، أو بأحدهما في جانبه طاق أو بيت حمام، وإن كان الجدار من جص-: فلا يرجح بأن يكون معاقد القمط من جانب أحدهما. وعند مالك- رحمة الله عليه-: يرجح بهذه الأشياء، وكذلك: لو كان لأحدهما عليه جذوع: لا يرجح بها، سواء كانت مسطحة أو لم تكن؛ لأنه يمكن إحداثها بعد بناء الجدار. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إن كانت الجدار مسطحة يرجح بها، وإن كان لأحدهما عليه أزج- نُظر: إن أمكن إحداثه بعد كمال البناء-: لا يرجح به كالجذوع، وإن بنى من أصل الجدار مائلاً بحيث لا يمكن إحداثه بعد البناء؛ يرجح جانبه، وللآخر تحليفه، وكذلك: إذا كان الجدار متصلاً ببناء أحدهما بأن دخل رصف من اللبن من جداره في المختلف فيه، ووصف من المختلف فيه في جداره-: يرجح جانبه؛ فكل موضع جعلناه مشتركاً بينهما-: لا يجوز لأحدهما أن يفتح فيه كوة، ولا أن يتد فيه وتداً، ولا أن يبني عليه، ولا أن يترب كتابه به بغير إذن شريكه؛ ويجوز أن يستند إليه. ولو بنى في ملكه جداراً متصلاً به-: جاز، وإن لم يكن بينهما فرجة، إذا لم يقع ثقل جداره عليه، وإن كان بين رجلين جدار مشترك، فانهدم، أو هدماه معاً، وامتنع أحد الشريكين عن الموافقة في بنائه- هل يجبر؟ فيه قولان: في الجديد: لا يجبر. وفي القديم: يجبر. وكذلك: لو كان بين رجلين دارٌ، لها علو وسفل، سفلها لأحدهما، وعلوها للآخر، فانهدمت، فإن بنى صاحب السفل السفل-: كان لصاحب العلو أن يبني عليه علوه، وليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على الموافقة في بناء السفل؛ لأن حيطان السفل لصاحب السفل؛ فلا يجبر الغير على بنائه، وإن امتنع صاحب السفل عن بناء السفل-: هل يجبر عليه؟ فيه قولان:

قال في "القديم" وبه قال مالك- رحمة الله عليه-: يجبر عليه؛ دفعاً للضرر عن صاحب العلو، وكما يجبر على نفقة الدابة المشتركة. وقال في "الجديد": لا يجبر؛ لأنه إنفاق على ملك لو انفرد به، لم يجبر، فعند الاشتراك: لا يجبر؛ كزراعة الأرض المشتركة، وليس كالعبد المشترك؛ لأنه لو انفرد به أمر بالإنفاق عليه، وكذلك: النهر المشترك أو القناة أو البئر المشتركة، إذا انكبست وامتنع أحد الشريكين عن التنقية، هل يجبر عليه؟ فيه قولان. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: في النهر والقناة والبئر: يجبر، وفي الجدار: لا يجبر. أما إذا استهدم الجدار، فنقضه أحد الشريكين، أو جاء ابتداءً-: فنقضه من غير إذن شريكه- نص على أنه يجبر الهادم على بنائه؛ لأنه هدم بغير إذن شريكه؛ بخلاف ما لو انهدم: جعلناها على قولين، والقياس؛ أنه يغرم النقصان، ولا يجبر على البناء؛ لأن الجدار لا يضمن بالمثل. ولو كان العلو لواحد، والسفل لآخر، فهدم كل واحد بناءه-: يجبر صاحب السفل على بناء ملكه؛ ليبني عليه صاحب العلو. إذا ثبت أن الجدار المشترك إذا انهدم، أو إذا كان السفل لواحد والعلو لآخر، فانهدم، هل يجبر على البناء؟ فيه قولان، فالتفريع على القولين. أما إن قلنا: يجبر: فإن لم يفعل- أنفق السلطان على بنائه من ماله، فإن لم يكن له مال يستدين عليه، فإن أراد الشريك أن يبنيه- لم يمنع منه. ولو بنى صاحب العلو السفل، أو بنى شريك الجدار الجدار بغير إذن الحاكم والشريك- نظر: إن بناه بتلك الآلة والنقض-: فحيطان السفل لصاحب السفل؛ لأن الآلة [له]، وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع به ولا نقضه، وفي الجدار المشترك: يكون الحائط بينهما كما كان؛ وليس للثاني أن يرجع على الآخر بشيء، وإن بناه بآلة نفسه-: كان الحائط للثاني، ويجوز للثاني نقضه، وإن قال الممتنع: لا ينقض، وأنا أعطيك نصف القيمة-: لم يكن له نقضه؛ لأن هذا على قول الجبر. فإن بنى أحدهما- وجب تبقيته، وأجبر عليه؛ كما يجبر على البناء. وإن قلنا: لا يجبر الشريك، وصاحب السفل على البناء، فلو أراد صاحب العلو بناء السفل بآلة شريكه أو بآلة مشتركة بينهما، أو أراد شريك الجدار بناءه بآلة مشتركة بينهما-: فللآخر منعه عن ذلك.

أما إذا أراد أن يبنيه بآلة نفسه-: لم يكن للآخر منعه عن ذلك؛ لأنه لا يصل إلى حقه إلا بهذا الطريق، فإذا بناه بآلة نفسه-: كان الحائط له يحمل عليه ما شاء، وله أن يمنع الآخر من الانتفاع به. ولا يجوز لشريك الجدار ولا لصاحب السفل أن يفتح فيه كوة، ولا أن يتد فيه وتداً؛ إلا بإذنه، ولكن له أن يسكن في قرار السفل؛ لأن القرار له، وإن أراد الثاني أن ينقضه- له ذلك؛ لأنه لا حق لغيره فيه، فلو قال له الشريك الممتنع: لا تنقض، وأنا أعطيك نصف القيمة، أو قال صاحب السفل: أعطيك القيمة؛ فلا تنقضه-: فله نقضه؛ لأن على هذا القول: لو امتنع من البناء-: لم يجبر عليه، وإذا بناه-: لم يجبر على التبقية، فإن قال: كان لي رسم خشب على هذا الجدار: يقال للباني: إما أن تمكنه من إعادة حشبه، والانتفاع به، أو تنقضه حتى يبني معك، أما إذا لم يكن للباني فيه عين ماله-: لم يكن له نقضه، وكذلك: البئر أو النهر إذا أنفق على تنقيته-: لم يكن له أن يكبسه ولا أن يمنع شريكه أن يسقي منه زرعه؛ لأنه ينتفع بالماء، والماء ليس بملك له، نظير الحائط والدولاب: إذا بناه أحدهما بآلة نفسه- فله منع شريكه من الانتفاع به، فلو بنى صاحب العلو السُّفل بآلة نفسه، فقال صاحب السفل: انقضه حتى أبني بآلة نفسي، هل له ذلك أم لا؟ نظر: إن كان قد طالبه بالبناء، فلم يفعل- ليس له ذلك، وإن لم يطالبه- نظر: إن كان قد بنى عليه علوه-: لم يكن له ذلك، ولكن له أن يتملك السفل بالقسمة، وإن لم يكن بنى العلو-: فله ذلك. وإن انهدم الجدار المشترك، فبنياه معاً، على أن يكون لأحدهما ثلثه، وللآخر ثلثاه-: لم يجز؛ لأنه شرط له عوضاً على عمارة ملك نفسه، وكذلك: لو بنياه على أن يحمل عليه أحدهما ما شاء-: لم يجز. ولو بناه أحدهما بإذن شريكه بآلة نفسه؛ على أن يكون له الثلثان-: جاز؛ فكأنه اشترى سدس المبنى بثلث البناء. ويشترط أن تكون الآلات معلومة، وكذلك: لو بناه بآلة مشتركة أو بآلة شريكه والعمل منه على أن يكون الثلثان له- جاز، وما شرط له من الفضل في مقابلة عمله، ولو كان بين رجلين دار لها سفل، وعلو سفلها لواحد، وعلوها للآخر-: فالسقف المتوسط يكون بينهما؛ لأنه سقف لصاحب السفل أرض لصاحب العلو: فإن تنازعاه حلفا، فلو أراد صاحب

السفل أن يفتح في السقف كوة يستضيء بها-: لم يكن له إلا برضا صاحب العلو. وقال مالك- رحمة الله عليه-: هو لصاحب العلو. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: لصاحب السفل. ولو تنازعا في الصحن- نُظر: إن كان الدرج في أسفل الدار-: فالصحن بينهما؛ لأن كل واحد منهما ينتفع به، وإن كان في أعلى الصحن- فإلى الدرج يكون بينهما، وفيما دونه وجهان: أصحهما: لصاحب السفل؛ لأنه لا ممر لصاحب العلو عليه. والثاني: يكون بينهما؛ لأن صاحب العلو ينتفع به بإلقاء القمامة فيه. وإن تنازعا في الدرج- نظر: إن كان من لبن، وتحته بيت-: فهو بينهما؛ لأنه سقف لصاحب العلو، وإن لم يكن تحته بيت-: فهو لصاحب العلو، وإن كان تحته موضع جب-: ففيه وجهان: أحدهما: هو بينهما؛ لأنهما يرتفقان به؛ كما لو كان تحته بيت. والثاني: هو لصاحب العلو؛ لأن المقصود منه منفعة صاحب العلو؛ فإن كان الدرج من خشب- فهو لصاحب العلو. مسمراً كان أو غير مسمَّر؛ لأنه يختص بالانتفاع به، فكل موضع جعلناه لأحدهما؛ فإن نازعه الآخر- حلف من جعلناه له، وإن جعلناه بينهما- حلفا. ولو تداعيا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر-: حلفا، وكان بينهما؛ لأن لكل واحد فيها منفعة؛ فإنها تجمع الماء في النهر؛ فهي منفعة لصاحب النهر، وتمنع الماء من أرض الآخر؛ فهي منفعة له، والله أعلم بالصواب.

كتاب الحوالة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحوالة روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "مطلُ الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء فليبع".

الحوالة: هي نقل الحق، وتحويله من ذمة إلى ذمة. وهي جائزة، إن كان الدينان مستقرين في الذمة، وإن كانا من جنس واحد، ووصف واحد، وهي مخصوصة بالجواز من بيع الكالئ بالكالئ جوِّزت إرفاقاً مخصوصاً من بيع ما ليس عنده.

ولا يشترط اتفاق الدين في سبب الوجوب بعد أن كانا مستقرين حتى لو كان أحدهما ثمناً أو أجرة، والآخر قرضاً أو بدل إتلاف-: تصح الحوالة. وأما ما ليس بمستقر كالمسلم فيه، ومال الكتابة-: لا يجوز الحوالة به؛ ولا عليه؛ كما لا يجوز الاعتياض عنه. واختلف أصحابنا في جنس المال الذي يجوز الحوالة به: منهم من قال: لا تجوز إلا بما له مثل؛ كالأثمان والحبوب وما أشبهها؛ لأن المقصود من الحوالة: إيصال الغريم إلى حقه على الوفاء من غير زيادة، ولا نقصان، ولا يمكن ذلك إلا فيما له مثل. ومنهم من قال- وهو الأصح-: يجوز بكل ما يثبت في الذمة بعقد السلم؛ كالثياب والحيوان، كما يجوز الاعتياض عنها. ولا تجوز إلا بمال معلوم وهل تجوز بإبل الدية؛ مثل إن أوضح رأس إنسان عمداً، والمجني عليه أوضح رأس آخر، أو قلع سنة عمداً، ثم الجاني الثاني أحال المجني عليه على الجاني الأول؟ فيه قولان؛ بناءً على جواز المصالحة عنهما: أصحهما: لا تجوز؛ لأنها مجهولة الصفات. والثاني: تجوز، لأنها معلومة الأسنان. والحوالة معاوضة، أما استيفاء؟ خرجه ابن سريج على قولين: أحدهما: معاوضة؛ فكأن المحيل باع ماله في ذمة المحال عليه بما للمحتال في ذمته. والثاني: استيفاء؛ كأن المحتال استوفى حقه من المحيل، وأقرضه من المحال عليه. ويشترط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحتال؛ لأن للمحيل أن يؤدي الدين من حيث شاء، والمحتال حقه في ذمة المحيل؛ فلا يجوز له نقله إلى ذمة الغير، إلا برضاه، ولأن الذمم مختلفة؛ كما لو أراد أن يعطيه عيناً من غير جنس حقه، وهل يشترط رضا المحال عليه؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة-: يشترط؛ لأنه آخذ ممن تتم به الحوالة؛ كالمحيل والمحتال. والثاني: لا يشترط، وهو الأصح؛ لأنه متصرف فيه؛ كمن باع عبداً بشرط رضا البائع والمشتري.

ولا يشترط رضا العبد، وهذا بناءً على ما ذكرنا، إن جعلنا الحوالة معاوضة؛ لا يشترط رضاه؛ لأنه حق ثبت للمحيل؛ فلا يحتاج في مبادلته إلى رضا غيره. وإن قلنا: استيفاء-: يشترط رضاه؛ لأنه لا يمكنه إقراضه إلا برضاه، ولا يجوز أن يحيل بالدين الحال على المؤجل، ولا بالمؤجل على الحال؛ لأن الحوالة للإرفاق؛ فلا يجوز مع الاختلاف كالعوض. وقيل: إذا حال بالمؤجل على الحال-: يجوز؛ بخلاف ما لو أحال بالحال على المؤجل: لا يجوز؛ لأن حق المحتال حال؛ فلا يلزمه التأخير، وإذا حال بالمؤجل على الحال-: جاز؛ لأن حق المحتال مؤجل، ويجوز لمن عليه تعجيله، وقد رضي بتعجيله حيث أحال على الحال، وإذا كانا مؤجلين بأجلين مختلفين-: لا يجوز. وقيل: إذا حال بالأبعد على الأقرب-: يجوز، كما ذكرنا في المؤجل على الحال. ولا يجوز أن يحيل بالصحاح على المكسر، ولا بالمكسر على الصحاح. وقيل: إذا أحال بالمكسر على الصحاح-: يجوز، فكأنه تبرع بفضل الصحة، ولا يجوز بالصحاح على المكسر؛ لأنه يصير كأن المحتال يبذل عوضاً على الحوالة، وهو فضل الصحة. وإذا أحال بالدين على إنسان، فقتل، ثم أفلس المحال عليه، أو مات معدماً، أو جحد-: لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل؛ لأن بالحوالة انتقل الحق إلى المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل؛ فلا رجوع له عليه؛ كما لو اعتاض عن الدين شيئاً، فتلف في يده بعد القبض، لا رجوع له على من عليه الدين. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: إن مات معسراً، أو جحد وحلف-: له أن يرجع على المحيل، والحديث حُجة؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر بإتباع المحال عليه؛ ولأن بقبول الحوالة: سقطت المطالبة عن المحيل، فلا يجوز أن يرجع عليه؛ كما لو اشترى عنه بالدين شيئاً، وهلك في يده: لا يرجع عليه. ولو شرط في الحوالة ملاءة المحال عليه؛ فلم يكن-: هل له أن يرجع على المحيل؟ فيه وجهان: عامة أصحابنا على أنه لا يرجع؛ لأن عدم الملاءة: لو كان نقصاً معتبراً في هذا الباب، لكان عند الإطلاق معتبراً. وقال ابن سُريج: يرجع؛ كما لو اشترى عبداً، وشرط أنه كاتب، فلم يكن له الرد.

والأول أصح؛ لأن الإعسار مع أنه نقص-: لم يثبت الخيار عند عدم الشرط، فبالشرط-: لا يثبت، وليس كالكتابة؛ لأن عدم الكتابة ليس بنقص؛ إنما هو عدم فضيلة؛ فاختلف الأمر فهي بين الشرط وعدمه. وهل تصح الحوالة على من لا دين عليه للمحيل؟ فيه وجهان، بناءً على أن الحوالة معاوضة، أم استيفاء؟ إن قلنا: معاوضة-: لا يجوز؛ لأنه ليس في ذمة المحال عليه شيء؛ فكيف نجعله عوضاً عما للمحتال في ذمته. وإن قلنا: استيفاء-: يجوز، فكأن المحتال أخذ حقه، وأقرضه من المحال عليه، فإن جوزنا-: يشترط رضا المحتال والمحال عليه، ولا يشترط رضا المحيل؛ لأن أداء دين الغير-: يجوز بغير إذنه؛ فيكفي أن يقول- يعني: المحال عليه-: أحلت الدَّين الذي لك على فلان عليَّ؛ فيصير كأنه ضمن. فإن قلنا: لا يصح-: لا يجب على المحال عليه شيء؛ فإن تطوع وقضى- نُظر: إن قضى بغير إذن المحيل-: لا يرجع عليه، وإن قضى بإذنه بشرط أن يرجع عليه-: رجع عليه، وإن أطلق الإذن- هل يرجع عليه؟ فيه وجهان؛ كما لو قال رجل: اقض ديني. وإن قلنا: تصح الحوالة-: فهو كما لو ضمن المحال عليه الدَّين عن المحيل، فإن قضاه بإذنه رجع عليه، وإن قضى بغير إذنه- إلا أن الحوالة كانت بإذنه وإحالته- فعلى وجهين: أظهرهما: لا يرجع؛ لأنه لزمه بإحالته، فحيث قلنا: يرجع- فقبل الأداء، هل له مطالبة المحيل بتحليفه؟ - نظر: إن طالبه المحتال بالأداء-: له مطالبة المحيل، وقبل المطالبة: هل له مطالبة المحيل بتحليفه؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا أن الضامن، هل يطالب المضمون عنه بتحليفه؟ وهل له أن يرجع على المحيل قبل أداء حق المحتال؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ كما لا يرجع الضامن على المضمون عنه، إلا بعد أداء حق المضمون له. والثاني: يرجع؛ لأن بالحوالة: انتقل الحق إلى ذمة المحال عليه، وفي الضمان: لم ينتقل عن ذمة المضمون عنه. والأول أصح؛ لأنه لا يرجع قبل الأداء، ولا تبرأ بهذه الحوالة ذمة المحيل؛ كما في الضمان: لا تبرأ ذمة المضمون عنه، ففي الحقيقة: هذا ضمان بلفظ الحوالة، حتى لو

أبرأ المحتال المحال عليه-: لا يرجع المحال عليه على المحيل؛ وكذلك: لو وهب منه قبل أن يقبض، ولو قبضه من المحال عليه، ثم وهبه منه، هل يرجع على المحيل؟ فيه وجهان. ولو أن المحال عليه في هذه المسألة- أحال صاحب الحق على غيره بهذا الحق- نُظر: إن أحاله على من له عليه دينٌ-: كان له الرجوع على المحيل الأول في الحال؛ لأنه أداه بنفس الحوالة، وإن أحاله الثاني- أيضاً- على من لا دين عليه-: لم يرجع على الأول، ما لم يرجع عليه؛ كما لو ضمن ضامن هذا الدين عن المحال عليه-: لا رجوع له على المحيل حتى يؤخذ من ضامنه أو منه؛ حينئذ: يرجع على المحيل. ولو كان له على رجلين ألف، وكل واحد ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على رجل-: برئت ذمة المحيل عن حقهما جميعاً. ولو أحال من له الحق غريماً بماله له عليه ألف عليهما؛ حتى يطالب أيهما شاء- هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يتوسع به على المحتال محل المطالبة، فكأن المحيل بذل عوضاً على قبول الحوالة. [قال الشيخ]: فكذلك لو كان لرجل عليه ألف، فأحاله على رجلين له على كل واحد ألف حتى يطالب أيهما شاء، أو كان قد ضمن له رجل ألفاً له على إنسان، فأحاله على الضامن، وعلى المضمون عنه حتى يطالب أيهما شاء-: فعلى الوجهين. [قال الشيخ]: هذا إذا أحال عليهما معاً؛ أما إذا أحال على أحدهما، ثم أراد أن يحيله على الثاني-: لا يجوز؛ لأنه إذا أحال على الأول-: برئت ذمته عن حق المحتال؛ فلا تصح الحوالة الثانية. ولو أحال المديون غريمه على رجل له عليه مثله، ثم المحال عليه أحاله على آخر، ثم المحال عليه الثاني أحاله على ثالث-: جاز، وكذلك: لو أحال رب الدَّين غريمه على المديون، ثم المحتال أحال غريماً له عليه، ثم الثاني أحال غريماً له عليه-: جاز؛ ففي الصورة الأولى: تعدد المحال عليهم، وفي الثانية: تعدد المحتالون.

فصلٌ [فيما إذا وجد بالمبيع عيباً في الحوالة] إذا باع عبداً بألف، ثم البائع أحال غريماً له على المشتري بألف، ثم وجد المشتري بالمبيع عيباً ورده-: لا تبطل الحوالة؛ لأنها عقد آخر يثبت به حق لغير المتعاقدين؛ كما لو اشترى عبداً بثوب وقبضه وباعه، ثم وجد البائع بالثوب عيباً ورده-: لا يفسخ البيع الثاني، ثم المشتري: إذا دفع حق المحتال-: رجع على البائع، وهل له الرجوع إليه قبل أن [يدفع حقه إلى المحتال] فيه وجهان. أما المشتري إذا أحال البائع بالثمن على رجل، ثم وجد بالعبد عيباً، ورده- هل تبطل الحوالة؛ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: لا تبطل الحوالة؛ كما في الصورة الأولى. ومنهم من قال: تبطل الحوالة، وهو قول أبي إسحاق. وذكره المزني في "المختصر"؛ بخلاف الصورة الأولى؛ لأن هناك: تعلق به حق [غير] المتعاقدين، وهو الأجنبي المحتال، وههنا: وجدت الحوالة بالثمن الذي هو حق العاقد، فإذا فسخ العقد- خرج المحال به من أن يكون ثمناً، وسقط حق العاقد؛ فبطلت الحوالة. ومن أصحابنا من بنى هذا الاختلاف على أن الحوالة معاوضة أم استيفاء؟ إن قلنا: معاوضة-: لا تبطل؛ كما لو باع ثوباً من بائع العبد بالثمن، ثم وجد بالعبد عيباً، فرده، لا يبطل العقد في الثوب؛ بل يسترد ثمن العبد. وإن قلنا: الحوالة استيفاء-: تبطل؛ لأن الحوالة إرفاق، فإذا بطل الأصل: بطل الإرفاق؛ كما لو باع عبداً بدراهم مكسرة، فتبرع المشتري، فأدى الصحاح، ثم رد العبد بالعيب-: يسترد الصحاح. وإن قلنا: تبطل الحوالة-: نُظر: إن كان البائع قد أخذ المال من المحال عليه-: أخذه المشتري منه، وتعين حقه فيه، إن كان قائماً، وإن كان تالفاً-: أخذ بدله من البائع، وإن لم يكن أخذه-: فلا يأخذه؛ لأنه حق المشتري. وإن قلنا: لا تبطل الحوالة-: فقد سقط حق المشتري على المحال عليه، ثم إن كان البائع قد أخذه-: رجع المشتري عليه، ولا يتعين حقه فيما أخذ [وإن] لم يكن أخذه،

فهل للمشتري أن يرجع على البائع قبل أن يأخذه البائع من المحال عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يأخذ شيئاً. والثاني: له أن يرجع عليه؛ لأن الحوالة كالمقبوضة؛ بدليل أن المشتري إذا أحال البائع بالثمن على إنسان-: سقط حق البائع عن حبس المبيع، وكذلك: الزوج إذا أحال المرأة بالصداق على إنسان: لا يجوز لها بعد ذلك حبس نفسها عن الزوج. ولو أحال الرجل امرأته بالمهر على إنسان، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول، هل تبطل الحوالة؟ فعلى وجهين، بناءً على ما لو أحال المشتري البائع بالثمن، ثم رد المبيع بالعيب. ولو أحال البائع غريمه على المشتري، ثم المتبايعان تقارَّا على أن العبد المبيع كان حر الأصل- نُظر: إن صدقهما المحتال، فالحوالة باطلة، وحق المحتال على البائع؛ لأن الحوالة تتم بالمحيل والمحتال، فإذا تقارا على حرية العبد بطلت الحوالة؛ كما لو تبايعا عبداً، ثم اتفقا على حريته-: كان البيع باطلاً، وإن كذبهما المحتال، وقال: العبد مملوك- لا يخلو: إما إن قامت بينة على حريته، أو لم تقم، فإن قامت بينة- نُظر: إن أقامها البائع أو المشتري-: لا تسمع؛ لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع، وإن أقام العبد بينة على حريته-: فالحوالة باطلة، فإن لم تكن بينة فلهما تحليف المحتال فإن حلف فالحوالة بحالها، ولا يقبل قولهما في بطلان حق المحتال؛ كما لو اشترى عبداً، وباعه، ثم اتفق البائع الأول والمشتري: أنه كان حراً-: لا يقبل قولهما في حق المشتري الثاني. إذا ثبت أن الحوالة لا تبطل-: فالمحتال يأخذ الألف من المشتري، والمشتري لا يرجع على المحيل بشيء؛ لأنه يقول: قد ظلمني المحتال بما أخذ مني؛ فلا يرجع بما ظلم على غير من ظلمه. فصل في الاختلاف إذا أمر المديون غريمه بقبض دين له على آخر، ثم اختلفا، فقال المديون: وكلتك بقبضه لي، وقال الغريم: لا، بل أحلتني عليه-: ففيه ثلاث مسائل: إحدها: أن يختلفا في اللفظ، فقال المحيل: وكلتك بلفظ الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني بلفظ الحوالة-: فالقول قول من عليه الحق مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في لفظه. الثاني: لو اتفقا على لفظ الحوالة، واختلفا في المراد، فقال المحيل: أردت به التوكيل، وقال المحتال؛ بل أحلتني-: فالقول قول من يكون؟ فيه وجهان:

قال ابن سريج: القول قول المحتال مع يمينه؛ لأن اللفظ يشهد له. والثاني: القول قول من عليه الحق؛ وهو قول المزني وسائر الأصحاب؛ لأنه يدعي بقاء الحق عليه. ولو أنهما اختلفا في أصل الإذن-: كان القول قوله، كذلك: إذا اختلفا في صفة الإذن-: كان القول قوله. الثالثة: لو اتفقا على أنه قال له: اقبض، واختلفا في المراد-: فالقول قول الآمر مع يمينه، فكل موضع جعلنا القول قول المحتال، فإذا حلف: ثبت الحق له وبريء المحيل، وثبت له مطالبة المحال عليه. وإن قلنا: القول قول من عليه الحق، فإذا حلف-: نُظر: إن لم يكن الغريم أخذ شيئاً-: لم يكن له أخذه؛ لأنه ثبت بيمين المديون، إن كان وكيلاً، فقد انعزل عن الوكالة بإنكاره، وإن كان قد قبض المال دفعه على المحيل، إن كان قائماً، وإن كان تالفاً-: ضمن، سواء تلف أو أتلفه؛ لأنه بيمين من عليه الحق: يثبت أنه كان وكيلاً، والوكيل إذا أخذ المال لنفسه- كان ضامناً، وهل للمحتال أن يرجع على المحيل بدينه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنه أقر ببراءة ذمته عن دينه. والثاني: يرجع؛ لأنه يقول: إن كنت محتالاً-: فقد استرجع مني ما أخذته بحكم الحوالة، وإن كنت وكيلاً فحقي باق في ذمته، وإن كان الاختلاف على العكس، قال المديون: أحلتك عليه، وقال الغريم: وكلتني بقبضه، وذلك بأن يكون المحال عليه مفلساً؛ فيريد المحتال مطالبة المحيل-: فعلى قول أبي العباس: القول قول المحيل مع يمينه؛ لأن اللفظ يشهد له، وعلى قول المزني وسائر أصحابنا: القول قول المحتال مع يمينه؛ لأن الأصل اشتغال ذمة المديون بحقه. فإن قلنا: يقول ابن سريج: فحلف المحيل، بريء من دين المحتال، وللمحتال مطالبة المحال عليه بالدين: إما بحكم الحوالة، أو بحكم الوكالة، وإذا أخذه كان له؛ لأن المحيل يقول: هو له بحكم الحوالة، والمحتال يقول: هو لي من مال من لي عليه الدين. وإن قلنا بقول المزني، فحلف المحتال- نظر: إن كان قد أخذ المال من المحال عليه- دفعه إلى المديون، فاستوفى حقه منه إن كان قائماً، وإن كان تالفاً- نظر: إن تلف بتفريط من جهته- لزمه ضمانه، ويثبت للمحيل عليه ما يثبت له على المحيل، فيتقاصَّان، وإن تلف بغير تفريط من جهته، فلا ضمان عليه؛ لأنه حلف أنه وكيل؛ ويد الوكيل يد أمانة،

ويرجع بحقه على المحيل، وبرئت ذمة المحال عليه؛ لأن القابض إن كان محتالاً-: فقد وفاه حقه، وإن كان وكيلاً: فقد دفع إليه، وإن لم يكن المحتال قد أخذ المال من المحال عليه، كان له مطالبة المحيل بما له في ذمته، وهل يرجع المحيل على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه مقر بأن ما عليه صار للمحتال. والثاني: يرجع؛ لأنه إن كان وكيلاً-: فدينه باق في ذمة الحال عليه؛ لأن وكيله لم يقبض، وإن كان محتالاً بعد قبض المحتال للمال منه ظلماً، وهو مقر بأن ما في ذمة المحال عليه للمحتال-: كان له أخذه؛ عوضاً عما أخذ منه ظلماً، والله أعلم.

كتاب الضمان

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الضمان روي عن أبي أُمامة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "العارية مؤداة، والزعيم غارم، والدَّين مقضي".

[الضمان جائز] وهو أن يكون لرجل على آخر دين، فجاء إنسان، وضمنه له، ثم صاحب الحق بالخيار: إن شاء طالب الضامن، وإن شاء طالب المضمون عنه، وإن شاء طالبهما جميعاً. وعند مالك- رحمة الله عليه-: ليس- لرب المال مطالبة الضامن إلا بعد العجز عن المضمون عنه. وعند ابن أبي ليلى: ليس له مطالبة المضمون عنه إلا بعد العجز عن مطالبة الضامن بأن يكون معدماً؛ كما يقول في الحوالة. ويصح الضمان بغير إذن المضمون له والمضمون عنه؛ بأن يقول: ضمنت المال الذي لزيد على عمرو؛ لأنه يجوز قضاء دين الغير بغير إذنه، فإذا ضمن-: كان للمضمون له مطالبته. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- وحده: إذن المضمون له شرط، وهل يشترط أن يعرف الضامن المضمون له، والمضمون عنه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يشترط أن يعرفهما جميعاً؛ لأنه معاملة تجري بينهم، فيشترط معرفة المضمون له؛ حتى يمكنه الدفع إليه، ويشترط معرفة المضمون عنه؛ ليعلم هل هو من أهل المعروف؛ كما يشترط معرفة المال؛ ليعلم هل يقدر عليه أم لا؟. والوجه الثاني: لا يشترط معرفتهما؛ كما لا يعتبر رضاهما، فإذا عرف المضمون له أن له ديناً على مجهول، فضمنه، أو عرف المضمون عنه أن لمجهول عليه ديناً، فضمنه، وأداه-: جاز؛ فإن أبا قتادة ضمن عن الميت الدين من غير سؤال عن المضمون له وعنه. والوجه الثالث: لا يشترط معرفة المضمون عنه، ويشترط المضمون له؛ ليعلم المدفوع إليه، وهذا أصح عندي. ثم إذا ضمن بإذن المضمون- عنه، وأدى بإذنه- له أن يرجع عليه، وإن ضمن بغير

إذنه، وأدى بغير إذنه، لا يرجع عليه؛ لأنه متبرع؛ كما لو أنفق على عيال إنسان بغير إذنه-: لا يرجع عليه، وإن ضمن بإذنه، وأدى بغير إذنه- نُظر: إن لم يمكنه الاستئذان منه عند الأداء: بأن كان غائباً، أو كان الضامن محبوساً-: رجع عليه، وإن أمكنه الاستئذان، فلم يستأذن؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو المذهب-: يرجع عليه؛ لأن الضمان كان بإذنه، والأداء لزمه بحكم ذلك الضمان. وإن ضمن بغير إذنه، وأدى بإذنه-: فالمذهب: أنه لا يرجع، فحيث قلنا: يرجع-: فلا رجوع له قبل الأداء، ولا له مطالبة المضمون عنه بمال ليدفع إليه؛ ليدفعه إلى رب الدين إذا طالبه، فما إذا طالبه المضمون له بالأداء، وكان ضمانه بإذن المضمون عنه-: فله أن يطالبه بخلافه؛ لأنه لما جاز أن يغرمه إذا غرم-: جاز له أن يطالبه، إذا طولب، فقبل أن يطالبه المضمون له، هل له مطالبة المضمون عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ كما لو رهن عبد الغير [بغير] أمره-: للمالك مطالبته بغله. والثاني- وهو الأصح؛ ليس له ذلك؛ لأنه غير محبوس في الدين، والرهن محبوس فيه، فله أن يطالبه بغلِّه، وليس للضامن حبس المضمون عنه قبل أن يحبس، وبعدما حبس: فيه وجهان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة،- رحمة الله عليه-: له حبسه؛ لتخليصه. والثاني- وهو الأصح- ليس له حبسه؛ لأنه لم يتوجه له عليه حق قبل الأداء حتى يحبسه. وأصل هذا: أن عقد الضمان، هل يوجب عقلة بين الضامن والمضمون عنه؟ فيه وجهان لابن سريج: إن قلنا: يوجب-: فله حبسه، وإلا فلا، ويخرَّج على هذا لو أبرأ الضامن [عن] المضمون عنه عما سيغرم، أو صالح عما سيغرم على بعضه، هل يصح؟ فيه وجهان. وكذلك: لو أعطى المضمون عنه الضامن ضماناً بما ضمن، أو في الابتداء، بشرط أن يعطى المضمون عنه ضماناً بما ضمن، هل يصح؟ فيه وجهان: الأصح: أنه لا يصح شيء منه عندي.

وإذا أحال الضامن المضمون له على رجل له عليه دين، أو أحال المضمون له غريماً له على الضامن-: فهو كما لو أداه الضامن-: فله أن يرجع على المضمون عنه، وإن لم يكن قبضه [المحتال من المحال عليه]؛ لأن الحوالة كالمقبوضة. أما إذا أحاله الضامن على من لا دين له عليه، وقبل المحال عليه، وقلنا: تصح الحوالة-: برئ الضامن، ولا يرجع على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم شيئاً، كما لو أبرأ المضمون له الضامن-: برئت ذمته، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم شيئاً، وحق المضمون له لم يسقط عن المضمون عنه. ولو قبض المضمون له الحق من الضامن، ثم وهبه له، هل يرجع الضامن على المضمون عنه؟ فيه وجهان؛ بناءً على القولين في المرأة: إذا وهبت الصداق من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول. ولو دفع المضمون عنه مالاً إلى الضامن، وقال: خذ هذا بدلاً عما يجب لك علي بقضاء الدين-: فيه وجهان: أحدهما: يجوز، ويملك الضامن؛ لأن الرجوع يتعلق بشيئين: بالضمان، والغُرم، وقد وجد أحدهما، وهو الضمان؛ كما يجوز تعجيل الزكاة بعد النصاب قبل الحول، فإذا قضى عنه الدين- استقر عليه مِلكه، وإن أبرأ عن الدين وجب رده كما يجب رد ما أخذ من الزكاة قبل الحول إذا هلك المال. والثاني: لا يملك؛ لأنه أخذه بدلاً عما يجب في الثاني؛ كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده؛ فعلى هذا: يجب رده فإن هلك عنده- ضمنه كالمقبوض بالشراء الفاسد، ولو قال لرجل: اقض ديني، بشرط أن يرجع علي، قضى-: يرجع عليه، وإن لم يقل: بشرط أن يرجع- ففيه وجهان: أظهرهما: يرجع؛ لأنه أدى حقاً واجباً عليه بإذنه، ولو قال: اقض دين فلان، ففعل-: لم يرجع على الآمر؛ لأن أداء دين الغير غير واجب. وإذا ضمن ديناً، ثم أدى الضامن عرضاً، أو قال رجل لآخر: اقض ديني، فدفع عرضاً إلى رب الدين، صالحه عليه-: جاز، ثم إن كانت قيمته أكثر من الدين-: لا يرجع بالزيادة على المضمون عنه؛ لأنه متبرع به، وإن كانت أقل من الدين، بماذا يرجع؟ فيه قولان: أصحهما: لا يرجع إلا بقدر قيمة العرض؛ لأنه لم يغرم إلا ذلك؛ كما لو صالح معه

صلح حطيطة، لا يرجع إلا بما صالح عليه. والثاني: يرجع بجميع الدين؛ لأنه أبرأ ذمته عنه، وكذلك لو ضمن المكسر، فأدى الصحاح، لا يرجع بالصحاح، ولو ضمن الصحاح، فأدى المكسر-: ففيه قولان: أصحهما: يرجع بما أدى. أما إذا ضمن ألفاً، وقد باع من المضمون له شيئاً يساوي خمسمائة بألف، فجعل الألف بالألف قصاصاً [يرجع بالألف]؛ لأن الألف كانت ثابتة له. ولو ضمن ذمي لذمي ديناً لمسلم، ثم أدى خمراً أو خنزيراً-: هل تبرأ ذمة المسلم [عن حق المضمون له؟] فيه وجهان: أحدهما: لا تبرأ؛ كما لو دفع بنفسه الخمر. والثاني: تبرأ؛ لأنه معاملة جرت بين ذميين. فإن قلنا: تبرأ، هل يرجع الضامن على المسلم المضمون عنه بشيء؟ فيه وجهان: إن قلنا: الاعتبار بما أدى-: لا يرجع، وإن قلنا: بما أسقط-: يرجع عليه بالدين. ولو ضمن ألفاً، فصالح المضمون له مع الضامن على خمسمائة-: لا يرجع الضامن إلا بخمسمائة، فالخمسمائة الأخرى تسقط عن الضامن والأصيل جميعاً، وإن كان هو في الحقيقة أبرأ عن بعض الدين. ولو أنه أبرأ الضامن صريحاً من خمسمائة: تسقط تلك الخمسمائة عن الضامن، ولا تسقط عن الأصيل؛ لأن الصلح قناعة من صاحب الحق عن الكثير بالقليل، وإذا قنع سقط ما طابت به نفسه أصلاً، أما إبراء الضامن فهو إسقاط الوثيقة؛ فلا يوجب سقوط الدين؛ كرد الرهن. فصلٌ فيما يصح ضمانه من الأموال: كل دين هو لازم مستقر؛ مثل: القروض، وأروش الجنايات، وبدل المتلفات، والثمن في البيع، والأجرة في الإجارة، والصداق، وبدل الخلع، والمسلم فيه؛ يصح ضمانها، وإن كان بعضها بعرض السقوط؛ كالثمن قبل القبض، والمسلم فيه، والأجرة قبل العمل، والصداق قبل الدخول، وكذلك: ما ليس بلازم، ولكنه

يفضي إلى اللزوم، كالثمن في زمان الخيار-: يصح ضمانه، أما ما لا يفضي إلى اللزوم؛ مثل الدية على العاقلة، ونجوم الكتابة-: لا يصح ضمانها، وكذلك بذل الجعالة: لا يصح ضمانه قبل الفراغ من العمل، ويصح بعد الفراغ من العمل. وقيل: يصح بعد الشروع في العمل، وقبل الفراغ منه. والأول أصح؛ لأنه لا يصير لازماً بنفسه إلا بعمل، بخلاف الثمن في زمان الخيار. أما مال المسابقة والمناضلة: إن جعلناها إجارة-: جاز ضمانه؛ وإلا فكالجعالة. وجملته: أن ما جاز الرهن به، جاز ضمانه، وقد يجوز ضمان ما لا يجوز الرهن به، وهو ضمان الدرك، وهو أن من باع شيئاً، ثم خرج المبيع مستحقاً-: يجب على البائع رد الثمن، فلو ضمنه إنسان، فقال للمشتري: ضمنت لك عهدة هذا المبيع، حتى إذا خرج مستحقاً أضمن لك الثمن الذي دفعته- جاز على ظاهر المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم. ويصح البيع بشرط أن يعطى فلاناً كفيلاً بالعهدة، ولا يجوز الرهن به؛ لأنه ربما لا يخرج المبيع مستحقاً، فيبقى الرهن محبوساً أبداً. وذكر ابن سريج- رحمة الله عليه- قولاً: أنه لا يصح ضمان الدرك؛ لأنه ضمان قبل الوجوب، والمذهب جوازه؛ لأنه استئناف للحق، فلا يكون ضماناً قبل الوجوب؛ لأنه إذا خرج مستحقاً-: ظهر أن رد الثمن كان واجباً عليه. ويصح هذا الضمان بعد تسليم المشتري الثمن إلى البائع، وهل يصح قبل تسليمه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يصح، لأنه يضمن ما دخل في ضمان البائع، وقبل القبض: لم يدخل في ضمانه. والثاني: يصح؛ لأنه وجد سبب الضمان، وهو المبيع، فإذا ضمن الدرك، ثم خرج المبيع مستحقاً، فالمشتري بالخيار: إن شاء طالب البائع بالثمن، وإن شاء طالب الضامن، فإذا عزم الضامن-: رجع على البائع، إن كان ضمن بإذنه، وسواء استحق المبيع بأ خرج مغصوباً، أو باع الشقص بعد ثبوت الشفعة فيه، فأخذه الشفيع بالعقد الأول؛ فيكون مستحقاً في البيع الثاني، فللمشتري الرجوع على الضامن بالعهدة. أما إذا أخذه الشفيع بالعقد الثاني-: فلا يرجع عليه؛ لأن الشفيع لا يرفع عقده.

ولو وجد المشتري بالمبيع عيباً، ورده، وفسخ العقد أو تقايلا المبيع، أو تفاسخا بخيار شرط أو خيار مجلس-: فلا رجوع له على الضامن؛ كما لو أخذ الشفيع الشقص بالشفعة-: لا يرجع بالثمن على الضامن؛ لأن الضامن ضمن ما لم يملكه البائع، ودخل في ضمانه، وفي هذه المواضع: ملك البائع الثمن. وإذا بان أن البيع كان فاسداً بشرط أو غيره، هل له مطالبة الضامن بالثمن؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه ظهر أن البائع لم يملك الثمن؛ كما لو خرج مستحقاً. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن التفريط من جهته بالشرط الفاسد؛ ولأن حبس المبيع لاسترداد الثمن ممكن في فساد البيع، وفي استحقاقه غير ممكن. ولو تلف المبيع قبل القبض بعد أخذ الثمن: ينفسخ العقد، وهل للمشتري مطالبة الضامن بالثمن؟ إن قلنا: ينفسخ العقد من حينه-: فلا؛ كما لو رد بالعيب. وإن قلنا: من أصله-: فكالشرط الفاسد. ولو خرج نصف المبيع مستحقاً، له [مطالبة] الضامن بنصف الثمن، وهل يصح البيع في النصف الثاني؟ فعلى قولين: إن قلنا: يصح، ففسخ-: ليس له مطالبة الضامن بالنصف الثاني. وإن قلنا: لا يصح في النصف الثاني، فهل له مطالبة الضامن بالنصف الثاني؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه وجهان؛ كما إذا بان العقد فاسداً، ومنهم من قال: له مطالبة الضامن بجميع الثمن وجهاً واحداً؛ لأن سبب بطلان العقد في النصف الثاني هو الاستحقاق؛ كما في النصف الأول. وإن قلنا بظاهر المذهب: إن ضمان الدرك جائز؛ فيجوز ضمان جودة الثمن، ونقصان الوزن للبائع، لأنه لما جاز ضمان الأصل، جاز ضمان الوصف، فإن خرج رديئاً، طالبه البائع به، وكذلك: لو ضمن نقصان الوزن، جاز بأن خرج ناقصاً، رجع عليه بقدر النقصان، فلو اختلف البائع والمشتري في النقصان، فقال البائع: خرج ناقصاً وأنكر المشتري-: فالقول قول البائع مع يمينه.

ولو اختلف [الضامن والبائع] ففيه وجهان؛ كما في ضمان المال، على ما سنذكره. ولو باع عبداً بثوب، أو بدينار معين، فضمن رجل العهدة، وقال: إن خرج العبد مستحقاً- أضمن لك الثوب أو الدينار-: نُظر: إن كان بعد تلف الثوب والدينار ضمن قيمته- جاز، وإن ضمن في حال قيامه، ففيه وجهان، بناءً على ضمان المغصوب للمالك. ولا يصح ضمان الدرك في رأس مال السلم، وهو أن يقول للمسلم: إذا خرج المسلم فيه مستحقاً-: أضمن لك رأس مال السلم؛ لأن الاستحقاق على ما في الذمة لا يتصور، وإذا خرج مستحقاً-: رجع المسلم بمثله لا برأس مال السلم؛ وذلك لا يصح ضمان رأس مال السلم أن لو انقطع المسلم فيه؛ لأن المسلم إليه قد ملكه؛ كما لا يصح ضمان الثمن؛ لو رد المبيع بالعيب، أما إذا ضمن المسلم إليه المسلم فيه: لو خرج رأسا لمال مستحقاً-: يجوز بعد تسليم المسلم فيه، وقبل تسليمه: لا يصح على أصح الوجهين. ولو اشترى أرضاً، وغرس فيها، ثم استحقت-: فللمستحق قلع الغراس، وعلى البائع أرش نقص دخل الغراس بالقلع، فلو ضمن رجل ذلك الأرش بعد القلع، وكان معلوماً-: جاز، ولو ضمن قبل الاستحقاق ما يدخله من النقص أن لو قلعه مستحق-: لم يجز؛ لأنه مجهول؛ ولأنه ضمان ما لم يجب؛ وكذلك: لا يصح ضمانه بعد الاستحقاق قبل القلع؛ لأنه لم يجب، ولو ضمن عهدة الأرض ونقص الغراس-: لم يصح في نقص الغراس، وفي عهدة الأرض قولان؛ بناءً على تفريق الصفقة. ولو اشترى بشرط أن يعطى كفيلاً بالعهدة، وبأرش نقصان الغراس-: لم يصح البيع. ولو ضمن عيناً له في يد إنسان، هل يصح أم لا؟ - نظر: إن لم تكن مضمونة على من في يده؛ كالوديعة، ومال الشركة، والقراض في يد العامل، والمال في يد الوكيل، والوصي-: لا يصح ضمانها للمالك؛ لأنه إن ضمن الرد، فلا رد على الأمين، إنما يجب عليه التخلية. وإن ضمن قيمتها لو تلفت، فلا يجب على الأمين ضمان ما تلف في يده، فإن كان قد تعدى فيها حتى صارت مضمونة عليه، فهو كضمان الأعيان المضمونة. وإن كانت العين مضمونة على من هي في يده؛ كالمغصوب، والمستام، والمستعار- نظر: إن ضمن ردها، خرَّجوه على قولين، بناءً على كفالة البدن، وكذا المبيع في يد البائع

يضمن تسليمه إلى المشتري، ففيه وجهان. وإن ضمن قيمتها- نظر: إن ضمن بعد التلف، يجوز إن كانت معلومة، وإن ضمنها قبل التلف أو تلفت-: يُبنى على أن المكفول ببدنه إذا مات هل يجب الدين على الكفيل؟ فيه وجهان: إن قلنا: يجب- ههنا- يصح ضمان النفقة لو تلفت. وإن قلنا: لا يجب- فلا يصح، وهو الأصح. وإن ضمن رد العين، وجوزنا، فإن أمكنه ردها، ردها، وبريء من الضمان. وإن تعذر ردها بالتلف، فهل يلزمه قيمتها؟ فعلى وجهين؛ كما في كفالة البدن، إذا تعذر تسليمه. فإن قلنا: يضمن القيمة-: ففي المبيع إذا ضمن وهلك قبل القبض-: ينفسخ البيع، فإن لم يكن أخذ الثمن: لا شيء على الضامن، وإن كان قد أخذ قيمتها-: يلزم الضمان وجهان: أحدهما: عليه الثمن. والثاني: عليه الأقل من الثمن، أو قيمة العين. لو ضمن رقبة العبد الجاني، وجنايته موجبة للمال-: فهو كضمان العين. ولو رهن شيئاً من رجل-: فقبل التسليم ضمن رجل للمرتهن تسليم الرهن-: لم يصح؛ لأن تسليم الرهن غير لازم على الراهن؛ فهو كضمان ما لا يلزم. فصلٌ [في بيان ضمان المجهول] ولا يصح ضمان المجهول، سواء كان الجنس مجهولاً أو القدر؛ لأنه إثبات مال في الذمة بعقد؛ فلا يصح مع الجهالة؛ كالبيع بثمن مجهول، وذلك أن يقول: ضمنت مالك على فلان، أو: ما داينت فلاناً، ولا يعرف قدره أو جنسه، وهل يصح ضمان إبل الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها مجهولة اللون والصفة. والثاني: يصح؛ لأنها معلومة السن والعدد، ويرجع في اللون والصفة إلى عُرف البلد. ولو علم أن دينه يزيد على خمسة، ولا يزيد على عشرة، فقال: ضمنت من خمسة

إلى عشرة-: ففيه وجهان: أصحهما: لا يصح، فإن كان الدين معلوماً، فقال: ضمنت من درهم إلى عشرة-: يصح؛ على الأصح، ويكون ضامناً بعشرة، ويدخل الطرفان فيه. وقيل: يكون ضامناً بثمانية، ولا يدخل الطرفان فيه. وقيل: بتسعة، فيدخل فيه الطرف الأول، والثاني لا يدخل فيه. فإن قال: ما بين درهم وعشرة-: فيكون ضامناً بثمانية. ولا يصح ضمان ما لم يجب؛ مثل: أن تقول: ضمنت لك ما تداين فلاناً؛ لأن الضمان وثيقة بحق، فلا يسبق وجوب الحق كالشهادة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يجوز ضمان ما لم يجب. فرع ولو وزن المديون مال الدين، فقال رب الدين: في ميزانك وَكْسٌ، وقال المديون: بل مستقيم، فضمن رجل نقصانه-: هل يصح؟ فيه وجهان، بناءً على ضمان الدرك. أحدهما: لا يصح؛ لأنه مجهول. والثاني: يصح؛ لأن جملة المال معلوم: فإن قلنا: يصح، فاختلفا، فقال رب الدين: خرج ناقصاً، وقال الضامن: بل أنت ضيعت شيئاً منه-: ففيه وجهان: أحدهما: القول قول رب الدين مع يمينه؛ كما لو كان هذا الاختلاف من رب الدين والمديون-: كان القول قول رب الدين. والثاني- وهو الأصح-: القول قول الضامن مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته، وفي المديون: الأصل اشتغال ذمته بالدين؛ وكذلك: لو قال رب الدين: هذا رديء، وقال المديون: بل جيد، فضمن رجل رداءة الأصل-: يجوز على هذا القول، وهو ضمان جميع المال، فإذا خرج رديئاً أو معيباً وردَّه-: طالب أيهما شاء. ولو ضمن عن ميت ديناً-: يصح، سواء خلَّف الميت وفاء أو لم يخلف. والدليل عليه: ما روي عن أبي قتادة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أُتي برجل ليصلي عليه، فقال: "صلوا على صاحبكم؛ فإن عليه ديناً"، قال أبو قتادة: هو علي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

"بالوفاء؟ " قال: بالوفاء. فصلى عليه. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يصح الضمان عن الميت، إذا لم يخلف وفاءً، والحديث حُجة عليه. وبالاتفاق: لو ضمن في حياته، ثم مات المضمون عنه معسراً-: لا يبطل الضمان. ولو كان على رجل دين مؤجل، فضمنه رجل مؤجلاً-: جاز، ولا يلزمه الأداء إلا بعد حلول الأجل، فلو عجل الضامن قضاءه-: لم يكن له أن يرجع على المضمون عنه قبل المحل؛ لأنه تبرع بالتعجيل؛ كما لو أدى الصحاح بدل المكسر: لا يرجع بالصحاح. ولو مات المضمون عنه-: حل الدين عليه، ولا يحل على الضامن، فلو أراد رب الدين تأخير الحق إلى حلول الأجل-: فللضامن أن يطالبه بأخذ حقه من التركة عاجلاً، أو يبرئ ذمته خوفاً من أن تفوت التركة، فإذا أخذ منه بعد حلول الأجل: لا يجد محلاً يرجع فيه، ولو مات الضامن- حل عليه الدين، ولا يحل على المضمون عنه، فإذا أخذ رب الدين من تركة الضامن- لم يكن لوارثه أن يرجع على المضمون عنه قبل المحل. ولو كان على رجل دين حال، فضمنه رجلٌ مؤجلاً-: هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لم يضمن كما عليه. والثاني- وهو الأصح- يصح الضمان، ويكون مؤجلاً على الضامن؛ كما لو مات المضمون: حل الأجل عليه، ولا يحل على الضامن. ولو كان الدين مؤجلاً، فضمنه رجلٌ حالاً-: فعلى وجهين: الأصح جوازه؛ لأن الضامن تبرع، وقد ضمن تبرعاً آخر، وهو التعجيل، ثم هل يلزمه الوفاء بالتعجيل؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه كما ضمن. والثاني: لا يلزم، بل إن شاء عجل، وإن شاء لم يعجل؛ لأن التعجيل وعد بالتبرع؛ فلا يلزم. ولو ضمن ديناً مؤجلاً مطلقاً- يكون مؤجلاً؛ كما لو قيد التأجيل، ولو اختلفا، فقال المضمون له-: ضمنته حالاً، وقال الضامن: بل مؤجلاً-: فالقول قول الضامن مع يمينه.

ولو علق الضمان بوقت أو بشرط، فقال: إذا جاء رأس الشهر، أو: إذا قدم فلان فقد ضمنت دينك-: لم يصح؛ لأنه عقد لا يقبل التعليق بخلاف ما لو قال: ضمنت الآن، فإذا جاء رأس الشهر أؤدي-: جاز؛ لأنه لم يعلق العقد إنما علق الأداء؛ كما لو باع بثمن مؤجل-: جاز. ولا يصح تعليقه بالشروط، ولو شرط الضامن فيه الخيار لنفسه-: لا يصح؛ لأنه لا يحصل به مقصود الضمان، وإن كان الشرط للمضمون له- يصح؛ لأنه إبراء بالخيار، فشرط الخيار له موافق لقضية العقد، ولو ضمن ديناً بشرط براءة الأصل-: ذكر ابن سريج فيه وجهين-: أحدهما: لا يصح؛ لأنه شرط بخلاف مقتضى الضمان. والثاني: يصح؛ لأنه ضم تبرعاً إلى تبرع، فعلى هذا: هل يلغي الشرط؟ فيه وجهان: فإن قلنا: الشرط صحيح- فقد برئت ذمة المضمون عنه عن حق المضمون له، ويجوز للضامن: أن يرجع على المضمون عنه في الحال، إن كان ضمن بإذنه لحصول براءة ذمته عن حق المضمون له؛ كما يرجع عليه بعد الأداء. "فصلٌ في بيان ضمان الأصل" إذا ضمن رجل دين إنسان، ثم ضمن عن الضامن ضامن آخر-: جاز، فإذا أدى الضامن الثاني-: يرجع على الضامن الأول، إن كان ضمن بإذنه، ثم الضامن الأول يرجع على الأصل بعدما غرم، إن ضمن بإذنه: فلو أراد الضامن الثاني أن يرجع إلى الأصيل-: نظر: إن ضمن الأول بغير إذن الأصيل-: لم يكن له ذلك؛ لأن الأول لو أداه-: لم يكن له أن يرجع على الأصيل، وإن ضمن الأول بإذن الأصيل-: ففيه وجهان: أحدهما: له أن يرجع على الأصيل؛ لأن مرجع الأول إلى الأصيل. والثاني- وهو الأصح-: ليس له ذلك؛ لأنه لم يضمن عن الأصيل، إنما ضمن عن الأول، والأول ربما لا ريد الرجوع على الأصيل. أما إذا كان الأصيل قال للضامن الثاني: أضمن عمن ضمن مني، [فضمن] وغرم-: هل له الرجوع على الأصيل؟ فيه وجهان؛ كما لو قال: اقض ديني، فقضى: فلو أدى الأصيل الدين، أو أحال رب الدين على إنسان، أو أحال رب الدين غريماً له عليه، أو أبرأ الأصيل-: برئ الضامنان جميعاً، ولو أبرأ الضامن: يبرأ من بعده من الضامنين، ولا

يبرأ الأصيل؛ لأن إبراء الضامن إسقاط الوثيقة؛ فلا يوجب سقوط الدين؛ كرد الرهن. ولو أبرأ الضامن الثاني-: ضمن عن الأصيل أيضاً بإذنه، فأديّ الضامنين أدى رجع على الأصيل، ولا رجوع لأحدهما على الثاني، ولو ضمن الثاني عن الأصيل، وعن الضامن الأول جميعاً، فإذا أدى، رجع على أيهما شاء، وإن شاء: رجع ببعضه على الأصيل، وببعضه على الضامن الأول ثم الضامن الأول رجع على الأصيل بما غرم إن ضمن بإذنه. ولو كان لرجل على آخر مائة دينار، فضمنه رجلان: كل واحد خمسين بإذنه، ثم ضمن كل واحد من الضامنين عن صاحبه-: جاز، ويكون كل واحد من الضامنين مطالباً بمائة: بخمسين عن الأصيل، وبخمسين عن الضامن، فلو أدى أحدهما خمسين- نظر: إن أدى عن الأصيل-: رجع عليه، وإن أدى عن صاحبه-: رجع عليه، وإن أدى عنها-: رجع كل واحد منهما بنصفه، ولو أدى أحدهما المائة-: رجع بالنصف على صاحبه، وبالنصف على الأصيل، فلو أراد أن يرجع بالكل على الأصيل: إن كان صاحبه ضمن بإذن الأصيل-: هل له ذلك؟ فيه وجهان. قال الشيخ: ولو صار الدَّين ميراثاً للمضمون عنه-: سقط وبريء الضامن، ولو صار ميراثاً للضامن-: سقط عنه، ورجع هو على المضمون عنه؛ كما لو أداه. فصلٌ [في بيان البيع بشرط كفالة الدين] إذا باع عبداً بألف على أن يتكفل المشتري ديناً له على آخر-: لا يصح البيع؛ كما لو باع بشرط أن يعطيه كفيلاً بدين آخر للبائع عليه؛ وكذلك: لو باع لرجلين عبداً بألف على أن يضمن كل واحد مهما عن صاحبه-: لا يصح؛ لأنه جعل منفعة الضمان مع المسمى ثمناً. قال الشيخ: هذا إذا شرط على كل واحد أن يتكفل عن الآخر، أما إذا قال: بعت منكما على أن يعطي كل واحد منكما صاحبه كفيلاً-: جاز؛ لأنه شرط وثيقة الدَّين؛ كما لو شرط عليه رهناً، أما إذا لم يشرط؛ بل باع عبداً من رجلين بمائة أو أقرض منهما مائة، ثم ضمن كل واحد منهما عن صاحبه ما عليه-: جاز، ولرب الدَّين مطالبة كل واحد بالجميع، فإن أبرأ أحدهما عن المائة-: يبرأ عماله عليه، وعن الضمان، ويبرأ صاحبه عن الضمان، ولا يبرأ عن أصل ما عليه. ولو أبرأ أحدهما عن خمسين-: نُظر: إن أبرأ عن أصل المال-: يبرأ هو عن أهل المال، وصاحبه عن الضمان، وله أن يطالبه بضمان ما على صاحبه.

ولو أبرأه عن الضمان-: برئ هو عن الضمان، وبقي عليه أصل المال، وهو خمسون، وله مطالبة صاحبه بالمائة عن أصل ما عليه، وعن الضمان، وإن أبرأه عن خمسين عن الأصل والضمان جميعاً-: سقط عنه نصف الضمان، ونصف أصل المال، وعن صاحبه نصف الضمان، فله أن يطالب هذا بخمسين، وصاحبه بخمسين وسبعين. ولو أبرأه عن خمسين مطلقاً-: فالحكم لنيته، وإن لم يكن له نية-: ففيه وجهان: أحدهما: يقع مناصفة. والثاني: للمشتري الخيارُ: إن شاء صرف إلى الضمان، وإن شاء صرف إلى أصل المال، وإن شاء إليهما. ولو اختلفا؛ فقال المشتري: أبرأتك عن الضمان، وقال: [لا] بل عن الأصل-: فالقول قول المشتري مع يمينه. أما إذا أعطى المال من عليه الحق- نظر: إن دفع كل واحد خمسين- برئا جميعاً، ولا رجوع لأحدهما على الآخر؛ لأنهما إن دفعاه عن الأصيل-: فلا شيء لأحدهما على الآخر، وإن دفعاه عن الضمان- ثبت لكل واحد منهما على صاحبه ما ثبت له عليه، فتقاصَّا، وإن دفع أحدهما خمسين: فإن دفع عن الأصل برئ صاحبه عن الضمان، والأصل على صاحبه باقٍ، وهو به ضامن، وإن دفع عنهما وقع مناصفة، وإن دفع مطلقاً فوجهان: أحدهما: وقع مناصفة. والثاني: له صرفه إلى أيهما شاء. فلو اختلفا؛ فقال الدافع: دفعت عن الأصل، وقال القابض: بل عن الضمان-: فالقول قول الدافع مع يمينه؛ لأنه أعرف بماله، فإذا حلف؛ أنه أداه عن الأصل-: فلرب الدين أن يطالبه بخمسين، وإن أقر أنه أدى ما أدى عن الضمان؛ لأنه إن صدق: فالأصل عليه باق؛ وإلا فالضمان عليه باق. ولو ادعى على رجل، فقال: بعت منك ومن فلان الغائب عبداً بألف، وضمن كل واحد منكما عن صاحبه- نُظر: إن أقر الحاضر وأدى الألف، فإذا رجع [الغائب، وأقر-: رجع الحاضر، وأدى الألف، فإذا رجع الغائب، وأقر]-: رجع الحاضر وأدى الألف،

فإذا رجع الغائب، وأقر-: رجع الحاضر عليه بخمسمائة، وإن أنكر-: فالقول قوله مع يمينه؛ فإذا حلف، لا يرجع الحاضر عليه بشيء، وإن أنكر الحاضر، فالقول قوله مع يمينه، وإن أقام المدعي بينه-: تسمع، ويحلف معها لأجل الغائب؛ لأنه لو كان حاضراً-: ربما ادعى الإبراء والأداء، أما إذا حلف مع البينة- أخذ من الحاضر جميع الألف، فإذا حضر الغائب-: رجع الحاضر عليه بخمسمائة. فإن قيل: كيف يرجع، وهو منكر للضمان؟ يقول: أخذ المدعي مني الألف ظلماً قبل، من أصحابنا من قال: إنما يرجع إذا لم يكن صرَّح بالإنكار، بل سكت عن الجواب، فأقام المدعي بينة، أو كان الإنكار من وكيله. أما إذا صرح بالإنكار-: فلا يرجع، ومنهم من قال: وإن أنكر صريحاً- له الرجوع على الغائب؛ لأن إنكاره رد عليه بالبينة، كمن اشترى داراً، فادعاها رجل؛ بأنها ملكي غصبها مني بائعك، فقال: لا، بل كانت ملكاً لبائعي، فأقام المدعي بينة، فأخذها-: كان له الرجوع على البائع بالثمن، وإن أقر له بالملك؛ لأن إقراره رد عليه بالبينة. فصلٌ في ادعاء أداء المضمون إذا ادعى الضامن أداء حق المضمون له-: فالقول قول المضمون له مع يمينه، وإن أقام الضامن بينة يثبت الأداء، ورجع به على المضمون عنه، وإن لم تقم بينة، وحلف المضمون له-: فهو بالخيار: إن شاء طالب الضامن، وإن شاء طالب المضمون عنه، فإذا أخذ من الضامن-: فالضامن لا يرجع على المضمون عنه؛ إلا بألف واحدة، وهي الأولى؛ سواء دفع الأولى بحضرة المضمون عنه أو بغيبته؛ لأنه مظلوم بأخذ إحدى الألفين منه؛ بلا رجوع له بها على غير من ظلمه، وإن أخذه المضمون عنه، فهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه بالألف التي أداها، وأنكرها المضمون له؟ نظر: إن كذَّبه المضمون عنه-: فلا يرجع عليه، وإن صدَّقه على الأداء- نُظر: إن كان قد دفع بحضرة المضمون عنه-: رجع عليه؛ على ظاهر المذهب؛ لأن التوثيق بالإشهاد كان على المضمون عنه؛ فالتفريط جاء من جهته، وإن دفع بغيبته- نُظر: إن لم يشهد عليه، فلا رجوع؛ لأنه فرط بترك الإشهاد، وكان عليه أن يؤدي، إذا انتفع المضمون عنه، حتى لو كان الضامن بعدما أدى: رجع على المضمون عنه بما أنكر المضمون له الأخذ، وأخذ من المضمون عنه مرة أخرى، فللمضمون عنه أن يرجع على الضامن، وإن كان الضامن قد أشهد على الأداء غير أن الشهود قد ماتوا، أو غابوا: فإن صدقه المضمون عنه على الإشهاد-: رجع عليه الضامن، وإن لم يصدقه-:

فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإشهاد، وإن كان قد أشهد مستورين فبانا فاسقين-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنه لا يحكم بشهادتهما؛ كما لو أشهد معلني الفسق أو عبدين. والثاني: يرجع؛ لأنه لا إطلاع له على الباطن؛ فكان معذوراً؛ كما لو أشهد عدلين فماتا، وإن كان قد أشهد شاهداً واحداً، وكان غائباً أو ميتاً-: فوجهان: أحدهما: لا يرجح؛ لأنه حجة غير كاملة. والثاني: يرجع؛ لأن يمينه معه مقبولة؛ فهو مع يمينه حجة كاملة. ولو صدقه المضمون على الأداء، وأنكر المضمون عنه-: فيه وجهان: أحدهما: القول قول الضامن، ويرجع على المضمون عنه؛ لأن براءة ذمته حصلت عن حق المضمون له بتصديقه؛ كما لو قامت عليه بينة. والثاني: القول قول المضمون عنه مع يمينه؛ لاحتمال أن المضمون له أبرأ الضامن؛ فلا رجوع للضامن على المضمون عنه إلا بحجة تقوم على الأداء. فصل فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان المكلف المطلق، رجلاً كان أو امرأة، ذات زوج كانت المرأة أو لم تكن. ولا يصح ضمان الصبي والمجنون والمُبرسم الذي يهذي، ولا المحجور عليه بالسفه؛ كما لا يصح منهم سائر العقود؛ فإن ضمن ديناً، ثم ادعى أني كنت صبياً يوم الضمان-: قُبل قوله مع يمينه؛ لأن الإنسان لا يخلو عن الصغر-: فالأصل بقاؤه، وإن قال: كنت مجنوناً: فإن عرف به جنون سابق- قُبل قوله مع يمينه، وإن لم يُعرف به جنون سابق-: لا يقبل قوله، والقول قول المضمون له مع يمينه، فإن قامت بينة على أنه كان به جنون سابق-: قُبل قوله مع يمينه. ويصح ضمان الأخرس بالإشارة أو الكتابة إن كان يعقل الإشارة والكتابة، وإن كان لا يعقل الإشارة والكتابة-: فهو كالمجنون. وتصح ضمان المحجور عليه بالفلس؛ لأنه إثبات مال في الذمة؛ كما لو اشترى في الذمة شيئاً: يصح. أما العبد: إذا ضمن ديناً لإنسان- نُظر: إن ضمن بغير إذن المولى: لا يصح ضمانه؛

سواء كان مأذوناً له في التجارة أو لم يكن، هذا هو المذهب؛ كما لا يصح بيعه. وقال أبو إسحاق: يصح ضمانه، ويتعلق بذمته؛ يتبع به إذا عتق؛ لأنه لا ضرر على المولى؛ كما لو أقر بإتلاف مال؛ فكذبه المولى-: يتعلق بذمته، أما إذا ضمن بإذن المولى يصح ضمانه، ثم من أين يقضي- نُظر: إن قال المولى: اقضه من كسبك-: قضاه من كسبه، وإن قال:- اقضه مما في يدك من مال التجارة-: قضاه منه، وإن قال: أدِّ عن هذا المال، وعيَّن مالاً-: صح، ويؤدي عما عين بخلاف الحُر، لو قال: ضمنت على أن أؤدي من هذا المال-: لا يصح؛ لأن للحر جهات كثيرة لأداء المال، فإذا عين جهة-: فكأنه حجر على نفسه، فلم يجز بخلاف العبد، وإن أطلق الإذن- نُظر: إن لم يكن مأذوناً له في التجارة- يتعلق بكسبه الذي يكتسبه بعد الضمان؛ كما لو أذن له في النكاح: يتعلق المهر بأكسابه، وإن كان مأذوناً له في التجارة- ففيه وجهان: أحدهما: يتعلق بما يكتسب من بعد. والثاني: يتعلق بما في يده من الربح ورأس المال جميعاً، وبما يكتسبه من بعد. فإن قلنا: يقضي مما في يده: فإن كان على المأذون دين- فهل يشارك المضمون له الغرماء فيما في يده؟ فيه وجهان: أحدهما: يشاركهم؛ لأنه دين لزم بإذن المولى، كسائر الديون. والثاني: لا يشاركهم؛ لأن المال قد تعلق به حق الغرماء؛ فلا يشاركهم غيرهم فيه؛ كالرهن لا يشارك المرتهن فيه غيره، ثم إذا أدى العبد الضمان في حال رقِّه-: رجع السيد على المضمون عنه إن كان الضمان بإذنه، وإن أدى بعد العتق-: ففيه وجهان: أصحهما: يرجع العبدُ عليه؛ لأنه أدى من ملكه. والثاني: يرجع عليه السيد، ويصير كأنه استثنى ذلك من كسبه. والأول المذهب. ولو ضمن العبد لسيده عن أجنبي ديناً-: لا يصح؛ لأنه يؤديه من كسبه، وكسبه مملوك للسيد، وإن ضمن عن سيده لأجنبي- نُظر: إن ضمن بغير إذن المولى- لا يصح، وإن ضمن بإذنه- صح، وأدى من كسبه، ثم إذا أدى في حال رقه-: لا شيء له على السيد، وإن أدى بعد العتق- هل يرجع على السيد؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو أجر عبده، ثم أعتقه، هل يرجع العبد على السيد بأجر مثل المدة الباقية بعد العتق؟ وفيه وجهان. أما من نصفه حر، ونصفه رقيق- نُظر: إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة-: لا يصح

ضمانه إلا بإذن السيد؛ كالعبد القِنِّ، وإن كان بينهما مهايأة، فإن ضمن في يوم نفسه- صح ضمانه بغير إذن السيد، وإن ضمن في يوم السيد-: لا يصح إلا بإذنه، وضمان المكاتب- لا يصح بغير إذن المولى، وهل يصح بإذنه- فعلى قولين؛ كسائر التبرعات. ولو ضمن رجل عن عبد ديناً تعلق بذمته-: صح؛ كما لو ضمن عن حر معسر، ثم إن ضمن وأدى بإذنه-: رجع عليه بعد العتق، وإن كان أحدهما بغير إذنه-: فعلى وجهين: الأصح: أن الاعتبار بالضمان، ولو ضمن عنه سيده يصح أيضاً، ويطالب به السيد، ثم إن أدى في حال رقه-: لا رجوع له على العبد، سواء كان الضمان والأداء بإذنه أو بغير إذنه؛ لأن السيد لا يثبت له على عبده دين، وإن أدى بعد العتق- نظر؛ إن أدى بغير إذنه لا يرجع عليه، وإن أدى بإذنه-: [فهو كمن ضمن عن حرٍّ ديناً بغير إذنه، وأدى بإذنه]؛ لأن ضمان السيد عن العبد وإن كان بالإذن-: فهو كالضمان عن الحر بغير الإذن؛ لأنه لو أدى عقيب الضمان-: لا يمكنه الرجوع عليه، ولو ضمن أجنبي عن المكاتب ديناً- نُظر: إن ضمنه لأجنبي- صح، فإذا أدى رجع على المكاتب، إن ضمن بإذنه، وأخذ مما في يده، وإن ضمن لسيده- نُظر: إن ضمن نجوم الكتابة-: لم يصح؛ لأنه غير مستقر، وإن ضمن ديناً آخر- هل يصح أم لا؟ هذا يُبنى على أنه هل يسقط بالعجز؟ وفيه وجهان، إن قلنا: لا يسقط- يصح، وإن قلنا: يسقط- فلا يصح؛ كنجوم الكتابة. فصلٌ في كفالة الوجه وهي أن يتكفل ببدن من عليه حق-: هل يصح أم لا؟ - نُظر: إن كان ذلك الحق مالاً- أجازه الشافعي المطلبي- رضي الله عنه- في بعض الكتب، وقال في "كتاب الدعوى": الكفالة بالبدن ضعيفة: فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما: لا يصح؛ لأنه ضمان عين في الذمة؛ كما لو أسلم في عين: لا يصح. والثاني: يصح، لأن فيها رفقاً، وإليها حاجة في الوصول إلى الحق؛ كضمان المال، ومنهم من قال: يصح قولاً واحداً، وهو قول أبي حنيفة- رحمة الله عليه- وحيث قال: "هي ضعيفة" أراد به: من طريق القياس، أما من جهة الآثار وعمل أهل العلم بها-: فهي قوية. أما الكفالة ببدن من عليه عقوبة، هل يجوز أم لا؟ - نُظر: إن كانت العقوبة في حدود الله تعالى- لا يجوز؛ لأن الكفالة للاستيثاق، وحدود الله

تعالى مبناةٌ على الدرء والسقوط، وإن كانت من حقوق العباد كالقصاص، وحد القذف-: ففيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن مبنى حقوق العباد على اللزوم؛ كضمان المال. والثاني: لا يجوز؛ لأن العقوبات مبناها على الدرء والسقوط كحدود الله تعالى، وليس كالمال؛ لأن ضمان المال جائز، فجاز التكفل ببدن من عليه المال، وضمان نفس العقوبة لا يجوز، فلا يجوز التكفل ببدن من عليه العقوبة، وكذلك: كل دين لا يجوز ضمانه؛ كنجوم الكتابة: لا تجوز الكفالة ببدن من عليه ذلك الدين، فإن جوزنا كفالة البدن-: فيجوز قبل ثبوت الحق وبعده، وتجوز الكفالة ببدن المريض، والغائب والمحبوس، وإذا تكفل ببدن إنسان، فمتى طالبه المكفول له بإحضاره-: يجب عليه إحضاره، فإن لم يفعل يحبس حتى يحضره، وعليه مؤنة الحبس، ويجب على المكفول ببدنه: أن يحضر معه إذا دعاه، ومؤنة الإحضار على الكفيل، فإن كان المكفول ببدنه غائباً- يكلف إحضاره، إذا لم تكن الغيبة منقطعة، بأن كان يعرف موضعه، ويمهل الكفيل قدر ذهابه ومجيئه، فلو لم يحضره حبس حتى يحضره. وقيل: إذا كان غائباً إلى مسافة القصر-: لا يكلف إحضاره. وإذا حضره قبل طلب المكفول له، وسلمه إليه-: خرج عن الكفالة، إذا لم يكن هناك حائل، فإن كان هناك حائل من سلطان أو غيره-: يمنعه؛ فلا يحصل التسليم، وإن كان في حبس الحاكم-: صح التسليم؛ لأن حبس الحاكم ليس بحائل؛ فإن إحضاره ومطالبته بما عليه ممكن. ويجوز في الكفالة أن يعين مكان التسليم، فإذا لم يعين يجب التسليم في مكان الكفالة، فإذا عين مكان التسليم، فأتى به في غير ذلك المكان، فقبل-: جاز، فإن امتنع- نُظر: إن كان له في رده غرض بأن شرط تسليمه في مجلس الحكم، أو في داره، فأتى به في غيره، أو في بلد، فأتى به في بلد آخر-: لا يلزمه القبول؛ لأن عليه مؤنة إحضاره بلده، ومجلس الحكم، وإن لم يكن عليه ضرر في قبوله ولا في رده غرض-: يلزمه قبوله، فإن لم يقبل رفعه إلى الحاكم ليتسلم عنه كما في دين السلم. وإن لم يكن حاكم- أشهد شاهدين، أنه قد سلمه إليه ويبرأ، وإن كان المكفول ببدنه يجالس المكفول له-: لا يبرأ الكفيل؛ فإن قال: سلمت نفسي إليك من جهة الكفيل- يبرأ الكفيل؛ كما يبرأ الضامن إذا أدى المضمون عنه المال؛ وفرع عليه شيخي- رحمه الله- قال: لو ظفر المكفول له به في مجلس الحكم، وادعى عليه في تلك

الخصومة- لا يبرأ الكفيل؛ لأنه لم يسلمه إليه ولا أحد من جهته، فلو مات المكفول ببدنه- نظر: إن كان قبل ثبوت الحق-: فلا شيء على الكفيل، فلو قال المكفول له: لي بينة يشهدون على يمينه-: عليه إحضاره ميتاً، إن كان قبل الدفن، وإن كان بعد الدفن- فلا نبش، وإن كان بعد ثبوت الحق، فهل يطالب الكفيل بالمال؟ فيه وجهان: أظهرهما- وبه قال أبو حنيفة،- رحمة الله عليه-: لا يطالب به؛ لأنه لم يضمن المال. والثاني: يطالب، وبه قال مالك- رحمة الله عليه- لأنه المقصود من الكفالة، فعلى هذا: ماذا يلزمه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه تمام الدين. والثاني: عليه أقل من دية نفسه أو الدين؛ بناءً على أن السيد إذا اختار فداء العبد الجاني، بماذا يفدي بقيمته أو بأقل الأمرين؟ فيه قولان. وإن غاب المكفول ببدنه؛ حيث لا يعلم مكانه أو أخفى نفسه-: لا يكلف الكفيل إحضاره؛ لأنه غير قادر عليه، وهل يجب على الكفيل المال-: يرتب على الموت، إن قلنا هناك: لا يجب فههنا-: أولى؛ وإلا فوجهان. والفرق: أن هناك وقع اليأس عن وجوده؛ فلزمه المال، وههنا: لم يقع. ولا تصح كفالة البدن؛ إلا برضى المكفول ببدنه؛ لأنه لا يمكنه إحضاره، إذا تكفل بغير إذنه، ولا تلزمه الخصومة بقوله بخلاف ضمان المال-: لا يشترط فيه رضا المضمون عنه؛ لأن أداء الدَّين ممكن من غير حضوره. وقيل: إذا كان بعد ثبوت الحق، وقلنا: إذا تعذر الوصول إلى المكفول ببدنه-: يجب المال على الكفيل، وتصح الكفالة بغير إذن المكفول ببدنه، ثم إذا طالبه بالحضور، فلم يحضر يغرَّم المال، وإذا تكفل ببدن من عليه دين مجهول-: فالمذهب: أنه يصح؛ لأن الكفالة بالبدن لا بالدين. وقيل: إذا قلنا: إذا مات المكفول ببدنه، يجب المال على الكفيل-: فلا تصح هذه الكفالة؛ كما لو ضمن ديناً مجهولاً، ولو تكفَّل ببدنه بشرط أنه إذا عجز عن تسليمه أدَّى الدَّين، هل يصح أم لا؟ إن قلنا عند الإطلاق: إذا عجز يلزمه الدَّين-: فيصح؛ لأنه صرح بمقتضاه. وإن قلنا: لا يلزمه-: فلا تصح الكفالة للشرط الفاسد.

ولو تكفل ببدنه مؤجلاً على أن يسلمه بعد شهر-: يصح؛ ولا يطالب بإحضاره قبل مضي تلك المدة، فلو أتى به قبل مضي تلك المدة، فإن كان له في الامتناع من القبول غرض-: لا يلزمه القبول؛ وإلا فيلزمه القبول؛ كما لو شرط مكاناً للتسليم، فأتى به في غير ذلك المكان. ولو شرط أجلاً مجهولاً؛ كالعطاء والحصاد؟ فيه وجهان: الأصح: لا يجوز للجهل. والثاني- وبه قال أبو حنيفة، - رحمة الله عليه-: يجوز. فإذا تكفل ببدنه مدة؛ مثل: إن قال تكفلته شهراً، أو إلى يوم كذا- معناه: أسلمه إليك في الشهر، فإذا مضى فأنا حِلٌّ عن الكفالة-: ففيه قولان: أحدهما: لا يصح ضمان المال كذلك بأن يقول: ضمنته إلى يوم كذا، فإذا مضى، فأنا بريء منه. والثاني: يصح؛ لأنه قد يكون له غرض في تسليمه في الشهر بخلاف المال، فإن المقصود منه الأداء؛ بدليل أنه يتصور الخروج عن كفالة البدن من غير تسليم ولا إبراء بأن يموت المكفول ببدنه، فإذا شرط كان ذلك من مقتضى العقد، ولا يخرج عن ضمان المال من غير أداء، أو إبراء، وكان ذلك الشرط خلاف مقتضى الضمان؛ فعلى هذا: إذا مضى الشهر يبرأ الكفيل. ولو قال: إذا جاء رأس الشهر، وقد تكفلت ببدنه-: فهو كتعليق الوكالة، وفيه قولان، فإن جوزنا يصير كفيلاً بعد مضي الشهر، ولو تكفل ببدن إنسان، ثم المكفول له أبرأ الكفيل من الكفالة-: يبرأ؛ كما لو أبرأ المضمون له الضامن عن الضمان: يبرأ. ولو صالح الكفيل المكفول له على دراهم على أن يبرئه من كفالة النفس-: لا يصح، والكفالة بحالها. ولو جاء رجل، وقال للمكفول له: أُبرئ الكفيل، وأنا كفيل ممن تكفل به-: ففيه وجهان: قال ابن سُريج: يصح؛ لأنه نقل الضمان إلى نفسه؛ كما لو أحال الضامن المضمون له على آخر.

وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأنه يتكفل بشرط إبراء الكفيل؛ وذلك شرط فاسد. ولو تكفل ببدن إنسان على أنه بالخيار-: لا يصح؛ كما لا يصح ضمان المال بشرط الخيار، أما المكفول له أبداً بالخيار-: فشرط الخيار لا يفسد العقد، ولو تكفل ببدن رجل، ثم تكفل رجل آخر ببدن الكفيل، ثم تكفل رجل ببدن الكفيل-: يصح؛ كما يصح ضمان الدين عن الضمين، ولو كان لرجل حق على رجلين، فقال له: تكفلت لك ببدن أحدهما، ولم يعين-: لم يجز؛ كما لو قال: بعتُك أحد هذين العبدين، ولم يعين-: لا يصح، فإن عين أحدهما- جاز. فلو قال: تكفلت ببدن هذا، وعيَّنه، فإن جئتك به؛ وإلا فأنا الكفيل ببدن الآخر-: لم يجز؛ لأن كفالة الأول غير لازمة، وكفالة الثاني معلقة، ولا يجوز تعليق الكفالة بالشرط. ولو تكفل ببدن رجل لنفسين، فسلمه إلى أحدهما-: فيبرأ عن حقه ولا يبرأ عن حق الآخر؛ لأنه ضمن تسليمين؛ كما لو ضمن دينين لرجلين، فأدى أحدهما-: لا يبرأ عن حق الآخر. ولو تكفل اثنان لرجل ببدن رجل- نُظر: إن تكفَّلا على الترتيب، فجاء به أحدهما، وسلمه إليه-: يقع تسليمه عن نفسه، لا عن صاحبه؛ سواء قال: سلمت عن صاحبي أو لم يقل. أما إذا تكفلا معاً، فجاء به أحدهما، وسلمه إليه-: ففيه وجهان: أحدهما: يبرأ من كفالته، ولا يبرأ الآخر؛ كما لو أبرأ أحدهما-: لا يبرأ الآخر. والثاني: يبرأ الآخر؛ لأن المستحق عليهما إحضاره، وقد وجد كما لو ضمن رجلان ديناً، فأدى أحدهما-: يبرأ الآخر، وليس كالإبراء؛ فإنه مخالف للأداء؛ بدليل أنه من ضمان المال: لو أبرأ أحد الضامنين لا يبرأ الآخر، ولو أدى أحد الضامنين يبرأ الآخر، ولو تكفل ببدن رجل عليه دين، فقال المكفول له: لا حق لي قبله، فهل يبرأ الكفيل والمكفول به بهذا القول؟ ذكر ابن سُريج فيه وجهين: أحدهما: يبرأ، وتزول الكفالة؛ لأن قوله: "لا حق لي قبله": نفي في نكرة؛ فيقتضي استغراق الجنس، أي: لا حق في يمينه ولا في ذمته. والثاني: يرجع إليه: فإن قال: أردت به: "لا حق لي في ذمته" بريء من الحق والكفالة، وإن قال: أردت أنه لا شيء لي في يده على سبيل الأمانة والعارية-: قُبل قوله، وإن كذَّبه الكفيل والمكفول به- حلفا، وإن تكفَّل ببدن رجل، ثم ادعى أنه تكفل، ولا حق

عليه-: فالقول قول المكفول له؛ لأن الكفيل قد أقر بالكفالة، والكفالة لا تكون إلا لمن عليه حق. ولو ضمن عن رجل ديناً، وأدى، ثم ادعى أنه ضمن، وأدى بإذن المضمون عنه، وأنكر المضمون عنه الإذن، وقال: لا رجوع لك علي"- فالقول قول المضمون عنه مع يمينه، لأن الأصل عدم الإذن. ولو ضمن ديناً، أو تكفَّل ببدن إنسان، ثم ادعى أني ضمنت بشرط الخيار؛ فلم يصح الضمان-: يبنى على أن تبعيض الإقرار: إن قلنا: لا يبعَّض-: فالقول قول الضامن مع يمنيه، وإن قلنا: يبعض-: فالقول قول المضمون والمكفول له، وإذا قال في كفالة البدن: تكفلت بنفس فلان، أو ببدنه، أو بجسمه، أو بروحه-: تصح الكفالة، ولو تكفل ببعض بدنه، أو بعضو من أعضائه-: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يصح؛ لأنه عضو متصل به، فيحصل تسليمه بتسليم ذلك العضو. والثاني: لا يصح؛ لأن الكفالة لا تُقبل السراية؛ حتى يكون ذكر بعضه كذكر كله. والثالث- وهو الأصح-: ينظر: إن كان عضواً لا يعيش البدن بدونه؛ كالرأس والوجه والقلب والكبد والطحال والحُشوة والدماغ والدم؛ فتصح الكفالة، إذا أضافها إليه، وكذلك: لو أضاف إلى جزء شائع منه؛ بأن قال: تكفلت نصفه أو ربعه-: فيصح. وإن كان عضواً يعيش البدن بدونه؛ كاليد والرِّجل والأذن وغيرها-: فلا يصح. ولو تكفل ببدن صبي أو مجنون عليه؛ حتى قال ابن سُريج: يصح؛ كما يصح ضمان دين على الصبي؛ لأن الحق يلزم الصبي والمجنون؛ كما يلزم البالغ العاقل، ثم إن تكفل بإذن وليه، فطولب بإحضاره-: كان للكفيل مطالبة وليِّه بإحضاره، وإن تكفَّل بغير إذن وليه-: فهو كما لو تكفل ببالغ بغير إذنه، والله أعلم.

كتاب الشركة

بسم الله الرحمن الرحيم كتابُ الشركة قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ....} الآية [الأنفال: 41]. جعل الله تعالى خُمس الغنيمة لأصناف، وأبقى الباقي مشتركاً بين الغانمين.

وروي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله عز وجل: "أنا ثالث الشريكين، ما لم يخُن أحدهما صاحبه؛ فإذا خانه خرجت من بينهما" الشركة: اسم لثبوت الحق في الشيء الواحد لجماعة على الشيوع. وهي على أقسام: شركة في الأعيان والمنافع؛ كالميراث: يكون مشتركاً بين الورثة، والغنيمة بين الغانمين، أو اشترى جماعة شيئاً، أو وُصي لهم فقبلوا، أو اتَّهبوا. وشركة في المنافع دون الأعيان؛ كما لو استأجر جماعة عيناً، أو أوصى لهم بخدمة عبد، أو وقف عليهم شيئاً يشتركون في منفعته. وشركةٌ في الأعيان دون المنافع؛ كمن أوصى لرجل بخدمة عبد، ومات عن عدة من الورثة، فعيَّن العبد لهم، والمنفعة للموصى له. وشركة في حقوق الأبدان؛ مثل: حد القذف والقصاص: يرثه جماعة. وشركة في حقوق الأموال؛ كالشفعة: تثبت لجماعة. والمقصود من هذا لكتاب عقد الشركة في التجارات والمعاملات، وهي على أربعة أقسام: شركة العنان، وشركة الوجوه، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وكلها-

عندنا- باطلة إلا شركة العنان؛ فإنها جائزة بالاتفاق؛ أخذت من عنان الدابة؛ لاستواء الجانبين في موجب العقد؛ كاستواء طرفي العنان. وقيل: لأن كل واحد يمنع صاحبه أن يعمل ما يشتهي كعنان الدابة يمنع الدابة. وصورتها: أن يُخرج كل واحد دنانير مثل دنانير صاحبه في الوصف، أو دراهم مثل دراهم صاحبه، ويخلطا المالين، ثم بعد الخلط: يعقدا عقد الشركة، فيقولا: عقدنا الشركة أو اشتركنا؛ ولا يصح العقد قبل الخلط. ويجب أن يأذن كل واحد منهما صاحبه في التصرف. وقيل: إذا خلطا المال، وعقدا الشركة-: لا يشترط الإذن في التصرف؛ بل مجرد العقد إذن، وليس بصحيح، بل الإذن شرط، والعقد والخلط سبب الشركة. وكذلك: لو كان لكل واحد عرضٌ، فتبايعا النصف بالنصف؛ فبمجرد التتابع: لا يستفيد التصرف؛ لأنه سبب الشركة، وسبب الشركة لا يفيد التصرف في مال الشريك؛ كمال وارثه؛ فإنهما لو ورثا مالاً مختلطاً: لا يجوز لأحدهما أن يتصرف فيه إلا بإذن الآخر. ويشترط أن تكون على الدنانير والدراهم المطبوعة؛ لأنهما مالا التجارة، ولا يجوز على السبيكة والنُّقرة؛ لأنهما عرضان كالثياب. ويشترط اتفاق المالين في الجنس والوصف؛ بحيث لا يمكن التمييز بينما بعد الخلط: فإن كان من أحدهما دراهم، ومن الآخر دنانير، واختلفا في الوصف: بأن كان دنانير أحدهما صحاحاً، ودنانير الآخر مكسراً، أو أحدهما عين والآخر وسط، أو اختلفا في

سكِّه وتاريخه؛ بحيث يمكن التمييز بينهما بعد الخلط بذلك الوصف، أو إحداهما مثقوبة، أو ذات عِزي: فلا يصح العقد. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: خلط المالين ليس بشرط، وإن كان لأحدهما دراهم، وللآخر دنانير-: تصح الشركة، وبالاتفاق: لو كان لأحدهما حنطة، وللآخر شعير-: لا يصح؛ فنقيس عليه، ولا يشترط اتفاق المالين في القدر، ويكون الربح بينهما على قدر المالين، ولا يشترط ذكره في العقد؛ بل إطلاقه يقتضيه، وذكره لا يضر، ولا يُنظر إلى تفاوتهما في العمل، فلو اشترط التفاوت في الربح مع الاستواء في المال-: لا تصح الشركة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يصح على ما شرطا، فنقول: هذا رفق يستحق بملك الأصل؛ فيستحق بقدر الملك؛ كثمار الأشجار المشتركة ومنافع الدواب المشتركة. ومهما فسد عقد الشركة بوجه من الوجوه-: فالتصرف جائز مع فساد الشركة؛ لوجود الإذن؛ كما لو دخل ببيع شيء، وشرط فيه شرطاً فاسداً- فالوكالة باطلة، ولا يفسد الإذن، ويصح البيع، ويكون الربح بينهما على قدر المالين، وهل تجب الأجرة- نُظر: إن استويا في المال والعمل-: فلا شيء لأحدهما على الآخر، ويتقاصان، وإن اختلفا- نُظر: إن اختلفا في العمل، واستويا في المال: فإن كان عمل من شرط له الزيادة أكثر-: رجع بنصف أجر الزيادة، وغن كان عمل الآخر أكثر-: فهل يرجع بنصف أجر الزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه عقد ربح، فإذا فسد استحق العامل أجر المثل؛ كما في القراض. والثاني: لا يرجعُ؛ لأنه عمل حصل في الشركة من غير شرط عوض، والعمل في الشركة لا يقابله العِوض؛ ألا ترى أن العقد لو كان صحيحاً، وزاد عمل أحدهما-: لا يستحق عليه شيئاً، بخلاف القراض؛ فإن العمل هناك بمقابلة العوض، وإن اختلفاف ي المال؛ بأن كان لأحدهما ألف، وللآخر ألفان، وشرطا الاستواء في الربح، واستويا في العمل، فيرجع من قلَّ ماله على الآخر بثلث أجرة عمله؛ لأن له ثلث المال وعمل نصف العمل-: فثلث عمله زائد؛ فيرجع به لفساد العقد. وهل يجوز عقد الشركة على غير الدراهم والدنانير؟ نظر-: إن كان من ذوات القيم؛ كالحيوان والثياب-: لا يجوز؛ لأن القيمة تتغير بالارتفاع والانخفاض فيؤدي إلى أن يدخل الربح في رأس المال، وإن كان من ذوات الأمثال؛ كالحبوب والأدهان ونحوها-: ففيه قولان:

قال في رواية البويطي- وبه قال أبو يوسف-: لا يجوز؛ كما لا يجوز عقد القراض عليه، لأنها ليست من مال التجارة؛ كذوات القيم. والثاني- وهو الأصح-: يجوز، وبه قال محمد بن الحسن؛ لأنهما مالان لا يتميز أحدهما عن الآخر عند الخلط؛ كالنقدين، ويفارق مال القراض؛ لأن العامل حقه في الربح، فلو جوزنا في العروض، واختلفت قيمتها من العقد إلى المفاضلة؛ فيؤدي إلى أن يدخل الربح في رأس المال أو رأس المال في الربح، وفي الشركة يؤمن هذا المعنى؛ لأنه لا حاجة فيها إلى تحصيل رأس المال؛ بل ما حصل في أيديهما: يكون مقسوماً بينهما على قدر المالين من غير احتياج إلى تمييز ربح، ويفارق العروض المتقومة قيمتها: تختلف من يوم العقد إلى يوم البيع؛ فربما تزيد قيمة مال أحدهما دون الآخر بارتفاع مال أحدهما ويتأخر بيع مال الآخر، فتزداد قيمته أو تنقص؛ لأن الاختلاط فيه لا يمكن، وقد تهلك سلعة أحدهما، وتبقى سلعة الآخر، فلا يجوز بيع مال أحدهما بينهما، وفي المختلط: يؤمن هذا المعنى؛ لأن ما يتلف حقهما، فإن جوزنا: يشترط اتفاق المالين جنساً ووصفاً، كما في النقود؛ حتى لو كان المالان من جنس واحد، والنوع مختلف يمكن التمييز بينهما بمشقة؛ كالحنطة الغريبة مع البلدية-: لا يجوز عقد الشركة؛ كما لو كان لأحدهما سمسمٌ، وللآخر ذُرة-: لا يجوز؛ لإمكان التمييز، وإن لحق المشقة؛ فإن جوزنا الشركة على المال المثلي، فإن كانت قيمة العرضين متساوية-: كانا شريكين فيه؛ كالسواء، ويتراجعان عند المفاضلة إلى مثلهما، والربح بينهما، وإن كانت القيمة مختلفة؛ بأن يكون لأحدهما كُرّ حنطة، قيمته مائة، ولآخر كُرٌّ قيمته خمسون، فخلطا؛ فهما شريكان بقدر قيمة المالين؛ فيكون المال والربح بينهما أثلاثاً، وعند القسمة يبيعانه، ويقسمان على قيمة رأس المال أثلاثاً؛ فإن أراد قسمة عين رأس المال أثلاثاً-: لم يجز؛ على أصح القولين، وإن كان لكل واحد عرضٌ، وأرادا الشركة-: باع أحدهما نصف عرضة بنصف عرض صاحبه؛ فيصير الكل مشتركاً بينهما؛ فيتقاصان، ويأذن كل واحد لصاحبه في التصرف؛ فيكون صحيحاً، وهو أبلغ في الاشتراك من خلط المالين؛ لأنه ما من جزء- ههنا- إلا وهو مشترك بينهما، وهناك-: وإن وجد الخلط-: فمال كل واحد في الحقيقة ممتاز عن مال الآخر، ولو لم يتبايعا هكذا، ولكن اشتريا بالعرضين غير مشتركين بينهما عرضاً، أو باعهما بثمن واحد-: ففي صحة البيع قولان: فإن جوزنا: يكون الثمن مشتركاً بينهما؛ فيأذن كل واحد صاحبه في التصرف، وإن اختلفت قيمة العرضين-: فيكون المال والربح بينهما على التفاوت، وإذا كان لأحدهما عشرة دنانير، وللآخر مائة درهم، وابتاعا شيئاً، وربحاً: فلو كان نقد البلد أحدهما- قُوِّم الآخر به، فإن استوت قيمتهما- استويا في الربح، وإن اختلفت قيمتهما- تفاوتا في الربح على

قدر المالين؛ مثل: إن كانت قيمة عشرة دنانير مائتي درهم؛ فيكون الثلثان لصاحب الدنانير، والثلث لصاحب الدراهم. وأما شركة الوجوه، وشركة الأبدان وشركة المفاوضة عندنا باطلة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: كلها صحيحة. فصورة شركة الوجوه أن يكون رجلان؛ لكل واحد منهما وجه عند الناس ومنزلة، فاشتركا على أن يبتاعا في الذمة بجاههما إلى أجل، وما يبتاع كل واحد: يكون بينهما، ثم يبيعا ويقضيا الدين عند الأجل، فما يفضل: يكون بينهما، أو يكون أحدهما وجيهاً يعرفه التجار، فيشتري منهم في الذمة، ويحمله إلى رجل مجهول؛ ليبيعه؛ فما يحصل من الربح: يكون بينهما؛ وهذا فاسد. وإذا اشترى أحدهما شيئاً: يكون ذلك له خاصة، له ربحه، وعليه خسرانة، ولا يكون لصاحبه فيه شركة إلا بأربع شرائط: أحدها: أن يأذن له في الشراء: أما بمطلق الشركة فيه فلا يستفيده. والثاني: أن يبين جنس ما يشتري، ويبين قدره، وينوي عند الشراء: أنه يشتري لفلان، أو يسميه كالوكيل. وصورة شركة الأبدان: أن يشترك محترفان على أن يكتسبا؛ فما يحصل من كسبهما: يكون بينهما؛ فهو فاسد؛ لأن العمل معدوم، وهو مجهول، كما لا يصح شركة العنان على مال معدوم ومجهول، ثم ما حصل بكسب كل واحد منهما؛ يكون له؛ كما لو اشتركا في الاحتطاب، والاصطياد-: لا يصح، وما أخذ كل واحد: يكون له على الخصوص. وشركة المفاوضة: جوزها أبو حنيفة- رحمه الله- وشرطها عنده: أن يعقد على الدراهم أو على الدنانير. وأن يستويا في قدر المال. وأن يكون الربح بينهما على قدر المالين. وألا يكون لأحدهما من ذلك الجنس مال آخر. وأن يسميا المفاوضة.

وأن يستوي الشريكان في الدين والحرية؛ فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، أو كان أحدهما مكاتباً والآخر حراً-: لا يصح. ثم حكمه عندهم: أن كل ضمان لزم أحدهما بغصب أو جناية-: كان الآخر مؤاخذاً به، إلا الجناية على الحر، وبدل الخلع والصداق، ولا يؤاخذ به الآخر، فكل ما ملك أحدهما بشراء أو التقاط: يشاركه الآخر فيه إلا ثلاثة أشياء: قوت يومه، وثياب بدنه، وجارية يتسرى بها. وما ملك بإرث أو هبة: قال: لا يشاركه الآخر فيه؛ غير أنه إن كان من جنس مال الشركة: تفسد الشركة، وقد قال الشافعي- رضي الله عنه- في "اختلاف العراقيين": إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة- فليس في الدنيا عقد باطل، وذلك لكثرة ما فيها من الجهالات والمحالات وأنواع الغرر، ثم عندنا في شركة المفاوضة: يكون الربح بينهما على قدر المالين؛ لأنهما يتجران في ماليهما، وحكم الأجرة ما ذكرنا في الشركة الفاسدة، ولو اشترك ثلاثة، فأعطى واحد جملاً، والآخر راوية على أن يستقي الثالث الماء على أن ما يحصل: يكون بينهما-: فهذا فاسد، ثم إن استقى من ماء مملوك للسقاء، فعمله: يقع له، وعليه لصاحب الجمل والراوية أجرُ مثل الجمل والراوية؛ لأنه استوفى منفعتهما بأجرة فاسدة. وإن استقى من مباح- نُظر: إن استقى بنيَّة نفسه-: فهكذا، وإن استقى بنيَّة الشركة-: ففيه قولان: بناءً على أن التوكيل والاستئجار للاحتطاب والاحتشاش والاستقاء من المباح-: هل يجوز؟ فيه قولان: أصحهما: يجوز كما لو استأجره لعمل آخر. والثاني: لا يجوز؛ لأنه مباح يملك بالحيازة، والحيازة من الأجير؛ فيقع ملكاً له. فإن قلنا: يجوز-: فما يستقي يكون ملكاً لهم جميعاً، ويرجع كل واحد على صاحبه بثلثي أجر المثل؛ فصاحب الجمل: يرجع بثلثي أجر مثل الجمل على صاحب الراوية والسقاء، وصاحب الراوية يرجع بثلثي أجر مثل الراوية على صاحب الجمل والسقاء، والسقاء يرجع بثلثي أجر مثل عمله على صاحب الجمل والراوية، وإن قلنا: لا يجوز الاستئجار على الاستقاء-: فعمل السقاء وقع لنفسه، والماء له، ويرجع عليه صاحب الجمل والراوية بأجر مثل الجمل والراوية.

فلو استأجرهم رجلٌ بأن يقول لصاحب الجمل: استأجرت جملك، ولصاحب الراوية: استأجرت راويتك، وللثالث: استأجرتك لحمل الماء من موضع كذا إلى موضع كذا، فأجروا-: هل تصح هذه الإجارة؟ فيه وجهان؛ كما لو اشترى عرضين من رجلين غير مشتركين بينهما بعقد واحد-: ففي قول: يصح ويوزَّع المسمى على أجور أمثالهم. والثاني: لا يصح؛ لأن ما يخص كل واحد مجهول، وكل واحد يستحق أجر المثل على المستأجر، وعلى هذا: لو اشترك ثلاثة في عمل الطحن: من أحدهم الطاحونة، ومن الآخر الدابة، ومن الثالث العمل-: لا يصح. فلو قال لهم رجل: استأجرتكم مع الآلات لطحن هذه الحنطة-: فهو كما لو استأجر ثلاثة دور من ثلاثة نفر غير مشتركة بينهم؛ وفي صحته قولان: إن قلنا: يصح-: يوزع المسمى على أجور أمثالهم، وإن قلنا: لا يصح-: فسد المسمى، ولكل منهم أجر مثل عمله أو آلته. أما إذا لزم ذمتهم الطحن بمسمى معلوم، وقبلوا، أو قبل واحد على نفسه، وعلى أصحابه بإذنهم-: صحت الإجارة قولاً واحداً؛ لأن العمل في الذمة معلوم، وهو طحن الثلث على كل واحد منهم؛ فهو كما لو باع عبداً مشتركاً بين أربعة نفر-: يصح، ويوزع المسمى على أجورهم. فصلٌ [في التصرفات في شركة العنان] إذا عقد رجلان شركة العنان، وأذن كل واحد منهما لصاحبه أن يتصرف في كل ما يرى من أنواع التجارات-: جاز، ولا يشترط أن يثبت جنساً ونوعاً؛ كما في القراض. وقيل: يشترط بيان الجنس الذي يتصرف فيه؛ كما في الوكالة. وإذا بين جنساً، وقال: تصرف في كذا-: فكل واحد منهما لا يتصرف في نصيب شريكه؛ إلا فيما سمى، وله أن يتصرف في نصيب نفسه فيما شاء. ولو أذن أحدهما لصاحبه أن يتصرف في جميع مال الشركة، وقال: أنا لا أتصرف إلا في نصيبي-: جاز، وهو لا يتصرف إلا في نصيب نفسه، وكذلك: لو أذن أحدهما لصاحبه في التصرف مطلقاً، ولم يأذن الآخر-: فالمأذون يتصرف في جميع المال، وغير المأذون لا يتصرف إلا في نصيب نفسه، ولو قال أحدهما: أنا لا أتصرف في نصيبي، أو شرط على

شريكه: أنك لا تتصرف في نصيبك إلا في نوع واحد-: لم يصح العقد؛ لأنه حجر على المالك التصرف في ملكه، ولا يجوز لأحد الشريكين: أن يبيع أو يشتري بالغبن الفاحش، أو يبيع نسيئة، أو بغير نقد البلد بغير إذن الشريك؛ فلو باع شيئاً من مال الشركة بغبن فاحش، أو إلى أجل أو بغير نقد البلد-: لا يصح في نصيب الشريك، وهل يصح في نصيبه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. ولو اشترى في الذمة شيئاً بالغبن: يصح، ويقع العقد له-: فعليه أن يؤدي الثمن من خالص ماله. ولو اشترى من مال الشركة شيئاً، فوجد به عيباً: له رده، فلو اشتريا، وأراد أحدهما الإمساك-: يجوز للآخر رد نصيبه؛ لأن تعدد المشتري يوجب تعدد الصفقة. ولا يجوز لأحدهما أن يسافر بمال الشركة، ولا أن يبعضه بغير إذن الشريك؛ فإن فعل كان ضامناً لنصيب الشريك؛ لأنه خاطر بماله، والمال في يد الشريك يكون أمانة، كما في يد المودع؛ فإن هلك في يده من غير تعد منه-: لا ضمان عليه. ولو ادعى أحدهما هلاك المال في يده، أو رده إلى شريكه-: قبل قوله مع يمينه. ولو ادعى أحدهما على الآخر جناية-: لا يسمع، ما لم يبين قدر الجناية، فإذا بيَّن، وقال: خانني في عشرة-: يسمع، وإن لم يبين الجهة-: فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لأنه أمين. ولو اشترى أحدهما شيئاً، وفيه ربح، فقال: اشتريته لنفسي، وقال الآخر: بل للشركة، أو كان فيه خسران، فقال: اشتريته للشركة، وقال الآخر: بل لنفسك: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعرف بنيته. ولو كان في يد أحدهما مال، فقال من في يده هذا خاص مالي، وقال الآخر: بل مال الشركة، أو قال من في يده: هذا مال الشركة، وقال الآخر: بل هو ملكي-: فالقول قول من في يده مع يمينه. ولو كان في أيديهما مال، فاختلفا؛ فقال كل واحد منهما: هذا نصيبي من مال الشركة، وأنت أخذت نصيبك-: تحالفا، وكان المال بينهما، فأيهما حلف، ونكل الآخر-: كان للحالف، قال الشيخ: وكذلك: لو كان المال في يد أحدهما، وكل واحد

يقول: هذا نصيبي، وأنت أخذت نصيبك، ولو كان المال في يد أحدهما، فقال من في يده: اقتسمنا مال الشركة، وهذا نصيبي، وقال الآخر: ما اقتسمنا، وهو مشترك-: فالقول قول المدعي أنه مشترك؛ لاتفاقهما على أنه من مال الشركة، والأصل بقاؤه. فصلٌ في فسخ عقد الشركة عقد الشركة عقد جائز؛ يجوز لكل واحد منهما فسخه، فإذا قال أحدهما: فسخت الشركة: ينفسخ، وانعزلا جميعاً عن التصرف في نصيب الآخر؛ لأن الفسخ يقتضي رفع العقد من الجانبين. ولو قال أحدهما لصاحبه: عزلتك، أو نهاه عن التصرف-: ينعزل عن التصرف في نصيب العازل، ولا ينعزل العازل عن التصرف في نصيب الآخر. ولو مات أحدهما، أو جُنَّ، أو أُغمي عليه-: انفسخ العقد؛ كالوكالة، حتى لو حسنت حالته بعد ذلك-: لا يجوز له التصرف في مال الشركة إلا بعد استئناف عقد جديد. وإذا مات أحدهما: فلوارثه المقاسمة، فإن أراد الوارث المقام على الشركة-: يجوز بعقد مستأنف؛ لأن العقد الأول قد ارتفع؛ وإنما يجوز إذا لم يكن على الميت دين يتعلق بحصته، ولا هناك وصية لغير متعين، وكان الوارث بالغاً رشيداً، فإن كان الوارث مولياً عليه؛ لصغر أو جنون، فإن رأى وليه النظر له في المقام على الشركة-: استأنف عقد الشركة، وإلا قسم المال، وكذلك: إذا أوصى لمعيَّن بثلث ماله-: فللموصى له المقام على الشركة، ولولي الموصى له، إن كان الموصى له صغيراً، إذا رأى النظر فيه، وإن كان قد أوصى بثلثه لغير معين، أو عليه دين، ولم يكن في غير مال الشركة وفاء بالدين-: لم يكن لوارثه المقام على الشركة، فإن قضى الدين من موضع آخر-: فله ذلك. فصلٌ [في الدعوى بين الشَّرِيكَيْنِ] إذا كان بين رجلين عبدٌ، فأمر أحدهما صاحبه ببيعه، فباع كله بألف، ثم اختلف الآمر والبائع، فقال الآمر: استوفيت الثمن، فأدِّ نصيبي، وقال البائع: ما استوفيت، والمشتري يصدق الآمر-: يسقط عن المشتري خمسمائة من نصيب الآمر؛ فإقراره أن البائع الذي هو وكيله استوفاه، وهذا على قولنا: إن الوكيل بالبيع يملك استيفاء الثمن، ولو كان مأذوناً في الاستيفاء، ثم ههنا دعوتان: أحدهما: بين البائع والمشتري. والأخرى: بين الآمر والبائع، فإن جاء البائع أولاً، وادعى على المشتري حصته من

المشتري، فقال المشتري: قد أديته، فإن أقام المشتري بينة على الأداء، أو أقام شاهداً، وحلف ومعه-: سقط عنه جميع الثمن. ولو شهد له الآمر هل يقبل أم لا؟ نُظر: إن شهد بعدما أبرأ البائع عن حقه-: قبلت شهادته، وإن لم يبرئه-: لم تقبل شهادته عليه في قبض حصته؛ لأنه يجر بها إلى نفسه نفعاً، وهو حق الرجوع عليه بما قبض من حصته، فهل يقبل في حصة البائع؟ فيه قولان؛ بناءً على تبعيض الشهادة: فإن قلنا: تبعَّض الشهادة: يقبل، ويحلف المشتري معه، ويبرأ عن جميع الثمن. وإن قلنا: لا تُبعض-: لا تقبل شهادته. وإن قلنا: لا تقبل، ولم يكن عدلاً، أو لم يكن للمشتري بينة-: فالقول قول البائع مع يمينه؟ أنه لم يقبض؛ فإذا حلف: أخذ منه بعض الثمن، ولا يشاركه الآمر فيه، لأنه أقر أنه أخذ الحق مرة، فإن ما يأخذه الآن يأخذه ظلماً، ثم إن ادعى الآمر على البائع-: حلف البائع أنه لم يستوف إلا نصيب نفسه. ولو نكل البائع عن اليمين: حلف الآمر، وأخذ منه خمسمائة، ولا رجوع له على المشتري؛ لأنه يُقر أن الآمر ظلمه فيما أخذ، أما إذا نكل البائع في الابتداء مع المشتري، وحلف المشتري-: تبرأ ذمته، ثم إن ادعى الآمر على البائع: للبائع أن يحلف، فإن كان قد نكل مع المشتري؛ لأن نكوله كان في حق غيره؛ فإن نكل البائع عن اليمين-: حلف الآمر، وأخذ منه خمسمائة، ولا رجوع له على المشتري، وكذلك: إذا جاء الآمر أولاً، وادعى على البائع قبض الثمن، فإن أقام عليه بينة-: أخذ منه حصته، وإن لم يكن له بينة حلف البائع، فإن نكل البائع: حلف الآمر، وأخذ منه خمسمائة، ثم إذا ادعى البائع على المشتري: فللبائع أن يحلف، وإن نكل في حق الآمر. فإن كانت المسألة بحالها [وادعى الآمر] بأن البائع قد قبض الثمن من المشتري، والمشتري يدعيه، والآمر منكر: قال المزني- رحمه الله-: يبرأ المشتري عن نصف الثمن الذي هو نصيب الآمر بإقرار البائع أن شريكه قد قبض؛ لأنه أمين، ويرجع البائع على المشتري بالنصف الباقي، وهذا لا يصح على أصل الشافعي- رحمة الله عليه- لأن البائع وكيل من جهة الآمر، ولا يقبل إقرار الوكيل على الموكل أنه قد استوفى الثمن.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- يُقبل. والمزني قد نقل هذه المسألة من كتب العراقيين، فأجاب على مذهبهم. وقيل: صورة مسألة المزني: أن يكون الآمر مأذوناً من جهة البائع في قبض الثمن، أو كان كل واحد من الشريكين مأذوناً من صاحبه في قبض الثمن، فإذا أقر البائع بقبض الآمر: يسقط عن المشتري مطالبة البائع في الثمن، ويسقط عنه نصيبه بإقراره أن وكيله قد قبض، ثم- ههنا- دعوتان؛ كما ذكرنا: إحداهما: بين البائع والآمر. والأخرى: بين الآمر والمشتري. وإذا أجرى الدعوى بين الآمر والمشتري-: حلف الآمر أنه لم يأخذ شيئاً، وأخذ منه خمسمائة، وخلص له، ولا رجوع للمشتري على البائع؛ لأنه يقر بأن الآمر أخذ منه ظلمات وإن نكل الآمر حلف المشتري وبرئ، وأما إذا ادعى البائع على الآمر-: حلف الآمر، وبرئ، فإن نكل حلف البائع، وأخذ منه خمسمائة، ولا رجوع له على المشتري، وإن كان قد نكل الآمر عن اليمين مع المشتري: فله أن: يحلف مع البائع. ولو شهد البائع للمشتري في هذه الصورة: لم يقبل؛ لأنه يشهد لنفسه على الآمر، فإذا لم يكن الآمر مأذوناً من جهة البائع في قبض الثمن: فبإقرار البائع أن الآمر قد قبضه- لا تبرأ ذمة المشتري عن شيء من الثمن، غير أن البائع لا يمكنه مطالبة المشتري بنصيب الآمر؛ لأنه أقر أن الآمر قد قبض نصيبه، وأنه معزول عن وكالته، بل يأخذ نصيب نفسه بلا يمين؛ لأن قبض الآمر نصيب البائع بغير إذنه- لا يبرئ ذمة المشتري، ثم إذا تخاصم الآمر والمشتري، فادعى المشتري على الآمر القبض، فإن كان للمشتري بينة- أقامها، وبرئ من حقه، وإن لم يكن له بينة- حلف الآمر أنه لم يقبض، فإذا حلف- قال المزني: هو بالخيار بين أن يرجع على المشتري بخمسمائة، وبين أن يشارك البائع فيما أخذ؛ فيأخذ منه مائتين وخمسين، ومن المشتري مائتين وخمسين؛ لأنه ما من جزء من الثمن إلا وهو مشترك بينهما، لاتحاد الصفقة، بخلاف المسألة الأولى، إذا كان الآمر مأذوناً في القبض: لم يكن للبائع أن يشاركه فيما يقبض من المشتري، لأن بزعمه: أنه مبطل فيما يقبض من المشتري، وليس له مشاركته فيما يقر ببطلان يده عليه. وقال ابن سريج: ليس للآمر أن يشارك البائع فيما أخذ، بل يأخذ حقه من المشتري،

لأن البائع قد انعزل عن وكالته بإقراره: أن الموكل أخذ حقه، وهو لا يأخذ بعد العزل إلا حق نفسه؛ فلا يشاركه الآمر فيه. ولو شهد البائع للمشتري على قبض الآمر: لا تقبل شهادته على قول المزني؛ لأنه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة مشاركة الآمر معه فيما أخذ، وعلى قول ابن سريج: يُقبل؛ لأن عنده لا رجوع له عليه، فهو لا يدفع بشهادته ضرراً عن نفسه. فصلٌ [في ثبوت حق لرجلين على رجل بسبب واحد] إذا كان لرجلين حق على رجل ثبت بسبب واحد، هل ينفرد أحدهما بقبض نصيبه؟ نظر: إن ثبت إرثاً لا ينفرد، وكذلك إذا كاتب رجلان عبداً كتابة واحدة: لا ينفرد أحدهما بأخذ نصيبه من النجوم. وإن ثبت بغير الميراث والكتابة؛ بأن باعا سلعة صفقة واحدة، هل ينفرد أحدهما باستيفاء نصيبه من الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو اختيار المزني- رحمه الله-: لا ينفرد، بل إذا أخذ منه شيئاً شاركه الآخر فيه، كما في الميراث؛ لأن قسمة الدَّين: لا تجوز؛ كما لا يجوز بيع الدين بالدين. والثاني: ينفرد بخلاف الميراث، لأنه لا يتجزأ، وكذلك: الكتابة؛ ألا ترى أن أحد الورثة لا يجوز أن يرث بعض التركة منفرداً به لا يشاركه فيه الآخر؛ وكذلك: كتابة بعض العبد لا يجوز، وكذلك: لا يتجزأ في القبض، أما سائر الحقوق تتجزأ في الأصل، فتتجزأ في القبض، أما إذا باع كل واحد منهما نصيبه بعقد آخر، فينفرد كل واحد منهما بأخذ نصيبه بعقد آخر؛ لا يختلف القول فيه. فصلٌ [في بيع العبد الشريك بغير إذن الآخر] عبد مشترك بين شريكين؛ باع أحدهما جميع العبد بغير إذن شريكه: لا يصح البيع في نصيب الشريك، وهل يصح في نصيبه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. ولو باع أحدهما نصف العبد- نظر: إن قال: بعتُك نصيبي: صح البيع، وإن باع نصفه مطلقاً: ففيه وجهان: أحدهما: ينصرف إلى نصيبه، ويصح البيع. والثاني- وهو الأصح-: يقع شائعاً؛ فيصير كأنه باع نصف نصيبه، ونصف نصيب شريكه، فلا يصح في نصف نصيب الشريك، وفي نصف نصيبه قولان.

ولو أقر بنصفه مطلقاً لإنسان: فعلى هذين الوجهين: أحدهما: ينصرف إلى نصيبه؛ فيصح. والثاني: يكون شائعاً، فلا يقبل في نصف نصيب الشريك، ويقبل في نصف نصيبه قولاً واحداً؛ لأن الإقرار ليس بعقد يتفرق. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: ينصرف إلى نصيبه، والإقرار يقع شائعاً. ولو كان بين رجلين عبد، فغصب غاصب نصيب أحدهما؛ وذلك يتصور بأن يستولى عليه، فيزيل يد أحد المالكين عنه، ولا يزيل يد الآخر، فلو باع من لم يغصب منه نصيبه-: جاز، ولو باع المغصوب منه نصيبه- نظر: إن باعه من الغاصب جاز، وإن باع من غيره لا يجوز؛ إلا ممن يقدر على أخذه من الغاصب. ولو باع من لم يغصب منه مع الغاصب جميع العبد صفقة واحدة: صح البيع في نصيب المالك، وبطل فيما باعه الغاصب، ولم يجعل في نصيب المالك قولين؛ لأن القولين في الصفقة الواحدة إذا بطل بعضها، وههنا: الصفقة متعددة؛ لأن البائع اثنان، فبطلان أحد الصفقتين لا يوجب بطلان الأخرى، وقيل ههنا في نصيب المالك: إنه يصير كما لو باع نصفه منفرداً؛ فيقع شائعاً، أم ينصرف إلى نصيبه؟ فعلى الوجهين: إن قلنا: ينصرف إلى نصيبه: صح البيع. وإن قلنا: يقع شائعاً: يبطل البيع في ثلاثة أرباعه، وفي ربعه قولان؛ بخلاف ما لو باع المالكان معاً: صح، ولا يجعل كأن كل واحد باع نصفه مطلقاً؛ لأن العقد الصحيح هناك تناول جميع العبد. ولو وكل الغاصب الشريك في البيع، أو وكَّل الشريك الغاصب، فباع الكل: فهذه صفقة واحدة؛ فلا يصح في النصف المغصوب، وفي نصيب الشريك قولان، والله أعلم.

كتاب الوكالة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوكالة روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أعطى عُروة بن الجعد ديناراً ليشتري له شاة للأضحية.

وروي أنه- عليه السلام- وكل عمرو بن أمية الضمري حتى قبل له نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان. التوكيل؛ فيما تجري فيه النيابة من الأمور: جائز، وهو تفويضه إلى الغير؛ ليعمل له، جوز، لماس الحاجة إليه، فإن الإنسان قد يحتاج إلى شغل، وهو لا يحسنه، أو لا يتفرع إليه، لكثرة أشغاله، فجوز له أن يوكل فيه؛ فيجوز في عقود المعاملات من البيع، والابتياع، والسلف، والاستسلاف، والهبة، والاتهاب، والرهن، والارتهان، وفي فسخ العقود، والإقالة، وعقد الصلح، والإبراء، والحوالة من الجانبين، والضمان، والكفالة والشركة، والوكالة، وعقد القراض، والمساقاة، والإجارة، والجعالة، والإيداع، والإعارة، والأخذ بالشفعة، ويجوز في التزويج، وقبول النكاح، والرجعة، والخلع، والطلاق، والإعتاق، وعقد الكتابة، والوقف، ويجوز في الوصية وقبولها، ويجوز في الإقرار؛ وهو أن يقول: وكلتك لتقر عن فلان بكذا؛ على أصح الوجهين؛ لأنه إثبات مال في الذمة كالبيع؛ فإن أقر به الوكيل، لزم، وإلا فلا؛ كالصلح، ويجب أن يبين جنس ما يقر به الوكيل وقدره، لأنه يعظم الضرر في إطلاقه، ويكثر الغرر. والوجه الثاني- وهو قول ابن سريج-: لا يصح؛ لأنه إخبار عن حق؛ فلا يقبل التوكيل؛ كالشهادة؛ فعلى هذا: هل يكون توكيله إقراراً منه؟ فيه وجهان: أحدهما- قاله صاحب "التلخيص" تخريجاً-: يكون إقراراً؛ لأن توكيله دليل على ثبوت الحق عليه. والثاني- وهو الأصح عندي: لا يكون إقراراً؛ كالتوكيل بالإبراء: لا يكون إبراء. فإن قلنا: يكون توكيله إقراراً، فلو قال: أقر لفلان عليَّ بشيء-: فيؤخذ بتفسير الموكل، ولو قال: أقر له عني، ولم يزد عليه-: فقد قيل: هو كما لو قال: أقر عني بشيء. والمذهب: أنه لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يقل: أقر بالمال، أو بشيء آخر من فضل، أو

سخاوة، أو شجاعة؛ ألا ترى أنه لو قال لخصمه: أنا مقر لك، لا يلزمه شيء. ويجوز التوكيل في الدعاوى، واستيفاء الحقوق، وإثباتها، ورد الأمانات، ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف، ولا يجوز في إثبات حدود الله تعالى؛ لأن الحق فيه لله، وقد أمر فيه بالستر والدرء. ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى؛ كالإمام: يأمر من يقيمه، والسيد يوكل من يقيم الحد على مملوكه. ويجوز في استيفاء القصاص، وحد القذف بحضرة الموكل، وهل يجوز في غيبته؟ فيه قولان: أصحهما: يجوز؛ كما يجوز في حضرته. والثاني: لا يجوز؛ لأن الموكل ربما يعفو في الغيبة فيستوفيه الوكيل بعد عفوه، وهو لا يشعر، ولا يمكن تداركه. والأول أصح؛ كما لو ثبت عليه القصاص بالبينة-: جاز استيفاؤه في غيبة الشهود، وإن احتمل رجوعهم؛ فهل يجوز التوكيل في تمليكه المباحات؛ كإحياء الموات، والاستقاء، والاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ كالاغتنام، ولأن الملك فيه يحصل بالحيازة، والحيازة من الوكيل؛ فيكون الملك له. والثاني: يجوز؛ لأنه تمليك مال بسبب؛ كالابتياع، والاتهاب. ولا يجوز التوكيل في الأيمان، والنذور، والإيلاء، والظهار، واللعان، والقسامة؛ لأنها أيمان شرعت للزجر، وتتعلق بها الكفارة، فلا تجري النيابة فيها؛ كالعبادات: لا يجوز التوكيل في أدائها، ولا تجري النيابة فيها إلا الحج؛ فيجري فيه النيابة؛ لورود الخبر فيه. ومن مات، وعليه صوم: يصوم عنه وليه على قوله في القديم. ولا يجوز في تعليق الطلاق، وتعليق العتق، والتدبير، لأنها في معاني الأيمان، وكذلك: لو طلق إحدى امرأتيه لا يعينها، أو أعتق أحد عبديه، فوكل بالبيان والتعيين، أو أسلم عن أكثر من أربع نسوة، فوكل باختيار أربع منهن-: لا يصح. ويجوز في تفريق الزكاة، والكفارات؛ كما يجوز في أداء الحقوق.

ومن لا يملك مباشرة عقد بنفسه: لا يصح منه التوكيل فيه، حتى لا يصح توكيل الصبي، والمجنون، والمحجور عليه في المال، ولا يصح التوكيل من السفيه، والعبد، والمرأة بالتزويج. ولو وكل السفيه، أو العبد رجلاً بقبول النكاح له: يجوز بعد إذن الولي، والمولى لهما في النكاح؛ وهذا مطرد، إلا الأعمى؛ فإنه لا يبيع، ولا يشتري، ويوكل فيه؛ لأجل الضرورة، وكذلك: من لا يملك مباشرة عقد لنفسه: لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في مثل هذا العقد؛ كالصبي، أو السفيه: لا يكون وكيلاً بالبيع والشراء؛ وكذلك: السفيه، والعبد، والمرأة: لا تكون وكيلاً في التزويج. وكذلك: الفاسق إذا لم نُجوز تزويجه بالولاية- أما إذا وكل فاسقاً بقبول النكاح، يجوز. وكذلك: لو وكل رجل عبداً، أو سفيهاً بقبول النكاح: يجوز، ولا يحتاج إلى إذن الولي والمولى على الأصح؛ بخلاف ما لو وكل عبداً بالبيع، أو الشراء: لا يجوز، إلا بإذن المولى؛ لأن العهدة في البيع تتعلق بالوكيل، وفي النكاح لا تتعلق بالوكيل عهدة، فهو كما لو وكل عبداً أو سفيهاً بالطلاق، يجوز من غير إذن المولى والولي، ولو وكل امرأة بتطليق زوجته: يجوز على أصح الوجهين؛ كالزوج: يفوض إليها تطليق نفسها؛ فيجوز. وإذا وكل وكيلاً، يجب أن يبين ما يوكله فيه؛ حتى لو قال: أنت وكيلي في كل أموري، أو: في كل قليل وكثير: لا يصح. ولو قال: وكلتك ببيع جميع مالي، وكان مغلوماً، أو قبض جميع ديوني، وهو معلوم: يجوز. وكذلك لو قال: بع ما شئت من مالي، واقبض ما شئت من ديوني: جاز؛ لأنه إذا عرف ماله ودينه: عرف أقصى ما يبيع، ويقبض. قال الشيخ الإمام: ولا يجوز بيع الكل، ولا قبض الكل. ولو وكله بالصلح- نُظر: إن كان صلح معاوضة-: يجب أن يصالحه على ثمن المثل- بنقد البلد، كالبيع، وإن كان صلح حطيطة-: فهو كالإبراء؛ يجب أن يبين ما يصالحه عليه. ولو وكله بإبراء خصمه: لم يجز؛ حتى يبين الجنس والقدر الذي يبرئ منه؛ فإذا علم جنس الدين وقدره، فقال: أبرئ فلاناً عن دين: له أن يبرئه عن الكل. ولو قال: أُبرئه عن شيء من ديني: يبرئه عن قليل منه.

ولو قال: عما شئت: يبرئه عما شاء، ويبقي شيئاً. ولو قال: اشتر لي شيئاً، أو قال: طعاماً، أو حيواناً، ولم يبين، أو رقيقاً، ولم يبين: لا يجوز؛ حتى يبين؛ أنه عبد، أو أمةٌ، ويبين نوعه؛ بأن يقول: عبداً تركياً، أو هندياً، وهل يشترط أن يقول: قيمته كذا؟ فيه وجهان: أصحهما- قاله ابن سريج-: لا يشترط، ويكون ذلك إذناً في أعاد ما يكون منه. وقيل: يشترط أن يبين قدر الثمن، أو غايته؛ فيقول: عبداً تركياً بمائة، أو عبداً تُركياً من مائة إلى ألف، فإن ذكر الثمن، بأن قال: عبداً بمائة، ولم يذكر النوع: لا يصح. وإن وكله لشراء دار: لا يجوز؛ حتى يبين المحلة، والسكة، أو شراء حانوت؛ حتى يبين سوقه، وفي بيان الثمن وجهان. ولو وكل بالخصومة: لا يصح حتى يبين الخصم وما يخاصمه فيه؛ فإن عين أحدهما دون الآخر: لا يصح. ويجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم. وعند أبي حنيفة وحده: لا يجوز من غير رضاه، إلا أن يكون للموكل عذر؛ بأن يكون مريضاً، أو امرأة مخدرة، أو يريد سفراً. وبالاتفاق: يجوز التوكيل باستيفاء الحق من غير رضا من عليه؛ لأنه توكيل في خالص حقه؛ فلا يتوقف على رضا الخصم؛ كما لو وكل بالطلاق، واستيفاء الدين: لا يشترط رضا المرأة، ورضا من عليه الدين؛ فإذا وكل وكيلاً في شيء، لا يشترط أن يقول الوكيل بلسانه: قبلت، بل بمجرد قوله: وكلتك في كذا: يصير مأذوناً فيه واشتغاله بالعمل قبول، إلا أن يرده؛ فيقول: لا أفعل؛ فلا يكون وكيلاً. ولفظ التوكيل ليس بشرط، بل إذا قال: بع مالي، أو افعل كذا-: كان مأذوناً، وامتثال الأمر لا يكون على الفور. ولو علق الوكالة على أمر مستقبل؛ فقال: إذا قدم فلان، أو إذا جاء رأس الشهر، فأنت وكيلي في كذا: لا يصح؛ على الظاهر من المذهب؛ كما لا يصح تعليق البيع، والإجارة. وقيل: كالوصية. والأول أصح؛ لأن غرر الجهالة يمنع صحة الوكالة؛ فغرر التعليق يمنعها بخلاف

الوصية، فإن غرر الجهالة لا يبطلها، وكذلك غرر التعليق. فإن قلنا: لا يصح؛ فلو تصرف الوكيل بعد وجود الشرط: يصح؛ لأن الإذن قائم مع فساد العقد؛ غير أنه إن كان قد سمى له جعلاً: سقط المسمى، ويجب أجر المثل؛ كالشرط الفاسد في النكاح: يفسد الصداق، ويوجب مهر المثل. أما إذا عقد الوكالة في الحال، وعلق التصرف على شرط؛ بأن قال: وكلتك بأن تطلق امرأتي بعد شهر، أو تبيع مالي بعد كذا: يصح التوكيل، ولا يتصرف إلا بعد وجود الشرط. وكذلك: لو قال: وكلتك بتطليق كل امرأة أنكحها، أو بيع كل عبد أشتريه، أو بإعتاقه- يصح. أما إذا قال: إذا ملكت فقد وكلتك: فهو تعليق الوكالة. ولو وكل رجلاً في أمر، ثم خرج الوكيل عن أن يكون من أهل ذلك التصرف؛ بجنون، أو إغماء؛ أو حُجر عليه بالسفه: بطلت الوكالة، وإذا أفاق، أو زال الحجر: لا يعود وكيلاً إلا بتوكيل جديد. وكذلك: لو مات الموكل، أو جُنَّ، أو أغمي عليه، أو حُجر عليه بالسفه: انعزل وكيله. ولو أمر عبده بعقد، ثم أعتقه، أو باعه، هل ينعزل؟ فيه وجهان؛ وكذلك لو وكَّل عبد غيره بإذن السيد، ثم أعتقه السيد، هل ينعزل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ كما لو أمر زوجته بعقد، ثم طلقها. والثاني: ينعزل؛ لأنه ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر، وكذلك: يلزم امتثاله، وبزوال ملكه سقط أمره عنه. ولو عزل الوكيل نفسه بعدما قبل الوكالة: ينعزل، ولو عزله الموكل في غيبته: ينعزل قبل بلوغ الخبر إليه، على الصحيح من المذهب. وفيه قول آخر: أنه لا ينعزل، إلا بعد بلوغ الخبر إليه. ويجوز بيعه بعد العزل قبل العلم؛ وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه- كما أن حكم الفسخ لا يلزم العبد قبل بلوغ الخبر إليه. والأول أصح؛ بخلاف الفسخ، لأن أمر الشرع وجب امتثاله واعتقاده، فلو ألزمناه حكم الفسخ قبل العلم: أدى إلى تحير المأمور فيما يعمله، أو يعتقده، بخلاف أمر العبد.

ولو وكل وكيلاً بمسألة الخصم؛ بأن سألت المرأة زوجها أن توكل بالطلاق، أو الخصم مسألة التوكيل، ففعل، ثم عزله: ينعزل. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا ينعزل. ولو وكله، وقال: مهما عزلتك، فأنت وكيلي-: صح التوكيل، ويلغو الشرط؛ حتى لو عزله ينعزل. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا عزله، تتجدد الوكالة. ولو وكل رجلاً بالبيع: يملك الوكيل تسليم المبيع، وقبض الثمن على أصح الوجهين. وكذلك: لو وكله بالابتياع، يملك قبض المبيع، وتسليم الثمن؛ على الأصح إن كان دفع إليه، لأن ذلك من قيمة العقد. ولو وكله بالبيع إلى أجل: لا يملك قبض الثمن بعد الأجل، إلا بإذن جديد. ولو وكله بتثبيت حق: لا يملك استيفاؤه. ولو وكله باستيفاء دين له على إنسان، فأنكر الخصم: لا يملك الوكيل تحليفه، ولا إقامة البينة؛ على أصح الوجهين؛ لأنه وكله بالقبض لا بالتثبيت. وقيل: له ذلك؛ لأن بالتثبيت يصل إلى القبض. ولو وكله بالخصومة، قال الشيخ: يملك التحليف، وإقامة البينة، ولا يملك الاستيفاء. ولو وكله بالخصومة، أو باستيفاء الدين: لا يملك الوكيل الصلح، ولا الإبراء؛ لأنه خلاف ما وكله فيه. ولا يقبل إقرار الوكيل على الموكل؛ بأنه استوفاه أو أبرأه. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يقبل إقرار الوكيل على الموكل في مجلس الحُكم، إلا في دعوى النكاح، والطلاق، والقصاص، والعفو عنه؛ فنقيس على هذه المواضع؛ لأن إقراره على الموكل خلاف ما وكله فيه: فلا يقبل؛ كما في هذه الأشياء. ولا يجوز للوكيل أن يوكل غيره بغير إذن الموكل، إذا كان ما وكل فيه أمراً يتولاه الوكيل بنفسه، لأن الموكل لم يرض بغيره؛ كما أن الوصي لا يجوز له أن يوصي إلى غيره، وإن كان أمراً لا يمكنه توليته بنفسه، فإن كان تجارة أو عقداً لا يحسنهما أو يترفع عن مثله من حمل متاع في وعائه: فله أن يوكل فيه؛ وكذلك: إذا كان مما يتولاه، إلا أنه لا يقدر

على جميعه؛ لكثرته-: جاز له أن يوكل فيما لا يقدر عليه؛ لأن توكيله فيما لا يقدر عليه إذن له في التوكيل. وإذا كان لا يقدر على جميعه، فهل له أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لما ملك التوكيل في بعضه-: ملكه في جميعه. والثاني- وهو الأصح-: ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه؛ لأنه غير عاجز عنه. أما إذا كان أذن له الموكل في التوكيل-: جاز له أن يوكل، ثم نظر: إن عين، وقال: وكل فلاناً-: له أن يوكله، سواء كان أميناً، أو غير أمين، وإن لم يعين، بل أطلق الإذن-: فلا يجوز للوكيل أن يوكل إلا أميناً، فإذا وكل أميناً، ثم صار خائناً- هل له عزله؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ كما في الابتداء: لا يجوز أن يوكل إلا أميناً. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه أذن له في التوكيل، ولم يأذن له في العزل، ثم الموكل إن قال له: وكل عني، أو أطلق؛ فقال: وكل؛ فيكون الثاني وكيلاً من جهة الموكل-: يجوز للموكل عزل أيهما شاء، ولا يملك أحدهما عزل الآخر. ولو قال له الموكل: وكل عن نفسك-: فالثاني وكيل من جهة الأول، فلو عزل الموكل الوكيل الأول-: ينعزل، ولو عزل الثاني-: ينعزل؛ على أصح الوجهين؛ كما ينعزل بجنون الموكل. والثاني: لا ينعزل؛ لأنه ليس بوكيل من جهته، وإنما انعزل بجنون الموكل؛ لانعزال الأول. ولو أن الوكيل الأول عزل الثاني-: ينعزل؛ كما ينعزل بجنونه وموته. ولو وكله في التصرف، وقال له: اصنع ما شئت، فهل له أن يوكل؟ وجهان: أصحهما: لا. وقوله: "اصنع ما شئت"- ينصرف إلى تصرفه. ولو وكل نفسين في بيع، أو طلاق- نُظر: إن جعله إلى كل واحد منهما-: جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به، وإن لم يجعل إلى كل واحد: لا ينفرد به أحدهما؛ لأنه لم يرض برأيه وحده.

وإن وكلهما بحفظ متاع، هل ينفرد أحدهما بحفظه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا ينفرد؛ بل يجعلانه في حرز لهما. وقيل: ينفرد به أحدهما؛ لأنه يشق اجتماعهما عليه، فإن كان مما ينقسم قسمين، فيحفظ كل واحد بعضه. فصلٌ [في بيان أن التوكيل أمانة] المال في يد الوكيل- يكون أمانة: لو هلك في يده من غير تعد: لا ضمان عليه، فإن تعدى فيه؛ بأن وكله ببيع ثوب، فلبسه، أو دابة، فاستعملها: صار ضامناً، ولكن لا ينعزل عن الوكالة. فلو باعه بعد التعدي: صح البيع، وإذا أخذ ثمنه: لا يكون الثمن مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعد فيه. ولو دفع إليه دراهم ليشتري له بها شيئاً؛ فسلفها، أي: أخذها قرضاً لنفسه: صار ضامناً؛ فلو اشترى للموكل الطعام في الذمة، أو بعين مال نفسه: يقع للوكيل، ولا يصير للموكل إلا بعقد جديد منه. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يقع للموكل؛ بناءً على أصلين له؛ وهو: أن النقود لا تتعين عنده، وأن الملك يقع للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل؛ فلو خرج مال الموكل من يده، ثم عاد إليه، فاشترى به الطعام للموكل: صح الشراء للموكل، ولا يكون الطعام مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعد فيه. ولو طلبه الموكل: رد ماله إليه [و] ليس للوكيل الامتناع؛ فإن امتنع من التخلية بينه وبين المال من غير عذر- صار ضامناً، فلو ادعى بعده تلفاً، أو رداً-: لا يقبل قوله؛ كالغاصب. فصلٌ [في تصرفات الوكيل] إذا وكل ببيع شيء مطلقاً، فعلى الوكيل أني بيعه بنقد البلد حالاً بثمن المثل أو أكثر، فلو باعه بعرض أو بغير نقد البلد أو مؤجلاً أو بغبن فاحش: لا يصح البيع غير أنه لا يصير بمجرد البيع ضامناً للمال ما لم يسلم المبيع إلى المشتري؛ فإذا سلم: ضمن، والمالك بالخيار، إن شاء ضمن الوكيل، وإن شاء ضمن المشتري، فإن ضمن المشتري يضمنه كمال

قيمة العين، وإن ضمن الوكيل المذهب هذا- أيضاً-: يضمنه كمال الوكيل. وقيل: يحط قدر الغبن اليسير، ثم الوكيل بعدما غرم يرجع على المشتري، والموكل يرجع بما حط عن الوكيل، وهو الغبن اليسير عن المشتري، فإذا استرد المبيع، ثم باعه بثمن المثل حالاً: صح البيع؛ لأن الإذن بالبيع لم يرتفع بالتعدي، ولو باع بغبن يسير-: يتغابن الناس بمثله؛ بأن باع ما يساوي عشرة بتسعة: صح البيع، وبثمانية: لا يصح. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يصح بيع الوكيل بالعرض، وبالغبن الفاحش وبالنسيئة. فنقول: أخذ مصراعي البيع؛ فلا يلزم الموكل المطلق بالغبن؛ كما لو وكله بالشراء، فاشترى بالغبن: لا يلزم الموكل. وعند أبي يوسف: يصح بالنسيئة وبالعرض، ولا يصح بالغبن. ولو قال الموكل: بعه بكم شئت: فله أن يبيع بالغبن، ولا يجوز أن يبيع بالعرض ولا بالنسيئة. ولو قال له: بعه بما شئت: يجوز أن يبيع بالعرض، ولا يجوز بالغبن ولا بالنسيئة. ولو قال: بعه كيف شئت: يجوز بالنسيئة، ولا يجوز بالعرض ولا بالغبن. وكان شيخي- رحمه الله- يقول: إذا قال: كيف شئت: يجوز بالعرض والغبن. ولو وكله بالبيع مطلقاً، وفي البلد نقدان: يبيع بالغالب، فإن استويا في المعاملة: يبيع بما هو الأنفع للمالك، فإن استويا في النفع: باع بأيهما شاء: قال الشيخ: إن استويا في المعاملة: وجب ألا يصح التوكيل ما لم يبين؛ كما لو باع شيئاً بدراهم، وفي البلد نقدان مستويان: لا يصح؛ حتى يقيد بواحد منهما؛ فإن أذن له بنقد: لا يجوز أن يبيع بنقد آخر. ولو باع الوكيل بيعاً صحيحاً: لا يجوز له تسليم المبيع قبل قبض الثمن؛ فإن سلم فللموكل أن يغرمه قيمته: إن كانت القيمة والثمن سواء، وإن كان الثمن أكثر: فلا يغرمه إلا القيمة، وإن كانت القيمة أكثر؛ بأن باعه بما يتغابن الناس بمثله: فهل نغرمه جميع القيمة أم نحط قدر الغبن؟ فيه وجهان: أحدهما: يحط؛ لأن البيع صح بذلك الثمن.

والثاني: لا بحط؛ بل نغرمه كمال القيمة، وهو الأصح؛ لأنه صار مضموناً عليه بالقيمة. ثم الوكيل: إن أخذ الثمن بعدما غرم القيمة: دفع الثمن إلى الموكل، واسترد القيمة. ولو وكله بأن يشتري شيئاً، فاشترى بغبن فاحش، أو بغير نقد البلد- نُظر: إن اشترى بعين مال الموكل: لا يصح الشراء، وإن اشترى في الذمة: يقع للوكيل، وعليه أداء الثمن من مال نفسه، وإن اشترى بغبن يسير: يتغابن الناس بمثله؛ مثل: إن اشترى ما يساوي عشرة بأحد عشرة: يصح، وإن اشترى باثني عشر: لا يصح. ولو وكله ببيع شيء، فطلبه رجلان: أحدهما بثمن المثل، والآخر بأكثر: يجب أن يبيع بالأكثر، فإن باع ممن يطلب بثمن المثل: لا يصح، ولو طلبه واحد بثمن المثل، فباع منه، ثم جاء رجل آخر، وزاد عليه- نُظر: إن كان بعد التفرق عن مجلس البيع: لا يرد البيع الأول، وإن كان قبل التفرق: فقد قيل: لا يرد البيع الأول؛ لأن الثاني ربما لا يثبت على الزيادة. والصحيح من المذهب: أنه يجب أن يرد الأول، ويبيع من الآخر. فلو لم يبع، حتى رجع الثاني- نُظر: إن رجع قبل التمكن من البيع منه: فالبيع الأول مردود؛ فيحتاج إلى تجديد العقد مع الأول ومع غيره. وإن عين الموكل زماناً للبيع أو مكاناً أو شخصاً للبيع منه: لا يجوز للوكيل أن يخالفه، فلو عين وقتاً، فقال: بعه في يوم كذا: لا يجوز أن يبيع قبله ولا بعده؛ لأنه قد يكون له حاجة في الوقت الذي عينه، فيوكل ببيعه، لا تكون تلك الحاجة في غيره. ولو غيَّر المكان، وقال: بعه في مكان كذا، أو في سوق كذا، فباع في غيره- نُظر: إن كان له غرض في تعيين ذلك المكان؛ بأن كان الراغبون فيه أكثر، أو النقد فيه أجود: لا يصح بيعه في غير ذلك المكان، وإن استوى الموضعان: ففيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه خالف أمره، وقد يكون له غرض في تعيينه لا يطلع عليه. ولو أطلق التوكيل بالبيع: يجب أن يبيع في ذلك البلد، فلو حمله إلى بلد آخر: صار ضامناً؛ لأنه مخاطر بالمال بإخراجه عن البلد، فلو باعه في تلك البلدة: يصح البيع، والثمن مضمون عليه؛ لأنه مخاطر به بمفارقة البلد.

وإذا وكل بالبيع: لا يجب تعيين من يبيع منه، فلو عين، وقال: بع من فلان: لا يجوز أن يبيع من غيره، ولو وكله بالبيع أو بالشراء مطلقاً: لا يجوز أن يبيع من نفسه، ولا أن يشتري من نفسه؛ وكذلك: لا يجوز أن يبيع أو يشتري من ابنه الطفل؛ لأنه يحتاج إلى الاستقصاء لولده، وفيه ترك النظر للموكل؛ كما يبيع من نفسه، ولأنه يتولى طرفي العقد على الموكل؛ كما لو وكله رجل ببيع عبد، ووكله رجل آخر بشرائه: لا يتولى الوكيل طرفي العقد عليهما، ولو باعه من أبيه أو ابنه البائع، أو وكله بشراء شيء، فاشتراه من أبيه، أو ابنه: هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو المذهب، وبه قال أبو يوسف ومحمد: يجوز؛ كما لو باع أو اشترى من زوجته أو مكاتبه أو صديقه. والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: لا يجوز؛ لأنه متهم بالميل غليهما. وقيل: إذا باع من زوجته، أو الزوجة من زوجها، وقلنا: لا تقبل شهادة أحدهما للآخر: ففي جواز البيع منه وجهان؛ كالأب، وعلى هذا: المكاتب كالأب؛ لأن شهادته لا تقبل له، أما إذا أذن له في البيع من أبيه، أو ابنه البالغ: يجوز أن يبيع منهما، ولا يجوز من غيرهما، ولو أذن له في البيع من نفسه: لا يجوز، ولو أذن له في البيع من ابنه الطفل. قال الشيخ: وجب أنه يجوز؛ لأنه إذا نظر لولده فقد رضي به الموكل، ويتولى طرفي العقد؛ كما لو باع مال نفسه من ابنه الطفل. ولو أمره بالبيع بجنس من الثمن: لا يجوز أن يبيع بجنس آخر؛ حتى لو قال: بعه بعشرة دراهم، فباعه بعشرة دنانير: لا يصح، ولو باعه بعشرة دراهم ودينار أو بعشرة دراهم وثوب: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه عدل إلى عير جنس ما أمر به، ولأن الثمن يتوزع على المبيع، فيكون بعض المتاع مبيعاً بغير جنس ما أمر به. والثاني: يجوز؛ لأنه حصل مقصوده، وزاده خيراً؛ كما لو قال: بعشرة دراهم، فباعه بأكثر: يجوز، ولو باعه بأقل: لا يجوز. ولو قال: بعه بعشرة، ولا تزدعليها: لا يجوز أن يبيع بأكثر. ولو عين المشتري، فقال: بع من فلان بعشرة، فباع منه-: لا يجوز بأكثر، ولو قال:

بعه بعشرة دراهم، ولا تبع بخمسة عشر: يجوز أن يبيع بأكثر من عشرة إلى خمسة عشر وهل يجوز بأكثر من خمسة عشر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لم ينه عنها. والثاني- وهو الأصح: لا يجوز؛ لأنه لما نهى عن أن يزيد خمسة: ففي الأكثر أولى، وكذلك: لو وكله بالشراء، فقال: اشتر عبد فلان بعشرة دراهم: يجوز أن يشتري بأقل، ولا يجوز بأكثر. ولو قال: اشتر بعشرة، ولا تشتر بخمسة: يجوز أن يشتري بعشرة فما دونها إلى خمسة، ولا يجوز بخمسة، وفيما دونها وجهان. ولو وكله ببيع فاسد: لا يملك الفاسد ولا الصحيح. ولو أذن له في البيع إلى أجل: يجب أن يبين الأجل، وإن لم يبين الأجل: لا يصح التوكيل؛ لأن الآجال تختلف، فلو سمى أجلاً، فباعه بأجل أطول: لا يصح؛ كما لو قال: بعه حالاً، فباعه مؤجلاً: لا يصح. ولو باعه حالاً بالنقد- نُظر: إن باعه بثمن النقد-: لا يصح، لأن ثمن النقد يكون أقل، وإن باعه بثمن النسيئة- نُظر: إن كان في وقت لا يأمن فيه من نهب أو سرقة-: لا يصح، وإن كان في وقت مأمون فيه: فعلى وجهين، قال الشيخ: وكذلك لو سمى له أجلاً، فباعه بأجل دونه: فهو كما لو باعه حالاً. أصحهما: يجوز؛ لأنه زاده خيراً. والثاني: لا يجوز؛ لأنه قد يكون له غرض في التأجير بألا يتلف، ولا يطمع فيه. ولو وكله بشراء شيء، ودفع إليه ألفاً، فقال: اشتر في الذمة، وانقد هذا في ثمنه، فاشترى بعينها، أو قال: اشتر بعينها، فاشترى في الذمة: لا يجوز؛ لأن الحمك فيها يختلف، فإن العين ترد بالعيب، فيفسخ البيع، والمشتري في الذمة يدعيه الوكيل لنفسه، وإن لم يدع، فيشغل ذمة الموكل، وهو لم يرض بشغل ذمته. ولو دفع إليه ألفاً، وقال اشتر لي عبداً، ولم يقل: بعينها: ففيه وجهان: أحدهما: عليه أن يشتري بعينها. والثاني: هو مخيرٌ: إن شاء اشترى بعينها، وإن شاء في الذمة ونقد فيه الألف؛ لأنه لم يعين عليه واحداً منهما. ولو قال: اشتر إلى أجل؛ فاشتري حالاً: لا يصح؛ لأنه يتوجه عليه المطالبة في الحال.

ولو قال: اشتر حالاً فاشتري نسيئة إلى أجل- نظر: إن اشتراه بثمن النسيئة: لا يصح؛ لأنه لا يكون أكثر، وإن اشتراه بثمن النقد: فعلى وجهين: قال- رضي الله عنه: الأصح جوازه، وكذلك: لو وكل مطلقاً بالشراء، فاشترى نسيئة بثمن النقد: يجوز؛ لأنه لا ضرر عليه، وإن أراد فراغ ذمته: أمكنه التعجيل، ولا يجوز للوكيل بالبيع أن يشترط الخيار للمشتري، ولا الوكيل بالشراء أن يشترط الخيار للبائع؛ لأنه لا حظ للموكل فيه؛ فلا يجوز من غير إذنه؛ كالأجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن إطلاق البيع يقتضي بيعاً بلا شرط. والثاني: يجوز؛ لأنه احتياط للموكل. ولو وكل رجلاً؛ ليشتري له عبداً، فاشترى غيره- نُظر: إن اشترى بعين مال الموكل: لم يصح، وإن اشترى في الذمة: يقع للوكيل؛ سواء سمى الموكل ولم يسمه. وقيل: إن سماه: لم يصح العقد؛ فكما بطلت التسمية- بطل العقد. والأول أصح، وهذا بخلاف ما لو وكله ليقبل له نكاح امرأة بعينها، فقبل نكاح غيرها: لا يصح للوكيل؛ لأن غبن الزوج مقصود، وكذلك لو شرطنا تسميته؛ كالثمن في البيع، وغبن المشتري غير مقصود، ولذلك: لا يشترط تسميته؛ فجاز أن يقال: إذا لم يصح للموكل: يقع للوكيل عند عدم تسمية الموكل. ولو وكله رجل ببيع عبد، ووكله آخر بشرائه: لا يجوز أن يتولى طرفي العقد؛ بل يتولى من أيهما شاء، ويتولى عن الآخر غيره؛ وكذلك: لو وكله رجل بالخصومة عنه، ووكله خصمه بالجواب: لا يتولى عنهما؛ لأنهما متضادان، بل يتولى عن أيهما شاء. ولووكل عبداً ليشتري له نفسه من مولاه، أو وكله ليشتري له شيئاً آخر من مولاه: ففيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو وكله؛ ليشتري له [شيئاً من غير مولاه]. والثاني: لا يجوز؛ لأن يد العبد يد المولى؛ كما لو وكل رجلاً؛ ليشتري له من نفسه شيئاً: لا يصح. ولو وكله ليشتري له عبداً، أو وكله] ببيع عبد: لا يجوز أن يشتري أو يبيع مبعضاً؛ بل يشتري جميعه صفقة واحدة؛ لأن في التبعيض إضراراً بالموكل.

ولو وكله ببيع أعبد، أو شراء أعبد: جاز أن يعقد على واحد واحد؛ لأنه لا ضرر عليه؛ فإن وكله بأن يشتري صفقة واحدة: لم يجز التفريق، وإن وكله بأن يشتري خمسة أعبد صفقة واحدة، فابتاعهم من اثنين صفقة واحدة، فعلى وجهين: أحدهما: يجوز؛ لأنه اشتراهم صفقة واحدة، كما لو اشترى من واحد. والثاني: لا يجوز؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان؛ كما لو اشترى بصفقتين. ولو وكله ببيع ثلاثة أعبد مطلقاً: جاز بيعهم صفقة واحدة، وبثلاث صفقات. ولو وكله ببيع ثلاثة أعبد بألف؛ فباع واحداً منهم بأقل من ألف: لا يصح؛ لأنه قد لا يشتري الباقيين بما بقي من الألف. ولو باع واحداً منهم بألف: جاز، ثم هل له بيع الآخرين؟ ففيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنه رضي ببيع الجميع. والثاني: لا يجوز؛ لأن مقصوده تحصيل الألف، وقد حصل ببيع واحد. ولو دفع ديناراً إلى رجل ليشتري له شاة، فاشترى شاتين- نُظر: إن كان كل واحدة منهما لا تساوي ديناراً: لم يصح للموكل، وإن كان كل واحد يساوي ديناراً: ففيه قولان: أصحهما: يصح للموكل، كما لو أمره أن يبيع شيئاً بدرهم، فباع بدرهمين. والثاني: الموكل بالخيار. إن شاء أمسكهما، وإن شاء أمسك إحداهما بنصف دينار، ورد الأخرى إلى الوكيل، وأخذ منه نصف دينار، إن كان الوكيل قد اشترى في الذمة، وإن اشترى بعين مال الموكل: فالبيع في الأخرى باطل؛ فإن صححنا الشراء فيهما للموكل، فباع الوكيل إحداهما دون إذنه بدينار: لا يصح على القول الجديد. وفي القديم: يتوقف على إجازة الموكل؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دفع ديناراً إلى عروة البارقي؛ ليشتري له شاة، فاشترى شاتين، فباع أحدهما بدينار، وأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- بشاة ودينار، فدعا له النبي- صلى الله عليه وسلم- بالبركة؛ فكان لو اشترى تراباً لربح عليه". فصلٌ أحكام العقد في البيع والشراء: تتعلق بالوكيل؛ مثل تسليم رأس مال السلم، وبدل الصرف، وخيار المكان؛ حتى يلزم بمفارقة الوكيل مكان العقد، ولا يلزم بمفارقة الموكل،

ولو وكله بشراء عبد موصوف غير معين: يجب أن يبتاعه سليماً من العيوب؛ بخلاف العامل في القراض: يجوز له [أن] يبتاع السليم والمعيب؛ لأن القصد من القراض: طلب الربح، وقد يكون في ابتياع المعيب ربح وفضل. والقصد من التوكيل في الابتياع: أن يبتاع ما يقتنيه ويدخره، ولا يقتني إلا السليم؛ فلو اشترى عبداً معيباً علم به: لا يصح للموكل، وإن كانت قيمته مع ذلك العيب أكثر من ثمنه. وإن اشتراه جاهلاً بالعيب، ثم علم به: له أن يرده بالعيب، فإن رضي به سقط حقه من الرد، فإن حضر الموكل ورضي به: كان له، وإن لم يرض، وأراد الرد: نُظر: إن كان الوكيل قد سماه في الابتياع، أو نواه، وصدقه البائع أنه ابتاعه لفلان: فللموكل الرد؛ لأن الشراء وقع له، وهو لم يرض به. وإن لم يسمه الوكيل، ولم يصدقه البائع أنه نواه له لزم الوكيل، ولو لم يرض به الوكيل، فأراد رده قبل حضور الموكل، فقال البائع: أخر الرد، حتى يحضر الموكل، فربما يرضى به: فللوكيل أن يرد؛ لأن حق الرد على الفوز؛ فربما لا يرضى به الموكل، فيلزمه، فلو رده الوكيل، ثم حضر الموكل، ورضي به: لا يكون له إلا بعقد جديد، فلو أخر الوكيل الرد على رضا الموكل؛ كما يقول البائع؛ فإن حضر، ورضي به: كان له، وإن لم يرض: لزم الوكيل، ولا رد له؛ لتأخيره الرد مع الإمكان. وقيل: له الرد؛ لأنه لم يرض بالعيب، وهو ضعيف. ولو رضي به الموكل قبل علم الوكيل أو بعده: كان للموكل، ولا رد للوكيل، بخلاف العامل في القراض، إذا وجد بما اشترى عيباً: له رده، وإن رضي به رب المال؛ لأن للعامل حظاً في ربحه، فلو أراد الوكيل الرد، فقال البائع: لا ترده، فلعل موكلك قد بلغه الخبر، ورضي به: فله الرد بلا يمين، لأن البائع لا يدعي شيئاً يقيناً، إنما ظن ظناً، فإن قطع، وقال: قد رضي به الموكل: فلا رد لك، وأنكر الوكيل: حلف الوكيل لا يعلم أن موكله رضي به، وإنما حلفناه؛ لأنه لو أقر لزمه حكم إقراره؛ فإذا حلف رده، وإذا نكل حلف البائع لقد رضي به الموكل؛ فيسقط الرد، ثم إذا حضر الموكل، وأقر بالرضا: أخذه، وإن أنكر الرضا: لزم الوكيل، ولا رد له، لأنه أبطل حقه بالنكول. فإذا حلف الوكيل ورد السلعة، ثم حضر الموكل وقال: كنت رضيت بها معيبة قبل رد الوكيل.

قال ابن سريج: كان له استردادها من البائع؛ لأن البائع قد ادعى رضاه، وصدقه عليه الموكل. ولو وكل في شراء سلعة بعينها، فاشترى، ثم وجد بها عيباً، فهل للوكيل أن يرد بغير إذن الموكل؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد؛ كما يرد السلعة الموصوفة. والثاني: لا يرد من غير إذن الموكل؛ لأنه قطع اجتهاده بالتعيين. قال الشيخ- رحمه الله-: هذا كله، إذا اشترى بثمن في الذمة، فإن اشترى بعين مال الموكل، ولم يرض الموكل: رده، والعقد لا يلزم الوكيل، وإن كان قد عين الموكل المبيع والثمن جميعاً؛ فقال: اشتر لي عبد فلان بثوبي هذا، أو بهذه الدراهم بعينها، فاشترى بها: لم يكن للوكيل رده بالعيب. ولو وكله بشراء عبد، فاشترى أبا الموكل: صح، وعتق على الموكل؛ لأنه وكله بتمليكه عبداً، وقد فعل، والعتق أمر حدث في ملك المشتري، ولو اشترى أبا الموكل، وهو معيب: فللوكيل رده؛ لأنا لا نعتقه على الموكل قبل الرضا بالعيب. ولو وكل ببيع شيء فباعه، فوجد المشتري به عيباً: فإن لم يعلمه المشتري وكيلاً، بل ظن أنه يبيع ملك نفسه: رده على الوكيل، وإن علمه وكيلاً: فإن شاء رده على الموكل، وإن شاء رده على الوكيل، ثم الوكيل يرده على الموكل، فإن كان العيب مما يمكن حدوثه عند المشتري فصدقه الوكيل أنه حدث في يد الموكل، ولم يصدقه الموكل: رده على الوكيل، ولا يرد الوكيل على الموكل. ولو وجد المشتري به عيباً، فهل يجوز للوكيل أني حط بعض الثمن لأجل العيب؟ ذكر ابن سريج فيه قولين: أحدهما: لا، وللمشتري الخيار بين أن يخير بجميع الثمن أو يرد. والثاني: يجوز؛ كما لو باع في الابتداء بذلك القدر: يجوز. وإذا اشترى شيئاً بوكالة الغير: فالملك لمن يقع؟ فيه وجهان لابن سُريج:

أصحهما: للموكل؛ كما لو قبل للغير النكاح بالوكالة: يقع العقد للموكل؛ يدل عليه: أنه لو وكله بشراء عبد، فاشترى الوكيل أبا نفسه: لا يعتق عليه. والثاني- وبه قال أبو حنيفة، - رحمة الله عليه-: يقع للوكيل، ثم ينتقل للموكل بخلاف النكاح؛ فإنه لا يقبل النقل من ملك إلى ملك، وملك اليمين يقبل النقل. ولو وكل وكيلاً بشراء شيء في الذمة، فهل للبائع مطالبة الوكيل بالثمن؟ نُظر: إن لم يعلمه وكيلاً من جهة الغير: له مطالبته بالثمن، وإن علمه وكيلاً من جهة الغير: ففيه أوجه: أحدها: يطالب الوكيل؛ لأنه عقد معه، ولم يكن له مطالبة الموكل. والثاني: يطالب الموكل؛ لأن الملك وقع له. والثالث: له أن يطالب أيهما شاء، وهو الأصح؛ فالوكيل كالضامن، والموكل كالمضمون عنه؛ فللمضمون له أن يطالب أيهما شاء، فإن أخذ من الوكيل: رجع الوكيل على الموكل، وإن أخذ من الموكل: لا يرجع على الوكيل؛ كالضامن مع المضمون عنه، ولو وكله ببيع شيء، وأخذ ثمنه، فباعه، ثم خرج المبيع مستحقاً بعدما تلف الثمن: رجع المشتري على الوكيل بالثمن الذي دفع إليه، ثم الوكيل يرجع على الموكل؛ لأن العهدة عليه. ولو دفع إليه عشرة دنانير؛ ليشتري له بعينها عبداً، فاشترى، ثم تلفت العشرة قبل تسليمها إلى البائع: انفسخ العقد، ولا غُرم على الوكيل، ولو تلفت قبل الشراء: انعزل الوكيل. ولو وكله ليشتري في الذمة، وينقد العشرة في ثمنه، فتلفت العشرة في يد الوكيل بعد الشراء: لا ينفسخ العقد، ثم فيه وجهان: أحدهما: العقد يلزم الوكيل، وعليه الثمن من عنده. والثاني: يجب على الموكل الثمن؛ لأن العقد ملزم وقع له. ولو تلفت العشرة قبل الشراء، ثم اشترى: فعلى هذين الوجهين: أحدهما: يقع العقد للوكيل، وعليه الثمن. والثاني: يقع للموكل، وعليه الثمن. ولو وكل رجلاً ببيع شيء، فباعه ثم رده عليه بعيب، أو وكله ببيع شيء بشرط الخيار، فباعه، ثم فسخ البيع: لا يجوز له أن يبيع ثانياً؛ لأنه كان وكيلاً بالبيع الأول، فإذا باع صار معزولاً.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يجوز أن يبيعه ثانياً. فصلٌ في الاختلاف إذا كان في يده مال لغيره، وادعى رده إلى مالكه: هل يقبل؟ نُظر: إن كان مضموناً عليه؛ كالمغصوب والمستام والمستعار: لا يقبل قوله؛ بل القول قول المالك مع يمينه؛ لأن يد هؤلاء يد ضمان، والأصل بقاء الضمان، وإن كان أمانة في يده- فلا يخلو-: أما إن ادعى الرد على من ائتمنه أو على غير من ائتمنه؛ فإن ادعى الرد على من ائتمنه: فهو على أضرب: أحدها: أن يكون أخذه لمنفعة الدافع؛ كالمودع والوكيل بلا جعل، إذا ادعيا الرد، وأنكر المالك: فالقول قولهما مع يمينهما؛ لأنهما أمينان، والأصل بقاء أمانتهما. الضرب الثاني: أن يأخذه لمنفعة مشتركة بينه وبين الدافع؛ كالأجير المشترك على قولنا: إن يده يد أمانة، والعامل في القراض والوكيل بالجعل، هل يقبل قولهم في الرد؟ فيه قولان: أحدهما: لا بل القول قول الدافع مع يمينه؛ لأن الآخذ أخذه لمنفعة نفسه، وهو حصول الأجرة له. والثاني: القول قول من يدعي الرد؛ لأن أخذ هؤلاء لمنفعة المالك، وحصول الأجر، ولهم بعملهم فانتفاعهم بالعمل في العين. أما العين: فلا منفعة لهم فيها بخلاف المرتهن والمستأجر: إذا ادعيا الرد اختلف أصحابنا فيه. قال العراقيون: القول قول المالك مع يمينه؛ لأن المرتهن والمستأجر أخذاه لمنفعة أنفسهما؛ كالمستعير. وقال الخراسانيون من أصحابنا: القول قولهما مع يمينهما؛ لأنهما أمينان كالمودع. قال الشيخ: هذا إذا قلنا في القسم الثاني: يقبل قولهم: فإن قلنا في القسم الثاني: لا يقبل قولهم، مع كون المنفعة مشتركة: فههنا: أولى ألا يقبل مع كون المنفعة خاصة لمن يدعي الرد. أما إذا ادعى الرد على غير من ائتمنه؛ كالوصي والقيم، إذا ادعيا دفع المال إلى اليتيم

بعد البلوغ: لا يُقبل قوله؛ هذا هو المذهب؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [ألنساء: 6]، ولو كان قوله مقبولاً: لم يأمر بالإشهاد. وقيل: يقبل قوله؛ لأنه أمين؛ كما يقبل قوله في قدر ما أنفق وليس بصحيح. والمذهب الأول؛ بخلاف قدر ما أنفق؛ لأن الإشهاد على قدر ما ينفق عليه كل ساعة تشق عليه؛ فسقط عنه، وقُبل قوله، وكذلك: الملتقط الذي أخذ اللقطة بنية التعريف، أو من ألقت الريح ثوباً في حجره، إذا ادعى الرد: لا يُقبل قوله، هذا هو المذهب؛ لأنه يدعي الرد على غير من ائتمنه، ثم كل من قبلنا قولنا من هؤلاء في الرد: هل له أن يمتنع من الرد إلا بالإشهاد، سواء كان على الآخذ شاهد، أو لم يكن؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له الامتناع؛ لأن قوله مقبول في الرد. والثاني: له ذلك؛ دفعاً لليمين عن نفسه. أما من لا يقبل قوله في الرد- نُظر: إن كان على الآخذ شاهد: له أن يمتنع من الرد بالإشهاد، وإن لم يكن على الآخر شاهد: فعلى وجهين. أصحهما له ذلك؛ لأن قوله في الرد غير مقبول. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يمكنه أن يقول في الإنكار: لا يلزمني تسليم شيء إليك، حتى يقبل قوله. وكذلك المديون إذا امتنع عن أداء الدين إلا بالإشهاد: إن كان على الدين شاهد: له ذلك؛ وإلا فعلى وجهين. فصلٌ ولو أن رجلاً دفع مالاً إلى رجل؛ ليدفع إلى غيره قضاء عن دينه، فاختلفا، فقال الوكيل: دفعته إليه، وأنكر رب الدين: لا يقبل قول الوكيل على رب الدين؛ لأنه لم يأتمنه، بل القول قول رب الدين، مع يمينه، فإذا حلف- رجع على الموكل، ولا يرجع على الوكيل؛ لأنه لا شيء له على الوكيل، ثم الموكل هل له أن يرجع على الوكيل بما دفع إليه؛ لترك الإشهاد على الدفع إلى رب الدين؟ نُظر: إن كان الوكيل دفع إلى رب الدَّين بحضرة الموكل: ليس له أن يرجع على الوكيل؛ لأن الاستيثاق بالإشهاد كان على الموكل؛ نظراً لنفسه.

وقيل: يرجع عليه وإن دفع بحضرته؛ لأن ترك الإشهاد سبب الضمان؛ فلا يسقط بحضور الموكل؛ كما لو أتلف ماله، وهو حاضر يضمن، والأول أصح. وإن كان الوكيل دفع بغيبة الموكل: فللموكل أن يرجع على الوكيل بما دفع إليه؛ لأنه كان يجب على الوكيل حفظ النظر للموكل بالإشهاد، وإن كان الموكل يصدقه في الدفع، فقال أبو الطيب بن سلمة: إن كان يصدقه في الدفع: فليس له أن يضمنه؛ لأنه مقر أنه أتى بما أمر به، والأول المذهب، وإن كان قد أشهد على الدفع إلا أن الشهود ماتوا أو غابوا أو جُنُّوا: فليس للموكل أن يرجع على الوكيل؛ لأنه أتى بما عليه من الاحتياط. وإن أشهد مشركين أو عبدين أو فاسقين: فهو كعدم الإشهاد؛ فللموكل أن يرجع عليه، وإن أشهد شاهداً واحداً: ففيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه؛ لأن الشاهد الواحد ليس بحجة كاملة. والثاني: لا يرجع؛ لأنه يمكنه أن يحلف معه؛ فيكون حجة كاملة. ولو أمره بإيداع مال عند رجل؛ فهل يلزمه الإشهاد؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأنه لا يؤمن جحوده؛ كما لو أمره بقضاء دينه. والثاني: لا يلزمه؛ لأن قول المودع مقبول في الهلاك، والرد؛ فلا فائدة في الإشهاد. فإن قلنا: يلزمه الإشهاد، فلم يشهد، وحجة المدفوع إليه: فللموكل أن يرجع على الوكيل ويغرِّمه. وخرج ابن سريج قولاً آخر- وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه: أن الوكيل إذا ادعى الدفع: يقبل قوله على الموكل، وإن لم يقبل على المدفوع إليه؛ لأن المدفوع إليه: لم يأتمنه، والموكل قد ائتمنه؛ كما لو ادعى رده إلى الموكل: يقبل قوله، وإن لم يشهد. والأصح: أنه لا يقبل قوله على الدافع إلا ببينة؛ لأن الموكل أمره بالدفع- إلى من لم يأتمنه؛ فمقتضاه: أن يشهد، وعلى هذا: كل ما جُعِل إلى الوكيل من بيع أو هبة أو طلاق أو عتق أو صلح أو إبراء، فقال الوكيل: قد فعلت، وأنكر الموكل: نُظر: إن كان بعدما عزله الموكل: لا يقبل قوله؛ لأنه لا يملك المباشرة. وإن كان قبل عزله: ففيه وجهان: أصحهما: لا يُقبل قول الوكيل إلا ببينة.

وعلى قول ابن سريج: يقبل؛ لأنه أمين. وفيه وجه ثالث: أن ما كان الإقرار به كإيقاعه؛ مثل؛ أن يقول: طلقت أو أعتقت أو أبرأت أو عفوت: يقبل قوله، وما لا يتم به وحده؛ كالبيع، وقبض الثمن، ودفع المال إلى فلان: لا يقبل قوله إلا ببينة، أو أكذبه الموكل، وعلى هذا: لو وكله باستيفاء دينه، فقال: استوفيت، وأنكر الموكل: لا يقبل قول الوكيل على الأصح. وعند أبي حنيفة- رحمه الله- القول قول الوكيل في جميع ذلك إلا في النكاح؛ فإن الوكيل إذا قال: فعلت، وأنكر الموكل: فالقول قول الموكل؛ لأن النكاح لا يُعقد إلا بشاهدين. فصلٌ [فيما لو وكل يُقبض الدين] إذا كان له على رجل دين، أو في يده عين، فوكل رجلاً بقبضه، فجاء الوكيل- نُظر: إن صدقه المطلوب منه، ودفع إليه- جاز، ثم إذا حضر الموكل، فأنكر التوكيل-: فالقول قوله مع يمينه؛ أنه لم يوكله، فإذا حلف: فإن كان ذلك عيناً، وهي قائمة: أخذها الموكل، وإن كانت تالفة: فالموكل بالخيار: إن شاء غرم الوكيل، وإن شاء غرم الدافع، وأيهما غرمه: لا رجوع له على الآخر؛ لأنه مقر أنه مظلوم. وإذا كان ديناً: فالموكل لا يغرم الوكيل؛ لأنه لم يأخذ شيئاً من ماله بزعمه؛ بل يغرم الدافع، ولا رجوع للدافع على القابض. أما إذا كان المطلوب منه دفع المال إليه من غير أن يصدقه صريحاً؛ فإذا حلف الموكل، وغُرم الدافع: له أن يرجع على القابض، ديناً كان أو عيناً، أما إذا امتنع المطلوب منه عن دفع المال إلى الوكيل بعد تصديقه: نص على أنه لا يلزمه الدفع إليه، ونص فيما لو قال: لفلان عندي أو عليَّ كذا، وقد مات، وهذا وارثه: أنه يلزمه الدفع إليه؛ فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين: أحدهما: يلزمه الدفع إلى الوكيل والوارث جميعاً؛ لأنه مقر أنه يبرأ بالدفع إليه. والثاني: لا يلزمه إلا ببينة؛ لأنه لم يأمن من إنكار الموكل وكالته، وأن يبين من كان يظن موته حياً.

والصحيح: الفرق بينهما، وهو أنه لا يجب الدفع إلى الوكيل، ويجب إلى الوارث؛ لأن بزعمه يقع اليأس من عود الميت وانتقال الملك إلى الوارث، ولم يقع اليأس من حضور الموكل، وإنكاره وكالته. ولو قال: مات فلان، وله عندي كذا، وهذا وصيه: فهو كما لو قال: هذا وارثه: يلزمه الدفع إليه؛ على الأصح. ولو جاء رجل وقال: أحالني صاحب الحق عليك، فصدقه: هل يلزمه الدفع إليه؟ فيه وجهان: أصحهما: يلزمه؛ لأنه أقر بانتقال الحق إليه؛ كالوارث. والثاني: لا يلزمه، لأنه ربما ينكر صاحب الحوالة؛ كالموكل، ينكر الوكالة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يجب الدفع إلى الوكيل، إن كان ديناً، وإن كان عيناً: فلا يجب؛ لأن في الدين: أقر بثبوت المطالبة له في ماله، وفي العين: يقر في مال الغير؛ فلا يقبل، وقال: لا يجب الدفع إلى الوصي، ديناً كان أو عيناً، ويجب إلى الوارث. قال الشيخ: إذا أوجبنا الدفع إلى الوارث والوصي، أو دفع بنفسه، وصدقه، ثم بان المالك حياً، وغرم الدافع: له أن يرجع على المدفوع إليه؛ بخلاف الوكيل: لا يرجع إليه الدافع؛ لأنه صدقه على الوكالة، وإنكار رب المال لا يرفع تصديقه حقيقة؛ لأنه يحتمل أنه وكله ثم أنكر، وههنا: ظهور المالك حياً يرفع تصديقه حقيقة، والحوالة كالوكالة. فأما إذا أنكر المطلوب منه الحق، أو الوكالة- نُظر: إن كان الوكيل مأذوناً في إقامة البينة، أو جوزنا له إقامة البينة عند إطلاق التوكيل، فأقامها: يجب على المطلوب منه تسليم المال إليه، فإن لم يكن للوكيل بينة، هل له تحليف المطلوب منه أم لا؟ هذا يبنى على أنه لو صدقه هل يجب تسليم المال إليه؟ إن قلنا: يجب: فله تحليفه، لعله يخاف من اليمين، فيصدقه. وإن قلنا: لا يجب: فهذا يبنى على أن النكول ورد اليمين بمنزلة إقامة البينة من المدعي أم بمنزلة الإقرار من المدعى عليه؟ إن قلنا: بمنزلة الإقرار: ليس له تحليفه. وإن قلنا: بمنزلة البينة: له تحليفه رجاء أن ينكل؛ فيحلف الوكيل ويأخذ المال.

فصلٌ في الاختلاف بين الموكل والوكيل في الوكالة وصفتها. إذا ادعى على رجل أنه وكله في تصرف، وأنكر المدعى عليه: فالقول قوله مع يمينه، وكذلك: لو اتفقا على الوكالة، واختلفا في صفتها بأن قال الوكيل: وكلتني ببيع ثوب، فقال الموكل: وكلتك ببيع عبد، أو قال: وكلتك ببيع بألفين، فقال: بل وكلتني بالبيع بألف: فالقول قول الموكل مع يمينه. ولو وكله ببيع شيء، فباعه الوكيل مؤجلاً، ثم اختلفا؛ فقال الموكل: أمرتك بالبيع حالاً، وقال الوكيل: بل مؤجلاً، نُظر: إن صدق المشتري الموكل: يجب عليه رد المبيع، وإن كذبه: فالقول قول الموكل؛ يحلف ما وكله إلا بالبيع نقداً؛ فإذا حلف أخذ العين، وإن نكل حلف المشتري وبقيت العين له. وإن قال المشتري: لم أعلمه وكيلاً من جهتكم- حلف على نفي العلم، وأمسك العين، ثم الموكل: يحلف على الوكيل، ويغرمه قيمة العين، أو مثلها، إن كانت مثلية، وإن نكل المشتري عن اليمين: حلف الموكل، وأخذ العين، وإن نكل الموكل: بقيت العين للمشتري، ثم للموكل أن يحلف على الوكيل؛ ويكون له مع المشتري ولا يبطل يمينه في حق الوكيل، فإذا حلف أخذ قيمة العين من الوكيل، ثم الوكيل لا يرجع على المشتري قبل حلول الأجل، فإذا حل الأجل: يرجع على المشتري باليمين، إن كان مصراً على قوله، وإن كان رجع عن إنكاره وصدقه الموكل: رجع على المشتري بأقل الأمرين من قيمة العين أو الثمن؛ لأن الثمن: إن كان أقل- فقد أقر أن ليس على المشتري إلا ذلك، وإن كانت القيمة أقل: فهو لم يضمن إلا القيمة. ولو وكل رجلاً ليشتري له جارية، فاشتراها بعشرين، ثم اختلفا، فقال الموكل: أمرتك أن تشتريها بعشرة، وقال الوكيل: بل بعشرين: فالقول قول الموكل مع يمينه، فإذا حلف- لا يخلو: إما إن كان الوكيل قد اشترى بعين مال الموكل، أو في الذمة: فإن اشترى بعين مال الموكل: فالجارية للبائع، وعليه رد ما أخذ، سواء صدق البائع الوكيل أو الموكل؛ لأن يمين الموكل حجة عليهما؛ فلو أنكر البائع الوكالة، وقال: اشتراها لنفسه: حلف أنه لم يعلمه وكيلاً، وكانت الجارية في الحُكم للوكيل، ويغرم الوكيل للموكل ما أخذ منه. قال المزني: استحب الشافعي- رضي الله عنه: في مثل هذا: أن يرفق الحاكم

بالموكل، فيقول: إن كنت أمرته بعشرين- فقد بعته بعشرين، فيقول: بعت، ويقول الوكيل اشتريت، حتى يحل للوكيل، فإذا قال الموكل قطعاً: بعتك هذه الجارية بعشرين، فقال: اشتريت: صارت الجارية للوكيل ظاهراً وباطناً، وإن قال كما قال المزني: إن كنت أمرتك بعشرين- فقد بعتكها بعشرين: فاختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: لا يصح البيع؛ لأنه بيع معلق بشرط، وما نقله المزني من كلام الحاكم، أما الموكل: فقد باعه قطعاً من غير تعليق. ومنهم من قال: يصح؛ لأن هذا الشرط من قضية العقد؛ لأنه لا يصح أن يبيع منه إلا أن يكون قد أمره بعشرين، وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بذكره. فإن لم يرفق الحاكم، أو امتنع الموكل من البيع- نُظر: إن علم الوكيل أنه أمره بعشرة: فلا يحل للوكيل بيعها ولا وطؤها، وإن علم أنه أمره بعشرين: فلا يحل له وطؤها، ويجوز له بيعها واستيفاء حقه من ثمنها؛ لأن الجارية في الباطن للموكل، وللوكيل عليه الثمن؛ فهو كمن له على رجل دين لا يؤديه، فظفر بمال من أمواله: يجوز له بيعه، وأخذ حقه منه. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: تكون الجارية ملكاً للوكيل، ظاهراً وباطناً؛ على أن الملك يقع للوكيل عنده ابتداء، ثم ينتقل إلى الموكل؛ فههنا: تعذر الانتقال، فبقي للوكيل، وبه قال بعض أصحابنا. وقال أبو يوسف: إن ترك الوكيل يخاصمه الموكل: فالجارية له، وله وطؤها؛ وإلا فلا؛ لأنه لم يرض بتملكها. أما إذا اشترى الوكيل الجارية في الذمة- نُظر: إن لم ينو للموكل-: وقع العقد للوكيل، ظاهراً وباطناً، وله وطؤها وبيعها، وإن تولى للموكل، واختلفا هكذا، وحلف الموكل: بقيت الجارية للوكيل، ثم ينظر: إن علم أن الموكل أمره بعشرة: فالجارية للوكيل، ظاهراً وباطناً، وحل له وطؤها، وإن علم: أنه أمره بعشرين: فكالصورة الأولى؛ على ما ذكرنا، وكذلك: لو وكله بشراء جارية، فاشترى، ثم اختلفا، فقال الموكل: ما وكلتك، أو أمرتك بشراء غيرها: فالقول قول الموكل، فإذا حلف: فهي للوكيل ظاهراً؛ لما ذكرناه. ولو ادعى على رجل أني وكلتك بيع كذا، فبعته وقبضت الثمن؛ فادفع إلي، فأنكر

الوكالة: فالقول قول المُنكر مع يمينه، ولو وكل رجلاً ببيع شيء مؤجلاً، وأذن له في قبض الثمن عند حلول الأجل، أو أذن له في بيعه حالاً، وأذن له في تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فاختلفا؛ فقال الوكيل: استوفيت الثمن، وتلف في يدي، أو دفعته إليك، ويصدقه من عليه، وقال الموكل ما استوفيته، أو وكله باستيفاء دين؛ فاختلفا هكذا: فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأن إنكاره لا يوقع الوكيل في غرم؛ فإذا حلف أخذ حقه ممن عليه، ثم لا يرجع من عليه على الوكيل؛ لأنه مقر أنه مظلوم، وإن وكل ببيعه حالاً، أو مطلقاً، ولم يأذن له في تسليم المبيع قبل قبض الثمن؛ فاختلفا هكذا: فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأن الموكل ينسبه إلى التعدي؛ فيوقعه في غرم بتسليم المبيع قبل قبض الثمن، فإذا حلف الوكيل- هل يقبل يمينه في حق المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: يُقبل، ولا رجوع للموكل عليه؛ لأنه حلف على أداء الثمن. والثاني- وهو الأصح: لا يُقبل؛ لأن الأصل عدم الأداء، فيحلف الموكل؛ فيرجع عليه بالثمن، وقبلنا يمين الوكيل في حقه لأمانته، فإذا حلف الوكيل، وحكمنا ببراءة ذمة المشتري، ثم وجد المشتري بالمبيع عيباً: فهو بالخيار: إن شاء رد على الموكل، وإن شاء رد على الوكيل، فإن غرم الموكل: لا يرجع على الوكيل؛ لأنه مُقر أنه لم يأخذ شيئاً، وإن غرم الوكيل: لا يرجع على الموكل، والقول قول الموكل مع يمينه. وإن خرج المبيع مستحقاً يرجع المشتري بالثمن على الوكيل؛ لأنه دفعه إليه، ولا رجوع للوكيل على الموكل، وإن حلف أنه دفعه إليه؛ لأنا قبلنا قوله في الابتداء، حتى لا يضمن؛ فأما أن يضمن الغير فلا؛ ولكن له تحليف الموكل أنه لم يدفع إليه، وإن كان الاختلاف على عكسه [و] قال الموكل أخذت الثمن؛ فسلم إلي، وقال الوكيل: ما استوفيته- نُظر: إن كان هذا في دين أو ثمن مبيع- كان مأذوناً في تسليم المبيع قبل قبض الثمن، وكان الثمن مؤجلاً، فله التسليم قبل قبض الثمن، والقول قول الوكيل مع يمينه، ولا رجوع للموكل على المشتري؛ لأنه مُقر أن وكيله أخذه، وإن كان الثمن حالاً، ولم يكن مأذوناً في تسليم المبيع: فالوكيل مقر بالتعدي، فبعدما حلف أنه لم يأخذ الثمن: يغرم قيمة المبيع للموكل. ولو اتفقا على أن الوكيل أخذ الثمن غير أن الوكيل يقول للموكل: دفعته إليك، أو تلف في يدي، والموكل يقول: هو قائم في يدك، أو أتلفته؛ فعليك الضمان: فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه أمين. ولو وكل وكيلاً ببيع شيء بجعل معلوم؛ فباع، ثم ادعى الموكل عليه خيانة: لا تسمع حتى يبين قدر الخيانة؛ فإن قال: بعته بعشرة، ولم تدفع غلا خمسة؛ فخنتني في

خمسة: فالقول قول الوكيل مع يمينه، وعلى الموكل جُعله؛ حتى لو تلف جميع الثمن في يد الوكيل: لا يسقط جعله؛ بخلاف الصباغ: إذا تلف الثوب في يده بعدما صبغه- تسقط أجرته؛ لأنه يستحق الأجرة بتسليم العمل، ولم يوجد، والوكيل يستحق بامتثال الأمر، وقد امتثل. ولو ادعى على رجل أني دفعت إليك متاعاً لتبيعه، فبعته، فسلم الثمن إلي، فأنكر، فأقام المدعي بينة عليه، أو أقر المدعى عليه، وقال: بل وكلتني، لكنه تلف في يدي، أو رددته إليك- ينظر في إنكاره: فإن كان في الابتداء قال: لا يلزمني شيء بهذه الدعوى: يقبل قوله في التلف والرد، لأن الأمانة إذا هلكت في يده أو ردها: لا يلزمه شيء؛ فهو في إنكاره صادق، وإن قال في إنكاره: ما وكلتني بشيء؛ أو ما دفعت إلي شيئاً، ثم أقر، أو قامت عليه بينة، فادعى أنه كان قد رد أو تلف في يده: لا يُقبل قوله؛ لأن إنكاره الأول يكذبه في الرد والتلف؛ لأن قضية قوله: "ما دفعت إلي شيئاً": أنه لم يتلف لك عندي شيء، وما رددت إليك شيئاً، فيلزمه الضمان، والله أعلم.

كتاب الإقرار

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإقرار قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135]. وشهادة الرجل على نفسه تكون إقراراً.

وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنيس الأسلمي: "اغد، يا أنيس، على امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها". ففي الكتاب والسنة دليل على قبول إقرار الإنسان على نفسه، ثم من كان مكلفاً مطلقاً: يصح إقراره على الإطلاق، وغير المكلف: لا يُقبل إقراره على الإطلاق، وهو الصبي والمجنون، فأما المكلف المحجور عليه: يُقبل إقراره في بعض الأشياء؛ كالمحجور عليه بالسفه: يقبل إقراره في العقوبات والنكاح والطلاق، ولا يُقبل في المال، والعبد يُقبل إقراره في العقوبات والطلاق، ويُقبل في الأموال متعلقاً بذمته، حتى يعتق، وإن أقر بدين جناية، وصدقه المولى: يتعلق برقبته، يباع فيه، وهذه الفصول مذكورة في مواضعها. ويصح الإقرار مجملاً ومفصلاً. فإن قال: لفلان علي شيء- يرجع في التفسير إليه؛ فإن فسره بأقل ما يتمول من دانق أو فلس أو تمرة، حيث يكون لها قيمة: يُقبل منه، فإن ادعى المُقر له أنه أراد غير هذا، أو أكثر من هذا: لا يسمع حتى يبين قدره وجنسه؛ فإن بين قدراً وقال: إنه أراد بإقراره كذا، ولي عليه كذا: فالقول قول المقر مع يمينه، ثم إن كان يدعي جنس ما فسره؛ فإن فسره المقر بدرهم، فقال: لي عليه عشرة دراهم، وأراد هو بإقراره: عشرة: يحلف أنه ما أراد إلا درهماً، ولا يلزمه أكثر منه، يجمع بينهما؛ فإن نكل: حلف المُقر له على استحقاق ما يدعيه، ولا يحلف على أنه أراد باللفظ هذا؛ لأنه لا يطلع على ما في ضميره؛ بخلاف ما لو مات المقر. قام وارثه مقامه في التفسير، فإذا فسره بأقل ما يتمول، وادعى المُقر له أكثر: حلف الوارث أن مورثه ما أراد أكثر من هذا؛ لأنه خليفة المورث، وقد يطلع من مورثه على ما لا يطلع عليه غيره.

قال الشيخ- رحمة الله عليه-: وهذا بخلاف ما لو أوصى لإنسان بشيء غير معلوم، وبينه الوارث، فادعى الموصى له أكثر من ذلك-: يحلف الوارث أني لا أعلم أنك تستحق أكثر من هذا، ولا يحلف على ما أراده المورث؛ لأن الإقرار إخبار عن كائن معلوم؛ فجاز أن يطلع عليه الوارث، والوصية إنشاء أمر على الجهالة؛ فكان بيانه إلى الوارث. وإن كان المقر له يدعي غير جنس ما فسره به مثل: إن فسر بدرهم، وهو يدعي ديناراً، أو ثوباً- نُظر: إن كان يصدقه في تفسير الدرهم: فالدرهم يلزمه، وهو يدعي الدينار، أو الثوب: يحلف المدعى عليه على نفيه، وإن قال: ليس لي عليك درهم؛ بل عليك دينار: يرتد الدرهم برده، ثم يُنظر: إن صدقه أنه أراد بالشيء الدرهم: حلف على نفي الدينار، وإن قال: أردت بالشيء الدينار: يحلف يميناً واحدة أنه لا يلزمه الدينار، وأنه ما أراد بالشيء الدينار، وإن امتنع المُقر من تفسيره: يحبس حتى يفسر؛ كما لو فسره، وامتنع من الأداء: يحبس حتى يؤدي. وقيل: امتناعه من التفسير إنكار لما يدعيه المقر له؛ فيعرض عليه اليمين: فإن لم يفسر- فهو نكول؛ يحلف المقر له؛ ويأخذ ما يدعيه. وإن فسره بما لا يتمول- نُظر: إن كان من جنس ما يتمول من زبيبة أو حبات حنطة، أو تمرة، حيث لا يكون لها قيمة، أو قمع باذنجانة: فالمذهب: أنه يُقبل؛ لأنه حرام أخذه واجب رده، وإن لم يكن من جنس ما يتمول من كلب صيد أو جلد ميتة غير مدبوغ أو خمر أو خنزير، أو سرقين: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يُقبل؛ لأن ظاهر إقراره للمال، وهذه الأشياء ليست بمال. والثاني: يُقبل؛ لأن اسم الشيء يقع على هذه الأشياء. والثالث- وهو الأصح-: إن فسره بما يجوز اقتناؤه من كلب صيد أو جلد ميتة أو سرقين: يُقبل؛ لأنه يجب رده، وإن فسره بخمر، أو خنزير، أو كلب غير مُعلَّم، أو جلد كلب: لا يُقبل؛ لأنه لا يجب تسليمه، ولو فسره بوديعة: يُقبل؛ لأن عليه ردها إذا طولب بها، ولو فسره بعبادة أو رد سلام: لا يُقبل، وإن قال: لفلان علي حق، ثم فسره به: يقبل.

ولو قال: لفلان عندي شيء، ثم فسره بحبة حنطة، أو قمع باذنجانة: يُقبل، ولو فسره بكلب أو خنزير أو خمر: يقبل؛ لأنه مما عنده، وقد نص الشافعي- رضي الله عنه- على أنه لو قال: غصبت من فلان شيئاً، ثم فسره بخمر وخنزير: يُسمع، ولو قال: على مال، ثم فسره بجلد ميتة، أو كلب معلم: لا يقبل؛ لأنه ليس بمال. ولو ادعى رجل على رجل أنه أقر له بشيء، ولم يبين: لا تُسمع الدعوى مجهولة إلا في الوصية؛ إذا ادعى أن فلاناً أوصى له بشيء، ولم يبين: تسمع، وإذا شهد عليه الشهود كذلك: يُسمع. وإذا ادعى مالاً معلوماً، فشهد شاهدان على إقراره أن عليه شيئاً، أو قالا: نعلم أن عليه مالاً، ولا نعلم قدره: هل يسمع؟ فيه وجهان. أحدهما: يُسمع، ويُرجع في التفسير إلى المشهود عليه؛ كما في الإقرار. والثاني: لا يُسمع؛ لأن البينة سميت بينة؛ لأنها تُبين، فإذا لم تُبين لا تُسمع. ولو قال: لفلان عليَّ مال، أو قال: مال عظيم أو كبير أو جليل [أو] خطير أو نفيس، أو قال: صغير أو حقير، ففسره بأقل ما يتمول: يُقبل؛ لأنه عظيم الوزن على من غصبه، ويكفر مستحله، وهو حقير من حيث إن الناس يستحقرونه لقلته. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا قال: مال عظيم: عليه عشرة دراهم. وعند أبي يوسف: مائتا درهم، وفي الجليل والنفيس والخطير اتفاق: أنه لو فسره بأقل ما يتمول: يقبل؛ فنقيس عليه. ولو قال: لفلان عليَّ درهم: يلزمه، درهم بوزن الإسلام ستَّة دوانيق، ولو قال: درهم عظيم أو كبير: لا يلزمه أكثر من ذلك. وقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: أصل ما أبنى عليه الإقرار: أني لا ألزم إلا اليقين، وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة. ولو قال: لفلان علي دراهم-: فأقل ما يلزمه ثلاثة دراهم؛ لأنه لا يحتمل أقل من ذلك، ولو قال: دراهم كثيرة أو عظيمة: لا يلزمه أكثر من ذلك. ولو قال: لفلان علي أكثر من مال فلان، ثم فسره بأقل ما يتمول: يُقبل، وإن كان لفلان مال كثير، لأنه يريد به: أن ماله علي حلال، ومال فلان حرام، أو: هذا دين لا يردُ

عليه الهلاك، وذلك عينٌ، يرد عليها الهلاك. ولو قال: لفلان عليَّ من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدراهم، فإن كان في يد فلان عشرة دراهم: يلزمه عشرة دراهم وزيادة شيء، وإن لم يكن في يد فلان شيء: يلزمه أقل ما يقع عليه اسم المال من الدراهم. ولو قال: لفلان عليَّ من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدراهم: فإن كنا في يد فلان عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم وزيادة شيء، وإن لم يكن في يد فلان شيء: يلزمه أقل ما يقع عليه اسم المال من الدراهم. ولو قال لفلان عليَّ أكثر مما في يد فلان من الدراهم لا يلزمه من جنس الدراهم؛ بل يلزمه بذلك العدد من أي جنس شاء، وزيادة بأقل مما يتمول، فإن لم يكن في يده شيء: يلزمه أقل ما يقع عليه اسم المال، ولو قال: لهذا علي أكثر مما لفلان عليَّ: نُظر: إن ثبت لفلان عليه شيء بإقراره أو ببينة: فعليه ذلك القدر وزيادة شيء، وإن لم يثبت لفلان عليه شيء. وإن شهد الشهود، ولم يقض القاضي: يجب عليه أقل ما يتمول. ولو قال: لفلان علي ما بين درهم وعشرة، أو ما بين درهم إلى عشرة: يلزمه ثمانية؛ حكاه ابن الحداد نصاً؛ وكذلك: لو قال ما بين عشرة وعشرين: يجب تسعة. ولو قال: من درهم إلى عشرة: ففيه أوجه: أصحهما: يلزمه عشرة، ويدخل الطرفان فيه، وكذلك: في الإبراء أو الضمان؛ وبه قال أبو يوسف ومحمد. والثاني: يلزمه تسعة يدخل فيه الطرف الأول، وهو قول أبي حنيفة- رحمة الله عليه-. والثالث: لا يدخل فيه الطرفان؛ فيلزمه ثمانية؛ وبه قال زُفَر؛ كقوله: بين درهم وعشرة. ولو قال: لفلان علي ألف: يرجع في البيان إليه؛ فبأي جنس فسره من المال: يُقبل، وإن فسره بأجناس مختلفة: يقبل؛ لأن اللفظ يحتمل الجميع. وكذلك: لو قال: لفلان عليَّ ألف درهم؛ بتنوين الألف: يلزمه أن يفسر الألف بما شاء، قيمته درهم، أي: الألف قيمتها درهم، ولو قال: لفلان علي ألف درهم: فالألف

مجملة؛ فسرها بما شاء من ألف جوزة أو حبَّة، ويلزمه معها درهم؛ لأن الدرهم مفسر؛ وكذلك: لو قال: ألف وثوب، أو ألف وعبد: لا يتفسر الألف بما عُطف عليه. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: إن كان المعطوف من ذوات الأمثال: يتفسر به الألف؛ كقوله: [ألف درهم] ودرهم: يكون الكل دراهم، وإن قال: ألف وثوب: لا يتفسر به؛ فنقيس عليه. ولو قال: له عليَّ نصف ودرهم: فالنصف مجمل؛ يفسره بما شاء، والدرهم مفسر. ولو قال: عشرة دراهم ونصف، أو درهم ونصف: فالمذهب: أن الكل دراهم. ولو قال: خمسة وعشرون درهماً: فالمذهب: أن الكل دراهم؛ لأن الدراهم- ههنا- لا تلزمه به زيادة شيء؛ بل هو تفسير لبعض ما سبق؛ فكان تفسيراً للكل؛ كما لو قال: خمسة عشر درهما: يكون الكل دراهم. وقال الإصطخري: الخمسة مجملة، والعشرون مفسرة للعطف؛ كقوله: ألف ودرهم؛ بخلاف قوله: خمسة عشر درهماً؛ لأنهما اسمان جُعلا اسماً واحداً، وعقبا بتفسير، ولا عطف فيه، وكذلك: لو قال: ألف وثلاثة أثواب، أو ألف وخمسون درهماً، أو عشرة ونصف درهم: فالمذهب: أن الكل ثياب ودراهم. وعند الإصطخري: الألف والعشرة مجملة، والأول المذهب. وهذا بخلاف ما لو قال: ألف إلا خمسين درهماً: تكون الألف مجملة، والاستثناء مفسر بالدراهم؛ لأنه في الإثبات عطف جملة على جملة، ثم عقبهما بالتفسير؛ فكان راجعاً إلى الكل، والاستثناء ليس بعطف، فلم يرجع تفسيره إلى الكل؛ بل رجع إلى مجرد الاستثناء. فصلٌ في الاستثناء يصح الاستثناء في الإقرار، ويلزم ما يبقى بعد الاستثناء؛ فإذا قال: لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا خمسة، أو "غير" أو "سوى" خمسة: لا يلزمه إلا خمسة؛ فالاستثناء مع

المستثنى منه أحد اسمي الباقي، فإذا كان لرجل عليه خمسة، فتارة يقول له: عليَّ خمسة، وتارة يقول: عشرة إلا خمسة. ولو قال: لفلان علي درهم غير دانق: يلزمه خمسة دوانيق، سواء نصب "غير" ورفع أو خفض، ومقتضى النحو: أن ينصب في الاستثناء، فإن رفع يلزمه درهم؛ فيكون معناه: عليَّ درهم لا دانق؛ وبه أفتى بعض أصحابنا، والصحيح: لا يفصَّل في الحُكم؛ لأن ظاهره للاستثناء، وإن أخطأ في الإعراب. ويشترط أن يكون الاستثناء موصولاً بالإقرار، فإن أقر ثم سكت طويلاً، أو احتفل بشيء آخر، ثم استثنى: لا يصح الاستثناء، ويلزمه ما أقر به. والاستثناء من الإثبات نفيٌ، ومن النفي إثبات؛ لأنه: لو لم يكن مخالفاً للمستثنى منه: ما كان استثناء. وإذا قال: لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا تسعة إلا ثمانية: يلزمه تسعة؛ كأنه قال: عشرة تلزُمني إلا تسعة لا تلزمني؛ فيبقى درهم، ثم قالك إلا ثمانية تلزمني؛ فيكون مع الدراهم التي نفى: تسعاً. ولو بدأ بالنفي- نُظر: إن قال: ليس لفلان عليَّ شيءٌ إلا خمسة دراهم: يلزمه خمسة؛ كأنه يخبر عن فراغ ذمته إلا عن خمسة. ولو قال: ليس لفلان عليَّ عشرة إلا خمسة: لا يلزمه شيء؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه أحد اسمي الباقي، والباقي نفيٌ. ولا يصح الاستثناء إذا لم يُبق من المستثنى منه شيئاً، فلو قال: لفلان عليَّ عشرة إلا عشرة: لا يصح، ويلزمه العشرة. ولو قال: عشرةٌ إلا خمسة إلا عشرة، أو: عشرة إلا خمسة إلا خمسة: لا يصح الاستثناء الثاني، ويلزمه خمسة. ولو قال: عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عليه عشرة، والاستثناءان باطلان؛ لأن الأول: لما لم يصح، فالثاني يترتب عليه في البطلان.

والثاني: عليه ثلاثةٌ، ويصح الاستثناء؛ لأن استثناء العشرة من العشرة إنما لا يصح إذا وقف عليها، فأما إذا رد شيئاً من الأصل يصح. والثالث: عليه سبعة؛ لأن الاستثناء الأول لغوٌ، والثاني يقع عن الأصل؛ فكأنه قال: عشرة إلا ثلاثة، ولو قال: عشرة إلا عشرة إلا خمسة، فعلى هذا الوجه الأول: يلزمُهُ عشرة، وعلى الوجهين الآخرين: يلزمه خمسة. ولو قال: عشرة إلا خمسة، وإلا أربعة، فهما استثناءان؛ عُطف أحدهما على الآخر؛ فيصحان؛ كأنه قال: عشرةٌ إلا تسعة؛ فيلزمه درهم. ولو قال: عشرة إلا خمسة وإلا خمسة: ففيه وجهان: أحدهما: عليه عشرة، وبطل الاستثناءان؛ كأنه قال: عشرة إلا عشرة. والثاني- وهو الأصح-: عليه خمسة، وصح الأول دون الثاني. ولو ذكر في الاستثناء أو في المستثنى منه عدداً، وعطف البعض على البعض بـ "الواو"، فهل يُجمع؟ فيه وجهان؛ مثل: إن قال: لفلان عليَّ درهم ودرهم ودرهم إلا درهماً. أحدهما: يجمع؛ فيصير كأنه قال: ثلاثة دراهم إلا درهماً؛ فيلزمه درهمان. والثاني- وهو المذهب-: لا يجمع؛ فيلزمه ثلاث دراهم؛ كأنه استثنى واحداً من واحد. ولو قال: لفلان عليَّ ثلاثة دراهم إلا اثنين وواحداً؛ فإن قلنا: يجمع: يلزمه الثلاث؛ كأنه استثنى الثلاث من الثلاث؛ فلا يصح. وإن قلنا: لا يجمع؛ فيصح استثناء الاثنين، ولا يصح استثناء الواحد، فيلزمه درهم. ولو قال: هذا القميص لفلان إلا كُمَّيه: كان إقراراً بالقميص، دون الكُمَّين. ويصح الاستثناء من غير الجنس، فلو قال: عليَّ ألف درهم إلا ثوباً: يجب أن يبين ثوباً إن حُطت قيمته عن الألف: يبقى من الألف شيءٌ، وإن قل. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه: لا يصح الاستثناء من غير الجنس إلا في المكيل والموزون. وعند أبي يوسف ومحمد: لا يصح أصلاً. ويصح استثناء المُجمل من المجمل، والمجمل من المفسر، والمفسر من المجمل؛ كما يصح استثناء المفسر من المفسر.

فالمجمل من المجمل: أن يقول: لفلان عليَّ ألف إلا شيئاً: يجب أن يفسر الألف، ثم يفسر الشيء بتفسير لا يستغرق الألف المفسرة؛ فإن فسر بتفسير يستغرق الألف: كان لغواً، وهل له أن يفسره ثانياً أم يلزمه الألف؟ فيه وجهان: أصحهما: له أن يفسر ثانياً. والثاني: لغا الاستثناء، وعليه جميع الألف. وكذلك: لو قال: لفلان عليَّ شيء [إلا شيئاً]: يجب أن يفسرهما كما ذكرنا. واستثناء المجمل من المفسر: أن يقول: لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا شيئاً: يجب أن يفسر الشيء بتفسير لو حُط عن العشرة يبقى لفلان منها شيء. واستثناء المفسر من المُجمل: أن يقول: لفلان عليَّ شيء إلا عشرة دراهم: يجب أن يفسر الشيء بتفسير لو حُط عنه العشرة يبقى شيء، وإن قل. ولو قال: لفلان عليَّ ألف إلا درهماً: لا يتفسر الألف بالدرهم، بل يتفسر الألف بما شاء [بحيث] لو حُط عنه الدرهم يبقى شيء. ولو قال: هؤلاء العبيدُ لفلان إلا واحداً: فالتعيين إليه، فلو مات العبيد كلهم إلا واحداً، فقال المُقر: هذا هو المستثنى: قُبل قوله. ولو قال: هذه الدار لفلان إلا هذا البيت: صح، ولم يدخل البيت في الإقرار؛ وكذلك: لو قال: هذه الدار لفلان، وهذا البيت لي: يُقبل؛ لأنه غخراج بعض ما دخل في الإقرار بلفظ متصل به؛ كما لو استثنى. فصلٌ فيما يُحمل عليه الإقرار إذا قال: لفلان عليَّ كذا: فهو كما لو قال: شيء، ولو قال: كذا كذا: فهو كقوله: شيء شيء، فإذا فسره بأقل ما يتمول: يُقبل، ويحمل في العادة على التكرار. ولو قال: كذا وكذا: فهو كقوله: شيء وشيء، وشيء وشيء: يجب أن يفسر بشيئين، كل واحد أقل ما يتمول، ويجوز أن يكونا مختلفين. ولو قال: كذا درهماً، أو: كذا كذا درهماً: يجب عليه درهم، سواء نصب أو خفض أو رفع.

ولو قال: كذا وكذا درهماً: نقل المُزني على قولين: أحدهما: يلزمه درهمان. قال: وقال في موضع آخر: قيل [له] أعطه درهماً أو أكثر. وفي بعض النسخ: درهماً وأكثر، فاختلف أصحابنا فيه. منهم من جعل على قولين: أصحهما: يلزمه درهمان؛ لأنه أقر بجملتين مبهمتين، ثم فسرهما بالدرهم، فالظاهر: أنه تفسير لكل واحدة منهما. والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأنه لا يجوز أن يكون الدرهم تفسيراً لهما؛ فيكون قد أراد بكل واحد منهما نصف درهم، وما زاد على ذلك شك؛ فلا يلزم، أو معناه: وكذا يبلغ درهماً، وقيل: يلزمه درهم وشيء. وذهب أبو إسحاق وجماعة: على أن المسألة على اختلاف حالين؛ حيث قال: يلزمه درهمان، صورته: أن يقول: كذا وكذا درهماً بالنصب؛ فيكون تفسيراً لكل واحدة من الجملتين، وحيث قال: يلزمه درهم، صورته: أن يقول: كذا وكذا درهم بالرفع؛ كأنه أخبر أن كذا الذي أقر به؛ درهم. ولو قال: كذا وكذا وكذا درهم: فعلى القول الأول: يلزمه ثلاثة دراهم، وعلى الثاني: درهم واحد. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا قال: كذا كذا درهماً: عليه أحد عشر درهماً؛ لأنه أول اسمين جُعلا اسماً واحداً، ونُصب ما بعدهما تفسيراً. وإذا قال: كذا وكذا درهماً: قال: يلزمه أحد وعشرون درهماً؛ لأنه أول اسمين عُطف أحدهما على الآخر، ونُصب ما بعدهما تفسيراً. قلنا: مبنى الإقرار على أن يؤخذ باليقين، ويُطرح الشك؛ إذ الأصل براءة ذمة المقر، واليقين: ما قلنا؛ كما لو قال: كذا درهم بالخفض: لا يلزمه إلا درهم، ولا يقال: يلزمه مائة؛ لأنه أول اسم خفض ما بعده تفسيراً. فصلٌ إذا قال: لفلان عليَّ ألف درهم، ثم قال: هي نقص، أي: دراهم ناقصة؛ مثل: دراهم طبرية الشام؛ يكون كل درهم أربعة دوانيق- نُظر: إن كان في بلد وزنه وزن الإسلام؛

فإن ذكره مفصولاً: لا يقبل، وعليه وزن البلد؛ لأن الدرهم اسم للتام، فإذا فسره بالناقص: لا يقبل؛ كما إذا أقر بعشرة، ثم قال: أردت: "إلا خمسة": لا يقبل، وإن ذكره موصولاً. قال ابن خيران: فيه قولان؛ بناءً على تبعيض الإقرار. والصحيح: أنه يقبل؛ كما في الاستثناء؛ فكأنه استثنى من كل درهم دانقين. وإن كان في بلد وزنه ناقص: فإن ذكره موصولاً يقبل، وإن فصله فعلى وجهين: أحدهما: لا يقبل، ويحمل مطلق إقراره على وزن الإسلام؛ كما أن نُصُب الزكاة لا تختلف بالبلاد. والثاني: يقبل، ويحمل على مطلق إقراره على نقد البلد؛ كما في المعاملات. وإن كان ببلد وزنه أكثر من وزن الإسلام؛ مثل غزنة: فمطلق إقراره ينصرف إلى وزن الإسلام، أم إلى نقد البلد؟ فيه وجهان: فإن قلنا: ينصرف إلى نقد البلد، فقال: عنيت وزن الإسلام: لا يقبل مفصولاً، وهل يقبل موصولاً؟ فعلى الطريقين؛ الأصح: أنه يقبل؛ كالاستثناء، وإن قال: له عليَّ درهم: فهو كما لو قال: درهم، وإذا فسره بناقص: لا يقبلُ، ولو قال: درهم كبيرٌ، فإن كان ببلدٍ وزنه وزن مكة: يلزمه وزن مكة؛ وكذلك: ببلد طبريَّة مكة. [قال] الشيخ- رحمه الله-: وإن كان بغزنة، فنقد البلد. ولو قال: درهم صغير: فإن كان بطبرية: يلزمه نقد البلد، وإن كان ببلد وزنه وزن مكة: عليه وزن مكة. قال- رضي الله عنه-: وكذلك إن كان بغزنة. ولو قال: له عليَّ ألف درهم، ثم قال: هي زيوف: فإن أراد رداءة الجوهر من نحاس أو نحوه مما لا فضة فيه: لم يقبل فيه مفصولاً، فإن وصله: فعلى قولي تبعيض الإقرار، فإذا أراد دراهم مغشوشة: فهو كما لو قال: نقصٌ؛ فإن كان نقد البلد كذلك: يقبل موصولاً، وإن فضل: فعلى الاختلاف، وإن لم يكن نقد البلد مغشوشاً: لا يُقبل مفصولاً، وإن وصل فوجهان:

الأصح: يُقبل. ولو قال: له عليَّ ألف درهم، ثم قال: من سكَّة كذا نص على أنه يُقبل، سواء كان من أدنى الدراهم، أو من أوسطها، جائزة كانت في تلك البلد، أو لم تكن؛ كما لو قال: عليَّ ثوبٌ: فسره بأي ثوب شاء، وإن كان لا يلبسه أهل ذلك البلد. وقال المزني: يجب بسكة البلد؛ كما لو باع شيئاً بدراهم: ينصرف إلى نقد البلد؛ كما لو قال: هي نقص، ونقد البلد وازنة لا يصدق: قلنا في السكة: لا يرفع شيئاً فما أقر به في النقص- يرفع بعض ما أقر به؛ فلم يقبل، وفي البيع: حملنا على نقد البلد؛ تنزيهاً له عن الجهالة، وتيسيراً لأمر المعاملة على الناس، والإقرار: إخبار عما سبق وجوبه؛ فكان المرجع فيه إلى إرادته. ولو قال: [له] عليَّ مائة درهم عدداً: يلزمه مائة درهم صحاح، وزنها مائة. ولا يشترط أن يكون كل درهم ستة دوانيق؛ وكذا في البيع، ولا يؤخذ مائة عدداً، وهي في الوزن ناقصة؛ لأن قوله: "مائة درهم"- يقتضي الوزن، وقوله: "عدداً"- يقتضي زيادة، وهي أن تكون صحاحاً عدداً، هذا إذا كان نقد البلد وازنة، فإن كان دراهم البلد ناقصاً أو كان عدداً؛ كالعلويِّ بمكة: يلزمه نقد البلد؛ هذا هو المذهب. ولو قال: مائة عدد من الدراهم: يقتضي العدد لا الوازنة. فصلٌ إذا أقر بحق، ثم وصل به ما يغير مقتضى اللفظ- لا يخلو: إما إن كان يرفع أصله أو لا يرفعه: فإن كان يرفعه- نُظر: إن كان مستحيلاً في النظم؛ مثل: أن يقول: لفلان عليَّ ألف لا، أو: ألف لا يلزمني دفعها: لا يسقط به إقراره، وعليه الألف؛ فكذلك: لو قال: لفلان عليَّ ألف إلا ألفاً تامة إلا الألف، وإن كان لا يستحيل في النظم؛ مثل: إن قال: لفلان عليَّ ألف من ثمن خمر أو خنزير- نُظر: إن فصل قوله: "من ثمن خمر أو خنزير" عن قوله: عليَّ ألف: لا يقبلُ، وعليه الألف، وإن قاله موصولاً: ففيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المُزني-: لا يُبعَّض الإقرار، ولا يلزمه شيء؛ لأن الكُلَّ كلام واحد لا ينفصل بعضه عن بعض، وللمقر له تحليف المُقرِّ: أنه كان من ثمن نخمر. والقول الثاني: يبعَّض الإقرار؛ لأنه أقر بالألف، ثم وصل به ما يرفعه؛ فلا يُقبل؛ كما

لو قال: [عليّ] ألف إلا ألفاً؛ وبه قال أبو حنيفة. فإن قال: كان ذلك من ثمن خمر ظننته لازماً، فأقررت: فله تحليف المقر له؛ وكذلك: لو قال: عليَّ ألفٌ بسبب بيع فاسد؛ مثل بيع بأجل مجهول: فعلى قولين. وإن قدم ذكر الخمر، وقال: لفلان من ثمن الخمر عليَّ ألفٌ لا يلزمه شيء قولاً واحداً. وكذلك: لو قال: لفلان عليَّ ألف قضيتها، أو: أبرأني، أو: من ثمن مبيع هلك قبل القبض: ففيه قولان: فإن قلنا: لا يبعَّض: لا يلزمه شيء. وإن قلنا: يبعض: يلزمه، ويحلف المقر له أنه لم يقبض، ولم يبرأ. وقيل: إذا قال: عليَّ ألف قضيتها: لا يقبل قولاً واحداً؛ كما لو قال: ألف لا. ولو قال: تكفَّلت ببدن فلان بشرط الخيار، أو ضمنت لفلان ألفاً بشرط الخيار: هل يلزمه الكفالة والضمان؟ فعلى هذين القولين: أحدهما: لا يلزم؛ لأن الكفالة والضمان بشرط الخيار لا تصح. والثاني: يلزم، والقول قول المقر له: أنه لم يكن بشرط الخيار، وإن وصل به مالاً يرفع أصله؛ مثل إن قال: لفلان عليَّ ألف درهم مؤجلاً إلى وقت كذا: هل يقبل قوله في الأجل؟ نُظر: إن قاله مفصولاً: لا يُقبل، وإن قال موصولاً: ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: على قولين؛ كما لو قال: من ثمن خمر. ومنهم من قال- وهو الأصح-: يُقبل قولاً واحداً؛ لأن التأجيل لا يُسقط الحق؛ بل يؤخره. وإذا قال: من ثمن خمر؛ يريد إسقاط ما أقر به: فلا يقبل. وعند أبي حنيفة: لا يُقبل قوله في الأصل. ولو قال: لفلان عليَّ ألف من ثمن عبد لم أقبضه: هل يُقبل قوله: أنه من ثمن عبد لم يقبضه؟ قيل: هو على قولي تبعيض الإقرار. والمذهب: أنه يقبلُ قولاً واحداً؛ خلافاً لأبي حنيفة، حتى لو قال: لفلان عليَّ ألف من ثمن عبد، ثم قال بعده مفصولاً: لم أقبض العبد: يقبل قوله.

أما إذا قال: لفلان عليَّ ألف، وسكت، ثم بعده قال: هي من ثمن عبد: لا يقبل، وعليه الألف، ولو قدم ذكر الشراء، فقال: اشتريت من فلان عبداً بألف، إن سلم سلمت: يُقبل قولاً واحداً. ولو قال الرجل: بعتُك هذا العبد أمس بألف، فلم يقبل، فقال: كنتُ قد قبِلت؛ أو قال لعبده: أعتقتك على ألف، فلم يقبل، فقال: قد قبلت، أو لامرأته: خالعتُك أمس بألف فلم تقبل، فقالت: قد قبلت: فعلى قولي تبعيض الإقرار. وإن قلنا: يبعض: فالقول قول المشتري والعبد والمرأة في القبول. وإن قلنا: لا يبعض: يصدق في الكل. فصلٌ إذا قال: لفلان عليَّ درهم، ثم قال بعده، في ذلك المجلس، أو في مجلس آخر: له عليَّ درهم: لا يجب إلا درهم واحد. ولو أقر له يوم السبت بعشرة، ثم أقر يوم الأحد بخمسة، أو أقر أولاً بالخمسة، ثم بالعشرة: لا يجب عليه إلا عشرة، ويدخل الأقل في الأكثر. وكذلك: لو كتب صكاً لإنسان عليه بألف، وأشهد عليه، ثم كتب صكاً آخر بمثله، واشهد عليه آخرين: فهي ألف واحدة. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا كتب صكين: عليه ألفان، وفي الإقرار: قال: إذا اختلف المجلس يتكرر. فنقول: إقراران اتفق لفظهما؛ فيكونان بمال واحد؛ كما لو اتحد المجلس، أما إذا اختلف الجنسُ والوصفُ أو السبب: فيلزمه كلاهما؛ مثل: إن قال: لفلان عليَّ ألفٌ من ثمن عبد، ثم قال: له عليَّ ألف من ثمن دار، أو قال: له عليَّ ألفٌ صحاحٌ، ثم قال: له عليَّ ألف مكسرة، أو قال: استوفيت من فلان يوم السبت عشرة، ثم قال: استوفيت يوم الأحد خمسة: يلزمه كلاهما؛ وكذلك: لو أقر يوم السبت: أنه طلق أمرأته طلقة واحدة، وأقر يوم الأحد: أنه طلقها طلقتين: فهما طلقتان. أما إذا أضاف الطلاق إلى الوقت، وقال: طلقتها يوم السبت طلقة، ثم قال: طلقتها يوم الأحد طلقتين: فهي ثلاث طلقات. فصلٌ إذا قال: لفلان عليَّ درهم: لا يلزمه إلا درهم، وإن تكرر عشراً.

ولو قال: درهم ودرهم ودرهم: يجب عليه درهمان، ثم إن أراد بالثالث استثناءً وإقراراً: يلزمه ثلاث دراهم، وإن أراد تكرار الثاني: لا يلزمه إلا درهمان، وإن أراد بالثالث تكرار الأول: لا يقبل، وعليه ثلاث دراهم؛ فإن أطلق: فيحمل على التكرار، حتى لا يلزمه إلا درهمان؟ أم: يحمل على الاستئناف؛ فيلزمه ثلاث دراهم قولاً واحداً بخلاف الطلاق؛ لأن الطلاق يدخله التأكيد، فيقال: طلقت طلاقاً فحمل التكرار فيه على التأكيد، والإقرار لا يدخله التأكيد؛ فحمل على العدد. ولو قال: درهم ثم درهم: يلزمه درهمان؛ كقوله: درهم ودرهم، ولو قال: درهم فدرهم- نص على أنه يلزمه دراهم، ونص في الطلاق: أنه إذا قال: أنت طالق فطالقٌ: يقع طلقتان، قال ابن خيران: فيهما قولان: منهم من فرق بينهم على ظاهر النص، فقال في الطلاق: يقع طلقتان؛ لأن الطلاق لا يدخله التفصيل، والدراهم يدخلها التفصيل، فيجوز أن يريد به: فدرهم خيرٌ منه، ولو قال: درهم ودرهم، بل درهم: يجب ثلاث دراهم للمغايرة بين الألفاظ. ولو قال: له عليَّ درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم: يلزمه درهمان؛ لأن "قبل"، و"بعد" تستعملان في التقديم في الوجهين. ولو قال: درهم قبله درهم، وبعده درهم: يلزمه ثلاث دراهم. ولو قال: درهم فوق درهم، أو فوقه درهم، أو تحت درهم، أو تحته درهم: لا يجب غلا درهم؛ لأنه يريد فوق درهم في الجودة، أو تحته في الرداءة، ويريد الإخبار عن واجب؛ فيلزمه درهمان. ولو قال: درهم مع درهم، أو معه درهم، أو على درهم: لا يلزمه إلا درهم؛ لأنه يريد مع درهم، أو على درهم لي. وقيل: في جميع هذه الألفاظ قولان: أحدهما: عليه درهمان. والثاني: درهم واحد. والمذهب: الأول. ولو قال: درهم مع دينار، أو معه دينار: لا يلزمه إلا درهم؛ لأنه يريد: مع دينار لي. ولو قال: لفلان عليَّ درهم بل درهمٌ، أو درهمٌ لا بل درهم، لكن درهم: لا يلزمه إلا درهم.

ولو قال: درهم بل درهمان، أو قال: درهمان لا بل درهم: يلزمه درهمان: فلو قال: درهم لا بل درهمان، أو درهم لا بل قفيز حنطة: يلزمه كلاهما؛ لأن قوله: "بل دينار" رجوع عن الإقرار بالدرهم وإقرار بالدينار والحنطة؛ فلا يصح رجوعه، ويلزمه ما أقر به؛ بخلاف قوله: "درهم لا بل درهمان"؛ لا يلزمه ثلاثة؛ لأنه ليس برجوع عن الدرهم الأول، بل الدرهم الأول داخل في الدرهمين، وقصده إلحاق الزيادة به. ولو قال: عليَّ درهم فقفيز حنطة: فالمنصوص- وهو المذهب-: لا يجب إلا درهم معناه: قفيز حنطة خيرٌ منه. وقيل: يلزمه كلاهما؛ كما ذكرنا في قوله: درهم فدرهم. ولو قال: عليَّ درهم في دينار: لا يلزمه إلا درهم؛ لأنه يريد: في دينار لي، إلا أن يريد: درهم ودينار: يلزمه كلاهما. ولو قال: درهم في عشرة، فإن أراد الحساب: يلزمه عشرة؛ لأن ضرب الواحد في عشرة: عشرة، وإن أراد الظَّرف، أو أطلق: لا يلزمه إلا درهم. ولو قال: له عليَّ دينار، وعشرة دراهم: لا يلزمه كلاهما، ويبين أيهما شاء. ولو قال: لفلان عليَّ عشرة أولاً: لا يلزمه شيء؛ بخلاف ما لو قال: "عشرة بدلاً" يلزمه العشرة؛ لأن الأول: شك، والأصل فراغ ذمته، والثاني: رجوع بعد الإقرار؛ فلا يقبل. ولو قال: لفلان في هذا العبد ألف درهم، أو قال: من هذا العبد ألف درهم: سُئل؛ فإن قال: عنيت به أنه مرهون عنده بألف، أو جنى عليه هذا العبد جناية، أرشُها ألف، تعلق برقبته: يقبل، ويُباع في الجناية، إن لم يفده السيد. وإن قال: أردت أنه أقرضني ألفاً من ثمنه: يقبل، ويكون الألف في ذمة المُقر، وإن قال: أردت أنه أوصى له بألف من ثمنه: قُبل، وبيع ودُفع إليه ألف من ثمنه، فإن أراد أن يدفع إليه ألفاً من ماله: لم يجُز؛ لأن حقه تعيَّن في ثمنه بالوصية. ولو قال: أردت أنه أدى في ثمنه ألفاً: قيل له: أنت هل أديت شيئاً؟ فإن قال: لا: فالعبد كله للمُقر له، وإن قال: أنا أديت- أيضاً- ألفاً: فالعبد بينهما نصفان، وإن قال: أنا أديت ألفين: سُئل عن كيفية الشراء؟ فإن قال: اشتريناه صفقة واحدة بثلاثة آلاف: فالعبد بينهما أثلاثاً: ثلثاه للمقر، وثلثه للمُقر له؛ سواء كانت قيمته ثلاثة آلاف أو أقل. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان قيمته ألفين-: فالعبد بينهما نصفان، ولا يُقبل قوله: أنه أدى ألفين في ثمنه.

ولو قال: أنا أديت ألفاً في ثلثيه، وهو أدى في ثلثه، أو في ربعه: يُقبل؛ لأنه يحتمل أنهما اشترياه في صفقتين. ولو قال: أردت أنه وهب لي ألفاً؛ حتى اشتريته، وقال المُقر له: بل كان قرضاً: فالقول قول المُقرِّ له مع يمينه. ولو قال: دفع إلي ألفاً حتى أشتري له العبد؛ فإن صدَّقه المُقر له فالعبد له، وإن كذبه فالعبد للمُقر، وعليه ما أخذ من المُقرِّ له. ولو قال: له درهم في هذا الدينار: فهو كما لو قال: ألفٌ في هذا العبد، ولو قال: هذه الدار لفلان هبة عارية، أو هبة سُكنى: فهو إقرار بالعارية؛ له أن يرجع متى شاء. فصلٌ إذا قال: لفلان عندي، أو معي كذا: فهو للأمانة؛ حتى لو ادعى بعده أنها كانت وديعة تلفت في يدي، أو رددتها: يقبل قوله مع يمينه. ولو قال: لفلان عليَّ، أو قبلي ألف: فهو دينٌ؛ فلو ادعى بعده أنها كانت وديعة تلفت في يدي، أو رددتها: لا يقبل، ولو قال موصولاً: لفلان عليَّ ألف درهم وديعة: يُقبل؛ فإن أتى بها لا يلزمه شيء آخر؛ ولقوله "عليَّ" معنيان: أحدهما: على التخلية بينها وبين المالك متى طلب. والثاني: لعله تعدى فيها؛ فصار ضامناً؛ فلو لم يأت بها، وادعى تلفاً، أو رداً: هل يقبل؟ فيه وجهان، بناءً على المعنيين: إن قلنا بالأول: يقبل؛ وهو الأصح، وإن قلنا بالثاني: لا يقبل. ولو قال: لفلان عليّ ألف، ثم أتى بألف، وقال: أردت هذه الألف، وكانت وديعة عندي، وقال المُقر له: هذه كانت وديعة عندك، ولي عليك ألف أخرى، وأنت أردت بإقرارك ملك الألف: ففيه وجهان: [الأول]: القول قول المُقر مع يمينه؛ لأن الوديعة يجب عليه التخلية بينها وبين المالك إذا طولب. والثاني: القول قول المُقر له؛ لأن "عليَّ" إخبار عن حق واجب عليه؛ فلا يقبل تفسيره بالوديعة. فإن قال: عليَّ ألف في ذمتي، ثم أتى بألف، وقال: أردت هذه، وكانت وديعة، وقال

المُقر له: بل هي دين في ذمتك: فالقول قول المُقر له مع يمينه؛ لأن العين لا تثبت في الذمة. ولو قال: لفلان عندي ألف درهم مضاربة ديناً أو وديعة ديناً- يكون مضموناً عليه لا يقبل قوله في الرد والتلف، فإن قال: أردت أنه أودعني أو ضاربني تلك الألف بشرط أن تكون مضمونة عليَّ: لا يُقبل قوله، ولو وصله باللفظ، وقال: لفلان عندي ألف درهم وديعة ديناً، دفع إلى بشرط الضمان: هل يقبل؟ فعلى قولي تبعيض الإقرار. ولو قال: لفلان عندي ألف درهم عارية: كانت مضمونة؛ لأن إعارة الدراهم فاسدة، وفاسد العارية وصحيحها سواءٌ في الضمان. ولو قال: دفع إليَّ ألفاً، ثم فسره بوديعة، وقال: تلف في يدي: يُقبل. وقال أبو حنيفة: إذا قال: أخذت من فلان ألفاً، ثم فسره بوديعة، وقال صاحبه: بل غصبته: فالقول قول المُقر له؛ وبه قال الشيخ القفال؛ لأن الأخذ ربما لا يكون برضاً، بخلاف الدفع. ولو وصل باللفظ، وقال: أخذت من فلان ألفاً وديعة؛ عند أبي حنيفة: لا يقبل. [و] على قول الشيخ القفال: يكون على قولي تبعيض الإقرار. ولو قال: هذا الثوب كانت وديعة لي عند فلان، فردَّه عليَّ، أو قال: كنت أعرته منه، فرده عليَّ، وقال فلان: بل هو لي: فالقول قول المأخوذ منه مع يمينه؛ لأن المُقر يقر له باليد، ويدَّعي لنفسه العارية والوديعة؛ فلا يقبل قوله، وهو قول أبي يوسف. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- في الوديعة: هو لفلان، وفي العارية: القول قول المقر. ولو قال: لفلان في ميراث أبي، أو من ميراث أبي ألف درهم: فهو إقرار على الأب بالألف، يُقضى من تركته، ولو أضاف إلى نفسه، فقال: لفلان في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف درهم، لا يكون إقراراً، بل يكون وعد هبة لا يتم إلا بشرائطها، إلا أنه يريد إقراراً بخلاف ما لو أضاف إلى الميراث، ولم يضف إلى نفسه: كان إقراراً؛ لأنه أضاف إلى التركة، ولا يحتمل الهبة من التركة، ولا يبقى بعد انتقال التركة عن الميت إلا الدين أو الحق الواجب؛ فحمل عليه. وإذا أضاف إلى نفسه، فقد يكون في ماله الواجب والتبرع، وكذلك، لو قال: لفلان في هذا المال ألف، أو: في هذا الدار بيتٌ، أو: من هذا الدار نصفها: فلا يكون إقراراً إلا

أن يريد إقراراً؛ لأن ماله لا يصير لغيره بإقراره، حتى لو قال: داري لفلان: لا يكون إقراراً. ولو قال: مسكني هذا لفلان: لا يكون إقراراً؛ لأنه أضاف إلى نفسه السُّكنى، وقد يسكن ملك الغير، هذا إذا لم يدخل في كلامه "عليَّ"، وإن دخل في كلامه "عليَّ" فقال: عليَّ ألف درهم من مالي، أو في هذا المال، أو في دراهمي، أو في هذه الدراهم أو في ميراثي من أبي، أو في ميراث أبي، أو في هذا الكيس: يلزمه؛ لأن "عليَّ" للإلزام، ذكره "صاحب التلخيص" في كتابه؛ لأنه لو اقتصر على قوله: "عليّ ألف درهم" لزمه، فإذا أضاف بعده إلى نوع من أنواع ماله: كان تأكيداً، وهذا إذا أضاف إلى الكيس، وكان في الكيس ألف درهم فأكثر؛ فإن كان في الكيس أقل من ألف درهم: قال الشيخ أبو زيد: لا يلزمه غير ما في الكيس. وقال الشيخ القفال: يلزمه الألف؛ لأنه أقر بها، فبالإضافة على الكيس: لا يسقط؛ ألا ترى أنه لو لم يكن في الكيس شيء: لزمه الألف. ولو قال: له عليَّ ألف درهم التي في هذا الكيس، فخرِّج فيه وجهان: أحدهما: لزمه الألف، وإن لم يكن فيه شيء. والثاني: لا يلزمه إلا أن يكون فيه شيء؛ فلزمه ذلك القدر. قال الشيخ أبو عليٍّ: وهذا بناءً على ما لو حلف، ليشربن الماء [في] هذا الكوز، ولم يكن فيه ماءٌ، هل يحنث؟ فيه قولان، ثم استثنى صاحب "التلخيص" من هذا الأصل مسألة، وهي: أنه إذا قال: له عليَّ ألف درهم في هذه السلعة- وسئل المُقر له، فلم يوجب الألف، ورجع على قائله فيما أراد: قال أصحابنا: وهذا الاستثناء لا يصح، بل إذا قال بلفظ "علي"- يلزمه الألف؛ لأن قوله "عليّ" إقرار؛ فلا يتغير بالإضافة إلى السلعة، والشافعي- رضي الله عنه- إنما رجع إليه فيما إذا قال: لفلان في هذه السلعة ألف درهم، ولم ينقل ما ذكرنا. فصلٌ الإقرار بالظرف لا يكون إقراراً بالمظروف؛ وكذلك: الإقرار بالمظروف لا يكون إقراراً بالظرف. إذا قال: لفلان عندي ثوبٌ في منديل، أو تمرٌ في جراب: فهو إقرارٌ بالثوب والتمر؛ لا يكون إقراراً بالمنديل والجراب.

ولو قال: لفلان عندي جرابٌ فيه تمرٌ، أو كوزٌ فيه لبن: فهو إقرار بالجراب والكوز، ولا يكون إقراراً باللبن والتمر. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إن كان ذلك مما يجوز في الظرف غالباً كالتمر في الجراب، واللبن في الإناء: يكون إقراراً بهما، وكذلك: لو قال: سيفٌ في غمد: يكون إقراراً بالسيف دون الغمد. ولو قال: غمدٌ فيه سيف: يكون إقراره بالغمد وحده، وكذلك لو قال: لفلان عندي عبدٌ في بدنه قميص، أو على رأسه عمامةٌ، أو عليه منطقة، أو في رجله خُفٌّ، أو دابة عليها سرج، أو زمام: يكون إقراراً بالعبد والدابة، ولا يكون إقراراً بالقميص والعمامة والمنطقة والخُف ولا بسرج الدابة والزمان، وعكسه: لو قال: قميص في بدن عبد: فهو إقرار بالقميص دون العبد. وقال "صاحب التلخيص": إذا قال: عبدٌ عليه قميص أو ثوب وخف: يلزمه كلاهما؛ بخلاف ما لو قال: فرسٌ عليه سرج: لا يكون إقراراً بالسرج وفرق بأن الفرس ليس له يد، بل هو وما عليه للمقر، فإذا أقر بالفرس، بقي يده على السرج، والعبد له يد على ما عليه، فإذا صار لغيره كان ما عليه معه، وعامة أصحابنا على أنه لا فرق بينهما. ولو قال: فص في خاتم فهو إقرار بالفص؟ في الخاتم وجهان: الأصح: لا يكون إقراراً به. وكذلك: لو قال: نعلٌ في رجل دابة، أو سخلةٌ في بطن نعجة، أو عروة على قمقمة أو ثمرة على شجرة: يكون إقراراً بالنعل والسخلة والعروة والثمرة فحسب. ولو قال: دابة في رجلها نعل، أو نعجة في بطنها سخلة، أو قمقمة عليها عروة، أو شجرة عليها ثمرة: هل يكون إقراراً بالنعل والسخلة والعروة والثمر؟ فيه وجهان. ولو أقر لإنسان بشجرة مطلقاً: فالثمرة التي عليها لا تدخل في الإقرار.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يكون إقراراً بهما. أما إذا أقر بخاتم مطلقاً: يكون إقراراً به مع الفص؛ لأن اسم الخاتم ينطلق على جميعه، ولو قال: لفلان عندي ثوب مطرَّز: يكون إقراراً بالثوب مع الطرز؛ لأنه جزء منه. وقيل: إن كان الطراز مركباً على الثوب بعد النسج: هل يكون إقراراً بالطراز؟ فيه وجهان. ولو قال: لفلان في يدي دار مفروشة: لزمه الدار دون الفرش. فصلٌ إذا قال: غصبت الدار من زيد، لا بل من عمرو، سواء قاله مفصولاً أو موصولاً، أو قال: غصبتها من زيد، فزيد غصبها من عمرو: يسلم الدار إلى زيد، وهل يغرَّم المقر قيمتها لعمرو؟ فيه قولان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة،- رحمة الله عليه-: يغرم؛ لأنه أوقع الحيلولة بينها وبين عمرو بإقراره لزيد. والثاني- وهو الأصح-: لا يغرم؛ لأن إقراره الثاني صادف ملك الغير؛ فلا يلزمه به شيء؛ كما لو قال: الدار التي في يد زيد هي لعمرو؛ لا يجب عليه شيء لعمرو. ولو قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، وقال: هذا العبد الذي تركه أبي لزيد، لا بل لعمرو، ولم يقل غصبت: من أصحابنا من قال- وهو الأصح-: إنها كالمسألة الأولى: يسلم إلى زيد، وهل يغرم القيمة لعمرو؟ فيه قولان، ولا فرق بين أن يقبل الرجوع بإقراره أو بغصبه. ومنهم من قال: ههنا لا يغرَّم شيئاً قولاً واحداً؛ لأنه لم يقر بالغصب الموجب للضمان. ولو قال: غصبت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو: فهي لزيد؛ لأن من في يده أقر بها، ولا يقبل قوله: "ملكها لعمرو"؛ لأنه يشهد له بالملك، ولا تُقبل شهادة الغاصب، ولا غُرم عليه لعمرو، وهي في يد زيد بإجارة أو رهن، فغصبها منه، ولو أقر على ما هي عليه. هذا إذا قدم الغصب، فإن أخَّر، فقال: هذه الدار ملكها لعمرو، وغصبها من زيد: فيه وجهان. أحدهما: تسلَّم إلى زيد، ولا يغرَّم لعمرو شيئاً قولاً واحداً؛ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك أو الغصب.

والثاني: تسلم إلى زيد، وهل يغرم لعمرو؟ فيه قولان: كما لو قال: هي لزيد، لا بل لعمرو. قال الشيخ: عندي: لا فرق بين أن يقول: غصبتها من زيد، لا بل من عمرو، وبين أن يقول: غصبتها من زيد، وملكها لعمرو؛ أي: أنه هل يغرَّم القيمة لعمرو؟ إنه على قولين؛ كما لو قال: هي لزيد، لا بل لعمرو، والشافعي- رضي الله عنه- لم يفصل بينهما في الغرم، بل قال: شهادته للثاني لا تقبل؛ لأنه غاصب. ولو قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين: يطالب بالتعيين: فإن قال: لا أعرف- نُظر: إن صدقاه أنه لا يعرف، أو كذباه، وقالا: إنه يعرف: يحلف أنه لا يعرف [و] تنزع من يده، وتوقف حتى يصطلحا، فإن أقر بها لأحدهما: سلم إليه، وهل تُسمع دعوى الآخر عليه بالقيمة أم لا؟ مثل رجل في يده دار، فأقر بها لرجل، ثم جاء آخر يدعيها؛ فإنه يدعي على المقر له، وهل تسمع دعواه على المقر بالقيمة أم لا؟ إن قلنا: لو أقر له بعدما أقر للأول: يغرم قيمتها، وتسمع دعواه عليه، ويحلفه؛ رجاء أن يُقر فيغرم. وإن قلنا: لا يغرم: لا تسمع دعواه عليه؛ لأنه لا فائدة له فيه. ولو باع من رجل شيئاً، ثم قال: كنت قد بعته من فلان، أو غصبته منه: لا يقبل قوله في حق من باع منه، وهل يغرم قيمته لمن أقر أنه باع منه؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كالمسألة الأولى. ومنهم من قال: يغرم قولاً واحداً، وهو المذهب؛ لأنه فوَّت عليه حقه بفعله وتصرفه؛ حيث دفعه إلى الآخر، وفي المسألة الأولى: لم يتصرف، بل أخبر عن سببه بقوله، ولا أثر لقوله في ملك الغير. ولو جاء رجل بعدما باعه، وادعى تلك العين، يدَّعي على المشتري، هل له أن يدعي القيمة على البائع؟ إن قلنا: لو أقر يغرَّم القيمة: له أن يدعي عليه؛ وهو المذهب. وإن قلنا: لا يغرَّم فلا. هذا إذا باع العين، ثم جاء آخر يدَّعيها: لا تسمع دعواه على من انتزعت من يده بالبينة ثم.

وإن أخذت منه بنكوله ورد اليمين: هل تسمع دعوى الثاني عليه بالقيمة؟ إن قلنا: النكول ورد اليمين كالبينة: لا تسمع. وإن قلنا: كالإقرار: فهو كما لو أقر للأول، هل تسمع دعوى الثاني عليه؟ فعلى قولين. فصلٌ إذا قال؛ وهبت هذه الدار من فلان، ولكن ما أقبضته، وقال المقر له: بل أقبضتني: فالقول قول المقر مع يمينه أنه لم يقبض. ولو قال: وهبت منه، وملكها: لم يكن إقراراً بالقبض؛ لاحتمال أنه ظن أنه ملك بالهبة، وكذلك: لو قال: وهبته منه، وخرجت إليه: لم يكن إقراراً بالقبض، أما إذا قال: وهبت له، وأقبضته، أو سلمت إليه، أو حازها: كان إقراراً بالقبض، فلو أنكر بعد ذلك أن يكون قبضها: لم يُقبل منه، ولم يكن له تحليف المقر له؛ لأنه لا يكذب، فإن بيَّن لإقراره وجهاً محتملاً؛ بأن قال: كنت أقبضته باللسان، وظننته إقباضاً، أو ورد عليَّ كتابٌ من وكيلي أنه أقبضه، فبان أن الكتاب كان مزوراً- حينئذ: تسمع دعواه، والقول قول المقر له أنه أقبضه؛ فبان صحيحاً، وكذلك: حكم الرهن. ولو أقر أنه باع من فلان داراً، أو وهب، وسلم، ثم قال: كنت قد بعته أو وهبته ظاناً أن البيع صحيح، فأقررت، ثم علمت فساد البيع أو الهبة: لا يُقبل قوله، وله تحليف المقر له، فإن نكل حلف المقر، وحُكم ببطلان البيع والهبة. ولو قامت بينة على الهبة والإقباض، ثم ادعى أنه لم يقبض، وبيَّن له وجهاً- نُظر: إن شهدت البينة على نفس الهبة والقبض: لم يكن له تحليف المشهود له؛ لأن فيه تكذيب الشهود، وإن شهدت على إقراره: فله تحليفه كما ذكرنا، ولو قال: تملكت هذه الدار من فلان: فهو إقرار لفلان بها، فإن أنكر فلان التمليك: فالقول قوله مع يمينه، وإن قال: تملكت على يدي فلان: لا يكون إقراراً له بها؛ لأنه يشعر عن كونه وكيلاً ببيعه. ولو قال: هذه لزيد، وهي رهن لعمرو عندي: فهو إقرار لزيد؛ فإن أنكر زيد الرهن: فالقول قوله مع يمينه. ولو ادعى على إنسان شيئاً، فقال المدعى عليه: لا أُقر ولا أنكر: فهو إنكار، فيعرض عليه اليمين، فإن لم يحلف: حلف صاحبه، واستحق دعواه. ولو قال: أنا مقر، أو: أنا أقر ولا أنكر: لم يكن هذا إقراراً؛ لأنه يقر ببطلان ما يدعيه.

ولو قال: أنا مقر بما يدعيه، و: لا أنكر ما يدعيه: فهو إقرار، ولو قال: أنا لا أنكر أن يكون محقاً: لم يكن إقراراً؛ لأنه يريد: أنا لا أنكر أن يكون محقاً في اعتقاده؛ فإن قال: لا أنكر أن يكون محقاً في دعواه: كان إقراراً. ولو قال المدعي: لي عليك ألف، فقال: "بلى"، أو: "نعم"، أو: "أجل"، أو: "صدق" أو: "لعمري"- يكون إقراراً؛ لأن هذه الألفاظ وُضعت للتصديق. ولو قال: "لعل"، أو: "عسى": لم يكن إقراراً؛ لأنها وضعت للشك؛ كما لو قال: "أظن" أو: "أحسب"، أو: "أقدر": لم يكن إقراراً؛ لأنها خرجت، ولو قال: له عليَّ في علمي: كان إقراراً؛ لأن ما عليه في علمه لا يحتمل إلا الوجوب. ولو قال: أليس لي عليك ألف؟ فإن قال: بلى: فهو إقرار، وإن قال: نعم: فهو إنكار؛ لأن جواب النفي بالاستفهام يكون بـ "بلى"؛ كما قال الله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. ولو قال: هل لي عليك ألف؟ فقال: نعم: يكون إقراراً؛ قال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. ولو قال: قبضت الألف التي لي عليك، فقال: نعم: كان إقراراً، ولو قال: اشتر عبدي هذا، أو: اعطني عبدي هذا، قال: نعم: كان إقراراً بالعبد للقائل. ولو قال: اقعد حتى تأخذن أو قال: اعطني غداً؛ أو: ابعث من يأخذه، أو: أجلني يوماً، أو أمهلني حتى أضرب الدراهم، أو حتى يرجع غلامي، أو لا أجد اليوم، ولا يوم التقاضي: فكل ذلك إقرار عند أبي حنيفة؛ وهو محتمل- عندنا- كقوله: نعم. ولو قال: لي عليك ألف، فقال: خُذ، أو: زنه، أو: اتزنه، أو: استوفه: لا يكون إقراراً؛ لأنه قد يقوله استهزاء ومبالغة في الإنكار. وقال أبو عبد الله الزبيري: إذا قال: خُذه، أو: زنه، أو: اتزنه: كان إقراراً؛ لأن الكناية راجعة إلى ما تقدم من الدعوى. ولو ادعى عليه ألفاً، فقال: هي صحاح: لا يكون إقراراً؛ لأن الصفة ترجع إلى ما يدعيه، ولا يقتضي الوجوب. قال أبو عبد الله الزبيري: يكون إقراراً. ولو قال: لفلان عليَّ ألف، إن شاء الله، أو شاء زيد: لا يكون إقراراً. لأن ما علق بمشيئة الله تعالى: لا سبيل إليها، ومشيئة زيد لا أثر لها في وجوب الحق عليه.

وكذلك لو قال: عليَّ ألف إذا قدم فلان، أو: إذا جاء رأس الشهر: لا يكون إقراراً؛ لأن قدوم فلان ومجيء الشهر: لا أثر له في إيجاب المال؛ كما إذا قال: لك عليَّ ألف، إذا حال المطر. أما إذا قال: له عليَّ ألف إلى رأس الشهر: لزمه؛ كما لو قال: ألف مؤجل. ولو قال: إن شهد لك شاهدان، أو فلان وفلان بدينار، فهما صادقان، فإن شهدا، لم يكن ذلك إقراراً، لأن تعليق الإقرار لا يجوز؛ كما لو قال: إن شهد عليَّ فلان صدقته، و: ورثته المال، فإن شهدا، وهما عدلان- حينئذ: ثبت المال بشهادتهما، ولو شهد عليه رجل بمال، فقال: هو عدل: لا يكون إقراراً إلا أن يقول: هو عدل فيما شهد عليَّ، وكذلك لو قال: هو صادق: لا يكون إقراراً حتى يقول: هو صادق فيما شهد عليَّ. ولو قال: كان لفلان عليَّ ألف: فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأنه إذا قال: هو صادق: كان إقراراً أقر به، والأصل بقاؤه. والثاني: لا يلزم؛ لأنه لم يقر بلزومه في الوقت، والأصل فراغ ذمته. فصلٌ إذا كان لزيد على عمرو دين في الظاهر؛ بأن باعه شيئاً، أو أقرضه، أو أجر منه داراً، فأقر زيد بأن ذلك الدين الذي على فلان هو لفلان: صح إقراره في الحكم؛ كما يصح الإقرار بالعين. هذا إذا لم يعلم حقيقة أنه للمقر، فإن علم حقيقة أنها للمقر: فلا يصح، ولا يزول ملكه بالكذب. وكذلك: لو أقر بشيء لآخر، وعلم أنه فيه كاذب: لا يقبل؟ مثل: إن أعتق عبده، ثم أقر له في ذلك المجلس هو أو غيره بمال: لم يصح؛ لأنه- الآن- بالعتق صار ممن يملك، ولم يوجد بينهما معاملة، ولذلك قلنا: لو شهد شاهدان أن فلاناً أقر لفلان بدار، والمُقر كان مالكاً لها يوم الإقرار: لم يصح؛ لأن ما كان ملكاً له، فإقراره به لغيره كذب، وإذا احتمل صدقه: يُقبل؛ فههنا: إذا أقر بثمن الدار أو بالأجرة أو القرض لإنسان: جاز؛ لاحتمال أن زيداً كان وكيلاً من جهة المُقر له في البيع والإجارة والإقراض. واستثنى صاحب "التلخيص" ثلاث مسائل؛ لا يجوز فيها الإقرار بالدين. إحداها: أن تقر المرأة بصداقها على زوجها أنه لغيرها. الثانية: أن يُقر الزوج ببدل الخُلع في ذمة المرأة لغيره.

الثالثة: إذا جنى رجُل على رجل، فأقر المجني عليه بأرش الجناية لغيره: لا يصح. لأن الصداق بدل البضع [و] لا يتصور أن يكون لغيره، وكذلك: أرش الجناية لا يكون لغير المجني عليه إلا أن تكون الجناية على عبد، أو على مال آخر؛ فأقر به للغير: جاز، لاحتمال أن يكون ذلك العبدُ أو المالُ للمقر له يوم الجناية. قال الشيخ- رحمه الله-: الصداق، وبدل الخلع، وأرش الجناية: يتصور أن يصير للغير بالحوالة، فيصح الإقرار بها، وصورة مسألة صاحب "التلخيص": أن يقر بها للغير حال ثبوته، فلا يتصور إن ثبت ذلك للغير. فصلٌ إذا أقر لحمل امرأة بشيء: نُظر: إن عزاه إلى سبب صحيح بأن قال: ثبت له بإرث من أبيه، أو بوصية أوصى له فلان الميت: صح. ثم إن خرج الحمل حياً: يكون له إن كان ذكراً. وإن كان أنثى: فإن عزاه إلى وصية: يكون لها، وإن عزاه إلى إرث: فلها النصف. وإن خرج ذكرين يكون بينهما، وإن خرج ذكراً وأنثى: فإن عزاه إلى إرث: يكون بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فإن عزاه إلى وصيته: يكون بينهما سواء. وإن خرج الحمل ميتاً: فلا حق له فيه، فإن كان قد عزاه إلى وصية: فالوصية باطلة. وإن خرج حياً إنما يُعطى لأقل من ستة أشهر من يوم الإقرار، فإن خرج لأكثر من أربع سنين: فالإقرار باطل، فإن خرج لستة أشهر فأكثر، ولدون أربع سنين- نظر: إن كان لها زوج يطؤها: فلا يعطى: لاحتمال حدوثه بعد الإقرار، فإن لم يكن لها زوج يطؤها- فقولان: أصحهما: يصح؛ لأن الظاهر وجوده، بدليل أن النسب يلحق بالزوج إلى أربع سنين. والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يدري وجوده يوم الإقرار؛ بخلاف النسب، فإنه يثبت بالإمكان، والإقرار لا يثبت بالإمكان، وإن أقر للحمل مطلقاً بمال، ففيه قولان: أحدهما- وبه قال محمد بن الحسن-: لا يصح، لأن مطلق الإقرار محمول على وجوبه بسبب معاملة أو جناية، [و] لا يتصور ذلك في حق الجنين، بخلاف ما لو أقر لصبي في المهد مطلقاً بمال: يقبل؛ لأنه يتصور وجوبه بسبب معاملة كانت بينه وبين قيِّمه.

والثاني: يصح، وبه قال أبو يوسف، ويحمل على أنه ثبت له بسبب إرث أو وصية؛ كما لو أقر لصبي في المهد. فلو قال: لهذا الحمل عليَّ ألف درهم، عاملني أو أقرضني، هل يلزمه أن يبني على الإقرار مطلقاً؟ إن قلنا: لو أقر مطلقاً لا يلزمه: فههنا أولى ألا يلزم، وإن قلنا: لو أقر مطلقاً لا يلزمه: فإذا قيد بالمعاملة- لا يبطل، لأنه يريد إسقاطه بمستحيل؛ كما لو قال: له عليَّ ألف لا يلزمني؛ وكذلك لو قال: لهذا الرضيع عليَّ ألف عاملني: يلزمه ويلغو قوله: "عاملني"؛ وعلى هذا: لو أقر لمسجد بمال: فإن عزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه: صح. وإن أطلق- فعلى وجهين: بناءً على القولين في الحمل: فإن قلنا: إقراره للحمل مطلقاً صحيحٌ، فإن خرج ذكراً أو أنثى- فهو بينهما، وإذا خرج الجنين ميتاً- بطل إقراره؛ لأنه لا حُكم له؛ بدليل أنه لا يدفع إليه ما وقف له من الميراث، ثم يسأل المقر، فإن فسره إقراره بأنه ورث من أبيه: صُرف إلى وارث الأب، وإن عزاه إلى وصية: كان لورثة الموصي؛ كما لو صرح به في الإقرار، وإن مات المقر قبل التفسير: بطل؛ كما لو أقر بحق لرجل، فرد إقراره، ولو أقر بحمل شاة أو حمل جارية الرجل: نص على أنه لا يصح، وهذا يخرَّج على تفصيل الإقرار له؛ فإن فسره، وقال: أوصى لي بحمل هذه الجارية- صح، إذا ولدت لأقل من ستة أشهر، وإن أطلق، وقال: حمل هذه الشاة، أو حمل هذه الجارية لفلان: فيخرَّج على قولين: فإذا أقر بالحمل لرجل، وبالأم لآخر: إن قلنا: الإقرار بالحمل جائز: صح الإقرار لهما، وإن قلنا: لا يجوز: كانت الشاة والحمل للثاني؛ لأن الحمل يتبع الأصل. ولو قال أولاً: هذه الشاة لفلان، والحملُ لفلان- قلنا: لا تصح الوصية بالحمل، وكانت الشاة والحمل للأول؛ لأن الإقرار بالشاة يستتبع الحمل. ولو قال: لعبد فلان عليَّ ألفٌ: فهو إقرار لسيده، ولو قال: لدابة فلان عليَّ ألف: فليس بإقرار؛ لأنه لا يتصور المعاملة مع الدابة، فإن قال: له عليَّ ألف بسبب هذه الدابة: يلزمه، ويحملُ على أنه جنى عليها أو اكتراها؛ يلزمه الأرش والكراء. فصلٌ إذا أقر لإنسان بدين في صحته، ثم أقر الآخر في مرض موته: فهما سواءٌ؛ كما لو

ثبت الدينان بالبينة؛ لأن حالة المرض ليست حالة حجر في الإقرار؛ بدليل أنه لو أقر لواحد بجميع ماله في المرض: يُقبل. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: يُقدم دين حال الصحة على دين المرض. إذا ثبت بالإقرار، فنقول: الإقرار بالدين استويا في اللزوم، ولم يتعلق أحدهما بعين مال، فيستويان في القضاء؛ كالإقرار في الصحة أو في المرض، وقد أقر بدين في حياته، ثم مات، فأقر وارثه بدين آخر- هل يقدم دين الحياة؟ فيه وجهان: أصحهما: سواء؛ كما لو بينا بالبينة. ولو أقر لوارثه بدين في مرض موته، أو بعين- هل يصح أم لا؟ فيه قولان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه- ومالك-: لا يصح؛ لأنه متهم؛ كما لو أوصى لوارثه بشيء: لا يصح. والثاني: لا يصح؛ لأن حالة المرض ليست حالة الحجر في الإقرار؛ بدليل أنه لو أقر لأجنبي بجميع ماله: يصح، فإن قلنا: لا يصح: فالاعتبار في كونه وارثاً بحالة الإقرار أم بحالة الموت؟ فيه قولان: قال في الجديد- وبه قال أبو حنيفة: الاعتبار بحالة الموت؛ كما في الوصية، كما لو أقر لأخيه بشيء، وهو وارثه، ثم حدث له ابن، فصار الأخ محجوباً، أو أقر لزوجة، ثم فارقها- صح إقراره؛ كما لو أوصى له بشيء، ثم صار محجوباً، ولو كان محجوباً يوم الإقرار، فصار وارثاً بأن مات ابنه، فصار الأخ وارثاً، أو أوصى لأجنبية، ثم نكحها: بطل الإقرار. وقال في القديم- وبه قال مالك- رحمة الله عليه-: الاعتبار بحالة الإقرار: فإن لم يكن وارثاً يوم الإقرار، فصار وارثاً يوم الموت: لم يبطل الإقرار، وإن كان وارثاً يوم الإقرار، فصار محجوباً: لم يصح الإقرار، بخلاف الوصية، لأنها عطية بعد الموت، فيعتبر عدم التهمة حالة الاعتبار. ولو ملك رجل أخاه، ثم أقر في مرض موته أنه قد كان أعتقه في صحته: كان العتق نافذاً، وهل يرثه أم لا؟ إن قلنا: الإقرار للوارث: يصح ويرثه، وإن قلنا: لا يصح الإقرار للوارث: لا يرثه؛ لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية- سقط، فأثبتنا الحرية، وأسقطنا الإرث.

فصلٌ إذا أقر بحرية عبد الغير، أو شهد على حريته، فردَّت شهادته: لا يحكم بحريته، فإذا اشتراه المُقر: يحكم بصحة الشراء، ويعتق عليه بحكم إقراره، وإنما حكمنا بصحة الشراء؛ تنزيلاً للعقد على قول من جعل الشرع القول قوله، ثم هو تبع من جهة البائع، حتى يثبت له الخيار، ولو باع بثمن معين، فوجد بالثمن عيباً، فرده: يسترد العبد، بخلاف ما لو باع عبداً بعرض، فأعتقه المشتري، ثم رد العرض بعيب: يسترد قيمة العبد، ولا يسترد العبد، لأنهما اتفقا على حرية العبد هناك، وههنا: لم يتفقا عليه حتى لو قال البائع في تلك المسألة للمشتري: أعتقته، فأنكر المشتري: فالقول قول المشتري، [و] يحلف على أنه لم يعتقه، ويرد العبد، ويعتق على البائع، أما من جهة المشتريك يكن شراء أم فداء؟ نُظر: إن ادعى على البائع أنك أعتقته- ففيه وجهان: أحدهما: أنه شراءٌ؛ كما في جانب البائع. والثاني: هو فداء؛ لأنه مقر بحريته، وشراء الحر لا يجوز؛ فكأنه يبذل مالاً لتخليصه عن الرق. فإن قلنا: هو شراء: ثبت له الخيار، وإن وجد به عيباً: أخذ الأرش. وإن قلنا: فداءٌ: فلا خيار له، ولا أرش، وعلى الوجهين: لا رد له، وولاؤه موقوف، فلو مات، وله مال: فماله لوارثه، إن كان له وارث مناسب، وإن لم يكن له وارث يوقف ماله، فإن صدَّقه البائع: رد الثمن والمال له، وإن لم يصدقه: فهل للمشتري أن يأخذ من ماله الأقل أم الثمن أم التركة؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو اختيار المزني، وقول ابن سُريج، وأبي إسحاق: له ذلك؛ لأنه كان كاذباً، فجميع ماله- وإن كان صادقاً-: فالمال للبائع بحكم الميراث، وهو مستحق الثمن على البائع، وقد ظفر بماله؛ فله أخذ حقه منه. والثاني: لا يأخذ؛ لأنه لا يدري أنه يأخذه من جهة البائع أو من جهة الملك. قال الشيخ: ويمكن بناؤه على أنه شراء أم فداء لا يأخذه؟ لأنه مقطوع ببذل الثمن. وإن قلنا: شراءٌ يأخذه، فأما إذا كان المُقر قد قال: إنه حُر الأصل، أو: أعتقه فلان، ثم اشتريته أنت: فهو فداءٌ من جهة المشتري وجهاً واحداً؛ فلا خيار له، ولا أرش، إذا وجد به عيباً. وإذا اكتسب العبد مالاً، ومات: فلا وارث له؛ فماله لبيت المال، وليس للمشتري

أن يأخذ منه شيئاً؛ لأنه إذا كان صادقاً: فإنما يستحق الثمن على البائع، وبزعمه: أن هذا المال ليس للبائع، وإن مات العبد في يد البائع: لا ثمن له على المشتري؛ لأنه لا يقر بالعتق؛ فيكون كتلف المبيع قبل القبض: يجب الثمن على المشتري؛ لأنه عتق على المشتري بالإنفاق، وكان عتقه قبضاً. ولو أقر بحرية عبد الغير، ثم استأجره: لا يحل له أن ينتفع به، وللآخر مطالبته بالأجرة، وإن كانت جارية، فنكحها المقر: لا يحل له وطؤها وللسيد المزوج مطالبته بالصداق. ولو كان في يد رجل عبدٌ، فقال من في يده: هذا العبد لفلان، وقال العبد: بل أنا لفلان آخر: لا يُقبل قول العبد، وهو لمن أقر له من في يده. ولو ادعى العبد أنه حر، وأنكر السيد: فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن أصل الناس على الحرية، فإذا حلف العبد: ليس للسيد أن يرجع على بائعه بالثمن إلا أن يقيم العبد بينة على حريته ليرجع. ولو ادعى العبد على المولى أنك أعتقتني، وأنكر المولى: فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأن العبد أقر بالرق، والأصل بقاء الرق. ولو قال من في يده العبد: هذا لفلان، وأنكر فلان أن يكون له: فيه وجهان. أحدهما: يحكم بحريته؛ لأنه لا يدعيه أحد؛ فيكون العبد في يد نفسه؛ فيعتق. والثاني: لا يحكم؛ لأن الرق حقيقة لا تزول إلا باليقين؛ فعلى هذا: يُترك في يده أم ينتزع من يده ويحفظ الحاكم؟ فيه وجهان؛ كما لو قال: هذه الدار لفلان، وأنكر فلان: هل تترك في يده أمي أخذه الحاكم؛ فيحفظه إلى أن يظهر مالكه؟ فيه وجهان. فصلٌ إذا ادعى على رجل، فقال: بعتُك هذه الجارية، فأدِّ الثمن، وقال المدعى عليه: بل زوجتنيها- نُظر: إن لم يكن قد استولدها من في يده- تحالفا يحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه، ثم بعدما حلفا: ترد الجارية إلى من كانت في يده، ولا مهر لها على من يدعي النكاح، دخل بها أو لم يدخل؛ لأنه لا يدعيه، وبأي جهة تعود الجارية إلى من كانت في يده؟ فيه وجهان: أحدهما: بجهة الإفلاس؛ لأنه تعذر عليه استيفاء الثمن؛ فصار كما لو أفلس المشتري الثمن يفسخ البائع، ويسترد المبيع؛ فعلى هذا: يحل له وطؤها.

والثاني: ترد إليه بجهة أن له الثمن على من يدعي نكاحها، وتعذر استيفاؤه منه، والجارية له بزعمه، فقد ظفر بغير جنس حقه من ماله؛ فعلى هذا: لا يحل له وطؤها له، ويستوفى حقه من ثمنها، فإن كان الثمن من حقه اتبع من يدعي عليه، وإن كان أكثر: فالفضل للمدعى عليه. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر: رد اليمين على صاحبه؛ فيحلف ويحكم له ببيانه [فإن] حلف البائع أنه ما زوجها، ولم يحلف المشتري؛ أنه ما اشتراها: حلف البائع لقد اشتراها، ويلزمه اليمين، ولو حلف المشتري ما اشتراها، ولم يحلف البائع ما زوجها: حلف المشتري لقد تزوجها، وحكم له بالنكاح؛ فإن كان من في يده الجارية قد استولدها: فالجارية بزعم المدعي- صارت أم ولد للمستولد: لا يجوز له أخذها، وهل له أن يأخذ من المستولد أقل الأمرين: إما الثمن أو المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذ؛ لأنه إن باعها منه فيستحق الثمن، وإن زوجها يستحق المهر. والثاني: لا يأخذ؛ لأن المشتري حلف ألا يمين له عليه، والمدعي يُقر أنه لا يستحق المهر؛ ولأن جهة الاستحقاق، إن ثبتت فتختلف، وعلى الوجهين: يقر للجارية في يد المستولد، ويحكم بحرية الولد، لأن بزعم المدعي أنها أم ولد، والولد حر، ويحل في الباطن لمن في يده وطؤها، وهل يحل له وطؤها في الظاهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل له؛ كما في الباطن. والثاني: لا يحل؛ لأنه لا يدري أنه يطأ منكوحة أو مملوكة؛ كما لو اشترى زوجته بشرط الخيار: لا يحل له وطؤها في زمان الخيار؛ لأنه لا يدري أنه يطأ منكوحة أو مملوكة، وعلى من تجبُ نفقتها؟ إن قلنا: يحل له وطؤها: فعليه نفقتها، وإن قلنا: لا يحل- فقولان: أصحهما: يكون في كسبها؛ لأنا حكمنا بأنها أم ولد لمن في يده؛ فلا يمكن إيجابها على البائع. والثاني: يكون على البائع؛ لأنها كانت عليه؛ فلا يسقط عنه بزعمه، ويجري التوارث بين الولد والوالد. أما الجارية: إذا ماتت قبل موت المستولد: ماتت قنَّة، فإن تركت مالاً من كسبها، فللبائع أن يأخذ الثمن منه؛ لأن- بزعم المستولد-: أنها كانت مملوكة للبائع، وجميع ما تركت له، وبزعم البائع: أنه للمستولد، وهو يستحق عليه الثمن، فيأخذ الثمن، والفضل يكون موقوفاً؛ لأنه لا يدعيه أحد.

وإن مات المستولد أولاً: يحكم بحريتها، ويكون كسبها لها، فلو ماتت بعده- فمالها لورثته من جهة النسب، والولاء موقوف، فإن لم يكن لها وارث: فالميراث موقوف، فليس للبائع أن يأخذ شيئاً من تركتها؛ لأنها عتقت بموت المستولد، فما جمعت من المال بعده لا يقضي به دُيون المستولد، وحق البائع كان في ذمة المستولد؛ كما إذا أعتق عبداً، ثم مات المُعتق، وعليه دينٌ، ثم مات المُعتق بعده: لا يقضي من ماله ديون معتقه، فلو أن البائع صدَّق من في يد الجارية لا يريد بتصديقه أمومة الولد، ولا حرية الولد، غير أن اكتسابها يكون للبائع ما دام المستولد حياً، فإذا مات عتقت وكسبها بعده لها؛ وكذلك: لو أقام المدعي بينة على التزويج: لا تردُّ أمومة الولد؛ لأن بينته تكذبه، ولو أكذب نفسه بعد موت المستولد: لا يكون من كسبها شيء. ولو صدق المستولد البائع: يجب عليه الثمن، وله ولاؤها. ولو مات المستولد، ثم صدَّق وارثه البائع: فالجارية حرة بموته، وولده منها حر وارث، وتصديق الوارث إقرار على الموروث بالثمن فيقضي من تركته. فصلٌ إقرار العجمي بلسانه صحيح كإقرار العربي بلسانه، وكذلك: أهل كل لسان يقر بلسانه، ولو أقر أعجمي بالعربية، أو عربي بالعجمية: يقبل إقراره، إن فهم ما يقول. وإن ادعى بعده: أني لم أعرف معناه قُبِل قوله مع يمينه، إن كان ممن يجوز ألا يعرفه. فإذا شهد الشهود على إقرار رجل بحق: لا يشترط أن يقولوا: كان يوم الإقرار صحيح العقل، غير مُكره ولا محجور عليه. وما يكتب في الصكوك أنه أقر طائعاً غير مُكره احتياطاً؛ كما لا يشترط أن يقولوا: كان حراً، فلو ادعى المُقر أني كنت يوم الإقرار صغيراً: قُبل قوله مع يمينه؛ لأن الإنسان لا يخلو عن الصغر، وإن قال: كنت مجنوناً: فإن عُرف به جنون سابق: قُبل قوله مع يمينه، وإن لم يعرف: لا يقبل، وإن قال: كنت مكرهاً؛ فإن كان ثم أمارة الإكراه: بأن كان محبوساً أو عليه موكل: قُبل قوله مع يمينه، وإن لم يكن فلا يقبل، والله أعلم. باب إقرار الوارث إذا ادعى الحر العاقل البالغ بنسب صغير مجهول النسب: يُلحق به؛ لأن النسب يثبت بالبينة، فيثبت بالإقرار.

وإن ادعى بنسب بالغ، فإن صدَّقه المقر له يثبت نسبه منه، وإن كذبه- لا يثبت، إلا أن يقيم المدعي على ذلك بينة، وإن لم يكن له بينة: فللمدعي تحليفه؛ لأنه لما سُمعت فيه البينة: ثبت فيه التحليف، فإن حلف سقط، وإن نكل حلف المدعي، ويثبت النسب، فإن كان المقر به معروف النسب من غيره، أو كان في سن: لا يتصور أن يكون ولداً للمدعي: لا تسمع دعوى المدعي، وإن ادعى نسب صغير أو مجنون مجهول النسب، وحكمتا بثبوته، فبلغ وأفاق، فأنكر: هل يُقبل إنكاره؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا بثبوت نسبه، فلا يرتفع بإنكاره؛ كما لو قامت بينة على نسبه. والثاني: يُقبل؛ لأنا حكمنا له حين لم يكن له قول، والآن: صار من أهل أن يكون له قول، ولو ادعى نسبه في هذه الحالة، فأنكر: لم يكن يثبت. ولو ادعى نسب ميت- نظر: إن كان الميت صغيراً أو مجنوناً: حكم بثبوت نسبه، وله ميراث، وإن كان الميت بالغاً- ففيه وجهان: أصحهما: لا يثبت إلا ببينة؛ لأنه لو كان حياً لم يكن يثبت نسبه بمجرد دعواه لا بتصديقه، وتصديقه معدوم. والثاني: يثبت؛ لأنه عجز بالموت عن التصديق، فصار كالصبي والمجنون، ولو أقر بنسب بالغ عاقل، ثم رجع عن الإقرار، وصدَّقه المقر به- فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: يسقط النسب؛ كما لو أقر له بمال، ثم رجع وصدَّقه المقر له في الرجوع. والثاني- وهو قول الشيخ أبي حامد-: لا يسقط؛ لأن النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه؛ كالنسب الثابت بالفراش. ولو ادعى نسب عبد الغير، أو نسب معتقه- نظر: إن أقام عليه بينة: ثبت نسبه، سواء صدقه العبد أو كذبه، فهو رقيق لمولاه. وإن لم يُقم بينة- نظر: إن كان العبد صغيراً: لا يحكم به؛ لما فيه من إبطال حق السيد من الإرث بالولاء، وإن كان بالغاً: فإن أنكر العبد: لم يثبت، وإن أقر: فعلى وجهين، هذا إذا ألحق النسب بنفسه، فإن ألحق بغيره؛ بأن قال: هذا أخي ابن أبي، أو ابن أمي: فلا يقبل إلا بعد موت الملحق به، ولا يثبت إلا بإقرار من يجوز جميع تركة الملحق به إرثاً بعد أن يكون المُقر به مجهول النسب، ويصدقه إن كان بالغاً؛ كما قلنا في الإلحاق بنفسه.

فلو مات رجل عن ابن واحد، فأقر بنسب ابن آخر للميت: ثبت؛ لأنه لا يجوز التركة، ولو مات عن بنين وبنات: فلا يثبت إلا بإقرار جميعهم. وهل يشترط إقرار الزوج والزوجة؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ لأنه من الورثة. والثاني: لا يشترط؛ لأن الزوجية تنقطع بالموت. وكذلك: في إثبات الزوجية- هل يشترط إقرار جميع الورثة؟ فيه وجهان. وإن كان الابن قاتلاً أو عبداً أو كافراً، والآن مسلم، لا يقبل إقراره بالنسب؛ لأنه لا يُقبل إقراره عليه بالمال؛ فلا يقبل بالنسب كالأجنبي. ولو مات مُسلم عن اثنين: أحدهما مسلم، والآخر كافر، فأقر المسلم بأخ ثالث لهما: ثبت، وإن أنكر الكافر؛ لأن المسلم يجوز جميع تركة الميت. وإن أسلم الكافر بعده: لا يعتبر إقراره؛ لأنه لم يكن وارثاً يوم الموت، ولو كان الميت كافراً، وله ابنان: كافرٌ ومسلم، فأقر الكافر بابن آخر: ثبت، وإن أنكر المسلم، سواء كان المقر به مسلماً أو كافراً، غير أنه إن كان المقر به مخالفاً للميت في الدين: لا يرثه مع ثبوت النسب؛ وكذلك: لو مات عن اثنين: حر وعبد، فأقر الحر بنسب ابن آخر: يثبت، وإن أنكر العبد، وإن أقر أن هذا عمي: فهو إلحاق النسب بالجد، فإن كان أبوه مات قبل جده، وحاز هذا المقر جميع تركة الجد: يثبت النسب بإقراره، وإن كان الجد قد مات قبل الأب: يشترط أن يكون المقر حائزاً جميع تركة من حاز تركة الجد، حتى لو كان لجده ابنان، وماتا يشترط أن يكون هو حائزاً جميع تركتهما، ولو مات عن بنت هي معتقة أبيها، فأقرت بابن للميت: يُقبل، وإن لم تكن معتقة للأب: لا يُقبل؛ لأنها لا تحوز جميع تركة الأب، فإن أقر السلطان معها: إن قلنا: السلطان كالوارث: يثبت؛ وإلا فلا؛ وكذلك: لو مات، ولا وارث له، فأقر السلطان بابن له: إن قلنا: السلطان كالوارث: يثبت هذا إذا لم يقل على سبيل القضاء، فإن قال: على سبيل القضاء، فإن قلنا: القاضي لا يقضي بعلم نفسه: لا يثبت، وإن قلنا: يقضي بعلم نفسه: يثبت، وإن أنكر جميع الورثة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: يشترط في ثبوت النسب عدد الشهادة، ولا يشترط إقرار جميع الورثة حتى قال: لو مات عن ابن واحد، فأقر: لا يثبت، ولو مات عن جماعة من الأولاد، فأقر منهم ابنان، أو ابن وبنتان، فإن أنكر الباقون، فالدليل على ثبوته بقول

الواحد، إذا كان وارثاً: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان عُتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي، وقال عبد بن زمعة: أخي، فتساوقا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي كان عهد إلي فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "هو لك يا عبد بن زمعة؛ الولد للفراش، وللعاهر الحجر؛ فدل على ثبوته بقول الواحد، وإنما يثبت نسب المقر به، إذا

لم يكن الأب قد نفاه، فإن كان الأب قد نفاه: لا يثبت نسبه بإقرار وارثه من بعده؛ لأنه يلحق به نسباً حكم ببطلانه، وإذا مات رجل عن ابنين: أحدهما: عاقل، والآخر مجنون، أو أحدهما بالغ، والآخر صغير، فأقر العاقل بابن آخر: لا يثبت حتى يفيق المجنون، ويبلغ الصبي؛ فيقر به؛ حينئذ: يثبت، فإن مات الصبي والمجنون قبل البلوغ- نظر: إن لم يكن له وارث سوى هذا الابن المقر: يثبت نسبه من غير استئناف إقرار، وإن كان له وارث سواه: فلا يثبت إلا بإقرارهم جميعاً. ولو مات عن ابنين بالغين، فأقر أحدهما بابن آخر للميت، وأنكر الآخر، ثم مات المُنكر، ولم يكن له وارث سوى هذا الأخ:

قال الشيخ- رحمه الله-: إن كان له وارث آخر، فأقر به: هل يثبت نسبه؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأنه صار جميع الميراث له. والثاني: لا يثبت؛ لأن الجاحد أبطل حُكم النسب بالجحود، كما لو نفى الأب نسبه باللعان، أو جحد نسباً، فنفاه عن نفسه: لم يجز لوارثه استلحاقه. ولو مات عن ابن، فأقر لرجلين أنهما أخواي، وصدق كل واحد صاحبه: يثبت نسبهما، فلو أنهما تكاذبا، وأنكر كل واحد نسب الآخر: هل يثبت نسبهما؟ فيه وجهان: أصحهما: يثبت؛ لوجود الإقرار لهما ممن يجوز التركة. والثاني: لا يثبت؛ لأنه في الحقيقة إقرار أحد الابنين. وإن صدق أحدهما صاحبه، وكذب الآخر: يثبت نسب المصدق دون المكذب. ولو مات عن ابن، فأقر بنسب ابن آخر، وأنكر المقر له نسب المقر: لا يقبل قوله في رد نسب المقر، وهل يثبت نسب المقر له؟ فيه وجهان: أصحهما: يثبت؛ لأنه أقر به من جاز التركة. والثاني: لا يثبت؛ لأن- بزعمه- أن المقر ليس بوارث؛ فلا يصح إقراره، ولو مات عن ابن، فأقر بنسب مجهول، ثم هما أقرا بنسب ثالث، وأنكر الثالث نسب المجهول الأول، فنسب الثالث ثابت، وهل يسقط نسب المجهول الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسقط؛ لأن الثالث ثبت نسبه بإقرارهما؛ فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع. والثاني- وهو الأصح-: يسقط؛ لأن الثالث يثبت نسبه، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني، ولو أقر الابن الوارث بنسب أحد التوءمين: يثبت نسبهما؛ لأن التوءمين لا يتفرقان في النسب، فإن أقر بهما، وكذب أحدهما الآخر: لم يؤثر التكذيب في نفي نسبهما. هذا كله كلام في النسب. أما الميراث: فهل يثبت للمقر به؟ نظر: إن كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث: يرث معه؛ كالابن يقر بابن آخر للميت، أو ميت يشاركه في الميراث، وإن كان يحجبه: فلا يرث: مثل: إن مات رجل عن أخ أو عم أو معتق، فأقر بابن للميت: يثبت النسب، ولا يثبت الميراث؛ لأنا لو ورثناه: صار المقر محجوباً، وإقرار المحجوب

بالنسب لا يقبل بإثبات الميراث له؛ فيجر إلى سقوطه وسقوط نسبه؛ فأثبتنا النسب، وأسقطنا الميراث. وقال ابن سريج: يرث المقر به، ويحجب المقر؛ لأن حجبه لو كان يسقط إقراره: لكان لا يقبل إقرار الابن، بابن آخر، وإذا قبل لكان لا يشاركه في الميراث؛ لأن المقر يصير محجوباً عن بعض الميراث؛ فلا يكون الإقرار ممن يحوز جميع التركة. والأول المذهب؛ لأن الابن إذا أقر بابن آخر، وصدقه المقر به: كان إقراراً ممن يأخذ جميع الميراث. ولو أقر أخ الميت بابنة للميت ترث معه؛ فلها النصف، والباقي للأخ؛ لأن إقرار الوارث بمن يزاحمه، ولا يحجبه: لا يمنع الميراث. ولو مات عن بنت هي معتقة الأب، فأقرت بولد للميت: يثبت النسب، وهل يرث المقر به؟ نظر: إن كان المقر به أنثى: يرث، فالثلثان بينهما والباقي لمعتقه، وإن كان المقر به ذكراً: هل يرث؟ فيه وجهان: أحدهما: يرث؛ فيقسمان التركة؛ للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن توريثه لا يسقطها عن عصوبة الولاء بالكلية؛ كما لو مات عن ابنة ومعتق، فأقر بابن للميت: لم يرث؛ لأنه يحجب المعتق. ولو ادعى على رجل بأني ابن أخيك الميت، وأقام عليه بينة: ثبت النسب والميراث، وصار الأخ محجوباً، وإن لم يقم بينة، وأنكر المدعى عليه، ولم يحلف، وحلف المدعي: ثبت نسبه، وهل يرث؟ إن قلنا: النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار: لم يرث، وإن قلنا: بمنزلة البينة من المدعي: ورث، وصار الأخ محجوباً، وعلى هذا: لو مات رجل عن أخ، وله عبدان أعتقهما الأخ، ثم جاءت امرأة، وادعت أنها زوجة الميت، وهي حامل منه، فأنكر الأخ، فشهد المعتقان للزوجة: تثبت الزوجية ونسب الولد من الميت، ولا ميراث للولد، وكان ابناً، لأنا لو ورثناه صار الأخ محجوباً، وإذا صار محجوباً- لم يصح إعتاقه للعبدين، ولم تصح شهادتهما، فإذا بطلت شهادتهما: لم تثبت الزوجية والنسب؛ فأثبتنا النسب، وأسقطنا الميراث، وإن كان الولد بنتاً: هل ترث؟ نُظر: إن كان الأخ معسراً يوم الإعتاق: لم ترث؛ لأنها لو ورثت لم ينفك عتق الأخ إلا في الفضل عن فرض البنت، وبقي الباقي رقيقاً، ففيه إبطال شهادتهما، وإن كان الأخ موسراً يوم الإعتاق، إن قلنا: السراية تقع بنفس الإعتاق: ترث البنت؛ لأن توريثها: لا يمنع من تكميل العتق، وإن قلنا: تقع السراية بأداء القيمة: لم ترث المرأة، ولا البنت؛ لأنه يمنع تكميل العتق حالة الشهادة.

قال الشيخ: إذا كان للميت أخ وزوجة، فأقرا بابن للميت: ثبت النسب، ولا ميراث للابن، ويكون للزوجة الربع، وإن كان عندها أن الابن يحجبها إلى الثمن؛ كما أنه يورث الأخ، وإن كان عنده محجوباً بالابن، وكما جعلنا الابن كالمعدوم في ميراث الأخ، كذلك: في حق الزوجة حتى لو ماتت امرأة عن زوج وأم وأخت: فالمسألة عائلة من ستة إلى ثمانية؛ فلو أقروا بابن للميت: ثبت نسبه، ولا ميراث له؛ لأنا لو ورثناه صارت الأخت محجوبة، وتقسم التركة بينهم على العول؛ كما تقسم عند عدم الابن، وإن كان الابن لو ورث لم تكن تعول المسألة. ولو مات عن زوجة وأخ، فأقرت الزوجة بابن للميت، فأنكر الأخ: لم يثبت النسب والزوجة ماذا تأخذ؟ نُظر: إن كانت التركة في الأخ: فلا يأخذ إلا الثمن؛ لأنها منكرة للزيادة، وإن كانت في يدها: فالأخ لا يأخذ إلا ثلاثة أرباعها، ثم الزيادة على الثمن: هل يترك في يدها؟ فيه وجهان، قد ذكرنا أنه إذا مات عن ابنين، أقر أحدهما بابن ثالث، وأنكر الآخر: لا يثبت النسب، وكذلك: لا يثبت الميراث له؛ فيأخذ نصف ما في يد المقر؛ لأنه يقر أنهما في الميراث سواء، وجعل كأن المنكر وما في يده لم يكن. وقال أبو يوسف ومحمد: يأخذ ثلث ما في يد المقر بتفاوت ما بين فرضية الإقرار والإنكار. وعندنا: لا ميراث له؛ لأنه توريث بالنسب، والنسب غير ثابت، فيستحيل ثبوت الميراث. ولو ادعى رجل نسب عبد في يده، وقال: هذا ابني- نظر: إن كان صغيراً، وكان مجهول النسب: ثبت نسبه، ويحكم بعتقه، وهل يكون عليه ولاؤه؟ فيه وجهان: وإن كان كبيراً- نظر: إن كان أكبر سناً منه: فلا حكم لقوله، ولا يعتق به؛ وكذلك: لو قال لمن هو أصغر سناً منه: هذا أبي: لا يعتق. ولو قال: هذا ابني، وكان في سن يتصور أن يكون مثله ولداً له، وأقر به للعبد: ثبت النسب والحرية، فإن كذبه العبد: لا يثبت النسب، وهل يحكم بعتقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا نحكم بعتقه؛ كما لو قال لمن هو أكبر سناً منه؛ لأن الحرية تترتب على النسب، فإذا لم يثبت النسب: لا تثبت الحرية. والثاني: نحكم بعتقه، لأن ثبوت النسب- ههنا- محتمل. وكذلك: لو كان العبد معروف النسب من غيره، فقال السيد: هذا ابني: لا يثبت النسب، وفي العتق وجهان.

فصلٌ رجل له جارية، ولها ولد، فقال: هذا ولدي من هذه الجارية استولدتها في ملكي: يثبت النسب للولد، ولا ولاء عليه، وتكون الجارية أم ولده؛ تعتق بموته، سواء وجد هذا الإقرار في الصحة، أوف ي المرض. ولو قال: هذا ولدي من هذه الجارية، ولم يزد عليه: ثبت نسب الولد، وهل تكون الجارية أم ولد له؟ لا؛ لأن الظاهر أنه استولدها في الملك. والثاني: لا تكون أم ولد له، لاحتمال أنه استولدها بملك النكاح، ثم اشتراها، ولو قال: هذا ولدي من هذه الجارية ولدته في ملكي، هل تكون أم ولد له؟ قيل: فيه قولان؛ كالأول، وقيل: ههنا: تصير أم ولد له؛ لأنه أضاف الولادة في الملك، ولا تصير به أم ولد، فإن قلنا: تصير أم ولد له، فلا ولاء على الولد، وإلا فيثبت، وعلى هذا: لو قال لجاريته: هذه أم ولدي أو التي أولدتها في ملكي: لا يجوز له بيعها، وقال: أولدتها بالنكاح: جاز له بيعها، ولو قال: أم ولدي، ولم يزد عليه، هل يجوز له بيعها؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، ويُحمل على الاستيلاد بملك اليمين، وإذا كان لرجل أمتان؛ لكل واحدة ولد، فقال المولى: أحد هذين ولدي: يؤمر بالتعيين؛ وذلك إذا لم يكونا مزوجين، فإن كانتا فراشاً: فإن أقر بوطئهما جميعاً: فالولدان يلحقان به، وإن كانت إحداهما فراشاً: فلا يتعين إقراره في ولد المستفرشة، بل يقال له: عين، فإن عين في الأخرى، فهما ملحقان به، وإن كانتا مزوجتين: فلا يقبل قوله، والولدان ملحقان بالزوجين، فإن كانت إحداهما مزوجة: لا يتعين إقراره في غير المزوجة، بل يؤمر بالتعيين، فإن عين في ولد المزوجة: لم يقبل، وإن عين في ولد الأخرى: ثبت نسبه منه، فإذا لم يكونا مزوجتين، ولم يكونا فراشاً، وأمرناه بالتعيين، فإذا عين في أحدهما: ثبت نسبه، وهل تصير أمته أم ولد له؟ نُظر: إن قال: استولدتها بملك اليمين: صارت أم ولد له، ولا ولاء على الولد، لأنه خُلق حراً، وإن قال: استولدتها بملك النكاح: لم تصر أم ولد له، والولد عتق عليه بالملك، وعليه الولاء، وإن قال: بوطء شبهة: فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان. وإن أطلق: يحمل على الاستيلاد بملك اليمين؛ لأنه الظاهر من أمر المملوكة، فحيث حكمنا بتصييرها أم ولد له: فلا ولاء على الولد، وإلا فيثبت. وإن قال: استولدتها بالزنا: لا يقبل هذا التصيير، وهو كالإطلاق، فإن وصل باللفظ: فلا يثبت النسب، ولا أمومة الولد، ثم إذا عين في ولد إحداهما: فللأخرى أن تدعي عليه، والقول قول السيد مع يمينه، فإن نكل حلفت هي، وحكم بحرية ولدها، وهل تصير أم ولد؟ فعلى التفصيل الذي ذكرنا وإن مات السيد قبل التعيين: قام وارثه مقامه في

التعيين، فإن عين في إحداهما: فهو كتعيين المورث، وللأخرى أن تدعي عليه، وإن لم يكن له وارث، أو قال الوارث: لا أعلم: أرى الولدان القائف؛ فأيهما لحقه: كان حراً، وثبت النسب منه، ويرث، وهل تصير الأم أم ولد له؟ حكمه حكم ما لو أطلق السيد، إن لم يكن السيد بين النسب. وإن لم يكن قائف: أقرع بينهما؛ فمن خرجت قرعته: حكم بحريته، وفي تصييرها أم ولدها قولا الإطلاق، ولا يحكم بثبوت نسب من خرجت قرعته، ولا ميراث له؛ لأنه لا مدخل للقرعة في النسب والميراث، ولا يوقفان؛ حتى يبلغا فينسبا، بخلاف ما لو تنازع رجلان في ولد، ولم يوجد قائف؛ حتى يبلغ الولد، فينسب إلى أحدهما؛ لأن- ههنا- ربما ينسب كل واحد منهما إليه؛ وحينئذ: لا يكون أحدهما أولى به من الآخر، وهل يوقف من تركته ميراث ابن؟ فيه وجهان: أحدهما: يوقف؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه لا يعينها، ومات قبل البيان، فيوقف لهما ميراث زوجة. والثاني: لا يُوقف؛ لأن النسب لم يتحقق ههنا، وهناك: الزوجة كانت حقيقة. ولو كانت لرجل أمة، لها ثلاثة أولاد، فقال: أحد هؤلاء ولدي: يؤمر بالتعيين؛ فإن عين في الأصغر: ثبت نسبه وحريته وميراثه، وفي ثبوت الولاء عليه وثبوت أمومة الولد للأم: ما ذكرنا من التفصيل، والولد الأكبر والأوسط رقيقان، فإن عين في الأوسط: ثبت نسبه وحريته وميراثه، والابن الأكبر رقيق، أما الأصغر نص أنه يعتق بموته، لأنه ولده، والولاء يخرج على التفصيل الذي ذكرنا، فإن قال: استولدتها بالأوسط بملك النكاح: فالأصغر رقيق لا يعتق بالموت كالأم، وعلى الأوسط، الولاء، وإن استولدها بملك اليمين- نظر: إن ادعى الاستبراء عقيب وضع الأوسط: فالأصغر رقيق غير ثابت النسب منه، غير أنه ولد أم يعتق بموته كالأم، وإن لم يدَّع الاستبراء: فوجهان: أصحهما: أن الأصغر ملحق به؛ كالأوسط: يرثان منه. والثاني: هو أنه ولد أم والولد غير ثابت النسب يعتق بموته؛ لأن الاستبراء حصل بالأوسط. وإن استولدها بالأوسط بوطء الشبهة: إن قلنا: الأم لا تصير أم ولد له: فالأصغر رقيق؛ يحل بيعه. وإن قلنا: تصير أم ولد: فهو ولد أم الولد يعتق بموته، وإن أطلق- فيحمل على الاستيلاد بملك اليمين، أم بملك النكاح؟ فعلى القولين.

وإن عين في الولد الأكبر: ثبت نسبه وحريته وميراثه، وفي حرية الأوسط والأصغر: ما ذكرنا من التفصيل. ولو مات السيد قبل التعيين: قام وارثه مقامه، وإن لم يكن له وارث: يرى القائف بنيه، فأيهم ألحقه به- ثبت نسبه وميراثه في حكم الآخرين- على ما سبق من التفصيل؛ فإن لم يكن قائف أو لم يُعرف: يُقرع بينهم، فمن خرجت قرعته: حُكم بحريته، والأم هل تكون أم ولد له؟ فعلى القولين: المنصوص: أنها أم ولده، ولا يثبت النسب ولا الميراث، وهل يوقف الميراث؟ فيه وجهان. قال الشيخ- رحمه الله-: وإذا خرجت القرعة للأكبر: فحُكم الأصغرين حُكم الأم في الحرية. واختار المزني: أنه يوقف الميراث، فإن كان له ابن معروف: يدفع إليه رُبع الميراث، ويدفع الربع إلى الأصغر؛ لأنه ولد بكل حال، ويوقف للأكبر، والأمر على ما ذكر إذا حملنا الاستيلاد على ملك اليمين، ووقفنا الميراث. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: عتق الأصغر كله؛ لأنه حر بكل حال، وعتق من الأوسط ثلثاه؛ لأنه حر في الحالتين، رقيق في حالة أخرى إذا عين فيه أو في الأكبر، رقيق إذا عين في الأصغر، وعتق من الأكبر ثلثه؛ لأنه حر في حالة، وهي: إذا عين فيه، رقيق في حالتين، وهو: إذا عين في الأوسط، أو في الأصغر، قال: ويعتق من الأم بعد موته ثلثاها؛ لأنه عتق من أولادها الثلثان، والله أعلم.

كتاب العارية

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العارية روي عن أمية بن صفوان، عن أبيه؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استعار منه أدراعه يوم حنين، فقال: أغصباً يا محمد! قال: "بل عارية مضمونة". العارية: أن تأخذ عيناً من المالك، لتنتفع به وترد.

والإعارة: قربة مندوب إليها، وتصح ممن هو جائز التصرف. وكل عين: جازت إعارتها، وهي مما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها؛ كالدور،

والعقار، والعبيد، والدواب، والثياب، ونحوها، أما ما لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها؛ كالأطعمة: لا يجوز إعارتها. وفي إعارة الدراهم والدنانير وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ كالأطعمة. والثاني: يجوز؛ لأنه ربما يريد أن يتحمل بها، أو يضرب على طبعها. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: إعارة النقدين تكون قرضاً، ولو استعار جارية للخدمة، فإن كانت محرماً له: جاز، وإن لم تكن محرماً له: لا يجوز؛ لخوف الفتنة، فإن كانت صغيرة لا تشتهي: فوجهان. ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لأنه يُكره أن يستخدمهما. وتصح العارية بالقول من أحدهما، وبالفعل من الآخر، فإن قال المستعير: أعرني، فسلمها إليه المُعير، أو قال المعير: أعرتك، فقبضها المستعير: تمت الإعارة؛ كإباحة الطعام: يجوز بالقول من أحدهما، وبالفعل من الآخر. ولا يشترط في الإعارة بيان المدة: لأنها تبرع؛ متى شاء رجع؛ كما لو قال: ادخل كرمي، وكل ما شئت: جاز، وإن لم يبين، ولو ضرب لها أجلاً: لا يلزم، وعند مالك- رحمة الله عليه-: يلزم. والعارية مضمونة على المستعير؛ حتى لو تلفت في يده بفعله أو بفعل غيره أو بآفة سماوية: يلزمه الضمان؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- لصفوان: "بل عارية مضمونة". وعند أبي حنيفة والثوري- رحمة الله عليهما-: العارية أمانة في يد المستعير، فنقول: بعد الخبر أجمعنا على أن المستعير من الغاصب، إذا هلكت العين في يده، وهو جاهل: يستقر عليه الضمان، فلولا أن العارية سبب الضمان: لكان لا يستقر عليه كالمستودع الجاهل من الغاصب إذا هلكت العين في يده: لا يستقر عليه الضمان، ولا خلاف أن الأجراء إذا هلكت في يده بالاستعمال: لا يلزمه ضمانها؛ لأنه كان مأذوناً فيه، ولو تلفت العين بالاستعمال- فالمذهب: أنه لا يجب ضمانها؛ كالأجزاء. وقيل: يجب ضمان الجزء الذي بقي قبل التلف؛ فعلى هذا: إذا أشرف على الهلاك بالاستعمال: لا يجوز استعماله بعده، ولو تلف الأجزاء بالاستعمال: ففيه وجهان:

أحدهما: لا يضمن؛ كما لو تلفت بالاستعمال. والثاني: يضمن؛ كالعين إذا هلكت، وهو الأصح. وإذا هلكت في يده، فأي قيمة تلزمه؟ قيل: يلزمه ضمان الغصب أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم الهلاك. والصحيح أنه يعتبر قيمتها يوم التلف؛ لأنا لو ألزمناه الأكثر: أوجبنا عليه ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال؛ وذلك لا يجوز. ومن قال بالأول قال: الأجزاء تابعة للعين؛ فإن رد العين: سقط ضمان الأجزاء، وإن وجب ضمان العين بالتلف: وجب ضمان الأجزاء. ولو ولدت العارية في يد المستعير، هل يكون الولد مضموناً عليه؟ فيه وجهان؛ وإن قلنا: ضمان الأصل كضمان الغصب: يكون مضموناً عليه، وإن قلنا: يعتبر ضمانة بيوم التلف: لا يكون مضموناً عليه، ولا خلاف أنه لا يجوز له استعمال الولد. ولو أعار شيئاً إعارة فاسدة، أو ما لا يجوز إعارته، كالأطعمة وغيرها: يكون مضموناً على المستعير، لأن ما يكون صحيحه مضموناً: يكون فاسده مضموناً. ومن استعار شيئاً: يجوز أن يستوفي منفعته بنفسه وبوكيله، لأن الوكيل نائب عنه، ولا يجوز أن يؤاجره من غيره، وهل يجوز له أن يُعيره من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما يجوز للمستأجر أن يعير من غيره. والثاني- وهو الأصح-: لا يجوز؛ لأنه أبيح له المنفعة؛ فلا يملك أن يبيح لغيره كمن أبيح له طعام: لا يملك أن يبيحه لغيره، بخلاف المستأجر: فإنه يملك المنفعة، بدليل أنه يجوز له أن يؤاجر من غيره، ويأخذ عليه العوض، والمستعير: لا يملك أخذ العوض عليه؛ فلا يملك الإباحة. وإذا رجع المعير عن العارية: يجب رد العارية، ومؤنة الرد تكون على المستعير. ولو استعار من المستأجر، أو أوصى لإنسان بخدمة عبد أو سكنى دار، فالموصى له أعاره من إنسان: جاز، وهل يكون مضموناً على المستعير؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما لو استعار من المالك. والثاني- وهو الأصح، والمذهب- لا يكون مضموناً عليه؛ لأنه ينوب عن المستأجر، والموصى له في الانتفاع؛ بدليل أن الكراء يستقر على المستأجر بانتفاعه؛ فيده كيد المستأجر والموصى له، ويدهما ليست يد ضمان.

ومؤنة الرد على من تكون؟! نُظر: إن رده على المستأجر: فيكون على المستعير، وإن رد على المالك، فعلى المالك؛ كما لو رد المستأجر بنفسه. فصلٌ [في بيان إعارة الأرض] إذا أعار أرضاً مطلقاً؛ لينتفع بها: جاز، وإن لم يبين جهة الانتفاع، ثم المستعير يجوز له أن يزرع ويغرس ويبني لإطلاق الإذن، ولو أعار للغراس أو البناء: فله أن يزرع؛ لأن الزرع أقل ضرراً من الغرس والبناء، ولو أعار للزرع: لم يكن له أن يغرس، ولا أن يبني؛ لأن ضرر الغراس والبناء أكثر، ولو أعار للغرس، هل يجوز له أن يبني؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن كل واحد منهما للتأبيد. والثاني-[وهو الأصح- ليس له ذلك]؛ لأن ضررهما مختلف: ضرر البناء في ظاهر الأرض، وضرر الغراس في باطنها. ولو أعار أرضاً للزراعة- نُظر: إن بين زرعاً: فله أن يزرع ما بين، أو زرعاً آخر ضرره مثله أو دونه، وليس له أن يزرع زرعاً آخر ضرره أكثر؛ فإن فعل قلع مجاناً، ولو أعار للزراعة، ولم يبين نوعاً: فقد قيل: لا يصح للجهل، والأصح: جوازه، وله أن يزرع ما شاء، قل ضرره أو كثر؛ وكذلك: لو أعار دابة، ولم يبين أنه يركب أو يحمل؟ فيه وجهان. ولو أعار مطلقاً، فغرس وبنى، ثم رجع: له قلعه مجاناً، وإذا أعار الأرض للغراس والبناء- لا يخلو: إما أن يبين مدة أو لم يبين: فإن بين مدة: فله أن يغرس ويبني في المدة متى شاء، وإن بقي من المدة قليل ما لم يرجع المعير، وله أن يحدد كل يوم غرساً، وبعد مضي المدة: لا يجوز أن يغرس، ولا أن يبني، فإن فعل قلع مجاناً، فإن غرس وبنى في المدة: فإذا مضت المدة- نُظر: إن أمكن رفع البناء والغراس من غير نقص يدخلها: أمر برفعها، وإن لم يمكن إلا بدخول نقص فيها- نُظر: إن كان المعير شرط عليه قلع البناء، والأشجار، وتسوية الأرض: يجب عليه جميع ذلك، فإن لم يفعل: فللمعير قلعها مجاناً، وإن شرط قلع الأشجار، ولم يشترط تسوية الأرض: لا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه لما شرط القلع: رضي بالحفر، وإن لم يشرط عليه قلع الأشجار- نُظر: إن اختار المستعير قلعها: فله ذلك؛ لأنها ملكه، فله نقلها، وهل يلزمه تسوية الأرض؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه لما أعار مع علمه- بان له مع قلع الأشجار؛ فقد رضي بما يحصل بالقلع من التخريب. والثاني: يلزمه؛ لأن القلع كان باختياره؛ فإنه لو امتنع: لم يجبر عليه. ومن خرب أرض غيره: يلزمه التسوية، وإن لم يختر المستعير قلع البناء والأشجار: لم يكن للمعير قلعها مجاناً. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: له قلعها مجاناً، وهو اختيار المزني، وهذه فائدة بيان المدة. وعندنا: لا يقلعها مجاناً؛ لأنه كان مأذوناً في الغرس والبناء، ولكنه يتخير بين الأشياء الثلاثة، إن شاء أخذها بالقيمة، وإن شاء كلف المستعير قلعها، وضمن أرش النقصان، وإن شاء أقرها بالأجر؛ وكذلك: لو رجع قبل مضي المدة؛ فيتخير في الغراس والبناء، وليس للمستعير أن يقول: إنما أتملك الأرض بالقيمة؛ لأن الأرض أصل؛ لا تتبع الغراس، والغراس تبع؛ فجاز أن يتبع الأرض في التملك؛ كما يتبعها في البيع؛ فإن أراد القلع: لا يحتاج إلى إذن المستعير، وإن أراد التملك بالقيمة، أو التقرير بالأجرة: يحتاج إلى إذنه؛ لأنه بيع وإجارة، وربما يرى المستعير نقله، فإن امتنع المعير عن بذل القيمة وأرش النقصان: فإن دفع المستعير الأجرة: لم يكن للمعير قلعها، وإن امتنع عن بذل الأجرة، هل للمعير قلعها مجاناً؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان. والثاني: له ذلك؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بالعارية بعد الرجوع من غير أجرة. وإذا اتفقا على بيع الأرض مع الغراس والبناء: جاز، ثم يوزع الثمن على أرض مشغولة بالغراس، وعلى الغراس، فما خص الأرض للمعير، وما خص الغراس للمستعير. فإذا أراد المعير بيع الأرض: له ذلك، ثم المشتري يتخير في الغراس بين الأشياء الثلاثة، ولو باع المستعير الغراس: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن ملكه عليها غير مستقر، وربما يتملكها المعير. والثاني: يجوز، وهو الأصح، وعدم الاستقرار لا يمنع البيع، كما يجوز للمشتري بيع الشقص المشفوع، مع أن للشفيع أخذه بالشفعة. ثم المعير مع المشتري يتخير بين الأشياء الثلاثة، وللمشتري الخيار في فسخ البيع، إن كان جاهلاً، ويجوز لمالك الأرض دخول الأرض، وأن يستظل بالغراس، ولم يكن

للمستعير منعه؛ لأن حق المستعير في موضع الغراس، فأما البياض: فلا حق له فيه. وليس لمالك الغراس دخولها للتفرج، ولا لغير غرض، إلا لتعهد الغراس بسقي أو تلقيح أو جذاذ ثمر؛ فيجوز له دخولها لهذه الأغراض؛ بغير إذن المعير. وقيل: لا يجوز إلا بإذنه. والأول أصح. ولو أعار أرضاً للبناء والغراس مطلقاً، ولم يبين مدة: جاز، وله أن يغرس، ويبني ما لم يرجع المعير، فإن رجع بعد ما غرس وبنى، فيتخير المعير بين الأشياء الثلاثة؛ كما ذكرنا، وإن غرس أو بنى بعدما رجع، وكان عالماً بالرجوع: يقلع مجاناً، وإن كان جاهلاً بالرجوع: فيه وجهان، كما لو حمل السيل نويات إلى أرضه فنبتت. ولو أعار أرضاً للزراعة، فزرع، ثم رجع المعير، والزرع لم يدرك: لم يكن للمعير قلعه بل ببقيه إلى أوان الحصاد، لأن له وقتاً ينتهي إليه؛ بخلاف الغراس؛ فإنها للتأبيد. وله طلب أجر مثل ما بعد الرجوع إلى الحصاد؛ لارتفاع العارية بالرجوع. وقيل: ليس له طلب الأجرة، لأنه أذن فيه مجاناً؛ كما قبل الرجوع. والأول أصح؛ لأنه أباح له المنفعة إلى وقت الرجوع؛ كما لو أعار بعيراً إلى مكة، فلما توسط البادية: رجع المعير عليه لنقل أمتعته إلى العمران بأجر المثل. قال الشيخ- رحمه الله-: ولو أعار للزراعة مدة، وانقضت المدة، والزرع لم يُدرك- ينظر: إن فرط في الزراعة بالتأخير: يقلع مجاناً، وإن لم يفرط: فلا يقلع. وإذا أعار أرضاً للزراعة مطلقاً: فلا يزرع إلا زرعاً واحداً وكذلك: لو أعار للغرس، فغرس، وقلع؛ فلا يغرس بعده إلا بإذن جديد. ولو حمل السيل نويات أو حبات إلى أرضه: يجب عليه ردها إلى مالكها لو عرفه، وإن لم يعرفه دفع إلى الحاكم، ولو لم يعلم حتى نبتت في أرضه، هل يجبر مالكها على قلعها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يُجبر؛ لأنه لم يكن منه تفريط. والثاني: يجبر؛ لأن المالك لم يأذن فيه، كما لو انتشرت أغصان أشجاره إلى هواء دار غيره: يُجبر على إزالة ضرره؛ وهذا أصح.

فإن قلنا: لا يجبر: فإن كان زرعاً: يبقى إلى أوان الحصاد بالأجرة، وإن كان شجراً: يتخير مالك الأرض فيها بين أن يتملكها بالقيمة، أو يقلعها، ويضمن أرش النقصان، وبين أن يقرها بالأجرة، كما ذكرنا في العارية. ولو حمل السيل نواة واحدة، أو حبة لا قيمة لها، والغراب دفن جوزة في أرضه، فنبتت: هل يملكها مالك الأرض؟ فيه وجهان: أحدهما: يملك؛ لأنه لم يكن لها قيمة، فصارت متقومة في أرضه. والثاني: لا يملك؛ لأن تلك الحبة كانت محرمة الأخذ من المالك؛ فعلى هذا: هل يؤمر بقلعها مجاناً؟ فعلى الوجهين. إذا غرس رجل أرض الغير بإذنه، ثم وقف رب الأرض والغراس الأرض والغراس معاً: جاز، كما لو باعا ولو وقف رب الأرض: جاز، كالبيع، ولو وقف مالك الغراس غراسه: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن القلع ثابت لرب الأرض، فيكون وقف ما لا يمكن الانتفاع به. والثاني- قاله ابن حداد: يجوز. ثم إن قلعها صاحب الأرض- يؤخذ منه أرش النقصان، وينفق عليه، ويغرس في موضع آخر. قال الشيخ- رحمه الله-: ويمكن بناء الوجهين على جواز البيع. ولو دفع أرضاً إلى رجل ليغرسها أو يبني فيها على أن نصف الغراس والبناء لمالك الأرض، والنصف له: فهذا فاسد للجهالة. فإذا غرس وبنى: فالغراس والبناء للغارس والباني؛ فإن كان لا ينتقص قيمتها بالنقل، كلف نقلها: وإن كان ينتقص: فلا يقلع مجاناً؛ لأنه فعل بالإذن، فيتخير مالك الأرض فيها بين الأشياء الثلاثة. وإن كان زرعاً يبقى إلى أوان الحصاد، ويستحق رب الأرض الأجر، وكم يستحق؟ فيه وجهان: أحدهما: نصف أجر مثل الأرض، لأنه كان يعتقد نصف عمل العامل له. والثاني: يستحق تمام أجر المثل؛ لأن جميع عمل العامل وقع للعامل، وجميع الغراس له.

أما إذا باع نصف الأرض معيناً على أن يغرس له النصف الآخر، ووصف الغراس: جاز علق أو لم يعلق. ولو قال الرجل: أعرتك دابتي اليوم على أن تعيرني دابتك غداً: فهذه إجارة فاسدة، وكل واحد يستحق على صاحبه أجر مثل دابته. وكذلك: لو قال: أعرتك دابتي على أن تعلفها، أو داري على أن تطين سطحها، أو تكسح ثلجها: فهي إجارة فاسدة، والتطيين وكسح الثلج على المالك، وللمالك عليه أجر مثل الدابة والدار. ولو قال: أعرتك دابتي على أنها إذا هلكت تضمن أكثر من قيمتها- فهي إجارة فاسدة. وقيل: عارية فاسدة. ولو دفع شاة إلى رجل، فقال: ملكتك درها ونسلها: فهذه هبة مجهولة؛ فالشاة مضمونة عليه بحكم العارية الفاسدة، وما حصل من الدر والنسل: كالمقبوض بحكم الهبة الفاسدة. ولو قال: أبحتُ لك درها ونسلها: ففيه وجهان: أحدهما: أنها هبة فاسدة كالأول. والثاني: إباحة صحيحة؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "الصدقة اللقحة الصفي منحة، والشاة الصفي منحة تغدو بإناء وتروج بأجر". فعلى هذا: الشاة عارية صحيحة. ولو قال: ملكتك، أو: أبحتُ لك درها ونسلها؛ على أن تعلفها: فهذا فاسد، والعلف بإزاء أجرة الشاة وثمن الدر والنسل، فالشاة غير مضمونة عليه بحكم الإجارة الفاسدة، والدر والنسل مضمون عليه بحكم الشراء الفاسد، كما لو دفع كسرة إلى سقاء، فأخذ الكوز ليشرب فسقط من يده وانكسر: ضمن الماء؛ لأنه أخذه بحكم الشراء الفاسد، ولم يضمن الكوز؛ لأنه في يده بحكم الإجارة الفاسدة، فإذا أخذ مجاناً: فالكوز عارية

يجب ضمانه، والماء كالمقبوض بحكم الهبة الفاسدة، [وكذلك: لو] اشترى شيئاً في وعاء، فقبضه: فالوعاء لا يكون مضموناً عليه. ولو استعار صندوقاً، وفيه نقد للمالك لم يعلمه المستعير: يكون ما فيه أمانة عنده؛ كالريح: تلقي ثوباً في حجره: يكون أمانة عنده. ولو دفع دراهم إلى رجل، فقال: اجلس على هذا الحانوت، واتجر لنفسك، أو دفع إليه بذراً، وقال: ابذر في هذه الأرض: فالحانوت والأرض عارية، والدراهم والبذر هبة أو قرض، فيه وجهان. ولو كانت دابة واقفة بين يدي مالكها، فوضع رجل متاعاً عليها بغير أمر صاحبها: لصاحب الدابة طرح متاعه، فلو لم يطرح وسير الدابة: دخل المتاع في ضمانه، ولا يجب على صاحب المتاع ضمان الدابة. ولو قال صاحب المتاع: سير الدابة، فسيرها: لا يجب على صاحب الدابة ضمان المتاع، وصار صاحب المتاع مستعيراً لذلك القدر من الدابة، إن كان على الدابة متاع آخر: يضمن بقدر متاعه. ولو كان راكباً دابة، فأردف رجلاً خلفه بمسألته أو غير مسألته: كان كما لو أعار منه نصف دابة، فإن هلكت الدابة: يجب على الرديف نصف الضمان. وكذلك: لو أعارف سفينة من إنسان، وهو فيها، فهلكت: يجب على المستعير نصف الضمان، فإن أركبه الدابة، وهو يمشي خلفها: يجب على الراكب جميع الضمان. ولو كان يمشي معه رجل، ومعه متاع، فقال صاحب المتاع: احمل متاعي هذا على دابتك، فحمل: كان لو أعار الدابة منه، يجب عليه ضمانها. ولو قال صاحب الدابة: أعطني متاعك أضعه على دابتي، ففعل: كان كما لو استودع متاعه؛ لا يجب على صاحب المتاع ضمان الدابة، ولو كان لرجل حمل نفيس على دابة، فأركب إنساناً فوقه، حتى يكون حرزاً للمال: لا يجب على الراكب ضمان الدابة؛ لأن صاحب الدابة أركبه لمنفعة نفسه. وكذلك: لو بعث رجلاً إلى بلد لشغله، فأعطاه دابة ليركبها: لا يجب على الراكب ضمان الدابة؛ لأنه أركبه لإصلاح شغله. ولو استعار رجل دابة ليركبها إلى بلد، فجاوزها: يجب عليه أجر مثل ما جاوز،

ذهاباً ورجوعاً إلى الموضع الذي جاوزه. وهل له أن يركبها في الرجوع إلى البلد الذي استعار منه أم يسلمه إلى حاكم البلد الذي استعار إليه؟ وجهان: أحدهما: له أن يركبها للرجوع؛ لأن المالك أذن فيه. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الإذن قد انقطع بالمجاورة، فعلى هذا: إذا رجع عليه أجر مثل الرجوع. فصل في الاختلاف إذا ركب دابة إنسان، فاختلفا، فقال المالك: أكريتك الدابة، وقال الراكب: بل أعرتني- لا يخلو: إما إن كان هذا الاختلاف في حال قيام الدابة أو بعد تلفها. فإن كان في حال قيامها- نُظر: إن كان في حال ما أخذ الدابة قبل مضي مدة لها أجرة: فلا فائدة فيه إلا أن يدعي المالك تعجيل الأجرة: فالقول قول الراكب مع يمينه. وقال في المزارعة: إذا زرع أرض الغير، ثم اختلفا؛ فقال المالك: أكريتك، وقال الزارع: بل أعرتني: إن القول قول المالك مع يمينه: فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما- وهو الأصح، وهو اختيار المزني-: أن القول قول المالك مع يمينه؛ لأن المنافع كالأعيان. ولو اختلفا في عين، فقال المالك: بعتك، وقال الذي في يده: وهبتني: كان القول قول المالك مع يمينه، لأنه أتلف منفعة الغير، ثم يدعي البراءة من الضمان: فلا يقبل؛ كما لو أكل طعام الغير، ثم قال: أبحته لي، فقال: ما أبحته لك: فالقول قول المالك مع يمينه. والقول الثاني: القول قول الراكب والزارع مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على إباحة المنفعة له، والمالك يدعي الكراء، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. ومن أصحابنا من فرق بينهما على ظاهر النص، فقال في الدابة: القول قول الراكب، وفي الأرض: القول قول المالك؛ لأن العادة جرت: أن الدابة تعاد، والأرض لا تُعاد؛ بل تؤاجر، والصحيح: أن لا فرق بينهما.

فإن قلنا: القول قول المالك، فإذا حلف أخذ الأجرة، وأي أجرة يأخذ؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذ المسمى؛ لأنا لما قبلنا قوله في الكراء: يقبل قوله في المسمى. والثاني: يأخذ أجر المثل، وهو المنصوص؛ لأنهما لو اتفقا على الأجرة، واختلفا في قدرها، وجب أجر المثل، فإذا اختلف في الأجرة: أولى أن يجب أجر المثل، فإذا نكل المالك عن اليمين: لا تُرد اليمين على الراكب، لأن عين المالك حجة لاستحقاقه الأجر، وإذا لم يحلف سقط، ويمين الرد يستحق بها حق، وهو لا يدعي شيئاً. وإن قلنا: القول قول الراكب مع يمينه، فإذا حلف برئ، وإذا نكل حلف المالك واستحق المسمى قولاً واحداً؛ لأن يمينه بعد نكول المدعى عليه: إما أن تكون كالبينة أو كالإقرار، فأيهما وجد يستحق به المسمى، وهذه المسألة بخلاف ما لو دفع ثوباً إلى غسال ليغسله، فغسله، ثم اختلفا، أو خاط لرجل ثوباً، أو بنى داراً، فاختلفا، فقال المالك: فعلته مجاناً، وقال العامل: بل بالأجرة: فالقول قول المالك مع يمينه قولاً واحداً بخلاف الراكب والزارع؛ لأن الخياط والغسال قوت منفعة نفسه، ثم يدعي الضمان على الغير: فلا يقبل، والراكب أفات منفعة دابة الغير، ويريد إسقاط الضمان عن نفسه: فلا يقبل. وإن كان هذا الاختلاف بعد تلف العين- نُظر: إن تلفت حالة ما أخذها قبل مضي مدة لها أجر، والراكب مقر له، وهو ينكر: فيرتد برده، وإن تلفت بعد مضي مدة لها أجر، والمالك يدعي عليه الكراء، وهو يقر بالقيمة: فهو يبني على أن اختلاف الجهة، هل يمنع الأخذ؟ وفيه وجهان. إن قلنا: يمنع الأخذ: فالقيمة ساقطة برده، وفي الكراء: القول قول من يكون؟ فعلى ما ذكرنا من القولين. وإن قلنا: لا يمنع الأخذ- نُظر: إن كانت الأجرة والقيمة سواء، أو كانت الأجرة أقل: أخذها المالك بلا يمين، وإن كانت الأجرة أكثر: أخذ قدر القيمة، وفي تلك الزيادة القول قول من يكون؟ فعلى القولين. وإن كان الاختلاف على عكس هذا، قال المالك: أعرتك، وقال: لا، بل أكريتني: فالقول قول المالك مع يمينه، يحلف ويأخذ العين، وإن كان بعد مضي مدة لها أجر: فالراكب يقر له بالكراء، وهو ينكر، فيرتد برده، وإن كان بعد تلف العين نُظر: إن مضت مدة لمثلها أجرة؛ فالمالك يدعي عليه القيمة: فالقول قوله مع يمينه؛ هذا هو المذهب؛

لأن الراكب أتلف عليه ماله، والأصل: أنه لم يبح، وإن مضت مدة لمثلها أجرة: فالمالك يدعي القيمة، والراكب يقر بالأجرة، فإن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الأجر: فلا أجرة له، وفي القيمة: يحلف ويأخذ، وإن قلنا: لا يمنع الأخذ: فإن كانت الأجرة والقيمة سواء، أو كانت القيمة أقل: أخذها المالك بلا يمين، وإن كانت القيمة أكثر، ففي تلك الزيادة: حلف المالك وأخذ. ولو قال المالك: غصبتني، وقال الراكب: لا، بل أعرتني: يسترد المالك العين، وإن كان بعد مضي مدة لها أجر؛ فالمالك يدعي كراء المثل، وهو ينكر: نقل المزني: أن القول قول المستعير، وهو الراكب. اختلف أصحابنا فيه؛ منهم من قال: المسألة على طريقين؛ كالمسألة الأولى: أحدهما: أنها على قولين. والثاني: يفرق بين الأرض والدابة. ومنهم من قال: القول قول المالك قولاً واحداً، والنقل وقع خطأ؛ لأن الراكب يدعي الإذن، وهو ينكر، والأصل عدم الإذن، وفي المسألة الأولى: اتفقا على الإذن، وإن كان هذا الاختلاف بعد تلف العين، وكان بعد مضي مدة: فالمدعي يدعي كراء المثل؛ فيحلف ويأخذ، ويدعي القيمة بطريق الغصب، وهو يقر بطريق العارية. وإن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الأخذ: حلف وأخذ، وإن قلنا: لا يمنع الأخذ: إن قلنا: ضمان العارية ضمان الغصب، أو قلنا: تعتبر بيوم التلف، وكانت قيمتها يوم التلف أكثر: أخذها بلا يمين، وإن كانت قيمتها يوم التلف أقل: ففي الزيادة: يحلف ويأخذ، وإن اختلفا، فقال المالك: غصبتني، وقال الراكب: بل أكريتني، فإن لم تمض مدة لها أجر: حلف المالك، وأخذ العين، وإن كان أرضاً زرعها: قلع الزرع، وعلى الزارع تسوية الأرض، وإن كان بعد مضي مدة لها أجر: فالمالك يدعي كراء المثل، وهو يقر بالمسمى، فإن استويا، أو كان أجر المثل أقل: أخذه بلا يمين، وإن كان أجر المثل أكثر: حلف، وأخذ الزيادة. قال الشيخ- رحمه الله-: ولا يبنى على اختلاف الجهة؛ كما لو أن المالك يدعي فساد الإجارة، والراكب يدعي الصحة: حلف المالك، وأخذ أجر المثل، وإن كان هذا

الاختلاف بعد تلف العين، وكان بعد مضي مدة: فالمالك يدعي كراء المثل والقيمة، والراكب يقر بالمسمى، وينكر القيمة، فما يقر الراكب أخذه بلا يمين، وفي الزيادة: يحلف ويأخذ. ولو قال المالك: غصبتني، فقال: بل أودعتني، وكان بعد تلف العين- حلف المالك، وأخذ القيمة وأخذ كراء المثل، إن مضت مدة لها أجر، والله أعلم.

كتاب الغصب

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الغصب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. وعن أبي بكرة قال: خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقال في خطبته: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض".

الغصب: هو الاستيلاء على مال الغير بجهة العدوان. وهو معصية وسبب للضمان. أما إذا حبس المالك عن ملكه، حتى هلك ماله: لا يضمن؛ لأنه لا صنع له في المال؛ كما لو أتلف طعام المضطر حتى مات جوعاً: ضمن الطعام، ولم يضمن النفس؛ لأنه لا صنع له في النفس. وإذا غصب شيئاً، ثم رده كذلك، لم يتغير؛ ولم يمض زمان لمثله أجرة: لا شيء عليه، وإن أمسكه زماناً لمثله أجرة: يجب عليه أجر مثل ذلك الزمان؛ سواء استعمله أو لم يستعمله. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: منافع الغصب غير مضمونة، ولا يضمن المنفعة عنده إلا بعقد أو شبهة عقد. وعند مالك- رحمة الله عليه-: إن استعمل ضمن أجر المثل، وإلا فلا. فنقول: المنفعة إذا ضمنت بشبهة العقد، وهو أن يستأجر شيئاً إجارة فاسدة: وجب أن يضمن بالغصب، كالعين، بل هذا أولى؛ لأن العقد يصدر عن الرضا، والرضا سبب لسقوط الضمان، ثم لم يسقط به ضمان المنفعة، فالغصب الصادر عن عدم الرضا أولى ألا يسقطه. وإذا تلفت العين المغصوبة في يد الغاصب، أو أتلفها: يجب عليه المثل، إن كان مثلياً، وإن كان متقوماً: فالقيمة. وإنما أوجبنا المثل في المثلي؛ لأن إيجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع،

وإيجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن، وعند إمكان الرجوع إلى القطع: لا يصار إلى الظن؛ كما لا يصار إلى القياس عند وجود النص. وحد المثلي كل مكيل أو موزون، جاز بيع بعضه ببعض، وجاز السلم فيه. وشرطنا الكيل والوزن؛ لأن أجزاء المكيل والموزون قلما تختلف، وشرطنا جواز بيع بعضه ببعض؛ لأنه يشبهه من حيث إنه يأخذ مثله، وقلنا: يجوز السلم فيه، لأنه يشبهه من حيث إن البدل يثبت في ذمته؛ كالحيوان والثياب المتقومة؛ لأنها ليست بمكيلة ولا موزونة، وكذلك العنب والرطب والثمار الرطبة؛ لأنه لا يجوز بيع بعضها ببعض، واللبن الحامض والعسل المصفى بالنار واللآلئ والجواهر كلها متقومة؛ لأنه لا يجوز السلم فيها. والدراهم والدنانير والحبوب والأدهان والألبان كلها مثلية؛ لاجتماع هذه المعاني فيها. وقال العراقيون: حد المثلي: ما تتساوى أجزاؤه، ولا يختلف أجزاء النوع الواحد منه. وقالوا: الصفر والنحاس متقوم وعلى الحد الذي ذكرنا مثلي، وما دام المثل موجوداً: عليه تحصيله، وإن علت قيمته، وإذا وقع المثل يبرأ، وإن قلت قيمته. وقيل: إذا وجد المثل بأكثر من ثمن المثل: لا يلزمه المثل؛ لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن المثل كعدمه؛ كالماء في الوضوء والرقبة في الكفارة؛ والأصح: أنه يلزمه، لأن المثل كالعين، ولو كانت العين قائمة: عليه ردها، وإن احتاج في ردها إلى أضعاف: ثمنها. وإذا تراضيا على أخذ القيمة مع وجود المثل: جاز، وإن خرج المثل عن أن يكون متقوماً بتبدل مكان أو زمان: يجب عليه قيمته باعتبار مكان الإتلاف وزمانه، مثل: إن أتلف خمراً في الصيف؛ فليس له رد المثل في الشتاء، بل عليه قيمة مثله ي الصيف؛ وكذلك: لو أتلف عليه ماء في مفازة يعز فيها الماء، ثم اجتمعا في بلد ليس له رد المثل؛ بل يجب عليه قيمته في مثل تلك المفازة، فإذا أخذ القيمة في الشتاء، ثم جاء الصيف، أو أخذ قيمة الماء في البلد، ثم اجتمعا في مثل تلك المفازة، هل [له] رد القيمة، ومطالبته بالمثل، أو هل للغارم إعطاء المثل، واسترداد القيمة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لأنه وصل إلى حقه بأخذ القيمة. والثاني: له ذلك؛ لأن أخذ القيمة كان؛ لأنه لم يصل إلى كمال حقه، وقد زال ذلك المعنى. ولو أتلف عليه مثلياً، ثم لقيه ببلد آخر، هل له مطالبته بالمثل؟ نظر: إن لم يكن لنقله مؤنة كالدراهم والدنانير: له ذلك، وإن كان لنقله مؤنة: ليس للمتلف عليه مطالبته بالمثل، ولا للمتلف إجباره على قبول المثل إلا أن يتراضيا، فإن لم يتفقا أخذ المالك قيمة مثله باعتبار بلد الإتلاف، فإذا رضي وأخذ المثل: لم يكن له أن يكلفه مؤنة النقل، وإذا أخذ القيمة، ثم اجتمعا في بلد الإتلاف، هل لأحدهما مطالبة الآخر بالرد- فعلى الوجهين، وكذلك: لو لم يكن المثل موجوداً يوم الإتلاف، ثم وجد- نُظر: إن وجد قبل أخذ القيمة: يأخذ المثل، وإن وجد بعد أخذ القيمة، هل يترادان؟ فعلى وجهين؛ كذلك حكم القرض. أما [إذا] غصب مثلياً، ونقله إلى بلد آخر: فللمالك مطالبته بعينه، وله أن يكلفه رد عينه إلى بلد الغصب، أو يطالبه بقيمته، ثم إذا عاد إلى بلده، وعين ما غصبه قائماً: رد القيمة، وأخذ العين. ولو تلف في يد الغاصب في البلد المنقول إليه: كان للمالك مطالبته بمثله، لأن الطلب بعينه قد توجه عليه في ذلك البلد؛ فليس أحد البلدين أولى من الآخر، فإن لم يوجد له مثل: طالبه بأكثر البلدين قيمة؛ كما في المقوم. والتبر والسبيكة مثلي أو متقوم؟ فيه وجهان، فإن أتلف شيئاً من جنس الأثمان- نُظر: إن لم يكن فيه صنعة؛ كالتبر والنقرة: إن قلنا: هي مثلية: يغرم مثلها، وإن قلنا: متقومة: تقوم بنقد البلد، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، وقيل: إن كان نقد البلد من جنسه: فإذا قوم به: تزيد قيمته على وزنه: فيقوم بغير جنس حقه؛ حتى لا يؤدي إلى الربا، وإن كانت له صنعة- لا يخلو: إما إن كان مما يحل استعماله أو لا يحل استعماله: فإن كان يحل؛ كالخاتم وحلي النساء: فما الحكم فيه؟ قال الشيخ: إن صنعة الحلي متقومة، أما وزن الحلي مثلي أو متقوم؟ فيه وجهان: الأصح: أنه مصلي؛ فعلى هذا إذا أتلف حلياً، وزنه مائة، وقيمته مائتان: يضمن الوزن بمثله، والصنعة بنقد البلد، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه. وقيل: يضمن الكل بغير جنسه؛ كيلا يؤدي إلى الربا من حيث إنه يصير كبيع مال

الربا بجنسه مع الفضل، وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-. والأول المذهب؛ لأن الربا يجري في العقود لا في الغرامات. قال- رضي الله عنه-: وإن قلنا: وزن الحلي متقوم-: يضمن الكل الوزن والصنعة جميعاً بنقد البلد؛ سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، ولو لم يتلف إلا الصنعة بأن كسرها: يغرم النقصان بنقد البلد؛ سواء كان نقد البلد من جنسه أو من غير جنسه، وإذا كان ذلك الشيء لا يحل استعماله مثل أواني الذهب والفضة: ففي جواز اتخاذه وجهان. إن قلنا: يحرم اتخاذه: فهو في الضمان كالسبيكة؛ لأنه لا قيمة للصنعة. وإن قلنا: لا يحرم: فكالحلي؛ لأن الصنعة متقومة، أما إذا غصب متقوماً، فتلف في يده، أو أتلفه: يجب عليه قيمته من نقد البلد الذي تلف فيه أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف، لأنه في الحالة التي زادت قيمتها غاصب مخاطب بالرد؛ كما قبلها، حتى لو غصب عبداً محترفاً، فنسي الحرفة، أو كان يحسن القرآن، فنسي، ثم مات: يجب عليه قيمة عبد محترف [أو] قارئ، أو شاة سمينة، فعزلت، ثم ماتت: عليه قيمة شاة سمينة، وكذلك: يضمن نقصان السوق عند هلاك العين، مثل: إن غصب عبداً قيمته مائة، فارتفعت الأسواق وبلغت قيمته مائتين ثم انحطت، فعادت إلى مائة، ثم هلك: يجب عليه مائتان. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: تجب قيمته باعتبار يوم الغصب، وبالاتفاق: لا يعتبر ارتفاع السوق بعد تلف العين، حتى لو كانت قيمته مائة، فهلك عنده، ثم بلغت قيمة مثله مائتين: لا يجب إلا مائة. ولو ارتفعت قيمته مراراً بالسوق: لا يتكرر ضمانها؛ بل يضمن أكثرها، مثل: إن كانت قيمته عشرة، فارتفعت الأسواق، وبلغت قيمته عشرين، ثم انحطت الأسواق، فعادت إلى عشرة، ثم ارتفعت، فبلغت ثلاثين، ثم هلكت: يضمن ثلاثين، ولا يضمن خمسين. وإذا غصب مثلياً، فتلف في يده، أو أتلفه، وانقطع المثل: يأخذ قيمته، ولا نعني بالانقطاع: ألا يوجد في الدنيا، بل إذا لم يوجد في بلد الغصب وبلد الإتلاف وحواليه في المواضع التي لا يتعذر حمله: فهو منقطع، يأخذ القيمة، ولا يلزمه حمله من البلاد البعيدة؛ كما ذكرنا في المسلم فيه، إذا انقطع، ثم كيف نعتبر قيمته بعد انقطاع المثل: ففيه ثلاث أوجه:

أحدها: عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف، ولا عبرة بازدياد قيمة أمثاله بعد تلفه؛ كما في المتقومات. والثاني: عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى انقطاع المثل، وهذا أصح، لأن وجود المثل، كقيام العين، بدليل أن له مطالبته بالمثل عند وجوده، كما يطالب بالعين عند قيامها، فانقطاع المثل يكون كتلف العين. والثالث: عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التغريم، والأخذ؛ لأن طلب المثل لا يسقط بالانقطاع، بدليل أن المثل إذا وجد: يجب عليه المثل، فالانتقال إلى القيمة يكون يوم الأخذ، فاعتبر به. وقيل: أصل هذا: أن المثل إذا انقطع: فالواجب عليه قيمة الأصل أم قيمة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: قيمة الأصل؛ لأنه أتلف الأصل. والثاني: قيمة المثل؛ لأن الواجب بالإتلاف مثله فإذا عدم وجبت قيمته: فإذا قلنا: الواجب قيمة الأصل: فلا نعتبر ما بعد التلف، وعليه أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى التلف، وإن قلنا: الواجب قيمة المثل: فنعتبر ما بعده، فيعتبر بيوم التغريم. ولو أتلف على إنسان مثلياً، ولم يغصبه، وانقطع المثل: قال الشيخ: على الوجه الأول: عليه قيمته باعتبار يوم الإتلاف، وعلى الثاني: عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم الإتلاف إلى انقطاع المثل، وعلى الثالث: إلى يوم التغريم. وإذا غصب مثلياً، واتخذ منه ما لا مثل له، وتلف عنده: يضمن الأكثر؛ مثل: إن غصب حنطة، فطحنها، وخبزها، وأكلها؛ فإن كانت قيمة الحنطة أكثر: يجب عليه مثلها، وإن كانت قيمة الدقيق أو الخبز أكثر- يجب عليه قيمته، وإن استوت قيمة الكل: أخذ مثل الحنطة؛ لأن المثل أقرب إلى المغصوب، وكذلك: لو غصب متقوماً، وصار مثلياً بفعله، أو بغير فعله، مثل: إن غصب رطباً، فصار تمراً، وهلك عنده: فإن كانت قيمة الرطب أكثر: تجب عليه قيمته، وإن كانت قيمة التمر أكثر: يجب عليه مثله، وإن استويا: أخذ مثل التمر، ولو غصب مثلياً، فاتخذ منه مثلياً آخر، مثل: إن غصب سمسماً، فعصره دهناً، وتلف عنده: فأيهما كان أكثر قيمة يجب عليه مثله، وإن استويا: يأخذ مثل أيهما شاء.

هذا كله فيما إذا تلف المغصوب عند الغاصب، أما إذا كان المغصوب قائماً، لكن دخله نقص- نُظر: إن كان النقصان من جهة السوق؛ بأن كانت قيمته يوم الغصب مائة، فتراجعت الأسواق، وعادت قيمته إلى خمسين، فرده: لا يجب عليه نقصان السوق، قال أبو ثور: يجب عليه نقصان السوق؛ كما لو تلفت العين: يضمن نقصان السوق. قلنا: في حال بقاء العين: الواجب عليه رد العين؛ كما لو غصب، وهو مخاطب به، وقد ردها كما أمر، أما بعد تلف العين: الواجب عليه رد القيمة، فيجب عليه الأكثر؛ لأنه مخاطب برده عند كثرة قيمته، فإذا لم يفعل حتى هلك: ضمن قيمته، أما سائر النقائص: فيجب عليه ضمانها مع رد العين، سواء كانت نقصان جزء، أو نقصان وصف حصل بفعله، أو بآفة سماوية؛ مثل: إن غصب عبداً أو حيواناً، فسقط عضو من أعضائه، أو حدث به عيب آخر، أو ضربه، فعيبه، أو كان العبد: محترفاً، أو كاتباً، أو قارئاً؛ فنسي الحرفة، والكتابة، والقرآن، أو غصب شاة سمينة، فهزلت، فردها: يجب عليه ضمان النقصان، ويلزم ضمان الجزء الفائت أكثر ما كان من يوم الغصب إلى حين تلف ذلك الجزء، ولا يراعى زيادة القيمة من بعد تلف الجزء؛ كما لا يراعى زيادة قيمة العين بعد تلفها؛ وكذلك: لو حدثت الزوائد في يد الغاصب بفعله، فزالت: مثل: إن غصب عبداً احترف، فعلمه حرفة، أو علمه القرآن، أو الأدب أو الفقه أو الشعر أو شيئاً يجوز تعليمه، فنسيها، ثم رده، أو غصب شاة هزيلة، فسمنت، ثم زال السمن، وردها: يجب عليه ضمان النقصان، ولو غصب غزلاً قيمته درهم، فنسجه، فصارت قيمته عشرة، ثم نقضه، فعادت إلى دراهم، أو غصب جوهر زجاج قيمته درهم، فاتخذ منه قدحاً ليساوي عشرة، فانكسر، فعادت قيمته إلى درهم، ورده مكسوراً: يغرم تسعة، ولو انكسر، فعادت قيمته إلى خمسة، فرد: يغرم خمسة. ولو تكررت هذه النقائص، هل يتكرر الضمان- نُظر: إن كانت مختلفة؛ مثل: إن علمه حرفة، فنسيها، ثم علمه أخرى، فنسيها أو علمه سورة من القرآن، فنسيها، ثم علمه سورة أخرى، فنسيها: يتكرر عليه الضمان، حتى لو علمه عشرين سورة، كل ذلك ينساها، أو عشرين حرفة، فنسيها: يضمن عشرين مرة. ولو غصبه، وهو محترف، فنسي حرفته، وانتقصت قيمته، ثم علمه حرفة أخرى زادت قيمته على ما كانت يوم الغصب، ثم رده: يجب عليه نقصان نسيان حرفة الأولى، ولا يتخير ذلك النقصان بهذه الزيادة، ولو علمه حرفة واحدة مراراً، أو سورة من القرآن مراراً، وهو ينساها، فهل يتكرر عليه الضمان؟ فيه وجهان:

أحدهما: يضمن مراراً؛ كالحرف المختلفة. والثاني: لا يتكرر، لأنه عين ما ضمنه مرة؛ فعليه ضمان. أكثرها قيمة. ولو غصب شاة سمينة، فهزلت، ثم سمنت، ثم هزلت: هل يضمن السمن مراراً؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه وجهان: كالحرفة الواحدة، والسورة الواحدة يتعلمها مراراً. ومنهم من قال- وإليه ذهب صاحب "التلخيص": يضمن مراراً وجهاً واحداً؛ لأن السمن الثاني غير الأول، وهو بمنزلة الحرفتين، بخلاف الحرفة الواحدة، فإن الثانية عين الأولى، فلا يضمنها مرتين، وكذلك: لو غصب جوهر زجاج، فاتخذ منه إناء، فانكسر، ثم اتخذه قدحاً بعد الكسر، ثم انكسر: هل يغرم الكسر مرتين؟ نُظر: إن كانت الصنعة الثانية غير الأولى: يضمن مرتين، وإن كانت مثل الأولى: فكالسمن، وذكر صاحب "التلخيص" أنه يضمنه مراراً بخلاف الحرفة الواحدة. وعلى هذا: لو غصب شاة سمينة، فهزلت، ثم سمنت، ثم ردها، أو عبداً يحسن القرآن، فنسي، ثم تعلم، ثم رده: هل يجب عليه ضمان الهزال، وضمان النسيان، أم يتخير بما حدث؟ فعلى وجهين؛ بناءً على تكرر الضمان، إن قلنا: لا يتكرر الضمان: يتخير، وإلا فلا يتخير. ولو غصب جارية بها سمن مفرط، فزال بعضه، ولم ينتقص قيمتها: ردها، ولا شيء عليه. ولو غصب ثوباً، فأمسكه مدة لها أجر، فانتقصت قيمته بآفة، فرده: فيجب عليه أرش النقصان، وأجر مثل تلك المدة؛ كما لو غصب عبداً، فأمسكه مدة، فسقط عضوه أو مرض عنده: رده مع أجر المثل وأرش النقصان. قال الشيخ: ثم ينظر: إن سقط عضوه، أو مرضن ثم أمسكه مدة: عليه أرش النقصان، وأجر مثل عبد، ناقص، فإن أمسكه مدة، ثم سقط عضوه أو مرض: عليه أجر مثل عبد سليم، وأرش النقصان؛ لأن مضي الزمان، إذا كان بعد الهلاك: لا يوجب أجر مثله. فأما إذا لبس الثوب مدة، وأبلاه باللبس: هل يجب عليه أجر المثل مع أرش النقصان؟ فيه وجهان:

أصحهما: يجب كلاهما؛ كما لو انتقصت قيمته بسبب آخر. والثاني: لا يجب إلا أكثر الأمرين: إما الأجرة، أو أرش النقصان؛ لأن النقص حصل بما حصل عليه الأجرة، وهو: الاستعمال؛ فلا يجتمعان، ولهذا لا يضمن المستأجر نقصان الأجزاء. ولو غصب ثوباً قيمته عشرون، فانحطت السوق، ثم عادت قيمته إلى عشرة، ثم استعمله، فصارت قيمته خمسة، ثم رده: يجب عليه عشرة؛ لأنه تلف بالاستعمال نصف الثوب، فيقابله نصف نقصان السوق، ونقصان السوق يضمن عند تلف العين. ولو غصبه وقيمته عشرون، فاستعمل أولاً حتى عادت قيمته إلى عشرة، ثم انحطت السوق، فعادت قيمته إلى خمسة، ثم رده: يجب عليه ضمان العشرة التي هلكت بالاستعمال، ولا يجب خمسة عشر؛ لأن نقصان السوق قابل ما بقي بعد الاستعمال، وعند رد العين؛ لا يجب نقصان السوق. ولو غصبه وقيمته عشرة، فاستعمله، فعادت قيمته إلى خمسة، ثم ارتفعت الأسواق، فصارت قيمته عشرة، ثم رده: قال ابن حداد: يرد معه عشرة؛ لأنه أتلف نصف الثوب بالاستعمال، ولو كان الكل قائماً: كانت قيمته عشرين، وليس بصحيح، بل لا يجب عليه إلا الخمسة التي تلفت بالاستعمال، ولا يعتبر ارتفاع السوق في النصف الذي تلف؛ كما لو غصب ثوبين قيمة كل واحد خمسة، فتلف أحدهما، ثم ارتفعت السوق، فصارت قيمة القائم عشرة؛ لا يجب عليه للتالف إلا خمسة. ولو غصب عبداً، فجرحه- نُظر: إن لم يكن لتلك الجراحة أرش مقدر في الأحرار: يجب عليه رده مع أرش النقصان، وإن كان لها أرش مقدر في الأحرار: يجب عليه رده؛ مثل: إن قطع إحدى يديه، أو إحدى رجليه؛ فعلى قوله القديم: يجب على غير الغاصب بهذه الجناية أرش النقصان، فعلى الغاصب كذلك، وعلى قوله الجديد: يجب على غير الغاصب نصف القيمة؛ فعلى هذا القول: يجب على الغاصب أكثر الأمرين: إما نصف القيمة أو أرش النقصان، فإن كان نصف القيمة أكثر: يجب ذلك، لوجود سببه، وهو: القطع، وإن كان أرش النقصان أكثر: يجب ذلك لوجود سببه، وهو الغصب. ولو شلَّت يده في يد الغاصب: يجب عليه أرش النقصان، ولو قطع يديه عليه كمال قيمته، ولو قطع أنثييه، فزادت به قيمته: يجب عليه قيمته، لأن للأنثيين بدلاً مقدراً لا يضمن بما ينقص من القيمة، بخلاف ما لو كان بالجارية سمن مفرط، فزال ولم تنتقص قيمتها؛ لأنه ليس للسمن بدل مقدر، إنما يضمن ما ينتقص من القيمة، فإذا لم ينتقص لا يضمن.

ولو قطع أجنبي إحدى يديه في يد الغاصب: ففي القديم: يجب عليه أرش النقصان، والمالك بالخيار: إن شاء أخذه من الغاصب، وإن شاء أخذه من القاطع، وقرار الضمان على القاطع. وعلى القول الجديد: يجب على القاطع نصف قيمته، ثم: إن كان نصف قيمته مثل أرش النقصان، أو أكثر: فالمالك يطالب أيهما شاء، والقرار على القاطع، وإن كان نصف القيمة أقل: يطالب بنصف القيمة، أيهما شاء، والقرار على القاطع، وما زاد على نصف القيمة إلى كمال أرش النقصان: يكون على الغاصب؛ لا يطالب به القاطع. ولو قتله قاتل في يد الغاصب- نُظر: إن كان القاتل عبداً قتله عمداً: فللمالك أن يقتص، ولا شيء له على الغاصب؛ لأنه أخذ بدل دمه، وإن كان موجباً للمال، أو عفى على مال: فإن كان الجاني حراً: فالمالك يرجع بالقيمة، إن شاء على الغاصب، وإن شاء على القاتل، والقرار على القاتل. وإن كان الجاني عبداً- نُظر: إن سلم سيد العبد الجاني العبد للبيع، فبيع: فإن كانت قيمته مثل قيمة المقتول: أخذها، ولا شيء على الغاصب، وإن كانت أكثر: فالفضل لمالكه، وإن كانت أقل، فيرجع بالنقصان على الغاصب، وإن اختار سيد العبد الجاني الفداء: فإن قلنا: يفدى بأرش الجناية: أخذه سيد المقتول، ولا شيء على الغاصب، وإن قلنا: يفدى بالأقل، فإن كانت قيمة المقتول مثل قيمة القاتل، أو أقل: أخذها، ولا شيء على الغاصب إلا أنه طريق فيه، فإن كانت قيمة المقتول أكثر: فالفضل على الغاصب. ولو جنى العبد في يد الغاصب بأن قتل إنساناً أو قطع يد إنسان، أو سرق، واسترده المالك، فقتل في يده قصاصاً، أو قطع قصاصاً، أو سرقه، أو كان قد ارتد في يد الغاصب، فقتل في يد المالك بالردة: يرجع المالك بقيمته، أو بأرش يده على الغاصب، لأن السبب وجد في يده؛ وكذلك: لو جنى في يد الغاصب، فاسترده المالك، وبيع في الجناية: يرجع المالك بقيمته على الغاصب، فإن كان أرش الجناية ألفاً وقيمته خمسمائة: بيع في الجناية لا يرجع إلا بخمسمائة حتى لو غبن إنسان، أو ارتفع السوق في يد المالك، فبلغت قيمته ألفاً، فبيع بألف: أخذ المجني عليه كلها، ولا يرجع المالك على الغاصب إلا بخمسمائة؛ لأنه لم يكن في ضمانه إلا قيمته. ولو عفا المجني عليه: فلا رجوع للمالك على الغاصب بشيء. ولو مات العبد في يد الغاصب: أخذ المالك قيمته من الغاصب، ثم المجني عليه

يطالبه بحقه من قيمته، فإذا دفع إليه: رجع المالك على الغاصب بما أخذ منه المجني عليه من قيمته، فيضمن قيمته مرتين؛ بخلاف ما لو جنى عبد في يد مالكه، ثم غصبه غاصب، فمات في يده: لا يغرم قيمته إلا مرة واحدة، لأن الجناية لم توجد في ضمانه. ولو قتله أجنبي في يد الغاصب بعد ما جنى: فالمالك: إن شاء غرم الغاصب، وإن شاء غرم الجاني؛ فإن غرم الجاني: أخذ المجني عليه منه ما أخذ من الجاني، ثم المالك يرجع على الغاصب ثانياً، والغاصب يرجع على الجاني مرة واحدة. ولو غصب عبداً، قيمته ألف، فتراجعت قيمته في يد الغاصب بالسوق إلى خمسمائة، ثم جنى جناية أرشها ألف، ومات عنده: أخذ المالك من الغاصب ألفاً؛ اعتباراً بالأكثر، ولم يكن للمجني عليه إلا خمسمائة، لأنه ليس له إلا قدر قيمته يوم الجناية. ولو غصب ثوباً فشقه، أو إناء فكسره، أو عصا فرضضه: يجب عليه رده مع أرش النقصان، ولا يجبر على إصلاح الإناء ورفو الثوب، وعند مالك- رحمة الله عليه-: يجبر عليه؛ كما لو جعل الأرض صفراً: يجب عليه تسويتها. قلنا: لأن الأرض بالتسوية تعود إلى ما كانت عليه، والثوب بالرفو لا يعود إلى ما كان عليه، وما دام شيء من المغصوب باقياً: يجب عليه رده. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا جنى على المغصوب جناية: فوت جل منفعته، ليس للمالك أن يأخذ شيئاً من الغاصب إلا أن يترك العين إليه، فيأخذ قيمتها، وإن جنى جناية فوت إطلاق اسمه: ملكه الغاصب، وعليه قيمته حتى قال: لو قطع إحدى يدي العبد: يجب عليه نصف قيمته. ولو قطع كلتا يديه: فلا شيء للمالك إلا أن يترك العبد إلى الغاصب، فيأخذ منه قيمته. ولو غصب ثوباً، فشقه عرضاً: رده مع أرش النقصان، ولو شقه طولاً، أو صبغه أسود، قال: لا شيء للمالك إلا أن يترك إليه الثوب، فيأخذ قيمته. ولو قطع الثوب؛ فخاطه ملبوساً، قال: يملكه الغاصب، وعليه قيمته، وكذلك قال: لو غصب شاة مذبحة، قال: لا شيء للمالك إلا أن يتركها إلى الغاصب، فيأخذ قيمتها، وإن شوى لحمها- قال: ملكها، وعليه قيمتها.

وقال: إذا غصب نحاساً، فاتخذ إناء يملك- فنقول: جنى على ملك الغير، فلا يتوقف وجوب الضمان على التمليك؛ كما إذا قطع إحدى يديه، يؤيده: أنكما إذا أوجبتم الضمان على الغاصب عند قلة الجناية من غير أن جعلتم له شيئاً في مقابلته، فعند كثرة الجناية أولى. ولو غصب حنطة، فبلها، أو عفنت عنده: فإن كان النقصان متناهياً: عليه ردها، مع ضمان النقصان، وإن كان النقصان الذي دخلها غير متناه: ففيه قولان: أصحهما: يردها مع ضمان النقصان؛ كما في النقصان المتناهي. والثاني: المالك بالخيار: إن شاء أخذها مع الضمان بالنقصان، وإن شاء تركها إلى الغاصب، وأخذ منه مثل حنطة. ولو غصب سمناً وعسلاً ودقيقاً، فاتخذ منه خبيصاً: فقد انتقص كل واحد منهما نقصاناً غير متناه؛ ففي قول: يأخذها مع أرش النقصان الذي دخلها. وفي الثاني: يتخير بين هذا، وبين أن يتركها، ويأخذ مثل ما هو مثلي، وقيمة ما هو متقوم منها. ولو غصب عبداً فأبق من يده، أو غيبة إلى بلد، أو دابة فضلت: فللمالك أن يأخذ قيمته من الغاصب للحيلولة، ويملك المالك ما أخذ من القيمة، كما يملك بدل المتلف. ولا يملك الغاصب المغصوب حتى إذا وجده: يجب عليه رده؛ فيسترد القيمة، كما لو جنى على عينه، فابيضت، فأخذ الأرش ثم عاد بصره: عليه رد الأرش. ولا ينفد تصرف الغاصب في العبد، وينفد تصرف المالك في القيمة، وما حصل من المغصوب من النماء والزيادة بعد دفع القيمة: يكون للمالك. وهل يكون مضموناً على الغاصب، سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون مضموناً عليه؛ كالحاصل قبل أداء القيمة. والثاني: لا يكون مضموناً عليه؛ لأن ضمانه بضمان الأصل، وقد سقط ضمان الأصل بأداء القيمة، فسقط ضمان الزوائد، وكذلك: هل يجب على الغاصب أجر مثل المغصوب من حين دفع القيمة على أن رده؟ فيه وجهان. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا غرم القيمة: ملك العبد، ولا رد عليه؛ إلا

أن يأخذ المالك القيمة بقول الغاصب، فبان أكثر؛ فله الرد. فنقول: أخذ بدل ملكه المغصوب من الغاصب؛ لتعذر الرد، فإذا زال العذر: وجب أن يجب؛ كما لو كان المغصوب مدبراً؛ يؤيده: أن التضمين لو كان يوجب التمليك: وجب ألا يضمن المدبرح لأن عندكم: المدبر لا يملك كالحر. ولو كان لرجل زوج خُف، قيمتها عشرة، فغصب رجل أحدهما، أو أتلفه، وعاد قيمة الثاني إلى درهمين: كم يلزمه من الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما- وعليه أكثر أصحابنا- يلزمه خمسة؛ لأن قيمة ما تلفه خمسة. والثاني- وبه قال صاحب "التلخيص"-: يلزمه ثمانية؛ لأن انتقاص قيمة الثاني بسبب غصبه، ولا خلاف أنه إذا سرق الفرد، ولم تكن قيمته نصاباً، وكان نصاباً مع النقصان الذي دخل الثاني أن القطع: لا يجب، لأنه يندرئ بالشبهة؛ كما لو دخل حرزاً، وأتلف فيه مالاً: يجب الضمان عليه، ولا يجب القطع. أما إذا غصب الزوج معاً، ثم رد أحدهما، وقيمته درهماً: يلزمه ثمانية؛ لأن الغصب وجد فيهما، والنقص وجد في المغصوب. ولو غصب بيضة، فأحضنها تحت دجاجة، فأخرجت فراخاً، أو غصب حنطة، فبذرها، فنبتت، وازدادت: ففيه أوجه: أصحهما: ما حصل للمالك، ولا شيء له سواه؛ لأن المغصوب عاد إليه زائداً، فإن كانت قيمته أنقص مما غصب: عليه أرش النقصان. والثاني: الكل للغاصب، وعليه مثل الحنطة وقيمة البيضة؛ لأن المغصوب قد هلك في يده، وما حصل بشيء حدث له. والثالث: ما حصل للمالك، ويجب على الغاصب قيمة البيضة، ومثل الحنطة؛ لأن المغصوب قد هلك في يده: فعليه ضمانه والحادث زيادة زاده الله تعالى على عين مال المالك؛ فيكون له. وفي الإفلاس: لو فعله المشتري، ثم أفلس بالثمن: فإن قلنا في الغصب: يكون ما حصل للمالك، ولا شيء له سواه: ففي الإفلاس: للبائع أخذه، ولا ثمن له، وإن قلنا بالوجهين الآخرين: فليس للمفلس إلا مضاربة الغرماء.

ولو غصب شجرة، فسقط ورقها، ثم نبت، أو غصب شاة، فحز شعرها، ثم ثبت: فعليه ضمان ما سقط من الورق، وما حز من الشعر، ولا يتخير الأول بما نبت، بخلاف ما لو غصب جارية، فسقط شعرها، ثم نبت، أو سقط سنها، ثم نبت: يتخير الأول بالآخر؛ لأن الأول لم يكن متقوماً؛ إنما وجب عليه أرش النقصان؛ لفقده، وقد زال النقص، بخلاف الورق والصوف، فإنه متقوم، كما لو غصب جارية، فولدت، واصفر لونها، ثم زال: يتخير. ولو غصب عصيراً، فتخمر في يده: أراق الخمر، ورد مثل العصير، فلو تخللت بعده في يده: فيه وجهان: أحدهما: رد الخل وأرش النقصان. والثاني: رد الخل ومثل العصير؛ لأنه لما تخمر، صار كالتالف، فإذا تخللت فهي زيادة زادها الله تعالى للمالك. ولو غصب شيئاً لا قيمة له مما يجوز اقتناؤه من كلب صيد أو جلد ميتة: عليه مؤنة رده، فإن تلف عنده: لا شيء عليه، فإن أمسك الكلب زماناً، هل عليه أجر مثله؟ فيه وجهان؛ بناءً على جواز إجارته. ولو دبغ جلد الميتة: عليه رده. ولو غصب شاة، فماتت، فدبغ الغاصب جلدها: يجب عليه قيمة الشاة، وهل يجب عليه رد الجلد؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو غصب الجلد، فدبغه. والثاني: لا يجب؛ لأنه ضمن جميع قيمة الشاة. ولو غصب خمراً من ذمي: يجب عليه ردها، لأنه بذل الجزية على ألا نتعرض له فيها. وإن غصبها من مسلم- نُظر: إن صب في الدن بنية الخل: عليه ردها، وإن صب بنية الخمر: أراقها، ولا يجب ردها؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- حين سأله أبو طلحة عن أيتام ورثوا خمراً؟ - "أمره بإراقتها"، فإن تخللت في يده: عليه رد الخل؛ كالجلد يدبغ؛ لأنه صار مالاً على حكم ملكه، فإن تلف عنده ضمنه.

وقيل: يلزمه رد الخل، وفي الجلد، إذا دبغه: وجهان؛ لأنه صار مالاً بفعله، والخمر تخللت لا بصنعه. وقيل: يلزمه رد الجلد، وفي الخل وجهان؛ لأن من غصب الخمر: لم يغصب ما يجوز اقتناؤه؛ بخلاف جلد الميتة. هذا إذا لم يرفع المالك يده عنها، فإن ماتت شاة، فألقاها صاحبها أو خمراً، فأراقها صاحبها، وأخذها رجل، فدبغ جلدها، أو تخللت الخمر عنده: هل لصاحبها أن يستردها؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه أبطل حقه بالطرح. ولو غصب عبداً مرتداً: عليه رده، ويغرم مؤنة الرد، ولو أمسكه زماناً: عليه أجر المثل، فلو هلك في يده أو قتله الغاصب: هل عليه الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأن دمه هدر، كما لو قتله في يد المالك. والثاني: يجب؛ لأنه متقوم؛ كما يضمن منافعه، فلو قتله أجنبي في يد الغاصب: لا ضمان على القاتل، وهل يجب على الغاصب؟ فيه وجهان. وأم الولد تضمن بالغصب، وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: لا تضمن. أما الحر: فلا يضمن بالغصب، صغيراً كان أو كبيراً، حتى لو حمل حراً صغيراً على مسبعة، فأكله سبع: لا ضمان عليه، وعند أبي حنيفة: يضمن. وبالاتفاق: لو مات في يده: لا يضمن، ولو غصب صبياً، وعلي حلي، هل يضمن الحلي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأن الحُلي في يد الصبي، ولم تدخل في يد الغاصب. والثاني: يضمن؛ لأن الصبي غير كامل اليد. ولو حبس حراً مدة، هل يلزمه أجر مثله؟ - نُظر: إن استعمله: يجب، وإن لم يستعمله: فيه وجهان:

أحدهما: يجب؛ كالعبد. والثاني: لا يجب؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد. ولو ألقت الريح ثوباً لإنسان في داره: لزمه حفظه كاللقطة، فإن عرف صاحبه- لزمه إعلامه، فإن عرف صاحبه- لزمه إعلامه، فإن لم يفعل: ضمنه، وإن وقع في داره طائر: لا يلزمه حفظه، ولا إعلام صاحبه؛ لأنه محفوظ بنفسه؛ فإن دخلت حمامة في برجه، فأغلق عليها الباب؛ فإن نوى إمساكها على نفسه: ضمنها؛ كالغاصب، وإن لم ينوه: لم يضمن؛ لأنه يتصرف في برجه برد الباب. فصلٌ في الزوائد التي تحصل في المغصوب أو منه الزوائد التي تحصل في المغصوب أو منه: تكون مملوكة للمغصوب منه، مضمونة على الغاصب؛ مثل: إن غصب جارية أو شاةً، فولدت في يد الغاصب، أو شجرة فأثمرت: يكون الولد والثمرة للمالك، ويكون مضموناً على الغاصب، فلو ألقت الجارية جنيناً ميتاً: فالمذهب: أنه لا يضمن الولد.

ولو غصب دراهم أو دنانير، فاشترى بها سلعة- نُظر: إن اشترى بعينها- في الجديد: يكون باطلاً، وفي القديم: يكون موقوفاً على إجازة المالك، فإن أجاز- صح

له، وإن لم يجز: بطل، فإن اشترى في الذمة، ونقد تلك الدراهم أو الدنانير في ثمنها وربح: ففي الربح قولان: قال- في القديم-: هو للمغصوب منه، لأنه نماء ملكه كثمرة الشجرة، وفي الجديد: يكون للغاصب، فإذا تلف عنده: يضمنه.

ولو غصب عبداً، فاكتسب في يده، أو اصطاد: يكون كسبه لمالكه، ويكون مضموناً على الغاصب، وهل يجب عليه أجر المثل لمدة الاصطياد؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجب؛ لأنه أتلف على المالك منافعه. والثاني: لا يجب؛ لأن منافعه صارت إلى المولى. ولو غصب جارحة؛ كالفهد والبازي، واصطاد بها: فالصيد لمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون للمغصوب منه؛ كصيد العبد. والثاني: يكون للغاصب، لأنه المرسل، والجارحة آلة لا تصطاد بنفسها؛ كما لو غصب شبكة أو قوساً، فاصطاد به: تكون للغاصب؛ فعلى هذا: يجب عليه أجر مثل الجارحة؛ كما يجب أجر مثل الشبكة. فصلٌ في منافع الغصب قد ذكرنا أن منافع الغصب مضمونة على الغاصب، وإن لم يستوفها أصلاً، أما إذا غصب جارية: فمنفعة بضعها لا تكون مضمونة عليه، إذا لم يستوفها، فإذا وطئها الغاصب، فهو كما لو وطئها على الغاصب، فإن كان عالماً بالتحريم: يجب عليه الحد، ويجب مهر المثل، إن كانت الجارية مكرهة، وإن كانت طائعة: فالمذهب أنه لا يجب المهر كالحرة، إذا طاوعت بالزنا: لا مهر لها. وقيل: يجب المهر؛ لأنه حق المولى؛ فلا يسقط بطواعيتها؛ كما لو قطع يد عبد بإذنه: يجب الضمان، والمذهب الأول؛ لأن لها يداً في إسقاط مهرها بالإرضاع والارتداد قبل الدخول؛ فإن وطئها جاهلاً بالتحريم: بأن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية: لا علم له بتحريم الزنا: فلا حد عليه ويجب المهر، فإن كانت بكراً، فافتضها، هل يفرد أرش الافتضاض عن المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفرد، وعليه مهر مثل بكر.

والثاني: يُفرد؛ لأن كل واحد ينفك عن الآخر؛ فعليه أرش الافتضاض، ومهر مثل ثيب، فإن كانت الجارية طائعة، وقلنا: لا مهر للطائعة، فإن قلنا: يُفرد الأرش والافتضاض: يجب عليه أرش الافتضاض: فإن قلنا: لا يُفرد: فهل تجب الزيادة على مهر مثل الثيب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ كالحرة الطائعة: لا شيء لها، وإن كانت بكراً. والثاني: يجب؛ لأنه بمقابلة نقصان جزء منها: فلا يسقط برضاها؛ كما لو رضيت بقطع يدها- لا شيء لها، ولو وطئ الجارية المغصوبة مراراً، أو المشتري من الغاصب: إذا وطئها مراراً- نظر: إن كان عالماً بالتحريم: يجب عليه لكل وطأة مهر وإن كان جاهلاً: لا يجب إلا مهر واحد، لأنه شبهة واحدة، فإن وطئها مرة جاهلاً، ثم علم، فوطئها ثانياً: عليه مهران. ولو وطئ في النكاح الفاسد مراراً: لا يجب إلا مهر واحد؛ لأن الشبهة واحدة. ولو وطئ امرأة بالشبهة مراراً- نظر: إن كانت الشبهة واحدة؛ بأن غلط في ليلة واحدة، فوطئها مراراً: لا يجب إلا مهر واحد، وإن زالت تلك الشبهة، ثم طرق شبهة أخرى، فوطئها: يجب عليه مهر آخر. ولو وطئ الأب جارية ابنه مراراً، أو أحد الشريكين وطئ الجارية المشتركة مراراً عالماً، والسيد وطئ مكاتبته مراراً- فهل يتكرر المهر، إذا اختلفت المجالس؟ ففيه وجهان: أحدهما: يتكرر؛ لتعدد الوطئات؛ كما لو اختلفت المجالس. والثاني: لا يتكرر؛ لاتحاد المجالس؛ كما لا يتعدد بتعدد الإيلاجات في وطأة واحدة. ولو وطئ الغاصب الجارية المغصوبة، واستولدها: فإن كان عالماً بالتحريم: فالولد رقيق للمالك، وهو مضمون على الغاصب، إن خرج حياً، فإن مات في يده: يجب عليه قيمته أكثر ما كانت من يوم الولادة إلى أن مات، وإن ماتت الأم في الطلق: يجب عليه قيمتها، وإن دخلها نقص بالولادة: يجب ضمانه، وإن خرج الولد ميتاً: فلا يجب عليه

ضمانه؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه لم يدخل في يده ماله قيمة؛ كما لو كان جاهلاً بالتحريم، فوطئ، وأتت بولد ميت: لا يجب ضمانه. وفيه وجه آخر: أنه يضمن الولد الميت باعتبار قيمته يوم الخروج، لو خرج حياً؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قال: خذها وما نقصها، وقيمة من كان منهم ميتاً؛ بخلاف ما لو كان جاهلاً بالتحريم؛ لأن الولد هناك انعقد على الحرية، ولا يضمن الحر باليد. والأول المذهب؛ أنه لا يضمن، والنص محمول على ما إذا خرج حياً، ثم مات. ولو ألقت جنيناً ميتاً بضرب ضارب- فعلى الضارب عُشُر قيمة الأم، والمالك بالخيار: إن شاء أخذه من الغاصب، وإن شاء أخذه من الضارب، والقرار على الضارب. ولوطئها الغاصب جاهلاً بالتحريم: فالولد حر ثابت النسب، وعلى الغاصب قيمته باعتبار يوم السقوط؛ لأنه أول حالة يمكن فيه تقويم الولد، فإن خرج ميتاً: لا يجب عليه ضمان الولد؛ لأنا لا نتيقن أنه نُفخ فيه الروح، وأن الغاصب أتلفه، ولا يلزم الضمان بالشك. وإن ألقت جنيناً ميتاً عقيب الضرب: كان الظاهر أنه بضربه، وللمالك عُشر قيمة الأم على الغاصب؛ لأنه كما يقوم الجنين على الضارب: يقوم للمالك؛ وإنما قلنا: يستحق عُشر قيمة الأم؛ لأن حقه في القيمة؟ بدليل أنه لو خرج حياً: كان يستحق قيمته؛ باعتبار يوم السقوط؛ فإذا خرج ميتاً: فيستحق عُشر قيمة الأم، فإن كانت الغُرة وعُشر قيمة الأم سواء: أخذها السيد، فإن كانت الغُرة أكثر: أخذ السيد قدر عُشر قيمة الأم، والباقي لورثة الجنين، فإن كانت الغرة أقل: أخذها السيد، وعلى الغاصب ما زاد عليها إلى تمام عُشر قيمة الأم؛ لأن الولد لو كان مملوكاً: كان يجب للسيد على الجاني عُشر قيمة الأم؛ فالنقصان كان لحريته، وحريته بسبب اعتقاد الغاصب، وإذا ماتت الأم في يده: لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين غصبها إلى أن تلفت، ويدخل في ذلك ضمان أرش البكارة ونقصان الولادة؛ لأن ذلك ضمان نقص الأجزاء، وقد ضمن هو الجملة؛ فدخل فيها نقص ضمان الأجزاء. وإذا أتت المغصوبة بولد من زوج أو زنا: فهو مضمون على الغاصب، كالولد الذي أتت به من الغاصب؛ وكذلك: ولد التهمة؛ سواء غصبها حاملاً أو حائلاً، وإذا دخل الأم نقص بالولادة: يجب عليه ضمان نقصان الولادة مع قيمة الولد.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: ولد المغصوبة لا يكون مضموناً على الغاصب؛ سواء غصبها حاملاً أو حائلاً؛ إلا أن يطالبه المالك برده، فلم يرد: ضمن؛ وكذلك: جميع ما يحدث من الزوائد من المغصوب: يكون أمانة عند الغاصب. وإذا دخل الأم نقص بالولادة عنده: يتخير نقصان الولادة بالولد، وإن كان بالنقصان أكثر من قيمة الولد- قالوا: لا يجب إلا تلك الزيادة؛ فنقيس على ولد الصيد يحدث مضموناً على المحرم بالجزاء، كذلك هذا يؤيده: أن المحرم إذا غصب ظبية مملوكة، فأتت بولد، وتلف الولد في يده من غير صنع من جهته: فلم يجب الجزاء لله تعالى مع أن حق الله تعالى أقرب إلى السقوط؛ فلأن تجب القيمة للمالك أولى؛ مع أن حقوق العباد أقرب إلى اللزوم. ولو وطئ رجل حرة أجنبية- نُظر: إن كانا عالمين بالتحريم: يجب عليهما الحد، ولا مهر لها، ولا عدة عليها، وإن حدث ولد: لا يثبت النسب، وإن كانا جاهلين بالحال: لا حد عليهما، ولها المهر، وعليها العدة، وثبت النسب، وإن كان الرجل عالماً، والمرأة جاهلة أو مكرهة، أو كانت نائمة: فيجب على الرجل الحد، ولا حد على المرأة، ولا عِدة؛ لأنه لا حرمة لماء الرجل، ولا يثبت النسب، وكذلك: لو زنا عاقل بمجنونة: فإن كان الرجل جاهلاً، وهي عالمة أو كان نائماً، فاستدخلت ذكره: لا حد عليه، ولا مهر لها؛ لأنها زانية، ويجب عليها الحد، وتجب عليها العدة لحرمة ماء الرجل، ويثبت النسب، وكذلك: لو مكنت عاقلة من مجنون. وعند أبي حنيفة: الحد والمهر لا يجتمعان، فإذا أكره امرأة على الزنا: لا يجب عليها الحد، ولا مهر لها؛ حتى لو غلط بامرأة، فوطئها على ظن أنها زوجته- قال: إن كان هذا ليلة الزفاف-: يجب المهر، ولا يجب الحد؛ لشبهة العقد، وإن كان في ليلة أخرى: يجب الحد، ولا يجب المهر، وقال: لأنه فعل واحد لا يتعلق به موجبان؛ أحدهما: يسقط بالشبهة، والآخر: لا يسقط، وكذلك: قالوا في السرقة: لا يجتمع القطع والغرم. قلنا: المهر أحد ما يجب بالوطء في ملك الغير؛ فيجب على المكره العالم؛ كالحد. يؤيده: أن المهر حق المرأة، والحد حق الشرع، فلا يمتنع اجتماعهما؛ كالمحرم: إذا قتل صيداً مملوكاً: يلزمه الجزاء لله تعالى، والقيمة للمالك، وإن لم يكن بُد من إسقاط أحدهما: وجب أن يسقط الحد؛ لأنه يتدرك بالشبهة، ويجب المهر؛ لأنه ثبت مع الشبهة.

فصلٌ في بيع الغاصب الجارية المغصوبة إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة: فكل ما ذكرناه أنه يلم الغاصب من أجر مثل وأرش نقص ومهر وقيمة ذلك: فإنه يلزم المشتري أيضاً؛ لأنه أخذه من يد ضامنه؛ فكان مضموناً عليه، فإن وطئها المشتري- نُظر: إن كان عالماً بالحال: عليه الحد والمهر إن كانت مكرهة؛ كما ذكرنا في الغاصب، ولا رجوع له على الغاصب، فإذا أخذه المالك من الغاصب: رجع عليه، وإن كان جاهلاً بالحال: فلا حد عليه، وعليه المهر، وهل يرجع المشتري بالمهر بعدما غرم على الغاصب؟ فيه قولان: أحدهما- قاله في القديم-: يرجع؛ لأنه غره، وهو لم يشرع في العقد على أن يضمن المهر. والثاني- وهو الأصح، وهو قوله الجديد: لا يرجع؛ لأنه أتلف منفعة البُضع؛ كما لو قتلها؛ يغرم قيمتها، ولا يرجع على الغاصب. فإن قلنا: يرجع بالمهر على الغاصب. فإن كانت بكراً، فافتضها: إن قلنا: لا يفرد أرش الافتضاض: رجع بالكل على الغاصب، وإن قلنا: يفرد: فيرجع بمهر الثيب، ولا يرجع بأرش الافتضاض؛ لأن وجوبه بمقابلة نقص حدث بفعله؛ كما لو قطع يدها: غرم الأرش، ولا يرجع على الغاصب. ولو استولدها: فالولد حر ثابت النسب، وعليه قيمته للمالك باعتبار يوم السقوط، ورجع بعدما غرم على الغاصب؛ لأنه لم يشرع فيه على أن يضمنه، وكذلك: نقصان الولادة. ولو خرج الولد ميتاً: لا شيء عليه، ولو ألقت الجنين ميتاً يضرب ضارب: يجب على الضارب الغُرة للمشتري، وعلى المشتري للمالك الأكثر من قيمة الغرة أم قيمة الولد يوم سقط، ويرجع على الغاصب. ولو استرضعهما المشتري ولده، أو ولد غيره: يجب عليه للمالك أجر المثل، وهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان؛ كالمهر. وهذا بخلاف ما لو اشترى شاة مغصوبة جاهلاً، فولدت، فشرب المشتري لبنها: يغرم مثل اللبن، وفي الآدمية: أوجبنا الأجرة؛ لأن الآدمية ترضع بالأجرة، ولبن البهيمة لا يتلف بالأجرة، ثم هل يرجع بما غرم من اللبن على الغاصب؟ فعلى قولين. ولو تناولت السخلة اللبن: يغرمه المشتري، وإن عاد نفعه إلى المالك؛ كما لو

غصب شعيراً وأقضمه دابة مالكه: يغرم. قال الشيخ: ولو تناولت السخلة اللبن، وغرمه المشتري: وجب أن يرجع على الغاصب؛ لأنه لم يشرع فيه؛ على أن يضمنه، ولم يعد نفعه إليه، كالسخلة، إذا ماتت في يد المشتري: غرم قيمتها، ورجع على الغاصب، ولو أكلها المشتري: غُرم، وهل يرجع؟ فيه قولان، كالمهر. وجملة هذا التفصيل: إن كان نقص حدث بالمغصوب قبل البيع من فوات جزء وفوات منفعة، يكون ضمانه على البائع؛ لا يطالب به المشتري. أما ما حدث في يد المشتري: فالمالك بالخيار: إن شاء طالب به الغاصب، وإن شاء طالب المشتري، والقرار على من يكون؟ نُظر: إن كان المشتري عالماً بأنه مغصوب: فالقرار يكون عليه، فإن أخذه المالك من الغاصب: رجع الغاصب على المشتري، وإن أخذ من المشتري: لا يرجع على الغاصب، وإن كان المشتري جاهلاً؛ بأنه مغصوب: فكل ضمان لزم المشتري الجاهل من الغاصب، وأداه مما شرع فيه على أن يضمنه: لم يرجع به على الغاصب، وما شرع فيه على ألا يضمنه؛ مثل ضمان المنافع- نُظر: إن لم يستوف بمقابلته شيئاً: رجع، وإن استوفى: فقولان، خرج منه أن العين: لو تلفت في يده: ضمن قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، ولم يرجع على الغاصب، لأنه شرع فيه على أن يضمن العين؛ كذلك الأجزاء: إذا تلفت في يده: يضمن أكثر ما كانت قيمتها من حين حصل في يده إلى أن تلفت الأجزاء، ولا يرجع على الغاصب: فإن أتت بولد، وهلك في يد المشتري: غرم قيمته، ويرجع على الغاصب؛ لأنه لم يشرع فيه على أن يضمنه، وما تلف في يده من المنافع: إن لم يستوفها: غرم، ورجع على الغاصب: فإن استخدم العبد، وسكن الدار: يغرم الأجرة، وهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان؛ فكل موضع أثبتنا للمشتري الرجوع على الغاصب: فإذا أخذه المالك من الغاصب: لا رجوع له على المشترين وما لا يرجع به المشتري على الغاصب، فإذا أخذ من الغاصب: له الرجوع به على المشتري. قال الشيخ: والقياس ألا يرجع المشتري على الغاصب؛ بما أنفق على العبد، وما أدى من خراج الأرض؛ لأنه شرع فيه على أن يضمنها. وإذا تلفت العين المغصوبة في يد المشتري: فإن كانت قيمتها في يد الغاصب

والمشتري سواء، أو كانت قيمتها في يد المشتري أكثر: فللمالك أن يأخذ من أيهما شاء، فإن أخذ من الغاصب: رجع على المشتري، وإن أخذ من المشتري: لا يرجع على الغاصب، وإن كانت قيمتها في يد الغاصب أكثر؛ بأن كانت قيمتها في يد الغاصب ألفاً، فعادت إلى خمسمائة، ثم باعها وتلفت في يد المشتري- فالمالك إن غرم الغاصب له أن يغرمه الألف، ثم هو لا يرجع على المشتري إلا بخمسمائة، وإن غرم المشتري: لا يغرمه إلا خمسمائة، ويأخذ خمسمائة من الغارم؛ لأن المشتري لا يكون طريقاً فيما تلف في يد الغاصب؛ لأنه لم يدخل في يده. ولو أن الغاصب أجر العين المغصوبة- نُظر: إن كان المستأجر عالماً بأنها مغصوبة: فهو غاصب، والغاصب يضمن القيمة وأجر المثل من حين أخذها، ولا يرجع على الغاصب؛ وكذلك: إذا استودع أو استعار من الغاصب عالماً، أما إذا كان المستأجر جاهلاً بأنها مغصوبة: يجب عليه أجر المثل للمالك من حين أخذها، ولا يرجع على الغاصب؛ لأنه شرع فيه على أن يضمن المنفعة، وإن ضمن المالك أجر تلك المدة من الغاصب: رجع عليه الغاصب، وإن تلفت العين في يد المستأجر: تجب قيمتها على الغاصب؛ لأن المستأجر لم يشرع فيه على أن يضمن العين، وكذلك لو أودعه الغاصب من إنسان، أو رهنه، أو قارضه، أو وكلَ ببيعه، ودفعه إلى الوكيل، فتلف عنده: يجب ضمان العين والمنفعة على الغاصب، ويتقرر عليه، وهل يكون المستأجر والمستودع والمرتهن والوكيل طريقاً فيه أم لا؟ فعلى وجهين، وكذلك: لو ولدت عنده، فهلك الولد، هل يكون طريقاً في قيمة الولد؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون طريقاً؛ لحصول العين في يده. والثاني: لا يكون طريقاً؛ لأن أيديهم أيدي أمانة. ولو زوجها الغاصب، فماتت تحت الزوج: يجب على الغاصب القيمة، والزوج هل يكون طريقاً؟ قيل: فيه وجهان؛ كالمودع، قيل-[و] هو المذهب: لا يكون طريقاً؛ لأن الزوج لا يحتوي على الزوجة. ولو وطئها الزوج- غرم مهر المثل للمالك، ولا يرجع على الغاصب؛ لأنه شرع فيه على أن يضمن المهر، والغاصب يكون طريقاً فيه، بخلاف المغرور بالحرية: يغرم المهر، ويرجع على الغار؛ على أحد القولين؛ لأن النكاح هناك كان صحيحاً، ففسخ، وفسخ العقد يوجب استرداد الباذل ما بذل، وههنا: العقد غير صحيح، وقد أتلف منفعة البضع؛ فيغرم، ولا يرجع؛ نظيره من المغرور لو غر بأمة، وهو واجدٌ لطول الحرة أو غير خائف من

العنت، فوطئها جاهلاً: غرم المهر، ولا يرجع على الغار. ولو استخدمها الزوج: يجب عليه أجر المثل، ولا يرجع على الغاصب؛ لأن الغاصب لم يسلطه على الخدمة. ولو أعار المغصوب من إنسان أو ساومه أو أقرضه، فهلك عندهم: فقرار الضمان عليهم؛ لأن أيديهم أيدي ضمان، والغاصب طريق فيه؛ كما لو غصبه رجل من الغاصب، أو سرق منه: ضمنه، والغاصب طريق فيه. أما الأجزاء: إذا تلفت بالاستعمال في يد المستعير: ضمنها، ورجع على الغاصب؛ لأنه لم يشرع فيه على أن يضمن الأجزاء. ولو غصب طعاماً، فأطعمه إنساناً؛ بأن قدمه إليه؛ حتى أكل- نُظر: إن أكله عالماً: فللمالك يغرم أيهما شاء، وقرار الضمان على الآكل، وإن أكله جاهلاً: فالمالك: يغرم أيهما شاء، وقرار الضمان على من يكون؟ فيه قولان: أحدهما: على الغاصب؛ لأنه غر الطاعم. والثاني- وهو الأصح، وهو اختيار المزني، وهو قول أبي حنيفة: يكون على الآكل؛ لأنه المتلف. فإن قلنا: على الغاصب: فإذا غرم الآكل: رجع على الغاصب، وإن قلنا: على الآكل: فإذا غُرم الغاصب: رجع على الآكل، وإذا غرم الآكل: لا يرجع على الغاصب. ولو أن الغاصب قدمه إلى المالك، حتى أكله: فإن كان عالماً: برئ الغاصب من الضمان، وإن كان جاهلاً: ففيه قولان: إن قلنا: قرار الضمان على الطاعم: يبرأ الغاصب، وإن قلنا: على الغاصب: لا يبرأ الطاعم؛ وعلى هذا لو غصب شيئاً، فوهبه من إنسان، فتلف في يد المتهب: يضمن المتهب، وقرار الضمان على من يكون؟ فعلى قولين: أصحهما: على المتهب؛ كما في البيع: يكون على المشتري؛ لأنه أخذه للتملك. والثاني: على الواهب. ولو وهبه من المالك، فأخذه جاهلاً: هل يبرأ الغاصب أم لا؟ إن قلنا: الإقرار

على المتهب: يبرأ؛ وإلا فلا. وإن كانت جارية، فاستولدها المتهب: فالولد حر وعليه قيمته، وهل يرجع على الواهب؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ كما يرجع على البائع. والثاني: لا يرجع؛ بخلاف البائع؛ لأنه ضمن له سلامة الولد، والواهب متبرع لم يضمن سلامة شيء. ولو أمر الغاصب إنساناً بإتلافه، فأتلفه جاهلاً، هل يتقرر عليه الضمان؟ فيه قولان؛ كالإطعام، والمذهب: أنه يتقرر. وإذا قاله للمالك، ففعل: يبرأ عن الضمان؛ لأن الإتلاف محظور؛ بخلاف الآكل. ولو أجره من المالك، أو أودعه، أو رهنه، أو زوج، وهو جاهل، فتلف عنده: لا يبرأ؛ لأنه لم يعد إلى سلطانه، ولو فعله مع أجنبي: لا يتقرر عليه الضمان، فإن باعه من المالك، أو أعاره، أو أقرض- يبرأ، ولو كان المغصوب عبداً، فقال الغاصب للمالك: أعتقه، فأعتقه جاهلاً- يعتق، ويبرأ الغاصب، بخلاف الإطعام لا يبرئه في قول؛ لأن الأكل يباح في ملك الغير، والعتق لا ينفد. ولو قال الغاصب: أعتقه عني، ففعل جاهلاً: هل يعتق؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو قال: أعتق عبدي من فلان، وفلان لم يأمره: هل يعتق؟ فيه وجهان. ولو قال المالك للغاصب: أعتقه، فأعتق: يعتق ويبرأ؛ سواء قال: أعتقه عني، أو قال: مطلقاً. وفرع الشيخ قاضينا الحسين- رحمه الله- على هذا الأصل: لو باع طعاماً، ثم إن البائع أطعمه المشتري، فأكله جاهلاً: هل يكون قبضاً يستقر به عليه الثمن؟ فعلى وجهين؛ بناءً على براءة الغاصب؛ وكذلك: لو باع كرباساً، ثم قال البائع للمشتري: اقطع لي منه قميصاً، ففعل: إن كان عالماً: كان من ضمانه، وإن كان جاهلاً: فمن ضمان من يكون؟ فيه وجهان.

فصلٌ في تصرف الغاصب في المغصوب بالزيادة والنقصان روي عن ابن عمر قال، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ شيئاً من الأرض بغير حقه: خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين". غصب العقار متصور موجب للضمان، وهو أن يستولي عليه؛ فيمنع المالك. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: غصب العقار لا يتصور، والحديث حجة عليه، ولأن ما يضمن بالعقد يضمن بالغصب؛ كالمنقول، فإذا غصب أرضاً وبنى فيها أو غرس أو زرع: يقلع مجاناً؛ لما روي عن سعيد بن زيد: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ليس لعرق ظالم حق".

فللمالك أن يكلف الغاصب قلعها وتسوية الأرض، ثم الشافعي- رضي الله عنه- ههنا: أوجب أرش النقصان، ولم يوجب تسوية الأرض، فقال فيما لو باع أرضاً، وفيها حجارة مستودعة، فقلعها: إن عليه تسوية الأرض، فاختلف أصحابنا فيه.

فمنهم من جعلها على قولين: أحدهما: يلزمه أرش النقصان؛ لأن الحفر نقص حصل بفعل مضمون، فيقال الضمان. والثاني: يلزمه تسوية الأرض؛ لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.

ومنهم من قال في الغصب: يجب الأرش؛ لأن الغاصب متعد، فغلظ الأمر عليه، والبائع يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد؛ فلم يلزمه أكثر من التسوية، فإن أوجبنا التسوية، فبقي بعد التسوية نقص: يجب أرش ذلك النقص، ويأخذ منه أجر مثل الأرض من حين غصب إلى أن يفرغ من التسوية: فإن دخل الأرض نقص لطول مدة الغراس: هل يجمع بين أرش النقصان وأجر مثل المدة أم يجب أكثرهما؟ فيه وجهان؛ كالثوب يبلى بالاستعمال. ومن اشترى أرضاً وبنى فيها، وغرس، ثم استحقت: فللمستحق قلع الغراس والبناء، ثم المشتري يرجع على البائع بالنقص الذي دخل البناء والغراس؛ على ظاهر المذهب، ولو حفر الغاصب في الأرض المغصوبة بئراً: فللمالك إجباره على أن يطمها، فإن رضي بن المالك: يجوز للغاصب أن يطمها، وإن كان التراب تالفاً: له أن يطم بتراب من عنه؛ لأنه يخاف ضرره، فإنه لو تردى فيها شيء وهلك: يجب عليه ضمانه، فلو أبرأ الغاصب عن ضمان ما يقع: ففيه وجهان: أحدهما: يصح الإبراء، ولم يكن له بعد ذلك طمها؛ كما لو حفر بإذنه. والثاني: لا يصح؛ لأنه أبرأه عن شيء لم يجب. وإن كان الغاصب طوى البئر بآلة نفسه: فللغاصب نقل تلك الآلة، وللمالك إجباره على نقلها، وإن تركها إليه: لا يلزمه القبول؛ كما لو غرس وبنى في الأرض، ثم ترك الغراس والبناء إلى المالك: لا يُجبر على قبوله.

ولو نقل التراب عن الأرض المغصوبة: فللمالك إجباره على رد التراب، فإن كان تالفاً: فعليه رد مثله، وإن لم يقدر: ضمن النقص الذي دخل الأرض، فإذا أخذ التراب مبسوطاً، ورده: للمالك إجباره على بسطه، وعلى الغاصب أجر مثل الأرض لمدة رد التراب وبسطه، وإن رضي المالك بألا يبسطه: ليس له بسطه، وإن كان أخذ التراب من موضع: ليس للمالك إجباره على نقله إلى أقصى الأرض، وإن رضي المالك بألا يرد التراب المنقول- هل للغاصب رده؟ نُظر: إن كان قد حفر فيها حفرة: له رده؛ لأنه يخاف ضررها، وإن لم يحفر- نُظر: إن نقل التراب إلى ملك الغير، أو إلى شارع: فله رده؛ لأنه يخاف ضرره؛ فإنه لو زلقت به رجل حيوان، فتلفت: يجب عليه الضمان، وكذلك: لو نقل إلى ملك نفسه: له رده، أو كان قد دخل الأرض نقص يريد المالك تضمينه: فله رده، ولو لم يكن شيء من ذلك، وكان نقل التراب إلى موات: لم يكن له رده، فلو رده، هل للمالك إجباره على إخراجه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ملكه. والثاني: له ذلك؛ لأنه ترك حقه فيه؛ فذاك حقه إلى كافة الناس. ولو غصب داراً، فزوقها- نُظر: إن كان يحصل منه عين مال، لو نزع: فللغاصب نزع التزويق؛ سواء كان لذلك التزويق قيمة أو لم يكن؛ لأنه عين ماله؛ كالصبغ في الثوب، ويغرم أرش نقص يدخل الدار، وللمالك إجباره على نزعه، فلو ترك الغاصب التزويق إليه: هل يُجبر على قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يُجبر؛ كالقصارة في الثوب؛ لأنه صار صفة لملكه، فعلى هذا: ليس له أن يكلفه النقل. والثاني: لا يُجبر؛ لأنه عين ماله، ولا يجبر على تمليك مال الغير؛ كما لا يجبر على قبول الغراس والبناء. وإن كان التزويق تمويهاً لا يحصل منه شيء: ليس للغاصب نزعه، إذا رضي به المالك، وهل للمالك إجباره على نزعه؟ فيه وجهان: أصحهما: ليس له ذلك؛ لأنه لا غرض له فيه؛ كالثوب إذا قصره. والثاني: له ذلك؛ لأن له غرضاً، وهو أن يأخذ أرش النقصان. ولو غصب قطناً، فغزله: فالغزل للمالك، وإن دخله نقص: فعلى الغاصب أرش النقصان، وإن زادت قيمته: فلا شيء للغاصب؛ كما لو غصب ثوباً، فقصره، وزادت

قيمته أو حنطة، فطحنها: لا شيء للغاصب، وإن انتقصت قيمته: عليه أرش النقصان؛ وكذلك: لو غصب غزلاً، فنسجه: فالكرياس للمالك، وإن دخله نقص: غرمه الغاصب، وإن زادت قيمته: فلا شيء للغاصب، وليس للغاصب نقضه، إذا رضي به المالك؛ لأنه ليس له فيه عين مال، وهل للمالك إجباره على نقضه؟ نُظر: إن كان لا يمكن نسجه ثانياً، ولا رده إلى الحالة الأولى: ليس له ذلك، وإن أمكن نسجه ثانياً؛ كالخز: فله إجباره على نقضه، فإن بقي فيه نقص: أخذ أرشه، وإن كان قيمة الغزل عشرة، فبلغت قيمته بالنسج خمسة عشر، فنقصه، فانتقصت قيمته عن عشرة: يضمن النقصان عن العشرة، وهل يضمن النقصان عن خمسة عشر إلى العشرة؟ نُظر: إن نقصه بأمر المالك: لا يضمن؛ لأنه رضي بذلك النقص، وإن نقصه دون أمره: ضمن. ولو غصب نُقرة، فطبعها دراهم أو نُحاساً، فاتخذ منه إناء أو جوهر زجاج، فاتخذ منه قدحاً أو طيناً، فضرب منه لبناً: للمالك إجباره على الرد إلى الحالة الأولى، فإن رضي به المالك: ليس للغاصب رده إلى الحالة الأولى، وعليه أرش النقصان، وإن كان قد أدخل في النقرة غشاً: للمالك إجباره على إخراج الغش. قال المُزني- رحمه الله-: ليس للغاصب دفن البئر، ولا نزع التزويق، ولا رد التراب الذي نقله إذا رضي به المالك، كالنقرة يطبعها، والطين يضرب منه اللبن، والغزل ينسجه. قلنا: في دفن البئر، ورد التراب له منفعة، وفي نزع التزويق: يأخذ عين ماله، ولا منفعة له في رد الدراهم واللبن إلى الحالة الأولى، ولا في نقص الكرباس. ولو غصب ثوباً، فصبغه بصبغ من عند نفسه: فإن كان الصبغ، لو نزع: يحصل منه عين نمال-: فللغاصب إخراجه، وللمالك إجباره على إخراجه؛ سواء كان لذلك قيمة بعد الإخراج، أو لم يكن؛ لأنه عين مال. قال ابن سُريج: إذا أراد صاحب الثوب استخراج الصبغ، وامتنع الغاصب: لا يجبر عليه؛ لأن الصبغ يهلك بالاستخراج؛ بخلاف الغراس: يجبر على إخراجه؛ لأنه لا يهلك بالقلع؛ بل تنتقص قيمته، والأول أصح؛ أنه يجبر على إخراجه؛ كالغراس: فإن دخل الثوب نقص: يغرم أرش النقصان، ولو ترك الغاصب الصبغ إليه: هل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا في التزويق، وإن كان الصبغ لا يحصل منه شيء بالإخراج: ليس

للغاصب إخراجه، وإن كان يزداد به قيمة الثوب؛ لأنه يتصرف في ملك الغير، وهل للمالك إجباره على إخراجه؟ فيه وجهان؛ كالتزويق، وإن كان الصبغ يحصل منه شيء، فتراضيا على ترك الصبغ فيه: فهما شريكان فيه، كل واحدب قدر ملكه؛ بخلاف ما لو قصر الثوب: لا يكون شريكاً؛ لأنه ليس له عين مال في القصارة؛ مثل: إن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وبعد الصبغ: قيمته عشرون: فهو بينهما يباع ويأخذ كل واحد نصف ثمنه؛ وكذلك: إذا زادت قيمته؛ فصارت ثلاثين: فهو بينهما يأخذ كل واحد نصف ثمنه؛ لأن الزيادة حصلت في ملكهما، وإن انتقصت قيمته، وإن كانت قيمته بعد الصبغ خمسة عشر: فهو بينهما أثلاثاً: الثلثان لمالك الثوب، والثلث للغاصب، ويجعل النقصان من الصبغ؛ لأن النقصان حصل بفعل الغاصب. ولو غبن إنسان، وبيع منه بأكثر من خمسة عشر: يكون الكل بينهما أثلاثاً. ولو نزع الغاصب الصبغ، فانتقصت قيمته عن عشرة: يغرم النقصان عن عشرة، وهل يغرم النقصان عن خمسة عشر؟ نُظر: إن نزع بمطالبة المالك: لا يغرم؛ وإلا فيغرم، ولو كانت قيمته بعد الصبغ عشرة: حُسب النقصان على الغاصب؛ فإن بيع الثوب بعشرة: تكون كلها لصاحب الثوب، فإن انتقص عن العشرة: فهو للمالك، وعلى الغاصب أرش النقصان عن العشرة، وإذا لم تزد قيمة الثوب على العشرة، أو انتقصت عن العشرة: لم يبق للغاصب في الثوب حق؛ لأن ماله- وهو الصبغ- مستهلك، فإذا أراد استخراج الصبغ: إذا كان يحصل منه شيء- أجيب إليه؛ لأنه عين ماله؛ كما لو غرس في الأرض المغصوبة، وأراد قلعه- له ذلك، ثم إذا انتقص قيمة الثوب باستخراج الصبغ: ضمن النقصان، وإذا زادت قيمة الثوب بالصبغ، ولم يتفقا على البيع- نظر: إن أراد صاحب الثوب البيع، وامتنع الغاصب: يباع؛ لأن الغاصب متعد: لا يملك منع المالك من بيع ماله. فإن أراد الغاصب البيع، وامتنع المالك، هل يجبر عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يُجبر؛ كما يجبر الغاصب. والثاني: لا يُجبر؛ لأن الغاصب متعد؛ فلا يستحق إزالة ملك المالك عن ثوبه. ولو غصب ثوباً وصبغاً من رجل، فصبغه به- نُظر: إن لم تنتقص قيمة الثوب والصبغ: أخذه المالك، ولا شيء له، وإن زادت قيمته: فلا شيء للغاصب، وإن انتقصت قيمة واحد منهما: غرم أرش النقصان، وقوم كل على الانفراد، فلو أراد المالك إجباره على إخراج الصبغ: له ذلك، إذا كان يحصل منه شيء.

قال الشيخ- رحمه الله-: وإن كان لا يحصل منه شيء: له إجباره- أيضاً- على إخراجه لرد الثوب إلى ما كان عليه، إن أمكن، فإن رضي به المالك: لم يكن للغاصب نزعه؛ لأنه ليس فيه عين مال؛ كالطين: يضرب منه لبناً. ولو غصب ثوباً من رجل، وصبغاً من آخر، وصبغه به: فإن لم تزد قيمته: فالثوب بينهما على قدر الملكين، وإن زاد: فالزيادة بينهما على قدر الملكين، وإن انتقص بأن كانت قيمة كل واحد عشرة، وكان بعد الصبغ قيمته خمسة عشر: فالثوب بينهما نصفان، ويرجعان على الغاصب بخمسة. وقال- رضي الله عنه-: القياس أن يكون الثوب بينهما أثلاثاً، ولو غصب أرضاً وبذر بذره فيها: للمالك إجباره على إخراج البذر، ويغرمه النقصان، فلو رضي به المالك: ليس للغاصب إخراجه؛ لأنه ليس له فيه عين مال. فصلٌ [فيما لو غصب شيئاً فخلطه] ولو غصب شيئاً، فخلطه بما لا يتميز فيه من جنسه؛ مثل: إن غصب زيتاً فخلطه بجنسه، أو حنطة فخلطها بحنطة أخرى- نُظر: إن خلطه بمثله أو بأجود منه، فإن أعطى الغاصب مكيلته منه: يجبر على القبول، وإن أعطى من موضع آخر- هل يجبر على قبوله؟ فيه قولان: أصحهما: يجبر؛ لأن ماله صار مستهلكاً بالخلط، والخيار فيه إلى الغاصب. والثاني: لا يجبر؛ لأن عين ماله قائم، بل يكون شريكاً فيه؛ فعلى هذا: إن كان يخلطه بمثله: أخذ منه مكيلة زيته، وإن خلطه بأجود: يكون شريكاً فيه بقدر حقه؛ مثل: إن كانت قيمة مكيلته درهماً، أو قيمة مكيلة الغاصب درهمين، فيباع ويقسم الثمن بينهما أثلاثاً: الثلث للمغصوب منه، والثلثان للغاصب، وإن أراد القسمة؛ ليأخذ المالك ثلثه: فالمذهب أنه لا يجوز؛ لأن القسمة بيع، ولا يجوز قسمة مال الربا متفاوتاً مع استواء الحقين في القدر. وقال في رواية البويطي: يجوز، وهذا يخرَّج على قولنا: إن القسمة إفراز حق؛ فإن جوزنا إنما نُجوز بالتراضي.

وإن خلط بأردأ؛ مثل: إن كانت قيمة المغصوب درهمين، فخلط بمكيلة زيت، قيمته درهم. فإن قلنا: ماله مستهلك بالخلط: يجب على الغاصب مثل زيته من غيره، ويجبر المالك على قبوله، وإن قلنا: غير مستهلك: يكون شريكاً فيه؛ فيباع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمة ملكيهما. ولو أخذ المالك مكيلة زيته منه: هل له أن يأخذ أرش النقصان أم لا؟ إن قلنا: ماله مستهلك: ليس له ذلك؛ لأنه رضي بالأردأ؛ كما لو أعطى صاعاً رديئاً من موضع آخر، ورضي به، وإن قلنا: ماله قائم: فله أن يأخذ أرش النقصان. ولو غصب دقيقاً، فخلطه بدقيق له. قال ابن سُريج: الدقيق مثلي؛ لأن تفاوته في النعومة والخشونة: ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب وكبره؛ فعلى هذا: حكمه حكم الحنطة يخلطها بحنطة أخرى، والصحيح: أن الدقيق متقوم؛ لأنه لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ فعلى هذا: فيه وجهان: أحدهما: يلزمه قيمته؛ لأنه صار بالخلط مستهلكاً. والثاني: يكون الدقيق مشتركاً بينهما؛ فيباع ويقسم الثمن بينهما؛ كما ذكرنا فيما لو خلط الزيت بالزيت. أما إذا خلط المغصوب بغير جنس حقه- نُظر: إن أمكن التمييز بينهما؛ مثل: إن خلط الحنطة بالشعير، أو بالدرة: يجبر على أن يميز، ويرد المغصوب؛ وكذلك: لو غصب حنطة بيضاء، فخلطها بحنطة سمراء: يجب عليه التمييز، وإن شق عليه، وإن لم يمكن التمييز؛ مثل: إن غصب زيتاً، فخلطه ببانٍ أو دقيق حنطة فخلطه بدقيق شعير: فماله مستهلك؛ يجب عليه؛ مثل: زيته وقيمة دقيقه. ولو غصب زيتاً فنجَّسه: يجب عليه رد مثله، والمالك أولى بالاستصباح به؛ كمن غصب شاة، فماتت في يده غرم قيمتها، والمالك أولى بدبغ جلدها. ولو صُب في الزيت ما أمكن التمييز: عليه أن يميز، ويغرم ما يدخله من النقص، وإن لم يكن: فهو كما لو خلطه ببانٍ.

فصل فيما لو أحدث صنعة بالمغصوب إذا غصب زيتاً، فأغلاه- نُظر: إن لم ينتقص قيمته، ولا عينه: رده، ولا شيء عليه، فإن زادت قيمته: فلا شيء له، وإن انتقصت عينه دون قيمته: رده، ويُغرم مثل ما انتقص من عينه، وإن زادت قيمة الباقي: لا يُجبر بزيادة القيمة نقصان العين، وإن انتقصت قيمته دون عينه: رده مع أرش النقصان؛ فإن انتقصت العين- نُظر: إن استويا بأن كانت قيمته أربعة دراهم، فذهب بالإغلاء نصفه، وقيمة الباقي درهمان- يرده، ويغرم مثل ما انتقص من العين، وإن كان نقصان القيمة أكثر بأن ذهب نصفه، وعادت قيمة الباقي إلى درهم: يجب عليه مثل نصفه، وارش نقصان الباقي، وهو درهم، وإن كان نقصان العين أكثر، بأن ذهب نصفه، وكانت قيمة الباقي ثلاث دراهم: يجب عليه مثل نصفه. ولو غصب عصيراً، وأغلاه، وانتقصت عينه دون قيمته، أو صار خلاً، فانتقصت عينه دون قيمته: عليه رده، وهل يلزمه نقصان العين؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه مثل ما انتقص من عينه؛ كما في الزيت. والثاني- وهو قول ابن سريج-: لا يلزمه نقصان العين؛ بخلاف الزيت؛ لأن الذاهب من الزيت زيت، وهو متقوم، والذاهب من العصير ماء ورطوبة، لا قيمة له، وحلاوته باقية. فصلٌ ولو غصب لوحاً أو آجُرّاً، وبنى عليه: لا يملكه الغاصب؛ فعليه إخراجه من البناء، ورده إلى المالك. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يملكه، ويرد قيمته. قلنا: بنى ملكه على ملك الغير بجهة العدوان؛ فلا يزول ملك المالك عنه؛ كما لو غصب أرضاً، وبنى فيها: لا يملكها. ولو غصب لوحاً، فأدخله في سفينة: ينزع ويرد، فإن كانت السفينة في لُجة البحر- نُظر: إن كان اللوح في أعلاها بحيث لو نزع لا يدخلها الماء: نُزع، ويُرد، وإن كان في أسفلها، ويخاف من نزعه الغرق- نُظر: إن كان فيها حيوان محترم آدمي، أو حيوان آخر، أو

الغاصب نفسه: لا ينزع حتى يصل إلى الشط، بل يأخذ القيمة للحيلولة، وإذا بلغ الشط رد القيمة، وأخذ اللوح. وإن لم يكن فيها حيوان، فإن كان فيها مال من لم يعلم أن فيها لوحاً مغصوباً: لا ينزع، وإن لم يكن فيها إلا مال الغاصب، أو مال من علم أن فيها لوحاً مغصوباً، فوضع فيها ماله مع علمه: فهل ينزع؟ فيه وجهان: أحدهما: ينزع، وإن غرقت أموالهم؛ كما يهدم البناء، ويرد اللوح والآجُر إلى المالك. والثاني: لا ينزع؛ لأن له نهاية يصير إليها، فيرد اللوح من غير إتلاف، وهو إتيان الشط؛ بخلاف ما لو أدخل اللوح في البناء؛ فيأخذ في الحال قيمته، فإذا أتى الشط: ردها، وأخذ اللوح. ولو غصب خيطاً، فخاط به ثوباً: يجب عليه نزعه، ورده، فإن دخله نقص: غرم الأرش، وإن بلي: فهو مستهلك يسقط رده، وعليه قيمته؛ وكذلك: اللوح في البناء، فإن خاط به جُرح حيوان- نُظر: إن لم يكن الحيوان محترماً؛ كالمرتد والحربي، أو خاط به جُرح كلب عقور أو خنزير: ينزع، ويرد. وإن كان محترماً- نُظر: إن كان آدمياً: يستوي فيه الغاصب وغيره، أو حيواناً لا يؤكل لحمه- ينظر: إن كان بعد نبات اللحم، أو كان يخاف من نزعه الهلاك أو زيادة العلة: لا ينزع، بل يغرم قيمته؛ للحيلولة- وإن كان حيواناً مأكول اللحم؛ فإن كان لغير الغاصب لا ينزع، وإن كان للغاصب- فيه قولان: أحدهما: يُذبح الحيوان، ويُرد الخيط؛ لأن ذبحه مباح. والثاني: لا يُذبح، بل يُغرم القيمة للحيلولة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله"، فحيث قلنا: لا ينزع، ويغرم القيمة: فإذا مات، هل ينزع؟ نظر: إن كان الحيوان بهيمة: ينزع، ويرد، وإن كان آدمياً- فيه وجهان: أحدهما: ينزع؛ كغير الآدمي. والثاني: لا ينزع لحرمته. أما إذا أكله سبع، وبقي الخيط: يرده ويسترد القيمة، وهل يجوز ابتداء غصب الخيط لخياطة جُرح حيوان محترم؟ نظر: إن كان يجد خيطاً حلالاً: لا يجوز، وإن كان لا

يجد: فإن كان الحيوان غير مأكول: يجوز، وإن كان مأكولاً: فعلى وجهين؛ بناءً على القولين في النزع. فصلٌ إذا فتح قفصاً عن طائر، فطار، أو حل رباط دابة، أو فتح باب إصطبل، فذهبت- نُظر: إن طار أو ذهب عقيب الفتح: يجب عليه الضمان؛ لأن الطيران والذهاب، إذا اتصل بالفتح: صار كأنه نفره، ولو نفره: يلزمه الضمان؛ كذلك هذا. وإن وقف بعد الفتح، ثم طار: هل يلزمه الضمان؟ فيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد-: لا يلزمه الضمان؛ لأنه طار باختياره، وللطائر والبهيمة اختيار وقصد، ألا تراهما يقصدان أكل ما ينفعهما، ويتوقيان ما يضرهما؛ فقد وجد من فاتح القفص سبب، ومن الطائر مباشرة، واختيار؛ فكان الحكم مُحالاً على المباشرة. وفي القديم: يضمن؛ لأنه لو لم يفتح القفص: لم يمكنه الخروج. وقيل: القولان فيما إذا طار عقيب الفتح. أما إذا وقف بعد الفتح قليلاً، ثم طار: فلا ضمان قولاً واحداً. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يضمن في الحالين. وقال مالك- رحمة الله عليه-: يضمن في الحالين. ولو حل: القيد عن رجل عبدٍ، فأبق: نُظر: عن كان العبد مجنوناً، أو كان آبقاً: فكالطائر إن ذهب في الحال: يضمن، وإن ذهب بعده: فقولان، وإن كان عاقلاً غير آبق: فلا يضمن بحال؛ لأن له اختياراً صحيحاً. ولو وقع طائر لغيره على طرف جداره، فنفره، أو رماه بحجر، فطار: لا يضمن؛ لأن رميه لم يكن سبباً لتنفيره؛ فإن كان ممتنعاً تراجع من قتل. أما إذا رماه في الهواء، فقتله: ضمن؛ سواء كان في هواء داره، أو في غير داره؛ لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره. ولو فتح زقاً فيه مائع، فسال ما فيه: يضمن سواء كان ملقى على الأرض، أو كان منتصباً سال منه قليلاً قليلاً حتى ابتل أسفله، فسقط، وإن كان منتصباً لا يسيل منه شيء،

فسقط بتحريك أو ريح: لم يضمن، وإن كان ما فيه جامداً، فشرقت عليه الشمس، فذاب، وخرج: هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يخرج بفعله؛ كما لو كان منتصباً، فهب ريح، فسقط. والثاني: يضمن؛ لأن الشمس لا تخرجه، بل تذيبه، والخروج كان بسبب فعله. ولو حل زقاً فيه جامد، فأوقد رجل، آخر بقربه ناراً، فذهب، أو كان الزق محلولاً، فأوقد رجل بقربه ناراً، فذاب، وخرج: هل يضمن موقد النار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن هو ولا من حله؛ لأن الذي حل لم يوجد منه فعل موجب الضمان، وموقد النار لم يباشر. والثاني: يضمن موقد النار؛ لأنه بإدناء النار منه مباشر، وكذلك: لو حله موقد النار، ثم أوقد بقربه ناراً، فذاب: هل يضمن؟ فيه وجهان. ولو فتح زقاً منتصباً، فيه ذائب، فاندفق بعض ما فيه، ثم جاء آخر ونكسه حتى خرج باقيه: يجب ضمان ما خرج بعد التنكيس على الثاني. ولو حل رباط سفينة، فغرقت- نظر: إن غرقت في الحال: ضمن؛ لأنها تلفت بفعله، وإن غرقت بعد ساعة- نُظر: إن كان بسبب حادث؛ كريح هبت: لم يضمن، وإن غرقت من غير سبب: فعلى وجهين. فصلٌ في الاختلاف إذا اختلف الغاصب والمالك في تلف المغصوب، فقال الغاصب: قد تلف، وقال المالك: بل هو باق: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر إقامة البينة عليه، فإذا هلك المغصوب في يد الغاصب، ثم اختلفا في قيمته، فقال المالك: قيمته عشرة، وقال الغاصب: بل خمسة: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه غارم، والأصل براءة ذمته. قال الشافعي- رضي الله عنه-: ولا أقومه على الصفة، يعني: لو شهد الشهود أنها كانت توصف كذا: فالقول قول الغاصب، ولا يقومه على الصفة؛ لأنه قد يكون بتلك الصفة: لا يستملح.

فلو شهد شاهدان؛ كانت قيمته ألفاً، وادعى المالك أكثر: فالقول قول الغاصب في الزيادة، ولو قال المالك: لا أدري كم كانت قيمته: لا تسمع دعواه حتى يبين؛ فإن بين، فقال الغاصب: كان أنقص منه، ولا أدري كم كان: لا يقبل حتى يبين، وإن بين حلف عليه. ولو شهد شاهدان: أن قيمتهما أكثر من خمسة، ولم يبينا: قال الشيخ القفال: يُقبل،

ولو قال: غصبت مني داراً بالكوفة، فقال: بل غصبت بالمدينة- نظر: إن صدقه المدعي في دار المدينة: ثبت ذلك؛ فالقول قول المدعى عليه في نفي دار الكوفة، وإن أنكر المدعي داراً بالمدينة: ارتد برده، وهو مدع دار الكوفة؛ فالقول قول المنكر مع يمينه. ولو باع رجل عبداً من رجل، ثم جاء رجل يدعي أنه ملكي غصبه مني البائع: فله أن يدعي على المشتري عينه، وهل له أن يدعي على البائع قيمته؟ قد قيل: فيه قولان؛ كما لو قال: هذه العين لفلان، لا بل لفلان: يسلم على الأول، وهل للثاني أن يدعي عليه القيمة؟ فيه قولان، والمذهب- ههنا-: أن المدعي يدعي القيمة على البائع قولاً واحداً؛ لأنه يدعي أنه تصرف في ملكه بالبيع، فإذا ادعى على البائع القيمة، فإن صدقه دفع القيمة إليه، ولا يُقبل قوله في إبطال حق المشتري. ثم المدعي إذا ادعى العبد على المشتري، وصدقه المشتري: رد العبد إليه، واسترد الثمن من البائع، ورد المدعي القيمة إلى البائع، وإن كذبه المشتري: حلف، وبقي العبد له: فلو عاد العبد يوماً إلى البائع؛ بأن رُد إليه بعيب، أو بسبب آخر: دفعه إلى المدعي، واسترد القيمة، وإن كذبه البائع: حلف، ثم المدعي يدعي العبد على المشتري. ولو ادعى المدعي أولاً على المشتري العبد: فإن صدقه: دفع إليه، ولا رجوع له على البائع بالثمن؛ لأنه أبطل حقه بالإقرار. وإن كذبه المشتري: فإن أقام المدعي بينة: أخذ العبد، ورجع المشتري بالثمن على البائع، وإن لم تقم بينة: حلف المشتري، وبقي العبد له، ثم المدعي يدعي القيمة على البائع. ولو نكل المشتري عن اليمين: حلف المدعي، وأخذ العبد، ولا دعوى له على البائع، ولا رجوع للمشتري على البائع بالثمن؛ لأنه أبطل حقه بالنكول، ولو صدقاه جميعاً: أخذ المدعي العبد، ورجع المشتري بالثمن على البائع، فإن كان المشتري قد أعتق العبد، ثم صدقاه: لا يبطل العتق بتصديقهما؛ لأنه حق الله عز وجل، وإن صدقهم العبد على ذلك: فللمدعي قيمته، ثم إن كانت قيمته في يدهما سواء، أو كانت في يد المشتري أكثر: غرم المدعي أيهما شاء، وقرار الضمان على المشتري، وإن كانت قيمته في يد البائع أكثر: فيرجع بالزيادة على البائع، دون المشتري، وبالأصل: يغرم أيهما شاء، والقرار على المشتري. ولو كاتبه المشتري، ثم تصادقا؛ أنه للمدعي: يفسخ الكتابة؛ لأنه يقبل الفسخ، والعتق لا يقبل الفسخ؛ فهو كالاستيلاد لا يرد بتصادقهما، والله أعلم.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة روي عن جابر، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا

شفعة". ويروى: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة". الشفعة: حق ثبت في الريع للشريك القديم على الشريك الحادث، دفعاً لمؤنة المقاسمة عن نفسه، وهو أن يكون ريع بين شريكين أو بين جماعة، فباع واحد منهم نصيبه: ثبت للشريك أن يأخذه من المشتري بالثمن الذي اشتراه.

والشفعة: لا تثبت إلا في العقار، وفيما يدخل في مطلق بيع العقار من البناء والأشجار. أما المنقولات: فلا شفعة فيها؛ وكذلك؛ لو باع البناء والأشجار المشتركة دون الأصل: فلا شفعة فيها؛ لما روي عن جابر، قال: قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "بالشفعة في كل شرك لم يقسم ريعه أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه؛ فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك". فإن باع، ولم يؤذنه: فهو أحق به؛ وهذا لأن الشفعة إزالة ملك المشتري بطريق القهر؛ فلا تباح إلا لضرورة لا يمكن دفعها إلا به، وتلك الضرورة تتحقق في العقار؛ لأن ضرره يتأبد بسوء المشاركة، والمنقول لا يبقى على الدوام؛ فلا يتأبد ضرره. ولا تثبت الشفعة للجار؛ يُروى ذلك عن علي وابن عباس وجابر- رضي الله عنهم- وبه قال مالك والأوزاعي،- رحمة الله عليهما-.

وقال شُريح والشعبي وأبو حنيفة- رحمة الله عليهم-: تثبت للجار الملاصق، ولا تثبت للجار المقابل، إذا كان الطريق بينهما نافذاً. والحديث حُجة عليهم. وتثبت الشفعة في الربع المنقسم، وفيه معنيان: أصحهما: لما يلحقه من مؤنة المقاسمة في إمرار المرافق. والثاني: لسوء المشاركة فيما يتأبد ضرره، وهل يثبت في غير المنقسم؟ فيه وجهان؛ بناءً على المعنيين:

إن قلنا بالأول: فلا يثبت، وهو الأصح؛ لأنه لا يقبل القسمة؛ فلا يلحقه مؤنة المقاسمة. وإن قلنا بالثاني: ثبت، وهو قول ابن سُريج- رحمة الله عليه-: وبه قال الثوري وأبو حنيفة- رحمة الله عليهما- واختلفوا في المنقسم: قيل: هو ألا ينقص قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة عما كانت عليه قبل القسمة نقصاناً فاحشاً. وقيل: ما يمكن الانتفاع به بعد القسمة: حسب الانتفاع به من قبل. وقيل: ما يمكن الانتفاع به بعد القسمة بوجه من الوجوه: خرج من هذا أنه إذا كان بين رجلين أرض، تسعة أعشارها لأحدهما، وللآخر عُشرها، ولا ينتفع به بعد القسمة: فإن طلب صاحب العشر القسمة: لا يجاب إليها، وإن طلب صاحب تسعة الأعشار: يجاب إليها؛ فلو باع صاحب التسعة الأعشار نصيبه: فتثبت الشفعة لصاحب العشر لوجود المعنيين في حقه، وإن باع صاحب العشر نصيبه: هل تثبت الشفعة لصاحب التسعة الأعشار؟ فعلى وجهين: إن قلنا بالمعنى الأول- وهو الأصح-: لا تثبت؛ لأنه لا يلحقه مؤنة المقاسمة، وإن قلنا بالمعنى الثاني: ثبت، وإن كان بين رجلين بئر أو حمام أو طاحونة أو مسيل ماء، فباع أحدهما نصيبه: هل يثبت للآخر الشفعة؟ نظر: إن كان منقسماً بأن كانت البئر واسعة يمكن أن يبني فيها، فيتخذ بئرين تختلف فيهما للدلاء، وفي بياضهما سعة لإلقاء التراب ووقوف المستقي، ويمكن أن يتخذ من الحمام حمامات، لكثرة البيوت، أو البيوت واسعة يمكن أن يتخذ كل بيت بيتين، والطاحونة كبيرة يمكن أن تتخذ طاحونتان لكل واحدة نهر ورحاً. وكذلك: النهر ومسيل الماء: يثبت فيه الشفعة، وإن لم يمكن: فلا يثبت؛ على أصح الوجهين. ولو كانت لرجل أرض ومسيل مائهما مشترك بين اثنين، أو مزرعة لرجل والبئر مشتركة، فباع صاحب الأرض والمزرعة: لا تثبت الشفعة للشريك في البئر ومسيل الماء، وإن باعها مع شريكه في النهر والبئر: فلا شفعة في الأرض، وثبت في النهر والبئر، إن كان منقسماً؛ وكذلك: لو كانت الشركة في المزرعة دون البئر، فباع صاحب البئر البئر مع نصيبه من المزرعة: تثبت الشفعة في المزرعة دون البئر، فباع.

وإن كانا مشتركين بينهما، فباع أحدهما نصيبه منهما: فلشريكه الشفعة فيهما، إن كانت البئر منقسمة، وإن لم تكن منقسمة، وقلنا: لا شفعة في غير المنقسم: فتثبت الشفعة في المزرعة، وهل تثبت في البئر تبعاً للمزرعة؟ فيه وجهان: الأصح: لا تثبت. ولو باع داراً في سكة نافذة: فلا تثبت الشفعة في الطريق؛ لأنه غير مملوك؛ بل هو ممر لكافة الناس: لا يدخل في البيع، ولا يجوز بيعه. ولو باع داراً في سكة غير نافذة، وقلنا: يدخل الطريق في البيع، أو باع مع الطريق: تثبت الشفعة لشركاء السكة في الطريق، إن كان منقسماً، ولا تثبت في الدار، إن أمكن المشتري فتح باب في سكة أخرى، وإن لم يمكن: فلا شفعة في الطريق؛ لما فيه من إلحاق الضرر بالمشتري. وقيل: لهم الشفعة وللمشتري الاستطراق. وقيل: لهم الشفعة والطريق للمشتري؛ لأنه ضيع حق نفسه حيث أقدم على هذا الشراء، وخرج ابن سريج وجهاً، وبه قال مالك وأبو حنيفة- رحمة الله عليهما-: أنه تثبت الشفعة في الدار؛ لأجل الشركة في الطريق؛ والأول المذهب؛ كما لو باع شقصين من دارين، لأحدهما شفيعٌ: لا يأخذ الشفيع إلا ماله فيه شرك. أما إذا كان الطريق ضيقاً، إذا قسم له: لم يصب كل واحد طريقاً يدخل فيه كل ملكه؛ فلا شفعة فيه؛ على ظاهر المذهب. وحكم الخان إذا كان بيوتها لجماعة، لا على وجه الشركة، والصحن مشترك بينهم: فحكم السكة غير النافذة. وإن كان بين رجلين جدار، فباع أحدهما نصيبه- نُظر؛ إن لم تكن الأرض مشتركة بينهما: فلا شفعة؛ فلأنه كالمنقول، وإن كانت الأرض مشتركة بينهما، فباع أحدهما نصيبه: ثبت للآخر الشفعة في الكل، إن كان منقسماً؛ وكذلك: إذا كانت غرفة مشتركة بين رجلين، والسفل لأحدهما، فباع أحد الشريكين نصيبه من الغرفة: لا شفعة للآخر؛ لأن الشفعة كالمنقول؛ وكذلك: لو كان السفل لواحد، والعلو لواحد، فباع أحدهما ملكه: لا تثبت الشفعة للآخر، ولو كان السفل مشتركاً بينهما، والعلو لواحد، فباع صاحب العلو نصيبه من السفل مع جميع العلو: ثبت لشريكه الشفعة في سهم السفل والأرض، ولا

يثبت في العلو؛ وكذلك: لو كانت بين رجلين أرض، وفيها لأحدهما أشجار، فباع صاحب الأشجار نصيبه من الأرض مع جميع الأشجار: كان لشريكه أن يأخذ الأرض بالشفعة، وبحصتها من الثمن. ولا شفعة له في الأشجار، قال الشيخ أبو علي السجزي: كنت سمعته من الشيخ القفال في العلو، ثم سألته بعد ذلك؟ فقال: الشفعة تثبت في نصف العلو، ونصف الشجر تبعاً لنصف الأرض؛ لأن ذلك القدر يدخل في بيع الأرض من غير شرط، وكذلك: يتبع في الشفعة. قال الشيخ أبو علي- رحمه الله-: عندي الأول أولى؛ لأن الشفعة لا تثبت فيما لا شركة فيه للشفيع من الأصول؛ وكذلك: لا تثبت في بناء وشجر لا شركة فيه؛ وإنما يتبع البناء والشجر الأرض، إذا كان في مثل حال الأرض بأن يكون مشتركاً، والله أعلم. فصلٌ في العقود التي تثبت بها الشفعة وما يأخذ به الشفيع إذا اشترى شقصاً مشفوعاً: فالشفيع يأخذه من المشتري بالثمن الذي اشتراه: فإن اشتراه بشيء من النقدين أو بشيء مثلي من حنطة أو شعير أو نحوه: أخذه بمثله؛ إن اشتراه كيلاً أخذه بمثله كيلاً، وإن اشتراه وزناً أخذه بمثله وزناً، وإن اشتراه بشيء متقوم من عبد أو ثوب أخذه بقيمة الثمن. وتعتبر قيمته بيوم استقرار العقد، وهو حالة انقضاء الخيار، لا عبرة بما يزيد وينقص بما بعد. ولو جعل رأس مال السلم شقصاً مشفوعاً: أخذه الشفيع بمثل المسلم فيه، إن كان مثلياً، وإن كان متقوماً: فبقيمته. ولو اشترى بكف من دراهم غير معلوم الوزن، أو بصبرة حنطة غير معلوم الكيل: لا يأخذه الشفيع حتى يصير معلوماً، ولا يبطل حقه بهذا التأخير. ولو صالح عن دين على شقص مشفوع، سواء كان ذلك الدين ثمناً أو بدل إتلاف أو قرضاً أو أجرة، أو إجارة: يأخذ الشفيع بمثل ذلك الدين، إن كان مثلياً، أو قيمته: إن كان متقوماً. ولو حط البائع بعض الثمن عن المشتري في زمان الخيار: إن قلنا: يلتحق بأصل العقد: ينحط عن المشتري والشفيع جميعاً، وإن قلنا: لا يلتحق: ينحط عن المشتري، ولا ينحط عن الشفيع؛ كما لو حط بعد مضي زمان الخيار.

ولو زاد في الثمن في زمان الخيار: إن قلنا: يلتحق بأصل العقد: فيلزم المشتري والشفيع جميعاً، وإن قلنا: لا يلتحق: فلا يلزم واحد منهما؛ كما لو زاد بعد إبرام العقد. ولو حط البائع جميع الثمن في زمان الخيار: فإن قلنا: لا يلتحق بأصل العقد: فلا يلزم في حق الشفيع، وإن قلنا: يلتحق: فيصير كما لو باع بلا ثمن، وفيه وجهان: أحدهما: يبطل. والثاني: يكون هبة. وعلى الوجهين: لا شفعة للشفيع؛ فلو خط بعض الثمن بعد زمان الخيار: لا ينحط في حق الشفيع. وعند أبي حنيفة: ينحط. ولو نكح امرأة على شقص، أو خالع زوجته على شقص: أخذه الشفيع بمهر مثلها يوم عقد النكاح أو يوم وقع الخلع. ولو أجر داره على شقص أو رد آبقه على شقص: أخذه الشفيع بأجر مثل الدار أو أجر مثل العمل؛ غير أنه في الإجارة يثبت بالعقد، وفي الجعالة: بعد العمل. ولو صالح عن دم العمد الموجب للقصاص أو عن الجراحة الموجبة للقصاص- على شقص: جاز، وأخذه الشفيع بالدية. ولو صالح عن دية الخطأ على شقص: ففي صحة الصلح قولان، فإن جوزنا: أخذه الشفيع بالدية، ولو جعل الشقص متعة في طلاق امرأة: أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر؛ لأن الواجب بالطلاق المتعة لا المهر. وعند أبي حنيفة: لا تثبت الشفعة في هذه المواضع إلا في البيع. فنقول: مملوك بعقد معاوضة، فأشبه المملوك بالشراء. ولو أوصى له بشقص مملوك مشفوع، فمات الموصي، وقبل الموصى له: لا شفعة فيه؛ لأنه لم يملكه بعقد معاوضة؛ كما لو وهب شقصاً مشفوعاً: لا يثبت للشفيع الشفعة. أما إذا وهب بشرط الثواب، هل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان:

أصحهما: تثبت؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة؛ كما لو اشترى. وقيل: لا يثبت؛ لأنه ليس المقصود منه المعاوضة. فإن قلنا: تثبت، هل يجوز للشفيع أخذه قبل قبض الموهوب له؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض. والثاني: جاز؛ لأنه صار بيعاً بشرط الثواب. ولو قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً: فلك هذا الشقص، فخدمتهم: ملكت الشقص، وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: تثبت؛ لأنها ملكته بالخدمة؛ كالمملوك بعقد الإجارة. والثانيك لا تثبت؛ لأنه وصية في الحقيقة؛ لأنها تعتبر من الثلث، كسائر الوصايا. ولو بيع شقص مشفوع مع عوض بثمن واحد: يوزع الثمن عليهما باعتبار القيمة يوم العقد؛ فالشفيع يأخذ الشقص بمقابله من الثمن، وليس له أخذ العوض. ولا يثبت للمشتري الخيار من فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه؛ لأنه دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه. ولو اشترى شقصاً، وفيه أشجار وأبنية: يدخل الكل في البيع، ويجوز للشفيع أخذ جميعها تبعاً للأرض، وكذلك؛ لو اشترى شقصاً من دار: للشفيع أن يأخذ جميع ما يدخل في مطلق بيع الدار من الأبواب والسقوف وغيرها. ولو اشترى شقصاً وفيه نخل عليها ثمرة مؤبرة: لا تدخل الثمرة في ملطق البيع، فلو اشتراها مع الثمرة: للشفيع أخذ الشقص مع النخيل بحصتها من الثمر، ولا يأخذ الثمرة، وإن كانت فيها نخيل مطلعة: يدخل الطلع في البيع، وهل للشفيع أخذ الطلع؟ فيه وجهان: أصحهما: يأخذ؛ لأنه يدخل في مطلق البيع. والثاني: لا يأخذ؛ كالثمرة المؤبرة. فإن قلنا: لا يأخذ: أخذ الأرض والنخيل بحصتها من الثمر، وإن قلنا: يأخذ: فلو تأخر الأخذ بالشفعة تعذر حتى يرث الثمار، هل للشفيع أخذ الثمار؟ فيه وجهان:

أحدهما: يأخذ؛ كالفسيل إذا كبر. والثاني: لا يأخذ؛ لأنها صارت بحيث لا تتبع الأرض؛ بخلاف الفسيل. فإن قلنا: ليس له أخذها- هل يحط شيء من الثمن؛ لأجل الثمر؟ فيه وجهان: أحدهما: يحط، كما في الثمرة المؤبرة: يوزع الثمن على الأرض والنخيل وعلى الطلع. والثاني: لا يحط، وعليه جميع الثمن؛ فهو بمنزلة عيب حدث بالشقص: فإن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك. أما إذا اشترى شقصاً، وفيه نخيل حائلة، فأثمرت، ثم جاء الشفيع- نُظر: إن جاء بعد تأبير الثمار: لم يكن له أخذ الثمار؛ بل يأخذ الأرض والنخيل بجميع الثمن، وإن جاء الشفيع، والثمر طلع: هل للشفيع أخذ الطلع؟ فيه قولان: قال في القديم: يأخذ؛ لأنه يتبع الأصل، ويدخل في مطلق البيع. وفي الجديد: لا يأخذ؛ بل يبقى للمشتري كالمؤبرة؛ لأنه تملك بغير التراضي؛ فلا يؤخذ به إلا ما دخل في العقد؛ بخلاف البيع؛ فإنه يملك بالتراضي؛ يقدر فيه على استثناء الطلع؛ فإذا لم يستثن: تبع الأصل. ولو اشترى شقصاً، وفيه زرع- نُظر: إن كان الزرع مما لا يجز مراراً: لا يدخل في مطلق البيع، وإن اشتراه مع الزرع: أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن دون الزرع، وإن كان الزرع مما لا يجز مراراً: فالجزة الظاهرة لا تدخل في البيع، ويدخل الأصل، ويأخذه الشفيع مع الأصل. ولو اشترى شقصاً من طاحونة: فالحجر السفلاني: إن قلنا: يدخل في البيع: أخذه الشفيع، أما العلياني: إن قلنا: يدخل في البيع: هل يأخذه الشفيع؟ فيه وجهان؛ بناءً على الطلع، وإن قلنا: لا يدخل في البيع: لا يأخذه الشفيع. ولو اشترى شقصاً من دار، ثم بعد البيع: تكسر منها جذع، أو اعوجت أسطوانة، أو حدث عيب آخر: فالشفيع: إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك.

ولو انهدمت بعد البيع نظر: إن تلفت الآلات، وضاعت: فالشفيع بالخيار: إن شاء أخذ العرصة بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك، فإن لم يتلف شيء منها؛ لكنها انفصلت، فهل للشفيع أخذها مع العرصة؟ نقل المزني: إما أن يأخذ الكل بالثمن، وإما أن يترك. ونقل الربيع: أنه يأخذ بحصتها من الثمن، اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما: أنه إن شاء أخذ الكل بجميع الثمن، وإن شاء ترك؛ لأنها كانت متصلة يوم البيع. والقول الثاني: إن شاء أخذ العرصة بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك، ولم يكن له أخذ الآلات؛ لأنها منقولة حالة الأخذ. ومنهم من قال: هي على حالين؛ حيث قال: يأخذ بجميع الثمن، أراد به: إذا لم تتلف الآلات؛ فيأخذها كلها، وحيث قال: يأخذ بالحصة، أراد: إذا تلفت الآلات أو بعضها. ومنهم من قال: المسألة مصورة فيما إذا تلفت الآلات؛ فحيث قال: يأخذ بجميع الثمن، أراد به: إذا تلفت بآفة سماوية؛ وحيث قال: يأخذ العرصة بالحصة، أراد به: إذا تلفت بفعل آدمي؛ لأنه حصل للمشتري بدل التالف. فصلٌ [في بيان أن الشفعة على الفور] الأخذ بالشفعة: يكون على الفور بعدما علمها الشفيع؛ على قوله الجديد، وهو

المذهب؛ وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: لأنه حق ثبت في البيع؛ لدفع الضرر؛ كالرد بالعيب، وقال في رواية حرملة: له الخيار إلى ثلاثة أيام؛ لأنها تثبت للنظر؛ فلابد من مضي زمان ينظر فيه فجعل الثلاث حداً؛ لأنه نهاية القلة. وقال في القديم: هو على التراضي؛ كالخيار في القصاص؛ فعلى هذا: بماذا يسقط خياره؟ فيه قولان: أحدهما: بما يدل على الإسقاط بأن يقول: قاسمني؛ أو يستبيعه أو يستوهبه. والثاني: لا يسقط إلا بصريح العفو، والإسقاط كالقصاص؛ فعلى هذا: إذا لم يأخذ، ولم يعف: دفعه المشتري إلى الحاكم؛ حتى يجبره على العفو أو الأخذ؛ لأنه لا يمكنه التصرف فيه والسعي في عمارته؛ خوفاً من أخذه بالشفعة؛ فعلى هذا: إن لم يفعل؛ هل يبطل عنه القاضي؟ فيه قولان: فإن قلنا بظاهر المذهب؛ إنه على الفور: فذلك بعد العلم، فإن لم يعلم ببيع الشقص حتى مضى سنون: لا يبطل حقه، فإن علم، وأخر بلا عذر: سقط حقه، فإن حضر،

فقال المشتري: سلام عليكم، أو قال: بارك الله في صفقتك؛ إني مطالبك بالشفعة: لا يبطل حقه بهذا القدر من الكلام؛ لأن السلام قبل الكلام سنة، والدعاء بالبركة نفع؛ ليأخذ بصفقة مباركة، ولو سأله كم الثمن؟ لا يبطل؛ لأنه لا يصح أخذه ما لم يعلم الثمن. وإن أخر الطلب بعد زمان كان مشتغلاً بطهارة أو صلاة أو أكل، أو دخل وقته، يريد أن يشتغل به، أو اشتغل بلبس ثوب، أو إغلاق باب، فأخر حتى يفرغ: لا يبطل؛ وكذلك: إذا علم بالليل، فأخر حتى يطلع النهار، ثم إن كان في خلال أكل، أو في خوف ليل، وبحضرته قوم: أمكنه الإشهاد، هل يلزمه الإشهاد؟ فيه وجهان. أما إذا كان محبوساً بظلم أو مريضاً: فإن وكل بالطلب، أو لم يمكنه التوكيل: أشهد عليه [و] لا يبطل حقه، وإن لم يُشهد عليه مع الإمكان: بطل حقه، وإن قدر على التوكيل، ولم يوكل: فالصحيح أنه يبطل حقه كما لو قدر بنفسه، فلم يطلب. وقال الشيخ أبو علي الطبري: لا يسقط حقه: لأن الوكيل: إن كان يطلب عوضاً: فيلحقه مؤنة، وإن لم يطلب: فيلحقه منة. ومن أصحابنا من قال: إن وجد من يتطوع بالوكالة، فلم يوكله: بطل حقه، وإن لم يجد من يتطوع: لا يبطل حقه. وإن كان محبوساً بحق بأن كان عليه دين، وهو مليء لا يؤديه: عليه أن يحضرن فيطالب، فإن لم يفعل: بطلت شفعته، وإن كان متوارياً يخاف من عدو: فهو كالمريض، وإن كان غائباً فبلغه الخبر- نُظر: إن أنفذ وكيلاً في الحال: فهو على شفعته، وكذلك: إن خرج بنفسه، واشهد، وإن صار ولم يشهد، أو خرج لطلب قافلة، ولم يُشهد: هل تبطل شفعته؟ فيه قولان: أصحهما: لا تبطل؛ كما لو أنفذ وكيلاً، ولم يشهد. والثاني: يبطل؛ لأن خروجه يحتمل أن يكون لأمر آخر، وإنفاذ الوكيل غير محتمل، ولو لم يسر في الحال مع الإمكان، ولم يوكل: بطل حقه، وإن أشهد.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يبطل، إذا أشهد، وإن لم يمكنه الخروج بأن لم يجد رفقة أو نفقة: لم تبطل، إن أشهد، وإن لم يشهد: بطل. ولو اختلفا؛ فقال الشفيع: طلبت في الحال، أو سرت في الحال، وقال المشتري: بل أخرت، أو قال الشفيع: أشهدت حيث وجب الإشهاد، وأنكر المشتري: فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن الأصل ثبوت الحق له كما لو ادعى عليه أنك عفوت، فأنكر: كان القول قول الشفيع، حتى لو قال: أشهدت عدلين، لا أعرفهما، أو أشهدت فلاناً وفلاناً، وهما منكران: لا تبطل شفعته؛ كما لو تقار الزوجان على النكاح، وأنكر الشهود: يحكم بالنكاح. وكل موضع وجب الإشهاد: لا يختص بمجلس الحُكم؛ وكذلك: الأخذ بالشفعة لا يختص بمجلس الحكم؛ فلا يتوقف على حكم الحاكم؛ لأنه ثبت بالنص؛ كالرد بالعيب. ولو علم، فحضر المشتري أو لم يحضر، وحضر مجلس الحكم فأشخصه: لا يبطل حقه؛ لأنه يطلب الحق من معدنه، فإن كان الشفيع والمشتري غائبين، فأخر الطلب؛ ليأتي موضع الملك: بطلت شفعته لإمكان الأخذ في الغيبة، ولو اتفقا على أنه أخر الطلب، واختلفا، فقال الشفيع: أخرت؛ لأني كنت غائباً أو مريضاً أو محبوساً: فإن علم ذلك منه: قُبل قوله، وإن لم يعلم: لا يقبل، وإن قال: اخرت؛ لأني لم أصدق المخبر- نُظر: إن أخبره عدلان: بطلت شفعته؛ لأن الحقوق تثبت بقولهما؛ فكان عليه أن يعتمدهما، وإن أخبره فاسق أو صبي أو كافر: يقبل قوله، ولا تسقط شفعته، وإن أخبره عدل واحد حراً أو عبداً أو امرأة: ففيه وجهان: أحدهما: يقبل، ولا تسقط شفعته؛ لأن الحجة لا تقوم بقول الواحد. والثاني: تسقط شفعته؛ لأنه من باب الأخبار، ويقبل قول هؤلاء في الخبر. ولو قال الشفيع: أخرت؛ لأني لم أعلم أن الشفعة تثبت للشريك، فإن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية لا يعرفون الأحكام: يقبل قوله، وله الشفعة؛ وإلا فلا يقبل، وكذلك: في الرد بالعيب. ولو قال لم أعلم أنه يبطل بالتأخير: يُقبل قوله؛ لأنه مما يخفى على العوام. ولو أخر الطلب، أو عفى قبل معرفة الثمن أو معرفة المشتري: لا يبطل حقه، حتى لو أخبر أن الشقص بيع من زيد، فعفى، ثم بان أنه بيع من عمرو، ولو قال المشتري: أنا

اشتريته لنفسي، فعفا، ثم بان أنه كان وكيلاً: اشتراه لغيره؛ له أن يأخذه؛ لأنه قد يرضى بشركة زيد، ولا يرضى بشركة عمرو، وكذلك: لو أخبر أنه اشتراه فلان، فعفا، ثم بان أنه اشتراه فلان مع غيره، أو أخبر؛ أنه اشتراه رجلان، فعفا ثم بان أن أحدهما اشترى كله: فله الأخذ؛ وكذلك: لو أخبر أنه بيع نصفه، فعفا ثم بان أنه بيع كله، أو أخبر ببيع كله، فعفا، ثم بان أنه بيع بعضه: له أن يأخذه؛ لأنه قد يرغب في الجملة ولا يرغب في البعض، أو يرغب في البعض دون الجملة، وكذلك لو أخبر أنه بيع بالدراهم، ثم عفى، ثم بان أنه بيع بالدنانير، أو أخبر أنه بيع بالنيسابورية، فعفا ثم بان أنه بيع بالهروية، أو على عكسه: فله الأخذ؛ وكذلك: لو أخبر أنه بيع بمائة، فعفا ثم بان أنه بيع بخمسين: لا يسقط حقه، أما إذا أخبر أنه بيع بخمسين، فعفا، ثم بان أنه بيع بمائة، أو أخبر أنه بيع كله بمائة، فعفا، ثم بان أنه بيع بعضه بمائة: سقط حقه؛ لأنه إذا رغب عن الكل بمائة: فعن البعض بمائة أولى. ولو أخبر أنه بيع حالاً، فعفا. ثم بان أنه بيع مؤجلاً، أو أخبر أنه بيع إلى أجل شهر، فبان أنه بيع إلى شهرين: لا يبطل حقه، أما إذا أخبر أنه بيع مؤجلاً، فعفا، ثم بان أنه بيع حالاً: بطل حقه؛ لأنه لو رغب فيه: أمكنه أن يعجل الثمن، إذا أخبر بالتأجيل. ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على أداء العوض؛ لأنه إذا أخذ، ولم يدفع العوض: أضر بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر. ولو قال: أعطني رهناً أو ضميناً: لم يلزمه قبوله، والشفيع لا يملك الشقص بمجرد قوله: "أخذته" ما لم يعط الثمن، أو يقضي له القاضي بها، فلو طلب ولم يداوم عليه، وتوانى في أداء الثمن: بطل حقه، ولو جاء وطلب، ثم ذهب ليأتي بالثمن، فمضى زمان إمكان الرجوع، ولم يرجع: بطل حقه، وإذا قضى له بها: فلا خيار له بعد ذلك، وعليه ثمنها. فرع عليه ابن سريج، فقال: لو قضى القاضي له بها، فمات قبل أن ينقد الثمن، أو يقبض الشقص: فهو مالك له، ثم إن مات مفلساً: فالمشتري إن شاء استرد الشقص، وإن شاء ضارب الغرماء بالثمن. ولو أن الشفيع قال للمشتري بعد علمه بالبيع: بعني بالشقص، أو هب لي، أو اكتراه منه: بطل حقه، سواء كان عالماً بالثمن أو جاهلاً؛ لأنه رضي بشركته، ولو لم يرض لسأل عن الثمن وأخذه بالشفعة. ولو صالح عن الشفعة على مال: لم يصح الصلح؛ لأنه خيار؛ فلا يجوز الاعتياض

عنه؛ كخيار الشرط، وهل تبطل شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل؛ لأنه أعرض عن طلبها من غير عذر. والثاني: لا تبطل؛ لأنه تركها على عوض، فإذا لم يسلم له العوض: كان على شفعته. ولو قال أحد الشريكين للآخر: بع نصيبك؛ فإني عفوت عن الشفعة؛ فباع له: الشفعة؛ لأن العفو قبل ثبوت الحق: لا يصح؛ كما لو قال لمورثه: أوص بأكثر من الثلث؛ فإني قد أجزت، فأوصى، ثم مات: فللوارث رد الزيادة على الثلث؛ لأن الإجازة كانت قبل أوانها. فإن أخذ الشفيع الشقص بالشفعة وأعطى الثمن، ثم خرج الثمن الذي أعطى الشفيع مستحقاً أو كان المشتري اشتراه بدنانير، فخرج ما أعطاه الشفيع نحاساً أو رصاصاً: فإن كان الشفيع به عالماً: بطلت شفعته؛ لأجل التأخير، وإن كان جاهلاً: فهو على شفعته، وعليه إبدالها، وإن خرجت رديئة؛ بحيث يجوز الرضا به: تبطل شفعته، عالماً كان أو جاهلاً؛ لأن أداء ما دفع صحيح؛ بدليل أنه يجوز للمشتري أن يرضى به. وقيل: إن كان الشفيع عالماً، ولم يرض به المشتري: بطلت شفعته؛ للتأخير؛ كما في الاستحقاق. والأول أصح. والمشتري بالخيار: إن شاء رضي به، وإن شاء استبدل؛ أما إذا خرج ثمن المشتري مستحقاً بأن اشترى الشقص بعبد أو بدنانير معينة، فخرج العبد مستحقاً، أو الدنانير مستحقة أو نحاساً: فالشراء باطل، ولا شفعة للشفيع، حتى لو كان الشفيع قد أخذه بقيمة العبد: عليه رده، وإن كان قد اشترى بثمن في الذمة، فخرج مستحقاً رده، واستبدل، والشفعة بحالها، وإن خرج رديئاً: فهو بالخيار: إن شاء رضي به، وإن شاء استبدل؛ فإن رضي به ليس للشفيع أن يأخذ بثمن رديء بل عليه الجيد؛ لأن العقد انعقد عليه، وإن بخس البائع حقه. أما إذا وجد البائع بالثمن عيباً- نُظر: إن رضي به: يجب على الشفيع قيمة عبد صحيح للمشتري، وإن فسخ البيع، ورد الثمن- نظر: إن كان بعدما أخذ الشفيع الشقص بالشفعة: لم يكن له رد شفعته، بل يأخذ قيمة الشقص من المشتري؛ سواء كان أقل من

قيمة العبد الذي هو ثمن أو أكثر، وإن كان قبل أخذ الشفيع: أخذه البائع، فإذا أخذه البائع، ثم جاء الشفيع: هل تسقط شفعته أم له أن يرد فسخه ويأخذه؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد فسخه، ويأخذه؛ لأن علته البيع، وقد وجد، فإذا أخذه يأخذه بقيمة عبد صحيح. والثاني: سقطت شفعته؛ لأن الشفعة لدفع ضرر الدخيل، وقد زال. وكذلك: لو وجد المشتري بالشقص عيباً، وفسخ العقد، ثم جاء الشفيع: هل يأخذه؟ فيه وجهان. ولو وجد المشتري بالعبد عيباً وتعذر رده بحدوث عيب عنده، فأخذ الأرش: يحط ذلك الأرش عن الشفيع، حتى لو كان المشتري أخذ منه قيمة عبد صحيح: رجع عليه بالنقصان. ولو وجد الشفيع بالشقص عيباً: له أن يرده على المشتري؛ فيسترد الثمن؛ لأنه يملك عليه، ثم المشتري: إن شاء رده على البائع. ولو استحق الشقص من يد الشفيع: فكذلك؛ يرجع بالثمن على المشتري، ثم هو يرجع على البائع؛ كالمشتري الثاني: يرجع على الأول، ثم هو يرجع على البائع الأول؛ فإن كان الشفيع قد بنى وغرس فيه: فللمستحق قلع الغراس والبناء مجاناً، ثم الشفيع: يرجع على المشتري بنقصان البناء والغراس مع الثمن، ويرجع المشتري على البائع، هذا إذا أخذ الشفيع من المشتري؛ فإن تعذر الأخذ من المشتري بأن هرب أو اختفى قبل القبض: هل للشفيع الأخذ من البائع؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذ منه؛ فعلى هذا: تكون العهدة عليه، وإن كان المشتري قد حضر، لأن المشتري لم يأخذ شيئاً. والوجه الثاني: لا يأخذ من البائع؛ لأنه لم يتملك على المشتري، بل ينصب القاضي نائباً حتى يقبض من البائع للمشتري، ثم يأخذه الشفيع؛ فعلى هذا: يرجع الشفيع بالعهدة على المشتري: إن حضر، وإن لم يحضر: فعلى البائع، وهل يكون نائب الحاكم طريقاً فيه؟ فعلى وجهين. ولو اشترى شقصاً بشرط البراءة من العيوب:

فإن قلنا: لا يصح الشراء: فلا شفعة. وإن قلنا: يصح: فيبطل الشرط؛ فهو كما لو اشترى من غير شرط، وإن قلنا: يصح الشراء، ويلزم الشرط: فللشفيع أن يرده على المشتري، ولا رد للمشتري على البائع، وكما لو اشتراه عالماً بالعيب، وأخذه الشفيع، وهو جاهل بالعيب، ثم علم: رده على المشتري، ولا رد للمشتري على البائع. ولو باع الشفيع حصته من العقار، أو رهنه بعد العلم بثبوت الشفعة له: بطلت شفعته، سواء باعه من مشتري الشقص أو من غيره، وإن باعه قبل العلم بثبوت الشفعة، ثم علم: هل تسقط شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل؛ اعتباراً بيوم البيع؛ فإنه كان شريكاً يومئذ. والثاني: تبطل شفعته؛ لأن الشفعة تثبت ابتداءً بقدر ما بقي له من الشرك. ولو اشترى شقصاً مشفوعاً بشرط الخيار- نظر: إن كان الخيار للبائع وللمشتري: لم يكن للشفيع أخذه قبل انقضاء الخيار، سواء قلنا: الملك للبائع أو للمشتري أو موقوف؛ لأنه إذا أخذه: يسقط حق البائع من الفسخ؛ فيتضرر به، وإن كان الخيار للمشتري وحده، فإن قلنا: الملك موقوف أو للبائع: فلا يأخذه. وإن قلنا بظهر المذهب: أن الملك يتبع الخيار: فالملك- ههنا- للمشتري، وهل للشفيع أخذه بالشفعة؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه بيع فيه خيار؛ كما لو كان الخيار للبائع. والثاني- وهو الأصح-: له ذلك؛ لأنه لا حق فيه لغير المشتري، والشفيع يملك إسقاطه؛ كما يسقط حق المشتري بعد لزوم البيع. ولو اشترى شقصاً مشفوعاً بثمن مؤجل: ففيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة-: الشفيع بالخيار، إن شاء عجل الثمن، وأخذ بالشفعة، وإن شاء صبر، حتى يحل الأجل، ثم يأخذه، وليس له أن يأخذه بثمن مؤجل؛ لأن البائع قد رضي بذمة المشتري، والمشتري لم يرض بذمة الشفيع، وبهذا التأخير: لا يبطل حقه؛ لأن له فيه غرضاً، فإن مات الشفيع قبل حلول الأجل: أخذه وارثه، إذا حل الأجل، ولا يحل الأجل بموته؛ لأنه إذا لم يأخذ بالشفعة لا يطالب بشيء. ولو مات المشتري حل عليه الأجل، ولا يكون حلولاً على الشفيع؛ فله أن يؤخر أن

يحل الأجل، وليس للشفيع منع المشتري من التصرف فيه بالبيع وغيره، ولا منع وارثه بعد موته، إذا أخر الشفعة؛ حتى لو باعه المشتري، ثم حل الأجل: فالشفيع بالخيار: إن شاء أخذه بالبيع الثاني، وإن شاء أخذه بالأول. وقال في القديم: للشفيع أخذه بثمن مؤجل؛ كما لو اشتراه؛ فعلى هذا: إذا مات الشفيع بعد أخذه: حل الأجل عليه؛ فالمشتري يطالب بتركته، ولا يحل على المشتري للبائع. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان الشفيع ملياً وفياً-: له أن يأخذه بثمن، وإلا فلا. فصلٌ في تفريق الصفقة في الشفعة إذا اشترى شقصاً مشفوعاً: لم يكن للشفيع أن يأخذ البعض ويترك البعض؛ لأن فيه إضراراً بالمشتري بتفريق الصفقة عليه، فإذا عفا عن البعض: سقط الكل؛ كالقصاص، ولو صالح المشتري على أن يأخذ بعضه: ففيه أقاويل:

أحدها: الصلح جائز؛ لأن المانع من التشقيص حق المشتري، وقد رضي به. والثاني: باطل، وله الخيار بين أن يأخذ الكل أو يترك الكل؛ لأنه لم يعف مطلقاً؛ إنما عفا عن البعض؛ ليأخذ الباقي. والثالث: بطلت شفعته عن الكل؛ لأن تبعيضه لا يجوز، وترك بعضه كترك كله؛ كما لو أعتق بعض عبده: عتق كله. ولو اشترى رجلان شقصاً من رجل: يجوز للشفيع أخذ نصيب أحد المشتريين؛ كما لو ملكا بعقدين. ولو باع رجلاً من رجل شقصاً: هل للشفيع اخذ نصيب أحد البائعين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لما فيه من تفريق الملك على المشتري. والثاني- وهو الأصح، وبه أجاب المزني- رحمه الله-: أنه يجوز؛ لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع؛ كما تتعدد بتعدد المشتري؛ كما في الرد بالعيب. ولو باع رجل شقصين من دارين- نظر: إن كان شفيع كل واحد غير شفيع الآخر: فكل واحد يأخذ شقصه، ولو ترك أحدهما حقه: لا يبطل حق الآخر؛ كما لو كان لأحدهما شفيع دون الآخر: أخذ الشفيع شقصه دون الآخر، وإن كان شفيعهما واحداً: هل للشفيع أن يأخذ أحدهما؟ فيه قولان:

أحدهما- وبه قال أبو حنيفة- ليس له ذلك؛ لأن الصفقة واحدة. والثاني: له ذلك؛ لأنه لا نفع للتبعيض في شيء واحد؛ بخلاف الشقص الواحد: لا يجوز أن يأخذ بعضه. فصلٌ في ميراث الشفعة موت المشتري لا يبطل شفعة الشفيع، ولو مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة، وقبل العفو: إما قبل العلم أو بعده قبل التمكن من الأخذ: تثبت الشفعة لورثته على قدر مواريثهم مناسباً كان الوارث أو من أهل الولاء؛ خلافاً لأبي حنيفة- رحمة الله عليه- حيث قال: لا تورث الشفعة.

وإنما قلنا ذلك؛ لأنه حق لازم تعلق بالمال، فيورث كالرد بالعيب، فلو عفا بعض الورثة عن حقه: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: سقط الكل؛ كالقصاص: سقط كله بعفو بعض الورثة؛ وكما لو عفا الشفيع في حياته عن بعضه: سقط كله. والوجه الثاني- وهو الأصح-: الوارث الآخر بالخيار بين أن يأخذ الكل أو يدع الكل؛ كما لو كان للشقص شفيعان عفا أحدهما: يكون الآخر مخيراً بين أن يأخذ الكل أو يدع الكل. والوجه الاثلث: تسقط حصة العافي، والآخر يأخذ حصته. وذكر صاحب "التلخيص" هذه الأقوال الثلاثة فيما لو كان للشقص شفيعان، فعفا أحدهما، فمن أصحابنا من جعل الأقوال الثلاثة في الشفعة المورثة: أما أحد الشفيعين: إذا عفا: لا يبطل حق الآخر قولاً واحداً؛ لأن الحق ثبت لكل واحد منفرداً. وقيل: لا فرق بين الصورتين، كما في القصاص: لا فرق بين قصاص المورث وبين أن تثبت لجماعة؛ ابتداءً في أن عفو البعض يسقطه؛ وهو: أن يقتل عبد لجماعة، فعفا واحد: سقط كله. والأصح: في الموضعين: أن للثاني أخذ الكل. ولو كانت دار بين ثلاثة؛ لأحدهم نصفها، وللثاني ثلثها، وللثالث سدسها، فباع صاحب النصف نصيبه: ثبتت الشفعة للآخرين، ثم تقسم الشفعة بينهما على عدد الرؤوس

أم على قدر الأنصباء؟ فيه قولان: أصحهما: على قدر الأنصباء؛ لصاحب السدس ثلثه، ولصاحب الثلث تلقاه؛ لأنه وفق الملك؛ فيكون على قدر الملك؛ كنتاج الدابة المشتركة وكسب العبد المشترك، وبه قال الحسن، وابن سيرين وعطاء ومالك- رحمة الله عليهم-. القول الثاني- وبه قال الشعبي والنخعي وأبو حنيفة، واختاره المزني،- رحمة الله عليهم: يقسم على عدد الرءوس؛ لأن الشفعة تثبت بأصل الشركة؛ بدليل أن كل واحد لو انفرد أخذ الكل، وهما في أصل الشركة سواء، فهو كأجرة الصكاك: يقسم على عدد الرءوس. واختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: تقسم الشفعة بين الورثة على عدد رءوسهم أم على قدر مواريثهم؟ فيه قولان؛ كالمسألة الأولى؛ لأنهم ورثوا الحق الذي تثبت به الشفعة لا الشقص؛ فصاروا كالشركاء. والمذهب- ههنا-: أنه يقسم بينهما على التفاوت قولاً واحداً؛ لأنهما يأخذان بجهة الميراث عن الأب، وهما في الميراث يتفاوتان، وقول الشافعي- رضي الله عنه-: "هما سواء"- أراد: في أصل استحقاق الشفعة لا في القدر. هذا إذا مات الشفيع قبل الأخذ، أما إذا مات بعد الأخذ: فلا يختلف القول أني قسم بينهم على فرائض الله تعالى. ولو ورث رجلان داراً من أبيهما، ثم مات أحدهما عن ابنين: صار نصيبه ميراثاً لابنيه، فلو باع أحد الابنين نصيبه: تثبت الشفعة لأخيه وعمه؛ على أصح القولين، وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني- رحمة الله عليهما- كما لو باع العم نصيبه: ثبت لابن الأخ؛ فعلى هذا: يقسم بين الأخ والعم على عدد الرءوس أو على قدر الأنصباء؟ فعلى القولين.

وقال في القديم- وبه قال مالك- رحمة الله عليه-: الشفعة للأخ دون العم؛ لأن الشفعة مبناها على القرب، والأخ أقرب، لأن الأخوين ملكا بسبب واحد، وهو الإرث عن الأب، أما العم فميراثه عن الجد، ولأن للأخ اختصاصاً ليس للعم من حيث إن دين الميت يتعلق بنصيب الأخوين دون العم؛ فلهذا لو عفى الأخ، هل تثبت للعم؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه شريكه. والثاني: لا؛ لأن العقد لم يثبته. ولا يختص القولان بالإرث، بل كل شريكين حصل الملك لهما بجهة، وحصل لشريك الآخر بجهة أخرى، فباع أحد اللذين ملكا بجهة واحدة نصيبه: هل للذي ملك بجهة اخرى شركة في الشفعة؟ فيه قولان؛ مثل إن كانت دار بين رجلين، باع أحدهما نصيبه من رجلين، ثم أحد المشتريين باع نصيبه، هل تثبت الشفعة لهما أم تختص بما اشترى معه؟ فعلى القولين؛ في الجديد- وهو المذهب-: يثبت لهما. فصلٌ [في هل يبطل حق الشركاء في الشفعة إذا عفا واحد منهم] دار بين أربعة نفر، باع واحد منهم نصيبه: ثبتت الشفعة للشركاء، فلو عفا واحد منهم: سقط حقه، ولا يبطل حق الآخرين، على ظاهر المذهب، وليس للآخرين إلا أخذ الكل أو ترك الكل؛ وكذلك: لو عفا اثنان ليس للثالث إلا أخذ الكل أو ترك الكل، ولو جعل بعضهم نصيبه لبعض الشركاء: لم يصح؛ بل يكون لجميعهم؛ لأن ذلك عفو ليس بهبة، فلو كان واحد منهم حاضراً، واثنان غائبان: فالحاضر بالخيار بين أن يأخذ الكل ويترك الكل، وليس له أخذ الثلث؛ لأن صاحبيه إذا حضر ربما لا يأخذان؛ فيتفرق الملك على المشتري، فلو أخر الحاضر أخذه على حضور شريكه: هل يبطل حقه بهذا التأخير؟ فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: يبطل؛ لأنه أخره مع إمكان الأخذ. وقال أبو إسحاق: لا يبطل؛ لأنه أخر لغرض صحيح، وهو خشية أن يقدم الغائب، فينزعه من يده، فإذا أخذ الكل، ثم حضر الثاني: يأخذ منه النصف؛ كما لو لم يكن إلا

شفيع فلو أراد أن يأخذ الثلث، هل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ كما لو لم يجز للأول أخذ الثلث. والثاني: له ذلك؛ لأن الحق: ثبت للشفعاء أثلاثاً. فإذا أخذ هو الثلث: لا نفرق الحق عليهم؛ بخلاف الأول؛ فإنه يأخذه من المشتري، والمشتري ملكه جملة؛ فلا يجوز التفريق عليه، فإذا أخذ الثاني نصف ما في يد الأول، ثم حضر الثالث: أخذ من كل واحد ثلث ما في يده، وإذا أخذ الثاني الثلث: إما على الوجه الذي يجوز أو بالتراضي؛ فإذا حضر الثالث: له أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني، ثم يضمه إلى ما في يد الأول؛ فيقسمان نصفين؛ لأنه يقول: ما من جزء منه إلا ولي ثلثه؛ فيأخذ ثلثه، ويأخذ من الأول نصف ما في يده؛ لأنه مساو له في الحق؛ فللأول أن يشاطره ما أخذ من الثاني؛ فيزداد نصيب الأول والثالث؛ فيأخذ عدداً له ثلث، ولثلثه ثلث، وأقله تسعة؛ أخذ الثاني منها ثلاثة، والثالث يأخذ منه سهماً، من الأول ثلثه، ثم يجعل السهم الذي أخذه من الثاني بينهما، فنقول: سهم واحد لا يستقيم على اثنين بضرب اثنين في تسعة، فتصير ثمانية عشر، أخذ الثاني منها تسعة، ثم أخذ الثالث منها سهمين ومن الأول ستة، واسترد الأول منه سهماً من السهمين؛ فصار لكل واحد سبعة، وللثاني أربعة. ولو حضر منهم اثنان، وأخذا جميع الشقص مناصفة، وقاسما: بأن أتيا الحاكم، حتى أقام قيماً في مال الغائب، فاقتسموا، ثم حضر الثالث، فإن عفا: صحت القسمة؛ وإلا تنقض القسمة، ولو أخذ الأول الكل، وقاسم المشتري، وغرس وبنى في نصيبه، ثم حضر الآخران، هل لهما قلع الأشجار. والبناء مجاناً؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه غرس وبنى في ملكه؛ كالمشتري: إذا قاسم الشفيع، والشفيع غير عالم بثبوت الشفعة له؛ فبنى المشتري في نصيبه، ثم علم الشفيع: لا يقلع بناءه مجاناً. والثاني: يقلع؛ بخلاف المشتري؛ لأن ملكه كان مستقراً عليه، وملك الشفيع الأول غير مستقر؛ لأن الثاني يستحق مثل ما استحق الأول؛ وكذلك: إذا حصلت الزوائد من ثمار النخيل في يد الشريك الأول: هل يسلم له أم يشاركه الثاني والاثلث؟ فيه وجهان: أصحهما: يسلم له؛ كما يسلم للمشتري؛ لأنها حدثت في ملكه. والثاني: لا، بل يشاركه الآخران فيها. ولو كان للشقص شفيعان، وأحدهما حاضر، فعفا الحاضر: فللغائب أخذ الكل،

فلو مات الغائب، والحاضر وارثه: له أخذه بالشفعة، وإن كان قد عفا؛ لأن العفو كان عن حق ثبت له، وهذا أخذ بحق الإرث. فصلٌ في تصرف المشتري في الشقص المشفوع إذا بنى المشتري في الشقص المشفوع، أو غرس، أو زرع قبل علم الشفيع: يقلع مجاناً، لا لحق الشفعة، بل لتركة الشفيع؛ فإن أحد الشريكين إذا بنى أو غرس في الأرض المشتركة بغير إذن شريكه: يقلع مجاناً؛ فلو قاسم المشتري الشفيع، ولم يعلم الشفيع ثبوت الشفعة: له ظنه؛ يقاسم من جهة البائع بوكالته، أو قال له المشتري: أنا أقاسم بوكالته، أو البائع قاسم الشفيع بوكالة المشتري، ظن الشفيع أنه يقاسم من جهة نفسه: فلا تبطل شفعته بهذه القسمة على أحد الوجهين؛ لأن الشركة كانت ثابتة يوم البيع، وتصح القسمة، أو أخبر الشيفع أن الشقص بيع بمائة، فعفا وقاسم فغرس المشتري فيه، وبنى، ثم بان أنه بيع بأقل من مائة، أو كان الشفيع قد غاب، ووكل من يقاسم مع شريكه، أو مع من يشتري من شريكه، فقاسم الوكيل: صحت قسمته، ولا تبطل به شفعة الشفيع؛ ففي هذه المواضع. إذا بنى أو غرس المشتري في نصيبه، ثم علم الشفيع: يجوز له أخذ العرصة بالشفعة، ولم يكن له قلع الغراس والبناء والزرع مجاناً؛ لأن المشتري لم يكن متعدياً فيه، بل يترك الزرع إلى الحصاد، ويتخير الشفيع في الغراس والبناء بين أخذ الأشياء الثلاثة، إن شاء أقرها بالأجرة، وإن شاء قلعها وضمن أرش النقصان، وإن شاء تملكها بقيمة اليوم. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يقلع البناء والغراس مجاناً دون الزرع. ولو تصرف المشتري في الشقص المشفوع- نُظر: إن تصرف تصرفاً تثبت فيه الشفعة؛ بأن باعه قبل علم الشفيع أو ولى البيع رجلاً، أو أصدقه امرأته، أو كانت امرأة اختلعت نفسها عليه واستأجرته شيئاً: فالشفيع بالخيار، إن شاء فسخ العقد الثاني، وأخذ بالأول، وإن شاء أخذ بالعقد الثاني، فإذا أخذ بالأول: لم يكن له فسخ النكاح، إن كان المشتري قد أصدقها، وإن كان المشتري الثاني قد غرس فيها: لا يقلع غراسه مجاناً؛ كما ذكرنا في المشتري الأول. ولو أجره المشتري أو وهبه، أو رهنه، أو وقفه: فللشفيع فسخ هذه العقود، وأخذه بالشفعة، بخلاف ما لو باع عبداً بثوب، فأجر المشتري العبد، ثم وجد البائع بالثوب عيباً، ورده: لا يثبت له فسخ الإجارة، لأن حقه ثبت بالإطلاع على العيب، والإجارة كانت سابقة عليه، وحق الشفيع ههنا كان ثابتاً يوم الإجارة؛ فكان له فسخها. ولو اشترى شقصاً، وقبل علم الشفيع، تقايلا: فإن قلنا: الإقالة بيع: فالشفيع

بالخيار؛ إن شاء أخذ بالأول، وإن شاء أخذ بالثاني، وإن قلنا: فسخ، هل له رد فسخه؟ فيه وجهان؛ كما لو رد الشقص بالعيب، ثم علم الشفيع، هل له رد فسخه؟ فيه وجهان. أما إذا عفا الشفيع، ثم تقايلا: إن قلنا: الإقالة بيع: تتجدد له الشفعة، وإن قلنا: فسخ، فلا. ولو عفا الشفيع، ثم المشتري ولى البيع رجلاً: تتجدد للشفيع الشفعة؛ لأن التولية بيع جديد. فصلٌ فيما إذا باع في مرض موته إذا باع في مرض موته شقصاً يساوي ألفين، بألف لا مال له سواه: فقد حابى بنصف ماله، فإن أجاز الوارث: صح البيع في الكل، ثم الشفيع كم يأخذ منه؟ هذا يبنى على أن إجازة الوارث تنفيذ لما فعله الموصي أو ابتداء تمليك منه؟ وفيه قولان: إن قلنا: تنفيذ لما فعله الموصي: أخذ الكل بالألف، وإن قلنا: ابتداء تمليك من الوارث: فلا شفعة للشفيع في القدر الذي أجاز الوارث؛ لأنه ملكه بغير عوض، وكم يأخذ؟ فيه قولان على ما سنذكر في رد الوارث، وإذا رد الوارث الزيادة، ففي كم يصح البيع؟ الصحيح من المذهب: أنا نضم ثلث ماله إلى قدر ما يقابل قيمة الثمن، فيصح في قدره البيع؛ فيكون البيع صحيحاً في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. والثاني: يصح البيع في ثلثه بثلث الثمن؛ لأنه لا يجوز أن يبطل البيع في شيء من الشقص إلا ويسقط بإزائه من الثمن، فإذا رددنا البيع في الزيادة على الثلث: هل تصح في الباقي؟ ذكر صاحب "التلخيص" في الباقي قولين؛ بناءً [على] تفريق الصفقة. والمذهب: أن العقد يصح في الباقي قولاً واحداً، لأن الوصية تصح على وجه لا تصح المعاوضة به. فإن قلنا: البيع في الكل باطل: فلا شفعة، وإن قلنا: يصح في الباقي: في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن أخذه الشفيع به وإن قلنا: يصح في الثلثين بثلثي الثمن: أخذه الشفيع به على القولين جميعاً [و] ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع المبيع، فإذا فسخ البيع، ثم جاء الشفيع؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل شفعته.

والثاني: له فسخه، وأخذه من البائع. أما إذا جاء الشفيع قبل الفسخ، فأراد الشفيع الأخذ، وأراد المشتري الفسخ: فيه قولان: أحدهما: ليس للمشتري الرد؛ لما فيه من إبطال حق الشفيع وقصده من الرد الخلاص منه، وقد تخلص منه بأخذ الشفيع. والثاني: للمشتري الرد، وبطلت الشفعة؛ لأن الشفيع يأخذ بعد استقرار العقد، وههنا: لم يستقر العقد إذا كان المشتري بفسخه، هذا إذا كان المشتري والشفيع جميعاً أجنبيين. أما إذا باع شقصاً يساوي ألفين، بألف، في مرضه، والمشتري وارثه: فإن قلنا في المسألة الأولى: إن البيع يصح في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن: فههنا: يصح البيع في نصفه بجميع الثمن؛ لأن المحاباة مردودة مع الوارث، ويأخذ الشفيع به، وهذا هو الأصح، وعلى القول الآخر: البيع باطل في الكل؛ لأنه لا يجوز أن يبطل البيع في شيء إلا ويسقط بقدره من الثمن، فما من جزء يصح فيه البيع إلا ويكون بعضه محاباة، والمحاباة مع الوارث مردودة، فإن قلنا بالأول: إنه يصح البيع في نصفه بجميع الثمن: فإن لم يأخذ الشفيع: فللمشتري فسخ البيع، وإن أراد الشفيع الأخذ، والمشتري الأخذ: فأيهما أولى؟ فعلى القولين، فأما إذا كان الشفيع وارثاً للبائع، والمشتري أجنبي: ففيه خمسة أوجه: أصحهما: يصح البيع في الجميع، ويأخذ الشفيع بالألف؛ كما لو كان الشفيع أجنبياً؛ لأن البائع حابى مع المشتري، والمشتري أجنبي منه، ثم الشفيع يتملك على المشتري، وهو أجنبي منه: فإن خرج من الثلث أخذ به الشفيع، وإن لم يخرج، ولم يجز الوارث: ففي كم تصح؟ فعلى ما ذكرنا من القولين. والوجه الثاني: إن ترك الشفيع الشفعة: صحت المحاباة مع المشتري؛ كما في المسألة الأولى، وإن لم يترك: فهو كما لو كان المشتري وارثاً: يصح البيع في نصف الشقص بجميع الثمن، على أصح القولين. والوجه الثالث: لا تجوز المحاباة بحال؛ فلا يصح الشراء إلا في نصف الشقص بجميع الثمن؛ على أصح القولين، وفي الباقي باطل.

والوجه الرابع: يصح الشراء في الكل، ثم الشفيع يأخذ النصف بجميع الثمن، ويبقى الباقي للمشتري بلا عوض؛ فتكون المحاباة للمشتري، وهو غير وارث. والوجه الخامس: يصح البيع، ولا شفعة؛ لأن في إثبات الشفعة إبطال البيع، وفي إبطال البيع إبطال الشفعة وما جر ثبوته إلى سقوط أسقط أصلاً. وفيه وجه آخر: أن البيع باطل، لأنه لو صح لثبتت الشفعة، وكان محاباة مع الوارث. فصل [فيما لو أصدقها شقصاً مشفوعاً] إذا أصدق امرأته شقصاً مشفوعاً، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، أو ارتد- ونعوذ بالله- نظر: إن طلقها أو ارتد بعد أن أخذ الشفيع الشقص: رجعت الزوجة عليه بنصف قيمته، ولا حق له في الشقص، وإن طلقها قبل علم الشفيع: أخذ نصفه، ثم إذا جاء الشفيع يأخذ النصف الباقي بنصف مهر المثل: فهل له أن يأخذ النصف الذي أخذ الزوج؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو باع شقصاً بثوب، ثم وجد بالثوب عيباً، ورده واسترد الشقص، ثم جاء الشفيع: هل له أخذه من البائع؟ فيه وجهان. وإن طلقها قبل أخذ الشفيع، وقد جاء الشفيع: فالشفيع يأخذ النصف وفي النصف الآخر الزوج أولى أو الشفيع؟ قال أبو إسحاق: الزوج أولىز وقال ابن حداد- فيما لو باع شقصاً، فأفلس المشتري بالثمن، فأراد البائع فسخ البيع، وجاء الشفيع يريد أخذه: إن الشفيع أولى. اختلف أصحابنا فيه؛ منهم من جعل فيها وجهين: أحدهما: الزوج والبائع أولى؛ لأن حقهما بسبب الملك السابق. والثاني- وهو الأصح-: الشفيع أولى؛ لأن حقه يبطل، لو قدمنا الزوج والبائع، وإذا قدمنا الشفيع: لا يبطل حق الزوج عن القيمة، وحق البائع عن الثمن، وهل هذان الوجهان مبنيان على ما لو باع الشفيع نصيبه قبل أن يعلم ثبوت الشفعة له: هل تبطل شفعته؟ فيه قولان، ومنهم من فرق بينهما، وقال: الزوج أولى من الشفيع؛ لأنه ثبت له بالطلاق حقيقة الملك بالنص، وهو قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]،

والشفيع يثبت له حق التملك، فتقدم حقيقة الملك على حق التملك، وفي الإفلاس: الشفيع والبائع لكل واحد منهما حق التملك، وحق الشفيع أسبق؛ لأنه ثبت بالبيع، وحق البائع ثبت بالإفلاس؛ فكان الأسبق أولى. فإن قلنا: الشفيع أولى من الإفلاس: يؤخذ الثمن منه، ويكون بين الغرماء. وقال ابن سُريج: الشفيع أولى أن يؤخذ منه الثمن، ويدفع إلى البائع؛ مراعاة للحقين جميعاً؛ وعلى هذا: لو وجد المشتري بالشقص عيباً، وأراد رده، وجاء بالشفيع يريد أخذه، أو وجد بائع الشقص بالثمن عيباً يريد فسخ البيع، والشفيع يريد أخذه، أيهما أولى: فعلى قولين؛ وكذلك: لو اشترى شقصاً بثوب، فقبض الشقص قبل تسلم الثوب: جاز للشفيع؛ فعلى الشفيع قيمة الثوب للمشتري، وعلى المشتري قيمة الشقص للبائع. ولو تلف الثوب قبل أخذ الشفيع: فهل تبطل الشفعة أم للشفيع أخذه؟ فعلى هذين الوجهين. فصلٌ في شفعة الصبي إذا بيع شقص، وشفيعه صبي؛ فإن كانت الغبطة للصبي في أخذه: يجب على وليه أن يأخذه، وإن لم يأخذ: عصى، وإن عفا: لا يصح عفوه، فإذا بلغ الصبي: له أخذه، وإن لم يكن فيه غبطة: ليس له أخذه؛ فإن أخذه فباطل، وإذا بلغ الصبي: فالمذهب: أن ليس له أن يأخذه؛ لأن العقد لم يثبت الشفعة.

وقيل: له أخذه. ولو كان بين رجلين دار فمات أحدهما عن حمل في البطن، ثم باع الآخر نصيبه: فلا شفعة للحمل؛ لأنه لا يتحقق وجوده، وإن خرج حياً، بخلاف ما لو ثبتت الشفعة لرجل، فمات قبل الآخر عن حمل يخرج حياً: له الشفعة؛ لأن الشفعة تثبت لحي حقيقة؛ كالرد بالعيب: يثبت للحمل بطريق الإرث. ولو مات أحد الشريكين عن امرأة حامل، ثم باع الآخر نصيبه: ثبتت الشفعة للمرأة دون الحمل. ولو خرج حياً: ليس لوليه أن يأخذ شيئاً من المرأة.

وإذا ثبتت الشفعة للحمل إرثاً: فهل يجوز لأبيه أو لجده أن يأخذه له قبل خروجه؟ فيه وجهان: قال ابن سريج: لا يجوز؛ لأنه لا يدري وجوده، ولو كان بين المكاتب وسيده عقار، فأيهما باع نصيبه: تثبت للآخر الشفعة؛ كما لو كان بين المكاتب وأجنبي، وإذا دفع المكاتب إلى مولاه شقصاً عن نجم عليه، ثم عجز، ورق: هل للشفيع شفعة في الشقص؟ فيه وجهان: أحدهما: لا شفعة له؛ لأن ماله صار للمولى بالعجز؛ لحق الملك، لا بالمعاوضة، ولا شفعة فيما ملك بغير معاوضة. والثاني: ثبت؛ لأن ملكه بعوض، وتثبت فيه الشفعة؛ فلا تسقط بالفسخ بعده. ولو كانت ضيعة، بعضها مملوك، وبعضها موقوف، فباع المالك نصيبه: لا تثبت الشفعة للموقوف عليه؛ لأن الموقوف عليه لا ملك له بل الملك في الوقف إلى الله تعالى. وإن قلنا: الملك في الوقف للواقف أو للموقوف عليه: فليس بحقيقة ملك؛ بدليل أنه لا يملك التصرف فيه. وقيل: تثبت الشفعة للموقوف عليه؛ لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك. وأما إذا كان الشقص ملكاً للمسجد؛ بحيث يجوز للقيم بيعه: ثبتت الشفعة لقيم المسجد يأخذه للمسجد، إن رأى المصلحة فيه، وإن باع هو نصيب المسجد: فلشريكه الشفعة. أما إذا كان بين رجلين أرض، فوقف أحدهما نصيبه: لا شفعة للآخر؛ لأنه لم يصر للغير بعقد معاوضة؛ كما لو وهب نصيبه: لا شفعة للشريك. وتثبت الشفعة للذمي على المسلم، وللمسلم على الذمي.

ولو باع ذمي من ذمي شقصاً بخمر، او خنزير: فلا شفعة له فيه، وإن كان الشفيع ذمياً: فحكم حاكمهم بالشفعة، ثم أسلموا: لا يتعرض لهم، وإن أسلموا، أو ترافعوا إلينا قبل الأخذ: يجب على حاكمنا رده. ولو بيع شقص، فارتد المشتري، ومات، أو قتل: صار ماله فيئاً، وللشفيع أخذه من الإمام. ولو ارتد الشفيع، فمات أو قتل: أخذه الإمام لبيت المال، وكذلك: لو اشترى شيئاً بشرط الخيار، أو به عيب، فارتد. وقيل: للإمام فسخه بالخيار والعيب. ولو أوصى لرجل بشقص، ثم باع الشريك الآخر نصيبه: فالشفعة لمن تكون؟ نُظر: إن باع قبل موت الموصي: فتثبت للموصي، وإن لم يعلم الموصي حتى مات، وقبل الموصى له الوصية: فلا شفعة للموصى له، وهل تثبت لوارث الموصي بحكم الميراث عن الميت؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو باع الشفيع شركة قبل العلم بالشفعة، هل تسقط الشفعة؟ فيه قولان. أما إذا باع الشريك نصيبه بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له، فتثبت الشفعة للموصى له، وإن باع بعد موته قبل قبول الموصى له: فإن قلنا: يملك الموصى له بالموت، أو يكون موقوفاً: فإن قبل: بان أنه ملك بالموت، فإذا قبل: فله الشفعة، وإن قلنا: يملك بالقبول: فلا شفعة له، وهل تثبت لورثة الموصي؟ فعلى الوجهين.

وإن اشترى القيم للطفل شقصاً، وللقيم فيه شرك: يجوز له أن يأخذه بالشفعة؛ وكذلك: لو كان بين رجلين دار، فوكل رجل أحدهما؛ ليشتري له نصيب شريكه، فاشترى: تثبت للوكيل الشفعة؛ وكذلك: لو ضمن الشفيع العهدة للمشتري، أو باع بشرط الخيار، وجعل الخيار إلى الشفيع، فأجاز: لا تبطل به شفعته. أما إذا باع الوصي والقيم شقصاً للصبي، وللقيم فيه شرك: هل تثبت الشفعة له؟ فيه وجهان؛ وكذلك: لو وكل أحد الشريكين صاحبه ببيع نصيبه، فباعه: هل تثبت للوكيل الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: تثبت؛ كما تثبت للوكيل بالشراء. والثاني- وهو الأصح، وبه قال ابن حداد: لا تثبت لا للقيم ولا للوكيل بالبيع؛ لأنه ربما يحابي ويترك نظر الصبي والموكل؛ ليأخذه بالشفعة؛ كما لا يجوز للوكيل أن يبيع من نفسه، حتى لو وكله ببيع نصف نصيبه، فباع الوكيل نصف نصيب الموكل، مع نصف نصيب نفسه: فللموكل أخذ نصف نصيب الوكيل، ولم يكن للوكيل أخذ نصف نصيب الموكل؛ على الأصح. ولو مات رجل، وخلف شقصاً من دار ديوناً تستغرق التركة، وقبل بيع الشقص في الدين: باع الشريك الآخر نصيبه: يثبت للوارث الشفعة؛ لأن الشقص المتروك ملكه قبل أن يباع في الدين؛ بدليل أنه يجوز له إمساكه وأداء الدين من موضع آخر. ولو مات، وخلف داراً وديوناً تحيط ببعضها، فبيع بعض الدار في الدين: فلا شفعة للوارث؛ لأجل حقهم في الباقي؛ لأن الدار نفع على ملكهم؛ وكذلك: لو بيع بعضه في وصايا الميت: فلا شفعة لورثته بما بقي لهم. ولو كانت الدار بينهم وبين أبيهم، ثم مات الأب، فبيع نصيبه في دينه، أو في وصاياه: هل لهم أخذه بالشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس لهم ذلك؛ لأن جميع الدار صار لهم ملكاً بالموت، فبيع بعضها على ملكهم؛ كما في الصورة الأولى. والثاني- وبه قال أحمد بن حداد: لهم أخذه بالشفعة؛ لأجل ملكهم فيها؛ لأن

ما يباع في الدين: ففي الحكم كالباقي على ملك الميت. ولو باعه الأب في حياته في دينه: كان لهم الشفعة، كذلك: إذا بيع بعد موته في حاجته. ولو كانت دار بين ثلاثة، فباع واحد منهم نصيبه من أحد شريكيه: ثبتت الشفعة للشريك الثالث، وهل تثبت للمشتري أم لا؟ الصحيح من المذهب- وهو قول المزني-: أنه تثبت؛ لأنه أحد الشريكين؛ فتكون بينهما نصفان. وقال ابن سريج: لا شفعة للمشتري؛ لأن الإنسان لا تثبت له الشفعة على ملك نفسه، بل للشريك، إن شاء أخذ الكل، وإن شاء ترك الكل. والأول أصح، وليس للمشتري أن يقول للشريك الثالث: إما أن تأخذ الكل أو تدع الكل؛ لأنه يقول له: تملكك بالشراء أقوى من تملكك بالشفعة، ولو ثبت لك حق الشفعة معي: لم يكن لك إلزامي أخذ نصيبك، فإذا تملكت بالشراء أولى؛ فالمشتري إذا ترك حقه؛ لا يجبر الشريك على أخذ نصيبه، وإذا ترك الشريك الثالث شفعته: لزم المشتري؛ لأنه اختار تملكه بالشراء. وعلى هذا: دار بين رجلين باع أحدهما نصف نصيبه من رجل، ثم باع النصف الثاني قبل علم الشفيع- لا يخلو: إما أن باع النصف الثاني من غير المشتري الأول، أو باعه منه، فإن باعه من غير الأول: فإذا جاء الشفيع: له أخذ النصف الأول، فإذا أخذه، ثم أراد أخذ النصف الثاني: هل يكون المشتري الأول معه شريكاً فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا؛ لارتفاع شركه. والثاني: بلى؛ لأنه كان شريكاً فيه حالة بيع نصف الثاني، أما إذا عفا الشفيع عن النصف الأول، وأراد أخذ النصف الثاني: فالمشتري الأول يكون شريكاً معه فيه. أما إذا باع النصف الثاني من المشتري الأول، ثم جاء الشفيع: فعلى قول ابن سريج: لا شفعة للمشتري، سواء عفا عن النصف الأول أو لم يعف؛ فالشفيع بالخيار، إن شاء أخذ الكل، وإن شاء عفا عن أحدهما وأخذ الآخر. وعند المزني- وهو الأصح-: حكمه حمك ما لو باع من أجنبي، فإن عفا الشفيع عن النصف الأول: كان المشتري شريكاً معه في النصف الثاني، وإن لم يعف، وأخذ النصف الأول، هل يشاركه المشتري في النصف الثاني فعلى وجهين؛ كما لو كان المشتري الثاني غير الأول.

فصلٌ في الاختلاف وإذا اختلف الشفيع والمشتري، فقال المشتري: اشتريت الشقص بألف، وقال الشفيع: بل بخمسمائة: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الشقص ملكه، وهو أعرف به، وكذلك: لو اشترى الشقص بعرض، وتلف العرض، واختلفا في قيمته: فالقول قول المشتري مع يمينه، فإذا حلف: فالشفيع، إن شاء أخذه بما حلف عليه المشتري، وإن شاء تركه، وإن نكل المشتري حلف الشفيع وأخذ بخمسمائة. ولو أقام أحدهما بينة: قضي له بها، ولو شهد البائع لواحد منهما- نُظر: إن شهد للمشتري: لا يُقبل؛ لأن المشتري- وإن كان مقراً له بتلك الزيادة- فهو يثبت المال لنفسه، وإن شهد للشفيع: يقبل؛ لأنه يبخس بحقه. وقيل: إن شهد قبل قبض الثمن: يُقبل، وإن شهد بعده: لا يُقبل؛ لأنه متهم من حيث إنه لو خرج مستحقاً لا يرجع عليه إلا بخمسمائة، والأول أصح، وتهمة الاستحقاق تهمة موهومة ضعيفة لا تمنع الشهادة. ولو وقع الاختلاف بين البائع والمشتري، فقال البائع: بعته بألف، وقال المشتري: بل بخمسمائة: تحالفا، ويفسخ العقد بينهما، ثم إن كان تحالفهما بعد أخذ الشفيع الشقص: صح أخذه بالثمن الذي أقر به المشتري، ويأخذ البائع من المشتري قيمة الشقص، وإن كان قبل أخذ الشفيع: فهل للشفيع أخذه؟ فيه وجهان كما لو أن رجلين اشترياه بعقدين، يدعي كل واحد على صاحبه أني اشتريت نصيبي قبلك، وأنت اشتريت بعدي، ولي عليك الشفعة: يحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه؛ فإن حلفا أو نكلا: فلا شفعة لأحدهما على الآخر، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر: قضي للحالف بالشفعة على الآخر. بيانه: سبق أحدهما وادعى، فحلف المدعى عليه: استقر ملكه، وإن نكل الأول، وحلف المدعي: استحق ما في يد صاحبه، وإذا أراد الناكل أن يدعي بعده على الآخر: لم يسمع؛ لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة. ولو أقام أحدهما البينة: قضى له. ولو أقاما بينتين- نُظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين: قضى للسابق وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد: فقد تعارضتا: إن قلنا: يسقطان: فيصار إلى الثمن، وإن قلنا: يستعملان: فلا يأتي قول الوقف ولا قول القسمة؛ لأن الدار في أيديهما، ويقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة: يقضي له. ولو كانت دار بين أربعة نفر، فباع واحد منهم نصيبه: ثبتت الشفعة للشركاء الثلاثة.

فلو شهد اثنان منهم أن الشريك الثالث قد عفا عن الشفعة: هل يسمع؟ نُظر: إن شهدا بعد عفوهما: تُقبل شهادتهما؛ لأنهما لا يجران نفعاً إلى أنفسهما، وإن شهدا قبل العفو: لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران نفعاً إلى أنفسهما، وهو أنه يسلم لهما جميع الشقص، وإن شهدا بعد عفو أحدهما: قُبلت شهادة العافي، ولا تقبل شهادة الآخر، فيحلف المشتري مع الشاهد الواحد، ويثبت العفو. ولو شهدا قبل العفو، فردت شهادتهما، ثم أعادا بعد العفو: لا يقبل؛ كالفاسق يعيد الشهادة بعد التوبة: لا يقبل، والله أعلم.

كتاب القراض

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القراض روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه: "دفع مالاً قراضاً على النصف". القراض: أن يدفع شيئاً من أحد النقدين على إنسان؛ ليتصرف فيه على أن ما يرزق الله تعالى من الربح يكون بينهما على ما يتشارطان. وذلك جائز بالاتفاق. ويجوز بلفط "القراض"، وهو لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز، وبلفظ

"المضاربة" وهي لغة أهل العراق، وبكل لفظ يدل على معناه. ولا يجوز إلا على الدراهم والدنانير؛ لأنهما ثمنان للأشياء في كل مكان وزمان، وقل ما يختلفان، ولأن موضوع القراض على أن يرد العامل رأس المال، ويشتركان في الربح؛ فلا يأخذ العامل شيئاً من رأس المال، ولا يستبد أحدهما بالربح. وإذا عُقد على عرض- فلا يخلو عن أحد هذين. بيانه: إذا دفع إليه عرضاً قيمته دينار، فتصرف فيه، وربح عليه عشرة، وارتفعت قيمة العرض، فبلغت عشرة: يحتاج العامل إلى أن يصرف جميع الربح في تحصيل رأس المال؛ فيأخذ المالك جميع الربح، وفيه إضرار بالعامل. وإن كانت قيمة العرض عشرة، فانتقصت قيمته بحيث يوجد مثله بشيء يسير، فيشتريه ويرده، ويشارك رب المال في الباقي، فيأخذ العامل بعض رأس المال، وفيه إضرار برب المال، وهذا لا يوجد في الأثمان؛ لأنها لا تقوم بغيرها. ولا يجوز على التبر والحلي ولا السبائك ولا الفلوس ولا على الدراهم والدنانير المغشوشة؛ لأنها نقد وعرض؛ فتزيد قيمتها: وتنقص فهي كالسلعة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: يجوز على النقد المغسوس في كل بلد جرت المعاملة بها. ويشترط أن يكون رأس المال معلوم الوصف والوزن؛ فإن كان جزافاً: لم يجز؛ بخلاف رأس مال السلم: يجوز أن يكون جزافاً؛ على أحد القولين؛ لأنه لا يعقد للفسخ؛ وعقد القراض يعقد للفسخ والتمييز بين رأس المال والربح، وإن كان جزافاً: لا يمكن التمييز. وكذلك: لو جعل رأس مال القراض سكنى دار: لم يجز، بخلاف السلم؛ لأن تعيين رأس مال القراض شرط، ولم يوجد، وفي السلم: تسليم رأس المال شرط، وتسليم الدار كتسليم السكنى. ولو قارضه على دراهم في الذمة، ثم عين في المجلس: لم يجز؛ بخلاف السلم. ولو دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم، فقال: قارضتك على أحدهما، وأودعتك الآخر- فيه وجهان:

أحدهما: لا يصح؛ لأنه لم يبين مال القراض. والثاني: يصح؛ لأنهما متساويان، فيصرفه في أيهما شاء. وكذلك: لو دفع إليه ثوباً فقال: بعتك وقارضتك على ثمنه- لم يجز؛ لأنه مجهول. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- يجوز. وكذلك: لو قال: قارضتك الألف التي عليك، أو قال: اعزلها، فلما عزلها، فقبل أن يقبضه قال: قارضتك عليها، أو قال: قارضتك على الألف التي لي على فلان، فاذهب واقبض: لم يجز، فإذا قبض من فلان، وتصرف فيه: فالربح والخسران لرب المال، وللعامل أجر المثل، ثم إن قال: قارضتك عليه؛ لتقبض وتتصرف: فله أجر مثل التقاضي والقبض والتصرف. وإن قال: إذا قبضت فقد قارضتك: فليس له إلا أجر مثل التصرف، وما أخذ من فلان يكون أمانة عنده. أما إذا قارضه الدين الذي عليه، فعزله، وتصرف فيه- نُظر: إن اشترى بعينه: فالربح والخسران للعامل، ونيته أن يشتري للغير: لا تصح؛ لأنه اشترى بعين مال نفسه، وإن اشترى في الذمة، ثم نقد فيه ما عزله لرب الدين: فيه وجهان: أحدهما: يقع للعامل؛ لأنه لا حق فيه لرب المال قبل القبض. والثاني- وهو الأصح: يقع لرب المال؛ فالربح والخسران له، وعليه للعامل أجر المثل؛ لأنه اشترى له بإذنه. ولو قال: قارضتك الدراهم التي هي عندك وديعة، أو عند فلان وديعة، فاذهب، وخذ، فأخذ: صح. ولو قارضه على الدراهم التي هي عنده مغصوبة: فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ كالوديعة. والثاني: لا يصح؛ لأنه مقبوض قبض ضمان، والقراض ضده. وإذا قال: قارضتك على كذا: يشترط القبول، ولو قال: خذ هذا، وتصرف على أن الربح بيننا نصفان: فهو قراض، ولا يحتاج إلى القبول. ويجب أن يبين في القراض نصيب العامل من الربح؛ فإن قارضه مطلقاً، ولم يتعرض

للربح، أو قارضه على أن يكون له شيء من الربح: لم يصح. ويصح تصرف العامل فيه؛ لوجود الإذن، والربح والخسران لرب المال، وعليه للعامل أجر مثل العمل، ربح أو لم يربح. ولو قال: قارضتك على أن الربح بيننا نصفان: صح، وإن قال: "بيننا" ولم يقل: "نصفان": فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ ويكون مناصفة. والأصح: أنه لا يصح؛ لأنه لم يبين ما يكون لكل واحد منهما. ولو قال: قارضتك على أن لك نصف الربح، ولم يتعرض للباقي: صح، ويكون الباقي لرب المال، ولو قال: على أن نصف الربح، ولم يتعرض للباقي: ففيه وجهان: أحدهما- قاله ابن سُريج: يصح، ويكون للعامل كما في الصورة الأولى. والثاني- قاله المزني، وهو الأصح-: لا يصح؛ بخلاف الصورة الأولى، إذا قال: على أن لك نصف الربح: صح؛ لأن عند الإطلاق: جميع الربح يكون لرب المال، فإذ شرط النصف للعامل: بقي الباقي لرب المال، وإذا أضاف البعض إلى نفسه: لا يدل على أن الباقي يكون للعامل. ولو قال: قارضتك على أن لك من الربح ما شرط فلان لفلان- نُظر: إن كانا عالمين بما شرط فلان لفلان: صح على ذلك، وإن كانا جاهلين به أو أحدهما: لا يصح؛ كما لو قال: بعتك هذا الثوب بما باع فلان ثوبه، فإن كانا عالمين به، جاز، وإن جهل أحدهما: لم يجز. ولو قال: قارضتك على أن لك ثلث الربح، وأن الباقي ثلثاه لك، وثلثه لي: صح الربح. ولو قال: قارضتك على أن لك ربح نصف المال. قال أبو ثور: يجوز كما لو قال: لك نصف ربح المال. والمذهب أنه لا يجوز؛ لأنه جعله شريكاً في ربح بعض المال؛ كما لو دفع إليه كيسين؛ ليتصرف فيهما؛ على أن له ربح ما في أحد الكيسين، أو دفع إليه ألفين على أن له ربح أحد الألفين: لا يصح [كما] لو أعطى إليه ألفاً؛ على أن يكون له ربحها على أن يتصرف له في ألف أخرى: لا يصح.

ولو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي: ففيه وجهان: أصحهما- قراض فاسد، مراعاة للفظ؛ فعلى هذا: يكون الربح والخسران لرب المال، وهل يستحق العامل أجر المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن عمل العامل في القراض لا يخلو عن عوض. والثاني: لا، وهو قول المزني؛ لأنه عمل مجاناً. والوجه الثاني: لا يكون هذا قراضاً؛ بل هو بضاعة لرب المال؛ فيكون الربح والخسران لرب المال، ولا شيء للعامل، فلو قال: على أن جميع الربح لك: ففيه وجهان: أحدهما: فراض فاسد؛ مراعاة للفظ، وللعامل أجر المثل إذا عمل، والربح والخسران لرب المال. والثاني- وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: هو قرض صحيح؛ مراعاة للمعنى؛ بخلاف المساقاة، إذا قال للعامل: على أن جميع الثمر لك-: لم يصح وجهاً واحداً؛ لأنه لا يمكن أن يجعل قرضاً. ولو قال: أبضعتك هذه الألف على أن الربح لك، فإن راعينا اللفظ، فهو بضاعة؛ فالربح لرب المال، وللعامل أجر المثل؛ لأن رب المال جعل له شيئاً بإزاء عمله، وإن راعينا المعنى: فهو قرض صحيح. ولو قال: أبضعتك على أن نصف الربح لك: فوجهان: أحدهما: بضاعة، والربح لرب المال، وللعامل أجر المثل. والثاني: قراض صحيح؛ مراعاة للمعنى. ولو قال: خذ هذه الألف، وتصرف فيها، أو اشتر بها شيئاً؛ على أن الربح لك: فهو قارض صحيح، وكان شيخي- رحمه الله-: يقول: ليس هذا بقراض؛ لأنه لم يملكه المال، والربح والخسران لرب المال، وللعامل أجر المثل. ولو قال: تصرف فيها، والربح كله لي: فهو بضاعة. وأصل هذه المسائل: إذا قال: بعتك هذا بلا ثمن، أو قال: بعتك، ولم يقل: بكذا: فهل هو بيع فاسد أو هبة صحيحة؟ فيه وجهان.

ولو قال: قارضتك على أن لك درهماً من الربح، والباقي بيننا نصفان، أو قال: على أن لي درهماً من الربح، والباقي بيننا نصفان، أو قال: على أن لي درهماً من الربح، والباقي بيننا نصفان: لا يصح؛ لأنه ربما لا يربح أكثر من درهم، أما إذا قال: على أن لك سدس الربح، أو قال: لي سدس الربح، والباقي بيننا نصفان: يصح؛ كما لو قال: بعتك سدس هذه الصبرة، ونصف الباقي بكذا: جاز، بخلاف ما لو قال: صاعاً من هذه الصبرة، ونصف الباقي: لا يصح؛ لأجل الجهالة. ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه بأن شرط أنه إن اشترى عبداً- أخذه برأس المال، أو أخذه العامل بحقه: لم يصح؛ لأنه قد لا يكون في المال فائدة إلا العبد. ولو قال: قارضتك على أن ثلث الربح لك، وثلثه لي وثلثه لعبدي، أو لمدبري، أو لأم ولدي: جاز؛ فكأنه شرط لنفسه الثلثين؛ لأن ما أضاف إلى عبده: يكون له؛ لأن العبد لا يملك؛ وكذلك: لو شرط لعبد العامل: جاز، وهو للعامل. ولو قال: ثلثه لك، وثلثه لي، وثلثه لزوجتي، او لمكاتبين أو لابني: لا يصح؛ لأنه شرط الربح لغير المالك والعامل؛ كما لو شرط لأجنبي؛ فلو شرط على المكاتب، أو على الابن عملاً، وشرط لهم شيئاً من الربح: صار وكأنه قارض رجلين. ولو قال: نصف الربح لك، ونصفه لي ومن نصيبي نصفه لزوجتي: جاز، وهو وعد من جهته للزوجة أن يعطيها شيئاً؛ فإن شاء وفى، وإن شاء لم يف. ولو قارض رجلان رجلاً على ألف، فقالا: قارضناك على أن نصف الربح لك، والباقي بيننا بالسوية: جاز. ولو قالا: على أن لك الثلث من نصيب أحدنا والربع من نصيب الآخر. إن لم يبينا. لم يجز وإن بينا نُظر: إن لم يقولا: الباقي بيننا: صح ويكون الباقي من نصيب كل واحد له. فإن قالا: الباقي بيننا: لا يصح؛ لأنه يبقى لمن شرط للعامل الثلث أقل؛ فلا يكون الباقي بينهما سواء؛ كما لو قال: ثلث الربح لك، والباقي بيننا أثلاث: لا يصح. ولو دفع إليه ألفاً، وقال: اشتر بها هروياً أو مروياً بالنصف: قال المزني: كان فاسداً؛ لأنه لم يبين، واختلفوا في وجه فساده. الأصح: أن فساده من حيث إنه أطلق له الشراء دون البيع، فعلى هذا يصح شراؤه، ولا يصح بيعه، والربح والخسران لرب المال وعليه، وللعامل أجر المثل.

وقيل: فساده من حيث إنه قال: هروياً أو مروياً، ولم يبين. والأول أصح؛ لأنه جوز له الشراء، وفي هذه الصورة: لا يصح الشراء، أما إذا جعل الاختيار إليه؛ فقال: إن شئت تصرف في الهروي، وإن شئت في المروي: يصح. وقيل: بطلانه من حيث إنه قال: بالنصف، ولم يقل: لي أو لك، وفي صحة مثل هذا وجهان؛ والأصح: جوازه. ويشترط تسليم المال إلى العامل، وتسليطه على التصرف، فإن قال: أنا أعمل معك، أو قال: كلما اشتريت، فأنا أؤدي الثمن: لا يصح، وإن شرط أن يعمل معه غلامه، سواء شرط رب المال على نفسه أو شرط العامل: هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو ظاهر النص-: يجوز؛ كما في المساقاة؛ لأن عبد رب المال ماله؛ فكأنه ضم مالاً إلى مال؛ كما لو أعار منه دابة ليحمل عليها مال القراض، أو بيتاً ليضع فيه المتاع، أو كسباً لينتفع به: جاز؛ وكما لو أعار رب المال غلامه حتى يعمل معه متبرعاً من غير شرط: جاز. والثاني: لا يجوز؛ لأن يد العبد يد المولى؛ كما لو شرط رب المال أن يعمل معه: لم يجز؛ بخلاف المساقاة؛ لأن- ثم- بعض الأعمال على رب المال؛ فجاز شرط عمل الغلام فيه، وفي القراض: لا عمل على رب المال، فإذا شرط عمل الغلام: فكأنه شرط عمل رب المال، والمراد من النص: أن يشترط للغلام شيئاً من الربح، ولم يشترط عليه [العمل؛ فيجوز]. فصلٌ ويشترط أن يعقد القراض مطلقاً لا يقيده بمدة، ولو قيده بمدة، فقال: قارضتك شهراً أو سنة: نص على أنه لا يجوز: فمن أصحابنا من قال: لا يصح؛ كما لا يصح البيع مؤقتاً؛ بخلاف المساقاة: لا تصح إلا مع التأقيت؛ لأن حصول الثمر له وقت معلوم؛ فليس لحصول الربح في القراض وقت معلوم، فإذا قيده بمدة: لا يحصل له المقصود. ومن أصحابنا من قال: إذا قال: قارضتك مدة: فله أقوال: أحدها: أن يقول: قارضتك سنة على أنك بعد مضي السنة لا تبيع، أو قال: لا تبيع ولا تشتري: فهذا لا يصح؛ لأن العامل يحتاج إلى بيع العروض؛ لينض المال، و"يظهر" الربح؛ ففي منعه من البيع إضرار به.

أما إذا قال: على أنك بعد مضي السنة لا تشتري، ولك أن تبيع: فهذا جائز؛ لأن مقتضى القراض أن رب المال يملك منع العامل من الشراء، متى شاء، ولا يملك منعه من البيع؛ لينض المال. ولو قال: قارضتك سنة، ولم يزد عليه: ففي صحته وجهان: الأصح: لا يجوز. وقيل: يجوز؛ ويحمل على أنه لا يشتري بعد السنة. ولا يصح تعليق القراض على شرط في المستقبل؛ مثل: أن يقول: إذا قدم فلان: فقد قارضتك، وإذا جاء رأس الشهر: فقد قارضتك بهذه الألف: لا يصح؛ كما لا يصح تعليق البيع؛ بخلاف الوكالة: جاز تعليقها على أحد الوجهين؛ أن ههنا شرط له ربحاً يحصل بعمله؛ فلا يجوز أن يحجر عليه التصرف في بعض الأزمنة؛ لأن الربح ربما يحصل فيه. ولو قال: قارضتك الآن، فإذا جاء رأس الشهر فتصرف: فقد قيل: يجوز؛ كالوكالة. والأصح: ألا يجوز؛ كالبيع؛ لو قال: بعتك بشرط ألا تملك إلا بعد شهر: لا يصح. ولو قال: قارضتك على أني لا أملك الفسخ قبل شهر: فهو فاسد؛ لأنه بخلاف قضية القراض. وينبغي أن يطلق له التصرف مع من يرى، وفيما يرى من الأموال. ولو قال: قارضتك على ألا تشتري إلا من فلان، أو لا تبيع إلا من فلان، أو لا تشتري إلا برأي فلان: لا يصح؛ لأن مقصود العقد لا يحصل إذا كان ممنوعاً من المعاملة مع كافة الناس، أما إذا قال: على ألا تبيع من فلان، أو قال: لا تشتري من فلان: جاز؛ لأنه أطلق له التصرف مع كافة الناس إلا مع واحد؛ فربما عرف منه ما يكره المعاملة معه. ولو شرط ألا يشتري إلا سلعة بعينها: لم يجز؛ لأنها ربما لا تباع. ولو قال: لا تشتري سلعة عينها، أو عبداً عينه: جاز. ولو قال: على ألا تتصرف إلا في نوع كذا- نُظر: إن كان ذلك عام الوجود شتاءً وصيفاً؛ كالحيوان، والثياب، والحبوب، ونحوها: جاز، وإن كان مما ينقطع؛ كالثمار الرطبة: فلا يصح؛ كما لو قيد القراض بمدة إلا أن يقول: إذا انقطع ذلك، تصرف في نوع

كذا؛ فيجوز؛ وكذلك: لو شرط ألا يتصرف إلا فيما يعز وجوده؛ كالياقوت الأحمر والخيل البُلق وما أشبهها: لا يصح. ولو أذن له أن يتجر في صنف: لا يجوز أن يتجر في صنف آخر. ولو أذن له أن يتصرف في الحنطة: لا يجوز أن يتصرف في الدقيق، ولا في الشعير. ولو أذن له أن يتجر في البز: جاز أن يتصرف في أصناف البز المنسوج من القطن والإبريسم والكتان، وما يلبس من الأصواف؛ لأن اسم البز يقع على الكل. ولا يجوز في البسط والفرش، وهل يجوز في الأكسية؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه يلبس. والثاني: لا؛ لأنه لا يقال لبائعه: بزاز، بل يقال: كسائي. ولو شرط أن يشتري نخيلاً فيطلب ثمارها، أو دواباً، فينتظر نتاجها، أو مستغلات فيستغلها: لا يجوز؛ لأن قضية القراض أن يطلب الربح بطريق التجارة، وكذلك: لو شرط أن يشتري الحنطة، فيطحن ويخبز، أو يشتري الغزل فينسج، أو يشتري الثياب فيقصر أو يصبغ- لم يصح، وللعامل أجر المثل فيما عمل، فإن فعل العامل شيئاً من ذلك من غير شرط: فلا يستحق الأجر، وإن استأجر عليه أجير: فالأجرة في ماله، والربح بينهما على الشرط، وإذا طحن العامل الحنطة من غير شرط: صار ضامناً، سواء أذن له في التصرف مطلقاً، فاشترى الحنطة، أو أذن له في التصرف في الحنطة: فإن دخله نقص: ضمن النقص، فإذا باعه: جاز؛ لأ، القراض بحاله وثمنه: لا يكون مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعد فيه. ولو شرط على العامل أنه إذا اشترى خزاً أو بزاً أو شيئاً يعجبه: يوليه بيعه، أو إذا اشترى دابة: يركبها رب المال، أو يركبها العامل، أو إذا اشترى ثوباً: يلبسه متى شاء: لا يصح. وكل موضع فسد القراض: فتصرف العامل نافذ؛ لوجود الإذن من رب المال، والربح والخسران يكون لرب المال وعليه، وللعامل أجر مثل عمله على رب المال، وإن زاد على المشروط له. وعند أبي يوسف: له أجر مثل العمل، ولا يزاد على المسمى.

فصلٌ مال القراض يكون أمانة في يد العامل؛ يجب عليه حفظه ولا يعرضه للهلاك، ولا يجوز أن ينفق [منه شيئاً] على نفسه، ولا كسرة يدفعها إلى السقاء. وقال مالك- رحمة الله عليه-: يجوز أن ينفق على العادة؛ مثل الغذاء وكسرة السقاء دون الشعاء. ولا يجوز أن يسافر بمال القراض بغير إذن رب المال، فإن سافر به ضمن، وإن باعه في السفر- نُظر: إن كان ذلك المال أرخص بتلك البلدة: لم يصح البيع، وإن كان مثل هذا البلد أو أغلى: صح البيع والثمن يكون مضموناً عليه؛ لأنه مخاطر بسبب السفر، فإذا عاد لا يعود أمانه، ولا يجوز أن يؤدي شيئاً من مؤنة ذلك السفر من مال القراض. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: يجوز للعامل أن يسافر بمال القراض. أما إذا سافر بإذن رب المال: جاز، ولا يضمن، وهل يستحق النفقة؟ قال في رواية المزني: له النفقة بالمعروف، وقال في رواية البويطي: لا يستحق النفقة. اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يستحق؛ كما في حال الإقامة. والثاني: يستحق؛ لأنه سلم نفسه لذلك الآمر؛ كالزوجة: تستحق النفقة، إذا سلمت نفسها إلى الزوج، وقبل التسليم: لا تستحق. ومنهم من قال: لا يستحق. وحيث قال: له النفقة بالمعروف، أراد به: المؤن التي تلزم المال من كراء الدابة وأجرة الحارس ونحوها. فإن قلنا: يستحقك فكم يستحق؟ فيه وجهان: أحدهما: جميع ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة والإدام. والثاني: يجب ما زاد بسبب السفر من الخف والإداوة والسطيحة ونحوها.

ولو سافر بمال نفسه مع مال القراض: توزع النفقة على قدر المالين بالحصص؛ ليس له إخراج جميعها من مال القراض؛ فلو استرد رب المال منه المال في الطريق أو في البلد الذي خرج إليه: هل يجب عليه نفقة الرجوع؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجب؛ كما لو خالع زوجته في السفر: لا يجب عليه نفقة رجوعها إلى الوطن. ولو شرط العامل نفقة السفر في العقد؛ فإن قلنا: يستحق: فهو قضية العقد، وإن قلنا: لا يستحق: قال: يحتمل وجهين: أصحهما: يفسد العقد؛ كالمقيم إذا شرط لنفسه النفقة. والثاني: لا يفسد، ويستحق النفقة؛ لأنه من مصلحة العقد؛ لأنه إذا لم يعط النفقة: لا يسافر؛ فهو كالخيار في البيع. وعلى العامل أن يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاها العمال بأنفسهم: من طي الثياب، وذرعها، والإيجاب والقبول في البيع، وقبض الثمن، ووزن ما يخف؛ كالعود والمسك، وحفظ المتاع على الحانوت والنوم عليه في السفر، وحفظه؛ فإذا استأجر من يفعل شيئاً منها: يجب أن يعطي الأجرة من مال نفسه، فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه؛ كحمل المتاع من الحانوت إلى الخان، والسرداب، ووزن ما يثقل منه، والنداء على المتاع: فله أن يستأجر من مال القراض من يفعل ذلك. وكذلك: أجرة الحارس والرصدي وكراء الدواب في السفر: يكون من مال القراض، فإن فعل العامل شيئاً من ذلك بنفسه: لا يستحق الأجرة. وإذا غصب شيء من مال القراض، أو أتلف: فالخصم فيه رب المال، إن لم يكن فيه ربح، وإن كان فيه ربح: فهما خصمان، وقيل: للعامل أن يخاصم بكل حال؛ لأنه من باب حفظ المال. ولا يجوز أن يتجر إلا على النظر، والاحتياط. ولا يجوز أن يشتري بأكثر من رأس المال؛ لأن رب المال لم يأذن إلا فيه. ولا يجوز أن يبيع شيئاً نسيئة؛ لأنه ربما يجحد المشتري أو يفلس. ولا أن يشتري نسيئة؛ لأنه يغرق المال بالدين وعند أبي حنيفة يجوز أن يبيع ويشتري نسيئة، ويرهن ويرتهن. وبالاتفاق: لا يجوز أن يقرض ويستدين، وإذا باع حالاً: لا يجوز تسليم المبيع قبل

قبض الثمن، وإذا سلم ضمن القيمة. وقيل: إذا كان الثمن أقل من القيمة: ضمن الثمن؛ لأن البيع صحيح، والصحيح يضمن القيمة في الحالين. ولا يجوز له السلم؛ لأن فيه تسليم رأس المال قبل أخذ عوضه، وإذا أذن له في البيع نسيئة: جاز أن يبيع نسيئة، ويجب أن يشهد عليه، فإن لم يشهد: ضمن، بخلاف ما لو باع حالاً: لا يجب الإشهاد؛ لأن هناك يمكنه حبس المبيع، لاستيفاء الثمن. ولو باع حالاً وأذن له في تسليم المبيع قبل قبض الثمن: جاز، ولا يجب الإشهاد؛ لأن العادة لم تجر بالإشهاد في البيع الحال، حتى لو جحد المشتري: لم يضمن؛ بخلاف ما لو باع مؤجلاً بإذنه، ولم يشهد، فجحد: ضمن. ولو باع أو اشترى بغبن يسير يتغابن الناس بمثله: جاز، ولو باع بغبن فاحش: لا يصح. ولو اشترى شيئاً بغبن فاحش- نُظر: إن اشترى بعين مال القراض: فالشراء فاسد، وإن اشترى في الذمة: يقع للعامل؛ فعليه أن يؤدي الثمن من مال نفسه، ويجوز أن يبيع بالعرض؛ لأن التجار يطلبون الربح بذلك الطريق؛ بخلاف الوكيل. ويجوز أن يشتري الشيء المعيب؛ لأنه قد يرى الربح فيه؛ بخلاف الوكيل، وإذا اشترى شيئاً على أنه صحيح، فوجد به عيباً: له الرد بالعيب، وإن رضي به رب المال؛ لأن له فيه حظاً، وإن كان مع ذلك العيب يساوي ما اشتراه به: هل يصح ذلك القراض؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل وقع باطلاً، إن اشترى بعين مال القراض، وإن اشترى في الذمة: وقع للعامل؛ كما لو كان لا يساوي ما اشترى به. والثاني: صح القراض؛ لأنه لا ضرر فيه على رب المال. وإذا اشترى بمال القراض خمراً، أو خنزيراً أو أم ولد، وسلم المال: ضمن. وإذا اشترى جارية، ولم يعلم أنها أم ولد، فظهرت أم ولد، أو عصيراً، فظهر خمراً، وقد دفع الثمن: يجب عليه الضمان؛ لأن ضمان المال لا يسقط بالجهل. وقيل في الموضعين: لا يضمن.

وقال الشيخ القفال، في أم الولد: لا يضمن، لأنها في صورة القنة؛ لا يمكن التمييز بينهما، وفي الخمر: يضمن؛ لأن التمييز بينها وبين العصير ممكن، فإذا لم يتأمل كان مفرطاً. وإذا اشترى العامل من يعتق على رب المال- نُظر: إن اشترى بغير إذن رب المال: فالبيع باطل، إن اشترى بعين مال القراض، وإن اشترى في الذمة: يقع للعامل، وعليه أن يؤدي الثمن من ماله؛ بخلاف ما لو وكل وكيلاً؛ ليشتري له عبداً، فاشترى من يعتق على الموكل: صح للموكل؛ لأنه أمره بتمليكه عبداً، وقد فعل، والعتق أمر حصل على ملكه، وفي القراض، أمره رب المال بالتجارة ليربح، ولا يحصل ذلك [بشراءه من] يعتق عليه. أما إذا اشترى بإذن رب المال: صح، ثم ينظر: إن لم يكن في المال ربح: عتق على رب المال، ثم إن اشترى بجميع مال القراض: ارتفع القراض وإذا اشترى ببعضه: فرأس المال ما بقي، وصار كما لو استرد ثمن العبد، وإن كان في المال ربح: جعل كأنما استرد المال أو بعضه، فيتبعه من الربح والخسران بقدره، ويبنى على أن العامل، هل يملك نصيبه من الربح بنفس الظهور أم يملك بعد المفاضلة؟ وفيه قولان؛ ذكرناهما في "كتاب الزكاة". فإن قلنا: يملك بعد المفاضلة- وهو الأصح-: عتق العبد كله على رب المال، ويغرم حصة العامل من الربح. وإن قلنا: يملك بنفس الظهور: عتق على رب المال حصته، ويقوم عليه حصة العامل، إن كان موسراً، وإلا تبقى حصة العامل رقيقاً؛ وكذلك: لو أعتق رب المال عبداً من مال القراض: فإن لم يكن في المال ربح: عتق كله، وإن كان فيه ربح؛ فإن قلنا: يملك العامل نصيبه بعد المفاضلة [وهو الأصح]: عتق العبد كله، وغرم حصة العامل. وإن قلنا: يملك بنفس الظهور: عتق بقدر حصته، وقوم عليه نصيب العامل، إن كان موسراً؛ وإلا بقي نصيب العامل رقيقاً. ولو اشترى العبد المأذون في التجارة من يعتق على مولاه بإذنه- صح، وعتق عليه، إن لم يكن عليه دين. وإن اشترى بغير إذنه: ففيه قولان: أصحهما: لا يصح؛ كالعامل في القراض.

والثاني: يصح؛ كالوكيل. أما إذا اشترى العامل من يعتق عليه: صح، ثم إن لم يكن في المال ربح: لا يعتق ويباع؛ كالوكيل: يشتري أب نفسه: يصح للموكل، ولا يعتق. وإن كان في المال ربح: إن قلنا: يملك العامل نصيبه بعد المفاضلة: فلا يعتق، ويباع، وإن قلنا: يملك بنفس الظهور: عتق عليه حصته، ويقوم عليه نصيب رب المال، إن كان العامل موسراً، وإن كان معسراً: فلا يقوم. ولا فرق بين أن يكون الربح موجوداً يوم الشراء، أو ظهر بابتياعه؛ بأن يكون رأس المال مائة، فاشترى بها أباه، وهو يساوي مائتين، أو كان لا يساوي يوم الشراء إلا مائة، ثم ظهر الربح بارتفاع السوق، وكان شيخي- رحمه الله- يقول: يحتمل وجهاً آخر: أنه إذا ظهر الربح بعد الشراء: أن يعتق على العامل حصته، ولا يقوم عليه الباقي؛ لأنه لم يختر تملكه؛ بخلاف ما لو كان الربح ظاهراً يوم الشراء، أو ظهر بابتياعه، بناءً على ما لو باع من يعتق على وارثه بثوب، ومات، فوجد الوارث بالثوب عيباً ورده، واسترد شقص العبد: عتق عليه، وهل يسري إلى الباقي؟ فيه وجهان. وكذلك لو أعتق العامل عبداً من مال القراض: هل يعتق حصته؟ فهو كشراء من يعتق عليه. وعند أبي حنيفة: يملك العامل حصته بنفس الظهور، ويعتق عليه حصته، ثم ناقضوا، فقالوا: لو كان رأس المال ألفاً، وربح ألفاً، فاشترى بالكل عبدين، قيمة كل واحد ألف، ثم أعتقهما: قالوا: لا يعتق شيء منهما؛ لأن الربح غير متميز من رأس المال. ولو اشترى العامل بمال القراض جارية: ليس لرب المال وطؤها، وإن لم يكن في المال ربح؛ لأنها ربما تحبل؛ فيبطل مقصود العقد، فلو وطئها لا حد عليه؛ لأنها ملكه، وأما المهر هل يجب؟ نظر: إن لم يكن في المال ربح، أو كان، وقلنا: يملك العامل حصته بعد المقاسمة: فلا يجب، وإن قلنا: يملك بنفس الظهور: يجب بقدر حصة العامل. وإن استولدها: فكالعتق.

ولو وطئها العامل: فإن لم يكن في المال ربح عليه الحد، وإن كان فيه ربح: فلا حد؛ للشبهة، ويجب المهر. قال الشيخ: ويؤخذ كله، ويوضع في المال: إن قلنا: يملك العامل الربح بالظهور؛ لأنه ربما يخسر، فيحتاج إلى جبر الخسران به. قال- رضي الله عنه-: ولو استولدها: إن قلنا: لا يملك شيئاً من الربح قبل القسمة: فلا تصير أم ولد له، وإن قلنا: يملك بنفس الظهور: تصير حصته أم ولد له، ويقوم الباقي عليه؛ إن كان موسراً؛ كما في العتق. ولو وطئها أجنبي: أخذ المهر، وكان في القراض. قال- رضي الله عنه-: والمهر يكون في الربح، والعامل إذا وطئها جاهلاً، ولا ربح في المال: وجب أن يؤخذ منه المهر، ويكون من الربح. قال- رضي الله عنه-: ولو قطع أجنبي يد عبد القراض: يؤخذ منه نصف القيمة، ويكون في مال القراض، ثم إن كان نصف القيمة أكثر من أرش النقصان: فالفصل ربح، وإن كان أقل: يجبر النقصان من الربح، وإن قطع العامل يده، ولا ربح في المال: وجب أن يؤخذ منه نصف القيمة، والفضل على أرش النقصان ربح. ولو اشترى العامل زوجة رب المال، أو كان رب المال امرأة؛ فاشترى العامل زوجها- نُظر: إن اشترى بإذن رب المال: صح الشراء، وانفسخ النكاح، والقراض بحاله، وإن اشترى بغير إذنه: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، إذا اشترى بعين مال القراض؛ لأن رب المال يتضرر به بانفساخ النكاح؛ كما لا يشتري من يعتق على رب المال. والثاني: يصح وينفسخ النكاح؛ لأن الضرر ليس من ناحية القراض؛ فإنه لا يتلف شيء من مال القراض؛ بخلاف العتق. ولو اشترى بمال القراض عبداً، فكاتبه بغير إذن رب المال: لا يصح، وإن كاتباه معاً: جاز، وإن أدى المال: عتق، ثم إن لم يكن في المال ربح: كان ولاؤه لرب المال، وإن كان فيه ربح: فيكون بينهما؛ على حسب الشرط، وإن كاتباه على أكثر من قيمته: فالزيادة ربح يكون بينهما على حسب الشرط.

ولا يجوز معاملة العامل مع رب المال، ولا معاملة رب المال معه في مال القراض؛ كالعبد المأذون في التجارة: لا يعامل المولى. وعند أبي حنيفة: يجوز للعامل أن يشتري من رب المال. ولو اشترى العامل شقصاً من دار بمال القراض، ولرب المال فيه شرك: فلا شفعة لرب المال؛ لأن الشراء وقع له بماله، فإن كان للعامل فيه شرك: فله أخذه بالشفعة؛ كالوكيل بالشراء. ولا يجوز للعامل أن يقارض بمال القراض رجلاً آخر بغير إذن رب المال؛ فإن قارض- نُظر: إن فعل ذلك بإذن رب المال: جاز؛ كما لو وكله بأن يقارض آخر، ويكون كما لو قارض بنفسه، فإن شرط الأول لنفسه شيئاً من الربح: كان فاسداً، والربح والخسران لرب المال وعليه، وللعامل الثاني أجر المثل على رب المال، وإن قارض بغير إذن رب المال: صار ضامناً للمال، إذا سلم إلى الثاني. ثم لا يخلو: إما إن تلف المال في يد الثاني، أو ربح: فإن تلف- نُظر: إن كانا عالمين، أو كان الثاني عالماً: فقرار الضمان على الثانين ويكون الأول طريقاً فيه، وإن كانا جاهلين، أو كان الثاني جاهلاً: فالقرار على الأول. قال- رضي الله عنه-: وهل يكون الثاني طريقاً فيه؟ فعلى وجهين؛ كالمستودع الجاهل من الغاصب، هل يكون طريقاً في وجوب الضمان على الغاصب؟ فيه وجهان. فأما إذا تصرف العامل الثاني، وربح: فهذا يبنى على ما لو تصرف الغاصب في المال المغصوب، وربح: فالربح لمن يكون؟ فيه قولان: في الجديد: يكون للغاصب. وفي القديم: يكون للمالك. وكان شيخي- رحمه الله- يقول: يحتمل أن يكون هذا قولاً قطعاً في القديم: أن الربح يكون للمالك، حتى لو رده لا يرتد، ويحتمل أن يكون هذا جواباً على قوله في القديم: إن باع بمال الغير بغير إذنه: يكون موقوفاً على إجازته غير أن الشافعي- رضي الله عنه- قطع بأن الربح يكون للمالك، ولم يتعرض للإجازة والفسخ، لأن الغالب: أنه إذا رأى الربح يجيزه، ولا يرده؛ فعلى هذا: لو رده يرتد؛ سواء كان شراؤه بعين مال المغصوب منه أوفى الذمة [و] رجعنا إلى القراض.

وإذا تصرف العامل الثاني، وربح: فإن قلنا: بقوله الجديد: أن الربح في الغصب يكون للغاصب: فههنا: ينظر إن اشترى بعين مال القراض: كان فاسداً، وإن اشترى في الذمة: ذكر المزني- رحمه الله- أن الربح كله للعامل الأول. ومن أصحابنا من قال: الربح كله للعامل الثاني على قوله الجديد؛ لأنه المتصرف؛ كما في الغصب: يكون للغاصب. ومنهم من قال- وهو الأصح-: الأمر كما قال المزني- رحمه الله- أنه يقع تصرفه للعامل الأول؛ لأنه اشترى له بإذنه؛ فكان كالوكيل من جهته، والربح والخسران يكون للعامل الأول، وعليه للثاني أجر مثل عمله، بخلاف الغاصب في غير القراض: فإنه اشترى لنفسه؛ فكان الربح له. وفي القديم، قال: الربح يكون بين العاملين وبين رب المال؛ سواءكان الشراء بالعين أو في الذمة؛ نصفه لرب المال، ونصفه بين العاملين. قال- رضي الله عنه-: وهذا إما أن يكون قولاً قطعاً على هذا القول، أو على الوقف، إن جاز، كما ذكره الشيخ القاضي- رحمه الله-. وعلى هذا القول: إذا جعلنا الربح بين رب المال والعاملين: فهل يرجع العامل الثاني على الأول بشيء؟ نُظر: إن كان قد قال له العامل الأول: قارضتك على أن لك نصف الربح، أو قال: على أن ما يرزقنا الله من الربح يكون بيننا: فلا يرجع عليه بشيء؛ لأنه سلم له ما شرط له، ولو قال: على أن الربح بيننا نصفان، أو قال: على أن نصف الربح لك: ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع بشيء؛ كما في الصورة الأولى؛ لأنه شرط له نصف الربح؛ فيكون له النصف من نصيبه. والثاني: يرجع عليه بنصف أجر مثل عمله؛ لأنه شرط له نصف ربح جميع المال، ولم يسلم له إلا ربع الربح. فصلٌ إذا تلف مال القراض في يد العامل: لا ضمان عليه؛ لأنه أمين، ثم إن تلف كله بآفة سماوية: ارتفع القراض، سواء تلف بعد ما شرع في العمل، أو قبله، ولا شيء للعامل ولا

عليه، وإن تلف بعضه- نظر: إن تلف بعد الشروع في العمل والتصرف: فهو بمنزلة الخسران؛ يجبر بالربح، حتى لو دفع إليه مائة، فربح عليها خمسين، ثم تلف منها مائة، ثم ربح بعده خمسين: فكلها رأس المال. وإن تلف قبل الشروع في العمل: فيه وجهان: أحدهما: يُجبر ذلك من الربح؛ كما لو تلف بعد الشروع في العمل. والثاني: لا؛ بل يجعل كأنه لم يفع إليه إلا بقدر ما بقي؛ لأن العقد لم يتأكد [إلا] بالشروع في العمل. ولو سُرق بعض مال القراض، أو غصب، أو أتلف- نظر: إن ظهر بالمتلف، فأخذ بدله: فهو من القراض، حتى لو أتلف كله، فأخذ بدله: فهو في القراض، وإن لم يظفر ببدله، فربح على ما بقي: هل يُجبر المسروق والمتلف بالربح؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر؛ كما لو تلف بآفة سماوية. والثاني: لا يجبر؛ لأنه أعقب بدلاً؛ فلا يجب جبره من مال القراض. ولو كان مال القراض ألفاً، فاشترى بعينها شيئاً، فتلف الألف قبل التسليم: بطل العقد، وارتفع القراض، وإن اشترى في الذمة، ثم تلفت الألف: ففيه وجهان: أحدهما: كان العقد للعامل، وعليه الثمن من ماله، وارتفع القراض. والثاني: العقد لرب المال، وعليه ألف أخرى، وهو قول أبي حنيفة- رحمه الله- لأنه اشترى له كما لو تلف الثمن في يد الوكيل: يجب على الموكل الثمن؛ فعلى هذا: كم يكون رأس المال؟ فيه وجهان: أحدهما: ألف واحدة؛ لأن العقد وقع على ألف. والثاني: ألفان؛ لأنه دفع إليه ألفين. فإن قلنا: ألف: فأي الألفين؟ فيه وجهان؛ لأنه ربما يكون بين ألفين تفاوت في وصف. ولو اشترى بمال القراض عبداً، فقتل: فإن كان في المال ربح: لا ينفرد أحدهما بالاقتصاص، وإن لم يكن في المال ربح: فلرب المال أن يقتص؛ إن كان موجباً للقصاص، أو يعفو على غير مال، وإن كان موجباً للمال: فله أن يعفو عن المال، وارتفع القراض، فإن أخذ القيمة: فالقراض باق باق فيها حتى لو صالحه عن القود على أكثر من القيمة: فالزيادة ربح، وللعامل فيها نصيب.

وإذا خلط العامل مال القراض بمال نفسه: كان ضامناً؛ كالمودع، إذا خلط الوديعة بماله. ولو قارضه رجل على مالين بعقدين، فخلط أحدهما بالآخر: ضمن. وعند أبي حنيفة: لا يضمن. وكذلك لو قارضه رجلان، كل واحد على مال فخلط العامل أحدهما بالآخر: صار ضامناً، ولو دفع إليه رجلان، كل واحد منهما ألفاً قراضاً، فاشترى بكل ألف عبداً ثم اشتبه عليه: ففيه قولان: أحدهما: أن العبدين للعامل، ويغرم ألفين؛ لأنه تعذر التمييز بتفريطه. والقول الثاني: يباع العبدان، فإن لم يكن فيه ربح: قسم الثمن بين ربي المال، وإن كان فيه ربح: كان بين العامل والمالكين؛ على حسب الشرط. ولو دفع إليه ألفاً قراضاً، فاشترى بها عبداً، ثم اشترى عبداً آخر للقراض أيضاً- نُظر: إن اشترى كل واحد من العبدين بعين تلك الألف: فالعقد الأول صحيح للقراض، والثاني باطل؛ لأن الألف صارت ملكاً للبائع الأول. فإن دفع الألف إلى الثاني: ضمن، فإن تلف في يده: فسد العقد الأول، وعليه رد مثله، وإن اشترى كلا العبدين في الذمة: فالأول للقراض، والثاني يقع للعامل؛ لأن ألف القراض صارت مستحقة الصرف إلى الأول؛ وكذلك: لو اشترى الأول بعين الألف، والثاني في الذمة: فالأول للقراض، والثاني للعامل، ولو اشترى الأول في الذمة، والثاني بعين الألف: لأن الأولى صارت مستحقة الصرف إلى الأول، فإن دفع الألف إلى الثاني: ضمن، فإن تلفت في يد الثاني: لا ينفسخ العقد؛ لأن العقد لم يقع على عينها، فيغرمها من عنده، ويصرفها إلى ثمن الأول. فصلٌ عقد القراض: عقد جائز من الجانبين، فأيهما أراد فسخه والخروج منه: له ذلك. ولو استرد رب المال شيئاً من المال قبل ظهور الربح فهو من رأس المال، ورأس المال ما بقي، ولو استرد بعد ظهور الربح: فهو من الربح ورأس المال جميعاً؛ حتى لو

دفع إليه مائة قراضاً، وشرط له نصف الربح، فربح عشرين، ثم استرد رب المال عشرين، فانخفضت السوق، فعادت إلى ثمانين: ليس لرب المال أن يقول: دفعت إليك مائة، وأخذت عشرين، والآن معك ثمانون، فآخذها؛ لأنه أخذ العشرين حين كان الربح سدس المال، فما أخذه كان خمسة أسداسه من رأس المال، وسدسه من الربح، وهو ثلاثة دراهم وثلث، ونصفه للعامل، وهو درهم وثلثان؛ فيسترد ثمانية وسبعين وثلثاً. ولو دفع إليه مائة، فخسر عشرين، ثم أخذ رب المال عشرين: بقي في يد العامل ستون، فتصرف، وربح، فبلغ ثمانين: فليس لرب المال أخذ كلها؛ لأنه أخذ العشرين حين كان الخسران قدر ربع المال، فقابله ربع الخسران، وهو خمسة، لا يجب على العامل جبرها؛ بل عليه جبر ثلاثة أرباعها، وهو خمسة عشر في مقابلة ما بقي من رأس المال؛ فجبرنا خمسة عشر؛ صار رأس المال خمسة [و] سبعين؛ بقي خمسة للربح؛ يكون بينهما؛ فيسترد رب المال ستة وسبعين ونصفاً. ولو مات أحد المتقارضين، أو جن، أو أغمي عليه: ينفسخ العقد؛ لأنه عقد جائز؛ كالوكالة، والشركة. ثم إن مات رب المال؛ فإن كان عليه دين أو أوصى بمال: صرف المال إلى دينه ووصيته، ولم يكن لهم المقام على القراض. وإن كان قد تصرف فيه العامل، وفيه ربح: يقدم حق العامل على الدين والوصايا: فإن لم يكن عليه دين، ولا وصية- نُظر: إن أقام وارث رب المال والعامل على الدين والوصايا: فإن لم يكن عليه دين ولا وصية: انفسخ الذي حصل بالموت، وأخذ الوارث المال، إن لم يكن فيه ربح، وإن كان فيه ربح: اقتسما، وأخذ العامل حصته، وإن كان المال عرضاً: باعه العامل؛ لأن موت رب المال ليس بأكثر من فسخه، وبعد فسخه: كان له بيع العرض من مال القراض، فإذا باعه: أخذ حقه من الربح، إن كان فيه ربح، وإن لم يكن فيه ربح: كان ما حصل لوارث رب المال، وإن مات العامل: لم يكن لوارثه بيع المال بغير إذن رب المال، فإن لم يرض ببيعه، وفيه ربح- رفع إلى الحاكم حتى ينصب من يبيعه، فيأخذ رب المال رأس ماله؛ ويقسم الربح بينهما. فإن مات أحدهما، وأراد وارث الآخر مع الحي المقام على القراض الأول- نُظر: إن كان المال ناضاً: فلا يجوز إلا بعد استئناف عقد جديد؛ لأن الناض يقبل عقد القراض.

وإن كان عرضاً: قال أبو إسحاق: إن مات رب المال، والمال عرض: جاز لوارثه أن يترك العامل على القراض، فيقول له: تركتك أو أقررتك على ما كنت عليه في حياة أبي، وإن مات العامل: لم يجز لرب المال أن يترك وارث العامل على القراض؛ وفرق: بأن الأصل في القراض المال والعمل، وإذا مات رب المال: فالمال قائم، والعامل حي؛ فجاز تقريره على العمل، وإذا مات العامل: فقد بطل العمل؛ فلا يمكن بناء عمل وارثه عليه. والمذهب: أنه لا يجوز، سواء مات رب المال أو العامل؛ لأن العقد قد انفسخ بالموت؛ فلا يمكن المقام عليه إلا باستئناف عقد جديد، والمال عروض؛ لا يجوز استئناف عقد القراض عليها؛ فهو كما لو فسخاً القراض في حال الحياة، والمال عرض لا يجوز المقام على العقد [المفسوخ، ولا ابتداء العقد على العقد]. وقول الشافعي- رضي الله عنه-: "فإن مات رب المال-: صار لوارثه، فإن رضي-: تُرك المقارض على قراضه"- أراد به: إذا كان المال ناضاً، واستأنفا العقد؛ فيجوز، فإن كان المال ناضاً، وأراد استئناف القراض: فإن كان المال ربح: ينبغي أن يأخذ رب المال أو وارثه نصيبه من الربح، ثم يستأنفان القراض على الباقي، وإن كان فيه خسران، فشرط أن يجبر الخسران بتصرفه: لم يجز، وإن كان فيه ربح، وعقد القراض قبل أخذ العامل نصيبه من الربح؛ مثل: إن كان مال المورث ألفاً، ورحب العامل عليها ألفاً، وقد شرط له نصف الربح؛ فرأس مال الوارث ألف وخمسمائة، فعقد القراض على ماله قبل إفراز نصيب العامل: صح، وكان رأس ماله ألفاً وخمسمائة مشاعاً، ويجوز القراض على المشاع؛ كما يجوز على المفرز. ولو قارض رجل في مرض موته على أكثر من أجر مثل عمله؛ بأن قارضه على النصف، وأجر مثل عمله الثلث: لا تعتبر الزيادة من الثلث؛ لأن الذي يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله، والربح ليس من ماله، إنما يحصل بكسب العامل؛ وكذلك: يقدم حق العامل على الدين والوصايا؛ بخلاف ما لو ساقى إنساناً في مرض موته، وشرط للعامل أكثر من أجر مثل عمله: يعتبر من الثلث؛ على أحد الوجهين؛ لأن الثمن يحصل من غير الثمرة التي هي ملك المريض؛ فكأنه يخرجها من ملكه. فصلٌ في فسخ القراض إذا فسخا أو أحدهما عقد القراض: لم يكن للعامل أن يشتري بعده به شيئاً، ثم

يُنْظر: إن كان المال ناضاً من جنس رأس المال، ولا ربح: أخذه رب المال، ولا شيء للعامل، وإن كان فيه ربح: اقتسما، وأخذ العامل حصته. وإن كان المال عرضاً، أو كان ناضاً من غير جنس رأس المال: فإن كان رأس المال دراهم، وفي يده دنانير: فهو كالعرض، وإن كان فيه ربح أو طمع ربح: فللعامل بيعها حتى تنض؛ فإن أبى رب المال: فلرب المال أن يكلفه البيع، وإن قال العامل: أنا أؤخر البيع إلى وقت الموسم: لرب المال ألا يرضى؛ لأن حقه معجل، وعند مالك- رحمة الله عليه: إن كان في البلد موسم: له أن يؤخر إلى الموسم. ثم إن كان نقد البلد من جنس رأس المال: باعه به؛ فإن لم يكن؛ فإن رأى النظر في بيعه برأس المال: باعه به، فإن لم يكن: فإن ادعى النظر في بيعه برأس المال: باعه به، وإن رأى في بيعه بنقد البلد: باعه به، ثم صرفه في جنس رأس المال، وإن كان رأس المال صحاحاً، وحصل في يده المكسر: فإن وجد من يشتريه بالصحاح بوزنه: باعه به، وإن لم يجد: باعه بغير جنسه، أو بعرض، ثم يشتري به الصحاح. ولو قال رب المال للعامل: لا أبيع العرض، ولكن أقومه بعدلين، وأعطيك قيمة حصتك، وأبى العامل إلا البيع: فهل للعامل بيعه؟ فيه وجهان؛ بناءً على أنه متى يملك حصته من الربح؟ إن قلنا: يملك بنفس الظهور: فله بيعه، ولا يجبر على أخذه؛ لأنه ربما يقع راغب، فيزيد في قيمته، وإن قلنا: يملك بعد المفاصلة: يجبر على أخذه، ولم يكن له بيعه؛ لأنه وصل إلى حقه. وقيل: يجبر على أخذه قولاً واحداً، كمن غرس في أرض رجل بإذنه: فمتى أعطاه رب الأرض قيمة الغراس: لزمه الأخذ. ولو قال العامل: تركت حقي إليك، ولا أبيعه، وفيه ربح، وأبى رب المال إلا البيع: فهل يجبر العامل على البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأن البيع لحق البائع؛ حتى يصل إلى حقه، فإذا ترك حقه: لا يجبر عليه. والثاني: يجبر؛ لأنه أخذ المال على أن يرد رأس المال ناضاً؛ كما أخذه. وبعض أصحابنا بنى الوجهين على أن العامل متى يملك الربح؟ إن قلنا: يملك بالظهور: لزمه البيع؛ لأن الزيادة ملكه؛ فلا يجب على رب المال قبوله، وإن قلنا: لا

يملك بالظهور، فإذا ترك حقه: صار متروكاً، لأنه ملك أن يملك، وقد تركه؛ كالشفيع: يسقط حقه بالعفو، وإن لم يكن في المال ربح: كان لرب المال إمساك العروض ومنع العامل من بيعه؛ لأنه لا حق له فيه، وهل له إجبار العامل على بيعه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا حق له فيه. والثاني: له ذلك؛ لأنه ضمن تنضيض المال. فإن قلنا: ليس له إجباره، أو اتفقا على ألا يباع، وأخذ رب المال العرض؛ ثم ارتفع السوق، وظهر فيه ربح: فهل للعامل فيه نصيب؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه حصل بكسبه. والثاني: لا؛ لأنه ربح حصل بعد ارتفاع القراض. ولو قارضه على نقد، فتصرف فيه العامل، ثم أبطل السلطان ذلك النقد: فعند المفاصلة: يرد النقد الذي عقد عليه، ثم يقتسمان الباقي. وقيل: يرد من النقد الذي حدث، ولي بشيء؛ لأنه يؤدي إلى دخول الربح في رأس المال، أو رأس المال في الربح. وإذا فسخ العقد، وهناك دين: وجب على العامل أن يتقاضاه؛ لأنه دخل في العقد علىن يرد رأس المال، وإذا فسخ عقد القراض: تباع جميع آلات السفر التي اشتراها بمال القراض من السفرة والإداوة والخف وغيرها؛ كسائر أموال القراض. وقال مالك- رحمة الله عليه-: تكون الآلات لرب المال، فإذا طلب أحدهما قسمة الربح قبل فسخ القراض: لا يُجبر الآخر عليه؛ لأنه إن طلب رب المال: يقول العامل: لا نأمن أن نخسر؛ فيحتاج إلى رد ما قسمنا، وإن طلب العامل: يقول رب المال: الربح وقاية رأس المال؛ فلا أعطيك حتى تسلم إلي رأس المال، فإن اتفقا، وقسما: جاز؛ لأن المنع لحقهما، وقد رضيا به، فإن ظهر بعده خسران: فعلى العامل جبره مما أخذ؛ لأنه لا يستحق الربح إلا بعد تسليم رأس المال. فصلٌ في الاختلاف إذا دفع مالاً إلى رجل ليشتري شيئاً، ثم اختلفا؛ فقال رب المال: وكلتك لتشتري

لي، وقال العامل: [بل] قارضتني: فالقول قول رب المال، ثم إن كان قبل التصرف: استرد المال، وإن كان بعد ما تصرف، وربح: حلف رب المال، وأخذ الكل ولا شيء للعامل. ولو اتفقا على القراض، فقال رب المال: شرطت لك ثلث الربح، وقال العامل: بل نصف الربح: تحالفا، ثم العقد مفسوخ، والربح ولاخسران كله لرب المال وعليه، وللعامل عليه أجر مثل عمله؛ سواء كان أقل من نصف الربح أو أكثر. وقيل: إن كان أجر نصف المثل من نصف الربح؛ فليس له إلا نصف الربح؛ لأنه لا يدعي أكثر من ذلك. ولو اختلفا في رأس المال؛ فقال رب المال: دفعت إليك ألفين، وقال العامل: بل دفعت ألفاً، والفضل ربح: فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه اختلاف في قدر المقبوض. ولو اختلفا في أصل القبض: كان القول قول العامل كذلك في قدر المقبوض؛ كالمتبايعين: إذا اختلفا في قبض الثمن: كان القول قول البائع مع يمينه؛ بخلاف ما لو اختلفا في قدر الربح المشروط: يتحالفان؛ لأنه اختلفا في وصف العقد؛ كالمتبايعين؛ إذا اختلفا في قدر الثمن: تحالفا. ولو اشترى العامل عبداً، وفيه ربح، فقال رب المال: اشتريته بمال القراض، وقال العامل: بل اشتريته بمالي، أو كان فيه خسران، فقال رب المال: اشتريته بمالك، فقال: بل بمال القراض: فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أعرف بما في ضميره. ولو اشترى عبداً، فقال رب المال: كنت نهيتك عن شرائه، وأنكر العامل: فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النهي، ولأن هذا دعوى خيانة على العامل، والعامل أمين. ولو اختلفا في الربح؛ فقال العامل: ربحت ألفاً، وقال رب المال: بل ربحت ألفين: فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أمين. فإن قال العامل: ربحت ألفين، ثم قال: غلطت أو كذبت في الربح؛ خوفاً من انتزاع المال مني: لا يقبل رجوعه. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان ثم موسم: ينتظره للتجارة والربح: يُقبل قوله.

ولو قال- بعدما قال: غلطت أو كذبت في الربح: كنت قد ربحت، لكن خسرت بعده: يقبل قوله؛ لأن دعوى التلف: لا يكذب إقراره، وقوله: "غلطت": لم يكن تعدياً في المال حتى لا يقبل قوله بعده. ولو ادعى العامل تلف المال في يده- نُظر: إن ادعى تلفه بأمر خفي من غصب أو سرقة: يقبل قوله مع يمينه، فإن ادعى تلفه بأمر ظاهر وقوعه؛ من وقوع حريق أو غريق- نُظر: إن لم يعرف ذلك بتلك البلد: لا يُقبل قوله إلا ببينة، وإن عرف، وعم: قُبل قوله بلا يمين، وإن وقع، ولم يعم، واحتمل أنه لم يصيبه: قبل قوله مع يمينه، والله أعلم.

كتاب المساقاة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المساقاة روي عن عبد الله بن عمر، قال: أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[خيبر] اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. المساقاة: عقد جائز؛ عند أكثر أهل العلم. وهي: أن يدفع نخيله أو كرمه إلى رجل ليتعهده؛ على أن ما يرزق الله تعالى من الثمرة يكون بينهما على ما يتشارطان.

وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: لا تجوز المساقاة، وخالفه صاحباه والحديث حجة عليه. وهل يجوز على غير النخيل والكروم من الأشجار؟ نُظر: إن لم يكن لها ساق؛ كالزروع والخضروات والبطيخ والقثاء وقصب السكر، أو كان لها ساق؛ ولكنها لا تثمر؛ كالصنوبر، والعرعر والخلاف: لا تجوز المساقاة عليها؛ لأن المساقاة إنما تجوز على شجرة تبقى سنين لها ثمرة تحصل بتعهد العامل؛ فيكون جزء منها للعامل بإزاء عمله. أما سائر الأشجار المثمرة؛ كالتين والتفاح والكمثري والمشمش ونحوها: ففيها قولان: قال في القديم: تجوز املساقاة عليها؛ كالنخيل والكروم. وقال في الجديد- وهو الأصح: لا تجوز؛ بخلاف النخيل والكروم؛ لأن كل واحد منهما شجر له ثمر: تجب الزكاة في ثمرها؛ فجوزت المساقاة فيهما؛ نظراً للمساكين، ورب المال، ولأن النخيل والكروم ثمارها عناقيد متدلية؛ فيمكن خرصها والوقوف عليها، وسائر الأشجار ثمارها متفرقة في تضاعيف الأوراق، لا يمكن خرصها والوقوف عليها. وقيل: في الفرصاد قولان أيضاً على أوراقها؛ لأن أوراقها مقصودة؛ كثمار غيرها. وقال بعض أصحابنا: إن كان شجراً تقطع أغصانها في كل سنة أو سنتين؛ كالخلاف، فساقاه على أن تكون الأغصان بينهما نصفين أو أثلاثاً: يجوز على القول القديم، والمذهب: أنه لا يجوز. وقال ابن سُريج: تجوز المساقاة في المقل؛ تخريجاً على قوله الجديد؛ لأن ثمر المقل ظاهر كثمر النخيل والكرم. وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز؛ لأن لا زكاة فيها؛ كالخوخ والمشمش. ويجوز عقد المساقاة قبل خروج الثمرة، ولا يجوز بعد خروجها وبدو الصلاح فيها؛

لأن المساقاة عقد [غرر]؛ جوزت على الثمرة المعدومة للحاجة إلى من يقوم بتعهدها حتى يخرج؛ فإذا خرجت: زالت الحاجة؛ فلم يجز، وهل يجوز بعد خروج الثمرة قبل بدو الصلاح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ كما بعد بدو الصلاح. والثاني: يجوز؛ لأن معظم العمل باقي. ويشترط بيان المدة في المساقاة، فلو قال: ساقيتك مطلقاً، أو إلى سنين، ولم يبين: لم يجز. ويجب أن يبين المدة بالسنين أو لأشهر: فإن قال: إلى أوان الجذاذ: لم يصح، ويجب أن يضرب مدة تدرك الثمرة فيها غالباً، فإن ساقاه على ودي إلى مدة لا تثمر فيها، أو لا تثمر غالباً: لا يصح، وإذا عمل العامل: فهل يستحق أجر المثل؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال المزني: لا يستحق؛ لأنه رضي بالعمل بغير عوض. والثاني- وهو قول ابن سريج،- رحمة الله عليه-: يستحق؛ لأن العمل في المساقاة يقتضي العوض؛ فلا يسقط برضاه كالوطء في النكاح. وإن ساقاه إلى مدة تثمر غالباً: صح، ثم إن لم تثمر في تلك المدة: لا يستحق شيئاً؛ كما لو قارضه ولم يربح: لا يستحق شيئاً. وإن ساقاه إلى مدة يحتمل أن تثمر فيها، ويحتمل ألا تثمر فيها؟ ففيه وجهان: أصحهما- وهو قول أبي إسحاق-: لا يصح؛ لأنه عقد على عوض غير موجود، وليس الظاهر وجوده؛ كما لو أسلم في معدوم إلى محل يحتمل أن يوجد فيه، ويحتمل ألا يوجد: لا يصح. والثاني: يصح؛ لأنه يقبل من الغرر ما لا يقبله السلم؛ كالنخيل الكبار: تجوز المساقاة عليها، وإن احتمل ألا تثمر. والأول أصح؛ بخلاف الكبار؛ لأن الغالب والأصل: أنها تثمر إلا لعارض؛ والودي بخلافه. فإن قلنا: يصح: فإن أثمرت في تلك المدة: يستحق المشروط، وإن لم تثمر: لا يستحق شيئاً؛ كما لو ساقاه إلى مدة تثمر فيها غالباً، فلم تثمر، وإن قلنا: لا يصح: يستحق أجر المثل، أثمرت أو لم تثمر؛ لأنه إذا كان يجوز أن تثمر: فلم يتطوع بالعمل.

وهل تجوز المساقاة أكثر من سنة واحدة؟ فيه أقوال؛ كما في الإجارة، فإن جوزنا أكثر من سنة: وكانت الشجرة تثمر كل سنة: هل يشترط أن يبين حصته كل سنة أم يجوز أن يقول؟ على النصف، ثم يكون له نصف ثمر كل سنة: ففيه وجهان؛ كما في الإجارة، فإن جوزنا أكثر من سنة: فإذا انقضت المدة، ثم أطلعت: لا حق للعامل فيها؛ لأنها ثمرة حدثت بعد المدة، وإن انقضت المدة، وهي طلع أو بلح: تعلق بها حقه؛ لأنها حدثت في المدة، ولو ساقاه خمس سنين، وجوزنا، وشرط له ثمرة سنة بعينها: إما السنة الأولى أو الأخيرة- نُظر: إن كانت الشجرة مما تثمر كل سنة: فلا يصح؛ لأنه ربما لا تثمر إلا تلك السنة؛ فلا يكون لرب المال شيء أو ربما لا تثمر تلك السنة؛ فلا يكون للعامل شيء، أما إذا كان الشجر ودياً لا تثمر إلا بعد خمس سنين، وجوزنا على أكثر من سنة، وشرط له جزءاً معلوماً من ثمرة السنة الخامسة: جاز؛ لأنه جعل له نصيباً من جميع الثمرة. ويجوز العقد بلفظ "المساقاة" بأن يقول "ساقيتك نخيلي على كذا"؛ لأنه لفظ موضوع له. ويجوز بكل لفظ يؤدي معناه؛ بأن يقول: "سلمت إليك، أو دفعت إليك نخيلي؛ لتتعهدها على كذا"، أو قال: "تعهد نخيلي على كذا". ولا يجوز بلفظ "الإجارة"، فإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة أجرة- جاز؛ لأن لفظ "المساقاة" قد سبق؛ فلا يضر ذكر الأجرة من بعد. فصلٌ فلو ساقاه نخيلاً، وبينها بياض لا يتوصل إلى سقي النخيل إلا بسقيه: يجوز أن يزارعه في البياض، ويشترط له جزءاً معلوماً من الزرع تبعاً للمساقاة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- عامل أهل "خيبر" على نصف الثمرة والزرع، والمعنى فيه: أن سقي النخيل لا يمكن بدون سقي البياض، ولا يمكن إفراد البياض بالعقد، فدعت الحاجة إلى جواز العقد عليه تبعاً، فإن كان يتوصل إلى سقي النخيل دون البياض: لا تصح المزارعة على البياض. وهل يشترط أن يكون البياض أقل من النخيل؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ لأنه تبع، ولا يكون الأكثر تبعاً للأقل. والثاني- وهو الأصح-: لا يشترط، بل يجوز، وإن كان البياض أكثر؛ لأن الضرورة موجودة في الحالتين.

وينبغي أن يقدم لفظ "المساقاة"؛ فإن قدم لفظ "المزارعة" فقال: زارعتك على البياض، وساقيتك على النخيل على كذا: لا يصح؛ لأن التابع لا يقدم على المتبوع؛ كما لو باع بشرط الرهن، فقدم لفظ "الرهن" على البيع: لا يصح. وينبغي أن يقول: ساقيتك على كذا، "وزارعتك" متصلاً به، فلو ساقاه، ثم بعده زارعه منفرداً: فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنها تبع، وقد جعلها مقصوداً بالإفراد؛ كما لو زارع مع غير المساقي: لا يجوز. والثاني: يجوز؛ لأنهما حصلا لواحد؛ كما لو جمع بينهما في العقد؛ نظيره: إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح من مالك الشجرة. وهل يحتاج إلى شرط القلع؟ فيه وجهان: الأصح: يحتاج إليه. ولو فاوت بين العقدين في نصيب العامل؛ فإن شرط له ثلث الثمرة، وربع الزرع: هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنه بمنزلة عقدين. والثاني: لا يجوز؛ لأنهما إذا تفاضلا- تميزاً؛ فلم يكن أحدهما تبعاً للآخر. ولو زرع العامل البياض من غير إذن رب النخيل: يقلع مجاناً. وقال مالك- رحمة الله عليه: إن كان البياض أقل من ثلث الحائط- دخل في العقد تبعاً، وفي المزارعة: يكون البذر على رب مال الحائط. فلو شرط على العامل: فهي مخابرة. وهل تجوز المخابرة؛ تبعاً للمساقاة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كالمزارعة. والثاني- وهو الأصح، وهو المذهب-: لا يجوز؛ بخلاف المزارعة؛ لأن السنة وردت بها؛ ولأن المزارعة في معنى المساقاة من حيث إنه ليس على العامل فيها إلا العمل، وفي المخابرة: يكون البذر على العامل. ولو كان بين النخيل أو في الكروم أشجار أخر؛ كالتفاح والمشمش والسفرجل ونحوها: قلنا: لا تجوز المساقاة عليها على الانفراد، فهل تجوز تبعاً للنخيل والكرم؟

واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تجوز كالمزارعة، ومنهم من قال: لا تجوز؛ لأن الأشجار أصول لا يتبع بعضها بعضاً؛ بخلاف البياض، فإنه ليس بأصل ينتفع به وحده؛ فكان تبعاً للأشجار، فحيث جوزنا المزارعة تبعاً للمساقاة: فلو كان في البياض زرع موجود يوم العقد: هل تجوز المزارعة عليه؟ فيه وجهان؛ بناءً على جواز المساقاة على الثمار الموجودة، وفيه قولان. فصلٌ ولا تصح المساقاة حتى يجعل للعامل جزءاً معلوماً من الثمار، فيقول: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة، أو ثلثها؛ فإن قال: لك بعضها، أو جزء منها: لا يجوز؛ لأنه غير معلوم. فإن قال: على أن الثمرة بيننا نصفان: صح، وتكون بينهما سواء، ولو قال: بيننا، ولم يزد عليه: فيه وجهان: الأصح: لا يجوز؛ لأنه يحتمل المساواة، ويحتمل التفاوت. ولو قال: على أن لك ثلث الثمرة، ولم يقل: الباقي لي: صح، وكان الباقي لرب الحائط. ولو قال: على أن لي ثلث الثمرة فيه وجهان: أحدهما: يجوز، ويكون الباقي للعامل. والثاني- وهو الأصح، وبه قال المزني-: لا يصح؛ بخلاف الصورة الأولى؛ لأن ثمرة الحائط كلها لرب الحائط، فإذا بين نصيب العامل: تعين الباقي له، وإذا أضاف البعض إلى نفسه: فلا يدل على أن الباقي يكون للعامل؛ كما ذكرنا في القراض. ولو ساقاه على ثمرة نخلة بعينها: لم يجز، [لأنها ربما لا تثمر تلك النخلة]، وكذلك: لو قال: على أن لك صاعاً من الثمرة، والباقي بيننا، أو على أن لي صاعاً والباقي بيننا: لا يصح؛ لأنه ربما لا يحصل إلا صاع؛ فلا يكون للآخر نصيب. ولو قال: [على] أن لك الثلث، والباقي بيننا نصفان: يصح؛ كما ذكرنا في "القراض".

ولو قال: ساقيتك إلا على هذه النخلة: جاز وصحت المساقلق على نخيل الحائط سواها. قلت: ولو قال: ساقيتك على هذه النخلة الواحدة: جاز؛ كما لو كان له حائطان ساقى على أحدهما: يجوز. ولو ساقى رجلان على أن جميع الثمرة للعامل: لا يصح؛ فإذا عمل: فله أجر المثل. ولو ساقاه على أن جميع الثمرة لرب النخيل: لا يصح أيضاً، وهل يستحق العامل أجر المثل؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول المزني: لا يستحق؛ لأنه عمل مجاناً. والثاني- وهو قول ابن سريج: يستحق. ولو كان بين رجلين نخيل لكل واحد نصفها، فساقى أحدهما صاحبه على أن للعامل ثلثي الثمرة: جاز؛ لأن دفع إليه نصيبه؛ فساقاه على أن له ثلث نصيبه. ولو شرط للعامل ثلث الثمرة: لا يجوز؛ لأن للعامل له نصف الثمرة بحكم الملك؛ فكأن المساقي شرط أن يعمل له العامل، ويترك إليه مع العمل ثلث نصيبه من الثمرة؛ كما في القراض. لو كان بينهما ألفان، قارض أحدهما صاحبه، وشرط للعامل ثلث الربح: جاز، ولو شرط العامل للآخر الثلثين: لم يجز. ثم في هذه الصورة: هل يستحق العامل في القراض والمساقاة أجر المثل؟ فعلى وجهين: على قول المزني، وهو الأصح: لا يستحق؛ لأنه عمل مجاناً. وعلى قول ابن سريج: يستحق. ولو كان بينهما نخيل، فساقى كل واحد منهما صاحبه على أن يعملا معاً؛ على أن يكون لأحدهما ثلثا الثمرة، وللآخر الثلث: فهذا فاسد للاشتراك في العمل، والثمرة تكون بينهما على قدر الملكين، ثم إن استويا في العمل: لا شيء لأحدهما على الآخر؛ لأن كل واحد عمل لنفسه، وإن كان عمل أحدهما أكثر- نُظر: إن كان عمل من شرط له الزيادة أكثر: يستحق أجر مثل تلك الزيادة، وإن كان عمله أقل: فالآخر هل يستحق أجر زيادة عمله؟ فعلى الوجهين.

ولو كانت بين رجلين نخيل، فعقد المساقاة مع رجل، وشرطا له ثلث الثمرة، أو ربع الثمرة: جاز، وإن لم يعلم العامل، كم نصيب كل واحد من الحائط؟ فإن فاوتا، فقالا: على أن لك من نصيب أحدنا الثلث، ومن نصيب الآخر الربع، ولم يبينا: أن الثلث من نصيب أيهما لم يجز، وإن بينا أن له الثلث من نصيب زيد، والربع من نصيب عمرو- نظر: إن علم العامل قدر نصيب كل واحدم ن الحائط: جاز، وإن لم يعلم: لم يجز؛ لأنه لا يدري، كم له من ثمر الحائط؟ ولو كانت النخيل لواحد، فساقى رجلين، وشرط لأحدهما نصف الثمر، وللآخر الثلث، وبين لمن النصف، ولمن الثلث: جاز، ولو كان في حائطه أنواع من الثمر: دقل وعجوة، وصيحاني، فساقى رجلاً، وشرط له نصف الكل، أو ثلث الكل: جاز، وإن لم يعلم العامل؛ كم فيه من كل نوع، وإن شرط له من بعض الأنواع النصف، ومن البعض الثلث، وبين- نظر: إن علما قدر كل نوع منها: جاز، وإن جهلا أو أحدهما: لم يجز؛ كما لو ساقاه في حائطين على أن له من أحدهما النصف، ومن الآخر الثلث، ولم يبين: لم يجز، وإن بين فقال: ساقيتك في هذين الحائطين على أن لك من هذا النصف، ومن الآخر الثلث: جاز. ولو ساقاه نخيلاً على النصف على أن يساقيه العامل حائطه على الثلث، أو على أن يساقيه رب النخيل حائطاً آخر على الثلث: لا يصح؛ لأنه شرط عقد في عقد؛ كما لو قال: بعتك عبدي بألف على أن تبيعني عبدك: لا يصح، وهل تصح المساقاة الثانية؟ - نُظر: إن عقدها على شرط العقد الأول: لا يصح؛ وإلا فيصح. ولو ساقاه نخيلاً على أنه إن ساقاها بماء السماء- فله الثلث، وإن ساقاه بالنضح- فله النصف: لا يصح لأنه لا يدري بماذا يستحق؛ كما لو قارضه دراهم على انه إن ربح على البحر فله النصف، وإن ربح على البر- فله الثلث: لا يصح، وللعامل أجر المثل. وكل موضع فسدت المساقاة: يستحق العامل أجر المثل، وإن هلكت الثمار إلا في موضع واحد اختلفوا فيه وهو: أن يكون العامل متبرعاً بالعمل؛ بأن شرط جميع الثمرة لرب النخيل؛ فلا أجر له؛ على أصح الوجهين. أما في المساقاة الصحيحة، إذا هلكت الثمرة: فلا شيء للعامل؛ لأن في المساقاة الصحيحة حق العامل في الثمر، فإذا هلكت الثمرة: لا شيء له، وفي الفاسد حقه في ذمة رب النخيل؛ فلا يسقط بهلاك الثمرة.

ولو ساقاه نخيلاً سنة، فأدركت الثمرة قبل مضيها: يجب على العامل أن يعمل في الحائط بقية المدة، ولا أجرة له سوى المشروط من الثمرة، وإن تمت السنة، ولم تدرك الثمرة: فإن كانت طلعاً أو بلحاً: فعلى رب المال تعهدها حتى تدرك ويأخذ العامل منها حقه، وإن لم تطلع حتى انقضت المدة: فلا حق للعامل فيها. ولو استأجر رجلاً؛ ليتعهد نخيله على مال معلوم: جاز؛ سواء كان بعد خروج الثمرة أو قبلها. أما إذا استأجره على جزء من ثمر تلك النخيل ينظر: إن كان قبل خروج الثمرة: لا يجوز، سواء شرط له ثمرة نخلة بعينها أو شرط له جزءاً شائعاً؛ لأن الإجارة صنف من البيوع؛ فلا يجوز إلا على معلوم موجود، والمساقاة معاملة على أصل يعمل فيه؛ ليكون له جزء مما يظهر بعمله؛ كالقراض. وإن كان بعد خروج الثمرة- نُظر: إن كان بعد بدو الصلاح في الثمرة: جاز، سواء شرط له جزءاً شائعاص أو ثمرة نخلة بعينها. وإن كان قبل بدو الصلاح: فإن شرط له ثمرة نخلة بعينها: جاز بشرط القطع، وإن لم يشرط القطع: لم يجز؛ كبيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وإن شرط له جزءاً شائعاً: لم يجز، وإن شرط القطع؛ لأنه لا يمكن قطع بعضها شائعاً إلا بقطع الكل. فصلٌ كل عمل يتكرر كل سنة في الحائط، وفيه مستزاد في الثمرة: يجب ذلك على العامل في المساقاة؛ مثل: إصلاح طريق الماء وتنقية السواقي وتنقية البئر وإدارة الدولاب والسقي وتصريف الجريد وقطع الحشيش المضر وإبار النخيل، وهل يجب شرطه في العقد؟ قيل: يجب. والأصح: لا يجب؛ ومطلق العقد يقتضيه. ولو شرط شيء من ذلك على رب النخيل: بطل العقد، أما ما فيه حفظ الأصل؛ مثل: سد الحيطان وحفر النهر الجديد والبئر وعمل الدولاب: فهي على رب النخيل، ولو شرط شيء من ذلك على العامل: بطل العقد، ولو فعله العامل بغير إذن رب النخيل: لم

يستحق شيئاً، وإن فعل بإذنه: استحق أجر المثل، وتكريب الأرض وإدارتها في الزراعة على العامل؛ كقطع الحشيش، وتجب الآلات؛ كالفأس والمنجل والمعول والثيران، على رب الحائط، وقيل الثيران والفدان على من شرط عليه منهما، فإن سكتا عن شرطه: لم يصح العقد. واختلف أصحابنا في الجذاذ واللقاط: فمنهم من قال: يلزم العامل؛ لأنه لا تستغني عنه الثمرة؛ كإبار النخيل، ومنهم من قال: لا يلزمه؛ لأنه يحتاج إليه بعد تكامل الثمار، وهل يجب على العامل حفظ الثمار عن الطيور؟ فيه وجهان: ويجب حفظ الأمتعة. وقيل: لا يجب عليه حفظه عن اللصوص، بل على كل واحد حفظ نصيبه، وهل على العامل وضع الجدار على الجدار؟ فيه وجهان. والخراج يكون على رب الحائط، والتعريش على العامل، إن كان فيه مستزاد في الثمرة، وكل عمل يلزم العامل. ولو استأجر رب النخيل على أن يعمله: جاز، ولو ساقاه نخيلاً على أن يعمل فيه جميعاً: لم يصح؛ كما في القراض، أو شرط رب المال أن يعمل فيه: لم يصح. ولو شرط العامل على رب النخيل غلماناً يعملون معه: نص على جوازه، وقد ذكرنا في القراض وجهين: فمن أصحابنا من جعل في المساقاة أيضاً- وجهين؛ كالقراض. أحدهما: لا يجوز؛ لأن عمل الغلام كعمل رب المال، فإذا لم يجز شرط عمل رب المال: لم يجز شرط عمل غلامه، والمراد من النص الأعمال التي تلزم رب المال من سد الحيطان وحفر الأنهار ونحوها؛ لا أنها تلزم العامل. والوجه الثاني: يجوز فيما يلزم العامل؛ لأن غلامه ماله؛ فجاز أن يجعله تابعاً لماله؛ كالثور في عمل الدولاب والحمار لحمل المتاع؛ بخلاف رب المال؛ فإنه مالك لا يجعل تابعاً لماله.

ومنهم من قال في "المساقاة": يجوز وجهاً واحداً؛ لأن في المساقاة: يكون بعض الأعمال على رب المال؛ فلا ينفرد به العامل باليد؛ فجاز أن يشترط فيها عمل غلامه، وليس على رب المال في القراض عمل؛ فلا يجوز شرط عمل الغلام فيه، وليس كما لو شرط أن يعمل معه رب النخيل: لم يجز؛ لأن رب النخيل، إذا دخل معه: يكون أصلاً، ويكون اليد له، والغلمان يكونون تحت يد العامل؛ يصرفهم كيف يشاء، فلا تكون اليد لهم؛ بدليل أنهما لو تنازعا في شيء، وكان الشيء في يد العامل: كان القول قول العامل. فإن قلنا: يجوز: لم يصح حتى يعرف الغلمان بالرؤية أو بالوصف. ويجب أن يكون الغلمان تحت أمر العامل؛ فإن جعل التدبير إلى الغلمان: لم يجز؛ لأن العاملح حينئذ- يكون تبعاً، ولا يكون متبوعاً، ونفقة الغلمان على ما يتشارطان؛ فإن شرطا على العامل: جاز؛ لأنهم أعون له، وإن أطلقا: فالنفقة على رب النخيل؛ لأنه مالكهم. وعند مالك- رحمة الله عليه: على العامل، وإذا شرطا على العامل، هل يشترط بيان قدرها؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط أن يبين نفقة كل يوم من الخبز والإدام. والثاني: لا يشترط، بل على العادة؛ لأن العمل مجهول؛ كذا النفقة: جاز ألا تكون معلومة. ولو شرط نفقتهم في الثمار: لا يجوز؛ لأن ما يبقى يكون مجهولاً، ثم بعد فراغ الغلمان من عمل الحائط: ليس للعامل أن يستعملهم في عمل نفسه، ولو شرط ذلك: بطل العقد؛ لأنه شرط لنفسه جزءاً من الثمرة، مع عمل الغلام. ولو شرط العامل أن يعمل معه غلمانه، أو يستأجر أجراء يعملون معه، وتكون نفقة الغلمان وأجرة الأجراء من الثمرة: لا يصح؛ لأنه مجهول، ولأن مقتضى المساقاة، أن يكون العمل على العامل؛ فإذا شرط أن يعمل معه غيره، ويكون أجرته من الثمرة: فقد أسقط عن نفسه بعض ما يلزمه من العمل؛ بخلاف ما لو شرط في القراض أجرة الأجراء؛ مثل: الدلال والحمال والمنادي من مال القراض: جاز؛ لأن مؤنة هذه الأعمال: تكون في مال القراض عند إطلاق العقد؛ فلا يتعين بالشرط حكم العقد. وإذا كان له حائط له فيه غلمان يعملون فساقى رجلاً: لا يدخل الغلمان فيه؛ لأن قصده تفريغ الغلمان لشغل آخر.

وعند مالك- رحمة الله عليه-: يدخل الغلمان في العقد. فصلٌ عقد المساقاة: عقد لازم، فبعد تمام العقد: لا يجوز لأحدهما فسخه؛ لأن النماء فيه متأخر، فلو قلنا: يملك الفسخ: لم نأمن أن يفسخ بعد العمل قبل حصول الثمرة؛ فيضيع عمل العامل، والعامل يملك نصيبه من الثمار بنفس الظهور، حتى يجب عليه زكاة نصيبه من الثمار، إذا كان مجموع الثمر نصاباً؛ بخلاف القراض: لا يملك العامل يه حصته من الربح بنفس الظهور؛ على أصح القولين، ولا يجب عليه زكاة نصيبه؛ حتى يقتسما؛ لأن الربح في القراض وقاية لرأس المال لا يستقر عليه ملك العامل، ما لم يقتسما بدليل أنه لو خسر بعدما ربح: لم يكن للعامل فيه نصيبن والثمرة في المساقاة ليست وقاية لرأس المال؛ بدليل أنه لو تلف جميعها إلا قليلاً: كان ذلك القليل بينهما. فلو هرب العامل في المساقاة، أو مرضن فإن تبرع المالك بالعمل وبالنفقة: فإذا رجع العامل: أخذ نصيبه من الثمرة، ولم يرجع المالك عليه بما أنفق، وإن لم يتبرع: رفع الأمر إلى الحاكم، حتى يستأجر من مال العامل من يكمل عمله، وإن لم يجد له مالاً؛ فإن كان بعد بدو الصلاح في الثمار: باع بعض نصيب العامل، إما من رب المال أو من غيره، فإن احتاج إلى بيع كله: باع كله واستأجر من يعمل فيه. وإن كان قبل خروج الثمرة، أو قبل بدو الصلاح: لا يمكن بيع بعضه، فيستقرض عليه من رجل، أو من بيت المال، وعلى العامل أداؤه إذا رجع أو يقضي من الثمرة، إذا أدركت. ولو استقرض الحاكم من رب النخيل مالاً، فأنفق منه: جاز، ثم رجع على العامل أو أخذ من نصيبه من الثمرة. ولو أنفق رب النخيل ليرجع عليه، أو عمل فيه بنفسه ليرجع- نظر: إن فعل بغير أمر الحاكم وهناك حاكم: فهو متبوع لا يرجع. وإن لم يقدر على حاكم: فإن أشهد؛ المذهب: أنه يرجع؛ لأنه موضع ضرورة، وإن لم يشهد: فلا يرجع، إن أمكنه الإشهاد، فإن لم يمكنه الإشهاد: فعلى وجهين. وإن أنفق بأمر الحاكم: ففيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه فعل بإذن من إليه الأمر. والثاني: لا يرجع؛ لأنه متهم في حق نفسه، بل يجب أن يدفع المال إلى الحاكم ليدفع إلى غيره؛ فينفق عليه؟

وإن لم يجد الحاكم من يستقرض منه، ولم يكن في بيت المال مال- ينظر: إن كان قبل خروج الثمرة: للمالك أن يفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه، كما لو اشترى عبداً، فأبق من يد البائع: وللعامل أجر مثل ما عمل. وإن كان بعد خروج الثمرة: فهي مشتركة بين رب المال والعامل. وإن كان بعد بدو الصلاح: يباع نصيب العامل: إما من رب النخيل، أو من غيره، فإن لم يوجد من يشتري، أو كان قبل بدو الصلاح: لا يمكن بيع نصيب العامل؛ لأن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح: لا يجوز إلا بشرط القطع، ولا يمكن قطع بعضه؛ إلا بقطع كله، فيترك حتى يبدو الصلاح، أو يصطلحا على شيء. وإذا ظهر من العامل خيانة: فلا فسخ لرب المال؛ لأنه عقد لازم، ونص- ههنا- أنه يكارى عليه من يعمل عنه، وقال في موضع آخر: يضم إليه أمين، وأجرته على العامل: فمن أصحابنا من قال فيه: قولان. ومنهم من قال: هي على حالين: فإن كان العامل قوياً لا يقدر الأمين على منعه من الخيانة: ينتزع من يده، ويمنع من دخول الحائط، ويكتري عليه من يعمل عنه، والأجرة عليه، وإن قدر الأمين على منعه: ضم إليه أمين، وإن توهم الخيانة: لا يتكارى عليه، ما لم يظهر. ولو مات العامل أو رب النخيل أو هما: لا ينفسخ العقد، إلا أن العامل إذا مات: فإن أتم وارثه العمل، أو استأجر من تركته من يتم العمل: جاز، ويستحق نصيبه، وإن لم يعمل الوارث: لا يجبر عليه؛ لأن المعاقدة لم تجر معه، بل يكتري الحاكم من تركته من يتم العمل؛ كما لو كان عليه دين يؤدي من تركته، وإن لم تكن له تركة: لا يستدان على الميت؛ لأنه لا ذمة له، ولرب النخل فسخ العقد، إن كان قبل خروج الثمرة، وإن كان بعد خروجها: فهي مشتركة بين المالك والعامل؛ فيباع نصيب العامل، إن كان بعد بدو الصلاح؛ كما ذكرنا في هرب العامل. وإذا مات رب النخيل: يتم العامل العمل، ويأخذ حقه. ولو احتاج إليها- نظر: إن احتاج كلها: انفسخ العقد، ولا شيء للعامل، وإن احتاج بعضها: فالعامل بالخيار بين أن يفسخ العقد، ولا شيء له، وبين أن يجيز، ويتم العقد، وله حصته مما بقي.

ولو ظهر للنخيل مستحق: أخذها المستحق مع الثمار، ولا شيء عليه، ويرجع العامل على من ساقاه بأجر مثل عمله؛ لأنه غره؛ كمن غصب نقرة من إنسان، فدفعها إلى آخر، حتى طبعها دراهم: أخذ المغصوب منه الدراهم، ويرجع الطابع على الغاصب بالأجرة: وإن كانت الثمرة تالفة؛ فإن كانا قد اقتسماها، فأكلاها، وتلفت في أيديهما: فالمستحق بالخيار بين أن يغرم الدافع أو العامل: فإن غرم الدافع: له أن يطالبه بجميع قيمة الثمرة، وإن تلف شيء من أصول النخل: يطالب بضمانه، وإن غرم العامل، كم يغرمه؟ ظاهر كلام المزني: أنه يغرم قيمة النصف الذي شرط له؛ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال- وهو الأصح-: الأمر كما ذكر المزني؛ أنه يغرمه نصف الثمر المشروط له؛ لأنه أخذ ذلك النصف بعقد معاوضةن وتلف في يده؛ فيلزمه ضمانه، وبعد ما غرم: لا يرجع على الدافع بما غرم، بل يأخذ منه أجر مثل عمله، أما النصف الآخر: لم يكن في يد العامل؛ وكذلك: أصول الأشجار؛ بدليل أنه لا يلزمه حفظها، ولو جعل في يده: لزمه حفظها؛ كما يلزم العامل في القراض حفظ مال القراض: فعلى هذا: يأخذ ضمان النصف الآخر، وضمان أصول الأشجار من الدافع؛ لأنه الغاصب، ولم يكن له مطالبة العامل به، وإذا أخذ الكل من الدافع: فهو يرجع على العامل بنصف قيمة الثمرة. ومن أصحابنا من قال: يجوز للمستحق أن يغرم العامل جميع قيمة الثمرة، وما تلف من أصول الأشجار؛ لأنها كانت في يده من طريق المشاهدة؛ فتصرف فيها؛ كالعامل في القراض، إذا هلك المال في يده، وخرج مستحقاً- يغرمه المستحق كله؛ فعلى هذا: إذا غرم العامل المستحق كله: لم يرجع العامل على الدافع بقيمة النصف الذي أخذه؛ عوضاً عن عمله، وهل يرجع بالنصف الآخر؟ فيه وجهان: قال الشيخ: أحدهما: يرجع؛ كالمستودع من الغاصب إذا ضمن: يرجع على الغاصب. والثاني: لا يرجع؛ لأنه كان يحفظ ويتصرف لحق نفسه؛ بخلاف المستودع، وإن غرم الدافع كلها: رجع الدافع على العامل بالنصف.

فصلٌ إذا اختلف العامل ورب النخيل في العوض المشروط، فقال العامل: شرطت لي النصف، وقال رب النخيل: شرطت الثلث: تحالفا، وبعد التحالف: للعامل أجر مثل عمله؛ سواء كان أكثر مما أقر به رب النخيل، أو أقل، وإن أقام أحدهما بينة: قضى له، وإن أقام كل واحد بينته: ففي قول: يتهاتران، وهو الأصح؛ فعلى هذا: يتحالفان، وفي قول: يستعملان، فعلى هذا: يقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة: قضى له، ولا يأتي قول الوقف والقسمة. وقيل: يأتي قول القسمة، فيجعل السدس المختلف فيه بينهما نصفين، ولو ساقاه رجلان، ثم اختلفوا؛ فقال العامل: شرطتما لي النصف، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، وقال: بل الثلث: يأخذ العامل النصف من نصيب المصدق، وهو مع المكذب: يتحالفان، وبعد الحلف: يأخذ منه أجر مثل عمله، ولا شيء له من نصيبه من الثمر، ولو شهد المصدق للعامل: قبلت شهادته، فيحلف معه العامل، ويأخذ النصف؛ وكذلك: لو شهد لشريكه أنه ساقاه على الثلث: يقبل. ولو أنكرا جميعاً، ثم شهد أحدهما لصاحبه مع نفسه، فقال ساقيناه على الثلث: فشهادته في حق نفسه باطلة، وهل يبطل في حق صاحبه؟ فعلى قولي تبعيض الشهادة. ولو ادعى رب النخيل على العامل خيانة: لا يسمع حتى يبين قدر الخيانة، فإذا بين، وأنكر العامل: فالقول قول العامل مع يمينه. وكذلك: لو ادعى هلاك شيء من المال: قُبل قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، والله أعلم.

كتاب الإجارة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإجارة قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقال جل

ذكره؛ إخباراً عن شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ} [القصص: 27].

وروي عن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- "احتجم وأعطى الحجام [أجره] ". الإجارة: جائزة عند عامة أهل العلم. وهي بيع منافع الأعيان، جوز مع كون المنافع معدومة للحاجة الداعية إليه، ثم كل عين ظاهرة يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وجري الإباحة في منفعتها: جاز إجارتها؛ كالدور والأراضي والعبيد والدواب ونحوها. ويجوز استئجار الحر وأم الولد والمدبر. أما ما لا يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه؛ كالأطعمة: لا يجوز إجارتها، وهل يجوز استئجار الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.

والثاني: يجوز؛ لأنه يريد أن يتجمل بها، وأن يضرب على طبعها. والأول أصح؛ لأن الدراهم والدنانير لا تراد للجمال. وكذلك: هل يجوز استئجار الأشجار؛ لتجفيف الثياب والاستظلال بها؟ فيه وجهان: الأصح: لا يجوز؛ لأن الأشجار لا تراد لهذا الأمر؛ فكان بذل العوض فيه تبذيراً وسفهاً. وكذلك: الوجهان في استئجار الببغاء للاستئناس بوصته. ويجوز استئجار الحلى للبس واستئجار الرياحين والمسك للشم، وتضمن منفعتها بالغصب. ويجوز استئجار الجوارح للصيد، "الفهد" و"البازي" واستئجار الهرة لأخذ الفأر، ويجوز استئجار الولد للخدمة، ويكره استئجار أحد الأبوين، [و] هل يصح؟ إن ألزم ذمته: صح، وإن استأجر عينه: فوجهان؛ بناءً على المسلم إذا أجر نفسه من كافر. وهل يجوز استئجار الكلب المعلم للاصطياد والحراسة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الانتفاع به يباح؛ كالفهد. والثاني: لا يجوز؛ لأن اقتناءه حرام إلا للحاجة، وما أبيح للحاجة: لا يجوز أخذ العوض عليه؛ كالميتة: تُباح عند الضرورة، ولا يجوز بيعها. ويجوز استئجار الشبكة للاصطياد.

ويجوز إجارة المشاع في نصف دار، ونصف عبد، سواء أجر من شريكه أو من غيره، وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يجوز من غير شريكه، وجوزه صاحباه. والإجارة تنعقد بلفظ "الإجارة" و"الكراء"؛ تقول: أكريت منك هذه الدار بكذا، أو أجرت منك هذه الدار بكذا، وإن قال: أجرت منك منفعة هذه الدار: يجوز. وقيل: لا يجوز حتى يقول: أجرتك هذه الدار. وإن كان في الذمة، فقال: أكريت ذمتك بكذا: جاز، وإن لم يتلفظ بواحد من اللفظين. ولو قال بلفظ التمليك والبيع- نُظر: إن قال: بعت منك هذه الدار: لا يصح؛ لأنه لتمليك العين، وإن قال: بعت منك، أو ملكتك منفعة هذه الدار شهراً بكذا: ففيه وجهان: قال ابن سريج: يصح؛ لأن الإجارة صنف من البيوع.

والثاني- وهو الأصح-: لا يصح؛ لأنه موضوع لتمليك العين؛ فلا يستعمل في تمليك المنفعة؛ كما لا ينعقد البيع بلفظ الإجارة، والنكاح بلفظ البيع. ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة المقدار، ويعلم مقدار المنفعة: إما ببيان المدة أو العمل: فبيان المدة: أن تقول: اكتريت هذه الدار لأسكنها سنة، أو هذه الدابة لأركبها يوماً، واستأجرت هذا الثوب لألبسه شهراً. وبيان العمل أن يقول: استأجرتك؛ لتخيط لي هذا الثوب، أو لتبني هذا الجدار ونحو ذلك: فيجوز. ولو جعل العمل في ذمته، فقال: ألزمت ذمتك؛ ليحصل لي خياطة ثوب أو بناء جدار كذا: جاز. ولو قدر العمل والمدة جميعاً، فقال: استأجرتك اليوم؛ لتخيط لي هذا الثوب: هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه ربما تم أحدهما قبل الآخر. والثاني: يجوز، ويستحق المسمى بأسرعهما انقضاء. ويشترط بيان الأجرة: إما بالمشاهدة أو ببيان الوصف، والمقدار، فالمشاهدة: أن يقول: استأجرتك؛ لتعمل لي كذا بهذا الدينار، أو بهذا الثوب. والوصف والمقدار أن يقول: استأجرتك بدينار، أو بمائة من حنطة يصفها: فيجوز. ولو استأجر بكف من دراهم نشاهدها غير معلوم الوزن، أو بشيء جزافاً، هل يجوز،

أم لا؟ نُظر: إن كان العقد على منفعة في الذمة: ففيه قولان؛ كالسلم، وإن كان على منفعة معينة: ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو كان في الذمة. ومنهم من قال: يجوز قولاً واحداً؛ كبيع العين: يجوز أن يكون العوض فيه جزافاً، فلو لم يبين الأجرة، بل قال: اعمل لي كذا، لا أعطيك شيئاً، وأرضيك، أو استأجره بمسمى فاسد من خمر أو خنزير: لا يصح، والعامل يستحق أجر مثل عمله، ولو جعل أجرته من شيء يجعله بعمله: لا يجوز؛ مثل: أن يقول: انسج هذا الثوب، ولك نصفه، أو اجن هذه الثمرة، ولك ثلثها أو اسلخ هذه الشاة، ولك جلدها، أو رد آبقي، ولك نصفه، أو اطحن هذه الحنطة على أن لك ثلث الدقيق: لا يجوز؛ لأنه يعمل له ولنفسه، وعليه الأجرة، وإن قال: استأجرتك بربع هذه الحنطة على أن تطحن لي ثلاثة أرباعها: جاز ثم يقاسمه قبل الطحن، فيفرز الربع؛ ليطحن الباقي، أما إذا كان بينهما حنطة: استأجر أحدهما صاحبه بدرهم؛ ليطحنها، أو كان بينهما ثوب استأجره ليقصر نصيبه بدرهم، أو كان بينهما دابة استأجرها صاحبه ليتعهد نصيبه بكذا؛ كما لو استأجر أحدهما من الآخر جوالقا؛ ليجعل فيه الحنطة المشتركة: جاز. ولو جعل الأجرة منفعة عين: يجوز؛ مثل: إن أجر داراً بمنفعة دار أخرى، أو بمنفعة عبد أو أجر داراً بمنفعة دارين: يجوز، لأنه لا ربا في المنافع؛ فإنه لو أجر حلياً من ذهب بالذهب: يجوز، ولا يشترط القبض في المجلس. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يجوز إجارة المنافع بالمنافع عند اتفاق الجنس. ولو دفع ثوباً إلى خياط، فقال: إن خطت اليوم، فلك درهم، وإن خطت الغد، فلك نصف درهم. قال الشيخ- رحمه الله-: في أي يوم خاط، فله أجر المثل. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إن خاط اليوم، فله درهم، وإن خاط غداً، فأجر المثل. وقال أبو يوسف ومحمد: له أجر المثل في أي يوم خاط، وإذا أجر شيئاً بأجر

معلوم: فإن شرط تعجيل الأجر: يتعجل، وإن شرط التأجيل: يتأجل، وإن أطلق: يجب تعجيلها؛ كالثمن في البيع؛ فيملك الأجرة بنفس العقد، ويستحق تسليم [الكل إليه بتسليم العين إلى المستأجر. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يملك الأجرة بنفس العقد، بل يملك شيئاً فشيئاً، ويستحق التسليم] شيئاً فشيئاً؛ كما أن المستأجر يستوفي المنفعة شيئاً فشيئاً. فنقول: عوض في معاوضة تتعجل بشرط التعجيل. فتتعجل عند الإطلاق؛ كالثمن في البيع، فإن قيل: المستأجر لا يملك المنفعة إلا شيئاً فشيئاً؛ كذلك الآجر: لا يملك الأجرة، قلنا: لا، بل يملك المستأجر المنفعة بنفس العقد، وإن كانت معدومة، فنجعلها كالموجودة في الحكم؛ كما جعلناها موجودة في جواز العقد عليها. والدليل على أنه يملك الأجرة بنفس العقد: أن الاعتياض عنها: يجوز، ويصح ضمانها، والمكاتب: لو بقي عليه عشرة دراهم من النجوم، فأجر داره من سيده بعشرة: يعتق. ولو استأجر عيناً أو اكترى دابة بعينها لحمل أو ركوب: جاز، وإن كان يشاهدها، وإن كانت غائبة: فعلى قولي شراء الغائب. فإن جوزنا: فإن كانت داراً أو أرضاً: يجب أن يبين موضعها، وسعتها، أو دابة: يذكر جنسها ونوعها أنها: بعير، أو حمار، أو بغل، من ذكر أو أنثى. ولا يجب تسليم الأجرة في المجلس. ولو تلفت الدابة تنفسخ بنفس العقد. ولو تعيبت، أو وجد بها عيباً قديماً: للمكتري فسخ العقد، ولا يجوز الإبدال؛ كالمبيع المتعيب، إذا تلف، وإذا كانت الإجارة في الذمة؛ بأن قال: ألزمت ذمتك، وحملي، أو حمل متاعي على دابتك إلى موضع كذا: فهو كالسلم؛ لا يشترط رؤية الدابة، بل يصفها. ويجوز بلفظ "السلم" فيقول: أسلمت إليك هذه الدراهم، أو هذا الثوب في ظهر يحمل متاعي، أو يحملني إلى موضع كذا. ولا يجوز تأجيل الأجرة، بل يجب تسليم الأجرة في المجلس بأي لفظ عقد.

لو عين الدابة، فقال: ألزمت ذمتك حملي على هذه الدابة: لا يصح؛ لأن السلم في العين لا يجوز ولو تلفت الدابة أو تعيبت بعد التسليم، أو وجد بها عيباً قديماً: لا ينفسخ العقد، ولا يفسخ، وعلى المكتري الإبدال. وقيل: إن قال بلفظ "الكراء" فقال: اكتريت منك دابة تحملني عليها إلى موضع كذا، أو بلفظ "الإجارة" هل يجب تسليم الأجرة في المجلس؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن المراعي في العقود اللفظ أو المعنى؟ إذا راعينا المعنى: يجب، وإن راعينا اللفظ لا يجب. فصلٌ في بيان المدة والعمل إذا أجر داراً أو عبداً للانتفاع بها: يجب أن يبين المدة بالأيام أو بالشهور، أو بالسنين، فلو قال: أجرتك شهراً، أو قال: سنة: فعلى وجهين: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لم يبين أي شهر، أو أي سنة، حتى يقول: شهر أو سنة من الآن؛ كما لو قال: بعتك عبداً، ولم يعين: لا يجوز. والثاني: يصح، ويكون ابتداؤه من يوم العقد، فإن أجر شهراً: يكون ثلاثين يوماً بالأيام، وإن أجر شهرين، فيكمل الشهر الأول بالشهر الثالث ثلاثين يوماً؛ لأنه ينكسر، والشهر الثاني يكون بالهلال، وإن كان ناقصاً. ولو أجر سنة تكون اثني عشر شهراً: يكمل الشهر الأول بالثالث عشر ثلاثين يوماً، وأحد عشر شهراً يكون بالأهلة. وكذلك: لو أجر اثنا عشر شهراً، ويحمل مطلق ذكر السنة على الهلالية: فإن قال: سنة؛ بالعدد: تكون ثلثمائة وستين يوماً. ولو قال: أجرتك هذه السنة: ينصرف إلى ما بقي من السنة، ولو قال: شهراً من هذه السنة: فإن لم يكن بقي من السنة إلا شهر: صح وإن بقي أكثر: لم يصح للجهالة. ولو قال: إلى نصف هذا الشهر: فينتهي إذا غربت الشمس من اليوم الخامس عشر. ولو قال: اكتريت نصف هذا الشهر؛ فيكون نصف باقي الشهر. ولو قال: أجرتك هذه السنة كل شهر بكذا: يجوز، وإن فاوت بين الشهور في مقدار الأجرة. وكذلك: لوق ال: هذا الشهر كل يوم بكذا.

ولو قال: أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار: فالمذهب: أنه لا يصح؛ لأنه لم يبين المدة. وقال في "الإملاء": يصح في الشهر الأول؛ لأنه معلوم، وما زاد مجهول، لا يصح. وكذلك: لو قال: أجرتك كل شهر من هذه السنة بكذا: لم يصح؛ لأنه لم يضف إلى جميع السنة. وقال ابن سريج: يصح في شهر واحد؛ كما لو قال: أجرتك هذا شهراً بدينار، وما زاد فبحسابه: صح في شهر واحد، وقد ذكر الشافعي- رضي الله عنه-: أنه لو اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة بعشرة، وما زاد فبحسابه؛ أنه يصح في شهر، وفرق بينهما من حيث إن هناك أفرد الشهر الأول بالعقد، وأفرد الأقفزة بالعشرة عما سواها؛ فصح العقد فيها، وفيما نحن فيه: لم يفرد الشهر عما بعده؛ فلم يصح في شيء منه. ولا يصح إجارة الزمان المستقبل؛ مثل: إن قال: أجرتك هذه الدار سنة ابتداؤها من الغد أو الشهر الثاني، أو هذه الدابة إلى موضع كذا؛ لتخرج غداً. وعند أبي حنيفة: يصح ذلك لنا: أنه تأخر مقتضى العقد عنه، كما لو اشترى داراً أو عبداً بشرط ألا يسلم إلا بعد شهر: لا يجوز. فإن كان العقد في الذمة بأن قال: ألزمت ذمتك حملي على دابتك غداً إلى موضع كذا بكذا، أو غسل ثوبي غداً، أو قال: بعد شهر: فهذا يجوز، كما لو أسلم في شيء مؤجلاً: يجوز، فإن أطلق: يكون حالاً، وكذلك: لو أجر داره شهر رمضان من إنسان، ثم قبل مضي رمضان أجرها شوالاً من غيره: لا يجوز، وإن أجرها ممن هي في إجارته: فيه قولان: أصحهما: يجوز؛ لأن إجارته متصلة ليس لغيره يد حائلة، كما لو أجر منه شهرين بعقد واحد. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يأخذ الشهر الثاني قبل مضي الأول؛ فتكون إجارة المستقبل، وكذلك؛ لو أجر داره من زيد شهر رمضان، وزيد أجرها من عمرو، ثم الأول أجرها من عمرو شوالاً قبل مضي رمضان: فعلى قولين.

ولو أجرها من زيد: لا يجوز؛ لأنها ليست في إجارته. وهل يجوز أن يؤاجر الشيء أكثر من سنة؟ نص- ههنا- على أن له أن يؤاجر [داره و] عبده ثلاثين سنة. وقال في موضع لا يجوز أكثر من سنة، وقال في موضع آخر: له أن يؤاجرها ما شاء؛ خرج من هذا: أنه هل يجوز أكثر من سنة؟ فيه قولان. أصحهما: يجوز، بدليل قصة شعيب مع موسى، عليهما السلام؛ قال: {عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، وكالآجل في الديون: يجوز ما شاء؛ ولأن المنافع كالأعيان في أنها تضمن بالعقد الصحيح والفاسد، ثم الجمع بين أعيان كثيرة في العقد: يجوز؛ كذلك المنافع. والثاني: لا يجوز أكثر من سنة؛ لأنه عقد على معدوم جوز لمسيس الحاجة إليه، والحاجة تزول سنة واحدة. فإن قلنا: يجوز أكثر من سنة، فكم يجوز؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: ثلاثون سنة، ولا يجوز أكثر؛ لأنها نصف عمر الإنسان في الغالب. ومنهم من قال: يجوز ما شاء. وحيث قال: ثلاثون سنة: لم يُرد به التحديد، بل أراد لامبالغة في التكثير. ومنهم من قال: يجوز قدر بقاء ذلك الشيء غالباً؛ فإن كان ثوباً: فسنة، وإن كانت دابة: فعشر سنين، وإن كان عبداً: فثلاثين سنة، وإن كان عقاراً: فما شاء، وإن لم نجوز أكثر من سنة: فلا يشترط بيان حصة كل شهر من الأجرة، فإن جوزنا: فأجر أكثر من سنة، هل يشترط أن يبين حصته كل سنة من الأجر؟ فيه قولان: أصحهما: لا يشترط [كما لو أجر سنة: لم يجب] بيان حصة كل شهر، وكما لو اشترى ثلاثة أعبد صفقة واحدة: لا يجب بيان حصة كل عبد. والثاني: يشترط؛ لأن المنافع تتفاوت بالأوقات، وربما تتلف العين في خلال المدة؛ فيتنازعان في قدرها: يلزمه، فإن قلنا: لا يجب البيان: توزع الأجرة على لاسنين على أجور أمثالها.

ولو بين حصة كل شهر، وفاوت بين الشهور، فإذا انفسخ العقد في بعضها: يجب المسمى لما مضى. وبيان العمل إذا استأجره ليخيط له ثوباً: يجب أن يبين الثوب وما يريد منه من قميص أو سراويل أو قباء، ويبين طوله وعرضه، وإذا استأجره ليبني له حائطاً: يجب أن يبين موضعه ويبين طوله وعرضه وسمكه، وأن يبينه من لبن أو طين أو آجر. وإن استأجره لحفر بئر أو نهر: يجب أن يبين موضعه وعرضه وطوله وعمقه. وإذا استأجره لضرب لبن: يجب أن يبين العدد والطول والعرض والسمك. وإذا استأجره ليرعى له مدة: يجب أن يبين جنس الحيوان وعدده. ويجوز أن يعقد على جنس معين، وعلى جنس في الذمة. وإن استأجره على أن يعلمه شيئاً من القرآن: يجب أن يبين موضعه، فإن قال: عشر آيات، ولم يبين: لم يجز، وهل يجب أن يبين أن يعلمه بحرف ابن كثير، أو أبي عمرو، أو غيرهما من القراء؟ فيه وجهان. وإذا استأجر وراقاً ليكتب له مصحفاً أو شيئاً يحل كتابته: يجوز. ويجب أن يبين كم يكتب في كل صفحة من الخطوط، ولا يجب بيان الحروف. وجملة هذا الفصل: أن الإجارة على ضربين: إجارة عقار، وغير عقار: أما العقار: فلا يصح إجارته إلا أن يكون معيناً؛ لأنه لا يجوز ابتياع العقار في الذمة؛ كذلك استئجاره. وتقدير منافعها: يكون ببيان المدة، فيقول: أجرتك هذه الأرض سنة أو سنتين بكذا، ولا يمكن تقدير العمل فيه. أما غير العقار من العبيد والدواب: فيجوز إجارتها معيناً، وفي الذمة، فإن كان معيناً يمكن تقدير المنفعة فيه بالمدة والعمل: فالمدة: أن يقول: استأجرتك لتعمل لي كذا شهراً، والعمل: أن يقول: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب، أو اكتريت هذه الدابة لأركب إلى موضع كذا. وإن كان في الذمة: تصير المنافع معلومة؛ بتقدير العمل؛ وكل منفعة هي مجهولة في

نفسها؛ مثل: سكنى الدار، وسقي الأرض والرضاع: يكون تقديرها بالمدة؛ لأن السكنى وما يروى به الأرض من السقي، ويشبع منه الصبي من اللبن: لا يمكن ضبطه. فإذا اكترى دابة للاستقاء: يجب أن يذكر جنس الدابة أنها بعير أو ثور أو بغل. ويجب أن يعرف عين البئر، ويبين الدواب؛ لأن الدواب تختلف في الصغر والكبر، ويجب بيان المدة، فيقول: تستقي اليوم في هذا البئر بهذا الدلو، ويبين العمل، فيقول: تستقي خمسين دلواً بهذا الدلو. ويجب تعيين الدلو ويكون آلات الاستقاء على المكتري، ولو ألزم ذمته، فقال: ألزمت ذمتك الاستقاء من هذا البئر اليوم، أو يبين العمل، فيقول؛ استقى خمسين دلواً بهذا الدلو من هذا البئر: فيجوز، ولا يجب بيان الدابة. وإذا اكترى للحراسة: يجب أن يبين جنس الدابة، ويبين الأرض؛ لأن الأراضي تختلف بالصلابة والرخاوة، ويبين المدة أو العمل. فالعمل: أن يقول: أجرت هذه الأرض، والمدة: أن تقول: أجرت هذه الأرض يوماً أو شهراً، والآلات على المكتري وإن ألزم ذمته، فقال: ألزمت ذمتك لحراسة أرض كذا: جاز؛ كما ذكرنا في الاستقاء. وإذا اكترى للدياس: لا يصح، حتى يعرف الجنس الذي يداس. ثم إن كان على زرع: لا يحتاج إلى ذكر الحيوان؛ لأنه لا غرض في تعيينه، إنما المقصود يحصل بالدياسة، وإن كان على مدة: لا يصح، حتى يبين جنس الحيوان؛ لأن العمل يختلف باختلافه. فصلٌ في تعذر الانتفاع بالعين المستأجرة إذا استأجر دازاً فانهدمت، أو عبداً فمات، أو عيناً فهلكت- نظر: إن هلكت قبل القبض، أو بعدما قبض هلكت في الحال: ينفسخ العقد، ولا شيء على المستأجر، وإن هلكت بعدما قبضها وانقضت المدة: فقد استقرت الأجرة عليه، وإن هلكت بعد القبض في خلال المدة: ينفسخ العقد في المدة الباقية، وسقط عنه بقدر ما يقابلها من الأجرة، ولا تنفسخ المدة الماضية، وهل له فسخ العقد فيها؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه حصل تسليم منافعها، وهلكت.

والثاني: له الفسخ فيها؛ لأنه لم يسلم له جميع المعقود عليه. فإن قلنا: له الفسخ فيها، وفسخ: يسقط عنه جميع المسمى، وعليه أجر مثل ما مضى من المسمى، ويوزع على المنفعة لا على الزمان، حتى لو استأجر ستة أشهر، ولم يمض من الزمان إلا شهران، ويقابلها نصف الأجرة: عليه نصف المسمى، وإن مضت أربعة أشهر ولا يقابلها إلا ثلث الأجرة: عليه ثلث المسمى. ولو لم تنهدم الدار، ولكن انهدم جدارٌ، أو انكسرت منها دعامة، أو اعوجت، أو انقطع ماء البئر، أو تغير بحيث يمنع الشرب، أو الوضوء، أو مرض العبد، أو اعتلت يده، أو حدث به ما ينقص منفعته بعد القبض، أو قبله: لا ينفسخ العقد، وللمستأجر أن يفسخ العقد في المدة الباقية، وهل له الفسخ في المدة الماضية؟ فيه وجهان: وإن لم يفسخ: فعليه كمال المسمى. وإن اكترى داراً، فانهدم بعضها، ورضى المكتري سكناها، ولم يفسخ العقد- فهل يلزمه جميع الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يستوف جميع ما استحق من المنفعة؛ كما لو اكترى داراً سنة، فسكنها بعض السنة، ثم غصبت. والثاني: يلزمه جميع الأجرة، لأنه استوفى جميع المعقود عليه ناقصاً بالعيب؛ كما لو اشترى عبداً، فسقطت يده في يد البائع، ورضي به المشتري: يلزمه جميع الثمن. ولو هدم المستأجر الدار، أو قتل الدابة، أو أتلف العين: فهو كما لو هدمها أو قتلها الآخر، أو انهدمت وماتت الدابة بنفسها في أنه ينفسخ العقد في المدة الباقية، ولا يتقرر عليه الأجرة، بل عليه قيمة العين؛ بخلاف ما لو أهلك المشتري المبيع قبل القبض: يجعل قابضاً، وعليه تمام الثمن؛ لأن البيع ورد على العين، وقد أتلفها، والإجارة وردت على المنفعة، وهي معدومة لا تصير موجودة بالإتلاف. وقال ابن أبي هريرة: إذا أتلفه المستأجر: يستقر عليه جميع المسمى؛ كما لو قتل المبيع. والأول المذهب، حتى لو عيب المستأجر العين، أو كانت طاحونة فقطع المستأجر النقير، أو كان عبداً فجرحه، أو داراً فكسر منه دعامة: يثبت له الخيار في فسخ العقد؛ كما لو تعيب بنفسه.

أما إذا كانت الإجارة في الذمة: فلا ينفسخ العقد بتلف الدابة، ولا يثبت حق الفسخ بتعيبها، وعلى المكتري الإبدال، كما لو وجد بالمسلم فيه عيباً رده واستبدله. ولو اكترى دابة فهربت، أو عبداً فغصب أو أبق- نُظر: إن كانت الإجارة في الذمة: فعلى المكري الإبدال، وإن لم يفعل: يستأجر عليه. وإن كانت الإجارة على العين، فيثبت للمكتري حق الفسخ؛ سواء هربت أو غصبت بعد القبض أو قبله؛ بخلاف ما لو أبق المبيع بعد القبض: لم يثبت للمشتري فسخ البيع؛ لأن تسليم المعقود عليه في البيع قد حصل، وفي الإجارة: لم يحصل؛ لأن المنفعة معدومة، وإن هرب، أو غصب من يد المستأجر في خلال المدة: انفسخ في المدة الباقية، وهل ينفسخ في الماضية؟ فعلى وجهين: الأصح: لا يفسخ، وعليه من المسمى بقدر ما مضى من المدة، فلو لم يفسخ العقد- نُظر: إن كان قد استأجر مدة معلومة، ولم تعد إلى يده حتى انقضت المدة: انفسخ العقد، وسقط عنه المسمى. وإن عاد قبل انقضاء المدة: ينتفع به بقية المدة، وسقط عنه بقدر ما كان غائباً عنه، وإن كان قد استأجر لعمل معلوم، ولم يفسخ: فإذا عاد: استعمله. ولو أجر عبداً، ثم أعتقه الآجر: يعتق، ولا تبطل الإجارة. وهل للعبد أن يرجع على المولى بأجر مثل المدة الباقية؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يرجع؛ لأنه استحق منفعته بالعقد قبل العتق. فإن قلنا: يرجع بالأجرة: كانت نفقته على نفسه لا على السيد؛ لأنه يملك منفعة نفسه بعد العتق؛ كما لو أجر نفسه بعد العتق. وإن قلنا: لا يرجع: ففي نفقته وجهان: أحدهما: على المولى؛ لأنه كالباقي على ملكه؛ بدليل أن منفعته له. والثاني: في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجابها على المولى لزوال ملكه، ولا على العبد؛ لأن منفعته لغيره. وكذلك: لو أجر أم ولده شهراً، فمات السيد في خلال الشهر: تعتق أم الولد، والإجارة لا تبطل.

وقيل في أم الولد: تبطل الإجارة بموت السيد؛ لأنه أنهى ملكه؛ كما لو أوصى له بمنفعة عبده حين حياته، فأجره الموصى له، ثم مات: تنفسخ الإجارة: قال الشيخ: وكذلك: لو أجر المعلق عتقه بالصفة، فوجدت الصفة في خلال المدة: يعتق، وهل تبطل الإجارة: فكأم الولد. قال- رحمة الله عليه-: إنما تصح إجارته، إذا كان لا يتحقق وجود الصفة قبل انقضاء الأجل: فإن تحقق وجود الصفة في خلال المدة: وجب ألا يجوز، كما لا يجوز إجارة الصبي مدة يتحقق بلوغه في خلالها. ولو أجر داراً أو عيناً، ثم باعها، أو وهبها-[نُظر: إن باعها] من المستأجر: يصح؛ لأنه لا حائل دونه؛ كما لو باع المغصوب من الغاصب، والمرهون من المرتهن، وهل ينفسخ عقد الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفسخ؛ كما لو اشترى زوجته: ينفسخ النكاح. والاثني- وهو الأصح-: لا ينفسخ؛ بخلاف النكاح؛ لأن ثمن ملك الرقبة يغلب على ملك الرقبة [وملك الرقبة] يغلب على ملك المنفعة؛ بدليل أن من زوج أمته وقبض الصداق: لا يجب عليه تسليم الأمة. وفي الإجارة: ملك المنفعة يغلب؛ بدليل أن الأجير إذا قبض الأجرة: يجب تسليم العين. فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة: فلو تلفت العين، أو انهدمت الدار بعد القبض: تنفسخ الإجارة، ويسترد من الأجرة بقدر ما يقابل المدة الباقية، والبيع بحاله. ولو وجد بالدار أو بالعين عيباً، وردها بحكم البيع: فله أن يمسكها، وينتفع بها بقية مدة الإجارة، وإن قلنا: تنفسخ الإجارة: يسترد أجرة المدة الباقية، وإذا فسخ البيع بعيب: لم يكن له إمساكه بقية المدة؛ لأن الإجارة قد ارتفعت بالبيع. أما إذا باع أو وهب العين المستأجرة من غير المستأجر: هل يصح البيع والهبة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح، لأن منفعتهما مستحقة للغير، ويد المستأجر تحول دونه؛ كبيع

الغصوب من غير الغاصب، والمرهون من غير المرتهن: لا يصح. والثاني- وهو الأصح، نص عليه في كتاب "الصلح": يصح البيع؛ كما لو باع من المستأجر، وكما لو زوج أمة، ثم باعها: يصح البيع، ولا تنفسخ الإجارة، كما لا ينفسخ النكاح، بل يترك في يد المستأجر إلى انقضاء مدته، كما لو باع أرضاً مشغولة بزرع للبائع: يصح، ويبقى الزرع إلى الحصاد، فإذا صححنا البيع: فللمشتري الخيار إن كان جاهلاً بكونها في إجارة الغير. وإن كان عالماً: لا خيار له، أو كان جاهلاً وأجاز العقد: فلا أجرة له لتلك المدة، وجعل كأن البائع استثناها لنفسه. ولو وجد المستأجر به عيباً، وفسخ عقد الإجارة: فمنفعة بقية المدة لمن تكون؟ فيه وجهان: أحدهما: للبائع؛ لأنا أبقينا منفعة تلك المدة على حكم ملكه. والثاني: يكون للمشتري؛ لأن استثناء تلك المنفعة للمستأجر، وقد رده المستأجر كما لو اشترى جارية مزوجة، فطلقها زوجها: تون منفعة البضع للمشتري. نظيره: لو أوصى لإنسان بخدمة عبده، ولآخر برقبته، ومات، فرد الموصى له بالخدمة الوصية: فالخدمة لمن تكون؟ فيه وجهان. أحدهما: للوارث. والثاني: للموصى له بالرقبة. ولو استأجر داراً، وأراد المستأجر أن يؤاجرها من غيره بعد ما قبض: يجوز؛ سواء أجر بأكثر مما استأجر أو بأقل. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: إن أجره بأكثر مما استأجر: لا يطيبل هـ الربح إلاأن يكون قد عمر فيها عمارة، حتى يقع الربح في مقابلة العمارة، وبالاتفاق: لو اشترى شيئاً، فباعه بأكثر مما اشترى طاب له الربح؛ [لأنه] يملك العين؛ فله أن يربح عليها، كذلك في الإجارة: يملك المنفعة؛ فجاز أن يربح عليها.

ولو أن المستأجر أجرها قبل القبض: هل يجوز؟ فعلى وجهين؛ بناءً على إجارة المبيع قبل القبض. فإذا أراد المستأجر أن يؤاجرها من الآخر بعد القبض، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ كما لو اشترى شيئاً، ثم باعه من بائعه: يجوز. نظيره: لو أوصى لإنسان برقبة عبده، وللآخر بخدمته، ثم الموصى له بالخدمة أجره من الموصى له بالرقبة: هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان. ولو استأجر حراً للعملن فبعد ما سلم الأجير نفسه إليه: له أن يؤاجره من غيره، وقال الشيخ القفال- رحمة الله عليه-: لا يجوز؛ لأن الحر لا تحتوي عليه اليد. ولو أجر الأب ولده الصغير، أو القيم أجر الطفل على النظر، وأجر ما له مدة لا يبلغ فيه؛ مثل: إن كان عشر سنين، فأجره أقل من خنمس سنين: جاز؛ لأن الغالب أنه لا يبلغ فيه، فإذا بلغ بالاحتلام قبل تمام المدة؟ هل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: تنفسخ؛ لأنا تبينا أنه عقده على مدة لم يكن له عليه ولاية. والثاني: لا ينفسخ؛ لأنه عقد حين عقد كان ولياً؛ كما لو أجر عبده مدة، ثم عتق: لا ينفسخ. وإن قلنا: لا ينفسخ: فهل له أن يفسخ العقد على نفسه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالعبد إذا عتق. والثاني: له ذلك؛ بخلاف العبد؛ فإن السيد عقد لنفسه؛ لأن منافعه كانت ملكاً له؛ كالرقبة، فإذا أعتقه كأنه أزال ملكه عن الرقبة دون المنفعة، والولي لم يعقد لنفسه، بل عقد على الصبي؛ فيكون على النظر، وليس من لانظر استدامته بعد البلوغ. أما إذا أجره مدة يبلغ في خلالها بأن كان ابن عشر، فأجره ست سنين: لا تصح الإجارة. وقيل: لا تصح فيما زاد على البلوغ، وفيما دونه قولان. والأول أصح أنه لا يصح؛ كما لو أجر الراهن الرهن مدة يتحقق حلول الدين قبل انقضائها: لا يصح.

ولو استأجر امرأة لإرضاع ولده: جاز، وإن كان فيه إتلاف اللبن.

ولا يجوز إهلاك العين بعقد الإجارة، ولكن جوزناها هنا لأجل الضرورة؛ لأن الغالب أن المولود إنما يتربى بلبن يصل إلى جوفه من الثدي، ولا يمكن شراؤه؛ فجوزت الإجارة للحضانة وللإرضاع. ولا يصح حتى يعرف الصبي الذي يعقد على إرضاعه، ويعرف موضع الإرضاع، وعلى المرضعة من الأكل والشرب ما يدرأ به اللبن، ولمستأجر مطالبتها؛ لأنه من مقتضى

التمكن من الرضاع، وفي تركه إضرار بالصبي، وإن استأجر للحضانة والإرضاع جميعاً: جاز. والحضانة: هي تعهد الصبي وحفظه وإصلاحه بغسل رأسه ونجاسته وثيابه، وتدهينه وتكحيله وتنويمه وما يحتاج إليه، ثم المعقود عليه ماذا؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال: المعقود عليه اللبن، والحضانة تبع؛ لأن اللبن أشد مقصوداً للولد؛ فعلى هذا: إذا انقطع اللبن: ينفسخ العقد فيه. ومنهم من قال: المعقود عليه الحضانة، واللبن تبع؛ لأن الإجارة ترد على المنفعة، فعلى هذا، إذا انقطع اللبن: ينفسخ العقد فيه. وهل ينفسخ في الحضانة؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. ولو استأجر امرأة للحضانة: لا يدخل فيه الرضاع. فلو استأجر للإرضاع: فإن قال: بلا حضانة: فلا تلزم الحضانة، وإن طلق: فهل تلزم الحضانة؟ فيه وجهان:

الأصح: لا تلزم؛ لأنه لم يشرطها، وهما منفعتان مقصودتان؛ تنفرد إحداهما عن الأخرى؛ فلا تتبع إحداهما الأخرى. والثاني: تلزم؛ للعادة الجارية به. وإذا استأجر للإرضاع: فلا يتأتى إلا بفعل من جهتها من الاعتشار والتمكين من الارتضاع. واختلفوا في أن العقد يتناول اللبن، وفعلها تبع أم يتناول فعلها؛ واللبن تبع؟ منهم من قال: يتناول اللبن؛ لأنه المقصود؛ ألا ترى أنه لو انتقص اللبن: ثبت للمستأجر الخيار، ثم يدخل الفعل تبعاً؛ لأنه سبب وصول المقصود إليه. ومنهم من قال- وهو الأصح: العقد يتناول فعلها، واللبن تبع، لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]؛ جعل الأجرة على فعل الإرضاع دون اللبن؛ ولأن اللبن عين، وتدخل الأعيان في عقد الإجارة تبعاً لا مقصودة؟ كما يكتري البئر ليستقي ماءها، ويكتري داراً ليسكنها وفيها بئر ماء: يجوز أن يستقي ماءها. ولو استأجر امرأة على كفالة الولد؛ لتتعهده، وتربيه، وينفق الأب ويكسوه: جاز، إذا بين المدة. وإذا استأجرها؛ لتكون النفقة وما يحتاج الصبي إليه عليها: فإن لم يبين ما تنفق عليه: لا يجوز، وإن بين ما تنفق عليه كل وقت جنساً ووصفه بصفات السلم: فهذا جمع بين الإجازة والسلم إلى آجال مختلفة، وفي جوازه قولان: فإن قلنا: لا يجوز، فإذا تعهدته وأنفقت عليه: يجب على المستأجر أجر مثلها، وقيمة ما أنفقت عليه من الطعام وغيره. ولو استأجر للإرضاع، فلم يلتقم الصبي ثديها: ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ العقد. والثاني: لا ينفسخ، ويأتي بولد آخر ترضعه، وكذلك: لو مات الصبي: ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ العقد؛ كما لو ماتت المرضعة. والثاني: لا ينفسخ؛ لأن العقد يتناول عملها، وهو باق، فيأتي بولد آخر ترضعه؛ كما لو اكترى دابة ليحمل عليها متاعاً، فهلك المتاع: لا ينفسخ العقد: فإن لم يوجد ولد آخر،

وتشاحا: يفسخ العقد وجملة هذا الباب: أن العقد، إذا عقد على شيء بعينه، فهلك: إن هلك المستوفى: فلا يضر، ووارثه يقوم مقامه. وإن هلك المستوفى منه؛ كالعبد يموت، والدار تنهدم: ينفسخ العقد. وإن هلك المستوفى به؛ كالصبي يموت: فإن استأجر لخياطة ثوب بعينه، فهلك الثوبك هل يبطل؟ فيه قولان. أما إذا ألزم ذمته حمل متاع إلى موضع، فهلك المتاع: ينفسخ العقد. ولا يجوز استئجار المرأة المزوجة للإرضاع ولا لغيره بغير إذن الزوج؛ لأنه ليس لها أن تشغل نفسها عن إيفاء حق الزوج، وإذا لزم ذمتها الإرضاع: جاز؛ لأنه يمكنها أن يحصل بغيرها. ولو أجرت نفسها بإذن الزوج: جاز، وإن أجرت نفسها لعمل، ولا زوج لها، ثم نكحت في مدة الإجارة: صح النكاح، ولا تنفسخ الإجارة، ولا يثبت حق الفسخ؛ لأن الزوج: لا يجوز له منعها من العمل، ثم إن كانت أجرت نفسها للإرضاع، وإصابة الزوج تضر باللبن: يمنع من الإصابة، ولا تستحق على الزوج النفقة في هذه المدة. ولو زوج السيد أمته، ثم أجرها: جاز، ولم يكن للزوج منعها عن المستأجر؛ لأن يد المستأجر في الانتفاع يد السيد، وحق المستأجر ألزم؛ بدليل أنه يجب على السيد تسليمها إلى المستأجر بعد أخذ الأجرة، ولا يجب تسليمها إلى الزوج بعد قبض الصداق. ولو استأجر وراقاً؛ ليكتب له كتاباً: يجب أن يبين أن الحبر ممن يكون، وكذلك: لو استأجر صباغاً: يبين أن الصبغ ممن يكون، أو خياطاً: يبين أن الخيط ممكن يكون، فإذا شرط الحبر أو الصبغ أو الخيط على الأجير: يجب أن يبين قدره، وإذا بين قدره: من أصحابنا من قال: يكون ذلك جمعاً بين الشراء والكراء؛ لأنه يستأجره للعمل، ويشتري منه الحبر والصبغ والخيط؛ فتكون على قولين. ومنهم من قال: يجوز قولاً واحداً، وبه قال صاحب "التلخيص"؛ قال: قلت في الوراق تخريجاً؛ لأن المقصود عمله، وهو الكتابة وفعل الصباغة، والحبر والصبغ تابعان فيه، كاللبن في إرضاع الولد. ومن قال بالأول قال: جوز الإرضاع لأجل الضرورة؛ لأن الولد يتربى بلبن يصل إليه من الثدي، ولا يمكن إفراده بالبيع.

أما الحِبْرُ والصبغ: يمكن إفرادهما بالبيع: فلا ضرورة إلى جعلهما تبعاً. نظيره: أن لو كان اللبن محلوباً، فاستأجرها على تربيته بذلك اللبن وبطعام آخر من عندها؛ فيكون على قولين. فصلٌ وعقد الإجارة عقد لازم؛ لا يجوز لأحد المتعاقدين فسخه بعذر يظهر له؛ سواء استأجر عينه أو ألزم ذمته، إلا أن تتلف العين، فينفسخ، أو يجد بالعين عيباً ينقص المنفعة؛ فيثبت للمستأجر الفسخ.

ولو اكترى دابة ليحج عليها، فمرض وعجز عن الخروج، أو اكترى حماماً، فتعذر عليه ما يوقده: لا فسخ له؛ لأن المعقود عليه باق، وإنما يتعذر الانتفاع بمعنى في غيره. وأبو حنيفة- رحمة الله عليه-: يجوز الفسخ بعذر يظهر للعامل؛ مثل: إن استأجر دار في الغربة، ثم بدا له أن يرجع إلى وطنه، أو حانوتاً ليحترف بحرفة، فبدا له ألا يفعل، أو دابة ليسافر عليها، فبدا له ألا يخرج، أو الآجر ركبته الديون: فله أن يفسخ العقد. وبالاتفاق: لو أجر داره، وأهله بالغربة، فعادوا، أو لم يكن متأهلاً، فتأهل، أو اكترى جملاً، فمرض الجمال: لم يكن له الفسخ؛ فنقيس عليه. أما إذا استأجر رجلاً ليقطع يده بسبب الأكلة، أو يقلع سنه للوجع أو لاستيفاء القصاص: جاز، فإذا سكن الوجع أو عفا عن القصاص: انفسخ العقد.

وقيل: هذا جعالة؛ لأنه ربما يبدو له ألا يقطع؛ خوفاً من الزيادة، أو يعفو عن القصاص. وإذا استأجر رجلاً ليحفر له بئراً: يجب أن يبين العرض والعمق، فإن لقيته صلابة- نظر: إن كان يعمل عليها المعول: يجب عليه أن يحفر، وإن شق عليه أن يعمل عليها المعول، أو تبع الماء فلم يمكن الحفر: ينفسخ العقد، وله من المسمى بقدر ما عمل. وإن استأجر امرأة لتقم المسجد مدة، فحاضت: انفسخ العقد، إن استأجر عينها، وإن ألزم ذمتها: لم ينفسخ؛ لأنه يمكنها أن تأمر غيرها أن تقم، أو تقم بعدم اتطهر، وإذا اكترى عيناً، فمات أحد المتكاريين: لا ينفسخ العقد، فإن مات المكتري: قام وارثه مقامه في استيفاء المنفعة بقية المدة؛ لأن المكتري يرث المنفعة المستحقة [لمورثه]؛ كما يرث العين المملوكة له، وإن مات المكري يترك في يد المكتري حتى تنقضي مدة الإجارة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: أيهما مات ينفسخ العقد. فنقول: عقد معاوضة؛ فلا ينفسخ بموت العاقد مع بقاء المعقود عليه؛ كالبيع. ولو استأجر أجيراً، فمات الأجير: ينفسخ العقد؛ لفوات المعقود عليه؛ كما لو استأجر دابة، فماتت. ولو أوصى لإنسان بمنفعة داره ما عاش، فمات الموصي، وقبل الموصى له الوصية، وأجرها: جاز، فإذا مات الموصى له في خلال المدة: تنفسخ الإجارة؛ لأنه انتهى حق الموصى له، ولو أجر داره من وارثه، ثم مات الآجر، هل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان، كما لو باع الآجر الدار من المستأجر، هل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان. ولو أجر داراً موقوفة- نُظر: إن كانت موقوفة على جماعة غير متعينين، أو على مسجد، أو رباط: فأمره إلى الواقف ما دام حياً، وإلى قيم ينصبه بعده، فإذا لم ينصب قيماً: فإلى الحاكم، فإذا أجرها هو أو قيمة أو الحاكم مدة، ثم مات الآجر، أو المستأجر في خلال المدة: لا تبطل الإجارة، وتترك في يد المستأجر إلى أن تنقضي مدته. فإن وقف على متعينين بأن وقف على أولاده، ثم على أولاد أولاده: فإن قلنا: الملك في الوقف للواقف، أو زال إلى الله تعالى: فأمره بعد الواقف إلى الحاكم.

وإذا أجره: لا يبطل بموته، وإذا مات البطن الأول في خلال المدة: فأجرة المدة الباقية للبطن الثاني، فإن كان قد أجره البطن الأول: يرجع البطن الثاني في تركته، وإن قلنا: الملك للموقوف عليه: فأجرة البطن الأول، ثم مات في خلال المدة، هل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان، بناءً على أن البطن الثاني تتلقى الملك من الواقف أم من البطن الأول؟ فيه وجهان: إن قلنا: من الواقف: ينفسخ؛ لأن ملك الأول قد انتهى، وتبينا أنه أجر حق غيره، وإن قلنا: من البطن الأول: لا ينفسخ؛ كما لو أجر داره؛ ثم مات: لا تنفسخ الإجارة، وأجرة المدة الباقية: تكون للبطن الثاني؛ بخلاف ما لو أجر دار نفسه مدة، فمات: تكون جميع الأجرة باقية على ملك الميت ينفذ منه ديونه ووصاياه؛ لأنه أجر ملكه المطلق، وينتقل إلى وارثه ما كان ملكاً له، والذي كان يملكه رقبة مسلوبة المنفعة. فصلٌ إذا استأجر عيناً؛ لينتفع بها: تكون العين أمانة في يد المستأجرح لأنه استحق الانتفاع بها، ولا يمكن إلا بحبسها؛ فلا يضمنها إلا بالتعدي، وهو في استيفاء ملك المنفعة بالخيار، إن شاء استوفى بنفسه، وإن شاء استوفى بغيره، ويجب أن يستوفيها بالمعروف، فلو شرط عليه ألا يستوفيه إلا بنفسه: لا يصح العقد؛ كما لو باع من رجل شيئاً بشرط ألا يبيعه: لا يصح. ولو اكترى دابة ليركبها، فإن أركبها من هو في مثل نفسه: لا يضمن، وإن أركبها من هو أثقل منه: ضمن، وإن لم يخرج عن الحد وقرار الضمان: يكون على الثاني إن كان عالماً، وإن كان جاهلاً: فعلى الأول، وإن أركبها من هو في مثله غير أنه أعنف في ضرب الدابة: فلا ضمان، ما لم يخرج عن العادة في الضرب؛ بخلاف ما لو كان أثقل منه؛ لأن الوزن محصور، والضرب غير محصور؛ فإن خرج الثاني عن العادة في الضرب: ضمن الثاني، ولا يكون الأول طريقاً فيه؛ لأنه لم يتعد. وكذلك: لو استأجر ثوباً ليلبسه، فألبسه من هو في مثل حاله: لم يضمن، وإن ألبسه قصاباً، أو عصاراً: ضمن. ولو اكترى داراً ليسكنها، فأسكنها من هو في مثله: لم يضمن، وإن أسكنها حداداً أو [قصاراً]: يضرب بالمطرقة.

وعند أبي حنيفة- رحمه الله تعالى: إذا أركب الدابة من هو مثله، أو ألبس الثوب: ضمن، ووافق في الدار. ولو اكترى داراً للسكنى: جاز أن يضع فيها متاعه، ولا يجوز أن يربط فيها الدواب، ولا أن يطرح في أصل حيطانها التراب والرماد؛ لأنه غير متعارف في السكنى. وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأن طرح المطعومات متعارف في سكنى الدار، ويسرع إليه الفساد. ولو استأجر ثوباً ليلبسه، فنام فيه بالليل: ضمن، ولو قال فيه بالنهار: لم يضمن؛ لأن العادة جرت أن الناس يقيلون في الثياب، ولو اتزر به: ضمن، ولو ارتدى: لم يضمن، لأن الاتزار أضر بالثوب من اللبس. ولو اكترى دابة ليحمل عليها مائة من من حديد، فحمل عليهامائة من من التبن أو القطن: ضمن؛ لأن القطن يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ الحديد، ولو اكترى ليحمل عليها مائة من من القطن، فحمل مائة من من الحديد: ضمن؛ لأن الحديد يجتمع على موضع واحد من ظهر الدابة؛ [فيدقته]. وكذلك: لو اكترى ليحمل عليها مائة من من الحنطة، فحمل مائة من من الشعير، أو على عكسه: ضمن؛ لأن الشعير أخف؛ فيأخذ من ظهر الدابة أكثر. أما إذا اكترى ليحمل عليها عشرة أقفزة من الحنطة، فحمل عليها عشرة أقفزة من الشعير: لم يضمن؛ لأنهما في الخفة سواء والشعير أخف وعلى عكسه: لو اكترى أن يحمل عليها عشرة أقفزة من الشعير، فحمل عليها عشرة أقفزة من الحنطة: ضمن؛ لأن الحنطة أكثر. ولو اكترى للركوب فحمل، أو للحمل فركب: يضمن؛ لأنه إذا اكترى للركوب فحمل: فالراب يعين الدابة بحركته، والحمل لا يعينها، وإذا اكترى للحمل فركب: فالحمل يتفرق على جنبي الدابة، والراكب يلزم مكاناً واحداً، ففي كل واحد ضرر ليس في الآخر؛ فيضمن في الحالين. ولو اكترى ليركبها بسرج، فركبها عرياناً، أو ليركب عرياناً فركب بسرج: ضمن؛ لأن ركوبه عرياناً أضر بالدابة، وفي ركوبه بالسرج حمل زيادة متاع عليها.

ولو اكترى ليركب بالإكاف فركب بالسرج: لم يضمن؛ لأنه أخف على الدابة. ولو اكترى ليركب بالسرج، فركب بالإكاف: ضمن. أما إذا اكترى ليحمل عليها بالإكاف، فحمل بالسرج: ضمن؛ لأن الحمل بالسرج أشق على الدابة. ولو اكترى ليحمل بالسرج فحمل بالإكاف: لم يضمن، فإن كان في شيء منه زيادة ثقل، أو ضرر: ضمن. ولو اكترى دابة للركوب من مكة إلى مر الظهران، فذهب من جانب آخر قدر مر الظهران: إن كان الطريق الثاني مثل طريق مر الظهران من السهولة والأمن: جاز، ولم يضمن، وإن كان أضر أو أخوف: ضمن، وعليه المسمى، لأن الزمان مستحق له. ولو اكترى ليركبها إلى مر الظهران، فجاوزها إلى عسفان: يجب عليه المسمى بالذهاب إلى مر الظهران، وأجر المثل من مر الظهران إلى عسفان، وصار ضامناً للدابة بإخراجها إلى عسفان. فإن هلكت: عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين جاوزت مر الظهران إلى أن ماتت. هذا إذا سلم الدابة إلى المكتري، ولم يكن صاحبها معها: فإن كان صاحبها معها: فسكوته لا يسقط الضمان. ثم ننظر: إن هلكت الدابة بعد نزول الراكب لرواح أو غيره، وتسليم الدابة إلى صاحبها: يجب ضمانها؛ لأنها في يد صاحبها؛ كرجل ساق جملاً، وعليه صاحبه نائم: لا يضمنه، وإن تلفت والمكتري عليها: يضمن، وكم يضمن؟ نظر: إن كان أتلفها لا بسبب السير؛ بأن وقعت في بئر أو نحوه: ضمن الكل، وإن كانت بتوالي السير: فقد تلفت بسيره وجنايته؛ فيجب عليه الضمان، وكم يلزمه؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه نصف الضمان؛ لأنها تلفت من مضمون وغير مضمون. والثاني: توزع القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الإجارة: يسقط، وما قابل الزيادة: يجب. هذا إذا اكتراها للذهاب، فإن اكتراها للذهاب والرجوع: فلا يجب كراء المثل

للمجاوزة إلى عسفان؛ لأن الزمان مستحق له؛ ولكنه ضامن للدابة لإخراجها إلى مالكها. ولو اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة من الحنطة إلى بلد، فحمل عليها أحد عشر قفيزاً: يجب عليه أجر المسمى للأقفزة العشرة، وأجر المثل للزيادة، وعليه ضمان الدابة إذا هلكت، وكم يلزمه؟ نُظر: إن كان قد سلم الدابة إلى المكتري، ولم يكن صاحبها معها: فعليه جميع قيمة الدابة، وإن كان صاحبها معها: كم يجب عليه من الضمان؟ فيه قولان. أحدهما: يجب نصفه؛ لأن التلف حصل من محظور ومباح. والثاني: يوزع؛ فعليه جزء من أحد عشر جزءاً من الضمان. وأصل هذا: الجلاد إذا ضرب في حد القذف إحدى وثمانين جلدة، ومات المجلود: كم يجب على الجلاد من الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: نصفه. والثاني: جزء من أحد وثمانين جزءاً. وهذا بخلاف ما لو لم يكن صاحب الدابة معها، حيث قلنا: يجب عليه جميع قيمة الدابة؛ لأن اليد- هناك- للمستأجر؛ فيلزمه ضمان اليد، وهو ضمان الغصب. وإذا كان المالك معها: فاليد للمالك؛ فيكون ضمان المكتري ضمان الجناية؛ فيكون بقدر الجناية. هذا إذا كان الكيال هو المكتري، وكان المكري جاهلاً بالزيادة بسوق الدابة، وإن كان المكتري زائداً، وحملها المكري [عالماً] بالزيادة بغير أمره، سواء كان على الأرض فحملها، أو كان المكتري وضعها على ظهر الدابة، أو الدابة واقفة، فسيرها المكري عالماً، أو كان الكيال هو المكري، فكال زائداً، عمداً أو خطأ، وحملها: لا يجب على المكتري أجر مثل الزيادة، ولا ضمان الدابة، وتلك الزيادة مضمونة على المكري؛ فللمكتري أن يكلفه ردها إلى البلد الأول، ويغرمه قيمتها باعتبار بلد النقد إلى أن يردها إلى موضعها. ولو أن رجلين اكتريا دابة، فركباها، فارتدفا معهما ثالثاً من غير إذن، فهلكت الدابة: ففيما يجب على المرتدف ثلاثة أوجه: أحدها: يجب عليه نصف القيمة؛ لأنها هلكت من مضمون وغير مضمون.

والثاني: عليه الثلث؛ لأن الرجال لا يوزنون؛ فيوزع الضمان على عدد رءوسهم. والثالث: يوزع على أوزانهم؛ فيجب عليه حصته بالوزن. ولو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر: لا يجبر الآجر على انتزاعها من يد الغاصب؛ بل إذا كان العقد على موصوف في الذمة: يطالب الآجر بإقامة غيرها مقامها، وإن كان على العين: فللمستأجر أن يفسخ العقد، ويجب على الغاصب كراء المثل للمالك لا للمستأجر، وإن كان للمستأجر؛ لأن من استهلك المنفعة: يجب عليه العوض لمالك العين؛ كمن وطئ أمة مزوجة بالشبهة: يجب على الواطئ المهر للسيد لا للزوج الذي هو مالك منفعة البضع، ويجب على المستأجر من المسمى بقدر ما انتفع بها، ويسقط بقدر ما كان في يد الغاصب، وإذا غصبت الدار المكراة أو العين المستأجرة: فالخصومة للمكري؛ لأنه مالك العين، وهل للمستأجر أن يخاصم لأجل المنفعة؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ليس بمالك العين؛ كما لو غصب الرهن أو الوديعة لم يكن للمرتهن ولا للمودع أن يخاصم الغاصب. والثاني: له ذلك؛ لأنه يقول: هذه المنفعة لي، وأنت تستوفيها ظلماً. ولو استأجر داراً إجارة صحيحة، ثم أجرها من غيره إجارة فاسدة: يجب على الأول المسمى للمالك، وعلى الثاني أجر المثل للأول؛ بخلاف الغاصب: يجب عليه أجر المثل للمالك؛ لأن في الإجارة الفاسدة: وجد التسليط من جهة المستأجر على استيفاء المنفعة التي هي حقه. ولو أجر عيناً، ثم أقر الآجر [به] لآخر، هل يقبل؟ فيه قولان؛ بناءً على ما لو رهن شيئاً، ثم أقر به لآخر، هل يقبل به؟ فيه قولان؛ سواء كانت العين في يد المستأجر، أو غصبها غاصب، فأقر بها للغاصب أو لغيره. فمن أصحابنا من قال: إن أقر قبل أن غصب: لا يُقبل؛ لأن المنافع تحدث على ملك المستأجر في يده، وإن أقر بعد ما غصب: يُقبل [لأن] ما حدث في يد الغاصب من المنفعة: يحدث للمالك. وإذا استأجر داراً أو عيناً مدة: فإن لم يسلمها الآجر إليه حتى مضت المدة:

انفسخت الإجارة، وإن سلمها إليه، فأمسكها المستأجر تلك المدة، ولم ينتفع بها: تستقر الأجرة، وعليه ردها، حتى لو انتفع بها بعد مضي المدة: يجب عليه مع المسمى أجر المثل لما انتفع بها. ولو اكترى دابة؛ ليخرج إلى بلد، فقبضها، وأمسكها قدر إمكان المسير إلى ذلك البلد: لم يكن له الخروج عليها، سواء كان له عذر في المقام أو لم يكن، وعليه المسمى. ولو أخذ الدابة، فصار الطريق مخوفاً: لم يكن له إخراجها، فلو أخرجها: كان ضامناً، ولم يكن له فسخ العقد، ولو حبسها: يستقر عليه الأجرة، وله أن يستعملها في البلد. ولو استأجر حراً مدة لعمل معلوم، فسلم الحر نفسه إليه، فلم يستعمله حتى مضت المدة، أو مضى قدر إمكان ذلك العمل: تستقر عليه الأجرة. وقال الشيخ القفال: لا تستقر؛ لأن الحر لا تحتوي عليه اليد؛ كما قال: لا يجوز للمستأجر أن يؤاجره، ولو ألزم ذمة الحر عملاً، فسلم نفسه قدر إمكان العمل: هل تستقر عليه الأجرة؟ فيه وجهان: فإن قلنا: لا تستقر، ولم يستعمله المستأجر: رفعه إلى الحاكم حتى يجبره على استعماله؛ ولو استأجر دابة شهراً من أول رمضان، فأمسكها الآجر يومين أو ثلاثة: فللمستأجر الخيار؛ لأنه فوت عليه منفعة يومين، وليس للآجر أن يقول: استعملها ما بقي من رمضان ويومين من أول شوال؛ لأن القدر يرتفع بمضي رمضان. ولو اكترى شيئاً فاسداً، وقبضه، وأمسكه: يجب عليه أجر المثل؛ سواء كان أقل من المسمى أو أكثر؛ سواء انتفع به، أو لم ينتفع؛ لأن القبض في الإجارة الصحيحة تقرير المسمى؛ ففي الفاسد: يجب أجر المثل؛ كالقبض في البيع الصحيح لما قرر الثمن المسمى: ففي الفاسد، إذا هلك عنده: وجب قيمة المثل. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه: إن لم يستعمل: لا شيء عليه، وإن استعمل: عليه أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل. ولو أجر الحر نفسه إجارة فاسدة، وسلم نفسه: يجب أجر المثل، والتمكين من القبض يكون قبضاً في الصحيح، ولا يكون قبضاً في الفاسد؛ فإنه إذا باع أو أجر شيئاً عقداً صحيحاً، فجاء به، ووضعه بين يدي المشتري والمستأجر بلا حائل: كان قبضاً، حتى

يستقر عليه العوض، إذا مضى زمان إمكان الاستيفاء، وفي الفاسد: لا يكون قبضاً؛ لأن التسليم في الصحيح واجب، وأجري عليه حكم القبض. فصلٌ إذا أجر شيئاً: يجب على الآجر ما يحتاج إليه للتمكين من الانتفاع من تسليم مفتاح الدار وزمام الجمل والبرة التي في أنفه ولجام الفرس، فإن تلف شيء منه في يد المكتري: لا يجب عليه ضمان؛ كما لا يجب ضمان العين المستأجرة، وعلى المكري بدله. ولو أجر داره، فانكسرت فيها دعامة، أو انهدمت، أو خرب ميزاب، أو انغلق باب، فإصلاحه على المكري، ونعني بقولنا: إنه على المكري: أنه إن بادر المكري إلى إصلاحه: فلا خيار للمكتري، وإن لم يصلحه: فلا يجبر عليه؛ لكن يثبت للمكتري حق الفسخ؛ وكذلك: تطيين السطح وكسح الثلج، فإن فعله المكري؛ وإلا يثبت للمكتري الفسخ، إن ظهر من تركه ذلك. أما نصب باب جديد، أو إحداث ميزاب: فليس على المكري إلاأن يخل بالانتفاع، فيكون كعيب بالدار، يثبت للمكتري الخيار، وعلى المكري أن يسلم الدار فارغة الحش؛ فإن كان الحش ممتلئاً، أو أجر حماماً، والموضع الذي تجري فيه الغسالة منسد- يثبت للمستأجر الخيار، ولو امتلأ أو انسد في خلال المدة: فهل على الآجر تنقيته؟ فيه وجهان: أحدهما: عليه؛ فإن لم يفعل: فللمكتري الخيار. والثاني: يكون على المستأجر إن أراد الانتفاع؛ لأنه قد حصل بفعله؛ كتنظيف الدار من القمامة، وكذلك: نقل رماد الحمام الذي اجتمع في خلال المدة. أما بعد مضي المدة: لا يجب على المستأجر تنقية البالوعة، ولا نقل الرماد، ويجب نقل القمامة؛ لأنها ليست من ضرورة الإجارة، وهل يجب على المستأجر رد العين بعد مضي المدة، واستيفاء المنفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ بل عليه التخلية بعد الطلب، والمؤنة على الآجر؛ كما لا يجب على المودع مؤنة رد الوديعة. والثاني: يجب عليه مؤنة الرد؛ لأنه أخذه لمنفعة نفسه؛ كالعارية: يجب على المستعير مؤنة ردها.

ولو أمسكها بعد المدة: إن كان بعذر: لم يضمن، وإن كان بغير عذر، إن قلنا: لا رد عليه قبل الطلب: لا يضمن؛ وإلا فيضمن. ولو استأجر رجلاً لضرب اللبن: فليس عليه غير الضرب، وليس عليه إقامته حتى يجف. وكذلك: لو استأجره لطبخ اللبن: ليس عليه إخراجه من الأتون بعد الطبخ. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه: له ذلك. وكذلك: لو استأجر لحفر قبر ليس عليه رد التراب في القبر بعد وضع الميت فيه. وعنده: يجب عليه ذلك. وكذلك: لو استأجر لحفر قبر: ليس عليه رد التراب في القبر بعد وضع الميت فيه. وعنده: يجب عليه ذلك. باب كراء الإبل إذا اكترى دابة بعينها: يجب أن يبين أنه يكتريها ليركبها، أو ليحمل عليها: فإذا اكترى للركوب- نُظر: إذا أراد أن يركب في غير شيء: لا يحتاج إلى ذكر ما يركب عليه، ويركبه المكري على قتب، أو زاملة، أو ما شاء. وإن كان يركب على شيء: يجب أن يبين أنه يركبها بسرج، أو إكاف، أو فوق زاملة، أو في محمل، أو عمارية. ويجب أن يرى المكري الراكب، وإن كان غائباً يعرف وزنه، ويرى الإكاف، والزاملة، والعمارية، والمحمل، إن كانت حاضرة، وإن كانت غائبة: فيذكر وزنها، ويصفها، ويصف الوطاء الذي تحته. وإن شرط المظلة، فيراه، أو يذكر وزنه؛ لأن من الناس من لا يتخذ المظلة، ومن

أصحابنا من قال: لا يجوز أن يعقد على المحمل والعمارية بالوصف، إلا بالمشاهدة؛ لأنها تختلف بالضيق والسعة، والثقل والخفة؛ بخلاف السرج، والقتب. وقال أبو إسحاق: إن كانت من المحامل الخراسانية: تشترط مشاهدتها؛ لأنها يقال: لا تضبط بالصفة. أما البغدادية: فإنها خفاف، ويجوز العقد عليها بالوصف، فإن كانت محاملهم معروفة على وزن وتقطيع واحد لا تختلف: فيجوز ذكرها مطلقاً. ويمتحن الزاملة باليد، إن كانت حاضرة، فيكتفي به؛ لأنه يعرف ثقلها وخفتها باليد؛ كما يعرف الراكب بالنظر إليه، إذا كان حاضراً، ولا يشترط امتحانه باليد ولا وزنه. وإن اكترى للحملن فيشترط رؤية ما يحمله مع الحبال، والأوعية، وإن كان الحمل غائباً: يجب أن يذكر جنسه؛ أنه حديد، أو قطن؛ لأنه يختلف على الدابة، ويذكر وزنه، أو كيله إن كان مكيلاً، والوزن أولى؛ لأنه أحصر وأبعد من الغرر. وإن كان شيئاً حاضراً في وعاء: يمتحنه باليد، فإن كان محملاً، أو زاملة، أو ظرفاً لمتاع، بغير رؤية ولا وصف: لا يصح العقد، إلا أن يكون مما لا يختلف؛ مثل غرائر متماثلة، فيكتفي بمجرد الذكر، وإن أراه الحمل، وقال: معه معاليق مثل السفرة والإداوة والقربة والقدور والقمقمة: فإن رآها، أو ذكر وزنها: جاز، وإن لم يرها، ولم يصف: ففيه قولان: أصحهما: لا يصح لأنها مجهولة. والثاني: يصح؛ للعادة في ذلك؛ فيكون تبعاً للراكب والحمل، ويحمل على [الوسط]. والأصح هو الأول: أنه لا يصح؛ حتى تكون معلومة. وقيل: القول الثاني ليس قولاً للشافعي- رضي الله عنه- إنما هو مذهب مالك- رحمة الله عليه-. ونعني بالسفرة: سرة خالية عن الزاد، وإداوة فارغة منا لماء، فإن كان فيها زاد

اكترى لحمل متاع، فلو سلم إليه دابة عريانة، فركبها أو حمل عليها بلا إكاف ولا سرج: ضمن؛ لأنه يدق ظهر الدابة، إلا أن يكتري إلى مسافة قريبة، وإن كان في الذمة: فالإكاف والسرج والبرذعة التي تحته كلها تكون على المكري؛ لأنها للتمكن من الانتفاع. أما ما يحتاج إليه للتوطئة وإصلاح المركوب: فعلى المكتري، وذلك مثل المحمل والوطاء والمظلة والحبل الذي يشد به المحمل على الحمل، والذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر، والغطاء وأجرة الدليل والسائق على المكري، إن كانت الإجارة في الذمة؛ لأنه يحتاج إلى تحصيله في ذلك الموضع. وهذا من مؤن التحصيل. وإن كانت على دابة بعينها: فعلى المكتري؛ لأن الذي على المكري تسليم الدابة، وقد فعل. وإذا اكترى دابة بعينها للركوب أو للحمل إلى بلد، وسلمت الدابة إليه: لا يجب على المكري الخروج معه، ولا إعانته في الحمل والإركاب والإنزال. وإذا هلكت الدابة: ينفسخ العقد، وإذا وجد بها عيباً بأن كانت تعثر في مشيها أو لا تبصر بالليل [أو] نحوه: فهو بالخيار: بين أن يمسكها مع ذلك العيب، أو يردها ويفسخ العقد، وليس له إبدالها بغيرها، وإن وجدها خشنة المشيك لم يكن له ردها؛ لأنه لا يعد عيباً، وإذا أفلس المكري: يقدم حق المكتري على سائر الغرماء، وإن كانت الإجارة في الذمة؛ بأن قال: ألزمت ذمتك حملي على دابتك أو حمل متاعي إلى بلد كذا، أو قال: استأجرتك؛ لتحملني أو تحمل متاعي على دابتك إلى موضع كذا: جاز، ويكون كالسلم: يجب تسليم الأجرة في المجلس؛ فإن عين الدابة، وقال: لتحملني على هذه الدابة: لا يصح؛ لأن السلم في العين: لا يصح، وهل يجب أن يبين جنس الدابة أنه بعير أو فرس أو حمار؟ نظر: إن كان أراد الركوب: يجب أن يبين؛ لأن الأغراض تختلف باختلاف الدواب، وهل يحتاج إلى بيان النوع لاختلاف الأنواع في السير؟ فيه وجهان. وإن أراد الحمل: لا يجب بيانه؛ لأن المقصود من الحمل حصول المتاع في ذلك الموضع؛ فعلى أي وجه حصلها: جاز. وإذا سلم الدابة إليه، فهلكت عنده: لا ينفسخ العقد، ولو وجد بها عيباً، وردها: لم يكن له فسخ العقد، ويجب على المكري الإبدال. ولو أفلس المكري بعد تسليم الدابة إلى المكتري: فهو مقدم على سائر الغرماء،

وإن كان قبل تسليمها- نُظر: إن كانت الأجرة قائمة في يد المكري: فللمكتري فسخ العقد، واسترداد الأجرة، وإن كانت تالفة: فلا فسخ له، ولكنه يحاص الغرماء؛ فما يخصه من ماله: يكتري له به دابة. ولو أراد المكتري أن يبذل منفعة الدابة بشيء آخر: يقبضه من المكري؛ فإن كان العقد في الذمة: لا يجوز؛ لأن بيع المسلم فيه قبل القبض: لا يجوز، وإن كان العقد على العين: قال الشيخ: فهو كما لو أجر العين من الأجير، وفيه وجهان: الأصح: أنه يجوز بعدما قبضها؛ كما لو اشترى شيئاً، وقبضه، ثم باعه من بائعه: يجوز. وإذا سلم الدابة التي في الذمة إلى المكتري: فعلى المُكري أن يخرج معه يسوق وماء، فلابد من رؤيته، أو ذكر وزنه. ولو اكترى دابة ليحمل عليها ما شاء: لم يجز للجهالة، ولأن الدابة لا تحمل كل ما يحمل. ولو قال: مائة من مما شئت: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لاختلاف الأشياء في الضرر. والثاني: يجوز، فيكون رضاً منه بأضر الأشياء؛ فإن جوزنا فيكون مع الوعاء مائة من، ولو قال: مائة من من الحنطة: فيكون مائة من دون الوعاء. وإذا اكترى ليحمل عليها مائة من مع الزاد، ففني الزاد: يجوز إبداله، وإن كان فقد بعضه: فهل له إكماله؟ فيه قولان: أصحهما: له ذلك؛ كما لو نفد الكل، وكما لو انكسر المحمل أو المظلة، أو هلك بعض متاعه أو باعه: يجوز له إبداله. والثاني: ليس له إكماله؛ لأن العادة لم تجر به. وقال أبو إسحاق: إن كان بين يديه منزل يعز فيه الطعام: فله أن يبدل قولاً واحداً، وإن كان قد شرط أنه يكمل ما انتقص: فله الإكمال قولاً واحداً. وإذا اكترى دابة للركوب: فعلى المُكري كل ما يحتاج إليه للتمكن للركوب؛ مثل: البُرة [التي] في أنف الجمل والخطام ولجام الفرس. وإذا اكترى عين دابة للركوب: فالسرج والإكاف على المكتري؛ وكذلك الوعاء. إذا

الدابة، ويتعهدها: فإن كان المكتري مريضاً، أو شيخاً كبيراً، أو سميناً، أو امرأة: ينيخ له البعير، وينزله ويركبه، فإن كان قوياً يمكنه ركوب البعير قائماً: لا يلزمه أن ينيخ له البعير، فإن كان قوياً، فمرض وضعف: يجب أن ينيخ له، وإن كان ضعيفاً، فقوي- لا يجب، فإن ينظر احتاج إلى إعانة: أعانه. وإن اكترى ما في الذمة للحمل: فعلى المكري شد المحمل على البعير، وحله وحطه ورفعه، وأما شد أحد المحملين بالآخر: ففيه وجهان: أحدهما: على المكري؛ لأنه من الحمولة. والثاني: على المكتري؛ لأنه بمنزلة تأليف المحمل، وضم أجزائه بعضها إلى بعض، وإذا نزل لقضاء حاجة أو لأداء فريضة، أو ما لابد مما لا يمكن فعله على الدابة: عليه أن ينتظره من غير استعجال، ولا يطول المنازل، بل على الوسط، ولا يلزمه قصر الصلاة، ولا ينتظره للناقلة ولا للأكل والشرب؛ لأنه يمكن فعلها على الدابة. وإذا اختلفا في الرحل: رحل لا مكبوباً ولا مستلقياً، والمكبوب: أن يكون مؤخر الرحل أعلى؛ فهو أيسر على الدابة وأشق على الراكب، والمستلقى عكسه. وإذا اكترى دابة إلى بلد: يجب أن يبين مسير كل يوم بالفراسخ، ثم يسيران على الشرط؛ فإن شرطا لكل يوم عشرة فراسخ، فسار في كل يوم أكثر أو أقل: فلا تجبر الزيادة بالنقصان، ويسيران بعده على الشرط، وإن لم يبينا- نظر: إن كانت منازل ذلك الطريق معلومة: صح العقد، وينزلان عليها، فأيهما أراد المجاوزة عنها أو النزول دونها: فلآخر ألا يرضى، وإن كانت منازلها مختلفة: لا يصح حتى يبينا، وإن لم يكن فيها منازل: يجب أن يبينا بالفراسخ، ثم إذا أراد أحدهما المجاوزة عنها، أو النزول دونها؛ لخوف أو لخصب: لم يكن له ذلك، إلا أن يوافقه صاحبه. ولو اختلفا في السير؛ فقال المكري: نسير بالليل؛ فإنه أخف على الجمال؛ فلا يصيبها الحر، وقال المكتري بل نسير بالنهار؛ فإنه آمن: لا ينظر إلى قول واحد منهما، بل يسيران على عادة الناس في مسير ذلك الطريق من ليل أو نهار، وإن كانت العادة في ذلك الطريق النزول للرواح: ففيه وجهان: أحدهما: يكون النزول على العادة؛ لأن المتعارف؛ كالمشروط. والثاني: لا يلزم؛ لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق؛ فلا يلزمه تركه في بعضه.

وإن كان موضع النزول معلوماً، فقال المكتري: ننزل في وسط البلد؛ لأنه آمن، وقال المكري: بل في الصحراء؛ لأنه أقرب إلى المرعى: لا ينظر إلى قول واحد منهما؛ لكن ينزلان في الموضع المعتاد. ولو اكترى دابة من بغداد إلى البصرة: فإذا بلغ عمران البصرة: له أن يسترد الدابة، وإن لم يصل إلى داره. ولو اكترى دابة إلى مكة: لم يجز أن يحج عليها؛ لأن ذلك زيادة على المعقود عليه، وإن اكترى للحج عليها: فله أن يركبها إلى منى، ثم إلى عرفات، ثم إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف، وهل يجوز أن يركبها من مكة عائداً إلى منى للمبيت والرمي: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد حل بالطواف من الحج. والثاني: يجوز؛ لأن العود إلى منى للمبيت والرمي من تمام الحج. ولو اكترى دابة من البلد إلى قرية سماها: فإذا أتى القرية: لا يجوز له ردها إلى البلد، بل يسلم إلى وكيل المكري، إن كان له بها وكيل، فإن لم يكن: فإلى حاكم القرية، فإن لم يكن ثم حاكم: فإلى أمين، وإن لم يجد: ردها إلى البلد. ولا يجوز أن يركبها في الطريق؛ فإن ركب: ضمن، إلا أن تكون الدابة جموحاً لا تنقاد إلا بالركوب: فلا يضمن. وقال صاحب "التقريب": يجوز له ردها إلى البلد، إلا أن ينهاه عن ردها. وإن شرط عليه الرد- فعلى قول صاحب "التقريب": هو قضية العقد، وعلى قول غيره: يفسد العقد، غير أنه لو رد: لم يضمن لوجود الإذن، إلا أن يركب في الرد؛ فيضمن إلا أن تكون جموحاً. ولو اكترى إلى قرية، فسقط السوط من يده في الطريق، ومضى قدر غلوة، ثم رجع راكباً لأخذ السوط، فإذا بقي من القرية قدر تلك الغلوة ذهاباً ورجوعاً: عليه أن ينزل؛ لأن مدته قد انقضت.

وذكر صاحب "التلخيص": أنه يجوز اكتراء الدابة مضموناً في الذمة، ومعيناً، إلا في كراء العقب: لا يجوز إلا مضموناً. قاله المزني في "الكبير" تخريجاً. وجملته: أنه إذا أكرى دابة من رجل إلى موضع؛ ليركب المكري زماناً والمكتري زماناً: لا يجوز؛ لأنه يتأخر حق المكتري؛ فتكون إجارة للزمان المستقبل. ولو أكرى دابة من رجلين يتعاقبان فيه، أو أكرى من واحد على أن يركب زماناً، ويمشي زماناً: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يجوز؛ لأنه كراء إلى آجال متفرقة؛ فيكون إجارة للزمان المستقبل. ومنهم من ذهب إلى ما قال المزني: أنه إنما يجوز مضموناً في الذمة، فأما أن يكتري جملاً بعينه في الذمة عقباً: لا يجوز؛ لأنه إذا كان في الذمة: يصير كأنه ملك نصف منافعه مشاعاً في تلك المسافة، ثم يقاسم المكري. وإذا اكترى اثنان على هذا: ملكا الكل، ثم يقتسمان، أما في العين، فلا؛ لأن كل مدة يقبضها يتعقبها ما يقطعها؛ فيصير ما بعدها كإجارة الزمان المستقبل. والمذهب: أنه يجوز، وهو قول عامة أصحابنا؛ سواء كان معيناً أو في الذمة. وذكره الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم"؛ لأن الاستحقاق مقارن للعقد، وإنما تتأخر القسمة. وأما إذا اكتراه واحد: فقد ملك الركوب في نصف المسافة؛ وكذلك: الاثنان يكتريان، ثم يقتسمان أو المالك مع المكتري: يتعاقبان، ولا عبرة بما يتخلل كما لو استأجر ثوباً؛ ليلبسه شهراً: فإنه يلبسه بالنهار على العادة، وينزع بالليل. ومن أصحابنا من قال: إذا اكتراه اثنان في جميع المدة: يجوز؛ لأنه لا يكون كراء مدة قابلة، [لأن الكراء موصول]. وإذا اكترى واحد، عقبه: لا يجوز؛ لأن الكراء غير موصول؛ وهذا- أيضاً- لا يصح؛ لأن كراء المشاع يجوز، ويقاسم المالك كما يقاسم الشريك؛ فإن جوزنا- فينظر:

إن كان ذلك في طريق، فيه عادة في الركوب والنزول؛ بأن كان يركب أحدهما يوماً، ثم ينزل، ويركب الآخر، أو يركب أحدهما ميلاً؛ ثم ينزل: فيحمل إطلاق العقد على العادة، ولا ينظر إلى اختلافهما في أنهما كيف يركبان، وإن لم يكن فيه عادة: لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما، وإن اختلف في البادئ بالركوب: يقرع بينهما. وإذا استأجر رجلاً ليعمل مدة: يكون زمان الطهارة والصلوات بفرائضها وسننها- مستثنى من العمل، ولا ينقص من الأجر شيء، وإن كان ذلك من عمل النهار: يترك بالليل للاستراحة، وإن كان من عمل الليل؛ كالحراسة ونحوها: تُرك بالنهار، وإن استأجره للقيام على ضيعة، لينظرها: قام عليها ليلاً ونهاراً على ما وسعه. وإن استأجر عبداً؛ للخدمة: ذكر وقت الخدمة من الليل والنهار؛ فإن لم يذكر: جاز، ولزمه على ما جرت به العادة من نخدمة العبيد لساداتهم؛ كما ذكرنا في ذكر العقد: يحمل على العادة. فصلٌ إذا أجر عبداً، أو أكرى دابة: تكون نفقة العبد وعلف الدابة على المكري؛ فإذا اكترى جملاً، فهرب الجمال- لا يخلو: إما إن ذهب بالجمل، أو ترك الجمل: فإن ذهب بالجمل- نظر: إن كانت الإجارة في الذمة: يكتري عليه الحاكم من ماله جملاً يركبه المستأجر، وإن كان قد اكترى عين الجمل: فللمكتري فسخ العقد؛ كما ذكرنا في هرب الدابة. وإن هرب، وترك الجمل: فإن تبرع المكتري بالإنفاق عليه؛ وإلا رفع الأمر إلى الحاكم حتى ينفق عليه من مال المكري، إن وجد له مالاً، وإن لم يجد: يستدين عليه من إنسان أو من بيت المال، أو من المكتري، ثم إن ائتمن المكتري: سلم إليه حتى ينفق عليه، وإن لم يأتمنه: دفع إلى أمين ينفق عليه، وإن أدى اجتهاده إلى أن يبيع جزءاً من الجمل: باع منه بقدر الحاجة، ولا يبنى على قولي بيع المؤاجر؛ لأنه موضع ضرورة، ويبقى في يد المستأجر إلى انقضاء مدته، ومع وجود مال آخر للجمال: لا يبيع لحق المستأجر. وإن أنفق المكتري من مال نفسه؛ ليرجع- نُظر: إن فعل بأمر الحاكم: هل يرجع؟ فيه قولان:

أحدهما: يرجع؛ لأنه أنفق بأمر الحاكم؛ كما لو استقرض الحاكم من المكتري مالاً، ثم دفعه إليه؛ لينفق عليه. والثاني: لا يرجع؛ لأنه متهم في حق نفسه. وإذا ادعى أنه أنفق قدر ما يحتاج: يُقبل قوله في استحقاق حق له على غيره، فإذا جوزنا، واختلفا في قدر ما أنفق: فالقول قوله. وإن كان ما يدعيه قصداً؛ كما لو أمر غيره بالإنفاق، فادعى قدراً: قُبل قوله، إن كان ما يقوله قصداً. وإن أنفق بغير أمر الحاكم، وهناك حاكم: لم يرجع، وهو متبرع. وإن لم يكن هناك حاكم- نظر: إن أشهد: رجع؛ هذا هو المذهب؛ لأنه موضع ضرورة، وإن لم يُشهد: فلا يرجع إن أمكنه الإشهاد، وإن لم يمكنه الإشهاد: ففيه وجهان. ولو أجر عبداً أو أكرى دابة من إنسان بأجرة معلومة، وأذن له أن ينفق الأجرة عليه، أو أكرى داراً، وأذن للمكتري أن يصرف الأجرة إلى عمارتها: يجوز، ثم لو اختلفا؛ فقال المستأجر: أنفقت، وقال الآجر: لم تنفق: ففيه قولان: أحدهما: القولان قول الآجر؛ لأن الأصل عدم الإنفاق. والثاني: القول قول المستأجر؛ لأنه المباشر؛ فهو أعلم بفعله. ولو أكرى دابة بعلفها، أو عبداً بنفقته: لا يصح؛ لأنه مجهول. ولو اكترى دابة من مرو إلى نيسابور بعشرة دنانير مطلقاً: يجب عليه من نقد مرو، سواء كان حالاً أو مؤجلاً. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: من نقد نيسابور. أما إذا اكترى كراء فاسداً، فاستهلك منفعتها عشرة أيام بمرو، وعشرة أيام بنيسابور: يجب عليه أجر مثل عشرة أيام بنقد مرو، وأجر مثل عشرة بنقد نيسابور: كما في الغصب؛ لأن في الإجارة الفاسدة: يجب الضمان بالاستهلاك؛ فينظر إلى موضع الاستهلاك، وفي الإجارة الصحيحة: يجب بالعقد؛ فيجب نقد بلد العقد، والله أعلم.

باب تضمين الأجراء من استأجر شيئاً؛ لينتفع به: فهو أمانة في يده لا يضمن إلا بالتعدي. أما إذا استأجر رجلاً؛ ليعمل له عملاً في عين: فالمال في يد الأجير، هل يكون مضموناً عليه؟ نُظر: إن لم ينفرد الأجير باليد؛ بأن قعد المستأجر عنده، حتى عمل أو حمل الأجير إلى بيته ليخبز له في تنور، أو ليختن غلامه، أو يحجمه أو يبزغ دابته، أو يقصر، أو يخيط له ثوباً، أو ليرعى غنمه في ملكه، أو ليتعلم عنده القرآن، أو حرفة عنده: فلا يكون مضموناً عليه؛ وكذلك: لو حمل تلميذاً إلى حانوته ليتلمذ له في بيع أو غيره: فلا تكون يده يد ضمان. وإن انفرد الأجير باليد؛ بأن سلم المال إليه؛ ليعمل فيه عمله نُظر: إن كان الأجير مشتركاً، وهو الذي يعمل له ولغيره؛ كالقصار الذي يقصر لكل أحد، والملاح الذي يحمل لكل أحد: قال الشافعي- رضي الله عنه-: فيه واحد من قولين: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: المسألة على قولين: أحدهما: يكون مضموناً عليه، وهو قول مالك وابي يوسف موحمد- رحمة الله عليهم-: لأنه أخذه لحظ نفسه؛ وهو تفريغ ذمته عن العمل؛ كالمستعير والمستأجر. والثاني- وهو الأصح، واختاره المزني- رحمة الله عليه-: لا يكون مضموناً عليه؛ لأنه أخذه لمنفعته ومنفعة المالك؛ فلا يلزمه الضمان؛ كالمضارب. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الضمان قولاً واحداً، قال الربيع: كان الشافعي- رضي الله عنه- يرى أن الأجراء لا يضمنون غير أنه كره أن يبوح به؛ مخافة صناع السوء، وكان يرى أن القاضي يقضي بعلم نفسه غير أنه كره أن يبوح به مخافة قضاة السوء. قول الشافعي- رضي الله عنه-: "فيه واحد من قولين" أراد به: الرد على أبي حنيفة؛ فإنه يقول: إذا تلف في يده بآفة سماوية أو سرق: لا ضمان عليه، وإن تلف بفعل مأذون فيه؛ بأن دق دق مثله، فتحرق: يضمن، فقال: لا يجوز فيه إلا واحد من قولين. أما ما قلت- وهو: أنه لا يضمن، أو ما قال أبو يوسف: أنه يضمن بكل حال: فإما

أن يفصل بين أن يكون التلف بآفة سماوية أو بفعل مأذون فيه فلا. وإن كان الأجير منفرداً، وهو الذي يعمل له، ولا يعمل لغيره؛ بأن يستأجره مدة معلومة لقصارة، أو رعي: فلا يمكنه قبول ذلك العمل لغيره في تلك المدة: فهل يلزمه الضمان؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان؛ كالأجير المشترك، وهو ظاهر النص. ومنهم من قال: لا يضمن قولاً واحداً. والفرق بين المنفرد والمشترك: أن المنفرد ملك المستأجر منافعه في تلك المدة على الاختصاص؛ فصار يده يد المستأجر؛ كالوكيل؛ بخلاف المشترك والمنفرد: يستحق الأجرة بتسليم النفس، ومضي إمكان الفعل، وإن لم يعمل، والمشترك: لا يستحق إلا بالعمل، فإن قلنا: يضمن: فأي ضمان يلزهم؟ فيه وجهان: أحدهما: أكثر ما كانت قيمته من يوم [قبض إلى أن] هلك؛ كالمغصوب. والثاني: باعتبار يوم التلف. وإن قلنا: لا يجب الضمان: فإن تعدى: يجب الضمان مثل: إن استأجر أجيراً؛ ليخبز له في تنور، فخبز في وقت لا يخبز فيه لشدة حموه، أو ترك فيه فوق العادة، فاحترق: يجب الضمان. ولو عمل عملاً، فتلف، واختلفا، فقال الأجير: لم أخرج عن العادة، وقال المستأجر: بل تعديت: يسأل عدلان من أهل [تلك] الصناعة: فإن قالا: لم يخرج عن العادة: لم يضمن، وإلا ضمن؛ فإن لم يوجد من يرجع إليه: فالقول قول الأجير مع يمينه؛ لأن الأصل براءته عن الضمان. ولو اكترى دابة، فضربها، أو لجمها باللجام، فهلكت: لا ضمان عليه، إن لم يخرج عن العادة، وإن خرج- ضمن، وكذلك: الرائض إذا ضرب الدابة. وضرب الرواض يكون أشد من ضرب المكاري: فإن خرج عن عادة الرواض في الضرب: ضمن، وإن لم يخرج: لا يضمن على قولنا: إن الأجير لا يضمن.

وكذلك: الراعي في ضرب الغنم، إن لم يخرج عن عادة الرعاة: لا يضمن؛ بخلاف المعلم: يباح له ضرب الصبي. وكذلك: الزوج يباح له ضرب زوجته للتأديب، فإذا هلكت من ضربه: ضمن، وإن لم يخرج عن العادة؛ لأن الآدمي يؤدب بالكلام والقول العنيف، وإذا صار إلى الضرب: كان بشرط السلامة، والدابة تأديبها يكون بالضرب، فإذا لم يخرج ضمانه عن العادة: لم يضمن. ولا فرق بين أن يكون الصبي حراً أو عبداً في وجوب ضمانه إلا أن الحر يجب ضمانه. وإن ضربه بإذن الولي والعبد إذا ضربه بإذن المولى: لا يجب ضمانه؛ لأن ضمان العبد لمولاه. ومن قتل عبد الغير بإذن مولاه: لا يضمنه، والرعاة الذين يخرجون الدواب إلى الصحراء؛ ليرعوها ويردوها بالليل بشيء تعطيهم أربابها: فالدواب في أيديهم كالمال في يد الأجير المشترك؛ لأن الفاسد في أصل الضمان كالصحيح. واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامي ممن يدخل الحمام: فمنهم من قال: هو ثمن الماء وأجرة الحمام والسطل وحفظ الثياب؛ فعلى هذا: لا يضمن الداخل السطل، إذا هلك؛ لأنه مستأجر، وهل يضمن الحمامي الثياب؟ فعلى قولين؛ لأنه أجير مشترك. ومنهم من قال: هو ثمن الماء، والحمامي متطوع بحفظ الثياب معير للسطل؛ فعلى هذا: لا يضمن الحمامي الثوب إذا هلك، وعلى الداخل ضمان السطل إذا هلك؛ لأنه مستعير. وإذا تلف المال في يد الأجير بعد التعدي: يلزمه الضمان، وأي قيمة تلزمه؟ وإن قلنا: يده يد أمانة: فعليه قيمته أكثر ما كانت من وقت التعدي إلى وقت الهلاك، وإن قلنا: يده يد ضمان: فأكثر ما كانت [من حين قبض إلى أن هلك]. وإذا عمل الأجير عمله، ثم تلفت العين: فإن كان العمل في ملك صاحبها، أو بحضرته: تجب له الأجرة، وإن كان في يد الأجير؛ بأن دفع ثوباً إلى قصار فقصره، ثم

هلك في يده: يبنى على أن القصارة عين أم أثر؟ إن قلنا: عين: سقطت أجرته، ثم إن قلنا: يده يد أمانة: لا شيء عليه، وإن قلنا: يد ضمان، أو تعدى فيه: يجب عليه قيمة ثوب غير مقصور. وإن قلنا: إن القصارة أثر: لا تسقط أجرته؛ لأنه لما فرغ من العمل: صار مسلماً إلى المستأجر. ثم إن قلنا: يده يد أمانة: لا شيء عليه. وإن قلنا: يد ضمان، أو تعدى فيه- يجب عليه قيمة ثوب مقصور، وهل يجوز للقصار حبس الثوب بعد لاقصارة لاستيفاء الأجرة أم لا؟ إن قلنا: فعله عين: يجوز كما يحبس المبيع لاستيفاء الثمن. وإن قلنا: أثر لا يجوز؛ كما لو استأجر أجيراً يحمل له متاعاً إلى موضع، فحمله: لم يكن له حبس المتاع على الأجرة. ولو دفع ثوباً إلى صباغ، فصبغه بصبغ من جهة صاحب الثوب: فهو كالقصارة، وإن كان الصبغ من جهة الصباغ: فله حبسه بعد الصبغ؛ لاستيفاء الأجرة، لأن الصبغ عين مال، وإن هلك بعدما صبغ: تسقط قيمة الصبغ، وهل تسقط أجرة العمل؟ فكالقصارة. ولو دفع ثوباً إلى قصار؛ ليقصر مجاناً، أو ليخيط: فلا يستحق الأجرة. ولو هلك في يده: لا ضمان عليه. ولو قال: أرضيك: يستحق أجر المثل. ولو قال: اغسله، أو خطه، ولم يذكر له أجرة، فغسله: هل يستحق الأجرة؟ فيه أربعة أوجه. أصحها- وهو المذهب-: لا يستحق؛ لأنه لم يذكر له عوضاً؛ كما لو بذل طعامه لمن أكله. والثاني- وهو قول المزني: يستحق الأجرة؛ لأنه استهلك عمله. والثالث- وهو قول أبي إسحاق: إن قال صاحب الثوب: اغسله أو خطه: لزمه الأجرة، وإن بدأ العامل، فقال: أعطني لأغسل أو لأخيط: لم يلزمه. والرابع- وهو قول ابن سريج: إن لم يكن العامل معروفاً بذلك الأمر: لا يستحق

الأجرة، وإن كان معروفاً بذلك الأمر، وأخذ الأجرة عليه: يستحق، وكذلك: لو قعد بين يدي حلاق، فحلق شعره. قال الشيخ- رحمه الله-: إن قلنا: يستحق الأجرة: فهل يلزمه الضمان إن هلك في يده؟ فكالأجير المشترك، وإن قلنا: لا يستحق: فلا يلزمه الضمان. ولو نزل رجل سفينة ملاح من غير إذنه، فحمله فيها إلى بلد: لزمه الأجرة؛ لأنه استهلك منفعة موضعه من غير إذنه؛ كما لو سكن دار الغير، وإن نزل بإذنه، ولم يذكر الأجرة: فعلى الأوجه الأربعة. ولو دفع ثوباً إلى قصار، فجحده، ثم جاء به مقصوراً: هل يستحق الأجرة؟ نُظر: إن كان قصره، ثم جحد: يستحق، وإن جحد، ثم قصر: فيه وجهان: أحدهما: يستحق؛ كالأول. والثاني- وبه قال أبو حنيفة- رحمة الله عليه: لا يستحق؛ لأنه عمل لنفسه؛ وهذا بناءً على أن الأجير في الحج، إذا صرف الإحرام على نفسه: هل يستحق الأجرة؟ فيه قولان. ولو ادعى الأجير رد العين: إن قلنا: يده يد ضمان: لا يُقبل قوله، وإن قلنا: يده يد أمانة: هل يُقبل قوله؟ فيه وجهان؛ كالوكيل بالجعل؛ فإن قلنا: يُقبل- يُقبل قوله مع يمينه في ألا يلزمه ضمان العين، أما في استحقاق الأجرة: فلا يُقبل قوله. فصل في الاختلاف وإذا اختلف المتكاريان: إما في الأجرة، فقال الآجر: أجرتك بعشرة، وقال المستأجر: بل بخمسة، أو في المدة، فقال الآجر: أجرتك شهراً، فقال: بل شهرين، أو قال: أكريتك إلى فرسخ، فقال: بل [إلى] فرسخين: يتحالفان، فإذا تحالفا: انفسخ العقد بينهما، ثم إن كان قبل استيفاء المنفعة: لا شيء لأحدهما على الآخر، وإن كان بعد الانتفاع: فعلى المكتري أجر مثل مدة الانتفاع. وكذلك: لو قال المكري: أكريتك هذا البيت الواحد من الدار، وقال المكتري: بل جميع الدار: تخالفا، وعلى المكتري أجر مثل ما سكن.

وإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة، فقال الآجر: تعديت؛ فعليك الضمان، وقال المستأجر: ما تعديت: فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التعدي. ولو دفع ثوباً إلى خياط، فقال له: إن كان يكفيني للقميص- فاقطعه، فقطعه؛ فلم يكفه: لزمه الضمان؛ لأنه أذن له بشرط، ولم يوجد. وإن قال: هل يكفيني للقميص، فقال: نعم، فقال: اقطعه، فقطعه، فلم يكفه: لم يضمن؛ لأنه قطع بإذن مطلق، ولو دفع ثوباً إلى خياط ليقطعه، فقطعه قباء، ثم اختلفا، فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قميصاً، فقال: لا، بل أمرتني أن أقطعه قباء: فحكى الشافعي- رضي الله عنه- في "اختلاف العراقيين"- قول ابن أبي ليلى: أن القول قول الخياط مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على الإذن في القطع. وحكى قول أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: أن القول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن في القطع: كان القول قوله؛ كذلك في صفة القطع. ثم قال: وهذا أشبه القولين، وكلاهما مدخول. وقال في "الإملاء": يتحالفان، وذكر فيما لو دفع ثوباً إلى صباغ ليصبغه، فصبغه أخضر، ثم اختلفا، فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه أحمر، وقال الصباغ: بل أمرتني أن أصبغه أخضر: يتخالفان. ووجهه: أن كل واحد منهما مدع، ومدعى عليه: فالخياط يدعي الأجرة، وصاحب الثوب ينكرها، وصاحب الثوب يدعي أرش النقصان، والخياط ينكره. فمن أصحابنا من جعل المسألة على ثلاثة أقوال. ومنهم من قال: هي على قول واحد؛ أنهما يتحالفان، والقولان الآخران حكاية مذهب الغير، وقد زيفهما بقوله: "كلاهما مدخول". واختار المزني: أن القول قول رب الثوب؛ كما لو استأجره على حمل متاع، فقال: قد حملت، وأنكر رب المال أو قال: الدافع: دفعته إليك وديعة، فقال: بل رهناً: كان القول قول الدافع: فإن قلنا: القول قول الخياط: فإذا حلف: لا يلزمه ضمان القطع، وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان:

أحدهما -وهو قول ابن أبي هريرة: يستحق؛ لأنه حلف على أنه كان مأذوناً في القطع. والثاني- وهو قول أبي إسحاق: لا يستحق؛ لأنه في الغرم كان مدعى عليه؛ فقبل قوله، وفي الأجرة: مدع؛ فالقول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأنه منكر. فإن قلنا: يستحق الأجرة: فيجب المسمى أم أجر المثل؟ وجهان: أحدهما: المسمى؛ لأنه حلف على الإذن. والثاني: أجر المثل؛ لأنا لو جعلنا له ما يدعيه: لم نأمن من أن يدعي أضعاف أجر مثله. وإن قلنا: القول قول رب الثوب: فإذا حلف: لا يلزمه الأجرة؛ لأن الخياط فعل ما لم يكن له فعله. ويجب على الخياط أرش نقصان القطع، وماذا يلزمه؟ فيه وجهان: أحدهما: ما بين قيمته صحيحاً ومقطوعاً؛ لأنا حكمنا أنه لم يأذن له في القطع. الثاني: يلزمه نقصان قطع دخل بسبب القباء. وأما القطع الذي يحتاج إليه في القميص: فلا يضمنه؛ لأن رب الثوب أذن فيه. وإن قلنا: يتحالفان: فإذا تحالفا: لا شيء لأحدهما على الآخر، فرب الثوب يستفيد بيمينه سقوط الأجرة عنه، والخياط يستفيد بيمينه سقوط الغرم عنه. فإذا أراد الخياط نزع الخيط: هل له ذلك؟ إن قلنا: يستحق الأجرة: فليس له ذلك؛ لأنه أخذ العوض في مقابلته. وإن قلنا: لا يستحق: فله ذلك: كالصبغ. فإذا قلنا له ذلك، فقال رب الثوب: أنا أشد خيطانه حتى تدخل الدروز عند نزعك: لم يكن له ذلك إلا برضا الخياط؛ لأنه يتصرف في ملك الخياط. قال- رضي الله عنه: إذا قلنا: القول قول رب الثوب، فحلف، وقلنا: لا يضمن الخياط إلا نقصاناً دخل بسبب القباء: يجب على رب الثوب الأجرة للقطع الذي لم يوجب ضمانه، والله أعلم.

باب المزارعة روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأساً، حتى

أخبرنا رافع بن خديج أن النبي- صلى الله عليه وسلم- "نهى عنها؛ فتركناها؛ لقول رافع".

وعن جابر: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن المخابرة". والمخابرة: اكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ويكون البذر من المكتري والمزارعة: اكتراء العامل ببعض ما يخرج من الأرض، ويكون البذر من رب الأرض. أو يكتري رجلاً ليزرع أرضه بذر له يعطيه على أن يكون للعامل حق معلوم منه كلاهما فاسدان. والنهي مشهور في المخابرة، فقيست المزارعة عليها؛ بخلاف المساقاة؛ جوزناها لورود الحديث بها، ولأن عقد الإجارة على النخيل: لا يتصور، فجوزت المساقاة ضرورة لمساس الحاجة إليها، وعقد الإجارة على الأرض ممكن؛ فلم تجز المزارعة. وذهب إلى إبطال المزارعة ابن عمر، وابن عباس وأبو هريرة؛ وبه قال مالك وأبو حنيفة- رضي الله عنهم- وأحل جماعة من الصحابة المزارعة؛ وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ كالمساقاة، وإذا عقد المزارعة؛ فما يحصل: يكون لمالك البذر، وللعامل عليه أجر مثل عمله، وإن كان الآلات والفدان من جهة العامل: فيستحق أجر مثلها، وإن كان من كل

واحد نصف البذر: فما يحصل يكون بينهما، ثم إن كان الأرض من واحد، والآلات والعمل من الآخر: فلمالك الأرض نصف أجرة مثل الأرض على العامل، وللعامل نصف أجر مثل عمله، والآلات على مالك الأرض، فإن استويا تقاصا، وإن كان لأحدهما فضل: رجع بالفضل. ولو كان البذر والأرض من واحد، والعمل والآلة من الآخر، فأقرض صاحب البذر نصف البذر من الآخر، وأجر منه نصف أرضه بنصف عمله، ونصف آلته: يجوز، وما يحصل يكون بينهما، ولا شيء لأحدهما على الآخر إلا المستقرض: عليه رد ما استقرض من البذر. ويجوز اكتراء الأرض للزراعة بالذهب والفضة والعروض، وبكل ما ينبت من الأرض، إذا كان معيناً أو موصوفاً. وعند مالك- رحمة الله عليه-: لا يجوز بما ينبت من الأرض، كالمخابرة. قلنا: المخابرة: اكتراء الأرض بماي نبت منها بعد العقد؛ إما بجنس موصوف أو معين من الحبوب؛ فلا بأس به؛ كما يجوز بأحد النقدين. ولا يجوز اكتراء الأرض للزراعة إلا أن يكون لها ماء معتاد لا ينقطع شتاء ولا صيفاً من نهر صغير أو كبير أو بئر، أو عين. ويدخل ذلك في مطلق عقد الإجارة للزراعة؛ بخلاف ما لو باع الأرض: لا يدخل في البيع بشربها؛ وكذلك: أراضي الجبال التي تشرب من ماء المطر، قل أو كثر أو من نداوة الأرض بالثلج وغيره: يجوز إجارتها للزراعة؛ لأنها قلما تختلف. فإن اكترى أرضاً للزراعة سنة، ولها ماء معتاد، فزرع أحد الغلتين، ثم انقطع الماء- نُظر: إن أمكن سقيها من موضع آخر، وضمنه المكتري: فلا فسخ للمكتري، وإن لم يمكن، أو لم يفعله المكري: نص على أن للمكتري فسخ العقد: وقال في الدار المستأجرة: إذا انهدمت: إن العقد ينفسخ. ومن أصحابنا من قال: فيهما قولان:

أحدهما: ينفسخ العقد فيهما؛ لفوات المنفعة المقصودة، وهي السكنى والزراعة؛ كما لو مات العبد المستأجر: ينفسخ العقد. والثاني: لا ينفسخ؛ لأن الأرض باقية، والانتفاع بها ممكن من وجه آخر، إلا أنه يعطل بعض منافعها؛ فيثبت له الفسخ؛ كما لو تعيب العبد المستأجر. ومن أصحابنا من قال: هي على حالين حيث قال: "ينفسخ العقد" أراد به: إذا صارت الدار تلا لا يمكن الانتفاع به، فإن أمكن الانتفاع به بوجه: لا ينفسخ. وحيث قال في انقطاع الماء: "له الفسخ"، ولم يحكم بالانفساخ؛ لأن الانتفاع بالأرض ممكن بغير وجه الزراعة بأن ينزلها، أو يمسك فيها دوابه ونحو ذلك، فإن لم يمكن بأن غرقها ماء، أو كبسها رمل: فينفسخ فإن قلنا: ينفسخ: فالمذهب: أنه لا ينفسخ في المدة الماضية، وعليه من المسمى بقدر ما يقابلها. فإن قلنا: لا ينفسخ: فله الفسخ في المدة الباقية، والصحيح: أن لا فسخ له في المدة الماضية، وعليه بقدر ما مضى من المسمى، وإن أجاز العقد: فعليه جميع المسمى. وقيل: يلزمه ما يخص الأرض المنقطع ماؤه، فلو أجاز، ثم بدا له أن يفسخ- نظر: إن كان الانقطاع بحيث لا يرجى عود الماء: فلا فسخ له؛ لأنه عيب واحد، وقد رضي به. وإن كان يرجى عود الماء: فله الفسخ، إذا لم يعد؛ لأنه يقدر كل يوم عود الماء، فإن لم يعد: يتجدد له ضرر، فإن عاد: فلا فسخ له. وإن اكترى أرضاً على جبل لا ماء لها إلا أن يصيبها نطف من السماء، أو سيل إن جاء- نُظر: إن اكتراه للزراعة: لا يصح؛ لأنه أكرى منفعة لا يمكن تسليمها، وإن اكتراها لينزلها أو يحفظ فيها دوابه: صح، وإن اكتراها مطلقاً- نُظر: إن قال: أكريتك أرضاً بيضاء لا ماء لها: جاز؛ لأنه إذا ذكر ذلك: علم أن المستأجر لا يكتريها للزراعة، إنما يكتريها لينتفع بها من وجه آخر، ثم المكتري: إن شاء تركها، وإن شاء حفظ فيها دوابه، وإن حمل ماء من موضع فزرعها: جاز. ولا يجوز البناء والغراس، وإن لم يقل: أرضاً بيضاء لا ماء لها: هل يصح أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الأرض تكتري في العادة للزراعة؛ فصار كما لو شرط ذلك في العقد.

والثاني- قاله أبو إسحاق: إن كانت الأرض عالية لا يطمع في سوق الماء إليها: صح العقد؛ لأنه يعلم أنه لا يكتريها للزراعة، وإن كانت مستقلة يطمع في سوق الماء إليها: لم يصح؛ لأنه يكتريها، لتوهم الزراعة مع تعذرها. ولو اكترى أرضاً بجنب واد أو النيل يعلو عليها الماء كل سنة، ثم ينحسر فيكفي ذلك الماء لزراعة تلك السنة- نُظر: إن اكتراها بعد انحسار الماء: جاز، وإن اكتراها قبل أن يعلوها الماء: لا يجوز؛ لأنه لا يدري هل يعلوها الماء أم لا؟ إلا المد بالبصرة؛ فإنه يختلف؛ فيجوز إجارة تلك الأراضي قبل المد؛ وكذلك أراضي الجبل التي تشرب بالمطر والثلج، وإن كان بعدما علاها الماء، ولم ينحسر، ويرجى انحساره وقت الزراعة: يجوز إجارتها، إن كان الماء صافياً يرى وجه الأرض. وإن كان كدراً لا يرى وجه الأرض: قيل: فيه قولان؛ كشراء الغائب. وقيل: يجوز قولاً واحداً؛ لأن الماء الذي عليها من مصلحة الزراعة، وإن كانت الأرض بجنب نهر: إن زاد الماء غرقت: فلا يجوز إجارتها في وقت زيادة الماء، وبعد النقصان: يجوز، وإن كان الماء قائماً عليها: فإن كان لا يُرجى انحسار الماء: لا يجوز إجارتها، وكذلك: إن كان قد ينحسر، ولا ينحسر؛ لأن العجز يقين، والقدرة موهومة. ولو اكترى أرضاً كراء صحيحاً، فغرقها سيل أو ما نبع منها- نظر: إن كان لا يرجى انحساره مدة الإجارة: ينفسخ العقد في المدة الباقية؛ كما لو انهدمت الدار، وإن كان يرجى انحساره فالمكتري بالخيار بين أن يفسخ الإجارة أو يجيز؛ كما ذكرنا فيما لو غصبت العين المستأجرة: فإن أجاز سقط عنه من الأجرة بقدر ما كان الماء قائماً عليها، وإن أجاز، ثم بدا له أن يفسخ: فإن كان بعد انحسار الماء: لم يكن له ذلك، وإن كان قبله: فله ذلك؛ لأنه يتضرر به كل ساعة؛ كما لو اشترى عبداً، فأبق قبل القبض، وأجاز، ثم بدا له أن يفسخ قبل عوده: له ذلك. ولو غرق الماء نصف الأرض بعد مضي نصف المدة: انفسخ العقد فيما غرقه الماء. والمذهب: أنه لا ينفسخ في الباقي، وهل له الفسخ في النصف الباقي فيما بقي من المدة؟ فإن أجاز، وكانت المدة لا تتفاوت في الأجرة: فعليه ثلاثة أرباع المسمى النصف لما مضى من المدة، والربع للباقي، وإن فسخ: فعليه نصف المسمى لما مضى من المدة.

ولو زرع الأرض، فمر بها سيل أفسد زرعه، ولم يغرق الأرض: لا يثبت للمكتري فسخ العقد؛ لأن الهلاك ورد على مال العاقد، لا على المعقود عليه، وكما لو أصاب الزرع صاعقة، فأحرقته، أو برد فأفسده، أو أكله الجراد، أو استأجر حانوتاً لبيع البر، فاحترق البر: لا خيار له في فسخ العقد. فصلٌ إذا اكترى أرضاً مدة للزراعة- لا يخلو؛ إما أن يعين الزرع أو لم يعين: فإن عين، فقال: لنزرع فيها الحنطة: فله أن يزرع فيها زرعاً ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، ولا يجوز أن يزرع فيها ما ضرره أكثر، ويجوز أن يزرع فيها الشعير، ولا يجوز أن يزرع فيها الذرة؛ لأن ضررها أكثر؛ فإن عروقها تبقى في الأرض، وتذهب بقوة الأرض. ولو استأجر؛ ليزرع الشعير: لم يكن له أن يزرع الحنطة ولا الذرة. ولو اكترى ليزرع الذرة: يجوز أن يزرع الحنطة والشعير؛ لأن ضررهما أقل. وإن زرع شيئاً ضرره أكثر: يجوز للآخر قلعه، وإن تعطل منفعة المكتري، وعليه تمام المسمى؛ لأنه هو الذي أبطل حقه، فلو لم يعلم الآجر، أو علم ولم يقلع حتى حصد المكتري الزرع: ماذا يجب عليه؟ نقل المزني: أن رب الأرض بالخيار: إن شاء أخذ المسمى مع أرش النقصان الذي يزيد على زراعة المشروط، وإن شاء ترك المسمى، وأخذ كراء المثل: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال- وإليه ذهب المزني، -رحمة الله- وأبو إسحاق-: في المسألة قولان، وإن نقل المزني الخيار؛ بدليل أنه اختار الأول منهما، وهو أول وجهي الخيار: أحد القولين: يأخذ المسمى وأرش النقصان؛ لأنه استوفى المنفعة التي استحقها مع زيادة؛ كما لو اكترى حماراً ليحمل عليه عشرة أقفزة، فحمل أحد عشر قفيزاً: يجب عليه المسمى وكراء المثل للزيادة، وكما لو اكترى دابة إلى موضع، فجاوزه. والقول الثاني: يأخذ كراء المثل للجميع؛ [لأنه] تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره؛ كما لو اكترى أرضاً بعينها، فزرع أرضاً أخرى.

ومن أصحابنا من قال: فيه قولان من وجه آخر: أحدهما: يتخير؛ كما نص. والثاني: يأخذ كراء المثل للجميع. ومنهم من قال: المسألة على قول واحد: أنه يتخير بين أن يأخذ المسمى وأرش النقصان وبين أن يأخذ كراء المثل للجميع؛ بخلاف ما لو اكترى دابة؛ ليحمل عليها عشرة أقفزة، فحمل أحد عشر، أو يركبها إلى موضع، فجاوزه؛ حيث قلنا: يأخذ المسمى وكراء المثل للزيادة؛ لأن الزيادة هناك متميزة عن الأصل، وههنا: غير متميزة. وجملته: أن كل موضع وجد التعدي في جنس ما اكترى: فإنه يضمن المسمى وأرش النقصان؛ مثل: إن اكترى دابة؛ ليحمل عليها عشرة أقفزة، فحمل أكثر، أو اكترى علو بيت ليصب عليه ماءه، فصب أكثر فانتقض، أو اكترى إلى موضع، فجاوزه، وإن عدل إلى غير الجنس: ففيه هذه الطرق؛ كما في هذه المسألة، وكذلك: لو اكترى داراً؛ ليسكنها، فأسكنها الحدادين، أو اكترى دابة، ليحمل عليها قطناً، فحمل الحديد، أو ليخرج إلى بلد، فخرج إلى بلد ىخر طريقة أوعر. ولو اكترى أرضاً؛ ليزرع فيها الحنطة، ولا يزرع غيرها: ففيه أوجه: أحدها: لا يصح العقد؛ لأنه شرط خلاف قضية العقد؛ كما لو عين حنطة، وقال: ازرع هذه دون غيرها: لا يصح. وقيل: يصح، ويلغو الشرط. وقيل: يصح، ويلزم الشرط: فلا يجوز أن يزرع غير الحنطة. ولو اكترى أرضاً ليزرع فيها زرعاً معيناً مدة يستحصد الزرع فيها، فانقضت المدة والزرع لم يبلغ أوان الحصاد- نُظر: إن تأخر لآفة سماوية من حر أو برد، أو أكله الجراد، فنبتت ثانياً: لا يُجبر على قلعه، ويترك إلى أوان الحصاد بأجر المثل. ولو أعار المالك الأرض منه مجاناً: جاز، وإن تأخر بتفريط من جهته بأن أخر الزراعة إلى وقت لا يدرك، أو أبدله بما يكون إدراكه أبعد، أو أكله الجراد، فزرع ثانياً: للمالك إجباره على قلعه، وعلى الزارع تسوية الأرض؛ كالغاصب. أما إذا أجره مدة؛ ليزرع فيها زرعاً لا يستحصد في تلك المدة- نُظر: إن شرط

التبقية إلى الحصاد بعد مضي المدة: فالإجارة فاسدة؛ لجهالة المدة، ولمالك الأرض منعه من الزراعة غير أنه إذا بادر وزرع: لم يكن للمالك قلعه؛ لأنه زرع بإذنه، بل يبقى إلى أوان الحصاد بأجر المثل لجميع المدة. ولو شرط قلعه عند مضي المدة: صحت الإجارة بالمسمى، ويؤمر بقلعه عند انتهاء المدة، فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة: جاز، وإن أطلق العقد، ولم يشرط قلعاً ولا تركاً عند انتهاء المدة: تصح الإجارة بالمسمى، وهل يجبر على قلعه بعد مضي المدة؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: يُجبر؛ لأنه عقد إلى مدة، [و] قد انقضت، إلا أن يتراضيا على تركه بإجارة أو إعارة. والثاني: لا يجبر؛ لأنه دخل فيه على علم؛ فكأنه رضي بتركه بعد المدة؛ فعلى هذا: هل له أجر المثل للزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه لم يرض بزرعها مجاناً. والثاني: ليس له ذلك، لأنه لما أجر مدة لا يستحصد فيها الزرع: فكأنه أعار منه الزيادة على المدة. ولو اكترى أرضاً مدة للزراعة مطلقاً: يجوز، وله أن يزرع أضر أنواع الزروع؛ كما لو قال: ازرع ما شئت، ولكن يجب أن يزرع زرعاً يدرك في تلك المدة، ثم إن تأخر لتفريط من جهته: يقلع بعد مضي المدة، وإن تأخر لا لتفريط من جهته: يبقى إلى أوان الحصاد بأجر المثل؛ كما ذكرنا في الزرع المعين، وهل لصاحب الأرض منعه من زراعة ما لا يدرك في تلك المدة؟ فيه وجهان. فإن زرع زرعاً لا يدرك في تلك المدة: لم يكن له قلعه قبل مضي المدة؛ لأن المدة مستحقة له، أما بعد مضي المدة: فله قلعه؛ لأنه مفرط بزرع ما لا يدرك، بخلاف ما لو سمى زرعاً لا يدرك في تلك المدة: لم يقلع في وجه؛ لأنه رضي بزرعه. ولو اكترى أرضاً ليغرس فيها، أو ليبني مدة: يجوز، ثم إن شرط القلع بعد مضي المدة: يؤمر بقلعه مجاناً؛ لأن قضية العقد أن تسلم العين إلى الآجر فارغة، وإن لم يشرط

القلع: فلا يقلع بعد مضي المدة مجاناً، لكن يتخير مالك الأرض بين أحد الأشياء الثلاثة: إن شاء أقرها بالأجرة، وإن شاء تملكها بالقيمة، وإن شاء قلعها وضمن أرش النقصان. وإن كان على الأشجار ثمرة: يغرم نقصانها. وعند أبي حنيفة والمزني- رحمة الله عليهما- يقلع مجاناً، وإذا اختار الآخر أحد هذه الأشياء: أجير المستأجر عليه، وإن اكتراه بشرط التبقية بعد المدة: لا يصح العقد؛ للجهالة، وعلى المكتري كراء المثل في المدة، وبعد المدة: يتخير بين الأشياء الثلاثة. وقيل: يصح العقد؛ لأن إطلاق العقد يقتضيه؛ فلا يبطل بالشرط. ولو اكترى أرضاً للغراس كراء فاسداً، وغرس: فهو كالصحيح في أنه لا يقلع مجاناً، ويتخير المالك بين الأشياء الثلاثة. فلو قلع المكتري الغراس، هل عليه تسوية الأرض؟ - نُظر: إن اكترى بشرط القلع: لا يجب؛ لأن المالك رضي بالحفر، لما شرط القلع، وإن لم يشرط: فإن قلع المكتري بعد المدة: عليه تسوية الأرض؛ لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه، ولا له عليها يد، وإن قلع في خلال المدة: فوجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه قلع من غير إذن مالك الأرض؛ كما بعد المدة. والثاني: لا يجب؛ لأن له يداً على الأرض في خلال المدة؛ بخلاف ما بعد المدة. ولو اكترى أرضاً؛ ليزرع ما يشاء مدة: يصح؛ وله أن يزرع ما شاء، قل ضرره أو كثر، ولكن لا يجوز أن يغرس، ولا أن يبني. ولو اكتراه؛ ليصنع ما يشاء: فيه وجهان: أحدهما: يصح، وله أن يزرع ويغرس ويبني. والثاني: لا يصح؛ لكثرة الجهالة. ولو اكترى للغراس أو البناء: له أن يزرع؛ لأن ضرره أقل. ولو اكترى للغراس هل له أن يبني، أو للبناء هل له أن يغرس؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن كل واحد للتأبيد.

والأصح: أنه لا يجوز؛ لأن ضررهما مختلف: ضرر الغراس في باطن الأرض، وضرر البناء على ظاهرها. ولو قال: ازرعها، أو اغرسها ما شئت: نص على أن الكراء جائز. قال المزني- رحمه الله-: لا يجوز؛ لأنه لم يبين، كم يغرس وكم يزرع؟ قلنا: صورة مسألة الشافعي- رضي الله عنه- أن يقول: ازرع إن شئت، واغرس إن شئت، فوض إليه زرع جميعها، أو غرس جميعها؛ فيصح. ثم إذا غرس، فبعد مضي المدة: يتخير المالك بين الأشياء الثلاثة. أما إذا قال: ازرع واغرس: فيه وجهان: أحدهما: يصح، ويغرس النصف، ويزرع النصف. والثاني- وهو الأصح: لا يصح؛ لأنه لم يبين، كم يغرس؟ وكم يزرع؟ حتى قال الشيخ القفال: لو صرح، فقال: ازرع النصف، واغرس النصف: لا يصح أيضاً؛ لأنه لم يبين أي النصفين يغرس؛ كما لو قال: بعتك هذين العبدين: أحدهما بألف، والآخر: بخمسمائة ولم يبين: لا يصح. ولو اكترى أرضاً، فزرعها: يجب على المكتري الكراء، أو عشر الزرع. وعند أبي حنيفة: لا يجب على المكتري الكراء، أما العشر فعلى الآجر. قلنا: العشر حق الزرع، لقوله سبحانه وتعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وزكاة المال: تكون على مالك المال، لا على غيره، والله أعلم.

كتاب إحياء الموات

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب إحياء الموات روي عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعمر أرضاً ليست لأحد: فهو أحق". وروي عن جابر، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحيا أرضاً ميتة: فهي له". بلاد المسلمين قسمان:

عامر، وغير عامر: أما العامر: فلأهله لا يملك عليهم إلا بإذنهم. أما غير العامر [فـ] قسمان: قسم عرف عليهملك من الإسلام؛ فهو كالعامر لأهله؛ سواء كان مالكه مسلماً أو ذمياً، لأنه كان ملكاً بعد ما صار دار الإسلام، [فهو كالعامر لأهله]. وإن لم يكن له مالك ظاهر: فهو مال ضائع يجعل لبيت المال يضعه الإمام، حيث يشاء على النظر، وكذلك البيع التي للنصارى في دار الإسلام، لا تملك عليهم إلا أن يتفانوا؛ فهو كما لو مات ذمي، ولا وارث له، يكون ماله فيئاً للمسلمين. وقسم هو موات، لم يجر عليه ملك لا في الإسلام ولا في الجاهلية؛ فمن أحياها من المسلمين: فهي ملك له، سواء أحياها بإذن الإمام، أو دون إذنه؛ لأن إمام الأئمة وسيد المرسلين- صلوات الله عليه- قد أذن فيه؛ لقوله- صلى الله عليه سولم-: "من أحيا أرضاً ميتة: فهي له"؛ فلا يحتاج إلى إذن إمام بعده. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- لا يملك إلا بإذن الإمام. أما ما كان عامراً في الجاهلية، ثم صار خراباً- نُظر: إن كان يعرف له مالك: فهو كالعمران؛ لا يملك بالإحياء، وإن كان عليه أثر ملك الجاهلية، ولا يعرف له مالك؛ مثل: القهندر: فهل يملك بالإحياء؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: قولان: أحدهما: لا يملك؛ لأن النبي- صلى الله عليه سولم- قال: "من أحيا أرضاً ميتة-: فهي له"؛ وهذه ليست بميتة. والثاني: تملك؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "عادي الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني"، وكالركاز؛ يملكه من يجده، مع كونه مملوكاً لأهل الجاهلية، وهذا أصح.

ومن أصحابنا من قال: إن كان متقادم العمارة؛ لم يكن عليه ملك قريب في الجاهلية، بل درست عمارتها، وعفت آثارها: تملك بالإحياء، وإن كان عامراً في جاهلية قريبة، أو بقيت آثار العمارة عليها: فلا تملك بالإحياء، فإن لم نجوز إحياءها: كانت للغانمين، إن قاتلوا عليها، وإن كانت من أراضي الفيء: فلأهل الفيء، وكذلك: هل يجوز نقل التراب عن مثل هذه الأرض؟ إن قلنا: تملك بالإحياء: يجوز لكل من بادر إليه أخذهن وإن قلنا: لا تملك: يحتاج إلى إذن الإمام؛ كما يحتاج في تملكه بالإحياء إلى إذنه. ولو أن ذمياً أحيا مواتاً في دار الإسلام: لا يملكه، وعند أبي حنيفة: [يملكه]، والحديث حجة عليه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "موتان الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون"؛ خص المسلمين به أهـ. أما إذا احتطب الذمي في دار الإسلام، أو احتش، أو اصطاد: لا يمنع منه. ولو نقل التراب من موات دار الإسلام؛ فإن كان تبين ضرره على المسلمين: منع منه؛ وإلا فلا يمنع. ويجوز للإمام أن يقطع موات الأرض لمن يحييه، فيملكه. روي عن علقمة بن وائل، عن أبيه؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقطعه أرضاً بحضر موت وروي عن ابن عمر؛ "أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: "أعطوه من حيث بلغ السوط". وإذا أقطع إنساناً شيئاً لا يقطعه إلا ما يقدر على إحيائه، حتى لا يدخل الضرر على المسلمين. ومن أحيا مواتاً: ملكه وملك حواليه ما يحتاج إليه مما يصلح به العامر من الطريق ومسيل الماء وغير ذلك من المرافق، حتى لو أحيا قرية: يملك حواليها ما يكون مرافقها: من مرعى البهائم، ومطرح الرماد، وملقى السماد، وملعب الصبيان.

وإذا حفر بئراً في موات للملك: فله حريمها قدر ما يقف فيه المستقي، إن كانت البئر للشرب، وإن كانت للسقي: فقدر ما يمشي فيه الساقية، ويطرح فيه ما يخرج من البئر. روي عن عبد الله بن مغفل؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من احتفر بئراً: فله أربعون ذراعاً حولها لعطن ماشيته، وكذلك من حفر نهراً فله حريم النهر، وملقى الطين، وما يخرج منه، ومن أخذ شيئاً من مرافقها، فأحياه: لا يملكه؛ وكذلك: كل بلد صولح الكفار على المقام فيه: لا يملك موات هو من مرافقه بالإحياء. ومن أحيا مواتاً بقرب قرية عامرة: يملكها إذا لم تكن من مرافقها؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقطع الدور لعبد الله بن مسعود، وهي بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل والنخيل". قال أبو يوسف: يجب أن يبعد من القربة قدر صيحة، وما دونها: لا يملك.

فصل لا حمى إلا الله ورسوله روي عن الصعب بن جثامة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حمى إلا لله ولرسوله". الحمى: هو أن يحمي بقعة من الموات لمواشيه يمنع الناس من الرعي فيها، كان ذلك جائزاً لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه خاصة؛ لكنه لم يفعل، بل حمى النقيع لمصالح المسلمين؛ لإبل الصدقة، ونعم الجزية، والخيل المعدة في سبيل الله. وهو بلد ليس بالواسع وما كان يضيق به الأمر على المسلمين، وما من مسلم إلا دخل عليه منه خصلة صلاح. أما غير النبي- صلى الله عليه وسلم- من الأئمة، لا يجوز [له] الحمى لنفسه، وهل يجوز لمصالح المسلمين: من إبل الصدقة، ونعم الجزية، وخيل الجهاد والضوال؟ فيها قولان: أحدهما: لا يجوز، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا حمى إلا لله ولرسوله". وكما لا يجوز ذلك لآحاد الناس؛ فعلى هذا: إذا فعل: فهو على أصل الإباحة من إحياء ملكه. والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لما روي عن زيد بن أسلم عن أبيه؛ أن عمر استعمل مولى له يقال له: "هني" على الحمى، فقال له: يا هني، اضمم جناحك للمسلمين، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عوف وابن عفان؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى زرع ونخل؛ وإن رب الصريمة والغنيمة: إن تهلك ماشيته يأتني بعياله، فيقول: يا أمير المؤمنين، [يا أمير المؤمنين]، أفتاركهم أنا! لا أبا لك؟! فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وآيم الله، إنهم ليرون أن قد ظلمتهم إنها لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية واسلموا عليها في الإسلام، وآيم الله، لولا المال الذي أحمر عليه في سبيل الله، ما حميت على المسلمين من بلادهم شبراً". وإذا جوزنا: فلا يجوز أن يحمي إلا أقلها؛ بحيث لا يبين ضرره على الذين حمى عليهم، ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- يتناول الحمى لنفسه، وعلى ما كان يفعله العزيز من العرب: كان

إذا انتجع بلداً مخصباً: استعوى كلباً على جبل، أو نشز وقف له من يسمع صوته؛ فإلى حيث انتهى صوته: حماه لنفسه من كل ناحية؛ يمنع العامة عنه ويرعى مع العامة فيما سواه. وكل حمى يضيق به المرعى على الناس: لا يجوز بلا خلاف، ثم ما حماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبقى على حالته؛ لا يجوز نقضه إلى قيام الساعة. أما ما حماه غيره من الأئمة، وجوزنا: هل يجوز له أو لغيره من الأئمة نقضه وعمارته وإقطاعه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ كما حماه النبي- صلى الله عليه وسلم- وكالوقف: لا يجوز تغييره. والثاني: يجوز؛ بخلاف ما لو حماه النبي- صلى الله عليه وسلم- فإنه كان مقطوعاً بصلاحه دون حمى غيره. فإن جوزنا: فلو أحياه واحد من العوام بغير إذن إمام: هل يملكه؟ فيه وجهان: أحدهما: يملك؛ لقوله- عليه السلام: "من أحيا أرضاً ميتة: فهي له". والثاني: لا يملك، وهو الأصح، وتنقض عمارته؛ لأنه تقدم حكم من الإمام؛ فلا ينقض عليه. وقيل فيما حماه النبي- صلى الله عليه وسلم- إن كان المعنى الذي حماه له باقياً: لا يجوز تغييره؛ لأنه مقطوع بصلاحه، وإن زال ذلك المعنى: فيه وجهان: أحدهما: لا يغير؛ كالمسجد، إذا انجلى أهل المحلة: لا يغير. والثاني: يجوز تغييره؛ لزوال المعنى؛ فعلى هذا: من أحياه ملكه. فصل فيما يكون إحياء الموات يختلف باختلاف مقصود المحيي من الأرض؛ لأنه لا بيان له في الحديث، فكان المرجع فيه إلى العادة، كالقبوض والأحراز، فإذا أراد داراً- فلا يملك حتى يبنى حواليه جداراً من طين أو لبن أو من قصب وخشب، إن كانت عادتهم ذلك، ويسقف بحيث يصلح للسكنى، والسكنى ليس بشرط؛ فإن بنى حواليه، ولم يسقف: فهو كالتحجر.

وإن أراد بستاناً: فيبنى حواليه جداراً، ويشق الأنهار، ويغرس الأشجار، ويسوق إليه الماء من نهر أو بئر. وإن أراد الزراعة: فيجمع التراب حواليها، ويحرث ويسوق الماء إليها، وهل يشترط الزراعة؟ فيه وجهان: أصحهما: يشترط؛ كالغرس في البستان. والثاني: لا يشترط؛ لأنه ليس للتأبيد؛ كما لا يشترط أن يسكن الدار. ولو أراد إحياء أرض للزراعة على قلة جبل: قال الشيخ [القفال]: لا يملك؛ لأنه لا يمكن سوق الماء إليها. وقيل: يملك، إذا حرثها ولينها؛ لأن ما يلقى فيها ينبت. وإن أراد حظيرة للدواب أو للشوك والحطب: فيبنى حواليه جداراً من طين أو خشب. أو قصب أو حجر، وينصب عليه باباً، وإيواء الدواب إليه ليس بشرط؛ كسكنى الدار. وإن أراد حفر بئر: فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء، فإن وصل إلى الماء: تم الإحياء، إن كانت الأرض صلبة، وإن كانت رخوة، فلم يتم حتى تطوى، وقبل الوصول إلى الماء: تتحجر. وإذا حفر قناة في موات، فخرج الماء، وجرى: ملكها؛ كالبئر إذا خرج ماؤها. ولو حفر واحد أو جماعة نهراً في موات للتملك؛ ليجروا فيها الماء إلى أملاكهم من بحر أو نهر مباح: فمتى وصلت فوهة النهر الحديث بالنهر العظيم، وجرى الماء فيه: فقد تم الإحياء، وتملكوا النهر. وإذا أحيا أرضاً: ملكها ومرافقها، وملك ما فيها من المعادن؛ كالبلور والفيروزج والحديد، وما كان من أجزاء الأرض، وهل يملك الماء الذي فيها؟ فيه وجهان: ويملك الكلأ وما ينبت فيها من الأشجار. وقال أبو القاسم الصيمري البصري: لا يملك الكلأ؛ كما لا يملك فرخ طائر أفرخ فيها، وليس بصحيح، لأن الكلأ من نماء الأرض، فيملكه؛ كمن ملك شاة يملك شعرها.

ولو تحجر مواتاً، وهو: أن يشرع في إحيائه، أو أعلم عليه علامة ولم يتمم، أو أقطعه السلطان: كان أحق به من غيره. وإذا مات: كان وارثه أحق به، حتى لو استولى عليه غيره: له أن يسترده. والصحيح من المذهب: أنه لا يملك بالتحجر ولإقطاع ما لم يحيها. ولو باعها قبل الإحياء. المذهب: أنه لا يصح؛ لأنه لم يملكها. وقال أبو إسحاق: إذا باعه يصح بيعه؛ لأنه أحق به، وليس بقوي؛ لأنه لمي ملكه؛ إنما له حق التملك؛ كالشفيع: إذا باع الشقص قبل الأخذ: لا يصح، فلو بادر غير المتحجر، وبنى فيها، وفعل ما يكون إحياء: هل يملكه؟ فيه وجهان: أصحهما: يملك؛ لأنه خفق سبب الملك. وقيل: لا يملك، وللأول أن يسترده. هذا كما لو أفرخ طائر على شجرة في ملك إنسان: كان صاحب الشجر، أولى بذلك الفرخ، وليس لغيره دخول ملكه وأخذه؛ فإن ملك الفرخ جناحه، وطار: فكل من أخذه: فهو ملكه. ولو دخل رجل بستانه، وأخذه: هل يملكه؟ فيه وجهان؛ أصحهما: يملكه. وإن تحجر موضعاً، أو أقطعه السلطان، فطالت المدة، ولمن يحيه: قال له السلطان: إما أن تحييه، وإما أن ترفع يدك عنه، فتخلي بينه وبين من يحييه؛ لأن فيه تضييقاً على الناس؛ فإن استمهله: أمهله مدة قريبة، فإن انقضت المدة، ولم يحيه، فبادر غيره، فأحياه: ملكه؛ لأنه ارتفع حق الأول بعد انقضاء المدة. أما موات دار الحرب: يملكه الكافر بالإحياء، ولو أحياه مسلم: هل يملكه أم لا؟ نُظر: إن كان الكفار لا يمنعوننا عنه: يملكه؛ كموات دار السلام. وإذا استولى المسلمون على بلادهم: لا يملكونه، وإن كانوا يمنعوننا عنه: فلا يملك من أحياه، بل هو كالعامر من دورهم، فإذا استولى المسلمون عليه قهراً: كان ذلك كالتحجر في حق الغانمين، فهم أحق بإحياء أربعة أخماسها، وأهل الخمس بإحياء خمسها؛ فإن ترك الغانمون إحياءها: كان أهل الخمس أحق بها؛ لأنهم شركاء في الغنيمة. وإن ترك بعض الغانمين حقوقهم من الغنيمة: كان الحق للباقين، فإن ترك الغانمون وأهل الخمس حقوقهم: فكل من أحياها من المسلمين ملكها، وإن صار فيئاً: فالإمام أحق بإحيائها لأهل الفيء؛ وإن لم يعرف سببه: يضعه الإمام فيمن يشاء من المسلمين على النظر لهم، والله أعلم.

باب ما يجوز أن يقطع وما لا يجوز روي أن أبيض بن حمال المأربي سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يقطعه ملح مأرب، فأراد أن يقطعه، فقيل له: "إنه كالماء العد! قال: فلا إذن". المعادن قسمان: ظاهرة، وباطنة. أما الظاهرة؛ مثل معدن الملح، والنفط والقير، والكبريت، والمومياء، والبرام، والحجارة الظاهرة للرحى وغيره، إذا كانت في موات: فالناس فيها شرع سواء؛ لا يملكها أحد بالإحياء، ولا ينفرد بها. ولا يجوز للسلطان أن يقطعها؛ كالماء والكلأ، والحطب؛ لأنه توصل إليها من غير مؤنة وتعب. فإذا تسارع إليه رجلان- نُظر: إن كان المعدن يسعهما: أخذا ما فيه، وإن كان لا يسعهما: فمن سبق فهو أولى بما فيه؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم: فهو له"، فإذا أخذ حاجته، وقام: ليس له منع الثاني، وإن جاءا معاً: ففيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما. والثاني: يقدم الإمام أيهما شاء. وفيه وجه آخر: أن الإمام يأمر من يقسم بينهما. فإذا قدمنا أحدهما، فأخذ حاجته، فلم يقم، وأراد أن يأخذ أكثر، ويبعث للتجارة: ففيه وجهان: الأصح: أنه يزعج إذا طال المقام؛ كالمستقطع والمتحجر، إذا طال الحبس، ولم يعمر: يمنع منه. ولو ظهر شيء من هذه المعادن في ملكه: فهل يملكه؟: من أصحابنا من قال: فيه وجهان؛ كالماء: قال الشيخ- رحمه الله: والصحيح: أنه يملكه؛ لأنه يحصل من ملكه لا بمدد من موضع آخر؛ بخلاف الماء؛ فإن مدده من موضع آخر، حتى لو أخذ غيره شيئاً [منه]: فله

أن يسترده؛ وكذلك: الحشيش الذي نبت في ملكه؛ بخلاف فرخ الطائر: يملكه من يأخذه؛ لأنه لم يتولد في ملكه، قال- رحمه الله-: فإن كان الملح ينعقد من ماء ينبع منه، لا من ترابه: فكالماء. أما المعادن الباطنة؛ مثل: معدن الذهب [والفضة] والياقوت، والفيروزج، والرصاص، والحديد، والنحاس، والكحل، والجص، ونحوها مما لا يوصل إلى منفعته إلا بالمدمومة على العمل: هل يملك بالإحياء فيه قولان: أحدهما: يملك؛ كما يملك الموات بالإحياء؛ فعلى هذا: إذا حفر، ووصل إلى النيل: ملكه، وقبل الوصول إلى لانيل: يكون كالمتحجر، وإذا وصل إلى النيل، ثم عطله: ليس لأحد أن يملكه عليه إلا بإذنه؛ كالموات يحييه، ثم يعطله. وإذا وصل إلى النيل، وملكه: يملك جميع مرافقه، فإن تباعد إنسان عن حريمه، وحفر معدناً، ووصل إلى العروق: لم يمنع منه؛ لأنه ليس من مرافقه، وعلى هذا القول: يجوز للسلطان إقطاع هذه المعادن. والقول الثاني: لا يملك بالإحياء؛ بخلاف الأرض؛ لأنها إذا أحييت: ثبت إحياؤها؛ فلا تحتاج بعده إلى عمل الإحياء، والمعدن يحتاج إلى مداومة العمل حتى يصل إلى المنفعة؛ فتحتاج كل يوم إلى إحياء جديد؛ لأن النيل متفرق في طبقات المعدن؛ فهو كالمعدن الظاهر: يحتاج كل يوم إلى أخذ النيل؛ فعلى هذا: لو بادر إليه رجل: فما دام يعمل فيه: له منع الغير. وإن كان المعدن يسع الكل: فإذا تركه: ليس له منع الغير؛ كالبئر يحفرها في البادية للارتفاق: كان أولى بها، وإذا تركها: لم يكن له منع الغير عنها. وعلى هذا: إذا طال مقامه: هل يزعج؟ قيل: فيه وجهان؛ كما قلنا في المعادن الظاهرة.

وقيل: لا يزعج ما لم يعطله باجتيازه؛ لأنه لا يصل إلى النيل إلا بمشقة؛ فكان مقدماً على من جاء بعده؛ بخلاف المعادن الظاهرة، ولأن في الظاهر: يمكنه أخذ حاجته دفعة واحدة؛ فلا يحتاج إلى طول المكث؛ بخلاف الباطن. وإذا بادر إليه رجلان: فإن وسعهما: أخذا معاً، وإن ضاق المكان: فيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما. والثاني: يقدم السلطان أيهما يشاء. وقيل: يقسم بينهما؛ وعلى هذا القول: هل يجوز للسلطان إقطاع هذه المعادن؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يملك بالإحياء. والثاني: وهو الأصح: يجوز؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أراد إقطاع ملح مأرب، وإنما تركه حين أخبر أنه كالماء العد؛ [فدل] أن ما كان باطناً: يجوز إقطاعه، وقد يجوز إقطاع ما لا يملك بالإحياء؛ كمقاعد الأسواق، ويجوز للرجل أن يعمل فيه من غير إذن، ولا إقطاع من الإمام؛ لأنه إما أن يكون كالأرض أو كالمعدن الظاهر، ويجوز العمل، في كل واحد منهما من غير إقطاع، وليس لأحد أن يتحجر هذه المعادن وفي المواضع التي يعمل فيه، ولا أن يتحجر مكاناً واسعاً. ولو عمل في معدن، فجاء آخر، وأخرج منه النيل قبل تركه: إن قلنا: ملكه الأول: له أن يسترده؛ وإلا فوجهان؛ كفرخ الطائر. ولو كان بقرب الساحل بقعة لو حفرت ودخلها الماء- ظهر فيها الملح-: جاز للسلطان إقطاعها. ولو حفرها رجل، وجمع فيها الماء، وظهر الملح- يملكها؛ كالأرض يحييها؛ لأنه يوصل إليه المؤنة والعمل. ولو وجدت قطعة ذهب على إثر سيل قطعها من الجيل: فحكمها حكم المعادنا لظاهرة؛ لأنه حصل من غير عمل أحد؛ فمن أخذها فهي له. ولو عمل في معدن من المعادن الباطنة في الجاهلية: فهل يجوز للسلطان إقطاعه؟ فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يجوز؛ لأن للسلطان إقطاعه، ويملك بالإحياء. والثاني: يجوز إقطاعه، ولا يملك بالإحياء؛ فإن سبق إليه رجلان، وضاق عنهما: يقرع بينهما أو يقدم الإمام أحدهما. والثالث: لا يجوز إقطاعه، ولا يملك بالإحياء؛ كالماء العد. وأصل هذا: أن هذه المعادن هل تملك بالإحياء؟ إن قلنا: تملك بالإحياء: فهو ملك للغانمين؛ كالأراضي التي أحياها أهل الحرب؛ ثم استولى عليها المسلمون، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء: فحينئذ: فيه قولان: أحدهما: للسلطان إقطاعه. والثاني: كالماء العد. وإذا كان في ملك رجل معدن باطن، فجاء رجل، واستخرج منه النيل بغير إذن مالكه: يجب عليه رده، ولا أجرة له؛ لأنه أتلف منفعة نفسه. ولو قال له المالك: اعمل فيه، فما استخرجته فهو لك: فهو هبة مجهولة، وما استخرجه يكون لمالك الأرض، وهل يكون مضموناً على العامل؟ فعلى قولين؛ كالمقبوض بحكم الهبة الفاسدة، وهل يستحق أجر المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه عمل لنفسه. والثاني: يستحق؛ لأن عمله وقع لغيره؛ وهذا بناءً على أن الأجير في الحج، إذا صرف الإحرام إلى نفسه: لا ينصرف إليه، وهل يستحق الأجر؟ فيه قولان. ولو قال: اعمل، فما استخرجته: نصفه لك، ونصفه لي: لا يصح؛ لأنه شرط له أجراً مجهولاً، وما استخرجه يكون لمالك الأرض، وللعامل أجر مثل عمله؛ كما لو قال: استأجرتك على نصف ما تستخرجه: فهو فاسد، والنيل للمالك، وللأجير أجر المثل. أما إذا قال: استأجرتك شهراً؛ لتعمل في هذا المعدن كل يوم بدرهم: يصح، ويستحق المسمى [إذا عمل]، والله أعلم. باب القطائع القطائع قسمان:

أحدهما: ما يملك، وهو: ما مضى من إحياء الموات. والثاني: إقطاع إرفاق لا تمليك فيه؛ كالمقاعد في الأسواق، والطرق الواسعة. إذا قعد رجل في طريق للبيع والشراء: فإن كان يضيق الطريق على المارة: منع منه، وإن لم يضيق: فلا يمنع، سواء قعد بإذن الإمام أو بغير إذنه؛ لاتفاق الناس عليه في جميع الأمصار من السلف والخلف. ويجوز للسلطان إقطاعه؛ لكنه لا يملكه، بل يكون أولى بالمكان الذي قعد فيه، وبما حواليه قدر ما يضع فيه متاعه، ويقوم فيه المشتري، فلو قعد بقربه من يضيق المكان عليه، لوضع أمتعته، أو يمنع الناس عن رؤية متاعه: يمنع من ذلك، وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة من تارية أو ثوب؛ لأنه لا يستغني عنه، ويمنع من أن يبني دكة؛ لأنه يضيق به الطريق، ويعثر به الضرير، والبصير بالليل، وإذا أقطعه السلطان موضعاً: كان أحق به؛ سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل؛ لأن للإمام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه: ثبتت يده عليه. وإذا قعد في موضع، ثم فارقه على ألا يعود: لم يكن له [منع] غيره من القعود فيه، وغن فارقه لشغل حتى يعود، أو عاد إلى بيته، بالليل، ثم رجع في اليوم الثاني: كان أولى به، فإن رجع في اليوم الثاني، وقد قعد فيه غيره: يزعج، وإن طال قعوده في مكان: هل يمنع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ثبتت له اليد بالسبق إليه. والثاني: يمنع؛ حتى لا يصير كالمتملك له. وقال الإصطخري: إذا عاد إلى بيته بالليل، ثم رجع في اليوم الثاني، وقد سبقه غيره: كان الثاني أولى به؛ كالمسجد. والأول أصح، بخلاف المسجد: فإنه مكان عبادة وموضع قربة ينتابه الناس؛ فالسابق أولى به في أي وقت جاء؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- "مني مناخ من سبق". ولو غاب عن مقعده في السوق أو الطريق يوماً أو يومين؛ لشغل: من مرض أو سفر، ثم عاد: كان أولى به، فإن طالت مدة غيبته: بطل حقه، ولغيره أن يقعد فيه، وإن سبق اثنان

إلى موضع: فيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما. والثاني: يقدم الإمام أحدهما، ولا تجيء القسمة؛ لأنه لا يملك، وإن كان الرجل جوالاً: يقعد كل يوم في موضع آخر، فإذا فارق مكانه، وقعد فيه غيره: كان الثاني أولى به؛ وكذلك: الأعراب إذانزلوا منزلاً بالبادية: كانوا أولى به، وبما حواليه قدر ما يحتاجون إليه لمرافقهم، ولم يكن لغيرهم مزاحمتهم فيها، وإذا أرسلوا نعمهم في شعب: لم يكن لغيرهم تنحيتهم وغرسال نعمهم فيه، فإذا فارقوا ذلك المكان: لم يكن لهم منع غيرهم عن نزوله. وكذلك: الرباط الموقوف والخان الموقوف، إذا قعد أحد النازلين في موضع، ثم خرج لشراء شيء أو لشغل، ثم عاد: كان أولى بمكانه، سواء نقل متاعه أو لم ينقل؛ لأنه يخاف على متاعه لو تركه. وكذلك: إذا أخذ بيتاً، وغاب أياماً قليلة، ثم عاد: كان أولى ببيته، فإن طالت غيبته، ثم عاد وقد أخذ المكان غيره: لم يزعج. وكذلك: لو قعد في المسجد في موضع، ثم قام لقضاء حاجة أو تجديد وضوء، فناداه رجل، أو قام لينادي رجلاً، ثم عاد: كان أولى به، سواء ترك إزاره أو لم يترك، أما إذا خرج لغير عذر، أو عاد إلى بيته بالليل، فسبقه غيره في اليوم الثاني: كان الثاني أولى به. فصلٌ في المياه روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار".

الماء الجاري في نهر أو عين غير مملوكة؛ مثل: الفرات ودجلة: مباح لكل من أخذه؛ فإن دخل شيء منه ملك الغير، أو السيل دخل ملكه: فهو على أصل إباحته؛ فإن جرى وخرج عن ملكه فكل من شاء- أخذه. وإذا اجتمع في الملك: فهو على إباحته، غير أنه لا يجوز لأحد دخول ملكه، لأخذه بغير إذنه، فلو دخل وأخذه في إناء ملكه على أصح الوجهين. وفيه وجه آخر: لصاحب الملك أن يسترده؛ كما قالوا في فرخ الطائر. وكذلك: إذا كان الماء في موات: فهو متشرك بين الناس؛ فإن حضره جماعة: أخذوه، وإن أتاه رجلان، وكان الماء في بئر، أو عين، ولم يمكنهما الاستقاء معاً: فمن سبق إليه- كان أولى به، وإن جاءا معاً- أقرع بينهما، وهذا الماء هو المراد من قوله- عليه السلام-: "الناس شركاء في ثلاث". وكذلك: الكلأ إذا كان في موات، والنار الموقدة من حطب في موات لم يحتطب: يكون الناس شركاء فيه، فلو أخذ رجل شيئاً من ذلك الماء [في إناء]: ملكه وليس للغير أن يزاحمه فيه؛ وكذلك: الكلأ والحطب إذا جمعه إنسان: ملكه، فإذا أوقد منه ناراً: فليس لغيره أن يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه. أما إذا نبع الماء من عين في ملكه، أو بئر، أو حفر بئراً في موات للتملك، فظهر الماء: هل يكون ذلك الماء ملكاً له؟ فيه وجهان.

أحدهما: وهو قول أبي إسحاق: لا يكون ملكاً له؛ حتى يحوزه في إناء أو حوض؛ لظاهر الخبر. والثاني: نص عليه في رواية حرملة، وهو قول ابن أبي هريرة: هو ملك له؛ لأنه نماء ملكه؛ كثمرة الشجرة حتى قال: يقطع سارقه. ومن قال بالأول، قال: الدليل على أنه ليس يملك: أن مستأجر الدار يجوز له أن ينتفع بماء البئر بالاتفاق. ولو كان ملكاً لصاحب الدار: لم يجز له أن ينتفع به فكذلك: من اشترى داراً فيها بئر ماء، فنزح شيئاً من ماء البئر، ثم وجد بالدار عيباً: يجوز له الرد؛ لأنه لم يتولد من ملكه؛ بخلاف الثمرة، بل حصل في ملكه كطير دخل أرضه: لا يملكه مالك الأرض. ولو نبع الماء من ملكه، فجرى، وخرج عن ملكه، [فأخذه غيره]: فعلى قول أبي إسحاق: ملكه من أخذه، وعلى قول ابن أبي هريرة: لا يملكه، ويسترده مالك الأرض. ولو دخل رجل أرضه دون إذنه، وأخذ شيئاً منه: عصى بالدخول؛ ولكنه يملك الماء على قول أبي إسحاق، وعلى قول ابن أبي هريرة: لا يملكه. ولو باع مالك الأرض الماء- نُظر: إن باعه بعد ما أحرزه في إناء، أو حوض: جاز. قال الشيخ- رحمه الله- إذا كان يعرف المشتري عمق الحوض، وإن باعه في قراره: لا يجوز؛ لأنه مجهول. وعند أبي إسحاق: غير مملوك. ولو باع عشرة أصوع من ذلك الماء: [فإن كان] جارياً؛ مثل ماء القناة: لا يجوز، وإن لم يكن جارياً؛ مثل ماء البئر: فعلى قول أبي إسحاق: لا يجوز؛ لأنه غير مملوك، وعلى الوجه الآخر: يجوز؛ كما لو باع صاعاً من صبرة حنطة. وقال الشيخ القفال: لا يجوز- أيضاً- لأنه إذا نزح شيئاً منه-: يزداد، فيعطى ما لم يكن موجوداً. والأصح: جواز بيعه على هذا الوجه؛ لأن الذي يزيد قليل؛ فيعفى كما لو باع القت في الأرض بشرط القطع: يجوز، وإن كان يزداد شيئاً إلى أن يفرغ من قطعه. أما إذا باع الماء مع موضعه- نظر: إن كان الماء جارياً، فقال: بعتك هذه القناة مع الماء

:لم يجز، وإن لم يكن جارياً كالماء والبئر؛ فعلى قول ابي إسحاق: لا يجوز؛ لأنه باع ما لا يملك. وعلى الوجه الآخر: يجوز. ولو باع البئر مطلقاً، أو باع داراً فيها بئر ماء: جاز، ثم على قول أبي إسحاق: يصير المشتري أحق بذلك الماء؛ كما كان البائع أحق به. وعلى الوجه الآخر: الموجود- يوم البيع- لا يدخل في البيع، وما ينبع بعده: يكون للمشتري. ولو باع جزءاً مشاعاً من القناة أو البئر: جاز، وما يحدث يكون مشتركاً بينهما حقاً؛ على قول أبي إسحاق، وملكاً على الوجه الآخر. ولو حفر رجل بئراً في موات، نظر: إن حفر للارتفاق لا للملك: فما دام هناك- فهو أولى به، ولم يكن له منع الغير من الاستقاء. ولا يمنع فضل الماء عن المواشي؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من منع فضل الماء، ليمنع به الكلأ: منعه الله فضل رحمته يوم القيامة"، ولكن لا يلزمه إعارة الدلو والرشاء للاستقاء.

ولو أراد غيره أن يسقي زرعه له منعه؛ لأن حرمة الحيوان أعظم، فإذا فارق هو ذلك المكان: لم يكن له منع الغير عن ذلك الماء، والارتفاق به؛ كمن نزل على ماء مباح: كان أولى به، فإذا فارقه: لم يكن له منع الغير. أما إذا حفر بئراً في الموات للتملك أو نبع من ملكه عين ماء: لا يجب عليه أن يسقي من فضله، زرع الغير، سواء قلنا: يملك الماء أو لا يملك. ويجب أن يسقي ماشية الغير مما فضل منه، فإن لم يفعل: عصى الله تعالى؛ للحديث، وقال أبو عبيد بن حريويه: لا يجب، بل يستحب كما لا يجب بذله للزرع، ولا بذل الحبل والرشاء للاستقاء، وكما لا يجب بذل الكلأ؛ والأول أصح، وليس كالكلأ؛ لأنه لا يستخلف عقيب الأخذ؛ فربما يحتاج إليه المالك لماشيته قبل أن يستخلف، والماء مستخلف عقيب الأخذ، ويجب أن يسقي الماشية مجاناً لا يجوز أخذ العوض عليه؛ لما روي عن جابر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع فضل الماء".

وقيل: يجوز أن يأخذ عليه العوض؛ كما يجب عليه إطعام المضطر، وله أخذ العوض عليه. والأول المذهب؛ للحديث، ولأن الماء يخلف ما دام في منبعه؛ بخلاف الطعام؛ حتى لو كان الماء محرزاً في إناء، أو حوض: فلا يجب أن يسقي به الغير، إلا أن يكون مضطراً؛ فيجب عليه أن يسقيه، وله أخذ العوض عليه، فإذا كان لجماعة حق في ماء يسقون منه- نُظر: إن كان الماء في نهر عظيم غير مملوك مثل الفرات ودجلة وما أشبههما من الأودية: فلا ضيق فيه على الناس، فمن شاء أن يسقي منه متى شاء، له ذلك، وإن كان الماء في ساقية [أو نهر صغير- نظر: إن كانت الساقية غير مملوكة بأن كان الماء يجري من] نهر عظيم في ساقية، فأحيا الناس حولها: فالترتيب فيه: أن يسقي الأول زرعه حتى يبلغ الماء كعبين، ثم يرسله إلى الثاني، ثم إلى الثالث؛ لما روي عن عروة بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج من الحرة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- للزبير: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله، إن كان ابن عمتك! فتلون وجهه، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك". فإن احتاج الأول إلى الماء ثانياً قبل أن يصل الماء إلى الآخر: فله حبسه ثانياً، ولو كان قطعتا أرض، إحداهما أعلى لا يبلغ الماء فيها إلى الكعبين، حتى يبلغ في الأسفل إلى الوسط: فليس له أن يسقي كذلك، بل يسقي السفلى إلى الكعبين، ثم يسدها، فيسقي العالية إلى الكعبين. ولو أراد رجل أن يحي مواتاً، ويجعل شربه من هذا النهر: لم يكن له ذلك، إن كان يضيق على أهل النهر، ويضرهم؛ لأنهم سبقوا إليه. ومن ملك أرضاً بالإحياء: ملكها بمرافقها، والنهر من مرافق أراضيهم، فإن لم يضيق عليهم: جاز، وإن كانت الساقية مملوكة: فإن حفر واحد، أو جماعة في موات نهراً يدخله الماء من نهر عظيم: فتلك الساقية مملوكة لهم، والماء غير مملوك؛ لكنهم أحق به؛ لكونه في ملكهم؛ كالسيل: يدخل في ملك الغير، وليس لأحد أن يشق فيه نهراً، ولا أن يدلي فيه دلواً؛ لأنه ينتفع بحريم الغير، ولو تباعد عن الحريم، وألقى إليه الدلو؛ لم يجز؛ لأنه ينتفع بهواء الغير، ثم أهل ذلك النهر: إن دخلوا في حفره على أن يتساووا: تساووا في الإنفاق، وإن دخلوا على أن يتفاضلوا

: تفاضلوا في الإنفاق؛ ويكون الماء بينهم على قدر النفقة؛ لأنهم استفادوا ذلك بالإنفاق، وإن وضعوا سقي أراضيهم على المهايأة يوماً يوماً: جاز؛ وليس لأحد حبس الماء من غير مواضعه. وإن أرادوا قسمة الماء: أجروا الماء إلى مستوى من الأرض يمكن لكل واحد منهم أن يسقي أرضه بما يصيبه من الماء بعد القسمة؛ وينصب خشبة مستوية الأعلى والأسفل، ويفتح فيها كوى بقدر حقوقهم على عدد رءوسهم، ليخرج حصة كل واحد منهم من تلك الكوة إلى أرضه، وليس لأحد منهم تغيير. تلك الكوى بتوسيع ولا تضييق، فلو أراد واحد منهم أن يشق ساقية إلى أرضه قبل بلوغ المقسم- لم يكن له ذلك؛ لأنه تصرف في حريم مشترك، ولا يجوز أن ينصب عليه رحى، فلو نصب رحى على ما ءآخر ورد منتهاه إلى هذه الساقية: لم يكن له ذلك، ولو كان لواحد عليه رسم رحى يدور: لم يبطل. ولو أراد واحد أن يدير بما فضل له من الماء رحى في ملكه: لم يمنع منه، والله أعلم.

كتاب العطايا والحبس

كتاب العطايا والحبس روي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ملك مائة سهم من خيبر، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالاً لم أصب مثله [قط]، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "حبس الأصل، وسبل الثمرة". جملة ما يعطي الرجل من ماله- على وجه التبرع- قسمان: عطية بعد الموت، وهي: الوصية، وعطية في الحياة، وهي قسمان: أحدهما: الصدقات المحرمات، وهي: الوقف. والآخر: الهبات والهدايا.

ولكل قسم كتاب، والمقصود من هذا الباب: بيان حكم الوقف، وهو: أن يحبس عيناً من أعيان ماله ويقطع تصرفه عنها، ويجعل منافعها لوجه من وجوه الخير؛ تقرباً إلى الله تعالى، وذلك- عندنا- مندوب إليه مستحب. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: الوقف لا يلزم، وإن فعل: فهو كالعارية ومتى شاء رجع إلا أن ينفذه قاض؛ فيلزم. وقال أبو يوسف: الوقف جائز؛ غير أنه لا يلزم إلا أن يجعل داره مسجداً، وصلى فيه جماعة، أو جعل أرضاً مقبرة، فدفن فيها ميت: تلزم جميعها، والحديث حجة عليهم، واتفاق الصحابة على فعل الوقف، وأنه لم ينقل عن أحد منهم؛ أنه رجع عما وقف مع حاجته: دليل على لزومه. ويجوز وقف كل عيني مكن الانتفاع بها، مع بقاء عينها، ولم يحلها. حرمة إبطال: الملك؛ فيجوز وقف الدور والعقارات، ووقف المنقولات من الثياب والدواب والعبيد والأمتعة. وعند أبي حنيفة: لا يجوز وقف الحيوانات، وإن حكم به الحاكم؛ وجوز محمد: وقف الخيل. ولا يجوز وقف المطعومات وما يشم من الرياحين، لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام. ويجوز وقف العبد الصغير والحيوان الصغير؛ لأنه يرجى الانتفاع به. ولا يجوز وقف الزمن الذي لا يرجى [الانتفاع به]، ويجوز وقف العبد الكافر، كتابياً كان أو وثنياً؛ كما يجوز إعتاقه. ولا يجوز وقف الحمل في البطن؛ كما لا يجوز بيعه. وفي وقف الدراهم: وجهان: كإجارتها، وفي وقف الكلب المعلم وجهان؛ كإجارته. ولا يجوز وقف المكاتب، ولا وقف أم الولد؛ لأنه حلها حرمة إبطال الملك. ويجوز وقف المعلق عتقه بالصفة، فإذا وجدت الصفة: فإن قلنا: الملك في الوقف

للموقوف عليه: لا يعتق؛ بل هو وقف، وإن قلنا: الملك في الوقف للواقف، أو قلنا: ذلك إلى الله تعالى: عتق بوجود الصفة، وبطل الوقف. وكذلك: وقف المدبر جائز، ثم إن قلنا: التدبير وصية: بطل التدبير؛ كما لو أوصى لإنسان بشيء، ثم وقفه: يصح، وكان رجوعاً عن الوصية: وإن قلنا: التدبير تعليق: عتق بصفة؛ فهو كوقف المعلق عتقه بالصفة. ولو وقف نصف عبد، أو نصف دار مشاعاً: جاز، سواء كان النصف الآخر له أو لم يكن، لأن عمر- رضي الله عنه- وقف مائة سهم من خيبر مشاعاً، ولا يثبت به الشفعة؛ لأنه لم يأخذ عليه عوضاً. وكذلك: لو وقف علو دار دون سفلها، أو وقف سفلها دون علوها: جاز؛ لأنهما عينان؛ فيجوز وقف إحداهما دون الأخرى؛ كالعبدين. ولو وقف شيئاً غير معين؛ من عبد أو فرس: لم يجز؛ كما لا يصح بيع غير المعين. فصلٌ فيما يجوز الوقف عليه ولا يصح الوقف إلا على وجه البر والمعروف؛ مثل: أن يجعل بقعة مسجداً أو رباطاً لنزول المارة، أو يقف شيئاً على الفقراء والمساكين أو أبناء السبيل، أو على العلماء أو القراء أو الحجاج، أو على عمارة المسجد أو القناطر، أو على جماعة متعينين؛ مثل: أولاد فلان، أو على أقاربه: يصح. [والقر والوقف] على ما لا قربة فيه؛ مثل: إن وقف على البيع والكنائس أو على كتبة التوراة والإنجيل: لم يجز؛ لأنه مبدل. وكذلك: لو وقف على السراق وقطاع الطريق ومن يرتكب المعاصي. ولو وقف على كافر ذمي: جاز؛ كما يجزو التصدق عليه، والوصية له، ولو وقف على حربي أو مرتد: لم يجز؛ لأنه مأمور بقتلهما؛ فلا معنى للوقف عليهما. وقيل: يجوز؛ كالذمي، ولو وقف على وارثه شيئاً من صحته: جاز؛ فإن وقف في مرضه: فهو كالوصية له، ولا يصح الوقف على من يملك؛ مثل: أن يقف على العبيد، وعلى الحمل في البطن، ولو وقف على دابة فلان: فيه وجهان:

أصحهما: لا يجوز؛ لأنه لا يملك؛ فلا معنى للوقف عليه. والثاني: يجوز، ويكون وقفاً على مالكها. ولو وقف شيئاً على فنسه: لا يجوز؛ لأن الوقف يقتضي حبس العين، وتمليك المنفعة، والعين قبل الوقف محبوسة عليه ومنفعة له؛ فلا معنى للوقف على نفسه. وقال أبو عبد الله الزبيري- وهو قول أبي يوسف: يجوز؛ وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن الملك في الوقف يزول إلى الله تعالى، وقبل الوقف: كان للواقف، وإن قلنا: باق على ملك الواقف: يصح أيضاً؛ لأن استحقاقه وقفاً غير استحقاقه ملكاً، لتغاير أحكامهما. وكذلك: لو وقف حائطاً أو شيئاً على الفقراء؛ على أن يأكل هو من ثمرته، أو ينتفع به: فيه وجهان: الأصح: أنه لا يجوز. وقيل: يجوز؛ لأن عثمان- رضي الله عنه- وقف بئر رومة، وقال: "دلوي فيها كدلاء المسلمين". والأول المذهب؛ وكان دخول عثمان- رضي الله عنه- في عموم الوقف من غير شرط. ويجوز أن يدخل في العام من لا يدخل في الخاص؛ كما أن المساجد موقوفة، والوقف صدقة، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي في المساجد، مع أنه كان لا يأخذ الصدقة. وكذلك: لو قال: وقفت هذا على فلان: فإذا مات عاد إلي: لا يصح؛ على ظاهر المذهب. ولا يصح تعليق الوقف على شرط؛ فيقول: إذا قدم فلان فقد وقفت، وإذا جاء رأس شهر فقد وقفت؛ كما لا يصح تعليق البيع. ولا يصح بشرط الخيار فيه، ولا يشترط أن يرجع فيه متى شاء، أو يدخل فيه من شاء، ويخرج من شاء؛ لأنه إخراج مال عن ملكه على وجه القربة منجزاً؛ كالصدقة. ولا يجوز إلى مدة؛ كالعتق. ويشترط أن يكون الوقف على معلوم، ويرد انتهاؤه إلى ما لا ينقطع؛ وذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقف على ما لا ينقرض؛ مثل: أن يقف على الفقراء والمساكين، أو المجاهدين، أو العلماء وما أشبههما؛ فيصح. والثاني: أن يقف على ما ينقرض، ثم بعده على ما لا ينقرض مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على عقبه، ثم على الفقراء؛ فيصح، وإن كان الوقف منقطع الابتداء والانتهاء؛ مثل: إن وقف على رجل غير معين أو على من يختاره فلان، أو على ولد فلان، وليس له ولد، أو على أولادي الذين يحدثون، أو على مسجد سيبنى: لا يصح على الصحيح من المذهب؛ وكذلك: لو قال: وقفت هذه، ولم يزد عليه: فالصحيح أنه لا يصح، وهو باق على ملك الواقف؛ لأنه لم يبين له مصرفاً. وفيه قول آخر: أنه يكون وقفاً؛ لأنه رضي أن يتقرب به، وإن لم يبين [له مصرفاً]؛ كما لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا: يصح، وإن لم يبين مصرفه: فعلى هذا: يصرف إلى أقرب الناس بالمحبس؛ لأن العادة قد جرت أن الإنسان إذا أراد أن يتصدق: يبدأ بأقاربه؛ فيجعل كأنه صرح به، فإذا لم يبق أحد منهم: صرف إلى الفقراء أو المساكين. وفيه وجه آخر لابن سريج: أنه يجوز للقيم أن يصرفه في أي وجوه البرشاء مما يعود إلى صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر وسد الثغور ودفن الموتى وسائر وجوه البر؛ كما لو وقف شيئاً على وجوه البر: صرف إلى جميع هذه الوجوه. وإن كان الوقف معلوم الابتداء، منقطع الانتهاء؛ مثل: إن قال: وقفت هذا على زيد، ولم يزد عليه، وقال: وقفته على زيد، ثم على عقبه، ولم يزد عليه، أو قال: على أولادي وأولاد أولادي، ولم يزدعليه، أو قال: على أولادي، ثم على مجهول: من حمل أو شخص لم يسمه: ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل، لأن شرط الوقف أن يكون مؤبداً، وهو إذا لم يزد منتهاه إلى ما لا ينقطع: فكأنه لم يؤبده؛ كما لو قال: وقفته خمسين سنة: لا يصح. والثاني: وهو الاصح، والمنصوص عليه: أنه يصح؛ لأنه رضي بزوال حقه عنه إلى غيره. فعلى هذا: تصرف غلته إلى من عينه، ثم [بعد من عينه] إلى أقرب الناس بالمحبس، ثم من بعدهم إلى الفقراء والمساكين؛ فإن لم يكن للواقف قريب: يصرف إلى الفقراء والمساكين.

وإن كان الواقف مجهول الابتداء معلوم الانتهاء؛ بأن وقف على رجل مجهول، أو على حمل أو على ولدي ولا ولد له، أوعلى مسجد سيبنى، ثم على الفقراء، أو وقف على من لا يجوز، ثم [على من يجوز]؛ مثل: أن وقف على عبده، ثم على الفقراء: ففيه طريقان: أحدهما: هو على قولين؛ كما لو كان معلوم الابتداء مجهول الانتهاء. والثاني: لا يصح ههنا قولاً واحداً، وهو الأصح والمنصوص عليه؛ لأن الابتداء، إذا كان مجهولاً: لا يمكن ترتيب الآخر عليه، وإذا كان الابتداء معلوماً: أمكن الترتيب على المعلوم. فإن قلنا: يصح: فما حكمه في الحال؛ لا يخلو: إما إن كان الأول الذي لم يصح الوقف عليه: يمكن اعتبار انقراضه، أو لا يمكن: فإن لم يكن اعتبار انقراضه بأن وقف على رجل غير معلوم، أو على ولده ولا ولد له: كان وقفاً في الحال على الفقراء الذين سماهم؛ [لأن ما لا] يمكن اعتبار انقراضه [يكون ذكره لغواً، وإن أمكن اعتبار انقراضه] بأن وقف على عبد أو على وارثه في مرضه، أو على زيد، ثم على الفقراء فرده: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يصرف في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، لأن الوقف عليه غير صحيح، وقد وجدنا ههنا مستحقاً سماه الواقف؛ فلا معنى للصرف إلى من لم يسمه. والثاني: يصرف في الحال إلى أقرب الناس بالمحبس إلى أن ينقرض الموقوف عليه الأول، ثم بعد انقراضه: صرف إلى الفقراء؛ لأن تركه على ملك الواقف: لا يمكن، لأنه أزال ملكه، ولا يمكن صرفه إلى الفقراء؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال، وهو انقراض الأول. والثالث: هو باق على ملك الواقف، ثم بعده: لوارثه، ما لم يمت الأول؛ فإذا مات الأول- فحينئذ: يكون للفقراء؛ لأنه لم يجعل للفقراء شيئاً في حياة ذلك الرجل؛ فيكون باقياً على ملك الواقف. قال الشيخ: يحتمل أن يقال: إذا وقف على زيد، فرده: لا يرتد، وهو الأصح عندي، خصوصاً على قولنا: إن الملك في الوقف زال إلى الله تعالى؛ كما لو أعتق عبده، فرده العبد: لا يرتد العتق. وإن كان الوقف معلوم الطرفين مجهول الواسطة: يرتب على ما لو كان معلوم الابتداء مجهول الانتهاء: إن قلنا: هناك: يصح فهننا أولى وإلا فوجهان، والأصح: جوازه.

فعلى هذا: إذا انقرض الأول: صرف إلى أقرب الناس بالمحبس، ثم بعدهم: إلى من سماه في الانتهاء، وإن كان مجهول الطرفين معلوم الواسطة: يرتب على معلوم الابتداء، إن قلنا ثم: لا يجوز فههنا: أولى؛ وإلا فوجهان، وإن جوزنا: ففي الحال: إلى من يصرف؟ فعلى ما ذكرنا من الاختلاف، فحيث قلنا: يصرف إلى أقرب الناس بالمحبس: هل يختص به فقراؤهم أم يسوى بين الفقراء، والأغنياء؟ فيه وجهان: أحدهما: يسوى بين الكل؛ لأن الكل في القرب منه سواء. والثاني: يصرف إلى المحاويج منهم، لأن العادة جرت أن الإنسان يتصدق على فقراء أقاربه، وهو لو وقف داراً على زيد شهراً؛ على أنه تعود ملكاً له بعد الشهر: فالمذهب: أنه لا يصح، لأن شرط الوقف، وهو التأبيد: لم يوجد. وفيه قول آخر: أنه يصح، لأنه رضي بزوال ملكه في الحال؛ فعلى هذا: ما حكمه بعد مضي الشهر؟ فيه قولان: أحدهما: حكمه حكم ما لو كان معلوم الابتداء مجهول الانتهاء؛ فبعد انقراض المعلوم: يصرف إلى أقرب الناس بالمحبس. والثاني: يعود بعد مضي الشهر إلى ملك الواقف؛ كما لو أجر، أو أعار داره مدة، فبعد مضي المدة: تعود إليه. ولو وقف داراً على زيد وعمرو، ولم يقل بعدهما على من، وجوزنا، فمات أحدهما، ففي نصيب الميت قولان: أحدهما: يكون للآجر، فما دام أحدهما موجوداً: فلا يصرف إلى غيرهما. والثاني: حكم نصيب الميت حكم نصيبهما، لو ماتا جميعاً، وإذا جعل آخر وقفه الفقراء أو المساكين: جاز، وكذلك: القناطر والرباطات، ولو جعل آخره مساجد معينة أو قناطر أو رباطات معينة: فقد قيل: يجوز؛ كما لو جعل آخره الفقراء. وقيل: هو كما لو كان الوقف منقطع الانتهاء؛ لأن المسجد المعين قد يخرب، والفقراء لا يعدمون. فصل في ألفاظ الوقف وهي ثلاثة: الوقف، والتحبيس، والتسبيل؛ وهي صرائح، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "حبس الأصل، وسبل

الثمرة" فإذا قال: وقفت داري على الفقراء، أو: حبست أو: سبلت، أو: داري هذه موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو حبس ثم الوقف. ولفظ "الصدقة" كناية، لأنه يستعمل في غير الوقف؛ فلا يحصل الوقف بقوله: تصدقت؛ حتى ينوي، أو يقول: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو صدقة مؤبدة، أو محرمة، أو صدقة لا تُباع، ولا توهب، ولا تورث؛ لأن هذه اللفظة مع هذه القرائن: لا تحتمل إلا الوقف. أما لفظ "التأبيد" و"التحريم" بأن يقول: حرمت هذه الدار، أو: أبدت، أو: داري هذه محرمة مؤبدة-[هل يكون صريحاً في الوقف؟ فيه وجهان: أحدهما]: يكون صريحاً؛ كما لو قال: صدقة محرمة أو مؤبدة. والثاني: لا يكون صريحاً إلا بإحدى القرائن؛ لأنه لم تثبت في عرف الشرع، ولا في عرف اللغة. ولا يحصل الوقف إلا باللفظ؛ فإن من بنى مسجداً، أو صلى فيه، أو أذن للناس بالصلاة فيه، أو جعل أرضاً مقبرة وأذن للناس بالدفن فيها: لا يحصل الوقف؛ كما لا يحصل العتق إلا باللفظ. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا أذن للناس بالصلاة في المسجد، أو بالدفن في الأرض، فدفن واحد: زال ملكه، ويلزم الوقف بنفسه من غير تسليم، ولا قضاء قاض. ولا يجوز بيعه ولا هبته. ولا يجري فيه الإرث، ولا يجوز تغييره عن شرط الواقف؛ فتكون منفعة الوقف للموقوف عليه؛ فيبذل من غلته لعمارته، شرط الواقف أو لم يشرط؛ لأنه لا يبقى من غير عمارة، ثم يصرف الفضل إلى الموقوف عليه. ورقبة الوقف لمن تكون؟ فيه أقوال: أصحها: وهو المذهب: زوال الملك عنه إلى الله تعالى؛ كما في العتق: يزول الملك عن رقبة العبد إلى الله تعالى، والمنفعة للعتيق. والاثني: الملك للموقوف عليه؛ لأن العقد ورد على رقبة المال، فيوجب زوال ملكه؛ كما لو باعه.

والثالث: للواقف؛ كأنه بالوقف حبسه على حكم ملكه؛ ولذلك سمي حبساً، وهذا ضعيف، وبعضنا ينكر هذا القول. وإذا وقف على مسجد، أو رباط، أو على جماعة غير متعينين: يلزم من غير قبول. فإن قال: جعلت هذا المكان مسجداً: لا يصير مسجداً؛ لأنه لم توجد ألفاظ الوقف؛ تفرد القاضي بهذا الفرع. فإن قال: جعلته للمسجد: فهو تمليك للمسجد، ويشترط قبول القيم وقبضه؛ كما لو وهب لصبي شيئاً: يشترط قبول قيمه. ولو وقف عليه: يلزم بلا قبول. ومن أصحابنا من قال: إذا وقف على رجل معين، أو على جماعة معينين بشرط قبولهم، ويرتد بردهم. قال الشيخ- رحمه الله- ويحتمل ألا يشترط قبولهم، ولا يرتد بردهم؛ لأنه بمنزلة عتق العبد، والعتق لا يرتد برد العبد، والعتق لا يرتد برد العبد، ولا قبوله شرط، وهذا هو الأصح عندي خصوصاً على قولنا: إن الملك من رقبة الوقف يزول إلى الله، عز وجل. ونفقة العبد الموقوف تكون في كسبه، إن كان كسوباً، وإن لم تكن له كسب على من يجب؟ يبنى على أقوال الملك؛ إن قلنا: الملك للموقوف عليه: فنفقته عليه، وإن قلنا للواقف: فعليه إن كان حياً، فإن مات، أو قلنا: زال الملك إلى الله تعالى: فنفقته في بيت المال؛ كما لو أعتق عبداً، ولا كسب له: تكون نفقته في بيت المال، ولا تجب فطرته على [أحد، على] الأقوال كلها؛ كما لو اشترى قيم المسجد للمسجد عبداً: تكون نفقته في غلة المسجد، ولا تجب فطرته على أحد؛ بخلاف ما لو وقف نخلة على جماعة معينين: كانت ثمرتها لهم، وعليهم زكاتها؛ لأن الزكاة- هناك- تجب من الثمار، وهي مملوكة لهم، وصدقة الفطر: تجب في الرقبة، الرقبة غير مملوكة لهم حقيقة ملك. ولو جنى العبد الموقوف جناية موجبة للقصاص: فللمجني عليه أن يقتص: فإن عفا على مال، أو كان موجباً للمال؛ فلا يمكن بيعه في الجناية- فعلى من يجب الضمان: إن قلنا: الملك للموقوف عليه: فعليه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته، وإن قلنا: للواقف: فعليه، وإن قلنا: زال إلى الله تعالى: فعلى ثلاثة أوجه:

أحدها: يجب في بيت المال؛ لأنه ليس بملك لأحد. والثاني: تكون من كسبه؛ لأنه كان في محلة الرقبة، والكسب مستفاد منها. والثالث: وهو قول أبي إسحاق، وهو الأصح: يكون على الواقف؛ لأنه منع من بيعها بالوقف؛ كما لو جنت أم الولد: يجب على السيد أرش الجناية؛ لأنه منع من بيعها بالاستيلاد. ولو قتل العبد الموقوف- ينظر: إن قتله أجنبي أو الواقف: يؤخذ منه قيمته، ويشترى بها عبداً آخر يوقف مكانه، على الأقوال كلها. وقيل: إذا قلنا: الملك في رقبته للموقوف عليه: تكون القيمة له ملكاً؛ كالكسب، وليس بصحيح؛ لأنه تعلق به حق البطن الثاني؛ فلا يجوز إبطاله وإن قتله الموقوف عليه: إن قلنا: إذا قتله أجنبي تكون القيمة له: فلا تجب عليه القيمة، وإن قلنا: يشتري بها عبداً آخر: فتؤخذ منه القيمة، ويشتري عبداً آخر؛ فيوقف مكانه؛ وهو المذهب. ولو قطع طرف منه: ففي الأرش وجهان: أحدهما: يكون للموقوف عليه، كالكسب. والثاني: وهو كالأصل: يشتري به شقص عبد، فيوقف، وهل يجوز تزويج الجارية الموقوفة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه عقد على منفعتها؛ كما يجزو إجارتها. والثاني: لا يجوز، لأن التزويج ينقص قيمتها؛ فربما تحبل، فتهلك في الولادة، فيدخل الضرر على من بعدها، وإن جوزنا تزويجها، فمن يزوجها؟ إن قلنا: الملك فيها للموقوف عليه: ينفرد هو بتزويجها، وإن قلنا: للواقف: زوجها الواقف بإذن الموقوف عليه، وإن قلنا: زال إلى الله تعالى: زوجها الحاكم بإذن الموقوف عليه، وشرطنا إذن الموقوف عليه؛ لأن له حقاً في منافعها، ويكون المهر للموقوف عليه؛ على الأقوال كلها؛ كالكسب. وإذا أتت بولد من زوج أو زنا، وكان الموقوف بهيمة، فولدت: ففي الولد وجهان: أحدهما: يكون للموقوف عليه ملكاً؛ لأنه من منافعها؛ كالكسب، ولبن البهيمة وصوفها كله يكون للموقوف عليه. والثاني: الولد يكون وقفاً، كالأم وولد أم الولد يكون في معنى الأم.

ولا يجوز وطء الجارية الموقوفة لا للواقف، ولا للموقوف عليه، كما لا يجوز للأجنبي، لأنه ليس لهما حقيقة ملك، فلو وطئت الجارية الموقوفة- نُظر: إن وطئها أجنبي: عليه الحد، إن كان عالماً؛ كما لو وطأ جارية الغير، والولد رقيق؛ كما ذكرنا. وإن وطئها بشبهة: فلا حد، ويجب المهر، ويكون للموقوف عليه؛ كالكسب، فإن استولدها: فالولد حر، وعليه قيمته، ثم إن جعلنا الولد كالكسب: تكون القيمة للموقوف: [عليه]، وإن جعلناه كالأم: يشتري بتلك القيمة عبد، فيوقف. ولو وطئها الموقوف عليه عالماً: فقد قيل: لا حد عليه؛ لأنه يملكها في قول، وفي قول: له شبهة الملك. والصحيح: أنه يبنى على أقوال الملك: إن قلنا: الملك له: لا حد عليه؛ وإلا فيجب؛ لأن ملك المنفعة لا يوجب سقوط الحد؛ كما لو استأجر جارية لعمل، فوطئها: يجب الحد، ولا مهر، وإذا استولدها: فالولد رقيق: ملك أو وقف؛ على اختلاف الوجهين، وإن وطئها بالشبهة: فلا حد ولا مهر عليه؛ لأن المهر بمنزلة الكسب، وكسبها له، فإن استولدها: يكون الولد حراً، وهل تؤخذ قيمته؟ إن قلنا: الولد كالكسب: لا يؤخذ، وإن قلنا: بمنزلة الأم: تؤخذ قيمته فيشتري به عبد آخر، فيوقف، وإن جعلنا الملك للموقوف عليه: يصير أم ولد له، يعتق بموته، ثم يكون كفيلها، وتؤخذ القيمة من تركته، فيشتري جارية أخرى توقف. وإن وطئها الواقف عالماً: إن قلنا: الملك له: لا حد عليه، وعليه المهر للموقوف عليه، وإن استولدها تصير أم ولد له، تعتق بموته، فتؤخذ القيمة من تركته؛ فيشتري بها جارية أخرى، فتوقف عليه، وإن قلنا: ليس الملك له: عليه الحد، والمهر، وإذا استولدها: فالولد رقيق: وقف، أو ملك؛ على اختلاف الوجهين، ولا تصير الجارية أم ولد له، وإن وطئها جاهلاً: فلا حد، وإذا استولدها: فالولد حر ثابت النسب، وعليه قيمته، ويكون ملكاً للموقوف عليه، أو يشتري بها عبداً، فيوقف؛ على اختلاف الوجهين، وإن جعلنا الملك للواقف: تصير الجارية أم ولد له، تعتق بموته؛ فتؤخذ القيمة من تركته، فيشتري بها جارية توقف. ولو أعتق العبد الموقوف: لا يعتق على الأقوال كلها، سواء أعتقه الواقف أو الموقوف عليه؛ لأنا- وإن قلنا: الملك لأحدهما- فهو ملك ضعيف.

فصل في مراعاة شرط الوقف يجب مراعاة شرط الواقف في الوقف، فتصرف الغلة إلى الموقوف عليهم على شرطه من التسوية والتفضيل، والجمع والترتيب، فإن قال: وقفت هذا على أولادي: دخل من ولده فيه الذكر والأنثى والخنثى؛ لأن الكل ولده، وهل يدخل فيه ولد الولد؟ فعلى وجهين: أصحهما: لا يدخل؛ لأن إطلاقه يتناول ولد الصلب. والثاني: يدخل؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- نص على أنه لو أوصى لإنسان بمثل نصيب أحد أولاده، وله بنت وبنت ابن: يصرف إليه السدس، فجعل ولد الابن ولداً. ولو قال: على أبنائي: يصرف إلى الذكور دون الإناث، ولا يدخل فيه الخنثى المشكل؛ لأنا لا نعلم أنه ابن، ولا يدخل فيه أولاد البنات، وهل يدخل فيه بنو البنين؟ فعلى الوجهين. ولو قال: على بناتي: يصرف إلى الإناث دون الذكور، ولا يدخل فيه الخنثى المشكل؛ لأنا لا نعلم أنه من البنات، ولو وقف على البنين والنبات، هل يدخل الخنثى المشكل فيه وجهان: أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا [يعد من البنين ولا من البنات]. والثاني: يدخل؛ لأنه لا يخلو من أن يكون ابناً أو بنتاً، وهذا أصح. ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي: دخل فيه أولاد البنين والبنات من الذكور والإناث والخناثى. ولو قال: على أولادين ولا ولد له، أو قال: على أولادي الذين يحدثون: لم يصح؛ هذا هو المنصوص في عامة كتبه. ولو قال: على أولادين وله أولاد، وحدث بعده آخرون: يصرف إلى الموجودين والذين حدثوا جميعاً. وكذلك: لو قال: على عشيرتي، وله عشيرة، وحدث في عشيرته واحد: صرف إلى الكل. وقال البويطي- رحمه الله- في العشيرة: لا يصرف إلى الحادث، ولعله يقول في الولد كذلك.

أما إذا قال: على أولادي الموجودين، وعلى من يحدث: صح الوقف على الكل؛ كما لو قال: وقفت هذا على مسجد ليس مبنياً: لا يصح الوقف على ظاهر المذهب، فإن قال: على مسجد كذا، وعلى كل مسجد يبنى في تلك المحلة: صح على الموجود، وعلى ما يبنى بعده. ولو قال: على أولادي، وله أولاد، وحمل في البطن، فانفصل: يستحق الحمل مما يحدث من الغلة بعد انفصاله دون ما حدث من قبل، حتى لو كان الموقوف نخلة، فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل من البطن، ثم خرج: لا يكون له من تلك الثمرة نصيب. ولو نفى بعض أولاده باللعان: فال نصيب لهم في الوقف، وإن استلحقهم بعد ما نفاهم: دخلوا في الوقف. ولو قال: وقفت على، نسلي أو عقبي أو ذريتي: دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو بعدوا؛ لأن الكل نسله وعقبه وذريته؛ قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ...} [الأنعام: 84] الآيات؛ جعل هؤلاء من ذرية إبراهيم، وهم كانوا أولاد الأولاد. ولو وقف على أولاد أولاده الذين ينسبون إليه- لا يدخل فيه أولاد البناـ، ويدخل فيه أولاد البنين من الذكور دون الإناث. ولو قال: على عترتي: قال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته، وقال القتيبي: هم عشيرته. ولو قال: على عشيرتي: فهم قرابته. ولو قال: وقفت هذا على أولادي، فإن انقرض أولادي وأولاد أولادي- فعلى الفقراء-: فقد قيل: يدخل فيه أولاد الأولاد؛ لأنه لما شرط انقراضهم: دل أنهم مستحقون، والصحيح: أن هذا وقف منقطع الواسطة؛ لأنه لم يشرط لولد الولد شيئاً، وشرط انقراضهم؛ لاستحقاق غيرهم؛ فالوقف يكون صحيحاً؛ على ظاهر المذهب، وبعد انقراض أولاده إلى انقراض ولد الولد: يصرف إلى أقرب الناس بالمحبس، ثم بعد انقراض ولد الولد: إلى الفقراء. ولو وقف على قرابته: يصرف إلى جميع من يعرف بقرابته؛ يسوى بين القريب والبعيد،

والفقير والغني، والذكر والأنثى؛ فإن كان أعجمياً: يصرف إلى أقاربه من قبل الأب والأم، وإن كان عربياً: فوجهان: اصحهما: يصرف إلى أقاربه من جهة الأب؛ لأن العرب لا تفهم من مطلق اسم القرابة، إلا قرابة الأب؛ لأن العرب تفتخر بآبائها، ويصرف إلى أخص أقاربه، فإن وقف على أقارب الشافعي: يصرف إلى أولاد شافع، ولا يصرف إلى أولاد علي والعباس، وإن كانوا جميعاً من أولاد السائب بن يزيد؛ لأنه يعرف قريبه من يشاركه في الانتساب إلى أب يعرف به، فإن حدث قريب بعد الوقف: دخل فيه معهم، ولو وقف على أقرب الناس إليه فيستوي الأولاد ذكورهم وإناثهم، ويقدم الولد على ولد الولد، ويسوى بين ولد الولد من أولاد البنين والبنات، ويستوي الأب والأم: فإن كان له أب أو أم وولد: ففيه وجهان: أحدهما: هما سواء؛ لأنهما في درجة واحدة في القرب. والاثني: يقدم الولد؛ لأن الابن أقوى تعصيباً من الأب. فإن قلنا: هم سواء: يقدم الأب على ابن الابن، ويقدم الابن على الجد، وإن قلنا: يقدم الولد: فيقدم ابن الابن على الأب، ويقدم الأبوان، والولد على الإخوة، فإن لم يكن له أبوان، ولا ولد، وله إخوة، يقدم الأخ للأب والأم على الأخ للأب، وعلى الأخ للأم، ويستوي الأخ للأب مع الأخ للأم، فإن لم يكن له إخوة: صُرف إلى بني الإخوة على ترتيب آبائهم، وإن كان له جد وأخ ففيه قولان: أحدهما: هما سواء. والثاني: الأخ يقدم؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد، فإن قلنا: هما سواء: فالحد أولى من ابن الأخ، والأخ أولى من أب الجد، وإن قلنا: الأخ أولى: فابن الأخ، وإن سفل، أولى من الجد، فإن لم يكن إخوة: صرف إلى الأعمام، وإلى أولادهم على ترتيب الإخوة وأولادهم، وفي العم وأبي الجد قولان: كما في الجد مع الأخ والعم والخال والعمة والخالة سواء. وإن كانت له جدتان؛ إحداهما تدلي بقرابتين، والأخرى بقرابة واحدة: فالتي تدلي بقرابتين أولى. ولو وقف على جماعة من أقرب الناس إليه: صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب، فإن وجد في الأقرب بعض الثلاثة: تمم الثلاث من الدرجة الأبعد، وإن وقف على مواليه: فإن كان له مولى من أعلى: صرف إليه، وإن لم يكن له مولى من أعلى، وله مولى من أسفل: صرف إليه، وإن كان له موال من أعلى وموال من أسفل: ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: يسوى بينهما؛ لأن الاسم يتناولهما. والثاني: يصرف إلى الموالي من الأعلى؛ لأن له مزية بنعمة الإعتاق وعصوبة الميراث. والثالث: الوقف باطل؛ لأنه لا يمكن الحمل عليهما؛ لأن المولى في أحدهما بمعنى، وفي الآخر بمعنى، وليس حمله على أحدهما أولى؛ فبطل. ولو وقف على جماعة موصوفين من أولاده: يراعى وصفه: فإن قال: على أولادي الفقراء: دفع إلى الفقراء منهم. فمن غني منهم: خرج عن الاستحقاق، ومن كان غنياً، فافتقر: استحق. ولو قال: على بناتي الأيامى: فمن تزوجت منهن: فلا حق لها فيه، وإن طلقها زوجها: استحقت. ولو وقف على بني فلان شيئاً- نُظر: إن كانوا محصورين: صرف إلى ذكورهم دون إناثهم، ويجب تعميمهم، وإن كانوا قبيلة؛ مثل بني تميم وبني هاشم، وجوزنا الوقف: صرف إلى الذكور منهم والإناث، وفي صحة الوقف عليهم قولان، كما في الوصية لهم: الأصح: جوازه، كما لو وقف على جماعة موصوفين؛ مثل: الفقراء والمساكين والغارمين والغزاة: يصح. وأقل ما يصرف إليهم: ثلاثة، ويجب في الوقف مراعاة ترتيب الواقف؛ فإن قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا: فلا يقدم البعض على البعض، بل يسوى بين ولد الصلب وولد الولد وإن سفلوا من أولاد بنيه وأولاد بناته، ذكوراً كانوا أو إناثاً. ولو قال: على أولادي، ثم على أولاد ولادي ثم تناسلوا بطناً بعد بطن، أو لم يقل: بطناً بعد بطن: يقدم البطن الأول، وكذا البطن الثاني مع الثالث والرابع، وإن سفلوا. وكذلك: لو قال: على أولادي وأولاد أولادي؛ الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب: يراعى على الترتيب. ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي بطناً بعد بطن: يسوى بين الكل، وقوله: "بطناً بعد بطن": للتعميم. وقال الزيادي: يراعى الترتيب، ولو قال: على أولادي، ثم على أولاد أولادي، وأولاد أولاد أولادي ماتناسلوا: يراعى الترتيب بين البطن الأول والثاني، ثم من بعد البطن الأول: يسوى بين الثاني والثالث ومن بعدهم.

ولو قال: على زيد وعمرو وبكر، ثم على الفقراء، فإذا مات واحد منهم: صرف نصيبه إلى الآخرين، فإذا مات الثاني: صرف الكل إلى الثالث، وما دام واحد من الثلاثة باقياً: لا يصرف شيء منه إلى الفقراء؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراض الثلاثة. ولو قال وقفت على فلان وفلان وفلان: فإذا مات واحد منهم- فنصيبه لولده، فإن لم يكن له ولد، فلأهل الوقف، فإذا مات واحد منهم، وله ولد: فنصيبه لولده، ثم إذا مات آخر، ولا ولد له: فنصيبه لذلك الولد وللشريك الثالث. لوو قال: وقفت هذا على أولادي سنة، ثم بعده للفقراء: [جاز، وصرف بعد سنة إلى الفقراء. ولو قال: وقفت على الفقراء] سنة، ثم بعدها يصرف إلى أولادي عشر سنين، ثم بعد عشر سنين: يصرف إلى الفقراء: جاز، ويراعى شرطه. ولا يجوز تغيير الوقف؛ فلو وقف بستاناً: لا يجوز أن يُجعل داراً ولو وقف داراً: لا يجوز أن تجعل بستاناً، فلو هدم رجل الدار أو قطع أشجار البستان: يؤخذ منه الضمان، فيبنى ويغرس وينفقه الحاكم: ولو انهدم البناء أو انقلعت أشجار البساتين: يشغل الأرض، فيبنى ويغرس من غلتها. ولو وقف مسجداً، فخرب أو تخلى أهل المحلة: لا يجوز بيع تلك الأرض؛ لأن ما زال الملك عنه لحق الله تعالى لا يعود [إلى الملك]؛ كما لو أعتق عبداً، ثم زمن، لا يرد إلى الملك، ويجوز أن يصرف ما بقي من الآت ذلك المسجد إلى عمارة مسجد آخر، ولا يجوز أن يصرف إلى عمارة حوض أو بئر، وكذلك البئر الموقوفة إذا خربت يجوز صرف أجرها إلى عمارة بئر أخرى، أو حوض، ولا يجوز أن يصرف إلى عمارة مسجد؛ لأن شرط الواقف يراعي ما أمكن؛ وكل ما اشترى للمسجد مما يحتاج إليه من الآجر والطين والحصير، والحشيش- لا يجوز بيع شيء منها، وكلها في حكم المسجد؛ لأنها صارت كجزء من أجزائه. فإن بلي شيء منها؛ بحيث لا يحتاج إليه المسجد؛ كالسقوف العفنة، والحصر البالية- هل يجوز بيعها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، ويصرف ثمنها إلى المسجد؛ لأنها لو تركت لضاعت. والثاني: وهو الأصح: لا يجوز؛ كما لا يجوز بيع أرض المسجد، وكذلك أستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة، ولا جمال- هل يجوز بيعها، وصرف ثمنها إلى ستر آخر؟ فيه

وجهان: [وكذلك لو وقف شجرة فجفت أو بهيمة فزمنت هل يباع فيها وجهان] أصحهما: لا [يجوز] كالمسجد. والثاني: يباع؛ لأنها تضيع، وأرض المسجد يمكن الصلاة فيها، وتقبل العمارة ولو وقف مرجلاً فتلف في يد الموقوف عليه من غير تعد- لا ضمان عليه؛ لأنه مستحق للانتفاع به؛ كالمستأجر- فلو كسره إنسان أخذ الضمان، وأنفق على إصلاحه. وإن انكسر، فإن تبرع رجل بإصلاحه وإلا يتخذ منه مرجل أصغر فينفق الفضل على إصلاحه؛ فإن لم يمكن أن يتخذ منه مرجل، يتخذ ما أمكن من معرفة أو نحوها. ولو وقفت شجرة على إنسان؛ هل يجوز قطع أغصانها، وبيعها؟ قال ابن سريج: إن وقف أصل الشجرة دون الأغصان، فالأغصان كالثمار؛ يجوز بيعها، وإلا فالغصن كأصل الشجرة. ولو وقف شيء على المسجد، يصرف إلى عمارته، ولا يصرف إلى الحصير والدهن؛ لأنه ليس من المسجد؛ فإن وقف على مصلحة المسجد، يجوز صرفه إلى الحصير والدهن والفرش، ولا يجوز تنقيش المسجد من شيء وقف على المسجد، أو جعل للمسجد، ويجوز التجصيص إن كان فيه إحكام. ولو وقف ثوراً للإنزاء، جاز، ولا يجوز استعماله في الحرث. ولو وقف دابة على رجل؛ للركوب؛ ولم يجعل له درهاً، ووبرها- فحكم الدر والوبر حكم ما لو وقف شيئاً على زيد؛ ولم يقل بعده على من. قال الشيخ رحمه الله: ينبغي أن [يكون القيم في الوقف] هو الواقف؛ فإن عُمر- رضي الله عنه-[كان يلي صدقته. فإن مات وقد نصب قيماً، فقيمه أولى بالقيام عليه فإن عمر- رضي الله عنه] جعل أمر صدقته إلى حفصة- رضي الله عنها- فلو جعل للقيم سهماً من الغلة، يجوز وإن لم ينصب قيماً؛ نظر: إن كان وقف على جماعة غير متعينين؛ كالفقراء والمساكين، أو على مسجد أو رباط- فأمره إلى الحاكم وإن وقف على متعينين: فإن قلنا: الملك في رقبة الوقف للواقف، أو زال إلى الله- تعالى- فأمره إلى الحاكم. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فأمره إلى الموقوف عليه. ولو جعل الواقف النظر فيه إلى عدلين من ولده- كان ذلك إليهما- فإن لم يكن فيهم إلا

عدل واحد- ضم الحاكم إليه عدلاً آخر؛ لأن الواقف لم يرض فيه برأي واحد. فلو اختلف أرباب الوقف في شرائط الوقف- رجع إلى الواقف إن كان حياً، وإن لم يكن حياً جعل بينهم بالتسوية والله أعلم. باب: الهبات روي عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "تهادوا؛ فإن الهدية تذهب بالضغائن".

والهبة: مندوب إليها. ولا تصح إلا ممن يصح منه البيع، ولا تنعقد إلا بالإيجاب والقبول على الفور؛ كالبيع، وإذا قيل: لا يحصل الملك للمتهب ما لم يقبضه بإذن الواهب، فإذا قبضه: حصل له الملك حالة القبض؛ هذا هو المذهب. وفيه قول آخر: أنه إذا قبض: يتبين أنه ملك بالعقد. والأول المذهب. وعند مالك: يملك بالعقد؛ كما في البيع. قلنا: البيع معاوضة قوية، فلا يستدعي القبض بحصول الملك، والهبة تبرع ضعيف فيستدعي القبض، والقبض في العقار يحصل بالتخلية وفي المنقول: لا يحصل إلا بالنقل، فإن وضع بين يدي المتهب: لا يحصل القبض، ولا يختص القبض بمجلس العقد، ولا يحصل إلا بإذن الواهب؛ فإن قبض دون إذنه: دخل في ضمانه، ولم يملكه، وإن أذن له في القبض، ثم رجع- نظر: إن رجع بعدما قبض: فلا معنى لرجوعه، وقد تم ملكه، وإن رجع قبل أن

يقبض: لم يصح قبضه بعده. ولو كان الموهوب عبداً، فأمر الواهب المتهب بإعتاقه، أو المتهب الواهب فأعتقه، أو كان طعاماً، فأمره الواهب بأ: له، فأكله: كان قبضاً. ولو مات الواهب أو المتهب أو جن أحدهما أو أغمي عليه قبل القبض: فقد قيل: يبطل العقد؛ لأنه عقد جائز، كالشركة. والصحيح: أنه لا يبطل؛ لأنه يفضي إلى اللزوم بخلاف الشركة، ففي موت الواهب: إن شاء وارثه سلم، وإن مات المتهب قبض الوارث إن سلم إليه، وفي الجنون والإغماء: يقبض بعد الإفاقة، ولا يصح القبض في حال الجنون، ولو وهب في الصحة، وأقبض في مرض الموت يعتبر من الثلث؛ كما لو وهب من وارثه في حال الصحة، وأقبض في مرض الموت: لم يصح؛ كما لو وهب في المرض؛ والدليل عليه: ما روي عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه نحل عائشة جاد عشرني وسقاً، فلما مرض قال: وددت أنك قبضتيه، وهو اليوم مال الوارث. ولو وكل المتهب وكيلاً بالقبض أو الواهب وكل بالإقباض، يجوز. ولو وهب من إنسان شيئاً، والشيء في يد المتهب: يشترط مضي إمكان القبض حتى يحصل الملك، ويشترط الإذن في القبض على ظاهر المذهب؛ كما ذكرنا في "الرهن". ولو وهب لصبي أو مجنون شيئاً، فقبله قيمه أو الحاكم: جاز: ولا يصح قبول متعهد الصبي، إذا لم يكن قيماً. وعند أبي حنيفة: يصح. ولو وهب الأب لولده الطفل شيئاً، أو الجد أب الأب لناقلته، وتولى طرفي العقد: جاز، وهل يحتاج إلى لفظي الإيجاب والقبول، أم يجوز أن يقتصر على واحد فيه وجهان؛ كالبيع. ويقبض له من نفسه. أما الوصي أو القيم إذا وهب للصبي شيئاً: فلا يقبل لنفسه بل يقبله الحاكم، أو يأمر الحاكم من يقبل عنه.

ولو وهب لعبد إنسان شيئاً: فهو هبة لسيده، وهل يصح قبوله بغير إذن السيد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ كما لو اشترى شيئاً بغير إذنه: لا يصح. والثاني: يصح؛ لأنه مجرد اكتساب لا يعقب الضمان؛ كالاحتطاب؛ بخلاف الشراء؛ فإنه يعقب الضمان. ولا تصح هبة المجهول وما لا يقدر على تسليمه؛ كما لا يصح بيعه. وتصح هبة المشاع من شريك وغير شريكه، سواء كان مما ينقسم أو لا ينقسم، ويكون قبضه بقبض الكل. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- لا تصح من غير شريكه، إذا كان مما ينقسم، وكذلك: إذا وهب أرضاً مزروعة دون الزرع، أو وهب الزرع دون الأرض: يجوز. وعنده: لا يجوز. ولا تجوز هبة الدين من غير من عليه الدين، ويجوز ممن عليه، وهو إبراء، ثم إن أسقطه بلفظ الإبراء: أسقط من غير قبول ممن عليه؛ هذا هو المذهب؛ لأنه محض إسقاط لا تمليك فيه؛ كالعتق، والطلاق، والعفو عن القصاص يصح من غير قبول. وذكر ابن سريج وجهاً أنه يشترط القبول في الإبراء؛ كالهبة والوصية. والأول المذهب. فعلى هذا: إن أسقطه بلفظ الهبة: يصح، وهل يحتاج إلى القبول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحتاج كالإبراء. والثاني: يحتاج مراعاة للفظ، وكل شرط يفسد البيع: يفسد الهبة؛ فإن وهب بشرط ألا يتصرف فيه، أو إلى مدة، إذا مضت: عاد إليه ونحو ذلك، والمقبوض بحكم الهبة الفاسدة، إذا تلف في يد المتهب: هل يلزمه الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه؛ كالمقبوض بحكم البيع الفاسد. والثاني: لا يضمن؛ لأن الواهب رضي بسقوط ضمانه. فصلٌ إذا تصدق على إنسان بشيء: لا يلزم المتصدق عليه أن يثيبه بشيء في الدنيا، إنما الصدقة لثواب الآخرة، أما الهبة المطلقة: هل تقتضي الثواب؟ نظر: إن وهب لمن دونه شيئاً

أو لنظيره: فلا يلزم الثواب؛ لأن الأمير إذا خلع على بعض الرعايا: لا يطمع منه عليه ثواباً؛ وكذلك: الرجل يهب لنظيره شيئاً يقصد به المودة وتأكيد الصداقة لا الثواب. أما هبة الأدنى من الأعلى: هل تقتضي الثواب؟ فيه قولان: قال في الجديد- وهو الأصح-: لا تقتضي الثواب؛ كهبة النظير من النظير؛ وهذا لأن الأعيان كالمنافع، ولو أعار داره من إنسان: لا يلزم المستعير شيء، سواء كان مثله أو فوقه. وقال في القديم: تقتضي الثواب؛ لأن الغالب أن الأدنى يهدي إلى الأعلى لطمع ثواب، فصار كالمشروط. فإن قلنا: لا تقتضي الثواب: فلو شرط ثواباً مجهولاً: تبطل الهبة، ولو شرط ثواباً معلوماً: فيه قولان: أحدهما: تبطل؛ لأنه خلاف مقتضى العقد، فعلى هذا يكون حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه. والثاني: تصح؛ لأنه معاوضة مال بمال؛ كالبيع؛ فعلى هذا: هل يكون ذلك بيعاً؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون بيعاً؛ اعتباراً بالمعنى؛ حتى يثبت فيه الخيار والشفعة، ويلزم قبل القبض. والثاني: أنه هبة؛ اعتباراً باللفظ؛ فلا يثبت فيه الخيار، ولا تثبت فيه الشفعة، ولا تلزم قبل القبض؛ فعلى الوجهين جميعاً: لو وهب درهماً بشرط ثواب درهمين: لا يصح، ويكون رباً، وإن قلنا بقوله القديم: إنه يقتضي الثواب: ففي قدره: أربعة أوجه: أحدها: يلزمه حتى يرضى الواهب؛ والدليل عليه ما روي عن طاوس؛ أن أعرابياً وهب للنبي- صلى الله عليه وسلم- ناقة، فأثابه عليها، فلم يرض فزاده، فلم يرض- حسبت أنه قال: ثلاث مرات، فلم يرض- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لقد هممت ألا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي،

ويروى مثله عن أبي هريرة مرفوعاً؛ فعلى هذا: إن وفى الموهوب له ذلك؛ وإلا رد الهبة؛ لأنها ملك الواهب؛ فلا يستحق عليه إلا بما يرضى. والوجه الثاني: يلزمه ما جرت به العادة في ثواب مثله. والثالث: يلزمه قدر ما يقع عليه الاسم، وإن قل، وبه قال أبو حنيفة، رحمة الله عليه-. والرابع: يلزمه قدر قيمة الموهوب؛ لأنه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن فيه مسمى: يجب عوض المثل، كالنكاح، إذا لم يكن فيه مسمى: يجب مهر المثل، ولو لم يثبت للواهب الرجوع، وللمتهب أن يرد فلا تثبت، فلو تلف في يد المتهب قبل أن يثبت عليه قيمته؛ لأن كل عين كان له الرجوع بها: فإذا تلف رجع بقيمتها، وإن نقصت رجع بالأرش، ولو شرط الثواب على القول القديم- نظر: إن شرط ثواباً مجهولاً: صح لأنه قضية العقد، فإن تلفت العين: ضمن ذلك العوض، وإن شرط ثواباً معلوماً- فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه خلاف قضية العقد؛ لأن مقتضى العقد: أن يلزمه ثواب غير معلوم. والثاني: يصح، ويلزمه ما سمي؛ لأنه لما صح العقد بعوض مجهول: فبالمعلوم أولى أن يصح، وعلى هذا القول لو شرط أن لا ثواب له- فيه وجهان:

أحدهما: لا يصح؛ لأنه خلاف قضية العقد. والثاني: وهو الأصح: يصح لأنه أسقط حقه. ولو اختلفا، فقال الواهب: وهبتك ببدل، وقال الموهوب له: بلا بدل- فيه وجهان: أحدهما: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأنه لم يقر بخروجه عن ملكه بلا بدل. والثاني: القول قول الموهوب له مع يمينه؛ لأن الواهب يقر بالهبة، ويدعي عوضاً، والأصل عدمه، والله أعلم بالصواب. باب: العمرى والرقبى روي عن جابر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرى ميراث لأهلها". العمرى: جائزة عند عامة أهل العلم، وهي نوع من الهبة. وصورتها: أن يقول الرجل لغيره: أعمرتك هذه الدار، أو هذه العين، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت أو جعلتها لك عمراً، أو قال: داري لك عمرك- نظر: إن قال: ولعقبك من بعدك، أو لورثتك من بعدك: فهي عطية صحيحة؛ يشترط فيها القبول والقبض، كالهبة، وإذا قبض-: لزم، وإذا مات: كانت لورثته، وإن لم يكن له وارث: فلبيت المال، ولا يعود إلى المعطي بحال. وإن لم يقل: ما دامت فلورثتك، ولعقبك: ففيه قولان:

قال في الجديد- وهو الأصح: إنها صحيحة، وتكون له حياته، وإذا مات تكون لورثته، وبه قال أبو حنيفة، لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرى ميراث لأهلها"؛ ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة: بحياة المالك، ثم تنتقل إلى الوارث، فلم يكن ما جعله له في حياته منافياً للأملاك المستقرة. وفي القديم: اختلف أصحابنا فيه: الأكثرون قالوا: إنها باطلة؛ لأنه تمليك غير مقدر بمدة؛ فصار كما لو قال: أعمرتك سنة، أو أعمرتك حياة زيد. وقال أبو إسحاق، في القديم: يكون عارية متى شاء استرده، وإذا مات عاد إلى المعمر وحجة القول القديم: ما روي عن جابر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها؛ لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". شرط في صحة الإعمار: أن يعمر له ولعقبه. وروي عن جابر: "إنما العمرى التي أجاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي لك ولعقبك". فأما إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإنها ترجع إلى صاحبها. أما إذا قال: جعلتها لك عمرك أو حياتك؛ فإن مت عادت إلي، إن كنت حياً وإلى

وارثي، إن كنت ميتاً: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال- وهو الأصح: حكمه حكم ما لو أطلق، فقال: هي لك عمرك، ولم يشرط الرجوع إليه، وشرط الرجوع إليه بعد الموت باطل، ولم يؤثر ذلك في العطية؛ لأن من ملك شيئاً لا يملكه أكثر من عمره. ومنهم من قال: هذا لا يصح؛ لأنه لما منع شرطه أن يكون موروثاً لعقبه: فقد منع التأبيد؛ بخلاف ما لو أطلق. ولو قال جعلتها لك عمري، أو حياتي: فقد قيل: هو كما لو قال: عمرك أو حياتك. وقيل: لا يصح ههنا؛ لأنه لم يجعل له جميع حياة المعمر فإنه: يجوز أن يموت المعطي قبله؛ كما لو قال: عمر زيد: لا يجوز؛ لأنه يجوز أن يموت زيد قبل موت الموهوب له. وأما الرقبى- فصورتها: أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو جعلتها لك رقبى، أو أعطيتك أو وهبت لك عمرك على أنك: إن مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك يقرر ملكك، سمي "رقبى"؛ لأن كل واحد يرقب موت صاحبه: فالمذهب أن هذا على قولين: أصح القولين: أنها جائزة، ويلغو الشرط، وإذا مات المعمر: كان لوارثه؛ كما لو أعمره مطلقاً؛ لما روي عن جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تعمروا ولا ترقبوا؛ فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو سبيل الميراث". وقوله: "لا تعمروا ولا ترقبوا": ليس على سبيل النهي، بل على سبيل الإرشاد، معناه: لا تعمروا طمعاً في أن تعود إليكم، بل تصير ميراثاً. وفيه قول آخر: أنه غير صحيح، وهو قول أبي حنيفة، رحمة الله عليه وخرج بعضنا من هذا: أن الشرط الفاسد هل يفسد الهبة، على قولين؛ حتى قالوا: لو قال: وهبتك هذه العين شهراً، أو ملكتك داري شهراً، أو وقفت هذا على فلان شهراً: يصح على أحد القولين، ويلغو الشرط، ويتأبد، كما في العمرى، والمذهب: أن الهبة باطلة بهذا الشرط، وكذلك: الوقف كالبيع ويفارق العمرى؛ لأن الحديث جاء به، ولأنه ملكه حياة الموهوب له، وإطلاق الهبة لا يقتضي أكثر من هذا، وإنما شرط الرجوع إليه بعد موته على الوارث؛ فلم يمنع صحة العقد على قوله الجديد.

وإذا جوزنا الرقبى على ظاهر المذهب: فقد تكون الرقبى من الجانبين وهو أن يجعل كل واحد منهما داره لصاحبه عمر صاحبه، على أنه إذا مات قبله: عاد إليه، أو كانت الدار مشتركة بين رجلين: جعل كل واحد منهما نصيبه لصاحبه على أنها لآخرنا موتاً: جاز. ولو قال لإنسان: داري لك حياتك؛ فإن مت فهي لزيد: صحت العطية الأولى، ولم تصح لزيد؛ لأنه جعل للأول حياته؛ فلزم، فلا معنى لإعطائه زيداً ما لا يملك؛ وكذلك: لو قال: عبدي لك حياتك، ثم هو حر بعد موتك: صحت العطية، ولا معنى للعتق في ملك الغير. وقوله: "هو حر": كقوله: "إذا مت رجع إلي"؛ وذلك لا يضر العطية؛ كذا هذا. ولا يجوز تعليق العمرى بأن يقول: إذا قدم فلان: فهذه الدار لك [حياتك، وإذا مات فلان أو إذا جاء رأس الشهر: فهذه لك]؛ لأن تعليق التمليك بالصفة: لا يجوز. أما إذا علق بموته، فقال: إذا مت- فهذه الدار لك عمرك: يصح، ويعتبر خروجها من الثلث، فإن خرجت: كان عمري، فإن قال: إذا مت- فعبدي أو داري لك، ما دمت حياً، فإذا مت: رجع إلى ورثتي، أو كان لزيد بعدك؛ فهذا قد أوصى بالعمرى بعد موته؛ فيجوز للموصي أن يرجع قبل موته، فإن لم يرجع حتى مات، وقبل المعمر كان له بعد موته، ثم لورثته، وبطل شرط الرجوع إلى وارث الموصي، وكونها لزيد، والله أعلم. باب: عطية الرجل ولده روي عن النعمان بن بشير؛ أن أباه أتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً، فقال: "أكل ولدك نحلت مثله: "فقال: لا، قال: فارجعه". وعن طاوس، أن

النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد من ولده، ويروى عن ابن عمر، وابن عباس- رضي الله عنهما- يرفعان الحديث مثل معناه. إذا وهب شيئاً من إنسان، وسلم إليه: ليس له أن يرجع فيه إلا الأب يهب لولده؛ فله أن يرجع فيه، للحديث أما الأم وأمهاتها وأمهات الأب والأجداد من قبل الأم: فهل لهم الرجوع فيما وهبوا للناقلة فيه قولان: أصحهما:- وهو المذهب-: لهم الرجوع؛ كما أنهم سواء في استحقاق النفقة والعتق وسقوط القصاص. وفيه قول آخر: لا رجوع لهم، وجواز الرجوع يختص بالأب؛ للحديث، أما الجد أب الأب قد قيل فيه قولان؛ كالأم. والمذهب: أن له الرجوع قولاً واحداً؛ كالأب، لأنه ولي في التزويج والتصرف في المال؛ كالأب؛ بخلاف الأم والجد من قبل الأم. أما العم والخال وسائر القرابات- فلا رجوع لهم في الهبة؛ كالأجانب. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-؛ إن وهب من ولده شيئاً، أو من قريبه الذي هو محرم

له؛ كالوالدين والإخوة والأعمام والأخوال: فلا رجوع له، وإن وهب من أجنبي أو من قريب، ليس بمحرم: فله الرجوع؛ والحديث حجة عليه، ولأن الأب قد يرى صلاح الابن في أن يرجع في هبته؛ إما بأن يعوضه ما هو أصلح له، أو يزجره عن فعل ما لا يجوز، أو يريد التسوية بين الأولاد: فرجوعه لا يخلو، عن نوع من الصلاح؛ فكان له الرجوع؛ ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير لأبيه في نحله ولده "ارجعه"، ولا غرض له في الرجوع في هبة الأجنبي. [وقيل]: ويحصل الاستيحاش، فلم يجز؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" وليس لنا مثل السوء. ويستحب للرجل أن يسوي بين الأولاد في النحلة بين ذكورهم وإناثهم؛ لئلا يحملهم التفضيل على العقوق؛ فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير لابنه: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟! قال: بل ىقال: فلا إذن" ويروى أنه قال: "فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم".

وقيل: العدل بينهم: أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. والأصح هو التسوية؛ فلو نحل بعض الأولاد دون البعض: يصح مع الكراهية. وقال شريح وأحمد: لا يصح؛ وقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان: "ارجعه": دليل على صحة الهبة، والرجوع مكروه، إذا كان قد سوى بين الأولاد أو لم يكن له إلا ولد واحد، فإن كان له أولاد، وقد خص بعضهم بالنحلة: فلا يكره الرجوع، والأولى ألا يرجع ويعطي الآخرين مثله، ولا فرق في ثبوت الرجوع بين أن يكون الوالد والولد [مختلفين، في الدين أو متفقين] ولو تصدق على ولده بشيء: هل يجوز له الرجوع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كالهبة. والثاني: لا يجوز؛ لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة، وقد حصل. ولو وهب، لابن بشرط الثواب، فأثابه الابن: يجوز للأب الرجوع؛ لأن الثواب بر من

الولد وعلى الولد أن يبر أباه في جميع الأ؛ وال. ولو تداعى رجلان نسب مولود، ووهبا له مالاً: لم يجز لواحد منهما أن يرجع؛ لأنه لم يثبت أنه ابنه؛ فإن ألحق بأحدهما: هل له أن يرجع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ثبت أنه ولده. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لم يكن الرجوع ثابتاً حالة العقد؛ فلا يثبت بعده. ولو وهب من عبد ولده شيئاً- فهو كما لو وهب لولده، فله الرجوع؛ وإنما يجوز للأب الرجوع فيما وهب لابنه إذا كان الموهوب قائماً في ملك الابن: فإن كان تالفاً أو خرج عن ملكه أو كانت جارية. استولدها أو دار أوقفها: لا رجوع له فيه، ولا في قيمته، وإن خرج عن ملكه، وعاد إليه: هل للأب الرجوع فيه؟ فعلى وجهين: أحدمها: له ذلك؛ لأنه وجد عين ماله. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن هذا الملك لم يحصل له من الأب، وإن كان الابن قد وهبه من إنسان، ولم يقبضه أو رهنه، ولم يقبضه، أو كان عبداً قد بره: فللأب الرجوع فيه، وإن كان قد رهنه وأقبضه، أو كاتبه: لا يمكنه الرجوع فيه، فإن افتك الرهن، أو عجز عن أداء النجوم: فله الرجوع؛ لأن ملك الابن لم يزل عنه، وإن كان قد أجره الابن، أو كانت جارية، فزوجها: له الرجوع، ولا يفسخ النكاح، ولا الإجارة. ولو مات الابن، فصار ميراثاً لابن ابنه، أو باعه الابن من ابنه: لا رجوع للجد، وإن كان الابن وهبه من ابنه: فهل للجد الرجوع، سواء كان ابنه حياً أو ميتاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه خرج عن ملك الموهوب له؛ كما لو باعه. والثاني: له الرجوع؛ لأن الابن وهبه، ممن له الرجوع في هبته. ولو أفلس الابن الموهوب له، وحجر عليه القاضي، والموهوب قائم في يده: هل للأب الرجوع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه تعلق به حق الغرماء؛ كما لو كان موهوباً. والثاني: له ذلك؛ لأن حقه كان سابقاً وإن ارتد الابن، فإن قلنا: ملكه بالردة لا يزول: فللأب أن يرجع، وإن قلنا: زال ملكه: فلا رجوع له، فإذا عاد إلى الإسلام: له أن يرجع؛ لأنا بينا أن ملكه لم يزل، وإن كان الموهوب قائماً في يد الابن؛ لكنه تغير- نظر: إن كان قد تغير بنقصان: رجع الأب فيه، ولم يكن له أن يغرمه أرش النقصان؛ كما لو كان تالفاً:

لم يكن له أن يغرمه القيمة، وإن تغير بزيادة- نظر: إن كانت الزيادة متصلة؛ مثل سمن الدابة، وكبر الودي، وتعلم الحرفة في العبد: فله أن يرجع فيه مع الزيادة، وإن كانت منفصلة؛ كالولد والكسب وثمرة الشجرة: فله أن يرجع في الأصل، وتبقى الزيادة للابن. ولو وهب من ولده جارية أو شاة حاملاً، فرجع، وهي حامل بذلك الولد، فله أن يرجع فيها حاملاً، ولو وهبها حاملاً، فوضعت: له الرجوع في الأم، وهل له أخذ الولد؟ فيه قولان: إن قلنا: الحمل يعرف: فله أخذ الولد؛ كما لو وهب منه شيئين؛ فله أن يرجع فيهما جميعاً، وإن قلنا: الحمل لا يعرف: فليس له أخذ الولد؛ كما لو وهبها حاملاً، فولدت: أخذ الأم دون الولد، ولو وهبها حاملاً، فولدت: فإن قلنا: الحمل لا يعرف: فله أن يأخذها حاملاً، وإن قلنا: الحمل يعرف: فالولد للابن، وهل للأب أن يرجع في الأم أم يصبر حتى يوضع الحمل؟ فيه وجهان: ولو وهب منه عصيراً، وتخمر، ثم تخلل: له أن يرجع؛ لأن ملكه- وإن زال بالتخمر- فقد عاد الملك الأول بالتخلل؛ بدليل أنه لو رهن عصيراً؛ فتخمر، ثم تخلل: عاد رهناً، ولو وهب حنطة، فبذرها الابن، فنبتت، أو بيضة، فصارت فرخاً: فلا رجوع له. قال الشيخ- رحمه الله-: هذا يبنى على أنه هل يجب على الغاصب البدل أم لا؟ إن لم نوجب البدل على الغاصب: جعلنا عين ماله قائمة: فله الرجوع فيها، وإن أوجبنا البدل: إن جعلناها هالكة: فلا رجوع له ههنا- وإن كان الموهوب ثوباً، فصبغه الابن: فللأب أن يرجع فيه، ويكون الابن شريكاً معه فيه، وإن كان قصره، أو كان غزلاً، فنسجه، أو حنطة، فطحنها: رجع فيه الأب. قال الشيخ- رحمه الله-: وهل يكون الابن شريكاً فيه؟ إن زادت قيمته، وجعلنا فعله عيناً: يكون شريكاً فيه؛ وإلا فلا؛ كما في الإفلاس، وإن كان الموهوب أرضاً، فغرس، أو بنى فيها الابن: فللأب الرجوع في الأرض، ولا حق له في الغراس والبناء؛ كما ذكرنا في "التفليس"؛ وكل موضع أثبتنا الرجوع، فيحصل الرجوع بقوله: رجعت أو أبطلت الهبة، فلو لم يرجع صريحاً؛ لكن باعه من آخر، ووهبه: فهل يكون رجوعاً؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا يكون رجوعاً؛ كما لو باع المبيع في زمان الخيار؛ يكون فسخاً. والأول: المذهب؛ أنه لا يكون رجوعاً؛ بخلاف البيع في زمان الخيار؛ لأن ملك المشتري في زمان الخيار ضعيف؛ فلم يمنع تصرف البائع وملك الابن على الموهوب قائم؛ بدليل نفوذ تصرفاته فيه؛ فلم ينفذ تصرف الواهب، فإن قلنا: يكون رجوعاً: فهل تصح الهبة والبيع؟ فيه وجهان؛ كالبيع في زمان الخيار. ولو أعتقه الأب، أو كان طعاماً، فأكله، أو جارية فوطئها: فالصحيح: أنه لا يكون رجوعاً حتى لا ينفذ العتق، وإذا استولد بالوطء: يجب عليه قيمتها، وإن كان طعاماً، فأكله يجب عليه قيمته، وإذا رجع الأب في الهبة، فقبل أن يسترده: يكون أمانة في يد الابن حتى لو هلك في يده: لا ضمان عليه؛ بخلاف ما لو فسخ البيع: كان المبيع مضموناً على المشتري؛ لأنه أخذه في الابتداء على حكم الضمان. فصل في بيان حكم الهدية روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة بجارتها، ولو مرسن شاة". الهدية مندوب إليها؛ قالت عائشة- رضي الله عنها-: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يستحقر المهدي القليل، فيمتنع من أن يهدى به؛ للحديث، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في الصدقة: اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولا يستنكف المهدى إليه من قبول القليل"؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لو أهدي إلي ذراع: لقبلت، ولو دعيت إلى كراع: لأجبت"، ولا تحتاج الهدية إلى إيجاب وقبول؛ لأنها ليست بعقد؛ كالصدقة؛ بل البعث من

جهة المهدي كالإيجاب، والقبض من المهدى إليه كالقبول، ولا تتم إلا بالقبض؛ حتى لو وعد إنساناً هدية أو صدقة: فإن شاء وفاه، وإن شاء لم يف، والوفاء بالموعود أليق بحال أهل الإيمان، ولا رجوع في واحد منهما بعد القبض، ولو بعث هدية إلى إنسان على يد رسول، فمات المهدي قبل وصولها على المبعوث إليه: كان لورثة المهدي، ولو أرسل هدية في ظرف: يكون الظرف أمانة في يد المهدى إليه: فإن استعمله في غير الهدية ضمن، وإن كان شيئاً جرت العادة بتفريغ الظرف منه: يجب أن يفرغ، وإن جرت العادة بالتناول منه: جاز أن يتناول منه. قال الشيخ- رحمه الله-: فإن تناول منه: كان كالمستعار، والله أعلم.

كتاب اللقطة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب اللقطة روي عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأله عن اللقطة؟ فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فشأنك بها"، قال:

فضالة الغنم؟ قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال: فضالة الإبل؟ قال: "ما لك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها". اللقطة: اسم للمال الذي يوجد ضائعاً، فيلتقط. إذا وجد أمين لقطة في غير الحرم: من نقد، أو متاع: يجوز له أن يأخذها، ويعرفها سنة، فإن جاء صاحبها؛ وإلا يتملكها، فإن أخذها بنية الاختزال: كان ضامناً، ولم يكن له أن يتملكها، وإن عرفها سنين؛ كالغاصب: لا يملك المغصوب، وهل يبرأ بالدفع إلى الحاكم؟ فيه وجهان؛ كالمغصوب، وإن أخذها؛ ليحفظها للمالك: جاز، وهل يلزمه التعريف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن التعريف للتملك، وهو لا يريد تملكها.

والثاني: وهو الأصح: يجب تعريفها؛ لأنه إذا لم يعرف: لا يهتدي إليه المالك؛ فيضيع ملكه. ولو دفعها إلى الحاكم: يجب قبولها؛ بخلاف الوديعة: لا يجب على الحاكم قبولها من وجه؛ لأنه التزم حفظها وائتمنه المالك؛ فلا يجوز له دفعها إلى غيره لغير ضرورة، ولو دفعها إلى غير الحاكم: جاز، وإن دفع بغير أمره: ضمن، فإن قلنا: لا يجب التعريف: فيكون أمانة في يده؛ لا يضمن إذا تلف عنده، ثم إذا بدا له أن يتملك: يعرفها سنة من وقت ما بدا له ذلك، وإن قلنا: يلزمه التعرف بكل حال: فيصير ضامناً بترك التعريف، حتى لو ابتدأ التعريف بعد التأخير، فهلك في السنة: يجب عليه الضمان. وابتداء السنة يكون من وقت التعريف، لا من وقت الأخذ، وإذا أخذ بنية التعريف، ثم غير النية إلى الاختزال: لا يدخل في ضمانه، ما لم ينقلها عن موضعها على هذه النية، فإن نقلها: كان ضامناً، وهل يملكه بعد التعريف؟ فيه وجهان: أصحهما: يملك. ومن وجد لقطة: هل يجب عليه أخذها؟ نص- ههنا- فقال: لا أحب تركها. وقال في موضع آخر: لا يحل تركها، إذا كان أميناً. اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل على قولين: أحدهما: لا يجب أخذها؛ لأنه أمانة؛ فلا يجب أن يأخذها؛ كما لو دفع رجل إليه وديعة: لا يجب عليه قبولها. والثاني: يجب؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. ولا يجوز للولي ترك حفظ المال، ولأن للمال حرمة، كما لمالكه؛ فلا يجوز تركه بمضيعة؛ كما لا يجوز ترك مالكه. ومن أصحابنا من قال- وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق: إن كان على ممر الفسقة وأهل الخيانة: يجب أخذها؛ وإلا فلا يجب؛ لأن غيره يقوم مقامه في الحفظ. فإن قلنا: لا يجب الأخذ: هل يستحب الأخذ؟ فيه وجهان:

وإن قلنا: يجب الأخذ، فلم يأخذ: يعصي بتركه، ولكن لا يجب عليه الضمان؛ كما يجب على صاحب الطعام إطعام المضطر؛ فإن لم يطعمه حتى مات عصى الله تعالى، ولا ضمان عليه، هذا إذا كان الملتقط أميناً؛ فإن لم يكن أميناً- فالأولى: ألا يأخذها؛ لأنه ربما تدعوه نفسه إلى استباحتها وكتمانها. وإذا أخذ اللقطة: يعرف عفاصها، وهو: الوعاء الذي فيه [النفقة] من جلدة وغيرها، ووكاءها، وهو: الخيط الذي شد به، وجنسها، وهو: أنه ذهب أو فضة، وقدرها: من الوزن، والعدد، وصفتها، ومعرفة هذه الأشياء لئلا يختلط بماله، وليعرف صدق من يدعيه، وهل يجب الإشهاد عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه أمانة عنده؛ كالوديعة. والثاني: يجب؛ كما روي عن عياض بن حمار؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من التقط لقطة: فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب لأن مالكها غير ظاهر؛ فربما يموت الملتقط، فيتملكها وارثه، ويضيع حق المالك؛ بخلاف الوديعة؛ فإن مالكها ظاهر يدعيها. فإن قلنا: يشهد: فعلى ماذا يشهد؟ فيه وجهان: أحدهما: يشهد على صنعتها. والثاني: وهو الأصح: يشهد على أصلها، ويكون على جنسها دون صنعتها، حتى لا يأخذها الشاهد، فيدعيها لنفسه. ويجب أن يعرفها سنة بالنهار في الأسواق ومجامع الناس وأبواب المساجد في أوقات الصلوات؛ لاجتماع الناس. ولا يعرف في المسجد؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن

المساجد لم تبن لهذا" ويكون أكثر تعريفه حيث وجده وحواليه؛ لأن صاحبه يطلبه حيث ضاع منه، ولا يحسب التعريف بالليالي؛ لأنها وقت تفرق الناس، ولا يجب المداومة على التعريف أناء الليل والنهار؛ بل على العادة في الأسبوع الأول في كل يوم مرتين طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، وهل يشترط الموالاة في التعريف، أو يجوز متفرقاً؛ مثل: أن عرف اثني عشر شهراً في اثني عشر سنة؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز متفرقاً؛ [كمن نذر صوم سنة: يجوز أن يصومها متفرقاً. والثاني: لا يجوز؛ لأنه إذا فرق وامتدت المدة: لا يظهر أثره، فعلى هذا: إذا] قطع: يجب أن يستأنف تعريف سنة. ويقول في التعريف: من ضاع له شيء. ولا بأس من ذكر جنسه، فيقول: من ضلت له دراهم أو دنانير، ولا يذكر وصفها حتى لا يضبطها رجل، فيدعيها كذباً: فإن ذكر وصفها وقدرها في التعريف: هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدمها: لا يضمن؛ لأنه لا يجب عليه الدفع إلى من يدعيه بمجرد الوصف. والثاني: يضمن؛ لأنه لا يؤمن من أن يدعيه رجل بتلك الصفة، فيدفعه إلى من يلزمه الدفع إليه. ثم إن لم يتبرع الملتقط بالتعريف: فعلى من تجب الأجرة؟ نظر: إن أخذها ليحفظها للمالك: فعلى المالك، وإن أخذها للتملك بعد التعريف: فإذا مضت المدة وتملك: فعلى الملتقط، وإن ظهر المالك قبل التملك: ففيه وجهان: أحدهما: على الملتقط؛ لأنه قصد بالتعريف التملك؛ فكان تعريفه لنفسه. والثاني: على المالك؛ لأنه بان أن التعريف وقع له، وإن كانت اللقطة شيئاً يسيراً: هل يجب تعريفها نظر: إن كان شيئاً لا يطلب كالتمرة واللقمة: فلا يعرفه؛ لما روي عن أنس- رضي الله عنه- قال: مر النبي- عليه السلام- على تمرة في الطريق، فقال: "لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة: لأكلتها". وإن كانت مما يطلب؛ لكنه قليل: فيه وجهان:

أحدهما: يجب تعريفه سنة، لظاهر الخبر. والثاني: يكتفى فيه تعريف ثلاثة أيام. واختلفوا في القليل: قيل: ما دون نصاب السرقة قليل؛ لأنه تافه؛ قالت عائشة- رضي الله عنها-: "كانت الأيدي لا تقطع في الشيء التافه". وقيل: ما دون الدرهم قليل؛ لأن العامة يعدون ما دون الدرهم قليلاً، ويكون للدرهم عندهم فطر. وقيل: الدينار قليل، فإن زاد: يعرفه سنة؛ لما روي عن علي كرم الله وجهه- أنه وجد ديناراً، فعرفه ثلاثاً، فقال النبي عليه السلام- كله". وروي أنه وجد ديناراً، فسأل النبي عليه السلام- فقال: هذا رزق الله، فاشترى به دقيقاً ولحماً"، فأكل منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلي وفاطمة- رضي الله عنهما- ثم جاء صاحب الدينار ينشد الدينار، فقال النبي- عليه السلام- "يا علي، أد الدينار". وإذا عرف اللقطة سنة، ولم يجد صاحبها: تملكها الملتقط، فقيراً كان أو غنياً. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه؛ إن كان غنياً: لا يحل له الصدقة، فلا يجوز أن يتملك اللقطة؛ بل إن شاء حفظها للمالك، وإن شاء تصدق بها، وإن كان فقيراً: فإن شاء حفظها للمالك، وإن شاء: تصدق بها على نفسه أو على غيره: فإذا تصدق، ثم حضر المالك: فإن أجاز الصدقة؛ وإلا فالثواب للملتقط، وعليه الغرم للمالك، والحديث حجة عليه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "فشأنك بها"، ولم يفصل بين الفقير والغني.

وعن أبي بن كعب: أنه وجد صرة فيها مائة دينار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم- أن يستمتع بها بعد التعريف، وكان أبي من المياسير، ثم بعد التعريف، بماذا يحصل له الملك؟ فيه وجهان: أحدهما: بعد التعريف: تصير ملكاً له؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما نجد في السبيل العامر من اللقطة؟ قال: "عرفها حولاً"، فإن جاء صاحبها؛ وإلا فهي لك". قال: يا رسول الله، ما نجد في الخراب العادي؟ قال: "فيه وفي الركاز الخمس". فقوله: "هي لك": دليل على أنهي ملك بمجرد التعريف، ولأنه كسب مالاً؛ فلا يشترط في تملكه اختيار التملك؛ كالصيد. والثاني: وهو الأصح؛ لا يملك إلا باختيار التملك؛ لما روينا في حديث زيد بن خالد: "فإن جاء صاحبها؛ وإلا فشأنك بها"؛ فجعل ذلك إلى اختياره، ولأنه تملك ببدل، فأشبه البيع؛ فعلى هذا: [هل] يشترط أن يذكر بلسانه أم يملكه بمجرد النية؟ فيه وجهان: أصحهما: يشترط أن يتلفظ به؛ كالتملك بالبيع. وقيل: لا يملك ما لم يتصرف بعد الاختيار؛ تخريجاً من القراض، وليس بصحيح. فإن جاء مالكها قبل مضي السنة، والعين قائمة: يجب عليه ردها مع الزوائد المتصلة والمنفصلة. وإن كانت العين تالفة: لا يجب عليه ضمانها؛ لأنها أمانة في يده قبل التملك. وإن جاء بعد مضي السنة والتعريف. فإن قلنا: لا يملك بالتعريف، ولم يكن قد اختار التملك: فعليه ردها بالزيادة المتصلة والمنفصلة؛ كما قبل الحول، وإن كان هالكاً: لا شيء عليه. وإن قلنا: يملك بالتعريف، أو قلنا: يملك باختيار التملك، وقد اختاره: فقد دخل في ضمانه، فإذا جاء المالك: لا يجب عليه رد عينه، إن كانت قائمة؛ لأنها ملكه، بل إن شاء رد

عينها، وإن شاء رد المثل إن كان مثلياً أو القيمة إن كان متقوماً؛ كما لو كانت تالفة: رد المثل أو القيمة، فإن كان الملتقط مفلساً: كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء، وإن كانت العين قائمة، فردها: يردها بالزوائد المتصلة، ولا يجب رد الزيادات المنفصلة التي حصلت بعد التملك، وإن كانت قد تعينت في يده بعد التملك، فعليه قيمته صحيحاً؛ إن كان متقوماً، أو مثله صحيحاً؛ إن كان مثلياً. وإن رضي المالك بعين ماله: لم يكن له أن يطالبه بأرش النقصان، وإن جاء بعد اختيار التملك، وقلنا بالوجه البعيد: إنه لا يملك بالاختيار، ما لم يتصرف: صار مضموناً عليه بالاختيار؛ كالعرض. ولو وجد رجلان لقطة: يعرفانها ويملكانها؛ فلو رآها أحدهما، وقال: ثم لقطة، وأخذها الآخر: فالآخذ أولى بها. ولو ضاعت من يد الآخر، فوجدها الآخر: فالأول أولى بها. ولو وجد لقطة في حرم مكة: لا يجوز أخذها إلا للحفظ على المالك، فأما أن يعرف ليتملك: فلا؛ على أظهر قولي الشافعي- رضي الله عنه- وجماعة من أهل العلم؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها".

وفي رواية أبي هريرة: "ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد"، أي: إلا من يداوم على تعريفها، وهذه فضيلة خص بها الحرم؛ كما خص بتحريم الصيد فيه- وقطع الشجر؛ وهذا لأن مكة ينتابها الناس من الآفاق، وربما يكون ذلك الآفاقي يعود أو يبعث في طلبه. وفيه قول آخر: أنها تملك بعد التعريف سنة، كلقطة سائر البقاع. والمراد من الحديث: أنها لا تحل قبل مضي السنة؛ حتى لا يظن ظان أنه إذا نادى عليها وقت الموسم، فلم يظهر مالكها: جاز له تملكها. ولو وجد لقطة في دار الحرب- نظر: إن كان فيها مسلمون: يعرفها؛ كما لو وجد في دار الإسلام، وإن لم يكن فيها مسلم، فتكون غنيمة، فالخمس لأهل الخمس، والباقي له بلا تعريف؛ كما لو أخذ مال حربي. فصلٌ روي عن أبي بن كعب قال: "وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "عرفها حولاً؛ فإن جاء صاحبها، فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه".

إذا جاء رجل يدعي اللقطة أنها له: فإن لم يصفها: لا تسلم إليه، فإن وصفها: فإن لم يقع في قلبه صدقه: لا يجوز الدفع إليه إلا ببينة يقيمها، وإن وقع في قلبه صدقه: يجوز أن يدفع إليه، ولكن لا يجب إلا ببينة؛ لأنه لا يأمن أن يدعيها غيره ويقيم البينة، فيلزمه الضمان. وعند أحمد وبعض أهل الحديث- رحمة الله عليهم-: يجب أن يدفع إليه بالوصف. فلو ادعى المدعي على الملتقط أنك تعلم أنها ملكي أو ادعى مطلقاً: أنها ملكي مع إقراره باللقطة: يحلف على أنه لا يعلم ذلك. ولو قال: يلزمك تسلميها إلي يحلف على البت: أنه لا يلزمه تسليمها غليه؛ سواء وقع في قلبه صدقه أو لم يقع؛ لأنه قد يسمع الصفة من غيره، فيدعيه على تلك الصفة، فلو وصفها المدعي، ودفعها الملتقط إليه بلا بينة، ثم جاء غيره، وأقام بينة على أنها له: دفعت إليه، إن كانت قائمة، وإن كانت مالكة: فالمدعي بالخيار، إن شاء ضمن الملتقط قيمته، وإن شاء ضمن الآخذ، فإن ضمن الآخذ: لا رجوع له على الملتقط؛ لأن الآخذ يزعم أنه مظلوم بأخذ الغرم منه؛ فلا يرجع بالظلم على غير من ظلمه، وإن ضمن الملتقط: فهل له الرجوع على الآخذ؟ - نُظر. إن أقر للآخذ بالملك حين دفع إليه؛ بأن قال: هي لك: فلا يرجع عليه؛ لأنه أقر أنه أخذ مال نفسه، وأن الذي أقام البينة ظلمه بأخذ القيمة منه، وإن لم يقر له، بل قال: وقع في قلبي، او غلب على ظني أنها لك، أو دفع إليه، ولم يقل شيئاً: فله الرجوع على الآخذ. فصل في حكم الضالة روي عن زيد بن خالد الجهني: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في ضالة الغنم: "هي لك أو لأخيك أو للئذب"، وقال في ضالة الإبل: "ما لك ولها؛ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل

الشجر حتى يلقاها ربها". إذا وجد ضالة، وهي: الحيوان- لا يخلو: إما إن كان الحيوان حيواناً يمتنع من صغار السباع أو لا يمتنع: فإن كان حيوان يمتنع من صغار السباع: إما بقوته كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير أو بسرعة عدوه كالظبي والأرنب، أو بطيرانه؛ كالحمام والدراج ونحوها- نُظر: إن وجدها في مفازة أو برية- لا يجوز لأحد أخذها للتملك؛ لما روينا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال [في ضالة الإبل] ما لك ولها؛ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها"؛ وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ضالة المسلم حرق النار" وهل يجوز أخذها للحفظ، حتى يظهر مالكها؟ - نُظر؛ إن كان الواجد هو السلطان- يجوز لأن له ولاية حفظ أموال الناس، وهو محل طلب الضوال؛ روي أن عمر- رضي الله عنه- كان له حظيرة يحفظ فيها الضوال. ثم إن كان له حمى: تركها في الحمى، ويشهد عليها، ويسمها بسمة الضوال، وإن

نتجت: يسم نتاجها، حتى لا يختلط بغيرها، وإن لم يكن له حمى؛ فإن كان يطمع في مجيء صاحبها؛ بأن عرف أنها من نعم بني فلان: حفظها اليومين والثلاثة، وإن لم يعرف، أو عرف ولم يأت صاحبها: باعها وحفظ ثمنها؛ لأن في إمساكها والإنفاق عليها إضراراً بصاحبها. وإن كان الواجد من الرعية: لا يجوز له أخذها للتملك، وهل يجوز له أخذها للحفظ على المالك؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وإذا أخذ: لا يكون ضامناً؛ كالإمام. والثاني: وهو الأصح: لا يجوز؛ لأن النظر في مال الغير ليس إليه. فعلى هذا: إن أخذها للحفظ على المالك، أو أخذها للتملك: كان ضامناً؛ كالغاصب، ولا يبرأ عن الضمان إلا بردها إلى مكانها كمن أخذ لقطة، ثم رمى بها: ضمنها، وهل يبرأ عن الضمان بالدفع إلى السلطان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن مالكها قد يكون رشيداً لا ولاية عليه للسلطان. والثاني: وهو الأصح: يبرأ؛ لأن للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله؛ كما يجوز له أخذها ابتداءً للحفظ على المالك. أما إذا وجد منها شيئاً في العمران من بلد أو قرية أو قريب منها؛ كالحوائط بقرب البلد: ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو وجدها في المفازة: لا يجوز أخذها للتملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم- يفصل بين الصحراء والعمران. والثاني: وهو الأصح: أنها لُقطة- كالحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع؛ فله أن يأخذها للتعريف والتملك؛ لأن العادة لم تجر بإرسال هذه الدواب في العمران من غير حافظ، فالظاهر: أن صاحبها أضلها، وجرت العادة [بإرسال هذه الدواب] في الصحراء بلا حافظ؛ فكانت الصحراء مخالفاً فيها للعمران. وكذلك: إذا كان أيام نهب وغارة: جاز أخذها، وإن كان في الصحراء.

أما إذا كان حيواناً لا يمتنع من صغار السباع؛ كالشاة والعجل والفصيل والكسير: فيجوز له أخذها؛ سواء وجدها في المفازة أو في العمران؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "هي لك أو لأخيك أو للذئب يريد: أنها طعمة لكل أحد، فإن أخذتها أنت؛ وإلا أخذها غيرك، أو أكلها الذئب، ثم إن وجدها في المفازة: فهو بالخيار بين أن يمسكها ويعرفها حولاً؛ ثم يملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها، ويعرفها حولاً، وإنما يعرف الحيوان لا الثمن، ثم بعد الحول: يتملك الثمن، وبين أن يذبحها إن كان مأكولاً. ويغرم قيمتها، ولو باع جزءاً منها، فأنفق على نقلها إلى البلد للتعريف: جاز، وإن وجدها في العمران في قرية أو قريب منها: فيتخير بين أن يعرفها سنة، ثم يتملكها، أو بين أن يبيعها ثم يعرفها، وهل يجوز له الأكل؟ فيه قولان: أحدهما: له ذلك، ويغرم قيمتها؛ كما لو وجد في الصحراء. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن البيع ممكن في العمران، وفي الصحراء: ربما لا يجد من يشتريه، وفي حمله إلى البلد مشقة عليه؛ فجوزنا له الأكل. وفي الجملة: الإمساك والتعريف أولى من البيع؛ لأنه يجري فيه على سنة اللقطة، والبيع أولى من الأكل؛ لأنه إذا أكل يستبيحها قبل الحول، وإذا باع لا يملك الثمن إلا بعد الحول؛ فكان البيع أشبه بأحكام اللقطة. وإذا أمسكها على مالكها، تبرع بالإنفاق عليها: لا يرجع بما أنفق على مالكها، وإن أراد الرجوع: فلا يمكنه أن ينفق إلا بإذن الحاكم؛ فحينئذ: يرجع، فإذا باعها: فله أن يبيعها بنفسه، وإن لم يكن هناك حاكم، وإن كان هناك حاكم: هل يحتاج إلى إذنه في البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج إلى إذنه؛ لأ، الولاية له على المسلمين. والثاني: لا يحتاج إلى إذنه؛ لأن الملتقط قام مقام المالك في الأخذ والحفظ؛ كذلك: يقوم مقامه في البيع: فحيث جوزنا له الأكل، فأكل: فهل يلزمه التعريف بعده؟ فيه وجهان: أصحهما: يجب التعريف؛ كما لو باعه. والثاني: لا يجب، لأن كل حالة أبيح له أكل اللقطة: لا يلزمه التعريف؛ كما بعد الحول.

وهل يجب إفراز قيمة ما أكل من ماله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو باعه: لا يخلط ثمنه بماله. والثاني: لا يجب؛ لأنه إذا أفرزه: كان أمانة في يده، وما في ذمته: يكون قرضاً عليه: لا يخشى عليه الهلاك. وإن قلنا: يجب إفرازه، ففعل: يكون أمانة في يده لمالك اللقطة؛ فإن تلف في يده- لا شيء عليه لمالك اللقطة، كنفس اللقطة؛ إن هلكت، وإن بقي المفرز حتى مضت السنة: يتملك؛ فيكون قرضاً عليه. ولو أفلس الملتقط، ثم جاء صاحبها: كان له تلك القيمة المفرزة، له من بين سائر الغرماء؛ فإن قلنا: لا يجب إفراز ثمنه، فأفرز قيمته: فحقه لا يتعين فيها. وإذا أفلس: كان صاحبها أسوة الغرماء ولو وجد عبداً صغيراً، لا تمييز له: فهو كالثوب؛ له أن يأخذه ويعرفه حولاً، ثم يملكه؛ وكذلك: إن كانت جارية صغيرة أو كبيرة ممن لا يحل له وطؤها؛ فإن كانت ممن يحل له وطؤها: ففي جواز التقاطها قولان، بناءً على الاستقراض. وإن وجد كلباً مما يجوز اقتناؤه: لم يجز له الانتفاع به، حتى يعرفه سنة، فإن عرفه [سنة]، ولم يجيء صاحبه: جاز أن ينتفع به، ثم إذا حضر صاحبه بعد الانتفاع به: هل عليه أجر المثل؟ فيه وجهان؛ بناءً على جواز إجارة الكلب. ولو هلك في يده: لا ضمان عليه. ولو وجد طعاماً رطباً- نُظر: إن أمكن تجفيفه؛ بأن يتبرع الواجد بالإنفاق على تجفيفه، وإلا بيع بعضه وأنفق على تجفيف الباقي، وهل يحتاج في البيع إلى إذن الحاكم؟ فيه وجهان: وإن كان الأنفع لصاحبه: أني باع رطباً: بيع. وإن كان لا يمكن تجفيفه؛ كالعنب الذي لا يتزبب والرطب الذي لا يتتمر والبطيخ والقثاء، أو طعاماً لا يبقى كالشواء والمرقة ونحوها: فهو بالخيار: إن شاء باعه، وأخذ ثمنه ثم عرفه، وإن شاء أكله وغرم قيمته، كما ذكرنا في الشاة".

وفيه قول آخر: أن الأكل لا يجوز، إذا أمكن البيع، ثم بعد البيع: هل يجب التعريف؟ فيه وجهان، والله أعلم. فصلٌ المسلم العدل الحر البالغ العاقل: له أن يلتقط، ويستبد بتعريفها وتملكها. فأما من لم يكن بهذه الصفة: فيبني التقاطهم على أصل، وهو: أن ابتداء اللقطة أمانة، وفيها ولاية من حيث إن الملتقط حفظها؛ كالولي: يحفظ مال الصبي، وانتهاؤها اكتساب؛ فإن الملتقط يملكها بعد التعريف، وأيهما يغلب؟ جهة الأمانة أم جهة الاكتساب؟ فيه جوابان؛ فيخرج عليه التقاط الصبي والمحجور والعبد الفاسق، فإن غلبنا فيه جهة الأمانة: فليس أحد [من] هؤلاء من أهله، فإن التقط الصبي أو المحجور أو العبد أو الفاسق شيئاً، فهلك في يده: يجب عليه لاضمان، ويتعلق برقبة العبد؛ كالغصب، وإن علم به ولي الصبي أو المحجور عليه، فتركه في يده: كان طريقاً في الضمان، وإذا أخذه: يدفعه إلى الإمام؛ ليحفظه لمالكه؛ وكذلك: لو أخذ من الفاسق، ويحفظه الإمام للمالك، هذه طريقة ذكرها الشيخ القفال، رحمه الله. أما الذي عليه عامة الأصحاب- وهو المذهب-: أن اللقطة [اكتساب] والصبي والمحجور والفاسق كالعدل في جواز أخذها، وفي العبد قولان؛ لأنه ليس من أهل الملك، وتفصيل المذهب على هذا. نقوله في هذا الفصل. فصل فيمن يجوز التقاطه إذا وجد الصبي أو المجنون أو المحجور عليه بالسفه لقطة، فأخذها: صح التقاطه؛ لأنه كسب، فيستوي فيه الصغير والكبير والمحجور؛ كالاحتطاب والاصطياد، ولا يجوز لوليه أن يتركه في يده؛ كما لو احتطب أو اصطاد: لا يتركه الولي في يده]. فلو تلفت في يد الصبي: لا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في زمان التعريف، ولو أتلفها: يلزمه الضمان، ولو علم به الولي، فتركها في يده، حتى تلفت. قال الشيخ- رحمه الله-: إذا أتلفها: ضمن الولي للصبي؛ لأنه ثبت حق الملك؛ كما لو احتطب الصبي، فترك الولي في يده، حتى هلك- ضمن له الولي.

قال- رحمه الله-: ثم يعرف التالف، وبعد التعريف: يملك الصبي، إن كان نظر فيه. ولو أخذ الولي اللقطة من يده: يعرفها سنة، ثم إن كان الصبي ممن يجوز للولي أن يستقرض له: يتملك اللقطة له، وإن كان ممن لا يجوز أن يستقرض له: لا يتملك؛ لأن التملك بالالتقاط كالاستقراض، ولا يجوز أن يعطي مؤنة التعريف من مال الصبي، بل يأتي الحاكم حتى يبيع جزءاً من اللقطة في أجرة التعريف، ثم إن حضر المالك: كان ذلك- من ماله، وإن لم يحضر، وتملك الصبي: كان كما لو أدى من مال الصبي. ولو تلفت اللقطة في يد الولي قبل التملك: فلا ضمان على الآخذ؛ لأنها أمانة قبل التملك، وإن تلفت بعده: فضمانها على الصبي؛ لأنها ملكه. والسفيه كالصبي في الالتقاط إلا أن الصبي لا يصح تعريفه، ويصح تعريف السفيه. فأما العبد: فهل له الالتقاط؟ فيه قولان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه اكتساب؛ كالاحتطاب والاصطياد. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن المقصود منه التملك؛ والعبد لا يملك. فإن قلنا: لا يجوز له الالتقاط: فإن التقط: فهو مضمون عليه، فإن هلك في يده أو أهلكه بعد التعريف أو قبله: تعلق الضمان برقبته؛ كما لو غصب شيئاً، فهلك في يده، وإن عرفها: لا يصح تعريفه؛ لأنها ليست في يده بحكم اللقطة، وإن علم به السيد- نظر: إن أخذها من العبد؛ صار كما لو التقطه بنفسه، ويبتدئ التعريف، ويسقط الضمان عن العبد، لأنه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه؛ كما لو دفع الحر إلى الحاكم. فإن هلك في يد السيد قبل التعريف والتملك: لا ضمان عليه، فإن عرفها وتملكها: كانت القيمة في ذمته، وإن أقرها في يد العبد ليعرفها: فإن كان أميناً: يجوز كما لو استعان به في تعريف ما التقط السيد بنفسه وإن لم يكن أميناً: كان متعدياً بتقريرها في يده وضمها في جميع ماله أما إذا أهملها في يد العبد بعد ما علم؛ لم يأخذها، ولم يقرها: فالضمان بماذا يتعلق؟ فيه قوله: نقل المزني- رحمه الله- أنه يتعلق برقبة العبد؛ لأنه المتعدي بالأخذ، فعلى هذا: لو هلك العبد: سقط الضمان. وقال في رواية الربيع: يتعلق برقبة العبد، وبجميع مال السيد؛ لأن العبد متعد بالأخذ،

والسيد متعد بتركها في يد العبد؛ فعلى هذا: لو هلك العبد: لا يسقط الضمان عن السيد. فإن قيل: إذا أوجبتم الضمان على السيد في جميع أمواله، فأي فائدة لتعلقه برقبة العبد؟ قلنا: فائدته أن السيد لو أفلس: كان صاحب اللقطة أحق بالعبد من سائر الغرماء، أما إذا قلنا: إن العبد يجوز له الالتقاط: فإذا التقط- لا يخلو إما إن علم السيد أو لم يعلم؛ فإن لم يعلم: فهي أمانة في يد العبد؛ فإن هلكت في مدة التعريف- في يده من غير تفريط-: لا ضمان عليه، وإن هلك بتفريط منه: تعلق الضمان برقبته. وإن عرفها العبد: حسب تعريفه، ولا يحصل الملك للعبد، لأن العبد لا يملك، ولا يحصل الملك للمولى بتعريفه، ما لم يختر تملكه؛ بخلاف ما لو احتطب العبد أو اصطاد: كان ملكاً للمولى من غير اختياره؛ لأنه لا يعقب الضمان، وملك اللقطة يعقب الضمان، فيتوقف على اختيار المولى؛ فإن تملكها العبد لنفسه، وتصرف فيها، وهلكت في يده، أو أهلكها: تعلق الضمان برقبته أم بذمته؟ فيه وجهان: أحدهما: يتعلق بذمته؛ كما لو استقرض شيئاً، فهلك في يده. والثاني: تتعلق برقبته؛ لأن صاحبها لم يرض بدفعها إليه؛ كما لو غصب شيئاً، فهلك عنده: يتعلق الضمان برقبته؛ بخلاف القرض: فإن صاحبه قد رضي بدفعه إليه، فتعلق الضمان بذمته حتى يعتق. هذا إذا لم يعلم السيد بالتقاطه، فإن علم السيد: فله أخذها منه؛ لأنه كسب عبده، ثم إن كان بعد تعريف العبد: يتملكها المولى، وإن كان قبل التعريف: يعرفها، ويملكها؛ كما لو التقط بنفسه، ويكون الضمان على المولى دون العبد، وإن كان العبد قد عرف بعض الحول: أكمل السيد الباقي وتملك، وإن علم به السيد، فأقرها في يد العبد- نظر: إن كان العبد أميناً: جاز؛ كما لو التقط بنفسه، [استعان] بعبده الأمين في حفظها، وإن لم يكن أميناً: كان الضمان على المولى دون العبد، ولو التقط العبد لقطة، فأعتقه المولى؛ فإن قلنا: يجوز للعبد الالتقاط: أخذها المولى، وعرفها، وتملكها- لأنها كسب عبده، وإن كان العبد قد عرف: كان تعريفه محسوباً ويتملكها المولى، وإن قلنا: لا يجوز للعبد الالتقاط: لم يكن للسيد أخذها؛ لأن العبد كان متعدياً في أخذها، وهل يجعل كأن العبد التقطها بعد العتق حتى يعرف فيمتلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يكن- حالة الأخذ- من أهله؛ فعليه أن يدفعها إلى الإمام.

والثاني: له أن يعرفها ويتملكها؛ لأنه صار من أهل الالتقاط، فيجعل كأنه التقطها بعد العتق. والمدبر والمعلق عتقه بالصفة وأم الولد في الالتقاط كالعبد إلا أنا حيث قلنا: يتعلق الضمان برقبة العبد: ففي أم الولد: يجب على السيد، وإن لم يعلم به السيد؛ لأن جناية أم الولد تكون على سيدها، وإن لم يعلم به السيد. وأما المكاتب: فقد قيل: هو كالعبد، وفيه قولان، فإن قلنا: ليس له الالتقاط: فإذا التقط: كان ضامناً، وليس للسيد أخذها؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ بل يأخذها الإمام، ويحفظها إلى أن يجد صاحبها؛ فإذا أخذها الإمام: برئ المكاتب عن الضمان. والصحيح من المذهب، وهو المنصوص: أن المكاتب كالحر في الالتقاط قولاً واحداً؛ لأنه كالحر في تملك المال [والتصرف]؛ فعلى هذا الطريق، [أو على الطريق] الأول: أنه كالعبد، وجعلناه من أهله: يعرفها المكاتب ويملكها، فإذا عتق في خلال التعريف: أتم التعريف وملكها، وإن عجز: فإن كان بعد التعريف والتملك: كان للمولى، وإن كان قبل التعريف: أخذه الإمام وحفظه للمالك، ولا يأخذه السيد؛ لأن المكاتب كان من أهل الملك، فإذا لم يحصل له الملك بالتقاطه: لا يحصل بغيره. قال الشيخ- رحمه الله-: وجب أن يقال: يأخذها المولى ويعرفها ويتملكها؛ لأن أخذ اللقطة اكتساب، وكسب المكاتب: إذا عجز- يكون للمولى، كالعبد إذا التقط: يأخذها السيد ويعرفها ويتملكها، ولم يوجد من العبد إلا الاكتساب بالالتقاط. قال- رحمه الله-: وكذلك لو مات العبد أو المكاتب قبل التعريف: يعرفها السيد ويملكها؛ وكذلك: الحر إذا التقط فمات قبل التعريف؛ يعرفها الوارث ويملكها. أما من نصفه حر ونصفه رقيق إذا التقط- نظر. إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة: فنصفها يعرفها الملتقط، ويملك؛ كالحر، وفي النصف الآخر: كالعبد يلتقط والسيد يملكه بعد التعريف؛ كما لو التقط رجلان لقطة. وإن كان بينه وبين السيد مهايأة- فالمذهب: أن الالتقاط يدخل في المهايأة؛ كالأكساب العامة، فإن وجدها في يوم السيد: فكالعبد يلتقط: يأخذها السيد ويعرفها ويتملك، وإن وجدها في يوم نفسه: فكالحر يلتقط: يعرفها العبد ويتملكها.

وفيه قول آخر: أن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة؛ مثل: اللقطة؛ والركاز، والوصية، والهبة؛ ففي أي يوم كان: يكون بينهما؛ كما لو لم يكن بينهما مهايأة؛ لأن المهايأة إنما تكون فيما يوجد في كل يوم، أما ما لا يوجد إلا نادراً في بعض الأيام: فلا يمكن مراعاة التسوية- بينهما؛ فلا تقع المهايأة عليها. وأما الفاسق: فيكره له الالتقاط؛ لأنه ربما تدعوه نفسه إلى كتمانها، وإذا التقط: هل يقر في يده؟ فيه قولان: أصحهما: لا يقر في يده، بل ينتزع [من يده]، ويوضع عند عدل؛ لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة، والملتقط في حفظها كالولي في حق الصغير، والفاسق ليس من أهل الأمانة ولا الولاية. والثاني: يقر في يده؛ لأن الالتقاط بمنزلة الاكتساب للتملك؛ كالاحتطاب، والاصطياد، والفاسق من أهله؛ ولكن يضم إليه عدل يشرف عليه. وعلى القولين جميعاً: هل يعتمد في التعريف عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يعتمد عليه؛ لأنه ليس بمال يفتقر إلى الأمانة. والثاني: لا، بل يضم إليه أمين يعرفان جميعاً، لأنه [لا يؤمن خيانة الفاسق في التعريف؛ فإذا مضت مدة التعريف: يتملكها الملتقط على القولني جميعاً. أما الذمي: إذا التقط في دار الإسلام: ففيه وجهان: أصحهما: أن له الالتقاط؛ لأنه اكتساب، كالاحتطاب والاصطياد، ثم هو كالتقاط الفاسق. والثاني: ليس له الالتقاط؛ لأن فيه معنى الولاية، ولا ولاية للذمي على المسلم؛ فيأخذه الإمام ويحفظه إلى أن يظهر مالكه. وأما المرتد إن قلنا: ملكه زائل: ينتزع من يده؛ كما لو احتطب: [ينتزع من يده]. وإن قلنا: ملكه غير زائل: فكالفاسق يلتقط. فصل في رد الآبق وحكم الجعالة قال الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وشرع من قبلنا:

يجوز العمل به؛ إذا لم يرد النهي عنه في شرعنا. عقد الجعالة جائز على رد الآبق ورد الضوال، وعلى البناء والخياطة وغيرها، وهو: أن يبذل جعلا على شيء من هذه الأعمال لمن عمله؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه؛ كما يجوز عقد الإجارة للضرورة الداعية إليها. وجملته: أن ما جاز عقد الإجارة عليه: جاز عقد الجعالة عليه، وقد تصح الجعالة حيث لا تصح الإجارة، وهو مع جهالة العامل والعمل والمدة، فتقول: من رد ضالتي، أو رد أبقى- فله كذا- يصح فالعامل مجهول؛ لأنه لا يدري متى يردها، والعمل مجهول لأنه لا يدري متى يردها ومن أين يردها، ولو قال: استأجرتك؛ لترد ضالتي بكذا، ولا يدري موضعها: لا يصح، وإنما جوزنا الجعالة مع الجهالة؛ لأن الحاجة تدعو إليه؛ فإن الرجل قد تضل له دابة، ويأبق له عبد، ولا يدري موضعه؛ فجاز مع الجهالة، كالمضاربة، ويختلفان من حيث إن الأجرة في الإجارة: يجب بنفس العقد، وفي الجعالة: لا تجب إلا بعد تسليم العمل، وأن الإجارة عقد لازم، والجعالة غير لازم: يجوز لكل واحد منهما فسخها قبل العمل، فلو أن رجلاً أبق له عبد، أو ضلت له بهيمة، فرده إنسان بغير أمر صاحبه: لا يستحق شيئاً؛ سواء كان معروفاً برد الضوال أو لم يكن. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كان معروفاً برد الضوال: فيستحق أجر المثل؛ وإلا فلا يستحق شيئاً. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه- في رد العبد خاصة: إنه إن رده من مسافة ثلاثة أيام أو أكثر، وكان معروفاً بذلك: يستحق أربعين درهماً استحساناً لا قياساً، فإن كانت قيمة العبد أقل من أربعين: ينقص عن قيمته درهم، وإن لم يكن معروفاً بذلك: لا يستحق شيئاً، وإن رده من مسافة أقل من ثلاثة أيام- قال-: يستحق أجر المثل. وعندنا: إن رد بغير أمر صاحبه: لا يستحق شيئاً؛ لأنه رد ما لم يشرط له عليه عوض؛ كما لو رد ضالة، أو رد ما لم يكن معروفاً بالرد. وإن رد بأمره- نظر: إن عين رجلاً، وسمى له مالاً معلوماً، فقال: إن رددت عبدي، أو ضالتي: فلك علي عشرة دراهم، فإن رد ذلك الرجل: يستحق المسمى، وإن رد غيره: لا يستحق شيئاً، وإن لم يعين أحداً، بل قال: من رد عبدي، أو قال: من رد ضالتي- فله عشرة

دراهم- فكل من سمع ذلك منه، أو من غيره، فرده- ويستحق المسمى، ومن رده ممن لم يسمعه- لا يستحق شيئاً، وهو متبرع. ولو رده رجلان، أو ثلاثة: فيكون المسمى بينهم على عدد رءوسهم. ولو ذكر مالاً مجهولاً، فقال الرجل: رد آبقي حتى أرضيك، [أو إن رددته أعطيك] شيئاً، أو قال: من رده: فله علي شيء؛ فرده رجل ممن سمعه: يستحق أجر المثل؛ لأنه لم يعمل مجاناً. ولو قال من رده: أعطيته شيئاً، فرده جماعة: فأجر مثل الرد بينهم، فأما إذا قال الرجل: رد آبقي، أو ضالتي، ولم يذكر شيئاً، فرده: كان متبرعاً؛ لا يستحق شيئاً؛ لأنه عمل بلا عوض. وقيل: إن كان معروفاً برد الضوال: يستحق أجر المثل. ولو نادى غير مالك العبد: من رد عبد فلان- فله عشرة دراهم، فرده رجل: يستحق العشرة على المنادي؛ لأنه ضمن العوض، فإن قال في النداء: [قد] قال فلان: من رد عبدي- فله عشرة، فرده رجل: لا يجب على المنادي شيء. قال الشيخ- رحمه الله-: فإن كان فلان قد قاله: يستحق عليه؛ وإلا فلا يستحق شيئاً. ولو قال لرجل: إن رددت عبدي- فلك عشرة، فشاركه في الرد غيره: لا يستحق من شاركه شيئاً؛ لأنه متبرع، ثم نظر: إن قال المعين: إني أعنت العامل: فالعامل يستحق جميع العشرة، ولا شيء للمعين، سواء قال المعين: شاركته لأشاركه في الجعل أو قال: مجاناً. وإن قال: عملت للمالك بعوض أو غير عوض: فالعامل يستحق نصف المسمى له. ولو قال لرجل: إن رددت عبدي- فلك عشرة، وقال لآخر: إن رددته- فلك عشرون، وقال لثالث: إن رددته- فلك ثلاثون، فرده واحد منهم: يستحق ما سمى له، وإن ردوه جميعاً: يستحق كل واحد منهم ثلث ما سمى له؛ فالأول يستحق ثلث العشرة، والثاني ثلث العشرين، والثالث ثلث الثلاثين، وإن رده اثنان منهم: يستحق كل واحد منهم نصف ما سمى له، وإن أعانهم رابع، فردوه جميعاً: لا شيء للمعين، وكم للثلاث نظر: إن قال المعين؛ عملت للمالك: فلكل واحد من الثلاث ربع ما سمى له، وإن قال: أعنت ثلاثتهم: فكل واحد يستحق ثلث ما سمى له، كما لو ردوه دون المعين وإن قال: أعنت واحداً منهم بعينه: فذلك يستحق نصف ما سمى له، ولكل واحد من الآخرين ربع ما سمى له، ولو قال لرجل: إن

رددت عبدي- فلك عشرة، وقال لآخر: إن رددت- فأعطيك شيئاً، فردا معاً: فمن سمى له العشرة: يستحق نصف العشرة، والآخر يستحق نصف أجر المثل. ولو أبق لرجل عبدان، فقال: من ردهما- فله عشرة، فرد رجل أحدهما: يستحق نصف المسمى، سواء استوت قيمتهما أو اختلفت. ولو قال لرجلين: إن رددتما عبدي- فلكما عشرة، فرده أحدهما: يستحق نصف المسمى؛ لأنه لم يجعل له إلا نصفه، ولو قال لرجلين: إن رددتما العبدين- فلكما كذا، فرد أدهما: يستحق ربع المسمى. ولو قال: إن رددت عبدي من موضع كذا: فلك عشرة، فرده من نصف الطريق: يستحق نصف المسمى. ولو رد من الموضع الذي عينه، فرأى المالك في نصف الطريق، فدفع إليه: يستحق نصف المسمى، ولا يستحق العامل في الجعالة شيئاً إلا بعد حصول العمل، حتى لو قال: من رد آبقي، أو قال لرجل بعينه: إن رددت آبقي- فلك كذا، فطلب، ولم يجد، أو وجده، فمات في الدرب، أو أبق في الطريق، أو رجع بنفسه: لا يستحق شيئاً؛ بخلاف ما لو استأجر رجلاً؛ ليحج عنه، فأتى ببعض الأعمال، ثم مات: يستحق بقدر ما عمل من الأجرة على أحد القولين؛ لأن المقصود من الحج تحصيل الثواب، وقد حصل له بعض الثواب، والمقصود من الجعالة: رد العبد إلى يده، ولم يوجد؛ فلا يستحق شيئاً، وإذا رده: ليس له حبسه لاستيفاء الجعل؛ لأنه يستحق بالتسليم؛ حتى لو شرط تعجيل الجُعل: يفسد. ولو اختلف العامل ورب المال، فقال العامل: شرطت لي جعلاً، وقال المالك: لم أشرط: فالقول قول المالك مع يمينه. وكذلك: لو قال العامل: أنا رددت، وقال المالك: بل عاد العبد بنفسه: فالقول قول المالك مع يمينه، وكذلك: لو رد أحد عبديه، فقال المالك: شرطت لك الجعل على رد العبد الآخر، فقال العامل: بل على هذا العبد: فالقول قول المالك مع يمينه. ولو قال العامل: شرطت لي في رد أحدهما، وقال: بل في ردهما، قال الشيخ- رحمه الله- وجب أن يتحالفا. [ولو اختلفا] في مقدار الجعل، فقال العامل: شرطت لي عشرة، فقال: بل خمسة:

يتحالفان، ثم يجب للعامل أجر المثل؛ كما لو اختلفا في الإجارة في قدر الأجرة. ويجوز لكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد قبل الشروع في العمل، أما بعد الشروع في العمل- نُظر: إن أراد العامل الفسخ: له ذلك؛ لأنه يحبس بحقه. فإذا فسخه: لا يستحق شيئاً لما عمل، وهل يجوز للجاعل الفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه عقد جائز من الجانبين، كما قبل الشروع في العمل، وإذا فسخ: لا شيء للعامل. والثاني: ليس له ذلك، إلا أن يضمن للعامل أجر ما عمل؛ لأنه يبطل بفسخه حقه فيما عمل. ويجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل. فإن قال: من رد عبدي- فله عشرة؛ ثم قال: من رده فله دينار، فمن رده يستحق الدينار لا العشرة. وإن قال: من رد عبدي فله عشرة، ثم قال: من رده فله خمسة، فمن رده يستحق الخمسة. ولو قال: من رد عبدي- فله كذا، فكان في يد رجل، فرده: يستحقه، إن كان يحتاج في رده إلى مؤنة، فإن كان شيئاً خفيفاً لا مؤنة في رده: لا يستحق شيئاً. ولو قال: من دلني على عبدي- فله كذا، فدله رجل دلالة تحتاج إلى مؤنة: يستحق، فإن كان في يده: لا يستحق شيئاً. ولو قال: من أخبرني- فله كذا، فأخبره رجل: لا شيء له؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى عمل، والله أعلم. باب التقاط المنبوذ روي عن ابن شهاب عن ستين أبي جميلة، أنه وجد منبوذاً، قال: "فجئت به إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة فقال: وجدتها ضائعة، فأخذتها، فقال عريفه: يا أمير المؤمنين: إنه رجل صالح!! فقال: كذلك فقال نعم، فقال

عمر- رضي الله عنه- اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته". اللقيط والمنبوذ: هو الصغير الذي يوجد منبوذاً مطروحاً؛ فيلتقط، فإذا وجد صغيراً بهذه الصفة: لا يجوز تضييعه، ويجب على عامة المسلمين أخذه والتكفل به، وهو فرض على الكفاية، فإذا قام به بعضهم: سقط الفرض عن الباقين. وما على اللقيط من الثياب والدراهم المشدودة عليه، والحلي الذي عليه، والفراش الذي تحته، والدنانير المصبوبة تحت فراشه، أو كان على دابة أو بقربه دابة، وعنانها بيده، أو مشدودة على وسطه، أو كان في دار ليس فيها غيره: فكلها تكون له؛ كما أن [ما في يد البالغ] يكون محكوماً له به في الظاهر، وإن كان بقربه دابة ترعى أو مربوطة، أو ثياب، [أو متاع] موضوع، هل يحكم له بها؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يحكم له بها، بل هي لقطة؛ كما لو كانت بعيدة عنه؛ لأنه لا يد له عليها. والثاني: يحكم له بها؛ لأن الإنسان قد يترك ماله بقربه؛ كالذين يبيعون في الأسواق، وتكون أمتعتهم بين أيديهم، وهي لهم. وإن كان تحته دراهم مدفونة: لا يحكم له بها؛ فإن من جلس على أرض، وتحته دفين: لا يحكم له به؛ ولكنها إن كانت في موات، وهي بضرب الجاهلية: فهي ركاز، وإن كان بضرب الإسلام، أو في طريقة: فلقطة، وقال الشيخ القفال- رحمه الله: ليست بلقطة؛ بل هي بالدفن كالإبل الممتنعة: يدفعها إلى الإمام، وإذا أخذ اللقيط: هل يجب الإشهاد عليه وعلى ما معه؟ قيل: فيه وجهان؛ كما ف ياللقطة. وقيل وهو الأصح: يجب وجهاً واحداً؛ لأن اللقطة مال، والإشهاد في المال مستحب؛ كالإشهاد على البيع والإجارة، وفي اللقيط: يراد حفظ حريته ونسبه، وفي مثله: يجب الإشهاد؛ كعقد النكاح: يجب فيه الإشهاد. ثم إن كان الملتقط مسلماً حراً عدلاً مقيماً: يقر اللقيط في يده، وهو أولى بحفظه وحفظ ماله من غيره، ولا يحتاج في الإمساك إلى إذن الحاكم. وقيل: يحتاج في إمساك المال إلى إذنه، وتكون نفقة اللقيط وحضانته في ماله، إن كان معه مال، ولا يجوز للملتقط أن ينفق عليه من ماله بغير إذن الحاكم؛ فإن فعل: كان ضامناً؛

لأنه لا ولاية له عليه إلا الكفالة، فإن دفع الأمر إلى الحاكم: يأخذ الحاكم [ماله]، ويضعه عند أمين: يأمره بالإنفاق عليه بالمعروف، فإن قتر: منعه الحاكم من التقتير، وإن أسرف: فقرار الضمان على الملتقط؛ لأن الهلاك على يده، والأمين يكون طريقاً في وجوب الضمان عليه، فإن أقر الحاكم المال في يد الملتقط، وأمره بالإنفاق عليه: نص في "اللقيط" على جوازه، ونص في الضالة: إذا أمر الحاكم الواجد بأن ينفق عليها من مال نفسه: لا يجوز حتى يأخذ المال، فيدفعه على أمين: يدفع إليه بالمعروف، واختلف أصحابنا فيه، منهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الإنسان لا يجوز أني كون أميناً فيما يقبض من نفسه لغيره؛ كما لا يكون وكيلاً لصاحب الحق في القبض من نفسه. الثاني: يجوز؛ لأنه أمين على الطفل؛ فيجوز أن ينفق عليه مما في يده من ماله؛ كالوصي؛ ينفق على الصبي من ماله. ومنهم من فرق بينهما على ظاهر النص، وقال في الضالة: لا يجوز؛ لأنه ينفق الواحد عليها- من مال نفسه؛ فلا يكون أميناً فيما يجب له من الضمان، وهي اللقيط: ينفق عليه من مال اللقيط، وليس غير الملتقط أولى بذلك من الملتقط، ولأن اللقيط لا ولي له في الظاهر؛ فجاز أن يجعل الواجد ولياً له، وأما الضالة: فلها ولي، وهو مالكها، وربما يكون رشيداً لا يولى عليه؛ فلم يجز أني كون أميناً في الإنفاق عليها، وإن لم يكن هناك حاكم- ففيه قولان: أحدهما: ينفق عليه بنفسه، ويشهد عليه؛ لأنه موضع ضرورة، فإن لم يشهد: ضمن. والثاني: لا؛ بل يضعه عند أمين: ينفق عليه بالمعروف، فإذا بلغ اللقيط، واختلفا في قدر ما أنفق: فالقول قول الملتقط مع يمينه؛ إن كان ما يدعيه قصداً. وأما إذا لم يكن للقيط مال: تكون نفقته في بيت المال؛ لما روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فقالوا: في بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال مال، أو كان، ولكن يحتاج إلى صرفه إلى ما هو أهم: من قتال عدو هجمهم أو نحوه: ففيه قولان: أحدهما: نفقته وحضانته على عامة المسلمين: يخرجها الإمام على أهل الثروة من أهل البلد على قدر يسارهم ويعد نفسه فيهم، فإن امتنعوا: عصوا وقوتلوا عليه؛ كالفقير الزمن والمجنون الذي لا مال له: يكون القيام بنفقته على عامة المسلمين.

والقول الثاني: يستقرض الإمام على اللقيط؛ كالمضطر إلى المجاعة: يأخذ مال الغير لنفقته بالعوض؛ لأن اللقيط يجوز أن يكون له مال؛ فتكون نفقته في ماله، أو يكون له قريب تكون نفقته على قريبه من الوالدين والمولودين، وقد يكون عبداً؛ فتكون نفقته على مولاه، فإن لم يجد رجلاً بعينه يقرضه: قسطه الحاكم على أهل القرية قرضاً، ثم إن ظهر في بيت المال مال قبل بلوغ اللقيط: يؤدى ذلك القرض من بيت المال، وإن لم يظهر حتى بلغ: فيكون في ذمة اللقيط، فإن ظهر له مال: يؤدى منه، وإن لم يظهر، وله كسب: يؤدي- من كسبه، فإن لم يكن: فيؤدي الإمام من سهم المساكين والغارمين من مال الصدقات، وإن لم يكن: فهو في ذمة اللقيط إلى أن يجد، وإن بان عبداً: أخذ من مولاه. ولو أمر الحاكم الملتقط حتى يستقرض، فينفق عليه: يجوز، ولو أمره بالإنفاق عليه من مال نفسه؛ ليرجع: ففيه قولان؛ كما في الضالة، وإن كان الملتقط غير أمين: لا ينزل اللقيط في يده، بل ينتزع منه، ويكون عند أمين؛ وإن كان ظاهره الأمانة، ولم يختبر أمانة باطنه، فتركناه في يده، وأراد أن يسافر به: ينتزع من يده؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه؛ فإن كان مأموناً: ترك في يده، وإن كان الملتقط عبداً: ينزع من يده؛ لأن منافعه لغيره؛ فلا يتفرغ لحضانته، وإن أذن له السيد، أو علم، فأقره في يده ترك في يده؛ كما لو التقطه السيد وسلم إلى عبده ليربيه، وإن كانت امرأة: ترك في يدها؛ لأنها أهدى إلى الحضانة. وإن كان الملتقط ذمياً، والدار دار الإسلام، يسكنها المسلمون: ينزع منه؛ لأنه محكوم بالإسلام؛ فلا يترك في يد كافر، وإن قل فيها المسلمون. وإن كانت الدار دار المسلمين، ويسكنها المشركون، وهو قسمان: أحدهما: أن يفتح المسلمون بلداً من بلاد الشرك، وملكوها، وأقروا أهلها فيها، فإذا وجد فيها لقيط- نظر: إن كان فيها مسلم واحد: فاللقيط محكوم بالإسلام، وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين: فهو محكوم بالكفر. والقسم الثاني: أن يكون الدار دار الإسلام في الأصل، فانجلى أهلها، وغلب عليها الكفار، فسكنوها: فإذا وجد فيها لقيط، وليس فيها أحد من المسلمين قال أبو إسحاق- رحمه

الله: محكوم بالإسلام لأن أصل الدار للمسلمين، ويحتمل أن يكون فيها مسلم مختف، وهذا منه. والمذهب: أنه محكوم بالكفر؛ كالقسم الأول. وإن كانت الدار دار أهل الشرك- نُظر: إن لم يكن فيها مسلم: فاللقيط محكوم بالكفر، وإن كان فيها مسلمون أسارى وتجار: ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بكفره؛ تبعاً للدار. والثاني: يحكم بإسلامه؛ لاحتمال أن يكون من مسلم، فيغلب حكم الإسلام، فكل موضع حكمنا بإسلام اللقيط: فإذا التقطه كافر- ينزع منه. وإن كان الذي أخذ اللقيط بدوياً- نُظر. إن وجده في مصر أو قرية، وأراد الملتقط الإقامة في الموضع الذي وجد فيه: يقر في يده، وإن أراد الرجوع إلى البادية، وحمله مع نفسه: لا يترك، وينتزع منه؛ لمعنيين: أحدهما: لأن الذي ضيعه ربما يطلبه في موضعه، فنقله يؤدي إلى ضياع نسبه. والثاني: لأن البلد أرفق بالصبي، وفي نقله إلى البادية مشقة عليه. وإن كان الملتقط غريباً، أراد نقله إلى بلد آخر: فالمذهب: أنه ينتزع منه؛ لما في نقله من ضياع نسبه، وعلى المعنى الثاني: يترك في يده؛ لأن رفق البلد في حقه حاصل، وإن وجده في بادية- نظر: إن كان الواجد حضرياً أراد حمله إلى البلد: تُرك في يده؛ لأن في ذلك مصلحة له، وإن كان بدوياً، فأراد المقام [في البادية] نظر: إن كان له موضع رائب يأوي إليه: ترك في يده؛ لأنه كالمصر في حقه- وإن لم يكن له موضع رائب؛ لكنه من أهل النجعة؛ ينتقل- من مكان إلى مكان-: ففيه وجهان: أحدهما: ينتزع منه؛ لأن في نقله من مكان إلى مكان ضياع نسبه. والثاني: يترك في يده؛ لأن أطراف البادية في حقه كالبلد.

ولو وجد اللقيط رجلان: نظر: إن استوت حالتهما بأن كانا مسلمين حرين أمينين مقيمين: قال أبو إسحاق- رحمه الله-: إن كانا موسرين: فهما سواءٌ؛ يقرع بينهما؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] فمن خرجت قرعته: يسلم إليه، وإن كان الآخر خيراً له، إذا لم يكن هذا مقصراً عما فيه صلاحه، سواء كانا رجلين أو امرأتين، أو أحدهما امرأة؛ لأن المرأة تكون أهدى إلى الحضانة. ولا يترك في أيديهما، لأن اجتماعهما على حفظه غير ممكن، ولأن الحضانة لا تتبعض، ولا توضع على المهايأة، لأنه إذا ألف أحدهما يشق عليه مفارقته، وتختلف عليه الأخلاق والأغذية، فيتضرر به، ولا يسلم إلى ثالث؛ لأن الحق ثبت لهما؛ فلا ينقل إلى غيرهما، ولا يخير الصبي، وإن كان له سبع سنين، فأكثر؛ بخلاف الصبي فيالحضانة؛ فإنه يخير بين الأبوين بعد سبع سنين. وقيل: الأم أولى به؛ لأن أمره يدور على الشفقة بالولادة والتربية، ويؤثر ذلك في ميل القلب، وهذا معدوم في اللقيط، وليس كاللقطة: يجدها رجلان حيث قلنا: تقر في أيديهما، فيعرفانها ويملكانها؛ لأن طريقها طريق الكسب وتملك المال؛ وذلك يتبعض بخلاف الحضانة. فإن ترك أحدهما حقه: فهل ينفرد الآخر به؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ بل يرفع إلى الحاكم حتى يقره في يد الآخر؛ لأن الأول [أثبت له تلك] الولاية؛ فلا يملك بنفسه نقلها إلى غيره؛ كما لو انفرد بالتقاطه: لا يملك دفعه إلى غيره. والثاني: وهو المذهب: ينفرد به الآخر؛ لأن الحق ثبت لكل واحد منهما؛ فإذا ترك أحدهما حقه كان للآخر كحق الشفعة، إذا ترك أحد الشفيعين حقه: أخذه الآخر كله. فأما إذا اختلف حال الملتقطين؛ بأن كان أحدهما عبداً أو فاسقاً: فالحر الأمين أولى به، فيقر في يده، وإن كان أحدهما مسلماً، والآخر ذمياً؛ فإن كان اللقيط محكوماً بإسلامه: فالمسلم أولى، وإن كان محكوماً بكفره: فهما سواء، وإن كان أحدهما قروياً، والآخر بدوياً- فكل موضع قلنا: لو انفرد البدوي بالتقاطه- لا يترك في يده: فالقروي أولى به، وإن قلنا: يترك في يده: فهما سواءٌ، وإن كان أحدهما موسراً، والآخر معسراً: ففيه وجهان: قال أبو إسحاق- رحمة الله عليه-: الموسر أولى به؛ لأنه يكون في سعة من النفقة. والثاني: هما سواء؛ لأن نفقته لا تكون على الملتقط حتى ينفعه يساره.

فصل في جناية اللقيط والكلام فيه في فصلين: في جنايته، وفي جناية غيره عليه. أما اللقيط إذا جنى- نظر: إن جنى خطأ: تكون الدية في بيت المال؛ لأنه لا عاقلة له، وماله إذا مات مصروف إلى بيت المال إرثاً؛ فيكون أرش جنايته في بيت المال. وإن جنى عمداً: فإن كان بالغاً- فعليه القصاص، وإن عفي على الدية: فالدية في ماله، وإن كان مراهقاً: فلا قصاص عليه، بل تجب الدية، وفيه قولان: أحدهما: عمده خطأ؛ بدليل أنه لا يجب عليه القصاص. والثاني: عمده عمد؛ لأن القصد يتم منه، وإن لم يجب القصاص؛ لعدم التكليف. فإن قلنا: عمده خطأ: فتكون الدية مخففة في بيت المال، وإن قلنا: عمده عمد: فتكون مغلظة في ماله، إن كان له مال، وإن لم يكن له مال: فتكون في ذمته إلى أن يجد المال. أما إذا جني على اللقيط- نظر: إن قتل خطأ: تؤخذ الدية من عاقلة القاتل؛ فتوضع في بيت المال، ولا تكون للملتقط؛ لأن الولاء لا يثبت لغير المعتق، وإن قتل عمداً- فهل للسلطان استيفاء القصاص؟ فيه قولان: إن جعلناه كالوارث المتعين: يستوفي القصاص؛ وإلا يأخذ الدية، ويجعلها في بيت المال، وإن جني على طرفه: فإن كان خطأ: يأخذ وليه الدية، وينفق عليه، وإن كان عمداً: فإن كان اللقيط صغيراً عاقلاً: فليس لوليه أن يقتص، ولا أن يعفو وإن كان اللقيط معسراً، [بل يؤخر] حتى يبلغ، فيقتص أو يعفو، وإن كان اللقيط مجنوناً- نظر: إن كان موسراً: لا تؤخذ الدية، وينتظر إفاقته؛ كما ينتظر بلوغ الصبي، وإن كان معسراً: فللإمام أن يأخذ الدية، وينفق عليه؛ لأنه ليس لإفاقته أوان منتظر؛ بخلاف الصغير العاقل: فإن لبلوغه أواناً منتظراً؛ فينتظر بلوغه، فإذا عفا الإمام وأخذ الدية، ثم أفاق المجنون، ولم يرض به: هل له أن يرد الدية ويقتص؟ فيه وجهان: ولو قذف اللقيط محصناً دون البلوغ: يجب عليه الحد، ولو قذفه رجل بعد البلوغ: يجب على القاذف الحد، ولو اختلفا أو قذف مجهول النسب، فاختلفا: فقال القاذف: أنت

رقيق، فقال: بل أنا حر، أو جنى عليه رجل، ثم ادعى الجاني: أنه عبد، وقال: بل أنا حر: ففيه قولان: أحدهما: القول قول المقذوف، والمجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل من في دار الإسلام: على الحرية. والثاني: القول قول القاذف والجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته عن الحد والضمان، ولا ولاء لأحد على اللقيط؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل الولاء للمعتق، وروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه جعل ولاء اللقيط للملتقط". فصل: في التداعي وفيه ثلاثة فصول: أحدها: في دعوى الالتقاط. والثاني: في دعوى النسب. والثالث: في دعوى الرق. أما الأول: إذا تنازع رجلان في لقيط، فقال كل واحد: أنا التقطته- نظر: إن كان اللقيط في يد أحدهما، والآخر يدعي أنه غصبه مني: فالقول قول من في يده مع يمينه، وإن أقام الآخر بينة: أه كان في يدي انتزعه مني: دفع إليه، وإن لم يكن في يد واحد منهما: فلا حكم لدعواهما، بل الأمر فيه إلى الحاكم: يجعله في يد ثقة؛ إما واحد منهما أو غيرهما، وإن كان في أيديهما جميعاً: فإن خلفا أو نكلا أقرع بينهما كما لو التقطا معاً. وقيل: الحاكم يقره في يد أحدهما، ولا يسلمه إلى ثالث؛ لأن لهما عليه يداً؛ فلا يبطل ذلك، ولا يجوز تقريره في أيديهما جميعاً؛ لأن فيه إضراراً باللقيط. فإن حلف أحدهما: كان عند الحالف. وإن أقاما أحدهما بينتين: فبينه ذي اليد أولى، فإن لم يكن في يد واحد منهما، وكان في أيديهما- نظر: إن كانت البينتان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة: فهما متعارضتان. فإن قلنا: تسقطان: فهو كما لو لم تكن لواحد بينة. وإن قلنا: تستعملان: فلا يأتي قول القسمة، ولا الوقف، ويأتي قول القرعة؛ فيقرع

بينهما، ويسلم إلى من خرجت له القرعة، وإن كانت البينتان مؤرختين بتاريخين مختلفين بأن أقام أحدهما بينة أنه التقطه منذ شهر، والآخر أقام بينة أنه التقطه منذ عشرة أيام: يحكم لمن سبق تاريخه؛ بخلاف المال: لا يحكم فيه بسبق التاريخ، على أصح القولين؛ لأن مبنى أمر المال على التنقل، فإذا استويا في الملك والمال: لا يرجح بالسبق، والحضانة في أمر الملتقط ليست على التنقل، بل إذا ثبت لواحد: لا تنقل إلى غيره إلا بحكم حاكم، فكان السابق أولى؛ وكذلك: لو أقام من في يده البينة، وأقام الآخر بينة؛ أنه كان في يدي انتزعه مني: تقدم بينة من يدعي الانتزاع. فصل في دعوى النسب أما دعوى النسب؛ إذا ادعى حر مسلم نسب اللقيط: يلحق به سواء ادعاه الملتقط أو غيره، سواء كان المدعي من ذلك البلد أو غريباً؛ حتى لو ادعى عربي نسب لقيط في ديار العجم، أو رومي ادعى نسب لقيط في ديار الهند: يلحق به، ثم إن ادعاه غير الملتقط يؤخذ من اللقيط، ويسلم إليه؛ لأن الوالد أحق بكفالة الولد من غيره. ولو ادعى رجلان نسبه: يرى القائف: فبأيهما ألحقه: دفعه إليه، ولا يرجح باليد والالتقاط؛ لأن اليد لا تدل على النسب. ولو ادعاه الملتقط، ثم جاء آخر وادعاه: يرى مع الثاني القائف، فإن نفاه عنه: فهو للأول، وإن ألحقه بالثاني: يرى مع الملتقط، فإن نفاه عنه: كان للثاني، وإن ألحقه بهما، أو لم يلحق بواحد منهما، أو لم يكن قائف: يترك حتى يبلغ اللقيط فينتسب إلى من يميل طبعه إليه؛ فيلحق به، ولا حكم للانتساب قبل البلوغ، وعليهما نفقته؛ لأن كل واحد يقول: أنا أبوه، فإذا بلغ وانتسب إلى أحدهما: رجع الآخر عليه بما أنفقه، فإن انتسب إلى أحدهما، ثم وجد القائف: يرى القائف: فإن ألحقه القائف بالآخر: يقدم قول القائف؛ لأنه بمنزلة الحاكم والانتساب نوع تشه فإن ألحقه القائف بأحدهما، ثم أقام الآخر بينة: يلحق بمن أقام البينة؛ لأن البينة حجة والقيافة ظن، فلو انتسب إلى أحدهما عند عدم القائف، ثم رجع إلى الثاني: لا يقبل. وكذلك: لو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع، وألحقه بالآخر: لا ينقل إليه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وإن أقام كل واحد بينة: يسقطان، ولا يأتي قول استعمال البينتين ههنا؛ لأن قسمة الولد لا تمكن؛ وفي الوقف إضرار، ولا مدخل للقرعة في النسب.

ولو ادعى نسبه كافر: يلحق به، ولو تنازع في نسبه مسلم وذمي: يرى القائف، فإن أقاما بينتين: لا ترجح بينة المسلم، ثم إذا ألحقناه بالكافر نسباً: فهل يلحق به ديناً؟ قال الشافعي- رضي الله عنه- أحببت أن أجعله مسلماً في الصلاة عليه، وأن آمره بالإسلام، إذا أبلغ بغير إجبار؛ فهذا يدل على أنه لم يحكم بإسلامه، وقال في "كتاب الدعوى": نجعله مسلماً: اختلف أصحابنا فيه. قال أبو إسحاق: رحمه الله- هو الأصح: المسألة على اختلاف الحالين: فإن أقام الكافر بينة: ألحق به نسباً وديناً؛ لأنه ثبت بالبينة أنه ولد على فراشه، والمولود على فراش الكافر: يكون كافراً، وإن لم يقم بينة: يلحق نسباً، ولا يلحق به ديناً؛ لأنه محكوم بإسلامه بظاهر الدار: فلا يبطل ذلك بدعوى الكافر. ومنهم من قال: إن أقام بينة: يلحق به نسباً وديناً، وإن لم يقم: فعلى قولين. والأول أصح. فحيث قلنا: يلحق به ديناً: يستحب أن يسلم إلى مسلم احتياطاً. وإذا عقل الصبي، وكان يصف الإسلام قبل بلوغه: يمنع الذمي من أن يدعوه إلى دينه، فإن بلغ وامتنع من الإسلام: يخوفه رجاء أن يسلم، فإن لم يفعل، وأصر على الكفر: لا يجعله مرتداً؛ لأن إسلامه في حال الصغر غير صحيح. ولو ادعى نسب اللقيط عبد أو معتق: المذهب: أنه يلحق به؛ لأن ما ثبت به النسب في حق الحر: ثبت في حق العبد؛ كالنكاح ووطء الشبهة. وفيه قول آخر: أنه لا دعوة للعبد؛ لأن فيه إضراراً بالسيد، وهو قطع الميراث عنه بسبب الولاء في حق العتق، وفي حق العبد، لو أعتقه. ولو ادعاه حر وعبد، فإن قلنا: لا دعوة للعبد: يلحق بالحر، وإن قلنا: له دعوة: فهما سواء؛ يرى القائف. ولو أقاما بينتين: لا ترجح بينة الحر على بينة العبد، بل حكمه حكم الحرين إذا أقاما البينة: لا يختلف القول فيه، وإذا ألحقناه بالعبد: لا نجعله رقيقاً؛ [لأن أمر الرق لا يدور] على الأب. ولو ادعت امرأة نسب اللقيط أو نسب مجهول: ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: يقبل؛ كالرجل. والثاني: لا يقبل؛ وهو ظاهر النص إلا ببينة تقيمها؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على خروج الولد منها؛ بخلاف الرجل؛ فإنه لا يمكنه إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة. والثالث: إن كانت ذات زوج: لا يقبل؛ لأن إقرارها يتضمن إلحاق النسب بالزوج، وإن لم تكن ذات زوج: يقبل، فإن قلنا: يقبل، وكان لها زوج: فهل يلحق بالزوج؟ فيه وجهان: أحدهما: يلحق إلا أن ينفيه باللعان. والثاني: لا يلحق به ما لم يقر، كما لو أتت بولد، فقالت: ولدته، وقال الزوج: بل التقطته: لا يلحق به، والقول قوله مع يمينه في نفيه عن نفسه. أما إذا أقامت المرأة بينة عليه: يلحق بها وبالزوج إلا أن ينفيه باللعان. ولو ادعته امرأتان، ولا بينة لواحدة منهما؛ إن قلنا: لا دعوة للمرأة: فدعواهما ساقطة، وإن قلنا: لهما دعوة: إذا لم تكن ذات زوج: فإن كانت إحداهما ذات زوج: ألحق بالأخرى، وإن استويا، أو أقامتا بينتين: فهل يرى الولد معهما للقائف؟ فيه وجهان: أحدهما: يلي؛ كما في حق الرجلين. والثاني: لا يحكم بقول القائف في نسب المرأة؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على حصول الولد منها؛ فلا معنى للرجوع إلى القيافة والظن: فإن قلنا: يحكم بقول القائف؛ فإذا ألحقه القائف بأحدهما: يلحق زوجها إلا أن ينفيه باللعان، وإذا ادعت أمة نسبه: فهي كالحرة، إذا قلنا: للعبد دعوة، فإذا حكمنا بالنسب: هل يحكم بالرق لمولاها. قال الشيخ- رحمه الله- فيه وجهان؛ كما لو شهد الشهود: أنه ولد أمته: فكل موضع حكمنا بثبوت نسب اللقيط من رجل بدعواه، وكان اللقيط صغيراً أو مجنوناً، فبلغ أو أفاق، وأنكر نسبه: هل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا بثبوت نسبه؛ فلا يبطل. والثاني: يقبل؛ لأنا حكمنا به حين لم يكن له قول، والآن: صار من أهل القول، فيقبل قوله؛ كما لو ادعى نسب بالغ، فأنكر: لا يثبت.

أما الكلام في دعوى الرق. إذا ادعى رجل رق اللقيط؛ سواء ادعاه الملتقط أو غيره: لا يقبل إلا ببينة؛ لأن أصل الناس على الحرية؛ بخلاف ما لو كان في يد إنسان صغير، لم ير حدوث يده عليه، يدعي رقه: يحكم له بالرق؛ لأن الأصل أن ما في يده ملكه؛ فلو شهد الشهود: أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط: يقبل، ثم إذا ادعى المشهود له باليد رقه: يقبل؛ لأنا لم نر حدوث يده عليه. قال الشيخ- رحمه الله-: وكذلك: لو أقام الملتقط البينة أنه كان في يده قبل الالتقاط، ثم ادعى رقه: يقبل، فلو أقام من يدعي رق اللقيط بينة شهدت أنه ملكه ولدته أمته، أو شهدت أنه ولدته أمته في ملكه: حكم له بالملك، ولو شهدت أنه ولدته أمته: ففيه قولان: أحدهما: يحكم له بالملك؛ لأن الظاهر أنه ولد أمته في ملكه. والثاني: لا يحكم؛ لأنها قد تلد في ملك الغير، ثم يشتري هو الأم دون الولد، ويقبل فيه شهادة رجل وامرأتين؛ لأنه شهادة على ملك اليمين، فلو شهد أربع نسوة على أنه ولدته أمته، وقلنا: بالشهادة على ولادة الأمة من غير أن يتعرض- للملك-: يثبت الملك: فههنا: تثبت الولادة بشهادتهن، ويثبت الملك في ضمنه؛ كما لو شهدت على الولادة: يثبت النسب في ضمنه؛ ولو شهدت على أنه ملكه، ولدته أمته: ذكر شيخي- رحمه الله- أنه يثبت، وذكر الملكلا يمنع قبول الشهادة على الولادة، ثم الملك يثبت ضمناً، وإن كان الملك لا يثبت بشهادتهن صريحاً، ولو شهد الشهود للملتقط: أن اللقيط عبده أو ملكه، ولم يتعرضوا للولادة- نظر: إن بينوا سبب الملك، فقالوا: ورثه أو اشتراه أو اتهبه يقبل، وإن أطلقوا: ففيه قولان: أحدهما: يقبل؛ كما لو شهدوا له بملك مال آخر: يقبل، فإن لم يبينوا سببه. والثاني: وهو الأصح: لا يقبل؛ لأنهم قد يشهدون له بثبوت يده عليه بالالتقاط، ويد الالتقاط لا يدل على الملك، ولو كان المدعي غير الملتقط، فأنكر الملتقط، وحلف أنه ملكه: هل يحكم له بالملك باليمين مع اليد- فعلى قولين: فغن كان في يد إنسان صبي، لم ير حدوث يده عليه، يدعي رقه- يحكم له بالملك؛ سواء كان الصبي طفلاً أو مراهقاً، يقر بالرق أو ينكر؛ لأنه لا حكم لقوله، فلو بلغ الصبي وأقر بالرق لغير من في يده: لا يقبل، وإن ادعى أنه حر: هل يقبل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا برقه في الصغر؛ فلا يبطل؛ غير أن له تحليف السيد.

والثاني: يقبل قوله إلا أن يقيم السيد البينة على رقه؛ لأنا حكمنا برقه حين لم يكن له قول، فإذا صار من أهل القول: كان القول قوله؛ كما لو ادعى رق بالغ: لا يقبل إلا ببينة أو بإقرار من المدعى عليه. نظيره: ما ذكرنا فيما لو ادعى نسب صغير، وحكمنا به، فبلغ، وأنكر- فهل يقبل؟ فيه وجهان: وأصله الصبي الذي حكمنا بإسلامه تبعاً لأحد أبويه أو للسابي، فبلغ وأعرب عن الكفر: هل يجعل مرتداً أم يكون كافراً أصلياً؟ فيه قولان. وقيل: إذا كان الصبي مراهقاً ينكر الرق: فإذا بلغ وادعى أنه حر: يقبل وجهاً واحداً. والصحيح: أنه كالطفل. وإذا ادعى نكاح صغيرة في يده: قال ابن الحداد: يقبل؛ كالرق. وقال غيره: لا يقبل؛ بخلاف الرق؛ لأن هناك يدعي ملك رقبته، ويده عليها ثابتة وفي النكاح: [يدعي] ملك نصفها، واليد لا تثبت على منفعة البضع. فصل في إقرار اللقيط بالرق لا خلاف أن اللقيط، إذا قامت بينة على رقه: يحكم به، وتنقض جميع تصرفاته، ويسترد ما أعطي من الميراث والزكاة وما أنفق عليه من بيت المال، أو أعطي في جنايته، وتُباع رقبته في جميعها، إلا أن يفديه المولى. ولو بلغ اللقيط، فباع واشترى، وتصرف، ونكح على حكم الأحرار، ثم أقر على نفسه بالرق لإنسان- نظر: إن كان قد تقدم منه إقرار بالحرية: لا يقبل إقراره بالرق؛ لأنه لزمه أحكام الأحرار بالإقرار السابق في العبادات والمعاملات؛ فلا يقبل إقراره في إسقاطها، وإن لم يتقدم منه

إقرار بالحرية- لا يخلو: [إما إن صدقه] المقر له أو كذبه؛ فإن صدقه، أو ادعى المدعي ابتداء رقه، وصدقه اللقيط: قال الشافعي- رحمه الله-: ألزمته ما لزمه قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان، اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: في أصل قبول إقراره قولان: أحدهما: لا يقبل إقراره؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، وقد لزمته حقوق؛ فهو بإقراره يريد إسقاطها عن نفسه؛ فلا يقبل، كما لو أقر بالرق بعدما أقر بالحرية على نفسه: لا يقبل بالاتفاق. والثاني: يُقبل؛ لأنا حكمنا بحريته من حيث الظاهر؛ فيجوز أن يتغير حكمه بالإقرار؛ كمن حكمنا بإسلامه تبعاً للدار، ثم بلغ وأعرب عن الكفر: كان كافراً أصلياً؛ على الأصح؛ فهو كما لو قامت بينة على رقه: يحكم برقه، وتبطل تصرفاته. ومن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: يقبل إقراره بالرق قولاً واحداً، ويكون حكمه في المستقبل حكم الأرقاء، وهل يقبل فيما [ضر غيره من الأصل فيما] له وعليه، وتبطل جميع تصرفاته أم يقبل فيما ضره، ولا يقبل فيما ضر غيره؟ فيه قولان: وقوله: "وفي إلزامه الرق قولان" أراد: في إلزامه أحكام الرق قولان: أحدهما: يقبل إقراره في الكل؛ كما لو قامت بينة على رقه؛ لأن التهمة قد انتفت عن إقراره؛ فإن الغالب: الإنسان لا يرق نفسه لضرر يلحق الغير؛ كالعبد: إذا أقر على نفسه بالقصاص يقبل، وإن كان في إقراره إبطال حق المولى. والقولى الثاني: يقبل إقراره فيما ضره، ولا يقبل فيما ضر الغير، وهو الأصح؛ كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره، يقبل إقراره فيما عليه، ولا يقبل فيما على غيره. وبيان التفريع على القولين: إن قلنا [على القول] الأول: إنه يقبل إقراره من الأصل فيما له وعليه، فإن كان قد باع شيئاً: فبيعه باطل، وإن كان المبيع قائماً في يد المشتري: أخذه المقر له، وإن كان هالكاً: أخذ قيمته، وإن كان العبد قد أخذ الثمن، وهلك في يده: يكون في ذمته إلى أن يعتق، وإن كان قد اشترى شيئاً: فشراؤه باطل، فإن كان ما اشترى قائماً: رده إلى بائعه، وإن كان هالكاً: يسترد الثمن من البائع، وقيمة المبيع في ذمة العبد للبائع إلى أن يعتق، ولا يعطي مما في يده، وإن كان قد نكح: فنكاحه فاسد؛ لأنه نكح بغير إذن

المولى، وإن لم يكن قد دخل بها: لا شيء عليه، وإن كان قد دخل بها: فيجب مهر المثل، ويتعلق بذمته حتى يعتق؛ على أصح القولين؛ كالعبد: إذا نكح نكاحاً فاسداً، فوطئ، وإن كانت جارية، فزوجها الحاكم: فالنكاح فاسد؛ لأنها نكحت بغير إذن مولاها، فإن كان قبل الدخول: لا شيء على الزوج، وإن كان بعد الدخول: فعليه مهر المثل للمقر له، سواء كان قد ساق إليها المهر أو لم يسق، ثم إن كان قد ساق إليها: يسترد، إن كان قائماً، وإن كان تالفاً: فيرجع عليها بعد العتق، وأولاده منها أحرار، وعليه قيمتهم للمقر له، ثم يرجع عليها بقيمة الولد بعد العتق، وهل يرجع بالمهر؟ فيه قولان، ويجب عليها أن تعتد بقرين؛ لأنها جارية موطوءة بشبهة النكاح. هذا تفريع على قولنا: أن إقراره مقبول فيما له وعليه. فأما إذا قلنا: إنه يقبل إقراره فيما ضره، ولا يقبل فيما ضر غيره: فإن كان قد باع شيئاً: لا يبطل البيع؛ لتعلق حق المشتري به، ثم المشتري: إن لم يكن دفع الثمن: دفعه إلى المقر له، وإن كان قد دفع إلى العبد: لا شيء عليه؛ لأن إقراره غير مقبول فيما ضر الغير، وإن كان قد اشترى شيئاً، ودفع الثمن: فقد تم البيع، وإن لم يكن دفع الثمن: فإن كان في يده مال حالة الإقرار: دفع الثمن منه، والفضل يكون لسيده، وإن لم يكن في يده مال: فهو كإفلاس المشتري، فإن كان المبيع قائماً: للبائع أن يفسخ البيع، [ويسترد المبيع] إن شاء، وإن شاء أجاز. قال الشيخ- رحمه الله-: ويباع المبيع في حقه، وإن كان المبيع هالكاً: فالثمن في ذمته، حتى يعتق؛ كما لو أفلس المشتري بالثمن بعد هلاك المبيع: يكون الثمن في ذمته حتى يوسر، وإن كان قد نكح: يحكم بانفساخ النكاح؛ لأن ضرره يعود إليه، ثم إن كان قبل الدخول: يجب عليه نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول: فجميع المسمى؛ لأن قوله لا يقبل في إسقاط حقها، ويؤدي من مال أو كسب، إن كان له؛ وإلا فحتى يعتق، وإن كانت جارية، فزوجها الحاكم: لا يحكم بانفساخ النكاح؛ لأن فيه إضراراً بالزوج، وللزوج الخيار بين فسخ النكاح وإجازته؛ فإن فسخ النكاح: فلا مهر عليه، إن كان قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول: يجب عليه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل: لا يقبل إقرارها في الزيادة عليه؛ لأنه يتضرر به الزوج. وإن كان مهر المثل أقل: فإقرارها بالنقصان عن المسمى مقبول؛ لأنه يضرها.

وإن كان قد دفع الصداق إليها: لا يجب عليه ثانياً، ولو أجاز العقد: فعليه المسمى، فإن طلقها بعد الإجازة وقبل الدخول عليه: عليه نصف المسمى. وإن كان قد ساق إليها: لا يجب عليه ثانياً، والأولاد الذين حصلوا قبل الإقرار أحرار، ولا يجب على الزوج قيمتهم؛ لأن قولها غير مقبول فيما يضر الغير. وإن أجاز العقد: فما حصل بعدهم من الأولاد أرقاء للمقر له؛ لأنه يطؤها على علم أنها أمة، وهو الذي جلب هذا الضرر إلى نفسه باختيار المقام معها. وإذا طلقها الزوج بعد الإقرار: يجب عليها أن تعتد بثلاثة أقراء، ويجوز له الرجعة في جميعها، وإن مات عنها: فعليها عدة أمة: شهران وخمس ليال. والفرق: أن عدة الطلاق حق الزوج؛ تجب لصيانة مائه؛ بدليل أنه لا يجب قبل الدخول؛ فلا يقبل إقرارها في إسقاط حق الزوج، وعدة الوفاة حق الله تعالى؛ ألا ترى أنها تجب قبل الدخول، وإقرار اللقيط مقبول فيما يسقط حقوق الله تعالى من العبادات؛ فقبل قولها في نقصان عدة الوفاة؛ لأن ضرره لا يعود إلى الغير. قال الشيخ- رحمه الله-: وكذلك: لو أقرت بالرق في خلال عدة الطلاق: تكمل عدة الحرائر، وفي خلال عدة الوفاة: تقتصر على عدة الإماء. وجناية هذا الشخص بعد الإقرار بالرق: كجناية العبيد، سواء جنى هو أو جني عليه. أما الجناية قبل الإقرار- نظر؛ إن جنى هو- على إنسان عمداً، ثم أقر بالرق: يجب عليه القصاص، سواء كان لامجني عليه حر أو عبداً؛ على القولين جميعاً. وإنما أوجبنا القصاص عليه، وإن كان المجني عليه عبداً؛ لأن إقراره فيما يضره مقبول. وإن جنى خطأ؛ فإن كان في يده مال: أخذ الأرش منه، وإن لم يكن في يده مال: تباع رقبته فيه على القولين جميعاً. فأما إذا جنى عليه، ثم أقر بالرق- نظر: إن كانت الجناية عمداً، وكان الجاني عبداً: يقتص منه، فإن كان حراً: لا يقتص منه؛ لأن قوله فيما ضره مقبول، بل هو كالخطأ. وإن جنى عليه خطأ، ثم أقر بالرق؛ فإن قلنا: إقراره مقبول في الكل: فعلى الجاني كمال قيمته، إن كان قتلاً، وإن قطع يداً: فنصف قيمته. وإن قلنا: لا يقبل إقراره فيما يضر الغير: فعلى الجاني أقل الأمرين في قيمته أو الدية؛ لأن الدية: إن كانت أقل: فلا يقبل قوله في الزيادة؛ لأنه يضر الغير، وإن كانت القيمة أقل: فإقراره بالنقصان مقبول.

هذا كله فيما إذا أقر اللقيط- أو مجهول النسب بالرق لإنسان، وصدقه المقر له: فإن كذبه المقر له: بطل إقراره، فلو أقر بعده بالرق لآخر: فالمذهب: أنه لا يقبل. وقال ابن سريج: يقبل؛ كما لو أقر بالدار لإنسان؛ فكذبه المقر له، ثم أقر بها لآخر: يقبل، والأول هو المذهب؛ لأن إقراره الأول تقديره: أنه لا يملكه أحد سواه. وإذا رد الأول إقراره: خرج عن أن يكون مملوكاً لأحد، ورجع إلى أصل الحرية، فصار كما لو أقر على نفسه بالحرية، ثم أقر بالرق بعده: لا يقبل، وليس كالإقرار بالدار؛ لأن برد الأول: إقراره لا يخرج الدار عن أن تكون مملوكة: ولو أنكر المقر، ثم ادعاه بعده: لا يقبل؛ لأنه التحق بأصل الحرية بإنكاره؛ فلا يعود ملكاً له، فإن قلنا: بظاهر المذهب: أن إنكار اللقيط بالرق مقبول: فلو ادعى رجل رقه، فأنكر، ثم أقر بعده: هل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه لزمه أحكام الأحرار بالإنكار؛ كما لو أقر أنه حر. والثاني: يقبل؛ كما لو أنكرت المرأة مراجعة الزوج إياها، ثم أقرت: قبل إقرارها، وردت إلى الزوج، وعلى هذا: لو ادعى رجل رق لقيط أو مجهول نسب، فأنكر، ولا بينة للمدعي: فهل له تحليف المدعى عليه أم لا؟ هذا يبنى على أنه لو أقر بالرق على نفسه: هل يقبل أم لا؟: إن قلنا: يقبل إقراره؛ فللمدعي أن يحلفه؛ رجاء أن يقر به. وإن قلنا: لا يقبل: لا نحلفه؛ لأن اليمين لطلب الإقرار، وإقراره غير مقبول، والله أعلم. فصل في رد الآبق إذا قال: إن رددت عبدي- فلك هذا الثوب، فرده: يستحقه، فلو تلف الثوب في يد الجاعل- نظر: إن تلف قبل الشروع في العمل؛ فإن علم وشرع في العمل: لا يستحق شيئاً؛ لأنه عمل مجاناً، وإن لم يعلمه فعمل، ورد: يستحق أجر المثل، وكذلك: لو تلف الثوب في خلال العمل: يستحق أجر المثل، ولو تلف بعد رد العبد: ماذا يجب على الجاعل؟ فيه جوابان؛ بناءً على أن الصداق في يد الزوج مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد، وفيه قولان: إن قلنا: ضمان العقد: يجب أجر المثل. وإن قلنا: ضمان اليد: فقيمة الثوب. وهذا بخلاف ما لو تلف قبل الفراغ من العمل: يستحق أجر المثل، وجهاً واحداً؛ لأن ثم

لم يملك الثوب، حتى يستحق قيمته، وههنا: قد ملك، وهذا بخلاف ما لو أجر داره بثوب، فتلف الثوب في يد المستأجر بعد مضي السنة: تنفسخ الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل: لأنه محض معاوضة، كما لو تلف المبيع قبل القبض بعدما قبض الثمن، وتلف: عليه رد قيمة الثمن، وهذا ليس بمعاوضة محضة؛ كالصداق. قال الشيخ- رحمه الله-: ينبغي أن يكون هذا كالإجارة. أهـ. تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس وأوله: "كتاب الفرائض"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الخامس يحتوي على الكتب التالية الفرائض - الوصايا- الوديعة- قسم الفيء - قسم الصدقات النكاح - الصداق - الخلع منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب الفرائض

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الفرائض رُوي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما. إذا مات الميت يُبدأ من ماله بفنه، ومؤنة تجهيزه؛ لأن المال ينتقل على الوارث باستغناء الميت عنه. والكفن والتجهيز لا يستغنى عنه الميت، فيقدم على الميراث من رأس المال، ثم يقضي

ديونه من رأس ماله، ثم تُنفذ وصاياه من ثلثه؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].

ثم يقسم الباقي بين الورثة، وكان الناس في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف والنصرة، فكان الرجل يحالف الرجل، فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، تنصرني وأنصرك، ترثني وأرث، يتوارثون به، ثم كانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة، فكان القريبان المسلمان إذا هاجر

أحدهما، ولم يهاجر، الآخر- لا يتوارثان، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. فصار ذلك منسوخاً بقوله - عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وكانت الوصية واجبة للأقارب قبل نزول آية الميراث؛ قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ثم نسخت بآية الميراث. والذي استقر عليه الأمر أن الأسباب التي يتوارث بها ثلاثة: نسب، ونكاح، وولاء. يعني بالنسب: أن القرابة يرث بعضهم من بعض. وبالنكاح: أن أحد الزوجين يرث صاحبه. وبالولاء: أن المعتق يرث المعتق، فأما المعتق فلا يرث المعتق؛ لأن التوريث بمقابلة النعمة في الولاء، والنعمة للمعتق على المعتق. والوارثون من الرجال عشرة: الابن، وابن الابن، وإن سفل. والأب، والجد أب الأب، وإن علا، والأخ، سواء كان من الأب، والأم أو من الأب، أو من الأم، وابن الأخ للأب والأم، أو للأب وإن سفل، والعم للأب والأم، أو للأب وإن علا، وابن العم للأب والأم، أو للأب، وإن سفل، والزوج والمعتق وكل من انفرد من هؤلاء لا يجوز جميع التركة إلا الأخ للأم، والزوج. والوارثات من النساء سبع. البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم، والجدة أم الأم، أو أم الأب وإن علت، والأخت، سواء كانت لأب وأم، أو لأب، أو لأم. والزوجة والمعتقة. وأحد من هؤلاء لا يجوز جميع التركة إلا المعتقة. وستة من هؤلاء لا يرد عليهم حجب الحرمان من غيرهم؛ ثلاثة من الذكور، وثلاث من الإناث. فمن الذكور: الأب، والابن، والزوج. ومن الإناث: الأم، والبنت، والزوجة.

والأسباب التي تمنع الميراث أربعة: اختلاف الدين والرق، والقتل، وعمى الموت. يعني باختلاف الدين: أن الكافر لا يرث المسلم، ولا المسلم الكافر؛ لما روي عن أسامة بن زيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم الافر والكافر المسلم فأما الكفار

يرث بعضهم من بعض، وإن اختلفت مللهم؛ كاليهودي من النصراني، والنصراني منه، ومن المجوسي والوثني؛ لأن الكفر كله، ملة واحدة. واختلاف الأديان في الكفر؛ كاختلاف المذاهب في الإسلام - لا يمنع التوارث. والذمي مع المعاهد، والحربي يتوارثان. وقال شريح، والزهري، والأوزاعي: لا توارث بين اليهود والنصارى، ولا ببن أهل ملتين مختلفتين.

أما المرتد فلا يرث أحداً؛ لا مسلماً، ولا كافراً أصلياً، ولا مرتداً، ولا يرثه أحد؛ لا مسلم، ولا كافر، ولامرتد؛ لأنه لايدلي إلى أحد بدين يقرُّ عليه. وقال الثوري، وأبو حنيفة: يرث المسلم من المرتد ما اكتسبه في الإسلام. وقال ابن مسعود: يرث المسلم منه جميع ماله؛ وهو قول الشعبي، والأوزاعي، وحديث أسامة حجة عليهم.

ويعني بالرق أن الرقيق لا يرث أحداً؛ لأنا لو ورثناه، كان ملكاً لسيده؛ لأن العبد لا ملك له، وكان منه توريث الأجنبي، ولا يرثه أحد، لأنه لا ملك له، سواء كان الرقيق قِنَّا، أو مدبراً، أو مكاتباً، أو أم ولدٍ له. فأما من بعضه حر، وبعضه رقيق؛ فلا يرث؛ لأنا لو ورثناه كان بعضه ملكاً لمولاه الأجنبي، وهل يورث منه ببعضه الحرِّ؟ فيه قولان: أحدهما: وهو قوله القديم، لا يورث كما لا يرث وقال في الجديد وهو الأصح: يورث منه؛ لأن ملكه تام على ما في يده. فإن قلنا: لا يورث فما تركه لمن يكون؟ فيه وجهان:

أصحهما: يكون للسيد؛ لأن المانع من الإرث ملكه؛ فكان المال له. والثاني: يكون لبيت المال؛ لأن السيد أخذ نصيبه في الحياة. وقال علي، وابن مسعود: من نصفه حر، ونصفه رقيق - يرث؛ ويحجب بنصفه الحر فإن كان ابناً، فللزوجة معه ثمن، ونصف، وللأم سدس، ونصف. ويعني بالقتل: أن القاتل لا يرث المقتول؛ لما رُوي عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئاً".

ولأنه قصد بالقتل استعجال الميراث فعوقب بحرمانه، سواء كان القتل عمداً، أو خطأً بالمباشرة أو بالتسبيب من مكلف، أو غير مكلف، وسواء كان موجباً للقصاص، أو الدية، أو

الكفارة، حتى لو رمى إلى صف الكفار سهماً في الجهاد، ولم يعلم أن فيهم مسلماً، فأصاب مورثه المسلم - فلا دية عليه، [وعليه الكفارة]، ويحرم الميراث. أما المقتول قد يرث القاتل بأن خرج مورثه؛ فإن مات المجروح من تلك الجراحة - لا يرثه الجارح؛ وإن مات الجارح أو لا يرثه المجروح. أما القتل المباح فلا يحرم الميراث على ظاهر المذهب، وهو أن يقتل مورثه قصاصاً، أو كان قاضياً فقتل مورثه في حد، أو قطع يده بسرقة، أو جلدة في حد، فمات منه، سواء ثبت القتل عليه بإقراره، أو - ببينة قامت عليه. وقيل: الكل يمنع الميراث؛ لظاهر الخبر. وإن كان قتلاً، لا يجوز قصده؛ مثل إن قتل الصائل على نفسه، أو على ماله في الدفع؛ فالدفع مباح لا القتل، وهل يحرم الميراث؟ فيه قولان: أشبههما بظاهر الحديث حرمان الميراث، وكذلك العادل مع الباغي إذا قتل أحدهما صاحبه في حال القتال: ففيه أقاويل: أشبهها بالحديث حرمان الميراث. والثاني: [لا يتوارثان] وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها متأولان. والثالث: يرث العادل؛ لأنه محق، ولا يرث الباغي، وعند أبي حنيفة: قتل الصبي والمجنون، والقتل بالتسبب لا يوجب حرمان الميراث، والحديث حجة عليه، ولأنه قتل مضمون، فيتعلق به حرمان الميراث؛ كالبالغ يقتل مباشرة. ويعني بعمى الموت: أن المتوارثين إذا عمى موتهما؛ بأن انهدم عليهما [بناء] أو غرقا في ماء، أو [غابا فماتا]، فلم يدر أيهما سبق موته - لا يرث أحدهما من صاحبه، بل ميراث كل واحد منهما لورثته الأحياء، سواء احتمل موتهما معاً، أو تيقن سبق أحدهما، ولم يعرف السابق. بيانه: أب وابن عمى موتهما، ولكل واحد منهما بنت، يجعل كأن الأب مات عن بنت، وبنت ابن؛ فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، ويجعل كأن الابن مات عن بنت وأخت؛ فللبنت النصف، والباقي للأخت، وإن عرف سبق موت أحدهما، ثم اشتبه - يوقف الميراث على الصحيح من المذهب.

وقيل؛ يُقسم كما لو لم يُعرف. وقال ابن مسعود في عمى الموت: يرث كل واحد من صاحبه، سواء ما ورث هو منه، ومن لا يرث بسبب من هذه الأسباب لا يحجب الغير عن الميراث. فصل في بيان الحجب الحجب حجبان. حجب حرمان. وحجب نقصان.

أما حجب الحرمان؛ فكما أن أقرب العصبات يسقط الأبعد، والأم تسقط الجدات كلهن. وأولاد الأم يسقطون بأربعة: بالأب، والجد، وإن علا، والولد، وولد الابن، وإن سفل. وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة: بالأب، وبالابن، وابن الابن، وإن سفل. وأما حجب النقصان؛ فكما أن الولد، وولد الابن يرد الزوج من النصف إلى الربع، ويرد الزوجة من الربع إلى الثمن، ويرد الأم من الثلث إلى السدس، وكذلك الاثنان فصاعداً من

الإخوة والأخوات من أي جهة كانوا، يردون الأم من الثلث إلى السدس، ومن لا يرث لسبب كقر، أو رق، أو قتل - لا يحجب الغير - عن الميراث. ولو مات عن أبوين وأخوين - فالأخوات لا يرثان، ولكن يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. وكذلك لو مات عن جد وأخوين لأب، وأم. فللأم السدس، والباقي للجد. فإن كان الأخوان رقيقين، أو قاتلين، أو كافرين - فلا يحجبان - فللأم الثلث، والباقي للأب والجد. فصل في بيان الفروض الفروض ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. أما النصف: فرض خمسة: فرض الزوج، إذا لم يكن للزوجة الميتة ولد، ولا ولد ابن، وفرض البنت الواحدة للصلب، إذا لم يكن للميت ولد الصلب غيرها. وفرض البنت الواحدة للابن، إذا لم يكن للميت ولد الصلب، ولا في درجتهما من أولاد الابن غيرها. وفرض الأخت الواحدة للأب والأم. وفرض الأخت الواحدة للأب، إذا لم يكن معها غيرها، ولا من أولاد الأب والأم أحد. وأما الربع فرض اثنين. فرض الزوج إذا كان للزوجة الميتة ولد، أو ولد ابن. وفرض الزوجة والزوجات الأربع، إذا لم يكن للزوج الميت ولد، ولا ولد ابن. وأما الثمن، ففرض الزوجة والزوجات الأربع، إذا كان للميت ولد أو ولد ابن. والثلثان: فرض كل اثنين فصاعداً، ممن لو انفردت واحدة منهن كان لها النصف، ففي الحقيقة هو فرض أربعة. فرض البنتين للصلب فصاعداً. وفرض البنتين للابن فصاعداً. وفرض الأختين للأب والأم فصاعداً. وفرض الأختين للأب فصاعداً. وأما الثلث: ففرض ثلاثة: فرض الأم، إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، ولا اثنان من

الإخوة أو الأخوات. وفرض الاثنين فصاعداً من أولاد الأم، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. وفرض الجد مع الإخوة، إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض، وكان الثلث خيراً له من المقاسمة معهم. أما السدس: فرض سبعة. فرض الأب إذا كان للميت ولد، أو ولد ابن. وفرض الجد إذا كان للميت ولد، أو ولد ابن، ومع الإخوة في بعض الأحوال. وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، أو اثنان من الإخوة أو الأخوات. وفرض الجدة والجدات. وفرض الواحد من أولاد الأم؛ ذكراً كان أو أنثى. وفرض بنات الابن مع البنت الواحدة للصلب تكملة الثلثين. وفرض الأخوات للأب مع الأخت الواحدة للأب والأم تكملة الثلثين. أما ثلث ما تبقى يأتي من ثلاث مسائل: في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، وفي مسائل الجد. باب المواريث قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]. إذا ماتت امرأة ولها زوج، ولا ولد لها ولا ولد ابن - فلزوجها النصف، وإن كان لها ولد أو ولد ابن - فله الربع. وإن مات رجل وله زوجة، وليس له ولد ولا ولد ابن - فلها الربع؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12] فإن كان له ولد أو ولد ابن - فلها الثُّمن؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] واسم الولد ينطلق على الولد، وولد الابن، وإذا كانت زوجتان أو أربع زوجات - يشتركن في الرُّبع والثُّمن. فصل في ميراث الأولاد قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] الابن يجوز جميع المال عند الانفراد، وللبنت الواحدة النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان. وإذا خلف بنين وبناتٍ - فالمال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا اجتمع أولاد

الابن مع ولد الصلب - نُظر: إن كان في ولد الصُّلب ذكر - فلا شيء لأولاد الابن، وإن لم يكن فيهم ذكرٌ؛ فإن كان ولد الصلب بنتاً واحدة - فلها النصف، ثم إن كان ولد الابن ذكراً - فالباقي له، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً - فالباقي بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء كانوا من أب واحد أو من آباء. وإن كان ولد الابن إناثاً - فلهن السدس تكملة الثلثين، واحدة كانت أو أكثر. ولو خلف بنتاً وبنت ابن، وابن ابن ابن - فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي لابن ابن الابن وإن سفل. وإن كان ولد الصلب ابنتين فصاعداً - فلهن الثلثان وإذا استوفت البنات الثلثين -فلا شيء لبنات الابن، إلا أن يكون في درجتهن أو أسفل منهن ذكرٌ فيعصبهن، ولا يعصب من هي أسفل منه، مثل: إن مات عن ابنتين وبنت ابن - فللبنتين الثلثان، ولا شيء لبنت الابن، فن كان معها أو أسفل منها غلام - فالباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. وأولاد الابن بمنزلة أولاد الصلب عند عدمهم، ومنزلة من هو أسفل منهم معهم منزلة ولد الابن مع ولد الصلب. مثل إن خلف بنت ابن، وبنت ابن ابن - فللبنت الابن النصف، ولبنت ابن الابن السدس. فصل في ميراث الإخوة قال الله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] أولاد الأب والأم في الميراث بمنزلة أولاد الصلب، فالأخ إذا انفرد له كل المال، وللأخت الواحدة النصف، وللأختين فصاعداً الثلثان، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء - فللذكر مثل حظ الأنثيين، وأولاد الأب مع أولاد الأب والأم بمنزلة أولاد الابن مع ولد الصلب، فإن كان في ولد الأب والأم ذكر - فلا شيء لولاد الأب، وإن لم يكن فيهم ذكر؛ نظر: إن كان ولد الأب والأم أختاً واحدة - فلها النصف، ثم إن كان ولد الأب أخاً - فالباقي له. وإن كانوا ذكوراً وإناثاً - فالباقي بينهم؛ للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كان ولد الأب إناثاً: واحدة أو أكثر - فلهن السدس تكملة الثلثين. وإن كان ولد الأب والأم أختين فأكثر - فلهن الثلثان، ولا شيء للأخوات للأب، إلا أن يكون معهن ذكر، فيكون الباقي بينهم؛ للذكر مثل حظ الأنثيين. وأولاد الأب. بمنزلة أولاد الأب والأم عند عدمهم، إلا في مسألة المشركة، وهي زوج، وأم، أو جدة وابنان من أولاد الأم، وأخ لأب وأم فأكثر، بعد أن يكونوا ذكوراً، [أو

ذكوراً] وإناثاً- فالمسألة من ستةٍ: للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولأولاد الأم الثلث، ويشاركهم أولاد الأب والأم في ذلك الثلث، فتقسم بينهم، فإخوة الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء؛ وهو قول عثمان وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن عمر وزيد. وقال الثوري، وأبو حنيفة: لا شيء لأولاد الأب والأم؛ وهو قول علي، وابن عباس. وتسمى هذه المسألة الحمارية؛ لأنه روي أن عمر كان لا يورث أولاد الأب والأم، فقالوا: هب أن أبانا كان حِماراً، ألسنا بنو أم واحدة فشركهم. فإن كان مكان الإخوة للأب والأم إخوة لأب - فلا شيء لهم بالاتفاق، وإن كان ولد الأم واحداً فله السدس، والباقي للأخ للأب والأم، أو للأب، ولا مشاركة، وإن كان ولد الأب والأم، أو ولد الأب إناثاً - يفرض لهن، وتعول: المسألة بقدر فروضهن: وللواحد من أولاد الأم السدس، ذكراً أن أو أنثى، وللاثنين فصاعداً الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء؛ لقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]. وكان ابن مسعود يقرأ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنَ الأمِّ}. الأخوات للأب والأم، أو للأب مع البنات وبنات الابن - عصبات، حتى لو مات وخلف بنتاً، وأختاً لأب وأم، أو لأب - فللبنت النصف، والباقي للأخت. ولو مات عن بنتين وأخت. فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت. ولو مات عن بنت، وبنت ابن، وأخت - فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي - للأخت. والدليل عليه ما رُوي عن هُذيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتعابعني. فسئل ابن مسعود، وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت.

فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم". فإن كان مع البنت أخت لأب وأم، وأخت لأب - فالباقي بعد نصيب البنت [للأخت] للأب والأم، ولا شيء للأخت للأب؛ كما لو كان له أخ لأب وأم، وأخ لأب - كان الباقي [للأخ] للأب والأم. وأربعة من الذكور يعصبون الإناث: ابن الصلب يعصب البنت؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ...} [النساء:11]. وابن الابن وإن سفل يعصب من في درجته من الإناث بكل حال، وإن كانت ابنة عمه، ويعصب من فوقه إذا لم تأخذ من الثلثين شيئاً. والأخ للأب والأم يعصب أخته، والأخ للأب يعصب الأخت للأب؛ فيجعل المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176]. فصل في "ميراث الآباء" قال الله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ....} [النساء: 12]. الأبُ إذا انفرد حاز جميع المال، فإن كان للميت ولد - فللأب السدس، ثم إن كان الولد ذكراً فالباقي له، وإن كان أنثى أخذت فرضها، والباقي للأب، وإنما فرضنا له السدس مع البنت؛ لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:

12]. ولم يفصل بين أن يكون الولد ذكراً أو أنثى، والجد أب الأب وإن علا بمنزلة الأب، إلا في أربع مسائل. إحداها: أن الأب يسقط الإخوة والأخوات، والجد لا يسقطهم، إذا كانوا لأب وأم أو لأب. الثانية: أم الأب تسقط بالأب، ولا تسقط بالجد. [الثالثة] والرابعة: في زوج وأبوين، أو زوجة، والباقي للأب، ومع الجد لها ثلث جميع المال. وقيل: لا يُفرض للجد السدس مع البنت، بل يقال: للبنت النصف والباقي للجد بخلاف الأب؛ فتصير المسائل خمساً. وكل جدٍّ من جهة الأب - وإن علا - بمنزلة الجد إذا لم يكن دونه جد، إلا في حجب الأمهات؛ فإن كل جد يحجب أم نفسه، ولا يحجبها من فوقه. وللأم السدس، إذا كان للميت ولد، أو ولد ابن، أو اثنان من الإخوة [أو الأخوات]. قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. والمراد بـ"الإخوة": اثنان فما فوقهما؛ لأن أقل الجمع اثنان؛ كما قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ....} الآية [التحريم: 4]، ذكر القلوب بلفظ الجمع، وأضاف إلى شخصين، فإن لم يكن له ولد ولا اثنان من الإخوة - فلها الثلث، إلا في مسألتين: أحداهما: امرأة ماتت عن زوج وأبوين - فالمسألة من ستةٍ: الزوج النصف، والأم ثلث ما يبقى منهم، والباقي للأب. الثانية: رجل مات عن زوجة وأبوين - فالمسألة من أربعة: الزوجة الربع، والأم ثلث ما يبقى، والباقي للأب. ففي الحقيقة قد خص الأم سهم السدس في المسألة الأولى، والربع في الثانية، غير أن نتلفظ بالثلث؛ لأن الله - تعالى - أعطى لها الثلث عند عدم الولد والإخوة. وقال ابن عباس: للأم الثلث كاملاً في المسألتين جميعاً، وهو قول شريح، واتفاق عامة الصحابة: حجة لمن جعل لها ثلث ما يبقى، فإن كان في المسألة معهم أخوان فصاعداً - فللأم السدس بالاتفاق، وللزوج النصف، أو للزوجة الربع، والباقي للأب.

فصل في ميراث الجدات روي عن قبيصة بن ذُؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله ميراثها. فقال: "مالك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: "حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس". فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنقذ لها أبو بكر السدس، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تسأله ميراثها فقال: "ما لك في كتاب الله من شيء [وما كان القضاء الذي قُضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً]، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه، فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها". للجدة السدس، سواء كانت أم أم، أو أم أب، وإذا اجتمعت جدات وارثات يشتركن - في السدس، ولا يتصور من جهة أم الميت إلا جدة واحدة، ويتصور من جهة أبيه جدات وارثات، وكل جدة بينها وبين الميت ذكر يدلي إلى الميت بأنثى - فلا ميراث لها؛ لأن لك الذكر لا يرث، فمن يدي به أولى ألا يرث. والأم تسقط الجدات كلهن، سواء كن من - قبلها، أو من قبل الأب، والأب يُسقط كل جدة من جهته، ولا يسقط من كان من جهة الأم، وإن بعدت، والجدة القربى من كل جهة تسقط البعدي من تلك الجهة، والقربى من جهة الأم تسقط البعدي من جهة الأب. مثل أم الأم تسقط أم أم الأب، وأم أب الأب.

أما القربى من جهة الأب لا تسقط البعدي من جهة الأم على ظاهر المذهب. مثل أم الأب لا تسقط أم أم الأم؛ لأن الأب لا يسقطها. وفيه قول آخر؛ وبه قال أبو حنيفة: يُسقطها؛ كما أن القربى من جهة الأم تسقط البعدي من جهة الأب، والأول المذهب، وهو قول علي وزيد - رضي الله عنهما. وكذلك القربى من جهة أمهات الأب تسقط البعدي من جهة آباء الأب. بيانه: أم أم الأب تسقط أم أم أب الأب، وأم أبي أب الأب. والقربى من جهة [آباء الأب - لا تسقط البعدي من جهة] أمهات الأب؛ مثل أم أب الأب لا تسقط أم أم أم الأب، على ظاهر المذهب؛ كما لا يُسقط أب الأب أم أم الأب، حتى لو مات عن أم أب، وأم أبي أب، وأم أم أم - فالسدس بين أم الأب، وأم أم الأم نصفان، ولا شيء لأم أب الأب. لأن أم الأب في جهتها، وهي أقرب فتسقطها. ولو مات عن أب، وأم أب، وأم أم - فالسدس كله لأم الأم، والباقي للأب وأمه تسقط به. ولو مات عن جدتين: أحدهما من جهتين، والأخرى من جهة واحدة، مثل: أم أم أم هي أم أم أب معها أم أب أب - فالسدس بينهما سواء. وقال ابن مسعود: السدس بينهما أثلاث. وإذا سُئلت عن عدد من الجدات الوارثات - فارتفع في الدرجة بذلك العدد، ثم ضع واحدة من جهة أم الميت، والأخرى من جهة أم أمه، والثالثة: من جهة أم جده - فلا يتصور في الدرجة: الأولى إلا جدتان، وهما وارثتان، ويتصور في [الدرجة] الثانية أربع جدات: ثلاث منهن وارثات، ويتصور في الدرجة الثالثة ثمان جدات، أربع منهن وارثات، هكذا

يتضاعف العدد في كل درجة، ولا تزيد في الوارثات إلا واحدة. باب العصبات رُوي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو

لأولى رجل ذكرٍ" العصبة اسم لكل ذكر يُدلي إلى الميت بنفسه أو بذكرٍ. وحكم توريثه: أنه يجوز جميع المال عند الانفراد، ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض، والأقرب منهم يحجب الأبعد عن العصوبة. وأقرب العصبات البنون، وإنما قدمنا البنين؛ لأن الله تعالى بدأ بهم فقال: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]. وفرض الأب مع الابن السدس، وجعل الباقي للابن، ثم بعد البنين بنو البنين - وإن سفلوا - ثم الأب؛ لأن سائر العصبات يدلون به، ثم الجد مع الأخ للأب والأم، أو للأب؛ فإن لم يكن أخ فالجد، ثم أب الجد - وإن علا. فإن لم يكن جدٌّ، فالأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم بنو الإخوة، يقدم فيهم الأقرب فالأقرب، لأب كان أو لأب وأم، حتى أن ابن الأخ للأب أولى من ابن ابن الأخ للأب والأم، فإن استووا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى؛ كما أن الأخ - للأب والأم - أولى من الأخ للأب، والأخ للأب أولى من ابن الأخ للأب والأم، كذلك بنوهم. فإن لم يكن أحد من بني الإخوة - وإن سفل - فالعم للأب والأم، ثم العم للأب، ثم بنو العم - وإن سفلوا - يُقدم فيهم الأقرب فالأقرب، فإن استووا في الدرجة - فالذي هو لأب وأم

أولى؛ كما في بني الإخوة. فإن لم يكن أحد من بني أعمام الميت - وإن سفل - فعم الأب، ثم ابنه، ثم عم الجد على هذا الترتيب. فإن لم يكن أحد من عصبات النسب - وعليه ولاء - فالميراث للمعتق، ثم لعصباته، ثم لمعتق المعتق، ثم لعصباته، فإن لم يكن منهم أحد فالمال لبيت المال. وأب الجد - وإن علا - مع الأخ للأب والأم، أو للأب - يستويان، وهو وإن علا - أولى من ابن الأخ. وإذا اجتمع في شخص واحد جهة فرص وجهة تعصيب - "يرث بهما جميعاً. مثل: إن مات عن ابني عم: أحدهما أخ لأم، فللذي هو أخ لأم السدس، والباقي بينهما نصفان؛ كما لو كان أحدهما زوجاً كان له النصف بالزوجية، والباقي بينهما نصفان. باب ميراث الجد مع الإخوة الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب - لا يسقطون بالجد، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -؛ لأن ولد الأب يُدني بالأب؛ فلا يُسقطه الجد؛ أم الأب لا تسقط بالجد. وقال الحسن، وعطاء، وطاوس، وأبو حنيفة: يسقطون بالجد، وهو قول للصديق، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم. فإذا اجتمع الجد معهم عندنا - ولم يكن معهم صاحب فرض - فللجد خير المرين؛ إما المقاسمة معهم، أو ثلث جميع المال، ثم الباقي بين الإخوة والأخوات، للذكر مثل حظ الأنثيين.

وفي المقاسمة تكون الجد بمنزلة أخ، حتى يأخذ مثل ما تأخذ الأخت، وإذا استوت المقاسمة، والثلث - يتلفظ بالثلث تسهيلاً للحساب، فالجد يقاسم أختاً وأختين، وثلاث أخوات، أو أخاً وأختاً فإن زاد، فللجد الثلث. وإن كان معهم صاحب فرض فللجد خير الأمور الثلاثة؛ غما المقاسمة مع الإخوة، أو سُدس جميع المال، أو ثلث ما تبقى بعد نصيب صاحب الفرض. وإنما قلنا: يقاسمهم إذا كانت القسمة خيراً؛ لأن الجد كالأخ، ثم الإخوة يتقاسمون بعد فرض ذي السهم؛ كذلك الجد معهم. وإنما قلنا: يأخذ ثلث ما يبقى إن كان خيراً، لأنه لو لم يكن في المسألة صاحب فرض - كان للجد الثلث، لو كان خيراً من المقاسمة، فيجعل نصيب صاحب الفرض المستحق؛ فان للجد ثلث الباقي. وإنما قلنا: له السدس إذا كان خيراً؛ لأن الإخوة ليسوا بأقوى من البنين، والبنون لا ينقصون نصيب الجد عن السدس؛ فالإخوة أولى ألا ينقصوه. وأصحاب الفرائض الذين يرثون مع الجد، والإخوة - ستة: البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والزوج، والزوجة، فإن كان الفرض قدر النصف أو أقل - فالجد يقاسم أختاً وأختين وثلاث أخوات، أو أخاً وأختاً، فإن زادوا فللجد ثلث ما يبقى، وعليه تخرج مسألة "الخرقاء"، وهي أم، وجد وأخت - فللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت؛ للذكر مثل حظ الأنثيين.

أصلهما من ثلاثة، وتصح من تسعة وهذا مذهبنا، وهو قول زيد. سميت هذه خرقاء؛ يتخرق من قول الصحابة فيها، فعند الصديق: للأم الثلث، والباقي للجد، وقال عمر: للأخت النصف، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للجد. وعند علي: للأخت النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. وتسمى هذه المسألة "مثلثه عثمان"؛ فإنه يقول: لكل واحد منهم الثلث، وتسمى "مربعة ابن مسعود؛ فإنه يقول: للأخت النصف، والباقي بين الأم والجد نصفان. وإن كان الفرض أكبر من النصف، ودون الثلثين - فالجد يقاسم أختاً وأختين، أو أخاً، فإن زادوا فللجد السدس، وإن كان الفرض قدر الثلثين - فالجد يقاسم أختاً واحدة. فإن زاد عليها فللجد السدس، وإن زاد الفرض على الثلثين - فللجد السدس أبداً. بيانه: ماتت امرأة عن بنت، وزوج، وجد، وأختٍ. فالمسألة من اثني عشر: للبنت النصف، وللزوج الربع، وللجد السدس، بقي سهم واحد للأخت، فإن كان فيها ابنتان - فلهما الثلثان، وللزوج الربع، وللجد السدس، تعول إلى ثلاثة عشر، ولا شيء للأخت؛ لأنها مع البنت عصبة، فلا تعال لأجلها المسألة. ولا يفرض للأخت مع الجد، ولا تُعال المسألة لأجلها، إلا في مسألة الأكدرية، وهي زوج، وأم، وجد، وأخت لأب وأم أو لأب فالمسألة من ستةٌ: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وللأخت النصف؛ تعول المسألة بنصفها إلى تسعة، ثم يصير نصيب الأخت إلى نصيب الجد، فيجعل بينهما؛ للذكر مثل ح الأنثيين، وأربعة لا تستقيم على ثلاثة، فيضرب ثلاثة من أصل المسالة، وعولها وهي تسعة، فتصير سبع وعشرين، للزوج تسعة، وللأم ستة، يبقى اثنا عشر ثمانية للجد، وأربعة للأخت. سميت هذه "أكدرية"؛ لأن امرأة من أكدر ماتت عن هؤلاء. وقيل: لتكدر قول زيد فيها؛ فإنه ترك أصله في هذه المسألة في موضعين: أحدهما: أنه فرض للأخت مع الجد. والثاني: أنه أعال المسألة من أجلها، وأصله ألا يفرض للأخت مع الجد، ولا تُعال المسألة من أجلها.

وقيل: لتكدُّر قول الصحابة، وكثرة اختلافهم فيها، فعند الصديق: للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للجد. وعند علي: تُعال المسألة كما قلنا، ولكن يترك للأخت ما فُرِضَ لها. وعند ابن مسعود: للزوج النصف، وللأم ثلث ما يبقى، وللجد السدس، وللأخت النصف؛ تقول المسألة إلى ثمانية. فإن كان في الأكدرية مكان الأخت أخ - فلا شيء له؛ لأنه ليس ممن يُفرض له، وإن كان أختان: فللزوج النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، والباقي للأختين، ولا تُعال. ولو كان مكان الزوج ابنتان - فلهما الثلثان، وللأم السدس، وللجد السدس، ولا شيء للأخت؛ لأنها مع البنت عصبة بكل حالٍ. والإخوة، والأخوات للأب والأم يعادون الجد بالإخوة والأخوات للأب، ثم إن كان ولدُ الأب والأم ذكراً، أخذ ما بقي بعد نصيب الجد، ولا شيء لأولاد الأب، وإن كان ولد الأب والأم أنثى؛ فإن كان الباقي بعد نصيب الجدِّ - قدر فرضها أو أقل - أخذت الباقي، ولا شيء لولد الأب، وإن كان أكبر من فرضها أخذت قدر فرضها، والباقي لولد الأب. بيانه: ماتت عن جد وأخ لأب وأم، وأخ لأب - فللجد الثلث، والباقي للأخ للأب والأم؛ لأنهما في مقاسمة الجد يستويان، فاشتركا في رد الجد إلى الثلث، ثم الأخ للأب والأم يأخذ الباقي؛ لأن الأخ للأب لا يشاركه في الميراث، بل يسقطه. ولو مات عن جد وأخت لأب وأم، وأخت لأب - فعلى أربعة - أسهم: سهمان للجد، وسهمان للأخت للأب والأم. ولو مات عن جد، وأخت لأب وأم، وأخ لأب - فللجد سهمان من خمسة، وللأخت للأب والأم النصف سهمان، ونصف، ووجهه الصحيح أن نضرب أقل عدد له نصف صحيح، وهو إثنان من خمسة؛ فتصير عشرة: للجد أربعة، وللأخت للأب والأم خمسة، والباقي للأخ للأب، فإن كان فيها أختان لأب، فسهم واحد لا يستقيم على اثنين، يضرب اثنين في عشرة لتصح من عشرين، وإن كان فيها أخ وأخت لأب فللجد الثلث؛ سهمان من ستة، وللأخت للأب والأم النصف، بقي سهم واحد بين الأخ والأخت للأب للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضرب ثلاثة في ستة؛ فتصير ثمانية عشر فمنها يصح. وعند علي، وابن مسعود: لا معادة، ويسقط أولاد الأب.

فصل في الولاء روي عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الولاء لمن أعتق". إذا لم يكن للميت أحد من عصبات النسب، وعليه ولاء - فميراثه لمعتقه، سواء كان المعتق رجلاً أو امرأة فإن لم يكن المعتق حياً فلعصبة معتقه، فتوريث عصبات الولاء كتوريث عصبات النسب إلا في سبع مسائل. إحداها: أن ابن المعتق وأخاه لا يُعصب ابنة المعتق وأخته، بل الميراث للابن أو للأخ؛ لأن النساء إنما يرثن مع القرب، ولا يرثن مع البعد؛ ألا ترى أن ابنة الخ والعمة لا يرثان، فابنة المعتق وأخته أبعد منهما. الثانية: إذا كان للمعتق جد، وأخ لأب وأم، أو لأب - ففيه قولان: أصحهما: هما سواء كما في النسب؛ وبه قال الأوزاعي. والثاني: الأخ أولى؛ وبه قال مالك؛ لأنه يُدلي بالبنوة، والجد بالأبوة، والابن أولى من الأب؛ فكذلك من يدلي بالبنوة كان أولى. وتركنا هذا القياس في النسب؛ لإجماع الصحابة -رضي الله عنهم - على أن الأخ لا يحجب الجد. فإن قلنا: هما سواء؛ فالجد أولى من ابن الأخ، والأخ أولى من أب الجد، ويستوي أب الجد مع ابن الأخ.

وإن قلنا: الأخ أولى فابن الأخ - وإن سفل - أولى من الجد، كما أن ابن الابن - وإن سفل - أولى من الأب. الثالثة: أن في النسب أب الجد - وإن علا - أولى من ابن الأخ، وحصل في الولاء قولان: أصحهما: هما سواء. والثاني: ابن الأخ أولى. الرابعة: أنه في النسب أب الجد -[وإن علا]- أولى من العم، وفي الولاء قولان: أصحهما: هما سواء. والثاني: العم أولى؛ لأنه يُدلي بالبنوة، ولا يختلف القول أن جد المعتق أولى من عمه كما في النسب؛ لأن العم يُدلي بالجد، وفي جد الجد، وعم الأب قولان: الخامسة: أن في النسب الجد يقاسم الإخوة، ما دامت المقاسمة خيراً له من الثلث، فإن كان الثلث خيراً أخذ الثلث. وفي الولاء إن قلنا: هما سواء يقتسمان أبداً؛ لأن الولاء لا يُفرض [فيه]. السادسة: أن في الولاء الإخوة للأب والأم لا يعادون الجد بالإخوة للأب، بل إن كان للمعتق جد، وأخ لأب وأم، وأخ لأب يُجعل الأخ للأب كالمعدوم؛ فالمال بين الجد والأخ للأب والأم نصفان، على أصح القولين. وعلى الثاني: كله للأخ للأب والأم، وكذلك إذا كان للمعتق أب، وجد، وعمان؛ أحدهما لأب وأم، والآخر لأب فالمال بين أب الجد، والعم للأب والأم نصفان على أصح القولين. وعلى الثاني: كُلُّه للعم للأب والأم. السابعة: أن في النسب إذا كان للميت ابنا عم؛ أحدهما أخ لأم؛ فللذي هو أخ لأم السدس، والباقي بينهما. وفي الولاء إذا كان للمعتق ابنا عم أحدهما أخوة لأمه - نص الشافعي -رضي الله عنه - على أن المال كله للذي هو أخ لأم؛ لأن تفرد بأخوة الأم، ولا يمكن توريثه بها على الانفراد، ويترجح جانبه بها؛ كما لو مات عن أخ لأب وأم، وأخ لأب - كان المال للأخ للأب والأم؛

لزيادة أخوة الأم، حتى فرعوا عليه فقالوا: لو مات عن بنت وابني عم؛ أحدهما أخ لأم - فللبنت النصف، والباقي لابن العم الذي هو أخ لأم؛ لأنه لا يرث بأخوة الأم لمكان البنت. وفي المسألتين وجهٌ آخر، وهو القياس: أن في المسألة الأولى المال بين ابني عم المعتق نصفان. وفي الثانية: الباقي بعد نصيب البنت لابني العم نصفان، ولا يترجح بأخوة الأم، بخلاف الخ للأب والأم - كان أولى من الأخ للأب؛ لأن الأخوة من جنس الأخوة فصلحت للترجيح عند الاجتماع، وليست من جنس العمومة؛ فلا يقع بها الترجيح. فن لم يكن أحد من عصبات المعتق - فالميراث لمعتق المعتق ثم لعصباته، ثم لمعتق معتق المعتق ثم لعصباته. ولا ميراث لمعتق عصبة الميت إلا لمعتق أبيه، أو لمعتق جده - وإن علا. وكذلك معتق عصبات المعتق لا يرث إلا معتق أب المعتق، أو معتق جده؛ فإن من أعتق عبداً ثبت له الولاء على أولاده ذكوراً كانوا، أو إناثاً، وعلى أولاد بنيه - وإن سفلوا. ولا تثبت على أولاد بناته إلا أن يكون أبوهم رقيقاً؛ فيثبت الولاء لموالي الأم، ثم إذا عتق الأب فيجر إلى موالي الأب. وكذلك من أعتق أمة يثبت له الولاء عليها، ولا يثبت على أولادها، إلا أن يكون أبوهم رقيقاً؛ فيثبت الولاء لمعتق الأم، ثم إذا عتق الأب ينجرٌّ إليه. وإنما يثبت الولاء عليه لمعتق الأب، إذا لم يكن عليه ولاء لغيره، [وألا] فإن كان الميت عتيق شخص، وأبوه عتيق غيره - فلا ولاء عليه لموالي أبيه، وكذلك إذا كان هو حرَّ الأصل، وأبوه معتق إنسان، وجده معتق غيره - فلا ولاء عليه لموالي جده؛ إنما الولاء عليه لمعتق أبيه، ثم لعصباته، ثم لمعتق معتق أبيه، ثم لعصباته؛ فإن لم يكن منهم أحد فالمال لبيت المال، ولا شيء لموالي الجد. والمرأة لا ترث بالولاء إلا من معتقها، أو من ينتمي إلى معتقها بولاء أو نسب، حتى ترث من أولاد معتقها: ذكوراً كانوا إناثاً وأولاد بني معتقها، ومن معتق معتقها، وأولاده، وأولاد بنيه كالرجل، ولا ميراث للمولى الأسفل.

وقال شريح وطاوس: يثبت. قلنا: الشرع أثبت الولاء للمعتق؛ لما له على المعتق من نعمة الإعتاق، ولا نعمة للمعتق على المعتق؛ فلا يثبت له الولاء؛ فإن كان كل واحد معتق صاحبه يتوارثان؛ مثل إن أعتق ذمي عبداً، ثم نقض السيد العهد فسباه معتقه وأعتقه فكل واحد منهما يرث صاحبه بالولاء. ولو سباه غير معتقه وأعتقه - يثبت للسابي عليه الولاء، وعلى المعتق الأول؛ لأنه معتق معتقه. ولا يثبت الولاء بعقد الموالاة، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الولاء لمن أعتق"، فنفى ثبوت الولاء لغير المعتق. ولو التقط صبياً، أو أسلم رجل على يديه - لا يثبت له الولاء عليه. وقال إسحاق: إذا أسلم على يديه رجل - يثبت له عليه الولاء. ولو أعتق مسلم عبداً كافراً، أو كافر مسلماً - يثبت له الولاء عليه، وإن لم يرثه؛ لاختلاف الدين؛ كما أن النسب يثبت مع اختلاف الدين، وإن لم يثبت الميراث. وعند مالك: لا يثبت الولاء مع اختلاف الدين. ولو أعتق كافر عبداً مسلماً، ثم مات المعتق بعدما أسلم المعتق - ورثه، وإن لم يكن أسلم فميراثه لمن كان مسلماً من عصبات معتقه، يقدم أقربهم به من المسلمين. ولو أعتق كافر عبداً كافراً، ومات المعتق عن ابنين مسلم وكافر، ثم مات المعتق، فإن مات كافراً فميراثه للابن الكافر، وإن مات مسلماً فللابن المسلم؛ لأن ميراث العتيق يصرف إلى من يكون عصبة للمعتق، لو مات المعتق يوم موت العتيق بصفته. فصل في الحساب أصول حساب الفرائض المحدودة سبعة: اثنان، وأربعة، وثمانية، وثلاثة، وستة، واثنا عشر وأربعة وعشرون. فإن لم يكن [في المسألة] إلا النصف فهي من اثنين؛ فإن كان فيها ربع فمن أربعة، وإن كان فيها ثُمُنٌ فمن ثمانية، فإن كان فيها ثلث وثلثان فمن ثلاثة، وإن كان فيها سدس أو ثلث ونصف فمن ستة. وإذا اجتمع مع الربع سدس أو ثلث أو ثلثان فمن اثني عشر، فإذا اجتمع مع الثمن سدس

أو ثلثان فمن أربع وعشرين، ولا يتصور اجتماع الثمن والثلث، وإذا احتجت إلى ثلث ما يبقى، ولم يكن لما بقي ثلث صحيح -فاضرب ثلاثة في أصل المسألة - فمنه تُخرج. ثم ثلاثة من هذه الأصول عائلة: ستة، واثنا عشر، وأربع وعشرون. والعولُ: هو أن المال إذا ضاق عن سهام ذوي الفروض- يُسمى لكل واحد منهم فرضه، وتعال المسألة فيدخل النقص على كل واحد بقدر فرضه؛ لأنها حقوق مقدرة منفقة في الوجوب، ضاقت التركة عن جميعها، فتقسم التركة على قدرها؛ كالديون إذا اجتمعت، وضاق عنا المال - قسم المال على قدر حقوقهم. أما الستة تعول أربع مرات متواليات: تعول بسدسها إلى سبعة، وبثلثها إلى ثمانية، وبنصفها إلى تسعة، وبثلثيها إلى عشرة، ولا يتصور العول مع الابن بحال، وهي أكثر ما تعول إليها الفرائض. مثال العول إلى سبعة: زوج وأختان لأب وأم ولأب. ومثال العول إلى ثمانية هؤلاء وأم، أو زوج وأخت وأم. ومثال العول إلى تسعة: زوج وأختان لأب وأم، وأختان لأم. ومثالُ العولِ إلى عشرة: زوج أم وأختان للأم، وأختان لأب وأم، وتسمى هذه المسألة "أم الفروج"؛ لكثرة السهام العائلة فيها. وتُسمى "الشريحية"؛ لأنها وقعت في أيام شريح فقضى بها. ومتى عالت إلى ثمانية، أو إلى تسعة، أو إلى عشرة، لا يكون الميت لا امرأة. وأما اثنا عشر تعول ثلاث مرات أوتاراً: تعول بنصف سدسها إلى ثلاثة عشر، وبربعها إلى خمسة عشر، وبربعها وسدسها إلى سبعة عشر. مثالُ العول إلى ثلاثة عشر: زوجة وأختان وأم، ومثال العول إلى خمسة عشر: زوجة وأختان لأم، وأختان لأب وأم. ومثال العول إلى سبعة عشر هؤلاء وأم، وعليها مسألة

الأرامل، وهي ثلاث زوجات وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان أخوات لأب وأم. سُميت أرامل؛ لأنهن نساء لا رجل معهن، فهذا رجل مات عن سبعة عشر امرأة وارثات، أصاب كل واحدة مثل ما أصاب الأخرى. ومتى عالت إلى سبعة عشر، فالميت ذكر بكل حال، وأما أربع وعشرون تعول مرة واحدة بثمنها إلى سبع وعشرين. مثاله: زوجة وابنتان وأبوان يصير فيه ثمن المرأة في الحقيقة تسعاً، والميت فيه ذكر بكل حال، وتسمى هذه "المسألة المنبرية"؛ لأنه سُئل عنها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المنبر فأجاب عنها. وقال: صار ثمنها تسعاً. ثم الطريق في تصحيح المسائل: إن كانت الورثة كلهم عصبة، فأقسم المال على عدد رؤوسهم إن كانوا ذكوراً، وإن كان بعضهم إناثاً، فاجعل رأس كل ذكر كرأسين، وإن كانوا أصحاب فرائض، أو أصحاب فرائض وعصبة - فضع أصل المسألة على الفرائض، وأعط كل ي فرص فرضه، وأعط الفضل العصبة، فإن انكسر سهام بعضهم عليهم، فاطلب الموافقة بين سهام انكسر سهامهم عليهم، ومن عدد رؤوسهم، فإن لم يكن بينهم موافقة بجزء صحيح فاضرب عدد رؤوسهم في أصل المسألة، وعولها إن كانت عائلة، فإلى حيث - يبلغ تصح منه المسألة، وإن كان بينهم موافقة بجزء صحيح - فخذ أقل جزء الوفق من عدد الرؤوس، اضربه في أصل المسألة وعولها. بيانه: ماتت امرأة عن زوج، وست أخوات لأب وأم، وأختين لأم. أصل المسألة من ستة تعول إلى تسعة؛ فللأخوات للأب والأم أربعة، لا تستقيم على ستة، وفيها موافقة بالنصف، فخذ الوفق من عدد الرؤوس وهو ثلاثة، فاضربها في أصل المسالة وعولها وهي تسعة، فتصير سبعاً وعشرين، ثم إذا أردت معرفة تصيب كل واحد من الورثة في ذلك المبلغ - فاضرب ما كان له من أصل المسألة في الكسر؛ فللزوج ثلاثة مضروبة في ثلاثة؛ فتكون [تسعة، وللأخوات للأب والأم أربعة مضروبة في ثلاثة تكون اثني عشر]؛ لكل واحدة سهم، وللأختين للأم سهمان مضروبان في ثلاثة، فتكون ستة لكل واحدة ثلاثة، وإن كان في المسألة كسران، فاطلب الموافقة بين السهام وعدد الرؤوس في كل كسر ما وصفنا، فإن وجدت وفقاص فخذ أقل جزء الوفق من عدد الرؤوس، وإن لم تجد وفقاً

فخذ عدد الرؤوس، ثم قابل أحد الكسرين بالآخر، فإن كانا متماثلين فأسقط أحدهما، واضرب الآخر في أصل المسألة وعولها، وإن كانا متداخلين - وهو أن ينقسم الأكبر على الأقل انقساماً صحيحاً - فأسقط الأقل، واضرب الأكبر في أصل المسألة وعولها، وإن كانا موافقين فاضرب أقل جزء الوفق من أيهما شئت في جميع الآخر؛ مثل أربعة، وستة بينهما موافقة بالنصف، فاضرب نصف أيهما شئت في جميع الآخر؛ فيكون اثني عشر، ثم اضرب ذلك المبلغ في أصل المسألة وعولها. وإن كان الكسران متباينين؛ مثل ثلاثة وأربعة، أو ثلاثة وخمسة، ونحوها - فاضرب أحدهما في الآخر، ثم اضرب المبلغ في أصل المسألة وعولها. وإن كان في المسألة ثلاثة كسور، [أو أربعة كسور]، ولا يزيد الكسر على أربعة، فبعد طلب الموافقة بين السهام، وعدد الرؤوس - خذ منها كسرين، وقابل أحدهما بالآخر، وإن كانا متماثلين فأسقط أحدهما، وإن كانا متداخلين فأسقط الأقل، وإن كانا موافقين فاضرب وفق أحدهما في الآخر، وإن كانا متداخلين فأسقط الأقل، وإن كانا موافقين فاضرب وفق أحدهما في الآخر، وإن كانا متباينين فاضرب أحدهما في الآخر، ثم قابل المبلغ بالكسر الثالث، وافعل بهما ما ذكرنا، ثم قابل مبلغ الكسور الثلاث بالرابع، ثم اضرب مبلغ الكسور في أصل المسألة، وعولها إن كانت عائلة. بيانه: مات عن زوجتين، وثلاث جدات، وخمس أخوات لأب، وأم، وسبع أخوات لأم. أصل المسألة: من اثني عشر، تعول إلى سبعة عشر للزوجتين ثلاثة. لا تستقيم على اثنتين، وللجدات سهمان لا يستقيمان على ثلاثة، وللأخوات للأب والأم ثمانية، فلا تستقيم على خمسة، وللأخوات للأم أربعة لا تستقيم على سبعة، ففيهما أربع كسور متباينة، تضرب اثنين في ثلاثة؛ فتصير ستة، وتضرب ستة في خمسة؛ فتصير ثلاثين، وتضرب ثلاثين في سبعة فتصير مائتين وعشرة، ثم تضرب مائتين وعشرة في أصل المسألة، وعولها وهي سبعة عشر؛ فتصير ثلاثة آلاف وخمسمائة وسبعين، ثم إذا أردت معرفة نصيب كل طائفة - فاضرب ما كان لهم في سبعة عشر في مبلغ الكسور، وهو مائتان وعشرة. فصل المناسخة إذا مات رجلٌ عن عدد من الورثة، ثم مات واحد منهم قبل قسمة التركة - فانظر:

إن كان ورثة الميت الثاني هم ورثة الميت الأول، يرثون منهما بجهة التعصيب - فاقسم التركة عليهم، واجعل كأن الميت الثاني لم يكن؛ مثل: إن مات عن أربع إخوة، وأخت - فالمال ينهم على تسعة أسهم، فلو مات واحد من الإخوة قبل قسمة التركة - ولا وارث له سوى هؤلاء - فاقسم المال على سبعة أسهم، فإن مات آخر فاقسم على خمسة أسهم. وكذلك لو مات عن ثلاث بنين وبنت - فالمال ينهم على سبعة أسهم فلو مات واحد من البنين قبل القسمة فاقسم بينهم على خمسة أسهم، فأما إذا كان ورثة الميت الثاني أو بعضهم غير ورثة الميت الأول، أو كانوا ورثة الميت الأول، لكن فيهم من يرث بالفريضة - فالطريق في معرفة نصيب كل واحد منهم من تلك التركة؛ أن نصحح فريضة الميت الأول، ونأخذ منها نصيب الميت الثاني ثم نصحح فريضة الميت الثاني، ثم نقابل نصيبه من فريضة الأول بفريضته، فإن انقسم عليهم، وإلا فاطلب الموافقة من نصيبه، وفريضته المصححة، فإن وجدت بينهما موافقة بجزء صحيح، فخذ أقل جزء الوفق من فريضة الميت الثاني، فاضربه في فريضة الميت الأول. وإن لم تجد بينهما موافقة، فاضرب فريضة الميت الثاني في فريضة الميت الأول]، فإلى حيث بلغ تصح منه القسمة، ثم من كان له شيء من المسألة الأولى أخذه مضروباً في المسألة الثانية أو وفقها، ومن كان له من الثانية شيء أخذه مضروباً في نصيب الميت الثاني من الأول، أو وفقه إن كان بين نصيبه وفريضته موافقة. بيانه: مات عن زوجة، وثلاث بنين وبنت، فماتت البنت قبل قسمة التركة عن ابنين - فمسالة الميت الأول تصح من ثمانية، وللبنت منها سهم واحد، ومسألة الميت الثاني تصح من اثنين، ونصيبها سهم واحد، لا يستقيم على اثنين، فاضرب اثنين في ثمانية؛ فتصير ستة عشر؛ للزوجة اثنان، ولكل ابن أربعة، وللبنت سهمان، ولكل واحد من ابنيها من نصيبها سهم واحد. ولو ماتت البنت عن أم وثلاث إخوة، وهم ورثة الميت الأول، فمسألتها من ستة تصح من ثمانية عشر، ونصيبها من الميت الأول سهم واحد، لا يستقيم على ثمانية؛ فاضرب ثمانية عشر في فريضة الميت الأول وهي ثمانية؛ فتصير مائة وأربع وأربعين؛ فللزوجة منها الثمن سهم مضروب في ثمانية عشر، [فيكون ثمانية عشر]، ولكل ابن سهمان مضروبان في ثمانية عشر، فيكون ستة وثلاثين، وللبنت ثمانية عشر، فللأم منها السدس ثلاثة، بقي خمسة عشر لكل أخ خمسة، فصار لكل أخ أحد وأربعون، وللأم احد وعشرون.

ولو مات ثالث قبل قسمة التركة تصح فريضة الميت الثالث، ثم قابل حصته من التركتين بفريضته المصححة، فإن انقسم، وإلا فاطلب الموافقة بين نصيبه وفريضته، فإن وجدت موافقة، فاضرب [أقل] جزء الوفق من فريضته في مبلغ الفريضتين، وإن لم تجد موافقة، فاضرب فريضته في مبلغ الفريضتين، ثم أعط كل ذي حق حقه. وإذا ضبطت فريضة المناسخة، وأردت اختصار الحساب، فانظر في سهام الورثة، فإن وجدت بين الكل موافقة بجزء صحيح - فخذ ذلك الوفق من نصيب كل واحد منهم، وأقسم المال بينهم على ذلك العدد، وإن لم تجد بينهم موافقة، أو وجدت بين البعض دون البعض - فلا يُتصور الاختصار. بيانه: مات عن زوجة وبنت وثلاث بنين، ثم مات واحد من البنين، وخلف أمًّا وأخوين وأختاً وهم ورثة الميت الأول، فمسألة الميت الأول تصح من ثمانية، ونصيب الميت الثاني منهما سهمان، ومسالة الميت الثاني تصح من ستة، فسهمان لا يستقيمان على ستة، وبينهما موافقة بالنصف، فخذ نصف ستة، وهو ثلاثة فاضربه في فريضة الميت الأول - وهي ثمانية - فتصير أربع وعشرين: للزوجة منها الثُّّمن ثلاثة، وللبنت ثلاثة، ولكل ابن ستة، ثم من نصيب الميت الثاني، وهو ستة: سهم للأم، وسهم للأخت، ولكل أخ سهمان، صار لكل أخ ثمانية، وللأخت أربعة، وللأم أربعة، وبين الأنصباء كلها موافقة بالربع، فخذ ربع نصيب كل واحد منهم، فجملته ستة، يصح الاختصار منها؛ للأم سهم، وللأخت سهم، ولكل أخ سهمان. باب ميراث ولد المُلاعنة إذا نفى رجل ولده -باللعان- لا يرث أحدهما من الآخر، وكذلك ولد الزنا لا يرث من الزاني، ولا الزاني منه؛ لأنه لا نسب بينهما، أما الأم فلا ينقطع عنها نسب الولد، فيتوارثان. فإن مات الولد فلأمه الثلث، والباقي لبيت المال، فإن كان على الأم ولاء - فالباقي لموالي الأم وتوأما اللعان والزنا يتوارثان بأخوة الأم. ولو نفى ولده باللعان، ثم استلحقه يلحقه، فإن استلحقه بعدما مات أخذ ميراثه، حتى لو كان على الأم ولاء، فمات الولد، واخذ موالي الأم ميراثه، ثم استلحقه النافي - يسترد الميراث من موالي الأم، بخلاف ما لو نكح عبد معتقته فأتت منه بولد، فمات الولد، واخذ موالي الأم ميراثه، ثم عتق الأب - انجر الولاء إليه، ولا يسترد الميراث من موالي الأم؛ لأنه لم

يكن من أهل الميراث حالة موت الولد، ولم يكن لمواليه عليه ولاء، إنما حدث بالعتق، وولد الزنا لا يلحق الزاني بالاستلحاق. باب ميراث المجوس إذا اجتمع في شخص مرتبتان لا يُتصور اجتماعهما في الإسلامن بالوطء الحلال يرث بأقواهما، ولا يرث بهما؛ وهو قول زيد؛ وبه قال الزهري ومالك - رحمة الله عليهما- وقال علي - رضي الله عنه - يرث بهما، وهو قول الثوري وأبي حنيفة- رحمة الله عليهما-. فنقول: شخص واحد، فلا يرث بفرضين عن ميت واحد؛ كما لو مات عن أخت لأب ولأم، لا يرث بأخوة الأب، وبأخوة الأم معاً]. بيانه: موسي نكح ابنته، أو مسلم وطيء ابنته بالشبهة، فأتت منه بولد - فالموطوءة أم الولد وأخته، ترث منه بالأمومة الثلث؛ لأنها أقوى، فإن الأم لا تُحجب بمال، ولا ترث بالأخوة. ولو ماتت الموطوءة، والولد أنثى فلها النصف بالبنوة ولا شيء لها بالأخوة. ولو وطيء ابنته، فأتت ببنت، ثم وطيء تلك البنت فأتت بولد - فالموطوءة الأولى أخت هذا الولد، وجدته، والثانية أمه وأخته، فإذا مات الولد الأخير فلأمه الثلث، والباقي للأب، ولا شيء للجدة التي هي أخت؛ لأن الجدة تسقط بالأم، والأخت تسقط بالأب، فإن كان الأب ميتاً، فمات الولد - فللأم الثلث بالأمومة، وللجدة النصف بالأخوة؛ لأن توريثها بالجدودة لا يمكن توريثها بالأخوة، فإن لم تكن الأم حية حين مات الولد - فللجدة السدس، ولا شيء لها بالأخوة. ولو مات عن أم هي أخت، وله أخت أخرى - فللأم الثلث، وللأخت النصف، ولا تصير الأم محجوبة عن الثلث إلى السدس بنفسها. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: للأم السدس. فصل في ميراث الحمل إذا مات عن حمل في البطن يوفق له الميراث أكثر ما يكون له، وإن كان نطفة يوم الموت.

ثم كل من يصير محجوباً به لو خرج حيًّا لا يُعطى [إليه] شيء ما لم يخرج الجنين، فإن خرج حيًّا، فالمال له، فإن مات في الحال صرف إلى ورثته، استهل أو لم يستهل، بعد أن كانت فيه حركة تدل على الحياة. فإن خرج ميتاً فلا ميراث له، بل يصرف إلى ورثة الأب، سواء كان يتحرك في البطن أو لا يتحرك، وكذلك لو خرج، وبه اختلاج أو حركة كحركة المذبوح - فهو كما لو خرج ميتاً، وتلك الحركة لا تدل على الحياة، بل تكون انتشاراً للخروج عن المضيق، فإن خرج ميتاً يضرب - ضارب يجب على الضارب الغرة، وتورث الغرة عن الجنين، ولا يورث منه ما وقفنا له من ميراث أبيه؛ لأنا نجعله حيًّا في حق الضارب خاصة بإياب الغرة عليه، كذلك نجعله حيًّا في توريث الغرة خاصة. ولو خرج بعضه حيًّا، ثم مات قبل الانفصال - فهو كما لو انفصل ميتاً، ولا عبرة بحياته قبل تمام الانفصال، حتى لو خرج بعضه حيًّا، ومات قبل خروجه - لم يرث؛ لأنه لا يُعطى له حكم الحياة حتى ينفصل جميعه حيًّا، وكذلك لا تنقضي العدة بخروج بعضه. ولو خرج بعضه حيًّا، فضرب ضارب بطنها، فأسقطت ميتاً - يجب على الضارب الغرة. ولو عتقت الجارية بعد خروج بعض الولد منها - سرى العتق إلى الولد.

وأما من لا يصير محجوباً بالجنين لو خرج حيًّا، هل يُعطى إليه شيء قبل خروج الجنين؟ - نُظر: إن كان صاحب فرض يُعطى أقل فريضة عائلاً، وإن كانوا أولاداً أيضاً يوقف الكل على أصح الوجهين. وقيل: نقدر الحمل أربعة ذكور، فإن كان الظاهر ابنا دفع إليه الخمس؛ وبه قال أبو حنيفة، والأول أصح؛ لأن الحمل قد يكون أكبر من أربع. قال ابن المرزبان: أسقطت امرأة بالأنبار كيساً فيه اثنا عشر ولداً. ولو مات نصراني عن حمل في بطن نصرانية، ووقفنا الميراث، فأسلمت الأم، ثم خرج الجنين حيًّا - فالولد مسلم، ويدفع إليه ميراث أبيه؛ لأنه كان محكوماً بكفره يوم موت الأب، وإن كان نطفة. فصل في ميراث الخنثى الخنثى المشكل إذا مات له قريب، نُظر: إن كان يرث في إحدى الحالتين دون الأخرى - لا يُدفع إليه شيء في الحال، بل يوقف حتى يظهر أمره، إن كان يرث في الحالتين، ولكن يرث في إحدى الحالتين أقل - دُفع إليه الأقل؛ لأنه اليقين، ويوقف الباقي؛ مثل: إن مات عن ولد خنثى دُفع إليه النصف؛ لاحتمال أنه أنثى، ويوقف الباقي.

وإن كانوا جماعة من الخناثى جُعِل كل واحد منهم فيما يأخذ كالأنثى، وفي حق شركائه كالذكر، ويوقف الباقي. ووجه تصحيحه: أن يترك ذلك على اختلاف أحوالهم في الذكورة والأنوثة، فإن كان الخنثى واحداً: فله حالتان، وللاثنين ثلاثة أحوال، وللثلاث أربعة أحوال، هكذا كلما ازداد واحد زادت حالة، فتصح الأحوال كلها، ثم نقابل بين كل حالتين، فإن كانتا متماثلتين تسقط أحداهما، أو متداخلتين يسقط الأقل، أو موافقتين يضرب وفق إحداهما في الأخرى، أو متباينتين اضرب أحداهما بالأخرى.

بيانه: مات عن ولدين خنثيين فلها ثلاثة أحوال. إحداها: أن يكونا ذكرين، فالمسألة من اثنين. الثانية: أن يكونا أنثيين، فالمسألة من ثلاثة. الثالثة: أن يكون أحدهما ذكراً، فكذلك هي ثلاثة. فتضرب اثنان في ثلاثة؛ فتصير ستة، فيعطي إليهما أربعة أسهم، ويوقف سهمان؛ فإن بانا ذكرين دفع إليهما، وإن بان أحدهما ذكراً دفع إليه، وإن بانا ابنتين فلبيت المال. وإن كانوا ثلاث خناثى. دُفع ليهم ثلاثة أخماس المال، وإن كانوا أربعة فأربعة أسباعه على هذا التنزيل. وإن كانوا واضحين وخناثى؛ فإن كان الواضحون أو بعضهم ذكوراً -جعل الخنثى فيما يأخذ كالأنثى، وفيما يعطي إلى الواضحين كالذكر، مثل إن مات عن ابن وولد خنثى دفع إلى الخنثى الثلث؛ لاحتمال أنه أنثى، ودُفع إلى الابن النصف؛ لاحتمال أن الخنثى ذكرٌ، ويوقف الباقي. وإن كان الواضحون إناثاً: قال الشيخ رحمه الله: فإن كان عدد الإناث أكبر من عدد الخناثى، أو استويا - فلهم الثلثان، ويوقف الباقي. وإن زاد عدد الخناثي بواحد - نجعل الخناثى ذكوراً في حق البنات، ونعتبر الثلثين في حقهم مع أنفسهم، وإن زاد عدد الخناثى بأكثر من واحد - جعل الخنثى فيما يأخذ كالأنثى، وفي حق الآخرين كالذكر. بيانه: مات عن ابن واضح، وخنثى - أخذ الابن النصف والخنثى الثلث، ووقف السدس. ولو خلف بنتاً وخنثى - فلهما الثلثان، ووقف الثلث، فإن بان الخنثى ذكراً فله، وإلا فلبيت المال. وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه -: يورث الخنثى بأضر حالتيه، ويُصرف الباقي إلى سائر الورثة، والوقف. باب ذوي الأرحام إذا مات عن مال، ولا وارث له من جهة النسب، ولا من جهة الولاء، أو كانوا أصحاب

فرائض، وفضل من رضهم - صُرف إلى بيت المال، فإن كان الميت كافراً صار ماله لمصالح المسلمين فيئاً، وإن كان مسلماً صار ماله ميراثاً للمسلين؛ لأنهم يعقلونه إذا قتل إنساناً؛ فكان ماله لهم ميراثاً؛ العصبة، وهو قول الصديق، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن عمر - رضي الله عنهم -؛ وبه قال الزهري، والأوزاعي، ومالك. وقال علي، وابن مسعود: يصرف على ذوي الأرحام؛ وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وإليه ذهب المزني وابن سريج. وهم أولاد البنات، والجد أب الأم، وكل جد يُدلي إلى الميت بأنثى، أو جدة بينها وبين الميت ذكرٌ بين أنثيين، وأولاد الأخت، وبنات الأخ، وأولاد الأخ للأم، وبنات العم، والعم للأم، والعمة، والخال والخالة. ثم الأكثرون منهم يقدمون مولى العتاق على ذوي الأرحام، إلا ابن مسعود فإنه يقدم ذوي الأرحام على مولى العتاق، فنذكر فضلاً في توريث ذوي الأرحام، نجيب فيه على المشهور من مذهب أبي حنيفة على كثرة اختلاف الرواية فيه؛ إذ كان يفتي القاضي حسين - رحمه الله - بتوريثهم. فأقول: إن كان في المسألة صاحب فرض فالرد على صاحب الفرائض مقدم على توريث ذوي رحم غير ذي فرضن أما الزوج والزوجة فلا يرد عليهما؛ لأنه لا رحم لهما. بيانه: مات عن أم فلها الثلث بالفرضية، والباقي بالرحم، وإن كانوا جماعة فالباقي يرد عليهم على قدر سهامهم بعد تصحيح المسألة. بيانه: مات عن بنت وأم أصل المسألة من ستة: للبنت النصفن وللأم السدس، بقي سهمان نحتاج أن نقسمهما بين الأم والبنت على مقدار فرضهما، فنقول: سهمان لا يستقيمان على أربعة، وبينهما موافقة بالنصف، نأخذ نصف أربعة فنضربه في ستة؛ فتصر اثنا عشر: للبنت النصف: ستة، وللأم السدس: سهمان، بقي أربعة: ثلاثة للبنت، وسهم للأم، واختصار الحساب يكون من أربعة؛ لأن جملة نصيب البنت تسعة، ونصيب الأم ثلاثة، وبينهما موافقة بالثلث، فنأخذ ثلث كل واحد، فتكون جملته [أربعة]: ثلاثة للبنت، وسهم للأم.

وإن لم يكن في المسألة صاحب فرضن ذو رحم - فترتيب توريثهم أن يقدم من ينتمي إلى الميت، وهم أولاد البنات، ثم من ينتمي إليه الميت، وهم الأجداد والجدات، ثم نعتبر جهة أخوة الميت، ثم جهة إخوة الأقرب فالأقرب من آبائه، وأمهاتهن فما دام يوجد أحد من أولاد البنات وإن سفلوا - لا يورث الأجداد، والجدات الفاسدات، ولا شيء لأحد من بنات الإخوة، وأولاد الأخوات مع وجود أحد من الأجداد، ولا العمات والخالات، مع وجود أحد من بنات الإخوة، أو أولاد الأخوات - وإن سفلوا. وعند أبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهما - تُقدم بنات الإخوة، وأولاد الأخوات على الأجداد والجدات. ثم في توريث أولاد البنات يقدم الأقرب إلى الميت، ذكراً كان أو أنثى؛ مثل بنت البنت تقدم على بنت بنت الابن، وعلى ابن بنت الابن، فإن استووا في الدرجة يقدم الأقرب إلى الوارث؛ مثل بنت بنت الابن تقدم على بنت بنت البنت، فإن استووا فيه يشتركون في الميراث على السواء، وإن استوت أبدانهم. وإن اختلفت أبدانهم؛ فللذكر مثل حظ الأنثيين. مثل إن مات عن [بنت بنت ابن، وابن بنت ابن]- فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والاعتبار في الذكورة والأنوثة بأبدانهم لا بمن يقع به الإدلاء على أظهر الروايتين. حتى لو مات وخلف بنت ابن بنت، وبنت بنت بنت - فالمال بينهما نصفان. ولو مات عن ابن بنت بنت، وبنت ابن بنت - فالثلثان للابن، والثلث للبنت. وعنه رواية أخرى أن الاعتبار بمن يقع به الإدلاء؛ فللبنت الثلثان وللابن الثلث، أما الأجداد والجدات، وهم كل جد يُدلي إلى الميت بأنثى، أو جدة بينها وبين الميت كر بين أنثيين - فلا يعتبر منهم الأقرب إلى الوارث، بل من كان منهم أقرب إلى الميت - كان المال له، ذكراً كان أو أنثى، سواء كان من جهة [أب الميت، أو من جهة أمه]. مثل أم أب الأم أولى من أب أب الأم، فإن استووا في القرب جُعل الثلثان في جانب أب الميت، ذكوراً كانوا أو إناثاً، والثلث في جانب أمه على أصح الروايتين، ثم الثلثان في جانب الأب يقسم بينهم، للذر مثلُ حظ الأنثيين إن اختلفت أبدانهم، والثلث في جانب الأم كذلك.

بيانه: لو مات عن أم أب أم، وأب أم أم - فالثلثان لأم أب الأم، والثلث لأب أم الأم. ولو خلف أباً أب أم، وأم أب أم، وأب أم أم - فالثلثان بين أبي أب الأم، وأم أب الم؛ للذكر مثل ح الأنثيين، والثلث لأب أم الم. أما بنات الإخوة، وأولاد الأخوات يُقدم منهم الأقرب إلى الميت، سواء كان من قبل الأب والأم، أو من قِبَل الأب، أو من قِبَل الأم، حتى أن بنت الأخت للأم أو للأب أولى من بنت ابن الخ للأب وللأم، فن استووا في الدرجة يقدم الأقرب إلى الوارث من أي جهة كان. حتى لو مات عن بنت ابن أخ لأب، وبنت ابن أخت لأب وأم - فالمال لبنت ابن الخ للأب، فإن استووا في الدرجة والقرب إلى الوارث - يقدم من كان من قبل الأب والأم، ثم مَنْ كان من قِبَلِ الأب، ثم من كان من قِبَلِ الأم، على أشهر الروايتين. حتى لو مات وخلف بنت أخت لأب وأم، وبنت أخت لأب فالمال لبنت الأخت للأب، والأم. ولو خلف بنت أخت لأب، وبنت أخت لأم، أو بنت أخ لأم - فالمال لبنت الأخت للأب. وإذا اجتمع اثنان من جهة واحدة يشتركان في الميراث على السواء إن استوت أبدانهم، وإن اختلفت أبدانهم فللذكر مثل حظ الأنثيين والاعتبار في الذكورة والأنوثة بأبدانهم، لا بمن يقع به الإدلاء على أظهر الروايتين. بيانه: لو مات عن ابن أخت، وبنت أخ - فالثلثان لابن الأخت، والثلث لبنت الأخ، أما العمات والأخوال والخالات وأولادهم-يقدم منهم الأقرب إلى الميت، سواء كان من العمات، أو من الأعمام للأم، أو من الأخوال والخالات كما في الإخوة، حتى أن بنت العم للأم، وبنت الخال أو الخالة - تُقدم على بنت ابن العم للأب والأم، فإن استووا في الدرجة، يقدم الأقرب إلى الوارث من أي جهة كان. مثل: إن مات عن بنت ابن عم، وابن بنت عم، كلاهما لأب وأم أو لأب - فالمال لبنت ابن العم. فإن استووا في الدرجة والقرب إلى الوارث - نُظِر: إن انفرد قرابات الأب من الأعمام، والعمات، أو قرابات الأم من الأخوال والخالات - يقدم من كان منهم لأب وأم، ثم من كان لأبٍ، ثم من كان لأم. وإذا اجتمع شخصان في جهة واحدة - يشتركان فيه على السواء، إن استوت أبدانهم،

وإن اختلفت أبدانُهم؛ فللذكر مثل حظ الأنثيين. والاعتبار في الذكورة والأنوثة بأبدانهم، لا بمن يقع به الإدلاء. وإذا اجتمع الأعمام والعمات، والأخوال والخالات - فالمشهور أنه يُجعل الثلثان في قرابات الأب، والثلث في قرابات الأم من أي جهة كانوا، ثم في الثلثين يقدم من كان لأب وأم، ثم من كان لأب، ثم من كان لأم، وفي الثلث كذلك. حتى لو مات، وخلف بنت عمة لأم، وابن خال أو ابن خالة لأب وأم - فالثلثان لبنت العمة، والثلث لابن الخال أو الخالة، وإذا كان في قرابات الأب عمات وأخوال وخالات، وفي قرابات الأم أعمام وأخوال - وخالات، فمن الثلثين اللذين جعلنا لقرابات الأب فجعل ثلثاه لعماته، والثلث لأخواله وخالاته، وإن كانت العمات للأم، والخالات للأب والأم - فيجعل الثلث الذي لقرابات الأم كذلك. حتى لو مات، وخلف عم أمه، وخالة أبيه - فالثلثان لخالة الأب، والثلث لعم الأم. وإذا اجتمع في درجة شخصان، وأحدهما يُدلي بجهتين، فإن كان ذلك في الأولاد فلا يفضلُ. مثل: إن مات عن بنت بنت بنتٍ هي بنتُ ابن بنت، وبنتِ بنت بنت أخرى - فالمالُ بينهما نصفان. وإن كان ذلك في أولاد الإخوة والأخوات - يرث بأقوى السببين. مثل: إن مات عن بنت أخ لأم هي بنت أخت لأب - ترث بأخوة الأبن ولو كان معها بنت أخت أخرى لأبٍ - فالمال بينهما نصفان. فأما العمات والأخوال ترث بالسببين جميعاً. مثل: إن مات عن بنت خال هي بنت عمة وبنت خال أخرى - فالثلثان لبنت العمة، والثلث بينهما نصفان، وإن كان معها بنت عمة أخرى - فالثلث لبنت الخال، والثلثان بينهما نصفان. والله أعلم.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى في آية الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]. ورُوي عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حق امريءٍ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" يعني: ما الحرم لامريءٍ مُسلمٍ

أو ما المعروف في مكارم الأخلاق، كل من كان في ذمته حق لله تعالى: من زكاة، أو حج، أو دين لآدمي، أو في يده وديعة -: يجب أن يُوصي به إلى من يقوم بأدائه، ومن كان له مال يملك التصرف فيه-: يستحب أن يوصي في بخير. وكانت الوصية في ابتداء الإسلام واجبة للأقارب؛ كما قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 18] ثم نُسخت بآية الميراث، فالأفضل: أن يبدأ في الوصية بأقاربه الذين لا يرثون، فيبدأ بذي الرحم، ثم بالمحرم بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم بالولاء، ثم بالجيران، كما في الصدقات. ولا يجوز أن يُضر بالورثة في الوصية. ويُكره أن يُوصي بأكثر من الثلث، ولا يُكره الثلث، والمستحب أن ينقص عنه، خصوصاً إذا كانت ورثته فقراء، رُوي عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق، بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت فبشطره؟ قال: لا، قلت: بالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير؛ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء يتكففون الناس". وقال عليٌّ: لأن أوصي بالخمس أحب إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليَّ من أن أوصي بالثلث، فمن أوصي بالثلث فلم يترك، فلو أن رجلاً أوصى بأكثر من الثلث- نُظِرَ: إن لم يكن له وارث: فالوصية فيما زاد على الثلث باطلة، لأنه لا مُجيز له.

وعند أبي حنيفة: تصح. فنقول: بيت المال جهة يجب صرف جميع المال إليها عند عدم الوصية، فتنقض الوصية بجميع المال؛ لأجلها قياساً بجهة بيت المال على جهة الدين، وعلى ما إذا كان له عصبة. وإن كان له وارث -: فهل تصح وصيته فيما زاد على الثلث؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ كما لو لم يكن له وارث. والثاني: تصح؛ لأن له مُجيزاً، وتتوقف على إجازة الوارث، فإن أجاز -: نفذ؛ وإلا بطل، فإن قلنا: تصح-: فإجازة الوارث ابتداء تمليك من جهته حتى يشترط الوارث لفظ الهبة التمليك ومن جهة الموصى له قبول جديد سوى قبول الوصية. ويشترط التسليم والقبض. ويشترط في العتق لفظ "الإعتاق"، ويجوز للوارث أن يرجع قبل القبض. وإن قلنا: تصح الوصية بالزيادة على الثلث-: فإجازة الوارث تنفيذ لما فعله؛ فيجوز بلفظ "الإجازة"، ولا يشترط فيه التسليم والقبض، وإذا أجاز فقبل التسليم رجع -: لم يصح رجوعه. ويجوز للوارث أن يجبر بعض الزيادة، ويرد البعض، وإن كان جاهلاً بالزيادة، فردها -: يصح، وإن أجاز-: لا تصح على الهالة، سواء عرف قدر التركة، ولم يعرف الوصية أن الزيادة سدس أو ربع، أو عرف الوصية بالحرية، ولم يعرف قدر التركة. وقيل: تصح فيما تيقن؛ مثل: إن علم أن الزيادة تبلغ سدس المال، وشك في بلوغه الربع: تصح في السدس، فإن أجاز، ثم قال: لم أكن عالماً بقدره -: فالقول قوله مع يمينه، إلا أن يقيم الموصى له بينة على علمه. ولو أوصى بعبده لإنسان، فأجاز الوارث، ثم قال: أجزت لأني ظننت أن المال كثيرٌ، فبان قليلاً -: هل يقبل قوله؟ فيه قولان: أحدهما: يُقبل؛ كما في المسألة الأولى. والثاني: لا يقبل، ويلزم؛ لأنه علم ما أجازه، وفي المسالة الأولى: لم يعلم ما أجازه، ولا حم لرد الوارث وإجازته في حال حياة الموصى، حتى لو أجاز في حياته-: فله أن يرد بعد موته. ولو أعتق عبداً في مرض موته، لا مال له سواه، ومات عن ابن وبنت، فأجازا: فإن قلنا: إجازة الوارث ابتداء تمليك-: فلابد من لفظ "العتق" منهما، ثم ولاء ثلثه للميت: يرث

به الابن، وولاء الثلثين للولدين: للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن قلنا: إجازته تنفيذ لما فعله الموصى -: فولاء كله للميت، يرث به الابن دون البنت. ولو مات العبد قبل موت المعتق -: مات ثلثه حراً على الصحيح من المذهب؛ لأن نفوذ العتق في الزيادة على الثلث موقوف على إجازة الوارث، ولم توجد. وقيل: مات كله حراً؛ لأن ملك المعتق تام عليه، وتصرفه فيه نافذ، ولا حق للوارث في رد الزيادة على الثلث في حياته. فصل في الوصية بالمشاع وتجوز الوصية بالمشاع والمجهول، وبما لا يقدر على تسليمه؛ كالعبد الآبق والطير المُتقلِتِ. ولو أوصى لإنسان بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد -: فهو وصية بالنصف؛ كأنه أوصى له بما يبقى للابن مثله. وعند مالك: يكون وصية بالكل، فإن لم يكن له ابن أو أن غير وارث: فإن كان قاتلاً أو رقيقاً-: فالوصية باطلة لأنه لا نصيب لابنه؛ كما لو قال: أوصيت لك بمثل نصيب أخي، وله ابن-: فالوصية باطلة؛ لأنه لا نصيب للأخ مع الابن، فلو قال: بمثل نصيب ابن لي بالتنوين، ولا ابن له - صح، ودفع غليه النصف -: كما لو قال: بمثل نصيب ابن، لو كان لي. ولو قال: أوصيت لك بنصيب ابني، وله ابن-: ففيه أوجه: أصحها: الوصية باطلة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أوصى له بحق الغير. والثاني: هو وصية بالنصف؛ كما لو قال: مثل نصيب ابني. والثالث: هو وصية بالكل. ولو قال: أوصيت لك بمثل نصف نصيب ابني، وله ابن واحد-: فهو وصية بالثلث؛ كأنه أوصى بما يبقى للابن مثلاه.

ولو قال: بضعف نصيب ابني -: فهو وصية بالثلثين، ولو قال: بضعفي نصيب ابني-: فبثلاثة أرباعه، فيكون له ثلاثة أمثال ما للابن. ولو قال: بضعف نصيب أحد أولادي -: دفع غليه مثلي نصيب أحدهم، فإن كان له ثلاث بنين -: نجعلُ المال خمسة-: للموصى له سهمان، ولكل ابن سهم. ولو قال: بضعفي نصيب أحدهم-: دفع إليه ثلاثة أمثال نصيب أحدهم، وإن كانوا ثلاث بنين -: دفع إلى الموصى له ثلاثة أسهم من ستة، ولكل ابن سهم. ولو قال: بمثل نصيب ابني، وله ابنان، أو قال: بمثل نصيب احد ابني: فهو وصية بالثلث، وإن كانوا ثلاثة، فأوصى بمثل نصيب أحد بنيه-: يكون وصية بالربع، فإن كانوا أربعة: فبالخمس؛ لتعال مسألة الميراث بمثل نصيب من اعتبر نصيبه به. وإن كان له بنت، فأوصى بمثل نصيب ابنته -: فهو وصية بالثلث، وإن كان له ابنتان، فأوصى بمثل نصيب أحدهما -: فهو بالربع وإن قال: بمثل نصيبهما -: فبالخمسين. ولو كان له ابنان، فأوصى بمثل نصيب ابنيه-: فهو بالنصف، وكذلك: لو كانوا ثلاثة، أو أربعة، فأوصى بمثل نصيب ابنيه-: يكون النصف له، والنصف لهم. ولو أوصى بمثل نصيب أحد ورثته -: يعطى مثل أقلهم نصيباً، فتعال مسألة الميراث بذلك القدر، حتى لو خلف بنتاً وثلاثة زوجات وأخاً -: فله جزء من خمس وعشرين جزءاً. ولو قال: بمثل أكثرهم نصيباً، وله ابن وبنت -: يعطي إليه الخُمسان، إن أجازت الورثة. ولو أوصى بمثل نصيب ابن، لو كان لي، وله ثلاثة بنين-: فهو وصية بالخمس نقدر له ابناً آخر، ونزيد عليه نصيب الموصى له. ولو قال: مثل نصيب بنت، لو كانت: لي وله ثلاث بنين-: فهو وصية بالثمن، والباقي بين البنين الثلاثة. ولو أوصى لإنسان بجزء شائع، ومات عن ورثة-: فوجه تصحيحه أن ننظر: كُمْ نسبة سهم الوصية مما بقي -: فتلك النسبة تزيد على فريضة الميراث. بيانه: أوصى لإنسان بثلث ماله، ومات عن ابنين -: فمسألة: الوصية من ثلاثة، ونسبة سهم الوصية مما بقي نسبة النصف؛ فتزيد على فريضة الميراث، وهي اثنان، مثل نصفها؛ فيكون ثلاثة: سهم للموصى له، ولكل ابن سهم. وإن كان له ثلاث بنات -: فمسألة الميراث تصح من تسعة، وليس لتسعة نصف صحيح؛ فيضرب فيها أقل عدد له نصف، وهو اثنان؛ فيصير ثمانية عشر، ثم يزيد عليها نصفها، فتصير

سبعاً وعشرين: الثلث منها تسعة للموصى له، وللبنات اثنا عشر، وهو الثلثان من الباقي، وما بقي-: فللوصية. ولو أوصى لإنسان بجزء شائع، ولآخر بنصيب أحد أولاده: نجعل الموصى له بالنصف كأحد أولاده، مثلُ: إن أوصى لإنسان بسدس ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد أولاده، وله خمس بنين -: تصح المسألة من ستة: سهم للموصى له بالسدس، بقي خمسة لا تستقيم على ستة؛ نضرب ستة في ستة؛ فتصير ستة وثلاثين: ستة منها للموصى له بالسدس، بقي ثلاثون: للموصى له بالنصيب خمسة، ولكل دين خمسة. ولو أوصى لرجل بنصيب أحد أولاده، ولآخر بثلث ما تبقى من جميع المال بعد ذهاب النصيب، وله ثلاث بنين -: فالطريق فيه: أن يجعل جميع المال ثلاثة، ونصيباً مجهولاً: فالنصيب المجهول للموصى له بالنصيب، وسهم للموصى له بالثلث، بقي سهمان لا يستقيمان على ثلاثة. نضرب ثلاثة في ثلاثةٍ، فتصير تسعة ونصيباً مجهولاً-: فالنصيب للموصى له بالنصيب، بقي تسعة: ثلاثة للموصى له بالثلث، ولكل ابن سهمان؛ فبان أن النصيب المجهول سهمان، والمسألة من أحد عشر: سهمان للموصى له بالنصيب، وثلاثة للموصى له بالثلث، ولكل ابن سهمان، فقد ذهب في الوصية خمسة، وهي أكثر من الثلث، فإن لم تُجز الورثة: يقسم الثلث على نسبة الإجازة؛ نجعل المال ثلاثة: سهم منها، وهو الثلث -: لا يستقيم على خمسة، وسهمان على ثلاثة نضرب ثلاثة في خمسة، فتصير خمسة عشر، ثم نضرب خمسة عشر في أصل المسألة، وهو ثلاثة، فتصير خمسة وأربعين الثلث منها خمسة عشر للموصى لهما؛ لستة للموصى له بالنصيب، وتسعة للآخر. ولو أوصى لإنسان بنصيب أحد أولاده، ولآخر بثلث ما يبقى من الثلث بعد ذهاب النصيب من الثلث، وله ثلاث بنين: نجعل ثلث المال: ثلاثة ونصيباً مجهولاً -: فالنصيب المجهول للموصى له بالنصيب، بقي ثلاثة للموصى له بالثلث، بقي سهمان نضمهما إلى ما بقي، فنقول: إذا كان ثلث المال ثلاثة ونصيباً مجهولاً -: قبلناه: ستة ونصيبان مجهولان، نضم إليهما ما بقي من الثلث، وهو سهمان؛ فتصير ثمانية ونصيبين؛ فالنصيبان للابنين، بقي ثمانية للابن الثالث، فثبت أن النصيب المجهول ثمانية؛ فيكون ثلث المال أحد عشر، وجميعه ثلاث وثلاثون؛ أعطينا من الثلث، وهو أحد عشر ثمانية إلى الموصى له بالنصيب، وسهماً على الموصى له بالثلث، بقي سهمان نضمهما إلى اثنين وعشرين لكل ابن ثمانية. ولو أوصى لزيد بمائة، ولآخر بضعفها-: فلزيد مائة، وللآخر مائتان.

ولو أوصى لآخر بضعفيها -: فله ثلاثمائة، كأنه قال: أعطوه مائة، وضعفوا مرة بعد مرة. وعند أبي حنيفة: يُعطى إلى الثاني أربعمائة. ولو أوصى لزيد بمائة، ولآخر ثلاثة أضعافها -: فله أربعمائة. ولو أوصى بأربعة أضعافها-: فخمسمائة، وإذا احتمل لفظ الموصى معنيين-: حمل على أظهرهما، وإذا احتمل في المقدار وجهين -: حمل على أقلهما؛ لأنه اليقين، وإذا كان اللف بهما - فالتفسير إلى الورثة. بيانه: لو قال: أعطوا فلاناً حظاً أو نصيباً أو جزءاً أو سهماً أو قسطاً أو شيئاً أو قليلاً أو كثيراً من مال -: فالتفسير إلى الوارث، فإذا فسره بأقل ما يقع عليه اسم المال -: يُقبل، فإذا ادعى الموصى له أكثر -: لا يسمع حتى يبين الزيادة، فإذا بين -: له تحليف الوارث أنه لا يعلم استحقاق ما يدعيه، ولا يحلفه على إرادة المورث؛ لأنه أفشى أمراً على الجهالة؛ فلا يطلع عليه الوارث. ولو قال: أعطوا فلاناً كذا -: يُعطى الوارث ما شاء، ولو قال: كذاوكذا -: يعطى مما شاء اثنين. ولو قال: كذا كذا من دنانيري -: يعطى ديناراً واحداً. ولو قال: كذا وكذا من دنانيري-: يعطى دينارين، ولو قال: كذا كذا من ديناري -: يعطى حُبة، ولو قال: كذا وكذا من ديناري -: فحبتان. ولو قال: كذا وكذا ديناراً - فيه قولان: أصحهما: يُعطى دينارين. والثاني: دينار واحد، لأنه ذكر الدينار بلف الوُحدان. وقيل: دينار وشيء. ولو قال: كذا وكذا من دنانيري أو دراهمي -: فيعطى الوارث إما دينارين أو درهمين، فإن لم يكن له شيء من ذلك-: فالوصية باطلة. وإذا كثرت الوصايا، وزادت على الثلث، ولم يجز الوارث الزيادة -: قسم الثلث بينهم على نسبة الإجازة. وطريق معرفته: أن ينظر كم نسبة الزيادة على الثلث من جميع الوصايا، فتنقص عن

نصيب كل واحد بتلك النسبة، أو ينظر كم نسبة الثلث من جميع الوصايا، فيعطى كل واحد بتلك النسبة. بيانه: أوصى لإنسان بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله -: فقد أوصى بخمسة أسداس المال: فإن أجاز الوارث -: دفع إلى كل واحد منهما ما أوصى له به، وإن لم يُجز الوارث-: يقسم الثلث بينهم؛ على خمسة أسهم، ونسبة ما زاد على الثلث من جميع الوصية نسبة ثلاثة الأخماس، فينقص من نصيب كل واحد ثلاثة أخماسه. وأصل المسألة من ستةٍ، وليس لها خُمس، نضرب خمسة في ستةٍ؛ فتصير ثلاثين: فمنها خمسة عشر للموصى له بالنصف، وعشرة للموصى له بالثلث، فينقص من كل واحد ثلاثة أخماسه، فيبقى لصاحب النصف ستة، ولصاحب الثلث أربعة، وعشرون للورثة، وبين الأعداد موافقة بالنصف، فنأخذ نصف كل واحد؛ فيكون جملته خمسة عشر: الثلث منها خمسة، ثلاثة منها للموصى له بالنصف، وسهمان للموصى له بالثلث، والباقي للورثة. وقال أبو حنيفة في هذه المسألة: إذا رد الوارث الزيادة -: نجعل الثلث بينهما نصفين؛ لأن كل واحد عند الانفراد يأخذ جميع الثلث، وفي الثلث والربع قال: يقسم بينهما على التفاوت، لأن الموصى له بالربع: لا يأخذ الثلث عند الانفراد. فنقول: وصيتان تفاوتتا عند الإجازة؛ فكذلك: عند الرد؛ كالثلث والربع. ولو أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، ولآخر بربع ماله: فإن أجاز الوارث-: يقسم المال بينهم على ثلاثة عشر سهماً، وإن لم يُجز-: يقسم الثلث بينهم على ثلاثة عشر سهماً. ولو أوصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله: فإن أجاز الوارث قسم المال بينهم أرباعاً فتعول المسألة بمثل ثلثه، فيكون أربعة: سهم للموصى له بالثلث، وثلاثة للموصى له بالكل، وإن رد الوارث الزيادة على الثلث: يجعل المال ثلاثة، ويقسم الثلث بينهما على أربعة أسهم على نسبة الإجازة، وليس لسهم واحد ربع؛ نضرب أربعة في ثلاثة؛ فتصير اثنا عشر، فعند الإجازة: للموصى له بالكل تسعة، وللموصى له بالثلث ثلاثة، وعند الرد يقسم الثلث بينهما أرباعاً: سهم للموصى له بالثلث، وثلاثة للموصى له بالكل، وثمانية للوارث، ولو كان للموصى ابنان، فيكون لكل ابن أربعة. ولو أن لابنين أجازا للموصى له بالكل، ورد الآخر -: فقد سمح كل ابن على الموصى له بالكل بثلاثة أسهم؛ فيكون للموصى له بالكل تسعة، وللموصى له بالثلث سهم، وهو ربع الثلث، ولكل ابن سهم، وإن أجازا للموصى له بالثلث، ورد الآخر-: فقد سمح كل واحدٍ

عليه بسهم؛ فيكون للموصى له بالثلث ثلاثة، ولكل ابن ثلاثة، وللموصى له بالكل ثلاثة، وتعود بالاختصار على أربعة، فيكون لكل واحد سهم، ولو أجاز أحدهما لأحدهما، وأجاز الآخر للآخر بالذي أجاز لصاحب الكل -: سمح معه بثلاثة؛ بقي له سهم؛ فصار لصاحب الكل ستة، والذي أجاز لصاحب الثلث -: سمح معه بسهم؛ بقي له ثلاثة أسهم، وصار لصاحب الثلث سهمان. ولو كانت المسألة بحالها: أوصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله، فرد صاحب الثلث وصيته: قلت: يكون جميع المال للآخر، إذا أجاز الوارث، وإن لم يُجز-: فالثلث له. ولو رد صاحب الكل وصيته -: يكون الثلث كله للآخر، وكذلك: لو رجع الموصي عن إحدى الوصيتين -: فإن رجع عن الثلث -: كان الكل للآخر. وإن رجع عن الكل -: كان الثلث للآخر. ولو كان له عبدٌ، المال له سواه، فأوصى به لإنسان، ولآخر بثلثه- نُظر: إن كان ف كلامه ما يدل على الرجوع؛ مثل: أن يقول: العبد الذي أوصيت به لفلان، قد جعلت ثلثه لفلان، أو حولت ثلثه إلى فلان يكون العبد بينهما أثلاثاً: ثلثاه للموصى له بالكل، وثلثه للآخر، وإن لم يكن في كلامه دلالة الرجوع؛ بل أوصى لإنسان بالعبد، ولآخر بثلثه، أو بثلث ماله: يقسم العبد بينهما أرباعاً: ثلاثة أرباعه للموصى له بالعبد، والربع للآخر؛ فإن لم يُجز الوارثُ-: يجعل ثلث العبد بينهما أرباعاً. ولو كانت قيمة العبد ألفاً، وله سواه ألفان -: فالعبد بينهما أرباع، وللموصى له بالثلث ثلث الألفين مع ربع العبد، إن أجاز الوارث؛ فيكون من اثني عشر: للعبد منها أربعة، والباقي ثمانية أسهم: فللموصى له بالعبد ربع العبد، وثلث الألفين، وليس لثمانية ثلث، نضرب ثلاثة في اثني عشر؛ فتصير ستةً وثلاثين، فالعبد منها اثنا عشر، تسعة للموصى له بالعبد، وثلاثة أسهم من العبد مع ثمانية أسهم من الباقي للموصى له بالثلث، فذهب من الوصية عشرون، فإن لم يجز الوارث يقسم الثلث بينهما على عشرين سهماً؛ للعبد منها عشرون: تسعة للموصى له بالعبد، وثلاثة للآخر، وله ثمانية أسهم من الباقي فيبقى للوارث أربعون: ثمانية من العبد، واثنان وثلاثون من الباقي. ولو أوصى لرجل بعبد، ولآخر بما بقي من الثلث -: قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى: فإن خرج من الثلث-: دفع إلى الموصى له: فإن بقي من الثلث شيءٌ -: دفع إلى الآخر، وإن لم يبق بطلت الوصية بالباقي، ون أصاب العبد عيب بعد موت الموصى -: قوم سليماً، وإن مات العبد بعد موت الموصى-: بطلت الوصية منه، وتقوم التركة، وتُحسب قيمته

من الثلث، ودُفع إلى الموصى له الباقي من الثلث؛ لأنهما وصيتان، بُطلان أحداهما لا يوجب بطلان الأخرى. ولو مات قبل موت المُوصى-: لا يُحسب العبد من التركة، ويحسب ما بقي من المال، ويحط قيمة العبد من ثلثه؛ فإن بقي من الثلث شيءٌ -: دفع إلى الآخر. ولو أوصى لرجل بدار قيمتها ألف، ولآخر بعبد قيمته خمسمائة، ولآخر بخمسمائة، وثلث ماله ألف -: فهذه وصية بالثلثين، فنسبة الزيادة على الثلث من جميع الوصية: نسبة النصف؛ فإن لم يُجز الوارث -: كان لكل واحد نصف ما أوصى له به. ولو أوصى لزيد بعشرة، ولعمرو بعشرة، ولخالد بخمسة، والثلث لا يحتمل الكل؛ مثلاً: كان الثلث عشرون، ولم تُجز الورثة، يُجعل العشرون بينهم على خمسة أسهم لزيد وعمرو لكل واحد ثمانية، ولخالد أربعة، فلو كانت المسألة بحالها، وأوصى لزيد بعشرة، ولعمرو بعشرة، ولخالد بخمسة، وقال: قدموا خالداً عليهما، والثلث عشرون -: فيعطى أولاً خالداً خمسة، والباقي بين الآخرين نصفان لكل واحد سبعة ونصفن ولو قال: قدموا خالداً على عمرو -: يقدم على عمرو، ولا يقدم على زيد، فيعطى إلى خالد خمسة، وإلى زيد ثمانية، وإلى عمرو سبعة. ويجوز تعليق الوصية على شرط في الحياة، وعلى شرط بعد الموت؛ كما يجوز على الجهالة. فصل فيمن يوصى له إذا أوصى لشخص معين-: جاز، مسلماً كان أو ذمياً، ولو أوصى لحربي-: هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المذهب-: أنه يصح؛ كما يصح البيع منه، وكما يصح للذمي. والثاني: لا يصح؛ لأن الوصية تقع له، وقد أمرنا بقتله؛ فلا معنى للوصية له. ولو أوصى لعبد إنسان-: يصح، وهل يصح قبوله بغير إذن المولى؟ فيه وجهان: أصحهما: يصح ويملل المولى كما لو احتطب، أو اصطاد بغير إذن المولى-: يكون ملكاً للمولى. والثاني: قاله الإصطخري: لا يصح؛ لأنه تمليك للسيد؛ فيشترط إذنه، وهل يصح قبوله من السيد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الموصى لم يخاطب السيد.

ولو أوصى لصبي أو مجنون -: يصح، ويقبله وليه. وهل تصح الوصية للقاتل؟ فيه قولان؛ سواء تقدمت الوصية على الجرح أو تأخرت، وسواء كان القتل عمداً أو خطأ. أصحهما: وبه قال أبو حنيفة-: لا يصح لأنه قال: يستحق بالموت؛ فلا تثبت للقاتل؛ كالميراث حتى لو أوصى لإنسان بشيء، ثم الموصى له قتل الموصى -: بطلت الوصية على هذا القول. والثاني: تصح، وبه قال مالك؛ لأنه تمليك بطريق المعاقدة؛ كما يصح البيع منه والهبة. ولو قتلت أم الولد سيدها-: عتقت؛ لأن عتقها ليس بوصية؟ بدليل أنه لا يعتبر من الثلث. ولو قتل المدبر مولاه: إن قلنا: تصح الوصية للقاتل-: عتق، وإن قلنا لا تصح-: لا يعتق ويبطل التدبير؛ سواء جعلنا التدبير وصية أو تعليقاً للمعتق؛ لأنا - وإن جعلناه تعليقاً - فهو في حكم الوصية؟ بدليل أنه يعتبر من الثلث. ولو أوصى لعبد قاتله أو لمدبره أو أم ولده - نُظر: إن عتق الموصى له قبل موت الموصى - صحت الوصية له، وإن لم يعتق -: فهو وصية للقاتل؛ لأن الوصية للعبد وصية لمالكه. ولو أوصى لعبد إنسان بشيء، ثم إن سيده قتل الموصى بطلت الوصية على هذا القول، ولو قتله العبد لا يبطل لأن الوصية لسيده لا له. ولو أوصى لمكاتب إنسان، ثم قتل سيده الموصى، فأمر الوصية موقوف: فإن عتق المكاتب بالأداء أو بالإبراء: فالوصية له صحيحة، وإن عجز-: بطلت الوصية على هذا القول. ولو قتل المكاتب الموصى: فإن عتق -: بطلت الوصية، وإن عجز صحت لسيده؛ لأنه غير قاتل. ولو أوصى لوارثه بشيء، قل أم كثر -: هل يصح أم لا؟ فيه قولان: أصحهما: حكمه حكم ما لو أوصى لأجنبي بأكثر من الثلث، فإن أجاز سائر الورثة-: نفذ. ويكون ذلك تمليكاً منهم أم تنفيذاً لما فعله الموصى فعلى قولين، ون رد سائر الورثة -: بطل، وبه قال أبو حنيفة. والقول الثاني: لا تصح الوصية، وإن أجاز سائر الورثة، لما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: "لا وصية لوارث"، وكذلك: لو وهب لوارثه شيئاً في مرض موته، أو وقف عليه، أو أبرأه عن دين له عليه في مرض موته -: فكالوصية، ولا فرق في الوصية للورثة بين أن تقسم بينهم قسمة الميراث، أو تفاوت بينهم، مثل: إن أوصى للابن بدار قيمتها ألف، وللبنت بعبد قيمته خمسمائة؛ لأن أعيان الأموال مقصودة، وإذا أوصى لأحد ابنيه بشيء، وأجاز الآخر-: فالباقي يون بين المجيز وبين الموصى له نصفين بحكم الإرث، سواء أوصى له الأب بأكثر من حصته من الميراث أو بأقل. ولو أعتق رجل وارثه في مرض موته، أودبره-: نفذ، ولا ميراث له حتى لا يكو جمعاً بين الميراث والوصية والعبرة في كونهما وارثاً بيوم موت الموصى، حتى لو أوصى لأخيه بشيء، وليس له ابن، فحدث له ابن، ثم مات الموصى نفذت الوصية، ولو كان له ابن يوم الوصية للأخ، فمات قبل موت الموصي -: لم تنفذ. ولو أوصى لعبد وارثه، فباعه وارثه، ثم مات الموصى -: كانت الوصية نافذة لمشتريه، ولو أعتقه وارثه-: كانت نافذة للعبد، ولو أوصى لعبد أجنبي، فاشتراه وارثه، ثم مات الموصى له - تنفذ، وكذلك: لو أوصى لزوجته، ثم طلقها تنفذ. ولو أوصى لأجنبية، ثم نكحها-: لم تنفذ. ولو أوصى لمكاتب وارثه: فإن عتق قبل موت الموصى -: نفذ، وإن مات الموصى، وهو على كتابته -: توقف، فإن عتق بأداء النجوم -: نفذ، سواء قبل الوصية قبل العتق أو بعده، وإن عجز-: لم تنفذ، وكان وصية للوارث. ولو جرح رجل مورثه، ثم أوصى له المورث بشيء، ومات، وقلنا: تصح الوصية للقاتل-: صحت الوصية؛ لأنه خرج بالقتل عن أن يكون وارثاً ولو أوصى لرقيق نفسه بشيء - نظر: إن أوصى لأم ولده -: صحت الوصية، فن مات عتقت أم الولد من رأس المال، وكانت الوصية في الثلث ولو أوصى لمكاتبه بشيء -: تصح؛ لأنه يملك المال. ولو أوصى لمدبره -: فالعتق والوصية جميعاً من الثلث، فإن خرجا من الثلث-: عتق المدبر، ودفع إليه ما أوصى له به، وإن لم يخرج المدبر من الثلث -: عتق منه بقدر الثلث، والوصية باطلة، وإن خرج أحدهما من الثلث: فإن كانت قيمة المدبر ألفاً، وله سواه ألفان وأوصى له بألفٍ-: ففيه وجهان: أحدهما: تجمع الوصية في نفسه، فيعتق كله، ولا شيء له مما أوصى له به؛ لأنا لو أعتقنا بعضه، وسلمنا إليه بعض الوصية-: أخذ الوارث بعض ما وقفنا إليه؛ لكونه مالك بعضه؛ فتكون وصية للوارث.

والوجه الثاني:- وهو الأصح عندي-: يعتق نصفه، ولا يعطى إليه شيء من الوصية؛ لأنه يعود بعضه إلى الوارث. ولو أوصى لعبد نفسه القن بشيء نُظر: إن أوصى له برقبته -: صحت الوصية، فإذا مات المولى وقبل -: عتق، إن خرج من الثلث، وإن لم يخرج كله من الثلث -: يعتق بقدر ما يخرج من الثلث. ولو أوصى له بمال- نظر: إن أوصى له بغير مال، أو قال: اعطوه كذا من مالي- نظر: إن باعه الموصى قبل الموت-: فيكون ما أوصى له به للمشتري، وإن أعتقه قبل الموت، فيكون له، وإن مات، وهو في ملكه -: فالوصية مردودة؛ لأنه يقع للورثة. وإن أوصى له بثلث ماله - نُظر: إن لم يكن مال سواه-: عتق ثلثه بعد موته، وإن كان له سواه مالٌ-: فعلى وجهين: أحدهما: تجمع الوصية في رقبته، فإن خرج كله من الثلث -: عتق، وإن كان الثلث أكثر من قيمة رقبته -: صرف الفضل إليه، وإن لم يخرج كله من الثلث-: عتق بقدر ما يخرج. والثاني:- وهو الأصح عندي- أنه لا يعتق منه إلا ثلثه، وإن كان له مال كثيرٌ؛ لأنه أوصى له بالثلث؛ فيكون من رقبته وجميع ماله، ولا شيء له من سائر أمواله، لأنه الوارث يأخذ بعضه بما فيه من الرق؛ فيكون وصية للوارث. فصل فيما لو أوصى لجماعة محصورين إذا أوصى لجماعة متعينين محصورين؛ مثل: أولاد فلان-: يشرط قبولهم، واستيعابهم، ويسوى بين الذكر والأنثى. ولو أوصى الموصوفين غير محصورين؛ كالفقراء والمساكين، أو الغارمين أو الغُزاة-: لا يشترط قبولهم، ولا استيعابهم؛ يقدم الإمكان، وأقل من يُصرف إليهم منهم ثلاثة، ولا تجب التسوية بينهم، فلو صرف إلى اثنين-: يُغرم نصيب الثالث، وهل يجوز نقله عن ثلث الوصية؟ فيه قولان؛ كما في الزكاة. ولو أوصى لجماعة متعينين غير محصورين؛ مثل: إن أوصى للعلوية، أو بني هاشم، أو لبني تميم-: هل تصح؟ فيه قولان: أصحهما: وهو المذهب-: تصح؛ كما لو أوصى للفقراء، وأقل من يصرف إليهم ثلاثة. والقول الثاني: لا يصح؛ لأن تعيينهم يوجب استيعابهم، ولا يمكن؛ لكونهم غير

محصورين؛ فيبطل بخلاف الفقراء؛ فإنهم موصوفون؛ فلا يجب استيعابهم؛ ألا ترى أنه لو أوصى لبني بكر أو لبني زيد-: يقسم على عددهم، ولا ينصف ولو أوصى للفقراء والمساكين يُنصف بين الصنفين، ولو أوصى لبني فلان: إن صاروا قبيلة؛ مثل: إن قال: لبني تميم أو لبني هاشم، وجوزنا ألا يشترط قبولهم ولا استيعابهم. وأقل من يصرف إليهم ثلاثة، ويُصرف إلى الذكور منهم والإناث، وإن لم يصيروا قبيلة، وكانوا محصورين؛ مثل بني زيد وبني عمرو -: فيشترط استيعابهم وقبولهم، ويسوى بينهم، ولا يُصرف إلى الإناث. ولو أوصى لفقراء بلد بعينه: فإن لم يكن فيه فقير - فالوصية باطلة؛ كما لو أوصى لولد زيد، ولا ولد له، وإن كان فيه فقير واحد، أو جماعة محصورون -: يشترط قبولهم واستيعابهم، ويجب التسوية بينهم، وإن لم يكونوا محصورين-: فلا يشترط القبول والتعميم، وأقل من يصرف إليهم من فقراء ذلك البلد ثلاثة: ولو قال: ضعوا ثلثي في الرقاب -: ينصرف إلى المكاتبين، وأقلهم ثلاثة؛ كالزكاة، فلو صرف إلى اثنين-: يُغرم للثالث، وكم يُغرم؟ وجهان؛ كالزكاة. أحدهما: ثلث الوصية. والثاني: أقلما يقع عليه الاسم. وعلى الوجهين: لا يجوز أن يدفع ما غرم بنفسه، بل يدفعه إلى القاضي: ليؤدي عنه أو يرد إليه ليدفعه: إن أئتمنه، فإن صرف إلى مكاتب-: يعجز، والمال قائم في يده، أو يد سيده، يجب رده. ولو قال: اشتروا بثلثي الرقاب، وأعتقوهم-: يشتري ثلاث رقاب أو أكثر: فإن لم يبلغ ثلاث رقاب: فشتري رقبتان ثمينتان؛ فإن فضل من ثمن الرقاب فضل-: لا يوجد به رقبة كاملة-: تُرد إلى الوارث، ولا يشتري شقص عبد؛ لأن الرقبة اسم للكامل منها. وقيل: يشتري بالفضل شقص عبد، ويجوز الذكر والأنثى، والصغير والكبير والمعيب والكافر. فإن قال: اصرفوا ثلثي إلى العتق-: فيجوز شراء الشقص. ولو قال: اشتروا بمائة عبد فلان فأعتقوه، فلو اشترى بأقل من مائة -: جازوا الفضل للوارث، ولو لم يبعه فلان، أو قال: اشتروا بثلثي عبد فلان، ولم يبلغ ثلثه ثمنه -: لغت الوصية. ولو قال: أوصيت بهذا العبد لحد هذين الرجلين-: لم تصح؛ لأنه تمليك لغير معين.

ولو قال: اعطوا هذا العبد إلى أحد هذين الرجلين-: جاز؛ لأنه ليس بتمليك، بل هو وصية بالتمليك؛ كما لو قال؛ بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين-: لم يصح. ولو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين الرجلين-: جاز. فصل فيما لو أوصى لواحد بعينه ولجماعة ولو أوصى بثلثه لواحد بعينه، ولجماعة-: نُظر: إن كانت تلك الجماعة محصورين؛ مثل: إن أوصى لزيد، ولبني عمرو -: فزيد كواحد منهم؛ مثل: إن كان لعمرو خمس بنين، فيجعل الثلث بين زيد وبينهم على ستة أسهم، وإن كانت الجماعة غير محصورين؛ مثل: إن أوصى لزيد، ولبني عمرو- فزيدٌ كواحد منهم؛ مثل: إن كان لعمرو خمس بنين، فيجعل الثلث بين زيد وبينهم على ستة أسهم، وإن كانت الجماعة غير محصورين؛ مثل: إن أوصى لزيد وللفقراء، أو لزيد وللعلوية-: صح، ثم أقل من يُصرف إليهم من تلك الجماعة ثلاثة فأكثر، ولا تقدير لما يعطى إلى كل واحد منهم، وكم يعطى إلى زيد؟ فيه أقوال: أحدها: هو كواحد من الفقراء: يعطى إليه مما لو أعطى إلى واحد من الفقراء-: جاز. والثاني: يعطى إليه النصف؛ لأنه أضاف إلى جهتين؛ كما لو أوصى للفقراء والمساكين: يعطى إلى كل صنف نصفه. والثالث: يعطى إليه الربع، وثلاثة أرباعه للفقراء، يصرفها الوصي إليهم كيف شاء؛ لأنه ذكر الفقراء بلفظ الجمع، وأقلهم ثلاثة. ولو أوصى بثلثه لزيد، ولأحد بنيه: فإن قلنا: تصح الوصية للوارث، وأجاز سائر الورثة -: كان الثلث بينهما نصفين، وإن رد الورثة وصية الابن: كان لزيد نصف الثلث، وكذلك: إذا قلنا: لا تصح الوصية للوارث - كان لزيد نصف الثلث. ولو أوصى بثلثه لزيد والربح-: كان لزيد نصف الثلث؛ على الأصح. كما لو أوصى له، ولأحد بنيه، وكذلك: لو أوصى لزيد ولجبريل-: كان لزيد نصف الثلث، والباقي باطل. وقيل: كان كله لزيد؛ بخلاف ما لو أوصى لزيد ولأحد ابنيه؛ لأن الابن ممن يملك، فما أضيف إليه-: لا يجعل لغيره، والأول أصح؛ لأنه إذا أضاف إلى ابنين -: لم يكن لأحدهما إلا نصفه؛ فعلى هذا: لو أوصى لزيد وللملائكة، أو لزيد وللرياح-: فالوصية في حق الملائكة، والرياح باطلة، وكم يكون منها لزيد؟ فقد قيل كله لزيد، والصحيح: أنه على الأقوال؛ كم لو أوصى لزيد وللفقراء. أحدهما: يعطي إليه الوصي ما شاء. والثاني: له النصف.

والثالث: له الربع؛ لأن ذكر الملائكة والرياح بلفظ الجمع، وأقلها ثلاثة. ولو قال: ثلثي لله ولزيد-: فيه وجهان: أحدهما: الجمع لزيد، وذكر الله للتبرك؛ كقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...} [الأنفال: 8]. والثاني: نصفه لزيد، والباقي للفقراء؛ لأن عامة ما يجب لله للفقراء. ولو أوصى بثلثي ماله لزيد، ولأحد ابنيه: فإن قلنا تصح الوصية للوارث، وأجاز سائر الورثة-: كان لكل واحد منهما الثلث، وإن رد سائر الورثة، أو قلنا: لا تصح الوصية للوارث -: كان لزيد الثلث كاملاً؛ بخلاف ما لو أوصى بثلثي ماله لأجنبيين، ولم يجز الوارث-: كان الثلث بينهما؛ لأن الثلث في حق الأجنبيين-: لا يقبل الرد، وفي قح الوارث جميع ما أوصى له يقبل الرد، وكان رد سائر الورثة منصرفاً إلى نصيب الوارث. ولو أوصى لأجنبي ولأحد ابنين بجميع ماله-: فإن أجازا للأجنبي، وأجاز الابن لأخيه-: كان المال بينهما نصفين، وإن رد الوصية-: كان للأجنبي الثلث، والباقي بين الاثنين نصفان بالإرث، ولو ردا في حق الأجنبي، وأجاز الأخ لأخيه-: فللأجنبي الثلث، ولأخيه النصف، والسدس بينهما بالإرث، وإن أجازا للأجنبي، ورد الابن في حق أخيه-: فالنصف للأجنبي، والباقي بينهما نصفان بالإرث. ولو أوصى بثلثه لحي وميت-: كان نصفه للحي، سواء كان عالماً بموت الميت يوم الوصية، أو كان يظنه حياً، فبان ميتاً. وقيل: كله للحي. فصلٌ ولو أوصى لأقاربه لأرحامه أو لذي رحمه بشيء -: يصرف إلى أقاربه الذين لايرثون ويسوى بين القريب والبعيد، والذكر والأنثى، والفقير والغني، ويشترط قبولهم واستيعابهم. ثم إن كان عجمياً -: يصرف إلى أقاربه من قبل الأب والأم جميعاً، وفي العربي وجهان: أصحهما: يصرف إلى أقاربه من جهة أبيه؛ لأن العرب تحفظ أنسابها وتفتخر بها؛ فلا يفهم من مطلق اسم القرابة لا قرابة الأب. ويصرف إلى أخص أقاربه: فإن كان شافعياً -: يصرف إلى أولاد شافع، ولا يصرف إلى أولاد علي والعباس، وغن كانوا جميعاً من أولاد السائب بن يزيد. وعند أبي حنيفة: لا يصرف إلى غير المحرم، ولا إلى من كان منهم غنياً، ولو صرف إلى ثلاثة منهم-: جاز، ولا يجب استيعابهم.

ولو أوصى لأقربهم به رحماً-: صُرف إلى الأقرب ممن يكون وارثاً؛ سواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم عربياً كان أو عجمياً: فإن كان الأقرب وارثاً - صُرف على من دونه، وإن لم يُجز الورثة، وإن أجاز سائر الورثة-: صرف إليهم، وإن كان له أب وابن -: وجهان: أحدهما: سواء. والثاني: الابن أولى؛ لأنه مقدم في العصوبة، فعلى هذا، ما دام في الأولاد أو أولاد الأولاد- وإن سفلوا من قبل البنين أو البنات - أحدٌ لا يصل إلى الآباء، وإن كان له جد وأخٌ -: فقولان: أحدهما: هما سواء. والثاني: الأخ أولى؛ كما في ميراث الولاء، ووجه الشبه بينهما: أن استحقاق الميراث بجهة الولاء استحقاق بجهة متباعدة، كاستحقاق الوصية، وسواء كان الجد أب الأب أو أب الأم، وسواء كان الأخ من قبل الأب والأم، أو من قِبَلِ أحدهما، والأخ للأب والأم أولى من الأخ للأب، أو من الأم، والأخ للأب مع الأخ للأم ستويان، وأب الأم أولى من العم والخال والخالة وابن الأخ وبنت الأخ سواء، والخال والخالة سواء، وكل من يدلي بجهتين -: فهو أولى ممن يدلي بجهة واحدة، إذا استويا في الدرجة، فإن اختلفا -: فالأقرب أولى، وابن الأخ وابنة الأخت يستويان. ولو أوصى لقرابة فلان-: فهو كما لو أوصى لقرابة نفسه: غير أن هناك: يصرف إليه، وإن كان وارثاً لفلان. ولو أوصى لجيرانه-: يصرف إلى أربعين داراً من كل جانب من الجوانب الأربع. وعند أبي حنيفة: يصرف إلى الملاصق دون المقابل. وقال أحمد: إلى الذين يحضرون مسجده. ولو أوصى لأهل بيت فلان. قال ثعلب: أهل بيته أقرباؤه من قبل أبيه الأدنى فالأدنى. ولو أوصى لذريته - فهم: الولد وولد الولد. ولو أوصى لعترته قال ثعلب وابن الأعرابي: هم الأولاد وأولاد الأولاد. وقال القتيبي: العِترة: العشيرة. ولو أوصى لقراء القرآن-: يُصرف إلى من يقرأ جميع القرآن، وهل يدخل فيه من لا يحفظه؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل؛ لعموم اللفظ.

والثاني: لا يدخل لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظه. ولو أوصى للعلماء-: يصرف إلى علماء الشرع؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم إلا عليهم، ولا يدخل فيه من سمع الحديث ولا يعرف طرقه؛ لأن مجرد سماع الحديث: لا يكون علماً، ولا يدخل فيه أهل الكلام. ولو أوصى للفقهاء-: فهو لمن يعلم أحكام الشرع، ومن كل نوع شيئاً. ولو قال: لطلبة العلم-: صرف إلى من دخل في طلبه يومئذ. ولو قال: للمتصوفة-: صُرف لمن تكون أكثر أوقاته في العبادة. ولو أوصى للأيتام-: فهو للصبي الذي لا أب له، ولا يدخل فيهبالغ ولا صغير له أب، وهل يدخل فيه الغني؟ وجهان. ولو وصى للأرامل-: دخل فيه من لا زوج لها من النساء، وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال فيه وجهان. وهل يدخل فيه الغني منهم؟ فعلى وجهين. ولو أوصى للشيوخ-: أعطى من جاوز الأربعين. ولو أوصى للفتيات والشبان -: أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين. ولو أوصى للغلمان والصبيان -: أعطى من لم يبلغ. ولو أوصى للفقراء -: جاز صرفه إلى المساكين. ولو أوصى للمساكين-: جاز صرفه إلى الفقراء؛ لأنهما يجتمعان في الحاجة. ولو أوصى للفقراء والمساكين-: يجمع بينهما؛ فيجعل بينهما نصفين، كما في الزكاة. ولو أوصى لسبيل الله-: دفع إلى الغزاة من أهل الصدقات. ولو قال: إلى أهل البر أو في سبيل الثواب-: يُصرف إلى الأقارب. ولو قال: إلى أعقل الناس-: فهم الزُهاد. ولو قال: إلى أجهل الناس-: فالكفار. ولو أوصى إلى رجل بأن يضع ثلثه حيث يرى-: لا يجوز للوصي أن يضعه من نفسه؛ كما لو وكله بالبيع-: لا يجوز أن يبيع في نفسه، والأولى: أن يضع في أقارب الموصى الين لا يرثون منه، ثم إلى محارمه بالرضاع، ثم إلى جيرانه كالموصى نفسه. ولو أوصى لزيد بدينار، وبثلاثة للفقراء، وزيدٌ فقير -: لم يعط إلى زيد غير الدينار؛ لأنه

قطع الاجتهاد في الدفع إليه بتقدير حقه. فصل في الوصية بالحمل ولو أوصى لحمل امرأة بشيء-: يصح؛ إذا علم - حالة الوصية وجوده؛ بأن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم الوصية، ويُقبل قيم الصبي بعد خروجه، وبعد موت الموصي، ثم إن كانوا جماعة- كان لجميعهم؛ ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. ولو مات الموصى، فقبل خروج الحمل: قبل أبوه، ثم خرج الحمل حيًّا: قال الشيخ القفال: لا يصح حتى يُقبل بعد الخروج؛ لأنه لا يدري وجوده حالة القبول؛ كما لو أوصى لغائب بشيء، فبلغه، فقبل، ولم يدر موت الموصي -: لم يصح قبوله. وقيل: فيه قولان؛ كما لو باع مال ابنه على ظن أنه حي، فبان ميتاً، وكما لو ثبتت الشفعة لحمل إرث، فأخذه له أبوه، ثم خرج حيًّا-: هل يصح؟ وجهان: وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر-: لا يعطى؛ لأنه لا يتحقق وجوده يوم الوصية. وفيه قول آخر: أنه إن كان لها زوج فارقها، فأتت به لدون أربع سنين من يوم الفراق والوصية-: يعطى؛ لأنا نجعله موجوداً في الإلحاق بالزوج؛ كذلك: في الوصية، والأول أصح؛ بخلاف النسب؛ لأنه يثبت بالإمكان، والوصية لا تثبت. ولو خرج ميتاً، أو ضرب ضاربٌ بطنها، فألقته ميتاً-: بطلت الوصية؛ لأنه لا يتيقن حياته حالة الوصية؛ فلهذا: لا يحكم له بالإرث. ولو أوصى لحمل امرأة، فأتت بولدين. أحدهما: للأقل من ستة أشهر من يوم الوصية، والآخر لأكثر، ولكن بين الولدين أقل من ستة أشهر-: صحت الوصية لهما؛ لأنه إذا كان بينهما أقل من ستة أشهر، فهما حمل واحد. ولو أوصى لحمل امرأة، فقال: إن ولدت ذكراً-: فله ألف، وإن ولدت أنثى - فلها مائة، فولدت ذكراً أو أنثى-: كان للذكر الألف، وللأنثى المائة، وإن ولدت خنثى-: دفع إليه المائة؛ لأنه يقين، ويوقف الباقي إلى أن نتبين حاله. وإن ولدت ذكرين أو أنثيين-: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الوارث يدفع الألف إلى من شاء من الذكرين، والمائة إلى من شاء من الأنثيين- فالاختيار إليه؛ لأن الوصية لأحدهما، فلا تدفع إليهما؛ كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه-: كان الاختيار إلى الوارث.

والثاني: يشترك الذكران في الألف والأنثيان في المائة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وليس كالعبد؛ لأنه جعله إلى الوارث. والثالث: توقف الألف بين الذكرين، والمائة بين الأنثيين، إلى أن يبلغا ويصطلحا. ولو قال: ن كان ما في بطنك ذكراً - فله ألفٌ، وإن كان أنثى- فلها مائة، فولدت ذكراً وأنثى-: لا يستحق واحد منهما شيئاً؛ لأنه شرط أن يكون ميع ما في بطنها ذكراً، أو جميعه أنثى، ولم يوجد ذلك. ولو أوصى لحمل عمرة من زيد، فأتت به لأقل من ستة أشهر من يوم الوصية، ونفاه زيد باللعان-: فلا تصح الوصية، وكذلك: لو أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم الوصية، ولأكثر من أربع سنين من يوم فارقها زيد-: فلا شيء له. ولو أوصى لما تحمل هذه المرأة-: لا تصح؛ كما لو وقف على مسجد يبني-: لا تصح. ولو أوصى لدابة إنسان بشيء -: سئل: فن قال أردت أن تكون ملكاً لها-: فالوصية باطلة، وكذلك: لو أطلق، ولم يكن له نية؛ لأن الدابة لا ملك لها، ولا يمكنها القبول؛ بخلاف العبد؛ فإنه يمكنه أن يقبل، وقد يعتق قبل موت الموصى، فيملك. وإن قال: أردت أنها تعلف منه-: صح، إذا قبل صاحب الدابة؛ لأن علف الدابة على مالكها؛ فهو بهذه الوصية يقصد صاحبها؛ فيشترط قبوله، وله الرد، كما لو أوصى لعمارةدار فلان بشيء -: فلمالكها الرد والقبول. قال صاحب "التلخيص": ومتى قبل صاحب الدابة-: ينفق عليها وصي الموصى؛ لأنه لم يملك صاحب الدابة، إنما أوصى أن يصرف إلى وجه خاص. وفرع عليه بعض أصحابنا، وقال: إذا لم يكن الموصي وصى -: ينفق رب الدابة عليها. وقال الشيخ القفال: عندي إذا قبل صاحب الدابة-: دفع إليه، وهو ملكه، فإن شاء أنفق منه، وإن شاء أمسكه. فصل فيما يوصى به إذا أوصى لإنسان بحرفة عبده، أو منفعة عبده، أو بغلة داره، أو منفعتها، أو بتمرة بستانه-: تصح؛ سواء أوصى به مؤقتاً أو مؤبداً، ومطلقه يقتضي التأبيد، وهو مدة بقاء العبد، ويكون من الثلث، ويملك الموصى له منافع العبد وأكسابه، وماذا يعتبر من الثلث؟ ففيه أوجه: أصحها: نص عليه في "الإملاء": يعتبر جميع قيمة الرقبة بمنافعها من الثلث؛ لأنه أوقع

الحيلولة بينها وبين الوارث؛ كالغاصب: يضمن قيمة العين، وإن لم يزل ملك المالك عن العين؛ ولأن قيمة العين بالمنفعة، وقد جعلها للغير، وكما لو باع بثمن مؤجل: يعتبر جميع قيمتها من الثلث. والثاني: خرجه ابن سريج-: يعتبر ما بين قيمته مسلوب المنفعة وغير مسلوب المنفعة، وإن كانت مؤقتة تقوم كامل المنفعة ومسلوب المنفعة سنة؛ لأن الرقبة باقية على ملك الورثة، وقيمتها محسوبة عليهم. والوجه الثالث: إن أوصى بها مؤبداً-: يعتبر جميع قيمته من الثلث، وإن أوصى مؤقتاً-: تقوم المنفعة سنة؛ فيعتبر قدرها من الثلث، ولا تقوم الرقبة؛ لأن الرقبة لم تصر مسلوبة المنفعة؛ لأن منافعها بعد مضي المدة تكون للوارث؛ ولأن المنافع إذا تأبدت لا يُعرف قدرها، حتى يعتبر من الثلث، وإذا تأقتت- يُعرف قدرها؛ فيمكن اعتبارها من الثلث. وقال الخضري: إذا كان مؤقتة-: يبنى على جواز بيع الدار المكراه، إن لم نجوز بيعها -: يعتبر جميع قيمتها من الثلث، وإن جوزنا بيعها-: فتعتبر المنفعة من الثلث، فإن قلنا: يعتبر خروج جميع العين من الثلث: فإن كانت قيمة العبد، أو قيمة الدار مائة، وله سواها مائتان-: صحت الوصية في الكل، وإن لم يكن له مال سواه-: صحت الوصية في ثلث منافع الدار، ويبقى ثلثا المنافع مع جميع الرقبة للوارث. قال الخضري: إذا أوصى بخدمة عبده سنة، ولم يعين، بل قال: سنة من السنين-: فتعيينه إلى الوارث، أو أوصى بثمرة بستانه العام، وقال: إن لم يثمر-يستحق ثمر العام الثاني، أو جعل له خدمة عبده العام: فإن مرض هذا العام - خدم عاماً آخر، أو أوصى بخدمته مدةحياة زيد-: فهذا كله صحيح، وهو كما لو أطلق في أنه يعتبر جميع قيمته من الثلث، لأنه لا تتعين له سنة، حتى تعتبر منفعتها، ولا يجوز بيعه؛ فتبنى على بيع المُكراة؛ لأنه لا يدري متى يخلص منفعته للمشتري، فإن عين عاماً معلوماً، بحيث إن أخلف - لم يستحق الموصى له بعد ذلك شيئاً-: ففي جواز بيعه قولان؛ كالمُكراة. ولو أوصى بالرقبة لواحد، وبالمنفعة لآخر قومت الرقبة في حق الموصى له بها، والمنفعة في حق الآخر. وإذا أوصى بمنفعة عبدٍ أو ولدٍ، فعين العبد والدار يكون أمانة في يد الموصى له، حتى لا يلزمه ضمان الرد، ونفقة العبد تكون على الوارث؛ وكذلك: فطرته، سواء قال: مؤبداً أو مؤقتاً؛ كما لو أجر عبده من إنسان، أو أعار: تكون نفقته على المالك، حتى لو أوصى لإنسان بمنفعة عبده، ولآخر برقبته، فقبلا-: تكون نفقته وفطرته على الموصى له بالرقبة؛ كالمؤبد وجهاً واحداً.

إذا أوصى بمنفعة عبده لإنسان مؤقتاً-: فنفقته على الوارث، وإن أوصى مؤبداً-: ففيه أوجه: أصحها: على الوارث؛ لأنه مالك رقبته. والثاني: على الموصى له نفقته دون فطرته. والاثل: في كسبه، فإن لم يكن له كسب-: ففي بيت المال. وإن احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقي أو الدار إلى عمارة -: لم يجب ذلك على واحد منهما؛ لأنه لو انفرد واحد بملك الكل-: لم يجبر على الإنفاق عليه. ويجوز للموصى له بمنفعة الدار والعبد إعارته وإجارته؛ لأنه مالك لملك المنفعة. ويجوز أن يسافر بالعبد، وإذا مات الموصى له؛ فتكون تلك المنفعة لوارثه، مؤبداً كان أو مؤقتاً. ولو مات العبد-: بطلت الوصية؛ وكذلك: لو انهدمت الدار، ولو قتل-: كانت قيمته للوارث. وقيل: إن كانت الوصية مؤبدة-: يشتري بقيمته عبداً آخر يخدم الموصى له. ولو جنى عليه-: كان الأرش للوارث على ظاهر المذهب. ولو أعتقه الوارث-: عتق مسلوب المنفعة، فلا يرجع المعتق بقيمة منفعته على المعتق؛ بخلاف ما لو أجر عبده، ثم أعتقه-: يرجع بأجر مثل ما بقي من المدة على المعتق في وجه؛ لأنه أخذ عوض تلك المنفعة، وههنا: لم يأخذ؛ وهذا لأنه أتلف على العبد منفعته بعد الحرية بعقده من قبل، فضمن، وههنا: لم يملك الوارث إلا رقبته مسلوب المنفعة؛ فبإعتاقه: لم تتلف منفعته، ولو باعه الوارث، إن كانت الوصية مؤبدة-: لم يصح بيعه، وإن كانت مؤقتة-: فعلى قولي بيع الدار المكراة. ولو باعه من الموصى له-: يجوز فيا لمؤقت وفي المؤبد وجهان: ولو أوصى له بحرفة أمةٍ-: لا يجوز لموصى له وطؤها ولا للوارث، ويجوز تزويجها لاكتساب المهر، ومن يزوجها؟ قيل: يزوجها الوارث، وقيل: لا يصح التزويج إلا بإنفاقها عليه، فلو وطئها الوارث- عليه المهر للموصى له. قلت وإن أتت بولد من زوج أو زنا-: فيه وجهان: أحدهما: يكون الولد ملكاً للموصى له؛ كالنسب. والثاني: هو كالأم، وهو الأصح، يخدمه، فرقبته للوارث، ومنفعته للموصى له.

ولو أولدها الوارث-: فالولد حر، وتصير أم ولد له، وتعتق بموته مسلوبة المنفعة، ويجب عليه قيمة الولد، ثم فيه وجهان: أحدهما: يكون ملكاً للموصى له. والثاني: يشتري به رقبة أخرى تخدم الموصى له، ورقبته للوارث. ولو وطئها الموصى له: لا حد عليه؛ للشبهة؛ بخلاف المستأجرة: إذا وطيء-: عليه الحد؛ لأنه لم يملك منفعة البُضع؛ بدليل أنها إذا وُطئت يكون المهر للمالك، والموصى له ملك منفعة البضع؛ بدليل أنها إذا وطئت يكون المهر له، ولو أولادها: لا تصير أم ولدٍ له، والولد حر، وهل عليه قيمة الولد؟ إن جعلنا الولد كالنسب-: لا تجب وإن جعلناه كالأصل-: تؤخذ القيمة؛ فيُشترى بها عبد يخدمه، وقيمته للوارث. هذا كله فيما إذا أوصى بمنافعه أبداً أو بحياة العبد أو بمدة معلومة. أما إذا قال: أوصيت لك بمنافعه حياتك-: فهو إباحة، وليس بتمليك، لويس له أن يؤاجره. وإذا مات الموصى له-: رجع إلى وارث الموصى، وكذا: لو قال: أوصيت لك بأن يخدمك هذا العبد-: صح، وتعتبر من الثلث منفعته، وليس له أن يؤاجره، وهل له أن يعيره فعلى وجهين؛ كالمستعار؛ لأنه إباحة ليس بتمليك، ويرتفع بموت الموصى له. وكذلك: في الدار لو قال: أوصيت لك بأن تسكنها-: فهو كالإعارة. قال ابن حداد: ولو أوصى لإنسان بدينار من غلة داره، وغلة داره كل سنة عشرة دنانير -: تصح، وليس للوارث بيع الدار ولا بيع شيء منها؛ لأن غلتها ربما تنقص؛ فتعود إلى دينار أو أقل، أما إذا أوصى بعشر غلة داره-: فللوارث بيع تسعة أعشارها. ولو أوصى بدينار من غلتها، ولم تخرج الدار من الثلث، ولم يجز الوارث -: بيع الثلثين، ويُصرف دينار من غلة الثلث إليه، إن حصل؛ وألا فبقدر ما يحصل. إذا أوصى بثمرة بستانه-: يصح، وإن كانت معدومة؛ كمنفعة الدار؛ وكذلك: إذا أوصى بما تحمل هذه الجارية، أو بما تحمل هذه الشجرة، أو بصوف هذه الشاة أو لبنها. وقيل: إن اعتبرنا حال الوصية-: لا تصح. وقال أبو حنيفة: لا تصح إلا فيما كان موجوداً يوم الوصية من الحمل في البطن واللبن في الضرع والصوف على الظهر، وقال في ثمرة الشجرة: تصح، وإن لم يكن موجوداً في الحال، والكل عندنا سواء؛ لأن الوصية تقبل من الغرر ما لا يقبله سائر العقود، وقيل: إذا

أوصى بما تحمل هذه الجارية، أو بولد شاة، وهي في الوقت حائل: أنه لا يجوز بخلاف ثمرة البستان وصوف الشاة ولبنها؛ لأن ثمرة هذه الأشياء تحدث على العادة من غير إحداث شيء في الأصل؛ فكانت كالموجودة حالة العقد، والولد لا يحصل من غير إحداث شيء؛ فلم تصح الوصية به قبل الوجود، والأول أصح. وإذا أوصى بثمرة بستانه، وهي موجودة-: تعتبر قيمتها من الثلث، وإن لم تكن موجودة: فإن كان على التأبيد-: ففيه وجهان: أحدهما: يقوم جميع البستان. والثاني: يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة، ويعتبر ما بينهما من الثلث: فإن أحتمله الثلث-: تقدر الوصية، وإن أحتمل بعضها-: كان للموصى له قدر ما احتمل من الثلث؛ فيشاركه الورثة فيه، فلو كان الذي يحتمله النصف-: كان للموصى له من ثمرة كل عام النصف، وللورثة النصف. أما إذا أوصى بحمل موجود في البطن، فقال: أوصيت لك بحمل هذه الجارية، أو بحمل هذه الدابة-: يجوز، ثم إن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية، أو لأقل من استيلادها في الدابة-: كان للموصى له، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر، ولدون أربع سنين-نُظر: إن كان لها زوج يطؤها-: فالوصية مردودة؛ لاحتمال أنه حدث من بعد، وإن لم يكن لها زوج يطؤها-: ففيه قولان؛ كما ذكرنا في الوصية: للحمل، وإذا أوصى بالحمل-: هل يصح القبول قبل الوضع؟ إن قلنا: الحمل يعرف -: يصح؛ وإلا فلا. ولو أوصى لإنسان بجارية، ولآخر بحملها-: صحت الوصية لهما. ولو أوصى بالجارية، واستثنى لنفسه الحمل-: يجوز. ولو أوصى، وقال: أعطوا فلاناً رأساً من رقيقي، وله أرقاء-: أعطى الوارث منها ما شاء، ذكراً أو أنثى أو خنثى، صغيراً أو كبيراً، أو معيباً أو كافراً، فلو مات الكل قبل موت المُوصى، أو قتلوا، أو أعتقهم إلا واحداً-:أعطى ذلك الواحد، وإن كان خيرها، ولم يكن للوارث-: دفع قيمة واحد من المقتولين. ولو مات الكل أو قُتلوا قبل موت الموصِي-: بطلت الوصيةن ولو مات واحد منهم بعد موت الموصي والقبول-: للوارث أن يعين فيه حتىي جب الكفن على الموصى له، وإن قبل وعين فيه-: كانت القيمة للموصى له. وإن مات واحدٌ، أو قتل بعد موت الموصى، وقبل القبول: إن قلنا: الملك للموصى له بالموت، أو يكون موقوفاً-: فهكذا للوارث أن يعين فيه، وإن قبلوا -: يعطي قيمة أيهما شاء،

وإن قلنا: يملك بالقبول: فن مات أو قتلوا جميعاً-: بطلت الوصية، وإن بقي بعضهم-: فيعطى واحداً من الباقين كما لو مات قبل موت الموصي. ولو كان له يوم الوصية رقيق واحد-: يعطي ذلك الواحد، وإن لم يكن له رقيق يوم الوصية، ولم يحدث قبل الموت-: فالوصية باطلة؛ وكذلك: لو قال: أعطوا فلاناً عبدي الحبشي، أو وصفه بصفة، وله عبيد ولم تكن بتلك الصفة-: فالوصية باطلة، ولا يشتري من ماله، وإن حدث له أرقاء قبل الموت-: هل يعطى من ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعطي، والوصية باطلة؛ اعتباراً بيوم الوصية. والثاني: يعطى، اعتباراً بيوم الموت. ولو كانت له أرقاء، وحدث آخرون-: هل يتعين حق الموصى له في الأولين أم للوارث أن يعطى من أي الحزبين شاء-: فعلى هذين الوجهين، ولو قال: أعطوه رقيقاً من مالي، ولم تكن له رقيق: يشتري من ماله بعد موته، ولو كان له أرقاء: فإن شاء الوارث أعطى واحداً منها، وإن شاء- اشترى. ولو أوصى، وقال: اشتروا لفلان مملوكاً أو شاة-: لم يجز أن يشتري معيبة ولاخنثى؛ لأن الخنوثة عيب؛ بخلاف ما لو قال: أعطوه رأساً من رقيقي، أو شاة من شياهي؛ لأن طلاق الأمر بالشراء-: يقتضي السليم؛ كما في التوكيل بالشراء. قلت: ويحتمل غيره. ولو قال: أعطوه رأساً من الرقيق، ولم يقل: من مالي، أو قال: ديناراً، ولم يقل من مالي-: لا يكون وصية. ولو قال: أعطوه عبداً-: لا يعطي أمة، ولا خنثى، إذا كان مشكلاً؛ فإن كان واضحاً ذكراً-: يجوز. ولو قال: أعطوه أمةً-: لا يعطى عبداً ولا خنثى، وكذلك: لوأوصى بعتق عبد أو أمة. ولو قال: أعطوه رقيقاً يخدمه في السفر -: لا تجو أمة ولا خنثى، ولو قال: ليستمتع به أو ليحصن ولده-: لا يجوز عبد ولا خنثى. ولو قال: أعطوه شاة من شياهي-: يعطى واحدة منها، ذكراً أو أنثى أو خنثى، ضانة أو ماعزة؛ صحيحة أو معيبة؛ فإن كانت أغنامه كلها ذكوراً -: لا يدفع إليه أنثى، وإن كانت إناثاً-: لايدفع ذكر، ولا يجوز سخلة؛ لأنها لا تسمى شاة، ويجوز صغيرة الجثة، ولو لم يكن له شاة-: فالوصية باطلة إلا أن يقول: شاة من مالي، فيشتري واحدة. ولو قال: شاة يحلبها-: لا يجوز إلا أنثى.

ولو قال: شاة للإنزاء-: لا يجوز إلا ذكر، ولا يجوز فيها خنثى. ولو قال: أعطوه ناقة من نوقي -: يعطى أنثى، ولو قال: جملاً من إبلي-: يُعطى ذكراً. ولو قال: بعيراً-: نص على أنه يعطى ذكراً، والصحيح: أنه اسم جنس، يجوز الذكر والأنثى، ولو قال: عشراً من إبلي-: يجوز الذكر والأنثى، ولو قال: أعطوه ثوراً من بقري، يعطى ذكراً. ولو قال: عشر بقرات-: يعطى الإناث، ولو قال: بقرة، أو بغلة-: يعطى أنثى؛ وقيل: الهاء للتغريد؛ فيجوز الذكر والأنثى، وهو قول أبي حنيفة. والأول أصح. وكذلك لو وكله بشراء بقرة أو بغلة-: تكون أنثى، ولو قال: عشر من البقر-: فهي للذكر والأنثى. ولو قال: أعطه دابة من دوابي-: أعطى واحدة من الخيل، أو البغال أو الحمير، ذكراً كان أو انثى، صغيراً أو كبيراً، أعجق أو سميناً، ولا يعطى من غيرها؛ لأنها المعهودة في العرف، وإن كانت الدابة في اللغة اسماً لكل ما يدب على وجه الأرض، وإن لم يكن له شيء، من هذه الأنواع-: لا تصح الوصية، وإن كان له نوعان منها-: وقع واحداً من أيهما شاء الوارث، وإن كان نوع واحد-: يعطى واحد منه، هذا إذا أطلق، فإن قرن به ما يدل على أن المراد منه احد الأنواع-: يحمل عليه؛ مثل: أن يقول: دابة للغزو-: فيحمل على الخيل، وإن قال: دابة للحمل-: أعطى حماراً أو بغلاً، فإن كان ببلد يحملون على البراين-: جاز إعطاء برذون، وإن قال: دابة؛ لينتفع بظهرها ونسلها-: يحمل على الخيل أو الخمر، لأن البغال لا نسل لها، ولو قال: لينتفع بظهرها ودرها-: يحمل على الخيل؛ لان البغال والحمير لا در لها. وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات؛ كالسماد والزيت النجس والكلب والميتة على طريق نقل اليد؛ لأنه يحل اقتناؤه للانتفاع، أما ما لا يحل الانتفاع به، كالخمر والخنزير والكلب العقور-: لا تجوز الوصية به. فلو أوصى، وقال: أعطوه كلباً من كلابي، أو كلباً من مالي، وله كلاب-: يعطى واحداً مما يجوز اقتناؤه من كلب صيد أو ماشية أو زرع؛ لأن الكلب- وإن لم يكن مالاً - فمن حيث إنه يقتنيه، وتحت يده: كالمال، ولا يعطى كلب هراش، فإن لم يكن له كلب، أو كان كلب هراش-: فالوصية باطلة، سواء قال: كلباً من كلابي، أو كلباً من مالي؛ لأنه لا سبيل إلى

شرائه، ولو كانت له كلابٌ، فأوصى بها لإنسان، ولا مال له-: أعطي ثلثها، وكيف نقدر الثلث، إذا وصى بثلث كلابه؟ ففيه أوجه: أحدها: بالعدد؛ فإن كان له ثلاث كلاب -: يعطى واحدة منها. والثاني: قاله صاحب "التلخيص"-: يقدر له قيمة، فيعطى ثلثها باعتبار القيمة. والثالث: يقدر بالمنفعة، وإن لم يكن له إلا كلب واحد-: أوصى به لإنسان، أعطى ثلثه، ولو أوصى بكلابه، وله مال: من أصحابنا من قال-: وهو قول ابن أبي هريرة -: يعطى إليه جميع الكلاب، وإن كثرت، وإن كان المال قليلاً، ولو دانقاً؛ لأن المال - وإن كان قليلاً- فهو خيرٌ من الكلاب؛ إذ لا قيمة للكلاب، حتى تكون وصيته خارجة من الثلث. ومنهم من قال: تُقوم منافع الكلاب؛ فتضم إلى ماله من المال؛ فيدفع إليه الثلث من الكلاب؛ كم لو أوصى لإنسان بثلث ماله، وله أعيان ومستغلات وعبد أوصى له بخدمته -: ضم المنافع على الأعيان، ويخرج الثلث: قلتُ: وعلى ما قال صاحب "التلخيص" تقدر للكلاب قيمة، فتضم القيمة إلى ما عنده من المال، ويعطى الثلث. وقال الإصطخري: يعطي إليه ثلث الكلاب؛ لأن الكلب ليس بمال؛ فيعتبر حاله بنفسه، ودفع إلى الموصى له ثلثه. ولو قال: أعطوه طبلاً من طبولي، وله طبول-: يعطي إليه طبل حرب، أو طبل نار، أو طبل عكار، ولا يعطي طبل اللهو، إلا أن يصلح لشيء مباح قبل تغييره أو بعد تغييره، مع بقاء اسم الطبل عليه؛ فيجوز أن يعطي ذلك، ولو لم يكن له إلا طبل لهو لا يصلح لمباح، ولو فصل لمباح لا يقع عليه اسم الطبل-: فالوصية باطلة. ولو قال: طبلاً من مالي-: يشتري له طبل حرب أو لهو أو نار، ولا يجب إعطاء الجلد إذا كان يسمى طبلاً، فإن كان لا يقع عليه اسم الطبل إلا مع الجلد أعطى مع الجلد. ولو قال: أعطوه عودا من عيداني-: فإطلاق اسم العود إنما يتناول العود الذي يضرب به دون غيره؛ فوصيته تُحمل عليه، فإن كانت له منه عيدان تصلح لمنفعة مباحة على صفته-: يعطى، وإن لم تصلح لمنفعة مباحة، حتى يغير- لا يقع عليه اسم العود بعده؛ فوصيته باطلة، ولا يعطى من عيدان القسي والبناء؛ بخلاف الطبل، حيث قلنا: يعطى طبل الحرب والعكار؛ لأن اسم الطبل يطلق على طبل الحرب واللهو جميعاً، واسم العود لا يطلق إلا على عود اللهو، وحيث صح: يدفع بلا وتر ولا مضراب، فن لم يكن له إلا عيدان الخشب أو البناء أو القسي-: فيعطى واحد منها؛ لأنه-: وإن لم يُسمى عوداً مطلقاً-: فيقع عليه هذا الاسم عند التقييد.

وإذا أضاف إلى ملكه، وليس له غيره-: حُمل عليه. ولو قال: أعطوه قوساً من قسي-: أعطي قوس نبل أو نشاب أو حسبان، وكذلك: لو قال عوداً من القسي-: يعطى قوس معمول منها، ولا يجب إعطاء الوتر؛ لأنه لا يسمى قوساً، إنما هو آلة للانتفاع بالقوس؛ كما لو أوصى بفرسٍ-: لا يجب إعطاء السرج. وقيل: يعطى الوتر، ولا يعطى قوس ندف ولا جُلاهق، وهو قوس البندق إلا أنه لا يكون له إلا ذلك: فتحمل وصيته عليه. ولو كان له قوس الندف وقوس البندق-: أعطي قوس البندق؛ لأن الاسم إليه أسبق؛ كما لو قيد، وقال: قوساً-: يرمى إلى الطير، فيعطى الجلاهق. ولو قال: أوصيت لك بأحد هذين العبدين، واحدها له، أو بأحد هذين الزفين، وأحدها خل، والآخر خمر-: انصرف إلى عبد نفسه، وإلى الخل؛ كما في الطبل. قلتُ: وتحتمل غيره؛ فنه لو كانت زوجته مع أجنبية، فقال: إحداكما طالق، ثم قال: عنيت الأجنبية-: يُقبل. فصل فيما تجري فيه الوصية الوصية صحيحة بما فيه قربة، وهي مستحبة، أما ما فيه معصية-: فالوصية فيه باطلة؛ مثل: إن أوصى ببناء يقعد لأهل الفساد، أو يبيع السلاح من أهل الحرب؛ لأن الوصية إنما جُعِلت لزيادة الحسنات، ولتدارك الإنسان بها ما فاته من الخيرات، حتى لو أوصى مي ببناء كنيسة أو بيعة أو بكتابة التوراة أو بدهن لسراج البيعة وقراءة التوراة لا يصح. أما إذا أوصى ببناء دار أو رباط لنزول أهل الذمة يجوز، وكذلك لو أوصى به مسلم أو وقف عليه شيئاً أو أوصى ببناء دار لتصرف غلته إلى النصارى يجوز. ولو أوصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة هل تصح أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح لأنه لا قربة فيه. والثاني: تصح لأنه قصد تخصيصه بالتمليك. فصل في تقدم الحج على الوصية إذا مات، وعليه حج يحج عنهمن رأس ماله، سواء أوصى به أم لم يوص؛ كما يقضي

الدين، وإن أوصى بأن يحج عنه حجة الإسلام، أو يقضي دينه من ثلثه-: يحج ويقضي من ثلثه، وتزاحم أهل الوصايا، فإن كان معه تبرعات-: ففيه وجهان: أحدهما: يُقسط الثلث على الجميع، فإن كان ما يخص الحج والدين من الثلث لا يكفي له-: يكمل من رأس المال؛ لأنه في الأصل من رأس المال. والثاني: يقدم الحج والدين؛ لأنه واجب، ثم يصرف ما فضل إلى الوصايا، فأما إذا أوصى بح الفرض أو بقضاء الدين مطلقاً، ولم يقيد الثلث-: فالمذهب: أنه يقضي من رأس المال؛ كما لو لم يوص، وليس في الوصية إلا تذكير الورثة. وقيل يجعل من الثلث؛ كسائر التبرعات؛ لأنه لما أوصى-: جعله كسائر الوصايا، ثم إن لم يف حصته من الثلث-: يكمل من رأس المال. ولو أوصى بحج التطوع، وجوزنا-: فيكون من الثلث. فإذا أوصى وقال: أحجوا عني رجلاً بمائة، واصرفوا ما بقي من ثلثي إلى فلان، وأوصى لثالث بثلث ماله، أو أوصى لرجل بمائة، ولآخر ما بقي من الثلث، ولثالث بثلث ماله، فإن كان ثلث ماله أكثر من مائة-: فهذا الرجل أوصى بثلثي ماله، فإن أجاز الوارث-: صُرف مائة إلى الحج أو إلى الموصى له بالمائة، وباقي الثلث إلى الموصى له بالباقي، والثلث إلى الموصى له بالثلث. مثلُ: إن كان ماله تسعمائة: صرف مائة إلى الحج، ومائتان إلى الموصى له بباقي الثلث، وثلاثمائة إلى الموصى له بالثلث، وإن لم يجز الوارث ما زاد على الثلث: رُدت الوصية إلى نصفها، وهوا لثلث؛ فندفع نصفه إلى الموصى له بالثلث، وهو مائة وخمسون؛ لأنه كان في حال الإجازة أنصافاً، ونصفه حين الحج، والموصى له ببقية الثلث؛ كما كان في حال الإجازة، وكيف يُقسم ذلك النصف بين الحج والموصى له بالبقية؟ فيه وجهان: أصحهما: يُدفع مائة إلى الموصى له بالمائة أو على الحج، وخمسون إلى الموصى له بالبقية؛ لأنه حصل حقه فيما يبقى بعد المائة؛ فلا يأخذ شيئاً قبل أن يستوفي الموصى له بالمائة حقه. والوجه الثاني: يقسم على نسبة الإجازة؛ فيكون للحج، أو للموصى له بالمائة خمسون، وللموصى له بالبقية مائة، وإن كان الثلث مائتين -: فمائة للموصى له بالثلث، والمائة الأخرى: للحج؛ على الوجه الأول، وعلى الثاني: المائة الأخرى بين الحج والموصى له بالبقية نصفان، ولو لم يكن للموصى إلا ثلاثمائة، فإن أجاز الوارث-: صرف مائة إلى الحج، ومائة إلىلموصى له بالثلث، ولا شيء للموصى له بالبقية؛ لأنه لم يزد الثلث على

المائة، وإن لم يُجز الوارث-: فعلى الوجه الأول يجعل مائة للحج، ولا شيء للآخرين، وعلى الوجه الثاني: يجعل المائة بين الحج وبين الموصى له بالثلث نصفان. ثم إن كان الحج تطوعاً، ولم يف ما خصه للحج-: بطلت الوصية بالحج، وإن كان فرضاً-: يكمل من رأس المال. أما إذا بدأ، فأوصى بثلث ماله لرجل، ثم أوصى لمن يحج عنه بمائة، وأوصى لآخر بما يبقى من الثلث-: ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي إسحاق-: أن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة؛ لأن الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى من الثلث شيء؛ فعلى هذا: إن أجاز الوارث-: نفذت الوصيتان، وإن لم يُجز-: رُدت إلى الثلث، فإن كان الثلث مائة-: استوت وصيتهما؛ فيجعل الثلث بينهما نصفين. وإن كان الثلث مائتين-: قسم بينهما على ثلاثة أسهم سهمان للموصى له بالثلث، وسهم للموصى له بالمائة. والوجه الثاني: وهو قول ابن أبي هريرة-: أن الحكم في هذه المسألة كالحكم في المسالة قبلها؛ لأنه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث -: عُلم أنه لم يرد به ذلك الثلث؛ لأن الوصية الأولى قداستوعبته، وإنما أراد من الثلث الثاني، وإذا أوصى بعد المائة بما بقي من الثلث -: دل أنه أراد ما تبقى من الثلث الثاني؛ فصار موصياً بثلثي ماله؛ كالمسألة قبلها. فصل في بيان الوصية إن كانت لجهة إذا كانت الوصية لغير معين؛ الفقراء والمساكين؛ فإنها تلزم بالموت من غير قبول واحد، وإن كانت لمعين-: فلا يلزم إلا بالقبول؛ كما لو وهب من إنسان شيئاً-: يشترط قبوله. ولا يصح القبول إلا بعد موت الموصي؛ لأنه أوجب له بعد الموت؛ فيشترط القبول بعده، ولا حكم لقبوله ولا لرده في حياة الموصى، حتى لو رده في حياته-: فله أن يقبله بعد موته. وألفاظ الإيجاب سواء قال: وصيت لفلان بكذا، أو فلان كذا، أو أعطوا فلاناً كذا، أو ما أشبه ذلك، وكله سواء. وإذا مات المُوصي-: فالموصى له متى يمل ما أوصى له به؟ فيه أقوال: أحدها: وهو اختار المُزني -: يمل بموت الموصي؛ كالميراث؛ غير أن الميراث لا يرتد بالرد، والوصية تُرتد.

والثاني: وهو الأصح-: يكون موقوفاً. فإن قَبِلَ بان أنه ملك بالموت؛ لأنه لو ملك بالموت قطعاً-: لكان لا يرتد بالرد؛ كالميراث. والثالث: وهو الأضعف، وبه قال أبو حنيفة-: يملكُ بالقبول. وعلى الأقوال كلها لو رده بعد موت الموصي قبل القبول-: يرتد إلى الوارث، حتى لو قبل بعده-: لا يعود، وإذا رد بعد القبول-: لا يرتد، سواء كان قبل القبول أو بعده. وقيل: إن رد قبل القبض-: يرتد؛ كالموهوب: يرده قبل القبض. والأول أصح؛ لأن ملكه قام قبل القبض؛ بدليل أن بعد القبول: ينفذ تصرفاته فيه، وإن لم يقبضه. وإن لم يقبل، ولم يرد-: كان للورثة مطالبته بالقبول أو الرد، فإن امتنع-: حُكم عليه بالرد؛ من يحجر أرضاً وامتنع من إحيائها-: أجبر على الإحياء أو الترك. ولو تصرف فيه ببيع أو هبة أو رهنه قبل القبول. إن قلنا: يملك بالقبول-: لا يصح. وإن قلنا: بالموت-: يصح. وإن قُلنا: موقوف-: فقد قيل: تصح، ويجعل تصرفه قبولاً؛ كما لو اشترى شيئاً بشرط الخيار فرهنه في زمان الخيار-: يكون قبولاً. والمذهب: أنه لا يصح؛ بخلاف الشراء بشرط الخيار؛ لأن البيع هناك تم بالإيجاب والقبول، وههنا: لم يتم بالقبول. وإذا حصل من العين الموصى بها زوائد منفصلة-: نُظر: إن حصلت قبل موت الموصى-: تكون للموصى، وإن حصلت بعد موته، وبعد القبول-: فتكون للموصى له، فإن حصلت بعد موت الموصى، وقبل القبول-: يبنى على أقوال الملك. إن قلنا: يمل بالموت-: فالزوائد للموصى له، سواء قبل الوصية في الأصل أو رد. وإن قلنا: موقوف؛ فإن قبل: فللموصى له، وإن رد يرتد حقها. وإن قلنا: تملك بالقبول-: فلا يكون للموصى له؛ لأنها لم تحدث على ملكه، سواء قبل الوصية في الأصل أو رد، وحيث قلنا: ترتد الزوائد-: فإلى من ترتد-: فيه وجهان: أحدهما: إلى الموصى، ينقد ديونه ووصاياه؛ كالأصل إذا رده.

والثاني: يكون للوارث؛ لأنها حدثت بعد زوال ملك الموصي. ولو أوصى لإنسان بجارية أو بشاة، فولدت-: لا يخلو: إما إن كانت حائلاً يوم الوصية أو حاملاً، فإن كانت حائلاً: فلا يخلو إما إن ولدت قبل موت المُوصي أو بعد موته، أو قبل قبول الموصى له، أو بعد القبول-: فإن ولدت قبل موت الموصى-: فالولد خارج عن الوصية؛ كالنسب، وإن ولدت بعد موته قبل القبول-: نُظر: ن أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم الموت-: بان أنه كان موجوداً يوم الموت، وحدث قبله. فإن قلنا الحمل يعرف-: فهو للموصى، كما لو ولدت قبل الموت، وإن قلنا: لا يعرف-: فكالزوائد الحادثة بعد الموت. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم الموت-: فكالزوائد الحادثة بعد الموت، وإن ولدت بعد القبول- نُظر: إن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت القبول-: فهو للموصى لهن وإن أتت به لأقل من ذلك-: بان أنه كان موجوداً يوم القبول. فإن قلنا: الحمل يعرف-: فهو كالزوائد الحاصلة بعد الموت [و] قبل القبول. وإن قلنا: لا يعرف-: فهو كالموصى له؛ كالحادث بعد القبول. وإن كانت حاملاً يوم الوصية: فإن قلنا: الحمل يُعرف -: فهو كما لو أوصى بالأم مع الولد: إن قبلهما-: فهما له، وإن ردهما-: فللوارث، وإن قبل أحدهما-: فذلك له دون الآخر، فإن قلنا: الحمل لا يعرف-: فهو كالحادث من بعد، فإن ولدت قبل موت الموصى-: فهو له، وإن ولدت بعده- فكالزوائد. ولو زوج أمته من رجل، ثم أوصى بها لزوجها: فإن كان الزوج عبداً-: فهو وصية لسيده، وإن كان حراً-: فهو وصية له، فإذا أتت بولد-: نُظر: إن كانت حاملاً يوم الوصية-: فالجارية لا تصير أم ولد له، وأما الولد: إن قلنا: الحملُ يعرف-: فقد أوصى بها، فإذا قبل بعد موت الموصى-: عتق الولد عليه بالملك. وإن قلنا: لا يُعرف الحمل: فإن ولدت قبل موت الموصي-: فالولد خارج عن الوصية مل للموصى، وإن ولدت بعد موته-: فكالزوائد، فإذا جعلناه للموصى له-: عتق عليه بالملك، وإن كانت حائلاً يوم الوصية: فإن أتت به قبل موت الموصى-: فهو للموصى، وإن أتت به بعد موته- نُظر: إن أتت به لأقل من ستة اشهر من يوم الموت-: بان أنه كان موجوداً يوم الموت-: فالجارية لا تصير أم ولد له؛ لأنه حصل العلوق به قبل الملك، ثم الولد: إن قلنا: الحمل يُعرف-: فملك للموصى. وإن قلنا: لا يعرف-: كالزوائد الحادثة بعد الموت، فإذا جعلناه للموصى له-: عتق

عليه بالملك، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم الموت وقبل القبول ثم قَبِلَ: إن قلنا: يملك بالموت، أو موقوف-: صارت الجارية أم ولد له؛ لأن الولد حدث على ملكه، ولا ولاء عليه، وإن قلنا: يملك بالقبول-: فلا تصير الجارية أم ولد له، والولد للوارث، وإن أتت به بعد القبول-نُظر: إن أتت به لستة أشهر فأكثر من وقت القبول-: صارت الجارية أم ولد له، وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت القبول-: بان أنه حدث قبل القبول؛ فهو كالخارج قبل القبول، فإن قلنا: يملك بالموت أو موقوف-: كانت الجارية أم ولد له، إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم الموت. وإن قلنا بالقبول-: فالجارية لا تصير أم ولد له، ثم إن قلنا: الحمل يعرف-: كان الولد للوارث، وإن قلنا: الحمل لا يُعرف-: يعتق الولد بالملك على الموصى له. ولو مات الموصى له- نُظر: إن مات قبل موت الموصي -: بطلت الوصية، وإن مات بعد موت الموصى وقبل القبول-: قام وارثه مقامه في القبول، وبقبوله: يحصل الملك للموصى له؛ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: تلزم الوصية بموت الموصى له؛ فلا يمكن لوارثه رده. ثم كل موضع حكمنا بعتق الأولاد، وتصيير الجارية أم ولد له في الوصية بالزوجة-: فإذا قبل الوارث بعد موته-: تكون كذلك. ولو أوصى لإنسان بجارية، قيمتها ثلاثمائة، ومات عن ستمائة أخرى، ثم وهب للجارية بعد موته مائة، وأتت بولد قيمته مائتان، ثم قبل الموصى له الوصية: فن قلنا: تملك بالموت أو موقوف-: فالولد والكسب للموصى له. وإن قلنا: بالقبول-: فله الجارية دون الولد والكسب. وعند أبي حنيفة: له الجارية وثلث الولد وثلث الكسب. وقال أبو يوسف ومحمد: له الثلثان من الجارية مع ثلثي الولد والكسب. ولو أوصى للرجل ممن يعتق عليه من أب أو ابن-: لا يجب قبوله، وله رده. وعند مالك: يجب قبوله. وقيل: إن قلنا: يملك بالموت - لا رد له؛ لأنه عتق عليه، وليس بصحيح؛ لأنا لا نحكم بالعتق ما لم يقبل.

فصل فيما لو زاد ماله وقد أوصى بالثلث إذا أوصى بثلث ماله، ثم ازداد ماله-: فالاعتبار في قدر المال بيوم الوصية أم بيوم الموت؟ فيه وجهان: أصحهما: بيوم الموت؛ لأنه وقت لزوم الوصية؛ فيجب إخراج الثلث من جميع ما زاد. ولو أوصى بألف، ولم يكن له مال يوم الوصية، ثم استفاد مالاً-: تعلقت به الوصية؛ وكذلك: لو كان له مال، فهلك، ثم استفاد آخر-: تعلقت به. والثاني: الاعتبار بيوم الوصية؛ كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله-: يتعلق بالموجود حالة النذر؛ فعلى هذا: لو زاد ماله: لا يلزمه إخراج الثلث من تلك الزيادة. ولو أوصى بألف، ولا مال له، ثم استفاد مالاً-: لا تتعلق به الوصية. ولو أوصى بدار-: يدخل فيه كل ما يدخل في مطلق بيع الدار، فلو انهدم بعض الدار قبل موت الموصى-: فالوصي بما فيه فيما بقى، إذا لم يزل عنها اسم الدار، وما انفصل منها: فخارج عن الوصية؛ نص عليه. وقيل: لا يخرج عن الوصية؛ اعتباراً بحالة الوصية؛ فإنه كان متصلاً بها يوم الوصية، وإن صارت عرضة، وزال عنها اسم الدار-: ففيه وجهان: أحدهما: تبطل الوصية؛ لأنه أوصى له بالدار، وقد زال عنها اسم الدار. والثاني: وهو الأصح-: لا تبطل؛ لأنه لم يوجد منه ما يدل على الرجوع، فأما إذا هدمها الموصي-: كان رجوعاً؛ لأنه تصرف بما أزال به الاسم؛ كما لو أوصى بحنطة فطحنها، وقيل: ن بقي هناك ما يتناوله اسم الدار-: فلا يكون رجوعاً، أما ما انفصل-: فيكون خارجاً عن الوصية. ولو أوصى له بثلث شيء، فاستحق ثلثاً-: نقل المزني: أن له الثلث الباقي، ونقل الربيع: أن له ثلث الباقي، فاختلف أصحابنا فيه. منهم من جعله على قولين: أحدهما: له ثلث الباقي؛ لأن الاستحقاق ورد على الثلثين شائعاً؛ كما لو أوصى بثلث ماله، ثم استحق من ماله الثلثان-: كان له ثلث الباقي. والثاني: له ثلث الباقي، وهو الأصح؛ لأنه أوصى له بالثلث، وثلث الدار مملكة والثلث، يحتمله؛ كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث، وليس كما لو أوصى بثلث ماله، فاستحق ثلثاه؛ لأن ماله هو الباقي بعد الاستحقاق؛ فيكون له ثلثه.

ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين حيث قال له الثلث الباقي. صورته: أن يشتري ثلث دار من زيد، وثلثيها من عمرو، وأوصى لإنسان بما اشتراه من زيد، ثم استحق ما اشتره من عمرو وبالاستحقاق ولم يرد على ما أوصى به. وحيث قال: له ثلث الباقي: أراد به إذا أوصى بثلثها مطلقاً. ولو أوصى له بثلث ثلاثة أبعد، فاستحق اثنان منهم-: فله ثلث الباقي؛ لأنه لم يوص له من كل واحد إلا بثلثه. ولو أوصى بثلث صبرة، فتلف ثلثاها-: يصرف إليه ثلث الباقي؛ لأن الوصية قد تناولت بعض ما تلف، ولم تتناول المستحق. فصل فيما يعتبر من الثلث من تصرف الإنسان التبرعات المعلقة بالموت، كالتدبير، والوصية بالصدقة، والمحاباة في البيع، إذا أوصى به-: يكون معتبراً - من الثلث، سواء كان وقت العقد صحيحاً أو مريضاً؛ لأنه ينجزه بعد الموت. أما التبرعات المنجزاة فيا لحياة - ينظر فيه: فإن فعل في حال الصحة-: لم يعتبر من الثلث؛ لأنه لا حق لأحد في ماله، وإن فعل في مرض الموت، مثل: إن وهب شيئاً أو تصدق به أو وقفه، أو أبرأ عن دين، أو أعتق عبداً، أو كاتبه، أو باع بالمحاباة، أو نسيئة، أو اشترى بالغبن الفاحش-: فيكون معتبراً من الثلث. أما الغبن اليسير الذي يقع مثله لأهل البصر-فنقول: لو وهب في الصحة وأقبض في المرض-: يكون من الثلث. ولو باع المريض بثمن المثل-: جاز، سواء باع من الوارث أو من أجنبي. وقال أبو حنيفة: لا يصح بيع المريض من وارثه، وإن باع بأضعاف ثمنه، ووافقنا أن الشراء منه يصح، ون نكح المريض في مرض موته-: يصح، وإن نكح أربعاً، ثم إن لم يزد على مهر المثل-: يكون من رأس المال؛ لأنه لا يخرجه عن ملكه بغير عوضن وكذلك ما أنفق المريض على نفسه باللذات والشهوات المباحة من شراء الأطعمة الشهية والثياب النفيسة، وشراء الجواري الحسان-: يكون من جميع ماله، إذا لم يزد على ثمن المثل، وإن نكح بأكثر من مهر المثل-: فتلك الزيادة وصية، فإن لم تكن المرأة وارثة بأن كانت أمة أو ذمية-: تعتبر تلك الزيادة من الثلث، وإن كانت ممن يرث-: فالزيادة مردودة. ولو نحت امرأة في مرض موتها-: صح النكاح؛ ثم لو نكحت بمهر المثل فأكثر-: ثبت، وإن نكحت بأقل من مهر المثل: فإن كان الزوج ممن يرث-: يكمل مهر المثل، وإن لم

يكن ممن يرث-: لا يكملن فهذا النقصان وصية في حق التكميل؛ إن كان الزوج وارثاً، وليس بوصية في الاعتبار من الثلث؛ لأنه لا يتوهم بقاء البُضع للوارث بعد الموت؛ فهو كما لو أعار المريض نفسه أو أجره بالمحاباة-: لا يعتبر من الثلث؛ وإنما يعتبر من الثلث ما يتوهم بقاؤه للوارث، لو تعجل الموت، حتى لو أعار عبده أو أجره بالمحاباة-: يعتبر من الثلث. ولو أعتق أمة في مرض موته، ثم نكحها، فمات-: لا ميراث لها؛ لأن عتقها وصية، والميراث والوصية لايجتمعان، أما إذا أعتق أم ولده في مرضه، ثم نكحها-: ورثته؛ لأن عتقها ليس بوصية؛ لأنه من رأس المال، وإن كانت الأمة القن ثلث ماله، أعتقها، ونكحها في مرضه-: فلا مهر لها أيضاً؛ لأنا لو ألزمناه المهر-: لزمه دين يمنع خروجها من الثلث، وإذا لم يخرج عتقها من الثلث-: لم يصح نكاحها، ويجب لأم الولد، إذا أعتقها ونكحها المهر، لأن عتقها من رأس المال. ولو باع في مرض موته عبداً، لا مال له سواه؛ بثمن مؤجل يعتبر من الثلث سواء باعه بمثل ثمنه أو أكثر، ثم إن لم يُجز الوارث، وردما زاد على الثلث-: فالمشتري بالخيار، إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز في ثلثه بثلث الثمن. ثم إذا أدى ذلك الثلث من الثمن-: هل يزاد، ويصح العقد في نصف ما أدى؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن العقد ارتفع في الباقي. والثاني: يُزاد بقدر نصفه، وهو السدس، ثم إذا أدى ذلك السدس-: يُزاد بقدر نصفه؛ لأنه لا يحصل للوارث شيء إلا زيد في الوصية بقدر نصفه؛ ألا ترى أنه لو ظهر للميت مال بقدر ما يخرج كله من الثلث-: يصح العقد في كُله. ولو باع في مرضه عبداً يساوي ثلاثمائة بمائة، لو مال له سواه: فإن أجاز الوارث-: صح البيع في الكل، وإن لم يُجز الوارث-: يبطل البيع فيما لا يخرج من الثلث. وقيل: في الباقي قولان؛ بناء على تفريق الصفقة. والمذهب: أن البيع لا يبطل في الباقي؛ لأن المحاباة في المرض وصيةن والوصية تقبل من الغرر ما لا يقبل غيرها، ويتوقف من عقود المريض ما لا يتوقف من عقود الصحيح؛ وهذا لأنه لو رُوعي فيه ما يُراعى في عقود الصحيح-: أدى إلى بطلان الوصية، وفيه تفويت حق المريض. إذا ثبت أنه لا يبطل في الكل-: ففي قدر ما يصح منه قولان: أظهرهما- وعليه نص الشافعي-: أن البيع يصح في مقدار ما يخرج من الثلث بجميع

الثمن، فيضم ما أحتمله الثلث إلى قدر الثمن من البيع؛ فيصح فيه البيع؛ ففي هذه المسألة ما يحتمله الثلث مائة فيضم إلى قدر الثمن من البيع، وهو مائة؛ فيصح البيع في ثلثين العبد بجميع الثمن، وهو مائة؛ فذهب في المحاباة مائة، وبقي للورثة مائتان: مائة من العبد ومائة من الثمن. والقول الثاني: خرجه ابن سريج، وقال: لا يجوز أن يبطل البيع في شيء من البيع، إلا وسقط بقدره من الثمن؛ لأنه قابل بالثمن بالكل؛ فيوزع على جميعه؛ فينظركم نسبة الثلث من جميع الوصية؛ فيصحح العقد بتلك النسبة؛ فههنا: نسبة الثلث من جميع الوصية نسبة النصف؛ فيصحح العقد في نصفه بنصف الثمن، وهو خمسون؛ يذهب في الوصية مائة، ويبقى للوارث مائتان: مائة وخمسون من العبد، وخمسون من الثمن. هذا إذا كان العوضان مما لا يعتبر المساواة بينهما، فإن كان العوضان مما لا يجوز التفاضل بينهما؛ مثل إن باع قفيز حنطة يساوي عشرين بقفيز حنطة أردأ يساوي عشرة في مرض موته، ولم يُجز الوارث: من أصحابنا من قال: إن قلنا بالقول الأول: إن العقد يصح في مقدار ما يخرج من الثلث بجميع الثمن- فههنا: يبطل العقد في الكل؛ لأن الفضل بينهما حرام، وعلى القول الآخر: يصح العقد في ثلثي القفيز الجيد بثلثي الرديء. ومنهم من قال: هذا على قول واحد، وهو الأصح: أنه يصح العقد في ثلثي الجيد بثلثي الرديء حتى لا يؤدي إلى إبطال حق الميت في الوصية. فصل فيمن تصح منه الوصية من صح تصرفه في المال-: صحت وصيته، ولا تصح وصية الصبي الذي لا يعقل، ولا وصية لمجنون. ولو أوصى مراهق بشيء، أو دبر عبداً-: هل يصح أم لا فيه قولان. أصحهما: وهو قول أبي حنيفة-: لا يصح؛ كما لا يصح بيعه، ولا إعتاقه. والثاني: يصح؛ وبه قال مالك؛ لأنه لا ضرر عليه فيه؛ فإن ملكه لا يزول عنه مادام حيًّا، وبعد الموت: يبقى له ثوابه؛ بخلاف ما لو علق عتق العبد في حياته: لا يجوز؛ لأنه قد توجد الصفة في الحياة؛ فيزول ملكه. وأما المحجور عليه بالسفه، إذا أوصى أو دبر-: هل يصح قيل: فيه قولان؛ كالمراهق. وقيل: يصح قولاً واحداً؛ لأن له قولاً معتبراً؛ بدليل أنه قع طلاقه، ويصح إقراره.

بالعقوبة على نفسه؛ بخلاف المراهق. ومن اعتقل لسانه، فأوصى بالإشارة -: يصح؛ أصمتت أمامة بنت أبي العاص، فقيل لها: ألفلان كذا، ولفلان كذا، فأشارت أن نعم، فوقع ذلك، فرويت أنها وصية. باب: الرجوع عن الوصية رُوي عن عمر رضي الله عنه-: أنه قال: "يغير الرجل ما شاء من الوصية". التبرعات المنجزة في مرض الموت، والمعلقة بالموت-: يستويان في الاعتبار من الثلث، ويفترقان في ثلاثة أحكام. أحدها: أن المنجز- يملك قبل الموت، والمعلق لا يملك. الثاني: أن المنجز يقدم الأسبق فالأسبق، وفي المعلق: لا يقدم إلا أن يقيد، فيقول إذا مُت-: فعبدي فلان حر، ثم أعتقوا فلاناً لعبد آخر-: يتقدم الأول. الثالث: أنه لا يملك الرجوع عن المنجز، ويجوز الرجوع عن المعلق بالموت إلا التدبير، فن فيه قولين، حتى لو قال إذا مُت فادفعوا إلى فلان كذا، أو تصدقوا بكذا، أو أعتقوا عبدي إذا أوصى بأن يوقف-: فله أن يرجع فيها، ثم الرجوع عن الوصية تارة يكون بالقول، وتارة بالفعل. فالقول: مثل أن يقول رجعت في الوصية التي أوصيت، أو أبطلتها، أو فسخت، أو رفعت، ولو قال: هو حرام عليه-: فهو رجوع، وكذلك: لو قال: هو لوارثي -: يكون رجوعاً، ولو قال: هو تركتي-: فعلى وجهين: أحدهما: أنه رجوع؛ لأن التركة للورثة. والثاني: لا يكون رجوعاً؛ لأن الوصية من جملة التركة. ولو باعه أو وهبه وأقبضه أو رهنه فأقبضه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو دبره، أو أوصى بأن يباع، أو يوهب، أو يعتق، أو يكاتب-: فهو رجوع، ولو عرضه على البيع، أو وكل ببيعه، أو وهبه، أو رهنه، ولم يُقبضه-: فهو رجوع؛ لأنه لما عرضه لزوال الملك-: فقد صرفه عن الموصى له.

وقيل: إذا عرض على البيع، أو وهب، أو رهن، ولم يقبض-: لا يكون رجوعاً، وليس بشيء. ولو أوصى بعبد لإنسان، ثم أوصى به لآخر-: لا يكون رجوعاً؛ لإمكان أن يكون قصده الجمع بينهما، ثم إن قبلا-: فهو بينهما نصفان، وإن رد أحدهما-: فكله للآخر، وإن أوصى بنصفه لآخر: فإن قبلا-: فثلثه للثاني، وثلثاه للأول، وإن رد الثاني-: فكله للأول، وإن رد الأول-: فنصفه للثاني؛ بخلاف ما لو أوصى بعبد لرجلين، فقبل أحدهما، ورد الثاني-: لا يكون للقابل إلا النصف؛ لأنه لم يوجب لكل واحد إلا نصفه. ولو أوصى لإنسان بعبد، ثم قال لآخر: أوصيت لك بالعبد الذي أوصيت به لفلان، أو قال: العبد الذي أوصيت به لزيد هو لعمرو-: فهو رجوع، وكله للثاني، وكذلك: لو أوصى بعبد لزيد، ثم قال: بيعوه واصرفوا ثمنه إلى عمرو، وإلى الفقراء-: كان رجوعاً، ولو أوصى، فقال: بيعوا هذا العبد، واصرفوا ثمنه إلى الفقراء، ثم قال: اصرفوا ثمنه إلى المساكين-: لم يكن رجوعاً، ويجعل بينهما نصفان. ولو أوصى بثلث ماله، ثم باع ماله-: لم يكن رجوعاً؛ لأن الوصية بثلث ما يكون له عند الموت. ولو أوصى بجارية، ثم زوجها، أو بعبد، فزوجه، أو أجره، أو أعاره-: لا يكون رجوعاً؛ كما لو استخدمه، أو كانت دابة، فركبها، أو ثوباً فلبسه، أو كان عبداً فختنه، أو علمه صنعه. أما الرجوع بالفعل: مثل: إن أوصى له بحنطة، فطحنها، أو قلاها، أو بذرها، أو بدقيق، فعجنه، أو بعجين فخبزه، أو بخُبز فثرده-: كان رجوعاً؛ لأنه جعله للاستهلاك. ولو تعجن الدقيق بنفسه-: هل تبطل الوصية؟ فيه وجهان؛ وكذلك: لو أوصى له بشاة فذبحها، أو بلحم فطبخه-: كان رجوعاً؛ لأنه جعله للأكل في الحال. ولو أوصى له بخبز، فجعله فتاتاً-: ففيه وجهان: أحدهما: هو رجوع؛ لأنه أزال عنه إطلاق اسم الخبز؛ كما لو ثرده. والثاني: لا يكون رجوعاً؛ لأن الاسم باق، يقال: خُبزٌ مدقوق؛ وكذلك: لو أوصى له بلحم فقدده، أو برطب فعله تمراً-: فعلى وجهين: ولو أوصى له بقطن فغزلهن أو بغزل فنسجه-: كان رجوعاً. ولو أوصى بقطن فحشا به فرشاً-: فعلى وجهين.

ولو أوصى-: له بحنطة معينة، أو بطعام معين، فخلطه بغيره-: كان رجوعاً؛ لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه. ولو أوصى بقفيز من صُبرة، ثم خلط الصبرة بمثلها-: لم يكن رجوعاً لأن ما أوصى به كان مختلطاً بمثله، وإن خلطه بأجود-: كان رجوعاً؛ لأنه لم يرض بتمليك الزيادة، وإن خلطه بارداً-: فعلى وجهين، ولو انثالت عليها حنطة مثلها، أو أردأ-: لا تبطل الوصية، وإن كانت أجود-: هل تبطل الوصية؟ فيه وجهان: ولو أوصى له بجارية، فوطئها: فمن أصحابنا من قال: لا يكون رجوعاً؛ كما لو استخدمها. ومنهم من قال؛ إن عزل عنها-: لم يكن رجوعاً، وإن لم يعزل-: كان رجوعاً؛ لأنه قصد التسري بها، وأبقاها لنفسه. ولو أوصى له بثوب فقطعه قميصاً، أو بخشبة فجعلها باباً-: كان رجوعاً؛ كالحنطة فيطحنها، ولو صبغه: كان رجوعاً، ولو غسله: لا يكون رجوعاً، ولو قصره: فوجهان: ولو أوصى بأرض فزرعها-: لم يكن روعاً؛ لأنه لا تُراد للبقاء؛ كما لو أجرها. ولو غرسها، أو بنى فيها-: فعلى وجهين: أحدهما: لا يكون رجوعاً؛ كما لو زرعها. والثاني: وهو الأصح عندي- كان رجوعاً؛ لأن الغراس والبناء للتأبيد؛ فكأنه أبقاها لنفسه، وإن قلنا: لا يكون رجوعاً-: ففي موضع الأساس وقرار الغراس وجهان: أحدهما: لا تبطل فيه الوصية؛ البياض الذي بين الغراس، فإذا مات الغراس وزال البناء - كان للموصى له. والثاني: تبطل؛ لأنه جعله تابعاً لما عليه. ولو أوصى بدار، فعمرها-: لم يكن رجوعاً؛ كالثوب يغسله. قلت: ولو بنى فيها بناء جديداً-: فعلى وجهين؛ ما لو بنى في الأرض؛ فإن لم نجعله رجوعاً-: فلا تكون الزيادة في الوصية. وقيل: تكون في الوصية. ولو أوصى لإنسان بسُكنى دار سنة، ثم أجرها دون السنة، فمات قبل انقضاء مدة الإجارة-: بطلت الوصية بقدر ما بقى من مدة الإجارة، ويبقى الباقي. وقيل: لا تبطل، ويسكن مدة الوصية بعد انقضاء الإجارة.

ولو أوصى لإنسان بألف ثم أوصى له بألف-: فهو ألف واحدة؛ وكذلك-: لو أوصى بألف معينة، ثم بألف مطلقة، أما إذا أوصى بألف معينة، ثم بألف أخرى معينة-: فهما ألفان، ولو أوصى بألف، ثم بألفين-: فهي ألفان؛ وكذلك: لو أوصى بخمسمائة، ثم بألف-: فهي ألف، ولو أوصى بألف، ثم بخمسمائة-: ففيه وجهان أحدهما: هي ألف وخمسمائة. والثاني: خمسمائة؛ كأنه رجع عن الألف إلى خمسمائة. باب المرض الذي يجعل العطية من الثلث العطايا والتبرعات المنجزة في مرض الموت تعتبر من الثلث؛ كالمعلقة بالموت، وما كان في الصحة، أو في مرض لم يمت منه-: يكون من رأس المال. ولو أعطى في المرض، ومات قبل أن يبرأ منه-: فالأمراض على أقسام. قسم منه: لا يكون منه الهلاك غالباً؛ الجرب والرمد ووجع الضرس والصداع والحمى اليسيرة؛ فعطاياه منه تكون من رأس المال؛ ما في حال الصحة، وإن مات بعده. وقسم: يخاف منه التلف، فينظر: إن صار إلى حالة اليأس ومعاينة الموت، وشخص بصره، أو قطع مريئه أو حلقومه، أو شق بطنه، وأبين خيشومه إلا أنه يتكلم-: فهو كالميت؛ لا يكون لكلامه حكم، فن كان فاسقاً-: لا تقبل في هذه الحالة توبته، وإن كان كافراً-: لا يصح إسلامه، ولا ينفذ شيء من عطاياه، وفي هذه الحالة: كان كإيمان فرعون؛ فلم يقبل، ون لم يصر المريض إلى هذه الحالة، لكن مرضه مخوف؛ فتكون عطاياه من الثلث، إن مات، وإن برأ، فمن رأس المال. قلت: فإن كان مرضه مخوفاً، فأعطى، ثم جز إنسان رقبته، أو سقط من سطح، فمات-: تكون عطيته من الثلث. فمن الأمراض المخوفة: الحمى الشديدة المطبقة، والقولنج، وذات الجنب،

والرعاف الدائم، والإسهال المتواتر، فإن كان الإسهال يوماً أو يومين-: فلا يكون مخوفاً إلا أن يكون معه دم أو زحير أو تقطيع، أو كان البطن منخرقاً، أو يسترسل جوفه بحيث لا ينحبس؛ فيكون مخوفاً. أما الحُمَّى؛ فإن حُمَّ الرجل يوماً أو يومين، فأعطى، ومات- نُظر: إن لم يعرق، فتكون من الثلث، وإن مات بعدما عرق -: فمن رأس المال. وإن كانت الحمى دائمة-: فهي على أنواع: حمى الورد، وهي التي تأتي كل يوم؛ وحمى الغِبِّن وهي: التي يوماً ولا تأتي يوماً، وحمى الثلث، وهي: التي تأتي يومين، ولا تأتي يوماً، وحمى الأخوين، وهي: التي تأتي يومين، ولا تأتي يومين. وحمى الربع، وهي: التي تأتي يوماً، ولا تأتي يومين. جميع هذه الأنواع مخوفة إلا الربع؛ فإنها بمجردها غير مخوفة إلا أن ينضم إليها وجع من برسام أو ذات جنب أو وجع خاصرة ونحوها، فيكون مخوفاً. ومن ساوره الدم، حتى تغير عقله، أو المرار أو البلغم-: فهو مخوف. والفالج وابتداؤه مخوف، لأنه ربما يذهب الحرارة الغريزية، فيهلك، فإن استمر به البلغم، وصار فالجاً- فليس بمخوف؛ لأنه إذا طال -: يؤمن معه معاجلة الموت، فإن لم يبق فيه حركة-: فمخوف. والسُّلُّ وابتداؤه مخوف، فإذا استمر-: فليس بمخوف؛ لأن الغالب أنه إذا دام -: لا يقتل قريباً، ويبقى فيه مدة، فهو كالهرم، وإن كان لا يفارق صاحبه ما لم يمت؛ وكذلك الفالج، أما الدق: فمخوف، وهو داء يغزو القلب، والسل داء يغزو الرئة، والطاعون مخوف،

إذا أصاب الإنسان، فإن وقع في البلد-: فهل يكون مخوفاً في حق من لم يُصبه؟ فيه وجهان أصحهما: يكون مخوفاً. وإن أشكل أمر شيء من هذه الأمراض: يرجع على أهل العلم بالطب من المسلمين، ولا يُقبل فيه قول الكفار، فإن شهد عدلان من المسلمين؛ أنه مخوف-: فهو مخوف. ولا يكتفي بعدل واحد، ولا برجل وامرأتين. ولو اختلف الوارث والمتبرع عليه في كونه مخوفاً بعد الموت-: فالقول قول المتبرع عليه، مع يمينه؛ لأن الأصل سلامته. فإن أقام الوارث بينة-: تسمع، ولا تقبل إلا من رجلين عدلين عالمين بالطب، والحامل إذا ضربها الطلق-: يكون مخوفاً. وإن أصابته جراح - نُظر: إن كانت نافذة إلى جوف أو دماغ أو كانت على موضع كثير اللحم فهو مخوف؛ وألا فليس بمخوف إلا أن يكون له وجع أو ضربات شديد، أو تورم، أو أكلةٌ: فيكون مخوفاً. وإن كان في سفينة فاغتلم البحر، وهاجت الأمواج. أو كان أسيراً في أيدي الكفار، وهم يقتلون الأسارى. أو التقى الصغان في الحرب، والتحم القتال، فأعطى رل في تلك الحالة-: نص على أنه من الثلث. ونص فيما لو قدم ليقتل، قصاصاً أنه ليس بمخوف. اختلف أصحابنا في هذه المسائل: منهم من جعل الكل على قولين: أحدهما: ليس شيء منها مخوفاً، ما لم يصبه السلاح. والثاني: كلها مخوف؛ لأن الغالب منه الهلاك. ومنهم من فرق على ظاهر النص، وقال: البحر لا يغيث، والكافر لا يرحم المسلم، وعند التحام القتال: لا يرحم بعضهم بعضاً؛ فكان الكل مخوفاً، ومن له القصاص: قد يرحم فيعفوا طلباً للثواب؛ فلم يُكن مخوفاً. وإذا قُدم ليُقتل بسبب القتل في الحرابة أو ليرجم بسبب الزنا-: فهو كالأسير في أيدي الكفار؛ لأنه لا يجوز تركه للرحمة.

باب الأوصياء رُوي أن عبد الله بن مسعود أوصى بكتاب:"عن وصيتي إلى الله وإلى الزبير بن العوام، وإلى أبيه عبد الله بن الزبير". يستحب لمن قرب وفاته: أن يُوصي إلى أمين في أموره من قضاء ديونه ورد مظالمه وتنفيذ وصاياه، وأمور أطفاله، فإن لم يفعل-: ينصب القاضي قيماً يتولى هذه الأمور عنه. ويصح الإيصاء من كل حر مكلفٍ، أما في أمور الأطفال-: لا يصح إلا من الأب أو الجد أب الأب عند عدم الأب. وجوز الإصطخري: للأم أن توصي في أمور أطفالها، وإذا أوصى في أمور أطفاله-: لا تصح حتى تكون في المُوصى خمس شرائط. الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعدالة. فلو أوصى إلى ذمي في حق مسلم-: لا يجوز؛ لأنه غير مأمون على المسلم؛ قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] ولو أوصى ذمي إلى مسلم-: يجوز. ولو أوصى ذمي إلى ذمي: فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يكون وليًّا لولده الكافر. والثاني: لا يجوز؛ كما لا تقبل شهادة الذمي لمسلم ولا لكافر. وقال الأوزاعي: يجوز إن أوصى إلى عبد نسه، وبه قال أبو حنيفة، إذا كانت ورثته أطفالاً. ولو أوصى إلى فاسق-: لا يجوز بخلاف ما لو وكل فاسقاً ببيع ماله: يجوز؛ لأنه يتصرف في حق نفسه، والإيصاء في حق غيره، نظيره: الأب إذا وكل فاسقاً في مال ولده-: لا يجوز. هذا كما أن الرجل إذا أودع ماله عند فاسق: يجوز، والمودع لا يودع إلا عند أمين.

ولو أوصى إلى امرأة-: يجوز، سواء كانت أم طفل أو أجنبية. واختلف أصحابنا في الأعمى: هل يجوز أن يجعل وصيًّا؟ منهم من قال: يجوز؛ لأنه من أهل الشهادة؛ كالبصير. والثاني: لا يجوز؛ لأن الموصى قد يفتقر إلى عقود لا تصح من الأعمى. فإن أوصى، وقال: جعلت وصياً في أمور أطفالي والتصرف في أموالهم، أو الحاكم قال لرجل: جعلتك قيماً في أمور أطفال فلان والتصرف في أموالهم-: جاز، وملك حفظ الأطفال والأموال والتصرف. ولو قال الأب: جعلتك وصياً في مال ولدي، أو قال الحاكم: جعلتك قيماً في مال أطفال فلان-: ملك حفظ المال، وهل يملك التصرف؟ فيه وجهان: وكذلك-: لو قال: أوصيت إليك في أمور أولادي، أو قاله الحاكم-: ملك حفظ الأولاد، وهل يملك التصرف في أموالهم فعلى وجهين. ولو قال: وليت مال فلان-: يقتضي الحفظ لا التصرف، ولا تتم الوصية إلا بالقبول. ويشترط قبول الوصي بعد موت الموصي، كقبول الوصية: فلو قبل في الحياة، ولم يقبل بعده-: لم تصح. وقيل: يصح القبول في الحال، والامتثال يكون بعد الموت كالوكالة، قبولها في الحال، والامتثال بعد. ولو أوصى إلى صبي فبلغ قبل موت الموصى، أو إلى كافر فأسلم، أو إلى فاسق فحسنت حالته قبل موت الموصى-: فاختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: شروط الوصاية شرط عند موت الموصى لا حالة الإيصاء؛ كما أن عدالة الشهود شرط عند الأداء لا عند التحمل. ومنهم من قال: تعتبر هذه الشروط حالة العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما. ومنهم من قال: تعتبر حالة العقد إلى الموت؛ لأنه ما من حال بعد الوصية إلا ويتصور فيه الموت والحاجة إلى التصرف. وإن تغير حال الوصي بعد موت المُوصي نُظر: إن فسق انعزل، وكذلك: القيم والحاكم، وإذا تاب لا تعود ولايته إلا بتولية جديدة، وإذا جُنَّ أو أغمى عليه-: فالإمام يُقيم

غيره مُقامه، فإذا أفاق قبل تولية الغير-: هل يكون على الولاية؟ فيه وجهان: أحدهما: يلي؛ كالإمام الأعظم إذا جُنَّ أو أغمى عليه، ثم أفاق-: كان على الولاية. والثاني: لا [يلي] إلا بتولية جديدة؛ لأنهم يتولون بالتفويض؛ كالوكيل: ينعزل بالجنون والإغماء، ولا يعود بعد الإفاقة. أما الأب أو الجد إذا فسق-: ينزع مالُ الطفل من يده، فإذا مات أو جُنَّ، فأفاق-: فهو على ولايته؛ لأن ولايته شرعية، والإمام الأعظم لا ينعزل بالفسق؛ لأن تولية الفاسق تجوز ابتداءً. ولو جُنَّ أو أغمى عليه، ثم أفاق-: فهو على ولايته، فإن أفاق بعد تولية الغير-: فالولاية للثاني إلا أن يخاف الفتنة؛ فهي للأول. ولو تعدى الوصي أو القيم في مال الصبي-: انعزل؛ فإذا تاب-: لا يعود أميناً حتى ينصبه الحاكم. وإذا كان قد أتلف مالاً-: فلا يخرج من خمسانه، حتى يدفع قيمته إلى الحاكم، ثم يرده إليه الحاكم بعد التولية، والأب إذا تعدى-: لا يصرف له حتى يتوب؛ فإذا تاب-: فهو على ولايته، وإن كان قد أتلف مالاً-: فله أن يقتص للصبي من نفسه. وإن أكل شيئاً-: من مال الطفل عند الضرورة-: يجوز، أباً كان أو جداً أو قيماً، ثم الأب يقتص الضمان من نفسه للصبي، والوصي أو القيم يدفعه إلى الحاكم، حتى يقتص للصبي، ثم يرد إليه، وإن ضعف الوصي-: ضم إليه أمين، فإن كان الضعف في رأيه-: ضم إليه من يسدده، وإن كان في بدنه بأنه عجز عن الكتابة والحساب ونحوها-: ضُم إليه من يعينه على العمل، ولا يعزله الحاكم؛ بخلاف ما لو نصب قيماً، فضعف-: له عزله؛ لأنه الذي نصبه. ويجوز للوصي أني عزل نفسه، وللموصى أن يعزله متى شاء؛ لأن تصرفه بالإذن؛ فكان لكل واحد فسخه؛ كالوكالة. ولو أوصى رجل بتفرقة ثلثه، ولم ينصب وصيًّا، وله أب-: فالحاكم أولى بتفرقة ثلثه، فينصب فيه قيماً، والأب يقضي ديونه، ويقوم بأمور أطفاله، فلو أنه أوصى إلى إنسان بتفرقة ثلثه، وقضاء ديونه، والتصرف في أموالهم، ومات وله أب،-: فالموصى أولى بتفرقة ثلثه وقضاء ديونه وبيع ماله فيه، أما أمور الأطفال والتصرف في أموالهم-: فالجد أولى، ولا تصح وصية الأب فيه؛ على أصح الوجهين؛ لأن ولايته شرعية؛ فلا يقدر الأب على نقلها منه؛ كولاية التزويج. وفيه وجه آخر، وبه قال أبو حنيفة: أنه على الوصي لأنه نائب الأب، والأب أولى من الجد، كذلك: نائبه.

ولو أوصى إلى إنسان في نوع-: لا يصير وصيًّا في غيره، وكذلك: لو أوصى إليه إلى مدة-: لا يكون وصيا بعد تلك المدة؛ مثلُ: إن قال: أوصيت إليك سنة، أو إلى أن يرجع فلان من السفر، أو أوصى إلى زوجته إلى أن ينكح-: فيصح، ولا يكون وصياً بعده. وعند أبي حنيفة: إذا أوصى إليه في نوع-: كان وصياً في جميع الأنواع. ولو أوصى إلى رجلين-: يجوز، ثم إن كان لك أمراً ينفرد صاحب الحق بأخذه؛ مثل: رد المظالم من المغصوب والعواري، ورد الودائع، وتسليم المنافع-: يجوز أن ينفرد كل واحد منهما به، وكذلك: الوصية المعينة وقضاء الدين: إذا وجد جنس حقه، فأما ما سوى ذلك من أمور أولاده، والتصرف في أموالهم، وتفرقة ثلثه- نُظر: إن قال: جعلت إلى كل واحد منهما، أو قال: جعلت إليهما، أو: إلى كل واحد منهما-: يجوز أن ينفرد به كل واحد منهما، وإن مات أحدهما، أو فسق، أو ضعف-: جاز لآخر أن يتصرف ولا يضم إليه غيره؛ لأن الموصى رضي بنظر كل واحد منهما وحده، وكذلك: لو قال: أوصيت إلى زيد، ثم قال: أوصيت إلى عمرو، ولا ينعزل الأول، وينفرد به كل واحد منهما. أما إذا قال: أوصيت إليكما في كذا مطلقاً، أو قال: ينفذان الأمر معاً-: فلا ينفرد به أحدهما حتى في شراء الكفن، وإعتاق عبد معين وغير معين. وعند أبي حنيفة: ينفرد به أحدهما. فنقول: المُوصى لم يرض برأي أحدهما؛ كما لو أوصى إلى زيد-: لا يقوم عمرو مقامه؛ لأن المالك لم يرض برأيه، فإن مات أحدهما أو فسق أو جُن أو غاب أو لم يقبل الوصية-: ضم الحاكم على الآخر أميناً. ولو أراد الحاكم أن يُفوض الجميع إلى الآخر-: لم يُجز؛ لأن الموصي لم يرض برأي واحد حتى لو تصرف الآخر وحده: فإن كان بيعاً أو شراء أو إعتاقاً-: لم ينفذ، وإن كان إنفاقاً-: ضمن، فلو ماتا جميعاً، أو فسقاً-: فهل للحاكم أن يفوضه إلى أمين واحدٍ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الموصى لم يرض بواحد. والثاني: يجوزُ، لأن حكم وصيته قد سقط، وصار الأمر إلى الحاكم. ولو اختلف الوصيان، فقال أحدهما: أفرق المال على هؤلاء وقال الآخر: بل على هؤلاء-: تولى الحاكم التفرقة. ولو اختلفا في حفظ المال: فإن كان شيئاً ينقسم، كالحبوب وأمثالها-: يجعلُ بينهما نصفين: يحفظ كل واحد منهما نصفه.

وإن كان مما لا ينقسمُ: فإن اتفقا على ثلثا يحفظه من جهتهما-: يجوزُ؛ وألا يسلمه الحاكم إلى من يحفظه. وإذا أراد التصرف: فلا ينفرد به أحدهما. قلت: هذا ذا جعل التصرف إليهما، أما إذا جعل الحفظ إليهما-: لا ينفرد به أحدهما، بل يضعانه في بيت، ويقفلان عليه. فصل في توكيل الوصي يجوز للوصي أن يوكل الغير بالبيع فيما لم تجر العادة بأن يتولاه بنفسه، ولا يجوز أن يوصي على غيره في أمور الموصى. وعند أبي حنيفة: يجوزُ؛ حتى قال: لو أوصى إلى إنسان في أموره-: يكون وصية وصيا فيما أوصى إليه. أما إذا قال الموصى لرجل: أوصيت إليك حياتك، فإن مت-: ففلان وصيي، أو: أوصيت إلى فلان-: تصح، فإذا مات الوصي الأول-: يكون الآخر وصيا، وكذلك: لو أوصى إلى رجلين، فقال: إذا مات أحدهما - فقد أوصيت جميع مالي إلى الثاني-: تصح؛ كما لو قال: أوصيت إليك إلى أن يرجع ابني؛ فإذا رجع فهو وصيي-: تصح. وإذا رجع الابن-: ينعزل الأول. رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر زيد بن حارثة ف جيش مؤتة، وقال: "إذا أصيب زيد فجعفر". ورُوي أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصت في وقفها إلى عليٍّ - رضي الله عنه- فإن حدث بك حدث، أو إن مت، فوصيك وصيي أو أوصيت إلى من أوصيت إليه-: فهل يجوز للوصي أن يوصى؟ فيه قولان: أحدهما: يجوزُ، فيقول: أوصيت إليك بتركة فلان، لأن الموصى قد أذن فيه؛ كالوكيل-: يجوز له أن يوكل بالإذن. والثاني: وهو الأصح، وقوله الجديد-: لا يجوزُ، لأنه ينعزل بالموت، فكيف يوصي إلى الغير؛ بخلاف الوكيل: فإنه يوكل في حال حياة الموكل بإذنه، والوصي يوصي بعد موت الموصى، ولأنه لو قال للوكيل: وكل بعد حياتي، أو بعد موتي-: لا يجوز، أما إذا قال للوصي: إذا حدث بك حدث-: فأوص إلى من شئت بعدك، أو أوص إلى فلان-: فقد قيل: فيه قولان، كالأول. وقيل- وهو الأصح-: لا يجوزُ ههنا؛ لأنه لم يضف الوصاية إلى نفسه، وفي المسألة

الأولى أضاف إلى نفسه، فقال وصيُّكَ وصيِّي؛ فجازَ؛ كما لو أوصى بنفسه. إذا كان مال اليتيم غائباً-: فولاية التصرف في ماله إلى قاضي البلد الذي: فيه اليتيم، ولا يجوز لقاضي بلد المال: أن يتصرف فيه؛ كما أن وليَّ المرأة قاضي البلد الذي فيه المرأة، حتى لو بعثت إلى قاضي بلد آخر، وأذنت له في تزويجها من رجل ببلد ذلك القاضي-: لا يجوز له تزويجها. فصل في متى يقوم بتنفيذ الوصايا من مات-: يُبدأ بعد تجهيزه ودفنه بقضاء ديونه، ثم بتنفيذ وصاياه، ثم الباقي من ماله للورثة، والدين والوصية: هل يمنعان الميراث؟ قيل: يمنعان، وهو قول الإصطخري، قال: تكون التركة باقية على ذلك الميت إلى أن يقضي دينه ووصيته؛ لان الله تعالى قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. والمذهبُ: أنهما لا يمنعان الميراث؛ بدليل أن لم أن يحفظوه ويؤدوا الدين من موضع آخر؛ فلا يقتسمون إلا بعد قضاء الدين والوصية. وفائدته تتبين فيما إذا حصلت زوائد من ولد الأمة، ونتاج البهيمة، وكسب العبد-: هل يتعلق بها حق الغرماء أم لا. إن قلنا: يمنع الميراث-: يتعلق بها حق الغرماء؛ وإلا فلا. وإن كان الدين أكثر من قيمة التركة، فقال الوارث: أنا آخذها بقيمتها، وطالب الغرماء ببيعها؟ فيه وجهان؛ بناء على أن العبد الجاني: إذا فداه السيد بماذا يفدى؟ فيه قولان: أصحهما: بالأقل من قيمته أو أرش جنايته؛ فعلى هذا: ههنا لا يجب بيعها؛ لأن الظاهر أنه لا يشتري بأكثر من قيمتها، وإن قلنا هناك: يفدى بأرش الجناية، وإن زادت على قيمته أو سلمه للبيع-: فههنا يجب تسليمها للبيع؛ لأنه قد يرغب فيها من يزيد في قيمتها؛ فلو تصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين؛ بأن باع منه شيئاً لنفسه أو رهن عيناً من التركة من نفسه-: هل يصح أم لا فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه تعلق به دين الميت؛ كالمرهون: لا يجوز للراهن بيعه، ولا رهنه؛ لتعلق حق المرتهن به. والثاني: يصحُّ؛ لأنه تعلق به بغير إذن المالك؛ كالمريض ينفذ تصرفه في ماله، مع تعلق حق الورثة به؛ بخلاف المرهون. فإن المالك أغلق على نفسه باب التصرف بعده فعلى هذا إذا قضى الوارث دين الميت؛ وإلا رُدَّ تصرفه وبيع في الدين. فإن قلنا: لا تصح: فإن كان قد باع عبد [اً] أو مات وتصرف الوارث في التركة، ثم وجد

المشتري بالعبد عيباً، ورده، أو لزم الميت دين، بأن كان حفر بئر عدوان، فوقعت فيها بهيمة، فهلكت-: ففي تصرف الوارث وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنهم تصرفوا في مالهم، لم يتعلق به حق الغير. والثاني: تبطل، لأنا أثبتنا تعلق الدين به. إذا قضى المريض في مرض موته ديون بعض غرمائه، ولا وفاء في التركة-: هل للباقين حق الاعتراض؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة: لهم ذلك؛ لأنه تعلق حق جميعهم بماله؛ بدليل أنه يرد تبرعه لحقهم؛ كما لو أوصى بقضاء ديون بعض الغرماء-: لا يحكم به، بل جميعهم سواء فيه. والثاني: لا اعتراض لهم؛ لأنه تصرف في ملكه؛ بدليل أنه لو اشترى أطعمة شهية وثياباً ثمينة-: لا اعتراض لهم عليه؛ بخلاف الوصية: فإنه لو أوصى بأن يكفن في ثيابه ثمينة-: لا يُعمل به لحق الغرماء. ولو أوصى إلى رجل ليبيع عبده، فيشتري بثمنه جارية يعتقها، ففعله الوصي بعد موته، ثم وجد مشتري العبد به عيباً، فرده على الوصي-: يبيعه ويدفع ثمنه إلى بائع الجارية، فإن باعه بأقل من ثمن الجارية-: غرم النقصان من مال نفسه؛ لأن الموصى له لم يأمره بأن يشتري الجارية بأكثر من ثمنه، وإن باعه بأكثر من ثمن الجارية-: دفع ثمن الجارية منه، والفضل للوارث. فصل فيما يلحق الميت رُوي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان-: انقطع عنه عمله غلا من ثلاث-: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". لا يلحق الميت

ما يفعل عنه الحي بعد موته بغير إذنه: إلا دُعاءٌ يدعو له، أو صدقة يتصدق عنه، أو حج يؤدي عنه، إذا كان فرضاً عليه، أو دين يقضي عنه. أما الدعاءُ: فالدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وأما الصدقة: روي عن أبي هريرة: أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم- إن أبي مات، وترك مالاً، ولم يوص-: فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم"، وعن ابن عباس؛ أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها". وأما الحج والدين، فرُوي أن امرأة من خثعم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الحج عن أبيها؟ وقالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان عليه دين فقضيته نفعه".

فأما ما سوى ذلك من القرب من الصلاة وقراءة القُرآن وغيرها: لا يلحق الميتُ. وذكر صاحب "التلخيص"؛ أنه لا يصل أحدٌ عن أحدٍ إلا ركعتي الطواف، واختلف أصحابنا فيه: منهم من وافقه، وقال: الأجير إذا حج عن الغير، وركع ركعتي الطواف-: يقع عن المستأجر؛ لأنها تبع للطواف؛ فجرت النيابة فيها تبعاً للأصل؟ بخلاف سائر الصلوات. ومنهم من قال: تقع الصلاة عن الأجير؛ لأن النيابة لا تجري فيها؛ كما لو ارتكب الأجير شيئاً من محظورات الحج-: لزمه الدم والصوم، ولا يقال: يقع ذلك عن المستأجر. واختلف القول في جواز الصوم عن الميت، وفي حج التطوع عنه إذا أوصى، ولا يعتق عنه تطوعاً؛ وتجوز عن كفارته في الجملة.

كتاب: الوديعة

كتاب: الوديعة بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. الوديعة: اسم لعين مالٍ يضعها مالها عند آخر؛ ليحفظها له. والمستحب لمن أودع منه وديعة، وهو يقدر على حفظها وأداء الأمانة فيها: أن يقبلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".

وما كان عاجزاً عن حفظها، أو لا يأمن من أن يخون فيها: لا يجوز أن يقبلها، وانعقادها يكون بالقبول، والقبول بالفعل؛ كالوكالة، فيقول المودع: أودعتك هذا، فيأخذه المُودع. وقيل: يشترط أن يقول بلسانه: "قبلتُ" ما قالوا في الوكالة؛ فلو لم يأخذها المودع بيده، فوضعها المالك بين يديه- نُظر: إن لم يقل المودع شيئاً: لم يكن إيداعاً، حتى لو ذهب، فترك، لا ضمان عليه، وإن قال المُودع: قبلت، أوضع فوضعها بين يديه-: كان إيداعاً؛ كما لو أخذها بيده، فوضعها بين يديه، فلو قام المودع، فذهب وتركها- نُظِرَ: إن كان صاحبها حاضراً صار راداً لها، ولا ضمان عليه، وإن تركها بعدما غاب صاحبها- ضمنها. ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فلو أودعه صبي أو سفيه لا يجوز أن يقبل، فإن أخذها - كان ضامناً وإن خاف أنه إن لم يأخذه منه، استهلكه، فأخذه-: هل يضمن؟ فعلى وجهين؛ بناء على المحرم بمكة: إذا أخذ صيداً من جارحة ليتعهدها-، هل يضمن؟ فيه وجهان. ولا يصح الإيداع إلا عند جائز التصرف، فلو أودع صبياً أو سفيهاً: لم يصح الإيداع؛ لأن القصد من الإيداع الحفظ، وهما ليسا من أهل الحفظ، فلو أودع واحداً منهما، فتلف عنده-: لم يضمن؛ لأنه لا يلزمه حفظه؛ فإن أتلفه: هل يضمن؟ فيه قولان: أحدهما: يضمن؛ كما لو دخل دار إنسان، فأتلف ماله: يضمن. والثاني: لا يضمن؛ لأن المالك منه من إتلافه بدفعه إليه؛ كما لو باع من صبي أو سفيه شيئاً، وسلمه غليه، فأتلفه-: لا ضمان عليه، وكذلك: لو أودع من عبدٍ شيئاً، فتلف عنده:- لا ضمان عليه، وإن أتلفه: يجب الضمان، ويتعلق برقبته أم بذمته؟ فعلى قولين: أحدهما: يتعلق برقبته؛ كما لو دخل دار إنسان، فأتلف ماله: يضمن. والثاني: لا يضمن؛ لأن المالك مكنه من إتلافه بدفعه إليه؛ كما لو باع من صبي أو سفيه شيئاً، وسلمه إليه، فأتلفه-: لا ضمان عليه، وكذلك: لو أودع من عبدٍ شيئاً، فتلف عنده:- لا ضمان عليه، وإن أتلفه: يجب الضمان، ويتعلق برقبته أم بذمته؟ فعلى قولين: أحدهما: يتعلق برقبته؛ كما لو دخل دار إنسان، فأتلف ماله. والثاني: يتعلق بذمته؛ كما لو اشترى شيئاً، فهلك في يده: يتعلق الضمان بذمته، وبه قال أبو حنيفة. وبعضنا استنبطوا من هذا أن الإيداع هل هو عقد أم لا؟ وفيه جوابان: إن جعلناه عقداً - فلا ضمن الصبي، ويتعلق بذمة العبد، وإن لم نجعله عقداً-، يضمنه الصبي، ويتعلق برقبة العبد، ويخرج منه أن دابة الوديعة، إذا ولدت: هل يكون الولد وديعة، حتى يجوز له إمساكه؟ فيه وجهان: إن جعلناه عقداً - فهو وديعة كالأم، وإن لم نجعله عقداً-: فليس بوديعة، وهو كثوب

ألقته الريحُ في دار: - يكون أمانة عليه رده، إن تمكن من الرد، فإن لم يرد ضمن، فإن لم يتمكن من الرد، فتلف عنده:- لم يضمن. وإن جعلناه عقداً-: فهو من العقود الجائزة؛ كالوكالة، فلكل واحد منهما الخروج متى شاء؛ فمتى أراد المودع أخذها: لم يكن للمودع منعها، ومتى أراد المودع الرد:- لم يكن للمودع الامتناع من قبولها. وتنفسخ بالعزل والجنون والإغماء، والموت؛ كالوكالة؛ لأنه وكالة في الحفظ؛ كالوكالة في البيع والشراء. وللوديعة أمانة في يد المودع يجب أن يحفظها، حيث يكون حرزاً لمثلها، فلو تعدى فيها: فإن استعملها، أو رفعها من مكانها بنية الاستعمال، وإن لم يستعمل أو وضعها حيث لا تكون حرزاً لمثلها:- صار ضامناً، يجب عليه قيمتها، إذا تلفت في يده، وإذا بقيت في يده مدة بعد التعدي:- يجب عليه أجر مثل تلك المدة. ولو نوى استعمالها، ولم يأخذها من مكانها، أو كانت في صندوق غير مقفل، فرفع رأس الصندوق بهذه النية، ولم يأخذ ما فيه، أو نوى ألا يرد، إذا طُولب: - لا يضمن بالنية؛ على الأصح. وقال ابن سريج يضمن؛ كما لو أخذ في الابتداء بهذه النية، أو أخذ اللقطة بنية الاختزال: يضمن. والأول أصح، لأنه لم يحدث مع نية التعدي فعلاً؛ بخلاف ما لو أخذ بهذه النية؛ لأنه أحدث هناك فعل الأخذ، مع نية التعدي؛ وكذلك في اللقطة. ولو دفع المودع الوديعة إلى غيره؛ ليحفظها، من غير ضرورية: - صار ضامناً؛ لأن المالك لم يرض بأمانة غيره. وكذلك: لو دفعها إلى عبده، أو خازنه، أو امرأته؛ لتحفها: - يضمن، على الأصح. وعند أبي حنيفة: إن دفعها إلى من يعوله من عبد أو ولد أو زوجة:- لم يضمن. أما إذا استعان بغيره، في حملها ونقلها إلى الحرز: لا يضمن؛ كما لو أودعه دابة، فاستعان بغيره، في سقيها وعلفها: - لم يضمن؛ لأن العادة قد جرت بالاستعانة في مثله. ولو سافر بالوديعة- نظر: عن كان المالك أودعه في السفر، أو أودع عند واحد من أهل النجعة، فانتجع

بها-:لم يضمن؛ - لأن المالك قد رضي به حيث أودع، وإن أودع عند مقيم-: لا يجوز أن يسافر بها من غير ضرورة، فإن فعل ضمن؛ لأنه يعرض الوديعة للهلاك. وعند أبي حنيفة لا يضمن، فإن عرض له سفرٌ؛ رد الوديعة. فإن دفعها إلى الحاكم أو إلى أمين- نظر: إن كان المالك أو وكيله حاضراً، ضمن سواء أراد سفراً أو لم يرد. ولو دفع إلى الوكيل مع حضور المالك-: جاز، سواء كان الوكيل فيه خاصاً أو عاماً في أموره، ولو لم يظفر بالمالك، ولا بوكيله، بأن كان غائباً أو محبوساً، لا يصل إليه- نظر: إن كان لا يريد سفراً، فرفع إلى أمين أو إلى الحاكم-: ضمن؛ لأنه تولى حفظها، ولا ضرورة به إلى الدفع إلى غيره. وقيل: إن دفع إلى الحاكم-: لا يضمن، وعلى الحاكم القُبول، إن دفع إليه؛ لأنه المنصوب لحفظ أموال الناس. وإن كان يريد سفراً: فإن وضعها عند الحاكم:- لم يضمن، وعلى الحاكم قبولها، إذا دفع إليه، وإن وضعها عند أمين- نظر: إن كان ثَمَّ حاكمٌ - يضمن؛ لأن الحكام هو المنصوب لحفظ الأمانات. وقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأنه أمين؛ كالحاكم. والأول أصح؛ بخلاف الحاكم؛ لأنه نائب عن الغائب؛ فهو بمنزلة وكيل الغائب. ولو كان الوكيل حاضراً، فأودعها أميناً-: ضمن، كذا ههنا، وإن لم يكن ثَمَّ حاكم، فأودعها أميناً-: لم يضمن ولو لم يجد في البلد أميناً-: يضعها عنده، فسافر بها-: لم يضمن، على ظاهر المذهب، وكذلك: لو وقعت ضرورة بأن انجلى أهل البلد، فأخرج الوديعة معهم، أو وقع في البلد حريق، أو نهب، أو غارة، فسافر بها-: لم يضمن؛ لأنه يجب عليه إخراجها، ولو أراد سفراً، فدفنها في حرز - نُظر: إن لم يعلم به أحد أو أعلم فاسقاً-: ضمن، وإن أعلم أميناً، حيث جوزنا له الإيداع من الأمين- نظر: إن كان ذلك الأمين لا يساكنه في البيت الذي فيه الوديعة-: ضمن؛ لأنه لم يودعه،

بل أعلمه، وإن كان يساكنه: لا يضمن؛ لأن يد الأمين ثابتةٌ على ما في البيت؛ فهو كما لو أودعه. ولو دفن الوديعة في غير حرزٍ -: ضمن، ولو دفنها في حرزٍ، فنسي مكانها-: ضمن. ولو نقل الوديعة عن مكانها إلى مكان آخر- لا يخلو: إما أن نقل من قرية إلى قرية أخرى، أو من بيت إلى بيت آخر: فإن نقل من قرية إلى أخرى- نُظر: إن نقل من قرية أهله إلى قرية غير أهله، أو نقلها إلى قرية أهله، لكن الطريق بينهما مخوفٌ، أو غير أهل، أو كان آهلاً، ولكن بينهما مسافة القصر-: يضمنُ، وإن كان بينهما أقل من مسافة القصر-: فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن، كما لو نقل من دار إلى دار من بلد واحد. والثاني: يضمن، إلا أن تتصل العمارة بني القريتين. هذا إذا كانت القرية الثانية أحرز من الأولى أو مثلها، فإن كان دونها في الحرز-: ضمن بكل حال. وكذلك: لو نقل من محلة إلى محلة دون الأولى في الحرز-: ضمن. أما إذا نقل من بيت إلى بيت آخر في دار واحدة أو خان واحد- نُظر: إن كان الثاني حرزاً لمثله، وإن كان دون الأول-: لم يضمن؛ بخلاف ما لو نقل من قرية إلى أخرى، وهي دون الأولى في الحرز-: ضمن؛ لأن النقل من القرية لا يخلو عن خوف. هذا إذا أطلق الإيداع، أما إذا أودعه، وقال: أحفظها في هذا البيت، فنقلها إلى بيت دونه في الحرز، وإن كان حرزاً لمثله: - ضمن، وإن نقلها إلى بيت أحرز منه أو مثله: لم يضمن، إلا أن يأتي التلف من ناحية المخالفة، بأن انهدم عليه البيت الثاني، أو سرق منه؛ فيضمن. ولو قال: احفظها في هذا البيت، ولا تخرجها منه، فإن نقلها إلى بيت آخر لغير ضرورة-: ضمن، وإن كان الثاني مثل الأول، أو أحرز منه، وإن نقلها لضرورة من وقوع حريق أو نهب-: لم يضمن، إذا نقلها إلى حرز، وإن كان دون الأول، إذا لم يجر أحرز منه، لأنه لو تركها فيه-: ضمن. فلو اختلفا، فقال المال: نقلتها لغير ضرورة، وقال المودع: بل لضرورة-: فالقول قول المودع مع يمينهن إذا عرف ذلك بتلك البلدة، واحتمل ما يدعيه.

ولو قال: احفظها في هذا البيت، ولا تنقلها، ون حدث النهب والحريق وخوف الهلاك، فإن لم يخرجها حتى هلكت-: لم يضمن؛ لأن المالك رضي به؛ كما لو قال: أتلف مالي، ففعل-: لم يضمن، وإن نقلها لغير ضرورة-: ضمن، وإن نقلها لضرورة-: فوجهان: أحدهما: ضمن؛ للمخالفة، والثاني-: لا يضمن، وهو الأصح؛ لأنه قصد الإصلاح. ولو نقلها من خريطة إلى أخرى، أو من صندوق إلى آخر، فكانت الخريطة أو الصندوق للأمين-: فهو كالبيت؛ لا يضمن، إذا كان الثاني مما يجوز حفظ مثله فيه، وإن كان دون الأول، أما إذا كانت الوديعة في صندوق وخريطة للمودع، أو استعار من المودع أو غيره، فأودع فيه - نظر: إن لم يكن الصندوق مقفلاً، ولا الخريطة مختومة، فنقلها - نظر: إن نقلها إلى صندوق أو خريطة أحرز من الأولى أو مثله-: لم يضمن، وإن كان دونه، ضمن، وإن كان حرزاً لمثله؛ كالبيت. وقيل: يضمن بكل حال، لأنه ليس له تفتيش الوديعة وتمييز بعضها عن بعض. والأول أصح، لأنه أودعه شيئاً وخريطة. فحفظ أحدهما في حرز والآخر في حرز آخر، كما لو أودع خريطتين، فحفظ أحدهما في بيت والأخرى في بيت آخر-: لا يضمن، فأما إذا كان الصندوق مقفلاً أو الخريطة مختومة، ففتح القُفل أو فض الختم، ونقل ما فيه-: ضمن بكل حال، وإن فتح القفل، وفض الختم، ولم ينقل ما فيه-: هل يضمن؟ وجهان. أصحهما: يضمن ما فيه بفض الختم والقفل-: هل يضمن الصندوق والخريطة؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ ما يضمن ما فيه. والثاني: لا يضمن؛ لأنه لم يقصده، إنما قصد ما فيه. أما إذا كان رأس الخريطة مسدوداً بخيط أو أودع الثياب معكومة بحبل فحله-: لا

يضمن؛ لأنه ليس القصد بهذا الشر أن يكون مكتوماً عنه، إنما القصد منه ألا ينتشر. ولو أودع في كيس مختوم، فخرق الكيس - نظر: إن خرق فوق موضوع الختم- لم يضمن إلا نقصان الخرق، وإن خرق دونه: هل يضمن ما فيه؟ فعلى وجهين؛ كفض الختم. ولو أودعه شيئاً مدفوناً، فنبشه-: فهو كفض الختم. ولو قال: احفظ- الوديعة في هذا البيت، ولا تدخل فيه أحداً، فأدخل، أو لا تستعين على حفظه بالحراس ففعل - نُظر. إن جاء التلف من ناحية المخالفة بانهدام البيت، أو وقوع حريق أو نحوه-: لا يضمن. ولو أودعه شيئاً في صندوق، وقال: لا ترقد عليه، فرقد عليه- نُظر: إن جاء التلف من ناحية المخالفة؛ بأن انكسر رأس الصندوق، فهلكت الوديعة، أو كان في صحراء، فرقد عليه فخلى جوانبه، فسرق-: ضمن، وإن جاء التلف لا من ناحية المخالفة-: لا يضمن. وعند مالك: يضمنُ؛ لأن فيه إغراء اللصوص عليه. قلنا: ليس فيه إلا زيادة الاحتياط في الحفظ؛ كما لو قال: لا تقل عليه، فأقفل، أو قال: لاتقفل قفلين، فأقفل قفلين-: لا يضمن. ولو أودعه دراهم وشيئاً في طريق أو سوق مطلقاً، ولم يقل: أمسكها في يدك، أو أربطها في كُمك، فربطها في كمه، ومسكها بيده-: فقد أحرزها؛ فإن تلفت-: لا ضمان عليه، وإن أمسكها في يده، ولم يربطها في كمه، فتلفت - نُظر: إن كان التلف بانتزاع غاصب من يده-: لم يضمن؛ لأن الكف أحرز في مثل هذه الحالة، وإن غفل أو نام، فسقط منه-: ضمن؛ لأن الربط أحرز في هذه الحالة. ولو وضعه في كمه، ولم يربطه فسقط، نُظر: إن كان خفيفاً، إذا سقط لا يعلم-: ضمنه؛ لأنه مفرط في حفظه. وإن كان ثقيلاً إذا سقط وعلم به-: لم يضمن. ولو وضعه في جيبه: فإن كان مزروراً أو ضيقاً-: لم يضمن.

وإن كان واسعاً غيره مزرورٍ-: ضمن؛ لأنه تناله اليد، ولو وضعه في رأس منديله، ولم يشده-: ضمن. ولو قال له: اربطها في كمك، فربطها في كمه، ولم يمسكها بيده-: لا يضمن، وإن أمسك بيده-: فقد زاد حفاً، ولو لم يربطها، وأمسكها بيده- نُظر: إن غفل أو نام، فسقط -: ضمن؛ لأن التلف جاء من ناحية المخالفة؛ فإن الربط في الكم أحرز من الأخذ بالكف في هذه الحالة. وإن أخذ ظالم كرهاً-: لم يضمن؛ لأن الأخذ من الكم أسهل. ولو قال اربطها في كمك داخلاً، فربطها خارجاً- نُظر: وإن طره الطرار، ضمن، وإن انحلت العقدة فتناثرت-: لم يضمن، إذا كان قد بالغ في الشدُ، وعلى عكسه: لو قال اربطها خارجاً، فربطها داخلاً إن انحلت العقدة-: ضمن، وإن أخذها الطرار-: لم يضمن، وكذلك: لو قال: اربطها في كمك مطلقاً فربط داخلاً أو خارجاً على هذا التفصيل، ولو قال: أمسكها في كُمك، فأمسك في جيبه-: لم يضمن؛ لأن الجيب أحرز. ولو قال أمسك في جيبك، فوضع في كمه-: ضمن. ولو أودعه شيئاً في البيت، وقال: احفظها في البيت، فشده في ثوبه، وخرج-: ضمن؛ لأن البيت أحرز. ولو دفعها إليه في السوق، وقال: احفظها في البيت، فإن قام في الحال، ومضى إلى البيت، فأحرزها-: لم يضمن، وإن لم يقم، وتوانى - ضمن. ولو أودعه خاتماً، فتختم به قالت الحنفية: إن تختم به في بنصره-: لم يضن وإن جعله في خنصره؛ لأنه مستعمل، وكان القاضي الإمام -رحمه الله -يقول: هذا محتمل، ويحتمل ألا يضمن؛ لأنه في الخنصر أحفظ إلا أن ينوي الاستعمال: فيضمن. ولو أمره أن يجعله في البنصر، فجعله في الخنصر-: يضمن؛ لأن ما يثبت في أسفل البنصر يكون واسعاً في الخنصر؛ فيكون إلى السقوط أسرع، فإن كان لا يصل إلى أسفل البنصر، فنقله إلى أسفل الخنصر، ليكون أحرز-: لا يضمن، ولو قال: اجعله في الخنصر، فجعله في أسفل البنصر-: لم يضمن؛ لأن البنصر أغلظ؛ فيكون أحرز، فإن لم يصل إلى

ويجوز إجارة المشاع في نصف دار، ونصف عبد، سواء أجر من شريكه أو من غيره، وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: لا يجوز من غير شريكه، وجوزه صاحباه. والإجارة تنعقد بلفظ "الإجارة" و"الكراء"؛ تقول: أكريت منك هذه الدار بكذا، أو أجرت منك هذه الدار بكذا، وإن قال: أجرت منك منفعة هذه الدار: يجوز. وقيل: لا يجوز حتى يقول: أجرتك هذه الدار. وإن كان في الذمة، فقال: أكريت ذمتك بكذا: جاز، وإن لم يتلفظ بواحد من اللفظين. ولو قال بلفظ التمليك والبيع- نُظر: إن قال: بعت منك هذه الدار: لا يصح؛ لأنه لتمليك العين، وإن قال: بعت منك، أو ملكتك منفعة هذه الدار شهراً بكذا: ففيه وجهان: قال ابن سريج: يصح؛ لأن الإجارة صنف من البيوع.

أحدهما: يضمن؛ كما لو كان عالماً. والثاني: لا يضمن؛ لأنه لم يكن مأموراً بعلفها قبل مضى زمانه. وإذا علفها المودع - نُظر: إن أمره المالك بعلفها-: رجع عليه، وإن لم يأمره، بل أطلق الإيداع - نظر: إن أنفق من مال نفسه، أو استدان بنفسه دون إذن الحاكم-: فهو متبرع، لا يرجع، إن كان هناك حاكم، وإن لم يكن حاكم، فإن أشهد-: رجع؛ وإلا فلا يرجع، وإن أنفق بأمر الحاكم- نُظر: إن أمره ليستقرض، فينفق رجع، وإن أمره لينفق من مال نفسه، ففعل -: هل يرجع؟ فيه وجهان. ولو أودعه، ونهاه عن سقيها وعلفها-: فلا يجوز له أن يُضيعها بقوله، فلو لم يسقها ولم يعلفها، حتى ماتت جوعاً أو عطشاً-: أثم هو والمالك جميعاً، ولكنه لا ضمان عليه؛ كما لو قال: اقتل دابتي، فقتلها -: لا ضمان عليه، أما إذا كان بها علة من قولج أو تخمة، فنهاه عن علفها، فعلف قبل زوال العلة، فماتت -: ضمنها. وإذا أخرج الدابة عن الدار للعلف، والسقي، أو بعثه على يد عبده أو تلميذه- نُظر: إن كان الذي بعثه على يده غير أمين، أو كان في الطريق خوف-: يُضمن، وإن كان أميناً، ولا خوف في الطريق- نُظر: إن كانت داره ضيقة-: لا يضمن؛ لأنه مضطر إلى الإخراج، وإن كانت واسعة بحيث يسقى دوابه في داره -: فعلى وجهين: أحدهما- وهو المنصوص-: يضمن؛ لأنه أخرج الوديعة - من حرزها لغير ضرورة. والثاني- وهو قول أبي إسحاق-: لا يضمن، وإن كان لسقي دوابه في داره؛ لأن العادة قد جرت بإخراج الدواب عن المنزل للسقي، والنص محمول على ما إذا كان الخارج غير أمين. ولو ركبها في السقي -: ضمن، إلا أن تكون جموحاً لا تنقاد إلا بالركوب: فلا. ولو أودعه ثوباً من صوف -: عليه حفه من الدُّودِ ونفضه عند الحاجة؛ كما يفعل بماله، فلو لم يفعل حتى أفسده الدُّود -: ضمن، سواء أمره المالك بالنفض أو لم يأمره،

ولو نهاه عن النفض -: يكره له تركه ليفسد، غير أنه لو ترك-: لم يضمن، ولو نفض-: لم يضمن. ولو كان الصوف في صندوق مقفل، ففتح القفل لينفضه-: هل يضمن؟ فيه وجهان: الأصح: لا يضمن. وإذا صارت الوديعة مضمونة بالتعدي: فلا يبرأ بترك التعدي وردها إلى مكانها. وقال أبو خليفة يبرأ، ووافقنا فيما لو جحدوا الوديعة، وصار ضماناً لها بالجحود، ثم أقر أنه لا يبرا. فنقول: وديعة ضمنت بالتعدي، فلا يرتفع ضمانها إلا باستئمان جديد من المالك؛ كما لو جحد، ثم أقر، فلو ردها إلى المالك بعد التعدي، ثم أودعه مرة أخرى: لم يكن مضموناً عليه؛ لأن الضمان قد زال بالرد، ولو لم يردها، بل قال المالك: أودعتك أو أستأمنتك أو أبرأتك عن الضمان، أو أذنت لك فيحفظها-: هل يبرأ عن الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما: يبرأ؛ لأن الضمان لحقه فيسقط بإسقاطه؛ كما لو أخذها، ثم أودعها منه ثانياً. والثاني: لا يبرأ؛ لأن الوديعة لم تعد إلى المالك؛ فلا معنى لاستئمان عارٍ عن التسليم. فصل فيمن مات وعنده وديعة كل من حضره الموتُ، وعنده وديعة-: فعليه أن يوصي بها؛ فإن لم يفعل حتى مات: ضمن، إلا أن يختطف فجأة، فلا يضمن، وكذلك لو جلس ليقتل فلو لم يوص بها-: ضمن، وإن أوصى إلى أمين-: لم يضمن، وإن أمكن الرد إلى المالك؛ لأنه لا يدري متى يموت، ولو أوصى إلى غير أمين-: ضمن؛ كما لو لم يوص، فإذا أوصى بها-: يجب أن يعين الوديعة بالإشارة إليها أو ببيان وصفها، فإن لم يبين الجنس، بل قال: لفلان عندي وديعة-: ضمن، ولو عين وأشار إليها، أو بين جنسها ووصفها: فإن وجدت بذلك الوصف-: ردت إلى المالك، وإن لم توجد تلك العين، أو وصف، ولم توجد بذلك الوصف: فلاضمان، وتُحمل على أنها تلفت، ولو بين الجنس، ولم يصف؛ بأن قال: عندي ثوب لفلان، فإن لم يوجد، في تركته إلا ثوب واحد-: حمل عليه، ودفع إلى المالك، وإن وجد في تركته ثيابٌ-: فهو ضامن بترك التعيين، أو الوصف، كما لو خلط الوديعة بغيرها، وإن لم يكن في تركته ثوب-: ففيه وجهان.

أصحهما: يضمن، وصاحب الوديعة يضارب الغرماء بالقيمة لأنه مفرط بترك البيان. وقال أبو إسحاق-: لا يضمن، إذا لم يكن من تركته من جنسه، ويُحمل على أنه قد تلف؛ لأن الوديعة- أمانة؛ فلا تضمن بالشك، فحيث أوجبنا الضمان -: تكون من رأس المال. وعند أبي حنيفة: تكونُ من الثلث. وإذا مات رجلٌ، ووجد في تركته كيس مكتوب عليه: وديعة فلان أو وُجد في تركته: لفلان عندي وديعة، بيَّنَ وصفها-: فلا يجب على الوارث تسليمها إليه بهذا القدر، حتى تقوم بينة، أو يقر الوارث؛ لجواز أن تكون العلامة بخط غيره، ويجوز أن يكون قد اشتراها بعد العلامة، فلم يمح العلامة. وإذا مات عن وديعة-: لا يجوز لوارثه إمساكها؛ لأن المالك لم يرض بأمانته، فإن هلكت في يد الوارث قبل أن يتمكن من الرد-: لم يضمن، وإن هلكت بعد التمكن؛ على أصح الوجهين، وإن كان المالك غائباً-: دفعها إلى الحاكم؛ فإن أمره الحاكم بحفظها-: فهو استحفاظ جديد؛ وكذلك: لو مات المالك-: فعلى المودع الرد إلى وارثه، فإن هلكت قبلا لتمكن من الرد-: لم يضمن، وبعد التمكن وجهان، فإن لم يظفر بالوارث-: دفعها إلى الحاكم، وإذا أودع الوديعة عند غيره من غير ضرورة-: قد ذكرنا أنه يضمنها، فإن هلكت عند الثاني-: جاز لمالكها أن يضمن أيهما شاء؛ لأن الأول، سلم ما لم يكن له تسليمه والثاني أخذ ما لم يكن له أخذه، ثم إن كان الثاني عالماً بالحال-: فقرار الضمان يكون عليه، فإن ضمنه الأول-: رجع عليه، وإن ضمنه الثاني-: لا يرجع على الأول، ون كان الثاني جهلاً-: فقرار الضمان على من يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: على الثاني؛ كما ذكرنا؛ لأن الهلاك كان في يده والثاني: يكونُ على الأول؛ لأن الثاني أخذ على الأمانة؛ فعلى هذا: إن ضمن الأول-: لم يرجع على الثاني، وإن ضمن الثاني-: رجع على الأول، ولو أخذت الوديعة من المودع كرهاً، أو سرق من خزانته-: لا ضمان عليه. ولو أكره، حتى حمل بنفسه-: فالضمان على الآخر، وهل يكون المودع طريقاً؟ فيه وجهان. ولو أخبر بها السلطان، فأخذها منه كُرهاً-: ضمن؛ لأنه متعد بالإخبار ولو أخبر اللصوص، فسرق-: إن عين الموضع-: ضمن؛ وإلا فلا، ولو أمر المالك المودع بدفع الوديعة إلى إنسان معين، فدفع إليه-: لم يضمن. وإن هلك في يده قبل الدفع إليه- نظر: إن لم يتمكن من الدفع إليه-: لم يضمن، وإن تمكن، فلم يدفع-: فيه وجهان، وإذا

دفع إليه هل يجب الإشهاد؟ فيه وجهان. أصحهما: يجب حتى لو لم يشهد-: ضمن؛ كما لو أمره بقضاء دين-: يجب الإشهاد. والثاني: لا يجب؛ لأنه أمانة، وقول المدفوع إليه مقبول في التلف والرد؛ فلا يكون في الإشهاد فائدة. بخلاف الدين؛ فنه مضمون، وإنما ينكر الأخذ-: فلا تحصل البراءة إلا بالإشهاد. ولو طالبه المالك برد الوديعة-: فعليه التخلية بينهما وبين المالك. ومؤنة الرد على المالك، فلو أخر من غير ضرورة بعدما طلبه-: ضمن، فإن كان مشغولاً بطهارة أو صلاة أو أكل أو كان ملازماً لغريم يخاف هربه فأخر حتى يفرغ، أو كان بالليل فأخر حتى يدخل النهار-: لم يضمن. فصل في الاختلاف إذا ادعى المودع تلف الوديعة، أو ردها إلى المالك، وأنكر المالك-: فالقول قول المودع من يمينه؛ لأنه أمين، ويدعي الرد على من ائتمنه؛ فلو مات المودع قبل أن يحلف-: حلف وارثه. ولو وقع الاختلاف بعد تلف العين؛ فقال المالك: طالبتك بردها، فأخرت بلا عذر، فقال: ما طالبتني، أو قال طالتبني، فأخرت بعُذر-: فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء أمانته، والمدعي يدعي زوالها، فلو وقع الاختلاف بعد موت المودع بين المالك ووارثه-: نُظر: إن قال الوارث: رد إليك مورثي، أو تلف في يده-: قُبل قوله، مع يمينه، وإن قال الوارث: أن رددته إليك، وأنكر المالك-: فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنه يدعي الرد على غير من ائتمنه، وإن قال: تلف في يدي، ولم أتمكن من الرد-: فيه وجهان أحدهما: القول قول المالك؛ كما في الرد. والثاني: قول الوارث مع يمينه؛ لأنه أمين. وكذلك: لو مات المالك، فقال المودع: رددت إلى المودع، أو تلف في يدي في حياته، وأنكر الوارث-: فالقول قول المودع مع يمينه، وإن قال للوارث: رددته إليك، وأنكر الوارث-: فالقول قول الوارثُ؛ لأنه لم يأتمنه، وإن قال تلف في يدي بعد الموت قبل التمكن-: فعلى وجهين. ولو دفع المُودع الوديعة إلى أمين، ثم اختلفا، فقال المالك ما أمرتك به، وقال

المُودعُ: بل أمرتني به-: فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن الأصل أنه لم يأمره فإذا حلف-: ضمن أيهما شاء وأيهما ضمنه- لا رجوع له على الآخر؛ لأنه يقول المالك: ظالم فيما يأخذ مني؛ فلا رجوع له على غير من ظلمه. ولو قال المالكُ: أمرتُك بالدفع إليه، ولكنك لم تدفع، وكذلك يقول المأمور بالدفع إليه: إنه لم يدفع: فإن قلنا: الإشهاد واجب-: فالمودع ضامن من غير يمين؛ لأنه مفرط بترك الإشهاد، وإن قلنا: لا يجب الإشهاد-: فقد قيل: القول قول المودع مع يمينه؛ لأنه أمين. والمذهب: أن القول قول المالك مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الدفع. فإن قلنا: القول قول المالك، فقال الثاني: قد دفع إليَّ، وهلك في يدي-: لا يقبل قوله على المالك، بل يحلف المالك، ويضمن الأول، وإذا اتفقا على أنه دفع إلى الثاني، فادعى الثاني الرد إلى المالك، أو التلف -: قُبِلَ قوله مع يمينه. هذا إذا عين المالك المدفوع إليه، فإن لم يعين، بل قال: ادفع إلى أمين، فدفع، ثم ادعى الأمين التلف-: قُبل قوله مع يمينه، وإن ادعى الرد إلى المالك-: لا يُقبل بل القول قول المالك مع يمينه؛ لأنه يدعي الرد إلى غير من ائتمنه. وكذلك: لو أراد المودع سفراً، فوضع الوديعة عند أمين، فادعى الأمين التلف؛ يُقبل. ولو ادعى الرد إلى المالك: لا يُقبل. ولو ادعى على رجل وديعة، فأنكر-: فالقول قول المنكر مع يمينه، فلو أقام المدعي البينة، فادعى المودع التلف، أو الرد- ينظر في إنكاره: فإن قال: ما لك عندي شيء، أو لا يلزمني تسليم شيء إليك، فأقام المدعي بينة على الإيداع، فقال المدعى عليه: كنت قد رددتها قبل الإنكار، أو تلف في يدي-: يُقبل قوله مع يمينه؛ لأنه صدف في إنكاره؛ أنه لا شيء ل عندي بعد التلف والرد، وإن قال في الإنكار: ما أودعتني شيئاً، فأقام المدعي بينة على الإيداع، فقال المدعي عليه: صدقت البينة، ولكنها كانت تلفت في يدي، أو رددتها-: لا يقبل قوله؛ لأن قضية قوله: "ما أودعتني": أنه لم يرد إليه شيئاً، ولم يتلف له عنده شيء، فلو أقام بينة على التلف أو الرد قبل الإنكار-: هل يسمع؟ فيه وجهان: أحدهما: يسمع؛ لأنه المدعي لو صدقه يسقط عن الضمان؛ فكذلك إذا أقام البينة. والثاني: لا يسمع، لأن إنكاره السابق يكذب بينته.

ولو ادعى رجلان عيناً في يدي رجل، فقال كل واحدٍ: أنا أودعتكها، فقال المودع: هل لأحدهما، ولا أدري لأيُكما هي- نُظر: إن لم يدع علمه-: أخذت العين منه، وهي كعين في أيديهما، يتداعيانها، فأيهما أقام البينة-: قُضِيَ له، فإن لم تكن بينة: فإن حلفا أو نكلا-: تكون بينهما، وإن حلف احدهما، ونكل الآخر-: قضى بها للحالف، وإن ادعيا علمه-: حلف يميناً واحدة بالله؛ لا يعلمُ أنها لأيهما، فإذا حلف-: أخذت العين منه، وتكون كعين يتراعيانها؛ كما ذكرنا، وإن نكل المدعي عليه عن يمين العلم-: حلف كل واحد منهما على علمه، وأخذ منه العين وقيمتها، ويكون لكل واحد نصف العين، ونصف القيمة، إذا حلفا أو نكلا، وإنما غرمناه القيمة؛ لأن كل واحد ثبت عليه بيمين الرد جميع العين، وإذا جعلنا العين بينهما-: لا يكون لكل واحد إلا نصفها، وإذا أقام أحدهما البينة- أخذ جميع الوديعة، وردت القيمة إلى المودع، وإن لم تكن بينة، وحلف أحدهما-: أخذ الحالف جميع العين، ورد نصف القيمة إلى المودع، ولا يجب على الناكل رد نصف القيمة؛ لأنه ثبت له ذلك بيمينه على المودع، ونكوله كان في حق صاحبه؛ لأن حق المودع، وإن كان مثل هذا. الدعوى في الغصب ادعى رجلان أنه غصب مني هذه العين، فقال المدعى عليه: غصبت من أحدهما، ولا أدري أيهما هو-: فيجب أن يُحلف على "البتِّ" لكل واحد منهما أنه لم يغصب منه، فإذا حلف لأحدهما-: تعين المغصوب للثاني، ولا يحلف له. ولو أقر المدعي عليه بالعين لأحدهما، أو قال لأحدهما: ليست هذه لك -: كان إقراراً للآخر؛ بتسلم العين إليه، وخصومة الآخر تكون مع المقر له، وهل له أن يدعي القيمة على المدعي عليه هذا يبني على أنه لو أقر للثاني بعدما أقر للأول-: لا تُنتزع العين من يد الأول، وهل يغرم القيمة للثاني؟ فيه قولان: أحدهما: يغرم؛ فعلى هذا: له أن يدعي عليه قيمة العين. والثاني- وهو الأصح-: لا يغرم؛ فعلى هذا هل يدعي القيمة؟ يبنى على أن النكول ورد اليمين بمنزلة إقرار المدعي عليه أم بمنزلة بينة المدعي؟ وفيه جوابان: إن قلنا: بمنزلة الإقرار-: ليس له دعوى القيمة، وإن قلنا: بمنزلة البينة -: له الدعوى، فإن حلف-: بريء، وإن نكل-: حلف المدعي، واخذ القيمة، ولا خلاف أن العين لاتنتزع من يد المُقر له، وإن جعلنا النكول ورد اليمين بمنزلة البينة؛ لأنه البينة في حق المتداعيين فحسب، ولو أقر المدعي عليه لهما جميعاً-: كان كشيء في أيديهما

يتداعيانه، فإن حلف أحدهما-: قُضي له، ولا خصومة للناكل مع المودع؛ لأنه أبطل حقه بالنكول، وإن حلفا-: كان العين بينهما. وهل لكل واحدٍ منهما أن يدعي نصف القيمة على المودع؟ فعلى الاختلاف الذي ذكرنا، والله أعلم.

كتاب: قسم الفيء

كتاب: قسم الفيء بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] الآية، وقال تعالى: {َاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 1]. الفيء: اسم لما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين من غير إيجاف خيل ولا ركاب مثل: جزية أهل الذمة وخراج أراضيهم، أو يُصالح الإمام أهل بلد على خراج يؤدونه، أو ضريبة يؤدونها إذا دخلوا بلاد الإسلام لتجارة أو غيرها، أو انجلى الكفار عن بلد، فتركوا أوطانهم وأموالهم لضر أصابهم، أو سمعوا خبر المسلمين فانجلوا خوفاً منهم، أو يموت واحد من أهل الذمة ولا وارث له، أو يموت مرتد أو يقتل؛ فماله يكون فيئاً يوضع في بيت المال. والغنيمة: ما صار إلى المسلمين من أموال الكفار بإيجاف خيل وركاب سواء أخذوا منهم قهراً أو هزموهم في القتال، فتركوا أموالهم؛ فاستولى عليها المسلمون.

والفيء والغنيمة يسمى كل واحد باسم الآخر، ويتميزان بما ذكرنا؛ كالفقير والمسكين: يسمى كل واحد باسم الآخر؛ لاتفاقهما في الحاجة، ثم يتميزان: فكل واحد من المالين مخموس؛ فخمسه لخمسة أصناف على ما نطق به القرآن، وأربعة أخماس الغنيمة للغانمين. أما أربعة أخماس الفيء كانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حياته، فيعد منها نفقة سنة له ولعياله، ويجعل الفضل مع ما فضل من خمس خمس الغنيمةن والفيء في الكُراع والسلاح عدة في سبيل الله؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم-:"مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردودٌ فيكم". وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم- سهمه من خمس خمس الغنيمة، وخمس خمس الفيء لمصالح المسلمين، وفي أربعة أخماس الفيء قولان أصحهما: أنها للمرتزقة الذين كتب أساميهم في ديوان الغزو؛ فتركوا أشغالهم ولزموا الثغور والمواضع التي إذا استنفروا منها إلى جهة احتيج إليهم للغزو نفروا ذلك؛ لأنها كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الرعب كان منه للكفار، وبعده يحصل الرعب من المرتزقة؛ فيكون المال لهم. [والثاني: هي للمصالح ويبدأ بالأهم؛ فالأهم هم المرتزقة؛ لأن كل سهم] كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته: يكون بعده للمصالح؛ كخمس الخمس، وذكر في "القديم": أن مال المرتد لا يخمس، اختلف أصحابنا فيه:

منهم من قال في مال الفيء قولان: في "الجديد": يخمس؛ كالغنيمة. وفي "القديم": لا يخمس؛ لأنه لم يُقاتل عليه؛ كما لو صالحهم على الضيافة؛ لم يكن لأهل الخمس فيه حق، بل يستبد بها الذين يمرءون عليهم من المسلمين. ومنهم من قال: ما أخذ منهم بالرعب مثل أن خافوا فهربوا، وتركوا ديارهم وأموالهم: يخمس، كالغنيمة، وما لم يؤخذ بالرعب؟ مثل: مال المرتد، ومال من مات ولا وارث له: فيه قولان: في الجدية يُخمس. وفي القديم: لا يخمس. فحيث قلنا: لا يخمس: فحكم جميع ذلك المال حكم أربعة أخماس الفيء، حيث يخمس، وفي مصرفه قولان. بابُ: الأنفال رُوي عن أبي قتادة؛ أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: "من قتل قتيلاً له عليه

بينةٌ -: فله سلبه".

ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلب مرحب يوم خيبر من قتله. إذا قتل مسلم مكلف حر ذكرٌ في حرب الكفار مشركاً مقيلاً على القتال-: يستحق سلبه، سواء قتله في المبارزة أو في غير المبارزة، وسواء نادى الإمام بأن من قتل قتيلاً فله سلبه، أو لم يُناد؛ لما روي عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه، فضربته على حبل عاتقه ضربةً، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من قتل قتيلاً له عليه بينة-: فله سلبه، فقمت

فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "فأعطه إياه فأعطانيه". وقال مالك وأبو حنيفة: - رحمة الله عليهما-: لا يستحق القاتل السلب إلا بعد نداء الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه، والحديث حجة عليهما؛ لأن قتل أبي قتادة المشرك: كان قبل النداء، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سلب قتيله. والشرط أن يكون الكافر مقبلاً على القتال، وإن لم يكن مشتغلاً به في تلك الحالة، فلو انهزم الجيش، فقتل واحداً في الهزيمة-: لا يستحق سلبه، أما إذا قاتله، فهرب من بين يديه، فقتله مُدبراً أو ولى هره متحرفاً لقتال أو متميزاً إلى فئة، فتبعه، وقتله-: ليستحق سلبه، ولو قصد كافر مسلماًن فجاء مسلم آخر من ورائه، فقتله-: يستحق سلبه؛ بدليل حديث أبي قتادة. ولو رمى منهما من بُعدٍ إلى صف الكفار، فقتل واحداً-: لا يستحق سلبه، لأنه لم

يُخاطر معه بروحه، أما إذا خرج من الصف، وخرج في مقابلته كافرٌ، فلما قَرُبَ منه، رماه فقتله-: يستحق سلبه.

ولو قتله، وهو غير مُقبلٍ على القتال، بأن كان أسيراً عنده، أو مثخناً زمناً، أو كان نائماً، أو مشتغلاً بأكل-: لا يستحق سلبه. وقال أبو ثورٍ: يستحق سلبه؛ كيفما قتله؛ وهذا لا يصح؛ لأن ابن مسعود قتل أبا جهل بعدما أثخنه غلامان من الأنصار، فلم يدفع النبي - صلى الله عليه وسلم -سلبه إلى ابن مسعود. ولو اشترك اثنان في قتل مُشركٍ: يكون السلب بينهما، ولو ضربه رجل، فأزمنه، أو قطع يديه ورجليه جميعاً، ثم قتله آخر-: فالسلب للأول؛ لأنه كفاه شره بالإزمان أو قطع الأطراف، ولو قطع الأول إحدى يديه أو إحدى رجليه، أو جرحه ولم يُزمنه، وقتله الآخر: فالسلب للثاني، ولو قطع الأول يديه أو رجليه أو إحدى يديه مع إحدى رجليه، ثم قتله الثاني: ففيه قولان: أحدهما: السلب للأول؛ لأنه عطله وجعله كالهالك بقطع الطرفين؛ كما لو فقأ عينيه؛ ثم قتله الآخر-: كان السلب للأول؛ لأنه عطله. والقول الثاني: يكونُ السلب للثاني؛ لأن امتناعه لا يزول إلا بقطع الأطراف الأربعة؛ فنه بعد قطع اليدين يمكنه أن يعدو يهرب ويجلب، وبعد قطع الرجلين: يمكنه أن يركب فيقاتل بيديه، ولو أسر كافراً حياً-: لم يكن له أن يقتله، بل يدفعه إلى الإمام، والإمام فيه بالخيار بين أن يقتله أو يسترقه، أو يمن عليه، أو يُفاديه: فإن من عليه أو قتله-: فهل يستحق الذي أسره سلبه؟ فيه قولان. أحدهما: لا يستحق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل قتيلاً، فله سلبه"، وهو لم يقتله. والثاني: يستحق؛ لأنه كفى شره بما هو أصعب عليه؛ لأن أسره أشد عليه من قتله. وإن استرقه الإمام أو فاداه بماله-: فهل تكون رقبته ومال الفداء لمن أسره أم تكون في الغنيمة؟ فعلى هذين القولين. ولو كان قاتل المُشرك في الحرب صبياً أو عبداً أو امرأة-: هل يستحق السلب؟ فيه وجهان:

أحدهما: يستحق؛ كالحر البالغ. والثاني: لا يستحق؛ كما لا يستحق السهم من الغنيمة. فإن قُلنا يستحق: فإن كان عبداً-: يكون لسيده، وإن قلنا: لا تستحق المرأة: فإن كان خُنثى-: يوقف حتى يتبين حاله. وإن كان القاتل ذمياً- نُظر: إن حضر بغير إذن الإمام-: فلا يستحق السلب؛ كما لا يستحق الغنيمة، وكذلك: كل من حضر مخذلاً. وإن حضر الذمي بإذن الإمام: فإن قلنا: (يرضخه) من بيت المال-: فلا يستحق السلب، وإن قلنا: من الغنيمة-: فكالعبد. وإن كان المقتول الكافر عبداً أو امرأة أو مراهقاً: فإن كان لا يقاتل: لا يستحق قاتله سلبه، وإن كان يقاتل-: فعلى وجهين: أصحهما: يستحق قاتله سلبه؛ لأنه كفى شر قتاله. والسلب الذي يستحقه القاتل هو: ما عليه من ثياب بدنه مع الخف (والرانين)، وما كان عليه من جُبة الحرب كالدرع والمغفر، وما في يده من السلاح والمركوب الذي يُقاتل عليه، وما عليه من السرج واللجام والمقود ونحوه، أما الجنيبة التي تُقاد بين يديه والدابة التي عليها ثقله والحقيبة وما فيها من الدراهم والأمتعة، والأسلحة التي في رحله -: فلا يستحقها.

أما إذا كان نازلاً عن فرسه ممسكاً بلجامه، فقاتل راجلاً-: فهو من السلب؛ لأن الراجل يقاتل تارة راكباً، وتارة راجلاً. أما ما كان عليه مما لا يُقاتل به؛ كالطوق والسوار والخاتم والمنطقة وما في وسطه من الدنانير للنفقة-: فهل يستحقها؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحقها؛ لأنها على بدنه كالثياب. والثاني: لا يستحقها؛ لأنها للزينة، وليس من جبة الحرب. وقيل في الجنيبة وجهان. وهل يخمس السلب؟ فيه قولان. أصحهما: لا يخمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله للقاتل، فقال: "من قتل قتيلاً، فله سلبه"؛ فكما اختص القاتل به من بين الغانمين: يختص به من بين أهل الخمس. والثاني: يخمس؛ كسائر الغنيمة، فخمسه لأهل الخمس، والباقي للقاتل. فصل في هل للأمير أن ينفل بعض الغزاة رُوي عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-"كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش".

يجوز للإمام أو لأمير الجيش: أن ينفل بعض الغزاة من الغنيمة باجتهاده؛ لزيادة غنى أو كفاية تكون فيهم مثل: أن [يأجر واحدا] بقتل كافر، أو جماعة بفتح حصن أو حفظ ممكن، أو تجسس خبر، أو دلالة على طريق؛ فيعطيهم شيئاً زائداً من الغنيمة على ما يعطى القوم؛ سواء عين واحداً أو جماعة [لذلك الأمر]، أو لم يعين، بل قال: من تقدم في سرية كذا-: فله كذا، أو من فتح الحصن الفلاني-: فله كذا. وإنما يجوز ذلك، إذا دعت الحاجة إليه؛ فإن كان من المسلمين قلة، وفي الفار كثرة؛ فيحتاج إلى بعث السرايان وحف المكامن، فإن لم يحتج إليه؛ لكثرة المسلمين وقوتهم-: فلا ينفل، بل يتلقاهم ويتأخرهم. وليس للنفل تقدير؛ بل تقديره إلى اجتهاد الإمام: يشترطه على قدر عمل العامل؛ فقد رُوي عن عبادة بن الصامت؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "نفل في البداءة الربع، وفي الرجعة الثلث".

فالبداءة: أن يقصد الإمام دخول دار الحرب؛ فيبعث قوماً أمام الجند ينظرون لهم. والرجعة: أن يرجع عن دار الحرب، فيرد قوماً إلى العدو يحفظونهم عن اتباع المؤمنين والكيد بهم، وجعل النفل في الرجعة أكثر؛ لأن خوفهم أكثر، وبلاءهم أشد؛ لانصراف الإمام عنهم، وشوفهم على أوطانهم أكثر؛ لطول المقام، وفي البداءة؛ يكون افمام وراءهم؛ فلا يكون عليهم من الخوف ما يكون في الرجعة. ويجوز أن يزيد على الثلث، وينقص عن الربع على ما يراه باجتهاده، ويجوز شرط النفل من مال المسلمين، ويجوز من المال الذي يؤخذ من المشركين، وإن شرط النفل من مال المسلمين-: فيكون من خُمس الخمس سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه للمصالح. قال سعيد بن المسيب: كان الناس يعطون النفل من الخمس. ويشترط أن يكون معلوماً، ولا يجوز مجهولاً؛ لأنه عوض في عقد، وإن كان من مال الكفار، ومما يغنم-: يجوز مجهولاً؛ كما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الربع والثلث في البداءة والرجعة. ويكون ذلك من الخمس أو من رأس الغنيمة؟ فيه قولان أحدهما: من الخمس؛ لحديث سعيد قال الشيخ - رحمه الله-: معنى الحديث: نفل الثلث والربع من سهم المصالح من الخمس. والثاني أن يكون النفل من رأس مال الغنيمة، [ثم يُخمس الباقي. وقيل: من أربعة أخماس الغنيمة]، ومعنى الحديث: شرط لهم ثلاثة أربعة أخماس الغنيمة، أو ربعها، فعلى هذا: يكون الباقي للغانمين. أما إذا قال الإمام قبل الحرب: من أخذ شيئاً-: فهو له بعد الخمس [أومأ فيه] إلى قولين. أحدهما: يصح الشرط؛ وهو قول أبي حنيفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدرٍ: "من أخذ شيئاً: فهو له".

والثاني وهو الأصح-: لا يصح هذا الشرط، بل يشترك فيما أخذ جميع من شهد الوقعة، والحديث غير ثابت، ولئن ثبت-: كانت الغنائم يوم بدر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاصة يفعل فيها ما يشاء. باب: تفريق الغنيمة قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ....} [الأنفال: 41]. الآية. ما أخذ المسلمون من الكفار من الأموال بإيجاف الخيل والركاب-: يجب إخراج الخمس منه بعد أن يُعطى السلب للقاتل، ثم يقسم الباقي بين الغانمين، سواء كان قليلاً أو كثيراً، منقولاً كان أو عقاراً. وعند أبي حنيفة: يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه كالمنقول، وبين أن يرده إليهم، وبين أن يقفه على المصالح؛ فظاهر القرآن حجة عليه.

أما الآدميون: إذا وقعوا في الأسر- نُظر: إن كان صبياً أو مجنوناً أو رقيقاً أو امرأة، صاروا أرقاء بنفس الأسر، ولا يجوز قتلهم، ويقسمون كسائر الأموال؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم-[قسم] سبي بني المصطلق، واصطفى صفية من سبي خيبر.

أما الرجال الأحرار [العاقلون] البالغون: لا يصيرون أرقاء بنفس الأسر، ثم يُنظر: إن كانوا عجماً-: يتخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء، سواء كانوا من أهل كتاب أو من أهل الأوثان: إن شاء قتلهم، وإن شاء استرقهم، وإن شاء من عليهم فخلى سبيلهم، وإن شاء فاداهم، وليس هذا باختيار شهوة، بل اختيار اجتهاد؛ فيجتهد حتى يختار ما هو الأنظر للمسلمين، فن وقف به الاجتهاد-: حبسهم إلى أن يرى فيهم رأيه، وإن كانوا عرباً: فهل يجوز استرقاقهم؟ فيه قولان: قال في الجديد: يجوز استرقاقهم، وهو الصحيح؛ لأن من جاز المن عليه والمفاداة في الأسر-: جاز استرقاقه كغير العربي. وقال في "القديم":- لا يجوز استرقاق العربي؛ لما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حُنين: "لو كان الاسترقاق ثابتاً على العرب: لكان اليوم؛ إنما هو إسارٌ وفداء". وعند أبي حنيفة: إذا وقع الرجال في الأسر-: جاز قتلهم واسترقاقهم، ولا يجوز المن والفداء. وقال أبو يوسف: لا يجوز المن، ويجوز الفداء. والدليل على جوازه قوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ورُوي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- من على أبى عزة الجُمحي يوم بدر، وقتله يوم أحد، ومن بعده على ثمامة بن أثالٍ الحنفي. ورُوي عن عمران بن حصين؛ قال: أسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عقيل، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ففداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف".

فإن اختار القتل-: قتلهم بحز الرقبة، بلا قطع عضو؛ لقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، ورُوي عن بُريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية، قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" وإن استرقهم فهم كسائر أموال الغنيمة. وهل يجوز أن يسترق من شخص واحدٍ بعضه؟ فيه وجهان؛ بناء على أن أحد الشريكين إذا استولد الجارية المشتركة، وهو معسر هل يكون الولد كله حراً أم يكون بقدر نصيب الشريك رقيقاً؟ فيه قولان. فإن لم نجوز: فإذا ضرب الرق على بعضه-: كان كله رقيقاً. وإن اختار الفداء-: يجوز أن يفديهم بالمال، سلاحاً كان أو غيره، ويجوزُ بأسارى المسلمين فيرد مشركاً بمسلم، أو مشركين بمسلم، وإن كانت أسلحتنا في أيديهم-: جاز أن يفديهم بها، وإن كانت أسلحتهم في أيدينا-: لا يجوز ردها بالمال؛ كما لا يجوز بيع السلاح [منهم]، وهل يجوز ردها بأسارى المسلمين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن السلاح يعينهم على قتالنا، والمسلم لا يعينهم. والثاني: يجوز؛ لأن استعمالهم السلاح في قتالنا موهوم، ومذلة المسلم في أيديهم يقين، وإذا فاداهم بالمال-: يكون ذلك المال من الغنيمة، وإن وقع في الأسر واحدٌ منهم،

فشك الإمام في بلوغه-: يكشف عن مؤتزره: فإن أنبت فهو بالغ، وألا فهو صبي؛ رُوي عن عطية القُرظي، قال: "عُرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة، فكان من أنبت قُتلن ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلى سبيله". فإن وجد واحد قد أنبت فقال: إني لم أبلغ، وأنبت بالعلاج-: قُبِلَ قوله مع يمينه، وإنما قبلنا يمينه، وهو يزعم أنه صبي، والصبي لا يمين له؛ نظراً للمسلمين؛ ليون خولاً لهم، ولأن معه أماره البلوغ، وهو الإنبات، وهذا بخلاف ما لو ادعى على مراهق شيئاً، أو ادعى أنه بالغ، وهو ينكر بلوغه-: لا يحلف لأنه لا دليل على بلوغه، ولو لم يحلف-: لا يثبت عليه شيء، وههنا: إنباته دليل بلوغه، ويحكم [عليه]، لو لم يحلف. قال أصحابنا: وهذا على قولنا: إن الإنبات في الكفار علامة البلوغ، فإن جعلناه حقيقة البلوغ-: فلا يقبل قوله، ويجري عليه حكم البالغين. ولو أسلم واحدٌ منهم-: قُبل أن يقع في الأسر-: فهو حُر، وقد أحرز جميع ماله، عقاراً كان أو منقولاً، سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام، وأحرز أولاده الصغار والمجانين؛ فلايجوز سبيلهم، ويحكم بإسلامهم تبعاً [له]؛ لما رُوي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سعيه: ثعلبة وأُسيدٌ؛ فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار". وهل يحرز ولد ولده؟ فيه وجهان: وقيل: الوجهان فيما إذا كان أبوه حياً؛ فإن كان أبوه ميتاً-: يحرز، وإن كان له ولد بلغ عاقلاً، ثم جُن-: هل يحرزه؟ فيه وجهان: الأصح: يحرزه؛ كالذي بلغ مجنوناً. وعند أبي حنيفة: يُحرز من أمواله المنقول دون العقار. فأما إذا أسلم واحد منهم بعد ما وقع في الأسر قبل أن يرى الإمام فيهم رأيه-: حَرُمَ قتله. أما الاسترقاق: فقد قال الشافعي -رضي الله عنه - في كتاب "السير": وإن أسلموا بعد الإسار -: رقوا، اختلف أصحابنا فيه.

منهم من قال: يصير رقيقاً بنفس الإسلام، لأنه أسير حرم قتله؛ فكان رقيقاً؛ كالصبيان والنسوان. ومنهم من قال: لا يصير بنفس الإسلام رقيقاً، وهو الأصح؛ لأنه بالغ عاقل، ولكن للإمام استرقاقه إن شاء، وإن شاء من عليه، وإن شاء فداه؛ لما روي أن الأسير العُقيلي قال بعد الإسار: يا محمد، إني مسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قُلتها وأنت تملك أمرك-: أفلحت كل الفلاح"، ففداه بالرجلين من المسلمين اللذين أسرتهما ثقيف، ولأن الخيار إذا ثبت بين أشياء، فإذا سقط احد لا يبطل الخيار في الباقي؛ كما في كفارة اليمين، إذا عجز عن العتق: لا يبطل الخيار بين الإطعام والكسوة. ومعنى قول الشافعي -رضي الله عنه-: "رقوا أي: قربوا من الرق؛ فعلى هذا: إذا اختار الفداء-: لم يجز أن يُفاديه إلا أن يكون له عشيرة يأمن معهم على دينه ونفسه، فإن استرقه أو فداه بمال-: كان ذلك في الغنيمة، وإن من عليه: فما أخذ من ماله-: لا يرد إليه؛ بل يكون غنيمة، وإن كانوا أهل كتاب، فقبل واحد منهم الجزية بعدما وقع في الأسر-: هل يحرم قتله؟ فيه قولان: أحدهما: يحرم قتله، لأن قبول الجزية حاقن للدم؛ كما لو قتل قبل وقوعه في الأسر. والثاني: لا يحرم قتله، ولا استرقاقه، والإمام فيه بالخيار بين أحد الأشياء الأربعة كما كان؛ بخلاف ما لو قبل الجزية قبل الإسار؛ لأن ثم يجب عرض الجزية عليه، فإذا بذل، وجب القبول، وبعد الأسر بخلافه. قال الشيخ - رحمه الله-: فإن قلنا: يحرم قتله-: جعلوا في استرقاقه وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ بل يجب تقريره بالجزية، كما لو بذل قبل الأسر. والثاني- وهو الأصح عندي-: يجوز استرقاقه؛ لأن قبول الجزية دون الإسلام. ولو أسلم بعد الإسار-: جاز استرقاقه؛ كذلك: إذا قبل الجزية؛ وكذلك: ماله الذي وقع في أيدينا: يون غنيمة، سواء قلنا: يحرم قتله، أو: لا يحرم. ولو أسر جماعة، فقالوا: نحن مسلمون، أو أهل الذمة- نُظر: إن أخذوا من دار الإسلام-: قُقبل قولهم مع أيمانهم، وإن اخذوا في دار الحرب-: لا يُقبل قولهم؛ لأن الدار تشهد عليهم.

ولو أسلمت امرأة قبل الأسر-: فقد أحرزت نفسها ومالها وأولادها الصغار. وقال مالك: لا تحرز أولادها؛ وهو قول الشافعي- رحمة الله عليه-. وإن أسلمت بعد الأسر-: فهي رقيقة، ما معها من الأموال غنيمة، ولا يجوز للإمام أن يرد شيئاً من أموال الكفار إليهم، ولا من صبيانهم ونسوانهم بعدما غنموها، وإن أسلموا إلا بطيبة أنفس الغانمين؛ لأنهم ملكوها بالاغتنام، [والدليل عليه: ما رُوي] مروان، والمسور بن مخرمة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مع من ترون؟ فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال"، قالوا: فإنك تختار سبينا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في المسلمين، فأنثى على الأهل بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم: فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل"، فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله. ولو أُسر عبد منهم، فرأى أن يمن عليه-: لم يجز إلا برضا الغانمين، وإن رأى قتله لشدته وقوته قتله، وضمن قيمته للغانمين. ولو أسلم حربي، بعد تقصي الحرب، قبل حيازة الغنائم-: هل يرد إليه ماله فيه وجهان: الأصح: لا يُرد. وإذا استولى الكفار على أموال المسلمين-: لم يملكوها، عقاراً كان أو منقولاً، فإذا أسلموا، والمال في أيديهم-: يجب رده إلى المسلمين، وإذا غنمها المسلمون-: يجب ردها إلى أربابها، سواء كان قبل القسمة أو بعدها، ثم إن كان بعد القسمة-: يُعوض الإمام من وقع ذلك المال في قسمته من بتي المال، فإن لم يكن في بيت المال مال-: يعيد قسمة الغنيمة بعد رد مال المسلم إليه؛ روى عمران بن حصين، أن المشركين أغاروا على سرح المدينة، وذهبوا بالعضباء، وأسروا امرأة، فانفلتت ذات ليلة فأتت العضباء فقعدت في عجزها، ونذرت أن لو نجاها الله عليها لتنحرنها؛ فلما قدمت المدينة- ذكرت ذلك، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "بئس ما جزيتها؛ لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا

فيما لا يملك العبد". وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: إذا استولى الكفار على أموال المسلمين، وأحرزوها بدار الحرب-: ملكوها، فإن أسلموا، والمال في أيديهم-: لا تسترد منهم، وإن غنمها المسلمون-: فمالكه أولى به. قبل القسمة، وإن كان بعد القسمة-: أخذه بالقيمة. وبالاتفاق لو أبق عبد من عبيد المسلمين إليهم، أو غار فرس، فأخذوه-: لا يملكونه، وبالاتفاق: لو أنهم، استولوا على مكاتبينا، وأمهات أولادنا-: لا يملكونها؛ كما لا يملكون رقاب أحرارنا، وإن كان المسلمون يملكونها عليهم؛ كذلك: سائر الأموال يملكها المسلم عليهم، وهم لا يملكونها على المسلم. ولو هلك [في أيديهم] ما أخذوا من المسلمين قبل الإسلام، أو قبل عقد الذمة، أو أتلفوه-: فلا ضمان عليهم بالاتفاق؛ [كما لو قتلوا مسلماً أو مكاتباً أو أم ولد المسلم-: لا ضمان عليهم]، ولو أن مسلماً أعتق عبداً كافراً، فنقض العتيق العهد، والتحق بدار الحرب؛ فلا يُسترق، ولا يبطل ولاء المسلم؛ ما لا يبطل ملكه. ولو تزوج المسلم حربية، أو حربي أسلم، وله زوجة كافرة-: هل تُسبى زوجته؟ فيه وجهان: أحدهما لا تسبى؛ كما لا يسبي عتيقه. والثاني-: وهو الأصح، والمنصوص عليه-: تسبى وينفسخ النكاح؛ لأن النكاح يبطل بأسباب لا يبطل بها الولاء. فإن قلنا: تسترق زوجته: فإن كانت حاملاً من مسلم-: لم يجز استرقاق الحمل؛ لأنه مسلم، وهل يجوز استرقاق الأم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز [كما لا يجوز] بيع الأمة الحامل دون الحمل. والثاني: يجوز؛ لأنها مربية؛ كما لو لم تكن حاملاً. ولو استأجر مسلم حربياً، فسبى الأخير، هل تبطل الإجارة فقد قيل: فيه وجهان؛ كالنكاح-: هل يبطل؟ فيه وجهان: والمذهب: أنه لا تبطل الإجارة وجهاً واحداً؛ كما لا يبطل ملكه على المال، بخلاف منفعة البضع: فإنها ليست كالمال؛ بدليل أنها لا تضمن

بالغصب، ومنفعة المال تضمن بالغصب كالمال. ولو أعتق حربي عبداً-: يسترق عتقه، ويبطل ولاؤه؛ كما تسترق رقبته. ولو أعتق ذمي عبداً كافراً، فنقض العتيق العهد-: هل يسترق؟ فيه وجهان: أحدهما: يسترق؛ ما لو نقض السيد العهد. والثاني: لا يسترق، ولا يبطل ولاؤه؛ لأن له عهداً؛ كما لا يغنم عبده وماله. ولو أعتق ذمي عبداً، ثم نقض السيد العهد، والتحق بدار الحرب، فاسترق-: فالمذهب: أن ولاءه على عتيقه-: لا يُبطل حتى لو عتق: يكون ولاؤه باقياً عليه، ويثبت لمعتقه الولاء على عتيقه، ولو ملكه عتيقه، فأعتقه-: يكون لكل واحد منهما الولاء على الآخر. وقيل: إذا استرق السيد-: بطل ولاؤه على عتيقه؛ كما يبطُل ملكه على عبده. ولو كان لمسلم [على] حربي دينٌ، فاسترق الحربي: لا يسقط دين المسلم، إن سبى مع ماله، أو غنم ماله بعد استرقاقه-: يُقضى منه دين المسلم، ويقدم على الغنيمة؛ كما يقدم [على] الوصية، وإن زال ملكه بالرق كالمرتد-: يؤدي ديونه من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه. وإن غنم ماله قبل استرقاقه-: فالمال للغانمين، والدين في ذمته إلى أن يعتق، فيؤدي. وإن كان الدين مؤجلاً-: هل يحل الأجل بالاسترقاق؟ فيه وجهان؛ بناء على المفلس إذا حجر عليه-: هل تحل ديونه المؤجلة؟ فيه وجهان. وإن كان الدين للسابي-: هل يسقط؟ فيه وجهان؛ بناء على ما لو كان في ذمة الغير دين، فملكه-: هل يسقط أم لا؟ فيه وجهان. ولو كان لذمي على حربي دين، فاسترق الحربي-: هل يسقط الدين؟ فيه وجهان، ولو كان لحربي على حربي دينٌ، فاسترق أحدهما-: يسقط؛ لزوال ملكه.

ولو أسلم من عليه الدين، أو دخل إلينا بأمان-: لا يسقط الدين؛ كما لو تزوج امرأة، وأصدقها مهراً، ثم أسلما، أو ترافعا إلينا، بأمانٍ-: يؤخذ من الزوج المهر، فإن كان قد قهر رب الدين في دار الحرب بمنعه منه-: فقد سقط؛ لأن الدار دار قهر، حتى لو قهر العبد سيده-: يصير حراً، ويصير السيد عبداً. ولو قهرت المرأة زوجها-: يرتفع النكاح؛ فقد نص الشافعي - رضي الله عنه- على أنه لو تزوج حربي حربية، فدخل بها، فماتت، وأسلم الزوج، أو دخل إلينا بأمان، فجاء وارثها يطلب الصداق -قال: لا شيء له؛ فهذا يدل على أن الدين يسقط. قال ابن سريج: الأول أصح، وتأويل هذه المسألة: أن يكون الحربي تزوجها بلا مهر. ولو سبى الزوجان معاً، أو أحدهما-: ينفسخ النكاح، سواء كان الزوجان صغيرين، أو كبيرين، قبل الدخول كان أو بعده. وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: إن سبيا معاً: يدوم النكاح بينهما. والدليل على ما قلنا: ما رُوي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء يوم أوطاس، فكرهنا أن نقع عليهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فاستحللناه. ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يومئذٍ: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض"، ولم يفصل بين ذات الزوج وغير ذات الزوج، وكان في ذلك السبي جميع ذلك. وإن كان الزوجان مملوكين، فسُبيا أو أحدهما-: فالصحيح: أن النكاح لا ينفسخ؛ لأنه لم يحدث بالسبي رق؛ وإنما حدث انتقال الملك، والنكاح لا ينفسخ بانتقال الملك؛ كما لو انتقل بالبيع.

ومن أصحابنا من قال: ينفسخ النكاح؛ لأنه حدث [بسبي موجبٍ للاسترقاق]، فصار كحدوث رق آخر. قلت: الدليل عليه: أنها لو كانت أم ولد تصير قنة. ولو سُبيت امرأة مع ولدها صغيراً دون سبع سنين، أو ثمان سنين-: يجتهد الإمام عند القسمة؛ حتى يجعلهما لرجلٍ واحدس، ولا يُفرق بينهما، فإن لم يمكن يشرك فيهما رجلين. ولا يجوز التفريق بين الأم والولد الصغير في بيع ولا قسمة، فإن فعل-: فلا يصح البيع ولا القسمة على قوله الجديد. [وقال في] "القديم": يصح، وبه قال أبو حنيفة، والأب مع الولد الصغير كالأم؛ على أصح الوجهين. وفيه وجه آخر: أن التفريق بين الأب والولد: يجوز؛ لأنه لابد وأن يفارقه في الحضانة؛ لأنه لا يتولى حضانته بنفسه، بخلاف الأم، ويجوز التفريق بين الأخوين، والمستحب ألا يفعل إن أمكن. ولو دخل حربي دار الإسلام بلا أمان-: جاز قتله واسترقاقه، واغتنام ما معه من

الأموال والأولاد، وإن رأى الإمام المَنَّ أو الفداء يجوز كالأسير: وإن دخلت امرأة بلا أمان-: جاز استرقاقها، ولو دخل إلينا بأمانٍ، أو عقد ذمة-: فهو وما معه من المال والأولاد في أمان، فإن كان له في دار الحرب مالٌ وولدٌ-: فلا أمان لما في دار الحرب، ويجوز اغتنامُها؛ لأنه يجوز أن يفترق المالك والمملوك في الأمان، حتى لو بعث حربي مالاً إلى دار الإسلام على يدي مسلم أو ذمي-: ايتعرض لماله؛ لأنه في أمان [بأمانٍ] من معه وإن لم يكن للمالك أمان. ولو دخل حربي إلينا بأمان أو رسالة أو عقد ذمة، وله أولاد عندنا، فنقض العهد، والتحق بدار الحرب، أو عاد إليها للإقامة-: فهو نقض للعهد، ولو ترك عندنا أولاده لا يُسبى أولاده، وإن مات الأب: فإن بلغوا، أو قبلوا الجزية-: تُركوا، وإن لم يقبلوا-: يبلغون المأمن. ولو أن هذا الذمي أو المستأمن أودع عندنا مالاً، أو باع واشترى، وترك أموالاً، وعاد إلى دار الحرب ناقضاً للعهد-: فماله في أمانٍ عندنا لا يُغنم ما دام حيا فإن مات في دار الحرب، أو قُتِلَ، أو بعث حربي ماله إلى دار الإسلام على يد مسلم، ومات هو في دار الحرب: فهل يكون ماله فيئاً؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المُزني: لا يكون فيئاً؛ بل يُبعث إلى وارثه في دار الحرب؛ لأنه كان في أمان في حياته، فإذا مات-: قام وارثه مقامه؛ كما لو مات في دار الإسلام. والثاني: يكون فيئاً: خُمسه لأهل الخمس، والباقي لأهل الفيء؛ لأنه صار لمن لم يكن له أمان. وعند أبي حنيفة: إن كان ماله ديناً على الناس-: يسقط عنهم، وإن كان عيناً-: كان فيئاً، ولو لم يمت صاحب المال، ولكن سُبي واسترق فما حكم ماله؟ يُبنى على الموت إن قلنا: إذا مات يون ماله فيئاً: فههنا قولان: أحدهما يكون فيئاً؛ كما لو مات، لأن بالرق يزول الملك، كما يزول بالموت. والثاني: يوقف لأنه يرجى له ملك، بخلاف ما لو مات، فعلى هذا إن عتق، فهو له، وإن مات في الرق-: يكون فيئاً. وإن قلنا: إذا مات يكون لوارثه-: فههنا: يوقف: فإن عتق: فهو له، وإن مات في الرق-: فعلى قولين: أحدهما: يُصرف إلى وارثه؛ كما لو مات حُرا. والثاني- وهو الأصح-: يكون فيئاً؛ لأن الرقيق لا يُورث منه. أما إذا عاد الذمي إلى

دار الحرب لتجارة أو رسالة غير ناقض للعهد، فمات-: فهو كما لو مات في دار الإسلام: يكون ماله لوارثه. ولو دخل مسلم دار الحرب بأمانٍ، فسرق منهم مالاً أو استقرض منهم مالاً، وعاد إلى دار الإسلام، ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان-: وجب على المسلم رد ما سرق أو استقرض؛ لأن الأمان يوجب ضمان المال من الجانبين جميعاً. فصل في قسمة الغنيمة إذا أراد الإمامُ أو أمير الجيش قسمة الغنيمة-: يبدأ، فيدفع السلب إلى القاتل، أن قلنا: لا يُخمس. ثم يُعطى المؤن التي لزمت الغنيمة من أجرة الحامل والحافظ ونحوها. ثم ما بقي منها يجعلها خمسة أقسام مستوية، ويقطع [خمس] رقاع صغار، يكتب على واحدة: "لله تعالى"، وعلى أربعة: غنيمة، ويجعلها في بنادق طين: مستوية، ويجففها، ثم يخرج على كل قسم واحدة؛ فأيها خرج عليها سهم الله تعالى-: جعله بني أهله على خمسة أسهم، و [قسم] الباقي بين الغانمين، [فيسهم] للرجال الأحرار المسلمين البالغين: للراجل منهم سهماً واحداً، وللراكب ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لأجل فرسه؛ [لما روي] عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضرب للفرس سهمين، وللفارس سهماً، فيكون للراكب ثلاثة أسهم، وهذا قول أكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة- رحمة الله عليه-: للراكب سهمان: سهم له، وسهم لفرسه. ويستوي في استحقاق السهم من قاتل ومن لم يقاتل؛ لاستوائهما في إرهاب العدو. وأما الصبيان والنسوان والعبيد: إذا [حضروا الوقعة يُرضخ لهم]. والرضخ: أقل من السهم، ولا تقدير له، بل هو إلى اجتهاد الإمام، ولا يبلغ سهم الراجل؛ ما أن التعزير-: لا يبلغ الحد [قط]، والحكومة: لا تبلغ أرش العضو، والذمي إذا حضر القتال بغير إذن الإمام-: لا يستحق شيئاً، وإن رأى الإمام تعزيره، إذا حضر دون إذنه-: له ذل؛ ما لو دخل مسجداً بغير إذن-: عزره إن رأى؛ بخلاف المسلم إذا حضر بغير إذن الإمام-: يستحق الغنيمة؛ لأن المسلم غير متهم بموالاة الكفار، والكافر متهم بموالاة أهل دينه، وقد يون خرج إلى دارهم؛ ليكون عوناً لهم؛ فلا يستحق شيئاً.

وإن حضر بإذنه: فإن استأجره-: فليس له إلا الأجرة، وإن لم يستأجره-: فله الرضخ، وإن خرج نساء أهل الذمة بإذن الإمام-: هل يرضخ لهن؟ فيه وجهان: الأصح: يرضخ؛ كنساء المسلمين. ومن قاتل أكثر من غيره-: فللإمام أن يرضخ له مع السهم. ويزيد رضخ العبيد على رضخ النساء والصبيان؛ لأن البأس من العبيد أشد. وإذا حضر العبد فارساً-: هل يجوز أن يزاد رضخه على سهم الراجل، [أو يبلغ سهم

الراجل]؟ فيه وجهان؛ بناء على أنه هل يجوز أن يبلغ التعزير حداً أم لا؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز، ولا يبلغ ثلاثة أسهم. ومن أين يرضخ للعبيد والنسوان والصبيان؟ فثلاثة أوجه: أصحهما: يكون من أربعة أخماس الغنيمة؛ كالسهام؛ لأنه يستحق بحضور الوقعة. والثاني: يكون من رأس [مال] الغنيمة قبل إخراج الخمس؛ كالمؤن التي تلزم الغنيمة في النقل والمع والحفظ [تكون من رأس مال الغنيمة]. والثالث: من خمس الخمس سهم النبي - صلى الله عليه وسلم-. وفي رضخ الذمي وجهان. أصحهما: كرضخ العبيد. والثاني: يكون من خُمس الخمس سهم النبي، -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه للمصالح. فإن قلنا: يكون من رأس مال الغنيمة-: فهو كالسلب-، إذا جعلناه من رأس الغنيمة، فيبدأ الإمام إذا أراد القسمة، فيعطى السلب على القاتل، ويرضخ لأهل الرضخ، ثم يُخمس الباقي؛ كما ذكرنا، ومن حضر بفرسين-: فلا يسهم إلا لفرس واحدٍ، لأنه لا يقاتل إلا على واحد. وفيه قول آخر: أنه يُسهم لهما، ولا يسهم لأكثر من ذلك، وهو قول الأوزاعي: والأول المذهبُ؛ لما روي عن ابن عمر: "أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس، فلم يُسهم النبي - صلى الله عليه وسلم- إلا لفرس واحد".

وسهم الفرس يستوي فيه العتيق، وهو: الذي أبواه عربيان، والمُقرف، وهو: الذي أمه عربية، وأبوه عجمي، والهجين، وهو: الذي أمه عجمية، وأبوه عربي، والبرذون، وهو: الذي أبواه عجميان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير على يوم القيامة-: الأجر، والمغنم"، واسم الخيل يتناول الكل.

وفيه قول آخر: أنه لا يسهم للبرذون، بل يرضخ له؛ لأنه لا يعمل عمل العربي، وليس بصحيح؛ لأنه من جنس الفرس، وإن اختلفا في قدر العناء والقوة؛ [كالرجلان:

الضعيف، والقوي]: يستويان في استحقاق السهم، إذا حضرا القتال. ولا يسهم لدابة سوى الخيل، فإن حضر رجل على بعير أو فيل أو بغل أو حمار يُسهم للراجل ويرضخ لهذه الدواب؛ لأنها لا تصلح للكرِّ والفرِّن كما تصلح الخيل؛ ويجعل رضخ الفيل أكثر من رضخ البغل، ورضخ البغل أكثر من رضخ الحمار، ولا يبلغ سهم الفرس. ويجوز أن يزاد على رضخ العبيد. ومن استأجر فرساً أو استعار، فحضر عليه القتال: يستحق سهمه، ويكون له، وإن حضر على فرس مغصوب-: يسهم له وللفرس، وسهم الفرس لمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: يون لمن قاتل عليه؛ لأن الفرس لا يستحق بنفسه شيئاً، إنما يستحق بالراكب؛ لأن العناء والقوة منه. والثاني: يون للمالك؛ لأن الراكب ما أبلى بنفسه وحده، إنما أبلى به وبالفرس، فله سهمه، ولمالك الفرس سهم الفرس. ونظير هذا: إذا اصطاد بجارحة مغصوبة-: فالصيد لمن يكون؟ فيه وجهان. وعلى الإمام أن يتعاهد الخيل، إذا أراد دخول دار الحرب؛ فلا يُدخل إلا فرساً شديداً، ولا يدخل حُطماً، [وهو الكسير]، ولا قمجاً وهو: المُسن الضعيف، ولا ضرعاً وهو: الصغير الضعيف، ولا أعجف رازحاً. فلو أدخل رجل منها شيئاً - نظر: إن كان الإمام قد نهى عنه-: فلا يستحق له شيئاً، وإن لم ينه أو لم يسمع صاحبه نهيه-: فهل يسهم له؟ فيه قولان: أحدهما: يُسهم له؛ كالشيخ الضعيف، إذا حضر: يستحق السهم.

والثاني- وهو الأصح-: لا يسهم له؛ لأنه لا يغنى عناء الخيل، بل يكون كلا على صاحبه؛ بخلاف الشيخ؛ فإنه يستعان برأيه. وقال أبو إسحاق: إن أمكن القتال عليه: يسهم [له]؛ وإلا فلا. وإن كان القتال في حصن وبيت لا يحتاج فيه إلى الفرس-: يستحق صاحبه سهم الفرس؛ لأنه يحتاج إليه إذا أخرجوا. ومن حضر القتال مُخذلاً، أو كان يرجف بالمسلمين-: فلا شيء له من الغنيمة؛ لأن في حضوره مضرة للمسلمين. ومن حضر الوقعة مريضاً- نُظر إن كان مرضاً يرجى زواله-: يستحق السهم، وإلا فلا. ولو حضر صحيحاً، فمرض [في الحرب]، أو أثخن بالجراحة، بحيث لا يمكنه القتال-: نُظر: إن كان [يرجى زواله: يستحق السهم، وإن كان] لا يرجى زواله-: فعلى قولين: أصحهما: يستحق؛ لأنه معذور بترك القتال؛ كما لو مرض مرضاً يرجى زواله. والثاني: لا يستحق؛ لأنه خرج عن أن يكون منه قتال؛ كما لو مات. ولو حضر الوقعة أجيراً- نظر: إن استؤجر للجهاد-: لا يصح؛ لأنه يفترض عليه الجهاد، إذا حضر الوقعة، وإذا حضر-: لا يستحق الأجرة، ولا السهم، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنه لم يحضر مجاهداً. وإن استؤجر لسياسة الدواب، وحفظ المتاع، أو لعمل آخر مدة معلومة، فحضر القتال- نظر: إن لم يقاتل: لا يستحق من الغنيمة شيئاً. وإن قاتل-: ففيه ثلاثة أقوال. أحدها: له الجرة لجميع المدة، ويرضخ له من الغنيمة؛ لأن منفعته مستحقة لغيره؛ كالعبد إذا حضر القتال: يرضخ له. والثاني يسهم له مع الجرة؛ لأن الجرة تجب بالتمكين، والسهم بحضور الوقعة، وقد وُجِدَ الكل.

والثالث: يُخير بين السهم والأجرة؛ فإن اختار الأجرة-: فله الأجرة، ويرضخ من الغنيمة، فإن اختار السهم-: أسهم له من الغنيمة، وجعل كأنه خرج للجهاد، وسقطت الأجرة؛ لأن المنفعة الواحدة لا يستحق بها حقان، فن اختار السهم، وأسقطنا أجرته-: فمن أي وقت سقط؟ فيه وجهان: أحدهما: من وقت دخول دار الحرب، ويصير مجاهداً من ذلك الوقت بدخوله دار العدو. والثاني: من وقت حضور الوقعة؛ لأن استحقاق السهم بحضور الوقعة، فإذا اشتغل بالقتال: سقطت أجرة زمان اشتغاله بالقتال؛ فأما أجرة ما قبله وما بعده-: فلا يسقط هذا، إذا كانت [الأجرة على] مدة معلومة. فإن كانت في الذمة كأنه استأجره لخياطة ثوب، فخرج وجاهد-: فله السهم، لا يختلف القول فيه، ويتأخر ما في الذمة من العمل إلى أن يعمل. فإن قلنا: يستحق الأجير السهم: [فإن قتل كافراً-: يستحق سلبه، وإن قلنا: لا يستحق السهم]-: فهل يستحق سلب القتيل فعلى وجهين؛ كالعبد. ولو خرج للتجارة، فحر الوقعة، فإن لم يُقاتل-: لا يستحق السهم، وإن قاتل فعلى قولين، وكذلك: تجار الجيش. أحدهما: لا سهم لهم؛ لأنهم لم يحضروا للجهاد. والثاني: يسهم لهم؛ لأنهم قاتلوا مشاهدة. وأما من خرج للجهاد، فحمل مع نفسه بضاعة ليبيعها، فحضر الوقعة-: يستحق السهم، قاتل أو لم يقاتل. فإن قلنا: لا يسهم للتاجر، فهل يرضخ له؟ فيه وجهان. أصحهما: يرضخ له؛ كالعبد. ولو أفلت أسيرٌ من أيدي الكفار، والتحق بصف المسلمين، وحضر القتال-: فإن كان من هذا الجيش-: استحق السهم، قاتل أو لم يقاتل، وإن كان من جيش آخر: فإن قاتل-: ستحق السهم، وإن لم يقاتل-: فعلى قولين:

أحدهما: يستحق بحضوره الوقعة. والثاني: لا يستحق، لأنه لم يقصد الجهاد. ولو أسلم كافر منهم، والتحق بالمسلمين-: استحق السهم، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنه قصد إعلاء كلمة - الله تعالى- بالإسلام، وحضور الوقعة. فصل في استحقاق الغنيمة رُوي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- أنهما قالا: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". استحقاق الغنيمة - عندنا- بحضور الوقعة على نية الجهاد، وتُملك بالاستيلاء والحيازة-. وعند أبي حنيفة: الاستحقاق بدخول دار الحرب على عدم القتال، والملك بالاحتراز بدار الإسلام. ونعني بقولنا: تُملك بالاستيلاء والحيازة: أنه ينقطع حق الغير عنه، ولا يتوقف على النقل إلى دار الإسلام؛ لأنهم يملكونها- ملكاً حقيقياً. واختلفوا في أنهم هل يملكونها قبل القسمة. قال ابن سريج وجماعة: يملكونها، ولكنهم [ملكوا إن تملكوا]؛ بدليل أنهم لو تركوا حقوقهم-: يترك. ويجوز للإمام: أن يخص كل طائفة بنوع ولو ملكوا-: لم يجز إبطال حقهم عن بعض الأجناس. ومنهم من قال: ملكوا ملكاً ضعيفاً، ولذلك لم تجب فيه الذكاة قبل القسمة. أما إذا أفرز الإمام الخمس، وأفرز نصيب كل واحد منهم، أو أفرز لكل طائفة شيئاً معلوماً، واختاروا التملك: ملكوه ملكاً حقيقاً، حتى لا يُترك بالترك، وبعد الإفراز قبل اختيار التملك-: هل يملكون؟ وجهان: الأصح: لا يملكون، حتى لو ترك بعضهم حقه-: يتركُ إلى الباقين، ولو تركوا جميعاً يُترك إلى أهل الخمس. ويتفرع على هذا الأصل الذي ذكرنا: مسائل مختلفٌ فيها:

[منها] أن قسمة الغنائم يجوز في دار الحرب، ولا تُكره؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم غنائم بدر لشعب من شعاب الصقراء قريب من بدر، وقسم غنائم بني المصطلق على مياههم، وقسم غنائم حنين بأوطاس، وهو وادي حنين. وكره أبو حنيفة قسمة الغنائم في دار الحرب. ومنها: أنه إذا دخل دار الحرب فارساً، فمات فرسه قبل حضور الوقعة، وحضر الوقعة راجلاً-: لا يستحق سهم الفرس. وعند أبي حنيفة: يستحق. وبالاتفاق: لو باع الفرس، أو كان قد استعاره، ورده، وحضر راجلاً-: لا يستحق سهم الفرس، ولو مات صاحب الفرس قبل حضور الوقعة-: لا يستحق، فإذا فات سهمه بالموت-: فسهم فرسه أولى. ومنها: لو دخل دار الحرب راجلاً، فاشترى فرساً، أو استأجر، أو استعار، وحضر الوقعة-: يستحق سهم الفرس، وعنده: لا يستحق. ومنها: أنه لو لحق المسلمين مدد بعد انقضاء الحرب، وحيازة الغنيمة قبل دخول دار الإسلام-: لا يستحقون شيئاً، وعندهم: يستحقون. وبالاتفاق: لو لحقوا قبل تقضى الحرب، وحيازة الغنيمة-: يستحقون قل حضورهم أو كثروا. ولو لحقوا بعد تقضي الحرب قبل حيازة الغنيمة-: فعلى وجهين. أصحهما: لا يستحقون؛ لأنهم لم يحضروا الوقعة؛ كما لو حضروا بعد حيازة الغنيمة. والثاني: يستحقون؛ لأنهم لحقوا قبل كمال الاستيلاء. وكذلك: الأسير إذا أفلت إلينا بعد تقضي الحرب وقبل حيازة الغنيمة-: هل يستحق السهم؟ فعلى وجهين. ولو لحقوا قبل تقضي الحرب، وقد أحرزوا الغنيمة أو بعضها-: فإنهم يشتركون فيما أحرزوا بعد حضورهم. وهل لهم شركة فيما أحرزوا من قبل؟ فيه وجهان: الأصح: أنهم يستحقون منه؛ لأنهم حضروا الوقعة، ولو مات واحدٌ من الغانمين بعد تقضي الحرب وحيازة الغنيمة قبل

دخول دار الإسلام: يورث منه سهمه، ولو مات فرسه: يستحق سهمه كله، وعند أبي حنيفة؛ إذا مات لا يورث سهمه. ولو مات بعد تقضي الحرب قبل حيازة الغنيمة-: هل يورث سهمه؟ أو مات فرسه-: هل يستحق سهمه؟ فعلى وجهين: أصحهما: يورث ويستحق. ولو مات واحدٌ منهم في حال القتال قبل تقضي الحرب، أو قتل-: فلا حق له في القسمة، ولا يورث منه. ولو مات فرسه في خلال القتال: فالقياس أنهلا يستحق سهمه. وفيه قول آخر: أنه يستحق سهم فرسه؛ بخلاف ما لو مات الفارس؛ لأنه متبرع وقد فات. ولو غار فرسه إلى أن تقضي الحرب-، فالمذهب: أنه لا ستحق سهمه. ولو هرب واحدٌ في خلال القتال، ولم يعد حتى تقضي الحرب-: فلا حق له في الغنيمة، وإن عاد قبل تقضي الحرب-: يعطي مما يُحاز بعد عودة، ولا يعطى مما حيز من قبل. ولو ولى متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة-: لا يبطل حقه، ولو هرب ثم ادعى أني كنت متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة: فإن لم يعد إلا بعد تقضي الحرب-: لا يُقبل قوله؛ لأن الظاهر جبنه وهربه، وإن عاد قبله-: قُبل قوله مع يمينه، فإن حلف-: أُعطِي من الكل، وإن نكل-: لا يُعطى إلا مما يُحاز بعد عدة، وإذا دخل الإمام فيدار الحرب، وفرق الجيش في النواحي، وغنموا-: فجميع الجيش مع الإمام شركاء فيها، وكذلك: لو غنم بعضهم دون بعض-: فكلهم شركاء فيه؛ لأن بعضهم كان ردءاً للبعض، وقد تفرقت خيل المسلمين، فغنمت بأوطاس وأكثر العسكر بحنين، فشركوهم، وجاء في الحديث: "تُرد سراياهم على قعيدتهم". وكذلك: لو بعث الإمام قائداً إلى دار الحرب، ففرق القائد جيشه في نواحي دارِ الحرب-: فهم مع القائد شركاء فيما أخذوا. أما من كان مقيماً في دار الإسلام-: فلا شركة لهم فيما غنموا، وإن كانوا قريباً منهم؛ فإن السرايا كانت تخرج من المدينة، فتغنم-: فلا شاركهم أهل المدينة.

وكذلك: لو أقام الإمام في دار الإسلام، وبعث السرايا-: فما غنموا لا يشركهم الإمام ولا من معه فيه. ولو بعث سريتين إلى جهتين-: فما غنمت أحداهما-: لاتشركها الأخرى فيه، فإن بعثهما إلى جهة واحدة-، نظر: إن أميراً واحداً-: يتشاركون فيما غنموا، وإن أمر على كل سرية أميراً-: فلا يتشاركون إلا أن تكون إحداهما قريبة من الأخرى، بحيث يكون بعضهم عوناً لبعض: فيشتركون فيما غنموا. ولو غزت طائفة بغير إذن الإمام-: يُكره لهم ذلك؛ لأنهم إذا خرجوا بإذنه يتفحص عن حالهم، ويُعينهم بالمدد، فإذا فعلوا دون إذنه، وغنموا-: يخمس ما غنموا، سواء قل عددهم أو كثر، فالخمس لأهل الخمس، والباقي لهم، حتى لو دخل رجل واحد دار الحرب، فقاتل حربياً، وأخذ منه مالاً-: يخمس، والباقي بعد إفراز الخمس-: له. ولو دخل دار الحرب، فأخذ من حربي شيئاً على جهة (السوم)، ثم جحد-، وهرب-: فهو له خاصة، ولا يخمس. وعند أبي حنيفة: إن دخل جماعة، وغنموا: فإن كثر عددهم-: يخمس ما غنموا، وإن قل عددهم-: فلا يخمس، إلا أن يكون دخولهم بإذن الإمام، وظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] حجة لمن أوجب التخميس؛ إذ ليس في الآية فصل بين العدد القليل والكثير، وبين أنيون خروجهم بإذن الإمام أو دون إذنه. ولو غزت جماعة من العبيد، فغنموا-: يخمس، والباقي بعد الخمس لساداتهم، سواء خرجوا بإذن السادات أو دون إذنهم، وكذلك: لو غزت جماعة من المراهقين، أو من النساء، فغنموا-: بخمس، والباقي- بعد الخمس-: لهم، فإن كان معهم رجل بالغ-: فللصبيان والنسوان الرضخ، والباقي للرجل البالغ؛ لأنا وجدنا ههنا من يأخذ الباقي بعد الرضخ؛ بخلاف ما لو كان الكل صبياناً ونساء. وفيه وجه آخر: أن النساء والصبيان إذا غزوا وغنموا، ليس معهم رجل-: فلهم

الرضخ، والباقي لبيت المال. ولو غزت جماعة من المراهقين، فغنموا، وسبوا، وفي السبي صغار-: يحكم بإسلامهم تبعاً للصبيان الغانمين. وكذلك: المجنون إذا سبى. أما الذمي: إذا غنم مالاً من أهل الحرب-: فلا يخمس، لأن الخمس حق واجب على المسلمين؛ كزكاة المال. فصل فيما يحل في الوقعة من التبسط في الغنيمة رُوي عن ابن عمر؛ أن قال: "كُنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله" ولا يرفعه. إذا دخل جيش المسلمين دار الحرب، وأصابوا غنائم، وفيها أطعمة-: جاز لهم أن يتناولوا منها قبل القسمة ما يحتاجون إليه لنفقتهم، ونفقة من معهم، ويأخذوا علف دوابهم من غير عوض، فمن كانت له دابة؛ يأخذ علفها، ومن كانت له دابتان أو أكثر: يأخذ أكثر، والزهيد: يأخذ أقل من الأكول، سواء كان ذلك الطعام قُوتاً أو فاكهة أو حلاوة. وجُوز ذلك لهم؛ لأجل الضرورة ومساس الحاجة إليه؛ فإن الغالب عزة الطعام في دار الحرب؛ لأن الكُفار إذا أحسوا بقدوم الغزاة-: يُخبئون الأطعمة، فأبقى الشرع الطعام في

حقهم على أصل الإباحة. وإذا ظفروا بشيء منها-: كان لهم تناوله، وإن تفاوتوا فيه؛ كالقوم يتناهدون في السفر: جُوز لهم ذلك مع تفاوتهم في الأكل، وهل يجوز لهم أن يأكلوا من غير حاجة؛ بأن كنا حمل مع نفسه طعاماً؟ فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: لا يجوز؛ كما لا يجوز في غير دار الحرب أكل مال الغير لغير حاجة. والمذهب: أنه يجوز؛ وهو قول أكثر الأصحاب؛ لما رُوي عن عبد الله بن مغفل قال: "أصبت جراباً من شحم يوم خيبر فالتزمته، وقلت: لا أعطي من هذا أحداً شيئاً، فالتفتن فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم. ولو لم يجز أن يتناول أكثر من قدر الحاجة-: لنهاه عن ذلك، وليس كطعام الغير في غير دار الحرب؛ لأنه يأكله بعوض؛ فشرط فيه الاضطرار الحقيقي، وههنا: يتناوله بغير عوض؛ وذلك لما قلنا: إن الطعام بقي في حقهم على الإباحة للمعنى الذي ذكرنا، كمن أضاف جماعة، وقدم إليهم طعاماً-: جاز لهم التناول مع التفاوت، وإن كان مع واحد طعام حمله مع نفسه. ولا يجوز أن يبيع شيئاً منه؛ لأن حاجته إلى الأكل لا إلى البيع، فإن باع شيئاً منه -نظر: إن باعه من غير الغانمين، وسلمه: يجب على المشتري رده إلى الغنيمة، وإن باعه من بعض الغانمين، وسلمه-: كان المشتري أحق به؛ لأنه من الغانمين، وقد حصل في يده ما يجوز له أخذه فإن رده إلى البائع-: صار البائع أحق به، حتى لو تبايع رجلان من الغانمين صاعاً بصاعين-: لم يكن ربا، وصار كأن الذي أعطى صاعين أثر صاحبه على نفسه مما دفع إليه، هذا كما لو كان في يد عبده طعام، فتبايعا صاعاً بصاعين-: لم يكن لذلك البيع معنى، ولا ربا فيه. ويجوز لهم التزود من ذلك الطعام؛ لقطع المسافة، ولا يجوز أن يأخذ منه كسوته، ولا مطعوماً يؤكل نادراً؛ كالفانيذ والسُّكر.

ولا يجوزُ أن يدهن شعره بدهن الغنيمة؛ لأنه لا حاجة إليه، ولا يجوز تناول ما يصاب من الأدوية، إذا اعتل، فإن دعت الحاجة إليه-: تناوله ويضمن قيمته؛ لأنه ليس من الأطعمة التي يحتاج إليها في العادة، ويجوز ذبح ما يؤكل من الحيوان للأكل؛ لأنه مما يؤكل في العادة، ولا يجوز أن يعمل من إهابها حذاء ولا سقاء، فإن اتخذ شيئاً من ذلك-: يجب رده في المغنم، وإن زادت قيمته بالصنعة-: لم يكن له في الزيادة حق، وإن نقص-: لزمه أرش ما نقص كالغاصب. ولو أتلف شيئاً من مال الغنيمة-: لزمه الضمان، وإن لبس منه ثوباً-: تلزمه أجرته، رُوي عن رويفع بن ثابت الأنصاري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر-: فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر-: فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده". وإذا لحق مدد بعد تقضي الحرب-: لا يجوز أن يطعموا منه؛ كغير الضيف: لا يأكل مع الضيف من طعام المضيف، فإذا اضطروا-: أطعمهم الإمام من بيت المال، وإذا دخل دار الإسلام ومعه بقية من الطعام الذي أخذه من الغنيمة-: هل يجب رده؟ فيه قولان" أصحهما يجب رده؛ لأنا إنما جوزنا أخذه في دار الحرب للحاجة، وقد زالت بدخول دار الإسلام. والثاني: لا يجب؛ لأن ما خص به من الغنيمة-: لا يجب ردها؛ كالسلب. وقيل: إن كان كثيراً-: يجب رده قولاً واحداً. والقولان في القليل. ولو خرجوا من دار الحرب، ولم يبلغوا بعد عمران دار الإسلام-: فهل لهم أن يتناولوا من طعام الغنيمة؟ فيه وجهان: أحدهما: لهم ذلك؛ لأن المعنى الذي أبيح به تناوله في دار الحرب، وهو ضيق الطعام - ههنا- موجود. والثاني: ليس لهم ذلك؛ لأنهم أحرزوا الغنيمة بدخول دار الإسلام؛ فمن تناول منه شيئاً- لزمه الضمان. ولو أصاب المسلمون شيئاً من كتبهم، فإن كان منها شيءٌ مباح من طب أو شعر-: فهو غنيمة، وإن كان فيه كُفرٌ-: لم يجز تركها على حالها؛ لأن قراءتها والنظر إليها معصية.

وإن أصابوا التوراة والإنجيل الذي في أيديهم- لم يجز تركه على حاله؛ لأنه مبدل لا حرمة له، بل يُغسل ويمحى وينتفع بأوعيته، ويكون من الغنيمة. وإن أصابوا خمراً-: وجب إراقتها، وإن أصابوا خنزيراً-: يُقتل، وإن أصابوا كلباً عقوراً-: قتل. وإن كان كلباً فيه منفعة-: دفع إلى من ينتفع به من أهل الخمس والغانمين، فإن لم يكن منهم من يحتاج إليه-: خُلي؛ لأن اقتناءه لغير حاجة حرام. وإن أخذوا واحد منهم شيئاً من المباحات التي لم تكن ملكاً لأحد، كالحطب، والحشيش، والصيد، والحجر-: فهو لمن أخذه، كما لو أخذه في دار الإسلام. وإن كان عليه أثر الملك، كالأثواب المصبوغة والأحجار المنحوتة، والصيد المفرط وغير ذلك من الأشياء المملوكة؛ كالسيف والقوس-: فإن أمكن أن يكون لمسلم بأن كان في الدار مسلمون يحتمل أن يكون لهم، ويحتمل أن يكون للكفار-: فهو لُقطة تُعرف سنة، فإن لم يظهر طالبه-: يتملكه، وإن لم يكن في الدار مسلمون-: فهو غنيمة. ولو وجد ضالة في دار الحرب لحربي-: فهو غنيمة؛ فالخمس لأهله، والباقي له ولمن معه. ولو وجد ضالة لحربي في دار الإسلام-: لا يختص هو به؛ بل يكون فيئاً لأهل الفيء. وكذلك؛ لو دخل صبي أو امرأة منهم بلادنا، فأخذه رجل-: يكون فيئاً، وإن دخل منهم رجلٌ، فأخذه مسلم-: يكون غنيمة؛ لأن لأخذه مؤنة، فللإمام أن يرى فيه رأيه، فإن رأى أن يسترقه-: يكون الخمس لأهله، والباقي لمن أخذه؛ بخلاف الضالة: فإنها مال من أموال المشركين وقع في أيدينا من غير قتال. فصل في الغلول من الغنيمة قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَاتِ بِمَا غَلَّ} [آل عمران: 161] الآية. إذا غل واحدٌ من الغانمين شيئاً من الغنيمة-: غُرر، وإن سرق نصاباً-: لا قطع عليه، لأن له فيه حقاً، ويسترد ما سرق إن كان قائماً، وإن كان تالفاً-: يغرم قيمته، ويجعل في الغنيمة؛ وقد رُوي عن سالم، عن أبيه: "أن رجلاً غل من الغنيمة، فأحرق النبي - صلى الله عليه وسلم- رحله".

وقال الشافعي: إن ثبت الحديث- قلت به، وهذا الخبر ضعيف؛ فإن الغلول قد كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير واحد؛ فلم يثبت من وجه أنه أحرق على أحدٍ رحله، ولعله إن صح الحديث: إنما فعل في أول الإسلام فطماً لهم عن عادة الجاهلية؛ كما رُوي من تضعيف الغرامات. ولو وطيء واحدٌ من الغانمين جارية من المغنم لا حد عليه؛ لأن له فيها شركاً بل يعزر، إن كان عالماً بالتحريم، وإن كان جاهلاً يُنهي عنه ولا يُعزر، فإن عاد عُزر وعليه المهر. ثُمَّ إن كان الغانمون محصورين، أو كان الإمام قسم الغنيمة، وأفرز لكل طائفة شيئاً معلوماً، وكانت الجارية في قسمة طائفة، والواطيء منهم: فبقدر حصته لا تجب، والباقي يؤخذ لسائر الغانمين. وإن كانوا غير محصورين يُؤخذ جميع المهر ويوضع في الغنيمة-: فيقسم معها؛ لأنهم إذا كانوا غير محصورين-: لا يُدرى قدر نصيبه، حتى يسقط، فإذا قسمت الغنيمة، فوقعت هذه الجارية في سهمه-: لايُرد إليه المهر؛ لأنه يصير كأن ملكه تحدد عليها بعد وجوب المهر، وإن وطئها وأحبلها-: فالنسب ثابت. وعند أبي حنيفة: لا يثبت النسب، والولد مملوك، فنقول: وطءٌ لم يجب به الحد؛ فيثبت به النسب كوطء الشبهة، ثم لا يخلو الواطيء إما إن كان موسراً أو معسراً؛ فإن كان موسراً-: فالولد حر، وصارت الجارية أم ولد له؛ لأن له فيها حقاً؛ كالأب يستولد جارية الابن: تصير أم ولد له، عليه قيمتها. ثُمَّ إن كانوا محصورين وأفرز نصيب كل طائفة-: يؤخذ الفاضل من حصته لسائر الغانمين، وإن كانوا غير محصورين-: يؤخذ الكل، فيوضع في الغنيمة، ثم يقسم، وهل تجب قيمة الولد؟ يبنى على أن أحد الشريكين، إذا استولد الجارية المشتركة، وهو موسر-: متى يملك نصيب الشريك؟ وفيه قولان: إن قلنا: يملك بنفس العلوق-: لا يجب. وإن قلنا: بأداء القيمة-: يجب، ثم هو كقيمة الجارية. وإن كان الواطيء مُعسراً- نُظر: إن كان محصورين-: صارت الجارية بقدر حصته أم ولد له، والولد هل يون له حراً أم بقدر حصته يكون حراً، والباقي يكون رقيقاً فيه قولان؛ كما في الجارية المشتركة.

إن قلنا: كله حر-: فيجب عليه من القيمة بقدر حصة الباقين. وإن قلنا: الباقي رقيق-: فهو للباقين من الغانمين، ولا قيمة عليه. وإن كانوا غير محصورين-: لا تصير الجارية أم ولد له في الحال، أما الولد: إن قلنا: المعسر إن استولد الجارية المشتركة يكون الولد كله حراً-: فالولد حر، ويؤخذ منه قيمته، وتوضع في الغنيمة، ثم تقسم على الكل. وإن قلنا في المشتركة: الغنيمة تخلق بعضه حُراً-: فههنا: يون الكل رقيقاً، ثم الإمام-، عند السمة- يجتهد حتى تقع الأم والولد في حصة الواطيء، فإن وقعا في حصته-: كانت الجارية أم ولدٍ له، والولد حر، وإن وقع البعض في ملكه-: صارت بقدره أم ولد، وعتق من الولد بقدر ما ملك. هذا إذا وطيء قبل إفراز الخمس، أو بعد إفراز الخمس وطيء من الأربعة الأخماس، فإن وطيء من الخُمس-: فهو كوطء الأجنبي، وإن كان الواطيء أجنبياً-: وطيء جارية من الغنيمة، نُظر: إن وطيء قبل إفراز الخُمس أو بعد إفراز الخمس وطيء من الأربعة الأخماس: فإن كان له من الغانمين ولدٌ-: فلا حد عليه، وعليه المهر. وإن لم يكن له فيهم ولد-: يجب عليه الحد، ويجب المهر، ويوضع في الغنيمة ويقسم. أما إذا وطيء جارية من الخمس بعد إفرازها-: فعليه الحد، سواءٌ كان الواطيء من الغانمين أو لم يكن، كما لو وطيء جارية الغير؛ بخلاف ما لو سرق من الخُمس شيئاً-: لا قطع عليه، كما لو سرق مال بيت المال: لا قطع عليه؛ لأنه يستحق النفقة منه، ولا يستحق الإعفاف. وإن كان في السبي من يعتق على بعض الغانمين من الآباء وإن علوا أو الأولاد وإن سفلوا-: نص أنه لا يعتق عليه، حتى يقسم، فإذا قُسم، ووقع في نصيبه، واختار تملكه-: عتق عليه. وإن وقع بعضه من نصيبه-: عتق عليه ذلك القدر، ويقوم عليه الباقي، إن كان موسراً. وكذلك: لو أعتق واحدٌ من الغانمين عبداً- من الغنيمة-: فهو كعتق القريب، وقد ذكرنا أنه إذا استولد جارية من المغنم-: تصير أم ولد له. قال المزني: وجب ألا تصير أم ولد له؛ كما لو لم يعتق القريب.

فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين بالنقل والتخريج. أحدهما: في الموضعين: تنفذ، وتؤخذ القيمة، فتوضع في المغنم. والثاني: لا تنفذ ما لم يتعين حقه فيهما. ومنهم من فرق بينهما فقال: ينفذ الاستيلاد؛ لأنه أقوى، ولا ينفذ العتق؛ كالأب إذا استولد جارية ولده: ينفذ استيلاده، ولو أعتقها: لا ينفذ، فحيث قلنا: يعتق-: فإن كان الولد صغيراً: يعتق؛ لأنه صار رقيقاً بنفس الأسر، وإن كان بالغاً-: فلا، حتى يرى الإمام فيه رأيه، فإن أرقه-: عتق. وهذا الاختلاف فيما إذا كان قبل القسمة، أما بعد القسمة-: إذا أفرز الإمام نصيب كل واحد أو نصيب كل طائفة، واختاروا التملك-: لا يختلف القول في عتق القريب، ونفوذ الاستيلاد ولو استولد: إما بعد القسمة قبل اختيار التملك، أو قبل القسمة، أو كانوا محصورين قبل اختيار التملك-: فقد قيل: هو كما بعد اختيار التملك. والصحيح: أنه ما لو كان قبل القسمة، وهم غير محصورين؛ لأنهم لو تركوا حقوقهم في هذه الحالة-: يترك إلى الباقين من الغانمين. باب: تفريق الخمس قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية. الله تعالى- أضاف هذا المال إلى نفسه؛ لشرف هذا المال، ولقطعه عمن كان يأخذه قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم- فإن الملوك كانوا يأخذونها لأنفسهم. ثم جعلها لخمسة أصناف، اعلم: أن خمس القيمة لخمسة أصناف: سهم كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وبعده هو لمصالح المسلمين. وأهم المصالح ما يؤول إلى تحصين الإسلام، وحفظ المسلمين: من سد الثغور، وإصلاح الحصون، ثم الأهم فالأهم. وسهم منه لأقارب الرسول- صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم، وبنو المطلب: يسوى فيه بين الفقير والغني؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يُعطى منه العباس، وكان موسراً يعول عامة بني عبد المطلب، ويسوى بين القريب والبعيد، ويشترك فيه الرجال والنساء، يفضل الذكر على الأنثى، فيجعل للكر مثل حظ الأنثيين: فقال أبو ثور والمزني: يسوى بين الذكر والأنثى-: ويُصرف إلى من كان أبوه هاشمياً أو مُطلبياً، ولا يُعطى أولاد البنات، ولا يُعطى بني عبد

شمس ونوفل؛ لما روي عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب-: أتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم، لا ننكر فضلهم لمكان الذي وضعك الله فيهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتننا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه". ويُروى: أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام. ولا يفضل فيه من حضر القتال على من لم يحضر، إلا أن من حضر القتال-: يستحق السهم من الأربعة الأخماس، ويعطى القاصي والداني. وقال أبو إسحاق: ما كان في كل إقليم يعطى إلى من فيه سهم؛ لأنه سبق النقل. والمذهب الأول؛ لأن الله تعالى عم ولم يخص. وسهم من الخمس لليتامى، وهو: كل صغير لا أب له، ويشترط أن يكون فقيراً. وقيل: يجوز أن يُصرف إلى اليتيم، وإن كان غنياً. والمذهب هو الأول. ولا حظ فيه لبالغ ولا لصغير له أب، لأنه لا يسمى يتيماً.

وسهم للمساكين وهو كل محتاج، فقيراً كان أو مسكيناً؛ لأن اسم "المسكين" إذا أفرد يتناول الفريقين جميعاً. وسهم لابن السبيل، وهو كل من يريد الخروج إلى سفر مباح، ولا يجد أهبة الخروج، ولا يشترط أن يكون اليتيم والمسكين وابن السبيل من المرتزقة. ولا يجوز أن يُعطى إلى كافر منه شيء؛ لأنه عطية من الله تعالى-: كالزكاة. وتجب التسوية بين هذه الأصناف، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض عند وجودهم. وإذا فُقِد بعض هذه الأصناف-: صُرفَ سهمه إلى الموجودين كالزكاة، إلا سهم النبي -صلى الله عليه وسلم - فإنه للمصالح. وعند أبي حنيفة: خُمس الغنيمة لثلاثة أصناف، وسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوي القربى ساقطان. والعامة على خلافه؛ لأن الخلفاء الراشدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كانوا يُعطونه، والله أعلم. باب: تفريق أربعة أخماس الفيء قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...} إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 8 - 10] الآية. ورُوي عن مالك بن أوس بن الحدثان؛ أنعمر قال: "ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه إلا ما ملكت أيمانكم". أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده لمن يكون؟ فيه قولان: أصحهما: للمرتزقة. والثاني: للمصالح، ويبدأ بالأهم فالأهم والأهم هم المرتزقة. فإذا أراد الإمام قسمها على المرتزقة: يأمر بإحضار من في البلدان من المقاتلة، وهم الرجال العاقلون البالغون الأصحاء الأحرار، ويحصى ذراريهم ونساءهم، ويتعرف أحوالهم، ويعرف قدر نفقاتهم ومؤناتهم، فيعطي كل واحد منهم ما يحتاج إليه من نفقته، ونفقة من

تلزمه نفقته من النساء والذُرية، وكسوتهم لسنة في مثل بلده وزمانه من رخص السعر وغلائه، ويعطي نفقة أقاربه الذين تلزمه نفقتهم. وإن كان لواحد أربع نسوة-: يعطي نفقة الكل، ويعطى ذا المروءة أكثر ممن دونه، ويعطى المقاتل الفرس أو قيمته ومؤنته والسلاح. ومن لا زوجة له إذا تزوج، أو من له زوجة فتزوج أخرى، أو حدث لواحد ولد-: زاد في عطائه، ويزيد للمولود على مر الأيام بقدر حاجته؛ ولا يفضل من كانت له سابقة بالإسلام أو الهجرة أو غيرها من الخصال الحميدة. كان أبو بكر يسوى بين علي وغيره في العطاء، ولا يفضل بالسابقة، فقال له عمر: تجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهاجروا من ديارهم: كمن إنما دخل في الإسلام كُرها، فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ. وكان عمر يفضل بالسابقة حتى كان يفضل أقران ابنه، ويقول: هاجر بك أبوك، ويفضل عائشة على حفصة، ويقول: كان أبوها أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك. واختار الشافعي المطلبي التسوية؛ كما يسوي في سهم الغنيمة بين الشجاع والجبان، وفي الميراث: بين الولد البار والعاق. ولا يُعطى من الفيء صبي، ولا مجنون، ولا عبد، ولا امرأة، ولا أعمى، ولا زمن؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد، فإن كانوا في عيلة مقاتل-: فهم تبع له، فيعطى المقاتل بسببهم. وإن مرض واحد من المقاتلة-: فإن كان مرضاً يُرجى زواله-: يعطى، لأن الإنسان لا يخلو من عارض، وإن كان مرضاً لا يرجى زواله أوعمى أو زمن -: سقط حقه، والتحق بالذرية. وإن مات واحد من المقاتلة، وله ولد أو زوجة-: فهل يرزق ولده وزوجته بعد موته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يرزق؛ لأنه كان يأخذه تبعاً للمقاتل؛ وقد ذهب الأصل. والثاني: يرزق الولد إلى أن يبلغ، والزوجة إلى أن تنكح؛ لأن فيه مصلحة؛ فإن المجاهد إذا علم انقطاع الرزق عن ولده وزوجته بعد موته-: اشتغل بالكسب لعياله، ويُعطل أمر الجهاد؛ فعلى هذا: إذا بلغ الولد، وأثبت اسمه في الديوان-: يعطى كما يعطى المقاتلة.

وإن لم يُثبت-: فلا يعطى، وإن بلغ، وهو غير صالح للقتال، بأن كان أعمى أو زمناً، يُعطى كما يعطى قبل البلوغ. وإذا تزوجت المرأة-: سقط حقها؛ لأنها استغنت بالزوج الثاني، فخرجت عن تبعية الأول. ويُخرج الإمام العطاء في كل عام مرة أو مرتين، ويجعل له وقتاً معلوماً لا يختلف عليهم. ولا يعطى في كل شهرٍ، ولا في كل أسبوع؛ لأن ذلك يشغلهم عن الجهاد. فإن مات واحدٌ منهم بعد الحول، أو دخول وقت العطاء واجتماع المال-: دفع نصيب إلى وريثه، وإن مات قبل اجتماع المال-: فلا حق له فيه، وإن مات بعد اجتماع المال قبل الحرب-: هل يعطي بقدر ما مضى من الحول؟ فيه قولان؛ بناء على ما لو مات ذمي في أثناء الحول: هل يؤخذ من الجزية بقدر ما مضى من الحول؟ فيه قولان: وإن فضل عن المقاتلة شيء من مال الفيء، فإن قلنا: إنها للمرتزقة يُصرف الكل غليهم، وإن زاد على قدر حاجتهم؛ فتقسم بينهم على قدر مؤناتهم. وإن قلنا: إنها للمصالح-: صُرفَ الفضلُ إلى المصالح، ولا يعطى من مال الفيء شيء إلى أهل الصدقات؛ ما لا تعطى الصدقة إلى أهل الفيء. ونعني بأهل الصدقة: من لم يكن اسمه في ديوان الغزو، فإن غزا واحدٌ منهم-: من سهم سبيل الله من الصدقة، وإن أخرج واحد من أهل الفيء اسمه من الديوان-: سقط حقه من الفيء فإن غزا أعطى من سهم سبيل الله. ولو جاء رجل، فطلب أن يكتب اسمه في الديوان-: فإن رأى الإمام فيه غناء، أو في المال سعة-: أثبت اسمه فيه؛ وألا لم يفعل ذلك، ويجب على أهل العطاء إذا استنفروا أن ينفروا، ويغري الإمام كل طائفة إلى من يليهم من الكفار لخفة المؤنة، فإن استغنت تلك الناحية عن الغزو؛ لقلة الكفار، أو لكثرة المجاهدين فيها-: أغراهم إلى ناحية أخرى من أقرب المواضع إليهم، وتُعطى مؤنتهم على بعد مغزاهم، ويعطي من مال الفيء رزق الحُكام الذين يحكمون بينهم، وولادة الأحداث الذين يعلمون الأحداث الفروسية والرماية، والذين يلون الصلاة لأهل الفيء، وكل من قام بأمر الفيء من والٍ، وكاتبٍ، وجندي ممن لا غناء لأهل الفيء عنهم. كما يُعطى العامل على الصدقة سهماً منها، وإن وجد أميناً يتطوع به-: فلا يُعطى أحداً شيئاً، وإن وجد من يعمل بأقل-: لا يعطى من يطلب أكثر.

وإذا اجتمع مالُ الفيء-: فالاختيار أن تُعجل قسمتها، ولا تؤخر؛ خوفاً من أن ينزل بالمسلمين نازله، فيحتاج إليه، لأنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة، ونعوذ بالله منه- فيجب على كافة المسلمين القيام بها. وإذا غشيهم عدوٌ في دارهم-: وجب على كل من غشيهم النفير، سواء كانوا من أهل الفيء، أو لم يكونوا. أما أراضي الفيء -: فخمسها لأهل الخمس، أما أربعة أخماسها-: قال الشافعي: هي وقف للمسلمين: تستغل، وتقسم غلتها في كل عام. اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: تصير وقفاً بنفسها. ومنهم من قال يقفها الإمام، ثم تصرف غلتها إلى أهل الفيء. وفي قول: إلى المرتزقة. وفي الآخر: إلى المصالح. ومن أصحابنا من قال: إنها للمصالح: تكون وقفاً. فإن قلنا: للمرتزقة-: يقسمها بينهم- كما قلنا- في أربعة أخماس الغنيمة. والأول أصح، أنه وقف على القولين جميعاً؛ يصرف الإمام غلتها إلى مصالحهم؛ لأن للإمام الاجتهاد في مال الفيء. وكذلك: يجوز أن يُفضل بعضهم على بعضٍ؛ بخلاف الغنيمة: فإنه لا يجوز للإمام تفضيل بعضهم على بعض بالاجتهاد. فصل في التأمير في الحرب رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل على كل عشرة عريفاً، وجعل للمهاجرين شعاراً، وللأوس شعاراً، وعقد الألوية للقبائل قبيلة قبيلة، ورُوي أن عمر - رضي الله عنه- لما دون الدواوين، قال بمن ترون أن أبدأ؟ فقيل له: ابدأ بالأقرب فالأقرب بك، قال: بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ينبغي للإمام أن يُدون أسماء المقاتلة، ويُعرف على كل طائفة عريفاً، ويكتب قدر أرزاقهم؛ ليعلم من حضر ومن غاب، ويسهل جمعهم إذا احتاج إليهم.

ويقوم العريف بأمورهم وجمعهم، ويبدأ في الديوان بالأقرب فالأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما فعل عمر- رضي الله عنه- لأن الناس كلهم عباد الله، فأولاهم بالتقديم أقربهم لخيرة الله من خلقه محمد سيد المرسلين- صلوات الله عليه وعليهم أجمعين-: فيقدم قريشاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قدموا قريشاً" ويقدم من قريش بني هاشم، وبني المطلب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". ويقدم منهم الأسن، فإن كان الأسن في الهاشمي قدمه، وإن كان في المطلبي قدمه، ثم يقدم بني عبد شمس على بني نوفل؛ لأن عبد شمس أخو هاشم من أبيه وأمه، ونوفل أخوه من أبيه. ثم بعد بني نوفل: يقدم بني عبد العُزى على بني عبد الدار؛ لأنهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خديجة كانت منهم، وكان فيهم حلف المطيبين، وحلف الفضول، وهما حلفان في قوم من قريش اجتمعوا فيها على نصر المظلوم، ومنع الظلم. فعلى هذا: يُقدم الأقرب فالأقرب. فإن استوى اثنان في القرب: يقدم أسهماً، فن استويا في السن فأقدمهما هجرة، ثم بعد قريش يقدم الأنصار على سائر القبائل؛ لما لهم من السابقة، والأثار الحميدة في الإسلام، ثم يقدم سائر العرب على العجم، ولا يقدم العجم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب والله أعلم.

كتاب: قسم الصدقات

كتابُ: قسم الصدقات بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ...} [التوبة: 60] الآية. جعل الله زكاة الأموال لثمانية أصناف، يجب صرفها إليهم، إذا كانوا موجودين، ولا يجوز حرمان بعضهم. فأحد الأصناف: الفقراء، والثاني المساكين. واسم "الفقير" إذا أفرد يتناول الفقير والمسكين، وكذلك اسم "المسكين" إذا أفرد يتناولهما جميعاً؛ لأن الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة، وضعف الحال. وإذا ذكر الاسمان معاً، كان لكل واحد منهما معنى سوى الآخر؛ فالفقير: من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعاً. والمسكين من له شيء من المال، أو حرفة تقع منه موقعاً؛ ولكن لا تغنيه وعياله، ولا يفي دخله بخرجه على الدوام. والفقير - عندنا -أسوأ حالاً من المسكين. وعند أبي حنيفة: المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وما قلنا أولى؛ لأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] أثبت لهم ملكاً ودخلاً مع اسم المسكنة. فإن كان له كسب تحصل منه كفايته وكفاية عياله، أو ضيعة موقوفة عليه يدخل منها

كفايته-: وهو كما لو كان له مال يفي بكفايته. ولا يجوز صرف سهم الفقراء والمساكين إليه، فإذا حصل اسم الفقر والمسكنة في شخص، تحل له الزكاة زمناً كان أو غير زمن، سائلاً كان أو غير سائل. وقال في القديم: يشترط أن يكون الفقير زمناً غير سائل. والأول المذهب، لأن السائل قد يكون بين قوم يقل معطوهم، والمتعفف بين قوم أغنياء يبدؤونه بالعطاء، فلا عبرة بالسؤال والتعفف. ثم يجوز أن يدفع إلى الفقير والمسكين قدر ما تزول به حاجته، وهم مختلفون فيه. منهم من قال: تزول حاجته بقليل، ومنهم من قال: لا تزول حاجته إلا بكثير. فمن كان محترفاً، ولكن لا آلة له؛ يُدفع إليه قدر ما يشتري به آلة حرفته، وهم متفاوتون في الآلات؛ فإن كان خياطاً: يُدفع إليه قدر ما يشتري به إبرة ومقراضاً، وإن كنا محتطبا فقدر ما يشتري به فأساً وحبلاً، وإن كان حائكاً أو حداداً لا يجد آلة حرفته إلا بمال كثير-: فيدفع إليه ذلك القدر، وإن كان يحسن التجارة، ولكنه لا يمكنه أن يتجر إلا بألف درهم أو أكثر-: فيدفع إليه قدر ما يمكنه أن يتجر فيه، فإن لم يكن له مال، ولا حرفة، وله عيال، ولا تزول حاجته إلا بكثير من المال-: فيعطى إليه كفاية سنة، [وإن كان يملك ألفاً، وذلك لا يكفي إلا لنصف سنة-: يُعطى ما يتم به كفاية سنة]، وإن كان له كسب لا يحصل منه نصف كفايته-: يعطى ما تتم به كفايته. فإن كان له كسب يفي بكفايته، لكنه شغل نفسه بنوافل العبادات، فمنعه ذلك عن الكسب-: لا تحل له الزكاة؛ لأن اكتساب ما يكفيه واجب عليه. وإن كان مشتغلاً بتعلم العلم، واشتغاله بالكسب يمنعه عن التعلم-: جاز له أخذ الزكاة؛ لأن تعلم العلم فريضة: ما فرض عين أو فرض كفاية. والدار التي يسكنها والثوب الذي يلبسه متجملاً به-: لا يسلبه اسم الفقر. وقال أبو حنيفة: من ملك نصاباً من أحد النقدين: لا يجوز له أخذ الزكاة، فإن لم يمل نصاباً-: جاز له أخذها، وإن كان مكتسباً. فإن كان الرجل فقيراً، ولن له أب أو ابن غني تجب نفقته عليه-: هل يجوز للغير صرف سهم الفقراء إليه أو المرأة الفقيرة إذا كان لها زوج غني-: هل يجوز لغير الزوج دفع سهم الفقراء إليها؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز، لأنهما فقيران لا كسب لهما. والثاني: لا يجوز؛ لأنهما غنيان بمال القريب والزوج. فإذا جاء رجل يطلب الصدقة، ورآه رب المال قوياًن فقال لا كسب لي-: قُبل قوله، وهل يحلف؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يحلف؛ لما رُوي: أن رجلين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسألانه الصدقة؟ فقال: "إن شئتما، ولا حظ فيها لغني ولا لي مرة مكتسب"، فأعطاهما بعدما أخبرهما من غير تحليف. والثاني: يحلف، لأن الظاهر قدرته على الكسب، فغذا ادعى أن له عيالاً لا يُقبل قوله إلا ببينة؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر؛ فإن عرف له مال، فادعى ذهاب ماله-: لا يُقبل إلا ببينة. والصنف الثالث من المستحقين: هم العاملون عليها، وأراد أن العامل على الصدقة له سهم منها، وغن كان غنياً، وذلك: أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من عبده كانوا يبعثون السعاة، ولأن من أرباب الأموال من لا يعرف مايجب عليه وما يجب له، ومنهم من يبخل بماله فلا يعطى، فيبعث الإمام الساعي ليصل الحق إلى المستحقين، ولا يبعث إلا حراًن عدلاً ثقة فقيهاً، يعرف ما يجوز له أخذه ومن يجوز الدفع إليه، فهذا الساعي هو العامل عليها، فله سهم من الصدقة، فالإمام بالخيار بين أن يستأجره بأجرة معلومة، ثم يُعطاها من الزكاة، وبين أن يبعثه من غير شرط، ثم يعطيه من الصدقة أجر مثل عمله، وأجر من يحتاج إليه من محاسب، وكاتب، وحافظ، فإن وجد من يتطوع به-: لا يعطي أحداً شيئاً، وإن لم يجد من يتطوع-: فلا يعطي أكثر من أجر المثل.

ولا حَظَّ فيه لوالي الإقليم ولا للإمام؛ لأن الله تعالى جعله للعامل لا للإمام، وأجرة الإمام إن لم يتطوع من خُمس الخمس سهم المصالح. رُوي أن عمر شرب لبناً، فأعجبه، فأخبر أنه من نعم الصدقة، فأدخل إصبعه فاستقاءه. فإن فضل من سهم العامل- وهو الثمن - شيء-: يُرد إلى سائر الأصناف، وإن لم يف سهمه بأجرة عمله يكمل من مال الصدقة على أصح القولين، وفيه قول آخر: أنه يكمل من خُمس الخمس سهم المصالح، الأول أصح؛ كما أن أجرة من يقوم بحفظ مال اليتيم وجمعه تكون من مال اليتيم. ومن أصحابنا من قال: الإمام بالخيار، إن شاء أكمل من خمس الخمس، وإن شاء من الصدقة. ومنهم من قال: إن بدأ بسهم العامل فمن مال الصدقة، وإن بدأ بالأصناف، فأعطاهم، ثم وقع في سهم العامل نقص-: أتمه من مال المصالح؛ لأنه يشق استرجاعه من الأصناف، وفي أجرة الكيال وجهان: قال أبو إسحاق: تكون من الصدقة؛ كأجرة العامل. وقال ابن أبي هريرة: تكون على رب المال؛ لأنها تجب للإيفاء، والإيفاء على رب المال، فتكون أجرته عليه. وإن لم تقع الكفاية بعامل واحدٍ، يزيد بقدر ما يحتاج إليه، وإن ولى الإمام واحداً بلداً وأهل الصدقات يحملون إليه صدقاتهم من غير احتياج إلى عامل، أو حملوا بأنفسهم إلى الإمام-: سقط سهم العامل؛ كما لو دفع رب المال الزكاة بنفسه. والصنف الرابع: هُم المؤلفة قلوبهم، وهم قسمان: مسلمون، وكُفار: أما المسلمون: فأقسام: قسم دخلوا في الإسلام، ونيتهم ضعيفة، فيؤلفهم الإمام بمالٍ أعطاهم لتتقوى نيتهم في الإسلام؛ كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم عنبسة بن بدر، والأقرع بن حابسن وأبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية. أو كانت نيتهم قوية، ولهم شرف في قومهم، فأعطاهم؛ ترغيباً لأمثالهم في الإسلام؛ كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر. وهل يعطى هذان الفريقان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-؟ فيه قولان أحدهما: لا يُعطون؛ لأن الله تعالى أغنى الإسلام عن أن يتألف عليه رجالٌ.

والثاني: يُعطون؛ لأن المعنى الذي به أعطوا قد يُوجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى هذا. من أي مال يعطون؟ فيه قولان: أحدهما: من سهم المؤلفة من الصدقات. والثاني: من خمس الخمس سهم المصالح. وقسم آخر من مؤلفة المسلمين: جماعة بإزاء قوم كفار لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة وهم إن أعطيناهم جاهدوا، أو جماعة بإزاء قوم فيه مانعي الزكاة، إن أعطيناهم مالاً قاتلوا مانعي الزكاة، وأخذوا منهم الزكاة؛ فهؤلاء يعطون قولاً واحداً. ومن أي مال يعطون فيه أربعة أقوال: أحدها: من سهم المؤلفة. والثاني: من سهم سبيل الله من الصدقة. والثالث: من خمس الخمس سهم المصالح؛ لأن فيه مصلحة للإسلام. والرابع: قال الشافعي: يُعطون من سهم المؤلفة، وسهم سبيل الله. وأصحابنا اختلفوا في تفسيره على هذا القول: منهم من قال: لا يجوز أن يُعطى أحد من السهمين جميعاً من مال واحد، وأراد الشافعي - رضي الله عنه-: إن قاتل مانعي الزكاة-: أُعطى من سهم المؤلفة، وإن قاتل الكفار-: أعطى من سهم سبيل الله. ومنهم من قال: لنا قولان في أنه هل يجوز أن يعطى واحد من سهمين؛ وهذا جواب على الجواز. ومن أصحابنا من قال: لا يُجمع له بين السهمين؛ ولكن الإمام بالخيار إن شاء أعطاه من سهم المؤلفة؛ وإن شاء من سهم سبيل الله. رُوي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكرٍ- رضيا لله عنه- بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه، فأعطاه أبو بكر ثلاثين بعيراً. أما مؤلفة الكفار: منهم من له ميل في الإسلام: فيعطى؛ ترغيباً له في الإسلام، ومنهم من يُعطى، حذاراً من شره؛ كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يُعطيهم من خمس الخمس سهم المصالح، أما اليوم-: فلا يُعطون أصلاً، لأن اله تعالى أعز الإسلام، وقوي أهله، ولم يعط الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً من الكفار على هذا المعنى شيئاً. الصنف الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون، فيؤدي إلى المكاتب من الزكاة قدرها

يعتق به، لا يُزاد عليه، فإن كان في يده ما يعتق به-: لايُعطى لأنه غير محتاج إليه. وعند مالك: يشتري بسهم الرقاب عبيداً يعتقون. وهل يجوز أن يعطى إلى المكاتب قبل حلول النجم عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا حاجة به إليه. والثاني: يُعطى؛ لأنه لو عجل الأداء قبل المحل-: جاز. والأولى: أن يعطى سهم المكاتب إلى السيد بإذن المُكاتب، ولو دفع إلى السيد بغير إذن المكاتب-: لم تحسب عن الزكاة؛ لأن المستحق هو المكاتب، ولم يدفع إليه؛ ولكن يسقط عن المكاتب بقدره من النجوم؛ مكن أدى دين الغير بغير إذنه، تبرأ ذمة المديون. ولو دفع إلى المكاتب بغير إذن السيد-: جاز، ويسقط فرض الزكاة عنه، لو أخذ المكاتب سهم الزكاة، ثم أعتقه المولى، أو أبرأه عن النجوم، أو أدى عنه غيره النجوم قبل أداء ذلك المال إلى المولى، أو أدى نجومه بغير ذل المال، أو عجز نفسه، وذلك المال قائم في يده-: يسترده رب المال، لأنه دفعه إليه ليصرفه في عتقه، ولم يفعل، وفرض الزكاة عنه غير ساقط. ولو دفعه إلى المولى، وبقيت عليه من النجوم بقية، فعجزه المولى، وذلك المال قائم في يد المولى-: هل يسترده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسترده؛ لأن المكاتب صرفه فيما عليه. والثاني، وهو الأصح عندي: يسترد، لأنه دفع إليه ليحصل له العتق، ولم يحصل، والفرض عنه لم يسقط. قال الشيخ- رحمه الله-: نظيره: لو عجل الزكاة، فخرج المسكين عن الاستحقاق-: هل يستردُّ؟ فيه خلاف، فكل موضع قلنا: يسترد-: من العبد أو من السيد؟ قال الشيخ- رحمه الله-: فإن هلك في يده-: يُغرم قيمته؛ كما في تعجيل الزكاة، ون هلك في يده قبل العتق، ثم عتق-: لا يُغرم، ولا يجوز للسيد أن يدفع زكاة ماله إلى ملك نفسه؛ لأنه يعود إليه. الصنف السادس: هم الغارمون، وهم قسمان: قسم أدانوا لمصلحة أنفسهم، وقسم أدانوا لإصلاح ذات البين: أما الذين أدانوا لأنفسهم - نظر: إن كان دينه في غير معصية: إما في طاعة أو مباح-: فإنه يُعطى من سهم الغارمين، إذا كان فقيراً لا يملك ما يقضي به دينه، فإن ملك ما يقضي به

دينه من أي صنف من المال-: كان لا يُعطى؛ على أصح القولين، وهو المذهب. وإن كان ماله يفي بعض ديونه-: يُعطى بقدر مايفي. وقال في القديم: يُعطى مع الغني كمن أدان لإصلاح ذات البَيْنِ. وإن كان دينه مؤجلاً-: هل يُعطى؟ فيه وجهان: أحدهما: يُعطى؛ لأنه غارم. والثاني: لا يعطى؛ لأنه غير مطالب به. فإن قلنا: يُعطى: فإن كان له وقف يُغل، فإن كانت العلة تدرك قبل حلول الأجل-: لا يُعطى، وإن كانت تدرك بعد حلول الجل، وكان الدين حالاً يعطى. وإن كان الدين في معصية-: لا يُعطى إن لم يتب، فإن تاب-: فوجهان: أحدهما: لا يُعطى؛ لأن الصدقة لا تُصرف إلى المعاصي. والثاني: يُعطى لأنه تائب، وعليه دين، كان الدين لزم بسبب مباح. فأما إذا كان دينه لإصلاح ذات البين؛ بأن كان بين فريقين ثائرة، فاستدان مالاً؛ لتسكين تلك الثائرة، أو تحمل مالاً؛ ليسنها- نظر: إن كانت تلك الثائرة في ذمته، فتحمل الذمة-: فيُعطى من سهم الغارمين، ما يؤدي به ذلك الدين، فقيراً كان أو غنياً؛ لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: الغازي في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني"، وإن كانت تلك الثائرة في مال، فاستدان وأدى فيها، أو تحمل لتسكينها-: فهل يعطى مع الغنى؟ فيه وجهان: أحدهما: يُعطى؛ لأنه تحمل؛ لإصلاح ذات البين؛ كما في الدين. والثاني: لا يُعطى إلا أن يكون فقيراً؛ بخلاف الدم؛ لأن فتنة الدم أعظم. وإن ضمن دية على إنسان، هل يُعطى الضامن أم لا؟ نُظر: إن كان الضامن والمضمون عنه جميعاً معسرين-: فنه يعطى، وإن كان الضامن معسراً، والمضمون عنه موسراً، نُظر: إن ضمن بغير إذن المضمون عنه-: يُعطى، وإن ضمن بإذنه -: لا يعطى؛ لأنه إذا أذن يرجع على المضمون عليه. وإن كان الضامن موسراً، والمضمون عنه معسراً، أو كانا موسرين، ولكن ضمن بغير إذن-: فهل يعطى؟ فيه وجهان، وإن كانا موسرين، وضمن بإذنه-: لا يعطى؛ لأنه إذا أدى-: رجع على المضمون عنه.

والأولى-: أن يدفع سهم الغارم إلى رب الدين بإذن المديون، فلو دفع إلى رب الدين بغير إذن المديون-: لم يُحسب من الدين، ولأن المستحق المديون، ولم يُدفع إليه، ولكن سقط عن المديون بذلك القدر من الدين؛ كمن أدى دين الغير بغير إذنه، وإن دفع المديون بغير إذن رب الدين، جاز. ولا يعطى الغارم إلا بقدر ما تُقضى به الديون، فإن أخذ الغارم سهم الصدقة، ثم أبرأه رب الدين، أو أدى عنه غيره الدين، وما أخذ قائم في يده-: يسترد؛ كالمكاتب إذا أعتق بغير ما أخذ. الصنف السابع: قال الله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] وأراد به الغازي المتطوع، له سهم من الزكاة، فقيراً كان أو غنياً، أما المرتزقة الذين أسماؤهم في ديوان الغزو-: فلا حَظَّ لهم؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء، ويعطى الغازي نفقة، للذهاب والرجوع والمقُام هناك في الثغر، وإن طال مقامه-: يعطى جميع ذلك؛ ولا يختص بما زاد بسبب السفر، ويعطى ما يشتري به فرساً، عن كان يقاتل فارساً، وما يشتري به السلاح وآلة القتال، ويملك ما دُفع إليه، وإن استأجر به فرساً-: يجوز، وإن كان يقاتل راجلاً-: لا يُعطى الفرس، لكن يعطى حمولة يحمل عليها زاده، ويركب عليها في الطريق، وإنما يعطى حالة الخروج؛ ليصرفه إلى أسباب خروجه، فإن أخذ، ولم يصرف-: استرد منه، وإن خرج ومات في الطريق، أو امتنع من الصرف-: يسترد منه ما بقي، فإن غزا ورجع، وفي يده منه بقية-: لا يسترد. الصنف الثامن: ابن السبيل، وهو الذي يريد سفر طاعة أو سفراً مباحاً، سواء كان ممن ينشئ السفر ابتداء أو ممن دخل في طريق فيريد الخروج إلى طريق آخر، وإن كان سفره في معصية-: لا يُعطى؛ لأن إعطاءه إعانة على المعصية. ويشترط ألا يكون له مال بالبلد المنتقل عنه، وسواء كان له بالبلد المنتقل إليه مالٌ أو لم يكنن ثم إن كان له في البلد المنتقل إليه أو في الطريق مال-: لا يعطى إلا قدر ما يصل إلى ماله، وإن كان له في البلد المنتقل عنه مال-: لا يعطى ما لم يخرج عن بلد المال، وإذا خرج-: أعطي، ويُعطى نفقة الذهاب، ولا يُعطى الحمولة إن كان الرجل قوياً، والمسافة دون مسافة القصر، وإن كان الرجل ضعيفاً، والمسافة فوق مسافة القصر-: يُعطى الحمولة، ويعطى نفقة الرجوع، إن لم يكن له بالبلد المنتقل ليه مال، وهو يريد الرجوع، ولا يعطى نفقة المقام إلا مقام المسافرين؛ بخلاف الغازي: يُعطى نفقة المقام في الثغر، وإن طالت مدة مقامه؛ لأنه يحتاج إليه لحصول الفتح، ولا يزول عنه الاسم بطول المقام، وإذا أخذ السهم، ثم مات في الطريق، أو أقام-: يسترد منه ما بقي، ولو ذهب ورجع، وقد بقي منه

شيءٌ-: يسترد؛ بخلاف الغازي، إذا غزا ورجع، وفي يده منه بقية-: لا يسترد؛ لأن الغازي أعطيناه لحاجتنا إليه، فإذا قضى حاجتنا، وابن السبيل أعطيناه لحاجته إلينا، فإذا فضل عن حاجته-: يسترد. فصل فيما لو ادعى شخص أنه يستحق الصدقة إذا جاء رجلٌ يطلب الصدقة، وادعى أنه من هذه الأصناف- نُظر: إن كان استحقاقه لمعنى في المستقبل-؛ كالغازي، وابن السبيل، إذا قال: أنا أريد الخروج-: أعطى بلا بينة ولا يمين، ثم إن لم يخرج-: يسترد، فلو قال ابن السبيل لا مال لي في بلدي-: فالقول قوله، وهل يحلف فهو كالفقير-: يدعي الفقر. أما من يستحق لمعنى موجود في الحال- نظر: إن قال: أنا فقير أو مسكينٌ أو غر كسوب-: يُقبل قوله بلا بينة، فإن اتهمه الإمام-: حلفه، واليمين مستحب أم واجب؟ فيه وجهان: فإن قلنا: واجب: فإن نكل-: لم يُعط، وإن قلنا: يستحب-: يعطى-: وإن قال: أنا غارمٌ أو مكاتب-: لا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدمه، فإن صدقه الغريم، أو صدق السيد المكاتب-: هل يعطى؟ فيه وجهان: أصحهما: يعطى؛ لأن التهمة قد زالت. والثاني: لا يعطى؛ لأنهما بما تواطأ على ذلك. ولو ادعى العامل أنه قد عمل-: لا تقبل إلا ببينة، وإن ادعى أنه من المؤلفة فإن قال: قلبي غير مطمئن بالإيمان-: يقبل؛ لأن قوله هذا يدل على ضعف إيمانه، وإن ادعى أنه شريف قومه-: لا يقبل إلا ببينة، والله أعلم. باب: كيف تفريق قسم الصدقات رُوي عن رافع بن خريج قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله، حتى يرجع إلى بيته".

يجب على الإمام وعلى الساعي ن فوض إليه أمر تفريق الصدقات: أن يأمر بإحصاء أهل السهمان في عمله، حتى يكون فراغه من قبض الصدقات بعد معرفة أسمائهم وأحوالهم، ثم يبدأ فيخرج سهم العامل، وإن كان الساعي يقسمه: يأخذ عمالته حتى إن فضل من أجر عمله شيء-: رد إلى الباقين، وإن احتاج إلى زيادة-: كمله، ثم يقسم الباقي بين الأصناف السبعة، وإن حمل رب المال بنفسه إلى الإمام، أو قسم بنفسه-: سقط سهم العامل؛ فيقسم المال على سبعة أصناف: إن كانوا موجودين، ويجب أن يسوى بين الأصناف، لا يفضل صنفاً على صنف، فإن وجد بعض الأصناف؛ مثلُ: أن وجد أربعة أصناف، ولم يجد ثلاثة-: قسم بين الموجودين على السواء، وإن كان عدد بعض الأصناف أكثر، وحاجتهم أشد-: فلا يجوز أن يصرف إليهم من نصيب صنف آخر، ما دام فيهم مستحق، ويستحب أن يصرف نصيب ل صنف إلى جميع أهل ذلك الصنف، إن أمكن. فإن كانوا محصورين في البلد، فهل يجب؟ إن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة-: يجب أن يُصرف إلى جميعهم، وإن لم يمكن تعميمهم بأن لم يكونوا محصورين، أو كانوا محصورين، ولكن جوزنا النقل، فصرف على بعضهم-: يجوز، ولكن لا يجوز إلى أقل من ثلاثة منهم، إذا وجدوا، لأن- الله تعالى- ذكر بلف الجمع، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]. وأقل الجمع ثلاثة، ثم يجوز أن يفاوت بين الثلاثة من كل صنفن فيعطى بعضهم أقل وبعضهم أكثر؛ بخلاف الأصناف: يجب التسوية بينهم؛ لأن الأصناف محصورة. فيمكن التسوية بينهم، والعدد من كل صنف غير محصور، ولذلك: سقط تعميمهم، فسقط اعتبار التسوية بينهم، فلو دفع إلى اثنين، وحرم الثالث مع وجوده-: يجب عليه الغرم، وكم يغرم؟ فيه قولان: أحدهما: يُغرم الثلث؛ لأنه حظ ثلاثةٍ؛ وتعدى في نصيب واحد. والثاني: يُغرم أقل ما لو دفع إليه: كان جائراً؛ لأنه لم يُفرط لا في ذلك القدر فإن لم يجد شيئاً من بعض الأصناف إلا واحداً-: دفع إليه جميع ذلك السهم، ما لم يخرج عن حد

الاستحقاق، فإن فضل منه فضل-: رده إلى سائل الأصناف سواء. وحُكم زكاة الفطر حكم زكاة المال في أنه يجب صرفها إلى هذه الأصناف. وقال الإصطخري يجوز صرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء، لأنها قليلٌ، إذا دفع إليهم-: لا تقع منهم موقعاً. والأول المذهب. فإن تعذر قسمتها-: يجتمع جماعة يجمعون صدقاتهم، ثم يقسمونها على المستحقين. وقال أبو حنيفة: يجوز صرف جميع الزكاة إلى صنف واحد، وإلى شخص واحد مع وجود الباقين. دليلنا: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ....} [التوبة: 60] الآية أصناف الصدقات إلى ثمانية أصناف بلام التمليك؛ لا يجوز حرمان بعضهم؛ كما لو قال: هذا الثوب لفلان وفلان-: فلا يعطى إلى أحدهما؛ يؤيده أنه قال في آخر الآية: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [التوبة: 60] وهو يرجع إلى أصل الأداء، وإلى صفة الأداء جميعاً، وإذا اجتمع في شخص واحد سببان للاستحقاق، فهل يُعطى من زكاة مال واحد بالسببين جميعاً؛ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان: أحدهما- وهو قول أبي حنيفة-: يعطى بهما؛ لأن الله تعالى جعل للفقير سهماً، وللغارم سهماً، وهذا فقير غارم. والثاني: لا يُعطى إلا لسبب واحد، يقال له: اختر أيهما شئت؛ فنعطيك به؛ لأنه شخص واحد؛ فلا يأخذ سهمين من مال واحد، كما لو انفرد بمعنى واحدٍ. ومن أصحابنا من قال: إن كان السببان من جنس واحدٍ؛ كالفقر والغُرم [إذا كان لمصلحة نفسه]. لا يُعطى بهما؛ لأن الفقير والغارم لمصلحة نفسه-: يستحقان؛ لحاجتهما إلينا؛ وكذلك: الغازي والغارم لإصلاح ذات البين-: يستحقان؛ لحاجتنا إليهما، فإذا اجتمعا في شخص واحدٍ-: لا يعطى بهما.

وإن كان السببان مختلفين بأن كان غازياً غارماً-: يعطى؛ لأن استحقاق الغازي لحاجتنا إليه، واستحقاق الغارم لحاجته إلينا: إذا كان غرمه لمصلحة نفسه؛ كما في الميراث-: إذا اجتمع في شخص واحد جهتا فرض-: لا يعطى بهما، وإذا اجتمع فيه جهة فرض، وجهة تعصيب-: يعطى بهما، وإن كان العامل على الصدقة فقيراً-: هل يُجمع له بين سهم الفقراء وسهم العاملين؟ على قولنا: إنه لا يعطى بسببين-: فيه وجهان، وأصل الوجهين: أن ما يأخذه العامل أجرة عمله أم صدقة؟ فيه وجهان: أحدهما: أجر عمله؛ لأنه يستحقه بالعمل؛ فعل هذا: يُجمع له بين السهمين. والثاني صدقة؛ لأن الله تعالى ذكره في المستحقين للصدقة؛ فعلى هذا: لا يُجمع له بينهما. فصل فيمن يقوم بتفريق زكاته قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ....} [التوبة: 103] الآية زكاة الأموال الباطنة هي: زكاة الذهب والفضة، وزكاة التجارة، وصدقة الفطر، وحق الركاز-: يجوز لرب المال أن يُفرقها بنفسه، ويجوز أن يدفعها على الإمام؛ لأنه نائب المستحقين، والأفضل-: أن يفرقها بنفسه؛ ليكون على يقين من وصولها إلى المستحقين. أما زكاة الأموال الظاهرة، وهي: المواشي، والزروع، والثمار، وحق المعيرين-: هل يجوز أن يفرقها بنفسه أم يجب دفعها إلى الإمام؟ فيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد-: يجوز أن يفرقها بنفسه؛ كزكاة الأموال الباطنة، إلا أن الأفضل ههنا أن يدفع إلى الإمام. وقال في القديم- وبه قال أبو حنيفة-: يجب دفعها إلى الإمام؛ حتى لو فرق بنفسه-: لا تُحسب، ويلزمه الضمان؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذها. فإن قُلنا: يجب الدفع إلى الإمام-: فذلك إذا كان الإمام عادلاً، فإن كان جائراً-: هل يجب الدفع إليه؟ فيه وجهان:

أحدهما لا يجب؛ لأن الظاهر منه أنه لا يوصله إلى المستحقين؛ بل الأولى أن يدفع بنفسه، ولو ودفع إليه-: جاز. والثاني- وهو الأصح-: يجب؛ لأنه لا ينعزل بالجور وإذا دفع إليه-: سقط الغرض عنه، وإن لم يوصلها إلى المستحقين. فحيث قلنا: يجب الدفع إلى الإمام-: فما دام يُرجى مجيء الساعي: لا يجوز أن يعرف بنفسه، وإن كان لا يرجو-: جاز. ثم إن جاء الساعي، ولم يصدقه-: فالقول قول رب المال مع يمينه، وهذه اليمن واجبة أم مستحبة؟ فيه وجهان: إن قلنا: مستحبة: فإن نكل-: لا شيء عليه. وإن قلنا: واجبة-: فإن نكل-: أخذت الزكاة منه لا بنكوله، ولن لأن الزكاة كانت واجبة عليه، والأصل بقاؤها عليه. وإذا امتنع رجل عن أداء الزكاة-: للإمام أن يأخذها منه كرهاً. وعند أبي حنيفة: لا يأخذها كُرهاً. وإذا امتنع جماعة-: قاتلهم الإمامُ؛ كما فعل الصديق، رضي الله عنه. وقد ذكرنا أن رب المال إذا دفع الزكاة بنفسه-: يجب أن يقسمها على الأصناف الموجودة على السواء، وإذا كان له أنواع من الأموال التي يجب فيها الزكاة؛ كالمواشي والدراهم والدنانير-: يجب أن يقسم زكاة كل نوع منها بانفراده على الأصناف الموجودة على السواء. أما إذا اجتمع عند الإمام صدقات قوم-: فلا يجب عليه أن يضع صدقة كل واحد من الأصناف الثمانية على السواء؛ بل [له] أن يضع صدقة رجل في صنف واحد، وفي نفس واحدة؛ على ما يرى، ولكن لا يجوز أن يحرم من جملة الصدقات صنفاً أو يفضلهم على صنف آخر، فالإمام في قسمة جميع الصدقات: كرب المال في قسمة صدقة نفسه. ولا يجوز للساعي ولا للإمام أن يتصرف فيما يجتمع عنده من مال الزكاة حتى يوصلها إلى أهلها؛ لأن الفقراء أهل رُشدٍ لا يولى عليهم، فإن باع منه شيئاً-: فالبيع باطل، ويسترد إن قدر عليه، وألا غرم من مال نفسه. فإن وقعت ضرورة بأن خاف هلاك بعض المواشي، أو خاف الساعي خطر الطريق، أو

احتاج إلى رد جُبران، أو احتاج في نقله إلى مؤنة لطول الطرق إلى الإمام، أو أخذ نصف شاة، فتعذر نقله أو نحو ذلك-: جاز له بيعها. وإذا اجتمع حق أهل السهمان في بعير واحد، أو بقرة، أو شاة أو دينار-: فليس لرب المال بيعه، بل يشترك المستحقون فيه، ثم بعد ما ملكوا: لو وكلوا ببيعه-: يجوز، أما الإمام إذا رأى أن يشركهم فعل، وإن رأى أن يبيع باع وفرق الثمن عليهم، وكذلك: كل ما يكال ويوزن. فصل فيمن لو أخطأ الإمام في المدفوع إليه ولو دفع الإمام الزكاة إلى رجل، ثم ظهر أن المدفوع إليه: كان عبداً، أو كافراً، أو غنياً-: فالفرض عن رب المال ساقط؛ لأنه دفع إلى الإمام الذي هو نائب عن المساكين. وهل يجب الضمان على الإمام؟ نظر: إن بان غنياً-: لا يجب، بل إن كان المال قائماً في يد المدفوع إليه-: يسترده وإن كان تالفاً-: يغرمه قيمته، عن قدر عليه، ويصرفه إلي المستحقين، سواء شرط عند الدفع إليه أنه زكاة، أو لم يشرط: وإن بان عبداً أو كافراً-: هل يلزمه الضمان؟ فيه قولان: أصحهما: لا؛ كما لو بان غنياً. والثاني: يجب؛ بخلاف ما لو بان غنياً؛ لأن الغنى مما يخفى، فقل التوصل إلى معرفته، والكفر والرق مما لا يخفى، ويمكن التوصل إلى معرفتهما، وكان مفرطاً بترك (التفحص) والقولان يُبنيان على أن خطأ الإمام على عاقلته، أم في بيت المال؟ إن قلنا: على عاقلته-: لا يجب. وإن قلنا: في بيت المال-: فيجب في بيت المال. أما إذا أعطى رب المال الزكاة بنفسه، ثم بان المدفوع إليه، عبداً أو كافراً-: فالغرض باقٍ في ذمته، ويسترد من المدفوع إليه ما دفع إليه، إن كان قائماً. وإن كان تالفاً-: فيمته، ويتعلق بذمة العبد. وإن بان غنياً- فقولان: أصحهما- وهو قوله الجديد-: لا يسقط الغرض عنه؛ كما لو [بان] عبداً، وهل

يسترد ما دفع إليه- نظر: إن ذكر عند الدفع إليه أنها صدقة واجبة-: تسترد إن كانت قائمة، وإن كانت تالفة-: تسترد قيمتها. وإن لم يذر أنها صدقة واجبة-: فلا تسترد، وتقع تطوعاً؛ بخلاف الإمام: يسترد، وإن لم يُخبره؛ لأن الظاهر من حاله أنه لا يعطى إلا الزكاة، ورب المال قد يُعطى من ماله الفرض والتطوع وإن لم يخبر-: يحمل على التطوع. وقال في القديم- وبه قال أبو حنيفة-: يسقط الفرض عنه؛ لأن الغنى لا يخفى، ولايمكن الوقوف عليه؛ كما لو بان من دفع إليه أنه غني. والأول أصح؛ أنه غير ساقط عنه؛ لأنه كان يمكنه أن يسقط الفرض عنه بيمين؛ بأن يرفعها إلى الإمام، فإذا لم يفعل-: فقد فرط؛ والإمام ليس فوقه من يرفعه غليه، فلم يكن مفرطاً، وكذلك: حكم زكاة الفطر والكفارة، إذا بان أن المدفوع إليه غير مستحق؛ على التفصيل الذي ذكرنا. فصل في نقل الصدقة رُوي عن ابن عباس؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة أموالهم؛ تؤخذ من أغنيائهم، وترد إلى فقرائهم". نقل الصدقة من بلد المال إلى بلد آخر عند عدم المستحقين في بلد المال-: فرض، أما عند وجود مستحقين-: هل يجوز النقل أم لا فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن الله تعالى أقام الصدقات للفقراء؛ فلم يخص به فقير بلد المال، وكما قلنا في الكفارة: لايختص أداؤها ببلد الوجوب؛ وهذا قول أبي حنيفة. والثاني: وهو الأصح-: لا يجوز؛ لحديث معاذٍ؛ حيث قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "تؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم"، ولأن صدقة كل قوم تكون لفقراء ذلك القوم، ولأن طمع مساكين البلد قد يستحكم في صدقات أرباب الأموال؛ ففي نقله إيحاشُهُمْ. ومن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: لا يختلف القول أن النقل لا يجوز، والقولان إذا نقل، وأدى هل يسقط الفرض عنه؟ فيه قولان-: أصحهما: لا يسقط، وعليه الإعارة، واختلف أصحابنا في موضع القولين منهم من قال: القولان فيما إذا نقل إلى مسافة القصر، أما إذا نقل إلى ما دون مسافة

القصر في حكم البلد، فصار كما لو نقل في البلد من محلة إلى محلة: جاز. ومنهم من قال: سواء قربت المسافة أو بعدت بعد ما أخرجها من البلد؟ فيه قولان، وهو الصحيح، نص عليه في "الأم". وأما إذا كان البلد فرسخين في فرسخ وأكثر فجميع ما فيها من المساكين سواء في الاستحقاق، فإن كان أطرافها أبعد من بعض القرى؛ فإن قلنا: لا يجوز النقل، فإن كان المال ببلد، والمالك ببلد آخر- نظر: إن كان عُشر تمر وزرع-: صُرف إلى فقراء بلد الأرض؛ لأن الزرع والتمر قد حصل من ذلك البلد، وإن كان مال التجارة-: صُرفت صدقتها إلى فقراء البلد الذي يحول الحول عليه فيه، وإن حال الحول، وهو في مفازة أو بادية-: صُرف إلى فقراء أقرب البلاد، فإن كانت أمواله ببلدان متفرقة-: صرفت زكاة كل طائفة من المال إلى مساكين البلد الذي به المال، ولا اعتبار للبلد الذي به المالك؛ لأن المساكين مطلعون إلى المال لا إلى المالك. وفي صدقة الفطر: إن كان هو ببلد وماله ببلدٍ آخر-: فيه وجهان: أحدهما: تصرف إلى فقراء بلد المال؛ لأن وجوبها بسبب المال. والثاني: وهو الأصح-: إلى فقراء بلد صاحب المال؛ لأنها صدقة البلد. وإذا قلنا: إن النقل لايجوز-: فلا تُحلوا أهل الصدقات: إما أن كانوا مقيمين في بلد، أو كانوا أهل بادية، وإن كانوا مقيمين في مصر أو قرية: فإن كان المستحقون فيها محصورين واتسع المال-: يجب أن يُصرف إلى جميعهم، وإن لم يكونوا محصورين: صُرف على بعضهم سواء فيه المستحقون المقيمون، ومن وجد بها من الغرباء: لايجوز الإخراج عنها، وإن نقل- أعاد؛ على الأصح من القولين. وإذا كان فقراء البلد محصورين-: لا يجب التسوية بينهم وإن وجب تعميمهم؛ بخلاف ما لو أوصى بفقراء بلد نفسه؛ وهو محصورون، تجب التسوية بينهم لأنه ثبت لهم الحق على التعيين؛ بدليل أنه لو لم يكن فيها فقير-: تبطل الوصية، وههنا: لم يثبت لهؤلاء الحق على التعيين؛ بدليل أنه إذا لم يكن في البلد فقير-: ينقل، فمن حيث إنهم محصورون-: يجب تعميمهم، ومن حيث إنه لم يثبت على التعيين؛ إنما تعينوا لعقد غيرهم-: لم يجب التسوية بينهم، وإن لم يكن في البلد مستحقون-: يُنقل إلى بلد آخر، ثم إن كان على أقل من مسافة القصر-: فهو في حكم أهل البلد، لا يُنقل إلى ما فوقها. أما أهل البادية: فضربان:

أحدهما: أن يكونوا مقيمين في مواضع لا يرحلون عنها، شتاء ولا صيفاً-: فهم كأهل بلدة واحدة. والثاني: ألا يكونوا مستقرين؛ بل كلما أجدب انتقلوا إلى موضع آخر؛ فهم على ضربين: أحدهما: قوم أخلاط لا يتميز بعضهم عن بعض، ولا يتفرقون في منزل ورعي، والاعتبار في صدقتهم بالموضع الذي تجب فيه، والجوار في حقهم: أن تجمعهم في موضع لا تقصر إليه الصلاة، وكل من كان على أقل من مسافة القصر من موضع المال-: كان في حكم البلد-: لا ينقل عنهم الصدقة، إلا أن الشافعي- رضي الله عنه- أومأ إلى أنه إذا كان في جوارهم قوم يظعنون بظعنهم، ويقيمون بإقامتهم: أنهم أولى بصدقتهم ممن يفارقهم في الظعن والإقامة من جيرانهم، وهذا على طريق الاستحباب، فأما في الاستحقاق: فالكل سواء، وأن كان أهل البادية يتميز بعضهم عن بعض؛ مثل قبائل العرب: كل جبلة متميزة عن الأخرى-: فاختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: أهل كل قبيلة بمنزلة أهل بلدٍ؛ لا يجوز النقل من قبيلة إلى أخرى؛ لأنهم متميزون. ومنهم من قال: الكل واحد، وهو كالضرب الأول؛ يُصرف إلى الجوار، وهو من كان على أقل من مسافة القصر. وإذا عدم بعض الأصناف- نظر: إن عدم في جميع البلاد؛ كالمؤلفة قلوبهم وغيرهم من الأصناف، إذا عدموا-: تُصرف الزكاة إلى الموجودين منهم؛ كما ذكرنا. أما إذا عدم في بلد المال، ويوجد في غيره من البلاد: فإن قلنا: نقل الصدقة-: يجوز أن ينقل نصيب الباقين إلى بلدهم، وإذا وُجد في بلد قريب: جاز نقله إلى أبعد. وإن قلنا: نقل الصدقة لا يجوز-: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: يُنقل إلى بلدهم، ولا ترد إلى الأصناف الموجودين في بلد المال؛ لأن حق كل صنف منصوص عليه، وحكم المكان-: ثبت بالاجتهاد، فيقدم ما ثبت بالنص. والثاني- وهو الأصح- يرد على الأصناف الموجودين في بلد المال، ولا ينقل؛ كما

لو لم يجد في البلد من كل صنف إلا اثنين: يرد نصيب الثالث إلى الاثنين، ولا ينقل، فحكم الأصناف حكم أقل الأعداد من كل صنفٍ، ولأن عدم الشيء في موضعه كالعدم بكل حالٍ، وإن وُجد في غيره- كمن عدم الماء في موضع: صلى بالتيمم، وإن كان يوجد في غير ذلك الموضع. وإن قلنا: ينقل-: فينقل على الصنف الآخر بأقرب البلاد إلى بلد المال، فإن نقل إلى أبعد، أو لم ينقل، ورد إلى الأصناف في بلد المال-: ضمن. وإن قلنا: لا يُنقل-: يرد إلى الأصناف الموجودين ببلد المال، فنقل-: ضمن، وكذلك: إذا كانت الأصناف موجودين، فقسمنا عليهم-: فينقص نصيب بعضهم عن كفايتهم؛ فإن اعتبرنا بلد المال-: صُرف الفضل إلى من نقص نصيبهم، وإن اعتبرنا بالأصناف: صُرف الفاضل إلى الصنف الذي فضل منهم بأقرب البلاد. وإذا كان لرجل أربعون من الغنم: عشرون ببلد، وعشرون ببلد آخر، فأدى شاة في أحد البلدين-: قال: كرهت، وأجزأه. قال أبو حفص بن الوكيل: هذا جواب على قول جواز نقل الصدقة، فإن لم يجوز انقل-: يجب أن يؤدي في كل بلد نصف شاة، والمذهب: جوازه ههنا على القولين جميعاً، لمعنيين: أحدهما: لأن له في كل بلدٍ مالاً. والثاني: أن الواجب عليه شاة؛ فلا ينتقص. وفائدته تظهر فيما إذا كان له مائتان من الغنم: مائة ببلد، ومائة ببلد أخرى، فأدى شاتين في احد البلدين- هل يجوز أم لا؟: إن قلنا: نقل الصدقة جائز-: فيجوز. وإن قلنا: النقل غير جائز-: ففيه وجهان: إن قلنا بالمعنى الأول-: يجوز. وإن قلنا بالثاني- وهو الأصح-: لا يجوز، بل يجب أن يؤدي في كل بلد شاة. قال الشافعي- رضي الله عنه-: وإنما يستحق أهل السهمان حقهم يوم يكون السم سوى العاملين، يعني: العامل يستحق بعد العمل، وأهل السهمان بعد القسم. وقال في "قسم الفيء": إنهم يستحقون يوم الوجوب، وهو عند حلول الحول،

وليس على قولين، بل هو على اختلاف حالين: فإن كان المستحقون محصورين في بلد أو قرية، وقلنا: نقل الصدقة لا يجوز-: فهؤلاء يستحقون بيوم وجوب الزكاة؛ حتى لو مات واحد منهم بعد الوجوب قبل القسمة-: فيدفع نصيبه إلى وارثه، وإن غاب-: لا يسقط حقه بغيبته. وإن كان فقيراً يوم الوجوب فأيسر قبل القسمة-: دُفع إليه. وإن دخل ذلك البلد واحدٌ من أهل السهمان بعد الوجوب قبل القسمة-: لا يشارك من فيه. أما إذا لم يكونوا محصورين أو كانوا محصورين في البلد، وقلنا: نقل الصدقة جائز-: فإنهم يستحقون بيوم القسمة حتى لو مات واحد منهم بعد الوجوب، أو غاب، أو أيسر قبل القسمة-: فلا حق له فيه، وإن وُجد غريب-: يُشاركهم فيه. فصل في تحريم الصدقة على نبينا صلى الله عليه وسلم وأقاربه رُوي عن أنس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم- بتمرة في الطريق، فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة-: لأكلتها". الصدقة المفروضة كانت محرمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أقاربه من بني هاشم، وبني المطلب؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصدقات نما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". أما الهدية كانت حلالاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة - رضي الله عنها-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها"، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدى إلى ذراع لقبلت". أما صدقة التطوع كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأخذها وهل كانت تحل لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأخذها. والثاني- وهو الأصح-: تحل، لما رُوي عن جعفر بن محمد، عن أبيه؛ أنه كان يشرب من سقايات [بين] مكة والمدينة، فقيل له في ذلك؟ فقال: "إنما حرمت علينا

الصدقة المفروضة"، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأخذها تنزيها لا تحريماً. أما موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - وموالي بني هاشم وبني المطلب: تحل لهم صدقة التطوع. وهل تحل لهم الصدقة المفروضة؟ فيه قولان: أحدهما: تحل لأنهم لا يستحقون خمس الغنيمة، وخمس الغنيمة لأقارب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عوض عن الصدقة. والثاني- وهو الأصح-: لا تحل، لما رُوي عن أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبني، كيما نصيب منها فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله؟ فقال: "إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم". ولو استعمل على أخذ الصدقات واحدٌ من بني هاشم، أو بني المطلب-: فهل له أن يأخذ سهم العاملين؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه أجرة عمله. والثاني- وهو الأصح-: لا يجوز؛ كما لو كان الهاشمي أو المطلبي غارماً أو غازياً: لا يجوز أن يأخذ من الصدقة. والدليل عليه: ما روي أن عبد المطلب بن ربيعة، والفضل بن عباس قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: جئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فتؤدي إليك، كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون؛ فقال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس". وكذلك: أهل الفيء لاتحل لهم الصدقة، فإن كان عاملاً-: هل يأخذ العمالة؟ فيه وجهان: إن جعلناها أجرة العمل-: يأخذ، وإن جعلناها صدقة-: فلا. ولو احتاج المسلمون إلى من يغنيهم أمر الكفار، وليس مع الإمام مال الفيء-: فهل يجوز أن يعطى المرتزقة من مال الصدقة؟ فيه قولان: أصحهما: لا؛ كما [لا يصرف] الفيء إلى أهل الصدقات. والثاني: يجوز أن يعطيهم من سهم سبيل الله؛ لأنه للغزاة، والمرتزقة غزاة.

فصل في فضل صدقة القريب رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الصدقة على المسكين صدقة [وهي] على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة". الأفضل: أن يدفع الرجل صدقته المفروضة التطوع والكفارة إلى أقاربه الذين لا يلزمه نفقتهم، إذا كانوا مستحقين، وأقربهم له أولاهم بصدقته؛ فيبدأ بذي الرحم المحرم؛ كالإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ثم بذي الرحم غير المحرم؛ مثل: أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، ثم بالمحرم بالراضع، ثم بالمحرم بالمصاهرة، ثم بالولاء، ثم بالجوار، فمن كان أقرب داراً من الجيران إليه-: فهو أولى. رُوي أن عائشة- رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً". فإن كان معه في البلد أقارب وبعداء مستحقون-: فالأقارب أولى بصدقته، وإن كان البعداء في جواره، والأقارب أبعد: وإن كان البعداء معه في البلد، والأقارب خارج البلدة إن قلنا-: نقل الصدقات لا يجوز-: فالبعداء أولى، وإن قلنا: يجوز-: فالأقارب الخارجون أولى. وكذلك: أهل البادية؛ إذا جعلنا ما دون مسافة القصر كالبلد لهم فإن كان الأقارب كالبعداء دون مسافة القصر، فالأقارب أولى، وإن كانوا أبعد داراً، وكذلك: إن كانا جميعاً ممن فوق مسافة القصر. أما إذا كان البعداء دون مسافة القصر، والأقارب فوقها-: فإن جوزنا نقل الصدقة-: فالأقارب أولى، وإلا فالبعداء أولى. ولا يجوز دفع الزكاة المفروضة وصدقة الفطر والكفارة إلى أهل الذمة؛ لأنها لتطهير المسلم، والكافر نجس، لا يحصل التطهير بالصرف إليه. وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر والكفارة إليهم، ولم يجوز زكاة المال.

ولا يجوز صرف سهم الفقراء والمساكين من زكاة المال وصدقة الفطر إلى من تلزمه نفقته من الوالدين والمولدين، وكذلك: الكفارة؛ لأنهم أغنياء بوجوب نفقتهم عليه. ويجوز أن يصرف إليهم سهم الغارمين وسهم ابن السبيل؛ لأنه لا يجب عليهم أداء دينهم، ولا حملهم إلى بلد آخر. وكذلك: إذا كان واحدٌ من أقاربه مكاتباً-: يجوز صرف سهم المكاتبين إليه. وكذلك: إذا لم يكن القريب زمناً، ولكنه فقير، وقلنا: لا تجب نفقة القريب، إلا أن يكون زمناً-: يجوز أن يُصرف إليهم سهم الفقراء والمساكين والكفارة. ولو صرفت المرأة إلى زوجها الزكاة-: يجوز، ولو صرف الزوج إليها سهم الفقراء والمساكين-: لا يجوز؛ لوجوب نفقتها عليه، فإن كانت ناشزة-: يجوز؛ لأنه لا نفقة لها عليه. وفيه وجهٌ آخر: أنه يجوز للزوج أن يدفع إلى زوجته سهم الفقراء والمساكين؛ لأن استحقاقها النفقة عليه بطريق المعاوضة؛ كما لو استأجر أجيراً فقيراً-: جاز له صرف الزكاة إليه مع استحقاق الأجرة. ولا يجوز أن يدفع الصدقة إلى صبي، ولا إلى مجنون؛ لأن قبضهما لا يصح، فإن دفع عنهما إلى قيمتهما-: يجوز. ولو دفع إلى عبد من جهة سيده، وسيده مستحق-: جاز، والله أعلم. باب وسم الدواب رُوي عن أنس - رضي الله عنه- قال: "عدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحة فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة". وسم الدواب مباح في الجملة، وهو في نعم الجزية والصدقة مسنون. وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- غير جائز، والحديث حجة لمن أجازه. وفائدة الوسم: أن يتميز أحد المالين عن الآخر؛ لأن مستحقهما مختلف، ويتميز مال الصدقة والجزية عن غيرهما، وأن يعرفها من تصدق بها؛ فلا يشتريها، فلم يكن للرجل أن يتصدق بشيء، ثم يشتريه.

ويسم الإبل والبقر على أفخاذها، ويسم الغنم في أصول آذانها؛ لأن الغنم لها أوبار وأشعار على الأفخاذ؛ فلا يظهر عليها أثر الوسم، ولا يجوز أن يسم على الوجه؛ لما روي عن جابر - رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه". وميسم الغنم ألطف من ميسم الإبل، ويكتب على ميسم الزكاة "زكاة"، وعلى ميسم الجزية: "جزية أو صغار"، ولا يجوز إخصاء دابةٍ لا يؤكل لحمها، ويجوز إخصاء المأكول في الصغر؛ لأن فيه غرضاً؛ فإن لحم الخصي أطيب، ولا يجوز بعد الكبر، ويقال: إخصاء الفرس يزيده قوة، وإخصاء الحمار ينقص قوته؛ والله أعلم بالصواب. تم الجزء الثاني، يتلوه إن شاء الله تعالى في الثالث "النكاح". والحمد لله رب العالمين

كتاب النكاح

كتاب النكاح باب ما جاء في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- وأزواجه في النكاح قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]. اعلم أن الله - تعالى- لما خص رسوله بالوحي، خصه بأشياء، باين بينه وبين خلقه؛ تبييناً لفضيلته؛ وإظهاراً لرامته، ورفعاً لدرجته.

وجملة خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أربعة أقسام: منها: ما أوجبه الله عليه، وخففه على غيره.

ومنها: ما حرمه عليه، وأباحه لغيره. ومنها ما أباحه له، وحرم على غيره. ومنها: ما أكرمه به دون غيره. أما ما أوجبه عليه: فمنها: صلاة الليل، والوتر، والسواك. قال الله تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]. أي زيادة لك في الفرائض. وروي عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث على فريضة، وهي لكم سنة: الوتر، والسواك، وقيام الليل" وقيل: قيام الليل صار وجوبه منسوخاً في حقه؛ كما في حق الأمة. وقيل: الأضحية كانت واجبة عليه دون غيره.

ومنها: أنه كان يجب عليه تغيير منكر رآه، ولا تسعة التقية، كما تسع غيره؛ لأن الله - تعالى- ضمن له العصمة، فقال: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ومنها: أنه كان يجب عليه مصابرة العدو، وإن كان كبيراً عددهم، ولا يجب في حق غيره، إذا كان في مقابلة كل مسلم أكثر من مشركين، وكان يلزمه بلبس اللأمة ما يلزم غيره، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرب أُحُدِ: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل". وقيل على هذا المعنى: كان لا يبتديء تطوعاً، إلا لزمه إتمامه. ومنها: أنه كان يجب عليه قضاء دين من مات من المسلمين، ولا وفاء له. رُوي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء؛ فعلى قضاؤه". ولا يجب على أحد من الأئمة قضاء دين الغير من مال نفسه، وهل يجب من مال بيت المال؟ فيه وجهان: ومنها في النكاح: أوجب الله عليه تخيير نسائه بين المقام معه، وبين مفارقته، واختيار الدنيا؛ فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]. وأما ما حرمه عليه، وأباحه لغيره: فمنها: الصدقة المفروضة، كانت محرمة عليه؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا

لآل محمدٍ" وهل كان يحرم عليه صدقة التطوع؟ فيه قولان ومنها: أنه يحرم عليه الخط والشعر؛ قال الله تعالى: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] وقال جل ذكره: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وقيل: كان يُحسن الخط، ولا يكتب، ويحسن الشعر، ولا يقوله. والأصح: أنه كان لا يُحسنها، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه؛ وقال للنابغة الجعدي حين أنشد قصيدته: "لا فض الله فاك". ومنها: أنه كان يحرم عليه خائنة الأعين؛ روي أن عثمان - رضي الله عنه- جاء بعبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح؛ فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً؛ كل ذلك يأبى؛ فبايعه بعد ثلاثة؛ ثم أقبل على أصحابه فقال: "ما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ " فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا بعينيك. قال: "إنه لا ينبغي لنبي خائنة الأعين". والمراد من خائنة الأعين: أن يشير إلى مباح من ضرب أو قتل مما لا يحل أن ينطق به [و] يُسمى خائنة الأعين؛ لأنه يشبه بالخيانة من حيث إنه يخفيه ولا يظهره؟ ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور. ثم أبيح له إذا أراد سفراً أن يُوري بغيره، بخلاف هذا. قال صاحب "التلخيص": وفي تحريم خائنة الأعين كالدليل على أنه لم يكن في الحرب خدعة، وليس ذلك، بل كان له ذلك؛ ما لكافة الناس، وكالتورية بغيره في الغزو. ومنها: أنه كان يحرم عليه إذا لبس لأمته أن ينزعها؛ حتى يلقى العدو، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: "ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل". ومنها: أنه كان - عليه السلام- لا يأكل متكئاً. قيل: كان حراماً عليه أن يأكل متكئاً، ولم يكن حراماً على غيره.

وقيل: لم يكن مخصوصاً به، بل [هو] مستحب لكل أحد؛ ليكون أقرب إلى التواضع، وأبعد من التكبر. ومنها: أنه كان لا يأكل الثوم، والبصل، والكرات. فقيل: كان حراماً عليه دون غيره. وقيل: لم يكن حراماً، ولكن كان يمتنع من أكله تنزهاً حتى لا يتأذى به الملك. رُوي عن جابر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بقدر فيه خضراوات من بقول، فوجد لها ريحاً؛ فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه. وقال: "كُلْ؛ فإني أناجي من لا تناجي". ومنها في النكاح: حرم الله عليه التزويج على نسائه والتبدل بهن حين اخترنه, قال الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] وكان السبب في ذلك أنه جرت وحشة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أزواجه، فألى ألا يدخل عليهن شهراً؛ فأقامه في مشربة له، ثم أنزل الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أزواجه، فآلى ألا يدخل عليهن شهراً؛ فأقامه في مشربة له، ثم أنزل الله - تعالى- آية التخيير؛ قالت عائشة - رضي الله عنها-: فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني ذاكرٌ لك أمراً، فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك؛ وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: "إن الله - تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ...} [الأحزاب: 28] إلى تمام الآيتين. قلت: أوفى هذا استأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وأسأل ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: "لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله - تعالى- لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً". ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة؛ فلما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، كافأهن الله - تعالى - وحرم على رسول الله التزويج عليهن، فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] ثم أراد الله - تعالى- أن تكون المنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهن، فأباح له النساء؛ لتكون المنة له بترك التزويج عليهن. قالت عائشة- رضي الله عنها-: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احل له النساء؛ تعني: اللاتي حُظرنَ عليه. وقال أنس: مات على التحريم.

واختلفوا في أنه؛ هل كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - مفارقتهن بعد ما اخترنه والدار الآخرة. منهم من قال: يجوز؛ كما أن واحداً منا لو أراد تطليق زوجته، كان له ذلك. ومنهم: من قال: كان لا يجوز؛ كما لو اختارت الدنيا، ورغبت عنه، لم يكن يحل له إمساكها، وهذا كان من خصائصه أيضاً؛ فإن واحداً منا لو خير زوجته لم ينو الطلاق، ورغبت عنه - لا يجب عليه تطليقها، وكان يجب عليه ذلك؛ لأن الله - تعالى- وعدهن أنه يطلقهن لو اخترن الدنيا؛ ولأن كل من رغبت عنهن وجب عليه تركها؛ لما رُوي أنه تزوج امرأة، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: "لقد عُذت بعظيم، الحقي بأهلك". ولو تصور اختيار واحدة منهن الدنيا، هل كان يقع الفراق بنفس الاختيار؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كواحد منا لو خيرت زوجته؛ فاختارت نفسها، طلقت. والثاني- وهو الأصح-: لاحتى يُسرحها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله - تعالى - قال بعد التخيير: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] أمر بالتسريح بعد الاختيار؛ لأنه تخيير بين الدنيا والآخرة، ولو خير واحد منا زوجته بين الدنيا والآخرة، فاختارت الدنيا - لم يقع الفراق. وهل كان جوابهن على الفور؟ فيه وجهان: إن قلنا: كان يقع الفراق بنفس الاختيار - كان جوابهن على الفور-؛ كواحد منا؛ لو خير زوجته، كان جوابها على الفور. وإن قلنا: كان لا يقع الفراق بنفس الاختيار- وهو الأصح- كان جوابهن على التراخي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "ولا عليك أن تستعجلي؛ حتى تستأمري أبويك" فجوز لها تأخير الجواب [إلى إمرة الأبوين].

فأما ما أبيح له دون غيره: فمنها: الصفي من الغنيمة؛ وهو أن يختار من رأس الغنيمة ما شاء، ومن جملة صفاياه: صفية بنت حيي بن أخطب؛ اصطفاها من رأس الغنيمة، وأعتقها، وتزويجها. ومنها: خُمس خمس الغنيمة والفيء كان مباحاً له؛ قال الله - تعالى-: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وكان أربعة أخماس الفيء له في حياته. وأبيح له الحِمَى لنفسه؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا حِمَى إلا لله ورسوله". ولم يكن لأحد من الأئمة بعده أن يحمي لنفسه؛ وهل له أن يحمي لمصالح المسلمين؟ فيه قولان. ومنها: الوصال في الصوم كان مباحاً له؛ وهو أن يصوم أياماً من غير أن يطعم بالليل شيئاً؛ روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال، فقيل له: عن تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت يطعمني ربين ويسقيني". ومنها: أنه أبيح له أخذ الماء من العطشان، والطعام من الغرثان، وكان على الرجل إذا علم به حاجته أن يحمله غليه، ويؤثر على نفسه، ويجب أن يقي [أحدنا] رُوحه عليه السلام بروح نفسه؛ لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ولأن في بقائه بقاء العالم. ومنها: إباحة قتل من سبه وهجاه؛ رجلاً كان أو امرأة؛ لأن سبه كفر، وكذلك بغضه، وسب غيره لا يوجب قتلاً ولا كفراً. ورُوي عن أبي بُرزة أن رجلاً سب أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - فقلت: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ فقال: لا ليست هذه لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: أنه أبيح له الحكم لنفسه؛ وقبول شهادة من شهد له بقوله؛ فإن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - بقوله فأجازه، وجعل شهادته بمنزلة شهادة رجلين، وكما جاز له أن يحكم لنفسه، جاز له أن يحكم لولده. وعلى قياس هذا يجوز أن يشهد لنفسه ولولده. ومنها: أنه كان يجوز له أن يقضي بعلم نفسه، ولا يجوز لغيره من القضاة؛ على أحد القولين. وأبيح له في النكاح أشياء منها: الزيادة على أربع نسوة؛ فإنه - عليه السلام - مات عن تسع نسوة يقسم لثمان منهن.

وهل كان يجوز له أن يزيد على تسع نسوة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، والتسع في حقه كالأربع في حق الأمة. والثاني - وهو الأصح-: كان يجوز له ذلك. وهل كان يجب عليه القسم بين نسائه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]. والثاني - وهو الأصح-: أنه كان يجب عليه القسم؛ بدليل أنه كان يُطاف به عليهن في مرضه ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما املك، وأنت أعلم بما لا أملك" يعني: قلبه؛ ولولا وجوبه عليه، لكان لا يتكلف ذلك في المرض، ولا يستعيذ من ميل القلب. وفيه دليل: على أنه كان مطالباً في السر بأكثر منا، فالله - تعالى- خفف عنا- لضعفنا وعجزنا. ومنها: أنه كان يحل النكاح في حقه بمعنى الهبة؛ حتى ينحها بلا مهر، ثم لا يجب لك لا بالعقد، ولا بالدخول. وهل كان ينعقد بلفظ الهبة؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]. والثاني: كان لا ينعقد؛ كما في حق الأمة، والمراد من الآية: النكاح بمعنى الهبة؛ بدليل أنه قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} دل على لفظ النكاح شرط. فإن قلنا: كان ينعقد بلفظ الهبة، فهل كان يشترط لفظ النكاح من جهته عليه السلام؟ فيه وجهان: أحدهما لا؛ كما في جانب المرأة. والثاني: يشترط؛ لظاهر الآية؛ فإن جوزنا، كان لا يجب المهر؛ لا بالعقد، ولا بالدخول؛ لأن ذلك قضية الهبة. وهل كان ينعقد نكاحه بغير ولي، ولا شهود؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما في حق الأمة. والثاني - وهو الأصح-: كان ينعقد؛ لأن الولي شرط؛ لطلب الكفاءة؛ وهو كان أكفأ الأكفاء، وشرط الشهود؛ للخوف من الجحود، وكان لا يُخشى ذلك منه. وهل كان ينعقد نكاحه في حال الإحرام؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه رُوي أنه نكح ميمونة محرماً.

والثاني: كان لا ينعقد؛ كما في حق الأمة وأكثر الرواة أنه نكح ميمونة حلالاً، وكالوطء لم يكن له حلالاً في حال الإحرام؛ كغيره. وقيل: كان لا ينحصر عدد طلقاته بالثلاث؛ وليس بصحيح بل كان ينحصر بالثلاث؛ كما في حق الأمة. وبعض أصحابنا قالوا: كان النكاح في حقه بمنزلة التسري في حق الأمة، حتى يصح بلا ولي، ولا شاهد، وبلف الهبة، وفي حال الإحرام، وأن يزيد على التسع، ولا يلزمه القسم، ولا ينحصر عدد الطلاق فيه. ومنها: أنه كان أبيح له بتزويج الله [له]؛ كما قال جل ذكره في حق زينب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وكان تزويجها في السماء، ولم يكن في الأرض. وقيل: يحل بلا عدة. ومنها: نه كان إذا رغب في نكاح امرأة، يجب عليها الإجابة، ويحرم على غيره خطبتها، وإذا رغب في ذات زوج يحرم على زوجها إمساكها؛ وكان يجوز له تزويج المرأة من نفسه من غير استئمارها، واستئمار وليها، ويتولى طرفي العقد، وكان يجوز له تزويجها ممن شاء من غير إذنها، وإذن وليها؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] فروى أنه - عليه السلام- "أعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها". واختلفوا في اختصاصه فيه: قيل: اختصاصه من حيث إنه أعتقها على هذا الشرط، فلزمها ذلك، ولم يكن لها الامتناع، وغيره لو أعتق جارية؛ على أن ينكحها؛ فقبلت - عتقتهن ولا يجب عليها أن تنكحه، وعليها قيمة رقبتها للمولى. وقيل: اختصاصه من حيث إنه كان يجوز له أن يجعل نفس العتق صداقاً، ولا يجوز ذلك لغيره؛ وكان لا يحل له نكاح الأمة المسلمة؛ لأن خوف العنت شرط لجواز نكاحها للحر، وهو - عليه السلام - كان آمناً منه، وكان يباح له التسري بالأمة المسلمة؛ لأنه استولد جاريته مارية بملك اليمين. وهل كان يباح له نكاح الحرة الكتابية، أو التسري بالأمة الكتابية؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما كان مباحاً للأمة. والثاني - وهو الأصح-: كان لا يباح له ذلك؛ لما رُوي أنه قال: "زوجاتي في الدنيا

زوجات في الآخرة". والكافرة لا تدخل الجنة، ولأن ماءه أعز من أن يتضمنه رحم كافرة، فأما ما أكرمه الله تعالى به فذلك مما لا يُحصى كثرة. فمنها: ما رُوي عن جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرُّعبِ مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ فأيما رجلً من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة؛ وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة". وعن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُصلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون". وقال: "بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، ووُضعت في يدي". وعن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زوى لي منها، أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع مُشفع". وعن أنسٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة". ومنها: أنه أُيدت شريعته، ونُسخت الشرائع بشريعته، وجعل كتابه - وهو القرآن -[مُعجزة له، ولم تكن كتب الأنبياء معجزة لهم، وبقيت معجزته في الأمة بعد مُفارقته الدنيا - وهي القرآن-] حتى يكون حجة على من جاء بعده، وضمن الله حفظه عن التبديل والتحريف؛ قال الله - تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وجعلت أمته خير الأمم؛ قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. ومنها: أنه كان [يرى خلفه كما] يرى أمامه. رُوي عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل ترون قبلتي هاهنا، فوالله ما يخفى علي ركوعكم، ولا سجودكم؛ إني لأراكم من وراء ظهري".

ومنها: أنه كان لا ينام قلبه حتى كان يجوز له أن يصلي بعدما نام مُضطجعاً قبل أن يتوضأ؛ قال ابن عباس: "ثُمَّ نام حتى سمعت غطيطه، ثم خرج إلى الصلاة". وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "قلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر". قال: "إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي". ومنها: أن صلاته التطوع قاعداً كصلاته قائماً، وإن لم تكن به علة، وفي حق غيره صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم؛ قال عبد الله بن عمرو بن العاص: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوجدته يصلي جالساً. فقلت: يا رسول الله، حدثت أنك قلت: "صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة" وأنت تصلي قاعداً. قال:"أجل، ولكني لست كأحد منكم". ومنها: أنه كان يجب على المصلي إجابته إذا دعاه في الصلاة، لا تبطل به صلاته؛ رُوي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي، فدعاني النبي -صلى الله عليه وسلم - فلم اجبه حتى صليت، ثم أتيت فقال: "ما منعك أن تأتي" قلت: إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]. ومنها: أنه يخاطب في الصلاة بقوله: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، ومثل هذا الخطاب مع غيره يقطع الصلاة. ومنها: أنه كان لا يجوز لأحدٍ أن يرفع صوته فوق صوته، ولا ينادي بعدما دخل حجرته حتى يخرج؛ قال الله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. وكان لا يجوز لأحدٍ أن يدعوه باسمه، فيقول: يا محمد يا أحمد، بل يقول: يا رسول الله، يا نبي الله، على وجه التعظيم؛ قال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63]. قال الشيخ: ومنها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي". وكان الشافعي -رضي الله عنه - يقول: ليس لأحدٍ أن يتكنى بأبي القاسم، سواء كان اسمه مُحمداً أو أحمد، أو لم يكن؛ لظاهر الحديث.

ورخص بعضهم فيه، كره الجمع بين اسمه وكُنيته. ومنها: أنه لو شتم أو لعن إنساناً جعل لعنه وشتمه قربة للمسلمين، رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم إني اتخذت عندك عهداً لن تُخلفينه، فنما أنا بشرٌ، فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة". ومنها: أن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة إلا نسبه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة غلا نسبي وسببي". قيل: أراد به أن أمته يوم القيامة يعرفونه، وينتسبون إليه دون سائر الأمم، فإنها لا تُنسب إلى أنبيائها. وقيل: لا ينتفع أحد بنسبه يوم القيامة؛ كما قال الله - تعالى-: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34، 35] إلا نسبه؛ فإن له الشفاعة بإذن الله عز وجل. ومنها: أنه بعد موته كالحي حتى لا يُورث ماله، وماله قائم على ملكه يُصرف على زوجاته، ويصرف على من كان يصرفه إليه في حياته، ولم ينقطع خطاب الأمة معه بقولهم: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته. ومنها أن أم أيمن شربت بول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُنكر عليها، وقال: "إذن لا تُنجع بطنُك".

وعن ابن الزبير قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم، وأعطاني دمه، وقال: "اذهب فواره حيث لا يبحث عنه سبعٌ". قال: فتنحيت فشربته، ثم أتيت فقلت: صنعت الذي أمرتني. قال: "ما أراك إلا شربته". قلت: نعم. ولم ينكر عليه. وعن سفينة: أنه قال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذ هذا الدم فادفنه من الدواب". قال: فتغيبت فشربته. ثم سألني فأخبرته أني شربته فضحك. وكل ذلك لما كانوا يرون فيه من الشفاء والتبرك به، وليس في دم غيرهن ولا بوله ذلك، ومن هذا قسمته شعره بين أصحابه. ومما أُكرم به- صلى الله عليه وسلم - في النكاح تحريم زوجاته على غيره من بعده، فقال جل ذكره: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [الأحزاب: 53] وهذا التحريم في حق من كانت تحت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين فارق الدنيا، ومن استحل نكاح واحدة منهن فر؛ لأنه محرم بنص الكتاب. ولو تصور أن يختار واحدة منهن الدنيا حين خيرهن، كان يحل لها أن تنكح زوجاً غيره؛ للوصول إلى نعيم الدنيا في الأصل؛ لأنها اختارت فراقه لذلك، فأما من فارقها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فإنه رُوي أنه تزوج امرأة من بني عمرو بن كلاب، فوجد بكشحها بياضاً فطلقها، ولم يدخل بها، وتزوج أخت بني الجُون الكندي، فاستعاذت منه؛ فقال: "لقد عُدت بعظيم، فالحقي بأهلك" فطلقها، ولم يدخل بها. فهل كان يجوز لغيره نكاح هؤلاء؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: لا؛ لظاهر القرآن: [{وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53]، ولأنه - عليه السلام-أب الأمة، ويحرم زوجة الأب بنفس العقد. والثاني: يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنها بالفراق، فانقطعت الوصلة بينه وبينها. والثالث: إن كان قد دخل بها لم يحل لأحدٍ نكاحها، وإلا حلت؛ فإنه رُوي أن المستعيذة تزوجها الأشعث بن قيس في زمان عمر - رضي الله عنه - فهم برجمها، فأخبر

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فارقها قبل أن يمسها فترك. وأما الموطوءة بملك اليمين إن قلنا: تَحِلُّ امرأته التي فارقها بعد الدخول، ففي الموطوءة بملك اليمين وجهان؛ سواء مات عنها، أو أعتقها، أو باعها: أحدهما: لا تحل؛ كالمنكوحة التي فارقها. والثاني: تحل؛ لأن مارية غير معدودة في أمهات المؤمنين. ومن خصائصه عليه السلام تفصيل زوجاته على سائر النساء بجعل ثوابهن على الطاعة ضعف ثواب نساء الأمة، وعقوبتهم على المعصية ضعف عقوبة نساء الأمة؛ كالحرائر مع الإماء. قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30، 31]. وجعلهن أمهات المؤمنين. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وأمهات المؤمنين منهن من ماتت تحت النبي - صلى الله عليه وسلم -[أو مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تحته. فمن ماتت تحته - عليه السلام] خديجة بنت خويلد. قال الشيخ: وزينب بنت خزيمة؛ وهي أم المساكين تُوفيت تحتهن فلم تلبث معه إلا يسيراً. أو مات النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهن؛ وهن تسعٌ: عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وحصة بنت عمر -رضي الله عنهما- وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت [أبي] أمية، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث خالة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم، وصفية بنت حُيي بن اخطب، وجُويرية بنت الحارث المصطلقية -رضي الله عنهن - فهؤلاء أمهات المؤمنين في معنى الإكرام والتفضيل، وفي تحريم نكاحهن، ووجوب طاعتهن. أما النظر إليهن والخلوة والمسافرة بهن، فلا يجوز، ويجوز نكاح بناتهن، وأخواتهن. ولا يطلق على بنات زوجاته أنهن أخوات المؤمنين، ولا على آبائهن ولا أمهاتهن أنهن أجداد المؤمنين وجداتهم، ولا على إخوانهن أنهم أخوال المؤمنين وخالاتهم. وقول الشافعي - رضي الله عنه-: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج بناته وهن أخوات المؤمنين - أخرجه مخرج الإنكار، يعني: أنه يرى أنهن أخوات المؤمنين، وهن كن أمهات الرجال من المؤمنين دون النساء.

روي ذلك عن عائشة - رضي الله عنها. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أبا الرجال والنساء جميعاً. ومن خصائصهن: أنه كان لا يحل للرجال أن يسأل واحدة من نسائه شيئاً إلا من وراء حجاب أما مشافهة فلا بخلاف غيرهن. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. والحكمة في إيجاب الأشياء، وتحريمها على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حصول زيادة الثواب؛ لأن فعل الفرائض أكثر ثواباً من فعل النوافل، والامتناع من المحرمات أعظم أجراً من الامتناع من المباحات؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: {لن يتقرب المتقربون إلي بمثل ما افترضت عليهم}. يجب المراجعة وعن أبي هريرة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "اتق المحارم تكن أعبد الناس" والحكمة في إباحة الأشياء له، وإكرامه بها إظهار كرامته، وتبيين فضيلته، فإن الواحد من ملوك الدنيا إذا أحب عبداً، واختاره على غيره من عبيده يُبيح له في ملكه، ولا يبيح لغيره، ويُكرمه بما لا يكرم به غيره. وهو - صلى الله عليه وسلم - كان أكرم الخليقة على الله - عز وجل- وأعظمهم قدراً لديه، فخصه من بينهم بما أظهر به أمره، ورفع به ذكره، وله الحمد والمنة. باب الترغيب في النكاح قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ....} [النور: 32] الآية. الناس في النكاح قسمان: منهم من تتوق نفسه إلى النكاح، فيستحب له أن ينكح

إن وجد أهبة؛ سواء كان مقبلاً على العبادة، أو لم يكن، ولكن [لا] يجب أن ينكح. فإن لم يجد أهبة يكسر شهوته بالصوم؛ لما رُوي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن

للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء. ومنهم من لا تتوق نفسه إلى النكاح؛ فينظر فإن كان ذلك لعلة به من كِبرٍ، أو مرضٍ، وعجز يكره أن ينكح؛ لأنه يلتزم ما لا يُمكنه، ولا يقدر على القيام بحقه، وكذلك لو كان لا يقدر على النفقة. وإن لم يكن به عجز، وكان قادراً على القيام بحقه فلا يُكره له النكاح، ولكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله - تعالى-. وإن لم يكن مشتغلاً بالعبادة فوجهان: أصحهما: الأفضل أن ينكح حتى لا يحمله الفراغ على الفساد. وقيل: تركه أفضل.

وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: النكاح أفضل. قلنا: النكاح من باب قضاء الشهوة، فلا يكون أفضل من العبادة؛ كأكل الأطعمة الشهية، ولبس الثياب البهية. ويكره للرجل أن يحتال لقطع الشهوة. وإذا أراد النكاح يختار ذات الدين؛ لما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". فإن استوت المرأتان في الدين، اختار الحسنة؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم

وخضراء الدمن". قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء من منبت السوء". ويختار ذات العقل؛ لأن النكاح للعشرة وطيب النفس، ولا يون ذل إلا مع وفود العقل. وكذلك يختار من يستحسنها، فيكون أطيب، ويختار الولود؛ لما رُوي عنه - عليه

السلام - قال: "تزوجوا الودود الولود، فإني أكاثر بكم الأمم".

ويستحب أن يختار من الأجانب؛ لما روي أنه - عليه السلام- قال: "لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يُخلق ضاوياً" معناه: أن شهوته لا تتم على قريبته، فيحصل الولد نضو الخلق ضعيفاً. ويختار البكر إذا لم يكن له عذر؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر وقد تزوج ثيباً "هلا [تزوجت] بكراً تلاعبها وتلاعبك". وإذا أراد أن ينكح امرأة يستحب أن ينظر إليها، ويكرر النظر متأملاً؛ بإذنها وبغير إذنها؛ لما روي عن المغيرة أنه خطب امرأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". وقال مال -رحمه الله -: لا ينر إليها بغير إذنها. وليس في الحديث فصل بين الحالتين، فإنه ينظر إليها قبل الخطبة؛ لأنه إذا نظر إليها بعد الخطبة، فلم تعجبه فتركها، شق عليها ذلك. ولا يجوز أن ينظر إلا إلى وجهها وكفيها؛ لأن ما سواهما عورة لا يجوز النظر إليه من غير ذات محرم. ولو بعث إليها امرأة؛ حتى تأملتها ووصفتها له، جاز؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بعث أم سليم إلى امرأة، وقال: "انظري على عرقوبيها، وشُمي معاطفها".

وكذا المرأة إذا أرادت أن تتزوج تنظر إليه قبل النكاح؛ لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها. قال عمر - رضي الله عنه-: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم؛ فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن. فصل في بيان العورات ونظر الآدميين بعضهم إلى بعض قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وروي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد". [أما] العورات على أربعة أقسام: عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجلن وعورة الرجل مع المرأة. أما الرجل مع الرجل: فجائز نظره إلى جميع بدنه إلا على عورته، وعورته: ما بين السُرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة- رحمة الله عليه-: الركبة عورة. وقال مالك: الفخذ ليس بعورة. والدليل على أنها عورة: ما روي عن جرهد؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به في المسجد - وهو كاشف عن فخذه- فقال عليه السلام: "غط فخذك؛ فإنها من العورة"، وقال لعلي - رضي الله عنه -:"لا تُبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حتى ولا ميت". وإن كان في نظره إلى وجهه، وسائر بدنه خوف فتنة بأن كان أمرد، لا يحل النظر غليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل وحاد في جانب من الفراش؛ لحديث أبي سعيد. وتكره المُعانقُّ وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة، وتستحب المصافحة؛ لما روي عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال:

أفيلتزمه، ويقبله؟ قال: "لا". قال: أفيأخذ بيده، ويصافحه؟ قال: "نعم". ويجوز للرجل دلك عورة الرجل، ودلك فخذه فوق الإزار إذا لم يخش فتنة. أما عورة المرأة مع المرأة فكالرجل مع الرجل، فلها النظر إلى جميع بدنها إلا بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز المضاجعة. والمرأة الذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة، وأن تدخل معها الحمام؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنها عورة كالمسلمة مع المسلمة. والثاني - وهو الأصح-: لا يجوز، وهي كالرجل الأجنبي؛ لأنها أجنبية في الدين، والله يقول: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وليست الذمية من نسائنا. أما عورة المرأة مع الرجل: فلا يخلو: إما أن كانت المرأة أجنبية منه، أو ذات محرم له، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية، نظر: إن كانت حُرَّةً فجميع بدنها عورة لا يجوز له أن ينر إلى شيء منها إلا إلى الوجه والكفين؛ لقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. قيل: ما ظهر منها الوجه والكفان؛ لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء؛ وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء، ونعني بالكف: هرها وبطنها إلى الكوعين. وقيل: ظهر الكف عورة. وفي أخمص القدم وجهان: أصحهما: عورة كظهر القدم. وفي صوتها وجهان:

أصحهما: ليس بعورة؛ لأن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يروين الأخبار للرجال. وكل عضو هو عورة منها، فإذا انفصل منها مثل ساعدها وشعر رأسها وقلامة رجلها، هل يجوز النظر إليه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ كما قبل الانفصال. والثاني: يجوز؛ لأنه لا يكون من العضو المُبان فتنة، فلا يعطى له حكم الجملة؛ ما يجوز النظر إلى دمها وريقها، وكذلك الذكر المقطوع عن الرجل وشعر عانته إذا حُلق هل يجوز النظر إليه؟ فيه وجهان. ويجوز النظر إلى قلامة يد المرأة؛ لأن يدها ليست بعورة. ويجوز أن يُعيد النظر إلى الأجنبية إذا كان له غرض صحيح؛ بأن يريد نكاح امرأة؛ فينظر إلى وجهها وكفيها، أو شراء جارية؛ فينظر إلى ما ليس بعورة منها، أو عند المبايعة معها ينظر إلى وجهها مثلاً حتى يعرف عند الحاجة. وينظر إليها عند تحمل الشهادة، وينظر إلى غير الوجه؛ لأن المعرفة تحصل به. وإذا كان بعورة المرأة علة يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إليها؛ للمعالجة؛ كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون؛ لأنه موضع ضرورة. ويجوز أن يعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنا، وكذلك ينظر إلى فرجها لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرأة لتحمل الشهادة على الرضاع، وهذا هو الصحيح. وقال الإصطخري: لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، إلا أن يقع بصره عليه؛ لأنه في الزنا مندوب إلى الستر، وفي الولادة وفي الرضاع تُقبل شهادة النساء؛ فلا حاجة إلى الرجال للشهادة. وقيل: يجوز في الزنا دون غيره؛ لأن الزاني قد هتك حُرمة الله بالزنا، فجاز هتك حرمته بالنظر إلى عورته، ولم يوجد ذلك في غير الزنا. وقيل: يجوز في غير الزنا، ولا يجوز في الزنا؛ لأن حد الزنا مبناه على الدرء والإسقاط.

ولا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير عرض، فإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. وقيل: يجوز مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة، وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-. ولا يجوز أن يُكرر النظر إليها؛ لما رُوي عن بريدة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة". وعن جابر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أيصرف بصري". ولأن الغالب أن الاحتراز عن الأولى لا يمكن فوقع عفواً، قصد أو لم يقصد. ولا يجوز أن يخلو بالمرأة الأجنبية، ولا أن يُسافر بها؛ لما رُوي عن عمر - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخلون رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما". وإن كانت [الأمة أجنبية]، ففي عورتها وجهان: أصحهما: ما بين السرة والركبة؛ كالرجل. والثاني: عورتها ما لا يبدو عند الفضلة والمهنة خرج منه أن رأسها، وعنقهان وساعديها، وموضع خناقها من النحر والصدر ليس بعورة. وفي ظهرها، وبطنها، وما فوق الساعدين وجهان. ولا يجوز له أن يمسها، ولا لها أن تمسه بحال، لا لحجامة ولا اكتحال، ولا غيره؛ لأن اللمس أقوى من النظر، بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم، وبالنظر لا يفطره.

وقال أبو حنيفة: يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليها من المحارم، ولا يجوز من الحرة الأجنبية. وإن كانت المرأة ذات محرم له بنسب أو رضاع أو صهرية، فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجال. وقيل: ما يبدو عند الفضلة والمهنة، وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله - والأول أصح. ويجوز أن يخلو بها، ويسافر بها، ولا بأس للمرأة أن تنكشف للطفل الأجنبي الذي لم يظهر على عورات النساء؛ لقوله تعالى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. فإن كان مراهقاً لا يجوز أن تنكشف له، ولكن يجوز له الدخول عليها، ويستأذن في الأوقات الثلاثة التي تضع فيها ثيابها؛ كالمحارم؛ لقوله تعالى: {لِيَسْتَاذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ...} الآية. وهل يجوز للمراهق الأجنبي أن ينظر إليها فُضلاً؛ كالمحارم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز كالبالغ [لقوله تعالى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ ...} [النور: 31] الآية، وهذا ليس بطفل]. والثاني: يجوز؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَاذِنُوا} [النور: 59] وهذا غير بالغ. وحكم البالغ الممسوح حكم المراهق. وقيل: هو الفحل فأما إذا كان مجبوباً، أو مسلول الأنثيين والذكر باقٍ، فهو كالفحل. وإذا كان للمرأة عبد فهل يكون محرماً لها؟ فيه وجهان: أصحهما: يكون محرماً لها؛ لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]. وروي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة - رضي الله عنها - بعبدٍ قد وهبه لها، وعلى فاطمة - رضي الله عنها -ثوبٌ إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم

يبلغ رأسها. فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى: قال:"إنه ليس عليك باسٌ، إنما هو أبوك وغلامك. والثاني: لا يكون محرماً لها؛ لأن الملك لو كان يثبت المحرمية، لكان لا يزول كالرضاع؛ وبه قال أبو حنيفة. وإن كانت المرأة مستمتعة؛ كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها حتى إلى فرجها، غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج، وكذلك إلى فرج نفسه؛ لأنه رُوي أنه يورث الطمس. وقيل: لا يجوز النظر إلى فرجها، ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة، أو مدبرة، أو أم ولد، أو مرهونة، فإن كانت مجوسية، أو مرتدة، أو وثنية، أو مشتركة بينه وبين غيره، أو مزوجة، أو مكاتبة، فهي كالأجنبية؛ لما روي عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة. أما عورة الرجل مع المرأة [نظر] إن كان أجنبياً منها، فعورته منها ما بين السرة والربة على أصح الوجوه. وقيل: جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه. وقيل: مالا يبدو، عند الفضلة والمهنة، والأول أصح، بخلاف المرأة في حق الرجل؛ لأن بدن المرأة في ذاته عورة، بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرير النظر إلى وجهه؛ لما روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "احتجبا منه". فقلت: يا رسول الله؛ أليس هو أعمى لا يبصر؟ قال: "أفعمياوان أنتما، ألستما تُبصران؟! " فإن كان محرماً لها، فعورته معها ما بين السرة والركبة.

وإن كان زوجها أو سيدا الذي يحل له وطؤها، فلها أن تنظر إلى جميع بدنه؛ حتى إلى فرجه غير أنه يُكره النظر إلى الفرج، كهو معها. ولا بأس بالنظر إلى عورة صبي أو صبية لم تبلغ محل الشهوة وإن كان أجنبياً، ولا ينظر إلى الفرج فإن بلغ محل الشهوة لم يجز وإذا بلغ الصبي أو الصبية عشر سنين، يجب التفريق [بين أخيه وأخته] وأمه وأبيه في المضجع. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا صبيانكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". ولا يجوز للرجل أن يجلس عُرياناً في بيت خالٍ، وله ما يستر عورته؛ لأنه روي؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -سئل عنه فقال: "الله أحق أن يستحي منه". وروي أنه - عليه السلام- قال: "إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يُفضي الرجل إلى أهله؛ فاستحيوهم وأكرموهم". باب ما على الأولياء وإنكاحهم قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 332] وروي عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً".

[و] الحرة العاقلة البالغة إذا خطبها كُفء لها، ورغبت فيه، وطالبت الولي بالتزويج منه - وجب على الولي تزويجها، فإن امتنع كان عاضلاً آثماً؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ}. والمرأة لا تملك تزويج نفسها، لأنها لو ملكت تزويج نفسها لم يكن لنهي الولي عن العضل معنى. ولا ينعقد النكاح بعبارتها. سواء زوجت نفسها أو غيرها بإذن الولي، أو دون إذنه؛ وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس - رضي الله عنهم- وأكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بعبارتها؛ [سواء زوجت نفسها، أو غيرها؛ بإذن الولي، أو دون إذنه] ثم إن زوجت نفسها من غير كفء، فللولي رده. وقال أبو ثور، ومحمد بن الحسن: إن زوجت نفسها بإذن الولي يصح، وبغير إذنه لا يصح.

وقال مالك: إن كانت دنيئة جاز، وإن كانت شريفة لا يجوز. والدليل على أنه لا يصح: ما رُوي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاح إلا بولي".

وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بهان فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له".

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم ببطلان النكاح بغير إذن الولي، وأكده بالتكرار، ونقل الولاية إلى السلطان عند اختلاف الأولياء؛ ولأن المرأة مولى عليها في النكاح، بدليل أنها لو وضعت نفسها فيمن لا يكافئها يثبت للولي الاعتراض. ولو لم يكن مولياً عليها لما ثبت حكم الاعتراض على عقدها؛ كالرجل إذا نكح دنيئة لا يعترض عليه، والمرأة إذا باعت مالها بالبخس لا يعترض عليها؛ لأنه غير مولى عليها في المال. إذا ثبت أنها مولى عليها، فلا ينعقد نكاحها؛ كالصغيرة، والأمة، والمكاتبة. ولو وكل الولي امرأة؛ حتى وكلت رجلا بتزويج وليته ففعلت، نظر إن قال: وكلي عن نفس لم يجز، وإن قال: وكلي عني أو أطلق، فوجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن عبارتها غير صالحة للناكح. والثاني: يصح؛ لأنها سفيرة بين الوكيل ليست مباشرة للعقد.

ولو أن امرأة نكحت بلا ولي فأصابها، لا حد عليها، سواء فعله من يعتقد إباحته أو تحريمه؛ لتعارض الأدلة، واختلاف العلماء في الإباحة، إلا أن من اعتقد تحريمه من الزوجين يُعزر عليه، ومن لم يعتقد لا يعزر، بخلاف ما لو شرب النبيذ يجب عليه الحد - وإن اختلف العلماء في إباحته - سواء كان ممن يعتقد إباحته، أو تحريمه؛ لأن الأدلة فيه غير متعارضة كتعارضها في النكاح بغير الولي، ولأن من يقول بإباحة النبيذ لا يقول بإباحته على الإطلاق، فإنه يحرم السكر منه، وليس له حد. ومن أباح النكاح بلا ولي أباحه على الإطلاق، ولو نكح حنفي بلا ولي، ثم رُفع إلى حاكم شفعوي رده، ولو رفع أولاً إلى حاكم شفعوي رده ولو رفع أولاً إلى حاكم حنفي، فنفذه، ثم رفعه إلى شفعوي فلا يرده؛ لأنه مجتهد فيه، فاتصل به قضاء القاضي فلا يرده، بخلاف ما لو اشترى حنفي نبيذاً وحكم حاكم بصحته، ثم رفع إلينا ننقضه؛ كما يحد الحنفي بشربه. وقال الإصطخري: يرد النكاح بلا ولي، وإن حكم حاكمهم بصحته؛ لأن بطلانه يثبت بالنص. ولو نكح بلا ولي فطلقها ثلاثاً، جاز له بعد ذلك أن ينكحها من غير زوج آخر؛ لأن النكاح إذا لم يصح لا يقع عنه الطلاق. وقال أبو إسحاق: يقع الطلاق، وإن طلق ثلاثاً لا يحل له إلا بعد زوج آخر؛ لأنه إن كان عالماً فقد فعله باجتهاده، وإن لم يكن فقد قلد فيه علماء "الكوفة"، فلا يكون لغواً. فصل في صفة تزويج الأولياء رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثيب أحق بنفسها من

وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها".

الأولياء قسمان: كامل الشفقة، وقاصر الشفقة. أما كامل الشفقة: فالأب، والجد [أب الأب] وإن علا. وقاصر الشفقة ثلاثة: قريب يزوج بعصوبة النسب؛ كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم. والثاني: المعتق وعصباته يزوجون بحق الولاء. والثالث: السلطان يزوج بالولاية العامة. والنساء الحرائر قسمان: بكرٌ وثيبٌ، فالبكر يجوز للأب والجد تزويجها دون إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، غير أنه يستحب أن يستأذن [إن كانت] بالغة، وإذنها صُماتها. فلو [لم يستأذن] وزوجها جبراً يصح؛ حتى لو اختارت هي كفئاً ودعت إليه، فزوجها الأب والجد من كفءٍ آخر جاز. وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة- رحمة الله عليهم-: لا يجوز لأحد إجبار البكر البالغة على النكاح؛ لقوله عليه السلام: "والبكر تستأذن" وذلك عند من جوز محمول على استطابة النفس، لا أنه شرط لصحة العقد؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لنعيم في تزويج ابنته: "وآمر أم ابنتك". وذلك على سبيل الاستحباب، واستطابة النفس، لا أن مؤامرة أم البنت

شرط لصحة النكاح، فنقول: يجوز للأب تزويجها لحق الأبوة ساكتة، فيجوز تزويجها ساخطة؛ كالصغيرة. وأما غير الأب والجد من الأولياء، فلا يصح تزويجهم في حال صغر المنكوحة؛ لظاهر الخبر، ويجوز لهم التزويج بعد بُلوغها إذا استؤذنت، والاستئذان واجب، ويكتفي بسكوت البكر؛ لظاهر الحديث؛ لأنها تستحي من أن تنطق به صريحاً. وفيه وجه آخر: أنه يشترط صريح نطقها؛ كما في الثيب، والحديث محمول على ما إذا كان الولي أباً أو جداً، والأول هو الأصح. وإن كانت المرأة ثيباً، فلا يجوز لحد من الأولياء تزويجها في حال الصغر، أباً كان أو غيره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "الثيب أحق بنفسها من وليها". وجوز أبو حنيفة تزويج الثيب الصغيرة، والحديث حُجة عليه بعد البلوغ لا يجوز لأحدٍ تزويجها بالاتفاق إلا بإذنها، ويشترط صريح نطقها؛ لأنها اختبرت الرجال فلا تستحي من إظهار الرغبة في النكاح، وسواء ثابت بنكاح، أو يملك يمين، أو وطء شبهة، أو بالزنا. وعند أبي حنيفة- رحمه الله- المُصابة بالزنا في حكم الأبكار، والحديث حجة عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها" وهذه ثيب بدليل أنه إذا أوصى للثيب تدخل هذه في الوصية، ولأنها حرة عاقلة ثابت بالجماع؛ كالمصابة بالنكاح، ووطء الشبهة، وإن زالت بكارتها بأصبع، أو وثبة، أو طول تعنيس، فهي في حكم الأبكار على ظاهر المذهب؛ لأنها لم تختبر الرجال. وقيل: هي في حكم الثيب؛ لزوال العذرة. وإن أصيبت في دبرها فوجهان: أصحهما: في حكم الأبكار؛ لبقاء العذرة؛ كما لو فأخذها رجلاً لا تزول البكارة. والثاني: هي في حكم الثيب؛ لأنها أصيبت بالوطء؛ كما لو أزيلت بكارتها بالجماع، فعادت عذرتها. وقال أبو حنيفة: يجوز لجميع الأولياء تزويج الصغيرة بكراً كانت أو ثيباً، غير أن تزويج الأب والجد يلزم، وتزويج غيرهما لا يلزم، ولها رده بعد البلوغ. والدليل عليه: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن".

واليتيم اسم لصغيرٍ لا أب له، فدل على أنه لا يجوز تزويجها حتى يزول عنها اسم اليُتم بالبلوغ، وتستأمر، ولأن من لا يلزم إنكاحه الصغيرة مع عدم النقائص لا ينعقد إنكاحه كالخال والأجنبي. ولو زوج الولي المرأة الثيب دون رضاها لا ينعقد. وعند أبي حنيفة - رحمه الله- يتوقف على إجازتها، فإن أجازت جاز. والدليل على أنه لا يتوقف: ما روي أن خنساء بنت خذام زوجها أبوها- وهي ثيبٌ- فكرهت، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فرد نكاحها. أي: حكم بالرد ولم يقل لها: أجيزي ما فعل أبوك. فصل في صفة الأولياء والشهود روي عن عمران بن حصين؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل". لا ينعقد النكاح إلا بمحضر شاهدين عدلين وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو ثور: ينعقد بغير الشهود، ويُروى ذلك عن عليٍّ، وابن الزبير - رضي الله عنهما-.

وقال مالك: الإعلان شرط دون الإشهاد. فإن تواصوا بالكمان، وإن أشهدوا لم ينعقد؛ لما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف". وضرب الدف على طريق الاستحباب عند الآخرين، والإعلان يحصل بالإشهاد. أما الكلام في صفة الولي، خلاف أنه لا ولاية للرقيق، ولا الصغير، ولا المجنون، ولا المحجور عليه بالسفه، ولا الشيخ المفند، ولا الضعيف الذي لا عِلم له بمواضع الحظ. أما الفاسق هل يكون ولياً؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان: أحدهما - وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: يكون وليًّا؛ لأنه ممن يعقد النكاح لنفسه بنفسه؛ كالعدل. والثاني: لا يكون وليًّا. قال ابن عباس: لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل. ولأن الفسق نقص يؤثر في الشهادة، فيمنع ولاية النكاح؛ نقص الرق. وقيل يكون وليًّا قولاً واحداً. والمراد من المرشد المسلم في قول ابن عباس.

وقيل: إن كان الفاسق أباً أو جداً في حق البكر، فلا ولاية له؛ لأنه ممن يجبر، فربما يميل إلى رفيقه الفاسق، فيزوجها منه، ويترك النظر للوالد وإن كان ممن لا يجبر فيكون وليًّا؛ لأنه لا يزوج إلا بإذن المرأة، فإن ترك هو النظر لها فهي تنظر بنفسها. والأصح أن الفسق لا يزيل الولاية؛ لأن العضل فسق. ولم ينقل الشافعي - رضي الله عنه- به الولاية. فإن قلنا: الفاسق لا يكون ولياً، فهل له تزويج أمته [منه]؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يُزوج ابنته وأخته. والثاني: له ذلك؛ لأنه يتصرف في ماله؛ كما يتصرف فيها بالبيع والإجارة. وإذا تاب الفاسق جاز تزويجه في الحال، ولا يشترط مُضي مدة لاستبراء حاله؛ لأنه يكتفي فيه بالعدالة الظاهرة، بخلاف قبول الشهادة فيه مُضي مدة لاستبراء حالِه. والإمام الأعظم لا ينعزل بالفسق، فيجوز له تزويج بناته وبنات غيره بالولاية العامة. والأعمى يكون وليًّا؛ على ظاهر المذهب، ولأن شعيباً- عليه السلام - زوج ابنته من موسى - عليه السلام -بعد ما كُفَّ بصره.

وقيل: لا يكون وليًّا؛ لأنه نقص يؤثر في الشهادة كالصغر. وفي الأخرس وجهان: أحدهما: يكون ولياً، ويزوج بالإشارة، كما يصح منه سائر العقود بالإشارة. والثاني: لا يزوج؛ لأنه ينفذ قوله على الغير، فلا يصح منه بالإشارة كالشهادة. أما صفة الشهود فيشترط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والعدالة في الشاهدين، ولا ينعقد بشهادة فاسقين معلني الفسق، ولا رجل وامرأتين.

وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ينعقد بشهادة رجل وامرأتين؛ وهو قول أحمد، وإسحاق. وعند أبي حنيفة: ينعقد بشهادة فاسقين معلنين بالفسق، وبالاتفاق لا يثبت النكاح بين يدي القاضي بشهادة فاسقين، والحديث حجة عليهم. وينعقد [النكاح] بشهادة مستورين بالاتفاق، والمستور من يكون عدلاً في الظاهر، ولا تُعرف عدالة باطنه، بخلاف الحكم لا يجوز بشهادة المستور؛ لأن الحكم يكون إلى الحاكم؛ فيمكنه الرجوع إلى المزكين في التفحص عن العدالة الباطنة، والنكاح أمرٌ يتولاه العوام بأنفسهم؛ فيتعذر عليهم البحث عن العدالة الباطنة، فيسقط اعتبارها، واكتفى بالعدالة الظاهرة. ولا ينعقد بشهادة من لا تُعرف عدالة ظاهره، ولا من لا يُعرف حاله في الإسلام والحرية؛ ظاهراً وباطناً. ولو عقد بشهادة مستورين، ثم بان أنهما كانا فاسقين يوم العقد، فالنكاح مردود؛ على الصحيح من المذهب. وقيل: فيه قولان؛ كما قلنا في القاضي إذا قضى بشهادة رجلين، ثم بان فسقهما هل ينقض القضاء؟ فيه طريقان.

ولا يقبل قول الشاهدين إن كانا فاسقين، إنما يثبت ذلك ببينة تقوم على فسقهما، أو بتقار الزوجين، وهل ينعقد بشهادة الأعمى؟ فيه وجهان: أصحهما: لا ينعقد؛ كشهادة الصم الذي لا يسمع قول العاقد؛ لأن المعاينة فيه شرط كالسماع. والثاني: ينعقد؛ لأن المأمور به حضور عدلين وقد وجد. وفي الأخرس أيضاً وجهان وهل ينعقد بشهادة من هو من أهل الحرف الدنيئة وجهان؛ ناء على الحكم بشهادتهم. وقيل: في ثبوت ولاية النكاح لهم وجهان على قول من لا يثبت الولاية للفاسق. والمذهب أن يكون وليا وجهاً واحداً. ولا ينعقد بشهادة الأعجمي الذي لا يعرف لسان المتعاقدين، ولا بشهادة المغفل الذي لا يعقل شيئاً، وينعقد بشهادة من يحفظ وبنسي عن قريب. وهل ينعقد بشهادة من كان عدواً لأحدهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن قوله على عدوه غير مقبول. والثاني - وهو الأصح-: ينعقد؛ لأنه لا تهمة في حضوره، وكذلك بشهادة ابني أحدهما، أو بشهادة أب الزوج، وجد المرأة [فيه] وجهان: أصحهما: أنه ينعقد، فأما شهادة أب المراة لا تنعقد؛ لأنه يكون ولياً. ولو وكل بالتزويج، وحضر شاهداً لم يجُز؛ لأن فعل الوكيل فعل الموكل. ومن قام بركن في النكاح لا يقوم بركن آخر؛ كالزوج لا يكون شاهداً. وقيل: ينعقد بشهادة ابني أحدهما؛ لأنه يمكن إثبات النكاح بشهادتهما إذا جحد الآخر. أما شهادة الاثنين منهما، أو أحدهما من الزوج، والآخر من الزوجة، أو بشهادة أب الزوج، وابن المرأة فيه وجهان: وكذلك في العدوين إذا كانا لأحدهما ينعقد؛ لأنه يمكن الإثبات بقولهما إذا كانا

الجُحُودُ من العدو، فإن كانا عدوين لهما، أو أحدهما عدو الزوج، والآخر عدو المرأة فيه وجهان. فصل في تزويج المولى عليه قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية. الحر العاقل البالغ لا يجوز لأحد أن يقبل له النكاح دون إذنه، فلو قبل فباطل. وعند أبي حنيفة: موقوف على إجازته. أما الصغير العاقل يجوز للأب والجد عند عدم الأب أن يقبل له النكاح. وهل له أن يُزوجه أكثر من امرأة واحدة؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز أن يقبل له نكاح أربع إذا رأى النظر فيه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يلزمه المهر والنفقة مع الاستغناء عنه. ولا يجوز لغير الأب والجد أن يقبل النكاح له بحال. وعند أبي حنيفة: يجوز. والمحجور عليه بالسفه لا يجوز له أن يتزوج بغير إذن الولي؛ لأن النكاح يفتقر إلى مؤن مالية، وهو محجور عليه في المال، ولا يجوز لوليه أن يقبل له النكاح دون أمره؛ لأنه حُرٌّ مكلف. فإن قبل له النكاح بإذنه، أو أذن له في النكاح فنكح، هل يجوز أم لا؟ نظر: إن لم يكن محتاجاً إليه لا يجوز؛ لأن فيه إتلاف ماله فيما لا نظر له فيه. وإن كان محتاجاً إليه لشهوة، أو يحتاج إلى ذات محرم تتولى خدمته يجوز. ولا يكتفي بقوله في حاجته؛ حتى يعرف ذلك من طبعه؛ لأنه قد يزيد به إفساد المال. ولا يجوز أن يزوجه أكثر من امرأة واحدة؛ لأن الحاجة تنسد بواحدة؛ بخلاف الصبي يجوز للأب أن يقبل له نكاح أربع؛ لأن تزويجه لا يتوقف على الحاجة، بل المُراعى فيه النظر، وقد يكون النظر والغبطة له في جمعهن. ثم إذا قبل الولي للسفيه النكاح بإذنه، فإن قبل بمهر المثل، أو أقل - ثبت، وإن قبل بأكثر - فالنكاح صحيح؛ على الصحيح من المذهب، والفضل مردود. وكذلك لو قبل النكاح لابنه الصغير، أو للمجنون بأكثر من مهر المثل صح؛ على الصحيح، ورُدَّ الفضل، وإن أذن الولي للسفيه بالنكاح فنكح، جاز؛ لأنه أهلٌ للقبول

بالنكاح؛ كما أنه أهل للطلاق، سواء قال: انكح من شئت، أو عين امرأة، أو سمي، وقال: تزوج منهن؛ كما لو أذن لعبد في النكاح. وقيل: يجب أن يعين امرأة؛ أو يسمى المهر، بخلاف العبد؛ لأن الحجر على العبد لحق السيد، فإذا أطلق الإذن فقد بخس حق نفسه، والحجر على السفيه لحق نفسه، ولا يجوز للولي أن بخس بحقه، والأول المذهب. ثم إن أذن مطلقاً فتزوج امرأة بمهر المثل أو أقلن صح، ولزم المُسمى. وإن نكح بأكثر فالنكاح صحيح بمهر المثل، والفضل مردود، وكذلك إن سمى امرأة ولم يسم مهراً، فنكحها بمهر المثل ثبت. وإن نكح بأكثر رُدَّ الفضل. وإن نكح غير من سمى قال الشيخ: لا يصح النكاح. ولو سمي الولي المهر، ولم يسم المرأة، وقال: انكح امرأة بألف فنكح بألف، نظر إن كان مهر مثلها ألفاً فأكثر، صح النكاح، ولزم المسمى، وإن كان مهر مثلها أقل من ألف، صح النكاح بمهر المثل [والفضل مردود. وإن نكح امرأة بألفين نُظر: إن كان مهر مثلها ألفاً أو أقل، صح النكاح بمهر المثل]. وإن كان مهر مثلها أكثر من الألف لا يصح النكاح؛ لأن الولي لم يأذن بأكثر من الألف، والمرأة لا ترضى بدون مهر المثل، فلا وجه إلا الرد. ولو عين امرأة، وسمى المهر وقال: انكح فلانة بألف. قال الشيخ رحمه الله: إن لم يكن مهر مثلها ألفاً لم يصح الإذن، وإن كان ألفاً فنكح بألف أو أقل صح، وإن نكح بأكثر فالفضل مردود، وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف، فإن نكحها بألف صح، وإن نكح بأكثر لا يصح النكاح؛ كما ذكرنا. ولو نكح السفيه بغير إذن الولي فباطل، ويُفرق بينهما، فإن دخل بها قبل التفرق، فلا حد عليه، وهل يجب المهر؟ فيه قولان: أحدهما- وهو الأصح: لا يجب؛ كما لا يجب عليه دين المعاملة. والثاني: يجب؛ لأنه أتلف البُضع؛ كما لو أتلف مال إنسان يلزمه الضمان.

وقيل: إن لم نوجب المهر، يجب أقل ما يُستباح به البُضع؛ ليقع التمييز بينه وبين السفاح، وليس بصحيح. ولو طالب السفيه الولي بالتزويج عند الحاجة، يجب على الولي الإجابة، فلو لم يفعل فتزوج بغير إذنه- فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه محجور عليه. والثاني: يصح؛ لأنه حق ثبت له على الولي، فإذا تعذر استيفاؤه منه فعل بنفسه؛ كما أن رب الدين يستوفي الدين من مال الجاحد. ولو أقر السفيه على نفسه بالنكاح لا يصح؛ لأنه ليس ممن يُباشر بنفسه، أما المحجور عليه بالفلس لو تزوج جاز، وليس له أن ينفق من المال الذي في يده، بل مما يكسب. والعبد إذا نكح بغير إذن المولى لا يصح نكاحه، فإن أذن له مولاه فنكح صح، سواء كان المولى رجلاً أو امرأة؛ لأن العبد من أهل قبول النكاح وامتناعه لكونه مملوكاً، فإذا أذن المالك صح. ولو أجبره المولى على النكاح- وهو بالغٌ- ففيه قولان. قال في القديم، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله-: يصح؛ كما لو زوج أمته جبراً صح. وقال في الجديد- وهو الأصح-: لا يصح؛ لأن المُتصرف فيه وهو بضع العبد غير مملوك له، بدليل أنه لا يملك استيفاءه ولا بدل له بملك المولى، بخلاف الأمة فإن بُضعها مملوك له، بدليل أنه يملك استيفاء منفعته. وإن لم يملك استيفاءه؛ بأن كانت الجارية محرماً له، فيكون بدله له إذا وُطئت. فإن جوزنا إجبار العبد على النكاح، فإن شاء السيد قبل عليه بغير إذنه، وإن شاء أكرهه حتى يقبل فيصح؛ لأنه غير مبطل فيه. وإن قلنا: لا يجوز إجبار العبد البالغ على النكاح. فإن كان العبد صغيراً أو مجنوناً فقبل السيد له نكاح امرأة - فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ كالعبد البالغ؛ لأن المتصرف فيه غير مملوك له. والثاني: يجوز؛ لأنه غير مكلفٍ؛ ما يقبل النكاح لابنه الصغير، ولا يقبل البالغ.

فإن قلنا: يجوز الإجبار، فلو زوج أمته من عبده الصغير، أو من عبده البالغ، فهل يتولى طرفي العقد؟ فيه وجهان، بناء على أن الجد إذا زوج إحدى نافلتيه من الأخرى، وتولى طرفي العقد هل يجوز؟ فيه وجهان. وإن لم نجوز الإجبار فأذن العبد لمولاه في تزويجه، فزوجه أمته، وتولى طرفي العقد، لا يجوز، لأنه نائب، والنائب لا يتولى طرفي العقد؛ كالوكيل. فإن قلنا: يتولى طرفي العقد، فعل يحتاج إلى لفظين؟ فيه وجهان. ولو أقر المولى على عبده بالنكاح والعبد مُنكر، فإن قلنا: يملك إجباره على النكاح، يقبل إقراره عليه، وإلا فلا، وكذلك كل من يملك إجبار امرأة على النكاح؛ كالأب في حق البكر، والمولى في حق الأمة يقبل إقراره عليها. ولو دعا العبد سيده إلى تزويجه، يستحب أن يُزوجه، وهل يجب؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجب عليه تزويج أمته إذا طلبت، ولا يبع مملوكه إذا طلب. والثاني: يجب تزويجه؛ كما يجبر المولى على تزويج المحجور عليه بالسفه إذا طلب، واحتاج إليه. فإن قلنا: يجب تزويجه، فإن كان السيد محجوراً عليه بالسفه، يجب على وليه تزويج عبده إذا طلب. وإن قلنا: لا يجب تزويجه، فلا يجوز لوليه تزويجه؛ لأنه لاحظ للسفيه فيه؛ كما لا يجوز تزويج عبد الصبي؛ لأنه يقطع مكاسبه وبعض منافعه عنه. وحكم المُدبر والمعلق عتقه بالصفه حكم العبد القن. فأما من بعضه حُرٌّ وبعضه رقيق لا يجوز للسيد إجباره على النكاح؛ لأن بعضه حر، ولا له أن ينكح دون إذن المولى؛ لأن بعضه مملوك، فإن أذن له فنكح جاز. ولو أنه دعا السيد إلى تزويجه، هل يجب عليه الإجابة؟ حكمه حكم العبد القن. وأما المُكاتب لا يجبره السيد على النكاح؛ لأنه خارج عن تصرفه، وليس له أن ينكح دون إذن المولى؛ لأن مِلكه عنه لم يزل. ولو نكح بإذن المولى قيل: فيه قولان؛ بناء على جواز تبرعاته بإذن المولى؛ لأنه يحتاج إلى صرف مكاسبه إلى مؤن النكاح. وقيل- وهو الأصح-: يصح قولاً واحداً؛ لأنه يعطى المهر والنفقة من مكاسبه بمقابلةِ

عِوَضِ يصل إليه وهو البُضع، وفيه منفعة وعفافه؛ كما لو اشترى طعاماً فأكله، أو ثوباً فلبسه، فلو طالب المكاتب مولاه بتزويجه، وقلنا: يصح تزويجه بإذنه، فهل يجب على المولى الإجابة؟ فيه قولان؛ كالعبد القن. أصحهما: لا يجب. وإذا أذن السيد لعبده في النكاح مطلقاً جاز، ثم إن شاء نكح حرة، أو أمة. ولو نكح من بلدٍ آخر يجوز، ولن للسيد منعه من الخروج إليها. ولو أذن له في نكاح امرأة بعينها فنكح غيرها، أو في نكاح حرة فنكح أمة، أو في نكاح أمة فنكح حُرة، أو في أن ينكح من بلد فنكح من بلد آخر - لم يصح؛ لأنه غير مأذون فيه. وإن نكح العبد بإذن المولى، تعلق المهر والنفقة بكسبه؛ لأنه لما أذن له في النكاح يلزم به المهر والنفقة، فكأنه أذن له في صرف مكاسبه إليه. ويتعلق بما يكتسب بعد النكاح من الأكساب العامة والنادرة جميعاً، ولا يتعلق بما اكتسب قبل النكاح، فعليه أن يصرف كل يوم كسبه إلى النفقة، فإن فضل شيء، فإلى المهر حتى يتم المهر، ثم بعده ما فضل عن النفقة لا يدخره، بل يدفعه إلى المولى. وإن كان لمهر مؤجلاً، فالمهر يتعلق بما يتكسبه بعد حلول الأجل، فإن نكح العبد بأكثر من مهر المثل، فقدر مهر المثل يتعلق بكسبه، والفضل يتعلق بذمته حتى يعتق، وكذلك لو قدر السيد له مهراً فزاد عليه، تتعلق الزيادة بذمته. ولو قال له: انكح بكم شئت، فنكح بأكثر من مهر المثل، يتعلق الكل بكسبه. وهل للعبد أن يؤاجر نفسه للمهر والنفقة فيه وهان؛ بناء على جواز بيع المؤاجرة. وفيه قولان إن جوزنا جاز، وإلا فلا يجوز؛ لأنه يتضمن حجراً على المولى في بيع رقبته. وإذا نكح [العبد] بإذن السيد، [فلا يكون السيد] ضامناً للمهر والنفقة، إلا أن يضمن صريحاً. وقال في القديم. المهر والنفقة على المولى، وهو الصحيح، فلا يطالب

به العبد، وإن أعتق أو أفلس السيد. وإذا أبرأنا السيد برئاً جميعاً، والأول المذهب أنه في كسب العبد. فإن لم يكن للعبد كسبٌ ففيه قولان: أحدهما: في ذمة العبد حتى يعتق، لأنه دين لزمه برضا من له الدين؛ كما لو استقرض شيئاً يتعلق بذمته. والثاني: على السيد؛ لأنه لما أذن له في النكاح مع أنه لا كسب له، فكأنه التزم المؤن، والمذهب الأول. وكذلك إذا عجز العبدُ عن الكسب لمرض أو غيره، فلا شيء على السيد لامرأته، والمرأة بالخيار إن شاءت فسخت النكاح لإعساره، وإن شاءت أقامت معه وحقها في ذمته. وإن كان العبد مأذونا في التجارة، فنكح بإذن المولى، فبماذا يتعلق المهر والنفقة؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحهما: يتعلق بجميع ما في يده من رأس المال والربح؛ سواء حصل قبل النكاح أو بعده؛ لأنه دين لزمه بعقد مأذون فيه كدين التجارة؛ وهذا لنه لما أذن له في النكاح فكأنه رضي بأدائه مما في يده. والثاني: يتعلق بالربح دون رأس المال؛ لأن رأس المال لم يحصل بكسبه. والثالث: يتعلق بربح حصل بعد النكاح، فإن لم يكن له ربح يفي به، فعلى السيد؛ لأنه مشغول بعمله، وماذا يجب عليه؟ فيه وجهان: أصحهما: أقل الأمرين من أجر مثل عمله، أو كمال المهر والنفقة. والثاني: كمال المهر، ونفقة تلك المدة، بناء على العبد الجاني إذا فداه المولى بماذا يفدي؟ فيه قولان: أصحهما: بالأقل من قيمته، أو أرش جنايته. ولو نكح العبد بغير إذن المولى، فالنكاح باطل، ويفرق بينهما، فإن وطئها قبل التفريق لا حد عليه للشبهة، ويعزر، ويجب مهر المثل، وبماذا يتعلق؟ فيه قولان: أصحهما: بذمته؛ لأنه وجب برضا من له الحق كدين المعاملة. والثاني: يتعلق برقبته يُباع فيه كدين الإتلاف، هذا إذا نكح حُرة برضاها، أو أمة برضا مولاها. فإن نكح أمة دون إذن مولاها فوطئها: من أصحابنا من قال- وبه قال ابن الحداد ها

هنا-: يتعلق المهر برقبته قولاً واحداً؛ لأنه لم يُوجد الرضا ممن له الحق، فكان كدين الإتلاف. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أيضاً؛ لأن المهر - وإن كان للسيد، ولم يوجد منه الرضا- فقد سقط ذلك بفعل الأمة، فإنها إذا ارتدت، أو أرضعت قبل الدخول سقط الصداق، فجاز أن تتأخر هاهنا وإن لم يرض السيد. وإن أكره العبد أمةً على الزنا يتعلق [المهر برقبته]. وإذا أذن لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً يُفرق بينهما، فإن وطئها قبل التفريق يجب المهر؛ وهل يتعلق المهر بكسبه؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ لوجود الإذن من المولى. والثاني وهو الأصح-: لا يتعلق بكسبه؛ لأنه أذن له في عقد صحيح، فلا يتناول الفاسد، فعلى هذا يتعلق بذمته أو برقبته؟ فيه قولان؛ كما لو نكح بغير إذن المولى. وقوله في باب نكاح العبد: يعطي من مالٍ إن كنا له مال فهو منقول عن القديم. وفي القديم: يملك العبد بالتمليك، وإن أذن لعبده في النكاح فنكح وطلق، ليس له أن ينكح أخرى إلا بإذن جديد؛ لأن إذنه الأول يتناول نكاحاً واحداً، فإن نكح فاسداً، فهل له أن ينكح أخرى بالإذن الأول؟ فيه وجهان؛ بناء على أن إذنه هل يتناول الفاسد؟ إن قلنا: لا يتناول، له أن ينكح. وإن قلنا: يتناول، فلا ينكح إلا بإذن جديد؛ لأن الإذن الأول قد ارتفع بالنكاح الفاسد. وإذا نكح العبد بإذن المولى، فللمولى أن يستخدمه بالنهار، ويُخلي بينه وبين زوجته بالليل، وإنما يستخدمه إذا ضمن حق المرأة من المهر والنفقة. فإن لم يضمن عليه أن يرسله بالنهار؛ ليكتسب النفقة، وبالليل للاستمتاع. وكذلك له أن يُسافر بالعبد، وإن كان فيه منعه عنها بالليل؛ لأنه مالك رقبته؛ ما لو زوج أمته لم يملك منع زوجها من الاستمتاع بها، وله أن يُسافر بها. وإن كان في ضمنه المنع.

ثم إن سافر المولى [بالعبد] فللعبد أن يُسافر بامرأته معه، وكراء مركبها في كسبه. فإن طلب العبد زوجته أن تخرج معه ولم تخرج، أو كانت أمة فمنعها سيدها - لا نفقة لها؛ كما لو نشزت. وإن لم يطلبها بالخروج معه، فلا يسقط حقها باستعمال العبد في حقه، والسيد ضامن لحقها، فعليه أقل الأمرين من أجر مثل المدة التي يشغله، أو كمال المهر، ونفقة تلك المدة؛ على أصح الوجهين. والثاني: عليه مال المهر، والنفقة لتلك المدة. فصل فيما لو ملك أحد الزوجين صاحبه إذا ملك أحد الزوجين صاحبه بأي سبب كان ينفسخ النكاح؛ لأن الزوج إن ملك زوجته، فقد ملك بُضعها بأقوى الملكين، وهو ملك اليمين، فيرتفع الأضعف. وإن ملكت المرأة زوجها، فلو أبقينا ملك النكاح مع ملك اليمين لتناقضت الأحكام؛ لأنها تطالبه بنفقة النكاح، وهو يطالبها بنفقة ملك اليمين، وهو يقول: أنا أسافر بك إلى بلد كذا، لأنك زوجتي، وهي تقول: أخرج إلى بلد كذا؛ لأنك عبدي، ومتى دعاها إلى فراشه لحق الزوجية، لها أن تبعثه في شغلها لحق الملك، فلم يمكن الجمع بينهما فأثبتنا الأقوى؛ وهو ملك اليمين؛ لأنه يملك به الرقبة والمنفعة جميعاً، فأبطلنا الأضعف، وهو ملك النكاح؛ لأنه لا يُملك به إلا نوع مخصوص من المنفعة. ثم إن اشترى الزوج زوجته بعد الدخول، فعليه المهر للبائع، وإن اشترت المرأة زوجها بعد الدخول، وقد ملكته ولها عليه المهر، فهل يسقط بالملك؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأن المولى لا يثبت له على عبده دين ابتداء وكذلك لا يدوم. والثاني - وهو الأصح-: لا يسقط، بل يكون في ذمته، لأن الدوام أقوى من الابتداء؛ كما أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا ترفع دوامه. أما إذا ملك أحدهما صاحبه قبل الدخول - نظر: عن ملكت المرأة زوجها، فلا مهر لها؛ لأن سبب الفسخ من قبلها، وإن ملكها الزوج، نص على أنه يجب لها نصف المهر، ونص فيما إذا كانت مفوضة، فملكها الزوج لا مُتعة لها، فقد قيل: فيهما قولان. والصحيح من المذهب: الفرق بينهما، وهو أنه يجب نصف المهر للبائع إذا كان في

العقد مسمى، لأن المهر وجب بالعقد، والعقد كان في ملك البائع، فوجب له نصف المهر، وفي التفويض لا تجب المتعة؛ لأنها تجب حيث تجب بالفراق، والفراق كان في ملك المشتري هاهنا، فلو أوجبنا لوجب له على نفسه، ألا ترى أنه لو باعها من غير الزوج، ثم طلقها الزوج قبل الدخول- يجب نصف المهر للبائع، وإن كانت مفوضة تجب المُتعة للمشتري. ولم نكح رجل جارية للأب، أو جارية للأخ، ثم مات المالك قبل الدخول، وملكها الزوج بالإرث - انفسخ النكاح. قال ابن الحداد: ولا صداق لها، وإن كان الأب قد أخذ واستنفق يسترد من التركة؛ لأنه لا صُنع من جهته في الفسخ. وأصحابنا قالوا: يجب عليه نصف الصداق؛ لأن الفسخ لم يكن من قبلها، كما لو وطيء أب الزوج أو ابنه زوجته قبل الدخول بالشبهة - يرتفع النكاح، ويجب على الزوج نصف الصداق، وكما لو أرضعت الزوجة الكبيرة الصغيرة ينسخ النكاح، ويجب للصغيرة نصف الصداق؛ لأنه لا صُنع من قبلها في الفسخ، وإن لم يكن من الزوج صُنعٌ. ومن نصفه حرٌّ ونصفه رقيق إذا اشترى زوجته نظر؛ إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فاشتراها بمال من كسبه بإذن سيده، ملك نصفها، وبطل النكاح. وإن فعل بغير إذن سيده لم يصح في نصيب سيده، وفي نصيبه قولاً تفريق الصفقة. فإن صححنا في نصيبه، بطل النكاح، وإلا فلا. وإن كان بينه وبين السيد مهايأة، فإن اشترى في يوم نفسه بخالص ماله، صح وبطل النكاح. وإن اشترى في يوم سيده بما خلص لسيده بإذنه، صح النكاح بحاله، وكذلك الأمة التي نصفها حر إذا اشترت زوجها. ولو نكح العبد بإذن سيده بألف، وضمن عنه السيد تلك الألف لها- جاز؛ لأنه ضمان حق واجب، ثم إن لم يكن للعبد كسبٌ، فلها مطالبة السيد به، وإن كان له كسب، فلها مطالبة أيهما شاءت. فلو باعه السيد من زوجته بألفٍ، نظر إن كانت الزوجة أمة، فاشترته بإذن مولاها، أو كانت مأذونة في التجارة فاشترته - صح الشراء والنكاح بحاله؛ لأن الملك يقع للمولى؛ سواء كان قبل الدخول أو بعده، وسواء باع بألف الصداق، أو بألفٍ أخرى، غير أنه إذا باع بألف الصداق سقط الضمان عن المولى.

قال الشيخ -رحمه الله-: ويُسقط عن العبد أيضاً؛ لان الضامن إذا أدى الدين برئت ذمة المضمون عنه عن حق المضمون له، ولا رجوع للمولى على العبد؛ ما لو ضمن عن عبده ديناً، فأدى في حال رقه قال رضي الله عنه: وإن باعه بألف مطلقاً، هل يسقط الصداق عن الزوج؛ لأنه صار ملكاً لمستحق الصداق، وهو مالك الأمة؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يسقط يبرأ البائع عن الضمان؛ لبراءة الأصل، وعلى المشتري الثمن. فإن قلنا: لا يسقط، فلسيد الأمة على البائع ألف الضمان، وللبائع عليه ألف الثمن، فيتقاصان. قال رحمه الله: فإذا تقاصا، سقط حق المشتري عن ذمة العبد؛ لأنه استوفى حقه من البائع بهذا التقاص، ويصير كما لو ضمن عن عبده ديناً، ثم أدى عنه بعد بيعه، فلا رُجوع له. فأما إذا كانت الزوجة حُرة باعه السيد منها؛ نُظر: إن باعه بغير ألف الصداق، أو بألف مطلقاً - صح البيع، وانفسخ النكاح، ثم إن كان قبل الدخول، سقط صداقها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول، ويجب عليها الثمن، ويبرأ السيد عن الضمان بسقوط الصداق عن العبد، وإن كان بعد الدخول، ولا يسقط المهر بانفساخ النكاح، وهل يسقط بملكها الزوج؟ وجهان: فإن قلنا: يسقط، يبرأ البائع عن الضمان، وعليها الثمن. وإن قلنا: لا يسقط - وهو الأصح- فيتقاصان. وإن باعه منها بألفٍ الصداق؛ نظر: إن كان قبل الدخول لا يصح البيع؛ لأنا لو صححنا البيع انفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح سقط الصداق، وإذا سقط الصداق بطل الثمن، ولا يصح البيع بلا ثمن، ففي تصحيح البيع إبطاله؛ فلم يصح. وكذلك لو دفع ديناراً إلى عبده؛ لينكح عليه امرأة، ففعل، ثم اشترت المرأة زوجها بعين ذلك الدينار قبل الدخول - لا يصح؛ لما ذكرناه. وإن كان بعد الدخول باعه منها بألف الصداق -فالمذهب أن البيع صحيح؛ لأن المهر قد استقر بالدخول، فلا يسقط بانفساخ النكاح، ولا شيء لأحدهما على الآخر، وهذا صحيح على المذهب الصحيح الذي يقول: إنه إذا كان له على عبد الغير دين، فملكه، لا يسقط. أما إذا قلنا: يسقط، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الملك يُوجب

سقوط الصداق، وفي سقوط الصداق سقوط اليمين. والثاني- وهو الأصح-: يصح، بخلاف ما قبل الدخول؛ لأن سقوط الصداق تم بانفساخ الناكح؛ بدليل أنه إذا كان مقبوضاً يجب رده، فإذا جعله ثمناً لم يجز سقوط الصداق هاهنا ليس بانفساخ النكاح، بل بحدوث الملك في الرقبة؛ إذ لا يجوز أن يكون للمالك في رقبة عبده دين، بدليل أنه إذا مقبوضاً لا يجب رده. وإذا جعل الصداق ثمناً، صار كأنها استوفت الصداق قبل انبرام البيع، فحصل الملك، ولا شيء لها عليه. وكيف يسقط؟ قال الشيخ-رحمه الله-: فإذا لم يكن السيد ضامناً، فباعه بألف الصداق، لا يصح؛ لأنه يبيع العبد بما في كسبه. وإذا نكح العبد بإذن المولى، ثم باعه المولى من أجنبي، ثم طلق العبد امرأته قبل الدخول فإن كان قبل أداء المهر، فنصف المهر لها في كسبه، وإن كان بعد الأداء يجب عليها رد نصف المهر. ولمن يكون؟ فيه أوجه. وكذلك إذا ارتدت قبل الدخول أو فسخ أحدهما النكاح بعيب وجد بصاحبه، أو عتقت واختارت الفسخ- فإلى من يعود كل الصداق؟ فيه أوجه: أصحها - وهو قول أكثر الأصحاب-: يكون للمشتري؛ سواء أدى العبد ذلك قبل البيع أو بعده، أو أداه البائع من مال نفسه؛ لأنه ملك يحدث بالطلاق، والطلاق كان في ملك المشتري: والثاني - قاله ابن الحداد -: إن أداه بعد البيع، فيكون للمشتري، وإن أدى قبل البيع، فللبائع؛ لأنه أداه من ملكه، وقد يكون للبائع بكل حالٍ؛ لأنه لزمه في ملكه، فإذا باعه، فكأنه استثنى لنفسه. ولو أعتقه المولى، ثم طلقها قبل الدخول بها؛ فحيث قلنا في البيع: يعود إلى المشتري - ففي العتق يكون الزوج. وإن قلنا في البيع: يعود إلى البائع، ففي العتق يكون للمولى. والأصح: أنه للزوج.

وكذلك لو ضمن السيد المهر عن عبده، وأدى بعد عتقه لا يرجع بما أدى على العبد؛ لأن حكم الضمان سبق العتق. ولو طلقها الزوج بعد العتق قبل الدخول، وقد أدى السيد المهر، فيجرع نصفه إلى الزوج؛ على الصحيح من المذهب، وصار كأنه ملكه، ثم أدى عنه. وقيل: إلى المولى. وقيل: إن أدى قبل عتق العبد يرجع إلى المولى، وإن أدى بعده، فإلى الزوج. ولو أذن لعبده في أن ينكح، ويجعل لنفسه صداقاً ففعل، أو قبل له المولى بنكاح امرأة بإذنه، وجعل رقبته صداقاً - نظر: إن نكح حُرة لم يصح؛ لأن العقد والفسخ يقعان معاً. وإن نكح أمة صح، صار الزوج ملكاً لمالك الأمة، ثم إذا طلقها قبل الدخول، أو ارتد، أو فسخ النكاح بعيب تكون رقبة العبد ملكاً لمالك الأمة- كما كان - على المذهب الصحيح الذي يقول في الصداق. يعود إلى المشتري. فإن قلنا في البيع: يكون نصف الصداق للبائع، فهاهنا بالطلاق عاد نصف رقبة العبد إلى الأول، وبالردة والفسخ بالعيب، يعود جميع العبد إليه. ولو قبل نكاح أمةٍ لعبده الصغير، وجوزنا؛ على أن تكون رقبة العبد صداقاً لها، ثم الأمة أرضعت الزوج- انسخ النكاح، والعبد لمالك الأمة لا يعود إلى السيد المُزوج؛ على الوجه الأصح. وعلى الثاني: يعود إلى السيد المزوج. ولو أعتق مالك الأمة العبد، ثم طلقها قبل الدخول - يجب على مالك الأمة نصف قيمة العبد. وإن ارتدت، أو فسخ النكاح بعيب، فعليه جميع قيمة العبد، ويكون للزوج الذي عتق؛ لأنه ملك نفسه بالعتق؛ على الصحيح من المذهب الذي يقول: يعود نصف الصداق إلى المشتري في البيع، وعلى الآخر يكون للسيد الأول. ولو باع مالك الأمة العبد، ثم طلقها قبل الدخول - فعلى الوجه الأصح: لا شيء عليه. وعلى الوجه الآخر: يجب على مالك الأمة نصف قيمة العبد، وفي الردة والفسخ جميع القيمة للسيد المزوج؛ لأن العبد خرج عن ملكه، فيغرم قيمته.

ولو باع مال الأمة ثم طلقها العبد قبل الدخول - فعلى الوجه الأصح: العبد باقٍ على ملك بائع الأمة، وكذلك في الردة ولا شيء عليه. وعلى الوجه الآخر: يعود نصف العبد في الطلاق، وفي الردة والفسخ كله إلى السيد المزوج. فصل في عتق الأمة بشرط النكاح رُوي عن أنس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها. إذا قال الرجل لأمته: أعتقتك على أن تنكحيني، أو على أن أنكحك، فلا تعتق؛ حتى تقبل في الحال؛ سواء قال: وعتقك صداقك، أو لم يقل. وكذلك لو قالت الأمة ابتداء: أعتقني على أن أنكحك؛ سواء قالت: عتقي صداقي، أو لم تقل فقال: أعتقتك عتقت، ولا يجب عليها أن تنكحه، لأنه سلم في عقد؛ كما لو قال: أعطيتك ألفاً على أن تنكحيني لايصح، ولكنها عتقت للشرط. وتجب عليها قيمة رقبتها للمولى؛ لأنه لم يرض بإعتاقها مجاناً، وهذا بخلاف ما لو قالت المرأة لعبدها: أعتقتك على أن تنكحني يعتق بلا قبول، ولا شيء عليه. والفرق: أن بُضع العبد غير متقوم، فهي لم تشترط عليه شيئاً بل وعدت له وعداً جميلاً؛ وهو أن تكون زوجة له؛ كما لو قال: أعتقتك على أن أعطيك ألفاً تعتق، ولا شيء لأحدهما على الآخر، وبُضع الأمة متقوم، وقد شرط عليها النكاح، وهو عقدٌ لا يثبت في

الذمة، ففسد العوض، ولزمها قيمة الرقبة؛ كما لو أعتقها على عوضٍ فاسد، ويجب عليها للمولى قيمة رقبتها. قال الأوزاعي [وابن أبي ليلى]: يجب على الأمة أن تنكحه؛ كما لو أعتقها على خياطة ثوبٍ، أو عمل معلوم، ويلزمها ذلك. قلنا: الخياطة عمل، والعمل يثبت في الذمة، والنكاح عقدٌ، فلا يثبت في الذمة، فالعتق على النكاح؛ كالمسلم فيه. ولو أسلم رجل دراهم إلى امرأة ليتزوجها، لم يَجُز ذلك، كذلك هذا. وقال أحمد: إذا أعتقها على أن تنكحه، تعتق، وتصير زوجة له؛ لحديث صفية، ولا حجة له فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقها بلا شرط، ثم تزوجها بعد، وكان مخصوصاً بأن يجعل العتق الماضي صداقاً كما كان يجوز له أن ينكح بلا مهر. فإذا أعتقها على أن تنكحه، ورغبت فيه، فلا يجب ذلك على السيد، وله طلب القيمة، فإن رغبت فيه، فلا يجب ذلك على السيد، وله طلب القيمة، فإن رغبت ونكحها، أو جعل القيمة التي له عليها صداقاً - صح النكاح. ثم إن كانا عالمين حالة النكاح بقدر قيمتها، سقط عنها القيمة، وإن كانا جاهلين [أو أحدهما]، فسدت التسمية، ولها عليه مهر المثل، وله عليها القيمة. ولو نكحها وجعل الصداق صداقاً لها، صح النكاح، ولها مهر المثل؛ لأن العتق الماضي لا يمكن أن يُجعل صداقاً؛ لأنه سبق النكاح والصداق ما يلزمه بالعقد؛ كما لو نكحهاعلى أن يُعتق عبده عن كفارتها لا يصح المسمى؛ لأنه لا يلزم الإعتاق بنفس العقد. وقال ابن خيران: الحيلة في أن يلزمها أن تنكحه وإن لم تنكح لا يعتق- أن يقول لها: إن كان في علم الله أني إذا أعتقتك أنكحك أو تنكحيني - فأنت حرة. فإذا نكحته علمنا أنها حرة باللفظ، وإن لم تنكح علمنا أنها لم تعتق لعدم الشرط. والمذهب: أن هذا لا يصح، فلا يحصل به العتق، ولا يصح النكاح؛ لأنه شاك حالة النكاح أنها حرة أو أمة؛ كما لو قال لأمته: إن دخلت الدار فأنت حرة قبله بشهر، ثم أراد أن ينكحها في الحال لا يجوز، وكما لو بُشر بمولود فقال لجليسه: إن كان أنثى فقد زوجتكها فقبل، فبان [أنها] أنثى - لم يصح.

وإذا لم يصح النكاح الذي هو شرط، لم يحصل العتق. وحكم المدبرة، وأم الولد، والمكاتبة، والمعتق بعضها حكم القنة في الإعتاق على أن تنكحه. ولو قال لرجل: اعتق عبدك، أو أمتك عنك؛ على أن أنكحك ابنتي؛ ففعل - عتق، ولا يجب على السائل تزويج ابنته منه. وهل يجب عليه قيمة العبد؟ فيه وجهان؛ كما لو قال: اعتق عبدك عنك، ولك عليَّ ألفٌ، ففعل - عتق، وهل يستحق الألف؟ فيه وجهان. الأصح: أنه لا يستحق؛ لأنه لا يقع للقائل، بل يعود إليه. والله أعلم. باب اجتماع الولاة رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لا تُنكح المرأة إلا بإذن وليها، أو ذوي الرأي من أهلها، أو السلطان. ولاية النكاح تثبت لعصبات النسب، ولعصبات الولاء، وللسلطان، فيقدم عصبات النسب، ثم عصبات الولاء، فإن لم يكن أحد منهم فالسلطان يزوج. وإذا اجتمع أولياء بعضهم أقرب من بعض، فلا يصح تزويج الأبعد مع وجود الأقرب، والأقرب لا يحتاج في التزويج إلى إذن الأبعد. وترتيب عصبات النسب في التزويج كترتيبهم في الميراث، إلا في ثلاث مسائل: إحداها: أن الابن عصبة في الميراث، وليس له ولاية تزويج الأم بحق البنوة، إلا أن يكون ابن ابن عم الأم، أو مُعتقاً لها، أو قاضياً، وليس لها ولي أقرب، فحينئذ يُزوج الابن ببنوة العم، أو بالولاء، أو بالقضاء. وإن كان ابنها ابن أخيها، أو ابن عمها، ويكون ذلك في أنساب المجوس، أو بالوطء، بالشبهة فله أن يزوجها به. وقال أبو حنيفة: للابن التزويج بحق البنوة، وهو أولى من الأب. قلنا: ولاية التزويج تثبت لعصبات النسب، لدفع العار عن النسب، ولا مشاركة بين الأم والابن في النسب، فلا يثبت له ولاية التزويج؛ كالخال. وإن كان بينهما مشاركة في النسب ببنوة العم؛ كما ذكرنا - فحينئذ تثبت.

والمسألة الثانية: هي أن الجد مع الأخ يشتركان في الميراث، وفي النكاح: الجد وإن عملاً أولى بالتزويج من الأخ؛ لأن طريقه طريق الولاية المحضة، والأخ لا ولاية له في مال الأخت بحال، والجد له ولاية التزويج، والمال جميعاً؛ فيرجح جانبه. والثالثة: هي أن الأخ [للأب والأم] أولى في الميراث من الأخ للأب، وفي النكاح قولان: أصحهما وهو قوله الجديد، ومذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - الأخ [للأب والأم] أولى؛ كما في الميراث. وقال في القديم: هما سواء؛ لأن أخوة الأم لا أثر لها في ولاية التزويج، فلا يقع بها الترجيح، وأخوة الأم يثبت بها الميراث، فجاز أن يقع بها الترجيح، وهذا لا يصح، لأن العم للأبوين يُقدم في الميراث على العم للأب، وإن كان لا يورث بعمومة الأم، وكذلك في ميراث الولاء الأخ [للأب والأم] أولى من الأخ للأب، وإن كان الأخ للأم لا يرث بالولاء. وكذلك القولان في ابني أخ، أو في عمين، أحدهما: لأب وأم، والآخر، لأبن وفي أثبتهما أصحهما: أن الذي هو [لأب وأم] أولى؛ وكذلك لو كان لها ابنا عم، أحدهما: أخوها ولأمها أو ابنا عم: أحدهما: ابنها، أو ابنا معتق: أحدهما: ابنها ففي الجديد يقدم الابن والأخ وفي القديم، هما سواء. ولو كان لها ابنا عم أحدهما: [لأب وأم] والآخر: لأب ولكنه أخوها- ففي الجديد: الذي هو أخ لأم أولى؛ لأنه يدلي بالأم، وصاحبه بالجد؛ وكذلك ابنا عم: احدهما: ابنها والآخر: أخوها لأمها- فالي هو ابن أولى، لأن الابن أقرب من الأخ. وفي القديم: هما سواء، ولا ولاية لأب الأم، ولا لأب أم الأب، ولا لوصي الأب، لأنه لا مشاركة بينهم وبينها في النسب، فإن لم يكن أحد، من عصبات النسب وعليها ولاء، فولاية التزويج للمعتق إن كان رجلاً ثم لعصبات المعتق، ثم لمعتق المعتق، ثم لعصباته كترتيبهم في الميراث سواء؛ وترتيب عصبات الولاء في التزويج تكرتيب عصبات النسب، إلا في ثلاث مسائل: إحداها: ابن المعتق تثبت له الولاية، ولا تثبت لابن النسب.

الثانية: أن في النسب الجد أولى من الأخ، وفي الولاء، قولان؛ كالميراث: أحدهما: سواء. والثاني: الأخ أولى. الثالثة: أن في النسب الأخ [للأب والأم] مع الأخ للأب فيه قولان، وفي الولاء الذي هو [للأب والأم] أولى قولاً واحداً. وقيل: فيه أيضاً قولان؛ كالسب. فأما إذا كان المعتق امرأة، فلا ولاية لها على المعتقة. وقال صاحب "التلخيص": لا ولاية أيضاً لأولياء المعتقة، بل يزوجها السلطان. والمذهب: أن الولاية على المعتقة لمن تزوج المعتقة ما دامت المعتقة حية، لأن الولاء بمنزل الملك؛ ألا ترى أنه لا يُسترق معتق المسلم؛ كما لا يغنم عبده. ثم قيل: الاعتاق يزوجها ولي السيد، كذلك بعد الاعتاق. ويشترط رضا المعتقة، ولا يشترط رضا المعتقة. وقيل: يشترط إذنها؛ وليس بصحيح؛ ولا ولاية لابن المعتقة ما دامت هي حية؛ لأنه لا يزوج المعتقة إنما الولاية لأبيها وجدها وسائر أوليائها، فإذا ما تشاء المعتقة تثبت الولاية لابن المعتقة، ويتقدم على ابنها وسائر عصباتها، ثم يُراعى فيه ترتيب عصبات الولاء؛ لأن التزويج في حياة المعتقة بالنيابة عنها؛ لولائها عليها، كما تزوجها في حال رقها، لملكها عليها، فإذا ماتت صار الولاء إلى العصبة، فيزوجها من هو أحق بالولاء. أما من نصفها حُر ونصفها رقيق، فيزوجها مالك نصفها مع ولي لها من جهة النسب، إن كان برضاها، فإن لم يكن لها ولي نسب، فيزوجها مال نصفها مع معتق النصف أو عصباته، وإن كان المعتق امرأة، فمالك النصف مع ولي معتقة النصف. فصل في اجتماع الأولياء إذا اجتمع لامرأة أولياء في درجة واحدة، كالإخوة أو الأعمام أو بنيهم - فالمستحب. أن يزوجها أفقههم وأورعهم وأسنهم برضا الباقين، لأن الأسن أكثر تجربة، والأورع أحرص على طلب الحق، والأفقه أعلم بشرائط النكاح. فإن زجها أدناهم برضاها من كفءٍ، صح، ولا اعتراض للباقين؛ بخلاف ما لو ثبت القصاص لجماعة، لا ينفرد واحد بالاستيفاء، لأن مبنى القصاص على الدرء والسقوط،

بدليل أن واحداً لو عفا سقط، ولا استيفاء للباقين، ومبنى النكاح على اللزوم، بدليل أن واحداً لو عضل، فللباقين التزويج فلو اشتجر الأولياء، نظر: - إن قال كل واحد: أنا لا أزوج، وكل واحد كفءٌ خاطب فالاختيار إلى المرأة، فإن اختارت أحدهما زوجها منه من رضي به من الأولياء، فإن رضيت بهما جميعاً، فإن السلطان ينظر في الأصلح منهما؛ فيزوجها. أما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوج، والخاطب واحد، فليس هذا بعضلٍ، ويُقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة زوجها، ولا يحتاج على رضا الباقين، بخلاف ما لو ثبت القصاص لجماعة، فأقرع بينهم لا يستوفيه من خرجت له القرعة إلا برضا الباقين، للفرق الذي ذكرناه فلو بادر غير من خرجت له القرعة، فزوجها برضاها، فالمذهب الصحيح: أن العقد يصح؛ لأن القرعة، لقطع المشاجرة، لا لسلب الولاية. وقيل: لا يصح؛ لأن في تصحيحه إبطال حكم القرعة، هذا إذا أذنت لكل واحد منهما فزوجها، فإن أذنت لواحد منهما فزوجها الآخر، لايصح. ولو زوجها واحد منهم برضاها من غير كفءٍ، نظر: إن زوجها برضا الباقين، يصح وإن زوجها دون رضا الباقين ففيه قولان: أصحهما: لا ينعقد؛ لأن الكفاءة حق للكل، وقد بخس حق الباقين. والثاني: ينعقد، ويثبت للآخرين حق الاعتراض والرد؛ لأن العقد صدر ممن له الولاية، وللآخرين حق في الكفاءة؛ فثبت لهم الرد، وعند أبي حنيفة، يلزم العقد، ولا اعتراض للباقين. قلنا: الأولياء لهم حق في كفاءة الزوج؛ فلا يجوز [تفويت حقهم]، عليهم، فنقول: كل ولي لو طُولب بالتزويج من غير كفء له الامتناع، وإذا زوجت دون رضاه من غير كفءٍ، له الاعتراض؛ كالأبعد يزوج مع وجود الأقرب، كان للأقرب حق الاعتراض عليه. ولو زوجها واحد برضاها ورضا الباقين من غير كفءٍ، فاختلعت نفسها، ثم زوجها واحد منهم من ذلك الرجل برضاها دون رضا الباقين، ففيه وجهان: أحدهما: [يصح، ولزم العقد]، لأنهم قد رضوا به أو لمرة. والثاني: هذا عقد جديد يعتبر فيه رضا جديد. وعلى الوجهين: إن أبوا فلهم ذلك؛ فلو زوجها واحد منهم برضاها من كفءٍ بأقل من

مهر المثل- لا اعتراض للباقين؛ لأن المهر حقها. وأما إذا كان الأولياء من جهة الولاء؛ نظر: إن كان المعتق واحداً، وقد مات عن بنين أو إخوة، فهم كأولياء النسب لو زوجها واحد منهم برضاها من كفءٍ دون رضا الباقين صح ولزم. ولو مات أحد ابني المعتق، زوجها الابن الآخر دون سائر العصبات. وإن كان قد أعتقها جماعة، فيشترط رضا جميعهم في صحة النكاح، لأن الولاية تثبت لهم بولاء صدر عن الملك، والملك كان لجميعهم، ولم يكن ينفرد واحد منهم بتزويجها قبل العتق، وكذلك بعد العتق، فلو مات أحد المعتقين عن اثنين، أو عن أخوين؛ فزوجها أحد ابنيه، أو أحد أخويه مع المعتق الآخر، جاز. ولو مات المعتقان جميعاً، ولكل واحد ابنان، فزوجها أحدُ ابني هذا مع أحد ابني ذاك جاز. وإن لم يكن لأحدهما عصبة، زوجها السلطان مع أحد ابني الآخر. فصل فيما يُوجب نقل الولاية لا ولاية لأبعد العصبات مع وجود الأقرب، فإن كان الأقرب صغيراً أو رقيقاً، أو مجنونا ًجنوناً مطبقاً، أو شيخاً مفنداً أو محجوراً عليه بالسفه أو اختلط عقله، بحيث لا يعرف مواضع الحظ، أو به ألم شديد شغله عن النظر، أو كان - فاسقاً وقلنا: لا ولاية للفاسق - أو كان أعمى - وقلنا: لا يكون ولياً- يزوجها الولي الأبعد. فإن حسُنت حالة الأقرب كان التزويج إليه. فلو زوج الأبعد [بعد] ما أفاق المجنون، وتاب الفاسق، ولم يعلم بحسن حال الأقرب، ففي صحة النكاح وجهان؛ بناء على الوكيل بالبيع إذا باع بعد ما عُزل ولم يعلم هل يصح البيع؟ قولان: الأصح: أنه لا يصح. وإن كان الأقرب يُجن يوماً ويفيق يوماً - لا يزوج حتى يفيق الولي؛ فيزوج، أو يُوكل بالتزويج. ويشترط بقاؤه مفيقاً؛ حتى يفرغ الوكيل من العقد، وكذلك البنت البالغة إذا كانت تُجن يوماً، تفيق - لايجوز تزويجها، حتى تُفيق وتأذن، وتبقى على الإفاقة، حتى يفرغ الولي من العقد.

وقيل: هو كالجنون المُطبق لو زوجها الأبعد في يوم جنونها، جاز. وإن كان مُغمى عليه، ينتظر إفاقته، لأنه لا يدوم؛ كالنائم ينتظر انتباهه، والسكران، أو من شرب دواء أزال عقله، ينتظر إفاقته. وإن كان الأقرب مُحرماً فهو كما لو كان غائباً؛ يزوجها السلطان. وقيل: تزول به الولاية؛ فيزوجها الأبعد؛ كما لو جُنَّ. وإن كان الأقرب غائباً على مسافة القصر، زوجها السلطان؛ لأن الغائب على ولايته، بدليل أنه لو زوجها في الغيبة يجوز، والتزويج حق توجه عليه وقد تعذر الاستيفاء منه، فالسلطان ينوب فيه منابه. وإن كان على أقل من مسافة القصر، لا يجوز لغيره تزويجها، بل يُكاتب حتى يحضر، فيزوج، أو يوكل بالتزويج وقيل: إن كان على مسافة لو خرج بُكرة لا يمكنه أن يأتي أهله ليلاً، زوجها السلطان والأول أصحُّ. وقال أبو حنيفة: إن غاب غيبة منقطعة، زوجها الأبعد. قلنا: الغيبة لا تخرجه عن الولاية، فلا تنقل الولاية، كالعضل، والأولى أن يأمر السلطان الأبعد، حتى يزوج؛ للخروج عن الخلاف. ولو عضل الولي الأقرب، زوجها السلطان لا الأبعد بالاتفاق، ولا يتحقق العضل حتى يمتنع بين يدي القاضي؛ وهو أن يحضر الخاطب ويطلب المرأة، فيأمره القاضي بالتزويج، فيقول: لا أفعل، أو يسكت - حينئذ يزوجها القاضي بإذنها. ولو دعته إلى تزويجها من غير كفءٍ، له أن يمتنع، ولا يكون عاضلاً. ولو قال الولي: إن الخاطب ليس بكفءٍ؛ فعلى المرأة إثبات الكفاءة. ولو دعته إلى تزويجها من كفءٍ بأقل من مهر المثل - يجب التزويج، فإن امتنع كان عاضلاً؛ لأن المهر حقها، لا حق للأولياء فيه؛ بخلاف الكفاءة. وعند أبي حنيفة نقص المهر كنقص الكفاءة، لا يجب على الولي أن يزوج بمهر ناقص؛ وبالاتفاق: لو رضيت ببخس خسيس من المهر تجب الإجابة. وكل امرأة جعلنا تزويجها إلى السلطان يستحب أن يحضر أولياؤها الأباعد، ويستشيرهم في أمرها، ويقول: هل تنقمون شيئاً؟ لأنهم أحرص على التفحص عن الكفاءة، احفظ نسبهم، فإن لم يفعل وزوج صح. ولا يُتصور انتقال الولاية إلى السلطان في حق الصغيرة؛ لأن طلبها فيه شرط، وحيث

قلنا: ينتقل إلى الأبعد، فإنما تنتقل إذا كانت المرأة ممن يجوز للأبعد تزويجها؛ حتى لو كان الأبعد أخاً، وهي صغيرة لا يجوز له تزويجها، وإن كان جداً يجوز. فصل في التوكيل في النكاح رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة وكان وكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري ويجوز التوكيل بالتزويج، وبقبول النكاح، ثم إنها يصح التوكيل ممن يملكه بنفسه؛ وإنما يصح توكيل من يكون من أهل مباشرة مثل ذلك العقد بنفسه، فلو وكل بالتزويج عبداً، أو صبياً، أو سفيهاً، أو امرأة - لا يجوز. ولو وكل فاسقاً لا يجوز، على قولنا: إن الفاسق لا يكون ولياً. ولو وكل فاسقاً، أو عبداً، أو سفيهاً بقبول النكاح يجوز - وهل يحتاج إلى إذن السيد في توكيل العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج إلى إذنه، كما لو وكل عبداً بالبيع، لا يجوز إلا بإذن السيد. والثاني: لا يحتاج إلى إذنه، كما لو وكله بتطليق زوجته، لا يحتاج إلى إذن المولى، بخلاف البيع والشراء، لأن العهدة في البيع والشراء تتعلق بالوكيل، وفي النكاح لا يتعلق بالوكيل عهدة. قال الشيخ: وكذل لو وكل سفيهاً هل يحتاج إلى إذن الولي؟ وجهان: ولو وكل السفيه أو العبد رجلاً بقبول النكاح له، يجوز بعد إذن الولي والمولى لهما بالنكاح، وقبل إذن الولي والمولى لهما في النكاح، لايجوز. ولو وكل أخا المرأة، ليقبل له نكاح أخته من الأب، يجوز. وإذا وكل الولي رجلاً بالتزويج، هل يحتاج إلى إذن المرأة، نظر: إن كان الولي ممن يجبر، فلا يحتاج إلى إذنها، وله التوكيل، وإن أبت المرأة، وإن كان ممن لا يجبر كغير الأب، والجد والأب والجد في حق الثيب - فيه وجهان: أحدهما: يحتاج إلى إذنها، كالتوكيل لا يُوكل بغير إذن الموكل، حتى لو أطلقت الإذن له أن يزوج بنفسه، ولا يجوز أن يوكل. والثاني- هو الأصح: لايحتاج إلى إذنها، لأن مُتصرف بالولاية، كالقيم والوصي، يوكلان من غير إذن. ولا خلاف: أنها لو نهت عن التوكيل، لا يجوز أن يوكل. ولو قالت: وكل بتزويجي فله أن يوكل، وهل يجوز له أن يزوج بنفسه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، بل يوكل؛ كما لو قالت. والثاني: يجوز، لأنها رضيت بالتزويج، فإذا جاز له التوكيل جاز أن يفعل بنفسه، فلو وكل قبل الاستئذان منها في التزويج، لا يجوز، لأنه لا يملك المباشرة بنفسه، فلا يملك التوكيل وقيل: يجوز؛ فيستأذن بعده الولي أو الوكيل للمولى عليها فيزوج؛ والأول المذهب. ولو استأذن الوكيل لنفسه منها، لا يجوز. وإذا وكل بالتزويج، لا يشترط ذكرُ المهر. وله يشترط تعيين الزوج؟ فيه وجهان وكذلك الثيب إذا أذنت للولي في التزويج هل يشترط تعيين الزوج فيه وجهان: أحدهما: لا يشترط، كما لا يشترط تعيين المشتري. والثاني: يشترط؛ لأن الأغراض تختلف باختلاف الأزواج، ولا تختلف باختلاف المشتري، لأن المقصود منه حصول الثمن، ولا خلاف أن الولي إذا عين رجلاً؛ فزوجها الوكيل من غيره- لا يصح، وإن كان أكفأ ممن سماه، ولو وكل مطلقاً، وجوزنا، فزوجها من غير كفءٍ لا يصح؛ لأنه تصرف لا على وجه النظر. وإن خطبها كفئان وأحدهما أكفأ فزوجها من الآخر - لا يصح. ولو قال الولي: زوجها من زيد، فزوجها من وكيل زيد، فقبل له- جاز، لأن النكاح يحصل لزيد. وبمثله في البيع لو قال: بع من زيد؛ فباع من وكيله- لا يصح. وقال الشيخ -رحمه الله-: ما لو حلف ألا ينكح؛ فقيل له وكيله - يحنث؛ ولو حلف؛ لا يشتري؛ فاشترى له وكيله، لايحنث؛ لأن النكاح لا تعلق له بالوكيل؛ بخلاف البيع. ولو قال للوكيل: زوجها بألف؛ فزوجها بأقل -لا يصح؛ لأنه خالف المُوكل؛ كما لو قال: زوجها غداً؛ فزوجها اليوم، أو قال: زوجها في المسجد؛ فزوجها في موضع آخر- لا يصح. ولو وكله بالتزويج مطلقاً، فزوجها بلا مهر، أو زوجها مُطلقاً- ولم يُسم المهر، أو بمهر بخس - هل يصح أم لا؟ فيه قولان؛ كالأب يزوج البكر بلا مهر دون إذنها، هل يصح؟ فيه قولان: أصحهما: يصح، ويجب مهر المثل.

والثاني: لايصح؛ لأنه بخس حقها. وقيل هاهنا: لا يصح؛ بخلاف الأب؛ لأنه يُزوج بحكم الولاية، والوكيل يحكم بالنيابة؛ فإن قلنا: يصح؛ فيكمل مهر المثل، فإن رضيت المرأة مع الوكيل بالقدر الذي يسمى؛ وهي من أهل الرضا - صح بما سمى. ولو قال الولي للوكيل: زوجها ممن شاءت، [بكم شاءت]؛ فزوجها برضاها من غير كفءٍ بدون مهر المثل -صح. ولو وكل وكيلاً بقبول نكاح امرأة له؛ فقبل نكاح امرأة - قال الشيخ - رحمه الله-: إن كانت غير كفئة لا يصح، وإن [كان] قبل نكاح كفئةٍ بمهر المثل، أو بأقل - صح، وعلى الزوج المسمى، وإن قبل بأكثر من مهر المثل، أو بغير نقد البلد، أو بعين من أعيان مال الموكل، أو مال نفسه - فيه وجهان: أحدهما: لا يصح النكاح؛ كالوكيل بالبيع إذا باع بغير نقد البلد، أو بأقل من ثمن المثل. والثاني: يصح؛ وبه قال أبو حنيفة، ويجب على الموكل مهر المثل من نقد البلد. ولو سمي قدراً فقبل بأكثر، لا يصح. ولو قال: أقبل لي نكاح فلانة على عبدك هذا؛ فقبل عليه - صح النكاح؛ وهل تملك المرأة العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يجب على الزوج مهر المثل؛ لأن الصداق يكون على الزوج. والثاني: تملك؛ ويكون ذلك قرضاً على الزوج أم هبة له؟ فيه وجهان. ولا يكون قرضاً، ولا هبة للمرأة. ولو كانت ابنته في نكاح [زوج] أو في عدة زوج؛ فوكل وكيلاً، وقال: زوج ابنتي إذا طلقها زوجها، أو: إذا انقضت عدتها - جاز التوكيل، كما لو قال: زوجها بعد سنة يجوز، ثم تزوجها بعد الطلاق، وانقضاء العدة. ولو قال: إذا طلقها زوجها، فقد وكلتك بتزويجها، أو: إذا مضت سنة، فقد وكلتك - ففيه قولان: أحدهما: يصح، كالأول.

والثاني: لا؛ لأن الوكالة عقد؛ فلا يصح تعليقه؛ كالبيع والنكاح. فصل في تزويج المخالف في الدين رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -وكل عمرو بن أمية الضمري؛ حتى قبل له نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان من ابن عمها: خالد بن سعيد بن العاص؛ وهو مسلم، وأبوها أبو سفيان حي. لا يجوز للكافر تزويج ابنته المسلمة؛ لقطع الله تعالى- الولاية بينهما، بل إن كان لها ولي أبعد مسلم بنسب، أو ولاء - يزوجها؛ كما زوج خالد بن سعيد بن العاص أم حبيبة - وأبو سفيان حي وهو كافر. فإن لم يكن لها ولي مسلم، زوجها السلطان؛ وكذلك لا يجوز للمسلم تزويج ابنته الكافرة، بل يزوجها إن كانت كتابية لولي الأبعد الكافر؛ سواء زوجها من مسلم، أو من كافر. فإن كان الكافر يرتكب في دينه محظور اعتقاده - فهو في التزويج؛ كالفاسق يزوجها بشهود مسلمين؛ سواء زوجها من مسلم، أو من كافر. وقال أبو حنيفة: يجوز بشهادة ذميين؛ سواء زوجها من مسلم، أو من ذمي. وقال محمد: إذا زوجها من مسلم، لا يجوز بشهادة أهل الذمة. وقال [الحليمي]: إن زُوجت الكتابية من مسلم، لا يجوز بولي كافرٍ، بل يزوجها حاكم المسلمين، وإنما يزوج القاضي الكافرة إذا كانت كتابية، ولا يجوز تزويج المجوسية والوثنية بحالٍ. ولو كانت لمسلم أمة كتابية، أو لوليته المسلمة أمة كتابية - يجوز له تزويجها؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه يتصرف بالملك؛ كما يملك بيعها وإجارتها. وقيل: لا يجوز؛ كما لا يجوز تزويج ابنته الكافرة [ومولاته الكافرة]. فإن جوزنا، فإنما يزوجها من أهل الكتاب؛ لأن الحُر المسلم لا يجوز له نكاح الأمة الكتابية. وإن كانت الأمة مجوسية، أو وثنية، لا يجوز تزويجها لو كانت مرتدة. وأما الكافر: لا يجوز له تزويج أمته المسلمة، أو أم ولده المسلمة، على ظاهر

المذهب؛ بخلاف المسلم يزوج أمته الكافرة؛ لأن المسلم له ولاية على الكافرة بالسلطنة؛ فكذلك بالملك، والكافر لا ولاية له على المسلمة بالسلطنة؛ فكذلك بالملك؛ ولأن المسلم يستمتع بالكافرة، والكافر لا يستمتع بالمسلمة. ولو كانت لامرأة كافرة أمة مسلمة، أو كتابية، لا يجوز لوليها المسلم تزويج أمتها، لأنه لا يُزوج المالكة. قال الشيخ- رحمه الله - يجوز لوليها الكافر تزويج أمتها الكتابية بإذنها، ولا يجوز تزويج أمتها المسلمة. ولو وكل مسلم كافراً بتزويج ابنته المسلمة - لا يجوز، وكذلك لو وكله؛ ليقبل له نكاح مسلمة لا يجوز، ولو وكله؛ ليقبل له نكاح الكتابية يجوز. فصل في تزويج الوليين رُوي عن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نكح الوليان، فالنكاح للأول منهما".

إذا كان للمرأة أولياء في درجة واحدة؛ فأذنت لواحد في تزويجها؛ فزوجها غيره - لا يصح، ولو قالت: أذنت في فلان، فأي [ولاتي] شاء زوجني منه - فهو إذن منها، فأيهم انفرد بتزويجها منه صح. وإن اختلفوا يُقرع بينهم. ولو قالت: رضيتُ بأن أزوج، فالمذهب: أنه كذلك. وقيل: ليس بإذن، لأنها لم تأذن للولي. فإن قلنا: هو إذن، فإن أذنت بعده لواحد بعينه، لا ينعزل الآخرون؛ كما لو أذنت لواحد، ثم أذنت لآخر، صح ولا يكون رجوعاً عن الأول. ولو قالت: زوجوني، فهو إذن، فهل ينفرد فيه واحد؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأنه يشق اجتماعهم. والثاني: لا؛ ما لو وكل بالبيع برجلين، لا ينفرد به أحدهما. ولو قالت لأحد الوليين؛ زوجني من زيد، وقالت للآخر: زوجني من عمرو، فزوجها [كل واحد] ممن سمت له، أو قالت لكل واحد: زوجني ممن شئت؛ فزوج كل واحد من رجل آخر، أو وكل الأب رجلاً بتزويج ابنته، فزوجها الوكيل من رجُل، وزوجها الأب - من آخر ففيه خمس مسائل: أحدها: إذا سبق أحد الناكحين، وعُرفَ السابق، فالأول صحيح، والثاني باطل، سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل: فإن دخل يجب لها عليه مهر المثل، وعليها العدة. وقال مالك - رحمه الله- إن دخل بها الثاني، فهو للثاني؛ والحديث حجة عليه. وإنما يعرف [السابق بإقرار] أو بشهادة الشهود -[ولو شهد] وليان، أو الوكيل مع الولي لا يقبل لأنه يشهد على فعل نفسه. قال الشيخ - رحمه الله -: فإن شهد الوكيل؛ بأن نكاح هذا كان سابقاً، ولم يُضف إلى نفسه- جاز هذا، إذا شهد وكيل زيد لزيد؛ فإن شهد وكيل زيد بسبق نكاح عمرو، يقبل. المسألة الثانية: إذا وقع النكاحان معاً، فهما باطلان. [المسألة] الثالثة: أن يحتمل وقوعهما معاً, ويحتمل سبق أحدهما؛ بأن يقيم كل واحد بينة على أنه نكحها عند طلوع الشمس، فهما باطلان؛ والاحتياط هاهنا أن يقول الحاكم:

فسخت نكاح من سبق، أو يأمرهما الحاكم بالتطليق، أو يطلق أحدهما، ثم يُزوجها من الآخر. فإذا فسخ القاضي، أو لم يفسخ، فلا نكاح بينهما في الظاهر، وفي الباطن وجهان: أحدهما: لا يرتفع نكاح من سبق في الباطن؛ حتى لو ظهر بعد ذلك، تكون زوجة له، وإن زوجت من ثالث كان فاسداً؛ كجمعتين وقعتا في بلد، واحتمل وقوعهما معاً؛ فأعادوا الجمعة، ثم بان سبق إحداهما- فعلى الطائفة الأخرى إعادة الظهر. والثاني: يرتفع النكاح في الباطن؛ لأنه يقبل الفسخ، بخلاف الجمعة، حتى لو ظهر بعد ذلك سبق نكاح أحدهما، لا تكون زوجة له؛ وإن زوجت من ثالث، تكون زوجة للثالث. المسألة الرابعة: إذا سبق أحد النكاحين، وعرف السابق منهما، ثم اشتبه - نوقف إلى أن يتبين؛ فلا يجوز لواحد منهما أن يقربها، ولا لثالث أن ينكحها ما لم يطلقاها. [المسألة] الخامسة: إذا سبق أحدهما، ولم يُعرف السابق منهما - نص على أنهما باطلان؛ كما لو احتمل وقوعهما معاً؛ كالمتوارثين إذا غرقا فماتا، فلا فرق بين أن يحتمل موتهما معاً، وبين أن يسبق أحدهما ولا يعرف السابق في أنهما لا يتوارثان. وخرج بعض أصحابنا قولاً من الجمعتين إذا أقيمتا في بلدٍ، وسبقتإحداهما، ولم تُعرف السابقة منهما، وفيهما قولان: أحدهما: أنهم جميعاً يُعيدون الجمعة؛ كما لو احتمل وقوعهما معاً، واحتمل السبق. وفيه قول آخر: أنهم جميعاً يُعيدون الظهر؛ كما لو عرفت السابقة، ثم اشتبه. ومن أصحابنا من أنكر هذا التخريج، وحكم ببطلان النكاحين، بخلاف الجمعتين؛ لأن الجمعة لا يلحقها البطلان بعد الصحة، والنكاح يلحقه الفسخ؛ فحيث حكمنا ببطلان النكاحين، يفرق بينهما، ولا مهر [على واحد] منهما. فإن دخل بها أحدهما عليه، لها مهر المثل. فلو ادعى كل واحد منهما أن نكاحي قد سبق؛ فأيهما أقام البينة، قضى له؛ وإن أقاما بينتين، أو لم يكن لواحد بينة- فلا تسمع دعوى أحد الزوجين على الآخر، بل الدعوى تكون على المرأة؛ لأن الحرة لا تحتوي عليها [اليد، فإن كانا مُقرين أنها لا تعلم؛ بأن كانت غائبة، فلا دعوى عليها وتوقف.

وإن ادعيا عليها]، وأنكرت، حلفت أنها لا تعلم، ولا تسمع الدعوى مجهولة، وهو أن يقول: هي تعلم سبق أحد النكاحين، بل يدعي كل واحد منهما؛ أنها تعلم أن نكاحي سابق وتحلف هي يمينين؛ على دعوى كل واحد يميناً، فإذا حلفت لأحدهما؛ أنها لا تعلم سبق نكاحه، لا يكون إقراراً بسبق نكاح الآخر، بخلاف ما لو قالت لأحدهما: لم يسبق نكاحك، كان إقراراً للآخر، وإنما حلفناها على العلم؛ لأن المُدعي يدعي علمها، ولأنه يمين توجهت عليهما في أمر فعله غيرها. وقال الشيخ القفال - رحمه الله-: إذا حضر الزوجان معاً، وادعيا علمها، حلفت لهما يميناً واحدة؛ أنها لا تعلم سبق أحد النكاحين؛ ولو أنها نكلت عن يمين العلم، فلا يحلفان على علمها، ويوقف. ولو أنها أقرت لأحدهما، كانت منكوحة له؛ وهل تُسمع دعوى الثاني عليها، أم لا؟ فيه قولان؛ بناء على أنها لو أقرت للثاني بعد ما أقرت للأول، لا تكون منكوحة للثاني، وهل تغرم له المهر؟ فيه قولان؛ بناء على ما لو كانت في يده عين فقال: هذه لفلان لا بل لفلان - يسلم إلى الأول، وهل يُغرم قيمتها للثاني؟ فيه قولان: أصحهما: لا يغرم؛ لأن إقراره للثاني صادف ملك العين؛ فلم يصح. والثاني: يغرم؛ لأنه أتلف بإقراره الأول حق الثاني. فإن قلنا: يغرم، فتسمع دعوى الثاني عليها؛ رجاء أن يقر؛ فيغرم المهر للثاني. وإن قلنا: لا يُغرم، فهل له تحليفها؟ فيه قولان؛ بناء على أن يمين المُدَّعِي بعد نكول المدعي عليه بمنزلة إقرار المدعي عليه، أم بمنزلة إقامة البينة من المدعي؟ فيه قولان. فإن قلنا: بمنزلة الإقرار - وهو الأصح- لا تُسمع دعواه عليها؛ لأن غاية ما فيه أن يقر، أو ينكل عن اليمين؛ فيحلف المدعي؛ فيكون كالإقرار، ولا يجب به شيءٌ. وإن قلنا: كالبينة، له تحليفها؛ فإن حلفت تسقط دعوى الثاني، وإن نكلت ردت اليمين إلى الثاني، وإن نكل استقر النكاح للأول، وإن حلفت فقد قيل يحكم بالنكاح للثاني؛ كما لو أقام بينة؛ لأن البينة تقدم على الإقرار. والصحيح من المذهب: أنها منكوحة للأول، وتُغرم للثاني المهر؛ لأن النكول ورد اليمين بمنزلة البينة في حق المتداعيين، لا في إبطال حق الأول؛ لأنه أضعف من البينة؛ فحيث قلنا: تغرم المهر، فكم تغرم؟ فيه قولان:

أحدهما: كمال المهر؛ لأنه قيمة البُضع. والثاني: نصفه؛ بناء على شهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول، كم يُغرمون؟ فيه قولان: أحدهما: كمال مهر المثل. والثاني: نصفه. فصل في الولي يتزوج وليته رُوي عن ابن عباس، أنه قال: لا نكاح إلا بأربع، خاطب، وولي، وشاهدين. ويروي عن أبي هريرة مرفوعاً. وإذا أراد الوليُّ أن يتزوج وليته، كابن [عم يريد أن يتزوج ابنة] عمه، والمعتق يتزوج مولاته لأنه إن لم يكن لها ولي أقرب منه لا يجوز له أن يزوجها من نفسه، فيتولى طرفي العقد، أذنت أو لم تأذن، ولا أن يوكل وكيلاً بتزويجها منه؛ لأن فعل وكيله كفعله، ولا لمن أبعد منه أن يُزوجها منه؛ لأنه لا ولاية للأبعد مع وجود الأقرب، بل إن كان لها ولي آخر في درجته زوجها منه، وإن لم يكن زوجها القاضي منه. ولو كان له ابنا عم؛ أحدهما [لأب وأم] والآخر: لأب، فإن أراد منهو لأب أن يتزوجها، زوجها من هو [لأب وأم] منه، وإن أراد الآخر الذي هو [لأب وأم] أن يتزوجها، فإن قلنا بقوله القديم: إنهما في الولاية سواء، زوجها الذي هو لأب منه. وإن قلنا: الذي هو [لأب وأم] أولى بالولاية؛ فلا يزوجها الآخر منه، بل يُزوجها القاضي. ثم هل يجوز للقاضي أن يزوجها منه بالإذن الذي حصل منها للخاطب في التزويج. رأيت لبعض أصحابنا: أنها إن قالت للخاطب: زوجني من نفسك، فالقاضي يُزوج به، لأنها رضيت به. وإن قالت: له زوجني ممن شئت، أو قالت: زوجني مطلقاً- فلابد من إذن جديد للقاضي، لأنها إذا قالت: زوجني من نفسك فقد رضيت بأن يزوجها الغير منه، لأنه لا يعقد لنفسه.

وإذا لم تقل: من نفسك فقد أمرته بالوضع في غيره؛ فلا يكون إذناً بالوضع فيه. قال الشيخ: والذي عندي أن قولها: زوجني من نفسك ليس بإذن؛ لأنها خاطبته بالتزويج؛ فلا يصح تزويج غيره بدليل أنها لو أطلقت فقالت: زوجني، لا يجوز تزويج غيره وتزويجها من نفسه لا يصح؛ فلغا الإذن. وقال أبو حنيفة: يجوز للولي تزويجها من نفسه، وكذلك الوكيل من الجانبين عنده يتولى طرفي العقد، والحديث حجة عليه، ولأن من كان زوجاً في النكاح لا يقوم بركن آخر فيه، كما لا يكون شاهداً. ولو أراد القاضي أن يتزوج امرأة لا ولي لها، لا يجوز أن يزوجها من نفسه، بل يستخلف من يزوجها منه، إن كان مأذوناً في الاستخلاف أو يرفع إلى الإمام أو يخرج إلى قاضي بلد آخر حتى يزوجها منه والإمام الأعظم إذا أراد أن يتزوج امرأة لا ولي لها فقد قيل: يجوز أن يزوجها من نفسه، ويتولى الطرفين لأنه ليس فوقه من يزوجها منه، والأصح: أنه لا يجوز، بل يأمر من يزوجها منه على طريق التولية، حتى لو قال لرجل: وكلتك، أو قال: زوجها مني لا يجوز، لأنه توكيل، بل يفوض إليه، بحيث لا ينعزل بموته. ولو زوج العم وليته من ابنه البالغ يجوز سواء، سواء قالت: زوجني ممن شئت أو أطلقت الإذن على قولنا: إن تعيين الزوج ليس بشرط. ولو أراد تزوجيها من ابنه الطفل، لا يجوز؛ لأنه لا يقبل للطفل غيره، فيحتاج إلى أن يتولى طرفي العقد، كما لو وكل وكيلاً بتزويج ابنته من ابنه البالغ، فيجوز، ومن ابنه الطفل لا يجوز ولو زوج الجد إحدى نافلتيه من الأخرى، وتولى طرفي العقد، هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحداد: يجوز؛ كما يبيع ماله من نفسه. والثاني: لا يجوز، قاله صاحب التلخيص لأن النكاح لا ينعقد بأقل من أربع؛ كما جاء في الحديث فإن قلنا: ينعقد هل يحتاج إلى لفظين؟ فيه وجهان. وإن قلنا: لا يجوز، فلو بلغت المرأة والزوج صغير، فلا يجوز للجد أيضاً تزويجها بنفسه. ولو أذنت المرأة للقاضي؛ حتى يزوجها من ابن عمه، وقبل الجد لنافلته - يجوز؛ كما لو أراد الرجل أن يتزوج وليته، زوجها القاضي منه؛ فلو وكل الجد بتزويج الصغيرة، وقيل: هو لابن ابنه الصغير، أو وكل رجلاً بالقبول عن الصغير، وزوج هو بالولاية، أو وكل رجلين: أحدهما: بالتزويج، والآخر: بالقبول -لا يجوز؛ لأن فعل وكيله فعله.

ولو وكل رجلاً ليقبل له نكاح امرأة؛ فزوجه الوكيل ابنته - لا يجوز. فصل في تزويج المغلوب على عقولهم قد ذكرنا أنه يجوز للأب، أو الجد أن يقبل النكاح للصغير العاقل، ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد. أما المجنون ينظر: إن كان صغيراً، لا يجوز لأحدٍ أن يقبل له النكاح، لأنه لا حاجة به إليه في الحال، وبعد البلوغ لا يحتاج إليه للسكن والألفة ولا يُدرى هل يحتاج إليه للجماع؛ أم لا؟ بخلاف الصغير العاقل. [يجوز للأب والجد أن يقبل له النكاح] لأنه يحتاج إليه بعد البلوغ، للاستمتاع، أو للسكن والألفة؛ فإذا بلغ المجنون، نظر: فإن لم يظهر منه رغبة في النساء؛ بأن كان مجبوباً لا يجوز تزويجه؛ لأنه لا يلزمه المهر والنفقة بلا منفعة تحصل له؛ بخلاف المجنونة لا يشترط في تزويجها ظهور الرغبة في الرجال، لأن لها فيه نفعاً من اكتساب المهر والنفقة وربما يكون فاسقاً فإن ظهر من المجنون البالغ الرغبة في النكاح، بأن كان يحوم حولهن، واحتاج إلى امرأة للتعهد والخدمة، ولم يكن له من المحارم امرأة تتولى ذلك، ومؤنة النكاح أخف من شراء الأمة حينئذ يجوز للأب أو الجد تزويجه ولا يجوز لغيرهما من أولياء النسب؛ فإن لم يكن له أب ولا جد زوجها السلطان؛ لأنه الذي يلي ماله، ويذكر للمرأة أنه مجنون وهل يحتاج السلطان إلى مشورة الأقارب؟ فيه وجهان. وإن كان يُجن يوماً، ويفيق يوماً، فلا يجوز لأحد تزويجه، حتى يفيق، ويأذن ويبقى مفيقاً إلى أن يُفرغ من العقد، وإن عاوده الجنون قبل التزويج، بطل الإذن، وإن كان مغلوباً على عقله بمرض، ينتظر إفاقته، وإن أطبق عليه، ولم يُرجى إفاقته فهو كالمجنون. ولا يجوز تزويج الصغير المجنون لحاجته إلى الخدمة؛ لأنه يجوز لغير ذوات المحارم من النساء خدمته. وأما المجنونة يجوز للأب والجد تزويجها، صغيرة كانت، أو كبيرة، بكراً أو ثيباً؛ بخلاف البنت الصغيرة العاقلة لا يجوز تزويجها؛ لأنها بالبلوغ تصير من أهل الإذن، ولبلوغها أوان منتظر، وليس لإفاقة المجنونة أوان منتظر. وقيل: لا يجوز تزويج البنت الصغيرة المجنونة؛ كالعاقلة؛ والأول أصح.

وأما غير الأب والجد لا يجوز لهم تزويج المجنونة الصغيرة؛ لأن تزويجها إجبار، وليس لغير الأب والجد ولاية الإجبار، فإن بلغت زوجها السلطان بمشورة أوليائها من الإخوة والإعمام، وغيرهم، إن كانوا لها، أو يأذن لهم في تزويجها. [وتلك المشورة مستحبة، أم واجبة؟ فيه وجهان: أحدهما: مستحبة؛ لأن تزويجها بالإذن]. فإن لم تكن المرأة من أهل الإذن، فلا ولاية لهم. والثاني - وهو الأصح-: أنها واجبة؛ لأنهم أولياء، والسلطان يقوم مقام المجنونة فيمن يكون إذنها شرطاً؛ ما أنه يلي أمر مالها؛ ولا خلاف أن أولياء النسب سوى الأب والجد ينفردون بتزويجها. وقيل: الأب يحتاج إلى إذن السلطان في تزويج المجنونة البالغة الثيب بدلاً عن إذنها. وإن كانت البنت تُجن يوماً، وتفيق يوماً، فلا يجوز تزويجها؛ حتى تفيق، فتأذن، وتبقى على الإفاقة؛ حتى يفرغ من التزويج؛ فإن عاودها الجنون قبل الفراغ من العقد، بطل الإذن؛ كالوكالة تبطل بالجنون والإغماء؛ وإذا قبل الرجل لابنه الصغير، أو لابنه المجنون نكاح امرأة -فليس له أن يخالع عنه؛ كما لا يطلق عنه، ولا يفسخ عنه؛ بخلاف النكاح؛ فإنه من مصالح [ابنه]؛ كالإنفاق عليه. وقال عطاء: يجوز أن يطلق عليه. وقال الزهري، ومالك: يجوز بالعوض. ولو ادعت المرأة عنه زوجها المجنون، لا تُضرب له المدة، لأن الزوج لو كان عاقلاً بما يدعي الإصابة، وإن كانت بكراً فربما يدعي عليها الامتناع من التمكين بخلاف ما لو كان به عيب آخر، لها الفسخ. ولو زوج ابنته المجنونة ثم اختلعها بمال نفسه، صح الخلع، ولزم المال، لأن الطلاق بيد الزوج، ثم إن لم يكن لها فيه نظر أثم فإن اختلعها على مالها وقع رجعياً، ولايجوز للأب أن يبرأ عن شيء من صداق ابنته المجنونة. ولو هربت المجنونة من الزوج، وامتنعت، لا نفقة لها، ولا قسم؛ العاقلة إذا نشزت.

ولو آلى عن زوجته المجنونة، لا يضيق الأمر على الزوج بعد مُضي المدة؛ لأن طلبها فيه شرط، ولا يصح منها الطلب، بل يُقال له: اتق الله فيها أو طلق. وإذا قذف زوجته المجنونة، فلا حد عليه، بل يُعزر إذا أفاقت وطلبت، إلا أن يُلاعن لإسقاطه. فصل في الكفاءة رُوي عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض. شرائط الكفاءة ستة: الإسلام، والحرية، والعدالة، والنسب، والحرفة، والسلامة من

العيوب؛ وهي العيوب الأربعة التي فُسخ بها النكاح، وهي: الجنونن والبرص، والجب. أما العُنة فلا تؤثر؛ لأنها لا تتحقق، وفي اليسار وجهان: أحدهما: لا يُعد من الكفاءة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار الفقر؛ ولأن المال غادٍ ورائح، فلا يفتخر به ذوو المروءة. وقيل: يشترط في قدر المهر والنفقة؛ فإذا وجد، فهو كفء لصاحب الألوف. وقيل: هو شرط على الإطلاق؛ فعلى هذا الاستواء في المال ليس بشرطٍ؛ حتى يقال: صاحب التسعة الآلاف لا يكون كفئاً لصاحب العشرة الآلاف، بل الناس طبقات: فقير وغني ووسط، وكل طبقة بعضهم أكفأ من بعض، إذا اشتركوا في اسم الغنى وإن تفاوتوا في القدر. وعند أبي حنيفة - رحمه الله - اليسار والحرفة غير شرط. قال الشيخ القفال رحمه الله: النسب يُراعى في العرب دون العجم؛ لأن العرب تحفظ أنسابها، وتفتخر بها. والأصح: أنه يراعى في الكل، خرج منه أن الكافر لا يكون كفئاً للمسلمة، ولا العبد للحرة؛ سواء كانت حرة أصلية أو معتقة ولا المعتق للحرة الأصلية. وإن كانا حُرين، لكن جرى الرق على واحد ممن يرجع النسب للرجل إليه دون المرأة، أو جرى الرق في آبائهما، ولكن في الرجل في أب أقربه، لا يكون كفئاً لها، وكذلك من أسلم بنفسه لا يكون كُفئاً لمن له أبوان، أو ثلاثة في الإسام، والعجمى لا يكون كفئاً للعربية، ولا العربي غير القرشي للقرشية وقريش هل لهم أكفاء؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ وبه قال أبو حنيفة؛ كما في الخلافة. والثاني: لا، بل يتفاضلون، فغير الهاشمي والمطلبي منهم لا يكون كفئاً للهاشمية والمطلبية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم". أما بنو هاشم وبنو المطلب هم أكفاء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". والاعتبار بالأب، فإن كان الأب قرشياً، والأم أعجمية - فهو قرشي، وإن كان الأب عجمياً، والأم قرشية - فهو عجمي. والفاسق لا يكون كفئاً للعفيفة، وصاحب الحرفة الدنيئة لا يكون كفئاً لاهل الحرفة

الرفيعة، والمحترفُ لا يكون كفئاً لابنة العالم، والكناس والحجام والراعي لا يكون كفئاً لابنة الخياط، ولا الخياط لابنة التاجر والبياع. ومن كان به عيب من العيوب الأربعة لا يكون كفئاً للسليمة، وإن كان بكل واحد منهما عيب، نظر إن كانا مختلفين؛ بأن كان به جنون، وبها جُذام أو برص، أو به جب، وبها برص - لا يتكافآن. وإن اتفق العيبان نظر؛ إن كان بالرجل أكثر - فليس بكفءٍ لها، وإن استويا أو كان بها أكثر - فوجهان، بناء على أنه هل يثبت به فسخ النكاح؟ فيه وجهان. وكذلك إذا كان به جب، وبها رتق فيه وجهان: فلو زُوجت المرأة من غير كفءٍ نظر؛ إن زوجت مسلمة من كافر لا ينعقد، وإن رضيت به المرأة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]. أما في سائر الشروط؛ بأن زُوجت حرة من عبدٍ، أو حرة أصلية من معتق، أو عربية من عجمي أو [قرشية من غير قرشي]، أو عفيفة من فاسق، أو سليمة من معيب بشيء من العيوب الأربعة فسخ، نظر إن زوجها بغير رضاها لا ينعقد حتى لو زوج الأب ابنته البكر الصغيرة من غير كفءٍ- لا ينعقد. وإن كانت بالغة فاستأذنها فسكتت: فيه وجهان. وفيه قول آخر: إن الأب أو الجد إذا زوج البكر الصغيرة، أو البالغة بغير رضاها من غير كفءٍ يصح، والمرأة بالخيار إذا بلغت. وهل للأب أن يفسخ في صغرها إذا كان جاهلاً بالحال؟ فيه وجهان: فإن زوجها من خصي أو خنثى دون رضاها، فإن قلنا: يثبت لها الخيار، فهو كالجب. وإن قلنا: لا يثبت فيصح، وكذلك في البالغة إذا أذنت في التزويج مطلقاً فزوجت من خصي أو خنثى. وعند أبي حنيفة: إذا زوج ابنته الصغيرة من غير كفءٍ يصح، أما إذا زُوجت المرأة

من غير كفءٍ برضاها- نظر؛ إن كان المُزوج وليها بنسبٍ أو ولاءٍ - يصح، حتى لو زوجها

الأقرب برضاها من غير كفءٍ فلا اعتراض للأبعد؛ لما رُوي أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أنكحي أسامة فنكحته"، وفاطمة قرشية، وأسامة من الموالي. وإن زوجها السلطان برضاها من غير كفءٍ فيه قولان: أصحهما: لا يصح؛ لأنه يزوج بالنيابة عن أولياء النسب؛ فلا يجوز ترك نظرهم. والثاني: يصح ولي النسب والولاء. ولا تقابل خصال الكفاءة بعضها ببعض، حتى لو زُوجت أمة عفيفة من حر فاسق، أو حرة فاسقة من عبد عفيف، أو عجمية عفيفة من عربي فاسق، أو عربية فاسقة من أعجمي عدل، أو دنية سليمة من نسيب معيب دون رضاه- لا يصح؛ لما في الزوج من النقص. ولو زوج السيد أمته من عبد، أو دني النسب دون رضاها - يصح؛ لأنهما متكافئان؛ لأن نسب الحر - وإن كان دنياً - فلا يكون دون العبد. وإن زوجها من غير كفءٍ أو ممن به عيب من العيوب الأربعة - لم يجز دون رضاها؛ لأن الحق في الاستمتاع بها؛ بدليل أن الفسخ بسبب العيوب إليها. وقيل: يصح، ولها الخيار؛ كما ذكرنا في الحرة تُزوج من غير كفءٍ، والأول المذهب، فإن رضيت فزوجت ممن به عيب - لا امتناع لها من التمكين.

ولو باعها ممن به عيب من هذه العيوب الأربع بغير رضاها - يصح؛ لأن الشراء لا يُراد للاستمتاع، ثم هل لها الامتناع من التمكين؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن الوطء في ملك اليمين بعقد النكاح. والثاني: لا؛ لأنها مملوكته، وتصرفه فيها بحق الملك. ولو كان بكل واحد من الزوجين عيب، فالكالحرة على وجهين. [ولو زوج أمته بمهر بخس - يصح ولا يزاد، وإن زَوَّجها بلا مهر فهو تفويض صحيح] ولو زوج الأب أو الجد ابنته البكر الصغيرة، أو البالغة دون رضاها، أو ابنته المجنونة بمهر بخس، أو بلا مهر، سواء صرح بأن لا مهر لها أو سكت عن ذكره - ففيه قولان: أصحهما - وبه قال أبو حنيفة: يصح النكاح، ويجب مهر المثل بالعقد؛ لأن المهر من جملة الزوائد، فتركه لا يمنع صحة العقدِ. والثاني: لا يصح؛ لأنه بخس حقها؛ كما لو زوجها من غير كفءٍ. ولو قبل الأب لابنه الصغير نكاح امرأة معيبة بجنون، أو جُذام، أو قرن، أو برص، أو رتق - لا يصح على الصحيح من المذهب. وفيه قول آخر: يصح، ويثبت الخيار إذا بلغ كما ذكرنا في تزويج الصغيرة من غير كفءٍ، وإن قبل له نكاح خنثى، فإن قلنا: يثبت به الخيار، فكالمجنونة، وإن قلنا: لا يثبت فالكعمياء. ولو قبل له نكاح امرأة ذمية، [أو كتابية]، أو امرأة عمياء، أو مقطوعة يد أو رجلٍ، أو عجوز فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن هذه الخصال لا تثبت بالخيار، فلا يمنع العقد. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا نظر له فيه. ولو قَبِلَ له نكاح الأمة؛ لا يصح لأنه لا يخاف العيب، وإن قبل لابنه المجنون نكاح الأمة، وهو معُسرٌن ويخشى منه العنت- جاز؛ فإن قبل له نكاح معيبة بعيب آخر؛ فكالصغيرة.

قال الشيخ: رحمه الله-: لو قبل الوكيل المطلق للموكل نكاح أحد من هؤلاء- يصح؛ لأنه يتصرف بالنيابة. ولو قبل لابنه الصغير، أو المجنون نكاح امرأة بمهر المثل، أو بعين من أعيان مال الابن قيمتها مهر المثل - يصح، وتملكها المرأة. فإن قبل بأكثر من مهر المثل، أو بعين [من أعيان مال الابن] قيمتها أكثر من مهر المثل - فيه قولان: أصحهما: يصح النكاح، ولا يجب إلا مهر المثل. والثاني: لا يصح؛ لأنه بخس بحقه. ولو قبل بصداق من مال نفسه - صح، عيناً كان أو ديناً، قدر مهر المثل أو أكثر، ولها المسمى؛ لأنه لا ضرر على الابن فيه. فصل في تزويج الإماء لا يجوز تزويج الأمة لأحدٍ من أقاربها، ووليها سيدها، وله تزويجها جبراً، سواء كانت بكراً أو ثيباً، صغيرة أو مجنونة، أو عاقلة بالغة، ولا فرق فيه بين القنة والمدبرة، والمعلق عتقها بصفة، لأنه تصرف بحق الملك؛ كالبيع، والإجارة. ويجوز تزويج أم الولد جبراً على أصح الأقوال؛ لأنها مملوكة، كما يجوز إجارتها، وفيه قولان آخران: أحدهما: يزوجها برضاها، ولا يزوجها دون رضاها، لاختلاف مله عليها. والثاني: لا يجوز تزويجها أصلاً؛ لأن ملك المولى عليه مختل هي [لا تملك] أمرها، فلا يتم لأحدٍ عليها ولاية. ولو طلبت الأمة وأم الولد سيدها - بتزويجها لا تجب الإجابة، لأنه ينقص قيمتها، ولأنه ربما يريد أن يستمتع بها. وقيل: إن كانت الأمة محرماً له يجب تزويجها، وكذلك المعتق بعضها لأنها لا تحل له بحال، بخلاف المشتركة بينه وبين غيره - لا يجب تزويجها بطلبها، لأنه قد يخلص له فتحل، والمذهب الأول أنه لا يجب.

أما المُكاتبة: لا يجوز لها أن تنكح دون إذن المولى، ولا للمولى تزويجها بغير إذنها، لاختلال ملكه عليها، وإن زوجها المولى برضاها يصح. وقيل: لا يصح تزويجها أصلاً، لأن ملك المولى عليها مختل، وهي لا تملك أمرها، فلا يتم لأحد عليها ولاية؛ والأول أصح. ولو طلبت المكاتبة مولاها بالتزويج، هل يجب الإجابة؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأنه يحصل لها المهر، فتستعين به في أداء النجوم. والثاني: لا؛ لأنها تشتغل بحق الزوج، ولا تتفرغ لتحصيل النجوم، وربما تعجز، وتعود إليه ناقصة القيمة. وإن كانت الأمة لامرأة يزوجها ولي المرأة بإذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، مجنونة أو عاقلة، ولا يشترط رضا الأمة، سواء كان المولى ممن يجبر السيدة على النكاح، أو لا يجبر؛ كالأخ، والعم. وصريح نطق السيدة شرط، وإن كانت بكراً؛ لأنها لا تستحي من تزويج أمتها حتى تكتفي بسكوتها، فإن كنت الأمة صغيرة، أو سفيهة، أو مجنونة - فهل يجوز تزويجها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يجوز تزويج عبده، لأنه ينتقص به قيمتها، وربما تحبل فيخشى هلاكها. والثاني: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، لأن النظر هو اكتساب المهر، وإسقاط النفقة عنه بخلاف العبد، فإن في تزويجه ضرراً عليه من صرف أكسابه إلى المهر والنفقة. فإن قلنا: يجوز تزويجها. فإنما [يجوز] أن يزوجها ولي نكاحها الذي يلي المال، وهو الأب أو الجد دون غيرهما ممن يلي المال، لأن ولاية النكاح تقتضي ولاية سوى المال، ولا ولاية على الصغيرة لغير الأب والجد، حتى لو كانت الصغيرة ثيباً لا يجوز للأب والجد تزويج أمتها، لأنه لا يزوجها، وإن كانت البنت مجنونة - جاز. قال الشيخ: وإن كانت الأمة للسفيه يشترط إذن الولي، لأن الولي لا يُزوجها دون إذنه. وقيل: يجوز لولي المال تزويج أمة الصغير والمجنون، نسيباً كان، أو وصياً، أو قيماً؛ لأنه بمنزلة المتصرف في المال.

وقيل: هذا الوجه في تزويجه عبده، وليس بصحيح. والعبد المأذون في التجارة إذا اشترى أمةٍ - نظر؛ إن لم يكن على المأذون دين يجوز للسيد تزويج تلك الأمة، وبيعها، وهبتها، وإعتاقها، ووطئها بغير إذن العبد. وإن اشترى طعاماً جاز للسيد أكله. وقيل: لا يجوز شيء من ذلك بغير إذن العبد ما لم يحدث حجراً؛ والأول أصح. ثم البيع، والهبة، والإعتاق؛ يتضمن حجراً عليها فيهان والتزويج لا يتضمن، والوطء حجرٌ إن لم يعزل، وإن عزل فلا. فإن كان على المأذون دينٌ بسبب التجارة، سواء كان يستغرق ماله، أو لا يستغرق، - فلا يجوز للسيد شيء من هذه التصرفات قبل قضاء الدين؛ لأنه بعد الحجر عليه لا يجوز أيضاً قبل قضاء الدين؛ لتعلق حق الغرماء بماله، فلو زوجها المولى بإذن العبد والغرماء - يجوز، ولا يجوز تزويجها دون إذن المولى، ولو زوجها المولى دون إذن العبد - فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الحق فيها للغرماء، وقد أذنوا. والثاني: - وهو الأصح- لا يجوز؛ لأن حق الغرماء يتعلق بذمة العبد، والعبد لم يرض به، وكذلك لو زوجها بإذن العبد دون إذن الغرماء - فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأن الغرماء لم يرضوا بتأخير حقهم، وتعلقه بذمة العبد إلى أن يُعتق؛ وكذلك لو رهنها العبد بإذن المولى - فوجهان: الأصح: لا يجوز. ولو وطئها المولى بإذن العبد والغرماء - يجوز، ولو وطئها بإذن الغرماء دون إذن العبد - فوجهان أحدهما: يجوز، كما يجوز للراهن وطء الجارية المرهونة بإذن المرتهن. وإذا وطئها بغير إذنهم، هل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا [يجب]؛ كما لو وطيء المرهونة. والثاني: يجب بخلاف المرهونة، لأن منفعة المرهونة للراهن، ومنفعة عبد عبده المأذون لا تكون للمولى إذا كان عليه دين. ولو أحبلها المولى، فالولد حر، ثم إن كان موسراً تصير أم ولدٍ له وعليه قيمتها،

فيصرف في الدين، وإن كان مُعسراً لا تصير في الحال أُمَّ ولد له وتُباع في الدين، فإذا بيعت، ثم ملكها فهل تصير أم ولد له؟ فكالمرهونة. وكذلك الجارية الجانية إذا استولدها المولى وهو معسر، والوارث إذا استولد جارية من التركة، وهو معسر، وعلى الميت دين لا تصير أم ولد له، فإذا ملكها بعده فالكمرهونة، وحيث لم نجعلها أم ولد له في الحال -[لا] يجب عليه قيمة الولد في جارية العبد المأذون، وفي جارية التركة، ولا يجب في الجانية والمرهونة، لأن ولد المرهونة خارج من الرهن. ولو أعتق عبد عبده المأذون، وعليه دين، أو الوارث عبداً من التركة، - وعلى الميت دينٌ - قيل في نفوذ عتقه قولان: كالمرهونة. قال الشيخ: المذهب؛ أنه إن كان معسراً لا ينفذ عتقه، وإن كان موسراً ينفذ كالاستيلاد، وعليه الأقل من الدين أو قيمة العبد كإعتاق الجاني. ولو كان للمكاتب عبداً وأمة - لا يجوز للمولى تزويجه بغير إذن المكاتب، ولا للمكاتب بغير إذن المولى، فإذا أذنان ففيه قولان كتبرعاته. فصل في الغرور إذا شُرط في عقد النكاح في أحد الزوجين نسب ريفٌ، أو حرفة، فلم يكن، سواء كان كفئاً للآخر أو لم يكن- ففي صحة النكاح قولان: أحدهما: لا يصح النكاح؛ لأن النكاح عقد وصف؛ فالخلف فيه كالخلف في العين؛ كما لو أذنت في زيد، فزوجت من عمرو - لا يصح. والقول الثاني - وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: يصح النكاح؛ لأن فقد الوصف لا يمنع صحة العقد؛ كما لو اشترى عبداً على أنه كاتبٌ فلم يكن؛ يصح العقد. وكذلك كل وصف شرط في أحدهما ففقدن سواء كان ذلك وصف كمال من إسلام، أو يسار، أو جمال، أو شباب، أو شرط في المرأة أنها بكرٌ، فلم تكن. أو كان ذلك وصف نقص من قبح، أو كبر، أو طول، أو قصر.

أو شرط في المرأة أنها كاتبية، أو ثيبٌ؛ فكانت مسلمة، أو بكراً- ففي صحة النكاح قولان: فإن قلنا: النكاح باطل يفرق بينهما، ولا شيء على الزوج إن كان قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول بها، فلا حد عليه بشبهة الاختلاف، عالماً كان أو جاهلاً، وعليه مهر المثل، وعليها العدة، ولا سُكنى لها، ولا نفقة إن كانت حائلاً. وإن كانت حاملاً فقولان، بناء على أن النفقة للحمل، أو للحائل. فإن قلنا: للحائل - وهو الأصح- لا يجب. وإن قلنا: للحمل يجب. فإن قلنا: النكاح صحيح، فهل يثبت للمغرور الخيار في فسخ النكاح، أم لا؟ نظر إن كان المشروط وصف نقصٍ؛ بأن شرط في أحدهما بأنه رقيقٌ، أو دني النسبن فبان حراً شريفاً، أو شرط في المرأة بأنها كتابية فبانت مسلمة، أو ثيب فبانت بكراً، أو شرط في أحدهما أنه قبيح، أو مسن، فبان حسناً شاباً، - فلا خيار؛ كما لو اشترى عبداً على أنه غير كاتب، فبان كاتباً - لا خيار له. وإن كان المشروط صفة كمالٍ، بأن شرط في أحدهما حرية أو نسباً شريفاً، أو جمالاً أو يساراً، ولم يكن، أو شرط أن المرأة مسلمة فلم تكنن أو بكرٌ فكانت ثيباًن - ثبت للآخر الخيار في الجملة. ويشترط أن يكون الغرر في العقد، حتى يصير على قولين، فإن كان قد تقدم، فلا يؤثر في العقد لا في الصحة، ولا في الخيار. ثُمَّ الكلام في تفصيل الخيار وفي الغرور بالنسب وبالحرية، فنقول: لا يخلو إما إن كان الغرور بالنسب، أو بالحرية، فإن كان بالنسب لا يخلو، إما إن كان من جهته، أو من جهتها. فإن كان من جهته بأن شرط أنه نسيبٌ، ولم يكن، نظر إن كان نسبه دون نسبها - فلها الخيار، فإن لم يفسخ فلأوليائها الفسخ، لأنهم يُعيرون بدناءة نسبه، وإن كان نسبه مثل نسبها أو فوق نسبها ولكنه دون المشروط، - فهل لها الخيار؟ فيه قولان: أصحهما: لا خيار لها؛ لأنه لا عار عليها في مقامها تحته. والثاني: يثبت لأجل الغرورن فعلى هذا إن اختارت، فلا خيار لأوليائها؛ لأنهم لا يُعيرون به، وإنما يثبت لها الخيار لأجل الغرور. وإن كان الغرور من جهتها، بأن شرط أنها شريفة فلم تكن، - فله له الخيار؟ نظر إن كان نسبها دون نسبه، ففيه قولان:

أصحهما- وهو المذهب، واختيار المزني: يثبت له الخيار؛ كما يثبت لها إذا كان المغرور من جهته. والثاني: لا خيار له لمعنيين: أحدهما: لأن الطلاق بيده يمكنه مفارقتها. والثاني: لأنه لا ضرر عليه في دناءة نسبها. فإن قلنا: يثبت الخيار، فإن كان نسبها مثل نسبه أو فوقه، ولكنه دون المشروط، - فهل له الخيار؟ فيه قولان: أصحهما: لا يثبت، فحيث أثبتنا الفسخ ينفرد به من له الخيار من غير حاكم، ولا رضا خصم؛ كفسخ البيع بالعيب. وإذا أُجير العقد، فللمرأة الصداق، أو المسمى في العقد، وإذا فسخ العقد، فإن كان قبل الدخول، فلا شيء للمرأة، لا نصف مهر ولا منفعة؛ لأن الفسخ كان من قبلها، فهي الفاسخة؛ فلا مهر لها. وإن كان الفسخ من قبله فهو بِغُرور كان من جهتها. وإن كان بعد الدخول، فلها المهر. وأي مهر يجب؟ فيه قولان: المنصوص: أن لها مهر المثل، سواء كان أقل من المسمى أو أكثر؛ لأنه فسخ بغرور كان ي العقد؛ فصار كأن الوطء عرى عن العقد. والقول الثاني - وهو مخرج، وهو القياس: أن لها المسمى؛ لأنه بسبب وطء وجد في نكاح صحيح، صح فيه المسمى، ويجب عليها العدة، ولا سُكنى لها، ولا نفقة إن كانت حائلاً. وإن كانت حاملاً وقلنا: النفقة للحمل تجب. وإن قلنا: للحامل، وهو الأصح، لا تجب. وإن كان الغرور بالحرية فلا يخلو؛ إما إن كان من جهته أو من جهتها. فإن كان من جهته شرط أنه حر، فبان رقيقاً، أو بعضه رقيقاً، فينظر إن كانت المرأة حرة، فلها فسخ النكاح؛ فن لم تفعل، فلأوليائها الفسخ؛ لأنهم يعبرون برقه. وإن كانت المرأة رقيقة، فهل لها الخيار؟ فيه قولان: أصحهما: لا خيار لها.

والثاني: يثبت لأجل الغرور. وإن كان الغرور من جهتها ولا يتصور ذلك من سيدها؛ لأن السيد إن شرط حريتها تعتق، إنما يتصور منها بأن تقول: أنا ابنة السيد؛ أو من وكيل السيد - فينظر؛ إن كان الزوج حراً، وهو ممن يحل له ناح الأمة، فهل له الخيار؟ يبني على الغرور بالنسب إذا كان الغرور من جهتها. إن قلنا هناك: يثبت له الخيار، فهاهنا يثبت للزوج الخيار، وهو المذهب. وإن قلنا هناك: لا يثبت، فهاهنا وهان، بناء على المعنيين، إن قلنا هناك: لا خيار له؛ لأن الطلاق بيده - فهاهنا أيضاً لا خيار له. وإن قلنا: لا ضرر عليه، فهاهنا له الخيار؛ لأنه يتضرر بكون زوجته رقيقاً، من حيث إن السيد لا يئويها معه بيتاً، وإن ولده منها يكون رقيقاً. وإن قلنا: يثبت له الخيار إذا كان حراً، فإذا كان رقيقاً هل يثبت له الخيارُ؟ فيه قولان: أصحهما: لا؛ لأنهما لا يتكافآن. والثاني: يثبت لأجل الغرور، فحيث قلنا: لا خيار، أو أثبتنا الخيار فاختار، والزوج عبد عليه المسمى، ويتعلق بكسبه. وإن فسخ العقد، فإن كان قبل الدخول لا شيء لها، وإن كان بعد الدخول يجب عليه مهر المثل، أو المسمى؟ فيه قولان؛ كما ذكرنا: أظهرهما: مهر المثل. وأقيسهما: المسمى، وبماذا يتعلق إذا كان الزوج عبداً؟ فيه ثلاثة أقوال، سواء كان الغرور من جهته، أو من جهتها وهو عبدٌ، أو سأله الخيار، ففسخ -أحدهما يتعلق بكسبه، والثاني برقبته، والثالث بذمته. وكذلك إذا قلنا: النكاح باطلٌ [أو كان قد] وطيء-، فمهر المثل بماذا يتعلق؟ فعلى هذا الأقوال. ومهما كان الغرور من جهة المرأة، وغرم الزوج المهر، فهل يرجع به على الغار أم لا؟ نظر، إن أجاز العقد، فلا يرجع. وإن فسخ، قلنا: النكاح باطلٌ، أو كان قد وطيء - فقولان:

أحدهما: يرجع، كما يرجع بقيمة الأولاد في الغرور بالحرية. والثاني - وهو الأصح-: لايرجع؛ لأنه قد استوفى منفعة البضع بمقابلة ما غرم من المهر، ولأنه شرع في العقد على أن يتقدم عليه البضع دون الولد، فإن قلنا: يرجع على الغار، لم يكن له أن يرجع إلا بعد أن يغرم، ثم إن كان الغرور بالنسب، فإن كان من وليها، أو وكيل وليهان - رجع بعد ما غرم للمرأة بجميعه على الولي، أو الوكيل، وإن كان الأولياء جماعة غروه- رجع على جميعهم، وكذلك في كل صفة غروه بها سوى النسب، فإن كان الغرور من جهة المرأة، فلا مهر عليه، وهل يجب أقل ما يُستباح به البضع؟ فيه وجهان، بخلاف ما لو كان الغرور من جهة الولي يرجع بجميع المهر، لأنه قد غرم لها المهر، فلا يخلو الوطء عن المهر. وإن كان الغرور بالحرية من جهة وكيل السيد - غرم الزوج المهر للسيد، ثم يرجع على الوكيل، وإن كان من جهة الأمة، - رجع عليها بعد العتق بجميعه. وإن كان الزوج عبداً فإن قلنا: يتعلق المهر بذمته، فبعدما عتق وغرم - رجع على الغار. وإن قلنا: يتعلق بكسبه، أو رقبته، فبعد الأداء من السب، أو من الرقبة - رجع السيد على الغار. وإذا ذكرت الأمة للوكيل: أنها حرة، وذكر الوكيل للزوج رجع الزوج على الوكيل بعدما غرم للسيد في الحال، ورجع الوكيل على الأمة بعدما عتقت، وإن ذكرت ذلك للوكيل ثم للزوج، والرجوع عليها دون الوكيل، فإن ذكره الوكيل للزوج، لأنها لما شافهت الزوج خرج الوكيل من الوسط، وإن تواطأ على أن غرا الزوج - فالضمان عليهما نصفان، فيرجع على الوكيل بالنصف في الحال، وبالنصف عليها بعد العتق. وقيل: له أن يرجع على أيهما شاء بالكل. قال الشيخ: ثم هو يرجع على الآخر بالنصف، والأخذ منها لا يكون إلا بعد العتق، وحيث أثبتنا الرجوع، فإنما يرجع بما أدى، حتى لو أبرأ عن المهر لا يرجع بشيء، وإن أبرأ عن بعضه لا يرجع بما أبرأ عنه، وإن أوجبنا عليه المسمى، فأدى-، رجع به لا بمهر المثل، نص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه لو نكح امرأة على أنها مسلمة، فإذا هي كتابية - فله الخيار. ولو نكحها على أنها حرة، فإذا هي أمة، - فلا خيار له، فمن أصحابنا من قال: المسألة الأولى في الشرط، والثانية في الظن. ومنهم من قال: كلاهما في الظن، ومنهم من جعل في ثبوت الخيار فيهما بالظن- قولين: بالنقل، والتخريج: أصحهما: لا خيار.

والثاني: يثبت؛ كما في العيوب الخمس إذا ظن أنها مسلمة، ولم تكن، فله الخيار، ومنهم من فرق على ظاهر النص، وقال: إذا ظن أنها مسلمة فبانت كتابية له الخيار؛ لأن ولي الكافرة كافر، وكان عليه إظهار زي الكفار، فإذا لم يفعل فقد غَرَّ، وولى الأمة لا يجب عليه تغيير زيه، فلا غرور من جهته، فلا خيار للزوج. والأصح الأول، وبالظن لا يثبت الخيار. باب الكلام الذي ينعقد به النكاح رُوي عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فزوجهن بكلمة الله". ولا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح، والتزويج. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: ينعقد بكل لفظٍ يوضع للتمليك؛ كالبيع، والهبة،

والتمليك، فنقول: لفظ ينعقد به غير النكاح، فلا ينعقد به النكاح؛ كلفظ الإباحة والتحليل. وهل ينعقد بالفارسية، أو بلسان آخر سوى العربية بصريح معنى اللفظين كقوله: بزنى كردم؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحهما: ينعقد كسائر العقود. والثاني: لا ينعقد إن كان العاقد لا يحسن العربية، فيفوض إلى من يحسن.

والثالث: إن كان لا يُحسن العربية ينعقد، وإن كان يحسنها فلا ينعقد بغيرها؛ كالتكبير في الصلاة، فلو قال الولي: بيور آدم بخيدبني فقال: بدير فيم - لا يصح؛ لأنه لم يوجد معنى النكاح، ولو قال الولي: زوجتك ابنتي، أو قال: أنكحتك، فقال: تزوجت، أو نكحت، أو قبلت تزويجها أو نكاحها - صح. واتفاق اللفظين ليس بشرط، حتى لو قال أحدهما بلفظ التزويج، والآخر بلفظ النكاح- جاز، وكذلك لو ابتدأ الخاطب فقال: تزوجت، أو نكحت ابنتك، فقال الولي: زوجتك، أو أنكحتك - جاز. ولو قال الولي: زوجتك، أو أنكحتك، فقال الخاطب: قبلت، ولم يقل: نكاحها، أو تزويجها - فهل ينعقد؟ نص هنا على أنه يقول: قبلت نكاحها. واقتصر في "الإملاء" على قوله: قبلت وقد قيل: فيه قولان. وقيل ينعقد قولاً واحداً، وحيث قال: يقول: قبلت نكاحها أراد به تأكيداً. وقيل: لا ينعقد قولاً واحداً، وحيث أطلق محمول على المفيد في الموضع الآخر. وقيل: لا ينعقد قولاً واحداً، وحيث أطلق محمول على المفيد في الموضع الآخر. وقيل: إذا قال: زوجتك ابنتي فقبلته؟ فقال: نعم، أو قال الخاطب: زوجني ابنتك بكذا، قال: نعم - هل ينعقد؟ فعلى هذا الاختلاف. والأصح: لا ينعقد؛ لأن الانعقاد حصوله باللف لا بما يُفهم؛ كما لو قال: أتزوجني ابنتك، فقال: نعم، فقال: قبلت- لا يصح. [وكذلك لو قال: زوجتك ابنتي، فقال: نعم - لا يصح]. ولو قال الخاطب: زوجت ابنتك مني أو قال: أتزوجني ابنتك؟ فقال الولي: زوجتك فلا ينعقد حتى يقول الخاطب بعده: تزوجت. [وكذلك لو قال الولي أولا تزوجت - ابنتي، فقال: تزوجت لا ينعقد حتى يقول: زوجت]. لأن الأول استفهام، فلا يقوم مقام الإيجاب والقبول، أما إذا قال بلفظ الأمر: زوجني ابنتك بكذا، فقال: [قبلت] زوجتك - ينعقد، ولا يحتاج إلى القبول؛ لأن الأعرابي الذي

خطب الواهبة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجنيها فقال: زوجتكها، ولم يوجد بعده قبول. وكذلك لو قال الولي أولاً تزوج ابنتي، فقال: تزوجت - ينعقد. وإن لم يقل الولي بعده: زوجت. وكذلك حكم البيع، والخلع، وغيرهما من العقود إذا قال: بع مني عبدك بكذا، فقال: بعت- تم البيع، وإن لم يقل: اشتريت، أو قال البائع: اشتر مني عبدي بكذا، فقال: اشتريت- تم البيع، وإن لم يقل بعده: بعت. ولو قال: أتبيعني عبدك بكذا؟ فقال: بعتُ- فلا ينعقد، حتى يقول: اشتريت. وإن قال البائع: أتشتري عبدي بكذا؟ فقال: اشتريت - لا ينعقد، حتى يقول بعده: بِعتُ. وعند أبي حنيفة في البيع إذا قال: يعني، فقال: بعتُ- يحتاج إلى القبول، بخلاف النكاح، ومثله قولٌ بعيد لنا؛ لأن الناكح يكثر فيه التسيب، فينزل منزلة القبول، والأول المذهب؛ لأن الاستحباب على وه الأمر بمنزلة القبول؛ كما في البيع. ولو قال أجنبي للولي: أزوجت ابنتك من فُلان؟ فقال: زوجتُ، ثم أقبل على الخاطب، فقال له: قبلت نكاحها؟ فقال: قبلت- يصح. وقيل: لا يصح؛ لأنه لم يوجد الخطاب بين المتعاقدين؛ وكذلك الخلع والبيع. ولو كتب بالتزويج إلى غائب: أن زوجت ابنتي، ولم يتلفظ - لا يصح؛ لأن الكتابة كناية، والنكاح لا ينعقد بالكناية، ولأن الشهادة فيه شرط، والشاهد لا يطلع على ما في القلب.

ولو خاطب غائباً بلسانه بمحضر شاهدين: أن زوجتك ابنتي، ثم كتب، فبلغه، الكتابُ، أو لم يبلغه الخبرُ، فقال: تزوجت، أو قبلت نكاحها بمحضر الشاهدين الذين سمعا فيه مخاطبة الولي، أو قال الخاطب في غيبة الولي: زوجني ابنتك بمحضر شاهدين، فلما بلغ الخبرُ الولي، فقال: زوجتُ بمشهدهما - ففيه وجهان: أصحهما: لا يصح؛ لأن القبول تراخى عن الإيجاب. والثاني: يصح، وجعل كأنه خاطبه حالة ما أتاه الكتاب، أو الخبر، حتى لو فارق المجلس الذي بلغه فيه الخبر. ثم قيل: لا يصح. ولو قبل بمحضر شاهدين آخرين غير من حضر خطاب الولي - لا يصح، وكذلك حكم البيع والهبة في الغيبة إذا كتب على غائب: بعتك كذا، أو وهبتك كذا، فلما أتاه الكتاب، قال: اشتريت، أو قبلت. هل يصح أم لا؟ فيه وجهان. فصل فيما يجب على الوكيل بالتزويج يجب على الوكيل بالتزويج أو بالقبول تسمية الزوجين، فقول وكيل الولي: زوجت بنت فلان من فلان، ويسمى الزوج، ويقول وكيل الزوج: قبلت نكاحها له، فلو قال قبلت نكاحها ولم يقل فيه وجهان؛ بناء على ما لو قال: قبلت، ولم يقل: نكاحها. ولو ابتدأ وكيلُ الزوج فقال: قبلت نكاح فلانة بنت فلان منك بقوله لوكيل للولي، ويقول وكيل الولي: زوجتها من فُلانٍ، فلو قال: زوجت، ولم يقل: من فلان، فعلى هذين الوجهين. وكذلك أبو الطفلين إذا زوج أحدهما ابنته من ابن الآخر ويُشترط تسمية الزوجين، فيقول- زوجت ابنتي من ابنك، فقال أبو الزوج قبلت نكاحهما، فلو قال الولي لوكيل الزوج: زوجت ابنتي منكن فقال- قبلت لفلان لا يصح؛ لأنه لم يزوجها من فُلان. ولو قال: قبلت نكاحها ولم يقل لفلان - يقع العقد للوكيل. وكذلك إذا قال: أبو الطفل: زوجت ابنتي منك فقال: قبلتُ لابني - لا يصح ولو لم يقل: لابني لا يصح، ولو لم يقل: لابني يقع للابن ويحرم على الابن على التأبيد وهذا بخلاف البيع. ولا يحتاج الوكيل فيه إلى تسمية الموكل، حتى لو قال البائع لوكيل المشتري بعتُ منك، فقال: ابتعت، ونوى لفلان - يصح لفلان - لأن ملك الثمن يقبل النقل من محل إلى

محل، فيجوز أن يقع العقد للوكيل ثم ينتقل على الموكل، والنكاح لا ينتقل ولهذا قلنا: لو قَبِلَ رجُلٌ نكاح امرأةٍ بوكالة رجلٍ، ثم أنكر الموكل الوكيل لا يصح النكاح. ولو اشترى بوكالة رجل شيئاً، ثم أنكر الموكل التوكيل - يقع العقد للوكيل، ولو قال البائع لوكيل المشتري: بعت من فلان، فقال: قبلت له - لا يصح؛ لأنه لم يخاطب العاقد، ولو قال: بعت منك، فقال: ابتعت لفلان - فيه وجهان. ولو قال الولي لرجل: زوجتك ابنتين ولم يُسمها - يصح إذا كانت له بنت واحدة، فإن كانت له ابنتان - فلا يصح حتى يُميز بينهما بتسمية، أو إشارة، أو وصف، فيقول: زوجتك ابنتي فاطمة، أو ابنتي هذه، أو ابنتي [الكبرى]، أو ينويا بقلبهما واحدة بعينها، وكذلك العم إذا كان يُزوج ابنة أخيه، وهن جماعة، يجب أن يميز - وإن ذكر اسمها يجب أن يرفع في نسبها إلى أن تميز من غيرها. ولو قال: زوجتك فاطمة، ولم يقل: ابنتي، وله ابنة واحدة - لم يصح؛ لأنه لم يُميز ابنته من غيرها، فإن نوياها - جاز. ولو قال: زوجتك ابنتي فاطمة، وله بنت واحدة اسمها: عائشة- صح؛ لأن قوله: ابنتي صفة لازمة لا تتعدى، فاعتبارها أولى من اعتبار الاسم الذي يتعدى. وقيل: لا يصح. والأول أصح؛ كما لو أشار إليها فقال: زوجتك هذه فاطمة، وكان اسمها عائشة- صح؛ لأن الإشارة ألزم، فالخطأ في الاسم لا يضر، وكذلك إذا كانت له ابنتان اسم الكبرى: فاطمة، واسم الصغرى عائشة، فقال: زوجتك ابنتي الكبرى عائشة، أو قال: ابنتي الصغرى فاطمة- صح على من وصفها بالصغرى والكبرى، لا على من سماها اعتباراً بالدوام. ولو قال: زوجت ابنتي فاطمة، وهو ينوي الصغيرة، فقبل الزوج، ونوى الصغيرة، صح العقد على الصغيرة؛ لاتفاق نيتهما، ولغت التسمية. [ولو قال الأب: زوجتك ابنتي فاطمة، ونوى الصغيرة]، ولو قبل الزوج، ونوى الكبيرة، - صح العقد في الظاهر على الكبيرة؛ لأن الأب قد سماها ونواها الزوج، ولا يصح في الباطن. ولو بُشر بمولودٍ فقال لجليسه إن كانت أنثى فقد زوجتكها، وكانت أنثى - لا يصح.

وكذلك لو قال: إن كان قد مات زوج ابنتي، فقد زوجتكها، ثم بان موته - لا يصح. وخرج وجهٌ فيما لو باع مال أبيه على اعتقاد أنه حي، فبان ميتاً - هل يصح أم لا؟ فيه قولان. ولو بُشر رجلٌ ببنت، فقال لرجل: إن صدق الخبر، فقد زوجتكها - صح، ولا يكون ذلك تعليقاً، بل هو تحقيقٌ، كما لو قال لامرأته: إن كنت زوجتي، فأنت طالق، فيون تنجيزاً للطلاق، حتى لو حلف ألا يحلف بالطلاق [يحنث] بهذا، وتكون "إن" بمعنى "إذ"؛ كقوله تعالى: {وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. وكذلك لو كان لرجل أربع نسوة، فأخبر بموت إحداهن، فقال لرجل: إن صدق الخبرُ، فقد نكحت ابنتك، فقال: زَوَّجْتُكَهَا - يصح. فصل في خطب النكاح رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد لله - فهو أجذم". وعن عبد الله بن مسعودٍ- رضي الله عنه - قال إذا أراد أحدكم أن يخطب خطبة الحاجة فليبدأ - وفي رواية أخرى: في خطبة الحاجة من النكاح وغيره، فليقل: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يقرأ هذه الآيات الثلاث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} - حتى بلغ - {فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70]. ورفعه بعضهم عن عبد الله قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة، فذكر نحوه.

ويستحب لمن خطب امرأة؛ أن يُقدم بين يديه خطبة، فيحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله، ثم يقول: جئتم راغباً في كريمتكم. وفي الجواب: يفعل الولي كذلك، فيحمد الله، ويُصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُوصي بتقوى الله، ثم يقول: لست بمرغوب عنك، أو نحو ذلك. وعند العقد أيضاً يخطب الولي، أو الزوج، أو أجنبي، فيحمد الله، ويُصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُوصي بتقوى الله - عز وجل-، ويُرغب في النكاح. فلو خطب الخاطب، ثُمَّ قال: تزوجت ابنتك، فالولي حمد الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصى بتقوى الله - عز وجل- ثم قال: زوجت -، فتخلل هذه الكلمات بني الإيجاب والقبول هل يمنع العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنعُ؛ لأنها ليست من العقد؛ كما لو اشتغل بلام آخر. والثاني: لا يُمنع، وهو الأصح، إذا لم يُطل؛ لأنها من مصلحة العقد؛ كالإقامة بين صلاتي الجمع، والتيمم مع طلب الماء. فإن أطال الخطبة بينهما - لم يصح، ويستحب أن يقول ما قال [عمر]: أنكحتكها على ما أمر الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وترك الخطبة لا يمنع صحة العقد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي الذي خطب الواهبة: "زوجتكها بما معك من القُرآن"، بلا خطبةٍ. ويستحب أن يُدعى للزوجين بعد العقد. رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفا الإنسان - أي:

تزوج- قال: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خيرٍ". باب مما يحل من الحرائر قال الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. ولا يجوز لأحدٍ من الأمة أن ينكح أكثر من أربع نسوة، وكان ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر مسلمات، أو كتابيات، أو بعضهن مسلمات، والبعض كتابيات. وإن نكح أمة، فلا يجوز أن ينكح أكثر من واحدة، فإن كان تحته أمةٌ - يجوز أن ينكح عليها ثلاث حرائر. فأما العبدُ فلا يجوز أن ينكح أكثر من امرأتين مسلمتين، أو كتابيتين حرتين، [أو أمتين]، وإنما جاز له نكاح أمتين؛ لأنهما فيمثل حاله. وقال مالك: يجوزُ للعبد أن ينكح أربعاً؛ لظاهر القرآن، والمراد من الآية الحر، بدليل قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} ْ [النساء: 3] والعبد لا يملك مُل اليمين. ولو كانت تحت حر أربع حرائر، فطلقهن ثلاثاً، أو خالعهن - يجوز أن ينكح أربعاً سواهن في عددهن، وإن طلق واحدة ثلاثاً، أو خالعها، أو فسخ نكاحها - يجوز أن ينكح أختها في عدتها، كذلك لو وطيء امرأة بالشبهة - فيجوز أن ينكح أختها، وأربعاً سواها في عدتها. وعند أبي حنيفة: لا يجوز، فيقول: هذه المطلقة أجنبية منه؛ بدليل أنه لو وطئها عالمٌ بالحال - يجب عليه الحد، بل هي أبعد من الأجانب؛ لأن الأجنبية لا تحل له في الحال بالعقد، والمطلقة ثلاثاً لا تحل له إلا بعد زوج آخر. وإذا كانت أجنبية، فلا يحرم عليه نكاح أختها، وأربع سواها؛ كما بعد انقضاء عدتها.

فأما إذا طلق [زوجته طلاقاً] رجعياً - فلا يجوزُ نكاح أختها، وأربع سواها في عدتها بالاتفاق؛ لأنها في حُكم نكاحه، بدليل [بقاء] خصائص النكاح بينهما، حتى يلحقها طلاقه. ويصح إيلاؤه وظهاره عنها، وأيهما مات ورثه الآخر، فلو قال الزوج: أخبرتني الرجعية بانقضاء عدتها، فقالت: لم أخبره ولم تنقض عدتي - يجوز للزوج نكاح أختها، وأربع سواها؛ لأن بزعمه أنها ليست في العدة. ولو طلقها لا يقع، ولو وطئها يجب الحد. وقيل: لا يجوز له نكاح أختها وأربع سواها؛ لأن القول قولها في بقاء العدة، فعلى هذا لو طلقها يقع، ولو وطئها لا حد عليه؛ والأول أصح. أما النفقة والسكنى؛ فلا تسقط بالاتفاق؛ لأن قوله في سقوط حقها لا يُقبل. ولو طلق امرأته الأمة طلاقاً رجعياً، ثم اشتراها، أو اشتراها قبل أن يُطلقها - له أن ينكح أختها في الحال، أو أربعاً سواها؛ لأن فراشها قد زال. فصل المنكوحة إذا هلكت بعد الدخول - لا يسقط مهرها؛ لأنه استقر بالدخول، حرة كانت أو أمة، ماتت، أو قتلت نفسها، أو قتلها غيرها. أما إذا هلكت قبل الدخول؛ نظر إن ماتت، أو قتلها أجنبي، أو قتلها زوجها - استقر مهرها ولا يسقط، حرة كانت أو أمة. ولو قلتها مستحق المهر، نُص في الأمة إذا قتلت نفسها، أو قتلها سيدها - أن لا مهر لها. وقال في "الأم": إن قتلت الحرة نفسها قبل الدخول - لا يسقط شيء من مهرها. قال ابن سريج: المسألة على قولين: أحدهما: يسقط في الموضعين؛ لأن قطع النكاح قبل الدخول كان من قبلها؛ كما لو ارتدت قبل الدخول. والثاني: لا يسقط؛ لأنها فرقة وقعت بانقضاء المدة؛ كما لو ماتت. فإن قلنا: يسقط، ففي الأمة سواء قتلت نفسها أو قتلها سيدها [يسقط]؛ لأن السيد

يستحق المهر، فيسقط بفعله، والأمة - وإن لم تكن مالكة لمهرها، ولكن قد يسقط المهر [بصنعها]. فإنها لو ارتدت أو أرضعت الزوج قبل الدخول - يسقط مهرها. وفي الحرة إن قتلت نفسها يسقط، وإن قلتها وليها لا يسقط؛ كما لو قتلها أجنبي. وفرق الشيخ أبو إسحاق بين الحرة والأمة على ما نص - وهو الأصح- فقال: مهر الحرة لا يسقط بالقتل، ومهر الأمة إذا قتلت نفسها، أو قتلها سيدها - يسقط. والفرق أن الحرة تصير المسلمة إلى الزوج بالعقد؛ بدليل أنها إذا أرادت السفر، كان للزوج منعها، والأمة لا تصير مسلمة بالعقد؛ بدليل أن للسيد أن يُسافر بها، فلم يستقر مهرها إلا بالدخول. وقال الإصطخري: الأمة إذا قتلها أجنبي، أو مات قبل الدخول - يسقط لهذا المعنى، وهي كالسلعة المبيعة إذا تلفت قبل التسليم - يسقط الثمن، والمذهب أنه يسقط؛ لأن انتهاء النكاح بالموت كانتهاء الإجارة بمضي المدة. قال الشيخ- رحمه الله: إذا قلنا بظاهر المذهب: إن السيد إذا قتل أمته يسقط مهرها. وإذا تزوج رجل أمة أبيه؛ ثم وطئها الأب قبل دخول الابن بها - وجب أن يسقط مهرها؛ لأن قطع النكاح وجد من مستحق المهر قبل الدخول؛ كما لو قتلها سيدها. وحكى المزني قولاً آخر: لا يسقط مهر الأمة، سواء قتلت نفسها، أو قتلها سيدها؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ كما لا يسقط مهر الحرة. وقال أبو حنيفة: إذا قتلها سيدها سقط، وإن قتلت نفسها فلا يسقط. فصل إذا قبضت الحرة الصداق - يجب عليها تسليم نفسها إلى الزوج، إن كانت محتملة الجماع. أما الأمة المزوجة فلا يجب على المولى أن يئويها مع الزوج، ثم إن آواها مع الزوج ليلاً ونهاراً- يجب على الزوج له الصداق، وتمام النفقة، وإن منعها عنه ليلاً ونهاراً، لا نفقة عليه، ولا يُسلم المهر [ويجب تسليمها]. ولو زوج أمته، ثم باعها - يصح، والنكاح بحاله؛ لأن عائشة اشترت بريرة بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لها زوج، فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما عُتقت.

ثم إن باعها حيثُ لا يقدر الزوج عليها - فلا نفقة على الزوج ما لم يسلمها المشتري إليه، ولا يجب تسليم المهر إن كان قبل الدخول، وإن كان قد سُلم يُسترد. ثم المهر لمن يكون؟ نظر إن كان قد سمى لها صداقاً في العقد، صحيحاً أو فاسداً - فالمهر للبائع، سواءٌ دخل بها بعد البيع، أو قبله، حتى لو طلقها الزوج بعد البيع قبل الدخول؛ فيكون نصف المهر للبائع. وإن تزوجها مفوضة، ففرض لها قبل البيع؛ فيكون المفروض للبائع كالمسمى في العقد، وإن دخل بها قبل البيع والفرض -[فمهر المثل للبائع. وأما إذا باعها قبل الفرض والدخول، ثم فرض لها بعد البيع، أو دخل بها - فالمفروض] ومهر المثل لمن يكون؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ بناء على أن المفوضة إذا دخل بها زوجها، أو فرض لها، يجب المهر بالدخول والفرض، أم يتبين أنه وجب بالعقد؟ فيه قولان: إن قلنا: يجب بالدخول والفرض، فيكون للمشتري؛ لأنه وجد في ملكه. وإن قلنا: يتبين أنه وجب بالعقد؛ فيكون للبائع. ومن أصحابنا من قال: يكون للبائع قولاً واحداً؛ لأن البضع دخل في ضمانه بالعقد، فالعقد هو السبب. وكذلك كان لها المطالبة بالفرض قبل الدخول، والعقد كان في ملك البائع. ولو مات أحدهما بعد البيع قبل الدخول- قلنا: يجب المهر؛ فالمهر لمن يكون؟ فعلى هذا الاختلاف. أما إذا طلقها بعد البيع قبل الفرض والمسيس - فالمتعتة تكون للمشتري؛ لأنها تجب بالطلاق، والطلاق كان في ملك المشتري.

ولو أعتقها السيدُ بعد ما زوجها، فكل موضع قلنا: يكون المهر في البيع للبائع؛ ففي العتق يكون للمعتق. وإن قلنا هناك: يون للمشتري، ففي العتق يكون للمرأة، ثم حيث جعلنا المهر للبائع، أو للمعتق، وكان قبل الدخول - فليس لها، ولا للبائع، ولا للمعتق، ولا للمشتري حبسها لاستيفاء الصداق؛ لأن البائع والمعتق لا ملك لهما عليها، والمشتري والمرأة غير مالكين للصداق. وإن قلنا: المهرُ للمشتري، أو لها في العتق، فيجوز للمشتري، ولها في العتق حبس نفسها لاستيفاء الصداق، وحيث جعلنا المهر للمعتق، فأوصى لها بذاك المهر ومات، وقبلت الوصية - لم يكن لها حبس نفسها لاستيفائه؛ لأن استحقاقها ليس بالنكاح، بل بالوصية؛ فعليها تسليم نفسها، وتطالبه بالصداق بحكم الوصية. وكذلك لو زوج أم ولده، ثم مات قبل دخول الزوج بها وعتقت، وصار الصداق للوارث - ليس لها، ولا للوارث حبسها لاستيفائه، وكذلك إن أوصى لها بالصداق. ولو زوج أمته تزويجاً فاسداً، ثم باعها، فإن وطئها الزوج قبل البيع - فمهر المثل للبائع، وإن وطئها بعد البيع - فللمشتري؛ لأنه يجب بالوطء لا بالعقد، وإن أعتقها، فإن وطيء قبل العتق - فالمهر للمعتق، وإن وطيء بعده- فللمرأة. ولو زوج أمته من عبده، فلا صداق لها، فلو أعتقها السيد، أو أعتق واحداً منهما، ثم دخل بها- فلا يجب؛ لأن العقد لم يكن يجب به الصداق. فصل هل يجب الإعفاف على بيت المال إذا كان الرجل محتاجاً إلى النكاح - وهو معسرٌ - لا يجب إعفافه من بيت المال، ولا على المسلمين، ولا يجب على الأب إعفاف الابن، ويجب على الولد إعفاف الأب إذا كان مُعسراً محتاجاً إلى النكاح؛ لأن دم الأب محقون بدم الولد؛ لأنه لا يقتل بولده، فلأن يكون محقوناً بماله أولى، ولم نوجب عليه تزويجه، فربما يقع في الزنا فيقتل به، سواء كان الولد ذكراً أو أنثى، وكذلك ولدُ الولدِ - وإن سفل - يستوي فيه أولاد الابن، وأولاد البنت؛ كما في وجوب النفقة. وفيه قول مخرجٌ: أنه لا يجب على الولد إعفاف الأب؛ كما لا يجب على الأب إعفاف الابن، وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني والأول المذهب؛ لأنه أخذ ما به قوام

العالم، فيجب للوالد على الولد [كالنفقة]. وإن كان الأب معسراً غير زمنٍ، ففي وجوب إعفافه قولان؛ كالنفقة. وقال أبو إسحاق: يجب الإعفاف، وإن لم تجب النفقة؛ لأنه إذا لم يُنفق أنفق عليه من بيت المال، وإذا لم يعف لم يكن له جهة أخرى يتعفف بها. وإذا اجتمع جدان محتاجان، فإن اتسع مال الولد - وجب إعفافهما ونفقتهما، وإن لم تتسع، نظر إن استويا في الدرجة، وأحدهما عصبةٌ- فهو أولى؛ مثل أب الأب أولى من أب الأم، وإن لم يكن واحد منهما عصبة، فهما سواء، وإن اختلفا في الدرجة فأقربهما درجة أولى، وإن استويا في التعصيب أو عدم التعصيب، كما أن الأب أولى من أب الأب، وكذلك أب الأم أولى من أب أب الأم، ومن أب أم الأم، وإن كان الأبعد عصبة دون الأقرب، فهما سواءٌ. ونعني بالإعفاف أن يعطيه مهر امرأة حرة، مسلمة أو كتابية، أو يقول له: تزوج وأنا أعطي المهر [من عندي] أو يملكه جارية، أو ثمن جارية، لا أنه يقبل عليه العقد دون إذنه؛ لأنه لا ولاية له عليه، ولا يعقد إلا بوسط من النساء. فلو أراد أن يُزوجه بامرأة عجوز، أو شوهاء، أو دنيئة - فله ألا يرضى. ولو أراد الأب امرأة في غاية الشرف والجمال - ليس له ذلك، ثم على الابن أن يُنفق على زوجته، أو على أمته إن ملكه أمة، وهل يجوز للأب أن يتزوج أمةً؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه معسر يخاف العنت. والثاني: لا يجوز وهو الأصح؛ لأنه لما أوجب على الابن إعفافه، فهو موسرٌ بمال الابن. ولو ملكه الابن جارية، ثم أيسر الأب - لا رجوع للابن فيها؛ كما لو دفع إليه النفقة، ثم أيسر والنفقة باقية - لا يرجع. ولو زوجه امرأة، فطلقها الأب بلا عُذر، أو خالعها، أو ملكه أمة، فأعتقها - لا يجب عليه الإبدال؛ لأنه مفرط. وإن ماتت، أو فارقته بعيبٍ، أو فارقها الأب بعذرٍ من عيبٍ وُجدَ بها، أو طلقها لشقاقٍ، أو نُشوزٍ يجب أن يُبدل؛ كما لو دفع إليه نفقة، فسرق منه - يجب الإبدال.

وإن كان الفراقُ بائناً يجب أن يبدل في الحالِ، وإن كان طلاقاً رجعياً، فحتى تنقضي عدتها، ولا يجب قبل ذلك؛ كما لا يجب قبل مفارقتها. ويجوز للابن أن ينكح جارية الأب، والولد يخلق رقيقاً للجد، ثم يعتق عليه بحكم النسب، ولا يجب على الابن قيمة الولد؛ لأنه لم يمنع الرق، بل يعتق على الجد بحكم الملك. ولو وطيء الابن جارية الأب، فهو كالأجنبي يطؤها، وإن كان [وطئها] بشبهة ظنها زوجته الحرة، أو أمة مملوكة - فالولد حرٌّ لا ولاء عليه، على أصح الوجهين، وعليه قيمة الولد للأب يوم سقط، [وإن ظنها زوجته الأمة، فالولد يُخلق رقيقاً، وعتق على الجد؛ ولا يجب قيمته]. وإن وطئها عالماً بالتحريم، فهو زناً عليه الحد، بخلاف ما لو سرق مال الأب لا قطع عليه؛ لأن له شبهة في ماله بوجوب النفقة؛ كالعبد يسرق مال سيده لا قطع عليه. ولو زنا بارية سيده يُحد، ويجب المهر إن كانت مُكرهة، وإن طاوعت، فلا يجب على أصح الوجهين، ولو أتت بولدٍ، فهو رقيقٌ للأب، ولا يعتق عليه؛ لأن النسب غير ثابتٍ. فأما الأب إذا وطيء جارية الابن - فلا يخلو، إما أن كان الابن قد وطئها، أو لم يطئها، فإن لم يطئها فلا حد على الأب لشبهة المِلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك"؛ لأنه قد يستحق على الابن من جنس ما استوفاه؛ لأن على الولد إعفاف الأب؛ كما لو سرق مال الابن لا قطع عليه؛ لأنه يستحق عيه النفقة عند الحاجة.

وكذلك لو وطيء رجلٌ جارية ابنته أو جارية واحدٍ من أولاد أولاده- وإن سفلوا من الذكور والإناث - سواء كان الابن مسلماً أو ذمياً، موسراً كان أو معسراً - ويجب عليه المهر، وحُرمت على الابن على التأبيد. ثم إن لم يُحبلها الأب لا يزول ملك الابن، ولا شيء على الأب بسبب تحريمها على الابن؛ كما لو أرضعت امرأة الرجل بلبنه جارية له صغيرة - تحرم عليه، ولا يجب عليها شيء، بخلاف ما لو أفسد نكاحه بوطء شبهة؛ بأن وطيء زوجة ابنه، أو زوجة أبيه بشبهة - ينفسخ النكاح، [ويغرم المهر؛ كما لو أفسدت النكاح بالإرضاع على رجل - غرمت المهر؛ لأن الحل في النكاح] متقومٌ؛ إذ ليس فيه إلا الحِل، وفي ملك اليمين غير متقوم؛ بدليل أنه لو اشترى جارية فوجدها أخته - لا رد له، وإن أحبلها الأب، فهل تصير أمَّ ولد له فيه قولان: أحدهما - وبه قال أبو حنيفة: تصير أم ولدٍ له؛ لأنها علقت [منه] بحر في شبهة الملك؛ فتصير أم ولدٍ له؛ كالجارية المشتركة يستولدها أحد الشريكين - وهو موسر - تصير أم ولدٍ له. والثاني - وهو اختيارُ المزني: لا تصير أم ولدٍ له؛ لأنه لا مل له فهيا وقت الإحبال؛ كما لو استولد جارية بالنكاح، ثم اشتراها - لا تصير أم ولد له. ولا فرق على القولين بين أن يكون الأب موسراً، أو معسراً، بخلاف الجارية المشتركة بين اثنين، إذا استولدها أحدهما، وهو معسر لا يصير نصيب الشريك أم ولد له؛ لأن تنفيذ الاستيلاد هناك لدفع الضرر عن الشريك، فلو نفذنا في حال الإعسار - تعلق حقالشريك بذمة خربة، وفيه ضرر عليه، ولا يزال الضرر بالضرر، ونفوذ الاستيلاد هاهنا لشبهة الملك، فاستوى فيه حالة الإعسار واليسار في حقيقة الملك. فإن قلنا: تصير أم ولدٍ له، فالولد حُرٌّ لا ولاء عليه، ولا يجب على الأب قيمته؛ لأنا نحكم بانتقال الملك إليه قبل العلوق، وعلى الأب قيمة الجارية مع المهر للابن.

وقال أبو حنيفة: لا يجب المهر، ويدخل في القيمة، فنقيس على الجارية المشتركة يستولدها أحد الشريكين؛ يجب عليه نصف المهر مع نصف القيمة، ولا يدخل نصف المهر في نصف القيمة؛ كذلك هاهنا لا يدخل كل المهر في كل القيمة. ولو اختلفا في قيمة الجارية، فالقول قول الأب مع يمينه؛ لأنه غارمٌ. وقيل: فيه قولان؛ كما لو اشترى عبدين، فهلك أحدهما، ووجد بالثاني عيباً، وقلنا: يجوز له رده، فإن اختلفا في قيمة الهالك، فالقول قول من يكون؟ فيه قولان. وإن قلنا: لا تصير الجارية أم ولد له- فالولد غير ثابت النسب، وهل يجب عليه الولاء - فيه وجهان: الأصح: أن لا ولاء عليه، ويجب على الأب قيمة الولد للابن، باعتبار يوم السقوط، لأن الرق امتنع فيه بسببه؛ فكأنه أتلف الرق، ويجب عليه المهر، ولا يجب عليه قيمة الجارية؛ لأن ملك الابن باقٍ عليها، وإن كانت محرمة عليه، ولا يجب عليه بسبب التحريم شيء، ولا يجوز للابن بيع تلك الجارية ما لم تضع الحمل، لأن في بطنها ولداً حُراً. وهل يجب على الأب قيمة الجارية للحيلولة إلى أن تضع الحمل، ثم يسترد بعد الوضع؟ - فيه وجهان: الأصح: لا يجب؛ لأن الجارية في يد الابن يستخدمها، وكذلك حكم الجارية المغرور بحريتها، والموطوءة بشبهة إذا حبلت. وإذا ملك الأب هذه الجارية بعده، هل تصير أم ولد له - فيه قولان؛ كالموطوءة بالشبهة. فأما إذا كانت الجارية قد وطئها الابن، ثم وطئها الأب عالماً بالحال - فهل عليه الحد - فيه قولان؛ كمن ملك أخته بالنسب أو بالرضاع فوطئها. أصحهما: لا يجب؛ لشبهة الملك. والثاني: يجب؛ لأنها محرمةٌ عليه على التأبيد، وكذلك لو اشترى جارية وابنتها، فوطيء الأم - حُرمت البنت على التأبيد، فلو وطيء البنت بعده عالماً، هل عليه الحد - فيه قولان: فإن قلنا: يجب الحد، فإذا استولدها الأب في هذه المواضع - لا تصير الجارية أم ولد له. والولد رقيق للابن غير ثابت النسب، ولا تحرم الجارية على الابن، ويجب المهر على

الأب إن كانت الجارية مكرهة، وإن طاوعت فلا يجب على الأصح؛ كما لو زنا بجارية أجنبي. وإن قلنا: لا حد عليه، أو كان جاهلاً - فعليه المهر، والجارية محرمة عليهما جميعاً على التأبيد، وإذا استولدها الأب هل تصير أم ولد له - نظر؛ إن كان الابن استولدها فلا تصير أم ولد؛ لأن أم الولد لا تنتقل من ملك على ملكٍ، وإن لم يكن الابن قد استولدها، فهل تصير أم ولد للأب فعلى قولين، كما ذكرنا فيما إذا لم يكن الابن قد وطئها: أظهرهما: تصير أم ولدٍ له. وإن قلنا: تصير أم ولد له- فعليه قيمة الجارية للابن، ولا يجب قيمة الولد ولا ولاء عليه، وإن قلنا: لا تصير أم ولد له - عليه قيمة الولد ولا يجب عليه قيمة الجارية، وهل على الولد ولاءٌ - فيه وجهان: الأصح: أن لا ولاء عليه. ولو كانت جارية الابن في نكاح الغير، ولم يرتفع النكاح، فوطئها الأب وأحبلها - صارت أم ولدٍ للأب على أظهر القولين؛ كما لو لم تكن في نكاح الغير، ولا يرتفع النكاح بانتقال الملك إلى الأب؛ كما لو وطئها سيدها وأحبلها - صارت أم ولد له، ولا ينفسخ النكاح، ولا يجوز للزوج أن يقربها، حتى تضع الحمل، وتطهر من النفاس. ولو وطيء الأب مكاتبة ابنه، واستولدها - هل تصير أم ولد له - فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن المكاتبة لا تقبل النقل من ملك على ملك؛ كأم الولد. والثاني: وهو الأصح؛ أنها كالقنة؛ لأن الكتابة تقبل الفسخ، بخلاف الاستيلاد. ولو استولد جارية مشتركة بين أبيه وبين أجنبي - فنصيب الابن يصير أم ولدٍ على القول الأظهر، ثم إن كان موسراً سرى إلى نصيب الشريك، والولد حر لا ولاء عليه، وعليه كمال المهر، وكمال قيمة الجارية للابن والأجنبي. وإن كان معسراً فنصيب الشريك لا يصير أم ولدٍ له، والولد نصفه حر ونصفه رقيق على أصح القولين، وإن كان الأب رقيقاً استولد جارية ابنه - لا تصير أم ولدٍ له؛ لأنه لا ملك له ولاتصير جارية ولا حد عليه للشبهة، والولد ثابت النسب، وهل يكون حراً؟ فيه وجهان: أحدهما: هو رقيقٌ لرق الأبوين. والثاني: وبه أفتى الشيخ القفال؛ أنه حر كولد المغرور، وقيمته في ذمته إلى أن يعتق، والمهر يتعلق برقبته إن كانت مُكرهة، وكذلك لو أكره العبد حرة فوطئها، وإن كانت طائعة - فقولان؛ كما لو وطيء العبد أجنبية بالشبهة:

أحدهما: يتعلق برقبته. والثاني: بذمته، وكذلك من نصفه حر ونصفه رقيق، إذا استولد جارية ابنه - لا تصير أم ولد له، والولد نصفه حر، وفي النصف الآخر فيه وجهان. قال الشيخ - رحمه الله -: فإن قلنا: كله حر، فعليه كمال قيمة الولد، نصفها في كسبه، ونصفها في ذمته. وإن قلنا: نصفه حر، فعليه قيمة نصفه، ويكون في كسبه. ولو استولد المكاتب جارية ابنه، فهل تصير أم ولدٍ؟ فيه وجهان، بناء على ما لو استولد جارية نفسه، هل تثبت أمومة الولد؟ - فيه قولان. ولو تزوج الأب جارية الابن، فهل يصح أم لا؟ - نظر؛ إن كان الأب رقيقاً - يصح؛ لأنه لا يجب على الابن إعفافه. وإن كان حراً - موسراً أو معسراً - بحيث يجوز له نكاح الأمة. فإن قلنا: يجب على الابن إعفافه - لا يجوز. وإن قلنا: لا يجب إعفافه، أو كان الابن معسراً - لا يجب عليه الإعفاف للأب، فيبني على أن استيلاد الأب هل ينفذ أم لا؟ إن قلنا بظاهر المذهب: إنه ينفذ - لا يجوز؛ لأن كل جارية ينفذ استيلادها- لا يجوز له أن يتزوجها كجارية نفسه. وإن قلنا: لا ينفذ فيجوز. ولو تزوج رجل جارية، ثم ملكها ابنه - نظر؛ إن كان الأب رقيقاً لا ينفسخ النكاح، وإن كان حراً، وقلنا بظاهر المذهب: إنه لا يجوز أن ينكح جارية الابن - فهل ينفسخ النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفسخ؛ كما لو تزوج جارية، ثم اشتراها -[ينفسخ النكاح]. والثاني: وهو الأصح: لا ينفسخ النكاح؛ لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء؛ كما أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا ترفع دوامه. وإن قلنا: لا ينفسخ النكاح، أو جوزنا له أن يتزوجها ابتداءً، فاستولدها - لا تصير أم ولدٍ له؛ لأنها علقت برقيقن بخلاف ما لو أحبلها بغير النكاح. وعند أبي حنيفة: يجوز للأبِ أن يتزوج جارية الابن.

فصل في تسري المملوك قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [الحج: 5، 6]. والمراد من الآية: الأحرار. قال ابن عمر - رضي الله عنهما-: "لا يطأ الرجل إلا وليدة، إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء صنع بها ما شاء". ولا يجوز للعبد أن يتسرى؛ لأنه لا ملك له، فلو ملكه السيد مالاً، وقبل، ففيه قولان: في الجديد: لا يملك. وفي القديم: يملك. فعلى هذا لا يملك التصرف فيه إلا بإذن السيد، وإن كانت جارية ليس له أن يطأها، فإن أذن له السيد في وطئها - جاز له أن يطأها على قوله القديم. ولو وطأها على هذا القول دون إذنه لا حد عليه لشبهة الملك، ولو استولدها فالولد مملوك للعبد، غير أنه لا يعتق عليه لنقصان ملكه، فإن أعتق عتق الولد، والمذهب الأول أنه لا يملك، ولا يحل الوطء، وإن أذن السيدُ، بخلاف سائر الأملاك من: اللبس، والأكل، والطيب؛ يحل للعبد بإذن السيد، لأن الإباحة تجري فيها، ولا تجري في البضع. ولو وطئها، واستولدها - يكون الولد رقيقاً للمولى، وكذلك حكم المُدبر، والمعلق عتقه بالصفة. أما من نصفه حر، ونصفه رقيق إذا حصل له مال بنصفه الحر، فاشترى به جارية - يملكها، ولكن لا يجوز له وطؤها دون إذن السيد، فإن أذن له السيد يجوز له وطؤها على القول القديم، ولا يجوز على قوله الجديد؛ لأن بعضه مملوك، وما فيه من الملك يمنع التسري. وأما المكاتبُ: فلا يجوز له التسري بغير إذن الولى، وهل يجوز بإذنه؟ فيه قولان؛ بناء على تبرعاته، هل تنفذ بإذنه؟ فعلى قولين.

وقيل: يبني المكاتب على العبد إن قلنا: العبدُ لا يتسرى؛ فالمكاتب أولى. وإن قلنا يتسرى ففي المكاتب قولان، بناء على تبرعاته. فصل في نكاح الزانية رُوي أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن امراتي لا ترد يد لامس". فقال: "طلقها". قال: إني أحبها. قال: "أمسكها". إذا زنت امرأة تحت زوج - لا ينفسخ النكاح، ولو نكح عفيف زانية - يصح، ويُكره. وقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] نزلت في بغي كافرة يقال لها؛ عناق. وقال سعيدُ بن المسيب: الآية منسوخة بقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: 32]، فلو نكح رجل حاملاً من الزنا يجوزُ؛ لأنه لا عدة عليها، ولكن لا يطؤها ما لم تضع الحمل. وقيل: يجوز أن يطأها؛ لأنه لا حرمة لماء الزنا. وقال أبو يوسف: لا يجوز نكاح الحامل من الزنا. وقال مالك: لا يجوز نكاح الزانية ما لم تنقض عدتها.

باب نكاح العبد وطلاقه قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إذا طلق العبد امرأته اثنتين - حُرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره"، ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين، يستوي فيه القن، والمدكر، والمكاتب، ومن بعضه رقيقٌ، لا يملك على زوجته أكثر من طلقتين، سواء كانت زوجته حرة، أو أمة، ويملك الحر على زوجته الأمة ثلاث طلقات اعتباراً بالزوج؛ لأنه المالك للطلاق. وعند أبي حنيفة: الاعتبار في الطلاق بالمرأة، والعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث طلقات، والحر لا يملك على زوته الأمة إلا طلقتين.

ودليلنا: ما رُوي أن نُفيعاً سأل عثمان وزيداً، فقال: طلقت امرأة لي حرة طلقتين، فقال: حرمت عليك، وكان نفيعٌ عبداً. وكذلك من بعضه رقيق. والله أعلم بالصواب. باب ما يحرم ويحل من نكاح الحرائر والإماء قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية. أسباب الوصلة المحرمة للنكاح ثلاثة: نسبٌ، ورضاعٌ، ومصاهرة، والمحرماتُ بهذه

الأشياء أربع عشرة: سبع بالنسب، واثنتان بالرضاع، وأربع بالمصاهرة، وواحدة بسبب الجمع. أما بالنسب: فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ....} إلى قوله: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ}. فكل امرأةٍ ولدتك، أو ولدت من ولدك من الذكور والإناث - وإن علا فهي من الأمهات، وكل امرأة ولدتها، او ولدت من ولدها من الذكور والإناث - وإن سفل. فهي

من البنات. وكل امرأة ولدها أحد أبويك فهي أختك. وكل امرأةٍ ولدها من ولدَ

آبائك، أو أحدٌ من أجدادك - وإن علا - فهي من العمات، وكل امرأةٍ ولدها من ولد أمك، أو واحدة من جداتك، فهي من الخالات، وكل امرأة ولدها أخوك، أو أحد من أولاد أخيك - وإن سفل فهي من بنات الأخ، سواء كان الأخ [لأب وأم]، أو لأبٍ أو لأم، وكل امرأةٍ ولدتها أختك، أو واحد من أولاد إخوتك - وإن سفل، فهي من بنات الأخت، من أي جهة كانت. وجملة ما قاله أبو إسحاق الإسفراييني: يُحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده.

أما المحرمات بالرضاع: قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].

ورُوي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحرم من [الرضاع] ما يحرم من الولادة".

وتفصيله: كل امرأة أرضعتك، أو أرضعت واحداً من آبائك، أو أجدادك، أو جدادتك - وإن علا- فتلك المرضعة وأمهاتها، وأمهات الفحل الذي هو صاحب اللبن جداتهما - وإن علون - من الرضاع والنسب - في معنى الأمهات، وأخوات المرضعة، وأخوات صاحب اللبن وأخوات آبائهما وأجدادهما أو جداتهما - وإن علون - من الرضاع والنسب - في معنى العمات والخالات، وبنات المرضعة، وبنات، صاحب اللبن من الرضاع والنسب - أخواتك وبنات أولادهما - وإن سفلن من الرضاع والنسب - في معنى بنات الأخ والأخت. وكل امرأة أرضعتها امرأتك بلبنك، أو واحدة من بناتك، أو بنات أولادك، أو امرأة بلبن واحدٍ من بنيك، أو بني أولادك - وإن سفلوا - فهي أو بناتها أو بنات أولادها من الرضاع والنسب - في معنى البنات. وكل امرأة أرضعتها أمك، أو امرأة بلبن أبيك - فهي أختك وبناتها أو بنات أولادها من الرضاع والنسب - وإن سفلن - في معنى بنات الأخت. وإن كان الرضيع ذكراً، فبناته وبنات أولاده من الرضاع والنسب في معنى بنات الأخ. وكل امرأة أرضعتها أختك، أو امرأة بلبن أخيك - فهي وبناتُها وبناتُ أولادها - وإن سفلن - من الرضاع والنسب - في معنى بنات الأخ والأخت. وكل امرأةٍ أرضعتها واحدةٌ من جداتك، أو امرأة بلبن واحدٍ من أجدادك - وإن علا - من الرضاع والنسب - فهي في معنى العمات والخالات. وأربع من النسوان يتصورن حلالاً في الرضاع، ولا يُتصور وود ذلك في النسب - أم أختك، وأم نافلتك، وجدة ولدك، وأخت ولدك، فهؤلاء في النسب حرام؛ لأن أم أختك، إما أن تكون أمك، أو زوجة أبيك. وأم نافلتك؛ إما أن تكون ابنتك، أو زوجك ابنك. وجدة ولدك؛ إما أن تكون أمك، أو أم امرأتك. وأخت ولدك: إما أن تكون ابنتك أو ربيبتك.

ففي الرضاع تتصور أم أخت لا تكون أماً ولا زوجة أب؛ مثل: أن أرضعت امرأة أختك أو أخاك - لا تحرم تلك المرأة عليك، وإن كانت أماً لك، أو زوجة لأبيك من الرضاع - تحرم. وتتصور أم نافلة لا تكون ابنتك ولا زوجة ابنك؛ مثل: أن أرضعت امرأة نافلتك - لا تحرم عليك، وإن كانت ابنتك أو زوجة ابنك من الرضاع - حُرمت عليك. وتتصور جدة ولدك [لا تكون أمك] ولا أم امرأتك؛ بأن أرضعت [امرأة] ولدك - فأمها لا تحرم [عليك]. فإن كانت أمك وأم امرأتك من الرضاع - حُرمت عليك. وتتصور أخت ولدك لا تكون ابنتك من الرضاع، ولا ربيبت؛ بأن أرضعت امرأة ولدك - فلا تحرم عليك أخت ابنتها، وهي أخت ولدك، وإن كانت أخت الولد ابنتك من الرضاع، أو ربيبتك - حُرمت عليك، ولا تُحرم عليك أخت أخيك؛ لا من النسب، ولا من الرضاع. بيانه: من النسب: رجلٌ له أخ من أبٍ، وأختٌ من أم - يجوز لأخيه من الأب أن ينكح أخته من الأم. وبيانه من الرضاع: امرأة أرضعت غُلاماً وجارية أجنبيين، وللغلام أخ من النسب - يجوزُ لذلك الأخ أن يتزوج الجارية التي هي أخت الغلام بالرضاع. أما المحرمات بالمصاهرة: فقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ} [النساء: 23]. وقال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، فيحرم على الرجل حليلة الأب بنفس العقد.

وكذلك حلائل أجداده - وإن علوا - من قبل الأب الأمن سواء كان الأب من الرضاع، أو من النسب. وكذلك تحرم حليلة الابن، وحلائل أبناء أولاده - وإن سفلوا - من النسب، أو

الرضاع، وكذلك تحرم على الرجل أم زوجته، وأمهاتها، وجداتها من قبل أبيها، أو من قبل أمها من النسب، ومن الرضاع. ويحرم هؤلاء بنفس العقد، حتى لو فارق المرأة، أو مات عنها قبل الدخول - لا يحل له نكاح هؤلاء.

والرابعة: ابنة الزوجة تحرم على الرجل بعد الدخول بالأم، وكذلك بنات أولادها - وإن سفلوا - من النسب والرضاع جميعاً. فإن مات عنها، أو فارقها قبل الدخول بها- يحل له نكاح ابنتها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]. وقال مالك: لا تحرم الربيبة، إلا أن تكون مرباة في حجره. قال علي: أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت. وعامة العلماء على خلافه؛ لأن تحريم الأم مطلقٌ، وتحريم الربيبة مقيدٌ بالدخول بالأم. وقال داود: لا تحرم حليلة الابن من الرضاع؛ لأن الله - تعالى- قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23].

قلنا: التقييد بابن الصلب؛ ليعلم أن زوجة المتبني لا تُحرم، ولا تحرم أم حليلةِ الأب، ولا أم حليلة الابن، ولا حليلة الراب والربيب، وكل من يحرم بعقد النكاح من هؤلاء يحرم بالوطء بملك اليمين، أو بالشبهة. فصل في تحريم الجمع قال الله - تعالى-: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".

لا يجوزُ الجمعُ بين الأختين في النكاح، سواء كانتا من أب وأم واحدة، أو من أبوين وأم واحدة، أو من أمين وأبٍ واحدٍ، وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع.

وكذلك لا يجوز الجمع بين العمة وبنت الأخ، أو بنات أولاد الأخ - وإن سفلن، ولا بين الخالة وبنت الأخت، أو بنات أولاد الأخت - وإن سفلن - من الرضاع والنسب جميعاً. والمعنى فيه بعد الخبر أن هذه قرابة تجب صلتها، والجمع بينهما يسبب القطيعة؛ لما يكون بين الضرتين [من المنافسة] والخشونة. والحد فيه: أن كل امرأتين لو قدرت أحداهما ذكراً حرمت الأخرى عليه - يحرم الجمعُ بينهما في النكاح، وهذا في النسب والرضاع دون المصاهرة، حتى يجوز الجمع بين

المرأة وزوجة أبيها، وكذلك بين المرأة وزوج ابنها، وإن كُنا لو قدرنا إحدهما ذكراً حرمت الأخرى. وكذلك يجوز الجمع بين المرأة وربيبة زوجها من امرأة أخرى، وبين بنت الرجل وربيبته، لأنا لو قدرنا أحداهما ذكراً لا تحرم الأخرى عليه. ولو نكح رجل أختين معاً، فالنكاحان باطلان، وإن نكح واحدة، ثم نكح الأخرى قبل أن أبان الأولى - فنكاح الثانية باطل. فإذا وطيء الثانية جاهلاً بالحكم يجب عليه مهر المثل، وعليها العدة. ويجوز له وطء الأولى في عدة الثانية، غير أن المستحب ألا يطأها ما لم تنقض عدة الثانية. ولو نكح أماً وابنتها معاً، فنكاحهما باطلٌ، وإن نكح أحداهما بعد الأخرى - فنكاحُ الثانية باطل. وإن وطيء الثانية جاهلاً حرمت الأولى عليه على التأبيد. وهل يجوز نكاح الثانية؟ نُظر؛ إن كان بعد الدخول بمنكوحته - لا يحل أبداً، وإن كان قبل الدخول بها - نظر؛ إن كانت المنكوحة هي البنت فلا تحل؛ لأن الأم حرمت بالعقد على البنت، وإن كانت المنكوحة هي الأم يجوز له نكاح الثانية. فصل في الجمع بملك اليمين سُئل عثمان -رضي الله عنه- عن الأختين في ملك اليمين، هل يُجمع بينهما؟ قال: أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: لو كان إليَّ من الأمر شيء، ثم وجدت أحداً فعل ذلك - جعلته نكالاً. كل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما بعقد نكاح، فإذا اشتراهما رجل يصح العقد؛ لأنه ليس المقصود منه الاستمتاعح بدليل أنه يجوز ان يشتري من لا يحل له وطؤها، ولكن لا

يجوز أن يجمع بينهما وطئاً؛ لأن الوطء في ملك اليمين بمنزلة عقد النكاح. فلو اشترى أمةً وابنتها، فوطيء إحداهما - حُرمت الأخرى على التأبيد. فلو وطيء الأخرى بعده - نظر؛ إن كان جاهلاً بالتحريم حرمتا على التأبيد، وإن كان عالماً، فهل عليه الحد بوطء الثانية؟ - فيه قولان: فإن قلنا: لا حد عليه، حرمتا عليه. وإن قلنا: يجب الحد. فلا تحرم الأولى عليه. ولو اشترى أختين، أو جارية وعمتها، أو خالتها، فإذا وطيء أحداهما، فلا يجوز له وطء الأخرى ما لم - يحرم الموطوءة على نفسه، فإذا حرمها ببيع، أو هبة، أو تسليم، أو إعتاق، أو تزويج، أو كتابةٍ، أو باع بعضها - جاز له وطء الأخرى. قال أبو حنيفة - رحمه الله-: بالتزويج والكتابة لا يحل له وطء الأخرى، ولو كانت إحدى الأختين مجوسية، أو أخته من الرضاع، فوطئها بالشبهة - جاز له وطء الأخرى؛ لأن تحريم هذه مؤبدة، والمجوسية يقر عليه، بخلاف المرتدة. فلو حرمت الموطوءة، أو وُطئت بالشبهة حتى لزمتها العدة، أو ارتدت - لا تحل له الأخرى. ولو باع الموطوءة، ثم ردت عليه بعيب، أو استغلها أو كاتبها، ثم عجزت، أو وبها من ابنه، ثم استرجعها -لا يحل له وطء الأخرى قبل الاستبراء. فإذا استبرأها نظر؛ إن لم يكن وطيء الثانية بعد تحريم الأولى، فله أن يطأ أيتهما شاء، ثم لا يطأ الأخرى. وإن كان قد وطئها لم يكن له وطء هذه التي عادت إليه ما لم تحرم الأخرى على نفسه. فلو أنه وطيء أحداهما ثم وطيء الأخرى قبل تحريم الأولى على نفسه - لا حد عليه لشبهة الملك، ولا يجوز له أن يعود على وطء الثانية حتى تحرم الأولى على نفسه، وله أن يستخدمها. ويجوز له وطء الأولى، غير أن المستحب ألا يطأها حتى يستبرئ الثانية. ولو ملك عبداً مع ثلاث أخوات متفرقات - يجوز له الجمع في الوطء بين أخته من أبيه، وبين أخته من أمه؛ لأنهما أجنبيان، ولا يجوز أن يجمع بين واحدةٍ منهما مع التي هي لأبٍ وأم. ولو اشترى أمة، ثم نكح أختها أو عمتها أو خالتها- يجوز، وإن كان بعد وطء

الأمة، ثم لا يجوز له الوطء بملك اليمين بعده، وإن تقدم ملك اليمين على ملك النكاح؛ لأن ملك النكاح يراد للوطء؛ بدليل أنه لا يجوز أن ينكح من لا يحل له وطؤها، فيقدم الوطء فيه على ملك اليمين. باب الزنا لا يحرم الحلال قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54]. إذا وطيء امرأة بملك النكاح، أو بملك اليمين - ثبتت المصاهرة، وهو أنه تحرم على الواطيء أم الموطوءة، وابنتها، وتحرم الموطوءة على أب الواطيء، وابنه. ولا يتعلق بوطء النكاح إلا تحريم الربيبة؛ لأن سائر المحرمات تثبت بنفس العقد، ويتعلق الكل بالوطء بملك اليمين.

وكذلك إذا وطيء امرأة بشبهة [ملك] النكاح، أو بملك يمين، أو وطيء جارية ابنه المشتركة بينه وبين غيره - تتعلق به هذه المحرمات. ولو نكح مشرك امرأة على اعتقادهم، هل تثبت حرمة المصاهرة بالعقد؟ فيه وجهان: فإن قلنا: أنكحة المشركين يحكم لها بالصحة - ثبت وهو الأصح، وألا فلا يثبت ما لم يوجد الوطء، والوطء بملك النكاح وملك اليمين، كما يثبت الحرمة يثبت المحرمية، حتى يجوز للواطيء أن يخلوا بأم الموطوءة وابنتها، ويسافر بهما، [ويجوز] لأبي الواطيء وابنه الخلوة بالموطوءة، والمسافرة بها. فأما وطء الشبهة هل يثبت المحرمية؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت، كما يثبت الحرمة والنسب. والثاني: لا يثبت، وهو الأصح؛ قاله في "الإملاء"؛ لأن ثبوت الحرمة فيه بسببٍ غير مُباحٍ.

إذا زنا بامرأةٍ لا تثبت به حرمة المصاهرة، حتى يجوز للزاني أن ينكح أم المزني بها وابنتها، ويجوز لأب الزاني وابنه - نكاح المُزني بها؛ لأن ثبوت حرمة المصاهرة نعمةٌ من الله - تعالى - فلا يثبت بالزنا؛ كما لا يثبت به النسب، وكما لا تحرم المزنى بها بوجوب العدة على سائر الناس؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وقال الثوري، وأبو حنيفة: تثبت بالزنا حرمة المصاهرة. وإن كان أحدهما زانياً دون الثاني، ففيه وجهان:

أحدهما: وهو الأصح: الاعتبار بالرجل، وإن كان الرجل جاهلاً وهي عالمة - تثبت حرمة المصاهرة؛ كما يثبت النسب، ولا تجب العدة، ولا يجب لها المهر. وإن كان الرجل عالماً وهي جاهلة، أو نائمة، أو مكرهة - فلا تثبت حرمة المصاهرة؛ كما لا يثبت النسب، ولاتجب العدة، ويجب المهر. والوجه الثاني: في أيهما كانت الشبهة حرمة المصاهرة، وكذلك العاقلة البالغة إذا مكنت مجنوناً أو مراهقاً. ولو أتى امرأته في دبرها، أو أجنبية بالشبهة - ثبتت حرمة المصاهرة؛ كما لو أتاها في القُبُل، ويثبت به النسب، وتجب العدة. ولو قبل امرأة، ولمسها بشهوة، أو فاخذها في موضع الشبهة - هل تثبت به حرمة المصاهرة؟ وفي الزوجية، هل تحرم الربيبة؟ فيه قولان: أصحهما - وهو قول أكثر أهل العلم: تثبت؛ لأنه استمتاع يُوجب الفدية على المحرم كالوطء.

والثاني: لا تثبت؛ لأنه لا يوجب العدة؛ كاللمس بغير الشهوة، أو بالنظر بالشهوة. فأما إذا لمس أجنبية بالشهوة، أو فاخذها عالماً - فلا تثبت كالزنا. فإن قلنا: تثبت، فلو قبلت امرأة ابن زوجها بالشهوة عالمةً وهو جاهل - يرتفع النكاح بينها وبين زوجها. وإن كان الابن عالماً وهي جاهلة - لا يرتفع على أصح الوجهين. ولو نظر إلى امرأة بالشهوة - لا تثبت الحرمة، وسواء نظر إلى وجهها، أو إلى فرجها. قال أبو حنيفة، والثوري: إن نظر إلى فرجها تثبت. ولو تلوط بغلام لا تحرم على الفاعل ابنته. وقال الأوزاعي، وأحمد: تثبت. ولو استدخلت امرأة مني زوجها، أو مني أجنبي بالشبهة - يثبتُ به النسب، وحرمة المصاهرة، وتجب العدة، ولا يحصل به الإحصان، والتحلل. وفي تقرير المهر ووجوبه للمفوضة، وفي وطء الشبهة، ووجوب الغسل، وثبوت الرجعة في الزوجة - وجهان، سواء أنزل الزوج باحتلام، أو استمناء: أصحهما: لا تثبت. وفي الأجنبي إن كان أنزل بزنا لا يثبت النسب. وإن استدخلت ماء زوجها، ولكن الزوج أنزله بزنا - قيل: لا يثبت به النسب، ولا المصاهرة؛ ولا تجب العدة، ولا يجب المهر. قال الشيخ: وجب أن يثبت؛ كما لو وطيء زوجته على اعتقاد أنه يزني بأجنبية. ولو زنا بامرأة، فأتت منه بولد - فلا يثبت به النسب ولا شيء من أحكامه، حتى لو أتت منه ببنت يجوز للزاني أن ينكحها، والورع ألا يفعل. وقال أبو حنيفة: [يجوز] أن ينكحها. قال بعض أصحابنا: إن تحقق أنها من مائه - لا يجوز أن ينكحها.

باب نكاح حرائر أهل الكتاب ومائهم وإماء المسلمين قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. الكفارُ على ثلاثة أقسام: قسمهم لهم كتابٌ، وقسم لهم شبهة كتابٍ، وقسم لا كتاب لهم. فأما الذين لهم كتاب: فهم اليهود والنصارى، فمن كان منهم من نسل بني إسرائيل يُقرون بالجزية، ويحل له نكاح حرائرهم، وأكل ذبائحهم؛ لأن الكتاب أنزل في آبائهم. فأما من دخل في دينهم من غير نسلهم - نظر؛ إن دخلوا في دينهم قبل التبديل والنسخ- يقرُّ أولادهم الذين جاءوا من بعد بالجزية، وهل يحل نكاح حرائرهم، وأكل ذبائحهم؟ فيه قولان: أحدهما - وهو الصحيح من المذهب: يحل؛ كما يقرون بالزية. والثاني: لا يحل اعتباراً بالنسب، وقررناهم بالجزية تغليباً للحقن. والأول المذهب؛ لأن كل من دخل في دين في وقت كان حقاً، فتثبت له حرمة أهله؛ كمن دخل اليوم في الإسلام. وإن دخلوا في دينهم بعد التبديل - نظر؛ إن دخلوا في دين قوم لم يبدل - كان كمن دخل قبل التبديل، وإن دخلوا في دين المبدلين، أو دخلوا فيه بعد النسخ - فلا فضيلة لهم، ولا يقرون بالجزية، ولا يحل منكاحتهم، ولا ذبيحتهم؛ لأن تلك الحرمة قد سقطت بالتبديل؛ كما بالنسخ. أما هم أنفسهم: فن بدلوا بقيت لهم تلك الحرمة؛ لأنهم من أولاد من ثبتت لهم تلك الفضائل، [وهؤلاء ليسوا من أولاد من ثبتت لهم تلك الفضائل]. ومن شككنا أنهم دخلوا في دينهم قبل التبديل أو بعده، فإنهم يقرون بالجزية تغليباً للحقن، ولا يحل منكاحتهم وذبيحتهم تغليباً للحرمة؛ كما حكم الصحابة في نصارى العرب. أما الصابئون من النصارى، والسامرة من اليهود- يقرون بالجزية، وهل يحل نكاح حرائرهم، وأكل ذبيحتهم؟

نظر إن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصل دينهم - فلا يحل؛ كالمجوس.

وإن كانوا يوافقونهم في أصل الدين، ويخالفون في الفروع - فيحل. ونعني بأهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل. أما من تمسك بكتب أنزلت على سائر الأنبياء - صلوات الله عليهم - مثل: صحف شيث، وزبور داود - فلا يقرون بالجزية، ولا يحل مناكحتهم وذبيحتهم. واختلفوا في تعليله: فمنهم من قال: لأنه لم يكن في تلك الكتب أحكام، وإنما كانت مواعظ وقصصاً. والأحكامُ في هذه الكتب الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والفرقان، فاختص القرآن من بينهما بالإعجاز. ومنهم من قال: إن تلك الصحف لم تكن من كلام الله - تعالى - بل كانت وحياً؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي؛ أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية".

فأما من لهم شبهة كتابٍ: فهم المجوس، كان لهم كتابٌ، فبدلوا، فأصبحوا وقد

أُسْرِيَ فقدوا كتابهم؛ قاله علي - رضي الله عنه- فإنهم يقرون بالجزية، ولكن لا يحل مناكحتهم وذبائحهم؛ لما رُوي عن عبد الرحمن بن عوفٍ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المجوس: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم".

وقال أبو ثور: ويحل مناكحتُهم، وذبائحهم. وعامة الصحابة والعلماء على خلافه. وأما من لا كتاب له؛ مثلُ عبدة الأوثان وما يستحسنون، ومثل عبدة الشمس، والزنادقة، والمعطلة، والباطنية - فلا يقرون بالجزية، ولا يحل مناكحتهم وذبائحهم؛ لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقال: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة 231]. وإذا كان أحد أبوي الكافر كتابياً، والآخر مجوسياً أو وثنياً - يقر بالجزية أي الأبوين كان كتابياً تغليباً للحقن. وهل يحل مناكحته، وذبيحته؟ نظر إن كانت الأم كتابية، فلا يحل مناكحته وذبيحته. وإن كان الأب كتابياً فعلى قولين: أحدهما- وهو قولُ مالك: يحل؛ لأن النسب إلى مُنكاحته وذبيحته، إلى الآباء. والثاني: وهو الأصح: لا يحلُّ؛ لأن فيه جزءاً ممن لا تحل ذبيحته؛ كالحيوان المتولد بين ما يؤكل لحمه، وبين ما لا يؤكل لا يحل أكله أي الأبوين كان مأكولاً، بخلاف ما لو كان أحد أبويه مسلماً، والآخر مجوسياً - حلت ذبيحته ومناكحته؛ لأنه محكومٌ [له] بالإسلام، ولأن الإسلام يعلو الأديان كُلها، فلا يشركه الشرك. والمتولد بين الكتابية والوثني غير محكوم له بالكتابية؛ إذ الشرك يشركه الشرك؛ فلا يترجح جانبٌ على الآخر. فإن قلنا: لا يحل، فلو بلغ ودان دين أهل الكتاب.

قال الشافعي -رضي الله عنه - في موضع: لا تحل ذبيحته، ومناحته. ومن أصحابنا من قال: هذا قول الشافعي - رضي الله عنه-: إن المتولد بني من تحل ذبيحته ومن لا تحل، إذا بلغ ودان دين أهل الكتاب تحل ذبيحته؛ لأن فيه شعبة من كل واحد منهما، إلا أنا غلبنا جانب الحظر ما دام محكوماً بحكم الأبوين، فإذا بلغ فله حكم نفسه، وله أن يختار دين أي الأبوين شاء. وإذا اختار دين أهل الكتاب - حلت ذبيحته. ولا فرق على هذا بين أن يكون الأب كتابياً أو الأم، بخلاف المتولد بين المجوسيين، إذا بلغ ودان دين أهل الكتاب - لا تحل ذبيحته؛ لأنه تمخض ممن لا تحل ذبيحته. ومن أصحابنا من قال - وهو المذهب: إنا إذا قلنا: لا تحل ذبيحته قبل البلوغ؛ فإذا بلغ ودان دين أهل الكتاب - لا يحل أيضاً المتولد بين المجوسيين. وحملوا النص على ما إذا كان أحد أبويه يهودياً، والآخر نصرانياً، فإذا بلغ ودان دين أحد الأبوين - حلت ذبيحته؛ لأنه متولد بين أبوين تحل ذبيحة كل واحد منهما. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: أي الأبوين كان كتابياً، والآخر وثنياً أو مجوسياً - تحل ذبيحته ومناكحته، وهذا تغليباً لأفضل الدينين. فصل فيما يجب على المسلم في نكاح الكتابية إذا نكح مسلم كتابية - يجب لها عليه ما يجب [على المسلم] من المهر، والنفقة، والقسم، ويجب عليها من التمكين ما يجب على المسلمة، غير أنهما لا يتوارثان لاختلاف دينهما. فإذا طهرت من الحيض أو النفاس - له إجبارها على الغسل؛ كما يجبر المسلمة؛ لأنه لا يحل وطؤها قبل الغسل، ثم بعده يحل له وطؤها، بخلاف المسلمة تغتسل بلا نية - لا يحل وطؤها؛ لأنه لا ضرورة إليه. وقال أبو حنيفة: لا يجبرها على غُسل الحيض؛ لأن عنده يحل له وطؤها بعد ما طهرت قبل الغسل، وله أن يُجبر المسلمة على غُسل الجنابة. وهل يجبر الذمية عليه؟ فيه قولان:

أحدهما: بلى؛ كما يجبرها على الغسل من الحيض. والثاني: لا؛ لأن الاستمتاع بها جائز قبل الغسل. وقيل: لا يجبرها، إلا أن تطول المدة؛ لأنه تعاف النفس منها، إذا طالت المدة على الجنابة، وله إجبار المسلمة والذمية على التنظيف بالاستحداد، وقلم الأظفار إن طالت وقبح منظرها. وإن طالت قليلاً ولم تجاوز الحد فعلى قولين. وكذلك هل يجبرها على التنظيف من الوسخ والدرن؟ - فعلى قولين بناء على أنه هل يجبرها على غسل الجنابة أم لا؟ وله منعها من كل ما يتأذى بريحه؛ مثل: الثوم، [والبصل]، والكراث، ويمنع الذمية عن شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والمسلمة عن شرب النبيذ. وإن كان يعتقدُ إباحته. ويمنع الذمية عن لبس جلد الميتات، وعن لبس كل ثوب مُنتنن ولا يمنعها من لبس ما يلبسون على عادتهم مما يحل في الإسلام. وقيل: هل له منع المسلمة عن شرب النبيذ بقدر ما لا يُسكر إذا كان كانا حنفيين، أو منعُ الذمية عن أكل لحم الخنزير، وعن شرب الخمر قليلاً بحيث لايسكر، وعن أكل الثوم والبصل؟ - فيه قولان كالتنظيف من الوسخ. وجملته: أن كل ما لا يمنع الاستمتاع، ويمنع كماله - هل يجبرها عليه؟ فيه قولان. وله منع الذمية عن الخروج إلى الكنائس، والبيع؛ كما يمنع السلمة عن الأعياد، المساجد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" في حق الخلية. فصل فيما إذا انتقل الكافر من دين إلى دين في انتقال الكافر من دين إلى دين آخر [غير الإسلام]. [ينظر] إن انتقل من دين أهل الكتاب إلى دين أهل الكتاب؛ كاليهودي يتنصر، أو

النصراني يتهود، فهل يقر بالجزية؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقر؛ لأنه استحدث ديناً باطلاً بعدما كان معترفاً ببطلانه؛ كالمسلم يرتد. والثاني- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله-: يُقر؛ لأن كلا الفريقين يقر بالجزية؛ كالنصراني ينتقل من مذهب إلى مذهب، وليس كالمسلم يرتد؛ لأنه ترك دين الحق، وهذا ترك دين الباطل. فإن قلنا: يقر بالجزية تحل ذبيحته، وإن كانت امرأة لا يحل للمسلم نكاحها، وإن فعلت في دوام نكاح مسلم - لا يضر النكاح. وإن قلنا: لا يقر لا تحل ذبيحته، [وإن كانت امرأة لا يحل نكاحها]، وإن كانت تحت مسلم، فإن كان قبل الدخول تتنجز الفرقة بينهما، وإن كان بعده تتوقف على انقضاء عدتها؛ كالمسلمة ترتد، فعلى هذا القول هل يقنع منه بالعود إلى الدين الأول، أم لا يقبل منه إلا الإسلام؟ فيه قولان: أحدهما: يقنع بالعود إلى الأول؛ لأنه كان مقراً عليه. والثاني: لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه أقر ببطلان الدين الأول، وإن لم يرجع إلى الدين الأول، أو لم يسلم على القول الآخر - ما يُفعل له؟ فيه قولان: أحدهما: يُقتل كالمرتد. والثاني: يبلغ المأمن، ثم هو حزبٌ لنا، وإن ظفرنا به قتلناه، وإن خرج إلى دار الحرب، ثم عاد إلينا - فلا نقره إلا بما كنا نقره في الابتداء من العود إلى الدين الأول، أو الإسلام. ولو انتقل الكافر من اليهودية أو النصرانية إلى دين المجوس - فهل يقر على الجزية؟ فعلى القولين. فإن قلنا: لا يقر، فهل يقنع بالعود إلى الدين الأول، أم لا؟ - فيه قولان. وعلى القولين جميعاً: لا تحل ذبيحته ومناحته ما دام على التمجس. ولو فعلته كتابية تحت مُسلمٍ، فإن كان قبل الدخول - تتنجز الفرقة، وإن كان بعد الدخول تتوقف إلى انقضاء العدة، فإن أسلمت أو عادت إلى الدين الأول على قولنا: إنه يقنع منها به على انقضاء العدة - فهما على النكاح، وإلا بان أن الفُرقة وقعت بينهما بتبديل الدين.

ولو تمجست يهودية تحت يهودي - نظر إن كانوا لا يعتقدون جواز نكاح المجوسية - فهو كما لو تمجست تحت مسلم، وإن كانوا يعتقدون جوازه، فلا نتعرض له؛ فإن أسلما جميعاً أقرا عليه. ولو انتقل مجوسي إلى يهودية، أو نصرانية - فهل يقر عليه فيه قولان: فإن قلنا: لا يقر، فهل يقنع بالعود إلى الأول؟ فيه قولان. ولا خلاف أنه لا تحل ذبيحته، ولا مناكحته؛ لأن الكافر إذا انتقل من دين إلى دين - يبقى له على أحد القولين فضيلة هي موجودة في الدينين جميعاً، أما ما هو موجود في أحدهما - فلا يثبت له. وعند أبي حنيفة: يجوز فضيلة المنتقل إليه. ولو توثن يهودي أو نصراني، أو تزندق - فلا يقر عليه، وهل يقنع بالعود إلى الدين الأول؟ - فيه قولان: فإن فعلته يهودية تحت مسلم؛ فكالمسلمة ترتد. ولو لم ينتقل إلى الدين الأول، بل انتقل إلى دين آخر -[لا يقر] عليه؛ بأن توثن يهودي ثم تنصر، أو نصراني توثن ثم تهود - فهل يقر عليه؟ فيه قولان؛ كاليهودي يتنصر. ولو توثن مجوسي لا يقر عليه، وهل يقنع بالعود إلى الأول؟ فيه قولان. ولو أن وثنياً تهود، أو تنصر، أو تمجس - لا يقر عليه، ولا يقبل منه إلا الإسلام المرتد؛ لأن التقرير لمي ن في الدين المنتقل عنه؛ فلا يحصل له بالانتقال. فصل في نكاح الإماء قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ...} [النساء: 25] الآية. لا يجوزُ للحر نكاح الأمة المسلمة إلا بشرطين: أحدهما: ألا يجد صداق حرة: الثاني: أن يكون خائفاً على نفسه من العنت، وهو الزنا؛ لأن الله - تعالى- قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}، وقال في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] أباح للحر نكاح الأمة بشرطين؛ فلا يجوز إلا بعد وجودهما.

وقال أبو حنيفة: يجوز مع فقد الشرطين، إلا أن يكون في نكاحه حرة؛ فحينئذ لا يجوز نكاح الأمة، والآية حجة عليه. فإن كان في ملكه أمة تحل له وطؤها، أو قادراً على أن يشتري أمة - لا يحل له أن ينكح الأمة؛ لأنه مستغتن عن إرقاق ولده بما معه. وإن كان في ملكه أمةٌ لا يحل له وطؤها نُظر: إن كنات قيمتها تفي بمهر حرة، أو بثمن أمة يحل له؛ فلا يحل له نكاح الأمة، وإلا فيحل. وإن كان قادراً على صداق حرة كتابية، فهل له نكاح الأمة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الله - تعالى- قال: {أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ...} [النساء: 25] وهذا غير قادر على طول حرة مؤمنة. والثاني - وهو الأصح: لا يجوز؛ لأنه قادر على نكاح حرة؛ كما لو كانت في نكاحه حرة ذمية -لا يجوز له نكاح الأمة. وذكر الإيمان في المحصنة في الآية ليس على سبيل الشرط، بل ذكره تشريفاً؛ كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ....} [الأحزاب: 49] الآية. ثم المسلمة والذمية في هذا الحكم سواءٌ، وهو أن لا عدة عليها إذا طلقت قبل الدخول، وإن خاطب المؤمنين به. وإن كانت تحته مجنونة، أو مجذومة، أو برضاء - لا يحل له نكاح الأمة، وإن كانت في نكاحه حرة فطلقها -[نظر؛ إن طلقها] رجعياً - لا يجوز له نكاح الأمة ما دامت في العدة؛ لأنه يمكنه مراجعتها، وإن طلقها بائناً؛ فيجوز عند وجود الشرطين. قال الشيخ: وإن كانت تحته حرة رتقاء، أو قرناء - لا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك إن كانت تحته صغيرة، أو مضناة لا تحتمل الجماع؛ لأنه قادر على الأصل، وإن لم يحصل مقصودة يمكنه مفارقتها، وإن كان واجداً لصداق رتقاء، أو قرناء، أو صغيرةٍ - يجوز؛ لأنه لم يأمن معها العنت. وإن كانت تحته حرة - وهي غائبة - لا يجوز له نكاح الأمة؛ لأنه يمكنه أن يُطلقها. ولو كان ماله غائباً يجوز؛ لأنه لا يمكنه إزالة ملكه عن المال، ولو كان معه طول حرة

وتلك الحرة غائبة، أو كان صداق الحرائر ببلد آخر أرخص، وهو واجد لذلك؛ فإن لم تلحقه مشقة الخروج إليها- لا يجوز له نكاح الأمة، وإلا فيجوز، ولو لم يكن في بلد الآخرة واحدة، وهي تغالي في المهر، وهو واجد له - لا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بمالٍ غالٍ، وهو واجد له - لا ينتقل إلى الصوم، بخلاف التيمم يجوز إذا بيع الماء بثمن غالٍ؛ لأنه يتكرر. قال الشيخ: وعندي فيه نظر، لو لم يكن له مالٌ، ورضيت الحرة بمهر نسيئة، أو أقرضه رجلٌ المهر -فهل له نكاح الأمة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه قادر على نكاح الحرة. والثاني: يجوز؛ لأن ذمته تشتغل بقضائه، وربما لا يجدُ ما يقضيه. ولو وُهب رجلٌ مالاً أو جارية قبول لا يلزمه - الهبة، وله نكاح الأمة. ولو رضيت المرأة بمهر بخس ومعه ذلك - فالمذهب لا يجوز له نكاح الأمة؛ كما لو بيع الماء بثمن بخس- لا يجوز له التيمم. ولو نكح حر أمةً عند وود الشرطين، ثم أيسر - لا ينفسخ نكاح الأمة، وكذلك لو نكح حرة بعده لا يرتفع نكاح الأمة؛ لأن الإعسار يشترط في الابتداء لا في الدوام؛ كما أن خوف العنت يزول في الدوام، ولا يبطل نكاح الأمة. أما العبدُ فيجوز له نكاح الأمة، وإن كانت تحته حرة؛ لأن العبد في مثل حالها، فلا يهر نقصها في حقه. وعند أبي حنيفة: لا يجوز للعبد أن ينكح الأمة إذا كانت تحته حرة كالحر، ولا يجوز للحر أن يتزوج أمتين. وعند أبي حنيفة: يجوز. ولا يجوز للمسلم الحر نكاح الأمة الكتابية بحالٍ؛ لأن الله - تعالى- قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، أباح نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة، وأباح نكاح الكتابية بشرط أن تكون حرة. قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] يعني: الحرائر. وعند أبي حنيفة: يجوز للحر المسلم نكاح الأمة الكتابية، والآية حجة عليه. وكذلك العبد المسلم لا يجوز له عندنا نكاح الأمة الكتابية على ظاهر المذهب؛ لأن

المنع لحق الدين، فيستوي فيه الحر والعبد؛ كالمرتدة والمجوسية. فأما الحر الكتابي: هل يجوز له نكاح الأمة الكتابية؟ - فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز للحر المسلم. والثاني: يجوز؛ كما يجوز للمسلم نكاح الأمة المسلمة. فأما العبد الكتابي: هل يجوز له نكاح الأمة الكتابية؟ يترتب على الحر الكتابي، فإن جوزنا للحر، فالعبد أولى، وإلا فوجهان. والأصح: جوازه. والفرق أنهما مع العبودية متكافآن؛ كالحر المسلم لا ينكح الأمة إلا بشرطين، وينكحها العبد مع عدم الشرطين. ويجوز للمسلم وطء أمته الكتابية بملك اليمين، ولا يجوز وطء الأمة المجوسية، ولا الوثنية؛ كما لا يجوز وطء المرتدة؛ لأن كل صنف لا يجو نكاح حرائرهم؛ لا يجوز وطء إمائهم بملك اليمين. ولا يجوز للمولى إجبار أمته المجوسية، ولا الوثنية على الإسلام؛ لأنها دخلت في الأمان للاسترقاق؛ كالمستأمنة لا تجبر على الإسلام، وكالعبد المجوسي والوثني لا يُجبران على الإسلام. ويجوز للمسلم نكاح الحرة الكتابية، ذمية كانت، أو مستأمنة، أو حربية، غير أنه يُكره؛ لأنه ربما يميل قلبه إليها، فتكون فتنة على دينه، والكراهية في الحربية أكثر؛ لأنه بالإقامة فيما بينهم يكثر سوادهم، وربما تسترق زوجته وهي حامل منه، ولا يقبل قولها: إن حملي من مسلم، فيسترق ولده. وإذا نكح الحر أمة، فأتت بولدٍ- يكون الولد رقيقاً لمالك الأمة. وإن كان الحر عربياً، ففيه قولان: أصحهما: أن الولد رقيق أيضاً؛ كما لو لم يكن عربياً. وقال في القديم: الولد يكون حراً، والرق لا يجري في العرب، ولا ولاء على الولد؛ لأنه حر الأصل، فعلى هذا هل يجب على الأب قيمة الولد؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ كما يجب في الغرور، لو نكح امرأة على أنها حرة، فبانت أمة - يكون الولد حراً، ويجب عليه قيمته. والثاني: لا يجب؛ لأن السيد قد رضي به حيث زوجها من العربي.

فصل في الجمع إذا نكح رجلٌ حرة [وأمة] معاً - نظر إن كان عبداً يجوز، وإن كان حراً لا يصح نكاح الأمة، وهل يصح نكاح الحرة؟ - نُظر: إن كان ممن لا يحل له نكاح الأمة - ففي صحة نكاح الحرة قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني: يصح. والثاني: لا يصح؛ لأنه عقدٌ واحدٌ، فإذا فسد بعضه فسد كله. وإن كان ممن يحل له نكاح الأمة، فإن كان قادراً على نكاح ذمية، أو سمحت الحرة بالمهر، وجوزنا له نكاح الأمة - فاختلفوا: قال صاحب "التلخيص": لا يصح ناح الأمة، وفي نكاح الحرة قولان؛ كالأول. قال الشيخ أبو زيد: لا يصح واحدة منهما؛ لأن نكاح كل واحدة على الانفراد -جائز، والجمع لا يجوز، وليس أحدهما بأولى من الآخر؛ كما لو مع بين أختين، فحيث قلنا لا يصح فذاك، إذا جمع بينهما إيجاباً وقبولاً. فإن فرق بينهما؛ بأن قال: زوجت ابنتي بألفين، وأمتي بخمسمائة، فقال الزوج: قبلت نكاح هذه، ونكاح تلك - فيحص نكاح الحرة قولاً واحداً. وإن فرق بينهما في الإيجاب دون القبول، أو في القبول دون الإيجاب - ففيه وجهان: حيث قلنا: يجوز نكاح الحرة إذا جمع بينهما؛ ففي المهر أقوال: أصحها: يجب لها مهر المثل؛ لأنه إذا بطل ذكر بعض المهر؛ بطل كله. والثاني: يوزع المسمى على مهور أمثالهما، فبقدر ما يقابل مهر الحرة يجب. والثالث: يجب لها جميع المسمى، وذلك لو جمع بين نكاح مسلمة ومجوسية، أو نكاح خلية ومعتدة، أو بين نكاح أخته وأجنبية - ففي صحة نكاح المسلمة والأجنبية والخلية قولان. ولو مع بين نكاح خمس نسوة - فنكاح الكل باطل؛ لأنه لا مزية للبعض [على البعض]، فيحكم بصحة نكاحها؛ كما لو جمع بين أختين. ولو جمع بين خمس فيهن أختان - فنكاح [الأختين] باطل، وفي الثلاث قولان. ولو مع بين سبع فيهن أختان - فنكاح الكل باطل.

ولو جمع بين أختين وأمة، فإن كان ممن لا يحل له نكاح الأمة - فنكاح الكل باطل، وإن كان ممن يحل له نكاح الأمة - بطل نكاح الأختين، وفي الأمة قولان، وحُكم المهر ما ذكرناه. ولو قال: زوجتك ابنتي، وبعتك هذا الزق من الخمر بكذا، فقبل فيهما - فقد قيل في صحة النكاح قولان. وقيل: يصح هاهنا النكاح قولاً واحداً وهو الأصح؛ لأنهما عقدان مختلفان، ففساد أحدهما لا يُوجب فساد الآخر. ولو قال: زوجتك ابني وابنتي، أو ابنتي وحماري، أو ابنتي وزق خمرٍ - فالمذهب أن النكاح صحيح؛ لأن ما ضم إليه لا يقبل النكاح، فيلغو ذكره. وقيل: فيه قولان. فإن قلنا: يصح النكاح، فما حكم المهر؟ هذا يبني على ما إذا جمع بين نكاح امرأتين، وإحداهما لا تقبل العقد. إن قلنا هناك: يجب لمن صح نكاحها مهر المثل؛ فها هنا كذلك. وإن قلنا يجب لها جميع المسمى، فهاهنا مثله. وإن قلنا: يوزع المسمى على مهور أمثالهما، فهاهنا التوزيع لا يمكن؛ لأنه لا مهر للمضموم إليها، فيجب جميع المسمى. وقيل: إن كان قد جمع بين ناكح امرأة وخمر، وقلنا في البيع: إذا باع عصيراً أو خمراً - يقدر الخمر عصيراً، أو يوزع الثمن عليهما - فهاهنا يوزع المسمى عليهما كذلك، وحيث قلنا: يجب جميع المسمى في الجمع بين المرأتين، وكان الزوج جاهلاً بالحال - فله الخيار في فسخ الصداق، لا في رد النكاح، فإن شاء أجاز، وإن شاء فسخ الصداق، وعليه مهر المثل. وإن قلنا: يوجب مهر المثل - فلا خيار له؛ لأنا لو أوجبنا مهر المثل، وإذا فسخ لا يجب إلا ذلك. وإن قلنا: يوزع المسمى على مهور أمثالهما - فهل يلزمه الخيار؟ نظر إن كان الصداق مما يقبل القسمة؛ الحنطة ونحوها - فلا خيار له، وإن كان مما لا يقبل القسمة من عبد ونحوه - فله الخيار؛ لأنه [لا يتضرر] بالتشقيص، فإن فسخ فعليه مهر المثل؛ ذكره الشيخ أبو علي.

باب التعريض بالخطبة قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]. يجوز خطبة المرأة الخلية الفارغة تعريضاً وتصريحاً، ولا يجوز خطبة المزوجة تصريحاً ولا تعريضاً، وكذلك الرجعية. أما سائر المعتدات لا يجوز لغير صاحب العدة خطبتهن تصريحاً، وهل يجوز تعريضاً؟ - نر إن كان في عدة الوفاء يجوز. وكذلك كل معتدة لا يحل لمن بانت منه نكاحها؛ كالبائنة منه باللعان، والرضاع، والطلاق الثلاث. أما البائنة التي يجوز للزوج نكاحها؛ كالمختلعة، والمفسوخ نكاحها، فيجوز لصاحب العدة خطبتها تعريضاً وتصريحاً، وهل يجوز لغيره خطبتها تعريضاً؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ كالمطلقة ثلاثاً؛ لأن سُلطان الزوج مرتفع عنها. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يجوز لصاحب العدة نكاحها؛ كالرجعية. وإن كانت في عدة وطء الشبهة، فقد قيل فيه قولان؛ كالمختلعة. وقيل- وهو الأصح: يجوز قولاً واحداً؛ لأنه لم يكن لصاحب العدة عليها حقيقة نكاح، فيثبت فيه هذا الحق، ويجوز لصاحب العدة خطبتها تعريضاً وتصريحاً. والتصريح في الخطبة أن يقول: إني أريد أن أنكحك، أو لا تفوتي على نفسك إذا حللت، أو لفظاً لا يحتمل غير النكاح. والتعريض بما يحتمل النكاح وغيره؛ مثل أن يقول: رُب راغب فيك، ورب طالب لك، أنت جميلة، إذا حللت فآذنين، من يجد مثلك [لست بمرغوب عنك، لا تبقين أيما]، ونحو ذلك. وكل موضع جوزنا له التعريض، فالمرأة عن رغبت فيه تجيبه بمثله في الجواب، كهو في الخطبة فيما يحل ويحرم، وحيث جوزنا التعريض يجوز سراً وعلانية. ومعنى قوله تعالى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] فالمراد منه: الجماعُ، وهو أن يصف نفسه بالقوة في ذلك الأمر.

باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه [رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه]. إذا خطب الرجل امرأة، فأجابت - لا يوز لغيره خطبتها ما لم يترك الأول، أو يأذن، غير أنه لو خطب ونكح - صح. ولو ردت الأول يجوز للغير خطبتها، وكذلك لو سكتت، أو لم يُدر أنها أجابت، أو ردت - نجيز للغير خطبتها. والدليل عليه: أن فاطمة بنت قيس مات عنها زوجها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إذا حللت فآذنيني". فلما حلت، أخبرته أن معاوية، وأبا جهم خطباني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، أنكحي أسامة". ومعلوم أن فاطمة لم تكن أذنت لواحد منهما؛ إذ لو أذنت لم يخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيرهما، بل كانت سكتت. وقوله في أبي جهم: "لا يضع عصاه عن عاتقه" قيل: أراد به كثير السفر. وقيل: كثير الضرب للنساء. ولم يكن ذلك من باب الغيبة؛ لأن الغيبة أن يذكر مساويء رجلٍ من غير عرض، فإن كان لغرض بأن شاوره رجلٌ في مواصلة إنسان، فأخبره بما عرف منه؛ فهو من باب الحسبة. وإن لم تُجب الأول صريحاً، ولكن وجد منها ما يدل عليه؛ بأن قالت: استشر في هذا، أو قالت: أنت مرغوب فيك، أو أحدث في شرط العقد - فيه قولان: في القديم: لا يجوز للغير خطبتها. وفي الجديد - وهو الأصح: يجوز؛ لأنها لم تصرح بالإجابة كما لو سكتت، والاعتبار برد المرأة وإجابتها، لا برد وليها وإجابته، وإن كانت ثيباً أو عن كانت بكراً، ووليها غير الأب والجد؛ فإن كانت بكراً ووليها أبوها أو جدها - فالاعتبار برد الأب أو الجد وإجابتهما، ولا اعتبار برد المرأة وإجابتها. وفي المجنونة: الاعتبار برد السلطان وإجابته، وفي الأمة برد السيد وإجابته. والله أعلم.

باب نكاح المُشرك رُوي عن سالم، عن أبيه؛ أن غيلان أسلم - وعنده عشر نسوة- فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك أربعاً، وفارق سائرهن". إذا أسلم مشرك، وتحته كتابية، أو أربع كتابيات - يدوم النكاح بينهم؛ لأن نكاح الكتابية في الإسلام جائز. وإن أسلم، وتحته مجوسية أو وثنية وتخلفت، أو أسلمت المرأة وتخلف الزوج على أي دين كان- فإن كان قبل الدخول تتنجز الفرقة بينهما، وإن كان بعد الدخول تتوقف على انقضاء العدة، فإن أسلم المتخلف قبل انقضاء عدتها - فهما على النكاح، وإن لم يُسلم حتى

انقضت عدتها - بان أن الفرقة وقعت بإسلام الأول، وخرجت عن العدة. وإن أسلما معاً دام النكاح بينهما، سواء كان قبل الدخول أو بعده، والاعتبار باختتام كلمة الإسلام معاً لا بافتتاحها، ولا يختلف الحكم عندنا باختلاف الدار. وعند أبي حنيفة - رحمه الله -[الاعتبار] بالدخول وعدم الدخول، بل إن كانا في دار الإسلام وأسلم أحدهما - لا تقع الفرقة حتى يعرض الإسلام على المتخلف ثلاثاً، فيأبى، أو يلتحق بدار الحرب ناقضاً للعهد. وإن كان في دار الحرب، فحتى يلتحق المسلم بدار الإسلام، أو يمضي لها ثلاثة أقراءٍ، وإذا مضت [لها ثلاثة أقراءٍ] تقع الفرقة الآن، حتى يجب عليها العدة إن كانت مدخولاً بها. وكذلك عنده لو دخل كافرٌ دار الإسلام لعقد الذمة، وزوجته في دار الحرب - تقع الفرقة بينهما، وهذا لا يصح؛ لأن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل هربا كافرين إلى الساحل عام الفتح، وأسلمت امرأتاهما بمكة، وأخذتا الأمان لزوجيهما، فقدما، وأسلما؛ فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهما امرأتيهما مع وجود اختلاف الدار. ولو قبل الكافرُ لابنه الطفل نكاح صغيرة، ثم أسلم الأبوان - حكم بإسلام الوالدين وهما على النكاح، وإن أسلم أحدهما قبل الآخر، بطل النكاح، وإن قبل لابنه الطفل نكاح بالغة، ثم أسلم أبو الطفل معها - بطل النكاح؛ لأن إسلام الولد يحصل عقيب إسلام الأب، فيتقدم إسلام المرأة على إسلام الزوج. وإن أسلمت المرأة عقيب إسلام الأب في الحال - بطل أيضاً؛ لأن إسلام الولد يحصل

حكماً وإسلامها يحصل بالقول، فالحكمي يكون سابقاً؛ فلا يتصور وقوع إسلامهما معاً. فلو أسلم مُشرك وتحته أكثر من أربع نسوة، فأسلمن معه أو تخلفن وهن كتابيات، أو كن مجوسيات، أو وثنيات، فأسلمن قبل انقضاء عدتهن، وكان بعد الدخول - فعلى الزوج أن يختار منهن أربعاً، ويفارق البواقي، سواء نكحن في الشرك معاً أو على الترتيب. وإذا نكحن على الترتيب يجوز له إمساك الأواخر. وكذلك لو أسلم وتحته أختان، أو امرأة وعمتها وخالتها؛ فأسلما معه، أو جمعهما الإسلام معه في العدة - إن كان بعد الدخول بهما يختار واحدة منهما، ويفارق الأخرى، سواء نكحهما معاً، أو على الترتيب؛ وله أن يختار التي نكحها آخراً. وقال أبو حنيفة: [إن أسلم وتحته أكثر من أربع أو أختان] فإن نكحهن معاً، فنكاح الكل باطل، وإن نكحهن على الترتيب تعينت الأوليان، وفي الأختين تتعين الأولى، وخبر غيلان حجة عليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بإمساك أربع من غير تفصيل. ورُوي أن نوفل بن معاوية أسلم - وعنده خمس نسوة - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: "فارق واحدة، وأمسك أربعاً" قال: "فعمدت إلى أقدمهن، ففارقتها". وروي أن فيروزاً الديلمي أسلم وعنده أختان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احتر أيهما شئت، وفارق الأخرى". ولو كان تحته ثمان نسوةٍ، ولم يدخل بهن؛ فأسلم معه أربع منهن؛ قررن تحته، وارتفع نكاح المتخلفات. وإن كان بعد الدخول بهن فاجتمع إسلام أربع منهن في العدة - قررن تحته؛ مثل أن أسلم أربع منهن، ثم أسلم الزوج قبل انقضاء عدتهن، وتخلفت الأخريات حتى انقضت عدتهن من وقت إسلام الزوج، أو مُتنَ في الشرك - تعينت الأوليات.

ولو أسلم أربع منهن، ولم يسلم الزوج حتى انقضت عدتهن، أو مُتن في الإسلام، ثم أسلم الزوج، وأسلمت الأخريات في العدة - تعينت الأخريات. وإن أسلم أربع منهن، ثم أسلم الزوج قبل انقضاء عدتهن، ثم أسلمت الخريات قبل انقضاء عدتهن من وقت إسلام الزوج - فهو بالخيار؛ إن شاء اختار الأوليات، وإن شاء اختار الأخريات، وإن شاء اختار بعض هؤلاء، وبعض أولئك، حتى لو أسلم أربعٌ، ثم أسلم الزوج في عدتهن، ثم مات بعض من أسلمن ثم أسلمت الأخريات في العدة - فله أن يختار الميتات، ويرث منهن، والاختيار بعد اجتماع الإسلامي، في العدة يكون على التراخي، حتى لو وقع بعد انقضاء العدة - يجوز، ويجوز بعد الموت؛ لأنه ليس بابتداء عقدٍ. وذكر في "الأم" صفة الاختيار، فقال: لو قال: اخترت هذه، أو اخترت عقد هذه، أو أمسكت هذه، أو أمسكت عقد هذه، أو ثبت هذه أو ثبت عقد هذه - كان اختياراً لها. وإن اختار أربعاً للزوجية، انفسخ نكاح البواقي، ولا يحتاج إلى التصريح بالفسخ، وإذا اختار أربعاً للفسخ، فقال: اخترت فراق هذه - تعينت الأخريات للإمساك، وإن لم يُصرح بالإمساك، ولا معنى لاختياره قبل اجتماع الإسلاميين، وإن أسلم مع أربع، فاختارهن - صح، وارتفع نكاح المتخلفات، وإن فسخ نكاح المتخلفات صار مختاراً للمسلمات. وإن أسلم مع أربع، فاختار فسخ نكاحهن - لا يجوز؛ لأن الفسخ بعد الإسلام إنما يجوز فيما زاد على الأربع. ولو أسلم مع واحدةٍ، فاختارها - صح اختيارها، حتى لو أسلمت البواقي في العدة- لا يختار من البواقي إلا ثلاثاً. ولو أسلم الزوج مع واحدة، ومات الزوج، ثم أسلمت البواقي - تعينت التي أسلمت معه، وورثت منه. ولو أسلم مع ثمان نسوة فطلق أربعاً منهن على التعيين - صار مختاراً لهن، وبِنَّ منه بالطلاق، وارتفع نكاح الأخريات جملة بلا طلاق. ولو طلق أربعاً منهن لا على التعيين يؤمر بالتعيين، فإذا عين أربعاً بن منه بالطلاق، وارتفع نكاح الأخريات. ولو ظاهر أو آلى عن أربع منهن، فلا يكون اختياراً؛ لأنه يمينٌ على الامتناع من الوطء، وهي بحال الأجنبية أليق.

ثم إن اختارهن تبين أنهن زوجاتٌ، وصح ظهاره وإيلاؤه، وإلا فلا حكم له. ولو وطيء أربعاً منهن، هل يصير مختاراً لهن؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، لأنه [فرع] الاختيار. الثاني - وهو الأصح: لا؛ كما لا تحصل الرجعة بالوطء، وهذا بناء على ما لو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ثم وطيء أحداهما، هل يتعين الطلاق في الأخرى؟ فيه قولان. فلو وطيء الكل، إن قلنا: الوطء اختيار، صار مختاراً للأوليات، وعليه المهر للأخريات. وإن قلنا: ليس باختيار يختار منهن أربعاً، ويغرم المهر للبواقي. ولو أسلم مع أربع، فطلقهن قبل إسلام البواقي - صار مختاراً لهن، وبن بالطلاق، وارتفع ناكح الأخريات؛ كما لو اختار المسلمات صريحاً. ولو قال للمسلمات [معه] فسخت نكاحهن، إن أراد بالفسخ الطلاق؛ فهكذا، وإن أراد حله بلا طلاق- لا يصح؛ لأن الفسخ حله بلا طلاق، ولا يجوز إلا فيما زاد على الأربع؛ وعدد المسلمات لم يزد على الأربع. فإن لم تسلم المتخلفات يمسك هؤلاء الأربع، وإن أسلمت المتخلفات في العدة، يختار من الكل أربعاً، ثم للمتخلفات إذا أسلمن أن يدعين عليه أنك أردت بالفسخ الطلاق؛ فصرت مختاراً للأوليات، ويحلفنه، ولمن أسلم معه أيضاً الدعوى عليه أنك أردت به الطلاق، وبنا منك، ويحلفنه. وقيل: اختيار الأوليات لا يجوز، بل يمسك الأخريات؛ لأن بإسلام الأخريات بان أن الفسخ كان صحيحاً في الأوليات، والأول المذهب. ولو أسلم الزوج - وهن متخلفات - فأسلمن على الترتيب في عددهن -فالزوج يقول لكل واحدة بعد إسلامها: فسخت نكاحكن فإن أراد بالفسخ الطلاق، صار مختاراً للأربع الأوليات، وبن منه بالطلاق، وارتفع نكاح الأخريات حلاً بلا طلاق، وإن أراد بالفسخ حلاً بلا طلاق - صار مختاراً للأوليات، وقررن تحته، وارتفع نكاح الأخريات حلاً بلا طلاق. ولو أسلم [الزوج]- وهن متخلفاتٌ - وقال: كلما أسلمت واحدةٌ منكن، فقد

اخترتها - لا يصح؛ لأن تعليق الاختيار لا يجوز كتعليق النكاح والرجعة. ولو قال: كُلما أسلمت واحدة منكن، فقد طلقتها، فقد قيل: لا يجوز؛ لأن الطلاق اختيار، وتعليق الاختيار لا يجوز، وليس بصحيح، بل المذهب جوازه تغليباً للفظ الطلاق؛ كما أن تعليق الإبراء لا يجوز. ولو علق عتق المكاتب: يجوز وإن كان إبراء؛ لغلبة لفظ العتق. وإذا أسلمت واحدة، صار مختاراً لها، وطلقت، ثم الثانية هكذا إلى تمام الأربع، وارتفع نكاح الباقيات حله بلا طلاق. ولو قال: كلما أسلمت واحدة منكن، فقد فسخت نكاحها؛ فإن أراد بالفسخ الطلاق؛ فهكذا يصح، وإن أراد حله بلا طلاق، لا يصح لمعنيين: أحدهما: لأن تعليق الفسخ لا يصح. والثاني: لأن أوان الفسخ بعد إسلام عدد لا يجوز إمساكهن في الإسلام، ولم يوجد. ولو أسلم الزوج مع خمسٍ، فقال: فسخت ناكحهن - إن أراد به الطلاق، صار مختاراً لأربع منهن، وبن بالطلاق؛ فعليه التعيين، وارتفع نكاح الأخريات. وإن أراد بالفسخ حله بلا طلاقٍ، انفسخ نكاح واحدةٍ لا بعينها، فإذا أسلمت المتخلفات في العدة يختار من الخمس أربعاً. ولو قال: فسخت نكاح واحدة منكن، وأراد به الطلاق - صار مختاراً لواحدةٍ لا بعينها؛ فيعينها، وتبين منه، ويختار من البواقي ثلاثاً، وإن أراد حله بلا طلاق، صح، فيعينها، ويختار من البواقي أربعاً. فإن فسخ نكاح اثنتين حله بلا طلاق، ينفسخ نكاح واحدة فيعينها ويختار من البواقي أربعاً. وإن عين اثنتين من الخمس، فقال: فسخت نكاحكما حله بلا طلاقٍ - ينفسخ نكاح واحدة منهما، يعين، ثم له اختيار أخرى مع ثلاثٍ. ولو قال للخمس: اخترت نكاح أربع منكن، أو قال: اخترتكن - تعينت المنكوحات فيهن، فيختار منهن أربعاً، وبانت المتخلفات. فصل فيما لو نكح مُشرك أماً وابنتها إذا نكح مشرك أماً وابنتها، ثم أسلموا معاً - نظر؛ إن كان قد دخل بهما، فهما محرمتان عليه على التأييد؛ وإن لم يكن دخل بواحدةٍ منهما - ففيه قولان:

أحدهما: يختار أيتهما شاء؛ كما لو أسلم وتحته أختان، اختار أيتهما شاء؛ لأن عقد الشرك إنما ثبت له حكم الصحة إذا انضم إليه الاختيار، فأيهما اختار حكم بصحة نكاحها، وبطلان نكاح الأخرى. فعلى هذا إذا اختار البنت كانت الأم محرمة عليه على التأييد، وإذا اختار الأم ثم طلقها قبل الدخول - جاز له نكاح البنت. والقول الثاني - وهو الأصح، واختيار المزني: تتعين البنت للإمساك، ويجوز إمساك الأم؛ لأن العقد على البنت يُحرم الأم، والعقد على الأم لا يحرم البنت، بخلاف الأختين؛ لأن العقد على كل واحدة منهما لا يحرم الأخرى على التأييد، ولا فرق على القولين بين أن يكون نكاحهما معاً، أو على الترتيب. وقيل: أصل القولين أن أنكحة المشركين هل يُعطى لها حكم الصحة أم لا؟ فيه جوابان: أصحهما: لها حكم الصحة؛ بدليل أنا نقرهم عليها بعد الإسلام. والثاني: لا يحكم لها بالصحة حتى يُدركها الإسلام، فيعفى عما مضى. فإن قلنا: يعطى لها حكم الصحة يختار البنت، وألا فيختار أيتهما شاء، والمذهب أن القولين لا يثبتان على هذا الأصل، وأنكحة الشرك لها حكم الصحة؛ لقوله تعالى: {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]، وقال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] أضاف إلى الكافر زوجته. وبدليل أنا نقرهم على ذلك النكاح بعد الإسلام من غير استئناف عقدٍ. ولو ترافعوا إلينا لا نحكم ببطلانه، وأن المشرك لو طلق امرأته ثلاثاً - لا تحل له إلا بعد زوج آخر، وإن نكح في الشرك زوجاً آخر فأصابها - حلت له. وإن كان قد دخل بإحديهما ثم أسلموا - نظر؛ إن كان قد دخل بالبنت قرت تحته لا يختلف القول فيه، والأم محرمة عليه على التأييد. وإن كان قد دخل بالأم، فالبنت محرمة عليه، وهل له إمساك الأم؟ يبنى على القولين فيما إذا لم يكن قد دخل بواحدة منهما. إن قلنا هناك: يمسك أيتهما شاء، فهاهنا يُمسك الأم. وإن قلنا هناك: تتعين البنت للإمساك، فهاهنا لا يجوز إمساك الأم؛ لأنها حُرمت بالعقد على البنت، [ولها] مهر المثل بالدخول.

فرع ابن الحداد، وقال: إذا نكح أماً وابنتها، فأسلموا قبل الدخول، فن قلنا: يمسك البنت، لا يجب عليه مهر الأم؛ لأن النكاح في حقها لم يرتفع باختياره. وإن قلنا: يختار أيتهما شاء، فإذا اختار إحديهما غرم نصف المهر للأخرى، وكذلك في الأختين قبل الدخول، إذا اختار إحديهما غرم نصف المهر للأخرى، إن كان قد سمى لها صداقاً، ون لم يسم، فالمتعة؛ لأن النكاح ارتفع في حقها باختياره. قال أصحابنا: هذا يبني على أن أنكحة الشرك، هل لها حكم لصحة [أم لا]؟ إن قلنا: لها حكم الصحة، فإذا اختار إحدى الأختين، غرم نصف المهر للأخرى، وإن لم نحكم لها بالصحة، فلا مهر عليه للأخرى، وفي الأم والبنت إن لم يُعط لها حكم الصحة فاختار أحداهما - فلا مهر للأخرى. وإن قلنا: لها حكم الصحة، فيمسك البنت، ويغرم للأم نصف المهر. وكذلك لو أسلم ذميٌّ وتحته حرة وأمة أسلمتا معه قبل الدخول - تتعين الحرة للإمساك، ولا مهر للأمة عند ابن الحداد. وعند الآخرين: يبنى على هذا الأصل إن قلنا: أنكحة الشرك لها حكم الصحة يجب نصف المهر للأمة، وإلا فلا. فصل فيما إذا نكح حر في الشرك أمة إذا نكح حرٌّ في الشرك أمة، ثم أسلم قبل الدخول، وتخلفت هي - تتنجز الفرقة، سواء كانت كتابية أو مجوسية؛ لأنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية، وهي والوثنية سواءٌ. فإذا أسلما معاً أو كان بعد الدخول أسلم أحدهما، ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة - نظر؛ إن كان الزوج وقت اجتماع الإسلاميين معسراً، يخاف على نفسه العنت- جاز له إمساكها، وإن كان موسراً، أوغير خائف من العنت - بطل نكاحها؛ لأنه لا يجوز ابتداء نكاحها في هذه الحالة. قال أبو ثور: يجوز له إمساكها؛ لأنه ليس بابتداء النكاح؛ كما يجوز الرجعة في هذه الحالة.

ولو أسلم أحدهما - وهو موسر - ثم أسلم الآخر- وهو معسرٌ - خائفٌ من العنت - جاز له إمساكها، فإن أسلم الأول - وهو معسر - ثم أسلم الآخر - وهو موسرٌ - لا يجوز له إمساكها؛ لأن الاعتبار بوقت اجتماع الإسلامين، سواء تقدم إسلامه أو إسلامها. وإن كانت الأمة كتابية فتخلفت، وكان بعد الدخول بها - نظر؛ إن لم يتغير حالها حتى انقضت عدتها - بان أن النكاح ارتفع بإسلامه. وإن تغير حالها، نظر إن عتقت في العدة ولم تسلم - جاز له إمساكها، وإن أسلمت ولم تعتق فله إمساكها، إن كان وقت إسلامها معسراً خائفاً من العنت. ولو نكح حر في الشرك أربع إماء، ثم أسلم وأسلمن معه، واجتمع إسلامه وإسلامهن في العدة، إن كان بعد الدخول، وإن كان وقت اجتماع إسلامه وإسلامهن معسراً خائفاً من العنت - يختار واحدة منهن، وإن كان وقت اجتماع الإسلامين موسراً، أو غير خائف من العنت- ارتفع نكاح الكل، سواء تقدم إسلامه أو إسلامهن. ولو أسلم مع واحدة وهو معسر خائف من العنت، ثم أسلمت الثانية وهو موسر، ثم أسلمت الثالثة وهو معسر، ثم الرابعة وهو موسر-اختار؛ إما الأولى أو الثالثة، وبطل نكاح الثانية والرابعة. ولو أسلم مع واحدة [وهو معسر] وطلقها - صار مختاراً لها، وارتفع نكاح الأخريات. ولو قال: فسخت ناكحها وأراد به الطلاق - فكذلك، وإن أراد حله بلا طلاق - لا يصح؛ لأن الفسخ حله بلا طلاق في الإماء؛ إنما يجوز في الزيادة على الواحدة، كما في الحرائر إنما يجوز في الزيادة على الأربع, فإذا أسلمت البواقي في العدة يختار من الكل واحدة أيتهن شاء. وقيل: لا يجوز اختيار الأولى إذا أسلمت البواقي، بل يختار من الثلاث واحدة؛ لأن بإسلام البواقي تبيناً أن هذه كانت زائدة، وصح فسخ نكاحها. فإن لم تسلم البواقي، تعينت هذه بالإمساك، والفسخ باطل والأول المذهب أن الفسخ فيها باطل بكل حال. ولو نكح في الشرك حرة وأربع إماء ثم أسلموا - نظر؛ إن وجد إسلام الحرة مع الزوج في العدة - تعينت الحرة بالإمساك، وبطل نكاح الإماء، سواء تقدم إسلام الإماء أو تأخر، أو

تخلل بين إسلام الزوج والحرة زمان، حتى لو أسلم الزوج مع الحرة. [فإذا] أسلمت [معه] في العدة وماتت إن كان بعد الدخول، ثم أسلمت الإماء - لم يكن له اختيار واحدة منهن؛ لأن نكاحهن قد بطل باجتماع إسلام الحرة معه في العدة، وإن لم يجتمع إسلام الحرة معه في العدة بأن أسلم الزوج وماتت الحرة في الشرك، أو انقضت عدتها، أو أسلمت الحرة أولاً، وتخلف الزوج حتى ماتت الحرة، أو انقضت عدتها - فالحرة كالمعدومة فيختار الزوج واحدة من الإماء ممن اتمع إسلامه معها في العدة، إن كان معسراً خائفاً من العنت وقت اجتماع الإسلامين. فإن قيل: إن أسلم مع الحرة، وماتت الحرة، ثم أسلمت الإماء، قلتم: لا يجوز إمساك واحدة منهن، وقلتم: لو كان تحته إماء، فأسلم وهو موسر، ثم أعسر وأسلمن - جاز له إمساك واحدة منهن؛ فجعلتم الحرة الميتة كالحية في منع اختيار الأمة، ولم تجعلوا اليسار الفائت قبل إسلامهن كالموجود بعد إسلامهن في منع إسلام الأمة، وسويتم بين وجود طول الحرة، ووجود الحرة في منع نكاح الأمة. قلنا: جعل ابن خيران في اليسار الفائت قولين، والمذهب أن اليسار الفائت لا يجعل كالقائم؛ لأن المال الذي لا يتعين للمتعة لا يرفع نكاح الإماء، والحرة في نكاحه منعته الاستمتاع؛ [فوقع] نكاح الإماء. أما في منع [بيان] ابتداء نكاح الأمة - يستوي وجود الحرة في نكاحه، والقدرة على صداقها لضعف الابتداء. ولو أسلم الزوج مع الإماء، وتخلفت الحرة بعد الدخول - لم يكن له اختيار واحدةٍ من الإماء، ما لم يقع اليأس عن الحرة بموتها، أو انقضاء عدتها، حتى لو أسلم الزوج مع الإماء، ثم عتقت الإماء - لم يكن له اختيار واحدة منهن، ما لم يتبين أمر الحرة، فإن ماتت الحرة في الشرك، أو انقضت عدتها - يختار واحدة من الإماء، إذا كان معسراً يوم إسلامه وإسلامهن، وإن عتقن؛ لأنهن كُنَّ أرقاء وقت اجتماع إسلام الزوج وإسلامهن. فلو اختار واحدة من الإماء قبل أن يتبين حال الحرة - نظر إن أسلمت الحرة في العدة، فالاختيار باطلٌ، وإن ماتت في الشرك أو انقضت عدتها. قال الشافعي - رضي الله عنه-: يثبت. [فمن أصحابنا من قال يثبت، وهو الأصح إن ذلك الاختيار باطل.

وقوله: "يثبت" يعني: باختيار جديدٍ] ومن أصحابنا من قال: يثبت بالاختيار السابق وجعل هذا القائل في وقت الاختيار قولين؛ بناء على ناح المُرتابة، وهذا جواب على قولنا: إن المرتابة إذا نكحت يكون موقوفاً. وعند المزني: الاختيار موقوف. وإن ماتت الحرة، أو انقضت عدتها بالشرك - بان أنه كان صحيحاً. ولو نكح في الشرك أربع إماء وعتقت الإماء - نُظر إن عتقن بعد اجتماع الإسلامين فليس له اختيار واحدة منهن بشرط الإعسار، وخوف العنت وإن عتقن قبل اجتماع الإسلامين بأن عتقن، ثم أسلمن، أو أسلمن أولاً ثم عتقن، ثم أسلم الزوج - له إمساك الكُلِّ، حتى لو كانت تحته حرة وأربع إماءٍ، فعتقت الإماء قبل اجتماع إسلامهن مع الزوج، ثم اجتمع إسلامهن في العدة مع الحرة والزوج - فهو كمن أسلم عن خمس نسوةٍ؛ يختار منهن أربعاً. ولو أسلم الزوج وعتقت واحدة، ثم أسلمت البواقي وعتقن - تعينت الأولى للإمساك؛ لأنها كانت حرة وقت اجتماع الإسلامين. ولو أسلم الزوج مع واحدة، ثم عتقت، ثم عتق الباقيات، وأسلمن الأخريات - فليس له إمساك الأولى. وكذلك لو أسلم الزوج، ثم عتقت منهن اثنتان، ثم أسلمتا، ثم أسلمت الأخريان، ثم عتقتا - يمسك الأوليين، وليس له إمساك الأخريين. وعلى عكسه لو أسلم [الزوج] ثم أسلمت اثنتان، ثم عتقتا، ثم عتقت الأخريان ثم أسلمتا - تتعين الأخريان للإمساك؛ لأنهما كانتا حرتين وقت اجتماع الإسلامين. فصل في ناح العبد المشرك إذا أسلم عبدٌ مشركٌ، وتحته أكثر من امرأتين، فأسلمن معه، أو أسلمت في العدة إن كان بعد الدخول، أو أسلمن أولاً، ثم أسلم الزوج قبل انقضاء عدتهن - عليه أن يختار منهن اثنتين، سواءٌ كن حرائر أو إماء، أو بعضهن إماء، فإن شاء اختار حرتين، [وإن شاء] أمتين، وإن شاء حرة وأمة. ولو عتق العبد، وقد تزوج في الشرك أربعاً، ففيه ثلاث مسائل:

إحداها: أن يتزوج أربع حرائر. الثانية: أن يتزوج أربع إماء. الثالثة: أن يتزوج حرتين وأمتين. فإن تزوج أربع حرائر، نظر؛ إن عتق قبل اجتماع إسلامهن؛ بأن عتق ثم أسلم وأسلمن، أو أسلم وعتق، ثم أسلمن، أو أسلمن وعتق ثم أسلم - فله إمساك الأربع. ولو أسلم مع واحدةٍ، ثم عتق، ثم أسلمت البواقي - له إمساك الأربع، ولو أسلم مع اثنتين، ثم عتق، ثم أسلمت الباقيتان - ليس له إلا اختيار اثنتين، فإن شاء أمسك الأوليين، وإن شاء أمسك الأخريين وإن شاء واحدة من الأوليين، وواحدة من الأخريين، بخلاف الصورة الأولى إذا أسلم مع واحدة، ثم عتق ثم أسلمت البواقي- جاز له إمساك الأربع، لأن هناك حالة العتق كان قد بقي من عدد الرق واحدٌ. وإذا أسلم مع اثنتين، ثم عتق، فقد تم عدد الرق قبل العتقِ، فلا يؤثر العتق في زيادة العدد وحده، وهو أنه مهما تغير الحال، وقد بقي شيءٌ من عدد المغير والمغير لمجموعهما - فالمغير يظهر أثره بالتكميل إن كان عتقاً، وبالتنقيص إن كان رقاً، ومهما تغير الحال ولم يبق من عدد أحدهما شيء - فلا يظهر أثر المغير هاهنا. فإذا أسلم مع واحدة، ثم عتق - فقد جاء المغير وهو الحرية، وقد بقي من عدده ثلاثة، ومن عدد المغير وهو الرق واحدة، فأثر في التكميل لوجود أصل يستند إليه، فإذا أسلم مع اثنتين ثم عتق، جاء المغير، ولم يبق من عدد المغير وهو الرق شيءٌ؛ فلم يظهر أثرُ المغير. وعلى هذا لو أن عبداً طلق امرأته طلقه، [ثم نكحها بعد عتقه]- يملك عليها طلقتين؛ لأن العتق المغير جاء وقد بقي من عدد الرق والحرية شيء؛ فأثر في التكميل. فإن طلقها طلقتين، ثم عتق - لا يملك عليها شيئاً؛ لأن العتق جاء، ولم يبق من عدد الرق شيء، وكذلك الأمة عدتها قرآن، فإن عتقت في خلال القرءين تكمل ثلاثة أقراء؛ لأن المغير وهو العتق جاء وقد بقي شيء من عدة الحرائر والإماء جميعاً، فإن عتقت بعد المقرءين فلا شيء عليها. وفرع ابن الحداد عليه: لو أن ذمياً طلق زوجته طلقتين، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، فاسترق، ونكح تلك المرأة - يملك عليها طلقة؛ لأن المغير وهو الرق جاء ولم يبق من عدده شيء؛ فلم يؤثر المغير في التنقيص.

ولو طلقها طلقةً، ثم نقض العهد واسترق ونكحها - لا يملك عليها إلا طلقة؛ لأن المغير جاء وقد بقي شيءٌ من عدد المغير والمغير جميعاً، فظهر أثر المغير في تنقيص العدد، فالمغير هاهنا هو الرق، فأثر في نقصان العدد. وفي المسائل المتقدمة المغير هو الحرية، فأثر في التكميل. المسألة الثانية: إذا تزوج العبد أربع إماءٍ، فإن وجد اجتماع الإسلامين وهو رقيق، ثم عتق يختار منهن اثنتين، وإن كان وقت اجتماع الإسلامين حراً وهن حرائر - له إمساك الأربع، وإن كان حراً وهن حرائر - له إمساك الأربع، وإن كان حراً وهن أرقاء - ليس له إلا إمساك واحدةٍ بشرط الإعسارِن وخوف العنتِ. بيانه: إذا أسلم وأسلمن، ثم عتق - يمسك اثنتين منهن، سواء عتقن من بعده أو لم يعتقن، ولو عتق وعتقن، ثم أسلم وأسلمن، أو وُجد العتق بين الإسلامين، أو عتق وأسلم، ثم عتقن - فله إمساك الأربع. فأما إذا عتق وأسلم، أو أسلم وعتق، ثم أسلمن وعتقن، أو أسلمن أولاً ثم عتقن - لم يكن له إلا إمساك واحدةٍ بعد أن يكون معسراً خائفاً من العنت. ولو أسلم مع واحدةٍ، ثم عتق، ثم أسلمت البواقي، ثم عتقن بعد إسلامهن، أو لم يعتقن - تعينت الأولى، ولو أسلم مع واحدة، ثم عتق، ثم عتقت البواقي، ثم أسلمن - قال الشيخ: يجوز له إمساك الكل؛ لأنه لم يستوف عدد الرق قبل العتق، وحين عتق كانت الأولى قد أسلمت، وكان له إمساكها؛ لأنه كان رقيقاً يوم اجتماع إسلاميهما، والباقيات كُن حرائر يوم اجتماع إسلامه وإسلامهن وهو حر، وكان له إمساكهن؛ لأن إدخال الحرائر على [الإماء]- لا يجوز. وإن أسلم مع اثنتين، ثم عتق، ثم أسلمت البواقي، ثم عتقن - لم يكن له إلا إمساك الأوليين. قال [علي]- رضي الله عنه -: ولو أسلم مع اثنتين، ثم عتق الأخريان ثم أسلمتا - لم يكن له إلا إمساك اثنتين؛ لأنه استوفى عدد الرق قبل العتق، ولكن إن شاء أمسك الأوليين، وإن شاء أمسك الأخريين، وإن شاء واحدة من الأوليين، واحد من الأخريين؛ لأن الأخريين كانتا حرتين وقت اجتماع الإسلامين؛ كما لو كان تحته أربع حرائر، فأسلم مع اثنتين ثم عتق ثم أسلمت الأخريان - يختار اثنتين من أيهما شاء. المسألة الثالثة: إذا نكح العبد [المشرك] حرتين وأمتين- نظر؛ إن وجد اجتماع إسلامهن وهو حر تعينت الحرتان للإمساك؛ مثل إن عتق ثم أسلم وأسلمن، أو أسلم وعتق

ثم أسلمن، أو أسلمن ثم عتق وأسلم - يمسك الحرتين. وإن أسلم مع حرة وأمة، ثم عتق ثم أسلمت الأخريان فله أن يمسك إحدى الحرتين مع الأمة الأولى، وإنما لم يجز إمساك الاثنتين؛ لأنه استوفى عدد الرق قبل الحرية، وإنما لم يجز إمساك الأمة الثانية؛ لأنه كان حراً حين أسلمت الأمة الثانية، فلم يجز له إمساك الأمة، وفي حكم نكاحه حرة، وجاز له إمساك الأمة الأولى؛ لأنه كان رقيقاً وقت إسلامها. قال الشيخ: ولو أراد إمساك الحرتين دون الأمة - يجوز؛ كما لو أسلم مع حرتين ثم عتق، ثم أسلمت الحرتان الأخريان - له أن يختار أي الحرتين شاء. فصل في خيار العتق إذا نكح العبد في الشرك أمة، ثم وجد الإسلام، وعتقت الأمة بعد الدخول- فلا يخلو؛ إما أن يتقدم إسلامها، أو إسلام الزوج. فإن تقدم إسلامها؛ فلا يخلو إما أن أسلمت ثم عتقت، أو عتقت ثم أسلمت، فإن أسلمت ثم عتقت، والزوج متخلف - فإن اختارت المقام معه؛ لا يجوز لمعنيين: أحدهما: لأنها جارية في البينونة، فاختيار المقام لا يلائم حالها. والثاني: لأنها مسلمة لا يجوز قرارها تحت الكافر، وبهذا الاختيار لا يبطل حقها من الفسخ. وإن اختارت الفراق في الحال - يجوز؛ لأنه يلائم حالها، ولا تُكلف الصبر حتى يتبين حال الزوج؛ لأنه إذا أسلم في العدة، ثم اختارت الفراق - تطول عليها العدة. فإذا عجلت الفراق، نظر إن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها من وقت إسلامها - فعدتها من وقت اختيار الفسخ عدة الحرائر، وإن أسلم بعد انقضاء العدة - فعدتها من وقت إسلامها، ولا [عدة] لاختيارها الفُراق؛ لأن البينونة وقعت قبل ذلك. وعدتها عدة الحرائر أم عدة الإماء. اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: حكمها حم الرجعية إذا عتقت في خلال العدة، ففي الجديد: تكمل عدة الحرائر. وفي القديم قولان: وشبهها بالرجعية؛ من حيث إن عدتها تعرض للارتفاع بإسلام الزوج؛ كعدة الرجعية بالمراجعة؛ ولأنا تستحق النفقة في هذه الحالة كالرجعية.

ومنهم من قال: حكمها حكم البائنة إذا عتقت في العدة. ففي القديم: يقتصر على عدة الإماء. وفي الجديد قولان؛ لأنا نحكم بعد انقضاء العدة بوقوع البينونة من وقت إسلامها؛ كالبائنة لا تكون بينونتها بانقضاء العدة، بخلاف الرجعية؛ فإنها تتبين بعد انقضاء العدة. ثم هاهنا لا خلاف أنها لا تستأنف العدة من وقت اختيار الفراق؛ لأنه إذا لم يسلم حتى انقضت عدتها - بان أن الاختيار لم يكن صحيحاً، بخلاف الرجعية إذا عتقت، فاختارت الفراق تستأنف العدة في قولٍ؛ لأن ذلك الاختيار صحيح، وله أثرٌ وهو قطع الرجعة. فأما إذا أرادت تأخير الفسخ إلى أن يتبين حال الزوج - يجوز، [ولا يبطل] به خيارها؛ كالرجعية إذا عتقت في العدة، لها تأخير الاختيار على تبيين حال الزوج، هل يراجعها أم لا؟ ثم إن لم يُسلم الزوج حتى انقضت عدتها سقط الاختيار، وعدتها من وقت إسلامها. وتكون عدة الحرائر [أم عدة الإماء؟ فعلى الاختلاف الذي ذكرنا. وإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها، فلها خيار الفسخ، وعدتها من وقت الاختيار عدة الحرائر]، فأما إذا عتقت ثم أسلمت - والزوج متخلف - لا يجوز لها اختيار المقام؛ لما ذكرنا من المعنيين. فإذا عجلت الفراق يجوز، ثم إن أسلم الزوجُ قبل انقضاء عدتها، فعدتها عدة الحرائر من وقت الاختيار، فإن أسلم بعد انقضاء عدتها، فعدتها من وقت إسلامها عدة الحرائر، وإن أرادت تأخير الفسخ على تبين حال الزوج - يجوز، ثم إن أسلم قبل انقضاء العدة فهما على النكاح، فإذا فسخت فعدتها من وقت الفسخ عدة الحرائر، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها - فعدتها من وقت إسلامها عدة الحرائر. وأما إذا تقدم إسلام الزوج - نظر إن أسلمت بعده ثم عتقت - فلا الخيار في الحال هذه أمة عتقت تحت عبد، ولحكمه باب مفرد، سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإن عتقت قبل الإسلام، فأخرت الاختيار - جاز، ثم عن أسلمت قبل انقضاء عدتها من وقت إسلام الزوج، فاختارت الفراق - فعدتها من الآن عدة الحرائر. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها بان أن الفرقة وقعت بإسلام الزوج، وعدتها من ذلك الوقت عدة الحرائر، أم عدة الإماء؟ فعلى ما سبق من الاختلاف. ولو أنها اختارت المقام، أو الفراق قبل إسلامها - فظاهر النص يدل على أنه لا يجوز واحد منهما. فذهب بعضُ أصحابنا: إلى ظاهره، وقال: اختيارُ المقام لا يجوز؛ لأنها جارية في البينونة، فالمقام لا يلائم حالها، واختيار الفراق لا يجوز؛ لأنه يمكنه أن يسلم، ثم يختار الفراق، بخلاف ما لو تقدم إسلامها والزوج متخلف - جاز لها اختيار الفسخ في الحال؛ لأن إسلام الزوج [ليس] بيدها. والصحيح من المذهب أن اختيار المقام لا يجوز، واختيار الفراق يجوز؛ لأنه يلائم حالها؛ كما لو تقدم إسلامها، وتخلف الزوج. وقول الشافعي - رضي الله عنه-: فاخترن فراقه والمقام معه، ثم أسلمن - خُيرنَ. جوابه: يرجع إلى اختيار المقام. وقيل: لم يذكر الشافعي - رضي الله عنه- "فاخترن فراقه" بل قال: فاخترن المقام معه، فإذا اختارت الفراق، ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها - فعدتها من وقت الاختيار عدة الحرائر. وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها، فعدتها من وقت إسلام الزوج عدة الحرائر، أم عدة الإماء؟ فعلى ما سبق من الاختلاف. ولو أسلم الزوج العبد، هل يثبت الخيار لزوجته الكافرة، حرة كانت أو أمة، أسلمت أو لم تسلم، وهي كتابية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها رضيت برقِه، ولم يحدث فيها عتق. والثاني: يثبت وعليه نص حيث قال: ولو كان عنده إماء وحرائرن ولم يخترن فراقه؛ وذلك لأن الرق نقائص في الإسلام ليست في الكفر، وهي لم ترض بها، فمن قال بالأول قال: جوابه يرجع إلى الإماء إذا عتقن.

فصل فيما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة إذا أسلم عن أكثر من أربع نسوة، وقعت الفرقة بينه وبين الزيادة على الأربع بنفسه الإسلام؛ فيؤمر بالاختيار، فإن لم يختر حُبس، فإن امتنع من الحبس عُزر، وإن امتنع بعد التعزير عُزر ثانياً وثالثاً إلى أن يختار؛ لأنه حق وجب عليه، فإن أغمي عليه في الحبس يُخلى سبيله حتى يفيق؛ لأنه خرج عن أن يكون له اختيارٌ، فإذا أفاق رُدَّ إلى الحبس، ولا يختارُ عليه الحاكم؛ لأنه اختيار تشهٍّ ولا يدري الحاكم أيتهن آثر عنده. وكذلك لا يجوز التوكيل فيه، بخلاف [التوكيل] إذا لم يفِ ولم يُطلق، يُطلق عليه الحاكمُ؛ لأنه حق فرقة ثبتت لمستحقة متعينة، وهاهنا حق الفرقة ليس لواحدةٍ بعينها حتى يوصله إليها، وإلى أن يختار تجب عليه نفقة كلهن؛ لأنهن في حياله وحبسه. وكل واحدة بفرض أن تكون المزوجة فإذا اختار أربعاً، تبين انقطاع الباقيات من وقت إسلام مُتقدم الإسلام منهما، أعني: من الزوج، وممن يرتفع نكاحها، وعدتهن من أي وقت تكون؟ اختلف أصحابُنا فيه: منهم من قال - وهو الأصح-: من وقت الاختيار. ومنهم من قال: من وقت الإسلام، إن أسلمن والزوج معاًن وإن تقدم إسلام أحدهما، فمن وقت إسلام متقدم الإسلام منهما. وإن كُنَّ كتابيات، فتخلفن من وقت إسلامه؛ لأن الحيلولة وقعت بينهما من ذلك الوقت - قال الشيخ. ويمكن بناؤه على ما لو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ثم عين - فعدتها من وقت التعيين، أو من وقت تلفظ بالطلاق؟ فيه قولان: فإن قلنا هناك: من وقت التعيين - وهو الأصح- فها هنا يكون من وقت الاختيار. وإن قلنا هناك: من حين تلف فها هنا من حين أسلم السابق منهما. وإن أسلم مع أربع، فاختارهن- جاز، ثم نظر؛ إن لم تُسلم المتخلفات حتى انقضت عدتهن - بان أن النكاح ارتفع بينه وبينهن بإسلامه، وانقضت عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن، فالفرقة وقعت بينه وبينهن باختيار الأوليات، وعدتهن من وقت الاختيار. ولو أسلم معهن، أو اجتمع إسلامه وإسلامهن في العدة، فمات الزوج قبل الاختيار

- لا يقوم وارثه مقامه في الاختيار، ثم الكلام في فصلين: في العدة، والميراث. أما العدةُ: ن لم يكن قد دخل بهن، فعلى كل واحدة أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من وقت موته؛ لأن كل واحدة بين أن تكون أجنبية؛ فلا عدة عليها، وبين أن تكون زوجةً فعليها عدة الوفاة؛ فيحتاط لإيجابها. وإن كان بعد الدخول بهن، فكل من كانت حاملاً تنقضي عدتها بوضع الحمل. ومن كانت حائلاً، نظر؛ إن كانت من ذوات الأشهر، فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من وقت الموت، وإن كانت من ذوات الأقراء؛ فعليها أن تعتد بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض، فأيهما تم أولاً عليها إكمال الثاني؛ لأن كل واحدة بين أن تكون زوجة فعليها عدة الوفاة، أو مفارقة في الحياة، فعليها أن تعتد بثلاثة أقراء. غير أن مُضي الأشهر تعين من وقت الوفاة، والأقراء من أي وقت تُعتبر؟ فيه وجهان: أحدهما: تعتبر من وقت الموت أيضاً. والثاني: من وقت إسلام متقدم الإسلام منهما، حتى لو مضى لها قُرءٌ في حياة الزوج بعد الإسلام تعتد بعد حياته بأربعة أشهر وعشر فيهما قُرآن، ولا يتصور في الأم والبنت اجتماعُ العدتين على واحدٍ. أما الميراثُ: فيوقف لهن ربعُ الميراث، إن لم يكن له ولدٌ، فإن كان له ولد فالثمن، حتى يصطلحن، بخلاف النفقة لا توقف؛ لأن التفريط من جهته بترك الاختيار، ولا تفريط في الموت، فإن كُن ثمانية، فجاءت واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أربعٌ، وطلبن شيئاً من الميراث، لا يعطين؛ لاحتمال أن الزوجات غيرهن. وإن طلب خمس منهن يُعطى إليهن ربع الموقوف؛ لأنا نعلم أن فيهن زوجتين وإن طلب ست يعطين نصف الموقوف؛ لأنا نعلم أن فيهن زوجتين، وإن طلبا سبع فثلاثة أرباع الموقوف. وإن كن عشراً، فجاء خمسٌ أو ست، فطلبن شيئاً - لا يعطين. فإن جاء تسع وطلبن يعطى إليهن الربع، وهل يعطين من غير إبراء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، حتى ينقطع الخصومة. والثاني: يعطين من غير إبراءٍ - وهو الأصح؛ لأن منهن من يستحق هذا القدر. وإن كُنَّ ثمانية فيهن صغيرة، أو مولى عليها، فإن أعطيت الصغيرة ربع الموقوف

فنعما، وإن لم تُعط، فلا يرضى وليها بأقل من ثمن الموقوف؛ لأنهن إذا اقتسمن على التسوية، فيكون لكل واحدةٍ ثمنه، فلا يجوز أن يبخس حق الصغيرة، فيرضى بأقل منه. ولو كان تحته ثمان زوجاتٍ: أربعٌ تابيات، وأربعٌ مجوسيات أو وثنيات، فأسلم مع المجوسيات أو الوثنيات. قال الشيخ - رحمه الله-: أو [كان تحته ثمان نسوة] كلهن كتابيات، فأسلم مع أربع منهن، وتخلفت الكتابيات - فإن شاء اختار الكتابيات، وإن شاء اختار اللاتي أسلمن معه، فلو مات قبل الاختيار: من أصحابنا من قال: لا يوقف للزوجات شيءٌ، بل تُقسم التركة بين سائر الورثة؛ لأن الوقف حيث يتحقق الاستحقاق، وهاهنا لا يتحقق؛ لأنه يجوز أن تكون الكتابيات هن الزوجات، فلا ترث منه زوجة. ومنهم من قال: يوقف؛ ما لو أسلمن معه جميعاً، ثم مات؛ لأن الزوجية [حقيقية] الكتابيات. ولو مات ذمي كتابي أو مجوسي عن أكثر من أربع نسوة. قال صاحب "التلخيص": كان الربعُ أو الثمن بينهن جميعاً؛ قلته تخريجاً. وذهب جماعةٌ من أصحابنا إلى أنه لا يرث منهن إلا أربعٌ، فيوقف حتى يصطلحن؛ كما لو أسلم معهن، فمات قبل الاختيار؛ إذ لا فرق بين الإسلام وبين الترافع إلينا، فإن اقتسمن بينهن قبل الترافع إلينا - لا ننقضه. وقال الشيخ القفال - رحمه الله- هذا يبني على أن أنكحة الكفار هل يحكم بصحتها أم لا؟ إن قلنا: لا يحكم لها بالصحة، فلا يرث منهن إلا أربعٌ ويوقف. وإن قلنا: لها حم الصحة، ورث الكل. أما المجوسي إذا نكح إماء ومات، فهل ترث المرأة منه؟ من أصحابنا من بني على هذا الأصل. وإن قلنا: لها حكم الصحة ورثت، وإلا فلا. والمذهب: أنها لا ترث قولاً واحداً؛ لأنه ليس في شيء من الأديان، ولا يتصور التقرير عليه في الإسلام.

قال الشيخ- رحمه الله -: وكذلك لو نكح في الشرك في العدة، ومات قبل انقضاء العدة - لا ترثُ؛ لأنه لا يقر عليه لو [أسلم]. فصل فيما لو أسلم وتحته مجوسية إذا أسلم وتحته مجوسية أو وثنية، فتخلفت، وكان بعد الدخول بها، فنكح أختها المسلمة وأربعاً سواها قبل انقضاء عدتها - لا يصح. وكذلك لو طلق امرأته في الشرك طلاقاً رجعياً، ثم أسلم ونكح أختها أو أربعاً سواها في عدتها - لا يصح؛ لأن زوال [النكاح] غير مستيقن. قال المزني - رحمه الله-: يكون النكاح موقوفاً، فإن أسلمت المتخلفة في العدة- بان أنه باطل، وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها - بان أنه صحيحٌ، ولا يتكرر وقف النكاح؛ كما ان نكاح المتخلفة موقوفٌ. قلنا: الوقف في نكاح المتخلفة وقف الحل والزوال، وذلك جائزٌ، وفيما نحن فيه وقف العقد؛ كما أن زوال نكاح الرجعية موقوف على انقضاء عدتها، ولا يجوز نكاح أختها موقوفاً عليه. فأما إذا أسلمت المرأة، وتخلف الزوج؛ إما في صلب النكاح، أو في عدة الرجعية، فتزوج الزوج المتخلف أختها، أو أربعاً سواها في عدتها، ثم أسلم مع الأخرى - نظر؛ إن أسلم بعد انقضاء عدة من أسلمت أولاً - قرت الأخرى تحته، وإن أسلم في عدتها يختار أيتهما شاء، ون كان قد نكح أربعاً يختار من الكل أربعاً؛ كما لو أسلم وتحته أختان، أو أكثر من أربع نسوة، بخلاف ما لو أسلم الزوج أولاً، ونكح أختها؛ لأنه نكح في الإسلام، وهو يعتقد تحريم نكاح الأخت على الأخت. ولو أسلم أحد الزوجين، وتخلف الآخر بعد الدخول بها، وطلقها في العدة - فالطلاق موقوفٌ، فإن جمعهما، إسلام في العدة. [بان أن الطلاق واقع وتعتد من ذلك الوقت، وإن لم يجمعهما إسلام حتى انقضت العدة] بان أن الطلاق غير واقعٍ. وكذلك لو ظاهر عنها أو آلى عنها - فموقوفٌ، وإن لم يجمعهما إسلامٌ فلا ظهار، ولا إيلاء، ولا لعان في القذف، ويعزر إن كانت المرأة هي المتخلفة على القذف، ويُحد إن كان

هو المتخلفُ. وإن جمعهما الإسلام بان أنها زوجته، وصح الظهار والإيلاء، وله اللعان لإسقاط الحد والتعزير. فصل فيما لو أسلم احد الزوجين بعد الدخول إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول - فلها المهر؛ لأنه استقر بالدخول، وإن أسلم قبل الدخول، نظر؛ إن أسلم الزوج حيث لا يدوم النكاح بينهما، فعليه نصف المهر المسمى إن كان صحيحاً، وإن كنا فاسداً فنصف مهر المثل، وإن لم يكن فرض لها شيئاً فالمتعة. وإن أسلمت المرأة، وتخلف الزوج - فلا مهر لها؛ لأن ارتفاع النكاح إذا كان من قبلها قبل الدخول - فلا يون لها مهرٌ؛ كما لو ارتدت. فلو اختلفا فقال الزوج؛ أسلمت أولاً فلا مهر لك، فقالت: بل أسلمت أولاً فعليك نصف المهر -فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل وجوب مهرها. ولو قالت: لا أدري أينا أسلم أولاً، فلا مهر لها، فلو قالت بعده: تذكرت اسلم الزوج أولاً - حلفت، وأخذت المهر. ولو قالا: لا نعلم أينا أسلم أولاً، فالنكاح ينفسخ لاتفاقهما على سبق إسلام أحدهما. ثم إن كان: قبل أخذ الصداق، فلا تأخذ المرأة منه شيئاً؛ لاحتمال سبق [إسلام أحدهما] فإن كانت قد قبضت، فليس للزوج أن يسترد منها إلا النصف؛ لاحتمال سبق إسلامه. ولو اختلفا في بقاء النكاح، فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل الآخر، فلا نكاح بيننا [ولو] كان قبل الدخول، وقال الزوج: بل أسلمنا معاً - فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المُزني: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاحِ. والثاني: القول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها، من حيث إنه ينظر وقوع إسلامهما معاً. واستنبط أصحابنا من هذا حد المدعي والمدعى عليه، [فجعلوه على جوابين:

أحدهما: المدعي من لو سكت تُرك، والمدعى عليه] من لا يترك وسكوته فعلى هذا القول قول الزوج؛ لأن المرأة لو سكتت تُركت، فكانت هي المدعية. والثاني: المدعي [من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً، فعلى هذا القول قولها مع يمينها؛ لأن الرجل يدعي] أمراً باطناً، وهو وقع الإسلامين معاً، فكان هو المدعي. ولو قال الزوج: أسلم أحدنا قبل الآخر، وقالت: بل معاً - ارتفع النكاح بقوله، ودعواها في المهر مسموعة، والقول قول من يكون؟ فعلى القولين. ولو قالا: لا ندري أسلمنا معاً، أو أحدنا قبل الآخر - فهما على النكاح؛ لأن الأصل بقاؤه. ولو أسلمت المرأة بعد الدخول، ثم أسلم الزوج، واختلفا، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء العدة، وقالت: أسلمت بعده- نظر إن اتفقا على وقت انقضاء العدة مثلاً؛ أنها انقضت يوم الجمعة، فقال الزوج: أسلمت يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت - فالقول قولها مع يمينها؛ لأنهما اتفقا على صدقها فيما تدعيه لنفسها، واختلفا في إسلامه، والأصل بقاءُ كفره. ولو اتفقا على أنه أسلم يوم الجمعة، واختلفا في انقضاء العدة، فقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال: بل يوم السبت - فالقول قوله مع يمينه؛ لاتفاقهما على صدقه فيما يدعيه من إسلامه، واختلفا في انقضاء العدة، والأصل بقاؤها، ولو لم يتفقا على شيء، بل يقول الرجل: أسلمت قبل انقضاء عدتك، والمرأة تقول: انقضت عدتي قبل إسلامك - فالقول قول من سبق بالدعوة، فإن قالت المرأة أولاً: انقضت عدتي قبل إسلامكن ثم ادعى الرجل أنه أسلم قبل انقضاء عدتها - فالقول قولها مع يمينها، ويجعل كأن الزوج أنشأ الإسلام حالة الدعوى. وإن قال الزوج أولاً: أسلمتُ قبل انقضاء العدة، ثم قالت المرأة: انقضت عدتي قبل إسلامك نظر إن قالت بعده بزمان - فالقول قوله مع يمينه. وإن قالت ارتجالاً، فالقول قولها مع يمينها، لأنا نجعل قوله: أسلمت كأنه يُنشيء الإسلام الآن؛ لأن إنشاءه يكون بالقول كالإقرار به، ويجعل قولها: انقضت عدتي إخباراً؛

لأن انقضاء العدة لا يكون بالقول، فيكون الانقضاء سابقاً على الإخبار، فيصير كأن إسلامه وانقضاء عدتها وقعاً معاً، فلا يكون النكاح باقياً؛ لأن الإسلام لم يُصادف شيئاً من العدة. وكذلك لو ارتد الزوج بعد الدخول، وغاب، ثم عاد مسلماً بعد انقضاء عدتها، فاختلفا - فهو على هذا التفصيل. وكذلك لو اختلف [الزوجان] في الرجعة، وانقضاء العدة، فقال الزوج: راجعتك قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل بعده. ونص الشافعي - رضي الله عنه - في الرجعة والردة؛ أن القول قولها مع يمينها، ونص هاهنا أن القول قوله، فمنهم من جعل القول في الكل قولين، [والصحيح] أنه على حالين؛ حيث قال: "القول قوله"، أراد إذا اتفقا على وقت إسلامه ورجعته، واختلفا في وقت انقضاء العدة. وحيث قال: "القول قولها" أراد به إذا اتفقا على وقت انقضاء العدة، واختلفا في وقت إسلامه ورجعته. ومنهم من قال على حالين من وجه آخر؛ حيث قال: "القول قوله" أراد به إذا كان هو السابق في الدعوى، وحيث قال: "القول قولها" أراد به إن كانت هي السابقة. فصل في إمساك عقود المشركين بعد الإسلام إنما يجوز إمساك المرأة بعد الإسلام بعقد مضى في الشرك، إذا عقدوه في الشرك على وجه، ويعتقدون صحته، ثم وجد الإسلام، والمبطل غير قائم، حتى لو عقدوه بلا ولي ولا شاهد، وبإجبار غير الأب والجد، وبإجبار الثيب، وهم يعتقدونه، ثم أسلموا - يقرون عليه. ولو قهر رجل امرأة على نفسها، أو طاوعتهن وهم يعتقدونه نكاحاً، فأسلما - يُقران عليه، وإن لم يعتقدوه فلا. ولو راجع رجعية في القُرءِ الخامس، وهم يعتقدون أن العدة خمسة أقراءِ - يقرون عليه. ولو نكح المطلقة ثلاثاً قبل زوج آخر، ثم أسلما - لا يقران عليه؛ لأن المبطل قائم؛ كما لو نكح أماً وأختاً ثم أسلما - لا يُقران عليه. ولو نكح امرأة في عدة الغير، أو بشرط الخيار لهما معاً أو لأحدهما، ثم أسلما بعد

انقضاء العدة، ومضى زمان الخيار - يقران عليه، وإن كان قبل انقضاء العدة بزمان الخيار - فلا يُقران؛ لأن المبطل قائم. ولو أسلم أحدهما - ومدة العدة والخيار باقية - ثم أسلم الثاني بعد انقضائها - لا يقران، وكان شيخي - رحمه الله- يقول: يُقران، ويشترط بقاء المبطل بعد اجتماع الإسلامين، من وقت إسلامها. قال الشيخ: وكذلك إذا كنا أكثر من أربعة نسوة فأسلمن - يجوز اختيار الموطوءة في العدة الثانية إذا أسلم الزوج وأحرم، ثم أسلمت المرأة في العدة، نص على أنه يجوز إمساكها في حال الإحرام وإن كان لا يجوز ابتداء النكاح في الإحرام وإن كن أكثر من أربع فأسلمن؛ وهو محرم - له أن يختار أربعاً منهن: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجوز الإمساك والاختيار في الإحرام؛ كما تجوز الرجعة. والثاني: لا يجوز كما لا يجوز ابتداء النكاح. ومنهم من قال: لا يجوز الإمساك والاختيار في الإحرام قولاً واحداً، بل قد يقع النكاح؛ كما لو يجوز ابتداء النكاح وكما لو أسلم حر، وتحته أمة وهو موسر - لا يجوز إمساكها، كما لا يجوز ابتداء نكاح الأمة مع اليسار. وحمل النص على ما لو أسلم وأسلمن معه، ثم أحرم قبل الاختيار - جاز أن يختار في حال الإحرام؛ لأن الاختيار ثبت له حاله الإسلام وهو غير محرم في تلك الحالة. ولو أسلم الزوج بعد الدخول، ثم ارتد نظر إن لم تسلم المرأة؛ حتى انقضت عدتها - بانت منه باختلاف الدين الأول، والعدة من تلك الحالة، وإن أسلمت المرأة قبل انقضاء عدتها. ولو نكح نكاح متعةٍ، ثم اسلما، إن اعتقدوا تأبيده - أقرا عليه، وألا فيقران عليه، سواء كانت المدة باقية أو منقضية؛ لأنها إن كانت باقية، فالمبطل قائم، وإن كانت منقضية، فاعتقادهم ارتفاع النكاح بانقضائها. وكذلك لو نكحها على شرط أنهما بالخيار، أو أحدهما أبداً - لا يُقران عليه. وكل امرأة جاز نكاحها في الإسلام - جاز إمساكها بعقد مضى في الشرك على اعتقادهم، وكل امرأة لا يجوز - ابتداء - نكاحها في الإسلام، لا يجوز استدامة نكاحها بعد إسلامها بعقد مضى في الشرك إلا في مسألتين.

إحداهما: إذا أسلمت [المرأة] بعد الدخول، فوطئت بالشبهة، ثم أسلم الزوج في العدة- له استدامة نكاحها، وإن كان لا يجوز - ابتداء - نكاح المعتدة، ثم إن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها من الزوج بان أن عدتها من وطء الشبهة، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها من الزوج، بان أن عدتها من الزوج، وتستأنف العدة من وطء الشبهة ومن حين انقضت عدة الزوج من وقت إسلامه، سقط حكم العدة الأولى وتستأنف العدة من حين ارتداد الزوج، ويقف النكاح على إسلامه، وانقضاء العدة. فإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها من وقت ردته - فهما على النكاح. وإن لم يُسلم حتى انقضت العدة - بان أن الفرقة وقعت بينهما بارتداده، والعدة من تلك الحالة. قال الشيخ -رحمه الله-: هذه مسألة ثالثة يفرق فيها حكم الابتداء والاستدامة وأن - ابتداء - نكاح المرتدة لا ينعقد على الوقف، ويوقف في الدوام. ولو أسلم عن أكثر من أربع بعد الدخول، ثم ارتد، ثم أسلمن في العدة - لا يجوز الاختيار في الردة، وكذلك لو أسلم وأسلمن معه، ثم ارتد قبل الاختيار - لايجوز الاختيار في الردة؛ كما لا تجوز الرجعة في الردة، بخلاف الإحرام، ويجوز فيه الاختيار؛ لأنه لا ينافي الرجعة. قال الشيخ: بل يتوقف، فإن عاد إلى الإسلام في العدة يختار. قال - رحمه الله: ولو قال في حال الردة: طلقت أربعاً منكن- يتوقف، فإن جمعهم الإسلام في العدة تعين النكاح في المطلقات، وبن منه بالطلاق. وإن كان طلق أربعاً لا على التعيين - يقال: اختر، فإذا اختار أربعاً طُلقن منه، وإن كان الاختيار في الردة لا يصح ولا يتوقف؛ لأن الطلاق له غلبة كما سبق. قال الشيخ - رحمه الله-: فإن سخ نكاح أربع أراد حله بلا طلاق- نظر؛ إن لم يعين فلا معنى له، وإن عين يتوقف، فإن جمعهم الإسلام تعينت الأخريات للنكاح، وإن كان الاختيار على الوقف - لا يجوز؛ لأن الاختيار لا يلائم حالها فلم [يعلم] والفسخ يلائم حالها [فعلم]، فبقيت الأخريات منفرداتن فيتوقف نكاحهن؛ ما لو لم يكن تحته إلا أربع.

باب ارتداد أحد الزوجين والعياذ بالله إن ارتد أحد الزوجين أو هما جميعاً نظر إن كان قبل الدخول تتنجز الفرقة بينهما، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء عدتها، فإن جمعهما الإسلام في العدة، فهما على

النكاح، وإن انقضت عدتها قبل إسلامها بان أن الفرقة وقعت بنفس الردة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: إن ارتدا معاً دام النكاح بينهما؛ كما لو أسلم الزوجان معاً، وإن ارتد أحدهما تنجزت الفرقة، سواء كان قبل الدخول أو بعده، وإنما سوينا نحن بين ردتهما وردة أحدهما؛ لأن الحالتين تستويان في منع ابتداء النكاح، فكذلك تستويان في الدوام، بخلاف ما لو أسلما معاً دام النكاح بينهما، ويجوز له وطؤها بعد ما أسلما، ولا يجوز ذلك بعد ردتهما. ثم إن وُجدت الردة بعد الدخول - وقد استقر مهرها بالدخول -[فلا يسقط بالردة، وإن وجدت قبل الدخول، نظر إن ارتدت المرأة سقط مهرها]؛ لأن الفسخ جاء من قبلها، وإن ارتد الزوج فعليه نصف المهر، [وإن كانت مفوضة فالمتعة كما لو طلقها، وإن ارتدا معاً فوجهان: أحدهما: عليه نصف المهر]، كما لو خالعها قبل الدخول: والثاني - وهو الأصح-: لا مهر لها؛ لأنها جانيةٌ بالردة؛ فلا يحال بالحكم على جنايته؛ كما لو قال: اقطع يدي، فقطع - لا ضمان على القاطع، وإن كان القاطع جانياً فوجود الإذن من جهة المستحق، بخلاف الخلع؛ لأن قطع النكاح فيه يحال على الزوج؛ لأنه ينفرد بالفرقة، وليس من جهتها إلا بذلُ المال، وذلك بمجرده لا يوجب الفرقة. ولو ارتدا أو أحدهما بعد الدخول - لا يحل له وطؤها، فلو وطئها في العدة. [لا حد عليه، وعليها الاعتداد بثلاثة أقراء من وقت الوطء. ثم إن كان وطئها بعد] قُرءٍ، وبقي قُران بعده فلو جمعهما الإسلام، فهما على النكاح، ولا مهر للمرأة بسبب هذا الوطء، وإن لم يجمعهما الإسلام حتى مضى قُران بعد الوطء - بان أن الفرقة وقعت بينهما بنفس الردة، وعليه المهر بسبب ذلك الوطء.

وكذلك إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول، ثم وطئها في العدة، فإن جمعهما الإسلام في العدة، فلا مهر لها، وإلا فيجب، بخلاف ما لو وطيء الرجعية، ثم راجعها - يجب المهر في قولٍ؛ لأن ثم أثر الطلاق لا يرتفع بالرجعة، وهو نقصان [العدة]، فنزل ما بعد المراجعة وقبلها بمنزلة عقدين، وهاهنا يرتفع أثر الردة بالإسلام، والوطء، يصادف العقد الأول، فلم يجب مهر آخر. ولو ارتدا أو أحدهما بعد الدخول، ثم طلقها في العدة، أو ظاهر منها، أو لاعنها - فموقوف إن جمعهما الإسلام في العدة بان أنها كانت صحيحة؛ فيحكم بوقوع الطلاق، وصحة الظهار والإيلاء، وإلا فلا. ولو عاد المرتد إلى الإسلام، ثم طلقها قبل الدخول- تعتد من وقت الطلاق؛ لأنه بان أنهما على النكاح. والله أعلم. باب طلاق المشرك إذا نكح المشرك على اعتقاده، ثم طلقها - يقع، حتى لو طلقها ثلاثاً، ثم أسلما، لا تحل له إلا بعد زوج آخر، فلو نكحت في الشرك زوجاً آخر وأصابها، ثم طلقها - حلت للزوج الأول بعد الإسلام، ويحصل به الإحصان، وكذلك المسلم إذا طلق زوجته الكتابية ثلاثاً، فنكحت مشركاً كتابياً، أو وثنياً على اعتقادهم؛ فأصابها ثم طلقها - حلت للمسلم المطلق. وإذا طلق الكافر زوجته بعد الدخول - يجب عليها العدة حربية كانت أو ذمية، حتى لو أسلمت في الحال عليها العدة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: لا عدة على الحربية، فأما الذمية، فعليها العدة من المسلم، فأما من الذمي، فلا تجب عند أبي حنيفة، حتى لو طلقها يجوز أن تنكح في الحال. وعند أبي يوسف، ومحمد: تجب. وبالاتفاق لو نكحت في العدة في الشرك، ثم أسلما - والعدة منقضية - يُقران عليه. ولو خرجت حربية إلينا مسلمة، ولها زوج في دار الحرب بعد الدخول - يجب عليها العدة؛ لأن العدة لحق الله - تعالى-، ولصيانة مائة حرمةٌ، وهذه مسلمة يجب عليها مراعاة الحقين.

وعند أبي حنيفة: لا عدة عليها. وكذلك لو ارتدت المعتدة، فالتحقت بدار الحرب، ثم عادت مسلمة - لا عدة عليها؛ لأنها لما التحقت بدار الحرب - صارت كالحربية. باب عقد نكاح أهل الذمة قال الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. الكفار إذا عقدوا عقداً على اعتقادهم، ثم أسلموا، والمبطل غير قائم - يُقرون عليه، ولا يتعرض لما مضى، سواء فيه أهل الذمة وأهل الحرب من أهل الكتاب وغيرهم، حتى لو نكح وثني نصرانية، أو نصراني وثنية أو مجوسية، ثم أسلما- يُقران عليه. ويفترق الذمي والحربي الذي دخل إلينا بأمانٍ في شيءٍ، وهو أن الحربي لو قهر حربية على نفسها وغصبها - أقرهم الإمام على ذلك، ولم يتعرض لهم، وإن كانوا في دار الإسلام بالأمان. والذمي لو قهر ذمية على نفسها - منعه الإمام من ذلك؛ لأن عليه أن يمنع أهل الذمة بعضهم عن بعض؛ كما يجب عليه أن يمنع عنهم من يقصدهم من غيرهم، وإنما يلزمه بحكم الأمان منع من تجري عليه أحكام الإسلام عنهم. أما منعُ بعضهم عن بعضٍ فلا، وعلى هذا لو أن أهل الأمانِ قتل بعضهم بعضاً، أو أخذ بعضهم مال بعضٍ - لا يمنعهم الإمام عن ذلك. ولو تحاكم غلينا ملمٌ وذمي، أو مسلمٌ ومستأمنٌ - يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما؛ لأن عليه استيفاء حق المسلم، وأن يمنعه من الظلم. ولو تحاكم إلينا ذميان، نظر إن كانا مختلفي الملة؛ كاليهودي مع النصراني - يجب أن يحكم بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يرضى بحكم حاكم صاحبه. وقيل: فيه قولان؛ كما لو كانا متفقي الملة، والأول أصح. وإن كانا متفقي الملة، ففيه قولان: أصحهما: يجب أن يحكم بينهما؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، والصغار جريان حكم الإسلام عليهم؛ ولأنه يجب على الإمام أن يمنع عنهم من يقصدهم؛ فيجب أن يحكم بينهم كالمسلمين.

والثاني: لا يجب؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فالله - تعالى- خيره بين أن يحكم بينهم، أو يعرض عنهم، فعلى هذا هو بالخيار بين أن يحكم، وبين أن يردهما على حاكمهما، ولا يدعهما يتخاصمان. واختلفوا في محل القولين. قيل: لا فرق فيه بين حقوق الله - تعالى- وبين حقوق العباد. وقيل: القولان في حقوق العباد فأما في حقوق الله - تعالى- يجب أن يحكم؛ لأنه لا مُطالب له فيضيع. وقيل: القولان في حقوق الله تعالى، فأما في حقوق العباد يجب؛ لأن مبناه على الضيق؛ لأن صاحبه يستضر بسقوطه. ولو جاء واحدٌ منهم، واستعدى على خصمه منهم، إن قلنا: يجب الحكم يجب الإعداء، ويجب على المعدي عليه الحضور. وإن قلنا: لا يجب الحكم، لا يجب على الحاكم الإعداء، بل إن شاء أعدى، وإن شاء لم يعد. فإذا أعدى [فالمعدي] بالخيار، عن شاء حضر، وإن شاء لم يحضر، وليس له إحضاره جبراً. ولو تحاكم إلينا مستأمنان لا يجب أن يحكم بينهما، بل هو بالخيار بين أن يحكم، وبين ألا يحكم، سواء كانا مختلفي الملة، أو متفقي الملة؛ لأنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام. وقيل: كالذميين، [وقيل: يجب قولاً واحدا]، والأول أصح. ولو تحاكم إلينا ذمي ومستأمنٌ، هل يجب الحكم؟ فيه قولان كالذميين. وقيل: يجب قولاً واحداً؛ كما لو كانا مختلفي الملة. فإن قلنا: يجب أن يحكم بينهم، أو اختار الحكم، يجب أن يحكم باعتقاد الإسلام، فن تحاكم إلينا زوجان، والزوجة كتابية- يقرهما عليه، وإن كانت مجوسية أو وثنية-، فالمذهب أنهما يُقران عليه كما لو أسلما؛ لأن كل نكاح جاز التقرير عليه بعد الإسلام - جاز قبله، كنكاح الكتابية.

وقال الإصطخري: لا يُقران عليه؛ لأن نكاحهما في الإسلام لا يجوز، وإن كان قد نكح في عدة الغير، فترافعا إلينا - والعدة باقية - يُحكم ببطلانه، وإن كانت متقضية؛ فلا يحكم ببطلانه. ولو ادعت المرأة على زوجها الذمي؛ أنه طلقها، أو آلى عنها، أو ظاهر منها وقلنا: يجبُ الحكم، أو اختار الحكم -تُسمع دعواها، ونحلفه إن أنكر. وإن أقر ففي الإيلاء بعد مُضي أربعة أشهر - نفقة حتى يفيء أو يُطلق. وفي الظهار: نمنعه من قربانها حتى يكفر بإعتاق رقبة مؤمنة، فإن امتنع في الإيلاء من الفيء أو الطلاق - يُطلق الحاكم عليه جبراً. إن قلنا: يجب عليه الحكم. وإن قلنا: لا، فلا يطلق عليه إلا برضاه. وإذا جاءونا لعقد نكاحٍ - فتزوج إن كانت المراة كتابية ولم يكن لها ولي كافرٌ، وتزوج بشهود مسلمين. ولو أقر ذمي على نفسه بالزنا، أقام عليه الحد جبراً، إن قلنا: يجب الحكم. وإن قلنا لا يجب، فلا نقيم، إلا أن يرضى المقر. وحم الترافع إلينا حكم الإسلام، في أنه لا يتعرض لما مضى، إذا لم يكُن المبطل قائماً، حتى لو نكح في الشرك على خمر أو خنزير، أو خالع على خمر أو خنزير، ثم ترافعوا إلينا، وأسلموا بعد قبض الفاسد -فلا يوجب شيئاً آخر. وإن كان قبل القبض يوجب مهر المثل عليه في النكاح، وعليها في الخلع، بخلاف ما لو نكحها، أو خالعها على حر مسلم استرقوه نفسخه ونوجب مهر المثل، سواء كان قبل القبض أو بعده؛ لأن المبطل قائمٌ، فإنا لا نقرهم على استرقاق المسلم، وقبض الفاسد بعد الإسلام - لا يسقط عنه مهر المثل، وإن كان الإسلام والترافع بعد قبض بعض الفاسد - يجب بسقطهما ما لم يقبض فيمهر المثل؛ مثل: أن نكح على زفي خمرٍ، ثم أسلما بعد قبض أحدهما- نوجب نصف مهر المثل، بخلاف ما لو كاتب الذمي عبده على زفي خمر، فقبض أحدهما، ثم أسلما، وأدى الثاني بعد الإسلام - عتق، ويجب عليه مال قيمته، ولا يحط عنه بقدر المقبوض في الشرك؛ لأن العتق هناك يحصل بأداء آخر النجوم؛ لأنه يتوزع على النجوم. وإذا أخر النجوم -: وجد في الإسلام والنكاح والخلع معاوضة تُوجب التقسيط، فما أدى في الشرك وقع موقعه، وعليه بقدر ما بقي من مهر المثل. [ثم كيفية التقسيط إن كان قد

نكحها على زقي خمر فأدى أحدهما، ثم أسلما عليه نصف المهر] إن استوى الزفَّان، وإن اختلفا فمن أصحابنا من قال: يعتبر مقدارهما من الكيل. وقال أبو إسحاق: يعتبر العدد، فعليه نصف مهر المثل، وإن اختلف الزفان. وإن كان أصدقها عشر زقاقٍ، وقبضت واحداً-، فعليه تسعة أعشار المهر. وإن كان أصدقها ثلاثة كلابٍ أو ثلاث خنازير، فقبضت واحداً، ثم أسلما، أو ترافعا إلينا- فعليه بقدر ما بقي من مهر المثل، وكيف يعتبر؟ فيه ثلاثة أوجه: قال أبو إسحاق: يعتبرُ العدد، فعليه ثُلثا مهر المثل؛ لأنه أدى ثلث العدد. الثاني: تقدر الكلاب شياهاً، والخنازير بقراً وتعتبر قيمتها؛ وبه قال ابن سريج، وقيل: تعتبر المنفعة في الكلاب. ولو أصدقها ستة كلابٍ وثلاثة خنازير وزق خمر، وقبضت بعضها، ثم أسلما - ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يعتبر الجنس، فأي جنس أداه بتمامه، فقد أدى الثلث. والثاني: يعتبر العددُ، فإن أدى الخمر، فقد أدى العشر، وإن أدى الكلاب، فقد أدى ثلاثة الأخماس، وإن أدى الخنازير، فقد أدى ثلاثة الأعشار. وقيل: تعتبر القيمة فنقدر الكلاب شياهاً، والخنازير بقراً والخمر خلاً. ولو تبايعا ألفاً بألفين، أو تقارضا ألفاً بألفين، ثم أسلما، أو ترافعا إلينا بعد القبض - لا نعترض له ولا نرده. وإن كان قبل القبض نبطله، وإن كان بعد قبض أحد الألفين سُئل المؤدي، فإن أدى عن الربح عليه رأس المال، وإن أدى عن رأس المال - فلا شيء عليه من الربح، وإن أدى عنهما سقط عنه نصف رأس المال، وعليه نصفه، ولا ربح عليه، وإن أدى مطلقاً فوجهان: أصحهما: وقع عنهما. والثاني: له أن يصرفه إلى أيهما شاء فإن صرفه إلى الربح، يجب عليه رأس المال، وإن صرفه إلى رأس المال فلا ربح عليه. ولو أتلف مي خمراً على ذمي، فأجبره حاكمهم على أداء القيمة، أو اشترى خمراً أو خنزيراً، فأجبره حاكمهم على دفع الثمن، أو ترابيا، فأجبرهما على الأداء، ثم أسلما - لا يكلفا الرد؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله.

وإن ترافعا إلينا في حال الكفر - ففيه قولان: أصحهما: لا يكلفا الرد؛ كما لو أسلما وكما لو تقابضا من غير حكم، ثم ترافعا إلينا. والثاني: يبطلُ ويكلفا الرد؛ لأن الترافع لا يجب ما قبله، إلا أنا نعرض عما تراضيا عليه، وهاهنا لم يوجد الرضا فيرد، والترافع كالإسلام، إلا فيما أجبر عليه على هذا الوجه. وكذلك لو نكح على مهر فاسدٍ، وسلم إليها بحكم حاكمهم، ثم ترافعا إلينا - هل يجعل كما لو أسلم من غير حكم [حاكم] أم يجب مهر المثل؟ فعلى قولين. والكافر في قبول النكاح لابنه الصغير الكافر، وفي تزويج ابنته؛ كالمسلم حتى لا يُزوج البنت إلا بإذنها، ويُجبر البكر على النكاح، فإن عقدوا على خلاف ذلك وهُم يعتقدونه، ثم أسلموا - لا يتعرضُ لهم. والله أعلم بالصواب. باب إتيانا الحائض، [وإتيان النساء في أدبارهن] قال الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. لا يجوز وطء المرأة في خلال الحيض والنفاس ما لم تطهر وتغتسل، ولو كان له إماءٌ، فلا بأس أن يطأهن في ليلةٍ واحدةٍ؛ لأنه لا قسم لهن. والمستحب إذا وطيء امرأة، وأراد العود، أو أراد وطء امرأة أخرى - أن يتوضأ بينهما، فإن لم يفعل يغسل فرجه؛ فإن لم يفعل جاز. ولا يجوز في حق الحرائر أن يجمع بين وطء اثنتين بغُسلٍ واحدٍ؛ لأن القسم واجب عليه، فلا يجوز أن يأتي في نوبةٍ واحدةٍ امرأة أخرى إلا بإذنها؛ لما روي عن أنس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحدٍ؛ وذلك لأنهن حللنه، وكان القسم غير واجبٍ عليه. ويكره أن يطأ زوجته، وأخرى تنظر إليه؛ لأنه دناءةٌ، وليس من حسن العشرة. ولا يجوز إتيان النساء في أدبارهن. رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال: "في أي الخربتين أمِنْ دُبرها في قُبُلِهَا

فنعم، أم من دُبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق؛ فلا تأتوا النساء في أدبارهن". أما التلذذ بالإيلاج فيما بين الأليتين، والإيلاج في القُبل من جانب الدبر - فجائز. ولو أتى رجلٌ امرأته أو أمته في دبرها يعصي الله - تعالى- فن علم الإمام نهاه عن ذلك، فإن عاد عزره، ولا يجب الحد لشبهة الملك، ولايحصل له الإحصان، والتحليل للزوج الأول، ولا يخرج به عن الإيلاء، والعنة، ويستقر به المسمى، وتبطل به العبادة، وتجب به الكفارة في الصوم والحج، وتجب به العدة، وهل تثبت به الرجعة؟ وهل يثبت به النسب والصهرية؟ فيه وجهان: أصحهما: يثبت. وقيل: في استقرار المهر: وجهان. ويبطل باللواط إحصان الفاعل، ولا يبطل إحصان المفعول له، رجلاً كان أو امرأة؛ لأن حصول الإحصان بالتمكين في القُبُلِ، والبطلان يكون به أيضاً. وقيل: إن كانت امرأة يبطل إحصانها، قال الشيخ: يحتمل أن يبطل إحصانها، فقد قال بعض أصحابنا. إذا قال رجل: لاطك فلان يجب عليه الحد، فلولا بطلان افحصان به لكان لا يحد حد القذف على نسبته إليه. فصل رُوي عن جابر؛ أنه قال: "كُنا نعزل والقُرآن ينزل" ويروي: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - "فلم ينهنا". العزلُ: هو أن يُولج في الفرج، فإذا [قارب] الإنزال، نزع فأنزل دون الفرج؛ فهذا جائز في مملوكته، حتى لا يذهب ماله، وفي زوجته الأمة حتى لا يكون ولده رقيقاً. أما في زوجته الحرة يجوز بإذنها، وهل يجوز بغير إذنها؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز؛ لأن لها حقاً في الوطء: والثاني: يجوز؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال. وهل يجوز في أم ولده؟ ترتب على الحرة، إن جوزان ثَمَّ فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق انه لا حق لها في الوطء. قال الشافعي - رحمه الله - في "الإملاء": الاستمناء حرامٌ؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5، 6] فأوجب حف الفروج إلا في الزوجة، أو ملك اليمين، والاستمناء ليس بواحدٍ منهما. باب الشغار رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار.

والشغار: أن يُزوج الرجل ابنته الرجل على أن يزوج الآخر ابنته، وليس بينهما صداق. نكاح الشغار غير جائز؛ وهو أن يقول الرجل لغيره: زوجت ابنتي، وتزوجت ابنتك أو أختك، على أن يكون بُضع كل واحدةٍ منهما صداق الأخرى، وقال الآخر مثله؛ فهو باطلٌ. وكذلك لو قال: زوجت ابنتي على أن تُزوجني ابنتك، على أن يكون بُضعُ كل واحدة صداقاً للأخرى، وقبل الآخر. ولأي معنى فسد نكاح الشغار؟ فيه معنيان:

أصحهما: للتشريك؛ فنه جعل بعض البُضع منكوحاً، والبضع صداقاً للأخرى؛ كما وزوج امرأة من رجين - لا يصح: والثاني: للتوقيت؛ أنه قال: لا ينعقد لك نكاح ابنتي، حتى ينعقد لي نكاح ابنتك؛ كما لو قال: زوجتك ابنتي على أنك إذا قبلت لا ينعقد حتى يأتي الغد. فلو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، فقبل، ولم يقل: بضع كل واحدةٍ صداقٌ للأخرى، وقال الآخر مثله - صح النكاحان جميعاً؛ لأنه لا تشريك فيه، ويجب لكل واحدٍ مهر المثل؛ كما لو قال: زوجتك ابنتي على أن تبيعني دارك، فقبل - صح النكاح؛ ويجبُ مهر المثلِ.

وقيل: إن قصد التوقيت، بطل، ويجيء على قياس هذا، لو قال: زوجتك ابنتي على أن تُزوجني ابنتك ويون بضعُ ابنتك صداقاً لابنتي فقبل - صح الأول؛ لأنه لا تشريك فيه، ولم يصح الثاني للتشريك. ولو قال: زوجت ابنتي على أن تُزوجني ابنتك، أو قال: زوجتك ابنتي وتزوجت ابنتك، ويكون بضع ابنتي صداقاً لابنتك، فقبل - صح الثاني، وبطل الأول. ولو سمى لهما أو لأحديهما صداقاً، فقال: زوجت ابنتي بألفٍ على أن تُزوجني ابنتك، على أن يكون بضع كل واحدةٍ صداقاً للأخرى، أو قال: زوجت ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة صداقاً للأخرى، أو قال: ويكون بضع كل واحدة ومائة درهم صداقاً لصاحبتها - فالمنصوص أنه يصح. ومن أصحابنا من قال: يصح؛ لأنه ليس على صورة الشغار المنهي عنه. ومنهم من قال: لا يصح؛ لأجل التشريك، والمراد من النص إذا سمى الصداق، ولم يقل: على أن بُضع كل واحدةٍ صداقاً للأخرى؛ بأن قال: زوجتك ابنتي بألفٍ على أن تزوجني ابنتك، أو قال: زوجتُك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ومهرُ كل واحدة مائة درهم، فقبل عليه - صح النكاحان، ووجب مهر المثل لأجل الشرط، وهذا أصح؛ نص عليه في "الإملاء". وعند مالك: نكاح الشغار فاسدٌ؛ لفساد الصداق، وعنده فساد الصداق يوجب فساد النكاح. وعند أبي حنيفة: نكاح الشغار صحيح، ويجب مهر المثل للمرأةن والحديث حجة عليه؛ لأن النهي أوجب الفساد؛ كما في نكاح المتعة. ولو قال: زوجتك ابنتي بمتعة ابنتك - صح النكاح، وفسد الصداق، ولها مهر المثل. باب نكاح المتعة والمحلل رُوي عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عام خيبر عن نكاح المتعة. صورة نكاح المتعة: أن يتزوج امرأة إلى مدة معلومة، فإذا مضت بانت منه، بأن قال:

زوجتك ابنتي سنة، أو تزوجت ابنتك شهراً فقبل - فهو باطلٌ، وكان ذلك جائزاً في ابتداء الإسلام، ثم نُسخ.

وحُكي عن ابن عباس: أنه كان يجوزه. وقيل: إنه رجع. فلو نكح نكاح متعةٍ، ووُطيء جاهلاً- لا حد عليه، وعليه المهر، وإن كان عالماً بفساده، هل يجب عليه الحد؟ إن صح رجوع ابن عباس وجب؛ لأنه محرم بالإجماع. وإن لم يصح رجوعه فيبنى على أن أهل عصر لو اختلفوا في حكم حادثة، ثم اتفق أهل عصر بعدهم على أحد القولين،- هل يصير إجماعاً وجهان إن قلنا: يصير إجماعاً يجب الحد. وإن قلنا: لا يصير إجماعاً - وهو الأصح-، فلا يجب الحد؛ كما لو نكح بلا ولي. ووطء الشبهة من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون في الفاعل، بأن يجد على فراشه امرأة ظنها زوجته، أو أمته، أو زُفت إليه غير امرأتهن فوطئها على ظن أنها امرأته - لا حد ولا إثم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم -: "يُرفع عن أمتي الخطأ والنسيان".

ويجب عليه مهر المثل؛ كما لو دخل داراً فوجد طعاماً ظنه طعام نفسه، فأكله، لم يأثم، وعليه الضمان. والوجه الآخر: أن تكون الشبهة في الموطوءة، بأن يكون له فيها ملكٌ، أو شبهة ملك؛ كالجارية المشتركة يطؤها أحد الشركيين، أو وطيء جارية ابنه، أو مكاتبته، أو أمة مكاتبه - لاحد عليه؛ لأن الملك يثبت الإباحة، فوجوده في بعضها يُورثُ الشبهة، ووجود شبهة يسقط الحد. والوجه الثالث: أن تكون الشبهة فيا لطريق بأن يكون حلالاً عند بعض أهل الاجتهاد ممن يقول: اعتبار مثل النكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح المتعة، والشغار، ونكاح المحرم قبيحاً-: تعاطاه من يعتقد إباحته، أو يعتقد تحريمه - فلا حد عليه؛ لأنه لو اتفقوا على الإباحة كان حلالاً، وإذا قال بعضهم بالإباحة، واحتمل ما قال، - صار شبهة في سقوط الحد كوجود بعض المِلك. فأما من لا يعد خلافه خلافاً مثل الرافضة يقولون: الطلاق الثلاث لا يقع، أو يقع واحدة، وله مراجعتها [بالوطء]- فمثل هذا لا يوجب سقوط الحد. قال أبو بكر الصيرفي -رضي الله عنه -: الوطء في النكاح المختلف فيه يوجب الحد على من يعتقد تحريمه. ولو زنا رجل بامرأة، أو نكح الأم، فوطئها، أو نكح امرأة في عدة الغير، فوطئها- وهو عالم بكونها معتدة -يجب عليه الحد، ولا عدة عليها. ولو ادعى الجهل بالتحريم لا يعزرن إلا بأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو نشأ بموضع بعيد عن دار الإسلام، أو كان مجنوناً فأفاق، وزنا قبل أن يعلم الحكام - نقبل قوله، ولا حد. وإذا قبلنا قوله، وأسقطنا الحد، فهل يثبت النسب؟ وهل يجب المهر؟ وهل يكون لولد حراً إن [كان] فعل ذلك بأمه؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى، كما يسقط الحد. والثاني: لا تتعلق به هذه الأحكام، ويسقط الحد لأجل الشبهة، وكذا المجنون إذا زنا هل يثبت النسب؟ فيه وجهان:

الأصح: ثبوته. قال الشيخ: هل تجب العدة؟ يبنى على ثبوت النسب، وإن أثبتنا يجب، وإلا فلا تجب. فصل في نكاح المُحَلِّلِ رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله المحلل والمحلل له".

صورة نكاح المحلل: أن يطلق [رجلٌ] امرأته ثلاثاً، فنكحت زوجاً آخر، حتى تحل للأول، فيه ثلاث مسائل: إحداها: إذا نكحها على أنه وطئها بانت منه؛ فهذا باطلٌ؛ لأنه نكاح متعةٍ، وإذا وطيء في هذا العقد لا يحصل به التحليل. الثانية: إذا نكحها بشرط أنه إذا وطئها طلقها - ففي صحة النكاح قولان: في الجديد باطلٌ؛ لأنه أخو نكاح المتعة. والثاني: صحيح؛ قاله في القديم، و"الإملاء"؛ لأنه شرط فاسدٌ، فيفسد به الصداق، ويصح النكاحُ؛ كما لو شرط ألا يسافر بها. فإن قلنا: لا يصح، فإذا وطئها لا يحصل به التحليل. [وإن قلنا: يصح، فيحصل،

وإذا واطأ عليه قبل العقد، ولم يشترطا في العقد - فالمذهب أن النكاح صحيح، وإذا وطيء فيه يحصل به التحليل]. الثالثة: إذا نكحها مطلقاً في عزمه أن يطلقها بعدما وطئها-، يصح النكاح، غير أنه يكره، إلا أن ينكح نكاح رغبةٍ، إذا وطيء يحصل به التحليل. باب نكاح المحرم رُوي عن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ ولا يُنْكَحُ". لا يصح النكاح في حال الإحرام، سواء كان الولي محرماً، أو الخاطب، أو وكيل واحدٍ منهما، أو المرأة، وسواء كان الإحرام بالحج، أم بالعمرة، صحيحاً كان أم فاسداً.

فإن كان الشاهد محرماً يصح، ويكره. وقال الإصطخري: لا يصح، وهذا لا يصح؛ لأن الشاهد ليس بعاقد، ولا معقود له، ولا عليه، فلا يمنع إحرامه العقد. وقال أبو حنيفة: يصح النكاح في حال الإحرام. وقال مالك: ينعقد، ويفرق بينهما، والخبر حجة على رده. فإذا حصل التحلل جاز النكاح، وللعمرة تحلل واحد، وللحج تحللان، فبعد التحللين يجوز، وبين التحللين قولان: أصحهما: لا يجوز، ويكره الخطبة في حال الإحرام، ولا يحرم، بخلاف العدة، لايجوز فيها الخطبة؛ لأن انقضاء العدة أمر خفي لا يعرف إلا بقولها، فربما تكذب بانقضاء عدتها؛ حرصاً على النكاح، والخروج عن الإحرام أمر ظاهر. ولو وكل حلالٌ محرماً ليوكل حلالاً بالتزويج - فيه وجهان: أصحهما: جوازه؛ لأن المحرم سفير، وليس بعاقد، وتجوز المراجعة في حال الإحرام؛ لأنها استدامة النكاح، فلا يمنعها الإحرام؛ كالإمساك على دوام النكاح. قال أحمد، وإسحاق: لا يراجع. ولو وكل بالتزويج، أو بالقبول في حال إحرام الموكل، أو الوكيل، أو المرأة، أو إذا أذنت المرأة للولي بالتزويج في حال الإحرام مطلقاً؛ حيث شرطنا إذنها -؛ صح، ويزوج بعد التحلل؛ كما لو قيد، وقال: زوج بعد التحلل؛ لأن الإحرام لا ينافي الإذن، إنما ينافي العقد؛ كما لو وكل المحرم حلالاً بشراء صيدٍ، فاشترى بعد ما حل - صحت الوكالة. [ولو وكل أو أذنت المرأة ليعقد في حال الإحرام - لا يصح، ولو قال: إذا حللت فقد وكلتك، فهو تعليق الوكالة]. وفي صحته قولان: ولو وكل حلالاٌ حلالاً بالتزويج، ثم أحرم واحدٌ منهما، أو أحرمت المرأة قبل التزويج - لا ينعزل الوكيل، وله التزويج بعد التحلل بالوكالة السابقة، وقبل الإحرام كالجنون ينعزل به الوكيل. وعلى قياس قول هذا القائل: لا يجوز التوكيل والإذن في حال الإحرام. وهل يجوز للإمام والحاكم بولاية الحكم، التزويج في حال إحرامه -: [فيه] وجهان:

أصحهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز بالولاية الخاصة. والثاني: يجوز؛ كما يُزوج الكافرة بالولاية العامة، وليزوج المسلم الكافرة بالولاية الخاصة. والله أعلم. باب العيب في المنكوحة رُوي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة، فلما أدخلت عليه رأى بكشحها [بياضاً]، فردها إلى أهلها، وقال: "دلستم عليَّ". يثبت فسخُ النكاح بسبعة من العيوب: ثلاثةٍ توجدُ [منهما جميعاً وهي: الجنون مطبقاً كان أو غير مطبق، والجُذام، والبرص، فأي الزوجين وجد بصاحبه] شيئاً من ذلك - فله فسخ النكاح. واثنان في الزوج، وهما: الجب والعنة يثبت للمرأة بهما فسخ النكاح. واثنان في المرأة، وهما: القرن والرتق يثبت للزوج بهما الفسخ. والقرن: عظم في الفرج يمنع الجماع. والرتق: التصاق محل الجماع باللحم. ولو كان بأحدهما قرحةٌ يدعي الآخر أنها جذامٌ، وينكر صاحبها - فعلى من يدعي أنها جذام إثباته بالبينة، ولا يُقبل إلا من رجلين مسلمين عالمين بالطب عدلين، فإن لم تقم بينة، فالقول قول من به ذلك مع يمينه. وكذلك إذا كان بأحدهما بياضٌ، ويقول الآخر: إنه برصٌ - فالقول قول من هو به، وعلى الآخر البينة. ولا فرق بين القليل من هذه العيوب والكثير، فإن كان به مرضٌ يغمى عليه، ويغلب على عقله - فلا خيار؛ لأن الحيوان لا يخلو عن المرض، فإن زال المرض، وبي زوال العقل؛ فللآخر الخيار. والرتق والقرن يثبتان الخيار إذا منعا الجماع، فإن لم يمنع فلا خيار، فإن كن يمنع فأراد الزوج إجبارها على شق ذلك الموضع - لم يكن له ذلك، وإن أرادت هي ذلك لم يمنع؛ لأنه تداوٍ، فن فعلت فأمكنه الوطء؛ فلا خيار.

ولو وجدت المرأة زوجها خصياً، بأن كان موجوء الخصيتين، أو مقطوعهما، فهل لها الخيار؟ فيه قولان: أصحهما: لا خيار لها؛ لأنه قادر على الجماع؛ ما لو كان مقطوع بعض الذكر، وقد بقي منه قدر الحشفة - لا خيار لها: والثاني: لها الخيار؛ لأنه ناقصٌ من الرجال يلحقها العار بالمقام تحته. ولو وجدها الزوج مفضاة وهي التي دُفِع منه ما بين مخرج البول ومخرج الحيض - فلا خيار له، وكذلك لو وجدها عقيماً. ولو وجد أحدهما صاحبه خُنثى، ففيه قولان: أحدهما: يثبت الخيار للآخر؛ لوجود النقص في آلة الجماع، ولأنه يُعير بالمقام معه: والثاني: لا خيار له؛ لأنه قادرٌ على الجماع، ومحل الجماع من المرأة سليم. واختلفوا في محل القولين: منهم من قال - وهو الأصح: القولان فيما إذا كان مشكلاً، فاختار الرجولية فنكح، أو اختارت الأنوثية فنكحت؛ لأنه يتبين بخلافه، وإقدامه على النكاح اختيار تلك الجهة فإن كان واضحاً تبين ذلك بالعلامات فلا خيار؛ كما إذا كان على الرجل عضو زائدٌ، وعلى المرأة شق زائدٌ، أو جراحةٌ - لا يثبت به الخيار. وقيل: في الكل قولان. وقال أبو حنيفة-[رحمه الله]-: لا ينفسخ النكاح بشيء من العيوب، إلا أن

المرأة إذا وجدت زوجها مجبوباً أو عنيناً، ترفع الأمر إلى الحاكم حتى يُفرق بينهما بطلقةٍ. فنقول: معاوضة تقبل الفسخ، فجاز أن يفسخ بالعيب كالبيع، إلا أن المقصود من البيع المالية، وكل عيبٍ ينقص المالية يثبت حق الفسخ، والمقصود من النكاح الاستمتاع والوصلة، فما يؤثر فيه يثبت الفسخ. والقرن، والرتق، والجب، والعنة [لا يتنافى] معها الاستمتاع، وكذلك مع الجنون؛ لأنه يخاف على نفسه من صحبةِ [المجنون، وطبعه] ينفر من صحبة المجذوم والأبرص، وقد يعدو إلى النسل. ونسألُ الله العافية.

فلما أثرت هذه العيوب في مقصود العقد، فيثبت بها الفسخ. أما البخر والصنان والعمى، ونحوها؛ لا يثبت [بها] الخيارُ؛ لأنها لا تخل بالمقصود من الاستمتاع عاجلاً والنسل آجلاًن وتزول بالمعالجة. فإذا اجتمعت أنواع من هذه العيوب، بحيث تخل بالمقصود، أو كانت بأحدهما قروح سيالة، أو كانت المرأة مستحاضة - فقد أثبت بعض المتأخرين من أصحابنا بها الفسخ، والصحيح أنه لا يثبت إلا بما ذكرنا. ولو كان بكل واحدٍ من الزوجين عببٌ - نظر إن كان به جب أو عُنة، وبها رتقٌ أو قرنٌ؛ فلا فسخ لواحدٍ منهما؛ لأنه لا يصل إلى مقصوده من الغير. أما العيوب الثلاثة إن كانا مختلفين؛ بأن كان بأحدهما جُذام، وبالآخر برص أو جنونٌ؛ فيثبت لكل واحدٍ منهما الفسخ، فإن رضي احدهما بعيب صاحبهن فلا يلزم في حق الآخر، وله أن يفسخ. وإن اتفق العيبان، ففيه وجهان: أصحهما: يثبت لكل واحدٍ منهما الخيار؛ لأن الإنسان لا يعافُ من عيب نفسه، ويعافُ من عيب غيره؛ كالمتبايعين يجد كل واحد منهما بما اشترى عيباً يثبت لكل واحدٍ منهما حق الفسخ. وقيل: إذا كان به جب، وبها رتقٌ - فيه وجهان أيضاً. والخيار بسبب العيب على الفور إلا في عب العنة، فإنه يضرب لها مدة سنةٍ. ونعني بقولنا: "على الفور"؛ أن المطالبة بعد العلم تكون على الفور حسب الإمكان، وفي الحقيقة: لا فرق بين العُنة وسائر العيوب؛ أنه بعدما تحقق يكون على الفور، لأن العنة لاتتحقق إلا بعد مُضي سنةٍ، وسائر العيوب تُعرف على الفور. وهل ينفرد كل واحدٍ من الزوجين بالفسخ من غير مرافعة الحاكم؟ - فيه وجهان: أحدهما: ينفردُ؛ كفسخ البيع بالعيب ينفرد به كل واحدٍ من المتبايعين. والثاني: لا بل يرفعُ إلى الحاكم حتى يفسخ بينهما؛ لأنه مجتهدٌ فيه كالفسخ بعيب العنة، بخلاف فسخ البيع بالعيب؛ لأنه مجمعٌ عليه، نظيره فسخ النكاح بسبب الإعسار بالنفقة. ثم فسخ البيع بسبب الإفلاس لا يجوز حتى يرفع إلى الحاكم ليفسخ، وعلى الوجهين لو أخر بعد العلم قدر ما يأتي إلى الحاكم، فيفسخ بحضرته - يجوز.

وإذا ادعى أحدهما العيب، وأنكر صاحبه - فالقول قول المنكر مع يمينه، إلا أن يقيم المدعي البينة. ولو أقر بالعيب، وادعى على صاحبه أنه قد رضي به، وأنكر صاحبه الرضا - فالقول قوله مع يمينه. ولو كان العيب بها، فوطئها الزوج، وقالت: وطئت مع العلم، قال: لم أعلم، أو كان العيب به، فقال: مُكنت مع العلم، فقالت: لم أعلم، فالقول قول من يقول: لم أعلم مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم. فإذا فسخ النكاح بعيبٍ كان موجوداً يوم العقد - نظر، إن فسخ قبل الدخول لا شيء للمرأة إلا نصف المهر، ولا متعة، سواء كان العيب به أو بها؛ لأنه إن كان به، فهي الفاسخة للعقد، وإن كان بها، فالفسخ لمعنى فيها، وفسخ النكاح قبل الدخول إذا كان بسببها يوجب سقوط المهر. وإن كان بعد الدخول، فلها مهر المثل على ظاهر المذهب. وخرج قولٌ آخر أن لها المسمى -كما ذكرنا في الغرور - ولا سُكنى لها في العدة، ولا نفقة إذا كانت حائلاً، وإن كانت حاملاً فقولان - كما ذكرنا في الغرور. ثم إن كان العيب بالمرأة، فغرم الزوج المهر، هل يرجع به على الغار؟ إن أجاز العقد فلا يرجع، وإن فسخ فقولان: أصحهما: لا يرجع؛ لأن المهر لزمه مقابلة ما استوفى من منفعة البُضع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- فيمن نُكحت بغير إذن الولي: "فإن مسها فلها المهر". وقضى عمر -رضي الله عنه - للتي نُكحت في عدتها بالمهر. والثاني: يرجع؛ لما رُوي عن عمر [-رضي الله عنه]- أنه قال: أيما رجلٌ تزوج بامرأة، وبها جنونٌ، أو جُذامٌ، أو برصٌن فمسها - فلها صداقها؛ وذلك لزوجها غرمٌ على وليها. فإن قلنا: يرجعُ، [فإن كان الغرور من جهة المرأة، فال مهر لهان وهل يجب أقل ما يستباح به البضعُ؟ - فيه وجهان].

وإن كان الغرور من الولي، نظر؛ إن كان عالماً به، فكتمن يرجعُ عليه الزوج بعد ما غرم للمرأة جميع ما دفع إليها. وإن كان الولي جاهلاً به، ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه لا غرر من جهته. والثاني: يرجعُ؛ لأن ضمان المال لا يسقط بالجهل. فإن قلنا: لا يرجع على الولي عند الجهل، فذلك إذا كان الولي ممن يخفى عليه كالحاكم والأباعد من العصبات، ويكون الرجوع على المرأة. وإن كان الولي ممن لا يخفى عليه في الغالب؛ بأن كان محرماً لها؛ فيرجع عليه، ولا يقبل قوله: إني لا أعلم. وقيل: لا فرق بين المحرم وغيره في أنه لا يرجع عليه عند الجهل. وإن كانت المرأة غرت الولي، فالزوج يرجع على الولي، ويرجع الولي عليها. وإن غره جماعة من الأولياء، رجع على جميعهم. فإن جهل بعضهم وقلنا لا غرم على الجاهل، فالرجوع على العالمين منهم. ولو طلقها الزوج قبل الدخول، ثم علم بالعيب - يجب عليه نصف المهر، ولا يرجع به على أحد؛ لأنه التزمه حيث طلق. فأما إذا حدث العيب بعد عقد النكاح- لا يخلو إما أن حدث بالزوج، أو بالمرأة. فإن حدث بالزوج، نظر إن حدث به جنون، أو جُذامٌ، أو برص - ثبت لها حق الفسخ، سواء حدث بعد الدخول أو قبله. وإن حدث به جب أو عُنة، نظر إن كان قبل الدخول - فلها الفسخ، وإن حدث بعد الدخول، نظر إن حدثت العُنة فلا فسخ لها؛ لأنها تحققت قدرته، ووصل إليها حظها من الجماع. وإن جُبَّ ذكره بعد الدخول، ففيه وجهان: أحدهما: لا فسخ لها؛ كما لو حدثت العنة. والثاني - وهو الأصح: لها حق الفسخ؛ لوقوع اليأس عن الجماع، بخلاف العُنة، فإن

ثم لم يقع اليأس عن زوال العنة. ولو سلت خصيتاه بعد الدخول، وقلنا: ثبت الخيار بسبب كونه خصياً - ففيه وجهان؛ كما لو جُبَّ ذكره بعد الدخول. ولو جبتِ المرأة ذر الزوج فهل لها الفسخ؟ ففيه وجهان: أحدهما: لا، كالمشتري إذا عيب المبيع قبل القبض - لا خيار له. والثاني- وهو الأصح: لها ذلك كالمستأجر إذا هدم الدار المستأجرة - يثبت له فسخ الإجارة. فأما إذا حدث العيب بالمرأة بعد العقد من جنون، أو جُذام، أو برصٍ، أو رتقٍ محل الجماع، سواء كان قبل الدخول أو بعده - فهل للزوج فسخ النكاح؟ فيه قولان: قال في الجديد - وهو الأصح-: له حق الفسخ؛ كما يثبتُ لها إذا حدث العيبُ به؛ كما في العيب الموجود يوم العقد يثبت لكل واحدٍ منهما الخيار. وقال في القديم: لا فسخ له؛ لأنه لا تدليس منها، والطلاق بيده يمكنه تخليص نفسه منها، فحيث أثبتنا الخيار لحدوث العيب بأحدهما بعد العقد، ففسخ قبل الدخول - لا مهر لها، وإن فسخ بعد الدخول يجب المهر. وأي مهر يلزم؟ نظر إن حدث العيب بعد الدخول، فلها المسمى؛ لأن المانع من قرار النكاح وُجِدَ بعد استقرار المسمى. وإن حدث قبل الدخول، فدخل بها قبل العلم- فهو كما لو كان موجوداً يوم العقدِ؛ فلها مهرُ المثل على الصحيح من المذهب. وقيل: هو كما لو حدث بعد الدخول، فلها المسمى، والأول أصح. ولا سُكنى لها، ولا نفقة إن كانت حائلاً. وإن كانت حاملاً فقولان؛ كما لو كان العيب موجوداً يوم العقد. وإذا حدث العيب بها فغرم الزوج المهر - لا يرجع على أحدٍ؛ لأنه لم يكن في العقد غرورٌ، فإذا أرتق منها محل الجماع بعارضٍ يزول عن قريبٍ بغير علاجٍ [أو بعلاج] يسير - لا خيار له.

فإذا وجدت المرأة زوجها مجنوناً فرضيت به- لأوليائها الفسخ، لأنهم يتعيرون به. وإن وُجد مجبوباً أو عنيناً فرضيت به فلا فسخ لأوليائها؛ لأن فقد الاستمتاع ضررٌ يعودُ إليها، لا عار على أوليائها منه. وإن وجدته مجذوماً، أو أبرصن ورضيت - هل لأوليائها الفسخ؟ فيه وجهان: وكذلك في الابتداء لو أراد الولي تزويج وليته من مجنون، أو أبرص، أو مجبوبٍ، أو عنينٍ - لها الامتناعُ. ولو أرادت هي التزويج [من مجنونٍ]، فلوليها المنعُ. وإن رغبت في مجبوبٍ، أو عنينٍ، فليس لوليها المنعُ. وإن رغبت في مجذوم أو أبرص - فهل لوليها المنعُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الضرر يختص بها، وهو العيافة. والثاني: له ذل؛ لأنه قد يعدو إليها وإلى النسل، فيلحق العار النسب. أما إذا حدث شيء من هذه العيوب الخمس بعد العقد، فرضيت به المرأة - فلا فسخ لأولائها؛ لأن حقهم في الكفاءة حالة العقد لاحق لهم في الدوام؛ كما [لو] رغبت المرأة في عبدٍ، لأوليائها المنعُ. ولو عتقت أمةٌ تحت عبدٍ، فرضيت - لا فسخ لأوليائها. قال [الشافعي - رضي الله عنه-] في "الأم": لو نكح امرأة، فأصاب بها عيباً، وري به -يسقط خياره، فإن حدث بها عيب آخر كان له الخيار، وإن ازداد الأول وعظم، لا خيار له؛ لأنه عيبٌ واحدٌ فرضاه به رضاً بما يحدث منه. باب الأمة تغرُّ إذا تزوج رجلٌ امرأةً بشرط أنها حرة، فبانت أمةً، وإنما يتصور هذا إذا كان المزوج غير السيد؛ لأن السيد إذا زوج بهذا الشرط تعتق الأمة. فإذا زوجها وكيل السيد بهذا الشرط - نظر إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الأمة بأن ان حراً موسراً، ولا يخاف العنت على نفسه - لا يصح النكاح.

وإن كان ممن تحل له الأمة، ففي صحة النكاح قولان؛ كما ذكرنا قبل هذا. وإن قلنا: لا يصح النكاح؛ فإن كان قبل الدخول لا شيء للمرأة؛ لا نصف المهر ولا متعة، وإن كان بعد الدخول فلها مهر المثل، وعليها العدة. وإن قلنا: يصح النكاح، فإن كان الزوج حراً، فله الخيار بين فسخ النكاح وإجازته، وإن كان عبداً فهل له الخيار؟ فيه قولان: فإن قلنا: له الخيار، فإن فسخ العقد، نظر إن كان قبل الدخول لا شيء لها لا نصف مهر ولا متعة، وإن كان بعد الدخول فلها مهر المثل على الصحيح من المذهب. وفيه قول آخر: أن لها المسمى، وعليها العدة. وإن أجاز العقد، فلها المسمى. وإن كان الزوج عبداً فالمهر بماذا يتعلق؟ إن قلنا: العقد باطلٌ أو صحيحٌ، وفسخ -فيه [ثلاثة أقوال]: أحدهما: بكسبه. [والثاني: برقبته. والثالث: بذمته. وإن أجاز العقد، فالمسمى يتعلق] بكسبه. ومهما غرمُ الزوجُ المهر، هل يرجع به على الغار؟ - نظر إن أجاز العقد، فلا فسخ. وإن قلنا: النكاح باطلٌ، ففيه قولان: أصحهما: لا يرجعُ به على الغار- كما ذكرنا في فصل الغرور من قبل - والأولاد الذين حصلوا قبل العلم أحرارٌ، سواءٌ فسخ العقد أو أجاز، وسواء كان الزوج حراً أو عبداً. ويجب على الزوج قيمتهم؛ لأن امتناع الرق فيهم لاعتقاده حرية الأم، فيستوي فيه الحر والعبدُ، وتعتبر قيمتهم بيوم السقوط؛ لأنه أول حالة يمكن فيها تقويمهم. وعند أبي حنيفة: تعتبر قيمتهم بيوم المرافعة إلى الحاكم، حتى لو ماتوا قبله [لا يرجع بشيء عليه]، ويرجع الزوج بقيمة الأولاد بعدما غرمها للسيد على الغار. ثم إن كان الغرور من جهة وكيل السيد - يرجع عليه بعد ما غرم في الحال، وإن كان الغرور من جهة المرأة، فيغرم الزوج للسيد في الحال، ويرجع على الأمة بعد العتق.

وإن كان الزوج المغرور عبداً تتعلق قيمةُ الأولاد بذمته، فإذا عتق وغرم، ويرجعُ على الغار. وعند أبي حنيفة: إذا كان الزوج المغرور عبداً فالأولاد أرقاء؛ لأن الأبوين رقيقان. قلنا: وإن كانا رقيقين، ولكن الاعتبار في رق الولدين [للأم]. ثم لو كان الأب [حراً] كان الولد في الغرور حراً مع كون الأم رقيقةً، كذلك إذا كان عبداً فنقول: من تلد له الحرة حراً تلد الأمة عند الغرور حراً كالحر، وإنما قيمة الأولاد تتعلق بكسب العبد؛ لأن النكاح لا ينفك عن الغرور، فلم يرض به السيد، بخلاف المهر يتعلق بكسبه؛ لأن النكاح لا يخلو عن المهر، فقد رضي اليد بتعلقه بكسبه حين ري بالنكاح، والأولاد الذين يحصلون بعد العلم أرقاء لمالك الأمة. وحيث أوجبنا قيمة الأولاد إنما تجب قيمة من خرج منهم حياً وإن مات في الحال. فأما من خرج منهم ميتاً، فلا تجب قيمته، فلو ضرب ضاربٌ بطنها، فألقت جنيناً ميتاً - يجب على الضارب الغرة، ويجب على المستولد الغُرم لمالك الأمة؛ لأنه لما يقوم الجنين له على الضارب -: يقوم للمالك عليه؛ العبد الجاني إذا مات لا شيء على المولى. وإن قيل: يتعلق حق المجني عليه بقيمته، ثم إن كانت قيمة الغرة وعشرُ قيمة الأم سواءٌ - فالغرة للأبِ المستولد، وعليه عُشرُ قيمة الأم للسيد. فإن تفاوتا - ذكر العراقيون - أن على المستولد عُشر قيمة الأم، وإن زاد على الغُرة، ويكون للسيد، وليس على الضارب إلا الغرة. وإن كانت الغرة أكثر من عشر قيمة الأم - فالفضل موروث من الجنين. قال الشيخ: على هذا يغرم المستولد [للسيد] قبل أخذ الغرة، وهذا بخلاف عبد الجاني، إذا قيل: يغرمُ السيد للمجني عليه الأقل؛ لأن هناك لا جناية من المولى، وهاهنا المستولد جانٍ يمنع الرق، نظيره لو منع المولى العبد الجاني غرم الأرش بالغاً ما بلغ. ومن أصحابنا من قال: على المستولد أقل الأمرين من قيمة الغرة، أو عشر قيمة الأم من الغرة؛ كالعبد الجاني إذا قيل: يغرم السيد للمجني عليه أقل الأمرين من قيمته، أو أرش جنايته. فن كانت الغرة أكثر من عشر قيمة الأم - فالفضل موروث [لوارث] الجنين ولا

وارث له مع الأب إلا الجدة، فإن كانت له جدةٌ، فلها سدس ذلك الفضل، والباقي للأب، ولا يجب على المستولد شيء ما لم تصل إليه الغرة، وكذا العبد الجاني لا يغرم شيئاً ما لم تصل إليه قيمة العبد. وإن كان الضارب هو المستولد تؤخذ الغرة من عاقلته، وقدر عشر قيمة الأم منها لمال الأمة، والفضل موروثٌ لغير الأب؛ لأنه قاتلٌ. وإن كانت له جدةٌ، فلها سدس الفضل، والباقي لعصبته إن كان للجنين عصبةٌ، وإلا فلبيت المال. وإن كان الضارب عبد المستولد، فالغرة تتعلق برقبته يؤدي منها عُشر قيمة الأم إلى مالك الأمة، ويقدر ما يرثه المستولد يسقط. وإن كان الضارب هو المستولد، ولكنه عبد - فالغرة في رقبته للوارث فيؤدي منها عُشر قيمة الأم. وإذا تزوج امرأة على أنها حرة، فبانت مكاتبة، وقلنا: يصح النكاح - فله الخيار، فإن أجاز فعليه المسمى، ولا يرجع به على أحدٍ. وإن فسخ [وكان] بعد الدخول، وغرم المهر - هل يرجع على الغار؟ فيه قولان: إن قلنا: يرجع، فإن كان الغرور من جهة الوكيل، غرم الزوج لها المهر، فيرجع بجميعه على الوكيل. وإن كان الغرور من جهتها، فلا مهر لها، وهل يجب قدر ما يستباح به البضع؟ - فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه غارةٌ: والثاني: يجب، حتى لا يضاهي نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم-. والأولاد الذين حصلوا قبل العلم أحرار، على الزوج قيمتهم. وتلك القيمة لمن تكون؟ هذا ينبني على أن ولد المكاتبة هل يكون قناً للسيد، أم يكاتب عليها؟ فيه قولان: فإن قلنا: يكاتب عليها، فلو قتل ذلك الولد، فالقيمة لمن تكون؟ فيه قولان:

أحدهما: للسيد. والثاني: تكون للمكاتبة تستعين بها في أداء النجوم. فإن قلنا: الولد قِنٌّ للسيد، أو قلنا: إذا قتل، فالقيمة له، فهاهنا تكون القيمة للمولى، ثم هو بعدما غرم يرجع على الغار، فإن كان الغارُّ هو الوكيل، رجع عليه، وإن كانت هي الغارة أخذ من كسبها، فإن عجزت فحتى تعتق. وإن قلنا: القيمة لها، فإن كانت هي الغارة، فلا يغرم لها شيئاً، وإن كان الغار غيرها، فيغرم لها القيمة، ويرجع على الغارة. ونقل المزني أنها كالجانية أراد في حال بقاء الكتابة يتعلق كل واحد بكسبه. أما بعد العجز فيختلفان، فإن دين الجناية يتعلق برقبته، وهاهنا إن كان الغرور من جهتها، وجعلنا القيمة للمولى، فيرجع عليها بعد العتق. باب الأمة تعتق وزوجها عبدٌ رُوي عن عائشة - رضي الله عنها-[أنا أعتقت بريرة] فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة، وابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهم-: كان زوج بريرة عبداً. إذا أعتقت أمةٌ تحت زوج عبد، فلها الخيار في فسخ النكاح، وإن عتقت وزوجها حُرٌّ لا خيار لها؛ لاجتماعهما في الكمال؛ كما لو أسلمت كتابية تحت مسلمٍ - لا خيار لها. وعند أبي حنيفة: يثبت لها الخيار؛ كما لو كان الزوج عبداً. قلنا: إذا كان الزوج عبداً يلحقها أنواعٌ من الضرر من أن السيد يمنعه عنها، ولا نفقة عليه لولدها، ولا ولاية له على ولدها، ولا ميراث لها منه، وقبل العتق لا خيار لها مع وجود هذه المعاني؛ لأنها في مثل حاله. ثم خيار العتق يكون على الفور بعد ما علمت بالعتق على الصحيح من المذهب؛ لأنه خيار نقيضه؛ كخيار الرد بالعيب في البيع. وإن علمت ولم تفسخ مع الإمكان - بطل خيارها. وفيه قولان آخران:

أحدهما: لها الخيارُ إلى ثلاثة أيام؛ لأنها ألفته فحتى تتفكر في أمرها، والثلاث نهاية القلة، فحددنا بها المدة. والثاني: لها الخيار ما لم يوجد منها صريح الرضا، أو يصيبها زوجها طائعة، وهو قول حفصة. وعند أبي حنيفة: لها الخيار ما دامت في المجلس كالمخيرة. ولو أصابها الزوج بعد العتق، وهي جاهلة بالعتق - لا يبطل خيارها. ولو ادعى الزوج علمها، وأنكرت - فالقول قولها مع يمنِها، فإن قالت: علمتُ العتق، ولم أعلم أن الخيار ثابتٌ لي - ففيه قولان: أحدهما: يبطل خيارها كالمشتري إذا علم بالعيب، ولم يرده، وقال: لم أعلم أن الرد ثابتٌ لي. والثاني - وهو الأصح: يقبل قولها، ولا يبطل خيارها؛ لأنه مما يخفى على العوام، بخف الرد بالعيب، وحق الشفعة؛ لأنه مما يعرفه العوام الذين نشؤوا فيما بين المسلمين، ويجوز لها الفسخ بنفسها من غير حاكم؛ لأنه ثبت بالنص؛ كالأخذ بالشفعة. وإذا فسخت العقد قبل الدخول لا مهر لها، ولم يكن لسيدها منعها من الفسخ، وإن كان يسقط به الصداق الذي هو حقه؛ لأنه فسخ ثبت لضررٍ يعود إليها. وإن فسخ بعد الدخول يكون المهر لسيدها. وأي مهر يجب؟ نظر إن وُجِدَ الدخول قبل العتق، يجب المسمى. وإن وُجد بعد العتق - وهي جاهلة بالعتقِ - يجب مهر المثل على ظاهر المذهب - كما ذكرنا في حدوث العيب - إذا وُجد الدخول بعده على غير علم، ثم فسخ العقد - يجب مهر المثل على الصحيح من المذهب؛ لأن الفسخ يستند إلى سببه، وسببه وُجد قبل الدخول، فكان كالعيب الموجود يوم عقد النكاح. أما إذا أقامت معه، يجب المسمى، سواء كان الدخول قبل العتق، أو بعده، ويكون للسيد، وإن كان العتق قبل الدخول؛ لأنه وجب بالعقد. ولو طلقها الزوج رجعياً، فعتقت في العدة - فلها تأخير الفسخ إلى أن يُراجعها، حتى لو اختارت المقام معه في هذه الحالة - لا يبطل خيارها؛ لأنها جارية [إلى بينونة] فإذا راجعها الزوج لها الفسخ.

ولو أرادت الفسخ قبل المراجعة - لها ذلك؛ لأنها إذا أخرت حتى راجعها، ثم فسخت - تطول العدة عليها. ولو عتقت الأمة، وطلقها الزوج قبل اختيار الفسخ - يقع الطلاق. وفيه قولٌ آخر: أن الطلاق موقوفٌ، فإن فسخت بان أنه لم يقع، وإن أجازت وقع؛ لأن في إيقاع الطلاق إبطال حقها من الفسخ؛ كما لو طلق في حال الردة يكون موقوفاً، والأول أصح؛ لأن الفسخ بسبب العتق لا يستند على ما قبله حتى يمنع وقوع الطلاق، وارتفاع النكاح بسبب الردة يستند إلى الردة. فإذا لم يعد إلى الإسلام بان أن الطلاق لم يصادف النكاح، ولم يقع؛ فلذلك جعلناه موقوفاً. ولو عتقت صبية أو مجنونة تحت عبدٍ، فلها الخيار بعد البلوغ والإفاقة، ولا يقوم الولي مقامها في الفسخ؛ لأنه خيار تشهٍ كخيار العنة، وهي قبل البلوغ والإفاقة في حُكم الزوجات في جميع الأحكام. ولو عتق بعضُ الأمة لا يثبت لها الخيار ما لم تعتق كلها؛ لأنه لم يثبت لها حكم الكمال؛ بدليل أنها لا ترث ولا تشهد. ولو كُوتبت لا خيار لها؛ كما لو دُبرت. ولو عتقت - وزوجُها مكاتب أو بعضه حر وبعضه رقيقٌ - لها الخيار. ولو عتق الزوجان معاً لا خيار لها، ولو عتقت قبله ولم تعلم بالعتق حتى عتق الزوج، فهل لها الخيار؟ فيه قولان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه كان رقيقاً حالة عتقها. والثاني - وهو الأظهرُ: لا خيار لها كالمشتري، إذا لم يعلم بالعيب حتى زال العيب، لا فسخ له. ولو عتق عبد وتحته أمةٌ، لا خيار له؛ لأن الطلاق بيده، ولأنه لا ضرر عليه إلا من حيث إنه ليس تحته فراش كامل، ويمكنه استحداثه. وفيه وجهٌ آخر: أنه له الخيارُ؛ كما يثبت لها إذا عتقت. فرع: إذا زوج أمته من عبد رجلٍ، وقبض الصداق واستهلكهن ثم أعتقها في مرض موته، أو أوصى بعتقها، فمات وهي ثلث ماله، أو لم يستهلك الصداق، غير أنه إذا ضُمَّ إلى سائر ماله كانت الأمة ثلث الكل، وكان قبل الدخول بها- فلا خيار لها؛ لأنها لو فسخت النكاح وجب ردُّ المهر من تركة السيدِ، وإذا رد المهر لا يخرج كلها من الثلث، وعتق

البعض لا يثبت الخيار، فإثبات الخيار يجر إلى سقوطه، فإن خرج الثلث دون الصداق، أو كان بعد الدخول - فلها الخيار. نظيره في المسألة الأولى: رجل أوصى بعتق عبدين هما ثلث ماله، فمات، وعتق العبدان، ثم شهد العبدان على الميت بدين - لا يقبل؛ لأنا لو قبلنا- لم يخرج العتق من الثلث، فإذا بقي فيهما شيءٌ من الرق - امتنع قبول شهادتهما. ولو أعتق الوارث الأمة بعد موت السيد قبل الدخول، فإن كان الوارث معسراً - لا خيار لها؛ لأنها إذا فسخت النكاح، يجب رد المهر من تركة الميت. وإذا كان على الميت دينٌ لا ينفذ إعتاق الوارث المعسر، فإن كان الوارث موسراً، يجب رد المهر من تركة الميت، وإذا كان على الميت دينٌ لا ينفذ إعتاق الوارث المعسر، فإن كان الوارث موسراً - فلها الخيار. وإذا فسخت النكاح، فالوارث يغرم لسيد الزوج الأقل من الصداق، أو قيمة الأمة. وإن كان على الميت دينٌ، فعلى المعتق قيمةُ الجارية. وإذا فسخت النكاح، فسيد الزوج يضارب الغرماء بحقه [من] قيمتها. باب أجل العنين رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه أجل العنين سنةً. وإذا وجدت المرأة [الزوج] عنيناً - وهو الذي لا يقدر على الجماع - ترفعه إلى الحاكم، وتدعي عليه العنة. ولا تثبت [عليه العُنة] إلا بإقرار من جهته، أو ببينةٍ تقوم على إقراره؛ لأنها ليست مما يمكن الوقوف عليها من غيره. فإن أنكر العُنة، وقال: تركت جِماعها؛ لأنِّي لا أشتهي-، حلف على ذلك، فإن نكل، حلفت، وثبتت العُنة. وقال أبو إسحاق: لا تخلف المرأة؛ لأنها لا تقف عليها، فإنه يمتنع من جِماعها

للعجز [وغيره]. والأول أصح؛ لأنها تعرفُ ذلك بالممارسة، خصوصاً إذا طال مقامه معها؛ كما في كنايات الطلاق - إذا ادعت نيته، فأنكر، ونكل عن اليمين - لها أن تحلف على إرادته الطلاق. فإذا ثبت عجزه إما بإقراره، أو بيمينها بعد نكوله، ضرب الحاكم له مدة سنةٍ يطلبها؛ لأنه قد يكون لعارضٍ من حرارةٍ، أو برودةٍ، أو رطوبةٍ، أو يبوسةٍ. فإن كان من الحرارة تزول في الشتاءِ، أو من البرودة، تزول في الصيف، أو من الرطوبة تزول في الخريف، أو من اليبوسة تزول في الربيع. فإذا مضت السنة - ولم تزل - ظهر أنه عجز خلقةٍ، يثبت لها حق الخروج عن النكاح. وابتداءُ المدة من وقت قضاء القاضي بالأجل، لا من حين العجز والإقرار؛ لأنه مجتهدٌ فيهن بخلاف مدة الإيلاء تكون من وقت اليمين؛ لأنها منصوص عليها؛ [كحجر] السفيه والمفلس يكون من وقت قضاء القاضي، [وحجر] الصبي والمجنون لا يحتاج إلى قضاء القاضي. ثم بعد مضي المدة لا فسخ لها، حتى يحكم الحاكم بالعنة. ثم المرأة تفسخ النكاح من دون الحاكم على أحد الوجهين. والثاني: الحاكم يفسخ بعد طلبها؛ لأنه مجتهدٌ فيه، فيكون إلى الحاكم. وفرقةُ العنة فرقة فسخ لا ينتقص به عدد الطلاق. وعند أبي حنيفة: يفرق القاضي بينهما بطلقةٍ. ويستوي في مدة العُنة الحر والعبد لأنه لمعنى يرجع إلى الجبلة؛ كمدة الإيلاء والرضاع. وعند مالك: يُضرب للعبد نصف سنةٍ. وإذا جامعها الزوج قبل ضرب المدة، أو في خلالها، أو بعدها في قُبلِها -، خرج عن العُنة. وأقل ما يزول به حكم العنة - إن كانت بكراً - أن يقتضيها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً أن يغيب الحشفة.

وإن كان مقطوع بعض الذكر، فإن كان الباقي [أقل] من الحشفة-، فلها حق الفسخ على الفور، بسبب الجَبِّ. وإن كان الباقي قدر الحشفة، أو أكثر، - فلا خيار لها بسبب الجَبَّ. فإن عجز عن الإيلاج تُضرب مدة العنة، وإذا غيب من الباقي قدر الحشفة، زال حكم العنة [حتى يغيب الكل؛ لأنه ليس هناك حد يمكن اعتباره]. قد ظهر ضعفٌ في بنية الذكر بقطع بعضه فيشترط زيادة الإيلاج. وإن كان الرجل خصيًّا أو خنثى، وقلنا: لا خيار لها بسبب هذا النقص، أو قلنا: لها الخيار، فرضيت به، فعجز عن الإيلاج - يضرب مُدة العنة. وإذا كان الرجل يُصيبها دون فرجها [ولا يقدر على الإيلاج، أو في دُبرها]، فلا تزول به العنة. ولو كانت له امرأتان يصيب أحديهما، ويعجز عن الأخرى -، تُضرب له مدة العُنة في حق الأخرى. وإن كانت التي يُصيبها بكراً والأخرى ثيباً، فإذا رضيت المرأة بعنة الزوج بعد مضي المدة - يبطل حقها من الفسخ، بخلاف ما لو تركت المطالبة بالوطء في الإيلاء، ثم بدا له؛ فلها الطلب؛ لأنه ضرر يتجدد كل ساعة؛ كما لو رضيت بإعسار الزوج بالنفقة، فلها أن تسخ بعده، والعُنة عيبٌ واحدٌ، وإذا رضيت لا فسخ لها بعده كالجب. ولو رضيت به قبل ضرب المدة، أو في خلالها، فقد قيل: لا فسخ لها بعده؛ كما لو رضيت بعد مُضي المدة. والصحيح من المذهب: أن خيارها لا يبطلُ؛ لأن حق الفسخ يثبت لها بعد مُضي المدة؛ فلا يبطل بالرضا قبله؛ كما لو أسقط الشفعة قبل البيع-: لا تسقط. ولو فسخت النكاح بعيب العنة، أو رضيت بعنته، فأبانها الزوج، ثم نكحته ثانياً، هل يتجدد لها حق الفسخ؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنها نكحت عالمةً بالعيب؛ كما لو اختارت المقام معه لا فسخ لها بعده.

والثاني - وهو الأصح-: لها الخيارُ؛ لأنه نكاح جديدٌ، فيتجدد لها الحق فيه، لأنها قد تقدر زوال عنته في مدة الفراق، فتضرب المدة ثانياً. أما إذا نكح امرأة ابتداء، وقد حُكم بعنته في حق امرأة أخرى، وهي عالمةٌ به-، فهل لها الخيار؟ قيل: فيه قولان كالأول. والمذهب: أن لها الخيار قولاً واحداً؛ لأن الرجل [يتعنن] عن امرأة، ولا [يتعنن] عن أخرى، فعلمها بعنته في حق الغير لا يكون رضا بعنته في حقها. ولو طلق امرأة طلاقاً رجعياً بعد ما رضيت بعنته، ثم راجعها - لا فسخ لها؛ لأنها رضيت بعنته في هذا النكاح. اعترض عليه المزني، فقال: كيف تتصور هذه المسألة؛ لأن الرجعة إنما تثبت بعد الوطء، [وبالوطء] تزول العنة؟ قلنا: تتصور أن تستدخل ماءه، أو يأتيها في دبرها، ويستدخل ذلك منه فتجب به العدة، وتثبت الرجعة، ولا تزول العُنة. وعلى قوله القديم: إذا خلا بها تجب العدة، وتثبت الرجعة في طريق، ولا تزول العُنة. ولو نكح امرأة فأصابها، ثم أبانها ونكحها ثانياً، فأصابته عنيناً - لها الخيار قولاً واحداً؛ لأنها لم ترض [بعيبه ولا علمته]. فصل إذا اختلف الزوجان في الإصابة؛ فالقول قول من ينفيها إلا في ثلاثة مواضع: إحداها: إذا ادعت العنُة، فقال الزوج: أصبتها، فالقول قوله مع يمينه، سواء كان قبل مضي المدة أو بعده. الثانية: إذا لاعن زوجته، وطالبته بالفيء أو الطلاق، فقال: قد أصبتها، وأنكرت المرأة - فالقول قوله مع يمينه؛ لأنها تدعي سبب الخروج عن النكاح، والأصل بقاؤه على السلامة.

الثالثة: إذا ادعت المرأة الإصابة، وأنكر الزوجُ، فجعلنا القول قوله، فظهر بها حملٌ؛ نلحقه به، ونحكم بالإصابة. فإذا ادعت المرأة العنة، وادعى الرجل الإصابة، فقالت المرأةُ: أنا بكرٌ، ترى أربع نسوة عُدولٍ، فإن قلن: هي ثيبٌ، فالقول قوله، وإن ادعت زوال بكارتها بسببٍ آخر حلف الزوجُ، وإن قلن: هي بكرٌ يحكم بعدم الإصابة. فإن قال الزوج: إني أصبتها، لكن لم أبالغ؛ فعادت العذرة - تُسمع دعواه وله تحليفها، فإذا حلفت ثبتت العنة، وإن نكلت حلف الزوج ولا خيار لها، ولا فرق في دعوى الإصابة بني أن يكون الزوج صحيح الذكر، أو مقطوع بعضه إذا بقي منه قدر الحشفة. قال أبو إسحاق: إذا كان الزوج مقطوع بعض الذكر، فادعت المرأة عنته، وادعى هو الإصابة - فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الضعف في بنية الذكر ظاهر، فيقوي جانبها. أما إذا بقي من ذكره ما شككنا أنه يقع منه الجماعُ أم لا؟ - فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها. ولو ادعت امرأة الصبي والمجنون العنة على زوجها - لا تسمع، ولا تضرب المدة؛ لأنه لو بلغ أو أفاق ربما يدعي الإصابة، فقوله فيها مقبولٌ؛ لأن الصبي لا يُجامع في الغالب لصغره؛ فعجزه لا يكون عيباً. ونقل المُزني - رحمه الله- فإن لم يُجامعها الصبي أُجل، وذلك خطأٌ في النقل؛ إنما قال الشافعي- رضي الله عنه - فإن لم يجامعها الخصي أجل، أجاب على قولنا: أن لا خيار لها بسبب كونه خصياً. ولو قلنا: لها الخيار ورضيت به، فوجدته مع ذلك عنيناً - تُضرب المدة. فرع: إذا نكح امرأة لا يجب أن يطأها أكثر من مرةٍ واحدةٍ، إلا أن يقصد المُضارة بالإيلاء، فيخبر بعد مُضي أربعةِ أشهرٍ على الوطءِ والطلاقِ، وهل يجب على الزوج وطئةٌ واحدةٌ - فيها وجهان: أحدهما: لا؛ ما لا يجب سائر الوطئات، والوطء حق الزوج: والثاني: يجب لمعنيين: أحدهما: لإيفاء حقها من الوطء. والثاني: ليقرر لها المهر، فإن أبرأته عن الصداق، هل يجب على هذا الوجه أن يطأها - فيه وجهان بناء على المعنيين.

إن قلنا بالأول يجب، وإن قلنا بالثاني فلا يجب، وهل لها الدعوى عليه إن أوجبنا - فلها ذلك، وإلا فلا. فصل في الخنثى رُوي عن الشعبي أن معاوية كتب إلى علي - رضي الله عنه - في خنثى ظهر بالشام، فكتب إليه أن يُورث من قبل مبالهِ. الخنثى نوعان: أحدهما: من له آلة واحدةٌ - لا تشبه آلة الرجل ولا آلة النساء - يبول منها، فهو مشكل، يوقف أمره إلى أن يبلغ، فيختار لنفسه أحد الأمرين من الذكورة والأنوثة على ميل الطبع، فإن احتلم عليهن ومال طبعه إليهن فهو رجلٌ، وإن كان عكسه فامرأة. النوع الثاني: أن يكون له آلة الرجال وآلة النساء فيحكم فيه بالبول، وإن كان يبول بآلة الرجال فهو رجل، وإن كان يبول بآلة النساء فهو امرأة، وإن كان يبول منهما يُحكم بأسبقهما خروجاً على الصحيح من المذهب، وبه قال ابن المسيب، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق - رحمه الله- وقيل: هو مشكلٌ، ولا يُحكم بالسبق، والأول أصح، فإن استويا في الخروج هل يحكم بآخرهما انقطاعاً؟ فيه وجهان: أصحهما: يُحكم، فعلى هذا لو كان أحدهما أسبق خروجاً، والآخر أبطأ انقطاعاً - فالحكم للأسبق خروجاً، وقيل: هو مشكل، فإن استويا في الخروج والانقطاع، فهل يعتبر بالكثرة - فيه وجهان: أصحهما: لا تعتبر؛ لأنه يسبق اعتباره فسقط، وهو قولُ الأوزاعي، وأبي حنيفة، وقيل: تعتبر، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وهل يحكم بالتزريق والترسيس - فيه وجهان: أصحهما: لا يحكم به، فإن تزرق بالفرجين فهو رجلٌ، وإن كان يرسس بهما فهو امرأة، وإن كان يزرق بأحدهما ويرسس بالآخر - فهو مشكلٌ، ولا يحكم بنزول اللبن قل أم كثر، وهل يحكم بُقدر الأضلاع؛ وذلك لأن أضلاع الجنب الأيسر من الرجال أنقص بواحد؛ لأن الله - تعالى - خلق حواء منها. أصحهما: لا يحم، وقال ابن أبي هريرة: يحكم، وعند الحسن: يقدم ذلك على القول، ولا يحكم بنبات اللحية، ولا بنهود الثدي على ظاهر المذهب؛ لأن اللحية قد تنبت لبعض النساء، والثدي قد يون لبعض الرجال، ويحكم بالمني والحيض، فإن أمتي من آلة

الرجال فهو رجلٌ، وإن أمني من آلة النساء فهو امرأة، وإن أمنى منهما؛ فتعتبر صفة المنيِّ. فإن أمنى منهما على صفة منيِّ الرجال فهو رجلٌ، وإن أمنى على صفة منيِّ النساء فهو امرأةٌ، وإن أمنى من آلة الرجال على صفة منيِّ الرجالِ، ومن آلة النساء على صفة منيِّ النساء؛ أو على عكسه - فهو مشكل على أي صفة كان المنيُّ. وإن حاضت من الفرج في سن الحيض قدر أقل الحيض، ولم تمن من الذكر - فهي امرأة، وإن أمنى من آلة الرجال، وحاضت من آلة النساء في سن يحتمل فيه المنيُّ والحيضُ - ففيه [ثلاثة] أوجه. قال أبو إسحاق: هو امرأةٌ؛ لأن الحيض مختص بالنساء، والمني يشترك فيه الرجال والنساءُ. وقال أبو بكر الفارسي: هو رجلٌ؛ لأن المني حقيقة، وليس كل دمٍ حيضاً. وقال أبو علي بن أبي هريرة: هو مشكلٌ. وهو أعدلُ الوجوه. وعلى الوجوه كلها يحكم ببلوغه. وإذا أمنى من الذكر بعد عشر سنين مرة أو مرتين - لا يحكم ببلوغه، ولا يزول إشكاله؛ لاحتمال أنه يحيض من الفرج، وكذلك لو رأى الدم من الفرج مرة أو مرتين؛ لاحتمال أنه أمنى من الذكر. فإذا صار عادة حينئذ يُحكم به، حتى لو احتلم من الذكر، وأقر بمالٍ قبل استكمال خمس عشرة سنة يكون إقراره موقوفاً. فإن حاض منا لفرج فهو مشكلٌ، سواء حاض بعد خمس عشرة سنة [أو قبله، وبان أن إقراره لم يكن صحيحاً؛ لأنه بالغٌ الآن بالحيض، أو باستكمال خمس عشرة]. فإن لم يحض بان أن الإقرار كان صحيحاً، وكذلك لو رأت الدم من الفرج بعد عشر سنين، فأقر قبل استكمال خمس عشرة - يوقف. فإن أمنى من الذكر بعد استكمال خمس عشرة، أو قبلها - بان أن إقراره لم يكن صحيحاً، وإن لم يحتلم فصحيحٌ. أما إذا أقر بعد وجود العلامتين، فإقراره صحيحٌ؛ كما بعد استكمال خمس عشرة سنة. وكل موضع حكمنا بكونه مشكلاً، فلا يجوز تزويجه في الصغر؛ لأنه لا يُدرى حاله أنه رجل فيزوج امرأة، أو امرأة فينكح رجلاً، فيترك حتى يبلغ فيختار.

ولا حكم لاختياره مع وجود شيء من الدلائل الظاهرة؛ كالموجود إذا تنازع فيه رجلان، فألحقه القائف بأحدهما- فلا حم لانتسابه بعد قول القائف. ولا يرجع في الاختيار إلى هواهن بل يرجع إلى ميل الطبع، فإن اختار معاشرة النساء فهو رجلٌ له أن يتزوج، وإن اختار معاشرة الرجال فامرأة لها أن تنكح. فإن قال: أميل إليهما، فهو مشكلٌ، وإذا اختار أحدهما لا رجوع له عن ذلك؛ لما فيه من تضاد الأحكام، إلا أن يختار الرجولية، ثم يهر بها حمل تبين بطلان اختياره؛ لأنا لو حكمنا بكونه رجلاً بشيءٍ من الدلائل الظاهرة، ثم ظهر بها حملٌ يبطل ذلك، ويحكم بكونه امرأة. ووقت اختياره بعد استكمال خمس عشرة سنة، بخلاف الحضانة يُخير فيها الصبي بين الأبوين بعد سبع أو ثمانٍ؛ لأنه ليس بلازم، حتى لو بدا للصبي بعد اختيار أحدهما، له أن يختار الآخر، واختيار الخنثى لازمٌ، فلا حكم له قبل البلوغ كالمولود إذا تداعاه رجلاً لا يصح انتسابه قبل البلوغ. وإذا اختار الخنثى يقبل اختياره في جميع ما له وعليه من الأحكام، حتى لو قطع طرفه، فاختار الرجولية تجب له دية الرجال. ولو مات له قريبٌ، فاختار الرجولية، وميراثه به أكثر - يُحكم به، وإذا أخر الاختيار بعد البلوغ، وميل الطبع - يعصي الله - تعالى - ويفسق به. وإن قال: لا يميل طبعي إلى أحدهما لا يعصي. فروع: في أحكام الخنثى المشكل. يؤخذ في أمره باليقين، حتى لا وضوء عليه بمس أحد فرجيه حتى يمسهما. فلو أولج رجلٌ ذكره في فرجه، فلا غُسل عليه، ولا وضوء، ولا حد عليه، ولا مهر، ولا عدة؛ لاحتمال أنه رجلٌ، وذلك شقٌ زائد. وكذلك لو أولج هو في فرج امرأةٍ، فلا غُسل على واحدٍ منهما، ولا مهر، ولا عدة؛ لاحتمال أنه امرأة.

وينتقض وضوء المرأة بخروج الخارج من فرجها، وكل موضعٍ لا توجب الغسل لا نحم ببطلان صومه وحجه. فإن أولج في فرج امرأةٍ أو دبرها، وأولج رجلٌ في فرجه - وجب الغسل على الخنثى؛ لأنه إن كان رجلاً فقد أولج في فرج امرأة، وإن كان امرأة فقد أولج في فرجها رجلٌ؛ وبطل صومه وحجه، ولا كفارة عليه في الصوم، وإن لم يوجب على المرأة إلا احتياطاً. ولو أمنى الخنثى من آلة الرجال، ورأت الدم من آلة النساء، وحكمنا ببلوغه وإشكاله - فلا يجوز لها ترك الصلاة والصوم لذلك الدم؛ لجواز كونه رجلاً، ولا يمس المصحف، ولا يقرأ القرآن في غير الصلاة، وبعد انقطاع الدم تغتسل؛ لجواز كونه امرأة. وكذلك في إمنائه من الذكر يمتنع قبل الغسل من قراءة القرآن [ومس المصحف، ويغتسل، ذكر ذلك ابن سريج. قال الشيخ: القياس أنه لا يجب الغسل بانقطاع الدم، ولا يمتنع من مس المصحف وقراءة القرآن]. كما لا يجوز لها ترك الصلاة لذلك الدم، فإذا أمنى معه حينئذ يجب؛ ما لا يجب الوضوء بمس أحد الفرجين، حتى يمسهما جميعاً. وما ذكر ابن سريج احتياطٌ، ولا أذان على الخنثى المشكل، ولا يحسب أذانه، ولا يكون إماماً للرجال. ولو صلى مكشوف الرأس يجوز كالرجال، ولا يجهر في الصلاة كالنساء، ولا جمعة عليه ولا جهاد، فإن صلى الظهر قبل أن يُصلي الإمامُ الجمعة - فيجوز كالنساء. وإذا مات مُحرماً لا يُخمر وجهه، ولا رأسه، وكل موضع أوجبنا في الزكاة من المواشي الأنثى -: لا يجوز الخنثى، لاحتمال أنه ذكر، وإن أوجبنا الذكر-: يجوز الخنثى. وفي الحج: ليس له لبس المخيط، وستر الرأس، ويكشف الوجه احتياطاً، ثم الاحتياط أن يفدى عن ستر الرأس، وليس المخيط لجواز كونه رجلاً. قال الشيخ: فإن ستر الرأس والوجه جميعاً وجبت الفدية، ولا رمل على الخنثى، ولا حلق، بل تقصر كالمرأة، ولا يرفع صوته بالتلبية. ولو أولج البائع أو المشتري ذكره في فرج الجارية المبيعة في زمان الخيار، وهو خنثى، أو المبيع خنثى - فلا يون كالوطء في فسخ البيع وإجازته، فإن اختار الذكورة بعده تعلق به الحكم بالوطء السابق.

وكذلك الراهن والمرتهن إذا أولج في المرهون الخنثى لا يكون كالواطيء، إلا أن يختار الأنوثة، ولا يستحق سهم الغنيمة، إنما يرضخ له، إلا أن يختار الرجولية، ولا ثبت له ولاية التزويج، كالنساء، ويورث بالأقل من كونه رجلاً أو امرأة، ويوقف الفضل، وديته دية المرأة. ولو ادعى وارثه أنه كان رجلاً، فالقول قول الجاني مع يمينه، إن كان قتله قبل الاختيار، وإن كان بعد اختيار الرجولية، فلا تُسمع دعوى الجاني. ولا تحمل الخنثى العقل كالمرأة، ولا يختن؛ لأن الجرح على الإشكال لا يجوز. فإن اختار ختن على اختياره. ولو أسر حربي خنثى لا يقتل كالمرأة، فإن اختار كونه رجلاً قُتل، ولا تُؤخذ منه الجزية، ويجبر على الاختيار. فإن اختار الذكورة بعد حول أخذ ما مضى. ولا يكون قاضياً، ولا يثبت بشهادته إلا ما يثبت بشهادة النساء، وتقابل شهادة اثنين منهم بشهادة رجلٍ. ولو كان لرجل مملوك خنثى، فقال: إن كنت ذكراً فأنت حرٌّ، فإن اختار الذكورة عتق، وإن اختار الأنوثة لم يعتق، وإن مات قبل الاختيار فكسبه تكون لسيده؛ لأن الأصل يفارقه. وقيل: يقرعُ، فإن خرج سهم الحرية فهو موروث، وإن خرج سهم الرق فلسيده.

كتاب الصداق

كتاب الصداقِ قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24].

الصداقُ والصدُقةَ والمهر: اسم لما يجب على الرجل للنساءِ في النكاح والوطء، وقد سماه الله تعالى صدقة وأجراً، وليس هو بركن في النكاح، بل هو من جملة الزوائد؛ كالرهن في البيع، [والركن: هما الزوجان] حتى يصح النكاح من غير تسمية الصداق. قال الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] إلا أن المستحب أن يسمى حتى لا يُشبه نكاح الموهوبة التي كانت خاصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى يكون أقطع للخصومة والاختلاف، حتى لو زوج أمته من عبده يُستحب أن يسمى صداقاً، وإن كان لا يجب. وقيل: يجب، ثم يسقط. ولو سمى في النكاح صداقاً فاسداً من خمرٍ، أو خنزيرٍ، أو ميتةٍ، أو سمي مجهولاً - لا يصح، ويجب مهر المثل؛ لأن المرأة لم ترض ببذل بُضعها مجاناً، وقد احتبس البضع عنده، فعليه عوضه؛ كما لو اشترى سلعة بثمن فاسدٍ، فهلكت عنده، تجب عليه قيمتها. وعند مالك: فساد الصداق يمنعُ صحة النكاح، ووافقنا أن ترك التسمية لا يمنع

صحة العقد، بل تقدير الصداقِ موكولٌ إلى تسمية الزوجين لا يتقدر أقله ولا أكثره، بل ما جاز أن يكون مبيعاً، أو ثمناً في البيع، أو أجرة في إجارة - جاز أن يكون صداقاً. وقال مالك، وأبو حنيفة - رضي الله عنهما-: يقدر أقله بنصاب السرقة، غير أن عند مالك نصاب السرقة ثلاثة دراهم، وعند أبي حنيفة: عشرةُ دراهم. ولو سمي أقل من عشرةٍ، فيكمل عشرة دراهم. وعند أبي حنيفة، وزفر: يجب مهر المثل. والدليل على أنه لا يتقدر: ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أدوا العلائق" قيل: وما العلائق يا رسول الله؟ قال: [ما تراضى] به الأهلون". وقال- صلى الله عليه وسلم -: "من استحل بدرهمين فقد استحل". يعني: طلب الحلال. ويستحب ألا ينقص الصداق عن العشرة، وألا يغالي فيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

رُوي عن أم سلمة قالت: سألت عائشة - رضي الله عنها- كم ان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية وَنَشَّا. قالت أتدري ما النشُّ؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقيةٍ. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: "ألا لا تُغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا وتقوى لله، لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئاً من نسائه، ولا أنكح نساء من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية". ولو تزوج وسمي مالا ًكثيراً معلوماً لزم؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20]. قيل: القنطار: ملء مسك ثورٍ ذهباً. ولو سمي حبةِ حنطةٍ أو ثمرةً حيث لا تكون لها قيمةٌ، أو شيئاً لا يتمول - يجب مهر المثل، فغن سمى ثمرةً لها قيمةٌ لا يجب غيرها. إذا قال: زوجتك ابنتي بألف، فقال: قبلت بخمسمائة - يجب مهر المثل. وقال الشيخ - رحمه الله-: وجب ألا يصح النكاحُ لاختلاف الإيجاب والقبول.

فصل في أنه هل تصح المنفعة صداقاً؟ قال الله تعالى إخباراً عن شُعيب قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ} [القصص: 27]. فشرع من قبلنا يلزمنا إذا لم يرد به النسخ. كلُّ عملٍ جاز عقدُ الإجارة عليه - جاز أن يجعل صداقاً؛ مثل: الخدمة، والبناء، والخياطة، وتعليم القرآن، والحرفة. وعند أبي حنيفة: منفعة الحر لا تجوز أن تُجعل صداقاً، ومنفعة العبد تجوز، وفعل شعيب حجة على جوازه. وكذلك عنده لا يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً، والدليل على جوازه: ما روي عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن ل بها حاجة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس ولو خاتماً من حديد". فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"هل معك شيءٌ من القرآن؟ " قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا سورٌ سماها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:"زوجتُكها بما معك من القرآن". وفي رواية "زوجتكها فعلمها". ففيه دليلٌ على جواز أن يتزوج على القليل التافه من المال؛ فإن خاتم الحديد لا قيمة له إلا الشيء القليل، ودليلٌ على جواز أن يُجعل القرآن صداقاً. فإن نكحها على تعليم القرآن، أو على تعليم سورة عينها - جاز، ولزمه التعليم. وإن سمى آية لا يلحقه كُلفة في تعليمها؛ كقوله: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] ونحوه - يجب مهر المثل؛ لأنه تعليمه لا يتقوم؛ كما لو نكح على حبةِ حنطةٍ. ولو شرط على تعليم آية أو سورةٍ ولم يبين - يجبُ مهر المثل، وإن زوجها على أن يُعلمها سورة بعينها، وبين أنه يعلمها بحرف ابن كثير، أو أبي عمرو - جاز، وإن أطلق ولم يبين ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن هذه الحروف ينوب بعضها عن بعض؛ فله أن يعلمها بأي حرفٍ شاء مما تجوز قراءته؛ كما لو نكحها على قفيز من صُبرة يكال بأي قفيز شاء إذا كان لا يتفاوت.

والثاني: المسمى فاسدٌ، ويجب مهر المثل؛ لأن الحروف مختلفة بعضها يكون أصعب وأشق من بعضٍ؛ كما لو سمي آية ولم يبين الخلاف الصبرة؛ فإنها متساوية الأجزاء. ولو تزوجها على تعليم سورةٍ، والزوج لا يحسنها- نظر؛ إن تزوج على أن يحصل لها تعليمُها - يصح؛ لأنه عملٌ جعلته في ذمته، فيأمر غيره بتعليمها، وإن تعلم بنفسه ثم علمها - جاز. ولو تزوجها على أن يُعلمها بنفسه - لم يجز، ويجب مهر المثل؛ كما لو تزوج على منفعة عبدٍ بعينه وهو لا يملكه. ولو شرط التأجيل ليتعلم، ثم يُعلمها - لم يجز؛ لأنها استحقت من عينه، والعين لا تقبل التأجيل، وهو بخلاف ما لو تزوج امرأة على ألف درهم، وهو لا يملك شيئاً - يصح؛ لأن الصداق هناك يكون في ذمته؛ فيصح، وإن لم يملكه. ولو تزوجها على أن يُعلمها سورةً، ثم جاءت بغيرها من ابن أو غُلام، وقالت: علمه هل يجبرُ عليه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجبر؛ لأن الناس يتفاوتون في التعليم، ولأنه شرط إيقاع العمل في عين بعينها، فلا يجبر على إيقاعه في غيرها؛ كما لو تزوج على خياطة ثوبٍ بعينه، فلا يجبر على خياطة غيره. والثاني: يجبر لأنها استحقت استيفاء منفعته، فإن شاءت استوفت بنفسها، وإن شاءت بغيرها؛ كما لو اكترى دابةٍ للركوب، فإن شاء ركب بنفسه، وإن شاء أركب غيره. وإن أراد الزوج أن يأمر غيره بتعليمها - نظر؛ إن كان التعليم في ذمته جاز، وإن كان على عينه لم يجز. ولو تزوجا على تعليم غيره من ابن أو غلام - لم يجز؛ كما لو شرط الصداق لغيرها. قال الشيخ - رحمه الله-: إن افترض عليها تعليم الولد، أو ختان الولد، أو ختان العبد، فشرطت عليه - جاز، وإن تزوجها على تعليم سورة، فتعذر التعليم؛ بأن تعلمت المرأة من غيرها، أو كانت بليدةً لا تتعلم، أو يحتاج الزوج إلى أن يصرف جميع أوقاته في تعليمها، أو مات أحدهما- فقد سقط التعليم، فماذا يجب على الزوج؟ فيه قولان؛ كما لو تلف الصداق قبل القبض. أصحهما- وهو قوله في الجديد، واختيار المزني: يجب عليه مهر المثل: والثاني: وهو قوله القديم: يجب عليه أجرةُ مثل التعليم، وإن علمها فنسيت بعده لا شيء عليه؛ كما لو تلفت عين الصداق في يدها بعد القبض.

وإن كانت سريعة الحفظ والنسيان، وكلما علمها حفت ونسيت في الحال- نظر إن لقنها دون آيةٍ فنسيت لا يعتد بذلك؛ لأنه لا يعدُّ تعليماً إنما هو تذكير. وكم يُشترط أن يعلمها حتى تخرج عن عهدة التعليم، ولو نسيت بعده لا تجب الإعادة؟ - فيه وجهان: أحدهما: آية، فإذا علمها آية فنسيتها يعتد بذلك، ولا تجب عليه إعادة التعليم. والثاني: سورة وما دونها لا يعد تعليماً في العادة. ولو تزوج كتابية على أن يُعلمها سورة من القرآن - نظر؛ إن كان يتوسم منها أمر الإسلام يجوز، وإن كان يرى ذلك أنها تتعلم للمباهاة، فلا يجوز، ويجب مهر المثل. ولو تزوج مسلمٌ مسلمةً أو كتابية على أن يُعلمها التوراة والإنجيل - لا يجوز، ويجب مهرُ المثلِ؛ لأن الذي في أيديهم مُبدلٌ لا يجوز تعليمه. ولو تزوج كافرٌ كافرةً على أن يُعلمها التوراة ثم أسلما، أو ترافعا إلينا بعد التعليم - لا نوجب شيئاً آخر، وإن كان قبل التعليم نوجب مهر المثل، ولو تزوجها على تعليم شعرٍ أو حكاية. فإن كان مباحاً جاز ولزم، وإن كان محظوراً من هجوٍ أو فُحشٍ، أو على تعليم الغناء - لا يجوز، ويجبُ مهر المثل. ولو تزوج كتابية على تلقين الشهادة، أو امرأة على أداء شهادةٍ لها عليه لم يجز؛ لأنه فرضٌ عليه، ويجب مهر المثل. وإن تزوجها على أن يعلمها الفاتحة- نظر؛ إن لم يكن متعيناً عليه- جاز، وإن كان متعيناً عليه، ففيه وجهان؛ كالإجارة عليه. وإن تزوجها على تعليم سورةٍ، ثم طلقها - لا يخلو؛ إما أن طلقها بعد التعليم أو قبله، فإن طلقها بعد التعليم نظر؛ إن كان بعد الدخول فقد أوفاها حقها، وإن كان قبل الدخول يرجع الزوج عليها بنصف أجرة التعليم؛ كما لو أصدقها عيناً فهلكت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول يجرع بنصف قيمة العين؛ لأن الصداق في يدها مضمونٌ ضمان اليد، وإن طلقها قبل التعليم، فإنه يُعلمُها بعد الطلاق جميعه إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبل الدخول. ويعلمها من وراء حجابٍ من غير أن يخلو بها.

وقيل: لا يجوزُ تعليمُها لخوفِ الفتنة فإن قلنا: لا يجوز التعليم، أو تعذر التعليم، فماذا يجب على الزوج فيه قولان كما ذرنا: أصحهما: عليه مهر المثل جميعه إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله. والثاني: عليه أجرُ مثل التعليم إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله فنصفه. وإن نكحها على أن يرد عبدها الآبق، أو جملها الشارد من موضع معلومٍ - يجوز، ويلزم رده. وإن كان الموضع مجهولاً يجب مهر المثلِ، بخلاف الجعالة تجوز مع جهالة الموضع؛ لأنه عقدٌ جائزٌ. ثم إن طلقها بعد الرد قبل الدخول يسترد منها نصف أجر مثل الرد. وإن طلقها قبل الرد، فإن كان بعد الدخول يجب عليه رده، وإن كان قبل الدخول يرده إلى نصف الطريق. وإن تعذر الرد بأن مات العبد، أو رجع بنفسه، فماذا يجب على الزوج؟ فيه قولان: أصحهما: مهر المثل: والثاني: أجر مثل الرد. ولو تزوجها على خياطة ثوب معلومٍ - جاز، إن كان يُحسن الخياطة، وإن كان لا يُحسن الخياطة فلا يجوز، ويجب مهر المثل، إلا أن تلزم ذمته الخياطة، فيصح له أن يأمر الغير بالخياطة، وكذلك إن كان يُحسن الخياطة، فله أن يأمر الغير إذا كان في الذمة. وإن تعذرت الخياطة معه؛ بأن مات أو شُلت يدُه- نظر إن كان تزوجها على تحصيل الخياطة فلا تسقط الخياطة، ويأمر غيره بالخياطة. وإن تزوجها على أن يخيط بنفسه، فقد سقطت الخياطة، وفيما عليه؟ قولان: أصحهما: مهر المثل. والثاني: أجر مثل الخياطة. ولو تلف الثوبُ: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال هاهنا: لم يتلف الصداقُ، ولها أن تأتي بثوبٍ مثله حتى يخيطه؛ لأنها استحقت عليه منفعة، فلها استيفاؤها كيف شاءت؛ كما لو اكترى دابةً ليركبها، فإن شاء ركب بنفسهن وإن شاء أركبها غيره. ومنهم من قال- وهو الأصح: قد تلف الصداق، فعلى الزوج مهر المثل في قول، وفي الثاني أجرُ مثل تلك الخياطة؛ لأن العقد انعقد على إيقاع منفعةٍ في عينٍ، وقد تلفت

تلك العينُ؛ كما لو تلف المستوفى منه؛ فهو كما لو استأجر رجلا ليحصد له زرعاً، فتلف الزرعُ، يبطل العقد. وكذلك في حال بقاء ِ الثوب، هل لها إبداله بثوبٍ آخر مثله ليخيطه؟ فيه وجهان: وهذا بناء على ما لو استأجر امرأة لإرضاع ولدٍ، فمات الولدُ، فهل له إبداله بولدٍ آخر؟ فيه قولان. [وإن طلقها الزوج قبل الدخول بعد الخياطة يسترد منها نصف أجر مثل الخياطة]. وإن طلقها قبل الخياطة، نظر إن كان بعد الدخول يجب عليه الخياطة، وإن كان قبل الدخول يجب عليه أن يخيط نصفه فإن تعذر يجب عليه نصف مهر المثل على أصح القولين، وعلى الثاني نصف أجر الخياطة. والله أعلم بالصواب. باب صداق ما يزيد وينقص إذا أصدق امرأة شيئاً تملك المرأة جميعه بالعقد، ويستقر بالدخول، ولا يدخل في ضمانها ما لم تقبض. وعند مالك: لا تملك المرأة بالعقد إلا نصف الصداق، فنقول: هو عوضٌ بمقابلة معوضٍ، فتملك بملك المعوض كالثمن المبيع. والصداقُ قبل التسليم إلى المرأة مضمونٌ على الزوج، ويكون ضمانه ضمان العقدِ أو ضمان اليد؟ فيه قولان: أصحهما - وهو قوله الجديد، واختيار المزني: ضمانه ضمان العقد؛ لأنه مملوك بعقد معاوضةٍ؛ كالمبيع في يد البائع. وقال في القديم: ضمانه ضمان اليد؛ لأن المملوكَ [عندنا] بعقد المعاوضة إذا لم يفسخ العقد بتلفه في يد العاقد- يكون ضمانه ضمان اليد؛ كما إذا غصب البائع المبيع من المشتري بعد تسليمه إليه؛ فيكون ضمانه ضمان اليد، وكذلك بدل الخلع في يد المرأة قبل تسليمه إلى الزوج، وبدل الصلح عن دم العمد في يد المعطي - مضمون ضمنا العقد، أم ضمان اليد؟ فعلى قولين. وفائدته: أنه إذا تلف في يد الزوج، أو ردته بعيبٍ بعد القبض أو قبله-، ماذا يجب على الزوج؟

إن قلنا: ضمانه ضمان العقد يجب [عليه] مهر المثل، وهو قيمة البضع؛ لأن البضع كالتالف، فإن عقد النكاح لا يرتفع فهو الثمن المتين إذا ملك في يد المشتري بعد بض المبيع، وتلفه - يجب على المشتري للبائع قيمةُ المبيع التالف إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثلياً لتعذر المبيع. فإن قلنا: ضمانه ضمان اليد، يجب عليه قيمة عين الصداق إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثلياً، فعلى هذا أي قيمةٍ تلزمه؟ فيه وجهان: [أحدهما - وهو الأصح]: أكثر ما كانت من يوم الإصداق إلى يوم الهلاك؛ كضمان الغصب. والثاني: تجب قيمته باعتبار يوم الهلاك؛ لأنه غير متعد في إمساكه. ولم يختلف القول في أن الناكح لا ينفسخ بهلاكه؛ لأنه من جملة الزوائد. أما إذا تلف الصداق في يد الزوج بجناية جان-، نظر إن أتلفته المرأة، فقد استوفت حقها، وإن أتلفه أجنبي، يجب على الأجنبي قيمته، والمرأة بالخيار؛ إن شاءت فسخت عقد الصداق، وإن شاءت أجازته، فإن فسخت أخذت مهر المثل من الزوج، إن قلنا: ضمانه ضمان العقد، وهو المذهب. وإن قلنا: ضمان يد أخذت قيمته إن كان متقوماً، أو مثله إن كان مثلياً، والزوج يرجع على المتلفِ بقيمته أو مثله، فإن لم يفسخ الصداق أخذت القيمة من المتلفِ، أو المثلِ، وهل يكون الزوج طريقاص؟ إن قلنا: ضمانه ضمان عقدٍ، فلا. وإن قلنا: ضمان يد فبلى، للمرأةِ أن تأخذ منه، ثم هو يرجع على المتلف. وإن أتلفه الزوج، فهو كما لو تلف بآفة سماوية على ظاهر المذهب؛ فترجع المرأة عليه بمهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني بقيمته. وقيل: إتلاف الزوج كإتلاف الأجنبي، أما إذا تغير الصداق في يد الزوج؛ لا يخلو، إما أن تغير بنقصان أو زيادة، فإن تغير بنقصان، فللمرأة الخيار بين الرد والإجازة.

ثم ذلك النقصان لا يخلو، إما إن كان نقصان جزء أو نقصان وصفٍ، فإن كان نقصان جزءٍ، مثل أن أصدقها شيئين، فتلف أحدهما، انفسخ العقد في التالف. والمذهب أنه لا ينفسخ في القائم، ولها الخيار، فإن فسخت في القائم أخذت مهر المثل على قولنا: إن ضمانه ضمان عقدٍ، وهو الأصح. وإن قلنا: ضمانه ضماني د تأخذ قيمة الشيئين، أو مثلهما إن كانا مثليين، وإن أجازت القائم أخذت بحصة التالف من مهر المثل على قولنا: إن ضمانه ضمان عقدٍ. وإن قلنا: ضمان يدٍ أخذت قيمة التالف. وإن كان هلاك أحدهما بجناية جانٍ، فإن كانت بجناية المرأة، فقد استوفت بقدره من الصداق، وإن كان بجناية أجنبي، فلها الخيار، فإن فسخت في التالف أخذت القائم، وتُقدر قيمة التالف من مهر المثل على الأصح. وعلى القول الآخر: قيمته. وإن أجازت ترجع على الأجنبي [بقدر] ما أتلف إن كان متقوماً، أو مثله إن كان مثلياً، وإن كان بجناية الزوج، فكالآفة السماوية على الأصح ينفسخ العقد في التالف. وإن كان النقصان نقصان وصفٍ، فإن كان عبداً فعمى أو شلت يده، أو [كان محترفاً] فنسي الحرفة -، فالمرأة بالخيار: إن شاءت فسخت الصداق، ورجعت بمهر المثل على الأصح، أو بقيمته سليماً على القول الآخر. وإن أجازت فإن قُلنا: ضمانه ضمان عقدٍ، فلا شيء لها؛ كما لو رضي المشتري بعيب المبيع لا شيء له. وإن قلنا: ضمانه ضمان يد، أخذت بقدرٍ ما انتقص من قيمته. وكذلك لو اطلعت على عيبٍ قديم بها- فلها الخيار كما بيناً. ولو أصدقها داراً فانهدمت في يده، فإن لم يفت شيء من النقص فهو نقصان وصفٍ، وإن فات النقص أو احترقت - فقد، قيل هو كنقصان الوصف؛ كما لو سقط أطراف العبد، والأصح أنه كنقصان الجزء؛ ولأنه يقبل الإقرار بالبيع، بخلاف أطراف العبد. وإن حصل التغير بجناية جانٍ، نظر إن حصل بجناية المرأة، فقد استوفت من الصداق بقدر ما انتقص من قيمته؛ فتأخذ الباقي، ولا خيار لها.

فإن هلك في يد الزوج بعد جنايتها، فلها بقدر ما بقي من مهر المثل على الأصح، وعلى الثاني: بقيمة ما بقي. وإن حصل بجناية أجنبي، فلها الخيار، فإن فسخت الصداق أخذت مهر المثل من الزوج على الأصح، وقيمته سليماً على القول الآخر. والزوج يرجع على الجانب بضمان الجناية. وإن أجازت أخذت ضمان الجناية من الجاني، فهل يكون الزوج طريقاً فيه؟ إن قلنا: ضمانه ضمان عقدٍ لا يكون طريقاً، وإن قلنا: ضمان يد يكون طريقاً. ثم إن لم يكن لتلك الجناية أرش مقدرٌ، أولها أرش مقدرٌ، ولكنه مع أرش النقصان سواء، أو كان المقدر أكثر من أرش النقصان -، فالمراة ترجع على أيهما شاءت، ويكون على الأجنبي. وإن كان المقدار أقل، رجع به على أيهما شاء، والقرار على الأجنبي، ويرجع بالباقي إلى كمال أوش النقصان على الزوج، وإن حصل بجناية الزوج، فهو كما لو حصل بآفةٍ سماوية على ظاهر المذهب، ولا شيء لها إن أجازت على أصح القولين، وهو أن ضمانه ضمان عقدٍ. وإن قلنا: [ضمانه] ضمان يد، فيجب ضمان النقصان، ثم إن لم يكن لتلك الجناية أرشٌ - يقدر عليه أرش النقصان. وإن كان له أرش مقدرٌ؛ بأن كان قطع إحدى يدي العبد-، فعليه أكثر الأمرين؛ إما نصف القيمة، أو أرش النقصان. وقيل: هو كجناية الأجنبي، ولها الرجوع على الزوج، وإن أجازت بقدر الجناية من مهر المثل، أو أرش النقصان؛ كما ذكرنا في جناية الأجنبي. أما إذا تغير الصداق في يد الزوج بالزيادة-، نُظر؛ إن كانت الزيادة متصلة كاللبن، والسمن، وتعليم الحرفة -فهي للمرأة، وإن زالت في يد الزوج لا يجب ضمانه إلا على الوجه الذي يقول: إن ضمانه في يده ضمان الغصب، فيضمن إن كانت الزيادة منفصلة؛ كالولد، واللبن، وثمر الشجر، وكسب العبد كلها تكون للمرأة؛ لأنها حدثت في ملكها، ولا تكون مضمونة على الزوج إلا على الوجه الذي يقول: ضمان الأصل ضمان الغصب. فإن أتلف الأصل في يده تبقى تلك الزوائد للمرأة، وإن طالبته المرأة بدفعها إليها

وقيل: إذا قيل: ضمانه ضمانُ العقد، فإذا هلك الأصل في يده تكون الزوائد للزوج، وهذا بناء على أن المبيع إذا هلك في يد البائع بعد حصول الزوائد - يرتفع العقد من حينه أم من أصله؟: وفيه وجهان: أصحهما: يرتفع من حينه، وتكون الزوائد للمشتري، كذلك هاهنا تكون للمرأة. والثاني: يرتفع من أصله، ويكون للبائع، فعلى هذا تكون الزوائد للزوج. ولو استعمل الزوج عين الصداق هل عليه الأجرة؟ إن قلنا: ضمانه ضمان عقدٍ لا يجب على ظاهر المذهب، وإن جعلنا جنايته كجناية الأجنبي يجب. وإن قلنا: ضمانه ضمان يد يجب. ولو امتنع من تسليمه إليها بعد الطلب، فإن قلنا ضمانه ضمان عقد لا تظهر له فائدة، وإن قلنا: ضمان يد، فيجب عليه أجر المثل من وقت الامتناع. وإن قلنا: نُعتبر قيمته بيوم التلف، يصير غاصباً. فإذا تلف تجب قيمته أكثر ما كانت من وقت الامتناع إلى التلف. ولو أصدق امرأته نخلة، فأخذ الزوج ثمرها، وجعلها في قارورة لنفسه، وجعل عليها صقراً من صقر تلك النخلة-، فلا يخلو؛ إما عن كانت الثمرة صداقاً، أو لم تكن، فإن كانت صداقاً؛ بأن أصدقها [نخلة] مثمرة أو مطلعة، نُظر: إن لم تدخل الثمرة ولا الصقر نقص-: لا تأخذه المرأة، ولا شيء لها؛ لأن الزوج كفاها مؤنة الاجتناء. وإن دخله نقصٌ لا يخلو، إما إن كان نقصان عين، أو نقصان وصفٍ. فإن كان نقصان عين؛ كأنه صب عليها مكيلتين من الصقر، فتشرب الرطب إحدى المكيلتين، فلا يجب نقصان الصقرين بزيادة قيمة الرطب؛ لأن الزيادة لها، والنقصان عليه. ثم إن قلنا: ضمانه ضمان العقد، انفسخ الصداق في قدر ما ذهب من الصقر إن قلنا: جنايته بآفة سماوية وهو الأصح، ولا ينفسخ في الباقي، وللمرأة الخيارُ، فإن فسخت أخذت مهر المثل من الزوج، وإن أجازت في الباقي أخذت بقدر ما ذهب من الصقر من مهر المثل. وإن قلنا: جنايته كجناية الأجنبي لا ينفسخ في شيء، ولها الخيار، فإن فسخت أخذت مهر المثل، وإن أجازت أخذت النخلة والرطب، ومثل الصقر الذي ذهب.

وإن قلنا: ضمانُهُ ضمانُ يدٍ، فإن فسخت أخذت قيمة النخلة والثمرة، ومثل الصقر، لأنه مثليٌّ، وإن كان الثمر قد جف فهو أيضاً مثلي، فإن أجازت أخذت الباقي، ومثل ما انتقص من الصقر. وإن كان النقصان نقصان وصفٍ؛ بأن انتقصت قيمة الصقر والملكية بحالها أو تغير الرطب، فللمرأة الخيار، فإن فسخت أخذت مهر المثل إن قلنا: ضمانه ضمان عقدٍ. وإن قلنا: [ضمانه] ضمان يد أخذت قيمة النخلة والرطب ومثل الصقر. وإن أجازت قلنا: ضمانه ضمان عقدٍ، وجنايته كآفةٍ سماوية لا شيء لها بسبب النقصان، وإن قلنا: كجناية أجنبي يجب عليه أرش النقصان. وإن قلنا: ضمانه ضمان يد، أخذت أرش النقصان. وإن كان الرطب بحيث لو نُزع من القوارير لم يتعيب، ولو تُرك يتعيب-، لها تكليفه النزع، ولا خيار لها. وإن كان بحيث لو نزع تعيبن وبحيث لو ترك لا يتعيب، فلها الخيار، ولا يجبر الزوج على ترك القارورة إليها. فإن تبرع بترك القارورة إليها تجبر المرأة على القبول إمضاء العقد، ويسقط خيارها، ثم هل تملك المرأة القارورة؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، حتى لا يمكنه الرجوع فيه، ولو نُزعت ما فيها لا يجب عليها رد القارورة. والثاني: لا، بل هو قطع للخصومة حتى يجوز للزوج أن يرجع، وخيارها قائمٌ. فإن نزعت ما فيها لا يجب عليها رد القارورة. وإن كنا قد صب على هذه الثمرة صقراً من عند نفسه، فنقصان الصقر لا يعتبر؛ إنما يعتبر نقصان الرطب في إثبات الخيار لها. فإن لم يدخله نقصٌ أخذ الزوج صقر نفسه، والمرأة تأخذ الثمرة، ولا شيء له فيما تشرب الثمرة من الصقر. وإن كان الرطب بحيث لو ترك في الصقر لا يتعيب، ولو نُزع يتعيب - فلا الخيارُ. فإن تبرع بترك الصقر إليها تجبر على القبول، ويسقط خيارها؛ كما قلنا في القارورة. فأما إذا لم تكن الثمرة صداقاً؛ كأنه أصدقها نخلة حائلاً فأثمرت - فالثمرة لها، فإن

أخذها الزوج وجعلها في القارورة، وجعل عليها من صقر تلك النخلة شيئاً - فهو من غصب ثمراً وجعل عليها صقراً مغصوباً؛ فلا خيار للمرأة؛ لأن العيب ليس في الصداق. ثم إن لم تنتقص الثمرة والصقر أخذته المرأة، ولا شيء لها، وإن تعيبت أخذتها وأرش النقصان. وإن كان بحيث لو نزع تعيب، ولو ترك لا يتعيب، فيتبرع الزوج بترك القارورة وردها إليها ولا يجبر على القبول؛ لأنه لا حاجة إليه في إمضاء العقد. فصل في حكم الصداق بعد الطلاق قبل الدخول قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. إذا طلق الرجل [امرأته] قبل الدخول يعود نصف الصداق إلى الزوج بنفس الطلاق. وقال أبو إسحاق: لا يعودُ إلا باختيار التملك، والمذهب الأول. وفائدته تتبين فيما لو حدثت زيادة في عين الصداق بعد الطلاق قبل الاختيار - يكون نصفها للزوج على ظاهر المذهب. وعلى قول أبي إسحاق: تكون [كلها] للمرأة؛ كما لو حدثت قبل الطلاق، وكذلك لو حدث نقص بعد الطلاق قبل اختيار التملك أخذ الزوج نصفها مع أرش النقصان؛ كما لو حدث بعد اختيار التملك على ظاهر المذهب. وعلى قول أبي إسحاق: هو بالخيار؛ إن شاء أخذ نصفه ناقصاً ولا شيء له، وإن شاء ترك وأخذ نصف قيمته صحيحة؛ كما لو حدث النقص قبل الطلاق. ولا خلاف أن عود النصف إليه لايحتاج إلى قضاء القاضي. وقول الشافعي - رضي الله عنه- "هذا كله ما لم يقض له القاضي" أراد ما لم يعلم سبب عود نصف الصداق إلى ملك الزوج، وهو الطلاق على ظاهر المذهب، والطلاق مع

اختيار التملك على قول أبي إسحاق، حتى تصير المرأة ضامنة [منه] لما حدث في الصداق من النقص، فعبر بالقضاء عن وجود السبب؛ لأنه أوضح وأشهرُ إذا ثبت أن نف الصداق يعود إلى الزوج بالطلاق قبل الدخول، فلا يخلو إما إن كانت عين الصداق قائمة أو هالكة أو متغيرة. فإن كانت قائمة في يد المرأة أخذ الزوج نصفها، ونصيب الزوج يكون أمانةً في يدها بعد الطلاق، حتى لو هلك، أو تعيب - لا يجب عليها ضمانه. وإن كان الصداق ديناً في ذمة الزوج سقط بالطلاق نصفه، وإن كان قد عينه وسلم إليها هل يتعين حقه في نصف ما أدى، أم يجوز لها أن تؤدي حقه من موضع آخر؟: فيه وجهان: أحدهما: [لها أن] تؤدي من موضع آخر قدر نصفه؛ لأن العقد لم يتعلق بعينه. والثاني: يتعين حقه فيه؛ لأنه تعين بالتسليم، وإن كان الصداق عيناً وهي تالفة في يدها، أو خرج عن ملكها بإعتاقٍ، أو بيع، أو هبة أو تسليم، [أو وقفته] أو كان عبداً فكاتبته؛ فلا يبطل ذلك العقد، والزوج يرجع بنصف مثله إن كان مثلياً، أو نصف قيمته [إن كان متقوماً] أقل ما كانت قيمته من يوم الإصداق إلى يوم التسليم إليها؛ لأن قيمته إن كانت يوم الإصداق أقل فزادت، فتلك الزيادة للمرأة لحدوثها على ملكها، فليس للزوج أن يرجع في نصفها. وإن كانت قيمتها يوم الإصداق أكثر، فانتقصت؛ فذلك النقصان حصل في ضمانه؛ فلا روع له بما هو مضمون عليه، وإن كان قد خرج عن ملكها، ثم عاد إليها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول - يتعين في حقه نصفه، وفيه وجهان أصحهما - وهو المذهب: يتعين؛ لأنه وجد عين الصداق. وقيل: يأخذ نصف قيمته؛ لأنه ملكته من غيره. والأول أصح، بخلاف ما لو وهب لولده شيئاً، فخرج عن ملكه، ثم عاد إليه - لا رجوع للأب على الأصح من الوجهين؛ لأن حق الروع للأب مختص بالعين؛ بدليل أنها لو هلكت لا يرجع في قيمتها، فبخروج العين عن ملك الابن سقط حقه وحق الزوج بتلف العين؛ فلا يبطل حتى يرجع بالقيمة، فبخروج العين عن الملك لا يبطل حقه عن العين إذا عاد إليها. أما إذا طلقها قبل أن عاد إلى ملكها، ثم عاد إلى ملكها قبل أخذ القيمة، فحقه [في

القيمة] وإن كانت قد أوصت به أو وهبته، ولم تقبض أو رهنته ولم تسلم - فللزوج الرجوع في نصفه. وإن كانت قد أجرته، أو كانت أمةً، فهو نصفان، فن شاء الزوج أخذ نصفه مسلوب المنفعة، وإن شاء أخذ نصف القيمة. وإن كان الصداق قائماً عندها، إلا أنه قد تغير - لا يخلو إما أن تغير بزيادة أو بنقصان، أو بهما جميعاً. فإن تغير بزيادة نُظر إن كانت الزيادة منفصلة، كالولد، والكسب، [وثمر الشجرة] ونحوها - تبقى كلها للمرأة، سواء حصلت في يده أوفي يدها قبل الطلاق، والزوج يأخذ نصف الأصل، وإن كانت الزيادة متصلة، [كالسمن] والكبر، [وتعلم القرآن]، والحرفة، أو كانت جارية عمياً، [الأصل]، فأبصرت قبل التسليم أو بعده. فإن تبرعت المرأة بتسليم نصفه إليه، فليس للزوج إلا ذلك، وإن لم تتبرع لا تُجبر المرأة عليه، وللزوج نصف قيمتها أقل ما كانت من يوم الإصداق إلى وقت التسليم، وهذا بخلاف ما لو أفلس المشتري بالثمن رجع البائع على المبيع بزيادته المتصلة. وكذلك يرجع في هبة [الولد] زائداً؛ لأن الفسخ في هذه المواضع يستند إلى أصل العقد، فيصير كأن هذه الزوائد حصلت في ملك البائع والواهب، وفي الطلاق يحصل الملك للزوج ابتداء في نصف ما كان أصدقها؛ لأن الطلاق ليس بفسخ، لكنه تصرف في الملك، وقطع له في الحال كالعتق في ملك اليمين، فلم يكن للزوج أخذ شيء من الزوائد التي حصلت عندها. ولو فسخ احد الزوجين النكاح بعيب وجد بصاحبه قبل الدخول - أخذ الزوج عين الصداق بزيادتها المتصلة؛ كما لو فسخ البيع بالعيب أخذ البائع المبيع زائداً، وفي الردة قبل الدخول يأخذ الزوج نصف الصداق في ردته، وجميع الصداق في ردتها. فإن كانت زائدة، فلا حق له في الزيادة إلا برضاها؛ كما في الطلاق، فإن لم ترض رجع بالقيمة، فإن كان التغيير بالنقصان نظر؛ لا يخلو إما أن كان النقصان نقصان عينٍ، أو نقصان وصفٍ. فإن كان نقصان عين، مثل أن أصدقها عينين، فتلفت أحداهما، ثم طلقها قبل الدخول فالزوج بماذا يرجع عليها؟ فيه قولان:

أحدهما - وهو الأصح: يرجع بنصف العين القائمة، ونصف قيمة التالفة. والثاني: يأخذ القائمة بحقه إن كانت قيمتها سواء؛ مثل إن كانا عبدين قيمتهما سواء، فهلك أحدهما، أخذ القائم بحقه. وفيه قول آخر: أنه بالخيار إن شاء أخذ نصف القائمة ونصف قيمة التالفة، وإن شاء ترك العين، وأخذ نصف قيمة العبدين أقل ما كانت من يوم الإصداق إلى يوم التسليم. فأما إذا كان النقصان نقصان وصف؛ مثل العمى، والعور، ونسيان الحرفة وغيرها- نر إن حدث في يده، فحقه في نصفه ناقصاً، وللمرأة الخيارُ في نصيبها، وإن حدثت في يدها فالزوج بالخيار؛ إن شاء أخذ نصفه ناقصاً، ولا شيء له سواه، وإن شاء ترك وأخذ نصف قيمته أقل ما كانت من يوم الإصداق إلى يوم التسليم، بخلاف المرأة حيث قلنا: تأخذ نصيبها مع الأرش في قول؛ لأن الصداق في يده ملك للمرأة، وهو مضمونٌ على الزوج، فعليه ضمان النقصان، وفي يد المرأة ملكٌ لها لا حق للغير فيه، ولا يجب عليها ضمان ما حدث من النقص في يدها. وإن كان الصداق زائداً من وجه ناقصاً من وجه؛ بان كان عبداً صغيراً فكبر - ازداد من حيث العملُ، وانتقصت قيمته بالكبر، أو كانت شجرة فصارت فحاماً لا تثمر، وزاد حطبها وانتقص ثمرها، [أو كان عبدٌ تعلم حرفة ومرض أو عورت عينه] فإن اتفقا على أن يرجع الزوج في نصفه رجع، ولا شيء لأحدهما على الآخر، وأيهما أبى لا يُجبر عليه، بل يرجع الزوج بنصف قيمته، ولا يجبر الزوج على أخذ نصفه؛ لما فيه من النقصان، ولا المرأة على إعطاء نصفه لأجل الزيادة. ولو أصدقها جاريةً أوشاةً حائلاً فولدت، ثم طلقها قبل الدخول - فالولد لها، وليس له أخذ نصف الأم إن كان الولد رضيعاً؛ لأنه يحل بالرضاع، وإن رضيت المرأة، ولكن يأخذ نصف قيمتها، وإن كان فطيماً يأخذ الزوج نصف الأم إن لم تنتقص قيمتها بالولادة. وإن انتقصت [قيمتها بالولادة] نظر؛ إن كانت الولادة في يد الزوج، فليس له إلا أخذ نصفها ناقصاً، وللمرأة الخيار في نصيبها، فإن شاءت تركت إليه، وأخذت نصف مهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني نصف قيمتها، وإن شاءت أخذت نصف الجارية، ولا شيء لها بسبب النقصان إن جعلنا ضمانه ضمان عقدٍ.

وإن قلنا: ضمان يد، أخذت أرش النقصان، وإن كانت الولادة في يدها، فللزوج الخيار إن شاء أخذ نصفها ناقصاً ولا شيء له بسبب النقصان، وإن شاء أخذ نصف قيمتها أقل ما كانت من يوم الإصداق إلى يوم التسليم. وإن كان الحبل في يده، والولادة في يدها - فالنقصان من ضمان من يكون؟: فيه وجهان: أحدهما: من ضمانه، ولها الخيارُ؛ لأن السبب وجد في يده. والثاني: يكون من ضمانها، وله الخيار؛ لأن النقص حصل في يدها. وإن أصدقها جارية حائلاً، وكانت حاملاً يوم الطلاق- نظر؛ إن كان قبل القبض، فلها الخيار إن شاءت أخذت جميع الجارية؛ لأن الحمل زيادة حدثت في ملكها، وللزوج نصف قيمتها عليها، وإن شاءت تركت الجارية إليه، وأخذت نصف مهر المثل على الأصح. وعلى القول الآخر: نصف قيمتها. وإن رضيت المرأة بأخذ نصفها يجبر الزوج عليه؛ لأن نقص الحمل حدث في يده، وإن كان الطلاق بعد قبض المرأة الجارية، وحدوث الحمل - فالحمل زيادة من وجهٍ، ونقصان من وجهٍ، جارية كانت أو بهيمة. وإن [اتفقا] على أخذ نصفها، فللزوج نصف قيمة الأم أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم التسليم، وإن أصدقها حاملاً، فإن طلقها وهي حاملٌ بذلك الحمل - أخذ الزوج نصفها حاملاً، فإن ولدت ثم طلقها، فحكم الأم ما ذكرنا، وهل له حق في الولد؟ هذا يُبنى على أن الحمل هل يُعرف؟ وفيه قولان: فإن قلنا: لا يعرفُ، فهو [كولد] يحدث بعد العقد، فيكون لها. وإن قلنا: الحمل يعرف، فهو ما لو أصدقها عينين، إلا أن الولد قد زاد على ما كان عليه حالة الإصداق، فإن رضيت المرأة بدفع نصف الولد إليه، وإلا فله نصف قيمته باعتبار حالة الانفصال؛ لأنه أول حالة يمكن فيها تقويمه. وقيل: لا يجب له شيءٌ بسبب الحمل؛ لأن تقويمه لا يمكن حالة الاجتنان في البطن، وقد زاد بالانفصال، فلا يمكن تسليم نصفه إليه، فيسقط ضمانه، والأول أصح. ولو أصدقها نخلة مثمرة، ثم طلقها أخذ الزوج نصفها مع نصف الثمرة، سواء جدت

المرأة الثمرة أولم تجد، فإن كانت مطلعة يوم الصداقِ، نظر إن طلقها وهي مطلعة بذلك الطلع، [فله] نصفها. وإن كانت مؤبرة يوم الطلاق، فهل له حق في الثمرة؟ قيل: فيه قولان: وقيل - وهو الأصح: له حق نصف الثمرة قولاً واحداً؛ لأنها كانت مشاهدة يوم الإصداق بخلاف؛ كما لو أصدقها حاملاً فولدت، هل له حكم في الولد ففيه قولان: حمل الحيوان. قال الشيخُ - رحمه الله-: إذا جعلنا له حقاً في الثمرة، فلا يمكنه أخذ نصفها بغير رضاها؛ لأنها زائدة، ولن يأخذ نصف قيمة الطلع. ولو أصدقها نخيلاً حائلاً، وطلقها قبل الدخول وهي مطلعةٌ- ليس له أخذ شيءٍ من الطلع، بخلاف ما لو باع نخلةً مطلعةً دخل الطلع في البيع؛ لأنه يملك بالتراضي، فإن رضيت المرأة بأن يأخذ الزوج نصف الشجرة مع الطلع - أجبر الزوج على القبول. وإن كانت الثمرة قد أبرت، ورضيت المرأة بأن تأخذ نصفها مع نصف الثمرة- هل تجبر؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى كالطلع لاتصال الثمرة بالشجرة. والثاني - وهو الأصح: لا تجبر؛ لأن الثمرة المؤبرة في حكم المنفصلة؛ بدليل أنها لا تدخل في مطلق بيع الشجرة ولا يجبر أحد على قبول ملك الغير. ولو قال الزوجُ: أنا أرجعُ في نصف الشجرة، وأكلفها قطع الثمرة - لم يكن له ذلك؛ لأن الثمرة حدثت في ملكها، فاستحقت التربية على الشجرة. ثم إن تراضيا على أن ياخذ الزوج نصف الشجرة ويترك الثمرة إلى الجداد فأخذ غلته لزم، وليس لأحدهما أن يرجع عن ذلك. وإن رغب الزوج فيه فقال: آخذ نصف الشجرة، وأترك الثمرة لها على أوان الجداد والمرأة أبت - تجبر المرأة عليه. فإن دعت المرأة إلى ذلك فللزوج ألا يرضى ويأخذ القيمة؛ لأن حقه في شجرة فارغةٍ، ولو قال الزوج: أنا أرضى بتأخير حقي حتى تجدي الثمرة، ثم آخذ نصف الشجرة - فللمرأة ألا ترضى به؛ لأن [الشجرة] نصيبه يكون مضموناً عليها، بخلاف ما لو رجع في

نصفه، وترك الثمرة - تُجبر المرأة؛ لأن ملك النصف انتقل إليه، فإذا قبضه مشاعاً سقط الضمان عنها. ولو دعته المرأة إلى تأخير حقه إلى أن تجد الثمرة - له ألا يرضى؛ لأن حقه معجل، فإن تراضيا على التأخير، فلكل واحدٍ منهما أن يرجع على ذلك؛ لأنه تبرعٌ لا يلزم. وعند المزني: يأخذ الزوج نصف النخلة، وتبقى الثمرة إلى أوان الجداد؛ كمن باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة تكون الثمرة للبائع، وتبقى إلى أوان الجَدَادِ. قلنا: لأن البيع يصدر عن تراضٍ منهما، فيقران على ما تراضيا عليه، وحكم سائر الأشجار إذا خرج نورها حم النخلة تطلعُ، فإذا انعقد ثمرها فكالنخلة تؤبر. وإن كان الصداق أرضاً فزرعتها المرأة، ثم طلقها الزوج قبل الدخول - فلا حق له في الزرع، ولا له أن يكلفها قلع الزرع، فإن تراضيا على أن يأخذ الزوج نصف الأرض، ويترك الزرع إلى الحصاد- فحسن، وإن رغب فيه الزوج وأبت المرأة تجبر المرأة عليه، وإن رغبت [فيه المرأة] وأبىلزوج - فله ذلك، ويأخذ نصف قيمة الأرض؛ كما ذكرنا في الثمرة. ولو رضيت المرأة بأن يأخذ الزوج نصف الأرض مع نصف الزرع - هل يُجبر الزوج عليه؟: فيه وجهان كالثمرة المؤبرة: أصحهما: لا يجبر، وكذلك إذا كانت قد غرست فيها، فإن تراضيا على أن يأخذ الزوج نصف الأرض، ويترك الغراس له - جاز، وإن رغب فيه الزوج تُجبر المرأة عليه؛ كما في الزرع. وقيل: لا تجبر لأنه للتأبيد. وإن رغبت فيه المرأة لا يجبر الزوج، بل يأخذ نصف قيمة الأرض. ولو تركت نصف الغراس إليه لا تجبر على القبول على الأصح؛ كما قلنا في الزرع. ولو كانت حرثت الأرض، فهي زيادة من وهو نقصان من وجهٍ، فإن كان يُراد للبناء، فهو نقصان وإن كان يُراد للزراعة، فهو زيادة. وإن تراضيا على أن يأخذ الزوج نصفها - جاز، وأيهما أبى لا يجبر الآخر عليه، وللزوج نصف قيمتها غير محروثة. وإن كان الصداق عبداً وقد دبرته المرأة، فهل للزوج أخذ نصفه؟ نص أنه لا يأخذ. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على أن التدبير وصيةً أم تعليق عتقٍ بصفةٍ؟

فإن قلنا: وصية، فله أخذ نصفه؛ كما لو أوصت به لإنسان [له] أخذ نصفه. وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، فيأخذ نصف قيمته. ومنهم من قال: ليس له أخذ نصفه. وإن قلنا: وصية؛ لأنها قد قصدت فيه قربةً؛ فلا يبطل عليها ذلك مع إمكان جبرِ حق الزوج بالقيمة. فإن رجعت عن التدبير، وقلنا: يصح الرجوع عنه، ثم طلقها الزوج - جاز له أخذ نصفه. قال الشيخ - رحمه الله-: ولو وهب لابنه عبداً فدبره، أو باع عبداً بثوبٍ فدبره المشتري، ثم وجد بالثوب عيباً فرده - يجوز أن يسترد العبد؛ كما يأخذه بالزوائد المتصلة بخلاف الصداق. ولو علقت عتقه بصفة، ثم طلقها الزوج - فالمذهب: أنه لا يرجع في نصفه؛ لأنه لا يقبل الروع. بخلاف التدبير، بل بأخذ نصف قيمته. فصل في وطء جارية الصداق إذا أصدق امرأته جارية، ثم وطئها الزوج عالماً بأنها جارية الصداق - نظر إن وطئها بعد الدخول بالمرأة، فهو كما لو وطيء جارية أجنبي، فعليه الحد، فإن أولدها فالولد رقيق لها. وإن ادعى أنه لم يعلم أنها ملكتها بالإصداق - لا يقبل قوله، وإن كان قبل الدخول بها، وادعى أنه لم يعلم أن المرأة تملك الصداق قبل الدخول - يقبل قوله، ولا حد عليه. ولأي معنى لم يجب عليه الحد؟ فيه معنيان: أحدهما: للجهل؛ لان العوام مما تخفى عليهم مثل هذه المسائل. والثاني: لاختلاف العلماء، فإن عند مالك لا تملك [المرأة] قبل الدخول إلا نصف الصداق. وإن كان عالماً بأن المرأة تملك جميع الصداق قبل الدخول، فهل عليه الحد؟ فعلى وجهين بناء على المعنيين.

فإن قلنا: المعنى فيه الجهالة، فهاهنا يجب عليه الحد؛ لأنه كان عالماً بحصول الملك لها. وإن قلنا: اختلاف العلماء، فلا يجب، فحيث أوجبنا الحد، فإن أولدها يكون الولدُ رقيقاً لها، ويجب المهر إن كانت مكرهة، وإن لم نوجب الحد، فالولد حر ثابت النسب، وعلى الزوج قيمته للمرأة باعتبار يوم السقوط، وعليه المهر. فصل في تفريق الصداق وجمعه إذا جمع بين البيع والنكاح، بأن قال: زوجتك ابنتي هذه، وبعتك هذا العبد بألف، فقال: تزوجتها واشتريت العبد، أو قال: قبلت النكاح والبيع - فالنكاح صحيحٌ، وفي البيع قولان أحدهما: باطلٌ، لما بينه وبين النكاح من اختلاف الأحكام. والثاني: صحيح؛ لأن العقد على كل واحدٍ على الانفراد جائز، فيجوز الجمعُ؛ كما لو باع عبدين. فإن قلنا: البيع باطلٌ، فالمسمى فاسدٌ، ويجب للمرأة مهر المثل. وإن قلنا: البيع صحيحٌ، فتوزع الألف على مهر المثل، وقيمة العبد ويصور فيما إذا كان مهر المثل وقيمة العبد سواء. وإن طلقها [الزوج] قبل الدخول رجع إليه نصف الصداق، [وهو ربعُ] الألف. وإن ارتدت هي، أو فسخ احدهما النكاح بعيب وجد بصاحبه قبل الدخول، عاد إليه كل الصداق، وهو نصف الألف. ولو وُجد بالعبد عيباً ورده يسترد الثمن، وهو نصف الألف، وليس للمرأة رد باقي الألف، والمطالبة بمهر المثل، وإن لم تجوز تفريق الصفقة؛ لأن المسمى صحيحٌ لا يترك بمهر المثل. فإن رد الزوج العبد بالعيب، أو فسخ النكاح قبل الدخول بالعيب - عاد إليه كل الألف، وإن كانت الألف معينة، فخرجت مستحقة أو زيوفاً فردتها - يسترد العبد. وفي الصداق قولان: أحدهما: لها مهر المثل. والثاني: خمسمائة درهم، وكذلك لو كان الألف من جهتها؛ بأن قال الولي: زوجتك ابنتي بعبدك؛ على أن أرد عليك ألفاً من مالها، أو قال: زوجتك ابنتي وملكتك ألفاً من مالها

بهذا العبد - صح النكاح، وفي البيع وتسمية الصداق قولان. فإن قلنا: لا يصح؛ فعليه لها مهر المثل. وإن قلنا: يصح، فيوزع العبد على صداق مثلها والثمن، ويصور فيما إذا كانت قيمة العبد ألفين، ومهر مثلها ألف، حتى يكون نصف العبد صداقاًن ونصفه مبيعاً بألفٍ، فإن طلقها [الزوج] قبل الدخول بها -رجع إليه نصف الصداق، وهو ربع العبد. وإن ارتدت [الزوجة]، أو فسخ أحدهما النكاح بعيبٍ قبل الدخول - عاد إليه كل الصداق، وهو نصف العبد، فإن كانت الألف معيبة، فوجد الزوج بها عيباً وردها - استرد المبيع، وهو نصف العبد وبقى لها النصف, ولو وجدت [هي] بالعبد عيباً وردته تسترد الثمن، وهو الألف للنصف المبيع. وفي الصداق قولان: أحدهما: تأخذ مهر المثل. والثاني: نصف قيمة العبد. ولو أرادت تفريق الصفقة، فيرد نصف المبيع من العبد، ويمسك نصف الصداق، أو عكسه، فقد قيل: فيه قولان؛ كما لو اشترى عبدين، وأراد رد أحدهما بالعيب - هل له ذلك؟ فيه قولان: وقيل هاهنا: يجوز قولاً واحداً؛ لأنهما عقدان، فيجوز ردُّ أحدهما دون الآخر. وعلى هذا لو مع بين الخلع والبيع؛ بأن قالت: طلقني على ألفٍ على أن تعطيني عبدك الفلاني، فقال: فعلت، فبعض الألف بدل الخلع، والبعض ثمنُ العبد. أو قال الزوج: خالعتك، وبعتك هذا العبد بألف، فقبلت - صح الخلع. وفي صحة المسمى والبيع قولان. فإن قلنا: لا يصح، يجب عليها مهر المثل. وإن قلنا: يصح، فيوزع [المسمى] على مهر المثل، وقيمة ما ضم غليها. وإن جمع بين نكاح امرأتين، أو بين أربع بمسمى واحدٍ؛ بأن كانت له أربع بناتٍ ابن

من أربع بنين، فقال الرجلُ: زوجتكهن بألفٍ، فالنكاح صحيح، وفي صحة المسمى قولان. وكذلك لو خالع امرأتين، أو أربع نسوة بألفٍ دفعة واحدة فقبلن- وقعت البينونة، وفي صحة المسمى قولان: أحدهما: المسمى فاسدٌ؛ لأن ما يخص كل واحد منهن مجهولٌ، ولكل واحدةٍ منهن في النكاح وفي الخلع على كل واحدة منهن مهر مثلها. والقول الثاني: المسمى صحيحٌ؛ لأن الجملة معلومةٌ والتفضيل يصير معلوماً بالتوزيع؛ كما لو باع أربعة أعبد صفقة واحدة بألف، يصح، ويوزع المسمى على قدر قيمتهم، فعلى هذا يجوز المسمى على مهور أمثالهن على ظاهر المذهب. وقيل: يوزعُ على عدد رؤوسهن، وليس بصحيح؛ كما في الثمن يوزع على قدر قيمتهم لا على عدد رؤوسهم. ونص الشافعي - رحمه الله - على أنه لو اشترى عبدين، أو أربعة أعبدٍ من أربعة نفرٍ غير مشتركة بينهم، صفقة واحدة؛ أنه لا يصح [في] البيع. ونص على أنه لو كاتب ثلاثة أعبدٍ كتابة واحدة بمسمى معلوم، أن الكتابة جائزة. اختلف أصحابنا في هذه النصوص منهم من جعل الكل على قولين، [في المسمى] في النكاح والخلع، ومنهم من ألحق الكتابة بالنكاح والخلع، فجعلهما على قولين، وقال في البيع: لا يصح قولاً واحداً [والفرق]: أن الثمن ركنٌ في البيع؛ بدليل أن فساده يمنع صحة العقد، بخلاف النكاح والخلع والكتابة، فإن البدل ليس بركن فيها؛ بدليل أن فساده لا يمنع مقصود العقد؛ لأن النكاح يصح مع فساد العوض، وفي الخلع تقع البينونة، وفي الكتابة يحصل العتق إذا أدى المسمى، فكذلك الجهل بالعوض لا يمنع صحة العقد. ومنهم من ألحق البيع بالنكاح والخلع، فجعله على قولين، وقال: الكتابة صحيحة قولاً واحداً، وفرق بأن العبيد في الكتابة يجمعهم ملكٌ واحدٌ، وقبولهم صدر على رأي مالك واحد؛ فصح؛ كما لو باع واحدٌ عبدين من واحدٍ يصح، بخلاف العقود الثلاث. وإذا تزوج امرأة على عبدٍ، فخرج العبد مستحقاً، أو خرج حراً، أو على جارية فخرجت أم ولد، أو على عصير فبان خمراً، أو على مُذكاةٍ فبان ميتة [أو على بقرةٍ فبان خنزيراً]- فالنكاح صحيح. وفيما عليه؟ قولان:

أصحهما- وهو اختيار المُزني: يجبُ عليه لها مهر المثل. والثاني: عليه القيمةُ، فيقدر الحر عبداً، والميتة مُذكاة، والخنزير بقرةً، وتؤخذ قيمته، ويقدر الخمر عصيراً فيؤخذ مثله. وكذلك لو خالع زوجته على عبدٍ، فبان مستحقاً أو حراً، [أو على مُذكاة فبانت ميتة]- تقع البينونة، ويجب [لها] مهر المثل في أصح القولين. وفي الثاني القيمة. أما إذا قال: [زوجتكها] على هذا الحر أيقع؟، أو على هذا الخمر [أو على هذا الخنزير]- فيفسد المسمى، ويجب مهر المثل قولاً واحداً؛ لأن التسمية وقعت فاسدة، وفي الصورة الأولى كانت التسمية صحيحة، فيجوز أن يقال: يرجعُ إلى ما سمي، وذلك الخُلعُ. ولو نكحها على ألفِ درهمٍ، وزق خمرٍ - فالمهر فاسدٌ، ويجب لها مهر المثل، ولو نكحها على عبدين، فبان أحدهما مستحقاً أو حراً - ففي الحر والمستحق فاسد. وهل يصح في العبد؟ فعلى قولين بناء على تفريق الصفقة. فإن قلنا: لا يصح، فلها مهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني: قيمتها. وإن قلنا: يصح في العبد، فللمرأة الخيار في الصداقِ؛ لأنه لم يسلم لها جميع المسمى، فإن ردت فهكذا يرجع بمهر المثل على الأصح، وعلى الثاني بقيمة العبدين. وإن أجازت فبم تجيز المملوك فيه قولان: أحدهما: بجميع المهر، ولا شيء لها غيره. والثاني: يجبر بحصته [من مهر المثل]، ثم بماذا يرجع بسبب الحر؟ فعلى قولين: أصحهما بحصته من مهر المثل. والثاني: بقيمته لو كان عبداً. وعند أبي حنيفة: إذا أصدقها عبدين، فخرج أحدهما حراً - ليس لها إلا العبد، وإن

خرج أحدهما مستحقاً، فلها قيمة المستحق مع الثاني. وعند أبي يوسف في الحر كذلك لها قيمة الحر مع الثاني. ولو عقد النكاح في السر بألفٍ، ثم عقد في العلانية بألفين: قال في موضع: المهر مهر السر، وقال في موضع آخر: المهر مهر العلانية. أومأ المزني أن المسألة على قولين. وخرج بعض أصحابنا من هذا أن المواضعة عليه قبل العقد، هل تجعل كالمشروط في العقد، فجعلوها على قولين. والمذهب أن المواضعة [عليه] قبل العقد لا تجعل كالمشروط في العقد. وهذه المسألة على اختلاف الحالين حيث قال: المهر مهر السر، أراد به إذا عقد عقداً صحيحاً في السر بألف، ثم عقد ثانياً بألفين في العلانية ليتسامع الناس، فالواجب هو الأول، وحيث قال: المهر مهر العلانية، أراد به إذا تواطؤوا في السر على أن المهر ألفٌ، ولم يعقدوا، ثم عقدوا في العلانية - بألفين- فالمهر مهر العلانية. ولو ادعت امرأة على زوجها أنه نكحها يوم الخميس بعشرين، ويوم الجمعة بثلاثين، وادعت المهرين جميعاً - تُسمعُ دعواها، فإذا ثبت العقدان بإقرارهما، أو بنكوله وبيمينها، أو ببينةٍ [قامت عليه]- يلزمه المهران جميعاً، ويحمل على أنه طلقها بعد النكاحة الأول، ثم نكحها ثانياً. وإن لم تُصرح المرأة بذلك في دعواها؛ لأن إقدامه على النكاح الثاني أمارة وقوع الفرقة بينهما، فلو ادعى الزوج أن العقد الثاني كان في حال بقاء الأول ليتسامع الناسُ؛ كما لو ابتاع شيئاً، ثم ادعى أنه ملكه لا يقبل؛ لأن ابتياعه إقرارٌ لصاحب اليد بالملك؛ إلا أنه إذا ادعى أن الفراق في النكاح الأول كان قبل الدخول - يقبل قوله مع يمينه، ولا يلزمه إلا نصف المهر في النكاح الأول، ويكون عنده في النكاح الثاني بطلقتين. وعلى هذا لو ادعى على رجل أنه اشترى هذه السلعة يوم الخميس بعشرين، واشتراها يوم الجمعة بثلاثين، وأقام عليه بينة - يلزمه الثمنان جميعاً، ولا يقبل قول المشتري: عن الثاني كان مع بقاء الأول. ولو قبل لابنه الصغير، أو المجنون نكاح امرأة بمهر من مال الابن - يصح، ثم إن كان

ديناً لا يكون الأب ضامناً، إلا أن يضمن صريحاً. وقال في القديم: يكون الأب ضامناً. فإن قلنا بهذا، أو ضمن صريحاً، فإن أدى من مال نفسه [بحم الضمان، فإن نوى الرجوع على الابن حالة الأداء رجع، وإلا فلا، وإن لم يكن الأب ضامناً فأدى من مال نفسه] متبرعاً - لا رجوع له على الابن، وكذلك لو تبرع أجنبي بإذنه. فلو بلغ الصبي، فطلقها قبل الدخول، كان الصداق للابن، وعلا رجوع للأب فيه. وقيل: إذا كان عينُ ما دفع الأب قائماً، فهل للأب الرجوعُ؟ فيه وجهان؛ كما لو كان الموهوب عيناً. وإن كان الابن بالغاً، فتبرع الأب بأداء الصداق، ثم طلقها الابن قبل الدخول، عاد نصف عينه إلى الابن، فهل للأب الرجوع؟ فيه [وجهان]؛ كما في حق الصغير. وقيل في [القديم]: لا يرجع قولاً واحداً، بخلاف الصغير؛ لأن الصغير ليس من أهل القبض، فجعل الأب متبرعاً عليه قابضاً عنه؛ فكان له الرجوع، فلا ينوب عن البالغ في القبض، وكان أداؤه عن محض إسقاط حق، فلم يقدر على الرجوع. ولو قبل لابنه الصغير النكاح بصداقٍ من مال نفسه - صح، عيناً كان أو ديناً، ثم إذا بلغ الصبي وطلقها قبل الدخول - فنصف الصداق يعود إلى الابن، وإذا ارتدت قبل الدخول، فكل الصداق يعود إلى الابن، وهل للأب - الرجوعُ فيه؟ نُظر؛ إن كان ديناً فلا؛ كما لو اشترى الابن شيئاً بثمن في ذمته، وأدى، ثم وجد الابن بالمبيع عيباً ورده - يسترد الثمن، ولا رجوع للأب فيه، بخلاف ما لو خرج المبيع مستحقاً يعود الثمن إلى الأب؛ لأنه بان أن الأداء فيه لم يصح. وإن كان الصداق عيناً فإن كان قد هلك عندها، رجع الابن في نصف قيمته، ولا رجوع للأب فيه، وإن كانت العين باقية، فأخذ الابن نصفها، هل للأب أن يرجع فيه؟ فعلى وجهين، بناء على ما لو خرج الموهوب من ملك الابن، ثم عاد إليه - هل يثبت للأب الروع فيه أم لا؟ فعلى وجهين. والصحيح من المذهب أن لا رجوع للأب في هذه المواضع كلها.

ولو قبل لابنه الصغير نكاح امرأةٍ، وجعل أم ذلك الابن صداقاً لها؛ بأن كانت مملوكة له - لم يصح الإصداق؛ لأنا نحتاج أن يملكها الابن أولاً، ثم نجعلها صداقاً لزوجته، وإذا ملكناه عتقت، وإذا عتقت لم يصح إصداقُها، فقلنا: لا يصح ولا تعتق. والله أعلم. باب التفويض التفويض هو التزويج بلا مهرٍ، وهو نوعان: صحيح، وفاسد. فالصحيحُ: هو أن تأذن المرأة المالكة لأمرها - ثيباً كانت أو بكراً - لوليها أن يُزوجها بلا مهر، أو قالت: زوجني ولا تكر المهر، فزوجها وليها، وقال: زوجتكها بلا مهرٍ، أو سكت عن ذكر المهر، أو السيد زوج أمته بلا مهر، أو سكت عن ذكره - صح النكاح، ولا يجب المهر بالعقد على الصحيح من المذهب؛ لأن المهر حقها، وقد رضيت بإسقاطه؛ ما لو أبرأت الزوج عن الصداق بعد الوجوب. وفيه قول مخرج: أنه يجب المهر، وهو قول أبي حنيفة، والأول أصح؛ لأنه لو وجب بالعقد انتصف بالطلاق قبل الدخول، ولم يكن لها مطالبته بالفرض، وبالاتفاق يجوز لها مطالبته باني فرض لها صداقاً. ولو طلقها قبل الفرض والمسيس - لا مهر لها، وتجب لها المتعة، ولو دخل بها الزوج وجب لها مهر المثلن ولم يكن لها بعد مطالبته بالفرض.

ولو مات أحد الزوجين قبل الفرض والمسيس- هل يجب لها مهر المثل؟: قال الشافعي - رضي الله عنه-: إن صح حديث بروع بنت واشقٍ، فلها المهر؛ وهو ما رُوي عن معقل بن سنان؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بنت واشقٍ - نُكحت بغير مهر، فمات زوجها بمهر نسائها والميراث. وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه يقال: رواية معقل بن يسار، ويقال: معقل بن سنان، ويقال: بعض بني الأشجع؛ ولذلك علق القول على ثبوته. فإن ثبت الحديث، وجب لها المهر، وإن لم يثبت، ففيه قولان: أصحهما - وبه قال علي، وزيد، وابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -: لا مهر لها؛ لأن ارتفاع نكاح التفويض قبل الفرض والمسيس - لا يُوجب المهر؛ كما لو طلقها قبل الدخول. والثاني: يجب لها المهر؛ لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى، كذلك في إيجاب المهر في التفويض. فمن أصحابنا من قال: القول الذي ذكرنا: إنه يجب المهر بالعقد - يخرج من هذا. والصحيح من المذهب: أنه لا يجب بالعقد. وفي وجوبه بالموت قولان.

وفي نكاح التفويض يجوزُ للمرأة مطالبة الزوج بالفرض قبل الدخول، ولها حبس نسها عنه حتى يفرض، ويؤدي المفروض، سواء قلنا: وجب بالعقد، أو لم يجب. وإنما أثبتنا لها ذلك؛ ليتقرر لها نصف المهر. ولو طلقها قبل الدخول، وكذلك السيد إذا زوج أمته مفوضة، فله مطالبة الزوج بالفرض. ثم إن تراضيا على فرض بأنفسهما جاز ولزم - عيناً كان أو ديناً - أكثر من مهر المثل، أو أقل من جنس نقد البلد، أو من غير جنسه حالاً أو مؤجلاً، سواء كانا عالمين بقدر مهر المثل أو جاهلين. وقيل: إن قلنا: وجب المهر بنفس العقد، بشرط أن يكونا عالمين بمهر المثل؛ فإن جهلاه أو أحدهما - لم يجز. ولو فرض لها شيئاً لم ترض به، فهو كما لو لم يفرض. أما إذا كان الفرض من جهة القاضي بطلبها - فلا يجوزُ له أن يفرض إلا بنقد البلد حالاً، بعد أن كان عالماً بقدر مهر المثل، حتى لا يزيد على مهر المثل، ولا ينقص، رضيت المرأة أو أبت؛ كما في تقويم المتلفات، فإن زاد أو نقص لم يجز إلا بالقدر اليسير الذي يقع في الاجتهاد. وإن رضيت المرأة بالتأجيل، فالقاضي يوجبه حالاً، ثم للمرأة تأخير المطالبة إن شاءت. وإذا دخل بها الزوج بعد فرض القاضي، أو بعد تراضيهما على مفروضٍ - استقر المفروض، وكذلك لو مات. وإن طلقها قبل الدخول فنصف ذلك المفروض كالمسمى في العقد، ولو زوجها على أن لا مهر لها في الحال، ولا عند الدخول - اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي مفوضة؛ ما لو سكت عن ذكر المهر، ويجب لها المهر عند الدخول؛ لأن وجوب المهر عند الدخول حق الشرع، حتى لا يُضاهي نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - والسفاح؛ فلم يسقط بإسقاطها. وقال أبو إسحاق: يجب مهر المثل بالعقد قولاً واحداً؛ لأن شرط سقوط المهر عند الدخول شرط فاسد، والشرط الفاسد عند النكاح يوجب مهر المثل. وقال ابن أبي هريرة: لا يصح النكاح؛ لأن من لا مهر لها بحال موهوبةٌ، ولا يحل ذلك لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - والمفوضة إن لمي جب لها [مهر بالعقد، فيجب بأمر آخر من فرض، أو دخول، أو موتٍ في قول.

ولو تزوجها على أن لا مهر لها] ولا نفقة، أو على أن لا مهر لها وتُعطي زوجها شيئاً - فهي مفوضةٌ؛ لأنها شرطت [مع سقوطي المهر إعطاء شيء، فكان أبلغ في التفويض، ولا يجب عليها إعطاء شيء. ولو قالت المرأة: زوجني بلا مهر، فزوجها الولي بالمهر - نُظر إن زوجها بمهر المثل فأكثر بنقد البلد - صح ولزم، وإن زوجها بدون مهر المثل، وبغير نقد البلد - فهو كما لو زوجها مفوضة؛ ولا يلزم المسمى. ولو أطلقت المرأة فقالت: زوجني من فلان، فزوجها الولي بمهر المثل، أو أكثر - صح ولزم المسمى، وإن زوجها بلا مهر، أو بدون مهر المثل - ففيه قولان: أحدهما: لا ينعقد؛ لأنه بخس حقها. والثاني: ينعقد، ويجب مهر المثل. قال الشيخ - رحمه الله-: وكذلك لو زوجها الولي مطلقاً ولم يُسم [المهر، وإن سمت المرأة مالاً فقالت: زوجني بألف، فزوجها الولي بألفٍ فأكثر - صح ولزم المسمى] وإن زوجها بأقل من ألف، أو بلا مهر، أو مطلقاً - لا يصح؛ كما لو أذنت في زيدٍ، فزوجت من عمرو، وكذلك أمر وكيل الولي. أما التفويض الفاسد، وهو أن يُزوج الأب الصغيرة، أو المجنونة، أو السفيهة مفوضة، أذنت السفيهة أو لم تأذن، أو يزوج البكر البالغة دون رضاها مفوضة - ففي انعقاد النكاح قولان: أصحهما: يصح، ويجب مهر المثل بالعقد. وهذا كله في تفويض البضع. أما إذا كان التفويض في المهر؛ بأن قالت لوليها: زوجني بما شاء الزوج، أو بما شاء فلان، أو بما شئت، فسمى الزوج أو فلان، وهو شيءٌ معلوم، فزوجها به - صح، ولزم المسمى، وإن كان دون مهر المثل. ولو زوجها بلا مهر أو مطلقاً لا يصح. ولو قال الولي في العقد: زوجتكها بما شئت، أو بما شاء فلان - يب مهر المثل بنفس العقد. والله أعلم بالصواب.

باب تفسير مهر مثلها كل موضع أوجبنا للمرأة مهر المثل تنعني به [مهر] نساء عصباتها، فيعتبر مهرها بمهر امرأة من عصباتها هي مثلها في السن، والعقل، والعفة، والجمال، واليسار، والثيابة، والبكارة، والصراحة، وغيرها من أسباب الكمال؛ لأن المهر يختلف بهذه الأشياء، فإن مهر الثيابة أكثر من مهر العجوز، ومهر الجميلة والغنية والبكر أكثر من مهر من هي على خلاف ذلك، ومهر الصريح التي أبواها قرشيان أكثر من مهر الهجين التي أمها نبطية. فإن كانت فيها خصلة حميدة لم تكن في نساء عصباتها يُزاد في مهرها، وإن كان فيها نقص ينقص من مهرها؛ ما في تقويم المتلفات. ونساء عصباتها كل امرأةٍ تنسب هذه إليه؛ كالأخوات [للأب والأم] أو للأب، والعمات للأبوين أو للأب، وبنات الأخ والعم [للأب والأم] أو للأب ولا يعتبر بأمهاتها وجداتها وخالاتها وبنات أخواتها ولا بنات عماتها، بخلاف الحيض يعتبر بنساء العشيرة؛

لأنه معنى يرجع إلى الجبلة والخلقة، وقد اشترك في خلقتها [الأم والأب]. ومهرُ المثل أمرٌ يقع به الافتخار كالنسب، فاعتبر بنساء النسب؛ كالكفاءة تعتبر بالعصبات، وتعتبر بالأقرب فالأقرب من نساء العصبة؛ فيعتبر بالأخوات للأب والأم، ثم للأب ثم بنات الإخوة، ثم العمات ثم بنات الأعمام، ويعتبر بغالب مهرِ نساءِ عصباتها في بلدها وإن كُنَّ موتى؛ لأنه يختلف باختلاف البلدان كقيم المتلفات. وإن لم يكن لها في بلدها أحدٌ منهن، ونساء عصباتها ببلدٍ آخر؛ فحينئذ يعتبر بنساء عصباتها ببلد آخر حيث كن. فإن لم يكن لها أحدٌ من نساء العصبة، فيعتبر بالأقرب فالأقرب من أمهاتها وجداتها وخالاتها، فإن عُدمن، فبالأجانب من نساء بلدها، فإن لم يكن فبأقرب [النساء] شبهاً بها من أقرب البلاد إليها. وإن كانت عربية يعتبر [بمهر غربية] مثلها، وإن كانت من الموالي فبمولاة مثلها في شرف سيدها ودناءته. وإن كانت أمة فبمهر مثل أمة مثلها في بلدها. وإذا أوجب الحاكم مهر المثل يُوجب من نقد البلد حالاً كقيم المتلفات، ثم إن رضيت المرأة بالتأجيل، فهو تبرعٌ منها لا يلزم. وإن كانت عادة نساء عصبتها تأجيل المهر، أو تأجيل بعضه - فالحاكم يوجب كله حالاً، وينقص عن مهرهن بقدر ما يقابل التأجيل؛ لأنهن إذا أجلن زدن. ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الخاطب، فإن الشريف يرغب فيه بمهر أقل، لا يرغب بمثله في الوضيع. وإن كانت عادة نساء عصبتها تخفيف المهر مع العشائر - يُراعى ذلك، فيخفف مع العشيرة، بخلاف قيمة [المتلفات] نوجبها بكمالها. وإن كان المتلف صديقاً، وفي العادات المحاباة مع الأصدقاء؛ لأن المقصود من النكاح الوصلة، فيراعى فيه من التودد والتآلف ما لا يُراعى فيما المقصود منه المال. وكل نكاحٍ وجب فيه مهر المثل يتشطر ذلك بالطلاق قبل الدخول، ويتقرر بالدخول

والموت إلا المفوضة على قولنا المخرج: إنه يجب المهر بالعقد، ويسقط بالطلاق قبل الدخول إلى المتعة. وعند أبي حنيفة: لا يتنصف بمهر المثل، بل يسقط إلى المتعة في جميع المواضع، ونحن نقيسه على المسمى. والله أعلم. باب الاختلاف في المهر إذا اختلف الزوجان في الصداق في قدره، أو جنسه، أو عينه، أو في أصله: فقال الزوج: نكحتك بلا مهر، وقالت: بلى على ألف، أو في الأجل فيه، أو في قدر الأجل - يتحالفان، سواء كان قبل الدخول أو بعده في حال بقاء النكاح، أو بعد الفراق، فإذا تحالفا انفسخ الصداق، ويجب لها مهر المثل. وإن زاد على المسمى الذي تدعيه، فالنكاح بحاله. وقال أبو حنيفة: إن كان بعد الدخول، فالقول قول الزوج، [وإن كان قبله، فالقول قولها في قدر المهر، وفيما زاد القول قول الزوج]. وقال مالك: إن كان بعد الدخول، فالقول قول الزوج، وإن كان قبله تحالفا، ويبدأ بالتحالف بالزوج. وكذلك لو وقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما، أو بعد موت أحدهما، [ووقع بين وارثه والآخر]- يتحالفان، إلا أن الزوجين بأنفسهما يتحالفان على البت في النفي والإثبات جميعاً. والوارث يحلف على [نفي] العلم فيما ينفي، وعلى البت فيما يثبت، فيقول وارث الزوج: والله لا أعلم أن مورثي تزوجك على ألف، إنما تزوجك على خمسمائة، ويقول وارث المرأة: والله لا أعلم أنك تزوجتها على خمسمائة، بل تزوجتها على ألفٍ. وإذا اختلف الزوج وأبو الصبية البكر: فقال الأب: زوجتكها بألفٍ، وقال الزوج: بل بخمسمائة - يتحالفان كالزوجين، لأن الولي هو المباشر. وقيل: لا يحلف الأب، بل يتوقف حتى تبلغ الصبية، ثم يتحالفان، أو يحلف الزوج في الحال وتوقف يمين الصبية حتى تبلغ، فإن بلغت الصبية قبل التحالف - تحلف الصبية

بالاتفاق لا الأب، وتحلف فيما تنفي على [نفي] العلم؛ لأنها لم تُباشر. والاختلافُ في حق الصبية إنما يكون فيما زاد على مهر المثل، بأن كان مهرها ألفاً، فقال الولي زوجتكها بألفين، والزوج يقول: بألف. فأما إذا كان الزوج يقول: بخمسمائة، والولي يقول: بألف - فلا معنى للاختلاف؛ لأن الولي إذا نقص عن مهر المثل يجب لها المثل كاملاً بالعقد. وإن كان الزوج يقر بأكثر من مهر المثل؛ بأن يكون مهرها ألفاً، والزوج يقول: نكحتها بألفين، والولي يدعي عليه ثلاثة آلاف - فلا يتحالفان، ويأخذ الولي ألفين؛ لأنهما إذا تحالفا يعو مهرها إلى ألفٍ. فلو اختلف الزوجان في أداء المهر، فقال الزوج: أديت وأنكرت - فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل انشغال ذمته بحقها، سواءٌ كان قبل الدخول أو بعده. وقال مالك: إن كان قبل الدخول، فالقول قولها، وإن كان بعد الدخول فالقول قوله؛ لأن الظاهر أنها لا تُسلم نفسها إلا بعد قبض المهر. وإن كان الصداق تعليم سورةٍ، فقال الزوج: علمتكها، وأنكرت - نظر إن كانت المرأة لا تُحسن تلك السورة، فالقول قولها، وإن كانت تحسنها - فوجهان: أحدهما: القول قولها؛ لاحتمال أنها تعلمت من غيره، والأصل انشغال ذمته بالصداق. والثاني: القول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهرة معه. ولو اتفقا على قبض مالٍ، واختلفا في الجهة: فقالت [المرأة]: كان المقبوض هدية، وقال الزوج: كان صداقاً - فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته، سواء كان المقبوض من جنس الصداق، أو لم يكن، من طعام أو غيره. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: إن كان شيئاً [آخر] لا يدخر، فالقول قولها، فإذا حلف إن كان المقبوض من جنس الصداق - وقع عنه، وإن كان من غير جنسه، فإن شاء باعه عنها بالصداق إن كان قائماً، وإن شاء استرده، وأعطاها المهر، وإن كان تالفاً أخذ بدله. أما إذا بعث إلى بيت من لا دين له عليه شيئاً، ثم قال: بعوضٍ وأنكر - فالقول قولُ القابض.

ويجوز للولي قبض الصداقِ للصغيرة، والمجنونة، والسفيهة من زوجها، ولا يجوز قبض الصداق للبالغة الرشيدة إلا بإذنها، أباً كان الولي أو جداً، ولا يبرأُ الزوج بالدفع إليه. وفي القديم قولٌ آخرُ: أنه يجوز للأب والجد قبض صداق البكر البالغة دون إذنها، ويبرأ الزوج بالدفع إليها؛ كما يجوز لهما إجبارها على النكاح، وهذا على قولنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي. وعند أبي حنيفة: يجوز له قبض صداقها، إلا أن تنهي عنه. والله أعلم. باب الشروط في المهر رُوي عن عقبة بن عامر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". كل شرط يقتضيه النكاح، فذكره في العقد لا يضر؛ وذلك مثل أن يتزوجها على أن ينفق عليها، ويقسم لها، ويطأها، ولا تخرج إلا بإذنه، وأن له أن يُسافر بها إن بدا له، أو يتزوج عليها إن شاء، ويجوز ذلك. وإن شرط لها مالاً يقتضيه العقد لا يبطل به النكاح، ويفسد الصداق، ويجب لها مهر المثل، سواء كان الشرط لها أو عليها. أما مالها مثل أن شرط ألا يتزوج عليها، أو لا يتسرى عليها، أو يُطلق ضرتها، أو تخرج متى شاءت، أو لا يخرجها من بلدها ولا يُطلقها. وما عليها: مثل أن شرط ألا ينفق عليها، ولا يقسم لها، ويجمع بينها وبين ضرتها في مسكن واحدٍ، ونحو ذلك. وسواء زاد في المهر حيث شر طلها، أو نقص حيث شرط عليها، أو لم يزد ولم ينقص. ولو نكحها على أنه إن أخرجها عن البلد - فمهرها ألفان، وإن لم يخرجها فمهرها ألفٌ - فلها مهر المثل، أخرجها أو لم يخرجها. وقال أبو يوسف: إن أخرجها فعليه ألفانِ، وألا فألفٌ؛ كما شرط. ولو تزوجها على ألا يطأها، قال في موضع: فسد النكاح. وقال في موضع: لا يفسدُ.

قال الربيع: ليست على قولين، بل هي على حالين؛ وهو كما قال الربيعُ: حيث قال: يفسدُ إذا شرطت المرأة على الزوج ألا يطلقها، أو لا يطأها إلا أن تشاء هي -: لا يصح النكاح، لأنها شرطت منع حق الزوج ومقصود النكاحِ. وحيث قال: لا يفسد، أراد به إذا شرط الزوج ألا يطلقها ولا يطأها، إلا أن يشاء هو، أو لا يطأها في السنة إلا مرة؛ فلا يبطل النكاح؛ لان الوطء حقه، وهذا كرجل له على فقير دينٌ، فقال الفقير له: ادفع إليَّ ديناراً عن الزكاة؛ حتى أؤدي دينك منه، [فدفع] جاز عن الزكاة، والفقير بالخيار إن شاء أدى دينه منه، وإن شاء لم يؤد منه، وأدى من غيره. ولو قال رب المال: خذ هذا الدينار عن الزكاة، بشرط أن ترده علي من ديني - لا يجوز عن الزكاة، ولا قضاء الدين منه. ولو عقد النكاح بألفٍ على أن لأبيها ألفاً - صح النكاحُ، وفسد المسمى، ولها مهر المثل؛ لأن قوله: على أن لأبيه ألفاً، إن أراد سوى الصداق فهو عقد في عقدٍ، وإن أراد ألف الصداق فقد شرط بدل المتعة لغير المرأة؛ وذلك لا يجوز؛ كما لو شرط في البيع بعض الثمن لغير البائع. هذا قوله الجديد. وذكر في القديم ما يدل على أن الشرط يلغو، ويصح المسمى، فقال: عن تزوج امرأة على أن لها ألفاً ولأبيها ألفاً، ولأمها ألفاً - بطل الشرط، والألوف لها؛ لأنه شرطها في مقابلة البُضع، وهي مالكة للبضع، فحصل قولان في فساد التسمية. ومن أصحابنا من قال: المسمى فاسدٌ قولاً واحداً، ولها مهر المثل. وما [قال] في القديم أراد إذا نكحها على ثلاثة آلافٍ، فشرطت هي على نفسها أن يدفع ألفاً على أبيها، وألفاً على أمها؛ فهو وعدٌ من جهتها لا يلزمها، ولا يضر العقد. ثم ذكر المُزني بعد هذا مسألة تشبه الأولى في الصورة- والحكم بخلافه - فقال: إن نكح امرأة على ألفٍ، وعلى أن يُعطي أباها ألفاً - كان جائزاً. وصورة هذه المسألة أن ينكحها على ألفين، على أن يُعطى إحدى الألفين إلى أبيها، فلا يفسد المسمى؛ لأنه ليس بشرطٍ، بل وعدٌ جميلٌ منها بأن تهب إحدى الألفين من الأب، أو وكلت الأب بقبض إحدى الألفين لها، ووعدُ هبة الصداق للأب من المرأة أو لوكيله بقبضه - لا يؤثر في العقد، هذا إذا كان منها على سبيل الوعد. فإن كان على سبيل الشرط يفسد المسمى أيهما شرط.

وقيل: إن شرطت هي لا يفسد المسمى، وإن شرط هو عليها يفسد المسمى؛ لأنه شرط عليها من ملكها ما لا يقتضيه العقدُ. إذا شرط الخيار في النكاح، نظر: إن شرط في المنكوحة لا يصح النكاح؛ لأنه معاوضةٌ لا يثبت فيه خيار الشرط؛ فيفسد بشرط الخيار فيه كالصرف. وعند أبي حنيفة: يصح النكاح ويبطل الشرط. أما إذا شرط الخيار في الصداق لهما أو لأحدهما - يصح النكاح، ويفسد المسمى، ويجب لها مهر المثل، وقال في القديم: يفسد النكاح. واختلفوا في وجه فساده. منهم من قال: إنما يفسد لفساد الشرط، وقال في جميع الشروط الفاسدة: يفسد النكاح في القديم. ومنهم من خصه بشرط الخيار، وقال: لأن الخيار في أحد العوضين يوجب الخيار ي الثاني، ويصير كأنه شرط الخيار في المنكوحة. والله أعلم. باب عفو المهر قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ....} [البقرة: 237] الآية. المراد من الآية: أن الزوج إذا طلق امرأته قبل الدخول بها ينتصف الصداق، فلا يجب على الزوج إلا نصفه. قوله: " [إلا] "أن يعفون" المراد منه: الزوجان معناه: إلا أن تعفو المرأة عن حقها، فيعود جميع الصداق إلى الزوج. وقوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح". اختلفوا فيه: فقال قوم: أراد الزوج، وهو قولُ علي؛ وبه قال سعيد بن المسيب، وشريح، ومجاهد، ومذهب أبي حنيفة، وقول الشافعي - رضي الله عنه - في الجديد معناه: أوي عفو الزوج عن حقه، فيخلص لها جميع الصداق. وقال قوم: الذي بيده عقدة النكاح وليُّ المرأة، وهو قول ابن عباس، والشافعي -

رضي الله عنه - في القديم؛ لأن عقدة النكاح في الحال بيده، وأما الزوج فكان بيده قبل الفراق، معناه: ينتصف الصداق، إلا أن تعفو المرأة عن حقها إن كانت من أهل العفو، أو يعفو وليها إن لم تكن هي من أهل العفو، فيعود كل الصداق إلى الزوج، وخرج من هذا أنه لا يجوز للولي أن يُبريء الزوج عن صداق وليته الثيب. فإن كانت بكراً فالمذهب أيضاً أنه لا يجوز، وهو قوله الجديد. وعلى قوله القديم: يجوز للأب، وللجد أن يُبريء عن صداق البكر الصغيرة العاقلة بعد ما طلقها الزوج، ويختص بالأب والجد؛ لأن كمال شفقتهما يمنعهما من ترك النظر للولد، فقد يريان النظر في العفو ترغيباً للخطاب فيها، ولا يجوز قبل الطلاق؛ لأن الزوج ربما يدخل بها بعد الإبراء، فيفوت بُضعها مجاناً. ويشترطُ أن تكون عاقلةً؛ لأن المجنونة لا يُرغب في نكاحها، فلا يجوز إسقاط حقها طمعاً لرغبة الخطاب فيها، وأن يكون الصداق ديناً في ذمة الزوج، فإن كان قد قبضه أو كان عيناً لا يجوز إبطال حقها عن العين. وهل يجوز الإبراء عن صداق البر البالغة على هذا القول؟ فيه وجهان: الأصح: لا يجوزُ؛ لأنه لا يلي مالها، فإذا عفا أحد الزوجين عن نصيبه [كان من الصداق بعد الطلاق قبل الدخول لا يخلو؛ إما أن] كان الصداق عيناً أو ديناً. فإن كان عيناً نُظر: إن كان [عيناً] في يده [فكان] هو العافي، فهو هبةُ نصفه، فلا بد من تمليكه وقبولها وقبضها. وإن كانت هي العافية؛ فهو كما لو وهب شيئاً من إنسان، وهو في يد المتهب، فيشترط التمليك والقبول، ومضى إمكان القبض، فهل يجوز هذا التمليك بلفظ العفو من الجانبين؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز لظاهر القُرآن. والثاني: لا يجوز كسائر التمليكات والمراد بالآية إذا كان الصداق ديناً، وإن كان عينُ الصداق في يدها؛ فإن كانت هي العافية، فلابد من التمليك، وكان القبول والتسليم، وإن كان هو العافي فلابد من القبول، ومضى إمكان القبض - كما ذكرنا في جانب الزوج. وإن كان الصداق ديناً، أو كان بعد تلف العين، فإن كان العافي من هو في ذمته فلابد

من أن ينفذ ويملك، ويقبله الآخر ويقبضه. وهل يجوز بلفظ العفو؟ فعلى الوجهين. وإن كان العافي هو الآخر، فيجوز بلفظ التمليك والإبراء والعفو، ولا يحتاج إلى القبول؛ لأنه محض إسقاط. فصل فيما لو عاد الصداق إلى الزوج إذا عاد الصداق إلى الزوج، ثم طلقها قبل الدخول- نظر إن عاد إليه من جهة أجنبي، أو عاد إليه من جهتها بعقد معاوضةٍ - فالزوج يرجع بنصف قيمته. وإن وهبت الصداق منه، ثم طلقها قبل الدخول - فهل للزوج أن يرجع عليها بنصف قيمته، أو نصف قيمة مثله إن كان مثلياً؟ - فيه قولان. وكذلك لو ارتدت قبل الدخول بعد ما وهبت الصداق منه، أو فسخ أحدهما النكاح بعيبٍ وجد بصاحبه، هل يرجع؟ لأن الصداق عاد إليه بملكٍ جديد؛ كما لو باعت منه. والثاني - وهو الأصح، واختيار المزني: لا يجرع عليها بشيء؛ لأنها عجلت له ما كان يستحقه بالطلاق؛ كما لو عجل الزكاة قبل الحول لا يطالب بها بعد الحول. أما إذا كان الصداق ديناً، نظر إن قبضته ثم وهبت منه، ثم طلقها قبل الدخول - فهو كما لو كان [عيناً] فوهبت منه، وإن لم تقبضه وأبرأت ذمته، ثم طلقها- هل يرجعُ عليها بنصفه؟ وإن ارتدت فبكله فقد قيل: فيه قولان كالعين. والصحيح من المذهب: أنه لا يرجع بشيء قولاً واحداً، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأنها لم تأخذ منه شيئاً، فصار كمال لو لم يسم لها مهراً. وعند أبي حنيفة: إن كان الصداق متقوماً أو مثلياً متعيناً، فوهبت منه - لا يرجع عليها بشيء، وإن كان مثلياً في الذمة فقبضته، ثم وهبت منه نصف الصداق، ثم طلقها الزوج قبل الدخول -هل يرجع عليها بشيء؟ هذا ينبني على هبة الكل. إن قلنا هناك: يرجع فيها، فهاهنا يرع بنصف الصداق، ثم هل يأخذ النصف القائم كله أم يأخذ نصف ما هو قائمٌ في يدها، ونصف ما فات؟:

فيه قولان؛ كما لو أصدقها عبدين، فهلك أحدهما، ثم طلقها قبل الدخول - هل يأخذ جميع العبد القائم، ويكون التالف من حقها، أم يأخذ نصف الصداقٍ، ونصف قيمة الهالك، ويُجعل الهالك من حقها جميعاً؟ فيه قولان. فإن قلنا: إن هبة الكل لا ينبني عليها شيءٌ؛ فهاهنا أقوال: أصحها: [لا يرجع عليها] بشيء، وقد تعين حقه في النصف الذي عاد إليه. والثاني: يأخذ جميع النصف الباقي، ويجعل الموهوب من خالص حقها. والثالث: يرجع عليها بنصف ما بقي في يدها، وهو ربع الجملة، ويجعل الفائت بالهبة من الحقين جميعاً؛ لأنها وهبت مشاعاً، فجعل كأنها عجلت نصف حقه، ووهبت منه نصف حقها. وعلى هذا لو باع عبداً بثوبٍ، ثم وهب مشتري الثوب الثوب من بائعه، ثم وجد بائعه بالعبد عيباً، فأراد رده في حال قيام العبد، واسترداد قيمة الثوب، أو بعد تلف العبد أراد أخذ الأرش - هل له ذلك أم لا؟ فعلى وجهين بناء على قولي هبة الصداق. وإن باع العبدين، ثم أبرأه عن الدين، ثم وجد مُشترى العبد به عيباً، وأراد رده، وأخذ الثمن، أو كان تالفاً أراد أخذ الأرش - فهو كما لو كان الصداق ديناً فأبرأته. أما إذا اشترى شيئاً، ثم وهب المشتري المبيع من البائع قبل دفع الثمن، ثم أفلس -فالبائع يُضارب الغرماء بالثمن قولاً واحداً؛ لأن حقه في الثمن، ولم يصل إليه الثمنُ. فصل فيما لو خالع قبل الدخول إذا خالع الرجل امرأته قبل الدخول - نُظر، إن خالعها على شيء غير الصداق يثبت له عليها المسمى في الخُلْع، ولها عليه نصف الصداق. وإن خالعها على الصداق لا يخلو إما أن خالعها على جميع الصداق، أو على نصفه، فإن خالعها على جميعه - عيناً كان الصداق أو ديناً - فقد خالعها على مال له، ومال لها؛ لأن نصف الصداق يعود إليه بالطلاق قبل الدخول، والبينونة واقعة لا يصح تسمية نصيبه. وفي صحة تسمية نصيبها قولان.

فإن قلنا: لا يصح، فنصف الصداقه لها ثابتٌ، ويجب له مهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني: قيمة العين إن كان الصداق عيناً، وإن كان ديناً فمثله. وإن قلنا: يصح تسمية نصيبها، فهل يرجع الزوج عليها بشيء؟ فيه قولان: أحدهما: [لا يرجعُ عليها] بشيءٍ، وجعل كأن الخلع وقع على نصيبها من الصداق فحسب. والثاني: يرجع عليها بنصف بدل الخلع، وهو نصف مهر المثل في قول، ونصف قيمة العين في الآخر. فأما إذا خالعها على نصف الصداق - نظر إن قال: خالعتك على نصيبك صح، ويسقط عن الزوج جميع الصداق إن كان ديناً، وإن كان عيناً عادت إليه كلها، وإن خالعها على نصف الصداق مطلقاً فقولان: أحدهما: ينصرف إلى نصيبها. والثاني- وهو الأصح: يقع شائعاً، فكأنه خالعها على نصف نصيبه ونصف نصيبها، فلا يصح تسميةُ نصف نصيبه. وفي نصف نصيبها قولان: إن قلنا: لا يصح، فنصف الصداق لها باقٍ، وعليها بدل الخلع في قول مال مهر المثل، والآخر نصف قيمة العين. وإن قلنا: يصح في نصف نصيبها، فهل يرجع [الزوج] عليها بشيء؟ فعلى قولين كما ذكرنا: أحدهما: لا، وجعل كأن الخلع وقع على نصف نصيبها من الصداق. والثاني: يرجع عليها بنصف بدل الخلع، وهو نصف مهر المثل في قول. وفي الثاني: ربع قيمة العين. فصل فيما لو نكح على مهر فاسدٍ إذا نكح امرأة على مهر فاسد من خمر، أو خنزير، أو نحوه - يجب لها بالعقد مهر المثل، فلو أبرأته عن العقد، أو عن المسمى الفاسد - لا يصح الإبراءُ، فلو أبرأته عن مهر

المثل إن كان معلوماً عندها يصح، والاعتبار بعلمها. وإن كانت جاهلة فقولان: أصحهما: لا يصح للجهل. والثاني: يبرأ عن أقل ما يتيقن، وهو القدر الذي يُعلم أنه لا ينقص عنه. فإذا نكحها مفوضة، ثم أبرأت الزوج عن الفرض -لا يسقط حقها، بل لها طلب الفرض. ولو أبرأته عن مهر المثل قبل الدخول، إن قلنا: لا يجب المهر بالعقد - لا يصح الإبراء؛ لأنه أبرأ قبل الوجوب. وإن قلنا: يجب بالعقد، أو أبرأته بعد الدخول - يصح إن كان معلوماً عندها. ولو أبرأته عن المتعة قبل الطلاق لا يصح؛ لأنها لم تجب بعد، وإن أبرأت بعد الطلاق، فهو كالإبراء عن المجهول. وإن تيقن أن مهرها لا ينقص عن الألف، ولا يزيد على الألفين - فالوجه أن تبرئه عن ألفين، فإن قبضت الأقل وهو الألف، وحللته أو أبرأته مما بين ألف إلى ألفين صح، ثم بان أن مهرها ألفان فأقل- فقد بريء عنه، وإن بان أكثر من ألفين تجب عليه تلك الزيادة. وكذلك إن دفع إليها الأكثر وهو ألفان، وحللها ما بين ألف إلى ألفين - صح، ولو بان أن مهرها أقل من ألف مثالً تسعمائة - يجب عليها رد مائة؛ لأن التحليل لم يقع عنها، إن كان هذا من جهتها صح بلفظ الإبراء التحليل والإسقاط والعفو. وإن كان من جهته بأن أعطى الأكثر، فلا يصح إلا بلف صالح لتمليك الأعيان، إلا أن يكون ما قبضت هالكاً، فيصح بلفظ الإبراء والتحليل والعفو. والله أعلم. باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب يجوز للمرأة حبس نفسها عن الزوج لاستيفاء جميع الصداق حالاً إن كان الصداق حالاً، وإن كان مؤجلاً لم يكن لها حبس نفسها عنه لاستيفائه؛ لأنها رضيت بتأخر حقها وإن حل الأجل؛ لأن العقد لم يثبت لها ذلك؛ هذا كما أن البائع يجوز له حبس [المبيع لاستيفاء الثمن، إلا أن يكون الثمن مؤجلاً، فليس له ذلك وإن حل الأجل. وإن كان بعض] الصداق حالاً، والبعض مؤجلاً - لها منع النفس لاستيفاء القدر

الحال. وإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة يجوز لوليها - منعها حتى يقبض الصداق. وإن قبضت الصداق، أو كان مؤجلاً - لزمها التمكين، وتسليم النفس إذا طلب الزوج ولم يكن لها عذر، فإن استمهلت يوماً أو يومين لتصلح شأنها - أمهلت، ولا تجاوز في افمهال ثلاثة أيامٍ. فإن كانت المرأة حائضاً أو نُفساء عليها تسليم النفس، [ولكن لا يطؤها الزوج؛ كما لو كانت رتقاء أو قرناء يجب عليها تسليم النفس]. وإن لم يمكن وطؤها بأن كان صغيرة لا تحتمل الوطء، أو بها مرضٌ أو هزال لا تحتمل معه الجماع - تُمهل على أن تصير محتملة. ولو قال الزوج: سلموها إليَّ ولا أجامعها حتى تحتمل - نظر إن كانت صغيرة لوليها المنعُ، وإن كانت مريضة تسلم إليه؛ لأن تعهد الصغيرة بالحضانة من القريب أهدى إليها وأولى بها، وإذا كانت المرأة بهذه الصفة لا يجب على الزوج تسليم الصداق. وإن سلم جاهلاً بالحالِ أو عالماً، هل [له أن] يسترد؟ فيه وجهان: أحدهما: [له ذلك؛ كما لا يجب التسليم ابتداء. والثاني: ليس له ذلك؛ كما لو تبرع بتسليم المبيع قبل قبض الثمن]- لم يكن له رده إلى حبسه، وإذا كان الزوج صغيراً لا يجامع مثله لها مطالبته بالمهر. وإذا اختلف الزوجان، فقال الزوج: لا أدفع الصداق حتى تُسلمي نفسك، وقالت المرأة: لا أسلم ما لم أقبض الصداق]- ففيه أقوالٌ: أحدهما: لا يجبران، بل أيهما تبرع بالتسليم أجبر الآخر. والثاني: يُجبران، فيؤمر الزوج بأن يضع الصداق عند عدلٍ، وتؤمر المرأة بالتمكين، ثم يدفع الصداق إليها. والثالث: يجبر الزوج أولاً على تسليم الصداق؛ لأن ما عنده لا يفوت بالتسليم، بخلاف البُضع، فإن قلنا: لا يُجبران، فلا نفقة لها في الامتناع. وعلى القولين الأخيرين: يجب. ولو مكنت المرأة نفسها مرة متبرعة قبل استيفاء الصداق - لم يكن لها بعد ذلك منع

نفسها عنه لاستيفائه، خلافاً لأبي حنيفة- رحمه الله -كما لو تبرع بتسليم المبيع قبل قبض الثمن- لم يكن له بعد ذلك رده إلى حبسه كقبض الثمن. ولو أكرهها الزوج، فدخل بها، هل لها بعد ذلك منع النفس لاستيفاء الصداق؟ فيه وجهان: أصحهما: لها ذلك؛ كالمشتري إذا غصب المبيع من البائع قبل أداء الثمن -للبائع رده إلى حبسه. والثاني: ليس لها ذلك؛ لأن البضع بالوطء صار في حكم التالف؛ كالمبيع إذا أخذه المشترين وهلك عنده- لم يكن للبائع بعده إلا المطالبة بالثمن، وكذلك لو سلم الولي الصغيرة والمجنونة إلى زوجها قبل أخذ الصداق. فإن بلغت وأفاقت قبل أن دخل بها الزوج، فلها منع نفسها لقبض الصداق، وإن كان بعد ما دخل بها فوجهان. وإن كانت المرأة صغيرة لا تحتمل الجماع، أو مريضة ليس للزوج وطؤها حتى تصير محتملة. ولو وطيء الزوج امرأته، فأفضاها - لم يكن له العود إلى مباشرتها، حتى تبرأ البرء الذي إن أعاد لم ينكأها. وإن اختلفا في البرء: فقال الزوجُ: قد برئت وأنكرت ما يدعيه الزوجُ - يحتمل أن ترى أربع نسوة عدول، فإن قلن: صارت محتملة، أجبرت على التمكين. وإذا خلا رجل بامرأته ولم يدخل بها - فلا أثر لتلك الخلوة على قوله الجديد، وهو المذهبُ، حتى لو طلقها بعد الخلوة لا يجب إلا نصف المهر، ولا عدة عليها. ولو اختلفا في الإصابة فالقول قول من ينفيها كما قبل الخلوة؛ وهو قول ابن مسعود، وابن عباس -رضي الله عنهما-، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. أوجب نصف المهر بالطلاق قبل المسيس، والمسيس هاهنا لم يُوجد. وفي القديم قولان: أحدهما: لا يتعلق بالخلوة شيءٌ من هذه الأحكام، ولكنها دليل الإصابة، حتى لو اختلفا في الإصابة قبل الخلوة- فالقول قول من ينفيها، وبعد الخلوة القول قول من يثبتها؛ وبه قال مالك. وقيل: قوله القديم: إن الخلوة كالإصابة في تقرير المهر، وإيجاب العدة، وإثبات الرجعة.

وقيل: لا تثبت الرجعةُ. وعند أبي حنيفة: الخلوة الصحيحة تُوجب العدة، وتقر المهر، ولكن لا تثبت الرجعة. وأما الخلوة الفاسدة فلا حُكم لها، وهي أن تكون ثم مانعٌ شرعيٌّ من حيض، أو نفاس فيها، أو إحرام، أو فرض صوم في أحدهما، أو كان فيها مانعٌ طبيعيٌّ من قرن أو رتقٍ. أما إذا كان المانع الطبيعي فيه كالجب والعنة- قالوا: الخلوة معه صحيحة، ونقيس على بعض هذه المواضع. والله أعلم بالصواب. باب المتعة قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. المتعة في الشرع اسمٌ للمال الذي يعطيه الرجل امرأته على الفراق، والكلام فيها فيثلاثة فصول: فمين يستحقها من النساء، وفي الفرقة التي توجبها، وفي قدرها. أما الأول: فالمطلقات قسمان: مطلقة قبل الدخول، ومطلقةٌ بعد الدخول.

أما المطلقة قبل الدخول: نظر إن لم يكن فُرض لها، فلها المتعة؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]. وإن كان قد فُرضَ لها فلا متعة لها، سواء كان الفرض مُسمى بالعقد، أو فُرضض بعده، أو وجب لها مهر المثل بفساد التسمية في العقد. قال ابن عمر: لكل مطلقةٍ متعة إلا التي فُرض لها، ولم يدخل بها، فحسبها نصف المهر. أما المطلقة بعد الدخول، سواء فُرض لها أو لم يُفرض؛ لأنه يجب لها مهر المثل بالدخول - فهل تستحق المتعة؟ فيه قولان: قال في القديم: وبه قال أبو حنيفة: لامتعة لها؛ لأنها تستحق المهر؛ كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول. وقال في الجديد: لها المتعةُ؛ لقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وقال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس؛ لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض، فلم تستحق المتعة، والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة إتلاف البُضع، فيجب لها المتعة بالفراق. أما الفصل الثاني في بيانه الفُرقة التي تُوجب المتعة: نقول: أما فرقة الموت لا توجبها؛ لأن الزوج لم يوجبها بالفراق، إنما اختطف قهراً. وأما فرقة الحياة: نظر إن صدرت من جهة الزوج لا لمعنى فيها، أو من هة أجنبي، فتوجب المتعة في ما صدر من جهته؛ مثل: أن يُطلق، أو يرتد، أو يسلم، أو يُلاعن، فهو كالطلاق في التقسيم الذي ذكرناه؛ وكذلك إذا خالعها؛ لأن الخلع - وإن كان يتم بها - فالمغلب فيه جانب الزوج؛ لأنه ينفرد بالطلاق، ويخالع مع الأجنبي.

وكذلك لو فرض الطلاق إليها فطلقت نفسها، أو علق طلاقها بدخول الدار فدخلت، أو آلى عنها، فبعد مُضي المدة طلقها بطلبها. وما صدر من جهة أجنبي؛ مثل: أن تُرضع أم الزوج أو ابنته الزوجة الصغيرة، أو وطيء الأب زوجة ابنه بالشبهة، ينفسخ النكاح، وتجب لها المتعة. وكذلك لو خالعها مع أجنبي. وإن صدرت الفرقة من جهتها، أو من الزوج لمعنى فيها- فلا نُوجب المتعة؛ كما لا نُوجب نصف المهر إذا كان قبل الدخول؛ مثل أن ترتد المرأة، أو تسلم، أو ترضع، أو تفسخ النكاح بعيب الزوج، أو يفسخ الزوج بعيب فيها؛ لأنه وإن كان من جهته فهو لمعنى فيها، أو الأمة عتقت تحت عبدٍ ففسخت النكاح؛ فلا مُتعة [لها]. ولو زوج الذمي ابنته الصغيرة من الذمي، ثم أسلم أحد أبوي المرأةِ- حُكم بإسلام الزوجة، وارتفاع النكاح، ولا متعة لها؛ لأن ارتفاع النكاح بسبب الإسلام. ولو ارتد الزوجان معاً، فهل لها المتعةُ؟ فيه وجهان، بناء على أنه إذا كان قبل الدخول، فهل لها نصف المهر؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه لا يجبُ، وكل فرقة تُوجب المتعة، فإن كان قبل الفرض بعد المسيس - فلها نصف [المهر] ن ولا متعة لها. وما لا توجب المتعة، فإن كان بعد الفرض قبل المسيس - لا يجب نصف المهر، إلا الزوج إذا اشترى زوجته يرتفع النكاح، ولا متعة لها، [وإن كان بعد الفرض قبل المسيس يجب نصف المهر]؛ لأن المهر يجب بالعقد للبائع، والمتعة تجب بالطلاق فيكون للمشتري. فلو أوجبنا عليه المتعة لأوجبنا له على نفسه، فلم يجب. أما الكلامُ في القدرِ: فليس لأقل المتعة، ولا أكثرها تقديرٌ، بل ذلك إلى اجتهاد الحاكم يوجبها على حسب حال الزوج من اليسار والإعسار. قال الله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فالمستحب على الموسر خادمٌن وعلى المتوسط ثلاثون درهما، وعلى المقتر قدره.

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أكثر المتعة خادمٌ، وأقلها مقنعة، وأي قدرٍ أدى وإن قل جاز، ويجوزُ أن يُزاد على نصف المهر. وقال أبو حنيفة: لا يُبلغ بالمتعة نصف المهر. باب الوليمة رُوي عن أنس أن النبي - صلى اللهعليه وسلم - رأي على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. قال: "ما هذا"؟ قال: إني تزوجت امراة على وزن نواةٍ من ذهبٍ. قال: "بارك الله لك وعليك، أو لم ولو بشاة". الوليمة: اسم لكل دعوةٍ تتخذ على حادثة سرور من إملاكٍ أو ولادةٍ، أو ختان، أو غيرها، غير أن الأغلب على اللسان إطلاقُ اسمها على دعوة تُتخذ على النكاح، ولا يفهم منها غيرها إلا عند التقييد، فيقال: وليمة الولادة والختان ونحوها. ولكل دعوة من هذه الدعوات اسم على حدةٍ: فالعقيقة اسم لدعوة الولادة، والإعذار للختان، والخُرس لسلامة المرأة من الطلق، وتستعمل في الولادة. والنقيعة لقدوم الغائب. والوكيرة لاستحداث البناء، والمأدبة ما يتخذ بغير سببٍ، وكل ذلك مُستجب؛ لما فيه من إظهار شُكر نعم الله - عز وجل- ولا يجب شيء من هذه الدعوات إلا وليمة العرس، علق الشافعي رضي الله عليه القول في وجوبها. واختلف أصحابنا فيه منهم جعله على قولين. أحدهما: يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به عبد الرحمن، فقال: "أولم" ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ما تركها في سفر ولا حضر. والثاني: لا تجب كسائر الدعوات. والصحيح أنها سنةٌ، والأخبار محمولة على تأكيد الاستحباب، فإنها أشد استحباباً من سائر الدعوات. وقال الشيخ القفال رحمه الله: لا [خلاف] أنها سُنة لا يُعصى بتركها، وتعليق القول

في وُجوب الإجابة إذا دُعي إليها. وجملته: أن من دُعي على دعوةٍ يستحب الإجابة ولا تجب في غير وليمة النكاح. وفي وليمة النكاح وجهان: أحدهما: تجب؛ لما روي عن ابن عمر؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دُعي أحدكم إلى وليمة] فليأتها". ورُوي عن أبي هريرة مرفوعاً: "شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى إليها الأغنياء، ويترك المساكين، فمن لم يأتي الدعوة فقد عصى الله ورسوله". والثاني: لا تجب الإجابة كسائر الدعوات. والأخبار محمولةٌ على تأكيد الاستحبابن والمراد من العصيان عصيان الطريقة والسنة. وإن قلنا: تجب، فهو فرضُ عينٍ، أم فرضُ كفاية؟ وجهان: أحدهما فرض عين، لظاهر الحديث. والثاني: فرضٌ على الكفاية، لأن المقصود إظهارها، ويحصل لك بحضور البعض. فإن قلنا: تجب الإجابة أو تستحب، فلا فرق بين أن يكون المدعو مفطراً أو صائماً، ثم إن كان مفطراً يأكل. وهل يجب الأكل؟ وجهان: أحدهما: يجب، وأقله لقمةٌ، لأن المقصود من الدعوة الأكلُ. والثاني: وهو الأصح: لا يجب، بل يستحب، لما رُوي عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك على المضيف".

وإن كان صائماً: نظر إن كان صوم فرضٍ فلا يطعم، ويدعو لهم، وإن كان صوم تطوعٍ يستحب أن يفطر إذا شق على المضيف صومه، فإن لم يشق عليه فالأولى ألا يفطر، ولو أفطر جاز. رُوي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم". ولو دعاه ذميٌّ هل تجب الإجابة على الوجه الي تقول: تجب إجابة المسلم؟. فيه وجهان: أحدهما: تجب، وفاء بعهده. والثاني: لا تجب. وعلى الوجه الآخر لايتأكد الاستحباب كما يتأكد في حق المسلم؛ لأنه ممنوعٌ عن موادته، وربما يعافُ من طعامه. ولو دعته امرأة أجنبيةٌ تجب إذا لم يحتج إلى الخلوة معها. وإن [ان] عادة من أكثر ماله رباً أو حراماً تُكرهُ الإجابة المعاملة معه، وغنما تتأكد الإجابة إذا دعاه بعينه لا لخوفٍ منه، ولا لطمع في جاهه، ولم يخص به الأغنياء، فإن خص الأغنياء له ألا يجيب إذا خصهم لغناهم. فإن دعا أهل حرفته أو جيرانه وهم أغنياء فعليهم الإجابة. ولو لم يدعه بعينه، بلأمر منادياً فنادى من كان في جيرانه فليحضر، أو قال لرسوله: ادعُ من لقيته فله ألا يجيب؛ لأنه إذا لم يدع بعينه فلا يشق عليه تخلفه. وكذللو دعاه خوفاً منه، أو طمعاً في جاهه، فله أن يتخلف. وإن دعاه جماعةٌ ولم يمكنه الجمع بين الكل أجاب الأسبق، فإن جاءوا معاً أجاب أقربهم به رحماً، فإن استووا اجاب أقربهم داراً منه، كما في صدقة التطوع. فإن استووا أقرع بينهم، وإن كانت الوليمة ثلاثة أيامٍ، ودُعي فيهن - أجاب الأولى والثانية، ويُكره من الثالثة. قال الحسن: الثالث رياء وسمعة. وإن كان فيها شيء من المناكير من شُربِ الخمر، وضرب المعازف، إن علم أنه إذا حضر يُترك ويرفع، أو إذا نهاهم انتهوا عليه الإجابة. وإن علم أنهم لا يتركونه لا يحضر.

فإن لم يعلم وحضر، نهاهم فإن لم ينتهوا خرج، وإن لم يمكنه الخروج قعد كارهاً بقلبه ولم يستمع. أما ضربُ الدفِّ فلا بأس به. وإن كنات حضر فيه صور ولها، أرواح فإن كانت من الممر دون محل الاجتماع حضر، وإن كان من محل الاجتماع، نظر إن كانت على الأرض أو على بساطٍ يُداسُ، أو مخدع يتكيء عليها جلس. وإن كانت على الشقوف والجدران والستور المعلقة، لا يحضر. وإن كانت مقطوعة الرأس فلا بأس، وإن كان فيها صور الأشجار فلا بأس بها. ومن حضر صنيعاً فقدم إليه الطعام - له أن يأكل من غير إذنٍ في الأكل، إلا أن يون المضيف ينتظر حضور نسان، فلا يجزو للحاضر أن يبتديء الأكل حتى يحضر الذي ينتظره، أو ياذن صاحب البيت. واختلفوا في أن الضيف هل يملك ذلك الطعام؟ قال الشيخ القفال رحمه الله - لا يملك، بل هو إتلافٌ على سبيل الإباحة. ومنهم من قال: يملكه. ثم اختلفوا فيه: قيل: يملكه بالوضع بين يديه. وقيل يملكه بالأخذ بالبراجم. وقيل: يملكه بالوضع في الفم. وقيل: بالازدراد. ولا يجوز للضيف أني عطي السائل على الباب شيئاً منه، ولا أن يلقم الهرة، ولا الساقي، إلا أن يكون الساقي من جملة الضيف. ولا بأس أن يلقم بعضهم بعضاً إلا أن يون قد فاوت بينهم في الأطعمة. ولا يجوز أن يطعم من خص بنوعٍ غيره. ويكره للمضيف أن يفعل ذلك. ويستحب للضيف إذا طعم أن يدعو لصاحب البيت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعم عند سعد بن عبادةن فلما فرغ قال:"أكل طعامكم الأبرارن وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون".

ويجوز نثر السُّكر والجوز واللوز والتمر في الإملاكات ولا يكره، إلا أن تركه أحب إلينا. وقيل: يكره؛ لأنهم يأخذونه بخلسةٍ ونهبة، وقد يأخذه من غيره أحب إلى صاحبه منه فإذا فعل فالتقاطه مُباحٌ، وتركه أولى. فإن علم أن صاحبه يحب أَخْذَه أَخَذَهُ، إلا أن يكون صاحب مروءةٍ، فيحفظ مروءته، ولا يأخذه. ثم ما وقع على الأرض، أو في حجر من لا يأخذه، فكلهم فيه سواء، ولا يختص به من هو أقرب إليه، بل له أن يأخذ مما بين يدي غيره. وما وقع في حجر من يأخذه، فهو أولى به، وليس لغيره أخذه، وإن أخذه، هل يملكه؟ فيه وجهان: كما لو افترخ طائرٌ على شجر إنسان فأخذه غيره، أو اخذ الثلج من حريم غيره هل يملكه؟ فيه وجهان. فإن سقط من حجره قبل أن يقصد حيازته، أو قام فسقط عنه، فالكل فيه سواء، كالطائر إذا ملك جناحه فطار، جاز لكل من شاء أخذه، ويكره الأخذ بإطلاءة، فإن فعل ملك. قاله شيخنا. رحمه الله والله أعلم. باب القسم بين النساء قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] أثبت الله - عز وجل - لكل واحدٍ من الزوجين على الآخر حقوقاً، فحقه عليها: الطاعة، والتمكين، والمقام في البيت. وحقها عليه: أداء النفقة، والكسوة وإيتاء المهر، والمعاشرة بالمعروف.

قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، فعلى كل واحد منها أداءُ ما عليه من الحق من غير إظهار كراهية، فإن لم يفعل مع القدرة فمطل الغني ظُلمُ، ثم إن كان الرجل متفرداً لم يكن تحته إلا امرأة واحدةٌ - لا يجب عليه أن يبيت عندها، غيرأن المعروف أن يبيت عندها. وقال أبو حنيفة: عليه أن يبيت عندها من كل أربع ليالٍ ليلة؛ لأن أكثر ما ينكح عليها ثلاث نسوة، فيخصها من كل أربع ليالٍ ليلة. وإن كانت أمة ففي كل سبع ليالٍ ليلة، وهذا حسنٌ. وإن كانت له زوجتان أو أكثر فلا يلزمه [البيتوتة عندهن، غير أنه إذا بات عند واحدة يجب عليه] التسوية بينهن، فإن لم يفعل عصى الله - تعالى- رُوي عن أبي هريرة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما -جاء يوم القيامة وشقه ساقطٌ". وإنما تلزمه التسوية بينهن في البيتوتة عندهن، لا في الجماع حتى لو بات عند

واحدةٍ وأصابها، بات عند الأخرى ولم يصبها- فلا حرج عليه؛ لأن الداعي إليه الشهوة فلا يمكن إيجابه، ولا يؤاخذ بميل القلب إلى إحداهن إذا لم يتبع فعله هواه، قال الله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]. أي: لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم.

روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه ويعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". وإذا أراد القسم، فلا يجوز أن يبدأ بواحدةٍ منهن من غير رضا البواقي إلا بقرعة، فإن كن أربعاً فبدأ بواحدة بالقرعة، ففي ليلة الثانية يقرع بين الثلاث، ثم في ليلة الثالثة يقرع بين الثنتين فإذا تمت النوبة عاد إلى الأولى على الترتيب الأول، ولا يحتاج إلى استئناف القرعة. فإذا بدأ بواحدة من غير قرعة، فقد أساء، ثم يقرع بين الثلاث، فإذا تمت النوبة لا يبدأ بمن بدأ بها أولاً، بل يقرع بين الأربع، لأن البداية الأولى لم تكن على الحق، فلا يُبنى عليها. فلو أن واحدة منهن تركت حقها من القسم لم يلزم رضاها في حق الزوج، حتى يجوز

له أن يبيت عندها، ولا يرضى بغيرها عنها. فإن رضي الزوج نظر إن تركت حقها مطلقاً، أو وهبته لجميع ضراتها - لم يكن للزوج أن يخص بتلك الليلة واحدةً من ضرائرها، بل تخرج الواهبة من القسم، ويُسوى بين سائرهن. وإن وهبت ليلتها للزوج، هل له أن - يخص بها واحدة. منهن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لو كما لو تركت حقها مطلقاً. والثاني: له ذلك؛ لأن الحق ضار له، فله أن يجعله لمن شاء. ولو وهبت ليلتها واحدةً بعينها - صحت الهبة، ورضا الموهوبة وقبولها ليس بشرط، فالزوج يخرج الواهبة من القسم، ويبيت عند الموهوبة ليلتين: نوبتها ونوبة الواهبة، وعند البواقي ليلة ليلة، والدليل عليه ما رُوي أن سودة لما كبرت قالت: يا رسول الله، لقد جعلت نوبتي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. ثم إن كانت نوبة الواهبة تلي ليلة الموهوبة بيت عندها ليلتين على التوالي وإن تخللت بين النوبتين نوبة امرأة أخرى، فال يبيت عندها ليلتها بل يبيت [عندها] نوبتها ثم يدور، فإذا جاءت نوبة الواهبة بات مكانها عندها الموهوبة لمعنيين. أحدهما: لأن حق من بين النوبتين أسبق، ولأن الواهبة ربما ترجع إذا جاءت نوبتها، فإذا عجل للموهوبة نوبتها بطل حقها من الرجوعن وإذا رجعت الواهبة لا يلزم رجوعها فيما مضى ويصح فيما بعد. ولا يلزم الزوج حكم رجوعها ما لم يعلم حتى لو بات بعد رجوعها قبل العلم عند الموهوبة لا يجب قضاؤه للواهبة، فإن بات بعد العلم عليه القضاء. وقيل: يلزمه قبل العلم، الوكيل يلزمه حكم العزل قبل العلم. ولا يجوز أخذ العوض على هبة النوبة، ويجوز للأمة هبة نوبتها بغير إذن المولى؛ لأن ذلك حقها، كما لها في الإيلاء ترك حقها من المطالبة بالفيء أو الطلاق. وعماد القسم الليل، لأنه سنٌ. قال الله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام: 96]. واليوم الذي يتبع الليلة تبع لليلس، فإن كان الرجل ممن يعمل بالليلِ كالحارس، فعاد القسم في حقه النهار والليل تبعٌ. وإن كان الرجل معهن في سفر في الطريق، فعاد القسم في حقهن من وقت النزول إلى الارتحال قل أم كثر ليلاً كان أو نهاراً، لأن الخلوة لا تمكن من وقت السير.

والمسلمة والذمية من القسم سواءٌ، لاستوائهما في مقصود النكاح في الاستمتاع في الحال لا يمنعها منه أحدٌ، ومقصود في النسل في الثاني، لأن ولده منهما كولده من المسلمة، وإن كانت تحته حرة وأمةٌ يقسم للحرة ليلتين، وللأمة ليلةٌ واحدةٌ لأنهما لا يستويان في مقصودي النكاح، فلو عتقت الأمة، نظر إن كانت البداية في القسم بالحرة، فإن عتقت في الليلة [الأولى من ليلتي الحرة - أكمل لها تلك الليلة، ثم صار إلى المتعة وسوى بينهما. وإن اعتقت في الليلة] الثانية من ليلتي الحرة - لم يُجبر على قطع النوبة، بل له أن يبيت عندها بقيت تلك الليلة، ثم يقسم للمعتقة ليلتين، لأنه يملك وضع القسم في الابتداء على ليلتين. ولو خرج من عند الحرة في الحال، وبات في موضع آخر بقية تلك الليلة - لا يلزمه أن يقضي للأمة ما مضى من تلك الليلة قبل العتق، فلو بات عند الأمة بقية تلك الليلة كان أولى. ولو عتقت الأمة في نوبتها بعد أن أوفى للحرة ليلتين نظر، إن عتقت قبل طلوع الفجر من ليلتها، أكمل لها ليلتين، لأنه لم يُوف حقها حتى صارت مساوية له، وإن عتقت بعد طلوع الفجر لا يملك لها ليلتين، بل يستأنف القسم بينهما على السوية؛ لأنه المغير جاء وليس هناك أصلٌ قائمٌ في حق المغير والمُغير جميعاً، فطروء المغير لا يظهر أثره.

وإن كان الزوج بدأ في القسم بالأمة نظر إن عتقت الأمة في نوبتها، أو في نوبة الحُرة في الليلة الأولى - أتم للحرة تلك الليلة، ثم عاد إلى المعتقة، وإن عتقت في الليلة الثانية من يلتي الحرة - خرج من عندها في الحال. ويجب القسم للمريضة، والمجنونة والمحرمة والرتقاءن والقرناء، والحائض، والنفساء والمولى عنها، والمظاهر منها؛ لأن الجماع ليس بمقصود منه القسم ويجب على الخصي والمجبوب القسم بينهن. ويقسم للمراهقة والمجنونة إذا كان لا يخاف منها، فإن كان يخاف منها فلا قسم لها. وأقل نوبة القسم ليلة ليلة لا ينقص عنها؛ لأن الاستئناس قلما يحصل بدونها، وأكثرها ثلاث ليالٍ لا يجاوزها بغير رضاهن، لأنه إذا طال مقامه عند واحدة يشق عليه مفارقتها، وربما يعتريه [شغلٌ] يعجز عن إيفاء حق البواقي. ولا يجوز أن يدخل في نوبة امرأة بالليل على غيرها، لا لعيادةٍ ولا غيرها، فإن فعل يجب عليه أن يقضي لها من نوبة المدخول عليها بذلك القدر. وإن كان قد جامع المدخول عليها لا يجب قضاء الجماع، ولا يدخل في نهارها على غيرها إلا لحاجة من أخذ متاع، أو وضع شيء، ولا يطيل، فإن دخل لا يجامع. ولا بأس أن يلمس، ويقبل، [ولا يجب] القضاء، لأن النهار تبع لليل إلا أن يكون ممن عادة القسم في حقه النهار؛ فحينئذٍ إن دخل بالنهار يقضين وبالليل لا يقضي، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان يومٌ او أقل من يوم إلا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف علينا جميعاً، فَيُقَبِّلُ ويلمس، فإذا [جاء] إلى التي حق نوبتها أقام عندها. فلو مرضت واحدة منهن، أو ضربها الطلق، نظر إن كان لها متعهد، ليس له أن يسكن عندها إلا على النوبة. وإن لم يكن لها متعهد له أن يبيت عندها أو يمرضها، ثم يقضي لصاحبة النوبة ذلك القدر فإن ثُقِلت أو أشرفت على الموت، واحتاج إلى المقام عندها ليالي - جاز، ثم إن برئت قضى للبواقي ما أقام عندها. ولو ماتت فلا قضاء؛ لأن القضاء يكون من نوبتها، ولا نوبة لها بعد الموت. وفي القضاء لا يبيت عند كل واحدةٍ جملة تلك الليالي على التوالي إن طالت المدة،

بل يبيت لليلة أو ليلتين، ولا يزيد على الثلاث، ثم يبيت عند الأخرى مثله حتى يتم مدة القضاء. فلو كُن أربعاً فظلم واحدة، وبات عند ثلاثٍ شهراً - فعليه أن يقضي للمظلومة عشر ليالٍ على التوالي، لأنه يقضي لها من حق الباقيات. فلو كُن ثلاثاً فبات عند اثنين عشرين ليلة ثم نكح جديدةً يوفى للجديدة حق الزفاف، ثم يقسم بينها وبين المظلومة، فيجعل للمظلومة، فيجعل للمظلومة ليالي من ظلمها بسببهن، فيبيت عند الجديدة ليلةً، وعند المظلومة ثلاثاً. وكذلك لو كانت واحدةً غائبة وثلاث حضور، وظلم واحدةً من الحضور، وحضرت الغائبة - قسم للحاضر ليلة وللمظلومةٍ ثلاثاً، فإن كان الظلم بعشر ليالٍ، فدار هذا ثلاث دوراتٍ، فقد قضى للمظلومة بتسع ليالٍ، وبقيت ليلةٌ واحدةٌ، فإن كانت البداية في كل دور بالجديدة فبعد أن تم للمظلومة تسع ليالٍ يبيت عند الجديدة ثلث ليلة، ثم يخرج فيبيت في موضع آخر، ثم يبيت ليلة عند المظلومة، ثم بعده يسوى بين الكل. وإن كانت البداية في ل دور بالمظلومة، فإذا تم لها تسع ليلاٍ يبيت عند الجديدة ليلةٍ، ثم عند المظلومة ليلةٍ، ليتم لها العر، ثم عند الجديدة ثلث ليلةٍ، ثم يستأنف القسم. ولو ظلم واحدةً من الربع بليالٍ، ثم طلق المظلومة فإن راجعها أو نكحها ثانياً - واللاتي لمها بسببهن في نكاحه - يجب عليه القضاء للمظلومة. وإن كان قد استبدل بهن، فلا قضاء. ولو لم يطلق المظلومة وطلق اللاتي لمها بسببهن، ثم راجعهن أو نكحهن - قضى للمظلومة، ولا يجب عليها ما بات عندها في حال فراقهن. ولو كُن ثلاثاً فبات عند اثنتين عشرين، ثم فارق أحداهما يبيت عند المظلومة عشراً للمساواة بينهما وبين الباقية. ولو نكح جديدةً قبل القضاء أو فاتها حق الزفاف، ثم يقسم للمظلومة ليلتين، وللديدة ليلة حتى يتم مدة القضاء. ولو خرج من عند واحدةٍ في نوبتها في جوف الليل، أو أخرجه السلطان- عليه أنيوفيها ما بقي من ليلتها. والأولى أن يقضي في الوقت الذي خرج، فيبيت فريداً في الليلة الثانية إلى الوقت الذي خرج من عندها، ثم يدخل عليها، فهذا أقرب إلى العدل. فإن خرج من آخر الليل، فقضاه من أوله جاز، ولو أنه [أقام] نصف القدر الذي كان قد بات عندها، وأقام نص ذلك القدر عند ضرتها، ثم بات بقية الليلة عندها كان أولى. وإن كان الزوج مريضاً فيجب عليه التسوية بينهن في القسم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُطافُ به على نسائه في مرضه.

وإن كان الزوج مجنوناً لا يخاف منه، فعلى وليه أن يطوف به عليهن، أو يدعوهن إليه على التسوية، وإن ظلم أثم الولي، وإنما يجب إذا كان يقسم فيحال كونه عاقلاً فجُن، فإن لم يكن يقسم في حال عقله لا يجب على الولي أن يبتديء القسم بعد جنونه. وإذا أفاق فقامت بينةً على أنه ظلم واحدةً، أو أقرت التي لمها بسببها قضى للمظلومة ولا يقبل قول الولي عليه بأني ظلمت. وإن كان يجن يوماً ويفيق يوماً، فأيام الجنون كالفيئة، وعليه القسم من أيام إفاقته، حتى لو أقام من حال جنونه أياماً عند واحدة؛ فلا قضاء، بخلاف الجنون المطبق. وإن كان الزوج مراهقاً فالإثم في الجور منسوب إلى وليه، بخلاف المحجور عليه بالسفه يأثم بالجور دون وليه لأنه مكلفٌ. وإذا نشزت المرأة، أو امتنعت من التمكين - فلا قسم لها، كما لا نفقة لها، وكذلك المجنونة إذا امتنعت، إلا أنها لا تأثم، والعاقلة تأثم وكذلك الأمة إذا لم يئويها السيد مع الزوج بيتاً، فلا قسم لها ولا نفقة. وإذا سافرت المرأة بغير إذن الزوج، أو خرجت إلى دار قومها - سقط حقها من القسم والنفقة، وإن أشخصها الزوج لحاجة نفسه، فلا يسقط حقها فإذا رجعت قضى لها من حق الباقيات. وإن خرجت لحاجة نفسها بإذن الزوج، فالمذهب وهو قوله الجديد: لا قسم لها، ولا نفقة لأن المنع لحق نفسها، كما لو كانت في بيت الأب لا تعرض نفسها عليه فلا قسم لها، وقال في القديم، وبه قال أبو حنيفة: لا يسقط حقها؛ لأنها خرجت بإذنه، كما لو خرجت معه. ولو لزم الزوج بيتاً، ودعاهُن إلى نفسه على التوبة- يجوز إذا لم يكن فيبيت واحدةٍ من الضرائر، وعليهن الإجابة، فمن امتنعت سقط حقها، ولكن عليه التسوية بينهن في بياتهن، أو دعاتهن إلى بيته. ولو أتى البعض في دارها، ودعا بعضهن إلى نفسه - فهو ظلم، وكذلك لو لزم بيت واحدة منهن، ودعا الأخريات إليه، فمن امتنعت لا يبطل حقها من القسم فلو كانت إحداهن شابة حسنة، فخاف عليها الفتنة لو برزت، فحضرها، ودعا العجوز على بيته - جاز وعليها الإجابة. وكذلك إذا كانت دار أحداهما أقرب فحضرها، ودعا البعيدة إليه - جاز، لأنه آثر التخفيف لا الإضرار وإن كانت له امرأتان في بلدين، فأقام في بلد إحداهما -نُظر إن لم يقم معها في منزلها لا يلزمه القضاء للأخرى، لأن المقام في البلد معها ليس بقسم، وإذا قام معها في منزلها يجب عليه القضاء للأخرى، لأن القسم لا يسقط باختلاف البلاد.

وإذا ملك رجلٌ عدداً من الإماء فلا سم بينهن لأنه من خصائص النكاح، ولكن لا يعطلهن حتى لا يمكن إلى الفجور. وإن كان في نكاحه معهن نساء فبات عند الإماء - لا يجب عليه القضاء للحرائر. ولا يجوز - للزوج أن يجمع بين الضرتين في دارٍ واحدةٍ إلا برضاهما، لما فيه من المكاشفة والخصومة بينهما، فإن كانت الدار تشتمل على حجرٍ تنفرد كل حجرةٍ بالمداخل والمرافق فأسن كل واحدةٍ حجرةً، أو أسكن إحداهما السفل، والأخرى العلو، ومرافقها متميزة - جاز. ويجوز للزوج تكليف امرأته ملازمة البيت، ومنعها من الخروج لزيارة الآباء والأولاد وعيادتهم إذا مرضوا، وشهود تجهيزهم إذا ماتوا، غير أن المستحب ألا يمنعها من الزيارة والعيادة وشهود التجهيز والمواراة لئلا يؤدي إلى قطيعة الرحم. ويمنعها من اتباع الجنائز، لما فيه من الاختلاط بالرجال. والله أعلم بالصواب. باب الحال الذي يختلف فيها حال النساء رُوي عن أنسٍ قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً. وإذا نكح رجلٌ جديدة وعنده أخرى يجب أن يبيت عند الجديدة سبع ليالٍ على التوالي إن كانت بكراً، وإن كانت ثيباً فثلاث ليالٍ, وإذا تزوج وعنده امرأتان أو أكثر قطع الدورِ حتى

يُوفيَ الجديدة حق الزفافِ، ثم يسوي بينهن في القسم، ولا يجب قضاء حق الزفاف للقديمات، وعند أبي حنيفة: يجب. ويجب أن يبيت لتلك الليالي على التوالي، لأنه لارتفاع الحشمة بينهما وإذا فرق لا يحصل المقصود. ولا فرق بين أن تكون ثَيَابَتُها بنكاح، أو وطء أو شبهةٍ، أو زنا. فإن كانت بمرصد أو وثبةٍ ففيه وهان كالاستئذان من النكاح. وإن بات عند البكر أكثر من سبع يجب عليه قضاء ما زاد على السبع للباقيات. وإن بات عند الثيب سبعاً، نظر؛ إن بات بغير استدعائها قضى للباقيات الزيادة على الثلاث، وإن بات باستدعائها قضى الكل للباقيات، لما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت". فجعل حقها في السبع بشرط القضاء، وفي الثلاث بلا قضاء، فإذا اختارت أحداهما بطل حقها عن الأخرى. فلو بات عند الثيب خمساً أو ستاً - لا يقضي إلا الزيادة على الثلاث. ولو كانت تحته امرأتان فقسم لإحداهما ثم نكح جديدة - أوْفَى للجديدة حق الزفاف، ثم قسم للقديمة الأخرى، ثم قسم للجديدة نصف ليلةٍ؛ لأن لها ثلث القسم في المستقبل، ثم يستأنف القسم بينهن بالسوية. وهل ينتصف حق الزفاف بالرق؟ فيه وجهان، وإنما يتصور في العبد إذا نكح أمة وتحته حرةٌ: أحدهما: ينتصف كالقسمن فإن كانت الأمة بكراً يبيت عندهما ثلاث ليالٍ ونصفاً، وإن كانت ثيباً فليلةً ونصف.

والثاني: لا ينتصف؛ لأنه لارتفاع الحشمة، وذلك معنى يرجع إلى الطبع، فتستوي فيه الحرة والرقيق مدة العُنة والإيلاء. وإن قلنا: ينتصف، فالاعتبار بحالِ الزفاف، إن نكحها وهي أمة فزفت غليه وهي حرة - فلها ما للحرة وإن عتقت بعد الزفاف فلها ما للإماء. قال الشيخ - رحمه الله: وإن عتقت في خلال المدة يحتمل أن يُقال: لها ما للحرائر، لأن المغير وجد، وثم أصل قائم في حق المغير والمغير، فيظهر أثر المغير بالتكميل. ولو نكح جديدتين لا يُفرق حق الزفاف بينهما، بل يبيت عند إحداهما تمام السبع أو الثلاث، ثُم ينتقل على الأخرى، ويبدأ بمن زُفت إليه أولاً، وإن تقدم عقد الأخرى. وإن زفتا إليه معاً اقرع بينهما في البداية. ولو نكح جديدتيهم وليست عنده أخرى يثبت لهما حق الزفاف. ولو أوفى للجديدة حق الزفاف، ثم طلقها رجعياً، ثم راجعها - لا يتجدد لها حق الزفاف. ولو أبانهما ثم نكحها فقولان: أحدهما: لا يتجدد؛ لان الحشمة قد ارتفعت بينها بالعقد الأول. والثاني: وهو الأصح: يتجدد بحدوث الحشمة بالفراق، وكذلك لو أعتق سريته ثم نكحها، هل يثبت لها حق الزفاف؟ فيه قولان: الأصح: أنه يثبت، ولو أبانها قبل أن أوفاها حق الزفاف، ثم نكحها، عليه أن يوفيها. قال الشيخ: فإن كانت بكراً، فبات عندها ثلاثاً وافتضها، ثم أبانه، ثم نكحها، إنقلنا يتجدد لها حق الزفاف يبيت عندها ثلاثاً. وإن قلنا: لا يتجدد يبيت عندها أربعاً؛ لأن النكاح الثاني يُبنى على الأول في حق الزفاف على هذا القول، وهي إن كانت بكراً في الأول، فحقها كان في السبع ولم يُوفها كمال السبع. ومن نكح امرأة لا ينبغي له أن يتخلف عن الجماعات، وعيادة المريض، أو اتباع الجنائز، وإصابة الدعوات، وعما كان يفعل من أعمال البر. باب القسم بين النساء إذا حضر سفراً رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمهما خرج بها.

إذا أراد الرجل سفراً وتحته نسوة، فأراد حمل بعضهن مع نسه - نُظر إن كان سفر نقلةٍ، فلا يجوز له حمل بعضهن لا بالقرعة، ولا يُغير القرعة، فإن فعل عطى، وعليه قضاء مُدة الغيبة للمتخلفات. وإذا أراد سفر حاجةٍ، وكان سفره يبلغ مسافة القصر - يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة حملها مع نفسه، فإن حملها بغير قرعةٍ عصى الله، وعليه القضاء للمخلفات، فإن حمل بالقرعة لا يجب القضاء للمخلفات وإن طال مدة سفره؛ لأن المسافرة وإن حظيت بصحبة الزوج، فقد شقيت - بمشقة السفر. وإن كان سفره لا يبلغ مسافة القصر، ففيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز حمل بعضهن بالقرعة؛ لأنه في حكم المقيم، ولا يجوز للمقيم أن يبيت عند البعض، ويهجر البواقي بالقرعة. والثاني: يجوز؛ كما في السفر الطويل، وهذا أصح. وإذا خرجت قرعة واحدةٍ ليس له أن يعدل عنها إلى غيرها ولو أراد أن يتركها ويخرج وحده يجوز. ولو حمل بعضهن بالقرعة، وزاد مقامه في بلد على مقام المسافرين - يجب عليه أن

يقضي للمخلفات ما زاد على مقام المسافرين. وإن دخل بلداً فلما دخله نوى إقامة أربع - يجب عليه قضاء مدة مكثه في تلك البلدة، ولا يجب قضاء مدة الرجوع. وقيل: يجب؛ لأن حكم الأول قد انقطع بالإقامة. أما إذا أخرج واحدةً بغير قرعة، عليه أن يقضي للمخلفات من حين خرج إلى أن يرجع إليهن. وقيل: لا يجب القضاء من حين قصد الروع؛ لأن الروع خروجٌ عن المعصية. ولو أخرج واحدةً بالقرعة، ثم عزم على الإقامة في بلد، وكتب البواقي يستحضرهن - هل يب عليه القضاء ومن وقت ما كتب إليهن؟ فيه وجهان ولو نوى بلداً فلما بلغه بدا له أن يُجاوز إلى بلدٍ آخر أبعد منه - له ذلك، ولا يجب القضاء؛ لأنه بنا ءسفر على سفر. ولو خرج باثنتين بالقرعة يجب أن يُسوي بينهما في الطريق، فإن كانت أحداهما جديدة لم يوفها حق الزفاف - أوفى لها حق الزفاف، ثم قسم بينهما. فلو ظلم واحدة في الطريق قضى في الطريق، فلو لم يتفق القضاء في السفر؛ فإذا رجع قضى للمظلومة من حق من ظلمها بسببها. وكذلك لو خرج باثنتين وإحداهما بقرعةٍ، والأخرى بغير قرعةٍ - عليه أن يُسوي بينهما في الطريق، فإذا رجع قضى للمخلفات من نوبة من أخرجها بلا قرعة. ولو خرج باثنتين بالقرعة ثم نكح في الطريق جديدة - خص الجديدة بحق الزفاف، ثم يستوي بينهما في القسم، فإذا رجع لا يجب القضاء للمخلفات. قال الشيخ: وكذلك لو خرج وحده، فنكح جديدةً لا يقضي للمخلفات، فإن نوى الإقامة في موضع قضى للمخلفات من حين نوى الإقامة غلا حق الزفاف. وفي مدة الانصراف وجهان. ولو نكح جديدة على قديمة، فقبل أن يوفي الجديدة حق الزفاف، أخرج واحدةً إلى سفر بالقرعة - جاز، ثم نظر إن أخرج القديمة فإذا رجع أوفى الجديدة حق الزفاف، وإن أخرج الجديدة فمقامه معها في السفر محسوب من حق الزفاف. قال الشيخ: وإن كان قد ظلم واحدةً بليالٍ، ثم خرج بالمظلومة إلى السفر بالقرعة - فمدة مقامها معه في السفر لا تُحسب من القضاء؛ لأن القضاء واجبٌ لها من حق ضرتها، فأيام السفر حق لها على الخصوص، فلا تحسب من القضاء، بخلاف حق الزفاف، فإنه ثابتٌ لها من غير أن يكون لضرتها بإزائه شيء، من حقها. قال الشيخ: وإن خر بها بلا قرعةٍ حسب القضاء، ولو خرج وحده لنقلةٍ، فنكح امراة

في بلدٍ، فإذا رجع عليه القضاء للمخلفات مدة مقامه معها إلا قدر حق الزفاف. وفي مدة الانصراف وجهان: أحدهما: لا يقضي لأن الانصراف لابد منه. فإن نكح الجديدة في الانصراف، فلا يجب أني قضي منها شيئاً، وإن خرج لنقلةٍ حملهن: بعضهن مع نفسه وبعضهن مع وكيله - لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بقرعة فإن فعل بلا قرعة قضى لمن بعثهن مع وكيله. باب النشوز والشقاق بين الزوجين قال الله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [السناء: 34] الآية إذا نشزت المرأة وعها الزوج، وهجرها، وضربها.

نعني بالوعظ: أن يُخوفها بالله - عز وجل - وبما يلحقها من الضرر بسقوط النفقة والقسم. ونعني بالهجر: أن يهجرها في المضجع، أما بالكلام فلا. ونعني بالضرب: أن يضربها ضرباً غير مبرحٍ، ولا يدمي، ويتقي الوجه والمهالك. وإذا نشزت أول مرة، هل يجمع بين هذه الأشياء؟ - فيه قولان: أحدهما: بلى، والمراد به من الخوف العلم؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182] أي: علم. والقول الثاني: لا يجمع بينها بأول مرةٍ. وتنزل هذه المعاني على ترتيب الجرائم، فإن خاف نشوزها، بأن ظهرت أماراته من المخاشنة، وسوء الخلق وعظها، فإن أبدت النشوز ونشزت أول مرة- هجرها، فإن أصرت عليه ضربها؛ لأن الله تعالى قال: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] والخوف الخشية من غير أن يتحقق؛ كما قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] ولا تسقط نفقة المرأة، ولا حقها من القسم بسوء الخلق، وإطالة اللسان، وإن كنت آثمة ما لم تمنع من التمكين. وإن كان النشوز من جهة الزوج، نظر إن كان لا يمنعها شيئاً من حقها، لكنه يكره صحبتها لمرضٍ أو كبرٍ، أو معنى آخر، فلا يدعوها إلى فراشه، أو يريد طلاقها - فلا حيلة فيه؛ لأنه مباحٌ له. فإن سمحت بترك حقها من قسم، أو نفقةٍ طلباً للصلح، فهو حسنٌ. قال الله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] كما أن سودة أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُطلقها فوهبت نوبتها لعائشة. وإن كان يمنعها شيئاً من حقها من نفقةٍ، أو كسوةٍ، أو قسمٍ - أجبره السلطان على ادعاء حقها. وإن شكا كل واحدٍ من الزوجين سوء خلق صاحبه، وقبح معاملته، وأشكل الأمر على الحاكم - تعرف حالهما من عدلٍ في جوارهما، فإن لم يكن عدلٌ أسكنها إلى جنبها ثقةٍ ليتعرف أحوالهما، فإذا تبين له منع الظالم من الظلم. وإذا ظهر الشقاق بين الزوجين، وصار من القول والفعل إلى ما لا يحل من الضرب

والشتم، واشتبه حالهما، فلا الرجل يفعل الصفح أو الفرقة، ولا المرأة تؤديه الحق أو الفرقة - فعلى الحاكم أن يبعث حكماً من أهله إليها وحكماً من أهلها إليه؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ} [النساء: 35]. فيخلو كل واحدٍ من الحكمين بصاحبه، ويستطلع رأيه، ورغبته فماذا؟ من الوصلة أو الفرقة، وما الذي يكره من صاحبه؟ وإنما بعثنا إلى كل واحدٍ حكماً من أهله؛ للآية، وليفش كل واحدٍ منها سره إلى أهله وقريبه من غير حشمةٍ، فيون أقرب إلى الصلاح. ويجوز بعث الحكمين من الأجانب؛ لأنه في أحد القولين توكيلٌ، وفي الآخر حكم. ويجوز كل واحد أن يذهب غير الأهل إلا أن الأهل أولى؛ لأنه أقرب إلى الصلاح. فإن كان الحاكم قريباً لواحدٍ جاز أن يذهب بنفسه. ويشترط أن يكون الحكمان حرين، بالغين، ذكرين، عدلين. ثم إن جعلناهما حكمين بشرط أن يكونا فقيهين. ثم إذا عرف كل واحدٍ من الحكمين مراد صاحبه يجتمعان، ولايخفى كل واحدٍ من الآخر ما سمع من صاحبه. ويتعدان ما يستوصيان وهذا التحكيم تولية أو توكيلٌ؟ فيه قولان: أصحهما وبه قال أبو حنيفة: توكيل، فعلى هذا لا يجوز بعث الحكمين إلا برضاهما، ولا يجوز لحكم الرجل التطليق إلا بإذنه، ولا لحكم المرأة في الاختلاع بمالها إلا بإذنها. فإن أبيا الاتفاق على شيء حكم الحاكم بينهما بحكم من استوفى حق المظلوم؛ وأدب الظالم. والقول الثاني: هو تحكيم؛ لأن الله تعالى - سماهما حكمين فحكم الرجل إن رأى المصلحة في التطليق أو الخلع فعله، وإن لم يرض به الرجل. وحكم المرأة إن رأى الصلاح في الاختلاع اختلعها وإن لم تأذن فيه ثم إن كانت المصلحة في التطليق ينفرد به حكم الرجل. وإن كان في الخلع فلابد منه اجتماع الحكمين عليه. وعلى القولين تلك الفرقة فرقة طلاقٍ، ويجوز على هذا القول بعث الحكمين بغير رضاهما. حجة القول الأول: ما روي عن علي -رضي الله عنه - أنه بعث حكمين، وقال لهما: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله علي ولي، فقال الرجل: أما الفرقة فلان فقال علي-رضي الله عنه: كذبت، والله حتى تُقر بمثل الذي أقرت به، فثبت أن رضاهما وإقرارهما شرط.

ومن قال بالأول قال: قوله: "حتى تُقر" ليس المراد منه أن المرأة قد رضيت بالفرقة، فشرط رضاه كذلك، بل المراد به: أن المرأة لما قالت: رضيت بما في كتاب الله، رضيت بما في الكتاب لها وعليها من الجمع والتفرق. قال الرجل: أما الفرقة فلا يعني الفرقة ليست في كتاب الله، فقال علي - رضي الله عنه- كذبت بل هو في كتاب الله؛ لأن قوله: {يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] يشتمل على الفراق وعلى الجمع جميعاً؛ لأن التوفيق أن يخلص كل واحدٍ من الوزر، يدل عليه أنه قال [له]: كذبت، ولا يقال لمن أخبر عن مراده: كذبت. ثم القولان في التفريق والإصلاح، فلو شرط الحكمان ترك بعض حقها من قسم أو نفقةٍ، أو شرطاً ألا يتسرى، ولا ينكح الزوج عليها - فلا يلزم شيء من ذلك. ولو كان لأحدهما حق على الآخر لا يجوز استيفاؤه إلا بإذن صاحب الحق، وإذا جُن أحد الزوجين، أو أغمي عليه، فلا يجوز بعث الحكمين بعده. وإن جُن بعد استطلاع الحكمين رأيه لا يجوز تنفيذ الأمر، لأنا إن جعلناه توكيلاً فالوكيل ينعزل بجنون الموكل، وإن جعلناه تولية فقيام الخصومة شرطٌ لتنفيذ الأمر، ولا يتحقق ذلك بعد الجنون ولو غاب أحدهما بعد بعث الحكمين إن قلنا توكيل الحكمين لهما تنفيذ الأمر، وإن قلنا: تولية فلا، لأنه لا يعرف بقاء الشقاق بينهما. ولو كل الزوج رجلاً فقال: إذا أخذت مالي على المرأة فطلقتها، أو قال: خُذ مالي ثم طلقها، فطلق قبل أخذ المال - لا يقع. ولو قال: خُذ مالي وطلقها فكذلك على أصح الوجهين. وقيل: الواو للجمع، فلو قدم الطلاق على الأخذ يقع. أما إذا قال: طلقها ثم خذ مالي، فقدم أخذ المال ثم طلق جاز، لأنه زاده خيراً. والله أعلم.

كتاب الخلع

كتاب الخلع قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس قالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعيب عليه في خُلق ولا دينٍ، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقةً". إذا اختلعت المرأة نفسها من زوجها على مالٍ: إما على صداقها، أو على مالٍ آخر من جنس الصداق، أو غير جنسه، أقل منه أو أكثر، فخالعها الزوج عليه -صح الخلع، ووقعت

البينونة، وسقط الصداق عن الزوج إن كان الخلع على الصداق. وإن كان على مالٍ آخر لزمها المال، سواء كان ذلك في حال الخصومة والشقاقِ، أو عند حُسن الحال، إلا أنه عن كان ذلك الخلع في حالة الخصومة والشقاق، أو كانت المرأة تكره صحبة الزوج، ولا يمكنها القيام بحقوقه فخرجت، فاختلعت نفسها، أو ضربها الزوج للتأديب، فاختلعت نفسها لم يكره. وإن كان الحال حسناً واختلعت نفسها لما فيه من قطع سبب الوصلة.

وإن كان الزوج يكره صحبتها، فنسي عشرتها، ويمنعها بعض حقها حتى ضجرت، فاختلعت نفسها - بأثم الزوج به، ولكن تقع البينونة مع الكراهية. ومن أصحابنا من قال: منع الحق إكراهٌ، فإذا منع شيئاً من حقها حتى اختلعت نفسها - وقع الطلاق رجعياً، فلا يلزمها المال؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} ِ [البقرة: 232] قال ابن عباس - رضي الله عنه: هذا في الرجل تكون له المرأة، ويكره صحبتها، ولها عليه مهرٌ، فيضادها لتفتدي به فعلى هذا إن زنت المرأة فمنعها الزوج حقها لتختلع على شيء من مالها - ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز، ولا تستحق العوض الأول. والثاني: يجوز وتستحق العوض؛ بقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1].

أما عن أكرهها الزوج بالضرب ظُلماً حتى اختلعت نفسها، فقالت: طلقني على ألفٍ، فطلقها الزوج عليه - لم يصح الخلع، ثم إن لم يسم [الزوج] المال، بل قال: طلقتك يقع رجعياً. وإن قال: طلقتك عليها لا يقع شيءٌ ما لم تقل المرأة بخياره. ولو قال الزوج ابتداءً: طلقتك على ألف، ثم أكرهها بالضرب حتى قبلت - لم يقع شيء. إذا ثبت أن الخلع جائزٌ، فإن كانت المفارقة على المال بصريح لفظ الطلاق، أو بكنايةٍ من كنايات الطلاقِ مع النية - فهو طلاق ينتقص به العدد. وإن كان بلفظ الخلع فيه قولان: أحدهما: وهو الأصح، وهو قول عمر، وعلي وابن مسعود، وأكثر الصحابة، رضي الله عنهم - والفقهاء رحمهم الله الخلع طلاق ينتقص به العدد. وقال في القديم: هو فسخ لا ينتقص به العدد، إلا أن ينوي به الطلاق، وهو قولُ

عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس- رضي الله عنهم. وإن جعلناه فسخاً لا تدخل الكنايةُ كما لا يصح تعليقه. وقيل: كنايات الطلاقِ كنايةٌ فيه، ولفظ الفسخ صريحٌ فيه. وإن جعلناه طلاقاً، فهو صريح أو كناية فيه قولان: أحدهما: كنايةٌ. والثاني، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله صريح وهو الأولى للعادة الجارية به. ويصح بجميع كنايات الطلاق إذا نوى به، ولفظ المفاداة كلف الخلع على أحد القولين: لورود القرآن به. وإن خالعها ولم يذكر المال، فإن جعلناه طلاقاً يقع رجعياً، قبلت أو لم تقبل، وإن جعلناه فسخاً فإن لم تقبل فلا يقع شيء، وإن قبلت فعلى وجهين: أحدهما: هكذا لا يقع شيء. والثاني: يقع بائناً، وعليها مهرُ المثل؛ لأن الخلع موضوعٌ لإيحاب العوض، فإطلاقه يجعل كشرط عوض مجهول. فلو أضاف الخلع إلى عُضوٍ من أعضائها؛ بان قال: خالعت يدك أو رجلك على كذا فقبلت، فإن جعلناه طلاقاً، وقع ولزمها المال. وإن جعلناه فسخاً لا يصح. ويصح الخلع مع الأجنبي إن جعلناه طلاقاً؛ لأن الطلاق مما ينفرد به الزوج، فإن جعلنا الخلع فسخاً فلا يصح؛ لأن الفسخ من غير علةٍ لا ينفرد به الزوج، فإن جعلنا الخلع فسخاً، فنوى به الطلاق - كان طلاقاً. وقيل: لا يصير طلاقاً، بل يكون فسخاً، لأن كل لفظ كان صريحاً في حكم يختص بالنكاح لا يصير كناية في حكم آخر، كالطلاق لا يصير كناية عن الظهار، ولا الظهار عن الطلاق. ولو قالت المرأة: طلقني على ألفٍ، فقال الزوج: طلقتك، أو فارقتك، أو سرحتك تقع البينونة، واختلف لفظاهما سواء سمى الزوج المال، أو لم يسم لأن كلامه يترتب على قولها، وهي قد سمت المال. ولو قال الزوج: ابنتك أو بنتك فإن نوى له الطلاق يقع، ولزممها المال، وإن لم ينو لا يقع.

ولو قالت المرأةُ: أبني على ألفٍ، فقال الزوجُ: ابنتك أو بنتك، إن نويا الطلاق تقع البينونة ولزمها المالُ، وإن لم ينويا أو لم ينو الزوج لا تقع شيء، وإن لم تنو المرأة، ونوى الزوج؛ نظر إن سمى الزوج المال لا يقع، وإن يُسم يقع الطلاق رجعياً. وقيل: لا يقع [شيء]، لأن كلامه يترتب على قولها وقولها لغوٌ. فإن جرى بينها [الخلع] نظر إن جرى من الجانبين، فقالت: خالعني على ألفٍ، فقال: خالعتك، تقع البينونة، وعليها الألف. وإن وُجد لفُ الخلع من أحد الجانبين - نظر إن وجد من جهة الزوج؛ بأن قالت المرأة: طلقني على ألفٍ، فقال الزوج: خالعتك، فإن قلنا: الخلع فسخ [الطلاق] لا يقع شيءٍ، لأنه لم يُجبها إلى ما سألت. وإن قلنا: الخلعُ صريح الطلاق يقع، ولزمها المال، وكذلك إن قلنا: كناية، فنوى [الطلاق] إن لم ينو لا يقع شيء وإن وُجد لفظ الخلع من جهتها؛ بأن قالت: خالعني على ألفٍ، فقال الزوج: طلقتك. فإن قلنا: الخلع فسخ، لا يصح الخلعُ؛ لأنه لم يُجبها إلى ما سألت والزوج مبتديء للطلاق، فإن سمى المال لا يقع شيءٌ ما لم تقبل المرأة، وإن لم يسم يقع الطلاق رجعياً. وإن قلنا: الخلع صريح للطلاق وقعت البينونة، ولزمها المال. وكذلك إن قلنا: كناية [ونوت المرأة]، وإن لم ينو فلا حكم لقولها، والزوج مبتديء للطلاق. فصل في أن الخلع يقطع الرجعة الخلعُ يقطع الرجعة، لأنه له حكم المعاوضات، فإذا تسلم الزوج العوض انقطع حقه عن المراجعة، فإن خالعها على مسمى صحيح؛ بأن خالعها على عين مالٍ ملكها الزوج، وإن كان على مال موصوف في ذمتها ثبت له عليها المسمى. وإن خالعها على مالٍ مجهولٍ أو على خمرٍ أو خنزير تقع البينونة، وعليها مهرُ مثلها؛ كما لو باع شيئاً بيعاً فاسداً، أو هلك المبيع في يد المشتري عليه قيمة المبيع. وعند أبي حنيفة: إذا خالعها على مالٍ مجهولٍ، سقط صداق النكاح، وإن خالعها على خمرٍ أو خنزير، ولا شيء عليها، ولو شرط في الخلع شرطاً فاسداً، بأن خالعها على أن لا عدة عليها، ولا نفقة لها وهي حامل، أو على أن يُطلق ضرتها، فالشرط لاغٍ، والبينونة

واقعةٌ، وعليها مهر المثل. فالشرط الفاسد يؤثر في المسمى؛ كما لو شرط في النكاح شرطاً فاسداً يصح النكاح ويفسد المسمى، ويجب على الزوج مهر المثل. ولو خالعها على ألف درهم مطلقاً ولم يصف، ينصرف إلى نقد البلد. وإن كان في البلد نقودٌ مختلفةٌ ينصرف إلى أعمها؛ كما في البيع. وإن استوى الكل في الزواج بطل المسمى، يوجب مهر المثل. ولو قال: طلقتك بدينار على أن لي عليك الرجعة فقبلت، ففي المسألة قولان. أقيسهما، وهو اختيار المُزني رحمه الله: تقع البينونة. ويفسد الشرط، وعليها مهر المثل؛ كما لو خالعها على مائة دينار، وعلى أنه متى شاء رد المائة وراجعها فقبلت، تقع البينونة، ويفسد الشرط، وعليها مهر المثل. والقول الثاني: المال مردودٌ؛ ويقع الطلاق رجعياً؛ لأن الجمع بينهما - وهو ثبوت الرجعة مع المال لا يمكن؛ فأثبتنا الأقوى، وهو الرجعة، لأن الرجعة تثبت شرعاً والمال يثبت بالشرط. ولو خالعها على منفعة معلومة من خياطة ثوبٍ، أو رضاعٍ ولدٍ مدة معلومة - يجو، ويلزمها ذلك العمل. فإن مات الولد في مدة الإرضاع، هل له إبداله بولدٍ آخر، سواء كان الولد منها؛ أو من غيرها؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن عقد تعلق بعين، فيبطل بتلفها؛ كما إذا ماتت الدابة المكراة يبطل العقد. والثاني: له الإبدال؛ لأن العقد يتناول الإرضاع وهو باقٍ، وإنما مات المستوفي؛ كما لو اكترى دابة ليركبها، فمات المكتري، أو ليحمل عليها صبياً فمات الصبي؛ لا يُبطل [الإجارة]، ويركبها وارثه، أو يحمل عليها صبياً آخر. فإن جوزنا لإبدال، فلم يبدل مع الإمكان، بطل حقه، ولا شيء له عليها؛ كما لو اكترى دابةً فقبضها، ولم ينتفع بها مدة الإجارة - تستقر عليه الأجرة. وفيه وجه آخر: أن عليها بقدرِ ما يقابل المدة الباقية من مهر المثل، لأن تلك المنفعة في ضمانها. وإن قصر الزوج في الاستيفاء؛ كالمبيع إذا تلف في يد البائع - ينفسخ البيعُ، سواء تمكن المشتري من القبض أو لم يتمكن. فإن لم يمكنه الإبدال وقلنا: لا إبدال له - انفسخ العقد فيما بقي من قوة الرضاعِ، وعليها بقدر ما بقي من مهر مثلها، ولا ينفسخ فيما مضى، فلا فسخ له.

ولو خالعها على كفالة ولدها عشر سنين، نظر إن تبين قدر ما ينفق عليه في كل يوم من الطعام وبين كسوته على شرط السلم - فهذا جمعٌ بين الإجارة والبيع وسلم على آجال مختلفةٍ. وفي صحة كل واحدٍ قولان: أصحهما: جوازه. والثاني: لا يصح المسمى، وعليها مهر المثل، فإن جوزوا فإن شرط فيه شرطاً مجهولاً، أو شيئاً لا يجوز السلمُ فيه من طعامٍ مطبوخٍ، أو ثوب محشو فسد المسمى، والشرط، وعليها مهرُ المثل لا يختلف القول فيه، فإن كان الكل معلوماً وجوزنا؛ فإنها تصرف المشروط عليها من الطعام والكسوة إلى الصبي. وإن فضل من المقدر شيء عن الولد كان للزوج. وإن كان الولد رغيباً احتاج إلى زيادة، فعلى الزوج. وإن مات الصبين وقلنا: لا يجوز الإبدالُ - انفسخ العقد في الإرضاع والحضانة، والمذهب: أنه لا ينفسخ في المشروط عليها من الأطعمة والكسوة، فيجب عليها صرف ذلك إلى الزوج على مر الأيام؛ لأنه كان مؤجلاً عليها، ويجب عليها من مهر المثل بقدر ما يقابل أجرة الإرضاع والحضانة للمدة الباقية بعد توزيع المهر على منفعة جميع المدة، وعلى جميع ما شرط عليها من الطعام والكسوة على أصح القولين. وعلى الثاني: يجب أجرة مثل المدة الباقية، ولو خالعها على عبدٍ بعينه، فخرج مستحقاً، أو وجد به عيباً فرده، أو تلف قبل التسليم يرجع عليها بمهر المثل على أصح القولين، وفيه قول آخر: أنه يرجع بقيمة العبد صحيحاً، وكذلك لو خالعها على ثوب يعينه على أنه هروي، أو غرته المرأة، فقالت: هذا الثوبٌ هروي، فخالعني عليه فخالعها عليه فبان مروياً، أو على ثوب على أنه قطني فبان كتاناً - ملكه الزوج، ولكن له الرد، كما لو وجد به عيباً، ويرجع عليها بمهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني يرجع بقيمة ثوب هروي أو قطني. وإن وجد به عيباً بعدما هلك في يده، أو تعيب في يده، ولم يمكنه الرد - يرجع بقدر النقصان من مهر المثل على القول الأصح. وعلى القول الآخر بقدر ما انتقص من قيمته. أما إذا قال الزوج: خالعتك على هذا الثوب وهو هروي فقبلت، فبان مروياً - لا رد له، لأنه اغتر بنفسه. قال الشيخ: وكذلك لو قال: على هذا الثوب الهروي. ولو قال: خالعتك على هذا العبد المغصوب، فقبلت - تقع البينونة، ويرجع عليها بمهر المثل قولاً واحداً؛ لفساد المسمى؛ كما لو خالعها على خمرٍ أو خنزير.

فصل فيما لو طلق امرأته رجعياً ثم طلقها في العدة إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم طلقها في العدة -يقع، وكذلك لو خالعها في عدة الرجعة يصح، ويلزمها المال؛ لأن أحكام النكاح بينهما باقيةٌ، وإن حرم الوطء. أما المختلعة إذا طلقها زوجها في العدة لا يلحقها الطلاق، لأنها صارت أجنبية منه بالخلع، وعند أبي حنيفة: المختلعة يلحقها صريحُ بطلاقِ ما دامت في العدة. وبالاتفاق لو طلق المختلعة بلفظ الكناية، أو طلقها على مالٍ، أو أرسل الطلاق فقال: كل امرأة لي طالقٌ - فلا يقع عليها، فلما كانت كالأجنبية - في هذه الأنواع من الطلاق، فكذلك في سار أحكام النكاح من الظهار، والإيلاء، واللعان، وغيرها. كذلك في ألا يلحقها صريح الطلاق قياساً على المنقضية عدتها ولو علق طلاق امرأة بصفةٍ؛ بأن قال: إن دخلت الدار، أو كلمت فلاناً، فأنت طالقٌ، أو إذا جاء وقت كذا، فوجد ذلك في صُلب النكاح، أو في عدة الرجعية - يقع. وإن وجد بعد البينونة لا يقع وتنحل اليمين، حتى إذا نكحها بعد ذلك، ثم وجد ذلك المعنى ثانياً - لايقع الطلاق، وإن لم يوجد ذلك المعنى حتى بانت منه، ثم نكحها، ثم وجد - نظر؛ إن بانت منه بثلاث طلقات، ثم نكحها بعد زوج آخر، ثم وجد لا يقع على الجديد، وهو المذهب وفي القديم قولان. والمذهب: أن لا يقع؛ لأنه قد استوفى ما علق من الطلاق، وإن بانت بأقل من ثلاث، ثم نكحها، ثم وجد ذلك المعنى - هل يقع الطلاق أم لا؟ في القديم: يقع. وفي الجديد قولان: أحدهما: وهو اختيار المُزني رحمه الله، لا يقعُ، ولا يعود اليمين في النكاح الثاني: لأنه تخلل بين التعليق ووجود الصفة حالةٌ لا يقع فيها الطلاق، فارتفع حكم اليمين. والقول الثاني وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة: يقع؛ لأن التعليق، ووجود الصفة كانا جميعاً في الملك، وكذلك حكم الإيلاء والظهار. وإذا وجد في ملكٍ، هل يعود حكمه في نكاح آخر إن كان بعد استيفاء الطلقات الثلاث؟ لا يعود على قوله الجديد. وفي القديم قولان. وإن كان قبل استيفاء الطلقات الثلاث في القديم يعود. وفي الجديد على قولين. وكذلك حكم العتق إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه أو وهبه وأقبضه، ثم دخل - لا يعتق، وتنحل، اليمين حتى لو ملكه بعد ذلك، ثم دخل لم يعتق، فإن لم يدخل حتى ملكه، ثم دخل - هل يعتق.

في القديم: يعتق. وفي الجديد: على قولين. أما إذا علق ذميٌّ عتق عبده الذمي بصفة، ثم أعتقه فنقض العهد فسبى واسترق، وقلنا: يبطل ولاء الذمي فيملكه سيده الأول، ثم وجدت الصفة لا يعتق على قوله الجديد، كالمنكوحة إذا طلقها ثلاثاً، ثم نكحها لا يعود اليمين؛ لأنه تخلل في الموضعين بين التعليق ووجود الصفة حالة مانعة من إحداث الملك. وإذا قال لامرأته أنت طالقٌ ثلاثاً في كل سنةٍ واحدة، أو أنت طالقٌ في كل سنةٍ واحدة - يقع من الطلاق في الحال طلقة واحدة، لأنها من السنة ليلاً كان أو نهاراً. ثم إن أراد به السنة العربية، فإذا أهل هلالُ الحرم وقعت طلقةٌ أخرى، وإن لم يكن بقي من سنة اليمين إلا قليلٌ، بأن كان في آخر ذي الحجة. وإن لم يُرد به السنة العربية، بل أراد كل سنةٍ اثني عشر شهراً، أو أطلق - فلا تقع أخرى، ما لم يمض من وقت اللفظ اثنا عشر شهراً، ويصير إلى مثل ذلك الوقت الذي تلفظ به. فإذا مضت سنةٌ لا تخلو من ثلاثة أحوالٍ: إما ألا تكون المرأة في نكاحه، أو كانت في نكاحه بحكم العقد الأول بأن كان قد راجعها، أو كانت تحته بعقدٍ آخر. فإن لم تكن في نكاحه فلا تقع الثانية، حتى لو لم ينكحها حتى [مضت] السنون الثلاث، ثم نكحها - لا يقع بفوات وقت الطلاق. وإن كانت تحته بحكم العقد الأول؛ بأن كان قد راجعها بعد الطلقة الأولى، وامتدت عدتها، فكانت في عدة الرجعة - وقعت طلقة أخرى بدخول السنة الثانية. فإن كانت تحته بنكاح جديد؛ بأن انقضت عدتها من تلك الطلقة، ثم نكحها؛ فعلى مولى عود اليمين، فإن قلنا: يعود، فلو نكحها ولم يبق من السنة الثانية إلا ساعة - تقع طلقةٌ، ثم إذا دخلت السنة الثالثة تقع الطلقة الثالثة. ولو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً في كل يوم واحدةٌ؛ فإن قاله بالليل لايقع حتى يطلع الفجر، ون قاله بالنهار يقع في الحال طلقةٌ، ثم إذا طلع الفجر من اليوم الثاني تقع طلقةٌ أخرى، فلا يمهل حتى يجيء من اليوم الثاني الوقت الذي طلق فيه بالأمس، بخلاف السنة حيث لا تقع الثانية ما لم يأت من السنة الثانية وقت الطلاق، لأن لسنة تحسب بمضي الشهور، فهو اسمٌ لاثني عشر شهراً، واليوم لا يحسب بمضي الساعات؛ لأنه يغمض، فهو اسم لما بين الطلوع إلى الغروب في العادة.

فصل في أن الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح رُوي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملكٍ" لا يجوز تعليق الطلاق بالنكاح، مثل أن قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت طالقٌ، فإذا نكحها فلا يقع الطلاق. وكذلك لو عمم فقال: كل امرأةٍ أنكحها فهي طالقٌ، فنكح امراة لا تطلق؛ وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم. وكذلك حكم العتق. ولو قال: إن ملكتُ عبد فلانٍ فهو حرٌّ، او كل عبدٍ املكه فهو حرٌّ، فملك عبداً - لا يعتق.

وكذلك لو قال: كل عبدٍ أملكه فهو مدبرٌ، أو قال العبد بعينه: إن ملكتك فأنت مدبرٌ فملكه-، لا يكون مدبراً، بخلاف ما لو قال: إن شفي الله مريضي فلله علي عتق عبدٍ ولا عبد له - يلزمه النذر؛ لأنه التزامٌ في الذمة، ويجوز أن يلتزم في ذمته ما لا يملكه، وليس يتصرف في ملك الغير؛ بدليل أنه إذا ملكه لا يعتق عليه ما لم ينشيء إعتاقه. أما إذا عين عبداًن فقال: لله عليَّ أن أعتق عبد فلانٍ - نظر إن لم يقل: إن ملكته لا يلزمه، وإن قال: إن ملكته فوجهان: أحدهما: لا يلزم تعليق العتق. والثاني: يلزم؛ لأنه التزامٌ في الذمة. وعند أبي حنيفة: يصح تعليق الطلاق بالنكاح، وتعليق العتق بالملك، وإذا نكح وملك وقع، سواء عم أو خص، وهو قول الشعبي والنخعي. وعند مالك، إن عم لم يقع وإن خص وقع، والحديث حجة عليهم. وسل ابن عباس رضي الله عنه عن هذه المسألة، فاحتج بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] رتب الطلاق على النكاح، وبالاتفاق لو قال لأجنبية: إن دخلت [الدار] فأنت طالقٌ ولم يضف إلى النكاح أو قال لعبدٍ فلان: إن كلمت فلاناً فأنت حر ولم يضف إلى الملك، ثم نكحها، فدخلت [الدار] وملك العبد فلم بعده - لم تطلق ولم يعتق، فنقيس عليه بأنه يمين بالطلاق سبق النكاح، فلا يصح

[كالمطلق]، ولو قال لامرأته: إن بنت مني ونكحتك فأنت طالقٌ، فبانت ثم نكحها. هل تُطلق؟ قيل: هي على قولي عود اليمين. والمذهب: أنها لا تُطلقُ قولاً واحداً؛ لأنه لم يعقد اليمين على ذلك الملك. ولو قال عبد لامرأته: إن عتقت فأنت طالقٌ ثلاثاً، أو قال: إن دخلت الدار فأنت طالقٌ ثلاثاً، فدخلت بعد العتق - تقع الثلاث. وإن لم يكن مالكاً للطلقة الثالثة حالة اليمين؛ لأنه كان مالكاً لأصل الطلاق وذلك الملكُ باق؛ بدليل أن الثالثة تقع، وإن لم يضفه إلى حالة العتق. ولو علق عبد طلقتين بصفة، أو مجيء الغد، فعتق قبل وجود الصفة ومجيء الغد - ملك الثالثة، حتى لو وجد الصفة أو جاء الغد وقعت طلقتان وله الرجعة. وكذلك قال أصحابنا: إذا وقعت الطلقتان والعتق معاً. يملكُ الثالثة - مثل إن قال العبد لامرأته: أنت طالقٌ ثنتين مع إعتاق مولاي إياي، فأعتقه المولى طُلقت ثنتين، وله الرجعة. وكذلك لو قال العبد لامرأته، إذا اء الغدُ فأنت طالقٌ طلقتين؛ فقال سيد العبد: إذا جاء الغد فأنت حر، فإذا جاء الغد عتق ووقعت طلقتان، وله الرجعة. وكذلك لو قال العبد لامرأته: إذا مات مولاي فأنت طالقٌ طلقتين، وقال له المولى: إذا مت فأنت حر، فمات - وقعت طلقتان، وله الرجعة. وإن كان الزوج قد قال: أنتِ طالق قبل موته طلقتين، فإذا مات المولى طلقت المرأة قبله طلقتين، ولا رجعة له؛ لأنه استوفى طلقتين في الرق والله أعلم بالصواب. باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع اعلم أن الخلع إذا جعلناه فسخاً، فهو معاوضة من الجانبين لا يتعلق فيه؛ لأن تعليق الفسوخ لا يصح. وإن جعلناه طلاقاً وطلق صريحاً على مالٍ - فهو في جانب الرجل ينتهي إلى المعاوضة، وإلى تعليق الطلاق. وفي جانب المرأة معاوضة تنزع إلى الجعالة، ثم في جانب الزوج يغلبُ حكم المعاوضة في مسائل ويغلبُ حكم التعليق في مسائل، ويُراعى معنى الشبهين في مسائل: أما ما يغلب فيه حكم المعاوضة إذا قال: طلقت أو أنت طالقٌ على ألفِ، يشرط قبولها في مجلس التواجب، حتى لو طال الزمان بين الإيجاب والقبول، أو اشتغل بينهما

بكلام آخر، ثم أجابت - لا يقعُ، ويجوز للزوج الرجوعُ قبل [قبولها]، وإذا أوجب عدداً فقبلت بعضه؛ مثل أن قال: طلقت ثلاثاً بألفٍ، فقالت: قبلت واحدة بثلث ألفِ، أو قال: طلقتك بألفٍ، فقالت: قبلت بخمسمائة أو بالفين - لا يقع كما لو قال: بعتك هذا العبد بألفٍ، فقال: اشتريت ثلاثةٍ - لا يصح. ولو قال لامرأتين: طلقتكما، أو خالعتكما بألفٍ، أو أنتما طالقان على ألفٍ، وقبلت أحداهما لا يقع عليها شيء، كما لو قال: بعتكما هذا العبد بألفٍ فقال أحدهما: قبلتُ - لا يصح. قال الشيخ: وكذلك لو قال لامرأتين: طلقت إحداكما بألف، ولم يُعتق، فقالتا: قبلنا - لا يقع. أما ما [يقع] فيه حكم التعليق إذا قال متى، أو متى ما، أو أي وقت أوحين، أو أي زمان أعطيتني ألفاً فأنت طالقٌ، فمتى أعطت الألف - ملكها الزوج وطُلقت، ولايختص الإعطاء بالمجلس ولا رجوع للزوج قبل الإعطاء. وكذلك لو قال: متى ضمنت لي ألفاً فأنت طالقٌ، أو قال: متى شئت فأنت طالقُ على ألف، فمتى ضمنت أو شاءت طلقت ولزمها الألفُ، ولا يختص الضمان والمشيئة، بالمجلس، ولارجوع للزوج قبل الضمان والمشيئة. وأما ما يُراعى فيه معنى الشبهين إذا قال: "إن" أو "إذا" أعطيتني ألفاً فأنتِ طالقٌ، أو قال: إن ضمنت لي ألفاً، أو قال: إن شئت فأنت طالقٌ على ألف - يشترط الإعطاء والضمان والمشيئة في مجلس التواجب؛ كما في المعاوضات، ولا رجوع للزوج قبل الإعطاء والضمان والمشيئة، كما في التعليقات. وقيل له الرجوع قبل الإعطاء والضمان في المشيئة؛ كما في المعاوضات. وأما من جانب المرأة معاوضة تنزع إلى الجعالة، حتى يجوز لها الرجوع قبل جوابه بكل حالٍ، لأن كلاً يقبل الرجوع. ولو قالت: طلقني بألف، أو على ألف أو لك ألف، أو على أن أضمن لك ألفاً، أو وأضمن لك ألفاً أو قالت: إن طلقتني فلك ألفٌ، فطلقها - يقع ويجب عليها الألف. ويجب أن يُطلقها في مجلس التواجب كما في المعاوضات، ويصح بهذه الألفاظ كما في الجعالة أو قال: إن رددت عبدي فلك كذا، أو رد عبدي وأضمن لك كذا، فرده يستحقه؛ كما لو جزم وقال: رد عبدي بكذا، بخلاف البيع، فإنه لو قال: إن بعتني عبدك فلك علي كذا، أو بعني وأضمن لك كذا، فقال: بعت - لا يصح.

ولو قال: بعني بكذا فقال: بعت - يصح؛ لأن [أمر] الطلاق مبناه على الغلبة والاتساع؛ ولذلك جاز تعليقه، فحل المعلق من الطلاق محل المنجز من البيع. وعلى هذا لو قالت المرأة: طلقني ثلاثاً بألفٍ فطلق واحدة تستحق ثلث الألف؛ كما في الجعالة، ولو قال: رد عبيدي الثلاثة بألف، فرد واحداً -يستحق ثلث الألف. إلا أن التطليق هاهنا في مجلس التواجب شرط، كما في المعاوضات، ورد العبد في المجلس ليس بشرط، ولو كانت له امرأتان فقالتا: طلقنا بألفٍ فطلق إحداهما- يقع عليها دون الأخرى. ولو قالت: طلقني بألفٍ، فقال: طلقتك بخمسمائة - يقع. ولو طلق بألفين لا يقع. وحكم العتق على المال حكمُ الطلاق من جانب السيد ينتهي إلى المعاوضة والتعليق، ومن جانب العبد إلى المعاوضة والجعالة، ولو قال: أنت طالق وعليك ألفٌ - نظر إن لم يتقدم منها استيجاب يقع الطلاق رجعياً، قبلت أو لم تقبل؛ لأنه نجز [غيجاب] الطلاق، ثم عطف عليها استيجاب المال، فلا يلزم؛ قبلت أو لم تقبل؛ لأنه نجز [إيجاب] الطلاق، ثم عطف عليها استيجاب المال، فلا يلزم؛ كما لو قال طلقت وعليك حجٌ، بخلاف المرأة إذا قالت: طلقني وعليَّ ألفٌ فقال: طلقتك -يقع بائناً وعليها الألف؛ لأن المرأة لا تنفرد بالطلاق، وإنما يكون من جهتها التزام المال، فحمل ذلك منها على ما يكون من جهتها، والرجل ينفرد بالطلاق، فحمل ذلك [منه] على ما ينفرد به. أما إذا تقدم منها استيجاب بالبدل؛ بأن قالت: طلقني على ألفٍ، فقال الزوج: طلقتك وعليك ألفٌ - تقع البينونة، وعليها الألف، لأنه لو اقتصر على قوله: طلقت بانت منه، ولزمها المال. ولو قالت طلقني المرأة بالبدل، ولم تسم شيئاً، فقال الزوج: طلقتك وعليك ألف - فهو كما لو قال مبتدئاً: طلقتك على ألفٍ ليقدم الاستيجاب، فإن قبلت وقعت البينونة وعليها الألف، وإن لم تقبل لا يقع شيء. وإن قال الزوج في جوابها: طلقتك بالبدل، وطلقتك مطلقاً يقع بائناً، وعليها مهر المثل. ولو تقدم منها استيجابٌ بلا بدل، بأن قالت: طلقني فقال الزوج: طلقتك وعليك ألفٌ - يقع رجعياً ولا شيء عليها. ولو قال لها: طلقتك على ألفِ درهمٍ عن شئت، فإن شاءت في مجلس التواجب وقعت البينونة، ولزمتها الألفُن وإن شاءت بعده لا يقع.

والإعطاء في المجلس [ليس بشرط]. وكذا لو أعطت ولم تشأ، أو قالت: قبلتُ أو ضمنتُ - لا يقع. ولو قالت المرأة: طلقني على ألفٍ، فقال الزوج: طلقتك على ألفٍ إن شئت - فلا يكون هذا جواباً لها؛ لأنها سألت طلاقاً جزماً، ويكون الزوج مبتدئاً، فإن شاءت في المجلس طلقت، وإلا فلا تطلق. ولو قال: إن ضمنت لي ألفاً فأنت طالقٌ، فقالت في المجلس، ضمنت - طلقت ولزمها الألف. ولو أعطت أو قالت: شئت - تقع، لأن الطلاق معلق بالضمان ولم يوجد. ولو ضمنت خمسمائة لا يقع، ولو ضمنت ألفين يقع، بخلاف ما لو قال: طلقتك على ألف، فقبلت على ألفين - لم يقع؛ لأنه محض معاوضةٍ، فيشرط فيه الاتفاق بين الإيجاب والقبول، وقوله: "إن ضمنت" تعليق بصفة الضمان، فقد وُجدت الصفة والزيادة. وإن قال: إن أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالقٌ يُشترط الإعطاء في المجلس، فإن أعطت في مجلس التواجب طلقت، وملك الزوج المال، وإن أعطت أقل من ألفِ لا تطلق، وإن أعطت ألفين طلقت ويملك الزوج منها ألفاًن والزيادة أمانة عنده. وإن أعطت ألفاً مغشوشة لا يقع، إلا أن تعطى قدراً تكون منه النقرة الخالصة ألف درهم ثم يردها إلى الزوج، ويطالبها بألف خالصةٍ. ولو أعطت ألفاً من النقرة غير أنها خشنة، أو سوداء، أو رديئة من جهة السكة - وقع الطلاق، والزوج بالخيار إن شاء رضي بها، وإن شاء ردها وطالبها بالجيد، إلا أن يكون نقد البلد ذلك، فلا رد له. قال الشيخ: وإن كان نقد البلد مغشوشاً فأعطت ألفاً منها - يقع؛ لأن الطلاق ينصرف إليه. ولو أعطت يبرأ غير مضروبٍ - لا يقع، لأنه [لا يطلق] عليه اسم الدراهم. ولو أعطت ألفاً مغصوبة لا يقع، لأنه يريد تملكيني ألفاً. ولو أتت بالألف فامتنع الزوج من أخذها، فوضعت بين يديه - طلقت وملكها الزوج، لأن الإعطاء حاصل. فإن أخذ منها كرهاً لم تطلق؛ لأن الإعطاء لم يوجد، وإن قال: إن قبضت، أو أخذت منك ألفاً فأنت طالقٌ، فهو محض تعليق. فإن أخذ منها طوعاً، أو كرهاً طلقت رجعياً، وعلى الزوج رده، ولو وضعت بين يديه لم تُطلق.

ولو قال: متى أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالقٌ، لا يشترط الإعطاء في المجلس، فمتى أعطت طُلقت وملكها الزوج، لأن حرف "متى"، و"متى ما" للتأخير. ولو قال: إن أعطيتني عبداً أو ثوباً ووصفه، فأعطت على تلك الصفة مملوكاً لها- طلقت، وملكه الزوج، وإن أعطت على غير تلك الصفة لا يقع، وإن لم يصف، بل قال: إن أعطيتني عبداً فأنت طالقٌ، فأعطت في المجلس عبداً مملوكاً لها، طلقت -لوجود الصفة، ولا يملكه الزوج- للجهالة بالأوصاف، وعليها مهر المثل. وكذلك لو قال: إن أعطيتني عبداً تركياً فأنت طالقٌ، فأعطت هندياً - لا يقع، ولو أعطت تركياً طلقت، ولا يملكه الزوج للجهالة بسائر الأوصاف، وعليها مهر المثل، وكذلك لو أعطت مدبراً، أو معلقاً عتقه بصفة أو عبداً معيباً زمناً - يقع الطلاق، وعليها مهر المثل. ولو أعطت مكانتها لم يقع. وكذلك لو أعطت عبداً مغصوباً أو مشتركاً بينها وبين غيرها - لا يقع. وقيل: إذا أعطت عبداً مغصوباً، أو مشتركاً - يقعُ؛ لأنه ليس فيه إلا أن الزوج لا بصحيح. والمذهب الأول أنه لا يقع الطلاق، بخلاف ما لو قال: إذا أعطيتني خمراً أو خنزيراً أو ميتة فأعطت طُلقت، وعليها مهر المثل؛ لأن هذه الأشياء مما لا تملك، واللف يتناول غير محلول، والعبد مما يملك، فاللفظ يتناول ما يكون مملوكاً لها. فإن أعطت خمراً أو خنزيراً أو مغصوباً - ففيه وجهان: أصحهما: يقع؛ لأن مطلق ذكره انصرف إلى ما لا يُملك. والثاني: لا يقع؛ لأنه ينصرف إلى ما يكون في يدها. ولو قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، أو هذا الثوب فأعطته طُلقت وملكه الزوج، ثم إن وجد الزوج به عيباً فرده أو خرج مستحقاً يرجع عليها بمهر المثل على أصح القولين. وعلى الثاني بقيمة العبد صحيحاً، حتى لو قال لامرأته الأمة: إن أعطيتني ثوباً فأنت طالق، فأعطته ثوباً - لم تطلق لأنها أعطت ما لا تمتلك. فإن قال: هذا الثوب فأعطت طُلقت، وفيما عليها؟ قولان. أما إذا قال: إن أعطيتني هذا العبد المغصوب، فأنت طالقٌ فأعطته طلقت، وعليها مهر المثل قولاً واحداً؛ لفساد التسمية. ولو قال إذا أعطيتني هذا الثوب وهو هروي، فأنت طالقٌ، فأعطت ولم يكن هروياً - لا يقع.

فصل فيما لو قالت المرأة طلقني ثلاثاً إذا قالت المرأة: طلقني ثلاثاً بألفٍ، أو على ألفٍ، أو لك ألفٌ؛ أو طلقني ثلاثاً ولك ألفٍ فطلقها واحداً - يستحق ثلث الألفِ. وإن كانت عنده بطلقةٍ واحدة فقالت: طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة يستحق جميع الألف؛ لأن حرمة الثلاث قد حصلت بهذه الطلقة. وعند المزني: لا يستحق إلا ثلث الألفِ. وإن كانت عنده بطلقتين، فإن طلقها طلقتين استحق الألف، وإن طلقها واحدة استحق ثلث الألف، وجملته: أنها إذا سألت عدداً من الطلاق على مال، فإن أجابها الزوج إلى ما سألت، أو حصل مقصودها - استحق جميع المسمى، وإن لم يحصل مقصودها يوزع المال المبذول على الطلاق المسؤول، حتى لو كانت عنده ثلاث طلقات، فقالت: طلقني أربعاً بألف، فإن طلقها أربعاً أو ثلاثاً يستحق الألف، وإن طلقها واحدةً يستحق ربع الألف أو طلقها اثنتين فنصف الألف. ولو قالت: طلقني ثلاثاً بألفٍ، فقال: أنت طالقٌ ثلاثاً واحدة بألف [يقع الثلاثة ويستحق ثلث الألف؛ لأنه تطوع باثنتين، ولو تطوع بالثلث كان لا يستحق شيئاً. ولو قال: أنت طالقٌ طلقة بألف وطلقتين مجاناً - يقع واحدةٌ بألف] ولا يقع الأخريان؛ لأنها بانت بالأولى، فلا يلحقها الأخريان. وإن قالت طلقة مجاناً وطلقتين بألف، وكان بعد الدخول - وقعت الأولى مجاناً، والأخريان بثلثي الألف. فإن قيل: وجب أن يستحق كل الألف لأنه حصل مقصودها. قال الشيخ: ذلك إذا وقع المملوك من الطلاق بإزاء الألف؛ لأن المال من جهتها بمقابلة ما يملك الزوج عليها، وههنا لم يقع ما ملك عليها بإزاء الألف، بل أوقع البعض مجاناً. وإن قالت: طلقني واحدة بألفٍ، فطلقها ثلاثاً وقع الثلاث واحدة منها بألف، وكذلك لو صرح فقال: أنت طالقٌ ثلاثاً واحدة بألف؛ كما لو أبق له ثلاثة أعبدٍ فقال: من رد عبدي الفلاني فله ألفٌ، فرد رجلٌ الثلاث - يستحق الألف، وكان متطوعاً برد الآخرين. ولو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً بألف، فالظاهر هكذا أنه تقع الثلاث، ويستحق الألف. وقيل: تقع الثلاث، ولا يستحق إلا ثلث الألف؛ لأنه جعل الألف بمقابلة الثلث، فلم يقع في مقابلة ما سألته المرأة إلا ثلث الألف.

وقيل: لا يقع إلا واحدةٍ بثلث الألف، لأنه أوقع الآخرين بالعوض، ولم يوجد من جهتها قبولٌ. ولو قال لها في هذه الصورة: أنت طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ واحدة بألفٍ، سُئل فإن قال: أردت الأولى بألف وقع الأولى بالألف، ولا يقع الآخران، وإن قال: أردت بالألف في مقابلة الثانية وقعت الأولى مجاناً، والثانية بالألف؛ لأنها رجعية ولا تقع الثالثة، وإن قالت: أردت بالألف من مقابلة الثالثة وقعت الأوليان مجاناً، والثالثة بالألف. وإن قال: أوقعت الثلاث كلها بالألف وقعت الأولى بثلث الألف، ولا تقع الأخريان، لأنها بانت بالأولى. قال رضي الله عنه: ولو لم تكن له نية تقع الأولى بألفٍ؛ لأنه جواب قولها ولا تقع الأخريان، وإن كانت غير مدخولٍ بها، وأراد الألف في مقابلة الثانية [وقعت الأولى وبانت منه] ولاتقع الثانية ولا تستحق المال، ولو لم يكن بقي له عليها إلا طلقة، فقالت: طلقني ثلاثاً بألفٍ واحدة أحرم علي بها الآن، واثنتان إذا نكحتني بعد زوج آخر فطلقها، تقع واحدة بمهر المثل، ويفسد المسمى بهذا الشرط. فصل فيما لو كانت له امرأتان فقال طلقتهما وإن كانت له امرأتان فقال: طلقتهما على ألفٍ، فقبلتا في مجلس التواجب طلقتا، وفيما يجب عليهما؟ قولان: أحدهما: يوزع المسمى على مهور أمثالهما. والثاني: على كل واحدةٍ منهما مهر مثلها، ويفسد المسمى؛ لأنما يخص كل واحدة منهما حالة العقد مجهولٌ ولو تراخى قبول إحداهما عن حالة العقد فهو كما لو لم تقبل واحدة منهما لا يصح [الخلع] في حق الأخرى. وكذلك لو ارتدت أحداهما قبل القبول، وكان قبل الدخول بها، أو ارتدتا ثم قبلتا بعد الردة، وكان قبل الدخول بإحديهما، وأسلمت الأخرى، أو كان بعد الدخول بهما وعادت إحداهما إلى الإسلام في العدة دون الأخرى وإن كان بعد الدخول بهما لا يقع الطلاق عليهما فقبلتا في مجلس التواجب بعد الردة ثم جمعهما الإسلام- صح الخلع في حقهما جميعاً. ولو قال الزوج لها: طلقتكما على ألفٍ، إن شئتما، فشاءتا في مجلس التواجب طلقتا، ولزمهما المال. ففي قولٍ: يوزع المسمى على مهر أمثالهما. وفي الثاني على كل واحدةٍ مهرُ مثلهما.

وإن تراخت مشيئة أحديهما عن مجلس التواجب فلا يقع الطلاق على الأخرى كما لو لم تشأ واحدةٌ منهما. ولو ابتدأت المرأتان فقالتا: طلقنا على ألفٍ، فطلقهما في مجلس التواجب [طُلقتا]، وفي صحة المسمى قولان كما ذكرنا بخلاف ما لو قالت واحدةٌ منهما: طلقني وضرتي على ألأف فطلقها يجب المسمى على القائلة قولاً واحداً لأن الملتزمة للمال واحدة. فإن طلق أحديهما في إحدى الصورتين يقع عليها الطلاق بائناً. وفيما عليها؟ قولاً: أصحهما: عليها مهرُ مثلها. والثاني: عليها حصتها من المسمى بعد التوزيع على مهر المثل. ولو ارتدت أحداهما قبل القبول، ثم قبلتا وكان قبل الدخول، أو كان بعد الدخول ولم تُسلم حتى انقضت العدة - وقع الطلاق على المسلمة- دون المرتدة، كما لو قبلت أحداهما. فصل ولو قالت المرأة لزوجها: خُذ هذه الألف على أن تطلقني بعد شهر - لا يصح؛ لأن [السلم] في الطلاق يجوز فإن أخذ الألف وطلقها بعد شهر، نظر إن كان عالماً بفساده وطلقها مبتدئاً وقع الطلاق رجعياً، وإن كان جاهلاً وطلقها على ذلك العوض - وقع بائناً وعليها مهر المثل. وكذلك لو قالت على أن تطلقني إلى شهر متى شئت، فطلقها قبل الشهر، إلا أن ههنا إذا طلقها بعد الشهر يقع رجعياً، ولا يستحق شيئاً؛ لأن شرطها إلى الشهر. ولو قالت: طلقني على هذه الألف إلى رأس الشهر، على معنى أنها تعود زوجة بعد شهر فطلقها - وقع بائناً، وعليها مهر المثل للشرط الفاسد. ولو قالت: علق طلاقي برأس الشهر، أو بصفة أخرى على ألفٍ، فقال لها الزوج: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالقٌ، أو قال: إن دخلت الدار فأنت طالقٌ- فعلى قولين: أحدهما: يصح، وعليها الألف في الحال، وإذا جاء رأس الشهر، أو وُجدت الصفة وقع الطلاق بائناً؛ لأنه لما جاز أخذ العوض على تنجيز الطلاق، جاز على تعليقه. والثاني: ذكره الربيع: أن العوض يفسد؛ لأن فيه معنى المعاوضة، فلا يصح تعليقها، ويقع الطلاق عند وجود الصفة بائناً، وعليها مهر المثل. قال الشيخ: وكذلك لو قالت إذا جاء رأس الشهر وطلقتني، فلك عليَّ ألفٌ، فيه وجهان:

أحدهما: إذا طلقها عند رأس الشهر يقع، وعليها المسمى. والثاني: يجب مهر المثل، وكذلك لو قال الزوج مبتدئاً: إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالقٌ على ألف، فقبلت فقولان: أحدهما: يقع عند رأس الشهر على ألف. والثاني: بمهر المثل؛ لأنه طلاقٌ، وفيه معنى المعاوضة، ويصح تعليق الطلاق، ولا يصح تعليق المعاوضة، فيؤثر ذل في فساد التسمية. ولو فوض الطلاق إلى امرأته، فقال لها: طلقي نفسك، أو قال: طلقيني من نفسك إن شئت -يصح، وهو في حكم التمليك على القول الجديد، وهو المذهب حتى يختص التمليك بمجلس التواجب فلو طلقت نفسها بعد زمان لا يقع. وقال في القديم: هو توكيلٌ، ولا يختص التطليق بالمجلس؛ كما لو قال لأجنبي. طلق امرأتي فطلق بعد مدة يقع. وعلى القولين لو رجع الزوج قبل أن تطلق نفسها، ثم طلقت نفسها - لا يقع بخلاف ما لو قال لها: أنت طالقٌ إن شئت لا يصح روعه؛ لأنه تعليقٌ لا يقبل الرجوع، وهذا تعويض فيقبل الرجوع، فإن قال طلقي نفسك إن شئت، فقالت: طلقت منك يقع، وله الرجوع قبل قولها: طلقت. ولا فرق بين أن يقول لها: طلقي نفسك، وبين أن يقول: وكلتك فطلقي نفسك، فيختص التطليق بمجلس التواجب على المذهب الصحيح. ولو قال لها: طلقي نفسك على ألف، أو قال: طلقي نفسك على ألف إن شئت، فقالت في المجلس [طلقت] وقع بائناً، وعليها الألف، وكذلك لو قال لها: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاً، فقالت في المجلس، ضمنت وطلقت، أو طلقت وضمنت، أو قالت: طلقت نفسي على ألف درهم يقع ويجب المسمى، ولا يشترط الإعطاء في المجلس، ولو قال لها: إذا جاء رأس الشهر فطلقي نفسك، فعلى قولين: أحدهما: لا يصح، ولو طلقت نفسها بعد شهر، لا يقع؛ لأن فيه معنى التمليك، وتعليق التمليك لا يجوز؛ كما لو قال: ملكتك هذه العين إذا جاء رأس الشهر والثاني: يصح، كما لو وكل رجلاً ليطلق زوجته بعد شهر يصح. فإن جوزنا فإذا قال: إذا مضى شهر فطلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاً، أو قال: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاً بعد سنة، فإذا طلقت نفسها على ذلك بعد مضي المدة يقع، ولزمها الألفُ. وحكمُ تعويض العتق إلى العبد حكم، وتفويض الطلاق.

فصل في الخلع مع الأجنبي الخلع مع الأجنبي جائزٌ. فإذا قال رجلٌ لآخر: طلق امرأتك على ألف درهم عليَّ وقال: إن طلقتها فلك عليَّ ألف، فطلق في المجلس - يستحق الألف - عليه. ولو قال: طلق امرأتك على ألف فطلق أحداهما يقع بائناً، وعليه مهر المثل على القول الأصح، وحكم الزوج مع الأجنبي كحكمه مع المرأة، في أنه في جانب الزوج ينزع إلى المعاوضة وإلى التعليق. وفي جانب الأجنبي، ينزع إلى الحوالة. وإذا قال الزوج للأجنبي: طلقتُ امرأتي وعليك ألف، يقع رجعياً، ولا يستحق المال. ولو قال الأجنبي: طلق امرأتك وعليَّ ألف [أو لك ألف] وطلق يقع بائناً وعليه الألفُ؛ كما في حق المرأة؛ وكما لو قال لرجل؛ أعتق أم ولدك وعلي ألف، أو لك ألف، فأعتق - عتقت، وعلى القائل الألف. قال الشيخ: ولو اختلعها عبدٌ يتعلق بدلُ الخلع بذمته؛ كما لو اختلعت الأمة نفسها. ولو اختلعها سفيهٌ يضع رجعياً؛ كما لو اختلعت السفيهة نفسها، ولو اختلعها الأجنبي على مالها: لا يخلو إما أن يكون بإذنها، أو غير إذنها. فإن كان بغير إذنها؛ بأن قال: طلق امرأتك عَلَى [عبدها] هذا أو على صداقها، أو قال: على أنك بريء من صداقها فطلقها الزوج يقع رجعياً، سواء كانت المرأة صغيرة أو بالغة، بكراً أو ثيباً، سواء كان القائل أب المرأة أو غيره، ولا يلزم المال، بخلاف المرأة إذا قالت: طلقني على هذا العبد المغصوب فطلقها - يقع بائناً، وعليها مهر مثلها. والفرق أن منفعة البُضع تعودُ إليها والزوج لم يتبرع بإزالة ملكه إليها مجاناً فلزمها المالُ، والأجنبي لا تصير له منفعةٌ البضع بالاختلاع لكنه متبرعٌ بأداء المال لتخليصها عن رق الزوجية. وقد أبطل تبرعه بإضافة المال إليها، حتى لو قال الأجنبي: طلقها على هذا العبد المغصوب أو على عبد زيدٍ، أو على هذا الخمر فطلق يقع رجعياً، ولا تلزمه المالُ. ولو قال الأجنبي: طلقها على هذا العبد فطلق، والعبد ملك المرأة، لكنه لم يضف إليها - يقع الطلاق بائناً [وعلى الأجنبي مهر المثل] سواءٌ كان الزوج عالماً بأن العبد للمرأة أو لم يكن، لأنه لم يبطل تبرعه بالإضافة إليها، وقد يقدر الزوجُ على انتقال الملك إليه منها، فإن قال

الأجنبي: طلقها على صداقها، أو على أنك بريء من صداقها، أو أنا ضامنٌ لها فطلقها يقع بائناً وعليه مهر المثل؛ لأنه التزم المال بشرط الضمان، أما إذا اختلعها الأجنبي بإذنها بأن قالت: سل زوجي يُطلقني على ألف [درهم]، سواءٌ قالت: عليَّ أولم تقل: عليَّن فيكون الأجنبي وكيلاً من جهتها، فإذا اختلعها على ألفٍ يلزمها المال، ثم الوكيل إذا أضاف إليها رجع الزوج عليها بالمال، وإن لم يضف فيرجع على الوكيل، ثم الوكيل يرجع عليها. ولو قال أجنبي للمرأة: سلي زوجك يُطلقك على ألفٍ، نظر إن لم يقل: عليَّ فاختلعت نفسها على ألف [يلزمها المال، ولا يجب على الأجنبي شيء. وإن قال: سلي زوجك يطلقك على ألفٍ عليَّ، فاختلعت نفسها على ألفٍ] على الأجنبي، أو على ألف مطلقاً، ونوت عليه يجب المال على الأجنبي. ولو قال أجنبي لأجنبي: سل فلاناً أن يطلق زوجته على ألفٍ ففعل، فهو كما لو قال للمرأة: إن قال الموكل: على ألف عليَّ رجع الوكيل عليه، وإن لم يقل: عليَّ لا يرجع. فصل فيمن يصح منه الخلع والاختلاع لا يصح الخلع من الصبي والمجنون، كما لا يصح منها البيع والشراء. ولو خالع العبد أو المحجور عليه بالسفه امرأته يصح بغير إذن المولى والولي وإن كان على أقل من مهر المثل؛ لأنهما يملكان الطلاق مجاناً فعلى مال قليل أولى. ثم المرأة ليس لها أن تدفع المال إلى العبد، أو إلى السفيه، وإن كان الخلع وقع على عين مال فيأخذها الولي والمولى [من العبد والسفيه] وإن كانت قائمة، وإن كانت تالفةً رُع على المرأة بمهر المثل في قول. وفي الثاني بقيمة العين؛ إذ لا فرق بين الاستحقاق وبين التلف قبل الوصول إلى المستحق. وإن كان الخلع على بدل في الذمة، فدفعت إلى العبد والسفيه، فللولي والمولى الرجوع على المرأة بالمسمى، والمرأة تسترد من العبد والسفيه ما دفعت إليهما إن كان قائماً، وإن كان هالكاً في أيديهما رجعت على العبد بعد العتق، ولا رجوع لها على السفيه بحالٍ؛ لأنها ضيعت حظ نفسها بالدفع عليه؛ كالعبد إذا اشترى شيئاً بغير إذن سيدهن فهلك في يده. كان حق البائع في ذمته حتى يعتق، والسفيه إذا اشترى فهل في يده لا شيء عليه

بحال، لأن الحجر على العبد بحق السيد، فإذا زال حق السيد بالعتق ضمن ما هلك في يده بالمعاملة، والحجر على السفيه لحق نفسه، فإذا لم يضمنه في الحال لا يضمنه في ثاني الحال. والمُكاتب إذا خالع زوجته على مالٍ - وإن قل - جاز وإن لم يأذن فيه المولى، وتعطى المرأة بدل الخلع إليه؛ لأن له ملكاً. ولا يصح اختلاع السفيهة، فإذا خالع الرجل امرأته المحجور عليها بالسفه؛ فقال: طلقتك أو خالعتك على ألف فقبلت يصح الطلاق رجعياً، سواء اختلعت بإذن الولي، أو بغير إذنه، ولا يلزمها المال؛ لأنها ليست من أهل التزام المال وإن لم يقبل لا يقع. وكذلك لو قال لها: طلقتك على ألفٍ إن شئت، فما لم تشأ في المجلس لا يقع؛ لأنه لم ينجز طلاقها، إنما علقه على معنى فوجد منها كما لو علق طلاقها بصفة لا يقع قبل وجودها، فإن شاءت في المجلس وقع الطلاق رجعياً، وكذلك لو قالت المحجور عليها ابتداء. طلقني على ألف، فقال: طلقت يقع رجعياً. ولو كانت تحته امرأتان محجورٌ عليهما، فقال لهما الزوج طلقتكما على ألف فقبلتا في المجلس، أو قال الزوج: أنتما طالقان على ألف إن شئتما، فشاءتا في المجلس وقع الطلاق عليهما رجعياً. فإن قبلت أحداهما دون الأخرى، أو شاءت أحداهما في التعليق بالمشيئة لا يقع شيء. فلو كانت أحداهما محجوراً عليها، فقبلتا أو شاءتا - وقع الطلاق على المحجور عليها رجعياً، وعلى الأخرى بائناً وعليها مهر مثلها على القول الأصح. وإن قبلت أحداهما أو شاءت لا يقع شيء. ولو قالتا: ابتداء: طلقنا على ألف فطلقهما - يقع على المحجور عليها رجعياً، وعلى الأخرى بائناً. ولو طلق أحداهما يقع ثم إن طلق المحجور عليها يقع رجعياً، وإن طلق الأخرى يقع بائناً، وعليها مهر مثلها على الأصح. ولو قال لامرأته الصبية المراهقة: أنت طالقٌ إن شئت أو قال: علي ألف إن شئت، فلم تشأ - لا يقع شيء، وإن شاءت فوجهان: وكذلك لو قال لها: أنت طالق على ألف، فإن لم تقبل لا يقع شيءٌ وإن قبلت فوجهان: أصحهما يقع طلقة رجعية؛ كما في حق المحجور عليها. والثاني: لا يقع شيءٌ، لأنه حكم لمثبتها؛ كما لو قال ذلك لصبيته لا تعقل أو المجنونة فقالت: شئت لا يقع.

ولو اختلعت الأمة نسها من زوجها وقعت البينونة سواء كان بإذن المولى أو دون إذنه، ثم إن كان دون إذن المولى، فمهر المثل في ذمتها حتى تعتق؛ كالعبد إذا نكح بغير إذن المولى، ووطيء يتعلق مهر المثل بذمته، وإن اختلعت بإذن المولى نظر إن أطلق الإذن فبدل الخلع يتعلق بكسبها، إن كان قدر مهر مثلها أو أقل، وإن كان أكثر فالزيادة على مهر المثل تتعلق بذمتها وقدر مهر المثل يتعلق بكسبها، وإن لم يكن لها كسب يتعلق بذمتها حتى تعتق وإن كانت مأذونة في التجارة، فيتعلق بما في يدها - كما ذكرنا في صداق النكاح وإن بيَّن السيد مالا نظر إن دفع إليها عيناً لتختلع نفسها عليها ففعلت- ملكها الزوج، وإن لم تدفع، بل قالت: اختلعي نفسك على ألف، ففعلت - يتعلق بكسبها. وإن اختلعت بأكثر منها تعلق الفضل بذمتها. وإن قال: اختلعي نفسك بما شئت، فاختلعت نفسها بأكثر من المثل، تعلق الكل بكسبها. أما المُكاتبة إذا اختلعت نفسها؛ نظر إن اختلعت بغير إذن [المولى] أو بإذنه، وقلنا: تبرع المكاتبة بإذن المولى لا ينفذ؛ فهي الأمة [لا يتعلق] مهر المثل بذمتها تؤديه بعد العتق. وإن اختلعت بإذنه، وقلنا: تبرعه بإذن المولى ينفذ، ويكون في كسبها، إن اختلعت على مال في الذمة وإن اختلعت على عين في الذمة ملها الزوج. وإذا ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول، فخالعها الزوج في العدة يكون موقوفاً، فن جمعها الإسلام في العدة بان أن الخلع كان صحيحاً بالمسمى. وإن لم يجمعهما الإسلام [في العدة] بان أن الخلع كان فاسداً. ولو خالع المريض زوجته يصح، وإن كان بدون مهر المثل؛ لأنه لو طلقها مجاناً يقع؛ لأنه لا يتوهم بقاء منفعة البُضع للوارث لو تعجل الموت؛ كما لو أعتق أم ولده في مرضه لا يعتبر عتقها من الثلث. ولو اختلعت المرأة نفسها في مرض موتها - صح الخلع، ثم إن اختلعت بمهر مثلها أو أقل فلا يعتبر من الثلث، وإن اختلعت بأكثر منه فتلك الزيادة وصية للزوج تعتبر من الثلث، ولا يكون كالوصية للوارث؛ لأن الزوج بالخلع يخرج من أن يكون وارثاً، وهذا بخلاف المكاتبة حيث جعلنا بدل الخلع من حقها كالتبرع وإن كان قليلاً، وههنا [لم نجعل] قدر مهر المثل في حق المريضة التبرع؛ أن باب التصرف على المريض أوسع منه على المُكاتب؛ لأن له

ملكاً حقيقياً؛ بدليل أنه يصرف ماله إلى ما يشتهي، ويتزوج أربع نسوةٍ، وتجب عليه نفقة الموسرين، والمكاتب لا يزيد على قدر الحاجة، ونفقته نفقة المعسرين، فعل بدل المال في حق المكاتبة التبرع وإن كان قليلاً. وإذا اختلعت المريضة نفسها على عبدٍ قيمته مائة، ومهر مثلها خمسون صح الخلع، ثم إن لم يكن عليها دينق وخرجت المحاباة من الثلث كان العبد كله للزوج. وإن لم يخرج من الثلث نظر إن كان عليها دين يستغرق قيمة العبد - فلا تصح المحاباة، وللزوج نصف العبد، وهو قدر مهر مثلها، وهو بالخيار إن شاء أمسك نصف العبد، وإن شاء فسخ المسمى، لأن العقد قد شقص عليه، ويضارب الغرماء بمهر المثل. وإن لم يكن عليها دينٌ ولكنها أوصت بوصايا - فهو بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد، وضارب أهل الوصايا في النصف الثاني، وإن شاء فسخ وأخذ مهر المثل مقدماً على الوصايا، ولا حق له في الوصية، لأنه وصية له من نكاح ضمن المعاوضة، فإذا رد المعاوضة بطل حقه من الوصية. وإن لم يكن عليها دينٌ ولا وصية، ولم يكن لها سوى ذلك العبد - والزوج بالخيار لأجل التشقيص: إن شاء أخذ ثلثي العبد، لأن نصفه مهر مثلها، وثلث الباقي وصيةٌ له، وإنشاء فسخ وأخذ مهر مثلها خمسين. فصل في التوكيل التوكيل بالخلع جائزٌ من الجانبين جميعاً، لأنه معاوضة كالبيع ولو وكل رجلاً واحداً فلا يتولى الوكيل طرفي العقد، بل يتولى عن أحدهما، ويتولى غيره عن الآخر، ثم الزوج إن وكل عبداً أو سفيهاً يجوز، ولا يشترط إذن الولي والمولى؛ لأنه لا يتعلق بالوكيل عهدة في الخلع ولو وكل مسلمٌ ذمياً يجوز، لأن الذمي قد يُخالع المسلمة، فإن المرأة إذا أسلمت، وتخلف الزوج مخالعتها في العدة، ثم جمعهما الإسلام في العدة كان الخلع صحيحاً. ولو وكل امرأة جاز، وكذلك لو وكلها بتطليق زوجته على أصح الوجهين؛ كما لو فوض الزوج إليها تطليق نفسها. ولو وكلت المرأة بالاختلاع رجلاً، أو امرأة أو ذمياً - يجوز قال الشيخ: وإن وكلت عبداً أو أمة يجوز، ثم إن كان التوكيل بإذن المولى [قال الشيخ] فإن أضاف البدل إليها رجع الزوج عليها، وإن لم يضفه يتعلق بكسبه، ثم إذا أدى رجع السيد عليها، وإن وكلت

دون إذن المولى، نظر إن وكلت بالاختلاع على عين لها ملكها الزوج، وإن كان على مال في الذمة نظر إن أضاف إليها رجع الزوج عليها، ولا رجوع له على العبد. وإن لم يضف إليها رجع الزوج على الوكيل بعد العتق، ثم هو يرجع عليها إن نوى الروع قال رحمه الله: وإن وكلت سفيها، ولم يجز، وإن أذن الولي فإن فعلت واختلعها السفيه - وقع الطلاق رجعياً، ثم الوكيل بالخلع لا يخلو إما إن كان من جهة الزوج أو من جهة المرأة. فإن كان من جهة الزوج نر إن قدر مالاً فقال: خالعها على ألف درهم، فخالعها الوكيل على ألف وأكثر صح الخلع، ولزمها المسمى. وإن خالعها على أقل ما سمي، أو على غير جنس ما سمي، أو ذكر فيما سمي أجلاً لايقع الطلاق؛ كما لو وكل وكيلاً ببيع شيء بألفٍ فباعه بأقل، أو بغير جنس ما سمى لا يصح البيع. فإن أطلق التوكيل، ولم يقدر مالاً فخالعها الوكيل على قدر مهر المثل، أو أكثر من حبس نقد البلد حالاً يصح، يلزمها المسمى. وإن خالعها على غير نقد البلد، أو على أقل من مهر المثل أو مؤجلاً ففيه قولان: أصحهما: لا يقع الطلاق، كما لو وكل بالبيع، فباع الوكيل بأقل من ثمن المثل، أو بغير نقد البلد أو نسيئة لا يصح، وكما لو قدر ما لا فنقص منه. والقول الثاني: يقع، ويجب عليها مهر المثل؛ كما في جانب المرأة إذا خالف وكيلها لا يمنع وقوع الطلاق، ويجب مهر المثل، بخلاف ما لو قدر مالاً فنقص عنه؛ لأن تلك المخالفة أفحش. وقيل: القول الآخر هو أن الزوج بالخيار بين أن يقر الخلع على ما عقده الوكيل، وبين أن يرد العوض، ويكون رجعياً، فهذا مخرج على قوله القديم الذي يجوز وقف العقود والأول أصح كالوكيل بالبيع لا فرق فيه بين أن ينقص عما قدره الموكل، وبين أن ينقص عن ثمن المثل عند إطلاق التوكيل في أن البيع لا يصح. وإن كان الوكيل من جهة المرأة نظر إن قدرت مالاً فقالت: اختلعني على كذا، فاختلعها [الوكيل] على ذلك القدر، أو على أقل منه - صح، ثم إن أضاف الوكيل إليها فلا شيء على الوكيل، ويرجع الزوج عليها، إلا أن ضمن الوكيل، فله أن يطالب أيهما شاء، وإن لم يضف إليها رجع الزوج على الوكيل، ثم الوكيل يرجع عليها إذا أدى بنية الرجوع، وإن اختلعها الوكيل على أكثر مما قدرته بأن قدرت ألفاً، فاختلعها على ألفين - تقع البينونة، وخلاف الوكيل المرأة لا يمنع وقوع الطلاق.

وعند المُزني: خلاف وكيل المرأة يمنع وقوع الطلاق كخلاف وكيل الزوج. قلنا: وكيل الزوج إذا خالف إنما لا يقع الطلاق؛ لأن المالك للطلاق هو الزوج، فلا ينفذ من نائبه على خلاف ما أذن فيه، والمرأة غير مالكة للطلاق، إنما إليها بدل المال، فلا يمكن رد البينونة، بخلاف وكيلها ومالكها فإنه قد أوقعها بمهر المثل، ثم الوكيل إن أضاف المال إليها، فلا شيء على الوكيل لأنه خرج عن العهدة بالإضافة، ويرجع الزوج على المرأة بمهر المثل على أصح القولين، سواء كان أقل مما سمت له أو أكثر، لأن بدل الخلع إذا فسد يوجب مهر المثل. وفيه قولٌ آخر: أن على المرأة أكثر الأمرين، إما الألف التي سمت، أو مهر المثل، إلا أن يزيد مهر المثل على الألفين؛ فلا يجب تلك الزيادة، كما لو اكن أقل من الألف لا ينقص عن الألف؛ لأنها رضيت. وإن أضاف [الوكيل] إليها ما سمي، وقال: علي أني ضامنٌ، فعليه جميع المسمى ولا يرجع عليها إلا بما تمت وكذلك لو لم يضف الوكيل إليها فعليه جميع ما سمى وإن لم يضمن، فلا يرجع عليها إلا بما سمت، وكذلك لو خالعها الوكيل فاختلعها على غير نس ما سمت تقع البينونة، حتى لو أمرته أن يختلعها على ثوب دفعته إليه فاخعتلها الوكيل على ألف، ولم يضف إليها، أو أضاف فقال: علي ألف من مالها، وأنا ضامن - يجب عليه الألف، ولا يرجع عليه إلا بقيمة الثوب. وإن اختلعها على ألف، وأضاف إليها، ولم يقل: أنا ضامنٌ - رجع الزوج، عليها بمهر المثل على الأصح. وعلى الثاني بالأكثر من مهر المثل، أو قيمة الثوب. ولو اختعلها على ذلك الثوب وثوب من عنده - صح، ولا يرجع عليها بشيء. وأما إذا أطلقت المرأة التوكيل، نظر إن اختلعها الوكيل على مهر المثل، أو أقل من جنس نقد البدل صح، ولزم المسمى حالاً كان أو مؤجلاً، لأن في الأجل نفعاً لها، ثم إن أضاف إليها رجع الزوج عليها، وإذا لم يضف رجع على الوكيل، ثم الوكيل يرجع عليها. وإن اختلعها بأكثر من مهر المثل، أو بغير نقد البلد، أو على متاع، تقع البينونة، ثم إن لم يضف إليها أخذ الزوج من الوكيل ما سمي، وهو يرجع عليها بمهر المثل، وإن أضاف إليها فلا شيء على الوكيل، وعلى المرأة فهو المثل، وكذلك لو اختلعها الوكيل على خمر أو خنزير وقعت البينونة، وعليها مهر المثل، سواء أطلقت الإذن أو نصت على الخمر. فصل في الاختلاف إذا اختلف الزوجان في أصل الخلع، فقالت المرأة: خالعتني وأنكر الزوج - فالقول قوله مع يمينه، لأن الأصل بقاء الخلع والنكاح.

ولو اتفقا على الخلع واختلفا في بدل [الخلع] إما في قدره، أو جنسه، أو وصفه، أو قال أحدهما: كان الخلع على عين، وقال الآخر: كان على مال في الذمة، أو قال الرجل: كان حالاً، وقالت المرأة: كان مؤجلا؛ فإنهما يتحالفان، وإذا تحالفا لا ترد البينونة، ويجب عليها مهر المثل كالمتبايعين إذا اختلفا فتحالفا. وكذلك لو اختلفا في المنصوص بأن خالعها على ألف مطلقاً، ثم قال الزوج: عنيناً الدنانير، وقالت المرأة: عنينا الدراهم، أو قالت: لا أعلم ما أردت يتحالفان. وكذلك إذا كان الخلع مع الأجنبي فاختلف الزوج مع الأجنبي يتحالفان، ويجب على الأجنبي مهر المثل. ولو قال الزوج: عنيت الدراهم وأنت عنيت الفلوس، فلم يقع الطلاق- نظر إن كذبته وقالت: عنيت الدراهم أيضاً - لم يقبل قول الرجل، لاتفاقهما على صورة الخلع، وعلى المرأة مهر المثل، للاتفاق على وقوع البينونة. فإن صدقه يحكم في الظاهر بوقوع الفرقة، وعليها مهر المثل، ولا يقع في الباطن إن كان صادقاً. ولو اختلفا في أصل البدل، فقال الزوج: طلقت على ألف، فقال: بل طلقتني مجاناً - فالبينونة واقعة على قول الزوج، والقول قول المرأة مع يمينها في ألا يلزمها المال. فإذا حلفت لا شيء عليها، ولا يقبل قوله في سقوط نفقتها وسكناها، وكذل لو قال: طلقت بعوض، سألتني في المجلس فقالت: طلقتني بعد مضي زمان الخيار بانت بإقراره، والقول قولها في المال؛ لأن الأصل براءة ذمتها. وكذلك لو قال الزوج: خالعتك معك، وقالت: بل مع أجنبي فلا يلزمني المال، إنما المال على الأجنبي - فالبينونة واقعة، والقول قولها مع يمينها في نفي المال عنها، ولا شيء [للرجل] على الأجنبي، لأنه مقر أن الخلع لم يكن معه. ولو اتفقا على أن القبول كان منها، ولكنها قالت: أمرني فلان بالاختلاع على ألف عليه وقلت: طلقني على ألف على فلان فطلقتني عليه، وقال الزوج: اختلعت من قبل نفسك- يتحالفان وعليها مهر المثل؛ لأنهما تقارا على أن العقد جرى بينهما. ولو قالت: طلقني ثلاثاً بألف، وقال الرجل: بل واحدة - فالقول قول الرجل في الطلاق ويتحالفان، وعليها مهر المثل، لأنهما اختلفا فيما يقابل البدل من المبدل، وكذلك لو قال الزوج: طلقت وحدك على ألف، وقالت: بل طلقتني وضرتي - يتحالفان وعليها مهر المثل.

وإن قالت: سألتك ثلاث طلقات بألف، فطلقتني واحدة - فلك ثلث الألف، وقال الزوج: بل سألت واحدة - تحالفا، ولو قال الزوج: لا، بل طلقتك ثلاثاً فالثلاث واقعة بزعمه، ويتحالفان في البدل، وعليها مهر المثل. ولو خالعها على مال، ثم اختلفا، فقال الزوج: كنت مكرهة فليَّ الرجعة، وأنكرت المرأة الإكراه - لا يُقبل قوله [في الظاهر]، وعليه رد المال. وإن ادعت المرأة الإكراه وأنكر الزوج - فالقول قوله مع يمينه، وعليها المال، فلو قامت بينة على الإكراه عليه رد المال ولا رجعة له لإقراره بوقوع البينونة، فإن لم يوجد منه الإنكار صريحاً، بل سكت وأقيمت عليه البينة وإن كان الإنكار من جهة وكيله، فأقيمت البينة عليه -رد المال، وله الرجعة والله أعلم بالصواب. تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس وأوله: "كتاب الطلاق"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء السادس يحتوي على الكتب التالية الطلاق- الرجعة- الإيلاء- الطهارة - اللعان العدد - الرضاع - النفقة منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابِ الطَّلاَقِ قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يا أَيُهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقرئ: "لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ". رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ - وَهِيَ حَائِضُ- فَسَأَلَ عُمَرُ- رَضِيَ الله عَنْهُ- رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ

تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعُدَهُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ الله أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ".

وفي رواية: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً". الطلاق على أربعة أوجه: واجب، ومحظور، ومستحب، ومكروه: فالواجب: في حق الولي بعد مضي المدة يجب عليه الفيء أو الطلاق، فإن لم يفعل طلق عليه السلطان، وعند الشقاق بين الزوجين إذا رأى الحكمان التفريق.

والطلاق المحظور: هو طلاق البدعة، وهو: أن يطلقها في حالة الحيض، أو في طهر جامعها فيه. والمستحب: هو أن يكون مقصراً في حقها، أو لا تكون المرأة عفيفة؛ يستحب أن يفارقها؛ قال رجل للنبي- صلى الله عليه وسلم-: "إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ قال: "طلقها". والمكروه: هو الطلاق عند سلامة الحال، يكره؛ لما فيه من قطع الوصلة؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

والطلاق ينقسم إلى سني وبدعي: فالسني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. والبدعي: أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه يعصي الرجل به، سواء طلقها بمسألتها أو غير مسألتها، ولكن يقع الطلاق؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر ابن عمر- رضي الله عنه - بالمراجعة، ولولا وقوع الطلاق لكان لا يأمر بالمراجعة.

والمانع من الطلاق في الحيض: أن الحيضة التي يقع فيها الطلاق لا تحسب على العدة، فتطول العدة عليها، وفي الطهر الذي جامعها فيه: أن المرأة ربما حبلت من ذلك الجماع، فلحق الزوج ندم على الطلاق إذا ظهر الحمل. أما إذا خالعها أو طلقها على مال في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه-: فلا يكون بدعياً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أطلق الإذن لثابت في مخالعة زوجته من غير أن يعرض لحالها؛ وذلك لأن الغالب أن الخلع إنما يكون في حال الشقاق والخصومة. فالمرأة إذا كانت تبذل المال للخلاص من الزوج: فلا تبالي بطول العدة عليها، إذا كان الخلع في الحيض، والرجل إذا أخذ المال، فالغالب: أنه لا يلحقه الندم بظهور الحمل، إذا كان الخلع في طهر جامعها فيه. ولو قال لامرأته: أنت طالق في آخر طهرك، أو في آخر جزء من أجزاء طهرك: يقع سنياً أو بدعياً؟ فيه وجهان [لابن سريج]: أحدهما: يقع سنياً: ويحسب ذلك قرءاً: لأن القرء اسم الانتقال، ويوجد الانتقال من الطهر إلى الحيض بعده. والثاني- وهو الأصح، ونص عليه في "الأم": يكون بدعياً، ولا يحسب ذلك قرءاً؛ لأنه لا يوجد عقيب الطلاق شيء من الطهر. ولو قال: أنت طالق في آخر جزء من [أجزاء] حيضك. قيل: هذا يبنى على المسألة الأولى: إن قلنا هناك: يقع سنياً؛ لأنه يصادف الطهر-: فههنا يقع بدعياً. وإن قلنا هناك: يقع بدعياً؛ باعتبار ما بعده-: فههنا: يقع سنياً. وقال ابن سريج في الموضعين: يقع بدعياً. أما في المسألة الأخيرة؛ لأن الطلاق يصادف الحيض، وفي المسألة الأولى: فقد يجوز أن يصادف الطلاق الطهر، ويكون بدعياً؛ كما لو طلقها في طهر جامعها فيه، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات، إنما البدعة في الوقت، فإن العجلاني لما لاعن زوجته، فقال: إن أمسكتها فقد طلقتها ثلاثاً، ولم ينكر عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- ولو كان حراماً لأنكر عليه، وإن لم

يقع الطلاق في تلك الحالة، لتقدم اللعان حتى لا يقدم مثله في الموضع الذي يقع، إلا أن المستحب أن يفرقها على الأقراء، أو على الأشهر، إن لم تكن المرأة من ذوات الأقراء، حتى يمكنه التدارك إذا لحقه الندم. وعن أبي حنيفة ومالك- رضي الله عنهما-: الجمع بين الطلقات الثلاث في قرء واحد بدعة، والمستحب لمن طلق امرأته في حال حيض أو طهر جامعها فيه: أن يراجعها؛ لأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمر بذلك، فإذا طهرت عن الحيض طلقها. فالأولى ألا يطلقها في الطهر الأول الذي يعقب حيضة الطلاق، حتى تحيض حيضة أخرى، وتطهر حتى لا تكون مراجعته إياها لأجل الطلاق؛ كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ". ولا سنة ولا بدعة في طلاق غير المدخول بها، ولا في طلاق الصغيرة التي لم تحض قط، ولا في طلاق الآيسة والحامل، حتى لو طلق غير المدخول بها في حال الحيض، أو الصغيرة والآيسة والحامل بعد ما جامعها-: لا يكون بدعياً؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها فتطول، والصغيرة والآيسة عدتها بالأشهر فلا تطول، والغالب: أنها إذا لم تحض لا تحيل فلا يلحقه الندم، والحامل عدتها بوضع الحمل فلا تطول، والحمل ظاهر؛ فلا يلحقه الندم بظهوره. فأما إذا قال لواحدة من هؤلاء: أنت طالق للسنة، أو قال: للبدعة، أو قال: للسنة والبدعة، أو قال: لا للسنة ولا للبدعة: يقع في الوقت في أي حالة كانت؛ لأنه إذا لم يكن في طلاقها سنة ولا بدعة-: يلغو ذكر الوصف. أما التي في طلاقها سنة وبدعة هي المعتدة بالأقراء، إذا طلقت بلا عوض-: فهذه المرأة إذا قال لها الزوج: أنت طالق مطلقاً، أو: أنت طالق للسنة والبدعة، أو قال: لا للسنة- ولا للبدعة-: يقع في وقت البدعة في أي حالة كانت؛ لأنه وصف الطلاق بصفتين متضادتين فلغتا، وبقي مطلق الطلاق. ولو قال لها: أنت طالق للسنة: فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه-: يقع الطلاق في الحال، وإن كانت في طهر جامعها فيه-: فلا يقع حتى تحيض وتطهر، وإن كانت في حال الحيض والنفاس-: فحتى تطهر؛ فكما طهرت طلقت، وإن لم تغتسل. وعند أبي حنيفة: إن طهرت لأكثر الحيض-: طلقت، وإن طهرت لدون ذلك-: لا تطلق؛ ما لم تغتسل. وإن وطئها في آخر الحيض، واستدام حتى انقطع الدم، وجاء أول الطهر، وهو

مجامع-: لم يقع؛ لأنه لم يأت وقت السنة. ولو قال لها: طالق للبدعة، فإن كانت في حال الحيض أو النفاس، أو في طهر جامعها فيه-: يقع في الحال، وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه-: فكما حاضت طلقت، ولو جامع في ذلك الطهر-: فكما غيب الحشفة وقع الطلاق، ويجب عليه أن ينزع: فإن نزع فلا شيء عليه، وإن نزع وأولج ثانياً-: فعليه الحد، إن كان قد علق به الطلاق الثلاث، وإن كانت رجعية-: فلا حد، وعليه المهر كما لو وطئ الرجعية، وإن لم ينزع، ودام عليه-: فلا حد؛ لأن الابتداء كان مباحاً، فهل يجب المهر؟ حكمه حكم ما لو قال لامرأته: إن قربتك فأنت طالق ثلاثاً؛ ذكرناه في "كتاب الصوم". ولو قال لها: أنت طالق للسنة، وهي حائض أو في طهر جامعها، فيه فنوى الوقوع في الحال-: يقع. وكذلك إن قال: أنت طالق للبدعة، وهي في طهر لم يجامعها فيه، فنوى في الحال-: يقع. ولو قال: أنت طالق، إن كنت في هذا الوقت ممن يقع عليك طلاق السنة: فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه-: يقع في الحال، وإن كانت في حال حيض أو طهر جامعها فيه: لا يقع لا في الحال ولا إذا صارت إلى تلك الحالة؛ لأنه جعل الشرط حالة اللفظ. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة، ثم قال: نويت تفريقها على الأقراء-: لا يقبل قوله في الظاهر؛ لأن ظاهره الوقوع في الحال، ويقبل فيما بينه وبين الله تعالى حتى يقع طلقة واحدة في الحال، إن كانت في حال سنة، وطلقتان في قرءين بعدها. وكذلك لو قال للصغيرة: أنت طالق للسنة، ثم قال: عنيت إذا بلغت، وصارت إلى حال يكون لطلاقها سنة وبدعة: لا يقبل قوله في الظاهر، ويقبل في الباطن. وكذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: عنيت به إذا دخلت الدار، وإذا جاء رأس الشهر-: لا يقبل قوله في الظاهر، ويقبل في الباطن؛ كما لو قال لها: أنت طالق، ثم قال: عنيت من الوثاق-: يقبل في الباطن دون الظاهر. وهكذا في اليمين بالله- عز وجل -: لو حلف لا يدخل الدار، ثم قال: عنيت شهرا-: يقبل في الباطن، ولا يقبل في الظاهر، وهذا مطرد، وهو: أن كل ما لو وصله باللفظ مطلقاً-: دين في الحكم، فإذا نواه بقلبه-: لا يدين في الحكم فيما له، ويدين في الباطن إلا في الاستثناء، فإنه لو قال: أنت طالق، ووصل به: "إن شاء الله" نطقاً-: لا يقع، ولو نوى الاستثناء بقلبه-: لا يدين في الباطن؛ لأنه في الاستثناء يرفع اللفظ.

فإذا نوى التعليق أو الوثاق-: لا يرفع اللفظ، بل يخصه، ويجعل له تأويلاً محتملاً فقبل في الباطن، هذا كما أن النسخ لما كان يرفع الحكم ويسقطه-: لم يصح إلا باللفظ دون القياس، والتخصيص لما لم يكن يرفع اللفظ، بل يخصصه-: صح لفظاً أو قياساً. أما إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: عنيت الوقوع في الحال، أو قال: أنت طالق من الوثاق، ثم قال: عنيت به وثاق النكاح-: يقبل قوله ظاهراً وباطناً؛ لأنه يقر بأمر عليه؛ كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: عنيت به ثلاث طلقات-: يحكم بوقوع الثلاث. ولو قال: أنت طالق لفلان، أو لرضا فلان-: يقع في الحال، ولا يقف على رضا فلان؛ لأنه تعليل، وليس تعليقاً معناه: حتى يرضى فلان؛ كما لو قال لعبد: أنت حر لوجه الله، أو لرضا الله-: يعتق في الحال، فإن قال: عنيت التعليق، يعني: إن رضي فلان-: لا يقبل في الظاهر، ويقبل في الباطن. أما إذا قال: أنت طالق برضا فلان-: فهو تعليق؛ فلا يقع إلا بوجوده؛ كما لو قال: إن رضي فلان، ولو قال: لقدم فلان-: فهو تعليق؛ فلا يقع ما لم يقدم. ولو قال لها: أنت طالق في كل قرء واحدة، أو قال: أنت طالق ثلاثاً، في كل قرء واحدة-: نظر: إن كانت المرأة صغيرة لم تحض قط أو آيسة تقع عليها في الحال طلقة، ثم لا تقع أخرى حتى تحيض وتطهر، حتى لو لم تحض، وإن لم يراجعها الزوجن حتى مضت لها ثلاثة أشهر-: فقد بانت منه، فإذا نكحها بعده، ثم رأت الدم، وطهرت-: فعلى قولي عود اليمين. وكذلك: إن كانت حاملاً-: تقع في الحال طلقة، سواء كانت ترى الدم على الحبل أو لا ترى، وسواء جعلنا ذلك الدم حيضاً أو لم نجعله حيضاً. ثم لا تقع أخرى ما لم تضع الحمل، وتطهر من النفاس، لأن زمان الحمل بمنزلة قرء واحد، ثم إن راجعها الزوج قبل وضع الحمل: فإذا وضعت الحمل، وطهرت من النفاس-: وقعت طلقة أخرى، وتستأنف أخرى. وإن لم يراجعها، حتى وضعت الحمل، وقد انقضت عدتها بوضع الحمل-: فلا يقع بعد ذلك شيء إلا أن ينكحها قبل مضي تمام الأقراء، فيكون على قولي عود اليمين. وقيل: إن كانت المرأة ممن لم تحض قط-: فلا يقع عليها الطلاق، حتى تحيض وتطهر؛ على القول الذي يقول: إن ذلك الطهر لا يحسب قرءاً في العدة. وإن كانت المرأة من ذوات الأقراء: فإن كانت في تلك الحالة طاهرة-: تقع عليها

طلقة، ثم إن كانت قبل الدخول-: بانت منه. فإذا لم ينكحها حتى مضت الأقراء، ثم نكحها-: فقد ارتفع اليمين، وإن نكحها قبلم ضي الأقراء الثلاث-: فعلى قولي عود اليمين. فإن كان بعد الدخول: فإن طهرت من الحيضة الثانية-: تقع طلقة أخرى، فإذا طهرت من الثانية-: تقع الثالثة. ولو قال: أنت طالق في كل طهر واحدة: فإن كانت صغيرة أو آيسة تقع في الحال طلقة، وإن كانت حاملاً فإن كانت لا ترى الدم، أو كانت ترى الدم، وقلنا: لا يكون حيضاً-: تقع في الحال طلقة، سواء كانت في حال رؤية الدم أو لم تكن، ولا تتكرر بتكرر الأطهار على الحمل. وإن قلنا: الحامل تحيض-: فإن كانت في حالة الدم-: لا يقع حتى تطهر، فإن كانت في حالة الطهر-: يقع ويتكرر بتكرر الأطهار على الحمل. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً؛ بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة- نظر: إن أراد ارتفاع طلقتين في الحال التي هي فيها من سنة أو بدعة، وطلقت إذا صارت إلى الحالة الأخرى-: تقع في الحال طلقتان، وطلقة إذا صارت إلى الحالة الثانية. وكذلك: إذا أراد التنصيف-: تقع في الحال طلقتان؛ لأن الصداق لا يتنصف، فلو أراد إيقاع طلقة في الحال، وطلقتين في الأخرى-: يقبل قوله ظاهراً وباطناً، ويقع كما لو نرى؛ لأن البعض يقع على جزء من أجزاء الجملة. ولو أراد وقوع البعض من كل طلقة في الحال-: تقع في الحال ثلاث طلقات. وإن أطلق-: يحمل على التنصيف؛ فتقع في الحال طلقتان، وطلقة إذا صارت إلى الحالة الأخرى. ولو قال: أنت طالق خمساً؛ بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، ولم ينو شيئاً: فمن جعل الخمس عبارة عن الثلاث-: قال: تقع في الحال طلقتان، وطلقة إذا صارت إلى الحالة الثانية، ومن جعل الحكم للفظ-: قال: تقع في الحال ثلاث طلقات؛ حملاً على التنصيف. ولو قال لها: أنت طالق طلقة للسنة وطلقة للبدعة، أو قال: أنت طالق طلقتين: طلقة للسنة، وطلقة للبدعة: فإن لم يكن لها سنة ولا بدعة-: تقع في الحال طلقتان. وإن كان لطلاقها سنة وبدعة-: تقع في الحال طلقة، وطلقة إذا صارت إلى الحالة الأخرى؛ بخلاف ما لو قال: أنت طالق طلقة للسنة والبدعة-: تقع في الحال طلقة، ولا

تقع بعده أخرى؛ لأنه لم يوقع إلا واحدة موصوفة بصفتين متضادتين، فلغت الصفتان، ووقعت طلقة. ولو قال: أنت طالق طلقتين للسنة والبدعة-: فيه وجهان: أحدهما: تقع طلقة في الحال، وطلقة إذا صارت إلى الحالة الأخرى؛ [كالمسألة قبلها الأولى]. والثاني: قال الشيخ- وهو الأصح- تقع في الحال طلقتان؛ لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل طلقة؛ فقد أوقع طلقتين وصفهما بصفتين-: متضادتين؛ فتلغو الصفتان؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، للسنة والبدعة-: تقع الثلاث في الحال. ولو قال: أنت طالق أحسن الطلاق، أو أعدل الطلاق، أو أكمل، أو أتم، أو أجمل أو أفضل-: فهو كما لو قال: للسنة؛ فلا يقع في حال البدعة، حتى تصير إلى حال السنة، إلا أن يريد: أن أحسن أحوالي: [إن طلقتك] فيقع في الحال. ولو قال: أنت طالق أقبح الطلاق، أو أشنع الطلاق، أو أفظع، أو أسمج، أو أفحش، أو أنتن، أو أردأ-: فهو كما لو قال: للبدعة، إلا أن يريد قبح الحال، أي: أقبح أحوالك أن تبيني مني؛ فيقع في الحال. ولو قال: أنت طالق طلاق الحرج: فهو كما لو قال: للبدعة. ولو قال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، أو جميلة فاحشة-: يقع في الحال؛ كما لو قال: أنت طالق للسنة والبدعة. ولو علق طلاقها بصفة، ووجدت [الصفة] في حال السنة-: يقع سنياً، إن وجدت في حال البدعة-: يقع بدعياً، إلا أنه لا يأثم؛ لأنه لم يقصد إليه. ولو قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، أو إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق للسنة: فإن قدم فلان، أو جاء [رأس] الشهر في حال السنة-: طلقت، وإن كانت في حال البدعة-: لا تطلق في الحال، وإذا صارت بعده إلى تلك الحالة-: طلقت. وكذلك لو قال: إذا قدم فلان-: فأنت طالق للبدعة، فإذا قدم، وهي في حال البدعة-: طلقت، وإن كانت ف حال السنة-: لا تطلق حتى تصير إلى حال البدعة.

وهذا بخلاف ما لو قال: إن كنت في هذا الوقت ممن يقع عليك طلاق السنة فأنت طالق، فلم تكن في حال السنة-: لم يقع، وإذا صارت بعده إليها-: لم يقع؛ لأنه جعل الشرط حالة التلفظ. ولو قال لغير المدخول بها أو للحامل-: أو للصغيرة: إذا قدم فلان- فأنت طالق للسن-: فقد طلقت في أي حالة كانت، فإن دخل بها الزوج، أو وضعت [الحمل، أو حاضت الصغيرة بعد التعليق، قبل قدوم فلان، ثم قدم فلان-: يراعى حالها: فإن كانت] في حال السنة-: طلقت؛ وإلا فلا، حتى تصير إليها؛ كما لو كان التعليق بعد الدخول ووضع الحمل؛ لأن الاعتبار بحال وجود الصفة، والله أعلم. فصل فيما لو قال لامرأته إن كنت حائلاً ولو قال لامرأته: إن كنت حائلاً، أو لم تكوني حاملاً-: فأنت طالق- نظر: إن كانت في سن لا يحتمل فيها الحمل الصغير-: يقع الطلاق في الحال، وإن كانت في سن يحتمل فيها الحمل-: فلا يجوز للزوج أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة؛ لأنه علق طلاقها بالحيال: وهو الأصل في النساء، وإن كانت ممن لا تحيض-: قال القفال- رحمه الله-: فحتى تمضي ثلاثة أشهر، حرة كانت أو أمة؛ لأن الحمل لا يظهر في أقل من هذه المدة، وإن كان قد استبرأها قبل اليمين-: هل يكتفي به؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة، وهو الأصح عندي-: يكتفى به؛ لأن المقصود منه معرفة براءة الرحم، وقد حصلت، ويحكم بوقوع الطلاق في الحال. وقال أبو إسحاق: لا يكتفى به؛ لأنه استبراء قبل وجود السبب؛ فعلى هذا: إذا كان هذا القول في خلال الحيض-: فحتى تطهر وتحيض وتطهر. فإذا حكمنا بوقوع الطلاق بعد مضي زمان الاستبراء، فأتت بعده بولد- نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت اليمين-: تبين أنها كانت حاملاً، ولم يقع الطلاق، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين-: تحقق الوقوع، وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، ولدون أربع سنين- نظر: إن لم يطأها الزوج بعد اليمين، أو وطئها ولكن أتت به لدون ستة أشهر من وقت الوطء-: بان أنها حاملاً، ولم يقع الطلاق. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً من وقت الوطء-: فالطلاق واقع؛ لأن الظاهر حدوث

الحمل من الوطء الحادث. وقيل: لا يقع: لاحتمال العلوق قبل اليمين، والأصل بقاء النكاح. أما إذا علق الطلاق بالحمل، فقال: إن كنت حاملاً فأنت طالق- نظر: إن كان الحمل ظاهراً في الحال-: يقع الطلاق، وإن لم يكن ظاهراً-: فيمنع من وطئها حتى يستبرئها وهذا المنع مستحب أم واجب؟ فيه وجهان: أحدهما: واجب؛ كما في المسألة الأولى؛ لوجود التردد بين الحظر والإباحة. والثاني: مستحب، وهو الأصح؛ بخلاف المسألة الأولى؛ لأن- هناك- علق الطلاق بالحيال، وهو الأصل في النساء، وههنا: علق بالحمل، وهو عارض لا يتحقق، [ثم] بعد [مضي] مدة الاستبراء: إن لم يظهر حمل-: يجوز له وطؤها، فلو أتت بعده بولد لأقل من ستة أشهر من وقت اليمين-: تبين أنها كانت حاملاً؛ فقد وقع الطلاق، فلو اتت به لأكثر من أربع سنين-: تحقق عدم الوقوع. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، أو لدون أربع سنين- نظر: إن لم يطأها الزوج بعد اليمين، أو وطئها وأتت بولد لدون ستة أشهر من وقت الوطء-: بان أنها كانت حاملاً؛ وقد وقع الطلاق. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً من وقت الوطء-: لا يحكم بالوقوع؛ لأن الظاهر حدوث الحمل من الوطء الحادث، والأصل بقاء النكاح. ولو قال لها: إن أحبلتك فأنت طالق: فإن كانت حاملاً في الحال-: لا تطلق؛ لأنه يقتضي حملاً حادثاً، ولا يمنع من وطئها، فإذا وطئها مرة-: يمنع بعده من وطئها، حتى تحيض حيضة؛ لاحتمال العلوق من ذلك الوطء ووقوع الطلاق، فإذا حاضت وطهرت-: حينئذ: جاز له وطؤها مرة، ثم يمنع حتى تحيض. فصل فيما لو قال نسائي طوالق. إذا قال الرجل: نسائي طوالق، أو كل امرأة لي طالق-: يقع على كل من كانت في نكاحه، وعلى مطلقته الرجعية. ولو قال: مماليكي أحرار، أو: أرقائي أحرار-: يعتق جميع عبيده وإمائه، ويدخل

فيه: المدبر، وأم الولد، والحمل في البطن، وأشقاص العبيد، وكل عبد نذر إعتاقه، ويعتق عن نذره، وهل يعتق المكاتب؟ فيه قولان: أصحهما: لا يعتق؛ لأنه لا يعده من مماليكه، إلا أن ينويه، فإن لم يكن له إلا مكاتبون-: عتقوا. ولو كان له أربع نسوة، فقال: كلكن طوالق، أو: نسائي طوالق إلا فلانة: وقع الطلاق على الكل، إلا على من استثناها. فلو عزل واحدة بقلبه، ولم يتلفظ- نظر: إن كان في حال خصومة؛ كأن واحدة تقول: قد تزوجت علي، وهو ينكر، فذكر هذا اللفظ، واستثنى المخاصمة-: يقبل قوله ظاهراً وباطناً؛ لأن دعواه موافق لظاهر الحال. وإن لم يكن في حال خصومة، أو كان في حال الخصومة لكنه عزل بقلبه غير المخاصمة-: لا يقبل قوله في الظاهر، ويقبل في الباطن. ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، ثم قال: نويت إلا واحدة-: لا يقبل في الظاهر، وهل يدين في الباطن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يدين، كما لو قال: نويت إن شاء الله- لا يدين في الباطن. والثاني: يدين؛ لأنه يرفع كل اللفظ، كما لو استثنى واحدة من نسائه. قال الشيخ: نظير هذه المسألة لو قال: أربعكن طوالق إلا فلانة-: يصح الاستثناءز ولو نوى بقلبه: إلا فلانة-: هل يدين في الباطن؟ فيه وجهان. ولو كانت له امرأتان: زينب وعمرة، فنادى: يا زينب فأجابته عمرة، فقال: أنت طالق-: سئل فإن قال: علمت أن المجيبة عمرة، وأردت به طلاق زينب-: طلقت زينب ظاهراً وباطناً؛ لأنه ناداها [ونواها]، وطلقت عمرة ظاهرا؛ لأنه خاطبها، ولم تطلق في الباطن؛ لأنه لم يقصدها. ولو قال: علمت أن المجيبة عمرة، وقصدتها بالطلاق-: طلقت عمرة ظاهراً وباطناً، ولم تطلق زينب. وكذلك لو قال: قصدت التي أجابتين، وظننتها زينب-: طلقت عمرة ظاهراً وباطناً؛ لأنه قصد المجيبة، ولم تطلق زينب. ولو قال لامرأته: يا زينب، أنت طالق، واسمها عمرة-: طلقت للإشارة، ولو لم يشر

إلى أحد، فقال: عمرة طالق-: طلقت امرأته، ولا يقبل قوله: عنيت عمرة أخرى. ولو كانت امرأته مع أجنبية، فقال: إحداكما طالق، ثم قال: عنيت الأجنبية: يقبل قوله مع يمينه. ولو كانت مع رجل أو دابة، فقال: عنيت الرجل أو الدابة-: لم يقبل قوله؛ لأن الرجل والدابة [ليسا] محلاً للطلاق. ولو كانت [زوجته] مع أمته، واسم كل واحدة: زينب، فقال: زينب طالق، ثم قال: عنيت [الأمة]: يقبل؛ بخلاف ما لو قال: إحداكما طالق، ثم قال: عنيت الأمة-: فلا يقبل؛ لأن قوله: "إحداكما" صريح فيهما؛ لوجود المخاطبة، وإنما يحمل على الزوجة؛ لما أنه لم يطلق إلا زوجته، وقد صرف إلى ما يقتضيه صريحه فلم يقبل. وإن قال: زينب طالق، فهو ليس بصريح في الأمة، وإنما يتناولها الاشتراك في الاسم؛ كما يتناول سائر من يشاركها في الاسم؛ فلم يصرفها إلى ما يقتضيه الاسم. ولو كانت زوجته مع أجنبية بين يديه، فقالت زوجته: طلقني، فقال: طلقتك، ثم قال: عنيت الأجنبية-: لا يقبل، والله أعلم. باب ما يقع به الطلاق من الكلام قال الله تبارك وتعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وقال عز وجل: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49]، وقال تعالى: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1]. ألفاظ الطلاق تنقسم إلى صريح، وكناية: فالصريح: ما يقع به الطلاق من غير نية، وهي ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق،

والسراح، ففي لفظ "الطلاق" عرف الشرع واللغة، وفي الأخريين عرف الشرع؛ لأنه ورد القرآن مكرراً به.

أما إذا قال لامرأته: طلقتك، أو فارقتك، أو سرحتك، أو أنت طالق أو مطلقة، أو مفارقة، أو مسرحة، أو ناداها: يا مطلقة، يا مفارقة، يا مسرحة، يا طالق-: وقع الطلاق، نوى أو لم ينو؛ لأن معاني هذه الألفاظ صريح في جميع اللغات. فإن قال: عنيت به الطلاق من الوثاق، والمفارقة في المنزل، والتسريح في المنزل، أو قال: أردت غيرها، فسبق لساني إليها-: لا يقبل في الظاهرن ويقبل في الباطن. ولا يجوز للمرأة طاعته في الظاهر: فإن علمت صدقه-: لها أن تقيم معه في الباطن، وعلى الحاكم التفريق بينهما. ولو صرح، وقال: أنت طالق من الوثاق، أو: فارقتك في المنزل-: فلا يقع به الطلاق، إلا أن يقول: أردت من وثاق النكاح؛ فيقع. ولو قال لها: أطلقتك أو أنت مطلقة من الإطلاق-: فهو كناية، وكذلك لو قال: أنت الطلاق، أو أنت طلقة؛ لأنه اسم لنفس الطلاق، فإن نوى به تطليقها-: يقع. وكذلك لو قال: أنت وطلقة، أو أنت والطلاق-: فهو كناية، أي قرنت بينك وبين الطلاق، ولو قال لها: أنت نصف طالق-: فهو صريح، وهو كقوله: نصفك طالق.

ولو قال: أنت نصف طلقة-: فهو كناية؛ كقوله: أنت طلقة، ولو قال: لك طلقة-: فهو صريح. والكناية: كل لفظ ينبئ عن الفرقة وإن دق، فإذا نوى به الطلاق-: يقع، وهي قسمان: ظاهرة وخفية. فالظاهرة: كقوله: أنت خلية، برية، بائن، بتة، بتلة، حرام، حرة. والخفية كقوله: أنت واحدة، ألحقي بأهلك، خليت سبيلك، حبلك على غاربك، لا حاجة لي فيك، اعتدي، استبرئي رحمك، اغربي، اسربي، اذهبي، سافري، اخرجي، قومي، تزوجي، تقنعي، تستري: فإذا نوى بشيء منها الطلاق يقع، وإن لم ينو لم يقع. وكذلك لو قال لها: ذوقي، كلي، اشربي، فنوى يقع، أي: اشربي كأس الفراق، ذوقي مرارة الفراق. ويشترط أن تكون النية مقترنة باللفظ: فإن نوى قبله، ثم تلفظ بلا نية، أو نوى بعد الفراغ من اللفظ-: لا يقع الطلاق، وإن قرن النية ببعض اللفظ فيه وجهان، سواء قرن بأوله أو بآخره. وكل لفظ يفهم منه الطلاق بغلبة الاستعمال-: فهو ملحق بالصريح، فهو كقوله: حلال الله علي حرام ونحوه، وكل لفظ لا ينبئ عن الفرقة؛ كقوله: بارك الله فيك، وما أحسن وجهك، أو أطعميني، أو اقعدي، أو اقربي-: لا يقع به الطلاق، وإن نوى؛ كما لا يقع بمجرد النية. ولو قال: أغناك الله، ونوى الطلاق-: قال صاحب "التلخيص": هو كناية.

ومن أصحابنا من قال: لا يقع به الطلاق؛ لأنه دعاء لا ينبئ عن الفراق، كقوله: بارك الله فيك. ومنهم من قال: يقع؛ لأنه يحتمل أنه عنى به الغنى الذي وعد الله على الفراق؛ بقوله سبحانه تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 13.] فهو كقوله: اعتدي. ولو خاطبها بالكناية، فادعت المرأة: أنه أراد به الطلاق، وأنكر الزوج-: فالقول قول الزوج مع يمينه. ولو قال لامرأته: أنا منك طالق، ونوى وقوع الطلاق عليها-: يقع، وإن لم ينو، ونوى تطليق نفسه-: لا يقع، فلفظ "الطلاق" ههنا صرحي غير محتاج إلى النية، إنما يحتاج إلى الوقوع عليها. ولو قال: أنا منك بائن: يحتاج إلى نية الطلاق، والوقوع عليها؛ حتى يقع، وكذلك: جميع الكنايات، وعند أبي حنيفة: إذا قال: أنا منك طالق، ونوى: لا يقع، وإذا قال: أنا منك بائن ونوى-: يقع؛ لأن البينونة تشمل الجانبين؛ لأن كل واحد منهما يبين من صاحبه. قلنا: وقوع الطلاق في لفظ البينونة بنية لفظ الطلاق، فلو كان الطلاق لا يقع بإضافة الزوج الطلاق إلى نفسه منك لكان لا يقع بإضافة البينونة إلى نفسه. ولو قال: اعتد منك أو أستبرئ رحمي منك، ونوى تطليقها-: ففيه وجهان. أحدهما: لا يقع؛ لأنه ليس محلاً للاستبراء والاعتداد. والثاني: وهو الأصح-: أنه يقع؛ لأنه يكون بمعنى: أعتد عدتك، استبرئ رحمك التي كانت ملكاً لي. ولو قال لعبده: أنا منك حر، أو أعتقت نفسي منك، ونوى-: عتق العبد. وقال ابن أبي هريرة: يقع لطلاق: أي: أعتقت نفسي من تعهدك بعتقك. والأصح: أنه لا يقع بخلاف الطلاق؛ لأن الطلاق يحل النكاح، والزوجية شملت الجانبين؛ فصار أحد الزوجين كناية عن الآخر، والرق لا يشمل الجانبين حتى يصير السيد كناية عن العبد. وإن قال لامرأته: أعتقتك، ونوى الطلاق-: يقع الطلاق، وكذلك لو قال لعبده: طلقتك، ونوى العتق-: عتق. وكذلك جميع صرائح العتق وكناياته: كنايات في الطلاق، وصرائح ألفاظ الطلاق وكناياته: كنايات في العتق.

وعند أبي حنيفة: لفظ العتق كناية في الطلاق، وأما الطلاق ليس بكناية في العتق؛ لأن العتق موضوع لإزالة أقوى الملكين، وهو ملك اليمين، فجاز استعماله في إزالة الأضعف، والطلاق موضوع لإزالة أضعف الملكين فلا يستعمل في إزالة الأقوى. قلنا: الطلاق في الكناية-: لا يقع؛ بمجرد اللفظ، إنما يقع بالنية، فلما جاز أن يقع بلفظ غير موضوع لإزالة الملك، إذا نوى به العتق، وهو قوله: لا ملك ولا سلطان لي عليك-: فباللفظ الموضوع لإزالة أحد الملكين أولى. ولو قال لعبده: اعتد أو استبرئ رحمك، ونوى العتق-: لا يعتق، لأنه ليس محل الاستبراء. وإذا قال ذلك لأمته، ونوى العتق-: تعتق. ولو قال لأمته: أنت علي كظهر أمي، [ونوى العتق-: تعتق، ولو قاله لزوجته، ونوى الطلاق-: لا تطلق، ويكون ظهاراً؛ لأن ما كان] صريحاً في حكم مختص بالنكاح-: لا يصير كناية في حكم آخر مختص بالنكاح، كما أن الطلاق لا يصير كناية عن الظهار، وكنايات الطلاق لا تصير صرائح بمسالة المرأة الطلاق ولا بالغضب. وعند مالك: تصير صرائح بهما. وعند أبي حنيفة: ثلاثة ألفاظ تصير صرائح بالمسألة والغضب، وهي قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، وأمرك بيدك، وبعضها يصير صريحاً بالمسألة على الخصوص، وهي قوله: أنت خلية، برية، بتة، بتلة، حرام، سرحتك، ألحقي بأهلك. ولو قال رجل لآخر: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم-: فهو إقرار منه بالطلاق. ولو قال له: طلقت امرأتك؛ على جهة استدعاء الطلاق لا على سبيل الاستفهام-: فقال: نعم، طلقت-: يقع. ولو قال: نعم أو بلى، ولم يقل: طلقت-: ففيه قولان. أحدهما: يقع؛ وهو صريح. والثاني: كناية؛ لا يقع إلا بالنية. وهذا بناء على ما لو قال رجل لآخر: زوجتك ابنتي، فقال: قبلت، ولم يقل: نكاحها-: هل يصح أم لا؟ فيه قولان.

ولو قيل لرجل: ألك زوجة؟ فقال: لا-: لا يلزمه به الطلاق، وللمرأة تحليفه أنه لم يرد به أنه طلقها، ولو قال لزوجته: لست بزوجة لي-: فهو كناية. وقيل: لا يقع به شيء، وإن نوى؛ لأنه كذب محض. ولو كان اسم امرأته [طالق]، فقال لها: يا طالق-: لا يقع إلا أن ينويه، ولو كان اسمها "طاهرة" فأراد أن يقول: "يا طاهرة" فسبق لسانه: "يا طالقة"-: لا يقع؛ لأنه مغلوب؛ كالمكره. ولو قال الأعجمي لامرأته: أنت طالق، وهو لا يعرف معناه وموجبه-: لا يقع إلا التلفظ به؛ [كالأعجمي إذا لقن كلمة الكفر، فتلفظ به، وهو لا يعرف-: لا يحكم بكفره]. وإن قال: أردت موجبه [بالعربية]؟ فيه وجهان؛ أصحهما: لا يقع. ولو قالت المرأة لزوجها: يا سفيه، فقال الزوج: إن كنت سفيهاً فأنت طالق: فإن أراد به مكافأتها بما قالت-: طلقت، وإن أراد به الشرط: فإن كان سفيهاً طلقت؛ وإلا فلا. فصل في طلاق الثلاث روي أن ركانة بن عبد يزيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي سُهَيْمَةَ أَلْبَتَةَ، وَالله مَا أَرَدتُ إلاَّ وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَرَدتَّ إِلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ رُكَانَةُ؟ وَالله، مَا أَرَدتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم". إذا قال لامرأته: أنت طالق، أو خاطبها بكناية، ونوى الطلاق-: لا تقع إلا واحدة، إذا لم ينو عدداً، فإن نوى بشيء منها طلقتين أو ثلاثاً-: يقع ما نوى. قال الثوري وأبو حنيفة: إذا قال لها: أنت طالق، ونوى اثنتين أو ثلاثاً-: لا تقع إلا واحدة، وقال أبو حنيفة: يجوز إرادة الثلاث بالكناية، ولا يجوز إرادة الثنتين، فنقيس الصريح على الكناية في إرادة الثلاث. ولو قال لها: أنت واحدة. [ونوى الطلاق تقع، ومعناه: أن تتوحدي مني، فلو نوى

ثنتين أو ثلاثاً، أو قال: أنت طالق واحدة]، ونوى ثنتين أو ثلاثاً-: ففيه وجهان: أحدهما: لا تقع إلا واحدة؛ لأن منويه يخالف ملفوظه، والطلاق يقع باللفظ؛ فمراعاة اللفظ أولى. والثاني- وهو الأصح-: يقع ما نوى، ومعنى "واحدة": أي تتوحدين مني بهذا العدد. ولو قال: أنت بثلاث أو باثنتين، ونوى الطلاق-: يقع، ثم إن نوى بقوله: بثلاث- ثلاثاً، أو بقوله: باثنتين- طلقتين-: يقع ما نوى، وإن نوى واحدة-: فوجهان: أحدهما: يقع ما تلفظ به؛ لأنه صريح بالعدد. والثاني: يقع ما نوى؛ لأنه قد يريد بثلاثة: أثلاث طلقة. وإن أطلق-: تقع الثلاث، [إذا قال بثلاث]، ونوى أصل الطلاق؛ لأنه صريح في العدد، كناية في الطلاق. ولو قال [لزوجته]: أنت طالق ثلاثاً، فماتت قبل فراغه من قاف "طالق"، أو ارتدت قبل الدخول-: لا يقع الطلاق. وإن ماتت أو ارتدت قبل الدخول بعد قوله: "طالق" وقبل قوله: "ثلاثاً" [كم يقع]-: اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال- وهو اختيار المزني، وهو الأصح-: يقع الثلاث؛ لأن الطلاق يقع بقوله: أنت طالق، والثلاث تفسير له، ونيته تكون مقترنة بلفظ الطلاق؛ كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثاً-: يقع الثلاث، [ولا يقال: لم يقع إلا واحدة]؛ لأن لفظ الثلاث يوجد بعد البينونة. ومنهم من قال: لا يقع شيء، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن آخر كلامه منوط بأوله؛ فلا يفصل بعضه عن بعض، وتمامه كان بعد الموت. وقيل: تقع واحدة بقوله: أنت طالق؛ فلا تقع الثلاث؛ لأنه وجد بعد الموت، كما لو جن الزوج بعد قوله: "طالق" قبل قوله: "ثلاثاً" لا تقع إلا واحدة. ولو قال لامرأته: أنت طالق ملء اليد، أو ملء البيت، أو ملء الدنيا، أو ملء السماء، أو ملء الأرض-: تقع طلقة واحدة رجعية؛ كما لو قال: كبيرة أو عظيمة.

وعند أبي حنيفة: تقع طلقة بائنة. وكذلك: لو قال: أنت طالق أكبر الطلاق، أو أعظم الطلاق، أو أشد الطلاق، أو أعرض الطلاق، أو أطول الطلاق-: فهي طلقة واحدة رجعية. وعند أبي حنيفة: إذا قال: أكبر، أو أعظم، أو أشد-: فهي بائنة. ولو قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر الطلاق-: تقع الثلاث. ولو قال: أنت طالق عدد التراب-: قيل: تقع واحدة؛ لأن التراب شيء واحد. وقيل- وهو الأصح عندي-: تقع الثلاث؛ كما لو قال: عدد ذرات التراب، أو عدد أنواع التراب. ولو قال لامرأته: يا مائة طالق، أو: أنت يا مائة طالق-: تقع الثلاث: لأنه في العرف كقوله: أنت طالق مائة. ولو قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلاقاً رجعياً-: قيل: لا يقع؛ لأنه لا يتصور في حقها. قال الشيخ: عندي يقع الطلاق، وتلغو صفة الرجعة؛ كما لو قال للمدخول بها: أنت طالق طلاقاً بائنا-: تلغو صفة البينونة، ويقع الطلاق؛ كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلاقاً بدعياً يلغو الوصف، ويقع الطلاق في الحال. والكنايات عندنا: لا تقطع الرجعة، وعند أبي حنيفة: تقطعها إلا ثلاثة ألفاظ: اعتدي، واستبرئي رحمك، وأنت واحدة؛ فنقيس على هذه الألفاظ، فنقول: معتدة عن طلاق لم يستوف الزوج عدد طلاقها، ولا شرط في طلاقها عوضاً؛ فتملك رجعتها؛ كما لو طلقها بصريح لفظ الطلاق، [أو بهذه الألفاظ الثلاث، وكذلك عنده: لو شرط قطع الرجعة في صريح لفظ الطلاق]-: تسقط الرجعة، وعندنا: لا تسقط؛ كما لا يسقط الولاء في العتق بالشرط، ولا بالكناية. ولو قال: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع-: تقع ثلاث طلقات، ولو قال: أردت اثنتين: قُبِلَ قوله مع يمينه، وتقع طلقتان، ولو قال: أردت واحدة-: فلا يقبل، لأن الإشارة صريح في العدد. وقال صاحب كتاب "التقريب": كناية تقبل. ولو قال: أنت طالق، وأشار بثلاث أصابع، ولم يقل: هكذا-: لا تقع إلا واحدة. ولو طلق امرأته طلقة رجعية، ثم قال: جعلتها اثنتين، أو طلقتين-: فهو كناية، فإن

كانت له نية-: تقع طلقة أخرى، وإن لم يكن له نية-: لا تقع أخرى. وكذلك: لو طلق إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو: أنت شريكتها، أو: أنت كهي: فإن نوى به طلاق الأخرى-: يقع، وإن لم ينو-: لا يقع. وكذلك لو قال رجل لامرأته: أشركتك معها، وأراد الطلاق، تطلق امرأة الآخر. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها-: فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد به الأشراك في الطلاق، يعني: أنها إذا دخلت الدار، وطلقت: فأنت أيضاً تطلقين معها، يصح، فإذا دخلت الدار التي قال لها: [إن دخلت الدار]-: طلقتا جميعاً. وإن أراد أنك شريكتها على معنى أنها لا تطلق إلا بدخولك معها الدار-: فلا يصح. وإذا دخلت الأولى-: طلقت دون الأخرى؛ لأن الطلاق إذا علق بصفة-: لا يجوز ضم صفة أخرى إليها. وإذا أراد التشريك في التعليق، يعني: أنك أيضاً إذا دخلت الدار- تطلقين-: ففيه وجهان: أحدهما: يصير حالفاً في حق الثانية، حتى إذا دخلت الدار [طلقت] لأن التشريك في تنجيز الطلاق جائز فكذلك، في التعليق. والثاني: لا يصح في حق الثانية؛ لأنه يمين، واليمين لا يقبل التشريك. ولو قال رجل لآخر: يميني يمينك؛ على معنى أنك إذا حلفت بالطلاق أو بالله-: صرت أنا حالفاً بالله فلا يصح، وإذا حلف هذا الرجل: لا يصير هذا القائل حالفاً. وإن كان ذلك الرجل قد طلق امرأته، أو حلف بالطلاق؛ فإن أراد هذا الرجل؛ أن امرأتي طالق كذلك طلقت، وإن أراد متى طلقت امرأتك وقع الطلاق: على امرأتي: فإذا طلق ذلك الرجل امرأته-: طلقت امرأة هذا. ولو قال لامرأته: أنت طالق عشراً، فقالت: يكفيني ثلاثة، فقال: الباقي لضرتك: لا يقع على ضرتها؛ لأن الزيادة على الثلاثة لغو.

ولو قالت: يكفيني منها واحدة، فقال: الباقي لضرتك-: يقع عليها ثلاث، وعلى ضرتها طلقتان؛ قال الشيخ: إذا نوى. ولو قال لها: أنت طالق طلاقاً-: لا يقع إلا [طلقة] واحدة؛ كما لو قال: طلاقاً حسناً؛ لأن الوصف لا يوجب تكرار الموصوف. ولو قال لها: أنت طالق أو لا، أو قال: أنت طالق، أو لست بطالق-: لا يقع؛ لأنه شك، وبالشك: لا يقع الطلاق. ولو قال: أنت طالق بل-: لا يقع؛ لأن حرف "بل" للرجوع عن الكلام الأول، ولا يصح الرجوع عن [كلام] الطلاق بعد ما أوقعه. وقال ابن الحداد: لو قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق واحدة بل ثلاثاً، إن دخلت الدار-: يقع في الحال واحدة، وتتم الثلاث بدخول الدار. وقيل: يرجع الشرط إلى الكل؛ فلا يقع شيء حتى تدخل الدار؛ فإذا دخلت وقع الثلاث. قال الشيخ: والأول أصح. ولو كانت له امرأتان، فقال لإحداهما: أنت طالق طلقة، بل هذه ثلاثة تقع على الأولى طلقة، وعلى الأخرى ثلاث. ولو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع، أو: أنت طالق لا تطلقين، أو: أنت طالق لست بطالق-: يقع؛ لأنه بعد ما أوقعه: يريد أن يرفعه؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً-: يقع الثلاث. فصل فيما لو كتب الأخرس بطلاق امرأته إذا كتب الأخرس بطلاق امرأته، أو أشار به إشارة مفهومة-: يقع، سواء نوى أو لم ينو؛ لأن الكتبة والإشارة منه بمنزلة نطق الناطق. فأما الناطق: إذا أشار بالطلاق بأن قالت له زوجته: طلقني، فأشار بيده، أن اذهبي-: لا يقع الطلاق، نوى أو لم ينو. قال صاحب "التلخيص": الإشارة بالطلاق كناية في حق الناطق؛ وبه قال أبو زيد. والأول أصح؛ لأنها لا تعمل في حق الناطق.

فأما إذا كتب الناطق بطلاق امرأته: فإن تلفظ به يقع، وإن لم ينو ولم يقل-: لا يقع. وإن نوى حالة الكتبة، ولم يتلفظ- نظر: إن كانت المرأة غائبة عن المجلس، سواء كانت في تلك البلدة أو لم تكن-: يقع عليها الطلاق. وقيل: لا يقع؛ لأنه فعل من الأفعال؛ كالضرب ونحوه. والأول المذهب؛ لأن الكتبة بين الغائبين؛ كالكلام بين الحاضرين. وإن كانت المرأة حاضرة، فاختلف أصحابنا: منهم من قال: لا يقع؛ لأن بالكتبة يخاطب الغائب لا الحاضر. ومنهم من قال- وعليه الأكثرون-: يقع؛ لأن الكتبة كناية، والطلاق يقع بنية؛ فيستوي فيه الحاضر والغائب. فحيث قلنا: يقع-: فلا فرق بين أن يكتب على القرطاس، أو على اللوح، أو على الأرض بالإصبع. وعند أبي حنيفة: لا يقع إلا أن يكتب على القرطاس، وهو صريح عنده في حق الغائب، فإن قلنا: يقع-: ينظر في المكتوب: فإن كتب: أما بعد، فأنت طالق-: يقع الطلاق في الحال، وإن ضاع الكتاب. وإن كتب: إذا أتاك كتابي فأنت طالق-: فلا يقع حتى يأتيها الكتاب، فلو ضاع الكتاب قبل الوصول إليها-: لا يقع. وإن تخرق وضاع بعضه- نظر: إن تخرق الحواشي، ولم يفت شيء من المكتوب، فأتاها-: وقع لأن الكتاب اسم للمكتوب لا للبياض، وقد أتاها [المكتوب]. وكذلك لو امحي وبقي أثر يمكن قراءة كله-: يقع، وإن امحي كله بحيث لا يمكن قراءة شيء منه، [فأتاها القرطاس]-: لا يقع؛ لأن الكتاب لم يأتها، فإن فات بعض المكتوب، أو امحي بعضه- نظر: إن فات أو امحي موضع الطلاق، فأتاها [الباقي-:] لم يقع، وإن بقي موضع الطلاق، فأتاها- ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع؛ لأن الطلاق معلق بإتيان الكتاب، ولم يأتها كله. والثاني: يقع؛ لأن المقصود قد أتاها.

أما إذا كتب: إذا أتاك طلاقي، ففات الكل إلا موضع الطلاق، فأتاها-: وقع، وإن فات محل الطلاق-: لم يقع. ولو قال: إن وصل إليك طلاقي فأنت طالق، ثم كتب: إن أتاك كتابي فأنت طالق، فنوى، فإذا أتاها-: يقع طلقتان؛ لوجود الصفتين جميعاً، وهو وصول الطلاق ومجيء الكتاب. ولو كتب: إذا قرأت كتابي فأنت طالق: فإن كانت تحسن القراءة-: يتعلق بقراءتها، ولا يقع بقراءة غيرها عليها، فإن قرأت إلا موضع الطلاق-: لا يقع، وإن قرأت موضع الطلاق لا غير-: فعلى الوجهين. وإن كانت لا تحسن القراءة-: فيقع بقراءة غيرها عليها، ولو أتاها الكتاب، فأنكر الزوج الكتبة، أو أقر بالكتبة وأنكر النية-: يقبل قوله مع يمينه. ولو شهد الشهود على أن هذا خطه-: لا يثبت به الطلاق، ما لم يشهدوا على قراءته أو إقراره بأنه قد نوى. ولو كتب: أنا منك بائن-: فهو كناية من وجهين: من حيث اللفظ، ومن حيث الكتبة. ولو قال الزوج [لأجنبي]: اكتب بطلاق امرأتي، فكتب [الأجنبي]، ونوى الزوج-: لا يقع؛ لأن النية وجدت من غير من وجدت منه الكتابة؛ كما لو قال لأجنبي: قل لامرأتي: أنت بائن، فقال لها: ونوى الزوج-: لا يقع. والكتبة بالعتق والظهار والإيلاء كالكتبة ابالطلاق، وفي الكتبة بالتزويج: لا تصح؛ لأن الكتبة كناية، والنكاح لا ينعقد بالكناية؛ لأن الشهادة فيه شرط، والشهود لا يطلعون على ما في الضمير. فصل إذا فوض الطلاق إلى امرأته؛ فقال: طلقي نفسك، فقالت: طلقت، أو سرحت-: يقع الطلاق، واتفاقهما باللفظ ليس بشرط، والنية ليست بشرط من واحد منهما في الصريح، ويشترط التعليق في المجلس؛ على أصح القولين؛ لأنه في معنى التمليك. ولو فوض بلفظ الصريح، فقالت: أبنت نفسي، ونوت-: يقع؛ وكذلك: ولو فوض

إليها بلفظ الكناية، فقال: أمرك بيدك، أو فوضت أمرك إليك، أو ملكتك أمرك، فنوى تفويض الطلاق إليها، فطلقت نفسها بصريح اللفظ أو بالكناية، ونوت، أو قالت للزوج: طلقتك، فنوت تطليق نفسها-: يقع. ولو قال لها: اختاري نفسك، ونوى تفويض الطلاق إليها فقالت: اخترت، ونوت يقع طلقة رجعية، وإن لم تقل: نفسي، فأما إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت-: لا يقع حتى تقول: اخترت نفسي، فإذا اختارت نفسها-: تقع طلقة [رجعية] وإذا اختارت زوجها-: لا يقع؛ وهو قول عمر، [وابن عمر] وابن عباس، وابن مسعود، رضي الله عنهم. ولو قالت: اخترت الأزواج-: يقع؛ لأنها لا تصل إلى الأزواج إلا بفراقه؛ كما لو قال لها: تزوجي، ونوى-: يقع. وقال أبو إسحاق: لا يقع؛ لأن الزوج من الأزواج؛ كما لو قالت: اخترتك، ولو قالت: اخترت أبوي-: فعلى وجهين: أحدهما: يقع؛ لأنه يتضمن الرجوع إليهما؛ كما لو قال الزوج: ألحقي بأهلك، ونوى-: يقع الطلاق. والثاني: لا يقع؛ لأن اختيار الأبوين لا يقتضي فراق الزوج. وعند أبي حنيفة: إذا اختارت نفسها-: يقع طلقة بائنة. وعند مالك، يقع ثلاث طلقات. ولو قال لها: طلقي نفسك بلفظ الصريح، فطلقت بالكناية-: لا يقع. وكذلك: لو قال: طلقي بلفظ الكناية، فطلقت بالصريح؛ بخلاف ما لو أطلق: فلا يشترط اتفاق اللفظين. ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فطلقت واحدة-: تقع تلك الواحدة. ولو قال: طلقي نفسك واحدة، فطلقت ثلاثاً-: تقع الواحدة. وعندنا، وعند أبي حنيفة: لا تقع؛ لأنه لم يفوض إليها ثلاثة. قلنا: في إيقاع الثلاث إيقاع الواحدة، كما لو فوض إليها ثلاثاً، فطلقت واحدة-: تقع؛ لأن في تفويض الثلاث تفويض الواحدة؛ وكذلك في التوكيل بالطلاق.

ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت-: يقع الثلاث. ولو قال لها: اختاري من عدد الطلاق ما شئت، فاختارت واحدة، أو اثنتين-: وقعتا، وإن اختارت الثلاث-: لم تقع؛ لأن "من" للتبعيض، فتقتضي اختيار البعض. ولو قال: طلقي نفسك؛ ونوى الثلاث، فقالت: طلقت، فإن نوت الثلاث-: يقع الثلاث؛ وإلا فتقع واحدة. ولو نوى كل واحدة منهما عدداً: فإن اتفقت نيتهما-: وقع ما نويا، وإن اختلفت نيتهما-: يقع الأقل. ولو اختلفا في التخيير، فقالت المرأة: خيرتني، وأنكر الزوج-: فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح. وكذلك لو قال: خيرتك، ولكنك لم تختاري، فقالت: اخترت: فالقول قوله [مع يمينه]. ولو اتفقا على اختيارها، فقالت: نويت، وأنكر الزوج نيتها-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعرف بضميرها. ولو قال لها: علقي طلاقك بدخول الدار، فعلقت-: لم يصح؛ لأن التعليق يمين لا تجري فيه النيابة؛ وكذلك: لو وكل أجنبياً بتعليق الطلاق أو العتق لا يصح، وإذا قال لها: طلقي نفسك، إن شئت ثلاثاً، فطلقت واحدة، أو قال: [طلقي نفسك، إن شئت] واحدة، فطلقت ثلاثاً-: قال صاحب "التلخيص": لا يقع شيء فيهما، ووافقه الأصحاب، بخلاف ما لو قدم العدد على المشئية، فقال: طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت، فطلقت واحدة-: يقع واحدة. ولو قال: طلقي نفسك واحدة إن شئت، فطلقت ثلاثا-: يقع واحدة؛ لأنه إذا قدم المشيئة، فكأنه جعل العدد شرطاً في المشيئة، فجعل إليها أن تعلق نفسها ذلك العدد، إن شاءت لا غير، معناه: إن اخترت أن تطلقي نفسك ثلاثاً-: جعلتها إليك؛ فإذا أوقعت غيرها-: لم يجز ذلك؛ فلم يقع. وإذا أخر المشيئة، ولم يجعلها صفة، ولكن ملكها الطلاق، فقوله: "إن شئت"-: راجع إلى أصل الأمر، أيك إن شئت فافعلي، فوقع ما فوض إليها، كما لو لم يقيد بالمشيئة.

فصل قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ .....} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2.1]. إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، أو محرمة، أو حرمتك: فإن نوى به الطلاق، أو صار معهوداً بغلبة الاستعمال-: فهو طلاق، وإن نوى الظهار-: فهو ظهار، وإن نواهما؛ فلا يقعان، وهو طلاق؛ لأنه أقوى من الظهار؛ وإنما يزيل الملك. وقيل: هو ظهار؛ لأن الأصل بقاء النكاح. ولو نوى تحريم عينها-: لم تحرم عليه، وعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ، وليس بيمين، بل موجبه موجب اليمين، حتى يجوز له وطؤها قبل التكفير؛ وهو قول ابن مسعود؛ بخلاف الظهار: لا يلزمه فيه الكفارة بنفس اللفظ، ما لم يصير عائداً؛ لأن: هناك لا يمكنه تحقيق التحريم بلفظ الظهار؛ إذ لا يجوز إرادة الطلاق به، فشرطنا مضي إمكان الطلاق بعد؛ حتى يصير مخالفاً لقوله، وههنا: أمكنه تحقيق التحريم بإرادة الطلاق بنفس اللفظ؛ فلما لم يفعل؛ كان مخالفاً؛ فلزمته الكفارة. ولو أطلق لفظ التحريم-: ففيه قولان. أصحهما: تجب كفارة اليمين، لأن كل كفارة تجب بالكناية مع النية؛ فيكون لوجوبها صريح؛ قياساً على كفارة الظهار. والثاني: لا تجب الكفارة إلا بالنية؛ لأنه من باب الكنايات، فإنه كناية في الطلاق والظهار. ولو قال: أنت حرام، ولم يقل: علي-: فهو كناية قولاً واحداً. ولو خاطب به أمته: فإن نوى به العتق-: فهو عتق، وإن نوى تحريم ذاتها-: لم تحرم، وعليه كفارة اليمين. وكذلك: إذا أطلق، ولم ينو شيئاً على أصح القولين، ولو خاطب به عبده، أو زوجته الرجعية، أو أمته التي هي أخته، ونوى تحريم الذات، وأطلق-: لا يجب شيء؛ لأنهن محرمات عليه؛ كما لو خاطب به أجنبية. ولو خاطب به زوجته المعتدة عن الشبهة، أو أمته المعتدة، أو الذمية، أو المجوسية، أو الوثنية، أو المرتدة-: فيه وجهان:

أحدهما: لا تجب الكفارة؛ لأنهن محرمات؛ [كالأجنبية]. والثاني: تجب؛ لأنهن يحللن بزوال العارض في هذا الملك؛ كما لو خاطب به أمته المحرمة والصائمة أو الحائض، أو قال: كل ما أملكه علي حرام، أو قال: حلال الله علي حرام- نظر: إن لم يكن له زوجة ولا جارية لا تلزمه الكفارة، وإن كانت له نساء وإماء تلزمه، وكم يلزمه؟ فيه قولان: أصحهما: لا تجب إلا كفارة واحدة؛ لاتحاد اللفظ؛ كما لو حلف: لا يكلم زيداً وعمراً وبكراً أو خالداً، فكلمهم-: لا تجب إلا كفارة واحدة. والثاني: تجب عن كل واحد كفارة؛ لتعدد المحل. وعند أبي حنيفة: لفظ التحريم يمين، وإذا استعمله في زوجة أو أمة-: فهو كما لو حلف ألا يطأها، وإذا استعمل في طعام؛ كأنه حلف ألا يأكله، فإذا وطئ أو أكل، تلزمه الكفارة، ويروى ذلك عن أبي بكر وعائشة رضي الله عنهما. ولو قال لزوجته أو أمته: أنت علي كالميتة، أو كالدم، أو [كالحمر، أو كالخنزير] فهو كقوله: علي حرام إذا نوى، ويكون كناية، والله أعلم. فصل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً-: يقع الثلاث، سواء كان مدخولاً بها أو لم يكن. ولو قال لها: أنت طالق طالق، أو أنت طالق أنت طالق، إن لم يكن مدخولاً بها-: لا يقع إلا واحدة؛ لأنها تبين بالأولى، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق وطالق، أو أنت طالق بل طالق، أو أنت طالق طلقة طلقة، أو طلقة وطلقة. ولو قال لغير المدخول بها: [أنت طالق إحدى عشرة طلقة-: تقع الثلاث؛ كما لو قال: ثلاثاً. ولو قال: واحدة ومائة-: لا يقع إلا واحدة]، ولو قال: إحدى وعشرين-: فوجهان: أحدهما: وهو [قول ابن عمر]-: لا يقع إلا واحدة؛ لأنه عطف العشرين على واحدة؛ كما لو قال واحدة ومائة.

والثاني: وبه قال أبو حنيفة، وصاحباه-: تقع الثلاث؛ لأنها بمنزلة كلمة واحدة؛ كما لو قال: إحدى عشرة. ولو قال لها: أنت طالق واحدة ونصفاً-: لا يقع إلا واحدة، ولو قال: اثنتين إلا نصفاً-: تقع طلقتان. فأما المدخول بها إذا قال لها الزوج: أنت طالق أنت طالق-: نظر: إن قالهما في مجلسين، أو سكت بينهما زماناً-: يقع طلقتان، وإن قالهما من غير فصل: أنت طالق أنت طالق، أو قال: أنت طالق طالق- نظر: إن قصد بالثانية تكرار الأولى، أو إفهام الكلام الأول-: فلا يقع إلا واحدة، وإن قصد الإيقاع-: يقع طلقتان، وإن أطلق-: فقولان: أصحهما: تقع طلقتان؛ لأن ظاهره الإيقاع، وإنما تجعل الثانية تأكيداً إذا نواه. والثاني: تقع واحدة؛ لأنها اليقين. ولو ذكر هذه اللفظة ثلاثاً ولاءً: فإن أراد بالأخريين التكرار-: فلا تقع إلا واحدة، وإن أراد الإيقاع-: تقع الثلاث طلقات، وإن أطلق-: فعلى القولين: أصحهما: يقع الثلاث. وإن أراد باللفظة الثانية التكرار، وبالثالثة الإيقاع، أو أراد بالثانية الإيقاع، وبالثالثة تكرار الثانية-: تقع طلقتان، وأن أراد بالثالثة تكرار الأولى-: فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل، ويقع الثلاث؛ لأن بينهما فصلاً. والثاني: يقبل، ويقع طلقتان؛ لأنه يسير. ولو قال لها: أنت طالق وطالق، أو: أنت طالق وأنت طالق، أو قال: أنت طالق بل طالق، أو أنت طالق ثم طالق-: يقع طلقتان، وإن قال: أردت التكرار-: لم يقبل في الظاهر، لوجود المغايرة بين اللفظين. ولو قال: أنت طالق وطالق، أو أنت طالق طلقة وطلقة فالمنصوص عليه وهو المذهب-: أنه تقع طلقتان، ولو قال: أنت طالق وطالق وطالق، أو قال: أنت طالق بل طالق بل طالق، أو قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، [أو أنت طالق فطالق فطالق] تقع طلقتان، ويسأل عن الثالثة، فإن أراد بها تكرار الثانية-: لا يقع، وإن أراد الاستئناف-: تقع الثلاث، وإن أطلق-: فقولان، وإن أراد بالثانية تكرار الأولى-: لا يقبل، ويقع الثلاث؛ لأنه لو أراد بالثانية تكرار الأولى-: لا يقبل.

ولو قال: أنت طالق طلقة وطلقتين، أو قال: طلقة فطلقتين يقع الثلاث، فإن قال: أردت إعادة الأولى في الأخريين فطلقتين: لا يقبل. ولو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، أو أنت طالق ثم طالق بل طالق-: يقع الثلاث، وإن قال أردت التكرار-: لا يقبل؛ لوجود المغايرة بين الألفاظ. ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق، أو قال: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار، فدخلت- نظر: إن كانت مدخولاً بها-: يقع طلقتان، فإن لم يكن مدخولاً- نظر: إن قدم الجزاء، فقال: أنت طالق وطالق، إن دخلت الدار، أو: أنت طالق واحدة وواحدة، إن دخلت الدار، فدخلت-: تقع طلقتان. وإن قدم الشرط، فقال: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق-: فيه وجهان. أحدهما- وبه قال أبو حنيفة: يقع طلقة واحدة؛ كما في التنجيز، إذا قال لها: أنت طالق وطالق-: لا يقع إلا واحدة. والثاني: يقع طلقتان؛ لأنهما يقعان معاً بدخول الدار؛ كما لو قدم الجزاء. ولو قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق، إن دخلت الدار فأنت طالق، إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت الدار-: كم يقع؟ إن قصد به التكرار-: فواحدة، وإن قال لها في مجالس، أو قصد الاستئناف فثلاث، وإن اتحد المجلس. وإن أطلق-: فقولان؛ بناء على ما لو وجب بفعل واحد في أيمان-: يلزمه كفارة واحدة أم كفارات؟ وفيه قولان: قال الشيخ: ولا فرق بين المدخول بها وبين غير المدخول بها؛ لأنا إذا قلنا: يتعدد بدخول واحد يقع الكل دفعة واحدة. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وإن دخلت الدار، فأنت طالق طلقتين، فدخلت-: طلقت ثلاثاً، سواء كانت مدخولاً أو غير مدخول بها. قال الشيخ: لأنها كما دخلت مرة-: يقع الكل دفعة واحدة؛ لأنه لم يعطف البعض على البعض؛ بخلاف ما لو قال: إن دخلت فأنت طالق وطالق، والله أعلم بالصواب. باب الطلاق بالوقت يجوز تعليق الطلاق بالأوقات وبالصفات، وكذلك: العتق، ولا يقع قبل مجيء ذلك الوقت، ولا قبل وجود تلك الصفة، فإذا قال: أنت طالق في شهر كذا، أو في أول شهر كذا، أو في غرة شهر كذا، أو إذا أهل هلال شهر كذا، أو إذا جاء شهر كذا.

فإذا أهل هلال ذلك الشهر-: يقع الطلاق، ولو رأى الهلال قبل غروب الشمس-: لا يقع؛ لأنه ليس من الشهر الثاني. ولو قال: في شهر كذا، ثم قال: عنيت في أوسطه، أو قال: في غير شهر كذا، ث 3 م قال: عنيت اليوم الثاني، أو الثالث-: لا يقبل في الظاهر؛ لأنه يتعلق بأول وجوده، ويقبل في الباطن؛ لأن الغرة اسم لثلاثة أيام من أول الشهر. ولو قال: أنت طالق في رمضان، وهو في رمضان: يقع في الحال، فإن قال: إذا جاء رمضان، أو في أول رمضان-: فلا يقع ما لم يأت رمضان العام القابل. ولو قال: في يوم كذا-: يقع بطلوع فجر ذلك اليوم. ولو قال: في آخر شهر كذا-: يقع بطلوق الفجر من اليوم الأخير. وقيل: عند غروب الشمس من اليوم الأخير. وقيل: بدخول ليلة السادس عشر لأنه أول جزء من آخر الشهر. ولو قال: في سلخ شهر كذا-: يقع بطلوع فجر من اليوم الأخير. ولو قال: عند انقضاء شهر كذا، أو انسلاخ شهر كذا-: يقع في آخر جزء من اليوم الأخير، ولو قال: في أول آخر شهر كذا-: يقع بدخول ليلة السادس عشر. وقيل: بطلوع الفجر من اليوم الأخير. ولو قال: في آخر أول الشهر-: يقع قبل غروب الشمس من اليوم الخامس عشر. وقيل: عند الغروب من اليوم الأول. ولو قال: أنت طالق أمس غد، أو غد أمس على الإضافة-: يقع في الحال؛ لأن اليوم الذي هو فيه أمس غد وغد أمس. ولو قال: غداً أمس أو أمس غداً، لا على الإضافة-: طلقت إذا طلع الفجر من الغد، ولغا ذكر الأمس. ولو قال: أنت طالق اليوم غداً، أو غداً اليوم-: طلقت في الحال؛ لأنه يقين، ولا تطلق غداً؛ لأنه يريد طلاقاً تكون طالقاً به غداً. فإن قال: أردت طلقة في اليوم، وطلقة في الغد-: تقع طلقتان: واحدة اليوم، والأخرى إذا جاء الغد. وكذلك لو قال: أردت نصف طلقة اليوم، ونصف طلقة غداً-: تقع طلقتان.

ولو قال: أردت طلقة اليوم، والنصف الثاني غداً-: ففيه وجهان: أحدهما: هكذا تقع طلقتان: طلقة اليوم، وأخرى إذا جاء الغد. والثاني: يقع في الحال طلقة، ولا يقع في غد شيء؛ لأن النصف الثاني من هذه الطلقة قد وقع اليوم، فلم يبق ما يقع غداً. ولو قال: أنت طالق اليوم أو غداً-: تطلق غداً؛ لأنه يقين، وفي اليوم شك. [وقيل: يقع] اليوم؛ لأنه جعل كل واحد محلاً للطلاق، فيطلق بأولهما. قال الشيخ: والأول أصح. ولو قال: أنت طالق اليوم، أو قال: أنت طالق الشهر أو السنة-: يقع في الحال. ولو قال: إذا مضى اليوم فأنت طالق-: فإذا غربت شمس ذلك اليوم طلقت، وإن لم يبق منه إلا ساعة؛ لأنه عرف اليوم بالألف واللام؛ فانصرف إلى اليوم الذي هو فيه، حتى لو قاله بالليل-: يكون لغواً لا يقع به شيء. ولو قال: إذا مضى يوم فأنت طالق-: لا يقع، حتى يأتي ذلك الوقت من اليوم الثاني؛ لأنه نكر اليوم فيقضي يوماً كاملاً. ولو قاله بالليل-: فحتى تغرب الشمس من اليوم الذي يعقب تلك الليلة. وكذلك لو قال: إذا مضى الشهر، فإذا غربت الشمس من اليوم الأخير-: يقع، وإن لم يبق من الشهر إلا ساعة. ولو قال: إذا مضى شهر-: فلا يقع، حتى يمضي ثلاثون يوماً، فإذا قاله بالنهار-: يكمل يوم اليمين باليوم الحادي والثلاثين، وإذا قاله بالليل-: فحتى يمضي ثلاثون يوماً، ومن الليلة التي تعقب الثلاثين بقدر ما مضى من ليلة اليمين. ولو قال: إذا مضت السنة-: تنصرف إلى السنة العربية، وإذا غربت الشمس من آخر يوم ذي الحجة-: طلقت، وإن لم يبق منه إلا ساعة. ولو قال: إذا مضت سنة-: فحتى تمضي اثنا عشر شهراً كوامل، وتكون أحد عشراً [شهراً] بالأهلة، سواء كانت كاملة أو ناقصة، [ويكمل شهر اليمين ثلاثين يوماً بالشهر الثالث عشر، سواء كانت كاملاً أو ناقصاً].

ولو قال: أردت سنة رومية أو فارسية-: يقبل في الباطن، ولا يقبل في الظاهر؛ لأن سنة الروم والفرس أطول؛ فهو يريد تأخير الطلاق. ولو علق طلاقها بوقت أو صفة، ثم قال: عجلت تلك الطلقة-: لا تتعجل، فإن عنى به إيقاع طلاق في الحال-: يقع في الحال طلقة، وعند وجود الصفة أخرى. ولو قال: أنت طالق الشهر الماضي، أو في الشهر الماضي، أو قال: أنت طالق أمس- نظر: إن لم يكن له نية، أو تعذر الرجوع إليه بموت، أو جنون، أو غباوة-: يحكم بوقوع الطلاق في الحال. ولو قال: أردت به طلاقاً-: يقع في الحال، ولا يستند [إلى الشهر الماضي]. وإن قال: أردت به وقوع الطلاق في الشهر الماضي، ولم أرد إيقاعاً في الحال. وقال الربيع: فيه قول آخر: إنه لا يقع للاستحالة؛ كما لو قال: إن طرت أو صعدت السماء- فأنت طالق-: لا يقع. فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأنه علق بمستحيل وجوده. والثاني: يقع؛ لأنه أوقع الطلاق، ويريد أن يرفعه بمستحيل؛ فيلغو المستحيل. ومنهم من فرق بينهما- وهو المذهب- وقال في الإضافة إلى "أمس" يقع؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم يريد رفعه بالإضافة إلى أمر؛ كما لو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع في الحال، وفي الصعود والطيران: لم يوقع الطلاق، بل علقه على أمر سيوجد، ولم يوجد فلم يقع. ولو قال: أردت بها أنها كانت مطلقة من زوج آخر في الشهر الماضي، أو مني في نكاح آخر [قبل منه] إن عرف ذلك أو قامت عليه بينة، وإن لم يعرف-: لا يقبل، ويقع في الحال، فإن أراد الإقرار أني كنت طلقتها في الشهر الماضي-: قبل قوله مع يمينه، وعدة المرأة من ذلك الوقت، إن صدقته، وإن كذبته فمن الآن. ولو قال: إذا قدم فلان فأنت طالق ثلاثاً قبله بشهر فإن قدم قبل مضي شهر من وقت اليمين-: لا يقع الطلاق، وتنحل اليمين. وإن قدم بعد مضي شهر-: تبينا وقوع الطلاق قبله بشهر، فإن كان قد خالعها بعد اليمين قبل قدوم فلان، أو كان قد علق العتق بقدوم فلان على هذه الصفة، فباعه قبل قدوم

فلان-: يحسب شهر قبل قدومه، فإن وقع الخلع أو البيع في الشهر-: كان الخلع والبيع باطلين؛ لتقدم الطلقات الثلاث والعتق. وإن وقع الخلع والبيع قبل الشهر-: فهما صحيحان، ولم يقع الطلاق المعلق والعتق بهما. ولو قال لها: أنت طالق يوم يقدم فلان، أو قال لعبده: أنت حر يوم يقدم فلان، أو قال: إذا قدم زيد غداً فأنت طالق، فخالع المرأة في أول النهار، أو باع العبد، ثم قدم زيد في ذلك اليوم-: ما حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما: صح الخلع والبيع، ولم يقع الطلاق والعتق؛ لأنهما معلقان بالقدوم، ووجد القدوم من بعد. والثاني: يتبين وقوع الطلاق والعتق بطلوع الفجر من ذلك اليوم؛ كأنه قال: أنت طالق، أو أنت حر في اليوم الذي يتصور فيه قدوم فلان-: فلم يصح الخلع ولا البيع. وكذلك: لو ماتت المرأة بكرة ثم قدم فلان وقت الظهر-: هل يتبين أنها ماتت مطلعة؟ فعلى وجهين، وأصل هذا: أنه إذا نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم في خلال النهار-: هل يلزمه صوم يوم بعده؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الصوم معلق بالقدوم، وكان قدومه في أثناء النهار، وصوم النهار-: لا يتصور. والثاني: يلزمه؛ لأنا تبينا بالقدوم أن الصوم لزمه من أول النهار، كأنه نذر صوم اليوم الذي يتصور فيه قدوم فلان. وإذا قال: إذا رأيت الهلال فأنت طالق-: ينصرف إلى العلم، فإذا تحقق دخول الشهر-: طلقت، وإن لم تر الهلال؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيتِهِ" وأراد - صلى الله عليه وسلم- به العلم بدخول الشهر. فإن قال: أردت به الرؤية بعيني-: يقبل قوله ظاهراً وباطناً، وقيل: لا يقبل قوله في الحكم، والأول أصح؛ لأن حقيقة الرؤية تكون بالبصر، إلا أن يكون أعمى: فلا يقبل قوله في الحكم، ويقبل في الباطن. وإذا قال: إذا رأيت بعيني-: فلا يقع ما لم ير بعينه. إذا قال بالفارسية-: يحمل على رؤيته بنفسه، بصيراً كان أو أعمى.

وقيل في الأعمى: يحمل على العلم، ويشترط أن يراه بعد غروب الشمس على السماء. فلو رآه قبل غروب الشمس، أو رآه في ماء أو في مرآة-: لا يقع. ولو رآه في الليلة الثانية والثالثة-: يقع، ولو لم يره إلا في الليلة الرابعة-: لا يقع؛ لأنه لا يسمى هلالاً بعد ثلاث ليال. فإذا أطلق الهلال-: يتناول هلال أول شهر يستقبله، وإذا لم يره في الشهر الأول-: ارتفع اليمين حتى لو رآه في الشهر الثاني-: لا يقع، والله أعلم. فصل في تعليق الطلاق بالتطليق والحلف به. إذا قال لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم طلقها- نظر؛ إن كان غير مدخول بها-: يقع عليها طلقة بالإيقاع، وانحلت اليمين، ولا [يقع] المعلق؛ لأنها بانت منه بالأولى. وإن كانت مدخولاً بها-: يقع عليها طلقتان: واحدة بالإيقاع، وأخرى بالحنث. فإن ادعى بأني لم أرد به التعليق، بل اردت أني منها طلقتها؛ فهي طالقة تلك الطلقة-: لا يقبل قوله في الحكم ويقبل في الباطن. ولو وكل وكيلاً بالتطليق، فطلقها الوكيل-: يقع ما أوقعه الوكيل، ولا يقع المعلق؛ لأن الشرط أن يطلقها بنفسه. ولو خالعها-: لا يقع المعلق؛ لأنها تبين بالخلع ثم إن جعلنا الخلع طلاقاً-: تنحل اليمين، وإن جعلناه فسخاً لا تنحل. ولو علق طلاقها بصفة، ووجدت الصفة-: يقع طلقتان؛ لأن التعليق مع وجود الصفة تطليق، أما إذا علق طلاقها بصفة قبل التعليق بالتطليق؛ بأن قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إن طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار-: لا يقع إلا طلقة واحدة، ولا يقع المعلق بالتطليق؛ لأن التعليق سبق اليمين، ووقوع الطلاق بمجرد وجود الصفة لا يكون تطليقاً. أما إذا قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم طلقها بنفسه أو بوكيله، أو كان

قد سبق منه تعليق بالدخول، فدخلت بعد اليمين بالطلاق-: يقع طلقتان لوجود الوقوع، وتنحل اليمين. [ولو قال لها]: أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار: قال بعض أصحابنا: لا يقع إلا طلقة واحدة، ولا يقع المعلق بالإيقاع؛ لأنه يقتضي طلاقاً يباشر إيقاعه. ومن أصحابنا من قال- وهو الأصح عندي-: إنه يقع طلقتان: إحداهما بدخول الدار، والثانية بالصفة الأولى؛ كما في قوله: إذا طلقتك فأنت طالق. ولو قال: كلما طلقتك فأنت طالق، فإذا طلقها-: يقع طلقتان، ولا تنحل اليمين، لأن كلمة "كلما" للتكرار، ولا يظهر له فائدة ههنا، لأنه إذا طلقها مرة أخرى يتم الثلاث، ولا وجود لليمين بعد الثلاث؛ على ظاهر المذهب. ولو قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فإذا طلقها مرة: يقع عليها ثلاث طلقات؛ لأنه للتكرار؛ فوقوع الأولى يوجب وقوع الثانية، ووقوع الثانية [يوجب وقوع الثالثة]. ولو قال لنسائه الأربع: كلما طلقت واحدة منكن، فصواحباتها طوالق، فإذا طلق واحدة-: يقع عليها طلقة، وعلى كل واحدة من صواحباتها طلقة، فإذا طلق الثانية-: وقع على كل واحدة طلقتان، فإذا طلق الثالثة-: وقع على كل واحدة ثلاث طلقات. ولو قال: كلما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق: فإذا طلق واحدة-: يقع عليها طلقتان؛ لأنه علق طلاقها بتطليقها، ويقع على كل واحدة من صواحباتها طلقة، فإذا طلق الثانية-: تم عليها وعلى الأولى ثلاث طلقات، وعلى الثالثة والرابعة طلقتان، فإذا طلق الثالثة-: تم على الكل ثلاث طلقات. ولو قال: كلما وقع طلاقي على واحدة منكن، فأنتن طوالق، أو صواحباتها طوالق: فإذا طلق واحدة منهن طلقة-: وقع على الكل ثلاث طلقات. ولو قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو قال: إن كلمت فلاناً، أو إن ضربتك فأنت طالق-: يقع في الحال طلقة؛ لأنه

علق الطلاق والحلف، وقد وجد الحلف، ثم إذا وجد الدخول أو الكلام أو الضرب-: يقع طلقة أخرى. ولو قال لها: إن جاء رأس الشهر، أو إذا طلعت الشمس، أو شئت، أو حضت-، فأنت طالق-: فليس هذا بيمين؛ فلا يقع به الطلاق المعلق بالحلف؛ لأن اليمين ما يتضمن تحقيقه أمراً ومنعاً عن شيء، أو إقداماً على شيء، وليس في هذه التعليقات شيء من ذلك. ولو قال: إن قدم فلان فأنت طالق- نظر: إن كان قصده منع فلان عن القدوم، وهو ممن يمتنع يمينه-: فهو يمين يقع به الطلاق المعلق بالحلف. وإن كان قصده التأقيت، أو علق بقدوم الحجيج، أو بقدوم السلطان-: فلا يكون يميناً؛ فلا يقع به الطلاق المعلق بالحنث. ولو قال لامرأته المدخول بها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، قالها أربع مرات-: فكل واحدة من هذه الألفاظ يمين بالطلاق، فبالثانية: تنحل الأولى، وتقع طلقة، وبالثالثة: تنحل الثانية، وتقع أخرى، وبالرابعة: تنحل الثالثة، وتتم الثلاث. والرابعة منعقدة؛ لأن من ضرورة انحلال الثالثة انعقاد الرابعة، غير أنه لا عود لليمين بعد الثلاث؛ على ظاهر المذهب. وإن قال ذلك لغير المدخول بها، فبالثانية-: تنحل الأولى، ويقع طلقة، وتبين منه، والثانية منعقدة لا تنحل بالثالثة؛ لأنها غير منعقدة، وفائدته عوده في النكاح الثاني، على أحد القولين، والثالثة والرابعة لغو. أما إذا قال لغير المدخول بها: إن كلمتك فأنت طالق، قالها ثلاثاً-: فبالثانية تنحل الأولى، ويقع طلقة، وتبين منه، وبالثالثة: تنحل الثانية، حتى لا يعود في النكاح الثاني؛ لأن الطلاق ههنا معلق بالكلام، واللفظة الثالثة كلام معها بعد البينونة؛ فتنحل به اليمين، وفي المسألة الأولى: الطلاق معلق باليمين، واللفظة الثالثة وجدت بعد البينونة، واليمين بالطلاق لا ينعقد بعد البينونة. وقال أبو حنيفة في التعليق بالكلام: لا تنعقد الثانية، وهو اختيار الشيخ أبي سهل؛ لأن بقوله: "إن كلمتك" تبين منه، فقوله: أنت طالق يوجد بعد البينونة. [وعند مالك]: تنعقد الثانية؛ لأن قوله: "إن كلمتك، فأنت طالق" كله كلام واحد لا يفصل بعضه عن بعض، وفائدته: العود في النكاح الثاني.

ولو كانت له امرأتان: زينب وعمرة، فقال: إذا حلفت بطلاقكما-: فعمرة طالق، قاله مراراً-: فلا طلاق؛ لأنه علق طلاق عمرة باليمين بطلاقهما، وهو التكرار يحلف بطلاق عمرة وحدها، فإذا حلف بعدها بطلاقهما متفرقاً أو مجتمعاً-: طلقت عمرة. وكذلك لو قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، ثم قال: إن دخلتما الدار فعمرة طالق-: لم تطلق عمرة؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما. ولو قال: إن دخلتما الدار فأنتما طالقان-: طلقت عمرة؛ لأنه حلف بطلاقهما جميعاً، وكذلك لو قال: إن حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق، فكرر-: لم تطلق واحدة منهما، حتى يقول: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان؛ حينئذ: تطلق إحداهما لا بعينها. ولو قال: إن حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، فكرره ثانياً-: طلقت كل واحدة طلقة؛ لأنه علق طلاقها بالحلف بطلاق إحداهما، فإذا حلف بطلاقهما-: فقد حلف بطلاق إحداهما. ولو قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً، فطلقها اختلف أصحابنا فيه: فذهب جماعة: إلى أنه لا يقع الطلاق، وبه قال ابن سريج، وابن الحداد؛ لأنا لو أوقعنا هذه الطلقة لزمنا أن نوقع قبله ثلاثاً؛ لأن الجزاء لا يتخلف عن الشرط، فإذا وقع الثلاث قبله امتنع وقوع هذه الطلقة، وإذا لم تقع هذه الطلقة-: لا يقع ما قبله. وذهب جماعة: أنه يقع [هذا الموقع]، [وبه قال صاحب "التلخيص"، والشيخ أبو زيد- رحمهما الله- وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا استحالة في وقوع هذه الطلقة] إنما الاستحالة في ترتيب الجزاء عليه، فيسقط الجزاء. ومن أصحابنا من قال: إذا طلقها-: يقع ثلاث طلقات؛ وهو قول أبي بكر الإسماعيلي، يقع هذا الموقع، وترتب عليه من الجزاء طلقتان، لأنه بعد وقوع الأولى يبقى عليه طلقتان؛ فيمكن ترتيبهما على الأولى. ولو قال: إذا طلقتك ثلاثاً فأنت طالق قبلها طلقة أو طلقتين-: يقع، ولو طلقها ثلاثاً-: فعلى الوجه الأول: لا يقع، وعلى الثاني: يقع ثلاث. ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله طلقة، أو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله طلقتين، فطلقها-: يقع الثلاث، إن كانت مدخولاً بها وإن لم يكن مدخولاً بها-: فعلى الوجه الأول: لا يقع، وعلى الثاني: يقع الموقع.

ولو قال للمدخول بها: إذا طلقتك طلقة أملك رجعتك، فأنت طالق قبلها طلقتين، فطلقها-: لا يقع على الوجه الأول؛ لأنا إذا أوقعنا قبلها طلقتين-: لا تكون هذه الطلقة رجعية، وعلى الوجه الآخر: يقع الموقع. ولو قال [لامرأته]: أنت طالق قبل موتي بشهر، فمات قبل مضي شهر-: لا يقع الطلاق، وإن مات بعد مضي شهر-: طلقت قبل موته بشهر. ولو قال: أنت طالق مع موتي، أو مع موتك-: لا يقع؛ لأن النكاح يرتفع في تلك الحالة، فالطلاق لا يصادف النكاح؛ بخلاف ما لو قال لعبده: أنت حر بعد موتي-: يعتق مع موته؛ لأنه إذا قال: أنت حر بعد موتي-: يعتق بعد الموت، والطلاق لا يقع بعد الموت. ولو تزوج رجل أمة مورثه، ثم قال: إذا مات مورثي فأنت طالق، فمات-: لا تطلق؛ لأن النكاح ينفسخ بالملك؛ فالطلاق لا يصادف النكاح، وإن كان على الميت دين؛ لأن الدين لا يمنع الميراث، وإن كان المورث قد قال لها: إذا مت فأنت حرة، فمات، وهي تخرج من الثلث-: عتقت وطلقت؛ لأن الزوج لم يملكها، حتى ينفسخ النكاح. ولو قال الزوج لها: إذا اشتريتك فأنت- طالق، فاشتراها: إن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع-: طلقت. وإن قلنا: للمشتري-: لم تطلق، ولو قال: إذا ملكتك-: لم تطلق. فصل الألفاظ التي تستعمل في التعليق سبعة: من، وإن وإذ، ومتى، ومهما، وأي،

وكلما؛ مثل: أن نقول: من دخل من نسائي الدار فهي طالق، أو قال لواحدة: إن، أو: إذا دخلت الدار، أو: متى، أو: متى ما، أو: مهما دخلت الدار، أو: أي وقت، أو: أي حين، أو أي زمان دخلت، أو: كلما دخلت فأنت طالق: فإذا دخلت: طلقت، وكلها على التراخي في الإثبات إلا "إذا" و"إن"؛ فإنهما عند ذكر المآل إذا خاطب بهما المرأة يكونان على الفور. فإن قال: إن أعطيتني، أو: إذا أعطيتني ألفاً، أو إن ضمنت لي ألفاً، فأنت طالق-: يشترط الإعطاء والضمان في المجلس. وكذلك في المشيئة، إذا خاطبها بها، فقال: إن شئت فأنت طالق-: يشترط مشيئتها في المجلس. أما في النفي: فجميع هذه الألفاظ على الفور، إلا "إن" فإنه على التراخي، حتى لو قال: إذا لم أطلقك، أو: متى، أو متى ما، أو: أي حين لم أطلقك فأنت طالق، فمضى زمان أمكنه أن يطلقها، فلم يفعل-: طلقت. ولو قال: متى لم تكلمي فلاناً فأنت طالق، فمضى زمان إمكان الكلام، فلم تكلم-: طلقت، معناه: إذا فاتني زمان أمكنني فيه تطليقك، أو فاتك زمان أمكنك الكلام-: فأنت طالق. ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق: فلا يقع حتى يموت أحدهما قبل التطليق، فيحكم بوقوع الطلاق في آخر جزء من أجزاء الحياة؛ لأن معناه: إن فاتني طلاقك، ولا يتحقق الفوات إلا بالموت. ولو جن الزوج جنوناً اتصل بالموت-: يحكم بالوقوع قبيل الجنون. ولو قيد بزمان، وقال: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق، فإذا مضى اليوم، ولم يطلق-: يحكم بالوقوع قبيل غروب الشمس.

ولو قال: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم، فمضى اليوم، ولم يطلقها-: هل يقطع الطلاق أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقع؛ لأن مضي اليوم شرط في وقوع الطلاق في اليوم، ولا يوجد الشرط إلا بعد فوات المحل. والثاني: وهو قول أبي حامد: يقع؛ لأن معناه: إن فاتني طلاقك اليوم: فإذا بقي من اليوم لا يمكنه أن يقول فيه: أنت طالق؛ فقد فاته، فوقع الطلاق. وجميع هذه الألفاظ: لا تقتضي التكرار، حتى لو أتى بالمحلوف عليه مرة وحنث، ووقع الطلاق-: ارتفع اليمين، وإذا أتى به مرة أخرى-: لا طلاق يقع آخر إلا كلمة "كلما" فإنها للتكرار، وهي في النفي على الفور، حتى لو قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فمضت ساعة أمكنه تطليقها فيه، ولم يفعل-: وقعت طلقة. ثم إن كانت المرأة مدخولاً بها، فمضى ثلاث ساعات، تقع ثلاث طلقات، وإن لم يكن مدخولاً بها-: بانت منه بالطلقة الأولى، فإذا نكحها بعده، وقلنا: يعود اليمين، فيمضي ساعة-: تقع طلقة أخرى. فإذا قال للمدخول بها عقيب هذه الكلمة: طلقتك على ألف، فقبلت-: بانت منه، ولا تطلق بعده، ما لم ينكحها، فإذا نكحها-: فعلى قولي عود اليمين. وإذا قال لامرأته: أن دخلت الدار فأنت طالق، بفتح الألف، أو: أنت طالق أن دخلت الدار، وهو ممن يعرف النحو-: يحكم بوقوع الطلاق في الحال، وإن لم تكن دخلت الدار؛ لأنه تعليل، وليس بتعليق، كأنه قال: أنت طالق؛ لأنك قد دخلت الدار، أو قال: أنت طالق إن طلقتك، أو إذا طلقتك-: يحكم بوقوع طلقتين في الحال: طلقة بإقراره، وأخرى بإيقاعه؛ كأنه قال: أنت طالق؛ لأني طلقتك. ولو قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء-: كان تعليقاً، ولا تطلق إلا بعد الدخول، كما لو قال: أنت طالق، إن دخلت الدار. ولو قال: إن دخلت الدار، وأنت طالق: فإن قال: أردت الإيقاع في الحال-: قبل بلا يمين؛ لأنه يقر على نفسه، وإن قال: أردت الشرط والجزاء، فأقمت الواو مكان الفاء-: قبل قوله؛ لأنه محتمل. ولو قال: أردت أن أجعل دخول الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق آخر، ثم سكت عن الجزاء-: قبل قوله. ولو قال: أنت طالق، إن دخلت الدار، طالقاً، أو قال: أنت، إن دخلت الدار، طالقاً

طالق: فإن طلقها رجعياً، ودخلت الدار في العدة-: طلقت، وإن دخلت قبل الطلاق-: لم تطلق؛ لأنه شرط أن تدخلها، وهي طالق. ولو قال: إن دخلت الدار طالقاً، واقتصر عليه - نظر: إن أراد بالنصب ما يراد بالرفع فلحن، عائداً أو مخطئاً-: وقع الطلاق، إذا دخلت الدار. ولو قال: نصبت على الحال، ثم لم أتم الكلام-: قبل قوله، ولا يقع شيء. ولو قال لها: إن تركت طلاقك فأنت طالق، فمضى زمان أمكنه أن يطلقها، فلم يطلق-: طلقت، وإن طلقها في الحال واحدة، ثم سكت-: لا يقع أخرى للحنث؛ لأنه لم يترك طلاقها. وبمثله لو قال: إن سكت عن طلاقك فأنت طالق، فلم يطلقها في الحال-: طلقت. ولو طلقها في الحال، ثم سكت-: طلقت طلقة أخرى بالسكوت، ولا تقع الثالثة؛ لأن اليمين قد انحلت، والله أعلم. فصل إذا قال: إذا قدم فلان فأنت طالق، فقدم راكباً أو ماشياً، أو قال: إن دخل فلان الدار فأنت طالق، فدخل راكباً أو ماشياً-: وقع الطلاق. وإن قدم به ميتاً-: لم يقع. وإن قدم به محمولاً- نظر: إن كان بأمره-: وقع كما لو قدم راكباً، وإن كان بغير أمره-: لم يقع، سواء إن كان زمناً أو سوياً، تراخى أو لم يتراخ. وإن أكره حتى دخل بنفسه-: فعلى قولين. وكذلك إذا قدم جاهلاً بيمين الحالف، أو ناسياً-: فيه قولان. أحدهما: لا يقع؛ لأن الإكراه والنسيان مرفوع عن الأمة؛ كما لو أكره على الطلاق: لا يعق. والثاني: يقع، لأنه كان مختاراً في اليمين. هذا إذا علق بقدوم من يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه، وهو ممن يمتنع من القدوم لو علم بيمينه.

أما إذا علق بقدوم الحجيج أو السلطان-: فهذا مجرد تعليق ليس بيمين، فإذا قدم وقع، ولو قال: إذا رأيت فلاناً فأنت طالق، فرأى جزءاً من بشرته، حياً أو ميتاً، طلقت، ولو رآه ملفوفاً في ثوب-: لم تطلق، ولو رآه في مرآة-: لم تطلق؛ لأنه رأى خياله؛ كما لو رآه في المنام، أو رأى صورته على الجدار، أو ظله على الأرض، أو رآه من وراء زجاج شفاف-: يقع؛ لأنه رآه حقيقة. ولو قال: إن مسست فلاناً فأنت طالق، فمس شيئاً من بدنه بلا حائل، حياً أو ميتاً-: طلقت، وإن كان وراء حائل-: لم تطلق. ولو قال: إن ضربت فلاناً، فضربه ضرباً مؤلماً-: وقع، وإن كان وراء ثوب، سواء إن ضربه بسوط أو وكزه بيده، وإن ضربه ميتاً-: لم يقع؛ لأن الضرب: ما يؤلم، والميت لا يتألم. [ولو قال: إن قذفت فلاناً فأنت طالق، فقذفه حياً أو ميتاً-: يقع؛ لأن قذف الميت كقذف الحي]. ولو قال: إن قذفت فلاناً في المسجد فأنت طالق-: يشترط أن يكون القاذف في المسجد، ومثله لو قال: إن قتلت فلاناً في المسجدح: يشترط أن يكون المقتول في المسجد؛ لأن مقصوده الامتناع عن هتك حرمة المسجد، وهتك الحرمة في القتل بكون المقتول فيه، وفي القذف بكون القاذف فيه. ولو قال من عليه الدين لمن له الدين: إن أخذت مالك علي فامرأتي طالق، فأخذه مختاراً-: طلقت امرأة الحالف، سواء كان المعطي مختاراً في الإعطاء أو مكرهاً، وسواء أعطى بنفسه أو بوكيله. ولو أخذ السلطان من ماله، فدفعه إليه، أو استلبه رب [الدين]، لأنه حلف على الأخذ، وقد وجد الآخذ مختاراً. وإذا قال: إذا أخذت مني-: فلا يحنث بإعطاء الوكيل بإذنه، ولا بإعطاء السلطان من ماله، فإن أكرهه السلطان على الإعطاء، أو استلب منه رب [المال]-: فعلى قولين؛ بخلاف الصورة الأولى، حيث لم يعتبر فعله؛ لأنه لم يضف الأخذ إلى نفسه فيها.

ولو قال: إن أعطيتك حقك، فأعطاه مختاراً-: حنث، سواء كان الآخذ مختاراً في الأخذ أو مكرهاً. ولو وكل بالإعطاء، أخذ السلطان من ماله، فأعطاه-: لم يحنث، ولو أكرهه حتى أعطاه بنفسه-: فعلى قولين: ولو قال لها: إن كلمت فلاناً فأنت طالق- ينظر: إن كلمته بصوت يسمع في تلك المسافة-: يقع الطلاق، سواء سمعه أو لم يسمعه، وإن خفضت صوتها بحيث لا يسمع فاتفق أنه سمع-: لم يقع، ولو كلمته بصوت يسمع في تلك المسافة، غير أنه لم يسمع لعارض لغط أو ريح، أو كان به صمم-: فعلى وجهين: قال الشيخ- رحمه الله-: الأصح عندي أنه لا يقع حتى ترفع صوتها بحيث يسمع في تلك المسافة مع ذلك العارض؛ فحينئذ: يقع، وإن لم يتفق السماع. وإن كلمته، وهو نائم، أو مغمىً عليه-: لا يحنث؛ كما لو كلمته ميتاً، وإن كلمته، وهو سكران، أو مجنون-: يقع، وإن كلمته وهي مجنونة أو مكرهة-: فعلى قولين؛ بناءً على حنث الناسي والمجنون والمكره. وإن كانت [سكرانة] يقع. ولو قال لها: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي فلاناً، فكلمته-: لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه. ولو قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، فاعلمي ذلك-: طلقت؛ لأنه كلمها بقوله: "فاعلمي ذلك". وقيل: إن وصله باليمين-: لم تطلق؛ لأنه من صلة الأول. أما إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، إن دخلت الدار فأنت طالق-: طلقت؛ لأن قوله: "إن دخلت الدار" كلام آخر معها. ولو كان في فمها ثمرة، فقال: إن ابتلعتها فأنت طالق، وإن لفظتها فأنت طالق، وإن أمسكتها فأنت طالق فالمخلص منه أن تبلع البعض في الحال، وتلفظ البعض، ولو قال: إن أمسكتها فأنت طالق-: فأنت طالق طلقت؛ لأنها ممسكة إلى الفراغ من الألفاظ. ولو اتهمها بسرقة، فقال: أنت طالق، إن لم تصدقي أنك سرقت أو ما سرقت، فقالت: سرقت وما سرقت-: لم تطلق؛ لأنها صدقت في إحدى الخبرين.

ولو قال: إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق، فدفع إليها كيساً، فأخذت منه شيئاً-: لم تطلق؛ لأنه خيانة ليس بسرقة. ولو علق طلاقها بصفات مختلفة، فوجدت متفرقة أو مجتمعة-: يحنث في الكل؛ مثل أن قال لها: إن كلمت رجلاً فأنت طالق، وإن كلمت فقيهاً فأنت طالق، وإن كلمت زيداً فأنت طالق، فكلمت رجلاً فقيهاً اسمه زيد-: طلقت ثلاثاً؛ لوجود الصفات كلها فيه. ولو قال: إن دخلت الدار أو كلمت فلاناً فأنت طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، أو كلمت فلاناً: فإذا وجدت إحدى الصفتين-: طلقت أيهما كانت، وترتفع اليمين حتى لا يقع بوجود الآخر شيء [آخر]. ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار وإن كلمت فلاناً، أو قال: إن دخلت الدار وإن كلمت فلاناً فأنت طالق-: طلقت بكل واحدة طلقة؛ لأنه كرر حرف الشرط؛ فوجب لكل واحد جزاء، وإن وجدتا وقعت الطلقتان. ولو قال: إن دخلت الدار وكلمت فلاناً فأنت طالق-: لم تطلق إلا بوجودهما جميعاً، وإذا وجدتا طلقت واحدة، سواء تقدم الكلام أو الدخول؛ لأن الواو للجمع. ولو قال: إن دخلت الدار فكلمت فلاناً فأنت طالق، أو قال: إن دخلت الدار ثم كلمت فلاناً:- فلا تطلق إلا بوجودهما جميعاً، ويشترط تقديم الدخول على الكلام؛ لأن "الفاء" "وثم" للتعقيب. ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت فلاناً-: لا تطلق إلا بوجودهما، ويشترط تقدم الكلام على الدخول؛ لأنه جعل الكلام شرطاً لوقوع الطلاق بالدخول. وكذلك لو قال: أنت طالق إذا قمت [إذا] قعدت لم تطلق حتى يوجد القيام والقعود، ويتقدم القعود على القيام؛ لأنه جعل القعود شرطاً في القيام. ولو قال: إن أعطيتك [إن] وعدتك إن سألتني فأنت طالق-: لم تطلق، حتى يوجد السؤال ثم الوعد، ثم العطية؛ لأنه شرط في العطية الوعد، ويشترط في الوعد السؤال، وكان معناه: إن سألتني فوعدتك وأعطيتك فأنت طالق. ولو قال: إن دخلت الدار [فأنت طالق إن كلمت فلاناً-: فهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أنها إن دخلت الدار-:] اتصتف بأن طلاقها تعلق بالكلام، فيشترط تقديم الدخول. والآخر: أنها إن كلمت-: اتصفت بأن طلاقها تعلق بالدخول؛ فيشترط تقديم [الكلام] فيرجع إليه. فصل في تعليق الطلاق بالحيض إذا قال لها: إذا حضت فأنت طالق: فكما رأت الدم-: يحكم بوقوع الطلاق، ويكون بدعياً؛ لأن الظاهر أنه حيض، بدليل أنها تؤمر بترك الصوم والصلاة. ثم إذا انقطع على أقل من يوم وليلة-: بان أنه لم يكن حيضاً؛ فلم يقع الطلاق، وإن كانت حائضاً حالة اليمين-: لا يقع الطلاق بتلك الحيضة، حتى تطهر ثم تحيض؛ لأنه يقتضي حيضة مستأنفة. ولو قال: عن حضت حيضة فأنت طالق-: فلا يقع حتى تحيض وتطهر، ويكون سنياً، لأنه يقع في الطهر. ولو قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، وإن حضت حيضتين فأنت طالق، فإذا حاضت وطهرت-: يقع طلقة، ثم إذا حاضت حيضة أخرى وطهرت-: تقع أخرى؛ لأن هذه الحيضة مع الأولى حيضتان. ولو قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، ثم إن حضت حيضتين فانت طالق: فإذا حاضت وطهرت-: وقعت طلقة، ثم لا تقع أخرى حتى تحيض [بعدها] حيضتين أخريين. ولو قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق طلقة، وكلما حضت حيضتين فأنت طالق: فإذا حاضت وطهرت-: وقعت طلقة، ثم إذا حاضت أخرى وطهرت-: كمل الثلاث؛ لأن "كلما" للتكرار، والحيضة الثانية في نفسها حيضة؛ فيقع بها طلقة، وهي مع الأولى حيضتان؛ فتقع أخرىز ولو علق طلاقها بحيضها، فقالت: حضت، وأنكر الزوج-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعرف بحيضها، فيقبل قولها في حقها؛ بخلاف ما لو علق بصفة أخرى، واختلفا في

وجودها-: كان القول قول الرجل مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح. ولو علق طلاقها بحيض امرأة أخرى، فقالت تلك المرأة: حضت، وأنكر الزوج-: فالقول قول الرجل مع يمينه. ولو كانت له امرأتان، فقال: إن حضتما فأنتما طالقان؛ فما لم تحيضا لا يقع لاطلاق، وإذا حاضتا طلقتا، سواء حاضتا معاً أو على الترتيب. ولو قالتا: حضنا، وكذبهما الزوج-: فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف لا تطلق واحدة منهما. ولو صدق الزوج إحداهما-: طلقت المكذبة دون الأخرى؛ لأن قول المكذبة في حقها مقبول، وقد صدق الزوج صاحبتها، فقد وجدت الحيضتان في حقها، ولا تطلق المصدقة؛ لأن حيض صاحبتها شرط في طلاقها، والزوج قد كذبها، فلا يقبل قولها في حق هذه. ولو قال لهما: إن حضتما حيضة فأنتما طالقان-: ففيه وجهان: أحدهما: هو لغو لا يحكم به؛ لأنه لا يتصور اجتماعهما على حيضة واحدة. الثاني- وبه قال أبو حنيفة-: يصح، وينصرف إلى ما يتصور، وهو رؤية الدم منها، ويلغو قوله: "حيضة"؛ لأنه المستحيل من كلامه؛ كما لو قال لامرأته: أنت طالق للسنة والبدعة-: يقع في الحال، ويلغو الوصف. ولو كن أربعاً، فقال الزوج: إن حضتن فأنتن طوالق-: فلا يقع الطلاق على واحدة منهن إلا أن يحيض الكل، فإذا حضن جميعاً-: طلقت كل واحدة طلقة. وإن قلن: حضنا، فكذبهن الزوج، أو كذب ثلاثاً أو اثنتين-ح: فلا يقع شيء وإن صدق ثلاثاً، وكذب واحدة-: يقع على المكذبة طلقة؛ لأن قولها في حق نفسها مقبول، وقد صدق الزوج صواحباتها، فقد كمل الشرط في حقها، ولا يقع على المصدقات شيء. ولو قال لهن: كلما حاضت واحدة منكن فأنتن طوالق: فإذا حضن أو حاضت ثلاث منهن-: طلقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأن كلمة "كلما" للتكرار. وقد قلن: حضنا، وكذبهن الزوج-: يقع على كل واحدة طلقة؛ لأن قولها في حقها مقبول دون صواحباتها. ولو صدق واحدة وكذب ثلاثاً-: وقع على المصدقة طلقة لحيضتها، وعلى كل واحدة من المكذبات طلقتان: طلقة لحيضتها، وطلقة لحيض المصدقة.

ولو صدق اثنتين، وكذب اثنتين-: وقع على كل مصدقة طلقتان، وعلى كل مكذبة ثلاث؛ فإن صدق ثلاثاً-: وقع على الكل ثلاث. ولو قال: كلما حاضت واحدة منكن فصواحباتها طوالق: فإذا حضن وصدقهن الزوج-: وقع على كل واحدة ثلاث طلقات، وإن كذبهن لا يقع شيء. ولو صدق واحدة-: لا يقع على المصدقة شيء، ويقع على كل مكذبة طلقة؛ لأن لكل واحدة صاحبة واحدة صدقها الزوج. وإن صدق اثنتين-: وقع على كل مصدقة طلقة، وعلى كل مكذبة طلقتان؛ لأن لكل مصدقة صاحبة واحدة صدقها الزوج، ولكل مكذبة صاحبتان صدقهما الزوج وإن صدق ثلاثاً وقعت على كل مصدقة طلقتان، وعلى الكذبة ثلاث طلقات؛ لأن لها ثلاث صواحب صدقهن الزوج. فصل إذا قال لنسائه الأربع: إن لم أطأ واحدة منكن اليوم فصواحباتها طوالق: فإذا وطئ واحدة-: انحلت اليمين، ولو مضى اليوم، ولم يطأ واحدة منهن-: وقعت على كل واحدة منهن-: وقعت على كل واحدة منهن ثلاث طلقات؛ [لأن لكل واحدة ثلاث صواحب لم يطأهن الزوج، ولو وطئ واحدة-: يقع عليها ثلاث طلقات]. وعلى كل واحدة ممن لم يطأ طلقتان؛ لأن لكل واحدة صاحبتين لم يطأهما الزوج. ولو وطئ اثنتين-: وقعت على كل موطوءة طلقتان، وعلى كل واحدة ممن لم يطأها طلقة. ولو وطئ ثلاثاً-: وقعت على كل موطوءة طلقة؛ لأن لكل واحدة صاحبة واحدة لم يطأها الزوج، ولا يقع على غير الموطوءة شيء؛ لأنه لا صاحبة لها لم يطأها الزوج، هذا إذا قيد باليوم، فإن أطلق ولم يقيد-: وقع على العمر، فإن مات الزوج أو متن جميعاً قبل الوطء-: بان أنه وقعت على واحدة ثلاث طلقات قبل الموت. ولو ماتت واحدة قبل الوطء، والزوج حي-: لا يقع على الميتة شيء؛ لأن الزوج ربما يطأ الحيات، ويقع على كل واحدة من الحيات طلقة طلقة. ولو مات أخرى قبل الوطء-: بان أنه وقعت على الأولى قبل موتها طلقة، ووقع [بموتها] على كل واحدة من الحيتين طلقة أخرى.

فإن ماتت ثالثة قبل الوطء-: بان أنه وقعت على الأوليين قبل موتهما طلقتان، ثم على الرابعة ثلاث طلقات. فإذا ماتت الرابعة قبل الوطء-: بان وقوع الثلاث على كل واحدة قبل موتها، والله أعلم. فصل في التعليق بالولادة. إذا قال لامرأته: إن ولدت ولداً فأنت طالق، فأتت بولد حي أو ميت، ذكراً أو أنثى-: يقع الطلاق، فلو قالت المرأة: ولدت، وأنكر الزوج-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح؛ كما لو علق طلاقها بدخول الدار وبصفة أخرى، فاختلفا في وجودهما-: كان القول قوله. وقيل في الولادة: القول قولها؛ كما يقبل قولها في انقضاء العدة بالولادة، وكما لو علق الطلاق بحيضها، فقال: إن حضت، فقالت: حضت-: يقبل قولها. والأول أصح؛ لأن إقامة البينة على الولادة ممكن، بخلاف الحيض؛ كما لو علق طلاقها بولادة غيرها، فقالت تلك المرأة: ولدت-: لا يقبل قولها في وقوع الطلاق. ولو قال: إذا ولدت فأنت طالق، فأتت بولدين: وقعت بالأول طلقة، وانقضت عدتها بالثاني، سواء كان الوالدان حيين أو ميتين. ولو قال: كلما ولدت ولداً ذكراً فأنت طالق، فأتت بأربعة أولاد-: وقعت بكل واحد طلقة، وانقضت عدتها بالرابع. وإن أتت بثلاثة أولاد-: وقعت بالأوليين طلقتان؛ وانقضت عدتها بالثالث، ولا يقع به الطلاق؛ لأن الطلاق إنما يقع إذا صادف العدة، ههنا صادف انقضاء العدة. وكذلك: إذا أتت بولدين-: يقع بالأول طلقة، وبالثاني تنقضي عدتها. هذا هو المذهب، وهو قوله الجديد. وقال في "الإملاء": يقع بالآخر طلقة، وتعتد بالأقراء حتى لو قال للرجعية: أنت طالق مع انقضاء العدة يقع-: والأول المذهب؛ أن الطلاق إذا صادف انقضاء العدة-: لا يقع، وعليه يفرع. وإن كان تحته امرأتان، فقال: كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقتان، فأتت كل واحدة بولد-: فبولادة الأولى: يقع عليها طلقة، وعلى صاحبتها طلقة، وبولادة الثانية: يقع على الأولى: طلقة أخرى؛ لكونها في العدة، ولا يقع على هذه؛ على قوله الجديد؛ لأن

عدتها [تنقضي] بالاولادة. ولو أتت كل واحدة بولدين، مثل: أن ولدت زينب يوم الخميس، وعمرة يوم الجمعة، ثم ولدت زينب يوم السبت ولداً آخر، ثم عمرة يوم الأحد-: وقع على كل واحدة طلقتان بولادة الأوليين. فإذا ولدت زينب يوم السبت-: لم يقع عليها شيء؛ لانقضاء عدتها، وتم على العمرة ثلاث طلقات، فإذا ولدت يوم الأحد انقضت عدتها. ولو كن أربعاً فقال كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق: فإذا ولدت واحدة منهن-: وقع عليها وعلى كل واحدة من صواحباتها طلقة، فإذا ولدت الثانية تنقضي عدتها عن طلقة؛ على قوله الجديد ووقع على كل واحد من صواحباتها طلقة أخرى. فإذا ولدت الثالثة-: تنقضي عدتها عن طلقتين، وتم على الأولى والرابعة ثلاث طلقات، ولا يقع على الثانية؛ لأنها بانت بانقضاء العدة. فإذا ولدت الرابعة-: انقضت عدتها عن ثلاث طلقات، ولا يقع على صواحباتها بولادتها شيء؛ لأنهن بائنات. ولو قال: كلما ولدت واحدة منكن فصواحباتها طوالق: فإذا ولدت واحدة لا يقع عليها شيء؛ لأن طلاقها غير معلق بولادتها، ووقعت على كل واحدة من صواحباتها طلقة. فإذا ولدت الثانية-: تنقضي عدتها عن طلقة، ووقعت على الأولى طلقة، ثم على الثالثة والرابعة طلقتان. فإذا ولدت الثالثة-: انقضت عدتها عن طلقتين، وتم على الأولى طلقتان، وعلى الرابعة الثلاث، ولم يقع على الثانية شيء؛ لأنها بانت بانقضاء العدة. فإذا ولدت الرابعة-: انقضت عدتها عن ثلاثة، وتم على الأولى ثلاث طلقات. ولو ولدت في هذه الصورة اثنتان معاً، ثم اثنتان معاً، فبولادة الأوليين: يقع على كل واحدة منهما طلقة، وعلى كل واحدة من الأخريين طلقتان، ثم بولادة الأخريين: تنقضي عدتها عن طلقتين، ولا يقع عليهما شيء آخر، وتم على كل واحدة من الأوليين ثلاث طلقات. ولو قال لامرأته: إذا ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة، وإذا ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فأتت بذكر وأنثى- نظر: إن وضعتهما معاً-: يقع بولادتهما ثلاث طلقات، وتعتد

بالإقراء وإن وضعتهما على الترتيب- نظر: إن وضعت الذكر أولاً-: وقعت عليها طلقة [للذكر]، فإذا وضعت الأنثى-: تنقضي عدتها عن طلقة، ولا يقع بولادتها شيء آخر على قوله الجديد. فإن وضعت الأنثى أولاً-: وقعت عليها طلقتان، ثم بولادة الذكر تنقضي عدتها عن طلقتين. وإن أشكل الأمر، فلم يدر أيهما وضعت معاً، أو على الترتيب، أو سبق الذكر أو الأنثى-: نأخذ باليقين، وهو الأقل؛ نجعل كأنها وضعت الذكر أولاً، وانقضت عدتها بالأنثى عن طلقة. ولو قال: إن ولدت ولداً فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأتت طالق طلقة، فأتت بأنثى يقع طلقتان؛ لأنه علق بولادة الولد وبولادة الأنثى، وقد وجدت الصفتان. ولو قال: إن ولدت ولداً فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت انثى-: يقع ثلاث طلقات. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقة، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين، فإن أتت بذكر-: تنقضي عدتها عن طلقة، وإن أتت بأنثى تنقضي عدتها عن طلقتين، وإن وضعت ذكراً وأنثى-: تنقضي عدتها عن ثلاث طلقات؛ لأن الطلاق وقع حالة التلفظ، فلم يقارن انقضاء العدة. ولو قال: إن كان حملك ذكراً فأنت طالق طلقة، وإن كان حملك أنثى فأنت طالق طلقتين، فأتت بذكر وأنثى-: لا يقع شيء؛ لأنه يقتضي أن يكون جميع الحمل ذكراً أو أنثى، ولم يكن، وكذلك لو قال: إن كان ما في بطنك ذكراً يقتضي أن يكون الكل ذكراً. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين فإن ولدت ذكراً انقضت عدتها عن طلقة، وإن ولدت أنثى-: يقع عليها حالة الولادة طلقتان، وتعتد بالأقراء. وإن وضعت ذكراً وأنثى- نظر: إن وضعت الأنثى أولاً، ثم الذكر-: يقع بولادة الأنثى طلقتان، وتبين وقوع طلقة حالة التلفظ بسبب الذكر، وانقضت به عدتها عن ثلاث طلقات. وإن وضعت الذكر أولاً، ثم الأنثى-: فقد وقع بالذكر عليها طلقة حالة التلفظ، ثم بولادة الأنثى تنقضي عدتها عن طلقة، ولا يقع شيء آخر على قوله الجديد؛ لأنه يصادف

انقضاء العدة، وكذلك إن وضعتهما معاً-: تنقضي عدتها عن طلقة. ولو علق طلاقها بالولادة، فقالت: ولدت، فأنكر الزوج-: فالقول قول الزوج مع يمينه؛ كما في سائر الصفات، والله أعلم. فصل إذا قال لامرأته: إن خرجت بغير إذني، أو إلا بإذني، أو حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك، أو مهما، أو أي وقت خرجت [بغير إذني] فإنت طالق، فإذا خرجت بغير إذنه-: طلقت، وانحلت اليمين، وإن خرجت مرة بإذنه-: لم تطلق، وتنحل اليمين، حتى لو خرجت بعد ذلك-: لا تطلق. وعند أبي حنيفة: لا تنحل اليمين في قوله: بغير إذني، أو إلا بإذني، وتنحل في قوله: حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك؛ وقال: لأن المحلوف عليه خروج بغير إذن. فإذا خرجت بالإذن-: لم يوجد المحلوف عليه؛ فلا تنحل اليمين؛ كما إذا قال: إن دخلت الدار لابسة للحرير فأنت طالق، فدخلت غير لابسة للحرير-: لا تنحل اليمين حتى لو دخلت بعده لابسة للحرير-: طلقت. قلنا: ليمينه ههنا جهتان: جهة بر، وهي الخروج بالإذن، وجهة حنث، وهي الخروج بغير الإذن، فإذا وجدت إحدى الجهتين-: تنحل اليمين؛ كما لو قال: والله لا أدخل هذه الدار اليوم، أو لآكلن هذا الرغيف، فإذا أكل الرغيف-: بر، وانحلت اليمين، حتى لو دخل بعده الدار-: لم يحنث. ولو لم يدخل الدار، حتى مضى اليوم-: بر، وإن لم يأكل الرغيف، وليس كقوله: إن دخلت الدار لابسة للحرير، فدخلت غير لابسة: لا تنحل اليمين؛ لأن إحدى الجهتين-: لم توجد؛ إذ لم يصرح بالنفي والإثبات. قال [الشيخ- رحمه الله]-: على قياس هذا إذا قال: إن دخلت الدار غير لابسة للحرير إلا لابسة للحرير فأنت طالق: فإذا دخلت غير لابسة-: طلقت واحدة، وإذا دخلت لابسة لا تطلق ووجب أن تنحل اليمين. ولو أذن لها الزوج، ولم تعلم، فخرجت-: لم تطلق، إلا أنها إذا أنكرت الإذن-: كان القول قولها مع يمينها، وعلى الزوج إقامة البينة.

قال الشافعي- رضي الله عنه-: والورع أن يحنث نفسه، إذا لم يعلمها بالإذن؛ لم يرد به أن يجعلها مطلقة فيتركها؛ بل أراد: أنه يراجعها، ثم بعده إذا طلقها طلقتين: فالورع ألا ينكحها إلا بعد زوج آخر، فإذا نكحها بعد زوج، فتكون عنده بطلقة، في الورع وفي الحكم جميعاً. ولو أذن لها في الخروج، ثم رجع عن الإذن قبل الخروج، فخرجت بعده-: لا تطلق؛ لأن الإذن قد سبق، فلا يرتفع برجوعه. قال- رحمه الله-: عندي هذا صحيح في قوله: "حتى آذن لك"؛ لأنه جعل الإذن غاية اليمين، فإذا وجد ارتفع. أما إذا قال: بغير إذني، أو إلا بإذني: فإذا رجع، ثم خرجت-: فهو خروج بغير إذن، وهو أول خروج وجد بعد اليمين-: فوجب أن تطلق، وذكره الأصحاب. ولو قال: إن خرجت بغير إذني لغير عبادة فأنت طالق: فإن خرجت للعبادة، ولقضاء حاجة أخرى-: لم تطلق على الأصح، ولو خرجت للعبادة فقضت في الطريق حاجة أخرى-: لم تطلق، والله أعلم. فصل إذا قال لامرأته: إذا تزوجت عليك فأنت طالق: فإذا تزوج عليها في النكاح، أو في عدة الرجعة-: طلقت، ولو أبانها، ثم تزوج امرأة-: لا يقع عليها الطلاق، ولا تنحل اليمين؛ لأنه حلف ألا يتزوج عليها، وهو لم يتزوج عليها. فإن كان قال: إذا تزوجت فأنت طالق، فإذا أبانها، ثم تزوج-: تنحل اليمين، حتى لو نكحها بعده، ثم تزوج أخرى-: لا يقع الطلاق عليها. ولو قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق-: فلا يقع الطلاق بترك التزوج، ما لم يقع اليأس من التزوج بموت أحدهما، أو بجنون من الزوج متصل بالموت؛ فيحكم بوقوع الطلاق قبل الموت والجنون. وإذا تزوج عليها-: انحلت اليمين، سواء تزوج عليها امرأة تشبهها أو لا تشبهها. وعند مالك: إن تزوج عليها امرأة دونها-: لا تنحل بها اليمين حتى يدخل بها. ولو قال: إذا أو متى لم أتزوج عليك فأنت طالق: فإذا مضى زمان أمكنه أن يتزوج عليها، فلم يفعل-: طلقت.

إذا قال لنسائه: من بشرتني منكن بقدوم فلان فهي طالق، فبشرته إحداهن صادقة، ثم بشرته أخرى-: طلقت الأولى دون الثانية. ولو بشرتاه معاً، أو بشرنه جميعاً، أو بشرته إحداهما بعد ما رآه الزوج-: لم تطلق؛ لأن البشارة قد سبقت برؤية الزوج. ولو كتبت واحدة منهن بالبشارة-: طلقت، ولو أرسلت رسولاً-: لم تطلق؛ لأن المبشر هو الرسول. ولو قال: من أخبرني بقدوم زيد، فأخبرته واحدة بعد الأخرى-: طلقتا، ولو أخبرته كاذبة-: طلقت؛ لأن الخبر يدخله الصدق والكذب؛ بخلاف البشارة فإنها خبر صدق يقرع سمع سامع أول مرة. ولو قال لامراته: إن زوجت ابنتي فأنت طالق، فزوجها تزويجاً فاسداً، أو قال: إن بعت مالي، فباع بيعاً فاسداً-: لا يقع الطلاق، حتى يزوج أو يبيع تزويجاً أو بيعاً صحيحاً تاماً بالإيجاب والقبول. ولو قال لامرأته: إن بعت مالي بغير إذني، أو قال: إن بعت الخمر فأنت طالق، فباعت ماله بغير إذنه أو باعت الخمر-: لا يقع الطلاق إلا أن يريد صورة البيع. وقال المزني: يقع، ويحمل على صورة البيع، وكذلك لو قال: إن بعت بيعاً فاسداً، فباع-: لم تطلق إلا أن يريد صورة البيع. وعند المزني: يقع. قال الشيخ- رحمه الله-: وهو الاختيار عندي فيما إذا قيد بالفاسد، أو علق بما لا يقبل البيع؛ لأن الظاهر أنه يريد صورة البيع. ولو قال: إن تسربت فأنت طالق، فإذا وطئ جاريته، وأنزل-: طلقت. وقد يحصل بالوطء والإنزال والتحصين عن العيوب؛ لأن التسري في العرف إيجاد الجارية لابتغاء الولد، ويكون ذلك بهذه الأشياء. فَصْلُ [فِيمَنْ يَقَعُ طَلاَقُهُ وَمَنْ لاَ يَقَعُ لا يقع] طلاق الصبي والمجنون وكل من زال عقله بعلة أو مرض.

أما السكران من الخمر، إذا تعمد شربه-: يقع طلاقه؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لما كان عاصياً بسكره-: كان كالصاحي في جميع أحكامه، وكذلك هو كالصاحي في جميع أفعاله وأقواله كالصحيح. وفيه قول: أنه كالمجنون في أقواله وأفعاله؛ لأنه لا يعقل؛ وهو قول المزني ومذهب مالك.

وقيل: قول السكران صحيح فيما عليه دون ماله؛ لأن مؤاخذته بأقواله مع زوال عقله معاقبة له على صنيعه لينزجر؛ كما عوقب بالحد، وأوجب عليه قضاء الصلوات. وكذلك رددنا قوله فيما له دون ما عليه؛ عقوبة له، فعلى هذا الطريق: تصح أقاريره، ولا يصح بيعه؛ لأنه يجمع ماله وعليه، فيغلب جانب ماله. وكذلك: لا يصح نكاحه ولا إنكاحه؛ لأن نكاحه له، وإنكاحه يكون بولاية له؛ وعلى هذا: يصح ضمانه؛ لأنه عليه. ولو شرب دواء يزيل العقل عمداً-: فهو كالسكران على الصحيح من المذهب: في وقوع طلاقه، والمؤاخذة بأفعاله وأقواله.

ولو أوجر الخمر فسكر، أو شرب شراباً لم يعرفه مسكراً فسكر-: فهو كالمجنون، ولو علم أنه مسكر، ولكن ظن أن [ذلك القَدْرَ] لا يسكر لقلته فسكر-: فهو كما لو علمه قدراً يسكر. ويقع طلاق الهازل، والناسي، والجاهل، مثل: أن نسي أن له زوجة فطلقها، أو وكل رجلاً بقبول نكاح امرأة له، فطلقها، ولم يعلم قبول الوكيل، فبان أنه قد قبل-: وقع الطلاق، وكذلك: العتق. وطلاق المكره لا يقع؛ وكذلك كل حكم لا يلزمه في حال الطواعية، وإذا حمل عليه بإكراه باطل-: لا يصح، سواء فيه النكاح والطلاق والعتاق وسائر العقود. ومن أصحابنا من قال: إنما لا يقع طلاق المكره، إذا ورى بغيره، فإذا ترك التورية-: يقع، والأصح: أنه لا يصح إلا أن ينوي الوقوع. وعند أبي حنيفة: يصح طلاق المكره وعتقه ونكاحه. فنقول: قول لو صدر منه مختاراً بانت منه امرأته، وإذا حمل عليه بإكراه باطل-: لا يعمل؛ قياساً على كلمة الردة. أما ما يلزمه في حال الطواعية: فإذا أكره عليه: يعد كالحربي أو المرتد؛ يكره على الإسلام، فأسلم والمولى بعد مضي المدة: يكره على الطلاق فطلق-: يقع؛ لأنه إكراه بحق. وحد الإكراه أن يخوفه بعقوبة تنال من بدنه عاجلاً لا طاقة له بها؛ مثل: أن يقول: إن فعلت كذا، وإلا قتلتك، أو لأقطعن عضواً منك، أو لأضربنك ضرباً مبرحاً، أو لأدخلنك السجن، وكان القائل ممن يمكنه تحقيق ما يخوفه به من وال أو قاهر، حيث لا يلحقه الغوث.

وإن كان يخوفه، ولا يمكنه تحقيقه-: فلا يكون إكراهاً، وأمر السلطان إكراه؛ على أحد القولين. فإن خوفه بعقوبة آجلة؛ بأن قال: لأضربنك غداً، أو بضرب غير مبرح، بأن قال: لأضربنك سوطاً، أو سوطين، أو مما لا ينال من بدنه بأن قال: لأقتلن ولدك أو زوجتك-: فلا يكون إكراهاً. أما النفي عن البلد-: هل يكون إكراهاً؟ نظر: إن كان بينه وبين أهله فهو إكراه؛ كالتخليد في السجن، وإن لم يكن [فيه تفريق بينه وبين أهله]- فيه وجهان. أحدهما: ليس بإكراه؛ لأن البلاد في حقه سواء. والثاني: هو إكراه؛ لأن مفارقة الوطن شديدة، ولذلك عوقب الزاني بالتغريب. أما ما يؤول إلى ذهاب الجاه؛ مثل: أن قال: لأسودن وجهك، ولأطوفن بك في البلد، ولأصفعنك في السوق، أو نحو ذلك، أو لأتلفن مالك-: فلا يكون ذلك الكل إكراهاً إذا كان يكرهه على قتل، أو قطع. وإن كان يكرهه على إتلاف مال، أو على طلاق، أو عتاق-: فهو إكراه؛ على قول بعض أصحابنا، وعند بعضهم: ليس بإكراه؛ لأنه لا يصيب بدنه بما لا يطيقه. وقيل: إذا قال: لأقتلن ولدك فهكذا. فمن جعل الاستحقاق بإذهاب الجاه من الصفع والضرب الخفيف وتسويد الوجه إكراهاً-: فذلك في حق المحتشم الوجيه. فأما المتبدل الذي لا يبالي به-: فلا يكون إكراهاً في حقه، فكذلك أخذ القليل من المال ممن لا يضن عليه. ولو أكرهه على أمر، ففعل بخلافه-: يقع؛ مثل: أن يكرهه على أن يطلق واحدة فطلق ثلاثاً، أو على ثلاث فطلق واحدة، أو على تنجيز الطلاق فعلى أو على التعليق فنجز، أو على أن يطلق بلفظ الكناية فصرح-: يقع؛ لأنه صار مختاراً بالمخالفة. ولو أكرهه على أن يطلق امرأته زينب، فطلقها وضرتها- نظر: إن [طلقهما معاً] وقع عليهما، فإن فرق بينهما، فقال: زينب طالق، وعمرة طالق-: لم تطلق زينب للإكراه، وطلقت عمرة.

ولو أكرهه على أن يطلق إحدى امرأتيه لا بعينها، فطلق إحداهما بعينها-: يقع؛ لأنه بالتعيين صار مختاراً. ولو أكرهه على أن يطلق زوجة المكره، فطلق-: وقع؛ لأن الإكراه أبلغ من الإذن، ولو أذن له به، فطلق-: وقع، فبالإكراه أولى. بَابُ الطَّلَاقِ بِالحِسَابِ إذا قال: أنت طالق واحدة في اثنتين- نظر: إن أراد "مع اثنتين" وقع الثلاث؛ لأنه يذكر ويراد به "مع"؛ كما قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي: مع أممٍ. وإن أراد الحساب-: يقع طلقتان. وإن أراد الظرف يقع طلقة واحدة. وإن أطلق ففيه قولان: أحدهما: يحمل على الحساب، فيقع طلقتان، لأنه الظاهر من هذا اللفظ.

والثاني- وهو الأصح-: يقع طلقة واحدة؛ لأنه اليقين. ولو قال: أنت طالق ما بين الواحدة والثلاث-: فتقع طلقة واحدة، ولو قال: من الواحدة إلى الثلاث: قيل: تقع الثلاث، ويدخل الطرفان فيه؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد. وقيل: تقع طلقتان، يدخل فيه الطرف الأول، ولا يدخل الثاني؛ لأنه حد لا يدخل في المحدود، وبه قال أبو حنيفة. وقيل: تقع واحدة، ولا يدخل فيه الطرفان؛ وهو قول زفر. ولو قال أنت طالق قبل طلقة أو بعدها طلقة، أو بعد طلقة أو قبلها طلقة: فإن كان مدخولاً بها: فطلقة واحدة؛ كما لو قال لها: أنت طالق وطالق. وقيل: في قوله: قبلها طلقة أو بعدها طلقة-: يصير دوراً، فمن أعمل الدور-: قال: لا يقع شيء. والأول أصح. وقال أبو حنيفة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، أو بعدها طلقة-: يقع طلقتان؛ لأنه أوقع طلقة، وأقر بطلاق وقع من قبل. ولو قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وبعدها طلقة-: طلقت ثلاثاً.

وكذلك لو قال: أنت طالق [ثلاثاً] طلقة قبلها وبعدها طلقة-: طلقت ثلاثاً؛ لأنه يقع قبلها نصف طلقة، وبعدها نصف [طلقة]؛ فيكملان. ولو قال: طلقة بعدها طلقة، ثم قال عنيت بعدها طلقة أوقعها: لا يقبل في الحكم، ويقبل في الباطن. ولو قال لها: أنت طالق طلقة معها طلقة، أو طلقة مع طلقة-: يقع طلقتان، سواء كانت مدخولاً بها أو لم يكن، ويقعان معاً. وقيل يقع أحداهما، ثم الأخرى عقيبها في المدخول بها، وفي غير المدخول بها: لا يقع إلا واحدة؛ كما لو قال لها: أنت طالق طلقة وطلقة. فَصْلُ الطلاق له كلية وجزئية يحصل فيه ذكر بعض المحل، وذكر بعض الزمان، وذكر بعض اللفظ كذكر الكل؛ وكذلك العتق. أما المحل: إذا قال لها: جزء منك طالق، أو نصفك طالق، أو ربعك طالق-: يقع الطلاق على جميعها. وكذلك: إذا أضاف إلى عضو معين متصل بها اتصال خلقة؛ كالرأس واليد والرجل والشعر والسن [والظفر] والحشوة والقلب أو إلى إصبع زائدة عليها، فقال: إصبعك طالق-: يقع. وكذلك إذا أضاف إلى روحها أو سمنها أو عرقها-: يقع عليها؛ كما لو قال: نفسك أو جسمك أو بدنك أو جنبك أو شخصك أو ذاتك طالق-: يقع. ولو قال: حياتك، وأراد بها الروح-: يقع. وعند أبي حنيفة: إذا أضاف إلى جزء تابع، أو إلى عضو يعبر عن جميع البدن؛ كالوجه والرقبة والرأس [والظهر]-: يقع. فإن أضاف إلى ما يعبر عنه عن جميع البدن-: لا يقع. وإن أضاف إلى المعاني القائمة بالذات؛ كالحسن والقبح واللون والسمع والبصر

والحركة والسكون والصوت والكلام والضحك والبكاء والنفس-: لا يقع. وكذلك لو قال اسمك طالق-: لا يقع، ولو أضاف ما ينحلب منها كالبراق والمخاط والدمع والبول-: لا يقع، وإن أضاف إلى دمها-: يقع؛ على الأصح؛ لأنه خلقة فيها وبه بقاؤها. وإن أضاف إلى لبنها ومنيها-: ففيه وجهان. أحدهما: هو كالدمع. والثاني: هو كالدم. ولو أضاف إلى جنينها-: لا يقع؛ لأنه شخص آخر، ولو أضاف إلى عضو أبين منها-: لا يقع. واختلفوا في كيفية وقوعه، إذا أضيف إلى عضو منها: منهم من قال: يقع على ذلك العضو، ثم يسري. ومنهم من قال يجعل ذلك عبارة عن جميع البدن. وفائدته تبين فيما إذا قال لها: إن دخلت الدار قيدك طالق، فقطعت يدها، ثم دخلها الدار-: هل يقع أم لا؟ إن قلنا: يقع على العضو، ثم يسري-: لا يقع؛ لفقد المحل حالة الدخول. وإن جعلناه عبارة عن جميع البدن-: يقع. أما ذكر بعض الزمان، إذا قال: أنت طالق ساعة [أو يوماً] أو شهراً-: يقع دائماً. وأما ذكر بعض اللفظ إذا قال: أنت طالق نصف طلقة، أو سدس طلقة، أو بعض طلقة- يقع طلقة كاملة. ولو قال: أنت طالق نصف وثلث طلقة، أو نصف وسدس طلقة-: [لا يقع إلا واحدة] لأنه ذكر الجزء الثاني قبل تمام الكلام؛ ولو قال: نصف ثلث سدس طلقة، أو قال: نصفي طلقة-: يقع طلقة، ولو قال نصف وثلثي طلقة، أو ثلاثة أنصاف طلقة-: فعلى وجهين: أصحهما: يقع طلقتان؛ لأن النصف والثلثين يزيد على الواحد، وكذلك: ثلاثة

أنصاف، فتكمل الطلقة الثانية، وكذل مهما زادت الأجزاء على الجملة. والثاني: لا تقع إلا واحدة؛ لأنه أضافها إلى طلقة، وليس للطلقة الواحدة إلا نصفان؛ فتلغو الزيادة. ولو قال: نصف طلقتين، أو ثلث طلقتين- يقع واحدة. وقال أبو إسحاق تقع طلقتان. ولو قال: نصفي طلقتين، أو ثلثي طلقتين-: يقع طلقتان. ولو قال: ثلاثة أنصاف طلقتين-: ففيه وجهان. أحدهما يقع طلقتان؛ لأنه أضاف إلى طلقتين، ويكون للطلقتين ثلاثة أنصاف. والثاني: يقع ثلاث طلقات؛ لأن نصفي طلقتين طلقتان، فثلاثة أنصافها تكون ثلاثاً. وكذلك لو قال: خمسة أنصاف طلقتين. ولو قال: أنت طالق نصف طلقة ونصف طلقة ونصف طلقة، أو قال سدس طلقة وسدس طلقة وسدس طلقة-: فهو كما لو قال: أنت طالق وطالق وطالق يقع طلقتان، ويستفسر في الثالثة. ولو قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة-: يقع الثلاث؛ للمغايرة بين الألفاظ. ولو قال: نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة-: يقع واحدة؛ لأنها أجزاء طلقة واحدة؛ بخلاف ما لو عطف بـ"الواو". ولو قال لنسائه الأربع: أوقعت عليكن طلقة، أو بينكن طلقة يقع على كل واحدة طلقة. ولو قال: أردت بعضهن-: لم يقبل في الحكم. وقيل: يقبل في "بينكن"، ولا يقبل في "عليكن"؛ لأن حرف "بين" يذكر، ولا يراد به التشريك، كما يقال: [المسروق] لا يخرج من بين هؤلاء: لا يريد أنهم شركاء فيه. والأول أصح. وكذلك لو قال أوقعت عليكن أو بينكن طلقتين أو ثلاث طلقات أو أربع طلقات-: لا يقع على كل واحدة إلا طلقة، إلا أن يريد التقسيم، ففي طلقتين: يقع على كل واحدة

طلقتان، وفي الثلاث والأربع: يقع على كل واحدة ثلاث طلقات. فإن قال: أردت بعضهن بأن عين اثنتين، فقال: أوقعت على كل واحدة منهما اثنتين الأربع دون الأخريات-: فلا يقبل في الحكم، ويقع على المعينتين على كل واحدة طلقتان بحكم إقراره، وعلى الأخريين على كل واحدة طلقة. ولو قال: أوقعت الثلاث على واحدة-: يقع عليها ثلاث طلقات، وعلى كل واحدة من الأخريات طلقة. ولو قال: أوقعت عليكن أو بينكن خمس طلقات، أو ست طلقات، أو سبع طلقات، أو ثمان طلقات-: يقع على كل واحدة طلقتان. ولو قال تسع طلقات-: يقع على كل واحدة ثلاث طلقات. ولو قال: أوقعت بينكن خمس طلقات لبعضكن أكثر ما لبعض، ثم قال: أردت [اثنتين] لفلانة عينها، ولكل واحدة من الباقيات واحدة واحدة-: يصدق؛ لأنه لم يخر واحدة من الطلاق. ولو قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة-: طلقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه لما عطف وغاير بين الألفاظ-: وجب أن يقسم كل جزء بينهن ويكمل. فَصْلُ [في الاسْتِثْنَاءِ وَتَعْلِيقِ الطََّلاَقِ بِالمَشِيئَةِ] إذا ذكر عدداً من الطلاق، واستثنى بعضه-: يجوز مثل: أن يقول: أنت طالق ثلاثاً

إلا اثنتين-: يقع واحدة، وإذا قال: ثلاثاً إلا واحدة-: تقع طلقتان، وشرطه أن يبقي شيئاً من المستثنى منه. ولو قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً-: لا يصح الاستثناء، ويقع الثلاث.

والاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فإن قال: ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة- يقع طلقتان؛ كأنه قال: ثلاثاً يقعن إلا اثنتين لا تقعان إلا واحدة تقع.

ولو قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقع الثلاث؛ لأن الأول لغو لرفعه اللف، والثاني- أيضاً- يكون لغواً. والثاني: يصح الاستثناء؛ لأن الاستثناء الثلاث من الثلاث إنما لا يجوز إذا وقف [عليه]، فإذا تداركه بما يرد شيئاً من الأصل-: يصح؛ فيقع طلقتان؛ كأنه قال: ثلاثاً [لا يقعن إلا اثنتين يقعان].

والثالث- وهو الأضعف-: يلغو الأول، ويصح الثاني من الأصل؛ كأنه قال: ثلاث إلا اثنتين تقع واحدة. ولو قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة-: فعلى الوجه الأول: يقع الثلاث، وعلى الثاني: واحدة وعلى الثالث: طلقتان. ولو قال: ثلاثاً إلا اثنتين إلا اثنتين-: يقع واحدة، ولا يصح الاستثناء الثاني. ولو ذكر عدداً أكثر من المملوك، واستثنى منه شيئاً-: فالاستثناء ينصرف إلى الملفوظ أم المملوك فيه وجهان: أصحهما- وهو قول ابن الحداد، وصاحب "التلخيص"-: ينصرف إلى الملفوظ؛ لأنه منه يستثنى. والثاني: ينصرف إلى المملوك؛ لأن ما عدا المملوك لغو. بيانه: إذا قال: أنت طالق أربعاً إلا واحدة: إن قلنا: ينصرف الاستثناء إلى الملفوظ-: تقع الثلاث. وإن قلنا: ينصرف إلى المملوك-: يقع طلقتان، كأنه قال: ثلاثاً إلا واحدة. ولو قال: أربعاً إلا اثنتين: إن صرفنا إلى الملفوظ-: يقع طلقتان، وإن صرفنا إلى المملوك-: فواحدة. ولو قال: أربعاً إلا ثلاثاً: إن صرفنا إلى الملفوظ- يقع واحدة، وإن صرفنا إلى المملوك يقع ثلاثاً، كأنه قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً. وإن قال ستاً أو ثلاثاً-: يقع الثلاث على الوجهين جميعاً؛ لأنا إن صرفنا إلى المملوك يقع ثلاثاً؛ كأنه قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فأنه قد استثنى الثلاث من الثلاث؛ فلا يصح، وإن صرفنا إلى الملفوظ-: فقد استثنينا الثلاث من الست؛ فبقي ثلاث طلقات. ولو قال: أربعاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين، إن قلنا: ينصرف إلى الملفوظ: يقع ثلاث طلقات، وإن قلنا: إلى المملوك: فهو كما لو قال ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين. ولو ذكر في الاستثناء أو في المستثنى منه عدداً عطف البعض على البعض-: هل يجمع فيه وجهان: أحدهما: يجمع؛ فإنه لو قال: لفلان علي درهم ودرهم-: يكون كما لو قال: له علي درهمان. والثاني-: وهو المذهب-: لا يجمع، بدليل أنه إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق

وطالق لا يقع إلا واحدة ولا يجعل كأنه قال: أنت طالق طلقتين. بيانه: إذا قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة، أو قال: أنت طالق طلقة وطلقة وطلقة إلا طلقة. إن قلنا: يجمع-: يقع طلقتان؛ كأنه قال: ثلاثاً إلا واحدة. وإن قلنا: لا يجمع-: يقع الثلاث كأنه استثنى الواحد من الواحد. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة وواحدة: إن قلنا: يجمع: يقع الثلاث، كأنه استثنى الثلاث من الثلاث. وإن قلنا: لا يجمع-: يقع طلقتان؛ فيصح استثناء الثنتين، ولا يصح استثناء الثالثة. وكذلك لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين وواحدة، أو قال: إلا اثنتين وإلا واحدة. فإن قلنا: [يجمع] تقع الثلاث. وإن قلنا: لا يجمع: فطلقة. ولو قال: ثلاثاً إلا واحدة واثنتين: إن قلنا: يجمع-: يقع الثلاث. وإن قلنا: لا يجمع-: يصح استثناء الواحدة، وتقع طلقتان. ولو قال: اثنتين وواحدة إلا واحدة: إن جمعنا-: تقع طلقتان؛ [كأنه قال: ثلاثاً إلا واحدة وإن لم نجمع-: فثلاث. أما إذا قال: واحدة واثنتين إلا واحدة-: يقع طلقتان] وجهاً واحداً، ويصح الاستثناء. ولو قال: طلقتين ونصفاً إلا نصف طلقة-: فهو كقوله: طلقتين وواحدة إلا واحدة. ولو قال: أنت طالق واحدة ثم واحدة بل واحدة إلا واحدة يقع الثلاث، ولا يجمع، لتغاير الألفاظ. ولو علق الطلاق بالمشيئة- لا يخلو: إما أن علق الوقوع بالمشيئة، أو منع الوقوع:

فإن علق الوقوع بالمشيئة- لا يخلو: إما أن علق بمشيئة الله عز وجل، أو بمشيئة آدمي:

فإن علق [بمشيئة الله- عز وجل-] فقال أنت طالق إن شاء الله، أو إذا شاء الله، أو متى شاء الله-: لا يقع؛ لأنه لا وقوف على مشيئة الله، وإنما تعرف مشيئته في الموجودات بحصولها وكذلك: كل قول له حكم: من عتق أو نذر أو يمين أو بيع أو نكاح أو إقرار: لا يصح شيء منها مع الاستثناء. ولو قال: حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله-: لا تطلق واحدة منهما. ولو قال: حفصة طالق، وعمرة طالق، إن شاء الله-: تطلق حفصة، ولا تطلق عمرة؛

لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه. وقيل: يرجع إليهما. والأول أصح. وإنما يصح الاستثناء إذا غرم عليه حالة التلفظ، ووصله باللفظ نطقاً، فإن تخلل بينهما فصل-: لا يصح الاستثناء، وإن كان بينهما سكتة أو تنفس-: فلا تمنع صحة الاستثناء، وإن نواه بقلبه، ولم يتلف بلسانه-: لا يصح، وإنما يصح إذا كان مقصوده رفع الطلاق، أو رفع اليمين، إن كان الاستثناء في اليمين: فإن لم يقصده، بل قصد بقوله: إن شاء الله: أن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته-: فلا يصح الاستثناء. وكذلك: إن سبق إلى لسانه "إن شاء الله" [وكان الاستثناء غلب إلى لسانه "إن شاء الله" [وكان الاستثناء غلب على لسانه، وكانت عادته ألا يقول شيئاً إلا أن قال: "إن شاء الله] "، فقاله على العادة-: لم يكن استثناء؛ لأنه لم يقصده. أما إذا علق بمشيئة آدمي؛ فقال: أنت طالق إن شاء فلان- فلا يقع ما لم يشأ فلان طلاقها، ولا تشترط مشيئته في المجلس؛ لأنه محض تعليق حتى لو كان غائباً، فبلغه الخبر، فشاء بعد مدة-: يقع ولا يحال ببينه وبينها قبل المشيئة. فإن شاء فلان تطلق، أو لم يشأ شيئاً، أو مات، أو غاب، فلم يعد، [أو غبي غباوة، فلم يدر] بمشيئته: لا يقع الطلاق. ولو علق بمشيئة المرأة، فقال: أنت طالق إن شئت-: تشترط مشيئتها في المجلس؛ لأنه يتضمن تملي بضع، بخلاف ما لو قال لها: إن كلمت فلاناً فأنت طالق-: لا يشترط الكلام في المجلس؛ لأنه محض تعليق، والمشيئة استطلاع رأي، فأشبه القبول في البيع. وإن قال متى شئت- لا تشترط المشيئة في المجلس، ولو خاطب الأجنبي، فقال: امرأتي طالق إن شئت، هل تشترط المشيئة في المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما: تشترط؛ كما لو خاطب زوجته. والثاني: لا تشترط؛ لأنه لا يتضمن التمليك؛ كما لو علق بمشيئته لا على وجه الخطاب. ولو علق بمشيئة زوجته، فلم يخاطب، فقال: امرأتي طالق إن شاءت، فبلغ الخبر إليها-: هل تشترط مشيئتها في المجلس؟ فعلى وجهين.

ولو قال: أنت طالق إن شئت أنا، أو إن رضيت-: فهو تعليق، فإذا شاء في المجلس أو بعده-: يقع. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت وفلان، أو إن شئت وشاء أبوك-: فلا يقع حتى توجد مشيئتهما جميعاً، ثم تشترط مشيئة المرأة في المجلس، ومشيئة الأب والأجنبي، متى وجدت. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت إن شئت، أو: شئت إن شاء فلان-: فلا يقع، وإن قال الزوج أو فلان: شئت؛ لأنه تشترط من جهتها مشيئة مجزومة؛ كما لو قال لها: طلقي نفسك، فعلقت طلاقها-: لم يصح. وكذلك لو قال: إن شئت غداً-: لا يقع، ولو علق بمشيئتها أو بمشيئة فلان، فشاءت أو شاء فلان-: فلا يقع، وإن قال الزوج أو فلان: شئت؛ لأنه تشترط من جهتها مشيئة مجزومة؛ كما لو قال لها: طلقي نفسك، فعلقت طلاقها-: لم يصح. وكذلك لو قال: إن شئت غداً-: لا يقع، ولو علق بمشيئتها أو بمشيئة فلان، فشاءت أو شاء فلان سكران-: يقع، وإن شاءت نائمة أو مجنونة-: لم يقع، وإن شاءت باللسان، ولم تشأ بالقلب-: يقع ظاهراً وباطناً. وقيل: لا يقع باطناً؛ كما لو علق بحيضها، فقالت: حضت، وكانت كاذبة- لا يقع في الباطن. والأول المذهب؛ لأنه علق بقولها-: شئت وقد وجدت؛ بدليل أنه لو علق بمشيئة فلان، فقال فلان: شئت لا تسمع دعواه أنه لم يشأ. ولو علق طلاقها بحيض غيرها، فقالت حضت، وكذبها الزوج قبل قوله. وإن قال لصبية لا تعقل أو لمجنونة: أنت طالق إن شئت، [فقالت: شئت]-: لا يقع؛ لأنه لا حكم لقولها. وإن كانت مراهقة-: فوجهان: وكذلك لو علق بمشيئة صبي أجنبي: أحدهما: لا يقع لأنه لا حكم لمشيئته في التصرفات. والثاني: يقع؛ لأن له مشيئة، بدليل أنه يخير بين الأبوين. وإن كان أخرس، فشاء بالإشارة-: يقع، وإن علق بمشيئة ناطق، فخرس، ثم شاء بالإشارة-: فيه وجهان: أصحهما: يقع؛ لأنه لا تطلق له حالة المشيئة. وقيل: لا يقع؛ اعتباراً بحالة التعليق. وإن قال: أنت طالق أن شاء الله بفتح الألف، أو: إذ شاء الله. أو قال أن شاء زيد، أو: إذ شاء زيد-: يقع في الحال؛ لأنه تعليل؛ كأنه قال: قد شاء الله؛ حيث أجراه على لساني.

قال الشيخ - رحمه الله-: إذا قال: أنت طالق إن شاءت الملائكة-: لا يقع؛ كما لو قال: إن شاء الله تعالى؛ لأن لهم مشيئة، ولا تعرف. ولو قال: إن شاء الحمار-: فهو كقوله: إن طرت أو صعدت السماء. وإن قال لها: إذا رضيت الطلاق أو أحببت الطلاق فأنت طالق، فقالت: رضيت أو أحببت-: يقع. ولو قال لها: أحبي الطلاق، أو أهوي، [أو أريدي]، أو أرضي، وأراد تمليكها الطلاق-: فهو كقوله: [شائي أو] اختاري، فإذا أرادت، أو أحبت، أو رضيت: يقع. وعند أبي حنيفة: [لا يقع إلا قوله] شائي أو اختاري، ولا يتبين الفرق. أما إذا علق منع الوقوع بالمشيئة؛ مثل: أن قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فإن شاء زيد ألا تطلق-: لم تطلق، فإن شاء زيد الوقوع أو مات زيد أو غبي غباوة، فلم تعرف مشيئته-: يحكم بالوقوع. ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله-: فالمذهب: أنه يقع الطلاق في الحال لوقوع اليأس من ظهور مشيئته؛ كما لو علق بمشيئة زيد: يقع اليأس منه من مشيئة. وقيل: لا يقع؛ لأنه في الحقيقة تعليق بعدم المشيئة؛ بدليل أنه إذا علق بمشيئة زيد، وعلم أنه لم يشأ-: وقع، ولا يتصور الوقوع، مع عدم مشيئة الله تعالى. قال الشيخ- رحمه الله-: يحكم بالوقوع قبل اليأس من مشيئته، ولا يستند إلى حالة التلفظ، حتى لا يحال بينه وبينها قبل اليأس. قال الشيخ: وجب أن يحال، ويستند. ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله تعالى، أو إذا لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله، أو أن لو لم يشأ الله-: لا يقع؛ لاستحالة الوقوع دون مشيئة الله، عز وجل. وذكر صاحب "التلخيص" قولاً: أنه إذا قال: إن لم يشأ الله، أو إذا لم يشأ الله، أو متى لم يشأ الله: أنه يقع، وهذا قول لا يعرف، ولعله على قول من يجعله صفة مستحيلة؛ فيلغو. ولو قال: أنت طالق إن شاء الله، أو لم يشأ الله-: يقع في الحال، كما لو قال شاء زيد أو لم يشأ.

قال الشيخ- رحمه الله-: ولو قال أنت طالق إلا أن أشاء، أو إلا أن يبدو لي-: يقع في الال؛ لأنه ليس بتعليق، بل أوقع الطلاق، ثم أراد رفعه إذا بدا له. ولو قال لها: أنت طالق كيف شئت: قال أبو حنيفة: يقع الطلاق شاءت أو لم تشأ. قال الشيخ القفال، والشيخ أبو زيد كذلك: يقع. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقع، حتى توجد مشيئته في المجلس، واختاره الشيخ أبو علي. فإن شاءت أن تطلق أو شاءت ألا تطلق-: طلقت لوجود المشيئة. قال الشيخ - رحمه الله-: وكذلك لو قال: أنت طالق على أي وجه شئت. فلو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، إلا أن يشاء أبوك واحدة، فشاء أبوها واحدة- لم يقع؛ كما لو قال إلا أن يدخل أبوك الدار، فدخل-: لا يقع، وإن شاء أبوها اثنتين أو ثلاثاً-: لا يقع؛ لوجود الصفة وزيادة. ولو قال: أنت طالق لولا أبوك لطلقتك-: لا يقع؛ لأنه لم يرد الإيقاع، بل أخبر أنه لولا حرمة الأب لطلقها؛ كما لو قال: لولا أبوك لطلقتك. إذا قال لامرأته يا زانية، أنت طالق ثلاثاً، إن شاء الله، أو قال: أنت طالق ثلاثاً، يا زانية، إن شاء الله-: يرجع الاستثناء إلى الطلاق لا إلى الزنا، حتى يجب عليه الحد؛ لأن الاستثناء لا يعمل في الأسامي، حتى لو قال: يا زانية؛ إن شاء الله-: يجب الحد، وتخلل قوله: "يا زانية" بين لفظ الطلاق والاستثناء-: لا يقطع الاستثناء؛ كما لو قال: أنت طالق، يا فاطمة، إن شاء الله-: لا يقع. ولو قال لها: يا طالق، أنت طالق ثلاثاً، إن شاء الله-: رجع الاستثناء إلى قوله: أنت طالق، وتقع طلقة بقوله: "يا طالق، والله أعلم بالصواب. بَابُ طَلاَقِ الْمَرِيضِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "طَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفِ تُمَاضِرَ بِنْتَ الأَصْبَغِ الكَلْبِيَّةَ، فَبَتَّهَا، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْر وَأَمَّا أَنَا فَلاَ أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةُ".

طلاق المريض يقع كطلاق الصحيح، ثم إن كان الطلاق رجعياً-: لا ينقطع الميراث بينهما، فأيهما مات، وهي في العدة، يرثه صاحبه.

وأما الطلاق البائن في مرض موت الزوج- نظر: إن كان بمسألة المرأة أو باختلاعها نفسها-: فلا يجعل الرجل فاراً وينقطع الميراث من الجانبين. وإن كان بغير مسألتها بأن طلقها ثلاثاً في مرض موته، أو خالعها مع أجنبي: فإن ماتت المرأة-: [لا يرثها] الزوج، وإن مات الزوج هل ترثه المرأة؟ فيه قولان: أظهرهما- وهو قوله الجديد، وبه قال عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن الزبير [لامرأته]-: لا ترثه؛ كما لا يرثها الزوج، لأن المثبت للتوارث هو الزوجية، وقد ارتفعت؛ كما لو نفى نسب الولد باللعان [في المرض]-: ينقطع التوارث بينهما. وقال في القديم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة: ترثه؛ لأن قصده بهذا الطلاق الفرار عن الميراث، فيرد عليه قصده، كما لو قتل مورثه لا يرثه لأن قصده استعجال الميراث؛ فعوقب بحرمانه. فإن قلنا: ترثه-: إلى متى ترثه؟ فيه أقوال: أحدها: ما لم تنقض عدتها، فإن مات بعد عدتها-: لم ترثه؛ وهو قول أبي حنيفة، حتى لو كان الطلاق قبل الدخول-: لا ترثه؛ لأنه لا عدة عليها. والثاني: ترثه؛ ما لم تنكح زوجاً آخر، وهو قول ابن أبي ليلى. والثالث- وهو قول مالك-: أبداً، وإن نكحت زوجاً آخر؛ لأن توريثها بالفرار، وذلك لا يزول بالتزويج، سواء كان الطلاق قبل الدخول أو بعده. ولو سألت طلاقها، فلم يجبها في الحال، ثم طلقها بعده-: فهو فاز، وكذلك لو سألت طلاقاً رجعياً، فطلقها ثلاثاً-: كان فاراً. ولو طلقها رجعياً في مرضهن فانقضت عدتها-: لم ترثه؛ لأنه لم يكن فاراً بالطلاق الرجعي. ولو علق في مرضه طلاقها بصفة، فوجدت- نظر: إن علق بفعل نفسه، أو بفعل أجنبي، أو بمضي زمان-: فهو فار، ترث في القديم. وإن علق بفعل- من جهتها- نظر: إن لم يكن لها منه بد: إما طبعاً؛ كالأكل والشرب

والنوم والقيام والقعود، أو شرعاً؛ كالطهارة وأداء الصلاة المفروضة-: فهو فار؛ وإن كان لها منه بد-: فلا يكون فاراً. وإن علق في الصحة- نظر: إن علق بصفة لا توجد إلا في المرض بأن قال: إن مرضت مرض الموت أو نحو ذلك-: فهو فار. وإن علق بصفة تحتمل وجودها في الصحة-: فليس بفار؛ على الأصح. وقيل: هو فار، وهذا بناء على أن الاعتبار بحالة التعليق أم بحالة وجود الصفة؟ وفيه قولان. ولو أقر في المرض أنه أبانها في الصحة-: فليس بفار. ولو لاعَنَ عنها في مرضه- نظر: إن كان القذف في الصحة-: فليس بفار، وإن كان قذف في المرض، ولاعن-: فقد قيل: هو فار. والمذهب: أنه لا يكون فاراً؛ لأن له غرضاً؛ هو نفي النسب أو إسقاط الحدود؛ وذلك يكوون بعد طلبها. ولو فسخ النكاح بعيب منها في مرضه-: فلا يكون فاراً؛ لأنه لمعنى فيها. أما العبد: إذا طلق امرأته في مرضه، والحر طلق امرأته الأمة، أو المسلم امرأته الذمية في مرضه طلاقاً بائناً، ثم عتق العبد أو الأمة، أو أسلمت الذمية في العدة، ثم مات الزوج-: لا ترثه المرأة، ولا يختلف القول فيه؛ لأنها لم تكن وارثة يوم الطلاق، ولم يكن طلاق الزوج إياها فراراً من الميراث. ولو أبانها في المرض، فارتدت، ثم عادت إلى الإسلام، ثم مات الزوج-: فهو فار، ترث في قول. ولو ارتد الزوج في مرض موته قبل الدخول أو بعد الدخول، أو لم يعد إلى الإسلام، حتى انقضت عدتها، ثم عاد، فمات-: لم يكن فاراً؛ لأنه لا يخلد نفسه في النار بحرمانها من الميراث. ولو أبانها بعد ما ارتد هو، أو ارتدت هي في مرضه، ثم جمعهما الإسلام في العدة-: بان أن الطلاق قد وقع، ولا يجعل فاراً؛ لأنها لم تكن وارثة يوم الطلاق. ولو أبان امرأته المسلمة في مرضه، وقلنا: ترث المبتوتة، فارتدت، ثم مات الزوج-: لم ترث؛ لأجل الردة. فإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، أو بعد انقضائها، ثم مات الزوج، وقلنا:

ترث المبتوتة بعد انقضاء العدة،-: فهذه ترث؛ لأنها كانت وارثة حالة الإبانة؛ فجعل فاراً. ولو طلق زوجته الأمة في المرض، وعتقت، فاختلفا، فقالت المرأة: طلقتني بعد العتق؛ فلي الميراث، وقال الوارث: قبله؛ فلا ميراث لك-: فالقول قول الوارث مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الرق. ولو أن امرأة أرضعت زوجها الصغير في مرض موتها-: هل تجعل المرأة فارة حتى يرثها الزوج؟ المذهب أنها لا تجعل فارة. وخرج وجه بعيد: أنها تجعل فارة، ويرثها الزوج، نظيره: إذا عتقت أمة تحت عبد لها-: فسخ النكاح. ولو عتق عبد، وتحته أمة-: فالمذهب: أنه لا فسخ. وقيل: يثبت؛ كما يثبت لها إذا أبان أربع نسوة في مرض موته، ونكح أربعاً. فإذا مات، وقلنا: ترث المبتوتة-: فميراث لمن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها- وبه قال مالك-: للمطلقات؛ لتقدم حقوقهن؛ فالمعنى الذي يمنع من سقوطهن يمنع من نقصان حقوقهن. والثاني: يكون للجدد، لأن لهن حقيقة النكاح، وللأوليات حق النكاح. والثالث- وهو [الأقيس] يكون للكل. باب الشك في الطلاق إذا شك [الرجل] هل وقع الطلاق على امرأته-: جعل كأنه لم يقع؛ لأن الأصل بقاء النكاح؛ وكذلك: لو شك في العدد-: يأخذ بالأقل؛ لأنه اليقين.

ولو طار طائر، فقال: إن كان هذا غراباً فامرأتي طالق، فلم يتبين-: لا يحكم بوقوع الطلاق؛ لاحتمال أنه لم يكن غراباً. ولو كانت له امرأتان، فقال: إن كان الطائر غراباً فامرأتي زينب طالق، وإن كان غيره فعمرة طالق-: يقع [الطلاق] على واحدة لا بعينها، فيمنع منهما، حتى يتبين. وإن كان هذا بين رجلين، وقال أحدهما: إن كان غراباً فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق-: فلا يحكم على واحد بعينه، بل يبني كل واحد على يقين نفسه، ويمسك زوجته.

وكذلك: حكم العتق في عبدين لرجلين، إلا أن في العتق إذا ملك أحدهما عبد صاحبه-: يؤاخذ بتعيين العتق في أحدهما، فإن كان قبل الشراء قد كذب صاحبه، وقال له: حنثت في يمينك، فإذا اشترى عبد صاحبه- حكم بعتقه عليه، وله إمساك عبد نفسه، وإن تردد الحنث بين العتق والطلاق بأن سقته بالليل واحدة، فقال: إن كانت الساقية امرأتي فهي طالق، وإن كانت جاريتي فهي حرة. أو طائر طار فقال: إن كان هذا غراباً فنسائي طوالق، وإن لم يكن غراباً فعبيدي أحرار-: فيوقف عنهم جميعاً، ويمنع من الاستمتاع بالنساء، ومن التصرف في العبيد، ويؤخذ بالتعيين، وعليه نفقتهم؛ لأنهم في حبسه. فإن عين [النساء لم يحنث] في العبيد، أو قال: لم أحنث في الطلاق-: عتق العبيد والنساء، وللنساء أن يدعين عليه بأنك حنثت في يمين الطلاق، فيحلف بالله أنني لم أحنث في يمين الطلاق. فإن حلف قررن تحته، وإن نكل حلف النساء، وحكم بطلاقهن، وإن حلف بعضهن-: حكم بطلاق الحالفة منهن دون من لم تحلف. ولو ادعى أحد الفريقين ابتداءً، فقال: ما حنثت في يمينكم-: تعين الحنث في الآخرين، وحلف في حق المدعين. وإن ادعت واحدة من النساء، ونكل في حقها-: حلفت يمين الرد وبانت منه، ثم للزوج أن يحلف في حق أخرى، ولا يجعل نكوله في حق واحدة نكولاً في حق غيرها، فإن ادعى أحدا لفريقين، فقال: لا أدري-: كان ذلك إنكاراً منه في حق المدعين، ولكن لا يكون إقراراً في حق الآخرين، فتعرض عليه اليمين، فإن أعاد، وقال: لا أدري-: كان نكولاً؛ فيحلف المدعون، ويقضي لهم. أما إذا عرض عليه اليمين، فحلف على نفي دعواهم-: كان إقراراً في حق الآخرين، وإن مات الزوج قبل البيان: قال الشافعي- رضي الله عنه-: يقرع بين العبيد والنساء، فإن خرجت القرعة للعبيد-: عتقوا، وإن خرجت للنساء-: لم يعتق العبيد، ولم تطلق النساء، لأنه لا مدخل للقرعة في الطلاق. واختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فهل يقوم الوارث مقامه في البيان؟ فيه قولان:

كما لو طلق إحدى امرأتيه، لا بعينها، فمات قبل البيان-: هل يقوم وارثه مقامه في البيان؟ فيه قولان. ومن أصحابنا من قال ههنا: لا يقوم الوارث مقامه؛ لتمكن التهمة من بيانه، من حيث إنه ربما يعين الحنث في الطلاق، فيحرمهن من الميراث، ويستبقي العبيد لنفسه. فإن قلنا: لا يقبل تعيين الوارث-: فيقرع بين العبيد والنسوان: فإن خرجت القرعة للعبيد-: حكم بعتقهم، وترث النساء منه، وإن خرجت للنساء-: لم يطلقن، وبقي الأمر على الإشكال. والورع لهن: أن يدعن الميراث. وإن قلنا: يقبل تعيين الوارث: فإن عين الحنث في العتق-: عتق العبيد، وورث النساء، وإن عين في الطلاق: فللنساء تحليف الوارث فيحلف على البت أنه حنث في يمين الطلاق، وللعبيد الدعوى- أيضاً- أنه حنث في يمين العتق، وقد عتقنا، فيحلف على العلم؛ أنه يعلم أن مورثه حنث في يمين العتق. فصل إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق- فلا يخلو: إما أن يكون عين واحدة بقلبه، أو لم يعين: فإن عين واحدةً بقلبه-: يؤمر بالبيان، وإن لم يعين-: يؤمر بالتعيين، ويمنع الزوج من قربانهما حتى يبين أو يعين، ويؤمر بالإنفاق عليهما. فإن امتنع من البيان والتعيين-: حبس، سواء قال فيمن عين: نسيت المعينة، أو لم يقله؛ لأنه حق وجب عليه، وهو يقدر على إيفائه. ثم إن كان قد عين بقلبه واحدة: فإذا بين-: فللأخرى أن تدعي عليه أنك عينتني، وتحلفه: فإن نكل-: حلفت، وطلقتا [معاً]، وتكون عدة من بين فيها من وقت اللفظ. وإن لم يعين واحدة بقلبه: فإذا عين واحدة-: فليس للأخرى أن تدعي عليه وتحلفه؛ لأنه اختيار تشه؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه ابتداء-: فلا دعوى عليه للأخرى، وعدتها من أي وقت تكون؟ فيه وجهان؟ وأصله أنه طلاق موقع أم التزام طلاق في الذمة؟ وفيه جوابان: إن قلنا: طلاق موقع، ومحله غير متعين-: فمن وقت اللفظ، وإلا من وقت التعيين. ولو وطئ إحداهما- نظر: إن كان قد عين واحدة بقلبه-: فالوطء لا يكون بياناً.

ثم إن بين في الموطوءة-: عليه الحد، إن كان الطلاق بائناً، وعليه المهر لجهلها بالحال، وإن بين في غير الموطوءة، ثم ادعت الموطوءة عليه: أنه أرادها، فنكل، وحلفت-: حكم بطلاقها، وعليه المهر، ولا حد عليه للشبهة؛ لأنه طلاق ثبت باليمين من حيث الظاهر. وإن لم يكن عين واحدة بقلبه-: هل يكون تعييناً؟ فيه قولان: أصحهما: بلى؛ لأن الظاهر أنه يطأ إلا من تحل له. والثاني: لا يكون تعييناً؛ كما لا يكون بياناً، فعلى هذا: إذا عين في الموطوءة لا حد عليه؛ للشبهة، وعليه المهر. ثم إذا عين واحدة بقلبه، فآخذناه بالبيان، فقال: هي هذه وهذه-: طلقتا جميعاً. وكذلك: لو قال: هي هذه، أو قال: هي هذه مع هذه، ولو قال: هي هذه أو هذه-: فهو على الإشكال، فلا يزول الطلب عنه بالبيان. ولو قال: هي هذه ثم هذه، أو هذه فهذه، أو بعدها هذه-: طلقت الأولى دون الثانية؛ لأن هذه الحروف للتعقيب؛ فلا تصلح للإيقاع، وحرف الواو للعطف، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه، وحرف "بل" للرجوع عن الأول، والإقرار بتطليق الثانية، فلم يصح رجوعه، وقبل إقراره في حق الثانية. ولو كن أربعاً، فعطف البعض على البعض بـ"الواو" أو بحرف "بل"-: طلقن جميعاً، وإن قال بلفظ "ثم" أو بـ"الفاء"-: طلقت الأولى دون الأخريات، وإن قال بلفظ "أو" فهو على الإشكال. ولو قال: هي هذه وهذه وهذه أو هذه: فإن فصل الثالثة عن الثانية بنغمة أو إرادة أو وقف بينهما-: طلقت الأوليان مع إحدى الأخريين. وإن لم يفصل، بل سرد الكل-: طلقت الأوليات أو الرابعة. فإن عين في إحدى الأوليات الثلاث-: طلقن جميعاً دون الرابعة. وإن عين في الرابعة-: طلقت دون الأوليات. ولو قال: هي هذه أو هذه وهذه وهذه-: فعلى هذا التفصيل، فإن فصل الأخريين عن الأوليين-: طلقت الأخريات مع إحدى الأوليين، وإن سرد الكلام، ولم يفصل-: طلقت الأخريات دون الأولى. فإن عين في إحدى الأخريات الثلاث-: طلقن جميعاً دون الأولى.

وإن عين في الأولى-: طلقت دون الأخريات. ولو قال: هي هذه وهذه أو هذه وهذه وسرد-: طلقت: إما الأوليان، وإما الأخريان. ولو قال: هي هذه بل هذه، أو هذه أو هذه-: طلقت الأولى، وواحدة من الأخريات، وقس عليه إذا دخل الواو في بعضها. أما إذا لم يعين واحدة بقلبه، فآخذناه بالتعيين، فقال: هي هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه-: طلقت الأولى دون الثانية؛ لأن الطلاق- ههنا- إلى اختياره، وليس له إلا اختيار واحدة، فإذا اختار إحداهما-: لم يبق له اختيار؛ وكذلك العتق. وإن ماتت الزوجتان أو إحداهما قبل البيان والتعيين-: فيؤاخذ الزوج بالبيان والتعيين؛ كما في حال حياتهما، ويوقف له من تركة كل واحدة منهما، إن ماتتا. وإن ماتت إحداهما-: فمن تركتها ميراث زوج، حتى يبين أو يعين، فإذا بين أو عين فغحداهما-: لا يرث منها، إذا كان الطلاق بائناً، وإن جعلنا ذلك التزام طلاق في الذمة فيما إذا لم يكن عين بقلبه؛ لأن وقوعه يستند إلى حالة التلفظ، ويرث من الأخرى، ولوارثها أن يدعي عليه بأنك عينتها، إن كان عين واحدة بقلبه، وإن نكل-: حلف الوارث، وحرم ميراثها. فإن لم يكن عين واحدة بقلبه-: فلا دعوى لوارثها عليه، فإذا مات الزوج قبل البيان والتعيين-: فهل يقوم وارثه مقامه في البيان والتعيين؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كما يقوم مقامه في استلحاق النسب. والثاني: لا يقوم مقامه؛ كما لا يقوم مقام الميت في اللعان، ونفي النسب؛ لأن كل واحدة زوجة في الظاهر، فبيان الوارث يتضمن إسقاط مشاركة في الإرث؛ فلا يقبل. واختلفوا في محل القولين: فمنهم من قال: القولان فيما إذا كان قد عين بقلبه واحدة، ثم أشكل؛ لأنه إخبار؛ فجاز أن يخبر الوارث عن الموروث. فأما إذا لم يعين واحدة بقلبه-: فلا يقوم الوارث مقامه؛ لأنه اختيار شهوة؛ كما لو أسلم عن أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار-: لا يقوم فيه الوارث مقامه في اختيار الأربع. وقال أبو إسحاق [المروزي]: في الكل قولان: فإن قلنا: لا يقوم الوارث مقامه، أو قال الوارث: لا أعلم: فإن مات الزوج قبلهما-:

يوقف من تركته ميراث زوجة منهما حتى يصطلحا، أو يصطلح ورثتهما بعد موتهما. وإن سبق موتهما على موت الزوج-: يوقف من تركة كل واحدة منهما ميراث زوج. وإن ماتت إحداهما قبل موت الزوج، والأخرى بعده-: فيوقف من تركة الأولى ميراث زوج، ومن تركة الزوج للأخرى ميراث زوج حتى يصطلحوا. وإن قلنا: يقوم الوارث مقامه: فإن مات الزوج قبلها-: فقد قيل- ههنا-: ليس للوارث البيان؛ لأنه لا غرض له فيه؛ لأن ميراث واحدة وأكثر سواء، فيوقف لهما ميراث زوجة، حتى يصطلحا. وقيل: يقبل بيان الوارث: فإذا بين في إحداهما-: لورثة الأخرى تحليفه، فإذا ماتتا قبل موت الزوج: فإذا بين الوارث من إحداهما-: فلورثة الأخرى تحليفه؛ لأنه يشاركهم في الميراث، فيحلف على [نفي] العلم أنه يعلم أن مورثه طلقها. وإن ماتت إحداهما قبل موت الأخرى، ثم مات الزوج: فإن بين الوارث فيمن ماتت قبل الزوج-: قبل قوله بلا يمين؛ لأنه يضر بنفسه من وجهين: من حيث أنه يحرم نفسه من ميراث الأولى، ويثبت الشركة للأخرى معه في ميراث الزوج. وإن بين فيمن مات الزوج قبلها-: فلوارث كل واحدة منهما تحليفه؛ لأنه يدعي الشركة في ميراث الأولى، وتحرم الأخرى من ميراث الزوج، فيحلف في حق الأولى على العلم أنه لا يعلم أن مورثه طلقها، ويأخذ ميراث الزوج من تركتها، ويحلف في حق الأخرى على البت أن مورثه طلقها؛ لأن يمين الإثبات يكون على البت. وهذا كله فيما إذا كان قد عين واحدة بقلبه، وإن لم يعين-: فلا دعوى بعد التعيين ولا يمين؛ لأنه اختيار شهوة. ولو شهد شاهدان من ورثة الزوج لواحدة أنها المطلقة- نظر: إن مات الزوج قبلها-: قبلت شهادتهما؛ لأنه لا تهمة فيها. وإن ماتتا قبل موت الزوج-: لم تقبل؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما نفع الميراث. وإن ماتت إحداهما قبل موت الزوج: فإن شهدا لمن ماتت قبله-: قبلت؛ لأنهما يلتزمان بهذه الشهادة ضرراً ظاهراً، وهو حرمان الزوج من ميراث الميتة؛ من قبل إثبات الشركة للأخرى في الميراث. وإن شهدت الباقية بعد موت الزوج-: لا تقبل التهمة من حيث إنه يخرجها من الميراث ويثبت الشركة لنفسه في ميراث الأولى، والله أعلم بالصواب.

كتاب الرجعة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الرجعة قال الله تبارك وتعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا ....} [البقرة: 228] أي: برجعتهن، وقال جل وعلا: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ...} [الطلاق: 2] أراد ببلوغ الأجل: مقاربة انقضاء العدة، وبالإمساك: الرجعة. المطلقات قسمان: مستوفى عدد طلاقها؛ فلا تحل لمن طلقها إلا بعد نكاح زوج آخر، وغير مستوفى عدد طلاقها، فهي قسمان: بائنة ورجعية.

فالبائنة: هي التي طلقها زوجها قبل الدخول، أو طلقها على عوض؛ فلا تحل له إلا بنكاح جديد. والرجعية: هي التي طلقها طلقة أو طلقتين من غير عوض بعد الدخول، فيجوز للزوج رجعتها بغير إذنها ولا بإذن وليها، ما دامت في العدة، ويصح من غير علمها؛ ويستحب: أن يعلمها. وإن كانت أمة-: لا يشترط إذن سيدها، ويملك العبد المراجعة بغير إذن مولاه، والحر يملك على زوجته ثلاث طلقات ورجعتين، سواء كانت زوجته حرة أو أمة. والعبد لا يملك إلا طلقتين ورجعة واحدة؛ سواء كانت زوجته حرة أو أمة، فإذا طلقها طلقتين-: لا تحل له إلا بعد زوج آخر، ويستحب الإشهاد على الرجعة؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وهل يجب؟ فعلى قولين: أصحهما: لا يجب؛ لأنه ليس بعقد جديد؛ كما لا يحتاج إلى إذن الولي. والثاني: وبه قال مالك-: يجب الإشهاد؛ لظاهر الآية. ولا يجوز للزوج وطء الرجعية، ولا مسها، ولا النظر إليها بشهوة، ولا الخلوة بها. وعند أبي حنيفة: يجوز وطؤها، ولا يجوز الخلوة بها إذا لم يرد الرجعة. ولا يحصل عندنا الرجعة إلا بالقول، فيقول: راجعتك، أو ارتجعتك، أو رددتك، فهل يشترط أن يقول في الرد: رددتها إلي، أو إلى زوجيتي؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لأن ظاهره الرد إلى الحالة الأولى من الزوجية؛ كما لا يشترط في لفظ "الرجعة" بل يستحب. والثاني: يشترط؛ لأنه يحتمل أن يريد الرد إلى الأبوين بالفراق، والظاهر من أمر المراجعة الرجعة إلى الزوجية. ويستحب أن يقول أيضاً: راجعتك إلى زوجيتي، ويحصل بلفظ الإمساك؛ على الأصح؛ لقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وأراد به الرجعة. ويستحب أن يقول: أمسكتك على زوجيتي، ولا يحصل بلفظ الإنكاح والتزويج؛ على أصح الوجهين؛ لأنه غير مستعمل فيه. وقيل: يحصل؛ لأنه لما صلح لاستحداث الملك فلأن يصلح للتدارك أولى، وهل تحصل الرجعة بالكتبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تحصل؛ كالنكاح. والثاني: تحصل؛ لأنه لا يحتاج إلى قبول ولا إشهاد. وهل يجوز التوكيل فيه؟ فعلى وجهين: أصحهما: يجوز؛ كالنكاح، ولا تحصل الرجعة بالوطء، ولا باللمس بالشهوة، والتقبيل. وعند أبي حنيفة: تحصل بالوطء، واللمس بالشهوة، والنظر إلى الفرج بالشهوة. وعند مالك: إن قصد بالوطء الرجعة-: تحصل، وإلا فلا. وإذا وطئ الرجعية-: فلا حد عليه للشبهة؛ لأنه لم يزل به الملك على الثبات، ويجب المهر، سواء راجعها أو لم يراجعها. وقيل: إن راجعها-: لا يجب المهر، ويلزمها من وقت الوطء كمال العدة، وتدخل من عدة الوطء في عدة الطلاق بقدر ما بقي منها، وله الرجعة في بقية عدة الرجعة؛ مثل: أن وطئها بعد مضي قرء من عدتها-: فعليها أن تعتد من وقت الوطء بثلاثة أقراء. ويجوز له مراجعتها في قراين، ولا يجوز في القرء الثالث، ويجوز فيه ابتداء النكاح، له دون غيره. ولو أنها حبلت من هذا الوطء، فهل تدخل عدة الطلاق في عدة الوطء؟ فيه وجهان:

أحدهما: تدخل، ويوضع الحمل تخرج من العدتين. وقيل: [وهل] تصح رجعته قبل الوضع؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: لا تصح؛ لأن عدتها بالحمل، وهي عدة الوطء. والثاني: تصح؛ لأن عدة الطلاق باقية. والثاني: لا تدخل؛ لأنهما جنسان مختلفان، ولكن تقدم عدة الحمل، ثم بعد الوضع: تتم باقي عدة الطلاق، وتصح رجعته في القرأين بعد وضع الحمل، وهل تصح رجعته قبل وضع الحمل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها في عدة وطء بالشبهة. والثاني: تصح؛ لأن عدة الطلاق عليها، فلو ارتد الزوجان أو أحدهما في عدة الرجعة، فراجعها في حال الردة-: لم تصح؛ لأنها جارية في البينونة، والرجعة لا تلائم حالها؛ بخلاف ما لو راجعها في حال الإحرام: يصح. وكذلك لو ارتد أحدهما بعد الدخول، ثم طلقها في العدة، وراجعها-: فالطلاق يكون موقوفاً، فإن جمعهما الإسلام في العدة-: بان أن الطلاق كان واقفاً، ولم تصح الرجعة، ولا يصح تعليق الرجعة إذا قال: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت-: لم يصح. ولو قال: إذا طلقتك فقد راجعتك-: لم يصح؛ كما لو علق الطلاق بالنكاح. ولو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها طلاقاً رجعياً ثم قال: راجعت المطلقة، هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ كما يقع الطلاق لا على التعيين. والثاني: لا يصح؛ لأنه ليس للرجعة من الغلبة ما للطلاق، والله أعلم. فصل إذا ادعت المرأة انقضاء عدتها، وأنكر الزوج- نظر: إن كانت عدتها بالأشهر-: فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنه في الحقيقة اختلاف في وقت الطلاق. ولو اختلفا في أصل الطلاق-: كان القول قول الزوج، كذلك: إذا اختلفا في وقته، وإن كان عدتها بوضع الحمل أو الأقراء-: فالقول قول المرأة مع يمينها في موضع الإمكان. وإن كانت حاملاً- نظر: إن ادعت المرأة ولادة ولد كامل وأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر وساعتان من يوم النكاح: ساعة لإمكان الوطء، وساعة للولادة.

فإن ادعت أقل من ذلك-: لا يقبل، وإنما جعلنا أقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روي أن امرأة ولدت في زمن عثمان- رضي الله عنه- لستة أشهر، فشاور عثمان، رضي الله عنه- القوم في رجمها؟ فقال ابن عباس: أنزل الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فيكون الحمل ستة أشهر. وإن ادعت إسقاط سقط ظهر فيه خلق الآدميين-: فأقل مدة تصدق فيها مائة وعشرون يوماً وساعتان من يوم النكاح؛ لما جاء في الحديث: "يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ: أَرْبَعُونَ يَوْماً نُطْفَةً، وَأَرْبَعُونَ عَلَقَةً، وَأَرْبَعُونَ مُضْغَةً". وإذا ادعت إلقاء المضغة-: ففي انقضاء العدة بإلقائها قولان: فإن قلنا: تنقضي-: فأقل مدة تصدق فيها ثمانون يوماً وساعتان من يوم النكاح. وقال أبو إسحاق-: لا يقبل قولها في ولادة ولد كامل، لأن إقامة البينة عليه ممكن؛ بخلاف إسقاط السقوط. والمذهب: أنه يقبل، وإنما يقبل قولها في الولادة، إذا كانت ممن تحيض. فإن كانت صغيرة أو آيسة-: لا يقبل [قولها]؛ لأنها لا تحبل، وإن كانت عدتها بالأقراء- لا يخلو: إما أن كانت مبتدأة أو معتادة: فإن كانت مبتدأة: ينبني على أن الصغيرة إذا رأت الدم في خلال الأشهر-: هل يحسب ما مضى قرءاً؟ فيه وجهان: إن قلنا: يحسب قرءاً: فأقل مدة تصدق فيها اثنان وثلاثون يوماً وساعتان من يوم الطلاق، وتجعل كأنها حاضت عقيب الطلاق، فتلك الساعة قرء، ثم بعده حيضتان وطهران، ثم ساعة الطعن في الحيضة الثالثة. وإن قلنا: لا تحسب قرءاً، فلا تصدق في أقل من ثمانية وأربعين يوماً وساعة لثلاثة أطهار، وثلاث حيض. فإن كانت معتادة: فإن ادعت انقضاء عدتها على وفق عادتها: تصدق، وإن ادعت لأقل من ذلك، وقالت: اختلفت عادتي-: تصدق؛ على أحد الوجهين. وإن كانت عادتها مختلفة، فادعت انقضاء عدتها لأق الطهر وأقل الحيض-: تصدق، فإن كان الطلاق في حال الطهر-: تصدق لاثنتين وثلاثين يوماً وساعتين من وقت الطلاق،

وإن كان في حال الحيض-: فلسبعة وأربعين يوماً وساعة؛ تجعل كأن الطلاق وقع في ىخر جزء من الحيض. فلو قالت المرأة: طلقني، وقد بقي من الطهر ما يحسب قرءاً، وقال الزوج: طلقتك، ولم يبق شيء من الطهر-: فالقول قول المرأة مع يمينها؛ لأنه اختلاف في وقت الحيض؛ فالقول في الحيض قولها؛ كما لو اختلفا في وضع ما تنقضي به العدة-: كان القول قولها. فإذا ادعت انقضاء العدة لأقل من زمان الإمكان، ورددناه: فإذا بلغت زمان الإمكان-: يحكم بالانقضاء، وإن كانت مصرة على قولها السابق. وقيل: لا يحكم ما لم ترجع عن قولها السابق؛ لأن أمانتها بطلت بالإصرار على الخيانة. وعند أبي حنيفة: يعتبر أقل الطهر وأكثر الحيض. وقول الأمة مقبول في انقضاء عدتها كالحرة، وأقل مدة تصدق فيه ستة عشر يوماً وساعتان إن كان الطلاق في حال الطهر. وإن كان في حال الحيض-: فإحدى وثلاثين يوماً وساعة. وإذا قال لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت ولداً-: طلقت، ثم هو كالطلاق في حال الحيض، فأقل مدة تصدق فيه المرأة سبعة وأربعون يوماً وساعة تجعل كأنها ولدت، ولم تر الدم؛ فلا بد من ثلاثة أطهار بعده وحيضتان، ثم ساعة للطعن في الحيضة الثالثة. هذا إذا قلنا: يتصور الحيض في زمان النفاس؛ وهو المذهب. فإن قلنا: لا يتصور-: فلا يقبل في أقل من اثنين [وسبعين] يوماً وساعة: ستون يوماً للنفاس، ويحسب ذلك قرءاً، ثم بعده حيضتان وطهران، وساعة للطعن في الحيضة الثالثة. فصل في الاختلاف إذا نكحت الرجعية بعد انقضاء عدتها، ثم جاء زوجها الأول، وادعى بأني كنت راجعتها- نظر: إن أقام عليه بينة، أو صدقة الزوجان-: فهي زوجة الأول، سواء دخل بها الزوج الثاني، أو لم يدخل بها؛ وهو قول علي، كرم الله وجهه. وعند مالك: إن دخل بها الثاني-: فهي زوجة الثاني.

وإن لم يكن له بينة، ولم يصدقاه-: فدعواه مسموعة على المرأة، وهل تسمع على الزوج؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنها في فراشه. والثاني: لا؛ لأن المرأة لا تحتوي عليها يد الزوج. وإن قلنا: لا تسمع، فادعى على المرأة- نظر: إن أقرت له بالرجعة-: لا يقبل إقرارها ف حق الثاني؛ بخلاف ما لو ادعى على امرأة، وهي تحت رجل أنك زوجتي، فقالت: كنت زوجة لك، وطلقتني-: كان إقراراً له به، وكانت زوجة له، والقول قوله مع يمينه أنه لم يطلقها؛ لأن ثم لم يتفقا على الطلاق-: فههنا: اتفقا على الطلاق، والأصل عدم الرجعة إلا أن المرأة تغرم للزوج الأول مهر مثلها؛ لتفويت البضع عليه. وإن أنكرت المرأة رجعته-: فالقول قولها مع يمينها، وإن نكلت حلف الزوج، وأخذ منها مهرها، ولا يحكم ببطلان نكاح الثاني. وإن جعلنا النكول ورد اليمين كالبينة؛ لأنه كالبينة في حق المتداعيين لا في حق غيرهما. وإن قلنا: تسمع دعوى الزوج الأول على الزوج الثاني، فادعى عليه- نظر: إن أقر له بالرجعة-: حكم ببطلان نكاحه؛ ولكن قوله على المرأة لا يقبل، وللزوج الأول أن يدعي عليها، فإن أقرت له كانت زوجة له، وإن أنكرت-: حلفت، وإن كذبه الزوج [الثاني]-: فالقول قوله مع يمينه، وإن حلف-: فللأول أن يدعي على المرأة، وإن نكل الزوج الثاني، وحلف الأول-: ارتفع النكاح بينها وبين الثاني، ولكن لا تسلم المرأة إلى الأول، ولكن الأول يبتدئ الدعوى على المرأة، وهل يجب للمرأة على الزوج الثاني شيء أم لا؟ هذا ينبني على أن النكول ورد اليمين كالبينة أم كالإقرار؟ فيه جوابان: إن قلنا: كالبينة-: يصير كأن النكاح لم يكن، فإن كان قبل الدخول-: لا شيء لها، وإن كان بعده-: يجب مهر المثل. وإن قلنا: كالإقرار أو أقر الثاني للأول-: لا يقبل إقراره في حقها؛ فيجب لها كمال المسمى، إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله-: فنصف المسمى. قال الشيخ- رحمه الله-: والصحيح عندي أن نكوله لا يعمل في سقوط حقها، وإن جعلناه كالبينة في حق المتداعيين لا في حق المرأة؛ بدليل أنه لا تكون منكوحة للأول، كذلك في المهر، بل عليه المسمى.

قال- رحمه الله-: أما إذا [نكلت] المرأة، وحلف الأول بعد نكول الزوج الثاني ويمين الأول-: فهي زوجة الأول، وعلى الثاني لها مهر المثل، إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله-: فلا شيء، كما لو أقرت للأول. فكل موضع قلنا: لا تسلم المرأة إلى الأول بعد إقرارها ونكولها-: فيمين الأول لحق [الزوج] الثاني. فإذا زال حق الثاني بموت أو طلاق-: ردت إلى الأول؛ لإقرارها له؛ كمن أقر بحرية عبد في يد الغير، ثم اشتراه-: حكم بحريته. هذا إذا اختلفا في الرجعة بعد نكاح زوج آخر، فأما إذا اختلفا قبل أن نكحت- نظر: إن كان في حال بقاء العدة-: فدعواه الرجعة رجعة؛ لأن من ملك إنشاء شيء-: كان دعواه كالإنشاء، وإن كان بعد انقضاء العدة-: قال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدتك، وأنكرت-: فالقول قولها مع يمينها. فلو صدقته [بعد الجحود-: كانت زوجة له؛ كمن جحد حقاً، ثم أقر به، وإن اختلفا في الرجعة، وانقضت العدة] بعد وجودها-: ففيه ثلاث مسائل. إحداها: أن يتفقا على وقت الرجعة؛ أنها كانت يوم الجمعة، واختلفا في وقت انقضاء العدة، وقال الزوج: انقضت يوم السبت، وقالت: بل يوم الخميس-: فالقول قول الزوج مع يمينه، لاتفاقهما على صدقه فيما يدعيه، واختلفا في انقضاء العدة، والأصل بقاؤها. الثانية: أن يتفقا على وقت انقضاء العدة أنه كان يوم الجمعة، واختلفا في الرجعة، فقال الزوج: راجعتك يوم الخميس، فقالت المرأة: بل يوم السبت-: فالقول قولها مع يمينها؛ لاتفاقهما على صدقها فيما تدعيه. الثالثة: إذا لم يتفقا على وقت، بل يقول الزوج: راجعتك قبل انقضاء عدتك، وتقول المرأة: انقضت عدتي قبل مراجعتك-: فالقول قول من سبق بالدعوى. فإن قالت المرأة أولاً: انقضت عدتي، ثم قال الزوج: راجعتك قبل انقضاء عدتك-: فالقول قولها مع يمينها، ويجعل كأن الزوج أنشأ الرجعة هذه الحالة. وإن سبق قوله، فقال: راجعتك قبل انقضاء عدتك، وقالت بعده: انقضت عدتي-

نظر: إن قالت المرأة متراخياً عنه بزمان: انقضت عدتي-: فالقول قول الزوج مع يمينه، ويجعل كأن عدتها انقضت حالة الدعوى. وإن قالت ارتجالاً عقيب قوله: انقضت عدتي-: فالقول قولها مع يمينها، وهي مسألة الكتاب؛ لأن الرجعة تكون بالقول، فيجعل قوله: "راجعتك" كأنه ينشئ الرجعة الآن، وانقضاء العدة لا يكون بالقول؛ فيكون قولها: "انقضت عدتي" إخباراً عن أمر كان قبل؛ فيصير كأن قول الزوج "راجعتك" صادف انقضاء العدة؛ فلم يصح، وإن جاءا متداعيين: هذا يدعي الرجعة، وتدعي المرأة انقضاء العدة، ولا يعرف البادئ منهما-: فالقول قولها مع يمينها، ويصير كأن الرجعة صادفت انقضاء العدة. وإن لم يختلفا، بل قالا جميعاً: نعلم وجودهما، ولا نعلم أيهما كان أسبق-: فالأصل بقاء العدة، وله الرجعة. وإن كانت المرأة حاملاً، فوضعت، وطلقها زوجها، فاختلفا؛ فقال الزوج: وضعت قبل الطلاق؛ فلي الرجعة، وقالت المرأة: بل بعد الطلاق، فانقضت عدتي- نظر: إن اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الطلاق بيده. فإن اتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في وقت الولادة-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن القول في أصل الولادة قولها. وإن لم يتفقا على شيء، بل الزوج يقول: كان الولادة قبل الطلاق، وهي تقول: كان الطلاق قبله-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل وجوب العدة، وبقاء الرجعة. فإن قالا: لا ندري السابق-: فله مراجعتها، والورع أن يترك، ولا يجوز لها أن تنكح إلا بعد مضي ثلاثة أقراء. وكذلك: إذا ادعى الزوج الولادة قبل الطلاق، وقالت: لا أدري. ولو ادعت المرأة الطلاق قبل الولادة، وقال الزوج: ولا أدري-: فيجعل الزوج بقوله: "لا أدري". منكراً، ويعرض عليه اليمين، فإن أعاد هذا-: كان ناكلاً، فتحلف المرأة، ولا عدة عليها ولا رجعة له، فإن نكلت-: عليها العدة لا بمجرد نكولها، بل لما أن الأصل وجود العدة عليها. وإن كانت المرأة أمة، فاختلفا، وصدقه السيد-: فلا أثر لقوله؛ لأنه أجنبي من النكاح. ولو طلقها الزوج، واختلفا في الإصابة، فقال الزوج: قد أصبتها، فلي الرجعة، وأنكرت المرأة الإصابة-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الإصابة، فإذا حلفت

فلا رجعة له، ولا عدة عليها، ولا نفقة لها، ولا سكنى، ولها أن تنكح في الحال، ولا يجوز للزوج أن ينكح أختها ولا أربعاً سواها، ما لم ينقض زمان إمكان عدتها. ثم هو مقر لها بكمال المهر، وهي لا تدعي إلا نصفه، فإن لم تكن قبضت-: فليس لها إلا طلب النصف. وإن كانت قبضت الصداق كله-: فلا يطالبها الزوج بشيء. ولو ادعت المرأة الإصابة، وأنكر الزوج-: فالقول قوله مع يمينه، وعليها العدة، ولا رجعة له عليها؛ لإنكاره الإصابة، ولا نفقة لها، ولا سكنى، ولها نصف المسمى. فلو قالت المرأة بعد ذلك: كنت كاذبة، ولم يصبني: لا تسقط عنها العدة بعد ما لزمتها بإقرارها، والله أعلم. باب المطلقة ثلاثاً. قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 23.]. وروي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جَاءَتِ امْرَأَةُ رفَاعَةَ القُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ! لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ".

وإذا طلق الحر امرأته ثلاثاً قبل الدخول أو بعده، في نكاح واحد، أو في أنكحة متفرقة، أو العبد طلق امرأته طلقتين-: فلا يحل له بعد ذلك نكاحها حتى تنكح زوجاً غيره ويصيبها، ثم يفارقها، وتنقضي عدتها منه، ثم إن شاء الأول نكحها. فأقل الإصابة، إن كانت بكراً: أن يفتضها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً: أن يغيب الحشة، سواء كان قوي الانتشار ودخل بنفسه، أو ضعيفاً أدخله بيده أو بيدها. فإن كان لا ينتشر-: فهو كالذكر الأشل لا يحصل التحليل بإدخاله؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - شرط ذواق العسيلة وذواق العسيلة لا يحصل به. ولو أصابها، وهي نائمة أو هو نائم، استدخلت هي ذكره-: يحصل التحليل، وسواء كان الزوج الثاني عبداً أو مجنوناً أو مراهقاً، إذا كان يتأتى منه فعل الوطء، فإن كان طفلاً لا يتأتى منه فعل الوطء، فأدخل فيها-: لا يحصل التحليل.

ويحصل بإيلاج الخصي، فإن كان مجبوباً، وبقي من ذكره قدر الحشفة، فأدخله-: حلت، وإن بقي أقل من الحشفة-: لم يحصل؛ كالصحيح إذا غيب بعض الحشفة. ولو أصابها في دبرها-: لا يحل، ولو أصابها فأفضاها-: حلت. ولو أصابها في حال الحيض والنفاس، أو في الصوم أو الإحرام-: حصل التحليل. ولو أصابها على ظن أنه يطأ أجنبية حصل؛ لأن القصد ليس بشرط يشترط. ولو طلق المسلم امرأته الذمية ثلاثاً، فنكحت زوجاً ذمياً على اعتقادهم، فأصابها-: ح. صل به التحليل؛ لأن أنكحة أهل الشرك لا يحكم لها بالبطلان، وكذلك المسلم إذا نكح الذمية، فأصابها يحللها لزوجها الذمي، ويشترط أن تكون إصابة الذمي إياها في وقت، لو ترافعا إلينا في تلك الحالة-: أقررناهم عليه حتى يحل. ولا يحصل التحليل بالزنا، ولا بوطء السيد بملك اليمين، ولا بوطء الشبهة، ولا النكاح الفاسد؛ كما لا يحصل به الإحصان. فلو أنها وطئت بالشبهة في نكاح الزوج الثاني، ثم وطئها الزوج الثاني في عدة الوطء-: هل يحصل به التحليل؟ ذكر شيخنا فيه وجهين: أحدهما: لا؛ كالوطء بالشبهة. والثاني: يحصل؛ لأنه وطء صادف نكاحاً صحيحاً؛ كما لو وطئها في حال الحيض والنفاس. وإذا استدخلت المرأة مني الزوج الثاني، أو فاخذها، فسبق الماء إلى رحمها، أو أتاها في دبرها-: لا يحصل بشيء منها التحليل، ولكن يجب عليها العدة. ولو أنها ارتدت بعد وجود شيء منها- يتوقف النكاح بينهما على انقضاء العدة، فلو وطئها الزوج الثاني في حال الردة-: لا يحصل به التحليل؛ لأنها جارية في الفسخ. ولو طلق امرأته ثلاثاً، فغاب عنها زماناً، ثم رجع، فادعت المرأة أنها قد نكحت زوجاً آخر، وأصابها، وانقضت العدة-: قبل قولها، إن كان الزمان يحتمل ذلك. ثم إن غلب على ظن الزوج الأول صدقها-: لم يكن له نكاحها، وإن ارتاب في أمرها-: جاز له نكاحها، والورع ألا يفعل حتى لو جاء الزوج الثاني والشهود، وأنكروا ذلك-: لا يقبل منهم.

ولو أنكر الزوج الثاني الإصابة-: فالقول قوله في أنه لا يلزمه إلا نصف المهر، والقول قولها في الإصابة في حق الزوج الأول. وإن قال الأول: أنا أعلم أنه لم يصبها-: فلا تحل له، فإن رجع، وقال: قد صح عندي إصابته إياها-: جاز له نكاحها؛ لأنه قد يظن شيئاً، ثم يزول ذلك الظن. ولو طلق رجل امرأته طلقة أو طلقتين، فنكحت زوجاً آخر، وأصابها، ثم فارقها، فنكحها الأول-: تكون عنده ببقية الطلقات الثلاث، والزوج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث. وعند أبي حنيفة: تعود إليه بكمال الطلقات، والزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث؛ كما يهدم الثلاث. قلنا: بالطلقة والطلقتين لا يحصل شيء من التحريم، المحتاج إلى زوج آخر، فتلك إصابة غير محتاج إليها؛ فلا تؤثر في هدم الطلاق؛ كإصابة السيد بملك اليمين بعدما طلقها الزوج ثلاثاً. ولو طلق امرأته الأمة ثلاثاً، ثم اشتراها-: لا يحل له وطؤها بملك اليمين إلا بعد زوج آخر. وكذلك: لو ظاهر عن زوجته الأمة، ولزمته الكفارة، ثم اشتراها-: لا يحل له وطؤها إلا بعد التكفير. ولو لاعَنَ عنها، ثم ملكها-: لا يحل له وطؤها أبداً؛ كما لا يحل له نكاحها، والله أعلم.

كتاب الإيلاء

بسم الله الرحمن الرحيم "كِتَابُ الإِيلَاءِ". قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ....} الآية [البقرة: 226]. الإيلاء في اللغة: هو الحلف على أي شيء كان.

وفي الشرع: اسم ليمين مخصوصة. وكان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية، فغير الشرع حكمها. وصورة الإيلاء: أن يحلف بالله، أو باسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته: ألا يطأ امرأته أبداً، أو مطلقاً، فيحمل على التأبيد، أو مدة سماها أكثر من أربعة أشهر، فحكمه أن يضرب له مدة أربعة أشهر، فبعد مضيها للمرأة مرافعته إلى الحاكم، ومطالبته بالفيء أو بالطلاق؛ إزالة للضرر عنها، فإن لم يفعل واحداً منها يطلقها عليه الحاكم؛ على قوله الجديد. وأحد قولي القديم: طلقة واحدة؛ وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأنه حق توجه عليه، وهو ممتنع عن إيفائه، فينوب الحاكم عنه فيما يقبل النيابة، وهو الطلاق. وفي القديم قول آخر: أنه لا يطلق الحاكم عليه، بل يحبسه ويعزره حتى يطلق أو يفيء [وبمضي المدة: يرتفع اليمين]. وقال الثوري، وأبو حنيفة: بنفس مضي المدة: تقع طلقة بائنة، ويخرج من هذا: أنه إذا حلف ألا يطأها أربعة أشهر: لا يكون مولياً؛ لأن تضييق الأمر عليه إنما يكون في حال بقاء اليمين. وعند الثوري، وأبي حنيفة: يكون مولياً، حتى يقع الطلاق بمضيها. ومثل قولنا: يروى عن عمر، وعثمان، وعلي وابن عمر، وعائشة، رضي الله عنهم. قال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- كلهم يوقف المولى. وعندنا: مدة الإيلاء حق الزوج؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ...} [البقرة: 226] فجعل المدة للأزواج؛ فلا يتوجه عليهم المطالبة قبل مضيها؛ فهو كالأجل: يكون للمديون؛ فلا يتوجه عليه المطالبة في خلالها. ولو حلف ألا يطأ امرأته أقل من أربعة أشهر-: لا يكون مولياً بالاتفاق، بل هو

حالف؛ حتى لو وطئها قبل مضي تلك المدة: يلزمه كفارة اليمين. ولو قال: والله لا أطؤك مدة، أو ليطولن عهدك بجماعي-: لا يكون مولياً؛ لأنه يقع على القليل والكثير، إلا أن يريد مدة أكثر من أربعة أشهر. فإذا فاء المولي في خلال المدة أو بعد مضيها-: خرج عن الإيلاء، وعليه كفارة اليمين؛ على قوله الجديد؛ وهو المذهب. وفي القديم قولان: أحدهما: هذا. والثاني: أنه إذا فاء بعد مضي المدة لا كفارة عليه؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]. وعد المغفرة على الفيئة بعد المدة؛ فدل ذلك على أن لا كفارة عليه. ولو علق بفعل الوطء أمراً يقبل التعليق؛ مثل: أن قال: إن وطئتك فعبدي حر، أو أنت طالق، أو ضرتك طالق، أو التزم أمراً في الذمة، فقال: إن وطئتك، فلله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو حج أو صوم أو صلاة-: يكون مولياً؛ على قوله الجديد؛ وهو المذهب؛ لأنه يلزمه أمر بالوطء كما لو حلف بالله. وفي القديم: لا يكون مولياً؛ لأنه لم يأت بمعهود الجاهلية. وعلى القولين جميعاً نيته منعقدة، فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً أو ظهاراً، فإذا وطئها-: يقع ما علق عليه به. وإن التزم قربة في الذمة-: فعليه ما في نذر اللجاج. وفيه أقوال: أصحهما: عليه كفارة اليمين. والثاني: عليه الوفاء بما سمى. والثالث: يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى. وفائدة القولين: أنا إذا قلنا: يكون مولياً-: فبعد مضي أربعة أشهر: يضيق الأمر عليه، حتى يفيء أو يطلق. فإن قلنا: لا يكون مولياً-: لا يضيق الأمر عليه. ولو قال: إن قربتك-: فأنت طالق عند دخول الدار، أو عبدي حر بعد سنة-: فهو

مول في الجديد؛ لأنه يلزمه بالوطء أمر، وهو تعلق الطلاق بالدخول، والعتق بمضي السنة. وفي القديم: ليس بمول. وعلى القولين جميعاً: إذا وطئها-: يقع، ويتعلق الطلاق بالدخول، والعتق بمضي السنة. وإن قال: إن قربتك-: فكل عبد أملكه- يعني: في المستقبل- فهو حر-: لا يكون شيئاً لأن تعليق العتق بالملك-: لا يصح. ولو قال: إن قربتك فلله علي صوم شهر، ذكر شهراً أو عين شهراً بعد أربعة أشهر من وقت اليمين-: فهو مول، وكذا لو قال: لله علي أن أصوم [الشهر] الذي أطؤك فيه-: يكون مولياً، وإن سمى شهراً قبل مضي أربعة أشهر، وقال: صوم هذا الشهر-: فلا يكون مولياً؛ لكنه لو وطئها قبل مضي الشهر الذي عينه-: يلزمه ما يلزم في نذر اللجاج. وكذلك لو قال: صوم هذه السنة: فإن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر-: فهو مول، فإن بقي أربعة أشهر فأقل-: فليس بمول والله أعلم. فصل في تحديد ماهية الإيلاء الإيلاء: هو أن يحلف على الامتناع من الجماع خاصة. أما سائر المباشرات إذا حلف على الامتناع منها-: فلا يكون مولياً، وألفاظ الجماع تنقسم إلى صريح وكناية. فالصريح: أن يقول: والله لا أنيكك، أو والله لا أدخل، أو لا أغيب حشفتي أو ذكري في فرجك، أو والله لا أجامعك. ولو قال للعذراء: لا أفتضك-: يصير مولياً، نوى أو لم ينو، وإنما جعلنا لفظ الجماع صريحاً؛ لغلبة الاستعمال. فلو قال: أردت بلفظ الجماع الاجتماع في أمر آخر-: لا يقبل في الظاهر، ويقبل في الباطن. ولو قال: لم أرد بقولي: "لا أفتضك": الافتضاض بالذكر-: لا يقبل في الظاهر، ويقبل في الباطن، على الأصح؛ لأنه قد يريد به لا يفتضها بإصبع أو خشب، حتى يصرح ويقول: لا أفتضك بذكري؛ فيلزمه هذا الحكم ظاهراً وباطناً.

[وقيل: لا يقبل قوله ظاهراً وباطناً]. أما الكنايات؛ مثل قوله: لا أقربك، لا آتيك، أو لا أغتسل عنك، أو لا يجمع رأسي ورأسك شيء، أو لأسوءنك، أو لا أدخل عليك، أو لا تدخلين علي-: فلا يكون مولياً حتى يريد به تك الجماع. ولو قال: لتطولن غيبتي عنك-: فهو كناية في الجماع، وفي المدة: لا يكون مولياً حتى ينوي ترك جماعها أكثر من أربعة أشهر. فإن قال: ليطولن تركي لجماعك-: فهو صريح في ترك الجماع، كناية في المدة، حتى لو قال: أردت تركه شهراً أو شهرين-: يقبل؛ بخلاف ما لو قال: لا أجامعك، ثم قال: أردت شهراً أو شهرين-: لا يقبل في الظاهر، ويقبل في الباطن، لأن إطلاقه يعم جميع الأزمنة، وإذا قيد بالطول-: فيستعمل ذلك في أيام معدودة. ولو قال: لا أباشرك، أو لا أمسك أو لا ألمسك، أو لا أفضي إليك، أو لا أباضعك؛ أو لا أباعلك أو لا أناهلك، أو لا أغشاك-: ففيها قولان: في الجديد: هن كنايات. وفي القديم- وهو اختيار المزني-: صرائح؛ كلفظ المجامعة. ولو قال: لا أطؤك، أو لا أمنيك أو لا أصيبك-: فهو كقوله: لا أجامعك، وقيل: كقوله لا أباشرك؛ على قولين. ولو قال: لا أجامعك في دبرك-: لا يكون مولياً؛ لأنه حلف على ما هو ممنوع عنده؛ كما لو قال: لا أجامعك جماع سوء كذلك؛ لأنه لم يمتنع عن سائر أنواع الوطء. ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء-: سئل فإن أراد: لا أجامع إلا في الموضع المكروه، أو فيما دون الفرج، أو لا اجامع إلا جماعاً لا اغيب فيه الحشفة في الفرج-: فهو مول، وإن أراد: لا أجامعك إلا جماعاً ضعيفاً-: لا يكون مولياً؛ لأن الجماع الضعيف يعمل عمل قوي في الخروج عن الإيلاء. ولو أضاف على عضو منها، فقال: لا أجامع يدك أو رجلك: لا يكون مولياً، إلا أن يقول: لا أجامع فرجك أو قبلك: يكون مولياً. ولو قال: لا أجامع بعضك-: لا يكون مولياً، إلا أن يريد بالبعض: الفرج؛ فيكون مولياً.

ولو قال: لا أجامعك في هذا البيت-: لا يكون مولياً؛ لأنه يمكنه أن يجامعها من غير شيء يلزمه، ولا ضرر عليها في ترك الوطء في بيت بعينه. ولو قال لزوجته: والله لا أطؤك، ثم قال لامرأة أخرى: أشركتك معها-: لا يصير مولياً عن الأخرى؛ لأن الإيلاء يمين لا تجري فيه الكناية مولياً يعني به [الكناية] في المحلوف به؛ فإنه لو قال: لا أطؤك، فقال: أردت بالله-: لا يكون مولياً. أما إذا كان إيلاؤه بالتزام عتق أو طلاق، بأن قال لإحدى امرأتيه: إن قربتك فأنت طالق، أو عبدي حر، ثم قال لامرأة أخرى: أشركتك معها- نظر: إن أراد التشريك في الطلاق، يعني: إن وطئت الأولى فالثانية طالق معها، أو في العتق: قال لعبد آخر: أشركتك معه؛ على معنى: أني إن وطئت المرأة، وعتق العبد الأول فأنت شريك في العتق-: صح التشريك. فإذا وطئها-: طلقت المرأتان، وعتق العبدان؛ لأن الطلاق والعتق يقعان بالكناية. وإن أراد بالتشريك: أن الأولى إن أصبتها-: لا تطلق إلا بإصابة الثانية: لا يصح التشريك؛ لأن الطلاق إذا تعلق بصفة-: لا يصح ضم صفة أخرى إليها. وإن أراد بالتشريك: أن الثانية كالأولى، على معنى: أني إن [وطئتها] فهي طالق أيضاً-: فهل يصير مولياً على الثانية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه تشريك في اليمين؛ كاليمين بالله. والثاني: يصير مولياً عنها؛ لأن اليمين بالطلاق لنفس الطلاق؛ فيقع بالكناية؛ كما يجوز تعليق الطلاق صريحاً وكناية، والله أعلم. فَصْلُ إذا قال لامرأته: إن قربتك فأنت طالق-: فهو مول، ولا يمنع من الوطء، سواء علق به ثلاث طلقات أو أقل. وقال أبو علي بن خيران: يمنع؛ لأنه كما أولج الحشفة-: يقع الطلاق، وكما يمنع الصائم من الجماع إذا بقي إلى طلوع الفجر شيء قليل. والأول المذهب؛ لأن الإيلاج يصادف حقيقة الزوجية، فإذا أولج: عليه أن ينزع،

فالذي يصادف غير الزوجية هو النزع، والنزع ترك الجماع؛ بخلاف الصائم: فإنه إذا بقي شيء قليل من الليل يجامع لا يتحقق أن ذلك الجزء من الليل، ثم بعد مضي المدة أو في خلالها إذا جامع؛ فكما غيبت الحشفة-: وقع الطلاق، وعليه أن ينزع، فإن نزع لا شيء عليه. فإن أولج بعد النزع- نظر: إن كانت رجعية لا حد عليه، فإن كان علق به ثلاث طلقات-: فعليه الحد والمهر، إن كانت المرأة جاهلة. أو علمت، ولم تقدر على أن تدفعه، فلا مهر، وعليه الحد، وإن لم ينزع، ومكث-: فلا حد عليه؛ لأن ابتداءه كان مباحاً، فانتصب شبهة في سقوط الحد، وسكت ههنا عن وجوب المهر، وأوجب الكفارة في الصوم؛ كما ذكرنا في "كتاب الصوم". ولو قال: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي-: فهو مول، فإذا فاء إليها في المدة أو بعد مضيها-: كان مظاهراً. ولو قال: إن قربتك فأنت علي حرام: فإن أراد به الطلاق أو الظهار-: فهو مول، وإن أراد تحريم عينها أو أطلق، وقلنا: مطلق لفظ التحريم يوجب الكفارة-: فهو مول؛ لأنه إذا وطئها تلزمه الكفارة. وإن قلنا: مطلقة-: لا توجب الكفارة، فلا يكون مولياً. ولو قال لامرأته: أنت علي حرام، فنوى الإيلاء-: لا يكون مولياً، بل عليه كفارة اليمين، إذا قلنا: مطلق هذه اللفظة يوجب الكفارة. فإن قال: أردت: أني إن قربتك فأنت علي حرام-: لا يقبل قوله في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الكفارة إلى الوطء، ويقبل في الباطن. قال الشيخ- رحمه الله- ويكون مولياً في الباطن. ولو قال: إن قربتك فأنت زانية-: لا يكون مولياً؛ لأنه لا يلزمه أمر بالوطء، وإذا وطئها-: لا يصير قاذفاً؛ لأن القذف ما يلحق به العار في الحال، ولا يحصل ذلك بالتعليق؛ كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت زانية، فدخلت-: لم يكن قاذفاً. فَصْلُ إذا قال لامرأته: إن قربتك فعبدي حر عن ظهاري، إن تظهرت-: فلا يكون مولياً في الحال ما لم يظاهر. فإذا ظاهر عنها-: صار مولياً، فبعد مضي أربعة أشهر من وقت الظهار، يضيق الأمر

عليه: فإن فاء بعد المدة أو في خلالها-: عتق العبد؛ لوجود الشرطين، وهو الظهار والوطء، ولا يقع عتقه عن الظهار؛ لأن التعليق يقدم الظهار. أما إذا قال: إن قربتك فعبدي حر عن ظهاري، ولم يقل: إن تظهرت-: فهو إقرار منه بالظهار، وهو مول يضرب المدة في الحال، فإذا فاء-: عتق العبد عن الظهار. وكذلك لو قال: إن قربتك فعبدي حر عن ظهاري، إن تظهرت، وكان قد ظاهر ونسي-: كان مولياً، وإذا وطئ- عتق العبد عن الظهار؛ لأن الظهار سابق. ولو أن مظاهراً عابداً قال لامرأته: إن قربتك فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري-: فهو مول؛ لأنه التزم بالوطء تعيين العتق الواجب في ذمته في عبد. ثم إذا ضيقنا الأمر عليه، فطلق-: تخلص عن الإيلاء، وكفارة الظهار في ذمته: إن شاء أعتق ذلك العبد عنه، وإن شاء غيره، وإن فاء في المدة أو بعدها-: انحلت اليمين، ويلزمه ما يلزم في نذر اللجاج. فإن قلنا: يلزمه كفارة اليمين، أو قلنا: يتخير، واختار كفارة اليمين: فإن أطعمه أو كسا عنه-: فعليه إعتاق رقبة عن الظهار: فإن شاء هذه، وإن شاء غيرها، وتبقى هذه رقيقة، وإن أعتق هذه عن اليمين-: عليه إعتاق رقبة أخرى عن الظهار وإن أعتق رقبة أخرى عن اليمين، فعليه إعتاق أخرى عن الظهار: إما هذه، وإما غيرها. وإن قلنا: يلزمه الوفاء بما سمى، أو قلنا: يتخير، فاختاره-: فعليه إعتاق هذه الرقبة، ويخرج عن موجب اليمين، وهل يسقط عنه كفارة الظهار، إن نواه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأنه التزم إعتاقه عن الظهار. والثاني: لا يسقط؛ لأنه يقع مشركاً بين الحنث والظهار. واختار المزني أنه لا يكون مولياً، وبتعيينه: لا يتعين العتق الواجب عليه بسبب الظهار في تلك الرقبة. وكذلك عنده كل من كان في ذمته عتق رقبة، فعينه، في عبد: لا يتغير، كما لو كان عليه صوم يوم، فقال: لله علي أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي في ذمتي-: لا يتعين، وله أن يصوم أي يوم شاء. فإذا لم يتعين: لا يلزمه كفارة اليمين. وقد ذكر ابن أبي هريرة: أن اليوم في الصوم-: يتعين كالرقبة.

والأكثرون على أنه لا يتعين بخلاف العتق؛ لأن للعبد فيه حقاً، ولا حق للزمان في الصوم؛ فلا فائدة في تعيينه. ولو قال: إن قربتك فعبدي حر قبله بشهر-: لا تحسب المدة، حتى يمضي شهر؛ لأنه إن وطئها قبل مضي شهر-: لا يلزمه شيء، ويرتفع حكم اليمين. وإذا مضى شهر، ولم يطأها-: يضرب المدة، فبعد مضي أربعة أشهر: يضيق الأمر عليه، فإن فاء بعد الأربعة الأشهر، أو في خلالها: يحكم بعتق العبد قبله بشهر، ولو لم يفيء وطلقها: فإذا راجعها يضرب المدة ثانياً، ولو لم يراجعها، بل نكحها بعد انقضاء العدة-: فهل يعود حكم الإيلاء؟ فعلى قولي عود اليمين. ولا خلاف أنه لو وطئها-: يحكم بعتق العبد قبله بشهر؛ لأنه لو زنا بها بعد البينونة-: يعتق أيضاً، فإن باع العبد في الشهر الرابع من وقت ضرب المدة مثلاً بعد انتصافه-: فلا يرتفع حكم الإيلاء، ولا يضيق الأمر عليه، حتى يمضي الشهر الرابع، وتتم المدة، ثم يضيق الأمر عليه إلى انتصاب الشهر الخامس: فإن فاء بان أن العتق حصل قبل البيع، وإن لم يفيء حتى ينتصف الشهر الخامس، ويتم من وقت البيع شهر فأكثر: ارتفع حكم الإيلاء؛ لأنه لا يلزم شيء بالوطء بعده. فَصْلُ إذا قال لامرأته: والله لا أجامعك خمسة أشهر؛ فإذا مضت خمسة أشهر، فوالله لا أجامعك سنة-: فهما يمينان عقدهما على مدتين. فإذا مضت أربعة أشهر من يوم عقد اليمين-: يضيق الأمر عليه، فإن فاء ارتفعت اليمين الأولى وكفر، ثم بعد مضي الشهر الخامس-: يضرب المدة لليمين الثانية. وإن طلقها في اليمين الأولى، ولم يفئ- نظر: إن لم يراجعها حتى مضت سنة بعد الأشهر الخمسة- فقد ارتفع حكم اليمين. فإن راجعها قبل مضي الشهر الخامس-: لا يضرب المدة في الحال؛ لأنه لم يبق من اليمين الأولى إلا قليل، فإذا مضى الشهر الخامس حينئذ: نضرب المدة لليمين الثانية. ولو راجعها بعد الشهر الخامس قبل مضي السنة- نظر: إن كان بقي منها أقل من أربعة أشهر بعد الشهر الخامس-: فقد ارتفع حكم الإيلاء إلا أن حكم اليمين باق. ولو وطئها قبل تمام سنة-: عليه الكفارة، وكذلك: لو نكحها، وقد بقي من السنة شيء، وإن قل.

ولو راجعها، وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر-: يضرب المدة في الحال، وإن نكحها بعد انقضاء العدة، وقد بقي أكثر من أربعة أشهر-: فهل يعود حكم الإيلاء؟ فعلى قولين: فإن قلنا: يعود حكم الإيلاء-: يضرب المدة في الحال؛ وإلا فلا، ولا خلاف في بقاء اليمين، حتى لو وطئها قبل مضي السنة-: يجب عليه الكفارة. أما إذا عقد اليمينين على مدة واحدة، فقال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا أجامعك سنة: فإذا مضت أربعة أشهر-: يضيق الأمر عليه: فإن فاء انحلت اليمينان جميعاً، ثم يلزمه كفارة واحدة أم كفارتان؟ فيه قولان؛ لأنه حنث بفعل واحد في يمينين. وإن طلقها، ثم راجعها، أو نكحها، وقد بقي من السنة أربعة أشهر فأقل-: لا يعود حكم الإيلاء، وحكم اليمين باق حتى لو وطئها-: يلزمه الكفارة. ثم إن كان بعد مضي خمسة أشهر من وقت اليمين-: فلا يجب إلا كفارة واحدة؛ لأن اليمين الأولى قد ارتفعت. وإن كان قبل مضي الشهر الخامس-: فيلزمه كفارة أو كفارتان؟ فيه قولان. وإن راجعها، وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر-: يعود حكم الإيلاء، وإن نكحها-: فعلى قولين. ولو قال: إذا مضت خمسة أشهر فوالله لا أطؤك-: فلا يصير مولياً، حتى تمضي خمسة أشهر، ثم يضرب المدة. ولو قال: والله لا أقربك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا أقربك أربعة أشهر-: فلا يكون مولياً؛ لأن كل يمين منها لا تبقى أكثر من أربعة أشهر، وكما لو كان كل يمين أقل من أربعة أشهر، ومجموعها يزيد على أربعة أشهر. وقيل: يكون مولياً؛ لأنه منع نفسه من وطئها أكثر من أربعة أشهر؛ فصار كما لو جمعها في يمين واحدة. والأول المذهب. ولو قال لامرأته: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك-: فلا يكون مولياً؛ على قوله الجديد؛ وهو المذهب؛ [لأنه لا يلزمه شيء بالوطء الأول، حتى يطأها، فإذا وطئها-: صار مولياً يضرب المدة] عقيب الإصابة.

وفي القديم قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يكون مولياً يضرب المدة في الحال؛ لأن الوطء الأول يقربه من الحنث. ثم بعد مضي أربعة أشهر: نضيق الأمر عليه، فإن فاء لا شيء عليه، ويضرب المدة ثانياً في الحال، وهذا بخلاف ما لو قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أصيبك-: لا يكون مولياً قولاً واحداً في الحال، حتى تدخل الدار، لأن القرب من الحنث هناك الدخول، والدخول غير مقصور مجبور عليه، وفيمانحن فيه المقرب من الحنث هو الوطء، والوطء مقصود ومجبور عليه، فجعل الوطء المقرب من الحنث كنفسه في ثبوت حكم الإيلاء. ولو قال: والله لا أصيبك في السنة إلا مرة واحدة-: فهكذا في الجديد وأحد قولي القديم: لا يكون مولياً، فإذا وطئها، وقد بقيت من السنة أكثر من أربعة أشهر-: صار مولياً يضرب المدة. والثاني من قولي القديم: يكون مولياً، فبعد مضي أربعة أشهر-: يضيق الأمر عليه: فإن فاء لا شيء عليه، ويضرب المدة ثانياً. فَصْلُ إذا علق الامتناع عن الوطء في اليمين على أمر في المستقبل- نظر: إن علق على أمر يستحيل وجوده بأن قال: والله لا أطؤك حتى تصعدي السماء، أو تطيري في الهواء-: فهو مول؛ لأنه مما لا يكون؛ فهو كما لو قال: لا أطؤك أبداً. وإن علق علي أمر لا يستحيل وجوده- نظر: إن علق على أمر يتحقق وجوده قبل أربعة أشهر؛ مثل؛ أن قال: والله لا أطؤك حتى يجف الثوب، أو حتى تغرب الشمس، أوحتى يتم الشهر-: فلا يكون مولياً. وكذلك: إن علقه على أمر الغالب على الظن وجوده قبل أربعة أشهر؛ مثل: أن يقول: لا أطؤك حتى يجيء زيد من القرية، وعادة أن يجيء ل جمعة-: لم يكن مولياً. وإن علق على ما يتحقق: أنه لا يوجد إلا بعد أربعة أشهر؛ بأن قال حتى آتي مكة أو حتى يقدم فلان من بلد كذا، والمسافة بينهما بعيدة لا يتصور قدومه إلا بعد أربعة أشهر-: فهو مول. وإن علق على ما يحتمل وجوده قبل أربعة أشهر وبعدها- نظر: إن كان ذلك أمراً مستبعداً؛ بأن قال: حتى تقوم الساعة، أو حتى يخرج الدجال، أو حتى ينزل عيسى ابن

مريم، أو تطلع الشمس من مغربها- فهو مول. وكذلك لو قال: حتى أموت، أو تموتي، أو يموت فلان-: فهو مول؛ لأنه يعبر بهذه الأشياء عن الأبد. وقيل: إذا قال: حتى يموت فلان-:فهو كما لو قال: حتى يمرض فلان؛ لأن الإنسان يستبعد موت نفسه، ولا يستبعد موت غيره. ولو قال حتى أمرض أو يمرض فلان، أو حتى يقدم فلان، وكان على مسافة يتصور القدوم قبل أربعة أشهر، أو قال: حتى تدخلي الدار، أو حتى أخرجك عن البلد، أو حتى أكلم فلاناً-: لا يحكم بالإيلاء في الحال، فإذا مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المرض ولا القدوم ولا الإخراج عن البلد ولا الدخول ولا الكلام-: هل يحكم أنه كان مولياً باللفظ حتى يضيق الأمر عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم بأنه كان مولياً؛ لأن المضارة قد تحققت. والثاني: وهو اختيار المزني-: لا يكون مولياً؛ لأنه لم يقصد المضارة حين علق بأمر يوجد قبل أربعة أشهر، فهو كما لو ترك مباشرتها سنين من غير يمين، ولا خلاف أنه لو وطئها قبل وجود تلك الصفة يلزمه كفارة اليمين، وترتفع اليمين. ولو وجدت الصفة قبل أن يصيبها- ترتفع اليمين، سواء كان قبل أربعة أشهر أو بعدها. ولو قال: والله لا أطؤك حتى تحبلي- نظر: إن كان في سن لا يحتمل فيها العلوق في أربعة أشهر؛ بأن كانت صغيرة أو آيسة-: فهو مول. وإن كان يحتمل: فهو كما لو علق بالقدوم. ولو قال حتى تفطمي ولدك- نظر: إن أراد أوان الفطام، وهو مضي حولين: فإن بقي إلى تمام الحولين أكثر من أربعة أشهر-: فهو مول، وإن بقي أربعة أشهر فأقل فليس-: بمول. وإن أراد فعل الفطام- نظر: إن كان الصبي في سن لا يحتمل الفطام في أربعة أشهر؛ لصغر أو لضعف بنية-: فهو مول، وإن كان يحتمل الفطام في أربعة أشهر-: فهو كما لو علق بقدوم فلان. وكذلك لو قال والله لا أطؤك حتى يشاء فلان: فإن لم يشأ فلان أن يطأها حتى مضت أربعة أشهر-: هل يحكم بكونه مولياً حالة اللفظ؟ فيه وجهان.

ولو شاء فلان ألا يطأها، [ومضت أربعة أشهر]-: فهو كعدم المشيئة. ولو شاء فلان أن يطأها قبل أربعة أشهر أو بعدها-: ارتفع حكم اليمين. ولو وطئها قبل المشيئة- لزمته الكفارة، وارتفعت اليمين. ولو مات فلان قبل المشيئة، أو علق بالقدوم فمات الغائب، أو بفطام الولد، فمات الولد قبل الفطام-: صار مولياً. قال الشيخ- رحمه الله-: فإن قلنا في حال الحياة بعد مضي المدة: نجعله مولياً من وقت اللفظ-: فههنا يحسب ما مضى، فإذا تم من وقت اللفظ أربعة أشهر-: يضيق الأمر عليه. وإن قلنا: لا نجعله في الحياة مولياً-: فههنا: يضرب المدة من وقت الموت. ولو قال: والله لا أطؤك إن شاء فلان-: فلا يكون مولياً حتى يشاء فلان، ولا تشترط مشيئته في المجلس: فإن شاء فلان ألا يطأها-: صار مولياً، ويضرب المدة؛ كما لو قال: والله لا أطؤك إن دخلت الدار-: يصير مولياً حتى تدخل الدار. ولو قال: والله أطؤك إن شئت- نظر: إن أراد أنك إن أبيت لا أطؤك-: فلا يكون مولياً؛ كما لو قال: لا أصيبك إلا برضاك؛ لأنها مهما رغبت-: وطئها الزوج من غير شيء يلزمه. وإن أراد التعليق بمشيئتها-: فلا يكون مولياً، ما لم يشأ في المجلس ألا يطأها؛ تقدير الكلام؛ والله لا أقربك إن شئت ألا أقربك، فإن شاءت في مجلس التواجب-: صار مولياً، وإن شاءت بعده-: فلا إيلاء عليه. ولو قال والله لا أطؤك إن شئت أن أقربك- فلا يصير مولياً، حتى تشاء في مجلس التواجب أن يطأها. ولو قال: والله لا أقربك إلا أن أشاء-: فليس بمول، لأنه متى شاء وطئها بلا غرم يلزمه؛ كما لو قال: لا أطؤك إلا بالليل. ولو قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، أو ما لم تشائي: فإن أراد ألا أطاك إلا برضاك-: فليس بمول، وإن أراد التعليق بالمشيئة-: فهو مول؛ لأنه علق رفع اليمين بالمشيئة، فإن شاءت في الوقت أن يطأها-: ارتفع حكم الإيلاء، وإن لم تشأ أو شاءت في غير الوقت-: فاليمين بحاله.

قال الشيخ- رحمه الله-: فإن قال: إلا أن يشاء فلان-: فهو مول، فإن شاء فلان أن يطأها-: ارتفع الإيلاء، ولا يضيق الأمر عليه بعد أربعة أشهر، والله أعلم بالصواب. بَابُ الإِيلاَءِ مِنْ نَسْوَةِ إذا كان له أربعة نسوة فقال: والله لا أقربكن-: فالكلام فيه في الكفارة وفي الإيلاء: أما الكفارة: فلا تلزمه، ما لم يطأ كلهن؛ كما لو حلف لا يأكل هذه الأرغفة-: فلا يحنث ما لم يأكل الكل، وإذا وطئ الكل-: لا تجب إلا كفارة واحدة؛ لاتحاد اليمين. فلو ماتت واحدة منهن قبل الوطء- ارتفع اليمين، وإن تصور الإيلاج بعد الموت؛ لأن مطلق الوطء محمول على الوطء في الحياة، فلو ماتت واحدة بعد الوطء-: فاليمين بحالها؛ حتى لو وطئ الأخريات بعدها-: تلزمه الكفارة. ولو طلق بعضهن قبل الوطء-: لا ترتفع اليمين؛ لأنه لو فارقهن، ثم وطئهن بعد البينونة-: تلزمه الكفارة. أما الإيلاء: ففي الجديد: لا يكون مولياً؛ لأنه لا يلزمه أمر بوطء بعضهن، فإذا وطئ ثلاثاً منهن-: صار مولياً عن الرابعة، يضرب له المدة. ولو مات بعدهن بعد الوطء-: لا يبطل حكم الإيلاء. ولو طلق بعضهن قبل الوطء وبعده-: لا يرتفع حكم الإيلاء في الباقية عنده، حتى لو فارق ثلاثاً منهن قبل الوطء، ثم وطئهن بعد البينونة بشبهة أو سفاحاً-: صار مولياً عن الباقية في نكاحه. ولو أبان واحدة منهن قبل الوطء، ثم وطئ الثلاث في ملكه، ثم نكح المبانة-: هل يعود حكم الإيلاء فعلى قولي عود اليمين، أما حكم اليمين-: فقائم، حتى لو وطئها تلزمه الكفارة. وفي القديم: هل يكون مولياً؟ فيه قولان: أحدهما: كما ذكرنا. والثاني: يجعل مولياً منهن في الحال؛ لأن وطء الأوليات، وإن لم يقع به الحنث- فهو مقرب من الحنث، فيضرب المدة في الحال. فإذا مضت أربعة أشهر-: لكل واحدة منهن مطالبته بالفيء أو الطلاق، ولا يتخلص إلا بطلاق الكل أو بالفيء إلى الكل.

فإن فاء إلى البعض، وطلق البعض-: ارتفع الإيلاء في حق من فاء إليها، وإذا راجع المطلقة-: ضربت المدة في حقها ثانياً. وعلى هذا: لو قال لزوجته وأمته المملوكة: والله لا أقربكما، أو قال لزوجته: لا أقربك وفلانة الأجنبية، فإذا وطئها: ففي الجديد وأحد قولي القديم: لا يصير مولياً عن زوجته، حتى يطأ المملوكة أو الأجنبية. وإذا وطئها بنكاح أو سفاح-: صار موليا عن زوجته. أما إذا قال لنسائه الأربع: والله لا أقرب كل واحدة منكن-: فهو مول منهن تضرب المدة في الحال، فبعد مضيها: لكل واحدة مطالبتها بالفيء أو الطلاق؛ لأنه ما من واحدة منهن إلا وهي بمحل أن تجب الكفارة بوطئها. وإن اختار الطلاق-: لا يتخلص إلا بتطليق الكل، فإن طلق بعضهن-: لا تسقط عنه مطالبة الباقيات، فإن طلقهن، فراجعهن-: تضرب المدة ثانياً، فإن فاء إلى واحدة منهن-: لزمته الكفارة، وانحلت اليمين، وارتفع الإيلاء في حق الكل؛ لأنه لا يلزمه شيء بوطء الباقيات. ولو مات بعضهن قبل الوطء-: فالإيلاء باق في حق الباقية. ولو قال لهن: والله لا أقرب واحدة منكن- نظر: إن لم يعين واحدة بقلبه، بل نوى الامتناع عن وطئهن جميعاً، أو لم يكن له نية- فهو كما لو قال: لا أقرب كل واحدة منكن. وإن قال: أردت واحدة لا بعينها-: فيقال له: عين؛ كما في الطلاق، فإن لم يفعل ومضت المدة وطلبن- يطلق السلطان عليه واحدة لا بعينها. فإن عين في واحدة لم يكن للباقيات مطالبته. وفي ابتداء المدة وجهان: أحدهما: من وقت اليمين. والثاني: من وقت التعيين؛ بناءً على ما لو طلق واحدة لا بعينها، ثم عين-: فعدتها من أي وقت يكون فيه قولان: إن قلنا: عدتها من وقت اللفظ-: فههنا: ابتداء المدة من وقت اليمين. وإن قلنا: العدة من وقت التعيين-: فالمدة ههنا من وقت التعيين، ولا يجعل مولياً قبله، وإن عين واحدة بقلبه-: فهو مول عنها وحدها، فبعد مضي المدة: يضيق الأمر عليه

بطلبها، فإن فاء إليها لزمته الكفارة، وللبواقي الدعوى عليه بأنك عينتنا؛ فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل: حلفن، واستحققن دعواهن؛ كما لو أقر لهن. فإذا وطئ الكل- نظر: إن ثبت حكم الإيلاء للأخريات بإقراره لهن-: يجب عليه أربع كفارات، وإن ثبت بنكوله أو بيمينهن-: فلا يجب [عليه] إلا كفارة واحدة. وعلى هذا: لو كانت له امرأتان، فقال: إذا قربت إحداكما فالأخرى طالق- نر: إن لم يعين واحدة-: فهو مول عنها، فبعد مضي المدة: لهما مطالبته بالفيء أو الطلاق، فإن لم يفعل-: طلق عليه السلطان واحدة لا بعينها، ثم يؤمر بالتعيين، ويتخلص بالفيء إلى أحداهما، وإن عين واحدة بقلبه-: يؤاخذ بالبيان، والقول قوله في حق الأخرى مع يمينه، والله أعلم بالصواب. بَابُ الوَقْفِ فِي الإِيلاءِ المولي لا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر، وكذلك بعد مضيها إذا لم تطلب المرأة، فإن طلبت حقها-: رفعته إلى الحاكم حتى يجبره على الفيء أو الطلاق. فإن تركت حقها وعفت، ثم بدا لها أن تطلب-: لها ذلك؛ لأنه ضرر يتجدد كل ساعة؛ كما لو رضيت المرأة بإعسار الزوج، ثم بدا لها أن تفسخ-: لها ذلك. فإن كانت أمة-: فالطلب لها، فإن عفت-: فلا طلب لسيدها. فإن كانت صبية أو مجنونة-: فلا طلب لوليها، بل يقال للزوج: اتق الله فيء، أو طلق، ولا يضيق الأمر عليه، حتى تبلغ المرأة أو تفيق؛ فتطلب. ومدة الإيلاءء: لا تختلف بالرق والحرية، وهي أربعة أشهر، سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين أو أحدهما رقيقاً؛ لأنها لمعنى يرجع إلى الجبلة والطبع، وهو قلة الصبر عن مفارقة الزوج، فيستوي فيه الحر والرقيق؛ كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة، فيستوي فيها الحر والعبد. قال أبو حنيفة ومالك: ينتصف بالرق غير أن عند أبي حنيفة: ينتصف برق المرأة، وعند مالك: برق الرجل؛ كما قالا في الطلاق. ولو اختلف الزوجان في انقضاء مدة الإيلاء، فقالت المرأة: قد انقضت، وأنكر الزوج-: فالقول قول الزوج مع يمينه؛ كما لو اختلفا في أصل الإيلاء-: كان القول قوله مع يمينه. ولو آلى عن امرأته الرجعية-: ينعقد الإيلاء؛ كما يلحقها طلاقه، وينعقد عنها ظهاره،

غير أن المدة لا تحسب حتى يراجعها. فإذا راجعها-: ضربت المدة في الحال. ولو آلى عن الثانية، أو عن امرأة أجنبية، فقال: والله لا أطؤك، سواء أضاف إلى النكاح أو لم يضف-: لم ينعقد الإيلاء؛ حتى إذا نكحها: لا تضرب المدة، غير أن اليمين منعقدة؛ حتى لو وطئها قبل النكاح أو بعده: إن لم يكن أضاف إلى النكاح، أو وطئها بعد النكاح، إن كان قد أضاف إليه-: تلزمه كفارة اليمين. ولو آلى عن زوجته، ثم أبانها، ثم نكحها-: نظر: إن أبانها بثلاث، فإذا نكحها-: لا يعود حكم الإيلاء على قوله الجديد، وأحد قولي القديم، غير أن اليمين باق به حتى لو وطئها-: تلزمه الكفارة؛ لأنه لو زنا بها قبل أن ينكحها-: لزمته الكفارة. وإن أبانها بما دون الثلاث، ثم نكحها-: هل يعود حكم الإيلاء؟ في القديم: يعود، وفي الجديد: قولان. وكذلك: لو آلى عن زوجته الأمة، ثم اشتراها، ثم أعتقها، ونكحها، أو باعها ثم نكحها-: هل يعود حكم الإيلاء؟ على هذين القولين. [وكذلك: العبد إذا لاعن زوجته الحرة، فاشترته، ثم أعتقته، أو باعته، ثم نكحته: هل يعود حكم الإيلاء؟ فعلى القولين]. ولو ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الإيلاء، وكان بعد الدخول، ثم جمعهما الإسلام في العدة-: فحكم الإيلاء باق؛ كما لو طلقها رجعياً فراجعها. فإن لم يجمعهما الإسلام في العدة-: فقد ارتفع النكاح بينهما بتبديل الدين، فإذا أسلما ثم نكحها، فهل يعود حكم الإيلاء؟ فعلى القولين. ولو كانت له امرأتان، فقال: إن وطئت حفصة-: فعمرة طالق-: فهو مول عن حفصة، حالف بطلاق عمرة، فبعد مضي المدة يضيق الأمر عليه لحق حفصة، فإن فاء إليها طلقت عمرة، وارتفع الإيلاء، وإن لم يفيء وطلق حفصة: فإن راجعها-: ضربت المدة في الحال. وإن نكحها بعد البينونة-: هل يعود حكم الإيلاء؟ فعلى قولي عود اليمين، وعلى القولين: اليمين بطلاق عمرة-: لا ترتفع [حتى لو وطئ حفصة بعد ما أبانها-: تطلق عمرة، ولا يعود بعده إلى الإيلاء، إذا نكحها.

أما إذا طلق عمرة قبل وطء حفصة، فما دامت عمرة في عدة الرجعة-: لا يرتفع حكم التضييق في حق حفصة؛ لأنه إذا وطئها: تطلق عمرة، فإذا انقضت عدة عمرة أو كان خالعها-: سقط حكم التضييق في حق حفصة]. وإن كان بعد مضي المدة؛ لأنه لا يلزمه أمر بوطئها، ثم إن وطئ حفصة-: ارتفع حكم اليمين، ولا يعود حكم الإيلاء، إن نكح عمرة. وإن نكح عمرة قبل أن يطأ حفصة-: هل يعود حكم اليمين حتى يقع الطلاق على عمرة بوطء حفصة؟ فعلى قولي عود اليمين. فإن قلنا: يعود حكم اليمين-: يعود حكم الإيلاء في حق حفصة، حتى تضرب المدة في الحال، وألا فلا. ولو قال لامرأته: إن قربتك فعبدي حر-: فهو مول، فلو مات العبد أو أعتقه-: ارتفع حكم الإيلاء؛ لأنه لا يلزمه شيء بالوطء. وكذلك: إن باعه أو وهبه-: يرتفع حكم الإيلاء، فإذا ملكه بعد ذلك-: هل يعود حكم اليمين والإيلاء؟ فعلى القولين. وإن كاتب العبد أو دبره أو كاتب جارية، فاستولدها-: لا يرتفع حكم الإيلاء؛ لأنه يعتق بوطئه. فَصْلُ فِيمَا يَمْنَعُ احْتِسَابَ المُدَّةِ عَلَى المُولِي كل عارض يخل بالملك؛ كالردة من أحدهما أو عدة الرجعية، والعدة عن الوطء بالشبهة-: يمنع احتساب المدة. ولو طرأ شيء من هذه الأشياء في خلال المدة، ثم زال بأن ارتد أحدهما، ثم عاد وطلقها، ثم راجعها، أو خالعها، ثم نكحها، وقلنا: يعود اليمين، أو انقضت عدة الوطء بالشبهة-: يستأنف المدة. أما ما لا يخل بالملك من العوارض- نظر: إن كان من جانبها؛ مثل: كونها مجنونة ونشوزها، وغيبتها وكونها صغيرة لا توطأ، أو مريضة أو مضناة لا تحتمل الجماع، ومثل إحرامها وصومها واعتكافها المفروضين: فكلها يمنع من احتساب المدة، إذا طرأ شيء منها في خلال المدة، ثم زال-: تستأنف المدة إلا الحيض، فإنه لا يمنع احتساب المدة؛ لأنها لا تخلو عن الحيض.

فلو منع احتساب المدة-: أدى إلى ألا تكمل مدة الإيلاء في حق المرأة الشابة. وحكم النفاس حكم الحيض على أصح الوجهين؛ أنه لا يمنع احتساب المدة. وقيل: يمنع. وإذا طرأ في خلال المدة-: قطع؛ لأنه نادر؛ كعدة الوطء بالشبهة. لو آلى عن زوجته المجنونة أو الصغيرة التي تحتمل الجماع تحتسب المدة، وكذلك: لو طرأ الجنون في خلال المدة إلا أن تمتنع عنه، وكانت كالناشزة. وإن كان العارض من جانبه؛ مثل: حبسه وجنونه ومرضه وغيبته وإحرامه وصومه واعتكافه-: فلا يمنع احتساب المدة. فإذا زال العذر بعد أربعة أشهر-: يضيق الأمر عليه، وإن كان مجنوناً-: لا يطالب حتى يفيق. فَصْلُ فِي وَطْءِ المَعْذُورِ إذا انقضت مدة الإيلاء والزوج حاضر، لا عذر له-: يؤمر بالفيء أو بالطلاق بعد طلب المرأة، فإن استمهل على الفيئة: فإن كان صائماً حتى يفطر، أو جائعاً حتى يأكل، أو به شبع مفرط حتى يزول، أو كان ناعساً حتى يدفع ذلك عن نفسه-: يمهل يوماً أو نصف يوم قدر ما يتهيأ ذلك. وقيل: يمهل ثلاثاً: فإن كان هناك عذر يمنعه من فعل الجماع- نظر: إن كان من جانب المرأة؛ بأن كانت حائضاً أو نفساء أو محرمة، أو كانت صائمة صوم فرض أو معتكفة اعتكاف فرض-: ليس لها مطالبته بالفيء لا قولاً ولا فعلاً، ولا بالطلاق، لأن حقها في الفيء وهو متعذر. وإن كان من جانبه- لا يخلو: إما أن كان عارضاً يمنع الاستمتاع طبعاً أو يمنعه شرعاً؛ فإن كان يمنعه طبعاً؛ مثل: كونه مريضاً أو محبوساً بظلم أو غائباً-: يجبر على الفيء باللسان، ثم إذا زال العذر-: أجبر على فعل الوطء أو الطلاق، والفيء باللسان هو أن يقول: ندمت على ما قلت، فإذا قدرت فعلت. وإن لم يفيء باللسان، ولم يطلق-: طلق عليه السلطان؛ على أصح القولين، ويحبسه على القول الآخر، حتى يطلق.

ولو قال: أمهلوني-: لا يمهل؛ لأنه قادر عليه؛ فإنه لا ضرر عليه في القول باللسان. فإن كان محبوساً بحق بأن حبس على دين، وهو قادر على أدائه-: لا يعذر بالفيء باللسان، بل يؤمر بأداء الدين والخروج لفعل الوطء أو يطلق. وإذا كان غائباً-: أمر [السلطان] حاكم البلد الذي هو فيه بعد طلب وكيلها؛ بأن يفيء باللسان، ويسير إليها أو يحملها إليه: فإن كان الطريق مخوفاً-: يفيء باللسان، ويؤخر المسير إلى زوال الخوف. فإن لم يفيء باللسان، أو فاء باللسان، ولم يسر حتى مضى إمكان السير-: طلق عليه السلطان بمسألة وكيلها. أما ما يمنع الاستمتاع شرعاً؛ مثل: صومه وإحرامه وظهاره الذي لم يكفر عنه، سواء تقدم الظهار على الإيلاء أو تأخر-: فلا يعذر بالفيء باللسان، ولا يجبر على فعل الوطء؛ لأنه معصية في هذه الأحوال، بل يقال له اجتمع عليك أمران، وعليك إزالة الضرر، فإن فئت-: خرجت من الإيلاء، وعصيت ربك بإفساد صومك وحجك، ويتقدم الوطء على الكفارة في الظهار، وإن طلقت-: بانت منك امرأتك، ولابد لك من إزالة الضرر. فلو قال المظاهر: أمهلوني حتى أكفر- نظر: إن أراد التكفير بالإعتاق أو الإطعام: أمهل نصف يوم أو يوماً، وإن أراد التكفير بالصوم-: فلا يمهل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل مدة الإيلاء ستة أشهر. فلو قصد الزوج وطأها في هذه الحالة-: لا امتناع لها من التمكين؛ على ظاهر المذهب؛ لأن المعصية من جانبه، فإن امتنعت-: سقط حقها. وقيل: لها الامتناع؛ لأنه فعل حرام؛ ثم فيه وجهان أحدهما: تعين حقها في الطلاق. والثاني: يقتصر على الفيئة باللسان. وكل موضع أجبرناه على الوطء-: فأقله إن كانت بكراً: أن يفتضها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً: أن يغيب الحشفة، وإن كانت بكراً، فعجز عن الافتضاض: يؤمر بأن يفئ باللسان، وتضرب له مدة التعيين، ويقبل قوله: إني عاجز؛ لأنه لا يعرفه غيره. ولو أتاها في دبرها-: لا يخرج عن الإيلاء؛ لأن الضرر به لا يزول. ولو ادعى الزوج الإصابة، وأنكرت-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأنها تريد قطع

الوصلة، فإن ادعت المرأة أنها بكر-: ترى أربع نسوة عدول، فإن قلن: هي بكر-: أجبر الزوج على الوطء، فإن قال: إني افتضضتها غير أني لم أبالغ، فعادت العذرة-: تسمع دعواه، والقول قولها مع يمينها؛ لأنه يقوى جانبها بالبكارة. ولو جامعها في حال الإحرام أو الصوم أو الحيض أو النفاس-: عصى الله عز وجل، وخرج عن الإيلاء، وعليه الكفارة. و [كذلك] لو أصابها في حال جنونها-: خرج عن الإيلاء، وعليه الكفارة. ولو آلى رجل عن زوجته، ثم جن فأصابها في جنونه في المدة أو بعدها-: خرج عن الإيلاء، وهل تلزمه الكفارة؟ فيه قولان. وكذلك: لو آلى عن إحدى امرأتيه بعينها، ثم وطئها على ظن أنه يطأ الأخرى-: خرج عن الإيلاء، وفي الكفارة قولان؛ بناءً على حنث الناسي. وكذلك: لو وطئها مكرهاً-: فهو كما لو وطئها ناسياً. فإن قلنا: تلزمه الكفارة-: تنحل اليمين، وإن قلنا: لا تجب الكفارة-: فهل تنحل اليمين فيه وجهان: أحدهما: تنحل؛ كما خرج عن الإيلاء؛ لوجود الفعل المحلوف عليه. والثاني: لا تنحل حتى لو أصابها بعد الإفاقة-: تلزمه الكفارة. وارتفاع الإيلاء لارتفاع الضرر؛ وذلك لا يدل على ارتفاع اليمين؛ كما لو استدخلت المرأة ذكره، وهو نائم-: ارتفع الإيلاء، ولا تنحل اليمين حتى لو وطئها: تلزمه الكفارة. ولو تكررت منه كلمة الإيلاء في حق امرأة واحدة، فقال: والله لا أطؤك، والله لا أطؤك قاله مرتين أو ثلاثاً، وسواء أطلقهما أو قيدهما مدة، أو أطلق أحدهما، وقيد الأخرى-: نظر: إن أراد بالثانية تكرار الأولى-: فهو يمين واحدة، وسواء اتحد المجلس أو اختلف، طال الفصل أو لم يطل. فإن أراد الاستئناف-: فأيمان، وإن أطلق-: فعلى قولين: فإن قلنا: لا تتعدد اليمين-: فلا تجب إلا كفارة واحدة، إذا وطئ. وإن قلنا: تتعدد اليمين-: فلا خلاف أن بوطأ واحدة ينحل الكل، وهل تتعدد الكفارة؟ فيه قولان:

أصحهما: لا تجب إلا كفارة واحدة لاتحاد الفعل. والثاني: تتعدد؛ لتعدد الأيمان. فَصْلُ فِيمَنْ يَصِحُّ إِيلاَءُهُ وَفِيمَنْ لاَ يَصِحُّ يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب؛ لظاهر القرآن. وقال مالك: لا يصح إلا في حال الغضب. ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون، ويصح إيلاء الذمي، وإذا آلى عن زوجته الذمية، ثم ترافعا إلينا: إن قلنا: يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما-: فنجبره بعد مضي المدة بطلب المرأة على الفيء أو الطلاق، فإن لم يفعل-: طلق عليه الحاكم بطلبها؛ على أصح القولين؛ كما في حق المسلمة. وإن قلنا: لا يجب الحكم فاختار أن يحكم-: لا يجوز أن تجبره؛ على الطلاق، ولا أن نطلق عليه؛ لأن الحكم على هذا القول: إنما يجوز بتراضيهما، بل إن لم يتفقا على حكمه- يردهما إلى حاكمهما. ويصح إيلاء العربي بلسان العجم، والعجمي بلسان العرب، إذا كان العرب، إذا كان يعرف معناه: فإن لقن وهو لا يعرف معناه-: لا ينعقد والخصي والمجبوب الذي بقي من ذكره قدر الحشفة-: كالصحيح في الإيلاء، ويجبر بعد مضي المدة على الفيء بالفعل أو الطلاق. وأما الممسوح أو من بقي من ذكره أقل من الحشفة: فإن كانت الأنثيان باقيتين-: ففي صحة إيلائه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لا يتحقق منه قصد المضارة. والثاني: يصح، كالمريض، ثم بعد مضي المدة: يؤمر بالفيء باللسان أو الطلاق، وفي الفيء باللسان يقول: ندمت على ما قلت، ولا يحتاج إلى أن يقول: إن قدرت فعلت؛ بخلاف المريض: يقوله؛ لأنه يقدر عليه. فأما إذا جب ذكره بعد الإيلاء-: فلا يبطل الإيلاء، ويجبر بعد مضي المدة على الفيء باللسان أو الطلاق. ولو آلى عن امرأته القرناء أو الرتقاء-: ففيه قولان كالممسوح، والله أعلم.

كتاب الظهار

بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الظِّهَارِ قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالََى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ...} [المجادلة: 2] نزلَتْ فِي حَقِّ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ: كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، فَظَاهَرَ عَنْهَا، فَجَاءَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- تَشْتَكِي، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى الآيات.

الظهار والإيلاء: كانا من طلاق الجاهلية؛ فغير الإسلام حكمهما. والظهار: هو أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ وهو حرام؛ لأن الله- تعالى- أخبر أنه قول منكر وزور.

ويصح ذلك من كل مكلف، وإن كان عبداً أو كافراً. وعند أبي حنيفة: لا يصح ظهار الذمي؛ لأن قضيته التكفير، والذمي ليس من أهله، فنقول: بل قضيته التحريم، والذمي من أهله؛ كما يصح طلاقه. ويصح من الخصي والمجبوب؛ الطلاق. ولا يصح ظهار الصبي والمجنون؛ كما لا يصح طلاقهما؛ ويصح ظهار السكران، على الصحيح من المذهب. ويصح من كل زوجة يلحقها الطلاق صغيرة كانت أو مجنونة أو ذمية أو أمة؛ أو

رتقاء، حائضاً كانت أو نفساء أو محرمة أو صائمة، ويصح من الرجعية؛ كما يصح طلاقها. ولو ظاهر عن أمته المملوكة أو أم ولده-: لا يصح، ولا شيء عليه؛ لأنه من أحكام النكاح. فَصْلُ فِيمَا يَكُونُ ظِهَاراً صورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أو مثل ظهر أمي، أو أنت مني أو معي أو لي أو عندي كظهر أمي، أو لم يضف، فقال أنت كظهر أمي. وكذلك لو قال: بدنك أو نفسك أو ذاتك أو جسمك علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي كبدن أمي؛ لأن الظهر يدخل فيه.

ولو شبه عضواً بظهر أمه، أو بعضو آخر من أعضاء أمه، فقال: رأسك أو بدنك أو يدك أو فرجك أو شعرك علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي كيد أمي أو كرجل أمي أو كشعر أمي أو كفرج أمي. أو قال: يدك أو فرجك علي كرجل أمي، أو كشعر أمي-: يكون ظهاراً على قوله الجديد؛ وهو المذهب. وفي القديم قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يكون ظهاراً؛ لأنه لم يأت بمعهود الجاهلية. فعلى الأول: لو قال: أنت علي كروح أمي، أو كعين أمي-: فهو ظهار، إلا أن يريد الإعزاز والكرامة. وقيل: إطلاقه لا يكون ظهاراً حتى يريده. ولو قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي-: فلا يكون ظهاراً إلا أن يريد. وعند أبي حنيفة: إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها، أو شبه رأس زوجته أو عنقها أو عضواً يعبر به عن جميع البدن بظهر أمه-: فهو ظهار، دون سائر الأعضاء. ولو قال: أنت علي كظهر جدتي-: فهو كقوله: كظهر أمي، ولو شبهها بامرأة محرمة عليه بوصلة القرابة؛ مثل: أن قال: [أنت علي كظهر ابنتي أو عمتي أو خالتي أو بنت أخي أو أختي-: فهو ظهار؛ على قوله الجديد وأحد قولي القديم، وهو المذهب-: كما لو قال]: كظهر أمي.

والقول الآخر في القديم: لا يكون ظهاراً؛ لأنه لم يأت بمعهود الجاهلية. ولو شبهها بامرأة محرمة عليه بسبب الرضاع-: ففي الجديد: هل يكون ظهاراً؟ فيه قولان: أحدهما: يكون ظهاراً؛ كما لو شبهها بأخت النسب. والثاني: لا يكون ظهاراً؛ لأنه شبهها بامرأة خلقت حلالاًله؛ فحرمت لعارض. ولو شبهها بامرأة محرمة عليه بسبب المصاهرة-: فقد قيل هو كما لو شبهها بالمحرمة بالرضاع. وقيل: لا يكون ظهاراً قولاً واحداً؛ بخلاف المحرمة بالرضاع؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". فحيث قلنا: يصير مظاهراً في التشبيه بمحرمات الرضاع، والمصاهرة-: فذلك إذا لم تزل محرمة عليه على التأبيد؛ مثل: أن شبهها بجدة الرضاع، وكانت أرضعت أمه، أو شبهها بأخت الرضاع، وأرضعتها أمه قبل ولادة، أو بحليلة الأب وتزوجها أبوه قبل ولادة، أو بربيبته التي حصلت بعد الدخول بالأم. أما إذا كانت حلالاً، وحرمت؛ مثل: أن شبهها بأم الرضاع، أو بجدة الرضاع، وأرضعته ابنتها، أو بأخت الرضاع، وأرضعتها أمه بعد ولادة، أو أرضعتها أجنبية، أو شبهها بحليلة الأب، وتزوجها أبوه بعد ولادة، أو شبهها بحليلة الابن أو بأم امرأته أو بربيبته بعد الدخول بالأم، وكانت الربيبة حصلت قبل الدخول بالأم- فهل يكون ظهاراً؟ اختلفوا فيه: منهم من قال: حكمه حكم ما لم تزل محرمة عليه؛ لأنها في الحال محرمة على التأبيد. ومنهم من قال: لا يكون ظهاراً قولاً واحداً؛ لأنه شبهها بامرأة كانت حلالاً عليه، فحرمت. أما إذا شبهها بامرأة لم تكن محرمة عليه حالة التلفظ، ثم حرمت عليه؛ مثل: أن قال لامرأته: أنت علي كظهر ربيبتي، ولم يكن دخل بأمها، ثم دخل بأمها، أو قال أنت علي كهر هذه، وأشار إلى أجنبية، ثم نكح ابنتها، حتى صارت هي أم امرأته-: لم يكن ظهاراً؛ لأنه حين تلفظ بالظهار لم تكن تلك المرأة محرمة عليه. ولو شبهها بنساء النبي- صلى الله عليه وسلم-: لا يكون ظهاراً؛ لأن تحريمهن ليس بسبب الوصلة. وكذلك: لو شبهها بالمحرمة باللعان أو بامرأة ليس تحريمها على التأبيد؛ كالمطلقة

ثلاثاً والمعتدة والمرتدة والمجوسية وأخت المرأة وعمتها-: لا يكون ظهاراً. ولو قال: أنت علي كظهر أبي-: لا يكون ظهاراً؛ لأنه ليس محل الاستمتاع، والأم محله، ثم حرمت بسبب الوصلة. ولو قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي، وأنا عليك كظهر أمك-: لا يجب به شيء؛ لأنه تصرف يختص بالرجال كالطلاق. وقال الحسن، والنخعي، وابن أبي ليلى: عليها كفارة الظهار. ولو قال لامرأته: أنت طالق، ونوى الظهار أو الإيلاء-: يكون طلاقاً، ولا يكون ظهاراً وإيلاء. ولو قال أنت علي كظهر أمي، ونوى الطلاق أو الإيلاء-: يكون ظهاراً؛ لأن كل واحد صريح في موجبه في النكاح، فلا ينصرف بالنية عن موجبه. ولو قال أنت طالق كظهر أمي-: فهو طلاق، ويحمل قوله: "كظهر أمي على تأكيد تحريم الطلاق، فإن نوى الطلاق- نظر: إن كانت ممن تبين بالطلاق-: لا يصح ظهاره؛ لأنه بعد البينونة، وإن كان الطلاق رجعياً-: فهو مطلق مظاهر. ولو قال: أنت علي حرام كظهر أمي- نظر: إن أراد الطلاق بقوله: "أنت حرام" فهو كقوله: أنت طالق كظهر أمي، وإن لم يرد به الطلاق- نظر: إن أراد الظهار بقوله: "أنت علي حرام أو طلق، ولم يرد شيئاً-: فهو ظهار؛ لأنه صرح به، وإن أراد تحريم ذاتها-: يقبل، وعليه كفارة اليمين. ثم إن أراد بقوله: كظهر أمي ظهاراً-: فهو مظاهر، وعليه كفارة الظهار، مع كفارة اليمين، وإن لم يرد به الظهار-: فهو تأكيد لتحريم الذات ولا يكون ظهاراً، ويجوز تعليق الظهار؛ كما يجوز تعليق الطلاق. ولو قال: إن دخلت الدار، أو إذا طلعت الشمس، أو إن شاء زيد- فأنت علي كظهر أمي: فإذا وجد ذلك-: كان مظاهراً. ولو قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت علي كظهر أمي، فنكحها- لا يصير مظاهراً؛ كما لو علق الصداق بالنكاح؛ فنكح لا يقع. ولو ظاهر عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى، أشركتك معها، أو أنت [علي كهي]: فإن لم ينو التشريك في الظهار-: لا يكون ظهاراً من الأخرى، وإن نواه فعلى قولين:

أصحهما: يكون مظاهراً عن الأخرى؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو نوى الطلاق-: طلقت الأخرى معها. والقول الثاني: أنه يراعى فيه معنى اليمين؛ فلا يكون مظاهراً عن الأخرى؛ كما لو آلى عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها-: لا يكون مولياً عن الأخرى. ولو كانت له امرأتان، فقال: إن تظهرت عن أحداهما-: فالأخرى علي كظهر أمي: فإذا ظاهر عن أحداهما: صار مظاهراً عنهما جميعاً. ولو قال لامرأته: إن ظاهرت عن فلانة، وسمى أجنبية-: فأنت علي كظهر أمي، فنكح فلانة، وظاهر عنها-: صار مظاهراً عنهما جميعاً. ولو ظاهر عن فلانة قبل أن ينكحها-: لا يصير مظاهراً عن زوجته؛ لأن الظهار عن الأجنبية لا يصح إلا أن يريد لفظ الظهار؛ فيصير به مظاهراً عن زوجته. ولو قال: إذا نكحت فلانة، وظاهرت عنها- فأنت علي كظهر أمي: فإذا نكح فلانة، وظاهر عنها-: صار مظاهراً عنهما جميعاً، وإن ظاهر عنها قبل أن ينكحها-: فلا ظهار. ولو قال: إذا ظاهرت عن فلانة الأجنبية أو هي أجنبية- فأنت علي كظهر أمي- فسواء ظاهر عنها قبل النكاح أو بعده-: لا يصير مظاهراً عن زوجته التي هي تحته؛ لأن قبل النكاح إذا ظاهر لا ينعقد ظهاره إلا أن يريد صورته. وإذا نكحها، ثم ظاهر-: فهو قد شرط أن يظاهر عنها، وهي أجنبية، ولم توجد. ولو قال: إن تظهرت عن فلانة الأجنبية- فأنت علي كظهر أمي: فإذا نكحها، وظاهر عنها-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصير مظاهراً عن زوجته الأولى؛ كما في الصورة الأولى. والثاني- وهو الأصح-: يصير مظاهراً عنهما؛ لأنه علق ذلك على شخص بعينه، وذكر لفظ الأجنبية على سبيل التعريف، لا على سبيل الشرط؛ كما لو قال والله لا أدخل دار زيد هذه، فباعها زيد، ثم دخلها-: حنث؛ لأنه حلف على عين الدار، وذكر زيد للتعريف. بَابُ مَا يُوجِبُ عَلَى المُتَظَهِّرِ كَفَّارَةً قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ........} [المجادلة: 3] الآية.

يجب على المظاهر الكفارة بعد العود، والظهار علة لوجوب الكفارة، والعود شرطها، والعود: هو أن يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه؛ فلا يطلق؛ لأن العود للقول عبارة عن المخالفة، يقال: عاد فلان لقوله: إذا خالف قوله، وقصده بالظهار التحريم. فإذا أمسكها بعد الظهار-: كان مخالفاً لقوله؛ فلزمته الكفارة. وقال طاوس والزهري: والعود هو الوطء. وقال مالك وأبو حنيفة: هو العزم على الوطء. وقال مجاهد والثوري: العود هو نفس الظهار، أي: يعودون لما كانوا عليه في الجاهلية.

وقضية الظهار: تحريم [يمتد] إلى التكفير؛ فلا يجوز أن يطأها قبل التكفير؛ سواء أراد التكفير بالعتق أو بالصيام أو بالإطعام. وقال مالك: إن أراد التكفير بالإطعام-: فيجوز الوطء قبله؛ لأن الله تعالى قال {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] ولم يعتبره بما قبل المسيس. قلنا: قد قيد العتق والصوم بما قبل المسيس، وأطلق الإطعام، فيحمل المطلق على المقيد. وهل يحرم سائر المباشرات سوى الوطء؛ كالقبلة واللمس بالشهوة، والمباشرة فيما دون الفرج قبل التكفير؟ فيه قولان: أصحهما: لا يحرم؛ لأنه معنى لا يحل بالملك؛ كالحيض والصوم يحرمان الوطء، ولا يحرمان القبلة. والثاني: يحرم؛ لأنه لفظ يوجب التحريم؛ كالطلاق. ولو وطئها قبل التكفير-: يعصي الله تعالى، والكفارة في ذمته؛ عليه قضاءها بعد المسيس، ولا يجوز أن يعود حتى يكفر. ولو شرع في صوم الكفارة، فوطئها في خلال الشهرين بالليل-: يعصي الله تعالى بتقديم الوطء على إتمام الكفارة، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين. وعند أبي حنيفة: يجب. وبالاتفاق: لو كان يكفر بالإطعام، فأطعم بعض المساكين، ثم جامع-: لا يبطل ما مضى.

ولو ظاهر، ثم عقب الظهار بالطلاق بلا فصل طلقها بائناً أو رجعياً أو مات أحدهما-: لا كفارة عليه؛ لأن العود هو الإمساك بعد الظهار، ولم يوجد. ولو قال لها بعد الظهار: يا فلانة بنت فلان، أنت طالق-: لا يصير عائداً. ولو علق طلاقها بصفة-: يصير عائداً؛ لأنه ممسك لها إلى وجود الصفة. لو ظاهر عن زوجته الأمة، ثم اشتراها في الحال-: لا كفارة عليه. ولو اشتغل عقيب الظهار باستئناف الشراء من المماكسة والمساومة-: لا يصير عائداً، ولو اشتراها بعد العود-: فالكفارة في ذمته، ولا يجوز له وطؤها بملك اليمين، ما لم يكفر. ولو طلقها طلاقاً رجعياً بعد الظهار، ثم راجعها-: يصير عائداً بالمراجعة، وكذلك: لو ظاهر عن زوجته الرجعية-: ينعقد ظهاره، ولكن لا يصير عائداً ما لم يراجعها، فإذا راجعها-: صار عائداً. وفيه قول آخر: لا يصير عائداً بنفس الرجعة، ما لم يمسكها بعد الرجعة زمان إمكان الطلاق. والأول أصح؛ لأن استحداث الحل أبلغ في المخالفة من الإمساك على حكم الحل. ولو طلقها عقيب الظهار طلاقاً بائناً، ثم نكحها-: هل يعود حكم الظهار نظر: إن أبانه بثلاثة، ثم نكحها بعد زوج آخر-: لا يعود على قوله الجديد، وأحد قولي القديم، وهو المذهب. وإن أبانها بأقل من ثلاث، أو كانت أمة، فاشتراها، ثم أعتقها، أو باعها، ثم نكحها-: هل يعود؟ في القديم: يعود. وفي الجديد: قولان؛ كاليمين بالطلاق. وإن قلنا: يعود حكم الظهار-: هل يصير عائداً بنفس النكاح أم لا حتى يمسكها بعد النكاح زماناً؟ فعلى القولين. ولو ظاهر الكافر عن زوجته الكافرة، ثم أسلما معاً في الحال، أو أسلم الزوج، والمرأة كتابية-: دام النكاح بينهما، وصار عائداً يجب عليه الكفارة. ولو أسلم الزوج في الحال، وهي وثنية أو مجوسية، أو أسلمت المرأة، وتخلف الزوج على أي دين كان: فإن كان قبل الدخول-: تتنجز الفرقة، وإن كان بعده-: تتوقف

على انقضاء العدة، وإن لم يسلم المتخلف حتى انقضت عدتها-: بان وقوع الفرقة بإسلام من تقدم إسلامه، ولم يصر عائداً، فإن نكحها بعده-: هل يعود حكم الظهار؟ فعلى قولي عود اليمين، وإن كان بعد الدخول، وأسلم [المتخلف] في العدة- فهما على النكاح والظهار قائم. ثم إن كانت المرأة هي المتخلفة-: فلا يصير الزوج عائداً بإسلامها، ما لم يمض بعد إسلامها زمان إمكان الطلاق؛ لأن العود يكون باختياره لا بفعلها، وإن كان الزوج هو المتخلف-: فهل يصير عائداً بنفس الإسلام أم لا حتى يمسكها بعده زمان إمكان الطلاق؟ فعلى القولين. وكذلك لو ارتد الزوج بعد الظهار، وكان بعد الدخول-: لا يصير عائداً بالردة، فإذا عاد إلى الإسلام-: فهل يصير عائداً بنفس الإسلام؟ فعلى قولين. ولو ظاهر عنها، ثم في الحال لاعنها-: فلا كفارة عليه، ويشترط أن يكون القذف والمرافعة إلى الحاكم سابقاً على الظهار، ويشتغل بكلمات اللعان عقيب الظهار، حتى لو ظاهر، ثم قذف-: يصير عائداً. وقيل: إذا ظاهر ثم في الحال قذف، واشتغل [باستئناف] اللعان- لا يصير عائداً، وإن بقي فيه أياماً؛ لأنه مشتغل بسبب الفرقة. وقال ابن الحداد: يشترط أن يأتي بأربع كلمات من اللعان قبل الظهار؛ بحيث يشتغل بعده بكلمة اللعان؛ حتى لا يصير عائداً؛ لأن الفرقة تقع بكلمة اللعان. ولو قال لها: أنت علي كظهر أمي، يا زانية أنت طالق. من أصحابنا من قال: لا يكون عائداً؛ كما لو قال: يا عائشة، أنت طالق. وقال ابن الحداد: يصير عائداً؛ لأن قوله: "يا زانية" قذف واشتغال بغير الفراق. ولو علق الظهار على صفة، فوجدت الصفة، ولم يعلم المظاهر حتى مضى زمان- نظر: إن كان علق على فعل من أفعال نفسه-: صار عائداً، وإن علق على فعل غيره-: صار مظاهراً بوجود الصفة، ولكن لا يصير عائداً حتى يعلم ويمسك بعد العلم. قال الشيخ- رحمه الله-: ويمكن بناؤه على حنث الناسي في الصورتين جميعاً.

فَصْلُ إذا ظاهر عن أربع نسوة- نظر: إن ظاهر عنهن بأربع كلمات: تلزمه أربع كفارات، سواء فرق أو تابع، وإذا تابع فبالاشتغال بظهار الثانية-: يصير عائداً عن الأولى، وبالثالثة: يصير عائداً عن الثانية، وبالرابعة: يصير عائداً عن الثالثة. فإذا عقب الرابعة بالطلاق-: عليه ثلاث كفارات عن الأوليات. وإن ظاهر عنهن بكلمة واحدة، فقال: أنتن علي كظهر أمي-: صار مظاهراً عنهن. ثم في الجديد، وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة: عليه أربع كفارات، إذا أمسكهن عقيب اللفظ؛ اعتباراً بالمحل وبعود واحد: يجب الكفارات كلها. وإن طلقهن في الحال-: فلا كفارة عليه. وقال في القديم لا يجب إلا كفارة واحدة؛ كما لو حلف لا يكلمهن وكلمهن-: لا يب إلا كفارة واحدة. فلو طلق ثلاثاً منهن أو متن قبل العود، وأمسك واحدة-: تجب تلك الكفارة بإمساك الواحدة؛ بخلاف ما لو حلف لا يطؤهن ولا يكلمهن، فمات البعض قبل الوطء والكلام، ثم كلم البواقي أو وطئهن-: لا شيء عليه؛ لأن الظهار نازع إلى الطلاق، ون راعينا فيه معنى اليمين بإيجاب كفارة واحدة. ولو ظاهر عن امرأة واحدة مراراً- نظر: إن ظاهر عنها مرة وكفر، ثم ظاهر ثانياً-: عليه للثانية كفارة أخرى، وكذلك الثالثة والرابعة. وإن ظاهر ثانياً وثالثاً قبل أن يكفر عن الأولى- نظر: إن قالها متفرقة-: فالصحيح أنه يجب لكل واحدة كفارة، فإن قالها ثالثاً وعقب الثالثة بالطلاق: عليه كفارتان للأوليين.

وفيه وجه آخر: أن حكمه حكم ما لو قالها متتابعة. والأول المذهب. ولو قالها متتابعة، فهل يتعدد الظهار؟ نظر: إن قصد التكرار-: فلا يتعدد، وإن قصد الاستئناف يتعدد، وإن أطلق-: فيحمل على التكرار أم على الاستئناف فعلى قولين؛ بناء على الطلاق، إذا قال [لامرأته] أنت طالق، أنت طالق، وأطلق-: يقع طلقة أم طلقتان فيه قولان. قال الشيخ: فحيث قلنا: يحمل على الاستئناف-: فبالاشتغال باللفظة الثانية: يصير عائداً عن الأولى، وبالثالثة: يصير عائداً عن الثانية. وإن عقب الثالثة بالطلاق: لا يجب إلا كفارتان، وإن أمسك- فثلاث كفارات. وحيث قلنا: يحمل على التكرار-: قال- رحمه الله: تجب تلك الكفارة باللفظة الأولى، ويصير عائداً بالثانية، وما بعدها تكرار لا يجب به شيء. وقيل: لا يصير عائداً بالثانية والثالثة، حتى إذا عقب الثالثة بالطلاق-: لا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكل كلام واحد. ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، قالها ثلاثاً، فإذا دخلت الدار-: صار مظاهراً عنها. ثم إن قصد التكرار-: فلا يجب عليه إلا كفارة واحدة، وإن قالها متفرقة في مجالس، وإن قصد الاستئناف-: فعليه ثلاث كفارات، ويجب الكل [بعود واحد بعد الدخول حتى لو طلق عقيب الدخول-: لا يجب عليه شيء، وإن أطلق-: فيحمل] على التكرار أم على الاستئناف؟ فيه قولان، والله أعلم.

فَصْلُ فِي الظِّهَارِ المُؤَقَّتِ إذا قال: أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهراً، أو قال: إلى شهر-: قال في الجديد- وبه قال أبو حنيفة، وهو المذهب-: يكون مظاهراً؛ كما لو طلقها شهراً: يقع. وقال في القديم: لا يكون مظاهراً، وبه قال مالك؛ لأنه لم يؤبد التحريم؛ ما لو شبهها بامرأة محرمة عليه لا على التأبيد. فإن قلنا: يكون مظاهراً-: فهل يسقط التأقيت؟ فيه قولان: أحدهما: يسقط؛ كما لو طلقها شهراً: يتأبد، والعود منه كما في الظهار المطلق. والثاني: وهو الأصح-: لا يسقط؛ فعلى هذا: العود بماذا يحصل؟ فيه وجهان: أصحهما: بمضي زمان إمكان الطلاق؛ كما في الظهار المطلق، فإن طلقها في الحال-: فلا كفارة عليه. ثم إن لم يراجعها، حتى مضت المدة، ثم راجعها-: لا شيء عليه؛ لارتفاع الظهار. ولو راجعها قبله-: عليه الكفارة. والوجه الثاني: يحصل العود بالوطء ههنا؛ لأن إمساكه إياها متردد يحتمل أنه يمسكها ليطأها في المدة؛ فيكون مخالفاً، ويحتمل أن يمسكها ليطأها بعد المدة؛ فلا يكون مخالفاً؛ فلا تجب الكفارة مع التردد. فعلى هذا: إن لم يطأها حتى مضت المدة-: ارتفع الظهار، وإن وطئها في المدة-: تبينا أنه صار عائداً بمضي إمكان الطلاق عقيب اللفظ؛ فيلزمه الكفارة، ولا يجوز أن يعود إلى وطئها، حتى يكفر، أو تمضي المدة، فإن مضت المدة قبل أن يكفر-: يجوز له وطؤها، والكفارة في ذمته. ولو طلقها عقيب اللفظ، ثم راجعها في المدة، ثم وطئها-: لزمته الكفارة، وإن لم يطأها حتى مضت المدة- فلا شيء عليه، والله أعلم بالصواب. بَابُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قال الله تبارك وتعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] الكفارات قسمان: مرتبة ومخيرة.

فالمرتبة: كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ يجب فيها إعتاق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. وكذلك كفارة القتل مرتبة، إلا أن الإطعام: هل له مدخل فيها؟ فعلى قولين: أحدهما: لا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} [النساء: 92] ولم يذكر الإطعام. والثاني: الإطعام يدخل فيها؛ قياساً على كفارة الظهار والجماع. وأما الكفارة المخيرة: فكفارة اليمين، إذا حنث فيها: يتخير فيها بين أن يطعم عشرة من المساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة فإن لم يقدر على شيء منها-: فعليه صوم ثلاثة أيام، ولا يجوز في شيء من الكفارات إلا إعتاق رقبة مؤمنة.

وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز في جميعها إعتاق الكافرة، إلا في كفارة القتل؛ لأن الله تعالى قد قيد فيها الرقبة بالإيمان، فقال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يقيد في غيرها. قلنا: قيد فيها، وأطلق في غيرها؛ فيحمل المطلق على المقيد؛ كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع، فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وأطلق في موضع فقال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فكان المطلق محمولاً على المقيد في اشتراط العدالة؛ كذلك ههنا. ويجوز إعتاق الرقبة الأعجمية، إذا وصفت الإسلام وعقلته، وإن لم تصف، أو وصفت ولم تعقل بأن لقنت فتلقنت-: لم يجز. ويجوز إعتاق الطفل، وإن كان ابن يوم، إذا كان أحد أبويه مسلماً [أصلياً]، أو أسلم قبل حصوله؛ لأن الولد محكوم بالإسلام، وإن كان أبواه كافرين-: فلا يجوز؛ لأنه محكوم بالكفر. ولو أسلم الصبي بنفسه- لا يصح إسلامه؛ لأنه غير مكلف؛ كالمجنون. وعند أبي حنيفة: يصح إسلامه؛ إذا كان يعقل، وهو قول الإصطخري [من أصحابنا]؛ كما تصح صلاته.

قلنا: صلاته تكون نفلاً ولا يتنفل بالإسلام، بل الإتيان به يكون فرضاً، ولا يصح أداء الفرض من الصبي. ومن أصحابنا من قال: يكون مراعى، فإن بلغ وأقام عليه-: بان أن إسلامه كان صحيحاً، وإن بلغ وأعرب عن الكفر فهو كافر أصلي، فإن لم يصح إسلامه-: يحال بينه وبين أهله من الكفار حتى لا يخدعوه فيزهدوه في الإسلام. فإن بلغ ووصف الكفر-: هدد وطولب بالإسلام، فإن أصر على الكفر-: رد إلى أهله، فإن قلنا بقول الإصطخري: إنه يصح إسلامه-: جاز إعتاقه عن الكفارة. وإن قلنا: يكون مراعى، فإذا أعتقه عن كفارته، ثم بلغ، وأعرب عن الإسلام-: هل يجوز إعتاقه عن الكفارة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه بان أنه كان محكوماً له بالإسلام. والثاني: لا يجوز: لأنه كان ناقص الدين؛ ألا ترى أنه إذا أعرب عن الكفر: لا يجعل مرتداً، ولو أسلم أحد أبويه، وهو صبي، أو حمل في البطن-: يحكم بإسلام الولد، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ويجري عليه في حال الصغر أحكام المسلمين، حتى إذا مات يغسل ويصلي عليه، ويرث منه قريبه المسلم، ويقتل به قاتله المسلم. وإن كان عبداً فأعتقه مولاه عن كفارته، ومات في صغره-: جاز، وكذلك لو مات بعد بلوغه أو قبل مضي مدة يمكنه أن يعرب عن الإسلام. ولو بلغ هذا الصبي، وأعرب عن الكفر-: هل يجعل مرتداً، أو نجعله كافراً أصلياً؟ نظر إن كان إسلام أحد أبويه بعد انفصاله عن الأم-: ففيه قولان: أصحهما- وهو المذهب: نجعله مرتداً يقتل كالذي علق على الإسلام إذا بلغ وأعرب عن الكفر، يجعل مرتداً. والثاني: يجعل كافراً أصلياً؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعاً، فإذا بلغ- بطل حكم التبعية. وإن كان إسلام أحد أبويه بعد علوقه في البطن قبل خروجه-: ففيه وجهان: أصحهما: حكمه حكم ما لو أسلم أحد أبويه بعد خروجه. والثاني: هو كمن علق على الإسلام؛ لأنه لا حكم له قبل الانفصال. وفائدة القولين تتبين فيما إذا بلغ، فقبل أن يعرب عن الإسلام بعد الإمكان، أو مات-: هل يرث منه قريبه المسلم وإذا مات له قريب مسلم-: هل يرث منه وهل يقتل

به المسلم؟ وإن كان عبداً: هل يجوز إعتاقه عن الكفارة؟ إن قلنا: إذا أعرب عن الكفر-: يجعل مرتداً، يرث، ويورث منه، ويقتل قاتله، ويجوز إعتاقه عن الكفارة. وإن قلنا: يجعل كافراً أصلياً-: فلا. وهل يجب عليه أن يتلفظ بكلمة الإسلام بعد البلوغ إن قلنا: إذا أعرب عن الكفر، يجعل مرتداً-: لا يجب؛ لأنه محكوم بالإسلام. وإن قلنا: يجعل كافراً أصلياً-: يجب؛ حتى لو مات قبل أن يعرب-: مات كافراً. فحيث قلنا: يجعل كافراً أصلياً: فإن وصف كفراً يقر أهله بالجزية-: يقر بالجزية، وإن لم يقبل الجزية-: يبلغ المأمن. قال الشيخ- رحمه الله-: وإن وصف كفراً لا يقر أهله بالجزية-: يبلغ المأمن. ولو مات له قريب مسلم في صغره، فورثناه، ثم بلغ وأعرب عن الكفر: إن جعلناه مرتداً: لا يسترد منه المال، وإن جعلناه كافراً أصلياً-: يسترد، وكذلك: لو قطع مسلم يده في صغره، أو أعتقه مولاه عن كفارته، فبلغ، وأعرب عن الكفر. إن جعلناه مرتداً-: يقطع قاطعه، وصح إعتاقه عن الكفارة، وإن جعلناه كافراً أصلياً: فلا يقطع قاطعه، ولا يصح إعتاقه عن الكفارة. وقيل: لا يسترد المال، ويقطع القاطع، وصح الإعتاق عن الكفارة قولاً واحداً، ولا ينقضي ما مضى من الأحكام في الصغر؛ لأنه مضى بالاجتهاد؛ فلا يقضي، وإن جعلناه كافراً أصلياً. ولو سبى مسلم صبياً كافراً- نظر: إن سباه مع أحد أبويه أو معهما، وهما كافران-: لا يحكم بإسلامه؛ لأن تبعية الأبوين أقوى من تبعية السابي، فلو مات الأبوان بعد السبي-: لا يحكم بإسلامه؛ لأن الاعتبار بحالة السبي، وإن سبي الصبي وحده-: نحكم بإسلامه، تبعاً للسابي. وقيل: لا يحكم بإسلامه؛ لأن يد السابي ملك؛ كيد المشتري. والأول أصح. ولو سباه مسلم، وسبى أبويه الكفارين غيره-: ينظر: إن كان في عسكر واحد-: فهو تبع لأبويه، وإن كان في عسكرين-: فهو تبع للسابي. فإذا حكمنا بإسلامه تبعاً للسابي: فإذا بلغ وأعرب عن الكفر-: فهو كمن حكمنا

بإسلامه؛ تبعاً لأحد الأبوين، وإذا وجد لقيط في دار الإسلام-: يحكم بإسلامه تبعاً للدار، فإذا بلغ وأعرب عن الكفر-: هل نجعله مرتداً؟ قيل: فيه قولان؛ كمن حكمنا بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين والسابي. وقيل- وهو الأصح-: يجعل كافراً أصلياً قولاً واحداً؛ لأن تبعية الأبوين والسابي أقوى من حكم الدار؛ لأن الحكم بإسلام الدار من حيث الظاهر؛ بدليل أنه لو ادعاه كافر، وأقام عليه بينة-: يحكم بكفره. ولو سبى ذمي صبياً حربياً، وحمله إلى دار الإسلام-: فهو تبع للسابي، ويترك في يده. وقيل: يحكم بإسلامه تبعاً للدار، وينزع من يده، وحكم المجنون حكم الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه والسابي والدار، سواء بلغ مجنوناً أو بلغ عاقلاً ثم جن. وإذا أفاق وأعرب عن الكفر-: هل يجعل مرتداً؟ فعلى ما ذكرنا من الاختلاف. وقيل: إذا بلغ [الصبي] عاقلاً، ثم جن، ثم أسلم أحد أبويه-: لا يحكم بإسلامه تبعاً؛ لأنه زال حكم التبعية ببلوغه عاقلاً. والأول المذهب. فَصْلُ فِي عُيُوبِ الرَّقَبَةِ إذا كان بالرقبة عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً-: لا يجوز إعتاقه عن الكفارة، لأن المقصود من العتق تكميل حاله، فإذا كان به نقص لا يمكنه القيام بكفايته معه-: لا يحصل المقصود، وما لا يضر بالعمل ضرراً بيناً-: لا يمنع الجواز؛ بخلاف المبيع: يرد بجميع العيوب؛ لأن المقصود منه المال، فما ينقص المالية: يثبت حق الرد. خرج من هذا: أنه يجوز العبد الأعور، والأبرص، والمجذوم، ومقطوع الأنف والأذنين، ومقطوع أصابع الرجل، ومندرد الأسنان، والأصم، والأخشم، والأقرع، والخصي، والمجبوب، وضعيف البطن، والأمة الرتقاء والقرناء. ولا يجوز المقعد، والأعمى، ولا مقطوع إحدى اليدين، أو إحدى الرجلين، أو أشلهما. وإن كان به عرج خفيف-: يجوز.

وإن كان مقطوع بعض أصابع اليد- نظر: إن كان مقطوع الإبهام والسبابة والوسطى من إحدى اليدين-: لم يجز؛ لأن منفعة الكف تتعطل بفقد واحدة منهن. وإن كان مقطوع الخنصر أو البنصر-: يجوز، وإن كان مقطوعهما من يد واحدة: لم يجز، وإن كان مقطوع الخنصر من يد والبنصر من يد أخرى-: يجوز. فإن كان مقطوع أنملة- نظر: إن كان من الإبهام-: لا يجوز؛ لأن للإبهام أنملتين، فتتعطل منفعتهما بفقد إحداهما، وإن كان من أصبع أخرى-: جاز. وإن كان مقطوع أنملتين [من إصبع أخرى]- نظر: إن كان من سبابة أو وسطى-: لم يجز، وإن كان من خنصر أو بنصر-: يجوز. وعند أبي حنيفة: كل عيب يفوت جنساً من المنفعة: يمنع الإجزاء، وما لا فلا، حتى قال: لا يجوز مقطوع الأذنين، ولا الأصم، ويجوز مقطوع إحدى اليدين، أو إحدى الرجلين، ومقطوع يد ورجل من خلاف. ويجوز إعتاق المسن إلا أن يكون ضعيفاً بحيث لا يطيق العمل، بخلاف الصغير: يجوز؛ لأنه يكبر فيقوى بعده، ويجوز نضو الخلق إذا لم يعجز عن العمل، ويجوز المريض الذي يرجى زوال مرضه، وإن لم يرج-: لم يجز، وإن كان عبداً وجب عليه القتل.

قال الشيخ القفال- رحمه الله-: إذا أعتقه قبل أن يقدم للقتل-: جاز، وإن كان بعده-: لم يجز؛ كمريض لا يرجى زوال مرضه. ويجوز الأخرس إذا كان يعقل الإشارة، فإن لم يعقل الإشارة-: لا يجوز. وقيل: إن كان مع الخرس صمم لا يجوز، ولا يجوز في المجنون المطبق. فن كان يجن يوماً ويفيق يوماً-: يجوز، وإن كان زمان الجنون أكثر-: لا يجوز ويجوز الأحمق وهو الذي يفعل الشيء في غير موضعه، مع علمه بقبحه، والمجنون: من لا يعلم قبحه. ويجوز ولد الزنا؛ لأن نسب العبد غير مقصود. فَصْلُ فِي سَلاَمَةِ رِقِّ العَبْدِ ولا يجوز إعتاق المكاتب عن الكفارة، سواء أدى شيئاً من النجوم أو لم يؤد. وقال أبو حنيفة: يجوز إن لم يكن أدى شيئاً من النجوم. قلنا: المكاتب قد استحق العتق بجهد الكتابة؛ فلا يجوز صرفه إلى الكفارة كأم الولد.

ولو قال لمكاتبه: إذا عجزت فأنت حر عن كفارتي، أو قال لعبده الكافر: إذا أسلمت فأنت حر عن كفارتي، فعجز وأسلم-: عتق لوجود الصفة، ولكن لا يجوز عن الكفارة؛ لأنه لم يكن حالة التعليق بصفة الجواز؛ كما لو قال لجنين في البطن: هو حر عن كفارتي، إن خرج سليماً، فخرج سليماً-: لا يجوز عن الكفارة. ولا يجوز إعتاق أم الولد عن الكفارة؛ لأنها استحقت العتاق بجهة الاستيلاد. ويجوز إعتاق المدبر والمعلق عتقه بصفة؛ كما يجوز بيعهما كما لو قال لعبده: أنت حر بعد سنة، ثم أعتقه عن كفارته قبل مضي السنة. أما إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم قال له بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت حر عن كفارتي، فإذا دخل-: عتق، ولا يجوز عن الكفارة؛ لأنه تعلق عتقه بالدخول لا عن الكفارة، فلا يمكن صرفه إلى الكفارة. ولو اشترى أحد أبويه أو ولده، ونوى الكفارة-: عتق بالقرابة، ولا يجوز عن الكفارة؛ لأنه استحق العتاق بجهة القرابة؛ كأم الولد: لا يجوز صرف عتقها إلى الكفارة. ولو اشترى عبداً بشرط العتق، سواء قال يعتقه عن كفارة، أو أطلق-: فلا يجوز إعتاقه عن الكفارة؛ لأنه إذا باعه بشرط العتق: يضع من ثمنه؛ فيصير كأنه أخذ عوضاً على عتق الكفارة. ولو أعتق عبده المرهون أو الجاني عن كفارته: إن قلنا: ينفذ عتقه-: جاز عن الكفارة. وإن قلنا: لا ينفذ عتق المرهون فإذا انفك عن الرهن-: ففي نفوذ العتق باللفظ السابق وجهان: إن قلنا: ينفذ، وكان أعتقه عن الكفارة-: جاز عنها، ولو أعتق المغصوب عن كفارته-: جاز، قال الشيخ: وكذلك الآبق إذا علم حياته. وقيل: لا يجوز المغصوب، لأنه ممنوع من التصرف فيه. قال- رحمه الله-: الآبق يكون كذلك، ولو أعتق عبده الغائب عن كفارته، ولا يعرف حياته-: لم يجز؛ على أصح الوجهين؛ لأن ذمته مشغولة بالكفارة، فلا تترك بالشك.

ولو أعتق عبداً مشتركاً [بينه وبين غيره] عن كفارته: فإن كان موسراً-: عتق كله عن كفارته، سواء وجه العتق على كله أو على بعضه. إذا قلنا: تقع السراية باللفظ، أو قلنا: بأداء القيمة-: يتبين أنه عتق باللفظ. وقيل: إذا عتق نصيب نفسه-: [لا يجوز] كله عن الكفارة. والأول أصح. أما إذا قلنا: يقع العتق بأداء القيمة-: يحتاج إلى تجديد النية عند أداء القيمة، إن كان قد وجه العتق على نصيبه. وإن كان قد وجه على كله-: فلا يحتاج؛ على أصح الوجهين. ولو أعتق نصيبه، وهو معسر عن كفارته: فإذا ملك بعده نصيب شريكه-: لا يعتق إلا بإعتاق جديد، ويحتاج إلى نية جديدة عن الكفارة، فإذا فعل-: جاز، وإن كان في وقتين، كما لو أطعم المساكين في أوقات مختلفة: يجوز. فإذا أعتق النصف الثاني مطلقاً-: عتق، ولا يجوز عن الكفارة، ولو لم يملك النصف الآخر، بل أعتق نصف رقبة أخرى عن هذه الكفارة-: هل يجوز؟ فيه وجهان، وأصله أن

الشافعي - رضي الله عنه- نص على أنه لو أعتق عبدين عن ظهارين أو ظهار، وقيد كل واحد منهما عن كفارتين-: جاز. فمن أصحابنا من قال: يعتق عن كل واحد عبد كامل؛ لأنه إذا أعتق نصفه عن أحدهما-: سرى إلى باقيه، وإن كان هو أعتق عن كل كفارة نصف كل عبد. ومنهم من قال: يعتق عن كل واحد نصف كل عبد، كما نوى، فيكون جملته رقبة كاملة؛ لأنه إذا نوى إعتاق نصفه عن كفارة أخرى-: لا ينقلب إلى غيرها. خرج من هذا: أنه إذا أعتق معسر نصفي رقبتين عن كفارة واحدة-: هل يجوز أم لا فيه وجهان. وقيل: إن كان باقيهما حراً-: جاز، وألا فلا يجوز. ولو قال رجل لآخر: أعتق عبدك عنك، أو قال: عن كفارتك، ولك علي ألف، أو قال: أعتق بعدك على ألف، ولم يقل: عنك، ولا عني، فأعتق-: عتق عن السيد، ولا يجوز عن الكفارة؛ لأن أخذ العوض عن التكفير-: لا يجوز، وهل يستحق الألف؟ فيه وجهان: أصحهما: يستحق؛ كما لو قال: أعتق أم ولدك على ألف، فأعتق، أو قال: طلق امرأتك على ألف، ففعل-: يستحق الألف. والثاني لا يستحق الألف؛ بخلاف أم الولد والزوجة: فإنهما لا يقبلان النقل إلى ملكه، فكان بذل المال من عنده كفداء الأسير؛ فلزم. والعبد القن يقبل النقل؛ فأمكنه تخليصه بطريق الشراء أو التمليك، فإذا لم يتملك-: لا يلزمه المال. ولو قال رجل لآخر: أعتق بعدك عن كفارتي، أو قال: عني، ونوى الكفارة، ولك علي ألف، فأعتق في الحال-: عتق عن كفارة السائل، وعليه الألف، وله الولاء؛ يجعل كأنه ملكه، ثم أعتقه، فحصل العتق مترتباً على الملك. ولو قال أعتق عبدك عن كفارتي، أو قال: عني، ولم يذكر مالاً-: عتق عن السائل أيضاً، ولا شيء عليه. وعند أبي حنيفة والمزني: إن لم يسم مالاً-: لا يجوز؛ لأنه إذا سمى المال-: يكون تبعاً، وإعتاق المبيع قبل القبض-: يجوز. وإن لم يسم المال- يكون هبة، وإعتاق الموهوب قبل القبض-: لا يجوز.

قلنا: نحن ندرج القبض تحت العتق؛ لقوة العتق، كما في ذكر العوض: يجعل كأن السائل اشتراه وقبضه، ثم أمر البائع بإعتاقه، فيندرج القبض تحته. وإن كان البائع لا يجوز له أن يقبض من نفسه إلى المشتري، وإعتاق الموهوب قبل القبض بإذن الواهب، أو قال للواهب: أعتقه عني، وأعتق-: يجوز عندنا. وإذا قال: أعتق عبدك عني، أو عن كفارتي على ألف-: يشترط الإعتاق في المجلس، فلو أعتق بعده-: لا يقع عن السائل، بل يعتق عن المالك، ولا يستحق شيئاً. ولو أعتق في الحال، ثم وجد به عيباً-: لا يرد العتق، ويرجع بالأرش على المعتق. ثم إن كان عيباً يمنع الجواز عن الكفارة-: لا يسقط عنه الكفارة. ولو قال لإنسان: أطعم عشرة مساكين عشرة أمداد عن كفارتي، أو نوى الكفارة من حنطة وصفها، أو قال: من هذه الحنطة، يجوز؛ وكذا الكسوة إذا وصفها، ولا يختص الإطعام بالمجلس. وكذلك لو قال: أد عشرة دراهم إلى الفقراء عن زكاتي: جاز؛ كما لو أمره بقضاء دينه-: جاز، ثم هل يرجع عليه؟ فيه وجهان: الأصح: يرجع، إلا أن يقول: مجاناً؛ فلا يرجع. ولو كفر من مال نفسه عن حي بغير أمره: لا يجوز؛ لأن النية شرط في الكفارة، ولم توجد ممن عليه، ثم إن كان قد أعتق عبداً-: يعتق عن المعتق، وإن كفر عن ميت- نظر: إن كفر من مال الميت، وهو وارثه أو وصيه-: جاز، سواء كفر بالعتق، أو بالإطعام، أو بالكسوة. وإن كفر من مال نفسه- نظر: إن كفر بإطعام أو كسوة-: جاز، وارثاً كان أو أجنبياً، سواء كانت الكفارة مرتبة أو مخيرة. إلا أن في المرتبة: يشترط ألا يكون للميت تركة، فإن كانت له تركة-: يجب الإعتاق من تركته، وإن كفر عن الميت بالإعتاق من مال نفسه- لا يخلو: إما أن كانت الكفارة مخيرة أو مرتبة: فإن كانت مخيرة: فإن كان المعتق أجنبياً-: لم يجز لمعنيين: أحدهما: لإمكان الانتقال إلى غيره، فلا معنى للإعتاق عنه، وهو يعقب الولاء الذي لا يثبت معه إلا بالمباشرة والملك. والثاني: لما فيه من إلحاق الضرر بالميت من حيث إنه تؤاخذ أقاربه بجنايته بعتقه. وإن كان المعتق وارثاً-: فيه وجهان؛ بناء على المعنيين. إن قلنا بالأول-: لم يجب، وهو الأصح، وإن قلنا بالثاني-: جاز.

وإن كانت الكفارة مرتبة: فإن كان المعتق هو الوارث-: جاز، وإن كان أجنبياً-: فعلى وجهين، بناءً على المعنيين. إن قلنا بالأول-: جاز، وإن قلنا بالثاني-: لم يجز. ولو أعتق عن مورثه تطوعاً-: فوجهان، أصحهما: لا يجوز؛ كالأجنبي. وكل موضع قلنا: لا يجوز عن الميت-: يعتق عن المعتق. فَصْلُ النية شرط في الكفارة حالة ما يكفر، فلو قدم النية على التكفير-: لا يصح إلا أن تكون كفارته بالصوم فينوي من الليل قبل طلوع الفجر: يجوز، ولا يجب عليه تعيين النية، حتى لو كانت عليه كفارتان، فأعتق رقبتين: كل رقبة عن واحدة، ولم يعين-: جاز، سواء كانت الكفارتان متفقتين أو مختلفتين، بأن كانت أحداهما كفارة ظهار، والأخرى كفارة قتل أو يمين. وعند أبي حنيفة: إن اختلفا-: يجب تعيين النية؛ فيقيس على المتفقين. ولو أعتق رقبة واحدة بنية الكفارة-: صرفه إلى أيهما شاء، وكذلك: لو كان فرضه الصيام، فصام أربعة أشهر: كل شهرين عن كفارة، أو أطعم ستين مسكيناً عن واحدة، وستين عن الأخرى، ولم يعين- جاز. فأما إذا صام أربعة أشهر: شهران عن هذه، وشهران عن تلك-: لم يجز وإن اتفقت الكفارتان؛ لأن التتابع شرط في صوم كفارة واحدة. ولو كانت عليه ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عن واحدة، ولم يعين، ثم أعسر، فصام شهرين عن واحدة، ثم عجز، فأطعم ستين مسكيناً عن الثالثة، ولم يعين-: [جاز، و] سقط الكل عنه، ولو كانت عليه كفارة لا يدري أنها عن ظهار أو قتل أو يمين أو نذر لجاج: إن أوجبنا فيه كفارة اليمين، فأعتق رقبة بنية الكفارة مطلقاً، أو صام شهرين أو أطعم ستين مسكيناً-: سقط الفرض عنه، حتى لو عرف بعد ذلك عينها-: لا إعادة عليه. ولو عين واحدة، ثم بان أنه أخطأ-: لا يحسب. ولو كانت عليه ثلاث كفارات، فأعتق عن الكل عبداً، ثم أعسر، فصام عن الكل شهرين، ثم عجز فأطعم عن الكل ستين مسكيناً-: لم يجز لأن الكفارة الواحدة لا يجوز تفريقها، والله أعلم.

فَصْلُ إذا ارتد من عليه الكفارة، وكفر في حال ردته بالصوم-: لا يجوز؛ لأن عبادة البدن لا تصح من الكافر، فإن كفر بالإعتاق أو بالإطعام؛ إذا كان عاجزاً عن العتق والصوم-: هل يصح أم لا؟ فقد قيل: يبنى على أقوال ملك المرتد: إن قلنا: ملكه باق-: جاز. وإن قلنا: زائل لم يجز. وإن عاد بعده إلى الإسلام. وإن قلنا: ملكه موقوف، فإن عاد إلى الإسلام بان أنه وقع عن الكفارة، وإن مات أو قتل في الردة-: فلا. ومن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: يصح قولاً واحداً؛ لأنه استحق عليه قبل الردة؛ كالزكاة، والذمي إذا لزمته كفارة الظهار. فإن كان له عبد مسلم يعتقه وقلنا: لا يجوز له الشراء-: فلا يستبيح الوطء ما دام له مال، وإن لم يكن له مال، وهو قادر على الصوم-: لا يصح صومه في حال الكفر، ولا يجوز أن يطعم؛ لأنه قادر على أن يسلم فيصوم، فإن عجز عن الصوم في حال كفره بمرض أو هرم-: يجوز أن يطعم عن كفارته، والله أعلم بالصواب. بَابُ مَنْ لَهُ الكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ. قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]. المظاهر إذا كان واجد الرقبة أو كان قادراً على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلاً عن نفقته ونفقة عيلته وكسوتهم، وعن حاجته من مسكن أو بضاعة لا بد له منها؛ لتحصيل مؤناتهم-: لا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم.

فإن عجز عن تحصيلها-: يجب عليه صوم شهرين متتابعين؛ فإن كانت له رقبة غير أنه يحتاج إليها لمرضه أو كبره وزمانته، أو كان صحيحاً غير أنه من أصحاب المروءات لم تجر عادته بخدمة نفسه-: فهي كالمعدومة، وله أن يصوم، وإن كان له عبد يخدمه، ولكنه من أوساط الناس ممن يخدم نفسه: فوجهان: أصحهما: يجب الإعتاق. وكذلك: لو كان واجداً لثمن الرقبة، غير أنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عيلته وكسوتهم، أو يريد شراء عبد لخدمته-: فله أن يصوم. وقال أبو حنيفة إن كانت له رقبة عليه إعتاقها-: وإن كان محتاجاً إلى خدمته، وإن كان واجداً لثمنه وهو محتاج إليه-: فله أن يصوم. وقال مالك: إذا كان واجداً لثمنه-: يلزمه الإعتاق، وإن كان محتاجاً إليه، وإن وجد الرقبة. [تباع] بثمن غال-: لا يجب الشراء؛ كما لا يجب شراء الماء، إذا بيع بثمن غال، بل يتيمم. قال الشيخ: ورأيت أنه يجب أن يشتري بالثمن الغالي، إذا كان واجداً له، ويباع فضل ثيابه في ثمن الرقبة، ويترك له ثوب للشتاء وثوب للصيف؛ بخلاف المفلس: لا يترك له إلا ثوب واحد يليق بحاله في الوقت لأن الدين حق الآدمي، ومبناه على الضيق، ولأنه لا بدل له يصار إليه بخلاف الكفارة. ولو كان له ثوب نفيس [يجد بثمنه ثوباً يليق بحاله، ويفضل ثمن عبد- يجب عليه العتق.

ولو كان له عبد ثمين] يجد بثمنه عبدين يخدمه أحدهما، ويعتق الآخر عن كفارته-: لا يجب بيعه؛ على ظاهر المذهب، وله أن يصوم؛ لأن العبد الذي معه قد ألفه؛ فيشق عليه مفارقته. وإن كان له مسكن واسع فاضل عن حاجته-: عليه أن يبيع الفاضل عنه، وإن كان لا يفضل عن حاجته؛ لكنه ثمين يجد بثمنه مسكناً يكفيه في موضع آخر، ويفضل له ثمن رقبة-: ففيه وجهان: أحدهما: عليه بيعه؛ كالثوب الثمين. والثاني: لا، بل له أن يصوم؛ لأنه يشق عليه مفارقة مسكن ألفه؛ كالعبد الذي ألفه: لا يجب بيعه. وإن كان له ضيعة أو تجارة يحصل من غلتها كفايته ولا يفضل-: فله أن يصوم، ولا يجب الإعتاق. ولو وهب منه رجل عبداً أو ثمن عبد-: لا يجب القبول؛ لما يلحقه من المنة، وإن كان ماله غائباً عنه أو معه ثمن الرقبة، ولكنه لا يجد الرقبة- نظر: إن كان ذلك كفارة قتل أو جماع أو يمين-: لا ينتقل إلى الصوم، بل يصير [إلى أن يصل] إلى المال؛ لأنه لا ضرر عليه في تأخيره، وليسو وقته بمضيق، بخلاف المسافر إذا وجد الماء يباع؛ وماؤه غائب: يتيمم؛ لأن وقت أداء العبادة مضيق. وإن كان كفارة ظهار-: ففيه وجهان: أحدهما: يؤخر؛ كسائر الكفارات. والثاني: له أن يصوم؛ لأن في التأخير ضرراً عليه؛ لأنه لا يمكنه مباشرة امرأته قبل التكفير؛ كالمحصر، إذا كان معه ثمن الهدي، ولم يجد الهدي-: ينتقل إلى البدل؛ لما عليه من الضرر في استدامة الإحرام. فإذا عجز المظاهر عن الرقبة-: يجب عليه صوم شهرين متتابعين، فلو أفطر في خلال الشهرين يوماً متعمداً، أو نسي النية، أو نوى صوماً آخر غير هذه الكفارة-: يجب عليه استئناف الشهرين. [ولو أفطر بعذر المرض: ففي الجديد- وهو الأصح: ينقطع التتابع، وعليه الاستئناف]؛ لأنه أفطر باختياره؛ كما لو أجهده الجوع فأفطر.

وفي القديم: لا ينقطع، وهو اختيار المزني لأنه معذور. وقيل إذا أفطر بغلبه الجوع-: فهو كالمريض. وإن أفطر بعذر سفر- فقد قيل: فيه قولان؛ كالمريض. وقيل- وهو المذهب-: ينقطع التتابع؛ لأن السفر باختياره؛ بخلاف المرض، ولأنه يمكنه أن يصوم في السفر، وإذا انقطع الصوم بالإغماء-: فهو كالمرض، وإن أفطرت المرأة بعذر الحيض في كفارة القتل أو الجماع-: لا ينقطع التتابع، بل إذا طهرت بنت؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، فإنه أمر مكتوب على النساء؛ فقل ما تخلو المرأة عن حيض في ل شهر، فإن أفطرت في كفارة اليمين بعذر الحيض على قولنا: إن التتابع واجب فيه-: فهل يجب الاستثناء فعلى قولين؛ كما في المرض. قال الشيخ: والنفاس كالحيض. وإن أفطرت الحامل والمرضع؛ خوفاً على ولديهما- فقد قيل: فيه قولان؛ كالمريض يفطر بعذر المرض. وقيل: ينقطع التتابع قولاً واحداً؛ لأن فطرهما لعذر في غيرهما. وكذلك: يجب عليهما الفدية في صوم رمضان، إذا أفطرتا. ولو أكره على الأكل في خلال النهار، وقلنا: يحصل به الفطر-: ينقطع التتابع؛ لأنه نادر، فإذا ابتدأ الصوم من أول الشهر-: يصوم شهرين بالأهلة، وإن خرجا ناقصين، وإن ابتدأ بعد مضي بعد الشهر-: عليه أن يكمل الشهر الأول ثلاثين يوماً بالشهر الثالث، ويكون الشهر الثاني بالهلال، حتى لو شرع في الصوم بعد ما مضى من الشهر خمسة أيام-: يصوم بقية ذلك الشهر والشهر الثاني. ثم إن خرج الشهر الأول كاملاً-: يصوم من الشهر الثالث خمسة أيام، وإن خرج ناقصاً-: فستة أيام؛ لأنه تعذر اعتبار الهلال في الشهر المنكسر، فاعتبر بالعدد؛ كما إذا غم الهلال في شهر رمضان-: يجب إكمال العدد ثلاثين يوماً. وإذا ابتدأ الصوم في وقت يتخلله شهر رمضان، أو يوم العيد، أو أيام التشريق-: فلا يحسب ذلك عن كفارة؛ حتى يبتدئها بعد مضي هذه الأيام؛ ويجب أن ينوي صوم كل يوم قبل طلوع الفجر من ليلته؛ كما في صوم رمضان. وعند مالك: إذا نوى صوم شهرين في الليلة الأولى-: جاز، ولا يجب نية التتابع؛ لأنه شرط في العبادة حصل بفعله؛ فلا تشترط نيته؛ كما لا يجب نية الترتيب في الوضوء.

وقيل: يجب نية التتابع، وليس بصحيح. فصل الاعتبار فيما يجب أن يكفر به بحالة الوجوب، أم بحالة الأداء فيه ثلاثة أقوال: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة، وهو اختيار المزني-: لا اعتبار بحالة الأداء؛ لأنها عبادة؛ كالظهار: تعتبر بحالة فعلها، وكالصلاة إذا فاتته في حال القدرة، ثم عجز فقضاها قاعداً. والثاني: الاعتبار بحالة الوجوب؛ لأنه نوع تطهير يختلف بالرق والحرية؛ كأصل الحد، ولا يلزم إذا زنا، وهو مخدج، ثم برئ يجلد بالسياط؛ لأنه صفة الحد، وذلك لا يختلف بالرق والحرية.

والقول الثالث: يعتبر فيه أغلظ الأحوال [من حين الوجوب إلى حين الأداء؛ لأنه حق يجب في الذمة؛ لوجود المال، فيعتبر فيه أغلظ الأحوال]؛ كالحج. فإن قلنا: الاعتبار بحالة الأداء: فإن كان موسراً حالة الأداء-: عليه الإعتاق، وإن كان معسراً-: فيصوم، ولا ينظر إلى حاله من قبل. وإن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب: فإن كان موسراً يوم الوجوب-: عليه العتق، ولا يتغير حكمه بحدوث الإعسار من بعد، غير أن الشافعي- رضي الله عنه- قال: إذا أعسر قبل

أن يكفر: يستحب أن يصوم؛ خوفاً من أن يلقى الله تعالى؛ فيكون قد أتى ببعض أنواع الكفارة، وإن كان لا يحسب حتى لو وجد الرقبة يلزمه الإعتاق، وإن كان معسراً يوم الوجوب، ففرضه الصوم، ولا يتغير بحدوث اليسار غير أنه إذا أيسر-: يستحب أن يعتق. وإن قلنا: يعتبر فيه أغلظ الأحوال-: فأي وقت كان واجداً للرقبة من حين الوجوب إلى حالة الأداء-: يلزمه الإعتاق، ولا يجوز الصوم حتى يكون عادماً للرقبة من حين الوجوب إلى حالة التكفير. وإن كان معسراً في الطرفين، موسراً في الوسط-: فعلى القولين الأولين: فرضه الصيام، ولو أعتق كان أحب إلينا، وعلى القول الثالث: فرضه الإعتاق. وإن كان موسراً في الطرفين، معسراً في الوسط-: ففرضه الإعتاق على الأقوال كلها. ولو كان يوم الوجوب معسراً عاجزاً عن الصوم، فأيسر: فإن اعتبرنا حالة الوجوب-: ففرضه الإطعام، ولو أعتق-: كان أحب إلينا حتى لو مات وتبرع عنه وارثه بالعتق-: جاز، وعلى القولين الآخرين: عليه الإعتاق. ولو لم يجد الرقبة حتى شرع في الصوم، ثم وجدها-: له أن يمضي في الصوم، ولا يلزمه الإعتاق قولاً واحداً، غير أنه لو أعتق-: كان أحب إلينا، وما مضى من صومه تطوع له. وقال أبو حنيفة والمزني: يلزمه الإعتاق، وكذلك: لو أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصوم-: لا يلزمه الصوم. وإن كان المظاهر عاجزاً عن الأنواع كلها- فعلى الأقوال: إن اعتبرنا حالة الوجوب-: لا يلزمه شيء، وله أن يجامع، ويستحب أن يأتي بما يقدر عليه. وإن قلنا بالقولين الآخرين-: يجب عليه أن يأتي بما يقدر عليه، ولا يجوز له مباشرتها ما لم يكفر. وكذلك ما يكون وجوبه بسبب من جهته، ولا يكون بدلاً عن غيره من مال يتعلق بحث الله عز وجل؛ مثل كفارة القتل والجماع في رمضان واليمين ودم التمتع والقران-: هل يسقط بالعجز أم لا؟ فعلى القولين.

أما ما لا يكون وجوبه بسبب من جهته؛ كالزكاة وصدقة الفطر-: فلا يجب مع العجز، وما كان وجوبه بسبب من جهته، لكن طريقه طريق الإبدال والجبرانات؛ مثل: جزاء الصيد، وفدية الأذى والطيب واللبس-: فلا يسقط بالعجز، بل يكون عليه إلى أن يجهد كبدل المتلفات، والله أعلم. بَابُ الكَفَّارَةِ بِالإِطْعَامِ قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4]. إذا عجز المكفر عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أو فرط شبق-: له الانتقال إلى الإطعام؛ بخلاف صوم رمضان: لا يجوز تركه لفرط الشبق؛ لأنه لا بدل له ينتقل إليه، ولصوم الكفارة بدل؛ بدليل أن الأعرابي المجامع لما أمره النبي- صلى الله عليه وسلم- بالصوم قال: هل أوتيت إلا من الصوم؟ فقال: "أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً". وعذر السفر لا يجعل كالمرض في جواز الانتقال إلى الإطعام؛ لأنه غير عاجز، ولا يجوز بغلبة الجوع ترك الشروع في الصوم، بل يشرع، ثم إذا عجز يفطر؛ بخلاف الذي تغلبه الشهوة: يجوز له ترك الشروع في الصوم؛ لأن الخروج عن الصوم بالأكل يباح، ولا يباح بالجماع.

ثم العاجز عن الصوم: يجب عليه أن يطعم ستين مسكيناً كل مسكين مداً من الطعام من غالب قوت البلد، حنطة كان أو شعيراً أو ذرة أو حباً تجب فيه الزكاة، أو تمراً أو زبيباً. وقال أبو عبيد [بن حربويه]: يجب مد من الطعام من غالب قوته. والأول المذهب، فإن عدل عن قوت بلده إلى قوت بلد آخر- نظر: إن كان أغلى من قوت بلده؛ مثل: أن كان قوتهم شعيراً، فأخرج الحنطة-: جاز. وإن كان دونه؛ مثل: أن أخرج الشعير بدل الحنطة-: لا يجوز. فإن كان قوت بلده اللحم أو السمك أو الجراد أو حباً لا زكاة فيه-: فلا يجوز منه، بل يخرج من غالب قوت أقرب البلاد إليه من حب يجب فيه الزكاة. وإن كان قوتهم الأقط-: ففيه قولان-: كما ذكرنا في صدقة الفطر- ولا يجوز الدقيق، ولا السويق، ولا الخبز، ولا الدراهم. وجوز أبو حنيفة كل ذلك، وعنده إذا خرج حباً، قال: يجب من الحنطة نصف صاع، ومن غيره صاع كامل؛ كما قال في صدقة الفطر.

وعندنا: يجب أن يصرف الحب إلى المساكين، فلو غداهم وعشاهم- لا يجوز. وعند أبي حنيفة: يجوز، وإن فاوتوا في الأكل. ولا يجوز أن يصرف إلى أقل من ستين مسكيناً. وعنده: لو صرف طعام ستين مسكيناً إلى مسكين واحد في ستين يوماً-: يجوز، ولا يجوز دفعة واحدة. قلنا: ذكر الله تعالى في الإطعام وصفاً وعددا، فقال: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] ثم أجمعنا على أن الإخلال بالوصف، وهو المسكنة-: لا يجوز. وكذلك بالعدد؛ كما في الشهادة ذكر العدد ووصف العدالة؛ فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ثم كما لا يجوز الإخلال بالوصف-: لا يجوز الإخلال بالعدد؛ فلا يقال: إذا شهد واحد مرتين: يكون كشاهدين. ولو جمع ستين مسكيناً، فوضع بين أيديهم ستين مداً، فقال: ملكتكم هذا، فقبلوا-: جاز، ولو قال: خذوا هذا، ونوى الكفارة [جاز]، فإن أخذوا على السوية-: سقط الفرض عنه، وإن أخذوا على التفاوت-: لم يجز إلا مد واحد؛ لأنا نعلم أن واحداً منهم أخذ مدا، وشككنا في الباقين. فإن علم أن عشرة منهم أخذ كل واحد مداً-: سقط عنه فرض عشرة، وعليه أن يكمل الخمسين حقهم. ولو صرف ستين مداً إلى ثلاثين مسكيناً-: يجزئه مد مد، وعليه إخراج ثلاثين مداً إلى ثلاثين مسكيناً، وهل له أن يسترد المد من الأولين؟ نظر: إن شرط أنه كفارة-: له أن يسترد، وإن لم يشترط-: فلا، وهو متبرع به. ولو صرف إلى مسكين واحد مدين عن كفارتين-: [فلا يجوز] سواء كانا متفقين أو مختلفين، ولا يجوز تفريق كفارة واحدة بأن يعتق نصف عبد، ويصوم شهراً، أو يصوم شهراً ويطعم ثلاثين مسكيناً. فإن لم يجد إلا نصف رقبة-: فهو كالمعدوم، فيصوم شهرين متتابعين، ولا يجوز صرف طعام الكفارة إلى من تلزمه نفقته من والد أو ولد أو زوجة، ولا إلى عبد ولا مكاتب. فإن صرف إلى عبد بإذن سيده، وسيده من أهل الاستحقاق-: جاز، ويكون دفعاً إلى السيد، ويجوز صرفه إلى الصغير والمجنون، ويدفع إلى وليه، ولا يعطي إلى الصغير أقل

من مد، وإن كان لا يأكل إلا قليلاً، ولا يجوز صرف طعام الكفارة إلى أهل الذمة. وجوزه أبو حنيفة، ووافقنا في زكاة المال. فَصْلُ إذا قال لعبده: أنت حر الساعة عن ظهاري، إن تظهرت-: عتق العبد في الحال؛ لأنه نجز عتقه بقوله: {الساعة}. ولا يجوز عن ظهار يظاهر به؛ لأنه عجله قبل وجود السبب؛ بخلاف ما لو قال لعبده بعد ما حلف: أنت حر الآن عن كفارتي، إن حنثت غداً، فحنث غداً-: كان العبد حراً عن كفارته من حين قاله؛ لأن العتق كان بعد وجود السبب، وهو اليمين. أما إذا ظاهر، ثم كفر قبل العود؛ مثل: أن قال أنت علي كظهر أمي، أعتقت هذا العبد عن كفارتي-: صح، وهو مظاهر عائد مكفر. وكذلك: لو ظاهر عن زوجته الرجعية، ثم كفر قبل أن يراجعها-: جاز، وكذلك: لو ظاهر عن امرأته الأمة، ثم عقيبه قال لمالكها: اعتقها عن ظهاري، ففعل-: لا يصير عائداً بقوله: اعتقها عن كفارتي؛ لأنه اشتغال بسبب الفرقة، وجاز العتق عن الكفارة قبل العود. ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، ثم أعتق عبداً عن الظهار قبل الدخول-: المذهب: أنه لا يجوز، لأنه لا يصير مظاهراً، ما لم تدخل الدار، فقد قدم الكفارة على الظهار. وكذلك لو قال: والله لا أكلم فلاناً، إن دخلت الدار، فكفر بعد الدخول قبل الكلام-: جاز. ولو كفر قبل الدخول- فالمذهب: أنه لا يجوز؛ لأن يمينه ينعقد بعد الدخول، ولم يوجد الدخول؛ فهو مكفر قبل اليمين.

كتاب اللعان

بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ اللِّعَانِ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} الآيات [النور: 6]. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرِ العَجْلاَنِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وبَيْنَ هِلاَل بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ. اللعان حجة شرعت للمضطر إلى رمي شخص لطخ فراشه، وألصق به العار.

إذا رمى الرجل امرأته بالزنا-: يجب عليه الحد إن كانت محصنة، وإن لم تكن محصنة فعليه التعزير؛ كما في رمي الأجنبي لا يختلف موجبهما، غير أنهما يختلفان في المخلص: ففي قذف الأجنبي: لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على زناه. وفي قذف الزوج: أسقط الحد عنه أحد هذين الأمرين أو باللعان؛ لأنه لا معرة عليه في زنا الأجنبي وهو مندوب إلى ستره، وإذا زنت زوجته-: يلحقه من العار والشنار والنسب الفاسد ما لا يمكنه الصبر عليه، فلو وقف أمره على إقامة البينة-: لشق عليه؛ فجعل الشرع له المخرج منه باللعان، وجعله كالبينة في حقه. وروي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي- صلى الله عليه وسلم- بشريك ابن سحماء، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- "البينة أو حداً في ظهرك" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً فلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "البينة وألا جلداً في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل- عليه السلام- وأنزل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} [النور: 6: 9]. وَرُوِيَ أَنَّ النَبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قال "أَبْشِرْ يَا هِلاَلُ قَدْ جَعَلَ الله لَكَ فَرَجاً وَمَخْرَجاً" فَقَالَ هِلاَلُ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. وعند أبي حنيفة: يوجب قذف الزوج اللعان، فإن امتنع عن اللعان- حبس حتى يلاعن، وعندنا إن امتنع عن اللعان يحد للقذف، كقاذف الأجنبي إذا امتنع عن إقامة البينة. ويجوز للزوج أن يلاعن مع القدرة على إقامة البينة؛ لأن في اللعان مقاصد ليست في البينة، وذلك: أنه يتعلق باللعان خمسة أحكام: سقوط حد القذف عن الزوج، ووجوب حد

الزنا على المرأة، ونفي الولد، ووقوع الفرقة بين الزوجين، وتأبيد التحريم. ولا يتعلق منها بإقامة البينة إلا شيئان: سقوط حد القذف عن الزوج، ووجوب حد الزنا عليها. وتتعلق هذه الأحكام كلها عندنا بمجرد لعان الزوج، ولا يتوقف شيء منها على لعان المرأة، ولا على حكم الحاكم. ثم المرأة إذا أرادت إسقاط حد الزنا عن نفسها-: عليها أن تلاعن، ولا يتعلق بلعانها إلا [سقوط الحد]، وإنما يسقط الحد عنها باللعان، [إذا وجب بلعان الزوج]. أما إذا أقام الزوج بينة على زناها-: فلا يسقط الحد عنها باللعان، [إذا وجب بلعان الزوج]. وقال مالك وأحمد: أحكام اللعان تتعلق بلعانهما جميعاً. وعند أبي حنيفة: موجب اللعان شيئان: وقوع الفرقة، ونفي النسب، وهما لا يحصلان إلا بلعانهما وقضاء القاضي، حتى لو مات أحدهما بعد ملاعنتهما قبل قضاء القاضي: يرثه صاحبه، ولو طلقها يقع، ولكن لا يجوز إقرارهما على النكاح بعد التلاعن، بل على القاضي أن يفرق بينهما، وفرقة اللعان عندنا فرقة فسخ، وعنده فرقة طلاق. ولا فرق في القذف بين أن يقول لها: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتها تزني، في ثبوت اللعان. وعند مالك: لا لعان إلا أن يقول رأيتها تزني، وأن يقول ما أصبتها في الطهر الذي رأيتها فيه. وعندنا: إن أقر أنه أصابها في الطهر الذي قذفها فيه بالزنا-: فله أن يلاعن وينفي النسب، وهو قول عطاء، وبه قال أبو حنيفة، وظاهر القرآن حجة لمن لم يفصل هذا التفصيل. وهل يتوقف اللعان على طلب المرأة الحد أو التعزير؟ نظر: إن كان هناك ولد يريد نفيه-: لا يتوقف. وله أن يلاعن، سواء كانت المرأة مجنونة أو عاقلة، فعفت عن الحد أو لم تطلق أو صدقته على الزنا، أو أقام الزوج بينة على زناها؛ فالحد عنه يسقط في هذه المواضع. وله أن يلاعن لنفي الولد، وإن لم يكن هناك ولد: فليس له أن يلاعن حتى تطلب المرأة الحد أو التعزير.

فإن عفت، أو صدقته، أو قامت البينة على زناها-: سقط اللعان. وإن كانت صغيرة أو مجنونة-: فلا يلاعن حتى تبلغ أو تفيق؛ فيطلب؛ لأن اللعان شرع للزوج لضرورته إليه في دفع النسب، ودرء الحد، وليس ههنا شيء من ذلك. وقيل: له أن يلاعن في هذه المواضع من غير طلبها لقطع الفراش، وليس بصحيح؛ لأن قطع الفراش يمكنه بالطلاق، فلا ضرورة به إلى اللعان. وإذا قذف امرأته المجنونة-: وجب عليه التعزير، أو قذفها بزنا أضافه إلى حال الإفاقة، أو قذفها في الإفاقة، وجب عليه الحد، ثم جنت ثم ولدت، فلاعن لنفسه في حال جنونها-: صح وسقط عنه الحد والتعزير، ووجب عليها حد الزنا، إن كان قذفها بزنا في حال الإفاقة. فَصْلُ من صح يمينه-: صح لعانه؛ فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين، وكذلك-: إذا كان أحدهما رقيقاً أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية؛ كما يجري بين المسلمين الحرين؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا ممن هو من أهل الشهادة، حتى لو كان أحد الزوجين رقيقاً أو ذمياً أو محدوداً في القذف-: فلا لعان بينهما، ثم ناقض؛ فجوز لعان الفاسق والأعمى، مع أنه لا شهادة لهما، والأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة أو كتبة معلومة، فقذف بالإشارة أو الكتبة-: يلزمه الحد. وكذلك يصح لعانه بالإشارة والكتبة، وإن خرس بعد ما قذف-: لاعن بالإشارة؛ [كما يصح منه البيع والنكاح والطلاق وسائر العقود بالإشارة] وإن لم يكن له إشارة ولا كتبة مفهومة-: فلا يصح منه شيء منها؛ كالمجنون. وكذلك: من عجز عن الكلام لمرض أو غيره-: فكالأخرس، إن كان ميئوساً منه وإن لم يكن ميئوساً منه-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لعانه ولا غيره؛ لأنه لم يقع اليأس من نطقه. والثاني: يصح. رُوِيَ أَنَّ أَمَامةَ بِنْتِ أَبِي العَاصِ أَصْمَتَتْ فَقِيلَ لَهَا أَلِفُلاَنِ كَذَا؟ أَوَ لِفُلاَنِ كَذَا؟ فَأَشَارَتْ أَنْ: نَعَمْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى- رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم- فرويت أَنَّهَا وَصِيَّةُ.

وعند أبي حنيفة: لا يصح قذف الأخرس، ولا لعانه؛ ونحن نقيسه على سائر الأحكام. ولو قذف الأخرس ولاعن، فانطلق لسانه، فادعى أنه لم يفهم القذف ولا اللعان-: لا يقبل، وهو كالناطق يكذب نفسه بعد اللعان، يقبل قوله فيما عليه حتى يلحقه الولد، ويلزمه الحد، ولا يقبل فيما له حتى يرتفع تأبد التحريم. وإذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبية-: فلا حد ولا لعان عليهما، لا في الحال ولا بعد البلوغ، ويعزران للتأديب، إن كان لهما تمييز. فلو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي، حتى بلغ-: قال الشيخ القفال: سقط التعزير؛ لأنه كان الزجر عن إساءة الأدب، وقد حدث زاجر أقوى، وهو البلوغ. ولو أتت المرأة لصبي بولد بعد مضي ستة أشهر وساعة من السنة العاشرة من سن الصبي-: يلحق به، لأن البلوغ بالاحتلام ممكن بعد [بلوغ] تسع سنين، وإن أتت به قبل هذا السن-: فهو منفي عنه باللعان. ومن أصحابنا من قال لا يتصور أن يولد له قبل استكمال عشر سنين. فإن أتت بعد استكمال الصبي عشر سنين لستة أشهر وساعة-: يلحق به، وإن أتت به قبله-: فيكون منفياً عنه. والأول أصح وقول الشافعي- رضي الله عنه-: "ولو جاءت بحمل، وزوجها صبي دون العاشرة-: لم يلزمه"-: ذكره على سبيل التقريب؛ لأنه لا بد وأن يمضي من السنة العاشرة أقل مدة الحمل مع إمكان الوطء، فإذا ألحقناه به في موضع الإمكان، فادعى أنه صبي-: لا ينتفي به عنه النسب بإنكاره ولا لعان له؛ لأنه يقر أنه صبي، فإن استكمل خمسة عشر سنة أو ادعى الاحتلام قبله-: فله نفيه باللعان. ولو أتت امرأة المجبوب بولد- نظر: إن كانت الأنثيان باقيتين، أو كان خصياً غير مجبوب، أو كان مجبوباً وبقي من ذكره قدر الحشفة-: فالولد يلحق به إلا أن ينفيه باللعان. أما الممسوح إذا أتت امرأته بولد-: هل يلحقه؟ فيه قولان: أصحهما: لا يلحقه، ولا تعتد امرأته بوضع الحمل؛ لأنه لا يتصور له الإنزال؛ بخلاف ما لو كان مجبوباً والأنثيان باقيتان يتصور به الإنزال بالتساحق.

والثاني: يلحقه إلا أن ينفيه باللعان؛ لاحتمال أن ينزل بالساحق، والنسب يثبت بالإمكان. ولو قذف إنساناً، ثم ادعى القاذف أني كنت يوم القذف صبياً، وقال المقذوف: كنت بالغاً-: فالقول قول القاذف مع يمينه؛ لأن الإنسان لا يخلو عن الصغر. فإن قال: كنت مجنوناً، وأنكر المقذوف- نظر: إن عرف به جنون سابق، أو قامت بينة على أنه كان به جنون سابق-: فالقول قول القاذف كما في الصغر، وإن لم يعرف-: فالقول قول المقذوف مع يمينه، فإذا حلف-: لا يجب عليه الحد، وله أن يلاعن في الزوجة. ولو أقاما بينتين في دعوى الصغر والجنون- نظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد-: تعارضتا، وكان كما لو لم يكن لأحد بينة. وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين، وإحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة-: فهما قذفان؛ فعلى القاذف الحد؛ يقذف حالة البلوغ والعقل. وكذلك لو قذف إنساناً، ثم ادعى القاذف أن المقذوف كان صبياً يوم القذف، وقال المقذوف: بل كنت بالغاً-: فالقول قول القاذف مع يمينه، فإن نكل وحلف المقذوف: وجب الحد على القاذف، إلا أن يلاعن في الزوجة. وإن أقاما بينتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين-: فهما قذفان أحدهما موجب للحد والآخر للتعزير، ويسقط الكل باللعان في حق الزوجة. ولو ادعى أنها كانت مجنونة أو أمة أو مشركة؛ فإن عرف بها ذلك-: فالقول قول القاذف مع يمينه، فإن لم يعرف-: فالقول قول المقذوف مع يمينه، والله أعلم بالصواب. فَصْلُ فِيمَا يُبِيحُ الْقَذْفَ القذف ينقسم إلى: محظور ومباح وواجب. وجملته: أنه إذا لم يكن ثم ولد يريد نفيه-: فلا يجب عليه، وهل يباح أم لا؟ نظر: إن رآها بعينه تزني أو أقرت هي [على نفسها] ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله، أو لم يسمع، ولكن استفاض بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة، وقد رآه الزوج يخرج من بيتها، أو رآه معها في بيت لا على الزنا-: يباح له القذف؛ لتأكد التهمة. ويجوز أن يمسكها ويستر عليها؛ لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي امرأة لا

ترد يد لامس؟ قال: طلقها، قال: إني أحبها، قال: فامسكها. فأما إذا سمعه ممن لا يثق بقوله، واستفاض بين الناس، ولكن الزوج لم يره معها، أو رآه معها في بيت، أو يخرج من عندها، لكنه لم يستفض بين الناس-: فلا يحل له قذفها؛ لأنه قد يذكره غير ثقة، فينتشر، وقد يدخل بيتها خوفاً من قاصد، أو لسرقة، أو لطلب فجور، فتأبى المرأة؛ فهو كما لو نظر رجل في صير بابه لا يباح له قذف زوجته به؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ} [النور: 11] الآية. أما إذا كان ثم ولد يريد نفيه- نظر: إن تيقن له أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج، أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء، أو لأكثر من أربع سنين-: يجب عليه نفيه باللعان؛ لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير؛ كما هو ممنوع من نفي نسبه. وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَيُّمَا امْرَأةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ: فَلَيْسَتْ مِنَ الله فِي شَيءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا الله جَنَّتَهُ"؛ فلما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم-: كان الرجل كذلك. ثم إن كان شاهدها على الزنا-: عليه أن يقذف ويلاعن، وإن لم يشاهدها-: فلا يقذفها؛ لاحتمال أنها أتت به من وطء شبهة، أو من زوج قبله، فإن احتمل أن يكون منه: بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء، ولدون أربع سنين- نظر: إن لم يكن قد استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء-: لا يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه-: احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين". وإن استبرأها، وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء-: يباح له القذف والنفي، والأولى ألا يفعل؛ لأنها قد ترى الدم على الحبل، وإن كان الزوج يطؤها ويعزل، فأتت بولد-: لم يجز نفيه؛ لأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فيعلق منه. وإن كان يجامعها فيما دون الفرج-: ففيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز النفي؛ لأنه قد يسبق الماء إلى الفرج فيعلق منه. والثاني: له نفيه؛ لأن لحوق الولد من أحكام الوطء، فلا يتعلق بما دونه؛ كسائر الأحكام. وإن كان يطؤها في الدبر-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز أن ينفيه؛ لأن الماء قد يسبق إلى الفرج. والثاني: له نفيه؛ لأنه ليس موضع الولد. وإن أتت بولد لا يشبهه: فإن كانا أبيضين، فأتت به أسود، ونحو ذلك- نظر: إن لم يكن يتهمها بزنا-: فليس له نفيه؛ لما روي عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَماً أَسْوَدَ. فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرُ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنَ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ إِني تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَزْعَةُ عِرْقِ، قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا نَزْعَةُ عِرْقٍ. وإن كان يتهمها بالزنا أو يتهمها برجل، فأتت بولد يشبهه- هل يباح له نفيه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن العرق ينزع. والثاني: له ذلك؛ لأن التهمة قد تأكدت بالشبهة. فَصْلُ إذا قذف صبياً أو مجنوناً- لا حد عليه، بل عليه التعزير، وليس لوليهما طلب التعزير، حتى يفيق المجنون، ويبلغ الصبي [فيطلب]، وكذلك-: إذا قذف عبداً-: عليه التعزير، وطلبه إلى العبد دون المولى، فيسقط بعفو العبد؛ لأن المولى لا يملك عرض المملوك حتى لو قذف المولى عبده-: له أن يرفعه إلى السلطان ليعزره. وكذلك: إذا قذف زوجته الصبية التي توطأ مثلها، أو المجنونة- عليه التعزير، وليس له أن يلاعن حتى تبلغ ويفيق؛ فيطلب التعزير. وفي زوجته الأمة، حتى تطلب التعزير بنفسها؛ إلا أن يكون للمجنونة، أو للأمة ولد يريد نفيه-: فله أن يلاعن من غير طلبها، ويسقط حقها. ولو قال لصبية لا توطأ مثلها: زنيت، أو قال لممسوح: زنيت، أو قال لبالغ: زنيت،

وأنت في المهد أو قال لزوجته-: فلا يجب به الحد، ولا يثبت في الزوجة اللعان؛ لأنه ليس فيه لطخ الفراش، ويعزر للأذى؛ كما لو آذاها بغير القذف. وكذلك: لو قال لزوجته: زنا بك صبي لا يجامع مثله، أو زنا بك ممسوح، أو قال للرتقاء أو القرناء: زنيت-: فلا حد ولا لعان، وعزر للأذى. ولو قال لزوجته الكبيرة: زنيت، وأنت صغيرة، ولم يصف إلى حالة لا تحتمل-: يجب عليه التعزير إلا أن يلاعن. ولو قال: زنيت وأنت أمة أو مشركة أو مجنونة: إن عرف بها رق أو شرك أو جنون سابق، أو قامت عليه بينة-: عزر إلا أن يلاعن، وإن لم يعرف ذلك منها-: فعليه الحد، وله إسقاطه باللعان. وقال أبو حنيفة: إذا قال زنيت، وأنت أمة أو مشركة-: عليه الحد، لأنه أضافه إلى حالة التكليف. ولو قال: وطئك رجل غصباً، وأنت مكرهة، أو زنا بك فلان، وأنت غير زانية، بل كنت مكرهة أو جاهلة-: فلا حد عليه، وهل عليه التعزير؟ فيه وجهان: أصحهما: يجب؛ لأن فيه عاراً عليها؛ كما لو قذف مجنونة. والثاني: لا يجب عليه؛ لأنه لا عار ولا إثم عليها في الشريعة. ثم إن كان ثم ولد-: له أن يلاعن لنفيه. وإن لم يكن: فإن قلنا: يجب عليه التعزير-: فله أن يلاعن لإسقاطه، وألا فلا لعان. وإن عين الفاعل-: يجب عليه الحد لقذفه، وله إسقاطه باللعان؛ بخلاف ما لو قذف امرأته وأجنبية بكلمة واحدة-: لم يكن له إسقاط حد الأجنبية باللعان؛ لأن فعل الأجنبية ينفك عن فعل زوجته. وههنا فعل المرأة لا ينفك عن فعل الزاني. ولو قال لها وطئت بالشبهة: قال الشيخ: يحتمل أن يكون في وجوب التعزير وجهان؛ كما في الإكراه، وينبني عليه اللعان، إن لم يكن ثم ولد، وإن كان ثم ولد- نظر: إن لم يعين الواطئ، أو عينه ولم ينفك ذلك الرجل، فالولد للزوج؛ إلا أن ينفيه باللعان، وإن صدقه الرجل، وادعاه-: يرى القائف مع من عينه، فإن ألحقه به-: فهو ولده؛ وألا فيلحق بالزوج، ولم يكن له نفيه باللعان؛ لأنه كان له طريق إلى نفيه، وهو العرض على القائف؛ كما لا ينفي ولد أم الولد باللعان؛ لأنه يتوصل إلى نفيه بطريق آخر، وهو دعوى الاستبراء.

وإن لم يكن قائف-: يترك حتى يبلغ الصبي، فينتسب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى الواطئ بالشبهة-: انتفى عن الزوج باللعان، وإن انتسب إلى الزوج-: فله نفيه باللعان؛ لأن نفيه بغير اللعان لا يمكنه. ولو قال لها زنيت بفلان وفلان غير زان؛ بأن كان جاهلاً ظنها زوجته-: فهو قاذف لها؛ علليه الحد إلا أن يلاعن لإسقاطه، والولد منسوب إلى وطء الشبهة؛ كما بينا؛ فيرى القائف. ولو قال أصابك رجل في دبرك-: فهو قذف، سواء قاله لرجل أو امرأة، وعليه حد القذف، وله إسقاطه باللعان، إذا قاله لزوجته. وعند أبي حنيفة: لا يكون ذلك قذفاً موجباً للحد؛ لأن اللواط عنده ليس بزنا يوجب الحد. فإن قيل: كيف أثبتم اللعان، ولم يوجد لطخ الفراش قلنا: ليس كذلك، بل يسبق الماء إلى الرحم، فيوجد لطخ الفراش، وكذلك: أوجبنا به العدة، والله أعلم. ولو قال لامرأته: أصابتك امرأة، وزنيت بفلانة [أو زنا بك فلانة] ينسبها إلى الساحق-: فلا حد ولا لعان؛ لأنه فعل لا يوجب الحد، ويعزر للأذى. ولو قال: علوت على رجل حتى دخل ذكره في فرجك-: يلزمه الحد، وله أن يلاعن لإسقاطه، والله أعلم. فَصْلُ حد القذف يورث، فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، وقبل العفو-: يثبت لوارثه حد القذف. وكذلك: لو كان الواجب بقذفه التعزير-: يورث عنه، وكذلك: لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف: يثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة: حد القذف لا يورث، ويسقط بالموت. وأصل هذا: أن حد القذف عندنا حق الآدمي، ويسقط بعفوه كالقصاص، وعنده [حد

القذف] حق الله تعالى، ولا يسقط بالعفو؛ والدليل على أنه حق الآدمي أنه لا يستوفي إلا بطلبه، ويحلف المدعى عليه إذا أنكر. إذا ثبت أنه يورث-: فمن الذي يرثه؟ فيه أوجه: أصحها: جميع الورثة؛ كالمال. والثاني: يرثه كلهم إلا الزوج والزوجة؛ لأن الزوجية ترتفع بالموت. والثالث: يرثه رجال العصبة من أهل النسب؛ لأنه لدفع العار عن النسب. ولو أنشأ القذف بعد الموت-: فهل يثبت الحد للزوج والزوجة؟ يرتب على ما لو قذف في الحياة: إن قلنا ثم: لا يثبت-: فههنا أولى؛ وألا فوجهان، والفرق: أن ثم كان وجوب الحد في حال بقاء الزوجية، وههنا كان بعد ارتفاعها. ولو لم يكن للمقذوف وارث-: فهل للسلطان إقامة الحد؟ فيه قولان؛ كالقصاص. ولو قذف أمة، فماتت قبل أن يثبت-: للسيد طلب التعزير؛ لأنه حق يثبت للمملوك؛ فيثبت لسيده بعده. وقيل: لا يثبت للسيد؛ لأنه لا يملك عرض مملوكه، وهل يثبت للسلطان؟ فيه قولان؛ كحد الحرة؛ فحيث أثبتنا طلب الحد أو التعزير للوارث، وكان القاذف هو الزوج-: له أن يلاعن بعد طلب الوارث، فإن لم يطلب-: فلا لعان له، إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه-: فله أن يلاعن، وإذا لاعن-: سقط عنه الحد أو التعزير. ولو أنشأ قذف زوجته بعد موتها-: فهو كما لو أنشأ بعد البينونة؛ فعليه الحد، ولا لعان له، إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه؛ فيلاعن لنفسه، ويسقط عنه الحد إذا لاعن. ولو قذف رجل مورثه، فمات المقذوف-: سقط عنه الحد؛ لأنه ورث الحد الذي وجب عليه؛ بخلاف ما لو قطع يد مورثه، فمات منه: لم يسقط عنه القصاص؛ لأن القتل يمنع الميراث، حتى لو قذف مورثه بعد موته-: لا حد عليه. فإذا ثبت حد القذف لجماعة من الورثة، فعفا بعض الورثة-: يثبت للباقين استيفاء كله؛ هذا هو المذهب؛ لأنه حق يثبت لكل واحد على الكمال؛ كولاية التزويج. وقيل: يسقط كله؛ كالقصاص. وقيل: يسقط نصيب المعافى؛ لأنه يقبل التبعيض، بخلاف القصاص، [حتى أن

السقوط الذي يقع فيه التشريك-: يسقط]، ولو قذف رجل أباه، فمات الأب عن ابنين؛ أحدهما القاذف: إن قلنا: بعفو بعض الورثة لا يسقط شيء من الحد، وللابن الآخر استيفاء الحد من القاذف على الكمال، فإن قلنا: يسقط بعضه-: فيستوفي نصف الحد أربعين جلدة. وإن قلنا: بعفو البعض يسقط كله-: فيسقط ههنا كله. فَصْلُ إذا امتنع الزوج عن اللعان بعد القذف-: يقام عليه حد القذف، إن كانت المرأة محصنة، [ويعزر إن لم تكن محصنة]، حتى لو أتى بأربع كلمات ونصف من اللعان، فامتنع من إكمالها-: يقام عليه كمال الحد. وإن كمل الزوج اللعان-: سقط عنه حد القذف، ووجب على المرأة حد الزنا، فإن لاعنت-: سقط عنها الحد؛ لقول الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]. وأراد بالعذاب الحد؛ كما قال في أول السورة: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وأراد به الحد. وإن امتنعت المرأة من اللعان: يقام عليها حد الزنا، إن كانت محصنة فالرجم، ون لم تكن محصنة فجلد مائة وتغريب عام، وإن كانت أمة-: فجلد خمسين، وفي التغريب قولان. وإن كانت المرأة مجنونة-: فلا شيء عليها بلعانه، وإن كانت ذمية: إن قلنا: يجب على حاكمنا أن تحكم بين الذميين-: فإن لم تلاعن-: أقام عليها حد الزنا، رضيت أم سخطت. فإن قلنا: لا يجب أن يحكم بينهم-: فلا يحدها، إلا أن تثبت على الرضا. ولا فرق بين أن يكون الزوج مسلماً أو ذمياً، وإن كانت الخصومة [لو وقعت] بين مسلم وذمي-: يجب على حاكمنا الحكم بينهما قولاً واحداً؛ لأن الزوج باللعان خرج عن الخصومة، وانقطعت الزوجية بينهما، فبقي إمضاء الحكم على المرأة على الخصوص. إنما يختلف القول في جانب الزوج، إن كان مسلماً والمرأة ذمية، فإن لاعن الزوج؛

وإلا عزره الحاكم بطلبها حداً، وإن كان ذمياً-: فعلى القولين. وعند أبي حنيفة: إذا امتنع الزوج عن اللعان-: حبس حتى يلاعن، وإذا امتنعت المرأة بعد لعانها-: حبست حتى تلاعن. قلنا: اللعان حجة لهما على صدقهما، ومن قعد عن إقامة الحجة على صدقه-: لا يحبس، بل يجري عليه الحكم. ولو أتى الزوج اللعان، ثم في خلال الحد بدا له أن يلاعن-: له ذلك؛ كما لو بدا له أن يقيم البينة، ويسقط عنه ما بقي من الحد، ولو بقي سوط واحد. فأما بعد إقامة الحد-: فلا معنى للعانه؛ لأن كذبه قد ظهر؛ كما لا يقبل بينته. قال الشيخ: قال شيخي- رحمه الله- إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه-: فله اللعان، وكذلك المرأة إذا امتنعت عن اللعان، فضربت بعض الحد، ثم قالت: أنا ألاعن-: فلها ذلك، ويسقط عنها بقية الحد، والله أعلم. فَصْلُ إذا ثبت الزنا [على إنسان] بإقراره أو بالبينة، سواء حد فيه أو لم يحد: فإذا قذفه قاذف-: لا يجب على قاذفه إلا التعزير، سواء قذفه بتلك الزنية أو بزنية أخرى؛ لأن حصانته قد بطلت الزنا. وإن ثبتت على امرأة، فقذفها زوجها-: فهل له أن يلاعن؛ ليسقط التعزير عن نفسه نقل المزني- رحمه الله- أنه لا يلاعن. ونقل الربيع: أنه يلاعن. اختلف أصحابنا فيه؛ منهم من جعله على قولين: أحدهما: يلاعن؛ لأنه عقوبة لزمته بقذف في النكاح؛ فله درؤها باللعان؛ كالحد. والثاني: لا يلاعن؛ لأن اللعان لإثبات صدقه، وقد ثبت صدقه بإقراره أو بالبينة، ووجوب التعزير ههنا ليس بالقذف، بل بسبب الأذى والسب فلا يلاعن لأجله؛ كما لو آذاها بسبب آخر. وقال أبو إسحاق: [ليس له] أن يلاعن قولاً واحداً؛ كما نقل المزني؛ للمعنى الذي ذكرنا، وما ذكره الربيع فمن كيسه.

وقيل: هو على اختلاف الحالين، حيث قال: لا يلاعن-: أراد به: إذا أضاف الزنا إلى ما قبل النكاح، وحيث قال يلاعن؛ إذا لم يضف. أما إذا كان هناك ولد يريد نفيه-: فله أن يلاعن للمعنى الذي ذكرنا. أما إذا قذف رجل زوجته، وتلاعنا، ثم قذفها قاذف- نظر: إن قذفها أجنبي-: يجب عليه الحد، سواء قذفها بتلك الزنية أو بزنية أخرى؛ لأن اللعان حجة على زناها في حق الزوج خاصة؛ فلا تبطل بها حصانتها في حق غيره. فإن قذفها الزوج الملاعن [مرة أخرى- نظر: إن قذفها] بتلك الزنية أو أطلق-: فليس عليه إلا التعزير، وإن قذفها بزنية أخرى-: ففيه قولان: أصحهما: عليه التعزير؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، والبينة تسقط حصانتها كذلك، إذا لاعن-: سقطت حصانتها في حقه. والثاني: عليه الحد؛ لأن اللعان حجة خاصة في تلك الزنية؛ كما هو خاص في حق الزوج، سواء إن قلنا: يجب الحد أو التعزير-: فليس له إسقاطه باللعان؛ لأن النكاح قد الزوج-: فعليه التعزير، سواء قذفها بتلك الزنية أو بزنية أخرى أو أطلق. وإن قذفها أجنبي- نظر: إن قذفها بزنية أخرى-: عليه الحد، وإن قذفها بتلك الزنا- فيه وجهان: قال ابن سريج: [لا يحد]، بل يعزر؛ لأنه قذفها بزنا حدت فيه؛ كما لو حدت بالبينة. والثاني: قاله أبو إسحاق-: وهو الأصح-: عليه الحد؛ لأن سقوط الحصانة باللعان: يكون في حق الزوج على الخصوص؛ كما لو تلاعنا. أما إذا امتنع الزوج عن اللعان، فحد لها، ثم قذفها ثانياً: [فإن قذفها] بتلك الزنية-: عليه التعزير ولا يحد؛ لأنه ظهر كذبه بالحد الأول. وإن قذفها بزنية أخرى-: هل يحد؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو قول عامة الفقهاء-: يعزر، ثم سواء إن قلنا: يحد أو يعزر، فهل له أن يلاعن لإسقاطه فيه قولان: أصحهما: لا؛ لأنه ظهر كذبه بالحد الأول.

فَصْلُ ولو قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح: فهل له أن يلاعن؟ نظر: إن لم يكن ثم ولد يريد نفيه-: فلا لعان له، وعليه الحد؛ لأنه زنا يلطخ به فراشه. وقال أبو حنيفة: له اللعان؛ اعتباراً بحالة إنشاء القذف. وإن كان ثم ولد-: هل له أن يلاعن؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول ابن أبي هريرة-: له ذلك؛ لأنه سبب يلحقه بحكم النكاح؛ كما لو قذفها مطلقاً-: فعلى هذا: إذا لاعن- سقط عنه الحد. والثاني-[وهو الأصح]، وهو قول أبي إسحاق-: ليس له أن يلاعن ويحد؛ لأنه كان يمكنه أن يقذفها مطلقاً، ولا ينسبه إلى ما قبل النكاح، فعلى هذا له أن ينشئ قذفاً، ويلاعن لنفي النسب: فإن قلنا: له أن يلاعن: هل يجب عليها حد الزنا فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو قذفها مطلقاً، ثم لها إسقاطه باللعان. والثاني: لا حد عليها؛ لأنها لم تلطخ فراشه، ولعان الزوج لضرورة نفي الولد، فعلى هذا: هل لها معارضته باللعان؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن لعانها لإسقاط الحد عن نفسها، ولا حد عليها ههنا. ولو قذف زوجته، ثم طلقها رجعياً، أو قذفها في عدة الرجعة-: فله أن يلاعن؛ كما في صلب النكاح. وكذلك: لو قذفها، ثم أبانها-: فله أن يلاعن لنفي الولد، وإن لم يكن ولد-: فلإسقاط الحد إن طلبت المرأة، وإن لم تطلب فلا، فإذا لاعن وجب عليها الحد، ولها إسقاطه باللعان، وهل تتأبد الفرقة باللعان بعد البينونة؟ فيه وجهان: أصحهما: تتأبد؛ كما لو لاعن في صلب النكاح. والثاني: لا تتأبد؛ لأن هذا اللعان لا يتعلق به أصل الفرقة؛ فلا تتعلق به صفتها. [أما إذا أنشأ القذف بعد البينونة-: فهل له أن يلاعن؟ نظر: إن كان ثم ولد يلحقه يريد نفيه-: له أن يلاعن إلى أربع سنين]، وإن لم يكن ولد-: فلا لعان، وعليه الحد، سواء نسب الزنا إلى حالة النكاح، أو لم ينسب. ثم إذا لاعن لنفي النسب-: سقط عنه الحد، وهل يجب عليها حد الزنا؟

نظر: إن نسب الزنا إلى حالة النكاح-: يجب، ولها إسقاطه باللعان، وإن لم ينسبه-: فلا يجب، وهل لها معارضته باللعان؟ [فيه وجهان]: أصحهما: لا يلاعن، [وهل تتأبد الفرقة؟ فيه وجهان: أصحهما: تتأبد] وكل موضع لم نجوز اللعان إلا لنفي الولد ههنا، وفيما لو قامت بينة على زناها أو صدقته-: سقط اللعان، إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه. وإن كان ثم حمل يريد نفيه-: فهل له أن يلاعن؟ فيه قولان؛ بناءً على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ إن قلنا: يعرف- وهو الأصح- فله أن يلاعن؛ وألا فلا، بخلاف صلب النكاح: يجوز أن يلاعن فيه؛ لنفي الحمل؛ لأنه يتعلق به- سوى نفى الولد- أحكام في صلب النكاح؛ بدليل أنه يجوز اللعان عند عدم الولد، وبعد البينونة: لا يتعلق به سوى نفي الولد؛ فيشترط حقيقته. وكل موضع جوزنا اللعان لنفي الحمل-: فله تأخير اللعان إلى حروجه؛ لأنه قد يتبين ريحاً بنفس، فإذا لاعن، ثم بان ريحاً: فإن كان اللعان في صلب النكاح-: لا حد عليه، وإن كان بعد البينونة [بان أن اللعان لم يكن صحيحاً]، وعليه الحد. وقال أبو حنيفة لا يجوز اللعان على الحمل؛ فإن فعل-: تعلق به أحكامه، غير أن الولد يلحقه لحوقاً لا يمكنه نفيه. ولو وطئ امرأة بشبهة أو بنكاح فاسد، ثم قذفها، وأراد اللعان- نظر: إن كان ثم ولد يلحقه يريد نفيه-: فله أن يلاعن لنفيه، وإن كان حمل-: فعلى القولين، وإن لم يكن ولد-: فلا لعان له، ويحد حتى لو كان جاهلاً بفساد النكاح، فلاعن عند عدم الولد، ثم ظهر فساده-: بان أن اللعان لم يكن صحيحاً، ولم يسقط عنه الحد، ولم تتأبد الفرقة. وإذا لاعن لنفي الولد-: سقط عنه الحد، ولا يجب عليها حد الزنا، وهل لها معارضته باللعان؟ فعلى الوجهين [هل تتأبد الفرقة فيه وجهان]: الأصح: تتأبد. وعند أبي حنيفة: القذف في النكاح الفاسد لا يثبت اللعان؛ كما في الزنا. قلنا: في الزنا لا يلحقه النسب، وههنا يلحقه، فنقول: نسب يلحقه لا بملك اليمين؛

فله نفيه باللعان؛ كما في النكاح الصحيح، ويخرج عليه لو وطئ امرأة على ظن أنه يطأ أمته فولدت-: له اللعان؛ لأنه يلحقه لا بملك اليمين، والله أعلم. فَصْلُ إذا ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها فأنكر، فأقامت شاهدين على أنه قذفها: قال الشافعي- رضي الله عنه-: له أن يلاعن. قال أصحابنا: فيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يسكت الزوج عن جوابها، فأقامت شاهدين على أنه قذفها؛ فله أن يلاعن. الثانية: أن يقول الزوج في جوابها: ما قذفتك، ولا زنيت، فأقامت شاهدين؛ يجب عليه الحد، ولا لعان له، لأنه نفي زناها، فكيف يقول في اللعان: إني لمن الصادقين فيما رميتها، وكذلك لو [قذفها، ثم] قال: كذبت ما زنيت-: حد، ولا لعان. الثالثة: أن يقول: ما قذفتك، ولم يزد عليه، فأقامت شاهدين-: سئل عن قوله: ما قذفت: فإن قال: عنيت به أن القذف ما يكون باطلاً، وما قلت لها: إنها زنت-: كان صادقاً؛ فله أن يلاعن. وكذلك لو قال: أنكرت القذف، ولكن أنشئه الآن، فقذفها، فله أن يلاعن، ولا حد عليه بعد اللعان. ولو لم ينشئ قذفاً ولا أول قوله: ما قذفتك بشيء، فهل له أن يلاعن؟ فيه وجهان أحدهما: له أن يلاعن؛ لأنه لم ينكر زناها، إنما أنكر القذف، فمعناه: أن القذف ما يكون باطلاً وكذباً، وما قلته صدق، أو أنه- وإن أنكر القذف- فالبينة ردت إنكاره، فإقباله على اللعان كأنه يقول: مع أني لم أقذفها فهي زانية؛ فيصير كما لو أنشأ قذفاً آخر. والوجه الثاني: لا لعان له مع إنكاره القذف، والنص محمول على ما إذا أول كلامه بما قلناه. فَصْلُ فِي تَعَدُّدِ القَذْفِ إذا تعدد القذف من واحد- فلا يخلو: إما أن قذف شخصاً واحداً مراراً، أو قذف جماعة:

فإن قذف واحد مراراً- نظر: إن أراد بالكل زنية واحدة بأن قال: زنيت بعمرة؛ [قاله مراراً]، أو قال لامرأة زنيت بزيد، أعاده مراراً-: فلا يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد الأول-: يعذر للثاني، وإن قذفها بزنيات مختلفات بأن قال: زنيت بزيد، ثم قال: زنيت بعمرو- فهل تعدد الحدود أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: تتعدد اعتباراً باللفظ، ولأنه من حقوق العباد؛ فلا يقع فيه التداخل كالديون؛ وعليه نص من بعد. والثاني- وهو الأصح-: تتداخل؛ فلا يجب إلا حد واحد؛ لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد؛ كحدود الزنا: تتداخل. فإن قلنا: لا يجب إلا حد واحد، فلو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول-: ففيه وجهان: أحدهما: يعزر للثاني؛ كما لو كان بزنية واحدة. والثاني: يحد ثانياً، كما لو شرب الخمر فحد، ثم شرب ثانياً: يحد ثانياً. ولو قذف زوجته مراراً-: يكتفي بلعان واحد، سواء قلنا: تتعدد الحدود أو لا تتعدد، وقد ذكر أنه لو قذفها بجماعة، قال: سماهم في اللعان، وسقط حدودهم، وهذا أصح. وقيل: إن قلنا: تتعدد الحدود-: يتعدد اللعان. وإن قلنا: لا تتعدد الحدود-: يكتفي بلعان واحد. ولو قذفها فلاعن، ثم قذفها ثانياً-: فقد ذكرنا حكمه من قبل. ولو قذفها مرتين: أحدهما يثبت اللعان دون الآخر، بأن قذفها قبل النكاح، ثم قذفها بعد النكاح: فإن قلنا: يتعدد الحد-: فله إسقاط الثاني باللعان، وحد للأول. وإن قلنا: لا يتعدد، فإن لم يلاعن-: حد لهما حداً واحداً، وإن يلاعن عن الثاني-: حد للأول، وإذا حد الأول قبل اللعان-: سقط الثاني، ولا لعان له إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه: فله أن يلاعن. وكذلك: لو قذف زوجته، فأبانها قبل اللعان، ثم قذفها ثانياً بعد البينونة، لأن الأول ثبت باللعان دون الثاني. أما إذا قذف جماعة معدودين- نظر: إن قذف كل واحد بكلمة-: يجب عليه لكل واحد حد كامل.

وعند أبي حنيفة: لا يجب إلا حد واحد، [بناء على أن حد القذف عنده حق الله تعالى؛ فيتداخل؛ كما لو زنا مراراً: لا يجب إلا حد واحد]. ولو قذف أربع نسوة بكلمات-: عليه أربعة حدود، [فإذا أراد اللعان]-: عليه أن يلاعن عن كل واحدة على الانفراد، وليس له أن يجمع بينهن بلعان واحد، ويبدأ بلعان من بدأ بقذفها؛ لأن حقها أسبق. وإن قذفهم بكلمة واحدة، فقال لهن: يا زناة، أنتن زناة، أو زنتين-: ففيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد-: يجب لكل واحد حد كامل؛ لأنه من حقوق العباد؛ [فلا تتداخل]، ولأنه أدخل على كل واحدة معرة؛ فصار كما لو قذفهم بكلمات. وفي القديم: لا يجب للكل إلا حد واحد اعتبار باللفظ؛ فإن اللفظ واحد حتى لو حضر واحد، وطلب الحد، فحد-: له يسقط حق الباقين. والأول أصح حتى لو قال لرجل يابن الزانيين-: يكون قاذفاً لأبويه [بكلمة واحدة]-: فعليه حدان. ولو قذف أربع نسوة بكلمة واحدة، فقال: أنتن زناة، إن قلنا: يتعدد الحد-: يتعدد اللعان، وإن قلنا: لا يتعدد الحد-: فهل له الجمع بينهن في لعان واحد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يلاعن كل واحدة على الانفراد؛ لأنها أيمان توجهت عليه لجماعة؛ كما لو ادعى عليه جماعة كل واحد حقاً، فأنكر-: حلف في حق كل واحد يميناً. والثاني: له الجمع بينهن، لأنها يمين له لا عليه؛ كما لو ادعى على جماعة مالاً وأقام شاهداً-: حلف معه يميناً واحدة عليهم. وكذلك لو نكلوا: حلف عليهم يميناً واحدة، فإن منعنا الجمع، فتشاححن-: أقرع بينهن، فمن خرجت قرعتها-: بدأ بلعانها. ولو بدأ بواحدة من غير قرعة. قال الشافعي- رضي الله عنه-: رجوت ألا يأثم. وإن جوزنا الجمع، فلاعن عنهن-: وجب عليهن جميعاً حد الزنا، ثم من لاعنت-: سقط عنها الحد، ومن أبت-: حدت حد الزنا. ولو قذف امرأته وأجنبية بكلمتين-: عليه حدان، فإن لاعن عن زوجته-: سقط حدها، ويحد للأجنبية، حتى لو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية-: فهو قاذف لها ولأمها،

فإن لاعن عن زوجته: حد لأمها، وإن امتنع عن اللعان-: يحد حدين، فمن حضرت منهما وطلبت حدها-: حد لها، وإن حضرتا معاً-: بأيهما يبدأ؟ فيه أوجه: أصحهما: يحد للأم؛ لأن حقها أعظم، ولأن حق البنت يعرض للسقوط، فربما يبدو له أن يلاعن. والثاني: يبدأ بحد البنت؛ لأنه قدمها في اللفظ. والثالث: يقرع بينهما. وعند أبي حنيفة يحد للأم، ويسقط اللعان. ولو قذف زوجته وأجنبية بكلمة واحدة: فإن قلنا بظاهر المذهب: إنه تتعدد الحدود-: فيلاعن عن الزوجة، ويحد للأجنبية. وإن قلنا: لا يتعدد الحد: فإن لاعن عن الزوجة-: يحد للأجنبية، وإن لم يلاعن-: حد لهما حداً واحداً، حتى لو طلبت الأجنبية حدها، فحد لها-: سقط الحد واللعان في حق الزوجة، إلا أن يكون ثم ولد فله أن يلاعن لنفيه. ولو عفت أحداهما للأخرى-: طلبت حدها على القولين جميعاً. ولو قال لامرأته وأمها: أنتما زانيتان، ولم يلاعن عن زوجته، وقلنا: يتعدد الحد-: فبأيهما يبدأ؟ فيه وجهان: أظهرهما: يحد للأم. والثاني: يقرع بينهما، فحيث أوجبنا عليه حدين. إما الواحد أو الاثنين: فإذا أقيم أحد الحدين-: لا يقام الثاني، حتى يبرأ جلده عن الأول. وإن كان القاذف عبداً: هل يوالى عليه بين الحدين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنهما حدان، فلا يقام الثاني ما لم يبرأ جلده عن الأول. والثاني: يجوز؛ لأنه ليس فيه إلا موالاة ثمانين جلدة، وذلك لا يمتنع؛ كالحر إذا قذف واحداً؛ يوالي عليه ثمانين جلدة، والله أعلم. بَابُ أَيْنَ يَكُونُ اللِّعَانُ، وَكَيْفِيَّتِهِ؟ رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ عُوَيْمِراً العَجْلاَنِي قَالَ: يَا رَسُولَ الله [أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَقْتُلُهُ فَيَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أَنْزَلَ الله] فِيكَ وَفِي

صَاحِبَتكَ قُرْآناً، فَاذْهَبْ فَاتِ بِهَا، قَالَ سَهْلُ: فَتَلاَعَنَّا فِي المَسْجِدِ، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. اللعان لا يصح إلا عند السلطان، أو الحاكم، أو عدول يعينهم الحاكم، لأنه يمين في دعوى كاليمين في سائر الدعاوى، ويؤكد اللعان بأربعة أشياء: باللفظ، والزمان، والمكان والجمع. أما باللفظ: فخمس كلمات من كل جانب، فلإتيان بها واجب؛ لا يجوز الإخلال بها. وأما المكان: ففي أشرف الأماكن في البلدان كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان في المدينة: فعند المنبر، وهل يصعد المنبر؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: يصعد؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر. والثاني: لا يصعد المنبر؛ والخبر محمول على أنه كان عند المنبر، أو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- على المنبر. والثالث: إن كان في القوم كثرة، فعلى المنبر؛ ليراه الناس، فإن لم يكن: فعند المنبر. وإن كان ببيت المقدس: فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في المسجد الجامع عند المنبر، وهل يصعد المنبر؟ فعلى الأوجه الثلاثة. وأما الزمان: فبعد العصر؛ قيل في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 1.6] أي: بعد صلاة العصر، ويستحب يوم الجمعة بعد العصر. وأما الجمع: فيلاعن بمحضر جماعة من الأعيان، وأقلهم أربعة؛ لأن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروا اللعان على حداثة سنهم؛ فدل أنه كان بمحضر جماعة من الرجال، حتى اجتمع معهم الأحداث والصبيان. ثم التغليظ بالجمع مستحب، فلو لاعن الحاكم بينهما وحده-: يحسب كما لو أقام الحد وحده. وأما التأكيد بالمكان والزمان-: فواجب أم مستحب؟ فيه قولان: وقيل: القولان في التغليظ بالمكان. أما التغليظ بالزمان: فمستحب كالجمع، وإن كانت المرأة حائضاً-: لاعنت على باب

المسجد، ويخرج إليها الحاكم. وإن كانت غير برزة-: بعث إليها الحاكم من يلاعن بها، ويستحب أن يبعث معه أربعة، ويلاعن بين الذميين، حيث يعظمونه من البيعة والكنيسة، ويجوز في المسجد إلا المسجد الحرام. وإن كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية: لاعن الزوج في المسجد، والمرأة حنث يعظمونه، والمجوس تلاعن في المسجد، أو في مجلس الحكم، ولا يلاعن بينهما في بيت النار؛ لأنه ليس له أصل في الشرع. وقيل: يلاعن في بيت النار؛ لأن المقصود ردعه، وهو أردع عنده. والوثني ومن دان دين الزنادقة. إذا دخلوا إلينا بأمان-: يلاعن الحاكم بينهم في مجلس الحكم، ويحلفون بالله، وإن كانوا لا يعتقدون حرمة اللفظ؛ لأن الشرع لم يأذن في التحليف إلا بالله، وقد يلحقهم شؤمه؛ فإن اليمين الغموس تذر الديار بلاقع. وإذا أراد الحاكم أن يلاعن بين الزوجين-: يبدأ بالرجل فيقيمه، والمرأة جالسة، فيلقنه كلمات اللعان، فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان من الزنا، فيقوله الزوج، ويسمى المرأة وأباها، إن كانت غائبة، وإن كانت حاضرة يشير إليها، فيقول: فيما رميت به هذه، ولا يحتاج إلى التسمية مع الإشارة؛ كما في الطلاق، ولو سماها مع الإشارة-: جاز، وإن كان قذفها برجل بعينه سمى المرمى به، فيقول فيما رميتها به من الزنا بفلان بن فلان. وإن قذفها برجلين فأكثر-: سماهم، وإن كان هناك ولد يريد نفيه-: يقول: وإن هذا الولد لمن الزنا، ما هو مني، وإن كان حمل-: يقول: هذا الحمل من الزنا، ما هو مني، فلو قال: هذا الولد ليس مني، ولم يقل: من الزنا-: لم ينتف؛ لأنه يحتمل أنه يريد ليس مني في الخلق والخلق، ولو قال: هذا الولد من الزنا، ولم يقل: ليس مني-: ينتفي عنه، لأن ولد الزنا لا يلحق به. وقيل: لا ينتفي حتى يقوله؛ لأنه قد يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا. والأول أصح؛ هكذا يقول أربع مرات بعد تلقين الحاكم، حتى لو أتى بكلمة منها من غير تلقين الحاكم-: لا يكون محسوباً، ويقول في الخامسة: قل: علي لعنة الله، إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة بنت فلان، ويذكر المرمي به ونفي الولد، فيقوله الزوج، وبعد فراغه من الكلمات الأربعة قبل كلمة اللعن-: يوقفه الحاكم ويعظه، ويقول: اتق الله؛ فإني أخشى أن تبوء بلعنة الله، إن كنت كاذباً ويقرأ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ

وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] الآية، فإن أبى إلا المضي فيه-: أمر رجلاً حتى يضع يده على فيه، ويقول له: اتق الله؛ فإن قولك: "علي لعنة الله" موجبة للعن والعذاب، إن كنت كاذباً، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإن أبى إلا المضي-: لقنه، وإن نسي نفي الولد أو الحمل في اللعان-: أعاد اللعان لنفيه. ولا يجب على المرأة إعادة اللعان، إن كانت قد لاعنت، وإن كان قد قذفها برجل بعينه-: هل يحد حداً أم حدين؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ كما لو قذفها وأجنبية. ومنهم من قال ههنا: لا يلزمه إلا حد واحد، بخلاف ما لو قذفها وأجنبية؛ لأن القذف هنا بزناءين وههنا [القذف] بزنا واحد. وكذلك لو قال لأجنبية: زنيت بفلان-: فيلزمه حد واحد أو حدان؟ فعلى طريقين؛ والأصح: أنه على قولين إلا أن ههنا. إذا سمى المرمي به في اللعان-: سقط حده؛ كما سقط حدها على القولين جميعاً؛ حتى لو قذفها بجماعة، فسماهم-: سقط حدودهم جميعاً. وإن لم يسم المرمي به في اللعان-: هل يسقط حده؟ فيه قولان: أحدهما-: وهو اختيار المزني يسقط؛ كما يسقط حدها؛ لأنه ظهر باللعان صدقه. والثاني: [لا يلاعن] ولا يسقط؛ لأنه لم يلاعن عنه، فعلى هذا: إذا أراد إسقاط حده-: أعاد اللعان، فحيث قلنا: يسقط حد المرمي به-: لا يجب عليه حد الزنا؛ بخلاف المرأة؛ لأن حدها يسقط باللعان؛ فوجب باللعان. وحد الأجنبي لو وجب-: لم يسقط باللعان. ولو أقرت المرأة بالزنا: سقط عن الزوج حدها، وحد المرمي به باق إلا أن يلاعن؛ فيسقط. فإذا لاعن لإسقاط حد الأجنبي-: هل تتأبد الفرقة؟ قيل: تتأبد، ويحتمل غيره. وعند أبي حنيفة: لا يسقط حد الأجنبي، وإن سماه في اللعان، بل يحد للأجنبي بعد اللعان، وإن حد للأجنبي قبل اللعان-: سقط اللعان؛ لأن المحدود في القذف عنده لا يلاعن.

ثم إذا فرغ الزوج من اللعان، وأرادت المرأة إسقاط حد الزنا عن نفسها باللعان-: أقامها الحاكم، ولقنها كلمات اللعان، فيقول: قولي: أشهد بالله إن زوجي فلان بن فلان، تسميه إن كان غائباً، وتشير إليه إن كان حاضراً، لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول المرأة هكذا يلقنها أربع مرات، ويقول في الخامسة قولي: علي غضب الله، إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، فتقول المرأة هكذا، وقبل كلمة الغضب-: يوقفها الحاكم ويعظها، ويقول: اتق الله أن تبوئي بغضب من الله إن لم تكوني صادقة، فإن أرادت المضي-: أمر امرأة حتى تضع يدها على فيها، وتقول: قولك "علي غضب الله" كلمة حق موجبة إن كنت كاذبة. ولا يجب على المرأة ذكر الولد في اللعان، وأنه منه؛ لأنه لا فائدة فيه؛ فإنه لا يلحق الزوج بلعانها. ولو أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان-: لا يتعلق به الحكم. وقال أبو حنيفة: أكثر كلمات اللعان تعمل عمل الكل، إذا حكم به الحاكم. ولو ترك كلمة الشهادة، فقال بدلها: أحلف بالله، أو أقسم، أو آلي، أو قال: بالله هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ كما في أداء الشهادة. والثاني: يجوز؛ لأنه كناية عن اليمين. وإذا صرح به-: يضر، وكذلك: لو أبدل لفظ اللعن بالإبعاد، أو المرأة لفظ الغضب [بالسخط فعلى وجهين. ولو أبدل الرجل كلمة اللعن بالغضب، أو المرأة كلمة الغضب] باللعن-: لم يحسب. وقيل: يجوز إبدال الغضب باللعن؛ لأن الغضب أبلغ من اللعن، ولهذا خصت به المرأة؛ لأن المعزة بزناها أكثر، وفعلها أقبح، والأول أصح والترتيب واجب. فلو قدم الرجل كلمة اللعن على بعض الكلمات الأربع، أو المرأة قدمت كلمة الغضب-: لم يحسب؛ على الأصح، حتى تأتي بكل كلمة في موضعها.

وقيل: يجوز. ولو فرق كلمات اللعان-: جاز، ولو بدأ بلعان المرأة-: لم يجز؛ لأن لعانها لإسقاط الحد، ولم يجب عليها الحد قبل لعانه. ويلاعن بالعربية إذا كان يحسنها، وهل يجوز العدول إلى غيرها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز بأي لسان كان؛ لأنه يمين كسائر الأيمان. والثاني: لا يجوز؛ لأن الشرع ورد به بالعربية؛ فلا يجوز بغيرها مع المقدرة؛ كأذكار الصلاة. وإن كان لا يحسن العربية-: يلاعن بلسانه، ثم إن كان القاضي يحسن لسانه لا يحتاج إلى مترجم؛ لكن المستحب أن يكون بحضرة أربعة ممن يحسن لسانه. وإن كان القاضي لا يحسن لسانه-: فلا بد من مترجمين، ويكتفي بمترجمتين في لعان المرأة؛ لأن لعانها لنفي الزنا. وفي لعان الزوج هل يتكفي بمترجمين، أم لا بد من أربعة؟ قيل: يكتفي بمترجمين؛ كما في جانب المرأة. وقيل: فيه قولان؛ بناءً على أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين؟ وفيه قولان. ووجه الشبه بينهما: أن اللعان من الزوج قول يثبت به الزنا على المرأة؛ كالإقرار بالزنا، وإن لم يكتف في إثبات الإقرار بشهادة رجلين-: لا يكتفي في إثبات اللعان بترجمة رجلين. فَصْلُ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ الله اقْضِ بَيْنَنَا بِكَتَابِ الله، وَقَالَ الآخَرُ- وَكَانَ أَفْقَهَهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولُ الله، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ الله وَأَذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: تَكَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافَتَدَيْتُ مِنْهُ بِمَائَةِ شَاةٍ، وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي إِنَّما عَلَى ابْنِي جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدُّ إِلَيْكَ"، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَاماً، وَأَمَرَ أَنِيساً الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأتِيَ امْرَأَةَ

الآخَرِ: "فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. إذا قذف رجل آخر بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل بعينه، والرجل غائب- فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف، ويخبره بأن فلاناً قذفك وثبت لك حد القذف عليه؛ كما لو ثبت له مال على آخر، وهو لا يعلمه-: يلزمه إعلامه. وعلى هذا المعنى: كان بعث النبي- صلى الله عليه وسلم-: أنيساً؛ ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها. وقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: وليس للإمام إذا رمي رجل بالزنا: أن يبعث إليه، فيسأله عن ذلك؛ لأن الله تعالى قال {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] أراد به إذا لم يكن القاذف معيناً؛ مثل: أن قال رجل بين يدي الحاكم: الناس يقولون: إن فلانا زنى-: فلا يبعث الحاكم إليه، ويسأله، وكذلك: إذا سمع رجلاً يقول: زنى رجل من غير تعيين، أو في هذه السكة زان-: لا يتفحص عنه؛ لقوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 1.1]. وكذلك: لو سمع رجلاً يقول: سمعت رجلاً يقول: فلان زان-: لا يحد به؛ لأنه حاك، ولا يسأله عن القاذف. أو أراد: أنه إذا قذف زوجته برجل بعينه، فطالبته المرأة بالحد، أعني طلبها عن طلب المرمي به؛ لأنه إذا لاعن سقط حد المرمي به؛ فلا فائدة في البعث إليه، وإخباره بعد سقوط حقه، والله أعلم. فَصْلُ روي عن ابن عمر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب؛ لا سبيل لك عليها". إذا لاعن الرجل عن امرأته-: حرمت عليه على التأبيد، إن كان قبل الدخول-: يجب لها نصف المهر، وإن كان بعد الدخول-: فلها كمال المهر المسمى، وعليها العدة، ولها السكنى، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً؛ كالمطلقة ثلاثاً، وإن نفى الحمل باللعان-: فلا نفقة لها، وهل تنقضي عدتها بوضع الحمل المنفي عنه؟ وجهان:

أحدهما: لا تنقضي؛ كما لا تنقضي بوضع حمل الزنا. والثاني: تنقضي؛ لأنه انتفى عنه ظاهراً، ولو استلحقه: يلحقه؛ بخلاف حمل الزنا، وهل لها السكنى؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنها معتدة عن فرقة في الحياة. والثاني: لا؛ لأنها لم تحصن بمائة. قال الشيخ- رحمه الله-: إن قلنا: تنقضي بوضعه عدتها-: يجب؛ وألا فلا. وإن قلنا: لا تنقضي به العدة، عليها أن تعتد بالأقراء بعد وضع الحمل، إذا كانت لا ترى الدم على الحمل، أو كانت تراه، وقلنا: لا يكون ذلك حيضاً، وإن جعلناه حيضاً-: فتعتد بأقصى الأمرين من الأقراء، أو وضع الحمل. ولو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان-: يقبل فيما عليه، ولا يقبل فيما له؛ حتى يجب عليه الحد، ولحقه النسب، ولها أن ترجع عليه بنفقة زمان الحمل. وإن أكذب نفسه بعد موتها-: يجب عليه نفقة زمان الحمل لورثته، ولا يرتفع تأبد التحريم، سواء كان بعد لعان المرأة، أو قبله، ويسقط عنها الحد. وعند أبي حنيفة: يرتفع تأبد التحريم، حتى يجوز له أن ينكحها. وإن صدقته المرأة- نظر: إن كان بعد لعانه-: فلا فائدة فيه؛ لأن الحد وجب عليها بلعانه، فانتفى الولد وإن كان بعد ما التعنت: يجب عليها حد الزنا، وإن صدقته قبل لعانه، أو في خلال لعانه-: سقط عنه الحد واللعان، ووجب عليها حد الزنا. فلو أراد الزوج أن يلاعن بعده، أو كان في خلال اللعان أراد إكماله- نظر: إن كان ثم ولد يريد نفيه-: له ذلك؛ وألا فليس له ذلك؛ على ظاهر المذهب. وقال أبو حنيفة: إذا اعترفت بالزنا-: لحقه الولد، حتى لا يمكنه النفي بحال، ولا حد ولا لعان؛ لأن الحد، لا يجب بالإقرار مرة عنده، ولا لعان مع الإقرار. ولو مات أحد الزوجين- نظر: إن مات قبل أن يكمل الزوج اللعان-: ورثه الآخر، وإن بقيت كلمة واحدة من اللعان، ثم إن مات الزوج-: فقد استقر أمر النسب؛ فليس لوارثه نفيه، بخلاف ما لو ألحق الوارث نسباً: فإنه يلحقه، لأن الاستلحاق أقوى من النفي؛ بدليل جواز الاستلحاق بعد النفي، ولا حكم للنفي بعد الاستلحاق، ولا يقوم الوارث مقامه في اللعان؛ لأنه لا ضرورة له إليه. وإن ماتت المرأة في خلال لعانه-: ورثها الزوج، وهل له إكمال اللعان؟ نظر: إن كان هناك ولد يريد نفيه-: له ذلك وكذلك يجوز له ابتداء اللعان بعد موتها لنفي الولد،

سواء كان الولد حياً أو ميتاً، وإذا نفى الولد-: انقطع الإرث بينه وبين الولد، ولا ينقطع بينه وبين الزوجة؛ لأنها كانت له [زوجة] حالة الموت. وإن لم يكن ثم ولد: لم يكن له المضي في لعانه؛ لارتفاع الفراش بالمو إلا أن يطلب وارثها الحد-: فله درؤه باللعان، وينبني على ما مضى، طال الفصل أو ــ. فإن قيل: الزوج وارث، وقد ورث بعض جده فوجب أن يسقط. قلنا: حد القذف ثابت لكل واحد من الورثة على الكمال، فإذا سقط حق البعض-: لا يسقط شيء من حق الباقين، والله أعلم بالصواب. بَابُ مَا يَكُونُ قَذْفاً وَمَا لاَ يَكُونُ قَذْفاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". إذا ولدت امرأة على فراش رجل لمدة يمكن أن يكون منه-: يلحق، فلو قال الزوج: ليس هذا ولدي، أو ليس هذا مني-: لا يجعل به قاذفاً ولا نافياً للولد لأنه كلام يحتمل فيفسر، فإن فسره بالزنا-: فهو قذف-: فله أن يلاعن وينفيه، وإن قال: عنيت به أنه لا يشبهني خلقاً وخلقا-: يقبل قوله، بخلاف ما لو قال [لولد الغير]: ليس هذا بابن فلان-: يكون قاذفاً، فلو قال: عنيت به أنه لا يشبهه خَلْقاً وخُلُقاً-: لا يقبل، والفرق: أن الأب يحتاج إلى تأديب ولده بمثل هذا القول؛ فحمل ذلك على التأديب، والأجنبي مستغن عنه، فكان قوله قذفاً. فلو كذبت المرأة الأب، وقالت: عنيت به القذف-: لها أن تحلفه، فإن حلف-: فلا حد، ولا لعان. وإن نكل-: حلفت المرأة، ثم يحد الزوج، وله أن يلاعن، لإسقاط الحد دون نفي الولد؛ لأنه أقر به. وإن قال: عنيت به أنها أتت به من وطء الشبهة فلا حد عليه، إن صدقته المرأة، وإن كذبته، وادعت أنه أراد به القذف: حلف الرجل أنه لم يرد به القذف، فإن نكل- حلفت المرأة أنه أراد به القذف، وحد الزوج إلا أن يلاعن، أما الولد- نظر: إن لم يعين الواطئ أو عين الواطئ، فلم يقبل ذلك الرجل-: فالولد لاحق بالزوج، إلا أن ينفيه باللعان.

وإن صدقه ذلك الرجل، وادعاه-: يرى معه القائف؛ فإن ألحقه به-: فهو ولده؛ وألا فيلحق بالزوج، ولم يكن له نفيه باللعان؛ لأنه كان له طريق إلى نفيه بغير اللعان، وهو العرض على القائف، كما لا ينفي ولد أم الولد باللعان؛ لأنه يتوصل إلى نفيه بغير اللعان وهو دعوى الاستبراء. ولو قال الزوج: عنيت به أنها أتت به من زوج قبلي- نظر: إن لم يعرف لها زوج قبله-: لا يقبل قوله، وإن عرف لها زوج قبله- نظر: إن علم وقت فراق الأول، ونكاح الثاني: فإن أتت به لأربع سنين، فأقل من وقت فراق الأول، ولأقل من ستة أشهر من وقت نكاح الثاني-: فهو للأول. وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت فراق الأول-: أو الستة أشهر فأكثر من وقت نكاح الثاني-: فهو للثاني؛ إلا أن ينفيه باللعان، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت فراق الأول ولدون ستة أشهر من نكاح الثاني-: فهو منفي عنهما. وإن أتت به لأقل من أربع سنين من وقت فراق الأول، ولستة أشهر فأكثر من وقت نكاح الثاني-: فهو للثاني، إلا أن ينفيه باللعان؛ لأن فراش الأول قد انقطع بنكاح الثاني. وإن لم يعرف وقت فراق الأول ونكاح الثاني-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأنها تدعي أنها أتت به على فراشه، وهو ينكر، فإن حلف-: ينفى عنه الولد؛ إلا أن تقيم المرأة البينة أنها ولدته على فراشه لمدة يمكن أن يكون معه، ويقبل فيه شهادة أربع نسوة، ثم له نفيه باللعان. وإن لم يكن لها بينة، ونكل الزوج عن اليمين، وحلفت المرأة أنها ولدته على فراشه لمدة يمكن أن يكون منه، ثم هو ولده، إلا أن ينفيه باللعان. وإن نكلت-: فالولد ينفي عنه. وقيل: يوقف حتى يبلغ الصبي، فيحلف. وكذلك: لو قال الزوج: عنيت به: أنها استعارته، أو التقطته-: فالقول قوله مع يمينه، وعليها البينة، فإن شهدت أربع نسوة على أنها ولدته على فراشه-: يقبل قوله، ثم له نفيه باللعان. وإن لم يكن لها بينة-: هل يرى معها القائف؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، كما يرى مع الرجل. والثاني: لا؛ لأن إقامة البينة على ولادتها ممكن، ولا يمكن إقامة البينة على أنه من ماء الرجل.

وإن قلنا: يرى القائف، فألحقه القائف بها-: التحق بالزوج، إلا أن ينفيه باللعان، وإن لم يلحق بها أو أشكل، أو لم يكن قائف، أو قلنا: لا يرى معها القائف-: حلف الرجل أنه لا يعلم أنها ولدته، فإن حلف- ينفى عنه. وهل يلحق بالأم؟ فعلى وجهين؛ بناءً على أن المرأة هل لها دعوى؟ وفيه وجهان. وإن نكل الزوج عن اليمين تحلف المرأة، ولحقه الولد، إلا أن ينفيه باللعان. وإن نكلت-: هل يوقف، حتى يبلغ الصبي، فيحلف؟ فيه وجهانك أحدهما: بلى؛ لأن ألحق له. والثاني: لا؛ لأن يمين الرد لا يرد. فإن قلنا: يوقف: فإذا بلغ، وحلف-: لحقه، إلا أن ينفيه باللعان. وإن نكل، أو قلنا: لا يحلف الصبي-: انتفى عنه بنكولها. وهل يلحقها؟ فيه وجهان. ولو قال رجل لابن الملاعنة لست بابن فلان سئل، فإن قال: عنيت به: أنه ليس بأبيه شرعاً، أو أن أباه نفاه، أو هو لا يشبهه خلقاً وخلقاً-: قبل قوله مع يمينه، فإن حلف-: عزر للأذى، وإن نكل-: حلفت الأم: أنه أراد قذفها، وعليه الحد؛ كما لو أقر إني أردت القذف، أو أن الملاعن قد صدق، ولو استلحقه النافي، ثم قال له آخر لست بابن فلان-: فهو كما لو قال لغير المنفي-: عليه الحد، ولا يقبل قوله: إني أردت: أنه لا يشبهه خلقاً. ولو ظهر الحمل بامرأة، وأتت بولد، فقال الزوج: ما هو مني، وما أصبتها، وليست هي بزانية قلنا: هذا ليس بقذف، وبهذا لا ينتفي عنك الولد؛ لاحتمال أنها استدخلت ماء، فأنت في قولك: إني ما أصبتها" صادق، والولد يلحق بك، إلا أن تنفيه باللعان. ولو قال: ليس هذا الولد مني، ولا أقذفها، ولا ألاعن: قلنا: الولد ولدك؛ إلا أن تنفيه باللعان بعد بيان سببه أنه من زنا، أو وطء شبهة وتلاعن. فَصْلُ إذا أتت امرأة بولد، فنفاه باللعان، ثم أتت بولد آخر- نظر: إن كان بين الولدين أقل من ستة أشهر-: فهما حمل واحد، فإن نفى الثاني بلعان جديد-: انتفى عنه، وإن لم

ينفه-: لحقه الولدان جميعاً؛ لأن الحمل الواحد لا يتبعض في اللحوق والانتفاء، حتى لو أتت امرأته بولدين توءمين، فنفى أحدهما دون الآخر-: لحقاه جميعاً، وإنما قدمنا اللحوق على الانتفاء؛ لأن النسب يحتاط لإثباته ما أمكن، ثم إذا لم ينف الثاني بلعان جديد، حتى لحقاه-: هل يلزمه حد القذف أم لا؟ نظر: إن كان نفي الأول بعد البينونة-: عليه الحد، سواء استلحق الثاني صريحاً، أو سكت عن نفيه حتى لحقه. وإن كان نفي الأول في صلب النكاح- نظر: إن استلحق الثاني صريحاً، حتى لحقه الولدان-: عليه حد القذف؛ كما لو أكذب نفسه. وإن سكت عن نفيه حتى لحقاه-: فلا حد عليه؛ بخلاف ما بعد البينونة؛ لأن اللعان بعد البينونة ليس إلا لنفي النسب، وإذا التحق به النسب: لم يبق اللعان حكم، فحد، وفي صلب النكاح: اللعان أحكام أخر سوى نفي النسب، ولم ترتفع تلك الأحكام بلحوق النسب؛ فلم يلزمه الحد، إذا لم يصرح بالإلحاق. أما إذا أتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً من وقت وضع الأول- نظر: إن ولدت الأول في صلب النكاح-: يلحقه الثاني، إلا أن ينفيه بلعان جديد بعد بيان سبب النفي. وإن لم ينفه لحقه الثاني دون الأول؛ لأنه حمل آخر، ويجعل كأنه أعلقها بعد وضع الأول قبل اللعان. وإن ولدت الأول بعد البينونة-: فالثاني منفي عنه بلا لعان؛ لأن عدتها قد انقضت بوضع الأول؛ فلا يتصور حصول الثاني في النكاح. أما إذا نفى الحمل باللعان في النكاح، أو بعد البينونة، فأتت بولدين بينهما دون ستة أشهر-: فهما منفيان عنه؛ لأنه لاعن على نفي الحمل، والحمل اسم لجميع ما كان في بطنها، فإن استلحق أحدهما-: لحقاه جميعاً، وعليه الحد، ولا يرتفع تأبد التحريم. وإن كان بين الولدين ستة أشهر فصاعداً-: فالأول منفي عنه باللعان، والثاني منفي بلا لعان، ولو أتت امرأته بتوأمين، فمات أحدهما قبل اللعان-: فله أن يلاعن، وينفي الحي والميت جميعاً. وقال أبو حنيفة: إذا مات أحدهما استحكم نسبهما، ولا نفي له؛ لأنه ورث الميت. وعندنا: الميراث موقوف، فإن نفاه-: لم يرثه، ولو نفى نسب مولود، فمات المولود عن مال؛ أو قتل، ثم استلحقه النافي بعد الموت-: لحقه، وأخذ ميراثه وديته، سواء كان الميت خلف ولداً، أو لم يخلف، فلا يجعل متهماً؛ لأن الظاهر: أن الإنسان لا يستلحق

نسب الغير، ويلزم ظهره الحد؛ لأجل حطام الدنيا. وقال أبو حنيفة: إن خلف الميت ولداً-: صح استلحاقه؛ وألا فلا. فَصْلُ إذا تقاذف رجلان-: حد كل واحد منهما لصاحبه، ولا يتقاصان؛ لأن القصاص لا يجري في الحد، لاختلاف المحل. ولو قال رجل لامرأته: يا زانية، فقالت: بل أنت زان-: فكل واحد منهما قاذف لصاحبه، إلا أن الزوج إذا لاعن-: سقط عنه حدها، ولا يسقط حد قذف الزوج عن المرأة باللعان إلا ببينة تقيمها أو إقرار من جهته. وقال أبو حنيفة: لا حد على واحد منهما ولا لعان، وقال: لأني لو بدأت بحد المرأة-: صارت محدودة في القذف، وإن بدأت بالزوج، فلاعن-: أستقبح أن ألاعن بينهما، ثم أحدها، وأقبح من ذلك تعطيل حكم الله، عز وجل. ولو قالت [المرأة لزوجها] زنيت بك-: فهي قاذفة له مقرة على نفسها بالزنا، فعليها حد القذف و [حد] الزنا، ويبدأ بحد القذف؛ [لأنه حق الآدمي، فإذا رجعت-: سقط عنها حد الزنا، ولا يسقط حد القذف] ولو قالت [المرأة]: ما عنيت به القذف-: لا يقبل قولها. أما إذا الزوج لها أولاً: يا زانية، فقالت: زنيت بك-: سئلت: فإن قالت: عنيت به حقيقة الزنا-: فهي قاذفة للزوج، مقرة على نفسها بالزنا؛ فيسقط عن الزوج حد القذف واللعان، وعليها حد القذف وحد الزنا. أما إذا قالت المرأة عنيت به نفي الزنا، أي: كما أنك لم تزن، فأنا ما زنيت، أو لم يصبني غيرك، فإن كان ذلك زنا، فأنت أعلم-: يقبل قولها مع يمينها؛ لأن العادة قد جرت بنفي الفعل بهذه العبارة عند المقابلة؛ كما يقول الرجل لآخر سرقت، فيقول: سرقت معك، يريد نفي السرقة [عن نفسه] وعنه، ثم إذا حلفت-: فلا حد عليها، وعلى الزوج الحد إلا أن يلاعن. أما إذا قال لأجنبية: أنت زانية، فقالت: زنيت بك-: فلا يحتمل هذا الإقرار إلا بالزنا، فيسقط عن الرجل حد القذف، وعليها حد الزنا وحد القذف.

قال الشيخ: ولو قالت المرأة لزوجها يا زاني، فقال: زنيت بك-: فهو كالزوج يقول لها فتجيبه. ولو قال رجل لامرأته: يا زانية، فقالت: بل أنت أزنى مني-: فلا تكون قاذفة؛ لأنها تريد أهدى إلى الزنا مني، إلا أن تريد قذفاً. وكذلك: لو قال رجل لآخر ابتداء: أنت أزنى الناس، أو أزنى مني، أو أزني من فلان-: فلا يكون قذفاً، إلا أن يريده؛ لأنه لم يثبت زنا فلان، حتى يكون هذا قذفاً. فأما إذا خرج، فقال: في الناس زناة، وأنت أزنى منهم، [أو أنت أزنى الناس]-: فهو قذف له، وعليه الحد، ولا حد عليه لسائر الناس؛ لأنه لم يعين أحداً؛ كما لو قال: في هذه السكة زناة، ولم يعين أحداً-: لا حد عليه. ولو قال: فلان زان، وأنت أزنى منه-: فهو قاذف لهما. وكذلك: لو قال لزوجته: يا زانية، فقالت: أنا زانية، وأنت أزنى مني، أو قالت ابتداءً: أنا زانية، وأنت أزنى مني-: فعليها حد القذف وحد الزنا، ولا حد على الزوج ولا لعان؛ لأنها أقرت بالزنا على نفسها. ولو قالت: أنت أزنى من فلان، [وسمت رجلاً] وقد ثبت زنا فلان بإقراره أو ببينة- نظر: إن كان هذا القائل جاهلاً به-: فلا يكون قذفاً، ويقبل قوله: إنه كان جاهلاً؛ كما لو ثبت زنا فلان بعد هذا القول. وإن كان عالماً-: فهو قذف لهما؛ فيحد لهذا الذي خاطبه، ويعذر لفلان؛ لأنه مهتوك العرض بثبوت زناه. ولو قال: يا زانية، إن شاء الله [فهو قذف] لأن الاستثناء لا يعمل في الأسامي؛ كما لو قال لامرأته: يا طالق، إن شاء الله-: [طلقت]. فَصْلُ إذا قال لرجل: زنيت- بالكسر- على خطاب النساء، أو لامرأته: زنيت- بالفتح-: فهو قذف. ولو قال لامرأته: يا زاني أو يا زان، وحقف علامة التأنيث-: يكون قذفاً بالاتفاق؛

لأنه الترخيم في كلام العرب معروف؛ يقولون لمالك: يا مال، ولحارث: يا حار. أما إذا قال للرجل: يا زانية-: فهو عندنا قذف. وعند أبي حنيفة: ليس بقذف؛ بخلاف الأول؛ لأن آخر الكلام يحذف للترخيم، ولأنه تزاد الهاء للمبالغة؛ كما يقال رجل علامة ونسابة، ولو قال لامرأته: زنيت من قبلك-: فهو قذف لها، ولو قال لرجل: زنيت من قبلك-: لا يكون قذفا؛ لأن زناه من القبل لا فيه، إلا أن يريد القذف. ولو قال: زنأت في الجبل-: لا يكون قذفاً؛ لأن عبارة عن الصعود، إلا أن يرد القذف. فإن ادعى المقول له أنه أراد به القذف-: فالقول قول القائل مع يمينه. وقال أبو حنيفة: هو قذف. ولو قال: زنيت في الجبل، أو يا زانية في الجبل-: فهو قذف، وقال صاحب "التلخيص": ليس بقذف إلا أن يريده. ولو قال زنأت في البيت-: فالمذهب أنه قذف. ولو قال: زنأت مطلقاً-: ففيه أوجه: أظهرها: ليس بقذف، إلا أن يريده-: لأن ظاهره الصعود. والثاني: هو قذف؛ لأن الياء قد تهمز؛ كما يقال: زويت وزوأت. والثالث: إن كان الرجل لا يحسن العربية-: فهو قذف؛ لأن من لا يعرف اللغة قد يخطئ بالهمز وإسقاطه. وإن كان يحسنها-: فلا يكون قذفاً إلا أن يريده. وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية: فالصريح: أن يقول: يا زانية، أو زنيت، أو زنا قبلك أو دبرك أو فرجك، ولو قال: زنا بدنك-: ففيه وجهان: أحدهما: هو كناية، كقوله: زنا يدك؛ لأن حقيقة الزنا من الفرج؛ فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة. والثاني: هو صريح- وهو الأصح- لأنه أضافه إلى جميع البدن، والفرج منه. ولو أضاف إلى سائر الأعضاء، فقال: زنا يدك، أو رجلك، أو عينك-: فلا يكون

قذفاً إلا أن يريده؛ لأن ظاهر هذا الكلام اللمس والنظر؛ بدليل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، ويُصَدِّقَ ذَلِكَ الفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ"؛ فبين أن الزنا لا يتحقق من هذه الأعضاء إلا بمعاونة الفرج. ونقل المزني أنه قذف. فمن أصحابنا من جعل على قولين. والمذهب: أنه ليس بقذف، والنقل [وقع] خطأ. أما الكنايات؛ مثل: أن يقول: يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا قوادة، يا مؤاجرة، يا غلمة، يا شبقة، يا بنت الحرام، وامرأتي لا ترد يد لامس-: فلا يكون قذفاً إلا أن يريده. وكذلك: لو قال العربي: يا نبطي، أو لنبطي: يا عربي، أو لهندي: يا تركي، فإن أراد به القذف-: فهو قذف لأم المقول له؛ وألا فلا. وإن قال: عنيت به نبطي الدار أو اللسان، وادعت أم المقول له أنه أراد به القذف-: فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل حلفت وحدها، إن كانت محصنة، وإن لم تكن محصنة-: عزر، وإطلاقه محمول على أم المقول له. وإن قال: عنيت قذف جدتك- نظر: إن عين جدة مسلمة- حد لها، وإن عين جدة كافرة-: عزر بعد ما يحلف أنه أرادها. وإن قال عنيت جدة لا بعينها-: لا حد عليه، ويعزر؛ كما لو قال: أحد أبويك زان. ولو قال: يا لوطي-: فلا حد عليه، إلا أن يريد أنه يعمل عمل قوم لوط؛ فيجب عليه الحد. ولو قال: لطت أو: لاط بك فلان باختيارك-: فهو قذف. ولو قال: أتيت بهيمة: إن جعلناه زنا- يجب به الحد؛ وألا فلا. أما التعريض: فليس بقذف، وإن أراده؛ وذلك مثل قوله يا بن الحلال، أما أنا فما زنيت، وليست أمي زانية، وأشباهها. وعند مالك- رضي الله عنه- كلها قذف. وقيل: التعريض كناية، إذا نوى به القذف [فهو كناية، بقوله: الحلال بن الحلال، وما

أنا بزان ونحوه] وإن لم ينو-: فليس بقذف، سواء قاله في حال الرضا أو الغضب. وقال أحمد وإسحاق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا. أما ما لا يحتمل القذف؛ لقوله: يا بارك الله فيه، قد أحسن الله جزاءك، وما أحسن وجهك-: فليس بقذف، وإن نوى. وحد القذف إنما يجب بالنسبة إلى الزنا فحسب، فلو أداه بكلام قبيح؛ بأن قرطبة أو ديته ونحو ذلك، أو نسبه إلى كبيرة غير الزنا من سرقة أو شرب خمر أو قتل أو نحوه-: يعزر للأذى ولا حد عليه؛ لأن الزنا أمر مستقبح يستنكف منه في جميع الأديان، فكان أمره أغلظ. فَصْلُ [فِي بَيَانِ الإِحْصَانِ] قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور: 4]. حد القذف إنما يجب بقذف المحصن، وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا. ولو قذف كافراً أو عبداً أو صبياً، أو مجنوناً أو من قد زنا مرة-: فلا حد عليه، بل يعزر للأذى، حتى لو زنا في عنفوان شبابه مرة، ثم تاب، وحسنت حالته، وشاع في الصلاح-: لا يحد قاذفه. وكذلك: لو زنا كافر أو رقيق، ثم أسلم وعتق، وصلحت حالته، فقذفه قاذف-: لا حد عليه؛ بخلاف ما لو زنا في حال صغره أو جنونه، ثم بلغ، وأفاق فقذفه قاذف-: يجد قاذفه؛ لأن فعل الصبي والمجنون-: لا يكون زنا. ولو قذف محصناً: فقبل أن يحد القاذف: زنا المقذوف-: سقط الحد عن قاذفه. ولو ارتد أو جن قبل أن يحد القاذف-: لا يسقط الحد عن قاذفه؛ لأن الكفر والجنون السابق لا يمنعان وجوب حد القذف، إذا لم يقترنا بالقذف، فالطارئ منهما لا يسقط الحد، والزنا السابق يمنع وجوب الحد، فالطارئ يسقطه؛ وهذا لأن الزنا يورث ريبة في حالة فيما

مضى؛ لأنه أمر يستتر، والله عز وجل كريم لا يهتك ستر عبده بأول مرة يرتكب المعصية، فبظهوره يعلم أنه كان [منصفاً/ به من قبل؛ روي أن رجلاً زنا في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: والله، ما زنيت إلا هذه. فقال] عمر: كذبت؛ إن الله لا يفضح عبده أول مرة. بخلاف الردة؛ فإنها عقيدة قلما يخفيها الإنسان، فلو كان يعتقدها من قبل لأظهرها، فإظهاره لا يورث ريبة فيما مضى، فلم يحكم ببطلان حصانته من قبل. وقال المزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف؛ كالردة الطارئة. وقال أبو حنيفة: الردة الطارئة تسقطه؛ كالزنا الطارئ. ولو قذف رجل زوجته، ثم زنت-: سقط عنه الحد واللعان، إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه، فله أن يلاعن. واللواط يبطل الحصانة كالزنا، وإنما يبطل إحصان الفاعل دون المفعول؛ بخلاف الزنا: يبطل به إحصان الزانيين؛ لأن التحصين لا يحصل بالتمكين في الدبر؛ فلا يبطل به، ويحصل بفعل القبل، فيبطل به. قال الشيخ- رحمه الله-: وجب أن يبطل إحصانهما جميعاً؛ فإن الحد يجب عليهما جميعاً. ولو قال له رجل لاط بك فلان-: كان قاذفاً، فلو لم يبطل إحصانه-: لم يجعل ذلك قذفاً موجباً للحد-: كغيره من الكبائر. أما الوطء الحرام الذي لا يوجب الحد-: هل يبطل الحصانة؟ نظر: إن كان تحريمه لعارض في الملك يزول؛ مثل: أن وطئ زوجته أو أمته في حال الإحرام والصوم أو الاعتكاف، أو في حال الحيض، أو النفاس، أو وطئ زوجته المظاهرة عنها قبل التكفير-: لا يبطل الحصانة. ولو وطئ زوجته المعتدة من الغير، أو أمته المزوجة أو المعتدة، أو في مدة الاستبراء أو أمته المرتدة، أو المجوسية، أو الوثنية-: فعلى وجهين: أحدهما: يبطل حصانته؛ لأنها محرمة. والثاني: لا يبطل، بشبهة الملك، وكذلك: لو وطئ امرأته في دبرها. ولو وطئ أمته التي هي أخته من النسب، أو هي أمته وأخته من الرضاع-: يبطل

إحصانه؛ لأنها محرمة على/ التأبيد. وقيل: إن قلنا: يجب الحد بوطئها-: فيبطل إحصانه. وإن قلنا: لا يجب-: لا يبطل. ولو وطئ جارية. ابنه- يبطل إحصانه، ذكره صاحب "التلخيص". وهو كما ذكر؛ لأنه تعمد، فإن كان غالطاً-: فهو كوطء الشبهة. وكذلك: لو وطئ الجارية المشتركة بينه وبين غيره، أو مكاتبته، أو زوجته الرجعية. وقيل: لا يبطل إحصانه في هذه المواضع؛ لشبهة الملك. ولو وطئ امرأة بالشبهة؛ بأن وجدها على فراشه، فوطئها على ظن أنها زوجته، أو اشترى جارية، فوطئها، فخرجت مستحقة، أو وطئ بالنكاح الفاسد؛ مثل النكاح بلا ولي ولا شهود، أو في النكاح بالإحرام، أو نكاح متعة أو شغار-: هل يبطل إحصانه؟ فيه وجهان، عالماً كان أو جاهلاً: أحدهما: يبطل؛ لأنه وطء حرام لم يصادف ملكاً. والثاني: لا يبطل؛ لأنه وطء يلحق به النسب، ولا يجب به الحد؛ كوطء الزوجة في الحيض، ولو أن كافراً أسلم حديثاً، فغصب امرأة، فوطئها، وقال: ظننته حلالاً-: لا يبطل به إحصانه. وكذلك: لو نكح مجوسي أمه، فوطئها، ثم أسلما، والله أعلم بالصواب. بَابُ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ شهادة الرجل على زوجته بالزنا-: لا تقبل؛ خلافاً لأبي حنيفة؛ حيث قال: تقبل؛ وذلك لأن المرأة إذا زنت، ولطخت فراش زوجها-: ظهرت بينهما من العداوة ما لا تكاد عداوة تبلغه، وشهادة العدو على العدو-: لا تقبل؛ بخلاف ما لو شهد على أمه، أو أخته، أو على أمته بالزنا-: تقبل؛ لأن زنا الأم والأخت لا يثبت بينهما وبين الولد من العداوة ما يحمله على إلحاق العار بهما بإظهار زناهما؛ ولذلك: شرع اللعان في قذف الزوجة دون غيرها. ولو شهد الزوج مع ثلاثة على زوجته بالزنا-: فالزوج قاذف، يجب عليه الحد، إلا أن يلاعن؛ لأن قوله ليس بشهادة، والثلاث شهود، ولم يتموا أربعة- ففي وجوب حد القذف عليهم قولان.

ولو أقام الزوج أربعة من الشهود على زنا المرأة، أو على إقرارها بالزنا-: سقط عنه الحد واللعان، إلا أن يكون ثم ولد يريد نفيه-: فله أن يلاعن. ولو أقام شاهدين على إقرارهما بالزنا-: فهل يجب عليها حد الزنا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب، حتى يقيم أربعة، بنفس الزنا: لا يثبت إلا بأربعة. والثاني: يجب، لأنه شهادة على القول؛ فلا يشترط فيه عدد الأربع؛ كسائر الأقارير. فإن قلنا: يجب عليها حد الزنا-: سقط عن الزوج الحد واللعان، فلو رجعت عن إقرارها-: سقط عنها الحد، ولا يقبل رجوعها في حق الزوج، حتى لا يتوجه عليه اللعان، ولا يجب عليه الحد، وكذلك: لو أقام أربعة على إقرارها بالزنا، فرجعت. فإن قلنا: لا يجب عليها حد الزنا بشهادة شاهدين على إقرارها-: فالحد سقط عن الزوج واللعان؛ كما لو أقام أربعة من الشهود على زناها، فأقامت هي أربعة نسوة على أنها عذراء-: سقط الحد عنه، ولا يجب عليها. ولو لم يكن للقاذف بينة، فادعى زنا المقذوف-: هل له تحليفه؟ فيه قولان: أظهرهما- وهو المذهب-: ليس له تحليفه؛ [لأن اليمين لطلب الإقرار، وهو بعدما أقر: يستحب له أن يرجع، فكيف يجبر على الإقرار. وفيه قول آخر: له تحليفه] لحق القاذف: فإن قلنا: يحلف فإن كان في الزوجة: فإن حلفت: حد الزوج إلا أن يلاعن، وإن نكلت-: حلف الزوج، وسقط عنه حد القذف واللعان، ولكن لا يجب عليه حد الزنا؛ لأن الزنا لا يثبت بالنكول ورد اليمين؛ كما لو ادعى عليه سرقة، فأنكر، ونكل عن اليمين، وحلف المدعي- يثبت المال، ولا يثبت القطع. وكذلك: لو قذف ميتاً، وطلب وارثه الحد، فطلب القاذف يمين الوارث أنه لا يعلم أن مورثه كان كذا-: نص الشافعي- رضي الله عنه- أنه يحلف وارث المقذوف أنه لا يعلم أن مورثه زنا-: فحينئذ: يحد القاذف، وهذا- أيضاً- لاختلاف الذي ذكرنا. ولو ادعى القاذف أن له بينة على زناها، واستمهل/ يوماً أو يومين-: يمهل، ولا يجاوز الثلاث، ويحبس في زمان الإمهال.

فَصْلُ إذا قذف إنساناً، ثم المقذوف شهد على القاذف بحق لإنسان- نظر: إن شهد قبل طلب [الحد]-: يقبل، سواء عفا عن الحد أو لم يعف، ثم له طلب الحد بعده، وإن شهد بعد ما طلب الحد-: لا يقبل؛ لظهور العداوة بينه وبين المشهود عليه. فلو عفا بعد ما شهد، ثم أعاد الشهادة-: لا تقبل؛ كالفاسق: إذا شهد وردت شهادته، ثم تاب، وأعاد تلك الشهادة-: لا تقبل. ولو شهد قبل طلب الحد، ثم طلب قبل أن يحكم الحاكم بشهادته-: لا يحكم؛ كما لو فسق الشاهد قبل الحكم. أما إذا شهد رجل على آخر بحق، ثم المشهود عليه قذف الشاهد-: لا تبطل به شهادته، وإن طلب الحد؛ لأنا لو رددنا بمثله الشهادة-: صارت ذريعة إلى سقوط الشهادات؛ وذلك أن كل من أراد إبطال شهادة شاهد على نفسه قذفه. فلو شهد رجل على رجل أنه قذفني فلان، أو قال: قذف زوجتي وفلاناً-: لا تقبل شهادة الأجنبي؛ فإنه لما ذكر أنه قذفني، أو قذف زوجتي-: فقد أظهر العداوة بينه وبين المشهود عليه، وشهادة العدو-: لا تقبل على العدو. أما إذا شهد أنه قذف أمي وفلاناً فشهادته للأم غير مقبولة، وهل تقبل [لفلان]؟ فعلى قولي تبعيض الإقرار؛ بخلاف المسألة الأولى؛ لأن رد الشهادة هناك لمعنى بين الشاهد والمشهود عليه، وهو العداوة [فيعم]، والرد ههنا بين الشاهد والمشهود له، وهو البغضة، فلا يورث تهمة في حق غير الأم. ولو شهد أنه قذفني فلان فردت شهادته، ثم عفا عن قذفه، وحسن الحال بينهما، فأعاد الشهادة لفلان-: لا تقبل؛ لأن هذه الشهادة ردت بالتهمة، فلا تقبل إذا أعادها؛ كالفاسق-: ترد شهادته، ثم يتوب لا تقبل، والله أعلم. فَصْلُ إذا شهد شاهدان على حادثة، واختلفت شهادتهما لمكان، أو زمان، أو وصف-: لا يجمع بينهما؛ سواء فيه القذف والقتل والنكاح والبيع وغيرها؛ مثل أن ادعى على إنسان، قذفاً، وأقام شاهدين، فشهد أحدهما أنه قذفه في البيت، وشهد الآخر أنه قذفه في السوق،

أو شهد أحدهما أنه قذفه ببكرة، وشهد الآخر أنه قذفه بعشية، أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية، والآخر أنه قذفه بالفارسية-: لا يثبت. وكذلك: لو شهد أحدهما أنه قذفه، والآخر أنه أقر بقذفه-: لا يجمع بينهما. أما إذا كانت شهادتهما على الإقرار؛ مثل: أن شهد أحدهما أنه أقر في البيت أنه قذفه، وشهد آخر: أنه أقر في السوق؛ أنه قذفه، أو شهد أحدهما أنه أقر يوم السبت بقذفه، والآخر أقر يوم الأحد، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية أنه قذفه، وشهد الآخر أنه قذفه بالفارسية-: يجمع بينهما، ويثبت الحد؛ لأن الإقرار إخبار يتكرر؛ فيجوز أن يكون أقر [مرتين]. أما إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفه في البيت، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفه في السوق، أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفه يوم السبت، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفه يوم الأحد، أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفه بالعربية، والآخر أنه أقر أنه قذفه بالفارسية-: هل يجمع بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يجمع؛ لأنه شهادة على الإقرار. والثاني: لا يجمع؛ لأن الخلاف فيه راجع إلى الإنشاء، والله أعلم. بَابُ الوَقْتِ فِي نَفْيِ الوَلَدِ إذا أراد الرجل نفي الولد باللعان-: فهو على الفور؛ لأنه خيار غير مؤبد؛ لدفع الضرر؛ كالرد بالعيب. هذا هو المذهب، وفي القديم قولان: أصحهما: هذا. والثاني: يمهل ثلاثاً، حتى يتفكر فيه: فإن قلنا: على الفور-: فإذا أخر بلا عذر-: لزمه، ولا نفى له بعده، وإن كان له عذر بأن لم يظفر بالحاكم، أو حضرت الصلاة، فبدأ بها، أو كان جائعاً-: بدأ بالأكل، أو كان ماله غير محرز، فاشتغل بإحرازه، أو عادته الركوب، فاشتغل بإسراج المركوب، أو سمعه في خلال أكل، أو طهارة، أو في جوف الليل فأخر هـ إلى الفراغ، أو طلوع النهار-: لا يبطل حقه، ولكنه يشهد إن أمكنه الإشهاد، فإن لم يشهد-: بطل حقه.

وهل يشترط أن يقول بلسانه: نفيت؟ فيه وجهان: وإن كان مريضاً أو محبوساً، أو قائماً على مريض، أو كان غائباً لا يقدر على المسير، فأشهد على نفيه-: فهو على حقه، وإن لم يشهد مع القدرة على الإشهاد-: بطل حقه. وإن كان غائباً نفاه عند قاضي البلد، فإن أخر ليرجع إلى بلده نظر: إن أشهد، وأخذ في المسير على الإمكان-: لم يبطل حقه، ولو أخر في المسير مع الإمكان-: بطل حقه، وإن أشهد. وإن أخذ في المسير في الحال ولم يشهد-: هل يبطل حقه؟ فيه وجهان: أصحهما: يبطل. وإن أخر النفي، وادعى أني لم أعلم بالولادة-: قبل قوله مع يمينه، إن كان غائباً، وإن كان حاضراً في الدار-: لا يقبل قوله إلا على ساعتين أو نصف يوم؛ لأن خبر الدار قد يخفى عليه هذا القدر. ولو قال: علمت بالولادة، ولم أعلم أن حق النفي ثابت لي-: لا يقبل ذلك من العالم. وهل يقبل من العامي؟ فيه وجهان؛ كما في خيار العتق. ولو قال: سمعت ولم أصدق الخبر- نظر: إن سمع من عدلين-: بطل حقه، وإن سمعه من الفساق أو الصبيان-: قبل قوله، وإن سمع من عدل واحد-: فوجهان: أصحهما: أنه يقبل، ويجوز له تأخير نفي الحمل إلى أن تضع. وإن قلنا: الحمل يعرف؛ لأنه قد يتبين ريحاً، فلو أخر حتى خرج، وقال: أخرته؛ لأني لم أتحققه ولداً-: فله نفيه. وإن قال: علمته ولداً، لكني أخرته؛ رجاء أن يموت فأستر عليها، ولا أحتاج إلى اللعان-: لزمه، ولا نفى له، ولو هنئ بمولود، فقيل: هنئت فارساً، وجعله الله لك ولداً صالحاً، أو متعك بالولد الذي رزقك، فقال: آمين، أو نعم، أو استجاب الله دعاءك-: فهو إقرار به لا نفي له بعده، وإن أجاب بما لا يتضمن إقراراً، فقال: جزاك الله خيراً، أو بارك عليك، أو رزقك مثله-: فلا يكون إقراراً، وله النفي؛ لأنه قابل الدعاء بالدعاء. فَصْلُ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ تَنَازَعَا عَامَ الفَتْح فِي وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ

سَعْدُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَقَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ؛ الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ". وقال عمر- رضي الله عنه-: لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد، أو أمسكوهن إذا أتت أمة رجل بولد-: لا يلحقه ما لم يقر بوطئها، فإذا أقر بوطئها، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء-: فهو ينفي عنه، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وقت الوطء، ولدون أربع سنين-: فهو يلحق به، إذا لم يدع الاستبراء، فإن ادعى الاستبراء بعد الوطء-: نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الاستبراء-: فهو يلحق به، ولا حكم للاستبراء. وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وقت الاستبراء-: فهو ينفي عنه. فإذا ألحقنا به ولداً، فأتت بعده بولد آخر- نظر: إن كان بينهما أقل من ستة أشهر-: فالثاني يلحق به؛ لأنهما حمل واحد، وإن كان بينهما ستة أشهر فصاعداً-: فالثاني هل يلحقه فيه وجهان: أحدهما: يلحقه، لأنها صارت فراشاً بالوطء؛ فيلحقه أولادها عند الإمكان؛ كما في فراش النكاح. والثاني: لا يلحقه إلا بإقراره جديد بالوطء؛ لأن الفراش قد ارتفع بولادة الأول؛ كما يرتفع بالاستبراء. وأصل هذا أنه إذا زوج أم ولده، فطلقها زوجها قبل الدخول، أو بعد الدخول، أو انقضت عدتها-: هل يعود فراشاً للسيد قبل الوطء؟ فيه قولان: أحدهما: يعود فراشاً، حتى لو أتت بولد بعد الطلاق، وانقضاء العدة لستة أشهر فأكثر يكون للسيد. ولو مات السيد، أو أعتقها قبل أن يمسها-: يلزمها الاستبراء؛ نص عليه في "الأم". والثاني: لا يعود فراشاً له، ما لم يطأها، حتى لو أتت بولد لدون أربع سنين-: فمن وقت الطلاق يلحق الزوج؛ كما لو أتت به لدون ستة أشهر، وإن أتت به لأربع سنين فأكثر-: فمنفي عنه. ولو مات السيد أو أعتقها-: لا استبراء عليها.

وعلى هذا لو أراد السيد أن يطأها بعد انقضاء عدة الزوج-: هل يحتاج إلى الاستبراء؟ فيه وجهان. إن قلنا: عادت فراشاً له-: لا يحتاج إلى الاستبراء، وإلا فيحتاج إليه بحدوث الحمل، وعلى هذا: لو أقر بوطء أمته، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء، ولم يدع الاستبراء-: هل يلحقه؟ فيه وجهان: قال [الشيخ]: إذا كان الفراش ينقطع بالاستبراء-: فبمضي أربع سنين، وبالولادة، إذا أتت بولدين بينهما أكثر من ستة أشهر؛ وبالتزويج: أولى أن ينقطع حتى لا يعود إلا بوطء جديد. وعند أبي حنيفة: ولد الأمة لا يلحقه، وإن أقر بالوطء ما لم يقر بالولد، فإذا أقر بولد واحد-: لحقه الثاني والثالث. ولو ادعت الأمة على سيدها أنه وطئها، وأنكر السيد-: فالقول قوله بلا يمين. ولو أقر بالوطء، وادعى الاستبراء، وأنكرت الأمة الاستبراء-: فالقول قوله مع يمينه أنه لم يطأها بعد الاستبراء. ولو أقر بالوطء، وقال: كنت أعزل-: لحقه الولد؛ لأن الماء قد سبق، وهو لا يحس به. ولو قال كنت أصبتها فيما دون الفرج-: هل يلحقه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يلحقه؛ لأن العلوق منه نادر، وكل موضع ألحقنا به نسب ولد الأمة-: لم يكن له نفيه باللعان؛ لأن له طريقاً إلى نفيه، سوى اللعان، وهو دعوى الاستبراء. ولو اشترى زوجته الأمة، فأتت بعده بولد- نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء-: لحقه بحكم النكاح، وله نفيه باللعان. وإن أتت بولد لأكثر من ستة أشهر- نظر: إن لم يكن السيد وطئها بعد الشراء، أو وطئها، ولكن أتت به لدون ستة أشهر من وقت الوطء: فإن كان لدون أربع سنين من وقت الشراء-: لحقه بملك النكاح، وله نفيه باللعان. وإن أتت به لأكثر من أربع سنين-: فهو منفي عنه باللعان، وإن وطئها في تلك اليمين، فأتت به لستة أشهر فصاعداً من وقت الوطء-: فهو يلحق به بملك اليمين، ولا يمكن نفيه باللعان.

وإذا أتت المرأة بولد عند عدم إمكان الوطء-: لا يلحق الزوج؛ مثل: أن نكح امرأة، فطلقها في المجلس، أو غاب عنها غيبة لا يحتمل وصوله إليها، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الغيبة-: لا يلحقه. وقال أبو حنيفة إمكان الوطء ليس بشرط، حتى لو نكح امرأة، فطلقها في المجلس، أو كان علق طلاقها بالنكاح-: فكما نكحها طلقت، فإذا أتت بولد لستة أشهر-: لحقه، ولأكثر: لا يلحقه، ولو غاب عن زوجته سنين، حيث لا يحتمل وصوله إليها، فأتت بأولاد في غيبته-: لحقوه فألحقوا به النسب في النكاح مع عدم الإمكان، ونفوا عنه في ملك اليمين مع حقيقة الوطء، وهذا خلاف المعقول، والله أعلم.

كتاب [العدد]

كِتَابُ [العِدَدِ] بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الآية. العدة: اسم لمدة تربص المرأة لاستبراء رحمها، وهي تارة تكون بوضع الحمل، وتارة بالأشهر، وتارة بالأقراء: فإن كانت المرأة حاملاً-: فعدتها بوضع الحمل، سواء وقعت الفرقة بالموت، أو في الحياة، لقوله عز وجل: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وإن كانت حائلاً- نظر: إن وقعت الفرقة بموت الزوج-: فيجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، سواء كان قبل الدخول أو بعده. وإن وقعت الفرقة في الحياة- نظر: إن كان قبل الدخول-: فلا عدة عليها، وإن كان بعد الدخول- نظر: إن كانت المرأة ممن لم تحض قط، أو بلغت سن الآيسات-: فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كانت ممن تحيض-: فعدتها ثلاثة أقراء. والقرء، اسم يقع على الطهر والحيض جميعاً.

واختلفوا في أن المحسوب في العدة زمان الطهر أم زمان الحيض، والقروء المذكورة في القرآن ما هي؟ فعند الشافعي- رضي الله عنه-: هي الأطهار، وهو المروي عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعائشة؛ وهو مذهب الفقهاء السبعة، وهو قول الزهري، ومالك. وذهب جماعة إلى أنها الحيض؛ وهو قول علي- رضي الله عنه- وابن عباس، وابن مسعود، وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، رضي الله عنهم أجمعين. دليلنا: قوله سبحانه وتعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: لقبل عدتهن؛ كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: في يوم القيامة. أمر بالطلاق للعدة، وأجمعوا أن الطلاق المأذون فيه هو الطلاق في حال الطهر؛ فدل أن المحسوب من العدة هو زمان الطهر. وفائدة الخلاف: أن مدة العدة- عندنا-، وعندهم أطول، حتى لو طلقها في حال الطهر: يحسب بقية الطهر قرءاً. وإن حاضت عقيبة في الحال: فإذا شرعت في الحيضة الثالثة-: انقضت عدتها، وإن طلقها في حال الحيض: فإذا شرعت في الحيضة الرابعة-: انقضت عدتها. وعند أبي حنيفة: ما لم تطهر من الحيضة الثالثة، إن كان في الطلاق في حال الطهر، أو من الحيضة الرابعة، إن كان الطلاق في حال الحيض-: لا يحكم بانقضاء عدتها. ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض-: تنقضي عدتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقل منه-: لا تنقضي حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، ويمضي عليها وقت الصلاة، وليس في كتاب الله ولا سنة الرسول شرط الغسل لانقضاء العدة. وإذا شرعت في الحيضة الثالثة أو الرابعة-: تنقضي عدتها برؤية الدم؛ رواه المزني والربيع. ولا يتوقف على مضي يوم وليلة، وتلك اللحظة لا تكون من صلب العدة، ولكن يتبين بها انقضاؤها.

وحكى البويطي: أن عدتها لا تنقضي حتى يمضي من الحيضة [الآخرة] يوم وليلة- فمن أصحابنا من جعل فيها قولين: أصحهما: تنقضي برؤية الدم؛ لأن الله تعالى لم يوجب إلا ثلاثة قروء. والثاني: يشترط مضي يوم وليلة؛ لتتحق أنه حيض. ومنهم من قال على اختلاف الحالين، حيث قال تنقضي برؤية الدم، أراد: إذا رأت الدم على عادتها، وحيث شرط مضي يوم وليلة- أراد: إذا رأت على خلاف عادتها. ولو قال لامرأته: أنت طالق في آخر طهرك، أو في آخر جزء من أجزاء طهرك-: هل يقع سنياً أم بدعياً؟ فيه وجهان. وهل يحسب ذلك قرءاً؟ فيه وجهان يبنيان على أن القرء ماذا؟ فيه جوابان: أحدهما: هو اسم الانتقال؛ فعلى هذا يحسب قرءاً بوجود الانتقال من الطهر إلى الحيض عقيب الطلاق، ويكون الطلاق سنياً. والثاني: هو اسم لطهر احتوشه دمان؛ فعلى هذا لا يحسب قرءاً، ويكون الطلاق بدعياً؛ وهذا أصح؛ نص في "الأم" عليه. وإذا استحيضت المعتدة- نظر: فإن كانت مميزة-: فأيام الدم القوي لها حيض، وأيام الدم الضعيف لها طهر، فإذا مضت لها ثلاثة أقراء على ذلك-: خرجت عن العدة. وإن لم تكن مميزة- نظر إن كانت معتادة-: فتعتد بثلاثة أقراء؛ على قدر عادتها في الطهر والحيض، وإن كانت عادتها متباعدة مثلاً في كل سنة مرة: فإن كانت مبتدأة-: فإنها ترد إلى يوم وليلة في الحيض؛ على أصح القولين، وإلى ست أو سبع؛ على القول الثاني-: فهذا القدر لها حيض من كل شهر، وباقي الشهر طهر، ونعني بالشهر: ثلاثين يوماً. وابتداؤه من أول ما رأت الدم، فلها في كل شهر قرء كامل. وإن كانت ناسية لا تذكر شيئاً من حيضها، ولا من طهرها-: ففيه قولان:

أحدهما: كالمبتدأة. والثاني وهو الأصح-: عليها أن تعمل بالاحتياط أبداً. وعلى القولين جميعاً تنقضي عدتها في ثلاثة أشهر، حتى لا تبقى كالمعلقة أبداً، وتعتبر الأشهر في حقها بالأهلة، ويجعل حيضها في أول كل هلال؛ لأنا لا نجد في حقها أصلاً يعتبر به أولى من الأهلة؛ لأن الله تعالى جعلها مواقيت للناس، والغالب من عادات النساء أنهن يحضن في كل شهر مرة. ثم المزني نقل، فقال استقبلنا بها الحيض من أول هلال يأتي عليها بعد وقوع الطلاق، فإذا هل هلال الرابع-: انقضت عدتها، وقال في رواية الربيع: فإذا هل هلال الثالث: انقضت عدتهان وليس على قولين، واختلفوا فيه: منهم من قال: هي على حالين، فإن طلقها، وقد بقي من الشهر خمسة عشر فأقل-: فلا يحسب بقية ذلك الشهر قرءاً؛ لاحتمال أن كله حيض، ويشترط بعد شهر الطلاق مضي ثلاثة أشهر.

فإذا هل هلال الرابع-: انقضت عدتها. وما ذكره في رواية الربيع، أراد به أنه إذا طلقها، وقد بقي من الشهر أكثر من خمسة عشر يوماً-: فيحسب بقية ذلك الشهر قرءاً؛ لأنا نتيقن أن جزءاً منه طهر. فإذا هل هلال الثالث: انقضت عدتها. ومنهم من قال- وهو الأصح-: إن بقية الشهر يحسب قرءاً، ون لم يبق منه إلا قليل، لأنا نجعل حيضها من ابتداء كل شهر، فلا يكون بعده إلا شهران، فحيث قال: إذا هل هلال الرابع حسب في العددة من الشهر الذي وقع فيه الطلاق-: فجعله مع الشهرين بعده ثلاثة. وإن كانت المستحاضة ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً، أو يومين نقاءً، ثم دماً؛ بحيث لا يتخلل بين الدمين أقل الطهر-: فعدتها لا تنقضي في أقل من ثلاثة أشهر، سواء قلنا تلفق الدماء، أو لا تلفق، لأن الواجب عليها أن تعتد بثلاثة أقراء كوامل، والأطهار المتخللة بين الدماء؛ إن أعطينا لها حكم الطهر في وجوب الغسل والصلاة والصوم؛ على أحد القولين، لكن كل واحد ليس بطهر كامل، بل كلها طهر واحد يفرق بين الدماء، فيتم لها في كل شهر قرء، والله أعلم. فَصْلُ المعتدة إذا ارتفعت حيضتها بعد أن حاضت مدة قبل بلوغها سن الآيسات- نظر: إن ارتفعت من مرض، أو رضاع ولد، أو ولد بباطنها-: فعليها أن تعتد بالأقراء، وإن طالت المدة-: فينتظر زوال العلة، ثم تكمل المدة. وإن ارتفعت لغير عارض-: ففيه قولان: قال في الجديد- وهو المذهب: وبه قال علية العلماء-: عدتها لا تنقضي حتى يمضي بها ثلاثة أقراء، أو تبلغ سن الآيسات، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ كما لو كان انقطاع دمها لعارض؛ لأن الله تعالى قال: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وهذه ليست من الآيسات، ولا من اللائي لم يحضن. وفي القديم قولان: أحدهما: تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الغالب أن الحمل لا يبقى في البطن أكثر من تسعة أشهر، ويروى هذا عن عمر، رضي الله عنه. والثاني: تتربص أربع سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن براءة الرحم لا تتيقن إلا بمضي أربع سنين.

فَصْلُ إذا مات صبي لا يجامع مثله يجب على امرأته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر؛ لأنها تجب تعبداً؛ بدليل وجوبها قبل الدخول، فلو كانت امرأة هذا الصبي حاملاً-: لا تنقضي عدتها بوضع الحمل منه؛ لأن الحمل منه لا يتصور. وكذلك: البالغ إذا مات أو طلق امرأته، وامرأته حامل بولد لا يحتمل أن يكون منه، بأن أتت به لدون ستة أشهر من يوم النكاح، أو أتت به لأكثر، ولكن لا يتصور وصول الزوج إليها-: فعدتها لا تنقضي بوضع الحمل. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: إن كان الحمل بها ظاهراً يوم وفاته، أو طلاقه-: تنقضي عدتها بوضعه. وإذا ثبت أن عدتها لا تنقضي بوضعه- فينظر في الحمل: إن كان من وطء شبهة-: فبعد وضع الحمل-: تعتد عن الزوج؛ لأن العدتين من شخصين لا تتداخلان. وإن كان حملها من زنا- نظر: إن كانت عدة الزوج عدة طلاق، فإن كانت بالأشهر: فإذا مضى لها، ثلاثة أشهر قبل الوضع-: تنقضي عدتها، وإن كانت بالأقراء نظر: إن كانت المرأة لا ترى الدم على الحبل، أو كانت ترى، وقلنا: الدم الذي تراه الحامل لا يكون حيضاً-: فعليها أن تعتد عن الزوج بعد وضع الحمل بثلاثة أقراء. وإن كانت ترى الدم على الحبل، وقلنا: الحامل تحيض-: فيحسب ذلك عن عدة الزوج على الصحيح من المذهب، وقيل: لا يحسب الحيض على الحمل عن العدة؛ لأنه لا يدل على براءة الرحم. وإذا مات الممسوح: يجب على امرأته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر، فإن مات أو طلق امرأته- وهي حامل- لا تنقضي عدتها بوضع الحمل على الصحيح من المذهب؛ لأنه لا يتصور منه الحمل. وفيه قول آخر: أنه تنقضي عدتها بوضع الحمل؛ لاحتمال العلوق بالتساحق، أما من كان مسلول الخصيتين، وذكره باق- فهو كالفحل في أنه يب على امرأته عدة الطلاق، وإن كانت حاملاً تنقضي عدتها بوضع الحمل. وإن كان الزوج مجبوباً وأنثياه سليمتان- نظر: إن ظهر بامرأته حمل-: يثبت نسبه منه، وتنقضي عدتها منه بوضعه، وإن لم يكن بها حمل: يجب عليها عدة الوفاة، ولا يجب عليها عدة الطلاق؛ لأنها تجب بالدخول، والدخول منه لا يتصور، والله أعلم بالصواب.

فَصْلُ إذا طلق امرأته التي بلغت سن الإياس، وانقطع حيضها بعد الدخول بها-: يجب عليها أن تعتد بثلاثة أشهر؛ وكذلك التي لم تحض قط، وإن كانت في سن تحيض فيه النساء؛ لقول الله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. والاعتبار في بلوغها سن الآيسات: بنساء عشيرتها من قبل الأب والأم، فإذا بلغت سناً-: ينقطع فيها حيض نساء عشيرتها، وانقطع حيضها؛ فهي آيسة، وإذا انقطع قبلها-: لا تكون آيسة. وفيه قول آخر: أنه يعتبر إياس نساء العالم، وهي اثنان وستون ستة. ولو ولدت امرأة لم تر حيضاً قبله، ولا نفاساً بعده، ولزمتها العدة-: ففي عدتها وجهان: أحدهما: تعتد بالشهور؛ لظاهر الآية. والثاني: لا تعتد بالشهور؛ بل هي كمن ارتفعت حيضتها في غير أوانه؛ لأنها لا تحمل إلا وهي من ذوات الأقراء، وكل موضع أوجبنا عليها الاعتداد بالأشهر فإن طلقها منجزاً: فينكسر الشهر الأول؛ لأنه- وإن طلقها في أول الشهر- فالتلفظ بكلمة الطلاق يستدعي مضي زمان شهر؛ إذ بعده يكون بالهلال؛ سواء خرج ناقصاً أو كاملاً، حتى لو طلقها بعد مضي خمسة أيام من الشهر-: تنقضي عدتها بعد مضي خمسة أيام من الشهر الرابع، إن خرج شهر الطلاق كاملاً. وإن خرج ناقصاً-: فبعد مضي ستة أيام من الشهر الرابع: فإن أتت الساعة التي طلقها فيها من ليل أو نهار-: تنقضي عدتها. وإن كان قد علق طلاقها بانسلاخ الشهر، أو قال: أنت طالق مع آخر جزء من آخر الشهر. فإذا وقع الطلاق بانسلاخ الشهر-: تعتد بثلاثة أشهر كلها بالأهلة؛ لأن الشهر لا ينكسر ههنا. وإذا اعتدت الصغيرة بالأشهر، ثم حاضت بعدها-: لا يجب عليها أن تعتد بالأقراء، وإن حاضت قبل مضي الأشهر الثلاثة-: عليها أن تعتد بالأقراء، وإن بقي من الشهر ساعة-: وجب؛ لأنها قدرت على الأصل قبل الفراغ من البدل؛ كالمتيمم: يجد الماء في خلال التيمم: يجب أن يتوضأ، ثم هل يحسب ما مضى قرءاً؟ فيه وجهان:

أحدهما: وهو قول ابن سريج: يحسب؛ لأنهطهر بعده حيض، فكان كطهر قبله حيض. والثاني: وهو قول أبي إسحاق-: لا يحسب كذات الأقراء، إذا اعتدت بقرء، ثم أيست-: عليها أن تعتد بثلاثة أشهر، ولا يحسب ما مضى شهراً. وبعض أصحابنا قالوا: هذا بناءً على أن القرء اسم لماذا؟ وفيه جوابان: أحدهما: اسم للانتقال؛ يقال: قرأ النجم؛ إذا انتقل من برج إلى برج، فعلى هذا: يحسب قرءاً؛ لوجود الانتقال. والثاني: اسم لطهر احتوشه دمان؛ فعلى هذا: لا يحسب قرءاً. أما الآيسة: إذا عاودها الدم قبل انقضاء الأشهر الثلاث: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، ويحسب ما مضى قرءاً. ولو عاودها الدم بعد انقضاء الأشهر: فهل يجب عليها أن تعتد بالأقراء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ كالصغيرة إذا رأت الدم بعد الأشهر. والثاني: وهو المذهب-: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، سواء رأت الدم بعد ما نكحت أو قبله، وإن كانت نكحت-: فالنكاح باطل؛ بخلاف الصغيرة، لأن الصغيرة جوز لها الاعتداد بالأشهر؛ لعلة أنها لا تحيض، وذلك لا يرتفع بحيضها من بعد، والآيسة جوز لها؛ لعلة الإياس، وبان برؤية الدم أنها لم تكن آيسة. وقيل: القولان فيما إذا لم تكن قد نكحت، فإن كانت قد نكحت، ثم رأت الدم-: لا يبطل النكاح، ولا يجب عليها الاعتداد بالأقراء، فحيث قلنا: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، فإن رأت الدم مرة، ثم لم يعاودها الدم- يجب عليها استئناف الاعتداد بثلاثة أشهر، والله أعلم. فَصْلُ قال الله تبارك وتعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الآية. المعتدة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل، سواء انفصل الولد عنها حياً أو ميتاً، ولو أسقطت سقطاً ظهر فيه خلق الآدميين من سن أو ظفر، أو ظهر فيه التخطيط-: تنقضي العدة به. وإن أسقطته بضرب ضارب-: يجب على الضارب به الغرة والكفارة.

وإذا أسقطت أمة من سيدها-: تصير به أم ولد له، ولو ألقت مضغة لم يظهر فيها شيء من خلق الآدميين-: يرى القوابل، فلو قال أربع نسوة من أهل العدالة والمعرفة: إنه لحم الولد، وقد ظهر فيه تخطيط باطن-: [تتعلق بها هذه الأحكام، فإن قلن هو لحم ولد، ولكن لم يظهر فيه تخطيط]، أو شكن في ظهور التخطيط-: نص على أن العدة تنقضي به، ونص على أن الجارية لا تصير أم ولد له، ولا يجب على الضارب الغرة به، إذا ألقته بضربه، واختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل في ثبوت هذه الأحكام قولين: أحدهما: لا يتعلق بها شيء من هذه الأحكام؛ لأنها تتعلق بالولد، ولا يتناوله اسم الولد؛ كما لو ألقت علقة. والثاني: تتعلق به هذه الأحكام بقول القوابل: إنه لحم الولد؛ كما لو قلن: ظهر فيه التخطيط. ومنهم من قال- وهو للأصح-: "لا يتعلق به شيء من هذه الأحكام، ما لم يتبين فيه شيء من خلق الآدميين ظاهراً أو باطناً يعلمه أهل الصنعة، ونصه في العدة محمول عليه. ومنهم من فرق بين هذه الأحكام على ظاهر النص، فقال: لا تجب الغرة؛ لأن الأصل براءة ذمته؛ فلا تنشغل إلا باليقين. وأمومة الولد لا تثبت؛ لأن ثبوتها بحرية الولد، ولم يوجد الولد حتى يحكم بحريته. أما العدة تنقضي؛ لأنها تنقضي [بدون اللحم، وهو] الدم، فباللحم أولى. ولو شكت القوابل: أن هذا لحم ولد أم دم جامد: فلا يتعلق به شيء من هذه الأحكام. ولو اختلف الزوجان، فقالت: أسقطت ما ظهر فيه خلق الآدميين، وأنكر الزوج، وكان ما أسقطت بائناً-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها مؤتمنة-: في العدة. وإذا رأت الحامل الدم على الحبل: لا تنقضي به عدتها. وإن جعلناه حيضاً؛ لأنه لا يدل على براءة الرحم، بخلاف زمان الإرضاع، إذا رأت فيه الدم-: تنقضي عدتها، وإن كانت حاملاً بولدين، فوضعت أحدهما-: لا تنقضي به عدتها. [وإن جعلناه حيضاً؛ لأنه لا يدل على براءة الرحم] حتى لو كان الطلاق رجعياً-:

يجوز للزوج مراجعتها قبل وضع الثاني ولو طلقها-: يقع الطلاق. وكذلك: لو كانت حاملاً بولد، فخرج بعضه-: لا تنقضي عدتها ما لم ينفصل الكل. وإذا كانت المرأة تعتد بالأقراء أو بالأشهر، فظهر بها حمل من الزوج-: عليها الاعتداد بوضع الحمل؛ لأن وضع الحمل دليل على براءة الرحم من جهة القطع، والأقراء من جهة الظاهر، فإذا جاء القطع-: سقط حكم الظاهر. أما إذا عرتها الريبة قبل مضي الأقراء والأشهر-: لا يجوز لها أن تنكح بعد مضيها، حتى تزول الريبة، فإن نكحت: فباطل. ولو عرتها الريبة بعد انقضاء العدة- نظر: إن كان بعدما نكحت لا يحكم ببطلان النكاح؛ لاتصال حق الزوج الثاني به، إلا أن يتحقق الحمل يوم النكاح؛ فيحكم ببطلانه. وإن كان قبل النكاح-: فالأولى ألا تنكح حتى تزول الريبة، فلو نكحت-: ففيه قولان: أحدهما: لا يصح ما لم تزل الريبة، كما لو عرتها الريبة قبل مضي الأقراء. والثاني: يكون موقوفاً على تبين الحمل، فإن وضعت لأقل من ستة أشهر-: بانت أنها كانت حاملاً، ولم يصح النكاح، ولو راجعها الزوج بعد مضي الأقراء قبل زوال الريبة-: لا خلاف أنه يتوقف على اليقين، والله أعلم. فَصْلُ إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً بخلع، أو استيفاء ثلاث طلقات، أو فسخ الناكح بعيب، أو لاعن عنها، ولم ينف الحمل، ثم أتت بولد لأربع سنين فأقل من وقت الفراق- فهو يلحق بالزوج، سواء أقرت بانقضاء العدة أو لم تقر إلا أن ينفيه باللعان. وأن أتت به لأكثر من أربع سنين-: فهو منفي عنه بلا لعان، سواء أقرت بانقضاء عدتها أو لم تقر. وعند أبي حنيفة: يلحقه إن أتت به لأكثر من ستة أشهر إلى سنتين، إذا لم تقر بانقضاء عدتها، فإن أقرت بانقضاء عدتها، ثم أتت به لأقل من ستة أشهر-: يلحقه، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر-: لا يلحقه، وبه قال ابن سريج: أنها إذا أقرت بانقضاء العدة، ثم أتت

بولد لستة أشهر فصاعداً-: لا يلحقه؛ كالأمة: إذا صارت فراشاً بالوطء، فاستبرأها سيدها، ثم أتت بعد الاستبراء بولد لستة أشهر فصاعداً-: لا يلحقه. والأول المذهب؛ لأن فراش النكاح أسرع ثبوتاً وأبطأ ارتفاعاً، فإنه يثبت بمجرد العقد، ويثبت فيه النسب بالإمكان؛ بخلاف فراش ملك اليمين. أما إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً-: فمدة أربع سنين من أي وقت تعتبر؟ فيه قولان: أصحهما: من وقت الطلاق؛ كما في حق البائنة. والثاني: تعتبر من وقت انقضاء العدة؛ لأن خصائص النكاح لا تزول بالطلاق الرجعي؛ فزمان الرجعة كزمان صلب النكاح. خرج منه أنها [لو] أتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت انقضاء العدة-: لا يلحقه، وإن أتت به لأربع سنين فأقل من وقت الطلاق: يلحقه. وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق ولأربع سنين فأقل من وقت انقضاء العدة-: هل يلحقه؟ فعلى قولين. فإن قلنا: تعتبر من وقت الطلاق-: فهي كالبائنة؛ لا يلحقه، سواء أقرت بانقضاء العدة أو لم تقر. وإن قلنا: تعتبر من وقت انقضاء العدة-: فإن أقرت بانقضاء العدة، ثم أتت بعد الإقرار بولد لأكثر من أربع سنين-: لا يلحقه. وإن لم تقر بانقضاء عدتها-: فمن أصحابنا من قال: يلحقه، وإن مضت سنون كثيرة، وليس بصحيح، بل إذا مضت بعد الطلاق ثلاثة أشهر، ثم أربع سنين-: فلا يلحقه ما لم تلد بعده؛ لأن الغالب أن العدة تنقضي بثلاثة أشهر؛ فكل موضع ألحقنا به النسب-: نجعلها معتدة إلى أن تضعه، وللزوج الرجعة، إن كان الطلاق رجعياً، ولها النفقة والسكنى. ولو قال لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فأتت بولدين- نظر: إن كان بينهما أقل من- ستة أشهر-: لحقاه جميعاً، ووقعت طلقة بالأول، وانقضت عدتها بالثاني. وإن كان بينهما ستة أشهر فأكثر-: طلقت بالأول، وهل يلحقه الثاني أم لا؟ نظر: إن كان الطلاق بائناً: فالثاني منفي عنه بغير اللعان؛ لأنه لا يتصور العلوق به في النكاح؛ بخلاف ما لو لم يكن الطلاق معلقاً بالولادة: يلحقه الولد إلى أربع سنين؛ لاحتمال العلوق في النكاح. ولو كان الطلاق رجعياً-: فهل يلحقه الثاني؟ إن قلنا: يعتبر أربع سنين من وقت

الطلاق-: لا يلحقه؛ كما في البائنة، وإن قلنا: يعتبر من وقت انقضاء العدة-: يلحقه، إذا أتت به لأربع سنين فأقل من وقت ولادة الأول. ولو أتت بثلاثة أولاد- نظر: إن كان الكل حملاً واحداً؛ بأن كان بين الأول والثالث أقل من ستة أشهر-: لحقه الكل، وطلقت بالأول، وانقضت عدتها بالثالث. وإن كان بين الأول والثاني أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أكثر من ستة أشهر-: لحقه الأولان، وانقضت عدتها بالثاني، ولا يلحقه الثالث، سواء كان الطلاق بائناً أو رجعياً؛ لأن العلوق بالثالث لا يتصور في النكاح، ولا في العدة. وإن كان بين الثاني والأول أكثر من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أقل-: لحقه الأول، وهل يلحقه الآخران؟ نظر: إن كان الطلاق بائناً-: فلا يلحقه الآخران، وإن كان رجعياً-: فعلى القولين. وإن كان بين الثاني والأول أكثر من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث كذلك-: فالثالث منفي عنه. وأما الثاني: إن كان الطلاق بائناً-: فمنفي عنه، وإن كان رجعياً-: فعلى القولين. قال الشيخ: إن كان بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر، وبين كل اثنين أقل من ستة أشهر-: فالثاني مضموم إلى الأول، وهما حمل واحد يلحقانه، والثالث منفي عنه. وكل موضع قلنا: لا يلحقه الثاني-: لا تنقضي عدتها به، ونصه أن عدتها تنقضي به أراد به: إذا ادعت المرأة على الزوج أنه راجعها بعد الطلاق، أو وطئها بشبهة، والولد منه، فالقول قول الرجل في أنه لم يراجعها ولم يطأها، فتنقضي عدتها بوضعه؛ لأن بزعمها أن الولد منه، كما لو نفى الرجل حملها باللعان-: تنقضي عدتها بوضعه؛ لأن بزعمها أنه منه. وإذا أتت المعتدة بالولد لأكثر من أربع سنين، وادعت أن الزوج راجعها إن كان الطلاق رجعياً، أو نكحها، إن كان الطلاق بائناً، أو وطئها لشبهة، والولد منه- نظر: إن صدقها الزوج على استحداث الفراش، وأنكر أن يكون الولد منها، بل قال: استعرته أو التقطته فالقول قوله مع يمينه؛ كما في صلب النكاح؛ فإن نكل عن اليمين-: حلفت، ولحقه الولد، إلا أن ينفيه باللعان. وإن أقر أن الولد منها، وأنكر استحداث الفراش-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه يحلف على البت أنه لم ينكحها، ولم يطأها، فإن حلف-: انتفى عنه باللعان. وإن نكل حلفت المرأة، ولحقه الولد، إلا أن ينفيه باللعان، وإن ادعت على الوارث

بعد موت الزوج أن مورثك راجعني أو نكحني-: فالقول قول الوارث مع يمينه، وهو بمنزلة المورث إلا أنه يحلف على العلم، فيقول: لا أعلم أن مورثي نكحك أو وطئك، وإذا نكل، وحلفت المرأة-: لحقه، ولا يمكنه نفي الولد باللعان، بخلاف المورث: كان له نفيه. إذا ثبت أن الولد يلحق الزوج المطلق إلى أربع سنين-: فذلك إذا لم تستحدث المرأة فراشاً، فإن نكحت المرأة بعد انقضاء عدتها، ثم أتت بولد- نظر: إن أتت به لدون ستة أشهر من يوم نكاح الثاني-: جعل كأن النكاح لم يوجد. فإن كان لأربع سنين فأقل من وقت طلاق الأول-: فهو ملحق بالأول، وإن كان لأكثر-: فمنفي عنهما. وإن أتت به لستة أشهر فأكثرمن يوم نكاح الثاني-: فهو للثاني. وإن كان لأقل من أربع سنين من يوم طلاق الأول؛ لأن فراش الأول قد انقطع بالثاني، ولو وطئت في العدة بالشبهة، أو نكحت في العدة، فوطئها الزوج جاهلاً بتحريمه، فأتته بولد لستة أشهر فأكثر من يوم إصابة الثاني، ولأربع سنين فأقل من وقت طلاق الأول-: يرى القائف، فلو وطئت بالشبهة بعد انقضاء عدتها من الأول-: فهل ينزل منزلة النكاح الصحيح في قطع فراش الأول؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى؛ حتى لو أتت بولد لستة أشهر فأكثر من وقت الوطء: يلحق الواطئ وإن كان لدون أربع سنين من وقت طلاق الأول. والوجه الثاني: لا يقطعه؛ كما لو وطئت بالشبهة في العدة حتى لو أتت بالولد لستة أشهر فأكثر من وقت الوطء لأربع سنين فأقل من وقت الطلاق: يرى الولد القائف- فبأيهما ألحقه: التحق به. وإذا غاب الرجل عن زوجته فطلقها، أو مات في الغيبة، ثم أتاها الخبر بعد مدة-: تكون عدتها من وقت الطلاق والموت لا من وقت بلوغ الخبر إليها، سواء ثبت موته أو طلاقه بخبر مستفيض، أو سمعته من ثقة حر أو عبد، رجل أو امرأة؛ وهو قول عامة العلماء. روى عن علي أن عدتها من وقت بلوغ الخبر إليها. وقال عمر بن عبد العزيز: إن ثبت موته ببينة-: فعدتها من وقت الموت، وإن ثبت بالسماع-: فمن وقت العلم.

فَصْلُ قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] الآية. إذا وقعت الفرقة بين الزوجين في الحياة قبل الدخول-: لا يجب عليها العدة، فلو طلقها، واختلفا في الإصابة، فقال الزوج: أصبتها-: فلي الرجعة، وأنكرت المرأة-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الإصابة. ولو أقام الزوج بينة على إقرارها بالإصابة-: فلا يقبل إلا من رجلين؛ لأن مقصوده إثبات الرجعة، والرجعة لا تثبت إلا برجلين عدلين. وإن قالت المرأة: أصبتني؛ فعليك تمام المهر، وأنكر الزوج-: فالقول قوله مع يمينه، فلو أقامت المرأة رجلاً وامرأتين، أو شاهداً واحداً وحلفت معه على إقراره بالإصابة-: يقبل؛ لأن مقصودها إثبات المال، والمال يثبت برجل وامرأتين وبشاهد ويمين. ولو أنكر الزوج الإصابة، وحلف عليها، فأتت المرأة بولد لستة أشهر فأكثر من وقت النكاح، ولدون أربع سنين من وقت الطلاق-: يلحقه النسب، إلا أن ينفيه باللعان. وهل يحكم بالإصابة حتى يجب كمال المهر؟ نقل المزني: أنه يجعل مصيباً، وعليه كمال المهر. قال الربيع: وفيه قول آخر: أنه لا يجعل مصيباً؛ لاحتمال أنها استدخلت ماءه فعلقت منه، ولا يجب به كمال المهر؛ فحصل قولان: أحدهما: القول قوله، ولا يجب إلا نصف المهر؛ لاحتمال العلوق بالاستدخال، والإتيان فيما دون الفرج. والثاني: القول قولها مع يمينها، ويجب كمال المهر؛ لأن الغالب أن العلوق يكون بالإصابة، ويندر بالاستدخال؛ فقد يقوى به جانبها. فإن قلنا: القول قولها-: فلا رجعة للزوج؛ لأنه منكر للإصابة، فقوله على نفسه مقبول، والله تعالى أعلم بالصواب. باب/ عدة الأمة قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "يُطَلِّقُ العَبْدُ تَطْلِيقَتْينِ، وَتَعْتَدُّ الأَمَةُ

حَيْضَتَيْنِ" والتي لاَ تَحِيضُ شَهْرَيْنِ أَوْ شَهْراً وَنِصْفاً. الأمة إذا لزمتها العدة: فإن كانت حاملاً-: فانقضاء العدة بوضع الحمل؛ كالحرة. وإن كانت حائلاً- نظر: إن لزمتها عدة وفاة الزوج-: فعليها أن تعتد شهرين وخمس ليال؛ على نصف الحرة. وإن فارقها الزوج في الحياة بعد الدخول- نظر: إن كانت من ذوات الأقراء-: تعتد بقرأين؛ لأن القرء الواحد لا يتنصف، فتكمل كالطلاق، وإن كانت من ذوات الأشهر-: فعلى قولين: أحدهما: تعتد بشهرين؛ لأن الأشهر بمقابلة الأقراء. والثاني: تعتد بشهر ونصف؛ لأن الشهور تقبل التنصيف؛ بخلاف الأقراء؛ كما تعتد عن الوفاة بشهرين وخمس ليالي. وخرج قول من استبراء أم الولد: أنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الماء لا يظهر أثره في الرحم بدون ثلاثة أشهر. ولو وطئت أمة بنكاح فاسد أو بشبهة نكاح-: عليها أن تعتد بقرأين؛ كما في النكاح الصحيح، وإن وطئت بشبهة ملك اليمين-: تستبرئ بقرء واحد. فَصْلُ إذا عتقت الأمة في خلال العدة- نظر: إن كانت رجعية-: ففي الجديد- وهو المذهب-: يجب عليها أن تكمل عدة الحرائر. وفي القديم قولان. وإن كانت بائنة-: ففي القديم: تقتصر على عدة الإماء، وفي الجديد قولان. وعند أبي حنيفة: إن كانت رجعية-: تكمل عدة الحرائر؛ لأن زمان الرجعة كزمان صلب النكاح. وإن كانت بائنة: تقتصر على عدة الإماء، وهذا أصح الأقوال على مذهبنا؛ كما أن الرجعية إذا مات عنها زوجها-: تنتقل إلى عدة الوفاة، والبائن لا تنتقل. ولو طلق العبد زوجته الأمة طلاقاً رجعياً، فعتقت في خلال العدة: فإن اختارت الفراق: تبني على عدتها أم تستأنف؟ حكمه حكم ما لو طلق الرجعية، وفيه طريقان. وإن أخرت الاختيار حتى راجعها الزوج، ثم اختارت قبل الدخول-: فهو كما لو

راجعها، ثم طلقها قبل الدخول-: هل يجب استئناف العدة؟ وفيه قولان: فإن قلنا: تستأنف العدة في هاتين الصورتين-: عليها عدة الحرائر. وإن قلنا: تبني-: ففي الجديد: تكمل عدة الحرائر. وفي القديم: قولان؛ لأنها رجعية. وإن كانت بائنة، فعتقت-: لا خيار لها لارتفاع النكاح بينهما، وتبني على عدتها. وكذلك: لو نكحها الزوج بعد العتق، ثم طلقها قبل الدخول-: تبني على عدتها. ثم في القديم: تقتصر على عدة الإماء. وفي الجديد: قولان. بَابُ عِدَّةِ الوَفَاةِ قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]. رُوِيَ أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الحَارِثِ الأَسْلَمِيَّةَ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنْصْفِ شَهْرٍ، فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: "قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي من شِئْتِ". إذا مات رجل-: يجب على امرأته عدة الوفاة، سواء مات قبل الدخول أو بعده، ثم إن كانت حاملاً-: فعدتها بوضع الحمل، وإذا وضعت: حلت. وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة، فإن كانت حائلاً-: فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، سواء كانت من ذوات الأقراء أو لم تكن، صغيرة كانت أو كبيرة، فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام-: فالشهر الثاني والثالث والرابع يكون بالأهلة، وإن خرجت ناقصة-: فتكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً، ثم تضم إليها عشرة أيام، حتى يأتي

الوقت الذي مات فيه الزوج من اليوم الأول، فإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام؛ فيكون بعد ذلك الشهر أربعة أشهر بالأهلة، وتكمل العشر من الشهر السادس [فترد الكسر إلى العشر]، وإن كانت محبوسة، ولم يكن هناك من يخبرها بالأهلة-: اعتدت بأربعة أشهر وعشر بالأيام، وهو مائة وثلاثون يوماً، وإذا تمت أربعة أشهر وعشراً-: انقضت عدتها، وإن لم تر عادتها من الحيض فيها. وعند مالك: لا تنقضي حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام. وإذا طلق زوجته، ثم مات- وهي في العدة- نظر: إن كان الطلاق بائناً-: فإنها تكمل عدة الطلاق، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة، وإن كانت حاملاً-: قال الشيخ: لا تسقط نفقتها. فإن كان الطلاق رجعياً-: تسقط عدة الطلاق، وعليها أن تعتد عدة الوفاة من يوم موته أربعة أشهر وعشراً، وعليها الإحداد، ولا نفقة لها في العدة، وقال أبو حنيفة: المبتوتة في المرض يلزمها عدة الوفاة، ولا تسقط عدة الطلاق، فتعتد بأبعدهما انقضاءً؛ غير أن عدة الطلاق ثلاث حيض من يوم الطلاق، وعدة الوفاة من يوم الموت. وإذا طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل البيان: فمن كانت منهما حاملاً-: تنقضي عدتها بوضع الحمل. ومن كانت حائلاً، فإن كان قبل الدخول بها-: تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأن كل واحدة بين أن تكون مطلقة: فلا عدة عليها، وبين أن تكون زوجة؛ فعليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشر. وكذلك: إذا كان بعد الدخول بها، ولكنها من ذوات الأشهر؛ لأنها بين أن تكون مطلقة-: فعدتها بثلاثة أشهر، وبين أن تكون زوجة-: فبأربعة أشهر وعشر؛ فتأخذ بالاحتياط. وإن كانت من ذوات الأقراء-: فعليها أن تعتد بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر، أو ثلاثة أقراء؛ أوجبنا الأقراء؛ لاحتمال أن الفرقة وقعت بالطلاق، وأوجبنا الأشهر لاحتمال أنها وقعت بالموت، إلا أن الأقراء تحسب من وقت اللفظ، والأشهر من يوم الموت، حتى لو مضى منها قروء بعد اللفظ، ثم مات الزوج-: تعتد بأربعة أشهر وعشر، فيها قرءان. هذا إذا عين واحدة بقلبه. أما إذا لم يعين واحدة بقلبه، ومات قبل التعيين-: فإن قلنا: لو عين تكون عدتها من وقت اللفظ-: فالحكم هذا.

وإن قلنا: عدتها من وقت التعيين-: فعليها أن تعتد بأقصى الأجلين من وقت الموت، ولا تحسب ما مضى من الأقراء في حال الحياة. هذا إذا كان الطلاق بائناً، وإن كان الطلاق رجعياً-: عليها أن تعتد من وقت الموت بأربعة أشهر وعشر، عين أو لم يعين، لأن الرجعية إذا مات زوجها-: تنتقل إلى عدة الوفاة. ولو نكح رجل نكاحاً فاسداً، ففرق القاضي بينهما، فإن فرق القاضي بينهما، أو مات الزوج قبل الدخول بها-: فلا عدة عليها، وإن كان بعد الدخول - نظر: إن كانت حاملاً-: فعدتها بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً-: فعدتها بثلاثة أقراء، إن كانت من أهلها، وإن لم تكن-: فثلاثة أشهر، سواء فارقها الزوج أو مات عنها، وتكون عدتها من وقت التفريق؛ لأن الفراش به يزول. وقيل من آخر الوطئات؛ وليس بصحيح. والتفريق: أن يفرق القاضي بينهما أو يتفقا على التفريق، أو يطلقها على أن النكاح صحيح، أو يموت عنها، فإن غاب عنها- نظر: إن لم يكن في عزمه أن يعود-: فمن وقت الغيبة. وإن كان في عزمه أن يعود-: فلا/ تكون مدة الغيبة من العدة حتى يتفرقا قطعاً. ولو وطئ امرأة بالشبهة، وأحبلها، ثم نكحها، ثم مات قبل الوضع-: هل تنقضي عدة الوفاة بوضع الحمل؟ فيه وجهان لابن سريج: أحدهما: لا تنقضي. والثاني: تنقضي بأقل الأجلين من وضع الحمل، أو مضي أربعة أشهر. قال الشيخ: وكذلك: لو طلقها بعد الدخول-: هل تنقضي العدتان بالوضع؟ فيه وجهان. بَابُ مُقَامِ المُطَلقَّةِ فِي بَيْتِهَا قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. وأراد بالفاحشة: أن تبدو على أحمائها، فيحل إخراجها، وتسقط سكناها كالناشزة، فعليها أن تعتد في بيت أهلها؛ وهو قول ابن عباس.

وقال ابن مسعود: المراد بالفاحشة: أن تزني، فتخرج، ويقام عليها الحد ثم ترد إلى منزلها. جملة المعتدات قسمان: معتدة عن فرقة النكاح، ومعتدة عن غير النكاح: أما المعتدة عن فرقة النكاح- لا تخلو: إما أن كانت عن فرقة الحياة، أو عن فرقة الوفاة: فإن كانت عن فرقة الحياة- لا تخلو: إما أن كانت عدتها عن فرقة الطلاق، أو عن غير الطلاق: فإن كان عن فرقة الطلاق- نظر: إن كانت رجعية-: فإنها تستحق النفقة والكسوة والسكنى، حاملاً كانت أو حائلاً؛ لأنها في معنى الزوجات، ونعني بالسكنى مؤنة السكنى. وإن كانت بائنة بخلع أو ثلاث طلقات-: فلها السكنى، حاملاً كانت أو حائلاً. وقال ابن عباس: لا سكنى لها؛ وهو قول أحمد وإسحاق، ولا تستحق النفقة والكسوة، إن كانت حائلاً، وإن كانت حاملاً-: تستحقها؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقال أبو حنيفة: تستحق النفقة، حاملاً كانت أو حائلاً. وإن كانت عدتها عن غير فرقة الطلاق نظر: إن كان ملاعنة- فهي كالمطلقة ثلاثاً: تستحق السكنى، وتستحق النفقة والكسوة، إن كانت حاملاً. وإن فسخ أحدهما النكاح بعيب وجد بصاحبه، أو بغرور-: فهي كالموطوءة بالشبهة. وإن كانت الفرقة بسب رضاع أو صهرية أو خيار عتق-: فقد قيل: هي كالموطوءة بالشبهة. والمذهب: أنها كالمطلقة ثلاثاً؛ لأنها لم تكن بسبب كان موجوداً يوم العقد، ولا بسبب يستند الفسخ إليه، فيجعل مفسوخاً من أصله؛ بدليل وجوب المسمى، وفي العيب والغرور-: كان بسبب في العقد ولذلك وجب مهر المثل. أما المعتدة عن فرقة الوفاة-: فلا نفقة لها، ولا كسوة، حاملاً كانت أو حائلاً، وهل تستحق السكنى؟ فيه قولان: أحدهما: لا تستحق السكنى، وهو قول علي. وابن عباس وعائشة- رضي الله عنهم- ومذهب أبي حنيفة، واختيار المزني.

والثاني: تستحق؛ وهو قول عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأم سلمة- رضي الله عنهم- ومذهب مالك. واختلافُ القَوْلَيْنِ مِنْ حديثِ فُرَيْعَة بنْتِ مَالكٍ أخت أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنهم- قُتِلَ زَوْجُهَا، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي؛ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلُكُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم- "نَعَمْ" فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الحُجْرَةِ، أَوْ فِي المَسْجِدِ دَعَانِي، فَقَالَ: "امْكُثِي فِي بَيْتِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ". واختلفوا في تنزيله: قيل: لم يوجب في الابتداء، ثم أوجب؛ فصار الأول منسوخاً. وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أمر استحباب لا وجوب. أما المعتدة من غير فرقة النكاح؛ كالموطوءة بالشبهة، وبالنكاح الفاسد-: فلا سكنى لها، وسكنت حيث شاءت. أما النفقة والكسوة: فإن كانت حائلاً-: لا تستحقها. وإن كانت حاملاً-: فقولان؛ بناءً على أن النفقة في المطلقة للحامل للحمل أو للحامل؟ وفيه قولان: أصحهما: أنها للحامل؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، أضاف النفقة إليهن إلا أنه اختص بحالة الحمل؛ لأن الزوج مستمتع برحمها في حالة الحمل؛ فصار كصلب النكاح؛ والدليل عليها: أنها تتقدر بحالها، ولها المطالبة والإبراء. والقول الثاني: أنها للحمل؛ بدليل أنها لا تستحق في حال الحيال. فإن قلنا: للحامل-: فلا تستحقها الموطوءة بالشبهة، والنكاح الفاسد، والمفسوخة نكاحها بالعيب والغرور. وإن قلنا: للحمل: فلهن النفقة، فحيث قلنا: لا سكنى للمعتدة: إما من وطء الشبهة، أو في عدة الوفاة على أحد القولين، فتبرع الزوج أو الوارث بها-: أسكنها حيث شاء؛ صيانة لمائه، وحفظاً لنسبه.

فَصْلُ يجب على المعتدة ملازمة البيت، ولا يجوز لها الخروج لغير ضرورة أو حاجة، وإن أذن لها الزوج في الخروج؛ لما فيه من حق الله تعالى. ولو أرادت الخروج-: للزوج منعها؛ صيانة لمائه، وإن كان [الزوج] ميتاً-: فلورثته منعها عن الخروج؛ لأنهم يقومون مقام الزوج في حفظ النسب ودفع السكنى، فلو خرجت لغير حاجة-: عصت، ولكن لا يمتنع انقضاء عدتها، فإن اضطرت إلى الخروج بأن خافت هدماً أو حريقاً أو غرقاً-: فلها أن تخرج؛ سواء كانت العدة عن طلاق أو وفاة، وكذلك: لو كانت تتأذى من الجيران، ولم تكن الدار حصينة-: فلها الانتقال عنها. وإن كانت بها حاجة من شراء طعام، أو بيع غزل، أو شراء قطن أو نحو ذلك: نظر: إن كانت رجعية-: فليس لها الخروج؛ لأن على الزوج كفايتها، وإن كانت بائنة-: فلا يجوز لها الخروج بالليل؛ لأن الليل زمان السكون لا زمان الاكتساب، فأما بالنهار-: فيجوز في عدة الوفاة؛ لما روي عن مجاهد؛ أن رجالاً استشهدوا بأحد، فقالت نساءهم: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا، فنبيت عند إحدانا، فأذن لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كانت وقت النوم تأتي كل امرأة إلى بيتها. أما في عدة البينونة-: هل يجوز لها الخروج بالنهار للحاجة؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يجوز؛ لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. وقال في الجديد- وهو الأصح-: يجوزُ؛ لَمَا رُوِيَ عَنْ جابر قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي ثَلاَثاً، فَخَرَجَتْ تَجُدُّ نَخْلاً، فَنَهَاهَا رَجُلُ، فَأَتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرتْ لَهُ، فَقَالَ: "اخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أَنْ تُصْدَقِي مِنْهُ، أَوْ أَنْ تَفْعِلِي خَيْراً". ولأنها معتدة بائنة؛ فجاز لها الخروج بالنهار للحاجة؛ كالمتوفى عنها زوجها، إن وجب عليها حق- نظر: إن أمكن استيفاؤه في منزلها-: لا تخرج، وإن كان حداً-: توجه عليها، أو توجه عليها يمين في دعوى، فإن كانت برزة-: تخرج ويقام عليها الحد،

وتحلف، ثم ترد إلى منزلها، وإن كانت مخدرة-: بعث الحاكم إليها من يقيم الحد عليها، ويحلفها في منزلها، والله أعلم. فَصْلُ روي أن فاطمة بنت قيس بت زوجها طلاقها، فأمرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، قال ابن المسيب: كان في لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها. وكل امرأة أوجبنا لها على الزوج السكنى-: فيختص ذلك بالوضع الذي وجد فيه الفراق، إن كان ملكاً للزوج لقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أراد به بيتاً تسكنه المرأة لا بيتاً تملكه؛ بدليل أنه جوز إخراجها عند البذاءة، ولا يجوز إخراجها عن ملكها؛ بسبب البذاءة فإن بذت على أحماءها-: تسقط سكناها، وعليها أن تعتد في بيت أهلها، وإن كانت البذاءة من الأحماء-: فإنهم ينقلون، ويتركون المسكن لها، وهذا إذا كانت مع الإحماء في دار واحدة، وهي واسعة تسع جميعهم، وإن كانت الدار ضيقة لا تسع لهم جميعاً-: ينقل أهل الزوج، وتترك الدار للمرأة. وإن كانت هي في دار، وأهل الزوج في أخرى-: فلا تنقل عنها بالبذاءة. وإن كانت الدار تسكنها بكراء-: فعلى الزوج الكراء. وإذا انقضت مدة الإجارة، أو كانت عارية، فرجع المعير، أو انهدمت الدار، أو كان في جوار الفسقة يخشى عليها-: فعلى الزوج نقلها إلى موضع آخر قريب منها، وفي العارية: إن طلب المعير الكراء-: فعلى الزوج الكراء، وإن طلب أكثر من أجرة مثلها-: فله نقلها، وإن كان الزوج نزل على أبي زوجته: فإن رضي أب المرأة بإقرارها في منزله؛ وإلا نقلها الزوج إلى دار قريب منها، ويتحرى أقرب المواضع إلى ذلك الموضع؛ كالزكاة إذا لم يكن في بلد وجوبها من يستحقها-: نقلها إلى أقرب البلاد إليه، وإن كان المسكن للمرأة-: لزمها أن تعتد فيه، ولها طلب الزوج بأجرة المسكن، لأن سكناها عليه، وعليه أن يسكنها دار تليق بحالها، وتصلح لمثلها في السعة والضيق، ويعتبر حالها يوم الطلاق، قال الله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ} [الطلاق: 6] الآية. فإن طلقها، وهي في دار ضيقة لا تليق بحاله فإن رضيت بها؛ وألا فعلى الزوج أن ينقلها إلى أوسع منها، وإن كانت في دار أرفع مما تستحقه: فإن رضي الزوج بتركها؛ وألا نقلها إلى دار تليق بحالها. وليس للزوج أن يساكنها في تلك الدار، وإن كانت واسعة، إلا أن يكون معها محرم

لها من الرجال، أو معه ذوات محرم له؛ فيجوز مع الكراهية؛ لأنه يشق الاحتراز عن وقوع البصر عليها. وإن كانت فيها حجرتان، أو لها علو وسفل [و] لم يكن ممر أحدهما على الآخر-: ينفرد كل واحد بالمرافق والمطبخ والمستحم، فسكن كل واحد حجرة، وأغلقت دونه الباب، أو سكن أحدهما العلو، والآخر السفل-: جاز كالدارين المتجاورين. وإن كانت الدار ملكاً للزوج، فأفلس، أو مات بعد الطلاق، وعليه دين-: لا تباع تلك الدار في الدين، حتى تنقضي عدتها؛ لأنها استحقت سكناها، فكان حقها مقدماً في السكنى على حق الغرماء والورثة، كالدار المكراة، فلو بيعت الدار، سواء كان الزوج مفلساً أو لم يكن-: هل يصح بيعها أم لا؟ نظر: إن كان عدتها بالأشهر-: ففي صحة البيع قولان؛ كبيع الدار المكراة. فإن قلنا: يصح-: تقع مدة العدة مستثناة، وإن كانت تعتد بالأقراء أو بوضع الحمل-: فلا يصح البيع؛ لأن مدة انقضائه مجهولة. وإن كانت لها عادة مستقيمة في الأقراء أو وضع الحمل؛ لأن العادة قد تختلف؛ كما لو باع داراً، أو استثنى منفعتها مدة مجهولة-: لا يصح هذا، إذا سبق الطلاق. فأما إذا حجر على الزوج، ثم طلقها-: فالمرأة تضارب الغرماء بالسكنى، فيستأجر لها بحقها مسكن تسكن فيه؛ لأن حقها- وإن ثبت بعد حقوق الغرماء- إلا أنه يستند إلى سبب متقدم، وهو الوطء في النكاح، وكذلك: إذا لم يكن للزوج دار-: فالمرأة تضارب الغرماء بالسكنى، سواء كان الطلاق بعد الحجر أو قبله، ثم إن كانت عدتها بالأشهر-: تضارب الغرماء بكراء مثل تلك المدة؛ وكذلك: إذا كانت عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل؛ ولها عادة مستقيمة في الأقراء والحمل. ثم إن انقضت عدتها في أقل من ذلك-: ردت الفضل. وإن امتدت أكثر من ذلك-: أخذت الفضل من الغرماء؛ كما لو ظهر غريم آخر-: زاحمهم. قال الشيخ- رحمه الله-: فإن لم تظفر بالغرماء-: ترجع على المفلس بعدما أيسر. وإن كانت عادتها مختلفة-: ضاربتهم بالأقل، ثم إن جاوزت-: أخذت الزيادة من الغرماء، أو من المفلس إذا أيسر. ولو مات الزوج في خلال عدتها-: لا تسقط سكناها.

والمتوفى عنها زوجها: إذا قلنا: تستحق السكنى؛ فإن كانت الدار ملكاً للزوج-: لم يكن لورثة الزوج قسمتها، ما لم تقض عدتها؛ كمن اكترى داراً من جماعة-: لم يكن لهم قسمتها، فإن أرادوا التمييز؛ بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض شيء فإن قلنا: القسمة إقرار حق جاز. وإن قلنا: بيع-: فهو كالبيع على ما ذكرنا. وإن لم تكن الدار ملكاً للزوج-: فعلى الوارث أن يكتري داراً من تركته تسكنها المرأة، فإن لم يكن له وارث اكتراها السلطان من تركته، فإن لم يكن له مال-: عليها أن تعتد في بيت أهلها، ولا تجب السكنى على الوارث، ولا على أحد، غير أنه يستحب للإمام إن كان في بيت المال فضل مال: أن يكتري لها داراً تسكنها حسبة؛ خصوصاً إذا كانت تتهم بريبة. وإن كان الزوج غائباً، فإن كانت له دار-: فهي أحق بها، وإن لم يكن له مال-: يكتري عليه الحاكم من ماله داراً، إذا لم تجد من يتطوع بالمنزل، فإن لم يكن له مال-: يستقرض عليه؛ فإذا رجع-: عاد إليه، فإذا أذن لها في أن تكتري عليه-: جاز، ون اكترت بغير إذن الحاكم-: لا ترجع، وإن لم تقدر على الاستئذان من الحاكم-: رجعت عليه، إن نوت الرجوع، وإن لم تنو فلا، وكذلك-: في حال النكاح، لأن السكنى لا تصير ديناً في الذمة، حتى لو اكترت منزلاً سكنته مدة، ثم طلبت، فإنما يكون لهاحق من يوم طلبت؛ بخلاف النفقة: تصير ديناً؛ لأن النفقة بإزاء التمكين، وقد وجد؛ فلا تسقط بترك الطلب، والسكنى؛ لتحصين مائه حيث يشاء الزوج، ولم توجد. فَصْلُ إذا ثبت أن المرأة تعتد في الدار التي وقعت فيها الفرقة، فلو أذن لها زوجها في الانتقال من منزل إلى منزل آخر، ثم مات الزوج أو طلقها- نظر: إن مات أو طلق بعد الانتقال-: اعتدت في المنزل المنتقل إليه، سواء نقلت متاعها أو لم تنقل، وإن كان قبل الخروج من المنزل الأول-: تعتد في المنزل الأول، وإن نقلت متاعها. وعند أبي حنيفة: تعتد في المنزل الذي فيه متاعها. وعندنا: الاعتبار بالبدن؛ لأن العدة على البدن؛ حتى لو خرجت إلى المنزل الثاني، وعادت لنقل المتاع، أو لحاجة أخرى-: اعتدت في المنزل الثاني، كما لو خرجت إلى دار

جارها، وإن كانت في الطريق بين المنزلين-: ففيه وجهان: أحدهما: تعتد في المنزل الثاني، وهو الأصح؛ لأنها مأمورة بالمقام فيه ممنوعة من الأول. والثاني: لها الخيار بين أن تعتد في المنزل الثاني، وبين أن تعود إلى المنزل الأول، فتعتد فيه؛ لأنه لم يكن لها قرار في أحد المنزلين، وإن كان قد أذن لها بالخروج إلى موضع لنزهة أو أمر للانتقال-: عادت إلى المنزل الأول، واعتدت فيه. ولو أذن لها في الانتقال إلى بلد، ثم طلقها أو مات عنها- نظر: إن كان قبل خروجها عن عمرانات هذا البلد-: عليها أن ترجع وتعتد ههنا. وإن كان بعد دخول البلد المنتقل إليه-: تعتد هناك، وإن كان بعد خروجها عن عمرانات هذا البلد، قبل دخول البلد المنتقل إليه-: فعلى الوجهين؛ كما ذكرنا في الدارين: أصحهما: تعتد في المنتقل إليه. والثاني: هي بالخيار، إن شاءت رجعت فاعتدت ههنا، وإن شاءت اعتدت في المنتقل إليه. أما إذا كان في سفر تجارة، أو حج، أو زيارة، أو نزهة، أو سافر بها ثم مات، أو طلقها- نظر: إن كان قبل الخروج عن عمرانات هذا البلد-: فعليها أن تعتد ههنا. وإن كان بعد الخروج عن عمرانات هذا البلد-: فهي بالخيار، إن شاءت رجعت واعتدت ههنا، وإن شاءت مضت في سفرها، واعتدت ذاهبة وجائية. وقال الإصطخري: إن كان بعد الخروج من منزلها قبل مفارقة العمران-: فهو كما لو كان بعد مفارقة العمران، ولها الخيار بين المضي والرجوع. والأول أصح. فإن اختارت المضي في سفرها، أو كان موت الزوج، أو طلاقها بعد دخول البلد الذي [قصدته-: ففي الزيارة أو النزهة-: لا تقيم أكثر من ثلاثة أيام مقام السفر، وإن كان لقضاء حاجة] تقيم إلى قضائها. وفي الحج: تقيم إلى قضاء الحج، فإن قضت حاجتها في أقل من ثلاثة أيام-: لها أن تقيم ثلاثة أيام، وإن كان موته أو طلاقه بعد ثلاثة أيام أو بعد قضاء الحج-: عليها أن تعود في الحال.

وإن لم تجد رفقة، أو كان الطريق مخوفاً-: فلها أن تقيم هناك، وتعتد. وإن وجدت الرفقة، وكان الطريق آمناً، ولكنها علمت أن عدتها تنقضي في الطريق-: ففيه وجهان: أحدهما: ترجع؛ لأنها غير مأمورة بالمقام. والثاني: تمكث حتى تنقضي عدتها؛ لأن المقام أستر لها؛ بخلاف ما لو علمت أن عدتها لا تنقضي في الطريق؛ لأنها تقدر على أن تعتد بعض العدة في مكانها. وإن كان الزوج قدر لها مدة المقام شهراً أو شهرين-: فهل لها أن تقيم ذلك القدر أم لا تزيد على ثلاثة أيام؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المزني-: لها أن تقيم تلك المدة؛ لأنها مأذونة فيه. والثاني: لا تزيد على مقام السفر؛ لأنه لا معنى لإذن الزوج بعد زوال سلطانه بالموت، أو بالطلاق؛ فلو أذن لها بالخروج من منزل إلى منزل، أو من بلد إلى بلد، فطلقها بعد الخروج، واختلفا، فقال الزوج: أذنت للنزهة؛ فعليك الاعتداد في الدار المنتقل عنها، وقالت: بل للنقلة؛ فعلي الاعتداد في الدار المنتقل إليها-: نص على أن القول قولها مع يمينها، ونص فيما لو كان الخلاف بين المرأة ووارث الزوج بعد موته: أن القول قول الوارث مع يمينه. فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما: القول قول الزوج والوارث؛ لأن الأصل عدم النقلة. والثاني: القول قولها؛ لاتفاقها على الإذن. ومنهم من قال: هن على حالين؛ إن اختلفا في اللفظ، فقالت المرأة: تلفظت بالنقلة، وقال: بل قلت اخرجي للنزهة-: فالقول قوله مع يمينه، وإن اتفقا على أن اللفظ كان مطلقاً، فقال الزوج: أردت للنزهة، وقالت: أردت للنقلة-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن ظاهر الإذن للنقلة، والله أعلم. فَصْلُ البينونة إذا لزمتها العدة، وأهلها أهل نجعة يتنقلون-: فلها أن تنتقل معهم؛ لأن الانتقال في حقهم كالمقام في حق غيرهم. فإن أرادت أن تقيم في موضع مأمون حتى تنقضي عدتها-: فلها ذلك، ولو ارتحل بعض أهل الحي إلا أهلها، ولأهلها منعة-: ليس لها أن ترتحل؛ لأنه لا ضرر عليها في

المقام، وإن ارتحل أهلها، دون أهل الحي، وفيمن بقي منعة-: فهي بالخيار بين أن تقيم وتعتد في بيتها، وبين أن تنتقل مع أهلها؛ لأنها تستوحش دونهم. وإن هرب أهلها، وفيمن بقي من الحي منعة-: ليس لها أن تنتقل إذا لم تخف ما خاف منه أهلها؛ لأن الغالب في الهرب أنهم يعودون إذا أمنوا. ولو لزمتها العدة، وهي في دار الحرب-: لزمتها الهجرة والخروج إلى دار الإسلام؛ لأنها تخاف على نفسها ودينها بالمقام فيهم. ولو طلق زوجته في السفينة، أو مات عنها- نظر: إن خرج بها مسافراً-: فهي كالمسافرة، إن شاءت عادت إلى منزلها، وإن شاءت مضت ولم تقم إلا مقام السفر، ثم رجعت، فإن لم يكن لها منزل سوى السفينة؛ كالملاح-: فالسفينة كالدار. وإن كان فيها بيوت ترافقها متميزة-: اعتدت في بيت منها. وإن كانت صغيرة- نظر: إن كان معها محرم-: خرج الزوج، واعتدت هي فيها، وإن لم تكن-: خرجت هي، واعتدت في أقرب المواضع إليها؛ لأنه لا يمكنها المقام في السفينة وحدها. وإن لزمتها العدة، وهي محرمة: فإن كان وقت الحج واسعاً، أو كانت محرمة بعمرة-: عليها أن تقيم وتعتد، ثم تمضي في حجها وعمرتها. وإن كان الوقت ضيقاً-: عليها أن تمضي في حجها معتدة؛ لأن الإحرام سبق وجوب العدة. وإن أحرمت بعدما لزمتها العدة-: فليس لها الخروج، وإن كان الحج فرضا ًعليها، بل تقيم فتعتد؛ لأن العدة سبقت الإحرام، ثم من بعد انقضاء العدة، فإن كانت محرمة بعمرة-: أتمت عمرتها، وإن كانت محرمة بحج، والوقت باق-: أتمته، فإن فات الوقت-: تحللت بعمل العمرة، وعليها الدم والقضاء. ولو أذن لها زوجها في الإحرام، فقبل أن أحرمت: طلقها، ثم أحرمت-: فهو كما لو لم يتقدم الإذن؛ فعليها أن تقيم وتعتد، والله أعلم. بَابُ الإِحْدَادِ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أُمِّيِ المُؤْمِنِينَ- رَضِيَ الله عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- قَالَ:

"لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَث لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً". الإحداد على الميت هو إظهار التفجع والقلق وتغيير اللباس؛ وذلك لا يجوز على

ميت فوق ثلاث إلا المرأة: فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً، وهو أن تتخلى عما تدعو إليه شهوتها من الزينة والطيب، وذلك واجب على المرأة في عدة وفاة الزوج. أما المعتدة من الطلاق: إن كانت رجعية-: فلا إحداد عليها، ولها أن تضع ما يميل قلب الزوج إليها؛ ليراجعها. وإن كانت بائنة بخلع، أو استيفاء ثلاث طلقات، أو فسخ بعيب-: فهل عليها الإحداد؟ فيه قولان: أحدهما: وهو قول سعيد بن المسيب، ومذهب أبي حنيفة-: عليها الإحداد؛ كالمتوفى عنها زوجها. والثاني: لا يجب؛ لأن اليأس لم يقع عن معاودة الزوج إياها كالرجعية. أما المعتدة عن وطء الشبهة والنكاح الفاسد-: فلا إحداد عليها؛ كأم الولد. وقيل المفسوخة نكاحها كالموطوءة بالشبهة، ويجب الإحداد على الأمة والذمية والصغيرة والمجنونة، إذا مات زوجها، ويمنع الولي الصغيرة والمجنونة عما تمنع عنه العاقلة البالغة. وقال أبو حنيفة: لا إحداد على هؤلاء. وكيفية الإحداد ما رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قَالَ "لاَ تُحِدُّ امْرَأَةُ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشراً، وَلاَ تَلْبَسُ مَصْبُوغاً إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَمَسُّ طَيباً إِلاَّ إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةُ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ"؛ فلا يجوز للحادة الطيب، ولا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن، كان فيه طيب أو لم يكن؛ لأَنَّ فِيهِ تَزْيينَ الشَّعْرِ، ويجوزُ لها تدهينُ بدنها بدُهْن لا طِيبَ فِيه؛ كالشَّيرَج ونحوه. وإن كان فيه طيب؛ مثل دهن الورد والبنفسج والبان-: فلا يجوز؛ وكذلك: لا يجوز لها أكل طعام فيه طيب، فإن نبتت لها لحية-: لا يجوز لها تدهينها،-[وإن لم يكن فيه طيب]، لأن اللحية- وإن كانت قبيحة للنساء-: ففي تدهينها نوع زينة. ولا يجوز أن تكتحل بكحل فيه طيب، وإن لم يكن فيه طيب- نظر: إن كان أسود-: لا يجوز؛ لأن فيه زينة. فإن اضطرت إليه-: تكتحل ليلاً، وتمسحه بالنهار.

ولو استعملت الكحل الأسود في غير الحاجب والعين-: يجوز؛ وكذلك: لا يجوز لها أن تكتحل بالصبر، وهو شيء أصفر يحسن العين. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دخل على أم سلمة، وهي حادة على أبي سلمة، وقد جعلت على عينها صبراً، فقال: "ما هذا، يا أم سلمة؟ " قالت: هو صبر لا طيب فيه، قال: "اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار". وأما الكحل الفارسي الأبيض: يجوز أن تكتحل به ليلاً ونهاراً؛ لأنه لا زينة فيه، ولا يجوز لها استعمال الدمام، وهو شيء يطلى به الوجه للتحسين؛ وكذلك: الغمرة والإسفيداج. ولا يجوز لها أن تختضب، ولا أن تلبس الحلي من القرط والخاتم والخلخال أو نحوها. ولا يجوز لبس الحرير والديباج والوشي، ويجوز لها لبس البيض من الثياب من أي شيء كان من قطن أو كتان أو إبريسم، وإن كانت خشنة ناعمة؛ وكذلك: لبس الصوف والوبر والخز على أي لون كان، إذا لم تصبغ؛ لأن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليه. أما الثياب المصبوغة-: فعلى ثلاثة أقسام: قسم لا يراد به الزينة، وهو: الأسود، والكحلي يفعل ذلك لمصيبة، والوسخ؛ فيجوز لها لبسه؛ سواء كان الثوب من إبريسم أو غيره. وقسم يراد به الزينة؛ كالأحمر والأصفر الصافي؛ فلا يجوز لها لبسه. قال أبو إسحاق: إنما يمنع إذا صبغ بعد النسج، فأما إذا صبغ غزله، ثم نسج- فلا تمنع منه. والمذهب: أنه يحرم لبسه كيفما صبغ؛ للاتفاق على تحريم لبس الوشي والديباج؛ وذلك مما يصبغ غزله، ثم ينسج.

وقسم متردد، وهو: الأخضر والأكهب والأزرق، فإن كانت مشبعة تضرب إلى السواد-: لا يحرم عليها لبسه. وإن كانت صافية تضرب إلى الحمرة-: يحرم لبسه، وإن كان على الثوب الأبيض [طراز وعلم، فإن كان كبيراً-: لا يجوز لبسه، وإن كان صغيراً-: فوجهان: أحدهما: يجوز لبسه؛ لأنه زينة قليلة]. والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز لبس قليل الحلي ولا كثيرة. ويجوز للحادة التنظف بالاغتسال والاستحداد وتقليم الظفر، وغسل الرأس بالسدر، والامتشاط؛ لأنها ممنوعة من التزيين، لا من التنظيف، ويجوز لها كنس البيت، وتزيينه بالفرش، والجلوس عليها إذا لم يكن ديباجاً، لأن الإحداد على البدن لا على المكان. ولو تركت المرأة الإحداد-: تقضي عدتها، ولكنها تعصي الله بتركه، والله تعالى أعلم بالصواب. بَابُ اجْتِمَاعِ الْعِدَّتَيْنِ العدتان إذا كانتا من شخص واحد يتداخلان، إذا كانتا من جنس واحد؛ مثل: أن طلق زوجته، ثم وطئها في العدة جاهلاً، إن كان الطلاق بائناً، وإن كان رجعياً، فوطئها جاهلاًأو عالماً-: فيجب عليها أن تعتد من وقت الوطء بثلاثة أقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، أو بثلاثة أشهر، إن لم تكن من أهل الأقراء، ويدخل فيها بقية عدة النكاح. ويجوز له أن ينكحها في جميع ذلك، إذا لم يكن قد استوفى عدد الطلاق، وإن كان طلاق النكاح رجعياً-: يجوز له مراجعتها في قدر ما بقي من عدة النكاح، ولا رجعة له بعد ذلك. وإن كانت العدتان من جنسين؛ مثل: أن وطئها في عدة النكاح فأحبلها-: فعليها أن تعتد بوضع الحمل، وهل يدخل فيه بقية عدة الطلاق؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل؛ لأنهما عدتان من شخص واحد فيتداخلان؛ كما لو كانتا بالأقراء، أو بالأشهر. والثاني: لا تدخل، لأنهما جنسان؛ كالحدود: لا تتداخل عند اختلاف الجنس. فإن قلنا: يتداخلان-: فتنقضي العدتان بوضع الحمل، وهل له مراجعتها قبل وضع الحمل، إن كان الطلاق رجعياً؟

من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنها في عدة الطلاق، وإن وجبت عدة أخرى؛ كما لو كانت العدتان من جنس واحد-: يجوز له مراجعتها في بقية عدة الطلاق. ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن عدة الطلاق قد سقطت؛ فعدتها بوضع الحمل، وهي عدة الوطء: قال الشيخ: إن قلنا: يجوز مراجعتها، فإذا طلقها-: يلحقها الطلاق، وإذا مات أحدهما-: يرثه الآخر. وإن قلنا: لا يجوز مراجعتها-: فلا يلحقها الطلاق، ولا يتوارثان. وإن قلنا: لا تتداخل العدتان-: فلا تنقضي عدتها إلا بأقصى المدتين من مضي الأقراء أو وضع الحمل، ثم إن كانت المرأة لا ترى الدم على الحبل، أو كانت ترى الدم، وقلنا: ليس ذلك بحيض-: فهي معتدة بالحمل عن الوطء إلى أن تضع، وإذا وضعت-: فعليها أن تكمل بعد وضع الحمل بقية عدة الطلاق، ويجوز له مراجعتها في بقية عدة الطلاق بعد وضع الحمل، وهل له مراجعتها قبل الوضع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها في عدة وطء الشبهة. والثاني: يجوز؛ لأنها لم تكمل عدة الطلاق. وإن كانت ترى الدم على الحبل، وقلنا: ذلك حيض-: كانت عدتها من الطلاق بالأقراء، ومن الوطء بوضع الحمل، فإن تمت الأقراء قبل الوضع-: فقد انقضت عدة الطلاق، ويجوز للزوج مراجعتها قبل مضي الأقراء، ولا يجوز بعده؛ لأنها في عدة الوطء، وإن وضعت الحمل قبل تمام الأقراء، فقد انقضت عدة الوطء، وعليها أن تتم بقية عدة الطلاق. قال الشيخ- رحمه الله-: ويجوز له المراجعة قبل الوضع وبعده، إلى أن تتم الأقراء وجهاً واحداً؛ لأنها إذا كانت ترى الدم على الحبل، وجعلناه حيضاً-: فزمان الحمل محسوب في عدة الطلاق؛ كما إذا انقضت الأقراء قبل الوضع-: جازت المراجعة قبل مضي الأقراء، وإذا طلقها يلحقها الطلاق، وإذا مات أحدهما يرثه الآخر، وإذا مات الزوج تنتقل إلى عدة الوفاة. هذا إذا حدث الحمل من الوطء، فأما إذا طلقها، وهي حامل، ثم وطئها قبل وضع الحمل-: فعدة الطلاق- ههنا- بالحمل، وعدة الوطء بالأقراء. فإن قلنا: يتداخلان-: تنقضي العدة بوضع الحمل، ويجوز للزوج مراجعتها، إن كان الطلاق رجعياً، ما لم تضع الحمل.

وإن قلنا: لا يتداخلان- نظر: إن كانت لا ترى الدم على الحبل، أو كانت ترى الدم، وقلنا: ليس ذلك بحيض-: فعليها أن تعتد بعد وضع الحمل بثلاثة أقراء، وللزوج مراجعتها قبل وضع الحمل، ولا يجوز بعده؛ لأنها في عدة الوطء، وإن كانت ترى الدم على الحبل، وجعلناه حيضاً-: فالأقراء محسوبة عن عدة الوطء، وللزوج الرجعة إلى أن تضع الحمل، فإن وضعت الحمل قبل انقضاء الأقراء-: أتمت ما بقي من عدة الأقراء، ولا رجعة فيها، أما العدتان من شخصين-: فلا يتداخلان. وعند أبي حنيفة، ومالك: يتداخلان. بيانه: امرأة في عدة رجل من نكاح أو وطء شبهة، ثم وطئها رجل آخر بشبهة، أو نكحها، فوطئها جاهلاً بالحال، فقد اجتمع عليها عدتان: عدة من الأول، وعدة من الثاني، فعليها أن تعتد من كل واحد منهما. روي عن عمر- رضي الله عنه- أنه حكم بذلك، ولأنهما حقان مقصودان لآدميين؛ فلا يتداخلان كالدينين، وفي العدة معنى العبادة، والعبادتان لا تتداخلان؛ كالصومين والصلاتين، ثم لا يخلو: إما أن يكون بها حمل أو لم يكن: فإذا لم يكن بها حمل-: يجب عليها أن تكمل عدة الأول، ثم تستأنف العدة من الثاني، ثم إن كان الثاني وطئها بشبهة-: فمن وقت التفرق عن ذلك الوطء يتبنى على عدة الأول ثم تستأنف من الثاني. وإن كان الثاني نكحها، فما دامت في فراش الثاني-: لا يكون ذلك الزمان محسوباً عن عدة واحد منهما، وإن مضت بها أقراء، ومتى تنقطع عدة الأول؟ المذهب: أنها لا تنقطع، ما لم يطأها الثاني؛ لأن النكاح فاسد لا تصير المرأة به فراشاً، ما لم يوجد الوطء. وقال الشيخ القفال الشاشي: تنقطع بنفس النكاح؛ لأنها أعرضت عن عدة الأول بالناح، ثم متى تعود إلى عدة الأول؟ فالمذهب أنها تعود إليها من وقت التفريق بينهما. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: من آخر الوطئان، فإذا أكملت عدة الأول-: ابتدأ العدة من الثاني، وإنما قدمنا حق الأول؛ لأنه أسبق، وإن كان طلاق الزوج رجعياً-: يجوز له مراجعتها قبل إكمال عدته، وكما راجعها-: سقطت عدته، وشرعت في عدة الثاني.

وإن كان الطلاق بائناً-: فهل يجوز له أن ينكحها؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنها في عدته؛ كما جازت له مراجعتها، ثم كما نكحها-: تسقط عدته، وتبتدئ العدة من الثاني. والوجه الثاني: لا يجوز أن ينكحها؛ لأنه نكاح لا يتعقبه الحل؛ لأنه كما نكحها-: تشرع في عدة الثاني، بخلاف الرجعة؛ لأنه إمساك بحكم الدوام-: فلا يشترط فيه الحل؛ كما أن ابتداء نكاح المعتدة والمحرمة: لا يجوز، ولو لزمتها العدة في دوام النكاح، أو أحرمت-: لا يرتفع النكاح. ولو وطئت المرأة بالشبهة في نكاح رجل، ثم طلقها زوجها، فأي العدتين تقدم؟ فيه وجهان: أحدهما: عدة الوطء؛ لأنها أسبق، فإنها وجبت بالوطء، وعدة الزوج بالطلاق. والثاني: تقدم عدة الزوج؛ لأن وجوبها بسبب أقوى؛ وهو النكاح، وكان النكاح سابقاً. وقال الشيخ: فإن كان النكاح فاسداً، فوطئها الناكح أو وطئت بالشبهة، ثم فرق بينهما-: تقدم عدة الوطء بالشبهة وجهاً واحداً؛ لأن عدته تكون من وقت الوطء، وعدة الناكح من وقت التفريق. وإن كان بها حمل-: فتقدم عدة من يكون الحمل منه. فإن كان من الزوج: فإذا وضعت-: انقضت عدته، وابتدأت عدة الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس. ويجوز للزوج مراجعتها قبل الوطء، إن كان الطلاق رجعياً. وإن كان بائناً أو كان من وطء شبهة-: فهل يجوز أن ينكحها؟ فعلى وجهين. وإن كان الحمل من الثاني: فإذا وضعت-: خرجت من عدته، ثم تبني على عدة الزوج فتكملها، وبعد الوضع يجوز للزوج مراجعتها في بقية العدة، وإن كان الطلاق رجعياً، فإذا طلقها-: يقع، وإذا مات أحدهما-: يرثه الآخر، وإذا مات الزوج-: تنتقل إلى عدة الوفاة. فأما قبل الوضع-: هل يجوز له مراجعتها، إن كان الطلاق رجعياً-: جاز، وإن كان بائناً؟ فالصحيح من المذهب: أنه لا يجوز، لأنها ليست في عدته.

وقيل: يجوز؛ لأن عدته لم تنقض، والزوجية قائمة في الرجعية. قال الشيخ- رحمه الله-: وإذا طلقها الزوج قبل وضع الحمل-: يقع، إن كانت رجعية، وإذا مات أحدهما-: يرثه الآخر، وإذا مات الزوج-: تنتقل إلى عدة الوفاة، حتى إذا وضعته-: تعتد عن الزوج عدة الوفاة، وإن كان لا يصح رجعته؛ لأنا نجعل زمان الرجعة كزمان صلب النكاح. ولو أن منكوحة وطئت بالشبهة-: لزمتها العدة، ثم لا يستبيح الزوج وطأها في العدة، ولو طلقها-: يقع، ولو مات أحدهما-: يرثه الآخر، ولو مات الزوج-: يجب عليها عدة الوفاة، ولو نكحها الواطئ قبل الوضع-: لا يصح، وإن كانت في عدته؛ لأن حق الزوج باق عليها، وإن كان الحمل منفياً عنها بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني، فوضع الحمل لا يكون محسوباً عن عدة واحد منهما-: فبعد الوضع تكمل عدة الأول، ثم تستأنف العدة من الثاني. وإن كان الحمل يحتمل أن يكون من كل واحد منهما، فإذا وضعت-: يرى القائف، فإن ألحقه بالزوج-: انقضت عدتها منه، وتبتدئ العدة من الثاني. وإن ألحقه بالثاني-: انقضت عدتها منه بالوضع، وتبني على عدة الأول، فتكملها، وإن لم يكن قائف أو أشكل عليه أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، أو مات المولود-: فعليها أن تعتد بعد وضع الحمل بثلاثة أقراء؛ فتنقضي عدة أحدهما بوضع الحمل، وعدة الآخر بالأقراء. ثم لا يخلو: إما أن كان طلاق الزوج رجعياً أو بائناً، فإن كان رجعياً، وأراد مراجعتها-: يحتاج [إلى أن يراجعها مرتين-: مرة قبل الوضع ومرة بعده في بقية الأقراء: فإن كان بقي قرءان من عدة الأول، حين وطئها الثاني-: يراجعها في القرأين، فلو راجعها مرة واحدة-: لم تحل، لاحتمال أن العدة التي راجعها فيها من الثاني إلا على الوجه البعيد الذي يقول: إن الحمل إذا كان من الثاني-: يصح مراجعة الأول قبل الوضع-: فحينئذ: إذا راجعها مرة واحدة قبل الوضع-: يحل. أما إذا راجعها مرة واحدة بعد الوضع في القرأين-: فلا تحل وجهاً واحداً؛ لاحتمال أن الحمل منه- وإن انقضت عدته- فلو راجع مرة واحدة قبل الوضع، ثم بان أن الحمل منه، أو راجع بعد الوضع في القرأين، ثم بان أن الحمل من الثاني-: فهل تصح رجعته؟ فعلى وجهين؛ بناءً على ما لو باع مال أبيه؛ على ظن أنه حي؛ فبان أنه قد مات وانتقل المال إليه-: هل يصح أم لا؟ فيه وجهان.

أما إذا كان الطلاق بائناً، فنكحها مرة واحدة: إما قبل الوضع أو بعد الوضع في القرأين-: لم يصح، ولو نكحها مرتين-: فعلى وجهين، بناءً على ما لو خالع زوجته، فوطئت بالشبهة في العدة، ولم تحبل-: هل للزوج أن ينكحها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما تجوز الرجعة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه نكاح لا يتعقبه الحل: فإن قلنا هناك: يصح-: فههنا: يصح؛ وألا فلا يصح؛ لاحتمال أن الحمل من الأول؛ فلم يصح نكاحه قبل الوضع؛ لكون عدة الثاني في ذمتها، ولم يصح بعد في القرأين؛ لكونها في عدة الثاني، أما الواطئ الثاني: إذا نكحها قبل وضع الحمل أو بعده في القرأين-: فلا يصح؛ لأن حقهطرأ على دوام حق الأول؛ فكان حق الأول أقوى؛ لكونه سابقاً، فإن نكحها بعد الوضع في القرء الثالث-: يجوز؛ لأن الحمل: إن كان من الأول-: فهي في عدة الثاني، وإن كان الحمل من الثاني-: فهي خلية. ونفقة الولد وحضانته على من ألحقه به القائف، فإن لم يكن قائف-: فتكون عليهما جميعاً إلى أن يوجد القائف، أو يبلغ الصبي، فينسب إلى أحدهما، فإذا انتسب إلى أحدهما-: غرم الثاني ما أنفق الثاني عليه، وإذا مات الصبي: فثلث ماله للأم، والباقي يوقف بين المتداعبين حتى يصطلحا. وإن كان للأم ولدان آخران-: فلها السدس من ميراثه، والباقي موقوف بين الواطئين. وإن كان لأحد الواطئين ولدان-: فكم للأم من الميراث؟ فيه وجهان: أحدهما: الثلث؛ لأن الأخوين مشكوك فيهما، هل هما أخواه أم لا؟ والثاني: لها السدس؛ لأنه اليقين. أما نفقة المرأة في حال احتمال الولد بينهما على من تجب؟ أما قبل الوضع: لا نفقة لها على واحد منهما؛ لأنا لا نعلم أن الولد لمن؟ فإذا وضعت الحمل- نظر: إن ألحقه القائف بالأول-: فهل عليه نفقة زمان الحمل؟ نظر: إن كان في فراش الثاني إلى أن وضعت: فلا نفقة لها؛ لأنها كالناشزة، وإن فرق القاضي بينهما قبل الوضع-: فعليه نفقتها من وقت التفريق إلى وضع الحمل. وإن لم تكن في فراش الثاني بأن كان وطؤها بشبهة-: فعلى الأول نفقتها من حين طلقها إلى أن وضعت الحمل. وإن ألحقه القائف بالثاني-: فلا يجب على الأول نفقة زمان الحمل؛ إنما تجب عليه نفقة القرأين بعد الوضع، إن كان الطلاق رجعياً، وهل تجب على الثاني نفقة زمان الحمل؟

إن قلنا: النفقة للحمل، وتصير ديناً-: تجب، وإن قلنا: للحامل فلا تجب. وإن لم يلحقه القائف بواحد منهما-: فلا نفقة لها على الثاني، أما الأول: فإن كان طلاقه بائناً-: فلا نفقة عليه أيضاً؛ لأنا لا نعلم أن الحمل منه، وإن كان طلاقه رجعياً، وإن كان في فراش الثاني-: لا نفقة لها، وإن فرق بينهما-: فعلى الأول الأقل من نفقتها من يوم التفريق إلى الوضع، أو نفقتها في مدة القرأين بعد الوضع؛ لأنه اليقين. ولو نكحت المتوفى عنها زوجها بعد مضي شهرين من عدتها، وأصابها جاهلاً، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، ولا قائف-: فإن عدتها بوضع الحمل تنقضي من أحدهما لا بعينه؛ فعليها أن تعتد بعد وضع الحمل بشهرين وعشر ليال فيه ثلاثة أقراء عليها قضاؤها؛ فإن مضت الأقراء قبل مضي شهرين وعشر ليال-: تكمل شهرين وعشر ليال؛ لاحتمال أن الحمل من الواطئ، وإن مضى شهران وعشر ليال قبل إتمام ثلاثة أقراء؛ لاحتمال أن الحمل من الزوج-: فعليها الاعتداد عن الواطئ. ولو تزوجت حربية حربياً في العدة، فوطئها، ثم أسلما قبل انقضاء العدة-: هل تتداخل العدتان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتداخلان؛ فعليها أن تعتد من الأول ثم من الثاني. والوجه الثاني: وهو الأصح-: يتداخلان؛ لأن حق الحربي أضعف؛ فإن عرضه وماله عرضة للنهب والإبطال؛ فجاز إسقاط حقه؛ ألا ترى أنهما لو أسلما بعد انقضاء العدة يقران على ذلك النكاح، والله أعلم. فَصْلُ إذا خالع زوجته بعد الدخول، ثم نكحها في العدة-: تنقطع عدتها في الحال. وقال ابن سريج: لا تنقطع عدتها ما لم يطأها؛ كما لو نكحها أجنبي في العدة-: لا تنقطع العدة ما لم يطأها، وليس هذا بصحيح؛ لأن الزوج إذا نكحها-: يصح النكاح، وتصير المرأة فراشاً بالعقد، فلا يبقى مع الفراش عدة؛ ولأنه لا يجوز أن تكون زوجة له، وتعتد منه؛ بخلاف الأجنبي؛ لأن نكاحه في عدة الغير فاسد؛ فلا تصير المرأة فراشاً له ما لم يطأها؛ فلم تنقطع العدة إلا بالوطء. إذا ثبت أن عدته تنقطع بالعقد: فإن طلقها [نظر: إن كانت حاملاً] تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً: فإن مسها، ثم طلقها-: عليها إكمال العدة، وإن طلقها

قبل المسيس: فيجب عليها إتمام ما بقي من العدة الأولى، ولها نصف المهر. وعند أبي حنيفة: عليها إكمال العدة، ولها إكمال المهر. قلنا: هذا نكاح جديد وجد فيه الطلاق قبل المسيس-: فلا يوجب العدة وكمال المهر؛ كما لو نكح غيرها، فطلقها. قال الشيخ: ولو نكحها في العدة، ثم مات الزوج قبل الدخول بها يجب عليها عدة الوفاة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأن عدة الطلاق تسقط بوجوب عدة الوفاة؛ كما لو مات عن الرجعية. أما إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً، فراجعها، ثم طلقها- هل عليها استئناف العدة؟ لا يخلو: إما أن كانت حائلاً أو حاملاً. فإن كانت حائلاً- نظر: إن مسها، ثم طلقها-: يجب عليها استئناف العدة، وإن طلقها قبل المسيس-: ففيه قولان: أصحهما- وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني-: يجب عليها استئناف العدة؛ لأنها بالرجعة-: عادت إلى حكم النكاح الأول؛ فهذا طلاق صادف نكاحاً وجد فيه قبل الدخول؛ فيجب عليها كمال العدة؛ كما لو ارتدت بعد الدخول، ثم أسلمت، ثم طلقها-: تستأنف العدة. والثاني: تبنى على العدة الأولى، فتكملها؛ لأنها كانت محرمة عليه بالطلاق الأول؛ فصار كما لو أبانها ثم نكحها في العدة، ثم طلقها قبل الدخول-: لا يجب عليها الإتمام ما بقي من العدة الأولى. وإن كانت حاملاً، فراجعها، ثم طلقها- نظر: إن طلقها قبل وضع الحمل-: فعدتها تنقضي بوضع الحمل؛ سواء مسها أو لم يمسها، وإذا وضعت الحمل بعد ما راجعها، ثم طلقها- نظر: إن كان قد مسها-: يجب عليها استئناف العدة، سواء مسها قبل وضع الحمل أو بعده، وإن لم يمسها-: ترتب على الحائل: إن قلنا: الحائل تستأنف العدة-: فههنا: تستأنف العدة بالأقراء. وإن قلنا هناك: تبنى-: فههنا وجهان: أحدهما: لا عدة عليها؛ لحصول براءة الرحم بالوضع. والثاني: عليها أن تعتد بالأقراء.

أما إذا لم يراجعها، بل طلقها في عدة الرجعية، أو لاعن عنها- نظر: إن كانت حاملاً-: تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً-: تعتد بالأشهر، أو بالأقراء، فهل عليها استئناف العدة اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ كما لو راجعها، ثم طلقها قبل المسيس، لأن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية-: أوجب عدة، فإذا طرأ على الرجعية-: أوجبها كالوفاة، وللشافعي - رضي الله عنه- ما يدل على هذا؛ لأنه قال: يلزمه أن يقول: ارتجع أو لم يرتجع سواء. ومنهم من قال- وهو اختيار المزني، وبه قال أبو إسحاق، وهو الأصح-: إنها تبنيعلى عدتها قولا ًواحداً؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة؛ فصار كما لو طلقها طلقتين من وقت واحد فقال: أنت طالق وطالق، ولو طلق امرأته طلاقاً رجعياً؛ فلم يفترقا، وجعل يستفرشها، ويمسكها، ويخالطها مخالطة الأزواج-: فلا يحكم بانقضاء عدتها، وإن مضت بها أقراء؛ كما لو نكحت زوجاً غيره في العدة-: فزمان استفراشه لا يحسب عن العدة. أما إذا كانت حاملاً، فوضعت: تقضي عدتها. أما إذا كان الطلاق بائناً، وكان الزوج يخالطها أو يباشرها، ويطؤها-: لا يمنع انقضاء العدة؛ لأن وطأها زنا، والزنا لا يمنع انقضاء العدة. بَابُ امْرَأَةِ المَفْقُودِ وَعِدَّتِهَا إذا غاب رجل عن زوجته، وانقطع خبره، وخفي أثره-: لا يجوز للمرأة أن تنكح زوجاً آخر، حتى يأتيها يقين طلاقه أو وفاته، ثم تعتد وتنكح؛ يروى ذلك عن علي - رضي الله عنه- وهو قول أكثر أهل العلم، وهو المذهب. وقال في القديم: بعد ما خفي أثره-: تتربص المرأة أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً، ثم لها أن تنكح؛ وهو قول عمر- رضي الله عنه-.

وقال أبو حنيفة: تصبر حتى يبلغ سن الزوج مائة وعشرين سنة، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تنكح. فتقول: لما لم يجز الحكم بموته بعد انقطاع خبره في قسمة ماله وعتق أم ولده-: لم يجز الحكم بموته في فراق زوجته. فإن قلنا بقوله القديم-: فمدة أربع سنين من أي وقت تعتبر؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: من حين أمرها الحاكم بالتربص؛ لأنه مجتهد فيه؛ كمدة العنة. والثاني: من حين انقطاع خبره، وهو الأصح. فإذا نكحت على قولنا القديم، ثم عاد الزوج-: فهو بالخيار بين أن يفسخ النكاح، ويستردها، وبين أن يتركها، ويأخذ مهر المثل من الزوج الثاني. وأما على القول الجديد: إذا نكحت: فنكاحها باطل، فلو قضى قاض بصحة النكاح بعد زمان التربص: هل ينقص قضاؤه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينقص؛ لأنه كان بالاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد. والثاني: ذكره الشافعي- رضي الله عنه-: أنه ينقص؛ لأنه حكم مخالف للقياس الجلي، وهوأن يجعل الرجل حياً في حكم المال، ميتاً في حكم النكاح، فلو تزوجت ثم بان أن المقصود كان ميتاً وقت الحكم بالفرقة-: ففي القديم: يثبت النكاح، وهل يحكم بصحته في الجديد؟ فعلى وجهين؛ بناءً على ما لو باع مال أبيه على اعتقاد أنه حي، فبان أنه كان ميتاً، وصار المال له-: ففي صحة البيع وجهان. ونفقة المرأة دائرة على الزوج الغائب، ما لم تنكح، فإذا نكحت على أن الزوج ميت، أو بأمر الحاكم بعد زمان التربص-: سقطت عنه نفقتها؛ كما لو نشزت-: سقطت نفقتها. فإذا فرق القاضي بينهما- فلا نفقة لها ما دامت في عدة الثاني. وإذا خرجت من عدته، ورجعت إلى بيت الزوج الغائب-: فهل تستحق النفقة على الغائب قبل بلوغ الخبر إليه؟ فوجهان. وإذا رجع الغائب-: فهي زوجته؛ جاز له وطؤها بعد انقضاء عدة الثاني، فلو أتت بولد- نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، ولأربع سنين فأقل من غيبة الأول-: فهو للأول.

وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من غيبة الأول-: فهو للثاني. وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من غيبة الأول-: فهو منفي عنهما، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني، ولأربع سنين فأقل من غيبة الأول-: يحتمل كونه منهما؛ فيرى معهما القائف. هذا إذا كان غائباً غيبة-: لا تحتمل وصوله إليها في هذه المدة. فإن احتمل عوده ووصوله إليها، فأتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني-: فهو للأول بكل حال، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني-: يرى القائف، وإن كان لأكثر من أربع سنين من غيبة الأول فكل موضع جعلنا الولد للثاني-: فللزوج أن يمنعها من إرضاع الولد، إلا اللبأ، فإن النفس لا تعيش بدونه، وإن لم تكن مرضعة سواها-: لم يكن له منعها من الإرضاع. وهل يجب عليه نفقتها في زمان الإرضاع؟ نظر: إن لم تحتج إلى الخروج، ولم يقع الخلل في التمكين-: يجب. وإن وجد شيء من ذلك-: فلا نفقة لها. وإن وجب عليها الإرضاع، حتى لا يجوز للزوج منعها لعدم المرضعة، فأذن فيه-: هل تسقط نفقتها؟ فيه وجهان؛ كما لو سافرت بإذنه في حاجتها. ولو مات أحد الزوجين، وهي حائل - نظر: إن مات الأول-: عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن مات الثاني أو فرق بينهما-: تعتد بثلاثة أقراء، أو بثلاثة أشهر، إن اكنت ممن لا تحيض. وإن ماتا معاً-: تعتد عن الزوج أولاً عدة الوفاة، ثم تعتد عن الثاني بالأقراء. ولو مات الثاني، أو فرق القاضي بينهما، وشرعت في عدته، ثم مات الزوج، أو طلقها-: فأي العدتين تقدم؟ فيه وجهان: أحدهما: عدة الثاني؛ لأنها سابقة. والثاني: عدة الأول؛ لأنها وجبت بنكاح صحيح، ولو لم تدر أيهما مات أولاً-: فهو كما لو ماتا معاً. وإن كانت حاملاً-: تقدم عدة من الحمل منه، والله أعلم بالصواب.

بَابُ الاسْتِبْرَاءِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "عِدََّةُ أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا هَلَكَ َسِّيدُهَا، حَيْضَةُ". إذا أعتق الرجل أم ولده، أو مات عنها، وليست تحت زوج، ولا في عدة زوج أو أعتق جارية قد وطئها-: يجب عليها الاستبراء؛ لأنها كانت فراشاً للمولى، ومتى زال الفراش بعد الدخول-: تعقب التربص؛ كالحرة يفارقها زوجها ثم إن كانت حاملاً-: فاستبراؤها بوضع الحمل. وإن كانت حائلاً- نظر: إن كانت ممن تحيض-: فاستبراؤها بقرء واحد. وعند أبي حنيفة: استبراء أم الولد بثلاثة أقراء، ووافقنا من استبراء الأمة: فإن كانت من ذوات الأشهر-: ففيه قولان: أصحهما: تستبرئ لشهر واحد؛ كالتي تحيض: [تستبرئ بقرء واحد]. والثاني: بثلاث أشهر؛ لأن الحيضة الواحدة تدل على براء الرحم، وأقل مدة تدل على براءة الرحم من حيث الزمان: ثلاثة أشهر؛ لأن الماء لا يظهر أثره في الرحم قبل مضي ثلاثة أشهر، فإن كانت ممن تحيض-: فالقرء طهر أم حيض؟ فيه قولان: قال في القديم: طهر؛ كما في العدة. وقال في الجديد- وهو المذهب-: إنه حيض؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعله حيضاً في سبي "أوطاس"، ولأن الحيض أدل على براءة الرحم، بخلاف العدة؛ فإن الأقراء فيها متعددة، فتتخللها حيض دالة على براءة الرحم. فإن قلنا بقي طهر، فيشترط طهر كامل. فإن حصل العتق في الحيض، فحتى تطهر وتحيض، وإن حصل في الطهر، فحتى تحيض وتطهر، فإذا رأت الدم، حل لها أن تنكح. فإن قلنا: هو حيض، فيشترط حيضة كاملة، وإن كانت ممن تحيض، فارتفع حيضها، فحكمها في الانتظار حكم المطلقة، إذا ارتفع حيضها، فلو مرت بأم الولد حيضة، أو مدة

الاستبراء قبل العتق، ثم أعتقها سيدها، أو مات عنها، هل يحسب عن الاستبراء أم لا؟ فيه قولان: أصحهما: لا يحسب؛ لأن وقته بعد زوال الملك كالمنكوحة إذا مرت بها أقراء، ثم طلقها زوجها-: لا يحسب ذلك عن العدة. والثاني: يحسب؛ لأنه فراش يثبت بالوطء؛ فيزول بتكره؛ بدليل أنه يجوز له تزويجها قبل الإعتاق: فإن قلنا: لا يحسب، فلو مات أو أعتقها، وهي حائض-: لا تحسب تلك الحيضة حتى تطهر عنها، ثم تحيض وتطهر، وإن غرتها ريبة الحمل في حال الاستبراء-: فلا يجوز لها أن تنكح بعد مضي مدة الاستبراء حتى تزول الريبة. وإن غرتها الريبة بعد الاستبراء، فنكحت قبل زوال الريبة-: ففيه قولان كالحرة المرتابة، إذا نكحت. ولو زوج أم ولده، ثم مات السيد عنها، أو أعتقها-: لا استبراء عليها؛ وكذلك لو كانت في عدة الغير؛ لأنها صارت فراشاً لغيره، فهي مشغولة بحق الغير، فإن مات الزوج بعده، أو طلقها-: تعتد عن الزوج عدة الحرائر؛ وكذلك: لو مات السيد والزوج معاً. ولو مات الزوج قبل موت المولى أو إعتاقه-: فعليها أن تعتد بشهرين وخمس ليال، ولو مات السيد بعد موت الزوج- نظر: إن مات بعد مضي شهرين وخمس ليال-: فقد خرجت عن عدة الزوج، وهل عليها الاستبراء؟ فيه وجهان؛ بناءً على أنها هل تعود فراشاً بعد الخروج عن العدة؟ وفيه قولان: إن قلنا: تعود فراشاً-: يجب الاستبراء؛ وألا فلا. وإن مات السيد قبل مضي شهرين وخمس ليال-: فلا استبراء عليها. ثم في القديم وأحد قولي الجديد تقتصر على عدة الإماء. وفي الثاني: تكمل عدة الحرائر أربعة أشهر وعشراً. ولو شككنا أن السيد مات أولاً أو الزوج- نظر: إن كان بين الموتين أقل من شهرين وخمس ليال-: فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من موت أحدهما، ولا استبراء عليها، لأن السيد: إن مات أولاً- فقد مات، وهي في نكاح الغير؛ فعليها أن تعتد من الزوج عدة الوفاة عدة الحرائر، وإن مات الزوج أولاً-: فقد عتقت في خلال المدة بموت السيد؛ فتكمل عدة الحرائر في قول. وإن كان بين الموتين شهران وخمس ليال فأكثر، أو شككنا فلم ندر كان أقل أو أكثر-: يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، فيها حيضة من موت الآخر منهما؛ شرطنا

الاعتداد بأربعة أشهر وعشر؛ لاحتمال أن السيد مات أولاً، وشرطنا الحيضة؛ لاحتمال أن الزوج مات أولاً، وعادت فراشاً له بعد العدة. وإن كانت ممن لا تحيض يكفيها أربعة أشهر وعشر. وإذا شككنا أن السيد مات أولاً، أو الزوج-: لا نورثها من الزوج، ولا يوقف لها شيء؛ لأن الأصل فيها الرق. ولو مات سيد أم الولد، وهي في عدة شبهة-: قيل: يجب عليها بعد تلك العدة الاستبراء بحيضة؛ لأنها لم تصر فراشاً لغير سيدها؛ بخلاف ما لو كانت في عدة نكاح لا استبراء عليها. قال الشيخ: وفيه نظر؛ يحتمل ألا يجب عليها الاستبراء، إذا كانت في عدة شبهة. ولو وطئ الرجل جارية-: يستحب ألا يبيعها قبل الاستبراء، ولو باعها-: يصح. ولا يجوز تزويجها قبل الاستبراء. وكذلك: أم الولد لا يجوز تزويجها قبل الاستبراء، فإن أراد السيد أن يتزوجها بعد ما أعتقها قبل الاستبراء-: يجوز. وعند أبي حنيفة: الأمة الموطوءة يجوز للسيد تزوجها قبل الاستبراء؛ بناءً على أصله، وهو أن الأمة لا تصير فراشاً بنفس الوطء. وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز بيعها قبل الاستبراء. ولو باع رجل جارية، وظهر بها حمل، فقال البائع: هو مني، فإن صدقه المشتري-: فالبيع باطل، وإن كذبه-: لم يقبل قول البائع؛ كما لو ادعى بعد البيع؛ أنه كان أعتقه-: لا يقبل، وإن أقر بوطئها عند البيع- نظر: إن كان قد استبرأها، ثم باعها، فأتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء-: فالولد لاحق به، والبيع باطل، والجارية أم ولده. وإن أتت لستةأشهر فصاعداًمن وقت الاستبراء-: لم يلحقه؛ لأنه لو كان في ملكه-: كان لا يلحقه، ثم ينظر: إن لم يكن المشتري وطئها، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من وطئه-: فالولد مملوك له. وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من وطئه-: فهو يلحق بالمشتري، والجارية تصير أم ولده. وإن لم يكن البائع قد استبرأها- نظر: إن لم يكن المشتري وطئها-: فهو البائع، والبيع باطل. وإن وطئها، وأتت به لستة أشهر فصاعداً من وطئه، وكان لدون أربع سنين من وطئها-: فهي كالحرة أتت بولد على فراشين؛ يرى القائف.

فَصْلُ فِي اسْتِبْرَاءِ الأَمَةِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ نَهَىعَامَ سَبْيِ "أَوْطَاسِ" أَنْ تُوطَأَ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، أَوْ حَائِلُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً". من ملك أمة- لا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها، سواء ملكها بابتياع، أو اتهاب، أو قبول وصية وارث، أو سبي، أو كمل ملكه عليها، بأن كانت مشتركة بينه وبين غيره، فملك نصيب صاحبه، وسواء كانت الجارية صغيرة أو كبيرة، بكراً أو ثيباً، ملكها من رجل أو امرأة. وقال مالك: إن كانت ممن توطأ-: يجب الاستبراء؛ وألا فلا. والاستبراء بوضع الحمل إن كانت حاملاً، وإن كانت حائلاً- فبحيضة كاملة، إن كانت ممن تحيض، وإن كانت ممن لا تحيض- ففيه قولان: أحدهما: بشهر واحد. والثاني: بثلاثة أشهر؛ كما ذكرنا في أم الولد. وإنما ينقضي الاستبراء بوضع الحمل في المسبية. أما المشتراة إن كان حملها من زوج أو وطء شبهة-: فهذه معتدة [اشتراها]، فإذا وضعت خرجت عن العدة، وهل تخرج عن الاستبراء؟ فيه قولان: أحدهما: تخرج؛ كالمسبية، إذا وضعت حملها. والثاني: لا تخرج؛ لأن العدة كانت من الزوج، فلا يداخلها الاستبراء؛ كما أن العدة لا تنقضي بوضع حمل من غير صاحب العدة، بخلاف المسبية؛ فإن حملها من كافر؛ فلا يكون له من الحرمة ما يمنع من انقضاء الاستبراء، وإن كان حملها من زنا-: فلا ينقضي الاستبراء بوضعه. فإن كانت ترى الدم على الحبل، وقلنا: إنه حيض: فإذا مرت بها حيضة على الحبل-: تحسب عن الاستبراء على الصحيح من المذهب، وإن قلنا: ليس ذلك بحيض، أو كانت لا ترى الدم-: فيشترط أن يمر بها حيضة بعد وضع الحمل. ولو ملكها حائضاً-: لا تحسب تلك الحيضة عن الاستبراء، حتى يمر بها حيضة كاملة في ملكه، ولو حاضت بعد الملك قبل القبض- نظر: إن ملكها بإرث-: تحسب تلك

الحيضة، وإن ملكها بهبة؛ فلا تحسب؛ لأن الملك لا يحصل في الهبة قبل القبض، وإن ملكها بابتياع أو وصية-: فالمذهب: أنه يحسب؛ لأن عدم القبض لا يمنع الملك، وإن حاضت في زمان الخيار: فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع-: فلا تحسب تلك الحيضة، وإن قلنا: للمشتري أو موقوف-: فعلى وجهين: أحدهما: تحسب؛ لأنها حاضت في ملكه، وجواز الفسخ لا يمنع الاستبراء؛ كما لو اشتراها وبها عيب لم يعلم به. والثاني: لا تحسب؛ لأن الملك غير تام في زمان الخيار. وكذلك: لو وضعت الحمل في زمان الخيار: الأصح أنه لا يحسب عن الاستبراء حتى تمضي مدة النفاس، ثم تحيض وتطهر. وكما لا يجوز الوطء في زمان الاستبراء-: لا يجوز اللمس، ولا النظر بشهوة في المملوكة بغير السبي، وفي المسبية وجهان: أحدهما: لا يحل شيء منها؛ كما في المشتراة. والثاني: يحل ما سوى الوطء من الاستمتاعات؛ بخلاف المشتراة، والفرق: أن المشتراة والمملوكة بغير السبي يحتمل أن تكون أم ولد للغير؛ فلم يحصل له فيها الملك، فلم يحل له الاستمتاع، أما المسبية: فأسوأ أحوالها أن تكون أم ولد الحربي، فلا يمتنع به الملك، غير أنه يمنع من وطئها، حتى لا يؤدي إلى اختلاط الإنساب، وليس في سائر الاستمتاعات هذا المعنى. وكذلك: لو وطئت زوجته بالشبهة-: لا يحل له وطؤها قبل انقضاء العدة. وهل يحل له التلذذ بها من غير الوطء؟ فعلى وجهين. وهل يجوز للمشتري تزويجها قبل الاستبراء؟ نظر: إن كان البائع قد وطئها-: لا يجوز، إلا أن يزوجها من البائع، وإن لم يكن البائع وطئها، أو وطئها واستبرأها-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز له أن يطأها. والثاني: وهو الأصح-: يجوز؛ كالبائع لو أراد تزويجها-: [كان له] وبه قال أبو حنيفة. وكذلك: لو أعتقها المشتري في الحال، ثم أراد أن يزوجها من البائع، أو من غيره،

أو أراد أن يتزوجها بنفسه قبل الاستبراء هل يجوز؟ الأصح: جوازه، فإن جوزنا تزويجها قبل الاستبراء: فلو زوجها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول-: هل يجوز للسيد وطؤها قبل الاستبراء؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو اشترى جارية معتدة عن الغير، أو في نكاح الغير-: لا استبراء عليها في الحال؛ لأنها مشغولة بحق الغير، فإذا انقضت عدتها، أو كانت مزوجة، فطلقها زوجها قبل الدخول، أو بعدما دخل بها-: طلقها وانقضت عدتها، هل يجب الاستبراء على المشتري؟ فيه قولان. وكذلك: لو زوج الرجل أمته، فطلقها زوجها قبل الدخول أو بعده، وانقضت عدتها، أو وطئت بالشبهة، فانقضت عدتها-: هل يب على السيد الاستبراء أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب، ويجوز له وطؤها؛ لأن ملكه لم يزل؛ كما يوز تزويجها. والثاني: يجب؛ لأن الحل قد زال، ثم حدث؛ كما لو باعها ثم اشتراها. وأصل هذا: أن العلة في وجوب الاستبراء ماذا؟ ذكر شيخي- رحمه الله- معنيين: أحدهما: حدوث ملك الرقبة، مع فراغ محل الاستمتاع؛ فعلى هذا: لا يجب الاستبراء في هذه المواضع؛ لأنه لم يوجد في بعضها حدوث الملك، ووجد في بعضها ولكن من غير فراغ محل الاستمتاع. والثاني: حدوث ملك حل الفرج؛ فعلى هذا: يجب الاستبراء من هذه المواضع. ولو اشترى أمة مجوسية أو مرتدة، فمرت بها حيضة-: هل يحسب ذلك؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يحسب؛ كما لو كانت معتدة. والثاني: يحسب؛ لأنها غير مشغولة بحق الغير؛ كما لو كانت محرمة. ولو ارتدت الأمة في دوام الملك، ثم أسلمت، هل يجب الاستبراء؟ فيه وجهان، بناءً على المسألة الأولى؛ فإن قلنا هناك: يحسب الاستبراء في الردة- فههنا: لا يحسب، وإن قلنا هناك: لا يحسب- فههنا: يحسب، وهو الأصح. ولو ارتد السيد، ثم أسلم: إن قلنا: زال ملكه بالردة: يجب استبراء الأمة؛ وألا فعلى وجهين؛ كما لو ارتدت الأمة. والأصح: أنه لا يجب؛ لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة. ولو أحرمت الأمة، فلا استبراء عليها بعدما تحللت؛ كما لو شرعت في صوم أو صلاة، وكذلك: لو حاضت أو نفست، ثم طهرت-: لا يجب الاستبراء.

ولو باع جاريته، ثم ردت إليه بعيب، أو إقالة، أو خيار رؤية، أو فسخ بالتحالف، أو وهبها من ولده وسلم، ثم رجع من الهبة-: يجب عليها الاستبراء. وقال أبو حنيفة: لا يجب في الإقالة بعد القبض. ولو فسخ البيع بخيار شرط، أو خيار مكان: إن قلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري يجب الاستبراء، وإن قلنا: للبائع، أو موقوف-: لا يجب. ولو رهنها، ثم انفك-: لا يجب الاستبراء؛ لأنها لم تحرم عليه من جميع الوجوه؛ فإنه يجوز له بعد الرهن أن يقبلها، وينظر إليها بالشهوة. ولو كاتبها، فعجزت، وفسخت الكتابة-: يجب الاستبراء؛ لأنه زال ملكه عن استمتاعها، ثم عادت إليه. ولو اشترى زوجته الأمة-: ينفسخ النكاح، ويجوز له وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه بناء فراش على فراش. ولو اشتراها بشرط الخيار- نص الشافعي- رضي الله عنه- على أنه لا يجوز له وطؤها في زمان الخيار؛ لأنه لا يدري أنها منكوحته أو مملوكته. وقيل: له الوطء في زمان الخيار؛ لأنها لا تخرج من أن تكون منكوحة أو مملوكة. ولو طلق- زوجته الأمة طلاقاً رجعياً أو بائناً، ثم اشتراها في العدة- قال الشيخ: لا يجوز له وطؤها قبل الاستراء؛ لأنه اشتراها، وهي محرمة عليه، وإن أراد تزويجها-: فلا يجوز إلا بعد مضي قرأين، إن كانت مدخولاً بها قبل الشراء. ولو اشترى أمة وطئها البائع-: لا يجب على المشتري إلا استبراء واحد، ولو اشتراها من رجلين، وقد وطئاها في طهر واحد، هل يكتفي باستبراء واحد؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب على كل واحد استبراء، ولا يتداخلان، كالعدتين من شخصين. والثاني: يكتفي باستبراء واحد، وإن اجتمع جماعة على وطئها في طهر واحد؛ لأنالمقصود من الاستبراء معرفة براءة الرحم؛ ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة واحدة، وبراءة الرحم عن الكل تحصل باستبراء واحد، والله أعلم بالصواب.

كتاب الرضاع

كِتَابُ الرِّضَاعِ قال الله تبارك وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ}

[النساء: 23] وروي عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلاَدةِ". إذا ولدت امرأة ولداً من نكاح، أو وطء شبهة، أو ملك يمين، ونزل لها لبن، فأرضعت بذلك اللبن صبياً-: تصير المرضعة أما للصبي، وصاحب اللبن أباً، وأولادهما إخوة له، ويحرم عليه بالرضاع ما يحرم بالنسب. وقال إسماعيل بن علية: لبن الفحل لا يحرم، ويروى ذلك عن ابن الزبير. والدليل على أن لبن الفحل يحرم: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَاذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَقَالَ: "إِنِّهُ عَمُّكِ فَاذَنِى لَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ! فقَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ" وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة، رضي الله عنها.

وسئل ابن عباس عن رجل له امرأتان، أرضعت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، هل يتزوج الغلام الجارية؟ قال: لا، اللقاح واحد". ولا يتعلق بالرضاع من أحكام النسب إلا شيئان: تحريم النكاح، والمحرمية، وهي: أنه يجوز للرجل أن يخلو بالمحرمة عليه بالرضاع، وأن يسافر بها. أما الميراث، ووجوب النفقة، وحصول العتق وغيرها من أحكام النسب-: لا يتعلق شيء منها بالرضاع، ولا تثبت حرمة الرضاع بأقل من خمس رضعات متفرقات.

وقال ابن أبي ليلى، [وأبو ثور] تثبت بثلاث رضعات، وقال مالك، وأبو حنيفة: تثبت برضعة واحدة.

والدليل على أن عدد الخمس شرط: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: "كان فيما أنزل الله في القرآن: {عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسُ مَعْلُومَاتُ} فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهن مما يقرأ في القرآن. وروي عن عبد الله بن الزبير؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحرم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة ولا الرضعتان".

ويشترط وجود هذه الرضعات قبل استكمال المولود سنتين بالأهلة، حتى لو وجد

بعضها بعد الحولين-: لا تثبت الحرمة عند أكثر أهل العلم. وعند أبي حنيفة: مدة الرضاع ثلاثون شهراً؛ لقول الله- عز وجل-: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15]. والمراد منه عند الآخرين: أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع؛ بدليل قوله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

فجعل تمام الرضاعة في الحولين؛ فدل على أن ما بعد الحولين بخلافه. والحولان أربعة وعشرون شهراً، ثلاثة وعشرون منها بالأهلة، سواء خرجت ناقصة أو كاملة، والشهر الأول ينكسر، فيكمل بالشهر الخامس والعشرين- ثلاثين يوماً. وتفريق الرضعات الخمس شرط، وهو: أن ترضع، ثم تترك الصبي، فيذهب أو تقطع الأم عليه، فتذهب لشغل، ثم يرضع بعده أخرى؛ هكذا تتم خمس رضعات، وإن لم يصل في كل دفعة إلى جوفه إلا قطرة. أما إذا لم يقطعه قطع ترك، بل كان الصبي يمتص، ثم يترك، فيلهو، أو يعرض، ثم يلتقم-: فهي رضعة واحدة حتى لو أنفد جميع ما في أحد الثديين هكذا، ثم حولته الأم إلى الثدي الآخر في الحال، فأنفد ما فيها-: فهي رضعة واحدة؛ كما لو حلف ألا يأكل في اليوم إلا مرة، فأكل لقمة واحدة، وترك وذهب لشغل، ثم أكل بعده-: حنث، ولو أطال الأكل على مائدة، وهو في خلاله يشرب ويتكلم وينفد الخبز، فيذهب، ويأتي به، وينقل من لون إلى لون-: فلا يحنث، وكلها أكلة واحدة. وإن ارتضع من ثدي امرأة، ثم انتقل إلى ثدي امرأة أخرى في الحال-: فهي رضعة في حق كل واحدة. وقيل: لا تعد رضعة؛ لأن جميعها رضعة واحدة، فيحصل في كل واحدة دون رضعة-: فلا يتعلق به حكم. والأول أصح؛ لأن شرط الرضعة أن يقطعها، ولا يعود إليها إلا بعد ساعة، وقد وجد، فانتقاله إلى ثدي آخر-: لا يؤثر؛ كانتقال الأكل من الأكل إلى الشرب. وكذلك: لو أرضعت في الحولين أربع رضعات، ووصل إلى جوفه بعض الخامسة، فقبل إتمامه تم الحولان-: فالمذهب: أن التحريم يثبت؛ لأن ما يصل إلى الجوف في كل رضعة غير مقدر، وقيل: لا يثبت؛ لأنه ما لم يقطع لا تكون رضعة، وليس بصحيح. ولو شكت هل أرضعته خمس رضعات أو أقل، أو شكت هل وصل اللبن إلى جوفه

في بعضها-: فلا تثبت الحرمة بالشك، ولو وصل إلى جوفه، فقاء في الحال-: تثبت الحرمة؛ كما يحصل الفطر، ويثبت التحريم بالوجود، وهو: أن يحلب، فيصب في الفم، حتى يصل إلى جوفه، وبالسعوط، وهو: ما يصب في الأنف، حتى يصل إلى الدماغ؛ لأنه جوف التغذي، وهل يثبت بالحقنة؟ فيه قولان، وكذلك: لو صب في إحليله حتى وصل إلى المثانة: أحدهما-: وهو اختيار المزني-: يثبت؛ كما يحصل به الفطر. والثاني: لا يثبت؛ لأنه لا يصل إلى جوف التغذي، ولا يحصل به إنبات اللحم، وإنشاز العظم، إنما الحقنة للإسهال. فإن قلنا: يثبت، فلو ارتضع من الثدي مرتين، وأوجر مرة، وأسعط مرة، وحقن

مرة-: فهي خمس رضعات، ولو كان على بطنه جراحة، فصب فيها حتى وصل إلى الجوف-: فهو كالحقنة. وإن كان في أمعائه خرق، فوصل إلى المعدة-: يثبت قولاً واحداً. وكذلك: لو كان على رأسه مأمومة، فصب فيها فوصل إلى الدماغ-: يثبت ولو صب في أذنه-: لم يثبت؛ لأنه لا ينفذ منها إلى الدماغ، وكذلك: لو صب في عينه؛ كالصائم، إذا اكتحل-: لا يحصل به الفطر. وعند أبي حنيفة: لا يثبت التحريم بالحقنة والسعوط والصب في الجرح. ولو حلب من الثدي لبن في خمس دفعات، وأوجر الصبي في خمس دفعات-: فهي خمس رضعات. ولو حلب في خمس دفعات، وأوجر دفعة واحدة-: فهي رضعة واحدة. ولو حلب دفعة واحدة، وأوجر خمس دفعات متفرقة-: ففيه قولان: أصحهما: هي رضعة واحدة؛ لأنه انفصل عن الأم دفعة واحدة. والثاني: خمس رضعات؛ لأن الإناء كالثدي، وقد وصل من الإناء إلى باطن الصبي في خمس دفعات. ومن قال بالأول-: أجاب بأن ما في الثدي لا يكون مجتمعاً، بل يحدث شيئاً فشيئاً، فيوجد التفريق حالة الخروج من الثدي، وحالة الوصول إلى جوف الصبي، بخلاف الإناء. ولو حلب في خمس دفعات في إناء واحد، أو في خمس أوان، ثم خلط وأوجر الصبي خمس دفعات-: ففيه طريقان. من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كالأول؛ لأن الحلبات إذا اجتمعت صارت كحلبة واحدة. ومنهم من قال: وهو قول ابن سريج-: هي خمس رضعات قولاً واحداً؛ لوجود التفريق حالة الحلب، وحالة السقي. ولو حلب من خمس نسوة لبن، وأوجر الصبي دفعة واحدة-: حصل من كل واحدة رضعة. وإن أوجر في خمس دفعات-: ففيه وجهان: إن قلنا: الإناء كالضرع-: يحصل من كل واحدة خمس رضعات؛ وإلا فمن كل واحدة رضعة.

ولو كان الأصل خمس أمهات أولاد، أو أربع زوجات وأم ولد-: فأرضعن صبياً بلبنه كل واحدة رضعة-: لا تثبت الحرمة بينهن وبين الرضيع. والمذهب: أنه تثبت بينه وبين صاحب اللبن؛ فيصير أباً للرضيع؛ لأنه وصل إلى جوفه خمس رضعات من لبنه. وفيه وجه آخر: أنه لا تثبت؛ لأن الأمومة هي الأصل في الرضاع، ثم ينشز منها، والأمومة لم تثبت- ههنا- فلا تثبت الأبوة. والأول المذهب. وقيل: يجوز ثبوت حرمة الرضاع من أحد الجانبين دون الآخر؛ كما لو أرضعت امرأة بلبن رجل صبياً ثلاث رضعات، ثم نكحت زوجاً آخر، فأرضعت بلبن الثاني رضعتين-: تثبت الحرمة بينها وبين الرضيع، وإن لم تثبت بين صاحبي اللبن. فإن قلنا: تثبت الأبوة، فهل يشترط أن تكون هذه الرضعات متفرقات في خمس أوقات؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول صاحب "التلخيص": يشترط؛ لأن التحريم لا يثبت في حقهن، إنما يثبت في حق الرجل؛ فيكون كالواحدة إذا أرضعت: لا يثبت التحريم، إلا في خمسة أوقات. والثاني: لا يشترط اختلاف الأوقات؛ لأن وجود الرضعات من نسوة في وقت واحد-: كوجودها من امرأة واحدة في أوقات مختلفة؛ ألا ترى أن اللبن لو حلب من خمس نسوة في إناء واحد، وأوجر الصبي دفعة واحدة-: يكون من كل واحد رضعة، فإذا أثبتنا الحرمة بين الرضيع وصاحب اللبن-: فالمرضعات يحرمن على الرضيع لا لكونهن أمهات، ولكن لكونهن موطوءات الأب. ولو كان لرجل أو لامرأة خمس بنات أو خمس أخوات، وأرضعن صبياً كل واحدة رضعة-: لا تثبت الحرمة بينه وبين المرضعات، وهل تثبت بين أب البنات وأم البنات والأخ؟ يترتب على المسألة الأولى: إن قلنا هنا: لا تثبت-: فههنا أولى؛ وإلا فعلى الوجهين: أحدهما: وبه قال صاحب "التلخيص"-: تثبت. والثاني: لا تثبت. والفرق: أن صاحب اللبن هناك واحد، وههنا بخلافه. والأصح ههنا: أنه لا تثبت؛ لأن ثبوت التحريم لكونه جداً للرضيعة، أو لكون الأخ

خالاً لها، فإذا لم تصر المرضعة أماً، كيف يصير أبوها جداً، أو أخوها خالاً؛ بخلاف المسألة الأولى، وإن لم تثبت الحرمة بثوت الشركة في اللبن، فإذا أثبتنا الحرمة: فتحرمن المرضعات على الرضيع، لا لكونهن أمهات، ولكن لكون البنات أخوات له، ولكون الأخوات عمات له. ولو كان لرجل أقرباء: أم وبنت، وأخت، وبنت أخت، وبنت أخ، فأرضعن مولوداً؛ كل واحدة رضعة في خمس أوقات-: فهل يثبت التحريم؟ يرتب على البنات، إن قلنا هناك: لا يثبت فههنا أولى؛ وإلا فوجهان: الأصح: أنه لا يثبت؛ والفرق: أن هناك أمكن نسبته إليه بجهة واحدة، فيقال: نافلته؛ وههنا: لا يمكن. وقال صاحب "التلخيص": يثبت التحريم؛ فيكون الرضيع ولد أب الرجل، وهو جد له، ولا يكون ولداً لهن. وعلى هذا الوجه: تحرم المرضعات على الرضيع، لا على معنى أنهن أمهات، بل على معنى أن أم الرجل زوجة أبيه، وأخت الرجل بنت أبيه، وبنت الرجل وبنت أخيه وبنت أخته نوافل أبيه، وإذا حرمت على أبيه، وحرمت على الرجل؛ لأنها تصير له كالأخت. ولو تغير اللبن عن حاله بأن حمض-: تثبت به الحرمة؛ وكذلك: لو اتخذ منه الأقط والجبن، أو أخرج زبده، فأطعم الصبي من الزبد، أو المخيض، أو ثرد، أو عجن به دقيق، فخبز وأطعم الصبي-: تثبت له الحرمة. وعند أبي حنيفة: لا تثبت. ولو خلط اللبن بماء أو بمائع آخر، وأطعم الصبي-: نظر: إن كان اللبن غالباً-: يثبت به التحريم، وإن شرب بعضه. وإن كان اللبن مغلوباً-: ففيه قولان: أحدهما: لا تثبت الحرمة، وبه قال أبو حنيفة؛ كالمحرم إذا أكل طعاماً فيه طيب مستهلك-: لا تجب عليه الفدية. والثاني- وهو الأصح-: تثبت؛ لأن اللبن قد وصل إلى جوفه وكونه مغلوباً لا يعدمه بخلاف الطيب؛ لأن المحرم ممنوع من التطيب، ولا يحصل التطيب بعد الاستهلاك. فإن قلنا: تثبت، فاختلفوا فيه. منهم من قال: إنما تثبت إذا كان فيه من اللبن ما يقع موقع الغذاء للصبي، فإن وقعت قطرة في جرة-: فلا تثبت، وإن شرب كله. ومنهم من قال: تثبت كيفما كان؛ كالنجاسة تقع في أقل من قلتين من الماء: تنجسه،

وإن كانت قليلة؛ فعلى هذا: إذا شرب بعضه-: هل يعد رضعة؟ فيه وجهان: أحدهما: يعد رضعة؛ كما في النجاسة يستوي بعضه وكله. والثاني- وهو الأصح-: ما لم تشرب الكل لا يعد رضعة؛ لاحتمال أن يكون اللبن فيما بقي. ولبن البهيمة لا يجوب التحريم؛ لأن الرضاع فرع النسب، ولا نسب في البهائم. ولو حلب لبن امرأة، ثم أوجر صبي بعد موتها-: تثبت به الحرمة؛ لأن اللبن انفصل عنها، ولها حرمة. أما إذا حلب لبنها بعد موتها، وأوجر الصبي، أو ارتضع الصبي من ثديها بعد موتها-: فلا يثبت به التحريم. وعند أبي حنيفة: يثبت؛ كما لو مات صاحب اللبن، وأرضعت امرأته بلبنه صبياً بعد موته-: ثبت التحريم بينه وبين الميت. قلنا: الأصل في الرضاع الأم، ومنها تنتشر الحرمة، وترتفع تلك الحرمة بموتها؛ كما أن وطء الميتة وتقبيلها [لا يثبت حرمة المصاهرة، وبالاتفاق: لو صب لبن امرأة في حلق صبي ميت] لا يثبت التحريم. ولو نزل لرجل لبن، فأرضع به صبياً-: لا يثبت التحريم؛ لأن اللبن من أثر الولادة، والولادة تختص بالنساء، وما يخرج من الرجل بمنزلة عرق يسيل منه. وإذا نزل للمرأة البكر لبن، فأرضعت به صبياً-: ثبت التحريم؛ لأنها محل الولادة. ولو نزل للصبية لبن، فأرضعت ولداً- نظر: إن كان بعد استكمال تسع سنين-: يثبت به حرمة الرضاع، ولا يحكم ببلوغها؛ لأن الرضاع تلو النسب، فثبت بالإمكان. وإن كان قبل استكمال تسع سنين-: لا تثبت الحرمة. والخنثى المشكل إذا نزل له لبن لا يحكم بكونه أنثى بنزول اللبن-: فإذا أرضع به صبياً- توقف حكم الرضيع على تبين حال الخنثى بعلامة أو اختيار. فإن اختار الذكورة-: لم يثبت التحريم، وإن اختار الأنوثة-: يثبت، فإذا اختار أحدهما-: لم يكن له أن يرجع عنه إلا أن يختار الذكورة، ثم ظهر بها حمل-: يتبين أنه أنثى، وتثبت حرمة الرضاع.

ولو نزل لامرأة لبن على ولد من الزنا، فأرضعت به صبياً-: تثبت الحرمة بين الرضيع والمرأة، ولا تثبت بينه وبين الزاني؛ كما لا يثبت النسب؛ لأنه لا حرمة لماء الزاني، حتى لو كان الرضيع أنثى-: يجوز للزاني أن ينكحها، والورع ألا يفعل، ولو أتت امرأة بولد على فراش رجل، فأرضعت بذلك اللبن صبياً؛ ثم نفى الزوج الولد باللعان-: ينتفي عنه ولد الرضاع، فإن استلحق الولد يلحقه ولد الرضاع، والله أعلم. فَصْلُ إذا تزوج رجل رضيعة، فأرضعتها أم الزوج من الرضاع أو النسب خمس رضعات، أو ابنته، أو أخته، أو امرأة أخيه بلبن أخيه، أو امرأة أبيه بلبن أبيه-: ينفسخ النكاح، وعلى الزوج لها نصف المسمى، إن كان صحيحاً، أو نصف مهر المثل، إن كان المسمى فاسداً وعلى المرضعة الغرم للزوج. ثم نص- ههنا- على أ، عليها نصف مهر المثل للزوج. ونص في شهود الطلاق: إذا رجعوا أن عليهم جميع مهر المثل، اختلف أصحابنا فيه: منهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يجب في الموضعين جميع مهر المثل، لأنهم أتلفوا عليه البضع؛ فعليهم قيمته. والثاني: يجب نصف مهر المثل؛ لأن الزوج لم يغرم للزوجة إلا نصف المهر. ومنهم من فرق بينهما، فقال: على الشهود جميع المهر؛ لأنهم أوقعوا الحيلولة بينه وبين البضع، ويقرون أن لا فرقة؛ كالغاصب إذا أوقع الحيلولة بين المالك وملكه: يلزمه كمال القيمة، وههنا: بفعل المرضعة وقعت حقيقة الفرقة بين الزوجين، وحقيقة الفرقة قبل الدخول-: لا توجب إلا نصف المهر، وهذه الطريقة أصح، وعليها نفرع؛ وبه قال أبو إسحاق. وقال أبو حنيفة: على المرضعة نصف المسمى كالزوج. قلنا: الزوج عاقد، فيلزمه ما التزم بالعقد، والمرضعة متلفة؛ فيلزمها القيمة؛ كما لو اشترى شيئاً قيمته مائة بخمسين، فمن أتلفه يجب عليه المائة، ولا يجب على المشترى للبائع إلا خمسون، ولا فرق بين أن تقصد المرضعة بالإرضاع فسخ النكاح، أو لم تقصد؛ بأن كانت الصغيرة ضائعة تبكي، فأرضعتها. وعند أبي حنيفة: إن لم تقصد-: فلا غرم عليها، ولو لم يوجد من جهة المرضعة

فعل؛ بأن كانت نائمة، فدنت الصغيرة إليها، فارتضعت من ثديها-: ينفسخ النكاح، ولا شيء على صاحبة اللبن، ولا مهر للصغيرة؛ لأن ارتفاع النكاح من قبلها قبل الدخول. ولو حلب أجنبي لبنها، وأوجر الصغيرة-: يجب الغرم على الأجنبي. ولو جاء خمسة أنفس، وأرضع كل واحد منهم الصغيرة من لبن أم الزوج، أو من لبن أخته رضعة-: وجب على كل واحد منهم عشر المهر، وهو خمس؛ لتساويهم في الإتلاف. فإن كانوا ثلاثة، فأرضعتها إحداهن رضعة، وأرضعتها كل واحدة من الأخريين رضعتين-: فيه وجهان: أحدهما: يجب على كل واحد ثلث النصف؛ لاشتراكهم في إفساد النكاح؛ كما لو طرح واحد قدر درهم من النجاسة في طعام، والآخر قدر درهمين-: فهما يستويان في الضمان. والثاني: يوزع على عدد الرضعات؛ فعلى من أرضعهما رضعة الخمس من نصف المهر، وعلى كل واحد من الأخريين الخمسان؛ لأن الفسخ حصل بعدد الرضعات؛ فيوزع الضمان عليه. ولو ارتضعت الصغيرة من أم الزوج رضعتين- وهي نائمة- ثم أرضعتها الأم تمام الخمس، فكم يسقط من مهرها؟ فعلى الوجهين: أحدهما: يسقط من نصف المسمى نصفه، وهو الربع، ويجب الربع. قال الشيخ: ويرجع على المرضعة بربع مهر المثل. والوجه الثاني: يوزع؛ فيسقط من نصف المسمى خمسان، ويجب عليه ثلاثة أخماسه. قال- رحمه الله- ويرجع بثلاثة أخماس نصف مهر المثل على المرضعة. ولو تزوج أمة صغيرة مفوضة، فأرضعتها أم الزوج ينفسخ النكاح، وعلى الزوج المتعة للأمة الصغيرة، ويرجع على المرضعة بنصف مهر المثل لا بالمتعة. وإن كانت أم الزوج نائمة، فارتضعت منها الصغيرة، فلا متعة لها، ولا شيء على الأم. ولو كانت تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات: انفسخ

نكاحهما؛ لأنهما صارتا أماً وبنتاً في حالة واحدة، ثم إن كان قبل الدخول بالكبيرة-: فلا مهر لها؛ لأنها هي المفسدة للنكاح قبل الدخول، ويجب للصغيرة نصف المسمى على الزوج، ويرجع الزوج بنصف مهر مثلها على الكبيرة. وإن كانت الكبيرة نائمة، فارتضعت منها الصغيرة-: لا مهر للصغيرة؛ لأن فسخ النكاح من قبلها، وعلى الزوج للكبيرة: نصف المسمى، ويرجع في مال الصغيرة بنصف مهر مثل الكبيرة، والكبيرة حرمة عليه على التأبيد؛ لأنها أم امرأته، ويجوز له نكاح الصغيرة؛ لأنها ربيبته التي لم يدخل بأمها. أما إذا أرضعت الكبيرة الصغيرة، بعدما دخل بها الزوج-: ينفسخ نكاحهما- كما ذكرنا- وحرمتا عليه على التأبيد، ولا يسقط مهرهما، وعلى الزوج نصف المهر للصغيرة، ويرجع على الكبيرة بنصف مهر مثلها. وإن كانت الكبيرة أمة تزوجها، فأرضعت الصغيرة، يتعلق الغرم برقبتها، وهو نصف مهر مثل الصغيرة؛ كما لو أتلفت مال إنسان-: يتعلق الضمان برقبتها. وإن أرضعت أم ولده زوجته الصغيرة بلبنه-: ينفسخ النكاح، ولا غرم على أم الولد؛ لأن أم الولد إذا أتلفت شيئاً على سيدها لا يلزمها الضمان. ولو كانت تحته ثلاث نسوة كبيرتان وصغيرة، فأرضعت كل واحدة من الكبيرتين الصغيرة أربع رضعات، ثم حلبتا لبناً، وخلطتا وسقتاها الرضعة الخامسة-: انفسخ نكاح الكل، وحرمت الكبيرتان عليه على التأبيد، أما الصغيرة: فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرتين، أو بإحداهما حرمت على التأبيد، وعليه للصغيرة نصف المسمى، ويرجع على الكبيرتين بنصف مهر مثلهما على كل واحدة بالربع؛ لأن الفسخ كان من قبلهما. وأما الكبيرتان: فإن كان قد دخل بهما- ثبت لكل واحدة منهما عليه جميع مهرها، ويرجع على كل واحدة بنصف مهر مثل صاحبتها؛ لأن فسخ نكاح كل واحدة كان منها ومن صاحبرتها، فيسقط ما قابل فعلها، ووجب على صاحبتها النصف لأجل فعلها. وإن لم يكن دخل بهما-: ثبت لكل واحدة منهما ربع مهرها؛ لأن الفسخ قبل الدخول كان منها ومن صاحبتها، فيسقط ما قابل فعلها، ويرجع الزوج على صاحبتها بربع مهر مثلها؛ لأنها أتلفت عليه نصف البضع. أما إذا أرضعت اللبن المخلوط في الرضعة الخامسة إحدى الكبيرتين-: فالحكم في التحريم ما ذكرنا، ويثبت للصغيرة نصف المسمى، ويرجع الزوج بنصف مهر مثلها على الكبيرة التي أرضعتها.

فأما الكبيرة التي لم تباشر إرضاع الخامسة: إن لم يكن مدخولاً بها-: فلها نصف المسمى على الزوج؛ لأن الفسخ جاء من غيرها، ويرجع الزوج بنصف مهر مثلها على المرضعة، وإن كانت مدخولاً بها-: فعلى الزوج لها كمال المسمى، ويرجع بكمال مهر مثلها على المرضعة. وأما التي باشرت الإرضاع، فإن لم يكن مدخولاً بها-: فلا مهر لها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها، وإن كانت مدخولاً بها-: فلها جميع المهر. ولو نكح صغيرتين، فأرضعهما أجنبية- نظر: إن أرضعتهما معاً- انفسخ نكاحهما؛ لأنهما صارتا أختين معاً، وحرمت الأجنبية عليه على التأبيد، لأنها صارت من أمهات نسائه، وعلى الزوج للصغيرتين لكل واحدة نصف المسمى، ويرجع على المرضعة بنصف مهر مثل كل واحدة منهما، ويجوز له أن ينكح كل واحدة من الصغيرتين على الانفراد، ولا يجوز أن يجمع بينهما؛ لأنهما أختان. وإن أرضعتهما على الترتيب- فبإرضاع الأولى: لا ينفسخ نكاحها، فإن أرضعت الثانية-: انفسخ نكاح الثانية، لأنها صارت أختاً للأولى، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المزني، ومذهب أبي حنيفة-: ينفسخ نكاحها؛ لأن انعقاد الأخوة بينهما برضاع الثانية، فصارتا أختين معاً؛ كما لو أرضعت الكبيرة الصغيرة-: ينفسخ نكاحهما؛ لأنهما صارتا أماً وبنتاً. والقول الثاني: لا ينفسخ نكاح الأولى؛ لأن الأخوة- وإن تمت بالثانية- ولكن سببها، وهو رضاع الأولى، كان متقدماً؛ فصار كما لو نكح امرأة، ثم نكح أختها-: لا يصح نكاح الثانية، ولا يرتفع نكاح الأولى؛ بخلاف ما لو أرضعت الكبيرة الصغيرة؛ لأن- ثم- تثبت الأمومة والبنوة معاً. ولو كانت تحته أربع رضيعات، فأرضعتهن أجنبية على الترتيب، فبإرضاع الأولى لا ينفسخ نكاحها، وإذا أرضعت الثانية- انفسخ نكاحها، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فعلى قولين: إن قلنا: لا ينفسخ، فإذا أرضعت الثالثة والرابعة- انفسخ نكاحها، ونكاح الأولى باق بحاله. وإن قلنا: ينفسخ نكاح الأولى بإرضاع الثانية: فإذا أرضعت الثالثة-: لا ينفسخ نكاحها، فإذا أرضعت الرابعة-: انفسخ نكاح الكل.

وعلى هذا: لو نكح صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة-: انفسخ نكاح الصغيرة؛ لأنها صارت أختاً للكبيرة، وهل ينفسخ نكاح الكبيرة؟ فيه قولان. وكذلك: لو أرضعتها جدة الكبيرة، أو بنت أخيها، أو بنت أختها-: انفسخ نكاحها، وفي نكاح الكبيرة قولان: فإن قلنا: ينفسخ، يجوز له نكاح كل واحدة على الانفراد، ولا يجوز الجمع؛ لأنه يكون جمعاً بين الخالة وبنت أختها، والعمة وبنت أخيها. ولو نكح كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعت الكبيرة الصغائر الرضعة الخامسة- نظر: إن كان بعد الدخول بالكبيرة- انفسخ نكاح الكل، وحرمن جميعاً عليه على التأبيد، سواء أرضعتهن معاً، أو على الترتيب؛ لأن الكبيرة صارت من أمهات نسائه، والصغائر بنات امرأة دخل بها الزوج، وعليه المسمى للكبيرة، ونصف المسمى لكل صغيرة، ويرجع على الكبيرة بنصف مهور أمثالهن. وإن كان قبل الدخول بالكبيرة- نظر: إن أرضعتهن معاً بأن حلبت وأوجرت في حلوقهن دفعة واحدة-: انفسخ نكاح الكل؛ لأنهن يصرن أخوات معاً، وحرمت الكبيرة على التابيد، ولا مهر لها، وله أن ينكح كل واحدة من الصغائر على الانفراد، ولا يجمع بينهن. فإن أرضعتهن على الترتيب. فإن أرضعت الأولى حرمت الكبيرة على التأبيد، وانفسخ نكاح تلك الصغيرة، فإذا أرضعت الثانية: لا ينفسخ نكاحها، فإذا أرضعت الثالثة-: انفسخ نكاحها؛ لأنها صارت أختاً للثانية، وهل ينفسخ نكاح الثانية؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا ينفسخ-: ليس له نكاح واحدة من الأختين، ما دامت هذه الواحدة في نكاحه، وكل من انفسخ نكاحها-: فلها نصف المسمى، ويرجع الزوج على الكبيرة بنصف مهر مثلها. ولو أرضعت واحدة أولاً، ثم أرضعت اثنتين معاً-: انفسخ نكاح الكل. ولو أرضعت اثنين معاً أولاً، ثم واحدة-: انفسخ نكاح الأوليين مع الكبيرة، ولا ينفسخ نكاح الثالثة. ولو كانت تحته كبيرة وثلاث صغائر، وللكبيرة ثلاث بنات مراضع، فجاءت البنات، فأرضعن الصغائر- نظر: إن كان بعد الدخول بالكبيرة، حرمن جميعاً على التأبيد؛ سواء أرضعن معاً، أو على الترتيب؛ لأن الكبيرة جدة نسائه، والصغائر نوافل زوجته التي دخل بها، ويرجع الزوج بتمام مهر الكبيرة عليهن جميعاً، إن أرضعن معاً، وإن أرضعن على الترتيب: فيرجع على الأولى.

وأما الصغائر: فلكل واحدة نصف المسمى على الزوج، ويرجع الزوج على كل مرضعة بنصف مهر مثل من أرضعتها، فإن كان قبل الدخول بالكبيرة- نظر: إن أرضعتهن معاً انفسخ نكاح الكل، وحرمت الكبيرة على التأبيد، وعلى الزوج للكبيرة ولكل واحدة من الصغائر نصف المسمى، ويرجع على كل مرضعة بنصف مهر مثل من أرضعتها من الصغائر، وسدس مهر مثل الكبيرة، لأن انفساخ نكاحها من الكل. وإن أرضعتهن على الترتيب، فإذا أرضعت واحدة واحدة-: انفسخ نكاح الكبيرة، ونكاح تلك الصغيرة، ولكل واحدة نصف المسمى، ويرجع الزوج على المرضعة بنصف مهر مثل كل واحدة منهما. فإذا أرضعت الأخريين: إما معاً، أو على الترتيب-: لا ينفسخ نكاحهما؛ لنهما ليستا بأختين، ولا اجتمعتا مع الجدة في النكاح، وللزوج نكاح الصغيرة الأولى عليهما، ولو نكح رجل صغيرتين وكبيرتين، فأرضعت الكبيرتان الصغيرتين؛ كل واحدة منهما واحدة: فإن كان بعد الدخول بالكبيرتين-: حرمن جميعاً على التأبيد، وإن كان قبل الدخول بهما، سواء أرضعتا معاً أو على الترتيب، حرمت الكبيرتان على التأبيد، وانفسخ نكاح الصغيرتين، وله أن يجمع بينهما بعد ذلك. ولو أرضعتهما إحدى الكبيرتين على الترتيب-: انفسخ نكاح الصغيرة الأولى مع الكبيرة دون الثانية. ثم إذا جاءت الكبيرة الثانية، وأرضعتهما على الترتيب- نظر: إن أرضعت على ترتيب الأولى-: لم ينفسخ نكاح الصغيرة الثانية؛ لأن الكبيرة الثانية خرجت عن نكاحه بإرضاع الأولى؛ فلم يوجد اجتماع الأم، والبنت في نكاحه، وإن أرضعت على خلاف ترتيب الأولى-: انفسخ نكاح الكل، وله أن ينكح كل صغيرة على الانفراد، ولا يجمع بينهما. ولو تزوج رجل صغيرة، وطلقها، ونكح كبيرة، ثم أرضعت الكبيرة تلك الصغيرة-: ينفسخ نكاح الكبيرة، وحرمت عليه على التأبيد، لأنها صارت من أمهات نسائه. ولو كانت تحته كبيرة، فطلقها، وتزوجت المرأة رضيعاً، وأرضعته بلبن الزوج الأول-: انفسخ النكاح بينها وبين الصغير؛ لأنها أمه وحليلة أبيه، وحرمت على الأول على التأبيد؛ لأنها صارت حليلة ابنه حتى لو تزوج رجل أم ولده من عبده الرضيع، فأرضعت زوجها بلبن السيد-: ينفسخ النكاح بينهما، وحرمت على السيد على التأبيد؛ لأنها صارت حليلة ابنه. ولو نكحت كبيرة رضيعاً، ففسخت النكاح بعيب وجدت بالزوج، ثم نكحت زوجاً آخر، وأرضعت الزوج الأول بلبن الزوج الثاني-: انفسخ النكاح بينها وبين الثاني؛ لأن

الأول صار ابناً للثاني، وهي حليلة ابنه، فحرمت عليهما على التأبيد. وكذلك: لو جاءت امرأة أخرى للزوج الثاني، وأرضعت الأول بلبنه-: انفسخ نكاح من كانت زوجة للرضيع، حتى لو كان للزوج الثاني امرأة قد فارقها، فأرضعت الصغير بلبنه-: فكذلك، والله أعلم. فَصْلُ إذا نكحت امرأة في عدة الغير، فأتت بولد، وأرضعت بذلك اللبن صبياً-: فالرضيع تبع للمولود. فإن كان المولود ابناً للأول: فالرضيع للأول، وإن كان المولود للثاني-: فالرضيع كذلك. وإن لم يحتمل منهما بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من طلاق الزوج الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني-: فهو منفي عنهما؛ كذلك الرضيع. وإن احتمل كون الولد منهما-: يرى القائف؛ فأيهما ألحقه به-: كان الرضيع ابناً له، فإن لم يكن هناك قائف، أو ألحقه القائف بهما، أو نفاه عنهما، أو أشكل عليه-: يوقف حتى يبلغ المولود، فينتسب، وإن بلغ مجنوناً، فحتى يفيق، فينتسب إلى أحدهما. ثم الرضيع يكون ابناً له: فإن مات قبل الإفاقة، وله ولد-: فولده يقوم مقامه في الانتساب، وإذا مات، وله أولاد؛ انسب بعضهم إلى أحدهما، والبعض إلى الآخر-: فهو على الإشكال. فإذا مات ولا ولد له، أو مات صغيراً-: فالرضيع هل له أن ينتسب؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له ذلك؛ كما لا يعرض على القائف، بل يكون الرضيع ابناً لهما جميعاً؛ لأن اللبن قد يكون من الوطء؛ كما يكون من الولادة، وهما قد اشتركا في الوطء. ويجوز أن يكون للمولود الواحد آباء من الرضاع؛ بخلاف النسب. والقول الثاني- وهو الأصح-: لا يكون ابناً لهما؛ لأن الرضيع تابع للنسب، فلما لم يلحق النسب بهما-: لا يلحق الرضيع بهما، ولكن له أن ينتسب؛ لأن الانتساب يكون بالطبع وميل القلب، ويميل قلب الإنسان إلى من ارتضعت بلبنه، ويؤثر ذلك في أخلاقه، ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "أنا سيد ولد آدم، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وأرضعت في بني زهرة".

فافتخر بالرضاع؛ كما افتخر بالنسب. فإن قلنا: يكون ابناً لهما-: فلا يجوز له أن ينكح انة واحد منهما. وإن قلنا: لا يكون ابناً لهما، وأثبتنا للرضيع الانتساب-: فهل يجبر عليه؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: يجبر عليه؛ كالمولود. ومنهم من قال- وهو المذهب-: لا يجبر عليه؛ بخلاف المولود: لأن النسب يثبت حقوقاً له وعليه؛ من النفقة، والميراث، والشهادة، وغيرها، والرضاع لا يتعلق به إلا تحريم النكاح، ويمكنه الامتناع عن ذلك؛ ولذلك تثبت أبوة الرضاع من جماعة، ولا يثبت النسب إلا من واحد، فإذا خيرناه، فانتسب إلى أحدهما-: كان ابنه من الرضاع، ولا يكون محرماً لبنت الآخر، والاحتياط والورع: ألا ينكحها، فلو نكح-: لم يبطل. وإن قلنا: ليس له الانتساب، أو لم ينتسب-: فهل له أن يتزوج ابنة واحد منهما؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها- وهو الأصح- لا يحل له نكاح ابنة واحد منهما؛ لأنا تيقنا أن إحداهما أخته؛ فهو كما لو اختلطت أخته من النسب بأجنبية-: لا يحل له نكاح واحدة منهما. والثاني: أنه يتزوج بنت من شاء منهما، فإذا تزوجها، حرمت الأخرى عليه؛ لأن الأخوة مشتبهة فيهما، فإذا تزوج إحداهما-: تعينت الأخوة في الأخرى، فحرم نكاحها على التأبيد؛ كما لو اشتبه عليه ماء طاهر وماء نجس، فتوضأ بأحدهما باجتهاده، تعينت النجاسة في الآخر؛ فلا يجوز له أن يتوضأ به. والثالث: له أن يتزوج بنت أيهما شاء، وإذا طلقها-: له أن ينكح الأخرى؛ لأن التحريم غير متعين في واحدة؛ كما يصلي بالاجتهاد إلى جهة، ثم يصلي صلاة أخرى باجتهاد آخر إلى جهة أخرى، ولا يجوز أن يجمع بينهما؛ لأن الحظر يتحقق في الجمع؛ كرجلين رأيا طائراً، فقال أحدهما: إن كان هذا غراباً، فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فعبدي حر، ولم يتبين لهما، فلكل واحد منهما أن يبني على يقين نفسه، ويتمسك بملكه، فإذا اجتمع العبدان في ملك واحد منهما-: يحكم بعتق أحدهما.

فَصْلُ إذا فارق الزوج امرأته، أو مات عنها، ولها منه لبن أرضعت به صبياً-: تثبت به الحرمة بينه وبين صاحب اللبن، سواء كان قبل انقضاء عدتها، أو بعده، وإن بقي ذلك اللبن عشر سنين أو أكثر، إذا لم ينقطع، وإن انقطع، ثم عاد-: فكذلك على ظاهر المذهب، سواء عاد بعد مضي أربع سنين من وقت الطلاق أو قبله. وقيل: إن عاد بعد مضي أربع سنين، فأرضعت به صبياً-: لا يثبت التحريم بينه وبين الزوج، كما لو أتت بولد: لا يلحقه، وبه كالبكر، إذا نزل لها لبن، فأرضعت به صبياً: كان ابناً لها من الرضاع، لا أب له. ولو تزوجت امرأة، فنزل لها لبن قبل أن يطأها الزوج، أو بعدما وطئها قبل أن يكون من ذلك الوطء لبن، فأرضعت به صبياً-: يكون الرضيع ابناً لها دون الزوج. وإذا فارق الرجل زوجته، وانقضت عدتها، فنكحت زوجاً آخر، وأتت منه بولد، فأرضعت بذلك اللبن صبياً-: يكون الرضيع ابناً للثاني؛ سواء كان لها لبن من الأول إلى أن أرضعت الثاني، أو لم يكن؛ لأن حكم الأول قد انقطع بالولادة من الثاني، وإن كان لها لبن من الأول، فأرضعت به صبياً قبل أن تلد للثاني- نظر: إن كان قبل أن أصابها الثاني أو بعده قبل أن تحبل منه أو بعد ما حبلت، وكان من أوائل الحبل، وقالت القوابل: لا يكون لذلك لبن-: فهو لبن للأول؛ سواء زاد اللبن أو لم يزد، وسواء انقطع ثم عاد، أو لم ينقطع؛ كما لو لم يوجد نكاح الثاني. وإن قالت القوابل: يتصور نزول اللبن بهذا الحبل، بأن كان قد قرب من الولادة؛ فلا يخلو: إما إن كان اللبن لم ينقطع من الأول، أو انقطع ثم عاد. فإن لم ينقطع- نظر: إن لم يزد لبنها بهذا الحمل-: فالرضيع ابن للأول. وإن زاد لبنها-: ففيه قولان: قال في القديم: هو ابن لهما جميعاً؛ لأن اللبن كان موجوداً من الأول؛ فزاد بسبب الثاني. وقال في الجديد- وهو الأصح، وهو اختيار المزني-: هو ابن للأول؛ لأن اللبن من الأول يقين، والزيادة تحتمل من الثاني، ويحتمل أن يكون الفضل طعامأً أكلته، فلا تثبت حرمة الرضاع بالشك. أما إذا انقطع اللبن، ثم عاد في الوقت الذي ينزل فيه اللبن على الحمل، فأرضعت به صبياً: ففيه ثلاثة أقاويل:

أصحهما: أنه لبن للأول، ما لم تلد من الثاني؛ لأن اللبن غذاء للولد لا للحمل، والولد كان من الأول. والقول الثاني: هو لبن للثاني؛ لأن انقطع لبن الأول تعين، والسبب من الثاني، وهو الحمل، ظاهر؛ فصار كما لو نزل بعد الولادة. والثالث: هو لبنهما جميعاً؛ لأن لكل واحد أمارة تدل على أن اللبن له. ولو أنها زنت، وحبلت من الزنا، وبها لبن من الزوج، فأرضعت به صبياً: فإن قالت القوابل: لا يتصور نزول اللبن بهذا الحمل، فهو لبن الأول. وإن قلن: يتصور-: فهو على التفصيل الذي ذكرنا. فكل حالة قلنا في النكاح: يكون لبناً للأول أولهما-: فههنا: يكون للأول. وكل حالة قلنا: يكون للثاني-: فههنا: يكون للمرأة، ولا أب له. وعلى هذا: لو نزل للبكر لبن، فنكحت، واللبن قائم، ووطئها الزوج وحبلت، وقالت القوابل: يتصور نزول اللبن به-: فكل حالة قلنا في النكاح: يكون لبناً للأول-: فههنا: يكون للأم، وإن قلنا: يكون للثاني أولهما-: فههنا يكون للزوج، والله أعلم بالصواب. بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الرِّضَاعِ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتاً لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِي تَزَوَّجَ، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وهو بالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ " فَفَارقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجاً غَيْرَهُ". يثبت الرضاع بشهادة رجلين، ورجل وامرأتين، وأربع نسوة؛ لأنه مما يطلع عليه

النساء غالباً؛ كالولادة، ولا يثبت بأقل من أربع نسوة؛ هذا إذا شهدوا على فعل الرضاع، أو على أن بينهما حرمة الرضاع. أما الإقرار بالرضاع: فلا يثبت إلا برجلين؛ لأن الإقرار يكون باللسان، فيطلع عليه الرجال. وعند مالك: يثبت الرضاع بشهادة امرأتين. وعند الزهري والأوزاعي: يثبت بامرأة واحدة. وعند أبي حنيفة: يثبت بشهادة رجل وامرأتين، ولا يثبت بشهادة أربع نسوة. ولو شهدت المرضعة مع ثلاث نسوة-: يقبل إذا لم تشهد على فعل نفسها، بل قالت: بينهما أخوة الرضاع، أو هما ارتضعا مني، فأما إذا شهدت أني أرضعتها-: لا يقبل؛ على

أصح الوجهين؛ كما لا تقبل شهادتهما على ولادتها. والثاني: يقبل؛ لأنها لا تجر إلى نفسها نفعاً بهذه الشهادة؛ بخلاف ما لو شهدت على ولادتها؛ لأنها تثبت لنفسها بذلك حقاً، وهو النفقة. وتقبل شهادة أم المرضعة وابنتها كالمرضعة، ولو ذكرت المرضع وحدها-: لا تثبت الحرمة، ولكن الورع أن يفارقها، وإلى هذا أشار النبي- صلى الله عليه وسلم- حيث قال لعقبة بن الحارث: "كيف وقد قيل"؟. وإن شهدت أم المرأة وابنتها على حرمة الرضاع بينها وبين زوجها- نظر: إن كان الزوج يدعي الرضاع، وهي تنكر-: يقبل؛ لأنها شهادة على الولد وعلى الوالدة. وإن كانت المرأة تدعيه-: فلا يقبل؛ لأنها تشهد للولد والوالدة، وعلى عكسه: لو شهد الرجل وابنته: فإن كان الرجل يدعيه-: لا يقبل، وإن كانت المرأة تدعيه-: يقبل. نظيره: لو شهد أبو المرأة وابنها حسبة على أن زوجها طلقها-: يقبل، وإن شهدا على الدعوى، وكانت المرأة تدعي الطلاق-: لا يقبل، وإذا شهد الشاهد على فعل الرضاع؛ بأن

امرأة أرضعتهما- فلا يثبت حتى يقول: أشهد أنه ارتضع من ثديها، وأنها أرضعته خمس رضعات متفرقات في الحولين، وصل كلهن إلى جوفه. ويجوز له أن يشهد كذلك، إذا رآه التقم ثديها وامتص. ولو صرح بأنه التقم ثديها وامتص، ولم يقل: وصل إلى جوفه-: لا يقبل. ولو شهد على أن بينهما حرمة الرضاع، أو أنه ابنها من الرضاع-: قيل: يقبل. والصحيح: أنه لا يقبل؛ لأن الناس مختلفون فيما تثبت به حرمة الرضاع. ولو رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها وأرضعته، لم يجز له أن يشهد بالرضاع؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك لبناً من غيرها في شيء اتخذته، كهيئة الثدي ترضعه منه. ولو أقر رجل أن فلانة أختي من الرضاع، ثم رجع، فأراد أن ينكحها، أو امرأة أقرت أن فلاناً أخي أو عمي من الرضاع، ثم رجعت، وأرادت أن تنكحه، أو تقارا، ثم رجعا-: لا يقبل رجوعهما، ولا يجوز أن ينكحها. وعند أبي حنيفة: إن أصرا عليه-: لا يجوز أن ينكحها، وإن رجعا-: يجوز. وبالاتفاق لو أقر إخوة النسب، أو أقر الزوج بالطلاق، ثم رجع-: لا يقبل رجوعهما. ولو تقار الزوجان على أن بينهما حرمة رضاع، وفرق بينهما، ثم إن كان قبل الدخول-: فلا مهر للمرأة، وإن كان بعد الدخول-: فلها مهمر المثل. وإن أقر أحد الزوجين، وأنكر الآخر، ولا بينة عليه- نظر: إن أقر الزوج، وأنكرت المرأة يحكم بانفساخ النكاح بقوله، ولكن لا يقبل-: قوله في حقها، حتى يجب لها نصف المسمى، إن كان قبل الدخول. وإن كان بعد الدخول-: فتمام المسمى. ثم إن كان قبل الدخول، أو كان بعده، والمسمى أكثر من مهر المثل-: له تحليفها، فتحلف على العلم؛ أنها لا تعلم حرمة الرضاع بينهما، فإن نكلت-: حلف الزوج على البت، ثم لا شيء لها، إن كان قبل الدخول وإن كان بعده-: فلا يجب أكثر من مهر المثل؛ كما لو أقام الزوج بينه على دعواه. وإن ادعت المرأة حرمة الرضاع بينها وبين الزوج، وأنكر الزوج- نظر: إن ادعته بعد التمكين-: لا يقبل قولها، وإن كان قبل التمكين- نظر: إن زوجت بإذنها، وعينته في الإنذن-: لا يقبل قولها، وإن زوجت دون إذنها، أو أذنت، ولم تعين الزوج-: يقبل قولها مع يمينها؛ على الصحيح من المذهب.

ولو أقرت أمة لغير سيدها بأخوة الرضاع-: يقبل، فإذا اشتراها ذلك الرجل-: لا يحل له وطؤها. وإن أقرت لسيدها: إن كان بعد التمكين-: لا يقبل، وإن كان قبله-: فعلى وجهين. وكذلك: لو ادعت أني موطوءة أبيك، ولو ادعت أخوة النسب-: لا يقبل، والله أعلم بالصواب.

كتاب النفقة

كِتَابُ النَّفَقَةِ [بَابُ/ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ] بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. وروي عن عائشة- رضي الله عنها- أن هنداً جاءت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله،

إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلُ شَحِيحُ، وَإِنَّهُ لا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ سِرَّاً، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءُ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ". الأسباب التي توجب نفقة الإنسان على غيره ثلاثة: النكاح، وملك اليمين، والقرابة: أما النكاح-: فتجب به نفقة المرأة على الزوج، فقيرة كانت أو غنية، ولا تجب نفقة الزوج عليها؛ لأنها ممنوعة من الخروج والكسب بسببه.

وكذلك: [في ملك اليمين] تجب نفقة المملوك على المالك، ولا تجب نفقة المالك عليه.\ أما القرابة: فتجب فيها النفقة من الجانبين عند الحاجة؛ لأنها بسبب البعضية، وهي تشمل الجانبين. وكل من تجب له النفقة هو من تجب له الكسوة والمسكن، ولا تقدير لهذه النفقات، إنما هي على قدر الكفاية، إلا نفقة الزوجة؛ فإنها مقدرة، ويختلف تقديرها بيسار الزوج وإعساره؛ لقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].

وعند أبي حنيفة: يعتبر فيها حال المرأة من كونها زهيدة أو رغيبة، ويجب تقدير كفايتها. وإن كانت المرأة مخدومة لا يخدم مثلها نفسها في عادة بلدها-: فيجب على الزوج لها خادم يخدمها، سواء كان الزوج موسراً أو معسراً، حراً أو عبداً أو مكاتباً، كما تجب النفقة عليهم. وإن لم تكن مخدومة، أو كانت أمة-: فلا يجب على الزوج لها خادم، إلا أن تكون مريضة؛ فعلى الزوج يقيم لها من يمرضها. فإذا أرادت غير المخدومة أن تتخذ لنفسها خادماً، وتنفق عليها من مال نفسها-: ليس لها ذلك إلا بإذن الزوج، لأن الدار له، فليس لها أن تدخل داره أحداً بغير إذنه. وإذا أوجبنا الخادم على الزوج-: فلا يجب أكثر من واحد؛ لأن الكفاية تقع به، إلا أن تمرض؛ فلم تقع الكفاية بواحد فيضم إليه آخر، ولا يجب تمليكه، بل إن شاء نصب جارية له تخدمها، وإن شاء استأجر حرة أو أمة تخدمها، ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة، أو ذا رحم محرم. وهل يجوز أن يكون من اليهود أو النصارى؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأنهم يصلحون للخدمة. والثاني: لا يجوز؛ لأن النفس تعاف منهم، ولو حملت مع نفسها خادماً يخدمها، حرة أو أمة-: ليس للزوج إبدالها إلا برضاها؛ لأنها ألفتها، ويشق عليها مفارقتها، إلا أن يظهر منها خيانة- فللزوج إخراجها وإبدالها بغيرها. وإذا حملت مع نفسها خادمة-: يجب على الزوج نفقتها وكسوتها، ولا تجب نفقة الخادم إلا ههنا؛ لأنه إن أمر جاريته بخدمتها-: فعليه نفقتها بسبب الملك. وإن استأجر امرأة تخدمها-: فلا نفقة لها، إنما لها الأجرة. ولو حملت مع نفسها أكثر من خادم-: فللزوج ألا يرضى بالزيادة على الواحد. ولو استأجرت امرأة تخدمها-: فلها طلب الأجرة من الزوج، فإن كانت ملكاً لها-: فلا. ولو قالت: أنا أخدم نفسي؛ فأعطني الأجرة-: له ألا يرىض؛ لأنها تصير مبتذلبة، بخلاف ما لو طلقها في دارها، فلها أن تطلب أجرة السكنى، ولو قال الزوج: أخدمك بنفسي، لها ألا ترضى؛ لأنها تحتشم منه، [وتعني بهذه الخدمة: ما يئول لخاصتها]؛ نحو حمل الماء إلى المستحم، وصب الماء على يدها، وغسل خرق الحيض ونحوها، فأما ما كان من مهن البيت من الكنس والطبخ والغزل: فليس شيء منها على المرأة، ولا على خادمها، سواء كانت مخدومة أو لم تكن، إلا أن تتبرع بشيء منها، بل إصلاح ذلك على الزوج، وإن شاء فعل بنفسه، وإن شاء فعل بغيره. فَصْلُ فِي تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ قال الله تبارك وتعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية: [الطلاق: 7]. تقدير نفقة المرأة تختلف باختلاف حال الزوج: فإن كان موسراً-: يجب عليه كل يوم مدان، وإن كان متوسطاً-: فمد ونصف، وإن كان معسراً-: فمد، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو ذمية، وذلك لأن الله تعالى أوجب النفقة على قدر حاله، ولم يبين المقدار، فقسناه على ما قدره الشرع من الكفارات، وأكثر ما أوجبه الله تعالى لكل مسكين مدان في فدية الأذى، وأقل ما أوجبه مد في كفارة الجماع [في رمضان. فاعتبرناه بها، وأوجبنا على المتوسط ما بينهما. والمرجع في اليسار والإعسار إلى العرف].

وذكر شيخي- رحمه الله- مرة: أن الموسر من يزيد دخله على خرجه، والمتوسط من يفي دخله بخرجه ولا يزيد، والمعسر من لا يفي دخله بخرجه. ونفقة خادم الزوجة- أيضاً- مقدرة؛ فيجب على الموسر مد وثلث، وعلى المتوسط والمعسر مد ولا ينقص عن مد؛ لأن النفس لا تقوم بدونه. وإن كان الزوج عبداً أو مكاتباً-: فيجب عليه نفقة المعسرين، وإن كثر حال المكاتب لأن ملكه غير تام، ومن نصفه حر ونصفه عبد-: يجب عليه نفقة المعسرين، وإن كثر ماله بنصفه الحر؛ لأنه غير كامل الحال. ومن أصحابنا من قال- وهو اختيار المزني، رحمه الله عليه-: عليه نصف نفقة الموسرين، ونصف نفقة المعسرين، وهو مد ونصف؛ كما يجب عليه بقدر الحرية من صدقة الفطر، وتجب نفقة المرأة والخادم من غالب قوت البلد حنطة أو شعيراً أوذرة أو تمرة كانت أو غيرها. وإن كانوا أهل بادية يقتاتون الأقط-: فعليه ذلك، ولا يختلف القدر باختلاف البلدان. إنما يختلف الجنس، وإن كان قوتهم من الحبوب-: يجب أن يعطى الحب، ويعطى مؤنة الطحن والخبر والإصلاح، فلو أعطى دقيقاً أو سويقاً أو خبزاً-: لا يلزمها قبولها: فإن رضيت وقبلت-: يجوز. ولو أعطاها دراهم أو دنانير أو متاعاً بدل النفقة-: لا يلزمها قبولها، فلو رضيت، [وقبلت: يجوز، ولو أعطاها طعاماً في الذمة] هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيع الطعام في الذمة؛ كبيع طعام الكفارة، وبيع المسلم فيه قبل القبض. والثاني: وهو الأصح-: يجوز؛ لأنه طعام مستقر في الذمة للآدمي؛ فيجوز الاعتياض عنه؛ كالقرض. ويجب لها ولخادمها الإدام من غالب إدام البلد من زيت أو شيرج، أو سمن، أو خل، وهو غير مقدر، بل ذلك إلى اجتهاد الحاكم، فيوجب على الموسر أكثر مما يوجب على المعسر، وعلى المتوسط بينهما. ويوجب شيئاً من اللحم في بعض الأيام، ففي وقت الرخص على الموسر كل يوم رطل، وعلى المتوسط في كل يومين أو ثلاثة وعلى المعسر في كل جمعة.

وفي وقت الغلاء في أيام عسرة على ما يراه الحاكم. ويفاوت بين المخدومة والخادم في الإدام، ويجب للمرأة ما تتنظف وتتزين به من المشط والدهن والسدر والطيب والغسول؛ على ما هو عادة البلد، ولا يجب للخادم؛ لأنه لا يستمتع به، والخضاب لا يجب إلا أن يريد الزوج. وأما الطيب: فإن كان يراد لقطع السهوكة-: يجب؛ لأنه للتنظف، وإن كان للتلذذ والاستمتاع-: فهو حق للزوج؛ فلا يلزمه إلا أن يشاء. وليلزمه أجرة الحمام، إن كان عادتها دخول الحمام؛ لأنه يراد للتنظف، ويجب عليه كسوتها من غالب ما يلبس أهل بلده لجميع بدنها؛ لأنه يستمتع بجميع بدنها؛ بخلاف الكسوة في الكفارة: لا يجب لكل مسكين إلا ثوب واحد، ولا تضاعف الكسوة بيسار الزوج في المقدار، بل يزاد في الجودة؛ فيجب على الموسر أجودهما يجب على المعسر، وعلى المتوسط بينهما؛ فلامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس من البلد: من القطن، والكتان، والخز، والإبريسم، ولامرأة المعسر من غليظ القطن والكتان، ولامرأة المتوسط بينهما. وأقل ما يجب لها قميص وسراويل وخمار ومكعب، ولا يجب لها الخف. وفي الشتاء جبة محشوة، ويجب للقعود عليه والنوم قطيفة ووسادة، وفي الشتاء لحاف. وللبسط حصر في الصيف أو زلية ولبد في الشتاء لامرأة الموسر من المرتفع، ولامرأة المعسر من غير المرتفع، ولامرأة المتوسط بينهما. ويجب لخادمها- أيضاً- الكسوة: قميص ومقنعة، وفي الشتاء كساء أو فروة أو وسادة. وهل يجب للخادم السراويل؟ ففيه وجهان: أصحهما: يجب؛ ويجب له خف، بخلاف المخدومة لا خف لها؛ لأن الخادم يحتاج إلى الخروج والتقلب في الحوائج. ويجب للمرأة الأشنان والصابون والغلي لغسل الثياب، ولا يجب ذلك للخادم إلا أن تتوسخ بحيث يعاف منها العفن؛ فيجب لها أشنان لإزالة الوسخ. ويجب عليه تسليم نفقة كل يوم عند طلوع فجر ذلك اليوم؛ وكذلك: نفقة الخادم، والاعتبار في يساره وإعساره بحالة طلوع الفجر، فإن كان في تلك الحالة موسراً-: فعليه لذلك اليوم نفقة الموسرين، وإن أعسر في خلال النهار: فإن كان معسراً-: فليس عليه إلا نفقة المعسرين، وإن أيسر بعده.

ولو دفع نفقتها ونفقة خادمها وقت طلوع الفجر، ثم مات، أو طلقها من خلال النهار-: لا يسترد، وإن لم يكن دفع-: يجب لذلك اليوم. وكذلك: لو لم ينفق عليها أياماً، وهي في طاعته-: فالنفقة والإدام ونفقة الخادم كلها تكون ديناً عليه، [وإن كان موسراً-: تكون نفقة الموسرين ديناً عليه] سواء قضى به القاضي أو لم يقض. وعند أبي حنييفة: لا يصير ديناً عليه، إلا أن يكون قد قضى به قاض، وليس كنفقة القريب حيث لا يصير ديناً في الذمة؛ لأن نفقة القريب-: تجب بطريق المواساة؛ إبقاءً للبهة في الوقت، فإذا مضى الزمان-: لا تجب لما مضى، ونفقة الزوجة وجوبها بطريق المعاوضة كالمهر؛ ولذلك: قدمنا نفقة الزوجة على نفقة القريب، وأوجبنا في حال إعسار الزوج وفي حال يسار المرأة، ونفقة القريب لا تجب على المعسر العاجز، ولا للموسر الواجد. ولو سلفها نفقة أيام، فبانت قبل انقضائها-: فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه، ولو مضت مدة لم ينفق عليها، فادعت المرأة أنه كان موسراً؛ فعليه نفقة الموسر، وقال الزوج: بل كنت معسراً؛ فلا يلزمني إلا نفقة المعسرين- نظر: إن عرف له مال قبل ذلك-: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن لم يعرف-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم المال، والتمليك واجب في النفقة؛ وكذلك: في كل ما لا يبقى بعد الانتفاع به؛ مثل: الإدام، وآلة التنظف، ونفقة الخادم. وبعد ما أخذت المرأة نفقتها-: فلها أن تتصرف فيها بما تشاء من بيع أو هبة وأن تبذلها، وإن هلكت في يدها-: فلا يجب على الزوج إبدالها، فإن قترت على نفسها بحيث يضر ببدنها-: للزوج منعها عن ذلك؛ لأن متعته تنتقص بنقصان بدنها. ويجب أن يدفع الكسوة إليها من كل ستة أشهر؛ لأن الغالب أنها تبلى في هذه المدة، أما ما يبقى سنة فأكثر؛ كالمشط، والفرش، وجبة الخز، والإبريسم-: فلا يجب تجديدها من كل فصل. وهل يجب تمليك الكسوة؟ فيه وجهان: أصحهما: يجب كالنفقة [والإدام]. والثاني: لا يجب؛ كالمسكن [والخادم].

وكذلك الوجهان فيما ينتفع به مع بقاء عينه؛ كالمشط. وفائدته تتبين في مسائل، منها: أنا إذا قلنا: يجب تمليكه-: يصير ديناً في الذمة. وإذا استأجر أو استعار ثوباً، فألبسها-: لها ألا ترضى. وإذا أخذت في أول الفصل، ثم طلقها الزوج، أو مات-: لم يكن له أن يسترد، ولها بيعه وهبته. وإن تلف أو أتلفته قبل مضي الفصل-: لا يجب على الزوج الإبدال. ولو مضى الفصل، والكسوة باقية عندها لم تلبسها-: يجب على الزوج الكسوة للفصل الثاني. وإن قلنا: لا يجب التمليك-: فلا يصير ديناً في الذمة، وإذا استأجر كسوة أو استعار فألبسها-: يجوز. وإذا أخذت في أول الفصل، ثم طلقها، وماتت-: له أن يسترد، ولا يجوز لها بيعه ولا هبته. فإن تلف أو أتلفته قبل مضي الفصل-: يجب على الزوج الإبدال، ويجب عليها ضمان ما أتلفته دون ما تلف. ولو مضى الفصل، وهي باقية عندها-: لا يجب عليه الكسوة للفصل الثاني، حتى يبلى الأول. وهل لها الاستبدال عن الكسوة؟ إن قلنا: يجب تمليكها-: فكالنفقة؛ وإلا فلا يجوز. ولا يجب على الزوج أن يضحي عن زوجته، ولا يجب عليه أجرة الحجام والفصاد والختان، ولا أجرة الطبيب، ولا ثمن الدواء، إن مرضت؛ لأنها من مؤنات تسليم البدن؛ كما أن عمارة الدار المكراة تكون على المكري دون المكتري، وليس كالدهن والمشط؛ لأنه آلة التنظيف، فتنظيف الدار وكنسها يكون على المكتري، وإذا مرضت لا تسقط نفقتها وإدامها، فتصرف المرأة ذلك إلى ثمن الدواء وأجرة الطبيب، وهل يجب عليه ثمن ماء الاغتسال؟ ينظر: إن كانت تغتسل من جماع، أو نفاس-: يجب على أصح الوجهين. وإن كانت تغتسل من احتلام-: فلا يجب، وإن كان من حيض-: فوجهان: الأصح: لا يجب. وإن ماتت المرأة أو خادمها، هل يجب عليه كفنها ومؤنة تجهيزها ودفنها؟ ففيه وجهان: أصحهما: يجب؛ كما تجب نفقتها وكسوتها في حياتها.

والثاني: لا يجب؟ لأنه يستمتع بها في الحياة، وقد انقطع ذلك بالموت، والله تعالى أعلم بالصواب. بَابُ الحَالِ التَّيِ تَجِبُ فِيها النَّفَقَةُ ونفقة الزوجة تجب بالعقد أم بالتمكين؟ فيه قولان:

أصحهما: وهو قوله الجديد-: [تجب بالتمكين]؛ فتجب نفقة كل يوم عند طلوع فجره؛ لأن العقد قد وجب به المهر؛ فلا يجب به عوض آخر. والثاني: وهو قوله القديم-: يجب بالعقد ويستقر بالتمكين على مر الزمان؛ كالأجرة من الإجارة، غير أن التسليم جملة في الإجارة يجب حالة العقد، وههنا: يجب على مر الأيام؛ لأن نهارة المدة من الإجارة معلوم، وفي النكاح نهاية العمر غير معلومة. والحرة العاقلة البالغة إذا سلمت نفسها إلى الزوج أو طالبته بالصداق لتسليم نفسها-: يجب عليه نفقتها من ذلك الوقت. ولو بعثت إليه رسولاً بأني مسلمة نفسي إليك-: تلزمه نفقتها من وقت بلوغ الخبر إليه. وإن كان الزوج غائباً-: فمن حين يصل الخبر إليه، ومضي زمان إمكان القدوم عليها، ولا نفقة لها قبل بعث الرسول وعرض نفسها، وإن مضت سنون، وإن كانت المرأة مالكة لأمرها-: فالعرض يكون من قبلها، وإن كانت مراهقة أو مجنونة-: فمن قبل وليها. والتمكين التام شرط لوجوب النفقة، فلو قالت: أمكنك في بيتي، أو في بيت كذا دون غيره-: فلا نفقة لها؛ لأن التمكين التام لم يوجد. ولو اختلف؛ فقالت المرأة: سلمت نفسي إليك منذ كذا، وأنكر-: فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: وهو المذهب-: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التسليم وهذا على قولنا: إن النفقة تجب بالتمكين. وقال في "الإملاء": القول قولها مع يمينها؛ وهذا على قولنا: إنها تجب بالعقد، فالأصل بقاء ما وجب بالعقد، وهو يدعي السقوط. ولو اتفقا على تسليم النفس، واختلفا، فقال الزوج: أديت النفقة، وأنكرت-: فالقول قولها [مع يمينها؛ سواء إن كان الزوج] حاضراً أو غائباً.

وقال مالك: إن كان حاضراً- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الغالب أنها لا تمكن إلا بعد أخذ النفقة. ولو منعت نفسها من الزوج بطلب الصداق- نظر: إن كان بعد الدخول-: فلا نفقة لها- وكذلك: عن كان قبل الدخول، أو كان الصداق مؤجلاً؛ لأن منع النفس لأجل الصداق غير ثابت لها بعد التمكين؛ وكذا: إذا كان الصداق مؤجلاً، وحل الأجل؛ لأن العقد لم يثبت. وإن كان الصداق حالاً-: فلها منع نفسها عنه؛ لقبض الصداق قبل التمكين، ولا تسقط به نفقتها. ولو سلمت المراهقة نفسها إلى الزوج بغير إذن الولي، أو المرأة البالغة سلمت نفسها إلى الزوج المراهق دون إذن وليه-: صح التسليم، ولها النفقة؛ بخلاف تسليم المبيع إلى المراهق: لا يصح؛ لأن المقصود من تسليم المبيع إثبات اليد للمشتري، واليد في مال المراهق للولي. وإن كانت المرأة صغيرة ولا تحتمل الجماع، فسلمت إلى الزوج أو عرضت عليه-: فهل تستحق النفقة؟ فيه قولان: أصحهما: وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة: واختيار المزني-: لا نفقة لها؛ لأن تعذر الاستمتاع لمعنى فيها؛ كما لو نشزت، أو لم يوجد التسليم التام. والثاني: لها النفقة؛ لأنها معذورة؛ كالمريضة، وكذلك: إذا كانا جميعاً صغيرين. أما إذا كان الزوج صغيراً-: ففيه قولان: أصحهما: لها النفقة؛ لأن التمكين وجد منها، وإنما تعذر الاستيفاء من جهته؛ كما لو سلمت نفسها إلى الزوج الكبير، فهرب الزوج-: تجب لها النفقة. والثاني: لا نفقة لها؛ لأنه لم يتمكن من الاستمتاع. ولو سلمت نفسها إليه، وهي مريضة أو مضناة لا تحتمل الجماع، أو كانت رتقاء أو قرناء، أو بعد التسليم مرضت، أو ارتق محل جماعها، أو كان الزوج مريضاً أو مجنوناً أو عنيناً-: تجب لها النفقة. وكذلك: لو حاضت، أو نفست-: لا تسقط نفقتها؛ لأن الاستمتاع بها ممكن بغير الجماع. ولو هربت، أو امتنعت عن التمكين، أو نشزت، عاقلة كانت أو مجنونة، أو غضبت أو

انتقلت من منزل الزوج إلى منزل آخر، سواء إن كان الزوج حاضراً أو غائباً، أو سافرت بغير إذنه-: فلا نفقة لها.

وإن سافرت بإذنه-: نظر: إن كان الزوج معها-: فلا تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها - نظر: إن بعثها الزوج في حاجته-: فلا تسقط نفقتها، وإن خرجت في حاجتها بإذنه-: فعلى قولين: أصحهما: لا نفقة لها. وكذلك: لو أحرمت بحج أو عمرة دون إذن الزوج-: فلا نفقة لها، وإن كان الحج فرضاً عليها؛ لأن أداء الحج على التراخي، وحق الزوج على الفور سواء قلنا: ما يثبت للزوج تحليلها، أو لا يثبت. وإن أحرمت بإذنه فكالسفر، إن كان الزوج معها-: لا تسقط نفقتها. وإن لم يكن-: فعلى قولين: وإن منعت نفسها بالصلاة- نظر إن منعت بالصلاة الخمس والسنن الرواتب-: لا تسقط نفقتها؛ لأن ما يترتب بالشرع-: فلا حق للزوج في زمانه، وكذلك: قضاء الفرائض، إن كان على الفور، وإن كان على التراخي كقضاء صوم رمضان. وإن كانت منذورة: فكالصوم المنذور.

وإن منعت نفسها بالصوم- نظر: إن منعت بصوم رمضان، أو بقضائه، وقد ضاق وقته بأن كان قد أفطرت عمداً، أو أفطرت بعذر، ولم يكن بقي من شعبان إلا قدر أيام القضاء-: فلا تسقط نفقتها. وإن كان وقت القضاء واسعاً-: فهو كصوم التطوع؛ فليس للمرأة أن تصوم إلا بإذن الزوج. فلو صامت- نظر: إن صامت بإذنه-: فلا تسقط نفقتها، وإن صامت دون إذنه-: فللزوم أن يفطرها، فلو تركها، ولم يفطرها-: فعلى وجهين: أحدهما: لا تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته. والثاني: وهو الأصح-: تسقط؛ لأنها امتنعت من التمكين مما ليس بواجب عليها. وإن صامت عن نذر نظر: إن نذرت مطلقاً-: فكالتطوع. وإن نذرت معيناً- نظر: إن نذرت قبل النكاح-: لا تسقط نفقتها؛ كصوم رمضان، وإن نذرت بعد النكاح بإذن الزوج-: فكذلك، وإن كان بغير إذنه-: فكالتطوع. وإن صامت عن كفارة في ذمتها-: فكالتطوع؛ لأنه يقبل التأخير. ولو منعت نفسها بالاعتكاف- نظر إن اعتكفت بإذنه، وهو معها-: لا تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها- نظر: إن كان اعتكافها تطوعاً، أو عن نذر في الذمة-: تسقط نفقتها؛ لأنه يقبل التأخير؛ كما ذكرنا في الحج. وإن كان عن نذر معين- نظر: إن نذرت قبل النكاح-: لا تسقط نفقتها؛ لأنه لا حق للزوج [في المستحق] قبل النكاح. وإن نذرت بعد النكاح: فإن نذرت بإذنه لا تسقط نفقتها، وإن نذرت بغير إذنه-: تسقط نفقتها-: فحيث قلنا: تسقط نفقتها بالاعتكاف-: يسقط جميعها، وفي الصوم وجهان: أحدهما: يسقط جميعها؛ كما في الاعتكاف. والثاني: يسقط نصفها؛ لأن الاستمتاع بها ممكن بالليل، بخلاف الاعتكاف: فإنه يدوم ليلاً ونهاراً. أما الزوج إذا غاب أو أحرم أو صام-: لا تسقط نفقتها. فلو خرجت في غيبة الزوج إلى بيت أبيها لزيارة أو عبادة-: لا تسقط نفقتها.

وإن خرجت ناشزة-: تسقط نفقتها، فإن عادت-: فلا نفقة لها، ما لم يصل الخبر إليه؛ على أصح الوجهين، ولو وطئت بالشبهة-: فلا نفقة لها ما دامت في عدة الواطئ. وإن كان الزوجان كافرين، وأسلمت المرأة، وتخلف الزوج بعد الدخول-: يجب عليها نفقتها في زمان العدة، سواء أسلم الزوج في العدة أو لم يسلم؛ لأنها أدت فرضاً عليها؛ فلا تسقط نفقتها، كما لو صلت وصامت، أما إذا أسلم الزوج، وتخلفت المرأة- نظر: إن كانت كتابية يدوم النكاح بينهما-: فلا تسقط نفقتها. وإن كانت وثنية أو مجوسية- نظر: إن لم تسلم المرأة حتى انقضت عدتها-: فلا نفقة لها؛ لأنها الممتنعة من التمكين بالتخلف عن الإسلام، كالناشزة. ولو أسلمت في العدة-: فهما على النكاح، ولها النفقة من حين أسلمت، وهل يجب لها نفقة زمان التخلف؟ فيه قولان: قال في الجديد، وهو المذهب: لا نفقة لها؛ كما لو لم تسلم حتى انقضت عدتها. وقال في القديم: لها النفقة؛ بخلاف ما لو لم تسلم حتى انقضت عدتها؛ لأنا أثبتنا - هناك- أنها لم تكن في نكاحه؛ لأن الناكح يرتفع من وقت تبديل الدين. وإذا أسلمت في العدة تبينا أنها كانت في نكاحه. والأول أصح؛ كما لو سافر الزوج، وتخلفت عنه-: لا نفقة لها، وإن كانت في نكاحه: فإن قلنا: لا تجب نفقة ما مضى، فاختلفا، فقال الزوج: أسلمت الآن، وقالت: منذ شهر، فعليك نفقة شهر-: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء كفرها- كما لو نشزت، ثم عادت، فقالت: عدت منذ شهر، وقال: بل عدت الآن-: فالقول قوله مع يمينه. وكذلك: على قوله القديم: إذا قالت أسلمت قبل انقضاء العدة؛ فلي النفقة في العدة، وقال: بل بعده-: فالقول قوله [مع يمينه] أما إذا اختلفا في سبق الإسلام، فقالت المرأة: أسلمت أولاً؛ فعليك النفقة، وقال الزوج: بل أسلمت أنا أولاً، وتخلفت؛ فلا نفقة لك-: فالقول قولها [مع يمينها] لأن الأصل وجوب النفقة، وهو يدعي سقوطها، كما لو ادعى عليها النشوز وأنكرت-: فالقول قولها [مع يمينها]. ولو ارتدت المرأة بعد الدخول-: لا نفقة لها في العدة؛ لأنها ناشزة. قال الشيخ: وكذلك لو ارتدا معاً.

ولو ارتد الزوج-: يجب عليه نفقتها، وإن ارتدت المرأة، وعادت إلى الإسلام في العدة-: فلا يجب لها نفقة زمان الردة، بخلاف ما لو تخلفت المرأة بعد إسلام الزوج، ثم أسلمت في العدة: لها نفقة زمان التخلف على قوله القديم؛ لأنها بالتخلف لم يحدث من جهتها منع، بل أقامت على دينها، والمرتدة أحدثت منعاً بالردة. ولو ارتدت الزوجة، فغاب الزوج، ثم عادت إلى الإسلام، والزوج غائب: استحقت النفقة من حين عادت إلى الإسلام. وإن نشزت، فغاب الزوجن ثم عادت إلى الطاعة، والزوج غائب-: لا نفقة لها حتى يصل الخبر إليه، أو يمضي زمان لو سافرت فيه يقدر على استمتاعها. والفرق: أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة، وقد زالت بالإسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من الاستمتاع، والخروج عن قبضة الزوج؛ وذلك لا يزول مع الغيبة، والله أعلم. فَصْلُ إذا قبضت الحرة الصداق-: وجب عليها تسليم نفسها إلى الزوج، إن كانت محتملة الجماع. وإذا زوج أمته-: فللسيد أن يشغلها بخدمته، ولا يمكنه إلا في الوقت الذي لا يحتاج إلى خدمتها، ويستخدمها بالنهار ويسلمها إلى الزوج بالليل. ولا يجب أن يؤويها مع الزوج بيتاً؛ بخلاف ما لو أجر عبده-: يجب تسليمه إلى المستأجر، وليس له أن يشغله بخدمته؛ لأن المستأجر ملك المنفعة؛ بدليل أنه يستوفي بنفسه وبغيره، والزوج ليس له حقيقة ملك في بعضها، بل أبيح له الاستمتاع، بدليل أنها لا تبيح لغيره، وللمولى حقيقة ملك، فكان أولى باستخدامها من الزوج، ثم إن آواها معه بيتاً ليلاً أو نهاراً، أو سلمها إليه-: يجب على الزوج تسليم الصداق، وتمام نفقتها، وإن لم يفعل-: فلا نفقة لها، ولا يجب تسليم الصداق. وإن كان قد سلمه-: فله أن يسترد، ولو قال: ادخل بيتي ليلاً ونهاراً، أو استمتع بها، ولا ىذن لها في الخروج، فهل تستحق النفقة؟ فيه وجهان: أحدهما: تستحق؛ كما لو آواها معه بيتاً. والثاني: وهو الأصح-: لا تستحق؛ لأن التمكين التام لم يوجد؛ كالحرة إذا قالت: ادخل بيتي، ولا أخرج إلى بيتك: فلا نفقة لها. ولو سلمها إليه بالليل دون النهار-: ففيه وجهان:

أصحهما: وهو قول أبي إسحاق- لا نفقة لها؛ لأن التسليم لم يوجد، كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار: لا تستحق شيئاً من النفقة. وقال ابن أبي هريرة: يجب لها نصف النفقة؛ لأنه سلمها إليه نصف الزمان. وقيل: تجب كل النفقة؛ لأن زمان الاستمتاع هو الليل، وقد سلمها إليه بالليل، والله تعالى أعلم بالصواب. بَابُ الرَّجُلِ الذِي لاَ يَجِدُ النَّفَقَةَ سئل ابن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما، قيل له: فسنة؟ قال: سنة. قال الشافعي- رضي الله عنه-: والذي يشبه قول ابن المسيب يشبه أن يكون سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. إذا أعسر الرجل بنفقة زوجته، وهي في فراشه، أو في عدة الرجعة-: يثبت لها فسخ النكاح؛ وهذا هو المذهب، سواء كانت المرأة موسرة أو معسرة؛ لأن الله تعالى قال: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]؛ فإذا عجز عن الإمساك بالمعروف تعين عليه التسريح، وهو قادر عليه؛ وهذا قول أكثر أهل العلم.

وفيه قول آخر، وبه قال الزهري، وهو قول أبي حنيفة: لا فسخ لها. والأول المذهب؛ للاتفاق على أن الزوج إذا عجز عن الوطء يثبت للمرأة حق الخروج عن النكاح، مع أنها تصبر عن الوطء جميع عمرها، وإذا عجز عن النفقة أولى أن يثبت لها حق الخروج عن النكاح مع أنه لا صبر لها عن النفقة. يؤيده: أن الحبس في البيت سقط بسبب الإعسار، حتى يجوز لها الخروج لطلب النفقة، كذلك حبس النكاح، وإنما يثبت لها حق الفسخ، إذا عجز الزوج عن نفقة المعسرين، وهو المد أو عن بعضه. فإذا عجز عن نفقة الموسرين، أو عن المتوسطين، أو عن الإدام، أو عن نفقة الخادم: فلا يثبت لها حق الفسخ؛ لأن النفس تعيش بدون الإدام، وتقوم بدون الخادم، وكذلك إذا عجز عن السكنى فلا فسخ لها؛ على أصح الوجهين. ويثبت بسبب الإعسار بالكسوة؛ كالنفقة، وإذا صارت النفقة ديناً في ذمته يعجز عن

أدائها-: فلا فسخ لها؛ كما لو كان لها عليه دين آخر لا يقدر على أدائه، حتى لو أعسر بنفقة يوم، فلم يفسخ، فوجد نفقة اليوم الثاني-: لا خيار لها لإعساره بنفقة الأمس. وإذا امتنع عن الإنفاق مع اليسار، هل يثبت لها حق فسخ النكاح؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا فسخ لها؛ لأن الأخذ يمكن بالسلطان. والثاني: لها ذلك؛ لتعذر الوصول إلى حقها. والأول أصح. وكذلك: لو غاب، وهو موسر في الغيبة-: لا يثبت لها حق الفسخ؛ على الأصح؛ لأن ثبوت الفسخ لنقص الإعسار؛ كما لو كان قادراً على الوطء؛ لكنه غائب عن زوجته: لا فسخ لها، وإذا كان حاضراً، وهو عنين-: ثبت لها الفسخ. وكذلك: لو غاب، وانقطع خبره، ولم يعلم إعساره-: فلا فسخ لها على الأصح؛ لأن ثبوت الفسخ، وهو الإعسار-: لم يتحقق، وإن كان موسراً، لكنه لا يعطي إلا نفقة المعسرين-: فلا خيار لها؛ لأن البدن يقوم بما يعطي، والباقي يثبت ديناً في ذمته. فإن كان الزوج معسراً، فتبرع رجل بأداء النفقة عنه-: لا يسقط خيار المرأة؛ لأن من قبوله منة عليها. وإن كان الرجل فقيراً، ولكن يجد نفقة كل يوم-: فلا خيار لها، وإن كان يجد كل يوم نصف مد، ويجد يوماً قدر الكفاية، ويوماً نصفه-: فلها الخيار. وإن كان يجد في أول النهار ما يغديها، وفي آخره ما يعشيها-: ففيه وجهان: أحدهما: لها الخيار؛ لأن نفقة اليوم لا تتبعض. والثاني: قال الشيخ؛ وهو الأصح: لا خيار لها؛ لأنه يصل إليها نفقة كل يوم. هذا في إعسار العجز، أما إعسار التأخير-: لا يثبت الفسخ؛ مثل: إن كان يكتسب في كل يوم ما يكفيه لثلاثة أيام بعدها، ثم يبقى يومين أو ثلاثة لا يكتسب، ثم يكتسب ما يكفي الأيام الماضية. وإن كان نساجاً ينسج في كل أسبوع ثوباً يكفيه أجرته للأسبوع-: فلا خيار لها؛ لأنه ليس بإعسار، بل هو تأخير الحق من وقت إلى وقت، ويستدين يوم التأخير. وإن كانت نفقته من عمل فعجز عنه بمرض- نظر: إن كان مرضاً يرجى زواله في يومين أو ثلاثة أيام-: فلا فسخ لها؛ لأنه يمكنه أن يستقرض، ثم يقضي إذا برئ وعمل. وإن كان مرضاً يطول زمانه-: فلها الخيار.

وإن كان ماله غائباً: فإن كان على أقل من مسافة القصر-: فلا خيار لها، وإن كان في مسافة القصر-: فلها الخيار. [قال الشيخ]: بخلاف ما لو كان الزوج غائباً، وهو موسر-: فلا فسخ لها؛ على الأصح؛ لأن الزوج هناك قادر على الأداء، وتعذر الوصول إليه من جهة المرأة، وإذا كان المال غائباً-: فالعجز عن الإنفاق من جهة الزوج، وكان لها الفسخ. وإن كان له دين على موسر-: فلا خيار لها، وإن كان على معسر-: فلها الخيار. وإن كان له دين على المرأة، فأمرها أن تنفق على نفسها-: فلا خيار لها، إن كانت موسرة، وإن كانت معسرة-: فلها الخيار، لأن الله تعالى أمر بإنظار المعسر؛ فهي لا تصل إلى نفقتها من ماله. والفسخ بسبب الإعسار يحتاج إلى الحاكم؛ لأنه مجتهد فيه؛ فالحاكم يفسخ بطلبها، أو يثبت لها الخيار حتى يفسخ. وقيل: هي تفسخ بنفسها، وهي فرقة فسخ لا ينتقض به عدد الطلاق. وقيل: القاضي يأمره بالطلاق، فإن لم يطلق يطلق عليه القاضي؛ كما في الإيلاء. والأول أصح. وفي وقت الفسخ قولان: أحدهما: وهو الأصح-: يمهل ثلاثاً، حتى يتحقق العجز والضرر؛ لأنه قد لا يقدر اليوم، ويقدر في غد. والثاني: لا يمهل ثلاثاً، حتى يتحقق العجز والضرر؛ لأنه لا فسخ لتعذر الوصول إلى العوض؛ كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن. فإن قلنا: لا يمهل ثلاثاً-: ففيه وجهان: أحدهما: لها الفسخ، إذا طلع الفجر، وعجزه ظاهر في ذلك اليوم. والثاني: لا فسخ لها حتى يمضي اليوم. فإذا قلنا: يمهل ثلاثاً، فمضى يومان، ثم وجد نفقة اليوم الثالث، ثم أعسر في اليوم الرابع-: فهل يستأنف المدة؟ فيه وجهان: أحدهما: يستأنف؛ لأن العجز الأول قد ارتفع.

والثاني: لا يستأنف؛ لأنها تضرر به، وفي مدة الإمهال يجوز لها الخروج عن البيت؛ لتحصيل النفقة بسؤال أو كسب، إن كانت معسرة، وإن كانت موسرة، فلا، ويجوز للمرأة منع نفسها عن الزوج بفقد النفقة، ولكن لا نفقة لها في زمان المنع، حتى لا يصير ديناً على الزوج. فإذا اختارت المقام معه، ولم تمنع نفسها منه-: ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من الطعام والإدام والكسوة، ونفقة الخادم، فإذا أيسر طولب بها، ولا يثبت في ذمته: ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر، فإذا أعسر الزوج بالصداق، هل يثبت لها الفسخ؟ فيه أقوال: أصحها: يثبت، سواء كان قبل الدخول أو بعده؛ كما لو أعسر بالنفقة، ولأن النكاح معاوضة تقبل الفسخ، فيجوز فسخ بالإفلاس بالعوض، كالبيع، وأثبتنا الفسخ بعد الدخول، لأن البضع لا يتلف حقيقة بوطأة واحدة. والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأن النفس تقوم بدونه؛ كما لو كان عليها دين آخر، وكما لو أعسر بنفقة الزمان الماضي، حتى صار ديناً في الذمة. والثالث: إن كان بعد الدخول لا فسخ لها؛ لأن البضع صار في حكم التالف بالدخول، وإن كان قبل الدخول-: فلها الفسخ؛ كالمشتري إذا أفلس، والمبيع قائم-: فللبائع فسخ البيع، وإن كان تالفاً-: فلا فسخ له. وإن أثبتنا-: هل يحتاج إلى الحاكم؟ حكمه حكم الإعسار بالنفقة. وإن كان قد نكحها مفوضة-: فلا خيار لها بسبب العجز عن الصداق؛ لأنه لا يجب لها المهر بالعقد؛ على أصح القولين، ولكن لها مطالبته بالفرض، فإذا فرض-: فهو كالمسمى في العقد، وإذا أثبتنا لها الفسخ بالإعسار بالصداق، فرضيت به، ولم تفسخ، ثم بدا لها أن تفسخ-: ليس لها ذلك؛ لأنه ضرر واحد؛ كما لو وجدت به عيباً فرضيت به. أما إذا أعسر بالنفقة، فرضيت بإعساره، واختارت المقام معه على الإعسار، ثم بدا لها أن تفسخ-: فلها ذلك؛ لأنه حق يتجدد كل يوم. وكذلك: لو نكحت عالمة بإعساره-: فلها الخيار بفقد النفقة، فإذا أرادت الفسخ بعد الرضا، وقلنا: يمهل ثلاثاً-: نضرب المدة ثانياً، وإذا اختارت المقام مع الإعسار بالنفقة-: لا يلزمها التمكين من الاستمتاع، ولها أن تخرج من منزله، لأن التمكين في مقابلة النفقة-: فلا تجب مع عدمها، أما في الإعسار بالصداق بعد الدخول-: ليس لها الامتناع من التمكين إذا اختارت المقام معه. وإن كانت المرأة غير بالغة أو مجنونة-: فليس لوليها فسخ العقد بسبب الإعسار بالنفقة،

بل نفقتها في مالها، إن كان لها مال، وإن لم يكن لها مال-: فنفقتها على من تلزمه نفقتها، لولا الزوجية. وإن كانت أمة-: فالفسخ بإعسار النفقة لها حتى لو جنت الأمة-: ليس لسيدها أن يفسخ، فلو رضيت بإعسار الزوج-: ليس لسيدها الفسخ، ولكن لا يجب على السيد نفقتها، بل يقول لها: إن أردت النفقة؛ فافسخي العقد. ولو أنها أبرأت الزوج عن نفقة اليوم-: جاز؛ لأن ذلك حقها. أما ما صار ديناً في ذمته من النفقة-: فلا يصح إبراء الأمة عنه؛ لأنه للسيد؛ كالصداق. فَصْلُ إذا ضمن رجل عن آخر نفقة زوجته - نظر: إن ضمن نفقة المدة الماضية التي صارت ديناً في ذمة الزوج، وكانت معلومة-: جاز، سواء فيه نفقة الموسرين أو المعسرين أو المتوسطين. وكذلك: الإدام ونفقة الخادم للمدة الماضية؛ وكذلك: نفقة الوقت بأن طلع فجر يوم، فضمن نفقة ذلك اليوم- جاز؛ لأنها تجب بطلوع الفجر. أما نفقة الزمان المستقبل-: هل يصح ضمانها؟ إن قلنا: تجب النفقة بالعقد-: يصح ضمانها. وإن قلنا: بالتمكين-: لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب، فإن جوزنا إنما نجوز ضمان نفقة المعسرين، ولا يصح ضمان نفقة الموسرين والمتوسطين. وإن كان الزوج موسراً في تلك الحالة؛ لأنه ربما يعسر: فإن جوزنا ضمانها-: فهل يسقط [خيار المرأة؟ نظر: إن ضمن بإذن الزوج-: يسقط خيارها. وإن ضمن بغير إذنه-: فعلى وجهين: أحدهما: يسقط؛ لأن الضرر زال عنها بضمانه؛ كما لو ضمن بإذنه. والثاني: لا يسقط؛ لأن الضامن تبرع عليها؛ بدليل أنه لا يرجع على الزوج؛ فهو كما لو تبرع رجل بأداء النفقة عن الزوج المعسر-: لا يسقط به خيارها؛ لأن في قبوله منة عليها. بَابُ نَفَقَةِ الَّتِي لاَ يَمْلِكُ زَوُجُهَا نَفَقَتَهَا قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ...} الآية [الطلاق: 6].

المعتدة الرجعية تستحق النفقة والكسوة والسكنى في العدة، ولها النفقة، ما لم تقر بانقضاء عدتها، وله الرجعة. أما البائنة بالخلع والطلقات الثلاث-: فلها السكنى، ولا نفقة ولا كسوة، وإن كانت حائلاً، وإن كانت حاملاً-: فلها النفقة والكسوة على الزوج، وتلك النفقة للحمل أم

للحامل؟ فيه قولان:

أصحهما: للحامل؛ بدليل أنه يعتبر التقدير لحالها. وقال في القديم: هي للحمل؛ بدليل أنها لا تجب عند عدم الحمل. وفائدته: تتبين في مسائل: منها: أن الزوج لو كان عبداً، هل تجب عليه النفقة إن قلنا: هي للحامل-: تجب عليه؛ كنفقة الزوجة. وإن قلنا: للحمل-: لا تجب؛ لأن العبد لا تجب عليه نفقة للقريب. ومنها: لو كان الحمل مملوكاً؛ لكون الأم أمة، فهل على الزوج نفقتها سواء كان الزوج حراً أو عبداً؟ إن قلنا: هي للحامل-: تجب. وإن قلنا: للحمل-: لا تجب؛ بل تكون على مالك الحمل؛ كما لو كان الولد خارجاً-: لا يختلف القول: إن هذه النفقة تصير ديناً في الذمة، وتسقط بيسورها؛ ولا يجب على حد الحمل؛ لأن مستحقها الزوجة بخلاف نفقة القرب. ومنها: أن المعتدة عن وطء الشبهة والنكاح الفاسد، والمفسوخة نكاحها بعيب أو غررو-: هل تستحق النفقة، إن كانت حاملاً؟ إن قلنا: هي للحامل، وهو الأصح-: لا تستحقها؛ لأن النكاح الفاسد لا يوجب النفقة، كذلك: عدته. وإن قلنا: للحمل: تستحقها؛ لأن النفقة للولد تجب سوى [ما] على الوالد، حصل من وطء شبهة. أما المعتدة عن فرقة اللعان والرضاع والصهرية-: كالمطلقة ثلاثاً: تستحق السكنى، وتستحق النفقة والكسوة، إن كانت حاملاً. وإذا أوجبنا النفقة للحمل أو للحامل-: فلا تجب قبل ظهور الحمل. وبعد ظهوره: هل يجب الدفع قبل وضع الحمل؟ فيه قولان؛ بناءً على أن الحمل: هل يعرف أم لا؟ فيه قولان: أصحهما: يعرف؛ بدليل أنه يرد الجارية المشتراة بسبب الحمل، ولا توجب الحامل في الزكاة، وتجب الخلفة في الدية، ولا يقم الحد على الحامل. والثاني: لا يعرف؛ لأنه قد يبين بخلاف ما لو تتوهم.

إن قلنا: يعرف الحمل، وهو الأصح، واختيار المزني-: يجب دفع النفقة إليها قبل الوضع. ثم إن بان أنه كان ريحاً، ولم يكن حملاً-: هل له أن يسترد ما ينفق عليها في زمان الحمل؟ إن قلنا: يجب دفع النفقة إليها قبل الوضع-: فله أن يسترد؛ كما لو دفع مالاً إلى إنسان على ظن أن له عليه ديناً؛ فبان أنه لم يكن-: فله أن يسترد؛ كالأب الموسر إذا كان ينفق على ولده على ظن أنه معسر، وأن نفقته عليه، فبان موسراً-: فله أن يرجع عليه بما أنفق. وإن قلنا: لا يجب الدفع قبل الوضع-: نظر: إن دفع بأمر الحاكم-: فله أن يرجع، وإن دفع بغير أمره- نظر: إن شرط أن ذلك عن نفقتها؛ إن كانت حاملاً-: فله الرجوع، وإن لم يشترط-: فهو متبرع لا رجوع له، والله أعلم. بَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الأَقَارِبِ قال النبي- صلوات الله عليه وسلامه- لهند: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ

بِالْمَعْرُوفِ". نفقة القريب واجبة على القريب في الجملة، ولا يجب- عندنا- إلا نفقة الوالدين، والمولودين، من الآباء والأجداد والجدات، وإن علوا من أي جهة كانوا. والأولاد وأولاد الأولاد، وإن سفلوا، ذكوراً كانوا أو إناثاً. فنفقة الولد مستفادة من الحديث، ويستدل [به] على وجوب نفقة

الوالد؛ لأنهما يستويان في العصبة، وحرمة الوالد أعظم.

وعند أبي حنيفة: تجب نفقة كل ذي رحم محرم؛ كالأخ والأخت والعم والخال. تجب نفقة القريب مع اختلاف الدين، وتجب في الكسب؛ كما تجب في المال، ويجبر

على الكسب]؛ ليحصل نفقة القريب، إن كان كسوباً، وإن لم يجعل الكسب كالمال في إيجاب نفقة الموسرين للزوجة، وفي إيجاب الزكاة والحج. وعند أبي حنيفة: نفقة غير الوالدين والمولودين لا تجب مع اختلاف الدين، ولا في الكسب. وفيه دليل على أنها غير واجبة، وإنما تجب نفقة القريب على من كان موسراً، أو

مكتسباً يفضل عن حاجته، ونفقة عياله ما ينفق على قريبه، فإن لم يفضل عن حاجته، وعياله-: لا يجب عليه نفقة القريب؛ لأن نفقة العيال مقدمة على نفقة القريب، حتى لو فضل عن قوت يومه نفقة شخص، وله زوجة وقريب: كانت الزوجة أولى؛ لأن نفقة القريب مواساة، ولا مواساة على من لا يفضل عن حاجته شيء، ويجب في مال الصبي والمجنون. ويباع في نفقة القريب ما يباع في الدين من العقار والمنقول جميعاً. وإنما يستحق النفقة على القريب من كان معسراً لا كسب له، عاجزاً، فإن كان له مال من أي نوع كان-: فنفقته في ماله، لا تجب على قريبه، صغيراً كان أو كبيراً، زمناً أو سوياً. وكذلك: إن كان له كسب يغنيه-: فنفقته في كسبه؛ لا تجب على قريبه. وإن كان معسراً لا كسب له- نظر: إن كان زمناً لعجز أو مرض، أو أعمى، أو كان مجنوناً، أو كان الولد صغيراً- يستحق النفقة على قريبه. وإن كان رضيعاً-: فعلى القريب إرضاعه في الحولين. وإن كان صحيحاً سوياً-: ففيه قولان: أصحهما: لا يستحق النفقة؛ لأن القوة كاليسار؛ فيمكنه تحصيل النفقة واليسار بقوته، وقد سوى النبي- صلى الله عليه وسلم- في تحريم الزكاة بين القوة واليسار؛ فقال: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة قوي".

والثاني: يستحق؛ لأنه محتاج غير كسوب؛ كالزمن. وقيل: القولان في الوالدين، أما الأولاد-: فلا يستحقون النفقة مع القوة؛ لأن حرمة الوالد أعظم من حرمة الولد. فَصْلُ فِي اجْتِمَاعِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ النَّفَقَةُ إذا كان للمحتاج قريباً موسران- فلا يخلو: إما إن استويا في الجهة، أو اختلفا: فإن استويا في الجهة- لا يخلو: إما إن كانوا في المولودين أو في الوالدين: فإن كانا في المولودين- نظر: إن استويا في الدرجة-: فنفقته عليهما نصفان؛ مثل: إن كان له ابنان، أو ابنتان، أو ابنا ابن، وإن كانا مختلفين في قدر اليسار بأن كان أحدهما يملك أموالاً كثيرة، والآخر يملك فضلاً عن قوت اليوم، وكذلك إن كان أحدهما موسراً، والآخر محترفاً بقدر أن ينفق بحرفته-: فهما سواء. وإن كان أحدهما حاضراً، والآخر غائباً-: يؤخذ النصف من الحاضر، والنصف من مال الغائب، فإ، لم يكن له مال حاضر-: يستدان عليه. وإن كان له ابن وبنت- فيكون عليهما سواء، وكذلك: ابن الابن وبنت الابن، وبنت البنت: يستويان، وإن اختلفا في الدرجة؛ مثل: إن كان له ولد وولد ولد-: فيجب على الأقرب، ذكراً كان أو أنثى، وارثاً كان أو غير وارث. هذا هو المذهب. وقيل: يعتبر بالميراث، فإن كان له ابن وبنت-: يجب ثلثا النفقة على الابن، والثلث على البنت، وإن كان أحدهما وارثاً-: تجب على الوارث؛ مثل: إن كان له ابن ابن، وابن بنت-: فتكون على ابن الابن، وكذلك: ابن ابن الابن مع ابن البنت، فتكون على ابن ابن الابن. فإن كانا وارثين أو لم يكونا وارثين-: فعلى الأقرب، وقيل: تجب على الذكر منهما؛ لأنه أقوى على الكسب، حتى لو كان له بنت وابن-: فيكون على الابن؛ وكذلك: بنت وابن ابن وابن بنت-: فعلى ابن الابن، أو ابن البنت؛ كما أن الأب أولى من الأم.

والأول المذهب؛ أنه لا تعتبر الذكورة ولا الميراث؛ بدليل أنها تجب مع اختلاف الدين، ولا توارث مع اختلاف الدين؛ ولأن كل واحد لو انفرد كان الكل عليه، وإن لم يكن له كل الميراث، وإن كان القريبان الموسران من جهة الوالدين؛ مثل: إن كان له أب وجد، أو أم وجدة- فتجب على الأقرب، وإن كان له أب وأم-: فالمذهب: أن النفقة على الأب؛ وبه قال أبو حنيفة؛ كما في حال الصغر. وقيل: تكون عليهما، فعلى هذا هل يسوى بينهما أم يكون على قدر ميراثهما؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا في المولودين. والأول المذهب؛ لأن الأب أولى من الأم. وإنما اختلفوا في الجد أب الأب مع الأم. فمن أصحابنا منرقال: الجد أب الأب، وإن علا أولى بالوجوب عليه من الأم وآبائها وأمهاتها؛ فتكون على الأقرب منهم. فإن لم يكن جد هو عصبة-: فحينئذ على أجداد الأم وجداتها: يقدم الأقرب فالأقرب. فإن استووا في الدرجة-: فهم سواء. ومن أصحابنا من قال: إذا استوى شخصان في الدرجة-: استويا في الإنفاق، سواء كانا من جهة الأب أو من جهة الأم، أو أحدهما من جهة الأب، والآخر من جهة الأم، حتى أن أب الأب وأب الأم [وأم الأب] وأم الأم سواء فيه. فإن اختلفا في الدرجة-: فعلى الأقرب؛ كما في الأولاد، حتى أن الأم أولى من الجد أب الأب، وهذا مطرد إلا في الأب والأم، فإن الأب أولى بالوجوب عليه من الأم مع استوائهما في الدرجة. ومن أصحابنا من قال: وإليه ذهب صاحب "التلخيص"-: يقدم عنه؛ الاستواء من يدلي بالأب؛ كما يقدم الأب على الأم؛ فيقدم أولاً الأب، ثم الأم، ثم الجد أب الأب، ثم الجد أب الأم، ثم أم الأب، ثم أم الأم، وعلى هذا القياس إذا اجتمع أم الأب [وأم الأم]؛ فعلى أم الأب؛ لأن إدلاءهما بالأب؛ ولأن لها حقاً في الحضانة دون أب الأم. ومن أصحابنا من قال: الاعتبار بالميراث. ومنهم من قال: الاعتبار بالذكورة.

قال الشيخ: يخرج على هذا: أنه إذا كان له أم أم، وأم اب: فإن قلنا: الاعتبار بالقرب، أو بالميراث، أو بالذكورة-: فهما سواء. وإن قلنا: بالإدلاء-: فيجب على أم الأب، وإن كان له أب أم، وأم أب. إن قلنا: الاعتبار بالقرب-: فهما سواء. وإن قلنا: بالذكورة-: فيجب على أب الأم. وإن اختلفا في الجهة: فإن كان له أب وابن-: ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: وبه قال صاحب "التلخيص"-: يجب على الابن، لأن حق الأب أعظم، فالابن أولى بوجوب النفقة عليه من الأب. والثاني: تجب على الأب؛ لأن وجوب نفقة الولد على الأب منصوص عليه؛ قال

النبي- صلى الله عليه وسلم- لهند: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ" والثالث: تكون عليهما. فإن قلنا: تجب على الابن، فهل يعتبر فيه القرب؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يعتبر، وهو قول أبي حنيفة؛ بل نفقة الولد وولد الابن، وإن سفل، ذكراً كان أو أنثى-: أولى بالوجوب عليه من الأب، وما دام يوجد أحد من المولودين، وإن سفلوا، موسراً-: لا تجب على الوالدين. والثاني: يعتبر القرب، حتى يقدم الابن على الجد، ويقدم الأب على ابن الابن، وإذا اجتمع الجد مع ابن الابن-: فعلى الأوجه الثلاثة؛ كالأب مع الابن، وكذلك: إذا كان له أب وبنت، أو أم وابن، أو أم وبنت، وإذا كان له ابن وجد-: فالمذهب أنها على الابن؛ لأنه أقرب. وقيل: هو كالأب مع الابن، فحيث قلنا: يجب عليهما في هذه المسائل-: فهل يعتبر الإرث في مقدار ما يجب على كل واحد منهما، أو إذا كان أحدهما وارثاً دون الآخر؛ فيكون على الوارث؟ فيه وجهان. وكل موضع أوجبنا النفقة على أقرب القريبين؛ فإذا أعسر الأقرب، أو مات-: أخذ من الأبعد. وإن غاب الأقرب: أخذ من ماله، إن كان له مال حاضر، وإن لم يكن-: يستدان عليه، فإن لم يوجد-: يؤخذ من الأبعد، ثم إذا حضر الأقرب-: رجع الأبعد عليه، والله أعلم. فَصْلُ فِي اجْتِمَاعِ المُسْتَحِقِّينَ لِلنَّفَقَةِ وإذا كان له عدد من الوالدين والمولودين معسرين، نظر: إن كان ماله أو كسبه يسع

لنفقة الكل-: يجب عليه نفقة جميعهم، قريبهم وبعيدهم فيه سواء.

وإن لم يسع- نظر: إن فضل عن قوت بدنه، وقوت عياله نفقة شخص، وله ابنان، أو ابن وبنت معسران-: فهما سواء. ولو كان له ولد وولد ولد، أو أب وجد-: فالأقرب أولى؛ كما لو كانا موسرين، وهو معسر-: كانت نفقته على أقربهما. وقيل: هما سواء؛ لأن النفقة بالقرابة، وكذلك: لا يسقط أحدهما الآخر، إذا قدر على نفقتهما، وإن كان الأبعد زمناً دون الأقرب-: فالزمن أولى. وإن كان له أب وأم، ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: الأم أولى؛ لأنها أضعف، وحقها أعظم. روي أن رجلاً سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَبَرُّ"؟ فَقَالَ: "أُمَّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أَبَاكَ". والثاني: الأب أولى؛ لأن نفقة الولد في حال الصغر عليه. والثالث: هما سواء؛ فيكون بينهما لاستوائهما في القرابة والقرب. وإن كان له أب وابن- نظر: إن كان الابن صغيراً-: فهو أولى، وإن كان كبيراً-: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: الابن أولى، كما في حال الصغر. والثاني: الأب أولى؛ لأن حقه أعظم. والثالث: هما سواء، وكذلك الأم والابن. [قال الشيخ]: وكذلك إذا كان له جد وابن ابن.

وإن كان له جدان- نظر: إن استويا في الدرجة، وأحدهما عصبة-: فهو أولى، مثل: أب الأب أولى من أب الأم. وإن لم يكن واحد منهما عصبة-: فهما سواء. وإن اختلفا في الدرجة-: فأقربهما درجة أولى، إن استويا في العصوبة، أو عدم العصوبة؛ كما أن الأب أولى من أب الأب، وكذلك: أب الأم أولى من أب أب الأم، ومن أب أم الأم. وإن كان الأبعد عصبة دون الأقرب-: فهما سواء؛ لأن في أحدهما قوة القرب، وفي الآخر قوة العصوبة. ولا تقدير لنفقة القريب، بل يجب تقدير الكفاية، وكذلك: تجب كسوته، وزكاة فطره، وسكناه، وإن احتاج إلى من يخدمه-: تجب عليه نفقة خادمه، وتجب على الولد نفقة زوجة الوالد المعسر، وكسوتها، ولا يجب على الوالد نفقة زوجة الولد؛ لأنه يجب على الولد إعفاف الوالد، فإذا لم ينفق على زوجته، ففسخت النكاح-: فلا يحصل مقصود الإعفاف، ولا يجب على الوالد إعفاف الولد؛ فلا يجب عليه نفقة زوجته. ولو كانت للأب زوجتان: لا يجب على الابن إلا نفقة واحدة، لأن الإعفاف لا يجب إلا بامرأة واحدة. وقيل: يجب نفقة زوجة الولد؛ كما يجب نفقة زوجة الوالد. ولا يجب على الولد الإدام لزوجة الوالد، ولا نفقة الخادم؛ لأن فقده لا يثبت فسخ النكاح، ولأن الإدام لا يجب للقريب على قريبه، ونفقة القريب لا تصير ديناً في الذمة، حتى لو مضى يوم، ويكلف المستحق فيه نفقته من موضع آخر، أو بات طاوياً-: لا يجب على قريبه نفقة ذلك اليوم. ولو دفع إليه النفقة، فسرق منه، أو تلف، أو أتلفه-: يجب عليه الإبدال وإن كان قد أتلفه يجب عليه ضمان ما أتلفه إذا أيسر. وإذا وجبت نفقة الأب أو الجد على ولده الصغير أو المجنون-: له أن يأخذ بنفسه؛ لأنه يلي ماله. أما الابن إذا وجبت نفقته على الأب المجنون-: فلا ياخذه إلا بإذن الحاكم؛ لأنه لا يلي مال والده، وكذلك: الأم لا تأخذ نفقتها من مال الولد الصغير، أو المجنون إلا بإذن الحاكم. والابن الصغير إذا أطاق العمل-: فللأب أن يؤاجره لعمل يطيق الدوام عليه، ويأخذ من أجرته نفقة نفسه، وإن كان الأب معتوهاً ذا صناعة-: فللحاكم أن يولي ابنه القيام عليه، فيؤاجره الابن، وينفق عليه من ماله، ولا يأخذ نفقة نفسه منه إلا بإذن الحاكم، وكذلك: ينفق

الابن على أولاده الزمني المعسرين من مال الأب المجنون بعد إذن الحاكم، وإن كان الذي عليه- النفقة غائباً- فالقاضي يأمر من يستقرض؛ فينفق عليه، ثم على الغائب قضاؤه، إذا رجع. ولو استقرض المستحق، فأنفق على نفسه ليرجع على الغائب- نظر: إن فعل بأمر القاضي-: رجع، وإن فعل دون أمره، [وفي البلد قاض]-: لا يرجع، وإن لم يكن في البلد قاض-: هل يرجع؟ فيه وجهان: قال صاحب "التلخيص": نفقة القريب لا تصير ديناً إلا ههنا، وهو: أن يكون من عليه غائباً أو ممتنعاً، فيأمر القاضي المنفق عليه أن يستقرض، فينفق على نفسه، ثم على من عليه، قضاؤه. والولد الصغير المعسر تكون نفقته وكسوته وخدمته على الأب، وكذلكك رضاعة ما لم يبلغ مبلغاً يمكنه الكسب، ولا يجب على الأم؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. ولو غاب الأب تستدين الأم عليه، وهل تحتاج إلى إذن الحاكم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل هو حق يثبت لها بالشرع. والثاني: بلى؛ لأنه لا ولاية لها على الولد. فإن قلنا: لا تحتاج إلى إذنه، أو قلنا: تحتاج، ولكن لم يكن في البلد حاكم: فإن أشهدت-: رجعت؛ وإلا فعلى وجهين. وإن أنفقت من مال نفسها متبرعة-: لا ترجع، وإن نوت الرجوع، وأشهدت-: رجعت، وإن لم تشهد-: فوجهان: وإن كان الأب معسراً-: هل تلزمه نفقة الصغير؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه من تتمة مؤنة الاستمتاع، كنفقة الزوجة؛ فعلى هذا يستدان على الأب حتى يوسر، ولا يجب على الجد، ولا على الأم. والثاني: وهو الأصح عندي-: لا يجب على الأب المعسر؛ كنفقة القريب البالغ، بل يجب على الجد، أو على الأم، إذا كانا موسرين.

فَصْلُ قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. إذا أتت المرأة بولد في نكاح-: لا يجب على الأم إرضاع الولد إلا اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش بدونه، ولا يغني من غيرها، بل على الأب أن يستأجر امرأة لإرضاع الولد، إلا ألا توجد مرضعة؛ فيجب عليها الإرضاع. وقال أبو ثور: تجبر المرأة على إرضاع الولد. وقال مالك- رحمة الله عليه-: إن كانت المرأة دنيئة-: يجب عليها الإرضاع، وإن كانت شريفة- لا يجب. قلنا: أجمعنا على أنه إذا طلقها-: لم يملك إجبارها على إرضاع الولد، وكذلك: في حال بقاء النكاح؛ فإن رغبت المرأة في الإرضاع-: فعلى الزوج تمكينها من ذلك، ولم يكن له أن ينزع الولد منها إلى غيرها؛ لأن الولد يستمرئ لبن أمه، وينتفع به أكثر من انتفاعه بلبن غيرها. وقيل: له منعها منه، وتسليمه إلى غيرها، كما يمنعها من أن تؤاجر نفسها؛ لإرضاع ولد الغير؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في جميع الأوقات، إلا في وقت العبادة؛ فلا يجوز لها تفويته عليه بالرضاع. وإذا رضيا بإرضاعه، هل يزاد في نفقتها المقدرة بسبب الإرضاع والحضانة؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله أبو إسحاق-: يزاد؛ لأنها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج إليه في غيره. والثاني: وهو الأصح، وعليه أكثر الأصحاب-: لا يزاد؛ لأن قدر النفقة يعتبر بحال الزوج لا بحالها؛ كما لا يزاد بسبب كونها أكولة. وإذا رغبت المرأة في الإرضاع، وطلبت الأجرة عليه-: يجب على الزوج أجرتها، ويجوز للزوج استئجارها على إرضاع الولد؛ وكذلك: على مهن البيت من الكنس والطبخ ونحوهما. وقال أبو حامد: لا يجوز لها أخذ الأجرة على الإرضاع في حال بقاء النكاح؛ لأن أوقات الرضاع مستحقة للزوج للاستمتاع، وقد استحقت في مقابلتها عوضاً، وهي النفقة؛ فلا تستحق عوضاً آخر. والمذهب هو الأول؛ كما يجوز لها طلب الأجرة بعد البينونة.

ولو أرضعت بالأجرة في حال بقاء النكاح: فإن كان اشتغالها بالإرضاع يقطع استمتاعه، أو ينقصه-: فلا نفقة لها؛ وإلا فتجب مع الأجرة. وقال أبو حنيفة: لا يجوز استئجار المرأة على إرضاع الولد في حال بقاء النكاح، وكذلك على مهن البيت؛ لأنها مستحقة عليها عرفاً؛ فصار كالمستحق عليها شرعاً، والآية حجة عليه، ونقيس على إرضاع ولد الغير، وعلى حال المفارقة. وإن كانت الأم تطلب أكثر من أجرة المثل، والزوج يجد من ترضع بأجرة المثل، أو تتبرع به-: فللزوج نقله إلى من تتبرع أو ترضع بأجرة المثل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. وإن كانت الأم تطلب أجرة المثل، والزوج يجد من تتبرع به، أو ترضع بأقل من أجر المثل-: فقولان: أحدهما: الأم أحق- وهو اختيار المزني- بأجر المثل؛ لأن الإرضاع لحق الولد، وإلا أشفق عليه، فإرضاعها أنفع له. والثاني: الأب أحق به؛ لأن الإرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير. ثم لو وجد الابن الكبير من يتبرع عليه بالإنفاق-: سقطت نفقته عن الأب؛ فكذلك: إذا تبرعت أجنبية بإرضاع الصغيرة-: سقطت الأجرة عن الأب؛ فعلى هذا: لو اختلفا؛ فقال الأب: وجدت من تتبرع بالإرضاع، وأنكرت-: فالقول قوله مع يمين؛ لأنها تدعي استحقاق الأجرة، وهو ينكر، والله أعلم. فَصْلُ لا يجب على العبد نفقة ولده، بل إن كانت الأم حرة-: فالولد حر، ونفقته عليها، وإن كانت أمة-: فالولد رقيق لمالك الأمة، ونفقته على مالكه، وكذلك: المكاتب إذا كان له ولد من حرة أو أمة. فإن استولد المكاتب أمة نفسه-: يتكاتب الولد عليه، وعليه أن ينفق عليه من كسب نفسه، حتى يبلغ الولد محل الكسب، فينفق عليه من كسبه ويستعين بالفضل على أداء النجوم وإذا أتت المكاتبة بولد، فلا تجب نفقته على الأب، سواء كان حراً أو عبداً أو مكاتباً. وفي الولد قولان: أحدهما: أنه رقيق لمولى الأم؛ فعلى هذا: تكون نفقته على مولى الأم.

والثاني: يتكاتب على الأم؛ وعلى هذا: إذا قتل-: فقيمته لمن تكون؟ فيه قولان: أحدهما: لمولى الأم؛ فعلى هذا النفقة عليه. والثاني: القيمة للأم؛ تستعين بها على أداء النجوم، فعلى هذا: نفقته في كسب الأم. وإن كان الولد حراً، والأبوان رقيقان-: فنفقته في بيت المال، والله أعلم. بَابُ أَيُّ الوَالِدَيْنِ أَحَقُّ بِالْمَوْلُودِ. رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَبْدِ الله بْنِ عَمْروٍ؛ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: "يَا رَسُولُ الله، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيَيِ لَهُ سِقَاءً، وَحَجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي". إذا افترق الأبوان، ولهما ولد صغير دون سبع سنين أو مجنون-: فالأم أولى بحضانته من الأب؛ لأنها أشفق وأهدى إلى الحضانة؛ ولكن: لا يجب عليها، وإن رغبت لها طلب الأجرة، وإن امتنعت-: فعلى الأب حضانته؛ فلو جف لبن الأم، أو امتنعت من الإرضاع-: لا يبطل حقها من الحضانة، فعلى الأب: أن يستأجر امرأة ترضعه عند الأم. وقيل: إن امتنعت من الإرضاع-: بطل حقها من الرضاعة. والأول أصح، وإنما تكون الأم أولى، إذا كانت مسلمة حرة عاقلة مأمونة. وإن كانت أمة أو مجنونة أو فاسقة، أو كانت كافرة، والأب مسلم-: فلا حق لها في الحضانة، والأب أولى به؛ لأن الأمة منفعتها للمولى؛ فلا تتفرغ للحضانة، والمجنونة لا

تهتدي إليها، والفاسقة والكافرة لا حظ للصبي في حضانتهما، لأنه ينشأ على طبعهما، فإن أسلمت الأم أو عتقت، وحسن حالها-: كان الحق لها. وهذا إذا كان الأبوان في بلد واحد، أو في بلدين بينهما أقل من مسافة القصر، وإن كان بينهما مسافة القصر-: فالأب أولى بالولد، حتى لايضيع نسبه؛ لأن حفظ النسب، وتعهد الأب انظر للصبي من حسن حضانة الأم، وإنما تكون الأم أولى ما لم تنكح، فإذا نكحت-: سقط حقها، وكان الحق للأب؛ لأنها إذا اشتغلت بحق الزوج-: لا تتفرغ للحضانة؛ بخلاف الأب إذا نكح لا يسقط حقه؛ لأن شغله بالزوجة لا يمنعه من تعهد الولد. ولو نكحت الأم عم الصبي-: لا يسقط حقها من الحضانة، وهي أولى من الأب؛ قاله صاحب "التلخيص"؛ تخريجاً، وإنما خرجه من نص الشافعي- رضي الله عنه- أن الجدة إذا نكحت جد الصبي-: لا يبطل حقها. فمن أصحابنا من وافقه، وقال: إذا نكحت الأم عم الصبي-: لا يبطل حقها؛ لأن للعم له حقاً في الحضانة كالجدة، إذا نكحت جد الصبي. ومنهم من قال: يبطل حق الأم؛ بخلاف الجدة إذا نكحت جد الصبي؛ لأن الجد أب، وله ولاية على الولد، والعم لا ولاية له على ابن الأخ. فإذا سقط حق الأم بالنكاح، فطلقها زوجها-: عاد حقها، سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً. وقال أبو حنيفة: إن طلقها رجعياً-: لا يعود حقها، وهو اختيار المزني. قلنا: سقوط حقها بالنكاح كان اشتغالها بحق الزوج، وارتفع ذلك بالطلاق، رجعياً كان

أو بائناً؛ فعاد حقها في الحالين. وإذا ماتت الأم، أو فسقت، أو كانت رقيقة أو كافرة، أو جنت أو نكحت-: فأم الأم، وإن علت، أولى من الأب. قضى أبو بكر على عمر- رضي الله عنهما- بأن جدة ابنه أحق به منه. ويقدم أقربهن، ما لم تنكح، وإن نكحت-: كان الحق للأب، إلا أن تنكح الجدة جد الصبي أبا أبيه، أو أبا أمه، إن أثبتنا له الحضانة أو عمه؛ على أحد الوجهين؛ فلا يسقط حقها. ولو رضي الأب يكون الولد عند الأم بعد ما نكحت، ورضي به زوجها، فلا حق للجدة؛ على أصح الوجهين؛ بل يكون عند الأم. وقيل: لا يسقط حق الجدة برضا الأب. ولو غابت الأم، أو امتنعت من الحضانة-: فالحق ينتقل إلى الأب، أو إلى الجدة؟ فيه وجهان: أصحهما: إلى الجدة؛ كما لو جنت الأم، أو ماتت. والثاني: ينتقل إلى الأب، بخلاف ما لو جنت، أو ماتت؛ لأنها بالجنون والموت سقط حقها من الحضانة، وبالغيبة والامتناع-: لم يسقط إلا أنها تركت حقها؛ كما في ولاية التزويج: إذا جن الولي الأقرب، أو مات-: يزوجها الأبعد، ولو غاب الأقرب، أو عضل-: لا يزوجها الأبعد، إنما يزوجها السلطان، أما الأب إذا غاب-: فالحق للجد؛ كما لو جن أو سق-: فلا ينتقل إلى السلطان؛ بخلاف التزويج؛ لأن الغائب يمكنه التزويج إلا أنه تعذر الوصول إليه؛ فناب عنه السلطان، والغائب لا يمكنه الحضانة، فكانت الغيبة كالموت والجنون. وإذا بلغ المولود سبع سنين أو ثمان سنين، وعقل عقل مثله-: يخير بين الأبوين، فأيهما اختاره يكون عنده، سواء كان المولود ذكراً أو أنثى، وقولنا: سبع سنين، أو ثمان سنين - تنويع؛ فإن من الصبيان من يعقل لسبع، ومنهم من يعقل لثمان. والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خير غلاماً بين أبيه وأمه".

وعن عمارة الجرمي قال: "خيرني علي بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع سنين، [أو ثمان سنين]. وعند أبي حنيفة: لا يخير، بل إن كان المولود ذكراً-: يكون مع الأب، وإن كان أنثى-: فمع الأم؛ والحديث حجة عليه. فإن كان أحد الأبوين رقيقاً أو مجنوناً، أو كافراً أو فاسقاً-: فلا يخير الولد، بل يكون عند الثاني. وإذا أفاق الآخر، أو عتق، أو أسلم أو حسن حاله-: يخير؛ وكذلك: إذا نكحت الأم، أو انتقل الأب إلى مسافة القصر-: فلا يخير، بل يكون الأب أولى به. وإذا خيرناه، فاختارهما، أو لم يختر واحداً منهما-: يقرع بينهما، لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته، ولا يمكن تركه، ولا مزية لأحدهما على الآخر. فإذا خيرناه، فاختار الأم-: يجب على الأم نفقته، ويلزمه أجرة الحضانة، إن طلبت الأم. وإن اختار أحدهما، ثم رجع، فاختارالآخر-: يحول إلى الآخر. وإن عاد، واختار الأول من غير إطالة-: أعيد إليه؛ لأن هذا الاختيار ليس بلازم؛ لأنه لو كان لازماً-: لما صح من الصبي، بل هو إلى شهوته، وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت، وعند الآخر في وقت. فإن كان يكثر التردد-: يستدل به على نقصان عقله، فتكون الأم أولى به؛ كما لو بلغ سبع سنين، وهو مجنون-: كانت الأم أولى به، وكذلك: إذا بلغ ما لم تنكح يكون عند الأم. وكل موضع أثبتنا حق الحضانة للأم: إما قبل سبع سنين أو بعده اختار الأم-: فليس لها منع الأب من تأديبه وإخراجه إلى الكتاب والصناعة، إن كان من أهلها، ويأوي بالليل إلى الأم. وإن اختار الأب-: لم يكن له منعه من زيادة الأم في بعض الأيام، ولا منع الأم من

زيارته، إلا أن تكون أنثى-: فله منعها من الخروج إلى الأم، ولا يمنع الأم من زيارتها، فإن مرضت الأم-: أذن لها في عيادتها دون التمريض؛ لأنها لا تهتدي إليه، وإن مرض الولد-: لا تمنع الأم من تمريضه في بيت الأب أو في بيتها؛ لأنه بالمرض: صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره، وكانت الأم أحق بتمريضه. وإذا مات لا يمنعها من حضور غسله وتجهيزه. وإذا بلغ الصبي، وكان رشيداً-: يلي أمر نفسه، ولا يخير، إذا كان ذكراً: أن يكون عند واحد من الأبوين؛ غير أن المستحب له أن يبرهما، ولا يفارقهما إلا بإذنهما. وإن لم يكن رشيداً-: فليس له أن يفارق الأبوين، وإن كانت جارية: فإن كانت متزوجة-: تكون عند الزوج. وإن كانت خلية- نظر: إن كانت بكراً-: كانت مع أحد أبويها من شاءت منهما، والأب أو الجد عند عدمها أولى بضمها إلى نفسه؛ لأنه وليها إلى أن تتزوج، وتزف إليه. وهل يثبت حق الضم للأخ والعم؟ فيه وجهان: وإن كانت ثيباً-: سكنت حيث شاءت، غير أن الاختيار ألا تفارق أحد الأبوين، [وإن كانت بريئة-: ضمها إلى نفسه أحد الأبوين أو أي الأولياء، كان جداً أو أخاً أو عماً، والله أعلم. فَصْلُ فِيمَنْ تَثْبُتُ لَهُ الحَضَانَةُ وَتَرْتِيبِهِمْ تثبت الحضانة للمحارم من نساء القرابة، سواء كانت ممن ترث أو لا ترث؛ كالخالة والعمة وبنات الأخ والأخت، وتثبت لرجال العصبة؛ كالأب والجد أب الأب، وإن علا، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم. وقيل: لا يثبت حق الحضانة لرجال العصبة إلا للأب أو الجد؛ لأن لهما ولاية وشفقة، وليست لسائر العصبات. والأول المذهب؛ أنه يثبت للكل إلا أنهم إذا امتنعوا لا يجبرون عليه إلا الأب والجد [عند عدم الأب] فإنهما يجبران عليه؛ كما يجبران على الإنفاق، وكما لا تجبر الأم على الحضانة والنفقة مع الأب. أما رجال العصبة الذين لا محرمية لهم؛ مثل: ابن العم ومن هو أبعد منه-: فلهم الحق إن طلبوا، إن كان المولود ذكراً، أو كانت صغيرة لا تشتهى.

وإن كانت أنثى ممن يشتهى مثلها-: فلا تسلم إليه، فإذا أراد تسليمها إلى امرأة ثقة، وهو يعطي الأجرة-: فله ذلك. أما من لا يكون عصبة من رجال القرابة؛ مثل: أب الأم والأخ من الأم والأخوال وبنيهم وبني العمات وبني الخالات، وبني الإخوة للأم والأعمام للأم-: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: لهم الحق؛ لأن لهم رحماً وقرابة؛ فهم أولى من الأجانب. ومنهم من قال: لا حق إلا لمن تكون أنثى أو عصبة من الرجال. وهذا هو المذهب: أن الأنثى لها معرفة بالحضانة، والعصبة لها قوة القرابة بالميراث. وإن قلنا: لا يثبت لأب الأم-: فلا يثبت لكل أنثى تدلي به؛ مثل: أم أب الأم، بخلاف ما لو كانت الأم أمة أو مشركة-: لا حق لها في الحضانة، ويثبت لأمها؛ كما يثبت لها الميراث. وإن قلنا: يثبت لهم الحق-: فلا حق لهم ما دام أحد من نساء القرابة أو رجال العصبة موجوداً، وإنما يثبت إذا كان محرماً، أو كان المولود ذكراً، وإن كان المولود أنثى-: فلا حق لابن الخال، وابن الخالة، وابن العمة، إلا أن يريد تسليمها إلى امرأة ثقة، ويعطي الأجرة. وإذا اجتمع جماعة من أهل الحضانة، وتنازعوا- فلا يخلو: إما إن اجتمع النساء على الانفراد أو الرجال [على الانفراد، أو الرجال] مع النساء: فإن اجتمع النساء على الانفراد-: فأولاهن الأم، ثم أم الأم، وإن علت لمشاركتهن الأم في الولادة والميراث: يقدم الأقرب فالأقرب منهن، ثم أم الأب، ثم أمهاتها وإن علون، ثم أم الجد أب الأب وإن علت، ثم أم أب الجد، ولا حق لأم الأب، ما دامت واحدة من أمهات الأم موجودة، وإن بعدت. وكذلك: لا حق لأم الجد ما دامت واحدة من أمهات الأب موجودة، وإن بعدت. ثم بعد الجدات: الأخت للأب والأم، ثم الأخت للأب، ثم الأخت للأم، ثم الخالة للأب، ثم الخالة للأم، ثم العمة، على هذا الترتيب. وقال ابن سريج: تقدم الأخت للأم على الأخت للأب؛ لأن إحداهما تدلي بالأم، والأخرى تدلي بالأب؛ فيقدم من يدلي بالأم؛ كما تقدم الأم على الأب؛ وكذلك على قياس قوله: تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب. والأول المذهب؛ لأن الأخت من الأب أقوى في الميراث من الأخت من الأم؛ فكانت

أولى بالحضانة، والخالة أولى من [بنت] الأخت؛ لأنها أشفق، وبنت الأخت أولى من العمة، والعمة أولى من بنت الخالة، وبنت الخالة أولى من بنت العمة. هذا قوله الجديد، وهو الأصح. وقال في القديم: تقدم الأخت الخالة على أمهات الأب، فبعد أمهات الأم، يكون الحق للأخت للأب والأم، ثم للأخت للأم، ثم للخالة، ثم أمهات الأب، ثم للأخت للأب، ثم للعمة. وإنما قدمنا الخالة؛ لما روي عن البراء في قصة "عمرة القضاء" قال: "خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- فتبعته بنت حمزة، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر- رضي الله عنهم أجمعين- قال علي- رضي الله عنه-: هي ابنة عمي، وقال جعفر- رضي الله عنه-: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد- رضي الله عنه-: هي ابنة أخي، فقضى بها النبي- صلى الله عليه وسلم- لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولأن الخالة تدلي بالأم، وأم الأب تدلي بالأب، والأم تقدم على الأب، وكذلك: من تدلي بالأم تقدم على من تدلي بالأب. أما إذا اجتمع الرجال على الانفراد-: فأولاهم الأب، ثم الجد أب الأب، وإن علا: يقدم الأقرب فالأقرب، ثم الأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب، ثم العم للأب وللأم، ثم العم للأب، ثم ابن العم من الأب والأم، ثم ابن العم للأب؛ لأن الحضانة تثبت لهم لعصوبتهم، وقوة قرابتهم بالإرث، فيتقدم من يقدم في الإرث. أما إذا اجتمع الرجال والنساء من أهل الحضانة-: فالأم أولى من الأب، وكذلك: أم الأم، وإن علت، [أولى من الأب]. قضى أبو بكر- عليه السلام -على عمر- رضي الله عنه- بأن جدة أبيه أحق به منه. والأب أولى من أمه، فإن لم يكن له أب-: فأم الأب، ثم أم أم الأب، وإن علت أولى من الجد أب الأب وأمهاته، ثم بعد أمهات الأب-: فالجد أب الأب أولى من أم نفسه. فإن لم يكن جد فأم الجد وأم أمه، وإن علت، ثم أب الجد، ثم أمهاته، ولا حضانة لأب الأم.

قال الإصطخري: الأخت من الأب والأم، أو من الأم، والخالة-: أولى من الأب، وليس بصحيح؛ للاتفاق على أن أم الأب أولى من الأخت والخالة، وهي تسقط بالأب، فالأخت والخالة أولى بالسقوط. فإن قلنا بقوله القديم: إن الأخت الخالة أولى من أم الأب-: كانتا أولى من الأب. والمذهب: أن الأب مقدم على الكل بعد أمهات الأم. فإن لم يكن أحد من الأمهات والآباء-: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: النساء أحق بالحضانة من العصبات؛ فتقدم الأخت والخالة والعمة، على الأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم؛ لأن النساء أهدى إلى الحضانة والتربية. والثاني: العصبات أحق؛ لاختصاصهم بالنسب، والقيام بتأديب الولد. والثالث: كل من من كان أقرب من الفريقين-: فهو أولى، فإن استويا في القرب-: تقدم النساء؛ لاختصاصهن بالتربية، وإذا استوى اثنان في القرابة والإدلاء؛ كالأخوين والأختين أو الخالتين أو العمتين-: يقرع بينهما. فإن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء، وله أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم-: ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحق من السلطان؛ لأن لهم رحماً؛ كالعصبات. والثاني: السلطان أحق؛ كما في الميراث؛ وهذا أصح. وإذا بلغ اصبي سبع سنين أو ثمان سنين-: فقد ذكرنا أنه يخير بين الأبوين، فإن لم يكن له أب، وله جد وأم-: يخير بينهما؛ لأن الجد كالأب في الحضانة في حال الصغر. فإن لم يكن محرماً؛ مثل: ابن العم: فإن كان الولد ذكراً-: يخير بينه وبين الأم، وإن كان أنثى-: فلا تخير، بل تكون عند الأم حتى تبلغ، والله أعلم.

فَصْلُ إذا أثبتنا حق الحضانة للأم، أو خيرناه بعد سبع سنين، فاختار الأم، ثم أراد الأب سفراً، وحمل الولد مع نفسه- نظر: إن ل م يكن سفر نقلة، بل خرج لغزو أو حج أو تجارة أو نزهة-: لا ينزع الولد من الأم. وإن أراد سفر نقلة- نظر: إن أراد الخروج إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة-: فلا يبطل حق الأم؛ لأنهما كالمقيمين في محلتين من بلد واحد. وإن أراد الخروج إلى مسافة القصر- نظر: إن كان الطريق مخوفاً أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفاً-: فلا يبطل حق الأم، فإن كان الطريق والموضع آمناً-: فالأب أولى به يحمله مع نفسه، حتى لا يضيع نسبه، إلا أن تخرج الأم معه، فلا ينزع منها. ولو قال الأب: أريد النقلة، وقالت: بل تسافر لحاجة-: فالقول قول الأب؛ لأنه أعلم بنيته، وهل يحلف؟ فيه وجهان: ولو أرادت الأم سفراً إلى مسافة القصر، والأب مقيم-: كان الأب أولى به. وإن كان سفرها سفر حاجة؛ لأنه لا حظ للولد في حمله ورده. وكذلك: يثبت حق النقلة لكل عصبة محرم؛ كالأخ وابن الأخ والعم؛ مراعاة للنسب. وإن لم يكن محرماً؛ مثل: ابن العم: فإن كان المولود ذكراً-: يثبت له حق النقلة، وإن كان أنثى-: فلا يثبت، ويترك عند الأم، ولا يثبت للخال ولا للأخ للأم، ولا للعم للأم؛ لأنهم ليسوا من أهل نسبه. ولا يثبت للمعتق ولا للمحرم بالرضاع حق الحضانة، ولا حق التخيير ولا النقلة. ولا يثبت حق الحضانة والتخيير والنقلة ممن بعضه رقيق من الأبوين؛ كما لو كان كله رقيقاً. وإن كان الآخر حراً-: فالحق له؛ وإلا فهو كما لو كانا رقيقين، فإن كان الولد حراً فحضانته في بيت المال؛ كالنفقة، فيستأجر الإمام امرأة لتحضنه. وإن كان الولد رقيقاً لرق الأم-: فعلى السيد حضانته، ولا يثبت للأبوين. وإن كانت الأم حرة، والولد رقيق-: فهل للسيد نزعه من الأم؟ فيه وجهان؛ بناء على جواز التفريق بين الأم والود فيه قولان:

وإن كان الولد بعضه حراً: إن كان الأب حراً-: فعلى الأب قدر حريته من الحضانة، والباقي على المولى. بَابُ نَفَقَةِ المَمَالِيكِ روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "المملوك له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". يجب على المولى نفقة مملوكه وكسوته، سواء فيه القن، وأم الولد، والمدبر، والمرهون، ومن كان في إجارة الغير، ولا تجب عليه نفقة مكاتبه؛ لأنه كالخارج عن الملك؛ بدليل أنه لو قال: مماليكي أحرار-: لا يعتق المكاتب. ويجب على المكاتب نفقة مملوكه، ولو كان العبد مشتركاً بين رجلين-: فعليهما نفقة كل واحد بقدر ملكه، ولا تتقدر نفقة المملوك؛ بل تجب بقدر الشبع من معروف نفقة دقيق بلده: حنطة كانت، أو شعيراً، أو ذرة، أو تمراً، أو أقطاً. وكذلك: تجب كسوتهم من معروف لباسهم: صوفاً، أو قطناً، أو كتاناً. فإن كان المولى من المتنعمين بلبس الثياب المرتفعة، وبأكل الأطعمة الشهية فوق ما يأكله ويلبسه عامة أهل البلد-: فيستحب أن يطعم ويلبس رقيقه مثل ذلك. ولكن: لا يجب فوق ما يأكل ويلبس عامة أهل البلد، وما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إخوانكم خولكم؛ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس" فذلك خطاب مع العرب، وكانت أطعمتهم ولباسهم متقاربة. فإن كان الرجل يقتات دون قوت أمثاله: إما شحاً أو تزهداً-: فهل يلزمه أن يطعم رقيقه ويلبسه فوق ذلك من عامة طعام رقيق البلد ولباسهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ كزكاة الفطر: تكون من غالب قوت البلد، وإن كان هو يقتر على نفسه.

والثاني: لا يلزمه فوق ما يأكل ويلبس؛ لأنه ليس من المعروف أن يزاد طعام العبد على طعام المولى. وإن كانت له جارية ذات جمال وفراهة: يزاد في حسن لباسها، وطيب طعامها، سواء كانت يتسرى بها أو لا يتسرى بها؛ لأنه المعروف بين الناس؛ بخلاف العبد يسوي فيه بين الحسن والقبيح؛ لأنه لا يراد منه ما يراد من الجارية، وإذا ولي واحد من عبيده إصلاح طعامه-: يستحب أن يجلسه ليأكل معه: فإن لم يفعل-: يعطيه منه لقمة أو لقمتين، ويخصه من بين سائر الأرقاء؛ لأنه إذا تولى إصلاحه ربما اشتهى منه، وأقل ما يرد به شهوته لقمة؛ والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه حره وعمله-: فليقعده، فليأكل معه، وإلا فليناوله أكلة من طعام". وإذا زمن رقيقه أو عمي-: يجب عليه نفقته وكسوته أو بيعه أو إعتاقه: فإن لم يفعل-: باعه السلطان عليه، وإذا أتت أمته أو أم ولده بولد-: لم يكن له إجبارها على إرضاع ولد الغير إلا أن يفضل عن ري ولدها، أو يغتذي ولدها بطعام آخر يقيم بدنه- فحينئذ: له إجبارها على إرضاع ولد الغير، ويجوز له إجبار أمته وأم ولده على فطام ولدها قبل الحولين، إذا كان الولد يغتذي بالطعام، وله إجبارها على الإرضاع بعد الحولين، وإن كان يغتذي بالطعام، إذا لم يضر بالأم؛ بخلاف الحرة: إذا أراد أحد الأبوين الفطام قبل الحولين-: فللآخر إكمال الحولين، أيهما أراد الفطام-: له ذلك إذا كان الولد يغتذي بالطعام، إلا أن يتفقا على أن يزيدا-: فيجوز. ولا يجوز للمولى أن يكلف رقيقه من العمل ما لا يطيق؛ بل يضرب عليه عملاً يطيق الدوام عليه؛ فإن كان يطيقه يوماً أو يومين، ثم يعجز-: فهو تكليف ما لا يطيق، فإذا عمل بالنهار-: تركه للراحة بالليل، وإذا عمل بالليل-: تركه يستريح بالنهار؛ فإن كان في الشتاء-: عمل بالنهار، ومن أول الليل، وفي السحر. وإن كان في الصيف-: تركه للقائلة؛ كما هو العادة. وإن كان للعبد زوجة-: تركه للاستمتاع بالليل، ولا يجوز أن يخارج مملوكه إلا برضاه؛ كما لا يكاتبه إلا برضاه، وهو أن يضرب عليه خراجاً معلوماً يؤديه، وإن طلب العبد ذلك-: لا يجبر الولي عليه؛ كما لا يجبر على الكتابة؛ فإن اتفقا عليه-: جاز، إذا كان له كسب.

ويحصل ما ضرب عليه من الخراج من كسبه ويفضل عن نفقته وكسوته؛ فإن لم يفضل: كانت نفقته وكسوته على المولى، وإن ضرب عليه ما لا يحصل بكسبه-: لا يجوز، وإن حصل يوم أقل، ويوم أكثر-: يجبر النقصان بالزيادة؛ لما روي عن عثمان- رضي الله عنه- قال: "لا تكلفوا الصغير الكسب؛ فيسرق، ولا الأمة غير ذات الصنعة؛ فتكتسب بفرجها". فَصْلُ فِي نَفَقَةِ الدَّوَابِّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأةُ فِي هِرَّةٍ؛ أَمْسَكَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ مِنَ الجُوعِ؛ فَلَمْ تَكُنْ تُطْعِمُهَا، وَلاَ تُرْسِلُهَا فَتَاكُلَ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ". من ملك دابة-: يجب عليه علفها وسقيها، فإن لم يفعل أجبره السلطان على علفها أو بيعها أو ذبحها، إن كان مأكول اللحم، فإن لم يفعل-: أنفق عليها السلطان من ماله، فإن لم يكن له مال-: باعها عليه أو جزءاً منها، أو أكراهاً، إن أمكن إكراؤها، وأنفق عليها من الكراء حتى لو زمن أو عمي حماره، فلم يشتر-: عليه أن يعلفه، فإن لم يفعل-: باع عليه السلطان ماله في علفه، فإن لم يكن له مال-: أنفق عليه من بيت المال، ولا يجوز تضييعه؛ كالرقيق. ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا يطيق، ولا يحلب لبن ذات الدر ما لم يفضل عن ري ولدها. فإن كانت الدابة مما ترعى، والأرض مخصبة-: فعليه علفها أو إرسالها للرعي، وإن كانت الأرض مجدبة: فإن كانت الدابة مما ترعى في الأرض المجدبة؛ كالنعم، وفي الأرض متعلق-: عليه أن يرسلها أو يعلفها، وإن كانت الدابة مما لا ترعى في الأرض المجدبة؛ مثل: ذوات الحوافر، أو لم يكن في الأرض متعلق علف أو موقع ثلخ-: عليه أن يعلفها في البيت. أما غير ذي الروح من الأموال؛ كالزروع والثمار-: فلا يجبر على سقيها، ويكره ترك سقيها عند الإمكان؛ لما فيه من إضاعة المال، ولا يجب الإنفاق على عمارة الذور والعقار، ولا يكره بقدر الحاجة, والزيادة على قدر الحاجة رغبة في الدنيا-: يكره.

روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تتخذوا الضيعة؛ فترغبوا في الدنيا". تم الجزء السادس، ويليه الجزء السابع وأوله: "كتاب القصاص"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء السابع يحتوي على الكتب التالية القصاص- الديات- القسامة- قتال أهل البغي- الحدود صول الفحل- السير- الجزية منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب القصاص

بسم الله الرحمن الرحيم وبه الاستعانةُ كتابُ القصاصِ "باب تحريم القتل ومن عليه القصاص" قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]. ورُوي عَنْ

عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل قتل امريء مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: كُفرٍ بعد إيمانٍ، أو زناً بعد إحصانٍ، أو قتل نفسٍ بغير نفسٍ". قتل الآدمي بغير جنايةٍ تبيح دمه-: حرام؛ وهو من أعظم الكبائر بعد الشرك بالله تعالى. " [و] رُوي عن عبد الله بن مسعودٍ؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله: أي الذنب أكبر عندَ

الله؟: قال: أن تدعو لله نداً، وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن تطعمه معك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تُزاني حليلة جارك". فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] ثم القتل إذا كان عمداً يتعلق به القصاص عند وجود تكافؤ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قُتل عمداً فهو قودٌ، ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ". وشرائط التكافؤ اثنان: الإسلام والحرية، فإذا استوى القتل والمقتول في الإسلام والحرية، ولم يكن بينهما شبهة الأبوة، وكان القتل عمداً محضاً - وجب القصاص، فإن اختلفا في الكفاءة قُتل المفضول بالفاضل، ولا يقتل الفاضل بالمفضول. بيانه: يُقتلُ المسلمُ بالمسلمِ، والذمي بالذمي والمعاهد بالمعاهد [وإن اختلف دينهما، ويقتل المعاهدُ بالذميِّ، والذميُّ بالمعاهدِ]، ولا يقتلُ المسلمُ بالذميِّ ولا بالمعاهدِ؛ لما رُوي عن علي - عليه السلام - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يُقتل مؤمنٌ بكافرٍ".

وهذا قولُ أكثر أهلِ العلم، وذهب الشعبي والنخعي إلى انه يقتلُ المسلمُ بالذمي والمعاهد.

وعند أبي حنيفة: يقتلُ [المسلمُ] بالذميِّ، ولا يقتلُ بالمعاهدِ. فنقول بعد الخبر: المقتولُ منقوصٌ بنقص الكفرِ؛ فلا يجب القصاصُ بقتله على المسلم كالمعاهد، ويقتل الذميُّ والمعاهدُ بالمسلمِ، ولا قصاص على الحربي بقتل المسلمِ؛ لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام. ولو قتل ذمي ذمياً، ثم أسلم القاتلُ يُستوفي منه القصاصُ؛ لأنه كان مكافئاً [له] حالة القتل، ويراعى في العقوبات حالة الجنايات؛ كالعبد إذا زنى، أو قذف، ثم عتق - يُقام عليه حدُّ العبيد، ويستوفي الإمام القصاص عن المسلم بطلب وارث المقتول الكافر، ولا يفوضه إلى الوارث الكافر؛ لأنه لا يجوز تسليط الكافر على المسلم بالقتل والعقوبة، إلا أن يُسلم الوارثُ فيفوضه إليه. ولو جرح [ذميُّ] ذميَّا، أو مستأمناً، فأسلم الجارحُ، ثم مات المجروح بالسراية، فإن كان قد قطع طرفاً في حال الكفر يثبت القصاص في ذلك الطرف. وهل يثبت القصاص في النفسِ؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قولُ الأكثرين- يثبت؛ لوجود التكافؤ في حالة وجود السبب وهو الجرحُ؛ كما لو جُن الجارحُ، ثم مات المجروحُ - يجب القودُ. والثاني: وهو القياسُ: لا يثبت القودُ، لعدم التكافؤ في أحد الطرفين؛ كما لو جرح مسلمٌ مسلماً، فارتد المجروح ومات - لا يجب القصاص في النفس، وكما لو جرح مسلمٌ ذمياًّ، ثم أسلم المجروح، ومات بالسراية - لا يجب القودُ؛ لعدم التكافؤ في حالة الجرح. ومن قال بالأول أجاب: أن فيما أوردتم تغيَّر حالُ المجني عليه، وما هنا تغير حالُ الجاني، فإن قلا يجب القصاص، فإن كان الجرح خطأ - فالدية كلها على عاقلة الذميين.

وإن قلنا: لا يجبُ فضمانُ الجراحة على عاقلته الذميين، والباقي إلى تمام الدية في ماله. ولو جرح مسلمٌ ذمياً، ثم ارتد الجارح، ثم مات المجروح- لا قود؛ لعدم التكافؤ في حالة الجناية، كما لو قلته، ثم ارتدَّ، ولو قتل ذميٌّ مسلماً، ثم أسلمَ - لا يسقط عنه القصاص، بخلاف ما لو قتل حربيُّ مسلماً، ثم أسلم - لا يُقتلُ به؛ لأنه لم يكن ملتزماً أحكام الإسلام حالة القتل؛ فلم يجب عليه القصاص. ولو قتل مرتدٌ ذميًّا، ففيه قولان: أحدهما: وهو الأصح: [أنه] يجب القصاص؛ لأنهما كافران كالذميين؛ بل [المرتد] أسوأ حالاً من الذمي؛ فإنه لا يقر على دينه، ولا تحل ذبيحته؛ فأولى أن يُقتل بالذميِّ. والثاني: لا يُقتل به؛ لأن حكم الإسلام باقٍ في المرتد؛ بدليل أنه يجب عليه قضاء الصلوات، ويحرم استرقاقه. ولو قتل ذميٌّ مرتداً: اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: فيه قولان: بناء على المسألة الأولى: إن قلنا: يُقتل به المرتدُّ؛ لأنه أسوأ حالا ًمنه - فلا يقتل به الذميُّ؛ لأنه خيرٌ من المرتدُ. وإن قلنا: لا يقتل به المرتد؛ لبقاء حكم الإسلام فيه؛ فيقتل الذميُّ بالمرتدِّ. ومن أصحابنا من قال، وهو الأصح: لا يقتل به؛ لأن المرتد مباحُ الدم، فلا يضمن دمُه بالقصاصِ؛ كما لا يضمن بالدية. وقيل: إذا قلنا: يجب القصاص، فعند العفو تجب الدية، وكذلك إذا كان القتلُ خطأ؛ لأنه مباحُ الدم [للمسلمين] لا للكفار. فعلى هذا يجب أقل الديات، وهو دية مجوسيٍّ؛ لأنه لا دين له. فإن قلنا: يقتلُ المرتدُّ بالذميِّ، فهو كالذمي يقتلُ ذميًّا، حتى لو جرح مرتدٌّ ذميًّا، ثم أسلم الجارح، ثم مات المجروح، ثم مات المجروح بالسراية - هل يقتلُ به؟: فيه وجهان: ولو قتل مرتدٌ مرتدًّا، ففي وجوب القود وجهان. وكذلك الزاني المحصن إذا قتل مثله، وكذلك المرتدُّ إذا قتل زانياً محصناً، ولو قتلَ

الزاني المحصن مرتدًّا؛ فإن كان الزاني مسلماً فلا قود عليه، وإن كان ذميًّا، فوجهان: قال الشيخ الإمام -رحمه الله-: الأصح عندي. "أن لا قود على من قتل مرتدًّا، أو زانياً مُحصناً؛ لأن دمَهُ مباحٌ؛ فلا يضمن بقصاصِ، ولا دية". فصل في شرط التكافؤ في القتل قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ...} الآية [البقرة: 178]. لا يقتل الحرُّ بالعبد، سواء كان قتل عبد نفسهِ، أو عبد غيره، وكذلك لا يُقتل الحرُّ بالمكاتب، ولا بالمدبر، ولا بأم الولد، ولا بمن بعضه حرُّ، وبعضه رقيقٌ، ويقتلُ هؤلاء بالحر، سواء قتل سيده، أو أجنبياً. وقال الشعبي، والنخعي: يُقتل الحر بالعبد على الإطلاق. وقال أبو حنيفة، والثوري: يُقتل بعبدِ الغيرِ، ولا يُقتل بعبدِ نفسهِ. فنقول: اتفقنا على أنه لا نقطعُ طرفَ الحر بطرف العبد؛ فلأن لا يقتل به أولى؛ لأن حرمةَ النفس أعظمُ من حرمة الطرف. ويُقتل المكاتبُ، والمدبر، وأم الولد بالعبد القن؛ كما يقتل بعضهم ببعضهم، ولا يُقتل من بعضه حر بأحدٍ من هؤلاء؛ لما فيه من فضل الحرية. ولو قتل من بعضه [حر وبعضه] رقيق [شخصاً بعضه حرٌّ وبعضه رقيق] لا يقتل به، سواء كان الرق في القاتل أقلَّ، أو أكثر، أو استويا؛ لأنه قتله بجميع بدنه، لا أنه قتل بنصفه الحر نصفه الحر وبنصفه المملوك نصفه المملوك. ففي الاستيفاء لا تتقابل الحرية بالحرية، والرق بالرق، بل تتوزع، فيصير بعض الحرية مستوفي بمقابلة الرق؛ بدليل أن من نصفه حر ونصفه رقيق إذا قتل شخصاً في مثل حاله خطأ - يجب بقتله نصف الدية، ونصف القيمة، ولا يقال: يتعلق نصف القيمة برقبة القاتل، ونصفُ

الدية في ماله، بل ربع الدية يتعلق برقبته، والربعُ بماله، والقمةُ كذلك. وقيل: "إن كان الرق في القاتل أكثر، أو استويا- يجب القود"؛ وليس بصحيح. ولو قتل عبدٌ عبداً، ثم عتق القاتلُ - يستوفي منه القود ولو جرح عبدٌ عبداً، فعتق الجارحُ، ثم مات المجروح بالسراية - فهل يُقتل به؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا في المسلم مع الذمي: أحدهما: وهو قول الأكثرين: يُقتل به. والثاني، وهو القياسُ: لا يقتل؛ لعدم التكافؤ في حالة زهوق الروح؛ كما لو جرح حرٌّ عبداً، ثم عتق المجروح؛ فمات بالسراية - لم يجب القود؛ لعدم التكافؤ حالة الجرح، وإن كان قد قطع طرفاً في حال الرق ثبت القصاص في ذلك الطرف؛ كما ذكرنا في المسلم مع الذمي. ولو قتل عبدٌ مسلمٌ عبداً مسلماً لذمي يجب القود، ويستوفيه الإمام بطلب الذميِّ، ولا يجعل استيفاؤه إلى الذميِّ؛ لأنه كافرٌ لا يجوز تسليطه على المسلم بالقتل، ويجب بقتل العبد قيمته بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دية حرِّ؛ وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: لا يبلغُ بقيمة عبدٍ دية حرِّ. بل إن كانت قيمته مثل دية حر ينقص عن عشرة آلاف درهم عشره، وإن كانت جارية، فينقص في خمسة آلاف عشره، فنقول: ما يُضمن في الغصب بكمال القيمة يُضمن في القتل بكمالها كالبهيمة. فصلٌ رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ [أنه] قال: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يُقاد بالولد الوالد" لا يجب القصاص على الوالد بقتل ولده لحرمته؛ كما لايحد بقذفه وكذلك لا تُقتل الأم بالولد، ولا أحد من الجدات والأجداد، وإن علا - بالنافلة، ولا يحد بقذفه، سواء كانوا من قبل الأب، أو من قبل الأم.

ويُقتلُ الولدُ بالوالدِ ويُحدُّ بقذفه، وكذلك يقتلُ الأخُ بالأخ، وابن الأخ بالعم والعمة، وابن الأخت بالخال والخالة، وهما به؛ كما يجب عليهم حد القذف؛ لأنهم ليس لهم من الحرمة ما للوالدين. ولو قتل الأب الرقيقُ عبد ابنه - لا قصاص عليه؛ لأنه لو ثبت لثبت للابن، ولو قتل الابن الرقيق عبد الأب - فللأب أن يقتص منه، ولا يقتل الأب الرقيقُ بالابن الحُرِّ؛ لفضيلة أبوته، ولا الابن الحر بالأب الرقيق، لفضيلة [حريته]، ولا الأب الذمي بالابن المسلم؛ لفضيلة أبوته، ولا الابن المسلم بالأب الذميِّ؛ لفضيلة إسلامه، ولا العبد المسلم بالحر الذمي؛ لفضيلة إسلامه، ولا الحر الذمي بالعبد المسلم؛ لفضيلة حريته. لا يُقابل بعض أسباب الكفاءة بالبعض.

ولو قتل المكاتب أباه، وهو في ملكه، يكاتب عليه -: فيه وجهان: أحدهما: لا قصاص؛ لأن المولى لا يُقتل بعبده. والثاني: يقتص منه؛ لأن الأب ثبت له حق الحرمة؛ ما ثبت للمكاتب؛ ولذلك لا يجوز بيعه، فصار كالحر يقتل [أباه]. ولو ادعى رجلان نسب مجهولٍ، فقبل الإلحاق بأحدهما؛ قتلاه، او قتله أحدهما - لا قصاص عليه؛ لأن كل واحد منهما عرضِ أن يكون أباً]، ولو رجعا عن الدعوى لا يُقبلُ رجعوهما؛ لما فيه من تضييع النسب، ولا يجب القصاص، فلو رجع أحدهما يلحق بالثاني، وعلى الراجع القود، وعلى الآخر نصف الدية إن كانا قتلاه. وإن كان مولوداً على فراش رجلين بأن نكحت امرأة في عدة زوجها، فأتت بولدٍ لمدة يمكن أن يكون منهما؛ [فقتلاه] أو أحدهما قبل أن يلحق بواحدٍ - لا قصاص عليهما، سواء ادعياه، أو أنكراه. ولو نفاه أحدهما، هل يلحق بالثاني؟ أم يرى القائف؟ قوفان: أحدهما: يلحق بالثاني، وعلى النافي القود؛ كما في مجهول النسب إذا رجع أحدهما. الثاني: وهو المذهبُ لا ينتفي عنه، ولا يجب القود، بخلاف مجهول النسب؛ لأن النسب ثم ثبت بالدعوة، وبطلت الدعوة بالرجوع؛ وههنا يثبت بالفراش. ولا يزول ذلك بإنكار الوالد، ولو ألحقه القائف بأحدهما بعدما قتلاه - قُتلَ به الآخرُ. ولو ألحقه القائف بأحدهما، أو انتسب المولود إلى أحدهما، ثم قتله الملحق به - لا قصاص عليه، ولو أقام الآخر بينة بعده ألحق به، وقتل القاتل. وإذا ألحقه القائف بعد القتل بغير القاتل، أو بأحدهما - لا يُقتل الآخرُ؛ لأنه حكم ثبت بعد القتل. ولو قتل إنساناً، ووارثه ولدُ القاتلِ - لا يجب القود؛ مثل: إن قتل زوجته، ولها منه ولدٌ أو قتل زوجة ابنه، أو أم الولد قتلت سيدها، وولدها منه حيٌّ - لا قود؛ لأنه لو ثبت، لثبت

[للولد على الوالد، وكذلك لو قتل أمه أو أباه، وله ولد، فلا قود، لأنه لوثبت، ثبت] لولده. وكذلك لو صار بعض القصاص بعد وجوبه ميراثاً لبعض أولاده - يسقط؛ مثل: إن قتل أبا زوجته ثبت القصاص عليه لزوجته؛ فماتت الزوجة، ولها منه ولد - انتقل حقها على الولد؛ فسقط عن الأب. وكذلك من ورث بعض قصاص وجب عليه، يسقط كله؛ مثل: إن قتل أباه، وله أخ - ثبت القصاص لأخيه عليه، فإذا مات الأخ، والقاتل وارثه؛ يسقط عنه القصاص. وعلى هذا: أخوان لأبٍ، وأم، قتل أحدهما الأب، والآخر الأم: ننظر: إن لم تكن الأمُّ في نكاح الأب - ثبت القودُ لكل واحدٍ منهما على الآخر؛ فالثاني يقتل الأول، ثم ولد الأول يقتل الثاني. وإن كانت الأم في نكاح الأب حين قتلاهما. ينظر: إن قتلاهما معاً، والاعتبار في وقوعهما معاً بزهوق الروح لا بالجرح - يجب القود عليهما؛ لأنهما إذا ماتا معاً لم يرث أحدهما الآخر؛ فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قتل الآخر، ثم ولد المقتول يقتل الثاني، وإن قتلا على الترتيب، فلا قود على من سبق قتله. بيانه: قتل أحدهما الأب، ثم الثاني قتل الأم - سقط القود عن قاتل الأب؛ لأنه لما قتل الأب، ثبت القصاص لأخيه ولأمه، فإذا قتل الآخر الأم ورث قاتل الأبِ القصاص الذي ثبت للأم عليه؛ فسقط. ولو شهد الابنُ على الأب بالقتل - يقتل؛ لكن رد الشهادة للتهمة، ولا تهمة في شهادته. ويُقتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، ولا يجب شيءٌ من الدية بعد القتل، وتُقتل الخنثى بهما، وهما بالخنثى، ويقتلُ العالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والشيخ بالشاب، ويقتل البالغ بالصبي، والعاقل بالمجنون. ولو قتل صبي أو مجنونٌ إنساناً - لا قصاص عليه؛ لأن القتل عنه مرفوعٌ؛ كالنائم

تقلب على إنسانٍ، فيقتله - لا قود عليه. أما السكران إذا قتل إنساناً فهو كالعاقل؛ يجب عليه القود على الصحيح من المذهب. ولو قتل رجلاً، أو أقرَّ على نفسه بالقتل، أو شهد عليه الشهود بفعل القتل، أو بالإقرار، فادعى القاتلُ: أني كنت يوم القتل صغيراً، وقال الولي: كنت بالغاً - فالقولُ قولُ القاتل مع يمينه؛ لأن أحداً لا يخلو عن الصغر، فالأصل بقاؤه. ولو قال: كنت مجنوناً يوم القتل، نظر: إن عُرفَ به جنون سابقٌ، وإن كان مرة واحدة - قُبِلَ قوله مع يمينه، وإن لم يعرف فالقول قول الولي مع يمينه، يحلفُ أنه كان عاقلاً، ويستحق القود. ولو أقام الولي بينةً؛ أنه قتله عاقلاً، وأقام القاتل بينة أنه قتله مجنوناً - سقطتا، وحلف القاتل. فصلٌ قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية [المائدة: 45]. وهذا إخبار ٌ عن حكم التوراة، وقد ثبت ذلك من شرعنا. رُوي عن أنس بن مالك؛ أن الربيع بنت النضر بن أنس - وهي عمةُ أنس بن مالِك - رضي الله عنه - كسرت ثنية جاريةٍ منَ الأنصار، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كتاب الله القصاصُ؛ فرضي القوم وقبلوا الأرش".

والقصاص يجري في الأطراف على حسب ما يجري في النفوس؛ لأن القصاص ثبت في النفوس؛ لصيانة النفوس عن الإهلاك؛ فثبت في الأطراف أيضاً؛ لصيانة الأطراف، فكل من يُقتل بشخصٍ يُقطعُ طرفه بطرفه عند سلامةِ المقطوع، ومن لا يقتل به لا يقطع طرفه بطرفه، حتى يقطع طرفُ الرجل بطرف المرأة، وطرفُ المرأة بطرف الرجلِ، ويقطع طرفُ الذمي بطرف المسلم، وطرفُ العبد بطرف الحرِّ، وطرف الولد بالوالد. ولا يقطع طرف المسلم [بطرف] الذمي، ولا طرف الحرِّ بطرف العبدِ، ولا الوالد بالولد، ويقطع طرفُ العبد بطرف العبد، وإن اختلفت قيمتُهُما.

وعند أبي حنيفة: لا يجري القصاصُ في الطرف الأيمن حرين، أو حرتين ولا يجري بين الذكر والأنثى، ولا بين الحر والعبد؛ لتفاوت بدنهما، كذلك لا يجري بين العبدين؛ لأنهما قد يختلفان في القيمة. فنقول: كل شخصين يجري القصاص بينهما في النفس، فيجري في الطرف عند سلامته كالحرين. أما إذا قطع يداً، شلاءَ أو ناقصة بإصبعٍ - فلا تُقطع بها اليد الصحيحة بخلاف الرجل الصحيح السوي؛ يُقتل بالمريض والزمن، وبالناقص الأطراف؛ لأن القصاص في النفس يجري في الروح، والزمانة لا تحل الروح، والطرف يحله الشلل، والشللُ منه كالموتِ، ولا يُقتل الحي بحز رقبة الميت. فصل في قتل الجماعة "رُوي أن عمر - رضي الله عنه - قتل خمسة أو سبعةً برجلٍ قتلوه غيلةً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً". إذا قتل جماعةٌ واحداً يُقتلون به عند أكثر أهل العلم، لأن القصاص شُرعَ لصيانة الدماء عن الإراقة، فلو منعناه عند الاشتراك استعان كل من أراد إهلاك عدوه بغيره في قتله؛ لإسقاط القصاص؛ فكان ذريعة لإراقة الدماء، وسواء قتلوه بمحددٍ، أو ضربوه بمُثقلٍ كبيرٍ، أو هدموا عليه بناءً، أو رموه من شاهقٍ، أو ألقوه في ماءٍ، أو نارٍ.

وإذا جرحوه فلا فرق بين أن يكون راحةُ بعضهم لها أرش مقدر دون بعضٍ، وسواء تفرقت جراحاتهم، أو اجتمعت بعد أن يكون الكل قبل الاندمال. وإن جرح واحد جراحة واحدة، والآخر عشر جراحات فأكثر فالكل سواءٌ في القصاص، وعند العفو لا تجب إلا دية واحدة، وتوزع الدية على عدد رءوسهم لا على عدد جراحاتهم؛ لأنه قد تكون نكاية جراحة واحدة في الباطن أكثر من نكاية جراحاتٍ كثيرة، فلو أراد الوليُّ أن يقتل بعضهم، ويأخذ من الباقين ما يخصهم من الدية يجوز. وقال الزهري، وابن سيرين: إذا قتل جماعةٌ واحداً لا يقتلون به، بل يختار الولي منهم واحداً فيقتله، ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية، ويروي ذلك عن معاذ بن جبل. وقال ربيعة وداود: إذا قتل الجماعة واحداً - لا يجب القود، وإنما تقتل الجماعة بالواحد بشرائط: أحدها: أن تكون جناية كل واحد منهم مما يقصد بها القتل، فإن خدش واحدٌ منهم خدشة، وجرح الآخرون فالقصاص على الجارحين دون الذي خدش. الثاني: أن يكون الكل عامدين، فإن أخطأ بعضهم؛ فلا قود عليهم في النفس. الثالث: ألا يكون البعض موجباً، حتى لو جرحه جماعة، ثم جاء آخر فحز رقبته - فالقود في النفس على من حز الرقبة؛ لأن حز الرقبة يقطع سراية الجراحات، وعلى الجارحين أروش جراحاتهم، أو القصاص في الطرف على من قطع منهم طرفاً. الرابع: أن يكون الكل قبل الاندمال، حتى لو جرحه رجلٌ، ثم بعد الاندمال جاء آخر فجرحه فمات - يجب القود في النفس على الآخر، أو كمال الدية، وعلى الأول أرش جراحته. فلو ادعى الأول اندمال جراحته، وأنكر الولي - فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه، ولو صدقه الولي، وأنكر الجارح الثاني - فالقصاص في النفس ساقطٌ عن الأول بتصديق الولي، ولم يكن له على الآخر إن عفا عن القود إلا نصف الدية، ولا يُقبل قوله على الثاني إلا ببينة تقومُ على الاندمال؛ حينئذٍ يأخذ منه كمال الدية.

ولو ضرب جماعةٌ واحداً سوطاً أو عصاً خفيفةً، فقتلوه نُظر: ن ضرب كل واحد منهم قدراً لو حصل به القتل منفرداً تعلق به القصاص - وجب عليهم القود، وعند العفو عليهم مال الدية، ثم إن تفاوتوا في عدد الضربات تُوزع الدية على عدد رءوسهم، أو على عدد الضربات؛ لأن الضرب يلاقي الظاهر، فلا يقع بين الضربات كثير تفاوتٍ، والجرح يُلاقي الباطن، ويكثر التفاوتُ بين الجراحات في نكاية الباطن. وإن كان ضربُ بعضهم بحيث لو حصل به القتلُ منفرداً لم يتعلق به القود - نظر: إن تواطؤوا على الضرب - وجب عليهم القصاص، وإن ضرب واحدٌ ضربةً، والآخر مائة، حتى لو تواطأ مائة نفرٍ على قتل رجلٍ، وضرب كل واحد منهم سوطاً واحداً؛ فمات - وجب عليهم [القود] ن بخلاف الجُرح لا يشترطُ فيه التواطؤ؛ لأن نفس الجُرح قصدٌ إلى إزهاق الروح. والضرب بالسوط الخفيف لا يكون قصداً إلى الإهلاك حتى ينضم إليه التوالي من الواحد، والتواطؤ من الجماعة؛ فيتكامل به القصد. ولو ضرب رجلٌ سوطين أو ثلاثة، ثم جاء آخر، وضرب خمسين سوطاً قبل سكون وجع الأول، من غير تواطؤ؛ فمات - لا قود على واحدٍ منهما؛ لأن ضرب الأول شبه عمدٍ، والثاني شريكه، ولا قود على من شارك من لم يكن فعله عمداً محضاً، بل على الأول نصف الدية مغلقةً على عاقلته، وعلى الثاني نصفها مغلظةً في ماله. ولو ضرب واحدٌ أولاً خمسين، ثم ضرب الثاني سوطين أو ثلاثاً - قبل سكون وجع الأول؛ فمات - نظر: إن كان الثاني عالماً بضرب الأول - عليهما القود؛ لأن قصده إلى القتل قد تم بالضرب على الوجع، كما لو ضرب مريضاً سوطاً أو سوطين، فمات - وجب القود، وإن كان جاهلاً بضرب الأول - لا قود على واحدٍ منهما؛ لأن الثاني لم يتم قصده، والأول شريكه، بل نصف الدية في مالالأول، والنصف على عاقلة الثاني مغلظة، بخلاف ما لو ضرب مريضاً سوطاً أو سوطين، وهو جاهل بمرضه؛ فمات وجب القود؛ لأنا لم نجد هناك من يُحيلُ الضرب عليه سوى الضارب. ولو قطع جماعةٌ يد واحدٍ، أو طرفاً من أطرافه - تُقطعُ أطرافهم بطرفه، إذا وُجد فعلُ كل واحد منهم في إبانة جميع الطرف؛ بأن وضعوا السكين على يده، فتحاملوا عليه، أو جزوا دفعةً واحدة فأبانوا الطرف.

وعند أبي حنيفة - رحمه الله: لا تقطع الأطرافُ بطرفٍ واحد. [قلنا] لما جاز استيفاء النفوس بنفسٍ واحدة - مع عظم حُرمتها، فاستيفاءُ الأطراف بطرفٍ واحدٍ أولى؛ لأن القاص في الموضعين ثبت لصيانته عن الإتلاف، فمنعه عند الاشتراك طريق يتطرق بها إلى الإتلاف، فلا يصارُ إليه كما في النفس. وهذا بخلاف ما لو سرق رجلان نصاباً واحداً - لا يجب عليهما القطعُ؛ لأن قطع السرقة [حق] الله تعالى؛ فيجري فيه من التخفيف والمسامحة ما لا يجري في حقوق العباد؛ ألا ترى أنه لو سرق نصف نصابٍ، ثم بعد عاد فكمل نصاباً واحداً - يقطع، فلما لم يكمل فعله بفعله-: لم يكمل بفعل غيره. وفي القصاص لو قطع، ثم بعد أيام عاد وأبان الباقي - تٌقطع يده، فكذلك عند الاشتراك. أما إذا تميز فعلُ كل واحد من القاطعين؛ بأن قطع هذا من جانب، وذاك من جانب حتى التقى السكينان، أو قطع أحدهما بعضه، ثم جاء الثاني وأبان، أو وضعا السكين عليه فجرا جزء المنشار - فلا قود عليهما، بل على كل واحد منهما حكومةٌ بقدر جنايته، تبلغ مجموع الحكومتين نصف الدية. وحكى صاحب "التقريب" قولاً انه يقتص من كل واحد منهما بقدر ما قطع، إن أمكن الوقوف عليه. ولو قتل عشرة عبد عبداً عمداً - لسيد المقتول - قتلهم جميعاً، ولو عفا عن واحد تعلق عُشرُ قيمة المقتول برقبته، ولو قتل الباقين. فأما إذا قتل واحدٌ جماعةً - يُقتل القاتلُ بواحدٍ منهم، وللباقين الدية. في تركته، فإن لم تكن له تركة، فهي في ذمته يلقى الله - عز وجل - بهم. ثم إن قتلهم على الترتيب قُتِلَ بالأول. فلو عفا وليُّ الأول قتل بالثاني، فإن كان وليُّ الأول غائباً، أو كان صبياً، أو مجنوناً - يُحبس القاتل على حضور الغائب، وبلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، فلو بادر وليُّ الثاني، فقتله قبل عفو الأول، وقبل حضور الغائب، وبلوغ الصبي- كان مسيئاً، ولا ضمان عليه؛ لأن الحق كان ثابتاً له، فقد استوفى حقه، وللأول الدية.

وإن قتلهم معاً، أو أشكل السابق - يُقرع بين الأولياء، قُتل به الجاني، فلو بادر غير مَنْ خرجت له القرعة. فمن خرجت له القرعة، فقتله، فقد استوفى حقه، وللباقين الدية في التركة. ولو خرجت القرعة لواحد، فعفا عن حقه - أعيدت القرعة للباقين، ولو قتله الأولياء معاً [مثل أنْ] كانوا ثلاثة فقتلوه - فقد استوفى كل واحدٍ ثلث حقهِ، ويأخذ من التركة ثلثي الدية. وكذلك لو قطع رجلٌ أيدي جماعةٍ، فإن قطع على الترتيب قُطع بالأولِ، وللباقين الديةُ في ماله، وإن قطع معاً، أقرع بينهم، فمن خرجت قرعته قطع به، وللباقين الدية. وعند أبي حنيفة: - رحمه الله - يقتل الواحدُ بالجماعة، ولا يجب شيءٌ من الدية ولو قطع رجلٌ يدي رجلين - قال: يقطع يده بهما، ولكل واحدٍ منهما ربعُ دية النفس، فنحن نقيسُ الطرف على النفس في أنه لا يُجمع في حق شخصٍ واحدٍ من القصاص والدية، ونقيس النفس على الطرف في أنه لا يجعلُ استيفاء المحلِّ الواحد إيفاءً لحقيهما على الكمال. ولو قتلَ جماعةُ جماعةً يُقرعُ بين أولياء المقتولين، فمن خرجت له القرعة - قتل جميع القائلين به، وللباقين الدية في تركتهم. ولو قتل عبدٌ جماعة، يُقتل بالأول، ولا شيء للباقين، فلو بادر الثاني، وقتله لا شيء عليه، فلو عفا الأولُ على المال تعلق حقه برقبته، وللثاني أن يقتله، وإن بطل حق الأول. وإن قتل العبد جماعةً معاً -أقرع بينهم كما في الحر، فمن خرجت قرعته قتل به، ولا شيء للباقين، وقيل: يقتل العبدُ بهم جميعاً؛ لأنه لا محل لحقوقهم سوى رقبته، وإن كانت الجناياتُ موجبة للمال، أو عُفيَ عن القصاص على مال - تُباع رقبتُه، وتقسم قيمته بينهم على قدر جناياتهم، سواء كانت الجنايات على الترتيب، أو معاً، والله أعلم.

بابٌ صفةُ قتلِ العمد "رُوي عن أنس؛ أن يهودياً رض رأس جاريةٍ بين حجرين، فأمر [به] النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بالحجارة".

القتل على ثلاثة أنواعِ: عمدٍ محضٍ، وشبه عمدٍ، وخطأٍ محضٍ: فالعمدُ المحضُ هو: أن يمد ضربه بما يموتُ منه غالباًن فمات به يجب به القود، وإذا عفا فديةٌ مغلظة في ماله حالةٌ. وشبه العمد: أن يعمد ضربه بما لا يموت منه غالباً، فمات لا يجب به القود؛ لأنه يشبه الخطأ من حيث إنه لا يقصد بمثل هذا الضرب، فيصير شبهة في سقوط القود، وتجب دية مغلظةٌ على العاقلة مؤجلة. والخطأ المحض، وهو أن يحصل القتلُ بسببٍ من جهته، من غير قصدٍ إليه؛ مثلُ: إن رمى إلى صيد فأصاب إنساناً، أو إلى إنسانٍ، فأصاب غيره، أو حفر بئر عدوان، فتردى فيها إنسانٌ، ومات - فلا قود عليه، وتجب ديةٌ مخففةٌ على العاقلة مؤجلة؛ خُرج منه أنه لو جرحه بمحددٍ من حديدٍ، أوخشبٍ، أو قصبٍ، أو حجرٍ، أو زُجاجٍ، أو غرزَ فيه مسحلةً؛ فمات في الحالِ، أو مات بعده بسراية ذلك الجُرح - يجب به القود. وكذلك لو ضربه بمُقلٍ كبيرٍ، أو هدم عليه جداراً، أو رماه من شاهق، أو أوطأ عليه دابةً، أو خنقه، أو أمسك فمه حتى مات، أو دق صدره، أو عصر خصيتيه، أو دفنه حيًّا؛ فمات - يجب القودُ؛ وهو: قول أكثر أهلِ العلم.

وقال طاوسٌ، والشعبي والنخعي: لا يجب القود، إلا أن يجرحه بمحددٍ، وهو قولُ أبي حنيفة، إلا أن عنده التحريق بالنار يوجب القود، وعندهم لا يوجبه، وحديث أنس حجةٌ عليهم؛ ولأنه قتلٌ حصل عمداً بما يقصد به القتلُ غالباً؛ فيوجب القود، كما لو قتله بمحددٍ، ولو غرز فيه إبرةً؛ فمات - نظر؛ إن غرز في مقتله من عين، أو قُرطِ أذنٍ، أو حلقٍ، أو خاصرةٍ، أو إحليلٍ - يجب القود، وإن غرز في غير مقتلٍ؛ كالفخذ والآلية، ونحوهما - فوجهان: [أحدهما]: قال ابن سريج: لا يجب القود، بل هو شبه عمدٍ؛ لأن الغالب منه السلامة؛ كما لو ضربه بسوط خفيف؛ فمات: وقال أبو إسحاق: يجب القود؛ وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله-؛ لأنها تمورُ في الباطن كالمسلة. أما إذا غرزها في موضع لا يتألمُ به؛ مثل جلدة العقب - فلا يب به شيءٌ، ولو ضربه بعصا خفيفةٍ، أو سوطٍ، أو رماه بحجرٍ صغير، نظر؛ إن: والى عليه حتى مات - وجب القودُ. وإن ضرب سوطاً، أو سوطين - نظر: إن كان المضروبُ صغيراً، أو مريضاً، يموتُ منه غالباً، أو كان قوياً صحيحاً، ولكن ضُربَ [على] مقتله كالأنثيين ونحوهما، أو كان في شدةِ حرٍّ، أو بردٍ، يحصل به القتلُ في ذلك الزمان غالباً - يجب القودُ وإن لم يكن شيءٌ من ذلك - فهو شبه عمدٍ؛ يجب به الدية. أما إذا ضربه بما لا يحصل به؛ الموتُ أصلاً من قلمٍ، أو نحوه - فلا [يجب به] شيءٌ؛ لانا نعلمُ يقيناً أنه لم يمت منه، ولو خنقهُ، ثم تركه وهو حيٌّ إلا أن الخنق قد أثر فيه، [بحيث] نعلم أنه لا يعيشُ، أو كانت الحياةُ فيه مستقرةً، ولكن لم يزل متألماً ضمناً حتى

مات - وجب القودُ. ولو أمسك حلقه، أو فمه إمساكاً لا يموت منه غالباً؛ فمات [فهو شبه عمدٍ. ولو حبسه في بيتٍ؛ فمات] جوعاً، أو عطشاً - نُظر: إن لم يمنعه الطعام والشراب، غير أنه لم يأكل خوفاً، أو أمكنه الشراب فلم يفعل - لا ضمان على الحابس. وإن منعه الطعام والشراب، ولم يمكنه السؤال - نظر: إن مات ي مُدةٍ يموتُ مثله فيها غالباً من الجوع أو العطش - يجب القود. وإن كان لا يموتُ مثله فيها غالباً - نظر: إن لم يكن به جوعٌ وعطشٌ سابقٌ - فهو شبه عمدٍن ويختلف ذلك باختلاف حال المحبوس في القوة، والضعف، واختلاف الأزمنة. إن كان به جُوع أو عطشٌ سابقٌ: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: إن كان الحابس عالماً بجوعه السابق - يجبُ القودُ. وإن كان جاهلاً فقولان: أحدهما: يجبُ القودُ؛ كما لو ضرب مريضاً بسوطٍ خفيفٍ، فمات، وهو جاهلٌ بمرضه - يجب القود. والثاني: لا يجب؛ كما لو دفع رجلاً يمشي، فسقط على سكين وراءه، فمات، وهو به جاهلٌ - لايجب القود. ومن أصحابنا من قال: إن كان جاهلاً لا يجب القودُ، وإن كان عالماً: ففيه قولان فإن قلنا: يجبُ القودُ عند العلم، فإذا عفا على الدية، يجب كمال الدية المغلظة في ماله. وعند الجهل إن لم نوجب القود، فكمالها مغلظة على عاقلته. وإن قلنا: لا يجب [القود] عند العلم - وهوا لأصح عندي - فيجب نصف الدية مغلة في ماله، وعند الجهل نصفها مغلظة على عاقلته، وليس كضرب المريض بالسوط الخفيف، حيث أوجبنا به القود، أو كمال الدية؛ لأن المرض ليس من جنس الضرب، والجُوعِ.

الثاني: [ما] هنا من جنسِ الأول؛ فكان زُهوقُ الروح بسببٍ واحدٍ بعضه لم يكن من صنعه. قال - رحمه الله: نظيره لو ضرب جائعاً سوطاً مات به؛ لضعف جوعه - وجب القود. ولو منعه الشراب، ولم يمنعه الطعام، غير أنه لم يأكل خوف العطش؛ فمات جوعاً: قال - رحمه الله: لا شيء عليه؛ لأنه مات من فعل نفسه، ولو حبسه في بيتٍ فانهدم عليه البيتُ، أو لسعته حيةٌ - لا ضمان عليه. ولو أخذ زاده في مفازة، فمات جُوعاً، أوعطشاً - لا يجب عليه ضمانُ النفسِ؛ لأنه لم يُحدث فيه فعلاً. وكذلك لو أخذ ثيابه، فمات برداً. وكان [شيخي - رحمه الله] يقول: إذا عراه وحبسه في موضع، حتى مات برداً- يجب القود؛ كما لو حبسه عن الطعام فمات جُوعاً. ولو غرقه في ماء حتى مات، أو تركه بعدما غرقه، وفيه حياةٌ، فمات بسببه - يجبُ القودُ. ولو ألقاه في ماءٍ، فمات - نظر: إن كان صغيراً، أو زمناً، أو شد أطرافه حتى لا يمكنه الخروج - وجب القودُ. وإن كان كبيراً سوياً، ولم يشده - نظر: إن كان ماءً لا ينجو منه بالسياحة -يجب [عليه] القودُ. وإن كان ماءً قليلاً، لا يحتاج فيه إلى السباحة، فلا قود، ولا دية؛ لأنه أهلك نفسه، وإن كان يحتاج إلى السباحة، وينجو - نظر: إن كان لا يُحسن السباحة - يجبُ القودُ. وإن كان يُحسنها، غير أنه حبسه موجٌ، أو ريحٌ - فلا قود، وهو شبه عمدٍ تجب به ديةٌ مغلظةٌ على العاقلة، وإن لم يحبسه شيءٌ، ولكنه لم يسبح فمات - فلا قود. وفي الدية قولان:

أصحهما: [لا يجبُ]؛ كما لو حبسه، ولم يمنعه الطعام، غير أنه لم ياكل حتى مات. والثاني: يجب، وهو شبهُ عمدٍ؛ لأن نفس الإلقاء في الماء جنايةٌ، والسباحةُ سببُ الخلاص، بخلاف الحبس؛ فإنه ليس بجناية قاتلة حتى ينضم إليه غيره، وهو الجوع، وهذا بخلاف ما لو جرحه رجلٌ، وأمكنه المداواةُ؛ فلم يفعل حتى مات - يجب القود على الجارح؛ لأنه لا تتحقق النجاة بالمداواة، وههنا تتحقق النجاة بالسباحة، فإذا لم يفعل، فقد أهلك نفسه. ولو شد يديه ورجليه، وطرحه في ساحلٍ، فزاد الماءُ؛ فهلك - نظر: إن كانت الزيادة معلومةَ الوجود كالمد بالبصرة - يجب القودُ. وإن كان قد يزيدُ، وقد لا يزيدُ - فهو عمدُ خطأٍ. وإن كان في موضعٍ لا يزيدُ فيه الماء، فأدركه سيلٌ فزاد؛ فهو خطأٌ محضٌ. وإن ألقاه في ماء فالتقمه الحوتُ - نظر: إن كان غير مخوفٍ ينجو منه بالسباحة - فلا قود، وتجب ديةٌ مغلظةٌ على عاقلته. وإن كان الماء مخوفاً لا ينجو منه بالسباحة - ففيه قولان: أحدهما: نص عليه؛ أنه يجب القودُ؛ لأنه ألقاه في المهلكةِ حتى هلك. والثاني: لا يجب؛ خرجه الربيعُ؛ لأن الهلاك كان بفعلِ غيره؛ كما لو رماه من شاهقٍ، فقبل أن يُصيب الأرض - قده رجل بنصفين -: كان القصاصُ على القادِّ، ولو افترسه سبعٌ قبل أن يصيب الأرض - لا ضمان على أحدٍ. والأول [أصحُّ]؛ لأن الجناية قد تحققت من المُلقي بالطرح في مثل هذا الماء، وفي الرمي من الشاهق [الجناية] إنما تتحقق بإصابة الأرض ولم يوجد؛ بدليل أنه لا تجب الدية على الملقي من الشاهق، إنما تجب على القادِّ، وههنا: تجب على الملقي في الماء. وقيل في الطرح في الماء المخوفِ: لو التقمه الحوتُ قبل أن يصيب الماء - لا شيء على الملقين والصحيح أنه لا فرق بين الحالتين، وقيل فيما لو ألقاه من الشاهق؟ فقبل أن يصيب الأرض - قده إنسان بنصفين: أن الضمان على الملقي دون القادِّ؛ ذكره أبو حامد، وليس بصحيح. أما إذا رفع الحوت رأسه فألقمه الحوت - يجب القود؛ لا يختلف القولُ فيه.

ولو طرحهُ في نارٍ، ولم يمكنه الخروج منها؛ فمات، أو أخرجه بعدما أصابه منها، ولم يزل متألماً به حتى مات [يجب القود، وإن أمكنه الخروج، فلم يخرج حتى مات] أو كان يقول: إني أتمكن من الخروج، ولكن لا أفعل؛ فمات - فلا قود. وفي الدية قولان: أصحهما: لا يجب؛ لأنه قتل نفسه. والثاني: [يجب] على عاقلته؛ كما ذرنا في الماء. فإن قلنا: لا تجب الديةُ - يجب عليه أرش ما نقصه حر النار إن أمكنه الخروج، لأن ذلك القدر حصل بفعله. فلو اختلفا، فقال المُلقي: أمكنه الخروج، وقال الولي: لم يمكنه -فوجهان: أحدهما: القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الجناية من الملقي حقيقةٌ. الثاني: القول قول الملقي مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته، ولو أوجره سُمًّا قاتلاً، أو دواءً فيه سم قاتل؛ فمات - يجب القود، وإن كان سمًّا لا يُقتل غالباً، وقد يُقتل، فمات به - فهو شبهُ عمدٍ تجبُ به الدية على العاقلة، إلا أن يكون المسقي ضعيفاً، أو سقيماً بموت منه غالباً - فيجب به القود. ولو اختلفا، فقال الولي: كان قاتلاً، وقال الساقي: لم يكن - فالقول قولُ الساقي مع يمينه، ثم هو شبه عمد، إلا أن يقيم الولي بينةً يشهدون أن مثله يقتل، أو تقارَّا على سمٍّ أنه كان منه، ثم شهد عدلان من أهل المعرفة [به أن مثله] يقتلُ؛ فيجب القود. ولو أوجره سمًّا، فقتلهُ، ثم قال: لم أعلمه قاتلاً - فقولان أحدهما: يجب القود؛ كما لو جرحهُ فمات، وقال: لم أعلم أنه يموتُ منه. والثاني: لا قود عليه، بل تجب الدية؛ لأنه مما يخفى. ولو ألقمه طعاماً فيه سمٌّ قاتلٌ، فتناوله، وهو جاهلٌ، أو أضافه، فوضعه بين يديه،

فأكل، أو جعله في دنٍّ ماء على الطريق، فشرب منه إنسانٌ؛ فمات ففي القود قولان: أصحهما: يجب؛ كما يجب على المكرهِ. والثاني: لا شيء عليه: لا قود، ولا دية؛ لأنه تناول باختياره. وكذلك لو قال:"كُل"، وفيه شيء من السُّمِّ، ولكن لا يضرن فأكل؛ أما إذا وضعه بين يدي صبي لا يعقل، أو مجنونٍ، فتناول؛ فمات - يجب القودُ؛ كما لو قال لصبي: اقتل نفسك؛ فقتل - يجب القود على الآمر. ولو جعل السم في طعام غيره، فأكله صاحب الطعام جاهلاً فمات - فقد قيل: هو كما لو أضافه؛ فوضع بين يديه وقيل لا قود ولا دية على الفاعل؛ لأنه لم يُغره، إنما أتلف طعامه بإدخال السم فيه، فيغرم قيمةَ الطعام، ولو وجعل السم في طعام نفسه، فدخل رجلٌ داره بدون إذنه [فأكله]، فمات فلا شيء عليه؛ لأنه لا صُنع له في إهلاكه. ولو أنهشه حيةً، أو عقرباً، أو أخذ ذنبها فقربها منه: ضغطها، أو لم يضغطها؛ فلدغته، فمات - يضمن ثم ينظر: عن كانت مما تقتل [غالباً] مثل أفاعي مكة، وعقارب نصيبين يجب القودُ. وإن كان لا يقتل غالباً فقولان: أصحهما: يشبه عمدٍ، وفيه قول آخر: يجب به القود؛ لأنها تجرح، والجراحة، وإن صغرت: إذا حصل منها الهلاك - يجب به القود؛ وكذلك لو أخذ سبعاً مما يُقتل به غالباً فأنهشه، أو جعله معه في وعاءٍ فقتله - يجب القود. ولو حبسه في بئرٍ، أو في بيتٍ فيه حياتٌ، وعقارب؛ ربطه، أو لم يربطه، فلسعته حيةٌ، أو عقربٌ؛ فمات - لا يجب الضمان، سواء كان الموضع ضيقاً، أو واسعاً؛ لأن الحية، والعقرب تهرب منه الآدمي فهو لم يُلجئها إلى قتله، إنما قتلته باختيارها؛ كما لو أمسك إنساناً حتى قتله آخر - لم يجب القصاص على الممسك؛ بل يجب على القاتل، وكذلك لو ألقى

عليه حيةٌ، أو ألقاه عليها؛ شده، أو لم يشده، فقتله - لا ضمان عليه، سواء كان في مضيقٍ أو في صحراء. فأما إذا حبسه في موضع فقتله - نظر: إن كان في موضعٍ ضيقٍ من بئر، أو بيتٍ صغيرٍ - يجب القودُ؛ لان السبع يقصد الآدمي إذا اجتمع معه في مضيقٍ؛ فكان هو مُلجئاً للسبع إلى قتله، بخلافِ الحية والعقرب. وإن كان في موضع واسع، أو ألقى [عليه] سَبُعاً في صحراء، أو أغرى عليه كلباً، أو شدهُ فطرحهُ في مسبعةٍ، أو بين يدي سبُعٍ، فقتله - فلا ضمان عليه؛ لأن السبع يهرب من الإنسان إذا وجد سعةً؛ فلم يُلجئه إلى قتله، سواءٌ كان المطروحُ صغيراً، أو كبيراً. وقال أبو حنيفة: إذا حمل صبياً إلى مسبعة، فأكله سبعٌ - يجب الضمانُ، فكل موضعٍ أوجبنا القود بقتل السبع: فلو جرحه جراحةً خفيفةً، لا يموت منها غالباً؛ فمات - فهو شبهُ عمدٍ، وكان شيخي [القاضي] رحمه الله يقول: إذا أغرى عليه سبُعاً عقوراً في صحراء، لا يمكنه الهرب منه، فقتله - يجب القودُ؛ لأن فعله مضافٌ غليه؛ بدليل حل الصيد. ولو سلم صبياً إلى سابح ليعلمه السباحة، فغرق - ضمن ديته؛ لأنه سلم إله ليحتاط في حفظه، وهو شبه عمد؛ كما لو ضرب المعلم [الصبي] للتأديب فهلك - ضمن. ولو سلم البالغ نفسه إليه؛ ليعلمه السباحة، فغرق - لم يضمن؛ لأنه في يد نفسه، فعليه أن يحتاط لنفسه. ولو تلوط بصبي فمات، أو أكره امرأة بكراً فافتضها فماتت - يجب القود. ولو قتل رجلاً بسحرٍ يقتل غالباً - يجب القودُ، ولا يمكن إثباتُ القتل بالسحر إلا بإقرار الساحر، حتى لو شهد الشهود أنه قتله بالسحر - لا يُقتل ما لم يشهدوا على إقراره، فإن قال الساحر: سحرته، وسحري يقتل غالباً - يجب القودُ، وإن قال: سحرته، وسحري قد يقتل، وقد لا يقتل- والغالب انه لا يقتل - فهو شبهُ عمدٍ؛ تجب الدية مغلة في ماله؛ لأنه [قد] ثبت بإقراره، إلا أن تصدقه العاقلة؛ فتكون عليهم. وإن قال: سحري يقتل [يقينا]، ولكني سحرت باسم غيره، فوافق اسمه - فهو خطأ؛

تجب الدية مخففة في ماله، إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم. وإن قال: قصدت المصلحة - فهو شبه عمدٍ، وقيل: خطأ، وإن قال: مرضَ من سحري، ولم يمت منه- فهو موضع القسامة، [يحلف المدعي]. ولو صاح برجل غافل، أو مُراهقٍ على طرفِ سطحٍ أو بئرٍ، أو شجرٍ، فسقط، ومات، أو زال عقله - لا ضمان عليه، سواءٌ واجهه به، أو جاء من ورائه على غفلةٍ منه؛ لان الغالب أنه يتماسك. وقال ابن أبي هريرة: إن صاح به من ورائه على غفلةٍ صيحة شديدةً - تبج الدية على عاقلته مغلة. والأول أصح. أما إذا صاح بصبي صغير، أو مجنون، أو امرأة ضعيفةٍ أو من ضعف عقله على طرف سطح، أو على وجه الأرض، فسقط فمات، أو كان صبياً؛ فزال عقله - تجب الدية، سواءٌ واجهه به، أو صاحب [به] من ورائه، وكذلك لو لم يقصده بالصياح، بل صاح على صيد؛ أو لا على شيء، فهلك به صبيٌّ أو مجنونٌ، وسواءٌ صاح في ملكه، أو [في] غير ملكه، ثم إن قصده بالصياح، فالدية مغلةٌ على العاقلة، وإلا فمخففة. وكذلك: لو صاح بنائمٍ، فمات، أو زال عقلُه. وقال صاحب "التلخيص": إن صاح إلى صيد، فمات به صبي، أو مجنون: إن [كان الصائح محرماً، أو] كان في حرمٍ - تجب الدية على عاقلته؛ لأنه متعدٍّ، وإن لم يكن في حرم ولا إحرامٍ - لا يضمن. وعلى هذا القياس: لو صاح في ملكه، فهل به صبيُّ، أو مجنونٌ - لا يضمن، والمذهبُ: أنه يضمن، سواء كان في الإحرام، أو في ملكه، أو لم يكن؛ لأن ما كان جناية، فلا يختلف بالملك وغيره. كما لو رمى في ملكه، فأصاب إنساناً - ضمن. [وكذلك: إذا شهر سيفه على صبي، أو امرأةٍ، أو هدده؛ فمات، أو زال عقله، أو على مجنونٍ؛ فمات - تجب الدية على عاقلته، وإن كان على عاقلٍ بالغٍ - لم يضمن].

وكذلك لو ذُكرتِ امرأةٌ بسوءٍ عند الإمام؛ فبعث إليها فاستدعاها، فألقت جنينها - يجب الضمان على عاقلةِ الإمام. رُوي أنعمر أرسل إلى امرأةٍ، فأجهضت ذا بطنها؛ فضمنه عمر - رضي الله عنه - أما الأم إذا ماتت به - لا يجب ضمانها؛ لأن العادة لم تجر أنها تموتُ بمثله. ولو ذُكر رجلٌ بسوء، فاستدعاه، فمات - لم يضمن؛ لأن الغالب أن الرجل لا يموت منه. ولو أرسل إليها رجلٌ على لسان الإمام، ففزعت، فألقت الجنين، فالضمان على عاقلة المرسل. ولو طلب رجلاً بالسيف، فهرب، فألقى نفسه من سطح أو في بئر، فمات - لا ضمان على الطالبِ؛ لأن المطلوب هو الذي قتل نفسه، وإن سقط فيه - نُظر: إن كانت البئر مكشوفة، والمطلوبُ بصيراً، وكان نهاراً - لا يضمن. وإن كانت البئر مغطاةً، أو كانت مكشوفة، والمطلوبُ أعمى، أو كان ليلاً، فسقط من السطحِ، أو في البئر، أو في ماء؛ فمات - فهو شبه عمدٍ؛ تجب الدية على عاقلة الطالب؛ إلا أن يكون الأعمى عالماً؛ فهو كالبصير. ولو كان المطلوب صبياً، أو مجنوناً، هل يضمن؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن عمده عمدٌ، أم خطأٌ؟ إن قلنا: عمد، لم يضمن، وإن قلنا: خطأ، ضمن. ولو انخسف به السطح - لم يضمن، بصيراً، كان أو أعمى؛ بخلاف ما لو كانت البئرُ مغطاة، فسقط فيها - ضمن بكل حال؛ لأن الطالب ألجأه إلى وطء البئر؛ بخلاف السطح، ولو عرض له في طلبه سبعٍ، فأكله - لم يضمن؛ لأن القاتل غيره؛ إلا أن يُلجئه الطالب إلى موضع السبعٍ؛ فيضمن، ولو حفر بئراً على طريق أعمى، فتردى فيها - وجبت الدية على عاقلته، وقيل: يجب القود، ولا يصح.

فصل إذا قطع مريء رجلٍ وحلقومه، أو قطع حشوته، وأبانها، من جوفه أو جرحه جراحةً لا يبلغ أحدٌ إلى مثلها، فيعيش إلا عيش المذبوح، ثم جاء آخر، وحز رقبته - فالأول قاتل، وعليه القصاص في النفس، أو كمال الدية، ولا شيء على الثاني إلا التعزير؛ كما لو حز رقبة ميتٍ، بخلاف ما لو قتل مريضاً صار إلى أدنى الرمقِ - يجب عليه القودُ؛ لأن المريض قد يبرأ، ومن صار بالجرح إلى حالة المذبوح لا يعيش، وتلك الحالة حالة اليأس التي لا يصح فيها شيءٌ من تصرفاته ولا وصيته، وصار ماله لوارثه. ولو مات له قريبٌ فيها لايرثه، ولا يصح فيها إسلام الكافر، [ولو] جرت فيها كلمةُ الكفر على لسان مسلم لا يحكم بردته، ولو صار مسلمٌ بالجرح إلى هذه الحالة، فأسلم فيها ابنه الكافر - لا يرثه. فأما إذا قطع حشوته، ولم يُبنها من جوفه، أو قطع من المريء والحلقوم [أحدهما] ثم حز آخر رقبته يجب القصاص في النفس على الثاني، وعلى الأول أرش جراحته، أو القصاص في العضو الذي قطعه؛ لأنه لم يصر بجرح الأول إلى حالة المذبوح، وإن كان يتحقق أنه يموتُ منه بعد يوم أو يومين، حتى يصح في تلك الحالة تصرفه، ووصيته وإسلامُ الكافر؛ فإن عمر- رضي الله عنه - أوصى بوصايا في مثل هذه الحالة، فنقضت الصحابة وصاياه من بعده. وكذلك لو أوجره سمًّا مجهزاً؛ فقبل زُهوقِ الروح حز آخر رقبته - فالقاتل هو الأول، وإن لم يكن مجهزاً، فالقاتل هو الثاني، وإن لم يعرف أنه هو صار إلى حالِ المذبوح بجرحِ الأول - سُئلَ أهلٌ العلم، فإن قالوا صار إليها، فالقاتلُ هو الأولُ، وإلا فالثاني. ولو قطع يد إنسان إلى الكوع، ثم جاء آخرُ وقطع ساعده من المرفق - نُظر: إن وقف؛ فعلى الأول القصاص في اليد، أو نصف الدية وعلى الثاني: الحكومة، ولا قصاص إلا أن يكون له ساعدٌ بلا كفٌ فيقطع. وإن سرت الجناية إلى النفس - نظر: إن قطع الثاني بعد اندمال الأول - فعلى الأولِ القصاصُ في اليد، أو نصف الدية، وعلى الثاني القصاص في النفس أو كمال الدية، وإن قطع

الثاني قبل اندمال الأول - فعليهما القود في النفس. وعند أبي حنيفة: يقتلُ الثاني دون الأول؛ لأن القطع الثاني أعدم محل القطع الأول، فانقطعت سرايته؛ كما لو حز الثاني رقبته. قلنا: إن انقطع محلهُ لم ينقطع أثره؛ لأن ألم القطع الأول قد انتشر في أعضائه، وانضم إليه ألمُ القطع الثاني، فتعاونا على إزهاق الروح، فهو كما لو أجاف إنساناً، ثم جاء آخر ووسع تلك الجائفة، فمات - يجب عليهما القود في النفس، وليس كما لو حز رقبته، لأنه يعدم ألم الأول وأثره. فصل في اجتماع الجراحات نم شخصٍ واحدٍ إذا جرح رجلاً جراحاتٍ مثل: إن قطع يديه، [ورجليه]، وجب ذكره، وأنثييه عمداً - نظر: إن وقفت هذه الجراحات - فللمجني عليه أن يقتص عنها. وإن عفا فله أربع دياتٍ، ولو أراد أن يقتص عن بعضها، أو يأخذ ديةَ بعضها - فله ذلك. وإن لم تكن للجراحات أروشٌ مقدرةً، فوقفت ففيها حكومات، وإن سرت الجراحات إلى النفس - فالوليُّ: إن شاء، قطع أطراف الجانين فإن لم يسر، حز رقبته، وإن شاء ترك قطع الأطراف وحز رقبته، ولا شيء له من الدية، وإن عفا فلا يجب له إلا [دية] النفس؛ لأن الأطراف تابعةٌ للنفس؛ إذ لا بقاء لها بعد فوات النفس، فإذا صارت الجراحة نفساً، ووجب بدلها - سقط بدلُ الطرف. ولو قطع أطرافه قصاصاً، ثم عفا عن النفس على الدية - سقط القود عن النفس، ولا دية له؛ لأنه لم يكن له إلا دية واحدة وقد استوفى ما يقابله [كمال الدية؛ حتى لو كان الجاني قطع يديه ورجليه؛ فمات منه، وقطع الولي يدي الجاني، وعفا عن الباقي؛ على الدية - لا دية له؛ لأنه قد استوفى ما يقابله] ديةٌ كاملةٌ. وإن عفا على غير جنس الدية، هل تجب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب؛ ما لا تجب الدية.

والثاني: تجب؛ لأنه عوض آخر يأخذه في مقابلة ما يدع من القصاص. ولو قطع إحدى يديه، وعفا عن الباقي على الدية- لا يجب إلا نصف الدية، لأنه قد استوفى ما يقابله نصف الدية. ولو قطع أطراف رجلٍ، ثم عاد فحز رقبته -نظر: إن حز رقبته بعد اندمال الأطراف - فعليه ديات الأطراف ودية النفس. فلو قطع الأطراف؛ فله أن يعفو عن النفس، ويأخذ ديتها. ولو عفا عن النفس، وأراد أخذ ديات الأطراف - له ذلك؛ لأنها قد استقرت بالاندمال، فلا تدخل في بدل النفس. ولو عاد الجاني، وحز الرقبة قبل اندمال الأطراف- فللولي أن يقطع أطرافه، ويحز رقبته. فلو عفا لاتجب إلا دية النفس، لأنها وجبت قبل أن يستقر بدل الأطراف، فيدخل فيها بدلُ الأطراف؛ كما لو سرت الجراحات إلى النفس، فإن حز الرقبة لا يجب بدل الطرف، ولو قطع الأطراف، وعفا عن النفس على الدية - لا دية له. وقال ابن سُريج: إذا قطع أطرافه، ثم حز رقبته قبل الاندمال - لا يدخل بدل الأطراف في بدل النفس؛ كما لو حز الرقبة بعد اندمال الأطراف، حتى لو قطع الأطراف - له أخذ دية النفس. ولو عفا عن الكل - عليه ديات الأطراف، أو مع دية النفس، والأول المذهبُ؛ حتى لو قطع الولي إحدى يدي الجاني، ثم عفا - فهو موقوفٌ. فإن سرت يد الجاني إلى النفسِ - لا شيء للولي، وإن وقف، فله نصف الدية. هذا إذا اتفق قطعُ الأطرافِ وحر الرقبة في العمدية والخطإ. فإن اختلفا فهل يدخل بدلُ الطرفِ في النفس فيه وجهان: أحدهما: يدخل؛ كما إذا كانا عمدين، أو خطأين. والثاني: لا يدخل؛ لأن التداخل من قضية الاتفاق لا من قضية الاختلاف، ولأن من

يستحق عليه الدية في العمد غير من يستحق عليه الدية في الخطإ. بيانه: إذا قطع يد رجل خطأ، ثم حز رقبته عمداً قبل الاندمال فللولي أن يقتله قصاصاً، وليس له قطع يده، فإذا قتله قصاصاً؛ فإن قلنا: [الحكم للنفس - لا شيء له من الدية]. وإن قلنا: لا يدخلُ بدل الطرف فيه يأخذ نصف الدية لليد من العاقلة، ولو عفا عن النفس: فإن قلنا: الحكم للنفس فلا يجب إلا ديةٌ مغلظةٌ في ماله [للنفس]. وإن قلنا: لا يسقط بدل الطرف - فتجب ديةٌ مغلظةٌ في ماله للنفس، ونصف دية مخففة على العاقلة لليد. وعلى عكسه: لو قطع يده عمداً، ثم حز رقبته قبل الاندمال خطأ - يجوز للولي قطع يده. ثم إن قلنا: الحكمُ للنفس [يأخذ نصف الدية مخففة من عاقلته. وإن قلنا: لا يدخل - فيأخذ منهم مال دية النفس، وإن عفا عن قطع اليد. فإن قلنا: الحكم للنفس]- فلا يجب إلا ديةٌ مخففةٌ على العاقلة للنفس. وإن قلنا: لا يدخل - فتجب دية النفس على العاقلة مخففة، ونصف دية مغلظة في ماله لليد. أما إذا قطع أطراف إنسانٍ، ثم جاء آخر، وحز رقبته، سواء حز بعد اندمال الأطراف، أو قبله - فعلى الأول ديات الأطراف، وعلى الثاني ديةُ النفس؛ لأن فعله يثني على فعل نفسه، لا على فعل غيره. كما لو هتك الحرز، وأخرج المال في دفعات حتى بلغ نصابا ً- قطع، وإن أخرج بعض النصاب غيره - لم يقطع، وهذا بخلاف ما لو جاء الثاني فجرحه قبل الاندمال الأول، ولم يحز رقبته، فمات من الكل - لا تجب إلا ديةٌ واحدةٌ عليهما نصفان؛ لأن جرح الثاني غير موحٍ؛ فالقتل حصلمنهما، وحز الرقبة موحٍ؛ فلا صُنع للآخر في القتل.

فصل في حصول القتل بجنايات مختلفةٍ قد ذكرنا أنه إذا جرح إنساناً جراحةً، أو قطع منه طرفاً، ثم جاء هو أو غيره، فجرحه جراحة موحيةً بأن حز رقبته عمداً - ثبت القصاص في النفس على من حز الرقبة، سواء كانت الجراحةُ الأولى، وقطع الطرف عمداً، أو خطأ. وإن لم تكن واحدةٌ منهما موحيةً - نظر: إن كانت كلُّ واحدة منهام: لو انفردت بزهوق الروح موحية للقود في النفس- فالاجتماع لا يمنع القصاص، سواءٌ كانتا من شخص واحد، أو من شخصين. وإن كانت إحداهما غير مضمونةٍ بالقود: فإن كانتا من شخص واحد- لا يثبت القود في النفس؛ مثل: إن قطع إحدى يدي رجلٍ عمداً، ثم قطع الأخرى خطأ، فمات منهما - لا يثبت القود في النفس، ويثبت في الطرف الذي [قطعه] عمداً، وعلى عاقلته نصف ديةٍ مخففة. وإن عفا عن قطع الطرف - فنصف الدية مغلة في ماله، ونصفها مخففة على عاقلته. ولو قطع مسلمٌ يد ذمي، فأسلم، ثم قطع يده الأخرى، [أو قطع حر يد عبدٍ، فعتق، ثم قطع يده الأخرى]، ومات من رايتهما - لا يجب القود في النفس، ويجب في الطرف الذي قُطع بعد الإسلام والحرية، وإن عفا فتجب دية حر [مسلم] في ماله، وإن اقتص من الطرف - فنصف الدية. ولو قطع ذمي يد ذمي، فأسلم الجارحُ، ثم قطع يده الأخرى، ومات منهما - فلا قود في النفس، ويثبت في الطرف الأول، [وإذا] عفا فدية ذمي في ماله، وكذلك لو قطع - فقيمته. ولو قطع مسلمٌ يد حربي أو [يد] مرتدٍّ، فأسلم، ثم قطع يده الأخرى، ومات منهما، أو قطع يد إنسانٍ قصاصاً، أو سرقه، ثم قطع يده الأخرى ظلماً، أو قطع يد قاصده ثم بعدما ولى قطع يده الأخرى، أو العادل قطع يد الباغي في القتال، ثم بعد التوبة قطع يده الأخرىن أو قطع السيد يد عبده، ثم أعتقه، وقطع يده الأخرى أو حربي قطع يد مسلم، ثم أسلم القاطع،

فقطع يده الأخرى، ومات منهما [جميعاً]- لا يثبت القود في النفس في [هذا الموضع]، وثبت في الطرف الذي قطعه، وعند العفو: تجب نصف الدية مغلظةً في ماله. وإن كانت الجنايتان من شخصين، فمات منهما، وإحداهما غيرُ مضمونةٍ بالقود - نُظر: إن كانت إحداهما عمداً، والأخرى خطأ - فلا قود على واحد منهما في النفس، وعلى العامد القصاص في الطرف الذي قطعه، وعند العفو: تجب نصف الدية مغلظة في مال العامد، ونصفها مخففة على عاقلة الجاني الخاطئ. وكذلك إذا كانت إحدى الجنايتين عمداً، والأخرى شبه عمدٍ؛ لأن النصف الذي يجب على العاقلة مغلظة. وإن كانت الجنايتان عمدين: محضين، وإحداهما لا توجب القود؛ مثل: إن شارك الأب أجنبيًّا في قتل الابن - فلا قود على الأب، بل عليه نصف الدية مغلظةً في ماله، ويجب على الأجنبي القودُ في النفس. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: لا قود على شريك الأب؛ كما لا يجب على شريك الخاطيء. دليلنا: نقول: جرحُ الروح بجنايتين عمدين مضمونتين؛ فامتناع وجوب القصاص على أحد الشريكين - لا يمنع وجوبه على الآخر، كما لو رمى راميان سهمين إلى إنسان، فمات أحدُ الراميين قبل الإصابة، ثم [أصابه] السهم - يجب القصاص على الثاني؛ يؤيده: أنه لو عفا عن أحد القاتلين لا يسقط القود عن الثاني؛ كذلك ههنا. و [قد] قال بعضُ أصحابنا: القصاص ههنا وجب على الأب، ثم سقط بعفو الشرع؛ فلا يسقط عن شريكه، وليس كشري الخاطيء؛ لأن الروح هناك لم تخرج بجناية عمدٍ محضٍ، والخطأ شبهة في فعل الخاطيء؛ بدليل أنه يوصف به الفعل، فيقال: فعلٌ خطأٌ، والفعلان مجتمعان في محلٍّ واحدٍ؛ فصار فعلُ الخاطيء شبهة في حق العامد، وشبهة الأبوة ليست في الفعل، بل في ذات الأب، وذاته متميزة عن ذات الشريك، فلا تورثُ شبهة في حق الأجنبي.

وعلى هذا: لو شارك حرٌّ عبداً في قتل عبدٍ، أو مسلمٌ ذميًّا في قتل ذميٍّ - لا قود على الحر، والمسلم؛ ويجب على العبد والذميِّ. وكذلك لو جرح مسلمٌ ذميًّا، فأسلم المجروحُ، ثم جرحه آخر، أو جرح حر عبداً، فعتق، ثم جرحه آخر حرٌّ، أو عبدٌ، ومات منهما - يجب القودُ على الثاني دون الأول. أما إذا جرح ذمي ذميًّا، فأسلم المجروح، ثم جرحه مسلمٌ. أو جرح عبدٌ عبداً، فعتق المجروحُ، ثم جرحه حر، ومات منهما - يجب القود عليهما؛ لأن كل واحدٍ من الجرحين عمدٌ موجبٌ للقود. ولو شارك بالغٌ صبيًّا في قتل إنسانٍ، أو شارك عاقلٌ مجنوناً - نُظر: إن كان الصبي لا يعقل عقل مثله، والمجنون لم يكن له تمييزٌ، فلا قود على واحدٍ منهما في النفس؛ كما لو شارك عامدٌ مخطئاً، وإن كان الصبيُّ يعقلُ عقلَ مثله، والمجنون له تمييزٌ - فلا قود على الصبي والمجنون، وهل يجب على شريكهما؟ فعلى قولين؛ بناءً على أن عمد الصبي عمدٌ أو خطأ؟ وفيه قولان: إن قلنا: عمده خطأ، فلا قود على شريكه؛ كشري الخاطيء. وإن قلنا: عمده عمدٌ - يجب، وهو الأصح؛ كشريك الأب، فأما إذا كانت إحدى الجنايتين مضمونة دون الأخرى؛ مثل: إن جرح حربي مسلماً، ثم جرحه مسلمٌ، ومات منهما، أو جرح قاصده، [فثاب]، فجرحه آخر، أو قطعت يد إنسان سرقةً، أو قصاصاً، ثم جرحه آخر، ومات منهما، هل يجب القود على الثاني في النفس؟ قولان: أحدهما: يجب؛ لأن الروح خرج بجنايتين عمدين؛ كشريك الأب. والثاني: لا يجب؛ بل عليه نصف الدية؛ بخلاف شريك الأب؛ لأن فعل الأب مضمون بالدية، [وفعل الحربي، وقطع السرقة، والقصاص غير مضمونٍ]. فأثر في حق الشريك، بل هو أخف حالاً من شريك الخاطيء؛ لأن فعل الخاطيء - مضمون [بالدية]، ثم أثر في حق الشريك، وههنا: فعلُ الأول غير مضمون، فأولى أن يؤثر. وكذلك: لو جرح مسلمٌ مرتداً، أو حربيًّا، ثم أسلم المجروح، فجرحه آخر.

أو جرح ذميٌّ حربيًّا، ثم عقد المجروح الذمة، فجرحه ذميٌّ آخر؛ فمات منهما - لا شيء على الأول. وهل يجب القود على الثاني في النفس، أو لا يجب إلا نصف الدية؟ فيه قولان: وكذلك: لو جرح رجلٌ عبده، ثم جرحه عبدٌ آخر في حال رقه، أو بعد عتقه جرحه حرٌ، أو عبدٌ، ومات منهما - لا ضمان على المولى، وهل يجب على الآخر القود في النفس؟ فيه قولان: وكذلك: لو جرح نفسه، وجرحه آخر، أو لدغته عقربٌ أو حيةٌ، أو جرحه سبعٌ، وجرحه آدميٌّ؛ فمات منهما. فهل يجب القود في النفس على من شاركه في قتل نفسه، وعلى شريكه [السبع]- فيه قولان. وقيل: يجب القود على شريك السيد؛ لأن فعل السيد مضمونٌ بالكفارة، إن لم يكن مضموناً بالدية - فهو كشري الأب؛ وكذلك من شاركه في قتل نفسه إذا أوجبنا الكفارة على من قتل نفسه، والأول أصح. وقيل: شريك السبع شريك الخاطيء - لا قود عليه؛ لأن [فعل] السبع لا يوصف بالعمد؛ لأن العامد من له رويةٌ قبل الفعل، وفكرة بعد الفعل، ولا يكون هذا في السباع. فإن أوجبنا القود على شريك السبع، فلا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح، أو لا يقصده، إذا كان جرحه مما يموتُ منه الرجل غالباً، فإن كان جرحه مما لا يموت منه والرجل غالباً - فلا قود على شريكه في النفس. ولو جرحه كلبان وآدميٌّ، أو جرحه سبع وحيةٌ وآدميٌّ؛ فمات، فكم يجب على الآدمي من الدية؟ [فيه] وجهان أحدهما: النصفُ؛ كما لو جرحه سبعٌ واحدٌ جرحين وآدمي. والثاني: وهو الأصح: عليه ثلث الدية؛ كما لو جرحه ثلاثة نفرٍ. ولو رمى رجلانِ سهمين إلى مسلمٍ في صف الكفار، علم أحدهما أنه مسلم، ولم يعلم

الآخر أن في الصف مسلماً، فأصاباه فمات - هل يجبُ القودُ على العالم منهما؟ حكمه حكم شريك السيد؛ لأن فعل الجاهل مضمونٌ بالكفارة، ولو جرحه رجلٌ، فداوى المجروحُ جرحه بالسمِّ؛ بأن وضعه عليه، أو شربه للتداوي؛ فمات - نظر: إن كان السمُ مجهزاً للقتل - فلا قود على الجارح في النفس، بل عليه ضمان الجرح، أو القصاص في الطرف الذي قطعه، كما لو حز المجروح رقبةَ نفسهِ. وإن لم يكن السم مجهزاً - نظر: إن كان مما لا يتقل غالباً - فلا قود على الجارح في النفس؛ كشريك الخاطئ، بل عليه نصف الدية، أو القصاص في الطرف. وإن كان مما يقتلُ غالباً - نظر: إن جهل المجروحُ أنه قاتل - فكذلكك. وإن علمه قاتلاً - نص على أنه لا قود على الجارح في النفس قيل: هو ما لو جرح نفسه، وجرحه غيره، وقيل لا قود عليه قولاً واحداً؛ لان المداوي قصد الإصلاح؛ فشريكه كشري الخاطيء، عليه نصف الدية. ولو خاط المجروح جرحه [فمات] نظر: إن خاط في لحم ميتٍ، فعلى الجارح القودُ في النفس، أو كمال الدية، كذلك: لو داواه بما لا يضر، أكواه بما قال أهل البصر: إنه لا يضر من تكميد بصوفة ونحوه، وإن خاط في لحم حيٍّ - نظر: إن قصد الخياطة في لحم ميتٍ، أو في جلدٍ، فوقع في لحم [حي]، فلا قود على الجارح في النفس؛ كشريك الخاطيء، بل عليه نصفُ الدية، أو القصاص في الطرف الذي قطعه. وإن قصد الخياطة في لحم حيٍّ للمصلحة، فكالتداوي بالسم الذي يقتل غالباً. ولو خاط أجنبيُّ جرح المجروح، أو داواه بسم غير موحٍ - نظر: إن فعل بأمره. فهو كما لو خاط بنفسه، ولا شيء على الخياط، وإن فعله بغير أمره - فهما قاتلان؛ عليهما القودُ في النفس. وإن أخطأ في الجلد إلى اللحم - فهما شريكان في القتل؛ أحدهما عامدٌ، والآخرُ مخطيءٌ.

وإن فعله الإمامُ - نظر؛ إن كان المجروحُ عاقلاً بالغاً - فالإمامُ كالأجنبي. وإن [كان] صبيًّا، أو مجنوناً - فهو كما لو كان سلعةً فقطعها الإمام، وجرحه آخر؛ فمات منهما - ففيه قولان: أحدهما: يجبُ عليهما القودُ. والثاني: لا قود على الإمام بقطع السلعة، بل عليه الديةُ؛ فعلى هذا: لا قود على شريكه؛ لأنه شاركه في فعل عُدَّ خطأ. ولو قطع إصبع إنسانٍ فتآكلت، فقطع المجنيُّ عليه فه، خوفاً من السراية - نظر: إن لم تتآكل إلا رأس الجراحة - فليس على الجاني إلا القصاص في الإصبع، وأرشها إن وقف. فإن سرى إلى النفس [ومات] فعلى الجاني نصف الدية، وهل عليه القصاص في الإصبع، ودية أربع أصابع. وإن سرى إلى النفس؛ فإن كان المجني عليه قطع في لحم ميته، فعلى الجاني القصاص في النفس، أو ديةٌ كاملة. وإن قطع في لحم [حي]- فهو كخياطة الجُرح. ولو جرح عضواً لإنسان، فداواه المجروحُ، فتآكل العضو، فسقط - نظر: إن داواه بما زعم أهل العلم أنه لا يأكل - فعلى الجاني ضمان العضو، وإن داوى بما تأكل - فليس على الجاني إلا أرش الجراحة. فلو قال الجاني: داويته بما يأكل - فالقول قول المجني عليه مع يمينه، لأن الجناية متحققة، والأصل عدم سبب آخر.

قال الشيخ- رحمه الله -: ويحتمل أن يقال: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءةُ ذمته عن سوى أرش الجراحة، ونيره: لو قطع يد إنسان، فمات، فقال الجاني: قتل نفسه؛ فليس عليَّ إلا نصفُ الدية، وقال الولي، بل مات بسراية قطعك -[ففيه] وجهان: أصحهما: القول قول الوليِّ مع يمينه؛ لأن الجناية منه [حقيقة]. والثاني: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فصل في تغير أحوال المجني [عليه] من الجناية والسراية كل جناية لا يكون ابتداؤها مضموناً في حق الآدمي - فلا يجب الضمانُ بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان ابتداؤها مضموناً - فالاعتبار في قدر الضمان بالانتهاء. وإن تغير الحال إلى الهدر فلا يجب إلا ضمان الجراحة، أما في القصاص في النفس، وفي تحمل العقل يعتبر الطرفان والواسطةُ؛ لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهة، ويحمل العقل مؤاخذة غير الجاني للتناصر، فإن لم يكن من أحد الطرفين من أهله - لا يحمل: بيانه: لو جرح مرتداً، أو حربياً، فأسلم، ثم مات بالسراية - فلا قود عليه، ولا دية، ولا كفارة. كما لو جرح حربيٌّ مسلماً، ثم أسلم، أو عقد الذمة، ثم مات المجروحُ بالسراية - لا شيء عليه، وكذلك لو جرح قاصده في الدفع، ثم تاب، فمات، أو جرح قاتل أبيه، ثم عفا، أو قطع يد إنسان سرقةً، أو قصاصاً، فمات بالسراية - لا [شيء عليه، وكذلك: لو جرح عبد نفسه، ثم أعتقه، فمات بالسراية - لا] قود عليه، ولا دية أما إذا جرح عبد غيره، فعتق، ومات بالسراية، أو جرح ذميًّا، فأسلم، ومات بالسراية وجب عليه دية حر مسلم؛ لأن ابتداء الجناية كان مضموناً؛ فيعتبر الانتهاء في قدر الضمان، وهو في الانتهاء حرٌّ مسلمٌ، ولا يجب القود إن كان جارح العبد حرًّا، وجارح الذمي مسلماً، وعند أبي حنيفة - رحمه الله -[عليه] العتق بقطع السراية حتى لو قطع يد عبد، فعتق، ثم سرى - لا يجب إلا دية اليد:

فنقول: الجناية إذا كانت مضمونةً، لم يجز أن تكون سرايتها غير مضمونةٍ بتبدل المستحق، كما لو جنى على ذمي، فأسلم، ثم مات- تجب ديةٌ كاملةٌ، وإن كان مستحق ماله بعد الإسلام غير مستحقة لو مات كافراً، ولو قطع إصبع نصرانيٍّ، فأسلم، ثم سرى إلى الكفِّ، ووقف - فعلى الجاني عُشرُ دية ذميٍّ للإصبع، وأربعةُ أخماسِ دية يد مسلمٍ، وكذلك لو قطع إصبع عبد، فعتق ثم سرى إلى الكف، فعليه عُشرُ قيمته للسيد، وأربعة أخماس دية حُرٍّ للمعتق، ولو قطع ذميٌّ يد ذميٍّ، فاقتص من القاطع، ثم أسلم المجني عليه، ومات بالسراية، أو قطع ذمي يد مسلم، فاقتص، ثم مات المسلم بالسراية فلوليه أن يقتص من الجاني، فلو عفا فعلى الجاني خمسةُ أسداسٍ ديةٍ مسلمٍ، ويسقط سُدسها، وهي دية يد ذمي. فمنه وجه آخر: أنه يجب نصف الدية؛ لأن يد الذمي إذا استوت بيد المسلم - لا يجب شيء آخر، ولو قطع ذمي يدي مسلمٍ، واقتص، ثم مات المسلم بالسراية- فللولي قتله، وإذا عفا على الدية - فعلى الوجه الأول: يأخذ ثلثي الدية؛ لأنه أخذ ما يقابله ثلث دية المسلم، وعلى الوجه الآخر: لا شيء له؛ لأنه إذا رضي أن يأخذ نفس [الذمي بنفس] المسلم - لا يكون له دية، وكذلك: لو قطعت امرأة يد رجل، واقتص، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية، ووقفت يد الجاني - فللولي قطعها، فلو عُفي على الدية، يجب ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه يستوفي يداً بدلها ربُعُ نفس الرجل. وقيل: يجب نصف الدية، لأن يدها تقابل يد الرجل عند القطع. والأول أصح؛ لأن يدها إنما تقابل يده، إذا وقفت الجناية، فأُقيدت بها، فذا صارت الحادثة نفساً فاستيفاء يدها كاستيفاء ربع الدية، ولو قطعت يدي رجلٍ، فاقتص، ثم مات المجني عليه بالسراية، وعفا الوليُّ عن النفس على الدية - يجب نصف الدية على الوجه الأول، وعلى الثاني: لا يجب شيء. وعلى هذا: لو قطع عبدٌ يد حرٍّ، فاقتص، ثم مات المجني عليه بالسراية، ثم عتق العبد، ووقفت يده، وعفا الولي عن القصاص في النفس - ماذا يجب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط من دية الحر بقدر نصف قيمة العبد، وعلى السيد أقل الأمرين من باقي

الدية، أو كمال قيمة العبد؛ لأنه بالعتق صار مختاراً للفداء. والوجه الثاني: تسقط نصف الدية، وعلى السيد أقل الأمرين من نصف دية الحر، أو كمال قيمة [العبد] ولو تغير حال المجني عليه من الضمان إلى الهدر، فمات - لا يجب إلا ضمان الجراحة؛ مثل: إن جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم مات بالسراية، أو جرح ذمياً، فنقض العهد، ثم مات بالسراية - فلا قود في النفس، ولا دية، ولا كفارة، ولأن الكفارة لإتلاف النفس، والنفس غير مضمونةٍ، ويجب ضمان الجرح، ويكون فيئاً. وإن كان قد قطع طرفاً في حال الإسلام، فارتد المجروح، فإن عاش له طلب القود في حال الردة، وإن كان موجباً للمال؛ فإن قلنا: ملكه باق - أخذ الدية، وإن قلنا: ملكه زائلٌ، فلا يأخذ، بل يوقف، فإن عاد إلى الإسلام - أخذ، وإلا أخذه السلطان. وإن مات في الردة، فهل لوارثه أن يقتص عن طرف الجاني؟ نص الشافعي - رضي الله عنه - على أن لوليه أن يقتص. قيل: أراد بالولي السلطان؛ لأن المرتد لا يورث منه؛ كما لو كانت الجناية موجبة للمال، يأخذ السلطان لا الوارث؛ وهذا على قولنا: إن من قُتِلَ، ولا وارث له - يجوز للسلطان أن يستوفي القصاص، وفيه قولان فإن قلنا: هناك: لا يستوفي السلطان [القصاص]- فلا قصاص ههنا. ومن أصحابنا من قال: أراد بالوليِّ القريب، وهو الأصح؛ وعليه الأكثرون؛ فكل من كان وارثاً [له] قبل الردة، فله أن يستوفي، فإن كان القريب صغيراً، أو مجنوناً - توقف حتى يبلغ، أو يفيق؛ فيستوفي، وإنما أثبتنا للقريب أن يقتص من طرفه؛ لأن القصاص لدرك الغيظ، والتشفي؛ فثبت ذلك للقريب الوارث، وإن كان لا يرث المال، فإذا عفا - أخذ الإمام المال كما لو قُتِلَ رجلٌ، وعليه دينٌ- ثبت القصاص للوارث، فإذا عفا - كانت الدية للغرماء، ولو قطع أطراف مُسلمٍ، فارتد، ثم مات بالسراية - فماذا يلزمه؟ فيه وجهان:

أصحهما: يجب الأقل من دية الأطراف، أو دية النفس؛ لأن دية الأطراف: إن كانت أقل فالسراية كانت في الردة؛ فلا تكون مضمونة، وإن كانت دية النفس أقل فهو [كما] لو مات مسلماً لا يجب أكثرُ منها، فإذا مات في الردة أولى ألا يزاد عليها. والوجه الثاني، وإليه ذهب الإصطخري: تجب عليه دياتُ الأطراف؛ فالردة تقطع حكم السراية كالاندمال؛ لأن الطرف إنما يتبع النفس إذا وجب ضمان النفس بتلك الجناية، وههنا: لا يجب ضمان النفس؛ بدليل أنه لو كان أرش الطرف أقل بأنه أوضحه، أو قطع إحدى يديه، وارتد فمات لا يزاد على أرش الطرف؛ وعلى هذا: لو قطع يد نصراني فتمجس، ثم مات بالسراية فإن قلنا: النصراني إذا تمجس يُقرُّ على المجوسية [فعلى الجاني دية مجوسي؛ اعتباراً بحال الاستمرار، وإن قلنا: لا يُقر على المجوسية]، فهو المسلم يرتد؛ فعلى قول الإصطخري عليه دية طرف نصراني، وعلى الوجه الأول: عليه الأقل من دية طرفه، أو دية نفسه. ولو جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم أسلم، ثم مات بالسراية- تجب الديةُ، والكفارة، ونص على أنه لا يجب القود في النفس، وقال فيها لو جرح ذميٌّ ذميًّا، أومستأمناً، فنقض المجروح العهد، ثم عاد إلى العهد، فمات بالسراية، فهل يجب القود في النفس على الجاني؟ فيه قولان، فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين. أحدهما: يجب القود، لأن دمه كان مضموناً بالقصاص من حالتي الجرح، والموت. والثاني: لا يجب؛ لأنه تخلل بينهما حالة الهدر، فيصير شبهة في سقوط القصاص. ومنهم من قال، وهو الأصح: إن طال زمانُ الهدر بحيث حصل فيه شيءٌ من السراية، لا يجب القود، وإن قصر بحيث لم يحصل فيه شيءٌ من السراية - فعلى قولين: فإن قلنا: يجب القود- فعند العفو يجبُ كمالُ الدية. وإن قلنا: لا يجب القود. فإن قصر زمان الردة؛ بحيث لم يوجد منه سراية - يجب

كمالها، وإن طال - ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب كمالها؛ لأن الجرح والموت - في حال الضمان. والثاني: وهو قول ابن سريج: يجب ثلثاها؛ لأن له حالتي ضمان وحالة هدرٍ. والثالث: وهو الأصح: يجب نصفها، ونجعل حالتي الضمان كحالة واحدة. ولو جرح مرتداً، فأسلم، ثم عاد، فجرحه، ومات منهما - يجب عليه نصف الدية، كما لو كان الجارح اثنين جرحه أحدهما في حال الردة، والآخر بعد الإسلام، وتاب فجرحه ثانياً - يجب على الثاني نصفُ الدية، فلو جرح مرتداً، فأسلم فجرحه ثانياً، ثم ارتدَّ، فجرحه ثالثاً، ثم أسلم، ومات بالسراية - كم يجب عليه من الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: ثلثها؛ لأنه مات بثلاثِ جراحاتٍ: اثنتان في حالة الهدر، واحدة في حالة الضمان،- يجب على الجارح في حالة الضمان ثلثها. والثاني: يجب عليه نصف الدية، يجمع بين حالتي الهدر، كما لو كان الجارح اثنين، جرح أحدهما في حالة الهدر جرحين، والآخر من حالة الضمان جرحاً واحداً - يجب على الجارح في حالة الضمان نصفُ الدية، ولو جرح مرتداً، فأسلم، ثم جاء رجلان، وجرحاه، فمات من الكل - يجب على الجارحين في الإسلام ثلثا. الدية، على كل واحدٍ ثلثها؛ لأنه مات بجناية ثلاثة: واحدة منها هدرٌ، ولو عاد الجارح في الردة مع رجل آخر، فرحاه بعد الإسلام، فمات - فعلى الأول ربعُ الدية، وعلى الثاني نصفها؛ لأن الأول حالتين حالة ضمانٍ، وحالة هدرٍ، والدية توزع على عدد رؤوس الجناة، وإن كانت جناية البعض أكثر [من البعض]، ثم ما يخص كل واحد منهم، يوزع على أحواله من الضمان، والهدر، والعمد، والخطإ، [وما يقابل حالة الهدر - لا يجب] فما يقابل حالة الضمان - يجب، وما يقابل العمد يكون مغلظاً في حالة؛ [وما يقابل الخطأ - يكون على العاقلة] حتى لو عاد الجارح في الردة مع رجلين آخرين، وجرحوه بعد الإسلام، فمات من الكل، يجب على كل واحدٍ من الجارحين في الإسلام ثلث الدية، وعلى الأول سدسها، والسدس هدرٌن ولو جرح مرتداً، فأسلم، فجرحه ثانياً، ثم ارتد فجرحه ثالثاً، ثم أسلم، فجاء آخر، وجرحه، ومات من

الكل، فعلى الآخر نصف الدية. وماذا يجب على الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: سدس الدية؛ لأن له حالتي هدرٍ وحالة ضمان. والثاني: ربعها جمعاً بين حالتي الهدر. ولو جرح رجلاً خطأ، ثم جاء مع آخر، وجرحاه عمداً، ومات من الكل - فعلى الثاني نصف الدية مغلظة في ماله [، وعلى الأول نصفها: النصف منه، وهو من الربع حقه مغلة في ماله]. فصل في تبدُّل الحالتين بين الرمي والإصابة إذا رمى سهماً إلى إنسان، فتغير حال المرمي إليه، ثم أصابه - فلا يجب القصاص حتى يكون ممن يجب القصاص بقتله من حالة الرمي إلى الإصابة، فنعتبر في القصاص الطرفين، والواسطة؛ كما في سراية الجراحة، وكذلك في تغير حال الرامي، وكذلك في تحريم الأكل، ووجوب جزاء العبيد يعتبر الطرفان والواسطة؛ حتى لو رمى إلى صيدٍ، وكان الرامي من أحد طرفي الرمي، أو في الواسطة، مرتدًّا، أو مجوسياً - لا يحل الصيد، ولو كان في أحد الطرفين محرماً - يجب الجزاء، أما الضمان: فإن كان المرميُّ إليه مضمونَ الدم من حالتي الرمي والإصابة، فالاعتبار في قدر الضمان بحالة الإصابة مثل إن أرسل على ذمي، فأسلم، ثم أصابه، أو إلى عبد، فعتق، ثم أصابه - يجب عليه دية حر مسلم، ولا قود إذا كان الرامي حراً مسلماً، وكذلك لو تبدل حال الرامي بأن رمى عبدٌ إلى عبدٍ، فعتق الرامي، ثم أصابه، أو رمي ذميٌّ إلى ذميٍّ، فأسلم الرامي، ثم أصابه - لا يجب القود؛ لأنه لم يكن مما يقاد به في حالة الإصابة، وإن كان مضمون الدم حالة الرمي دون حالة الإصابة - فلا ضمان؛ مثل: إن رمى إلى مسلم، فارتد، ثم أصابه، أو إلى ذميٍّ، فنقض العهد، ثم أصابه - فلا شيء على الرامي، وكذلك في تبدل حال الرامي بأن رمي ذميٌّ إلى إنسان، فنقض العهد، ثم أصابه لا شيء عليه، وإن كان مضمون الدم حالة الإصابة دون حالة الرمي، مثل: إن رمي إلى مرتد، أو إلى حربي، فأسلم، ثم أصابه، فقد قيل: لا شيء عليه؛ كمالو جرح مرتداً، أو حربياً، فأسلم، ثم مات بالسراية - لا يجب عليه شيء.

والصحيح من المذهب: أنه تجبُ الدية بخلاف الجرح؛ لأن ثم تحققت الجناية في حالة الهدرن فلم يجب ضمان سرايتها، وههنا: تحققت الجناية بالإصابة، والإصابة كانت في حالة الضمان، وقيل: إذا رمى إلى حربيٌّن فأسلم، ثم أصابه لا يجب الضمان، وفي المرتدِّ يسلم - يجب؛ لأن قتل الحربي مباحٌ لكل أحد، وقتل المرتد إلى الإمام، حتى لو كان الرامي إلى المرتد هو الإمام، فأصابه بعد الإسلام - لا شيء عليه؛ وكذلك لو رمى إلى عبدِ نفسه، فعتق، ثم أصابه، أو إلى قاتل أبيه الذي له عليه القصاص، فعفا ثم أصابه - لا قود عليه، وفي الدية وهان أصحهما: يجب قال الشيخ رحمه الله: وكذلك لو تبدل حال الرامي بأن رمي حربي إلى مسلم، فأسلم الرامي، فأصابه - فلا قود، وتجب الدية؛ على أصح الوجهين. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: الاعتبار بحالة الرمي حتى لو رمى إلى عبد، فعتق، ثم أصابه - تجب القيمة، ولو رمى إلى مسلم، فارتد، ثم أصابه - تجب الدية، ولو رمى إلى مرتد، فأسلم، ثم أصابه، أو إلى عبد نفسه، فأعتقه، ثم أصابه - لا ضمان عليه، فنقول: أجمعنا على أنه لو رمى إلى عبدٍ صحيح، فشلت يده، ثم أصابه - تجب قيمته بحالة الإصابة، وكذلك إذا عتق وجب أن يعتبر حالة الإصابة. فصل في تبدل العاقلة في قتل بين الجناية والسراية إذا تبدل حالُ الرامي بين الرمي والإصابة في الخطأِ، فلا يحملُ الدية إلا من كان من أهل التحمل عنه من وقت الرمي على وقت الإصابة؛ حتى لو رمى إلى صيد، فأصاب إنساناً، وكان الرامي مرتداً في أحد الطرفين، مسلماً من الآخر، أو كان مسلماً من الطرفين، مرتداً في الواسطة - تجب الدية في ماله؛ لأنه لم يكن ممن له عاقلةٌ في بعضها. وكذلك لو رمى ذمي على صيد، فنقض العهد، ثم عاد إلى العهد، ثم أصاب إنساناً، أو رمى حربيٌّ، فأسلم، ثم أصاب إنساناً، وقلنا: تجب الدية - تكون الدية في ماله؛ لأن الحربي لا عاقلة له، وهو كان في بعضها حربياً. ولو رمى ذميٌّ إلى صيد، فأسلم، ثم أصاب إنساناً، فالدية في ماله لا توجب على [عاقلته] الذميين؛ لأنه كان مسلماً حالة الإصابة، ولا على عاقلته المسلمين؛ لأن كان ذميًّا حالة الرمين ولو رمى نصرانيُّ [إلى صيدٍ] ن ثم تهود، أو تمجس، ثم أصاب السهمُ

إنساناً: قال الشيخ رحمه الله: فإن قلنا: يُقر على دينه - تجب الدية على عاقلته من أهل أي دينٍ كان؛ لأن الكفر كله ملةٌ واحدةٌ. وإن قلنا: لا يقر، فيكون في ماله كالمسلم يرتدُّ. ولو رمى عبد إلى صيد، فعتق، ثم أصاب إنساناً - فالدية في ماله لا تجب على السيد؛ لأنه كان حراً حالة الإصابة، ولا على عاقلته؛ لأنه كان عبداً حالة الرمي، حتى لو تزوج عبدٌ معتقةً، فأولدها ولداً، ثم رمى ذلك الولدُ على صيدٍ، فعتق [أبوه]، ثم أصاب السهم إنساناً - تجب الدية في ماله؛ لأن الولاء لا ينجرُّ بعتق الأب من موالي الأم إلى موالي الأب، ولا يمكن إيجابُ الدية على موالي الأب، ولا على موالي الأم؛ لاختلاف حالتي الرمي، والإصابة. وعلى هذا: لو أن عبداً حفر بئر عدوان، ثم عتق، ثم تردى فيها إنسانٌ، ومات - تجبُ الدية في ماله. وكذلك: لو نكح عبدٌ منكحة معتقة، فأتت بولد، ثم ذلك الولد حفر بئر عدوانٍ، أو نصب شبكة، أو أشرع جناحاً، أو ميزاباً في الطريق، فمات به إنسانٌ - تجب الدية على موالي الأم. فلو عتق الأب بعد وجود هذه الأسباب قبل الوقوع، ثم وقع، فالدية تكون في ماله. ولو جرح ذميٌّ إنساناً خطأ، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح من السراية - يجب أرش الجراحة على عاقلته الذميين؛ لأنه قد تحقق ذلك القدر، وهم عاقلته، والباقي يكون في ماله؛ لأنه وجب بسراية حصلت بعد الإسلام، عن جناية كانت في الكفر، ولا يمكن إيجابه على واحدة من العاقلتين إلا أن يزيد أرش الجراحة على دية النفس؛ فلا يجب إلا دية النفس، ويكون الكل على عاقلته الذميين. ولو قطع ذميٌّ يد إنسان خطأ، ثم أسلم، ثم سرى إلى النفس - تجب نصف الدية على عاقلته الذميين، ونصفها من ماله. وفيه وجه آخر أنه إذا رح ذميٌّ إنساناً، أو قطع يده خطأ، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح: أنه تجب جميع الدية على عاقلته الذميين.

والأول أصح؛ لأن الجناية وجدت منه في حال كونه ذميًّا. قال الشيخ رحمه الله: ويمن بناءُ هذا على ما ذكرنا، وهو أنه إذا جرح ذميٌّ ذميًّا، ثم أسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية - هل يجب القصاص في النفس؟ فيه وجهان: إن قلنا: يجب القصاص باعتبار حالة الجُرح، فههنا: يجب جميع الدية على عاقلته الذميين. وإن قلنا: لا يجب القود في النفس - فلا يجب عليهم كمالُ الدية كما ذكرنا؛ وعلى هذا: لو قطع عبدٌ يد إنسانٍ خطأ، فأعتقه المولى، ثم سرى إلى النفس - فالضمانُ كان متعلقاً برقبته؛ فصار المولى بإعتاقه مختاراً بالفداء يفدي بأقل الأمرين من نصف الدية، أو كمالِ قيمة العبد، ونصف الدية في مال الجاني؛ لأنه سرايةٌ بعد العتق بجنايةٍ كانت في الرق. قال الشيخ - رحمه الله - على قياس الوجه الآخر: يفدي السيد بالأقل من كمال قيمة العبد، أو كمال دية المقتول؛ لأن الجناية وُجدت في حال الرق. [والأول المذهب]. ولو قطع ذمي يد إنسانٍ خطأً، فأسلم، ثم قطع يده الأخرى فمات منهما، أو عاش - تجبُ نصفُ الدية على عاقلته الذميين، والنصف على عاقلته المسلمين، وكذلك لو قطع ذمي إصبع إنسان، فسرى إلى الكفِّ، ثم أسلمَ، فقطع يده الأخرى، ومات منهما. أما إذا قطع ذميٌّ إصبع إنسانٍ خطأًن فأسلم القاطع، ثم سرى إلى الكف، ثم قطع بعد الإسلام يده الأخرى، ومات منهما تجب عُشر الدية على عاقلته الذميين، وأربعةُ أعشارها من ماله؛ لأنها وجبت بسرايةٍ بعد الإسلام عن جناية كانت من الكفر، وتجب نصف الدية على عاقلته المسلمين. وكذلك: لو قطع ذميٌّ إصبع إنسانٍ خطأ، ثم أسلم، فقطع إصبعاً أخرى، فمات منهما يجب نصف الدية على عاقلته المسلمين؛ لوجود إحدى الجنايتين في الإسلام، وعشرها على عاقلته الذميين، وأربعةُ أعشارها في ماله. وكذلك: لو قطع عبدٌ يد إنسان، أو قطع إصبعه، فسرى على الكفِّ، ثم عتق، فقطع يده الأخرى، فمات - فنصف الدية تعلق برقبته، ونصفها على عاقلة الجاني. ولو قطع العبد إصبع إنسان خطأً، فعتق، ثم سرى إلى الكف، ثم قطع يده الأخرى، ومات - فعشر الدية تعلق برقبته، صار السيد بإعتاقه مختاراً للفداء، يفدي بالأقل من عشر الدية

أو كمال قيمة العبد، وأربعةُ أعشارِ الدية في مال الجاني، والنصف على عاقلة الجاني. ولو قطع مرتدٌّ يد إنسانٍ خطأ، أو قطع إصبعه، فسرى إلى الكف في الردة، أو بعد الإسلام، ثم بعد ما أسلم، قطع يده الأخرى - تجب نصفُ الدية من ماله؛ لأنه لا عاقلة للمرتد، ونصفها على عاقلته المسلمين. ولو جرح مسلمٌ إنساناً خطأً، فارتد الجارح، ثم أسلم، ثم مات المجروحُ - نظر: إن قصر زمانُ الردة بحيث لم يوجد فيه سرايةٌ - فجميع الدية على عاقلته، [وإن طال بحيث وجد فيه سرايةٌ - فقولان: أحدهما: تجب كلها على عاقلته]؛ لأن الجناية، وخروج الروح كان في الإسلام. والثاني: تجب نصف الدية في ماله، والنصف على عاقلته؛ لوجود بعض السراية في حال الردة. قال الشيخ رحمه الله: ويخرج وجهٌ آخر: أن الثلثين على العاقلة كما ذكرنا في المجروح إذا ارتد، ثم أسلم، فمات - كم تجب من الدية؟ فصلٌ [في دية العبد إذا عتق تكون للمولى بعد موته] إذا قطع يدي عبدٍ، فعتق، ثم مات بعد الاندمال - يجب على الجاني كمالُ قيمته - وإن زادت على ديات - وتكون للمولى؛ سواء كان الاندمال قبل العتق، أو بعده؛ لأن الراحة إذا اندملت، واستقر حكمها. ولو عتق، ولو يندمل الجُرحُ، وسرى إلى النفس - يجب على الجاني كمالُ الدية؛ قلت قيمة العبد أو كثرت؛ اعتباراً بالمال حتى لو كانت قيمة العبد ألفين، فعتق ومات بالسراية - لا تجب إلا دية حرٍّ، ثم ماذا يكو للسيد من تلك الدية؟ نظر: إن كانت الدية قدر قيمة العبد، أو أقل؛ فيكون الكل للسيد؛ لأن هذا القدر قد وجب بالجناية، والجناية كانت على ملكه، وإن كانت الدية أكثر من قيمة العبد فتقدر قيمة العبد تكون للسيد، والباقي للورثة؛ لأن تلك الزيادة بسبب سراية حصلت بعد الحرية، فيكون موروثه، وحق السيد يؤدي من إبل الدية، وليس للوارث أن يأخذ الدية، يدفع حق السيد من غيرها؛ لأن حقه تعين فيها.

وعند المُزني: إذا كانت قيمة العبد أكثر من الدية - يجب على الجاني كمالُ القيمة، ويكونُ للسيد، وهذا لا يصح؛ لأن ضمان الجناية يعتبر بحالةِ الاستقرار، وهو كان حُرًّا حالة الاستقرار، فلا يجبُ إلا بدلُ الحر؛ بدليل أن قيمته لو كانت أقل من الدية، فيجبُ كمال الدية، إذا مات بعد الحرية. ولو قطع إحدى يدي عبد، أو فقأ إحدى عينيه، فعتق، ثم مات بالسراية - يجب على الجاني كمالُ الدية، وفيما للسيد منها قولان: أصحهما: له الأقلُّ: من نصف [قيمة عبد]، أو تمام الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل - فهو لم يُتلف على السيد إلا ذلك القدر، وإن كانت الدية أقل - فلم تجب بالجناية غيرها. والثاني: للسيد الأقل من تمام القيمة، أو تمام الدية؛ لأن السراية حصلت بجناية مضمونةٍ للسيد، فعلى القول الأول: للسيد الأقل من أرش الجناية؛ لو وقفت، أو ما يجب بسرايتها بعد الحرية. وعلى القول الثاني: له الأقل مما يجب بسراية تلك الجناية بعد الحرية، أو ما يناسبها من القيمة، حتى لو قطع إصبع عبدٍ، فعتق ثم سرى - يجب عليه كمالُ الدية. وللسيد؛ على القول الأول، وهو الأصح: الأقل من عشر قيمته، أو كمالِ الدية. وعلى القول الثاني: له الأقل من كمال الدية، أو كمال القيمة. ولو قطع حُر يد عبدٍ، فعتق، ثم قطع يده الأخرى، فمات منهما - له أن يقتص من الطرف الثاني. وإذا عفا يجب كمال الدية، وللسيد منها الأقل من نصف القيمة، أو نصف الدية على القولين جميعاً؛ لأنه لم يجب بجناية الرق وسرايتها- إلا نصف الضمان، والباقي للوارث. فلو اقتص الوارث من الطرف الثاني - فقد استوفى ما يقابله نصفا لدية، وبقي النصف، فإن كان قدر نصف القيمة، أو أقل - أخذه السيد، وإن كان أكثر - فقدر نصف القيمة للسيد، والباقي للوارث. وكذلك: لو قطع يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر، فقطع يده الأخرى، ومات منهما - تجب عليهما الدية، على كل واحد نصفها، وللسيد الأقل من صنف الدية، أو نصف القيمة، ويكون حقه فيما يجب على الأول؛ لأنه الذي جنى على ملكه، ولا حق له فيما يجب على الثاني؛ لأنه لم يجن على ملكه، فلو اقتص الوارث من طرف الثاني بقي على الأول نصف الدية،

فيأخذه للسيد إن كان قدر نصف القيمة، أو أقل، فإن كان أكثر - فالفضل للوارث. ولو قطع إصبع عبدٍ، فعتق، ثم جاء آخر، وقطع يده، ومات منهما - فعليهما الدية، وللسيد في القول الأول الأقل من عشر قيمته، أو نصف ديته. وعلى القول الثاني: له الأقل من نصف قيمته، أو نصف ديته. ولو قطع يد عبدٍ، فعتق، ثم جاء رجلان، فجرحاه، أو قطع أحدهما يده الأخرى، والآخر رجله، ومات من الكل - فتجب عليهم الدية أثلاثاً، وللسيد من الثلث الذي يؤخذ من الأول الأقل من نصف قيمته، أو ثلث ديته. وعلى القول الثاني [له] الأقل من ثلث الدية، أو ثلث القيمة. ولو جاء الجاني الأول مع رجلين آخرين، فقطع كل واحد عضواً، ومات من الكل فعليهم الدية أثلاثاً، وللسيد على القول الأول من نصف قيمته، أو سدس ديته؛ لأنهم ثلاثة توزع الدية على عدد رءوسهم، فيخص الجاني في الرق ثلث الدية، وهو جنى جنايتين إحداهما في حال الرق، فيخص تلك الجناية السدس. وعلى القول الآخر: الأقل من سدس ديته، أو سدس قيمته. ولو قطع يدي عبدٍ، فعتق، ثم جاء رجلان، وجرحاه، فمات من الكل - فعليهم الدية. ثم على القول الأول؛ للسيد الأقل من كمال قيمته، أو ثلث ديته. وعلى الثاني: له الأقل من ثلث الدية، أو ثلث القيمة. وكذلك: لو قطع الأول يديه، ورجليه في الرق؛ لأنه الأطراف إذا صارت نفساً - لا تضمن [بأكثر من القيمة. ولو أوضح رأس عبد، فعتق، ثم جاء تسعة] نفر، فجرحوه، ومات من الكل - فعليهم الدية أعشاراً. وللسيد على القول الأول: الأقل من [نصف] عشر قيمته عبداً، أو عشر ديته حراً. وعلى القول الثاني: له الأقل من عشر ديته، أو عشر قيمته. ولو جاء الجاني الأول مع تسعة نفر بعد الحرية وجرحوه، فمات عليهم الدية أعشاراً،

وللسيد الأقل من نصف عشر قيمته، أو نصف عشر ديته على القولين جميعاً. وإن كان جرح الثاني موجباً؛ مثل: إن قطع يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر، وحز رقبته - فعلى الأول: نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني: القصاص في النفس، أو كمال الدية للوارث؛ لأن حز الرقبة يقطع السارية؛ كما لو جز الرقبة بعد اندمال قطع اليد. ولو قطع حُر يد عبدٍ، فعتق، ثم جاء آخر، فقطع يده الأخرى - ثم قيل: لا يخلو: إما إن قتله الأول، أو الثاني، أو ثالثٌ غيرهما. وإن قتله الأول- فقد استقر جناية الثاني، سواءٌ كانت قد اندملت، أو لم تندمل؛ لأن القتل يقطع السراية، فعليه القصاص في الطرف الذي قطعه، أو ديته. وأما الأول، فإن كان قتله بعد اندمال جرحه - فعليه القصاص في النفس، أو كمالُ دية النفس، ونصف القيمة للسيد؛ بسبب قطع اليد، وإن قتله قبل اندمال جرحه- فالمذهب: أنه يدخل بدل الطرف من بدل النفس، وللولي أن يقتص عن النفس، ويسقط حق السيد، وإن عفا - يجبُ عليه كمال دية النفس، وللسيد الأقل من نصف القيمة، أو نصف الدية. وعلى قول ابن سريج بدل الطرف لا يدخل من بدل النفس؛ فللوارث القصاص في النفس، أو كمال الدية، وللسيد نصف القيمة، كما لو قتله بعد اندمال الطرف، فأما إذا قتله الثاني - فقد استقر جرح الأول؛ سواءٌ كان قبل الاندمال، أو بعده، وعليه نصف القيمة للسيد. وأما الثاني: فهو رجلٌ قطع طرف حر، ثم قتله، وقد سبق الكلام فيه. وإن قتله ثالث غيرهما - فقد استقر حكم القطعين الأولين - فعلى الأول: نصف القيمة للسيد، ولا قصاص عليه، وعلى الثاني: القصاص من الطرف، أو نصف الدية، ويكون للوارث، وعلى القاتل: القود، أو كمال الدية. ولو جنى جانيان في حال الرق، واحدٌ بعد الحرية، ومات من الكل - فعليهم الدية أثلاثاً، وللسيد منها الأقل من أرش جنايتهما، وهو مال ينقص من القيمة، أو ثلثاً الدية على القول الأول. وعلى القول الثاني: له الأقل من ثلثي الدية، أو ثلثي القيمة، حتى لو قطع ثلاثةٌ في حال الرق، كل واحد طرفاً منه، ثم عتق، فقطع آخر الطرف الرابع، ومات - فعليهم الدية أرباعاً. ثم على القول الأول: للسيد الأقل من كمال قيمته، أو ثلاثة أرباع ديته. وعلى القول الثاني: له الأقل من ثلاثة أرباع ديته، أو ثلاثة أرباع قيمته.

ولو جنى خمسةٌ في الرق، وخمسةٌ في الحرية، ومات من الكل - فعليهم الدية أعشاراً، ثم إن كان أرش جنايات الخمسة في حال الرق مثل نصف الدية - فلا يختلف القول عن للسيد الأقل من نصف قيمته، أو نصف ديته. وإن كان أرش جناياتهم أقل من نصف الدية، أو أكثر - فعلى القول الأول: للسيد الأقل من أرش جناياتهم أو نصف الدية. وعلى القول الثاني: له الأقل من نصف الدية، أو نصف القيمة. ولو جرح ذميٌّ ذميًّا، فنقض المجروح العهد، فاسترق، ثم مات بالسراية، فلا يجب القود في النفس؛ لحالة الهدر المتخللة بين طرفي الجراحة والموت، ويجب القصاص في الطرف، ولو أراد الأرش، فماذا يجب على الجاني؟ فيه قولان: أحدهما: أقل الأمرين من أرش جنايته حراً، أو كمال قيمته رقيقاً، ويكون للسيد؛ لأنه بدل روحه، وكان مملوكاً [له]. والثاني: قال الشيخ رحمه الله، وهو الأصح: يجب عليه قيمته عبداً، بالغة ما بلغت؛ لأن الاعتبار في قدر الجناية بالمال، إذا كانت مضمونة. فعلى هذا: إن كانت القيمة والأرش سواء، أو كانت القيمة أقل فالكل للوارث، وإن كانت القيمة أكثر - فيقدر الأرش للوارث، والباقي للسيد. فصل في الإكراه قد ذكرنا حد الإكراه في "كتب الطلاق"، فلو أن رجلاً أكره إنساناً على قتل آخر، فقتله - يجب القود على المكره، وفي المكره قولان أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن -: لا قود عليه؛ لأنه قتله للدفع عن نفسه؛ كما لو صال عليه رجلٌ، فقتله في الدفع فلا قود عليه. والثاني: وهو الأصح، وبه قال زُفرُ: يجب عليه القود؛ لأنه قتله لماً؛ لاستبقاء نفسه؛ كالمضطر إلى الطعام، إذا قتل إنساناً، فأكله -يجب عليه القود؛ والدليلُ عليه أنه يأثم إثم القتل؛ كالمختار، وليس كالصائل؛ لأنه جانٍ بالصيال؛ بدليل أن قاتله لا يأثم إثم القتل، وههنا: لا جناية من المقصود قتله، فيجب القصاص على قاتله.

وقال أبو يوسف: لا قود على المكره، ويجب على المكره. فإن قلنا: يجب القود على المكره؛ فإذا عفا تجب الدية عليهما نصفان [وهو الأصح] فلو أراد الولي أن يقتص من أحدهما، ويأخذ نصف الدية من الآخر له ذلك. وإن قلنا: لا قودَ على المُكره ففي وجوب الدية عليه وجهان: أحدهما: وهو الأصح عندي: لا دية عليه كما لا قود عليه؛ لأنه كالآلة. والثاني: يجبُ عليه نصف الدية؛ لأن الدية لا تسقط بالشبهة، والقصاص يسقط بها، والإكراه شبهة. فإن قلنا: تجب الدية عليه - تجب الكفارة، ويتعلق به حرمان الميراث. وإن قلنا: لا دية عليه - ففي وجوب الكفارة وجهان: أصحهما: وجوبها: فإن أوجبنا الكفارة عليه - تعلق به حرمان الميراث، وإلا فوجهان. ولا فرق بين أن يكون المكرِهُ سلطاناً، أو ولياً، أو متغلباً، يخوفه بعقوبةٍ لا طاقة له بها، ويمكنه تحقيقُ ما توعده به. فإن كان: يخوفه بما لا يمكنه تحقيقه وأمكنه الخلاص منه بالسلطان - فلا يكون تخويفه إكراهاً، ويجب القود على الفاعل دون المخوف؛ كما لو أمره واحد من الرعية بقتل إنسان، فقتل - يجب القود على القاتل دون الآمر. وعند أبي حنيفة: الإكراه لا يكون إلا من السلطان، ولو أكره عبدٌ حراً على قتل عبدٍ، أو أكره ذمي مسلماً على قتل ذمي فقتله - يجب القود على المكره، ولا يجب على المكره. ولو أكره حرٌّ عبداً على قتل عبدٍ، أو أكره مسلمٌ ذمياً على قتل ذمي - لا قود على المكرهِ، وفي المكره قولان: إما الدية؛ إن قلنا: لا شيء على المكره، وكلها من مال المكره. وإن قلنا: تجب الدية على المُكرَهِ - فنصفها في مال المكره، ونصفها في رقبة العبد؛ إن كان المكره عبداً. ولو أكره الأبُ أجنبياً على قتل ولده لا قود على المكره، وفي المكره قولان، وإن كان المكره أباً، والمكره أجنبياً - يجب القود على المكره، ولا يجب على المُكره.

ولو أكره بالغٌ مراهقاً على قتل إنسانٍ - لا قود على المكره. وهل يجب على المكره أم لا؟ إن قلنا: عمد الصبي خطأ - لا يجب؛ كشري الخاطيء، وإن قلنا: عمده عمدٌ - يجب. أما الديةُ: إن قلنا: لا شيء على المكره فجميع الدية في مال المكره مغلظة، وإن قلنا: تجبُ الديةُ على المكره، فنصفها في مال البالغ مغلظة، ونصفها في مال المراهق مغلظةً، إن قلنا: عمدُهُ عمدٌ، وإن قلنا: خطأ - فعلى عاقلته مخففة. قال الشيخ رحمه الله: وعندي إذا جعلنا عمد الصبي خطأ: إنها لا يجب القود على المكره على قولنا: عن المكره البالغ تجب عليه الدية. فإن قلنا: لا دية عليه كما لا قود - فهو كالآلة يجب القود على المكرهِ بكلِّ حالٍ. ولو أكره مراهقٌ بالغاً على القتل - لا قود على المكره، [أما المكره]. فإن قلنا: عمد الصبي خطأٌ - لا قود عليه؛ كشري الخاطيء. وإن قلنا: عمده عمد - فقولان. ولو أكرَهَ رجلاً على إتلاف مال آخر، ففعل - يجب الضمان على المكره وهل يكونُ المكُرَهُ طريقاً في وجوب الضمان عليه فيه وجهان: وكذلك: لو أكره مُحرِماً على قتل صيدٍ، فقتله - يجب الجزاء على المكرِهِ، وهل يكون المكرَهُ طريقاً - فعلى وجهين؛ بخلاف الإكراه على القتل؛ حيث جعلنا الدية عليهما نصفين في طريق؛ لأن ثَمَّ القتل غيرُ مباحٍ للمكرَهِ، وإن خاف هلاكَ نفسه، فجُعل مع المُكرِهِ كالشريكين. وفي إتلاف المال، وقتلِ الصيد: يباح للمكره فعله لدفع القتل عن نفسه، فلم يستقر عليه الضمان. ولو أكرهه على قتل آخر - جاز للمقصود قتله- دفع المكرَهِ والمكرِهِ جميعاً، ولا شيء عليه إذا قتلهما في الدفع؛ وللمكرهِ أيضاً دفعُ المكرهِ، ولا شيء عليه إذا أتى الدفع على نفسه ولو أكرهه على إتلاف مال إنسانٍ - لم يكن لصاحب المال دفعُ المكرَهِ؛ لأنه يباحُ له صيانةُ روحِهِ بمال الغير؛ كالمضطر إلى المجاعة يُباحُ له تناول مال الغير، وكان لصاحب المال، والمكرَهِ جميعاً دفعُ المكرِهِ، ولا شيء عليهما إذا أتى الدفعُ على نفسه. ولو أكره رجلاً على أن يرمي على صيد، فرمى، فأصاب إنساناً، وقتلهُ، إن قلنا: لا دية على المُكرَهِ - فجميعُ الديةِ على عاقلة المُكرِهِ، وإن قلنا: تجبُ الدية على المُكرَهِ - فيجبُ

نصف الدية على عاقلة المكرَهِ، ونصفها على عاقلة المكرِهِ. ولو أكرهه أن يرمي إلى سترٍ، ووراءهُ إنسانٌ يعرفه المكرِهُ دون المُكرَهِ، أو أكرههُ على أن يقطع حزمة وتحتها إنسان يعلمه المكرِهُ دون المكرَهِ - تجب نصفُ الديةِ في مال المُكرِهِ، ونصفها على عاقلة المكرَهِ. قال الشيخ - رحمه الله-: هذا صحيحٌ على قولنا: إن المُكرَهَ مؤاخذٌ بالضمان. فأما إذا قلنا: لا ضمان على المُكرَهِ فيجب له على المكرِهِ. قال الشيخُ: وينبغي أن يقال: ههنا يجب القود على المُكرِهِ، أو كمالُ الدية، ولا شيء على المُكْرَهِِ؛ لأنه جاهلٌ يظنُ أن ذلك الفعل مباحٌ له؛ فكان كالآلة؛ فصار كما لو أمر صبياً لا يعقل، أو عبداً أعجمياً يقتل إنساناً يجب القود على الآمر، ولا شيء على الفاعل، وكالسلطان إذا أمر بقتل إنسانٍ ظلماً، والجلادُ يظن أنه يقتله بحق - لا شيء على الجلاد، والضمانُ على الإمام. ولو أكره زيدٌ عمراً على أن يُكرهَ خالداً على قتل بكرٍ؛ ففعل - يجب القود على زيدٍ، وفي المكرهين قولان. ولو أكرهه؛ فقال: إن قتلت نفسكن وإلا قتلتُك، أو أكرهه على شُرب سُمِّ قاتلٍ، ففعل - هل يجب القودُ على المكرهِ؟ فيه قولان: أحدهما: يجب للإكراه. والثاني: لا؛ لأنه باشر قتل نفسه. فإن لم نوجب القود - فلا دية عليه، وإن أوجبنا القود، فإذا عفا: قال الشيخ - رحمه الله-: عليه كل الدية؛ إن قلنا: لا ضمان على المُكرهِ فإن أوجبنا الضمان على المُكرَهِ - فعليه نصفُ الدية. ولو أكرهه على أن يرقى شجرةً، أو صعوداً، أو ينزل، فزلقت رجلُهُ واندفَّت عنقه - فهو عمدُ خطإٍ؛ يجب الدية على عاقلة المكرِهِ. فإن أمر بغير إكراهٍ فلا ضمنا على أحدٍ. وإن أمره السلطانُ: فإن قلنا: أمره يكون إكراهاً - فالضمان على عاقلته، إن أمره لخاصٍّ نفسهِ.

وإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين - فيكونُ الضمان على عاقلتِه أم في بيت المال؟ فقولان: ولو أكره رجلاً على نقب جدار إنسان، وأخذ المال من حرزه ففعل - لا قطع على واحد منهما؛ لأن المُكرِهَ لم يباشر، والمُكْرَهَ ملجأٌ إليه؛ كما لو أكرهه على قذفِ إنسانٍ، فقذف لا حد على واحدٍ منهما، ثم إن دفع المال إلى المُكْرِهِ، فالضمانُ على المُكْرِهِ، وهل يكون المكره طريقاً؟ فيه وجهان، وإن لم يدفع - فلا ضمان على المكره، أما المكره إذا تمكن من الرد إلى المالك، فلم يفعل - ضمن، وإلا فلا. ولو أمر السلطان، أو خليفته رجلاً بقتل إنسانٍ ظلماً، فقتله؛ سواءٌ أمر جلاده، أو غيره - نظر: إن كان المأمور يظن أنه يقتله بحق لا شيء [على المأمور]؛ لأن طاعة الإمام واجبةٌ عليه فيما لا يعلمه معصية، ويجب القود على الآمر، أو كمالُ الدية، والكفارة. وكذلك إمام أهل البغي، إذا أمر بقتل يظنه حقاً؛ لأن حكمه نافذ؛ بخلاف ما لو أمره بعض الرعية بقتل إنسان ظلماً، أو متغلب بلصوصية لا يخاف من مخالفة آمره، فقتله - يجب القود، أو الدية على المأمور، سواءٌ كان يعلم أنه يقتله بغير حق، أو يظن أنه يقتله بحق؛ لأنه لا تلزمه طاعته، وليس الظاهر من أمره أنه يأمره بحق. فأما إذا كان المأمور عالماً بأن السلطان يقتله ظلماً، فقتله بأمره: فأمر السلطان: هل يكون إكراهاً؟ فيه قولان: أحدهما: لا يكون إكراهاً ما لم يخوفه كأمر غيره؛ فعلى هذا: يجب القود أو الدية على المأمور، ولا شيء على الآمر. والثاني: أمره إكراه؛ لأنه يخاف من مخالفة أمره؛ ما يخاف من المكره؛ فعلى هذا: يجب القود على الآمر، وفي المأمور قولان: أما الزعيم الذي لا يخاف من مخالفة أمره - فلا يكون أمره إكراها. ولو أمر رجل صبياً، أو مجنوناً بقتل إنسان؛ فقتله - نُظر: إن كان الصبي يعقل، والمجنونُ يميز - فلا شيء على الآمر إلا الإثمُ، وتجب الدية على المأمور في ماله مغلظة إن قلنا: عمدُه عمدٌ، وإن قلنا: عمده خطأٌ، فعلى عاقلته مخففة. وإن كان الصبي لا يعقل، والمجنون لا يميز فيجب القود على الآمر، أو كمال الدية؛ سواءٌ كان ولياً للمأمور، أو أجنبياً حتى لو قال لصبي لا يعقل: ضع السكين في بطنك، ففعل

- يجب القود على الآمر، أو كمالُ الدية، ولو أمر صبياً لا يعقل بأن ينزل بئراً، أو يصعد شجرةً، ففعل، فسقط، فهلك - تضمن عاقلته الدية. ولو أمر عبده بقتل إنسان، فقتل - نُظر: إن كان العبدُ عاقلاً لا يرى طاعةَ سيده فرضاً في جميع ما يأمره به - فلا شيء على المولى إلا الإثم، ويجب القود على العبد. وإن كان بالغاً، فإن عُفي عن القود، أو كان مراهقاً - فلا قود، والضمانُ يتعلق برقبة - العبد، دون سائر أموال السيد، وكذلك لو أمره بإتلاف مال إنسان. وإن كان العبد صبياً لا يعقل، أو أعجمياً يرى طاعة سيده فرضاً فيما يأمره به - فهو كالآلة؛ يجب القود [على السيد]، وإذا عُفي - فالضمان يتعلق بجميع أمواله؛ وهذا بخلافِ ما لو أمر عبده الأعجمي بسرقة مال، فسرق -لا قطع على المولى؛ لأن قطع السرقة - يجب بالمباشرة، ولا يب بالتسببن وهذا تسببن والقود قد يجببالتسبب، ولا قطع أيضاً على العبد؛ لأنه كالآلة. ولو أمر عبد غيرهِ بقتلِ، أو إتلاف مالٍ، ففعل - فهكذا إن كان العبدُ عاقلاً لا يرى طاعة [غير] سيده فرضاً فعليه القود، والضمان متعلق برقبته، ولا شيء [على الآمر]. وإن كان صغيراً لا يعقلُ، أو أعجمياً يرى طاعة كل من يأمره به بشيء فرضاً فهو كالآلة، فالقود والضمان على الآمر وهل للضمان تعلق برقبة العبد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه كالآلة كالصبي الحر؛ لا يتعلق الضمان. والثاني: يتعلق برقبته؛ فيباع فيه، ثم السيد يرجع على الآمر بقيمته، وإن لم تفِ قيمته بالأرش - فالفضل على الآمر. ولو أمسك رجلاً حتى قتله آخر - فالقود والضمان على القاتل، ولا شيء على الممسك، سواءٌ أمسكه للقتل، أو لا للقتل، غير أنه إن أمسكه للقتل يأثم، [وإن أمسكه لا للقتل لا يأثم]، فهو كما لو أمسك امرأة حتى زنى بها آخرُ - فالحد على الزاني دون المسك، وإن كان أمس عبداً حتى قتله آخر - فالممسك الغاصب؛ عليه الضمان، والقود على القاتل. وقال مالك - رحمه الله-: إن أمسكه للقتل - فهما شريكان؛ فعليهما القود.

وقال ربيعةً: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت. ولو قدم صبياً إلى هدف، فأصابه سهم، فمات - تجب الدية على من قدمه؛ لأن الرامي كالحافر، ومن قدمه كالملقي فيها؛ فيكونُ الضمان على الملقي لا على الحافر. ولو عرض كفه، فوضعه على الهدف بين يدي سهم فرماه الرامي - هل يضمن؟ [ذكر ابن سريج وجهين]. وإذا قال رجل لآخر: اقتلني، فقتله - لا يجب القود على ظاهر المذهب. وقيل في وجوب القود قولان: أحدهما: لا يجب؛ للإذن من صاحب الحق. والثاني: يجبُ؛ لأن القتل لا يستباح بالإذن؛ كالحرة إذا طاوعت بالزنا يجب الحد. والأول المذهب؛ لأن القصاص حقه، والحد حق الله تعالى؛ فلا يسقط بإذنه. أما الدية - فهل تجب؟ فيه قولان: بناء على أن الدية تجب للمقتول، ثم تنتقل للوارث، أم تجب للوارث ابتداء؟ فيه قولان: إن قلنا: تجبُ للمقتول، وهو الأصح؛ بدليل أنه تنفذ بها ديونه ووصاياه؛ لا تجب. وإن قلنا: تجب للوارث ابتداءً فلا تسقط [إلا] بإذنه. ولو قال لآخر: اقطع يدي، فقطع- نُظر: إن سرى إلى النفس - فهو كما لو قال: اقتلني، فقتله، وإن وقف - فلا يجب القود ولا الدية؛ لأن ذلك حقه، ورضي بإسقاطه. وعند أبي حنيفة - رحمه الله- إذا قال: اقتلني، فقتله - تجب الدية، وإن قال: اقطع يدي، فقطع- فلا دية. ولو قال عبدٌ لآخر: اقتلني، أو اقطع يدي، ففعل - يجب الضمان؛ لأن الحق فيه للمولى؛ فلا يسقط بإسقاطه. فإن كان القاتل، أو القاطع عبداً - هل يجب القود؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كما يجب ضمان المال؛ لأنه حق السيد. والثاني: لا يجب؛ لأنه يسقط بالشبهة، وقول العبد فيه مقبولٌ إذا - أقر به على نفسه. ولو أكرهه؛ فقال: إن قتلتني، وألا قتلتُك، فقتله - لا قود عليه؛ لأن الإكراه أبلغُ من

الإذن، وبمجرد الإذن - يسقط القود، وهل تجب الدية أم لا؟ قال الشيخ - رحمه الله - إذا قلنا: إنه إذا أذن له في قتله، فقتله - لا دية عليه-: ههنا لا تجب. وإن قلنا: ثم تجب الدية - فههنا: على وجهين؛ بناء على أن المُكره هل عليه الدية؟ فيه قولان: إن قلنا: تجب ههنا نصف الدية على القاتل، ولو قال: إن قتلت عبدي، وإلا قتلتك، أو إن قطعت يدي ولا لأقطعن يدك، أو لأقتلنك، ففعل - لا يجب الضمان على المكره؛ لأنه لو أذن له في غير إكراه - لا يجب. ولو قال لآخر: اقذفني، فقذفه، فقد قيل: لا حد عليه؛ لان الحق له، كما لو قطع يده بإذنه - لا قود عليه، والصحيح أنه يجب الحد؛ بخلاف القطع؛ لأنه قد يستعين بالغير في القطع، فإذا قطع يده بإذنه - فكأنه استعان به في قتل نفسه، ولا يستعان بالغير في القذف [فإذا قطع يده فان القذف] فكأن القاذف مبتدئاً. فصل [في إتلاف الطرف عمداً أو خطأ أو شبه عمد] يتصور في إتلاف الطرف العمد المحض، والخطأُ المحض، وبه العمد، كما في إتلاف النفس. فالعمد والخطأ لا يشتبه. أما شبه العمد مثلُ: إن ضرب رأسه بإصبعه، أو بعصا صغيرةٍ لا تشج غالباً، فأوضحه - فهو شبه عمد؛ لا يجب به القود، ويجب أرش موضحة مغلظة على العاقلة. أما إذا فقأ عينه بإصبعه - يجب القود؛ لأن الإصبع في فقء العين - يعمل عمل السلاح في غيرها، فيفقأ عينه قصاصاً. وقد تكون [العصا] الصغيرة عمداً محضاً في الشجاج، وتكون [في النفس] شبهُ

عمدٍ بأن يكون مما يشج غالباً، ولا يقتل غالباً. فصل في القصاص في الخنثى المشكل الخنثى المشكلُ: إذا قطع ذكر رجلٍ وانثينه - يوقف: فإن كان الخنثى ذكراً - يقتص منه، ون بان أنثى - فعليه ديتان، ولا قصاص؛ لأنه لا تقطع الزائدة بالأصلية، وكذلك إذا قطع الخنثى المشكل شُفري امرأةٍ - فلا تقتص حتى تتبين، فإن بان أنثى فتقتص؛ وألا فتؤخذ دية الشفرين، ولو لم يعفُ، وطلب شيئاً من المال - لا يعطى؛ لأنه قد تبين موافقاً للمجني عليه؛ فلا يكون له مال مع القصاص. ولو قطع واضحٌ ذكر خنثى وأنثييه وشفريه - فلا قصاص قبل تبيُّن الحال؛ فإن عفا المجنيُّ عليه على المال يعطى أقل ما يتيقن، وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين. ثم إن بان الخنثى امرأة - فقد أخذت حقها، وإن بان رجلاً - تكمل دية الذكر، والأنثيين؛ وتُرد دية الشفرين إلى الحكومة. ولو لم يعفُ، ووقف؛ حتى يتبين أمر الخنثى، فإن بان الخنثى ذكراً - يُنظر: إن كان الجاني ذكراً - يُقطعُ ذكره وأنثياه قصاصاً ويؤخذ منه حكومةُ الشفرين. وإن كان الجاني أنثى - فلا قود، وعليه ديتان للذكر والأنثيين، وحكومةُ الشفرين. وإن بان الخنثى أنثى نُظر إن كان الجاني أنثى - يُقطع شفرها بشفر الخنثى قصاصاً، ويؤخذ منها حكومتان للذكر والأنثيين. وإن كان الجاني ذكراً - فلا قصاص، وعليه دية شفرين، وحكومتان للذكر، والأنثيين. ولو لم يعفُ، وقال: أعطوني شيئاً حتى يتبين أمرُ الخنثى - هل يُعطى؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله ابن أبي هريرة: لا يُعطى؛ لأن القود باقٍ، ولا يُعطى المالُ مع بقاء القود. والثاني: وهو الأصح: يُعطى أقل ما ستحق مع القود، فإن كان الجاني ذكراً - يعطى حكومة الشفرين، لأنه لا قصاص فيهما، وإن كان أنثى - فحكومة الذكر، والأنثيين، ولا يكون جمعاً بين المال والقود في عضو واحدٍ؛ لأن القود في عضو، والمال في غيره؛ بخلاف المسألة الأولى إذا اكن المجني عليه واضحاً والجاني خنثى لا يعطى شيئاً ما لم يعف؛

لاحتمال أن يكون الخنثى موافقاً للمني عليه؛ فيثبت القصاصُ في جميع ما قطعه. وإن كانا مُشكلين، فقطع أحدهما ذكر الآخر، وأنثييه، وشفريه -فلا قصاص ما لم يتبين حالهما، فن بانا ذكرين، أو أنثيين - يقطع الأصلي بالأصل، والزائد بالزائد، غير أن الزائد إنما يقطع بالزائد إذا استويا في الصغر، والكبر، أو كان من الجاني أصغر. فإن كان [مِنَ] الجاني أكبر - فلا يقتص، بل تؤخذ الحكومة، ويقطع الأصلي بالأصلي. وإن اختلفا في الصغر، والكبر، وإذا عفا فيأخذ الأقل، وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين. ولو لم يعفُ، وقال: أعطوني شيئاً حتى يتبين أمر الخنثى- لا يُعطى؛ لاحتمال أن يتبينا موافقين؛ فيثبت القصاص في جميع ما قطع، والله أعلم. باب الخيار في القصاص قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 178]. "ورُوي عن أبي شُريح [الكعبي]؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم أنتم يا خُزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل، وأنا والله - عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً - فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". إذا قتل من يكافئه عمداً، أو قطع طرفه - فموجب العمد ماذا؟ فيه قولان: أصحهما: القود، وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمداً،

فهو قودٌ". والثاني: [موجبه] القود، أو الدية؛ يختار الولي أيهما شاء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأهله بين خيرتين". وعلى القولين جميعاً: لو مات الجاني، أو سقط طرفه في قطع الطرف: تؤخذ الدية من ماله، وعلى القولين جميعاً: لو عُفي عن القود مجاناً لا تجب الدية، ولو عُفي على الدية - تثبت الدية، أما إذا عُفي مطلقاً. فإن قلنا: موجبه أحد الأمرين - تتعين الدية. وإن قلنا: موجبه القود: فمطلق العفو - هل يجب الدية؟ اختلفوا فيه: منهم من قال- وهو المذهب-: لا يوجب الدية. وقال أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني - يوجب الدية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 178] أمر بعد العفو بالاتباع بالمعروف؛ دل أن المال ثابتٌ بالعفو. والثاني: وهو الأصح-: لا يُوجب؛ لان القتل لم يوجبه، والعفو للإسقاط؛ فلا يجب به المال، والآية محمولةٌ على ما لو عفا على المال وكذلك قوله في الحديث: "فأهله بين خيرتين" محمول على ما إذا اختار المال بالعفو عليه. وعند أبي حنيفة: لا تثبت الدية، وإن عفا عليها إلا برضا الجاني، حتى لو مات القاتل، أو كان القصاص في الطرف، فقطع طرفه ظلماً - لا دية للمجني عليه، والآية حجة عليه؛ حيث أثبت الاتباع بعد العفو، ولم يشترط رضا الجاني، والحديث حجة [عليه]؛ من حيث إنه عليه السلام - جعل الخيار إلى الولي في اختيار الدية، أو القود؛ إذا ثبت أنه إذا عفا عن أحدهما تعين الآخر على قولنا: إن موجبه أحد الأمرين: فلو اختار أحدهما - نظر: إن اختار الدية - سقط القصاص، وثبت المال، ولا رجوع له إلى القصاص. وإن قال: اخترت القصاص - فهل له أن يرجع إلى الدية؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه تركها باختيار القصاص، كما لواختار الدية يسقط القصاص.

والثاني: له ذلك؛ لأن القصاص أغلظ؛ فله الرجوع إلى الأدنى "التفريع على القولين": إن قلنا: موجب العمد هو القود، فلو عفا عن الدية قبل أن يعفو عن القصاص لا يصح؛ لأنه عفوٌ قبل الوجوب حتى لو عفا بعده عن القود على الدية، تجب الدية، ولو عفا عن القود على غير جنس الدية، أو صالح على ثوب، أو دارٍ معينة، أو على مال في ذمته، وقتله الجاني -جاز، ووجب؛ سواء كان المال والمصالح عيه أقل من الدية، أو أكثر، وسقط القود، وإن لم يقتل الجاني - لا يثبت المالُ وهل يسقطُ [القود] فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأنه رضي بسقوطه؛ حيث أقدم على العفو والصلح. والثاني: وهو الأصح-: لا يسقط؛ لأنه جعله بمقابلة مال، فإذا لم يثبت المالُ - لا يسقط القود. قال الشيخ - رحمه الله-: فإن قلنا: يسقط القود - فهل تثبت الدية؟ فهو كما لو عفا مطلقاً؛ لأن سقوط القود - ههنا - لرضاه بسقوطه بقوله: "عفوت"، لا لاعتبار المال؛ فإن من اعتبر المال لا يحكم بسقوطه؛ هو الوجه الآخر، ولو عفا عن القود على جنس الدية على أكثر منها: فإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال - جاز، وثبت ما سماه إذا قبله الجاني. وإن قلنا: مطلقه يوجب المال - ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لو صالح عن ألفٍ على ألفين - لا يجوز. والثاني: وهو الأصح-: جاز ولزم إذا قبله الجاني؛ لأن المال غير ثابتٍ بأصل القتل، إنما يثبت باختياره. وإن قلنا: لا يصح - ففي سقوط القود وجهان. وإن قلنا: موجب العمدِ أحد الأمرين، فعفا عن الدية قبل أن يعفو عن القود [جاز، وسقطت الدية وتعين القود، فلو عفا بعده عن القود] مطلقاً - لا يجب المال، وإن عفا على مال: قال الشيخ - رضي الله عنه - إن عفا على الدية - لا يجوز؛ لأنه أسقطها. وإن عفا على مالٍ آخر؛ سواءٌ كان من جنس الدية، أو من غير جنسها، أقل منها، أو أكثر، فقبل الجاني - ففيه وجهان:

أحدهما: لا يثبت المال؛ لأنه عفا عن المال مرةً. والثاني: يثبت؛ لأنه عفا عما أثبته الشرع، وهذا مالٌ آخر بصالح عن القود عليه، فيجوزُ، وإن عفا، أو صالح عن القود على شيء قبل أن يعفو عن الدية - نظر: إن عفا على غير جنس الدية - جاز سواء كانت قيمته أقل من قدر الدية، أو أكثر، وإن عفا على جنس الدية على أكثر لا يجوز، كما لو صالح عن ألفٍ على ألفين. فصل رُوي عن الضحاك بن سفيان قال: كتب إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها". الدية يرثها المجني عليه جميع ورثته، وكذلك القود. وقال ابن أبي ليلى: لا يرثها [إلا] الزوج والزوجة. وعندما مالك: لا يرث القود إلا رجال العصبة من أهل النسب. وإذا قُتل رجلٌ، ولا وارث له - هل للسلطان أن يقتص؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كالوارث. والثاني: لا، بل يأخذ الدية؛ لأنه حقٌ لعامة المسلمين، وفيهم صغار، فينظرهم في المال، ولا يجوز أن يعفو على غير مال؛ لأنه لا نظر للمسلمين فيه. وإن كان له من يرث بعض القصاص؛ كالبنت، والأخت - يستوفيه مع السلطان؛ على قولنا: إن السلطان يستوفي إن لم يكن له وارثٌ، وألا فلا يستوفي، بل تؤخذ الدية. وإذا قُتل رجلٌ، وله وارثان، أحدهما صبي أو مجنون - لا يجوز للعاقل البالغ استيفاءُ

القصاص، بل يحبس القاتل حتى يبلغ الصبي، أو يفيق المجنون. وقال أبو حنيفة: يثبت للبالغ العاقل الاستيفاء. فتقول: الحق ثابتٌ للصبي - فلا يجوز التفويت عليه؛ كما لو ثبت لحاضر وغائب- لا يجوز للحاضر الاستيفاء دون الغاب. وإذا ثبت القصاص لصبي، أو مجنون - لا يجوز لوليه الاستيفاء، طرفاً كان أو نعساً، بل يحبس القاتل حتى بلغ الصبي، أو يفيق المجنون فيعفو، أو يقتُل. ولو أعطى القاتلُ كفيلاً ليخلي سبيله - لا يجوز تخليته؛ لأنه ربما يهرب، فيضيع حق المولى عليه؛ فإن مات الصبي، أو المجنون - قام وارثه مقامه. وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: يجوز للأب والجد استيفاؤه، طرفاً كان أو نفساً، ولا يجوز للقيم، ويجوز للوصي استيفاء الطرف دون النفس. فنقول: من لا يملك العفو عن قصاص - يثبت للصغير لا يملك استيفاؤه كالقيم. وهل يجوز للقيم أن يعفو على المال؟ نظر: إن كان للصبي مالٌ، أو له من ينفق عليه - لم يكن له أن يعفو؛ لأنه يفوت القصاص عليه من غير حاجة، وإن لم يكن له مالٌ، ولا من ينفق عليه - فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لحاجته إلى المال. والثاني: وهو المنصوص -: لا يجوز؛ لأن نفقته في بيت المال؛ فلا حاجة به إلى العفو عن القصاص، ولو وثب الصبي، أو المجنون على قاتل مورثه، فقتله، أو على من قطع يده، فقطعهما - ففيه وجهان: أحدهما: صار مستوفياً لحقه كما لو كانت له وديعةٌ عند رجلٍ فتلفها. والثاني: وهو الأصح-: لا يصير مستوفياًح لأنه ليس من أهل استيفاء الحقوق؛ بخلاف الوديعة، فإنها لو تلفت من غير فعل أحدٍ - يبرأ منها المودع، وههنا: لو مات الجاني - لا يبرأ. فإن قلنا: لا يصيرُ مستوفياً - فتجب الدية على الصبي والمجنون. ولو كان القصاص على مجنونٍ، فاستوفاه المستحق العاقل - وقع موقعه؛ كما لو باع سلعةً من رجل، ثم جن المشتري، فقبض البائع منه - يصح، وإن قبض من مجنون. أما إذا قال الجاني للمجني عليه المجنون: اقطع يدي قصاصاً، فقطع لا يصح؛ كما لو

سلطه على إتلاف ماله، وحقه من الدية باقٍ؛ لفوات محل القصاص، وإذا ثبت القصاص لجماعة من الورثة فعفا واحد منهم - يسقط القود. وقال بعض أهل المدينة: لا يسقط القود بعفو بعضهم؛ والدليل عليه: ما رُوي عن زيد بن وهبٍ؛ أن عمر - رضي الله عنه - أتى برجلٍ، قتل رجلاً، فجاء ورثة المقتول؛ ليقتلوه، فقالت أخت المقتول - وهي امرأة القاتل-: قد عفوت عن حقي، فقال عمر - رضي الله عنه -: عتق من القتل، ولأن القصاص لا يتجزأ؛ فعلينا جانبُ السقوط تغليباً لحقن الدم، وللباقين حصتهم في الدية. فأما العافي إن عفا مجاناً - لا دية له، وإن عفا على المال - تثبت، وإن عفا مطلقاً، إن قلنا: مطلق العفو يوجب الدية - تجب له الدية وإلا فلا. وإن كان العافي سفيهاً، أو مفلساً قد حُجر عليه - فعفوهما عن القصاص صحيحٌ، ولا يصح عن المال، وإن عفا مطلقاً - فكغير السفيه؛ إن قلنا: مطلق العفو يوجب المال - يجب المالُ، وإلا فلا. وإن عفا مجاناً: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين - تجب الدية؛ لأن عفوهما عن المال لايصح. وإن قلنا: موجبه القود. إن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال - لا تجب الدية. وإن قلنا يوجب المال - ففيه وجهان. أحدهما: تجب الدية؛ لأن عفوهما عن المال لا يصح. والثاني: وهو الأصح-: لا تجبُ؛ لأن القتل لم يوجب المال؛ إنما ثبت باختياره، واختياره بمنزلة اكتساب المال، ولا يلزمه الاكتساب، فكل موضعٍ قلنا: لا يسقط الدية بعفو السفيه: فإن كان العافي مريضاً، فيعتبر عفوه من الثلث، وإن كان المعفو عنه وارثاً، فلا يصح كالوصية للوارث، وإن كان مكاتباً - فعفوه كتبرعه لا ينفذ بغير إذن المولى، وبإذنه؟ فيه قولان، أما عفوهم عن القصاص - صحيحٌ؛ سواء كان المعفو عنه وارثاً، أو أجنبياً، والله أعلم.

باب القصاص بالسيف قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] من ثبت له القصاص على آخر - لم يكن له أن يستوفي دون إذن الإمام، فإن فعل - عُزر، ولا شيء عليه؛ لأنه استوفى حقه طرفاً كان أو نفساً. فإذا رفع إلى الإمام - نظر: إن: كان القصاص نفساً؛ فإن رآه أهلا للاستيفاء - خلي بينه، وبين القاتل، ويستحب أن يأمر عدلين يحضرانه، حتى لا ينكره بعد الاستيفاء، وينظر إلى سيفه حتى يكون صارماً ولا يكون كالاً يزداد به تعذيبه. "رُوي عن شداد بن أوس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتهم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". وهل يمنعه من القتل بالسيف المسموم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ليس فيه زيادة عقوبة. والثاني: وهو الأصح-: يمنعه؛ لأنه يفسد بدنه، وربما لا يمكن غسله، فإن استوفى بمسمومٍ، أو كال عُزر، ولا شيء عليه؛ لأنه استوفى حقه، وإن لم يره الإمام أهلاً للاستيفاء

- أمره بتفويضه إلى غيره، وإن كان القصاص طرفاً لا يفوضه الإمام إلى المجني عليهن بل يأمر جلاده باستيفائه؛ لأنه أهدى إليه كحد القذف لا يفوضه إلى المقذوف، وكذلك التعزير؛ لأنه لا يؤمن أن يفعل به ما يؤدي إلى الهلاك لقلة هدايته، ولا يؤمن أن يحيف فيه؛ للتشقي؛ بخلاف النفس؛ لأن إفادة الجملة تقع مستحقة. وقيل: يجوز تفويض قطع الطرف إلى المجني عليه؛ كما يجوز تفويض القتل إلى الولي، ويمنعه من القطع بالمسموم، فإن قطع بمسموم، ومات - فلا قود، وتجب نصف الدية؛ لأنه مات بفعل مستحق، وغير مستحق، وهل تحمله العاقلة؟ فيه وجهان: أحدهما: تحمله، لأنه ليس بعمد محضٍ. والثاني: لا تحمله؛ لأنه قصد قتلاً بغير حق، ويضبط؛ حتى لا يضطرب، فإن اضطرب، فزاد على الواجب - لا شيء على المقتص، وإذا فوض القتل إلى الولي، فضرب على غير عنقه، وادعى أنه أخطأ - نظر: إن ضرب على موضع لا يقع الخطأ بمثله: من رجل، أو وسط- عُزر، ولا يمنع من القتل. وإن ضرب على موضع يقع الخطأُ بمثله: من رأس، أو كتفٍ - حلف أنه أخطأ، ولم يعزر، ويؤمر بالتفويض إلى غيره؛ لأنه ظهر به قلة هدايته، ولا يؤمن وقوع مثله في الضربة الثانية، ولو استوفى المقذوف حد القذف بنفسه، سواءٌ أذن له القاذف أو لم يأذن - هل يُحسب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ كقطع القصاص. والثاني: لا يحسب؛ لأنه ليس على موضع معلومٍ. فإن قلنا: يحسب عزر؛ لافتياته على الإمام. وإن قلنا: لايحسب - تُرك حتى يبرأ، ثم يعاد عليه الحد، فلو مات المحدود فيه.

فإن قلنا: يُحسب - فلا ضمان على المقذوف، وإن قلنا: لا يحسب - يجب القود على المقذوف، إن جلده بغير إذنه، وإن جلده بإذنه - فلا قود، وفي الدية قولان؛ كما لو قتله بإذنه. فصل يجوز التوكيل بإثبات القصاص، وحد القذف، وهل يجوز [التوكيل] باستيفاءها [حد] واحدٍ منهما؟ - نُظر: إن كان بحضرة الموكل يستوفي - يجوز. وإن كان بغيبته - فيه قولان: أصحهما: يجوز؛ كالإمام ينيب من يستوفيه، وكالتوكيل في استيفاء الدية؛ يجوز. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ربما يعفو في الغيبة، فيستوفيه الوكيل بعد عفوه، ولا يشعره، ولا يمكن تداركه؛ بخلاف المال يجوز التوكيل في استيفائه، وإن كان يسقط بالإبراء؛ لأنه إذا اخذ بعد الإبراء - يمكن تداركه باسترداده، أو استرداد عوضه. ومن أصحابنا من قال: يجوز قولاً واحداً؛ كما لو ثبت عليه القصاص بالشهود - جاز الاستيفاء بغيبة الشهود، وإن احتمل رجوعهم. وحيث قال الشافعي: - رضي الله عنه- "لا يستوفي إلا بحضرته" استحباباً، ثم سواء قلنا: يجوز، أو لا يجوز: فإذا استوفى الوكيل - كان مستوفياً حقه؛ لأنه استوفاه بإذنه؛ من وكل ببيع سلعة وكالةً فاسدةً، فباع الوكيلُ - يصح البيع، وإن جوزنا فتنحي به الوكيل، فعفا الموكلن وقتله الوكيل- نظر: إن كان عالماً بعفوه - عليه القود، وإن كان جاهلاً - فلا قود عليه، وهل تجب الدية؟ فيه قولان: أحدهما: لا تجب؛ لأن القتل كان مباحاُ له في الظاهر. والثاني: وهو الأصح، اختيار المزني - يجب؛ لأنه ظهر أنه قتله وهو محرم القتل. فإن قلنا: تجب الدية، فهي مغلظة، وهل هي في ماله، أو على عاقلته؟ فيه وجهان: أصحهما: قاله أبو إسحاق: في ماله؛ لأنه عمد القتل الحرام. والثاني: قاله ابن أبي هريرة -: على العاقلة؛ لأنه خطأ في الحقيقة، فلو أوجبنا الدية

- تجب الكفارة، وإلا فوجهان. وكذلك: لو عزله الموكل، فقتله الوكيلُ بعد العزل، ولم يعلم: فإن أوجبنا الدية على الوكيل- فهي لورثة المقتول، ثم الموكل: إن كان عفا مجاناً، أو عفا مطلقاً، وقلنا: مطلق العفو لايوجب [المال - لا شيء له، وإن عفا على المال، أو مطلقاً، وقلنا: مطلقه يوجب المال]- فتثبت له الدية في تركة من قتله الوكيل؛ لأن القتل لم يقع قصاصاً، وإذا غرم الوكيلُ، أو عاقلته الدية - لا رجوع لهم على الموكل؛ لأن العفو لم يكن غروراً من جهته، بل - هو مُحسنٌ فيه، وإن لم توجب الدية على الوكيل - فلا دية للموكل؛ لأن القتل وقع قصاصاً، ولم يصح عفوه؛ لأنه عفا في وقت لا يقدر الوكيل على التلافي، كما لو عفا بعد رمي السهم على الجاني - لا يصح عفوه، فإن قلنا: تجب الدية، فادعى الموكل العفو، وأنكر الوكيل - فالقول قول الوكيل مع يمينه، فإن صدقه في العفو، وادعى أنه لم يعلم - للوارث تحليفه، [فإن لكل - حلف الوارث]، وعلى الوكيل القود. فصل رُوي عن عبد الله بن بريدة [عن أبيه] قال: جاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله، غني قد زنيت، فطهرني، والله إني لحُبلى، قال: فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت، أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي، فارضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته، أتته بالصبي، في يده كسرةُ خبزٍ، فقالت: هذا - يا نبي الله - قد فطمته، فدفع الصبي إلى رجلٍ من المسلمين، وأمر الناس؛ فرجموها". المرأة الحاملُ: إذا وجبت عليها عقوبةٌ - فلا تقام عليها ما لم تضع، سواءٌ كانت العقوبة، نفساً أو طرفاً، أو جلداً، حقاً لله، أو للعباد؛ لما فيه من إهلاك البريء، وهو الجنينُ؛ بسبب المجرم، وسواءٌ حصل الولد بعد وجوب العقوبة، أو قبله: من زنا، أو من حلالٍ، حتى أن المرتدة إذا حبلت بالزنا بعد الردة لا تقتل ما لم تضع، وبعد الوضع - لا تُقام عليها العقوبة حتى تُرضع الولد اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش بدونه، وبعده: إن لم يكن ثم مرضعةٌ - لا يقام حتى ترضع الولد حولين، وتفطمه، وإن كانت ثم مرضعةٌ - نظر: إن كانت العقوبة حق الله تعالى؛ كقتل الردة، والزنا، فلا يقام حتى تفطم الولد؛

[وتكفله] بدليل قصة الغامدية. وإن كانت من حقوق العباد - يجوز إقامتها بعد إرضاع اللبإ، ثم إن لم ترغب المرضعة في إرضاعه - أجبرها الحاكم عليه، وأعطاها الأجرة. وقولُ الشافعي - رضي الله عنه - فإن لم يكن لولدها مرضعٌ - فأحب لو تركت بطيب نفس الولي، فإن لم يفعل- قُتلت. أراد إذ لم يكن [له موضعٌ راتبةٌ بأن] يوجد في البلد مراضعُ غير رواتب، أو بهيمةٌ ترضع بلبنها. ويستحب ألا يقتل، حتى يوجد؛ لأن اختلاف الألبان، والتربية بلبن البهيمة يُفسد طبعهن فإن لم يصبر الولي - قتلت؛ لأن الولد يعيش بالألبان المختلفة، وبلبن البهيمة. ولو ادعت المرأة أنها حاملٌ - فقد قال الشافعي - رضي الله عنه- تحبس حتى يتبين أمرها قال الإصطخري: لا يؤخر القتل، ولا تحبس لمجرد قولها؛ حتى يشهد أربع نسوة على الحمل، والأكثرون من أصحابنا على أن يؤخر القتل؛ بمجرد قولها، وتحبس؛ لأن الحمل، وما يدل عليه من انقطاع الحيض، وغيره، يتعذر إقامة البينة عليه، فقُبِلَ فيه قولها، فلو أقام العقوبة على الحامل: فإن ماتت الأم - لا يجب ضمانها؛ لأنها ماتت في حد عقوبة وجبت عليها، أما الجنين إن لم تلقه - لا يجب به شيء، وإن ألقت الجنين - يجب ضمان الجنين إن خرج ميتاً، فالغُرة - ون خرج حياً، فمات من ألمه - فالدية، وعلى من تجب- نظر: إن كان الولي القاتل، والإمام جميعاً عالمين بأنها حامل، أو كانا جاهلين بالحال، أو كان الإمام عالماً والولي جاهلاً - فالضمان على الإمام، ثم يجب على عاقلته، أم في بيت المال؟ - نظر: إن كان الإمام عالماً فعلى عاقلته، والكفارة في ماله؛ لأن العمد المحض، وشبه العمد من الإمام - كهو من غيره، والعمد المحض في إتلاف الجنين - لا يُتصور، وإن كان الإمام جاهلاً بالحالِ - ففيه قولان:

أصحهما: يجب على عاقلته كخطأ غيره يكون على عاقلته، والكفارة في ماله، وكما لو رمى إلى صيد، فأخطأ، وأصاب إنسان - تجب الدية على عاقلته. والثاني: تجب في بيت المال؛ لأن خطأ الإمام يكثر في الحكم، فلو أوجبناه على العاقلة أدى إلى الإجحاف بهم؛ فعلى هذا: تجب الكفارة في ماله أم في بيت المال؟ - فيه وجهان: أحدهما: في بيت المال؛ الضمان. [والثاني]: في ماله؛ لأن الكفارة لا يجري فيها التحمل؛ بدليل أن العاقلة لا تحملها. وإن كان الإمام جاهلاً، والولي عالماً - فالضمانُ على عاقلة الوليِّ، والكفارة في ماله، ولا شيء على الإمام. وعند المُزني - وبه قال بعض أصحابنا، وهو الأقيس -: إذا كانا عالمين، أو جاهلين - فالضمان على الولي؛ لأنه المباشر، كما لو حم له الحاكم بألف، فأخذ ألفين - كان الضمان على الآخذ. قلنا: لأن - ثم - لم يسلطه الإمام على أخذ الزيادة، وههنا: سلطه على الأخذ. ومن أصحابنا من قال فيما إذا كانا عالمين، أو جاهلين، إن كان القاتل جلاد الإمام، فالضمان على الإمام، وإن كان القاتل هو الولي - فالضمان على عاقلته، أم الإثم - فعلى العالم منهما دون الجاهل، وقد ذكرنا أن ضمان الأم لا يجب إذا ماتت، وإنما لا يجب إذا ماتت من ألم الضرب، فن ماتت من ألم الولادة تجب ديتها، وإن ماتت منهما - يجب نصف ديتها، ويكون على عاقلة الإمام أم في بيت المال؟ فيه قولان: والجاني إذا التجأ إلى الحرم تستوفي العقوبة منه في الحرم، نفساً كان أو طرفاً. وعند أبي حنيفة: إن كانت العقوبة نفساً - لاتستوفي في الحرم، بل لا يكلم، ولا يُطعم حتى يضجر، فيخرج؛ حينئذٍ: تستوفي، إلا أن يُقتل في الحرم، فيقتص منه، ووافقنا في الطرف أنه يستوفي فيه في الحرم، سواءٌ كانت الجناية في الحرمِ؛ فالتجأ غليه، فقيس عليه. فصل إذا قتل رجلاً، وارتد القاتلُ - يُقتل قصاصاً، أو يسقط قتل الردة، سواءٌ تقدمت الردة على القتل، او تأخرت؛ لأن القتل قصاصاً حق للآدمي، ومبناه على التشديد، وقتل الردة حق

الله تعالى، [ومبنى حقوق] الله تعالى على المساهلة، وكذلك: لو اجتمع في يمينه قطع القصاص، وقطع السرقة يقطع يمينه قصاصاً. ويسقط قطع السرقة، سواءٌ تقدمت السرقة أوتأخرت، حتى لو قطع إصبع إنسان من يمينه، ثم سرق - تقطع إصبعه قصاصاً، ثم تقطع كفه عن السرقة. ولو قطع يد رجلٍ، وقتل آخر - تقطع يده [أولاً]، ثم يقتل؛ سواء تقدم القتل أو القطع؛ لأن الجمع بين استيفاء الحقين ممكن وكذلك: لو اجتمع عليه قطع السرقة، وقتل القصاص تقطع يده للسرقة، ثم يقتل؛ سواءٌ تقدمت السرقة أو تأخرت، ولو قطع يمين رجلٍ، وقطع إصبعاً من يمين آخر - تقدم الأسبق، فإن قطع اليمين أولاً، تقطع يمينه، وللآخر دية الإصبع وإن قطع الإصبع أولاً - يقطع إصبعه، ثم للمقطوع يده - أن يقطع يده الناقصة، ويأخذ دية الإصبع؛ بخلاف ما لو قطع يد إنسان، وقتل آخر، يقدم القطع، ثم يقتل، ولا يجب؛ لنقصان اليد، وكذلك قلنا: تُقتل النفسُ الكاملة الأطراف شيء؛ لأن بدل النفس لا ينتقص بنقصان اليد، وبدل الطرف ينتقص بنقصان الإصبع، بالناقصة، [ولا تقطع اليد الكاملة باليد الناقصة] ولو قطع يد إنسان فاقتص منه، ثم مات المجني عليه بالسراية - فالولي بالخيار؛ إن شاء - حز رقبة الجاني، وإن شاء عفا، وأخذ نصف الدية، وإن مات الجاني بلا سبب، أو قُتل ظلماً، أو قصاصاً عن قتل أخر - أخذ نصف الدية من تركته. ولو قطع يدي إنسانٍ، فاقتص منه، ثم مات المجني عليه بالسراية - للولي حر رقبة الجاني، ولو عفا - لا دية له؛ لأنه ليس له إلا دية واحدة، وقد استوفى ما تقابله ديةٌ كاملةٌ، وهو اليدان. ولو قطع يد إنسان، فاقتص منه، ثم مات المقتص منه بالسراية - لا شيء على المقتص، وقال أبو حنيفة: [عليه] كمال دية المقتص منه وقال أبو يوسف: يجب نصفها، فنقول: قطع القصاص قطعٌ مستحق مقدر؛ فسرايته لا (تكون مضمونة)؛ كقطع السرقة؛ فإن السارق: لو قُطعت يده، فمات منه - لا يجب به شيء، ولو قطع يد إنسان فاقتص منه، ثم ماتا جميعاً بالسراية- نظر: إن مات المجني: عليه أولاً ثم مات الجاني، أو ماتا معاً صارت النفس بالنفس قصاصاً؛ لأن القصاص يجب في النفس بالسراية، فتصيرُ السراية بالسراية قصاصاً، وإن

مات الجاني أولاً، ثم مات المجني عليه - ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء لأحدهما على الآخر، وصارت السراية باسراية قصاصاً، [وإن مات الجاني]. والثاني: - وهو الأصح-: لا تصير السراية بالسراية - قصاصاً؛ لأن القصاص لا يسبق الجناية، بل يرجع على المجني عليه بنصف الدية في تركة الجاني. وإن قطع يد إنسان، ثم المجني عليه حز رقبة الجاني - نظر: إن مات المقطوع يده بالسراية - صار قصاصاً، وإن اندمل قطعه - قُتل قصاصاً، وعلى الجاني المقتول نصف الدية ليد المقطوع يده. ولو قطع [رجل] يد رجلٍ، فعفا على نصف الدية، ثم سرى - صارت الجراحة نفساً، فيجب على القاطع دية النفس وتدخل فيها دية اليد، ولا قود عليه؛ لأنه عفا عن بعض القصاص؛ فسقط كله، ولو عاد الجاني، فحز رقبة المقطوع يده بعدما عفا هو عن يده - نظر: إن حز رقبته بعد اندمال اليد - يجب عليه القصاص في النفس مع دية، وإن عفا - فدية ونصف، وإن حز رقبته قبل اندمال اليد- ماذا يجب عليه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: وهو المذهب: عليه القود في النفس، ولا تجب دية اليد، وإن عفا الولي عن القود - فدية النفس، كما لو لم يعفُ عن القطع. والوجه الثاني: قاله الإصطخري -: عليه القودُ في النفس ودية اليد، وإن عفا، فديةٌ ونصفٌ؛ كما لو حز رقبته بعد الاندمال. والثالث: وهو الأضعف-: لا يجب القود في النفس؛ لأنه عفا عن بعضه، وعليه ديةُ النفس، ولاتفرد دية اليد؛ ما لو سرى القطع بعد العفو؛ لأن حز الرقبة قبل الاندمال بمنزلة اسرايةن ولو قتل رجلاً يس لولي الدم قطع يد القاتل؛ فلو قطع يده، ثم عفا عن النفس على غير مال - نظر: إن سرى القطع إلى النفس، فالعفو لغو، وإن وقف - صح العفو، ولا شيء عليه لقطع اليد. وعند أبي حنيفة - رحمه الله - تجب نصف الدية؛ لقطع اليد:

فنقول: قطعٌ؛ لو سرى - لم يكن مضموناًن فإذا وقف - لا يكون مضموناً كقطع يد المرتد والسارق. فصل إذا قتل رجلٌن وله وارثان اثنان، أو أخوان - ليس لأحدهما قتلُ قاتله دون الآخر. وقال بعض أهل المدينة: يجوز لكل واحدٍ منهما قتله، حتى لو عفا أحدهما- فللآخر قتله. قلنا: الحق ثبت لهما؛ فلا ينفرد أحدهما بالاستيفاء كالدية لا ينفرد أحدهم باستيفاء كلها، فلو بادر أحدهما، وقتله دون صاحبه، لا يخلو: إما إن قتل قبل عفو الآخر. أو بعده، فإن قتل قبل عفوه - نظر: إن كان عالماً بتحريمه. فهل عليه القود؟ فيه قولان: أصحهما: وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة-: لا قود عليه، وفيه معنيان. أحدهما: لاختلاف العلماء فيه؛ فإن منهم من يجوز له الاستيفاء دون الآخر. والمعنى الثاني: لأن له فيه شركاء؛ فيصيرُ شبهةً في سقوط العقوبة، كما لو وطيء جارية مشتركة بينه وبين غيره؛ لا يجب عليه الحد. يجب القود؛ لأنه اقتص أكثر من حقه، كما لو ثبت له القصاص في طرف رجلٍ، فقتله. والثاني: يجب عليه القود. فإن قلنا: يجب القود: فإن استوفى ولي قاتل الأب القود من الابن القاتل -فالابن الذي لم يقتل مع وارث الابن القاتل - يرجعان بتمام الدية في تركة قاتل الأب، وإن عفا ولي قاتل الأب عن الابن القاتل - نظر: إن عفا مجاناً، أو مطلقاً، وقلنا: مطلق العفو لا يوجب المال - فالابنان يرجعان بالدية في تركة قاتل الأب، وإن عفا على الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: مطلق العفو لا يوجب المال - فالابنان يرجعان بالدية في تركة قاتل الأب، وإن عفا على الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: مُطلق العفو يوجب الدية - فالابنُ الذي لم يقتل -يرجع في تركة قاتل الأب بنصف الدية، ووارث قاتل الأب يرجع بنصف الدية على الابن القاتل، والنصف بالنصف يصيرُ قصاصاً. فإن قلنا بالقول الأصح؛ أن لا قود على الابن القاتل - فالابن الذي لم يقتل - فمن يأخذ

نصيبه من الدية؟ فيه قولان: أحدهما: يأخذه من الابن القاتل، لأنه استوفى حقه مع حق نفسه ما لو أودع عند إنسانٍ وديعةً، ومات عن اثنين، فأتلفها أحدهما، رجع الآخر بقيمة حصته على أخيه المتلف، لا على المودع، والنصف الذي وجب القاتل - صار قصاصاً بالنصف الذي وجب عليه. والقول الثاني: وهو الأصح واختاره المزني-: أن الابن الذي لم يقتل - يرجع بنصيبه من الدية في تركة قاتل الأب؛ كما لو قتله أجنبيٌّ لا يكون حقه على الأجنبي، بل يكون في تركة قاتل الأب؛ بخلاف الوديعة؛ لأنها لم تكن مضمونة على المودع؛ بدليل أنها لو تلفت في يده - لم يلزمه ضمانُها، ولو أتلفها أجنبي - كان الضمان على المتلف، وههنا: نفس قاتل الأب مضمونةٌ؛ بدليل أنه لو مات أو قتله أجنبي - كانت الدية للاثنين في تركته. فإن قلنا: يرجع الابن الذي لم يقتل على الابن القاتل، فلو أنه أبرأ وارث قاتل الأب عن حقه -لم يصح الإبراء؛ لأنه لا شيء له عليه، ولو أبرأ الابن القاتل - يبرأ، ولو عفا وليُّ قاتل الأب الابن القاتل عن الدية - لا يسقط حق الابن الذي لم يقتل، وهل يصح عفوه عن نصف الدية الذي ثبت له على الابن القاتل؟ يبنى على أن التقاص في الديتين - هل يقع بنفس الوجوب؟ [وفيه قولان: إن قلنا: يقع بنفس الوجوب]- فالعفو لغوٌ؛ لأنه ثبت لكل واحدٍ على الآخر نصف الدية، وقد تقاصا. وإن قلنا: لا يقع التقاص بنفس الوجوب حتى يتراضيا، فعفو الولي عن نصف الدية الذي ثبت له على الابن القاتل - صحيحٌ، وللابن القاتل نصف الدية في تركة قاتل الأب، وإن قلنا: بالقول الأصح؛ إن الابن الذي لم يقتل - يرجع بنصيبه من الدية في تركة قاتل الأب-: فقد ثبت لولي قاتل الأب على الابن القاتل ديةٌ تامةن وثبت له في تركة قاتل الأب نصف الدية، فالنصف بالنصف: يتقاصان، ويرجع وليُّ قاتل الأب عليه بنصف الدية، فلو أبرأ الابن الذي لم يقتل أخاه - لا يصح الإبراء؛ لأنه لا شيء له عليه، ولو أبرأ وارث قاتل الأب - يبرأ، ولو عفا وارثُ قاتل الأب عن الدية: إن قلنا: يقع التقاص بنفس الوجوب صح عفوه عن نصف

الدية، والنصف بالنصف صار قصاصاً قبل عفوه، ولا شيء لأحدهما على الآخر، وإن قلنا: لا يقع التقاص بنفس الوجوب- صح عفو وارث قاتل الأب عن جميع الدية، ويرجع الابن القاتل بنصف الدية في تركة قاتل الأب؛ هذا إذا قتله أحد الاثنين عالماً بالتحريم، فإن قتله جاهلاً بالتحريم، فلا قصاص عليه، وتجب الدية، ثم تجب في مال الابن القاتل أم على عاقلته؟ فيه قولان: أحدهما: في ماله؛ لأنه قصد القتل. والثاني: على عاقلته؛ لأنه كان جاهلاً بالتحريم؛ فأشبه الخاطيء فإن قلنا: تجبُ على عاقلته - فالابنان يأخذان الدية من تركة قاتل الأب في الحال، ووارث قاتل الأب يأخذ ديته من عاقلة الابن القاتل إلى ثلاث سنين. وإن قلنا: تجبُ من مال الابن القاتل؛ فتكون حالة، والابن الذي لم يقتل عمن يأخذ حصته: من الدية من الابن القاتل، أو من تركة قاتل الأب؟ فعلى ما ذكرنا من القولين: هذا إذا قتله أحد الوليين قبل عفو الآخر. فإن قلنا: بعد عفو الآخر - نظر: إن كان عالماً بعفوه - هل يجب عليه القود؟ نُظر: إن كان بعدما حكم الحاكمُ بسقوط القود - يجب القود؛ لأنه لم يبق [له] شبهةٌ فيه، وإن كان قبل حُكم الحاكم - يرتبُ على ما لو قتله قبل العفو، إن قلنا: ثم يجب القود، - فههنا: أولى، وإلا فعلى وجهين بناءً على المعنيين في سقوط القود قبل العفو، إن قلنا: المعنى هناك اختلافُ العلماء - فههنا: لا يجب القود؛ لبقاء الاختلاف، وإن قلنا: الشبهة الشركة، فههنا: يجب القود، وهو المذهب؛ [قلنا] فلو قلنا: يجب، فإن كان جاهلاً بالعفو - هل يجب؟ فيه قولان: بناءً على ما لو قتل شخصاً عرفه مرتداً، ثم بان أنه قد أسلم، ففي وجوب القود قولان، ولو وجب القصاص على رجل، فقتله أجنبي - يجب عليه القصاص لورثته، لا لمن له القصاص؛ لأنه لدرك الغيظ، والغيظُ للورثة، وحق من له القصاص في تركته، ولو عفا وارثه عن القصاص على الدية - فالدية للوارث، على اصحيح من المذهب؛ القصاص، وحق من له القصاص في تركته.

وفيه وجه آخر: [أن الدية] لمن له القصاص؛ كما لو قُتلَ المرهونُ كانت القيمة مرهونة. فصلٌ إذا ثبت قصاص واحدٌ لجماعةٍ؛ بأن قُتل رجلٌ، وله جماعةٌ من الورثة، وتنازعوا في الاستيفاء - يقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة - يستوفيه بإذن الباقين، ولا يجوز دون إذنهم، حتى لو قالوا يؤخر لهم ذلك، بخلاف التزويج إذا أقرع بين الأولياء - يجوز لمن خرجت له القرعة أن يزوج دون إذن الباقين، لأن مبنى النكاح على اللزوم، بدليل أن الولاة لو امتنعوا من التزويج يزوجها القاضي، ومبني القصاص على السقوط؛ بدليل أنهم لو تروه - لا يستوفيه غيرهم، وهل يدخل في القرعة من لا يحسن القتل؛ كالشيوخ والنسوان - فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن المقصود منه القتل، وهم لا يحسنونه. والثاني- وهو الأصح-: يدخل في القرعة؛ [لأن له حقاً في القصاص. فإن خرجت له القرعة - فوض إلى من يُحسن القتل. وإن قلنا: لايدخل: فلو خرجت القرعة لقادر، فعجز - تعاد القرعة]. بين الباقين، وعلى الوجه الآخر: لا تعاد القرعة، بل يفوض العاجز إلى من يستوفي. وإذا نصب الإمام رجلاً لاستيفاء القصاص والحدود، [ولم يتطوع] به - يرزقه من خُمس المصالح: فإن لم يكن له خمسٌ، أو كان، ولكن يحتاج إليه لما هو أهم؛ فيكون أجرته على الجاني [لأنه فوته] حقاً يستوفي منه؛ كما أن أجرة الدلال والكيال تكونُ على من يلزمه الإيفاء. وعند أبي حنيفة: يكون على المقتص: فإن كان الجاني معسراً يستدان عليه وقيل: ستدان على بيت المال في حدود الله تعالى؛ فإن قال الجاني: أنا أقتص من نفسي، ولا أعطي الأجرة - لم يكن له ذلك لأن من لزمه إيفاء حق لغيره - لا يستوفيه بنفسه؛ كالبائع لا يقتص للمشتري من نفسه، فلو قطع يد نفسه قصاصاً بإذن المستحقِّ، أو قتل نفسه بإذن الولي - هل

يسقط حق المستحق؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو أقام جلد الزنا على نفسه بإذن الإمام، أو حد القذف بإذن المقذوف - لا يسقط الحد عنه [و] كما لو قبض المبيع من نفسه بإذن المشتري لا يحصل القبض. والثاني: يسقط؛ لأن المقصود من القصاص إفاتة المحل بإذن المستحق، وقد وجدوا المقصود من قبض المبيع إزالة يد البائع، ولم توجد. قال شيخنا الإمام - رحمه الله - ولو قطع السارق يد نفسه بإذن الإمام - سقط وإذا قال: أنا أقطع من نفسي - هل يمكنه الإمام؟ وجهان: أحدهما: لا؛ كالقصاص. والثاني: بلى؛ لأن المقصود منه التنكيل بتنقيص البطش، ويحصل ذلك بفعله؛ بخلاف القصاص؛ لأنه للتشقي، ولا يحصل بفعله. أهـ. باب القصاص بغير السيف قال الله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة 194]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]-: "من حرق، حرقناه؛ ومن غرق غرقناه". القتلُ نوعان موحٍ وغير موحٍ، فالموحي مثلُ أن يضربه بسيفٍ أو بمحددٍ [فيجهز قتله-[يُقتل] بمثله، ولك لو ضربه بمثقل، أو خنقه، أو غرقه في ماء، أو ألقاه في نار، أو رماه من شاهق، أو حبسه بلا طعام حتى مات - يجوز الاستيفاء بمثله، والأولى: أن يقتله بالسيف، وعند أبي حنيفة: لا يستوفيه إلا بالسيف، ويتحقق الخلافُ معه [في التحريق]؛ لأنه لا يوجب القود في القتل بغير المحدد إلا في التحريق؛ والدليل عليه: ما رُوينا عن أنسٍ؛ أن يهودياً رضخ رأس جاريةٍ بالحجارة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضخ رأسه

بالحجارة، وهذا مُطرد إلا في ثلاث مواضع: أحدها: إذا قتله بسحرٍ - يُقتل بالسيف؛ لأنه لا يمكن أن يقتله بمثله؛ لأنه محرمٌ في نفسه. الثاني: إذا تلوط بصبي، فمات. الثالث: إذا أوجره خمراً، فمات - يستوفي بالسيف؛ لأنه فعل كبيرة لا يباح ارتكابها. وقال أبو إسحاق في اللواط: يدخل فيه خشبة مثل آلته، وفي الخمر يوجر شيئاً من خل أو ماء؛ حتى يموت. قال رحمه الله: ولو أوجره ماءً نجساً، فقتله - يوجر ماءً طاهراً، ولو قتله بسكينٍ كالٍّ - هل يقتل بمثله؟ [فيه] وجهان. وكل موضع أثبتنا القصاص بطريقة: فإن كان ألقاه في ماء أو نار يلقى في نار مثلها، أو ماء مثله، ويترك قدر ما [تركه] [فيه] وإن حبسه [بلا طعام]- حبس بقدره، وإن ألقاه من شاهق - يلقى من مثله في مهواة وصلابة الأرض، أو ضربه بمثقلٍ - يُضرب بمثله، أو ضربه عدداً من السياط - يضرب مثلها، فإن لم يمت - ففيه قولان: أحدهما تُجز رقبته؛ لأنه فعل به مثل فعله، وبقي إزهاق الروح؛ فيكون بالسيف. والثاني: [يُحرق بالنار] حتى يموتن ويوالي عليه بمثل فعله؛ حتى يموت؛ كما لو حز رقبته بضربةٍ، ولم يحصل ذلك من الولي بضربةٍ واحدةٍ - يزيد عليه حتى يقتله. أما غير الموحي من [القتل؛ مثلُ] أن يجرحه، فيموت بسرايته - نظر: إن كانت تلك الجراحةُ: لو وقفت - يجب فيها القصاص؛ مثل: أن أوضحه أو قطع يده، أو عضواً منه، فمات - فله أن ستوفي بذلك الطريق، وإن شاء - حز رقبته، وإن شاء أوضحه، أو قطع يده، ثم حز رقبته في الحال أو أمهله بعد القطع، فإن لم يمت بحز رقبته.

وعند أبي حنيفة: ليس له قطع يده، بل تحز رقبته. وبالاتفاق: لو قطع يد إنسانٍ، ثم حز رقبته - فللولي أن يقطع يده، ثم يجز رقبته. وعند أبي يوسف ومحمد؛ ليس له قطع يده، بل يجز رقبته؛ كما في السراية. وإن كانت تلك الجراحةُ: لو وقفت - لا قصاص [عليها]؛ مثل: أن أخافه أو هشمه؛ فمات، أو قطع يده من نصف الساعد؛ فهلك [فيه- فهل] له أن يستوفي بذلك الطريق؟ فيه قولان: أصحهما: لا، بل يجز رقبته؛ كما لو وقفت تلك الجراحة - لم يكن له أن يقتص منها. والثاني: له ذلك؛ لأن إفاتة النفس ثابتةٌ له؛ فله إفاتتها بالطريق الذي فعله الجاني؛ كما لو حرقه بالنار فله تحريقه؛ بخلاف ما لو وقفت الجنايةُ؛ لأن - ثم- إفاتة النفس غير جائزةٍ، والجرح إذا لم يكن له مفصلق - لايؤمن فيه من الهلاك؛ وكل: لو قطع يداً شلاء؛ فمات منه، ويد القاطع صحيحةٌ، أو قطع ساعداً لا كف عليه؛ فمات، ويد القاطع صحيحةٌ فهل له استيفاء القصاص بطريق قطع اليد والساعد، أم يجز رقبته؟ فعلى هذين القولين: فإن قلنا: له أن يستوفي بطريق الجائفة: فإن أجافه، فلم يمت ليس له أن يوالي عليه بالجوائف، بل يجز رقبته. وخُرج قول آخر من الإلقاء في النار، والرمي من الشاهق إلى ههنا له أن يوالي عليه بالجوائف حتى يموت ولا يصح هذا التخريج؛ لأن الجائفة الثانية جنايةٌ أخرى لم يفعلها الجاني كما لو قطع يده، فمات، فقطع الولي يده، ولم يمت - لم يكن له أن يقطع يده الأخرى ورجله.

وخُرج قولٌ من الجائفة على التحريق والتغريق والرمي من الشاهق: أنه لا يستوفي بذلك الطريق، بل يحز رقبته. والصحيح: الفرق بينهما؛ لأن الإلقاء في النار، ومن الشاهق موج؛ فلا يطول عليه التعذيب؛ ما لو لم يحصل حز الرقبة بضربة واحدة - يُزاد: وأما الجائفة - فغير موجبة؛ فربما لا يموت منها، ويدع الولي قتله؛ فيكون قد عذبه بما لا قصاص في مثله: فإن قلنا: له أن يستوفي بطريق الجائفة: فلو قال: أنا أجيفه؛ فإن لم يمتن أعفوا عنه، [أو قال: أرميه من الشاهق؛ فإن لم يمت، أعفو عنه]- لم يكن له ذلك. ولو أجافه، ثم عفا، وترك [قتله]، وقال: لم أرد قتله عُزرُ عليه، ولم يجبر على قتله. فإن سرى بان أن العفو باطلٌ، ولو جنى على طرفه جناية يستوفي بطريقة إن أمكن كما في النفس: [فإن فقأ عينه] بإصبعه - يقتص بالإصبع، فإن استوفاه بحديدةٌ - جاز، ولو جنى على رأسه جناية، هب ضوء عينه - يُنظر: إن كانت تلك الجناية مما يجب بها القصاص؛ كالموضحة - يفعل به مثل فعله، فإن ذهب ضوء عينه - فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب- يعالج بما يزيل ضوء البصر، وإن كانت تلك الجناية مما لا يجب بها القصاص؛ كالهاشمة -[لا تهشم رأسه، بل يؤخذ أرش الهاشمة]، ويعالج بما يزيل ضوء البصر: من كافور يُجعل في عينه أو يُكحل بدواءِ، أو يقرب من عينه حديدةٌ محماةٌ؛ حتى يذهب [ضوء] بصره، ولا تخرج حدقته: فإن لم يمكن إلا بخروج الحدقةِ - لا يقتص، بل يصارُ إلى

الدية؛ كما لو ضرب يده، فشلت -لا يقتص؛ بل تؤخذ الدية، ولو لطمه، فذهب ضوء عينه - فقد قيل: يلطم؛ فإن ذهب ضوء عينه - وإلا يعالج بما ذكرنا، وقيل - وهو الأصح-: لا يلطم؛ بل يعالج بما ذكرنا؛ كما في الهاشمة؛ لأنه لا يمكن اعتبارُ المماثلة في اللطم؛ وكذلك لا يقتص منه عند الانفراد. ولو أوضح رأسه بالسيف - لا يقتص بالسيف؛ لأنه لا يؤمن منه الهاشمة، بل يستوفي بحديدةٍ خفيفةٍ حادة. باب القصاص في الشجاج والجراح قال الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. والقصاص يجري فيما دون النفس من الجراح وقطع الأطراف؛ كما يجري في النفوس غير أنهما يفترقان في شيئين: أحدهما: أن محل القطع لا يراعى في النفس؛ حتى لو قطع طرف إنسان [فمات للولي] أن يحز رقبتهن وفي الطرف يراعى المحل. الثاني: أن القصاص يجب في النفس بالسراية، ولا يجب في الطرف؛ لأن القصاص في النفس يجري في الروح، والروح ليس في محل معلوم يمكن قصد إتلافه مشاهدة؛ فيكون إتلافه [بالجناية عند] الأطراف، وأما الطرف يمكن إتلافه بالجناية عليه قصداً، فإذا تلف بطريق السراية - لا يجب القصاص؛ لأنه لم يقصد إتلافه، إلا البصر: فإنه إذا ضرب على رأسه فذهب [ضوء] بصره - يجب القصاص؛ لأن البصر حاسة لطيفةٌ يقصد إفاتتها بالجناية على غير محلها. ثم الجناية على ما دون النفس نوعان: جرح يُشق وطرفٌ يقطع، فكل جرح ينتهي إلى عظم يجري فيه القصاص، وما لا ينتهي إلى عظم - لا قصاص فيه، وكذلك كسر العظم، لا قصاص فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاةُ المماثلة فيها. أما الأطراف - فقطعها يجري فيها القصاص عند السلامة

وتفصيله: أن الشجاج في الرأس والوجه عشرةٌ. الحارصة، وهي: التي تحرص الجلد، وتخدشه. والدامية وهي: التي تشق الجلد وتدمي. والباضعة، وهي: التي تبضع اللحم وتقطعه. والمتلاحمة، وهي: التي تغور في اللحم. والسمحاق، وتسمى الملطاة، وهي: التي تصل إلى جلدة رقيقةٍ بين اللحم والعظم سميت سمحاقاً [به]؛ لرقة تلك الجلدة، ويقال لكل شيء رقيقٍ: سمحاقٌ. والموضحة، وهي: التي توضح العظم وتظهره. والهاشمة، وهي: التي تهشم العظم، وتكسره. والمنقلة، وهي: التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، أو يحتاج إلى النقل لتلتئم. والمأمومة، وتسمى الأمة وهي: التي تبلغ خريطة الدماغ، وتسمى تلك الخريطة أم الرأس. والدامغةُ: هي: التي تخرق الخريطة، وتصل إلى الدماغ، فلا تتصور الحياة بعدها، ولا قصاص في شيء من هذه الشجاج إلا في الموضحة، وما دون الموضحة من الشجاج ليس لها أرش مقدر، إنما يجب فيها الحكومة، فإن كان تحت هذه الجراحة على رأس المشجوج موضحةٌ، يُعرف بها قدر عمق هذه الشجة من الموضحة؛ نصفٌ أو ثلثٌ - يجب بقدره من أرش الموضحة، وإن لم يعرف، فيوجب بقدر ما يتيقن. وفيه قول آخر - وهو ظاهر نقل المزني-: أنه يجب القصاص فيما دون الموضحة، إذا عُرف بأن يكون على رأس كل واحد موضحةٌ تشج [من جنبها] شجة عمقها قدر نصف عمق الموضحة، أو ثلثه، فيشج من رأس الجاني بقدر نصف موضحة الجاني أو ثلثه، ولا ينظر إلى أن يكون غلظ جلد أحدهما ولحمه أكثر من الآخر. والأول المذهب أن لا قصاص، وهو رواية الربيع. وفي الموضحة: القصاص أو خمسٌ من الإبل.

وفي الهاشمة عشرٌ من الإبل، فإن كان قد أوضح وهشم - فله أن يقتص من الموضحة، ويأخذ ما بين الموضحة والهاشمة من الدية وهو خمسٌ من الإبل. وعند أبي حنيفة: ليس له ذلك؛ بل له الأرش وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، فإذا أراد أن يوضح ويأخذ عشراً من الإبل - يجوز. وفي المأمومة: ثلث الدية، وله أن يوضح، ويأخذ ما بين الموضحة والمأمومة، هو ثمانية وعشرون من الإبل؛ وثلث. وفي الدامغة: القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإذا شجه، فشك؛ هل أوضح أم لا؟ يُقرع بالمرود؛ حتى يعرف، ولا يقتص بالشك؛ حتى يقر الجاني أو يشهد شاهدان. وإذا أراد الاقتصاص عن الموضحة يذرع موضحة المشجوج بمقياس، ويحلق ذلك الموضح من رأس الشاجِّ، ثم يخيط عليه، خيطاً أسود أو أحمر بقدره، فإن لم يحلق - فقد أساء، ثم يضبط الشاج [كما يضبط الصبي عن الختان] حتى لا يضطرب؛ فتزداد الموضحة، ويوضح رأسه بحديدة حادة، ولا ينظر إلى أن يكون علظ جلدٍ أحدهما ولحمه أكثر [من الآخر]؛ يقطع اليد السمينة بالهزيلة، فلو زاد في الإيضاح باضطراب الجاني - لا شيء على المقتص وإن لم يكن باضطرابه [ينظر: فإن] تعمد يقتص منه، ولا يقتص إلا بعد اندمال الموضحة الأولى، وإن أخطأ، فعليه دية موضحةٍ كاملةٍ، ولو اختلف فقال المقتص: أخطأت، وقال المقتص منه: تعمدت فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعرف بنيته، وإن قال المقتص: حصلت الزيادة باضطراب، وأنكر المقتص منه - فوجهان: أحدهما: القول قول المقتص مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. والثاني: القول قولُ المقتص منه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الاضطراب. ولو أوضح موضعاً من رأسه ليس له أن يقتص من موضع آخر، بل يستوفي قدرها من موضعها، فإن كان قدرها قد يزيد على مثل موضعها من رأس الشاج؛ لصغر رأسه - يستوفي بقدرها، وإن جاوز الموضع الذي نتجه مثل إن أوضح هامته، وهامةٌ الشاج أصغر - فيكمل من

الشاج قدر هامة المشجوج، ولا ينزل إلى الوجه والقفا؛ لأن ليس برأس. وإن أوضح جميع رأس إنسان واختلف الرأسان - نظر: إذا كان رأس الشاج، أكبر - فليس له أن يوضح جميع رأسه، بل يقدر ما أوضح مساحةً في أي موضع شاء من رأس الشاجِّ، فإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم رأسه. والبعض من مؤخره - هل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه يستوفي موضحتين؛ فكان موضحةً واحدة. والثاني: يجوز؛ لأن جميع رأسه محل جنايته، وإن كان رأس الشاج أصغر، فله أن يوضح جميع رأسه، ولا ينزل عن حد الرأس إلى الجبهة والقفا، ثم يوزع أرش الموضحة على جميعها؛ فبقدر ما بقي - يأخذ؛ بخلاف ما لو أوضح رأسه قدر أنملتين، فاستوفى قدر أنملةٍ، وأراد: أن يأخذ الأرش للباقي - ليس له ذلك؛ لأن - ثمة - محل القصاص باقٍ أمكنه استيفاءُ الكل، وقد استوفى ما يقابله تمام أرش الموضحة، فلم يكن له أخذ شيء آخر، بخلاف ما لو أوضح رأسه في موضعين - له أن يقتص من أحدهما، ويأخذ دية موضحةٍ كاملةٍ عن الأخرى؛ لأنهما جنايتان منفصلتان؛ ما لو قطع أصبعين - له أن يقتص عن أحدهما، ويأخذ دية الأخرى. وعند أبي حنيفة - رحمه الله - إذا كان رأس الشاج أصغر - فالمشجوج بالخيار: بين أن يقتص؛ ولا شيء له من الدية - وبين أن يترك القصاص؛ ويأخذ الدية؛ كما لو كان يدُ القاطع أصغر - لا شيء له إذا اقتص. قلنا: بينهما فرقٌ؛ من حيث عن في اليد يُراعى [الاسم وفي الموضحة: تعتبر المساحةُ؛ بدليل أن يد القاطع: لو كانت أكبر يقتص منه، وإن كان رأس الشاج أكبر - لا يوضح جميع رأسه [هـ] وتتصور في الجبهة الجراحات العشرُ التي ذكرنا [ها مع] الرأس. فلو أوضح جميع جبهته، وجبهة الشاج أضيق - يوضح جميع جبهته، ولا يرتقي على هامته، بل يأخذ الأرش بالباقي؛ كما لو أوضح برأسه، ورأشُ الشاج أصغرُ - لا ينزل إلى الجبهة.

ويتصور في الوجنة واللحي الأسفلِ - ما دون المأمومة من الجرحات؛ فإذا أوضح وجنته أو لحييه، أو ضرب من لهاته من باطن فمه؛ أعلى أو أسفل، أو موضع العظم من أنفه؛ فأوصل إلى العظم - يجب فيه القصاص أو خمسٌ من الإبل. ولو هشم أو نقل - يجب أرشهما، أما ما عدا الرأس والوجه: إذا جرحه، فأوصله إلى العظم؛ بأن ضرب على صدره أو عنقه أو ساقه وساعده؛ فأوصله إلى العظم - تجب فيه الحكومةُ، وهل يجب القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ كما لا يجب له بدلٌ مقدر: بخلاف الرأس والوجه؛ فإنهما محل الجمال ومجمع المحاسن؛ فالشين والقبح فيهما يكون أكثر، والخطر أعظم. والثاني: وهو الأصح-: يجبُ القصاص؛ لأنه ينتهي إلى عظم؛ فيمكن الاقتصاص منه. ولو لم يكن له بدل مقدر؛ كالإصبع الزائدة، واليد الشلاء، والعين القائمة - يجب فيها القصاصُ. وإن لم يكن لها أرشٌ مقدر: فإن قلنا: يجب القصاص-: فإن كانت الجناية على الساعد، وزاد] قدرهُ على ساعد الجاني؛ لصغر ساعد الجاني - فليس له أن ينزل إلى الكف، ولا أن يصعد إلى العضد. وإن كان على الساق - فلا ينزل إلى القدم، ولا يصعد إلى الفخذ؛ ما ذكرنا في موضحة الرأس. فصل في قطع الأطراف قال الله تعالى: {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [البقرة: 178] الآية: كل طرف له مفصلٌ معلومٌ - ثبت فيه القصاص. فإن فقأ عينه - يقتص منه، وإن ضرب على رأسه؛ فذهب ضوء بصره - يقتص إن أمكن

الاقتصاص من غير جرح الحدقة، ولا تؤخذ العين الصحيحة بالعين القائمة [وإن رضي به الجاني؛ لأنه يستوفي أكثر من حقه، وتؤخذ العين القائمة بالعين] [القائمة والصحيحة] بالصحيحة إذا رضي به المجنيُّ عليه [لأنه يقتص] عن حقه. ويقطع جفن العين بالجفن، ولا يؤخذ الأعلى بالأسفل، ولا الأسفلُ بالأعلى؛ كما لا تقطع اليمنى بالشمال، ويقطع جفن البصير بجفن الأعمى؛ لأن البصر لا يحل الجفن؛ فليس في الجفن نقصٌ. ولو قطع مارن أنفه - ففيه القود أو كمال الدية. ولو قطع بعض أنفه من المنجز - يقتص منه بذلك القدر، أو يؤخذ بقدره من الدية. ولو قطع الحاجز من المنخرين - ففيه القصاص [أو الحكومة. ولو قطع أنفه مع القصبة - فله القصاص] من المارن، أو كمال الدية، وتفرد القصبة بالحكومة، لأنها ليست من جنس المارن، ولا قصاص فيها؛ لأنه ليس لها مفصلٌ ينتهي إليه، وتقطع الأنف الأقنى بالأنف الأفطس، وأنفُ الصحيح بأنفِ الأخشم؛ لأن الشم لا يحل حِرْمَ الأنف؛ فليس من الأنف نقصٌ؛ بخلاف ما لو قلع حدقة أعمى - لا يقتص به البصير، ولا يقطع لسان الناطق بلسان الأخرس؛ لأن البصر يحل ذات الحدقة، والنطق يحل حرم اللسان؛ فالأعمى والأخرس ناقصُ العضو؛ [فلا يقطع] به الكاملُ، وتقطعُ أنفُ

الصحيح بأنف الأجذم؛ إذا كانت في حالة الاحمرار، فإذا كان الجذام أثر في أنفه حتى اسودت - فلا قصاص لأنها دخلت في حد البلى، وفيها الحكومةُ. وتقطع الأذن بالأذن، وإن قطع بعض أذنه - يقتص منه، [بذلك] القدر، أو يؤخذ بقدره من الدية، ويعتبر التقدير بالجريمة بالنصف والثلث، لا بالمساحة، حتى لو قطع نصف أذنه - تقطع نصفه؛ سواء كان أكبر أو أصغر؛ كما يقطع كله بكله. وإنما لم نعتبر المساحة؛ لأنه قد يكون أذن الجاني أصغر، فتؤدي إلى قطع جميع أذنه ببعض أذن المجني عليه؛ وكذلك في الأنف واللسان والشفة، وتقطع أذن السميع بأذن الأصم؛ لما ذكرنا أن السمع لا يحل جرم الأذن. وتقطع الأذن الصحيحة بالمثقوبة، والمثقوبة بالصحيحة؛ لأن الثقب فيها ليس بنقص، بل هو للزينة. فإن كانت مخرومة - لا تقطع بها الصحيحة، بل تقطع من الصحيحة بقدر ما صح من المخرومة، أو يأخذ بقدره من الدية، وتقطع المخرومة بالصحيحة، ويأخذ من الدية بقدر ما سقط منها، وكذلك في الأنف، ولو قطع أذن إنسانٍ، ثم المجني عليه ألصقها بالدم الحار، فالتصقت - لا يسقط القصاص عن الجاني ولا الدية، ويقطع ما ألصقه المجني عليه؛ لحق الله تعالى؛ لأنها ميتةٌ لا تصح الصلاة معها، وكل لو أن المجني عليه [اقتص من الجاني، ثم الجاني ألصقه - لم يكن للمجني عليه قطعه] بل هو مستحق القطع شرعاً؛ وذلك إلى السلطان. ولو قطع بعض أذنه، ولم يُبنه - فله أن يقتص منه لذلك القدر، أو يأخذ بقدره من الدية، ولو ألصقه المجني عليه - لم يقطع، وإن بقي متعلقاً بجلدة؛ لأنه لم يصر ميتةً بالإبانة، وتسقط الدية والقصاص عن الجاني بالإلصاق، وعليه حكومةٌ كالإقصاء؛ إذا اندمل - تسقط الدية، وإذا جاء آخر، وقطعها بعد أن التصقت - فعليه القصاص أو كمال الدية: فقيل: لا يسقط القصاص والدية عن الأول بالإلصاق؛ كالموضحة إذا اتصلت واندملت - لا يسقط القصاص والأرش عن الجاني ولو [جاء] آخر فأوضعها ثانياً - فعلى

الثاني القصاص وأرش الموضحة. ولو قطع أذنه، (فأبانها) فقطع المجني عليه بعض أن الجاني، وألصقه [الجاني] فالتصق - فللمجني عليه أن يعود فيقطعه؛ لأنه [استحق إبانته]، ولم يوجد ذلك، وتقطع الشفة بالشفة، وهو ما يستر اللثة من أعلى وأسفل مستديراً بالفم؛ سواء استويا في الغلظ والدقة أو اختلفا. ولو قطع بعضه -يقطع بقدره، ولا يقع الأعلى بالأسفل، ولا الأسفلُ بالأعلى. وكذلك يقطعُ اللسان باللسان، ولو قطع بعض لسانه - يقطع بقدره، ولا يقطع لسان الناطق بالأخرس؛ وإن رضي به الجاني، ويقطع لسان الأخرس بالناطق إذا رضي به المجني عليه، ويقطع لسان البالغ الناطق بلسان الرضيع، إذا كان يحرك لسانه عند بكاء أو غيره، فإذا كان لا يحركه - فلا يقطع. وإذا كان يحركه؛ لكنه لا يتكلم، وقد بلغ [أو إن] الكلام - لم يقطع به الناطقُ، وفيه الحكومةُ، وبلوغ أوان الكلام يختلفُ. وعند أبي حنيفة: لا يقطع لسان المتكلم بالرضيع. ولو قلع سنة - يقتص منه، ولو كسره - فلا يقتص منه؛ لأنه لا يمكن حفظ المماثلة فيه، ويجب بقدر ما كسر من دية السن، ولا تؤخذ السن الصحيحة بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة، ويؤخذ بقدرِ ما انكسر من الدية فإن قلع سن مثغور - يقلع سنهُ في الحال، وإن قلع سن غير مثغورٍ - فلا يؤخذ القصاص، ولا الدية في الحال؛ لأن الغالب أنها تثبت؛ بخلاف المثغور. ثم إن نبت، ولم يبق أثرٌ - فلا شيء على الجاني، وقيل: تجب حكومةٌ باعتبار حالة الألم. وإن نبت سوداءُ أو خضراءُ أو عوجاء أو خارجةٌ عن سمت الإنسان، أو بقي بعد النبات

أثرٌ أو شينٌ - فعليه الحكومة وإن نبتت أطول، أو معها سنٌّ شاغيةٌ - قال بعض أصحابنا: لا يجب عليه شيءٌ، وإن حصل بها شينٌ؛ لأن الزيادة لا تكون من الجناية، وقيل: إذا نبت أطول - ففيه حكومةٌ المشين الحاصل بالطول؛ كما في الشين الحاصل بالنقص. قال الشيخ - رضي الله عنه-: وكذلك إذا نبتت معها سن شاغية. وإن نبتت أقصر - فعليه بقدر النقصان من دية السن، وإن بلغ أوان النبات، فلم تنبت - يرى أهل البصر: فإن قالوا نبتت إلى مدة كذا - ينتظر إلى تلك المدة، وإن قالوا: لا تنبت - ففيه القصاص أو كمال دية السن غير أن القصاص لا يستوفي؛ حتى يبلغ، فإن مات قبل البلوغ - فلوارثه أن يقتص، وإن مات الصبي قبل بلوغه أوان النبات - فلا يجب [القصاص؛ لأنه يسقط بالشبهة، [فلا يجب] مع الشك، وهل تجب الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب؛ لتحقق الجناية، ووقوع اليأس من نباتها. والثاني: -[وهو الأصح]-: لا يجب؛ لأن الغالب نباتُها لو عاش، فم يتحقق الإتلافُ؛ كما لو نتف شعره، فمات قبل أن ينبت. فأما إذا قلع سن مثغورٍ، فنبت - هل يسقط القصاص عن الجاني؟ فيه قولان: أحدهما:- وبه قال أبو حنيفة-: يسقط القصاص والدية؛ كسن غير المثغور؛ إذا نبتت - فلا يجب إلا الحكومة إن بقي له أثر؛ لأن العادة لم تجر بنبات سن المثغور، فإذا ثبتت فهي نعمة، أفادها الله تعالى، فلا يسقط. والثاني: وهو اختيار المزني - لا يسقط به حقه عن الجاني؛ كما لو قطع لسانه؛ فنبتت؛ فإذا نبت - فهي نعمة أفاده الله تعالى؛ فلا يسقط به حقه عن الجاني؛ كما لو قطع لسانه، فنبت - لا يسقط حقه في القصاص، والدية؛ [لأن نباته بعيدٌ في العادة] وقيل: في نبات اللسان - أيضاً - قولان:

والمذهب الفرق، وهو: أن - في اللسان - لا يسقط القصاص، والدية؛ لأن نباته بعيدٌ في العادة. فإذا اتفق - فهو نعمةٌ وكراهةٌ أكرمه الله تعالى بها، ولا يسقط حقه عن القصاص فإن قلنا: لا يسقط - يقتص في الحال، أو تؤخذ الدية، وإن قلنا: تسقط الدية بنبات السن - فيرجع إلى أهل البصر؛ فإن قالوا: لا يرجى نباته - يقتص في الحال، وإن قالوا: يُرجى نباته إلى وقت كذا - ينظر إلى تلك المدة: فإن مضت، ولم ينبت - يقتص، وإن مات قبل انقضاء تلك المدة - لا يقتص، وهل تجب الدية؟ فيه وجهان: وإن نبتت سن المجني عليه بعد استيفاء القصاص أو الدية - لم يكن للجاني قلعها، وهل تجب على المجني عليه [رد] الدية؟ فعلى القولين: [وإن نبتت] سن المجني عليه، فقلعها الجاني ثانياً: إن قلنا: حقه لا يسقط بالنبات - فعلى الجاني ديتان أو قصاص ودية، وإن قلنا: يسقط - فلا يجب إلا دية واحدة، وإن كان قد استوفى قصاصاً عن الأول [أو دية] فقد استوفى حقه، أما إذا نبت سن الجاني بعدما اقتص منه - فعلى القولين: إن قلنا: نعمةٌ أفاده الله تعالى - فلاشيء للمجني عليه؛ لأنه قد استوفى حقه. وعلى القول الآخر يأخذ منه الدية، وهل له قلع سنِّهِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه قد اقتص حرةً؛ فلا تثنى العقوبة عليه. والثاني: له قلعها، وإن نبتت مراراً؛ لأن الجاني أعدم سنةُ؛ فله القلع ثانيا وثالثاً حتى يعدم سنه. وإن نبتت سنهما جميعاً - فلا شيء لأحدهما على الآخر على القولين جميعاً. ولو قلع سن رجلٍ، ولا سن للجاني في محلها - يجب عليه دية سنٍّ. فلو نبت بعده سنة -لا قصاص لأنها لم تكن موجودة يوم الجناية؛ بخلاف الحامل إذا

وجب عليها القصاص - لا يستوفي في الحال، فذا وضعت - يستوفي؛ لأنها كانت موجودة يوم الجناية، والله أعلم. صل وتقطع اليد باليد، والرجل بالرجل، والإصبع بالإصبع، والأنملة بالأنملة؛ إذا قطعها من مفاصلها؛ سواء استوى الطرفان في الصغر والكبر، والطول والقصر، أو اختلف. كما لا تعتبر هذه المعاني في النفوس؛ لأنه لو اعتبر هذه المعاني - لم يتصور ثبوت القصاص؛ لأنه قل ما تتفق استواء النفوس والأطراف في هذه المعان. فإن قطع اليد من الكوع، أو من المرفق، أو قطع الرجل من الكعب، أو من الركبة- يقطع [من] ذلك الموضع. ولو قطع اليد من المنكب، أو الرجل من الفخذ: فإن أمكن أن يقتص من غير جائفة - يقتص منه، وإن خيف من الجائفة - لا يقتص من ذلك الموضع، بل يقتص من مفصل [دونه]، وتؤخذ الحكومة للباقي. ولو قطع بعض يده من الكوع - فلا قصاص على ظاهر المذهب؛ لأنها ليست جنساً واحداً؛ فلا يمكن اعتبار المماثلة فيه؛ بخلاف الأنف والأذن. ولو قطعها، وبقيت متدلية بجلده - يجب القصاص أو كمال الدية، ولو قطع يده من الكوع - فله أن يقتص؛ فإن عفا - فعليه ديةٌ [يدٍ]، ويدخل في حكومة الكف. وكذلك: لو قطع رجله من الكعب - فعفا عليه دية رجل، ويدخل فيها حكومة القدم. فلو قال المجني عليه: أنا أقطع أصابعه - لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه قطع محل جنايته، فإن فعل - عذرِّ؛ كما لو حز رقبة إنسانٍ - لم يكن للولي قطع طرفه، فإن فعل - عُزر فإذا التقط أصابعه - لا حكومة له في الكف، وهل له أن يعود؛ [فيقطع كفه؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ كما في النفس: لو قطع يده - له أن يعود] فيحز رقبته، وكذلك كل مفصلٍ قطعه وأمكنه استيفاء القصاص من ذلك المفصل - لم يكن له أن يقطع من مفصلٍ دونه

مثل إن قطع يده من المرفق فيقتص منها، فإن عفا يأخذ دية يدٍ، وحكومة [للساعد ولا تدخل حكومة] الساعد في دية الأصابع؛ بخلاف حومة الكفِّ - تدخل في دية الأصابع؛ لأن الكف مثبت الأصابع. وكذلك: لو قطع رجله من الركبة، فعفا - يأخذ دية رجلٍ، وحكومة للساقٍ. ولو أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ [حكومة الساعد، أو في الرجل؛ أراد أن يقطع من الكعب، ويأخذ] حكومة الساق لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء جميع حقه في محل جنايته. فإن قطع يده من الكوع - فلا حكومة. (قال رحمه الله: عندي: تثبت له حكومة الساعد؛ لأن الساعد - يُفرد بالحكومة عند أخذ دية اليد؛ فعند قطع اليد أولى، وهل له أن يعود، فيقطع مرفقه؟ فعلى الوجهين. وعلى الوجهين: إذا لم تقطع، [له عندي] حكومة الساعد [ولو قطع يده من نصف الساعد - لم يكن له قطعه من ذلك الموضع؛ لأنه لا مفصل له؛ فلا يمكن اعتبار المماثلة فيه. ولو قطع يده من الكوع، [وأخذ] حكومة لنصف الساعد. وإن عفا - يأخذ دية يد وحكومة. قال الشيخ: ولو قطع أصابعه، وترك قطع الكوع - لم يكن له أن يعود، فيقطع من الكوع؛ لأنه لا يمكنه وضع السكين على محل جنايته، وأثبتنا له قطع ما دونه، وقد قطع. قال الشيخ: ولا يجب حكومةُ الكفِّ؛ لأن حكومتها تدخل في بدل الأصابع، وقد استوفى الأصابع، وله حكومة نصف الساعد]. قال الشيخ - رحمه الله-: وجملةُ هذا التفصيل: أنه إذا قطع يده من الكوع - لم يكن له التقاط أصابعه، فلو فعل - عُزر، ولو أراد أن يعود، فيقطع كفه - يجوز، فلو ترك - فلا حكومة له للكفِّ؛ لأنه ليس له إلا دية الأصابع، وقد استوفاها؛ كما لو قتل رجلاً - لم يكن للوي قطع يده، فلو قطع يديه عُزر، وله أن يعود، فيحز رقبته، ولو عفا عن حز الرقبة

- لا دية لهم؛ لأنه قد استوفى بقطع اليدين ما تقابله الدية [ولو قطع يده من نصف الساعد - عليه دية وحكومة الساعد] ولو قطع يده من الكُوعِ، ويأخذ حكومة الساعد. ولو التقط أصابعه - لم يكن له أن يعود، فيقطع كوعه؛ بخلاف ما لو قطع من المرفق، ولا حكومة [له] للكفِّ، وله حكومةُ نصف الساعد. ولو قطع يده من المرفق - فعليه دية يدٍ وحكومة، وإذا أراد القصاص - قطع مرفقه، ولم يكن له قطع كوعه، فإن قطع كوعه - عُزر، وله أن يعود، فيقطع مرفقه، وإن لم يقطع مرفقه - فله حكومة المرفق؛ لأنه يفرد مع الدية؛ فمع القصاص أولى. ولو قطع يده من نصف العضد - فعليه دية يدٍ وحكومتان. وإن أراد القصاص قطع يده من المرفق، فلو قطع من الكوع - له ذلك؛ لأن الكل مفصل دخل في الجناية، ويأخذ حكومة الساعد والعضد، ولا يجوز أن يعود، فيقطع مرفقه؛ لأنه ليس محل جنايته. [ولو قطع يده من نصف الساعد - لم يكن له قطعه من ذلك الموضع؛ لأنه لا مفصل له؛ فلا يمكن اعتبار المماثلة فيه. ولو قطع يده من الكوع، فيأخذ حكومة] لنصف الساعد، وإن عفا - يأخذ دية يدٍ وحكومة. قال الشيخ - رحمه الله -[ولو قطع أصابعه، وترك قطع الكوع - لم يكن له أن يعود، فيقطع من الكوع؛ لأنه لا يمكنه وضع السكين على محل جنايته، وأثبتنا له قطع ما دونه، وقد قطع. قال الشيخ رحمه الله: ولا يجب له حكومة للكف؛ لأن حكومتها تدخلُ في بدل الأصابع، وقد استوفى الأصابع؛ فله حومة نصف الساعد]. ولو قطع يده من نصف العضد - فله أن يقتص من المرفق، ويأخذ حكومة الباقي، وإن عفا أخذ دية يدٍ وحكومتين: حكومة الذراع وحكومة لنصف العضُدِ. فلو قال: أنا أقتص من الكوع، وآخذُ حكومةَ الساعد - فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يمكنه أن يستوفي من موضعٍ أقرب إلى محل الجناية وهو المرفقُ؛ كما لو قطع يده من المرفق - لم يكن له أن يقطع كوعه.

والثاني: وهو الأصح -: يجوز- لأن جميعه مفصلٌ واحدٌ في [محل] الجناية؛ فهو يترك بعض حقه؛ بخلاف ما لو قطع يده من المرفقين لأن هناك يمكنه أن يستوفي جميع حقه في محل جنايته، وههنا: لا يمكنه، فإن قلنا: لا يجوز - فله قطع كوعه. قال [الشيخ] رحمه الله: فلو فعل، ثم أراد أن يعود، فيقطع مرفقه - لم يكن له ذلك؛ بخلاف ما لو قطع يده من المرفق، فاستوفى من الكوع، ثم أراد قطع مرفقه- جاز على أصح الوجهين؛ لأن - ثَمَّ - أمكنه وضع السكين على محل جنايته، وههنا: لا يمكنه وضع السكين على محل جنايته، وجوزنا له قطع ما دونه للضرورة، وقد قطع] ما دونه؛ فلا قطع له بعده، ولا حكومة للساعد. وتجب حكومةُ نصف العضد. [قال رحمه الله]: وعندي تجب حكومة الساعد أيضاً: كما ذكرتُ في قطع المرفق؛ لأن حكومة الساعد، إذا لم تدخل في دية ما دونه - فأولى أن ألا تدخل في قطع ما دونه، ولو قطع يده من نصف الكف - لم يكن له أن يقتص من ذلك الموضع؛ لأنه لا مفصل له، وله أن يقطع أصابعه، فإن عفا - أخذ دية الأصابع، وتدخل فيها حكومةُ نصف الكف، وإن قطع أصابعه - هل له أن يأخذ حكومة نصف الكفِّ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو أخذ الدية - لا حكومة له. والثاني: [- وهو الأصح-] له ذلك؛ بخلاف الدية - لأنه أخذ الدية استيفاءٌ حكمي؛ فيمكن أن يجعل في مقابلة الكل، [والقصاص استيفاءٌ حسيّق؛ فلا يمكن أن يجعل في مقابلة الكف] ونصف الكف باقٍ، ولو قطع يداً شلاء، ويد القاطع صحيحةٌ - لا تقطع يده الصحيحة بها، وإن رضي به: فلو قطع المجني عليه يده - يجب عليه نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة. ولو سرى يد الجاني إلى النفس - يجب عليه القصاص؛ لأنه قطع ما لم يكن له قطعه. ولو قال [الجاني]: اقطع يدي [مطلقاً، ففعل - فقد استوفى حقه، ولا شيء عليه.

ولو قال: أقطع يدي] عوضاً عن يدك، أو قصاصاً، ففعل - يجبُ عليه نصف الدية؛ لأنه لم يبذل يده مجاناً، وعلى الجاني حكومةُ اليد الشلاء. وإذا سرى يدُ الجاني إلى النفس - فلا قصاص على المجني عليه؛ لأنه قطع بإذن الجاني. ولو شلت يدُ القاطع بعدما قطع يداً شلاء - نقتص منه. وكذلك: لو قطع يداً ناقصة بإصبع، ويدُ القاطع صحيحةٌ، ثم سقطت تلك الإصبع من يد القاطع - للمجني عليه قطع يده. قال الشيخ رحمه الله: بخلاف ما لو قطع حر ذمي يد عبدٍ، ثم نقض العهد، فاسترق - لا تقطع؛ لكونه حراً حالة القطع. قال الشيخ رحمه الله: الفرق: أن امتناع القصاص - هناك- لعدم التكافؤ، وفي اعتبار التكافؤ: تعتبر حالة الجناية؛ بدليل أنهما لو كانا متكافئين حالة الجناية بأن كانا عبدين أو ذميين، ثم عتق الجاني، أو أسلم الجاني - يقتص منه، وههنا: امتناع القصاص لزيادة محسوسة في يد القاطع؛ فإذا زالت - قطعت؛ [اعتباراً بحالة] الاستيفاء؛ ألا ترى أن الأشل: إذا قطع يداً شلاء، ثم صحت يد القاطع - لا يقتص لحدوث الزيادة فيه، وإن كانتا متساويتين] حالة القطع، وكذلك: لو قطع يداً لا أظافير عليها - لا تقطع يدُ القاطع الصحيحة. فإن سقطت أظافيره قُطعت، ولو لم يكن لواحدٍ منهما أظافير حالة القطع - يقتص منه. فلو ثبت للقاطع أظافير قبل أن يقتص منه - لا يقتص لحدوث الزيادة، ولو قطع يداً صحيحة، ويدُ القاطع شلاءُ - نظر: إن قال أهل البصر: إن قطعت يده [الشلاء - لا ينسد فم العروق ولا يرقأ الدم - فليس للمجني عليه قطع يده]، بل يأخذ الدية، وإن قالوا: يرقأ الدم - فالمجني عليه بالخيار؛ إن شاء - قطع يده، ولا شيء له سواه، وإن شاء- أخذ الدية.

وإن كانت اليدان شلاوين - نظر: إن كان الشلل في المقطوع أكثر - فلا قصاص، وإن استويا، أو كان الشلل في يد القاطع أكثر - فله أن يقتص إذا قال أهل البصر: يرقأ الدم، ولو قطع يداً ناقصة بإصبع- لم يكن له قطع يده الصحيحة، وله أن يقطع أربعة من أصابعه، أو يأخذ ديتها، فإن عفا، وأخذ دية الأصابع الأربع فحومةُ منابتها تتبعها، وهل تجب حكومة خُمسِ الكف؟ فيه وجهان: أصحهما: تجب؛ لأنه لم تجب دية إصبعها؛ حتى تسقط [حكومة المنبت. والثاني: لا تجب؛ لأن الكف تبعٌ لكل إصبع من الأصابع الخمس، [فكما تسقط] حكومتها تبعاً للأصابع كلها تسقط] تبعاً لإصبع واحدةٍ. وإن قطع أصابعه الأربع - له أخذُ حكومة خُمس الكفِّ، وهل له حكومةُ الأربعة الأخماس؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو أخذ دية الأصابع - لا تجب [حكومة] منابتها. والثاني: وهو الأصج-: له ذلك؛ لأن الحكومة من جنس الدية؛ فتدخل فيها، وليست من جنس القصاص. وإن كان في يد المجني عليه إصبعٌ شلاء، ويدُ القاطع صحيحةٌ - لم يكن له قطع يده، وله أن يقطع أربعةً من أصابعه، ويأخذ حكومة الإصبع الشلاء مع حكومة منبتها؛ لأن الحكومة ناقصة لا تستتبع الناقص، وقيل: تدخل [حكومة] المنبت في حكومة الإصبع الشلاء؛ كما تدخل في ديتها، وهل تجب حكومة أربعة أخماس الكف - فعلى [الوجهين]: أصحهما: تجب. وإذا عفا على المال - أخذ دية أربع أصابع، ولا تجب حكومة منابتها، وأخذ حكومة الإصبع الشلاء؛ وهل يجب حكومة منبتها؟ فعلى الوجهين: فلو كانت يدُ المقطوع ناقصة بإصبع، أو فيها إصبعٌ شلاءُ، فقطع المجني عليه يد القاطع الصحيحة؛ فمات منه يجب عليه القصاص في النفس؛ كما ذكرنا فيما لو قطع الصحيحة بالشلاء.

فأما إذا قطع يداً صحيحة، ويدُ القاطع ناقصةٌ بإصبع له - قطع يده، ويأخذ دية الإصبع، وإن كانت في يد القاطع إصبعٌ شلاء - فللمجني عليه قطع يده، ولا شيء له سواه. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: إذا اختار القصاص -لا شيء له معه في الصورتين جميعاً. قلنا: بينهما فرقق من حيث إن نقصان الشلل نقصانٌ وصفٍ، ونقصان الإصبع [نقصان] جزء، والدية تتوزع على الأجزاء لا على الأوصاف؛ كما لو أتلف على إنسان صاعيْ حنطةٍ، وللمتلف صاعٌ واحدٌ. أخذه المتلف عليه مع بدل الصاع الآخر. ولو أتلف عليه صاعاً جيداً، وعنده صاعٌ رديء، ورضي به المتلف عليه - أخذه، ولا شيء له في مقابلة نقصان الوصف، ولو قطع كفاً - لا إصبع عليها، فلا قصاص؛ إلا أن يكون للقاطع مثلها؛ فيقتص بل عليه الحكومة، ويجوز أن تزاد حكومة الكف على أرش أنملتين. ولا تبلغُ دية الأصابع الخمس، وهل يجوز أن تبلغ دية إصبعٍ، أو يزادُ عليها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الكف تبعٌ لكل إصبع. والثاني: يجوز- وهو الأصح - لأنها تبع لجميع الأصابع؛ لأنها منبتُ جميعها، وإن كان المقطوع أصابع شلاواتٍ، وكفه حيةٌ - عليه حكوماتٌ، ويجوز أن [يزاد حكومة] الكف على حكومات الأصابع؛ لأن الحي لا يتبع الميت، وتقطع اليد البيضاء بالسوداء، والسليمة بالبرصاء، ويد الصانع بيد الأخرق [وتقطع الصحيحة بين الأخرق] ولا تقطع [الصحيحة الأظافير] بيدٍ لا أظافير عليها، بل فيها ديةٌ ناقصةق بشيء، وتقطع التي لا أظافير عليها بالصحيحة، وإن كانت أظافيره خُضراً أو سُوداً [يقتص بها البيض، إن] لم يكن ذلك

لعيبٍ أو شللٍ، وتقطع يدُ غير الأعسم بيد الأعسم، ورجلُ غير العرج برجلِ الأعرج، وفيها كمالُ الدية؛ لأن العسم والعرج ليس في الكف والعدم، إنما هو [تشنج أو تكسُّ] في المرفق والركبة. فإن كانت أصابع إحدى يديه وكفها أقصر من الأخرى، فقطع القصرى لا قصاص فيها؛ لأنها ناقصةٌ، وفيها دية ناقصة بحكومة، ولا تقطع اليد اليمنى ولا الرجل اليمنى، باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وكذلك: في الأذن والعين؛ كما لا تُقطع في الأصابع السبابة بالوسطى، ولا إصبعُ بأخرى، وكما لو وجب القصاص على رجلٍ - لا يُقتل مكانه آخر. فصلٌ إذا قطع يد إنسانٍ، وللمقطوع ست أصابع - تُقطع يده، وتؤخذ حكومةٌ للإصبع الزائدة؛ سواء كانت الإصبع الزائدة متميزة، أو كانت الزيادة متفرقة في الكلُ. وإن كان لكل واحدٍ إصبع زائدة - يقتص منه، إذا استوت الزائدتان في المحل والحلقة. وإن كان للقاطع ست أصابع دون المقطوع - لم يكن له [قطع] كفه بل ينظر: إن كانت الإصبع الزائدة زائلة عن سنن الأصابع الأصلية - فله أن يقطع أصابعه الخمس، وهل يأخذ حكومة الكف؟ فيه وجهان؛ أصحهما: يأخذ. وإن كانت الإصبع الزائدة وبجنب إصبع، لو قُطعت التي بجنبها، سقطت الزائدة - لم تُقطع التي بجنبها، بل تقطع أربع من أصابعه، ويأخذ دية إصبع، ويدخل فيها حكومة منبتها. وإن كانت الزائدة على سنن الأصابع - نظر: إن علمت (الزائدة - فله) قطع الأصليات؛ كما ذكرنا، وإن لم تعلم الزائدة -لم يكن له قطع شيء منها، بل يأخذ الدية؛ لأنه لا يدري أن التي يقطعها كلها أصلياتٌ أم الزائدة [فيها]- فلو بادر وقطع خمساً منها - عُزر، ولا شيء عليه؛ لأنه يحتمل أنه قطع الأصليات. ولو قطع الكل- عليه رد حكومة الزائدة.

وإن قال أهل البصر كلها أصلياتٌ [تفرقت ستاً]- فله قطع خمسٍ منها، ويأخذ سدس دية يد الأشل، وليس له قطع الكل، لأنها زائدة في العدد. قال الشيخ رحمه الله: ولو قطع الكل - عزر، ولا شيء، عليه. لو قال أهل البصر: لا ندري أن الكل أصلياتٌ تفرقت ستاً، أواحدة منها بعينها زائدة - لم يكن له قطع شيء منها، فلو قطع - عُزر، ولا شيء له، ولا عليه؛ [لأنه إن] قطع الكل - يحتمل أن لكل أصلياتٌ، ولا شيء عيه، وإن قطع خمساً منها- يحتمل أن الباقية زائدةٌ، وقد قطع الأصليات. ولو قطع من له ست أصابع، - وقال أهل البصر: كلها أصلياتٌ تفرقت ستاً - إصبعاً ممن له خمس أصابع-: تُقطع إصبع من أصابعه، ويؤخذ منه ما بين سدس دية يد وخمسها، وهو بعيرٌ وثلثاً بعيرٍ. فلو قطع من له خمس أصابع إصبعاً من الست - فلا قصاص، ويأخذ منه سدس دية يدٍ، وتقطع الزائدة بالأصلية؛ إذا كانت في محلها بأن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبعٌ زائدةٌ -كف من له خمس أصابع أصلية- فللمجني عليه أن يقطع كفه؛ لأنه دون حقه، ولا شيء له لنقصان الأصابع الزائدة؛ لأنها في محل الأصلية، غير أنها ناقصة، وقد رضي بها؛ كما لو رضي بالشلاء عن الصحيحة. ولو قطع إصبعاً لها أربع أنامل وقال أهل البصر: لم يخرج عن أصل الخلقة، وكلها أصلياتٌ، وللقاطع ثلاث أنامل - يقطع إصبع القاطع، ولو قطع أنملة منها - لا تقطع أنملته، وعليه ربع دية إصبع، وهو بعيران ونصفٌ، ولو قطع أنملتين منها - له أن يقطع أنملة من أنامله، ويأخذ ما بين نصف دية إصبع وثلثها، وهو سدس دية إصبع: [بعيرٌ وثلثان. ولو قطع ثلاث أنامل منها - له قطع أنملتين منه، ويأخذ ما بين ثلاثة أرباع دية إصبع، وثلثيها، وهو نصف سدس دية إصبع:] خمسةٌ أسداس بعيرٍ، ولو قطع من له أربعةُ أنامل هكذا أنملةً [فمن له ثلاث أنامل - يقطع أنملة] من أنامله، ويؤخذ ما بين ربع دية إصبع وثلثها، وهو خمسةُ أسداس بعيرٍ.

ولو قطع أنملتين - تقطع منه أنملتان، ويؤخذ ما بين نصف دية إصبع [وثلثها] وهو بعيرٌ وثلثا بعيرٍ. ولو قطع إصبع من له ثلاث أنامل - هل تقطع إصبعه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا تقطع؛ لأنها زائدةٌ في عدد الأنامل؛ كما لو كان لقاطع اليد ست أصابع، كلها أصليات، لا تقطع يده بيد من له خمس أصابع، بل تقطع بثلاث أنامل منها، ويؤخذ ما بين ثلاثة أرباع دية إصبع وبين جميعها، وهو بعيران ونصفٌ قال [الشيد] رحمه الله: فعلى هذا: لو بادر، وقطع إصبعه عُزر، ولا شيء عليه من الدية. والثاني: له قطع إصبعه؛ بخلاف اليد التي لها ست أصابع؛ لأن تلك الزيادة ظاهرة في منفصلات؛ كاليدين. ولو كان لإصبعه أربع] أنامل خارجة عن أصل الخلقة - فالعليا منها زائدة، فلو قطع رجلٌ تلك الإصبع - تقطع إصبعه، ويؤخذ منه حكومةٌ، ولو قطع أنملة منها - فلا قود عليه، وعليه حكومةٌ. ولو قطع أنملتين - قطعت أنملة منه، وتؤخذ حكومةٌ، ولو قطع ثلاث أنامل - تقطع منه أنملتان، وتؤخذ حكومةٌ للزائدة. ولو قطع من له أربع أنامل هكذا - إصبع إنسانٍ -: لا تقطع إصبعه؛ لأنها زائدة، بل عليه الدية. ولو قطع أنملة إنسان، ولها طرفان - تقطع أنملة القاطع، ويؤخذ منه حكومةٌ، فإن كان للقاطع مثلها - قطعت، ولا حكومة عليه، وإن كان لأنملة القاطع طرفان: فإن عُرفت الأصلية منها، وأمكن قطعها - قطعت، وإلا فلا قصاص عليه، وعليه ثلث دية إصبع. وإذا قطع الأنملة العليا من إصبع إنسان، وقطع الأنملة الوسطى من تلك الإصبع من الآخر - فلصاحب العليا القصاص أولاً، وإن كان قطع الوسطى سابقاً؛ لأن صاحب

الوسطى لا يمكنه استيفاء حقه، مع بقاء الأنملة العليا، ثم بعدما قطع صاحب العليا أنملته - يقطع صاحب الوسطى وُسطاه، فلو عفا صاحب العليا -فلا قصاص لصاحب الوسطى؛ ما دامت العليا باقية، فإن سقطت العليا - له قطع الوسطى، فلو جاء صاحب الوسطى أولاً، وقال لا أعفو، ولكن أعطوني شيئاً على تأخير حقي [لا يُعطى]، لأن القود باقٍ؛ فلا يعطى المال مع بقاء القود. وكذلك: الحامل إذا وجب عليها القصاص، فقال الولي: أعطوني شيئاً إلى أن تضع [الحامل]، فاقتص - لا يعطى، وقيل: يعطى الدية، ثم هل يسقط القصاص أم إذا زالت العليا أو وضعت الحمل - له أن يرد الدية، ويستوفي القصاص؟ فيه وجهان: ولو قطع النملة العليا من إصبع، وقطع العليا والوسطى من تلك الإصبع من آخر - نظر: إن سبق قطعُ العليا - فلصاحبها القصاص، ثم صاحب الأنملتين، إن شاء قطع الوسطى، وأخذ دية العليا، وإن شاء عفا، وأخذ دية الأنملتين؛ فلو بادر صاحب الأنملتين، وقطعهما - فقد استوفى حقه، ويأخذ صاحب العليا دية أنملته من الجاني، وإن سبق قطع الأنملتين - فلصاحبها قطع الأنملتين، ويأخذ صاحب العليا دية أنملته، ولو خلقت له يدان: إما كفان على ذراع واحدٍ، أو ذراعان وكفان على عضدٍ واحدٍ، أو عضُدان وذراعان وكفان على منكب واحدٍ، أو خُلقت له رجلان: إما قدمان على ساقٍ واحد، أو ساقان وقدمان على ركبة واحدة - ينظر. إن كان يبطش بإحدى اليدين، ويمشي بإحدى الرجلين - فهي أصلية؛ يجب فيها القصاص أو الدية، وفي الأخرى: الحكومةُ، وإن كانت الباطشة منحرفةً عن سنن الذراع، وغير الباطشة على مستوى الذراع؛ لأن اليد خلقت للبطش - فهو أدل على كونها أصلية [من كونها] على مستوى الذراع، فإن كانتا باطشتين، وإحداهما أكثر بطشاً - فهي الأصلية، وإن كانت منحرفةً عن مستوى الذراع. وإن استوت في البطش، وإحداهما على مستوى الذراع -: فهي الأصلية؛ ففيها القصاص

أو كمال الدية لليد، وفي الأخرى: الحكومةُ، وإن استويا فيه، وإحداهما ثابتة الأصابع، والأخرى ناقصة الأصابع- فالتي هي تامة الأصابع - أصليةٌ؛ ففيها القصاص أو كمالُ دية اليد، وفي الأخرى الحكومة. وإن استويا في تمام الأصابع إلا أن في إحداهما إصبعاً زائدةً - لا يقع به الترجيح؛ لأن الإصبع الزائدة قد تكون في الأصلية، فإن استويا في الدلائل - فهما كيدٍ واحدةٍ، وإن قطعهما قاطعٌ - يجب عليه القود أو كمال دية يدٍ وحكومةٌ للزائدة، وإن قطع أحداهما - فلا قصاص، وفيها نصف دية يدٍ، وزيادة حكومةٍ. وإن قطع إصبعاً من أحدهما - فعليه نصف دية إصبعٍ وزيادة حكومةٍ؛ لأنها نصفُ إصبع زائدةٍ. وإن قطع أنملة إصبع من أحدهما - فعليه نصف دية [إصبعٍ] وزيادة حكومةٍ. فلو قطع من له يدان هكذا يد آخر - لم تُقطع [به] يداه لوجود الزيادة قال الشيخ رحمه الله: [و] لا تقطع [أحداهما]؛ لأنا لا نعلم الأصلية، وقيل: تقطع [أحداهما]، ويؤخذ نصف دية يد الأشل، فلو كانت أحداهما باطشةً، فقطعها قاطعٌ، واستوفينا القصاص أو الدية، ثم صارت الأخرى باطشةً، أو كانت ناقصة البطش؛ فصارت تامة البطش، [فقطعها] قاطعٌ - يجب فيها القصاص أو كمال دية اليد، ولا يجب رد شيءٍ من الدية إلى الأول؛ بخلاف السن ينبت؛ لأن نبات السن - هنا - في محل القلع. ولو قطع من له يدان باطشتان أو رجلان ماشيتان - يد رجلٍ أو رجله - لم يكن له قطع يديه؛ لأنه يستوفي أكثر من حقه، وله قطع إحدى يديه، ويأخذ نصف دية يد الأشل؛ فإن بادر، وقطعها - عُزر، وعليه حكومة للزيادة، ولو قلع سناً زائدةً أو قطع إصبعاً زائدةً، وللجاني مثلها في محلها - يقتص منه، وإن اخُتلف في المحل - فلا يقتصن بل تؤخذ الحكومة، وهل تعتبر المساواة في الصغر والكبر؟ فيه وجهان:

أحدهما: قاله صاحب التقريب-: لا تعتبر، كما في الأصلية. والثاني: تعتبر؛ قاله أبو إسحاق؛ لأنه ليس لها اسمٌ مخصوصٌ حتى يعتبر الاتفاق في الاسم؛ بدليل أنهما لا يستويان في الحكومة، فعلى هذان كان سن الجاني أطول أو أعرض، أو [إصبعه] أطول أو أغلظ - لا يقتص، وإن كان من الجاني أصغر - يقتص، وتؤخذ حكومةٌ بقدر النقصان، ويقطع الذكر بالذكر، ويُقطع ذكر الفحل الشاب بذكر الشيخ، والخصي والصبي والعنين، لأن العُنة ليست لنقصٍ في العضو؛ سواء كان ينتشر ذكرُ المجني عليه ولا ينتشر؛ إلا أن يكون به شللٌ، فإن كان منقبضاً لا ينبسط أو منبسطاً لا ينقبض - فلا قود فيه إلا إن يكون القاطع مثله، وفيه الحكومة. وعند أبي حنيفة: لا يقطع ذكرُ الفحل بذكر العنين والخصين وبالاتفاق: يقطع أنثى الفحل بأنثى المجبوب، ويُقطع ذكر الأقلف بذكر المختون؛ لأن الجلدة الزائدة في ذكر الأقلف مستحقة القطع. ولو قطع بعض ذكره - يُقطع منه بذلك القدر باعتبار الجريمة؛ كما ذكرنا في الأنف والأذن. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يقطع بعضه ببعض، وكذلك نقول في اللسان والشفة والأذن والأنف. والمذهب الأول؛ لأنه يمكن اعتبار المماثلة فيه، وكمال الدية في الذكر يجب لقطع الحشفة، وفي قطع الباقي الحكومة، ولو قطع رجلٌ جميع ذكره فيدخل حكومة الأسفل في دية الحشفة. ولو قطع نصف حشفته - عليه نصف الدية. ولو شق ذكره - ففيه الحكومةُ؛ فإن أول إلى مجرى البول - فعليه حكومةٌ زائدةٌ، ولا تجب دية الجائفة، فإن أوصل إلى المثانة - فديةُ الجائفة تجب. قال الشيخ رحمه الله: وحكومةٌ لشق الذكر، ولو قطع أنثييه أو لهما يقتص منه، فإن عفا ففيهما كمال الدية، ولو قطع أو سل إحدى أنثييه، وقال أهل البصر يمكن أن يقتص من غير إتلاف الأخرى - يقتص منه، وإن لم يمكن - فلا يقتص، وتجب نصف الدية. ولو دق خصيتيه - يقتص بمثله، إن أمكن، وألا فتؤخذ الدية.

ولو قطع ذكره وأنثييه - فله القصاص فيهما؛ سواءٌ قطعهما معاً [قطع] أو أحدهما قبل الآخر. وإذا عفا - ففيهما ديتان. وقال أبو حنيفة: إن قطعهما معاً، أو قطع الذكر أولاً - ففيهما القود أو ديتان، وإن قطع الأنثيين أولاً، ثم الذكر - له القود في الأنثيين دون الذكر، وعليه دية الأنثيين، وحكومة للذكر، وتقطع الأليتان بالأليتين، وهما: ما أشرف على الظهر الناتئان إلى استواء الفخذين؛ لأن فيهما منفعة تامة، فإن الصبر على الجلوس - لا يمكن إلا بهما، وعند العفو: يجب فيهما كمالُ الدية، ولا يشترط الإيصال إلى العظم، وفي إحداهما القصاص أو نصف الدية، ويقتص البعض بالبعض، أو تؤخذُ بقدره من الدية؛ سواءٌ استويا في السمن والهُزال، أو اختلفا، وفي شفري المرأة - القصاصُ أو كمالُ ديتهما، وهو أن يُرفع اللحمُ المشرفُ المحيطُ بالفرج من الجانبين؛ سواءٌ استويا في السمن والهُزال، أو اختلفا، وفي إحداهما - القصاصُ أو نصفُ الدية، ويقطع البعضُ بالبعضِ، أو يأخذ بقدره من الدية. ومن أصحابنا من قال: لا يجب القصاص في الأليتين، ولا في الشرفين؛ لأنهما لا مفصل لهما ينتهي إليه. والأول المذهب، والمنصوص؛ لأن لهما حداً ينتهي إليه والله أعلم. فصلٌ لا يجب القصاصُ في الطرف بالسراية؛ حتى لو قطع أصبع إنسان، فسرى] إلى الكفِّ - لم يكن له قطعُ كفه، ولا قطعُ إصبعه، ويأخذ أربعة أخماس دية [يدٍ] مغلظة من ماله؛ لأن وجوبها بسراية جنايةٍ موجبةٍ للقود، ولا تجب حكومة منابت الأصابع الأربع التي أخذ ديتها، وهل تجب حكومة فنتب الإصبع التي قطعها؟ فعلى الوجهين: وعند أبي حنيفة: لا قصاص له في الإصبع.

فنقول: هذا قطعٌ لو وقف - وجب به القود، [فإذا سرى - لا] يسقط؛ كما لو قطع يد امرأة حاملٍ - لا سقط القطع عنه بإلقاء الجنين، فإذا قطع إصبع الجاني قصاصاً، فسرى إلى الكفِّ - نص على أن السراية لا تصيرُ قصاصاً بالسراية؛ حتى يجب على المقتص منه أربعةٌ أخماسِ ديةِ [يدٍ] ونص فيما لو شجة موضحةً، فذهب ضوءُ عينه وشعرُ رأسه - توضح رأسُ الجاني، فإن ذهب ضوء عينه، وشعرُ رأسه - صار قصاصاً، وإلا فعلى الجاني ديةُ البصر وحكومةُ الشعر؛ فهذا النص يدل على أن السراية بالسراية - لا تصير قصاصاً في الطرف: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: تصير السرايةُ بالسراية قصاصاً؛ كما في النفس: [فإنه إذا قطع يد إنسانٍ؛ فسرى إلى النفس؛ فقطع الولي يد الجاني؛ فسرى إلى النفس] يصير قصاصاً. والثاني: لايصيرُ قصاصاً؛ بخلاف النفس، لأن القصاص يجبُ في النفس بالسراية؛ فتصير السراية بالسراية قصاصاً، [وفي الطرف: لا يجب القصاص بالسراية، ولا تصير السراية بالسراية قصاصاً [وفي الطرف: يجب القصاص بالسراية]] ومنه من فرق على ظاهر النص، وهو المذهب، وقال: إذا سرى إصبع الجاني إلى الكف - لا تصيرُ قصاصاً. وفي الموضحة: إذا ذهب بصرُ الجاني - يصير البصر بالبصر قصاصاً؛ لأن البصر إذا ذهب بالموضحة - يجب فيه القصاصُ؛ فصار مستوفياً. وقال الشافعي - رضي الله عنه-: اقتص من الموضحة؛ بأن ذهبت عيناه، ولم ينبت شعره، فقد استوفى حقه، أراد به شعر موضع الموضحة، أما إذا ذهب شعر [ما حوالي] الموضحة من المجني عليه - يجب على الجاني حكومته، وإن ذهب من الجاني ذلك في الاقتصاص؛ كما في السراية إلى الكف. فصلٌ إذا قطع طرف إنسانٍ - نص على أنه يجوز أن يقتص في الحال، ونص على أنه لا يأخذ الأرش قبل الاندمال:

اختلف أصحابنا فيه؛ فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين: أحدهما: له استيفاؤهما في الحال؛ لوجود الجناية. والثاني: لا يستوفي حتى تندمل؛ لأن الدية ربما تنقص بالسراية، والقود ربما يزيد. والمذهب: الفرق، وهو أن له استيفاء القصاص في الحال؛ لأن قطع [ذلك] الطرف ثابت للمجني عليه، وإن سرت الجراحة أو شاركه في القتل غيره، وأما الدية - فلا تؤخذ؛ لأنا لو أخذنا منه ديتين بقطع يديه ورجليه - فربما يسري فيعود إلى دية واحدةٍ، [ولو أخذنا ديةً واحدةً بقطع يديه] فربما شاركه في الجرح [جماعة] فيموت من الكل؛ فنعود إلى أقل مما أخذنا منه. فصلٌ في الاختلاف إذا قطع طرفاً من إنسان، ثم اختلفا في سلامته - نظر: إن كان من الأعضاء الظاهرة؛ كاليد والرجل واللسان والبصر. فن قال الجاني: كانت اليدُ أو الرجل شلاء، أو [كان] اللسان أخرس، والحدقة عمياء، وادعى المجني عليه سلامته - نظر: إن أنكر الجاني أصل السلامة، وقال: خلقت كذلك - فالقول قوله مع يمينه؛ لأن المجني عليه يمكنه إثباته السلامة بالبينة. ولو اتفقا على أنه خلق سيماً، وادعى الجاني حدوث النقص - فعلى قولين: أحدهما: القول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته. والثاني: قول المجني عليه، مع يمينه، وهوا لأصح؛ لأن الأصل بقاء سلامته. وقال في "كتاب الديات": على المجني عليه البنية، قيل: هو جواب على قولنا: إن القول قول الجاني، وقيل: على القولين: يسمع بينة المجني عليه؛ كالمودع إذا ادعى تلف

الوديعة - يقبل قوله وتُسمع بينته، وإن كان من الأعضاء الباطنة؛ كالذكر والأنثيين - ففيه قولان: أصحهما: أن القول قول المجني عليه مع يمينه؛ سواءٌ أنكر أصل السلامة أو ادعى حدوث الشلل بعد السلامة؛ لأنها تكون مستورة يتعذر إثبات سلامتها بالبينة. وعلى هذا: لو هدم بيتاً على قوم، ثم ادعى أنهم كانوا موتى، وقال الأولياء: بل كانوا أحياء، أو قَدَّ ملفوفاً بثوب، ثم ادعى أنه كان ميتاً، فقال الولي: بل كان حياً، أو قتل شخصاً ثم ادعى أنه كان عبداً - فليس عليَّ إلا القيمةُ، وقال الولي: بل كان حراً - فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: فإن قال: القول قول الولي: فإذا حلف - تثبت له الدية، ولا يجب القود؛ لأنه يسقط بالشبهة. وكل موضع جعلنا القول قول الجاني - فتسمع بينةُ الولي، ويسمح للشهود - أن يشهدوا على أنه كان حياً إذا كانوا [رأوه تلفف بالثوب]، أو رأوا الجماعة دخلوا البيت، وإن لم يعرفوا حياتهم حالة القد والهدم. ولو شهدوا هكذا؛ أنا رأيناه تلفف بالثوب، أو دخل البيت حياً - لا يحكم به، ولكن هذه الرؤية تثبت لهم إطلاق الشهادة على حياتهم حالة القد والهدم. وكذلك: لو شهدوا على سلامة العين - يسمح لهم أن يشهدوا؛ لأنه كان بصيراً؛ إذا كانوا رأوه يتبع بصره شيئاً، [ويتوفاه زماناً طويلاً] ولو رأوه يتبع بصره شيئاً زماناً يسيراً - لم يكن لهم أن يشهدوا على بصارته؛ لأنه قد يتفق ذلك من الأعمى. وكذلك: المعرفةُ بانبساط اليد والذكر وانقباضهما، هذا: كما أن من رأى ضيعةً في يد إنسان مدة طويلة يتصرف فيها تصرف الملاك من غير منازع - جاز له أن يشهد له بالملك مطلقاً، ولو قطع يدي إنسان ورجليه، فمات قبل الاندمال؛ فاختلفا؛ فقال الجاني: مات بالسراية، أو أنا قتلته فليس عليَّ إلا ديةٌ واحدةٌ، وقال الولي: بل قتله آخر، أو قتل نفسه، أو

تردى من جبل، فعليك ديتان - فالقول قولُ الولي مع يمينه؛ لأن الأصل وجوبُ الديتين عليه. ولو اختلفا في الاندمال، فقال الجاني: مات قبل الاندمال بالسراية، وقال الولي: بل بعد الاندمال: فإن كان الزمانُ لا يحتمل الاندمال - فالقول قول الجاني بلا يمين، وإن كان يحتملُ - فالقول قولُ الولي مع يمينه. [ولو اختلفا في مضي مدة الاندمال - فالقول قول الجاني مع يمينه] لأن الأصل عدم مضي المدة، ولو اتفق على أن الجاني قتله، فقال: قتلته قبل الاندمال - فليس عليَّ إلا ديةٌ واحدةٌ، وقال الولي: بعد الاندمال - فعليك ثلاث ديات، والزمان يحتمل الاندمال - ففي الديتين: القول قول الولي مع يمينه، وفي [القول] الثالث: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته عنها. وكذلك: لو أوضح رأسه موضحتين، وارتفع الحاجزُ بينهما قبل الاندمال، فاختلفا، فقال الجاني: ارتفع الحاجز بالسراية، أو أنا دفعته - فليس عليَّ إلا الأرش موضحةً واحدةً، [وقال] المجني عليه: بل دفعه آخر؛ فعليك ديتان - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل وجوب الديتين عليه، ولو اتفقا على دفع الجاني الحاجز بينهما، واختلفا: فقال الجاني: رفعت قبل الاندمال؛ فليس عليَّ غلا أرش موضحةٍ واحدةٍ، وقال المجني عليه: بل بعد الاندمال؛ فعليك أرش ثلاث موضحات، والزمان يحتمل الاندمال - ففي أرش الموضحتين القول قول المجني عليه، وفي الثالث القول قول الجاني مع يمينه. ولو قال الجاني: أوضحت موضحةً واحدةً، وقال المجني عليه: بل موضحتين، وأنا رفعتُ الحاجز - فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. ولو قطع إحدى يديه، أو جرحه؛ فمات قبل الاندمال؛ فاختلفا: فقال الجاني: قتل نفسه أو قتله آخر أو شرب سُماً موحياً - فليس عليَّ إلا نصف الدية أو أرش الجراحة، وقال الولي: بل مات بسراية جنايتك؛ فعليك ديةٌ كاملةٌ - ففيه وجهان: أصحهما: القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم سببٍ آخر. ولو اختلفا في الاندمال، فقال الوليٌّ، [مات] قبل الاندمال [بسراية جنايتك، وقال

الجاني: بل بعد الاندمال، والزمان يحتمل الاندمال]- فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الظاهر معه، والأصل براءة ذمته. ولو اختلفا في مضي مدة الاندمال - فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيه. ولو عاد الجاني، فقتله، واختلفا: فقال الجاني: [كان] قبل الاندمال؛ فعلى ديةٌ واحدةٌ، وقال الولي [بل] بعده؛ فعليك ديةٌ ونصفٌ - فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فصلٌ إذا وجب القصاص على رجلٍ في يمينه، فقال من له الحق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها - ففيه [ثلاثة] أحوال للمقتص منه، يترتب على كل حالةٍ منها أحوالٌ للمقتص. إحدى أحوال المقتص منه: أن يقول: علمتُ أن اليسار لا تقوم مقام اليمين؛ فبدلتها عمداً - فلا قصاص، ولا دية على المقتص في اليسار؛ لأن الباذل بذلها مجاناً، ثم يُنظر في المقتص فإن قال: علمت أنها يسارٌ، وأنها لا تقوم مقام اليمين، فقطعتها عمداً - فعليه التعزير، وإن قال: كنت جاهلاً، ولم أرد أنها يساره، أو قطعت لا على بصرة فلا تعزير. وفي الحالتين: قصاصه من اليمين باقٍ، وإن قال المقتص: علمت أنها يساره، ولكن ظننت أنها يمين- يسأل المقتص: فإن قال: كنتُ عالماً أنها يساره، وأنها لا تقوم مقام اليمين فقطعتها عمداً - يجب عليه القصاص في اليسار، وقصاصه باقٍ في يمين المقتص منه.

ولو قال: ظننت أنه بذل اليسار مجاناً - قال الشيخ رحمه الله: بهذا لا يسقط القصاص عنه؛ كمن قتل إنساناً، ثم قال: ظننت أنه أذن لي، ولو قال: ظننت أنها يمينه، أو قال: دُهشت - فلا قصاص عليه؛ بل عليه نصف الدية لليسار، وقصاصه باقٍ من يمين المقتص منه. ولو قال المقتص: علمتُ أنها يساره، وظننت أنها تقع موقع اليمين - لا قصاص عليه في اليسار، ويسقط قصاصه عن يمينه، وعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف الدية. الحالة الثالثة من أحوال المقتص منه: أن يقول: علمت أنها اليسار، وظننت أن اليسار تقوم مقام اليمين - يسأل المقتص: فإن قال: علمت ظنه، وعمدت قطع يساره - فهل عليه القصاص في اليسار؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجب؛ لأن المقتص منه بذلها؛ بل عليه نصف الدية؛ لأنه لم يبذلها مجاناً. والثاني: يجب لها القصاص؛ لأنه قطعها عمداً. وعلى الوجهين: قصاصه في يمينه باقٍ. ولو قال: ظننت أنها يمينه - فلا قصاص عليه في اليسار؛ بل عليه نصف الدية، وقصاصه باقٍ في [يمين المقتص منه] ولو قال: علمت أنها يساره، وظننت أن اليسار تقع موقع اليمين - لا قصاص عليه، ويسقط قصاصه عن يمين المقتص منه، ولكل واحدٍ على الآخر نصف الدية؛ كما في الحالة الثانية، وفي الحالتين الأخريين؛ إذا قال المقتص: ظننت أنه يمينه - وجه آخر؛ أنه يجب عليه القصاص في اليسار؛ كما لو قتل شخصاً، ثم قال: [ظننت أنه قاتل أبي]؛ فلم يكن يجب عليه القود. ولو اختلفا، فقال المقتص: أبحتُ يسارك، فبذلتها مجاناً، وقال المقتص منه: لم أبح، بل أخرجت لتقطع مكان اليمنى - فالقول قول المقتص منه مع يمينه، وعلى المقتص الدية. ولو كان المقتص منه مجنوناً، فأخرج يساره - فهو كما لو كان مدهوشاً. أما في السرقة: إذا قال الجلاد: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها - قيل: هو كالقصاص، والمذهب: أنه يسقط عنه قطع اليمين في الأحوال كلها؛ لأن قطع اليسار له مدخل في السرقة؛ إذا كان [فقد اليمين]؛ وذلك لأن المقصود من قطع السرقة: التنكيل

بتنقيص البطش، وقد حصل بقطع اليسار؛ بخلاف القصاص؛ فإن المساواة فيه شرطٌ، وكان شيخي رحمه الله يقول: هذا صحيحٌ في الحالتين الأخريين، أما الحالة الأولى؛ إذا بذل السارق يساره عمداً، فقطعت - وجب ألا يسقط عنه قطع اليمين؛ كما لو وجب عليه قطع اليمين في السرقة [فقطعت] يساره، أو قطع يسارُ نفسه، أو قطع رجلُ يساره ظلماً - لا يسقط عنه قطع اليمين. وكذلك: لو قطع بعد السرقة يسار إنسان - تقطع يساره قصاصاً، ولا يسقط عنه قطع اليمين بسبب السرقة، فكل موضع قلنا: القصاص باقٍ في يمين المقتص منه - لا تقطع يمينه ما لم يبرأ يساره؛ حتى لا يتعاون القطعان على زهوق الروح؛ كما لو قطع يمين رجلٍ ويسارَ آخر معاً، أو على الترتيب، فاقتص لأحدهما - لا يقتص للثاني، ما لم يندمل الأول؛ بخلاف ما لو قطع يمين رجلٍ ويساره دفعةً واحدةً - له قطعها منه دفعةً واحدةً. ولو وجب له القصاص في اليمين، فصالحه على قطع اليسار - لم يصح الصلح؛ لأن الدماء لا تستباح بالعوض. وإذا قطع يساره - لا قصاص عليه؛ لأن صاحبها بذلها، وهل يسقط القصاص عن اليمين بهذا الصلح؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأن عدوله إلى العوض رضاً منه بسقوط القصاص. والثاني: لا يسقط؛ لأنه لم يسلم له البدل؛ فلا يسقط حقه عن البدل. فإن قلنا: يسقط [حقه عن البدل]- فله دية اليمين، وعليه دية اليسار - فيتقاصان. وإن قلنا: لا يسقط - فله القصاص في اليمين، وعليه دية اليسار؛ لأن الباذل لم يبذله مجاناً، والله أعلم. باب عفو المجني عليه قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 178]: من وجب له حق على آخر - فالعفو عنه مندوبٌ إليه مستحبٌّ؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]: ومن ثبت له القصاص في نفس أو طرف، فعفا عنه - يسقطُ.

ولو ثبت قصاص واحد لجماعة، فعفا واحد منهم - يسقط كله، لأنه لا يتجزأ، ولو ثبت له القصاص في النفس، فعفا عن عضو من أعضاء الجاني أو عن شعره يسقط كله؛ كما لو طلق بعض امرأته - تطلق كلها، ولو قطع يد إنسان، ثم حز رقبته قبل الاندمال: فإذا عفا الولي عن قطع الطرف - لا يسقط حر الرقبة، ولو عفا عن النفس - له قطع طرفه؛ لأنهما جنايتان؛ فالعفو عن إحداهما [لا يسقط] الأخرى. ولو قطع يد إنسان، فسرى إلى النفس، ثم عفا الولي عن النفس - لم يكن له قطع الطرف؛ لأن القطع الساري قتلٌ، وقد عفا عن القتل. ولو عفا عن قطع الطرف - هل له حز الرقبة؟: فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ كما لو قطع يده، ثم حز رقبته، فكأنه عفا عن الإيلام بقطع الطرف. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الجرح الساري على النفس قتلٌ، وقد عفا عن بعض القتل. ولو جنى على رجل جناية، فعفا المجني عليه عن القصاص، ثم سرت الجناية إلى النفس - نظر: إن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص، مثل قطع اليد والرجل - فلا يجب القصاص في النفس؛ لأنه عفا عن بعضه. وإن كانت الجناية مما لا [قصاص فيها] كالجائفة ونحوها - يجب القصاص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه؛ فلم يعمل عفوه، ولو قطع رجلٌ إصبع إنسان، فعفا المجنيُّ عليه عن القود والعقل قبل الاندمال - فلا شيء على الجاني وإن وقعت الجنايةُ. وإن سرى بالقطع نظر: إن سرى إلى الكف يجب على الجاني أربعةُ أخماس دية يدٍ، وديةُ الإصبع سقطت بالعفو، وإن سرى إلى النفس - فلا قصاص في النفس؛ لأنه عفا عن الإصبع؛ فيصير شبهةً في سقوط القود عن النفس [وتجب دية النفس]، وهل تحط دية الإصبع - فعلى قولين؛ إن قلنا: الوصيةُ للقاتل، تصح: تحط إن خرج من الثلث- فعليه

تسعة أعشار دية النفس، وإن قلنا: لا تصح - فلا تحط، ويجب عليه دية النفس كاملة؛ وكذلك: لو عفا المجني عليه عن قطع الإصبع، وعن سرايته قوداً وعقلاً. فإن سرى إلى الكف - يجبُ عليه أربعةُ أخماس دية يدٍ، وإن سرى إلى النفس - فهل تسقط دية الإصبع-: فعلى قولي جواز الوصية للقاتل، ولا تسقط تسعة أعشار دية النفس؛ لأنه عفا عنها قبل الوجوب، والعفو عما لا يجب - لا يصح، هذا إذا عفا بلفظ العفو أو بلفظ الإبراء، أما إذا قال بلفظ الوصية: أوصيتُ لك بضمان هذه الجناية، وما يحدث منها براءٌ عن ضمان السراية على قولنا: إن الوصية للقاتل تصح؛ إذا خرج من الثلث، لأن الوصية تكونُ بعد الموت، وذلك يقبل من الغرر ما لا يقبله العفو والإبراء في الحياة؛ ألا ترى أنها تصح بالمعدوم وللمعدوم، وقيل: إن قال بلفظ الإبراء والعفو-: فهو - أيضاً - وصيةٌ، بدليل أنه يعتبر من الثلث؛ فيبرأ عن ضمان السراية، إذا خرج عن الثلث، على قول جواز الوصية للقاتل، والأول أصح؛ وكل موضع جوزنا العفو عن الدية عند السراية إلى النفس - فيكون معتبراً من الثلث، فإن خرج كله من الثلث- سقط كله؛ وإلا فبقدر ما خرج من الثلث. [إذا تقابل رجلان، فقتل كل واحد منهما صاحبه - قال رحمه الله: يجب على كل واحد منهما ديةٌ صاحبه؛ فيتقاصان، وإن مات أحدهما - والآخر حيٌّ، وبه جرحات - فلورثة القتيل القودُ، وفي تركة القتيل أروشُ جراحات الحي، فإن عفوا عن القتل: فإن كانت أروش الجرحات لاتزيد على الدية - تقاصا، وإن كانت الدية أكثر - أخذت الزيادة من مال الحي، وإن زادت أروش الجراحات - أخذت الزيادة من تركة القتيل، وإن تجارحا، وقال كل واحد: إن صاحبي كان قاصداً، وأنا كنت دافعاً - حلف كل واحد منهما؛ أنه ما قصد صاحبه؛ فإذا حلف - وجب على كل واحدٍ منهما أنه ما قصد صاحبه، فإذا حلف - وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه؛ لأن الجرح موجودٌ، ولم يثبت كونه دافعاً]. ولو جنى عبد على حرَّ خطأ أو جناية موجبة للمال، فعفا المجني عليه عن أرش الجراحة، ثم مات بالسراية، أو كان العفو في مرض آخر، مات منه - فهل يصح العفو؟ هذا يبنى على أن أرش جناية العبد يتعلق برقبة العبد أم يتعلق بذمته، ورقبته مرتهنةٌ؛ حتى يتبع بالفضل، إذا عتق فيه قولان:

أصحهما: يتعلق برقبته - فعلى هذا يصح العفو من الثلث؛ لأنه وصيةٌ لغير القاتل، وهو السيد. وإن قلنا: يتعلق بذمته - فيبنى على الوصية للقاتل إن قلنا: تصح - صح العفو من الثلث؛ وإلا - فلا يصح. هذا إذا عفا مطلقاً أمَّا إذا أضاف العفو نظر: إن أضاف إلى السيد، فقال: عفوت عنك؛ إن قلنا: يتعلق الأرش بالرقبة - صح العفو، وإن قلنا: بذمة العبد - فلا يصح؛ لأنه عفا عن غير من وجب عليه، وإن قال للعبد: عفوت عنك: فإن قلنا: يتعلق برقبته - لا يصح العفو، وإن قلنا: بذمته - فعلى قولي الوصية للقاتل. ولو جنى حُرٌّ على حرِّ خطأ، فعفا المجني عليه، ثم مات بالسراية - صح العفو من الثلث؛ لأن الدية على العاقلة؛ فهو عفوٌ عن غير القاتل؛ سواءٌ قلنا: تجب الدية على العاقلة ابتداء، أو تجب على القاتل، ثم تنتقل؛ لأنها كما وجبت - انتقلت. ولو أضاف العفو - نظر: إن عفا عن العاقلة، أو أطلق ونوى العاقلة - صح العفو. وإن عفا عن الجاني - لم يصح؛ لأنه عفو عن غير من عليه؛ لأن الوجوب لم يلاقه وإن لاقاه - فقد انتقل في الحال. هذا إذا ثبتت الجناية بالبينة، فإن ثبتت بإقرار الجاني، ولم تصدقه العاقلة - فالأرش يجب في ماله، إذا عفا المجني عليه - فهو وصيةٌ للقاتل، وفيه قولان: أما إذا عفا وارثه بعد موته عن جميع الدية مطلقاً، أو عن العاقلة - صح؛ لأنه عفوٌ لا من جهة المجني عليه. وإن عفا عن الجاني - لا يصح؛ لأنه عفو عن غير من عليه؛ إلا أن يكون ثبت بإقراره؛ فيصح؛ لأن الدية عليه لا على العاقلة. ولو جنى ذمي على إنسان خطأ، وعاقلته أهل حربٍ - فالدية من ماله؛ فلو عفا المجني عليه - فهو وصيته للقاتل؛ ففي صحته قولان. إذا تقاتل رجلان؛ فقتل كل واحد منهما صاحبه - قال الشيخ: تجبُ على كل واحد منهما

دية صاحبه؛ فيتقاصان، وإن مات أحدهما، والآخر حيٌّ وبه جراحات - فلورثة القتيل القود، وفي تركة القتيل أروش جراحات الحرِّ. وإن عفوا عن القتل: فإن كانت أروش الجراحات لاتزيد على الدية، تقاصا، فإن كانت الدية أكثر- أخذت الزيادة من مال الحر وإن زادت أروش الجراحات - أخذت الزيادة من تركة القتيل. وإن تجارحا، وقال كل واحد: إن صاحبي كان قاصداً، وأنا كنتُ دافعاً - حلف كلُّ واحد منهما؛ أنه ما قصد صاحبه: فإذا حلف - وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه؛ لأن الجرح موجودٌ، ولم يثبت كونه دافعاً. فصلٌ إذا جنى حرٌّ على حرٍّ جنايةً موجبة للقود، فصالح عن القود على عين [أو] ثوبٍ أو عبدٍ - جاز، وإن لم تكن الدية معلومة. ثم إذا تلفت تلك العين قبل القبض، أو خرجت مستحقة، أو جد بها عيباً، فردها - فلا رجوع له في القصاص؛ لأنه سقط بالصلح، وبماذا يرجع؟ فيه قولان: كالصداق إذا تلف قبل التسليم: إن قلنا: ضمانه في يد المعطي ضمانُ -: عقدٍ؛ وهو الأصح - يرجع بأرش الجناية وإن قلنا: ضمان يد - فيرجع بقيمة العين؛ إن كانت متقومة، وبمثلها إن كانت مثلية. وإن كانت الجناية موجبة للمال، فصالح عن الدية على عين، أو اشترى منه بها شيئاً: إما من العاقلة إن كانت خطأ أو من الجاني إن كانت عمداً، فعفا - نظر: إن جهلا أو أحدهما عدد الإبل وأسنانها - لا يصح الصلح [وإن علم عددها وأسنانها - ففيه قولان: أحدهما: لا يصح]؛ لأنها مجهولة الأوصاف؛ كما لو أسلم في شيء، ولم [يذكر الأوصاف] لا يصح. والثاني: يصح؛ لأن أسنانها معلومةٌ؛ كما لو اشترى عيناً، ولم يعرف صفاتها - يصح.

فإن قلنا: يصحُّ: فلو تلفت تلك العين قبل القبض، أو خرجت مستحقة عنه، أو وجد بها عيباً، وردها - يرجع بأرش الجناية قولاً واحداً؛ بخلاف ما لو صالح عن القود حيث قلنا: يرجع في قولٍ بقيمة العين؛ لأن - هناك - لا يمكنه الرجوعُ بما صالح، وهو القود، وههنا: يمكنه؛ فهو كالمبيع إذا رد بالعيب - يرجع بالثمن. وإن كانت الجانية امرأة، فتزوجها المجنيُّ عليه على القصاص، أو كانت قتلت رجلاً، فتزوجها وارثه على القصاص الثابت له - جاز، وسقط القصاص؛ لأن ما جاز الصلح عنه جاز أن يجعل صداقاً. فإن طلقها قبل الدخول- فماذا يرجع عليها؟ فيه قولان: أصحهما: بنصف أرش الجناية. والثاني: بنصف مهر المثل إذا كانت الجناية موجبة للمال، فتزوجها على الأرش - صح النكاح، ثم إن كان الأرش مجهولاً عند أحدهما؛ فيجبُ لها مهرُ المثل. وإن كان معلوماً عندهما - فعلى قولي جواز الاعتياض عن إبلِ الدية؛ إن جوزنا - صح، وإلا - فيجبُ لها مهر المثل. فحيث جوزنا الصلح: فإن كان الصلح عن الدية - فيجوزُ بلفظ"البيع" [و"الصلح" جميعاً، وإن كان الصلح عن القود - يجوز بلفظ "الصلح" ولا يجوز بلف "البيع"؛] لأنه إسقاط حق على عوض؛ كما لو صالح أهل الحرب على مال - جاز بلفظ الصلح"، ولا يجوز بلفظ "البيع". ولو جنى عبدٌ على حر جناية موجبة للقود، فصالح المجني عليه عن القود على عين - جاز؛ كما ذكرنا في جناية الحر على الحر. فإذا تلفت العين قبل القبض، أو استحقت، أوردها بعيب- فالقصاص ساقط، وبماذا يرجع: بقيمة العين، أو بأرش الجناية - فعلى القولين، ويكون على السيد؛ لأنه صار مختاراً للفداء: فإن قلنا بأرش الجناية [فعلى القولين، ويكون على السيد]- فض القديم: عليه أرش الجناية، وفي الجديد: الأقل من قيمة العبد أو أرش الجناية.

ولو صالح على رقبة العبد الجاني - جاز. فإن رده بعيبٍ - فالقصاص ساقطٌ، والأرشُ على رقبة العبد، ولا يصير السيد مختاراً للفداء؛ لأنه لم يقصد إبقاءه لنفسه؛ كما لو بيع العبدُ في الجناية لأجنبي. ورد بالعيب - كان الأرش على رقبته. وقال الشيخ رحمه الله: فإن مات العبد بعد الرد، أو مات بعد الصلح قبل التسليم - بطل الصلح، وسقط حق المجني عليه؛ لأن السيد لم يصر بهذا الصلح مختاراً للفداء. وإن كانت الجنايةُ موجبةً للمال، أو عفا على مال، فصالح عن الإبل على مال - هل يصح؟ فعلى ما ذكرنا من القولين. فإن قلنا: يصح الصلح: فإذا رد المال المصالح عليه بعيب، أو خرج مستحقاً، أو هلك قبل القبض - يرجع بالأرش قولاً واحداً؛ لأن الصلح وقع عن المال، ويكون السيد مختاراً للفداء، ثم يفدى بمال الأرش أوالأقل؟ قولان: وإن كانت الجناية موجبة للقصاص، فاشترى المجني عليه العبد بأرش الجناية - يسقط القصاص؛ لأن عدوله إلى الشراء بالأرش - اختيارٌ للمال، وهل يصح الشراء؟ فهو كما لو صالح عن الإبل عن جهل أحدهما عدد الإبل، أو سنها - لم يصح؛ وإن علما ذلك- فعلى قولين. أما إذا اشترى المجني عليه العبد الجاني بمالٍ آخر - جاز، ولا يسقط القود. ولو جنى عبدٌ على عبدٍ جنايةً موجبة للقود، فصالح مولى المجني عليه مولى الجاني عن القود على عين - جاز كما في جناية الحر [على الحر]؛ إذا ردها بعيب أو استحقت؛ بماذا يرجع؟ فعلى القولين وكان السيد مختاراً له؛ فإن قلنا: يرجع بالأرش - فيفدى السيد بالأقل من قيمة العبد الجاني أو أرش الجناية في الجديد، وفي القديم: بقيمة العبد الجاني ما بلغتْ. وإذا صالح عن القود على رقبة الحاني - جاز، وسقط القود، فإذا وجد به عيباً، ورده

- كان الأرش في رقبة العبد، ولا يكون السيد مختاراً. إن كانت الجناية موجبة للمال، فصالحه على مال - جاز إذا كان الأرش معلوماً قولاً واحداً؛ لأن الواجب فيها الدراهم أو الدنانير باعتبار السوق؛ كما لو جنى حرٌّ على عبدٍ، فصالحه سيده على مال بعد أن كان الأرش معلوماً - جاز، ثم إذا رده بعيب، أو تلف قبل القبض -رجع بالأرش ويكون السيد مختاراً. ولو صالح على رقبة العبد الجاني - جاز، فإذا رده بعيب - كان الأرش في رقبة العبد كما كان، ولا يكون السيد مختاراً، والله أعلم.

كتاب الديات

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الدياتِ باب أسنانِ الإبل قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية [النساء: 92]، وروي عن ابن عمرو؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"ألا عن في قتل العمد [و] الخطإ بالسوط والعصا - مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفةً في بطونها أولادها".

الأصل في الديات: الإبل؛ فمن قتل مسلماً حراً - تجب عليه مائة من الإبل. ثم إن كان القتل عمداً - فديته مغلةٌ من ثلاثة أوجهٍ: من [حيث] السنُّ، ومن حيث إنها تجب في مال الجاني، ومن حيث إنها تكون حالة. وإن كان القتل خطأً - فديته مخففة من الوجوه كلها؛ من حيث السن، وبأنها تكون على العاقلة مؤجلة.

وإن كان القتل شبه عمدٍ - فديته مغلظة من حيث السن مخففة من حيث إنها تجب على العاقلة مؤجلة. ولا فرق في العمد المحض بين أن يكون موجباً للقصاص، [فيعفى على] الدية أو لا يكون موجباً للقصاص، كقتل الأب، والجراحات التي لا توجب القود. والتغليظ بالسن في العمد وشبه العمد: أنه تجب ثلاثون حقةً وثلاثون جذعةً، وأربعون خلفةً في بطونها أولادها. وعند مالك وأبي حنيفة - رحمهما الله -: يكون أرباعاً: خمسٌ وعشرون بنت مخاضٍ وخمسٌ وعشرون بنت لبون وخمسٌ وعشرون حقةً، وخمسٌ وعشرون جذعة. وقال أبو ثور: ديةُ شبه العمد: أخماسٌ؛ كدية الخطإ، وديةُ الخطإ - بالاتفاق - أخماسٌ؛ غير أن - عندنا - يجب عشرون بنت مخاضٍ، وعشرون بنت لبونٍ، وعشرون ابن لبونٍ، وعشرون حقةً، وعشرون جذعةً، ويروي ذلك عن ابن مسعود.

وعند أبي حنيفة: تجبُ عشرون بنتَ مخاضٍ بدل بني اللبون، وديةُ الأطراف والجراح كذلك؛ إن كان عمداً، فأثلاث، وإن كان خطأ - فأخماس مثل إن قطع إصبعه عمداً - يجب عليه عشر من الإبل: ثلاثُ حقاقٍ، وثلاثُ جذاعٍ، وأربعُ خلفاتٍ. وإن كان خطأ - فابنتا مخاضٍ، وابنتا لبونٍ، وابنا لبونٍ، وحقتان، وجذعتان. وإن أوضح رأسه، أو قلع سناً عمداً - فخمسٌ من الإبل حقةً، ونصفٌ، وجذعةٌ ونصفٌ، وخلفتان. وإن كان خطأ - فبنت مخاض، وبنت لبون، [وابن لبون]، وحقةٌ، وجذعةٌ، والخلفةُ الحامل، وقل ما تحمل إلا ثنية: فإن حبلت دون الثنية - تقبل منه، وفيه قول آخر: أنه لا تقبل؛ لأنه أحد أقسام إبل الدية؛ فيختص بسن كالسنين، والأول أصح؛ لأن الشرع أوجب الخلفة من غير اعتبار السن. فلو أتى بناقةٍ، فقال هي حاملٌ، وقال الولي ليست بحاملٍ - يرى أهل المعرفة: فإن قال اثنان منهم: إنها حاملٌ - أجبر على القبول، فإن ماتت في يد المجني عليه قبل أن تضع، واختلف في كونها حاملاً - يشق بطنها، ولو أخذها الولي، ثم أتى بها [حائلاً] وقال الجاني: أسقطت - نظر: إن كان الزمان لا يحتمل الإسقاط- ردت إليه بلا يمين، وإن احتمل الإسقاط- نظر: إن أخذها الولي بقول للجاني - فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحمل. وإن أخذ بقول أهل المعرفة - فالقول قول الجاني على أصح الوجهين. وإذا بان كونُها حائلاً بعد ما هلت عند الولي - يغرم الولي قيمة ما تلف عنده، ويطالب الجاني بالخلفة. فصلٌ رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قضى فمن قتل في الحرام أو في الشهر الحرام أو

محرماً - بدية وثلث. وعن عثمان: أنه قضى في امرأةٍ وطئت بالأقدام بمكة بدية وثلثٍ. دية الخطإ في النفس والجراح تغلظ بالسن، وتلحق بشبه العمد في ثلاث مواضع: أحدها: أن يقتل أو يجرح في حرم "مكة". الثاني: أن يقتل في الأشهر الحرم، وهي أربعة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبٌ. والثالث: أن يقتل ذا رحم محرماً من القرابة. لتعظيم هذه الحرمات، وتأكيد الشرع أمر القتال فيها. قال الشيخ رحمه الله: وفي حرمة الحرم فيها، سواءٌ كان القاتل في الحرم أو المقتول - تغلظ؛ كما في جزاء الصيد: لا فرق بين أن يكون الصائد في الحرم أو الصيد. وعند أبي حنيفة: لا تغلظ بهذه الأشياء، ولا تغلظ لشهر رمضان؛ لأنها ليست من الأشهر الحرم، ولا بسب الإحرام؛ لأن حرمة الإحرام غير متأبدة، ولا بحرم المدينة؛ لأن صيدها غير مضمون بالجزاء؛ على ظاهر المذهب. وقيل: يغلظ بحرم المدينة؛ لأن صيدها حرامٌ. ولا يغلظ بمحرمية الرضاع والمصاهرة. وكيفية التغليظ: أن نوجب فيه ما نوجب في العمد: ثلاثين حقةً، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفةً، وعند عدم الإبل: تجبُ قيمتها في الجديد، وفي القديم: يرجع إلى بدلٍ مقدر؛ فعلى هذا: هل يُزاد بسبب التغليظ؟ فيه وجهان: [أحدهما]: يزاد الثلث؛ فإن كانت الحرمةُ واحدةً - فتجب فيها ديةٌ وثلث: ستة عشر ألف درهم، أو ألف دينار وثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ في ثلاث سنين؛ كما قضى فيه عمر وعثمان - رضي الله عنهما-. والثاني: لا يزادُ، ويسقط التغليظُ؛ لأن التغليظ في الأصل يكون بالصفة، لا بزيادة العدد، وكذلك: لا تؤخذ في الدراهم والدنانير؛ ألا ترى أن العبد لما لم تجب في بدله الإبلُ

- لم يتغلظ بدله، وكذلك سائر المتلفات، ومن قال بهذا - حمل قضاء عمر وعثمان: على أن قيمة الإبل المغلظة كانت بلغت دية وثلثاً. وكذلك إذا قتل عمداً أو شبه عمد في غير هذه المواضع، وعدمت الإبل، وقلنا بقوله القديم -هل يزادُ بسبب التغليظ الثلث؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يزاد الثلثُ: فإن اجتمعت الحرمات؛ بأن قتل ذا رحم محرماً، في الحرم، في الشهر الحرام - ففي الجديد: لا يزادُ على مائة من الإبل مغلظةٍ، وعند عدمها: تجب قيمتها، وفي القديم: إذا قلنا: يزاد بسبب التغليظ الثلث - ففيه وجهان: أحدهما: لا يغلظ غلا مرةً؛ فيجب ديةٌ وثلث: ستة عشر ألف درهم. والثاني: يزاد بكل سببٍ ثلثها؛ فتجب أربعٌ وعشرون ألف درهم؛ لما رُوي عن ابن عباس: أنه قضى في رجل قتل في الشهر الحرام، في البلد الحرام بعشرين ألف درهم. فعلى هذا: إن كان قتله شبه عمد مع هذه الحرمات - تجب ثمانية وعشرون ألف درهم. ولو أتلف جنيناً في هذه المواضع - لا تغلظ الغرة؛ لأنها لا تغلظ بالفعل، فإذا عدمت الغرة، وقلنا: تجب عليه خمسٌ من الإبل - تغلظ الإبل. فصلٌ عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده؛ أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن [كتابا]، وكان في كتابه: "في النفس الدية مائة من الإبل". دية الحر المسلم: مائة من الإبل، وتؤخذ من كل من عليه شيء من الدية من القاتل أو من العاقلة من الصنف الذي في يده من الإبل: مهرية، أو أرجبية أو مجيدية أو

بخاتي؛ كالزكاة تجب من الصنف الذي عنده إلا أن يكون إبله عجافاً أو معايب، أو مراضاً - فللولي ألا يقبل منه، ويكلفه أن يحصل صحاحاً من الصنف الذي عليه؛ لأنه حق ثبت في ذمته؛ فلا يقبل منه المعيب؛ كالرقبة في الكفارة؛ بخلاف الزكاة يؤخذ فيها المعيب؛ إذا كانت [تؤخذ] كل إبله معايب؛ لأنها حق وجب في العين؛ فان من جنسها؛ غير أن في الكفارة: كل نقصٍ لا يؤثر في العمل - لا يمنع الجواز، وههنا كل عيبٍ ينقص المالية- لا يجب على الولي أن يقبل معه؛ لأن المقصود منه المال. وإذا اجتمع في ملكه صنفان من الإبل فأكثر - ففيه وجهان: أحدهما: تؤخذ من الصنف الأكثر، فإن استويا - دفع من أيهما شاء. والوجه الثاني: تؤخذ من كل نوع بقدره؛ إلا أن يتبرع، فيغطي الكل من النوع الأعلى، فإن أدى من نوع آخر غير ما في يده - يُجبر على القبول، إذا كان من غالب إبل قبيلته وبلده، فإن لم يكن له إبل - فعليه أن يحصل، ويبتاع من غالب نوع إبل بلده وقبيلته. فإن كانت العاقلة متفرقة في البلدان والقبائل - فعلى كل واحدٍ من نوع إبلِ بلده وقبيلته: فإن أدى من غير نوع قبيلته - نظر: إن كان أدنى من نوع إبل قبيلته -لم يُقبل؛ وإلا فيقبل. وإن لم تكن في بلده أو قبيلته إبلٌ، أو كانت معايب - فعليه نقلها من البلاد القريبة منه، وعليه من نوع أقرب البلاد إليه. فإن بعدت المسافة؛ بحيث شق نقلها عليه - فهي كالمعدومة. وإذا أعدمت الإبلُ - ففيه قولان: قال في القديم: يصار إلى بدل مقدر من إحدى النقدين؛ فيجب ألف دينارٍ من الذهب الخالص، أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة الخالصة؛ لما رُوي عن مكحول وعطاءٍ قالا: أدركنا الناس على أن دية الحر المسلم، على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، فقوم عمر بن

الخطاب - رضي الله عنه - تلك الدية على أهل القرى ألف دينارٍ، أو اثني عشر ألف درهمٍ. وقال في الجديد - وهو الأصح-: إذا عدمت الإبل - تجب قيمتها؛ لما روي عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقوم دية الخطإ على أهل القرى أربعمائة دينارٍ أو عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل، فإذا غلت - دفع قيمتها، وإذا هانت- نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينارٍ أو عدلها من الورق، وما قضى به عمر -رضي الله عنه - لم يكن على طريق التقدير، بل كانت القيمة بلغت ألف دينار في زمانه أو اثني عشر ألف درهم؛ بدليل ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم؛ حتى استخلف عمر -رضي الله عنه - فقام خطيباً فقال: إن الإبل قد غلت؛ ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. وإذا قومنا - نقوم الإبل التي [لو] كانت موجودة وجب تسليمها: فإن كانت لهم إبلٌ، لكنها معيبة - يقوم جنس إبلهم صحيحة، فإن لم يكن لهم إبل؛ [فيقوم جنس أقرب القبائل إليهم، ويقوم بالأغلب من نقد البلد، وتعتبر قيمتها بيوم الوجوب؛ فكل حول يمضي تعتبر قيمة حصته بيوم حلوله، وفي كيفيته وجهان: أحدهما: يقوم في المواضع الموجودة. والثاني: يقوم في هذه البلدة، لو كانت موجودة؛ لأنها وجبت فيها، ولا تجب باعتبار حالة العدم. ولو أراد الجاني أو العاقلة دفع القيمة مع وجود الإبل، أو أراد الولي أخذ القيمة مع

وجود الإبل - لا يجبر الآخر عليه، فإن تراضيا [عليه] جاز [كما إذا أتلف مثلاً، والمثليُّ موجودٌ لا يجبر أحدهما على الدية، وإن تراضيا - جاز] وعند أبي حنيفة - رحمه الله - الأصل في الديات أحد الأشياء الثلاثة: إما مائة من الإبل، أو ألف دينارٍ أو عشرة آلاف درهم. وعند أبي يوسف: أحد الأشياء الستة: [أحد] هذه الأشياء الثلاثة، أو مائتا بقرة، أو مائتا حُلةٍ، أو ألفا شاةٍ، ومعنى الحُلةِ عامةُ لباس العرب؛ إزاراً ورداءً. فصلٌ عن عمرو بن حزمٍ: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: "في النفس مائة من الإبل، وفي الموضحة خمسٌ" هـ. تجب في الموضحة - خمسٌ من الإبل، وفي الهاشمة عشرٌ، وفي المنقلة خمس عشرة، وهي في الرأس والوجه واللحى الأسفل. ولو شجه متلاحمة أو سمحاقاً كبيراً وفي وسطها موضحةٌ صغيرةً أو كبيرة - لا تجب إلا ديةٌ موضحةٍ، وتُدخل فيها حكومة السمحاق؛ لأن جميع تلك الجراحة: لو كانت موضحة - لم يكن له إلا أرش موضحة، ولو اقتص من الموضحة - هل له أخذ حكومةِ ما حولها من السمحاق؟ قال الشيخ رحمه الله-: يحتمل أن يكون على وجهين؛ كما لو قطع يد إنسان من نصف الكفِّ، فقطع المجني عليه أصابع الجاني - هل له أخذ حكومة نصف الكف؟ فيه وجهان: وإن كان وسط تلك الجراحة موضحات - لا يجب إلا أرش موضحةٍ واحدةٍ؛ لأن الكل جراحة واحدةٌ. ولو أوضح رأسه موضحتين، وبينهما حاجز بالجلد واللحم - عليه عشرٌ من الإبل؛ فلو تآكل الحاجز؛ سواء تآكل الجلد دون اللحم، أو اللحم والجلد معاً - يعود إلى أرش موضحةٍ واحدة-: فله أن يقتص من الموضحتين دون ما تآكل؛ لأن القصاص لا يجب في الطرف

بالسراية، وتوزع دية موضحة على الكل؛ فبقدر ما تآكل - يجب. قال الشيخ رحمه الله: فإن كان قد تآكل الجلدُ دون اللحمِ - وتجب له حومةٌ؛ إذا اقتص من الموضحتين، و [لو] لم يتآكل الحاجزُ، بل عاد الجاني، ودفع الحاجز بينهما قبل الاندمال - يعود إلى أرش موضحة واحدةٍ؛ سواء دفع الجلد واللحم، أو قطع الجلد دون اللحم، ولو ادخل السكين بين الموضحتين؛ فقطع اللحم بينهما، والجلد باقٍ بينهما - فهل يعود إلى أرش موضحةٍ واحدةٍ - فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لاتصال الجراحة. والثاني: لا يعود؛ لبقاء الحاجز بينهما في الظاهر. قال الشيخ رضي الله عنه: وكذلك: لو تآكل اللحم بينهما دون الجلد - هل يعودُ إلى أرش موضحةٍ واحدةٍ؟ فيه وجهان: ولو دفع الجاني الحاجز بعد الاندمال، فأوضح عليه أرش موضحة ثالثةٍ. ولو جاء أجنبي، فرفع الحاجز بينهما - فعلى الأول: أرشُ موضحتين، وعلى الثاني: أرش موضحةٍ أخرى - سواءٌ دفع بعد اندمال الأول أو قبله؛ لأن فعل أحدهما لا يُبنى على فعل الآخر. ولو أوضح رأسه بجر السكين بإيضاح، أو بجرحٍ غير إيضاحً إلى موضوع آخر من رأسه، وأوضح في قفاه - لا يجب إلا أرش موضحةٍ واحدةٍ. ولو جر السكين إلى القفا من غير إيضاح - عليه أرش موضحةٍ، وحكومةٌ لجراحة القفا، سواء أوضح القفا أو لم يوضح؛ لأنه ليس لجراحة القفا أرشٌ مقدرٌ، ولو جر السكين إلى الجبهة بالموضحة أو بغير الموضحة، وأوضح الجبهة - فيه وجهان: أحدهما: لا يجب إلا أرش موضحةٍ واحدةٍ؛ لأن الجبهة محل الإيضاح؛ كالرأس؛ كما لو أوضح رأسه، وجر السكين من غير إيضاح على رأسه، ثم أوضح في متنهاه على رأسه. لا يجب إلا أرش موضحةٍ واحدةٍ؛ لأن الجبهة محل الإيضاح؛ كالرأس. والثاني: وهو الأصح-: عليه أرش موضحتين؛ لاختلاف المحلين. ولو أوضح رأسه، فاتصل [فقد قيل: هل] يسقط الأرش؟ فيه قولان؛ السن ينبتُ، والصحيح: [أنه] لا يسقط الأرش؛ لأن العادة لن تجر به، حتى لو التأم بالجلد

واللحم، ثم جاء آخر، فأوضحه ثانياً - يجب على الثاني أرش موضحةٍ أخرى؛ سواء نبت الشعر على ذلك الموضع، أو لم تنبت، وسواءٌ كان لون الجلد متغيراً عن لون سائر الجسد، أو لم يكنن فأما قبل أن تتصل بالجلد واللحم إذا أوضحه آخر - يجب على الثاني الحكومة. ولو أوضح رأسه [فجاء] آخر، فأوضح قطعةً أخرى متصلاً بها - فعلى الثاني أرش موضحةٍ تامةٍ؛ كما على الأول. ولو أخذ رجلان سكيناً، وأوضحا معاً - فلا يجب عليهما إلا أرش موضحة واحدةٍ. قال الشيخ رحمه الله: وعليهما القود؛ فيوضح من رأس كل واحدٍ بقدرِ موضحةٍ المشجوج؛ كما تقطع الأطراف بطرف واحدٍ. ولو أوضح رجلٌ رأس آخر، ثم جاء آخر، وهشمه في موضعها، ثم جاء ثالثٌ، وجعلها منقلة، ثم جاء رابعٌ، وجعلها مأمومة، وجاء خامسٌ، فخرق خريطة الدماغ -فعلى الموضح خمسٌ من الإبل، وعلى الهاشم ما بين الموضحة والهاشمة: خمسٌ، وعلى من جعلها منقلة خمسٌ، وعلى من جعلها مامومةً ما بن المنقلة والمأمومة: ثمانية عشر من الإبل وثلث، وعلى من خرق الخريطة كمالُ دية النفس؛ كمن حز رقبة إنسان بعدما قطع أطرافه -يجب على حازِّ الرقبة كمالُ دية النفس. ولو هشم رجلاً من غير إيضاحٍ - عليه خمسٌ من الإبل، ولو نقل - فعشر من الإبل. وقال ابن أبي هريرة: تجب فيه الحكومة؛ لأنه ليس فيه شيئين ظاهرٌ؛ كما لو كسر عظماً آخر من ساعده أو ساقه. والأول المذهب. ولو هشم رأسه في موضعين، وبي الجلد واللحم، والعظم بينهما صحيحٌ - فعليه أرشُ هاشمتين: عشرٌ من الإبل، ولو بقي بينهما عظمٌ صحيح، وذهب الجلد واللحمُ - فلا يجب إلا أرش هاشمةٍ واحدةٍ؛ نص عليه؛ كما في الموضحة. ولو بقي بينهما الجلدُ واللحمُ غير أن الهشم متصلٌ في الباطن - فوجهان: أحدهما: لا يجب إلا أرش هاشمةٍ واحدةٍ؛ لاتصال الكسر.

والثاني: [هما] هاشمتان؛ لبقاء الجلد واللحم بينهما. وكذلك: لو شجه منقلةً في موضعين، ولو شجه هاشمةً، وجر السكين بإيضاح أو غير إيضاح إلى موضع آخر من رأسه، وأوضح [في] منتهاه - لا يجب إلا أرش هاشمةٍ واحدةٍ؛ كما ذكرنا في الموضحة، ويجب على المأمومة ثلث دية النفس، كما في الجائفة. ولو خرق خده؛ فوصل على باطن الفم، أو مارن أنفه؛ فوصل إلى باطن الأنف - ففيه وجهان: أحدهما: عليه ديةُ الجائفة؛ لأنها جراحةٌ وصلت على الجوف من الظاهر. والثاني: وهو الأصح - عليه حكومةٌ؛ لأن باطن الفم والأنف ليس بجوف؛ بدليل أنه لا يحصل الفطر بوصول الواصل غليه، ولأن الجائفة أن تصل الجراحة إلى جوفِ يخافُ منه التلفُ، وهو جوفُ الرأس والبدن، وهذا لا يخاف منه التلف؛ فلو ضرب على وجنته، فهشمه، أو نقله وخرقه؛ فوصل إلى باطن الفم، أو هشم قصبة أنفه، فأولها إلى باطن الأنف - فيه وجهان: أحدهما: عليه أرشُ المأمومةِ؛ ما لو هشم رأسه، فأوصل إلى خريطة الدماغ، وهذا على الوجه الأول الذي يقول: خرق الخد كالجائفة. والثاني: وهو الأصح-: عليه أرش الهاشمة، إن كان هشم، أو المنقلة إن كان نقل، وحكومة لخرق الخد والأنف، ولا تدخل حكومة خرق الخد والأنف في أرش الهاشمة والمنقلة؛ لأنه جناية أخرى، وحكومة خرق الخد، فقد قيل: لا تبلغ أرش الموضحة، وكان [شيخي رحمه الله] يقول: يجوز أن تُزاد على أرش الجائفة، لأنا إذا لم نجعل له حكم الجوف فهو ليس بعضو، له بدلٌ مقدرٌ حتى لاتزاد حكومته عليه. فصلٌ عن عمرو بن حزم؛ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وفي المأمومة ثلث دية النفس، وفي الجائفة مثلها".

في الجائفة ثلث دية النفس، وهو: أن يضرب في بطنه أو ظهره أو جنبه أو صدره أو، ثغرة نحره أو وركه: فيصل إلى باطنه. ولو ضرب في حلقه أو قفاه، فنفذ - فهو جائفةٌ؛ لأن وصول الطعام إليه يفطره. ولو طعنه بسنانٍ له شُعبتان، فأجاف في موضعين - فهما جائفتان؛ ففي كل واحدة ثلث دية النفس، ولو طعن في بطنه، فأخرجه من ظهره - ففيه وجهان: أصحهما: أنهما جائفتان، وهو قول أبي حنيفة - رحمة الله عليه- وقيل: عليه أرشُ جائفة، وحكومةٌ للجرح إلى الجانب الآخر - لأن الجائفة ما يصل [من الظاهر] إلى الجوف، والنفاذ إلى الظاهر - خروج من الجوف؛ فيجب فيها الحكومة. ولو أجاف بطنه، فجر السين بالجائفة إلى جنبه أو ظهره -لا يجب إلا أرش جائفة واحدة، وكذلك: لو جَرَّ إلى آليته؛ لأن الآلية في مقابل الجوف. ولو أجاف بطنه، [فجر السكين] إلى فخذه أو كتفه - فعليه ديةُ جائفةٍ، وحكومةٌ لجرح الفخذ والكتف؛ لاختلاف المحلين؛ كما لو أوضح رأسه، وجر السكين إلى قفاه - عليه أرش موضحةٍ، وحكومةٌ. ولو أجافه، ثم جاء رجلٌ آخر، ووسعها ظاهراً وباطناً - يجب على الثاني أرش جائفةٍ؛ كما على الأول. ولو قطع الظاهر دون الباطن، أو الباطن، دون الظاهر - فعليه الحكومة. ولو أدخل السكين فيها من غير جرح - عُزر، ولو اندملت الجائفة فاتصلت - لا يسقط أرشها على ظاهر المذهب؛ كالموضحة إذا اتصلت. ولو خاط الجائفة، فجاء آخر ونزع الخيط - نظر: إن كان قبل الالتحام - يُعزر، ولا أرش عليه، وعليه قيمة الخيط إن تلف، وأجرُ مثل الخياطة. وإن نزع بعدما التحم ظاهراً وباطناً، فانفتحت - عليه أرش جائفةٍ أخرى، ولا يجب

أجرُ الخياطةِ؛ لأنه دخل في أرش الجائفة. وإن كان قد التحم ظاهرها دون باطنها أو باطنها دون ظاهرها - فعليه الحكومة، ولا يجب أرش الخياطة، وتجب [عليه] قيمة الخيط، إن تلف بالنزع. ولو أدخل خشبة في دبر إنسان، فخرق حاجزاً في الباطن - هل يلزمه أرش الجائفة، أم لا تجب إلا الحكومة؟ فيه وجهان؛ بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن - هل يجعلُ كما لو خرق ظاهره، حتى لا يجب إلا أرش موضحةٍ واحدةٍ؟ فيه وجهان: فصلٌ يجب في الأذنين كمال دية النفس؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعةً؛ فإنها تجمعُ الصوت، وتوصل إلى الدماغ، وفي أحداهما نصف الدية، وفي بعضها بقدرها من الدية. وعند مالك -رحمه الله - يجب في الأذنين الحكومة. ولو ضرب على أذنه، فاستحشفت، ويبست - ففيه قولان: أصحهما: هو المذهب -: يجب عليه كمال الدية؛ كما لو ضرب يده فأشلها. وفيه قولٌ آخر، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - تجب عليه حكومة؛ لأن الجمال والنفع باقٍ مع الاستحشاف، فلو جاء رجلٌ، وقطع المستحشفة - فعليه الحكومةُ على القول [الأول]، وهو الأصح. وإن قلنا: على الأول الحكومة- فعلى الثاني الدية؛ لأنه أفات النفع والجمال. ولو ضرب رأسه، فأذهب سمعه - يجب عليه كمال الدية؛ لأنها حاسة تختص بمنفعة تامة، ولاقود فيه لعدم افمكان، وفي سمع إحدى الأذنين نصف الدية. وإن قال عدلان من أهل البصر: إنه يعود إلى مدة قدروها، تنتظر تلك المدة: فإن

لم يعد- أخذت الدية، وإن لم يقدروا مدة - لا ينتظر، لأن الانتظار إلى مدة غير معلومة - يؤدي إلى إسقاط موجب الجناية. وإن أخذت الدية، ثم عاد السمع - يجب رد الدية؛ لأنه بان أنه لم يفت السمع. ولو قطع أذنه، وأذهب سمعه - عليه ديتان. فإن ادعى المجني عليه ذهاب سمعه، وأنكر الجاني - يختبر بأن يُصاح به عند النوم والغفلة، وعند صوت الرعد: فإن انزعج - فالقول قول الجاني مع يمينه، وإنما حلفناه؛ لاحتمال أن يكون انزعاجه لسبب آخر، فإن لم ينزعج - فالقول قول المجني عليه مع يمينه. وإنما حلفناه؛ لاحتمال أنه يتماسك جلادةً، ولو ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه - تُحشى أذنه الصحيحة، وتختبر في العليلة؛ كما ذكرنا. ولو انتقص سمعه - نُظر: عن انتقص من الأذنين جميعاً - فلا يمكن تقديره إلا أن يعلم أنه من قبل من أي موضع كان يسمع؛ فيعرف قدر ما انتقص: فإن لم يعرف ففيه حكومة؛ بقدر ما يؤدي اجتهاد الحاكم إليه، وإن قال الجاني: لم ينتقص سمعك - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه لا يُعرف لك إلا من جهته. وإن انتقص سمع إحدى أذنيه- يمكن معرفته بأن تُحشى أذنه العليلة، وتطلق الصحيحة، ويتباعد [عنه رجلٌ] وينادي ويصيح: فإن سمع - تباعد إلى حيث لا يسمع وراءه، فيعلم عليه علامةً، ثم تحشى أذنه الصحيحة، وتطلق العليلة، ويقرب الصائح؛ فيصيح إلى حيث يسمع، ثم نذرع المسافة، فتوزع الدية عليها، فتوجب بقدر ما انتقص. وإن اختلفا - فالقول قول المجني عليه مع يمينه. ولو ضرب رأسه، [فأزال عقله] عليه كمال الدية؛ لأن العقل أشرفُ ما ينتفعُ به الإنسان في بدنه، وبه يتميز عن البهائم، ولا قود؛ لأنه لا يمكن الاقتصاص منه. ولو ذهب بعض عقله - نظر: إن كان مما يمكن معرفته؛ بأن كان يُجن يوماً، ويفيق يوماً - عليه نصف الدية، وإن

كان يُجن يومين، ويفيق يوماً - فثلثا الدية. وإن لم تمكن معرفته بأن دخله نقصٌ، واختلط كلامه، قوبل صوابه بخطئه، ويوجب من الدية بقر ما يتكلم بكلام المجانين، ويعرف ذلك ما يعرف السكر من الإفاقة: فإن لم يُعرف- ففيه حكومة بقدر ما يؤدي اجتهاد الحاكم إليه. وإن جنى عليه جنايةً، فذهب بها عقله- نُظر: إن لم يكن لتلك الجناية أرشٌ؛ بأن ضربه أو لطمه، فذهب عقله - فعيه دية العقل، وإن كان لها أرشٌ: إما مقدرٌ؛ مثلُ: إن قطع يده، فذهب عقله، أو أوضحه - أو غير مقدرٍ؛ مثل: جراحةٍ توجب حكومةً - فهل يدخل أرش تلك الجناية وحكومتها في دية العقل؟ - فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد -: لا يدخل، [بل] عليه أرش الجناية وديةُ العقل؛ لأنه أتلف عضواً ذهب به منفعةٌ حالةٌ في غيره؛ فلا يتداخل أرشهما؛ كما لو أوضحه، فأذهب سمعه وبصره - لا يدخل أرش الموضحة في دية السمع والبصر. وقال في القديم: إن كان أرش الجراحة أقل من الدية؛ بأن أوضحه، فذهب عقله - يدخل الأقل في الأكثر؛ لأن زوال العقل معنى يزيل التكليف؛ فجاز أن تدخل دية الطرف في ديته؛ كما لو جرحه، فخرج به روحه. وإن كان أرش الجناية أكثر من دية العقل، أو استويا - فيجب كلاهما، ولا يتداخلان. ولو ضربه، فأذهب نطقه وسمعه [وعقله]- عليه ثلاث دياتٍ؛ [و] رُوي عن أبي قلابةَ؛ أن رجلاً رمى رجلاً بحجرٍ، فأصاب رأسه، فذهب سمعه وعقله وكلامه ونكاحه؛ فقضى فيه عمر - رضي الله عنه - بأربع ديات. فصلٌ عن عمرو بن حزمٍ: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"في النفس مائة من الإبل، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون أهـ

إذا فقأ عيني بصيرٍ - عليه كمالُ دية النفس، وفي أحداهما نصفها. ولا تفرد الحدقة بالضمان وإن عظم شينها؛ لأن البصر يحلها، وقد أوجبنا [ضمان في البصر]؛ بخلاف السمع حيث قلنا: لا تدخل دية الأذن في دية السمع؛ [لأن السمع] لا يحل جرم الأذن، وفي كل واحد منفعةً تامةٌ. ولو فقأ العين البصيرة من الأعور - لا تجب غلا نصف الدية. وقال الزهري ومالك - رحمة الله عليهما - تجب كل الدية -قلنا: لما لم تجب من البصير فيهما إلا نصف الدية - فمن الأعور كذلك؛ كما لو قطع يد الأقطع - لا تجب إلا نصف الدية. ولو ضرب على رأسه، فهب ضوء بصره - يجب تمام الدية، وفي ضوء إحدى العينين نصف الدية، وتجب في البصر الضعيف الدية؛ كما في اليد الضعيفة. ولو قال عدلان من أهل الخبرة: إنه يُرجى عوده إلى مدة معلومة -تنتظر تلك المدة: فإن عاد - فلا قصاص ولا دية، وإن لم يعد - يقتص أو [تأخذ] الدية، وإن مات قبل مضى تلك المدة - فلا قصاص؛ لأن قول أهل الخبرة: إنه يعود - يورث شبهةً، والقصاص يسقط بالشبهة؛ وتجب الدية. وقيل: في وجوب الدية وجهان؛ كما ذكرنا في السن إذا مات المجني عيه قبل [أوان] النبات. [والمذهب الأول] وكذلك [في] حكم السمع إذا قال أهل الخبرة: يعود، فمات قبل مضي تلك المدة، فلو اختلفا: فقال الجاني: مات بعد عود البصر، وقال الولي: بل قبله - فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العود، ووجوب الدية. ومن قل الحدقة العمياء عليه الحكومة، فلو ادعى المجني عليه ذهاب بصره، وأنكر الجاني - يختبر؛ بأن يقرب من عينه حديدةٌ أو عقربٌ، فإن انزعج - فالقول قول الجاني مع

يمينه، وإلا فالقول قول المجني عليه مع يمينه. وإن ادعى ذهاب ضوء إحدى عينيه - تُعصب الصحيحة، وتختبر في العليلة بما ذكرنا. وإن انتقص ضوء بصره - نظر: فإن انتقص من العينين جميعاً، وعُرف مقداره؛ بأن كان يرى الشخص من مسافةٍ، فصار بحيث لا يراه إلا من نصف تلك المسافة - وجب بقدره من الدية، وإن لم يعرف قدر النقصان - ففيه حكومةٌ بقدر ما يؤدي اجتهاد الحاكم إليه. وإن انتقص ضوء إحدى عينيه بحيث يمكن معرفته بأن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، ويتباعد منه رجلٌ، وهو يتبعه بصره إلى حيث لا يراه [وراءه]، فيعلم عليه علامةً، ثم تطلق عينه العليلة، وتعصب الصحيحة، ويقرب ذلك الرجل منه إلى حيث يراه، ثم تُذرع المسافة - فتوجب بقدر ما انتقص من دية إحدى العينين. فإن قال أهل الخبرة: [إن الرؤية] على البعد تحتاج فيها من الضوء إلى ضعف ما يحتاج إليه على القرب، وأمكن ضبط ذلك - يحمل عليه، وقل ما يعرف ذلك. ولو أذهب ضوء بصره، وجاء آخر، فقلع حدقته، فاختلفا: فقال الأول: قلع الثاني الحدقة بعد عود البصر، وقال الثاني: بل قبله - فالقول قول الثاني مع يمينه. فلو أن المجني عليه صدق الأول - برئت ذمة الأول عن الدية، ولا يقبل قوله على الثاني، والثاني يحلف، وعليه الحكومة. وفي عين الأعمش والأخفش والأحول تمام الدية. ولو ضربه، فشخصت عينه، أو جعله أحول أو أعمش ففيه الحكومة. وإن صار أعشى، وهو: الذي لا يبصر بالليل - يجب عليه نصف الدية، ولو عشى إحدى عينيه - فربع الدية. وإن كان في عين المجني عليه بياضٌ - نظر: إن لم يكن على الناظر - ففيه القصاص أو كمال الدية؛ كالثآليل على اليد؛ سواءٌ كان

على بياض العين أو على سوادها. وإن كان على الناظر بحيث لا يرى إلا قليلاً - ففيه حكومة بقدر ما يرى الحاكم وفي أجفان العينين كمالُ الدية، وهي الجلود التي تنطبق على الحدقة؛ سواءٌ قطعها من بصير أو أعمى؛ لأن فيها منفعةً، وهي أنها تقي البصر من الحر والبرد والآفات، وفي جفني إحدى العينين نصف الدية وفي إحدى الجفنين ربع الدية؛ سواءٌ فيه الأعلى والأسفل، وفي الأهداب - إذا أتلفها - الحكومة. وإذا قطع الجفن - هل تدخل حكومة الأهداب في دية الجفن؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل؛ كشعر الذراع تدخل حكومته في أرش الذراع، وكشعر موضع الموضحة يتبع أرشها. والثاني: لا يدخل؛ لأن في الأهداب جمالاً ومنفعة خاصة، وهي أنها تبقي البصر. ولو ضرب على جفنه، فاستحشفت - فعليه الدية، ومن قطع المستحشفة - فعليه الحكومة. فصلٌ عن عمرو بن حزمٍ: أن في الكتاب الذي تكبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي الأنف - إذا أوعى جذعاً - مائةً من الإبل". إذا قطع مارن أنفِ إنسانٍ - تجب فيه كمال الدية؛ للحديث، ولأنه عضو فيه جمالٌ ومنفعةٌ كاملةٌ؛ لأنه يجمع الشم، ويمنع الغبار من الدماغ؛ وسواءٌ فيه أنف الشم والأخشم؛ لأن نقص الشم لي سفي جِرْمِ الأنف. ولو قطع الحاجز بين المنخرين - ففيه الحكومة، ولو قطع المنخرين مع الحاجز - فحكومة الحاجز تدخل في الدية. ولو قطع إحدى المنخرين - ففيه نصف الدية؛ على الصحيح من المذهب، وفيه وجه آخر: أن عليه ثلث الدية؛ لأن الدية توزع على المنخرين والحاجز. ولو قطع إحدى المنخرين مع الحاجز - فعليه نصف الدية، وحكومةٌ للحاجز؛ على الصحيح من المذهب، وعلى الوجه الثاني: عليه ثلثا الدية.

ولو ضرب أنفه، فاستحشفت- ففيه قولان؛ ما ذكرنا في الأذنين: أصحهما: يجب عليه كمال الدية. والثاني: تجب [عليه] الحكومةُ؛ لأن الجمال والمنفعة باقٍ. ولو قطع رجلٌ المستحشفة - فعليه الحكومة على القول الأول، وهو الأصح، وعلى الثاني: عليه الدية؛ لأنه أفات الجمال والمنفعة. ولو ضرب أنفه، فاعوجت - عليه الحكومة. ولو ضرب رأسه، فأذهب شمه - عليه كمال الدية، ولو أذهب شم أحد أنفيه - فنصف الدية، وإن انتقص شمه - ففيه حكومة بقدر ما يؤدي [إليه] اجتهاد الحاكم. ولو أنكر الجاني نقصان شمه - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لوجود الجناية. ولو قطع أنفه، وأذهب شمه - فعليه ديتان، ولو أنكر الجاني ذهب شمه - يختبر؛ بأن يقرب من أنفه الروائح الطيبة والمنتنة: فإن اهتش من الطيب، وتعبس من المنتن- فالقول قول الجاني مع يمينه، [وألا- فالقول قول المجني عليه مع يمينه]. ولو أذهب ذوقه، فلا يجد طعم الأشياء- ففيه مال الدية، كما في الشم، والذوق في خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة، والمرارة، والملوحة، والعذوبة؛ فإن أذهب واحداً منها - ففيه خمس الدية وإن انتقص بأن كان يحس هذه المذاقات، ولكنه لا يدركها على كمالها - ففيه الحكومة. ولو قال الجاني: لم يذهب ذوقك - يختبر؛ بأن تصب في فمه الأشياء المرة، فن قطب وجهه - فالقول قول الجاني مع يمينه؛ وإلا - فالقول قول المجني عليه مع يمينه. ولو عاد شمه، وذوقه - بعد أخذ الدية - يجب ردها؛ كما لو عاد سمعه وبصره. ولو وضع المجني عليه يده على أنفه عند رائحةً، فقال الجاني: أخذت أنفك عن الرائحة؛ فقد عاد شمك، وأنكر المجني عليه - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه قد يقع

ذلك اتفاقاً أو استمخاطاً ونحوه. فصلٌ عن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي الشفتين الدية". إذا قطع شفتي إنسان - يجب فيهما كمال دية النفس، إذا استوعبنا، وهي: ما تجافي من جلدة الذقن والخد مما يستر اللثة، [و] في أحداهما نصف الدية؛ سواءٌ قطع العليا أو السفلى، وفي بعضها بقدره من الدية. ولو ضرب شفته فأشلها بأن استرسلت، فلا تنقبض، أو انقبضت؛ فلا تسترسل - فعليه كمال الدية. ومن قطع الشلاء - فعليه الحكومة. ولو قطع شفة مشقوقة - فلا قود إلا أن يكون للقاطع مثلها، وفيها ديةٌ ناقصةٌ بقدر الشق، ومن شق شفته أو أنفه -[فعليه] الحكومة. وفي اللسان مال دية النفس؛ لأنه فيه منفعة تامة، وهي النطق، وبه يتميز عن البهائم. ولو ضرب لسانه، فذهب كلامه- يجب كمال الدية. ولو قطع آخر لسانه بعد ذهاب الكلام - فعليه الحكومة، وفي لسا، الأخرس الحكومة؛ إذا كان ذلك لنقص بلسانه. فإن كان لسانه صحيحا غير أنه ولد أصم لم يسمع الكلام؛ فلا يتكلم لذلك- ففيه وجهان: أحدهما: تجب فيه الحكومة؛ لأن منفعة اللسان بالكلام، وهو لا يتكلم؛ كما لو قطع يداً شلاء. والثاني: يجب كمال الدية؛ لأنه [لا] نقص بلسانه؛ كما لو قطع لسان صبي لم يبلغ الكلام. ولو ضرب لسانه، فأذهب بعض حروفه - فعليه بقدره من الدية، وتُوزع على حروف

المعجم، وتقسم على حروف كلامه؛ فإن حروف اللغات مختلفة الأعداد، فكمن يتكلم بلغة توزع ديته على حروف لغته. فإن كان يتكلم بالعربية فحروف لغتهم ثمانية وعشرون حرفاً، فإن أذهب نصفها - عليه نصف الدية، وإن أذهب حرفاً منها - عليه جزءٌ من ثمانية وعشرين جزءاً من الدية؛ سواءٌ كان ذلك الحرف مما يثقل على اللسان أو يخف عليه؛ كالباء والفاء والميم. وقال الإصطخري: توزع على الحروف اللسانية، وهي خمسة عشر حرفاً، وفي تفويتها كمال الدية، وليس بصحيح؛ لأن الحروف - وإن انقسمت إلى لسانية، وشفوية، وحلقية - فالمعول في كلها على اللسان، والانتفاع بها يكون باللسان؛ فن مقطوع اللسان لا يكون له نطقٌ. ولو جعله يُبدلُ حرفاً بحرف فعليه دية حرفٍ، ولو أذهب بعض حروفه، ولكن لا يُفهم كلامه بما بقي منها - فعليه كمال الدية. وإن كان الرجل ألثغ أو أرت؛ لا يتكلم إلا بعشرين [حرفاً] وكلامه مفهوم - ففي لسانه القود أو كمال الدية لأن جرم اللسان صحيحٌ؛ كاليد الضعيفة. وإذا ذهب بعض حروفه - توزع ديته على عشرين حرفاً؛ ففي عشر منها نصف الدية. ولو قطع بعض لسانه، وذهب بعض حروفه - نظر: إن استوى ما قطع من لسانه وما فات من الحروف؛ مثل: إن قطع نصف لسانه [وذهب بعض حروفه - فعليه نصف الدية، وإن اختلفا - فالاعتبار بالأكثر؛ مثل: ن قطع نصف لسانه]. وذهب ربع حروفه، أو قطع ربع لسانه، وذهب نصف حروفه- فعليه نصف الدية؛ لأن جرم اللسان الصحيح مضمون الدية، ومنفعته أيضاً مضمونة. وقال أبو إسحاق المروزي: الحكم هكذا، ولكن ليس ذلك باعتبار الأكثر، بل الاعتبار بجرم اللسان؛ فهو إذا قطع ربع اللسان، وأذهب نصف الحروف فعليه نصف الدية؛ لأنه قطع ربع اللسان، وفوت منفعة الربع بالإشلال.

وفائدة هذا الخلاف تتبين في حق من قطع بقية اللسان -[صح]؛ مثل: ن قطع ربع لسانه، وأذهب نصف حروفه، ثم جاء آخر، وقطع الباقي - فعلى الوجه الأول - وهو الأصح-: يجب على الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعلى قول أبي إسحاق: يجب على الثاني نصف الدية، وحكومةٌ؛ لأن بعض ما قطعه كان أشل بفوات حروفه، وعلى عكسه: لو قطع رجلٌ نصف لسانه، وأذهب ربع حروفه، ثم جاء آخر، وقطع الباقي - فعلى الوجه الأول: على الثاني ثلاثة أرباع الدية؛ لإفاتته ثلاثة أرباع الحروف، وعلى قول أبي إسحاق: عليه نصف الدية؛ كما على الأول. قال الشيخ رحمه الله: ولو أن رجلاً قُطع نصف لسانه، وذهب ربع كلامه، ومن آخر [قطع] نصف لسانه، وذهب نصف كلامه، فقطع الأول باقي لسان الآخر - لا قصاص عليه؛ لأن المجني عليه ناقصٌ في حق الجاني. ولو قطع نصف لسانه، وأذهب حروفه، فاقتص من نصف لسانه، ولم يذهب من حروفه إلا الربع- أخذ المجني عليه مع القاص ربع الدية؛ لتمام حقه، ون ذهب بالقصاص ثلاثة أرابع حروف الجاني -[لم] يجب ضمان الزيادة؛ لأن فواتها بسبب قود مستحق؛ كسراية القصاص - لا تكون مضمونة. وإن كان الرجل لا يتكلم بحرفٍ من الحروف، فجنى رجلٌ على لسانه، فانطلق لسانه على ذلك الحرف، وفات حرفٌ آخر - تجب عليه دية حرفٍ، ولا يجبر بما انطلق عليه اللسان. ولو جنى على لسانه، فجعله ثقيل الكلام، أو عجولاً، أو تمتاماً، أو فأفاء فعليه الحكومة، ولا دية؛ لأن المنفعة باقية. ولو كان للسانه طرفان، فقطع رجلٌ أحد طرفيه - نظر: إن كان على سمت اللسان، واستويا في الخلقة - فعليه بقدر ما قطع من الدية، وإن لم يذهب [شيء] من الحروف، وإن قطع الكل فعليه كمال الدية، فهما كاللسان المشقوق. وإن كان أحدهما تام الخلقة، والآخر ناقص - فالتام هو الأصل؛ ففيه كمال الدية وفي الناقص الحكومة، ولا تبلغ تل الحكومة دية قدره من اللسان؛ مثل أن يكون ذلك القدر سدس

اللسان - لا يبلغ بحكومته سدس الدية، وإن قطعهما - فعليه ديةٌ وحكومةٌ. وإن فات بقطع بعض أحدهما بعض حروفه - نُظر: إن قطع من الأصلية - فعليه الأكثر من دية اللسان أو الحروف وإن قطع من غير الأصلية - فعليه دية ما فات من الحروف، وحكومة لجرم اللسان. وفي لسان الرضيع الذي يُحرك ببكاء أو غيره - كمال الدية، فن كان لا يحركه - ففيه الحكومة. وإن بلغ أوان الكلام، ولم يتكلم - ففيه الحكومة، وإن كان يحركه: فلو قطع بعض لسانه، وأخذنا منه حكومته، ثم تكلم ببعض الحروف؛ فتبين أنه لو لم يقطع لسانه - لكان ناطقاً - تكمل تلك الحكومة دية ما فات من الحروف أو جرم اللسان، أيهما كان أكثر. ولو جنى على لسانه، فذهب نطقه، ثم عاد - سقطت الدية؛ كالبصر والسمع يعود. وإن قطع لسانه، وأذهب ذوقه - عليه ديتان. فصلٌ عن عمرو بن حزمٍ: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في السن خمسٌ من الإبل". إذا قلع سناً من أسنانه - يجب عليه خمسٌ من الإبل، تستوي فيه جميعُ الأسنان؛ لما رُوي عن ابن عباس قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابع اليد والرجل سواء، وقال: الأسنان سواء، الثنية والضرس سواءٌ، والأصابع سواءٌ، هذه وهذه سواءٌ.

ولو كسرها ظهر منها فوق اللثة - يجب فيه تمام دية سن. ثم من قلع السنخ - فعليه الحكومة، ومن قلع سناً [مع سنخها - تدخل حكومة النسخ في دية السن؛ كما أن حكومة الكف تدخل في دية الأصابع. ولو كسر ما ظهر من سنه، ثم عاد هو، فقلع السنخ - نُظر: إن قلع السنخ بعد الاندمال - عليه دية للسن، وحكومةٌ للسنخ. وإن قلع السنخ قبل الاندمال - ذكر شيخي - رحمه الله - فيه وجهين؛ وكذلك لو قطع أصابع يده، ثم عاد قبل الاندمال، فقطع كفه. أحدهما: تدخل حكومة السنخ في دية السن، وحكومةُ الكف في دية الأصابع؛ كما لو أوضح رأسه موضحتين، ثم قبل الاندمال: رفع الحاجز بينهما - لا يجب إلا ارش موضحةٍ واحدةٍ. والثاني: لا تدخل بخلاف الموضحة؛ لأن - ثم - اسم الموضحة تقع على الكل، وههنا: ينفرد السنخ والكف باسم آخر، فإذا انفرد بالجناية - انفرد بالضمان. ولو كسر نصف ما ظهر من السن - عليه نصف دية سنٍّ، فلو جاء آخر، وقلع الباقي مع السنخ - فعلى الثاني نصف دية سن، هل تدخل فيه حكومة السنخ؟ - نظر: إن كسر الأول نصف ما هر منها عرضاً - لا تجب على الثاني حومة السنخ؛ كما لو قطع أنامل إنسانٍ، ثم جاء آخر، وقطع يده من الكوع - تدخل حكومة الكف في دية الأصابع الناقصة الأنامل. وإن كسر الأول نصف السن طولاً - يجب على الثاني نصف حكومة السنخ، وهو ما تحت المكسور؛ لأنه ليس فوق ذلك النصف سن تدخل فيها حكومته؛ كما لو قطع كفاً عليها ثلاث أصابع - تجب عليه حكومة خمسي الكف اللتين لا أصبع فوقها. ولو كسر بعض ما ظهر، واختلفا، فقال الجاني: كسرت ثلثها، وقال المجني عليه: بل نصفها - فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته.

ولو ظهر بعض سنخه بسقوط لحم اللثة - فلا يعطى له حكم الظاهر؛ حتى لو كسر ما كان منها في الأصل ظاهراً - يجب فيه كمال دية السن. ولو تناثر بعض ما ظاهر من سنه، فقلع رجلٌ الباقي - لا قود [عليه، ويقدر] ما بقي من الدية، فلو اختلفا في قدر ما يتناثر - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاءُ سنه. ولو قلع سناً فيها شق، ولم يذهب شيءٌ من أجزائها - ففيه كمالُ ديتها. وإن كانت أسنانه متفاوتة، بعضها اقصر وبعضها أطول: فإن كانت السفلى أقصر من العليان أو كانت الثنايا أطول من الرباعيات أو كانت الرباعيات أطول - فليس ذلك ينقص - ففي كل واحدةٍ ديةُ سن تامةٍ. وإن كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأخرى، فقطع القصيرة - يُنقص من ديتها بقدر نقصانها؛ لأنهما لا يختلفان في العادة، فإذا اختلفا - كانت القصيرة ناقصة. وإن كانت له سن أطول من سائر الأسنان، حتى خرجت من الفم - فلا يجب فيها غلا دية سن؛ كالإصبع إذا كانت طويلة، ولم تزد أناملها. ولو قلع سناً متحركة - نظر: إن كانت حركة يسيرة؛ لم ينتقص شيءٌ من منافعها - ففيه القود، أو دية سن تامة. وإن كانت متزلزلة - نُظر. إن ذهبت منفعتها - ففيها الحكومةُ. [وإن كانت منافعها باقية مع النقصان ففيه قولان: أحدهما: فيها الحكومة]، لنقصان منفعتها. والثاني: يجب تمام ديتها؛ لأن منافعها باقيةٌ: من المضغن وحفظ الطعام، ورد الريق، وإن كانت ضعيفة؛ كاليد الضعيفة.

ولو ضرب سنةُ، فتزلزلت - نظر: إن أفات منفعتها - فعيه ديةُ سن، وعلى من قلعها الحكومة، وإن لم تفت منفعتها - فعلى القولين: أحدهما: عليه الحومة، وعلى من قلعها الدية. والثاني: عليه الدية، وعلى من قلعها الحكومة. ولو ثبتت بعد التزلزل - فلا دية، ولا حكومة. وإن ضرب سنه، فاسودت أو اخضرت - نظر: إن ذهبت منفعتها - فعليه الدية، وعلى من قلعها الحكومة. وإن لم تذهب منفعتها. فعليه الحكومةُ، وعلى من قلعها الدية. ولو سقطت سن رجلٍ، فاتخذ سناً من عظم ظاهر أو من ذهب أو [من] حديدٍ، فقلعها رجلٌ - نُظر: إن قلع قبل الالتحام - عُزر، ولا ضمان عليه. وإن قلع بعد الالتحام: على القول في إيجاب الحكومة، وخرج منه: أنا لجراحة إذا اندملت، ولم يبق أثرٌ - هل تجب الحومة؟ فيه وجهان: ولو قلع جميع أسنان إنسانٍ - نظر: إن قلع كل واحدةٍ بعد اندمال الأخرى، أو قلع عشرين منها، ثم بعد الاندمال - قلع الباقي-: تجب عليه مائةٌ وستون من الإبل؛ في كل سن خمسٌ. وإن قلع الكل دفعةً واحدةً، اواحدةً واحدةً؛ قبل الاندمال - فالصحيح من المذهب: أن في كل سن خمساً من الإبل. وإن زادت على دية النفس؛ كالموضحات إذا ثرت - تجب في كل واحدةٍ خمسٌ من الإبل، وإن زادت على ديات. وفيه وجهٌ آخر: أنه لا يجب في الأسنان كلها- إذا قلعها دفعة واحدة -[إلا دية واحدة] لأن كل متعدد في البدن تتوزع الدية على أعدادها فلا يجب في [جملتها إلا ديةٌ]

[واحدةٌ]؛ كأصابع اليد، وأصابع الرجل، فأما إذا قلع رجلٌ عشرين، ثم جاء آخر، وقلع الباقي؛ سواءٌ كان قبل الاندمال أو بعده- فيجب على الأول دية النفس، وعلى الثاني: ستون من الإبل؛ لا يختلف القول فيه. ولو قلع لحي إنسانٍ - ففيهما القود أو كمال دية النفس، وفي أحدهما نصف الدية، واللحيان هما العظمان المتقابلان، عليهما نباتُ الأسنان السفلى، وملتقاهما [الذقن]، والأسنان العليا تكونُ في عظم الرأس، ولو قلع اللحيين، [وعليهما الأسنان] تجب من اللحيين دية النفس، وفي كل سن عليها خمسٌ من الإبل، جملتها مائةٌ وثمانون، ولا تدخل دية الأسنان في دية اللحيين؛ لأن الديات المقدرة في الأطراف - لا يدخل بعضها في بعض؛ بخلاف حكومة الكف تدخل في دية الأصابع؛ لأن الحكومة غير مقدرةٍ، ولأن اللحي تخلو عن السن، والأصابع [لا] تخلو عن الكف. ولو ضرب لحييه، فأذهب [منفعة المضغ، أو كسر عنقه، فأذهب] منفعة الأكل - تجب الدية؛ كما لو ضرب يده، فأهب منفعة بطشه؛ فهو كإشلال العضو. فصلٌ عن عمرو بن حزمٍ: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في النفس مائة من الإبل، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشرٌ من الإبل" أهـ. إذا قطع يدي إنسان ٍ- يجب عليه كمالُ الدية، وفي غحداهما نصفها، وكذلك: في الرجلين كمال الدية، وفي إحداهما نصفها. ولو التقط أصابع يده، أو أصابع رجله - فعليه كمال الدية في كلإصبع عشرٌ من الإبل.

ولو قطع الكف مع الأصابع، أو قطع القدم مع أصابع الرجل - فحكومة الكف والقدم تدخل في دية الأصابع. ولو قطع يده من المرفق، أو رجله من الركبة - فعليه نصفُ الدية، وحكومة الساعد والساق، ولاتدخل حكومة الساعد والساق في دية الأصابع؛ بخلاف الكف والقدم؛ لأنهما منبت الأصابع، والأصابع دون الكف لا تسمى يداً، ومع الكف دون الساعد تسمى يداً. ولو قطع أصابعه، ثم جاء آخر، وقطع كفه - فعلى الأول ديةُ اليد، وعلى الثاني الحكومةُ. ولو ضرب يده أو رجله، فشلت - ففيها كمالُ الدية. ولو قطع إصبعاً من أصابعه -يجب عليه عشرٌ من الإبل يستوي فيه جميع الأصابع؛ سواءٌ قطعها من اليد أو من الرجل، وفي كل أنملةٍ ثلث دية الإصبع: ثلاثة أبعرةٍ، وثلث تستوي فيه جميع الأصابع؛ ولأن لكل إصبع ثلاث أنامل إلا الإبهام؛ فإن لها أنملتين؛ ففي كل واحدة نصف دية إصبعٍ. وقال مالك وأبو حنيفة - رحمهما الله-: في أنملة الإبهام ثلث دية إصبعٍ؛ لأن لها ثلاث أنامل غير أن واحدة منها مستترةٌ. وليس كذلك؛ لأن ما دون الحز منبت [الأصابع] فلا يتقدر بدله. ولو ضرب [إصبعه]، فشلتْ - ففيه ديتها. فصلٌ عن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:"وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية". ويجب في الذكر كمال الدية، يستوي فيه ذكر الشاب والشيخ [والعنين] والطفل والغليظ والدقيق، والقصير والطويل، معوج الرأس ومستويه.

وكمال الدية تجب بقطع الحشفة، وفي الباقي الحكومة. وإذا قطع الكل - تدخل حكومة الأصل في دية الحشفة. ولو ضرب ذكره فأشله - ففيه كمال الدية. ولو جعله بحيث لا يمكنه الجماع، وهو حي [ينقبض وينبسط]-ففيه الحكومة، وعلى من قطعه القصاص أو كمال الدية؛ كما في ذكر العنين وفي الأنثيين كمال الدية، وفي أحداهما نصفها؛ سواءٌ فيه اليمنى واليسرى. ولو قطع أنثييه، فذهب ماؤه - فعليه ديتان. وفي الأليتين كمال الدية، وفي أحداهما نصفها، وفي بعضها بقدره من الدية. والإيصال إلى العظم ليس بشرط، [بل ما دفع] المشرف. ولو قطع أليته، ثم بدت، واستوى - لا تسقط الدية على ظاهر المذهب؛ كالموضحة إذا اتصلت. ولو كسر صلبه، فأفات مشيه- فعيه ديةٌ كاملةٌ للصلب، ولا يجب لفوات المشي شيءٌ؛ لأن فواته لكسر الصلب، والرجل سليمةٌ؛ فلا تؤخذ الدية في الحال؛ حتى تندمل، فإن انجبر، وعاد مشيه - فلا دية، بل عليه حكومةٌ لما بقي من أثره. ولو كسر صلبه، فأفات مشيه، وشلت رجله مع ذلك - عليه ديتان. ولو انتقص مشيه، ولم يفت بأن كان لا يمكنه أن يمشي إلا بعصا، أو محدودِباً، أو على ضعف - ففيه الحكومة. ولو ضرب صُلبه، فلم يفت مشيه، وذهب ماؤه - فعليه الدية. ولو ادعى المجني عليه ذهاب جماعة، وأنكر الجاني - فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه لا يعرف إلا بقوله كالمرأة؛ إذا قالت: حِضتُ. ولو كسر صلبه، فذهب ماؤه ومشيه - ففيه وجهان:

أصحهما: عليه ديتان؛ لأنه يجب لكل واحدٍ منهما ديةٌ على الانفراد؛ فصار كما لو كسر صلبه، ففات مشيه وشل ذكره - عليه ديتان، وكما لو قطع أذنه، وذهب سمعه. والثاني: لا يجب إلا ديةٌ واحدةٌ؛ لأن الماء محله الصلب، وقد أوجبنا دية الصلب؛ كما لو قلع حدقته، فذهب بصره - لا يجب إلا ديةٌ واحدةٌ. فصلٌ دية المرأة على النصف من دية- الرجل: في النفس والأطراف جمعاً، ففي نفسها خمسون من الإبل، وفي إحدى يديها خمسٌ وعشرون، وفي إصبعها خمسٌ من الإبل، وفي سنها أو وضحتها بعيران ونصفٌ. هذا قول عثمان وعليٍّ - رضي الله عنهما - وأكثر أهل العلم. وقال في "القديم": المرأة تعادل الرجل إلى ثلث ديتها، وهي دية الجائفة؛ يروي ذلك عن عمر وهو قول سعيد بن المسيب ومالك وأحمد - رضي الله عنهم - وعلى ما قالوه: تجب في ثلاث أصابع منها ثلاثون من الإبل، وفي أربع أصابع عشرون، وفي حلمتي المرأة كمال ديتها، وفي أحداهما نصفها؛ لأن فيها جمالاً ومنفعةً، وهي منفعةُ الإرضاع. ولو قطع الحلمة مع الثدي - فلا تجب إلا ديةٌ واحدةٌ، [و] تدخل حكومة الثدي في دية الحلمة؛ كما تدخل حكومة الكف في دية الأصابع. ولو قطع رجلٌ حلمتها، ورجلٌ آخر ثديها - فعلى الأول: الدية، وعلى الثاني: الحكومة. ولو قطع ثديها مع جلدة الصدر - فعليه ديةٌ للثدي، وحكومةٌ لجلدة الصدر، فإن وصل القطع على الباطن - فعليه دية الثدي، وثلث الدية للجائفة. ولو ضرب ثديها، فشلت - عليه الدية، فإن كانت ناهدة، فاسترسلت - ففيه الحكومةُ. ولو جنى على ثديها، وبها لبن، فانقطع اللبنُ - تجب الحكومة، وإن لم يكن لها لبن، فولدت بعده، ولم ينزل اللبن - سئل أهل البصر:

فإن قالوا: انقطع اللبن بالجناية - فتجب الحكومةُ، وإن قالوا: قد ينقطع من غير جنايةٍ - فلا تجب بالشك، ما لم يقطعوا أنه من الجناية. وفي حلمتي الرجل قولان: أحدهما: تجب فيهما ديته؛ لأن ما يضمن من المرأة بالدية - يُضمن من الرجل بالدية؛ كاليد والرجل. والثاني: - وهو الأصح-: تجب فيها الحكومة؛ لأن فيهما مجرد جمالٍ بلا منفعة، وفي ثدي المرأة جمال ومنفعة، وهي منفعة الإرضاع؛ فضمنت بالدية. فلو قطع حلمته من الثندوة. إن قلنا: تجب في الحلمة الدية - فحكومة الثندوية تدخل فيها. وإن قلنا: تجب في الحلمة الحكومة - فعليه حكومتان. ولو قطعت امراةٌ حلمة امرأة عمداً - يقتص منها. وإن قطعت ثديها - فلا قصاص في الثدي؛ لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، ولها قطع الحلمة، وأخذ حكومة الثدي. وتقطع حلمة الرجل بحلمة الرجل؛ سواء قلنا: فيها دية أو حكومة. وإن قلنا: في حلمة الرجل الدية - تقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة، وحلمة المرأة بحلمة الرجل. وإن قلنا: لا دية في حلمة الرجل - فلا تقطع حلمة المرأة بحلمة الرجل، وإن رضيت به؛ كما لا تقطع [اليد] الصحيحة بالشلاء، وتقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة، إذا رضيت؛ كما تقطع الشلاء بالصحيحة. وفي شُفري المرأة كمالُ ديتها، وهو أن يرفع اللحم المشرف المحيط بالفرج؛ لأن فيهما، جمالاً ومنفعة؛ فإن الالتذاذ بالجماع يكون بهما وفي أحدهما نصف الدية ولا يشترط الإيصال إلى العظم، ويثبت القود، وإن كانت القاطعة امرأة؛ تستوي فيه السمينة والهزيلة، والبكر والثيب، [والرتقاء والقرناء].

ولو جنى على شُفريها، فشلتا - يجب [كمال] الدية. ولو أفضى امرأة - يجب مال ديتها، والإفضاء: هو أن يرفع الحاجز بين مدخل الذكر ومخرج البول، وقيل: هو أن يرفع الحاجز بين القبل والدبر، وليس بشيء؛ لأنه لا يمكن ذلك إلا بحديدةٍ؛ وسواء أفضاها بآلة الجماع، أو بإصبع، وخشبةٍ؛ سواء كانت امرأته أو أجنبية وطئها بشبهةٍ أو زناً؛ مكرهةً كانت أو طائعةً؛ لأنها إذا طاوعت - فقد رضيت بالوطء لا بالإفضاء؛ كما لو تحامل عليها في الوطء، وكسر رجلها - يجب [عليه] ضمان الرجل. ولو أفضاها، فصارت بحيث لايستمسك البول - تجب حكومةٌ مع الدية. وحكم المهر لا يتغير بالإفضاء؛ إذا كان إفضاؤها بآلة الوطء؛ ففي الزوجة يتقدر المهر، وفي الأجنبية يجب المهر مع الدية؛ إن كانت بشبهة أو كانت مكرهةً. وعند أبي حنيفة - رحمة الله عليه-: لاتجب الدية في الزوجة؛ لأن الوطء مستحق له؛ كما لو أزال بكارتها، فتورمت وماتت. وفي الأجنبية قالوا: إن كانت تستمسك البول - يجب ثلث الدية مع المهر، وإن كان لا يستمسك - لا يجب المهر، ويجب تمام الدية. فيقول: إفضاء مضمون، فيوجب مال. [الدية؛ كما إذا كان لا يستمسك البول، ولو أفضاها، فالتأم الجُرح - تسقط] الدية، وعليه حكومةٌ، إن بقى أثر؛ بخلاف الجائفة إذا التأمت - لم يسقط أرشها، لأن أرش الجائفة يجب باسمها؛ كأرش الموضحة؛ فلا يسقط بالالتئام. ودية الإفضاء تجبُ بإزالة الحاجز، وقد عاد الحاجز؛ كدية العين تجب بإزالة البصر، فإذا عاد - يسقط. ولو أزال بكارة امرأة - نظر: إن كانت زوجته - لا شيء عليه؛ سواءٌ أزالها بآلة الجماع، أو بإصبع، أو خشبة؛ لأن الافتضاض مستحق للزوج.

وإن كانت أجنبيةً - نظر: إن أزال بإصبع أو خشبة فعليه أرش الافتضاض، وإن كان الفاعل امراة بكراً - يقتص منها، ويكون ذلك من الإبل باعتبار السوق؟ فيه وجهان: أصحهما: بالإبل؛ كسائر الحكومات. والثاني: باعتبار السوق؛ كالمهر. وإن أزال بآلة الجماع- فيجب المهر، وهل يفرد أرش الافتضاض عن المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يفرد؛ فعليه مهر مثل ثيبٍ، وأرش الافتضاض؛ لأن موجب كل واحدٍ مختلفٌ؛ فإن الأرش يجب بالجرح، والمهر بإتلاف المنفعة. والثاني: لا يُفرد؛ بل عليه مهر مثل بكر. وإن كانت طائعة - فلا أرش لها؛ كما لا مهر لها. ولو وطيء أجنبية، [وأزال بكارتها، وأفضاها - فعيه المهر، ودية الإفضاء، أما أرش البكارة - فهل يجب معها؟ فيه وجهان: كذلك: لو أزال بكارتها بخشبة، وأفضاها، هل يدخل [أرش البكارة في دية الإفضاء؟ وجهان: أحدهما: لا يدخل [كما لا يدخل]] فيها المهر، إذا كان ذلك بالوطء. والثاني:- وهو الأصح-: يدخل أرش البكارة في دية الإفضاء، لأن وجوبه بإتلاف جزء؛ فجاز أن يدخل في بدل الإتلاف؛ بخلاف المهر حيث لم يدخل في [دية الإفضاء] لأن وجوب المهر بالاستمتاع؛ فلا يدخل في أرش الإتلاف؛ كما لو تحامل على الموطوءة؛ فكسر رجلها - لا يدخل المهر في دية الرجل. فصلٌ في الحكومات يجب - في العين القائمة، واليد الشلاء، [والرجل الشلاء]، والأذن المستحشفة

واللسان الأخرس، والذكر الأشل - الحكومة؛ لأنه لا منفعة في هذه الأعضاء؛ إنما فيها جمالٌ فحسبُ. ومعنى الحكومة: أن يقال لو كان المجني عليه عبداً بصفته، كم كانت قيمته وكم كان ينتقص من قيمته بتلك الجناية؟ فيجب من دية النفس بتلك النسبة؛ مثل: إن كانت قيمته مائة، وينتقص من قيمته بتلك الجناية عشرةٌ؛ فيجب على الجاني عشر دية النفس. ولو حلق شعر رأسه، أو شفته أو لحيته أو حاجبه أو أهداب عينه، أو شعر جسده- نظر: إن أفسد منابتها - فعليه الحكومة. وإن لم يُفسد منابتها - نظر: إن بقي أثرٌ أو نبت أنقص - فعليه الحكومةُ، وإن نبت، ولم يبق أثر - فلا شيء عليه إلا التعزير. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: أربعةٌ من الشهور يجب فيها تمام الدية؛ إذا أفسد منابتها: شعر الرأس، واللحية، وأهداب العينين، والحاجبين. قلنا: ما لا منفعة فيه فلا تجب فيه الدية؛ كشعر البدن، يؤكده: أنه لو قطع أجفانه، وعليها الأهداب -[لا تجب] إلا ديةٌ واحدةٌ بالاتفاق. ولو ضمن الأهداب بالدية - لم تدخل ديته في دية الأجفان. ولو قطع إصبعاً زائدة، أو سناً شاغية، أو نتف لحية امرأة، وبقي له أثر - ففيها الحكومة، فلو اندمل، ولم يبق له أثرٌ، أو زاد جمالاً - ففيه وجهان: قال ابن سريج: لا يجب فيه ضمانٌ؛ لأن وجوب الضمان بسبب النقص أو الشين، ولا نقص ههنا، ولا شين؛ كما لو لطم وجهه، أو ضربه سوطاً، ولم يؤثر - فلا ضمان عليه. وقال أبو إسحاق - رحمه الله - وهو الأصح-: تجب الحكومة؛ لأنه جزءٌ من جملةٍ مضمونة؛ فيكون مضموناً؛ كما لو بقي له شينٌ؛ فعلى هذا: يقوم قبل الجناية، ويقوم أقرب أحواله إلى الاندمال؛ فيجب ما بينهما؛ لأنه لما سقط اعتبارُ قيمته بعد الاندمال؛ لعدم النقص - تعتبر أقرب الأحوال إليه.

فإن لم ينتقص قبل الاندمال - يقوم، والدم جارٍ. وفي لحية المرأة تقوم رجلاً في سنها له لحيةٌ، ثم يقوم وقد ذهبت لحيته؛ يجب ما بينهما من ديتها. ولو لطم رجلاً، أو ضربه؛ فلم يظهر له أثر - لا ضمان عليه. وإن اسود أو اخضر، وبقي له أثرٌ بعد الاندمال - ففيه الحومةُ. وإن زال الأثر - فلا ضمان فيه؛ كما لو جنى على عينه، فابيضت، ثم زال البياض - لا ضمان عليه. وإن كان قد أخذ - فعليه رده. وجُملته: أنكل جناية بقي لها أثرٌ بعد الاندمال [من ضعف] وشين - ففيه الحكومة، وما لم يبق لها أثرٌ - نظر: إن لم يكن أصل الجناية جراحاً أو شجاً، وإنما كان ضرباً تألم به، فزال - فلا يجب له أرشٌ. وإن كان جراحاً أو شجاً، فاندمل، وزال أثره - ففيه وجهان: ولو كسر ضلعه أو ترقوته - قال في موضع: فيه جملٌ، وقال في موضع: فيه الحكومة، فأومأ المُزني: إلى أنه على قولين: [في] الجديد: فيه حكومة، وفي القديم: في جمل؛ تقليداً لعمر - رضي الله عنه- فإنه قضى فيها بجمل والصحيح: أن فيه حكومةً قولاً واحداً؛ ما لو كسر عظماً سواهما: من عظم ساقٍ أو ساعد، وحيث قال: فيه جمل - أوجبه على سبيل الحكومة. وعلى هذا السبيل: كان قضاء عمر - رضي الله عنه - أوجب جملاً؛ لأنه كان مبلغ الحكومة. ولو ضرب على عنقه، فجله كالملتفت، أو جعله بحيث لا يلتفت إلا بشدة، أو لا يسيغ الطعام إلا بمشقة - فعليه الحكومة. ولو كسر ساعده أو ساقه: فإن جبره مستقيماً - ففيه حكومة؛ لأنه لا يخلو عن ضعف،

فإن لم يبق ضعفٌ ولا شينٌ - فوجهان أحدهما: لا شيء. والثاني: تجب حكومةٌ باعتبار حالة الألم. وإن بقي فيه ضعفٌ، وكان معه شين أو اعوجاج - فحكومته أكثر، فإن قال الجاني: أكسره ثانياً؛ لينجبر مستقيماً - ليس له ذلك، فإن [كسره] ثانياً، فانجبر مستقيماً - لا تسقط الحكومة الأولى، وتجب -[للكسر الثاني]- حكومة أخرى؛ لأنه جنايةٌ جديدةٌ، وكل عضو له أرش مقدر - فحكومة الجناية عليه لا تبلغ أرشه المقدر؛ لأن الحكومة تقديرها بالاجتهاد؛ فلا تبلغ [أرشه] المقدر شرعاً؛ كالتعزير. لا يبلغ الحد، والرضخ: لا يبلغ السهم. فإن قلع ظفره، أو جنى على أنملته - لا تبلغ حكومته دية الأنملة. ولو جنى على إصبعه - تنقص حكومتها عن دية الإصبع. وحكومة الجناية على البطن لا تبلغ دية الجائفة. ولو جرح برأسه دون الموضحة- لا يبلغ أرشه دية الموضحة، وإن كان شينه أكثر من شين الموضحة؛ لأنه لو أوضحه وشانه شيناً فاحشاً - لم يكن له عليه إلا أرش الموضحة، ثم عليه أكثر الحكومتين من الجرح والشين. فإن جنى على عضو ليس له أرشٌ مقدر؛ من كتفٍ، أو فخذٍ، أو ساق أو عضد أو ذراع- يجوز أن تزاد حكومته على دية عضو آخر، ولا تبلغ دية النفس؛ بخلاف حكومة الكف والقدم - لا تبلغ نصف الدية؛ لأنهما تبع للأصابع. فصل في ديات الكفار رُوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، فقال: "لا يقتل مؤمن بكافرٍن دية الكافر نصف دية المسلم".

وبهذا الإسناد قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، أو ثمانمائة ألف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ - النصف من دية المسلمين، فكان كذلك حتى استخلف عمر -رضي الله عنه - فقام خطيباًن فقال: "إن الإبل قد غلت"، ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وترك دية أهل الكتاب لم يرفعها. وعن سعيد بن المسيب؛ ان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلاف، وفي المجوسي ثمانمائة [درهم]. ديةُ اليهودي والنصراني إذا كان ذمياً أو مستأمناً - ثلث دية المسلم عند الشافعي - رضي الله عنه - وهي من الإبل ثلاثةٌ وثلاثون وثلثٌ، ومن النقدين إن صرنا على بدل مقدر على القول القديم أربعة آلاف درهم، أو ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث دينار، وهو قول عمر وعثمان - رضي الله عنهما-. وبدل أطرافه ثلث بدل طرف المسلم. ودية المرأة منهم نصف دية رجالهم. وعند أبي حنيفة والثوري - رحمهما الله - ديته مثل دية المسلم، وهو قول عبد الله بن مسعود. وقال عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز: ديته نصف دية المسلم، وهو قول أحمد - رضي الله عنه-. أما دية المجوسي - فخمس دية النصراني؛ وهو من الإبل ستةٌ وثلثان، ومن النقدين ثمانمائة درهم، أو ستة وستون ديناراً، وثلثا دينار وبدلُ أطرافه خمس ثلث بدل

طرف المسلم، ودية نسائهم على نصف دية رجالهم. وقال أبو حنيفة وحده: دية المجوسي مثل دية المسلم. والسامرة من اليهود، والصابئون من النصارى: دياتهم كدياتهم. فأما من لا كتاب لهم من الكفار؛ مثل: عبدة الأوثان والشمس والقمر والزنادقة - فلا يجوز عقد الذمة معهم، وإذا دخلوا إلينا بأمانٍ - فديتهم كدية المجوسي. أما من لم يبلغه الدعوة - فلا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام، فإن دعي إلى الإسلام، فلم يجب - فهو حربي لا شيء على من قتله، وإن قتل قبل أن يدعي إلى الإسلام - يجب على قاتله الكفارة والدية. وعند أبي حنيفة: لا يجب الضمان بقتله؛ وأصله: أن عندهم: هو محجوجٌ عليه [بعقله؛ وعندنا: هو غير محجوج عليه] قبل بلوغ الدعوة إليه؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فثبت انه لا حجة عليهم قبل مجيء الرسل. إذا ثبت أن دمه مضمونٌ - فماذا يجب على قاتله؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: إن عرف أصل - فعليه دية أهل دينه: فإن كان كتابياً فثلث الدية؛ سواءٌ كان قبل التبديل أو بعده: وإن كان مجوسياً - فخمس الثلث، وإن لم يعرف أصل ديته - فعليه أقل الديات، وهي دية المجوسي؛ لأنها اليقين. ومن أصحابنا من قال: إن كان موحداً، لم تبلغه دعوة نبي [ما]، أو كان متمسكاً بدين غير مبدل، ولم يبلغه نسخه؛ بأن كان على دين موسى عليه السلام -ثم تبدل، ولم تأته دعوة عيسى - عليه السلام - أو كان على دين عيسى - عليه السلام - ثم تبدل، ولم تأته دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم-] فحكمه حم المسلمين: يجب على قاتله المسلم القود أو كمال دية مسلم، ويكون هو من أهل الجنة. وإن كان على دين مبدلٍ - فلا قود على قاتله المسلم، ويجب بقتله ثلث الدية. يعبد الوثن - فديته دية المجوسي؛ كالوثني الذي له أمان.

فصلٌ في الجناية على الرقيق من قتل عبداً - تجب عليه قيمته، باعتبار السوق بالغةً ما بلغت؛ يستوي فيه القن والمكاتب وأم الولد. وإن قطع طرفاً من أطراف عبد -[فماذا] يجب؟ فيه قولان: قال في الجديد - وهو الأصح: يعتبر بدل طرفه بقيمة نفسه؛ ما في الحر، وهو قول [عمر وعليِّ]. فن قطع إحدى يديه - يجب عليه نصف قيمته، [وإن قطع كلتا يديه فكمال قيمته. وفي إصبعه عشر قيمته]. وفي الموضحة نصف عشر قيمته. وإن قطع ذكره وأنثييه - فعليه قيمتان؛ كما يجب في الحر ديتان إلا أن بدل نفس الحر لا ينتقص بانتقاص الأطراف، وبدل نفس العبد ينتقص؛ حتى لو قطع رجلٌ أطراف [حر ثم جاء آخر وحز رقبته - يجب على من حز الرقبة كمال الدية، ولو قطع أطراف] عبدٍ، ثم جاء آخر، وحز رقبته يجب على حاز الرقبة قيمته يوم قتله، حتى لو لم يكن له قيمةٌ يوم القتل؛ لفوات أطرافه - لا يجب عليه ضمانٌ إلا الكفارة، وإن كان حاز الرقبة عبداً - يقتص به، وقال في القديم: إذا قطع طرف عبدٍ - يجب عليه ما انتقص من قيمته؛ لأنه مملولٌ كالبهيمة، وبه قال مالكٌ وابن أبي ليلى. فعلى هذا: لو جب ذكره وأنثييه، فلم ينتقص قيمته، وزادت قيمته - ففيه وجهان: أحدهما: وبه قال مالك -: لا ضمان عليه. والثاني: تجب عليه حكومةٌ؛ باعتبار ما قبل الاندمال. ومن أصحابنا من أنكر هذا القول؛ وقال: القول هوا لأول؛ إن بدل طرف العبد - يعتبر بقيمته نفسه من غير اختلاف. فعلى هذا: لو قطع إحدى يدي عبد، قيمته ألف، فعادت قيمته إلى مائتين - لا يجب عليه إلا خمسمائة، [وغن عادت قيمته إلى ثمانمائة - فعليه خمسمائة] ولو قطع إحدى يدي

عبدٍ، ثم جاء آخر، وقطع يده الأخرى. نظر: إن كان قطع الثاني بعد الاندمال الأول - فعلى الأول نصفُ قيمته صحيحاً، وعلى الثاني نصف قيمته مقطوعاً مندملا مثلث إن كانت قيمته ألفاً، فعادت - يقطع الأول إلى ثمانمائة؛ فعلى الأول خمسمائة، وعلى الثاني أربعمائة، وإن عادت قيمته يقطع الأول إلى مائتين - فعلى الأول خمسمائة، وعلى الثاني مائة، ولو قطع [الثاني] قبل اندمال الأول - فعلى الثاني نصف ما أوجبنا على الأول، وهو مائتان وخمسون؛ لأنه لم تستقر قيمته بعد قطع الأول بالاندمال حتى يوقف على النقصان. ولو قطع رجلان يديه معاً - فالقيمة عليهما نصفان. ولو قتل عبداً، أو قطع طرفاً من أطرافه خطأ - هل تحمل بدله العاقلة؟ فيه قولان: قال في الجديد - وهو الأصح-: تحمله العاقلة مؤجلاً؛ لأنه بدل آدمي مقتولٍ؛ كدية الحر. والثاني: - وبه قال مالك رحمه الله-: لا تحمله العاقلة؛ بل يكون في مال الجاني حالاً؛ لأنه حيوانٌ مضمونٌ بالقيمة، ولا تحمل بدله العاقلة؛ كالبهائم. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: تحمل العاقلة بدل نفس العبد، ولاتحمل بدل طرقه؛ فنقيس الطرف على النفس؛ كما في [حق] الحر. فإن قلنا: تحمله العاقلة، فاختلفا في قيمته فقالت العاقلة: ألفٌ، وقال السيد: ألفانٍ - فالقول قول العاقلة مع اليمين. [فلو] صدق الجاني السيد - لا يقبل قوله على العاقلة، حتى تجب الزيادة على ما تُقر به العاقلة في مال الجاني. وإن كان الجاني عبداً، فصدق سيد المقتول - لا يقبل تصديقه في حق سيده. فصلٌ في جناية الرقيق إذا جنى العبد جناية موجبة للقود - يقتص منه، فإن عفا على مالٍ أو كانت الجناية موجبة للمال، خطأ كان أو عمداً - يتعلق الأرش برقبته، وكذلك: لو أتلف ما لا تباع رقبته [فيه] إلا

أن يختار السيد الفداء-: فإذا بيع في الجناية، ولم يف ثمنه بأرش الجناية - لا يجب على السيد إتمامه، وهل يبيع به العبد إذا أعتق؟ فيه قولان في الجديد - وهو الأصح لا يتبع؛ لأن محله الرقبة، وقد بيعت فيه. وفي القديم: يتبع؛ لأنه تعلق برقبته، وذمته جميعاً. وإذا اختار السيد الفداء - بماذا يفدى؟ فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد -: عليه أقل الأمرين: من ضمان الجناية، أو قيمة الرقبة؛ لأن ضمان الجناية: إن كان اقل - فلم يجب بجنايته إلا ذلك، وإن كانت قيمة الرقبة أقل - فليس على السيد إلا تسليم رقبته. وقال في القديم: يجب عليه ضمان الجناية بالغاً ما بلغ؛ لأنه لو سلمه للبيع ربما يشتريه راغبٌ بأكثر من قيمته. فلو مات العبد الجاني، أو هرب - نُظر: إن كان قبل أن يطالب السيد بتسليمه للبيع، أو طولب، فلم يمنع - فلا شيء على السيد؛ لأن حق المجني عليه كان متعلقاً برقبة العبدِ، وقد فاتت؛ سواءٌ علم السيد بجنايته، أو لم يعلم. وإن طولب، فمنع - صار مختاراً للفداء: ولو اختار الفداء، ثم رجع - نظر: إن كان العبد باقياً - فله الرجوع، ويباع العبد [الجاني] في الجناية. وإن مات بعد اختيار الفداء - فلا رجوع له. وإذا اختار السيد الفداء - نص على أنه يعتبر قيمته بيوم الجناية. قال الشيخ القفال - رحمه الله-: وجب أن تعتبر قيمته بيوم الفداء؛ لأن نقصان قيمته لا تؤخذ على المولى قبل اختيار الفداء؛ بدليل أنه لو هل - لا شيء عليه؛ والنص محمول على ما إذا سبق من المولى منعٌ من البيع حالة الجناية، ويؤخذ نقصان القيمة على المولى بعده، ولو قتل العبد الجاني - فللمولى أن يقتص، إن كان القتل موجباً للقصاص، وعليه الفداء للمجني عليه.

وإن كان القتل موجباً للمال - تؤخذ القيمة من القاتل، ويُقضى منها حق المجني عليه، وللسيد أن يمسك تلك القيمة، ويفدى من سائر أمواله. وإذا أوجبنا الفداء على المولى فيما إذا قتل العبد بماذا يفدى؟ قيل: فيه قولان؛ كما لو اختار الفداء في حياته، وقيل: يفدى بالأقل من قيمته، أو أرش جنايته قولاً واحداً؛ لأنه وقع اليأس [من أن] يشتري بأكثر من قيمته. ولو جنى العبدُ جناياتٍ معاً، أو على الترتيب قبل فداء السيد - تُباع رقبته فيها، ونقص القيمة على الكل على قدر جناياتهم. وإن اختار السيد الفداء، ففي الجديد - وهو الأصح: عليه الأقل من [أروش الجنايات كلها أو قيمته مرةً واحدةً. وفي القديم: عليه أروش] الجناياتِ بالغةً ما بلغت. أما إذا جنى العبدُ جنايةً، و [فدى] السيد، ثم [رجع] جنى مرة أخرى، واختار الفداء - عليه للأخرى فديةٌ جديدةٌ، كالأولى. أما أم الولدِ: إذا جنت على نفسٍ أو مالٍ - فيجب على السيد الفداءُ؛ لأنه امتنع بيعها باستيلاده؛ فصار به مختاراً للفداء، في جناياتها، وبماذا [يُفدى] فيه قولان؛ كما في العبد القن؛ وقيل - وهو الأصج-: يُفدى بأقل الأمرين من قيمتها، أو أرش الجناية قولاً واحداً؛ بخلاف العبد القن؛ لأن الرقبة هناك قابلةٌ للبيع، فلو سلمها للبيع ربما يرغب راغبٌ في شرائها بأكثر من قيمتها، وفي أم الولد الرقبة، وغير قابلة للبيع فلا يتصور أن يضمن بأكثر من قيمتها. ولو جنت أم الولد جناياتٍ، ولم يفد السيد شيئاً منها، علم بها أولم يعلم - فماذا يلزمه؟ ففي القديم: يلزمه أروش الجنايات. [وفي الجديد قولان: أصحهما: عليه الأقل من أروش الجنايات] كلها أو قيمتها مرةً واحدةً؛ كما في العبد القن لأنه لم يوجد منه إلا منع واحد بالاستيلاد كالعبد القن إذا جنى جنايات كثيرة، ثم قتله المولى، أو أعتقه - لا يلزمه إلا قيمةٌ واحدةٌ.

والقول الثاني: عليه أن يفدى لكل جنايةٍ بالأقل من أرشها أو قيمتها؛ فيجعل كأن السيد أحدث عيب كل جنايةٍ منعاً؛ بخلاف القن؛ [فن ثم لم يوجد منه إلا منع واحد بعد الجنايات باختيار الفداء؛ لأنه عقيب كل جناية يمكن أن يباع نظير هذا من القن؛ أن يجني، فيطالب السيد بالبيع، فيمنع، ثم يجني ثانياً، فيمنع - فعليه أن يفدى لكل جناية بالأقل من أرشها أو قيمتها فأما إذا جنت أم الولد، وفداها السيد، ثم جنت مرة أخرى. ففي القديم: عليه أرش الجناية الأخرى. وفي الجديد: يبنى على ما إذا لم يكن قد فدى. إن قلنا: هناك يُفدى بالأقل من أرش كل جناية أو قيمتها، [وكذلك الثالثة والرابعة. وإن قلنا: هناك يفدى بالأقل من أرش (كل جناية) أو قيمتها]، فههنا: عليه أن يفدى للجناية الثانية بالأقل [من أرشها أو قيمتها، وكذلك الثالثة والرابعة. وإن قلنا: هناك يفدى بالأقل] من أروش الجنايات كلها أو قيمتها مرة واحدة - فههنا قولان: أصحهما: - وهو اختيار المُزني - رحمه الله-: يجب عليه أن يفدى الجناية الثانية بالأقل من أرشها أو قيمتها؛ كما في العبد إذا فداه السيد، ثم جنى ثانياً - عليه أن يفدى ثانياً، إذا اختار الفداء. والقول الثاني: ليس على السيد إلا قيمةٌ واحدةٌ، وبه قال أبو حنيفة - رحمة الله عليه- فالمجني عليه الثاني يشارك المجني عليه الأول فيما أخذ؛ - فيقتسمان على قدر أرش جنايتيهما؛ مثلُ: إن كانت قيمتها ألفاًن وأرشُ كل جناية ألفٌ - فالثاني يرجع على الأول بخمسمائة. [فإن] كان أرش الجناية الأولى ألفاً، وأرش الجناية الثانية يأخذ ذلك الفضل [ألفاً، وأرش

الثانية خمسمائة يؤخذ من الأول ثلث الألف] وإن كان أرش جناية الأول لم تستغرق قيمتها - فالثاني يأخذ ذلك الفضل] فإن وفى بحقه - فليس له إلا ذلك على الأقوال كلها، وإن لم يف ذلك [بحقه] يُحاص الأول في قدر ما بقي؛ مثل: إن كانت قيمتها ألفاً، وأرش الجناية الأولى خمسمائة، وأرش الجناية الثانية ألفٌ - أخذ الثاني من السيد الخمسمائة الثانية، ويرجع على الأول بثلث الخمسمائة المأخوذة؛ لتصير القيمة بينهما أثلاثاً: الثلث للأول، والثلثان للثاني. وكذلك في كل جناية تجنى من بعدُ؛ كمن مات، وقسمت تركته بين الورثة والغرماء، وكان قد حفر بئر عدوات في حياته، فهلك بها مال إنسان - فصاحبه يزاحم الغرماء والورثة فيما أخذوا. ولو جنت جاريةٌ، ولها ولدٌ - لا يتعلق الأرش برقبة ولدها وإن ولدت بعد الجناية؛ سواء كان الحمل موجوداً يوم الجناية أو حدث من بعد. ولو جنت، وهي حامل أو حبلت بعده - هل تُباع حاملاً أم لا؟ إن قلنا الحمل يعرف - لا تباع حتى تضع. وإن قلنا: لا يعرف - تباع؛ كما لو زادت زيادةً متصلة. إذا ثبت أن حق الجناية لا يتعلق برقبة الولد: [فإن] كان الولد صغيراً، ولم يجُز - التفريق بين الأم والولد - فتباع من الولد، ثم ما يقابل الأم - يصرف في الجناية، وما يقابل الولد - فللسيد. فصلٌ فالصبي الذي لا يعقل، والمجنون الذي لا تمييز له: إذا قتلا إنساناً - فهو خطأٌ؛ تجب الدية مخففة على عاقلتهما. أما المراهق والمجنون الذي لاتمييز له؛ إذا تعمدا قتلاً - ففيه قولان: أصحهما: [ان] عمدهما عمدٌ؛ لأن القصد منهما حاصلٌ، كالبالغ؛ فعلى هذا:

تجب الدية مغلظة في مالهما حالةً، وإن لم يتعلق به القصاص؛ لونهما غير مكلفين. والثاني: - وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله - عمدهما خطأٌ؛ لعدم التكليف؛ بدليل أنه لا يجب [به] القود، فعلى هذا: تجب الدية مخففة على عاقلتهما مؤجلة، والله أعلم بالصواب. [باب] التقاء الفارسين إذا اصطدم رجلان، ماشيان، وماتا - فنصف دية كل واحدٍ منهما هدرٌ، والنصف على عاقلة الآخر؛ لأن كل واحدٍ منهما مات لصدمته، وصدمة صاحبه، ففعله في نفسه [هدرٌ] وفي حق صاحبه مضمونٌ؛ كما لو جرح نفسه، وجرحه غيره، فمات منهما - يجب على الغير نصف الدية، ولا تتقاص الديتان في الاصطدام؛ لأن المستحق غير الغارم؛ فإن المستحق هو الوارث، والغارم العاقلة، ويجب في مال كل [واحد] كفارةٌ بقتل صاحبه، وهل تجب الكفارة بقتل نفسه؟ فيه وجهان: [وإن] كانا راكبين، واصدما، وماتا، وماتت دابتهما فنصف دم كل واحد منهما، ونصف قيمة دابته هدرٌ، ونصف ديته على عاقلة الآخر، ونصف قيمة دابته في مال الآخر؛ لأن قيمة الدابة لا تحملها العاقلة، سواءٌ استوت الدابتان في القوة والضعف، [أو اختلفتا] بأن يكون أحدهما راكب حمارٍ، والآخر راكب فرسٍ، أو قيل: حتى لو كان أحدهما راكب بغلٍ، والآخر على كبش - فالحكم كذلك؛ وسواء كانا أعميين أو بصيرين، أو كانا أحدهما أعمى؛ وسواءٌ كان ذلك بالليل أو بالنهار؛ ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو يكون أحدهما مقبلاً، والآخر مدبراً، وبين أن يكون سير أحدهما - أشد من الآخر؛ وسواءٌ وقعا منكبين أو مستلقيين أو أحدهما منكباً والآخر مستلقياً. ثم إن تعمدا الصدم] فهو شبه عمدٍ فنصف الدية مغلظة على العاقلة. وإن لم يتعمدا - فنصف الدية مخففة. وإن تعمد أحدهما دون الآخر - فنصف دية الآخر مغلة على عاقلة المتعمد، ونصف

دية المتعمد مخففة على عاقلة الآخر، ولا يكون في الاصطدام العمد المحض. وقال أبو حنيفة: إن كانا راكبين - فعلى عاقلة كل واحد منهما تمام دية الآخر، [و] في ماله تمام قيمة دابة الآخر. وإن كانا ماشيين - قال: إن وقعا مستلقيين - فهكذا. وإن وقعا منكبين - فدمهما هدرٌ؛ لأنه لا ينكب بفعل صاحبه. وإن وقع أحدهما منكباً والآخر مستلقياً - فدم المنكب هدر، وجميع دية المستلقي على عاقلة المنكب. وكذلك قال المزني؛ فيما إذا وقع أحدهما منكباً وقال، فيما إذا وقعا منكبين أو مستلقيين، كما قال الشافعي - رضي الله عنه - ونحن قد سوينا بين الحالين؛ لأنه قد يستلقي بشدة صدمته؛ إذا لقي صلابةً، كالسهم يصيب صلابة أو حجراً - يرجع إلى الرامي. ولو اصطدم صبيان، وماتا فكالبالغين، وسواء كانا ماشيين أو راكبين؛ إذا ركبا بأنفسهما -فنصف دية كل واحد [منهما]، ونصف قيمة دابته هدرٌ، ونصف ديته على عاقلة الآخر، ونصف قيمة دابته في ماله غير أن في كل موضع أوجبنا الدية مغلظة في البالغ - ففي الصبي إن قلنا: عمده عمدٌ- تكون مغلظة، وإن قلنا: خطأ - فمخففة. وإن أركبها من لا ولاية له عليهما - فلا تكون شيء من دمهما ولا من قيمة دابتهما هدراً، ولا شيء على الصبيين، بل على عاقلة كل واحد من المركبين [ديةٌ كاملةٌ: نصفٌ على الذي أركبهن ونصف على الآخر، وفي مال كل واحد من المركبين] نصف قيمة [دابة] كل واحد منهما. وكذلك [كل] ما أتلفت الدابة بيدها أو رجلها - فضمانه على المركب. وإن أركبهما من له عليهما ولايةٌ - نُظر: إن لم يكن لمصلحة الصبيين - فهو كإركاب من لا ولاية [عليهما] له. وإن كان لمصلحتهما: من ضعف الصبيين عن المشي، أو تعليم فروسية ونحوه

- فهو ما لو ركبا بأنفسهما - فنصف دم كل واحد منهما، ونصف قيمة دابته - هدرٌ، والنصف من الدية على عاقلة الصبي الآخر، ونصف قيمة الدابة، في ماله، ولا شيء على المركب. وقال الشيخ القفال: هو كإركاب من لا ولاية له؛ فيون ضمان الكل على عاقلة المركبين، وضمان الدابتين في مالهما. ولو اصطدم عبدان، وماتا - فدمهما هدرٌ؛ سواء اتفقت قيمتهما، أو اختلفت؛ لأن نصف قيمة كل واحدٍ يتعلق برقبة الآخر؛ فسقط [بفوات المحل]. وإن مات أحدهما - فنصف قيمته في رقبة الحي. ولو اصطدم حر وعبدٌ، وماتا: إن قلنا: قيمة العبد لا تحملها العاقلة - وجب نصف قيمة العبد في مال الحر، وتعلق به نصف دية الحر؛ فيتقاصان. فإن كان نصف دية الحر أكثر -[فالفضل هدرٌ، وإن كان نصف القيمة أكثر] يأخذ السيد الفضل من تركة الحر، وإن قلنا: قيمة العبد تحمله العاقلة - يجب على عاقلة الحر نصف قيمة العبد، وتعلق بها نصف دية الحر لورثته، فإن كانت العاقلة هم الورثة - فيتقاصان، وإن مات أحدهما - نظر: إن مات الحر - فنصف ديته تتعلق لجميع رقبة العبد، وإن مات العبد - فنصف قيمته على عاقلة الحر، أو في ماله؟ على اختلاف القولين. ولو اصطدم امرأتان حاملان، فماتتا، وألقتا جنينهما - فحكم ديتهما حكم الرجلين، أما ضمان الجنين - فعلى عاقلة كل واحدةٍ غرةٌ كاملةٌ نصفها عن جنينها، ونصفها عن جنين صاحبتها؛ لأن المرأة إذا جنت على نفسها، فألقت جنينها - يجب على عاقلتها الغرة لورثة الجنين، وفي مال ل واحدةٍ منهما ثلاث كفارات: كفارة عن صاحبتها، وعن كل جنين كفارةٌ. وإن أوجبنا الكفارة، بقتل نفسها - فأربع كفاراتٍ. ولو اصطدم أما ولدٍ لرجلين، وماتتا - فنصف قيمة كل اوحد هدر، وعلى السيدين الفداء للنصف الآخر؛ لأن ضمان جناية أم الولد يكون على السيد؛ فيفدى كل واحد من اسيدين بالأقل من نصف قيمة أم ولد صاحبه، أو كمال قيمة أم ولده فإن استويا - تقاصا،

وإلا - رجع صاحب الفضل بالفضل. وإن كانتا حاملين، فألقتا الجنينين - فنصف ضمان الجنين هدرٌ؛ لأن أم الولد: إذا جنت على نفسها، فألقت جنينها - يكون هدراً، ولكل واحد من السيدين على الآخر - نصف الغرة، فيتقاصان. فإن كان لكل واحد من الجنينين وارثٌ يسوى الأب، ولا يتصور إلا الجدة أم الأم - فلا يسقط شيءٌ من حقها؛ فلكل جدة سدس الغرة نصف على هذا السيد، ونصف على ذاك؛ لأن أم الولد إذا ألقت جنينها، ولها أم حرةٌ -يغرم سيدها سدس الغرة، لأمها التي هي جدة الجنين، ثم يقع التقاص في الباقي. وإن كانت لأحدٍ الجنينين جدةٌ فكلٌ وحدٍ من السيدين يغرم للجدة نصف سدس الغرة [ثم سيد من ليس لجنينها جدةٌ [له] نصف غرة] [سدس] على سيد من لجنينها جدة] لأنه ليس لجنينها وارث سواه وسيد من لجنينها جدة - له نصف غرة على الآخر ناقصةً بنصف السدس؛ لأن لجنينها سواه وارث، وهي الجدة، وقد أخذت نصيبها - فسيد من ليس لجنينها جدة - يأخذ نصف سدس الغرة من الآخر، والباقي يتقاصان. وإن كانت إحداهما حاملاً دون الأخرى، فألقت الحامل جنينها- فنصف الغرة هدرٌ، ونصفها على سيد [الحامل]. وإن كان للجنين جدةٌ - فمن نصف الغرة الذي وجب على سيد الحامل نصف سدسه للجدة، والباقي لسيد الحامل. وعلى سيد الحامل نصف سدس الغرة للجدة؛ حتى يكمل لها السدس. ولو أن راكبين غلبتهما دابتاهما، فاصطدما، [وماتا]، وماتت دابتهما، أو راكب الدابة، أو سابقها غلبته [دابته]، فأتلفت نفساً أو مالاً - هل يجب الضمان؟ اختلف أصحابنا فيه.

منهم من قال: فيه قولان؛ كالسفينتين إذا اصطدمتا بغلبة الريح أو الموج. أحدهما: لا ضمان على راكب الدابة، ولا صاحب السفينة؛ لأنه مغلوبٌ. والثاني: يجب؛ كما لو لم يكن مغلوباً. ومنهم من قال: ههنا يجب الضمان قولاً واحداً، بخلاف السفينتين، وهو الأصح. والفرقُ: أن جري السفينة تكون بالريح، وليست الريح تحت تصرفه حتى ينسب التفريط إليه، والدابة عنانها وذمامها بيد صاحبها، يصرفها كيف شاء: فإن غلبته - فلسوء فروسيته وسياسته وعمله؛ فكان مفرطاً؛ فضمن - فعلى هذا: إذا اصطدمت دابتان بالغلبة - يجب نصف قيمة الدابة في ماله، ونصف الدية مخففة على العاقلة. قال الشيخ - رحمه الله-: ولو غلبته دابته، فاستقبلها رجلٌ، فردها عن وجهها، فانصرفت، وأتلفت شيئاً - يجب الضمان على الرادِّ. ولو نخس رجلٌ دابةً، فأسقطت الراكب، وأتلفت شيئاً من نخسه - ضمن الناخس ما كان مالاً، وعاقلته إن كان نفساً. وإن نخس بأمر المالك - فالضمان على المالك. [وإن غلبته دابته، فأتلفت مالاً - يجب ضمان كله لغير المغلوب]. وإن كان رجلٌ واقفٌ في موضع، فصدمه ماشٍ، وماتا - نص أندم الصادم هدرٌ، ودية المصدوم على عاقلة الصادم. وقال أصحابنا [هذا] يُنظر فيه: فإن كان واقفاً في ملكه، فدخل رجلٌ بغير إذنه، فصدمه، فماتا، فديةُ الصادم هدرٌ، ودية المصدوم على عاقلة الصادم. وكذلك: لو كان واقفاً في صحراء، أو في طريقٍ واسعٍ، لا يستضر الناس بوقوفه، فصدمه ماشٍ، وماتا. وكذلك [لو قعد] أو قام في ملكه، أو في طريق واسعٍ. فأما إذا كان واقفاً في طريق ضيقٍ، فصدمه ماشٍ، وماتا - نص [على] أن دم الصادم

هدرٌ، ودية المصدوم على عاقلة الصادم، وقال فيما إذا كان قاعداً أو نائماً في طريق، فعثر به ماشٍ، وماتا: إن دم النائم والقاعد هدرٌ، ودية الماشي على عاقلة النائم والقاعد، فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين. أحدهما: دم الصادمين هدر، ودم المصدومين على عاقلة الصادمين، لأن المشي مباح له في الطريق، بشرط السلامة؛ كالأعمى إذا خرج بلا قائد، فوقع على مال إنسان، فأتلف - يجب عليه الضمان. والثاني: دم المصدومين هدرٌ، ودية الصادمين على عاقلة المصدومين؛ لأن الطريق للمشي فيه، وليس للوقوف والقعود والنوم، فمن فعل شيئاً منها - يكون بشرط السلامة. ومنهم من فرق بينهما، وقال في الوقوف: دم الصادم هدرٌ، وفي النوم والقعود: دم المصدوم هدرٌ؛ وهو الأصح، والفرق: أن الطريق كما هو محل للمشي - فهو محل للوقوف؛ فإن الماشي قد يحتاج إلى الوقوف؛ لانتظار رفيق أو إجابة داعٍ أو متكلم يتكلم معه - فلم يكن بالوقوف مفرطاً؛ فضمن الصادم ديته، وليس محل الجلوس والنوم؛ فجعل نفسه به عرضة للهلاك، وصار جانياً على أخيه؛ فضمن دية الصادم. هذا، إذا لم يوجد من جهة الواقف فعلٌ، فإن وجد من فعلٌ؛ بأن انحرف إليه كما بلغه الماشي، فصدمه في حال انحرافه، فماتا - فهو بمنزلة ماشيين اصطدما؛ سواءٌ كان في ملكه أو في طريق واسع أو ضيقٍ - فنصف دية كل واحدٍ هدرٌ، ونصفها على عاقلة الآخر. وإن لم يكن تحرفه إليهن بل تحرف مولياً عنه - فالصادم هو الماشي، وهو كما لو كان قائماً - لم ينحرف. والعراقيون من أصحابنا قالوا: إذا كان واقفاً أو نائماً في طريق ضيق، فصدمه أو عثر به ماش، وماتا - يجب على عاقلة كل واحد منهما كمال دية الآخر؛ لأن الواقف والنائم في الطريق الضيق مفرط؛ فكان سبباً لقتل صاحبه، والماشي باشر قتله بالصدم؛ فضمن كل واحد دية الآخر. وما ذكر في "المختصر": أن دم الصادم هدرٌن وعلى عاقلة دم المصدوم: أراد به [إذا] كان واقفاً في ملكه أو في طريق واسعٍ. قال الشيخ رحمه الله:

ولو جلس في مسجد، فصدمه إنسان، وماتا - تضمن عاقلة الصادم دية المصدوم، ولا يضمن المصدوم دية الصادم. وكذلك: لو نام [فيه] وهو معتكف؛ كما لو جلس في ملكه. ولو جلس لأمرٍ ينزه عنه المسجد، أو استوطن المسجد لا لقربةٍ - فهو الجاني لا الصادم، فإن مات به الصادم - فيجب الضمان على عاقلته. وقد رأيت لأصحاب أبي حنيفة أنه إن جلس لغير صلاةٍ - ضمن الجالس دية الصادم. فصلٌ ولو أن جماعة رموا بالمنجنيق، وعينوا شخصاً أو جماعة، والغالب: أنه يصيبهم فأصابهم، وماتوا - يجب القود على الجاذبين، أو كمال ديتهم في مالهم؛ كما لو رمى سهماً إلى رجل، فأصابه - فلا ضمان على من نصب المنجنيق، أو وضع الحجر فيه، أو أمسك الخشبة، إنما الضمان على الجاذبين. وقال العراقيون من أصحابنا: لا يجب القود في رمي المنجنيق؛ لأنه لا يمكن أن يُقصد به رجلٌ بعينه في الغالب، ثم إن كان قصد رجلاً بعينه، فأصابه - فتجب الدية مغلظة على العاقلة، وإن لم يقصد أحداً بعينه، بل رمى مطلقاً، أو عين شخصاً، فأصاب غيره، أو كر الحجر على واحدٍ من النظارة - فتجب الدية مخففة على العاقلة. ولو رمى إلى جماعة، يعلم أنه يصيب بعضهم، [ولم يعين، فأصاب واحداً - وإلى حصن فيه قومٌ، يعرف أنه يصيب بعضهم]، فأصاب فلا قود، وتجب الدية مغلة على العاقلة. وكذلك: لو رمى سهماً إلى جماعةٍ، ولم يعين واحداً؛ بخلاف [ما لو رمى سهما]، إلى جماعة من الظبي، ولم يعين واحداً، فأصاب واحداً - حل أكله؛ لأن حقيقة القصد إلى شخص - شرطٌ في القصاص غير شرط في حل الأكل؛ بدليل أنه لو رمى على صيدٍ، فنفذ منه إلى غيره - يحل الثاني على الأصح، وفي مثله لا يجب القود. ولو عاد حجر المنجنيق على الجاذبين فقتل واحداً منهم - مات هذا بفعله، وفعل

شركائه؛ مثل إن كانوا عشرة - فعُشرُ دمه هدرٌ، وعلى عاقلة كل واحدٍ من التسعة عشر ديته. وإن عاد على جميعهم، فقتلهم - فعشر [دية] كل واحد هدر، وعلى عاقلة كل واحد منهم - تسعة أعشار الدية، لكل واحد عشرها. ولو أن رجلين جرا حبلاً بينهما فانقطع الحبل، فسقطا، وماتا - فنصف دية كل واحد منهما هدرٌ، ونصفها على عاقلة الآخر؛ سواء وقعا منكبين أو مستلقيين، أو وقع أحدهما منكباً، والآخر مستلقياً، غير أن نصف دية المنكب مغلظة على عاقل المستلقي، ونصف دية المستلقي مخففة [عُذراً]. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إن وقعا منكبين -فعلى عاقلة كل واحد منهما تمام دية الآخر، وإن وقعا مستلقيين - فدمهما هدرٌ، وإن وقع أحدهما منكباً والآخر مستلقياً - فدم المستلقي هدرٌ، وعلى عاقلته جميع دية المنكب؛ لأنه ينكب بفعل صاحبه، ويستلقي بفعل نفسه. وإن كان أحد الجاذبين غاصباً - فدم الغاصب هدرٌ، ونصف دية الآخر على عاقلة الغاصب. ولو جرا حبلاً، فقطع رجلٌ الحبل بنيهما، فسقطا، وماتا - فجميع ديتهما على عاقلة القاطع. ولو أرخى أحدهما، فسقط الآخر، ومات - فنصف ديته على عاقلة المُرخي، ونصفها هدرٌ؛ لأنه لولا قوة جره- لما سقط بالإرخاء فقد مات من فعله وفعل الآخر. فصلٌ إذا اصطدمت سفينتان في البحر، فتكسرتا، وغرق ما فيهما، وهلك - نظر: إن كان ما فيهما مال القائمين بالسفينتين والسفينتان ملكهما - فعلى كل واحدٍ منهما نصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها من الأموال، والنصف هدرٌ؛ لأن الهلاك حصل بفعلهما.

وإن مات القائمان - فكالفارسين اصطدما، وإن حمل المالكان للسفينة الأموال والنفوس بأجرة أو متبرعين، فاصطدمتا، وهلك ما فيهما - نُظر: إن قصد الصدم بما يقول أهل الخبرة؛ انه يحصل به التلف - فعليهما القود بسبب الأحرار الذين هلكوا؛ فيُقرع بين الهالكين؛ فمن خرجت قرعته - يقتل القائمان به، وديات الباقين في أموالهما؛ وعلى كل واحد منهما نصف قيمة ما في سفينته، ونصف قيمة ما في سفينة صاحبه من الأموال والعبيد لا يهدر شيء منها، وعلى كل واحد كفارةٌ بعدد كل حر وعبدٍ في السفينتين، وعلى كل واحد نصف قيمة سفينة صاحبه ونصفها هدرٌ. وإن مات القائمان فنصف [دية] كل واحدٍ هدرٌ، ونصف ديته في مال الآخر مغلظة. وإن قصدا الصدم بما لا ينكسر غالباً، فانكسرتا - فحكم الضمان على ما ذكرنا، غير أنه لا يجب القود ههنا، وتكون الدية مغلظة على العاقلة. وإن لم يقصد الصدم، ولكن توانيا في الضبط، أو سيرا السفينة في ريح شديدةٍ، لا تسير السفن في مثلها، أو أخطأ بأن قصد كل واحد جانباً، فاصطدمتا -فالدية مخففة على العاقلة. وإن كان القائمان بالسفينة أجيرين للمالكين، أو أمينين لهما - فالضمان عليهما، ولا يسقط شيءٌ من ضمان السفينتين، فعلى كل واحد نصف قيمة كل واحد من السفينتين لمالكها، وكل واحد من المالكين بالخيار بين أن يرجع بجميع قيمة سفينته على أمينه، ثم الأمين يرجع بالنصف على الآخر، وبين أن يرجع بالنصف على أمينه، وبالنصف على الآخر. وإن كان القائمان بالسفينتين عبدين - فكالحرين إلا أن الضمان يتعلق برقبتهما. وإن حصل الاصطدام بغلبة الرياح وهيجان الأمواج - لا بصنع وتفريط من القائمين، ولم يمكنهما حفظهما - ففي وجوب الضمان قولان أحدهما: لا يجب الضمان عليهما؛ لأنهما مغلوبان؛ كما لو نزلت صاعقة من السماء فأحرقتهما، وهذا أصح.

والثاني: يجب كالفارسين غلبتهما دابتاهما؛ لأن عهدة ركوبهما عليهما. واختلف أصحابنا في محل القولين، منهم من قال: محل القولين فيما إذا لم يكن من جهة القائمين فعلٌ بأن كانت السفينتان واقفتين على الشط، أو أرسياهما في موضع، فجاءت ريح، فسيرتهما، وصدمتهما، فأما إذا سير السفينة بأنفسهما، ثم هبت ريح، فغلبتهما - فعليهما الضمان؛ لأن ابتداء السير كان بفعلهما. وقال أبو إسحاق والإصطخري: لا فرق بين الحالتين، وفيهما قولان؛ بخلاف الفارسين؛ لان ضبط الدابة باللجام ممكن، ولا يمكن ضبط السفينة إذا غلبت الريح، فإن قلنا: يجب الضمان - فهو كما لو كان الاصطدام بتفريطهما إلا أن القصاص لا يجب، والدية [تكون] مخففة على العاقلة، فإن قلنا: لا يجب الضمان- فلا يجب ضمان الأحرار، ولا ضمان ما فيها من الودائع والأمانات. وأما ما حملوا من الأموال بالأجرة - نظر إن كان مالكها معها- فلا: يجب ضمانها؛ وإن لم يكن - ففي وجوب ضمانها قولان؛ كالمال في يد الأجير المشترك. وإن كان فيها عبيدٌ- نظر: إن كانوا أعواناً أو حُفاظاً للمال - فلا يجب ضمانهم، وإن كانوا حفاظاً للمال - فلا يجب ضمان المال أيضاً؛ كما لو كان المالك معها؛ وألا - فهم كسائر الأموال؛ فعلى هذا القول: لو اختلف صاحب المال مع القائم بالسفينة، فقال صاحب المال: حصل الاصطدام بفعلك وتفريطك، وقال القائم بل بغلبة الرياح - فالقول قول القائم بالسفينة؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن كان أحد القائمين مفرطاً دون الآخر - ضمن المفرط على ما كرنا فيما لو كانا مفرطين، وحكم الآخر حكم ما لو لم يكونا مفرطين. ولو كانت السفينة مربوطة في الشط، فجاءت سفينة [أخرى]، فصدمتها، وكسرتها - فلا ضمان على قيم السفينة المربوطة، وإنما الضمان على صاحب السفينة الصادمة أهـ.

فصلٌ إذا كانوا في سفينةٍ، فثقلت، وخافوا الغرق فألقى رجلٌ متاع نفسه أو متاع غيره بإذنه في البحر؛ لتخف السفينةُ، فيسلم من الغرق - لا يجب الضمان على أحد، ولو ألقى متاع غيره بغير إذنه - يجب الضمان. ولو قال رجلٌ لآخر: ألق متاعك في البحر؛ على أني ضامنٌ، فألقى - يجب الضمان على القائل، سواءٌ كان القائلُ معه في السفينة، أو لم يكن، وسواءٌ سلم أو لم يسلم، فإن لم يسلم، وغرق - يكون في تركته، وتعتبر قيمة المال لما قبل هيجان الأمواج؛ لأنه لا قيمة له في تلك الحالة، ولا تجعل قيمته في البحر كقيمته في البر؛ لأن المال في البحر يعرض للهلاك. وقال أبو ثور: لا يجب الضمان على القائل؛ لأنه ضمان ما لم يجب. قلنا: ليس هذا بحقيقة ضمان؛ لأن الضمان يستدعي مضموناً عنه؛ وليس ههنا مضموناً [عنه] ولكنه بذل مال [لنا] لتخليص جماعةٍ من الهلاك؛ كما لو قال: أطلق هذا الأسير، ولك علي ألفٌ، فأطلقه - يستحق الألف، وكذلك قال شيخي - رحمه الله-: لو قال لمن له القصاص: أعفُ ولك عليَّ ألفٌ، فعفا - يستحق الألف، ولا دية له، وكذلك لو قال أطعم هذا الائع، ولك عليَّ كذا، فأطعم يستحق ما سمي، فأما إذا قال: ألق متاعك في البحر، ولم يقل على أني ضامنٌ - ففعل: لا شيء عليه؛ سواءٌ كان القائل معهم في السفينة أو لم يكن؛ كما لو قال: أعتق عبدك، أو طلق زوجتك، ولم يشترط عليه عوضاً، ففعل - لا شيء على القائل، ولو قال واحدٌ من ركبان السفينة لآخر: ألق متاعك في البحر؛ على أني ضامن، وركبان السفينة، ففعل - يجب على كل واحدٍ حصته؛ إن قال ذلك بأمر أصحابه؛ مثل: إن كانوا عشرة - فعلى كل واحدٍ عشر الضمان، وإن قال دون أمرهم - فعلى القائل حصته، ولا شيء على الآخرين، وإن رضوا بعده، وقول الشافعي - رضي الله عنه-: "ضمنه دونهم" أراد به حصته، لا الجميع؛ كما توهمه المُزني. وإن قال: على أني ضامن، وركبان السفينة، أو قال: أنا وهم ضمناء، وأنا ضامن عنهم أو أنا أضمن من مالهم - فعليه ضمان الكل، ثم إن قال بإذنهم - رجع عليهم بحصتهم، وإن أنكر أصحابه الإذن - فالقول قولهم، ولا رجوع له عليهم.

ولو قال واحدٌ منهم لآخر: أنا ألقي متاعك في البحر؛ على أني وهم ضامنون ففيه وجهان أحدهما: لا يلزمه إلا حصته؛ كما لو قال لصاحبه: ألقه على أني وهم ضمناء. والثاني: عليه ضمان الجميع؛ لأنه باشر الإتلاف، ولو قال لآخر: ألق متاع فلانٍ، وعليَّ ضمانه؛ إن طالبك فلان، فألقي - فالضمان على الملقي ولا شيء على القائل. أما في غير حال الخوف إذا قال رجلٌ لآخر: ألق متاعك في البحر، فألقي - لا ضمان على القائل؛ سواءٌ قال: على أني ضامنٌ، أو لم يقل؛ لأنه لا غرض له فيه؛ كما لو قال: اهدم ذلك، وأنا ضامنٌ، ففعل - لا شيء عليه. ولو كان رجلٌ وحده في سفينة مع ماله، وخيف الغرق، فقال له رجلٌ: ألق مالك في البحر؛ على أني ضامنٌ، ففعل - لا يجب الضمان - ذكره شيخي - رحمه الله؛ لأن عليه تخليص نسه؛ كما لو قال للمضطر: كل طعامك؛ ولك علي درهمٌ، فأكل - لا يستحق شيئاًن فإن كان القائل معه في السفينة - ضمن؛ لأن له غرضاً في تخليص نفسه بإتلاف مال غيره. ولا يجوز إلقاء المال في البحر عند عدم خوف الغرق؛ لأنه إسرافٌ وإضاعةٌ للمال. وعند خوف الغرق: يجب إلقاء غير ذي الروح؛ لتخليص ذي الروح، فلو لم يفعل، فغرقت - لا ضمان عليه؛ [كصاجب الطعام، إذا لم يطعم الجائع، حتى هلك - يعصي الله تعالى، ولا ضمان عليه. ولا يجوز إلقاء الدواب ما دام في السفينة غير الحيوان، فإن لم يكن إلا الدواب - جاز إلقاؤها؛ لتخليص الآدميين؛ كالجائع يعقر حماره للأكل، ولا يجوز إلقاء العبيد؛ كالأحرار. فصلٌ لو أن رجلاً خرق سفينةً، فغرق ما فيها - يجب عليه ضمان ما فيها: من مال ونفسٍ؛ سواءٌ تعمد أو أخطأ. فإن كان فيه أحرارٌ، فغرقوا - نظر: إن تعمد خرقها بما يحصل به الهلاك غالباً؛ بأن خرقها خرقاً واسعاً - فعليه القود أو الدية

مغلظة في ماله، وإن فعل ما لا يحصل به الهلاك غالباً - فهو شبه عمدٍ تجب به الدية مغلظة على العاقلة. وكذلك: إن قصد إصلاح السفينة؛ فتخرق موضع إصلاحه، فغرقت - فهو شبه عمدٍ. وإن أصاب فأسه من غير موضع إصلاحه فتخرق - فهو خطأٌ. وكذلك: إن قصد إصلاح شيء آخر في السفينة: من قطع شيء، أو نجرٍ خشبٍ، فأخطأ، أو سقط من يده حجرٌ، أو شيء فانثقبت السفينة، فغرقت - فهو خطأ تكون الدية مخففة على العاقلة. وعلى الأحوال كلها: يجب ضمان سائر الأموال في ماله وعليه بكل حر وعبدٍ هلك كفارةً. ولو وضع رجلٌ متاعه في سفينة، فيها مالٌ، فغرقت؛ مثل: عن كان فيها تسعة أعدال، فوضع رجلٌ فيها عدلاً، فغرقت لا يجب ضمان هذا العدل، ويجب ضمان [الأعدال] التسعة، وكم يجب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب ضمان الكل؛ لأن الهلاك حصل بفعله. والثاني: لا يجب ضمانُ الكل؛ لأن الهلاك حصل بثقل الكل؛ فعلى هذا: كم يجب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: عليه ضمان النصف؛ كما لو جرح رجلان رجلاً احدهما جراحةً، والآخر تسعاً، فمات المجروح - فالدية عليهما نصفان. والثاني: عليه عشر الضمان؛ لأن الهلاك حصل بعدله، وتسعة أمثاله. وهذا بناء على ما لو ضرب الجلاد في حد القذف أحداً وثمانين، فمات المضروب - كم يجب عليه من الدية؟ فيه قولان: أحدهما: نصف الدية. والثاني: جزءٌ من أحدٍ وثمانين جزءاً من الدية؛ لأنه لم يتعد إلا بضرب سوط [واحد]، والله أعلم.

باب: من العاقلة التي تُغرم؟ ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين". وقد ذكرنا: أن الدية في الخطإ وشبه العمد - تكون على العاقلة، وليس ذلك يقاس؛ لما فيه من مؤاخذة غير الجاني بجناية الجاني، ولكن أهل القبائل كانوا يقومون بنصرة من جنى من قبيلتهم، ويمنعون أولياء المجني عليه من طلب حقه؛ فجعل الشرع تلك النصرة ببذل المال، واختص التحمل بالخطأ، وشبه العمد؛ لأنه مما لا يمكن الاحتراز عنه، ويكثر [ذلك] من الإنسان - ففي إيجاب ضمانه في ماله إجحاف به؛ فأوجبه على العاقلة؛ على طريق المواساة؛ لكون الجاني معذوراً فيه، وجعله مؤجلاً عليهم؛ نظراً لهم في تلك المواساة، ولا يجب [شيء منه] على الجاني، ولا على أحد من بنيه، ولا من أولاد بنيه، ولا على أبيه، ولا على احد من أجداده، لأنه لما لم يجب على الجاني - لا يجب على من بينه وبين الجاني بعصبةٍ، حتى لو كان ابن القاتل ابن عمه أو معتقه أو أبوه معتقه - فلا يتحمل؛ لوجود البعضية. وعند أبي حنيفة -رحمه الله - يجب على أبيه وابنه، ويجب في ماله إذا كان عاقلاً بالغاً ذكراً ما يجب على واحدٍ من العاقلة، والسنة حجة لمن لم يوجب. ثم الوجوب يلاقي الجاني، ثم تتحمل عنه العاقلة أم يلاقي العاقلة ابتداء لأصحابنا فيه جوابان: أصحهما: يلاقي الجاني، ثم تتحمل عنه العاقلة، [بدليل أن الجاني لو] لم تكن من أهل أن تتحمل عنه؛ بأن كان مرتداً- تؤخذ الدية من ماله، وإن كان ذمياً، وعاقلته أهل حرب - تؤخذ من ماله. ولو أقر على نفسه بقتل خطإ، وكذبته العاقلة - تكون الدية في ماله. والثاني: تجب على العاقلة ابتداء؛ بدليل أنه لا يطالب [به] الجاني. وفائدته تتبين فيما إذا لم يكن للقاتل عاقلة، أو كانوا معسرين، ولم يكن في بيت

المال مالٌ أو كان، ولم يدفع - هل تؤخذ من مال الجاني؟ فيه قولان: إن قلنا: الوجوب يلاقي الجاني - تؤخذ من ماله، وهو الأصح؛ كالذمي إذا جنى، ولا عاقلة له - تؤخذ الدية من ماله. والثاني: لا تؤخذ؛ لأن محل جنايته بيت المال؛ [فينظر] حتى يحصل فيه مالٌ، وتؤخذ منهن فإن قلنا: تجب على الجاني عند عدم العاقلة وبيت المال فهل تجب على أبيه أو ابنه؟ فيه وجهان أصحهما: تجب، وتبدأ بأبي القاتل وابنه، ثم بالقاتل، لأنا لم نحملهما لبعضية القاتل، فإذا أوجبنا على القاتل - فعليهما أولى. والثاني: لا تجب عليهما؛ لأن الإيجاب على القاتل؛ لما أن الوجوب لاقاه، والأب والابن لم يجب عليهما حتى يقال: تبقى عليهما؛ إذا لم يكن من يتحمل. قال الشيخ رحمه الله-: وهذا عندي أولى؛ بدليل [أنه] إذا أمر على نسه بقتل خطإ، وكذبته العاقلة، وصدقه أبوه وابنه - تكون الدية في ماله، ولايجب على أبيه وابنه شيء. فصلٌ والعاقلة الذين يحملون العقل هم رجال العصبة سوى الآباء والبنين، وترتيبهم فيه كترتيب الميراث. فإن قل العقل - وفي الأقرب منهم وفاء لاتؤخذ من الأبعد، وإن كثروا، ولم يكن في الأقربين وفاءٌ - شارك الأبعد الأقرب؛ بخلاف الميراث؛ حيث لا يشارك فيه الأبعد الأقرب؛ لان ما يتحمل كل واحد من العاقلة مقدرٌ بتقديرٍ، لا يجاوز وما يرثه غير مقدرٍ. فيبدأ بالإخوة للأب والأم، ثم بالإخوة للأب، وفيه قولٌ آخر يسوى بين الأخ للأب والأم والأخ للأب؛ كما قيل في التزويج، والأول أصح. ثم بعد الإخوة بنو الإخوة للأب والأم، وللأب؛ يقدم الأقرب فالأقرب؛ سواء كان الأقرب [لأب] وأم، أو لأب: فإن استويا في الدرجة - يقدم من هو لأب وأم على من هو لأبٍ؛ على أصح القولين: فإن لم يكن أحدٌ من بني الإخوة، وإن سفلوا أو لم يكن منهم وفاءٌ - فالعم للأب والأم،

ثم العم للأب، وقيل: يسوى بينهما، ثم بنوا العم، وإن سفلوا، ثم عم الأب ثم بنوه، ثم عم الجد، وإن علوا؛ على هذا الترتيب. فإن لم يكن أحدٌ من عصبات النسب - فالمعتق؛ ثم عصباته، ولا يجب على ابن المعتق، ولا على أبيه؛ كما لا يجب على ابن الجاني وأبيه، وقيل: يجب على ابن المعتق وأبيه؛ لأنه لا بعضية بينه وبين الجاني؛ كما يجب على المعتق، والأول هو المذهب. فإن كان المعتق امرأة - فلا يجب عليها، والمذهب: أنه لا يجب- أيضاً - على أبيها، ولا ابنها، ويجب على سائر عصباتها، لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قضى على عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه- بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب، وقضى للزبير بميراثهم؛ لأنه ابنها؛ فأوجب العقل على عليِّ - رضي الله عنه- لأنه ابن أخيها، ولم يوجب على ابنها الزبير. فإن لم يكن أحدٌ من عصبات المعتق - فعلى معتق المعتق، ثم عصباته، سوى الأب والابن. فإن كان الرجل [حر] الأصل - فعلى أبيه، ولا يجب على موالي الأب، وكذلك: على موالي أب الأب قال الشيخ - رحمه الله -: إن لم يكن على أبيه ولاء للغير -غرم معتق الأم والجدات. قال - رحمه الله-: إذا كان الأب مملوكاًن فتجب على موالي الأم، وهل يتحمل مولى الأسفل؟ فيه قولان: أصحهما: - وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله-: لا [يتحمل]؛ كما لا يرث. والثاني: يتحمل بعد المولى الأعلى؛ إن لم يكن في عصبات النسب والولاء وفاءٌ؛ بخلاف الميراث؛ لأنه بمقابلة النعمة التي للمعتق؛ بسبب الإعتاق، وليست تلك النعمة للمعتق، ويتحمل العاقلة للنصرة، فإذا نصر المعتق مولاه - فالمعتق أولى بنصرة معتقه: فإن قلنا: تؤخذ من المولى الأعلى، والأسفل لا تؤخذ من عصباته، ويتقدم على بيت المال: فإن لم يكن [أحدٌ من عصبات النسب، ولا من عصبات الولاء، أو لم يكن] فيهم وفاءٌ - تؤخذ

من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال [مالٌ]- هل تؤخذ من الجاني، أم ينتظر حتى يظهر في بيت المال مالٌ؟ فيه قولان: ولا يتحمل أهل الديوان بعضهم عن بعض، ولا الحليف ولا العديد الذي يعد نفسه من قوم، ولم يكن منهم. وعند أبي حنيفة: أهل الديوان يتحملون، ويتقدمون على الأقارب، وكذلك: يتحمل الحليف [عنده]. فنقول: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدية على العاقلة ولم يكن في عهده ديوان، وإنما أحدث في زمن عمر، فلا ينزل حكم استقر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- ويبني على أمرٍ حدث من بعدُ. وإنما يتحمل العقل من كان حراً بالغاً عاقلاً ذكراً؛ فلا يتحمل العبدُ، ولا الصبي، ولا المجنون، ولا المرأة؛ لأن التحمل للنصرة، وهؤلاء ليسوا من أهل النصرة. وكذلك الكافر لا يتحمل عن المسلم، لأنه لا ينصر المسلم، وقد قطع الله الموالاة بينهما. ويتحمل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة، والشيخ الكبير إذا لم يبلغ حد الهرم؛ فإن بلغ المريض حد الزمانة، والشيخ حد الهرم ففيه وجهان؛ بناء على القولين في جواز قتلهما من الكفار عند الأسر. ولا يؤخذ من الخنثى؛ لاحتمال أنه أنثى، فإن بان ذكراً، أو اختار الذكورية قبل انقضاء النجوم - فيتحمل في الباقين وهل يغرم مااداه غيره من حصته قبل بيان حاله؟ فيه وجهان: ولا يجب على الفقير أن يحتمل العقل؛ لأن تحمل العقل للمواساة، وليس هو من أهل المواساة؛ كما لا تجب عليه الزكاة؛ بخلاف الجزية؛ لأنها أجرة سُكنى الدار، والفقير ساكنها. وتؤخذ الدية من العاقلة في ثلاث سنين في ل سنة ثلثها؛ روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر.

وعند ربيعة: تؤخذ خمس سنين. أما دية الطرف: إن كانت قدر ثلث دية النفس أو أقل - فتؤخذ في سنة واحدةٍ؛ لأنه لا يجب على العاقلة شيء في أقل من سنة وإن قل الواجب، مقدراً كان أو حكومة. وإن كان الواجب أكثر من الثلث، ولم يزد على الثلثين؛ بأن قطع إحدى يديه - يؤخذ الثلثان منهما، وهو ثلث دية النفس في سنةٍ، والباقي، وإن قل في سنة. إن كان أكثر من الثلثين، ولم يزد على دية النفس - تؤخذ في ثلاث سنين الثلث: في السنة الأولى وفي الثانية: الثلث، والباقي في السنة الثالثة. وإن زاد على دية النفس، بأن قطع يديه ورجليه- فعليه ديتان، وتؤخذ في ست سنين في ل سنة ثلث دية على الأصح. وقيل: يؤخذ الكل في ثلاث سنين؛ لأن الأطراف تابعةٌ للنفس، ولا تزاد مدتها على مدة بدل النفس. والأول المذهب، كما يزاد بدلها على بدل النفس. وإن وجب بالجناية دية نفسٍ ناقصةٍ؛ كدية المرأة والذمي والجنين - ففيه وجهان: أحدهما: يجب في ثلاث سنين: في كل ستةٍ ثلثها؛ لأنها دية نفس كدية الحر المسلم. والثاني: أنه كأرش الأطراف، إذا انتقص [عن الدية]؛ لأنه أقل من الدية الكاملة. فعلى هذا: دية المرأة تؤخذ في سنتين: الثلثان منها في سنةٍ، والثلث في سنةٍ. ودية الذمي في سنةٍ، كتابياً كان أو مجوسياً؛ لأن دية الكتابي ثلث دية المسلم، والمجوسي - وإن كانت ديته أقل - فلا تؤخذ في اقل من سنة وكذلك دية الجنين. ولو قتل عبداً خطأ، أو شبه عمدٍ، وقلنا: تحمل بدله العاقلة: فإن كانت قيمته مثل دية حر - تؤخذ في ثلاث سنين، وإن كانت أقل - فعلى وجهين؛ كالدية الناقصة. أحدهما: تؤخذ في ثلاث سنين، وإن قلت. والثاني: إن كانت قدر ثلث الدية - ففي سنة، وإن كانت أكثر من الثلث، ودون الثلثين - ففي سنتين، وإن كانت أكثر من الثلثين - ففي ثلاث سنين، وإن كانت قيمته مثل دية حر - ففيه وجهان:

أحدهما: تؤخذ في ثلاث سنين، وإن كانت كدية الحر. والثاني: في ست سنين؛ لأنها قدر ديتين إذا زاد يزاد في المدة. وابتداء المدة في القتل يكون من وقت زهوق الروح؛ سواء كان القتل موجباً، [أو قطع عضواً منه، أو جرحه؛ فسرى إلى النفس بعد مدة]. وإن قطع عضواً. منه - نظر: إن وق؛ فيكون ابتداؤها من وقت القطع، وإن سرى إلى عضو آخر؛ مثل: عن قطع إصبعه، فسرى إلى الكف - يكون من وقت سقوط الكف؛ لأن تلك الحالة حالة استقرار الجناية. وإن قتل رجلين خطأ، فيكون ابتداء مدة كل واحد - من وقت قتله، وإن قتلهما معاً - فمن ذلك الوقت على عاقلته ديتان في ثلاث سنين: لكل واحد في كل سنةٍ ثلث الدية. وعند أبي حنيفة-: [يكون] ابتداء المدة من وقت حكم الحاكم؛ لوجوب الدية على العاقلة، والاعتبار فيما يؤخذ من العاقلة بآخر الحول؛ كالزكاة. فإن تم الحول، ولهم إبلٌ - فعليهم، وإن لم يكن لهم إبلٌ - فتؤخذ قيمتها؛ على القول الجديد، وفي القديم: يؤخذ بدلٌ مقدر من التقدير، فإن وجدت الإبل بعد الحول قبل أخذ القيمة؛ بأن تأخر بعسر أو مطل فعليهم الإبل، وإن وجدت بعد أخذ البدل - ليس له أن يعود إلى الإبل؛ لأن باءة الذمة قد حصلت بدفع البدل. وكذلك يعتبر يسار المؤدي وإعساره، وتوسطه بآخر الحول. فإن كان موسراً في أول الحول، معسراً في آخره - لا شيء عليه لذلك الحول. وإن كان متوسطاً في آخره - فعليه ما على المتوسط. وإن كان معسراً في أول الحول، موسراً في آخره - أخذه منه. وإن كان في أول الحول كافراً أو عبداً أو صبياً أو مجنوناً، وكان مسلماً حراً بالغاً عاقلاً في آخره - هل تؤخذ تلكل السنة؟ فيه وجهان:

أحدهما: بلى؛ كما لو كان معسراً في أول الحول، موسراً في آخره. والثاني: -وهو الأصح-: لا تؤخذ؛ لأنهم لم يكونوا في ابتدائه من أهل النصرة؛ بخلاف المعسر؛ ولا خلاف: أنه لو وجد تغير الحال في الحول الثاني لا يؤخذ للأول، ويؤخذ للحول الثالث. ولو غُرم النجم الأول، فأعسر في الحول الثاني، أو جن - فلا شيء عليه للحول الثاني. ومن صار من أهل التحمل من العاقلة بعد مضي الأحوال الثلاثة-[لا تؤخذ منه. وكذلك من صار من أهله بعد مضي حول - لا تؤخذ لما مضى، وقد مضى الأحوال الثلاثة]، إذا لم يكن في العاقلة وفاءٌ - تؤخذ الباقي من بيت المال، وكذلك لك حول يمضي، ولم يحصل منه الثلث يكمل من بيت المال، ولا يوزع على المسلمين. ولو مات واحدٌ من العاقلة في خلال الحول - لا شيء عليه لذلك الحول؛ كما في الزكاة ذا مات رب المال في خلال الحول - لا زكاة عليه؛ بخلاف الجزية، إذا مات الذمي في أثناء الحول - تؤخذ منه بقدر ما مضى من الحول؛ لأن الجزية بدل السكنى؛ كالأجرة، ولو مات بعد مضي الحول - تؤخذ حصة ذلك الحول من تركته. وعند أبي حنيفة - تسقط. وإن لم يكن للقاتل عاقلةٌ، أو كانوا معسرين - فالدية في بيت المال في ثلاث سنين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يترك في الإسلام مفرج". ولا يجوز الإجحاف بالعاقلة فيما يؤخذ منهم؛ لا يؤخذ من كل موسرٍ في كل سنة إلا نصف دينار، ومن كل متوسط إلا ربع دينار، حتى يشترك جماعةٌ في بعير؛ فحمله كما ما يؤخذ من الموسر دينار ونصف، ومن المتوسط نصف دينار وربع، واليسار على العادة، ويختلف باختلاف الأزمان والبلدان. وإنما قدرنا الأول بربع دينارٍ؛ لخروجه عن حد الفاقة، وما دونه تافه؛ بدليل أنه لا يقطع فيه يد السارق، ولا تحصل المواساة بالشيء التافه. وأوجبنا على الغني نصف دينار؛ لأنه أقل قدر يؤخذ من الغني في الزكاة التي فُرضت للمواساة. وعند أبي حنيفة: يؤخذ من كل واحد من ثلاثة دراهم على أربعة، غنياً كان أو فقيراً، أو متوسطاً.

ولو كان الجاني عتيق رجلين- فالمعتقان كشخص واحد، إن كانا موسرين - فعلى كل واحد ربع دينارٍ. وإن كانا متوسطين - فعلى كل واحد ثمن دينار؛ لأن كل واحد لم يعتق إلا نصفه، فإن كان لمعتق واحداً، وله أخوان - فعلى كل واحد نصف دينار، إن كان موسراً. وإن كان متوسطاً - فربع دينار، كما لو كان للجاني أخوان، وكما تحمل العاقلة بدل النفس تحمل بدل الطرف والحكومات كلها. قلت: أم ثرت، حتى لو جرحه جراحة خطأ، أرشها درهم فأقل يكون على العاقلة. وقال مالك: ما دون ثلث الدية يكون في ماله. وعند أبي حنيفة: ما دون أرش الموضحة لا تحمله العاقلة. ثم ناقضوا؛ فقالوا: قيمة العبد تحمله العاقلة، وإن كانت قليلة. وكذلك قالوا: لو اشترك جماعة في قتل نفس - تحمل عواقلهم [الدية] وإن خص كل واحد أقل من أرش موضحة، ومن قتل نفسه، أو جنى على طرفه، عمداً أو خطأ - فهو هدرٌ. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق -رحمة الله عليهم- من قتل نفسه خطأ - تجب ديته على عاقلته ولورثته. وهذا لا يصح؛ لأن الدية لو وجبت، لوجبت له؛ بدليل أن غيره لو قتله - كانت الدية مصروفة إلى ديونه ووصاياه، ولا يجوز أن يجب له بجنايته غرمٌ؛ كما لو أتلف مال نفسه -لا يجب له شيء. ولو أقر رجلٌ على نفسه بقتل خطإ أو شبه عمدٍ - نظر: إن صدقته العاقلة - فعلهم الدية. وإن كذبته - فللمقر تحليفهم على أنهم لا يعلمون قتله؛ فإذا حلفوا - تكون الدية في مال المُقر مؤجلة إلى ثلاث سنين؛ بخلاف ما لو أقر لإنسان بدين مؤجل - لا يقبل قوله في الأجل؛ على أحد القولين؛ لأن دية الخطأ لا توجب إلا مؤجلة؛ بدليل ثبوت الأجل فيها من غير ذكر، وسائر الديون تكون مؤجلة وحالة، ولا يثبت الأجل فيها إلا بالذكر، ثم إذا مات المقر - هل يحل الأجل؟ فيه وجهان:

أحدهما: يحل؛ كسائر الديون المؤجلة تحل بموت من عليه. والثاني: لا يحل؛ لأن الأجل ثبت في الدية شرعاً؛ كما لو مات واحد من العاقلة في خلال الحول - لا يحل عليه. والأول عندي أصح؛ لأنه بعد موته يتعلق بالتركة، ولا أجل في الأعيان؛ بخلاف العاقلة؛ لأن الوجوب على العاقلة بطريق المواساة؛ فسقط [بموته] قبل الأجل، والوجوب على الجاني نظرٌ للمستحق؛ حتى لا يضيع حقه، فإذا مات من عليه - أخذ من تركته، وإن مات المقر معسراً - هل تؤخذ الدية من بيت المال؟ قال الشيخ رحمه الله: يحتمل ألا تؤخذ؛ كما لو كان معسراً في الحياة؛ لأن ما ثبت بالاعتراف لا يري فيه التحمل؛ كما لا تحملها العاقلة؛ ويحتمل أن تؤخذ كمن لا عاقلة له. وقال أبو ثور، والمزني - رحمة الله عليهما -: إذا أقر على نفسه بقتل الخطإ - لا تجب الدية على أحدٍ؛ لأن وجوب دية الخطإ على [عاقلته] ولا يقبل إقراره على غيره. ولو ادعى على رجل قتل خطإ أو شبه عمد، فأنكر: فإن أقام المدعي بينة [أو أقام شاهداً وحلف معه - تجب الدية على العاقلة، وإن لم تقم بينة - فالقول قول المدعى عليه مع يمينه] فإن نكل، وحلف المدعى - هل تجب الدية على العاقلة، وإن لم يقم بينةً - فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. فإن نكل، وحلف المدعي - هل تجب الدية على العاقلة من غير تصديقهم أم يكون في مال المدعى عليه؟ يبنى على أن النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار من المدعى عليه أو بمنزلة البينة من المدعى إن قلنا: بمنزلة الإقرار - يكون في مال المدعى عليه. وإن قلنا: بمنزلة البينة - فعلى العاقلة؛ كما لو أقام بينة. وقيل في ماله؛ لأنه كالبينة في حق المتداعيين دون غيرهما. قال الشيخ رحمه الله: إذا أقر على نفسه بجناية خطإ، ولا عاقلة له: فإن صدقة السلطان - كانت الدية في بيت المال؛ وغلا - ففي ماله، وإن كانت له عاقلةٌ كذبته، وهو معسرٌ أو مات معسراً - يحتمل ألا يؤخذ من بيت المال؛ لأن المتحمل هو العاقلة؛ إذا كانوا موجودين؛

فإن كذبوا - لا تجب في بيت المال، فن ماتت العاقلة، ثم صدقه السلطان - تؤخذ من بيت المال. باب أين تكون العاقلة إذا جنى رجلٌ خطأٌ، ووجبت الدية على عاقلته: فإن كانت العاقلة كلهم حضوراً وزع الإمام الدية عليهم، وقدم الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن في الأقربين وفاءٌ - شارك الأبعد الأقرب، وإذا وزعنا عليهم، وأخذنا من كل موسرٍ نصف دينارٍ، ومن كل متوسط ربع دينارٍ، فلم يحصل منهم جميعاص -يؤخذ الباقي من بيت المال، وإن كانوا في درجة واحدة، وكثروا بحيث لو وزعنا على جميعهم - خص كل واحد منهم أقل من نصف دينار أو ربع دينار- هل للإمام أن يختار منهم جماعة تأخذ نم كل موسرٍ نصف دينارٍ، ومن كل متوسط ربع دينار، ويدع الباقين؟ فيه قولان: أقيسهما: لايجوز؛ لأنه حق وجب على جميعهم؛ فلا تؤخذ من بعضهم؛ فعلى هذا: يوزع على جميعهم، وينقص عن النصف والربع. والثاني: يجوز أن يخص [به] بعضهم على اجتهاده؛ لأن في توزيعه على جماعتهم مشقة وزيادة مؤنة. وإن كانت العاقلة غيباً؛ مثل: إن جنى بمكة، وعاقلته بالشام - فحاكم مكة لا ينتصر حضور العاقلة؛ بل يتب إلى حاكم الشام؛ حتى يأخذ العقل منهم. وإن كان بعض عاقلته بمكة، وبعضهم بالشام- نظر: إن كان من بمكة أرب ممن بالشام- وزع عليهم: فإن لم يكن فيهم وفاءٌ - كتب إلى حاكم الشام؛ ليأخذ الباقي ممن ببلده. وإن كان من بمكة أبعد ممن بالشام - هل للحاكم أن يأخذ من الأباعد الحضور، أم يكتب إلى حاكم الشام؛ ليأخذ من الأقارب؟ فيه قولان: وكذلك: إذا استوى الحضور والغيب في الدرجة، وفي الحضور وفاء- هل يأخذ من الحضور [أم يسوى بين الكل؟ فيه قولان: أصحهما: يسوى بين الكل. والثاني: يأخذ من الحضور لأنه أسهل في وصول المجني عليه إلى حقه، والله أعلم.

باب عقل من لا يعرف نسبه من لا يعرف نسبه: إذا قتل شخصاً خطأ؛ كواحد من الأعاجم أو الترك أو النوبة أولقيطٍ لا تعرف له قبيلة قتل شخصاً - لا تجب ديته على أهل بلده؛ بل يكون في بيت المال. فإن ادعي نسبه رجلٌ، أو انتسب على ميت، فأقر به ورثته - ثبت نسبه، وأخذت الدية من عصباته، وإن قامت بينة على أنه من قبيلة أخرى كان الحكم للبينة [وكذلك من اشتهر نسبه من قبيلة - فعلى عصبته فيهم الدية، فإن قامت بينة على أنه من قبيلة أخرى - كان الحكم للبينة]. فإن قال قوم: إنه ليس من تلك القبيلة - فلا يدفع النسب بالسماع. والذمي إذا جنى خطأ - فالدية على عاقلته الذميين، وإن اختلفت مللهم حتى أن اليهودي يتحمل من النصراني والمجوسي بالعصوبة، وكذلك الذمي مع المستأمن - يتحمل كل واحد عن صاحبه بسبب القرابة، ولا يتحمل المسلم عن قريبه الذمي؛ كما لايتحمل الذمي عن المسلم؛ لانهما لا يتوارثان. [وإن كانت عاقلة الذمي أهل حرب، أو لم تكن له عاقلة أو كانوا معسرين - فالدية في مال الجاني، ولا تجب في بيت المال؛ بخلاف المسلم إذا جنى خطأن ولا عاقلة له، تؤخذ من بيت المال؛ لأن المسلم إذا مات، ولا وارث له - يصرف ماله إلى بيت مال المسلمين [إرثاً لعامة المسلمين]، فلما ورث منه بيت المال - تحمل ديته، ومال الذمي والمستأمن يموت؛ يوضع في بيت المال فيئاً لا إرثاً؛ فلا يتحمل عقله. وإذا أوجبناه في مال الذمي عند عدم العاقلة - هل يتحمل أبوه وابنه- اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: يتحمل؛ لأن الأرش يسقط عن أب الجاني وابنه بالمعنى الذي يسقط عن الجاني؛ فلما وجب - ههنا - على الجاني - وجب على أبيه وابنه. والثاني: لا يتحمل؛ لأنه ليس بجانٍ، ولا عاقلة، وهذا هو الأصح عندي؛ لأنه ليس من أهل التحمل بحال.

وأما المرتد إذا قتل إنساناً خطأ - فالدية في ماله مؤجلة إلى ثلاث سنين؛ لأنه لا عاقلة له؛ فن مات يسقط الأجل، وأخذت من تركته عاجلاً، والله أعلم. بابُ: وضع الحجر إذا وضع حجراً في موضع، فعثر به إنسان، فهل، أو تلف عضو من أعضائه، اونصب شبكة [في موضع] فتعلق بها، فهلك - نُظر: إن فعل في ملكه، أو في موات، أو في صحراء - لا ضمان عليه. وإن فعل في طريق الناس - تجب الدية على عاقلته. وإن هلكت به دابةٌ - تجب القيمة في ماله. وكذلك: لو رش الطريق - عند باب داره، أو أبعد، ورمى فيه قشور البطيخ أو الرمان، فزلق به رجل إنسان أودابة - يجب الضمان. وإن رمى القشور في صحراء، أو موات - فلا يجب به الضمان. ولو حفر بئراً في ملكه، أو في موات للتملك أو للارتفاق - فلا يضمن ما يقع فيها. ولو حفر في طريق الناس - نظر: إن كان الطريق ضيقاً يستضر به الناس - فيجب ضمان ما يقع فيه؛ سواء فعل بإذن الإمام أو دون إذنه. وإن كان الطريق واسعاً لا يستضر به الناس- نظر: إن حفر لمصلحة -[نفسه]- يلزمه الضمان؛ وإن فعل بإذن الإمام؛ لأنه لا يختص بشيء من طريق المسلمين. وإن حفر لمصلحة المسلمين: فإن حفر بإذن الإمام - فلا ضمان عليه. وإن حفر بغير إذن الإمام - ففيه وجهان: أصحهما: لا يضمن؛ لأنه حفرها لمصلحة المسلمين؛ كما لو كان بإذن الإمام [فلا ضمان]. الثاني: يضمن؛ لأن الناظر للمسلمين هو الإمام، فما يتعلق بمصالحهم - يختص به.

وكذلك لو بنى مسجداً في طريق لا ضرر فيه على الناس، فسقط على إنسان: إن فعل بإذن الإمام - فلا ضمان عليه؛ وإلا فوجهان: ولو علق قنديلاً في مسجد، أو بنى سقفاً، أو نصب عماداً أوطينه، فسقط على إنسان أو حفر فيه بئراً، لمصلحة المسجد، أو فرش فيه حصيراً، فزلقت به رجل إنسان، أو رش به حشيشاً، فقذيت به عين إنسان ساجد. فإن فعل بإذن القيم - لا ضمان عليه؛ كما لو فعله القيم، وإن فعل بغير إذنه- فعلى قولين: وعند أبي حنيفة - رحمه الله: إن لم يكن من أهل المحلة - ضمن، وهو قول أبي إسحاق. وكذلك: لو وضع دنا على بابه؛ ليشرب الناس، فإن فعلها بإذن الإمام - لا يضمن كل ما تلف به. وإن فعل دون إذنه - فعلى وجهين؛ بخلاف ما لو بنى دكةً على بابه، فهل بها شيء ضمن؛ لأنه فعل لمصلحة نفسه. وكذلك السوقي، إذا وضع متاعه في الطريق؛ فعثر به إنسانٌ أو بهيمةٌ - يضمن ما هلك بسببه. ولو حفر بئراً في ملك نفسه، أو وضع حباله أو حجراً أو سكيناً، فدخله رجلٌ، فتردى في البئر، أو وقع في الحبالة أو على السكين، فهلك - نظر: إن دخل بغير إذنه - لا ضمان (على أحدٍ)، وإن دخل بإذنه: إن أعلمه به - فلا ضمان، وإن لم يعلمه - فعلى قولين. وبعضنا فصلوا؛ فقالوا: ننظر: إن كان المدخل متعدداً، أمكنه الدخول من باب آخر - فلا ضمان، وإن كان المدخل واحداً - نظر: إن كان الداخل بصيراً وكان بالنهار، والبئر مكشوفة الرأس - فلا ضمان، وإن كان الداخل أعمى، أو كان ليلاًن أو كانت البئر مغطاة - ففي ووب الضمان قولان؛ كما لو قدم إليه طعاماً مسموماً، وأكله، فمات -هل يجب الضمان؟ فيه قولان: وكذلك: لو كان في داره دابة رموحٌ، أو كلب عقور، فعقر أو رمح الداخل - قال الشيخ

رحمه الله-: الصحيح: أنه على قولين، إذا لم نعلمه من غير تفصيل؛ كما لو حفر بئراً في الطريق - لا فرق بين أن يقع فيه بصيرٌ أو أعمى بالليل أو بالنهار. ولو حفر بئراً في ملك الغير بغير إذن المالك، أو وضع حجراً، فهلك به شيءٌ لمالك الدار - يجب الضمان على الحافر. ولو دخله رجلٌ، فهلك به- نُظر: إن دخل بغير إذن المالك - فهل يجب الضمان على الحافر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لتعديه بالحفر. والثاني: لا يجب؛ لأن الداخل متعد بالدخول. ولو دخل بإذن المالك. فإن أعلمه المالك به - فلا ضمان على أحد. وإن لم يعلمه - يجب الضمان على الحافر وقيل: إن كان المالك عالماً به، فلم يعلم الداخل - فالضمان عليه، ون كان جاهلاً - فعلى الحافر. ولو وضع حجراً في شارع. ووضع آخر [بجنبه] سكيناً، أو حفر بئراً، [فتعقل رجل بالحجر، فوقع على السكين، أو في البئر]، فن مات - فالدية على عاقلة واضع الحجر؛ لأنه بمنزلة الدافع له في البئر؛ كما لو كان في يده سكين، فألقى رجل عليه إنساناً- يجب القصاص على الملقي، فلو أن صاحب السكين أنحى السكين نحوه، حين ألقاه الملقي - فالقصاص على صاحب السكين. أما إذا وضع حجراً في ملكه، ونصب أجنبي سكيناً بقربه، أو وضع الأجنبي حجراً، ونصب المالك سكيناً، فعثر إنسانٌ بالحجر، ووقع على السكين، فمات [به] فالدية على عاقلة الأجنبي دون المالك، سواء كان الأجنبي واضع الحجر، أو ناصب السكين؛ لأنه المتعدي فيما فعل. ولو حفر [بئر عدوان] أو وضع سكيناً، فألقى السيل أو الريح، او سبع أو حربي إنساناً في البئر أو على السكين، فهلك - لا ضمان على أحدٍ. ولو حفر بئر عدوان، فوضع آخر في أسلفها سيناًن فسقط رجلٌ في البئر على

السكين، فهلك - فالدية على عاقلة الحافر. ولو وضع حجراً في الطريق فتعقل به رجلٌ، فدحرجه، ثم تعقل به رجلٌ آخر، فهلك - فالضمان على عاقلة المدحرج، ويجعل كأنه وضعه. ولو وضع رجلٌ حجراً في الطريق، ووضع رجلان حجراً آخر بجنبه، فتعقل بالحجري، رجل، ومات - فوجهان: أصحهما: الدية على عواقل الثلاثة أثلاثاً؛ كما لو مات من جرح ثلاثةٍ. والثاني: على المنفرد نصفه، وعلى الآخر) نصفه. ولو بالت دابته أو راثت، فزلقت به رجل إنسان، أو دابة فهلك أو طار شيء من بوله إلى طعام إنسان، فنجسه نظر: إن كانت الدابة في ملكه - لا ضمان عليه. وإن كانت في الطريق - نظر: إن كان المالك معها - يجب الضمان، سواءٌ كانت الدابة واقفة أو في اليسر. وإن لم يكن المالك معها - فلا ضمان عليه؛ إن كانت مرسلة، وإن كان قد أوقفها أو ربطها في الطريق -يجب الضمان؛ إن كان الطريق ضيقاً، وإن كان واسعاً - لا يجب. قال الشيخ رحمه الله-: وجب أن يجب الضمان؛ سواء كان الطريق ضيقاً أو واسعاً؛ لأنه لمصلحة نفسه. وإن وُجد من صاحب الطعام [تعد]؛ بأن وضع الطعام على متن الطريق، فأصابه البول - لا يجب الضمان: وإن كان المال مع الدابة. وكذلك: إذا تعمد المشي على البول أو على قشور البطيخ، أو صعد الحجر، أو نزل البئر، فسقط- فلا ضمان. ولو وقع رجلٌ في بئر، ووقع آخر خلفه عليه من غير جذب: فإن مات الأول وجبت ديته على عاقلة الثاني؛ سواء كان الثاني بصيراً أو أعمى؛ لأنه مات بوقوعه عليه؛ رُوي عن علي بن أبي رباح اللخمي: أن بصيراً كان يقود أعمى؛ فوقعا في بئر، ووقع الأعمى فوق

البصير، فقتله، فقضى عمر - رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى. وإن مات الثاني كان دمه هدراً؛ لأن البئر ليست بئر عدوان؛ فلا صنع لأحدٍ في هلاكه. وإن ماتا جميعاً - فدية الأول على عاقلة الثاني، ودم الثاني هدرٌ، ولو أن الثاني ألقى نفسه على الأول عمداً، فقتله - عليه القود، إن جذب الأول الثاني: فإن مات الأول - فدمه هدرٌح لأنه مات بفعل نفسه، وإن مات الثاني - فديته على الأول، وإن كانوا ثلاثةً: وقع الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وماتوا - نُظر: إن كان وقوعهم من غير جذبٍ - وجبت دية الأول على عاقلة الثاني والثالث: لأنه مات بوقوعهما عليهن وتجب دية الثاني على عاقلة الثالث، ودم الثالث هدرٌ. وإن جذب بعضهم بعضاً: فالأول جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، وماتوا - فنصف دية الأول هدرٌ؛ لأنه جنى على نفسه بجذب الثاني إليه، ونصفها على عاقلة الثاني بجذبه الثالث، ودية الثاني نصفها هدرٌ؛ لجذبه الثالث، إليه ونصفها على عاقله الأول لجذبه إياه، ودية الثالث كلها على عاقلة الثاني، لجذبه إياه. ولو حفر رجلٌ بئر عدوان، فتردى فيها رجلٌن فجب آخر، والآخر تعلق بثالثٍ، فجذبه، والثالث جذب رابعاً، وماتوا - نظر: إن وقع كل واحدٍ في جانب من البئر - فدية الأول على عاقلة الحافر، ودية الثاني على عاقلة الأول، ودية الثالث على عاقلة الثاني، ودية الرابع على عاقلة الثالث. ولو وقع كل واحد على صاحبه، فماتوا - ففيه وجهان: أصحهما: دية الأول أرباعٌ، ربعها هدرٌ؛ لجذبه الثاني إليه، وربعها على عاقلة الحافر، وربعها على عاقلة الثاني؛ لجبه الثالث، وربعها على عاقلة الثالث؛ لجبه الرابع، ودية الثاني أثلاث: ثلثها هدرٌ؛ لجذبه الثالث إليه، وثلثها على عاقلة الأول، لجذبه إياه، وثلثها على عاقلة الثالث، لجذبه الرابع. ودية الثاني نصفان: نصفها هدرٌ؛ لجذبه الرابع إليه، ونصفها على عاقلة الثاني؛ لجذبه إياه، ودية الرابع كلها على عاقلة الثالث. والوجه الثاني: دية الأول كلها هدرٌ؛ لأنه باشر قتل نفسه بجذب الثاني إليه، والحافر متسبب، ولا ضمان على المتسبب مع وجود المباشر، ودية الثاني نصفها هدرٌ؛ لجذبه الثالث إليه، ونصفها على عاقلة الأول؛ لجذبه إياه، ودية الثالث كذلك نصفها هدرٌ؛ لجذبه

الرابع إليه، ونصفها على عاقلة الثاني، ودية الرابع كلها على عاقلة الثالث. وكل من أوجبنا عليه شيئاً من الدية - يجب في ماله كفارةٌ - فعلى الوجه الأول: يجب بقتل الأول ثلاث كفارات: كفارة على الحافر، وأخرى على الثاني، وكفارة على الثالث. وإن قلنا يجب على من قتل نفسه كفارة فأربع كفارات: أحدها في ماله، ويجب بقتل الثاني كفارتان، كفارة على الأول، وأخرى على الثالث، ويجب بقتل الثالث كفارة على الثاني، وبقتل الرابع كفارة الثالث. فصل فيما لو تصرف في ملكه وتضرر به غيره إذا تصرف في ملكه، فتضرر به غيره - لا ضمان عليه؛ مثل: إن وضع حجراً على طرف سطحه، فوقع على إنسان، أو وضع جرة ماء، فتندى تحتها فسقطت أو ألقتها الريح على إنسان. فهل لا ضمان عليه؛ كما لو أضاف إنساناً، فانهدم عليه البيت وكذلك: لو أوقف دابةً في ملكه، فرمحت إنساناً، أو بالت، فأفسدت بالرشاش طعام إنسان خارج الملك - لا ضمان عليه. وكذلك لو كان يكسر الحطب في ملكه، أو في موات، فأصاب شيءٌ منه عين إنسانٍ - لا ضمان عليه. ولو أخرج جناحاً إلى الطريق، أو ساباطاً أو ميزاباً - يجوز إذا كان عالياً لا يتضرر به الناس، فلو وقع على غنسان، ومات تجب الدية على عاقلته، فإذا وقع على مال، فهلك - يجب الضمان في ماله؛ لأن الارتفاق بالطرق مباحٌ؛ بشرط السلامة، ثم ننظر: إن كان كل الجناح خارجاً إلى الطريق - يجب عليه [جميع] ضمان ما هلك به، وإن كان بعضه في الملك، وبعضه خارجاً إلى الطريق - نُظر: إن لم يسقط إلا ما هو خارج، فيجب جميع الضمان، وإن سقط [الكل] فيجب بعض الضمان؛ لأن التلف حصل من مباح مطلقاًن ومن مباح بشرط السلامة، ثم في كيفية الضمان وجهان: أحدهما: يضمن النصف؛ سواء كان الخارج أقل من النصف أو أكثر؛ كما لو مات بجراحة رجلين يجب على كل واحد نصف الدية، وإن كانت إحدى الجراحتين أصغر.

والثاني: يوزع، فيضمن بقدر ما كان خارجاً، فإن كان ثلث ما سقط خارجاً - يجب ثلث الضمان، وإن كان أكثر - فأكثر. كذلك الميزابُ؛ إذا وقع على شيء، فهلك: فإن كان له في ملكه - فلا ضمان، وإن كان بعضه خارجاً عن مله-: فإن انكسرن فسقط ما هو خارج - يجب جميع ضمان ما هلك به، وإن سقط كله - فيجب بعض الضمان بسبب ما هو خارجٌ عن ملكه؛ سواء أصابه الطرف الذي كان خارجاً أو الطرف الآخر، وسواءٌ سقط نصفين أو صحيحاً. وفي كيفيته وجهان؛ كما ذكرنا في الجناح. ومن أصحابنا من قال: لا ضمان في سقوط الميزاب [له] أصلاً؛ لأنه مضطر إلى نصبه؛ حتى لا يسقط بناؤه؛ بخلاف الجناح والساباط. والأول أصح؛ لأن فعله لمصلحة نفسه، وكان يمكنه أن يحفر بئراً في ملكه، فيرسل فيها الماء، فأشبه ما لو طرح التراب على الطريق، ليتخذ طيناً لسطح فعثر به إنسانٌ، فمات - يجب الضمان؛ حتى لو رش الماء من الميزاب على ثوب إنسانٍ - يضمن. ولو أخرج الجناح عن ملكه إلى سكة غير نافذةٍ - نظر: فإن فعل بإذن أهل السكة - لا يضمن ما هلك به، وإن فعل بغير إذنهم يضمن. ولو أخرج الجناح عن ملكه إلى سكة غير نافذة - نظر: فإن فعل بإذن أهل السكة - لا يضمن ما هلك به، وإن فعل بغير إذنهم يضمن. ولو بنى جداراً مائلاً، فسقط على إنسان، وهلك - نظر: إن بناه مائلاً إلى ملكه، فسقط وترامى منه شيءٌ إلى إنسانٍ - فلا ضمان، وإن بناه مائلاً إلى الطريق - يضمن؛ كالساباط يسقط، وإن بناه مستوياً، فمال إلى الطريق - نظر: إن لم يتمكن من هدمه، وإصلاحه- لم يضمن، وإن تمكن، فلم يفعل- فعلى وجهين: أظهرهما: لا يضمن، وعليه يدل النص؛ لأنه لم يوجد الميل بفعله. والثاني: قاله أبو إسحاق-: يضمن؛ لتعديه بترك الإصلاح. وعند أبي حنيفة -رحمه الله: إن وزع وأشهد عليه، فلم يهدم- ضمن، وإن لم يُشهد - فلا. ولو كانت في ملكه شجرةٌ، فانتشرت أغصانها [إلى الطريق] [أو] إلى ملك الغير، فسقط منه غصنٌ، فأتلف شيئاً - لايضمن؛ لأنه لم يكن يصنعه، ولو نصب ميزاباً من داره إلى

الطريق، أو بنى جداراً مائلاً، ثم باع الدار لا يبرأ من التعدي؛ حتى لو سقط على إنسان، فهلك - تجب الدية على عاقلة البائع. ولو حفر في ملكه بئراً، أو نهراً، فتجمع فيه الماء، فتندى جدارُ الجار، فانهدم، أو غار الماء في بئر الجار، أو حفر بالوعة، فتغير ماء بئر جاره - لا شيء عليه. ولو نصب في ملكه رحاً، أو كان حداداً أو قصاراً يضرب بالمطرقة أو الميجنة، فتنزلزل جدارُ الجار، أو انهدم - لا ضمان عليه، وقيل: إن انهدم في حالة الضرب - ضمن. ولو طرح في أصل حائطه سرقينا - مُنع منه. ولو أوقد ناراً في ملكه، فأطارت الريح الشرار إلى غير ملكه، فأحرقت مالاً - لا ضمان عليه، إذا فعل ما جرت به العادة، فإن لم تجر العادة به: بأن أوقد في وقت لا تقف النار على حدها - يضمن. وكذلك لو سقى أرضه، فخرج الماء من جُحر فأرة، أو شق إلى ارض غيره، فأتلف زرعه - لا شيء عليه. وكذلك: لو نقب الماء، فإن كان عالماً بالجُحر والشق، أو زاد الماء عن العادة، فخرج من الجدر - يضمن. ولو أسند خشبة إلى جدارٍ، فسقط الجدار على شيء، فأتلفه - نظر: إن كان الجدار بغير حمال الخشبة - يجب عليه ضمان الجدار وما سقط عليه؛ سواءٌ سقط الجدار عقيب الإسناد أو بعده بسببه، بخلاف ما لو فتح قفصاً عن طائر، فطار بعد ساعة لا يضمن؛ لأن للطائر اختياراً في الطيران، فن لم يطر في الحال، وطار بعد ساعة - فقد طار اختياره، والجدار لا اختيار له، فمتى سقط - كان منسوباً غليه. وإن كان الجدار للحمال أو لغيره، ولكن أسند إليه بإذن ماله - فلايجب ضمان الجدار، وهل يجب [ضمان] ما سقط عليه؟ قال صاحب "التلخيص" وبه قال الشيخ أبو زيد: إن سقط من ساعته - يجب، وإن سقط بعد ساعة - لا يجب؛ لأنه عن سقط في الحال - فكأنه أسقط جدار نفسه على مال الغير؛ فيضمن، وإن كان بعد ساعةٍ [لا] يضمن؛ كمن حفر بئراً في ملك نفسه - لا يضمن ما سقط فيها.

وقال الشيخ القفال: لا يضمن في الحالين لأنه غير متعد بالاستناد، ولكنه سبب لتلف الشيء، وما تلف بسبب فعله - لا بفعله - لا يجب به الضمان؛ إذا كان في ملكه؛ كحفر البئر؛ إذا كان في ملكه - لا يجب ضمان ما وقع فيها؛ سواء كان عقيب الحفر أو بعده بزمان؛ لأنه غير متعد في السبب. ومن قال بالأول- أجاب بأنه [إن] سقط الدار عقيب الإسناد- فقد باشر إتلافه؛ كما لو [دفع] إنساناً في البئر التي حفر في ملكه - يجب الضمان. وإن قلنا: يضمن إذا سقط في الحال، [فلو لم] يسقط في الحال، ولكنه مال في الحال إلى الشارع، أو إلى ملك غيره، ثم سقط بعده بمدة - يضمن؛ ما لو بنى جداراً ابتداء مائلاً؛ بخلاف ما لو مال بنفسه - لم يضمن؛ لأن الميل هناك ليس بسبب فعله، والله أعلم. باب دية الجنين رُوي عن أبي هريرة- رضي الله عنه -أن امرأتين من هذيل رمت أحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بغرة عبدٍ أو وليدةٍ.

إذا ضرب إنسان امرأة أو أوجرها دواء، فألقت جنينها - نظر: إن ألقته حياً، ثم مات في ساعته، أو بعده بسببه: بأن لم يزل وجعاً حتى مات - تجب على عاقلته ديةٌ كاملة؛ سواء استهل أو لم يستهل، لكن وُجد منه ما يدل على جنايته من تنفس أو حركة قوية. وإن كان يتحقق أنه لا يعيش، ثم تعمد الضرب - فالدية مغلظة؛ لأنه شبه عمد، وإن لم يقصدها بالضرب، فأصابها- فالدية محققة. ولا يتصور في قتل الجنين العمد المحض؛ لأنه غيرُ ظاهر يمكن قصده وإن خرج ميتاً، وإن كان به اختلاجٌ - فلا عبرة به؛ لأنه ليس بحياة، بل انتشار لخروجه من المضيق - فتجب على عاقلته غرة عبدٍ أو أمةٍ، إذا كان الجنين حراً مسلماً؛ سواءٌ عمد الضرب أو اخطأ؛ لأن الغرة لا تتغلظ، وتجب الكفارة في ماله. وكان القياس ألا يضمن الميت؛ لكن الشرع أوجب غرة؛ قطعاً لماة الخصومة بين الجاني والمجني عليه؛ سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى أو لم يعرف أنه ذكر أو أنثى وبين أن يكون ثابت النسب أو كان من زنى وسواءٌ كان تام الخلق أو ناقص الخلق بعد أن ظهر فيه شيء من خلق الآدميين: إصبع أو ظفر أو غيرهما، أو ظهر فيه التخطيط. فإن ألقت مضغة، ولم يظهر فيها تحطيطٌ: فإن قالت أربع نسوة: قد ظهر فيها تحطيطٌ باطنٌ، لايعرفه إلا القوابلُ- ففيه الغُرة، وإن [قلن] لم يظهر، أو شككن - فلا تجب الغرة، وإن قلن: هذا مبتدأ خلق الآدمي؛ كما لو ألقت علقة.

وإن خرج الجنين حياً بعد الضرب، وبقي زماناً سالماً غير متألم، ثم مات - فلا ضمان على الضارب؛ لأن الظاهر أنه مات بسببٍ آخر. ولو ضرب بطن امرأة منتفخة البطن، فزال الانتفاخ، أو بطن من تجد في بطنها حركة فسكتت الحركة - لا ضمان عليه؛ لاحتمال أنها كانت ريحاً، فانفشت. ولو ضربها، فألقت جنينين ميتين - تجب على عاقلته غرتان. وإن ألقت حياً وميتاً، ومات الحي - فتجب ديةٌ كاملةٌ وغرةٌ، ويجب في ماله كفارتان. وإن أشرك رجلان في ضربها، فألقت جنيناً ميتاً - فتجب غرة واحدة على عاقلتهما، وتجب في مال كل واحد منهما كفارةٌ كاملةٌ. ولو ضرب بطن امرأة ميتةٍ، فانفصل منها جنين ميت - لا تجب الغرة؛ لأن الظاهر أن هلاكه [كان] بهلاك الأم؛ كما [لو] قطع عضواً من الأم بعد موتها - لا ضمان عليه. فأما إذا ضرب بطن امرأة، فماتت، ثم ألقت الجنين - ضمن [الجنين والأم] جميعاً: يضمن الأم بكمال الدية، ويضمن الجنين؛ إن خرج صبياً، فمات - بدية كاملة؛ وإن خرج ميتاً - فبغرة. وعند أبي حنيفة: إذا خرج الجنين ميتاً - لا تجب ضمانه، وبالاتفاق، لو خرج الجنين حياً ومات مع الأم عليه ديتان، [و] كذلك: إذا خرج ميتاً. ولو قطع طرفاً منها، أو جنى عليها جناية، فألقت جنينها - يجب عليه ضمان الجنين مع ضمان الجناية؛ سواءٌ كانت الجناية موجبة لبدل مقدرٍ، أو حكومةٍ. أما إذا ضربها، فتألمت، فألقت الجنين - ضُمن الجنين، ولا يجب للام شيءٌ، وإن كان للضرب شينٌ - هل تجب الحكومة مع الغرة؟ فيه وجهان: أصحهما: تجب؛ كما يجب ضمان الجراحة. والثاني: [لا] تجب؛ كما لا يجب للأم شيءٌ. فصلٌ والغرة تورث من الجنين؛ فالثلث منها للأم، والباقي للأب إن كان حياً؛ وألا

- فلسائر العصبات. وإن كانت الأم ألقته بشرب دواءِ أو غيرهِ - فلا شيء لها؛ لأنها قاتلةٌ، وعلى عاقلتها الغرة، وتكون للأب ولغيره من ورثة الجنين. وإن كان قد مات للجنين موروثٌ - وقفنا التركة له؛ فخرج الجنين ميتاً بجناية جانٍ، أو بغير جنايةٍ - لا يورث منه المال الموقوف [له]؛ بل يكون لورثة موروثه؛ لأنا نجعله حياً في حق الجاني [بإيجاب الغرة عليه؛ فنجعله حياً في توريث الغرة عليه، فنجعله حياً في توريث الغرة منه دون سائر الأموال. أما إذا خرج الجنين بالضرب حياً، أو مات في الحال] فعلى الضارب الدية، وتورث منه الدية، وجميع ما وقفنا له من تركة مورثه. ولو ألقت جنينين حيين، وماتا، وماتت الأم بينهما - فالأم ترث من الأول، والثاني يرث من الأم. ولو اختلفا، فقال وارث الجنين: ماتت الأم أولاً؛ فورث منها الجنين، ثم مات الجنين، فورثت منه، وقال وارث الأم: مات الولد أولاً - حلفا ثم هما متوارثان عن موتهما؛ فلا يورث أحدهما من الآخر. ولمستحق الغرة ألا يقبلها دون سبع سنين، أو ثمان سنين؛ لأن الغرة هي الخيار، ومن كان دون سبع سنين - لا يكون من الخيار؛ لأنه لا يستغني بنفسه. وإن كان ابن سبع؛ لكنه لا يعقل عقل مثله- لا يجب قبوله، وكذلك: لا يجب قبول الكبير الذي طعن في السن؛ لأنه لا يستغني بنفسه. وذكر العراقيون من أصحابنا: أنه لا يجب قبول الغلام بعد خمس عشرة سنةً؛ لأنه لا يدخل على النساء، ولا الجارية بعد عر سنين؛ لأنها تتغير. والأول أصح؛ لأن كمال القوة والعقل يكون بعده، ولا يجب قبول الكافر والخصي؛ وإن زادت به قيمته، ولا قبول الخنثى، ولا المعيب بعيب يثبت به حق الرد في البيع، بخلاف الكفارة - تجوز فيها الرقبة الصغيرةن والمعيبة بعيبٍ لا يضر بالعمل؛ لأن الكفارة حق الله

تعالى، ومبنى حقوق الله على المساهلة، وهذا من حقوق العباد، كرد [المبيع]؛ ذا رضي بقبول المعيب - جاز؛ لأن [كل ذلك حقه؛ كما يجوز أن يتركه أصلاً، ويجبر على قبول الذكر والأنثى من أي نوع كان من الرقيق بعد أن كان سليماً تبلغ قيمته نصف عشر الدية؛ روى ذلك عن زيد بن ثابت، ولأنه لا يمكن إيجاب دية كاملةٍ، لأنه لم يكمل بالحياة، ولا يمكن إهداره؛ لأنه جنى على بشر، فقدرناه بأقل تقدير ورد الشرع به، وهو نصف عشر الدية؛ فإن الشرع قدر به أرش الموضحة ودية السن. وعند أبي حنيفة - رحمه الله: يجبر على قبول المعيب، إذا كان لا تنتقص قيمته عن خمس من الإبل أو [خمسين ديناراًن ولا يجبر] على قبول غير الغرة مع وجودها إلا أن يتراضيا؛ كما في دية النفس، له ألا يقبل غير الإبل مع وجودها. فإذا عدمت الغرة- يجب عليه خمس من الإبل؛ لأن الإبل هي الأصل في الدية. ثم إن كانت الجناية خطأ - كانت مخففة، وإن كانت عمد خطإ - فمغلظة. وإذا عدمت الإبل - تجب قيمةُ الإبل على قوله الجديد، وهو الأصح - وعلى قوله القديم: يجب خمسون ديناراً أو ثمانمائة درهمٍ، وخرج قول (آخر من) تقويم الإبل في الدية؛ أن الغرة إذا عدمت - تجب قيمة الغرة. فصلٌ إذا كان الجنين محكوماً (له بالإسلام، والحرية - ففيه غرةٌ كاملةٌ مقدرة بنصف عشر دية الأب؛ إن كان الأب مسلماً، أو بعشر دية الأم؛ إن كانت مسلمةً؛ سواءٌ كان الأبوان مسلمين أو [كان] أحدهما مسلماً؛ لأنه يحكم بإسلام الولد تبعاً لأحد أبويه. وإن كانت الأم رقيقة، والجنين حر - ففيه كمال الغرة. وإن كان أبواه نصرانيين أو يهوديين - فلا تجب فيه غرة كاملة؛ بل تجب نصف عشر دية اليهودي؛ بعيرٌ وثلثا بعير، أو غرة بهذه القيمة. وإن كان الأبوان مجوسيين - فنصف عشر دية المجوسي، وهو ثلث بعير.

فإن وجد بهذا القدر غرة - يشتري، ويؤدي. وإن كان أحد أبويه نصرانياً، والآخر مجوسياً - فيجب في الجنين ما يجب في جنين النصراني؛ اعتباراً بخير الأبوين؛ كما لو كان أحد الأبوين مسلماً - فيجب في الجنين كمال الغرة. وقال أبو الطيب بن سلمة: [الاعتبار] بشر الأبوين. وخرج قول آخر من حل الذبيحة أن الاعتبار بالأب. والأول هو المذهب. ولو اشترك مسلمٌ وذميٌّ في وطء ذمية [فحبلت]، وألقت الجنين بضرب ضارب يُرى الجنين القائف: فإن ألحقه بالذمي - ففيه ما في جنين الذمي، وإن ألحقه بالمسلم - ففيه تمام الغرة، ويكون للمسلم. وإن أشكل الأمر - لم يلحق بواحدٍ منهما، ويؤخذ الأقل، وهو ما يجب في جنين الذمي. ولو ضرب بطن ذمية، فلم تلق الجنين، حتى أسلمت، أو بطن أمةٍ، فلم تلق الجنين، حتى عتقت - تجب فيه غرة كاملة؛ لأن الاعتبار في قدر الضمان بالمال؛ كما لو جرح ذمياً، فأسلم أو عبداً، فعتق، ثم مات بالسراية - تجب عليه دية كاملة، ويكون لسيد الأمة منها الأقل من عُشر قيمة الأمة أو الغرة. ولو جنى على حربية، فأسلمت، ثم ألقت الجنين، أو السيد على أمته الحامل من غيره، فعتقت، ثم ألقت الجنين - ففيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحداد-: لا شيء عليه؛ كما لو جرح حربياً، فأسلم، ثم مات لا شيء عليه؛ لأن ابتداء الجناية لم تكن مضمونة. والثاني: عليه غرةٌ كاملةٌ؛ اعتباراً بالإلقاء؛ لأن الجناية تحققت بالإلقاء. ولو جنى على مرتدة حبلت قبل [الارتداد] فألقت الجنين - تجب عليه الغرة؛ لأن الجنين مسلم لا يحكم بردته تبعاً للأم، وإن كانت حبلت بعد الارتداد من مرتد - فمن جعل

المولود] بين المرتدين مسلماً - أوجب فيه الغرة، ومن لم يجعله مسلماً - أوجب فيه ما في جنين المجوسية. فصلٌ في الاختلاف إذا ألقت المرأة جنيناً، وادعت على رجل؛ أني ألقيته بجنايتك - نظر: إن أنكر المدعى عليه أصل الجناية - فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته، وإن أقر بالجناية، وأنكر الحمل؛ وقال: هذا الولد استعرتيه أو التقطته - فالقول قوله مع يمينه، وعليها البينة أنها - أسقطته، وتقبل من أربع نسوة؛ لأنها شهادةٌ على الولادة. وإن أقر بالجناية والإسقاط، ولكن قال: أسقطته، لا بجنايتي؛ بل بسبب آخر - نظر: إن أسقطته عقيب الضرب من غير فصل - فالقول قولها مع يمينها. وإن أسقطته بعد مدةٍ - فالقول قوله مع يمينه؛ إلا أن تقيم هي بينة على أنها لم تزل ضحيئة] للفراش إلى أن أسقطته، ولا تقبل إلا من رجلين عدلين؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال. فإن ادعى الجاني حدوث سبب آخر - فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الفصل عدمه. وكذلك: لو قال الجاني: قد حان وقت ولادتك، وقالته القوابل [فالقول قولها]، - لأن الجناية يقينٌ، والولادة تتقدم وتتأخر. ولو اتفقا على أنها أسقطت بضربه، واختلفا في حياته، فقال الضارب: خرج ميتاً - فلا تجب إلا الغرة، وقالت: بل حياً، ثم مات فالواجب الدية، والقول قول الجاني وعاقلته مع اليمين، لأن الأصل براءة الذمة إلا أن يقيم بينةً على انه خرج حياً، وتقبل من أربع نسوةٍ؛ لأنها شهادة على الولادة، وقال الربيع: [و] فيه قول آخر؛ أنه لا يقبل إلا من رجلين [عدلين] فإن صدقها الجاني، وكذبته العاقلة - فعلى العاقلة قدر الغرة، والباقي في مال الجاني. وإن أقام كل واحد بينة على ما يدعيه - فبينتها أولى؛ لأنها تثبت زيادةً، وهي الحياة. ولو اتفقا على خروجه حياً، ثم مات، فقال الجاني: مات بسبب آخر، وقالت: بل بجنايتك - نظر:

إن مات عقيب الانفصال بساعةٍ أو ساعتين - فالقول قولها مع يمينها. وإن مات بعد يوم أو يومين - فالقول قوله مع يمينه؛ إلا أن يقيم بينةً على أنه لم يزل متألماً إلى أن مات - فالحكم للبينة. ولو ألقت جنينين: أحدهما حيٌّن والآخر ميت، ومات الحي، وأحدهما ذكر واختلفا فقال الجاني: كان الحي أنثى - فالواجب دية امرأة [وغرة] وقالت المرأة؛ كان الحي ذكراً- فالواجب ديةُ رجل وغرةٌ - فالقول قول الجاني مع يمينه، فإن صدمها الجاني، وكذبته العاقلة- فعلى العاقلة دية أنثى مع الغرة، والنصف الآخر من الدية في مال الجاني. فصلٌ إذا ألقت المرأة جنيناً حياً بلا سببن فقتله إنسانٌ - يجب على القاتل القود، أو كمال الدية؛ سواء ألقت لأقل من ستة أشهر أو لأكثر، وسواءٌ كانت الحياة مستقرة فيه أو لم تكن، فأما إذا ألقت جنيناً حياً يضرب ضاربٍ، فقتله إنسانٌ سواء ألقت لأقل من ستة أشهر أو لأكثر -[نظر إن] كانت الحياة فيه مستقرة؛ بان كان مثله يعيش أكثر من عيش المذبوح- يجب القود على القاتل أو كمال الدية، ولا يضمنه الضارب. وإن لم تكن الحياة مستقرة فيه؛ بأن كان مثله لا يعيش إلا عيش المذبوح - فالدية على عاقلة الضارب، ولا شيء على القاتل إلا التعزير؛ بخلاف ما لو ألقت بلا [بسبب] بهذه الصفة؛ لأنا لم نجد هناك سبباً نحيل الحكم عليه؛ كما لو قتل مريضاً صار إلى أدنى الرمق - يجب عليه القود أو كمال الدية. ولو صار بجناية رجل على هذه الحالة بأن أخرج حشوته، وأبانها من جوفه، فقتله آخر - فالقاتل هو الأول. ولو ضرب بطن امرأة، فخرج بعض الجنين، وماتت الأم، ولم ينفصل الباقي - تجب الغرة. وإن كان حياً، فمات - تجب الدية. ولو قتله آخر - يجب القود على القاتل؛ لأن وجود الجنين حقيقة، والجناية موجودة؛

فلا وجه لإسقاط الضمان؛ هذا هو الصحيح. ومن أصحابنا من قال- وهو اختيار الشيخ القفال-: أنه اغرة على الضارب، ولا دية إن كان حياً، فمات، ولا قود على من قتله، ولا يرث ولا يصلي عليه، وإن صاح لأن هذه الأحكام إنما تثبت بعد الانفصال؛ كما لا تنقضي العدة بخروج بعض الولد، ولا يقع به الطلاق، والعتق المعلق بالولادة، ويتبع الأم في البيع والعتق، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة. ولو ق امرأة بنصفين، وفي بطنها جنينٌ - تجب الغرة على الوجه الأول، ولا تجب على الوجه الآخر. ولو خرج بعض الجنين، فضرب ضاربٌ بطنها، فسقط ميتاً - تجب الغرة. قال الشيخ رحمه الله: ولو خرج بعضه حياً، فضرب ضاربٌ بطنها، فسقط ميتاً - تجب الدية على الوجه الأول، وعلى الثاني الغرة. ولو ضرب بطن امرأة، فألقت يداً - يجب عليه غرة وكفارة. ولو ألقت يدين أو أربعة من الأيدي أو الأرجل، وألقت رأسين - لا تجب إلا غرة واحدة؛ لأن الإنسان قد يون له رأسان أو أربعة أيد وأرجل. وأن ألقت يدين فعليه غرتان وكفارتان. ولو ضرب بطنها، فألقت يداً، ثم ألقت جنيناً بلا يد - لا يخلو إما إن ألقت قبل الاندمال وسكون وجع الضرب الأول، أو بعد الاندمال. فإن ألقت قبل الاندمال - نظر: إن ألقت جنيناً ميتاً - لا تجب إلا غرةٌ واحدة، وإن كانت حياً: فإن عاش - فعلى عاقلة الضارب نصف الدية - لليد وإن مات من ضربه - فديةٌ [كاملةٌ] للنفس، وتدخل فيها دية اليد. وإن ألقت الجنين بعد الاندمال - فلا يضمن الجنين الذي ألقته؛ سواء خرج ميتاً أو حياً، ثم مات؛ لأنه قد زال الألم الحاصل بفعله، ثم ينظر: إن ألقت الجنين ميتاً - فعليه نصف الغرة لليد، وإن كان حياً - فعليه نصف الدية؛ سواء عاش الجنين أو مات؛ كما لو قطع يد إنسان، واندمل ثم مات -تجب عليه دية اليد. ولو ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم ضربها آخر، فألقت جنيناً بلا يد - نظر:

إن ضرب الثاني قبل الاندمال: فإن كان الجنين ميتاً -: فعليهما غرةٌ واحدةٌ: على كل واحد نصفها، وعلى كل واحدٍ كفارة، وإن كان الجنين حياً: فإن عاش - فعلى الأول نصف الدية، ولا ضمان على الثاني، وإن مات- فعليهما دية واحدة: على كل واحد نصفها، وإن ضرب الثاني بعد الاندمال - نظر: إن كان الجنين ميتاً -[فعلى الأول] نصف الغرة، وعلى الثاني غرةٌ كاملةٌ كما لو قطع يد إنسان، فاندمل، ثم جاء آخر، وقتله- فعلى الأول نصف الدية، وعلى الثاني دية كاملة. وإن كان الجنين حياً - فعلى الأول نصف الدية، ولا شيء على الثاني [وإن] عاش الولد إلا التعزير، وإن مات - فعليه ديةٌ كاملةٌ، وإن خرج الجنين كامل [اليد - فعلى الضارب غرةٌ، كاملة، وإن خرج الجنين كامل اليدين] فعلى الضارب غرةٌ كاملةٌ لليد، وللجنين حكم نفسه. فإن خرج من غير سبب حادث: فإن كان قبل اندمال الضرب الأول - فعلى الضارب غرتان، إن خرج الجنين ميتاً: أحداهما بسبب اليد، والأخرى بسبب الجنين، وإن كان حياً، ومات فديةٌ مع الغرة، وكذلك: لو ألقت أولاً جنيناً تاماً، ثم يداً - فعليه غُرتان. وإن كان بعد اندمال الضرب الأول - فلا شيء عليه بسبب الجنين، وإن [ألقته] بضرب إنسانٍ آخر - فضمان الجنين على الثاني، سواءٌ ضرب الثاني بعد اندمال الضرب الأول أو قبله، فإن خرج ميتاً - فغرة وإن خرج حياً، ومات فدية، والله أعلم. باب جنين الأمة إذا جنى على أمة حامل برقيق، فألقت جنيناً ميتاً - ففيه عشر قيمة الأم؛ سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى، أو لم يُعرف حاله، ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة أو مدبرة أو مكاتبة، أو أم ولدٍ. فإن كانت الأمة كافرةً أو ناقصة الأطراف، والولد مسلمٌ - تكسي الأم صفة الإسلام والكمال، وإن كان الجنين رقيقاً، والأم حرةٌ؛ بأن كانت الأم لرجل، والجنين لآخر، فأعتق مالك الأم الأم - لا يعتق الجنين. فإذا ألقت الجنين بجناية جانٍ - تكسى الأم صفة الرق، وتجب عشر قيمتها. وعند أبي حنيفة: يعتبر ضمان الجنين بنفسه، فإن كان ذكراً - يجب نصف عشر قيمته، لو

كان حياً، وإن كان أنثى - فعشر قيمتها؛ لو كانت حية، بالاتفاق: يجب في جنين الحرة غرة مقدرة بنصف عشر [دية] حر أو عر دية حرة. وذلك عندنا: باعتبار دية الأبوين، وعنده: باعتبار دية نفسه. وفائدته تتبين في جنين الأمة؛ كما ذكرنا، وما ذكرناه أولى؛ لأنه قد يخرج بصفة لا يعرف أنه ذكر أو أنثى؛ فلا يمكن اعتباره بنفسه، ولأن ما يعتبر ضمانه بنفسه - يضمن كله لا بعضه. أما إذا ألقت الجنين حياً، ثم مات بسبب الجناية - تجب قيمته معتبرة بنفسه؛ بالاتفاق. ولو ألقت بالضرب جنيناً ميتاً، ثم عتقت، فألقت جنيناً آخر ميتاً بسبب ذلك الضرب - يجب في الأول عشر قيمة الأم للسيد، وفي الثاني الغرة، ويكون للأم وسائر الورثة إذا ثبت أن في جنين الأمة عُشر قيمة الأم، فبأي وقت تعتبر قيمة الأم، فيه وجهان: أحدهما: وبه قال المزني-: يعتبر بيوم الإلقاء؛ لأنه حالة استقرار الجناية؛ كما لو عتقت الجارية بعد الضرب، ثم ألقت الجنين - تجب فيه الغرة؛ اعتباراً بحالة الإلقاء. والثاني: وهو المنصوص، وغليه ذهب ابن سريج-: تعتبر بيوم الضرب، وهو الأصح؛ لأنه لم تتغير حالة الأمة بين الضرب والإلقاء فكان حالة الضرب أولى بالاعتبار؛ لأنه حالة الوجوب، كما لو قطع يد عبد، ومات على الرق تعتبر قيمته بيوم الجناية؛ بخلاف ما لو عتق لأن ثم تغيرت حالة المجني عليه، فاعتبرت حالة القرار. ولو كانت أمة بين شريكين حبلت من زوج أو زنا - يكون الولد بينهما كالأم، فلو ضرب ضاربٌ بطنها، فألقت جنيناً ميتاً - يجب على الضارب [عشر قيمة الأم، ويكون بين الشركيين، فإن كان الضارب] أحد الشريكين، - يجب عليه نصف عشر قيمة الأم للشريك الثاني، ونصفه ساقط؛ لأنه أتلف ملك نفسه. ولو وطئها الشريكان، فحبلت، ثم ضربها ضاربٌ، فألقت الجنين - نظر: إن كانا موسرين - فالجنين حر، وعلى الضارب الغرة، ويكون لمن ألحق القائف الجنين به، ولو كانا معسرين ففي الولد قولان:

أحدهما: كله حر، والحكم كما ذكرنا في الموسرين. والثاني: وهو الأصح - نصفه حر؛ فعلى هذا يجب على الضارب نصف الغرة، ونصف عُشر قيمة الأم ثم بأيهما ألحقه القائف - فنصف الغرة له، ونصف عُشر قيمة الأم للآخر، والله أعلم.

كتاب القسامة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القسامة رُوي عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة؛ أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود خرجا على خيبر، فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول، وحويصة بن مسعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له قتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم"، فقالوا: يا رسول الله، لم نشهد، ولم نحضر! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"فتبرئكم

يهود بخمسين يميناً"، فقالوا: يا رسول الله، فكيف تقبل أيمان قوم كفارٍ"، فزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقله من عنده، ويُروي: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم ويدفع برمته". القسامة: اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم، وعلى ألسن الفقهاء، هي: اسم للأيمان. وصورة القسامة: أن يوجد قتيلٌ في موضع، ولا يعرف قاتله، فادعى وليه على واحدٍ أو على جماعةٍ: أنهم قتلوه، ولا بينة له؛ فلا يخلو: إما أن يكون هناك لوث على المدعي عليه أو لم يكن، فإن كان هناك لوث، واللوث: ما يغلب على قلب القاضي، أو [على] قلب من يسمع صدق المدعي، فيحلف المدعي، خمسين يميناً على من يدعيه. وهذا هو حكم القسامة: أن يبدأ بيمين المدعي؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:

"تحلقون وتستحقون دم صاحبكم"، ولأن اليمين حجة من يقوى جانبه، وههنا: يقوى جانب المدعي باللوث، وسواءٌ كان المدعي مسلماً أو كافراً، وسواءٌ كان الدعوى على مسلم أو على كافرٍ؛ لأن في قصة خيبر كان الدعوى من المسلمين على الكفار حتى لو ادعى كافرٌ على مسلم - تثبت القسامة، وبيان اللوث: هو أن يجتمع جماعةٌ في بيت رجلٍ أو في مسجد أو في صحراء، أو على رأس بئرس، أو في الطواف؛ فيتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أنهم قتلوه؛ سواءٌ كانوا أعداء له أو لم يكونوا. ولو اجتمع صفان للقتال، فتفرقوا عن قتيلٍ - نظر: إن كانوا مختلطين - فهو لوث على الصف الآخر الذي ليس هو منهم؛ لأن الغالب أنهم لا يقتلون أصحابهم، وإن لم يكونوا مختلطين، لكنهم يترامون: فإن كان يصل سهام بعضهم على بعضٍ - فكذلك هو لوث على الآخرين، وإن كانوا لا يترامون، ولا تصل سهام بعضهم على بعض - فهو لوث على من فيهم دون الصف الآخر، وكذلك: لو وجد قتيل في قبيلة أو في قرية صغيرة بينهم وبين أهل القتيل عداوةٌ ظاهرةٌ، أو في محلة منقطعة عن البلد الكبير، كلهم أعداء لهم، لا يخلطهم غيرهم - فهو لوث عليهم؛ كما كان في قتل عبد الله بن سهل على أهل خيبر؛ فإن أهل خيبر كانوا أعداء له، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأولياء القتيل باليمين، وكذلك: لو وجد قتيل في صحراء، وعنده رجلٌن ومعه سلاحٌ ملطخ بالدم، وعلى ثوبه أثر الدم، ليس هناك غيره - فهو لوثٌ عليه.

وإن كان بقرية سبعٌ أو رجلٌ آخر مول ظهره، أو رأى الدم على الطريق في غير الجهة التي فيها صاحب السلاح- فلا يكون لوثاً على الذي معه السلاح؛ لاحتمال أن السبع أو المولى قتله، وكذلك: لو وقع في ألسن الخاص والعام؛ أن فلاناً قتل فلاناً فهو لوث عليه. ولو شهد جماعة من العبيد أو النسوان، أو اثنان منهم؛ أن فلاناً قتل فلاناً، نظر: إن جاءوا أو شهدوا متفرقين - فهو لوث، وإن جاءوا مجتمعين، فشهدوا، سمع بعضهم كلام بعض - فليس بلوث؛ لاحتمال أنهم تواطؤوا عليه؛ أو تلقف بعضهم ببعض، ولو قال جماعةٌ من الفساق أو الصبيان - فلا يون لوثاً؛ سواء جاءوا مجتمعين أو متفرقين؛ لأنه لا حكم لقولهم؛ بدليل أنه لا يقبل خبر الفاسق والصبي؛ بخلاف العبد والمرأة، وقيل في الفساق والصبيان، إذا جاءوا متفرقين - فهو لوث؛ كالعبيد، قال الشيخ - رحمه الله-: إذا قاله جماعةٌ من الكفار - فلا يكون لوثاً. ولو شهد عدل واحد - فهو لوث. ولو [شهد] عدلان؛ أن فلاناً قتل أحد هذين القتيلين - فلا يكون لوثاً؛ لأنه لا يغلب على القلب صدق المدعي في حق أحدهما، ولو كان القتيل واحداً، فشهد عدلان أن أحد هذين الرجلين قتله، فعين الولي أحدهما وادعى عليه - فهو لوث؛ كما لو وجد قتيل بين رجلين، فادعى الولي على أحدهما. ثم عند وجود اللوث: إذا خلف المدعي؛ فإن كان يدعي قتل خطإ أو شبه عمد - تجب الدية على عاقلة من حلف عليه مؤجلة - ففي الخطإ مخففة، وفي شبه العمد مغلظة. وإن كان يدعي عمداً موجباً للقصاص - فهل يثبت القصاص؟ فيه قولان: قال في القديم- وبه قال مالك وأحمد-: يثبت، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، أي: دم قاتل صاحبكم، ولأنه حجة يثبت بها قتل العمد؛ يثبت به القصاص؛ كالبينة. وقال في الجديد - وهو الأصح، وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-[وبه] قال أهل العراق-: ايثبت القصاص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتيل خيبر: "إما أن تدوا صاحبكم، وإما ان تؤذنوا بحربٍ" ولأنه حجة لا يثبت بها النكاح؛ فلا يثبت بها القصاص؛ الشاهد مع اليمين.

وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: لا عبرة باللوث، ولا يبدأ بيمين المدعي، وحكم القسامة عنده؛ إذا وجد قتيل في محلة أو قرية: أن يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء تلك القرية، فيحلفهم أنهم ما قتلوه، ولا عرفوا له قاتلاً، ثم يأخذ الدية من عاقلة من في خطة القرية، فن لم يعرف - تؤخذ من سكان تلك القرية مع الحالفين في ثلاث سنين، وإذا لم يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا. وإن وجد في مسجد - فلا تؤخذ الدية من بيت المال، وكذلك في سوق العامة، وإن كان في دار فيها سان - فمن عاقلة رب الدار. وعند أبي يوسف: تؤخذ من عاقلة من في الدار، وإن كان في دار نفسه - فعلى عاقلته، وإن وجد بين قريتين -قال: القسامة على أقربهما منه، وإن كان في مفازة بعيدة - فهو هدرٌ". والحديث حجة عليهم في اعتبار البداعة واللوث، والبداعة بأيمان المدعين، وما ذكروه مخالفٌ لأصول القياس من وجوه؛ من حيث إنهم أثبتوا الدعوى من غير تعيين المدعي عليهم، ثم حبسهم لليمين ثم تغريمهم بلا حجة بعد أن حلفوا، ولو شهد عدل واحد؛ أن فلاناً قتل فلاناً؛ كم يحلف المدعي معه نظر: إن كان يدعي قتلاً موجباً للمال - فهو حجة يحلف معه يميناً واحداً؛ لأن المال يثبت بشاهد ويمين. وفيه وجهٌ آخر: يحلف معه خمسين يميناً؛ لعظم أمر الدم [وهذا بناء على أنه فعل موجب للقصاص - فهو لوث وكم يحلف؟ فيه قولان]. وإن كان يدعي قتلاً موجباً للقصاص - فهو لوث، يحلف المدعي معه خمسين يميناً، ثم هل له أن يقتص -فعلى قولين: ولو ادعى المجروح أن فلاناً قتلني - لا يقبل قوله، ولا يصير ذلك لوثاً. وقال مالك - رحمه الله -: يثبت اللوث بقوله على من سماه؛ لأن الغالب أنه لا يكب في هذه الحالة، وهذا لا يصح؛ لأنه إثبات الحق بمجرد الدعوى، وذلك لا يجوز، ولأنه قد يكون بينه وبين إنسان عداوةٌ، فيقصد بهذا القول إهلاكه، والجراحة غير شرط لثبوت حكم السامة بعد ما عرف انه قتيل؛ لأنه قد يقتل بما لا يجرح: من خنق وغيره.

وعند أبي حنيفة: الجراحة شرط لثبوت حكم القسامة، فإن كان عليهن دم ولا جراحة عليه، قال: إن خرج الدم من أنفه - لا تثبت القسامة، وإن خرج من عينه، أو أذنه - تثبت؛ لأن الدم لا يخرج منهما من غير ضرب، وثبت عندنا سواءٌ وجد بعض القتيل أو كله. وعند أبي حنيفة، لا يثبت إلا أن يوجد الأكثر. فصلٌ ولا تسمع [دعوى الولي] ما لم يعين القاتل، فلو ادعى الولي على جماعة، لا يتصور اجتماعهم على مثله - لا تسمع؛ لأنه دعوى محال، ولو ادعى أن واحداً من هؤلاء الجماعة قتله أو أحد هذين الرجلين قتله - نظر: عن كان ثم لوثٌ، وأراد المدعي أن يحلف - لم يكن له ذلك إلا بعد التعيين، وإن لم يكن لوث، أو كان لوثٌ، فترك اللوث، وأراد تحليفهم جميعاً؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح-: لا يجوز ما لم يعين؛ كما لو ادعى على رجلين أني أقرضت واحداً منهما ألفاً، ولم يعين - لا يسمع. والثاني: يسمع؛ لأنه طريق يتوصل به إلى معرفة القاتل. وكذلك: لو ادعى أن أحد هؤلاء سرق مني كذا، أو أحد صالحني - هل يسمع من غير تعيين؟ فيه وجهان؛ بخلاف القرض؛ لأنه باشره بنفسه؛ فلا يُعذر بالجهل، فلو ادعى على واحد أنه قتل أبي، فقال المدعي [عليه]: كنت يومئذ غائباً، أو ادعى على جماعة، فقال واحد منهم: أنا كنت غائباً - فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته، فلو أقام المدعي بينةً على أنه كان حاضراً أو على إقراره؛ أنه كان حاضراً يوم القتل - يسمع، ولا يقبل إلا من رجلين عدلين، فإذا شهد - يحلف المدعي على القتل، لوجود اللوث، ولو أقام المدعي بينة على حضوره يوم القتل، وأقام المدعي عليه بينة على الغيبة - ترجح بينة المدعي عليه؛ لأن عندهم زيادة علمٍ. ولو ادعى على واحد أن هذا قتل أبي مع جماعة، ولم يبين عددهم - نظر إن كان يدعي قتل خطإ أو شبه عمدٍ، أو قال: أخطأ البعض، وتعمد البعض - لا يسمع

ما لم يبين عددهم؛ لأن الواجب فيه الدية، وهو لا يدري، ماذا يلزم هذا الواحد قبل بيان [العدد]. وإن ادعى أن الكل كانوا عامدين نظر: إن كان هناك لوث، وقلنا: لا يجب القود بيمين المدعي - يجب بيان العدد، وإن قلنا: يجب القود أو لم يكن هناك لوث، وأراد تحليف المدعي عليه - هل يشترط بيان العدد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يشترط؛ لأن القصاص يجب على هذا الواحد قل شركاؤه أم كثروا. والثاني- قاله أبو إسحاق-: يشترط بيان العدد؛ لأنه قد يعفو على مال؛ فلا يدري ماذا يلزمه من الدية، وإن كان ولي القتيل غائباً يوم القتل: فإذا حضر - له أن يحلف على البت؛ أن فلاناً قتله؛ لأن عبد الله بن سهل قُتل بخيبر، وأولياؤه كانوا غيباً، فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم [اليمين]؛ حتى لو كان ولده صبياً أو كان نطفة في الرحم، أو كان مجنوناً يوم قتل الأب، فبلغ وعقل - له أن يحلف؛ لأنه قد يعرف ذلك بإقرار من المدعي عليه، أو بسماع من يثق بقوله؛ كما لو اشترى مشترٍ ابنُ عرين سنة عبداً ربي بالمغرب، فباعه من ساعته، وأبق من يد المشتري، فأراد رده - يجوز له أن يحلف على البت؛ أنه باعه بريئاً من العيب. فصلٌ إذا قتل عبد، وثم لوث، سواءٌ كان على حر أو على عبدٍ، هل يقسم السيد؟ فيه قولان: بناء على أن بدل العبد هل تحمله العاقلة؟ وفيه قولان: في القديم: لا تحمله العاقلة؛ فعلى هذا: لا يقسم السيد؛ بل يحلف المدعي عليه؛ كما لو قتلته بهيمة. وفي الجديد - وهو الأصح-: تحمله العاقلة؛ فعلى هذا: يسم السيد خمسين يميناًن ويستحق قيمته، وعليه نص؛ لأن ثبوت القسامة لتعظيم أمر الدم، فيستوي فيه الحر والعبد، كوجوب الكفارة؛ فعلى هذا: له أن يقسم على مدبره وأم ولده ومكاتبه؛ لان الكتابة تنفسخ بموت المكاتب، وعلى عبده المأذون في التجارة وعبيده. فإذا حلف على السيد - أخذ القيمة، من عاقلة المدعي عليه، وإن ادعى قتل خطإ

أو شبه عمد في ثلاث سنين، وإن ادعى عمداً محضاً - فمن ماله حالة، وإن كان يدعي على عبدٍ يتعلق الضمان برقبته، وإن ادعى عمداً. ففي ثبوت القصاص قولان. ولو قتل عبد المكاتب، وثم لوثٌ يحلف المكاتب على قول ثبوت القسامة في العبيد؛ لأنه ملكه، ويأخذ القيمة، فيستعين بها في أداء النجوم. فإذا عجز المكاتب - نظر: إن عجز بعد أن أقسم - أخذ السيد القيمة، وإن عجز قبل أن أقسم - حلف السيد خمسين يميناً، وأخذ القيمة، وإن عجز بعد أن نكل عن اليمين فليس للسيد أن يقسم؛ لأن من له الحق - أبطل النكول حقه، ولكن له أن يحلف المدعى عليه، ولو ملك عبده أو أم ولده عبداًن فقتل، وثم لوث - يحلف السيد، ولا تحلف أم الولد، إن قلنا بقوله القديم: إن العبد يملك بالتمليك؛ لأنه ملك ضعيف يبطل بموته؛ وتكون القيمة للمولى. ولو مات السيد بعدما حلف-عتقت أم الولد، وقيمة العبد لا تكون لها؛ بل تكون لوارث السيد، حتى لو أوصى لام ولده بعبد، فقتل، وثَمَّ لوثن فحلف السيد - أخذ القيمة، وبطلت الوصية، فأما إذا أوصى لها بعد القتل بقيمته، أو أوصى لها بقيمته لو قتل - صحت الوصية وإن لم يكن موجوداً؛ كما لو أوصى بثمر الشجر، وحمل الجارية -تصح. ثم إن مات السيد بعدما أقسم - فالقيمة لأم الولد معتبرة من الثلث، وإن مات قبل أن أقسم يقسم الوارث [في] القيمة لأم الولد، وإن نكل الوارث عن اليمين - هل لأم الولد أن تحلف؟ فيه قولان؛ [ما لو مات، وادعى وارثه] ديناً له على آخر، فأنكر المدعي عليه، ولم يحلف، ونكل الوارث عن يمين الرد - هل يحلف الغريم؟ فيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد، وهو المذهب-: أنه لا يحلف؛ وكذلك أم الولد؛ لأن حقها [فيما لا يثبت بالقسامة في قطع الطرف] فيما كان ملاً للمولى يقيناً، لا أنها تثبت للمولى ملكاً بيمينها، بل يحلف المدعى عليه. فصلٌ لا تثبت القسامة في قطع الطرف، وفيما دون النفس من الجراحات؛ حتى لو قطعت

يدُ رجلٍ، فادعاه على إنسانٍ، فأنكر، وثم لوث، أو لا لوث - فالقول قول المدعي عليه مع يمينه. ولو أقام شاهداً واحداً، فإن كان يدعي خطأٌ، أو شبه عمدٍ -يحلف معه يميناً واحداً، وإن كان يدعي عمداً موجباً للقصاص - فلا حكم للشاهد الواحد بل يحلف المدعى عليه؛ بخلاف قتل النفس - تثبت فيه القسامة؛ لأن حرمتها أعظم من حرمة الطرف؛ ولذلك وجبت الفارة في قتل النفس، ولم تجب في قطع الطرف، ولأن البراعة بيمين المدعي معدولٌ عن القياس ثبت بالنص، والنص في النفس. ثم إذا حلف المدعى عليه في الطرف - هل يثبت فيه التغليظ بتعديد اليمين أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يثبت؛ لأن التغليظ بحرمة النفس، ولا يثبت فيما دونها؛ كما لاتجب الكفارة. والثاني: يثبت؛ لأن الطرف يساوي النفس في وجوب القصاص وتغليظ الأرش، وكذلك؛ في تغليظ الأيمان، فإن قلنا: يتعدد اليمين هل يوزع على عدد الإبل، أم يجب أن يحلف خمسين يميناً في كل قليل وكثير؟ فيه قولان. ولو ادعى على جماعةٍ قطعَ طرفه - هل توزع الأيمانُ عليهم أم يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً؟ فيه قولان. خرج من هذا؛ أنه لو ادعى على رجل أنه قطع يديه أو يدي ابنه، وأنكر المدعى عليه - يحلف في قوله خمسين يميناً، وفي الثاني يميناً واحدةً. وإن ادعى أنه قطع إحدى يديه، كم يحلف؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يحلف يميناً واحدةً، وهو على قولنا: إن اليمين لا تتعدد في الطرف. والثاني: يحلف خمسين يميناً، وهو على قولنا: إنها تتعدد، ولا تتوزع: والثالث: يحلف خمساً وعشرين يميناً، وهو على قولنا: إنها تتعدد وتتوزع على عدد الإبل.

ولو ادعى موضحةً - فعلى [القول] الأول: يحلف يميناً واحدةً، وعلى الثاني: خمسون يميناً، وعلى الثالث: ثلاثة أيمان، تتوزع الأيمان على عدد الإبل، ويجبر الكسر. ولو ادعى على رجلين قطع يده، وأنكر - ففيه أربعة أقوال: أحدها: يحلف كل واحد يميناً واحدة، وهو على قولنا: إنها لا تتعدد. والثاني: يحلف كل واحد خمسين يميناً، وهو على قولنا: [إنها تتوزع على الأشخاص، وعلى عدد الإبل]. والثالث: عليهما [خمسون يميناً، على كل واحد خمسٌ وعشرون [يميناً]، وهو على قولنا: تتوزع على الأشخاص دون الإبل. والرابع: عليهما خمس وعشرون على كل واحد ثلاثة عشر؛ يجبر الكسر، وهو على قولنا: أنها تتوزع على الأشخاص، وعلى عدد الإبل، ولو سرى قطع الطرف إلى النفس - تثبت فيه القسامة، لا يختلف القول فيه. ولو جرح رجلاً فارتد المجروح، ومات في الردة بالسراية وثم لوث - لا تثبت القسامة؛ لأن النفس غير مضمونةٍ، بل يجب ههنا ضمان الجراحة ولا تثبت القسامة فيما دون النفس. ولو عاد إلى الإسلام، ثم مات بالسراية تثبت القسامة؛ سواءٌ قصر زمان الردة حتى يجب كمال دية النفس أو طال، ولم توجب كمال الدية؛ لأن الذي يجب من الدية ضمان النفس، وتثبت القسامة في النفس قلت ديتها أوكثرت. ولو قطع يد عبدٍ، فعتق، ثم مات بالسراية، وثم لوثٌ - تجب فيه الدية، وهل تثبت القسامة قيل فيه قولان؛ كما لو مات رقيقاً. والمذهب: أنه تثبت فيه القسامة قولاً واحداً؛ لأن الواجب فيه الدية؛ بخلاف ما لو مات رقيقاً، ثم السيد مع الوارث - كيف يحلفان؟ يبنى على أن السيد ماذا يكون له من هذه الدية؟ وفيه قولان: أصحهما: أقل الأمرين من نصف قيمة العبد أو كمال ديته. والثاني: له الأقل من مال ديته أو كمال قيمته.

ثم إن كانت الدية اقل من حق السيد أو مثله - فالكل يكون له؛ يحلف خمسين يميناً، ويأخذ. وإن كانت الدية أكثر من حق السيد- فالسيد مع الوارث بمنزلة وارثين؛ [يحلف كل واحد منهما بقدر حقه؛ على قول التوزيع، وعلى القول الآخر] يحلف كل واحد خمسين يميناً، ويأخذ حقه. فصلٌ إذا قتل رجل، وثَمَّ لوث، فارتد الوارث - نظر: إن ارتد بعد أن أقسم - تثبت الدية، وهي كسائر أمواله. وإن ارتد قبل أن يقسم - نظر: إن عاد إلى الإسلام -[أقسم]، وإن لم يعد وأقسم في الردة - تحتسب يمينه، وتثبت الدية؛ سواء قلنا: ملكه باقٍ أو زائلٌ أو موقوف. وإنما حسبنا يمينه مع كفره كالكافر الأصلي والزنادقة، وأثبتنا الدية. وإن قلنا: ملكه زائل؛ كما لو احتطب في حال الردة أو احتش - كان حكمه حكم سائر أمواله التي ارتد عليها، ثم إن قلنا: ملكه زائل - كان فيئاً، وإن قلنا: باقٍ - كان له؛ وإن قلنا: موقوف: فإن عاد إلى الإسلام - كان له، وإن مات أو قتل في الردة - كان فيئاً. ومن أصحابنا من قال- وهو قول ابن خيران: إن قلنا ملكه زائلٌ -لاتحتسب يمينه، ولا تثبت له الدية، وإن قلنا: موقوف: فإن عاد إلى الإسلام بعد أن أقسم - تثبت الدية، وإن قتل أو مات في الردة - لا تثبت. والأول أصح. أما إذا ارتد الوارث قبل موت القتيل، ثم مات - فلا قسامة [له]؛ لأنه لا يرثه؛ بخلاف ما لو كان القتيل عبداً أو ارتد السيد - لا فرق بين أن ارتد بعد موته أو قبله؛ لأن استحقاق السيد بسبب الملك، لا بسبب الإرث. فصلٌ إذا ادعى على إنسان قتلاً، وليس هناك لورث؛ بأن وجد قتيل في مسجد أو في

صحراء، أو ليس هناك أحد، أو في سوق، أو في محلة أهلها أعداء له؛ غير أنه يخلطهم غيرهم، أو في قرية أهلها أعداءٌ له؛ ولكنها على قارعة الطريق، ينظر إليهم غيرهم، فادعى الولي على واحد، وأنكر المدعى عليه- فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وكم يحلف؟ فيه قولان: أصحهما يحلف خمسين يميناً؛ لعظم حرمة الدم؛ كما يحلف المدعى عند وجود اللوث خمسين يميناً. يؤيده: أن التغليظ في القسامة بحرمة الدم، لأجل اللوث، وتأثير اللوث في البداية بجانب المدعي؛ بدليل أن المدعي إذا نكل، حلف المدعى عليه خمسين يميناً، وإن لم يكن في جانبه لوث: فإذا كان التغليظ بحرمة الدم - فهي موجودة ههنا. والثاني- وهو اختيار المزني -: يحلف يميناً واحدةً؛ بخلاف ما لو ان هنا لوث؛ لأنه يخالف سائر الأحكام في البداية بجانب المدعي؛ فيخالفها في عدد الأيمان، وعند عدم اللوث تلحق بسائر الأحكام، وفي البداية بيمين المدعى عليه، وكذلك في عدد الأيمان. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين - يحلف المدعي بعدد أيمان المدعى عليه؛ على اختلاف القولين، وإذا حلف - ثبت القود؛ إذا كان يدعي قتلاً موجباً للقصاص، لا يختلف القول فيه؛ لأن يمين المدعى بعد نكول المدعى عليه- بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار من المدعى عليه، وبكل واحد يثبت القصاص. ولو ادعى على رجلين، وله على أحدهما. لوث دون الآخر - يحلف المدعي على الذي عليه اللوث خمسين يميناً، وفي استحقاق القود قولان؛ إن كان يدعي قتل عمدٍ، والذي لا لوثعليه - يحلف في قول خمسين يميناً، وفي الثاني يميناً واحدة، فإن نكل - حلف المدعي، واستحق عليه القود؛ وإن كان يدعي قتل عمد قولاً واحداً. ولو ادعى قتلاً، وثَمَّ لوث، ونكل المدعي عن اليمين يحلف المدعي عليه، وكم يحلف؟ قيل: فيه قولان، لأن اللوث قد بطل ههنا بنكول المدعي. والصحيح من المذهب: أن المدعى عليه. ههنا يحلف خمسين يميناً قولاً واحداً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتيل خيبر: تبرئكم يهود بخمسين يميناً؛ جعل أيمان المدعى عليهم بعدد أيمان المدعين.

فإن نكل المدعى عليه عن يمين الرد- هل ترد اليمين على المدعي - نظر: إن كان يستفيدُ بيمين الرد حكماً - لم يكن يستفيد بيمين القسامة؛ مثلُ: إن كان يدعي قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص؛ وكان لا يستفيد بيمين القسامة - القصاص، ويستفيد بيمين الرد - فله أن يحلف، وإن كان لا يستفيد؛ بأن كان يدعي قتل خطإ أو شبه مد - ففيه وجهان: أحدهما: لا ترد عليه اليمين؛ لأنه أبطل حقه بالنكول مرة. والثاني: ترد، وهو الأصح؛ لأنه نكل عن يمين القسامة، وهذه يمين أخرى، فإن قلنا: ترد - فعدد أيمانه عدد الأيمان المدعى عليه؛ وكذلك: لو ادعى قتيلاً بلا لوثٍ، فنكل المدعى عليه عن اليمين، ولم يحلف المدعى، ثم وجد اللوث، وأراد أن يحلف- هل له ذلك؟ فعلى هذين الوجهين. ولو ادعى [رجل] على رجلٍ، أنه قتل أباه عمداً، فقال المدعى عليه: بل قتلته خطأ - فالقول قول المدعى عليه مع يمينه في نفي العمدية؛ سواءٌ كان هناك لوث على القتل أو لم يكن، وكم يحلف؟ هذا يرتب على ما لو أنكر أصل القتل؛ ولا لوث هناك، إن قلنا: هناك يحلف [يميناً واحداً فههنا أولى، وإن قلنا: هناك يحلف] خمسين يميناً - فههنا وجهان، والفرق: أن هاهنا أنكر صفة القتل؛ فكان حكمه أخف من إنكار أصل القتل، فإذا حلف - وجبت الدية مخففة في ماله، مؤجلة إلى ثلاث سنين؛ إلا أن تصدقه العاقلة؛ فيكون عليهم، وإن نكل عن اليمين - حلف المدعي، [وعدد أيمانه] عدد أيمان المدعى عليه، فإذا حلف - استحق القود أو الدية مغلظة في ماله. فصلٌ تثبت القسامة للمحجور عليه بالسفه؛ وعليه: فإن ادعى هو على إنسانٍ - تسمع دعواه، ثم إن كان هناك لوث - يحلف ويأخذ وليه المال، وإن لم يكن لوث - حلف المدعى عليه، فإن نكل- حلف المدعين واستوفى القصاص؛ إن ادعى قتل عمدٍ، وإن ادعى قتل خطإ - أخذ وليه الدية، وكذلك: تصح دعوى المال من المحجور عليه، فإن نكل المدعى عليه عن اليمين - حلف المدعي، وأخذ وليه المال. وإن ادعى على المحجور عليه بالسفه- قيل: فإن كان ثم لوث - تسمع الدعوى؛ سواء

كان الدعوى بقتل عمد أو خطإ؛ فيحلف المدعين ويثبت الحكم؛ كما في حق غير السفيه، وإن لم يكن لوث - نظر: إن كان الدعوى بقتل موجب للقصاص - يسمع؛ لأن إقراره مقبولٌ، ويحلف المدعى عليه. وإن كان بقتل لا يوجب القصاص - فهل تسمع الدعوى - نظر: إن كان للمدعى بينةٌ - تسمع، وإن لم يكن له بينةٌ - هذا يبني على أنه لو أقر على نفسه بدين إتلاف - هل يقبل؟ فيه وجهان: المذهب: أنه لا يقبل [إقراره]، فإن قلنا: يقبل-تسمع الدعوى؛ رجاء أن يقر، فيثبت الحكم، وإن قلنا: لا يقبل إقراره - هذا يبني على أن النكول ورد اليمين بمنزلة البينة من المدعي أم بمنزلة الإقرار من المدعي عليه؟ وفيه قولان فإن قلنا بمنزلة البينة يسمع، وإن قلنا بمنزلة الإقرار - فلا يسمع. فأما المحجور عليه بالفلس: إذا ادعى عليه- قيل: إن كان هناك لوث - يحلف المدعي، وتجب الدية على العاقلة؛ إن كان القتل خطأ، وإن كان عمداً - ففي وجوب القصاص قولان: فإن قلنا: لا يجب- تكون الدية في مال المفلس يضارب به الغرماء، وإن لم يكن لوث- حلف المدعى عليه، فن نكل - حلف المدعي، وله أن يقتص، إن كان القتل عمداً، وإن كان خطأ - فإن قلنا: النكول ورد اليمين بمنزلة البينة - فالدية على عاقلة المفلس، فإن قلنا: بمنزلة الإقرار - فعلى المفلس، وهل يضارب به الغرماء. فعلى قولين؛ كما لو اقر على نفسه بدين - هل يقبل حتى يضارب الغرماء أم يتأخر؟ ففيه قولان. وإن كان دعوى القتل على عبدٍ - نظر: إن كان ثَمَّ لوث - تسمع الدعوى على العبد، ويحلف المدعي، فإذا حلف: فإن كان يدعي قتل عمدٍ، وقلنا: يجب القود يقتص من العبد، وإن قلنا: لا يجب القود، او كان قتل خطإ تعلقت الدية برقبة العبد، وإن لم يكن هناك لوث -نظر:

إن كان يدعي قتلاً، يوجب القصاص - فالدعوى تكون على العبد؛ لأن إقراره به مقبول، وإن كان يدعى قتلاً، لا يوجب القود - فالدعوى تكون على السيد، فإن أنكر - حلف، وكيف يحلف؟ فيه وجهان: أحدهما: يحلف على [نفي] العلم: بالله، لا أعلم أن عبدي هذا جنى؛ لأنه يمين على نفي فعل الغير. والثاني- وهو الأصح-: يحلف على البت؛ لأن العبد ماله، فكأنه ينفي فعل نفسه، وهل تسمع الدعوى على العبد - نظر: إن [كان] أراد إقامة البينة- يسمع، وإن لم يكن له بينة: إن قلنا النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار - لا يسمع، وإن قلنا: بمنزلة إقامة البينة - يسمع. ولو قتل رجلٌ في داره، وليس معه إلا عبده - فقد ثبت اللوث على العبد - فللوارث أن يحلف، ويقتل العبد؛ إن أثبتنا القصاص في القسامة، وإن لم يثبت فلا يثبت للوارث في رقبة عبده شيءٌ؛ إلا أن يكون - العبد مرهوناً؛ فيستفيد به إخراجه عن الرهن؛ لأن الجناية تتقدم على الرهن. باب ما ينبغي للحاكم أن يعلمه من الذي له القسامة وكيفية اليمين إذا ادعى قتيلاً - يستفسره الحاكم عن أربعة أشياء: عمن قتله، وأنه قتله وحده أم مع غيره، وأنه قتله عمداً أم خطأ، فإن قال عمداً - يستوصفه العمد، والحاكم ممنوع من تلقين الخصم، غير ممنوع من الاستفسار، فالتلقين: أن يقول له: قل: قتله عمداً، والاستفسار: أن يقول: كيف قتله؟ ثم إذا وصف العمد بما هو عمد - يُسأل المدعى عليه: فإن أقر- استوفى حق المدعى، بطلبه، وإن أنكر: فإن كان هنا لوث - حلف المدعى، وإن لم يكن لوث - حلف المدعى عليه بطلب المدعى، فإن نكل المدعي عليه عن اليمين - حلف المدعى، واستحق دعواه، قصاصاً كان أو دية، وإن ادعى قتل عمد، ثم وصفه بما هو خطأ، أو شبه عمد، أو ادعى قتل خطأ، ثم وصف بالعمد- هل تبطل الدعوى؟ فيه قولان:

أحدهما: تبطل؛ لأن قوله قتله عمداً - يتضمن إبراء العاقلة، وقوله: [قتله خطأ - يتضمن إبراء القاتل]؛ فلا يمكن الحكم بواحد منهما. والقول الثاني: لا تبطل، والمعول على التفسير فإن فسره بالخطأ يحلف المدعى؛ إن كان هناك لوث، وتجب الدية على العاقلة، وإن ادعى على جماعةٍ - يشترط بيان عددهم، فإن ادعى على ثلاثة، وواحدٌ حاضرٌ، وثم لوث - يقول قتله هذا مع رجلين آخرين، وكانوا عامدين، ثم يحلف على الحاضر خمسين يميناً، وهل يستحق القود - فعلى القولين في الجديد: لا يستحق؛ بل يأخذ منه ثلث الدية، ثم إذا حضر الآخران، وأقرا - فعليهما القود؛ لا يختلف القول فيه. وإن أنكرا - حلف عليهما المدعي، وفي استحقاق القود [قولان]. وإن قال المدعي: قتله هذا الحاضر عمداً مع رجلين آخرين، وكانا مخطئين، فيحلف على هذا الحاضر خمسين يميناً، ويأخذ ثلث الدية من ماله حالة، ثم إذا حضر الآخران. وأقرا: فإن صدقتهما عاقلتهما - فالثلثان من الدية على عاقلتهما، وإن كذبتهما - ففي مالهما، وإن أنكرا - حلفالمدعى عليهمان واخذ من عاقلتهما ثلثي الدية، ولو قال المدعي: قتله هذا الحاضر عمداً مع الآخرين، لا أدري حالهما - يحلف على الحاضر خمسين يميناً، ولا يأخذ شيئاً، بل يوقف الأمر على حضور الغائبين، فإن حضر الغائبان، وأقرا بالعمدية - وجب عليهما القود، وفي وجوبه على من كان حاضراً قولان: في الجديد: لا قود عليه؛ بل عليه ثلث الدية قال الشيخ: إذا قلنا: لا قود في القسامة - وجب أن يأخذ من الحاضر ثلث الدية في ماله، وإن أقرا بالخطأ - فعلى الأول ثلث الدية مغلة في ماله، وعلى الآخرين: الثلثان مخففة في مالهما؛ إلا أن تصدقهما العاقلة، فيكون عليهم، وإن حضر الغائبان، وأنكرا أصل القتل - لا يحلف المدعى عليهما؛ لأنه لا يدري ما يحلف عليه، ولا يدري الحاكم بماذا يحكم، فقال أبو إسحاق المروزي: يحلف عليهما لأن القتل معلومٌ، والجهل بالوصف لا يكون جهلاً بالأصل، فإذا حلف يحبسان، حتى يصفا القتل. ولو ادعى على رجل أنه قتل أباه، ولم يقل عمداً أو خطأ، وشهد له شاهد. لم يكن

[ذلك] لوثاً؛ لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده. ولو حلف [لا يمكنه الحكم به]؛ لأنه لا يعلم صفة القتل، حتى يستوفي موجبه. فصلٌ: في كيفية التحليف لا يحسب يمين المدعى قبل تحليف الحاكم، وكذلك: كل من توجه عليه يمين في دعوى - فلا يحسب يمينه في الحكم قبل تحليف الحاكم، ولو حلفه الحاكم قبل تصحيح الدعوى والاستفسار - لا يحسب، وإذا أراد الحاكم تحليف المدعى - يحلفه بالله الذي لا إله غلا هو، عالم خائنة العين وما تخفي الصدور. ولو اقتصر على قوله بالله - يجوز؛ يقول: بالله، لقد قتل فلان بن فلان يرفع في نسبه، ويقول: الفلاني؛ إذا كان معروفاً بلقب أو صناعةٍ، وإن كان حاضراً، فأشار إليه - كفى: قتل فلاناً، ويرفع في نسبه منفرداً بقتله عمداً أو خطأ؛ على حسب ما يدعيه، وإن ادعى على رجلين يقول: قتل فلان وفلان [فلاناً] منفردين بقتله: فإن قال المدعي عليه: إنه كان قد بريء من تلك الجراحة - لا يكون هذا إقراراً بالجرح؛ لأنه يريد من جرح يدعيه عليَّ فيزيد المدعي في يمينه؛ انه ما برأ من تلك الجراحة؛ حتى مات منها؛ ذكره الشافعي - رضي الله عنه - في باب بعد هذا. فإن قيل: أليس [أنَّ] الجاني إذا ادعى اندمال الجرح، والزمان يحتمله - كان القول قوله مع يمينه، فكيف جعلتم ههنا القول قول الولي [مع يمينه] [قلنا]: [قد] قيل [عند] وجود اللوث - يجعل القول قول الولي؛ كما بدأ بجانبه في اليمين، وقيل: أراد به إذا أقام الولي بينةً على الجرح، فقال الجاني: [كان] قد برأ من تلك الجراحة، وقال الولي لم يبرأ، واختلفا في [مضي] مدة الاندمال - فالقول قول الولي مع يمينه؛ لان الأصل عدم مضي المدة، هذا له في كيفية يمين المدعي. وإذا نكل المدعي عن اليمين، أو لم يكن هناك لوث - يحلف المدعي عليه؛ أنه ما

قتله، ولا أعان على قتله، ولا أحدث سبب قتله، ولو اقتصر على نفي القتل جاز؛ إلا أن يدعي الولي جهةً فينفيها بيمينه، وإذا أراد الحاكم التحليف - يستحب له أن يعظه، ويقول اتق الله، ولا تحلف إلا عن ثبت، ويقرأ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] الآية، كذلك: يفعل في كل ما يعم خطره مما تغلظ فيه الأيمان، وإن كان الذي توجه عليه اليمين سكراناً - لا يحلفه الحاكم؛ لأن اليمين للردع والزجر، والسكران ليس من أهله؛ غير أن الحاكم لو حلفه - يحسب على ظاهر المذهب؛ لان السكران كالصاحي في ماله، وعليه - على الصحيح - من المذهب، والله أعلم. باب: عدد الأيمان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتيل خيبر: "تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم". إذا قتل رجل، وثم لوث - قد ذكرنا أن الوارث يحلف خمسين يميناً، فلو كان له عدة من الورثة - ففيه قولان: أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يميناً؛ سواء قل ميراثه أو كثر؛ لأن اليمين إذا توجهت على جماعة - لزم كل واحد ما يلزم الواحد، لو انفرد كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى. والقول الثاني- وهو الأصح-: توزع الأيمان عليهم؛ على قدر مواريثهم، فإذا وقع الكسر في يمين - يجبر السر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"تحلفون خمسين يميناً" فلم يوجب عليهم جميعاً إلا خمسين يميناً. فعلى هذا القول: إن كان له ابنان. يحلف كل واحد خمساً وعرين يميناً، وإن كانوا ثلاثة - يحلف كل واحد سبع عشرة يميناً.

وإن كانوا أكثر من خمسين - حلف كل واحد يميناً واحدة، وإن كانوا تسعة وأربعين. يحلف كل احد يمينين، وإن كانت له بنت وأخ - فيحلف كل واحد خمساً وعشرين، وإن لم يكن إلا بنت وحدة - حلفتخمسين يميناً وأخذت نصف الدية؛ لأنه ليس معها من يحلف. ولا يستحق شيءٌ من الدية في القسامة بأقل من خمسين يميناً. وإن كانت له ابنتان - حلفت كل واحدة خمساً وعشرين [يميناً]، وأخذتا ثلثي الدية، ثم في الثلث الباقي. ينصب القاضي من يدعين ويحلف المدعي عليه، ولو كان له ابن وبنتٌ حلف الابن أربعاً وثلاثين يميناً، والبنت سبعة عشر، إن كان ابن وزوجة - حلفت الزوجة ست أيمان، والابن أربعاً وأربعين، وإن كان بنت وزوجة - حلفت البنت أربعين والزوجة عشرة؛ لأن نصيب البنت أربعة أمثال نصيب الزوجة. ولو كان له جد وأخ لأب وأم، وأخ لأب - حلف -الجد سبعة عشر، والأخ للأب والأم أربعاً وثلاثين، ولو كان له جد، وأخت لب وأم، وأخ لأب - حلف الجد خمس الأيمان، وهو عشرون يميناً، ويأخذ خمس المال، وتحلف الأخت نصف الأيمان، وهو خمس وعشرون، وتأخذ النصف، ويحلف الأخ عشر الأيمان، وهو خمس أيمان، ويأخذ العشر. ولو كان له ولدٌ خنثى - يحلف خمسين [يميناً]، ويأخذ النصف؛ يحلف خمسين يميناً؛ لاحتمال أنه ذكر، ويأخذ النصف؛ لاحتمال أنه أنثى، فيحلف أثر ما يتوهم أنه يخصه، ويأخذ من الدية أقل ما يتوهم، ثم إن كان معه عصبة من أخ أو عم - فهو بالخيار: إن شاء - حلف خمساً وعشرين، وإن شاء - صبر؛ حتى يتبين أمر الخنثى، فإن حلف - أخذ الحاكم النصف الآخر، ووقفه، فإن بان الخنثى ذكراً - كان له يمينه السابق، وإن بان أنثى - كان للعصبة، وإن لم تحلف العصبة، وصبر - لا يأخذ الحاكم النصف الباقي من المدعي عليه، حتى يتبين أمر الخنثى [وإن لم يكن مع الخنثى عصبة -لا يؤخذ الباقي من المدعي عليه، حتى يتبين أمر الخنثى] بل القاضي يحلف المدعى عليه، ولو خلف خنثيين حلف كل واحد ثلثي الأيمان أربعاً وثلاثين، [ويأخذان الثلثين، ولو خلف ابنا وخنثى - حلف

الابن الثلثين، وأخذ النصف، وحلف الخنثى النصف، وأخذ الثلث، ويؤخذ السدس الباقين ويوقف حتى يتبين أمر الخنثى. ولو خلف بنتاً وخنثى- حلفت البنت النصف، والخنثى الثلثين، وأخذ الثلث، ولا يؤخذ الباقي من المدعى عليه حتى يتبين أمر الخنثى. ولو خلف جداً وأخاً لأب وأم، وولداً لأب [وأخاً لأب]، خنثى - يحلف الجد خمس الأيمان؛ لاحتمال أن الخنثى أنثى، ويأخذ الثلث؛ لاحتمال أن الخنثى ذكرٌ، ويحلف الخ للأب والأم الثلثين؛ لجواز أن يكون الخنثى ذكراً، ويأخذ ثلاثة أخماس الدية؛ لجواز [أن يكون] الخنثى أنثى. وإن كان له ابنان - نكل أحدهما عن اليمين - يحلف الآخر خمسين يميناً؛ لأنه لا يستحق شيئاً من الدية في القسامة، وإن قل، بأقل من خمسين يميناً؛ حتى لو حلف أحدهما خمساً وعشرين، وحلف الآخر أربعاً وعشرين، ونكل عن يمين واحدةٍ - لا يستحق الأول شيئاً، حتى يكمل خمسين يميناً، ثم يأخذ النصف. وإن كان له ابنان، أحدهما صغير أو مجنون - فالبالغ العاقل بالخيار: إن شاء صبر، حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، وإن شاء - حلف خمسين يميناً، وأخذ نصيبه. وكذلك؛ إذا كان أحدهما غائباً- فالحاضر: إن شاء - صبر، حتى يحضر الغائب؛ فيحلفان ل واحد خمساً وعشرين، وإن شاء - حلف خمسين، وأخذ نصيبه، ولا يأخذ نصيب الآخر. وإنما قلنا: يحلف [خمسين يميناً؛ لأن الآخر: إذا بلغ أو حضر - ربما لا يحلف؛ كما لو كانا حاضرين، فنكل أحدهما - يحلف الآخر] خمسين يميناً، وإذا بلغ الصغير، وأفاق المجنون، وحضر الغائب - حلف خمساً وعشرين، واخذ نصيبه، ولو حلف الحاضر البالغ خمسين، ومات الغائب أو الصبي، وورث الحالف نصيبه - لا يأخذ شيئاً من نصيبه، حتى يحلف نصف الأيمان؛ كما لو جبر كسر اليمين عليه، ثم مات صاحبه - لا يحسب له ما جبر، وإن كانوا ثلاثةً، واحد منهم حاضر، ورغب في اليمين - يحلف خمسين يميناً، ويأخذ ثلث الدية، ثم إذا حضر الثاني - حلف خمساً وعشرين، وأخذ

الثلث، فإذا حضر الثالثُ - حلف سبع عشرة، وأخذ الثلث، وإن كانوا أربعةً: حاضران وغائبان - حلف الحاضران كل واحد خمساً وعشرين، وأخذ النصف، ثم إذا حضر الثالث - حلف سبع عشرة وأخذ الربع، فإذا حضر الرابع -حلف ثلاث عشرة وأخذ ربع الباقي، وإذا مات واحدٌ من المدعيين توزع حصته من الأيمان على ورثته مثل إن كانوا ثلاثة، مات واحد منهم عن اثنين - يحلف كل واحد من ابنيه تسع أيمان، وتوزع ثلث الأيمان عليهما، يُجبر الكسر، فلو مات أحد هذين الابنين قبل أن يحلف، ووارثه أخوه -حلف نصيب أخيه تسع أيمان، ولا يقال: يكمل سبع عشرة؛ لأنه يرث من الأخ، فيحلف نصيبه، وكذلك: إن كنا للقتيل ابنان، فحلف احدهما خمساً وعشرين، ومات الآخر قبل أن يحلف عن ابنين يحلف كل واحد ثلاثة عشر، فلو حلف أحدهما ثلاثة عشرة، ومات اخوه قبل أن يحلفن وورثه هذا الأخ - يحلف ثلاث عشرة، ولا يقال يملك خمساً وعشرين، أما إذا حلف أحدهما ثلاثة عشر، ونكل الآخر - بطل الربع، فيوزع ربع الأيمان على أخيه، وعلى عمه، فيحلف الأخ أربعة أيمان؛ حتى يكمل له سبع عشرة، ويحلف العم تسعة أيمان؛ حتى يكمل له تتمة أربع وثلاثين؛ على قدر ما يأخذان من المال؛ فإن العم يأخذ النصف، والأخ يأخذ الربع، وإن مات المدعي بعد أن أقسم - أخذ ورثته حصته من الدية، وإن مات بعد النكول - ليس لوارثه أن يحلف؛ لأن مورثه أبطل حقه بالنكول، بل يحلف المدعى عليه، ولو مات في خلال اليمان - فوارثه يستأنف الأيمان، ولا يبنى على ما حلف مورثه. ولو جُنَّ أو أغمي عليه في خلال الأيمان، ثم أفاق - يبنى على يمينه؛ لأن الموالاة في الأيمان ليس بشرط، حتى لو حلفه القاضي خمسين يميناً في خمسين يوماً - يجوز، ولو عزل الحاكم في خلال اليمان، وولي غيره -يستأنف الأيمان؛ كما لو عزل بعد سماع البينة قبل القضاء، وولى غيره - يشترط استئناف الدعوى وإقامة البينة، ولو ولى المعزول ثانياً - هل يشترط استئناف الأيمان؟ فيه وجهان؛ كالبينة. وإذا نكل المدعى عن أيمان القسامة - قد ذكرنا أنه هل تتعدد الأيمان في جانب المدعى عليه- على طريقين: إن قلنا: لا تتعدد - يحلف المدعى عليه يميناً واحدةً، وإن كانوا جماعة - يحلف كل واحد منهم يميناً واحدة وإن قلنا: تتعدد وهو الأصح: فإن كان واحداً - يحلف خمسين

يميناً، وإن كانوا جماعةً -س هل تتوزع عليهم أم يحلف كل واحدٍ خمسين - فعلى قولين؛ كما ذكرنا في جانبالمدعيين. وكذلك: إذا لم يكن هناك لوث، وقلنا يتعدد اليمين [في جانب المدعى عليه، وكانوا جماعة- هل تتوزع اليمان عليهم]، أم يحلف كل واحد خمسين يميناً - فعلى قولين أصحهما: توزع عليهم؛ فعلى هذا: توزع على عدد رءوسهم: ذكرهم وأنثاهم فيه سواءٌ؛ لأن أيمانهم على نفي القتل عن نفسهم، وكلهم فهي سواءٌ؛ بخلاف المدعيين؛ فإن أيمانهم لاستحقاق الدية بالإرث، وهم متفاوتون في الميراث؛ فعلى هذا: لو كان المدعى عليه اثنين: حاضر وغائب - حلف الحاضر خمسين يميناً؛ ثم إذا حضر الغائب - حلف خمساً وعشرين، وإن كانا حاضرين، فنكل أحدهما - حلف الآخر خمسين؛ لأنه لا تحصل البراءة عن شيء من الدم إلا بخمسين يميناً، على هذا القول، ويحلف لمدعي على الناكل خمسين، وإذا نكل المدعى عليه، ورد اليمين على المدعين، وهم جماعة، وقلنا: تتعدد الأيمان - هل يوزع على المدعين على قدر مواريثهم، أم يحلف كل واحد خمسين يميناً - فعلى قولين، والله أعلم. باب: ما يسقط القسامة وإذا قُتل رجلٌ، وهناك لوثٌ، وله ابنان، قال أحدهما: قتل أبانا فلانٌ، وعين رجلاً، وقال الآخر: لم يقتله لانٌ، بل كان غائباًن يوم قتله، أو قال: مات الأب حتف أنفه؛ سواء كان المكذب عدلاً أولم يكن - فهل يبطل اللوث في حق المدعي؟ - فيه قولان: أحدهما: يبطل، فتسقط القسامة؛ لأن اللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي، وإذا كذبه أخوه - لا يغلب على القلب صدقه. والثاني- وهو الأصح، واختاره المزني-: لا يبطل؛ لأن اليمين مع السبب كاليمين مع الشاهد. ولو مات رجلٌ عن ابنين، وادعى أحدهما مالاً على الآخر من جهة أبيه وأقام عليه شاهداً، وأنكره الآخر - حلف المدعي مع شاهده، وأخذ نصيبه كذلك ههنا، فإن قلنا:

تبطل القسامة - حلف المدعى عليه، ويحلف خمسين يميناً أم يميناً واحدةً؟ فعلى قولين؛ وإن نكل - حلف المدعي، وأخذ نصف الدية، وإن قلنا: لا تبطل القسامة - حلف المدعي خمسين يميناً، وأخذ نصف الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ، وقال الآخر: بل قتله عمرو - فإن قلنا: تبطل القسامة بالتكاذب- فكل واحد يحلف من عينه، وإن قلنا: لا تبطل - حلف كل واحد على من عينه خمسين يميناً، وأخذ منه نصف الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ، ورجلٌ آخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمروٌ، ورجلٌ آخر اأعرفه - فلا تكاذب ههنا؛ لاحتمال أن من جهله كل واحد منهما هو الذي عينه صاحبهن فيحلف كل واحد منهما على من عينه خمسين يميناً، ويأخذ ربع الدية؛ لأن كل واحد منهما مقر أن القاتل اثنان؛ فليس على من عينه إلا نصف الدية، ونصيبه من ذلك النصف نصفه، فإن رجعا، وقال كل واحد: عرفت أن الآخر هو الذي عينه صاحبي - حلف على الذي عينه صاحبه، وأخذ ربع الدية، ولو قال كل واحد منهما: الذي لا أعرفه ليس الذي عينه صاحبي - فقد وجد التكاذب، فإن قلنا: تبطل القسامة - فلكل واحد منهما أن يحلف على من عينه، ثم يحلف خمسين يميناً [أم يميناً واحداً؟ فعلى قولين: [إن قلنا: لا تبطل - حلف كل واحد على من عينه خمسين يميناً] وأخذ منه ربع الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ ورجلٌ آخر لا اعرفه ولا ادري، هل هو من عينه صاحبي أم لا، وقال الآخر: قتل أبانا عمرو ورجلٌ آخر لا اعرفه - وليس من عينه صاحبي - فقد وجد التكاذب ههنا من أحدهما؛ فالذي عين عمراً - لم يكذبه صاحبه- يحلف على عمرو خمسين، ويأخذ ربع الدية، والذي عين زيداً - كذبه صاحبه، فإن قلنا: تبطل القسامة بالتكذيب فلكل واحد منهما أن يحلف من عينهما، وإن قلنا: لا تبطل - يحلف كل واحد خمسين على من عينهما، ويأخذ من كل واحد ربع الدية [ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ وعمرو، وقال الآخر: بل قتله بكرٌ وخالد: فإن قلنا: تبطل القسامة بالتكذيب - فلكل واحد منهما أن يحلف من عينهما، وإن قلنا: لاتبطل - يحلف كل واحد خمسين يميناً على من عينهما، ويأخذ من كل واحد ربع الدية] ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ وحده، وقال الآخر: بل قتله زيدٌ وعمروٌ - فههنا: لم يوجد التكاذب إلا في النصف، فإن قلنا: لا تبطل السامة - فمن عين زيداً - حلف عليه [خمسين يميناً]، وأخذ منه نصف الدية، والآخر يحلف عليهما خمسين

[يميناً]، ويأخذ من كل واحدٍ ربع الدية، وإن قلنا: تبطل - فقد وجد التكذيب في النصف، فتبطل فيه القسامة، ولا تبطل في النصف الآخر؛ فهما يحلفان على زيد كل واحد خمساً وعشرين، على قول التوزيع، وعلى القول الآخر: خمسين، [ويأخذ كل واحد منهم ربع الدية، ثم الذي عين زيداً يحلفه، والآخر يحلف عمراً في قول خمسين يميناً]، وفي الآخر يميناً واحدةً. فصلٌ إذا ادعى قتلاً وحلف مع الوث [ثم] قامت بينة على أن المخلوف عليه كان عائباً يوم القتل أو أقر المدعي أني كنت كاذباً أو قامت بينة على أن القاتل غيره - يجب عليه رد الدية، ولو قال: ما أخذته [حرامٌ أو أخذته] باطلاً - سئل: فإن فسره بما قلنا: إنه لم يكن قاتلاً - يجب عليه رد ما أخذ، وإن قال: أردت به؛ أني أعتقد مذهب أبي حنيفة، وعندي: الابتداء، بيمين المدعي - قلنا: هذا المال حلالٌ لك، واجتهاد الحاكم أولى من اجتهادك؛ فلا ينقض حكمه باعتقادك؛ كما لو قضى حنفي بشفعة الجار - جاز للمحكوم له أخذه، وإن كان لا يعتقد ثبوت الشفعة للجار، وكذلك: لو مات رجل عن جارية استولدها بالنكاح، [فقال الابن لا يحل لي تملكها؛ لأن أبي استولدها من (نكاح) فصارت أم ولد له، فيقال له: هي مملوكة لك، ولا عتقن ونظيره: رجلٌ مات، وله ابنٌ، فقال الابن: أنا لا أرثه؛ لأنه كان كافراً، فيقال له بين كفره، فإن قال: كان معتزلياً أو رافضياً. يُقال له: أنت مخطيء؛ لأن الاعتزال والرفض لا يكون كفراً، ولك ميراثه، ولو ادعى قتلاً على رجل، وحلف عليه، ثم جاء آخر، وقال أنه لم يقتل أباك، بل أنا قتلته - فلا يبطل اللوث، و [لا] القسامة بإقراره على نفسه؛ لأن المر له لا يدعيه، فلو رجع المدعي عن دعواه الأول، وصدق المقر - هل له مطالبته بالدية؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن دعواه على الأول إبراء لكل من سواه. والثاني: له ذلك؛ لأن دعواه على الأول ظن من جهة اللوث، والإقرار من الثاني يقين، والظن يترك باليقين، والله أعلم.

باب: كفارة القتل قال الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ...} الآية [النساء: 92]. من قتل آدمياً محقون الدم بأمان أو بإيمان - تجب عليه الكفارة؛ سواء كان المقتول رجلاً أو امرأة، حراً أو عبداً، صغيراً أو كبيراً أو مجنوناً أو ذمياً أو مستأمناً، حتى لو قتل عبد نفسه - تجب عليه الكفارة؛ وسواء قتله عمداً أو خطأ، أو بتسبب؛ بأن حر بئر عدوان أو نصب شبكة، فسقط رجل في البئر، أو تعلق بالشبكة، ومات - تجب عليه الكفارة، وإذا ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً - تجب عليه الكفارة، ولو قتل نفسه - ففيه وجهان:

أصحهما: أنه تجب الكفارة؛ كما لو قتل غيره، وعلى ورثته إخراجها من ماله. والثاني: [لا تجب؛ كما] لا يجب الضمان.

وقال أبو حنيفة - رحمه الله-: القتل بالتسبب وإلقاء الجنين- لا يوجب الكفارة. وقال الثوري وأبو حنيفة: قتل العمد لا يوجب الكفارة. فتقول: قتل آدمي يتعقبه الضمان؛ فيوجب الكفارة، كالخطأ؛ يؤيده: أن الكفارة [لتكفير الذنوب]؛ فإذا أوجبناها على الخاطيء - فعلى العامد أولى؛ كجزاء الصيد في الإحرام؛ يستوي فيه العامد والخاطيء. ولا تجب الكفارة بقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم؛ لأن تحريم قتلهم يس بسبب أمانٍ ولا إيمانٍ. وكذلك لو قتل حربياً أو مرتداً أو زانياً محصناً أو اقتص من قاتل أبيه - فلا كفارة؛ لأن دماءهم مباحةٌ، وكذلك: لو قتل الصائل في الدفع لا كفارة عليه. ولو قتل صبي أو مجنون، أو عبد أو ذمي إنساناً - تجب عليهم الكفار، وعند أبي حنيفة: لاتجب. فنقول: من وجبت عليه الدية بالقتل - تجب عليه الكفارة؛ كالبالغ، ولو اشترك جماعةٌ في قتل واحد - يجب على كل واحد كفارة كاملة؛ كما يجب على كل واحد قصاص كامل. ولو قتل مسلماً أو مستأمناً، في دار الحرب - نظر: إن عرف مكانه - فهو كما لو قتله في دار الإسلام، فإن قصده -يجب عليه القود؛ إن كان المقتول مسلماً - أو ديةٌ مغلظةٌ في ماله مع الكفارة، [وإن كان المقتول مستأمناً - فدية مغلظة في ماله مع الكفارة] وإن لم يقصده، بل قصد غيره، فأصابه - فدية مخففة على عاقلته، والكفارة في ماله؛ سواء كان هذا المسلم أسلم، ولم يخرج إلى دار الإسلام أو خرج من دار الإسلام إليهم. وإن لم يعرف مكانه، فرمى بينهما، فأصابه؛ سواءٌ عرف أن في الدار مسلماً أو مستأمناً، أو لم يعرف - فينظر: إن رمى، ولم يعين شخصاً، أو عين كافراً فأخطأ، وأصاب المسلم - فلا قود، ولا دية، وتجب الكفارة؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

وكذلك: لو قتل في بياتٍ أو غارةٍ، ولم يعرف. وإن عين شخصاً، فأصابه، فإذا هو مسلمٌ أو مستأمنٌ - فلا قود، وتجب الكفارة، وفي الدية قولان: أحدهما: تجب؛ لأنه قصد قتله. والثاني: لا تجب؛ لجهله بحاله؛ كما لو لم يعين شخصاً. ولو دخل أهل الحرب دار الإسلام، فرمى إلى صفهم، فأصاب مسلماً - فهو كما لو رمى إلى صفهم في دار الحرب. وعند مالك - رحمه الله-: تجب الدية والكفارة بكل حال. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: إن أسلم، ولم يخرج إلينا - فلا دية، وتجب الكفارة، وإن خرج إليهم من دارنا - قال: إن كان في صف المشركين - فلا دية ولا كفارة؛ وألا - فتجب الدية والكفارة. وإن كان أسيراً - فلا دية، وتجب الكفارة. ولو قتل شخصاً قصداً ظنه كافراً؛ بأن رأى عليه زي الكفار أو رآه يعظم آلهتهم، فبان مسلماً - نُظر: إن كان في دار الحرب - فلا قود، وتجب الكفارة، وفي الدية قولان، كما ذكرنا. أصحهما: لا تجب. وإن كان في دار الإسلام -تجب الدية والكفارة، وفي القود قولان: أحدهما: لا يجب؛ كما لو كان في دار الحرب. والثاني: يجب؛ لأن الظاهر حقن دماءهن في دار الإسلام، فإن قلنا: لا يجب القود- فالدية مغلظة في ماله، أو مخففة على عاقلته، فعلى قولين. ولو قتل رجلاً نه مرتداً أوحربياً أو ذمياً [أو عبداً] أو قاتل أبيه، فبان بخلافه -يجب عليه القود، أما إذا عرفه مرتداً أو ذمياً أو عبداً فقتله، ثم بان أنه كنا قد أسلم، وعتق - تجب الدية والكفارة، وهل يجب القود أم لا؟ نص في المرتد أن القود يجب، ونص في العبد على قولين، اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من جعل الكل على قولين:

أحدهما: لا قود عليه؛ لأن الأصل بقاء كفره ورقه. والثاني: يجب؛ لأنه قصد قتل من هو مضمون الدم بالقصاص. ومنهم من قال في المرتد: يجب القود، وفي العبد قولان، وكذلك الذمي. والفرق: أن المرتد لا يترك مخلي في [دار] الإسلام، بل يقيد، ويحبس؛ فكان القاتل مفرطاً في قتله مع كونه مخلي؛ بخلاف العبد والذمي. أما إذا عرفه حربياً، فقتله، ثم بان أنه قد أسلم - فالمنصوص أنه لا يجب القود؛ فمن أصحابنا من قال هو كالمرتد، ومنهم من قال في الحربي: لا يجب القود قولاً واحداً؛ وفرق: بأن المرتد لا يخلي في دار الإسلام، بل يحبس، والحربي يترك مخلي بالهدنة، وبخلاف العبد والذمي، حيث قلنا: على قولين؛ لأنه قصد قتل من علمه مضمون الدم، وفي الحرب اعتقده مباح الدم، ولا يختلف القول: أنه يجب في هذه المسائل دية حر مسلم مع الكفارة؛ فحيث قلنا: لا يجب القود - فلو اختلف الولي والقاتل؛ فقال الولي: قتله عالماً بإسلامه وحريته، وقال القائل: لم أعلم - فالقول قول القاتل مع يمينه؛ لأنه أعلم بحاله. فصلٌ: في بيان كفارة القتل كفارة القتل مرتبةٌ؛ فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة؛ سواء كان المقتول مسلماً أو ذمياً لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فإن لم يجد الرقبة - فصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع - هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ كما في كفارة الظهار. والثاني: لايجب؛ لأن الله تعالى لم يذكره ههنا، وذكره في كفارة الظهار. فإن قلنا: يجب: فإن عجز عن جميع هذه الأنواع- هل تكون الكفارة في ذمته؛ حتى يأتي بأسرع ما يقدر عليه؟ فيه قولان:

ولو وجبت الكفارة على صبي - فوليه يعتق عبداً من مال الصبي، فإن لم يكن له ثمن رقبةٍ: فإن قلنا: للإطعام مدخلٌ فيها- أطعم عنه الولي؛ لعجزه عن الصوم، وإن قلنا: لا مدخل للإطعام فيها - فيصوم بعد البلوغ. ولو صام في حال الصغر - هل يحسب؟ [فيه] وجهان؛ بناء على ما لو أفسد الصبي حجه، وقضاه في الصغر- هل يحسب؟ فيه قولان: ولو أعتق عنه وليه من مال نفسه، أو أطعم - نظر. إن كان الولي أباً أو جداً - جاز، وجعل كأنه ملكه، [ثم ناب عنه في الإعتاق والإطعام، وإن كان وصياً أو قيماً - لم يجز؛ حتى يملكه الصبي، ويقبله الحاكم، ثم يعتقه القيم عن الصبي أو يطعم، والله أعلم. باب: الشهادة على الجناية كل قتلٍ أو جرح يوجب القود - لا يثبت إلا بشهادة رجلين عدلين، يشهدان على القتل، أو على إقرار الجاني، وما لا يوجب القود؛ مثل: قتل الخطإ وشبه العمد، وجناية - الأب على الابن، والحر على العبد، والمسلم على الكافر، وكل جرح لا يوجب قصاصاً. وإن كان عمداً، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشاهدٍ واحدٍ مع يمين المدعي؛ لأن المقصود منها المال. وإن كانت الجناية موجبة القصاص - فعفي على المال هل يثبت بشاهد وامرأتين، أو بشاهد ويمين؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأنه يريد إثبات المال. والثاني: لا يثبت؛ لأنه يثبت بالجناية، وهي كانت موجبة للقود. ولو شجه هاشمة - نظر.

إن لم يكن معها موضحةٌ- فتثبت بشهادة - رجل وامرأتين، وبشاهدٍ ويمين. وإن كان قد أوضحه، وهشمه - نص على أنه لا يثبت غلا برجين عدلين، ونص على أنه لو رمى شخصاً على شخص، فأصابه، ونفذ منه إلى غيره؛ أنه يثبت الثاني بشاهد وامرأتين، وبشاهد ويمين، اختلف أصحابنا فيه منهم من جعل فيهما قولين: أحدهما: يشترط فيهما عدلان؛ لأنها جناية يتعلق بها القصاص؛ فإن الموضحة وقتل الأول يتعلق بهما القصاص. والثاني: يثبت ما زاد على الموضحة، وقتل الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين؛ لأنه لا قصاص فيهما. ومنهم من فرق بينهما، وهو الأصح، فقال: إذا شجه هاشمة أو مأمومة -لا تثبت إلا بعدلين لأنها جناية واحدة تشتمل على ما يجب فيه القصاص، وهو الموضحة، وعلى ما لا يجب - فلا تثبت إلا بما يثبت به القصاص، بخلاف ما لو رمى إلى شخص أو طعنه، فنفذ منه إلى غيره؛ حيث يثبت الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، لأنهما جنايتان، [لا اتصال لأحدهما بالأخرى] فإن قلنا: يثبت ما زاد على الموضحة، فلا يثبت القصاص في الموضحة، وهل يثبت أرشها؟ فيه وجهان: ولا تقبل الشهادة إلا مفسرة؛ فإن كانت محتملة - فلا تقبل، فإن قالوا: ضربه بالسيف؛ فأنهر دمه، فمات، أو ضربه بالسيف؛ فوجد ميتاً - لا تقبل؛ لأنه قد ينهر الدم، ولا يموت، وقد يموت بسبب آخر فإن قالوا: ضربه بالسيف؛ فقتله، أو ضربه؛ فمات منه أو مات بعده؛ بسبب ضربه، أو قالوا ضربه بسيفه؛ فأنهر دمه؛ فمات مكانه - يثبت، وفي الموضحة-: يجب أن يصفا الموضحة ويبينا مكانها، وطولها، وعرضها. فإن قالا: ضرب رأسه، فأدماه، أو سال دمه- تثبت به الدامية، فإن قالا: ضربه، فأسال دمه - لم يثبت؛ لأنه قد يسيل بسبب آخر، ولو قالا: ضربه، فأسال دمه، فمات - تثبت الدامية، ولا يثبت القتل، لأنه لم يُضف الموت إليه؛ فيحتمل أنه مات بسبب آخر، ولو قالا: ضربه بالسيف، فوجدناه موضحاً - لا يثبت؛ حتى يقولا: ضربه، فأوضحه - تثبت الموضحة.

ولو قالا: ضرب رأسه، فأوضحهن وعلى رأسه موضحةٌ واحدةٌ - فلا يثبت القصاص فيها؛ لاحتمال أنها كانت صغيرة، فزادت، وتثبت الدية؛ لأن صغر الموضحة وكبرها في الأرش سواءٌ. وكذلك: لو شهدا أنه أوضحه، وعلى رأسه موضحتان بأن قال: أوضح إحدى هاتين - فلا يثبت القصاص ما لم يبينا، وتثبت الدية، لأن أرشها سواء. فصلٌ: في اختلاف المشهود عليه إذا ادعى رجلٌ على رجين قتلاً، وأقام شاهدين، ثم المشهود عليهما شهدا على الشاهدين؛ أنهما قتلاه، وإنما يتصور هذا في مكان واحدٍ حيث يكون الحاكم مصغياً إلى كلامهم، فبادر المشهود عليهما إلى كلمة الشهادة، فحصلت مسموعة للحاكم. أما إذا شهدا في مجلس آخر على الشاهد - لا يصغي الحاكم على شهادتهما. فإذا شهدا في ذلك المكان - لا يخلو: إن كان المدعي وليَّ الدم أو وكيله فإن كان ولي الدم: فإن صدق الأولين يثبت القصاص على الآخرين، وإن صدق الكل [أو صدق الآخرين - بطل دعواه على الكل؛ للتناقض؛ لأنه عين شخصين للقتل والآن يعين غيرهما، أو يعين أربعة. وإن كان المدعي عليه وكيله - نظر: إن كان الموكل قد عين شخصين، فأمراه أن يدعي عليهما، ففعلا: فإن صدق الوكيل الأولين - يثبت القصاص على الآخرين، وإن صدق الكل] أو الآخرين انعزل عن الوكالة، ولا تبطل به دعوى الموكل على من عينه، فإن صدق هو أيضاً الآخرين أو الكل - بطل دعواه، وإن لم يعين الموكل أحداً؛ بل قال: اطلب ثأري من رجلين من تلك الجماعة - ففي صحة هذا التوكيل وجهان: فإن جوزنا - وعليه الحكام - فإن عين الوكيل شخصين منهم، وادعى عليهما، ثم المشهود عليهما شهدا على الشاهدين: فإن صدق الوكيل الأولين - يثبت القصاص على الآخرين، وإن صدق الكل، أو صدق الآخرين - انعزل عن الوكالة، ثم الموكل: إن صدق الأولين - يثبت القصاص على الآخرين، وإن صدق الكل بطل دعواه؛ لأنه كان يدعي على اثنين؛ فقد تعدى إلى أربع وإن صدق الآخرين لا تبطل دعواه على الأولين؛ لأنه

لا تناقض في قوله، ولكن لا تقبل شهادة الآخرين؛ لأنهما صارا عدوين للأولين بشهادتهما، ولأنهما متهمان بدفع القود عن أنفسهما. ولو شهد المشهود عليهما على أجنبيين؛ أنهما القاتلان - فهو على التفصيل الذي ذكرنا، فإن كانت الدعوى من الوكيل، ثم الموكل صدق الآخرين - فله أن يدعي على الأولين، ولا تقبل شهادة الآخرين عليهما؛ لأنهما متهمان في شهادتهما؛ بدفع القود عن أنفسهما. أما إذا أقام المدعي شاهدين على رجين ثم شهد أجنبيان على الشاهدين - فهو على ما ذكرنا في التفصيل؛ إلا في شيء، وهو أن الدعوى: إذا كان من الوكيل أو لم يعين الموكل المدعى عليه - فعين الوكيل رجلين، وادعى عليهما، وأقام شاهدين، ثم شهد أجنبيان على الشاهدين، وصدق الموكل الأجنبيين - لا تبطل دعواه على الأولين، وتقبل شهادة الأجنبيين؛ لأنهما غير متهمين في شهادتهما بدفع القتل عن أنفسهما؛ إلا أن بهذه الشهادة لا تثبت؛ لأنهما شهدا قبل الاستشهاد، فإذا ادعى الولي على الأولين في مجلس، آخر، وأقام الأجنبيان شاهدين يثبت القتل. ولو ادعى، وشهدا في هذا المجلس - هل تُقبل؟ فيه وجهان: وكذلك: في دعوى المال: لو ادعى على رجلين ألفاً، وأقام شاهدين، ثم المشهود عليهما، أو أجنبيان شهدا على الشاهدان، وصدق المدعي الكل -[ثبت] المال على الأولين، ودعواه مسموعةٌ على الآخرين؛ بخلاف القتل؛ لأن المشهود به، ثم واحدٌ، والدم الذي أراقه رجلان لا يريقه آخران. وفي المال: يجوز أن يكون له على كل واحد من الأولين. والآخرين مالٌ؛ غير أن بهذه الشهادة لا يثبت المال على الأولين؛ لأنها شهادةٌ قبل الاستشهاد، فإن شهد في مجلس آخر بعد تقدم الدعوى - تسمع، وفي هذا المجلس - هل تسمع؟ فيه وجهان.

فصلٌ: في اختلاف شهادة الشاهدين إذا ادعى رجلٌ على رجلٍ؛ أنه قتل أباه، وأقام شاهدين - شهد أحدهما أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه قتله خطأ - نظر: إن كان المدعي يدعي الخطأ - فشهادة شاهد العمد لغوٌ، ويحلف المدعي مع شاهد الخطإ، وكم يحلفُ؟ فيه وجهان: أحدهما: [يحلف] يميناً واحدةً. والثاني: خمسين يميناً، على ما ذكرنا. فإن حلف - تجب الدية على عاقلة المدعي عليه مخففة مؤجلة إلى ثلاث سنين، وإن كان المدعي يدعي العمد - فشهادة شاهد الخطإ لغو، ويحلف المدعي مع شاهد العمد خمسين يميناً، وهل له أن يقتص أو يأخذ الدية من مال المدعي عليه؟ فعلى قولين: في الجديد: لا قصاص له؛ كما ذرنا في القسامة. وكذلك: لو كانت شهادتهما على الإقرار؛ شهد أحدهما أنه أقر أنه قتله عمداً، وشهد الآخر؛ أنه أقر [أنه قتله خطأ؛ إلا أن ههنا: إن كان المدعي يدعي قتل الخطإ، وحلف عليه -تكو الدية في مال المدعي عليه [مؤجلة]؛ لأنها [لا] تثبت بإقراره؛ إلا أن تصدقه العاقلة؛ فتكون عليهم. ولو ادعى قتل عمدٍ، وأقام شاهدين؛ شهد أحدهما أنه قتل أباه عمداً، وشهد الآخر أنه [قتله مطلقاً، أو شهدا على الإقرار؛ شهد أحدهما أنه أقر أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه] أقر بقتله مطلقاً، ولا تثبت صفة القتل، فيسأل المدعي عليه: فإن أقر أنه قتله عمداً - يجب عليه القصاص، وإن أقر بالخطأ - حلف على نفي العمدية، وتجب الدية مخففة في ماله إلى ثلاث سنين؛ لأنه يثبت بإقراره، وإن نكل - حلف المدعي، وله القصاص. ولو ادعى قتلاً، وأقام شاهدين، شهد أحدهما أنه قتله، وشهد الآخر؛ أنه أقر بقتله - لا يثبت القتل؛ لاختلاف الشاهدين، ويكون لوثاً تثبت فيه القسامة، ويبدأ بيمين المدعي؛ لأنه لا تضاد بين الشهادتين، ثم المدعي: إن كان يدعي قتل عمدٍ - يحلف خمسين يميناً مع أيهما شاء، وهل يجب القود؟ فيه قولان:

أصحهما: لا يجب؛ بل [تجب] الدية في ماله مغلة، وإن كان يدعي قتل خطإ، فيحلف يميناً واحدةً؛ على الأصح، ثم إذا حلف مع شاهد القتل - تجب الدية على العاقلة، وإن حلف مع شاهد الإقرار - تجب الدية في ماله مخففة مؤجلة، أما إذا شهد أحدهما؛ أنه قتله بالسيف، وشهد الآخر؛ أنه قتله بالعصا، أو شهد أحدهما أنه حز رقبته، وشهد الآخر؛ أنه وسطه، [أو شهد أحدهما؛ أنه قتله بكرةٌ، وشهد الآخر؛ أنه قتله عشيةً]، أو شهد أحدهما؛ أنه قتله يوم السبت، وشهد الآخر؛ أنه قتله يوم الأحد، أو شهد أحدهما؛ أنه قتله في الدار، وشهد الآخر؛ أنه قتله في السوق- لا يثبت به القتل؛ لاختلاف الشهادتين، وهل يكون لوثاً أم لا؟ نص ههنا، وقال: مثل هذا يوجب القسامة، وقال في موضع آخر: مثل هذا لا يوجب القسامة. فمن أصحابنا من جعل على قولين: أحدهما: يكون لوثاً، وتثبت به القسامة؛ كما لو شهد أحدهما على فعل القتل. والثاني: على الإقرار، والثاني لا يكون لوثاً، ولا تثبت به القسامة. ومن أصحابنا من قال - وهو المذهب -: إنه لا يكون لوثاً؛ لأن كل واحد من الشاهدين مُكذب للآخر؛ لأن المقتول بالسيف لا يون مقتولاً بالعصا، وكذلك نظائره؛ فلا يغلب على القلب فيه صدق المدعي؛ بخلاف ما لو شهد أحدهما على فعل القتل، والآخر على الإقرار؛ لأن كل واحد منهما غير مكذب للآخر؛ لأنه قد يقتل، ثم يقر به؛ فلا تضاد بينهما. وقوله ههنا: "إنه يوجب القسامة" غلطٌ وقع من الكاتب. فصلٌ إذا قتل رجل، وله جماعةٌ من الورثة، فأقر واحد منهم؛ أن واحداً منا قد عفا عن القود - سقط القصاص؛ سواء عين العافي أو لم يعين؛ لأن المخبر اعترف بسقوط [القود]؛ حقه عن القصاص، والقصاص إذا سقط بعضه - سقط كله، ثم إن لم يكن عين العافي - تثبت الدية لجميعهم، وإن عين العافي - نظر: إن أقر العافي بالعفو - تثبت الدية للمخبر ولغير العافي، أما العافي: إذا كان قد عفا على الدية - تثبت له الدية أيضاً، وإن عفا مطلقاً - فهل له الدية؟ فيه قولان:

فإن قلنا: مطلق العفو: لا يوجب المال، فاختلف الجاني والعافي، فقال الجاني: عفوت مطلقاً، وقال العافي: بل عفوت على الدية أو قلنا مطلق العفو يوجب المال، فقال الجاني: عفوت مجاناً، وقال العافين بل عفوت مطلقاً - فالقول قول العافي مع يمينه. وإذا أنكر المعين العفو - فلا حكم لإنكاره في القود؛ لأن القود ساقط بإقرار المخبر، وفي الدية: القول قوله مع يمينه. ولو شهد واحدٌ من الورثة؛ أن واحداً منا قد عفا نُظر: عن لم يعين العافي - لا تقبل شهادته، وهو كالإقرار في سقوط القود، وإن عين العافي - نظر إن لم يكن الشاهد عدلاً، [لا] تقبل شهادته - فهو كالإقرار، وإن كان عدلاًن شهد على واحد بعينه؛ أنه عفا عن القود، والمال - يقبل، ويحلف الجاني معه، وكذلك: لو شهد رجلٌ وامرأتان منهم - تقبل. وإنما أثبتنا بشاهدٍ وبيمينٍ، وبشاهدٍ وامرأتين؛ لان القصاص سقط بقولهم، لا على طريق الشهادة؛ ففي الخلاف في العفو عن الدية، والعفو عن المال - يثبت بشهادة رجلٍ وامرأتين، وبشاهدٍ ويمينٍ؛ فإن ادعى الجاني العفو عن القود، ولم يقر أحدٌ من الورثة - فالقول قول الورثة مع اليمين، فلو أقام الجاني شاهدين على العبد - يسمع، ولا تقبل إلا شهادة عدلين؛ لأنه شهادة على غير المال، فإن أقر الوارث بالعفو، وقال: عفوت على المال، وقال الجاني: بل مجاناً، أو قال الجاني عفوت مطلقاً، على قولنا: إنه لا يوجب المال -فالقول قول الوارث مع يمينه، فلو أقام الجاني شاهداً، وحلف معه، وأقام رجلاً وامرأتين على ما يدعيه - يُسمع. ثم الشافعي - رضي الله عنه - ذكر أنه إذا شهد واحدٌ من الورثة؛ أن واحداً منا قد عفا، [و] عينه - يحلف الجاني مع الشاهد؛ لقد عفا عن القود والدية؛ وقال أصحابنا: يكفيه أني حلف؛ لقد عفا عن الدية؛ لأن القصاص ساقط بشهادته؛ فلا يحتاج أن يحلف عليه، وتأولوا كلام الشافعي -رضي الله عنه- على أن الجاني ادعى كذلك، وأجاب المدعي عليه على حسب دعواه؛ أنه ما عفا عن القود والدية؛ [وحلف على حسب جوابه، فلو حلف على مجرد العفو عن المال - جاز].

فصلٌ: في شهادة الجار إلى نفسه لا يقبل من الشاهد شهادةٌ؛ حتى يكون خلياً عنها لا يجر بها إلى نفسه نفعاً، ولا يدفع بها عن نفسه ضرراً. فلو شهد واحدٌ من الورثة على رجلٍ؛ أنه جرح مورثي - نظر: إن كان بعد اندمال الجرح - يقبل إذا لم يكن والداً أو ولداً، وإن كان قبل الاندمال - لا تقبلُ؛ لأن أرش الجراحة يكون له؛ لو مات المجروح منها؛ كما لو شهد بعد موت المجروح على رجل؛ أنه قتل مورثه - لا تقبل، ولو شهد قبل اندمال الجراحة، فردت شهادته، ثم اندملت الجراحة، فأعاد الشهادة - لا تقبل؛ لأن شهادته رُدت للتهمة، فإذا أعادها بعد زوال التهمة - لا تقبل؛ كالفاسق، إذا شهد على شيء، فردت شهادته؛ لفسقه، ثم بعد التوبة - أعاد تلك الشهادة- لا تقبل، وقيل: تقبل؛ لأنه لم يلحقه عارٌ بالرد؛ حتى يكون متهماً في الإعادة بدفع العار؛ بخلاف الفاسق. والأول المذهب. فلو شهد، وهو غير وارثٍ؛ بأن كان أخاً للمجروح، أو عماً، وللمجروح ابنٌ - تقبل شهادته، فلو مات الابن بعد شهادة الأخ قبل موت المجروح، وصار الأخ وارثاً - نظر: عن مات الابن بعد ما قضى القاضي بشهادة الأخ والعم - لا ينقض الحكم، وإن مات قبل الحكم - لا يحكم؛ كما لو فسق الشاهد بعد حكم الحاكم بشهادته - لا ينقض الحكم، ولو فسق قبل الحكم - لا يحكم، وإن كان وارثاً يوم جرح المورث، فلم يشهد؛ حتى صار محجوباً بحدوث ابن للمجروح، ثم شهد - تُقبلُ شهادته، ولو شهد في حال كونه وارثاً، فردت شهادتهن ثم صار محجوباً، فأعاد الشهادة- لم تقبل، ولو شهد رجلٌ لمورثه بدين على إنسان في حال صحة مورثه - تقبل، وإن شهد في مرض موت مورثه - هل تقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله أبو إسحاق: لا يقبل؛ كما لو شهد أن فلاناً جرحه. والثاني- وهو الأصح-: تقبل؛ بخلاف الجرح؛ لأن هناك يثبت بشهادته السبب الذي يثبت [له] به الإرث، وهو القتل؛ فلم يقبل، وههنا، لا يثبت السبب الذي يثبت له به الإرث، بل يثبت معاملة جرت بينه وبين مورثه، ولأن بالمعاملة: يثبت الملك للمريض، ثم

ينتقل إلى الوارث، وبالقتل: يثبت للوارث؛ فكأنه يشهد لنفسه، أما بعد الموت: إذا شهد الوارث للمورث بدين - لا تقبل، وكذلك: غريمُ الميت، أو الموصى له، إذا شهد للميت على إنسان بدين- لا تقبل؛ لأن نفعه يعود إليه، وكذلك المحجور عليه بالفلس؛ إذا شهد له غريمه بدين على [إنسان لا تقبل، أما إذا لم يكن مفلساً محجوراً عليه شهد له غريمه بدين على آخر - تقبل، إن كان موسراً، وإن كان معسراً - فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل؛ لأنه يثبت لنفسه حق المطالبة. والثاني: تقبل؛ لأنه لا يتعلق حقه بما شهد له. ولا تقبل شهادة السيد لمكاتبه بالدين، أو لعبده المأذون له في التجارة؛ لأنه يثبت المال لنفسه، وكذلك لو شهد الوصي لليتيم، أو الوكيل للموكل فيما فوض إليه - لا تُقبل؛ لأنهما يثبتان لأنفسهما حق التصرف فيما يشهدان به. هذا بيان جر النفع إلى نفسه. أما بيان دفع الضرر: شهد شاهدان على رجل بقتل الخطإ - تجب الدية على عاقلة المشهود عليه. فلو شهد رجُلان من العاقلة على جرح شاهدي القتل - لا تقبل؛ لأنهما متهمان في إسقاط الدية عن أنفسهما، وكذلك: لو كان واحد من العاقلة مذكياً، فجرح شهود القتل- لا تقبلن ولو شهد فقيران من العاقلة لا يتحملان العقل على جرح شهود القتل - نص على أنه لا يُقبل. ولو شهد بعيدان من العاقلة، لا يخصهم شيءٌ من الدية؛ لحصولها من الأقربين - نص على أنه يقبل، فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين: أحدهما: يقبل في الموضعين؛ لأنه لا يجب عليهما شيءٌ من الدية؛ فلا تهمة في شهادتهما. والثاني: لا يقبل؛ لأن الفقير يلزمه إذا أفاد مالاً، والبعيد يلزمه إذا مات القريبُ، فلا تخلو شهادتهما عن التهمة. ومنهم من فرق بينهما على ظاهر النص، وهو الأصح؛ وقال: ولا تقبل شهادة

الفقير؛ لأن الغنى أمرٌ غير مستبعد؛ فإن المال غادٍ ورائحٌن والإنسان يحدث نفسه أبداً بالغنى، وقد يكون فقيراً في أول الحول، فيصير غنياً في آخره؛ فيكون متهماً في شهادتهن والبعيد لا يلزمه غلا بعد موت الأقربين، والموت أمرٌ مستبعد في عرف الناس، فلما كان الخلوص إليه بأمر مستبعد - لم يورث تهمةً في شهادته، فقُبلت. وكذلك: لو شهد شاهدان على مفلس بدين، فشهد غرماء المفلس - بجرح الشاهدين -لا تقبل؛ لأنهما يدفعان بشهادتهما مزاحمة الغريم عن أنفسهما. وكذلك: لو شهد الضامن بأن المضمون له أثر مضمون عنه عن دينه- لا تقبل؛ لأنه يثبت به براءة ذمة نفسه، والله أعلم بالصواب. باب: حكم الساحر قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. السحرُ: له حقيقةٌ عند عامة أهل العلم، ويتصور أن يفعل الساحر بسحره ما يصل به ضرره على غيره؛ قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] وقد سُحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى أياماً يُخيل إليه أنه فعل الشيء، وما فعله، حتى أوحى غليه؛ أنه سحره فلانٌ اليهودي في بئر كذا، فذهب غليه فاستخرجه، فبرأ. فإذا ثبت أن له حقيقة - فتعليمه وتعلمه وفعله-: حرامٌ، فإذا قال الرجل: أنا ساحرٌ - يقال له: صف السحر: فإن وصفه بما هو كفرٌ - فهو مرتدٌ؛ يقتل، وإن وصفه بمالا يفهم - ينهى عنه، فإن عاد إليه - يُعزر، وإن وصفه بما ليس بكفر؛ غير أنه اعتقد إباحته أو اعتقد أن قلب الأعيان إليه فهو كافرٌ يستتاب، فإن تاب؛ وإلا - قُتلَ، وإن لم يعتقدهن فتعلمه - لا يكون كفراً؛ وإن كان حراماً. وعند مالك - رحمه الله-: هو كالزندقة، [حتى لو قال: أنا أحسن السحر، ولا أعمل - فقد اعترف بالزندقة]، ولا تقبل توبته، [ويقتل]. فنقول: أجمعنا على أنه لو قال: أنا أحسن الكفر، أو الزنا - لا يجعل كافراً ولا زانياً؛ كذلك ههنا. وإذا سحر إنساناً، فمات: فإن أقر بأني سحرتهن وسحري يقتل غالباً يجب عليه القود، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: لا يجب القود؛ بناء على أصله، وهو أن القود

لا يجب إلا أن يقتل بالجرح إلا أن يتكرر ذلك منه؛ فيقتل حداً؛ لكونه ساعياً في الأرض بالفساد، وإن قال: سحرته، وسحري قد يقتل، و [قد] لا يقتلُ - فهو شبه عمد. وإن قال: سحري يقتل، ولكني سحرتُ غيره، فوافق اسمه؛ فمات - فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره؛ إلا أن تصدقه العاقلة؛ فيجب عليه. وإن قال: مرض من سحري، ومات بسبب آخر، وقال الوارث: مات من سحراه نص - ههنا - على أنه لوث، يوجب القسامة؛ فيقسم أولياء الميت خمسين يميناً، ولهم الدية وقال في "الأم": إن أن صاحب فراسٍ، حتى مات - حلف الولي، وله الدية. وإن كان يدخل ويخرج - فالقول قول الساحر مع يمينه، ولا دية عليه، وهذا كما لو جرح رجلاً، ومات بعده مدة، يندمل فيه الجرح، واختلفا؛ فقال الولي: مات من السراية، وقال الجاني: اندمل الجرح، ثم مات؛ فإن قامت بينة على أنه لم يزل متألماً حتى مات - فالقول قول الولي، وألا - فالقول قولُ الجاني؛ كذلك ههنا. ولو عان رجلاً، فمات، وأقر أنه قتله بالعين -لا شيء عليه؛ لأنه لا يحصل منه القتل بالاختيار، والله أعلم.

كتاب قتال أهل البغي

كتاب قتال أهل البغي قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. الباغي: هو الذي يخرج على الإمام العادل؛ بتأويل. فنبدأ بذكر فصلٍ في الإمامة، ثم نرتب عليه حكم من يخرج على الإمام.

فنقولُ: خلق الله تعالى العباد، وكلفهم العبادة، ولم يتركهم سُدى، وبعث إليهم الرسل؛ أئمة يهدونهم على سواء الصراط، ويعلمونهم الشرائع، وختمهم بسيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم-، [وعليهم أجمعين]- ثم بعده لم يكن للناس بُدٌّ من راعٍ يرعاهم، ووازعٍ يزعهم، وساعٍ يسعى في إحياء أمر الدين وإقامة السُّنة، وينتصف للمظلومين؛ لما في طباع الناس من التنافر؛ فاتفقت الصحابة - رضي الله عنهم - على خلافة أبي بكر الصديق ثم استخلف أبو بكر بعده عمر، ثم كانت الخلافة بعد عمر لعثمان، ثم لعلي - رضي الله عنهم-، ثم تتابعت الولاة هلم جرا إلى زماننا، فإذا أتى على الناس زمانٌ لم يكن فيه إمامٌ -: يجب على أهل الحل والعقد [منهم] أن يجتمعوا فينصبوا إماماً يقوم بإعلاء كلمة الله تعالى، وأمر الجهاد، ورعاية أمر الرعية، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإنكاح الأيامى، وغير ذلك، ثم على الناس كافة طاعته في [طاعة] الله، لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وأراد بـ "أولى الأمر": الولاة. ويشترط فيمن ينصب للإمامة أربع خلالٍ: العلم، والورع، والشجاعة، والنسب. ينبغي أن يكون عالماً مجتهداً يهتدي إلى الأحكام، ويعلمها الناس. ويكون عدلاً؛ لأن الولاية أمانةٌ، والفاسق غير أمينٍ؛ لأنه لا ينظر لدينه، فكيف ينظُرُ لغيره.

ويكون شجاعاً، يغزو بنفسه وبسراياه، ويحمي بيضة الإسلام عن الأعداء. ويكون من قريش؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "الأئمة من قريش". فإن لم يكن قرشياً، فكنانيٌّ، فإن لم يكن: فمن نسل إسماعيل - عليه السلام - فإن لم يكن، فمن العجم.

وتثبت الإمامة بأحد الأشياء الثلاثة: إما بالبيعة مثل إمامة الصديق وتثبت الإمامة أبي

بكر؛ كانت بيعة من الصحابة، - رضي الله عنهم-. أو باستخلافٍ من قبل الإمام؛ كغمامة عمر؛ كانت باستخلاف أبي بكر إياه.

ولو جعل الإمام الأمر شورى بين جماعة، فاختاروا واحداً منهم للإمامة كان كالاستخلاف؛ كما أنعمر -رضي الله عنه - جعل الأمر شورى بين ستة نفر بين عليٍّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، وقال: "فليعين خمستكم سادسكم" فاتفقوا على عثمان.

وإما بالقهر والغلبة، فإن من ظهر بشوكته، وقوته، وقهر العباد بالسيف، وتسلط عليهم-: كان والياً، عربياً، كان أو عجمياً، وإن كان عاصياً بالقهر -: تجبُ طاعته في طاعة الله، ولا يجوز الخروج عليه بالسيف، ورُوي عن عوف بن مالكٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعته". وإذا ثبتت الإمامة لرجل، فخرج عليه باغٍ فقهره، وغلب عليه - نُظر: إن ثبتت ولايته بالبيعة أو بالاستخلاف-: لا ينعزل بالقهر، وإن ثبتت بالقهر-: ينعزل، ويصير القاهر

والياً؛ لأن ولايته ثبتت بالغلبة، فزالت بزوالها. واختلفوا في العدد الذين تنعقد ببيعتهم الإمامة. قيل: لابد من أربعين رجلاً فيهم مجتهدٌ؛ لأنه أمرٌ عظيم الخطر؛ كانعقاد الجمعة تكون بأربعين رجلاً، وهل يشترط أن يكون المجتهد زائداً على الأربعين؟ فيه وجهان:

كالإمام في الجمعة، وشرطنا المجتهد؛ ليعلم أن المولى هل يصلح للإمامة؟ ولا يشترط أن يكون الكل من أهل الاجتهاد؛ لأنه يتعذر وجود ذلك. ويشترط أن يكونوا جميعاً عُدولاً من أهل الشهادة. وقيل: تنعقد ببيعة مجتهد واحدٍ، فإن عمر - رضي الله عنه- هو الذي بايع الصديق أولاً، ثم بايعه الصحابة. وقيل: لابد من مجتهدين؛ لأن أقل الجمع إثنان. وقيل: يشترط ثلاثة من المجتهدين؛ لأن مطلق الجمع ثلاثة. وقيل: أربعةٌ من المجتهدين؛ لأن الأربع أكثر عدد الشهادات. والأصح؛ أنه يشترط مبايعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء أهل العدالة دون الفسقة من البلاد المتقاربة، ثم إذا بلغ الخبر إلى البلاد البعيدة-: يجب عليهم الانقياد والطاعة.

ولا يجوز نصب إمامين في عصرٍ واحدٍ؛ لأنه يؤدي إلى الفتنة والمقاتلة، بخلاف النبوة، حيث جاز نبيان فأكثر في عصر واحدٍ؛ لأن الأنبياء معصومون عن الفتن والمشاحنة، فلو نصبوا إمامين معاً -: لا ينعقد لواحد منهما، فإن فعلوا على التعاقب-: فالأول إمامٌ،

ولا تنعقد إمامة الثاني؛ رُوي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم؛ فن الله سائلهم عما استرعاهم" وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما". وإذا بايعوا رجلاً-: ينصب خليفة من جهة الله تعالى، حتى لا يقدرون على عزله. والاستخلافُ: أن يجعله الإمام خليفة في حياته، ثم يخلفه بعد موته، فلو أوصى، له

بالإمامة من بعده -: فعلى وجهين: أحدهما: يجوز؛ كما لو استخلفه في حياته. والثاني: لا يجوزُ؛ لأنه بالموت يخرج عن الولاية؛ فلاتصح منه تولية الغير. ولا تنعقد الإمامة لفاسقٍ ولا مفضولٍ، إلا للتقية عند خوف الفتنة، وتشتيت أمر الدين. وقيل: تنعقد. ولا تنعقد لصبي، ولا لعبد ولا امرأة، ولا أعمى، ولا أخرس؛ لأنهم لا يصلحون للقضاء؛ فكيف يصلحون للإمامة، وهي فوق القضاء؟! وإذا فسق الإمام الأعم-: لا ينعزل على اهر المذهب، لما في عزله من وقوع الفتنة، بخلاف القاضي: ينعزل بالفسق.

ولو خلع الإمام نفسه - نظر: إن كان بعذر من هرم أو علةٍ -: ينعزلن ثم إن ولي غيره قبل أن خلع نفسه-: انعقدت الإمامة للثاني. وإن لم يول-: فالناس يجتمعون على تولية غيره. وإن لم يهر به عذرٌ - نُظر: إن لم يول الغير-: لاينعزل، وكذلك: إن ولي الغير، وكان الثاني دونه، وإن كان صالحاً للإمامة. وإن ولي الغير، وكان الثاني مثله، أو فوقه-: فهل ينعزل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ لأنه لا عذر له؛ فعلى هذا: إذا مات استحكمت ولاية من ولاه؛ كما لو استخلفه. والثاني: ينعزل؛ لأنه ربما علم من باطنه ما لا يصلح معه للإمامة-: فعلى هذا: لو شككنا أن الثاني [هل] يصلح للإمامة-: أم لا؟ يحمل على أنه صالح، وأن الإمام نظر فيه للمسلمين، إذا ثبت. فصلٌ الإمام الباغي هو الخارج على الإمام العادل. ولا يثبت لهم حكم أهل البغي إلا بثلاث شرائط: أحدها: أن يكون لهم قوةٌ ومنعةٌ وعدة وشوكة، ولا يقدر عليهم إلا بجيش وقتال ونكاية. والثاني: أن يكون لهم تأويل محتمل في الخروج على الإمام. والثالث: أن ينصبوا إماماً مطاعاً ويخرجوا عن قبضة الإمام، وقيل نصب الإمام ليس بشرط بعد أن خرجوا عن قبضة الإمام وولايته. فإذا اجتمع فيهم هذه الشرائط: فهم بغاةٌ لا يحكم لهم بكفر ولا فسق، حتى تقبل شهادة شاهدهم، وينفذ قضاء قاضيهم، ويقاتلهم الإمام على بغيهم مع كونهم مسلمين، لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. وكما قاتل الصديقُ - رضي الله عنه - ما بغي الزكاة؛ وكانوا يمنعونها بتأويل لا يوجب الكفر. وقاتل عليٌّ -رضي الله عنه - أهل البصرة يوم الجمل.

وقاتل أهل صفين والخوارج بالنهروان" مع كونهم مسلمين؛ ليردهم عما هم عليه من البغي. فإذا فقد شرط من هذه الشرائط؛ بأن لم يكن قوة، ولا منعةٌ، وإن تمسكوا بتأويل، أو لهم قوة ومنعة، ولا تأويل لهم، أو لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولا ولايته، ولم ينصبوا إماماً؛ فهؤلاء يقروا إن لم يقاتلوا، ولا يتعرض لهم، وإن كانوا يتجنبون جماعات المسلمين، ويكفرون الإمام، ويظهرون رأي الخوارج إلا أنهم [إذا] صرحوا بسب الإمام وسب غيره من أهل العدل-: عُزروا، وإن عرضوا فلا؛ لأن علياً -رضي الله عنه- لم يُعزر من قال: "لا حكم إلا لله". وقيل: يعزرون على التعريض، حتى لا يرتقوا إلى التصريح. وإن قاتلوا فهم فسقة وأصحاب نهبٍ؛ فحكمهم حكم قطاع الطريق؛ عليهم ما على قطاع الطريٌ. رُوي أن علياً سمع رجلاً من الخوارج يقول: "لا حكم إلا لله ولرسوله"، فقال عليٌّ: "كلمة حق أريد بها باطل" لكم علينا ثلاثٌ؛ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال". وإذا اجتمع الشرائط الثلاث في قوم، وثبت لهم حكم البغي: لا يبتدئهم الإمام شبهة كشفها لهم، وإن لم يظهروا نصحهم، ووعظهم، وقال لهم: ارجعوا إلى طاعتي، ودعوا ما أنتم عليه؛ لتكون كلمتكم وكلمة أهل دين الله على الأعداء واحدة، فإن لم يسمعوا دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يُجيبوا إليها أو ناظروا، وظهر الأمر عليهم، فأصروا على بغيهم أخبرهم: "إنا مقاتلوكم"، فإن سألوا النظرة مدةً قريبةً يوماً أو يومين-: أنظرهم؛ لعلهم يرجعون، وإن طلبوا أكثر من ذلك كالشهر والشهرين: فإن رأى الإمام المصلحة في إنظارهم؛ بأن كان بأهل العدل ضعفٌ، حتى يتقووا، أو وقعت لأهل البغي شبهةٌ، فربما تزول-: أنظرهم، وإن خاف الإمام اجتماعهم، وشوكتهم، ومكرهم في الإنظار-: لم ينظرهم. وإن أعطوا على الإنذار رهائن من الأولاد والنساء-: لم تقبل؛ لأنه لا يؤمن أن يكون

ذلك مكراً، وإن بذلوا مالاً لم يُقبل؛ لما ذكرنا؛ ولأنه يشبه ضرب الجزية على المسلمين. وإذا بدأ الإمام بقتالهم -: يقصد به دفعهم عما هم عليه، لا قتلهم؛ فيقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. والفيئة: العود إلى الطاعة، فمن عاد إلى طاعة الإمام أو قعد وألقى سلاحه-: حرم قتاله. وكذلك: إذا ولى واحدٌ منهم ظهره منهزماً -: لا يتبع؛ لأنه أمر بقتاله لا بقتله، والقتال يون مع من يقاتل إلا أن يولي ظهره متحرفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة [قريبة]، فإنه يتبع؛ رُوي عن عبد الله بن مسعود؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "يا بن أم عبدٍ، ما حكم من بغى على أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا يقتل مدبرهم، ولا يُجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم". وقيل: إذا ولى متحيزاً إلى فئة -: لايتبع؛ لظاهر الخبر: لا يتبع مدبرهم، ولا يُقتل المثخن، ولا الأسير، ونادى منادي عليٍّ يوم الجمل: "لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريح. وعند أبي حنيفة: يقتل المثخن، والمنهزم، والأسير في حال قيام الحرب. وكذلك عندنا: لا يجوز الاستمتاع بدواب أهل البغي، وأسلحتهم، إذا وقعت في أيدينا. وعند أبي حنيفة: يجوز ما دام الحرب قائمة. وبالاتفاق: لا يجوز الانتفاع بسائر أموالهم، إذا وقعت إلينا. ولا يجوز أخذ مالهم، لأن قتالهم أبيح للدفع، والرد إلى الطاعة، فبقي حكم المال على التحريم؛ كما في قطاع الطريق: لا يجوز أخذه، فإن وقعت ضرورة بأن لم يجد ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم، أو وقعت ضرورة بأن لم يجد ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم، أو وقعت هزيمةٌ، ولم يجد إلا دابة من دوابهم-: يجوز ركوبها،

كما يجوز أكل مال الغير عند الضرورة. ولو أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى مالاً أو نفساً قبل نصب القتال-: يجب الضمان، ويجب القود في النفس، وإن أتلفت في حال القتال- يُنظر: إن أتلف العادل على الباغي -: لا يجب عليه الضمان، مالاً كان أو نفساً. وإن أتلف الباغي على العادل- نظر: إن أتلف عليه مالاً -: فهل يجب عليه الضمان؟ فيه قولان: أصحهما: وهو قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة-: لا يجبُ؛ لأنهما يقاتلون عن تأويل فتأويلهم لما لم يمنع قبول شهادتهم، فيوجب سقوط الضمان عنهم؛ كأهل العدل. والقول الثاني: يجب عليهم الضمان؛ لأنهما طائفتان من المؤمنين اقتتلتا، فيجب على المبطلة ضمانُ ما أتلفت على المحقة، كقطاع الطريق: يجب عليهم ضمان ما أتلفوه على أهل الرفقة. هذا في ضمان المال أو ضمان النفس (بالكفارة والدية، أما القصاص) هل يجب على الباغي بقتل أهل العدل؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ كضمان المال. ومنهم من قال: القصاصُ لا يجب قولاً واحداً؛ لأنه يسقط بالشبهة، ولا خلاف أن ما [كان] في يد كل واحدٍ من الطائفتين من مال الأخرى بعد انقضاء الحرب -: يجب رده، فإن أتلفه: يجب عليه ضمانه، ولو أن واحداً من أهل البغي والخوارج أخذوا أمةً من إماء أهل العدل، أو من أمهات أولادهم، وجامعها-: فهو زنى؛ يجب عليه الحد، [وإذا أولدها]: فالولد رقيقٌ غير ثابت النسب؛ وكذلك: أهل الحرب إلا أن الحربي لا يحد؛ لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام، وهل يجب المهر، إن كانت مكرهة؟ قيل: فيه قولان؛ بناءً على ضمان المال. قال الشيخ: وجب أن يجب المهر قولاً واحداً، وإن كانت مكرهة، كما لو أتلف مالهم بعد الانهزام، وكذلك: ما أخذ من أموالهم-: لا يجوز إتلافه؛ إنما الخلاف فيما أتلفوا في القتال.

فصلٌ: فيما على الإمام لو أن رجلاً منع الزكاة، أو منع حق رجلٍ من: قصاص أو مالٍ-: يأخذه الإمام قهراً، فإن امتنع جماعةٌ من غير أن يكون لهم حكم البغاة-: قاتلهم الإمام، وإن أتى القتال على أنفسهم؛ وكذلك: لو أن نفراً يسيراً نابذوا الإمام يعلم أن قتلهم لا يمتنع أو كانوا كثيري العدد، غير أنهم لم يتميزوا عن أهل العدل، وكانوا في قبضة الإمام، وإن كان لهم تأويلٌ فيما أتلفوا من مال أو نفس-: عليهم الضمان والقصاص، وإن فعلوا في حال قتالٍ -: عليهم ما على قطاع الطريق. قتل ابن ملجم علياً - عليه السلام - متأولاً، فرأى عليٌّ - عليه السلام- عليه القود؛ لأنه لم يكن في متعة، وقال لولده: إذا قتلتم، فلا تمثلوا به، فقتله الحسني بن علي -رضي الله عنهما - وفي الناس بقيةٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- فلم يُنكر عليه أحد. ولو أن الإمام بعث والياً إلى هؤلاء الذين لم تجتمع فيهم شرائط أهل البغي، فقتلوه-: يجب عليهم القود، فإن علياً - عليه السلام - بعث والياً على النهروان، فقتلوه، فأرسل إليهم: أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به، فقالوا: كلنا قتله، فبعث إليهم أن استسلموا يحكم عليكم، فقالوا: لا، فصار إليهم بنفسه، فقاتلهم، فأصاب أكثرهم، وإنما فعل ذلك؛ لأنهم كانوا في قبضته وحكمه. وهل يتحتم قتل هؤلاء أم يكون على التخيير؟ فيه وجهان: أحدهما: يتحتم؛ لأنهم شهروا السلاح، وقتلوا. والثاني: لايتحتم بخلاف قطاع الطريق؛ فإن قصدهم أخذ المال والفساد، وهؤلاء قصدوا غير هذا. فصلٌ: في هل يتعرض لصبيان ونساء أهل البغي إذا حضر مع أهل البغي نساؤهم وصبيانهم وعبيدهم -: فلا يتعرض لهم، إن لم يقاتلوا، فإن قاتلوا-: يقتلون مقبلين، ويتركون مدبرين كالرجال؛ وكما يجوز دفعهم للقتل، إذا قصدوا قتل إنسان في غير] حال القتال إلا أنهم يخالفون في الأسر؛ فالرجال إذا وقعوا في الأسر تُعرض عليهم البيعة، فمن بايع منهم طوعاً خُلي سبيله، ومن لم يبايع-: يحبسهم الإمام في حال القتال، وبعده إلى أن يبايعوا الإمام، والمراهقون، والعبيد والنسوان، إذا

كانوا يقاتلون-: يحبسهم إلى انقضاء القتال ثم يخلي سبيلهم؛ لأنهم لا يطلب منهم البيعة إلا على الإسلام وإن كانوا لا يقاتلون-: لا يُحبسون أصلاً، وكذلك: حكم من لا يقاتل من الرجال، كالشيوخ والزمنى. وقيل: يحبسون جميعاً زمان القتال؛ كالرجال والشبان؛ لأن في ذلك كسر قلوبهم. والأول أصح. ويكره أن يقصد قتل ذي رحم من أهل البغي؛ كما في قتال أهل الحرب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كف أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه يوم بدرٍ، وكف أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن يوم أحدٍ. فإن قاتله قريبه لم يكره؛ كما إذا قصد قتله في غير القتال. فصلٌ: فيما لو استعان أهل البغي بأهل الحرب ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب على قتال أهل العدل، أو عقدوا لهم أماناً أو ذمة على المعاونة-: لا ينعقد؛ [لأن من شرط الذمة والأمان ألا يقاتلوا المسلمين؛ فلا ينعقد] على شرط القتال، ويجوز لأهل العدل قتل أهل الحرب مقبلين ومدبرين واسترقاقهم بعدما وقعوا في السر وقبله، وهل ينعقد لهم الأمان في حق أهل البغي؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح: ينعقد؛ لأن أهل البغي في أمانٍ منهم؛ فعلى هذا: لا يجوز لأهل البغي قتلهم واسترقاقهم، ويبلغون المأمن. والثاني: لا ينعقد؛ لأن الأمان على قتال أهل الإسلام لا يصح؛ كما في قتال أهل العدل؛ فعلى هذا: لا يجوز لأهل البغي أن يكروا عليهم فيقتلوهم ويسترقوهم، إلا أن يكونوا جاهلين بأنه لا يحل لهم إعانة المسلمين بعضهم على بعض؛ فيبلغون المأمن. وكذلك في حق أهل العدل، إذا قالوا ظننا أنه يحل لنا إعانة بعض المسلمين على بعض. أو قالوا: ظننا أنهم يستعينون بنا على قتال أهل الكفر؛ فليس لأهل العدل قتلهم مدبرين واسترقاقهم، بل يبلغون المأمن. قال الشيخ - رحمه الله-: وما أتلف الحربي على أهل العدل-: لا يجب ضمانه، وما اتلفوا على أهل البغي؛ عن جعلناهم في أمان منهم-: ضمنوا؛ وإلا فلا. ولو استعان أهل البغي بأهل الذمة - نُظر:

إن كان أهل الذمة عالمين بأنهم يستعينون بهم على قتال المسلمين، وأنه لا يجوز لهم ذلك-: صاروا ناقضين للعهد. وإن قالوا: كنا مكرهين-: يقبل قولهم، ولا ينقض عهدهم. وإن قالوا: ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على قتال بعض - نُظر: إن كان الإمام شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن قتال المسلمين -: صاروا ناقضين للعهد، وإن لم يشرط-: فعلى قولين: أحدهما: لا ينتقض عهدهم، للجهل. والثاني: ينتقض؛ لأن مقتضى عقد الذمة الكف عن القتال، فحيث قلنا: صاروا ناقضين للعهد -: انتقض أمانهم في حق أهل العدل والبغي جميعاً. ولا يجب [عليهم] ضمانُ ما أتلفوا من نفس أو مالٍ؛ كأهل الحرب، وماذا يفعل بهم؟ فيه قولان: أحدهما: يبلغون المأمن. والثاني: يقتلون أو يسترقون، فعلى هذا: يجوز في القتال قتلهم مدبرين. وإن قلنا: لا ينتقض عهدهم -: لا يتبع مدبرهم، ولا يُذفف على جريحهم؛ كأهل البغي، غير أنهم لو أتلفوا مالاً أو نفساً على أهل العدل -: يجب عليهم ضمان الكل؛ بخلاف أهل البغي: لا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في قول؛ لأن الله تعالى قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]. والعدلُ: هو التسوية ولا تسوية بين المسلم والكافر، ولأن في تضمين أهل البغي تنفيرهم عن الدخول في الطاعة، فأسقطنا عليهم الضمان، ترغيباً لهم في الدخول في طاعة الإمام؛ بخلاف أهل الصذمة: فإنا قد أمناهم على هذا القول؛ فلا يخاف بقاؤهم على الثغور، وإن استعانوا بمن لهم أمانٌ على مدة انتقض أمانهم، فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين: فإن أقاموا عليه بينةً -: فهم على العهد، وإن لم يقيموا بينة على الإكراه-: انتقض أمانهم قولاً واحداً؛ بخلاف أهل الذمة؛ لأن الأمان المؤقت ينتقض بخوف الخيانة، فانتقض بالمعاونة، وعقد الذمة لا ينتقض بخوف الخيانة؛ فلا ينتقض بالمعاونة. ولا يجوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال أهل البغي؛ لما فيه من تسليط الكفار على أهل الإسلام؛ وكذلك؛ لا يجوز أن يتخذ جلاداً كافراً لإقامة الحدود على

المسلمين، ولا لمن له القود على مسلم أن يوكل كافراً باستيفائه. أما إذا استعان بالمشركين على قتال أهل الشر -: يجوز إذا كان بالمسلمين قوة، بحيث لو انضم المستعان بهم إلى أهل الحرب-: قاومهم الإمام، ثم بعد انقضاء الحرب: يبلغون المأمن، فإن لم يكن بالمسلمين تلك القوة-: لا يجوز أن يستعين بهم، ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى قتلهم مدبرين. قيل: أراد به أعداءهم. وقيل: أراد به من يجوز قتل أهل البغي بعد الانهزام وقتل أسراهم؛ فلا يستعين بهم على قتالهم إلا أن يكون للإمام قوة ونجدة يعلم أنه يقدر على منعهم من أهل البغي، فإذا ولوا مدبرين ولا يجد من يقوم مقامهم في القتال حينئذٍ: يجوز أن يستعين بهم، وإذا اقتتل فئتان من أهل البغي-: لا يعين الإمام إحداهما على الأخرى، إلا أن تدخل أحداهما في طاعته، فيعينهم على الأخرى. هذا إذا كان الإمام يقدر على قهر كل واحدة منهما، فإن لم يقدر على قهرهما، ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله-: ضم أقربهما إلى الحق إلى نفسه، فاستعان بهم على الأخرى، وإن استويا-: اجتهد رأيه فيهما، ولا يقصد به معاونة أحداهما على الأخرى، بل يقصد الاستعانة بها على الأخرى، فإذا انهزمت الأخرى لم يقاتل الذي ضمه إلى نفسه حتى يُدعوا إلى الطاعة؛ لأنها دخلت في أمانة بالاستعانة. ولا يجوز للإمام أن يفعل بأهل البغي ما فيه استئصالهم من الرمي بالنار، والمنجنيق، والتغريق، بخلاف أهل الحرب؛ إلا أن يفعله أهل البغي، أو يحيطوا بأهل العدل؛ بحيث يخاف استئصال أهل العدل؛ فيجوز أن يفعل بهم ذلك، دفعاً عن أهل العدل. فصلٌ: فيما لو أخذوا صدقات البلد وأقاموا الحدود ولو أن أهل البغي غلبوا على بلدٍ، فأخذوا صدقات أهلها، وخراج أراضيها، وجزية أهل الذمة فيها، وأقاموا الحدود، ثم ظهر عليهم الإمام-: كان ما أخذوا منهم محسوباً، ولا شيء عليهم؛ فإن علياً - عليه السلام - قاتل أهل البصرة، ولم يتبع ما أخذوه؛ ولأنهم فعلوه بتأويل محتمل، كالقاضي إذا قضى بالاجتهاد-: لا ينقضه غيره بالاجتهاد، وإذا عاد البلد إلى أهل العدل، فادعى من عليه الزكاة دفعها إلى أهل البغي-: فالقول قوله مع يمينه، واليمين مستحبة أم واجبة؟ فيه وجهان. وإن ادعى واحدٌ من أهل الذمة دفع الجزية إليهم-: لا يقبل إلا بحجة؛ كمستأجر الدار: إذا ادعى أداء الأجرة: لا يقبل قوله إلا ببينة.

وإن ادعى من عليه الخراج أداءه إليهم، هل يقبل قوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يُقبل؛ لأنه مسلمٌ، كما لو ادعى أداء الزكاة. والثاني: وهو الأصح-: لا يقبل؛ لأن الخراج ثمنٌ أو أجرة-: فلا يقبل قول من عليه في الدفع بغير حجة؛ كثمن المبيع وأجرة الدار. ولو نصب أهل البغي قاضياً في بلدٍ - نظر: إن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل، وأموالهم-: لم يُنفذ حكمه؛ لأن من شرط القضاء العدالة، وهذا ليس بعدلٍ، وإن كان لا يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم-: نفذ حكمه فيما ينفذ فيه حكم قاضي أهل العدل، فإن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنةٍ أو إجماع أو قياس جلي-: فهو مردودٌ، حتى لو وقع واحدٌ من أهل العدل في أسرهم، فقضى قاضيهم عليه بضمانٍ [ما أتلف في الحرب-: لا ينفذ قضاؤه. وكذلك: لو حكم بسقوط ضمان] ما أتلفوا في غير حال القتال-: يُرد حكمه، وإن حكم بسقوط ضمان ما اتلفوا في حال القتال: نفذ حكمه. وإن كتب قاضيهم على قاضي أهل العدل-: يستحب أن يرده؛ استهانة وكسراً لقلوبهم، فلو قبله ونفذه-: جاز. ولو سمع قاضيهم شهادة، ولم يحكم، فكتب إلى قاضي أهل العدل-: هل يحكم؟ فيه قولان: أحدهما: يحكم؛ كما ينفذ القضاء المبرم. والثاني: لا؛ لأنه إنشاء حكم على خلاف عقيدته؛ بخلاف الحكم المبرم؛ كالحنفي إذا قضى بالشفعة للجار، أو بانقطاع الرجعة في لفظ البينونة، وكتب على قاضٍ شفعواي -: نفذه، ولو نقل الشهادة-: لايحكم. وتقبل شهادة شاهد أهل البغي، كما ينفذ قضاء قاضيهم، فلو وقع في أيدي أهل البغي أسرى من أهل العدل، وطلبوا الصلح من أهل العدل، والحرب قائمة، وضمنوا تخلية من عندهم من الأسارى، وأعطوا بذلك رهائن: قال الشافعي - رضي الله عنه-: قبلت الرهائن، واستوثقت للمسلمين، ثم ينظر: ن أطلقوا من في أيديهم من الأسارى-: أطلقنا أسراهم، فإن قتلوا الأسرى-: لم تقتل أسراهم؛ لأن القاتل غيرهم، ثم إن كانت الحرب قائمة-: لا نطلقهم، فإذا انقضت أطلقناهم؛ كسائر الأسارى، والله أعلم.

ولو أمن واحدٌ من أهل العدل رجلاً من أهل البغي-: نفذ أمانه، سواء كان العدلي رجلاً أو امرأة، حراً أو عبداً؛ كأمان الحربي. وحُكمُ دارِ البغي حكم دار الإسلام، حتى تقام فيها الحدود. ولو امتنع أهل البغي بدارهم، وفعلوا فيها ما يوجب الحد: فإذ ظهر الإمام عليهم-: أقام الحد. وعند أبي حنيفة: لا حد، وعنده حكم دار البغي حُكمُ دار الحرب. باب حكم المرتد رُوي عن ابن عباس؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"من بدل دينه، فاقتلوه". إذا ارتد [مسلمٌ] مكلفٌ عن الإسلام، إلى أي دينٍ كان، من دين أهل الكتاب، أو من دين أهل الأوثان، أو إلى الزندقة، والتعطيل-: يجب قتله، رجلاً كان أو امرأة، حراً كان أو عبداً، وسواءٌ كان مسلماً أصلياً فارتد، أو كان كافراً فأسلم، ثم ارتد. وقال أبو حنيفة: لا تقتل المرأة بالردة، بل تحبس، وتضرب على أن تموت أو تُسلم. والخبر حجةٌ عليه؛ ولأن من تقتل بالزنا بعد الإحصان-: تقتل بالكفر بعد الإيمان؛ كالرجل. يستتاب المرتد، وهل تجب استتابته أم تستحب؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ لعله يتوب. والثاني: يستحب؛ لأنه عرف الإسلام. فإن قلنا: يجب أو يستحب، فهل يمهل ثلاثاً؟ فيه قولان: أصحهما: يستتاب، فإن لم يتب قتل في الحال؛ لما رُوي عن جابر، أن امرأة يُقال لها أم رومان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُستتاب فن تابت وإلا قتلت". والثاني: يمهل ثلاثاً، وهو قول مالك وأحمد - رضي الله عنهما - لما روي؛ "أن رجلاً

قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- من قبل أبي موسى الأشعري، فسأل هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم، رجلٌ كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه، فضربنا عنقه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاًن واستتبتموه لعله يتوب، اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني". وعلى الأقوال كلها: لو قتله قاتلٌ قبل الاستتابة-: لا ضمان عليه، ولا كفارة. وإذا عاد المرتد إلى الإسلام-: يسقط عنه القتل؛ سواء أكانت ردته إلى كفر ظاهر، أو إلى كفر يستتر مثلُ: كفر الباطنية، وسواء أكان مولوداً على الإسلام، فارتد ثم أسلم، أو كان كافراً أصلياً، فارتد بعدما أسلم ثم أسلم، وكذلك: الكافر الأصلي إذا أسلم-: يصح إسلامه، وتسقط عنه عقوبة الكفر؛ سواءٌ أسلم عن كفر ظاهر أو كفر باطن لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وقال مالك وأبو يوسف: من تاب عن كفر يستتر -: لا تقبل توبته. وقال الشيخ القفال الشاشي - رحمه الله-: إن كان داعياً إلى كفر الباطنية-: لا تقبل توبته. وكان أبو إسحاق الإسفراييني - رحمه الله- يقول: إن جاء تائباً ابتداءً -: تقبل توبته، وإن تاب بعدما أخذ ليقتل-: لاتقبل. ولو ارتد، ثم أسلم، ثم ارتد، ثم أسلم-: قُبِلَ إسلامه، وإن تكرر ذل منه مراراً، غير أنه إذا ارتد ثانياً، ثم أسلم-: يعزر في الثانية، وما بعدها؛ لأنه يجوز أن يكون له شبهة في الأولى، فإذا عاد عُزر على تهاونه بالدين. وقال أبو حنيفة: يُحبس في الثانية تعزيراً. وقال أبو إسحاق: إذا ارتد ثانياً، ثم أسلم-: لا تقبل منه. والمذهب: أنه يقبل؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. فصلٌ: في حكم مال المرتد من ارتد، وله مال-: هل يزول ملكه بالردة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يزول ملكه، فإذا أسلم: يعود ملكه؛ لأنه بالإسلام عصم دمه وماله، فإذا زال

بالردة الإسلام [زال عصمة دمه، وكذلك، عصمة ماله؛ ولأنه أحد الملكين؛ فيزول بالردة، كملك النكاح. والثاني: لا يزول ملكه، وهو اختيار المزني، لأن الكفر لا ينافي الملك؛ كالكفر الأصلي، ولأن إباحة الدم لا توجب زوال الملك؛ ما لو زنى، وهو محصنٌ: [جاز] قتله، ولا يزول ملكه. والثالث - وهو الأصح-: يكون موقوفاً: فإن مات، أو قُتل في الردة-: بان أن ملكه كان زائلاً بالردة، وإن عاد إلى الإسلام-: بان أنه لم يزل ملكه. وكذلك: الأقوال الثلاثة في حصول الملك له ابتداء بالاحتطاب والاصطياد. فإن قلنا: مله باقٍ -: حجر عليه، أو قلنا: موقوفٌ: فالقاضي يحفظ عليه ماله، ويؤاجر عبيده، وينفق عليه من كسبهم، وإن رأى بيع الحيوان دفعاً لمؤنة النفقة-: فعل. وعلى الأقوال كلها: لا يعتق بالردة مدبرة وأم ولده؛ لأن عتق المدبر معلقُ بالموت، وعتق أم الولد متعلق باليأس عن الاستفراش، ولم يوجد واحدٌ منهما. وعلى الأقوال كلها: يقضي من ماله ديونه التي لزمته قبل الردة، ونفقة زوجته التي لزمت قبل الردة، حتى لو مات أو قُتل في الردة-: يقضي من تركته هذه الحقوق، وإذا كان ببعض الديون رهنٌ-: لا ينفك الرهن، كما لو مات في غير الردة، فكذلك: ما يلزم من الديون بعد الردة من ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الزوجة إلى يوم نكاحها، ونفقة الأقارب -: تؤدي من ماله؛ كما لو حفر بئراً عدواناً، ثم مات، فوقع فيها شيءٌ، فهلك-: يؤخذ الضمان من ماله، وإن زال ملكه بالموت. ولو قتل المرتد إنساناً-: يجب عليه القصاص، ويقدم قتل القصاص؛ لأنه حق الآدمي، ومبناه على الشح، فلو عجل الإمام فقتله عن الردة، أو مات المرتد، أو عفى المجني عليه عنه على الدية-: تؤخذ دية القتيل من ماله، وإن كان قتله خطأ-: تؤخذ الدية من ماله في ثلاث سنين، فإن مات أو قتل-: فالردة تؤخذ من تركته عاجلاً؛ لأن الآجل يسقط بموت من عليه الدين. وقال الإصطخري: إذا قلنا ملكه زائلٌ-: لا يجب ضمان ما أتلف بعد الردة ولا نفقة الزوجة والقريب، ابتداء. الأول المذهب: أنها تجب على الأقوال كلها. وفائدة هذه الأقوال: تبين في تصرفاته: فإن تصرف المرتد في ماله ببيع أو شراء أو

هبةٍ أو صدقةٍ أو عتقٍ أو كتابةٍ أو تدبير أو وصيةٍ-: هل ينفذُ أم لا؟ إن قلنا: ملكه زائل-: لا يصح شيءٌ منها؛ لأنه يصير محجوراً عليه بنفس الردة. وإن قلنا: ملكه باقٍ-: فلا يصير محجوراً عليه، حتى يحجر عليه القاضي، فقبل الحجر: تنفذ تصرفاته، [وبعد الحجر: هل تنفذ]؟ هذا مبنى على أن حجره حجر السفه، أو حجر الإفلاس؟ وفيه وجهان: أحدهما: حجر السفه؛ لأن الردة أعظم أنواع السفه. والثاني- وهو الأصح-: حجره حجر الإفلاس؛ لأنه تعلق بماله حق المسلمين؛ كما تعلق حق الغرماء بمال المفلس. فإن قلنا: حجره حجر سفه - فلا تنفذ تصرفاته؛ كما لا تنفذ تصرفاته السفيه، وإذا أقر بدين، عليه لا يقبل. وإن قلنا: حجره حجر الإفلاس: ففي تصرفاته قولان: أحدهما: باطلٌ. والثاني: موقوفٌ: فإن أسلم-: بان أنه وقع صحيحاً، وإن أقر بدين-: ففيه قولان: أحدهما: يقبل. والثاني: إن أسلم قُبِلَ؛ وإلا فلا. وإن قلنا: ملك المرتد موقوفٌ، فكل تصرف يقبل الوقف؛ كالعتق] والتدبير، والوصية-: يكون موقوفاً: فإن ألم نفذ، وإن مات أو قُتِلَ في الردة-: فباطل. أما بيعه وهبته وكتابته -: فعلى قولي وقف العقود. في الجديد: لا يصح. وفي القديم: توقف: فإن أسلم صح؛ وإلا فلا. وعند أبي حنيفة: تصرف المرتد موقوفٌ-: فإن أسلم جاز، وإن التحق بدار الحرب أو قتل في الردة-: فباطل. وتصرف المرتد عنده جائز. وعند أبي يوسف تصرف المرتد نافذٌ.

وقال صاحب "التلخيص": تصرفات المرتد على ثلاثة أقوال: أحدها: جائزة. والثاني: باطلة. والثالث: موقوفة: فإن أسلم جازت؛ وإلا فلا، إلا في مسألة واحدةٍ، وهي الخلع؛ فإنه موقوفٌ: فإن أسلم في العدة جاز؛ وإلا بطل، والأمر كما قال، فإن المرتد إذا خالع زوجته نتوقف: فإن جمعهما الإسلام صح الخلع بالمسمى؛ وإلا كان باطلاً؛ لأن المقصود منه الطلاق الذي يقبلُ التعليق بالحر؛ ألا ترى أن رجلاً لو قال لامرأته: متى أعطيتني ألفاً، فأنت طالقٌ، فأعطت-: طُلقت، وملك الزوج الألف، فهو كما لو طلق امرأته-: يتوقف؛ فإن جمعهما الإسلام-: وقع؛ وإلا فلا. ولا يصح نكاح المرتد قولاً واحداً، سواءٌ تزوج بنفسه، أو زوج غيره، وسواءٌ نكح مسلمةً أو كافرةً؛ لأنه لا يقر على دينه، والنكاح يراد للدوام، وقيل: إذا قلنا: ملكه لا يزول، ولم يكن حجر عليه السلطان-: يجوز له تزويج أمته؛ كما تصرف في ماله؛ وليس بقوي. ولو ارتد، وعليه دينٌ مؤجل. إن قلنا: زال ملكه-: حل الأجل؛ كما لو مات. ولو قلنا: موقوفٌ: فإن عاد إلى الإسلام-: بان أنه لم يحل، وإن مات أو قتل-: بان أنه قد حل بالردة، فيقضي من ماله. وإن قلنا: لا يزول ملكه وحجر عليه، فإن قلنا: حجره حجرُ السفه: لا يحل الأجل، وإن قلنا حجر الفلس -: فعلى قولين؛ كدين المفلس، وإذا استولد المرتد جاريته: إن قلنا: ملكه باقٍ-: فهو نافذٌ، وإن قلنا: زائلٌ-: فلا ينفذ، فإذا أسلم-: هل ينفذ، فعلى قولين، كالمشتري إذا أجل المشتراة في زمان الخيار، وقلنا: الملك للبائع لا ينفذ، فإذا تم البيع-: ففيه قولان. وإن قلنا: الملك موقوف-: فإن لم يعد إلى الإسلام-: لم ينفذ، وإن أسلم-: نفذ، وإذا التحق المرتد بدار الحرب-: لا يسترق، ولا يسبى أطفاله؛ وكذلك المرتدة؛ فلا تُسبى؛ لأن المرتدة لا يجوز تقريرها على الكفر، وحكم الردة لا يثبت في الأولاد حتى لو ارتدت [المرأة] وهي حاملٌ-: لا يحكم بردة الولد، ولو خرج فبلغ، وأعرب عن الكفر-: يكون مرتداً بنفسه، فيقتل.

وعند أبي حنيفة: المرتدة، إذا التحقت بدار الحرب-: [تسترق، والمرتد إذا التحق بدار الحرب]-: تسبى أطفاله، ويكون كموته حتى يورث ماله، ويعتق مدبره وأم ولده عنده، فإذا عاد يُرد إليه ماله، ولا يرد العتق. أما إذا حدث الولد في حال الردة، وانفصل في الردة - نظر: إن كان أحد الأبوين مسلماً، والآخر مرتداً-: فالولد له محكومٌ بالإسلام؛ كالمتولد بين المسلمين. وإن كان الأبوان مرتدين-: ففي الولد قولان. واختلف أصحابنا في كيفية القولين. منهم من قال: أحد القولين: أنه كافر أصلي؛ كولد الحربيين؛ لأنه متولد بين كافرين، ولم يباشر الردة، حتى يجعل مرتداً. والقول الثاني: يحكم له بالردة؛ لأنه يحكم للولد بحكم الأبوين، غير أنه لا يقتل، ما لم يبلغ، فإذا بلغ يُستتاب، فإن لم يتب قتل. ومنهم من قال: لا يجعل مرتداً قولاً واحداً، بل فيه قولان: أصحهما: وهو الذي ذكره صاحب "التلخيص"-: أن الولد مسلمٌ؛ لأن حرمة الإسلام باقية في المرتد، ولذلك: لا يقر بالجزية، ويطالب بأحكام الإسلام من الصلاة وغيرها؛ فعلى هذا: إذا بلغ، وأعرب عن الكفر-: يجعل مرتداً، ويقتل، وله حكم المسلمين في حال الصغر، حتى يجري التوارث بينه وبين أقاربه المسلمين، ويجوز إعتاقه عن الكفارة، إن كان عبداً. والقول الثاني: هو كافرٌ أصلي؛ لأنه متولد من كافرين، [كالمتولد بين كافرين] أصليين؛ فعلى هذا: إذا بلغ الولد، ولم يسلم-: يلتحق بالمأمن، ولا يجوز تقريره بالجزية؛ لأنه ليس له حرمة الكتاب. وإذا وقع في الأسر -: يجوز للإمام أن يمن عليه، وأن يفاديه ويجوز استرقاقه، والهدنة معه، بخلاف الأبوين: لا يقران بالاسترقاق، والهدنة؛ لتركهما الإسلام بعد الإقرار به.

وقال أبو حنيفة: إن ولد في دار الإسلام-: لا يسترق، وإن ولد في دار الحرب-: يسترق، وإن كان أحد الأبوين كافراً أصلياً والآخر مرتداً. قال الشيخ-رحمه الله-: إن قلنا: إذا كان الأبوان مرتدين: يكون الولد مسلماً، فههنا: الولد يكون مسلماً؛ كما لو كان أحد الأبوين مسلماً. وإن قلنا هناك: يكون الولد مرتداً أو كافراً أصلياً فههنا: يكون الولد كافراً أصلياً؛ يجوز تقريره بالجزية، إذا كان الأصلي ممن يُقر بالجزية؛ كما لو كان أحد الأبوين مجوسياً، والآخر وثنياً-: يجوز تقرير الولد بالجزية؛ اعتباراً بخير الأبوين وإذا كان الأصلي كتابياً: تكون ديته دية أهل الكتاب؛ لأن الاعتبار في الدية بخير الوالدين. وإن كان الأب كتابياً، والأم مرتدة، هل تحل ذبيحته ومنكاحته؛ فعلى قولين، كما لو كان الأب كتابياً والأم وثنية. ولو أن ذمياً أو مستأمناً نقض العهد، والتحق بدار الحرب، وترك- عندنا - أولاداً لا تُسبى أولاده، وإن مات الأبُ. فإن بلغ الأولاد، وقبلوا جزية آبائهم-: تركوا، وإن لم يقبلوا-: لا يُكرهوا عليه، بل يبلغون المأمن، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: يُكرهون على قبول الجزية. فصلٌ: في حكم السكران حُكم السكران حكم الصاحي فيما لو وعليه؛ هذا هو المذهب، حتى لو ارتد في حال سكره، أو أقر به-: يجب عليه القتل، ولو زنى أو أقر به-: يجب عليه الحد، ولكن لا يُقتل، ولا يحد حتى يفيق فيعرض عليه الإسلام، إذا كان قد ارتد. وهل تصح استتابته في السكر؟: قيل: تصحُّ؛ كما تصح ردته، ويستحب أن يؤخر. وقيل: لا تصح، ويؤخر؛ لأن شبهته لا تزول في السكران، فلو قتله رجل فيحال سكره-: لاشيء على عاقلته، ولو عاد إلى الإسلام في حال سكره-: يصح إسلامه، فلو قتله رجل بعده-: يجب عليه القود، إلا على قول من يقول: قول السكران صحيحٌ فيما عليه دون ماله؛ فحينئذٍ: لايصح إسلامه في السكر. ولنا قول أنه لا حكم لقول السكران، فلا تصح ردته، ولا إسلامه؛ فعلى هذا: لو ارتد

في حال سكره، فقتله قاتلُ-: يجب عليه القود، وقيل: لاقود عليه للشبهة، وتجب الدية. والأول المذهب: أنه كالصاحي. وقد قال الشافعي -رضي الله عنه- في"الأم": لو ارتد، وهو مفيق، ثم شرب، فسكر، فأسلم، وهو سكران: صح، ولا أطلقه، حتى يفيق فأعرض عليه الإسلام، فإن قبل؛ وإلا قتلته. أما ما كان من حقوق العباد؛ من قصاص، أو حد قذف: يقام عليه في حال السكر، إذا طلب صاحبه، سواءٌ ثبت عليه ببينة أو بإقراره في حال الإفاقة، أو في حال السكر، إذا طلب صاحبه، سواءٌ ثبت عليه ببينة أو بإقراره في حال الإفاقة، أو في حال السكر، وكذلك: الحقوق المالية لله تعالى أو للعباد، إذا لزمته، أو أقر بها في حال الإفاقة، أو في حال السكر: يستوفي إلا على القول البعيد الذي يقول: لا حكم لقول السكران، فما أقر به في حال السكر -: لا يلزمه. ولو ارتد رجل، أو أقر على نفسه بالزنا، ثم جُن-: لا يقتل، ولا يقام عليه الحد؛ لأنه قد يسلم، فيسقط عنه قتل الردة، ويرجع عن إقراره بالزنا، فيسقط حد الزنا؛ بخلاف ما لو أقر على نفسه بقصاص، أوحد قذف، ثم جن-: يستوفي منه في جنونه؛ لأنه لا يسقط بالرجوع، ولو قامت عليه بينة بالردة، فجُن-: لا تقبل في جنونه، ولو قامت عليه بينة بالزنا فجن-: يحد لأن قتل الردة يسقط بالإسلام، وقتل الزنا إذا ثبت بالبينة-: لايسقط إلا على قول من يقول: يسقط بالتوبة؛ فلا يقام في حال الجنون. قال الشيخ - رحمه الله-: وهذا كله على طريق الاحتياط، فلو قتل في حال الجنون، أو أقيم عليه الحد، فمات-: لا يجب [عليه] شيء. فصلٌ: فيمن يقتل المرتد قتل المرتد يكون إلا الإمام، فلو قتله غيره بغير أمره-: يعزر؛ لتفويته على الإمام، ولا قود عليه ولا دية، ولا كفارة؛ لأن قتله مباح، ودمه هدرٌ. ولو ارتدت جماعةٌ، وامتنعت بمنعه-: يجب على الإمام أن يقاتلهم؛ كما قاتل أبو بكر -رضي الله عنه- ويبدأ بقتالهم على قتال غيرهم من الكفار؛ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]؛ وكذلك: فعل أبو بكر - رضي الله عنه- لأن جنايتهم أغلظ؛ لأنهم أنكروا بعد الاعتراف؛ ولذلك: لا يُقرون على كفرهم لا باسترقاق، ولا جزية، ولا هدنة، وهم أهدى إلى عورات المسلمين، ويتبع في القتال مدبرهم، ويُزفف

على جريحهم، ثم من ظفر به منهم يستتيبه: فإن تاب وألا قتل، وفي الإمهال ثلاثاً قولان. وما أتلف المسلمون عليهم في حال القتال من نفس ومالٍ-: لا يجب ضمانه. أما ما أتلف أهل الردة على المسلمين في حال القتال-: هل يجب عليهم ضمانه؟ اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ كما في أهل البغي. ومنهم من قال: هذا يرتب على أهل البغي: إن قلنا هناك: يجب الضمان -: فههنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب الضمان-: فههنا قولان أصحهما: وهو اختيار المزني -:يجب الضمان؛ لأنهم جنوا على الإسلام بلا تأويل، وكذلك: لا ينفذ قضاء قاضيهم؛ فهم كقطاع الطريق بخلاف البغاة. ومنهم من عكس الترتيب، فقال إن قلنا هناك: لا يجب الضمان فههنا: أولى؛ وإلا فقولان. والفرق: أن أهل الردة كفار؛ فلا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال؛ كأهل الحرب، وروي أن أبا بكر قال لقوم من أهل الردة، [جاءوا تائبين]: "تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم" فقال عمر - رضي الله عنه-"لا نأخذ لقتلانا دية" فيحتمل قول عمر - رضي الله عنه-: لا نأخذ لقتلانا دية أي: لا يجب، أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى غليه اجتهاد أبي بكر، ويحتمل أن يكون رأيه موافقاً لرأي أبي بكر، غير أنه قال: لا نأخذ؛ استمالة لقلوبهم، وترغيباً لهم في الإسلام. أما ما أتلف بعضهم على بعض في غير حال القتال من المال-: يجب ضمانه، أما النفس-: فلا يجب على المسلم ضمان بقتل المرتد، ويجب على المرتد القصاص بقتل المسلم. فلو قال المرتد: ناظروني واكشفوا عني وعن حجتي-: لا يناظر؛ لأن حجة الإسلام ظاهرة؛ فلا يجحدها إلا متعنت. وقيل: يناظر. فصل: فيما يصير به الكافر مسلماً رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى

يقولوا: "لا إله إلا الله" فمن قال: "لا إله إلا الله"-: عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله". إذا أسلم كافرٌ أو تاب مرتد-: شرط الشافعي -رضي الله عنه- أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويتبرأ من كل دين يخالف الإسلام. وذكر في موضع: أنه إذا أتى بالشهادتين-: حكم بإسلامه: وذلك يختلف باختلاف عقائدهم: فإن كان الكافر وثنياً أو ثنوياً، لا يقر بالوحدانية: فإذا قال: "لا إله إلا الله"-: يحكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول سائر الأحكام؛ وفيهم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا إله إلا الله". والتبرؤ عن كل دين يخالف الإسلام مع الإتيان بالشهادتين-: مستحب في حق هذا. وإن كان يقر بالوحدانية غير أنه ينكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -فلا يحكم بإسلامه، بمجرد كلمة التوحيد، حتى يقول: محمد رسول الله"، فإذا قال-: يحكم بإسلامه، إلا أن يكون من الذين يقولون: "محمد مبعوث إلى العرب خاصة"، أو يقول: "إن محمداً نبي سيبعث بعد هذا غير هذا" فحينئذٍ: لا يحكم بإسلامه، حتى يقول: "محمد رسول الله بعثه إلى كافة الخلق"، أو يتبرأ من كل دين خالف الإسلام. ويستحب أن يمتحن بالإيمان بالبعث كل كافر يسلم، وإن كانت ردته بجحود فرض، أو استباحة محرم-: فلا يصح إسلامه، حتى يأتي بالشهادتين، ويرجع عما اعتقده؛ لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده. ولو قال الكافر: أنا ولي محمد، أو: أنا أحب محمداً-: لا يكون إسلاماً؛ لأنه يحبه للخصال الحميدة التي كانت فيه؛ وكذلك: لو قال: أنا مثلكم، أو: أنا مؤمن، أو: مسلم، أو: أسلمت، أو: آمنت: لا يحكم بإسلامه؛ لأنه يريد: أنا بشر مثلكم، أو: أنا مؤمن بموسى أو بعيسى، أو أنا مسلم، أي: منقاد. ولو قال: أنا من أمة محمد، أو دينكم حق يحكم بإسلامه، ولو أقر بركن من أركان الإسلام على خلاف عقيدته؛ مثل إن أقر بفرضية الصلوات الخمس، أو بفرضية واحدة منها، أو بتحريم الخمر والخنزير، وكان يعتقد إباحتها-: يحكم بإسلامه؛ لأن المسلم لو جحده-: يكفر، ثم إذا حكمنا بإسلامه-: يجبر على قبول سائر الأحكام، فإن لم يقبل-: قُتل؛ كالمرتد.

وجملته: أن ما كان من شرائع الإسلام، ويصير به المسلم كافراً إذا جحده-: يصير الكافر به مسلماً، إذا اعتقده، وإذا أقر اليهودي برسالة عيسى في قول-: يجبر على الإسلام؛ لأن المسلم لو جحده-: يكفر، ولو أن مسلماً جحد رسالة واحدٍ من الأنبياء، أو كذب بآية من القرآن، أو أنكر فرضية ركعة من الصلوات المس، أو فرضية ركن من أركان الإسلام، أو استحل شيئاً من محارم الشرع مما اجتمعت عليه الأمة-: يكفر. ولو أكره كافرٌ على كلمة الإسلام، فتكلم نظر: إن كان الكافر حربياً أو مرتداً-: يحكم بإسلامه؛ لأنا نقتلهم على الكفر، ولا إكراه فوق القتل، وإن كان ذمياً-: ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بإسلامه؛ لأن الإسلام فرض عليه؛ كالحربي. والثاني: وهو الأصح-: لا يحكم بإسلامه؛ لأن المكره غير محق في إكراهه، فإن علينا ألا نتعرض له في دينه بعد بذل الجزية؛ كما [لو أكره إنسانٌ على الطلاق، فطلق -: لا يقع]. ولو أكره مسلم حتى تكلم بكلمة الكفر-: لا يحكم بكفره؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. ويجوز له أن يتكلم بكلمة الكفر، إذا أكره عليه، ولكن الأفضل ألا يتكلم؛ لما رُوي عن خباب بن الأرت؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "كان الرجل ممن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنين، وما يصده عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه". ومن أصابنا من قال: إن كان ممن يرجو-: من نفسه النكاية في العدو، والقيام بأحكام الشرع-: فالأفضل أن يتلفظ به؛ ليدفع القتل عن نفسه؛ لما في بقائه من صلاح المسلمين، وإن كان لا يرجو ذلك-: فالأفضل أن يختار القتل. ولو شهد شاهدان على رجل بالردة، فأنكر المشهود عليه، وقال: أنا مسلمٌ -: لا يقنع منه بهذا، حتى يقر بما يصير به الكافر مسلماً؛ بخلافه ما لو شهد أربعة على رجل أنه قد أقر بالزنا، فأنكر المشهود عليه-: لا يحد؛ لأنه إذا رجع عن إقراره بالزنا-: يسقط عنه الحد،

وإنكاره رجوع عن إقراره، وقيل: المرتد لا سقط بقوله: "رجعت"، فلم يسقط بالإنكار بعد شهادة الشهود. فلو ادعى المشهود عليه؛ أني كنت مكرهاً على التلفظ بكلمة الكفر - نظر. إن كان أسيراً في أيدي الكفار-: يقبل قوله مع يمينه، وإن كان مخلي-: لا يقبل قوله، سواء كان في دار الإسلام، أو في دار الحرب. ولو دخل مسلم دار الحرب، فكان يأكل معهم لحمر الخنزير، ويشرب الخمر، ويعم آلهتهم-: لا يحكم بكفره، فإن كان يسجد للصنم، أو يتكلم بكلمة الكفر-: فيحكم بكفره، فإن ادعى:"أني كنت مكرهاً فيه"- نظر: إن كان يفعله في مكان خال-: لا يقبل قوله؛ كما لو فعله في دار الإسلام، وإن كان يفعله بين أيديهم-: يقبل من الأسير، ولا يقبل ممن دخل في دارهم تاجراً، وهذا بخلاف الكافر إذا صلى-: لايحكم بإسلامه؛ لأنه قد يفعله استهزاء، والمسلم لو فعل ما يفعله الكافر استهزاء-: يكفر حتى لو تنعل بنعله، ولو تقلنس بقلنوسة المجوس هزءاً-: يحكم بكفره. ولو مات رجل عرف إسلامه، وله ابنان مسلمان، فقال أحدهما: مات الأب مسلماً، وقال الآخر: بل مات كافراً؛ لأنه كان يسجد للصنم-: يرث منه الابن الذي يدعي إسلامه؛ لأن الأصل بقاء إسلامه، ولا يرثه الآخر؛ لأنه أقر بكفره، بل نصيبه فيء يصرف على بيت المال. ولو قال أحدهما: مات مسلماً، وقال الآخر: بل مات كافراً؛ لأنه كان يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير-: يرث منه الذي أقر بإسلامه، وهل يرثه الآخر؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه أقر بكفره. والثاني: يرثه: لأنه فسره بما يتبين خطؤه في اعتقاد الكفر؛ كما لو قال: مات الأب كافراً؛ لأنه كان يعتقد الاعتزال-: لا يحرم به عن الميراث. ولو أطلق، وقال: مات كافراً، ولم يفسر-: هل يرث؟ قولان: ولو أكره مسلم مسلماً على الكفر-: يحكم بكفر المُكرِه. ولو أكره كافرٌ كافراً على الإسلام-: لا يحمك بإسلام المُكرِه. وكذلك: لو قال مسلم: أنا أكفر غداً-: يكفر في الحال، ولو قال كافر: أنا أسلم غداً-: لا يصير مسلماً؛ لأن الرضا بالكفر كفرن والرضا بالإسلام لا يكون إسلاماً، والله أعلم.

كتاب الحدود

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحدود باب حد الزنا قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].

الزنا حرامٌ، وهو من الكبائر.

رُوي عن عبد الله، قال: "قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً، وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك؛ خشية أن يأكل معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلةِ جارك" فأنزل الله تصديقها: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وكان في صدر الإسلام: عقوبة الزاني - الحبس إلى الممات في حق الثيب، والأذى بالكلام في حق البكر؛ قال الله تعالى: {وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 15، 16]. ثم نسخ ذلك، فجعل حد الثيب على الزنا الرجم، وحد البكر الجلد، والتغريب، رُوي عن عبادة بن الصامت؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذوا عني خذوا عنين قد عل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلدُ مائةٍ وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".

ثم الجلد صار منسوخاً في حق الثيب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية

واليهوديين اللذين زنيا، ولم يجلدهم.

وليس المراد من البكر في الحديث: التي لم تذهب عذرتها، ولا من الثيب: التي زالت عذرتها، بل المراد من الثيب: المحصن، ومن البكر: غير المحصن. إذا ثبت وجوب الحد على الزاني، فإن كان الزاني محصناً-: فحده الرجم، رجلاً كان أو امرأة. وشرائط الإحصان أربعة: العقل، والبلوغ، والحرية، والإصابة بنكاح صحيح. ولو زنى ذمي اجتمع فيه هذه الشرائط-: يرجم؛ لما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا، وكان قد أحصنا. وعند أبي حنيفة: لا يرجم الذمي.

ولا يحصل الإحصان بالإصابة. بملك اليمين، ولو بوطء الشبهة، ولا بالنكاح الفاسد، وهل يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يشترط، حتى لو أصاب عبدٌ أمةً بنكاح صحي، أو في حال الجنون والصغر، ثم كمل حاله، فزنى يجبُ عليه الرجم؛ لأنه وطء يحصل به التحليل للزوج الأول؛ فيحصل به الإحصان؛ كالوطء في حال كمال الحال؛ ولأن عقد النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال، فكذلك الوطء. والثاني - وهو الأصح، وهو ظاهر النص: يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ، والحرية، والعقل، حتى أن الصبي، أو المجنون، أو العبد إذا أصاب بنكاح صحيح، ثم بلغ أو أفاق أو عتق، فزنى-: لا يجب عليه الرجم؛ لأنه لما شرط أكمل الإصابات، وهو أن يكون نكاح صحيح-: شرط أن تكون تلك الإصابة في حال الكمال. فعلى هذا: لو كان أحد الزوجين حُراً عاقلاً بالغاًن والآخر عبداً، أو مجنوناً، أو صغيراً، فوجدت الإصابة-: هل يصير الكامل محصناً بهذه الإصابة؟ فيه قولان: أصحهما: يصير محصناً، وإن لم يحصل الإحصان من حق الآخر؛ كما يجوز أن يجب الرجم على احد الواطئين دون الآخر. والثاني: لا يصير محصناً؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه وطء لا يصير أحدهما محصناً؛ فلا يصير الآخر محصناً، كوطء الشبهة. أما غير المحصن إذا زنى نُظر: إن كان صبياً أو مجنوناً-: لا حد عليه، وإن كان عاقلاً بالغاً حراً-: يجب عليه جلد مائة وتغريب عام، رجلاً كان أو امرأة. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: لا يغرب. وعند مالك - رحمه الله- يغرب الرجل دون المرأة.

دليلنا: خبر عبادة بن الصامت؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "البكر بالبكر جلد مائةٍ وتغريب عام". وإن كان الزاني عبداً أو أمة-: فعليه جلد خمسين؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ

بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، ولا فرق في الرقيق بين من تزوج ومن لم يتزوج، ومن بعضه رقيق وبعضه حر؛ فحده حد العبيد؛ وكذلك: المدبر والمكاتب وأم الولد، وهل يغرب العبد أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يغرب؛ قال: "إذا زنت امة أحدكم فليجلدها الحد" ولم يأمر بالتغريب؛ ولأن التغريب للمعرة، ولا معرة على العبد فيه؛ لأنه ينقل من يدٍ إلى يدٍ، ومن بلدٍ على بلدٍ؛ ولأن منافعه للسيد؛ ففي نفيه إضرارٌ بالسيد.

والثاني: وهو الأصح-: أنه يغرب؛ لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. ثم الحُرُّ يعذب بالتغريب، كذلك العبد، ولا ينظر إلى ضرر المولى؛ كما يقتل العبدُ بسبب الردة، ويجلد في الزنى والقذف، وإن تضرر به المولى؛ فعلى هذا: كم يغرب؟ فيه قولان:

أصحهما: يغرب نصف سنةٍ؛ لأن التغريب يقبلُ التصنيف، كما يجلد نصف حد الأحرار. والثاني: يغرب سنةً؛ لأن التغريب للإيحاش؛ وذلك معنى يرجع إلى الطبع، ويستوي فيه الحر والعبد، كمدة العنة والإيلاء. وإذا زنى رجل بامرأة، وأحدهما محصن والآخر غير محصن: يرجم المحصن، ويجلد الآخر ويغرب، إن كان عاقلاً بالغاً؛ والدليل عليه: ما رُوي عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني؛ أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر - وكان أفقههما -: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي في أن أتكلم، فقال: تكلم، فقال: عن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاةٍ وبجارية لي، ثم سألت أهل العلم، فأخبروني أنما على ابني جلد مائةٍ وتغريب سنةٍ، وأنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله: أما والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله؛ أما غنمُك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغربة عاماً، وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها".

وإن كان أحدهما ممن لا يجب عليه الحد-: يحد الآخر؛ مثل: إن زنى عاقلٌ بمجنونة، أو بالغ بصبية، أو زنى رجل بامرأة نائمة، أو أكرهها فزنى بها -: يجبُ الحد على الرجل، ولا يجب على المرأة، وكذلك: لو مكنت عاقلة بالغة من مجنون أو مراهق، أو استدخلت ذكر نائم-: يجب الحد على المرأة، ولا يجب على الرجل. وعند أبي حنيفة: لا يجب الحد على المرأة- أيضاً. فنقول: سقوط الحد عن أحد الواطئين؛ بمعنى فيه-: لا يوجب سقوطه عن الآخر؛ كما لو كان الرجل عاقلاً بالغاً، والمرأة مجنونة أو مراهقة يجب عليه الحد، وإن لم يجب عليها. ولو أكره رجل حتى زنى بامرأةٍ، هل يجب عليه الحد؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو المذهب-: لا يجب كالمرأة إذا أكرهت على الزنا -: لا يجب عليها الحد. والثاني: يجب؛ لأن فعل الرجل لا يكون إلا بانتشار يحدث عن الشهوة، وذلك يكون بالاختيار، ولا يدخل تحت الإكراه. من لم يعلم تحريم الزنا: إن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين-: لا يجب عليه حد الزنا، وإن كان أحدهما بهذه الصفة، والآخر عالم-: يجب الحد على العالم منهما. ولو نكح رجلٌ أمةً، أو امرأة من محارمه برضاع، أو نسب، أو صهرية، فوطئها-: يجب عليها حد الزنا. وعند أبي حنيفة: لا يجب الحد، وصورة العقد: تصير شبهة في سقوط الحد. فنقول: لا يجوز أن تجعل الصورة شبهة؛ كما لو أن الوطء الحرام في صورة الوطء الحلال، والقتل الحرام في صورة القتل المباح-: لا يصير شبهة في سقوط الحد، والقصاص. وكذلك: لو نكح المطلقة ثلاثاً أو الملاعنة، أو نكح أختاً على أختٍ، أو نكح خامسةً، وتحته أربع، أو نكح كافر مسلمة، أو نكح امرأة معتدة، أو ذات زوج، أو مرتدة، أو وثنية، أو مجوسية، فوطئها عالماً بالحال-: يجب الحد، ولو استأجر امراة للزنا، فوطئها-: يجب عليها الحد. وعند أبي حنيفة: لا يجب.

فيقول: عقدٌ باطلٌ، ظاهراً وباطناً؛ فلا ينتصب شبهة في سقوط الحد؛ كما لو اشترى حرة فوطئها عالماً، أو اشترى خمراً، فشربها-: يجب عليه الحد. وأيضاً: أجمعنا على أنه لو استأجر امرأة لعمل من طبخ أو غسلٍ، فوطئها-: يجب عليه الحد، مع أن العقد صحيحٌ، فههنا: مع ساد العقد أولى أن يجب؛ يؤيده: أنه لو صار شبهة لثبت النسب، وبالاتفاق: لا يثبت [النسب] ولو أباح رجلٌ جاريته لغيره، فوطئها-: يجب الحد؛ كالمرأة إذا أباحت بضعها لرجلٍ، حتى وطئها-: يجب عليهما الحد. ولو ملك أخته من النسب، أو الرضاع، أو عمته، أو خالته، أو أمه، أو ابنته من الرضاع، أو موطوءة أبيه، أو موطوءة ابنه، فوطئها بملك اليمين-: هل يجب عليه الحد؟ فيه قولان: أصحهما: لا يجب؛ لشبهة الملك، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يجب؛ لأنه فرج لا يستباح بحال؛ كما لو نكح أخته ووطئها. ولو وطيء أمته المجوسية أو الوثنية أو المرتدة أو المعتدة أو المزوجة، أو الذمي أسلمت أم ولده أو أمته، فوطئها قبل أن تباع [عليه]-: فمن أصحابنا من جعلها على قولين، ومنهم من قال- وهو المذهب-: لا يجب ههنا، لأن تحريمهن ليس على التأبيد، كما لو وطيء امرأته الحائض أو المحرمة. فإن قلنا: يجب الحد لا يثبت النسب، ولا حرمة المصاهرة. وإن قلنا: لا - يجب الحد- يثبت النسب، والمصاهرة. وقيل: يثبت النسب، وتصير الجارية أم ولد له قولاً واحداً. ولو وطيء امرأة ميتة-: هل يجب الحد أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه إيلاج فرج في فرج محرم، لا شبهة له فيه؛ كما لو زنى بامرأة حية. والثاني: لا يجب؛ لأن الطبع ينفر عنه، وما ينفر الطبع عنه لا يزجر عنه بالحد؛ كمن شرب البول -: لا يجب عليه الحد. واللواط حرامٌ؛ لأنه فاحشة؛ قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفَاحِشَةَ}

[الأعراف: 80]، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ ....} [الأعراف: 32]. ويجب به الحد، سواء فعل ذلك بامرأةٍ أجنبيةٍ، أو برجلٍ، أو صبي حر أو عبدٍ، أو فعل بعبد نفسه، ثم بماذا يحد الفاعلُ؟ فيه قولان: أصحهما: عله حد الزنا: إن كان محصناً يرجم، وإن لم يكن محصناً يجلد مائة ويغرب عاماً؛ لأنه حد يجب بالوطء؛ فتختلف فيه البكر والثيب؛ كالإتيان في القُبُلِ. والقول الثاني: يُقتلُ الفاعل، سواء كان محصناً أو لم يكن؛ لما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". فعلى هذا: في كيفيته ثلاثة أوجه: أحدها: تُحز رقبته؛ كالمرتد. وقيل: يرجم بالحجارة؛ وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق - رحمه الله عليهم-. وقيل: يهدم عليه جدار؛ يروى ذلك عن أبي بكر، - رضي الله عنه-. وقيل: يرمي من شاهق، حتى يموت، يروى ذلك عن علي - رضي الله عنه-، وذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك؛ وقال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} [هود: 82]. وعند أبي حنيفة: لا يحد اللوطيُّ، بل يعزر. أما المفعول به ماذا عليه؟ نظر.

إن كان مكرهاً، أو صغيراً، أو مجنوناً-: لا عقوبة عليه، ويجب المهر، إن كانت امرأة، وإن كان ذكراً- لا يجب؛ لأن منفعة بُضع الذكر غير متقومة. وإن كان عاقلاً بالغاً طائعاً؛ فإن قلنا: على الفاعل القتل -: فيقتل المفعول به على صفة قتل الفاعل؛ للخبر. وإن قلنا: على الفاعل حد الزنا-: فعلى المفعول به جلد مائة وتغريب عام، محصناً كان أو غير محصن. وقيل: إن كانت امرأة محصنة -: فعليها الرجم، وليس بصحيح؛ لأنها لا تصير محصنة بالتمكين في الدبر؛ فلا يلزمها حد المحصنات به؛ كما لو كان المفعول به ذكراً. وإن كان عبداً، فحده نصف حد الحر ولا مهر للمرأة: لأنها زانية. وإتيان البهيمة حرامٌ، وفي عقوبته أقوالٌ: أحدها: يجب به حد الزنا؛ فيرجم المحصن، ويجلد غير المحصن ويغرب؛ لأنه حد يجب بالوطء. والثاني: يقتل محصناً كان أو غير محصن؛ لما رُوي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه"، فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟! قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عُمل بها ذلك العمل.

والقول الثالث - وهو الأصح، وهو قول أكثر أهل العلم-: أن عليه التعزير؛ لأن الحد شُرع للردع عما تميلُ النفس إليه، وهذا الفعل لا يميل الطبع إليه، وضعفوا حديث ابن عباس؛ لضعف إسناده. فإن قلنا: يقتل-: ففي كيفية قتله ثلاثة أوجه؛ كما في قتل اللوطي؛ وعلى هذا: هل تقتل البهيمة؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لظاهر الحديث. والثاني - وهو المذهب-: لا تقتل، والحديث ضعيف الإسناد، ولئن ثبت فقد عارضه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذبح الحيوان إلا لمأكلةٍ. فإن قلنا: تقتل البهيمة-: فلأي معنى تقتل؟ فيه معنيان: أحدهما: حتى لا يذكر بها. والثاني: حتى لا تأتي بخلق مُشوه. وإن كان أتاها في دبرها: فإن قلنا بالمعنى الأول-: تقتل، وإن قلنا بالثاني -: لا تقتل. فإن قتلناها-: هل يحل أكلها إن كانت مأكولة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأنه مذبوح مأكول. والثاني: لاتحل؛ لأنها مقتولة لغير الأكل. وإن كانت البهيمة للغير، وقتلناها-: يجب على الفاعل قيمتها للمالك، إن لم تكن مأكولة أو كانت مأكولة، وقلنا: لا يحل أكلها. وإن قلنا: يحل أكلها-: يجب ما بين قيمتها حية ومذبوحة. وقيل: يكون الضمان في بيت المال. ولو أن امرأة مكنت من قردٍ-: فعقوبتها عقوبة من أتى من الرجال بهيمة.

وكل من تحرم مباشرته في الفرج بالزنا أو باللواط-: فتحرم مفاخذته ومسه بالشهوة، ولا يجب به الحد، ويعزر عليه، وكذلك: مباشرة المرأة المرأة-: لا تُوجب الحد وتعزران عليه. ولو زنى [بكر] مراراً قبل إقامة الحد عليه-:لا يجب عليه إلا جلد مائة ويغرب عاماً، وتتداخل الحدود، أما إذا زنى فجلد وغرب، ثم زنى ثانياً-: يجلد ثانياً ويغرب، ولو جلد مائة، فقبل التغريب زنى-: يجلد بعده مائة، ويتداخل التغريب؛ فلا يغرب إلا سنة واحدة. ولو [جلد] خمسين، ثم زنى-: لا يجلد بعده إلا مائة، ويغرب، ويقع التداخل في خمسين. ولو زنى، وهو بكرٌ، ثم زنى وهو ثيب قبل إقامة الحد عليه-: هل يدخل الجلد في الرجم؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل، لتجانس الجريمتين، كما لو زنى مراراً، وهو بكر: لا يجب إلا حد واحدٌ. والثاني- وهو الأصح-: لا يدخل؛ لأنهما حدان مختلفان؛ كما لا يدخل حد الشرب في قطع السرقة، بل يجلد مائة، ثم يُرجم ولا يغرب؛ لأن التغريب يحصل بالرجم. وقيل: يجلد مائة، ويغرب عاماً، ثم يُرجم. ولو زنى العبد، ثم عتق قبل أن يحد، ثم زنى، وهو بكر-: لا يجب عليه إلا جلد مائة ويغرب عاماً، ويدخل فيه حد الرق. أما إذا زنى في حال الرق، ثم عتق، وصار محصناً، فزنى: يجلد خمسين، ثم يرجم. ولو زنى ذمي، وهو محصنٌ، فنقض العهد، ثم استرق، ثم زنى: هل يدخل الجلد في الرجم؟ قال الشيخ - رحمه الله-: فيه وجهان: الأصح: لا يدخلُ؛ فيجلد أولاً خمسين لزنا الرق ثم يرجمه للزنا الأول، فإن قلنا: يغرب العبد-: يدخل التغريب في الرجم، ويحتمل أن يغرب نصف سنةٍ بعد الجلد، ثم يرجم؛ كما ذرنا فيمن زنى وهو بكر، ثم زنى، وهو ثيب.

فصلٌ: في إقامة الحد رُوي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رجلاً من أسلم يقال له: ماعز بن مالك، أتى رسول الله - صلى الله عليه ولم - فقال: إني أصبت فاحشة، فأقمه عليَّ، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - مراراً، قال: ثم سأل قومه؟ فقالوا: لا نعلم به بأساً، فأمرنا أن نرجمه فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظام والمدر والخزف، قال: فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عُرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت". إقامة الحد على الأحرار، تكون إلى الإمام، أو إلى من يفوض غليه الإمام، وإذا أمر بإقامته-: لا يشترط حضوره، سواءٌ ثبت الزنا عليه بالإقرار أو بالبينة، ولا يشترط حضور الشهود. وعند أبي حنيفة: يشترط حضور الإمام، ويبدأ هو بالرجم وإن ثبت بالبينة، فيشترط حضور الشهود - أيضاً - ويبدءون بالرجم، ثم الإمام ثم الناس. دليلنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجم ماعزٍ والغامدية، ولم يحضر رجمهما". ويستحب أن تكون إقامة الحد بمحضر جماعة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وأقلهم أربعة؛ لأن حد الزنا لا يثبت بأقل من أربعة. وليس لأحجار الرجم تقديرٌ، لا عدداً ولا وزناً، بل يحيط به المسلمون، فيرمونه من الجوانب إلى أن يموت. ويحفر للمرأة إلى صدرها، حتى لا تنكشف، ويُرمى إليها، ولا يحفر للرجل؛ لحديث أبي سعيد في أمر ماعز، قال: "فما أوثقناه، ولا حفرنا له"، ولأنه هرب، ولو كان في حفرة-: لم يمكنه الهرب. وإذا هرب المرجوم-: لا يسقط عنه الحد، وهل يتبع؟ نظر: إن ثبت عليه الزنا بالبينة-: يتبع، ويرجم؛ لأنه لا سبيل إلى تركه. وإن ثبت بالإقرار-: لايتبع؛ لأن ماعزاً لما مسته الحجارة، هرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"هلا تركتموه" وإنما قال ذلك؛ لعله يرجع عن إقراره. فإن وقف في هربه، أو قدر عليه بعده، وهو مقيمٌ على إقراره-: يُرجم، وإن رجع فلا يرجم.

وإذا مات في الحد-: يغسل ويكفن، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. وغير المحصن: يجلد مع ثيابه ولا يجرد، ولا يمد، ولا تربط يداه، بل يترك حتى يتقي بهما. ويضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسةً، وتربط عليها ثيابها، حتى لاتنكشف، ويلي ذلك منها امرأة، وتُضرب بسوطٍ وسط؛ لا جديد يجرح، ولا خلق لا يؤلم، وتضرب ضرباً بين ضربين؛ لا شديد ولا واهٍ. وإن كان لمحدود رقيق الجلد-: يدمي بضربٍ خفيفٍ: لا يبالي بذلك. وتُفرق السياط على أعضائه، ولا نجمعها على موضعٍ واحدٍ، ويُتقى الوجه والمهالك؛ كالبطن، والجنب، والمذاكير. ويُضرب على الظهر، والمنكبين، والرجلين، ويضرب على الرأس، وعند أبي حنيفة: لا يضرب على الرأس. قلنا: قال أبو بكر - رضي الله عنه- اضرب على الرأس؛ فإن الشيطان فيه. ولو فرق سياط الحد تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل: إن ضرب كل يوم سوطاً أو سوطين-: لا يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين فأكثر-: يحسب، والأولى: ألا يفرق. وإذا أراد تغريب الزاني-: يغربه من بلده إلى مسافة القصر؛ لأن المقصود منه التعذيب بالإيحاش، ولا يحصل فيما دون مسافة القصر؛ لاتصال خبر الأهل والعشيرة به، ويغربه إلى بلد معين، ولا يرسله إرسالاً يذهب به أين يشاء، ولا يمكن من أن يحمل مع نفسه أهله وعشيرته؛ لأنه لا يستوحش معهم، ولايمنع من حمل جارية يتسرى بها، وشيء من المال للنفقة، وإن كان غريباً يغرب من بلد الزنا إلى بلد آخر، ولا يرد إلى البلد الذي هو بلده، ولا إلى بلد بينه وبين بلده أقل من مسافة القصر. وإن خرج مسافراً، فزنى في الطريق غربه إلى غير مقصده. وإن رأى الإمام أن يغربه إلى مسافةٍ أبعد من مسافة القصر-: له ذلك، فإن عمر - رضي الله عنه- غرب إلى الشام، وغرب عثمان - رضي الله عنه- إلى مصر؛ بخلاف مدة التغريب، لا تزاد على سنة، لأنه منصوصٌ عليها، والمسافة مجتهدٌ فيها، فإن رجع قبل مضي السنة يرد إلى ذلك الموضع، فإذا انقضت المدة-: فهو مخير؛ إن شاء أقام هناك، وإن شاء رجع إلى بلده. ولا تغرب المرأة وحدها إلا مع محرم، فإن لم يتبرع المحرم بالخروج معها-: أعطوا

أجرته من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال فمن مالها، وإن لم يكن لها مال يستدان عليها. وقيل: يستدان على بيت المال. وقيل: في الابتداء: يكون من مالها، فإن لم يكن لها مال ففي بيت المال. وإن لم يكن لها محرم-: تغرب مع امرأة ثقة لها محرمٌ، وهل تغرب مع النساء الثقات؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما يجب عليها الخروج على الحج معهن. والثاني: لا؛ لأن العقوبات يحتاط لإسقاطها. أما الرقيق إذا زنى أو شرب، عبداً كان أو أمة-: فللمولى إقامة الحد عليه، إن كان المولى حُراً مكلفاً عدلاً؛ وكذلك حد القذف إذا طلبه المقذوف، فإن شاء السيد أقام بنفسه، وإن شاء فوض إلى غيره. وقال أبو حنيفة: ليس للمولى إقامة الحد على مملوكه، بل يقيمه الإمام كالحر. دليلنا: ما رُوي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يُثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر". وسواء كان الرقيق قنا، أو مدبراً، أو أم ولد، فإن كان مكاتباً أو بعضه رقيق -: فحده إلى الإمام. وإذا جلد عبده في الزنى-: هل يغربه؟ فيه وجهان: أصحهما: بلى؛ كما يضربه، ورُوي عن ابن عمر؛ "أنه جلد أمة له [زنت]، ونفاها إلى فدك". والثاني: لا، بل التغريب إلى الإمام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فليجلدها الحد، فمل يجعل إليه إلا الجلد. وإن كان العبد مشتركاً بين رجلين فأكثر-: فكل واحد يقم من السياط بقدر ملكه. فإن وقع كسر في سوط-: فوضوا ذلك السوط إلى واحدٍ منهم ليضربه.

وهل يجوز للمولى قطع يد عبده بسبب السرقة أو قطع الطريق؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ نص عليه في رواية البويطي؛ لما رُوي عن ابن عمر؛ "أنه قطع يد عبدٍ له سرق"، وكما يحده في الزنا والشرب. والثاني: لا؛ بل القطع إلى الإمام؛ بخلاف الجلد؛ لأن المولى يملك لنفسه من جنس الجلد، وهو التعزير، ولا يملك من جنس القطع. وكذلك: هل له قتل عبده بسبب الردة؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه له ذلك؛ لما روي عن حفصة: "أنها قتلت أمة لها سحرتها" والقتل بالسحر إنما يكون بسحر يكفر به. أما قطع القصاص لا يستوفيه المولى؛ على الصحيح من المذهب، بل هو إلى الإمام، وكل واحدٍ يقيمه المولى على عبده، إنما يقيمه إذا ثبت باعتراف العبد، فإن كانت عليه بينة، فهل يسمع المولى الشهادة، ويقيمه؟ فيه وجهان: أصحهما: يسمع؛ لأنه ملك الإقامة بالاعتراف، فملك بالبينة كالإمام. والثاني: لا يسمع؛ لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود، وذلك إلى الحاكم، بل إذا ثبت عند الحاكم بالبينة-: يقيمه المولى من غير إذنه. فإن قلنا: يسمع البينة-: فله النظر في التزكية والعدالة؛ كالحاكم. وإذا قذف المملوك زوجته المملوكة-: فهل يلاعن المولى بينهما؟: قال الشيخ -رحمه الله-: يحتمل وجهين: أحدهما: يلاعن، كما يقيم الحد. وإذا رآه السيد يعمل ما يوجب الحد، فهل له إقامة الحد عليه بعلمه؟ فيه وجهان؛ بناء على أن القاضي هل يقضي بعلم نفسه في الحدود؟ فيه قولان. فإن لم يكن المولى كامل الحال - نُظر: إن كان صبياً أو مجنوناً-: فهل لوليه إقامة الحد على مملوكه؟ فقد قيل: إن كان الولي أباً أو جداً-: يقيمه وإن كان وصياً أو قيماً-: فيه وجهان. وقيل: في الكل وجهان، بناء على أن الولي هل له تزويج أمة الطفل؟ وفيه وجهان. وإن كان المولى فاسقاً-: فيه وجهان:

أصحهما: له أن يقيم الحد على مملوكه؛ لأنه ولاية تثبت بالملك، لا يمنعه الفسق، كتزويج الأمة. وقال أبو إسحاق: لا يقيمه؛ لأنه ولاية في إقامة الحد؛ فيمنعها الفسق؛ كولاية الحكم، وكذلك: هل يقيم الكافر؟ فيه وجهان. وهل يثبت للمرأة؟ فيه وجهان. أصحهما: يثبت؛ لما رُوي؛ أن فاطمة عليها السلام- جلدت أمة لها زنت، وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها قطعت أمة لها سرقت وعن حفصة: أنها قتلت أمة لها سحرتها". وقال ابن أبي هريرة: لا يثبت؛ لأنها ولايةٌ على الغير؛ فلا يثبت للمرأة، كولاية التزويج؛ فعلى هذا من يقيمه؟ فيه وجهان: أحدهما: وليُّ المرأة؛ كما تزوج أمتها. والثاني: يقيمه الإمام؛ لأنه يثبت للمولى بالملك، فإذا ذهبت ولاية المالك-: كان إلى الإمام. ويجوز للمكاتب تعزير عبده، وهل يقيم الحد عليه؟ فيه وجهان: أصحهما- نص عليه في الكتابة-: لا يقيمه؛ لأنه ولايةٌ؛ فلا تثبت إلا للأحرار. ولو أن ذمياً زنى، ثم نقض العهد، [واسترق]: لا يسقط عنه الحد، ويقيمه الإمام لا المولى؛ لأنه لم يكن مملوكاً حين زنى. قال الشيخ - رحمه الله-: ولو زنى العبد، ثم باعه المولى-: فإقامة الحد إلى المشتري؛ اعتباراً بحالة الاستيفاء. ولو قذف العبد سيده-: له إقامة الحد عليه. ولو قذف السيد عبده-: فعليه التعزير، وللعبد أن يرفعه إلى القاضي، حتى يعزره. فصلٌ: في متى يقيم حد الزنى رُوي عن عمران بن حصين؛ "أن امرأة من جهينة أتت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه عليَّ، فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم -وليها، فقال: أحسن

إليها، فإن وضعت فأتني بها، ففعل فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم- فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها". أهـ كل من وجب عليه حد -: يجب على الإمام إقامته، ولا يجوز تأخيره إلا من عذر، فإن وجب على امرأةٍ حبلى-: فلا يقام حتى تضع؛ ذكرناه في "كتاب القصاص". وإن كان الذي وجب عليه الحد مريضاً - نظر: إن كان حده رجماً-: يقام عليه؛ لأن المقصود قتله؛ فلا يمتنع بالمرض. وإن كان جلداً بسبب زنى أو شُرب خمرٍ - نظر: إن كان به مرضٌ يرجى زواله من صداع أو ضعف يؤخر حتى يبرا؛ كما لو أقيم عليه حد أو قطع-: لايقام عليه حد آخر، حتى يبرأ عن الأول. وإن كان مرضاً لا يرجى زواله؛ كالسل والزمانة وكونه نضو الخلق لا يطيق الضرب-: فلا يؤخر، [ولا] يضرب بالسياط؛ لأن فيه حتفه. وليس المقصود من ضربه قتله، سواء كان زناه في حال الصحة، ثم مرض، أو في حال المرض بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ، فيقوم ذلك مقام مائة جلدة، كما قال تعالى في قصة أيوب - عليه السلام-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. وعند أبي حنيفة: يضرب بالسياط. دليلنا: ما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ "أن رجلاً مقعداً أصاب امرأة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم-[به] فجُلد بعثكال النخل" ورُوي: "أنه أمر أن يأخذوا مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة" لأن الصلاة إذا كانت تختلف باختلاف حاله، فالحد أولى [بذلك]. ثم إن علم أن الشماريخ [كلها] مسته بضربةٍ واحدةٍ-: سقط الحد عنه، وإن تراكم

البعض على البعض-: يسقط أيضاً، لأن ألم الكل وصل إليه، وإن لم يمس جلده؛ كم لم ضربه فوق الثياب بخلاف ما لو ضربه بعصاً كبيرةٍ ضربةً-: لا يكون إلا بجلدة واحدة؛ لأن العدد لم يوجد، وإن لم تمسه بعض الشماريخ، ولم تتراكم، أو شك فيه -: يعاد الضرب وإن جلدناه بالشماريخ، فبريء من مرضه-: لا يعاد الحد عليه؛ بخلاف المغضوب إذا حج عن نفسه، ثم بريء-: عليه أن يحج بنفسه في قولٍ؛ لأن العبادات يحتاط لها، والعقوبات يحتاط عليها. ولو بريء قبل أن يضرب بالشماريخ-: يُقام عليه الحد بالسياط. ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء، فإن كان في حال شدة حر أو برد - نظر: إن كان الحد رجماً -: يقامُ عليه؛ [كما يقام] في المرض؛ لأن المقصود قتله. وقيل: إن كان الرجم ثبت عليه بإقراره-: فيؤخر إلى اعتدال الهواء، وزوال المرض، إن كان مرضاً يرجى زواله؛ لأنه ربما يرجع عن إقراره في خلال الرجم، وقد أثر الرجم في جسمه، فتعين شدة الحر أو البرد أو المرض على إهلاكه؛ بخلاف ما لو ثبت بالبينة؛ لأنه لا يسقط. وكذلك: إذا ثبت الرجم على المرأة بلعان الزوج-: لا يؤخر، وإن كان يسقط بلعانها؛ لأنه لا يجوز لها اللعان إلا إذا كانت محقة في الامتناع. والرجوع عن الإقرار مستحب مع كونه صادقاً؛ هذا كما لو ثبت بالبينة-: لايؤخر، وإن كان يسقط الحد برجوع الشهود؛ لأن الرجوع غير مستحب لهم، وإن كانوا صادقين. وإن كان الحد [جلداً]؛ بسبب الزنى، وشُرب الخمر-: لايقام في شدة الحر والبرد، كما لا يقام في المرض، بل يؤخر إلى اعتدال الهواء، وكذلك: قطع السرقة يؤخر إلى اعتدال الهواء، وزوال المرض، وأسباب التلف، فإن كان مرضاً لا يرجى زواله-: يقطع. أما حقوق العباد؛ مثل: حد القذف، وقطع القصاص -: فيستوفي في الحر والبرد والمرض، وعلى هذا القياس: يجب أن يضرب في حد القذف بالسياط، سواءٌ كان المرض مما يرجى زواله أو لا يُرجى؛ لأن مبني حقوق العباد على الشدة والضيق، فلو أن الإمام أقام جلد الزنى أو الشرب في حر أو بردٍأو مرضٍ، فمات منه-: نص على أن لا ضمان عليه،

ونص فيما لو ختن الإمام رجلاً في شدة حر أو برد، فمات منه: أنه يجب الدية على عاقلته. فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدٍ منهما إلى الآخر فجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجب الضمان؛ لأنه مات في إقامة حد واجب؛ كما لو فعل في وقت اعتدال الهواء. والثاني: يجب الضمان؛ لأنه مفرطٌ بالإقامة في هذا الوقت. ومنهم من فرق بينهما، وقال في الحد: لا يجب الضمان؛ لأنه ثبت نصاً، وفي الختان يجب: لأنه ثبت اجتهاداً، ولأن استيفاء الحدود إلا الأئمة، والختان ليس إليه؛ لأنه يجوز لكل إنسان أن يختن نفسه، فإذا فعله الإمام-: يجب عليه مراعاة وقته، فإن لم يفعل-: ضمن. فإن قلنا: يضمن، فكم يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن جميع الدية؛ لأنه مفرط. والثاني: يضمن نصف الدية؛ لأنه مات من واجب محظور. فصلٌ: في الإقرار بالزنا رُوي عن أبي هريرة قال: "جاء ماعز [بن مالك] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الأيمن، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الأيسر، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه، فقال: إني قد زنيت، قال ذلك أربع مرات، فقال: أبك جنونٌ؟! قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنت؟ فقال: نعم، قال: فانطلقوا به، فارجموه، فانطلقوا به، فلما مسته الحجارة، أدبر يشتد فلقيه رجلٌ في يده لحى جمل، فضربه به، فصرعه فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراره حين مسته الحجارة، قال: "فهلا تركتموه". الزنا يثبت بالإقرار؛ كما يثبت بالشهادة، فمن أقر على نفسه بالزنى مرةً واحدة-: يقام عليه الحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس الأسلمي: "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ولم يشترط التكرار. وعند أبي حنيفة: لا يحد، ما لم يُقر أربع مرات في أربع مجالس. واحتج بحديث ماعز، ولا ججة فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رده مرة بعد أخرى، لا لاشتراط التكرار، بل لشبهة

وقعت له في أمره، حتى سأل أبه جنونٌ، أشرب خمراً فلما زالت الريبة عن أمره-: أمر يرجمه. أهـ. والمستحب لمن ارتكب جريمة توجب حد الله تعالى: أن يستر على نفسه؛ بخلاف ما لو فعل ما يوجب عقوبة للعباد؛ مثل؛ القصاص، وحد القذف-: يجب أن يقر بها؛ لأن مبنى حقوق العباد على الضيق والشدة، ومبنى حقوق الله تعالى على المساهلة. وهل يستحب للشهود أن يكتموا الشهادة على حدود الله تعالى؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما يستحب لمن عليه ألا يقر به؛ ستراً عليه. والثاني-وهو الأصح-: لا؛ بل يستحب أن يشهدوا؛ لأن في كتمانهم الشهادة تعطيل حكم الله تعالى, وإذا ثبت الحد عند السلطات-: لا يجوز العفو عنه، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ روي أن أسامة كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله تعالى، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمدٍ- صلى الله عليه وسلم- لسرقت، لقطعت يدها".

ولو أقر على نفسه بالزنى، أو شرب الخمر، ثم رجع عن إقراره-: يسقط عنه الحد؛ كمن أقر على نفسه بالردة، ثم رجع عن إقراره-: يسقط عنه القتل، ولو رجع بعد إقامة بعض الحد-: لا يتمم، وإن بي سوطٌ واحدٌ، وهل يستحب الرجوع؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، كما يستحب ألا يقر ابتداء.

والثاني: لا يستحب؛ لأن هتك الستر قد حصل؛ فلا ستحب له تكذيب نفسه. والرجوع: أن يقول: ما زنيت، أو رجعت عما قلت، أو كذبت فيما قلت، حتى لو بقيت جلدةٌ واحدةٌ، أو في الرجم رجع قبل مفارقة الروح-: يجب تركه. وكذلك: لو قال: كنت فاخذت أو لمست وننته زنى -: يقبل قوله، ولا يجد، ولو قال: لا تقيموا عليَّ الحد-: لا يسقط؛ كما لو هرب. ولو شهد الشهود على إقراره بالزنى، فرجع عن إقراره-: سقط عنه الحد، أما إذا قال: ما أقررت: لا يسقط؛ لأنه يكذب الشهود. وكذلك من أقر على نفسه بسرقة موجبة للقطع أو بقطع الطريق، ثم رجع عن إقراره-: يسقط عنه حد القطع، ولا يسقط ضمان المال؛ لأنه من حقوق العباد. وقيل: لا يسقط القطع أيضاً؛ لأنه لصيانة حق الآدمي [كحد القذف والقصاص] لا يسقط بالرجوع عن الإقرار. والأول المذهب، حتى لو رجع بعدما قطع بعض يده-: لا يجوز قطع الباقي، فإن بقيت جلدة لا تُبان إلا بإذنه، بأن كانت تؤذيه: فإن قال السارق: أبنه-: فالقاطع بالخيار بين أن يترك أو يبين. ولو قال: زنيت بفلانة-: فهو مقر على نفسه بالزنى، قاذفٌ لفلانة: فإن أنكرت فلانة، أو قالت: كنت تزوجتني-: يجب على الرجل حد الزنا، وحد القذف، ولا يجب على المرأة شيء، فلو رجع-: يسقط عنه حد الزنا ولا يسقط حد القذف، ولو قال: أكرهت فلانة على الزنا-: يجب عليه حد الزنا والمهر، ولا يجب حد القذف، فلو رجع-: يسقط عنه حد الزنا، ولا يسقط المهر. ولو تاب الزاني أو السارق أو شارب الخمر-: هل يسقط عنه الحد والقطع؟ فيه قولان؛ سواء ثبت عليه الحد بالبينة أو بالإقرار: أصحهما- وهو قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة-: لا يسقط؛ لأنه يصير ذريعة إلى إسقاط الحدود. وقال في القديم: يسقط؛ لما روي؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لماعزٍ: "ارجع، فاستغفر الله، وتب إليه".

وفي الحديث "التائب من الذنب مكن لا ذنب له". فصلٌ: في الشهادة على الزنا قال الله تعالى: {وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، لا يثبت الزنا إلا بأربعة من الشهود؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. وقال سعد بن عبادة: "يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أمهله حتى آتى بأربعة شهود؟! قال: نعم" وكذلك اللواط، وإتيان البهيمة-: لا يثبت إلا بأربعةٍ، سواءٌ قلنا: يجب الحد بإتيان البهيمة أو التعزير. وقال أبو عليِّ بن خيران: إذا قلنا: يجب التعزير بإتيان البهيمة-: يثبت بشاهدين. والأول أصح؛ لأنه شهادة على إيلاج فرج في فرج؛ كما إذا شهدوا على فعل الزنى، أما الإقرار بالزنى-: هل يثبت بشهادة رجلين أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: لا يثبت إلا بأربعة؛ كفعل الزنا. والثاني: يثبت بشهادة رجلين؛ بخلاف فعل الزنا؛ لأن الفعل أمر يغمض الاطلاع عليه، فاحتيط فيه باشتراط الأربع، والإقرار حركات اللسان؛ فلا يغمض الاطلاع عليه؛ فكان كسار الأقارير. فإذا شهدوا على فعل الزنى-: يجب أن يذكروا الزاني، ومن زنى بها؛ لأنه قد يعد إتيان البهيمة زنى، وقد يراه على جارية ابنه، فيظنه زنى. ويجب أن يشهدوا: إنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول المرود في المكحلة، فلو شهدوا مطلقاً، أنه زنى: لا يثبت؛ لأنهم ربما يرون المفاخذة والاستمناء زنى، بخلاف ما لو قذف نساناً، فقال: زنيت-: يجب الحد، ولا يستفسر. ولو قال: أردت به زنى اليد والعين -: لا يقبل قوله؛ لأنه قصد هتك عرضه وشينه، وقد حصل؛ بخلاف ما لو ادعت امرأة على رجل وطء شبهة ولزوم المهر، فشهد الشهود على لزوم المهر بوطء الشبهة-: يلزم، ولا يشترط أن يقولوا: رأينا ذكره في فرجها؛ لأن المقصود منه ثبوت المال، وحكم المال أخف من حكم الحد. ولو أقر على نفسه بالزنى، هل يشترط أن يفسر؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ كالشهود عليهم أن يفسروا. والثاني: لا يجب؛ كما في القذف، سواء جاء الشهود متفرقين فشهدوا، أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: إذا شهدوا متفرقين لا يثبت، وعليهم حد القذف. فنقول: كل حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين، فيثبت إذا جاءوا متفرقين [كسائر الأحكام، بل هذا أولى، لأنهم إذا جاءوا متفرقين]: كان ابعد من التهمة، ومن أن يتلقف بعضهم من بعض؛ وكذلك: قلنا إذا وقعت للقاضي ريبة في شهادة الشهود، فرقهم؛ ليظهر على عورة، إن كانت في شهادتهم. ولو شهدوا على الزنى أقل من أربعة-: لا يثبت الزنى، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأنهم جاءوا مجيء، الشهود؛ ولأنا لو حددناهم لانسد باب

الشهادة على الزنى؛ لأن كل واحدٍ لا يأمن من ألا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد. والقول الثاني- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة-: يجب عليهم الحد. والدليل عليه: ما رُوي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنى عند عمر بن الخطاب: أبو بكرةً ونافع ونفيع، قال زياد: وكان رابعهم: رأيت أستاً تنبو ونفساً تعلو، أو رجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة، ولم يجلد المغيرة" وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه. ولو شهد اثنان؛ أنه زنى بالبصرة، وآخران أنه زنى بالكوفة-: لا حد على [المشهود عليه، وهل يحد الشهود؟ فيه قولان. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: ههنا لا يُحد الشهود] مع قوله: إن شهود الزنى إذا انتقص عددهم-: حدوا. ولو شهد على امرأةٍ بالزنى أربعةٌ، وأحدهم زوجها-: فالزوج قاذف عليه الحد؛ لأن شهادته بالزنى عليها-: لا تُقبلن وفي الثلاثة قولان. ولو شهد على الزنى أربعة من العبيد أو المكاتبين أو النسوان أو الكفار-: فهم قذفة، يحدون، لأنهم ليسوا من أهل الشهادة على الزنى؛ فلم يكن قصدهم غلا شينه. وقيل في وجوب الحد عليهم قولان؛ كنقصان العدد. والأول أصح، حتى لو شهد عبدٌ أو امرأةٌ مع ثلاثة-: يحد العبد والمرأة، وفي الثلاثة قولان؛ وإذا حددنا العبيد، فعتقوا، وأعادوا الشهادة-: تُقبل. ولو لم يتموا أربعة، فحددناهم، ثم أعادوا بعد تمام العدد-: لا تقبلُ؛ كالفاسق تُرد شهادته، ثم يعيد بعد التوبة-: لا يقبل. ولو شهد أربعةٌ من الفُساق- نظر. إن كان المفسق مجتهداً فيه؛ كشرب النبيذ-: لا يجب عليهم حد القذف، وإن لم يثبت الزنى بشهادتهم وإن كان واحدٍ منهم بهذه الصفة-: لا حد عليهم، وإن كان فسقاً مقطوعاً به، كالزنى وشُرب الخمر-: فهل عليهم حد القذف؟ فيه جوابان، بناء على أن القاضي إذا قضى بشهادتهم، ثم تبين له ذلك-: هل ينقض القضاء؟ فيه قولان:

فإن قلنا: ينقض-: علهم حد القذف؛ كما لو كانوا عبيداً؛ وإلا فلا حد عليهم. ولو شهد، أربعةٌ على الزنى، ثم رجعوا-: عليهم حد القذف، لا يختلف القول فيه ولو رجع واحد منهم-: يجب عليه حد القذف، ولا يجب على الباقين، سواءٌ رجع بعد القضاء أو قبله؛ بخلاف ما لو لم يتموا أربعة يحدون في قوله، لأنهم فرطوا حيث عجلوا إلى هتك ستر أخيهم قبل تمام الأربع، ولاتفريط منهم حيث شهدوا بعد تمام العدد. وقال أبو حنيفة: إن رجع واحدٌ قبل القضاء-: يُحد الكل، وإن رجع بعد القضاء-: يحد الرابع. ولو شهد على الزنى أكثر من أربعة، ثم رجع الزائد على الأربع-: لا حد عليهم؛ لأنه بقي من يثبت الزنى بشهادتهم. ولو شهد ثمانية، فرجع منهم خمسةٌ-: فعلى الراجعين حد القذف، ولو شهد شاهدان أن فلاناً أكره فلانة على الزنى-: لا يثبت به الزنى، وهل يثبت المهر للمرأة إن قلنا: يجب حد القذف على الشاهدين، لنقصان العدد-: لا يثبت المهر؛ وإلا فيثبت. ولو شهد أربعةٌ على رجلٍ؛ أنه زنى بفلانة: اثنان منهم قالا: كانت المراة مكرهة، واثنان منهم قالا: كانت طائعة-: لا حد على المرأة؛ لأنه لم يتم شهود زناها أربعةً، ولا حد على شاهدي الإكراه، وهل يجب حد القذف على شاهدي الطواعية للمرأة؟ فعلى قولين: فإن قلنا: يجب عليهما الحد-: فلا يجب حد الزنى على الرجل؛ لأن شهادة شهود-: الطواعية خرجت عن أن تكون شهادة؛ فلم يتم على زناه أربعةٌ. وإن قلنا: لا حد عليهما-: يجب حد الزنى على الرجل، ويجب عليه المهر. فإن قلنا بالأول: أنه لا يحد الرجل-: فلا يجب حد القذف على الشهود في حق الرجل؛ لأن العدد قد تم في حقه، وترد شهادة الشهود الطواعية؛ لأنه مجتهد فيه؛ كرد شهادة الفاسق. ولو شهد أربعةٌ نم العدول على امرأة بالزنى، وشهد أربع نسوة عدولٍ على أنها عذراء-: لا يجب عليها حد الزنى؛ لأن بقاء عذرتها شبهة يسقط به الحد عنها، ولا حد على قاذفها؛ لأن البينة قامت على زناها، ولعل عذرتها عادت بعد ذهابها؛ لعدم المبالغة في الافتضاض، ولا حد على الشهود لهذا المعنى، فلو أقامت امرأة أربعة من العدول على أن فلاناً أكرهها على الزنى، وشهد أربع نسوة عدولٍ على أنها عراء-: لا حد عليه؛ لأن

العذرة شبهة، ويجب عليه المهر؛ لأنه يثبت م الشبهة، ولا يجب عليها حد القذف؛ لشهادة العدول على صدقها. وكذلك: لو شهد رجلان على وطئها بالشبهة، وشهد أربع نسوة على عذرتها-: يجب المهر. فصلٌ: في الروع عن الشهادة روى الشعبي؛ أن رجلين شهدا عند عليٍّ -عليه السلام - على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم أتياه برجلٍ آخر، فقالا: أخطأنا الأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنهما دية الأول، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما. إذا شهد الشهود على رجل بحق، ثم رجعوا - نظر: إن رجعوا قبل القضاء-: لا يجوز للقاضي أن يحكم به؛ لأنا لا ندري أيهم صدقوا في الأول وفي الآخر، ولا يجوز الحكم ما لم يغلب على القلب صدق الشهود. وإن رجعوا بعد القضاء قبل الاستيفاء: فإن كان عقوبة من حد أو قصاص-: لا يجوز أن يستوفي؛ لأنه يسقط بالشبهة، وإن كان مالاً أو عقداً- فوجهان. المنصوص: أنه يستوفي؛ لأن الشبهة لا تؤثر فيه، وقد نفذ الحكم؛ فلا يرد. وقيل في العقوبة التي هي حق للعباد- أيضاً - وجهان؛ مثلُ القصاص وحد القذف. والمذهب الأول. وإن رجعوا بعد [الاستيفاء: لا ينقض] الحكم، وعلى الشهود الغُرم على ما سيأتي في "كتاب الشهادات". والمقصود من هذا الفصل بيان شهود العقوبة، إذا رجعوا فلو شهد أربعةٌ على رجل بالزنى، وهو محصن، فرجم، أو شهد شاهدان بقتل قصاص أو ردة، فقتل ثم رجعوا - نظر: إن قالوا: تعمدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا-: يجب عليهم القصاص أو دية مغلظة في أموالهم موزعة على عدد رءوسهم؛ لأنهم ملجئون إلى القتل؛ كالمكره. وعند أبي حنيفة والثوري: لا يجب القصاص على الشهود؛ بل عليهم ديةٌ مغلظةٌ في أموالهم. فنقول تسبب؛ لا تقطع المباشرةٌ حكمه؛ فجاز وجوب القصاص به؛ كالإكراه، وإن

كان هذا في زنى، [ولا] يحد الشهود حد القذف، ثم يقتلون قصاصاً. وإن قالوا: تعمدنا، ولو نعلم أنه يقتلُ، وهم ممن يجوز أن يخفى عليهم مثله؛ لقرب عهدهم بالإسلام-: أو قالوا في الرجم: ظننا أنه بكرٌ-: حلفوا عليه، ثم هو شبه عمد-: لا يجب به القصاص، وعزروا، وتجب دية مغلة مؤجلة في أموالهم، لأنه ثبت بقولهم، إلا أن تصدقهم العاقلة؛ فيكون عليهم. أما إذا قالوا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل بقولنا، وهم ممن لا يخفى عليهم ذلك-: فهو عمد محض: جب عليهم القود، كمن رمى سهماً إلى إنسانٍ، فأصابه، ثم قال: لم أعلم أنه يبلغه-: يجب عليهم القود. وإن قالوا: أخطأنا إليه من غيره-: حلفوا، وتجب الدية مخففة في أموالهم، إلا أن تصدقهم العاقلة؛ فتكون عليهم، وإن كان هذا في زنى، فحد القذف، لا يسقط عنهم بقولهم:"أخطأنا"؛ لأن القذف يوجب الحد، وإن أخطأ. وكذلك: لو شهدوا على غير محصن بالزنى؛ أو شهدوا بشرب الخمر، فجلد، فمات فيه، أو بسرقة، أو قطع قصاص، [فقطع] فمات فيه، ثم رجعوا-: يجب عليهم القصاص في النفس، إذا قالوا: تعمدنا، ولو قطع شهادتهم قصاصاً أو سرقة، ولم يمت، ثم رجعوا-: يجب عليهم القصاص في الطرف، وإن شهدوا بقذف، أو شرب خمر، أو بالزنى، وهو غير محصن، فجلد، ولم يحث، ثم رجعوا-: يعزرون في القذف والشرب، وفي الزنى يحدون حد القذف، ويدخل فيه التعزير. ولو شهد أربعةٌ على الزنى، فرجم، ثم رجعوا، فقال واحدٌ: تعمدت، سواءٌ قال: لا أدري ما حال أصحابي، أولم يقل، وقال أصحابه: أخطأنا-: لا قصاص على واحدٍ منهم؛ لأن العامد شريك المخطئين، بل على العامد ربعُ الدية مغلظةً في ماله، والباقي على المخطئين مخففة. ولو قال واحدٌ: تعمدت، ولا أدي ما حال أصحابي، وقال أصحابه: تعمدنا، ولاندري ما حاله-: فقد أقروا بالعمدية؛ عليهم القصاص. وأما إذا قال واحدٌ: تعمدت، ولا أدري ما حال أصحابي، وأصحابه موتى، أو غيبٌ-: فلا قصاص عليه؛ لاحتمال أن أصحابه أخطئوا، بل عليه ربع الدية؛ كما لو صرح، وقال: تعمدت أنا، وأخطأ أصحابي، وهم غيبٌ، أما إذا قال: تعمدت أنا وأصحابي، وهم غيبٌ، أو موتى: عليه القود.

ولو قال واحدٌ: تعمدت أنا وأصحابي، وقال أصحابه: أخطأنا جميعاً، أو أخطأنا وتعمد هو-: فلا قود على أصحابه، ويجب عليه؛ لأنه أقر بعمدية الكل. وقيل: لا قود عليه؛ لأن قول أصحابه في خطئهم مقبولٌ، وهو شريك اخاطيء. والأول المذهب. ولو قال واحدٌ: تعمدت، وتعمد أصحابي، وقال أصحابه: تعمدنا، وأخطأ هو-: يجب القود عليه، وهل يجب على أصحابه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنهم أقروا بالعمدية، وأضافوا الخطأ إلى من هو مقر بالعمدية. والثاني-[وهو الأصح]-: لا قود عليهم؛ لأنهم أقروا بعمد شاركهم فيه مخطيء، بل تجب الدية مغلظة في أموالهم. ولو قال واحدٌ: تعمدت، وأخطأ أصحابي، وقال أصحابه: تعمدنا وأخطأ هو-: فعلى هذين الوجهين: أحدهما: على جميعهم القود؛ لأن كل واحد [يقر] بعمديته، ويضيف الخطأ إلى من يقر بالعمدية. والثاني- وهو الأصح-: للقود على واحدٍ منهم؛ لأن كل واحد يقر بعمدٍ شاركه فيه مخطيء، ولا خلاف أن الدية تكون على جميعهم مغلظة. هذا إذا رجعوا جميعاً، فأما إذا رجع واحدٌ منهم-: فلا قود عليه، وإن قال: تعمدت؛ بل عليه ربع الدية، فإن قال الرابع: تعمدنا جميعاً - حينئذٍ: عليه القود؛ كما لو رجعوا جميعاً، وقال واحدٌ: تعمدنا، وقال الآخرون: أخطأنا-: يجب القود على من قال: تعمدنا، على الأصح، وإن رجع اثنان-: فعليهما نصف الدية، وإن كان هذا في قتل؛ شهد عليه شاهدان، ثم رجع واحد-: عليه نصف الدية، ولو شهد على أمر أكثر من عدد الشهادة، ثم رجع الزيادة؛ مثل: إن شهد على الزنى خمسةٌ، ثم رجع واحد منهم بعد الرجم، فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو قول ابن سريج-: لا ضمان عليه؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قد بقى من يتعلق الحكم بشهادته. والثاني- وهو اختيار المزني -: يجب عليه خمس الدية؛ لأن القتل كان بقولهم جميعاً

فإذا رجع واحدٌ-: عليه حصته من الدية؛ كما لو رجع من الأربعة- واحد-: يجب عليه ربع الدية، ولاخلاف أن القصاص لا يجب. أما إذا رجع اثنان من الخمسة-: فعلى الوجه الأول -وهو الأصح-: عليهما ربع الدية؛ لأنه قد بقي في الشهادة من يثبت بشهادتهم ثلاثة أرباع الدية. وعلى الوجه الثاني: يجب عليهما الخمسان. وعلى الوجهين: إذا قال الراجعان: تعمدنا-: قلنا: يجب عليهم كلهم القود؛ كما لو رجعوا جميعاً. ولو قال اثنان منهم: تعمدنا جميعاً، وقال الآخرون: أخطأنا-: يجب القود على من قال: تعمدنا جميعاً. ولو رجع ثلاثةٌ-: فعلى الوجه الأول: عليهم نصف الدية، وعلى الثاني ثلاثة أخماسها، ولو رجع أربعة-: فعلى الوجه الأول: عليهم ثلاثة أرباع الدية، وعلى الوجه الثاني: عليهم أربعة أخماسها، ولو رجعوا جميعاً-: فعلى كل واحد خمس الدية، لا يختلف القول فيه، وإن كان هذا في القصاص-: شهد عليه ثلاثةٌ، فرجع واحد منهم-: فعلى الوجه الأول- وهو الأصح-: لا شيء عليه؛ لأنه قد بقي من يثبت القصاص بشهادتهم. وعلى الوجه الثاني: عليه ثلث الدية. وإذا رجع اثنان-: فعلى الوجه الأول عليهما نصف الدية. وعلى الوجه الثاني: الثلثان. وإذا رجعوا جميعاً-: فعلى كل واحد منهم ثلث الدية. ولو شهد أربعةٌ على الزنى، واثنان آخران على الإحصان، فرجم المشهود عليه، ثم رجعوا-: هل يجب الضمان على شهود الإحصان؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحهما- وبه قال أبو حنيفة-: لا ضمان عليهم، لأنهم لم يشهدوا بما يوجب القتل، إنما أثبتوا صفة كمال فيه، لا تتعلق العقوبة بها؛ كما لو أثنوا عليه خيراً. والثاني: عليهم الضمان، وإن قالوا: تعمدنا-: عليهم القود؛ كشهود الزنى؛ لأن الرجم لم يستوف إلا بقولهم.

والثالث: يُنظر: إن شهدا بالإحصان قبل ثبوت الزنا-: فلا ضمان عليهما، لأنهما لم يثبتا إلا صفةً، وإن شهد بعد ثبوت الزنى-: فعليهم الضمان؛ لأنه رجم بقولهم. فإن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان فالدية على شهود الزنى أربعاً، وإن قلنا يجب الضمان على شهود الإحصان: فعلى هذا: توزع، وكيف توزع الدية عليهم؟ فيه وجهان: أصحهما: هم جميعاً بمنزلة الشهود؛ فيكون الثلث على شهود الأحصان، والثلثان على شهود الزنى فتوزع الدية على عدد رءوسهم، على كل واحدٍ سدسها، حتى لو شهد على الإحصان أربعة - أيضاً - لا يجب عليهم إلا الثلث؛ اعتباراً بأصل ما يثبت به الإحصان. والوجه الثاني: الإحصان مع الزنى نوعان، فيجب النصف على شهود الزنى، والنصف على شاهدي الإحصان؛ ما لو رجع القاضي مع الشهود-: يجب النصف على القاضي، والنصف على الشهود. ولو رجع واحدٌ من شهود الزنى، وواحدٌ من شاهدي الإحصان: إن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان-: فعلى الراجع من شهود الزنى الضمان. وإن قلنا يجب الضمان على شهود الإحصان: فإن قلنا: يجب عليهم ثلث الضمان-: فههنا: [يجب] على كل واحد سدس الدية. وإن قلنا: عليهم النصف -: فعلى الراجع من شهود الزنى ثمن الضمان، وعلى الراجع من شهود الإحصان الربع؛ لأن النصف موزع عليهما. وكذلك: لو رجع واحدٌ من أحد الفريقين وحده-: ففيما عليه هذا الاختلاف. وعلى هذا لو شهد أربعة على الزنى: اثنان منهم على الإحصان، ثم رجعوا: إن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان-: فالدية عليهم أرباعاً. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان-: ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: توزع على عدد رءوسهم؛ فعلى شاهدي الإحصان نصفها، وعلى الآخرين نصفها؛ لأنا-: نجعل الرجوع عن الشهادة بمنزلة الجناية-: فهي كأربعة نفر جنوا على رجل؛ اثنان منهم جنيا كل واحد جنايتين، وآخران: جنى كل واحد جناية واحدة؛ فتكون الدية عليهم سواء.

والوجه الثاني: يفرد ضمان شاهدي الإحصان، فعلى هذا: يبنى على ما ذكرنا أن شاهدي الإحصان مع شهود الزنى، إذا رجعوا ماذا يجب على شاهدي الإحصان؟: إن قلنا: يجب الثلث على شاهدي الإحصان- فههنا: يجب الثلثان عليهما: ثلث عن الزنى، وثلث عن الإحصان؛ فيكون على كل واحد منهما ثلث الدية؛ سدس عن الدية، وسدس عن الإحصان، وعلى كل واحد من شاهدي الزنى من الدية ثمن الدية. وإن قلنا: يجب النصف على شاهدي الإحصان-: فههنا: يجب عليهما ثلاثة أرباع الضمان؛ النصف بسبب الإحصان، والربع بسبب الزنى؛ فيكون على كل واحد من شاهدي الإحصان ثلاثة أثمان الضمان؛ ربعٌ عن الإحصان، وثمن عن الزنى، وعلى كل وحدٍ ممن شهد على الزنى الثمن. وإن رجع واحدٌ منهم - نُظر: إن رجع ممن شهد على الزنى وحده: إن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان-: عليه ربع الدية. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان: إن قلنا يجب الثلث -: فعليه سدس الدية. وإن قلنا: يجب النصف-: فعليه الثمن. وإن رجع ممن شهد عليهما: فإن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان-: يجب عيه ربع الدية، وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان، إن قلنا: إذا رجعوا جميعاً، يجب على شهود الإحصان الثلث -: فههنا: على الراجع الثلث، سدس عن الزنى، وسدس عن الإحصان. وإن قلنا: على شهود الإحصان النصف: فعليه ثلاثة أثمان الضمان؛ ربع عن الإحصان، وثمن عن الزنى. ولو شهد أربعة على الزنى، والإحصان جميعاً، ثم رجع واحد منهم: إن قلنا: لا غُرم على شهود الإحصان-: يجب عليه ربع الدية. وإن قلنا: يجب فههنا: قد بقي من شهود الإحصان من يثبت بشهادته الإحصان. فإن قلنا: يجب الضمان على الراجع، مع بقاء من يثبت به الحجة-: فيجب على الراجع ربع الدية، وإن قلنا: لا ضمان على الراجع مع بقاء من يثبت به الحجة - وهو الأصح-: فلا يجب الضمان على الراجع بسبب الإحصان، وماذا يجب بسبب الزنى؟: إن

قلنا: على شهود الإحصان ثلث الغرم-: فعلى الراجع سدس الغرم. وإن قلنا: نصف الغرم-: فعلى الراجع ثمن الغرم. هذا كله في رجوع الشهود. أما إذا رجع القاضي دون الشهود، فقال: تعمدت-: يجب عليه القود، وكمال الدية، ولا شيء على الشهود. ولو رجع الولي في القصاص وحده-: عليه القصاص، أو كمال الدية. ولو رجع القاضي والشهود-: فعليهم القود، فإذا عفوا، وقالوا أخطأنا -: فعليهم الدية نصفان، نصفها على القاضي، ونصفها على الشهود. ولو رجع الولي معهم: فإن تعمدوا-: فعليهم القود، وإن أخطؤوا-: فالدية عليهم أثلاثاً، ثلث على القاضين وثلث على الشهود، وثلث على الولي. وقد قيل: القصاص أو كمال الدية على الولي دون القاضي والشهود؛ لأنه الذي باشر القتل. والأول أصح. ولو رجع القاضي مع شهود الزنى، وشهود الإحصان. فإن قلنا: لا غرم على شهود الإحصان-: يجب نصف الضمان على القاضي، والنصف على شهود الزنى. وإن قلنا: يجب الغرم على شهود الإحصان-: فكون ثلث الغرم على القاضي، لا خلاف فيه، وفي الباقي وجهان: إن قلنا: شهود الزنى والإحصان يغرمون منا صفة-: فنصف الباقي على شهود الزنى، والنصف على شهود الإحصان؛ فيكون على كل طائفة ثلثها. وإن قلنا: على شهود الإحصان ثلث الغرم، إذا كانوا مع شهود الزنى؛ فيجعل الباقي أثلاثاً ثلثه على شاهدي الإحصان، وثلثاه على شهود الزنى. قال الإمام - رحمه الله-: عندي إذا قلنا: شهود الزنى والإحصان نوع واحد-: [يجب] نصف الغرم على القاضي، والنصف على شهود الزنى والإحصان جميعاً. ولو رجع المزكي، هل عليه الضمان، وإن تعمد - فالقود فيه وجهان:

الأصح: لا غرم عليه؛ لأنه لم يتعرض للمشهود عليه، لأنه إنما أثبت صفة في الشاهد. قال الشيخ القفال - رحمه الله-: الوجهان فيما إذا قال المزكيان: علمنا أن الشاهدين كانا كاذبين؛ بأن أقرا بالكب بين أيدينا، وأما إذا قالا: كانا فاسقين فزكيناهما-: فلا شيء على المزكي؛ لاحتمال أن الشاهدين كانا صادقين، مع كونهما فاسقين. فإن قلنا: يجب الضمان على المزكي-: فالمزكيان مع شهود الزنى وشهود الإحصان نوعٌ واحدٌ، حتى إذا رجعوا توزع الدية على عدد رءوسهم أم توزع حتى يجب على كل طائفة ثلثها؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا في شهود الزنى، مع شهود الإحصان، والله أعلم. باب حد القذف قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. من قذف محصناً أو محصنة بأن قال له: يا زاني، أو زنيت-: يجب عليه الحد ثمانون جلدة إلا الوالد يقذف ولده، أو أحداً من نوافله-: لا يجب عليه الحد؛ كما لا يجب عليه القصاص بقتله. وشرائط إحصان القذف خمسة: الإسلام. والعقل.

والبلوغ. والحرية. والعفة من الزنى. حتى لو قذف ذمياً أو صبياً أو مجنوناً أو عبداً أو شخصاً قد زنى مرة- لا يجب الحد على قاذفه، ولكن يعزر للأذى. نما يجب الحد على القاذف، إذا كان عاقلاً بالغاً، سواءٌ كان مسلماً أو ذمياً، أو معاهداً، ثم إن كان حراً-: عليه جلد ثمانين، وإن كان عبداً-: فيجلد أربعين. وكذلك: المكاتب، وأم الولد، ومن بعضه حر وبعضه رقيقٌ-: فحدهم حد العبيد، ولا يجب الحد بقذفهم. ولو قذف صبي أو مجنون إنساناً-: فلا حد عليه، ثم إن كان الصبي يعقل عقل مثله، والمجنون له تمييز-: يُعزر. ولو نسبه إلى كبيرة غير الزنى: من كفر أو سرقه، أو شرب، أو قتل-: فلا حد عليه، ولن يعزر للأذى، وأكثر مسائل هذا الباب مذكورة في "كتاب اللعان"، والله أعلم. باب السرقة قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ...} الآية [المائدة: 38]. السرقة أخذ المال خفية من الحرز، فكل مكلفٍ التزم حكم الإسلام، سرق نصاباً من

المال، مختاراً من حرز مثله لا شبهة له فيه-: وجب عليه القطع، سواءٌ كان السارق رجلاً أو امرأة، حراً أو عبداً، آبقاً كان العبد أو غير آبق.

ولو سرق صبي أو مجنونٌ شيئاً-: لا قطع عليه؛ لأن القلم عنه مرفوع. وكذلك: لو أكره على السرقة، ففعل-: لا قطع عليه. ويجب على الذمي القطع بالسرقة، ولا يجب على الحربي؛ لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام، وفي المستأمن قولان. ولا يجب القطع بسرقة مادون النصاب. والنصاب ربع دينار من الذهب الخالص، لما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:"تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً" والمراد بـ "الدينار" المثقال وزن سبعة مثاقيل.

وقال داود: النصاب غير شرط، ويقطع بسرقة القليل والكثير جميعاً، والخبر حجة عليه، ولأن القطع شرع للزجر عما يميل الطبع إليه، وطبع الإنسان لا يميل إلى سرقة الشيء التافه القليل، فلم تشرع فيه العقوبة، للزجر فإذا سرق ربع دينار، أو سرق شيئاً قيمته ربع دينار-: يجب القطع.

وتقويم المسروق يكون بالذهب، حتى لو سرق دراهم-: تقوم بالدنانير، فإن بلغت قيمتها ربع دينار-: قطع؛ وألا فلا يقطع.

وعند أبي حنيفة: نصاب السرقة عشرة دراهم وعند مالك: ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، ويقوم المسروق بالدراهم.

والخبر حجة لنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر النصاب بالذهب. ولو سرق دنانير مغشوشة، فإن كان فيها من الذهب الخالص ربع دينار فيقطع وألا فلا، ولو سرق تبراً من الذهب، أو حلياً من ذهب وزن ربع دينار، وقيمته أقل من ربع دينار مضروب-: هل يجب القطع؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول الأكثرين-: يجب القطع؛ لأن الاعتبار بالذهب، وقد سرق من الذهب وزن ربع دينار. والثاني- وهو قول الإصطخري، وأبي علي بن أبي هريرة-: أنه لا يجب القطع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ربع دينارٍ. والدينار اسم للمضروب؛ فعلى هذا: يقوم تبر الذهب بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالدنانير المضروبة. ولا يختلف القطع باختلاف أنواع المال، حتى تجب بسرقة الثمار الرطبة، والبقول، والخضروات، والرياحين، وسرقة الأطعمة المطبوخة، كالهريسة، والحلواء، والشواء، ونحوها.

وهل يجب بسرقة الماء؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه مال يباع ويبتاع. والثاني: لا يجب؛ لأنه لا يقصد إلى سرقته، كالشيء التافه الذي لا تبلغ قيمته نصاباً. ويجب بسرقة كل شيء [كان] أصله على الإباحة، فملك كالحشيش والحطب والصيود والطين وغيرها. وعند أبي حنيفة: لا قطع في الثمار الرطبة، ولا في الأطعمة المطبوخة، ولا فيما كان أصله على الإباحة؛ كالحشيش والحطب والخشب، إلا أن يكون الخشب معمولاً: فيجب فيه القطع، وأوجبوا في خشب الساج، وإن لم يكن معمولاً ولم يوجبوا في الطين والزجاج، وإن كان معمولاً، فقالوا: لا يجب في الصيود والطيور، إلا الدراج. وقالوا: لا يجب فيما يستخرج من المعادن من النفط والمومياء، ونحوه، إلا الجواهر. والدليل على ما قلنا: ما رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن التمر المعلق؟ قال: من سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين مبلغ ثمن المجن، فعليه القطع". وعن عثمان؛ أنه قطع سارقاً في أنزجةٍ قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر

درهماً بدينارٍ، ولأنه مالٌ محرز؛ فيجب بسرقة جنسه القطع؛ كالدراهم والدنانير، وإن كان أصلها على الإباحة. ويجب القطع بسرقة المصحف والتفاسير وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. وتجب بسرقة كتب الأشعار عن كانت حكمة، وإلا فلا، إلا أن يصلح جلده وقرطاسه للاستعمال في مباح وبلغ نصاباً. وعند أبي حنيفة: لايقطع بسرقة المصحف، وإن كانت حليته ثمينة تزيد على النصاب. فصلٌ: في بيان الحرز رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة الجبل، فإذا آواه المراح والجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" فأسقط القطع في الماشية، إلا ما آواه المراح، وفي الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين، فدل أن الحرز شرط في إيجاب القطع. ورُوي أن صفوان بن أمية قدم المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارقٌ، وأخذ رداءه، فأخذه صفوان، فجاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تقطع يده، فقال صفوان: "إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"فهلا قبل أن تأتيني به" الحرز شرط لوجوب القطع في السرقة؛ فإن سرق من حرز، وأخذ نصاباً-: قطع، وإن سرق من حرزين نصاباً-: لا يقطع، وإن سرق من غير حرز-: لاقطع عليه. والحرز يختلف باختلاف الأموال، والمرجع فيه إلى العرف والعادة، فما يعرفه الناس حرزاً لنوع من الأموال، وهو ما لا ينسب المودع إلى التضييع بوضع الوديعة فيه عند إطلاق الإيداع، فإذا سرق منه: يجب القطع، وما لا يعرفونه حرزاً لمثله-: لا يجب فيه القطع؛ لان الشرع لما دل على اعتبار الحرز، ولم يجعل له حداً-: كان الرجوع فيه إلى العرف، لقبض المبيع والتفرق عن مكان البيع، وإحياء الموات، وكل ما كان حرزاً لشيء -: فهو

حرز لما دونه دون ما فوقه؛ فالإصطبل حرزٌ للدواب دون النقود، والثياب، والمتبن حرز للتبن دون الفرش والأواني. وعند أبي حنيفة: الحرز لا يختلف، فما كان حرزاً لنوع -: كان حرزاً لجميع الأنواع، حتى جعلوا الإصطبل والمتبن حرزاً للنقود والثياب. إذا ثبت أن الحرز يختلف-: فالأموال النفيسة كالنقود والجواهر والثياب الثمينة من الحرز تختلف، فالأموال النفيسة والبرد، الإبريسم فحرزها الخزائن والبيوت في الخانات والأسواق الحريزة، وفي الدور المنيعة، والصفة في الدار حرز للفراش والصحن حرز للأواني. ولو نام رجل في صحراء أو مسجد على ثوبه، أو اتكأ عليه، [أو] توسد متاعه، فجاء سارقٌ، وأخذ الثوب من تحته، أو المنديل من رأسه، أو المداس من رجله، أو الخاتم، من إصبعه، أو أخذ شيئاً من المتاع الذي توسده- قطع؛ لأنه محرز به؛ بدليل حديث صفوان. ولو زحف عن ثوبه في النوم، فأخذه رجل أو رفعه السارق من الثوب، ثم أخذ الثوب - لا يقطع؛ لأن الحرز قد زال بزحفه ورفعه السارق. ولو وضع ثيابه أو خفه أو متاعه بقربه، فنام، فسرق - لم يقطع؛ لأنه غير محرز، وإن كان متيقظاً، ينظر فتغفله رجلٌ، فسرق - قطع. ولو طُر جيب إنسان أو كمه، فأخذ المال - قطع سواء كان ربطه في الكم أولم يربطه، فادخل يده في كمه أو جيبه، فأخذه، وسواء كان الرباط داخلاً أو خارجاً، وإن أخذه من رأس منديله في رأسه: فإن كان قد شده عليه - قُطع، وإن لم يشده فلا. والبقال والصيدلاني: إذا أخرج متاعه على باب الحانوت، وقام، فتركه- نُظر: إن ضم الأمتعة بعضها إلى بعض، وربطها بحبلٍ، أو نصب عليها شبكة، أو نصب لوحين في باب الحانوت مخالفاً: فإن كان بالنهار، والناس ينظرون - فهو حرزٌ؛ يقطع من سرق منه، وإن ترك الأمتعة خارج الحانوت متفرقة، [لم يضمم بعضها إلى بعض، ولم يربطها]- فليس بحرزٍن و [في الليلي لا يكون حرزاً، كيفما كان؛ إلا أن يكون عليه حارس [أو كان في

سكة أو سوق، وله باب مغلق ولذلك المكان حارسٌ] وكذلك لو سرق الطعام من غرائر يشد بعضها إلى بعض في موضع البيع بحيث لا يمكن أخذ شيء منه إلا بحل الرباط أو فتق الظرف - قُطع؛ لان العادة تركه في موضع البيع، [وإن لم يكن عليها باب مغلق عند الأمن. وقيل: لا يقطع؛ إلا أن يكون في دار، دونها بابٌ مغلق، وكذلك لو سرق حطباً شد بعضه إلى بعض - قطع؛ لأنه محرز بالشد، وإن كان متفرقاً- لم يقطع، وقيل: لا يقطع؛ إلا بأن يكون في دار دونها باب مغلق، أو على سطح محوط، مجتمعاً كان أو متفرقاً، والقصيل على السطح محرز؛ إن كان السطح محوطاً بالحطب. ولو سرق أجذاعاً ثقالاً مطروحة على أبواب المساكن- قُطع، ولو ترك البقال المتاع في الحانوت بالليل، وأغلق بابه: فإن كان فيوقت الأمن - فهو محرز، وإن لم يكن- فلا يكون محرزاً؛ إلا بحارس، ومال البياع والبزاز لا يكون محرزاً إلا بحارس. ولو سرق باب دار أو دكان أو المغلاق، أو حلقة الباب، وهي مسمرة- قطع؛ لأنها محرزة بالتركيب والتسمير، وكذلك الآجر إذا سرقه من صحن الدار أو أخرجه من الجدار، خارجاً أو داخلاً، ليلاً كان أو نهاراً، والحنطة في المطمورة أو في الجبانة، والتبن في المتبن، والثلج في المثلجة والجمد في المجمدة - غير محرز إلا بحارس، وكذلك الكدس، في الصحراء، والزرع والكرسف، قصيلاً كان أو اشتد حبهن وخرج جوزقه فلا يكون محرزاً إلا بحارس، وكذلك البذر في الأرض: إن كان مستتراً بالتراب، وإن كانت هذه الأشياء في محوط - فكالثمار، والثمار على الأشجار في البرية- لا تكون محرزة إلا بحارس، فإن كانت في البساتين والروم - نظر: إن كانت متباعدة عن الطرق والمساكن - لا تكون محرزة إلا بحارس. وإن كانت متصلة بالدور والبساتين، لها جيران حفظة - فهو محرز، وإن لم يكن لها حارس على الخصوص؛ وإلا - فلا تكون محرزة إلا بحارس؛ كالأمتعة في الدور،

والأشجار الراسخة في أفنية الدور محرزة بباب الدور وفي البرية- لا تكون محرزة إلا بحارس، ولو سرق شيئاً من المواشي من الأبنية المغلقة - يجب القطع، فإن كانت الإبل في صحراء لا يخلو: أما إن كانت راعية أو مقطرة، أو باركة، فإن كانت راعية، وعليها حافظ، يرى الكل - فهي محرزة، فإذا احتال رجلٌ، وسرق منها شيئاً- قُطع، وإن كان بعضها في وهدة، أو خلف جبل، أو وراء حائل لا يراه الحافظ: فما لايراه الحافظ- لا يكون محرزاً، وكذلك، لو نام الحافظ عما يراه- لا يكون محرزاً، [وإن] كانت الإبل في السير - نظر: إن لم تكن مقطرة، ويسوقها رجل أو يقودها واحدٌ، ويتبعه الآخر - فلا يكون محرزاً، لأن حرزها التقطير في السير، وإن كانت مقطرة -نظر: إن كانت في مستوى الأرض، وواحدٌ يسوقها، أو يقودها، أو ركب واحداً منها، وهذا القائد يلتفت كل ساعة، وإذا التفت يرى الكل- فهي محرزة بهذين الشرطين بالالتفات إليها، وبمشاهدة الكل، وكذلك لو كان يسوق بقرة، والعجل خلفه يتبعه، فسرق العجل، فإن كان قريباً منه بحيث لو التفت يراه، وهو يلتفت كل ساعة - قطع؛ وإلا - فلا. وإنما تكون الإبل بالإفطار محرزاً، إذا لم يزد في قطار واحد على تسع؛ لأنه العرف في القطار، فإن كان القطار في أبنية البلد - فما يقع عليه بصره؛ لو التفت - يكون محرزاً، [وما يستتر بالبناء - ولا يقع عليه بصره؛ إذا التفت - لا يكون محرزاً] وقال أبو حنيفة: إن كان يسوقها - فالكل محرز، وإن كان يقودها - فالذي بيده زمامه محرز دون غيره. فكل موضع جعلنا الإبل محرزة- فما عليه من المتاع محرز، بقطع سارقه؛ سواء سرق المتاع من الوعاء أو مع الوعاء، أو سرق البعير الذي عليه المتاع معه. وقال أبو حنيفة: إن سرق مع الوعاء - لا يقطع، وإن أدخل يده في الوعاء، فأخذ منه شيئاً - قطع، ولو أخذ رجلٌ بزمام البعير الذي عليه الحارس، فذهب -يقطع؛ لأنه محرزٌ بالحارس، ويد الحارس لم تزل عنه، وإن كان على البعير عبد - نظر: إن كان صغيراً - فهو كسائر الأموال؛ يكون محرزاً بالسيد، وإن كان كبيراً - فهو كالسيد؛ يكون المال محرزاً به.

قال الإمام- رحمه الله-: إن كان القائم بالمال هو ذلك العبد؛ [وألا] يجب القطع على من سرقه مع البعير، كمن سرق عبداً بالغاً قائماً مع المتاع - يقطع، وإن كان الراكب نائماً، فأنزله عن البعير، وذهب بالبعير - لم يقطع؛ لأنه رفع الحرز، ولم يهتكه؛ بخلاف ما لو فتح الحرز، أو ثقب الجدار، فأخذ المال، قُطع؛ لأنه هتك الحرز. وإن كانت الإبل باركةً، وهو ينظر إليها - فهي محرزة، وإن كان لا ينظر إليها - فلا تكون محرزة إلا بشرطين: أحدهما: أن يعقلها. والثاني: أن ينام عندها. فإن فقد أحد الشرطين -فلا تكون محرزة، وما على الجمال من الأحمال محرز بحرز الجمال. والغنم في المرعى - كالإبل. فإن كان الراعي على نشر، يرى الكل - فهي محرزة، وإن كانت متفرقة، إذا كان يبلغها صوته، إذا زجرها، فإن كان بعضها في هبوط أو على صعود؛ لا يراها الراعي - فما غاب عن بصره - لا يون محرزاً. وكذلك الخيل والبغال والحمير في المراعي. وإن بعدت الأغنام عنه؛ بحيث لا يبلغها صوته فما لم يبلغها صوته - لا يكون محرزاً؛ لأنها تجتمع وتتفرق بصوته، وإن كانت الأغنام والخيل والبغال والحمير سائرة، وخلفها سائق يرى جميعها، ويبلغا صوته؛ [إذا زجرها - فهي محرزة، وما غاب عن عينه أو لم يبلغها صوته] فغير محرز. وإن كانت في مراحها- نظر: إن كان في البلد- فلا تكون محرزة؛ إلا أن تكون في بناء، والباب مغلق، وإن كان في صحراء - فحتى يكون حولها جدارٌ من حشيش أو حطب، وينام عندها. ولو سرق عبداً صغيراً، أو أعجمياً- قطع، إن كان محرزا، وحرزه: أن يكون في الدار، أو بفناء الدار؛ سواء كان نائماً؛ فرفعه، أو منبتها؛ فدعاه؛ وسواء كان وحده أو

يلعب مع الصبيان؛ [لأن الولي لا ينسب إلى التضييع بترك العبد الصغير على باب الدار. فإن بعد من داره؛ بأن دخل سكة أخرى- لم يقطع سارقه] لأن الولي ينسب على التضييع في هذه الحالة، وإن كان العبد بالغاً عاقلاً - فلا يقطع؛ إذا دعاه، فإن أكرهه، أو كان نائماً، فرفعه - قطع؛ سواء كان بفناء الدار أو لم يكن؛ لأنه محرزاً بنفسه، ولو سرق صغيراً حراً لا قطع عليه؛ لأن الحر - لا يضمن باليد، فإن كان معه مال أو في عنقه قلادة تبلغ نصاباً - فيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً. والثاني: لا يقطع؛ لأنه محرز بالصبي، والصبي معه؛ كما لو قاد الجمل، والمالك عيه نائم؛ فنه لا يقطع. أما إذا سرق حلياً في عنق صبي - يقطع، وإن كان صغيراً، إذا كان قريباً من الدار، فإن كان بعيداً فلا، كالعبد الصغير يسرقه. ولو سرق كلباً في عنقه قلادة، قيمتها نصاب، أو سرق القلادة من عنقه - قطع، وحرز الكلب: أن يكون في الدار، كالدواب. ولو سرق بقرة لا تساوي نصاباً، فتبعها العجل، فتم به النصاب لا يقطع؛ لأن اتباع العجل بسوق الأم تسبب، والقطع يجب بالمباشرة، وهل يدخل العجل في ضمانه؟ فيه وجهان: [ولو سرق أم ولد إنسان]؟ فيه وجهان: أصحهما: يقطع؛ لأنها مملوكة؛ تضمن باليد؛ كالعبد القن. والثاني: لا يقطع؛ لنقصان معنى المالية فيها. ولو سرق مكاتباً- لا يقطع؛ لأنه في يد نفسه، وكذلك من بعضه حر وبعضه رقيق. ولو ضرب فسطاطاً أو خيمة، وآوى إليه متاعه، فسرق الفسطاط والمتاع- نظر. إن كان منفرداً في [مفازة]، ولم يكن معه من يتقوى به - فلا يكون محرزاً، وكذلك في البلد، وإن نام فيه؛ لأنه لا يعد حرزاً في البلد. وإن كان الفسطاط في الصحراء -نظر: إن شده بالأوتاد، وأرسل أذياله، ونام فيه، أو

على بابه - فهو محرز، فمن سرق الفسطاط، أو شيئاً مما فيه - يجب عليه القطع. وعند أبي حنيفة: إن سرق المتاع دون الفسطاط - قطع، وإن سرق مع الفسطاط - لا يقطع؛ ولا فرق عندنا بينهما؛ لأن الكل محرز به، فلو اخرج النائم من السطاط، وبعده عنه، ثم سرق-فلا قطع؛ لارتفاع الحرز بإخراجه، ولو شد الفسطاط بالأوتاد، ولم يسبل ذيوله، ونام فيه: فإن سرق شيء مما فيه- لم يقطع، وإن سرق الفسطاط - قطع؛ لأنه محرز بالشد. قال الشيخ - رحمه الله-: إن كان الحافظ مستيقظاً - قطع؛ سواء سرق الفسطاط أو ما فيه. وإن كان متاعه في دار - نظر: إن كانت منفصلة عن البلد؛ كالرباطات في البرية فإن لم يكن هناك من يتقوى به- فليس بحوز، وإن كان عليها حارس، وإن كانت متصلة بالدور في موضع مأهول نظر: إن كان باب الدار مغلقاً، وفيها حافظ - فهو حرز، ليلاً كان أو نهاراً؛ سواء كان الحافظ مستيقظا أو نائماً، وإن لم يكن عليها حافظ، والباب مغلق - فهو حرز في وقت الأمن في النهار، وليس بحرز بالليلن ولا في أيام الخوف والنهب؛ ليلاً كان أو نهاراً، إلا بحافظ، وإن كان الباب مفتوحاً: فإن كان فيها حافظ متيقظ - فهو حرز وإن كان من فيها نائماً - فلا يكون حرزاً؛ لأن النائم الغائب، ولو غاب صاحب البيت، وترك الباب مفتوحاً- فلا يكون ما فيه محرز، كذلك إذا نام. وقيل: هو محرز بكون النائم فيه؛ إذا كان المتاع قريباً منه: لأن العادة قد جرت بأن ينام صاحب الدار [ساعة]، ويترك الباب مفتوحاً. والأول أصح؛ كما لو نام في صحراء، فترك متاعه بين يديه - لا يكون محرزاً، وحكم باب البيت وباب الدار والبستان وحلقة الباب وآجر الجدار حكم متاع الدار؛ من قلعه، فسرقه - يجب عليه القطع. فكل موضع جعلنا ما في الدار محرزاً بإغلاق الباب نم غير حافظ: فإن كان باب الدار مغلقاً، وباب البيت مفتوح - فهو حرز؛ كما يكون الصحن والصفة حرزاً له، فإن أخرج شيئاً من البيت إلى الصحن- لم يقطع، وإن أخرج من الدار - قطع. وإن كان باب البيت مغلقاً، وباب الدار مفتوحاً، فأخرجه من البيت إلى الدار - قطع،

وإن كان باب البيت والدار مغلقين: فإن أخرج من الدار - قطع، وإن أخرج من البيت إلى الصحن - ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ ما لو كان باب الدار مفتوحا. والثاني: لا يقطع؛ لأن باب الدار: إن كان مغلقاً - فلم يخرجه عن تمام الحرز؛ كما لو أخرجه من صندوق إلى البيت، ولم يخرجه عن البيت - لم يقطع. وإن كانت الدار يسكنها جماعة ينفرد كل واحد ببيت، كالخان والمدارس والرباطات أو دار يسكنها جماعة بالكراء، كل واحد في بيت - فهي كدار الغير فيحق من لا يسكنها، فإن سرق أجنبي من صحنها شيئاً، يحرز في الصحن - قطع، وإن أخرج من بيت إلى الصحن - فعلى وجهين؛ كالدار. وإن سرق واحد من سكانها شيئاً - نظر. إن أخذ من الصحن - لم يقطع؛ لأن الصحن مشترك بين سكانها. وإن أخرجه من بيت إلى الصحن: فإن كان باب البيت مغلقاًن ففتحه - قطع؛ سواء كان باب الخان مغلقاً أو مفتوحاً. وإن أخرجه من بيت غير مغلق - لم يقطع. وإن دخل داراً ضيقاً، فسرق [منها] شيئاً - نظر: إن أخذه من الموضع الذي قعد فيه - لم يقطع؛ لأنه خائن ليس: بسارق، وإن أخذه من بيت مغلق - قطع. وإن لم يكن مغلقاً - لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه. وإن سرق من الحمام إزاراً، أو ثوب واحد ممن دخل الحمام نظر إن دخل متحمماً، فسرق - لم يقطع، وإن دخل سارقاً - نظر: إن كان الحمامي حاضراً أو حافظ غيره مستيفظاً - قطع، وإن لم يكن حاضراً أو كان نائماً أو معرضاً عنها، لا يشاهدها - لم يقطع؛ لأنه غير محرز، وغنما يجب بسرقة ثوب من دخل الحمام، إذا أمر الحمامي بحفظه، فإن لم يأمر - فلا قطع على السارق، [ولا ضمان على الحمامي بترك حفه. وإن استحفظه، فتواني في حفظه - فلا قطع على السارق] لأنه غير محرز، ويجب

الضمان على الحمامي؛ لتفريطه في حفظه. وكذلك: صاحب الدكان، إذا أذن للناس في دخول دكانه للشراء، فدخله مشتر، فسرق شيئاً - لم يُقطع، وإن دخل للسرقة - قطع، وإن لم يكن أذن في الدخول - قطع بكل حال، ولا فرق في هتك الحرز، ووجوب القطع: بين أن يكسر الباب، أو يقلعه، أو يفتح المغلاق أو القُفل، أو ينقب الجدار، أو يتسور الحائط، أو يدخل يده، أو محجنه، فيجر شيئاً أو يطُر جيب إنسان، أو يشق كمه، فيخرج المال. وعند أبي حنيفة: إن أدخل يده في جوالق، فأخرج - قُطع، وإن أدخل في بيت، فلا؛ لأن العادة في البيت الدخول فيه للإخراج، ولا يجب القطع حتى يخرج المال من جميع الحرز، فإن أخذ طرف عمامة أو خشبة، فأخرج بعضها - لم يقطع ما لم ينفصل الكل عن الحرز. ولو نقب الحرز، فأخرج أقل من نصاب، ثم عاد، وأخرج تمام النصاب - نظر: إن كان يخرج شيئاً فشيئاً، ويضعه على باب النقب؛ حتى تمام النصاب - يجب القطع، وإن فارق الحرز أو عاد إلى مسكنه بعد إخراج بعض النصاب، ثم عاد من ليلته، فأتم النصاب - ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي العباس بن سريج: يقطع؛ لأنه أخذ نصاباً من حرز هتكه؛ كما لو أخرجه دفعة واحدة، وكما لو طر جيب رجل، فجعل يخرج درهماً درهماً؛ حتى تم النصاب، أو خرق جراباً، فأخذ طرف منديل يجره شيئاً فشيئاً؛ حتى أخرج كله - يجب القطع. والثاني: قاله أبو إسحاق: لا يجب القطع؛ لأنه أخذ بقية النصاب من حرز مهتوك. والثالث: وهو قول ابن خيران: إن عاد، فسرق الباقي بعدما اشتهر هتك الحرز، [وعلم به الناس أو علم به المالك - لم يقطع، وإن عاد قبل أن اشتهر] وعلم -قطع. ولا فرق بين أن يعود في هذه الليلة فأتم النصاب، وبين أن يعود في الليلة الثانية، وقيل: إن عاد في اليلة الثانية، فأتمه - لم يقطع وجهاً واحداً. ولو نقب رجلٌ حرزاً ودخله آخر، فأخذ المال - لا قطع على واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما لم يجمع بين هت الحرز، وأخذ المال؛ بل يجب على الناقب ضمان الجدار،

وعلى الآخذ ضمان المال، هذا إذا لم يكن في الدار حافظ [قريب من النقب] فإن كان في الدار حافظ قريب من النقب] بحيث يكون المتاع به محفوظاً - فيجب القطع على الآخر؛ عن كان الحافظ مستيقظاً، وإن كان نائماً - فلا يجب؛ على أصح الوجهين؛ كمن نام في الدار، وترك الباب مفتوحاً. ولو نقب الحرز رجل ثم أدخل فيه صبياً لا يعقل، أو عبداً أعجمياً؛ حتى أخرج المال، أو كان في الحرز صبي أو أعجمي، فرفع إليه، حتى أخرجه - يجب القطع على الناقب؛ لأن فعل الصبي والأعجمي - محال عليه؛ كما لو أدخل فيه محجناً، وأخرج المال -يجب القطع. ولو نقب رجلان معاً، ثم دخلا، وأخرجا نصابين: فإن أخذ كل واحد نصاباً، أو حملاً متاعاً، ثقيلاً أو خفيفاً، معاً، قيمته نصابان - يجب عليهما القطع، ويحصل الاشتراك في النقب، بأن أخذ أحدهما سيناً، فنقب بعضه، ثم أخذ الآخر، فنقب بعضه؛ هذا هو الأصح. وقيل: لا يحصل الاشتراك إلا بأن يأخذ آلة واحدة بأيديهما، فينقبان معاً؛ كالاشتراك في قطع الطرف؛ لوجوب القصاص. وإن نقبا وأخذا نصاباً واحداً - لا قطع عليهما. وإن أخذ أحدهما نصاباً أو أكثر، ولم يأخذ الآخر شيئاً أو أخذ أقل من نصاب - فيجب على من أخذ نصاباً القطع، ولا يجب على الآخر إلا ضمان ما أخذ]] وعند أبي حنيفة - رحمه الله -: إذا كانوا جماعة، وأخذ واحد قدر ما لو ودع على الكل - خص كل واحد نصاباً - يجب على جميعهم القطع، وإن كان الآخذ واحداً؛ لأن الآخرين كانوا ردءا للآخذ، وعنده: يعاقب الردء ما يعاقب المباشر. ولو نقبا الجدار، ودخل أحدهما، وأخذ المتاع، ولم يخرج من الحرز، ولكن أخرج يده مع المتاع من فم النقب، فأخذه صاحبه - يجب القطع على الداخل دون الآخر، ولو أدنى الداخل المتاع من النقب في البيت، فأدخل الخارج يده، فتناوله، وأخرجه - وجب القطع على الخارج، لأنه أخرج المتاع، ولا يجب على الداخل.

ولو نَقَبَا الجدار، فدخل أحدهما، فوضع المتاع في نصف النقب، فأخذه الآخر، وأخرجه - لا قطع على كل واحد منهما؛ لأن كل واحدٍ لم يوجد فعله في الإخراج عن جميع الحرز. وحكى الحارث بن سريج القفال قولاً: أن عليهما القطع؛ لأنهما اشتركا في النقب، كما لو أخذا معاً، وأخرجا. والأول المذهب؛ لأنهما. وإن اشتركا في النقب - فقد تفرقا في الإخراج؛ فصار كما لو نقب رجل الحرز، ودخل موضع المتاع في نصف النقب، فأخذه الآخر فلا قطع على واحد منهما، وكذلك لو نقب رجلٌ الحرز، ودخل غيره، فوضع في نصف النقب، فأخذه الناقب - فلا قطع عليهما. ولو أن رجلين أعمى، ومقعداً، نقباً حرزاً، فدخلا، فأخذ المقعد المال، ثم حمله الأعمى، فأخرجه - يجب القطع على المقعد، وهل يجب على الأعمى؟ فيه وجهان. وكذلك: صحيحان، نقبا، ودخلا، وأخذ أحدهما المال، ثم حمله الآخر، فأخرجه - يجب القطع على المحمول، وفي الحامل وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه حمل حامل المال، فصار كمال لو حمل المال. والثاني: لا يجب؛ لأنه لم يحمل بنفسه المال، ولا يُجعل حمل حامل المال كحمل المال؛ بدليل أنه لو حلف ألا يحمل متاعاً، فحمل حامله- لا يحنث. ولو أخذ المقعد المال في الحرز، فدفعه إلى الأعمى، فأخرجه - فالقطع على الأعمى، دون المقعد. وكذلك: لو وقف أحد السارقين على طرف [السطح، ونزل الآخر الدار، فجمع المتاع، فشده في حبل، فجره الذي على طرف] السطح، وأخرجه - يجب القطع على من جره دون من [جمعه و] شده، ولو دخل الحرز، وأخذ متاعاً، فرماه إلى الخارج - قطع، سواء خرج فأخذه أو أخذه غيره. وكذلك: لو كانت الريح تهب، فألقاه على الريح حتى خرج، أو وضعه في النقب،

فطارت به الريح - قطع؛ لأن الفعل له، وإن عاونته الريح؛ كما لو رمي سهماً إلى شيء، فقوته الريح - كان مضافاً إليه [في وجوب القصاص وحل الصيد، وإن كانت الريح ساكنةً، فوضعه على طرف الحرز، فهبت به الريح، فأخرجته ففيه وجهان؛ قال الشيخ - رحمه الله-: الأصح عندي: لا يجب. وكذلك: لو وضعه على ماء جارٍ حتى خرج - قُطع، وإن كان الماء راكداً في الحرز، فوضعه فيه: فإن حركه، حتى خرج - قطع، وإن حركه غيره - لم يقطع، وإن انفجر الماء، وجاء سيل، فأجراه، فأخرجه - فعلى وجهين. ولو وضعه على ظهر دابة في الحرز، فسيرها، أو شده على جناح طائر، وطيره، حتى خرج، أو كانت الدابة في السير، فوضع على ظهرها، فخرجت قطع. وإن كانت الدابة واقفة، فسارت بنفسها حين وضع المتاع عليها - نظر: إن وقفت ساعةً، ثم سارت - لا يقطع، وإن سارت أو طارت في الحال - فوجهان: أحدهما: يقطع؛ لأن خروجه عن الحرز بسبب منه. والثاني: لا يقطع؛ لأن للدابة اختياراً. وكذلك: إذا قلنا: إذا فتح قفصاً على طائر، فوقف، ثم طار - لا يضمن، ولو فتح حرزاً عن غنم، فخرجت: فإن حرها حتى خرجت - قطع، وإن خرجت من غير تحريك - فلا قطع، ولو فتح كندوجاً، فانثالت منه الحنطة، أو طر جيبه أو كُمَّه، فسقط منه المال - يجب القطع؛ هذا هو المذهب. ولو حلب شاةً في الحرز، فأخرج لبنها - يجب القطع؛ إن كانت قيمة اللبن نصاباً، ولو شرب اللبن في الحرز، ثم خرج - لا قطع عليه؛ بل يجب عليه ضمان اللبن؛ لأنه لم يخرج المال عن الحرز؛ كما لو أتلف في الحرز مالاً أو أحرقه، ولم يخرجه - فلا قطع عليه. ولو ابتلع في الحرز جوهرة أو ديناراً، وخرج - ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه استهلكها في الحرز؛ بدليل وجوب القيمة عليه؛ كما لو أكل الطعام. والثاني: يقطع؛ لأنها قائمة في جوفه؛ كما لو وضعها في جيبه، أو في وعاء، فأخرجها - يجب القطع.

ولو أخذ في الحرز طيباً، فتطيب به، ثم خرج - نظر: إن لم يمكن أن يجمع منه ما قيمته نصابٌ - فلا قطع عليه؛ كما لو كان طعاماً، فأكله، وإن [كان يمكن] أن يجمع منه ما قيمته نصابٌ - فعلى وجهين: أحدهما: لا يقطع؛ لأن استعمال الطيب إتلاف؛ كالطعام يأكله. والثاني: يقطع؛ لأن عينه باقيةٌ؛ ولهذا: يجوز لصاحبه مطالبته برده. ولو شق في الحرز ثوباً، أو ذبح شاةً، فأخرجه - يجب القطع؛ إن كانت قيمة الثوب المشقوق أو الشاة المذبوحة نصاباً، ولو سرق كيساً فيه [فلوسٌ ظنها] دنانير يقطع؛ إن كانت قيمتها نصاباً. وإن ظنها فلوساً، لاتبلغ قيمتها نصاباً، وكانت دنانير - قُطع، وكذلك لو سرق نصاباً من دار، وهو يظن أن الدار داره، والمال ماله - يقطع. وعند أبي حنيفة: لا يقطع. ولو سرق ثوباً خلقاً، لاتبلغ قيمته نصاباً، فظهر في جيبه دينارٌ - لم يعلمه ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما: يقطع؛ لأنه أخرج من الحرز نصاباً؛ كما لو ظن ما في الكيس فلوساً؛ فبانت دنانير، وكما لو سرق ثوباً ظنه لا يبلغ نصاباً، فبان ديباجاً - قطع. والثاني: لا يقطع، وبه قال أبو حنيفة: لأنه لم يقصد أخذ الدنانير؛ بخلاف ما لو ظن الدينار فلساً، أو الثوب قطناً؛ لأنه قصد أخذ عينة، وهو نصابٌ. ولو سرق شيئاً قيمته نصابٌ، فانتقصت بعد الإخراج قيمته بانخفاض السوق، أو بآفة سماوية، أو بجناية جان - لا يسقط عنه القطع.

وعند أبي حنيفة: إن انتقصت قيمته بالسوق - يسقط القطع] وكذلك: لو تملك السارق المسروق بإرث أو ابتياع، أو اتهاب - لا سقط عنه القطع، وعنده يسقط. فنقول: الاعتبار في العقوبات بحالة الوجوب؛ كما لو زنى بجارية، ثم ملكها - لا يسقط الحد، وكذلك: لو انهدم الحرز بعد وجوب القطع، أو هلك المسروق، أو هلك بعضه، فانتقص النصاب - لا سقط القطع بالاتفاق. فصلٌ إذا استأجر داراً، فآوى إليها متاعه، ثم سرق الآجر منه مال المستأجر - يجب عليه القطع. وعند أبي حنيفة: - رحمه الله-: لا قطع عليه.

وبالاتفاق: لو أجر عبده من إنسان لحفظ متاعه، ثم سرق الآجر المال من العبد - يجب القطع. وكذلك: لو استعار داراً، ثم المعير سرق منها مال المستعير - يجب القطع؛ نص عليه، وهو المذهب. وفيه أوجه آخر: أنه لا يقطع؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأن حق الرجوع له ثابت، متى شاء؛ فلم يكن حرزاً في حقه، وقيل: إن نوى الرجوع حال السرقة - لم تقطع، وإن لم ينو - قطع؛ كمن وطيء جارية: فإن قصدها مهرها، والاستيلاء عليها - ملكها، ولا حد عليه، فإلا يجب عليه الحد، فلو غصب داراً، فسرق المالك منها مال الغاصب لا يقطع، ولو سرق أجنبي مال الغاصب منها - فلا قطع أيضاً؛ لأن الدار المغصوبة لا تكون حرزاً، ولو اشترى داراً، ثم سرق المشتري منها مال البائع - نظر: إن كان قبل توفية الثمن - قطع لأن [حق] الحبس ثابت للبائع؛ كالدار المستأجرة، وإن كان بعد توفية الثمن - فوجهان: الأصح: يُقطع، ولو كان في يده مال لغيره بحق، كالوديعة والرهن، والعارية، والمال في يد الوكيل، مال المضاربة والشركة والعين المستأجرة، وكان في حرز، فجاء إنسان وسرقه - يجب القطع؛ لأن أيدي هؤلاء يد حق؛ كما لو سرق من المالك، والخصم فيه مالك المال. وعند أبي حنيفة- لمن في يده أن يخاصم، ولو سرق المالك - فلا قطع؛ لأنه أخذ ملك نفسه. ولو أخذ المالك مع ماله نصاباً آخر يجب [عليه] القطع. وعند أبي حنيفة: لا يجب، والأصل عنده: أن من سرق ما يقطع فيه، وما لا يقطع - لا يجب القطع، ولو غصب شيئاً أو سرقه وأحرزه، فجاء أجنبي، وسرقه منه - هل عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يقطع لأنه سرق نصاباً من حرز لا شبهة له فيه. والثاني: لا يقطع؛ لأنه حرز لم يرض به مالكه؛ فكان كغير المحرز؛ وسواء كان عالماً أنه مغصوب أو لم يكن، أما إذا قصد أخذه؛ ليرده إلى المالك - فلا قطع عليه، ولو نقب المالك حرز الغاصب، وأخذ عين ماله - لا قطع عليه، وإن أخذ معه مالاً آخر - نظر:

إن كان: مختلطاً بماله؛ بأن كان طعاماً قد خلطه الغاصب بماله -فلا قطع عليه، وإن كان متميزاً عن ماله - ففيه وجهان: أصحهما: لا قطع عليه؛ لأنه أخذه من حرز هتكه بحق، فصار ما لو سرق مالاً من حرز مهتوك. والثاني: يقطع؛ لأنا بينا أنه قصد هتك الحرز لمال غيره. ولو سرق من بيت ظن أن المغصوب فيه، فلم يكن: قال الشيخ - رحمه الله-: أو سرق من بيت فيه المغصوب، ولم يكن قصده أخذ ملكه - قُطع، ولو اشترى شيئاً، ثم سرقه من البائع- لم يقطع؛ لأنه ملكه، وكذلك: لو سرقه في زمان الخيار: فإن سرق معه مالاً آخر: فإن سرق معه مالاً آخر: فإن كان قبل توفية الثمن قُطع، وإن كان بعده - فوجهان؛ كما لو سرق من الدار المشتراة، ولو وهب له شيء، فسرقه بعد القبول، وقبل القبض - لم يقطع على الأصح، ولو أوصى له بشيء، فقبل موت [الموصى سرقه] الموصى له - قطع؛ بخلاف الهبة؛ لأنها تمت بالقبول، ولوسرقه بعد موت الموصى، والقبول - فلا قطع؛ لأنه ملكه، وإن سرقه بعد موت الموصى قبل القبول: إن قلنا: يُملك بموت الموصى - لم يقطع؛ وإلا - قُطع. ولو أوصى للفقراء بشيء، فسرقه فقير بعد موت الموصى - لم يقطع؛ كالمشترك، وإن سرقه غنيٌّ -قطع. فصلٌ: في حكم النباش وغيره رُوي عن البراء بن عازب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه". النباش: إذا أخرج الكفن من القبر بعدما وُري، وكان نصاباً - تقطع يده؛ إذا كان القبر في بيت محرز أو في مقبرة متصلة بالعمران، فإن كان في برية بعيدة من العمران - فيه وجهان: أحدهما: تُقطع، وهو اختيار الشيخ القفال؛ لأن القبر أينما كان يكون حرزاً للكفن، بدليل أن الولي لايكون مضيعاً بتكفين الميت ودفنه في ذلك الموضع.

والثاني: لا تقطع؛ لأنه ليس بحرزٍ؛ كثوب غير الكفن؛ فلا يكون حرزاً للكفن، وإنما دفن هناك، لأجل الضرورة. قال الشيخ- رحمه الله-: على هذا: لو كان القبر في بيت محرز، فسرق الكفن حافظ القبر - لا يقطع، وعلى الوجه الأول: يقطع به، وعند الثوري وأبي حنيفة: لا قطع على النباش. وهم مختلفون فيما إذا كان القبر في بيت حريزٍ، والحديث حجة عليهم، ولهم فيه ثلاث نكات: إحداها: أنه موضوع للبلى؛ كالبذر في الأرض. الثانية: أنه غير محرز؛ بدليل أنه لا يكون حرزاً لثوب أحد سوى الكفن. الثالثة: أنه ليس له مال؛ كما لبيت المال. قلنا: قولكم: "إنه موضوعٌ للبلى" - ليس كذلك؛ بل هو مصروفٌ إلى حاجة الميت، وإن كان يتسارع إليه البلى؛ كالثوب الذي يلبسه الإنسان يكون البلى أسرع إليه من الثوب الذي في الصندوق، ويستويان في وجوب القطع بسرقتهما. والبذر في الأرض موضوع للنماء، ويجب القطع بسرقته. وقولكم: أنه غير محرز ليس كذلك؛ لأن القبر حرز للكفن، بدليل أن الولي لا ينسب إلى التفريط بتكفين الصبين ولا يجعل مضيعاً. وقولكم:"ليس له مالك - ليس كذلك، ولنا فيه ثلاثة أوجه: أصحها: أنه ملك للوارث؛ غير أن حق الميت فيه مقدم؛ كتركة الميت ملك للورثة، ثم يقضي منها دين الميت. والثاني: أنه باق على ملك الميت؛ بدليل أن الميت لو افترسه سبع - صرف الكفن إلى ديون الميت ووصاياه. وعلى هذين الوجهين: الخصم فيه هو الوارث. وقيل: الحق فيه لله تعالى، والخصم فيه هو الحاكم.

ويجب القطع عندنا بسرقة مالٍ لا مالك له؛ كما لو سرق ستار الكعبة - يجب عليه القطع، وإنما يجب القطع؛ إذا أخرج الكفن من جميع القبر إلى وجه الأرض، فإن أخرجه من اللحد إلى وسط القبر - فلاقطع عليه، ولو كفن في أكثر من خمسة أثواب، فسرق ما زاد على الخمسة - لا يقطع؛ لأنه مُضيع كما لو وضع في القبر مالاً أو ثوباً آخر سوى الكفن، وإذا كُفن رجلٌ من بيت المال، أو كفنه رجلٌ متبرع، فسرق - يجب القطع، وإن كان لا يجب القطع بسرقة مال بيت المال؛ لأن مال بيت المال لكل أحد فيه حق؛ فلم يجب القطع على سارقه، فإذا صرفه الإمام إلى واحدٍ - انقطع عنه حق غيره؛ فوجب القطع بسرقته؛ كما لو صرف شيئاً منه إلى حي لحاجته؛ فسرقه سارقٌ - يقطع. وإذا كفن الميت، فافترس الميت سبعٌ وبقى الكفن نُظر؛ إن كفن من تركته رد إلى وارثه؛ لأن مال الميت انتقل إليه بالإرث، وقيل: يكون لبيت المال؛ لأنه لا حق للورثة في قدر الكفن من تركته، وإن كفن من بيت المال- رُد إلى بيت المال، وقيل: يكون للوارث؛ لأنه صار ملكاً للميت، وإن كفنه إنسانٌ متبرعاً - رُد إلى المتبرع، وقيل: هو كما لو كفن من تركته. فكل موضع قلنا: يُرد إلى الوارث، فإذا سرق - فالخصم فيه الوارث، وإن قلنا: إلى بيت المال فالخصم فيه الحاكم، وإن قلنا: إلى المتبرع - فالخصم فيه المتبرع. وإذا سرق الكفن، ولم يظفر بالسارق - كُفن من تركته ثانياً، فإن لم يكن له تركةٌ - فمن بيت المال، فإن لم يكن - فعلى المسمين تكفينه، والله أعلم بالصواب. باب قطع اليد والرجل في السرقة رُوي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، فإن سرق، فاقطعوا رجله".

السارق: تقطع يده اليمنى من مفصل الكوع، ثم إذا سرق ثانياً - تقطع رجله اليسرى

[من مفصل الكعب] [ثم] إذا سرق ثالثاً - تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق رابعاً - تقطع رجله اليمنى. وعند الثوري وأبي حنيفة: تقطع يده اليمنى أولاً، ثم رجله اليسرى، فإذا سرق ثالثاً - يعزرن ولا يقطع؛ حتى قال أبو حنيفة: لو سرق أول مرة، وهو فقيد يده اليسرى، أو فقيد إبهام أو سبابة أو وسطى منها - لا تقطع يمينه، والخبر حجة عليه، ولأن السرقة تعتمد البطش والمشين ففي المرة الأولى: ينقص بطشه، لعله ينزجر، فإن عاد - ينقص مشيه، فإن عاد - يستوفي بطشه، فإن لم ينزجر - يستوفي مشيه.

وإذا سرق خامساً بعد قطع أطرافه الأربعة - يعزر، ويحبس؛ حتى تظهر توبته،

ولا يقتل، وروي عن عثمان أنه يُقتل في الخامسة، وبه قال عمر بن عبد العزيز. ولو سرق مراراً فلم يتفق القطع - فلا يجب إلا قطع واحدٌ، كمن شرب مراراً؛ فلم يُحد - لا يجب إلا حد واحدٌ، وكل مرة يقطع عضو منه - يحسم بالدهن المغلي، حتى تنسدأفواه العروق، فيرقأ الدم، ولا يؤدي سيلانه إلى الهلاك، وثمن الزيت يكون في بيت المال كأجرة القاطع والحاسم، ولو ترك الإمام الحسم - لا شيء عليه، ويستحب للسارق أن يحسم يد نفسه، فإن لم يفعل - لا يلزمه؛ لأنه مداواة العلة؛ فله تركها، وإذا رضي السارق بتركه لا يحسمه الإمام.

وقيل: إن رضي السارق [بترك الحسم] للإمام أن يحسمه؛ لأن فيه حفظ روحه، وهو حق الله تعالى. ويقطع بأخف مؤنة، فيجز أولاً، حتى ينفصل الزند من الكوع، ثم يقطع بحديدة حادة غير كالة، ولا مسمومة، ويُقطع جالساً، ويُضبط عند القطع؛ حتى لا يتحرك، فيجنى على نفسه. والسُّنة: أن يعلق العضو المقطوع في عنقه ساعةً، ثم يزال، فإنه روي عن فضالة بن عبيد قال "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسارق، فأمر به، فقطعت يده، ثم علقت في رقبته". ولو سرق، ولا يمين له - تقطع رجله اليسرى، وإن كانت يده اليمنى شلاء - يسأل أهل البصر: فإن قالوا: لو قطعت يمينه يرقأ الدم - تقطع يمينه، وإنقالوا: لا يرقأ الدم - فهي كالمفقودة، تقطع رجله اليسرى، وإن كانت له يمين عليها إصبع واحدة - تقطع يمينه، ولا تقطع [رجله اليسرى]. وإن كان له كفٌّ، لا إصبع عليه، أو ذهب بعض الكف، ومحل القطع باقٍ - ففيه وجهان: أحدهما: تقطع كفه؛ لأن محل القطع باقٍ. والثاني: لا تقطع، بل تقطع رجله؛ لأن البطش يحصل بالإصبع، وهي فائتة؛ كما لو كان له ذراع، ولا كف عليها - لا تقطع. ولو سرق ويمينه صحيحةٌ، فقبل القطع: سقط يمينه، أو قطعها جانٍ - سقط عنه قطع

السرقة، ولا تقطع رجله؛ لأن القطع تعلق بيمينه، وقد فاتت؛ بخلاف ما لو كان يوم السرقة فقيد اليد. قلنا: تقطع رجله؛ لأن القطع هناك تعلق بالرجل لفقد اليد، ولا قصاص على من قطع يمينه؛ لأنه قطع يداً تستحق القطع؛ غير أنه يعزر؛ لتفويته على الإمام. ولو شلت يده بعد وجوب القطع عليه: فإن قال أهل البصر: يرقأ دمه - تقطع يمينه؟ وإن قالوا: لا يرقأ- سقط القطع؛ كما لو سقط كفه. ولو سرق، وله يمينٌ عليها ست أصابع- هل تقطع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تقطع؛ كما في القصاص - لا تقطع ست أصابع بخمس. والثاني: تقطع؛ لأن المساواة شرط في القصاص دون السرقة. فإن قلنا: لاتقطع يمينه - تقطع رجله اليسرى، كما لو كان فقيد اليمين. وإن كانت له كفان - لا تقطعان بسرقة واحدة، ثم ننظر: إن كان يبطش بأحدهما - قطعت الباطشة، ثم إن سرق ثانياً - تقطع رجله، وإن صارت الأخرى باطشة - تقطع في السرقة الثانية التي صارت باطشة، ولا تقطع الرجل، [ثم إذا سرق ثالثاً - تقطع الرجل]، وإن كانتا باطشتين تُقطع أحداهما ثم إذا سرق ثانياً تقطع الأخرى، ولا تقطعان بسرقة واحدة؛ بخلاف الإصبع الزائدة؛ لأنه لا يقع عليها اسم يد. ولو وجب عليه قطع اليمين بسبب السرقة، فقطع رجلٌ يساره، أو الجلاد قطع يساره قصداً - لا يسقط عنه قطع اليمين [بسبب السرقة] وعلى من قطع يساره القصاص في يساره، فإن قال: لم أعلم أنها يساره - حلف وعليه الدية، وإن قال الجلاد: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، وقال السارق: ظننت أني أخرجت اليمين، أو ظننت أن اليسار تقوم مقام اليمين - يسقط عنه قطع اليمين على الصحيح من المذهب، وهو المنصوص. وقيل: لا يسقط عنه قطع اليمين؛ كما في القصاص. وإذا هلك المسروق في يد السارق - تقطع يده، ويغرم المال.

وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: لا يُجمع عليه بين القطع والغرم، بل إن قطع - يسقط عنه الغرم، وإن غرم - سقط القطع. وبالاتفاق: لو كان المسروق قائماً - يسترد، ويقطع؛ وهذا لأن القطع حق الله تعالى؛ وجب لهتك حرمة الشرع، والغرم حق العبد؛ وجب لإهلاك ماله؛ فلا يمنع أحدهما الآخر؛ كما في حال بقاء العين؛ يقطع ويسترد المال. ولو سرق عيناً، فقطعت يده، ثم سرق تلك العين ثانياً من المالك الأول أو من غيره - يقطع ثانياً، وعند أبي حنيفة: لا تُقطع إلا بأن تتغير العين بصفة أو بتبدل المالك. فنقول: عقوبة تجب بإيقاع فعل في عين غير مملوكة له، فتتكرر بعد الاستيفاء بتكرر الفعل فيها؛ كما لو زنى بامرأة، فحُد، ثم زنى بها ثانياً- يُحد ثانياً والله أعلم بالصواب. باب الإقرار بالسرقة والشهادة عليها لا تثبت السرقة إلا بإقرار من السارق، أو بينةً تقوم عليها؛ فإن أقر انه سرق نصاباً من الحرز - تثبت، ولا يشترط فيه التكرار.

وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: لا تثبت؛ حتى يقر مرتين. فنقول: [ما يثبت] بالإقرار - لا يشترط فيه التكرار؛ كسائر الحقوق. ولو أقر بالسرقة، ثم رجع - يسقط عنه القطع، ولو أقر رجلان بسرقة [نصف] دينار، ثم رجع أحدهما - سقط القطع عن الراجع، ولا يسقط عن الآخر. ولو أقر أنه سرق من مال فلان الغائب ربع دينار من حرز لا شبه لي فيه - فهل يقطع قبل حضور الغائب؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله أبو إسحاق-: يقطع؛ كما لو أقر أنه زنى بجارية [فلان، وفلان غائب] يقام عليه الحد. والثاني: وهو المذهب-: لا تقطع حتى يحضر فلان الغائب؛ لأنه ربما أباح له الأخذ، بخلاف حد الزنا؛ فإنه لا يسقط بالإباحة. وقال ابن سريج: لا يقام حد الزنا ولا قطع السرقة حتى يحضر المالك الغائب؛ لأنه كما يجوز أن يكون أباح له أخذ المال - يجوز أن يكون وقف عليه الجارية؛ فيصير شبهة في سقوط العقوبة. فإن قلنا لا تقطع حتى يحضر الغائب - فهل يحبس المقر أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يحبس؛ لان الحد قد وجب عليه بإقراره؛ كما لو أقر على نفسه بالقصاص لغائب أو صبي - يحبس حتى يحضر الغائب، ويبلغ الصبي. والثاني: إن كانت المسافة قريبة - حبس على قدوم الغائب، وإن كانت بعيدة - لم يحبس لأن في حبسه إطالة الضرر عليه، والحق لله تعالى ومبناه على المساهلة. ومن أصحابنا من قال: إن كان المسروق قائماً- أخذ منه، ولم يحبس؛ لأنه ليس عليه إلا عقوبة لله تعالى، ومبناها على المُسامحة، وإن كان المسروق تالفاً - يحبس؛ ليغرم. فأما إذا قامت بينة على السرقة - فلا يحكم بها، حتى يشيروا إلى السارق وإلى المسروق منه؛ إن كان حاضراً، وإن كان غائباً: نرفع في نسبه بحيث يزول الإشكال، ويبينوا

قدر المسروق، ويصفوا السرقة والحرز، فيقولون: سرق هذا من فلان من فلان من حرز كذا ربع دينار، أو متاعاً قيمته ربع دينار لا شبهة له فيه، وتُسمع الشهادة؛ سواء شهدوا بعد دعوى المالك أو وكيله، أو شهدوا من غير دعوى حسبة، ثم هل تُقطع [في غيبة المسروق منه - فعلى ما ذكرنا من الإقرار، والأصح: أنه لا يقطع] ويقام حد الزنا في الغيبة. ومن أصحابنا من قال: إذا ثبتت بالبينة - فلا يقطع في غيبة المسروق منه، ولا يحد وجهاً واحداً؛ بخلاف ما لو ثبت بالإقرار؛ لأنه لا تهمة في إقراره. والمذهب: أن لا فرق بينهما. ثم إذا شهد على السرقة شاهدان حسبة في غيبة المسروق منه، وقلنا: يحبس المشهود عليه، فإذا حضر المسروق منه، ولم يدعه - يطلق، وإن ادعاه - قطع من غير إعادة الشهادة، وهل تجب إعادة الشهادة لأجل المال؟ فيه وجهان: أصحهما: تجب؛ لأن المال حق الآدمي؛ فلا يثبت بشهادة الحسبة. والثاني: لا تجب؛ لأنه ثبت تبعاً للقطع. ولو قال المشهود عليه بعدما شهد الشهود: لم أسرق؛ لكنه ملكين كان قد غصبه مني، فاسترجعته، أو كنت قد اشتريته منه، أو وهبنييه، أو أذن لي في أخذه - لا يُقبل قوله في حق المسروق منهن بل القول قول المسروق منه؛ في أنه لم يغصب ولم يبع ولم يهب مع يمينه. أما القطع - فالمنصوص: أنه لا يجب؛ لان ما يدعيه محتملٌ، والقطع يسقط بالشبهة. وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى هذا، ومنهم من قال- وإليه ذهب أبو إسحاق-: بمجرد هذه الدعوى- لا يسقط عنه القطع؛ لأنه يُفضى إلى سقوط قطع السرقة أصلاً؛ فإن أحداً لا يعجز عن مثل هذه الدعوى؛ ليسقط القطع عن نفسه؛ فعلى هذا: إن حلف المسروق منه؛ أنه مالي، ولم آذن له أو نكل، ولم يحلف السارق - قُطع؛ لأن القطع وجب بالبينة، وإن لم يحلف المسروق منه على أنه مالي، وحلف السارق - فلا قطع عليه، وكذلك؛ إذا ادعى السارق؛ أن المسروق منه عبدي، وكان مجهول النسب، أو ادعى، أن الدار ملكي غصبها مني -سقط القطع على قول الأكثرين؛ لمجرد الدعوى، لأنه صار خصماً، وكذلك إذا شهد

عليه الشهود؛ أنه زنى بجارية، فادعى أنها كانت ملكي، أو كنت اشتريتها، أو كنت نكحتها، أو كانت حرة، فادعى أنه تزوجها، وأنكرت - سقط الحد؛ بمجرد هذه الدعوى عند الأكثرين. وعلى قول أبي إسحاق: بمجرد هذه الدعوى - لا يسقط الحد بعد قيام البينة، فإن حلف المالك؛ أنه لم يبغ منه الجارية، ولم يزوجها، وحلفت الحرة أنه لم ينكحها - حُدَّ، وإن نكلا، وحلف هو على الشراء أو النكاح - سقط الحد. أما إذا قطع يد رجلٍ، ثم ادعى أنه قطع بإذنه - لا يسقط القصاص عنه بمجرد الدعوى وجهاً واحداً؛ والقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه من حقوق العباد، ومبناه على الضيق كما لا يسقط في السرقة ضمان المال. ولو سرق رجلان [شيئاً] معاً، ثم ادعى كل واحد [فيه الملك -لا قطع على واحدٍ] منهما؛ كما ذكرنا في الواحد. أما إذا ادعى أحدهما الملك لنفسه، ولم يدعه الآخر- لا قطع على المدعي، ثم نظر: عن صدقه صاحبه، وقال: المال ملكه، وأنا أخذت منه بإذنه -: فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن كذبه صاحبه، وقال: ليس المال ملكك، ولكنا سرقناه: قال صاحب "التلخيص": يجب القطع على المكذب، لأنه مقر بسرقة مال لا شبهة له فيه. قال الشيخ القفال - رحمه الله -: يحتمل سقوط القطع عنهما؛ لتمكن الشبهة فيه؛ ألا ترى أن المسروق منه: لو قال: هذا مال السارق، وأنكر السارق - يسقط القطع بالاتفاق، وإن كان هو يقر بسرقة ولا شبهة له فيها. أما إذا سرق اثنان، فادعى أحدهما أن هذا مال شريكي، أخذته منه بإذنه، وأنكر شريكه، وقال بل سرقناه. رأيت لأصحابنا أن لا قطع على المدعي، وهل يجب على شريكه؟ فيه وجهان؛ كما لو شهد اثنان بالقصاص، ثم رجعا بعد الاستيفاء، فقال أحدهما: تعمدنا جميعاً، وقال صاحبه: أنا أخطأت - لا قود على من يدعي الخطأ، وفي الآخر وجهان. قال الشيخ - رحمه الله -: والذي عندي، وهو الأولى: أنه يجب القطع على المكذب؛ لأنه لا يدعي شبهة، وفي المدعي وجهان

أحدهما: لا قطع عليه؛ لأن ما يدعيه - لو ثبت - لم يجب عليه القطع. والثاني: يجب؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئاً؛ إنما يدعي لشريكه، وشريكه منكرٌ. نظيره من شهود القصاص: أن يقول أحد الشاهدين: تعمدنا جميعاً، [وقال الآخر تعمدت أنا، وأخطأ هو - يجب القصاص على من قال: تعمدنا جميعاً] وفي الآخر وجهان؛ لأنه يدعي الشبهة لشريكه، وهو منكرٌ. وعلى هذا: لو أن عبداً سرق وقامت عليه بينة بالسرقة، فادعى أن المسروق ملك لسيدي، فإن صدقه سيده - سقط عنه القطع، ولايُقبل قولهما في المال، وإن كذبه سيده، وقال: ليس المال لي - ففيه وجهان. أحدهما: وبه قال صاحب "التلخيص"-: يسقط القطع؛ كالحر يدعي أنه ملكي. والثاني: لا يسقط؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئاً؛ إنما يدعي لمولاه، ومولاه منكرٌ. ولو ادعى السارق نقصان قيمة المسروق عن النصاب - لم يقطع، [ولو] قامت بينة على أن قيمته تمام النصاب قطع، بخلاف ما لو ادعى أنه ملكه - لم يُقطع. ولو شهد على السرقة رجلٌ وامرأتان، أو شاهدٌ واحدٌ، وحلف المدعي معه - لا يثبت القطع، ويثبت المال؛ لأن المال يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، والقطع عقوبة لا تثبت إلا برجلين؛ من حلف بطلاق امرأته، أو بعتق عبده؛ ألا يغصب أو لا يسرق، فشهد عليه رجل وامرأتان بالغصب أو بالسرقة، أو شهد شاهدٌ واحدٌ، وحلف معه المدعي - يثبت الغصب والسرقة، ولا يحكم بوقوع الطلاق والعتقن وهذا بخلاف ما لو شهد رجلٌ وامرأتان على قتل العمد، لا يثبت القصاص ولا الدية؛ لأن قتل العمد لا يوجب القود والمال جميعاً؛ إنما يوجب أحدهما لا بعينه؛ [فلا يتعين بالشهادة أن موجبه القود]، وهو الأصل، فإذا لم يثبت - لم يثبت المال، والسرقة توجب القطع والغُرم جميعاً، فإذا لم يثبت أحدهما لعدم حجته - ثبت الذي قامت حجته، وقيل في ثبوت المال [في السرقة] قولان، والمذهب ثبوته قولاً واحداً، والله أعلم. باب ما لا قطع فيه رُوي عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على خائن ولا منتهب،

ولا مُختلس - قطعٌ". لا قطع على من سرق من غير حرزٍ، ولا على من سرق أقل من نصاب، ولا على مختلس، ولا منتهب، ولا خائن، لأن في الشرع أوجب القطع على السارق، ولا يسمى المختلس والمنتهب والخائن سارقاً، ولو سرق العبد مال سيده - لا قطع عليه؛ لأن الشبهة له

في ماله؛ باستحقاق النفقة؛ بخلاف ما لو زنى بجارية سيده - يجب عليه الحد، لأنه لا يستحق الإعفاف على سيده، وكذلك المدر، وأم الولد ومن بعضه حر وبعضه رقيقٌ، إذا سرق مال سيده - لا يقطع. وإذا سرق أجنبي مال من بعضه حر وبعضه رقيق - يقطع، وإن سرق مالك نصفه منه شيئاً - نظر: إن كان المال له بنصفه الحر، والسيد أخذ نصيبه: قال الشيخ القفال: لا يقطع؛ لأن له شبهة في بدنه، والمال في الحقيقة لجميع بدنه. وقال الشيخ أبو علي: يقطع؛ لأن ملكه تام بنصفه الحر؛ بدليل أنه يورث منه لو مات على القول المعروف -فهو كما لو قاسم شريكه المال المشترك، ثم سرق من نصيب شريكه شيئاً - قطع. ولو سرق المكاتب مال سيده - ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول صاحب "التلخيص"-: لا يقطع؛ كالمأذون له في التجارة؛ إذا سرق مال سيده. والثاني: يقطع؛ لأنه خارج عن حكم المولى، وله ملك؛ بدليل نفوذ تصرف المولى معه. أما السيد إذا سرق مال مكاتبه - لا قطع عليه؛ لأن له في ماله شبهة ملك. ولو سرق أحد الزوجين مال صاحبه ما هو محرز عنه - ففيه أقاويل: أحدها- وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله-: لايجب القطع؛ لأن بينهما سبباً يستحق به النفقة؛ فيصير شبهة في سقوط قطع السرقة؛ كالولاء. والثاني: وهو الأصح، وبه قال مالك، واختاره المُزني -: يجب القطع؛ لأن النكاح

عقد على المنفعة، فلا يمنع وجوب قطع السرقة؛ كالإجارة؛ فإن من استأجر أجيراً لعملٍ، ثم سرق أحدهما مال الآخر - يجب القطع. والثالث: يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة لأنه لا شبهة له في مالها، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن لا شبهة في ماله باستحقاق النفقة. أما إذا لم يكن مال أحدهما محرزاً عن صاحبه - فلا يجب القطع بسرقته. ولو سرق عبدٌ أحد الزوجين مال الآخر - فهو ما لو سرق أحدهما مال الآخر - ففي وجوب القطع هذا الاختلاف، فإن قلنا: لا يقطع العبد - ففي مكاتب أحدهما، إذا سرق مال الآخر - وجهان؛ كما لو سرق المكاتب مال سيده، ولو سرق مال ولده أو ولد ولده، وإن سفلوا من الذكور والإناث، أو سرق مال أحد أبويه، أو مال واحدٍ من أجداده أو جداته، وإن علوا من جهة الأب، أو من جهة الأم - فلا قطع عليه؛ لأن لكل شبهة في مال الآخر باستحقاق النفقة؛ بخلاف حد الزنا - يختص سقوطه بالأب، حتى لو زنا الابن بجارية الأب - يجب عليه الحد، ولو فعله الأب بجارية الابن - لا يجب؛ لأن على الابن إعفاف الأب، ولا يجب على الأب إعفاف الابن. ولو سرق عبد الأب مال الابن أو عبد الابن مال الأب - لا يجب القطع، كما لو سرق هو بنفسه، ولو سرق مال أخيه، أو عمه أو خاله أو مال ابن أخيه - يجب القطع، وعند أبي حنيفة: لا يجب، ولو سرق أب الزوج مال الزوجة، أو أب الزوجة مال الزوج، أو ولد أحدهما مال الآخر - يجب القطع؛ كما لو سرق أحدهما مال الآخر، ولو سرق أحد الشريكين شيئاً من المال المشترك بينهما، وهو في حرز الشريك الآخر - فالمذهب أنه لا يجب القطع [كما لو وطيء] جارية مشتركة بينه وبين غيره - لا حد عليه. وخرج قولٌ: أنه يجب القطع؛ لأنه لا شبهة له في نصيب الشريك؛ فعلى هذا: إنما يقطع إذا سرق من نصيب الشريك ربع دينار. ثم اختلفوا في كيفيته: الأكثرون قالوا: إن كان بينهما نصفان، فسرق نصف دينار - قطع، وإن كان الثلثان للسارق، فإذا سرق ثلاثة أرباع دينار - قطع؛ لأن ربع دينار من المسروق للشريك. وذكر الشيخ وجهاً محتملاً، فقال: إن كان المال بينهما نصفان - فما لم يسرق [نصف الجميع] وزيادة ربع دينار - لا يقطع، وإن كان له الثلثان - فما لم يسرق الثلثين

وزيادة ربع دينار- لا يقطع؛ لأن النصف من جميع المال حقه؛ فيجوز أن يقع جميع [المال] المأخوذ من نصيبه عند القسمة، أو إن كان أثلاثاً - يقع جميع الثلثين في نصيبه؛ فيشترط أن يأخذ ربع دينار زائداً عليه. ولو سرق رجلٌ نصاباً من حرز، وأحد بعض ذلك النصاب ملك رجل، والبعض ملك رجل آخر - يجب القطع، كما لو كان الكل لواحد. ولو سرق مسلم من بيت المال شيئاً: قال صاحب "التلخيص": لا قطع عليه. قال أصحابنا: هذا إذا كان له فيه شبهة؛ بأن سرق من خمس خُمس الغنيمة أو الفيء سهم المصالح، أو من تركة مسلم مات، ولا وارث له - لا قطع عليه؛ فقيراً كان السارق أو غنياً؛ لأنه ما من مسلم إلا وله في بيت المال حق؛ بخلاف ما لو زنى بارية من بيت المال - يجب عليه الحد، لأنه يستحق النفقة في مال بيت المال، ولا يستحق الإعفاف. رُوي أن عاملاً لعمر - رضي الله عنه - كتب إليه في رجل سرق من [مال] بيت المال، فكتب: لا تقطعه، فنه ما من أحد إلا وله فيه حق، وكذلك لو سرق من مال الصدقة، وهو فقيرٌ - لا قطع عليه، وإن سرق مما لا شبهة له فيه؛ بأن سرق من نصيب اليتامى من خُمس الخمس مفرزاً، أو من نصيب الفقراء من مال الصدقة، وهو غني - قُطعَ، وإن كان في ذلك البيت أخماسٌ من موضع آخر؛ لأن القطع لا يسقط بكون المال له فيه شبهة في الحرز؛ إذا لم يكن له في المسروق شبهة؛ كالمودع إذا سرق مال المودع من بيت فيه وديعته - يجب القطع. أما الذمي: إذا سرق من مال بيت المال - تقطع يده؛ لأنه لا حق له فيه؛ إنما الحق فيه للمسلمين. فإن قيل: أليس أن الذمي إذا اضطر - يجب على الإمام أن ينفق عليه من بيت المال؟ قيل: بلى، ولكن ينفق عليه من بيت المال بشرط الضمان، كالمضطر يأكل مال الغير؛ بشرط الضمان، ولا يصير ذلك شبهة في سقوط القطع؛ إذا سرق ماله لغير ضرورة. قال الشيخ - رحمه الله-: يحتمل أن يقال: لا يقطع الذمي؛ إذا سرق من خمس الخمس سهم المصالح، وعلى الإمام أن يُطعمه منه عند الضرورة، بلا ضمان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي الكفار منه، فإن سرق من مال مسلمٍ، لا وارث له - قُطع، لأنه

مصروف إلى بيت المال إرثاً للمسلمين؛ فلا حق للذمي فيه، ولو سرق ستر الكعبة أو باب المسجد، أو اسطوانة منه، أو شيئاً مما جُعل في المسجد للزينة - قطع؛ روي أن عثمان قطع سارقاً سرق قبطية من منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند أبي حنيفة: لا قطع في شيء منها. أما ما كان في المسد لمنفعة الناس كالحصر والقناديل، فإن سرقه مسلم - لا قطع عليه؛ لأنه لمنفعة -المسلمين، وإن سرقه ذمي - قطع. قال الشيخ - رحمه الله-: هذا في قناديل السرج، أما علق [فيه] للزينة من القناديل - يقطع سارقها؛ كالستور، والأبواب، ولو سرق شيئاً موقوفاً - ففي وجوب القطع وجهانَ؛ سواء قلنا: الملك فيه زال إلى الله تعالى أو إلى الموقوف عليه: أصحهما: يجب القطع؛ لأنه مالٌ محرز؛ كأستار الكعبة. والثاني: لا يجب؛ لأن الملك فيه ناقصٌ. قال الشيخ- رحمه الله-: ولو سرق الموقوف عليه العين الموقوفة - لا يقطع، وإن سرق من غلة الوقف، أو ثمرة الشجرة الموقوفة المحرزة؛ نُظر: إن كان السارق من أهل الوقف؛ بأن كان وقفاً على كافة الناس، أو كان وقفاً على جماعة [متعينين، وهو منهم، أو على جماعة] موصوفين كالفقراء، وهو فقيرٌ - فلا قطع عليه، وإن لم يكن من أهل الوقف بأن كان وقفاً على متعينين، وليس هو منهم، أو على الفقراء، وهو غنيٌّ - قطع. ولو سرق بكرة البئر المسبلة - قطع، قال الشيخ - رحمه الله -: وهو عندي كحصر المسجد؛ لأنها لمنفعة الناس، ولو سرق واحدٌ من الغانمين شيئاً من مال الغنيمة قبل إفراز الخمس - لا قطع عليه؛ سواء كان حراً أو عبداً؛ لأن له حقاً في أربعة أخماسها وفي خمسها؛ لأنه مال بيت المال، ولو سرق منه أجنبي - فهو كما لو سرق مال بيت المال، لأن سهم بيت المال فيه، ولو سرق بعد إفراز الخمس - لا يخلو: إما أن يون سرق من الأربعة الأخماس أو من الخمس: فإن سرق من الأربعة الأخماس التي هي سهم الغانمين:

فإن كان السارق من الغانمين - لا قطع عليه؛ كما لو سرق مالاً مشتركاً بينه وبين غيره، وكذلك: لو لم يكن من الغانمين؛ ولكن له في الغانمين ولدٌ أو والدٌ أو عبدٌ - فلا قطع عليه، وكذلك: لو كان السارق امرأة، ولها زوج فيهم، وقلنا: لا قطع على أحد الزوجين بسرقة مال صاحبه- فلا قطع عليها، وإن لم يكن له فيهم أحدٌ منهم - عليه القطع، وإن سرق من الخمس - فلا فرق بين أن يكون السارق من الغانمين أو لم يكن؛ فينظر: إن كان قبل إفراز خمس الخمس سهم المصالح - فلا قطع عليه؛ لأن سهم بيت المال فيه، وإن كان بعد إفراز سهم المصالح [بأن] سرق من أربعة أخماس الخمس -[يجب] عليه القطع. قال الشيخ - رحمه الله-: إلا أن يكون ممن له فيه سهم - فلا قطع. ولو كان له على رجل دين، فسرق رب الدين مال المديون - نظر: إن لم يقصد الاستيفاء - قطع، وإن قصده- نُظر: إن كان من عليه الحق وفياً - قطع، وإن كان جاحداً أو مماطلاً - لم يقطع؛ وإن أخذ أكثر من حقه - فالمذهب أنه لا يُقطع؛ لأنه كان له دخول ملكه؛ فلم يكن المال محرزاً في حقه، وقيل: إن كانت الزيادة منفصلة قدر نصاب- قطع. والمضطر إلى المجاعة إذا لم يجد طعاماً، فسرق - لا قطع عليه [قال عثمان - رضي الله عنه-: لا قطع في عام المجاعة]. ولو سرق مستحق الزكاة شيئاً من مال الزكاة: فإن قلنا: [الزكاة] تتعلق بالعين - لم يقطع، وإن قلنا: بالذمة - فكما لو سرق [من] مال المديون. ولو سرق خمراً أو خنزيراً أو كلباً أو جلد ميتة لم يُدبغ - لا قطع عليه؛ لأنه ليس بمالٍ، ولو سرق إناء قيمته نصابٌ، وفيه خمرٌ - قطع؛ كما لو كان فيه بول، وقيل في إناء الخمر: لا يقطع؛ لأن ما فيه [مستحق الإراقة]، فيصير شبهة في دفعه. ولو سرق طنبوراً، أو مزماراً، أو صنماً - نظر: إن كانت محلولة [أو] مغيرة، لا تصلح لمباح، أو تصلح، ولكنه بعد الحل والتغيير لا يبلغ نصاباً - لا يجب القطع، وإن كان يبلغ نصاباً- ففيه وجهان:

أحدهما: يقطع؛ لأنه مالٌ متقوم. والثاني: لا يقطع؛ لأنه آلة المعصية؛ كالخمر. أما إذا حله، ثم أخرجه - يجب القطع، وكذلك: إذا كان [على الصنم حليةٌ تبلغ نصاباً - يقطع، ولو سرق إناء من ذهب أو فضة- يقطع؛ لأنه يتخذ للزينة، لا للمعصية، والله أعلم. باب قطاع الطريق قال الله تعالى: {نَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ] ....} الآية [المائدة 33]. قُطاع الطريق: الذين يعترضون القوم بالسلاح مجاهرةً- يحل قتالهم؛ لأنهم أسوأ حالاً من البغاة، وإذا علم الإمام من رجل أنه يعترض الرفقة، ويخيف السبيل - يجب على الإمام طلبه وحبسه؛ حتى لا تقوى شوكته، فيكثر منه الفساد، ومن خرج لقطع الطريق، فقتل نفساً - يجب عليه القتل حتماً وإن أخذ نصاباً من المال - تُقطع يده اليمنى ورجله اليسرى؛ سواء أخذ ذلك النصب من ملك واحد، أو من أملاك مختلفة. وإن قتل وأخذ المال - يقتلُن ويصلبن ظاهر الآية التخيير، وهي على ترتيب الجرائم ويروي عن ابن عباس - رضي الله عنه- مثل ما قلنا في معنى الآية. وعند أبي حنيفة: إن قتل وأخذ المال - يتخير الإمام بين أن يجمع عليه [القطع والقتل] [أو القتل] والصلب، وأبو يوسف معنا، والسلاح ليس بشرط، حتى لو خرجوا بالخشب واللطم، حيث لا يلحقهم الغوث- فالحكم كذلك؛ وسواء قطعوا الطريق على جماعة، أو على واحد. ولو خرج [واحد أو] جماعة في المِصْرِ، فحاربوا، أو العساكر أغاروا على أحد طرفي البلاد] إذا خرجوا فحاربوا الطرف الآخر، أو خرجوا بالليالي مكابرة على الدور - فحكمهم حكم قطاع الطريق إذا كان لا يلحقهم الغوث؛ إذا استغاثوا، أما إذا خرج جماعة في بلدة أو قرية، أو بين قريتين، بحيث يلحقهم الغوث أو استغاثوا- فلا يكون حكمهم حكم قُطاع الطريق؛ فمن أخذ منهم مالاً - فهو الغاصب والناهب؛ يضمن ما أخذ.

وعند أبي حنيفة: لا يجب عقوبة قطاع الطريق على من حارب في المصر. وأبو يوسف معنا. وإذا خرج النساء لقطع الطريق - يقام عليهن ما يقام على الرجال. وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: لايجب على النساء عقوبة قُطاع الطريق؛ حتى قال: لو خرج جماعة من الرجال، وفيهم امرأة أو صبي لا تقام العقوبة على الرجال البالغين. وأبو يوسف معنا؛ فنه يعاقب البالغون من الرجال. ولو قطع جماعة من المراهقين الطريق - لا عقوبة عليهم، وعليهم ضمان المال، ومن خرج مع قطاع الطريق؛ فكشر وهيب، وكان ردءاً لهم؛ ولكنه لم يقتل، ولم يأخذ المال - لايجب عليه عقوبة قطاع الطريق، ولكن يعر ويحبس، حتى يتوب؛ لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، قيل: أراد به الحبس، وقيل: أراد به التغريب، وقيل: نفيه أن يرتكب ما يوجب عقوبةً، ثم يهرب، فنفيه: أن يُتْبع ويطلبن حتى لا يقر في موضع حتى يظفر به؛ فيقام عليه الحد؛ يروى هذا عن ابن عباس. وعند أبي حنيفة: يجب على الردء عقوبة قطاع الطريق، حتى لو كانوا مائة، فقتل واحد إنساناً - يقتل الكل، ولو أخذ واحد منهم نصاباً من المال - يقطع الكل. قلنا: هذا حد يجب بسبب الجريمة؛ فلا يجب على غير المباشر؛ كما لا يجب حد الشرب على الساقي. ومن أمسك إنساناً، حتى قتله آخر، أو أمسك امرأة، حتى زنى بها آخر، لا يجب القتل والحد على الممسك، ولا يجب القطع على قاطع الطريق؛ حتى يأخذ نصاباً من المال، وكذلك: لا يجمع بين القتل والصلب حتى يأخذ مع القتل نصاباً، وهو ربع دينار. ولو أخذ رجل ثلث دينار، ومعه [ردء] أخذ سدس دينار- يقطع من أخذ الثلث، ولا قطع على من أخذ السدس، ولا يكمل نصابه بما أخذ رقيقه. وإذا وجب القطع على قاطع طريق - تقطع يده ورجله في مكان واحد، وإذا قطع [منه] أحد العضوين - لا يؤخر قطع الآخر حتى يبرأ الأول لأنه حد واحد، وإن كان فقيد اليد اليمنى - تقطع رجله اليسرى، ولا تقطع [يده اليسرى]؛ لأن الحد لم يتعلق بها؛ كالسارق إذا كانت يده ناقصة بإصبع - تقطع يده الناقصة، ولا تقطع رجله.

أما إذا قطع الطريق وأخذ المال، وهو فقيد اليد اليمنى والرجل اليسرى - حينئذ: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن ما يبدأ به معدوم؛ [فيتعلق القطع] بما بعده. وإذا أخذ المال، وقتل، وقطع الطريق - فإنه يقتل ويُصلب. واختلفوا في كيفيته -فالصحيح من المذهب: أن يقتل [ثم يُصلب مستور العورة. وفيه قول آخر: أنه يصلب حياً، وهو قول أب حنيفة - رحمه الله-: لأن عقوبة] قطع الطريق تُقام عليه حياً. والأول المذهب؛ لأنه لا عقوبة فوق القتل، والصلب [للاعتبار زجراً] للناس عن مثل فعله، فإن قلنا: يُصلب بعد القتل - فكم يترك على الصلب؟ فيه وجهان: أحدهما - قاله ابن أبي هريرة-: حتى يسيل صديده؛ إلا أن يتأذى به الأحياء؛ فينزل، ولا يغسل، ولا يصلي عليه. وهذا لا يصح؛ لأن فيه تعطيل فرض الله تعالى من الغُسل، والصلاة، والدفن. والثاني- وهو الأصح-: يُنزل على الصلب ثلاثاً؛ إن كان الزمان بارداً، أو معتدلاً، ثم يُنزل وإن كان في شدة الحر - ينزل إذا خيف عليه التغير قبل الثلاث، [ويدفع إلى أهله؛ ليقيموا عليه فرض الغسل والصلاة عليه والدفن]، وإن قلنا: يصلب حياً - اختلفوا في كيفية قتله، منهم من قال: يُطعن حتى يموت مصلوباً، وهو قول الليث بن سعد، ومنهم من قال: يترك بلا طعام، ولا شراب، حتى يموت، ومنهم من قال: يترك ثلاثاً حياً، ثم ينزل، فيُقتل، وهو قول أبي يوسف، فإن مات قبل الصلب - ففيه وجهان: أحدهما: قاله الشيخ أبو حامد الإسفرائيني - أنه لا يُصلب؛ لأن الصلب تبع للقتل، وسقط القتل؛ فسقط الصلب. وإن قتل في قطع الطريق - يقتل حتماً، ثم يغسل، ويصلي عليه، ويدفن، والقتل حتمٌح حتى لا يسقط بعفو ولي الدم، وإن جرح إنساناً في قطع الطريق - نظر: إن كانت جراحة لا يثبت فيها القود؛ كالجائفة ونحوها - فلا يقتص، وعليه أرشها، وإن قطع يداً أو رجلاً أو عضواً يقاد منه - وهل يتحتم؟ فيه قولان:

أحدهما: يتحتم؛ حتى لا يسقط بالعفو؛ كالقتل. والثاني - وهو الأصح-: لا يتحتم؛ لأنه تغليظ لا يتبعض؛ يثبت في النفس، فلا يثبت فيما دون النفس؛ كالكفارة؛ ولكنه بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء عفا، ولو أتلف مالاً في قطع الطريق - يجب عليه الضمان وعند أبي حنيفة: لا يجب الضمان، وكذلك قال: لو قطع طرفاً - فلا قصاص، ولا أرش؛ لأن الطرف كالمال. قلنا: قاطع الطريق ظالمٌ؛ لا شبهة له في مال أهل الرفقة، ولا في طرفه؛ ما لا شبهة له في نفسه، فإذا أخذ بقتل نفسه يؤخذ بقطع طرفه وضمان ماله، وإذا قتل في قطع الطريق خطأ، بأن رمى إلى شخص، فأصاب غيره، أو شبه عمدٍ - فلا قتل عليه، وتجب الدية على العاقلة، وإذا قتل عمداً - تحتم قتله، ففيه معنى الحدود، لأنه لا يسقط بالعفو، واستيفاؤه إلى السلطان لا إلى الولي، وفيه معنى القصاص؛ لأنه قتل بإزاء قتل، وأيهما يغلب؟ فيه قولان، وفائدته تتبني في أنه هل تُراعى فيه الكفارة والمماثلة أم لا؟ مثل إن قتل حر عبداً، أو مسلمٌ ذمياً، أو قتل الأب ابنه؛ إن غلبنا جهة الحدود - فيقتل به، وإن غلبنا جهة القصاص - فلا قتل عليه، وتجب الدية وقيمة العبد، ولا خلاف أنه لو قتل عبد نفسه - لا يقتل؛ كما لو أخذ مال نفسه - لا يُقطع، ولو قتل جماعةً في قطع الطريق؛ إن غلبنا جهة الحدود - قُتل بهم جميعاً، ولا يجب شيء من الدية، وإن غلبنا جهة القصاص - قُتل بالأول، وللباقين الدية، فإن عفا الأول - لا تسقط، ولو قتله أجنبي غير الإمام: إن غلبنا الحد - فلا شيء عليه، إلا التعزير؛ لتفويته على الإمام، وإن غلبنا القصاص - عليه الدية لورثته. قال الشيخ - رحمه الله-: ولا قود؛ لأن قتله محتومٌ، ولو مات إن غلبنا الحد - فلا شيء عليه، وإن غلبنا القصاص - تؤخذ الدية من تركته. ولو قتل في قطع الطريق بمثقل أو قطع عضو -هل يستوفي بذلك الطريق؟ إن غلبنا الحد - فلا؛ بل تُحز رقبته؛ كالمرتد، وإن غلبنا القصاص- يقتل بذلك الطريق. وإذا وجبت العقوبة على قاطع الطريق، فهرب- يطلب، فيتبع؛ حتى يظفر به؛ فيقام عليه الحد، فإن تاب قبل القدرة عليه - سقط عنه ما لزمه بسبب قطع الطريق؛ لقوله [عز وجل]: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]، فإن كان قد قتل - سقط تحتم القتل، ولا يسقط القصاص، فالولي إن شاء

قتله، وإن شاء عفا عنه، وإن كان قد قتل، وأخذ المال - يسقط عنه الصلب وتحتم القتل، وبقي القصاص، وإن كان أخذ المال - يسقط عنه قطع اليد، والرجل وإن قتل الأب الابن في قطع الطريق، أو الحر عبداً، أو المسلم ذمياً، وأوجبنا عليه القتل: فإذا تاب قبل القدرة - سقط القتل أصلاً، ووجبت الدية والقيمة، وإن تاب بعد القدرة عليه - فهل يسقط ما وجب بسبب قطع الطريق من تحتم القتل، والصلب، والقطع - فعلى قولين؛ كالزاني، والسارق، وشارب الخمر إذا تاب هل يسقط عنه الحد؟ فيه قولان: أصحهما: لا يسقط، فإن قلنا: يسقط بالتوبة [ما يجب] في غير المحاربة، فلابد من مضي زمان يوثق بتوبته؛ لأن الله تعالى قال في الزاني: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء: 16] وقال في السارق: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39]- علق العفو بالتوبة والإصلاح، وقد يُظهر التوبة للتقية، فلا يُعلم صحتها، حتى يقترن بها الإصلاح: من مضي زمان يوثق بتوبته، وفي المحارب يسقط عنه الحد بإظهار التوبة والدخول في الطاعة؛ لأنه خارج من يد الإمام ممتنع؛ فلا تُحمل توبته على التقية. ولو شهد رجلان من أهل الرفقة على قوم؛ أنهم قطعوا الطريق علينا، وأخذوا كذا من أموالنا - لا تُقبل؛ لأنهم يشهدون لأنفسهم، فإن لم يقولا علينا بل قالا: قطعوا [الطريق] على هؤلاء، وأشاروا إلى أصحابهما، وأخذوا منهم كذا وكذا يقبل، ولا يسألهما الحاكم - هل كنتما معهم أم لا؟ هذا كما لو شهد احد الشريكين للآخر، وقال: هذا العبد بيننا - لا يُقبل، ولو شهد لشريكه بنصفه - يُقبل، وكذلك: لو شهد عدلان من الفقراء؛ أن فلاناً أوصى للفقراء بثلث ماله - يقبل ولو قالا: وصى لنا بثلثه - لا يقبل. فصل في اجتماع الحدود إذا اجتمع على واحد حدود من جنس واحد؛ وإنما يتصور ذلك في القذف، بأن يقذف جماعة بكلمات، فعليه لكل واحد حد لواحد - لا يقام عليه حد الآخر، حتى يبرأ جلده عن حد الأول. أما إذا زنى مراراً - لا يجب عليه إلا حد واحدٌ، وكذلك: لو شرب مراراً، أو سرق مراراً - لا يجب عليه إلا حد واحد، وقطع واحد، ولو زنى مرة، فحد، أو شرب مرة،

فحد، ثم زنى أو شرب ثانياً - يحد ثانياً. وإن ارتكب الثاني قبل أن يبرأ عن حد الأول - لا يقام الثاني ما لم يبرأ، ولو أن عبداً قذف رجلين - هل يوالي عليه بين الحدين؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يوالي عليه؛ لأنهما حدان؛ كما في حق الحر؛ لا يوالي بين الحدين. والثاني: يوالي؛ لأنه ليس فيه إلا الموالاة بين ثمانين جلدة، وذلك لا يمتنع كما في حق الحر. ولو اجتمع حدان، موجبهما مختلفٌ نظر: إن كان أحدهما قتلاً - يقام ما دونه أولاً، ثم يقتل في الحال - مثل إن وجب عليه حد شرب أو حد قذف وقتل بسبب ردة، أو رجم بسبب زنى - يقام عليه الحد، ثم يقتل للردة، أو يرجم للزنى في الحال. وكذلك: لو اجتمع عليه قطع بسبب [سرقة أو قصاص] وقتل يقطع، ثم يقتل في الحال. وإن كانت الحدود كلها دون القتل - لا يوالي بينهما، بل يُتأنى بينهما حتى يبرأ الأول؛ مثل: إن وجب عليه حد القذف، وحد الزنا، وهو بكرٌ - يقام عليه حد القذف، أولاً، ثم يترك حتى يبرأ، ثم يحد للزنى، وإنما قدمنا حد القذف؛ لأنه حق الآدمي، ومبناه على الضيق لشحه، وقيل: إنما قدمنا؛ لأنه أقل. وإن وجب عليه حد القذف والشرب - يقام حد القذف أولاً، ثم إذا برأ - يقام حد الشرب، وقيل: يقدم حد الشرب؛ لأنه أقل، ثم إذا برأ - يقام حد القذف، والأول أصح، ولا فرق على الوجهين بين أن يتقدم القذف أو الشرب. ولو وجب عليه جلد بسبب الشرب، أو الزنا [أو] قطع السرقة؛ سواء تقدم [الزنا] أو تأخر - يقدم الجلد، ثم يترك حتى يندمل، ثم يقطع. ولو وجب عليه قطع اليد والرجل بسبب قطع الطريق - تقطع يده ورجله في مكان واحد؛ لأنه حد واحد؛ كما يوالي بين الجلدات في الحد الواحد، ولو أخذ المال في قطع الطريق، وقطع يسار إنسان يُقطع أولاً يساره قصاصاً، ثم يترك حتى يبرأ، ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وكذلك: لو سرق، وقطع يسار إنسانٍ - لا يوالي بين القطعين، بل تقطع يساره قصاصاً، ثم إذا برأ تقطع يمينه للسرقة.

ولو قطع يمين إنسان، وأخذ نصاباً فيقطع الطريق -تقطع بمينه قصاصاً، ويسقط قطعها عن قطع طريق، وتقطع رجله اليسرى في الحال، ولا ينتظر؛ لأن قطع العضوين بحد واحد، وإن كان مستحقاً علبه. وكذلك: لو سرق، وأخذ المال في قطع الطريق، تقطع اليد والرجل في مكان واحد، وقيل: يؤخر قطع الرجل حتى تندمل اليد؛ لأن قطع اليد - وجب بغير سبب قطع الرجل؛ فهما سببان مختلفان، والأول المذهب. وإذا قطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى من إنسان في قطع الطريق، وأخذ المال - يقطع عن القصاص، ويسقط القطع بسبب أخذ المال. وإذا اجتمع عليه حد القذف، والشرب، وحد الزنا، وهو بكر، وقطع اليد والرجل بسبب السرقة وقطع الطريق وقيل: القصاص يبدأ بحد القذف، ثم يترك حتى يبرأ، ثم يُحد للشرب، ويحبس، حتى يبرأ، ثم يحد للزنى، ويحبس حتى يبرأ، ثم تقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى بسبب السرقة، وقطع الطريق، ولا ينتظر بينهما، ثم يقتل في الحال قصاصاً، فإن مات - سقطت الحدود، لوولي القتيل الدية، وإن كان القتل الواجب مع هذه الحدود بسبب المحاربة- هل يجب التفريق بين هذه الحدود أم يجوز أن يُوالي بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب التفريق؛ كما لو كان القتل في غير المحاربة. والثاني: وهو قول أبي إسحاق -: يجوز أن يوالي بين الكل، بخلاف القتل في غير المحاربة فإنه غير متحتم، فإذا أتى ربما يعفو، فيسلم نفسه، والقتل في المحاربة، متحتم؛ فلا معنى للتفريق، وترك الموالاة. وعند أبي حنيفة يقام عليه حد القذف، ثم يقتل فعنده: جميع الحدود تدخل في القتل إلا حد القذف، وفيه دليل على أن حد [القذف] حق للآدمي. باب تحريم الخمر قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. ورُوي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: [كل مسكر [خمر]، وكل

مسكر] حرامٌ" والخمر المتخذة من العنب والرطب - حرام باتفاق الأمة، يحد شاربه،

وإن شرب قطرة ويفسق ويكفر مستحله، وهي نجسة، لا يجوز بيعها، أما المطبوخ من غير العنب والرطب، أو المتخذ من التمر والزبيب ونقيع الحنطة والشعير: إن كان مسكراص - فهو عندنا خمرٌ نجسٌ؛ لا يحل شرب شيء منه، وإن قل. وعند أبي حنيفة: يحل شرب قليله، ويحرم السكر منه. والدليل على تحريمه: خبر ابن عمر وعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أسكر كثيره - فقليله حرام" وعن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أسكر

الفرق منه - فملء الكف منه حرام"، وعن ابن عمر قال: "خطب عمر على منبر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة والشعير، والعسل". والخمر: ما خامر العقل، وعندنا: إذا شرب منه شيئاً، وإن قل - يحد شاربه؛ سواء كان ممن يستحله أو لا يستحله، ولكن لا يكفر مستحله؛ لاختلاف العلماء فيه، وهل يُفسق؟ نظر: إن كان ممن يقول بإباحته - لا يفسق، ولا ترد شهادته، وإن كان ممن يقول بتحريمه - يُفسق، وتُرد شهادته؛ بخلاف الحد أقمنا على الفريقين؛ لأنه على الأمام، وتُرد

الشهادة [لارتكاب] محظور عقيدته، ومن يستبيحه لم يرتكب محظور عقيدته، فلم ترد شهادته، ودُردي الخمر حرام، يجب به الحد، وكذلك: لو كان ثخيناً، فأكله بخبز، أو شربها لدواء - يجب الحد، وعند أبي حنيفة: لا يجب الحد في هذه المواضع، ولو احتقن الخمر - لا يحد، ولو استعطه - ففيه وجهان: أحدهما: لا يحد؛ كما لو احتقن. والثاني: يحد؛ لأنه يُطرب؛ كما لو شرب. ولو شرب جاهلاً؛ بأن رأى في [كوز لم يظن] أنه خمرٌ، فشرب - لا حد عليه. ولا يُحد الشارب حتى يقر بأنه شرب الخمر، أو شهد الشهود؛ أنه شربها قصداً، أو شرب من إناء شرب منه قوم، فسكروا - حينئذ يحد. أما إذا رأوه سكرانا، أو وُجد منه ريح الخمر - فلا يحد؛ لاحتمال أنه كان مكرهاً عليه. فصل في حد الخمر رُوي عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشارب، فقال: "اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال: بكثوه، فبكثوه، ثم أرسله"، فلما كان أبو بكر - رضي الله عنه - سأل من حضر ذلك الضرب، فقوموا أربعين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين حياته، ثم عمر، حتى تتابع الناس في الخمر، فاستشار، فضرب ثمانين.

ورُوي عن ثور بن يزيد الديلي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استشار في الخمر، فقال له عليُّ - رضي الله عنه-: أرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فجلد عمر - رضي الله عنه-في الخمر ثمانين". حد شارب الخمر أربعون جلدة، إن كان حراً، وإن كان عبداً - فعشرون.

وعند أبي حنيفة يُجلد الحر ثمانين جلدة؛ لأن عمر جلد ثمانين. والزيادة على الأربعين - عند الآخرين - كان على وجه التعزير أدى إليه اجتهاده؛ بدليل أنه لما آل الأمر إلى عليٍّ - رضي الله عنه - جلد أربعين. ولو شرب مراراً، فلم يُحد لا يحد إلا أربعين، وتتداخل الحدود، فإن شرب، فحُد، ثم شرب ثانياً - يحد ثانياً. ولو ضرب الشارب بالنعال وأطراف الثياب والأيدي قدر أربعين جلدة - جوز؛ وبالسياط يجوز؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - ضربوا بالسياط. ولو جلد الإمام إنساناً في قذف أو زنى، فمات - لا شيء عليه. ولو ضربه في الخمر، فمات [نظر: إن ضرب بالأيدي والنعال، وأطراف الثياب والصفع، فمات - لا يضمن، وإن جلده بالسياط أربعين - هل يضمن؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يضمن] كما في حد القذف، وكما لو ضرب بالأيدي والنعال. والثاني: يضمن: لأنه كان بالاجتهاد، وكان بشرط سلامة العاقبة. رُوي عن عليٍّ -[رضي الله عنه]- أنه كان يضرب أربعين، ويقول ليس احد أقيم عليه الحد، فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً الحق قتله إلا حد الخمر؛ فإنه شيءٌ رأيناه بعد النبي - صلى الله عليه وسمل - فمن مات منه - فديته: إما قال: في بيت المال، وما قال: على عاقلة الإمام.

ولو ضرب في الخمر ثمانين، فمات: إن قلنا: من مات في حد الشرب - يجب ضمانه-: ههنا: يجب تمام الدية وإن قلنا: لا يجب- فيجب نصف الدية؛ لأن نصفه حد؛ لا يجب ضمانه، ونصفه في حكم التعزير؛ فيجب ضمانه. وإن جلد في القذف إحدى وثمانين، فمات - فلا قود، وكم يجب من الدية؟ فيه قولان: أحدهما تجب نصف الدية؛ كما لو جرح نفسه عشر جراحات، وجرحه أجنبي جراحة واحدة، ومات منهما - يجب على الأجنبي نصف الدية؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون. والثاني: يجب جزء من أحد وثمانين جزءاً من الدية؛ بخلاف الجرح؛ لأن نكاية الجراحة تكون في الباطن، وقد تكون نكاية جراحة [واحدة] أكثر من نكاية عشر جراحات، فاستويا، والضرب بالسوط يلاقي الظاهر؛ فقلما يقع التفاوت بين الضربات، فتوزع الدية على أعدادها، وكذلك: لو ضرب في الخمر أحداً وأربعين، فمات، وقلنا: لا يجب ضمان من مات في حد الخمر - فكم يجب من الضمان؟ فعلى قولين: أحدهما: نصف الضمان. والثاني: جزء من أحد وأربعين جزءاً من الدية. وإذا أقام الإمام الحد على رجل بشهادة شخصين، فبانا عبدين، أو مراهقين، أو امرأتين، أو كافرين، أو فاسقين؛ فمات المحدود- تجب الدية. وكل موضع أوجبنا الدية في خطإ الإمام - تكون على عاقلة الإمام أو في بيت المال؟ فيه قولان: أحدهما: على عاقلته كخطإ غير الإمام - تكون على عاقلته. والثاني: تكون في بيت المال؛ لأن خطأ الإمام يكثر؛ فلو أوجبنا على العاقلة أدى إلى الإجحاف بهم. فإن قلنا: تجب الدية على عاقلته - فتجب الكفارة في ماله، وإن قلنا: تجب الدية في بيت المال - ففي الكفارة وجهان: أحدهما: تجب في بيت المال؛ كالدية. والثاني: تجب في ماله؛ لأن الكفارة لا يجري فيها التحمل؛ بدليل أنها لا تجب على

العاقلة، فإذا ضمنت عاقلة الإمام أو بيت المال - فهل يرجع على الشاهدين أم لا؟ نظر: إن بانا فاسقين فسقا مستتراً - لا يرجع؛ لأنهما يقولان: نحن صدقنا فيما قلنا، وإسرارُ الفسق كان واجباً علينا، وإن بانا عبدين، أو كافرين، أو امرأتين - فهل يرجع عليهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لايرجع، كما لو بانا فاسقين. والثاني: يرجع؛ لأن إظهار حالهما - كان واجباً عليهما، فإذا لم يظهرا- فقد فرطا؛ فضمنا. فإن قلنا: [يرجع] يرجع على الكافر، والمرأة [في الحال] وفي العبد - يتعلق برقبته أم بذمته؟ فيه وجهان؛ أصحهما: [يتعلق بذمته؛ لأنه لم يمحض جناية، وهل يرجع على المراهق أم لا؟ [إن قلنا] يتعلق برقبة العبد - يرجع في مال المراهق، وإن قلنا: بذمة العبد - لا يرجع على المراهق أصلاً؛ كما لا يلزمه دين المعاملة. وإن بانا فاسقين فسقاً ظاهراً - فهو ما لو بانا كافرين. فكل موضع أوجبنا الضمان على الإمام: إما على عاقلته أو في بيت المال - فكذلك إذا باشر الإمام القتل أو الضرب بنفسه، أو أمر الجلاد به، ولم يعلم الجلاد خطأ، فإن كان الجلاد عالماً بخطئه - فالضمان على الجلاد، فلو قال الجلاد: إني علمت أن الإمام مخطيء، ولكني علمت بقول بعض العلماء - فعليه الضمان، لأنه لم يكن له الاجتهاد. ولو أمر الإمام الجلاد بقتل رجل في موضع اجتهاد واعتقادهما أن لا قود عليهما؛ مثل: أن يأمر بقتل المسلم بالذمي، أو الحر بالعبد، فقيل: عليهما القود. قال الشيخ - رحمه الله-: هذا على قولنا: إن أمر السلطان إكراه، ويجب القود على المُكرِه والمكرَه جميعاً، فلو قال الجلاد: إني ظننت أن الإمام رجع عن ذلك إلى قول من يوجب القود وأنه يأمر بحق - لا يسقط عنه القود بهذا؛ لأنه قصد قتلاً يعتقد تحريمه، ولو كان الجلاد يعتقد جواز قتله، والإمام يعتقد تحريمه - يجب القود على الجلاد؛ اعتباراً باعتقاد الإمام. [ولو] أمر الإمام الجلاد بضربه، وقال: أنا ظالم في ضربه، فضربه الجلاد، مات إن قلنا: أمر السلطان ليس بإكراه - فالضمان على الجلاد، وإن قلنا: أمره إكراه: فإن قلنا:

لا ضمان على المكُرَه - فالضمان على الإمام، وإن قلنا: يجب الضمان على المُكرَه - فيكون عليهما نصفان، هذا إذا أمره الإمام جزماً، ولم يخوفه، فإن خوفه - فهو إكراهٌ، وإن قال: إن شئت، فافعل - ليس بإكراه؛ فالضمان على الجلاد. ولو أمر الإمام الجلاد؛ بأن يضرب في القذف ثمانين؛ فضرب إحدى وثمانين، ومات - فالضمان على الجلاد، وكم يجب؟ فعلى القولين. ولو أمره بأن يضرب في الخمر ثمانين، فجلد واحداً وثمانين، ومات المضروب. فإن قلنا: الدية تُقسط على الضربات - تجعل الدية أحداً وثمانين جُزءاً فيسقط أربعون جزءاً لأجل الحد، ويجب على الإمام أربعون جزءاً؛ لأن الزيادة على الثمانين في حكم التعزير، ويجب على الجلاد جزء واحد. وإن قلنا: يسقط على عدد الجناية - ففيه وجهان: أحدهما تجعل الدية أثلاثاً، فيسقط ثلثها، ويجب ثلثها على الإمام، وثلثها على الجلاد؛ لأن مات بثلاثة أنواع من الضرب: اثنان مضمونان، وواحد غير مضمون، وهو ضرب الحد. والثاني: يجمع بين المضمونين، فيجعل نصفان، فيسقط نصفها لأجل الحد، والنصف الآخر يكون على الإمام والجلاد نصفان. ولو قال الإمام للجلاد: اضرب، وأنا أعد، فغلط الإمام، فزاد في العدد - فالضمان على الإمام، وفي قدره ما ذكرنا من الاختلاف. فصل قال الله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] يجوز للزوج ضرب زوجته على النشوز، وعلى ترك واجب عيها ضرباً غير مبرح، وكذلك: يباح للمعلم ضرب الصبي للتأديب، ولكن يكون ضربهما بشرط السلامة، فإن ماتت الزوجة أو الصبي من الضرب، إن جاوز الحد في الضرب - يجب عليه القود، وإن لم يجاوز - فهو شبه عمدٍ؛ تجب به الدية على عاقلته مغلظة، والكفارة في ماله، ولا فرق بين أن يضرب الصبي بإذن أبيه، أو بغير إذنه. وإن كان الصبي مملوكاً، فضربه المعلم ضرب مثله، فهلك - يضمن، وإن ضربه بإذن

مولاه - لا يضمن؛ لأنه لو أمره بقتله، فقتله -لا يلزمه الضمان. ولو عزر الإمام رجلاً لحق الله تعالى، فمات - تجب الدية، وتكون على عاقلة الإمام أم في بيت المال؟ فعلى القولين، وعند أبي حنيفة: لا يجب الضمان؛ كما لو حده، فمات. وأصله: أن التعزير عندنا غير واجب وعند أبي حنيفة واجب، كالحد. قلنا: كم من مستحق للتعزير أعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كالذي غل في الغنيمة، والذي لوى شدقه حين حكم لخصمه الزبير في شراج الحرة، وغير ذلك، ولو كان واجباً - لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -. رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". وإن عزره لحق العباد، فمات - ففي وجوب الدية وجهان: أصحهما: تجب؛ ما لو عزره لحق الله [عز وجل]. والثاني: لا تجب؛ لأنه تجب إقامته؛ إذا طلبه المستحق؛ لو مات في الحد. ولو كان برجلٍ سلعةٌ، فقطعها صاحبها، أو قطع يده بسبب الأكلة، فمات - لا يعصي [الله]؛ لأنه قصد الإصلاح؛ بخلاف ما لو قطع يده بلا سبب - عصى الله تعالى. لو قطع السلعة، أو الأكلة غيره، فمات - نظر: إن كان المقطوع منه عاقلاً بالغاً، وقطعها بإذنه- فلا شيء -على القاطع، وإن قطع بغير إذنه -يجب القود على القاطع، سواء قطعه السلطان أو غيره، وإن كان المقطوع منه صبياً أو مجنوناً - فلا يجوز قطعه، خوفاً من الهلاك، فإن قطع - نظر: إن قطعها غير الولي، فمات - يجب القود، وإن قطعها وليه أو السلطان - تجب الدية مغلظة في ماله، وهل يجب القود؟ إن كان القاطع غير الأب والجد - فيه قولان: أحدهما: يجب القود؛ لأنه قطع ما لم يكن له قطعه. والثاني: لا يجب؛ لأنه قصد الإصلاح لا الإهلاك. وقيل: إن قطعه الأب - فلا ضمان عليه أصلاً؛ لأن ولايته أتم، فإنه يعالج الصبي بالفصد والحجامة، وقطع السلعة لشفقته.

فصلٌ: في بيان الختان الختان واجبٌ، ويجب على العاقل البالغ أن يختن نفسه؛ رجلاً كان أو امرأة. وعلى السيد أن يختن عبده أو يخلي بينه وبين كسبه؛ حتى يختن نفسه، فلو لم يختن الرجل نفسه، فختنه الإمام في وقت اعتدال الهواء، فمات - لا شيء على الإمام؛ ما لو أقام عليه حداً، فمات وإن ختنه في حر شديد، أو برد [شديد] فمات - تجب الدية في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ على اختلاف القولين. ولو ختنه أجنبي؛ فمات: قال الشيخ - رحمه الله-: يحتمل أن يبنى على أن الإمام لو ختنه في شدة الحر والبرد، فمات - هل يضمن؟! إن قلنا هناك يضمن للتعدي - فههنا يضمن؛ وإلا- فلا؛ بخلاف ما لو قطع في السرقة أجنبي، فمات - لم يضمن؛ لأن قطع السرقة على الغير، والختان إليه. ولو ختن صبياً في سن لا يحتمل، فمات - يجب القود؛ سواء ختنه السلطان أو قيمه، فإن ختنه أبوه - فلا قود، وتجب الدية، وإن ختنه في سن يحتمل، وهو بعد عشر سنين، فمات -فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأن الختان غير واجب على الصبي؛ كما لو قطع سلعة. والثاني: لا يجب الضمان؛ لأن الختان واجب في الجملة. فصلٌ: في التعزير من أتى معصية لا حد فيها؛ كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، والسرقة من غير الحرز، وسرقة ما دون النصاب، وإيذاء الناس، والسب، والضرب، وما أشبه ذلك من المعاصي؛ فإنه يعزر بما يراه السلطان من تغليظ قول، أو حبس، أو ضرب، ولا يبلغ بالتعزير الحد؛ لأنه مجتهد فيه؛ فلا يبلغ به المقدر شرعاً؛ كالرضخ؛ لا يبلغ السهم، والحكومة لا تبلغ دية العضو. وعن أي حد ينقص اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال - وهو الأصح-: تعزير كل شخص ينقص عن أقل حدود؛ فتعزير الحر لا يبلغ أربعين؛ لأنها أقل حدوده، وتعزير العبد لا يبلغ. ومنهم من قال: لا يبلغ تعزير ما عشرين؛ لأنه أقل الحدود.

ومنهم من قال: لا يبلغ أربعين؛ لأنها أقل حدود الأحرار؛ رُوي عن عمر - رضي الله عنه- في التعزير ما بين ثلاثين إلى أربعين. ومنهم من قال تعزير كل جريمة ينقص عن حدها؛ كما أن حكومة كل عضو لا تبلغبدله المقدر؛ فتعزير الزنا بأن فاخذ أو باشر أجنبية فيما دون الفرج - يجوز أن يزاد على حد القذف ولا يبلغ مائة، وتعزير القذف؛ أن شتم أو رماه بخيانة - لا يبلغ ثمانين، ويجوز أن يُزاد على حد الشرب، وتعزير الشرب، بأن تشبه بالشرب، فأدار كأس الماء على الشرب إدارة كأس الخمر - لا يبلغ أربعين. قال شيخنا - رحمه الله -: وقد صح عن أبي بردة بن سيار؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يثجلد فوق عشر جلدات، إلا في حد من حدود الله تعالى".

وقال رحمه الله - الأمر هكذا عند قلة الفساد؛ وحصول الزجر بهذا، أما إذا أكثر الفساد واستقل الناس هذا التعزير - فلا باس أن يزاد، ولايبلغ به الحد؛ كما ذرناه؛ كما أن عمر - رضي الله عنه - ضرب في الخمر ثمانين، فزاد أربعين؛ تعزيراً على الافتراء. والحدود لا تُقام في المساجد، لما رُوي عن ابن عباس؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقام الحدود في المساجد"، ولأنه لا يؤمن أن يتلوث المسجد بجرح أو بحدث يحصل من المحدود. فلو أقيم في المسجد - سقط الحد؛ كما لو صلى في ثوب مغصوب - سقط الفرض عنه، وإن كان عاصياً بالغصب، والله أعلم.

كتاب صول الفحل

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب صول الفحل رُوي عن سعيد بن زيد؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "من قاتل دون أهله وماله [فقتل] فهو شهيد". إذا قصد رجل نفس رجل أو ماله أو أهله - فله أن يدفعه، ولغيره أن يدفع عنه. ويجب أن يدفع بالأحسن فالأحسن؛ فإن أمكنه دفعه بالصياح والاستغاثة - لا يدفعه باليد، فإن كان في موضع لا يلحقه الغوث بالصياح - دفعه باليد، فإن لم يندفع باليد - دفعه بالضرب بالعصا، فإن لم يندفع - دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو منه - دفعه بإتلاف العضو. فإن أمكن دفعه بالعصا؛ فقطع عضواً منه، أو أمكنه دفعه بقطع عضو؛ فقتله - يجب القصاص، وإن لم يندفع إلا بالقتل- دفعه بالقتل، ولا شيء عليه؛ لأن الصائل ظالمٌ؛ بدليل أن المصول عليه: لو صار قتيلاً - كان شهيداً، ولا يكون المقتول شهيداً إلا أن يكون القاتل ظالماً. وهل يجب الدفع أم له أن يستسلم؟ نظر: إن قصد أخذ ماله أو إتلافه، ولم يكن ذا روح - لا يجب الدفع؛ لأن إباحة المال جائز، ولو دفع - يجوز، ولو قصد أهله وحريمه

وولده أو حريم غيره - يجب الدفع؛ إذا لم يخف على نفسه؛ لأنه لا يجوز إباحته. وإن قصد نفسه - نظر: إن كان الصائل كافراً أو دابة - يجب الدفع، ولا يجوز أن يستسلم، وإن كان مسلماً - ففيه وجهان: أحدهما: يجب الدفع؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وكما لو كان في ماء أمكنه السباحة، أو تحت حائط مائل - لا يجوز تسليم نفسه للهلاك؛ إذا أمكنه تخليص نفسه.

والثاني: لا يجب الدفع، وله أن يستسلم؛ لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفتن: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" وقال عثمان - (رضي الله عنه) - لعبيده يوم الدار: "من ألقى سلاحه -فهو حر"، ولم يشتغل بالدفع. وكان شيخي - رحمه الله -يقول: إن أمكنه دفعه من غير أن يقتله - يجب دفعه، ولا يجوز أن يستسلم للقتل. وإن أمكنه الهرب بأن كان فارساً أو أمكنه أن يتحصن بحصن أو يلتجيء إلى فئة - هل له أن يثبت ويقاتل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه الهرب، وله أن يقاتل؛ فعلى هذا: إن قتله - فلا شيء عليه. والثاني: عليه أن يهرب؛ لأنه يندفع به قصده؛ كما لو أمكنه دفعه بصيحة - ليس له ضربه، فعلى هذا: إن ثبت، وقاتل، وقتله - تجب [عليه] ديته. وإذا دفع الرجل عن حريم غيره أو مال غيره - فهو كالدفع عن حريم نفسه ومال نفسه؛ سواءٌ كان الغير مسلماً أو ذمياً. فحيث قلنا: يجب الدفع في حق نفسه - يجب في حق غيره، ولو قصد رجلٌ إتلاف ذي روح من مال الغير، أو من مال نفسه، أو رآه يشدخ رأس حماره - يجب دفعه إذا لم يخف على نفسه؛ لحرمة ذي الروح، ولو دفعه، فصار في الدفع قتيلاً -لا شيء عليه، وإن كان قصده إتلاف غير ذي الروح، أو رآه يحرق كدسه أو قصد [شعير حمار] غيره - لا يجب الدفع، ولو دفعه جاز. ولو صال مسلم على ذمي، أو الأب على ابنه، أو السيد على عبده - فله دفعه، وإن أتى على نفسه؛ كالأجنبي، وكذلك لو كان مراهقاً. ولو صالت بهيمة على إنسان، فلم يمكنه دفعها إلا بالقتل، فقتلها - لا ضمان عليه، وعند أبي حنيفة - رحمه الله-: يجب الضمان. قلنا: ما صار مباح القتل لصيال - فلا يجب ضمانه؛ كالآدمي، ولو سقط متاع من

سطح، فخاف أن يقع عليه، فدفعه، فهلك - هل يجب ضمانه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو قصدته دابة، فقتلها دفعاً. والثاني: يجب؛ لأن القصد من المتاع لا يتحقق؛ بخلاف البهيمة، ولو عض إنسان يده أو عضواً من أعضائه ففك لحييه بيده: فإن لم يرسل - ضرب في شدقه حتى يرسل، فإن نزع يده من فيه، فسقطت ثنيته -لا شيء عليه؛ لما روي عن يعلي بن أمية قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيش العسرة؛ وكان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما يد الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض، فذهبت إحدى ثنيتيه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك تقضمها كأنها في في فحل" ولو عض قفاه - له نتر رأسه من فيه، فإن لم يقدر - تحامل عليه من ورائه؛ مصعداً أو منحدراً، فإن غلبه بفيه - ضرب في فيه، فإن نفخ بطنه، أو فقأ عينه - نظر: إن أمكنه التخلص منه بالضرب في فيه - يجب عليه القود، وإن لم يمكنه بدونه- فلا شيء عليه. ولو تبع رجل امرأة، فراودها عن نفسها، أو قصد أخذ شيء منها، فرمته بحجر، فقتلته - فلا شيء عليها؛ ورُوي أنه رفع إلى عمر جارية، كانت تحتطب، فاتبعها رجلٌ، فراودها عن نفسها؛ فرمته [بفهر] فقتلته. فقال عمر: هذا -[والله]- قتيل الله، والله لا يودي أبداً". فلو قتلته، وادعت أنه قصدني - لا يسمع منها إلا ببينة. ولو وجد رجلاً يزني بامرأته أو بامرأة أخرى - عليه دفعه ومنعه، [فإن لم يمكنه المنع إلا بقتله، فقتله -لا شيء عليه. فإن ادعى أنه قتله لذلك، وأنكر الولي - فعلى القاتل البينة]، فإن لم تكن بينة - حلف الولي، وله القود؛ روي أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم. وكذلك: لو قطع يد رجل، ثم ادعى؛ أنه صال علي، فقطعته في الدفع - لا يقبل إلا ببينة، كما لو قطع يد رجل ابتداءً، ثم قال: إنه كان سارقاً، أو قتله، ثم ادعى أنه كان ذاتياً-

لا يسمع إلا ببينة تقوم على السرقة، وأربعة من الشهود على الزنى مع الإحصان. فصلٌ: في من نظر في بيت إنسان فرماه فأصاب عينه رُوي عن أبي هريرة؛ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول "لو اطلع في بيتك أحد، ولم تأذن له فخذفته بحصاة، ففقأت عينه - ما كان عليك من جناح" لو أن رجلاً نر في صير باب إنسان، أو نظر من كوة في داره - ينهاه صاحب الدار، فإن لم ينته، فرماه بحصاة، فأصاب عينه، فذهب بصره، أو أصاب قريباً من عينه، فجرحه - فلا ضمان عليه وعند أبي حنيفة: يجب الضمان، والخبر حجة عليه. ورُوي عن سهل بن سعد؛ أن رجلاً اطلع في ستر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدري يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أعلم أنك تنظرني - لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". ولو رماه قبل أن ينهاه بالكلام - هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لظاهر الخبر. والثاني: يضمن؛ لأنه قد يكون له عذر في النظر؛ حتى يُصر بعد النهي. هذا إذا رماه بشيء خفيفٍ من حصاة أو مدري أو نحوه، فإن رماه بشيء ثقيل، أو سكين، فأصابه - يجب القود، ولو رماه بشيء خفيف، فأصابه، فمات منه - لا يضمن؛ لأنه سراية من مباح، ولو رماه، فأصاب موضعاً بعيداً من عينه لا قصداً - هل يضمن؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يضمن، وكذلك لو لم يمكنه إصابة عينه، [فرمى] موضعاً آخر -[فيه وجهان. أما إذا أمكنه إصابة عينه، فأصاب موضعاً آخر] قصداً - ضمنه، وإن كان الناظر

محرماً لأهله، أو كان للناظر في تلك الدار محرمٌ- لا يجوز رميه، فإن فعل - ضمن، فإن كانت زوجته متجردة، فقصد المحرم بالنظر - جاز رميه؛ لأنه - يحرم على المحرم النظر إلى ما بين السرة والركبة، كما يحرم على الأجنبي، ولو لم يكن لصاحب الدار فيها محرم - نظر: إن كان صاحب الدار مكشوف العورة، فرمى - لم يضمن، وإن لم يكن فعلى وجهين: أحدهما: ليس له أن يرمي، ولو رمى ضمن؛ لأنه لا يتضرر بنظر الناظر؛ إذا لم يكن له في الدار محرم. والثاني: له أن يرمي، ولا يضمن؛ لأن الإنسان قد يستتر عن أبصار الناس؛ حسب ما يستر حرمه، وكذلك لو كان له فيها محرمٌ، ولكنهن مستترات بالثياب - ففيه وجهان: أحدهما: يضمن. والثاني: له أن يرمي، ولا يضمن؛ لأن الإنسان قد يستتر عن أبصار الناس؛ حسب ما يستر حرمه المستورة عن أبصار الناس. وإن كان الناظر امرأة، أو مراهقاً- هل يجوز أن يرمي؟ فيه وجهان: ولو كان باب الدار مفتوحاً، أو كانت لها كوة، واسعةٌ: فإن نظر فيها مختاراً - لم يجز رميه، فإن فعل - ضمن، وإن وقف في الطريق طويلاً ينظر - فيه وجهان: أحدهما: يجوز رميه؛ لأنه مفرط بالنظر [كما لو نظر] من صير الباب. والثاني - وهو الأصح-: ليس له رميه، ولو رمى ضمن؛ لأنه مفرط بفتح الباب، وتوسيع الكوة، وكذلك: لو نر من سطح نسه، أو المؤذن من المئذنة - فيه وجهان. ولو كان الذي وضع عينه على صير بابه أعمى، فرماه - ضمن؛ سواء كان عالماً بكونه أعمى أو جاهلاً، ولو وضع أذنه على صير بابه، يستمع - لا يجوز أن يرميه؛ لأنه لا يطلع على حرمه، ولو دخل رجلٌ دار إنسان بغير إذنه - يأمره بالخروج، فإن لم يخرج - دفعه بما قبل النهي، فإن أمره بالخروج، فلم يخرج - ضرب على رجله، فإن هلك فيه - لم يضمن، فإن ضرب على عضو آخر، فهلك - هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ كما في الناظر، إذا رمى على غير عينه قصداً. والثاني: لا يضمن؛ لأنه حصل في الدار بجميع بدنه، والناظر جنايته من عينه خاصة.

فإن قتل الداخل ثم ادعى أنه قصدني، فقتلته في الدفع - لا يقبل إلا ببينة، [فلو أقام بينة] على أنه دخل داره مقبلاً عليه بسيف شاهر - يقبل قوله، ولاضمان عليه، وإن شهد أنه دخل داره بسلاح غير شاهر - لا يقبل [قوله]، وعليه الضمان، ولو دخل داره، وأخذ ماله - له أن يتبعه [ويقاتله؛ حتى يطرح ماله، وإن أتى [على نفسه]، فإذا طرح ماله - فليس له أن يتبعه] فيضربه فإن تبعه، وقطع يده، وعلم أن قطع اليد قد وجب عليه بإخراج نصاب من الحرز - لا ضمان عليه؛ لأن يده مستحقة القطع، ولكنه يعزر، لتقويته على الإمام. ولو علم بخمر في داره يشربها أهل الدار، وطنبور [يضربونه] فله أن يهجم [عليهم] فيريق الخمر، ويفصل الطنبور، ويمنعهم من الشرب والضرب، فإن لم ينتهوا - قاتلهم عليه، وإن أتى القتل عليهم، وهو مثاب عليه، والله أعلم. باب الضمان على البهائم رُوي عن حرام بن سعد بن محيصة؛ أن ناقة للبراء دخلت حائطاً، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامنٌ على أهلها".

إذا أفسدت دابة إنسان زرعاً أو مالاً لآخر - لا يخلو: إما إن كان مالك الدابة معها، أو لم يكن: فإن كان مالكها معها - فيجب عليه ضمان ما أتلفت: من مال أو نفس؛ ليلاً كان أو نهاراً؛ سواء كان المالك راكبها أو سائقها أو قائدها؛ وسواء أتلفته بيدها أو فمها أو برجلها أو ذنبها، وإن كانت الدواب عدداً فسواء كانت مرسلة أو مقطرة، وإن كانت مقطرة - فعليه ضمان ما أتلف الأخيرة، كما يجب ضمان ما أتلفت السابقة؛ لأن الكل يجب ضمانه. وقال أبو حنيفة: إن كان المالك راكبها أو قائدها - فما أتلفت بيدها أو فمها - يضمن، وما أتلفت برجلها أو ذنبها - لا يضمن، وإن كان سائقها - ضمن الكل، وإن كان يسوق بوقر حطب، أو حمل على ظهره، أو على عجلة، فاحتك ببناء، فأسقط - يجب الضمان، وكذلك إذا كان في وقت الزحام فما أتلفت من نفس أو مال يضمن وإن لم يكن في وقت الزحام، تعلقت منه خشبة بثوب إنسان، فمزقته - نظر: إن كان المتلف عليه متوجهاً إلى الدابة - لا يضن؛ لأن عليه الاحتراز إلا أن يكون أعمى؛ فيضمن إذا لم يعلمه، [وإن كان يمشي بين يدي الدابة - فيضمن إذا لم يعلمه] هذا إذا لم يكن من صاحب الثوب جذبه بأن كان واقفاً، أو كان ماشياً، فكما استقبله الحطب - وقف، أما إذا استقبله رجلٌ، فأراد الاجتياز، فتعلق بالخشبة، فذبه، وجذب الحمار، فتمزق - يجب نصف الضمان. أما إذا لم يكن المالك مع الدابة، فأتلفت زرعاً، أو مالاً لإنسان - نظر: إن كان بالنهار - لا ضمان على صاحب الدابة، وإن كان بالليل - يجب؛ لأن عادة الناس أنهم

يرسلون مواشيهم بالنهار للرعي، ويردونها بالليل إلى بيوتهم، وعند أبي حنيفة: لا يجب الضمان في الحالين، والحديث حجة عليه. ثم هذا عندنا، إن كان الزرع في الصحراء، أو كان في بلدٍ، ليس لبساتينها حيطان - قال الشافعي - رضي الله عنه - وحيطان المدينة لا جُدُرَ لها، فإن كان في بلد لبساتينها [جُدُر] أو كان زرع رجل في حائط له باب مغلق، فلم يغلق رب الزرع الباب اختلف أصابنا فيه، منهم من قال - وهو الأصح؛ وبه قال صاحب "التلخيص": لا ضمان على صاحب البهيمة؛ ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن التفريط من صاحب الحائط حيث لم يُغلق الباب؛ إلا أن يسد الباب، ويغلقه، فاقتحمت الدابة الجدار، أو خرقت البرجين، وهو: جدار من خشب يُجعل للبستان - فحينئذ: يضمن؛ لأن صاحب الزرع لم يضيعه. ومنهم من قال: يجب الضمان بالليل، بكل حالٍ؛ لأن الدواب تحفظ بالليل في البيوت؛ فمن لم يحفظ. فقد فرط. ولو حبس صاحب الدابة دابته بالليل في البيت، فانهدم الجدار، أو ربطها، فحلت الرباط، وأتلفت مالاً - فلا ضمان، وإن كانت القرية صغيرة تتقارب أراضيها، وتكون مراعي الدواب في تضاعيف المزارع، وجرت العادة بأن الدواب تسيب فيما بينها، ويحفظها مالها، حتى لا يفسد الزرع، فإذا خلاها بين المزارع - يضمن بالنهار أيضاً، وكذلك: إن كانت لأهل بلد مرج يخرجون إليها المواشي أياماً؛ ليلاً أو نهاراً، يرعاها حافظ - يجب ضمان ما أتلفت، ليلاً كان أو نهاراً، ولو كانت عادة بلد أنهم يحفظون الدواب بالنهار، ويسيبونها بالليل - هل تعتبر عادتهم؛ حتى يجب ضمان [ما أتلفت بالنهار، ولا يجب ضمان] ما أتلفت بالليل؟ فيه وجهان. ولو كانت له هرة مفسدة؛ تأخذ الطيور، وتفتح القدور، أو لكب عقور، أو دابة معروفة بالتعدي - يجب على صاحبها ربطها، ليلاً كان أو نهاراً، فإن لم يفعل: فما أتلفت - يجب عليه ضمانه؛ لأنه مفرط بترك حفظها، وقيل: لا يضمن ما أتلفت الهرة والكلب؛ ليلاً أو نهاراً؛ لأن العادة ما جرت بربطها. ولو رمى رجلٌ إلى الهرة حالة قصدها إلى الحمام والطير دفعاً، فقتلها - لا يجب الضمان، وفي غير تلك الحالة: لو قتلها - يجب الضمان، وإن أخذت الحمامة، وهي حية في فمها- ذلك أذنها، والضرب في فيها حتى تُرسل، وإن كان في داره دابةٌ رموحٌ أو كلبٌ

عقورٌ، فدخلها إنسانٌ، فرمحته الدابة، أو عضه الكلب؛ نُظر إن كان دخل بغير إذن المالك - فلا ضمان عليه، وإن دخل بإذنه - نظر: إن أعلمه أن هذه الدابة ترمح، أو هذا الكلب يعض - لا ضمان عليه وإن لم يعلمه أنها رموح أو عضوض - ففيه قولان؛ كما لو جعل السم في طعام، [ووضعه] بين يدي إنسان، فأكله - هل يجب الضمان [عليه]؟ فيه قولان. ولو مرت بهيمة بجوهرة، فابتلعتها - نُظر: إن كان المالك معها - ضمن الجوهرة، وإن لم يكن معها - ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة: إن كان نهاراً - لم يضمن، وإن كان ليلاً ضمن، كالزرع. والثاني: يضمن؛ ليلاً كان أو نهاراً بخلاف الزرع؛ فإنه مألوفٌ يلزم صاحبه حفظه. وابتلاع الجوهرة غير مألوف، [فلم يلزم] صاحبه حفظها. فإن قلنا: يجب الضمان، أو وجد من صاحب الدابة تعد؛ بأن ألقى لؤلؤة الغير بين يدي دجاجته، حتى ابتلعت - يجب الضمان، بالاتفاق. فإن طلب صاحب الجوهرة ذبح الدابة - نُظر: إن لم تكن مأكولة - لا تُذبح؛ بل يغرم مالكها قيمة الجوهرة للحيلولة؛ فإن ماتت الدابة، وأخرجت الجوهرة [من جوفها]- رُدت إلى مالكها، وتُسترد القيمة. وإن نقصت قيمة الجوهرة -ي ضمن صاحب الدابة ما انتقص من قيمتها. وإن كانت الدابة مأكولة فهل تُذرع؟ فيه قولان؛ بناء على ما لو غصب خيطاً، وخاط به جُرح حيوان مأكولٍ - هل يذبح الحيوان أم يغرم قيمة الخيط؟ فيه قولان ولو سقط دينار في محبرة الغير، فلم يخرج - نظر: إن أسقطه مالك المحبرة - كُسرت المحبرة، ورد الدينار، وإن أسقطه مالك الدينار - لا تكسر، ولا يمنع المالك من الانتفاع بالمحبرة، ولا يغرم، وإن سقط من غير قصد - لا تكسر، ولا يُمنع المالك من الانتفاع بها، غر أن لمالك الدينار أن يجعلها على يدي عدل ينتفع بها المالك. وقيل: إن وقع فيها من غير تفريط من صاحب المحبرة - كسرت، وعلى صاحب

الدينار قيمة المحبرة؛ لأنه كسرها لتخليص ماله. ولو أدخلت دابة رأسها في قدر، فلم تخرج أو دخل فصيل خوخة، فبقي فيها - تُكسر القدر، وتهدم الخوخة؛ لتخليص الحيوان، ثم إن وجد من [جهة] صاحب القدر تعد؛ بأن وضعها على الطريق، أو وُجد من صاحب الخوخة تعد، بأن أدخل الفصيل فيه-لا يجب لهما ضمان القدر والخوخة، وإن لم يوجد منه تعد - يجب ضمان القدر والخوخة على صاحب الدابة، وإن لم يكن منه تعد؛ لأن كسر القدر وهدم الخوخة -[لتخليص ملكه]، والله أعلم.

كتاب السير

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب السِّيَر باب فرض الجهاد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية، [البقرة: 216] وقال جل ذكره: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] كان القتال مع المشركين - ممنوعاً [عنه] في ابتداء الإسلام، بل كان يلزمهم الصبر على أذى المشركين؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77]،

وقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ووجبت الهجرة على من قدر عليها، ومن لم يقدر عذره الله - تعالى- قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ....} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ...} إلى قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء: 97/ 98]. وقطع الله الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر، فقال جل ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] إلى أن فتحت مكة - ارتفع وجوب الهجرة من مكة إلى المدينة؛ رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [يوم الفتح]: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم - فانفروا"؛ فأراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، وهي باقية في حق كل من أسلم في دار

الحرب، ولم يقدر على إظهار دينه، وقدر على الهجرة؛ فيجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك، لا تتراءى ناراهما" ومن لم يقدر على الهجرة - لا تلزمه الهجرة، وإن كان قادراً عليها؛ ولكنه مُطاعٌ في قومه - يقدر على إظهار دينه، ولايخشى الكفار على نفسه، ولا الفتنة في دينه - لا تجب عليه الهجرة، ولكن يستحب له أن يهاجر، حتى لا يكون مكثراً لسوادهم فلا يؤمن أن يميل إليهم قلبه؛ وإذا استولى المسلمون على ذلك البلد - يسترق ولده. ثم لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - أذن الله عز وجل في القتال مع من قاتلهم، فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، ثم أبيح ابتداء القتال معهم؛ فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، ثم أوجب الله

الجهاد؛ فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقال: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [التوبة: 41]، وقال: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39]. والجهاد اليوم فرض على الكفاية، إذا كان الكفار فارين من بلادهم، فإذا خرج من تقع بهم الكفاية - سقط الفرض عن الباقين. واختلفوا في أن هل كان فرضاً على العين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: منهم من قال: كان فرضاً على العين لقلة المسلمين، وكثرة المشركين؛ بدليل أن الله تعالى ألحق الوعيد بمن لم يجاهد، فقال: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39]. ومنهم من قال: كان فرضاً على العين لقلة المسلمين، وكثرة المشركين؛ بدليل أن الله تعالى ألحق الوعيد بمن لم يجاهد، فقال: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39]. ومنهم من قال: كان فرضاً على الكفاية، والوعيد لمن ترك إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن إجابته واجبة على كل من دعاه، وإن كان في الصلاة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. فصل فيما يجب عليه الجهاد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ...} [التوبة: 91] الآية وقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] الآية [النور: 61]. الجهاد مع المشركين [فرض في الجملة]؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ}

[البقرة: 216]، وهو ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين: أن يدخل الكفار دار قوم من المسلمين، أو [ينزلوا] باب بلدهم، فيجب على المكلفين من الرجال من أهل ذلك البلد. الجهاد؛ يستوي فيه الفقير والغني، والحر والعبد؛ للدفع عن أنفسهم وجيرانهم، وعلى العبيد الخروج بغير إذن ساداتهم؛ فهذا النوع معلى من قرب منهم: فرض على العين، وهو في حق من بعد فرض على الكفاية، فإن وقعت الكفاية بمن قرب [منهم]- لا تجب على من بعد، بل تستحب، فإن لم تقع بهم الكفاية - يجب على من بعد إذا لم يكن له عذر. ولا يجوز لمن قرب من الكفار أن يؤخروا قتالهم مع الإمكان إلى أن يحضر الأبعدون، ثم من كان على أقل من مسافة القصر - عليه الخروج، إذا وجد الزاد وعلى من كان على مسافة القصر فأكثر: إذا وجد الزاد والراحلة. وكذلك إذا دخلوا دار الإسلام، ولم يهجموا على بلد فعلى من دون مسافة القصر الخروج إلى جهادهم: إذا وُجد الزاد، وعلى من فوقها: إذا وجد الزاد والراحلة، ولا يدخل في هذا القسم العبيد، ولا الفقراء، لأن الله تعالى قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [التوبة: 41]، والفقير لا مال له، والعبد لا يملك نفسه؛ بل هو ملك للسيد، وخدمة السيد فرض عليه متعين، والجهاد - ههنا - فرض على الكفاية. فأما النساء وغير المكلفين: من الصبيان، والمجانين، والضعفاء - فلا جهاد عليهم؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]. وفرض الكفاية قسمان: أحدهما: يكون على المسمين، وهو ما ذكرنا؛ أن العدو إذا دخلوا دار الإسلام، فيفرض على من بعد منهم فرض كفاية، فإن قام به من تقع به الكفاية - سقط الفرض عن الآخرين، وإن قعد عنه كلهم - عصوا جميعاً، كرد السلام، والصلاة على الميت، ودفنه، والقيام بتعلم العلم، وفرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد منهم واحد - سقط

الفرض عن الباقين، وإذا قام بدفن الميت والصلاة عليه من تقع به الكفاية، أو قام بتعلم العلم من تقع به الكفاية سقط الفرض عن الباقين؛ وألا - عصوا جميعاً؛ والدليل على أنه فرض على الكفاية قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ...} إلى قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]، ذكر فصل المجاهدين، ثم وعد الحسنى لمن جاهد ولمن قعد، ولو كان فرضاً على العين - لم يكن يعد الحسنى لمن قعد وترك الفرض. القسم الثاني: من فروض الكفاية: يكون على الإمام، وهو: أن يكون الكفار فارين من بلادهم، لم يقصدوا المسلمين ولا بلداً من بلادهم؛ فعلى الإمام ألا يُخلي كل سنة من غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه؛ حتى لا يكون الجهاد معطلاً، فإن فعل في كل عام مراراً - كان أفضل؛ لما فيه من قوة الإسلام، وقمع أهل الشرك، فإن لم يفعل، فأقله مرة في كلسنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع ذلك، ولأنه يحتاج إلى مالٍ يتعيش به، هو الجند؛ ولا وجه إلا من الجهاد. قال الشافعي - رحمه الله-: ولا يدع ذلك في كل سنة إلا لضرورة أو عُذر؛ فالضرورة: أن يكون في المسلمين ضعف، وفي الأعداء كثرة؛ بخلاف الاصطلام لو ابتدأهم بالقتال؛ فهو مضطر إلى تركه. والعذر أن يكون في الطريق ضيقٌ، وقلة علفٍ، فيؤخر على إدراك الغلة، أو يرجو مدداً يلحقهم، أو يرجو إسلام قوم، لو ترك قتالهم - فيجوز التأخير؛ كما أخر النبي -صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية. وإنما يجب فرض الكفاية على من وجد أهبة الخروج: من الزاد والراحلة، ووجد نفقة الذهاب والروع له ولمن تلزمه نفقته، فإن لم يجد - فليس له أن يتطوع بالخروج، ويدع الفرض، وكل عذر يمنع وجوب الحج - يمنع وجوب الجهاد إلا الخوف؛ فإنه يمنع وجوب الحج، ولا يمنع وجوب الجهاد؛ [لأن الجهاد يجب مع الخوف]. فصلٌ: في الأعذار قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] وقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].

لا يجب الجهاد على المعذورين: من النساء وغير المكلفين: من الصبيان والمجانين ولا على الضعفاء. وحده: أن من كان به علة لا يمكنه المحاربة معها والثبوت على الدابة إلا بمشقة شديدة - فلا جهاد عليه؛ فلا يجب الجهاد على النساء؛ لأنهن يضعفن عن القتال، سألت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت هل على النساء جهاد؟ قال: نعم؛ جهاد لا شوك فيه: الحج والعمرة"؛ فدل أن الجهاد الذي فيه شوكٌ، وهو السلاح والقتال - لا يلزمهن، وكذلك: لا يجب على الخنثى المشكل؛ لأنه لا يدري أنه رجلٌ. ولا يجب على الصبيان، والمجانين؛ لما رُوي عن علي -[رضي الله عنه]-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رُفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ".

وروي عن عبد الله بن الزبير؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد يوم بدر نفراً من الصحابة يستصغرهم" ولا يجب على الأعمى؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61]، ويجب على الأعور، والأعشى، وهو: الذي يُبصر بالنهار دون الليل، فإن كان في بصره سوء نظر: إن كان يدرك الشخص، وما يتقيه من السلاح - يلزمه الجهاد؛ وإلا - فلا يلزمه. ولا يجب على الأعرج؛ لعجزه عن القتال؛ سواء كان أعرج الرجل الواحدة. أو أعرج الرجلين، وعند أبي حنيفة: يجب على أعرج الرجل الواحدة] وإن كان الأعرج يمكنه القتال على الدابة، وله دواب - لا يلزمه؛ لأن الدواب، إذا هلكت - لا يمكنه الفرار، وإن أمكنه المشي - فيكون مشيه ناقصاً يشق عليه القتال والهرب، وإن كان به عرج يسير يقدر معه على الركوب والمشي والقتال - يجب عليه، ولا يجب على الأقطع والأشل؛ لأنه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها، ويتقي بها، وإن كان مقطوع أكثر الأصابع - لا يجب، وإن كان مقطوع الأقل - يجب، ولا يجب على المريض المثقل؛ للآية، ولعجزه عن [الصيال]، ويجب على من به حمى خفيفة، أو قليل صداع. ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما يُنفق في طريقه فاضلاً عن نفقة عياله، ومن يلزمه نفقته؛ لقوله تعالى: {... وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91].

وإذا كان القتال على مسافة القصر، ولم يقدر على مركوب يحمله - لا يجب؛ لقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فإن بذل له الإمام مركوباً - يجب أن يقبل ويجاهد؛ لأن ما يعطيه الإمام حقه، وإن [بذله] غيره؛ لا يلزمه القبول؛ لأنه اكتساب مال تجب به العبادة؛ فلا يجب؛ كاكتساب المال للحج والزكاة، [وإن] كان عليه دين [حال] فليس له أن يجاهد بغير إذن غريمه؛ رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". وإن استتاب من يقضيه، بمال حاضر - جاز أن يخرج؛ لأن الغريم يصل على حقه في الحال، وإن كن من مال غائب - لم يجز؛ لأنه قد يتلف قبل وصوله إليه.

وإن كان الدين مؤجلاً - فوجهان، وقيل: إن لم يخلف وفاء - فليس له أن يخرج [إلا بإذن رب الدين، ولرب [الدين] منعه، وإن خلف وفاء - ففيه وجهان: أحدهما: له أن يجاهد] دون إذنه؛ لأنه يترك ما يقضي به الدين. والثاني: ليس له إلا بإذنه، لأنه ربما يقتل ويتلف المال، فيضيع حق صاحب الدين، وهذا بخلاف ما لو أراد المديون سفراً آخر سوى الجهاد، والدين مؤجل - ليس لصاحب الدين منعه، وإن لم يبق من الأجل إلا يوم، لأن الظاهر من ذلك السفر السلامة، والمجاهد يعرض نفسه للقتل؛ طلباً للشهادة، وإذا قتل - يضيع حق صاحب الدين؟ ولو كان على أحدٍ من المرتزقة دين مؤجلٌ - فهل له الخروج بغير إذن من له الدين، إذا لم يخلف وفاء؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ كغير المرتزقة. والثاني: له ذلك؛ لأنه قد استحق عليه هذا الخروج بكتبه اسمه في الديوان، ولعله لا يمكنه أداء الدين إلا بما يجري عليه من الرزق، أو بما يصيب من الغنيمة. وإن كان له أبوان مسلمان - لا يجاهد إلا بإذنهما، وكذلك: إذا كان أحدهما مسلماً- لا يجاهد إلا بإذنهما، وكذلك: إذا كان أحدهما مسلماً - لا يجاهد إلا بإذنه، لما رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما [فجاهد]،وروي: فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما، ولأن الجهاد فرض

على الكفاية ينوب غيره فيه عنه، وبرُّ الوالدين متعين عليه؛ فلا يجوز تركه لفرض الكفاية. وإن لم يكن له أبوان [وله جد أو جدة، فلا يجاهد إلا بإذنهما، كالأبوين، فإن كان له أبوان] وجد وجدة فهل يلزمه استئذان الجد مع الأب، واستئذان الجدة مع الأم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنهما محجوبان. والثاني: وهو الأصح-: يلزم؛ لأن بر الجدة والجد لا يسقط بالأبوين، ولا تنقص شفقتهما بالأبوين. وإن كان الأبوان كافرين - فله أن يجاهد بغير إذنهما؛ لأنه لا تطيب أنفسهما بقتال أهل دينهما. وإن كانا مملوكين ففيه وجهان:

أحدهما: له أن يجاهد دون إذنهما؛ لأنه لا حكم لهما في أنفسهما؛ فلا يعتبر إذنهما لغيرهما. والثاني: وهو الأصح عندي-: لا يجاهد إلا بإذنهما؛ لأن المملوك كالحر في البر والشفقة. وإن كان الجهاد فرضاً متعيناً؛ بأن أحاط العدو بهم، أو هجموا على بلدٍ - فعليه أن يجاهد بغير إذن الأبوين، وصاحب الدين؛ لأن ترك الجهاد - ههنا؛ يؤدي إلى الهلاك. فحيث قلنا: لايخرج إلا بإذن أهل الدين والأبوين؛ فخرج بغير إذنهم - عليه أن يرجع قبل حضور الوقعة والتقاء الزحفين، إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع - فلا يرجع، وإن كان بعد حضور الوقعة - هل له أن يرجع؟ فيه وجهان: والثاني: لا يجوز أن يرجع؛ لأنه افترض عليه الجهاد بحضور الوقعة. وإن خرج بإذن الأبوين وبإذن الغريم، ثم رجعا، أو كان الأبوان كافرين، فخرج بغير إذنهما، ثم أسلما، ولم يأذنا: فإن كان بعد حضور الوقعة - فلا يجوز أن يرجع؛ لأنه افترض عليه الجهاد، وإن كان قبل حضور الوقعة - عليه أن يرجع إلا أن يكون قد دخل دار الحرب، وخاف على نفسه من الكفار، أو يخشى انكسار قلوب المسلمين برجوعه - فليس له أن يرجع. وإذا خرج العبد إلى الجهاد بإذن المولى - له أن ينصرف قبل حضور الوقعة؛ وبعده - فلا؛ لأن فيه ضرراً بالمسلمين. ومن حدث به عُذرٌ: من مرض أو غيره - فله أن يرجع قبل حضور الوقعة؛ وبعده - لا يرجع. قال الشيخ - رحمه الله -: عندي: إذا مرض - رجع، وإن قل سلاحه بعد حضور الوقعة - له أن يرجع، وإن مات فرسه: إن أمكنه أن يقاتل راجلاً - لا يرجع - وإلا - يرجع. فصلٌ: في بعث السرايا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن حُذافة؛ إذ بعثه النبي - صلى الله وعليه وسلم- في سرية. ورُوي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية - أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً". يكره الغزو بغير إذن الإمام، أو الأمير من قبله؛ لأن الإمام والأمير أعرف بأمر الغزو، ومصالحه من غيره. فلو غزا قوم دون إذنه - جاز؛ لأنه ليس فيه أكثر من التعزير بالنفس، وذلك جائز في الجهاد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عمرو بن أمية الضمري، ورجلاً من الأنصار سرية وحدهما، وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده. وإذا بعث الإمام سرية - يؤمر عليهم أميراً، ويأمرهم بطاعته، ويوصيه في حقهم. رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير - فقد أطاعني، ومن يعص الأمير - فقد عصاني. وعلى الإمام أن يبدأ بقتال من يليهم من الكفار؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ن ولأنهم أهدى إلى عورات المسلمين، والمؤنة في قتالهم أخف، فإن كان الخوف من الأبعد أكثر - بدأ بقتالهم، ويوادع من يليهم؛ حتى يأمن شرهم في الغيبة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وادع يهود المدينة، وغزا قريشاً. ولا يجوز [استئجار المسلم] على الغزو، لأنه إذا حضر الوقعة يفترض عليه الجهاد، ولا يجوز أخذ الأجرة على أداء الفرض؛ كما لا يجوز استئجار الصيرورة على الحج؛ لأن الحج فرض عليه، وإذا أخذ الجرة عليه - رده، أما إذا جهز غازياً؛ فإن أعطاه مركوبه وسلاحه، أو الإمام دفع من بيت المال - فحسن؛ رُوي عن زيد بن خالد؛ أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا". وما يأخذه المرتزقة من مال الفيء - فهو حقهم، ليس بأجرة، ويجوز للإمام استئجار الذمي للجهاد، ولا يجوز ذلك لغير الإمام بغير إذنه، وتكون أجرته من خمس الخمس سهم المصالح، وهل يجوز استئجار العبد المسلم على الغزو للإمام أو لغيره؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يفترض عليه [حضور الوقعة]. والثاني: لايجوز؛ لأنه قد يفترض عليه في الجملة؛ عند استيلاء الكفار على بلاد الإسلام. ولو أكره الإمام جماعة من المسلمين على الغزو: فإن تعين عليهم الجهاد - فلا أجرة لهم، وإن لم يتعين عليهم - فعلى الإمام أجرتهم من حين أخرجهم إلى حضور الوقعة، ولا يجب لما بعده [أجرة الرجوع]. ولو أكره جماعة من أهل الذمة - عليه أجرتهم من حين أخرجهم إلى يوم خلاهم، ولاتجب أجرة الرجوع. ولو أكره جماعة من العبيد - عليه أجرتهم من يوم أخرجهم إلى أن يعودوا إلى الموالي؛ لأن منفعة العبد - تُضمن باليد ويجوز للإمام أن يأذن للمشرك في الغزو؛ إذا رآه حسن الرأي في المسلمين، وأن يستعين بهم على قتال المشركين؛ إذا كان بالمشركين قوة ثم انضم بعضهم إلى بعض - قاومهم المسلمون؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا يهود بني

قينقاع بعد بدر، وشهد معه صفوان حرب حنين، وهو مشرك، فإن لم يعرف منه حسن الرأي، لا يستعين به؛ روت عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك ويمنع الإمام من الخروج من كان من أهل النفاق، ومن يخذل الجيش، ويرجف بهم، ويكاتب الكفار، ويتجسس لهم؛ قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] إلى أن قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47].

ويجوز أن يأذن للنساء في الخروج. رُوي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغزو بأم سليم. ونسوة من الأنصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى. وقالت أم عطية: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات؛ أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي لهم الجرحى، وأقوم على المرضى. ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونةً، ولا يأذن لمجنون، لأنه يعرضه للهلاك من غير منفعة. ويتعاهد الخيل عند الخروج حتى لا يخرج إلا فرساً قوياً صالحاً للقتال، ويأخذ البيعة على الجيش ألا يفروا؛ لما روي عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، فبايعناه تحت الشجرة [على ألا] نفر. وينبغي أن يبعث الطلائع، ومن يتحسس أخبار الكفار؛ لما روي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: "من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، فقال: إن لكل نبي حوارياً، وحواريي الزبير. ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لما روي عن كعب بن مالك؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وقال: "قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج في سفر إلا يوم الخميس، وقلما يقدم من سفر إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد؛ فيركع ركعتين. ورُوي عن صخر الغامدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم، بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً - بعثهم من أول النهار".

ويستحب أن يعقد الرايات؛ ويجعل تحت كل راية طائفة، ويجعل لكل قوم شعاراً حتى لا يقتل - بعضهم بعضاً في البيات؛ رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بيتكم العدو - فليكم شعاركم: "حم لا ينصرون"، وعن سمرة بن جندب قال: كان شعار المهاجرين، عبد الله، وشعار الأنصار: "عبد الرحمن". وقال سلمة بن الأكوع: غزونا مع أبي بكر زمن انبي - صلى الله عليه وسلم - فبيتناهم نقتلهم، فكان شعارنا تلك الليلة أمت أمت"، ويستحب أن يدخل دار الحرب بتعبئة الحرب؛ ليكون أحوط وأبلغ في إرهاب العدو. وروي عن ابن عباس في قصة الفتح قال: أسلم أبو سفيان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "احبس أبا سفيان عن الوادي؛ حتى تمر به جنود الله، فحبسه، فمرت به القبائل على راياتها، حتى مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد". وعن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، [وجعل الزبير على المجنبة اليسرى]، وجعل أبا عبيدة على البياذقة، وبطن الوادي".

وإذا كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة - لم يجز قتالهم؛ حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل بلوغ الخبر إليهم. قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وإن بلغتهم الدعوة - فالمستحب أن يعرض عليهم الإسلام، لما رُوي عن سهل بن سعد؛ أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر لعلي انفذ على رسل، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله [فيه]، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حُمرُ النعم.

ولو قاتلهم من غير أنا يعرض عليهم الإسلام - جاز؛ لأنهم علموه روى عن نافع قال: أغار النبي - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون [به] ". ثم إن كانوا من الكفار الذين لا يجوز إقرارهم بالجزية - قاتلهم؛ حتى يسلموا؛ لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها - عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم بالجزية؛ قاتلهم حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} على قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. ورُوي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميراً على جيش أو سرية - قال: إذا لقيت عدوك من المشركين - فادعهم على ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك - فاقبل - منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك - فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم على التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها - فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ويجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة ولا في الفيء شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا - فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك - فاقبل منهم وكف عنهم، وإن هم أبوا - فاستعن بالله، وقاتلهم. ويستحب أن يستنصر بالضعفاء؛ لما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.

وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح بصعاليك المهاجرين". ويستحب أن يدعو عند لقاء العدو؛ لما رُوي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين، فقال: "اللهم، منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم، اهزم الأحزاب، اللهم، اهزمهم وزلزلهم". وفي رواية: وانصرنا عليهم". ورُوي عن أبي موسى؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوماً -[قال]: اللهم، إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، والله أعلم. باب جامع السير قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ...} الآية [التوبة: 111]. ورُوي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يُكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يتعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك". الجهاد من فضائل الأعمال؛ قال الله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95]، وروي عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض". وعن أبي هريرة قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم - ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله؛ لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله".

وينبغي أن تكون نيته في الجهاد إعلاء كلمة الله، وإظهار دينه. رُوي عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل للذر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل؛ لتكون كلمة الله هي العليا -: فهو في سبيل الله". ويجب أن يصير على القتال؛ لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} إلى قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45]. والصبر: سبب النصر والظفر والأجر؛ قال الله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66]، وروي عن عبد الله بن أبي وفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس قال: "يأيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ويجب أن يقاتل المشركين حتى يسلموا، ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية. فإن لم يفعلوا -: حل قتل رجالهم، وتسبي نساؤهم وذراريهم، وتغنم أموالهم. ولا يجوز قتل نسائهم وصبيانهم، إذا لم يقاتلوا؛ لما رُوي عن ابن عمر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء، والصبيان".

فمن وقع في الأسر من نسائهم وصبيانهم صار رقيقاً، وكان حكمه حكم سائر أموال الغنيمة، خمسه لأهل الخمس، وأربعة أخماسه للغانمين، وكذلك حكم عبيدهم، إذا وقعوا في الأسر. أما الرجال الأحرار العاقلون البالغون، إذا وقعوا في الأسر -: فالإمام فيهم بالخيار: بين أن يقتلهم صبراً، وبين أن يمن عليهم فيخلي سبيلهم، وبين أن يفاديهم، ويون مال الفدية في الغنيمة، وبين أن يسترقهم فيقسمهم كسائر أموال الغنيمة، ويختار منها ما هو أنفع للمسلمين. وهل يحل قتل شيوخهم الذين لا قتال فيهم؟ نظر: إن كان شيخاً له رأي في الحرب -: جاز قتله؛ قُتل دريد بن الصمة يوم حنين، وهو ابن خمس ومائة سنة، وكان شيخاً لا يستطيع الجلوس، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر قتله. وإن لم يكن فيه رأيٌ، هل يجوز قتله؟ فيه قولان؛ وكذلك العسفاء الذين لا يقاتلون، والرهبان، وأصحاب الصوامع، والعميان، والزمنى الذين لا يرجى زوال زمانتهم، هل يجوز قتلهم؟ فيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني، - رحمه الله-: لا يتركون ويقتلون؛ لأنهم كفار أحرار مكلفون؛ كالشبان.

والثاني: وبه قال أبو حنيفة، - رحمه الله-: لا يُقتلون؛ لأنهم لا يقاتلون؛ كالنساء، [والصبيان]؛ رُوي أن أبا بكر بعث جيشاً إلى "الشام"؛ فنهاهم عن قتل الشيوخ، وأصحاب الصوامع". ومن قال بالأول أجاب بأنه: إنما نهى عن قتلهم؛ ليشغلوا بالهم، وهم المقاتلة؛ كما أنه نهى عن قطع الأشجار المثمرة، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قطع نخل بني النضير، ولكن نهى عنه؛ ليشتغلوا بالأهم؛ ولأنه كان يرجو إبقاء نفعها للمسلمين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وعدهم فتح "الشام". فإن قلنا: يُقتلون-: جاز استرقاقهم وسبي ذراريهم، ونسائهم، [وأموالهم]. وإن قلنا: لا يُقتلون-: لا يجوز استرقاقهم، وسبي نسائهم، وأولادهم، واغتنام أموالهم، وقيل في سبي زوجاتهم، وجهان؛ كسبي زوجة المسلم، إذا كانت حربية. وإذا ترهبت المرأة، هل يجوز استرقاقها؟ فيه قولان؛ بناء على قتل الرجل الراهب، ويتوفى في القتال قتل قريبه الكافر؛ فن النبي - صلى الله عليه وسلم - كف أبا حذيفة بن عتبة يوم بدر عن قتل أبيه، وكف أبا بكر يوم أحد عن قتل ابنه عبد الرحمن، فلو سمع، أباه أو قريبه يذكر الله أو رسوله بسوء -: لم يكره، وله أن يقتله؛ فإن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه، وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "كان يسبك"؛ فلم ينكر عليه. فصلٌ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ} الآية [الأنفال: 15]. إذا التقى الصفان، وكان بمقابلة كل مسلم مشركان-: [فإنه] لا يجوز لأحدٍ من المسلمين أن يولي هره فراراً، فمن فعل فقد باء بغضب من الله؛ إلا أن يولي متحرفاً

لقتال، وهو: أن يكمن في موضع ليكر عليهم، أو كان القتال في مضيق فيولي دبره، ليتبعه العدو إلى موضع واسع؛ فيسهل عليه القتال. أو متحيزاً إلى فئة، وهو: أن يذهب إلى طائفة من المسلمين قليلة أو كثيرة، ريبة أو بعيدة؛ ليستنجدهم، فلا يأثم إذا كان قصده هذا. وكان في ابتداء الإسلام، إذا كان في مقابلة كل مسلم عشرة-: ما كان يجوز الفرار؛ كما قال تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وخفف الله

تعالى، [فأوجب على كل مسلم مصابرة اثنين]؛ فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66]. قال ابن عباس: من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر. وإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا لهم هلكوا-: فيه وجهان: أحدهما: لهم أن يولوا ظهورهم، لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 45]. والثاني- وهو الصحيح-: ليس لهم أن يولوا؛ لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]، ولأن المجاهد إنما يجاهد ليقتل ويُقتل.

فأما إذا كان بمقابلة كل مسلم أكثر من مشركين-: فيجوز أن يولي ظهره فراراً، رُوي أن خالد بن الوليد رد الجيش من حرب مؤتة؛ لكثرة العدو، فقال الناس: هم الفرارون، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-:"بل هو الكرارون". [ثم إن غلب على نهم أنهم لا يهلكون-: فالأفضل أن يثبتوا] وإن غلب على ظنهم: أنهم يهلكون-: ففيه وجهان: أحدهما: يلزمهم أن ينصرفوا؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. والثاني: يستحب أن ينصرفوا، ولا يلزم؛ لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة. وإن كان بمقابلة كل مسلم أقل من مشركين، ولكنه مريض، أو لم يكن له سلاح-: فله أن يولي ظهره. وكذلك: لو مات فرسه، ولا يمكنه أن يقاتل راجلاً-: له أن يرجع؛ لأنه لا يجوز أن يستسلم للقتل. ولو لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب: فإن طلباه، ولم يطلبهما-: فله أن يولي عنهما؛ لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما، ولم يطلباه -: فيه وجهان: أحدهما: له أن يولي؛ لأن فرض الجهاد في الجماعة. والثاني: لا يجوز أن يولي؛ لأنه مجاهد؛ كما لو كان مع الجماعة. وإن كان الكفار في حصن-: جاز للإمام نصب المنجنيق عليهم، ويجوز أن يفعل أينما كانوا ما يهمهم بالهلاك من التحريق والتغريق، وإن كان فيهم نساؤهم وذراريهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شن الغارة على بني المصطلق، وأمر بالبيات بالتحريق، ونصب المنجنيق على أهل الطائف. روى عن الصعب بن جثامة؛ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن أهل الدار يبيتون من

المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: "هم منهم". وإن كان فيهم مسلمون مستأمنون، أو أسارى، فهل يجوز أن يفعل بهم ما يعمهم بالهلاك من التحريق والتغريق ونصب المنجنيق؟ نظر: إن كان في حال التحام القتال، والخوف على المسلمين أن يظفر بهم الكفار-: يجوز؛ لأن حفظ المجاهدين أولى من حفظ من بأيديهم. وإن لم يكن ذلك، أو كانوا في حصن، فهل يجوز أن يفعل بهم ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، حتى لا يؤدي إلى تعطيل الجهاد؛ كما لو كان فيهم نساؤهم، وذراريهم. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا ضرورة إليه بخلاف الذراري والنساء؛ فإنهم منهم. وإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم: فإن كان في حال التحام القتال-: جاز الرمي، ويتوقى الأطفال والنساء، ما أمكنه؛ لأنا لو تركنا رميهم لمثل ذلك، لتعطل أمر الجهاد. وإن كان في غير حال الحرب، ففيه قولان أحدهما: يجوز الرمي حتى لا يتعطل الجهاد، ويتوفى الأطفال والنساء. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة. وإن تترسوا بمسلم - نظر: إن لم يكن في حال التحام القتال-: لا يجوز أن يضربه، فإن ضربه فقتله-: فهو كما لو قتل رجلاً في دار الحرب، إن علمه مسلماً - عليه القود، وإن نه كافراً: فلا قود عليه، وتجب الكفارة، وفي الدية قولان. وإن كان في حال التحام القتال والاضطرار على الرمي بالخوف على نفسه، وهو يعلم أنه مسلم فيرمي الكافر، ويتوقى المسلم، [فإن توصل إلى إصابة الكافر من غير أن يصيب المسلم، فأصاب المسلم -: وجب عليه القود]، وإن لم يتوصل إلى ضرب الكافر إلا بضرب المسلم-: لا يجوز ضربه، فإن ضربه-: قيل: في وجوب القود قولان؛ كالمكره. وقيل: يجب قولاً واحداً؛ لأنه ليس ههنا من يحيل بالحكم عليه غيره.

ولو قصد الكافر، فأصاب المسلم-: فهو خطأ؛ فلا قود عليه، وعليه الدية، والكفارة، وإن لم يعلم أنه مسلم: فإن قصده-: فلا قود، وعليه الكفارة، وفي الدية قولان، وإن قصد الكافر، فأصابه-: فلا دية، وتجب الكفارة. وإن تترسوا بذمي أو مستأمن أو عبدٍ-: لا يجوز الضرب؛ كما ذكرنا، فإن ضرب، وقتله-: فكل موضع أوجبنا في المسلم القود أو الدية-: فتجب في الذمي والمستأمن الدية، وفي العبد القيمة؛ وإلا فالكفارة. ولو تترس الكافر بترس مسلم، أو ركب فرسه، فرمى إليه واحد من المسلمين، فأتلفه: فإن كان في غير حال التحام القتال-: يجب عليه الضمان، وإن كان في حال الالتحام: فإن أمكنه ألا يصيب الترس، والفرس، فأصابه-: ضمن، وإن لم يمكنه إلا به: فإن جعلناه كالمكره- لم يضمن؛ لأن المكره في المال-: يكون طريقاً في الضمان، وههنا: لا ضمان على الحربين حتى يجعل المسلم طريقاً، وإن جعلناه مختاراً-: ضمن. ولو قاتلونا على خيلهم، ولم نجد سبيلاً إلى قتلهم إلا بعقرها-: جاز عقرها؛ لأنها أداة لهم على قتالنا؛ لما روي: "أن حنظلة بن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه، وسقط عنه، فجلس على صدره ليذبحه، فجاء ابن شعوب، فقتل حنظلة، واستنقذ أبا سفيان، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل حنظلة". ولو غنم المسلمون أموال المشركين، ونزلوا فتبعوا الكفار، وأدركوهم، فخاف المسلمون أن يغلبوا عليهم، فيأخذوا الأموال، أو كان المال للمسلمين، فخافوا أن يأخذوها -نظر: إن لم يكن المال حيواناً -: جاز للمسلمين إتلافها وتحريقها، حتى لا يتقوى بها الكفار على المسلمين، وإن كان المال حيواناً-: لم يكن لهم عقره إلا أن يكون مأكولاً، فيذبحوه للأكل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بح الحيوان إلا لمأكلة". وعند أبي حنيفة: يجوز عقره، فإن دعت إليه الضرورة: بأن كان المال خيلاً، والكفار لا خيل لهم، وخافوا أن يأخذها الكفار، ويقاتلوهم عليها-: جاز لهم قتلها. ولو أدركونا، وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم-: لا يجوز قتلهم، وإن خفنا أن يستردوهم.

وإن احتاج المسلمون إلى تخريب ديار الكفار، وقطع أشجارهم؛ ليفظروا بهم-: جاز لهم أن يفعلوا لك؛ لما روي عن ابن عمر؛ "أن رسول الله قطع نخل بني النضير، وحرق، وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر 5]. وهل لهم أن يفعلوا ذلك لغير حاجة؟ نظر: إن لم يغلب على ظن المسلمين أنهم يملكونها-: جاز، وإن غلب على الظن أنهم يملكونها-: فالأولى ألا يفعلوا. وهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن أبا بكر- رضي الله عنه- نهى عن ذلك؛ ولأنها تصير غنيمة للمسلمين، فلا يجوز إتلافها. والثاني: يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. فصلٌ: في الأمان رُوي عن علي- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المسلمون تتكافأ

دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم". يجوز عقد الأمان للكفار، وهو قسمان: خاص، وعام. فالأمان العام: هو أن يعقد الإمام لأهل الشرك بأسرهم في جميع الأقاليم؛ فلا يجوز ذلك إلا للإمام الأعظم إذا رأى المصلحة فيه، ولو بعث الإمام خليفة على إقليم مثل خراسان والشام ونحو ذلك-: فيجوز له عقد الأمان لمن يليه من الكفار من أهل ذلك الإقليم، وأهل تلك الناحية دون جميعهم؛ وكذلك: عقد الذمة. والأمان الخاص: هو أن يؤمن شخصاً أو شخصين أو عشرة؛ فيصح ذلك من كل

مسلم مكلفٍ، رجلا كان أو امرأة، حراً كان أو عبداً، سواء كان العبد مأذوناً في القتال أو لم يكن، روي عن أم هانيء قالت:"أجرت رجلين من أحمائي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أمنا من أمنت". وقال أبو حنيفة: إن كان العبد مأذوناً في القتال-: يصح أمانه؛ وإلا فلا، والحديث حجة عليه، حيث قال- صلى الله عليه وسلم -: "ويسعى بذمتهم أدناهم". ولا يصح أمان الصبي، [والمجنون؛ لأنه لا حكم لقولهما، وإن كان الصبي مراهقاً.

ولا يصح أمان الكافر؛ لأنه متهم فيه؛ إذ ليس من أهل النظر للمسلمين. ولو أمن عبدٌ مسلمٌ، وسيده كافر-: يجوز، ويجوز أمان المحجور عليه بالسفه. وإن كان المسلم أسيراً في أيدي الكفار-: هل يصح أمانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه مسلم مكلف. والثاني- وهو الأصح-: لا يصح أمانه في حق المسلمين، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه مقهور في أيديهم؛ فلا يكون أمانه على النظر للمسلمين؛ ولأن قضية الأمان: أن يكون المؤمن آمناً، والأسير في أيدي الكفار لا يكون آمناً، فعلى هذا: هل يكون ذلك أماناً بينه وبينهم حتى لا يجوز له أن يخونهم؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما لو دخل عليهم تاجراً مستأمناً. والثاني: لا لأنه يصير آمناً منهم بالتخلية، فإذا لم يأمن هو منهم-: لم يكونوا آمنين منه بخلاف التاجر.

وكذلك: لو دخل مسلم دار الحرب مستأمناً، فأمن واحداً منهم-: لا يصح أمانه في حق كافة المسلمين، ويكون أمانا بينه وبينهم، حتى لا يجوز أن يغتالهم؛ لأنه في أمان منهم. ولو أسر الإمام قوماً، فأمن واحد من المسلمين أسيراً منهم-: لا يصح أمانه؛ لأنه يبطل ما ثبت للإمام فيهم من الخيار بين الأمن والاسترقاق والفداء، فإن قال: كنت أمنته قبل الأسر -: لا يُقبل قوله؛ لأنه لا يملك الأمان في هذه الحالة، فلا يقبل إقراره. ويصح الأمان بالقول؛ وهو أن يقول: أمنتك، أو أجرتك، أو أنت آمن أو مجار، أو لا بأس أو لا خوف عليك، أو لا تخف. قال أنس لعمر - رضي الله عنهما - في قصة هرمزان: "ليس لك إلى قتله سبيل"، قلت له: "تكلم لا بس"، فأمسك عمر، وقال ابن مسعود: إن الله تعالى يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجمياً، فقال: "مترس" فقد أمنه. ويجوز بالإشارة؛ قال عمر - رضي الله عنه -: والذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أشار بإصبعه على مشرك، ثم نزل إليه على ذلك، ثم قتله-: لقتلته". ويجوز الأمان بالكتابة، والرسالة؛ سواء أن الرسول مسلماً أو كافراً، حراً أو عبداً؛ روي عن فضيل بن زيد الرقاشي قال: "جهز عمر بن الخطاب جيشاً كنت فيهم، فحضرنا قرية من قرى رامهرمز، فكتب عبدٌ منا أماناً في صحيفة، وشدها مع سهم رمى به إلى اليهود، فخرجوا بأمانه، فكتب إلى عمر، فقال: "العبد المسلم رجلٌ من المسلمين ذمته ذمتهم".

ولو دخل رجل مشرك إلينا بأمان صبي أو مجنون: فإن عرف أن أمانه لا يصح-: حل قتله، واسترقاقه، وإن قال: ننته عاقلاً بالغاً، أو علمته صبياً، وظننت أن أمان الصبي جائز-: يقبل قوله، ولا يحل قتله، ولا استرقاقه، ويبلغ المأمن. وإذا أمن مسلم كافراً-: يشترط علم المؤمن وقبوله، وقبوله أن يقول قبلت، أو سكت إذا بلغه الخبر، وإن كان في حال القتال -: يترك القتال، وإن رد-: لا يصح أمانه؛ فإن ثابت بن قيس الشماس أمن الزبير بن باطا يوم قريظة، فلم يقبله، فقتله". وإذا قبل الأمان-: فهو لازم من جهة المسلم؛ لا يجوز له نبذه إلا بعذر، وهو جائز من جهة الكافر، متى شاء نبذه، وإذا جاء واحد من دار الكفر رسولاً إلى الإمام، فهو في أمان لا يجوز قتله؛ رُوي عن نعيم بن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة:"أما والله، لولا أن الرسول لا يقتل لضربت أعناقكما". ولو أمن رجل امرأة كافرة؛ حتى لا تسترق-: هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الاسترقاق في حقهن كالقتل في حق الرجال. والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه إبطال حق المسلمين. وهذا بناء على ما لو صالح الإمام أهل حصن على مال أو على الجزية، وليس فيه إلا النساء والصبيان-: هل يجوز أم لا؟ فعلى قولين. فصلٌ ولو أن علجاً كافراً دل الإمام على قلعة على أنه إن فتحها يعطيه جارية سماها، فعقد الإمام معه هذا العقد، أو ابتدأ الإمام، فقال للعلج: إن دللتني على حصن كذا، فلك منه جاريةٌ، سمى أو لم يسم -: يجوز، وإن كانت الجارية مجهولة غير مقدور عليها؛ لأنه يسامح في المعاملة مع الكفار بما لا يسامح مع غيرهم، وكذلك: لو قال للعلج: دلني على الحصن، ولك ثلث ما فيه-: جاز. وإنما يجوز هذا العقد، إذا كان المشروط له مما يدله عليه، فإن شرط له من عند نفسه شيئاً-: لا يجوز مع الجهالة؛ مثل أن يقول: أدلك على حصن كذا؛ على أن تعطيني جارية من عندك، أو قال الإمام: إن دللتني فلك ثلث مالي-: لا يجوز، فإن شرط له شيئاً معلوماً،

فقال: إن دللتني، فلك مائة دينار-: يجوز، ويعطيه من بيت المال، وإن كان الدال مسلماً، فقال: أدلك على أن تعطيني جارية منها، أو ثلث ما فيها هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما لو كان الدال كافراً. والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا العقد فيه أنواع من الغرر، فلا يجوز مثله مع المسلمين، إنما يجوز مع الكفار؛ كعقد الذمة] ولأنه يفترض على المسلم الدلالة؛ فلا يجوز له أخذ العوض عليه؛ كما لا يجوز استئجار المسلم على الجهاد. فإذا عقد هذا العقد مع العلج، فإذا لم يفتح الحصن-: لا شيء للعلج؛ لأن تقديره: من دلني على الحصن، وفتحه-: فله منها جارية؛ لأنه لا يقدر على تسليمها إلا بالفتح، فإن فتح الحصن، ولم يجد فهيا تلك الجارية-: فلا شيء للعلج؛ لأن المشروط له معدوم. وإن وجدها دفعها إلى العلج، ولا حق فيها للغانمين، ولا لأهل الخمس؛ لأنه استحقها بسبب قبل الفتح، فإن وجدها، وقد أسلمت- نظر: إن أسلمت قبل الظفر-: لاتسلم غليه؛ لأن إسلامها يمنع استرقاقها، ويعطي قيمتها من بيت المال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاءه منهم؛ فمنعه الله من رد النساء، وأمر برد مهورهن". وإن أسلمت بعد الظفر عليها؛ فهي رقيقة - نُظر: إن كان قد أسلم العلج، أو كان الدال مسلماً، وجوزنا هذا العقد مع المسلم -: سلم الجارية إليه. وإن لم يُسلم العلج، فإن قلنا: يجوز للكافر أن يشتري العبد المسلم -: تسلم إليه، ويجبر على إزالة الملك عنها، وإن قلنا: لا يجوز للكافر شراء العبد المسلم-: لا تدفع الجارية إليه، ويعطي قيمتها من بيت المال. وإن أسلم العلج بعد ذلك-: لا يستحقها؛ لأنه أسلم بعد ما انتقل حقه إلى القيمة. وإن ماتت الجارية- نظر: إن ماتت بعد الظفر-: أعطى العلج قيمتها، وإن ماتت قبل الظفر-: فيه قولان: أحدهما: يعطى إليه قيمتها؛ كما لو كانت قد أسلمت. والثاني: لا يعطى؛ لأنه لم يقدر عليها؛ كما لو لم يكن فيها جارية. هذا إذا فتح الحصن عنوة.

فأما إذا صالح الإمام أهل الحصن- نظر: إن كانت هذه الجارية خارجة عن الأمان؛ مثل: إن صالحهم على أن يكون صاحب الحصن وأهله في أمان، والباقون سبي، وهذه الجارية ليست من أهل صاحب الحصن-: [سلمت إلى العلج. وإن كانت هذه الجارية من أهل صاحب الحصن]- يقال للعلج: أترضى بجارية أخرى من الحصن أو بقيمة الجارية: فإن رضي -: أعطى من بيت المال، وأمضى الصلح، وسلمت الجارية إلى العلج، وإن لم يرض - يقال لصاحب الحصن: أعطيناك ما صالحنا عليه غيرك من قبل؛ فإن لم تسلمها يُنبذ إليك عهدك، فارجع إلى الحصن، وأغلق الباب، فإذا رجع، ثم فتحنا الحصن-: نسلم الجارية إلى العلج؛ كما سبق. وإن لم يحصل الفتح-: هل تجب القيمة للعلج؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ لأن الإمام قد ظفر بها. والثاني: وهو الأصح-: لا تجب؛ لأن الاستيلاء لم يتم؛ كما لو لم يفتح أصلا. يخرج من هذه المسألة: أنه يجوز تبديل المؤمن؛ فإن عرضنا على صاحب الحصن: أن يعوضه عن الجارية، وأنه يجوز عقد الأمان لمجهولي العدد معلومي الحال. فإذا صالحنا صاحب الحصن على أن يكون أهله في أمان، وإن لم نعرف عددهم-: فكذلك يجوز لمعلومي العدد مجهولي الحال؛ مثل: أن يصالح أهل حصن على أن يكون مائة نفر منهم في أمان، ثم يعينهم صاحب الحصن، فإن عد مائة، ولم يعد نفسه - جاز قتله. فصلٌ: في حكم ما يجري في دار الحرب من محظورات الإسلام من ارتكب من المسلمين في دار الحرب جريمة موجبة للحد-: يجب عليه الحد. وعند أبي حنيفة: لا يجب. ثم قال الشافعي -رضي الله عنه- في موضع: تؤخر إقامته حتى يرجع إلى دار الإسلام. وقال في موضع: يقام في دار الحرب، ولا يؤخر. وليس على قولين، بل على حالتين؛ حيث قال: "لا يؤخر"، أراد به: إذا لم يخف فتنة المحدود وارتداده أو اجتراء الكفار على المسلمين.

وحيث قال: "تؤخر" أراد: إذا خاف شيئاً من ذلك. ويجري الربا في دار الحرب في المعاملة بين المسلمين، وبين المسلم والحربي، سواء كان المسلم انتقل إليها من دار الإسلام أو أسلم، ولم يهاجر. وعند أبي حنيفة: لا يجري الربا في دار الحرب بين المسلم والحربي، ولا بين مسلمين لم يهاجرا، أو لم يهاجر أحدهما. وأبو يوسف معنا. وقال محمد بن الحسن: لا يجري بين المسلم والحربي، ويجري بين مسلمين وإن لم يهاجرا. قلنا: أحكام الله - عز وجل - على العباد-: لا تختلف باختلاف الدار كالأوامر، فلو أسلم حربي، فقبل أن هاجر إلى دار الإسلام: قتله مسلم-: يجب عليه القود، وعند أبي حنيفة: لا يجب؛ فنقيس على المهاجر. وقد ذكرنا حم الغنيمة، وما صار إلينا من أموال الكفار، وحكم من خان فيها، أو سرق شيئاً منها، أو وطيء جارية منها في كتاب "قسم الفيء" بعون الله تعالى وحسن توفيقه. باب المبارزة روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أنه بارز يوم الخندق عمرو بن عبد وُد". وروي "أنه خرج يوم بدر من صف الكفار عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتية من الأنصار: عوف ومعوذ ابنا الحارث، وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالو: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا ما لنا بكم حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب بالخروج إليهم، فخرجوا، فقتلوهم".

تجوز المبارزة في الحرب لمن كان شجاعاً، وكذلك: الإعلام، وهو أن يتعمم بعمامة سوداء، أو يتعصب بعصابة حمراء، ويعلم فرسه، سواء فعل بإذن الإمام أو دون إذنه؛ فإن ابنى عفراءوعبد الله بن رواحة خرجوا يوم بدر بغير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يُنكر عليهم. وأعلم حمزة يوم بدر. وعند أبي حنيفة: لا يجوز البراز إلا بإذن الإمام. وإذا خرج مُشرك، ودعا على المبارزة-: يستحب أن يبرز إليه مسلم؛ لأنه إذا لم يبرز-: تضعف قلوب المؤمنين، ويجتريء الكفار عليهم. وهل يجوز للضعيف أن يبارز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز؛ كما يجوز للضعيف أن يجاهد. الثاني: لا يجوز؛ لأن المقصود من المبارزة إظهار القوة؛ وذلك لا يحصل من الضعيف. فإن بارز مسلم مشركاً - نظر: إن لم يكن بينهما شرط -: جاز لكل واحد من المسلمين أن يرمي المشرك؛ لأنه حربي لا أمان له. وإن شرطا ألا يعينهما غيرهما-: لا يجوز لأحدى الطائفتين أن تعين مبارزها، ما داما يتقاتلان. فإن أثخن الكافر المسلم، وأراد قتله-: على المسلمين استنقاذ المسلم، ولهم قتل الكافر؛ لأن الشرط ألا يعينه حالة القتال، وقد ارتفع القتال، وكذلك: لو قتل المسلم الكافر وولى، أو ترك قتاله، فهرب، أو هرب المسلم منه-: جاز قتله؛ لأن الأمان قد ارتفع بترك القتال، إلا أن يكون الشرط أنه آمن إلى أن يرجع إلى الصف؛ فلا يتعرض له ما لم يصل إلى الصف، فإن ولى عنه المسلم، فتبعه ليقتله، أو ترك قتال المسلم، وقصد صف المسلمين-: جاز قتله؛ لأن نقض الأمان. ولو خرج المشركون لإعانة صاحبهم-: كان حقاً على المسلمين أن يعينوا صاحبهم، ثم نظر: إن استعان المشرك المبارز بأصحابه، أو بدأ المشركون بمعاونته، فلم يمنعهم-: فقد نقض الأمان؛ فللمسلمين قتل المبارز، والأعوان جميعاً، وإن لم يستعن بهم، وكان يمنعهم، فلم يقبلوا منه-: قتلوا الأعوان دون المبارز؛ لأن المبارز على أمانه.

فصلٌ إذا أسر الكفار مسلماًن ثم أطلقوه من غير شرط-: فله أن يقاتلهم في النفس والمال جميعاً؛ لأنهم كفار لا أمان لهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم، ولم يستأمنوه-: فالمذهب: أنهم في أمانه؛ لايجوز أن يغتالهم؛ لأنهم لما أمنوه-: كانوا هم في أمان منه. وقال ابن أبي هريرة: لا أمان لهم، وله أن يغتالهم؛ لأنهم لم يستأمنوه. ولو قالوا له: لا نُطلقك حتى تحلف ألا تخرج إلى دار الإسلام، فحلف، وأطلقوه-: فمهما أمكنه الخروج يجب عليه أن يخرج، ولا كفارة عليه؛ لأن يمينه كانت يمين مُكره، ولا ينعقد؛ كما لو أخذ اللصوص رجلاً، وقالوا: لانتركك حتى تحلف ألا تخبر بمكاننا أحداً، فحلف، فتركوه، فأخبر بمكانهم-: لا كفارة عليه. وإن كان حلف بالطلاق-: لا يقع إلا أنه إذا خرج إلى دار الإسلام-: لا يجوز أن يغتالهم بنفس ولا مال؛ لأنهم أمنوه؛ فكانوا في أمان منه، إلا أن يجعلوا الأمان له دون أنفسهم-: فله أن يغتالهم. ولو كان لمسلم عين مال في أيديهم-: فله أخذها ليرد إلى المالك، سواء شرطوا أنهم في أمان منه أو لم يشترطوا. ثم هل تكون تلك العين مضمونة عليه؟ من أصحابنا من قال فيه قولان؛ كما لو أخذ المغصوب من الغاصب ليرد إلى المالك. وقال الشيخ القفال- رحمه الله-: لا يضمن ههنا؛ لأنه لم يكن مضموناً على الحربي؛ فلا ضمان على من أخذ منه؛ بخلاف المغصوب، فإنه مضمون على الغاصب؛ فيجب الضمان على من أخذ منه. ولو حلف ابتداء من غير تحليفهم؛ أنه لا يخرج إلى دار الإسلام - نظر: إن كان مطلقاً -يلزمه أن يخرج، وعليه الكفارة؛ لأنه حلف مختاراً. وإن كان محبوساً-: حلف أنه إن أطلق لا يخرج، فإذا خرج هل يلزمه الكفارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لأنه يمين إكراه، لا تلزمه الكفارة. والثاني: تلزمه الكفارة؛ لأنه حلف مبتدئاً؛ فكان مختاراً. ولو أطلقوه على أنه إذا خرج [إلى دار الإسلام]-: عاد إليهم، فإذا أتى إلى دار

الإسلام-: لا يجوز أن يعود إليهم، ولا يدعه الإمام أن يعود إليهم، ولا كفارة عليه للإكراه. وقال الزهري، والأوزاعي: يجب أن يعود حتى لا يصير ذلك ذريعة لحبس الأساري. ولو شرطوا عليه أن يعود، أو يبعث إليهم مالاً-: لا يجوز أن يعود، ولا يجب أن يبعث المال، ويستحب أن يبعث المال. وعند الزهري والأوزاعي: يجب أن يعود، ويبعث المال. ولو اشترى الأسير من الكفار شيئاً بأضعاف ثمنه، أو بمثل ثمنه، أو باعوا منه فرساً ليركبه ويأتي به دار الإسلام- نظر: إن اشتراه طوعاً-: لزمه جميع الثمن، وإن أكرهوه عليه-: لم يصح، وعليه رد ما اشترى؛ كما لو أكرهه مسلم على الشراء. وقيل: هو كبيع مال الغير بغير إذنه: في "الجديد": باطلٌ، وترد العين. وفي "القديم": موقوف. فإذا دخل دار الإسلام: إن شاء رد، وإن شاء أجاز، وأعطى الثمن. وقيل: يصح، ويلزمه الثمن قولاً واحداً؛ لأنه معاملة مع أهل الشرك، فيجوز فيها ما لا يجوز في معاملة المسلمين. وفداء الأسير جائز؛ فلو قال الأسير: أطلقوني على كذا، ففعل، وقال الكافر: افتد نفسك على هذا المال، ففعل-: لزم؛ لأنه غر مكره، فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك، ولك عليَّ ألف، فأطلقه-: يجب عليه الألف، كما لو قال: أعتق أم ولدك على ألف، ففعل-: يجب الألف. ومن فدى أسيراً بماله، من غير مسألة الأسير-: لا يرجع على الأسير بشيء. ولو قال الأسير: "افدني بكذا" بشرط أن يرجع، ففدى-: يرجع عليه، وإن لم يشترط الرجوع-: هل يرجع؟ فيه وجهان: أصحهما: يرجع. ولو فدى الأسير نفسه بمال، ثم استولى عليه المسلمون-: هل يرد إلى الأسير؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد؛ لأنه كان مقهوراً في أدائه؛ كما لو غصبوا من مسلم شيئاً، ثم استولى عليه المسلمون-: يجب رده.

والثاني: لا يجب [رده]، بل هو غنيمة؛ لأن الكافر ملكه. فصلٌ إذا حاصر الإمام قلعة؛ فنزل أهلها على حكم حاكم-: جاز؛ لأن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت بحكم الملك". ويجب أن يكون الحاكم مسلماً حراً ذكراً عاقلاً بالغاً عدلاً عالماً؛ لأنه ولايةٌ كولاية القضاء. ويجوز أن يكون أعمى؛ لأن ما يوجب الحكم بينهم مشهور يدرك بالسماع، كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة: تصح من الأعمى، ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم، ولكن يجوز حكمه؛ [لأنه عدل في الدين. وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام-: جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه]. وإن نزلوا على حكم حاكم يختارونه- لم يجز إلا أن يشترط أن يكون على الصفات التي ذكرناها، وإن نزلوا على حكم اثنين - جاز؛ لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي؛ فجاز أن يجعل إلى اثنين؛ كالتحكيم في اختيار الإمام. وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه-: ردوا إلى القلعة، وكذلك: لو نزلوا على حكم حاكم، فمات، أو على حكم اثنين، فمات أحدهما-: ردوا إلى القلعة. ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل، أو الاسترقاق، أو المن، أو الفداء. وإن حكم بعقد الذمة، وأخذ الجزية-: ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنهم نزلوا على حكمه. والثاني: لا يجوز: لأنه عقد معاوضة؛ فلا يجوز من غير رضاهم. وإن حكم الحاكم أن من أسلم منهم استرق، ومن أقام على الكفر قتل-: جاز، ثم إن أراد الإمام أن يسترق من حكم بقتله-: لم يجز؛ لأنه لم ينزل على هذا الشرط.

وإن حكم عليهم بالقتل، ثم رأى الإمام أن يمن عليهم -: جاز؛ لأن سعد بن معاذ؛ حكم بقتل رجال بني قريظة، وسأل ثابت بن قيس الأنصاري أن يهب له الزبير بن باطا اليهودين فوهب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. وإن حكم باسترقاقهم-: لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين؛ لأنهم صاروا مالاً لهم. وإن حكم بما لا يوافق الشرع؛ مثل: إن حكم بقتل الصبيان، والنسوان-: لم ينفذ. ولو استنزلهم على أن ما يقضي الله فيكم، نفذته-: لم يجز؛ لأنهم لا يعرفون حكم الله، عز وجل: رُوي عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله-: فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"، والله أعلم. باب فتح السواد سواد "العراق"فتحت في زمن عمر عنوة، وصارت [أراضيها] للغانمين، فاستطاب عمر - رضي الله عنه- أنفسهم بمال عوضهم عنها، وضرب عليها خراجاً معلوماً، ولولا أن الغانمين ملوها-: لم يكن عمر - رضي الله عنه- يعوضهم عنها. وعند أبي حنيفة: يتخير الإمام في العقار المغنوم بين أن يقفها؛ كما فعل عمر بسواد "العراق"، وبين أن يترك إلى الكفار؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعقار "مكة"، وبين أن يقسمها بين الغانمين، كالمنقول. وعندنا، يقسم العقار؛ المنقول. "ومكة" فتحت صلحاً، وفي سرد قصة الفتح بيان أنها مفتوحة صلحاً، وسواد "العراق" قسمها عمر بين الغانمين، ثم عوضهم عنها باستطابة أنفسهم. قال جرير بن عبد الله البجلي: "كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم عمر ربع السواد، فاشتغلوا ثلاث سنين". قال جرير: "فقدمت على عمر، فقال عمر: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوا على الناس؛ ففعلوا" وإنما فعل عمر ذلك، خوفاً من أن يشتغل الناس بالزراعة والحرث؛ فيختل أمر الجهاد.

قال جرير: فعاضني عمر من حقي نيفاً وثمانين ديناراً، ومعى امرأة يقال لها: أم كرز، فقالت: شهد أبي القادسية، وثبت سهمه، ولا أسلمه حتى تملأ كفي دنانير، وفمي لآليء، وتُركبني ناقة حمراء، ففعل عمر، فتركت حقها". وحد سواد "العراق" من "عبادان" إلى "الموصل" طولاً، ومن "القادسية" إلى "حلوان" عرضاً. قال الشافعي: هو اثنان وثلاثون ألف [ألف جريب. وقال أبو عبيد: ستة وثلاثون ألف ألف جريب، ولا تدخل فيه البصرة، وإن كانت داخلة في حد السواد؛ لأنها كانت أرضاً سبخة أحياها عثمان بن أبي العاص، وعتبة بن غزوان، بعد الفتح. واختلف أصحابنا فيما فعل عمر بأراضي السواد. قال ابن سريج: باعها من أهلها، وما يؤخذ من الخراج ثمن منجم يؤدون كل سنة شيئاً، بدليل أن من زمن عمر إلى زماننا تباع تلك الأراضي، وتبتاع من غير إنكار [أحد]؛ فعلى هذا: لا يجوز أن يُزاد على ما وضع [عمر]، ولا ينقص. وقال الأكثرون: وقفها عمر على المسلمين، والخراج المضروب عليها أجرة منجمة يؤدونها كل سنة؛ نص عليه في "سير الواقدي"؛ فيجوز أن يزاد عليها وينقص عنها. فإن قلنا: إنه كان بيعاً-: فيجوز لأهلها بيعها، وهبتها، ورهنها. وإن قلنا: كان وقفاً-: لا يجوز بيعها، ولا هبتها، ولا رهنها، وإنما تنقل من يد إلى يد. وعلى الوجهين: يجوز إجارتها. فإن قيل: إذا جعلتموه بيعاً-: كيف يجوز البيع بثمن إلى أجال غير معلومة؟: قلنا: قد يجوز للإمام أن يفعل في أموال الكفار ما لا يجوز في أموال المسلمين؛ لما يرى فيه من المصلحة. فإن قلنا: إنه وقف-: فهل تدخل المنازل في الوقف؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل جميعها في الوقف.

والثاني: لم يدخل فيه إلا المزارع؛ لأن دخولها في الوقف يؤدي إلى خرابها. د فأما الثمار التي فيها، فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ بل يأخذها الإمام للأرض؛ فيبيعها، ويصرفها في المصالح. والثاني: يجوز؛ لأن الحاجة تدعو إليه؛ كما في المساقاة، وما يؤخذ من هذه الأراضي-: فلمصالح المسلمين يجوز صرفها إلى أهل الفيء والصدقات، والفقراء والأغنياء؛ على ما يراه الإمام، ومن الأهم فالأهم. وروي الشعبي في قدر الخراج: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث عثمان بن حنيف -رضي الله عنه- فجعل على كل جريب شعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب القصب والشجر ستة دراهم، وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم، وعلى جريب النخل عشرة دراهم، وعلى جريب الزيتون اثني عشر درهماً. وروى أبو مجلز: "أن عثمان بن حنيف فرض على جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية". ولو أراد الإمام: أن يقف أرضاً من الغنيمة اليوم بطيبة أنفس الغانمين، أو بمال يرضيهم به، كما فعل عمر - رضي الله عنه-: يجوز، ومن لم يطب به نفساً-: فهو أحق بماله. أما ما فُتحت من أراضيهم صلحاً-: ففيه مسألتان: أحداهما: أن يصالحهم على أن تكون الأراضي للكفار، وهم يؤدون عن كل جريب في كل سنة كذا؛ فهذا جائز، والمضروب عليهم جزية، بشرط أن يكون المضروب عليهم قدراً يبلغ في حق كل حالم ديناراً [فأكثر]، ولا يؤخذ من أراضي الصبيان، والنسوان، والمجانين؛ لأنه لا جزية عليهم. وهل يجب أن يؤدوا ذلك عن الموات؟ نظر: إن كانوا يمنعوننا عنه-: يجب. وإن كانوا لا يمنعوننا عنه- فلا يجب، ومن أحياه-: يملكه. ولو أنهم أحيوا منه شيئاً بعد الصلح-: لا يجب عليهم أن يؤدوا [منه إلا أن يشترط عليهم أن يؤدوا] عما يحيوا؛ فيجب، وإذا أسلموا- يسقط عنهم ذلك بالإسلام، ويجوز

لهم بيع تلك الأراضي ورهنها؛ لأنها ملكهم. ولو اشترى مسلم أرضاً من تلك الأراضي-: [فلا خراج عليه، ومصرف ذلك المال مصرف الفيء؛ لا حق فيه لأهل الصدقات]. المسألة الثانية: أن يصالحهم على أن تكون الأراضي للمسلمين، وهم يسكنونها، ويؤدون كل سنة عن كل جريب كذا؛ فهذا جائز، ويكون إجارة، والمال المضروب عليهم أجرة الأرض، ويجب عليهم مع تلك الأجرة الجزية، وتجوز تلك الأجرة، قلت أو كثرت، ولا يشترط أن تبلغ في حق كل حالم ديناراً، ويؤخذ من أراضي الصبيان، والنسوان، والمجانين، ويؤخذ من الموات، عن كانوا يمنعوننا عنه، وإلا فلا تسقط تلك الأجرة عنهم بإسلامهم. وإذا وكلوا مسلماً بإعطائه-: يجوز، وفي الصورة الأولى: هو كالتوكيل بإعطائه الجزية، ومصرفه - أيضاً - مصرف الفيء، ولا يجوز لهم بيعها، ولا رهنها؛ لأنهم لا يملكونها. ولو استأجر مسلم أرضاً من هذه الأراضي-: يجوز في الصورتين جميعاً؛ لأن الرقبة؛ إن كانت لهم-: فيجوز لهم إجارتها، وإن كانت للمسلمين-: فهم مكترون، ويجوز الاكتراء من المكتري.

كتاب الجزية

كتاب الجزية بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وروي عن بريدة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه، وقال:"إذا لقيت عدوك - فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم". والكفار على ثلاثة أقسام: قسم لهم كتاب، وقسم لهم شبهة كتاب، وقسم لا كتاب لهم:

أما أهل الكتاب: فهم اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل، فإنهم يُقرون بالجزية، وكذلك السامرة من اليهود، والصابئون من النصارى؛ سواء كانوا من نسل بني إسرائيل أو كانوا من غيرهم؛ مثل: أهل الأوثان، دخلوا في دينهم قبل التبديل والنسخ: يُقر أولادهم بالجزية، إذا اختاروا المقام على الدين الذي انتقل غليه آباؤهم. أما من دخل في دينهم بعد النسخ؛ مثل: إن دخلوا في اليهودية بعد مجيء عيسى، أو في النصرانية، أو اليهودية بعد مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم- لا يقرون بالجزية، ولا حرمة لأولادهم بعدهم. وإن دخلوا فيه قبل النسخ بعد التبديل نظر: إن دخلوا في دين المبدلين: فهو كما لو دخلوا فيه بعد النسخ؛ لا يقر أولادهم بالجزية، وإن دخلوا في دين غير المبدلين-: يقرون بالجزية. [ومن شككنا في حالهم أنهم دخلوا في دينهم بعد النسخ أو قبله-: يقرون بالجزية] تغليباً للحقن، ولا تحل منكاحتهم وذبيحتهم؛ كذلك حكم الصحابة من نصارى العرب. ومن بدل اليوم من أهل الكتاب دينه - ينظر: إن انتقل إلى دين غير أهل الكتاب كاليهودي أو النصراني إذا صار وثنياً-: لا يقر بالجزية. وإن انتقل إلى دين أهل الكتاب؛ كاليهودي يتنصر، أو النصراني يتهود-: هل يقر عليه بالجزية؟ فيه قولان. أما من لهم شبهة الكتاب: فهم المجوس؛ يقرون بالجزية؛ وكان عمر - رضي الله عنه- لا يأخذها من المجوس؛ حتى شهد عبد الرحمن بن عوف؛ "أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر".

واختلفوا في أن المجوس هل لهم كتاب أم لا؟ الأصح: ما قال علي - رضي الله عنه -: هم أهل كتاب بدلوا، فأصبحوا قد أُسري على كتابهم. أما من لا كتاب لهم؛ وهم: عبدة الأوثان، وعبدة الملائكة والشمس والنار، والزنادقة، والمعطلة، فإنهم لا يقرون بالجزية؛ قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. ولا فرق بين الكافر العجمي والعربي. وعند أبي حنيفة: تؤخذ الجزية من الوثني العجمي، ولا تؤخذ من الوثني العربي، وتؤخذ من أهل الكتاب عربياً كان أو عجمياً. وقال أبو يوسف: لاتؤخذ من العربي، كتابياً كان أو وثنياً، وتؤخذ من العجمي كتابياً كان أو وثنياً. فالاعتبار -عندنا - بالأديان، وعنده بالأنساب. والخلاف بيننا وبينه في فصلين: أحدهما: في التابي العربي؛ تؤخذ منه الجزية، وعنده لا تؤخذ. والثاني: في الوثني العجمي؛ لا تؤخذ منه الجزية، وعنده تؤخذ. والقرآن دليل على أن أخذ الجزية [مخصوص بأهل الكتاب. وروي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- اخذ الجزية من أكيدر دومة وهو رجل من غسان أو كندة وأخذ من أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب، ومن أهل نجران وفيهم عرب". ولو اختلط المسلمون بجماعة من أهل الكفر، فقالوا: نحن أهل كتاب-: قبل قولهم وأقروا بالجزية؛ لأنه لا يعرف إلا بقولهم، ثم إن بان بخلافه-: فلا عهد لهم. ولو ادعى بعضهم أنهم أهل الكتاب-: فقولهم مقبول في حق أنفسهم، ولا يضرهم إنكار أصحابهم. فإن أسلم منهم اثنان، وشهدا أنهم على غير دين أهل الكتاب-: يقبل، وينبذ إليهم عهده؛ لأنه ظهر بطلان دعواهم، والله أعلم.

باب الجزية على أهل الكتاب والضيافة قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وأراد بـ "الإعطاء":الضمان، لا حقيقة الإعطاء. وفي معنى الصغار قولان: أصحهما: التزام أحكام الإسلام، وجريان حكمه عليهم، فإن أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بغير ما يعتقده. والثاني: وهو أن يأخذ من الجزية، وهو قائم، والمسلم الذي يأخذه جالس، ويأمره المستوفي أن يخرج: "من جيبه، ويحني ظهره، فيصب ما يعطيه في كفة الميزان، ثم يأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته. ولو وكل ذمي مسلماً بأداء الجزية عنه، أو أحال بها على مسلم-: لا يجوز. ولو ضمن عنه مسلم-: هل يجوز أم لا؟ إن قلنا: إن الصغار جريان حكم الإسلام عليهم-: يجوز. وإن قلنا بالثاني-: لا يجوز؛ لأن الاستخفاف بالمسلم لا يجوز. وأقل الجزية دينارٌ، لا يقر أحد بأقل من دينار؛ لما روي عن معاذ قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافر". ولا تقدير لأكثر الجزية، فإن ماكسهم الإمام حتى قبلوا أضعاف ذلك-: جاز، ولزمهم ما التزموا. ولا يجب على الإمام أن يجيزهم بأقل ما عليهم؛ لأنه مال معاملة؛ كما لو باع شيئاً-: له أن يجعل ثمنه ما يشاء؛ ولا يجب أن يخبره بما اشترى وتجب الجزية على الفقير، والغني جميعاً؛ لأنه بمنزلة كراء الدار فيستوي فيه الفقير والغني. هذا هو المذهب.

وفيه قول آخر، وبه قال أبو حنيفة: أنها لا تؤخذ من الفقير غير المعتمل؛ كما لا تجب الزكاة على الفقير. [ولا يختلف القول أن عقد الذمة مع الفقير] الذي لا يملك شيئاً-: يجوز؛ لأنه لا يلزمه أداء الجزية في الحال، واختلفوا في محل القولين: منهم من قال: القولان في أنه إذا تم الحول، ولا مال له هل يقر أم لا؟: أحدهما: لا يقرن بل يقال له: إن حصلت الجزية؛ وإلا فالحق بالمأمن. والثاني: يقر، وتكون ديناً عليه، فإذا أيسر أخذ منه لما مضى. ومنهم من قال: لا يختلف القول في أنه يقر بعد مضي السنة، وإن لم يكن له مال. والقولان في أنه إذا أيسر-: هل يأخذ للسنين الماضية أم يستأنف الحول من يوم اليسر؟ فيه قولان، ولا يختلف قدر الجزية بالفقر والغنى، فيقر الكل بدينار، إلا أن المستحب. أن يأخذ من الفقير ديناراً، ومن المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير. وعند أبي حنيفة: لا يجوز إلا كذلك. والدليل على جواز التسوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: خذ من كل حالم ديناراً" ولم يفصل بين الفقير والغني، ورُوي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من مجوس هجر ثلثمائة دينارٍ، وكانوا ثلثمائة نفر"، ونحن نعلم أنهم لم يكونوا في الغنى والفقر سواء. وإذا عقد معهم عقد الذمة على أكثر من دينار، ثم امتنعوا عن أداء الزيادة-: ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ منهم الدينار؛ كما يجوز ابتداء العقد عليهم. والثاني- وهو الأصح-: صاروا ناقضين للعهد؛ كما لو امتنعوا عن أداء أصل الجزية، فهل يبلغون المأمن أم يقتلون؟ فيه قولان: فإذا بلغناهم المأمن، ثم جاءوا وطلبوا العقد بدينار-: يجابون إليه. ويجوز أن يعقد الذمة على خراج يضربها على أراضيهم، وعلى مواشيهم، إذا كان يبلغ في حق كل حالم ديناراً، فإن لم يبلغ أو شك في أنه هل يبلغ في حق كل حالم ديناراً أم لا -: فلا يجوز، حتى يشرط عليهم: أنه إن لم يبلغ في حق كل حالم ديناراً-: أتموها ديناراً.

وكذلك: لو صالحهم على عشور زروعهم، وثمارهم: إن علم أنها تبلغ في حق كل حالم ديناراً-: جاز، وإن لم يعلم-: لا يجوز إلا أن يشترط أنها إن لم تبلغ ديناراً-: أتموها. وإن كانت زروعهم أكثر، فقال كل من كثر زرعه: نحن نتطوع بما زاد من عشورنا على من لا زرع له منا، حتى تكون الزيادة على قدر جزيتنا جزية عن رءوس الفقراء-: يجوز، ويشترط أنه إن لم تحصل أتموها. وإن لم يتطوع الأغنياء عن الذين لا زرع لهم-: لم يجز إلا أن يبذل الذين لا زرع لهم جزية رءوسهم. ولو ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض، فباع الأرض من مسلم -: يجوز؛ لأنها ملك له، وينتقل ما ضرب عليها على الرقبة، ولا يجو أخذها من المسلم. ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين؛ لأنه قد يمر بهم المسلمون في وقت عزة الطعام، ويشترط أن تكون الضيافة زيادة على أقل الجزية؛ لأنه ربما لا يمر بهم في السنة أحد من المسلمين، وربما نزل بهم من يكون من أهل الصدقة، لا يحل لهم الفيء. رُوي أن عمر - رضي الله عنه - صالح نصارى أيلة على ثلثمائة دينار، وكانوا ثلثمائة رجل، وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين. ولا يشترط عليهم الضيافة إلا برضاهم؛ كأصل الجزية، ويجب أن يبين عدد أيام الضيافة في الحول؛ أنه في كل عام مائة يوم أو أقل أو أكثر، ويبين عدد الضيفان، كذا فرساناً وكذا رجالة، ويبين ما يطعمونه، وقدره من الخبز والإدام، وعلف الدواب من الشعير والتبن، وأين ينزلونهم من فضول منازلهم وكنائسهم، وما يكن من الحر والبرد؛ لأنها من الجزية، فلم تجز مع الجهل، وإن كثروا، وضاق المكان-: قدم من سبق، وإن جاءوا في وقت واحد-: أقرع بينهم، ويفاوت بين الغني والمتوسط والفقير، يقول: على كل موسر في كل سنة ضيافة عشرة فرسان، وعشرة رجالة وعلى كل متوسط خمسة، وعلى كل فقير ثلاثة، ولا يشترط على الفقير غير المعتمل؛ لأن الضيافة تتكرر، فلا يمكنه القيام بها، ويفاوت بينهم فيقدر الطعام إلا في الجنس؛ لأنه إذا شرط على الغني أطعمة ناعمة، وعلى الفقير خشنة - رغب القوم في الأغنياء، فأجحفوا بهم.

روى أسلم:"أن أهل الجزية من "الشام" أتوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال: أطعموهم مما تأكلون، ولاتزيدوهم على ذلك". وقيل: يجوز أن تكون الضيافة من أهل الجزية، ثم يحاسب في آخر الحول، فإن لم يبلغ في حق ل حالم ديناراً أتموها ديناراً. والضيافة تكون ثلاثة أيام، لا يشترط أكثر منها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الضيافة ثلاثة أيام" ولأن في الزيادة إضراراً بهم. فصلٌ ولا جزية إلا على حر مكلف ذكر؛ فلا تؤخذ من الصبي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذٍ: "خذ من كل حالم ديناراً" ولأن الجزية لحقن الدم، والصبي محقون الدم. فإذا بلغ صبي من أولاد أهل الذمة-: فهو في أمان؛ لأنه كان في أمان بعقد الأب؛ فلا يخرج منه من غير عناد. ثم إن قبل جزية أبيه-: أقر عليه، وهل يحتاج إلى استئناف عقد معه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن العقد الأول كان مع الأب. والثاني: لا يحتاج؛ لأنه تبعٌ للأب في الأمان؛ فتبعه في الذمة. فإن كان جزية أبيه ديناراً، فتبرع هو بأكثر-: قُبل منه، إن لم يكن، سفيهاً، وإن كان سفيهاً-: لا تؤخذ الزيادة. وإن كان جزية أبيه أكثر من دينار - نظر: إن بلغ رشيداً، وقبل جزية أبيه-: أقر عليه، وإن قال: لا أدفع إلا ديناراً-: قيل: فيه وجهان: كما لو قبل أكثر من دينار، ثم امتنع عن أداء الزيادة؛ لأن قبول الأب اشتمل عليه وعلى الأولاد: أحدهما: يعقد معه العقد بدينار. والثاني: يبلغ المأمن، ثم إذا جاء، وطلب العقد بدينار-: يجاب إليه؛ لأن قبول الأب قد سقط بنقضه العهد.

وقيل ههنا: يؤخذ منه الدينار وجهاً واحداً؛ لأنه لم يلتزم الزيادة بنفسه، حتى يعل بالامتناع ناقضاً للعهد. وهذا أصح. وإن بلغ سفيهاً، وأدى جزية الأب-: هل تؤخذ الزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تؤخذ الزيادة لسفهه؛ ما لو قبل بنفسه. والثاني: تؤخذ؛ لأنه استدامة عقد الأب، ويجوز عقد الذمة مع السفيه بأقل الجزية، من غير إذن الولي؛ لأن فيه مصلحته وإبقاء روحه؛ كما لو كان عليه قصاص، فعفى على الدية-: يلزمه، ولا يجوز على أكثر من دينار، وإن أدى الولي، ولو قبل دينارين، وهو رشيد، ثم صار سفيهاً-: هل تؤخذ الزيادة؟ قيل: فيه وهان؛ كما لو أدى جزية أبيه أكثر من دينار. وقيل ههنا: تؤخذ؛ لأنه التزم بنفسه الزيادة حين كان التزامه صحيحاً. وإذا بلغ الصبي، وأحد أبويه ممن يقر بالجزية، والآخر وثني-: فإنه يقر بالجزية، سواء كان الأب ممن يقر بالجزية، أو الأم؛ تغليباً للحقن، أما في قدر الجزية: فالاعتبار بالأب لا بعشائر الأم؛ لأن الجزية على الأب، حتى لو كان الأب جزيته دينار والأم من قوم جزيتهم ديناران، أو على عكسه-: فعليه جزية الأب. ولا تؤخذ الجزية من المجنون؛ كما لا تؤخذ من الصبي. وإن كان ممن يجن ويفيق - نظر: إن كان جنونه ساعة يسيرة، يقع في الشهر أو في الشهرين مرة-: فلا عبرة به وعليه الجزية؛ لأنه عارضٌ؛ كالمرض والنوم. وإن كان ممن يجن ويفيق-: اختلفوا فيه: فمنهم من قال: لا جزية عليه؛ من نصفه حر ونصفه رقيق. ومنهم من قال: حكمه حكم الصحيح، وعليه الجزية؛ ألا ترى أن المرأة إذا كانت بهذه الصفة-: لا تزوج حتى تفيق [فتأذن]. ومنهم من قال-: وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة-: تلفق أيام الإفاقة، فإذا بلغت سنة-: تؤخذ الجزية؛ مثل إن كان يجن يوماً، ويفيق يوماً، فتؤخذ في سنتين جزية سنة واحدة؛ لأن المجنون لو أطبق لا جزية عليه، فإذا تفرق -: لا تجب جزية أيام الجنون، وإن كان مفيقاً في أول السنة، فجن في آخرها-: هل تؤخذ لما مضى من السنة؟ فيه قولان؛ كما

لو مات في أثناء الحول. ولا جزية على العبد؛ لأنه لا يقتل بالكفر؛ كالصبي والمرأة، وكذلك: من بعضه حر وبعضه رقيق: فلا جزية عليه، ولا على السيد بسببه. وإذا عتق العبد، وأفاق المجنون، وبلغ الصبي-: يعقد معه عقد الذمة، وابتداء حوله من حين عتق، وأفاق، وبلغ، فإن كان في أثناء حول أهل الذمة: [فإذا تم حول أهل الذمة] لاتؤخذ من هؤلاء الجزية لنصف الحول إلا أن يتبرعوا. فإذا تم حولهم: فإن شاء الإمام أن يأخذ منهم جزيتهم، وإن شاء أخر، حتى يتم حول أهل الذمة، ويأخذ من هؤلاء جزية سنة ونصف، حتى تتفق أحوالهم. ولا جزية على النساء؛ لما روى أسلم:"أن عمر - رضي الله عنه- كتب إلى أمراء الجزية: لا تضربوا الجزية على النساء"؛ ولأن الجزية لحقن الدم، والمرأة محقونة الدم؛ كالصبي، وكذلك لا يؤخذ من الخنثى المشكل؛ لاحتمال أنه أنثى. ولو أدت المرأة الجزية-: لا يأخذها الإمام، حتى يخبرها أن لا جزية عليها فإن علمت، وأدت-: يأخذها وتكون متبرعة، وما أدت هبة-: لا تتم إلا بالقبض. وإن صالح الإمام قوماً على أن يؤدوا الجزية عن أولادهم ونسائهم سوى ما يؤدون عن أنفسهم: فإن كان الصلح على أن يؤدوا من مال الأولاد والنساء-: لم يجز، وإن أدوا عنهم من مال أنفسهم-: جاز، فصار كأنهم قبلوا على أنفسهم أكثر من جزيتهم. وإن طلبت [امرأة] من دار الحرب أن تعقد لها الذمة، وتقيم في دار الإسلام بغير جزية-: جاز. ويشترط أن يجري عليها أحكام الإسلام. وإن صالح الإمام أهل حصن ليس فيه إلا النساء على مال، أو عقد معهن عقد الذمة على جزية، حتى لا يسترقهن-: هل يجوز أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن المرأة تقي نفسها بهذا العقد عن الرق؛ كالرجل عن القتل؛ فعلى هذا: لا يجوز استرقاقهن، وتجري عليهن أحكام الإسلام، وما بذلنه من المال كالهبة. فإن دفعن-: أخذ منهن، وإن لم يدفعهن-: لم يخرجن عن الذمة؛ كالحربية عقدت بغير جزية.

والثاني: لا يجوز؛ لأن المرأة ليست ممن عليها جزية؛ فعلى هذا: لا يتعرض لهن حتى يرجعن إلى الحصن، ويغلقن الباب، فإذا فتح الحصن يسترققن. أما إذا كان في الحصن معهن رجل حر عاقل، قبل الجزية-: جاز، وصار النساء، والصبيان تبعاً له. وهل تؤخذ الجزية من الشيخ الفاني، والراهب، والأعمى، والزمن؟ المنصوص: أنه تؤخذ: فمن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ بناء على جواز قتله، إن جوزنا قتله-: جاز أخذ الجزية؛ وإلا فلا. ومنهم من قال: تؤخذ قولاً واحداً؛ لأن الجزية أجرة السن؛ فلا تسقط بالزمانة. ويجب أداء الجزية في آخر الحول، فلو عجل الذمي في أولا لحول-: قُبِل. ولو شرط الإمام تعجيلها في أول الحول -: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن وجوبها في آخر الحول. والثاني: يجوز؛ كالأجرة في الإجارة. فإذا أسلم الذمي بعد الحول-: لا تسقط عنه جزية ذلك الحول، وإذا مات تؤخذ من تركته. وعند أبي حنيفة: تسقط. وكذلك: إذا مضت سنتان، ولم تؤخذ جزيتهما-: تؤخذ السنتين، ولا تتداخل كأجرة الدور، وعند أبي حنيفة تتداخل فلا تجب إلا جزية سنة واحدة. ولو أسلم، أو مات في خلال الحول: هل تؤخذ بقدر ما مضى [من الحول؟ فيه قولان: أصحهما: تؤخذ؛ كأجرة الدار: تجب بقدر ما مضى]. والثاني: لاتؤخذ؛ كالزكاة، وكما لو مات واحدٌ من العاقلة في خلال الحول: لا تلزمه الدية. ولو مات بعد الحول، وعليه الجزية، وديون الناس بأيها يبدأ؟ فيه أقوالٌ؛ كمن مات، وعليه الزكاة وديون الناس.

فصلٌ: في عقد الذمة لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام، أو ممن فوض إليه الإمام؛ لأنه من المصالح العام؛ فلا يتولاه إلا الإمام. وإذا عقد الإمام معهم عقد الذمة-: يجب أن يشترط عليهم شرائط؛ ليعلموا ما عليهم. والذي عليهم قسمان: قسم لابد من ذكره في العقد، وقسم يقتضيه العقد من غير ذكر: أما ما لا بد من ذكره: فشيئان. أحدهما: قبول الجزية. والثاني: جريان حكم الإسلام عليهم مطلقاً بلا تفسير. وذكر أبو إسحاق شرطاً ثالثاً، وهو: ألا يذكروا الله ودينه ورسوله بسوء، فإن ترك شرط [شيء منها]-: لا يصح العقد. وإن شرط عليهم، فتركوا شرطاً، منها-: صاروا ناقضين للعهد، سواء أخبرهم أن تركه نقض للعهد، أو لم يخبرهم. وكل موضع صاروا ناقضين للعهد، هل يجوز قتلهم واسترقاقهم في الحال أم يبلغون المأمن؟ فيه قولان: أحدهما: يبلغون المأمن؛ كمن دخل دار الإسلام بأمان صبي ظنه جائزاً. والثاني: يقتلون أو يسترقون في الحال، وهو الصحيح؛ لأن كافر لا أمان له؛ كالأسير، ولو أراد الإمام المن أو الفداء-: يجوز؛ كالأسير. أما ما يقتضيه العقد من غير ذكر-: فقسمان: أحدهما: ما فعله ينافي عقد الذمة، وهو: نصب القتال مع المسلمين، فإذا فعلوا صاروا ناقضين للعهد، سواء شرط الإمام عليهم ذلك قولاً أو لم يشرط؛ لأن عقد الذمة الكف عن القتال. أما إذا قتل واحدٌ منهم مسلماً، أو قاتله-: فلا يكون نقضاً.

والثاني: ما لا ينافي فعله عقد الذمة، وهو قسمان: قسم يعود ضرره إلى المسلمين، وقسم هو إظهار منكر: أما ما يعود ضرره إلى المسلمين: هو أن يزني بمسلمة، أو يصيبها باسم نكاح، أو يفتن مسلماً عن دينه، أو يقطع الطريق، أو يؤوي عيناً للكفار، أو ينمي إليهم أخبار المسلمين، أو يدل على عوراتهم، أو يقتل مسلماً، أو يقذفه، أو يمد يده إلى ماله، أو يذكر الله، أو كتابه، أو رسوله أو دينه بسوء، على قول أبي إسحاق؛ فإن فعلوا شيئاً منها - نظر: إن لم يكن شرط الإمام عليهم في العقد الامتناع منها-: لم ينقض بذلك عهدهم. [وإن شرط-: فعلى قولين]: أحدهما: نعم، ينتقض عهدهم؛ لمخالفة الشرط؛ كما لو امتنعوا عن بذل الجزية. والثاني: وهو الأصح-: لا ينتقض عهدهم؛ كما لو أظهروا منكراً من الخمر والخنزير. وعلى القولين: يقام عليهم موجباتها، فما كان موجباً للحد يقام حده، وما يوجب التعزير يعزر به؛ لأنه ارتكبه حين كان يجري عليه حكم الإسلام. ثم بعد إقامة موجبه: إن جعلناه نقضاً للعهد-: يبلغ المأمن في قول. وفي قول: يقتل أو يسترق في الحال. ومن أصحابنا من قال: من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقتل حداً؛ لما روي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر؛ سمعت راهبا يشتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو سمعته لقتلته؛ إنا لم نعط الأمان على هذا".

أما ما فيه إظهار منكر-: فعليهم الامتناع منه؛ مثل: أن يسمعوا المسلمين شركهم، وقولهم في المسيح وعُزير، أو يسمعوهم صوت ناقوس أو قراءة كتابهم التوراة والإنجيل، أو يظهروا الصيب، أو يهروا أعيادهم، أو يرفعوا أصواتهم، على موتاهم، أو يحدثوا في أمصار المسلمين بيعة، أو كنيسة، أو مجمعاً لصلاتهم، أو يدخلوا فيها خنزيراً، أو يُظهروا بيع خمر أو خنزير، أو أكله، أو يطعموه مسلماً، أو يطيلوا بناءهم على بناء المسلمين أو يتركوا الغيار، فإذا فعلوا شيئاً منها-: عُزروا، ومنعوا منها، ولا ينتقض به عهدهم، سواء شرط عليهم أو لم يشرط. واختلفوا في تعليله. منهم من قال: لأنه إظهار ما لا ضرر فيه على المسلمين. ومنهم من قال: لأنهم يتدينونه. ولا يحد الذمي على شرب الخمر، ولا على وطء ذوات المحارم بالنكاح؛ لأنهم

يتدينونه ويعتقدون إباحته؛ بخلاف ما لو زنى وقذف-: يحد؛ لأنهم يعتقدون تحريمه. فإن أظهروا شرب الخمر-: أريقت عليهم، وعزروا، وإن لم يهروا-: لم يدخل عليهم دورهم، ولم يتعرض لهم. وإذا كان أهل الذمة في دار الإسلام-: أخذوا بلُبس الغيار، وألا يساووا المسلمين في الملبس، والمركب، فيعقدوا الزنانير على أوساطهم خارج الثياب، ويتعسلوا بعسلي يخالفلونه لون ثيابهم، فيتعسل اليهودي بعسلي أصفر، والنصراني بأكهب، أو أزرق، ويخيط العسلي على الكتف لا على الذيول؛ فإنه لا صفار فيه، والمجوسي يتقلنس بقلنسوة سوداء، أو يخيط عليها مطارد سودا. ويمنعون من ركوب الخيل، ولا يمنعون من ركوب الحمير والبغال، ويركبونها عرضاً بالأكف لا بالسرج، وتكون ركابهم من الغرز، ولا يتقلدون السيوف، ولا يحملون السلاح، ولا يمنعون من التعمم، والتطيلس، ومن لبس الثياب الفاخرة من القطن والكتان، وهل يمنعون من لبس الديباج؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنعون؛ لما فيه من التجبر والتعظم. والثاني: لا يمنعون؛ لأنهم لا يعتقدون تحريمه؛ كالمرتفع من القطن. وإذا دخلوا الحمام، أو في حالة التجرد من الثياب-: يعقدون عليهم الجلاجل، أو يجعلون في أعناقهم خواتيم، وتكون من حديد أو رصاص لا من ذهب ولا فضة. وإن كان لهم شعور يؤمرون بجز النواصي، ويمنعون من إرسالها؛ الأشراف، كذلك: أمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه- أن يفعل بهم. وغير نسائهم: أن تجعل زنانيرهن تحت أزرهن، حتى لا تصف أبدانهن، وأن يختلف لون خفافهن: أحدهما: أسود. والآخر: أحمر. ولا يجوز لهن دخول الحمام مع نساء المسلمين؛ على أظهر الوجهين؛ لأنهن أجانب في الدين. ومن جوز أمرهن أن يربطن على أنفسهن جلاجل، أو يجعلن في أعناقهن خواتيم، وكل هذا لما ضرب الله عليهم من الذلة.

قال الله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران: 112]. ولا يجوز لمسلم أن يوادوا أحداً منهم؛ قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]. ولا يجوز أن يسلم على من لقيه منهم، وإن بدأ هو بالسلام، فلا يجبه، لما روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". يريد: أنه لا يترك له صدر الطريق، بل يلجئه على طريق البهائم، ويضيق عليه الطريق من غير أن يصدم به حائطاً، أو يلقيه في وهدة، ولا يصدرون في المجالس، ولا يوقرون توقير أهل الإسلام. وكل بلدة بناها المسلمون؛ مثل مصر وبغداد-: لا يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا فيها بيعة، أو كنيسة. أو صومعة، إلا أن تكون في المفازة لهم كنيسة، فاتصل بها بنيان المسلمين-: فلا تُهدم. أما ما كان لهم من البلاد - نُظر: عن فتحها المسلمون عنوة، ولم يكن لهم فيها كنيسة، أو كانت قائمة، ولكنها انهدمت، أو هدمها المسلمون في القهر-: لا يجوز لهم بناؤها. وإن كانت قائمة-: هل يجوز تقريرها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز الإحداث؛ لأن ملكهم زال عنها قهراً. والثاني: يجوز؛ لأنه لما جاز إقرارهم مع ما هم عليه من الكفر-: جاز إقرار أبنيتهم. وإذا بنى واحدٌ منهم داراً-: لايجوز أن يرفع بناءه عن بناء جيرانه من المسلمين، فإن فعل-: يهدم، وهل يمنع من المساواة، أم يجب أن يكون دون بناء المسلمين؟ فيه وجهان أحدهما: يمنع، حتى يكون بناؤه دون بناء المسلمين. والثاني: يجوز]، وإنما يمنع من الإطالة على بناء جيرانه، حتى لا يطلع على عورات المسملين.

فلو كان دون بناء جيرانه، وفوق بناء مسلم آخر في محلة أخرى-: فلا يمنع. ولو اشترى داراً بناؤه طائلعلى جيرانه-: لايهدم، فإذا انهدم-: ليس له أن يعيده طائلاً؛ قال الشيخ- رحمه الله-: وإذا كان جيرانه كلهم منهم، فأطال بعضهم بناءه على بعض-: جاز، وإن فتحها المسلمون صلحاً- نظر: إن فتحوا على أن يكون البلد للكفار-: لا يتعرض لهم فيما يفعلون فيه من إحداث الكنائس والبيع، وإطالة البناء، وإدخال الخمر والخنزير، وإظهار الصليب، وضرب الناقوس، والجهر بقراءة كتبهم، وإظهار مالهم من الأعياد، وترك الغيار؛ لأن الدار لهم ويمنعون من إيواء الجاسوس، وإنما الأخبار، ويعزرون عليه، إن فعلوا. وإن فتحوا على أن تكون البلد للمسلمين-: فما كان لهم فيها من كنيسة، أو بيعة، أو بناء طائل-: لا يهدم، ويمنعون من إحداث شيء منها أو يوسعونها. قال أبو إسحاق: يصير كأنا صالحناهم على أن البلد والأراضي لنا إلا الكنائس؛ كما لو صالحهم على أن يكون نصف الأراضي لنا، والنصف لهم، أو الربع لنا والباقي لهم-: يجوز. فإذا انهدمت الكنيسة كلها-: هل يجوز لهم إعادتها؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الإصطخري، وابن أبي هريرة-: لا يجوز؛ كما لو أرادوا بناءها في موضع آخر: لا يجوز. والثاني: يجوز: لأن الصلح وقع على أن يكون موضع الكنائس لهم، ولا يجوز أن يزيد فيما كانت. أما إذا سقط منها جدار-: جاز البناء، ولا يمنعون من تطيينها داخلاً وخارجاً. فصلٌ يجب على الإمام الذب عن أهل الذمة، ومنع من يقصدهم من المسلمين، أو الكفار، واستنقاذ من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم، سواءٌ كانوا مع المسلمين في بلد، أو منفردين عنهم في بلد؛ لأنهم بذلوا الجزية؛ لحفظهم وحفظ أموالهم، فإن لم يدفع عنهم، حتى مضى حول-: لم تجب جزية ذلك الحول؛ كما لا تجب أجرة الدار، إذا لم يوجد التمكين من الانتفاع. وإذا أخذ منهم خمر أو خنزير-: لا يجب استرجاعه؛ لأنه يحرم اقتناؤه في الشرع. وإن عقد في الذمة بشرط ألا يمنع منه أهل الحرب؛ نظر:

إن [كانوا مع المسلمين أو في موضع إذا قصدهم أهل الحرب] كان طريقهم على المسلمين-: لا يصح العقد؛ لأنه عقد على تمكين الكفار من المسلمين. وإن كانوا [منفردين] في موضع لا طريق لأهل الحرب على المسلمين: صح، وهل يكره هذا الشرط؟: قال الشافعي- رضي الله عنه- في موضع: يكره، وقال في موضع: لا يكره. وليست على قولين، بل هي على حالين حيث قال: يكره: أراد به إذا طلب الإمام الشرط؛ لأن فيه إظهار ضعف المسلمين. وحين قال: لا يكره: أراد به: إذا طلب أهل الذمة الشرط. أما إذا كان الإمام قد شرط في العقد الذب عنهم-: يجب الذب. وإن لم يشرط-: فوجهان: أحدهما: يجب؛ كما لو كانوا في موضع، إذا قصدهم أهل الحرب، كان طريقهم على المسلمين-: يجب الذب. والثاني: لا يجب؛ لأن طائفتين كفارٌ، لا يعود ضرر قتالهم إلى المسلمين، ولا إلى دار الإسلام. وإذا أغار أهل الحرب على أهل الذمة، وأخذوا أموالهم، ثم ظفر افمام بهم، واسترجع ما أخذوه-: يجب رده على أهل الذمة، وإن أتلف أهل الحرب أموالهم-: لا ضمان عليهم؛ كما لو أتلفوا أموال المسلمين. وإن أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة، وأتلفوا أموالهم-: يجب عليهم الضمان، فإن نقضوا العهد، وامتنعوا في ناحية، ثم أغاروا على أهل الذمة، وأتلفوا عليهم مالاً أو نفساً-: ففي وجوب الضمان قولان؛ كأهل الردة إذا امتنعوا، فأتلفوا على المسلمين. فصلٌ: فيما على الإمام تجاه أهل الذمة وعلى الإمام أن يثبت عدد أهل الصذمة في كل بلد، وأسماءهم، وحلاهم بالصفات التي لا تتغير بالأيام؛ أنه طويل أو قصر، أو ربعة، أبيض، أو أسود، أشم، أو أقنى، أدعج

العينين، مقرون الحاجبين، ويثبت ما يوجد في كل واحد منهم، ويجعل على كل طائفة عريفاً يتعرف أحوالهم، فإن أسلم منهم واحدٌ، أو مات-: اسقط جزيته، وإن بلغ مولودٌ أو دخل فيهم غيرهم-: اثبت اسمه، ومن أخذ جزيته-: كتب له براءة تكون له حجة عند الحاجة، وإن أشكل على افمام، أو على من جاء بعده صلحهم-: رجع غليهم، فمن أقر بأقل الجزية-: قبل منه، فإن اتهمه في الزيادة-: أحلفه استحباباً، وإن قال بعضهم: دينارٌ، وقال بعضهم: ديناران-: أخذ من كل واحد ما أقر به ولا يقبل قول بعضهم على بعض؛ لأن الكافر لا تقبل شهادته. وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة: أن الجزية كانت أكثر مما أقروا-: أخذت الزيادة منهم. وإن قالوا: كنا نعطي دينارين متبرعين، وجزيتنا: لم تكن أكثر من دينار-: أحلفهم، واليمن واجبة؛ فإن نكلوا-: أخذ منهم ديناران. وإن أسلم منهم جماعة، وشهد منهم اثنان: إن جزيتنا وجزيتهم كان دينارين-: يُؤخذ ديناران، وإن شهد مسلمان على دينار، وآخران على دينارين-: أخذ ديناران؛ لأن عندهم زيادة علم. فصلٌ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وأراد بـ"المسجد الحرام": جميع الحرم؛ كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وإنما أسري به من بيت أم هانيء انتهى. بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: الحرم، والحجاز، وسائر بلاد الإسلام: أما "الحرم"-: فلا يجوز لكافر أن يدخلها، لا لإقامة ولا مجتازاً، لا بمال ولا مجاناً؛ فإن كان لذمي على مسلم في الحرم دينٌ، أو له في الحرم مالٌ-: وكل مسلماً بأخذه. وإذا جاء رسول منهم، والإمام في الحرم-: لا يأذن له في دخوله، بل يخرج إليه الإمام، فيسمع رسالته، أو يبعث من يسمعها. وإذا جاء ليسلم- خرج إليه من يسمع كلامه. وإن دخله كافرٌ عالماً- عزر، وأخرج، وإن كان جاهلاً-: أعلم، فإن عاد-: عزر. وإن مرض-: لا يمرض فيه، وإن مات-: لا يدفن فيه، وإن دفن-: نبش قبره، فإن تقطع - ترك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يأمر بنقل نم مات فيه قبل الفتح".

وجوز أبو حنيفة دخول المشركين الحرم بإذن أهل الإسلام مجتازاً؛ كالمساجد، والآية حجة عليه. ون أذن له في دخول الحرم بمال-: لم يجز، فإن دخل-: استحق عليه المسمى؛ لأنه قد حصل له العوض، وأخرج، ولا يستحق عوض المثل؛ لأنه لا أجرة لمثله، والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة سبعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال. أهـ. أما الحجاز: فقال الشافعي - رضي الله عنه-: هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها. قال الأصمعي: سمي حجازاً؛ لأنه حاجز بين تهامة، ونجد. فيجوز للإمام- أن يأذن للكفار في دخولها، ولا يقيموا بها أكثر من ثلاثة أيام مقام المسافرين؛ لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، ولئن عشت إلى قابل لأخجرن اليهود والنصارى من جزيرة العرب". فلم يعش النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قابل، ولم يتفرغ أبو بكر لذلك؛ لاشتغاله بقتال أهل الردة؛ فأجلاهم عمر - رضي الله عنه - وضرب لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثة أيامٍ. والمراد من "جزيرة العرب": الحجاز، فإن اليمن من جزيرة العرب، ويجوز تقرير أهل الذمة فيها، وحد جزيرة العرب: قال الأصمعي: من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضاً. ولا يجوز لهم دخول الحجاز، وإقامة ثلاث إلا بإذن الإمام؛ لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين، فكان مفوضاً إلى الإمام. فإذا استأذن في الدخول: فإن كان للمسلمين منفعة بدخوله؛ بأن كان يحمل ميرة، أو جاء لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة -: أذن له. وإن جاء لتجارة-: شرط عليه أن يعطي من تجارته شيئاً، وذلك إلى رأي الإمام. ويتسحب أن يأخذ ما كان يأخذ عمر، كان يأخذ من المسلمين من تجاراتهم ربع العشر، ومن أهل الذمة [نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر]، ولا يقيم أكثر من ثلاثة

أيام، فإن أقام في موضع ثلاثة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر، وأقام ثلاثة أيام، ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع، ويقيم ثلاثة أيام في كل موضع-: جاز لأنه لم يصر مقيماً في موضع. ولا يُمنع من روب بحر الحجاز؛ لأنه ليس موضع الإقامة، ويمنع من المقام في سواحله، والجزائر المسكونة في البحر أكثر من ثلاثة أيام، لأنه من بلاد الحجاز. ولو دخل الحجاز لتجارة فمرض، ولم يمكنه الخروج-: جاز أن يُمرض فيه حتى يبرأ، وإن زاد على ثلاثة أيام، بخلاف الحرم؛ لأن هذا دخل دخولاً جائزاً، ودخول الحرم-: لم يكن جائزاً، وإن مات فيه: فإن أمكن نقله قبل أن يتغير-: لم يدفن فيه، وإن خيف عليه التغير-: دُفن فيه؛ لأجل الضرورة، وإن دفن-: لم ينبش. أما سائر بلاد الإسلام، سوى الحجاز-: يجوز عقد الذمة مع أهل الكتاب على المقام فيها أبداً بالجزية، ويجوز لهم ولغيرهم من الكفار أن يدخلوها بالأمان، فمن دخل بغير أمان- يقتل، ويسترق. فإن ادعى أني دخلت بأمان مسلم-: يقبل. وقيل: لا يقبل، إلا ببينة يقيمها عليه. وإذا استأذن واحدٌ منهم للدخول: فإن كان للمسلمين في دخوله منفعة من حمل ميرة، أو جاء لأداء رسالة، أو عقد ذمة أو هدنة-: أذن له، وإن جاء لتجارة-: لم يؤذن إلا بمال يؤخذ من تجارته، أما من غير حاجة-: فلا يؤذن له؛ لأنه لا يؤمن من كيده، ولعله يدخل لتجسس الأخبار، أو لشراء السلاح، وغيرهما مما يضر المسلمين، وإذا جاء لرسالة-: فلا يؤذن إلا قدر أداء رسالته، أو لحاجة إلا قدر قضائها. وليس للكافر دخول المسجد إلا بإذن مسلم؛ فإن دخل بغير إذن-: عُزر وأخرج، يروي أن علياً - عليه السلام- كان على المنبر فبصر بمجوسي، فنزل، فضربه، وأخرجه. وإذا استأذن في دخول المسجد، فإن كان لنوم أو أكل-: لا يؤذن له، وإن كان لسماع قرآن، أو علم-: يؤذن له؛ رجاء أن يُسلم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. وإن كان جنباً -: هل يؤذن له؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنع؛ كما يمنع المسلم الجنب.

والثاني: لا يمنع؛ لأنه لا يعتقد تعظيمه؛ فلا يؤخذ به؛ كما لا يحد على شرب الخمر؛ لأنه يعتقد إباحته، بخلاف المسلم. وإذا قعد القاضي للحكم في المسجد: فمن وقعت له خصومة من أهل الشرك-: جاز له دخوله؛ لأن قعود القاضي للحكم في المسجد إذن لهم في الدخول. وإذا قدم وفد من الكفار، ولم يكن للإمام دارٌ ينزلها الوفود-: يجوز أن ينزلهم المسجد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل سبايا بني قريظة في المسجد إلى أن بعثهم [للبيع] وربط ثمامة بن أثال في المسجد". وإذا دخل الذمي الحجاز، أو الحربي دخل دار الإسلام لرسالة أو لشغل بالإذن لا للتجارة-: لا يؤخذ منه شيء. وإن دخل تاجراً بالإذن: فإن شرط الإمام عليهم شيئاً-: أخذ المشروط، وإن لم يشرط-: فيه وجهان: أحدهما: يؤخذ ما كان يأخذ عمر؛ اتباعاً له. والثاني: وهو الأصح-: لا يؤخذ إلا بالشرط؛ لأنه أمان بلا شرط؛ كالهدنة، وكان عمر قد شرط ذلك عليهم وعند أبي حنيفة: إن كانوا هم يأخذون من المسلمين، إذا دخلوا دارهم-: يؤخذ منهم من غير شرط؛ وإلا فلا يؤخذ منه. وإذا أخذنا من الذمي بدخول الحجاز بالشرط، أو بغير الشرط-: لا يحسب ذلك من الجزية، وإن شرط أن يؤخذ من تجارته-: أخذ، باع متاعه أو لم يبع. وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته، فلم يبع-: لا يؤخذ؛ لأنه لم يحصل الثمن. ولا [يؤخذ] ما شرط على الذمي في دخول الحجاز في السنة؛ كما لا تؤخذ منه الجزية في السنة إلا مرة. أما ما يؤخذ من الحربي في دخول دار الإسلام: فإذا أخذ مرة، وكانوا يطوفون في بلاد الإسلام-: لا يؤخذ في كل بلدة، وتكتب له براءة حتى لا يطالب في بلد آخر قبل مضي الحول، وإن رجعوا على دار الحرب، ثم عادوا قل الحول-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يؤخذ في كل سنة إلا مرة؛ كأهل الذمة، إذا تكرر دخولهم الحجاز.

والثاني: يؤخذ في كل مرة يدخل، وإن تكرر دخوله في السنة، بخلاف الذمي؛ فإنه تحت يد الإمام، فلا يفوت ما شرط عليه، والحربي يرجع إلى دار الحرب، وربما لا يعود عند الحول، فيفوت ما شرط عليه، والله أعلم بالصواب. باب/ نصارى العرب تُضاعف عليهم الجزية رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أمر نصارى العرب من تنوخ، وبهراءن وبني تغلب: "أنه رامهم على الجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض - يعنون: الصدقة- فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين، قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم عمر على أن تضعف عليهم الصدقة" هـ. إذا امتنع قوم من أداء الجزية باسم "الجزية"، وقالوا: نؤدي باسم "الصدقة"، [فرأى الإمام أن يأخذ منهم باسم "الصدقة"]، ويضعف عليهم ما يأخذ من المسلمين، كما فعل عمر بنصارى العرب-: يجوز، فيأخذ من خمس من الإبل شاتين، ومن خمس وعشرين ابنتي مخاض، ولا يأخذ منها حقة؛ كما يأخذ من خمسين، ويأخذ من أربعين شاة شاتين، ومن ثلاثين من البقر تبيعين. وكذلك: تضعف عليهم صدقة الذهب، والورق، وزكاة التجارة، والثمر، والزرع، وحق المعدن، والركاز؛ فإن كان يأخذ من المسلم الخمس-: يأخذ منهم خمسين، وإن كان يأخذ من المسلم [العشر-: يأخذ منهم الخمس، وإن كان يأخذ من المسلم] نصف العشر يأخذ منهم العشر، وفيما يأخذ من المسلم ربع العشر-: يأخذ منهم نصف العشر. وهل يأخذ من أنصاف النصاب النصف؛ مثل: إن كان له عشرون من الغنم-: هل يأخذ منها شاة، ومن عشر نصف شاة، ومن ثمانين شاة ثلاث شياه؟ فيه قولان: أحدهما: يأخذ؛ لأنه قضية التضعيف. والثاني: لا يأخذ، وهو الأصح؛ لأن الأثر في تضعيف الواجب على المسلم، لا في إيجاب ما لا يجب فيه شيء على المسلم. وإذا وجبت في ست وأربعين من الإبل حقتان، وليستا عنده-: أخذت منه ابنتا لبون، وهل يضعف الجبران؟ فيه وجهان:

أحدهما: يضعف؛ فعليه معها أربع شياه. والثاني: لا يضعف؛ لأنه تضعيف التضعيف؛ فتجب شاتان. وإذا ضعفنا عليه الصدقة: فمن حصل في حقه دينار أو أكثر-: جاز، ومن لم يبلغ في حقه ديناراً-: يجب عليه تم كيل الدينار، وكذلك: من لم يكن له مال زكاتي، أو كان فقيراً-: يؤخذ منه دينار. فإن تبرع الأغنياء بما زاد على قدر جزيتهم على الفقراء؛ ليون الفضل جزية عنهم - جاز، وإن أضعف الإمام عليهم الصدقة، فبلغ دينارين، فقالوا: أسقط الدينار، وخذ باسم الجزية-: تسقط الزيادة؛ لأن الزيادة وجبت لتغيير الاسم، فإذا رضوا باسم "الجزية"-: وجب إسقاط الزيادة. والتضعيف لا يختص بالعرب، بل كل من طلب ذلك من أهل الكتاب-: أجيب إليه ولا يختص بالتضعيف، بل يجوز أن يُربع ويخمس؛ على ما يراه الإمام؛ لأنه ليس بصدقة على الحقيقة، إنما هي جزية ومصرفها مصرف الفيء، لا مصرف الصدقات، وإن كان لصبي، أو مجنون، أو امرأة منهم أموال زكاتية-: لا يؤخذ نمهم شيءٌ؛ لأنه لا جزية عليهم، والله أعلم. باب/ نقض المهادنة على النظر للمسلمين قال الله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]. إذا عقد والي خراسان، أو والي العراق المهادنة مع أهل قرية أو بلد-: جاز، فأما مع إقليم؛ كالهند، والروم-: فغير جائز إلا للإمام، وعقد الهدنة لا يجوز لأهل إقليم إلا للإمام، أو لمن فوض إليه الإمام؛ كعقد الذمة؛ لأنه المنصوب للنظر لأهل الإسلام. ثم يُنظر: إن كان في حال قوة الإسلام وأهله: فإن لم يكن في الهدنة مصلحة-: لم يكن يجز عقدها؛ لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35].

وإن كان فيها مصلحة: بأن كان يرجو إسلامهم ومعاونتهم على قتال غيرهم-: جاز أن يهادن أربعة أشهر؛ لقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. [ولا يجوز أن يهادنهم سنة؛ لأنها مدة الجزية]، ولا يجوز تقرير كافرٍ بالعهد سنة بلا جزية. وهل يجوز أكثر من أربعة أشهر وأقل من سنة؟ فيه قولان: أحدهما- وهو الأصح-: لا يجوز؛ لأن الله تعالى أمر بقتل المشركين؛ فقال: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ثم أذن في الهدنة أربعة أشهر فنفى ما زاد على جواز القتل. والقول الثاني: يجوز؛ لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية؛ كأربعة أشهر. وإن كان في وقت ضعف أهل الإسلام، وقوة الكفار، وكثرتهم، أو كان بالمسلمين قوة، ولكن العدو على بعد يحتاج في قصدهم إلى مؤن مجحفة-: يجوز عقد الهدنة إلى مدة

تدعو إليه الحاجة، وأكثرها عشر سنين؛ [لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشاً بالحديبية عشر سنين]، فإن زاد على عشر سنين-: لا يجوز؛ لأن الأصل وجوب الجهاد غلا فيما ورد فيه الرخصة، وهي عشر سنين. فإن عقد على عشر سنين، فانقضت، والحاجة باقية-: استأنف العقد فيما تدعو إليه الحاجة، وإن عقد على أكثر من عشر سنين-: بطل فيما زاد على العشر، وفي العشر قولان؛ بناء على تفريق الصفقة [في البيع]: فقيل ههنا: يجوز في العشر قولاً واحداً؛ لأنه عقد مع الكفار؛ فيسامح فيه بما لا يسامح في عقود المسلمين؛ وكذلك: إن دعت الحاجة إلى خمس سنين-: لم يجز أن يزيد عليها؛ فإن عقد على أكثر-: بطلت في الزيادة على الخمس، وفي الخمس هذا الاختلاف. ولو عقد الهدنة مطلقاً-: لا يصح؛ لأن مطلق العقد يقتضي التأبيد. وقيل: يصح، وإن كان في وقت قوة المسلمين-: ينصرف إلى أربعة أشهر. وفي قول: إلى سنة. وإن كان بالمسلمين ضعف-: ينصرف إلى عشر سنين. أما إذا عقد الهدنة على أن له أن ينقض متى شاء-: جاز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- وادع يهود خيبر، وقال: "أقركم على ما أقركم الله". [ولو قال غير النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقركم ما أقركم الله] أو هادنتكم إلى أن يشاء الله-: لايصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما عند الله بالوحي، وغيره لا يعلم. ولو هادنهم ما شاء فلان، وفلان رجلٌ مسلمٌ أمين عالمٌ، له رأي-: جاز، فإن شاء أن ينقض نقض. وإن قال: هادنتكم ما شئتم-: لا يصح؛ لأنه يجعل الكفار محكمين على المسلمين، وعقد الذمة-: يجوز مؤبداً بخلاف الهدنة، وهل يجوز عقد الذمة مؤقتاً؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كالمهادنة.

والثاني: لا يجوز؛ لأن الذمي بعقد الذمة يلتزم أحكام المسلمين، ولا يصح التزامها إلا مؤبداً؛ ألا ترى أن من التزمها بالإسلام إلى وقتٍ-: لا يجوز. ولو جاء مشرك يطلب المهادنة-: لا يجب على الإمام الإجابة إليها؛ لأنه لا منفعة للمسلمين فيها، بخلاف ما لو جاءوا، وبذلوا الجزية-: يجب قبولها؛ لقوله تعالى-: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فوضع عنهم القتل والاسترقاق بقبول الجزية ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم، ولا يجوز على مال يعطيهم؛ لأنفيه إلحاق صغار بأهل الإسلام، وقد أعز الله الإسلام، وأهله ظاهرون، قُتلوا أو قَتلوا؛ فلا يعطي مشرك على الكف عنهم شيئاً؛ فإن دعت ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين، وخافوا الاصطلام-: فيجوز للإمام أن يعطيهم مالاً؛ ليتصرفوا، أو يفدي أسيراً؛ لأن الاصطلام-: فيجوز للإمام أن يعطيهم مالاً؛ ليتصرفوا، أو يفدي أسيراً؛ لأن الاصطلام وتعذيب الأسير في أيديهم أعظم من بذل المال؛ فجاز البذل لدفع أعظم الضررين، وبذل المال واجب في هذا الموضع، ليرد هذا الضرر. وإن عقد الهدنة على ما لا يجوز؛ بأن شرط ألا ينزع أسارى المسلمين من أيديهم، وما أخذوا من أموالهم، أو أسيراً تفلت من أيديهم أن يرده إليهم، وإن أتانا منهم امرأة مسلمة أن نردها إليهم، أو عقد الذمة على أقل من دينار، أو على ألا تجري عليهم أحكامنا، أو على مقامهم في الحجاز، أو على دخولهم الحرم، أو بناء كنيسة في دار الإسلام، أوترك الغيار، أو إظهار الخمر والخنزير-: وجب نقضه. وقد شرط النبي -صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية شروطاً؛ لضعف أهل الإسلام، فرد الله بعضها، ولا يجوز اليوم شرطها؛ لظهور عز الإسلام، وقوة أهله، إلا في موضع قريب من الكفار؛ يخافون على أنفسهم منهم؛ فمنها: الكف عن القتال عشر سنين، وأن من أتى المسلمين من الكفار مسلماً ردوه، ومن أتاهم منا لا يردونه حتى رد أبا جندل وأبا بصير، ثم جاءت بعدها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فجاء أخوها في طلبها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ....} إلى قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، فلم يردها النبي - صلى الله عليه وسلم- وكان لا يرد النساء، ويعطي أزواجهن ما أعطوا من مهورهن؛ لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة: 10] وأراد به: ما أعطوا من الصداق. واختلف القول في أن شرط الرد: هل تناول النساء أم لا؟ أحد القولين: أن الشرط تناول الرجال والنساء جميعاً، وكان ذلك جائزاً في الشرع، ثم صار منسوخاً في حق النساء، لقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10].

والقول الثاني: الشرط كان في حق الرجال خاصة، وجاز ذلك في حقهم؛ لقوة قلوبهم، وقلة فتنتهم، وأنهم إذا أكرهوا على الكفر أمكنهم إظهار ما ليس في قلوبهم، ولم يدخل فيه النساء؛ لأنهن يضعفن عن ذلك؛ فلا تؤمن فتنتهن وارتدادهن، لنقصان عقولهن، وقلة هدايتهن، ويخشى عليهن من أن يصيبهن الكفار. فإن قلن: شرط الرد لم يتناول النساء، فهل علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يعلم، إلا بعد نزول الآية؟ فيه احتمالان: أحدهما: لم يعلمه؛ بدليل أنه لم يظهره. والثاني: علمه؛ ولنه لم يهره؛ لما علم فيه من المصلحة. فإن قلنا: الشرط تناول النساء فيما إذا صار منسوخاً-: فيه قولان؛ بناء على أن نسخ السنة بالقرآن-: هل يجوز أم لا؟ [وفيه قولان: أحدهما لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. والثاني: يجوز؛ لأنه نسخ الأدنى بالأعلى. فإن قلنا يجوز-: صار منسوخاً بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]. وإن قلنا: لا يجوز]-: صار منسوخاً بامتناع النبي - صلى الله عليه وسلم -[عن ردهن] فيكون نسخ السنة بالسنة. هـ. [ذكر الخلاف في رد المهر فيما إذا عقد الهدنة مطلقاً من غير شرط: فإذا جاءت منه امرأة مسلمة- هل يجب رد المهر؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لعدم الشرط، والنبي - عليه السلام- إنما أعطى؛ لأنه شرط رد من جاء. والثاني: يجب؛ لأن مطلق العقد يقتضي الكف عن أموالهم، وما في معنى المال، فإذا لم يكف-: وجب البدل. قال - رحمه الله-: وعندي إذا عقد مطلقاً-: لا يجب رد المهر؛ لأن عقد الهدنة

لا يقتضي الكف عن الإسلام، بل إذا شرط رد من جاء منهم-: لا ترد الهدنة؛ كما ذكرت]. ولا يجوز عقد الهدنة اليوم على أن من أتى منهم مسلماً-: نرده؛ فإن احتاج إلى شيء من ذلك، لضعف أهل الإسلام، وقوة الكفار-: فلا يجوز أن يشترط رد النساء، ولا يشترط رد الرجال مطلقاً؛ لأنه قد يأتيه من لا يجوز رده، فإن رد من لا عشيرة له-: لا يجوز. فإذا عقد الإمام الهدنة، وشرط رد من جاء منهم مسلماً-: قال الشيخ- رحمه الله-: لاترد الهدنة، وإن لم يعمل ببعضه، وهو رد النساء، ورد العبيد، ورد الرجال على غير عشيرته كما أن صلح الحديبية كان نافذاً، وإن منع عن رد النساء، [ورد العبيد]. فإذا عقد على هذا الشرط، ثم جاء رجل منهم مسلماً؛ فإن جاء في طلبه غير عشيرته]-: لا يرد، وإن جاء من عشيرته-: رده؛ لأنه لا يخاف عليه من عشيرته، بل يقومون عليه بحفظه، والذب عنه، وكان رد أبي جندل على هذا الوجه؛ لأنه رد إلى أبيه، فإن لم يكن له رهط أو عشيرة-: لا يجوز رده؛ لأنه لا يؤمن أن يفتن عن دينه، ولا تجب القيمة؛ لأن الحر لا قيمة له. وكذلك: إن جاء من يطلبه، والمطلوب قادر على قهر الطالب والانفلات منه-: جاز الرد عليه. وعلى هذا الوجه-: كان رد أبي بصير؛ فإنه قد جاء في طلبه رجلان، فدفع إليهما، فقتل أحدهما، وأفلت. ومعنى الرد: هو ألا يمنعه عن الرجوع، إما أن يُكرهه على الرجوع-: فلا، بل نقول: لك في الأرض مراغم كثيرة وسعة. فإن اختار المقام في دار الإسلام-: فلا يمنع، وهو الأولى، وإن اختار الرجوع على أهله في دار الكفر-: فله ذلك، ويقول الإمام للطالب: لا نمنعك منه، إن قدرت عليه، وإن لم تقدر-: لا نعينك عليه، ويقول للمطلوب ويوصيه في السر: إن رجعت إليهم، ثم قدرت أن تهرب، فافعل. وإن جاءت امرأة من أهل الهدنة مسلمة إلى موضع الإمام، وهي حرة عاقلة بالغة،

فجاء زوجها المشرك، أو رجل من عشيرتها في طلبها -: لا يجوز ردها بحال؛ لأن رهطها وعشيرتها لا يمنعونها عن الزوج، وهي لا تحل له، وهل يجب دفع مهرها؟ نظر: إن جاء في طلبها غير زوجها-: لا يجب. وإن جاء زوجها- نظر: إن لم يكن إليها المهر-: لا يجب، لأن الله تعالى قال: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة: 10]؛ وهو لم ينفق شيئاً. وإن كان دفع إليها المهر-: هل يجب أن ترد إليه؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة: 10]، ولأن البُضع مقوم، حيل بنيه وبين مالكه؛ فوجب رد بدله، كما لو أخذ مالاً، وتعزر رده-: تجب عليه قيمته. والقول الثاني- وهو الأصح، واختيار المزني-: لا يجب؛ لأنا عاقدناهم على رد العين، والعين قائمة، فإذا لم يجب رد العين؛ فلا يجب رد غيرها؛ ولأنه لو ضمن البضع بالحيلولة-: لضمن بمهر المثل؛ كما يضمن المال بقيمة المثل، فلما لم يضمن بمهر المثل-: لا يضمن بالمسمى. ولا خلاف أنه لا يجب رد ما أطعمها وكساها، والقولان ينبنيان على أن صلح الحديبية-: هل تناول النساء أم لا؟: إن قلنا: تناول رد النساء، ثم نسخ-: فاليوم لا يجب المهر؛ لأن الشرط فاسدٌ، والنبي - صلى الله عليه وسلم- إنما رد المهر؛ لأن شرطه كان صحيحاً. وإن قلنا: الشرط لم يتناول النساء -: فيجب المهر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرم مهر من جاءت مسلمة مع عدم الشرط. فإن لم نوجب رد المهر-: فلا تفريع عليه، وإن أوجبنا رد المهر-: فالتفريع عليه: أنه يجب من خمس الخمس سهم المصالح، وإنما يجب رد ما أعطى، حتى لو كان مهرها ألفين، ولم يعط الزوج إلا ألفاً لا يجب إلا رد الألف [دون الألفين]، وإن كان مهرها ألفاً، وهو دفع ألفين-: لا يجب إلا رد الألف؛ لأن الزيادة لم تكن مهراً. وإن خالفته فيما قبضت-: فالقول قولها، وإن كانت أبرأته عن الصداق، أو وهبته الصداق-: لا يجب رد شيء، وإن كان تزوجها على خمر أو خنزير، ودفعه إليها-: لا يجب رد شيء؛ لأنه لم ينفق مالاً.

وإن مات الزوج، وجاء وارثه في طلب المهر، أو دخل الزوج في دار الإسلام؛ فقبل أن طلب: مات أحدهما-: لا يعطي. وكذلك: إن كان الزوج قد طلقها بائناً أو خالعها: لا يجب لأنه إنما يجب إذا دفع إليها، ثم جاء في طلبها فمنعت منه، فيعطي المهر؛ لأجل الحيلولة، ولا حيلولة بعد الموت والطلاق البائن. وإن مات أحدهما أو طلق بعد الطلب -: يعطي؛ لأن الحيلولة قد حصلت فإن كان الزوج هو الميت-: دفع إلى وارثه، وإن طلقها رجعياً-: لا يدفع المهر؛ لأنه قد تركها باختياره، فإن راجعها، ثم طلب-: أعطى؛ لأنه قصد إمساكها بالرجعة، وإن جاءت مسلمة، ثم أسلم الزوج - نظر. إن أسلم قبل انقضاء عدتها-: فهما على النكاح، وليس له طلب المهر. وإن كان قد أخذ عليه-: رده؛ لأن الحيلولة زالت، وإن لم تسلم، حتى انقضت عدتها: فإن كان قد طلب المهر قبل انقضاء العدة-: وجب المهر، وإن طلب بعد انقضاء العدة-: لم يجب؛ لأن الحيلولة حصلت بالبينونة، ولا مطالبة له بالمهر بعد البينونة، وإن جاءت المرأة، وهي مجنونة، تصف الإسلام-: لا تعطي مهرها؛ لأنا لا نعرف إسلامها قبل الجنون، ولا نردها على الكفار؛ لاحتمال أنها قد أسلمت قبل الجنون. فإن أفاقت كافرة-: ردت إليهم، وإن أفاقت مسلمة-: لم ترد، ودفع مهرها على زوجها. وإن أسلمت، ثم جُنت-: رد المهر، وكذلك: إن جاءت، وهي صبية: تصف الإسلام-: لم ترد إليهم، وإن لم نحكم بصحة إسلامها؛ لأنا نرجو إسلامها، وإن ردت إليهم زهدوها في الإسلام، وإن جاء زوجها يطلب المهر-: هل يعطي؟ وجهان: أحدهما: يعطى لوقوع الحيلولة بينه وبينها. والثاني- وهو الأصح-: لا يعطى؛ لأن الحيلولة لم تتحقق؛ لجواز أن تبلغ فتصف الكفر، فإن بلغت، وصفت الكفر-: رُدت إليهم، وإن وصفت الإسلام-: دُفع المهر على الزوج. وإن جاءت مسلمة ثم ارتدت-: لم ترد إليهم؛ لأنه يجب قتلها، وإن جاء زوجها يطلب مهرها، فإن كان بعد القتل-: لا يجب دفع المهر؛ لأن الحيلولة حصلت بالقتل، وإن كان قبل القتل-: هل يجب دفع المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن المنع قد حصل بالإسلام.

والثاني: لا يجب؛ لأنها - الآن- ممنوعة بحكم الردة، وإن جاءت المرأة مسلمة إلى بلد ليس فيها الإمام - نظر: إن كان الإمام قد شرط أن من جاءني منكم مسلماً، رددته-: لم يجب المهر؛ لأنها لم تأتي الإمام. ون شرط أن من جاء المسلمين منكم مسلماً-: وجب رد المهر، وكل موضع وجب [لها] المهر-: فيكون من خمس الخمس سهم المصالح، فإن لم يكن في البلد إمامٌ ولا نائبه-: فلا يطالب به غيره. ولو جاءنا عبد منهم مسلماً مراغماً لمولاه-: فقد عتق؛ لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض؛ فهو ملك بالقهر نفسه؛ فعتق، ولا يجوز رده بحال. وهل تعطى قيمته؟ نظر: إن جاء غير سيده في طلبه-: لايعطى، وإن جاء سيده في طلبه-: فعلى قولين؛ كالمهر. وحكم الأمة غير ذات الزوج كالعبد. وإن جاءت حرة مسلمة، وزوجها عبدٌ-: جاء في طلب المهر-: لا يعطى؛ لأنه لا ملك للعبد، وإن جاء سيد العبد-: [لا يعطى أيضاً؛ لأن البضع كان للزوج، فلم توجد الحيلولة بينه وبين السيد؛ فإن جاء السيد] والعبد معاً - حينئذٍ: يعطى المهر، ويدفع إلى السيد. وإن جاءت أمة ذات زوج مسلمة مراغمة-: عتقت، ولا تُرد إليهم، فإن جاء في طلبها غير الزوج والسيد-: لا يعطى شيء، وإن جاءا معاً-: أخذ الزوج المهر، والسيد القيمة، وإن جاء أحدهما-: أخذ حقه. وإن كان زوجها عبداً-: فلا يُدفع المهر إلا أن يحضر العبد وسيده لطلبه. وإذا عقد الإمام الهدنة مع قوم-: يجب عليه منع من يقصدهم من المسلمين، وأهل الذمة، ولايجب منع من يقصدهم من أهل الحرب، ولا منع بعضهم من بعض؛ بخلاف أهل الذمة-: يجب منع أهل الحرب عنهم، ومنع بعضهم عن بعض؛ لأن عقد الذمة عقد على حفظهم، فوجب منع من يقصدهم، وعقد الهدنة عقد على تركهم؛ لا على حفظهم؛ فلا يجب منع بعضهم عن بعض.

وإذا أتلف مسلمٌ أو ذمي على واحدٍ من أهل الهدنة مالاً أو نفساً-: يجب عليه الضمان. وإن قذفه-: يجب التعزير؛ لأن الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم، وأموالهم وأعراضهم، ومن أتلف منهم مالاً على مسلم-: يجب الضمان، وإن قتله-: يجب القصاص، وإن قذفه-: يجب الحد؛ لأن الهدنة تقتضي الأمان من الجانبين، والله أعلم. باب نقض العهد قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. إذا عقد الإمام الهدنة مع قوم إلى مدة-: يجب الوفاء بها إلى انقضاء المدة؛ لقوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ...} إلى قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]. روي عن سليمان بن عامر قال: "كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد-: أغار عليهم، فقال عمرو بن عبسة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان بينه وبين قوم عهدٌ-: فلا يحلن عهداً ولا يشدنه، حتى ينقضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء"؛ قال: فرجع معاوية بالناس. وإذا مات الإمام الذي عقد الذمة أو الهدنة، وولى غيره - يجب على الثاني إمضاء-: ما فعل الأول، وإذا نقض أهل الذمة، أو أهل الهدنة العهد-: ارتفع عهدهم، وإذا نقض واحد من أهل الذمة العهد، أو بعضهم-: لا يكون نقضاً في حق الباقين. أما أهل الهدنة؛ إذا نقض واحدٌ منهم أو بعضهم العهد، وعلمه الآخرون، فلم يخالفوهم بقول ولا فعل، ولم يرسلوا إلى الإمام، وآووهم، ومكثوا على ما هم فيه-: ينتقض العهد في حق جميعهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وادع بني قريظة، فقصدوا جيش النبي - صلى الله عليه وسلم -فآواهم سيد بني قريظة وأعانهم بالسلاح، ولم يخالفه الآخرون، فجعل النبي -عليه السلام- ذلك نقضاً للعهد من الكل، فقتلهم، وسبى ذراريهم ونساءهم إلا ابني سعية: أسيداً، وثعلبة؛ فإنهما فارقاهم وأسلما.

وكذلك: دخل بنو خزاعة عام الحديبية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبنو بكر في عهد أهل مكة، فعدا بنو بكر على بني خزاعة، وأعانهم ثلاثة نفر من قريش، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك نقضاً للعهد في حق الكل بإيوائهم الثلاثة، وقصدهم عام الفتح. وإن نقض بعضهم العهد، وأنكر الباقون، فاعتزلوهم، أو أرسلوا إلى الإمام بذلك-: ينقض عهد من نقض، ولا ينتقض عهد من أنكر. وإن كان من لم ينقض مختلطاً بمن نقض-: أمر من لم ينقض بتسليم من نقض، إن قدروا بالتمييز عنهم، فإن لم يفعل هذين مع القدرة: انتقضت هدنتهم؛ لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب، والله - عز وجل- يقول: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، فإن لم يقدروا على ذلك-: لم ينتقض عهدهم. وإن أسر الإمام قوماً منهم، فادعوا أنهم ليسوا ممن نقض العهد، وأشكل على الإمام-: قُبِلَ قولهم؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهتهم، وإن ظهر منهم ما يخاف معه الخيانة-: لا ينتقض به عهدهم، ولكن يجوز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لقوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. وإن خاف من أهل الذمة خيانة-: لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن النظر فيعقد الذمة لهم؛ ولهذا: إذا طلبوا عقد الذمة-: وجبت الإجابة؛ فلم ينقض؛ لخوف الخيانة، والنظر فيعقد الهدنة لنا. وكذلك: إذا طلبوا الهدنة- كان النظر [فيه] على الإمام: فإن رأى عقدها-: عقد؛ وإلا لم يعقد؛ فكان النظر إليه في نقضها عند الخوف؛ وذلك لأن أهل الذمة في قبضته: فإن ظهر منهم خيانة-: أمكنه تداركها، وأهل الهدنة خارجون عن قبضته: فإذا ظهرت خيانتهم-: لم يمكن تدارها، فجاز نقضها بالخوف. أما إذا لم يظهر منهم ما يخاف معه الخيانة-: لم يجز نقضها؛ لأن الله عز وجل علق النبذ بخوف الخيانة هـ.

باب الحكم بين المهادنين قال الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. إذا تحاكم إلينا ذميان مختلفا الملة-: يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يرضى بحكم حاكم صاحبه، كما لو تحاكم إلينا مسلم وذمي-: يجب الحكم بينهما، وإن كان الذميان متفقي الملة-: هل يجب الحكم بينهما؟ فيه قولان قد ذكرناهما في كتاب "النكاح". وإن تحاكم إلينا معاهدان-: لا يجب أن نحكم بينهما؛ لأنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام. وقيل: فيه قولان؛ كالذميين. فإن قلنا: يجب الحكم، أو قلنا لا يجب فاختارا الحكم-: يجب أن يُحكم بحكم الإسلام، لا باعتقادهم؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. وإذا فعل الذمي ما هو جائز في دينهم غير جائز في دين الإسلام، مثل: شرب الخمر، وأكل الخنزير-: لا نتعرض لهم، إلا أن يظهروا ذلك: منعوا وعزروا، وإذا فعلوا ما حل في دين الإسلام، ولا يحل في دينهم، مثل: أكل الشحوم- لا يمنعون منه. وكل عقد نقرهم عليه إذا أسلموا: فإذا ترافعوا إلينا-: نقرهم عليه، وما لا نقرهم عليه إذا أسلموا: فإذا ترافعوا إلينا-: نبطله وإذا سرق الذمي مال ذمي أو مسلم أو معاهد-: يُقطع كالمسلم؛ لأنه التزم أحكام الإسلام؛ وكذلك: إذا زنى، يُحد. ثم إن قلنا: يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم-: يُقام عليه القطع والحد جبراً. وإن قلنا: لا يجب-: فلا يقام إلا برضاهم، سواء كان المسروق منه مسلماً أو ذمياً

وإن كان يجب الحكم بين المسلم والذمي بلا خلاف؛ لأن القطع حق الشرع لا حق المسروق منه. أما المستأمن: إذا زنى-: لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يلتزم أحكام المسلمين، وما يخص حق العباد، كالقصاص، وحد القذف-: يقام عليه. أما إذا سرق مال مسلم أو ذمي أو معاهد-: هل يقطع؟ فيه قولان: أصحهما: لا يُقطع؛ كما لا يحد للزنا. والثاني: يقطع، لأنه لصيانة المال؛ فيتعلق بحق الآدمي؛ كما يستوفي القصاص؛ لأنه لصيانة النفوس، وحد القذف؛ لأنه لصيانة العرض. وإذا أتلف مسلم مال ذمي أو معاهد-: يجب عليه الضمان، وإذا أتلفوا هم على مسلم- يجب عليهم الضمان، وإذا أتلف بعضهم على بعض، فترافعوا إلينا، وقلنا: يجب الحكم-: يلزمهم الضمان. وإذا أراق مسلم أو ذمي خمر ذمي، أو قتل له خنزيراً-: لا يجب الضمان؛ لأنه ليس بمال في دين الإسلام. وعند أبي حنيفة: يجب الضمان. وبالاتفاق: لو أتلف ذبيحة موسي-: لا يجب الضمان، وإن كان يعتقده مالاً؛ لأنه في دين الإسلام كالميتة والدم، ولو كسر لهم صليباً- نظر. إن كانت من ذهب أو فضة-: لا ضمان عليه، وإن كان من خشب، فإن حله-: لا يجب الضمان، وإن كسره - نظر: إن كان محلوله لا يصلح لشيء مباح-: فلا شيء عليه، وإن كان محلوله يصلح لشيء مباح-: يجب ما بين قيمته محلولاً ومكسوراً. وكذلك: الطنبور، والمزامير: إن حل أوتارها-: لا شيء عليه، وإن كسرها-: يضمن ما بين قيمتها محلولة ومكسورة، إن كان محلول الأوتار: يصلح لشيء مباح، ويجوز للذمي-: أن يقارض المسلم، ويكره للمسلم أن يقارض الذمي؛ لأنه يتصرف في الخمر والخنزير، وما لا يحل، غير أنه لا يرد.

ولو كان لمسلم على ذمي ذينٌ، فأداه-: لزم قبوله، إذا لم يعلم أنه ثمن محرم، فإذا علم أنه ثمن محرم؛ من خمر أو خنزير؛ بأن باعه بين يديه-: هل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر؛ لأنه مالٌ في اعتقادهم. والثاني- وهو الأصح؛ نص عليه-: أنه لا يجوز أن يقبل؛ لأنه حرامٌ في اعتقاد أهل الإسلام. ولو كان لذمي على ذمي دينٌ، فرهن به خمراً-: لا يتعرض له؛ كما لو باع الخمر: فإذا وضعوها عند مسلم-: لا يجوز للمسلم إمساكها. ولو كان لمسلم على ذمي دين، فرهن به خمراً-: لا يجوز، وإن شرط وضعها على يدي ذمي، ولو وكل مسلم ذمياً؛ ليشتري له خمراً أو يبيع-: لا يجوز؛ وكذلك: لو وكل ذمي مسلماً. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: إذا وكل مسلم ذمياً-: يجوز؛ لأن العقد يقع للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل. ولو اشترى كافرٌ عبداً مسلماً-: هل يصح أم لا؟ فيه قولان: أصحهما- وهو قوله الجديد-: لا يصح؛ لأن الرق ذُل؛ فلا يجوز إثباته للكافر على المسلم؛ كما لا ينكح الكافر المسلمة. وقال في القديم، وبه قال أبو حنيفة: يصح، ويباع عليه في الحال؛ لأن الاستدلال في الدوام، لا في الابتداء؛ بدليل: أنه يجوز أن يشتري أباه، وإن كان لا يجوز أن يستذله؛ لأنه لا يدوم عليه ملكه. وبالاتفاق: يرث الكافر العبد المسلم؛ وذلك: أنه إذا كان للكافر عبد كافر، فأسلم العبد-: لا يزول ملكه، ويباع عليه، فلو مات المالك قبل أن يباع عليه-: صار لوارثه، ويباع على الوارث، ولو أوصى للكافر بعبد مسلم، أو وهب له، فقبل-: هل يُملك؟ فعلى قولين؛ كالشراء. فإن قلنا بقوله الجديد: إنه لا يصح الشراء-: فالتفريع عليه: أنه لو اشترى قريبه المسلم الذي يعتق عليه، أو قال المسلم: أعتق عبدك المسلم عني، فأعتق، أو أقر بحرية عبدٍ مسلمٍ للغير، ثم اشتراه-: هل يصح أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لأن فيه إثبات الملك للكافر عليه. والثاني: يصح؛ لأنه يعتق في الحال؛ فلا يمكنه استذلاله. ولو اشترى الكافر عبداً مسلماً بشرط الإعتاق-: فهو كما لو اشتراه مطلقاً؛ لأنه لا يزول ملكه بعد الشراء، حتى يزيله بالعتق؛ كما لا يزول عمن اشتراه مطلقاً، حتى يباع عليه. ولو كان بين مسلم ومشرك عبدٌ مسلمٌ، فأعتق المشرك نصيبه، وهو موسر-: يسري، ويعتق عليه، سواء قلنا: تقع السراية بنفس الإعتاق، أو بأداء القيمة، لأنه يتقوم عيه شرعاً، لأنه باختياره، كالإرث. ولو وكل كافر مسلماً؛ ليشتري له عبداً مسلماً-: فلا يصح العقد؛ لأن العقد: إما أن يقع للموكل أو ينتقل إليه. ولو وكل ملم كافراً، ليشتري له عبداً مسلماً: إن قلنا: يقع الملك للموكل-: جاز. وإن قلنا: يقع للوكيل-: فلا. ولو اشترى كافر عبداً، فأسلم قبل القبض - هل ينفسخ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفسخ، كما لا يشتريه ابتداء. والثاني: لا ينفسخ؛ لأن المانع لم يقترن بالعقد؛ فالحاكم يأمر من يقبض عنه، ويبيع عنه. ولو اشترى مسلم من كافر عبداً مسلماً أو عبداً كافراً فأسلم عنده، ثم وجد به عيباً-: له الرد بالعيب. وإن كن قد اشتراه بثوب، فوجد الكافر بالثوب عيباً، فرده-: يجوز. وهل يسترد العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: تسترد قيمته؛ لأنه ابتداء تملك؛ فلا يجوز، كما لا يشتريه ابتداء. والثاني: يسترد العبد؛ لأنه ينبني على الملك السابق. ويجوز للكافر بيع العبد المسلم؛ بشرط الخيار؛ لأن الملك يزول في قول. وإن قلنا: لا يزول-: فقد عرضه للزوال، ثم إذا اختار الرد-: يجوز، وإذا باع مطلقاً-: ثبت لهم خيار المكان. ولو اشترى الكافر مصحفاً أو شيئاً من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قيل: فيه قولان؛ كشراء العبد المسلم.

والمذهب: أنه لا يصح قولاً واحداً؛ بخلاف العبد؛ لأن العبد يشتريه للعمل، والمصحف لا يشتريه إلا للاستهانة، وهو لا يعتقد ما فيه؛ ولأن العبد إذا استذله يمكنه الاستغاثة بالمسلمين؛ بخلاف المصحف. ولو رهن من مشرك عبدا ًمسلماً أو مصحفاً-: فقد قيل: لا يجوز، إذا لم نُجوز البيع. والمذهب: أنه يجوز مع الكراهية: لأنه لا يملكه؛ فلا يمكنه استذلاله، ويوضع على يدي مسلم عدل. ولو استأجر كافر مسلماً - نظر: إن ألزم ذمته عملاً-: جاز؛ لأنه يمكنه تحصيله بغيره، وإن استأجر عينه-: قبل حكمه، وحكم البيع، وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يملك عينه؛ فلا يمكنه أن يستعمله إلا فيما استأجره له. فإن جوزنا الإجارة: فلو استأجر مسلماً؛ لبناء كنيسة-: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حرامٌ، وإذا عمل-: لا يستحق الأجرة. والثاني: يصح، ويستحق الأجرة؛ لأن الكنيسة ما هي إلا بناء يسكنونه؛ كما لو استأجره لبناء دار. ولو أوصى ذمي ببناء بيعة، أو كنيسة، أو بدهن لسراج البيعة، أو بكتبة التوراة والإنجيل-: لا تصح وصيته؛ لأن كل ذلك حرامٌ، وما في أيديهم من الكتب مبدل، والله أعلم. تم الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن وأوله: "كتاب الصيد والذبائح"

التهذيب في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي المتوفي سنة 516 هـ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الثامن يحتوي على الكتب التالية الصيد والذبائح- الضحايا- الأطعمة- السبق والرمي- الأيمان أدب القاضي- الدعوى والبينات- العتق- التدبير- المكاتب عتق أمهات الأولاد صول الفحل- السير- الجزية منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت- لبنان

كتاب الصيد والذبائح

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصيد والذبائح قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. تحل ذبيحة المسلم العاقل، رجلاً كان أو امرأة، حراً أو عبداً، وكذلك: ما اصطاده بجارحته المعلمة، فقتله، وتحل ذبيحة اليهودي والنصراني؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. ولا تحل ذبيحة المجوسي والوثني والمرتد، ولا ذبيحة من دخل في دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، أو شككنا أنه دخل فيه بعد النسخ والتبديل أو قبله؛ مثل نصارى بني تغلب.

أما المتولد بين الكتابي والمجوسي، أو بين الكتابي والوثني- نظر: إن كان الأب وثنياً أو مجوسياً-: لا تحل ذبيحته، وإن كان الأب كتابياً-: فيه قولان: أحدهما: تحل؛ لأن النسب إلى الآباء. والثاني: لا تحل؛ لأنه اجتمع فيه من تحل ذبيحته، ومن لا تحل، فيغلب جانب التحريم؛ كالحيوان المتولد بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم: لا يحل أكله، سواء كان الأب غير مأكول أو الأم. وعند أبي حنيفة: أي الأبوين كان كتابياً-: تحل ذبيحته. وتحل ذبيحة الصبي الذي يعقل، وتكره ذكاة الأعمى؛ لأنه ربما يخطئ المذبح، فإن ذبح-: حل، وهل تحل ذبيحة المجنون والسكران؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة-: لا تحل؛ كالنائم: إذا كان بيده سكين، فانقلب على عنق حيوان، فقطعه. والثاني: تحل؛ لأن لهما قصداً؛ بخلاف النائم: إذا كان بيده سكين، ولم يفقد في حقهما إلا العلم؛ وذلك لا يوجب التحريم؛ كما لو قطع عنق شاة يظنها خشبة لينة، فإن كان للمجنون أدنى تمييز، وللسكران قصد-: يحل. أما الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة-: حلت ذبيحته؛ وإلا فكالمجنون.

ويستحب أن يسمي الله عز وجل على الذبيحة؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. فلو ترك التسمية عامداً أو ناسياً-: تحل؛ روي ذلك عن ابن عباس؛ وهو قول مالك.

وقال الشعبي، وابن سيرين؛ لا تحل؛ سواء تركها ناسياً أو عامداً. وقال الثوري وأبو حنيفة: إن تركها عامداً-: لا تحل، وإن تركها ناسياً-: تحل؛ واحتج بقوله عز وجل: {وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] والمراد من الآية عند من يشترطها: أن يذكر عليه اسم غير الله؛ بدليل أنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. والفسق في ذكر اسم غير الله، لا في ترك ذكر اسم الله؛ كما قال في آخر السورة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى أن قال: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. يدل على أن الناسي غير ذاكر، وحلت ذبيحته. والدليل على أن ترك التسمية لا تحرم الذبيحة: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إن هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك، يأتوننا بلحمان لا ندري: يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: "اذكروا أنتم اسم الله؛ وكلوا". ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة-: كان الشك في وجودها مانعاً من أكلها؛ كالشك في أصل الذبح ويجوز الذبح بكل محدد يجرح من حديد، أو نحاس أو صفر، أو حجر، أو

زجاج، أو قصب، أو خشب، إلا العظم؛ فإنه لو ذبح به-: لا يحل؛ لما روزي عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله: إنا لاقو العدو غداً، وليس معنا مدى؟ فقال: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه-: فكل ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبسش". ولا فرق بين أن يكون العظم عظم آدمي، أو عظم حيوان آخر متصلاً به أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: إن كان منفصلاً-: يحل. والذكاة قسمان. ذكاة المقدور عليه، وذكاة غير المقدور عليه. أما ذكاة المقدور عليه: فذكاته تكون بقطع الحلق واللبة، سواء كان الحيوان إنسياً توحش أو وحشياً استأنس، ولا يحصل إلا بقطع الحلقوم، والمريء، ويستحب قطع الودجين؛ لأنه أوحى للذبيحة. فإن اقتصر على قطع الحلقوم والمريء-: أجر؛ لأن الحلقوم مخرج النفس، والمرئ مجرى الطعام، ولا تبقى الروح بعد قطعهما. أما الودجان: فهما عرقان على صفحتي العنق؛ فلا يشترط قطعهما؛ لأنهما يسلان

من الحيوان، ويعيش، فلو ترك شيئاً من المريء أو الحلقوم، لم يقطعه-: لم يحل. وعند أصحاب الرأي: إذا قطع الأكثر-: حل، ثم هم مختلفون في الأكثر.

قال أبو حنيفة: يجب أن يقطع ثلاثاً من الأربع، وهن: الحلقوم، والمريء والودجان. وقال أبو يوسف: يجب أن يقطع المرئ والحلقوم، وإحدى الودجين. وقال محمد بن الحسن: إذا قطع الأكثر من كل واحد-: حل، فلو ذبحه، من جانب قفاه-: يعصي، ثم ينظر: إن أصاب السكين مريئه وحلقومه، وفيه حياة مستقرة-: حل، وإن لم يبق فيه إلا حركة المذبوح-: ولم تحل؛ وكذلك: لو أدخل السكين في أذن الثعلب؛ ليقطع حلقه في باطن الجلد: فإن أصاب السكين حلقه، والحياة فيه مستقرة، فقطه-: حل؛ وإلا فلا يحل. والسنة في الإبل: النحر، وهو: قطع اللبة أسفل العنق، وفي البقر والغنم: الذبح، وهو: قطع الحلق أعلى العنق؛ لأن عنق البعير طويل، فإذا قطع فيه أعلى العنق-: يتباطأ خروج روحه. فلو أنه ذبح الإبل، ونحر البقر والغنم-: جاز. وقال مالك: لو ذبح البعير، أو نحر الشاة-: لا يحل، وفي البقر: يتخير بينهما. أما غير المقدور عليه: كالصيد الممتنع: فجميع بدنه مذبح، إذا رمى إليه، أو أرسل كلباً عليه، فأي موضع من بدنه أصاب، ومات-: حل أكله، وكذلك الإنسي إذا توحش، بأن ند بعير، أو شاة، فلم يقدر عليها فرمى إليها، وقتلها، أو أرسل عليها كلباً، حتى قتلها-: حلت. وقال مالك- رحمه الله-: الإنسي إذا توحش-: فلا يحل إلا بقطع الحلقوم. والدليل عليه: ما روي عن رافع بن خديج قال: "أصبنا نهب إبل وغنم، فند منها بعير، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا". وكذلك: لو وقع بعير في بئر منكوساً، فلم يمكنه قطع حلقه، فطعن في خاصرته، أو في شيء من بدنه، فجرحه، فمات-: حل.

والآلة التي يصطاد بها قسمان: أحدهما: الآلات المحددة من السهام، وغيرها. والثاني: الجوارح من السباع من الفهد، والكلب وغيرهما، ومن الطيور كالبازي، والصقر، وغيرهما. أما الأول: إذا رمى إلى صيد بشيء محدد سوى العظم من سهم أو رمح، أو سكين، أو خشب محدد الطرف، أو مروة محددة فأصابه وجرحه بحده، فمات-: حل أكله. ولو رمى إليه بسهم لا نصل له، ولا رأسه محددة، قذفه فقتله، أو كان فيه نصل، ولكن أصابه ثقله [بحرفه]، أو أصابه النصل، ولم يجرحه، فمات-: لا يحل، كما لو رمى إليه بندقة، فقتله. روي عن عدي بن حاتم الطائي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عن صيد المعراض؟ فقال: "إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل؛ فإنه وقيذ. وكذلك: لو نصب أحبولة، وفيها حديدة، فوقع فيها صيد، فجرحته الحديدة، فقتلته-: لا يحل؛ لأنه مات بغير فعل من أحد، إنما هو تسبييب، ولا تحل الذبيحة بالقتل بالتسبيب. وكذلك: لو كان رأس الحبل بيده، فتعلق به الصيد فجره فمات-: لم يحل، ولو كان الصيد يعدو، وبيده محدد، فضربه-: يحل. أما الجوارح من السباع: إذا كانت معلمة، وأشلاه صاحبه على صيد، فأخذ الصيد، وجرحه بسنه أو مخلبه أو ظفره، فقتله-: حل أكله؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة: 4] وإن لم تجرحه الجارحة، فقتلته بالضغطة-: هل يحل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحل؛ كما لو مات بثقل السهم، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يحل؛ بخلاف السهم؛ لأن تعلم الرماية وتحديد نصل السهم إليه، وليس إليه تعليم الجارحة الجرح؛ فسقط حكمه.

ولو أرسل كلباً، وفي عنقه قلادة محددة، فجرحه بها-: حل؛ كما لو أرسل سهماً وكلباً، فأصاباه. أما الجارحة غير المعلمة؟ إذا أخذ صيداً، وقتله-: لا يكون حلالاً وإن خرجت بإرسال صاحبها، وكذلك المعلمة: إذا خرجت من غير إرسال، فقتلته-: لا يكون حلالاً. والتعلم: أن توجد فيه ثلاث شرائط: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر، وإذا أخذ الصيد أمسك ولم يأكل. وشرطه: أن توجد هذه المعاني فيه مكرراً، يغلب على القلب، أنه صار معلماً، وأقله ثلاث مرات، فإذا فعل ثلاث مرات، وغلب على القلب تعلمه؛ فما قتل في الرابعة تكون حلالاً، فإذا استقر تعلمه، وأحللنا صيده، فأكل بعد ذلك من صيد-: هل يحل أكل ذلك الصيد؟ نظر: إن شرب دمه-: يحل ولا يبطل به تعلمه؛ لأنه لم يتناول ما هو المقصود من الصيد، وإن أكل اللحم-: ففيه قولان: أصحهما-: وهو قول أكثر أهل العلم-: لا يحل؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وهذا لم يمسكه علينا. وروي عن عدي بن حاتم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أرسلت كلبك، وسميت، فامسك، وقتل-: فكل وإن أكل فلا تأكل؛ فإنما أمسك على نفسه"، ولأن عدم الأكل شرط الإباحة في الابتداء، كذلك في الاستدامة؛ كالإرسال من صاحبه، ولأن ترك الأكل دليل التعليم، فإذا أكل بان أنه نسي التعليم.

والثاني: يحل، لما روي عن أبي ثعلبة الخشني؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله-: فكل. قال: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، قال: وإن أكل قال: وإن أكل" ولأن أكله يحتمل أن يكون لفرط جوع، أو لتغيظ على الصيد، فلا يحمل على نسيان التعلم، والأصل: بقاؤه على التعليم. فإن قلنا: لا يحل أكله-: فلا يحرم ما اصطاده. وعند أبي حنيفة: يحرم. أما إذا أكل الحشوة-: فهل يحرم؟: قيل: فيه قولان؛ كاللحم. وقيل: لا يحرم؛ لأنه لم يأكل من المقصود، إنما أكل مما يلقى إليه؛ كما لو شرب الدم. أما جارحة الطير المعلمة إذا أكلت-: هل يحرم؟ ترتب على جارحة السباع: إن قلنا

ثم: لا يحرم-: [فههنا: أولى؛ وإلا فقولان: أحدهما: يحرم] كذلك. والثاني- وهو اختيار المزني- رحمه الله-: لا يحرم؛ لأن جارحة الطير تعلم بالطعم إذ لا يمكن ضربها، وجارحة السباع تعلم بترك الطعم، وتضرب عليه، فإذا أكل ترك ما هو شرط التعليم. ومن قال بالأول-: اجاب بأن الطائر يعلم بطعم يطعمه صاحبه، حتى لا يطعم ما يأخذه بنفسه: فإن قلنا: يحرم ما أكل منه-: فيحتاج إلى استئناف التعليم، وإن قلنا: لا يحرم: فإن تكرر ذلك؛ بأن أخذ ثانياً وأكل-: فالثاني حرام [بالاتفاق]، وهل يحرم الأول؟ فيه وجهان. وكذلك: لو لم يأكل من الثاني، وأكل من الثالث-: يحرم الثالث، وهل يحرم الثاني؟ فيه وجهان. وإذا عض الكلب الصيد-: فما عض الكلب من اللحم نجس، وهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان: أحدهما: يطهر إذا غسله سبعاً إحداهن بالتراب؛ كالإناء إذا نجس بالولوغ. والثاني: لا يطهر، بل يطرح ذلك الموضع؛ لأنه تشرب بلعابه؛ فلا يتخلله الماء. وكل ما لا تحل ذبحيته: فإذا أرسل سهماً، أو جارحة على صيد، فقتله-: لا يكون حلالاً. ولو رمى مسلم ومجوسي سهماً، أو أرسلا كلباً معاً، فقتل الصيد-: لا يحل؛ لأنه اشترك فيه من تحل ذبيحته ومن لا تحل؛ كما لو وضع مسلم ومجوسي سكيناً على عنق شاة، فأبانا رأسه-: لا يحل. ولو أرسلا سهمين، أو كلبين، أو طائرين- نظر: إن أصابته جارحة المسلم دون المجوسي-: حل، وإن أصابته جارحة المجوسي [دون المسلم]-: لم تحل، وإن أصابا جميعاً-: نظر:

إن أصابا جميعاً المذبح، أو أصابا غير المذبح-: لا يحل؛ لوقوع الاشتراك في الذبح. وكذلك: لو أرسل كلباً، وخرج كلب آخر معه من غير إرسال، فأصاباه-: لا يحل، وإن أصاب أحدهما المذبح- نظر: إن أصاب جارحة المسلم المذبح-: حل وجرح المجوسي بعده لا يضر؛ لأن الذبح بالأول قد تم؛ كما لو ذبح مسلم شاة، ثم قده مجوسي-: لا يحرم. وإن أصاب جارحة المجوسي المذبح-: لا تحل، وكذلك: لو لم يدر أي الجارحتين أصابت المذبح-: لا تحل؛ تغليباً لجهة التحريم. ولو حبس كلب المجوسي الصيد، حتى أخذ كلب المسلم، فقتله-: حل؛ لأن القتل حصل من كلب المسلم. ولو اصطاد مسلم بكلب مجوسي-: حل، ولو اصطاد مجوسي بكلب مسلم-: لا يحل؛ لأن الاعتبار بالمرسل؛ فإنه الصياد والذابح. ولو أرسل سهماً أو كلباً على صيد، فأصابه، فغاب عنه، ثم وجده ميتاً- نظر: إن أصابت الجارحة مذبحه-: حل؛ لأن الذبح قد حصل قبل الغيبة، وإن لم يصب مذبحه- نظر: إن وجده في ماء، أو وجد فيه سهم غيره، أو جراحة غير جراحته-: لم يحل. وإن لم يكن عليه إلا أثر جرحه-: اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه قولان: أصحهما: يحل، لما روي عن أبي ثعلبة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رميت سهمك، فغاب عنك، فأدركته-: فكل ما لم ينتن. وعن أبي ثعلبة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: "فكله ما لم ينتن.

وعن عدي بن حاتم، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- بمعناه، وقال: "كله إلا أن تجده وقع في ماء". والقول الثاني: لا يحل؛ وهو قول ابن عباس، قال: "كل ما أصميت، ودع ما أنميت" ما أصميت: ما قتلته، وأنت تراه، وما أنميت: ما غاب عنك مقتله. ومن أصحابنا من قال: يحل قولاً واحداً؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قد قال: لا يحل إلا أن يكون خبر، وقد ثبت الخبر أنه أمر بأكله. وعند أبي حنيفة أنه إذا اقتفى أثره في الحال، ولم يشغل بشيء آخر، فوجده ميتاً-: حل؛ وإلا فلا. أما إذا اتبعه، ولم يغب عن بصره، حتى مات-: حل قولاً واحداً. ولو أرسل سهماً أو كلباً على صيد، فأصابه، وأدركه صاحبه حياً- نظر: إن أدركه، والحياة فيه غير مستقرة؛ بأن صار إلى عيش المذبوح، وتركه حتى مات-: حل. ويستحب: أن يمر السكين على حلقه، فيذبحه. وإن كانت الحياة فيه مستقرة-: يجب أن يذبحه، فإن انشغل بذبحه [من أخذ الآلة، وسل السكين، ونحوه، فقبل إن أمكنه مات-: حل، وإن لم يذبحه] مع الإمكان، أو اشتغل بطلب سكين أو بتحديده، أو تعلق سكينه بالغمد، فمات-: لم يحل. والإسراع ليس بشرط؛ ليدركه حياً حتى لو كان يمشي على هينته، فأدركه ميتاً-: حل، وإن كان لو أسرع أدركه حياً. ولو رمى سهماً إلى هدف أو إلى ذئب أو خنزير، أو رمى على التبخيت، فأصاب صيداً-: لم يحل، سواء كان يرى الصيد أو لا يراه، لأنه لم يقصد الصيد، وكذلك في إرسال الكلب. وقيل: إذا رمى سهماً على التبخيت، فأصاب صيداً، وهو لا يرى] صيداً-: يحل؛ بخلاف الكلب؛ قاله أبو إسحاق؛ كما لو قطع عنق شاة ظنها خشبة لينة. وكذلك: لو كان في يده سكين، فوقعت على حلق شاة، فقتله-: حل؛ على قول أبي إسحاق. والأول المذهب: أنه لا يحل.

ولو رمى إلى صيد يراه، فأصاب غيره، فقتله: إن كان يرى الثاني حالة الإرسال-: حل. وقال مالك: لا يحل. وبالاتفاق: لو أرسل سهماً، أو كلباً على جماعة من الظباء، أو الطيور، ولم يعين واحداً منها، فأصاب واحداً-: حل؛ لأنه رأى الصيد وقصده. وكذلك: لو أرسل كلباً على صيد معين، فأخذ غيره، وهو يراه، وقتله-: حل؛ كما في الرمي بالسهم. وقيل في الكلب، إذا أخذ صيداً آخر: لا يحل؛ لأن للكلب فيه اختيارً، فلعله أخذ ذلك الصيد باختياره لا بقصد صاحبه. والأول أصح. هذا إذا كان الصيد الذي أخذه في الجهة التي أرسله صاحبه فيها، فإن عدل إلى جهة أخرى، فأخذ صيداً غيره-: ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يحل؛ لأنه عدل عن جهة الإرسال باختياره، فصار كما لو استرسل بنفسه. والثاني: يحل؛ لأن الكلب لا يمكن منعه عن العدول في طلب الصيد. أما إذا أرسل سهماً أو كلباً على صيد يراه، فأصاب صيداً آخر لا يراه المرسل حالة الإرسال-: هل يحل؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأنه قصد صيداً يراه. والثاني: لا يحل؛ لأن الذي أصابه كان لا يراه؛ كما لو رمى سهماً، وهو لا يرى صيدا، فأصاب صيداً-: لا يحل. ولو رمى إلى صيد يراه، فحاد السهم عن سنن الصيد، وردته الريح، فأصابه، أو كان الرمي ضعيفاً لا يبلغ الصيد، فقوته الريح، وبلغته-: حل لأنه لا يمكن حفظ الرمي عن الريح، فعفى عنه. وكذلك لو أصاب السهم حجراً، فنبا عنه، وأصاب الصيد، أو أصاب شجراً، فقطعه، ونفذ منه إلى الصيد، أو أصاب الأرض، فازدلف، فأصاب الصيد-: حل.

وكذلك: لو كان يرى صيدين، فرمى إلى أحدهما، فأصابه، ونفذ منه إلى الثاني، أو أرسل كلباً على صيد، فأخذه، ثم تبع آخر، فقتله-: حلاً جميعاً. وإن كان لا يرى الثاني-: هل يحل الثاني؟ فيه وجهان. ولو أن الأعمى دله بصير، وقال: من هذا الجانب صيد فارم إليه، فرمى فأصابه: المذهب: أنه لا يحل؛ لأنه لا يرى الصيد؛ فلا يتحقق قصده؛ كما لو رمى في ظلمة الليل إلى جانب، على ظن أن فيه صيداً، فأصاب صيداً. وقيل: يحل في الأعمى؛ لأنه فعله بدلالة بصير؛ كما لو دله على القبلة. والأول المذهب؛ بخلاف القبلة؛ لأن التوجه إلى القبلة يسقط عنه بالأعذار، وعند الاشتباه: يجوز له الاجتهاد، وتصح صلاته، وإن لم يتيقن القبلة؛ بخلاف الصيد. ولو رمى إلى شخص ظنه حجراً، أو ربوة، فأصابه، فإذا هو صيد المذهب؛ أنه يحل؛ نص عليه؛ كما لو أخطأ بشاة فذبحها لا يريدها؛ بأن كانت له شاتان: هزيلة وسمينة، ظن أنه يذبح السمينة، فإذا هي الهزيلة-: حل. وقيل: لا يحل؛ لأنه لم يقصد الصيد. والأول المذهب. وكذلك: لو قطع عنق شاة ظنها خشبة لينة، أو وضع سكيناً على موضع يحسبه جداراً، فإذا هو حلق شاة-: [يحل]. وكذلك: لو رمى إلى حيوان ظنه خنزيراً، أو حيواناً، غير مأكول، فأصابه، فإذا هو صيد مأكول. أما إذا أرسل كلباً على شخص ظنه حجراً أو خنزيراً، فبان صيداً-: ففيه وجهان: أحدهما: يحل؛ كما في رمي السهم، وهو الصحيح. والثاني: لا يحل؛ بخلاف السهم؛ لأن للكلب اختياراً. أما إذا أرسل على شخص يظنه حجراً أو خنزيراً، فلم يصبه، وأصاب صيداً آخر، وبان أن الذي قصده صيد-: هل يحل هذا الثاني؟ أما في إرسال الكلب-: فلا يحل، وفي السهم وجهان: الأصح: لا يحل؛ لأنه لم يصب ما قصده، وهو لم يقصد بإرساله الصيد.

قال الشيخ- رحمه الله-: ولو رمى إلى شخص ظنه صيداً، فأصاب السهم صيداً، وبان أن المرمى إليه حجر أو خنزير: إن اعتبرنا الظن في المسألة الأولى حتى قلنا: لا يحل-: فههنا: يحل؛ لأنه ظنه صيداً، وإن اعتبرنا الحقيقة-: فلا يحل. ولو وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن في الأول، ومات الثاني بثقله-: حل الأول، ولم يحل الثاني. ولو نفذ الطعنة إلى الثاني- نظر: إن كان عالماً به-: حلاً جميعاً، وإن كان جاهلاً-: فوجهان: الأصح: يحل. ولو قصدته دابة، فرمى إليها، فقتلها-: هل تحل؟ فيه وجهان؛ كما لو ظنه ربوة، فبان صيداً، ولو جرح الكلب من غير إرسال صاحبه، فزجره صاحبه، فانزجر، ثم أشلاه، فخرج وأخذ الصيد، وقتله-: حل. وإن لم يزجره، أو زجره، فلم ينزجر، فأشلاه- نظر. إن لم يزد حمواً بإشلائه-: فلا يحل ما قتله. وإن زاد حمواً-: ففيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأنه أحد فعلاً غير الأول؛ فانقطع حكم الأول. والثاني: لا يحل؛ لأنه وقع الاشتراك من استرساله بنفسه وبين إرسال مالكه؛ كما لو اشترك مسلم ومجوسي في الإرسال. وعلى هذا: لو أرسل مجوسي كلباً، ثم أشلاه مسلم: إن لم يزدحموا-: لا يحل، وإن زاد حمواً-: فعلى وجهين: أحدهما: يحل، ويتقطع حكم الأول. والثاني: لا يحل؛ للاشتراك. ولو أرسل مسلم كلباً، ثم أشلاه مجوسي: إن لم يزدحموا-: حل، وإن زاد-: فلا يحل؛ لأن زيادة الحمو: إما أن تقطع حكم الأول، أو توقع الاشتراك، وأيهما كان-: فلا يحل. ولو رمى إلى صيد، فقده بنصفين-: يحل الكل، سواء كان أحد النصفين أكثر أو كانا سواء.

وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: إن كانا سواءً-: حل الكل، وإن كان أحد النصفين أكثر-: قال: إن كان الرأس مع الأصغر-: حل الكل، وإن كان مع الأكبر-: حل الأكبر، ولا يحل الأصغر. ولو رمى إليه فأبان عضواً منه من يد أو رجل أو أذن- نظر: إن مات في الحال-: حل الكل، وإن بقي حياً بعد إبانة العضو- نظر. إن أدركه حياً، فذبحه، أو رماه ثانياً، فمات بعد الرمية الثانية-: حل الأصل، ولا يحل العضو المبان. وإن مات بعد ساعة قبل أن يتمكن من ذبحه بتلك الرمية-: يحل الأصل، وهل يحل العضو المبان؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأن هذا الجرح ذبح للأصل فكذلك العضو. والثاني: لا يحل؛ لأنه عضو بين من حي؛ كما لو قطع آلية شاة، ثم ذبحها: لا تحل الآلية. ولو رمى إلى صيد في الهواء، فسقط على الأرض، ومات-: حل، سواء مات في الهواء، أو مات بعدما أصاب الأرض، أو لم يدر أنه مات في جرحه، أو من إصابة الأرض، لأن الوقوع من ضرورته. ولو وقع في ماء أو على شيء محدد من قصب، أو حجر، أو سكين-: لم يحل؛ لأنه لم يدر أنه مات من رميه، أو مما وقع عليه. ولو وقع على سطح أو جبل أو شجر- نظر: إن ثبت عليه-: حل، وإن وقع عليه، ثم سقط منه على الأرض-: لم يحل؛ لأنه يشبه المتردية. وكذلك: لو رمى إلى طير واقع على شجر، فأصابه، فسقط على الأرض دفعة واحدة-: حل. وإن سقط على غصن آخر، ثم منه على الأرض-: لم يحل. وإن وقع [من الهواء] في بئر: فإن لم يكن فيها ماء-: حل؛ لأن قعر البئر أرضه، وإن كان فيها ماء-: لم يحل، وإن رمى إليه على الأرض، فأصابه السهم فاستن قليلاً-: حل ولو رمى إلى طير الماء- نظر:

إن كان على وجه الماء، فأصابه فمات-: حل؛ لأن الماء أرضه، وإن كان خارج الماء، فطار في الماء [بعد ما أصابه السهم-: لم يحل. وإن كان يطير في هواء البحر، فوقع في الماء] نظر: إن كان الرامي في البر-: لم يحل، وإغن كان في السفينة في البحر-: حل. هذا كله، إذا لم يصب السهم مذبحه. فأما إذا أصاب مذبحه-: حل بكل حال، سواء وقع في الماء أو على جبل، فتدحرج منه؛ لأن الذبح قد حصل بإصابة المذبح. ولو جرح السبع صيداً، أو شق بطن شاة، أو هرة جرحت حمامة، فأدركها صاحبها [حية] فذبحها-: نظر: إن لم تكن الحياة فيها مستقرة بأن صارت إلى حالة المذبوح بجرح السبع-: لا يحل، وإن كانت الحياة فيها مستقرة: فإن كان يتحقق أنه يموت من تلك الجراحة: فإذا ذبحها: حلت؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وهذا بخلاف الشاة، إذا مرضت، ف صارت إلى أدنى الرمق، فذبحت-: حلت؛ لأنه لم يوجد سبب: يحال بالقتل عليه. ولو أكلت الشاة الشث، فصارت به إلى أدنى الرمق، بحيث لا تكون الحياة فيها مستقرة، فذبحت-: ذكر شيخي- رحمه الله-: فيه وجهين: ثم قطع في كرة أنه لا يحل؛ لأنا وجدنا شيئاً نحيل بالموت عليه؛ كما لو صار إلى هذه الحالة بجرح السبع. ولو ذبح حيوان مأكول، فخرج من بطنها جنين ميت-: حل أكل ذلك الجنين، أشعر أو لم يشعر، وكذلك: لو كان فيه أدنى حياة، ومات في الحال، لما روي عن أبي سعيد قال: "قلنا: يا رسول الله، إنا ننحر الإبل، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: "كلوه، إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه" وهذا قول جماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يحل أكل الجنين، إلا أن يخرج حياً، فيذبح.

أما إذا خرج الجنين حياً والحياة فيه مستقرة-: فلا يحل إلا بالذبح، ولو خرج بعض الجنين ميتاً، فذبحت الأم قبل انفصال الجنين-: حل الجنين، وإن خرج رأسه، والحياة فيه مستقرة-: فلا يحل بذبح الأم؛ لأنه مقدور على ذبحه. وقال الشيخ القفال: يحل؛ لأن خروج بعض الولد كعدم الخروج؛ بدليل أن عدة الحامل لا تنقضي بخروج بعض الولد. فصل: فيما يملك به الصيد إذا أخذ صيداً بيده، أو نصب شبكة، فتعلق بها صيد، أو أرسل عليه كلباً، فأخذه-: ملكه، وكذلك: لو رمى إليه، فأزمنه بأن كانت دابة أعجزها عن العدو، أو كان طائراً أعجزه عن الطيران، وعن العدو-: ملكه، فإن كان بعد إذهاب طيرانه، يفوت بعدوه-: لا يملكه، حتى لو دخل دار إنسان، فأخذه مالك الدار-: كان لمالك الدار، فإن فوت شدة عدوه، بحيث لا يفوته-: ملكه. والقصد لا يعتبر في تملك الصيد، حتى لو أخذ صيداً؛ لينظر إليه-: ملكه. قال الشيخ- رحمه الله-: هذا إذا أخذ بيده، أما إذا وقع في ملكه-: فلا بد من قصد، حتى لو وقع صيد في ملكه- لا يملكه، فإن رد الباب؛ لكيلا يخرج-: ملكه. ولو حفر حفرة لا للصيد، فوقع فيها صيد-: لا يملكه، فإن حفر للصيد-: يملك. ولو كان له حوض على شط نهر، فدخله السمك: فإن كان الحوض صغيراً لا يمكنه العود إلى النهر-: فقد ملكه. وإن كان يمكنه العود، أو كان الماء جارياً يمكنه الخروج-: لا يملك. فإن أرسل فيه شبكة، حتى يخرج الماء، ويبقى السمك-: يملك. قال الشيخ- رحمه الله-: إن كان الحوض صغيراً؛ إنما يملك، إذا كان اتخذه لاصطياد السمك، فإن لم يتخذه لذلك-: فلا يملك؛ كما لو أفرخ طائر في ملكه-: لا يملك الفرخ، فإن أخذه ورده إلى مكانه- ملكه. وقيل يملكه قبل الأخذ. وكذلك السمك يدخل حوضه. ولو اصطاد سمكة، فوجد في بطنها درة غير مثقوبة-: فهي له؛ لأنها طعامه، فإن

كانت مثقوبة-: فهي لقطة، ولو اشترى سمكة، فوجد في بطنها درة غير مثقوبة]-: فهي للمشتري، وإن كانت مثقوبة-: فللبائع إن ادعاها. ولو اخذ صيداً، فأفلت من يده-: لا يزول ملكه، وكل من أخذه-: عليه رده. وعند مالك: يحل لكل من أخذه. ولو خلاه مالكه-: هل يزول ملكه؟ فيه وجهان: أحدهما: يزول؛ كما لو أعتق عبده. والثاني- وهو الأصح-: لا يزول ملكه كما لو كانت له بهيمة فسيبها، ولا يجوز أن يفعل ذلك؛ لأنه يشبه السائبة التي كان أهل الجاهلية يفعلونها، فحرمها الله، عز وجل. فلو أرسل الصيد، وقال: أبحت لكل من أخذه حل [أكله] لكل من أخذه، وإن لم يقله-: فلا يحل. ولو انتقلت حمامة من برج مالكها إلى برج آخر-: لا يملكها المنتقل إليه، فإن كان ذكر أو سفد-: فالبيضة والفرج لمالك الأنثى، فإن اختلطت بحمامة-: حمامة له أن يأكل منها بالاجتهاد واحدة واحدة، حتى يبقى واحدة، كما لو اختلطت تمرة للغير بتمره. ولو غصب رجل سهماً، فاصطاد به: كان الصيد للغاصب. وكذلك: لو غصب شبكة، فنصبها، فتعلق بها صيد-: كان للغاصب، وعليه أجر مثل السهم، والشبكة للمالك. ولو غصب كلباً أو جارحة، واصطاد بها-: فالصيد لمن يكون؟ فيه وجهان: أصحهما: يكون للغاصب؛ كالسهم يصطاد به. والثاني: يكون للمالك؛ لأن للجارحة اختياراً؛ كما لو غصب عبداً صغيراً، أو أعجمياً، فاحتطب أو احتش بأمره-: كان للمالك العبد. فإن قلنا: الصيد للغاصب-: فعليه أجر مثل الجارحة، وإن كان كلباً-: فعلى وجهين؛ بناءً على جواز إجارته. وإن قلنا: الصيد للمالك-: فهل يجب على الغاصب أجر مثل الجارحة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النفع عاد إليه. والثاني: يجب؛ لأنه استعمل ملك الغير بغير إذنه؛ كما لو غصب عبداً، فاحتطب-:

كان للمالك، وعلى الغاصب أجر مثله. وقيل: في العبد لا يجب أجر المثل، إذا دفعنا كسبه إليه. وعلى هذا: لو غصب مسلم جارحة مجوسي، فاصطاد بها-: كان حلالاً، وحكم الصيد على ما ذكرنا، وإن غصب مجوسي جارحة مسلم، فاصطاد بها-: فالصيد حرام. ثم إن قلنا: الصيد للغاصب-: يجب على المجوسي أجر مثل الجارحة. وإن قلنا: للمالك-: فيجب على المجوسي قيمة الصيد للمالك؛ لأنه صار ميتاً بفعله، وهل يجب أجر المثل؟ فيه وجهان. فصل: فيما لو رمى إلى صيد فأزمنه إذا رمى إلى صيد فأزمنه، ثم رمى إليه ثانياً، فأصابه-: نظر: إن أصاب الثاني مذبحه-: كان حلالاً، وإن أصاب الثاني غير مذبحه، فقتله-: فهو حرام؛ لأنه صار مقدوراً على ذبحه بالإزمان، فتكون ذكاته بقطع الحلق واللبة. ولو رمى رجل إلى صيد، فأزمنه، ثم رمى إليه رجل آخر- نظر: إن أصاب الثاني مذبحه-: فالصيد حلال، وهو للأول؛ لأنه ملكه بالإزمان، ويجب على الثاني للأول ما بين قيمته مزمناً ومذبوحاً، وإن لم يصب الثاني مذبحه، لكن أجهز قتله-: فالصيد حرام وعلى الثاني للأول قيمته مزمناً، وإن لم يجهر الثاني قتله، بل جرحه، وتعاونت الجراحتان على الموت-: فالصيد حرام، وماذا يجب على الثاني للأول؟ فيه طريقان: أحدهما: حكمه حكم ما لو جرح رجل عبده أو حماره، ثم جاء رجل آخر فجرحه، فمات منهما، لأن جراحة السيد غير مضمونة، وجراحة الأجنبي مضمونة؛ كما أن ههنا جرح الأول غير مضمون، وجرح الثاني مضمون، ونذكر أولاً حكم أجنبيين جرحاً عبد إنسان، أو دابة إنسان؛ فمات بسرايتهما، ماذا يجب على كل واحد منهما؟ [فههنا: يسقط أحدهما، ونوجب على الثاني ما أوجبنا على الآخر، فنقول: إذا جرح أجنبيان عبد إنسان أو دابته؛ فمات منهما، ماذا يجب على كل واحد [منهما] فيه خمسة أوجه: أحدها: وهو قول المزني: يجب على كل واحد] أرش جراحته، ثم ما بقي من قيمته مجروحاً جرحين: ينصف بينهما، مثل: إن كانت قيمته عشرة دنانير: ينقص بجراحة

كل واحد دينار، يجب على كل واحد دينار، بقي ثمانية؛ يجب على كل واحد أربعة. وإن كان أرش جراحة أحدهما دينارً، وأرش جراحة الآخر ثلاثة-: فعلى هذا دينار، وعلى ذلك ثلاثة؛ بقي سنة؛ فعلى كل واحد ثلاثة. ففي الصيد قيمته عشرة دراهم؛ عادت بجرح الأول إلى تسعة، وبجرح الثاني إلى ثمانية، فعلى الثاني خمسة دراهم: درهم لأرش الجراحة، وأربعة أخرى نصف قيمته مجروحاً جرحين، ويدخل على هذا أنا أوجبنا على الثاني مثل ما أوجبنا على الأول، وجراحة الثاني صادفت عبداً مجروحاً ناقصاً؛ ولأن فيه إفراد أرش الجراحة عن بدل النفس بعدما صارت الجراحة نفساً. والوجه الثاني- وهو قول صاحب "التقريب"-: أن على الأول أرش جراحته، ثم ما بقي من قيمته ينصف بينهما. بيانه: أرش جراحة الأول دينار؛ بقي من قيمته تسعة؛ ينصف بينهما؛ فعلى الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني أربعة ونصف. وإنما لم نفرد أرش جناية الثاني؛ لأن الأول بعد أرش جنايته: بقيت سراية جنايته، فقابل جرح الثاني فيستويان. ففي الصيد: يجب على الثاني أربعة دراهم ونصف، ويدخل على هذا بعض ما دخل على الأول، وهو أن فيه إفراد أرش جراحة الأول بعد ما صارت الجراحة نفساً. والوجه الثالث: يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جرحه. بيانه: قيمته عشرة، فعادت بجرحه إلى تسعة، ثم جرح الثاني-: يجب على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف. ففي الصيد: يجب على الثاني أربعة دراهم ونصف، ويدخل عليه ما لو أتلف عليه عبد قيمته عشرة، ولم يصل إليه من قيمته إلا تسعة ونصف. والوجه الرابع- قاله ابن خيران-: هذه العشرة التي هي قيمته-: توزع على قيمته يوم جرح الأول، وهي عشرة، وعلى قيمته يوم جرح الثاني، وهي تسعة. فنجعل العشرة التي هي قيمته تسعة عشر جزءاً: عشرة منها على الأول، وتسعة على الثاني، فلا يدخل على هذا الوجه شيء مما ذكرناه؛ لأنه ليس فيه إفراد أرش الجراحة عن بدل النفس، ولا نقصان عن قيمة العبد. والوجه الخامس- اختاره الشيخ القفال-: قال: يجب على كل واحد منهما نصف أرش جراحته، ثم باقي قيمته مجروحاً جرحين: ينصف بينهما.

وإنما قلنا: يجب نصف أرش الجراحة؛ لأن ضمان الطرف إنما يدخل كله في ضمان النفس، إذا كان كل بدل النفس مضموناً عليه. وههنا: نصف بدل النفس عليه، والنصف على غيره، فيدخل فيه نصف أرش جراحته. بيانه: قيمته عشرة انتقص بجرح الأول من قيمته دينار، ويجرح الثاني دينار؛ فيجب على كل واحد نصف دينار، ثم ينصف الباقي- وهو ثمانية بينهما، ويكون على كل واحد أربعة ونصف. ففي الصيد: يجب على الثاني أربعة دراهم ونصف؛ فلم يصل إلى المالك إلا تسعة؛ ويجوز ذلك، وإن كانت قيمته عشرة؛ لأن الجراحات إذا توالت على شخص تارة: توجب زيادة في القيمة، وتارة: توجب نقصاناً؛ مثل: إن قطع يد عبد قيمته ألف، فعادت قيمته إلى مائتين، ثم جاء آخر وقتله، فعلى القاطع خمسمائة، وعلى القاتل مائتان، فكانت قيمة العبد ألفاً، ولم يصل إلى المالك إلا سبعمائة. ومن قال بهذه الطريقة لا يفصل بين أن يدركه مالكه حياً، فأمكنه ذبحه، فلم يذبح، وبين ألا يدركه. والطريقة الثانية: لا يجعل هذا كالجناية على العبد؛ لأن تلك الجناية جراحة مفسدة، وجرح الصيد للاصطياد والاكتساب، بل ينظر في المزمن الأول: إن لم يدركه حياً، ولم يتمكن من ذبحه-: يجب على الثاني قيمته مزمناً للأول؛ كما لو أجهز قتله، وإن أدركه حياً، وأمكنه أن يذبح، فلم يذبح، ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء على الثاني إلا أرش جراحته؛ لأن التفريط من الأول يترك الذبح. والثاني: هو كما لو لم يتمكن من الذبح، فعلى الثاني قيمته مزمناً؛ كما لو جرح شاة لرجل، فماتت-: يجب عليه تمام قيمتها، وإن ترك المالك ذبحها معتالإمكان. وأما إذا رمى إلى صيد، فأصابه، ولم يزمنه، ورمى إليه آخر، فجرحه، وأزمنه-: فالصيد للثاني، ولا شيء على الأول بسبب جرحه؛ لأنه حين جرحه كان مباحاً، فلو رمى إليه الأول بعدما أزمنه الثاني، وجرحه- نظر: إن أصاب مذبحه-: فهو حلال، وهو للثاني، وعلى الأول ما بين قيمته مزمناً ومذبوحاً.

وإن لم يصب الأول مذبحه- نظر: إن أجهز قتله-: فهو حرام، وعلى الأول- للثاني قيمته مزمناً، وإن لم يجهر قتله، ولكن تغاونت الجراحات على قتله-: فالصيد حرام وماذا يجب على الأول للثاني؟ فيه وجهان: أحدهما: ثلث قيمته زمناً؛ لأن الموت حصل بثلاث جراحات، واحدة منها مضمونة. والثاني- قاله الشيخ القفال-: لا يجب على الأول إلا ربع قيمته، لأن الجناة إذا تعددوا يوزع الأرش على عدد رؤوسهم، ثم ما يخص كل واحد منهم يوزع على أحواله؛ فيجب ما يقابل حالة الضمان، ويسقط ما يقابل حالة الهدر؛ كما لو جرح رجلان مرتداً، فأسلم، ثم جرحه أحدهما، ومات من الكل؟ يجب على الجارح في الإسيلام ربع الدية. ولو رمى رجلان سهماً إلى صيد، فأصاباه معاً، وقتلاه-: فالصيد حلال، وهو بينهما. قال الشيخ القفال: سواء أصابا المذبح، أو غير المذبح، أو أصاب أحدهما المذبح. وكذلك قال: لو جرح رجلان رجلاً معاً، فمات-: عليهما القود، أو الدية، وإن أصاب أحدهما المقتل دون الآخر، ولو أصابه أحدهما، ولم يزمنه، ثم أصابه الآخر، فأزمنه، فلو تفردت الرمية الثانية لم تكن تزمنه-: فالصيد لمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون بينهما؛ لأن الامتناع زال بفعلهما. والثاني: وهو الأصح-: يكون للثاني؛ لأن الملك يحصل بزوال الامتناع، وحصل ذلك عقيب فعل الثاني، وكان الأول كالمعين له، فهو كمن أرسل كلباً على صيد، فصرف رجل الصيد إلى الكلب، أو ضيق طريقه حتى أخذه الكلب-: كان الصيد للمرسل. ولو ادعى السابق اني كنت أزمنت، وأنكر الآخر-: فالقول قول الثاني مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه على الامتناع. ولو أصاب أحدهما عقيب الآخر، وأحدهما مزمن، والآخر أصاب المذبح، ولم يدر أيهما سبق-: فالصيد حلال. فإذا اختلفا فقال كل واحد: أنا أزمنته؛ فالصيد لي-: يتحالفان، ثم الصيد يكون بينهما، ولا شيء لأحدهما على الآخر. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر-: فالصيد للحالف، وعلى الناكل ما بين قيمته مزمناً ومذبوحاً. وإن كان أحدهما مزمناً، والآخر مجهزاً لم يصب المذبح، وشككنا في السابق-:

فالصيد حرام؛ لاحتمال أن المزمن هو السابق، فإذا اختلفا، فقال كل واحد: أنا أزمنته؛ فعليك قيمته-: تحالفا، ولا شيء لأحدهما على الآخر، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر-: فعلى الناكل قيمته مزمناً للحالف، ولو تينقنا أن المجهز سابق-: فالصيد حلال. فإذا اختلفا، فقال كل واحد: أنا أجهزته؛ فهو لي-: تحالفا، والصيد بينهما، فإن حلف أحدهما-: كان الصيد للحالف. وإن دخل اللحم نقص برمي الثاني-: فعليه ضمان ما نقص. ولو قال أحدهما: أنا أزمنت أولاً، ثم أنت أجهزته؛ فعليك قيمته مزمناً، وقال الآخر: بل أنا أزمنته أولاً، ثم أنت أجهزته؛ فالصيد لي-: فالصيد حرام على الأول. وهل يحل للثاني؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأنه مقر بحله. والثاني: لا يحل؛ لأن قوله يعارضه قول الأول؛ وهذا بناءً على ما لو غاب الصيد بعد الجرح، فوجده ميتاً، ويحلف الثاني على نفي الضمان. فصل في صيد البحر قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان؛ الميتتان؛ الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال".

الحيوانات على ثلاثة أقسام: قسم يعيش في البر، ولا يعيش في البحر، إلا عيش المذبوح-: فلا يحل ميت شيء منها، إلا الجراد: فإنه تحل ميتته. وما سواه ينقسم: إلى ما تحل ذكاته، وما لا تحل؛ على ما سنبين، إن شاء الله تعالى. وقسم يعيش في البر والبحر معاً؛ كالضفدع، والسرطان والحية والتمساح-: فلا يحل شيء منها لا ميتاً ولا ذكياً، وقال الحليمي: يحل السرطان [إذا ذبح]. ومنها: ما يعيش في البحر، ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح-: فهو قسمان: سمك وغيره فلا يحل شيء منها إلا السمك يحل ميته، سواء مات بسبب، أو غير سبب، طفا عنه الماء، أو رسب في قعره، حتى لو ذبح حيوان، فخرجت من بطنه سمكة ميتة غير متغيرة-: يحل أكلها، وإن كانت متغيرة-: فهو روث لا يحل. وقال أبو حنيفة: لا يحل السمك الطافي. وحقيقة الخلاف: أن عندهم إنما يحل السمك إذا مات بسبب من ضغطة، أو وقوع على حجر، أو انحسار ماء: فإن مات بلا سبب-: فلا يحل، حتى قال: لو مات، ونصفه خارج من الماء: فإن كان راسه خارجاً-: حل؛ لأنه مات بانقطاع النفس، وإن كان النصف الأسفل خارجاً-: فلا يحل والحديث حجة عليه؛ وروي عن أبي أيوب أنه أكل سمكاً طافياً". ولو اصطاد مجوسي سمكة-: تكون حلالاً. ولو ذبحت السمكة-: يكره، فإن تباطأ خروج روحها-: فلا بأس بذبحها، ويحل أكلها بعد الذبح؛ سواء ذبحها مسلم أو مجوسي؛ لأن ذبح المجوسي يجعل الحيوان ميتاً، وميت السمك حلال. ودم السمك وبوله وروثه-: هل يكون طاهراً؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون نجساً؛ كدماء سائر الحيوانات. والثاني: يكون طاهراً؛ لنه ليس بحقيقة دم؛ بدليل أنه إذا أصابته الشمس: يبيض. ولو قطعت فلقة من سمك حي-: فقد قيل: لا تحل؛ كما لو قطع من غيره: لا يحل. والمذهب: أنه يحل؛ لأنه إنما لم يحل من غيره للحديث: "ما أبين من حي فهو ميت، وميت السمك: حلال.

وهل يجوز ابتلاع السمك حياً؛ فإنه ينفع من بعض العلل؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل؛ لأن ميته حلال. والثاني: لا يحل؛ لأن فيه تعذيب الحيوان. وكذلك الجراد: تبتلعه حياً: فيه وجهان؛ بخلاف سائر الحيوانات: لا يجوز ابتلاع شيء، منها حياً؛ لأن لها دماً يجب سفحه بالذكاة، ولم يوجد. أما غير السمك من حيوانات البحر: هل يحل ميته؟ فيه أوجه: أحدها: لا يحل؛ وهو قول أبي حنيفة- رحمه الله- لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص السمك بالحل. والثاني: وهو الأصح-: يحل الكل؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] ولم يفصل، ولقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته".

وبعضنا قالوا: أصل هذا: أن الكل هل يسمى حوتاً أم الحوت اسم للسمك على الخصوص؟ فيه وجهان: إن قلنا: الكل يسمى حوتاً-: حل الكل؛ وإلا فلا يحل إلا السمك. والأول أصح؛ إن الكل حوت، وإن اختلفت صورتها: بعضها يشبه الحمار، وبعضها يشبه الكلب والخنزير؛ كما أن الخرتيت يشبه الحية، وهو نوع من السمك-: يحل ميته بالاتفاق. والوجه الثالث: ما يؤكل جنسه في البر ذكياً: يحل ميتة في البحر؛ مثل: بقر الماء، وشاة الماء، وما لا يؤكل في البر ذكية؛ مثل الحمار والكلب والخنزير-: فلا يحل ميتة في البحر. فإذا قلنا: لا يحل إلا السمك فإذا ذبح ما يؤكل جنسه في البر؛ مثل بقر الماء؛ وشاة الماء-: هل يحل؟ قال الشيخ- رحمه الله-: يحتمل وجهين: أحدهما: يحل؛ كالمذبوح من حيوانات البر. والثاني: لا يحل؛ لأنه ليس بحقيقة بقر، ولا شاة. وإذا قلنا: يحل ما يؤكل جنسه في البر، هل يذبح المائي؟ قولان، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين؛ إنه أرحم الراحمين.

كتاب الضحايا

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الضحايا قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، قال عكرمة وعطاء: فصل لربك صلاة العيد، وانحر نسكك. الأضحية: سنة مستحبة، وهي اسم للنعم التي تذبح يوم الأضحى، وثوابها جزيل؛ روي عن عائشة- رضي الله عنها-؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم؛ إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً". وروي عن أنس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين؛ يطأ على صفاحهما ويذبحهما بيده، وييقول: "باسم الله والله أكبر".

وليست الأضحية بواجبة؛ لما روي أن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان؛ كراهية أن يرى أنها واجبة، وعند أبي حنيفة: هي واجبة على كل مقيم ملك نصاباً من أحد النقدين أن يضحي عن نفسه، وعمن يلزمه نفقته. ويستحب لمن أراد الأضحية؛ إذا دخل عشر من ذي الحجة. لما روي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل العشر، فأراد أحدكم أن يضحي- فلا يمس من شعره ولا من [بشره شيئاً] ". ولا تجوز الأضحية إلا من النعم، وهي: الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا

اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}، ولا يجوز من الإبل والبقر والغنم دون الثنية، والثني من الإبل: ما استكمل خمس سنين، وطعن في السادسة ومن البقر والمعز: ما طعن في الثالثة، وتجوز من الضأن الجذعة، وهي التي استكملت سنة، وطعنت في الثانية، وأجذعت سناً من قبل، وتجوز فوق الثنية، ويجوز فيها الذكر والأنثى؛ كما في العقيقة ويستحب أن يختار أعظمها وأسمنها وأحسنها؛ فالبعير أحب إلينا من البقر، والبقر أحب إلينا من الغنم؛ لأنهما أكثر لحماً، والضأن أحب إلينا من المعز؛ [لأن لحمه أطيب] والعفراء أحب إلينا من السوداء لأنها أحسن؛ قيل في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] هو استسمان الهدي واستحسانه وإذا ضحى بشاة- فهو أفضل من أن [يشارك ستة في بدنة أو بقرة، وكذلك لو ضحى بسبع شياه- فهو أفضل من أن] يضحي ببدنة أو ببقرة؛ لأن- لحم الشاة أطيب، وعدد إراقة الدم أكثر، وقيل: إن البدنة والبقرة أولى من سبع شياه، لأن اللحم فيها أكثر، فلو ضحى بشاة واحدة سمينة كان أفضل من شاتين دونهما في السمن، قال الشافعي- رضي الله عنه- في الأضحية: استكثار القيمة مع استقلال العدد- أحب إلي من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي

العتق: استكثار العدد مع استقلال القيمة-[أحب إلي من استكثار القيمة مع استقلال العدد]؛ لأن المقصود من الأضحية: اللحم ولحم السمين أوفر وأطيب، والمقصود من العتق: تكمل حال الشخص وتخليصه عن ذل الرق؛ فتخليصه لجماعة من الذل أفضل من تخليص واحد. ويشترط أن تكون الأضحية سليمة من العيوب، وهو كل عيب يضر باللحم؛ روي عن البراء بن عازب؛ ان النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: أربعاً، وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصرم ن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تتقي" وإنما قال: "البين ظلعها [كالعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها]؛ لأنه إذا كان به أدنى عرج أو عمش أو عجف أو مرض- يجوز، ولا تجوز مقطوعة [شيء من] الأذن، وإن قل؛ لأن فيه نقصان اللحم، ولا مقطوعة الذنب؛ روي عن علي- رضي الله عنه- قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء" قيل لأن فيه نقصان اللحم "ولا مقطوعة الذنب، ولا الخرقاء".

قوله: "نستشرف العين والأذن" يعني أي نضحي بواسع العينين- طويل الأذنين، والمقابلة: ما قطع طرف أذنها؛ والمدابرة: ما قطع جانب منها، والشرقاء: مشقوقة الأذن، والخرقاء: مثقوبة الأذن. وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: إن قطع من أذنه أقل من الثلث- يجوز. وقال أبو يوسف يجوز مقطوع نصف الأذن، وهل يجوز مشقوق الأذن ومثقوبة والموسوم؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ليس فيه نقصان. والثاني: لا يجوز؛ لأن موضع الشق، والوسم يتصلب؛ فلا يمكن أكله؛ فكان كالمقطوع، ولو ضحى بشاة لم يخلق لها أذن أو آلية، أو بعير لم يخلق له ذنب- لا يجوز؛ كما لو كان مقطوع هذه الأعضاء، فإن كانت لها أذن صغيرة أو آلية صغيرة [أو ذنب

صغير] جاز، وإن لم يكن لها ضرع أو كانت يابسة الضرع- يجوز؛ لأن العجل يجوز، ولا ضرع له، وفي مقطوعة الضرع وجهان. قال الشيخ- رحمه الله- ينبغي ألا يجوز؛ كمقطوعة الآلية ويجوز الخصي والموجوء؛ فإنه روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين أملحين موجوءين ولأن لحمه يكون أطيب، والخصيبة لا تؤكل؛ ولا تجوز منتثرة الأسنان، ويجوز مكسور سن أو سنين، وتجوز الجلحاء، والتي لا قرن لها، ومكسور القرن دمي أو لم يدم، وقال مالك- رحمه الله- إن دمي- لم يجز، ولا تجوز التولاء، وهي المجنونة، ولا الجرباء؛ لأن الجرب يفسد اللحم. ووقت الأضحية، إنما يدخل إذا ارتفعت الشمس يوم النحر قيد رمح، ومضى بعده قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين؛ فمن ذبح قبله- فهو لحم قدمها لأهله- لا يحسب من الأضحية؛ روي عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من ذبح قبل الصلاة فإنما [يذبح] لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين". وإذا ذبح بعد هذا الوقت- يحسب؛ سواء صلى الإمام أو لم يصل؛ لا فرق فيه بين أهل البلد وأهل السواد، وبين المسافر والمقيم، ويمتد وقته إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ويجوز في ليالي أيام التشريق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأهل البلد الذبح ما لم يفرغ الإمام من صلاة العيد، فإن ل م يصل- فحتى نزول الشمس، وأما أهل السواد والمسافرون- قال: جاز لهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر من يوم النحر، وعنده: وقته يوم النحر ويومان بعده، وعند مالك: لا يجوز الذبح في ليالي التشريق. ويستحب أن يذبح أضحيته بيده؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- ذبح بيده، فإن عجز- أمر غيره بذبحه، والأولى: أن يجعله إلى مسلم؛ فإن جعله إلى امرأة حائض أو نفساء يجوز، وهي أولى من الكتابي، فإن أمر به كتابياً- جاز، وإذا جعله إلى غيره- يستحب أن يشهده؛ فإنه روي عن أبي سعيد الخدري؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة- رضي الله عنها-: "قومي إلى أضحيتك؛ فاشهديها؛ فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك".

ويذبح بسكين حاد؛ لما روي عن شداد بن أوس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب عليكم الإحسان في كل شيء؛ فإذا قتلتم- فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم- فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". والسنة: أن ينحر البعير قائماً على ثلاث معقولاً ركبته، فإن لم يمكن، فباركاً، وتضطجع البقرة والشاة على جنبها الأيسر، وتشد قوائمها الثلاث، وتترك رجلها اليمنى. وتوجه الذبيحة إلى القبلة حالة الذبح، قيل: يوجه مذبحها، وقيل: جميع بدنها ويسمي الله عز وجل، ويقول: "اللهم منك وإليك؛ فتقبل مني"، بعني"، يعني: هذه نعمة منك وسقتها إليك، ولو صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكره. وعند أبي حنيفة: يكره. وإذا ذبح- يكره أن يبين رأسه حالة الذبح، وأن يبالغ في القطع؛ حتى يبلغ النخاع، بل بعد قطع الحلقوم والمرئ. يتركه حتى تفارق الروح، ولا يسلخه ما لم يسكن، وروي عن عمر رضي الله عنه- أنه قال: "لا تعجلوا الأنفس أن تزهق، ونهى عن النخع". ولو نذر رجل أضحية معينة لله، فقال: "علي أن أضحي بهذه البدنة، أو هذه الشاة"- يصح ويزول ملكه عنها، ولا يجوز له بيعها، ويجب أن يذبحها يوم النحر، أو في أيام التشريق؛ فلو هلك قبل يوم النحر- فلا شيء عليه، ولو أهلكها- يجب عليه أن يشتري

بقيمتها مثلها؛ فيذبحها يوم النحر، [ولو ذبحها قبل يوم النحر- عليه أن يتصدق بلحمها، وعليه بدلها، يذبحها يوم النحرن ولو تعيبت قبل يوم النحر- ذبحها يوم النحر]، ولا شيء عليه، ولو نذر أضحية في ذمته، ثم عين في واحدة فقال: "لله علي أن أضحي بهذه عما في ذمتي"، فكذلك يلزمه أن يذبحها يوم النحر أو أيام التشريق، فإن تلفت المعيبة قبل يوم النحر- فالأصل في ذمته، وإن تعينت قبل يوم النحر- له أن يتملكها، والأصل في ذمته، وقد ذكرناها في آخر كتاب الحج بعون الله عز وجل. وتشترط النية في الأضحية، فإن لم يكن عين من قبل- يجب أن ينوي حالة الذبح، وإن كان قد نذر معيناً أو عين عما في الذمة- فهل يحتاج إلى النية حالة الذبح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحتاج، ويكفيه النية السابقة. والثاني: يحتاج؛ لأن الأولى كانت للتعيين لا للذبح. وإن وكل بالذبح، فينوي عند الدفع إلى الوكيل، أو حين يذبح الوكيل. ولو ولدت الأضحية الواجبة؛ سواء كانت معينة أو عينها عما في الذمة- يجب أن يذبح معها ولدها، وله أن يشرب من لبنها [بعد] ما فضل عن ري ولدها، وله أن يأكل من أضحية التطوع، وكم يأكل؟ فيه قولان: أحدهما: النصف؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. والثاني- وهو الأصح-: الثلث؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، جعلها لثلاثة. وإذا تصدق بقليل منها، وأكل الباقي- جاز. أما المنذورة- هل يجوز أن يأكل منها؟ فيه قولان: إن قلنا: مطلق النذر يحمل على أقل إيجاب الله تعالى- لا يجوز؛ وإلا - فيجوز، وإن جوزنا الأكل-[فكم يأكل]؟ فعلى القولين. ولا يجوز للعبد ولا المدبر ولا أم الولد- التضحية؛ لأنه لا ملك لهم؛ فإن أذن له سيده [فيه]- جاز، وتقع عن السيد، ولا يجوز للمكاتب أن يضحي بغير إذن السيد،

وهل يجوز بإذنه؟ فعلى قولين؛ بناءً على أن تبرعاته بإذن المولى- هل تنفذ؟ فيه قولان. ولو ضحى عن الغير بغير أمره- لا يجوز عنه، وكذلك عن ميت إلا أن يكون قد أوصى به، والله أعلم. باب العقيقة روي [عن الحسن] عن سمرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "الغلام مرتهن لعقيقته؛ تذبح عنه يوم السابع، ويسمى ويحلق رأسه"، وعن أم كرز قالت: سمعت

النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، ولا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً".

العقيقة: سنة، وهو اسم لما يذبح عن المولود، وعند أبي حنيفة: هي بدعة، لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل عن العقيقة، فقال: "لا نحب العقوق"، والمراد من الحديث: أنه

كره تسميتها بهذا الاسم، بل تسميتها: "نسيكة" أو "ذبيحة" كما نهى عن تسمية صلاة العشاء: "عتمة"؛ فقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه عق عن الحسن والحسين.

والمستحب: أن يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكان الحسن وقتادة لا يريان عن الجارية عقيقة، وعن ابن عمر: يعق عن كل واحدة بشاة، وبه قال مالك. والشاة جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز سليمة من العيوب؛ كما في الأضحية. ويذبحها يوم السابع من ولادة المولود، فإن ذبح قبله- يجوز؛ لأن السبب موجود، وهو الولادة، ويجوز أن يأكل منها، ويتصدق، ولا يجوز أن يبيع شيئاً منها؛ لأنه ذبحها قربة إلى الله تعالى؛ كالأضحية. ويستحب ألا يتصدق بلحمها نياً؛ بل يطبخه، ويبعث إلى المساكين بالصحائف، ولو دعا إليه قوماً- جاز ولا يكسر عظامها؛ تفاؤلاً بسلامة أعضائه؛ بل يفصل مفاصلها؛ قال الشافعي- رضي الله عنه-: "ويطبخها بحموضة"؛ لعله ذهب إلى قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نعم الإدام الخل"، وقيل: لا يطبخها بحموضة؛ تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه،

ويستحب أن يحلق رأس الصبي بعد ذبح العقيقة، ويكره أن يحلق بعضه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن القزع، ويلطخ رأسه بالزعفران، ويكره أن يلطخ بدم العقيقة وكان ذلك من عادة أهل الجاهلية، وإذا حلق رأسه- يستحب أن يتصدق بزنة شعره ذهباً أو ورقاً؛ روي أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزنت شعر الحسن والحسين- رضي الله عنهم- وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنته فضة. ومن ولد له مولود- يستحب أن يؤذن في أذنه؛ روي عن أبي رافع قال: رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة، وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يؤذن في اليمنى، ويقيم في اليسرى؛ [إذا ولد له صبي.

ويستحب أن يحنك المولود]، وهو أن يمضغ التمر فيدلك بحنك الصبي داخل فمه؛ روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم، ويحنكهم". ويستحب أن يسمى يوم السابع؛ قال الشيخ- رحمه الله-: فإن سمى قبله- يجوز؛ لما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم"، ويستحب تسمية السقط؛ لحديث جاء فيه.

كتاب الأطعمة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأطعمة قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]. ما يحل أكله قسمان: حيوان، وغير حيوان: أما الحيوان- فقسمان: حيوان البحر، وحيوان البر. أما حيوان البحر- فقد ذكرناه في "كتاب الصيد". وأما حيوان البر- فينقسم إلى ما يحل أكله، وإلى ما لا يحل أكله: فكل ما جاء به القرآن أو السنة بتحليله- فهو حلال، وما جاء بتحريمه- فهو حرام. فالأنعام حلال وهي: الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، وقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5]، ولحم الخيل حلال، ولا يحل لحم البغل والحمار الأهلي؛ والدليل عليه ما روي عن أسماء قالت: ذبحنا على عهد رسول الله -صل الله عليه وسلم - فرساً، ونحن بالمدينة، فأكلناه، [وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل"].

وعن جابر أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن لحوم البغال والحمير. وعند أبي حنيفة: لا يحل لحم الخيل، ويحل الحمار الوحشي؛ كما تحل الظباء وبقر الوحش. وروي عن أبي قتادة؛ أنه رأى حماراً وحشياً بطريق مكة، فقتله؛ فأكل منه بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبى بعضهم؛ لأنهم كانوا محرمين؛ فسألوا النبي- صلى الله عليه وسلم-: فقال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله، هل معكم من لحمه شيء"، ويحل أكل الضبع والب والأرنب؛ لما روي عن ابن أبي عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، أصيد هي؟ فقال: نعم، فقلت: أتؤكل؟ قال: نعم، فقلت: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:

نعم، وروي عن ابن عمر قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن أكل العنب؟ فقال: "لا اكله، ولا أحرمه"، وعن عبد الله بن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة بنت الحارث، فأتي بضب محنوذ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد بن الوليد: فاجتررته، فأكلته ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر فلم ينهني.

وروي عن أنس أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فأدركتها، فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفخذيها، فقبله ويروى: "فأكل منه". وفي معنى الأرنب: الثعلب، واليربوع، والفنك والقماقم والسمور،

والحواصل كلها حلال، وأم حبين حلال قضى فيها عثمان بحلان في الحرم والإحرام. وعند أبي حنيفة: لا يحل أكل هذه الأشياء. أما ما جاء الكتاب والسنة بتحريمه؛ فكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة: 3]، وروي عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" وأراد بذي الناب: ما يعدو بأنيابه، ويقصد الحيوانات، فيخرج منه أنه لا يحل: الأسد والنمر والفهد والذئب

والكلب والبير والدب والقرد والفيل ولا يحل من الطيور: النسر والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة، وفي معناه: ابن آوى؛ لا يحل أكله على ظاهر

المذهب: وفيه وجه آخر: أنه يحل؛ لصغر نابه، كالثعالب، ولا تحل الهرة الأهلية، وفي الهرة الوحشية وجهان: أحدهما: تحل؛ كالحمار الوحشي حلال، وإن كان الأهلي حراماً. والثاني- وهو الأصح-: لا يحل؛ لأنه يعدو بنابه؛ كالذئب؛ بخلاف الحمار؛ فإنه يتنوع إلى وحشي وأنسي. والهرر كلها نوع واحد، فما بعد من الناس- توحش، وما قرب منهم- استأنس، يدل عليه أن الوحشي منها والأهلي سواء في أنها تتلون ألواناً مختلفة والحمار الوحشي لا يتلون، والأهلي يتلون، وفي ابن عرس وابن مقرض وجهان؛ وكذلك القنفذ والسلحفاة والضيرم والدلدل والوبر فيه وجهان، وروي عن ابن عمر؛ أنه سئءل عن القنفذ؛ فتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...} [الأنعام: 145].

أما كل حيوان لم يرد بتحليله ولا تحريمه نص- قال صاحب "التلخيص": كل ما أمر النبي- صلى الله عليه وسلم -بقتله- فهو حرام [وما نهى عن قتله- أيضاً- حرام". قال أصحابنا: أما قوله: "ما أمر بقتله- فهو حرام"]. فهو صحيح، وذلك مثل ما روي عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خمس فواسق؛ تقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا" ورواه أبو هريرة، فجعل بدل الغراب "العقرب"، وفي بعض الروايات: "وكل سبع عادي"، فهذه الأشياء حرام كلها. وأما قوله: "ما نهى عن قتله- فهو حرام" وذلك مثل ما روي أنه نهى عن قتل ستة: النحلة والنملة والخطاف والصرد والهدهد [والضفدع]- فهذا ليس على

هذا الإطلاق؛ قال الشافعي- رضي الله عنه-: أوجب في الهدهد والصرد الجزاء، وعنده: لا يجب الجزاء على المحرم بقتل ما لا يؤكل لحمه، ولأصحابنا فيهما وجهان: أحدهما: لا يحل؛ لورود النهي عن قتلهما.

والثاني: يحل والنهي عن قتلهما ليس لأجل التحريم؛ ولكن لأن الهدهد يكون منتناً، والصرد كانت تتشاءم به العرب، أما الخطاف والنحلة والنملة والذر والذباب- فحرام، وفي معناه جميع حشرات الأرض: من الخنفساء، واللحكاء والعظاء، والوزغ،

والجعلان، والديدان، وبنات وردان، وحمار قبان. وأما ما لم يرد به تحليل ولا تحريم، ولا جاء الأمر بقتله ولا النهي عن قتله- فالمرجع فيه إلى غالب عادات العرب؛ فما تستطيبه العرب وتأكله في حال الرفاهية- فهو حلال وما تستخبثه [فهو حرام]؛ لأن الله تعالى قال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] خاطب العرب بإباحة الطيبات لهم؛ فدل على أن ما كانوا يستطيبونه- فهو حلال لهم، وهم لا يستطيبون شيئاً مما عددنا من المحرمات، ويرجع فيه إلى أهل الريف وذوي اليسار، وأهل القرى من العرب دون الأجلاف من أهل البادية والقفر أو أهل الضرورة، فإن استطاب قوم شيئاً، واستخبثه قوم؛ فينظر إلى ما عليه الأكثر؛ فيحل من الطيور والحمام، وهو كل ما عب وهدر من اليمام والقمري والدبسي،

والفواخت. ويحل العندليب والبلبل والعصافير والصعوة والزرزور، وتحل النعامة

والكركي والقبج والبط والإوز والنعام والديك والدجاج والحبارى؛ روي عن أبي موسى الأشعري قال: "رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل لحم دجاج"، وعن سفينة قال: "اكلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- حبارى". وفي اللقلق والعقعق وجهان: أصحهما: حرامان، والغداف الكبير حرام، وفي الغداف الصغير وغراب الزرع وجهان:

أصحهما: حلال، ولا يحل الغراب الأبقع والرخمة والبغاثة والخفاش؛ وفي الببغاء والطاوس وجهان: أصحهما: حرام، والشقراق: حلال، ويكون منتناً، وإن وجد في العجم حيوان لا يوجد في العرف له اسم- يعرض على العرب؛ فإن سموه باسم حيوان [محرم- حرمناه، وإن سموه باسم حيوان] حلال- أحللناه وإن لم يكن له اسم عندهم- يعتبر بأقرب الأشياء شبهاً بها [كالحادثة إذا وقعت- تقاس على أقرب الأشياء بها شبهاً]. فإن لم يكن له شبه- ففيه وجهان: قال أبو إسحاق يحل؛ لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى آخر الآية [الأنعام: 145]، وليس هذا في محرمات الآية. ومن أصحابنا من قال: يحرم؛ لأن الأصل في الحيوان التحريم فإذا أشكل بقي على الأصل. ولا يحل الحيوان المتولد بين مأكول وغير مأكول؛ كالسبع المتولد من الذئب والضبع، والحمار المتولد بين الحمار الوحشي والحمار الأهلي، لأنه تولد من مأكول وغير مأكول، [فيغلب جانب] التحريم؛ كالبغل لا يحل أكله، ولا يحل أكل لحم

الجلالة، وهي الحيوان الذي يأكل العذرة؛ إذا كان قد ظهر التغيير على لحمها؛ روي عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها"؛ فإن لم يظهر عليهما التغيير- يحل، وكذلك السخلة المرباة بلبن الكلب'، إن ظهر عليه نتن لحم الكلب لا تحل؛ وإلا - فتحل، فإن أطعم الجلالة علفاً طاهراً، حتى طاب لحمها- يحل أكله وقال ابن عمر: تعلف الجلالة؛ عن كانت ناقة أربعين يوماً وإن كانت شاة- سبعة أيام، وإن كانت دجاجة- فثلاثة أيام، فلو غسل لحم الجلالة المتغير أو طبخ؛ حتى زال التغير- لم تحل. قال الشيخ - رحمه الله-: وكذلك لو زال التغير بمرور الزمان عليه. ومن أصحابنا من قال: يكره أكل لحم الجلالة المتغير، ولا يحرم؛ وهو قول مالك، وقال أبو إسحاق: لا باس بأكلها بعد الغسل. وأما غير الحيوان- فقسمان: طاهر، ونجس. فالنجس منها: لا يحل أكله إلا عند الضرورة، وكذلك كل ما كان في الأصل طاهراً؛ فنجس بوقوع نجاسة فيه؛ كالدهن، والخل والدبس الذائب تموت فيه فأرة وفي الانتفاع به تفصيل ذكرناه في "كتاب الطهارة". وأما الطاهر- فقسمان: قسم يضر وقسم لا يضر: فأما الذي يضر؛ كالسم والزجاج والحجر- فلا يجوز أكله؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك؛ والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فإن شرب دواء فيه قليل سم، والغالب منه السلامة- يجوز. والذي لا يضر؛ كالحبوب والفواكه- يحل أكلها؛ إذا كان ملكاً له، أو أباح له مالكه، أو نبت من موات المباح، وجملته: كل طاهر لا يخاف الضرر من أكله- حل أكله؛ إذا لم يتعلق به حق الغير؛ إلا ثلاثة أشياء: المني، وجلد الميتة بعد الدباغ، وكل ذي روح، يبتلعه حياً؛ سوى السمك والجراد؛ فإ*ن فيهما وجهين. فصل في كسب الحجام روي عن رافع بن خديج؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثمن الكلب خبيث، ومهر

البغي خبيث وكسب الحجام خبيث". أما ثمن الكلب ومهر البغي- فحرامان، وأما كسب الحجام فمكروه؛ فخبثه لما فيه من مزاولة النجاسة، وترك المروءة؛ والدليل على أنه غير حرام ما روي عن أنس قال: حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه" ولو كان أجرته حراماً لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن محيصة سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن كسب الحجام، فنهاه؛ فلم يزل يكلمه حتى قال: "أطعمه رقيقك أو اعلفه ناضحك"، ولو كان حراماً- لم يجز أن يطعمه رقيقه ونهيه عن لدناءة الكسب. سأل عثمان- رضي الله عنه- ذا قرابة له عن معاشه، فذكر له غلة حجام فقال: إن كسبكم لدنس أو لدنيء".

ويكره للحر اختيار المكاسب الدنيئة؛ كالحجامة والكنس والذبح والدبغ؛ لأنه يدل على دناءة الهمة وقلة المروءة، وأمر بإطعام الرقيق منه؛ لأنه أدنى حالاً من الحر، والله أعلم. باب ما لا يحل أكله ويجوز للمضطر قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} قيل: أي: لا يبغي في الأرض بالفساد، {وَلا عَادٍ} أي: لا يعدو في الأكل قدر الحاجة. أكل الميتة وشرب الدم والبول- حرام عند عدم الضرورة، وكذلك إذا كان به أدنى جوع أو عطش- لا يحل تناوله، فإذا اضطر إليه، وصار إلى أدنى الرمق، ولم يجد طعاماً حلالاً- يجوز له تناوله، وهل يجب تناوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. وقال أبو إسحاق: لا يجب؛ لأن له غرضاً من ترك ما هو محرم. أما إذا عيل صبره، وأجهده الجوع- فهل له تناول الميتة؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني: لا يجوز ما لم يصر إلى أدنى الرمق؛ لأن الضرروة خوف الهلاك ولم يتحقق ذلك. والثاني: يحل لأنه إذا صار إلى أدنى الرمق [لا يسيغه الطعام اللذيذ، فكيف يتناول الميت، وإن قلنا: لا يحل، فصار إلى أدنى الرمق]، وأبحنا له الأكل- فهل يحل له أن يأكل قدر الشبع؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني: لا يحل إلا قدر سد الرمق؛ لأنه بعد سد رمقه غير مضطر إليه. والثاني: يحل؛ لأن كل طعام جاز أن يتناول منه قدر سد الرمق- جاز أن يتناول منه قدر الشبع؛ كالطعام الحلال وليس كالابتداء؛ لأن الأصل هناك التحريم، حتى تتحقق الضرورة، وههنا الإباحة إلى أن يشبع، فإن قلنا: له أن يأكل قدر الشبع، فأكل قدر سد

الرمق، ثم وجد لقمة من الطعام الحلال- ليس له أن يأكل الميتة بعده؛ حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها- هل له إتمام الشبع؟ قال شيخي- رحمه الله-: يحتمل وجهين: أحدهما: لا؛ حتى يصير إلى أدنى الرمق؛ لأنه عاد إلى أصل التحريم بوجود تلك اللقمة. والثاني: له ذلك؛ لأنا أبحنا له الشبع، ولم يصر إليه. وهل له التزود من الميتة؟ نظر: إن كان لا يرجو وجود طعام حلال- جاز، وإن كان يرجو- فلا. ولو وجد آدمياً ميتاً- هل يجوز أكله؟ المذهب أنه يجوز. وقيل: لا يجوز؛ لحرمته. والأول المذهب؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت؛ حتى لو وجد كافراً مباح الدم من حربي أو مرتد- جاز له قتله وأكله؛ [كالبهيمة، وإن كان زانياً محصناً مسلماً- قيل: له قتله وأكله]، وقيل: لا يجوز [وإن كان الحربي صبياً أو امرأة أو كان الكافر ذمياً أو مستأمناً- لا يجوز] قتله. وإن كان رجل له عليه قصاص- له قتله قصاصاً وأكله، وإن كان المضطر ذمياً، والميت مسلماً؛ هل له أكله؟ فيه وجهان، وهل يجوز للمضطر أن ييقطع شيئاً من لحم بدن نفسه، فيأكله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ [لأنه ربما يؤدي بنفسه إلى الهلاك]. وقال ابن سريج وأبو إسحاق: يجوز؛ لأنه يحيى نفسه بإتلاف جزء منه؛ كما لو قطع يده بسبب الأكلة [يجوز]، ولو وجد المضطر [طعام الغير]، ولم يكن مالكه حاضراً- جاز له أن يتناوله، ويضمن قيمة ما تناول للمالك، وهل يعصي بترك الأكل؟ فعلى وجهين وهل له أن يأكل منه قدر الشبع؟ اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: فيه قولان؛ كالميتة؛ كما أنهما يستويان في الابتداء.

ومنهم من قال: لا يأكل إلا قدر سد الرمق قولاً واحداً؛ لأن تحريمه لحق الآدمي، ومبناه على الشح والضيق. ومنهم من قال: له أن يأكل قدر الشبع قولاً واحداً؛ لأن جنسه حلال؛ بخلاف الميتة، وكذلك إذا وجد شاةً للغير أو حماراً له- عقره وأكله. وإن كان صاحب الطعام حاضراً- نظر: إن كان صاحب الطعام أيضاً مضطراً إليه- لا يجب عليه أن/ يطعم صاحبه؛ إذا لم يفضل منه، فإن آثر صاحبه، واختار لنفسه الهلاك- جاز؛ إذا كان صاحبه مسلماً؛ لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وإن كان صاحبه المضطر كافراً؛ سواء كان ذمياً أو حربياً- لا يجوز أن يؤثره على نفسه، وكذلك: إذا كانت لصاحبه دابة جائعة- لا يجوز أن يؤثرها على نفسه؛ وإن لم يكن صاحب الطعام مضطراً إليه في الحال، وإن كان يحتاج إليه في باقي الحال- يجب عليه أن يطعم المضطر؛ سواء كان المضطر مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً- يجب عليه أن يطعمه؛ فإن لم يفعل- فللمضطر أن يكابره، ويأخذ منه قهراً، وإن أتى على نفسه، وهل يجب أن يأخذ منه قهراً؟ نظر: إن كان يخاف عليه- لا يجب؛ وإلا- فوجهان: أما إذا كان المضطر مرتداً أو حربياً- لا يجب أن يطعمه؛ لأن قتلهم مباح. إذا ثبت أن على صاحب الطعام إطعام المضطر [منه] فلا يجب أن يطعمه مجاناً؛ بل يطعمه بالعوض؛ فإن باعه، ومع المضطر ثمنه- يجب عليه أن يشتري؛ حتى لو كان عليه إزار واحد عليه صرفه إلى الطعام؛ إذا لم يخف الهلاك من البرد، ويصلي عرياناً؛ لأن كشف العورة أخف من أكل الميتة؛ بدليل أنه لا يجوز أن يكابر الغير على أخذ الثوب لستر العورة، ويجوز أن يكابره على أخذ الطعام. فإن لم يكن مع المضطر ثمن الطعام- يجب على صاحب الطعام أن يبيع منه نسيئة، فإن باعه أكثر من ثمنه في مثل تلك الحالة- يجب على المضطر أن يشتري؛ سواء كان له ببلده مال أو لم يكن، ثم كم يلزمه؟ فيه وجهان: أحدهما: جميع المسمى؛ لأنه التزمه مختاراً. والثاني: لا يلزمه إلا ثمن المثل في مثل ذلك المكان والوقت؛ لأنه كان كالمكره في قبول تلك الزيادة.

ولو أطعمه المالك، ولم يذكر شيئاً- هل له مطالبته بالعوض؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه متبرع. والثاني: له ذلك؛ لأنه أبقى روحه؛ وهذا بناءً على أنه إذا عفا عن القصاص- فمطلق العفو هل يوجب المال؟ قولان. ولو اختلف، فقال المالك: أطعمتك بالعوض، وقال الآكل: بلا عوض- فالقول قول من؟ فيه وجهان. وكذلك: إذا كان لرجل دابة جائعة أو كلب غير عقور جائع، ومع صاحبه علف/ أو لحم يجب أن يعلف دابته، ويطعم كلبه؛ فإن لم يفعل- فلصاحب الدابة أن يغصبه، فإن كان الكلب عقوراً- لا جب؛ لأن قتله مباح، ولو كان لرجل كلب غير عقور جائع، وله شاة- عليه أن يذبح شاته؛ لإطعام الكلب، ثم يجوز له أن يأكل من لحم تلك الشاة، وإن ذبحها للكلب؛ لأنه ذبحه للأكل. ولو وجد المضطر ميتة، وطعاماً للغير- أيهما يأكل؟ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: هو مخير أيهما شاء أكل. والثاني: يأكل الميتة؛ لأن تحريمها لحق الله تعالى؛ فكان أيسر، ولأنه لا يلزمه به الضمان. والثالث: يأكل مال الغير؛ لأن عينه حلال، ويلزمه الضمان. فإن كان مالك الطعام حاضراً، ويبيعه- يجب على المضطر أن يشتري؛ إن كان معه ثمنه، وإن غالى في الثمن، ولا يجوز له أكل الميتة، ثم أي ثمن يلزمه؟ فعلى وجهين، وإن وهب له صاحب الطعام- يجب أن يقبل، ولا يأكل الميتة، وإن لم يبعه صاحب الطعام، ولم يطعمه- ليس له أن يكابره، ولكن يأكل الميتة، قال الشيخ رحمه الله: إذا قلنا: "إذا وجد الميتة"، وقال الغير- له أن يأكل مال الغير"- يحتمل أن يقال "يكابره، فيأخذ منه الطعام، وإن قلنا بقول التخيير- فليس له ذلك. ولو كان المضطر محرماً، فوجد صيداً- له أن يذبحه، ويأكله، وعليه الجزاء، وإن وجد صيداً وميتة- فأيهما يأكل؟

إن قلنا: المحرم إذا ذبح الصيد - يصير ميتة يأكل الميتة؛ حتى لا تلزمه الفدية. وإن قلنا: لا يصير ميتة- ففيه ثلاثة أقوال؛ كما لو وجد ميتة وطعام الغير. ولو وجد المحرم صيداً وطعام الغير: إن قلنا: الصيد يصير ميتة بذبحه- فهو كما لو وجد ميتة وطعام الغير، وإن قلنا: لا يصير ميتة- ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتخير. والثاني: يأكل [طعام الغير]؛ لأن جنسه مباح لكل أحد. والثالث: يأخذ الصيد؛ لأن ضمانه لحق الله تعالى؛ فكان أخف. ولو وجد المحرم ميتة، وصيداً، وطعام الغير فإن قلنا: الصيد يصير ميتة بذبحه- فالصيد كالمعدوم، وإن قلنا: لا يصير ميتة- ففيه أربعة أقوال: أحدها: يتخير؛ إن شاء أكل الميتة، وإن شاء أكل الصيد وفدى، وإن شاء أكل طعام الغير، وضمن قيمته. والثاني: يأكل الميتة؛ حتى لا يلزمه الضمان. والثالث: يأكل طعام الغير؛ لأن جنسه مباح لكل أحد. والرابع: يأكل الصيد، ويفدي؛ لأن الضمان الواجب به لحق لله تعالى؛ فكان أخف. ويجوز للمضطر إلى العطش شرب الدم والبول، ولا يجوز شرب الخمر؛ لأنه يزيده في العطش، ويدعو القليل منها إلى الكثير، ويجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي؛ إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسمل- أمر الرهط العرنيين بشرب أبوال الإبل. وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤكبه- هل له تناوله؟ فيه وجهان، وهل يجوز شرب العليل من الخمر [للتداوي]؛ إذا لم يجد شيئاً يقوم مقامه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه يدفع به الضرر عن نفسه؛ كما لو أكره على شربها [يجوز له شربها]، [وكما يجوز] شرب قليل السم للتداوي مثل السقمونيا ونحوه. والثاني: لا يجوز؛ لما روي عن أم سلمة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لم يجعل

شفاءكم فيما حرم عليكم"، ولأن الخمر أم الخبائث، يدعو قليلها إلى كثيرها؛ فلا يؤمن أن يتولد منه ما هو شر من العلة، أما إذا غص بلقمة، ولم يجد مائعاً يسيغها سوى الخمر جاز شربها، والله أعلم.

كتاب السبق والرمي

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب السبق والرمي قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 6.]، قال عقبة بن عامر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثاً، وروي عن سلمة بن الأكوع قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: "أرموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً" الرماية والفروسية سنتان مستحبان؛ لما فيهما من القوة على الكفار، وأعداء الدين، وروي عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله؛ فارموا، واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا"، "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، ومداعبته امرأته؛ فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعد ما علمه؛ رغبة عنه- فإنه نعمة تركها"، أو قال: "كفرها". والمسابقة على الخيل مستحبة؛ لما روي عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق

بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. ويجوز أخذ المال على المناضلة والمسابقة؛ خلافاً لأبي حنيفة؛ حيث لم يجوز؛ والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"، السبق- بفتح السين والباء- هو المال المشروط للسابق

على سبقه، وأراد بالنصل: السهم، وبالخف الإبل، وبالحافر؛ الفرس؛ فتجوز المسابقة بالعوض على هذه الأشياء، وتجوز المناضلة بالعوض بالسهام؛ سواء فيه السهام العربية، والعجمية، والنشاب، وهل يجوز على المزراق، والحربة والرمح وغيرها من آلات الحرب؟ فيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأنها أسلحة يقاتل بها؛ كالسهم. والثاني: لا يجوز؛ لأنه قلما يحتاج إلى الرمي بها في الحرب. وكذلك الرمي بالأحجار إلى موضع معلوم أو أينا أطول مداً، والرمي بالمقلاع والقذافة والمنجنيق هل يجوز أخذ العوض عليها؟ فيه وجهان: الأصح: جوازه، ولا يجوز على رمي الجلاهق والبنادق، ولا على كرة الصولجان لأنها ليست من آلة الحرب، ولا على المداجاة، وهو أن يرمي بعضهم إلى بعض؛ لأنه يخرج ويهيج الفتنة، ولا يجوز على السباحة، ورفع الأحجار، واللعب بالشطرنج، واللعب بالخاتم، والوقوف على رجل واحدة، ولا على معرفة ما في يده، فإن كل ذلك قمار ليس شيء منها من آلات الحرب، وهل تجوز المسابقة بالعوض على البغل والحمار [والفيل؟ فيه قولان: أصحهما: يجوز؛ لأن الفيل يدخل في قوله: "أو: خف"، والبغل والحمار] في قوله "أو حافر"، ولأنه يستعان بهذه الدب في الحروب. والثاني: لا يجوز؛ لأنها لا تصلح للكر والفر؛ فكانت كالبقر.

واختلفوا في المسابقة على الأقدام بالعوض. منهم من قال: تجوز؛ لأن الحاجة تقع إلى العدو في الحروب/، فالأقدام في حق الرجالة- كالخيل في حق الفرسان. ومنهم من قال: لا تجوز؛ لأن المسابقة بالعوض أجيزت؛ ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد، والمشي بالقدم- لا يحتاج إلى التعلم. واختلفوا أيضاً في الطيارات والزوارق في الماء. منهم من جوز- وهو قول ابن سريج؛ لأن الحرب قد تقع في البحر؛ فهي مراكب الماء؛ كالخيل في البر. ومنهم من لم يجوز؛ لأن سبقها يكون بالملاح، لا بمن يقاتل فيها. وجوز بعض أصحابنا على تطيير الحمامات، للتجربة بعد ذهابها؛ لأنه يحتاج إليه في الحروب، لإنهاء الأخبار. والأصح: أنه لا يجوز؛ لحديث أبي هريرة، ولأنها ليست من آلات الحرب. واختلفوا في المصارعة على العوض. منهم من جوز لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صارع يزيد بن ركانة على شاة. والصحيح: أنه لا يجوز لا بالعوض ولا بغيره؛ لأنه يهيج العداوة، والنبي- صلى الله عليه وسلم- فعل مع يزيد بن ركانة؛ لتظهر قوته؛ لعله يسلم، فلما أسلم- رد إليه ما أخذ منه. فصل في الأسباق الأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الإمام أو رجل آخر؛ فيقول الرجلين: اركبا فرسيكما إلى موضع كذا، فأيكما سبق- فله علي كذا؛ سمي مالاً معلوماً- يجوز؛ سواء أعطى الإمام من بيت المال أو من مال نفسه، أو واحد من الناس من مال نفسه؛ لأنه تحريض على تعلم الفروسية؛ لقتال العدو؛ وسواء كان الفارس اثنين أو أكثر؛ فمن سبق- سمي سابقاً،

وسمي الثاني مصلياً؛ لأنه يتبع صلا الفرس الأول، أي: عجزه، ويسمى الأخير فسكلا. فإن كان اثنين- فسمى للأول شيئاً، وللثاني بمثله- لم يجز؛ لأنه لا يجتهد واحد منهما في السبق، وإن سمى للثاني أقل مما سمى للأول- ففيه وجهان: أصحهما: يجوز؛ لأن كل واحد يجتهد حتى يسبق، فيأخذ الأكثر، وإن كانوا أكثر من اثنين مثل إن كانوا ثلاثة، فسمى للسابق شيئاً، وللمصلي دونه- جاز، فإن سمى للفسكل مثل ما للمصلي- لا يجوز دونه على وجهين، وكذلك: لو كانوا عشرة، فسمى لكل واحد شيئاً أقل مما سمى لمن سبقه- جاز، وفي الأخير وجهان، وإن جعلوا للأول عشرة، وللثالث، خمسة، وللرابع أربعة، ولم يجعل للثاني شيئاً ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه فضل الثالث والرابع على [من] سبقهما. والثاني: يجوز، ويقوم الثالث مقام الثاني، والرابع مقام الثالث، ويجعل [كأن] الثاني لم يكن. وإن كانوا عشرة فقال: من سبق فله عشرة، فإن جاءوا معاً، لم يستحقوا شيئاً، لأنه لا سابق فيهم، وإن جاء تسعة معاً، استحق التسعة العشرة بينهم سواءً. ولو قال: من سبق فله عشرة، ومن صلى فله خمسة؛ فسبق واحد وصلى خمسة، ثم جاء الباقون بعدهم-: فللسابق عشرة، وللخمسة المصلين خمسة، وإن سبق خمسة وصلى واحد؛ استحق الخمسة السابقون عشرة، والواحد المصليل خمسة؛ كما لو قال: من جاء بعدي فله عشرة. فإن جاء به واحد استحقها، وإن جاء به جماعة استحقوا اشتركوا في العشرة. القسم الثاني من الأسباق: أن يكون المال من أحد المتسابقين؛ مثل أن يقول أحد الفارسين: نجري فرسينا: فإن سبقتين فلك علي كذا، وإن سبقتك فلا شيء عليك- يجوز، وعند مالك: لا يجوز؛ لأنه قمار، قلنا: إن القمار يكون الرجل متردداً بين الغنم والغرم،

ولم يوجد ههنا؛ لأن المعطي متردد بين أ، يغرم أو لا يغرم، والآخر متردد بين أن يغنم أو لا يغنم، وليس فيها من هو متردد بين الغنم والغرم. القسم الثالث: أن يكون المال منهما، فيقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك علي كذا، وإن سبقتك فلي عليك كذا- فهذا لا يجوز؛ لأن كل واحد متردد بين الغرم والغنم، فإن أدخل بينما محللاً، فإن سبق أخذ السبقين، وإن سبق لا شيء عليه- جاز؛ لأن العقد إذا حصل فيه من يغنم ولا يغرم- خرج عن أن يكون قماراً، ويشترط أن يكون فرس المحلل كفئاً لفرسيهما، فإن كان أجود من فرسيهما: يتحقق أنه يسبقهما، أو دون فرسيهما: يتحقق أنهما يسبقانه؛ فلا يجوز، وهو على القمار؛ روي عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدخل فرساً بين فرسين: إن كان يؤمن أن يسبق فلا خير فيه، وإن كان لا يؤمن أن يسبق فلا بأس به". ثم المحلل: لتحليل العقد والمال جميعاً؛ هذا هو المذهب، وقال ابن خيران: هو لتحليل العقد، ولا يستحق المال غيره؛ فخرج على هذا سبع مسائل: إحداها: "إذا سبق المحلل، ثم جاء المستبقان معاً- أخذ المحلل/ سبقهما. والثانية: إذا سبق المستبقان معاً، ثم جاء المحلل- لا شيء لواحد منهم. الثالثة: إذا سبق المحلل مع أحد المستبقين، ثم جاء المستبق الثاني- فالذي سبق مع المحلل، أحرز سبقه، وسبق المصلي: للمحلل مع المستبق السابق على ظاهر المذهب، وعلى قول ابن خيران: للمحلل خاصة. الرابعة: إذا سبق أحد المستبقين، ثم جاء المحلل مع المستبق الثاني- فالسابق أحرز سبقه، ولا شيء للمحلل وسبق المستبق الثاني للأول على ظاهر المذهب، وعلى قول ابن خيران: لا شيء عليه. الخامسة: إذا سبق أحد المستبقين، ثم جاء المستبق الثاني، ثم المحلل، فهكذا سبق

المستبق الثاني للأول على ظاهر المذهب، وعلى قول ابن خيران: لا شيء عليه. السادسة: إذا سبق المحلل، ثم جاء أحد المستبقين مصلياً، ثم جاء الثاني فسكلاً، فسبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل كذلك على ظاهر المذهب، وقيل: إن قلنا للمحلل؛ لتحليل العقد والمال- فهو بين المحلل والمستبق الأول؛ لأنهما سبقاه، وليس بصحيح؛ لأن المصلي لا يستحق شيئاً إلا بالشرط. السابعة: إذا جاء أحد المستبقين أولاً، ثم جاء المحلل، ثم جاء المستبق الثاني- فالسابق أحرز سبقه، وسبق المستبق الثاني ما حكمه؟ إن قلنا: للمحلل لتحليل العقد والمال جميعاً- ففيه وجهان: أظهرهما: سبقه للمستبق الأول؛ لأن المحلل مسبوق. والثاني: بين المحلل والمستبق الأول؛ لأنهما سبقاه. وإن قلنا: لتحليل العقد- فعلى وجهين: أحدهما: لا شيء لأحد؛ لأن المحلل مسبوق. والثاني: هو للمحلل؛ لأنه سبق الفسكل فلو أدخلا بينهما محللين أو أكثر- يجوز، ثم إذا سبق أحد المحللين، ثم جاء أحد المستبقين مصلياً، ثم جاء المحلل الثاني، ثم جاء المستبق الثاني: فسبق المستبق الأول للمحلل الأول، وأما سبق المستبق الثاني: إن قلنا: للمحلل؛ لتحليل العقد والمال جميعاً- ففيه وجهان: أظهرهما: للمحلل الأول لأن ألآخرين مسبوقان. والثاني: يكون بين المحللين والمستبق الأول؛ لأنهم سبقوا، فإن قلنا: لتحليل العقد- ففيه وجهان: أظهرهما: للمحلل الأول. والثاني: بين المحللين. ولو أن مائة نفر تسابقوا، وأدخلو بينهم محللاً واحداً- جاز، ثم السبق بماذا يقع؟

نُظِرَ: إن كانا يتسابقان على الإبل- يكون بالكتد وهو الكتف، فأيهما سبق الكتد كان سابقاً، وإن كانا يتسابقان على الخيل- فيكون السبق بالهادي، وهو العنق؛ لأن الفرس يمد عنقه في العدو، والبعير يرفع/ عنقه؛ فلا يمكنه اعتبار السبق فيه بالعنق، فإذا سبق أحد الفرسين بالهادي أو بعضه- كان سابقاً إذا استوى الفرسان في الخلقة، فإن كان عنق أحدهما أطول: فإن تقدم هادي القصير- كان سابقاً، وإن تقدم هادي الآخر- نظر: إن تقدم بقدر زيادة الخلقة-: لم يكن سابقاً؛ لأن تقدمه بزيادة الخلقة، لا بجودة السير، وإن تقدم بأكثر من زيادة الخلقة-: كان سابقاً، وقيل: إذا اختلف الفرسان في الخلقة-: فالسبق يكون بالكتد، هذا إذا لم يشرطا السبق بأقدام معلومة، فإن تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام أو أكثر- كان له السبق، قال صاحب "الإفصاح": يجوز؛ لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه، وينفرد أحدهما بالقدر المشروط؛ كما في "المناضلة"، إذا شرطا المحاطة، قال صاحب "الإفصاح": ورأيت من أصحابنا من منع ذلك، فأبطله، ولا أعرف له وجهاً. ويشترط في المسابقة بيان الموضع الذي يجريان منه، والغاية التي يجريان إليها؛ فإن اختلفا في الابتداء، فوقف أحدهما أقرب [أو في الانتهاء بأن كانت مسافة أحدهما أقرب]- لم يجز؛ لأن المقصود من المسابقة معرفة جودة الفرس وحسن سيره، ولا يعلم ذلك مع اختلاف الغاية؛ لأن غاية أحدهما إن كانت أقرب، فسبقه يكون لقرب المسافة لا لجودة السير، ولو اختلفا في اليمين واليسار- أقرع بينهما، ويركضان معاً في وقت واحد، ولا يجلب وراء الخيل؛ لما روي عن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا"، ولو لم يبينا الغاية، بل قالا: تركض، فأينا سبق فله كذا- لا يصح؛ لأنه إذا لم يكن لها غاية لا يدريان أين ينتهيان، فيؤدي إلى إتعاب النفس وعطب الدابة ولأن الفرس قد يكون سريع السير في الابتداء، ثم يلين، فيقف بصاحبه، وصاحبه يطلب قصر الغاية، وقد يكون بطيئاً في الابتداء، ثم يشتد حموه، وصاحبه يطلب [طول] الغاية، فإذا اختلفت الأغراض شرطنا بيان الغاية، وهذا بخلاف المناضلة على

الإبعاد من غير بيان الغاية؛ بأن يقولا: "أينا أبعد رمياً- يجوز، على أصح الوجهين؛ لأن الإبعاد في الرمي مقصود كالإصابة، وإذا/ بينا الغاية، فسبق أحدهما في خلال الميدان، وسبق الآخر في آخر الميدان- فالسابق: من سبق في آخره، ولو عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأرض أو وقف لعلة أصابته، فسبقه الآخر- لا يكون سابقاً [لأنه لم يسبقه لجودة الجري]، ولا تأخر الآخر لسوء الجري، ولكن لعارض عرض له، أما "المناضلة": فتأتي فيها الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في "المسابقة"، بأن قال لهما أجنبي: يرميها عشرة أرشاق: فمن أصاب منها خمسة فله كذا، أو قال الراميان أحدهما لصاحبه: نرمي عشرة أرشاق: فإن أصبت خمسة فلك [علي كذا، وإن أصبتها فلا شيء لي عليك- جاز، وإن قال: إن أصبت خمسة فلك علي كذا، وإن أصبت فلي عليك كذا- لم يجز، إلا بمحلل يدخل بينهما، ولو قال رجل لآخر: ارم عشرة أرشاق: واحدة عني، وواحدة عن نفسك: فإن كانت إصابتك عن نفسك أكثر، [فلك كذا]- لا يجوز؛ لأنه يفاضل نفسه، ولو قال: ارم عشرة أرشاق: فإن كانت إصابتك منها أكثر، فلك كذا- يجوز؛ لأنه يبذل المال على عمل معلوم، والمسابقة على الخيل قريب من المناضلة [في المعنى] وإن كانا يختلفان في بعض الأحكام، وذلك أن تعيين الفرس شرط في المسابقة، ولا يجوز تعيين الفرس والنبل في المناضلة، وهما في المعنى يستويان، وذلك أنه يشترط في كل واحد تعيين ما يطلب امتحانه: ففي المسابقة يطلب امتحان المركوب فيشترط تعيينه، وبهلاكه ينفسخ العقد؛ لأن العقد تعلق بعينه، وقد هلك كالمبيع إذا هلك قبل القبض ينفسخ البيع، ولا يجوز إبداله بغيره ولا يطلب امتحان الفارس، فإذا مات لا ينفسخ العقد وقام وارثه مقامه، وفي المناضلة: يطلب امتحان الرامي، فقلنا: يتعين الرمي حتى لا يجوز إبداله، وإذا مات أو شلت يده ينفسخ العقد ولا يطلب امتحان القوس والنبل، وإذا عين لا يتعين، ويجوز إبداله، وإذا تلف لا ينفسخ العقد، ويشترط في المناضلة بيان ستة أشياء؛ منها: عدد الأرشاق، وعدد القرع، وهو: الإصابة، وصفة القرع، وقدر المسافة التي يرميان فيها، وقدر الغرض، وإن بينا أنهما يرميان مبادرة أو محاطة:

أما الأرشاق: ينبغي أن يكون عدد ما يرمى بها كل يوم وفي كل نوبة معلوماً؛ حتى يكون لرميتهما غاية ينتهيان إليها، ويشترط أن يكون عدد الإصابة معلوماً أنها خمس من عشرين أو أقل أو أكثر؛ لأن استحقاق المال بالإصابة، فإذا لم يبين لا يدري متى يستحق، فإن شرطا إصابة نادرة مثل إن شرطا إصابة عشر [ة] من عشرة، أو إصابة تسعة من عشرة، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه قد يصيب ذلك؛ كما لو شرطا إصابة خمسة من عشرة. والثاني: لا يصح؛ لأنه يقع نادراً، فلا يحصل مقصود العقد به، وينبغي إن بينا صفة الإصابة من القرع، وهو: أن يصيب الغرض من غير خدش، أو الخرق، وهو: أن يصيب الشيء ويثقبه، ويسقط ولا يثبت فيه، أو الخسق، وهو: أن يصيب الشيء فيثقبه ويثبت فيه، أو الخرم، وهو: أن يصيب طرف الشيء فيخرمه، أو المرق، وهو: أن يثقب الشيء المعلق، فيخرج من الجانب الآخر. فإن أطلقا العقد: حمل على القرع؛ لأنه المتعارف، ويشترط أن تكون المسافة التي يرميان إليها معلومة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد، وقد يكون الرجل سديد الرمي، يصيب على بعد، فيطلب بعد الغاية، ويكون الآخر دونه، فيطلب قرب الغاية. فإن كان [في موضع فيه غرض- كانا أو] في موضع فيه غرض معلوم المدى- حمل المطلق عليه، وإن لم يكن: فلا بد من البيان، فإن بينا غاية بعيدة، لا يصيب فيه السهم أصلاً- لا يصح، فإن كان يصيب نادراً- نظر: إن شرطا عدداً كثيراً من الرميات وأصابه قليل منها، يعلم إصابتها من ذلك العدد غالباً مثل خمس إصابات من مائة رشق- يصح وإلا فعلى قولين، وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعاً، وما لا يصاب نادراً على ثلثمائة وخسين ذراعاً، وما بينهما نادر، ويشترط بيان قدر الغرض طولاً وعرضاً؛ فإن الحاذق في الرماية يصيب الغرض الصغير، ومن لم يكن حاذقاً لا يصيب إلا الكبير، فإذا ترك بيانه لا

يصح إلا أن يكون في موضع فيه/ غرض معروف؛ فيحمل المطلق عليه؛ كما لو باع شيئاً بثمن مطلق يحمل على نقد البلد، والغرض قد يكون موضوعاً على هدف أو حائط، وربما يعلق على خشبة، فيبين أنه يعلق أو يوضع على الهدف، ويبين أنه يوضع على أسفل الهدف أو أعلاه، فلو لم يبين- فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الأغراض تختلف به. والثاني: يجوز ويوضع على وسط الهدف، وهذا بناءً على ما لو اكترى دابة للحمل، وكان معه معاليق، ولم يبين المعاليق- فيه قولان: أحدهما: لا يجوز للجهل. والثاني: يجوز ويحمل على الوسط. وينبغي أن يبينا موضع الإصابة من الغرض من الشيء أو الدائرة- وهي نقش في وسط الشيء؛ كالقمر قبل استكماله- التي في الشيء، فإن أطلقا جاز وحمل على الغرض، ولو شرطا إصابة الحلقة التي في الدائرة [ففيه] قولان؛ لأن إصابتها نادر [ة]، وكذلك كل موضع تكون الإصابة فيه نادر [ة] على هذا لو تناضلا في ليلة مظلمة لا يبصران الغرض، لا يجوز، وإن كانا يبصرانه- فعلى قولين؛ لأن الإصابة فيه نادرة؛ نظيره: لو نوى المسافر الإقامة في مفازة ليست موضع الإقامة، هل يصير مقيماً؟ فيه قولان، ولا تراميا إلى غير غرض على أن يكون السبق لأبعدهما رمياً- ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه يمتحن به قوة الساعد، ويستعان به على قتال من بعد من العدو. والثاني: لا يجوز؛ لأن المقصود من الرمي الإصابة لا الإبعاد. وإذا تسابقا على فرسين: أحدهما عربي، والآخر برذون- يجوز، وإن كان أحدهما على فرس، والآخر على بغل، أو أحدهما على بغل والآخر على حمار، وجوزنا المسابقة على البغل والحمار- ففيه وجهان: أحدهما: يجوز كالعربي والبرذون.

والثاني: لا يجوز؛ لأنهما يتفاوتان في السير. ولا يجوز الحمار مع الفرس؛ لأن الحمار لا يعدو عدو الفرس؛ قال [الشيخ]- رحمه الله-: وفي الفرس مع البعير- أيضاً- وجهان، قال أبو إسحاق: إن تقارب جنسان في السبق كالبغل [والحمار] يجوز، وإن تباعد نوعان من جنس واحد كالعتيق والهجين من الخيل، والبختي والنجيب من الإبل- لا يجوز، وفي المناضلة: إذا عقد العقد مطلقاً، وأحدهما يرمي بالنبل، والآخر بالنشاب أو بالحسبان، أو أحدهما يرمي عن قوس عربي والآخر عن قوس فارسي- يجوز؛ وكذلك القسي الهدني مع الدورانية، وجملته: أنه إذا كان يرمي كل واحد عن سهم ذي نصل، وإن اختلف نوعهما- يجوز، أما السهم مع المزراق والحراب: إذا جوزنا المناضلة عليها، هل يجوز؟ فعلى وجهين، وإن عقدا على نوع - لم يكن له أن ينتقل إلى [نوع آخر، إذا لم يرض شريكه به، فإن من الناس من يرمي بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الآخر، ولو [شرطا] الرمي بالعربي لم يكن له أن ينتقل إلى] الفارسي؛ لأن الصواب بالفارسي أكثر، فإن عقد له على قوس بعين÷، فأراد أن ينتقل إلى غيره من نوعه- يجوز؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان، فإن شرطا في العقد أن يبدله- لا يصح العقد. ولو تناضل رجلان، وأحدهما كثير الإصابة، والآخر كثير الخطأ، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن فضل أحدهما معلوم؛ فلا معنى لأخذ المال على التجربة. والثاني: يجوز؛ لأن المقصود منه بعثه على الرماية، ليصير حازقاً فيه. ويجوز في المناضلة أن يشرطا مبادرة أو محاطة أو حوابي؛ فالمبادرة: أن يبدر

أحدهما، فيسبق إلى العدد المشروط من الإصابة مع استوائهما في عدد الرمي، مثل: إن شرطا أن من بدر إلى إصابة خمس من عشرين- فله كذا، رمى كل واحد عشرين، فأصاب أحدهما منها خمسة، والآخر أربعة- فالذي أصاب خمسة ناضل؛ لأنه سبق الآخر إلى إصابة الخمسة، ولو سبق أحدهما الآخر إلى إصابة المشروط قبل كمال العدد مع مساواتهما في عدد الرمي- كان ناضلاً، ولا يجب إكمال العدد، مثل: إن شرطا المبادرة إلى خمسة من عشرين، فرمى أحدهما عشرة وأصاب خمسة، ورمى الآخر تسعة وأصاب أربعة، فإنه رمى واحداً حتى يستويا في العدد، فإذا رمى فأصاب، فقد استويا، ولا فائدة في إتمام العدد؛ لأن المشروط من عدد الإصابة قد تم، وإن لم يصب هذه الرمية، فالأول ناضل، وإن كان الذي رمى تسعة، فأصاب منها ثلاثة، فهو منضول لا فائدة في رميه؛ لأنه- وإن أصاب- فالأول قد سبقه إلى الخمسة. أما المحاطة فصورتها أن يشترطا عدداً معلوماً [مثل إن] شرطا عشرين رشقاً، وقالا: نقابل الإصابات، فيخطها؛ فمن فضل له إصابة خمس، فهو ناضل- فذلك جائز، فإذا رميا عشرين، وأصاب كل واحد منهما خمسة، لم ينضل أحدهما صاحبه وإن أصاب أحدهما عشرة، وللآخر خمسة- فالذي أصاب عشرة ناضل، وإن أصاب أحدهماعشرة والآخر ستة فليس بناضل؛ لأنه لم ينضل بخمسة، ولو نضل أحدهما بخمسة قبل إكمال العدد المشروط، هل يكون ناضلاً مثل أن شرطا نضل خمس من عشرين، فرمى كل واحد [خمسة عشر]، وأصاب أحدهما عشرة، ولم يصبها الآخر نظر: إن كان الآخر لا يرجو مساواته بأن لم يكن الآخر أصاب شيئاً- لا يلزمه إتمام الرمي؛ لأن أقصى ما فيه أن يصيب الآخر بقية الرميات، ويخطئ صاحبه، فيكون لصاحبه نضل خمسة، فهو ناضل، وإن كان يرجو مساواته؛ بأن كان قد أصاب من خمسة عشر ستاً- ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه الإتمام؛ لأنه نضله بخمسة، فهو ناضل كما في المبادرة. والثاني: يلزمه الإتمام؛ لأن الآخر ربما يصيب الخمسة الباقية، ويخطئ هو؛ فلا يبقى له نضل خمسة بخلاف المبادرة؛ لأن البدار لا يرتفع نادراً له صاحبه من بعد، ولو تركا في العقد ذكر المبادرة والمحاطة وشرطا إصابة خمس من عشرين- فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ كما لو تركا عدد الإصابة.

والثاني: يصح، ويحمل على المبادرة؛ لأنه الذي يفهم من إطلاق ذكر المناضلة. قال الشيخ- رحمه الله- وهذا أصح، ولو شرطا قرع عشرة من عشرين، وأن يحسب خاسق أحدهما قرعين- يجوز؛ لأنهما متساويان فيه فإن أصاب أحدهما تسعة قرعاً، وأصاب الآخر قرعين وأربع خواسق، فقد نضل صاحب الخواسق؛ لأنه استكمل العشر، وقيل: هذا لا يجوز كما لو شرطا أن يحسب خاسق واحد خاسقين، والأول أصح؛ لأن الخسق فوق القرع؛ فيجوز أن يجعل في مقابلة قرعين، وإن كان العقد على الحوابي، وهي التي تسقط قريباً من الغرض وصورتها: أن يشرطا أرشاقاً معلومة على أن ما قرب من الغرض يسقط ما بعد منه، فمن نضل له من القريب إن كان ناضلاً؛ كأنهما قالا: من نضل له خمس من عشرين، فقد نضل- فهذا يجوز، فإذا رمى أحدهما وأصاب من الهدف موضعاً [بينه، وبين] الغرض قدر شبر، ثم رمى الآخر، فأصاب موضعاً بينه وبين الغرض قدر إصبع- أسقط الأول، فإذا عاد الأول ورمى وأصاب الغرض- أسقط ما رماه صاحبه، وكذلك إذا رمى أحدهما أولاً، فوقع سهمه بقرب الشن، ثم رمى الآخر فأصاب الشن، أسقط الأول، لأنه إذا كان أقرب من الشن، أسقطه، فإذا أصاب الشن أولى أن يسقطه، ولو رمى أحدهما، فأصاب الشن وأصاب الآخر الرقعة التي في وسط [الشن]- قال الشافعي- رضي الله عنه-: من الرماة من يقول: الذي أصاب الرقعة يسقط الآخر، والقياس عندي؛ أنهما سواء؛ لأن القريب إنما يسقط البعيد، إذا كان خارجاً من الشن، فإن كانا في الشن فلا؛ لأن الشن كله موضع الإصابة. ولو رمى أحدهما سهماً، فوقع بقرب الشن، ثم رمى الثاني، فوقع أبعد، ثم رمى البادئ فوقع أبعد من الثاني-: فالأول يسقط الثاني، والثاني يسقط الثالث، ولو رمى أحدهما خمسة، فوقعت كلها بقرب الغرض، وبعضها أقرب من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت كلها أبعد من الخمسة الأولى تسقط الخمسة الثانية بالخمسة الأولى، ولا يسقط من الخمسة الأولى شيء، وإن كان بعضها أقرب من بعض؛ لأن قريبه يسقط بعيد صاحبه لا بعيد نفسه، وكان هذا ناضلاً بأخذ السبق؛ لأنه فضل بخمسة قريبة من الغرض، وإن رميا سهمين، فكانا سواءً في القرب من الشن- لم يسقط أحدهما الآخر، وإذا سقط بعض السهام أسفل الغرض، وبعضها من جانبيه، وبعضها من فوقه: قال الشافعي

-رحمه الله-: من الرماة من يقول: إن القريب من السهام إنما يسقط البعيد، إذا وقع بين يدي الغرض أو من جانبيه، فأما ما فوقه فلا يسقطه، ثم قال: القياس أن يتقايسا، فيسقط القريب البعيد؛ كما لو وقع بين يديه أو بجنبه، فإذا عقدا على الحوابي وشرطا أن يحسب/ خاسق أحدهما جانبين- جاز؛ نص عليه كما ذكرنا في القرع؛ لأن الخاسق زيادة على الحابي، فتكون تلك الزيادة في مقابلة الحابي للثاني، وهل يشرط في عقد المناضلة بيان من يبدأ بالرمي؟ فيه قولان: أقيسهما: يشترط، فإن لم يبينا لا يصح؛ لوقوع الاختلاف فيه. والثاني: يصح. ثم إن كان المال منهما يقرع بينهما، وإن كان من أحدهما فهو أولى بالبداية، وإن كان من جهة غيرهما فيقدم المستبق من يشاء، وقيل: يقرع بكل حال، سواء كان المال [منهما أو] من أحدهما أو من جهة غيرهما، ويستحب أن يكون الرمي بين غرضين؛ روي عن عقبة بن عامر؛ "أنه كان يرمي بين غرضين"، ومثله عن ابن عمر وأنس، ولأن ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب، فإن كان الرمي بين غرضين، فبدأ أحدهما في غرض بدأ الآخر في الغرض الثاني، فإن كانت البداية لأحدهما فرمى الآخر قبله، لم يحسب له إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، فإن حانت نوبته يرمي ثانياً، وإذا اختلفا في موضع الوقوف كان الأمر إلى من له البداية؛ لأنه لما ثبت له السبق ثبت له اختيار المكان، ثم يقف الآخر بجنبه، وإذا أصاب الثاني إلى الغرض الثاني كان الخيار في موضع الوقوف إليه، ولو وقف أحدهما عن يمين الغرض، والآخر عن يساره- جاز، إذا لم يكن أحدهما أقرب من الغرض، وكذلك لو قدم أحدهما إحدى رجليه حالة الرمي- جاز؛ لأنه جرت به عادة الرماة، وإن طلب أحدهما استقبال الشمس، والآخر الاستدبار- أجيب إلى الاستدبار؛ لأنه أصلح للرمي، وإن بدأ أحدهما فلا يرمي جميع ما معه من النبل، بل يرمي سهماً، ثم يرمي صاحبه سهماً هكذا حتى ينفذ نبلهما، ومطلق العقد يحمل على هذا، فإن شرطا أن يرمي كل واحد في نوبته أكثر من واحد ثلاثاً ثلاثاً، أو خمساً خمساً، أو يرمي أحدهما جميع ما معه، ثم يرمي الآخر- جاز بشرط أن يكونا فيه سواءً، فإن رمى أحدهما أكثر مما له- لم تحسب له تلك الزيادة إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ.

فصل في صفة عد المسابقة والمناضلة عقد المسابقة والمناضلة عقد لازم أم جائز؟ فيه قولان: أصحهما: لازم/ لأنه عقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه معلوماً من الجانبين كالإجارة. والثاني: أنه جائز؛ لأنه عقد يبدل العوض فيه على ما لا يوثق به كالجعالة؛ فإن قلنا: لازم كالإجارة- لا يجوز لأحدهما فسخه دون الآخر، ولا أن يجلس فلا يرمي؛ سواء كان قبل الشروع في العمل أو بعده، ولا تجوز الزيادة على العدد المشروط من الرمي ولا النقصان ولا في المال إلا أن يفسخا العقد الأول، ويستأنفا عقداً آخر، وإن قلنا: جائز كالجعالة- يجوز لكل واحد منهما أن يجلس قبل الشروع في العمل، وكذل كبعد الشروع في العمل، إذا لم يكن لأحدهما فضل على الآخر، وإن كان لأحدهما فضل- يجوز لمن له الفضل أن يجلس، وهل يجوز لمن عليه الفضل أم لا؟ فيه وجهان، وتجوز الزيادة والنقصان في عدد الرمي والمال بالتراضي، فإن قلنا: هو لازم حتى لا يجوز لأحدهما أن يجلس- فكذلك إذا أراد من عليه الفضل أن يجلس، أو أراد من له الفضل، ويحتمل أن يدركه صاحبه، فإن علم أن صاحبه لا يدركه بأن شرطا إصابة خمسة من عشرين، وأصاب أحدهما خمسة، وقد بقي لصاحبه رميتان، ولم يصب إلا واحداً، ولا يتصور إصابة أربعة من رميتين، فيجوز لمن له الفضل أن يجلس؛ لأنه يبخس بحقه ولا فرق بين أن يكون المال من جهتهما أو من جهة أحدهما أو من جهة أجنبي في أن المسألة على قولين، غير أن المال إذا كان من جهة أحدهما أو من جهة أجنبي، وقلنا: هو عقد لازم- فهو لازم من جهة المعطى، أما الذي شرط له العوض فهو جائز من جهته، له أن يجلس كالرهن لازم من جهة الراهن، جائز من جهة المرتهن، ولو مرض أحد الراميين أو رمدت عينه، لم يبطل العقد؛ لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر، ولو عقد على عدد كثير على أن يرميا كل يوم: بكرة كذا وعشية كذا- يجوز، ولا يتفرقان إلا بعد رمي ذلك العدد المشروط من غير عذر/، فإن حدث عذر من مرض أو ريح عاصفة، تركا وبينا في يوم آخر بعد زوال العذر، ولو رميا بعض الأرشاق مثلاً، فقال أحدهما لصاحبه: ارم هذه الرمية فإن أصبته فقد نضلتك- لا يجوز، أو قال: اطرح فضلك، ولك كذا- لا يجوز، ويشترط أن يكون المال في المناضلة والمسابقة معلوماً، عيناً كان أو ديناً، كالأجرة في الإجارة، ثم بعد النضل: يجوز أخذ الرهن

والصنمين به، إن كان ديناً، وإذا امتنع عن أدائه أجبره السلطان على أدائه وحبسه فيه، وإن كان عيناً يجب تسليمها، فإن هلكت في يده قبل التسليم- يجب عليه ضمانها كالمبيع إذا تلف في يد البائع قبل التسليم، وإن تلفت قبل النضل والسبق- انفسخ العقد، ويجوز الرد بالعيب، وإن شرطا مالاً مجهولاً أو ديناراً أو ثوباً، ولم يصفا الثوب أو شرطا ديناراً إلا ثوباً- لم يصح، ولو شرطا ديناراً إلا دانقاً أو صاعاً من حنطة إلا مداً- يجوز، ولو شرطا ديناراً إلا درهماً- لا يجوز إلا أن يزول إلا قدر درهم، وكانت قيمة الدينار من الدرهم معلومة يعرفان إذا حط عنه قدر [درهم فلم يبقى لا يجوز]، ولو شرطا أن المنضول والمسبوق [يطعم الأصحاب أو الناضل]، إذا أخذ المال أطعم الأصحاب يفسد العقد [أما إذا وعد السابق والناضل؛ أنه إذا أخذ المال أطعم أصحابه- لا يفسد به العقد أيضاً] ولا يلزم فإن شاء وفي بوعده، وإن شاء لم يف به، ولو قال أجنبي لأد الراميين: إن أصبت هذه الرمية فلك كذا، فأصاب استحق ما سمى الأجنبي، ويحسب له في عقد المناضلة، حتى لو جاء عشرة نفر، وضمن كل واحد له شيئاً معلوماً على إصابته، فأصاب الكل- ستحق الكل، وإن كان أحد الراميين يطيل الكلام والجلس يمنع منه، فإذا سأله رجل شيئاً، فقال له: أجبه جواباً وسطاً، لا على عجلة لا يفهم، ولا طويلاً لا يدخل الجلس على أصحابك، ولو رمى أحدهما فطول الآخر الإرسال: إما لإصابة صاحبه حتى يرد يده، ولا يصيب بعده، وإما لخطأ وقع له أن يريد أن يستعتب [عنه]، يقال له: ارم لا متعجلاً ولا متثبطاً، ولو شرطا في الرمي أن يقف أحدهما أقرب من الهدف، أو أنه إذا أخطأ يرد إليه خطأه، أو يحسب/ لواحد إصابة واحدة إصابتين أو يحط من إصاباته شيء، أو يرمي أحدهما عشرة والآخر أقل أو أكثر، أو شرطاً أن يكون في يد أحدهما من النبل أكثر مما في يد الآخر؛ وذلك أن من عادة بعض الرماة أنهم يأخذون النبل فيما بين الأصابع عند الرمي، فمن أخذ أكثر كان رميه أضعف، أو شرطا الرمي بقوس أو نبل واحد، إذا انكسر لا يبدل؛ فهذه وأمثالها تفسد العقد، وإذا فسد العقد فهل يستحق الناضل والسابق الذي شرط له المال أجر المثل؟ - فيه وجهان:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق- لا يستحق؛ لأن نفع عمله من الفروسية، والرماية له لا لغيره؛ بخلاف الإجارة والجعالة الفاسدة، يستحق العامل فيهما أجر المثل؛ لأن عملهما وقع للغير، فاستحقا الأجرة. والوجه الثاني- وهو الأصح-: يستحق أجر المثل؛ لأن كل منفعة تضمن، فالمسمى في العقد الصحيح يضمن بعوض المثل؛ كالعمل في الإجارة والقراض؛ أما إذا كان المال من أحدهما، وسبق أو نضل الذي يعطى المال- فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يشرع فيه على أن يأخذ شيئاً. فصل فيما يحسب من الإصابات وما لا يحسب إذا شرط إصابة الغرض، فأصاب الشن أو الجريد، وهو الذي يدور حول الشن أو العروة، وهو السير أو الخيط الذي يشد به الشن على الجريد- حسب؛ لأن الكل من الغرض، وإن أصاب المعلاق، وهو: الذي يعلق به الغرض، [هل يحسب]؟ فيه قولان: أحدهما: يحسب؛ لأنه من الغرض؛ ألا ترى أنه إذا أمد امتد معه الغرض، فكان كالخيط والعروة. والثاني: لا يحسب؛ لأنه يعلق به الغرض. إما للغرض فهو الشن وما يحيط به. وإن شرطا إصابة الشن، فأصاب الجريد أو العروة أو المعلاق- لم يحسب لأن ذلك كله غير الشن، وإذا شرطا الإصابة، فالشرط: أن يصيب النصل الغرض، فلو أصاب القدح، [فلا يجعل مصيباً، ويحسب عليه، ولو انكسر السهم بنصفين فأصاباه، يحسب له إصابة القرع]، ولا يحسب الآخر، وكذلك لو شرطا إصابة موصوفة/ من خرق أو خسق يشترط أن يحصل ذلك بالنصل، ولو شرطا الإصابة مطلقاً، فأصابه النصل، ولم يخرق، وسقط- حسب، وإن كان الشن بالياً فأصاب موضع الخرق- حسب، ولو أغرق السهم حتى دخل نصله مقبض القوس، فإن أصاب- حسب له، وإن لم يصب لم يحسب عليه، وله أن يعود فيه، وكذلك لو انقطع وتره، وانكسر قوسه، أو حدثت في يده علة، أو عرض دون سهمه شخص أو دابة، فأصابه السهم، إن نفذ فيه، فأصاب- حسب له، وإن لم يصب [لم] يحسب عليه، وكذلك لو انكسر السهم بعد خروجه من القوس، فسقط دون

الغرض، لم يحسب عليه؛ لأن عدم الإصابة لفساد الآلة، لا لسوء رميه، فإن أصاب ما فيه النصل- حسب، وكذلك لو كان في الغرض سهم، فأصاب سهمه فوق ذلك السهم، فإن كسره، ونفذ إلى الغرض- حسب له، وإن لم يصب لا تحسب عليه؛ لأنه عارض دون الشن وإنما يحسب عليه خطأ يحصل بسوء رميه، ولو عرض عارض تعثر به السهم، فجاوز الغرض ولم يصب، هل يحسب عليه؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يحسب عليه؛ لأن خطأه بسوء الرمي، ولو كان العارض يوقع السهم دون الغرض. والثاني: لا يحسب عليه؛ لأن العارض يشوش الرمي: مرة يقصر عن الغرض ومرة يجاوزه. أما إذا جاء السهم عن سنن الغرض، وخرج من السماطين، فلم يصب- حسب عليه؛ لأنه سوء رمي، وكذلك لو صرفته الريح عن سنن الغرض، فلم يصب- حسب عليه، ولو رمى مفارقاً للشن فردته الريح إلى الشن أو كان ضعيفاً، فقوته الريح، فأصاب- يحسب له، هذا في الريح الخفيفة التي لا ينفك الجو عنها، ولا يمكن الاحتراز عنها، فإن كانت الريح شديدة عاصفة، فرمى، فأصاب أو أخطأ- لا يحسب له ولا عليه؛ لأن الجو ينفك عن هذه الريح، ولو هبت ريح، فنقلت الغرض إلى موضع آخر، فإن أصاب السهم موضعه الذي انتقل عنه- حسب، وإن أصاب الغرض في الموضع الذي انتقل إليه- لا يحسب له وحسب عليه، ولو رمى السهم، فأصاب الأرض وازدلف، وأصاب الغرض، هل يحسب له؟ فيه قولان: أحدهما: يحسب؛ كما لو عرض دونه شيء، فهتكه، وأصاب. والثاني: لا يحسب؛ لأن السهم خرج عن الرمي إلى غير الغرض، وإنما أعانته الأرض حتى ازدلف عنها إلى الغرض- فلا يحسب له، وإن ازدلف ولم يصب الغرض، هل يحسب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يحسب عليه؛ لأنه إنما ازدلف بسوء رميه. والثاني: لا يحسب؛ لأن الأرض تشوش السهم وتزيله عن سننه.

ولو اصطك السهم بجدار، فصرفه إلى الشن، هل يحسب له؟ فيه وجهان: أحدهما: يحسب؛ كما لو صرفته الريح. والثاني: لا يحسب، بخلاف الريح؛ لأن الهواء لا يخلو عن الريح، ويخلو عن الجدار. وإنشرطا الخسق، فإن أصاب الغرض وثقبه وتعلق بنصله- كان خسقاً ولو ثبت [فيه]، ثم سقط- حسب له؛ لأن الخسق هو أن يثبت، وقد ثبت، فسقوطه من بعد- لا يضر؛ كما لو جاء إنسان، فنزعه. ولو أصاب الغرض، فخدشه، ولم يثقبه- لا يكون خسقاً، ولو ثقبه بحيث يصلح لثبوت السهم فيه، لكنه سقط، ولم يثبت، هل يحسب فيه قولان: أحدهما: لا يحسب؛ لأن الخسق ما يثبت فيه السهم، ولم يثبت. والثاني: يحسب؛ لأنه قد ثقب ما يصلح لثبوت السهم فيه، فلعل سقوطه كان لعارض. ولو خسق إلا أن السهم قد لقي صلابة، فعاد وسقط- حسب خسقاً، ولو كان الشن بالياً أو كان عليه خرق، فأصاب موضع الخرق، وثبت في الهدف- فهو خاسق؛ لأن الشن أضعف من الهدف، فلما ثبت في الهدف، علم أنه كان يثبت في الشن، ولو أصاب الغرض، وهو معلق ملصق بالهدف، فرجع، فاختلفا، فقال الرامي: خسقت إلا أنه لقي صلابة، فرجع، وقال المرمي عليه: لم يخسق- نظر: إن كان الشن بالياً، وفيه خروق، ولم يعرف موضع الإصابة- فالقول قول المرمي عليه؛ لأن الأصل عدم الخسق، وهل يحلف؟ نظر: إن فتش الغرض، فلم يكن فيه شيء يمنع الثبوت- لم يحلف، وإن كان فيه ما يمنع ثبوته- حلف، وإن علم موضع الإصابة، ولم يكن فيه ما يمنع الثبوت، أو كان فيه غلظ، ولم يبلغ السهم موضع الغلظ/- فالقول قول المرمي عليه بلا يمين؛ كما لو أصابه ولم يخدش الغرض، ويحسب على الرامي، وإن كان قد أثر في الغرض: فإن كان الشن جريداً لا ثقب فيه، وبعد الرمي فيه ثقب قد وصل إلى الغلظ؛ إن قلنا: الخرق يقوم مقام الخسق- فالقول قول الرامي بلا يمين، ويحسب له، وإن قلنا: لا يقوم الخرق مقام الخسق- لا

يحسب له، ولا عليه: لا يحسب له؛ لأنا لا نعلم ثبوته، لولا الغلظ ولا يحسب عليه؛ لأنا لا نعلم عدم الثبوت، وإن أصاب طرف الغرض، فخرمه وثبت فيه، هل يحسب خسقاً أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يحسب له؛ لأنه قد ثقب وثبت فيه. والثاني: لا يحسب؛ لأن الخسق في العادة أن يبقى شيء من الشن جلداً؛ أو حيط محيطاً بالنصل، واختلفوا في محل القولين، منهم من قال: محل القولين، إذا بقيت من الشن طعنة منفطرة محيطة بالنصل، وإن لم يبق، بل كان بعض من النصل خارجاً- لا يحسب؛ قولاً واحداً، ومنهم من قال: محلهما إذا كان بعض من النصل خارجاً، وإن بقيت طعنة منفطرة محيطة بالنصل- يحسب وإن كان الشن منصوباً فأصابه، ومرق منه، هل يحسب خسقاً؟ فيه قولان: أحدهما: يحسب؛ لأن المروق زائد على الثبوت؛ كما لو شرطا الإصابة فمرق- يحسب مصيباً فيه. والثاني: لا، حتى يثبت فيه؛ لأن الثبوت فيه نوع حذاقة. ولو انكسر السهم، فأصاب وخسق- نظر: إن خسق بالنصل حسب، وإن خسق بالقدح فلا يحسب كما في الإصابة، ولو أصاب الشن ومرق، وثبت في الهدف ووجد على نصله قطعة من الشن، فقال الرامي: هذه الجلدة قطعها سهمي بقوته، وقال المرمي عليه: بل كانت في الشن، كانت قد انقطعت من قبل، فتعلقت بالسهم- فالقول قول المرمي عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق. فصل فيما لو اجتمع جماعة للمناضلة إذا اجتمع جماعة للمناضلة، فصاروا حزبين، وخرج من كل حزب زعيم-: مختار الأصحاب- جاز، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحداً؛ كما لا يجوز أن يكون وكيل

البائع والمشتري/ واحداً، ويشترط أن يكون الحزبان متساويين في العدد؛ لأن المقصود معرفة الحذق، فإذا تفاضلا في العدد، وفضل العدد الكثير- كان ذلك لكثرة العدد، لا للحذاقة وجودة الرمي ولا يجوز التغيير إلا بالاختيار، أما بالاقتراع [فلا يجوز]؛ لأن القرعة غرر لا مدخل لها في العقود، وكذلك لو قسم الحزبان بالسوية، ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه- لم يجز؛ لأن تعيين المعقود عليه، لا يجوز بالقرعة في المعاوضات؛ وكذلك لا يجوز على أن من خرجت له القرعة يأخذ السبق والآخر يعطي؛ وكذلك لو قال أحد المستبقين: اختار الأصحاب واسبق والآخر يعطي واختار الجياد، فأعطى السبق، أو اختار غير الجياد، وأخذ السبق. ويشترط أن يكون عدد الأرشاق معلومة؛ فإن صاروا ثلاثة أحزاب كل حزب ثلث الجميع: يجب أن يكون عدد الأرشاق لها ثلث صحيح [كالثلثين والستين، وإن كانوا أربعة يجب أن يكون لها ربع صحيح] كالأربعين والثمانين، حتى لا يقع الاشتراك في سهم واحد، ولو شرط أحد الحزبين على الآخر أن يقدموا فلاناً في الرمي، ثم فلاناً- لم يجز، بل يقدم كل حزب من يشاء، ولو اتفقا على أنه يبدأ فلان، فسبقه غيره بالرمي- لم يحسب له ولا عليه، ويرميه إذا جاءت نوبته، وإن حضر غريب، فقسموه، ثم قال من اختاره: كنا نراه رامياً، فبات بخلافه- نظر: إن كان لا يحسن الرمي أصلاً له- رده وبطل العقد فيه وسقط من الحزب الآخر بمقابلته واحد، كما إذا بطل العقد في أحد المبيعين- سقط ما يقابله من الثمن، وفي بطلان الباقي قولان؛ فإن قلنا: لا يبطل- ثبت للحزبين الخيار بين فسخ العقد وإجازته، وإن اختاروا البقاء على العقد، وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلته من الحزب الآخر- فسخ العقد بينهما؛ لأنه تعذر إمضاء العقد على مقتضاه، ومن أصحابنا من قال: يبطل العقد في الجميع قولاً واحداً؛ لأن من في مقابلته من الحزب الآخر غير متعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة؛ فيبطل/ العقد، وإن كان هذا الغريب يحسن الرمي، إلا أنه قلما يصيب- فلا رد لأصحابه، وإن كان حازقاً- قلما يخطئ- فقال الحزب الآخر: كنا نراه غير حازق؛ فيفسخ العقد- ليس لهم ذلك، وإذا نضل أحد الحزبين- ففي قسمة المال بينهم وجهان:

أحدهما: يقسم بينهم بالسوية؛ كما يقسم على المنضولين بالسوية حتى لو كان فيهم من لم يصب شيئاً- يستحق. والثاني: يقسم بينهم على قدر إصاباتهم؛ لأنهم استحقوا بالإصابة، فاختلفوا باختلاف الإصابة بخلاف المنضولين سوينا بينهم؛ لأنه وجب عليهم بالالتزام، وهم في الالتزام سواء؛ فعلى هذا: إذا كان في الناضلين من لم يصب- لا يستحق شيئاً، والله أعلم بالصواب.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. اليمين: هي تحقيق الأمر أو توكيد الأمر بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، وعند أصحاب الرأي: تحقيق الوعد بما يكفر بضده، وقيدوا بـ"الوعد"؛ لأن اليمين لا تنعقد عندهم في الماضي، والوعد يكون في المستقبل. وقالوا: "إنما يكفر بضده"؛ لأن قصد الحالف بيمينه تعظيم الله- عز وجل- ويكفر بضده، ولذلك قالوا: لو حلف باليهودية والنصرانية- يكون يميناً؛ لأن قصده نفي اليهودية

والنصرانية عن نفسه، وبضده يكفر، ولا تنعقد اليمين إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته؛ فاليمين بالله؛ كقوله: "والذي أعبده، والذي أصلي له، والذي نفسي بيده ونحوه" يكون يميناً" لأنه حلف بذاته، أما اليمين بالأسماء: فالأسماء على ثلاثة أضرب اسم مختص بالله- عز وجل- كقوله: "والله، والرحمن ورب العالمين، ومالك يوم الدين، والحي الذي لا يموت، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والواحد الذي ليس كمثله شيء، وما أشبه ذلك": فإذا حلف بشيء منها- كانت يميناً منعقدة، سواء نوى اليمين أو أطلق أو نوى غير اليمين؛ فإن قال: لم أرد به اليمين- لا يقبل. والضرب الثاني: اسم ينصرف إلى الله- تعالى- عند الإطلاق وإلى غيره عند التقييد؛ كقوله: "والرحيم والخالق والرازق والقادر والرب وما أشبه"؛ فإذا أطلق يكون يميناً، وإن نوى به غير الله- لا يكون يميناً؛ لأنه يقال: "فلان رحيم القلب" و"رب الدين" و"خالق الكذب" و"قادر على المشي" ونحو ذلك؛ فهو كما لو قيد، فقال: "ورازق الجيش، ورب الدين- لا يكون يميناً، وسواء كان هذا الاسم مشتقاً من صفات الذات؛ مثل: "الرحمن الرحيم السميع البصير"، أو من صفات الفعل؛ مثل: "الخالق، والبارئ، وباسط الرزق، وفالق الإصباح، ومقلب القلوب، ونحوه"، فيكون يميناً. والضرب الثالث: يستعمل في غيره؛ كقوله: "والشيء، والموجود، والناطق، والعالم، والحي، والمؤمن"؛ فلا يكون يميناً إلا أن ينوي. فأما اليمين بالصفات: فالصفات قسمان [صفة ذات وصفة فعل؛ فصفة الذات كقوله: "وعظمة الله، وجلال الله، وعزة الله، وكبرياء الله، وبقاء الله، وكلام الله"؛ فهو يمين، وكذلك لو قال: "وعلم الله، وقدرة الله، ومشيئة الله" يكون يميناً؛ لأن العلم والقدرة من] صفات ذاته التي لم يزل موصوفاً بها؛ كالصفات الستة، فإن أراد بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور- لا يكون يميناً؛ لأن العلم يستعمل في المعلوم؛ كما يقال في الدعاء: اغفر لنا علمك الذي فينا، أي: معلومك، ويقال: "انظروا إلى قدرة الله، أي: مقدوره؛ فهو من صفات الفعل؛ كما لو قال: "ومعلوم الله، ومقدور الله"- لا يكون يميناً؛ لأنه

حلف بمحدث؛ كما لو قال: وخلق الله، ورزق الله، ولو قال: وقرآن الله، وكتاب الله- يكون يميناً؛ كقوله: "وكلام الله"، وعند أبي حنيفة: [كلام الله] لا يكون يميناً، ولو قال: وحق الله- فهو يمين إلا أن يريد به العبادات؛ فإنها من حقوق الله- تعالى- على العباد؛ فلا يكون يميناً، وقال المزني: "وحق الله" لا يكون يميناً؛ لأنه ليس من صفات الذات، قلنا: "الحق" يستعمل ف العبادات، ويستعمل فيما يستحقه الباري من صفات الذات، فحمل مطلقه عليه؛ لكثرة الاستعمال على صفات الذات، ولو قال/: وحق الله، وقدرة الله بالرفع أو بالنصب- لا يكون يميناً، إلا أن يريد به اليمين؛ لأنه يريد: حق الله واجب، وقدرة الله ماضية. وحروف القسم ثلاثة: "الباء" و"الواو" و"التاء"، فإن قال: بالله، لأفعلن، أو: والله، أو: تالله- يكون يميناً، نوى أو لم ينو، والتاء لا تستعمل إلا في اسم الله، فإن أراد بالباء المعجمة بواحدة: بالله أستعين، بالله أثق- فلا يكون يميناً، وقال في "القسامة" "تالله" بالتاء المعجمة من فوق- لا يكون يميناً؛ فمن أصحابنا من جعل فيه قولين والمذهب: أنه يمين؛ قولاً واحداً؛ لقوله تعالى؛ إخباراً عن إبراهيم" {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، وعن إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91]، وما نقل في القسامة: وقع مصحفاً؛ إنما قال الشافعي - رضي الله عنه-: "بالله، بالياء المعجمة باثنتين من تحت على سبيل النداء؛ لأنه دعاء ليس بيمين، وقيل: أراد به إذا حلفه الحاكم، فقال: قل: بالله، فقال هو: تالله بالتاء- لا يحسب؛ لأن يمين المدعى عليه يشترط أن يكون على وفق تحليف الحاكم، ولو قال: والله- بالرفع- يكون يميناً، والخطأ في الإعراب لا يمنع انعقاد اليمين، ولو قال: الله، لأفعلن بحذف حرف القسم- فلا يكون يميناً، إلا أن يريده؛ لأنه ليس بمعهود الشرع، ولا العرف، وقال صاحب "التلخيص": إطلاقه يكون يميناً، ولو قال: "الله" منصوباً أو مرفوعاً- فلا يكون يميناً إلا أن ينويه، ولو قال: "وايم الله"- فهو كقوله: "وحق الله"، ومعناه: "وأيمان الله"- يكون يميناً إلا أن يريد غير اليمين؛ لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في أسامة بن زيد: "وايم الله، إنه لخليق بالإمارة" ولو قال: "لاها الله" فهو يمين إن أراده؛ وإن لم يرد فليس بيمين؛ لأنه غير

متعارف؛ وكذلك لو قال: "لعمرو الله"- فلا يكون يميناً إلا أن يريده فيكون يميناً، قيل: معناه: لقاء الله، ولو قال: "أقسمت بالله، أو: أقسم بالله، أو: حلفت بالله، أو: أحلف بالله لأفعلن كذا". فإن أراد به يميناً في الحال، أو أطلق- كان يميناً؛ لأنه ثبت له عرف الشرع والعادة؛ قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53]، وإن قال: أردت بقولي "أقسمت بالله وحلفت بالله": أني كنت أقسمت وحلفت وبقولي: "أقسم وأحلف": أني سأقسم- يقبل في الباطن، وهل يقبل في الحكم؟ نص الشافعي/ ههنا: أنه يقبل، ولا يكون يميناً، وقال في "الإيلاء": لا يقبل؛ اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يقبل في الحكم؛ لأنه يمين في العرف. والثاني- وهو الأصح-: يقبل؛ لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ. ومنهم من قال: في الإيلاء: لا يقبل في الحكم؛ لأنه تعلق به حق المرأة، ومبنى حقوق الآدميين على الشح والضيق، وفي غير الإيلاء: يقبل؛ لأنه لا يتعلق به إلا الكفارة، وهي من حقوق الله تعالى، ومبنى حقوق الله على المساهلة. ولو قال: "شهدت بالله، أشهد بالله"؛ فإن أراد به اليمين، فإنه يمين؛ لأنه ورد به الشرع؛ قال الله تعالى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]، وأراد به اليمين فإن أراد به غير اليمين، فلا يكون يميناً؛ لأنه قد يريد بالشهادة بالله غير الأيمان بالله، وإن أطلق ولم يكن له نية- ففيه وجهان: أحدهما: هو يمين؛ لورود الشرع به. والثاني: ليس بيمين؛ لأنه لم يجر به العرف. ولو قال: "عزمت بالله، أو: وأعزم بالله" فلا يكون يميناً إلا أن ينويه؛ لأنه يريد: أعزم على الفعل بمعونة الله، ولا يكون ذلك يميناً [إلا أن ينويه]. ولو قال: "أقسمت أو: أقسم، أو: حلفت أو: أحلف، أو: شهدت أو: أشهد، أو: عزمت، أو: أعزم"، ولم يذكر اسم الله- عز وجل-: لم يكن يميناً، نوى أو لم ينو؛ لأنه لم يحلف باسم من أسماء الله، ولا صفة من صفاته، وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: يكون يميناً.

ولو قال: "على عهد الله، وميثاقه، وأمانته، وكفالته"- فهو كقوله: "أشهد بالله". فإن أراد به اليمين، فهو يمين، ويكون المراد من العهد استحقاقه لما أوجبه علينا وتعبدنا به، وإن أراد غير اليمين فهو: ما أخذ علينا من العهد في العبادات- فليس بيمين، وإن أطلق- فعلى وجهين. ولو قال: "نذرت الله" ففيه وجهان، ولو قال: "اعتصم بالله، وأستعين بالله، وأتوكل عليه، وأثق به"- فلا يكون يميناً، وإن نوى، ولو قال لغيره: "أسألك بالله، أو: أقسم عليك بالله، لتفعلن كذا". فإن أراد بذلك الشفاعة، أي: أتشفع بالله عليك لتفعلن كذا- فلا يكون يميناً، وكذلك إن كان أراد يمين من يقسم عليه، أن ينعقد للمسئول- فلا يكون يميناً في حق واحد منهما؛ لأن السائل أراد يمين غيره، وهو المسئول، والمسئول لم يحلف، وإن أراد يمين نفسه؛ كأنه يحلف على المسئول: لتفعلن كذا-: كان يميناً/ في حقه، ويستحب للمسئول أن ينوي في قسمه؛ لما روي عن البراء بن عازب، قال: "أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسبع: بعبادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم"، ولو حلف رجل لا يفعل كذا، فقال غيره: يميني في يمينك، أو: أنا مثلك في اليمين- لا تنعقد اليمين بغير الله- عز وجل- ويكره ذلك؛ كقوله: "والرسول والكعبة والسماء والأرض" ونحو ذلك؛ روي عن ابن عمر؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدرك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو يسير في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت"؛ فإن قيل: أليس، قد أقسم الله تعالى بالمخلوقات، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] وغيرها من الآيات؟ - قيل: ذكر الرب فيه مضمر، معناه: ورب النجم، ورب السماء؛ كما قال في موضع آخر: "فورب السماء والأرض، إنه لحق"، وقيل: إنما حلف بهذه الأشياء، لأنه ليس فوق الله أحد يعظم تعظيمه، فحلف بأعظم مخلوقاته، وقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أفلح وأبيه، إن صدق"- صلة للكلام- ليس بقسم؛ يدل عليه: أن اليمين للتعظيم، ولا يحلف بأب الأعرابي تعظيماً له، ولو قال: إن فعلت كذا، فأنا برئ من الإسلام أو يهودي أو نصراني- فلا يكون يميناً. وعند أبي حنيفة-: يكون يميناً، ومن سبق إلى لسانه لفظ اليمين من غير قصد؛ كقول الإنسان في لجاج أو عجلة، أو في صلة كلام: "لا، والله"، "بلى، والله"- لا يكون يميناً،

وكذلك: لو أراد اليمين على شيء، فسبق إلى لسانه غيره- فلا ينعقد يمينه، ولا كفارة عليه؛ لقول الله - عز وجل-: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قالت عائشة - رضي الله عنها-: لغو اليمين: "لا والله، بلى والله". وعند أبي حنيفة: لغو اليمين: أن يحلف على أن مقتضى ظنه كذلك؛ فبان بخلافه لنا في هذا قولان؛ بناء على حنث الناسي. ويصح اليمين على الماضي؛ كما يصح على المستقبل؛ فإن حلف على ماض؛ بأن قال: "والله، لقد كان كذا، ولم يكن كذا"/ وكان صادقاً- لا شيء عليه، وإن كان كاذباً- نظر: إن كان عالماً بالحال- فهو اليمين الغموس، وهي من جملة الكبائر؛ روي عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "الكبائر؛ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" وعندنا: تجب به الكفارة مع العلم، وإن كان جاهلاً، هل يلزمه الكفارة؟ فعلى قولين؛ بناءً على ما لو حلف على شيء [في المستقبل] ألا يفعله ثم فعله ناسياً، هل تلزمه الكفارة؟ فيه قولان، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: اليمين على الماضي: لا يوجب الكفارة، بل إن كان عالماً فهو كبيرة؛ لا تجب بها الكفارة كسائر الكبائر، وإن كان جاهلاً- فهو يمين اللغو، وربما يقولون: اليمين على الماضي لا تنعقد، والحجة عليهم أن الحكام عن آخرهم [يحلفون] على الماضي، ولو لم تكن منعقدة- لم يكن لتحليفهم معنى، وليس في كونه ماضياً أكثر من أنه آثم به، فتكون أولى بوجوب الكفارة؛ كما أن الله تعالى أخبر؛ أن الظهار قول منكر وزور ثم أوجب ب الكفارة. فصل في كراهية الحلف قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، اليمين في الجملة مكروهة إلا فيما لله فيه طاعة؛ كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً".

ثم إن حلف على ترك مأمور: بأن حلف ألا يصلي، أو على ارتكاب محظور: بأن حلف أن يشرب الخمر، أو لا يكلم أخاه- عصى الله تعالى به ويجب أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه، ولو حلف على ترك مندوب؛ مثل: أن حلف ألا يعود مريضاً أو لا يزور صديقاً، أو على أن يأتي بمكروه- فالأصل: أن يحنث نفسه، ويكره أن يحفظ يمينه، روي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة، وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير" وعن أبي موسى

الأشعري- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إني، والله، إن شاء الله/، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير". وإن حلف على ترك مباح: بأن حلف لا يدخل الدار، أو: لا يأكل اللحم، ونحو ذلك- يباح له الحنث والإقامة على حفظ اليمين، وأيهما أولى؟ فيه وجهان: أحدهما: الأولى أن يحفظ يمينه، ولا يحنث؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. والثاني: الأولى أن يحنث؛ لقوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. وقيل: إن حلف على التأييد، فالأولى أن يحنث نفسه، وإن كان مؤقتاً، فلا يحنث. باب الاستثناء في الأيمان روي عن ابن عمر؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه".

إذا حلف على يمين، فقال- موصولاً به-: إن شاء الله- لا تنعقد يمينه، فإن سكت بين اليمين والاستثناء، أو تكلم بشيء آخر- لا يصح الاستثناء، إلا أن يسكت يسيراً [بين اليمين]؛ كسكتة الرجل لتذكر أو لتنفس أو لعي أو لانقطاع صوت؛ فلا يمنع الاستثناء، والفصل بين اليمين والاستثناء ألطف من الفصل بين الإيجاب والقبول؛ لأنه كلام شخص واحد، والإيجاب والقبول يكون بين شخصين، ويشترط أن يعزم على الاستثناء في ابتداء كلامه، فلو لم يعزم، بل تداركه بعد الفراغ من اليمين فوصله به- لم يصح، ولو عزم في خلال اليمين- فيه وجهان، ولو علق اليمين بمشيئة آدمي- لا يخلو: إما إن علق الحنث بمشيئته أو منع الحنث: فإن علق الحنث بمشيئته - نظر: إن حلف على الإثبات، فقال: "والله لأدخلن هذه الدار، إن شاء فلان"، يعني: إن شاء فلان أن أدخلها"- فلا تنعقد يمينه حتى يشاء فلان الدخول؛ ودخوله قبل مشيئته لا حكم له، فإن شاء فلان أن يدخل- انعقدت يمينه، فإن دخل بر في يمينه، وإن لم يدخل بعد مشيئته، [فإن كان] قيد بزمان؛ بأن قال: "لأدخلن اليوم" حنث إذا مضى اليوم، وإن لم يقيد فيتقيد بالعمر: فإن مات بعد مشيئته قبل

الدخول، حنث قبل الموت، وإن شاء فلان ألا يدخل، أو لم يشأ بأن لم يعلم، أو علم ولم يشأ، أو فقدت مشيئته/ بموت أو جنون- فلا حنث عليه؛ لأن يمينه لم تنعقد، وإن حلف على النفي، فقال: "والله، لا أدخل هذه الدار، إن شاء فلان"، يعني: إن شاء فلان ألا أدخل، فإن شاء فلان ألا يدخل: فإن لم يدخل بر في يمينه، وإن دخل حنث، وإغن شاء فلان أنيدخل، أو لم يشأ شيئاً، فلا حنث عليه، دخل أو لم يدخل. أما إذا علق منع الحنث بمشيئته- لا يخلو: إما أن يحلف على الإثبات أو على النفي. فإن حلف على الإثبات، فقال: "والله، لأدخلن هذه الدار، إلا أن يشاء فلان [فلا يعني إلا أن يشاء فلان] ألا أدخل، فلا أحنث بترك الدخول؛ فقد عقد اليمين غير معلق، وجعل المشيئة شرطاً للخروج، وفي الصورة الأولى: علق انعقاد اليمين بالمشيئة فما لم يشأ لا ينعقد، ففي هذه الصورة: إن دخل بر في يمينه، شاء فلان أو لم يشأ، وإن لم يدخل - نظر: إن شاء فلان ألا يدخل بر، وإن شاء فلان أن يدخل، أو لم تعرف مشيئته- حنث. وإن حلف على النفي، فقال: "والله، لا أدخل هذه الدار، إلا أن يشاء فلان"، فإن لم يدخل بر في يمينه، وإن دخل- نظر: إن كان قد شاء فلان قبل دخوله أن يدخل- بر، وإن كان قد شاء ألا يدخل، أو لم تعرف مشيئته- حنث، ومشيئته بعد الدخول لا تخرجه من الحنث؛ لأن الحنث قد حصل بالدخول قبل المشيئة، وعلى هذا: لو حلف ألا يدخل الدار إلا بإذن فلان، فمات فلان قبل الإذن، فدخل- حنث؛ لأن إذنه مانع من الحنث، ولم يوجد؛ [والله أعلم]. باب التكفير قبل الحنث. روي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليفعل".

إذا حلف على شيء يجوز له أن يكفر قبل الحنث، إن كان الحنث جائزاً وعند أبي حنيفة: لا يجوز، والخبر حجة عليه؛ حيث قال: "فليكفر عن يمينه، وليفعل"؛ قدم التكفير على الفعل، ولأنه حق المال تعلق بسببين؛ فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين:/ كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب قبل الحول، هذا إن أراد أن يكفر بإطعام أو كسوة أو عتق، أما التكفير بالصوم: فلا يجوز قبل الحنث؛ لأنه لا يجوز إلا بعد العجز عن التكفير بالمال، ولا يتحقق العجز إلا بعد الوجوب، ولأن الصوم عبادة بدنية؛ فلا يجوز تعجيله قبل الوقت كالصوم الشرعي لا يجوز تقديمه على دخول رمضان، ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول، وإن كان الحنث معصية؛ بأن حلف ألا يشرب الخمر ونحوه، فكفر قبل أن يشرب، هل يصح؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يصح؛ لأنه يتطرق به إلى ارتكاب المحظور، وكذلك المنذور: يجوز تعجيله، إن كان مالياً؛ مثل: إن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبداً،:إن] رد الله غائبي، فلله علي أن أتصدق بكذا"؛ فعجل العتق والصدقة قبل شفاء المريض وقدوم الغائب- جاز، وإن كان بدنياً كالصوم والصلاة والحج- لم يجز تعجيله، وكذلك جميع الكفارات- يجوز تعجيلها بعد وجود سببها قبل وجوبها مثل كفارة الظهار بعد وجود الظهار قبل العود، وكفارة القتل بعد الجرح قبل زهوق الروح، وكذلك جزاء الصيد بعد جرح الصيد قبل الموت؛ وفدية الأذى بعد وجود الأذى قبل الحلق- يجوز، أما قبل الجرح والأذى: لا يجوز؛ كما لا يجوز كفارة اليمين قبل وجود اليمين، أما كفارة الجماع في شهر رمضان، وفي الحج- لا يجوز تقديمهما على الفعل؛ لأن الصوم ليس سبباً لوجوب

الكفارة، ولا الإحرام؛ لأنهما يحرمان الجماع، وما يحرم شيئاً لا يكون سبباً لإيجاب ما يجب بارتكاب ذلك المحرم؛ فتكفيره قبل الفعل يكون تكفيراً قبل وجود السبب، واليمين- ههنا- سبب؛ لأنه لا يمنع الحنث، وجوز أبو حنيفة كفارة القتل وجزاء الصيد بعد الجرح قبل الموت، وإن كفر بالصوم، ولو قال: "أعتقت عبدي عن كفارة يميني، إذا حنثت" يجوز العتق عن الكفارة، إذا حنث، أما إذا قال: "أعتقته عن كفارتي، إذا حلفت"- لا يجوز عن الكفارة؛ لأنه قدم التعليق على اليمين، وفي الصورة الأولى: قدم على الحنث؛ فجاز، ولو قال: "إذا حنثت في يميني غداً- فأنت حر عن/ كفارتي": فإن حنث غداً، عتق عن الكفارة، وإن لم يحنث غداً- لا يعتق العبد؛ لأن الصفة لم توجد، ولو قال لعبده: "انت حر عن كفارة يميني، [إن كنت حنثت]، ثم بان حانثاً- كان حراً عن كفارته؛ وإلا فلا يعتق، قال الشيخ- رحمه الله-: ولو قال: "أنت حر عن كفارتي إن كنت حلفت وحنثت" فبان حالفاً- وجب ألا يجوز؛ لأنه كان شاكاً في وجود اليمين، وفي الصورة الأولى: لم يشك في اليمين، إنما شك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز، ولو قال: "أنت حر عن ظهاري، إن كنت ظاهرت" فبان مظاهراً- وجب ألا يجوز، ولو أعتق عبداً عن كفارته قبل الحنث، ثم ارتد العبد قبل الحنث، ثم حنث- لم يحسب عن الكفارة؛ كما لو عجل الزكاة، ثم ارتد المدفوع إليه قبل الحول- لم يحسب. قال الشيخ رحمه الله: وعلى هذا- القياس: لو مات العبد قبل الحنث، ويحتمل في الموضعين أن يحسب كالشاة المعجلة في الزكاة، إذا ماتت قبل الحول، والله أعلم. باب كفارة اليمين قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. كفارة اليمين مخيرة يتخير الحالف بين أن يطعم عشرة من المساكين، وبين أن يكسوهم أو يعتق رقبة: فإن عجز عنها يصوم ثلاثة أيام، فإن اختار الإطعام يجب أن يطعم كل مسكين مداً بمد النبي - صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلث من حب هو غالب قوت البلد، ولا يجوز

الدقيق و [لا] السويق ولا الخبز، ولا يجوز التفريق، وهو أن يطعم خمساً ويكسو خمساً، ويعتق نصف رقبة، وجوز أبو حنيفة أن يطعم البعض ويكسو البعض، ولم يجوز التفرييق بين العتق والإطعام والكسوة. ولو كان عليه ثلاث كفارات لثلاثة أيمان، فأعتق ثلاث رقاب أو أطعم ثلاثين مسكيناً أو كساهم بنية الكفارة من غير تعيين/ جاز، وكذلك لو أطعم عشراً [أو كسا عشراً أو أعتق رقبة من غير تعيين- جاز]، فإن عين مبعضاً لم يجز، والنية شرط مقترناً بالتكفير، فإن نوى قبلها ولم تحضره النية حالة التكفير- لم يجز، إلا ف الصوم؛ فإنه إذا نوى من الليل قبل طلوع الفجر- يجوز، ولو كفر عن غيره بغير أمره- لم يجز. وإذا اختار الكسوة- يجب أن يكسو عشرة مساكين: كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة: قميص، أو سراويل، أو عمامة، أو مقنعة، أو إزار، أو رداء، أو طيلسان؛ لأن الشرع ورد [به] مطلقاً من غير تقدير، فحمل على ما يسمى كسوة، ولا يشترط أن يكون ما يدفع كافياً للمدفوع إليه، حتى لو دفع إلى كبير سراويل صغيرة أو قطعة كرباس يحصل منه سراويل لصغير- جاز، ولا يتقدر بستر العورة، وقال مالك- رحمه الله-: يجب أن يعطى إلى كل شخص ما تجوز صلاته فيه، فيكسو الرجل ثوباً، والمرأة ثوبين، وهو قول الشافعي- رضي الله عنه- في "القديم" وحكاه البويطي عنه؛ وقال الشيخ- رحمه الله-: وهذا أحسن الأقاويل. وأولاها، ويجوز ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصوف، ويجوز القز والديباج؛ سواء كان المدفوع إليه رجلاً أو امرأة؛ لأنه لا يشترط أن يلبس بنفسه، فيجوز أن يعطي الرجال كسوة النساء، والنساء كسوة الرجال، ويجوز المصبوغ والبيض، وهل يجوز اللبيس؟ نظر: إن ذهبت قوته لم يجز، وإن لم تذهب- جاز كالرقعة، يجوز، إن لم تبطل منفعتها، ولا يجوز المتخرق، وإن كان مرفعاً- نظر: إن كان متخرقاً فرقع لم يجز، وإن خيط في الابتداء مرقعاً لا للخرق جاز، ولا يجوز الخف والجورب والنعل والمنطقة والتكة والقفازات؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة، وهل تجوز القلنسوة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا ينطلق عليه اسم الكسوة.

وقال أبو إسحاق: يجوز؛ لأنه روي أنه سئل عمران بن حصين عن هذا؟ فقال: "لو قدم وفد على أميركم فكساهم قلنسوة، قلتم: قد كساهم؟ "، وقيل: في الخف المنعل والزريول وجهان. ويجوز صرف طعام الكفارة وكسوتها إلى الصغار، ويدفع إلى أوليائهم، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة كاملة الرق سليمة عن العيوب التي تضر بالعمل ضرراً بيناً؛ كما ذكرنا في الظهار، فإن عجز عن هذه الأشياء يجب أن يصوم ثلاثة أيام؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] فإن كان له مال، ولكنه غائب- لا يجوز أن يكفر بالصوم؛ لأن وقته موسع، فيصبر إلى أن يصل إلى المال، وهل يجب التتابع في صوم كفارة اليمين؟ فيه قولان: أصحهما- وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني-: يجب كما يجب في كفارة الظهار والقتل. والثاني: لا يجب؛ لأن الله تعالى لم يذكر فيه [التتابع؛ كما أن قضاء رمضان لا يجب فيه التتابع]، لأن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فلم يذكر التتابع؛ [ولأنه] خفف الأمر فيه بإثبات التخيير وقلة العدد، وكذلك بإسقاط التتابع، فإن قلنا: يجب التتابع، فلو أفطر يوماً بغير عذر- يجب الاستئناف، [ولو أفطرت المرأة اليوم الثاني والثالث بعذر الحيض، هل يجب الاستئناف] فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ كما في صوم شهرين في كفارة القتل. والثاني: [يجب]؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذه المدة قصيرة يمكن الاحتراز فيها عن الحيض خلاف الشهرين. ولو مات، وعليه كفارة، يكفر من تركته، سواء أوصى به أو لم يوص، هذا هو المذهب، ثم إن كانت الكفارة مرتبة- يعتق من تركته عبد، وإن كانت مخيرة- يجب أنقص الأشياء قيمة من الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، فإن كفر الوارث بأعلاها قيمة [من

الإطعام] جاز، ولو أوصى الميت بالعتق- وهو أكثر قيمة من الإطعام والكسوة- يعتبر من الثلث، وماذا يعتبر؟ فيه قولان: أحدهما: جمع قيمة العبد فإن لم يخرج من الثلث أطعم عنه. والثاني: يعتبر ما زاد على قيمة أنقصها قيمة. وكذلك لو أوصى بأن يكسى عنه- وقيمة الكسوة أكثر من قيمة الطعام- فيعتبر [من الثلث] جميع قيمة الكسوة، أم ما زاد على قيمة الطعام؟ فعلى قولين، فإن أوصى بأن يطعم عنه، وقيمة الطعام أقل، يطعم عنه من رأس المال، فإن تبرع الوارث بإعتاق رقبة من مال الميت، جاز. فصل في كفارة يمين العبد إذا حنث العبد في يمينه، فلا يتصور منه التكفير بالمال؛ لأنه لا ملك له، بل يكفر بالصوم، ثم ينظر: إن كان الصوم يضر به لشدة الحر وطول النهار، فهل له أن يصوم بغير إذن المولى؟ نظر: إن حلف بإذنه وحنث بإذنه، فله أن يصوم بغير إذنه، وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه، فلا يصوم إلا بإذنه، ولو صام حسب، وإن كان أحدهما بإذنه دون الآخر، ففيه وجهان: أصحهما: الاعتبار باليمين، فإن كان اليمين بإذنه، والحنث بغير إذنه- له أن يصوم بغير إذنه، وإن كان اليمين بغير إذنه- فلا يصوم إلا بإذنه. والثاني: الاعتبار بالحنث: فإن كان الحنث بإذنه، صام بغير إذنه، وإن كان الحنث بغير إذنه، صام بإذنه، فحيث قلنا: لا يصوم إلا بإذنه: فإن كان الصوم لا يضر به كالصوم في الشتاء، فهل له أن يصوم بغير إذنه؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه لا ضرر على السيد فيه. والثاني: لا يصوم إلا بإذنه؛ لأن الصوم يثبطه عن العمل وينقص من نشاطه، فكل موضع قلنا: لا يصوم إلا بإذنه: فلو صام أجزأه كما لو صلى الجمعة دون إذنه. ولو ملكه السيد طعاماً أو كسوة ليكفر به: إن قلنا: العبد يملك بالتمليك، جاز، وعليه أن يكفر به، وإن قلنا: لا يملك- وهو المذهب- لم يجز، بل يكفر بالصوم، وكذلك

لو كفر عنه السيد [بالإطعام أو الكسوة بإذنه] فعلى هذين القولين، أما إذا ملكه عبداً ليعتقه أو أعتق عنه عبداً بإذنه- لا يجوز؛ لأنه يعقب الولاء، والعبد ليس [أهلاً أن] يثبت [له] الولاء، ولو مات العبد، ثم كفر عنه السيد بعد موته بإطعام أو كسوة- جاز، لا خلاف فيه؛ لأن التمليك بعد الموت ليس بشرط، ولو أعتق عنه لم يجز، ولو حنث العبد في يمينه، ثم عتق: إن كان معسراً يكفر بالصوم، وإن كان موسراً: إن قلنا: الاعتبار في الكفارات بحالة الأداء، وهو الأصح: يجب أن يكفر بالإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، وإن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب- يجوز أن يكفر بالصوم، وهل يجوز أن يكفر بالمال؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز كالحر إذا كان معسراً حالة الوجوب، ثم أيسر- فله أن يكفر بالإعتاق والإطعام والكسوة على الأقوال كلها. والثاني: لا يجوز بخلاف الحر إذا/ أيسر؛ لأنه كان يوم الحنث من أهل التكفير بالمال؛ ولأنه لو تكلف واستدان، فكفر بالمال- جاز، والعبد لم يكن يوم الحنث من أهل التكفير بالمال إلا على قولنا القديم؛ إنه يملك بالتمليك فله أن يكفر بالإطعام والكسوة، وإن كان بعضه حراً وبعضه رقيقاً: فإن كان معسراً يكفر بالصوم، وإن كان له مال فلا يجوز أن يكفر بالعتق؛ لأنه يعقب الولاء؛ لأنه ليس من أهله، وعليه أن يكفر بالإطعام أو الكسوة، وهو- في هذا الحكم- كالحر؛ كما إذا وجد ثمن الماء- لا يجوز أن يصلي بالتيمم أو ثمن الثوب لا يجوز أن يصلي عرياناً، ومن أصحابنا من قال- وهو قول المزني- رحمه الله-: هو [كالعبد القن]، لا يجوز أن يكفر بالمال؛ لأنه ناقص بالرق؛ كالحر إذا لم يجد إلا نصف الكفارة ينتقل إلى الصوم، والأول أصح؛ لأنه واجد لتمام الكفارة بنصفه الحر، ولا حق للمولى فيه؛ بخلاف الحر، لم يجد إلا بعض الكفارة، والله أعلم. باب جامع الأيمان إذا حلف لا يسكن هذه الدار ولا يقيم فيها، فخرج في الحال- لم يحنث، وإن ترك المتاع فيها، وإن أقام وبعث المتاع والرحل- حنث؛ لأنه حلف على سكنى نفسه، لا على متاعه، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: إن نقل المتاع، ولم يخرج- لم يحنث، وإن خرج

ولم ينقل المتاع- حنث، ولو مكث ساعة من غير عذر أو لأكل أو شرب أو غيره- حنث، وإن اشتغل بأسباب الخروج من جمع المتاع وإخراج الأهل أو لبس الثوب- لم يحنث. وإن كان مريضاً لا يقدر على الخروج: فإن لم يجد من يخرجه- لم يحنث، وإن وجد من يأمره، فلم يأمره، حنث؛ وإن مرض وعجز بعدما حلف، فلم يكنه الخروج- هل يحنث؟ فيه قولان؛ كالمكره؛ قال الشيخ رحمه الله: وكذلك لو كان بالليل، فخاف العسس، وإن عاد مريضاً ماراً- لم يحنث، وإن قعد عنده حنث، ولو خرج في الحال، ثم دخل أو كان خارجاً حين حلف، ثم دخل- لا يحنث بالدخول ما لم يمكث، فإذا مكث حنث إلا أن يشتغل بحمل المتاع؛ كما في الابتداء/. ولو حلف لا يساكن فلاناً في هذه الدار أو في هذا البيت- وهما فيه- فخرج أحدهما في الحال- لم يحنث الحالف، وإن مكثا ساعة حنث، وإن ساكنه في دار أخرى أو بيت آخر- لم يحنث، وإن خرج أحدهما، ثم عاد، فسكنا- حنث، وإن بنى بينهما جداراً من جص أو طين، ولكل واحد من الجانبين مدخل، أو فتحا في الحال مدخلاً، هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن البناء يحتاج إلى مدة، وهما يتساكنان في تلك المدة. والثاني- وهو الأصح-: أنه لا يحنث؛ لأن البناء اشتغال برفع المساكنة. أما إذا خرج في الحال، ثم أمر ببناء الجدار، ثم عاد- لم يحنث، ولو قال: لا أساكن فلاناً مطلقاً وأراد: في بيت أو في دار، أو [في] سكة- حمل عليه، وإن لم تكن له نية، فإن ساكنه في بيت واحد بحنث] وإن كانا في سكة في دارين- لا يحنث؛ وإن كانا في دار واحدة، أو في خان واحد في بيتين- هل يحنث؟ فيه وجهان، وإن كان في الدار حجرتان مرافقهما متميزة من المدخل والمطبخ والمستحم، وسكن كل واحد حجرة- لا يحنث، ولو حلف لا يدخل داراً، فدخل صحنها، ولم يدخل البناء- حنث، وكذلك لو دخل الدهليز الذي خلف الباب أو بين البابين- حنث، ولو دخل الطاق ال ذي قدام الباب- لم يحنث، وقيل: يحنث، ولو صعد سطحها، فإن كان غير محوط- لم يحنث، وإن كان محوطاً- ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه يحيط به سور الدار.

والثاني: لا يحنث؛ لأن السطح حاجز بين الدار وخارجها؛ فصار كما لو لم يكن محوطاً، وكما لو صعد حائط الدار. ولو كانت في الدار شجرة منتشرة أغصانها، فتعلق بغصن منها، فصعدها، فإن نزل على طرف السطح حتى أحاط به حائط الدار- حنث، وإن حازى السطح، فهو كما لو صعد السطح، وإن حلف لا يخرج من هذه الدار فصعد السطح: إن لم يكن محوطاً- حنث، وإن كان محوطاً- فوجهان، ولو حلف لا يدخل هذه الدار، وهو فيها، فلم يخرج- لا يحنث؛ لأنه لا يعبر بالدخول عن المقام كما لو حلف لا يسكن لا يحنث بالدخول؛ [لأنه لا يعبر بالسكنى عن الدخول]، وكذلك: لو حلف لا يخرج من هذه الدار، وهو خارج- لا يحنث تى/ يدخل ويخرج؛ حينئذ يحنث، وكذلك: لو حلف لا يتزوج، وهو متوزج، أو لا يتطهر، وهو متطهر، فدام عليه- لا يحنث؛ لأنه لا يعبر [فيه] بالدوام عن الابتداء، أما إذا حلف لا يلبس ثوباً، وهو لابسه، فلم ينزع في الحال، أو حلف لا يركب دابة، وهو راكبها، فلم ينزل- حنث؛ لأنه يعبر باللبس والركوب عن الاستدامة؛ بدليل أنه لو قيل له: انزع الثوب يصح أن يقول: حتى ألبس ساعة، ولو قيل: انزل عن الدابة، يصح أن يقول: حتى أركب ساعة، ولو قيل: اخرج من الدار- لا يحسن [في جوابه] أن يقول: حتى أدخل ساعة، بل يقول: حتى أسكن ساعة، حتى لو حلف لا يلبس ثوب فلان، وهو لابسه، فاستدام- حنث، ولزمته كفارة، فلو حلف ثانياً لا يلبسه، فاستدام- عليه كفارة أخرى؛ لأن اليمين الأولى قد انحلت بالاستدامة الأولى، والدليل عليه أيضاً: أنه يجوز أن يقدر المدة بهذه الشياء، فيقول: لبست يوماً، وركبت ليلة، وسكنت شهراً، أو أقمت يوماً، ولا يصح أن يقول: دخلت الدار يوماً، أو تزوجت شهراً، أو تطهرت يوماً، ولو حلف [أن] لا يقوم، وهو قائم، فلم يقعد، أو حلف أن لا يقعد، وهو قاعد، فلم يقم- حنث؛ لأنه يعبر بالقيام والقعود عن الدوام، ولو حلف- لا يتطيب، وهو متطيب فاستدام- هل يحنث؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يحنث؛ لأن الاستدامة لا تجعل كالابتداء فيه؛ بدليل أنه إذا تطيب فأحرم واستدام ذلك الطيب بعد الإحرام- لا تجب عليه الفدية.

والثاني: يحنث؛ ويجعل كما لو ابتدأ؛ بدليل أن المحرم لو تطيب ناسياً لا فدية عليه، ولو علم واستدام: تجب عليه الفدية. ولو حلف ألا يطأ، وهو في خلال الوطء، فلم ينزع [فهل يحنث]؟ فيه وجهان. ولو حلف في خلال الصلاة ناسياً ألا يصلي- تنعقد يمينه، ولا تبطل صلاته، وهل يحنث بالاستدامة؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو حلف ألا يصلي، فشرع فيها، ثم أفسد [ها، ولو] حلف ألا يصوم فأصبح صائماً فأفطر- هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: يحنث بالشروع؛ لأنه يسمى صائماً ومصلياً. والثاني: لا يحنث حتى يصلي/ ركعة [ويتشهد] ويسلم، وحتى يتم صوم يوم لأنه يفرض أن يفسد، فيخرج ما مضى من أن يكون صلاة أو صوماً؛ ألا ترى أنه لو نذر أن يصلي- لا يبر حتى يصلي ركعة ويسلم، ولو نذر أن يصوم لا يبر، حتى يصوم يوماً، فإن قلنا- هناك-: يحنث بالشروع في الصلاة- فههنا: إذا حلف في خلال الصلاة- لا يحنث بالاستدامة؛ لأنه لم يوجب الشروع، وإن قلنا- هناك-: لا يحنث حتى يتم ويخرج فههنا: يحنث إذا أتمها وخرج، قال الشيخ- رحمه الله-: وكذلك لو حلف الصائم ألا يصوم، فاستدام- هل يحنث؟ فعلى هذين الوجهين. ولو حلف ألا يغضب، [وكان قد] غضب، فأمسك المغضوب- لا يحنث، ولو حلف ألا يستقبل القبلة، وكان مستقبلها، فدام عليه- حنث، وعند أبي حنيفة: إذا حلف ألا يصوم، فأصبح صائماً- حنث، وإن أفطر بعده، وإن حلف ألا يصلي، فشرع فيها- لم يحنث، ما لم يسجد؛ لأن الصوم فعل [واحد]، وهو الإمساك، فإذا أمسك لحظة، فقد حصل الاسم، والصلاة أفعال متغايرة، فما لم يصل ركعة لا يحصل الاسم؛ فلا يحنث، ولو حلف ألا يسافر، وهو في السفر، فأخذ في العود- لم يحنث؛ لأنه في العود تارك السفر، وإن استدام السفر حنث. ولو حلف لا يدخل داراً، فأدخل فيها رأسه، أو وضع فيها إحدى رجليه- لم

يحنث، وإذا وضع [فيها] رجليه معتمداً عليهما- حنث، وكذلك: لو حلف ألا يخرج منها، فأخرج رأسه أو إحدى رجليه- لم يحنث، [وإذا] أخرج رجليه معتمداً عليهما- حنث، وإن كان قاعداً فمد رجليه، فأخرج قدميه- لم يحنث ولو حلف لا يدخل داراً، فحمل وأدخل- نظر، إن حمل بأمره- حنث؛ كما لو ركب دابة ودخلها، وإن حمل بغير أمره- لم يحنث؛ سواء [كان] أمكنه الامتناع، فلم يفعل وتراخى أو لم يمكنه الامتناع. وقال مالك- رحمه الله-: إن تراخى وأمكنه الامتناع- حنث. ولو كان في الدارن هر جار، فطرح نفسه فيه، حتى حمله إلى الدار- حنث؛ لأنه دخلها باختياره، وإن كان نائماً، فانقلب، فحصل فيها- لم يحنث، ولو دخلها ناسياً باليمين، أو جاهلاً بالدار- هل يحنث؟ فيه قولان: أحدهما: يحنث؛ لوجود الفعل المحلوف عليه. والثاني:/ لا يحنث؛ لقوله- عليه السلام-: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن قلنا: لا يحنث، فلو مكث بعدما دخل- لم يحنث بالمكث، وكذلك: لو أكره حتى دخلها- هل يحنث؟ فيه قولان: أحدهما: يحنث؛ لوجود الدخول. والثاني: لا يحنث؛ لأنه مكره. فإن قلنا: يحنث، ينحل اليمين وتلزمه الكفارة، وإن قلنا: لا يحنث، فهل تنحل اليمين؟ فيه وجهان: أحدهما: تنحل؛ لوجود الفعل المحلوف عليه، ولكن لا كفارة عليه؛ لكونه مكرهاً. والثاني: لا تنحل؛ حتى لو دخل بعده مختاراً، لزمته الكفارة.

وكذلك: كل فعل أو قول حلف عليه ألا يفعله؛ مثل: أن حلف لا يأكل كذا، أو لا يكلم فلاناً، أو نحو ذلك، ففعل ناسياً أو مكرهاً- هل يحنث؟ فيه قولان. ولو حلف ألا يدخل هذه الدار، فانهدمت، إن كانت الأسس باقية، فدخلها- حنث، وإن صارت فضاءً، أو جعلت بستاناً أو مسجداً أو حماماً أو حانوتاً، فدخلها- لم يحنث؛ لأنه زال عنها اسم الدار، فلو أعيدت داراً- نظر: إن أعيدت بغير تلك الآلة فدخلها- لم يحنث؛ لأنها غير تلك الدار. وإن أعيدت بتلك الآلة، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت. والثاني: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار. وكذلك: لو حلف ألا يدخل هذا البيت، فصار فضاءً، فدخله- لم يحنث، وعند أبي حنيفة: في البيت لا يحنث، كما قلنا، أما الدار إذا صارت فضاءً، فدخلها- حنث؛ لأن العرب تسمي آثار الدار الخربة داراً، ووافقنا أنه لو حلف منكراً، فقال: لا أدخل داراً، فدخل داراً بعدما صارت فضاءً: أنه لا يحنث، فنقيس عليه وعلى ما لو جعلها حماماً، قالوا: لا يحنث بدخولها. ولو حلف لا يدخل دار فلان، فدخل داراً يسكنها فلان ملكاً- حنث، وإن كان يسكنها بإجارة أو إعارة أو غصب- لا يحنث، إلا أن يريد مسكن فلان، فيحنث، وإن كان لفلان دار لا يسكنها، ويسكنها غيره، فدخلها- حنث، فإن أراد مسكه، لا يحنث، وعند أبي ثور: يحمل قوله: "دار فلان" على المسكن، سواء كان يسكنها فلان بملك أو إجارة أو إعارة أو غصب، وكان شيخي- رحمه الله-/ يقول: إذا قال ذلك بالفارسية- يحمل على المسكن، ولو كان لفلان دار حين حلف الحالف، فباعها، ثم دخلها- لم يحنث؛ لأنه لم يدخل دار فلان، فإن عين وقال: والله، لا أدخل دار فلان هذه؛ فباعها فلان، ثم دخلها- حنث؛ لنه عقد اليمين على عين الدار، إلا أنه أضافها إلى الملك فزوال الملك لا يسقط الحنث، وكذلك: لو حلف لا يكلم عبد فلان هذا، أو زوجة فلان هذه، فكلمه بعدما باعه أو طلقها- حنث، إلا أن تكون نيته ما دامت الدار أو العبد [في] [ملكه] أو الزوجة في نكاحه؛ فلا يحنث بعد زوال الملك والنكاح، وعند أبي حنيفة: في الدار لا يحنث، إذا دخلها بعد زوال

ملك فلان؛ لأن المقصود من اليمين هجران صاحب الدار، لا هجران الدار، فبعد البيع: لا يحنث بالدخول، وفي الزوجة- والعبد: يحنث؛ لأنهما يقصدان بالهجران، وكذلك - عندنا-: لو حلف لا يكلم سيد هذا العبد هذا، أو زوج هذه المرأة هنا، فكلمه بعدما باعه أو طلقها- حنث، ولو لم يشر، بل قال: لا أكلم عبد فلان أو زوجة فلان، فكلم بعد البيع والطلاق- لم يحنث، وكذلك: لو قال: لا أكلم سيد هذا العبد أو زوج هذه المرأة، فباعه، وطلقها، ونكحها غيره، فكلم البائع أو الزوج المطلق- لم يحنث، ولو كلم المشتري أو الزوج الثاني- حنث، فإن قيل: قد قلتم: إذا حلف لا يدخل هذه الدار، فصارت فضاءً، فدخلها- لم يحنث؛ لتبدل الاسم، ولو قال: دار فلان هذه، فتبدل الملك، فدخلها- حنث-: فما الفرق؟ قلنا: لأن الإضافة لا تكون للتأبيد؛ فإن الملك عرضة للزوال بأسباب كثيرة، فغلبنا الإشارة على الإضافة، والاسم يكون للتأبيد غالباً، وتبدله نادر، فاعتبرناه، وغلبناه على الإشارة. ولو حلف لا يدخل دار فلان، فدخل داراً مشتركة بين فلان وغيره، أو لا يلبس ثوب فلان، فلبس ثوباً مشتركاً بينه وبين غيره- لم يحنث؛ لأنه عقد اليمين على ما يكون الجميع له. ولو حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب، فدخل تلك الدار من موضع آخر- لم يحنث، ولو قلع ذلك الباب من ذلك الموضع وركب على موضع آخر من تلك الدار، ودخل من المنفذ الأول- يحنث، ولو دخل من الموضع الذي ركب عليه [الباب] لا يحنث؛ لأن اليمين معقودة على الممر لا على عين الباب، إلا أن يريد عين المكان والباب؛ فسواء دخل من المنفذ الأول أو الموضع الذي ركب عليه الباب- لم يحنث، ومن أصحابنا من قال: مطلقه يحمل على المكان وعين الباب جميعاً، فأيهما فقد- لم يحنث، والأول أصح أن مطلقه محمول على المكان، وإن كانت نيته عين الباب، فإذا ركب على موضع آخر من تلك الدار، فدخلها من ذلك الموضع- -حنث، وإن دخل من المنفذ الأول- لم يحنث، ولو ركب الباب على دار أخرى، فدخل الدار الأخرى من ذلك الباب- لا يحنث، إلا أن ينوي لآ أدخل من هذا الباب، فعلى أي دار ركب، فدخل- حنث، ولو حلف لا يدخل من هذا الباب- يحمل على الخشبة أم على المنفذ-[فيه] وجهان، ولو قال: لا أدخل هذه الدار من بابها أو [لا] أدخل من باب هذه الدار، فسد بابها، وفتح من مكان

آخر باب، ففيه وجهان: قال ابن أبي هريرة: اليمين انعقدت على الباب الأول، فلا يحنث بالدخول من الثاني؛ كما لو حلف لا يدخل دار زيد، فباعها زيد، ثم دخلها- لم يحنث. والثاني- وهو الأظهر، وهو قول أبي إسحاق-: يحنث بالدخول من الباب الثاني؛ لأنه عقد اليمين على بابها، وبابها- الآن- هذا الثاني، كما لو حلف ألا يدخل دار زيد، فباع زيد داره، واشترى داراً أخرى- يحنث بدخول التي اشتراها دون الأولى. ولو حلف لا يدخل بيتاً، فدخل أي بيت كان من مدر أو طين أو آجر أو هجر أو خشب أو أدم أو شعر، أو دخل خيمة- يحنث؛ لأن اسم البيت ينطلق على الكل؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 8.]، وكلها للإيواء والسكنى. ومن أصحابنا/: من قال- وهو قول [ابن سريج]-: إذا كان الحالف قروياً، فدخل خيمة أو بيتاً من شعر أو أدم- لا يحنث؛ لأن أهل القرى لا يطلقون عليها اسم البيت، والأول أصح؛ لأن كلها مبنية للسكنى؛ كالبدوي إذا دخل بيتاً من طين، أو مدر يحنث، وإن لم يكن ذلك متعارفاً فيهم، وإذا قال بالفارسية، فلا يحنث إلا ببيت مبني، ولو دخل بيت المسجد أو الكعبة أو غاراً في الجبل أو بيت الحمام- لا يحنث؛ لأنها غير مبنية للإيواء والسكنى؛ فلا يدخل في إطلاق اسم البيت وكذلك لو دخل بيعة أو كنيسة- لا يحنث؛ لأن مطلقه يتناول بيوت العباد. ولو حلف لا يدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، وفلان فيه مع غيره- نظر: إن كان عالماً بكونه فيه، ولم يعزله بقلبه- حنث، وإن عزله بنيته، ونوى الدخول على غيره- ففيه قولان: أحدهما: يحنث؛ لوجود الدخول عليه. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لم يقصد الدخول عليه. وإن دخله، ولم يعلم أن فلاناً فيه- فعلى قولي حنث الناسي. ولو كان المحلوف عليه وحده فيه، فدخل الحالف عالماً به؛ لنقل متاع أو لشغل آخر: فإن لم يعزله بنيته- حنث، وإن عزله- قيل: فيه قولان؛ كما لو كان فلان مع غيره،

وقيل: ههنا يحنث قولاً واحداً؛ لأن الغير يكون مدخولاً عليه، والمتاع لا يكون مدخولاً عليه؛ لأنه [لا] يقال: فلان دخل على المتاع؛ فلا يمكن صرف الدخول إليه، ولو حلف ألا يسلم على فلان، فسلم على جماعة، وفلان فيهم - نظر: إن لم يعلم كونه فيهم، هل يحنث؟ فعلى قولي حنث الناسي، وإن علم كونه فيهم: إن لم يعزله بنيته- حنث، وإن عزله بنيته- نص على أنه لا يحنث، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كما لو دخل على المحلوف عليه، وهو مع غيره، فعزله بنيته، ومنهم من قال: ههنا لا يحنث قولاً واحداً، وهو الأصح؛ بخلاف الدخول؛ فإنه فعل وقد حصل على الكل؛ فلا يتميز بالاستثناء، وأما السلام، فإنه قول؛ فيجوز تخصيصه بالاستثناء؛ فإنه قد يكلم واحداً بمحضر جماعة، ويصح أن يقول لقوم: سلام عليكم إلا على فلان، ولا يصح أن يقول: دخلت عليكم إلا على فلان؛ فهو فيهم. فصل فيما لو حلف لا يلبس هذا الثوب. إذا حلف لا يلبس هذا الثوب، واتخذ منه قميصاً أو سراويل أو قباء أو اتزر أو ارتدى به أو تعمم أو على أي وجه لبس- حنث، ولو كان معه رداء فحلف، وقال: لا البس هذا الثوب رداءً، فارتدى به- حنث، [فإن اتزر به أو تعمم أو جعله قميصاً أو سراويل، فلبسه، أو قال: لا ألبسه سراويل، فاتزر به أو لا ألبسه قميصاً، فارتدى- به- لم يحنث، ولو قال: لا ألبسه وهو رداء، فارتدى به، أو اتزر به أو تعمم- حنث؛ لأنه لبسه وهو رداء، وإن جعله قميصاً أو سراويل] فلبسه- لم يحنث؛ لأنه لم يلبسه وهو رداء، ولو قال: لا ألبس هذا الرداء، فارتدى به- حنث، ولو اتزر به أو تعمم أو جعله قميصاً، فلبسه- هل يحنث؟ فيه وجهان، وكذلك لو قال: لا ألبس هذا السراويل، فاتزر به، أو قال: لا ألبس هذا الخف، فاتخذ منه نعلاً، ولبسه، أو ذا القميص، فجعله حبة- فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لوجود الإشارة. والثاني: لا يحنث؛ لتبدل الاسم؛ كالدار إذا صارت فضاءً.

قال الشيخ- رحمه الله -: فإن قلنا: لا يحنث: فلو قال: هذا القميص، فشقه، ثم أعاده، أو هذا الخف، ففتقه، وأعاده- هل يحنث إذا لبسه؟ فيه وجهان؛ كالدار إذا هدمها، ثم بناها بتلك الآلة، ولو حلف لا يلبس هذا الغزل، فنسجه، ولبسه- حنث؛ لأن الغزل لا يمكن لبسه، إلا منسوجاً؛ فكان يمينه على منسوجه؛ كما لو حلف لا يأكل هذا الحيوان، فذبحه، وأكله- حنث؛ لأنه لا يمكن أكله حياً، فيمينه كان على لحمه. ولو حلف لا يلبس شيئاً، فلبس درعاً أو جوشناً أو خفاً أو نعلاً- هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه لبس شيئاً. والثاني: لا يحنث؛ لن إطلاق اللبس لا ينصرف إلى غير الثياب. فلو حلف لا يلبس حلياً، فلبس خاتماً من ذهب أو فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو غيره من الجواهر- يحنث؛ لأن جميعها حلي؛ قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23] وإن لبس شيئاً من الخرز؛ قال الشيخ: فإن كان من عادته التحلي به؛ كأهل السواد- حنث؛ لأنهم يسمونه حلياً، وهل يحنث بلبسه غيرهم؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا فيما لو حلف [ألا] يدخل بيتاً، فدخل غير البدوي بيتاً من شعر- هل يحنث؟ فيه وجهان. ولو تقلد سيفاً محلى- لم يحنث؛ لأن السيف ليس بحلي، ولو لبس منطقة محلاة- ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ كالسيف. والثاني: يحنث؛ لأنها من حلي الرجال. ولو حلف لا يلبس خاتماً، فلبسه في غير الخنصر- لا يحنث؛ لأنه غير متعارف [كما] لو حلف ألا يلبس قلنسوة، فلبسها في رجله - لم يحنث، ولو حلف لا يلبس ثوب فلان، فوهب له فلان [ثوباً]، وسلمه غليه، فلبسه- لم يحنث؛ لأنه لبس ثوب نفسه لا ثوب فلان، ولو قال: لاى البس ثوب رجل من عليه، فوهب له رجل ثوباً، فلبسه- حنث؛

لأن الهبة لا تخلو عن منة، فلو باع ما وهب له، واشترى بثمنه ثوباً، فلبسه- لم يحنث، وقال مالك: يحنث، ولو من عليه رجل، فحلف لا يشرب له ماءً من عطش، فأكل له خبزاً، أو لبس له ثوباً، أو شرب له ماءً من غير عطش- لم يحنث؛ لأن اليمين على شرب الماء من العطش، ولم يوجد. ولو حلف لا يركب دابة العبد، فركب دابة هي باسم العبد- لا يحنث؛ لأن العبد لا ملك له، إلا أنيريد دابة هي باسمه، فإن ملكه السيد دابة، فركبها: إن قلنا: يملك العبد بالتمليك- يحنث، وإلا فلا، ولو حلف لا يركب دابة المكاتب، فاشترى المكاتب دابة، فركبها- حنث؛ لأن المكاتب ملكها، ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبده- حنث، فإن كان سيده ملكه دابة، فركبها: إن قلنا: العبد يملك بالتمليك- لا يحنث، وإن قلنا: لا يملك- يحنث، ولو حلف لا يركب سرج هذه الدابة، فركب سرجاً هو مرسوم لتلك الدابة- حنث؛ لأن المقصود من تلك الإضافة التعريف لا الملك، قال الحليمي - رحمه الله-: إذا عقد اليمين على مملوك- انصرف إلى المالك؛ مثل: أن حلف لا يكلم عبد فلان ولا عبد له، فملك، كلمه- حنث؛ لأن المالك كان موجوداً يوم اليمين، وإذا عقد على غير مملوك- انصرف إلى المحلوف عليه، دون المضاف إليه؛ مثل: أن حلف لا يكلم بني فلان، ولا ابن له، فولد له بنون، فكلمهم- لم يحنث؛ لأن المحلوف عليه، لم يكن موجوداً يوم اليمين، ولو حلف، لا يجلس على الحصير، فبسط عليه ثوباً، وجلس عليه- لم يحنث، فإن لم يبسط عليه شيئاً، بل جلس مع [ثياب] بدنه، وإن لم يمس شيئاً من الحصير يحنث. ولو حلف لا يجلس على البساط، فجلس على الأرض- لا يحنث/ وإن سماها الله تعالى بساطاً؛ فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً} [نوح: 19] لأنه لا يطلق عليه اسم البساط في العرف؛ كما لو حلف لا يعلق شيئاً على الوتد، فعلق على جبل- لم يحنث، وقد سماه الله تعالى وتداً، فقال: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ: 7]. إذا حلف لا يأكل الرءوس، ولا نية له، يحمل على الرءوس التي تباع منفردة عن

الأبدان، وهي رءوس النعم، فإن أكل رأس طير أو صيد أو حوت- لم يحنث؛ لأنها لا تباع منفردة، فإن كان في بلد يفرد فيه رءوس الظباء والصيود ورءوس الحيتان، فيشوى- يحنث هناك بأكلها، وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه يعتبر لكل بلد عرفهم. والثاني: يحنث؛ لأن ما ثبت به العرف في مكان- وقع به الحنث في جميع المواضع، كما لو حلف لا يأكل الخبز يحنث بخبز الأرز، وإن لم تجر عادتهم بأكله. ولو حلف لا يأكل البيض، فلا يحنث إلا ببيض يزايل بائضه وهو حي كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة والأوز والطيور؛ لأنها تؤكل وتباع مفردة، ولا يحنث بما لا يزايل بائضه؛ كبيض السمك والجراد. ولو حلف لا يأكل اللحم- حنث بأكل لحم النعم والوحوش والطيور، ولا يحنث بأكل لحم السمك إلا أن يريده، لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، وإن كان الله تعالى سماه لحماً؛ فقال: {وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [فاطر: 12]؛ كما لو حلف ألا يجلس في ضوء السراج، فجلس في ضوء الشمس- لا يحنث، وإن سماها الله تعالى سراجاً، فقال: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ: 13]؛ لأن الناس لا يعرفونها سراجاً. ولو أكل لحم خنزير أو ميتة أو لحم ما لا يؤكل لحمه، هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة-: يحنث؛ لأن اسم اللحم ينطلق عليه، وإن كان حراماً؛ كما لو أكل لحماً مغصوباً. والثاني: لا يحنث؛ لأنه يقصد بيمينه الامتناع عما يتعارفه الناس مأكولاً، والميتة لا يتعارفونها مأكولة. ولو أكل الكرش، أو ما في البطن من الأمعاء والطحال والرئة والقلب والكبد- فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه في معنى اللحم. والثاني- وهو الأصح، والمذهب-: لا يحنث؛ لأن مطلق الاسم لا يتناوله، ويجوز

نفي اسم اللحم عنها، وأسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها. ولو أكل لحم الخد ولحم الرأس ولحم الأكارع واللسان-: قيل- وهو الأصح-. يحنث، وقيل: فيه وجهان. ولو حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحم البطن- لا يحنث، ولو أكل شحم الظهر والجنب، وهو البياض الذي لا يخالطه اللحم الأحمر [هل يحنث]؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه شحم كشحم البطن؛ قال الله تعالى: {وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146]. والثاني- وهو الأصح، والمذهب-: يحنث؛ لأنه لحم سمين، ولو حلف لا يأكل الشحم، فأكل شحم البطن- يحنث، ولو أكل اللحم- لا يحنث، ولو أكل شحم الظهر- فعلى هذين الوجهين، على [الوجه] الأول: يحنث؛ وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ لأن الله تعالى سماه شحماً؛ فقال: "إلا ما حملت ظهورهما". والثاني- وهو المذهب-: لا يحنث؛ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لحم سمين. واختلف أصحابنا في الآلية، منهم من قال: هي لحم [يحنث به في اليمين على اللحم، ولا يحنث في اليمين على الشحم؛ لأنه ثابت في اللحم]، ومنهم من قال: هي شحم؛ لأنه يذوب كالشحم، ومنهم من قال- وهو الأصح-: ليس بلحم ولا شحم، لا يحنث به في اليمين على واحد منهما؛ لأنه مخالف لهما في الاسم والصفة؛ لأنه يذوب بخلاف اللحم، وهو صلب؛ بخلاف الشحم، قال الشيخ- رحمه الله-: والسنام كالآلية. في دخوله في اللحم [يحنث به في اليمين على اللحم، ولا يحنث في اليمين على الشحم؛ لأنه ثابت في اللحم] و [الشحم]، والأصح: أنه لا يدخل في واحد منهما، ولو حلف لا يأكل الآلية، فأكل السنام، أو لا يأكل السنام، فأكل الآلية- لا يحنث، ولو حلف لا يأكل دسماً- يحنث بشحم الظهر والبطن والآلية والسنام، وأي دهن كان، ولو حلف على اللحم، فأكل شحم العين- لم يحنث؛ لأنه يخالف اللحم اسماً وصفة، ولو حلف على الشحم- هل يحنث به؟ فيه وجهان.

[ولو حلف لا يأكل الميتة، فأكل السم- فيه وجهان]: أحدهما: يحنث؛ لأن الشرع سماه ميتة؛ فقال: "أحلت لنا ميتتان". والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم الميتة في العرف، وهو المذهب؛ كما لو حلف لا يأكل الدم؛ فلا يحنث [بأكل الكبد] والطحال. ولو حلف لا يأكل لحم البقر، فأكل لحم الجاموس/ - يحنث، وإن أكل لحم بقر الوحش؟ قال الشيخ- رحمه الله-: فيه وجهان؛ بناءً على أنه هل يجعل جنساً [واحداً] في الربا؟ فيه وجهان، وكذلك لو حلف ألا يركب الحمار، فركب حمار الوحشي فيه وجان، ولو حلف على الحنطة، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشير إلى حنطة، فقال: لا آكل هذه، فأكلها- حنث، سواء أكلها كذلك أو طحنها، فأكل الطحين، أو خبزها فأكل الخبز. [الحالة] الثانية: أن يقول: لا آكل حنطة، فيحنث بأكل الحنطة، سواء أكلها نيئاً أو مطبوخاً أو مبلولاً أو مقلياً، ولا يحنث بأكل الدقيق والسويق والعجين والخبز. والثالثة: أن يقول: لا آكل هذه الحنطة، وأشار إلى صبرة، فأكل من غيرها- لم يحنث، وإن أكل منها- حنث مطبوخاً أو نيئاً، وإن طحنها، فأكل طحينها أو سويقها أو عجينها، أو خبزها فأكل خبزها، أو حلف لا يأكل هذا العجين، فخبزه وأكله- لا يحنث؛ لتبدل الاسم، كما لو حلف لا يدخل هذه الدار، فصارت فضاءً، فدخلها- لم يحنث. وقال ابن سريج: يحنث؛ لوجود الإشارة؛ كما لو حلف لا آكل هذا الجمل، فذبحه وأكله- حنث. والأول المذهب؛ بخلاف الجمل؛ لأنه لا يمكن أكله حياً، فكان يمينه على لحمه، والحنطة يمكن أكلها حياً، فكان يمينه على حبها، وكذلك: لو حلف لا يأكل الرطب، فأكل التمر، أو حلف لا يأكل التمر، فأكل الرطب، [أو حلف ألا] يأكل العنب، فأكل الزبيب، أو لا يأكل الزبيب، فأكل العنب- لم يحنث، وإن حلف لا يأكل الرطب، فأكل البسر أو

البلح- لم يحنث، [وكذلك: إذا حلف لا يأكل البسر، فأكل الرطب أو البلح- لم يحنث]؛ ولو حلف لا يأكل الرطب، فأكل المنصف- نظر: إن أكل [المنصف] المرطب- حنث، وكذلك: إن أكل الكل؛ لأنه أكل الرطب مع غيره، وإن أكل المنصف الآخر الذي لم يرطب- لا يحنث. ولو حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة [فأكل منصفاً- لم يحنث؛ لأنه لم يأكل بسرة ولا رطبة] تامة، فإن أشار، وقال: لا آكل هذه الرطب، فجعله تمراً، أو: لا آكل هذا العنب، فجعله زبيباً، فأكله- فكالحنطة يطحنها، فلا يحنث على الصحيح من المذهب، وكذلك لو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل، فصار كبشاً، فذبحه وأكله، أو: لا يكلم هذا الصبي، فكلمه بعدما صار شيخاً- فعلى هذا الاختلاف، وقال ابن أبي هريرة في الحمل إذا صار كبشاً، فأكله، أو الرطب صار تمراً، أو الصبي إذا صار شيخاً فكلمه- يحنث؛ بخلاف الحنطة، إذا طحنها فأكلها- لم يحنث؛ لأن الانتقال في الحنطة حصل بصنعه، وفي الحمل ولاصبي والرطب- حصل لا بصنعه؛ فلا يمنع الحنث، وهذا لا يصح؛ لأنه لو حلف ألا يأكل هذا البيض، فصار فروجاً أو لا يأكل هذا الحب، فصار زرعاً، فأكله- لم يحنث؛ وإن حدث الانتقال بغير صنعه. ولو حلف لا يشرب هذا العصير، فصار خمراً، أو: لا يشرب هذا الخمر، فصار خلا، فشرب- لم يحنث؛ كالحنطة إذا صارت دقيقاً، ولو حلف لا يأكل الخبز، فأي خبز أكله من بر أو شعير أو ذرة أو أرز أو مخ أو باقلي- حنث؛ لأن الكل يسمى خبزاً، وإن لم يكن معهود بلده؛ كما لو حلف ألا يلبس ثوباً- حنث بلبس أي ثوب كان، وإن لم يكن ملبوس بلده، ويحنث بأكل القرص والمشحم، ولو أكل جوزنيقا، من أصحابنا من قال: يحنث؛ لأنه لو نزع حشوه- كان خبزاً، وقيل: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى خبزاً.

ولو ثرد الخبز، فأكله- يحنث، ولو حلف لا يأكل السويق، فاستفه أو بله، فتناوله بالإصبع [حنث، وإن ماثه في الماء، فشربه- لم يحنث؛ لأنه لا يسمى أكلاً، ولو حلف ألا يشربه فماثه في الماء، فشربه- حنث، ولو استفه أو تناوله بالإصبع] لم يحنث، وكذلك اللبن وجميع المائعات، إذا حلف ألا يأكله، فأكله بخبز- حنث، وإن شربه- لم يحنث، وإن قال: لا أشربه، فشربه- حنث، وإن أكله بخبز- لم يحنث، وكذلك: الخبز إذا قال: لا آكله، [أو] لا أشربه، أما إذا قال: لا أطعم فسواء أكله كذلك، أو ماثه في الماء وشربه- يحنث؛ لأن الطعم يقع على الأكل والشرب جميعاً؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وكذلك إذا قال بالفارسية: "نخورم"- يحنث بالأكل والشرب، ولو حلف لا يأكل الرمان أو العنب، فمصه ورمى بتفله- لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل، وكذلك: لو حلف لا يأكل الفانيد، فأمسكه في فيه، حتى ذاب، ولم يمضغه- لم يحنث، ولو حلف لا يأكل/ الثريد، فأكل الخبز وحده- لم يحنث، ولو حلف لا يشرب الماء، فلا يحنث بأكل الجمد والثلج]، فشرب ماءهما- لم يحنث، ولو حلف على الثلج لا يحنث بالجمد، أو على الجمد- لا يحنث بالثلج، ولو حلف لا ياكل أو لا يشرب، فلا يحنث بالذوق، وإن وصل طعمه إلى حلقه؛ إذا لم يصل عين الطعام إلى حلقه، فإن وصل عينه إلى حلقه- حنث، ولو

حلف ألا يذوق، فأكل أو شرب- حنث؛ لأنه ذوق وزيادة، فإن أخذ بلسانه ومضغه ولفظه ولم ينزل إلى حلقه- حنث؛ لأنه صورة الذوق، وقيل: لا يحنث؛ لأن الذوق لا يتحقق إلا بازدراد شيء من عينه، ولو حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق، فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه- لم يحنث؛ لأنه لم يأكل ولم يشرب، ولم يذق. ولو حلف على شيء ألا يأكله، فابتلعه من غير مضغ- حنث، ولو حلف لا يأكل اللبن- يحنث بلبن الأنعام والصيود كلها؛ لأنه يطلق على الكل اسم اللبن؛ كما في اللحم، ويحنث بالحليب والرائب، ولا يحنث بأكل الجبن واللوز والأقط والمصل والزبد والسمن، وقال ابن أبي هريرة: إذا حلف على اللبن- يحنث بكل ما يتخذ منه، وليس بصحيح؛ لأن اسم اللبن لا ينطلق على ما يتخذ منه؛ كما لو حلف ألا ياكل الرطب، فأكل التمر، أو: لا يأكل السمسم، فأكل دهنه- لم يحنث، ولو حلف لا يشرب الرائب، فشرب الحليب- لم يحنث، ولو حلف على الزبد أو السمن- فلا يحنث باللبن، وقيل: يحنث؛ لن فيه زبداً، ولو حلف على الزبد، فأكل السمن، [أو على السمن] فأكل الزبد- لم يحنث، ولو حلف ألا يأكل الأقط فأكل الجبن، أو لا يأكل المصل، فأكل الجبن أو الأقط- لم يحنث، ولو حلف لا يأكل المصل، فأكل الجبن أو الأقط- لم يحنث، ولو حلف لا يأكل من هذا اللبن، فأكل من جبنه أو أقطه أو مصله- لا يحنث على المذهب الصحيح؛ كالحنطة يطحنها ويخبزها، ولو حلف لا يأكل السمن، فأكله بخبز أو غيره- حنث؛ جامداً كان أو ذائباً، وإن كان ذائباً فشرب- لم [يحنث]، وإن كان جامداً، فأكله وحده بلا خبز- حنث، وإن جعله في عصيدة أو في سويق: فإن استهلك فيه، فأكله- لم يحنث، وإن كانت/ عينه باقية- حنث، و [كذلك] لو حلف لا يأكل الخل، فأكل مرقاً، فيه خل، أو: حلف لا يأكل اللبن، فجعله في طبيخ، فأكله: فإن كان مستهلكاً فيه- لم يحنث، وإن كان طعمه أو لونه فيه ظاهراً- حنث، ولو حلف لا يأكل التمر، فأكل عصيره أو دبسه أو: لا يأكل الدبس، فأكل التمر أو العنب، أو: لا يأكل السمسم، فأكل الشيرج، أو: لا يأكل الشيرج، فأكل السمسم- لم يحنث، ولو حلف لا يأكل الفاكهة، فأكل الرطب أو العنب أو الرمان أو الأترج أو النبق أو التوت أو البطيخ أو الموز-

يحنث؛ كما يحنث بالتفاح والسفرجل؛ لأنها ثمار الأشجار. وقال ابن سريج: لا يحنث بالقثاء والخيار؛ لأنهما من الخضروات، وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: لا يحنث بالعنب والرطب والرمان؛ لأن الله تعالى قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] عطفهما على الفاكهة دل [على] أنهما غير الفاكهة، قلنا: العطف لا يدل على المخالفة؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 71]، وكان نوح من الأنبياء، وعطف عليهم. ولو حلف لا يأكل الثمار- فهو يتناول الرطب، ولا يحنث باليابس، أما الفاكهة تتناول الرطب واليابس جميعاً، ولو حلف لا يأكل البطيخ - فلا يحنث بالبطيخ الهندي، [ولو حلف لا يأكل الجوز- فلا يحنث بالجوز الهندي، أو: لا يأكل التمر-[فلا يحنث] بالتمر الهندي]، أو لا يأكل الخيار- فلا يحنث بخيار شنير؛ لأنه لا يتناوله مطلق اسمه، وإذا كان لليمين حقيقة متعارفة ومجاز غير متعارف- فيحمل على الحقيقة المتعارفة؛ مثل: أن حلف ألا يأكل من هذه البقرة- يتناول لحمها، دون الولد واللبن؛ حتى لو كانت حاملاً أو لبوناً، فأكل من لحم ولدها أو شرب [من] لبنها- لم يحنث، وإن كان لها مجاز متعارف وحقيقة غير متعارفة- يحمل على المجاز المتعاف؛ مثل: أن حلف ألا يأكل من هذه الشجرة-[يتناول الثمرة] دون الجزع والورق، إلا أن ينويه، ولو حلف لا يأكل طعاماً- يتناول جميع الأطعمة من القوت والأدم والفواكه والحلاوي؛ لأن اسم الطعام يقع على الجميع، وهل يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم الطعام/. والثاني: يحنث؛ لأنه يطعم في حال الاختيار؛ فلذلك جرى فيه الربا، فلو [قال]:

أردت طعاماً دون طعام أو: قال: لا أشرب، وقال: أردت شراباً دون شراب، أو: قال: لا ألبس، وقال: أردت ثوباً دون ثوب- يقبل قوله في الباطن دون الظاهر، وبه قال ابو حنيفة، وكذلك-[عندنا]-: إذا حلف لا ياكل، ولم يقل: طعاماً، أو: قال: لا أشرب، أو: لا ألبس، ولم يقل: شراباً، ولا ثوباً، فقال: عنيت به البعض- يقبل في الباطن، وعند أبي حنيفة: لا يقبل، وفرق بأن قوله طعاماً يقتضي الوجدان إلا أن ظاهره للجنس؛ فحمل على الظاهر. فإذا قال: [أردت الوجدان- قبل، وإذا قال: لا آكل- يقتضي العموم، فإذا قال]: أردت التخصيص - لم يقبل، [ولو حلف] لا يأكل قوتاً، فأكل شيئاً من الحبوب التي تقتات- حنث، وإن أكل التمر أو الزبيب أو اللحم: فإن كان من قوم قوتهم ذلك- حنث، وهل يحنث به غيرهم؟ فعلى وجهين؛ كما ذكرنا في رؤوس الصيد. ولو حلف لا يشرب الماء، فيحنث بشرب جميع مياه الأنهار والآبار والبحار على أي طعم كان، فإن قال: [ماءً] فراتاً- فيحنث بالماء العذب؛ سواء كان من دجلة أو من الفرات، أو من غيرهما، ولا يحنث بالأجاج والملح؛ لأنه اسم للماء العذب؛ قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27]، فإن حلف لا يشرب [من] ماء الفرات فشرب من ماء دجلة أو غيرها- لم يحنث؛ لأن الفرات إذا عرف يراد به النهر الذي بين الشام والعراق، فإذا شرب منه- حنث، ولو حلف لا يأكل أدماً أو خبزاً بإدام، فيحنث باللحم والخل والمري، وبكل ما يؤتدم حتى الملح والبصل والثوم والبقل والفجل والثمار كلها؛ روي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ كسرة من خبز الشعير، فوضع عليها تمرة فقال: "هذه إدام هذه، وأكل"، وعند أبي حنيفة: لا يحنث، إلا بما يصيب في السكرجة مما يصبغ الخبز، أما إذا قال: لا آكل خبزاً يصبغ- فيتناول بالاتفاق ما يصب في السكرجة [من] المائعات؛ كالخل والدبس والسمن ونحوها. ولو حلف لا يشم الريحان، فشم الضيمران، وهو: الريحان الفارسي- يحنث، ولو

شم ما سواه من الورد والبنفسج والياسمين والزعفران- لم يحنث، لأنه لا يطلق اسم الريحان إلا على الضيمران، فإذا حلف لا يشم المشموم- حنث بجميعها؛ لأن جميعها مشموم، ولا يحنث بشم الكافور والمسك والعود والصندل؛ لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم. ولو حلف لا يشم الورد أو البنفسج، فشم دهنها- لم يحنث؛ لأنه لم يشم الورد والبنفسج، وإن شم الورد والبنفسج بعد ما جف، هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ كما لو حلف ألا يأكل الرطب، فأكل التمر. والثاني: يحنث؛ لأنه بقي فيه ما يشم. فصل إذا حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان إذا حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان، فإذا أكل مما انفرد فلان بشرائه- حنث، وإن أكل مما اشتراه فلان مع غيره- لم يحنث، إلا أن يريد أنه لا يأكل طعام فلان أو من طعام فلان؛ يحنث بالمشترك، وإذا قال: لا آكل من طعام اشتراه فلان، فأكل مما اشتراه فلان [مع غيره]- ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: لا يحنث؛ لأنه لم ينفرد بشرائه. والثاني: يحنث، وإن أكل منه حبة أو لقمة؛ لأنه ما من جزء إلا وقد وقع عليه شراؤه. والثالث: لا يحنث، حتى يأكل أكثر من النصف، فيتحقق أنه أكل من طعام اشتراه فلان. وإن كان ورث فلان مع غيره طعاماً وقسماً ما ورثاه، فأكل من نصيب فلان- لم يحنث، وإن قلنا: القسمة بيع؛ لأنها ليست ببيع متعارف، وكذلك إن كان فلان صالح على طعام، أو كان قد باع طعاماً [ثم] قبل الثمن، ثم استقاله بعد اليمين، فأكل منه- لم يحنث، وإن جعلناه بيعاً؛ لأنه ليس ببيع متعارف، وكذلك: لو حلف ألا يدخل داراً اشتراها

فلان، فأخذ فلان داراً بالشفعة، فدخلها- لم يحنث؛ لأن الأخذ بالشفعة ليس بحقيقة شراء، أما إذا اشترى طعاماً سلماً، فأكل منه - حنث؛ لأنه شراء حقيقة، ولو اشترى فلان وغيره كل واحد طعاماً، ثم خلطاه، فأكل منه- لا يحنث حتى يأكل قدراً يتيقن أنه أكل من طعام فلان؛ مثل: أن كان لكل واحد نصفه، فأكل أكثر من النصف- حنث، وإن أكل النصف فأقل- لم يحنث. ولو اشترى فلان لغيره بوكالته طعاماً، فأكل منه- حنث؛ لأنه باشر شراءه، ولو وكل فلان رجلاً آخر ليشتري [له] طعاماً، فاشترى فأكل منه الحالف- لم يحنث؛ لأن فلاناً لم يشتره. ولو حلف لا يأكل من قدر طبخه فلان، أو مرقة طبخها فلان- فالطابخ الذي يوقد النار تحت القدر حتى ينضج، فإن فعله فلان، فأكل منه- حنث، وإن كان واضع القدر على النار والمدخل للحم والماء فيه غيره، ولو كان فلان يوقد النار زماناً، وغيره زماناً- أو أخذاً معاً خشبة وجعلاها تحت القدر، فأكل منه- لم يحنث؛ لأنه لم ينفرد فلان بطبخه، أما إذا وضع القدر في تنور، حتى نضج: فإن انفرد فلان بوضعه، فأكل منه- حنث، وإن أوقد النار غيره، وإن وضعه مع غيره فيه- لم يحنث، وكذلك: لو حلف لا يأكل خبزاً خبزه فلان: فإن ألصق العجين بالتنور، فأكل منه- حنث، وإن عجن وأوقد النار [وألصق غيره- لم يحنث، ولو حلف لا يأكل هذه التمرة بعينها، فوقعت في صبرة من التمر: فإن أكل جميع تلك الصبرة حنث، وإن بقيت منها أو ضاعت تمرة- لم يحنث؛ لاحتمال أن الباقية هي المحلوف عليها [والورع أن يحنث نفسه، وإن أكل منها واحدة؛ لاحتمال أنه أكل المحلوف عليها] فلا يبرأ]. ولو حلف لا يأكل هذه التمرة، فوقعت في صبرة- لا يبر إلا بأكل الكل، فإن ضاعت منها واحدة- حنث]، وكذلك لو حلف لا يأكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة هلكت- حنث، وكذلك: لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، فضاعت منه [فتاتة] وأكل الباقي- لم يحنث، ولو قال: لآكلن هذا الرغيف، فضاعت فتاتة- لا يبر.

ولو حلف لا يدخل دارين- لا يحنث بدخول أحدهما، حتى يدخلهما، وكذلك: لو حلف لا يلبس هذين الثوبين- فلا يحنث بلبس أحدهما وإذا لبسهما- حنث، سواء لبسهما معاً، أو لبس أحدهما ثم نزعه ولبس الآخر، ولو قال: لا ألبس هذا ولا هذا- حنث بلبس أحدهما، وعند مالك- رحمه الله-: إذا قال: لا أدخل هاتين الدارين أو: لا ألبس هذين الثوبين- فيحنث بأحدهما، ووافقنا فيما لو قال: لا ألبسهما أو: لا أدخلهما- أنه لا يبر بأحدهما، حتى يأتي بهما [جميعاً]. ولو حلف فقال: لا أشرب ماء هذه الإداوة، فشرب إلا قطرة- لم يحنث، ولو قال: لأشربن ماءها- لا يبر إلا بشر كله، أما إذا قال: لا أشرب من [ماء] هذه الإداوة، فشرب منه قليل حنث، ولو قال: لأشربن من ماء هذا النهر، فشرب منه قليلاً- بر؛ لأن "من" للتبعيض؛ فيحصل الحنث، والبر ببعضه، أما إذا حلف، وقال: لا أشرب ماء هذا النهر، أو ماء هذه البئر، هل يحنث بشرب بعضه؟ فيه وجهان: قال ابن سريج: يحنث بشرب بعضه؛ لأنه لا يتصور شرب جميعه؛ فانصرف اليمين إلى بعضه، وقال أبو إسحاق: لا يحنث؛ لأنه حلف على شرب جميعه فلا يحنث ببعضه؛ كما لو قال: لا أشرب ماء- هذه الإداوة- فلا يحنث بشرب بعضه، ولو قال: لأشربن ماء هذا النهر- فعلى وجهين: أحدهما: يبر بشرب بعضه. والثاني: لا يبر بشرب بعضه، وهو حانث عليه الكفارة، لأن عجزه عن شرب جميعه حقيقة، فعلى هذا: يحنث في الحال أم قبيل الموت؟ فيه وجهان. ولو قال: لأشربن ماء هذه الإداوة، فانصب قبل أن يشرب أو مات الحالف- نظر: إن كان بعد الإمكان- حنث، وإن كان قبل الإمكان- فقولان؛ كالمكره، ولو حلف ليشربن من ماء هذه الإداوة فصبه في حوض، ثم شرب منه قليلاً من موضع علم أنه وصل إليه- بر، وإن حلف لا يشرب منه، فصبه في حوض وشرب منه قليلاً- حنث، وكذلك لو حلف لا يشرب من لبن هذه البقرة، فخلطه بلبن آخر، فشرب منه- حنث بخلاف ما لو حلف لا يأكل هذه التمرة فخلطها بصبرة- لا يحنث؛ إلا بأكل جميع الصبرة؛ لأن الذائب إذا اختلط بالذائب يصير شيئاً واحداً بخلاف الجامد، ولو حلف ليشربهن ماء هذا الكوز، ولا ماء فيه، أو: ليقتلن فلاناً، وفلان

ميت، هل تنعقد يمينه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تنعقد؛ لأنه لا يتصور فيه البر. والثاني: تنعقد، وإن كان البر لا يتصور؛ كما لو حلف لقد أكلت الخبز بالأمس ولم يكن أكل- انعقد يمينه، وإن كان البر غير متصور فيه؛ فعلى هذا: يحنث في الحال أم قبيل الموت؟ فيه وجهان. وكذلك لو حلف ليصعدن السماء، هل تنعقد يمينه؟ فيه وجهان، فإن قلنا: تنعقد، هل يحنث في الحال أم قبل الموت؟ فيه وجهان، ولو حلف ليصعدن السماء غداً، وقلنا: تنعقد [يمينه] هل يحنث في الحال أم [قبل الموت؟ فيه وجهان، ولو] بعد مجيء الغد؟ فيه وجهان، ولو حلف لا يصعد السماء، هل تنعقد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الحنث فيه لا يتصور. والثاني: تنعقد؛ وإن كان الحنث لا يتصور؛ كما لو حلف لقد فعل كذا بالأمس، فكان صادقاً. والأول أصح بخلاف ما لو قال: لقد فعل بالأمس، لأن الحنث فيه متصور بأن يكون كاذباً، وصعود السماء غير متصور بحال، ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فأكله من الغد- بر في يمينه، وإن مات الحالف قبل مجيء الغد- لا شيء عليه، ولو مات [وتلف الطعام أو بعضه] بعد مجيء الغد- نظر: إن كان بعد التمكن من الأكل- حنث، وإن كان قبله، فعلى قولي المكره، فإن قلنا: يحنث، فحنث في الحال أو عند غروب الشمس؟ فيه وجهان، ولو كان الطعام بحاله، فلم يأكل حتى غربت الشمس من الغد، مع القدرة عليه- حنث، ولو أتلف الحالف ذلك الطعام قبل مجيء الغد أو أكله أو بعضه- حنث؛ لأنه منع نفسه [من] البر بفعله، ثم متى يحنث؟ فيه قولان: أحدهما: بعد مجيء الغد؛ لأنه وقت البر والحنث. والثاني: في الحال؛ لأنه وقع اليأس من أكله الآن، فإن قلنا: يحنث بعد مجيء الغد ففيه- وجهان: أصحهما: إذا مضى من الغد قدر إمكان الأكل- يحنث.

والثاني: يحنث قبل غروب الشمس. ولو تلف الطعام قبل مجيء الغد أو أتلفه أجنبي، هل يحنث؟ فعلى قولي [المكره، والمنصوص]: أنه لا يحنث، فإن قلنا: يحنث، فمتى يحنث؟ فعلى قولين؛ كما في إتلاف نفسه. فصل فيما لو حلف فقال "والله لأقضين حقك" إذا حلف فقال: والله لأقضين حقك، فمات قبل القضاء، [و] بعد التمكن- حنث قبل الموت، وإن مات قبل التمكن- فعلى قولين، ولا نعني بعدم التمكن الإعسار إنما نعني به التمكن من الدفع إليه، حتى [لو تمكن] من الدفع إليه، أو ملك شيئاً، لكنه معسر- حنث، ولو مات صاحب الدين- لم يحنث؛ لأن القضاء إلى وارثه بعد موته ممكن، إلا أن يقول: لأقضينك، فأيهما مات بعد التمكن- حنث، وإن كان قبل التمكن- فعلى قولين. ولو قال: لأقضينك حقك غداً، فمات الحالف قبل مجيء الغد- لم يحنث؛ لأنه لم يدخل وقت البر، وإن/ مات المقضي إليه- فعلى [قولي المكره، فإن قلنا: يحنث- يحنث في الحال أو بعد مجيء الغد فعلى] قولين؛ كما ذكرناه في الأكل، فإن جاء الغد، ولم يقض حتى مضى اليوم أو مات أحدهما في الغد، فإن كان بعد التمكن من القضاء- حنث، وإلا فقولان، وإن قضاه اليوم قبل مجيء الغد أو قضى بعضه- حنث؛ لأنه منع نفسه من البر بفعله، إلا أن يريد بيمينه أنه لا يمضي الغد إلا وقد قضيت حقك؛ فلا يحنث ولو أبرأه صاحب الحق اليوم، أو وهب له، فإن قلنا: يحتاج الإبراء إلى القبول، فقبل- حنث؛ لأنه منع نفسه من البر بالقبول، وإن لم يقبل- لم يحنث؛ لأن الدين باق، يمكنه أداؤه في الغد، وإن قلنا: يسقط من غير قبول- سقط الدين، وهل يحنث؟ فيه قولان؛ كالمكره، وإذا قال: لأقضين حقك عند رأس الهلال، أو مع رأس الهلا- ينبغي أن يقضيه في آخر الشهر عند غروب الشمس، فإن قضاه قبل رؤية الهلال- حنث؛ لأه فوت القضاء عند الهلال باختياره، ولو قضى بعد غروب الشمس قدر إمكان الأداء، ولم يقض- حنث؛ فإن أخذ عند رؤية الهلال في كيله، وتأخر الفراغ منه؛ لكثرته- لم يحنث؛ لأنه

مشتغل بأسباب القضاء، وعند مالك وأبي حنيفة: إذا قال: عند رأس الهلال- فلا يحنث حتى يطلع الفجر من الليلة الأولى قبل القضاء، ولو أخذ في القضاء في الليلة الأولى للشك في الهلال، ثم بان أنه كان من الشهر- هل يحنث؟ فيه قولان؛ كالناسي والجاهل، ولو قال: لأقضين حقك إلى رمضان- ينبغي أن يقضيه قبل دخول رمضان، فإن لم يقضه حتى دخل رمضان- حنث، فلو قال: لأقضينك [حقك] إلى حين- فهو كما لو أطلق؛ فيحمل على العمر، فإن مات قبل أن يقضيه- حنث، والورع: أن يقضيه قبل مضي يوم، فإن مضى يوم، ولم يقضه- كفر؛ لأن "الحين" اختلفوا في قدره، وأقل ما قيل فيه يوم فإن نوى مدة- فهو على نيته، وعند أبي حنيفة: يحمل "الحين" على ستة أشهر؛ لقوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] ومن حين تطلع النخل إلى أن يؤكل [منه] ستة أشهر، قلنا: قد يقع على أربعين سنة؛ قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] ويقع على العمر، لقوله تعالى: {وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: 8.] أي: إلى البلى؛ فقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]، قيل: بعد انقضاء الدنيا، ولو قال: إلى زمان أو دهر أو حقب أو أحقاب- فهو كما لو قال: "إلى حين يحمل على العمر"؛ وكذلك: "إلى أوان" أو: "وقت" ولو قال: "إلى أيام" فهو إلى ثلاثة أيام، ولو حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو زماناً أو حقباً- بر بأدنى زمان يمضي" لأنه يقع على القليل والكثير، ولو قال: لا يكلمه مدة قريبة أو قال: مدة بعيدة- بر بمضي أدنى زمان يمضي؛ لأنه يقع على القليل والكثير؛ لأنه ما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها، ولو قال: لأقضينك حقك غداً إلا أن تشاء، يعني: إلا أن تشاء أن أؤخره، فإن قضى في الغد- بر في يمينه، شاء أو لم يشأ، وإن لم يقض حتى مضى الغد- نظر: إن شاء صاحب الحق قبل مضي الغد أن يؤخر- لم يحنث، وإن لم يشأ شيئاً أو شاء التعجيل، أو لم يعرف حاله: بأن مات أو غبي غباوة- حنث في يمينه، وكذلك: لو قال: إلا أن يشاء فلان أن أؤخره غير أنه إن مات فلان قبل المشيئة في خلال النهار- لا يحنث؛ لأن القضاء بعد موته ممكن، فإن غربت الشمس قبل القضاء- حنث، وإن جعل المشيئة إلى صاحب الحق، فمات في خلال النهار قبل المشيئة بعد إمكان الأداء إليه- يحنث، وإن كان قبل الإمكان- فعلى قولين، ولو قال: لأقضينك حقك إلى الغد، إلا أن يشاء تأخيره- ينبغي أن يقضيه من الآن إلى طلوع الفجر من الغد، فإن لم يقض حتى طلع الفجر، ولم يشأ صاحب الحق تأخيره- حنث.

فصل في حقيقة المفارقة إذا كان له على رجل حق، فقال: والله، [لا أفارقك] حتى استوفي حقي منك، ففارقه قبل الاستيفاء- حنث أيهما وقف؟ وفر الآخر؛ لأن الحالف إن فر- فقد فارقه، وإن فر الغريم، والحالف يمكنه أن يمشي- معه، فلم يفعل- فهو بالوقوف مفارقه وحد الفراق: ما ذكرنا في تفريق المتبايعين، ولو فر منه/ الغريم، ولم يمكنه متابعته- لم يحنث، وقال ابن أبي هريرة: فيه قولان، كالمكره؛ فليس بصحيح؛ لأنه حلف على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل: لا مختاراً ولا مكرهاً، وكل من علق اليمين على فعله، فيعتبر الاختيار والإكراه في فعله، فإن أكره الحالف حتى فارقه [أو فارقه] ناسياً، فيكون على قولين، قال شيخنا إمام الأئمة- رحمه الله-: فلو فر الغريم وأمكنهم متابعته، فلم يفعل- حنث؛ لأنه بالمقام مفارقه، ولو قال: لا تفارقني حتى أستوفي حقي منك، ففارق من عليه الحق، أو فر [حنث] الحالف؛ لأنه حلف على فعل الغريم، وهو كان مختاراً في المفارقة، ولو فارق الغريم مكرهاً أو ناسياً لليمين- فعلى قولين، وقيل: يحنث الحالف قولاً واحداً؛ لأن الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف، لا في فعل غيره، والمذهب الأول: أنه يعتبر في فعل من حلف على فعله، ولو فر صاحب الحق- لم يحنث؛ لأنه لم يحلف على فعل نفسه، قال الشيخ- رحمه الله- فإن أمكن للغريم متابعته فلم يتابعه- وجب أن يحنث، ويجعل وقوفه [مع إمكان المتابعة] كفعل المفارقة فأما إذا قال: لا أفترق أنا وأنت، أو: لا أنا ,لا أنت، حتى أستوفي حقي منك- فقد علق اليمين على مفارقة كل واحد منهما، فأيهما فارق صاحبه مختاراً- حنث الحالف، وأيهما أكره على المفارقة [لم يمكن] للآخر متابعته، فيكون على قولين، وإذا أقر أحدهما- حنث الحالف؛ لأن اليمين معلقة على فعل كل واحد، والفار مختار في المفارقة، ولو قال في يمينه: والله، لا نفترق، أو: لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك-: قال بعض أصحابنا: تعلق اليمين- ههنا- بافتراقهما معاً، فإن فارق أحدهما صاحبه، وأقام الآخر- لم يحنث، وهو ضعيف، بل هو كقوله: لا أفترق أنا وأنت، فأيهما فارق صاحبه- حنث الحالف، ولو قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك، فأبرأ الغريم، ثم فارقه- حنث؛ لأنه لم يستوفه، ولو أفلس الغريم، ففارقه الحالف

مختاراً؛ لما علم من وجوب إنظار المعسر- حنث وإن وجب عليه بالشرع ترك ملازمته، كما لو حلف ألا يرد المغصوب، فرد- حنث، وإن وجب عليه الرد بالشرع، فإن منعه الحاكم عن ملازمته، ففارقه- هل يحنث؟ فيه قولان؛ كالمكره، ولو استوفى حقه، وفارقه، ثم وجده زيوفاً- نظر: إن كان ما أخذ غير حقه، غير أنه أردأ- لم يحنث، وإن كان نحاساً أو رصاصاً أو مغشوشاً: فإن كان عالماً به- حنث وإن كان جاهلاً- فعلى قولي حنث الناسي، ولو أحاله الغريم على إنسان، فقبل وفارقه، أو أحال الحالف غيره بماله عليه- فقد قيل: إن قلنا: الحوالة استيفاء- لم يحنث، وإن قلنا: معاوضة- حنث، وقيل- وهو المذهب-: يحنث قولاً واحداً، سواء جعلناها استيفاءً أو معاوضة؛ لأنها استيفاء من طريق الحكم، لا من طريق الحقيقة، إلا أن يريد بيمينه أنه لا يفارقه، وعليه شيء من حقه؛ فلا يحنث إذا فارقه بعد قبول الحوالة، وكذلك: لو أخذ عن حقه عوضاً، ففارقه- يحنث، سواء كانت قيمة ما أخذ قدر حقه أو أكثر أو أقل؛ لأنه لم يستوف حقه؛ إلا أن يريد [به] أنه لا يفارقه وعليه شيء من حقه، فلا حكاية [وما نقل المزني: [إن] كان قيمته أقل من حقه- يحنث] مذهب مالك، وعندنا: لا فرق بين أن يكون قيمته أقل أو أكثر فإن كان يمينه على عين حقه، فيحنث بكل حال، وإن كان على البراءة- بر بكل حال، سواء كانت قيمته أقل من حقه أو أكثر ولو تبرع إنسان فأدى ذلك الدين عن الغريم، فأخذ وفارق- نظر: إن كان الحالف قد قال: حتى استوفي حقي منك- حنث؛ لأنه لم يستوف منه، وإن كان قال: حتى أستوفي حقي- لم يحنث، وكذلك: لو استوفى الحق من وكيل الغريم. ولو قال من عليه الحق: "والله، لا أفارقك حتى أدفع إليك مالك"، فوهبه له صاحب الحق- نظر: إن كان عيناً، فوهبها له وقبلها- حنث؛ لأنه منع نفسه من البر بقبوله، وإن كان ديناً، فأبرأه: إن قلنا: إن الإبراء يحتاج إلى القبول- فكذلك، وإن قلنا: لا يحتاج إلى القبول- فعلى الاختلاف في حنث المكره، لو حلف من عليه الحق، وقال: لا تأخذ، أو لا تستوف مالك علي، فأخذ منه- حنث، سواء كان المعطي مكرهاً أو مختاراً، ولو أكره الآخذ عىل الأخذ- فعلى قولي حنث المكره، ولو قال: لا أعطيك حقك، فأعطى ناسياً

أو مكرهاً- فعلى قولي حنث الناسي. فصل فيما لو حلف لا يكلم فلاناً إذا حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه- حنث، وإن كتب إليه كتاباً أو أرسل له رسولاً- ففيه قولان، قال في الجديد - وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني-: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى كلاماً في العادة؛ بدليل أنه لا يخرج المهاجر به عن إثم الهجران. وقال في القديم: يحنث؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} إلى قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [الشورى: 51]؛ استثنى الوحي- وهو الرسالة- من الكلام؛ فدل أنها منه، ولأنه بمنزلة الكلام بين الغائبين، وإن لم يخرج به عن [إثم] الهجران؛ [كما لو لقيه، فشتمه، أو قصده خصمه؛ ليكلمه، فزجره، وقال: تنح عني- يحنث، وإن لم يخرج به عن إثم الهجران] وقال ابن أبي هريرة: يخرج بالكتاب والرسالة عن إثم الهجران؛ لأن المقصود من الكلام إزالة الوحش، ويحصل ذلك بالمكاتبة والمراسلة، ولو أشار إليه بيده أو بعينه رمزاً، هل يحنث؟ قال أصحابنا: فيه قولان؛ كالكتابة: أحدهما: يحنث؛ لأن الله تعالى استثنى الرمز من الكلام؛ فقال: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} [آل عمران: 41]؛ [فدل أنه من الكلام]. والثاني- وهو الأصح-: لا يحنث؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم: 26]، ثم قال: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29]، ولو كانت الإشارة كلاماً- لم تفعله، ولو قرأ آية من القرآن، ففهم ذلك الرجل بالقراءة مقصوده؛ مثل: أن دق الباب، فقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الشعراء: 46]، فإن كان قصده قراءة القرآن- لم يحنث؛ وإلا حنث. وإن حلف لا يكلم الناس- يتناول الرجال والنساء والأطفال؛ فإن قال: "ناساً"- انصرف إلى ثلاثة أنفس ولو حلف لا يتكلم، فقرأ القرآن، أو سبح- لم يحنث؛ لأن إطلاقه يتناول كلام الآدميين، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: أن قراءة القرآن في غير صلاة حنث. وإن حلف لا يقرأ القرآن فقرأ جنباً- حنث، وإن لم يثب عليه، ولو حلف أن يقرأ،

فقرأ جنباً- بر، وإن كان إثماً قال الشيخ- رحمه الله-: ولو نذر أن يقرأ القرآن، فقرأ جنباً- لم يخرج عن نذره؛ لأن المقصود من النذر القربة، ولا قربة/ في المعصية؛ حتى لو حلف لا يقرأ القرآن [جنباً] فقرأ جنباً- عصى، وخرج عن يمينه، ولو نذر أن يقرأ جنباً، لا ينعقد نذره؛ كما لو نذر أن يصلي محدثاً، لا ينعقد نذره. فصل فيما لو حلف لا يبيع ولا يشتري إذا حلف ألا يشتري أو لا يبيع، فاشترى أو باع [لنفسه] أو للغير شيئاً بالوكالة- يحنث، فإن حلف لا يشتري أو لا يبيع لنفسه، ففعل بالوكالة- لا يحنث، ولو وكل رجلاً ليشتري له شيئاً أو يبيع، ففعل- لم يحنث. وقال الربيع: إن كان الرجل محتشماً- يحنث [بفعل] الوكيل له، وكذلك: كل أمر حلف عليه مما لا يفعل بنفسه، ففعل بغيره؛ مثل تطيين الدار وغيره- يحنث عندي، فمن أصحابنا من جعل هذا قولاً للشافعي- رضي الله عنه- والمذهب: أنه لا يحنث بفعل الوكيل له؛ لأنه حلف على فعل نفسه، وإن لم تكن عادته؛ كالسلطان: إذا حلف ألا يلبس الثوب أو: لا يأكل الخبز- يحنث بلبس العباءة وأكل خبز الذرة، وإن لم يكن معتاداً له، وكذلك: لو حلف ألا يطلق أو لا يفتق، أو: لا يزوج ابنته، أو: لا يضرب أحداً فأمر الغير حتى فعله أو فوض الطلاق إلى زوجته، فطلقت نفسها- لم يحنث، إلا أن يكون بنيته ألا يفعل بنفسه ولا بغيره، فيحنث، ولو حلف لا ينكح، فنكح بنفسه، أو وكل وكيلاً ليقبل [له] نكاح امرأة فقبل- يحنث ولو قبل هو لغيره بالوكالة- لم يحنث؛ لأن النكاح لا يعلق له بالوكيل، بخلاف البيع والشراء، ولو حلف لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه- قيل: هو كما لو حلف لا يبيع فأمر غيره باللابيع، وهو ممن لا يتولاه بنفسه؛ فلا يحنث على الأصح، وقيل: يحنث قولاً واحداً؛ لأن العرف في الحلق في حق كل أحد: أن يفعله غيره بأمره. ولو حلف لا يبيع من فلان، فباع من وكيله، أو: وكل وكيلاً حتى باع من فلان- لم يحنث، ولو حلف لا يبيع مال زيد، فباع ماله بإذنه- حنث، وإن باع بغير إذنه- لم يحنث؛ لأن العقد لم يصح، ولو وكل به وكيلاً ببيع ماله، وأذن له في التوكيل، فوكل الوكيل الحالف، فباعه، ولم يعلم- هل يحنث؟ فعلى قولي حنث الناسي، ولو حلف لا يبيع لزيد

مالاً، فوكل الحالف رجلاً يبيع ماله، وأذن له في التوكيل، فدفع الوكيل المال إلى زيد، حتى باعه حنث الحالف، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم؛ لأنه باعه مختاراً، ولو حلف لا يستخدم فلاناً، فخدمه فلان، وهو ساكت، لم يدفعه- لم يحنث؛ لأنه حلف على فعله، [وهو طلب الخدمة] ولم يوجد منه ذلك. ولو حلف لا يبيع من فلان شيئاً، أو: لا يهب منه، فباع أو وهب هبة فاسدة- لا يحنث، ولو حلف ألا يهب لفلان شيئاً، فوهب، ولم يقبل فلان- لم يحنث؛ لأن الهبة لم تتم، وإن قبل فلان وأقبضه- حنث، وإن لم يقبض- فالمذهب؛ أنه لا يحنث؛ لأن المقصود من الهبة لم يحصل، وقيل: يحنث؛ لوجود الهبة، وإن لم يحصل الملك؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ولو حلف ألا يهب- يحنث بكل ما يملك في الحياة من غير عوض؛ كالنحلة والعمرى والرقبى وصدقة التطوع ولا يحنث بصدقة الفطر؛ لأنه يؤدي واجباً عليه؛ كما لو أدى ديناً عليه، وعند أبي حنيفة: لا يحنث بصدقة التطوع إن تصدق، على فقير، فإن تصدق على غني- حنث. ولو أعار شيئاً من إنسان، أو أسكنه داره- لم يحنث؛ لأنه ليس بهبة، وكذلك: لو أوصى بشيء- لم يحنث؛ لأن الوصية تمليك بعد الموت، والميت لا يحنث، ولو وقف شيئاً لا يحنث، وقيل: إن قلنا: يزول الملك إلى الموقوف عليه- يحنث، وليس بصحيح، ولو باع شيئاً بالمحاباة- لا يحنث، ولو حلف لا يتصدق، فتصدق فرضاً أو تطوعاً، سواء تصدق على فقير أو غني- حنث، ولو وهب شيئاً- فوجهان: أحدهما: يحنث؛ كما لو حلف ألا يهب، فتصدق، حنث. والثاني- وهو الأصح-: لا يحنث؛ لأن اسم الصدقة أخص، فلا يقع على الهبة، واسم الهبة أعم، فيقع على الصدقة؛ كما لو حلف لا يأكل طعاماً، فأكل الخبز- حنث، ولو حلف لا يأكل الخبز، فأكل طعاماً آخر- لم يحنث، ولو أعتق عبداً- حنث، ولو وقف شيئاً إن قلنا: الملك للواقف- لا يحنث، وإن قلنا: زال إلى الله تعالى- حنث، وإن قلنا: للموقوف عليه- فوجهان؛ كالهبة. فصل فيما لو حلف ألا يرى منكراً إذا حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي أو قال: لا أرى فلاناً يسرق إلا رفعته/

إلى القاضي: فإن لم يره حتى مات- لا شيء عليه، وإن رآه، ولم يرفعه إلى القاضي حتى مات- نظر: إن مات بعد التمكن- حنث، وإن مات قبل التمكن- فعلى قولين، وهذا اللفظ يتناول قاضي البلد، حتى لو عزل قاضي البلد، وولي غيره، فرفعه إلى الثاني- بر، وإن رفعه إلى المعزول، أو إلى قاضي بلد آخر- لم يبر، ولو قال: إلا رفعته إلى قاض، فأي قاض من قضاة المسلمين رفعه إليه في ولايته- بر، سواء كان يتسمن قاضياً أو حاكماً، وإن رفعه إلى قاض في غير ولايته، أو إلى المعزول- لم يبر؛ لأنه لا يقدر على إقامة موجبة عليه. ولو قال: إلا رفعته إلى القاضي فلان بن فلان، فإن مات ذلك القاضي قيل إن رآه- خرج عن اليمين؛ كما لو مات الحالف، وإن مات بعد أن رآه، ولم يرفع إليه مع التمكن- حنث، وإن لم يتمكن لحبس أو مرض- فيه قولان، وإن اشتغل في الحال بإتيان القاضي، فمات القاضي قبل أن يصل إليه- فيه طريقان: أحدهما: على قولين. والثاني: لا يحنث؛ لأن الاشتغال بأسباب الرفع - كالرفع. ولو رآه ثم عزل القاضي- نظر: إن أراد بقوله: "إلا رفعته إليه": ما دام قاضياً- فهو كما لو مات، فإن تمكن من الرفع إليه، فلم يرفع- حنث، وإلا فقولان، وإن أراد [به] أنه يخبره وإن لم يكن قاضياً عليه أن يخبره بعد العزل، فإن لم يفعل- حنث، وإن أطلق يحمل على الرفع إليه في حال القضاء أم على الإخبار في أي وقت كان؟ [فيه وجهان]، ولو رأى ذلك بعد عزل القاضي: فإن أراد الرفع في حال القضاء فلا شيء عليه، وإن أراد الإخبار يخبره بعد العزل: فإن لم يفعل- حنث. ولا يشترط في الرفع إلى القاضي أن يذهب معه إليه، بل إذا ذهب وحده، وأخبر القاضي، أو كتب إليه، أو أرسل رسولاً، حتى أخبره- بر في يمينه، وإن كان القاضي قد رآه بنفسه في ذلك الأمر- فعلى الحالف إخباره حتى يبر، ولو حلف لا يرفع منكراً إلى القاضي- لا يحنث إلا بالرفع إلى قاضي البلد؛ لأن التعريف بالألف واللام ينصرف إليه؛ وإن كان بالبلد قاض عند اليمين، فعزل وولي غيره، فرفع إلى الثاني- حنث، وإن قال: "إلى فلان

القاضي- لا يحنث بالرفع إليه، وهل/ يشترط أن يكون قاضياً يوم الرفع إليه؟ فيه وجاهن؛ كما ذكرنا في البر. فصل فيما لو حلف لا يضربن عبده إذا حلف ليضربن عبده، فضربه ضرباً يتناولها لاسم بر في يمينه، وإن لم يؤلمه، وعند مالك- رحمه الله-: الإيلام شرط، قلنا: اسم الضرب يتناول الكل؛ بدليل أنه لا يجوز نفي اسم الضرب عن غير المؤلم، أما إذا وضع السوط عليه، [ورفعه- فلا يبر]، لأنه لا يسمى ضرباً، ولو قال: ضرباً شديداً- فلا يبر إلا بضرب مؤلم يسمى شديداً، ولو حلف ليضربنه، فعضه، أو قرصه أو خنقه، أو نتف شعره- لم يبر؛ لأنه ليس بضرب، ولو لكزه أو لطمه أو رفسه- فيه وجهان: أصحهما: يبر؛ لأن كلها ضرب. والثاني: لا يبر؛ لأن الضرب المتعارف ما كان بآلة. ولو حلف ليضربن عبده- مائة سوط، أو مائة خشبة، فربه بإثكال عليه مائة شمراخ، أو شد مائة سوط، فضربه بها ضربة واحدة، فإن تيقن أن الكل أصابته- بر في يمينه؛ لأن الله تعالى قال لأيوب- عليه السلام-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]، وإن تيقن أن الكل لم يصبه أو لم يصل إليه ألم الكل- لم يبر، [ولو تراكم البعض على البعض- يحنث، ووصل إليه ألم الكل- بر]؛ كما لو ضربه فوق ثوب وإن شك هل أصابه الكل أو هل وصل إليه ألم الكل؟ نص على أنه لا يحنث في الحكم، والورع: أن يحنث نفسه، ونص فيما لو قال: ليفعلن كذا في وقت، إلا أن يشاء فلان، فلم يفعل، ومات فلان، ولم تعرف مشيئته-: أنه يحنث، واختيار المزني أنه [لم] يحنث في الموضعين، فمن أصحابنا من جعل فيهما قولين، ومنهم من فرق بينهما، فقال- ههنا-: لا يحنث؛ لأنه حلف على الضرب، وقد وجد الضرب المبر، والشك في المحنث، والأصل أنه لم يحنث، وهناك: حلف على الفعل ولم يفعل، فتيقنا وجود المحنث ومشيئة فلان المنع من الحنث، وشككنا [فيه] في وجوده، والأصل عدمه.

ولو حلف ليضربنه مائة مرة فضربه [بالمائة المشدودة ضربة واحدة- لم يبر؛ لأنه لم يضربه إلا مرة واحدة، ولو حلف ليضربنه مائة، فضربه] بها [مائة] ضربة- ففيه وجهان: أحدهما: لا يبر؛ لأنه يقتضي تعدد الضربات/، وهو لم يضرب إلا ضربة واحدة. والثاني: يبر؛ لأنه حصل بكل واحدة ضربة؛ كما لو قال: مائة سوط. فصل فيما لو حلف وقال ليس لي مال إذا حلف، وقال: ليس لي مال- حنث إذا كان له مال من أي نوع كان وإن قل، حتى ثياب بدنه، وعند أبي حنيفة: لا يحنث إلا بالمال الزكوي من النعم أو أحد النقدين، وإن كان له دين حال على ملي- يحنث؛ لأنه متى شاء، أخذه؛ كما لو كان ماله وديعة عند إنسان، وإن كان الدين مؤجلاً - ففيه وجهان: أصحهما: يحنث؛ لأنه مال يملك التصرف فيه بالإبراء والحوالة. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يملك قبضه متى شاء، وإن كان على جاحد أو كان ضالاً- فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه على ملكه. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يصل إلى المجحود، فهو كالمعدوم في حقه، ولا يتحقق بقاء الضال، وإن كان قد اشتغل عقاراً- هل يحنث؟ فيه وجهان: الأصح: لا يحنث، وهذا بناء على أنه هل تجب فيه زكاة التجارة، وإن كان له مدبر أو معلق عتقه بصفة أو مال أوصى به لإنسان- يحنث؛ لأنه باق على ملكه، وإن كان له مكاتب أو حلف لا يملك عبداً، وله مكاتب- هل يحنث؟ فيه وجهان: الأصح: لا يحنث، وهذا بناء على أنه لو قال: مماليكي أحرار- هل يدخل فيهم المكاتب؟ فيه قولان: الأصح: لا يدخل، وإن كانت له أم ولد- هل يحنث؟ فيه وجهان؛ بناء على أنه هل يجب القطع بسرقتها؟ فيه وجهان.

فصل في نذر اللجاج روي عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة اليمين". النذر قسمان: نذر على وجه التبرر، وهو: أن يلتزم القربة في ذمته بمقابلة حدوث نعمة [أو] انكشاف بلية؛ مثل: أن يقول: إن حدث لي ولد- فلله علي حج أو: إن رد [الله علي] غائبي- فلله علي [صوم شهر، أو: إن شفا الله مريضي فلله علي] عتق رقبة، فإذا وجد ما كان ينتظر- لزمه ما التزم. ونذر على وجه اللجاج، وهو: أن يمنع نفسه عن شيء مباح على وجه اللجاج والغضب بالتزام قربة؛ مثل: أن يقول: إن دخلت الدار- فلله علي حج، وإن كلمت فلاناً/ فلله علي عتق رقبة، وإن أكلت الخبز- فلله علي صوم شهر، فإذا فعل ذلك، ماذا يلزمه فيه ثلاثة أقوال: أصحها: عليه كفارة اليمين؛ لظاهر الخبر، وهو قول عائشة- رضي الله عنها- وعدة من الصحابة- رضوان الله عليهم- لأن قصده منع نفسه عن ذلك الفعل، كما لو حلف ألا يفعل كذا، فإذا فعل- يلزمه كفارة اليمين. والقول الثاني- وبه قال أبو حنيفة- يلزمه الوفاء بما التزم كما في نذر التبرر. والثالث: يتخير بين كفارة اليمين والوفاء بالمنذور؛ لأن ابتداء كلامه يشبه الأيمان، وهو قوله: "إن دخلت الدار"؛ لأنه يقصد منع نفسه عن الدخول وانتهاءه، وقوله: "لله علي كذا"- يشبه النذور ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولين:

أشهرهما: أنه يتخير بين الوفاء بما سمى وبين كفارة اليمين. وأصحهما: أنه يلزمه كفارة اليمين. أما إذا قال: إن دخلت الدار، أو: إن كلمت فلاناً- فعبدي حر-: فليس هذا بنذر؛ لأنه لم يلتزم شيئاً في الذمة، بل هو تعليق عتق، فإذا دخل أو كلم- عتق العبد، ولو نذر على وجه اللجاج عتق رقبة بعينه؛ فإن قلنا: عليه كفارة اليمين: فإن شاء أعتق ذلك العبد إن كان مسلماً [سليماً]، أو عبداً غيره، وإن شاء أطعم أو كسا، وإن كان ذلك كافراً أو معيباً- عليه إعتاق رقبة أخرى إن اختار العتق، وإن قلنا: عليه الوفاء بما سمى- فعليه إعتاقه على أي صفة كان، وإن قال: "إن دخلت الدار- فلله علي كفارة يمين": فإن دخل- عليه كفارة اليمين على الأحوال كلها، وكذلك: لو قال: "إن فعلت كذا، فعلي نذر" يلزمه كفارة اليمين. ونذر اللجاج متصور في فعل الطاعة والمعصية والمباح جميعاً. أما الطاعة: فتنقسم إلى النفي والإثبات، ففي إثباته: يتصور التبرر والغلق، فالتبرر: أن يقول: "إن صليت، فلله علي صوم يوم" يعني: إن وفقني الله على الصلاة فعلي صوم، فإذا صلى- يلزمه الوفاء بما التزم، وهو الصوم، والغلق: أن يقال له: صل، فقال: لا أفعله، وإن صليت- فلله علي عتق عبد، أو صوم، فإذا صلى ماذا يلزمه؟ فعلى الأقوال [الثلاثة]. وأما النفي: فلا يتصور فيه إلا الغلق؛ لأنه لا تبرر في/ ترك الطاعة؛ مثل: أن يقال له: لا تصل، فيقول: أصلي، وإن لم أصل، فلله علي عتق رقبة، [أو صوم شهر]، فإن صلى- فلا شيء عليه، وإن لم يصل- فعلى الأقوال الثلاثة. وأما المعصية: فتنقسم- أيضاً- إلى النفي والإثبات: ففي النفي: يتصور التبرر والغلق، فالتبرر: أن يقول: "إن لم أشرب الخمر- فلله علي صوم يوم" يعني: إن عصمني الله عن شربها، فإذا لم يشرب- يجب الوفاء بالمنذور، والغلق: أن يقال له: لا تشرب فيقول: أشرب، وإن لم أشرب، فلله علي عتق عبد، فإن شرب- لا عتق عليه، وإن لم يشرب- فعلى الأقوال الثلاثة.

وأما الإثبات: فلا يتصور فيه إلا الغلق؛ مثل: أن يقال له: اشرب، [فيقول: لا أشرب]، وإن شربت- فلله علي صوم، فإن شرب: ففيما تلزمه الأقوال الثلاثة. وأما المباح فيتصور في إثباته ونفيه الوجهان جميعاً. أما الإثبات: فالتبرر فيه [أن يقول]: "إن أكلت الخبز اليوم، فلله علي عتق عبد" يعني: إن قواني الله عليه، فإذا أكل- فعليه ما التزم، والغلق: أن يقال له: كل، فيقول: لا آكل، وإن أكلت، فلله علي عتق عبد، فإذا أكل: ففيما يلزمه الأقوال. وأما النفي: فالتبرر فيه: أن يقول: "إن لم آكل الخبز اليوم، فلله علي عتق عبد" يعني: إن وفقني الله إلى كسر شهوتي بترك الأكل، فإن لم يأكل: فعليه ما التزم. ووجه الغلق: أن يقال له: "لا تأكل، فيقول: إن لم آكل، فلله علي عتق عبد، فإذا لم يأكل: ففيما يلزمه الأقوال الثلاثة. ولو علق ما التزم على مشيئة الغير، فقال: إن فعلت كذا، فلله علي نذر حج، إن شاء فلان، فإذا فعل ذلك لا شيء عليه، شاء فلان أو لم يشأ؛ لأن النذر يلزمه بالتزامه لا بمشيئة الغير، بخلاف ما لو قال: إن دخلت الدار، فلله علي نذر حج، فدخل- يلزمه في قول؛ لأن القائل هو الناذر غير أنه أخره إلى الدخول، وثم الشائي غير الناذر، ولو التزم في مقابلة نعمة ما لا يكون قربة؛ مثل: إن قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن آكل الخبز، أو: إن رد غائبي، فلله علي أن أدخل الدار؛ فالمذهب: أنه يمين، فإن لم يوجد شفاء/ المريض ولا رجوع الغائب- لا يلزمه شيء، وإن وجد - فعليه كفارة اليمين، وكذلك: لو قال: إن دخلت الدار، [فلله علي أن آكل الخبز، فإن لم يدخل الدار] لا شيء عليه، وإن دخل: فالمذهب: أن عليه كفارة اليمين، وهو كقوله: "والله، لا أدخل الدار"، وفيه وجه آخر: أنه لغو؛ لا يجب به شيء، ولو قال: "إن دخلت الدار، فلله علي ألا أكلم فلاناً"، فإن كلم قبل الدخول لا شيء عليه؛ لأن النذر لم ينعقد، وإن كلم بعده، فالمذهب: أن عليه كفارة اليمين، وكذلك: لو قال ابتداءً: "لله علي أن أدخل الدار اليوم"، فالمذهب: أنه يمين، فإن لم يدخل- عليه كفارة اليمين، وكذلك: لو قال لامرأته: "إن دخلت الدار، فلله علي أن أطلقك"، فهو كقوله: "إن دخلت الدار، فوالله لأطلقنك"، فإن مات أحدهما قبل التطليق- يجب عليه كفارة اليمين.

باب النذور قال الله تعالى في وصف عبادة الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وروي عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". النذر هو: أن يوجب على نفسه قربة لم يوجبها الشرع عليه بمقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية، مثل: أن يقول: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق رقبة، أو أصوم شهراً،

أو: إن رد غائبي، فلله علي أن أصلي ركعتين أو أحج بيت الله عز وجل، فإذا حصل ما علقه عليه- يلزمه ما التزم. ولو لم يعلقه على شيء، بل قال: [لله] علي أن أصوم أو أصلي أو أحج أو أعتق عبداً" فالمذهب: أنه يلزمه؛ لقوله- عليه السلام-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، ولأن ما يوجبه الإنسان على نفسه مقابل بما أوجبه الشرع، والشرع قد أوجب أشياء على الإنسان بلا سببب. وفيه قول آخر: أنه لا يلزم إلا بمقابلة عوض؛ كما لا يلزم التبرعات من الهبة والوصية؛ لأنها ليست بمقابلة عوض، ولو قال: "إن شفى الله مريضي، فعلي حج أو علي عتق/ عبد"، ولم يقل: "لله علي" فالمذهب: أنه يلزمه؛ كما لو قال: "لله علي"، وفيه وجه آخر: أنه لا يلزمه ما لم يقل: "لله علي" وكذلك في نذر اللجاج [والغضب] إذا قال: "علي كذا" ولم يقل: "لله عليه" هل يلزمه موجبه؟ فعلى [هذين] القولين، والمذهب: أنه يلزمه، وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، ولم يوجبها الشرع عليه، أما ما كان واجباً بالشرع: فلا يصح نذره؛ مثل: أن قال: "لله علي أن أصلي الظهر، أو: لله علي أن أصوم رمضان، أو: لله علي ألا أشرب الخمر أو: لا أرتكب محرماً"؛ فلا يكون هذا نذراً، سواء قاله بمقابلة نعمة أو مبتدئاً؛ [لأن أداء] صلاة الظهر وصوم رمضان وترك شرب الخمر والحرام- واجب عليه بحكم الشرع، ولكن هيكون يميناً على ظاهر المذهب، حتى لو لم يصل الظهر أو لم يصم رمضان أو شرب الخمر- تلزمه كفارة اليمين؛ كما لو قال: "والله، لا أشرب الخمر" فشرب، وكذلك: لا يصح [نذر] فعل المعصية؛ مثل: أن نذر القتل أو الزنا، أو نذرت المرأة أن تصلي وتصوم في أيام حيضها، أو نذر صوم يوم العيد، أو أن يصلي محدثاً، أو بلا قراءة، أو أن يقرأ القرآن جنباً؛ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم"، ولو نذر ذبح ولده لا ينعقد، وعند أبي حنيفة: ينعقد [وعليه ذبح] شاة، وبالاتفاق: لو نذر ذبح والده أو قتل ولده- لا ينعقد، وعند أبي يوسف: إن نذر أن يصلي محدثاً أو بلا قراءة -ينعقد، ويصلي متطهراً بقراءة؛ كما لو نذر أن يصلي في أرض مغصوبة- تلزمه الصلاة، ويصلي في موضع آخر، قلنا: الغصب معصية في غير

الصلاة بخلاف الحدث؛ لأن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة، وإن كان عاصياً بالغصب، ولا يصح محدثاً، وبغير قراءة؛ بدليل أنه لو نذر مطلقاً: أن يصلي، فصلى في أرض مغصوبة- خرج عن نذره، ولو صلى محدثاً- لا يخرج عن نذره، وكذلك: الإتيان بالمباحات، أو الإعراض/ عنها-[لا يلزم بالنذر]، مثل: إن نذر أن يأكل أو يشرب، أو لا يأكل ولا يشرب- فلا يلزم بالنذر؛ لما روي عن ابن عباس قال: "بينما النبي- صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" غير أنه يمين على ظاهر المذهب، فإذا نذر ألا يفعل، ففعل، أو نذر أو يفعل، فلم يفعل- تلزمه كفارة اليمين. فصل فيما لو نذر أن يتصدق بماله إذا نذر أن يتصدق بماله- يلزمه أن يتصدق بجميع ماله، ولو قال: "إن شفى الله مريضي- فمالي صدقة، أو مالي في سبيل الله"- فالمذهب: أنه كقوله: "لله علي أن أنفق مالي في سبيل الله، أو: أتصدق بمالي"؛ فيلزمه أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك: في نذر اللجاج، إذا قلنا: يلزمه الوفاء بما نذر، وعند أبي حنيفة- رحمه الله-: إذا قال: "مالي في سبيل الله" عليه أن يتصدق بما عنده من المال الزكوي، وعند مالك- رحمه الله-: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، ولو نذر هذياً- يجب عليه أن يحمله إلى مكة، فيتصدق على أهلها، ولو نذر أن يتصدق بماله على أهل بلد عينه- يجب أن يتصدق عليهم، أما إذا نذر أن يصوم في بلد- لا يتعين، وله أن يصوم حيث شاء، سواء كان في الحرم أو في غيره، وقال صاحب "التلخيص": إذا عين الحرم يختص به، والأول المذهب؛ كما أن الصوم الذي هو بدل هدايا الإحرام- لا يختص بالحرم؛ ولو نذر أن يصلي في بلد- لا يتعين؛ وله أن يصلي حيث يشاء إلا أن يعين لها المسجد الحرام، فيتعين، وفي مسجد المدينة- والأقصى: قولان،

ولو عين مسجداً آخر سوى هذه المساجد الثلاثة- لا يتعين، ولو نذر أن يجاهد في جهة عينها- هل يتعين؟ فيه وجهان، قال الشيخ أبو زيد: لا يتعين؛ وله أن يجاهد في أي جهة شاء؛ لن الناذر لا حق له في الجهاد، إنما مقصوده الغزو، وقال صاحب "التلخيص": تتعين تلك الجهة؛ لأن الجهاد يختلف باختلاف الثغور؛ لبعد المسافة، وكثرة المؤونة، وقوة العدو. فصل في نذر الحج إذا نذر حجاً أو عمرة- لزمه أن يحج/ ويعتمر، إذا قال: "لله علي أن أمشي إلى بيت الله أو آتي بيت الله" نظر: إن لم يرد [بيت الله] الحرام- لا يلزمه شيء، وقال أبو حامد: مطلقه يحمل على البيت الحرام؛ لأنه الذي يفهم من إطلاقه، وإن نوى البيت الحرام، أو صرح فقال: "لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو آتي بيت الله الحرام"- هل يلزمه إتيانه؟ قيل: هذا ينبني على أن دخول الحرم، هل يقتضي إحراماً؟ وفيه قولان؛ إن قلنا: يقتضي إحراماً- يلزمه أن يأتيه، فيحج أو يعتمر، وإن قلنا: لا يقتضي إحراماً- فهو كما لو نذر أن يأتي مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، ومن أصحابنا من قال- وهو المذهب-: يلزمه إتيانه قولاً واحداً، ويحج أو يعتمر؛ لأنه لا قربة في إتيانه إلا بنسك، [ثم] إن نذر المشي- فهو كما لو نذر أن يحج ماشياً أو يعتمر ماشياً، وإن نذر الإتيان- فلا يلزمه المشي، وعلي أن يحج ويعتمر، وقيل: إن قلنا: دخول مكة لا يقتضي إحراماً- فعليه أن يحج أو يعتمر، إن شاء، أو يصلي ركعتين، أو يعتكف في المسجد الحرام، فإذا أوجبنا إتيانه، وكان قد نذر المشي إليه، لو نذر الحج أو العمرة ماشياً- فهل يجوز أن يأتيه راكباً أم عليه المشي؟ فيه قولان؛ بناءً على أن الحج راكباً أفضل أو ماشياً؟ وفيه قولان: أحدهما: راكباً؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- حج راكباً. والثاني: ماشياً أفضل؛ لأن التعب فيه أكثر؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة- رضي الله عنها-: "أجرك على قدر نصبك": فإن قلنا: الحج راكباً أفضل، فإذا ركب- لا شيء عليه، وإن قلنا: ماشياً أفضل- وهو الأصح- فيجب عليه المشي، ومن أي موضع يلزمه [المشي]؟ نظر: إن قال: "لله علي أن أحج ماشياً" فمن الميقات، وإن أحرم قبل

الميقات- فمن حيث أحرم؛ لأن الحج يكون من ذلك الموضع. وإن قال: "لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام"- ففيه وجهان: أحدهما: من الميقات؛ لأن المقصود منه الحج أو العمرة؛ وإنما يصير محرماً من الميقات. والثاني: من دويرة أهله؛ لأن قضية قوله: "أمشي إلى بيت [الله": أن يخرج] إليه ماشياً، فلو قال: لله علي أن أمشي حاجاً، قيل: هو كقوله: "لله علي أن أحج ماشياً"، وقيل: هو كقوله: "أمشي إلى بيت/ الله الحرام"، فإذا قلنا: يلزمه المشي: إما من الميقات، أو من دويرة أهله- فيجب أن يمشي في الحج، حتى تحل له النساء عقداً ووطئاً، وهو بعد التحللين، وإذا فاته الحج- يتحلل بعمل العمرة ماشياً، ثم يقضي في العام الثاني ماشياً، وفيه قول آخر؛ أنه لا يلزمه أن يحل عن الفائتة ماشياً، بل له أن يركب فيه؛ لأن فرض النذر لا يسقط به، وعليه القضاء ماشياً، وفي العمرة: يجب أن يمشي حتى يطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم له أن يركب إن قلنا: الحلق استباحة محظور، وإن قلنا: نسك- فلا يركب حتى يحلق، فإذا أوجبنا عليه المشي، فحج راكباً مع القدرة على المشي- ففيه أقوال: أصحها: صح حجه عن نذره؛ وعليه دم، ولا قضاء عليه. وفيه قول آخر: صح حجه، ولا دم عليه. وفيه قول ثالث: يجب عليه القضاء، ثم في القضاء: له أن يركب بقدر ما مشى في الأداء، ويمشي بقدر ما يركب، أما إذا عجز عن المشي، فحج راكباً- صح حجه عن نذره، ولا قضاء عليه، وهل يلزمه الدم؟ فيه قولان: أحدهما: لا دم عليه؛ لأنه ركب للعجز؛ كما لو نذر أن يصلي، فعجز، فصلى قاعداً- لا شيء عليه. والثاني- وهو الأصح-: يلزمه دم؛ والدليل عليه: ما روي أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، فسئل النبي- صلى الله عليه وسلم- أنها لا تطيق ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلتركب ولتهد بدنة" وفي رواية: "ولتهد هدياً"، وليس كالصلاة؛ لأنه لا مدخل للمال

فيها، وله مدخل في الحج؛ ولو نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام، فمشى- يلزمه [دم]؛ لنه ترفه بترك مؤنة الركوب، قال الشيخ- رحمه الله-: عندي: لا دم عليه؛ لأن عدوله إلى الطريق الأشق لزيادة الثواب؛ فلا يجب عليه الدم. ولو نذر أن يحج حافياً-[له لبس] النعل، ولا شيء عليه؛ لأنه إتعاب للبدن بما لا فائدة فيه. ولو نذر أن يمشي إلى بيت الله: لا حاجاً، ولا معتمراً- ففيه وجهان: أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن المشي إليه بغير نسك- ليس بقربة كالمشي إلى غير البيت. والثاني: ينعقد؛ وعليه أن يمشي فيحج أو يعتمر؛ لأنه لزمه النسك بنذر المشي، ثم دام إسقاطه بنفيه، فلم يسقط، ولو نذر أن يأتي موضعاً/ من الحرم/ كالصفا والمروة ومقام إبراهيم ومنى وغيرها من بقاع الحرم- فهو كما لو نذر أن يأتي بيت الله الحرام، سواء قال بلفظ المشي أو الإتيان أو الحضور أو قال: أذهب أو أنتقل أو أصير إليها، إلا أنه إذا قال بغير لفظ المشي- يجوز له الركوب، وعند أبي حنيفة: لا يلزمه إلا بلفظ المشي، ولو نذر أن يأتي عرفات، أو مر الظهران- لا يلزمه؛ لأنها ليست من الحرم؛ كما لو نذر إتيان بلد آخر، ولو نذر أن يأتي مسجد "المدينة"، أو المسجد الأقصى- هل يلزمه إتيانه؟ فيه قولان: أحدهما: يلزم [كما يلزمه] إتيان المسجد الحرام؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- خصها بالإتيان بين المساجد، فقال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". والثاني: لا يلزم؛ لأنهما لا يقصدان بالنسك؛ كسائر المساجد، بخلاف المسجد الحرام، فإن قلنا: يلزمه الإتيان: فإن كان نذر المشي- فهل له أن يركب؟ ينبني على ما لو

نذر الحج: إن قلنا هناك: يلزمه المشي من دويرة أهله- فههنا: يلزمه [كذلك؛ وإن] قلنا: لا يلزمه المشي، أو يلزمه من الميقات، فههنا: لا يلزمه المشي، وله أن يركب، فإذا حضره: يلزمه أن يصلي ركعتين، أو يعتكف ساعة في المسجد، أو يزور قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- في إتيان المدينة، حتى يكون قربة، وقيل: لا يلزمه شيء، إذا حضره؛ لأنه لا يلتزم إلا الإتيان، ونفس إتيانه قربة، بخلاف مكة، حيث يلزمه الحج أو العمرة؛ لأنه واجب بأصل الشرع، فلزم بالنذر، فإذا نذر حجاً- يلزمه أن يحج بنفسه، فإن كان مغصوباً- يحج بماله، ولا يتعين له سنة، ويستحب أن يحج في أول سنة الإمكان، فإن مات قبل الإمكان- لا شيء عليه، وإن مات بعد الإ/كان- يحج من ماله، ولو قال: "لله علي أن أحج [من] عامي هذا"- نظر: إن كان على مسافة لو خرج في الوقت- لا يمكنه أن يحج في ذلك العام- لا ينعقد نذره، وإن أمكنه- يلزمه أن يحج في ذلك العام، فلو لم يحج في ذلك العام، مع الإمكان- كان ديناً في ذمته؛ كما في حجة الإسلام، فإن مات- قضى من ماله، ولو لم يمكنه الحج في ذلك العام/ نظر: إن مات قبل الإمكان- فلا شيء عليه، وإن حبس حتى مضى العام- نظر: إن حبسه عدو أو سلطان - فالمذهب: أنه لا قضاء عليه؛ كحجة الإسلام، إذا أحرم به فحبسه عدو في أول سنة الإمكان- لا يلزمه القضاء، وخرج ابن سريج قولاً [آخر]؛ أنه يلزمه القضاء إذا أمكنه قبل موته؛ كما لو منعه مرض؛ لأن باب النذور أوسع؛ بدليل أنه لو نذر حججاً كثيرة- تلزمه بالنذر، ولا تجب بالشرع إلا واحدة، وكذلك: لو نذر صلاة في يوم بعينه، فأغمي عليه- لزمه القضاء، ولا يلزمه قضاء صلوات ذلك اليوم، فإن منعه عدو أو سلطان وحده- ففي وجوب القضاء قولان؛ كالحصر الخاص في حجة الإسلام، ولو منعه عن الحج في ذلك العام مرض، أو أخطأ العدد، أو نسي، أو ضل الطريق، حتى مضى العام- يلزمه القضاء، فإن كان مغصوباً يوم النذر، أو صار مغصوباً، أو لم يجد المال إلا بعد مضي السنة- فلا قضاء عليه، ولو نذر عشر حجات، فمات بعد مضي خمس سنين، أمكنه فيها الحج- يقضي من ماله خمس حجات، فإن كان مغصوباً يوما لنذر، أو صار مغصوباً [بعده، فمات بعد] مضي سنة، وله مال- أمكنه أن يحج عن نفسه في سنة واحدة عشر حجات- يقضي الكل من ماله، وإن لم يكن له

من المال إلا قدر حجتين- يستقر عليه حجتان. ولو نذر صلاة أو صوماً أو اعتكافاً أو صدقة في شهر بعينه، فمنعه مرض أو سلطان- عليه القضاء، بخلاف الحج إذا منعه سلطان- لا يجب القضاء؛ لأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع، والصلاة والصوم والصدقة- قد تجب ابتداءً مع العجز والمرض، وكذلك تلزم بالنذر، أما الحج: فلا يجب بالشرع إلا بشرط الاستطاعة؛ كذلك بالنذر. فصل في نذر الصوم إذا نذر صوم أيام- مثلاً- صوم عشرة أيام- لا يلزمه الشروع فيها عقيب النذر، وله أن يصومها متتابعة ومتفرقة، غير أن المستحب أن يعجل صومها عقيب النذر، وأن يصومها متتابعة، فإن قيد بالتتابع [يجب التتابع] ولا يجب التعجيل، وإذا شرع في صومها، فأفطر يوماً- يلزمه استئناف العشر، وإذا نذر أن يصوم متفرقاً- يلزمه التفريق؛ لأن التفرييق مما يلزم بالشرع كالتتابع، وهو في صوم المتمتع؛ فيلزمه بالنذر حتى لو صام عشرة متتابعة- يحسب/ له صوم خمسة أيام، ولا يصح بين كل يومين صوم يوم، ولو نذر صوم سنة- لا تخلو: إما إن عين أو لم يعين؛ فإن نذر صوم سنة بعينها: بأن قال: "لله علي [أن] أصوم سنة كذا، أو: سنة من وقتي هذا، أو: أشرع فيه غداً"، أو لم يعين، وقال: " [أصوم] سنة من محرم إلى محرم يجب أن يصومها متتابعاً؛ لتعيين الوقت؛ كما يجب صوم رمضان متتابعاً، ويصوم رمضان عن فرض الشرع، ولا يجب قضاءه عن النذر؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويجب أن يفطر العيدين وأيام التشريق، ولا يجب قضاؤها؛ لأنها لا تقبل الصوم؛ فلم يتناولها النذر، وإذا أفطرت المرأة بعذر الحيض أو النفاس، هل يجب عليها قضاء أيام الحيض والنفاس؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ كما لا يجب قضاء يوم العيد. والثاني: يجب؛ لأن زمان الحيض محل للصوم في حق غيرها، بخلاف يوم العيد؛ فإنه غير قابل للصوم في [حق] أحد، فلم يدخل في النذر، كزمان الليل، وهذا أصح، وإن أفطر يوماً بغير عذر- يجب عليه قضاء ذلك اليوم، وهل يجب استئناف السنة؟ نظر: إن لم يقيد بالتتابع- لا يجب؛ لأن التتابع وجب فيه لحق الوقت، فإذا أفطر يوماً- لا يجب إلا قضاء ما أفطر كصوم رمضان، وإن قيد بالتتابع بأن قال: أصوم سنة كذا متتابعاً - ففيه

وجهان، قال الشيخ أبو حامد- رحمه الله-: يلزمه الاستئناف؛ كما لو لم يعين سنة، وشرط التتابع فأفطر يوماً- يلزمه الاستئناف، ويبطل ما مضى، وقال الشيخ القفال: لا يلزمه الاستئناف، ولا يبطل ما مضى؛ لأن التتابع كان لازماً لحق الوقت؛ فلا يكون لقوله: "متتابعاً" تأثير، وإن فاته صوم تلك السنة- يلزمه القضاء، ولا يلزمه التتابع؛ لأن التتابع في الأداء- كان لحق الوقت؛ كقضاء رمضان. ولو قال: "لله علي صوم هذه السنة"- فلا يلزمه إلا ما بقي من تلك السنة إلى المحرم، وإن لم يبق إلا يوم واحد، ثم إن كان قبل رمضان- لا يجب عليه قضاء رمضان عن النذر، ولا يوم العيد وأيام التشريق، وفي وجوب قضاء زمان الحيض والنفاس قولان؛ كما ذكرنا في جميع السنة، أما إذا نذر صوم/ سنة، ولم يعين- لا يخلو: إما إن قيد بالتتابع أو لم يقيد: فإن لم يقيد- يجب عليه أن يصوم سنة اثني عشر شهراً، ولا يلزمه التتابع، ثم إن صام متتابعاً- يجب عليه أن يصوم رمضان عن فرض الشرع، وعليه قضاؤه عن النذر، وكذلك: يفطر يوم العيد وأيام التشريق، ويقضي عن النذر، ولا يجب قضاء يوم الشك؛ لأن صومه عن يوم النذر جائز، وعلى المرأة قضاء أيام الحيض، وإذا قضى عن رمضان شهراً بالهلال- جاز، تاماً كان أو ناقصاً؛ لنه قضى شهراً بإزاء شهر، وكل شهر في السنة صامه من أوله تاماً- يكون بالهلال، وإن خرج ناقصاً، إما شوال وذو الحجة- يجب أن يكملهما ثلاثين يوماً، وإن كانا ناقصين- فيصوم نقصانهما بعد السنة، وكذلك: كل شهر أفطر منه شيئاً بعذر أو من غير عذر- يجب إكمال ذلك الشهر ثلاثين يوماً، ولا يبطل ما مضى؛ أما إذا قيد التتابع، فقال: "لله علي أن أصوم سنة متتابعاً"- يجب أن يصوم متتابعاً، ولا ينقطع التتابع بفطر يوم العيد وأيام التشريق؛ لن الحول لا يخلو عن هذه الأيام، وكذلك بصوم شهر رمضان عن فرض الإسلام، ولا ينقطع به التتابع، ويجب عليه قضاء هذه الأيام متصلاً بالسنة متتابعاً، وهذا بخلاف ما لو نذر صوم سنة معينة- حنث، قلنا: لا يجب قضاء هذه الأيام؛ لأن النذر إذا تناول وقتاً بعينه فما لم يصح فيه لا يبدل بغيره، وههنا: تعلق النذر بصوم في الزمن، فإذا لم يقبله بعض الزمان- أبدله بغيره؛ كما لو باع عيناً، فوجد بها عيباً لا يجوز إبدالها بغيرها، وإذا وجد بالمسلم فيه عيباً- أخذ بدله، وكل شهر صامه تاماً من أوله- يكون بالهلال، وإن كان ناقصاً كما ذكرنا، وإن أفطرت المرأة بعذر الحيض- لا يجب استئناف السنة، وهل يجب قضاء أيام الحيض؟ فعلى قولين، وإن أفطر يوما بغير عذر- يجب استئناف السنة، وإن أفطر بعذر مرض، فهل يجب الاستئناف؟ فعلى قولين، وإن

أفطر بعذر سفر- يرتب على المرض، إن قلنا هناك: يجب الاستئناف، وينقطع التتابع- فههنا أولى وإلا: فعلى وجهين؛ كما في صوم كفارة الظهار/؛ فإن قلنا: لا ينقطع التتابع ولا يجب الاستئناف- فهل يجب قضاء ما أفطر بالمرض؟ فيه وجهان بناء على القولين في الحائض، وكذلك: لو نذر أن يصوم ثلثمائة وستين يوماً، إن لم يقل: "متتابعة" فعليه أن يصوم هذا العدد بالأيام، ولا تتابع عليه، وعليه قضاء صوم رمضان، ويومي العيد وأيام التشريق، وإن قال: "متتابعة"- فيجب التتابع، ويجب قضاء هذه الأيام متصلاً بالسنة، وتكون الشهور بالعدد، قال الشيخ- رحمه الله-: ولو أن امرأة نذرت صوم يوم [بعينه]، فحاضت فيه، فهل يجب القضاء؟ فيه قولان؛ كما ذكرنا في السنة المعينة، وإن نذرت يوما غير معين، فشرعت في الصوم في يوم، وحاضت- يجب القضاء، ولو أن رجلاً نذر صوم [يوم] الاثنين أبداً أو سنة- يجب عليه أن يصومها، ولا يجب عليه قضاء أثانين شهر رمضان؛ لأن وجوبه سبق نذره- فلا يدخل في النذر، وإن وافق يوم العيد وأيام التشريق- هل يجب قضاؤها؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المزني-: لا يجب؛ كأثانين رمضان. والثاني: يجب قضاؤها؛ لأن هذه الأيام [قد] تخلو عن الأثانين؛ فكانت داخلة في النذر، بخلاف رمضان؛ فإنه لا يخلو عن الأثانين، فإن اتفق في رمضان خمسة أثانين، هل يجب قضاء الخامس؟ فيه وجهان؛ بناءً على هذين القولين؛ لأن رمضان لا يخلو عن أربع أثانين، ويخلو عن الخامس، ولو لزمه صوم شهرين متتابعين عن كفارة- يجب عليه أن يصوم عن الكفارة، سواء سبق وجوبه نذر صوم يوم الاثنين أو تأخر عنه، وإنما قدمنا صوم الشهرين؛ لأنه إذا بدأ به يمكنه [بعد الفراغ منه أن يقضي صوم الأثانين، وإذا بدأ بصوم الأثانين- لا يمكنه] قضاء الشهرين، ثم إن سبق نذر صوم الاثنين، ثم لزمته الكفارة- يجب عليه قضاء أثاني الشهرين، فإن كان وجوب صوم الكفارة سابقاً على وجوب نذر صوم الاثنين- هل يجب قضاء أثاني الشهرين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأن وجوبه سبق النذر؛ كما لا يجب قضاء أثاني رمضان. والثاني: يجب؛ لأن الوقت لم يكن متعيناً لصوم الكفارة، وكان صومه عن النذر

ممكناً، فإذا صام عن غيره- لزمه القضاء، بخلاف شهر رمضان؛ فإن الوقت كان متعيناً/ [له] وهذا أصح. ولو لزمه صوم شهرين متتابعين بنذر، أو صوم أسبوع متتابعاً بنذر- قيل: هو كصوم الكفارة، [وإن نذر [الأسبوع أو الشهرين] بعد نذر الأثانين- لزمه قضاء [أثاني] الشهرين والأسبوع]، وإن نذر الشهرين بعد نذر الأثانين- فوجهان]: قال الشيخ- رحمه الله-: هذا إذا نذر [صوم] شهرين متتابعين، لا على التعيين: فإن نذر على التعيين قبل نذر الأثانين- ينبغي ألا يدخل أثاني الشهرين في نذر الأثانين؛ كأثاني رمضان، ولا يجب قضاؤها؛ قال الشيخ- رحمه الله-: ويحتمل أن يقال: إذا صادف نذران زماناً واحداً على التعيين: أن الثاني لا ينعقد، كما يأتي نظيره، وإن وافق بعض الأثانين زمان حيض المرأة أو نفاسها- نص: أنها تقضيها، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كما لو وافق يوم العيد وأيام التشريق، ومن أصحابنا من قال: يقضي ما وافق زمان الحيض والنفاس قولاً واحداً؛ لأن النذور يسلك بها مسلك واجب الشرع، ولو أنها حاضت أو نفست في شهر رمضان- يجب عليها القضاء؛ كذا ههنا، ألا ترى أنها إذا أفطرت بعذر مرض أو سفر- يجب القضاء؛ كما يجب قضاء رمضان بخلاف العيد وأيام التشريق؛ لأن تلك الأيام لا تقبل الصوم في حق أحد؛ فكان كزمان الليل، وزمان الحيض قابلاً للصوم في حق غيرها، والفطر في حقها- كان لعارض؛ فيجب القضاء، كما لو أفطرت لسفر أو مرض. ولو نذر أن يصوم يوماً بعينه- فلا يجوز أن يصوم قبله. ولو نذر أن يصوم يوماً معيناً من أسبوع، ونسي اليوم الذي عينه- يصوم آخر يوم من الأسبوع، وهو يوم الجمعة، فإن كان نذر صومه - كان أداء، وإن عين يوماً آخر- كان قضاء، فلو صام قبله- لم يحسب؛ لاحتمال أنه عين يوماً بعده، ولا يجوز تقديم القضاء، وكذلك: لو نذر أن يصلي صلاة في وقت، فصلى قبله، أو أن يحج سنة بعينها، فحج قبلها- لم يحسب عن النذر.

فصل فيما لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان إذا نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان- نظر: إن قدم ليلاً- فلا صوم عليه، ويستحب أن يصوم صبيحة تلك الليلة؛ لأنه التزم ما التزم شكراً لله عز وجل، فإذا حصلت النعمة- يستحب أن يشكر الله عز وجل، وإن قدم نهاراً- فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن صوم الفرض لا يصح إلا بنية من الليل، وهو لا يعلم متى يكون قدوم فلان، حتى ينوي من الليل، ولأن الصوم إنما يلزمه حين يقدم فلان، وإذا قدم بعد مضي بعض النهار- يصير كأنه قال عند قدومه: "لله علي أن أصوم [اليوم] وإذا قال ذلك- لا يلزم. والثاني: ينعقد نذره، وعليه صوم يوم آخر، فعلى هذا: من أي وقت يلزمه الصوم؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه قال ابن الحداد-: يلزمه من أول النهار؛ كأنه قال: "لله عليه أن أصوم اليوم الذي يتصور فيه قدوم فلان"، فإذا قدم يتبين أن الصوم لزمه من أول النهار، غير أنه لم يكن له سبيل إلى معرفة قدومه، حتى يبيت النية فصار كمن لم يعرف دخول رمضان، فأفطر- عليه القضاء. والثاني: يلزمه من حين ما قدم؛ لأن الصوم معلق بقدومه فلا يسبقه إلا أن صوم بعض النهار لا يتصور؛ فيلزمه صوم يوم تام، وليس هذا كنذر صوم بعض اليوم، حيث لا ينعقد على ظاهر المذهب لأنه نذر ههنا- صوم يوم، إلا أن شرط الوجوب وجد في البعض دون البعض، فهو كمن شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه - لزمه على ظاهر المذهب؛ فيكون واجباً من حين نذره، وأوله تطوع، وكما في جزاء الصيد: يصوم عن كل مد يوماً، فلو فضل نصف مد لزمه صوم يوم تام، والواجب: نصف يوم، وإن قلنا: لا ينعقد نذره- لا شيء عليه، سواء قدم فلان، وهو مفطر أو صائم، وإن كان صائماً- أتم الصوم الذي هو فيه، إن كان فرضاً، وإن كان تطوعاً: إن شاء أتم، وإن شاء أفطر، وإن قلنا: ينعقد نذره- نظر: إن قدم فلان، وهو مفطر قد أكل، أو صائم عن فرض: من قضاء أو نذر- يتم ما هو فيه، [ويجب] عليه صوم يوم آخر عن هذا النذر، ويستحب: إن كان صائماً عن فرض آخر- أن يعيد ذلك الصوم الذي هو عليه لوقوع الاشتراك من حيث إن صومه كان لازماً

عن هذا النذر، [فصامه] عن غيره، وفيه دليل على أنه إذا نذر صوم يوم عينه، ثم صامه عن نذر آخر، أو قضاء: أنه ينعقد، ويقضي نذر هذا اليوم، وفيه وجه آخر: أنه لا ينعقد؛ كما إذا صام رمضان عن فرض آخر، وكما لو قال: "إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق هذا العبد" فأراد إعتاقه عن نذر آخر، أو عن كفارة- لا يجوز، أما إذا قدم فلان، وهو فيه صائم عن تطوع أو غير صائم، ولكنه لم يأكل شيئاً، وكان قبل الزوال: هذا يبنى على أنه من أي وقت يلزمه الصوم؟ إن قلنا: بظاهر المذهب، أنه يلزمه الصوم من أول النهار- فههنا: يجب عليه صوم يوم آخر، فإن قلنا: يلزمه من وقت القدوم- فههنا: وجهان: أصحهما: يجب عليه صوم يوم آخر. والثاني: يجب عليه إتمام ما هو فيه، فأوله يكون تطوعاً وآخره يكون فرضاً؛ كمن شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه عليه إتمامه، وإن لم يكن صائماً فيه- ينوي ويصوم بقية النهار، فإن كان قبل الزوال، فإن قلنا: ينعقد نذره- وعليه صوم يوم آخر، فإنما لم يصح صوم يوم القدوم عن هذا [النذر]؛ لأنه لم يبيت النية من الليل، فلو واطأه فلان؛ أني أريد القدوم يوم كذا، أو غلب على ظنه قدومه يوماً، فنوى من الليل الصوم عن النذر، هل يصح أم لا؟ فيه وجهان: قال الشيخ القفال: لا يصح؛ لأنه لم يكن على حقيقة من قدومه، وقال غيره: يصح؛ لأن قدومه كان غالباً عنده. وفرع ابن الحداد على هذا المعنى الذي ذكر: أنه إذا نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، أنه يتبين بقدومه: أن الصوم لزمه من أول النهار. مسألة وهي أنه لو قال لعبده: "أنت حر اليوم الذي يقدمفيه فلان" فباعه في أول النهار، ثم قدم فلان في خلال النهار- هل يصح بيعه؟ أو قال لامرأته: "أنت طالق اليوم الذي يقدم فيه فلان" فماتت في أول النهار، ثم قدم فلان- هل يرثها أم لا؟ إن قلنا: نذر الصوم لزم من أول النهار فلا يصح بيع العبد، وبان بقدومه: أنه عتق من قبل، وكذلك: لا يرث المرأة إذا ظهر أنها بانت من قبل. وإن قلنا: يلزم [من] حين القدوم- فبيع العبد صحيح، ويرث من المرأة.

ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبداً، فقدم يوم الاثنين، فحكم اليوم الذي قدم فيه: كما ذكرنا، أما سائر الأثانين- يلزمه صومها؛ كما لو نذر صوم يوم الاثنين، ولو نذر صوم الليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم يوم العيد- قال الشيخ- رحمه الله-: لا شيء عليه؛ لأنه لا يقبل الصوم؛ كما لو قدم ليلاً؛ كذلك: لو قدم في رمضان- لا يلزمه بالنذر شيء، ولو نذر صوم نصف يوم، أو نذر صوم اليوم الذي هو فيه- هل ينعقد؟ فيه وجهان: أحدهما: ينعقد، وعليه صوم [يوم] كامل. والثاني- وهو الأصح-: لا ينعقد، ولا يلزمه شيء. وفرع بعضنا على الوجه الأول: أنه إذا قال: "لله علي ركوع": أنه يلزمه ركعة تامة، والمذهب: أنه لا يلزمه شيء. هذا إذا أصبح غير صائم، فنذر صومه. أما إذا أصبح صائماً عن تطوع، ثم نذر إتمامه- المذهب: أنه يلزمه الإتمام، وإذا اجتمع على رجل نذران في يوم واحد؛ مثل: أن قال: "إن شفى الله مريضي فلله علي أن أصوم أول خميس من هذا الشهر"، ثم قال: "لله علي أن أصوم [اليوم] الذي يقدم فيه فلان"، فشفي المريض، وأصبح يوم الخميس [صائماً، و] قدم فلان فيه- يصح صومه عما نواه، وأما النذر الثاني: [إن قلنا: لا ينعقد- لا يلزمه شيء، وإن قلنا: ينعقد- فيقضي يوماً عن النذر، [الثاني] ولو قال: "إن قدم زيد فلله علي أن أصوم [اليوم الثاني منه، وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم] أول خميس بعده"، فقدما جميعاً يوم الأربعاء- لزمه صيام يوم الخميس عن أول نذر نذره، ثم يقضي يوماً [عن الآخر]، [قال الشيخ- رحمه الله-: ويحتمل ألا يلزمه بالنذر، الثاني [شيء]؛ لأن الوقت مستحق صومه عن النذر الأول]. فصل فيما لو نذر صوماً مطلقاً إذا نذر رجل صوماً مطلقاً- يجب عليه أن يصوم يوماً تاماً؛ لأنه لا صوم أقل من يوم، ولو قال: "لله علي أن أصوم أياماً" فأقل ما يلزمه ثلاثة أيام، ولو قال: "دهراً" يخرج عنه

لصوم يوم، ولو نذر أن يتصدق، فتصدق بقليل، وإن كانت حبة- يخرج عن نذره؛ لأن ذلك [القدر] يجب شرعاً عند اختلاط المال، وإن نذر صلاة: فإن بين عدداً- يلزمه ما التزم به، وإن لم يبين، ففيما يلزمه قولان: أحدهما: يحمل مطلق النذر على أقل ما أوجبه الشرع من جنسه؛ فيجب/ عليه ركعتان؛ لأن [أقل] ما يلزم بالشرع من الصلاة ركعتان، وهو صلاة الصبح، ويجب أن يصليها قائماً، إلا أن يعجز فيصلي قاعداً. والثاني: يحمل مطلق النذر على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى من جنسه، فأقل ما يلزمه ركعة واحدة، ويجوز أن يصليها قاعداً مع القدرة على القيام. ولو نذر اعتكافاً- يخرج منه بأقل ما يقع عليه الاسم، ولو ساعة، ويستحب أن يتم يوماً، ولو نذر إعتاق رقبة: فعلى القول الأول: يجب علي إعتاق رقبة [مؤمنة] تجزئ في الكفارة، وعلى الثاني: إذا أعتق رقبة كافرة زمنة- يخرج عن نذره، أما إذا قيد، فقال: "لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة" لا يخرج عنه بإعتاق الكافرة والمعيبة؛ كما لو نذر أن يتصدق بألف- لا يخرج عنه بأقل منها، ولو نذر إعتاق كافرة أو معيبة- لا يلزمه إلا ذلك، فلو أعتق مسلمة سليمة- فهو كما لو نذر أن يتصدق بحنطة رديئة، فتصدق بجيدة- كان أفضل، أما إذا عين فقال: "لله علي أن أعتق هذا العبد الكافر أو الزمن" لا يقوم غيره مقامه، وإن كان خيراً منه؛ لأنه إذا نذر إعتاق عبد بعينه- فلا يقوم غيره مقامه؛ كما لو نذر أن يتصدق بديرنا عينه- لا يقوم غيره مقامه، وإن كان خيراً منه. وقيل: إذا نذر إعتاق كافرة أو معيبة، فأعتق مؤمنة سليمة- لا يخرج عن نذره، قال الشيخ- رحمه الله-: والأول أصح؛ لأن ذكر الكفر والعيب- لا للتقرب، بل لنفي وجوب ما هو أفضل، فإذا عدل إلى الأفضل- جاز؛ كذكر الرداءة في الحنطة، ولو نذر أن يصلي قائماً- لا يخرج عنه بالصلاة قاعداً، ولو نذر أن يصلي قاعداً، فصلى قائماً- خرج عن نذره؛ لأنه أتى بالأفضل، وكذلك لو نذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعاً [بتسليمه واحدة- جاز؛ قال الشيخ- رحمه الله-: ولو نذر أن يصلي أربعاً يصلي بتشهدين، فلو صلى] بتشهد واحد- خرج عن نذره. ولو نذر طول القراءة في الصلاة، وأن يقرأ سورة كذا في صلاة الصبح، وأن يصلي الظهر في الجماعة- يجب؛ لأن جنسه واجب في الشرع، وهو القراءة في الصلاة، والجماعة

في الجمعة، ولون ذر صلاة في وقت عينه غير الأوقات المنهية عن الصلاة فيها- يتعين؛ حتى لا يجوز قبلها/، ولا يجوز التأخير عنه، فلو لم يصل فيه- يجب أن يقضيه كفرائض الأوقات، ولو نذر أن يصلي في الضحوة- صلى في ضحوة أي يوم شاء، فلو صلى في غير الضحوة- لا يخرج عن نذره، فإن عين ضحوة، ففات- قضى في أي وقت كان ضحوة أو غيرها، وذهب بعضنا: إلى أن كل فعل لا يجب من جنسه شرعاً؛ مثل: عيادة المريض واتباع الجنازة والتسليم على الغير- لا يجب بالنذر، وقالوا: لو نذر الصوم في السفر أو إتمام الصلاة- لا يلزم؛ لأنه يتضمن رد الرخصة، وقالوا: لو نذر في الحج أن يحرم من بلد كذا- يلزم، والزمان لا يلزم؛ مثل: إن نذر أن يحرم في شوال- فله أن يحرم بعده؛ قال الشيخ- رحمه الله-: والصحيح- عندي- وهو اختيار شيخي- رحمه الله- أن كل ما فيه قربة- يلزم بالنذر من عيادة المريض وتشييع الجنازة والتسليم على الغير، والصوم في السفر وإتمام الصلاة؛ إن جعلنا الإتمام أفضل، والإحرام في شوال وغيرها من أنواع القرب، ولا يختص بما يجب جنسه في الشرع؛ فإن الاعتكاف يلزم بالنذر بالإجماع، وجنسه غير واجب في الشرع، والله أعلم.

كتاب أدب القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين كتاب أدب القاضي قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم-: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. خلق الله- تعالى- الخلق، وكلهم الشرائع، وبعث الأنبياء- عليهم السلام- قضاة؛ ليحكموا بينهم. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. القضاء: فرض على الكفاية، وكان الخلفاء بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعثون العلماء

إلى النواحي؛ للقضاء بين الناس؛ فيجب على الإمام في كل زمان أن يبعث إلى كل ناحية قاضياً؛ يقضي بينهم؛ فينتصف للمظلومين من الظالمين، ويقوم بتزويج الأيامى، ورعاية حقوق الأيتام، وأمر الأوقاف، وغير ذلك من أمور الشرع. ثم على أهل الناحية طاعته فيما دعاهم إليه فيما يوافق الشرع. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]. ويشترط أن يكون القاضي مسلماً، مكلفاً، ذكراً، عدلاً، مجتهداً؛ لأن الكافر والفاسق والعبد والصغير لما لم يكونوا من أهل الشهادة؛ لنقصان حالهم، مع أن الشهادة دون القضاء فأولى ألا يكونوا من أهل القضاء؛ وهو فرق الشهادة. ولا يجوز تولية المرأة؛ لما روي عن أبي بكرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال، والعلماء، والشهود، والخصوم. والمرأة ممنوعة عن ذلك؛ لما فيها من الفتنة. وعند أبي حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضية فيما يقبل شهادتها فيه. ولا يجوز أن يكون القاضي أعمى، ولا أخرس؛ لأن الأعمى لا يعرف الخصوم والشهود، والأخرس لا يفهم منه ما يقول، والصمم لا يمنع القضاء إذا كان يسمع لوصيح له فإن لم يسمع أصلاً، لا يجوز أن يكون قاضياً.

ولا يجوز أن يكون جاهلاً بطرق الأحكام. روي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به وأما اللذان في النار، فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار". ويشترط أن يكون من أهل الاجتهاد، عالماً بالكتاب والسنة، وأقاويل السلف من إجماعهم واختلافهم، ولسان العرب، ووجوه القياس. وعند أبي حنيفة: يجوز للعامي أن يتقلد القضاء؛ فيسأل أهل العلم، ويقضي. وبالاتفاق: لا يجوز أن يقلد فيفتي، كذلك لا يجوز أن يقضي بالتقليد، وهل يشترط أن يكون كاتباً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يكتب. والثاني: يشترط، وعدم الكتابة للنبي- صلى الله عليه وسلم- كان معجزة. ويكره: أن يكون القاضي جباراً يهابه الخصم؛ فلا يتمكن من استيفاء حجته، وأن يكون ضعيفاً يطمع كل واحد في حيفه. ولو أن الإمام قلد القضاء من لم يجتمع فيه هذه الخصال- لا يجوز، ولا يصير قاضياً. أما إذا جعل التولية إلى والي الإقليم؛ وهو غير صالح للقضاء- جاز؛ لأنه سفيره.

والمتولي للأحكام هو القاضي، ويكون والياً من جهة الإمام. وإذا لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحداً، يجب على الإمام أن يوليه، ويجبره عليه. ويجب عليه أن يطلبه؛ لأنه فرض تعين عليه، وإن كان هناك من يصلح للقضاء غيره، يختار الإمام أفضلهم، وأورعهم، وقلده القضاء؛ فإن قلد غيره ممن هو دونه، ولكنه صالح للقضاء، جاز. ولو امتنعوا جميعاً عن الدخول فيه، أثموا؛ كما لو تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل يجوز للإمام أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه فرض على الكفاية، فلو أجبرناه عليه التحق بفرض العين. والثاني: يجوز؛ لأنا لو تركناهم، لتعطل أمر القضاء. وهل يستحب لمن يصلح للقضاء طلب القضاء، أم لا؟ نظر: إن كان هناك من هو أصلح منه، يكره له الطلب. فإن كان الأصلح لا يتولاه، فيستحب له الطلب، وإن لم يكن الآخر أصلح منه، بل كان دونه يستحب له الطلب إذا علم من نفسه القيام بحقوقه. وإن كان الآخر مثله؛ نظر: إن كان عالماً حامل الذكر، وإذا تولى القضاء اشتهر، وانتشر علمه- يستحب له الطلب، وإن كان مشهوراً فإن كانت له كفاية يكره له الدخول فيه؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين".

وإن كان فقيراً لا كفاية له، فنرجو أن يكون بسبب القضاء له كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لأنه يكتسب الكفاية بسبب مباح. وإذا ولى الإمام رجلاً قضاء بلد كتب له كتاب العهد، وذكر فيه ما يحتاج إليه القاضي أن يتولاه، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى "اليمين" والخلفاء من بعده كانوا يكتبون لمن ولوه. ثم إن كان البلد بعيداً، أشهد على التولية شاهدين، وقرأ عليهما كتاب العهد، والشاهدان يخرجان معه؛ فيشهدان بذلك. وإن كان البلد قريباً؛ ينتشر الخبر إليه، ويستفيض قبل قدومه- فهل يجب الإشهاد، أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجب الإشهاد. وقال الإصطخري: لا يجب، ويثبت بالاستفاضة. هذا كما لو اختلفوا في النكاح، والعتق، والوقف هل يثبت بالاستفاضة، أم لا؟ وإذا أراد القاضي الخروج، سأل من كان في هذا البلد من أهل ولايته عن حال البلد، على علم بحال البلد وأهله. ويستحب: أن يدخل [البلد] يوم الاثنين؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل المدينة يوم الاثنين. ويستحب: أن ينزل وسط الولاية، وفي وسط البلد؛ ليتساوى الناس في القرب [منه] فإذا دخل أمر منادياً، ينادي: ألا إن فلان بن فلان حضر قاضياً؛ فاحضروا لسماع العهد. فإذا اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وقعد للقضاء. ويجلس للحكم في مكان بارز للناس؛ يراه كل أحد، لا يكون دونه حجاب، إلا أن يزدحم الناس عليه؛ فيجعل بينه وبينهم حجاباً ونواباً تدخل عليه الخصوم؛ على الترتيب، ويوصيه بذلك.

روي عن عمرو بن مرة، عن رسول الله- صلى الله عليهو سلم- قال: "من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين؛ فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم- احتجب الله دون حاجته- وخلته وفقره". ويستحب: أن يكون المجلس فسيحاً؛ لا يتأذى بضيقه الخصوم، ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز. ويكره للقاضي أن يتخذ حاجباً إلا لحاجة، ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً، فإن يرفأ كان حاجب عمر- رضي الله عنه- وقنبر كان حاجب علي- رضي الله عنه- ولأن الإمام ينظر في المصالح؛ فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل عليه فيه كل أحد.

وأول ما يدخل ينظر في أمر [المحبوسين، ويأمر منادياً ينادي: ألا من له خصم محبوس، فليحضر. ثم من أقر من] المحبوسين أنه حبس بحق رده إلى الحبس، ومن ذكر أنه مظلوم؛ نظر: إن كان حبسه القاضي تعزيراً، لا يقبل قول المحبوس: إني مظلوم؛ وإن كان حبسه بدعوى مدع، سأل حابسه أن يعيد الدعوى والبينة على حقه، فإن فعل رده إلى الحبس، وإلا أطلقه. فإن قال: حبست في دين وأنا مفلس، فإن أثبت إعساره أطلق، وإلا رد إلى الحبس؛ وإن كان الذي حبسه غائباً هل يطلقه؟ فيه وجهان: أحدهما: يطلقه؛ لأن الأصل أن لا حبس عليه، ويستحب أن يكفله. والثاني: لا يطلقه؛ لأن الظاهر أنه حبس بحق. ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء، ثم في اللقطة، والضوال، والأوقاف العامة، وغيرها من المصالح؛ يقدم الأهم فالأهم؛ لأنه ليس لها مستحق متعين. ويستحب ألا يقضي في المسجد، وهل يكره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكره، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يقضي في المسجد. والثاني- وهو الأصح-: يكره؛ لكثرة الغاشية، وارتفاع الأصوات، وحضور الحيض، والكفار. والنبي- صلى الله عليه وسلم كان يقضي في المسجد؛ لأن مجلسه كان مصوناً، لم يكن يكثر فيه الصخب واللدد. هذا إذا استوطن المسجد للقضاء؛ فإن اتفقت قضية أو قضيتان، فلا يكره. والتحليف في المسجد فيما يعظم خطره مشروع؛ كما لاعن النبي- صلى الله عليه وسلم- بين العجلاني وزوجته في المسجد. وإقامة الحد في المسجد أشد كراهية من القضاء؛ لأنه لا يخلو عن رفع الأصوات، ولا يؤمن من تلويث المسجد. ويستحب أن يجلس القاضي للقضاء في مكان نزه إن كان صيفاً لا يكون حاراً، وإن كان شتاء لا يكون بارداً يؤذيه الحر والبر، ولا يكون مهباً للرياح.

ولا يقضي في حال الغضب؛ لما روي عن أبي بكرة قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان". وهذا إذا كان غضبه لغير حق الله تعالى، فإن غضب في حكمه لله- تعالى- فلا بأس بإمضائه. وكذلك كل حال يتغير فيها عقله أو خلقه بجوع أو فرط شبع أو مرض أو خوف أو حزن أو فرح أو نعاس أو ملالة أو مدافعة الأخبثين يمنع من القضاء فيهما؛ بحيث تثوب إليه طبيعته أو عقله. ولو قضى في حالة من هذه الأحوال، صح حكمه. ولو عين للقضاء يوماً، أو يومين، أو وقتاً من النهار- جاز: فإن وقع لإنسان خصومة في غير ذلك الوقت، لا يجوز أن يؤخر، إلا أن يكون مشتغلاً بصلاة، أو أكل، أو مهم، لا بأس بالتأخير إلى الفراغ منه. ويكره للقاضي أن يبيع ويشتري بنفسه؛ لأنه لا يؤمن أن يحابى في البيع؛ فيميل قلبه إلى من حاباه، بل يوكل وكيلاً مجهولاً يبيع له ويشتري. فإن عرف أنه وكيله، استبدله بمن لا يعرف؛ وإن لم يجد من يتولى عنه، تولى بنفسه، لأنه لا بد له منه. ثم إذا وقعت لمن بايعه خصومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه؛ حذراً من أن يميل إليه.

ويحرم عليه أن يرتشي: روي عن أبي هريرة قال: "لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم". وروي عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمين فلما سرت قليلاً أرسل في أثري؛ فرددت إليه فقال: "أتدري لما بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة؛ لهذا دعوتك، فامض لأمرك". ولا يقبل القاضي هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدي إليه قبل الولاية. وكذلك الساعي على الصدقات. روي عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى لي، قال- صلى الله عليه وسلم- "فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه؛ فينظر أيهدي له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته". وإن أهدى إليه هذا الذي لم يكن له عادة، فهل له أن يملكها؟ نظر: إن أثاب عليه جاز أن يتملك، وإن لم يثب نظر: إن لم يكن من أهل ولايته جاز أن يتملك مع الكراهية، وإن كان من أهل ولايته فوجهان. وإن كانت له عادة بأن يهدي إليه قبل الولاية لرحم أو مودة- نظر: إن كانت له في الحال خصومة لا يجوز أن يقبلها- وعليه ردها، فإن لم يقبله جعله في بيت المال، ولا يجوز له أن يتملكه. فإن لم يكن له خصومة، نظر: إن كانت هذه الهدية أكثر مما كان يهدي إليه من قبل، أو أرفع- لم يجز قبولها؛ كهدية من لم يكن يهدي من قبل.

وإن لم يكن أكثر ولا أرفع، جاز قبولها؛ والأولى: ألا يقبل؛ لجواز أن يكون بين يدي خصومة، فإن قبل أثابه عليه. ولا يستحب للقاضي التخلف عن الولائم إذا دعي إليها، خصوصاً وليمة العرس، والختان، ولا يخص بالإجابة قوماً دون قوم؛ لأن تخصيص بعضهم بالإجابة ميل وترك للعدل. إن كثرت الولائم، وقطعته عن الحكم، ترك الحضور في حق الجميع؛ لأن ترك القضاء يستضر به جميع المسلمين. ويكره أن يجيب إلى دعوى خص بها القاضي، أو خص بها الأغنياء دون الفقراء؛ فإن دعي جيرانه؛ وهو منهم، أو دعي العلماء؛ والقاضي منهم- لم يكره الإجابة. وفي حال الخصومة لا يجوز أن يدعو أحد الخصمين إلى ضيافته، ولا أن يجيب واحداً من الخصمين، ولا أن يجيبهما إذا دعواه؛ لأنه ربما يزيد أحدهما في الإكرام؛ فيميل إليه. ولا يدع عبادة المريض، وشهود الجنائز، واستقبال القادم؛ لأنه سنة، ولا يجب التعميم فيه؛ بخلاف إجابة الوليمة؛ لأنه إذا خص قوماً بالإجابة فيها، لا يؤمن من أن يميل إليهم في الحكم. فصل في رزق القاضي روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: "لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين؛ فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه". إذا أخذ القاضي على لاقضاء رزقاً من بيت المال؛ نظر: إن لم يتعين عليه القضاء، يستحب ألا يأخذ إن كان له كفاية، فإن أخذ جاز. وإن تعين عليه؛ نظر: إن كانت له كفاية، فلا يجوز أن يأخذ عليه شيئاً؛ لأنه يؤدي فرضاً تعين عليه؛ فلا يجوز أن يأخذ عليه مالاً من غير ضوررة. وإن لم يكن له كفاية، فله أن يأخذ كفايته؛ فإن أبا بكر- رضي الله عنه- لما ولي الخلافة خرج- وتحت يده رزقه- فقيل: ما هذا؟ قال: أنا كاسب أهلي. فقالوا: لا يصح هذا مع الخلافة. فاجتمعت الصحابة، وقدروا له كل يوم درهمين.

وقال عمر: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم: {مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وبعث عمر عمار بن ياسر والياً، وعبد الله بن مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ناسخاًن وفرض لهم كل يوم شاة؛ فيجوز للإمام وللقاضي أن يأخذ من بيت المال، إن كان معسراً ما يكفيه وعياله مما يحتاج إليه من: النفقة، والكسوة اللائقة بحاله؛ من: العمامة، والذراعة؛ والخف. ويتخذ الإمام منه الخيل والغلمان والدار الواسعة. ولا تعتبر مؤنة الإمام في زماننا بمؤنة النبي- صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين من بعده؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان منصوراً بالرعب، وكان الإسلام غضاً في زمان الخلفاء الراشدين، ويهابهم الناس؛ لبقاء أثر النبوة في وقتهم، وقد تغيرت الأمور والقلوب بعدهم. فلو لم يتكلف الإمام ما ذكرنا، وعاش بين الناس كواحد منهم- لم يكن مطاعاً، وتعطلت أمور الشريعة. ويجعل القاضي لمن يحتاج إليه من الكاتب والأعوان رزقاً؛ لأنه يحتاج إليهم؛ لإحضار الخصوم، ويجعل لقراطيسه شيئاً منها؛ لأنه يحتاج إليها لكتبة المحاضر والسجلات. ويجوز أن يتخذ سجناً؛ فإن عمر- رضي الله عنه- اشترى داراً بـ"مكة" بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجناً، ولأنه يحتاج إليه للتأديب، ولاستيفاء الحق ممن يماطل. فصل روي عن معاذ- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى "اليمن" قال: "كيف تقضي؟ قال: بما في كتاب الله قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله؛ قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي؛ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم": "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله". ويجب على القاضي أن يقضي بكتاب الله عز وجل؛ فإن لم يجد الواقعة في كتاب الله، فبسنة رسول الله؛ فإن لم يجد في السنة، يجتهد. وكذلك المفتي؛ يجب أن يفتي بالكتاب،

ثم بالسنة، ثم يجتهد. روي عن عمرو بن العاص؛ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر". وليس المراد منه: أن المخطئ يستحق الأجر على الخطأ، إنما يستحقه على الاجتهاد، فالمصيب اجتهد فأصاب؛ فاستحق أجرين: أجر على الاجتهاد، وأجر على الإصابة. والمخطئ اجتهد ولم يصب؛ فاستحق أجراً على الاجتهاد، ووزر الخطأ عنه موضوع. وأصول الدين أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وقيل: هي الكتاب، والسنة فسحسب، والإجماع والقياس فروعهما؛ فإن الإجماع إنما يكون حجة إذا كان صدوره عن كتاب الله أو سنة، والقياس إنما يكون حجة إذا كان مردوداً إلى أصل من الكتاب أو السنة. ولا يجوز الحكم بالاستحسان من غير دليل.

وعند أبي حنيفة: القول بالاستحسان مقدم على القياس، وعلى الخبر؛ إذا كان من الآحاد. وهذا لا يصح؛ لأن القول بالاستحسان تحكيم الهوى، وتسليط كل إنسان على ما يشتهي، ولو جاز ذلك لجاز أن يشرع في الدين؛ فيكون فيه نصب شرع آخر. فإن قيل: [أليس] قد استحسن الشافعي في مواضع؛ فقال: وحسن أن يضع إصبعيه في أذنيه في الآذان، واستحسن الاستحلاف بالمصحف. وقال: ومراسيل ابن المسيب حسن. قلنا: هذا الاستحسان بالقياس؛ لأن الآذان لإعلام الناس، فإذا وضع المؤذن إصبعيه في أذنيه خرج الصوت من منفذ واحد، وكان أعلى. واستحسن اليمين بالمصحف؛ لأن اليمين للرد والزجر. فإذا وضع المصحف في حجره، كان أبلغ في الزجر. واستحسن مراسيل ابن المسيب؛ لأنه لا يروي خبراً مرسلاً إلا ويرويه غيره مسنداً. والاستحسان نوعان: واجب بالاتفاق؛ وهو أن يكون بدليل من: الكتاب، والسنة، أو الإجماع، أو القياس. والنوع الثاني: استحسان على مخالفة الدليل؛ وهو أن يكون الشيء محظوراً بدليل شرعي، وعادة الناس إباحته؛ فلا يجوز المصير إلى العادة؛ خلافاً لأبي حنيفة. فهذا هو الاستحسان [بغير القياس] الذي ننكره. إذا ثبت أن الاستحسان بغير القياس لا يجوز، والقياس نوعان: جلي، وخفي.

فالجلي: ما وافق الأصل في العلة، وشرطها. وعبر عنه بعضنا؛ فقال: ما زال عنه عوارض الشبه. والاحتمال، وعلم علة الأصل فيه، وزال الطمع عن تجويز أن علة الأصل غيرها هذا كما قال الله- تعالى- في حد الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وكان العبد فيه بمعنى الأمة. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه". وكانت الأمة في معناه. والقياس الخفي: هو قياس الشبه؛ وهو أن الفرع يتجاذبه أصلان؛ فيلحق بأكثرهما شبهاً؛ لأن كثرة الشبه بمنزلة كثرة الشواهد. كما أنا نقيس المختلعة في أنه لا يلحقها الطلاق على المنقضية عدتها؛ لأن شبهها بالمنقضية عدتها أكثر، وهم يلحقونها بالرجعية. وكذلك نقيس الإخوة على [بني الأعمام] في عدم استحقاق النفقة، وألا يعتق بعضهم على بعض؛ لأن شبه الإخوة ببني الأعمام أكثر. وهم يقيسونهم على الوالدين والمولودين. ويستحب للقاضي إذا وقعت حادثة أن يشاور فيها أهل العلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أمره الله- تعالى- أن يشاور أهل العلم فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. قال الحسن: إن كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لغنياً عن مشاورتهم، ولكن أراد بذلك أن يستن بذلك الحكام بعده. ولا يشاور إذا نزل به المشكل إلا أميناً مجتهداً، ثم لا يقلده، وإن كان أعلم منه، بل يجتهد رأيه؛ فما لاح له بالدليل قضى به، وإن لم يتضح له أخره حتى يتضح. وعند ابن سريج: إذا ضاق الوقت؛ بأن كان الحكم بين مسافرين؛ وهم على الخروج للقاضي أن يقلد غيره، ويحكم بينهم؛ كما قال في القبلة إذا خاف فوت الوقت لو اشتغل بالاجتهاد: قلد وصلى. ويستحب أن يجمع أهل المذاهب المختلفة في مجلس حكمه؛ حتى إذا وقعت حادثة مختلف فيها، ذكر كل واحد منهم دليل مذهبه، فينظر القاضي في الدليل؛ فيقضي بما هو أرجح عنده. وإن لم يكن ممن يعرف الدليل، ويعقل القياس- فلا يجوز أن يكون قاضياً، ولا يجوز للإمام أن يقلد رجلاً القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه؛ لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص: 22] والحق: ما دل عليه الدليل؛ فإن قلده على هذا الشرط، لم تصح التولية. فإذا قضى القاضي باجتهاده، ثم بان أنه أخطأ- نظر: إن بان له الخطأ بنص كتاب، أو سنة، أو إجماع أو قياس جلي- يجب عليه رد قضائه. روي أن عمر- رضي الله عنه- كتب إلى أبي موسى الأشعري: لا يمنعك قضاء قضيته، ثم راجعت فيه نفسك؛ فهديت لرشده أن تنقضه؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. فإن بان له الخطأ بقياس خفي لا ينقضه شيء؛ فإن وقعت تلك الحادثة مرة أخرى، حكم بما لاح له من بعد؛ فإن عمر بن الخطاب قضى في الحد بمائة قضية مختلفة وكذلك إذا رفع إليه قضاء قاض آخر فوجده مخالفاً لنص كتاب، أو سنة، أو قياس جلي، أو إجماع- ينقضه.

وإن كان مخالفاً لقياس خفي لا ينقضه، إلا أنه لا يتبع قضاء من كان قبله ما لم يرفع إليه، فإذا رفع إليه نقضه إذا كان مخالفاً للدليل، وله أن ينقض قضاء نفسه؛ وإن لم يرفع إليه. وقال الشيخ أبو حامد: يجوز أن يتتبع قضاء في من قبله، من غير أن يرفع إليه. أما إذا كان القاضي قبله ممن لا يصلح للقضاء ينقض أحكامه كلها؛ أصاب أم أخطأ؛ لأنه حكم ممن لا يجوز له القضاء. وإذا وقع حكم الحاكم مخالفاً للقياس الجلي نقضه. وإن كان مخالفاً لقول بعض أهل العلم عندنا؛ حتى قال الشافعي: لو حكم حاكم بفراق امرأة المفقود، أو بوقوع الفرقة في اللعان بأقل من خمس كلمات، أو سقوط الحد عمن وطئ الأم بالنكاح ينقض قضاؤه. وعند أبي حنيفة: إذا كان حكمه موافقاً لقول بعض أهل العلم لا ينقض، ثم ناقض؛ فقال: إذا قضى بالشاهد الواحد، ويمين المدعي، أو بدأ في القسامة بيمين المدعي، أو حكم ببطلان السعاية في عتق الشريك- قال: ينقض قضاؤه. فصل فيما على القاضي في الخصوم روي عن علي - عليه السلام- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر". وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في مدخلك ومجلسك، ولحظك ولفظك، ولا تكن بحيث يطمع الشريف في حيفك، وييأس الضعيف من عدلك. يجب على القاضي أن يسوي بين الخصوم في المدخل والنظر إليهم، ولا يخص أحد الخصمين بالنظر إليه، وطلاقة الوجه. فإذا دخلا وسلما أجابهما، وإن سلم أحدهما لا يجيب حتى يسلم الآخر؛ فيجيبهما؛ حتى لا يقع في قلب الآخر أنه يميل. ولا بأس أن يقول ل للآخر. سلم فإذا سلم أجابهما. ويسوي بينهما في المجلس، [فلا يجلس] أحدهما بجنبه، والآخر بين يديه، وإن كان أحدهما شريفاً والآخر وضيعاً، بل يجلسهما بين يديه؛

فإن كانا شريفين، فلا بأس أن يجلس أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. والأولى أن يجلسا بين يديه؛ توقيراً لحكم الله تعالى. وإن كان أحد الخصمين مسلماً، والآخر ذمياً، فهل يجوز أن يجلس المسلم بجنبه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لقول عمر- رضي الله عنه-: "أس بين الناس"، وكما يجب التسوية بينهما في الإقبال عليهما والاستماع منهما. والثاني: يجوز؛ لما روي أن علياً- عليه السلام- جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلماً لجلست إلى جنبه، ولكني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تساووهم في المجلس". وإذا جلس الخصمان بين يديه، فله أن يسكت؛ حتى يتكلم واحد منهما، وله أن يقول للمدعي، إن علمه: تكلم، وإن لم يعلمه يقول: فليتكلم الطالب منكما؛ فإن ادعى كل واحد منهما أنه المدعي، فإن سبق أحدهما فهو المدعي. وإن لم يعلم السابق، سأل القاضي عونه عمن أحضره، فمن أحضره العون فهو المدعي عليه، وإن حضرا بأنفسهما يقرع بينهما؛ فمن خرجت قرعته، ابتدأ الدعوى. وإذا تكلما ينصت إلى كلامهما، ولا ينهرهما، ولا يلقن أحد الخصمين حجة، ولا شاهداً شهادة، ويجوز أن يستفسر. فالتلقين: أن يقول: قل: كذا، والاستفسار: أن يدعي قتلاً؛ فيقول: كيف قتل عمداً أو خطأً؟ أو يدي دراهم؛ فيقول: هروية أو نيسابورية؟ صحاح أو مكسرة؟ وإذا ادعى أحدهما دعوى غير صحيحة، فهل له أن يلقنه كيف يدعي؟ فيه وجهان: أحدهما- قاله الإصطخري-: يجوز؛ لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ينكسر قلب الآخر؛ فلا يتمكن من استيفاء حجته، وله أن يؤدي عن أحدهما ما عليه؛ لأن فيه نفعاً لهما، وله أن يشفع لأحدهما؛ لأن الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل. وإن مال قلبه إلى أحدهما، فأحب أن يفلج ولم يظهر ذلك بقول ولا فعل- فلا حرج

عليه؛ لأنه لا يمكنه التسوية بينهما في المحبة وميل القلب. وإذا ظهر من أحد الخصمين لدد ينهاه، فإن عاد زجره؛ وهو أن يهدده، فإن أصر عليه ضربه؛ تعزيراً أو تأديباً، وحبسه. وإذا حضر جماعة من الخصوم، قدم الأسبق فالأسبق في سماع دعواهم، فإن جاءوا معاً أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة قدمه. وإن ثبت السبق لأحدهم؛ فقدم السابق غيره على نفسه- جاز؛ لأن ذلك حقه فله تركه. وإن حضر مسافرون ومقيمون؛ نظر: إن قل المسافرون فلا بأس أن يبدأ بحكمهم؛ وإن جاءوا من بعد. ونعني بالمسافر: من شد رحله ليخرج، ولو تأخر حكمه تخلف عن القافلة. وإن كثر عدد المسافرين، لم يبدأ بهم؛ لأنه يتضرر به الآخرون، بل يقدم الأسبق أو يقرع، إن جاءوا معاً. وإن ادعى رجل دعاوى في مجلس واحد، يسمعها القاضي إن لم يكن ثم غيره؛ سواء ادعى على واحد، أو على جماعة. فإن كان قد حضر غيره، فلا يسمع للسابق الدعوى إلا على واحد، وتؤخر دعواه على غيره؛ حتى لا يتضرر به الآخرون، وهل يسمع له على ذلك الواحد أكثر من دعوى واحدة؟ فيه وجهان. وإن كان لقوم دعاوى على واحد، يجوز سماع دعواهم في مجلس واحد؛ واحداً بعد واحد. وإن كان الخصم أعجمياً؛ لا يعرف القاضي لسانه، أو كان الشاهد أعجمياً- فلا بد من مترجمين يترجمان كلامه للقاضي، ويجب أن يكونا عدلين؛ لأنهما ينقلان قولاً إلى القاضي لا يعرفه القاضي؛ كالشاهدين. وإن كان الحق مما يثبت بشاهد وامرأتين، يقبل في الترجمة شاهد وامرأتان. قال شيخنا الإمام- رحمه الله-: وجب ألا يقبل إلا رجلان؛ كما لا تثبت الشهادة على الشهادة بقول النساء، وإن كان الحق مالاً؛ حتى لو كان الخصم امرأة أعجمية، يشترط أن يترجم قولها رجلان. ولو كان الشاهدان أعجميين؛ لا يعرف القاضي لسانهما؛ فترجم القاضي قولهما- هل

يكتفي بمترجمين، أم لا بد من أربعة على قول كل واحد مترجمان؟ فعلى قولين؛ كما في شهود الفرع. وإن كان في الزنا، هل يكتفي برجلين، أو يشترط أربعة؟ فيه قولان؛ بناءً على أن الإقرار بالزنا هل يثبت برجلين؟ فيه قولان. وعند أبي حنيفة: يكتفى بمترجم واحد. وإن كان القاضي أصم، هل يكتفي بمستمع واحد؟ أم يشترط اثنان؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط اثنان؛ كالمترجم. والثاني: يكتفي بواحد؛ بخلاف المترجم؛ لأن في الترجمة لا يعرف الخصم لسان المترجم، وفي الاستماع يعرف ما يقوله المستمع، وإن خالف أمكنه الرد عليه. فإن كان الخصمان أصمين، يشترط أن يكون المستمع اثنين، وهل يجوز أن يكون المترجم أعمى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كالشاهد. والثاني: يجوز؛ لأنه يستمع ويترجم، والقاضي يراه؛ فلا يحتاج فيه إلى إشارة إلى شخص؛ كما يسمع شهادته فيما لا يحتاج فيه إلى إشارة إلى شخص؛ كما يسمع شهدته فيما لا يحتاج فيه إلى عبارة وإشارة. وينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل؛ وهم الرسل الذين يبعثهم إلى المزكين حتى يرجع إليهم في معرفة أحوال الشهود إذا اشتبه عليه حالهم. وينبغي أن يكون المزكون عدولاً جامعين للأمانة؛ في الطعمة، لا يأكلون الحرام، وفي الأنفس لا يرتكبون الكبائر، وافري العقول، براء من الشحناء والعصبية؛ حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل. ولا يسألون أحوال الشهود من أعدائهم؛ فيظهرون القبيح ويخفون الجميل، ولا من خواص أصدقائهم؛ فيظهرون الجميل ويخفون القبيح، ويكونون بحيثلا يعرفهم الناس فيحترزون بين أيديهم عن إظهار ما يوجب الحرج. وكذلك الرسل الذين يبعثهم إلى المزكين، ينبغي أن يكونوا أمناء لا يعرفهم الناس،

ولا ينبغي أن يتخذ شهوداً معينين لا تقبل شهادة غيرهم؛ لأنه فيه تضييق الأمر على الناس. وإذا شهد عند القاضي شاهد علم عدالته قبل شهادته، وإن علم فسقه لم يقبل شهادته؛ فيعمل في العدالة والفسق بعلمه، ولا يجب تعديله بعد علمه؛ وإن سأل الخصم. وعند أبي حنيفة: إذا سأل الخصم عليه، [وجب] تعديله، وإن كان عنده عدلاً. وإن خفي على الحاكم عدالته، فلا يحكم بشهادته؛ حتى تثبت عنده عدالته. ويكتب في معرفته إلى المزكين. وإن جهل إسلامه لا يعمل في إسلامه بظاهر الدار؛ كما يعمل في إسلام اللقيط؛ لأن أعرابياً شهد عند النبي- صلى الله عليه وسلم- برؤية الهلال، فلم يحكم بشهادته؛ حتى سأل عن إسلامه. ولأنه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره؛ فيرجع في إسلامه إلى قوله؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- رجع إلى قول الأعرابي في الإسلام. وإن جهل حريته، فهل يثبت بقوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ كما يثبت الإسلام بقوله. والثاني: لا يثبت؛ لأن الكافر يملك الإسلام بنفسه؛ فيقبل إقراره به، والعبد لا يملك الحرية بنفسه؛ فلم يقبل إقراره بها. ثم إذا ثبت إسلامه وحريته، ففي العدالة لا يعتمد قوله. ويكتب إلى المزكين، وإذا كتب إلى المزكين يكتب اسم الشاهد، وكنيته، واسم أبيه وجده؛ لأنه قد يكون معروفاً بالكنية والجد، ويكتب حليته وصنعته ومسكنه ومصلاه وسوقه؛ لئلا يشتبه بغيره. وإن كان معروفاً كتب بقدر ما يعرفه ويذكر المشهود له، والمشهود عليه، وقدر المال الذي يشهد به؛ لأنه قد يكون عدواً للمشهود عليه؛ فلا يقبل شهادته عليه، وقد يكون شريكاً للمشهود له؛ فلا يقبل شهادته له، وقد يكون المال كثيراً؛ فيحتاط فيه أكثر مما يحتاط في القليل؛ كما يغلظ فيه اليمين؛ فيكتب جميع هذه الأشياء؛ حتى يحتاط المزكى فيه. ثم المزكي يسأل عن حاله جيرانه وأهل حرفته، ومن عامله، وصاحبه في السفر، ولا يسأل أحداً عن حاله؛ حتى يخبره بالمشهود له وعليه، وبقدر ما شهد به من المال.

روي أن شاهدين شهدا عند عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال لهما: إني لا أعرفكما، ولا يضركما ألا أعرفكما، ائتيا بمن يعرفكما فأتيا برجل. فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف تعرفهما؟ قال: بالصلاح والسداد والأمانة. فقال: أكنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما ومخرجهما؟ قال: لا. قال: هل عاملتهما بهذه الدراهم والدنانير التي تعرف بها أمانات الرجال؟ قال: لا. قال: فهل صاحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال: لا. قال: أنت لا تعرفهما، ائتيا بمن يعرفكما. وثلاث شهادات يشترط أن يكون الشاهدان فيها من أهل الخبرة بالأحوال الباطنة، والشهادة على العدالة، وعلى الإفلاس، وعلى أن هذا وارث فلان لا يعرف له وارثاً سواه، وذلك لأن طباع الناس مجبولة على إخفاء ما يكون فيهم من أسباب الجرح، وعلى إخفاء المال. وقد يتزوج الرجل في بلاد الغربة؛ فيحدث له أولاد؛ فلا يعرف هذه الأحوال منه إلا من يطلع على بواطن أموره. وهنا في التعديل لا يقبل إلا ممن تقدمت معرفته، وطالت خبرته. أما الجرح: فيقبل ممن لم تتقدم معرفته؛ لأنه لا يشهد في الجرح إلا بما شاهد، أو سمع، أو استفاض عنه؛ ولا يقبل الجرح ولا التعديل إلا من رجلين عدلين. وعند أبي حنيفة: يقبل من واحد. وإذا كتب القاضي إلى المزكين، يخفي كتاب كل واحد من المزكين عن الآخر؛ حتى لا يتفقا على شيء تقليدا. وكذلك أصحاب المسائل يجب أن يكونا اثنين، ويعطى إلى كل واحد رقعة؛ يخفى عن كل واحد ما دفع إلى الآخر. ثم إذا عدله اثنان، فهو عدل، وتظهر عدالته. وإذا جرحه اثنان، فهو مجروح، ولا يظهر الجرح ستراً عليه. ولو جرحه واحد وعدله واحد، لا يقدم أحدهما حتى يجتمع اثنان على الجرح، أو على التعديل؛ فيحكم به. ولو عدله اثنان، وجرحه اثنان كان الجرح أولى؛ لأن عند الجارح زيادة علم، والعدالة تكون على الظاهر؛ حتى لو جرحه اثنان، وعدله مائة- كان الجرح مقدماً، ولا يقبل الجرح من الجارح وإن كان فقيهاً؛ حتى يبين سبب الجرح فينظر فيه الحاكم برأيه؛ لأن الناس

يتفاوتون فيه: فمنهم من يفسق الغير ويكفره بالتأويل؛ وذلك لا يوجب رد الشهادة. وإذا عدل الشاهد لا يحتاج إلى بيان سببه؛ لأن أسباب العدالة لا تحصى، ولا يقبل القاضي التعديل بالكتبة؛ حتى يخبره أصحاب المسائل مواجهة. وقال أبو يوسف: تقبل الكتبة؛ وهو اختيار شيخنا القاضي- رحمه الله- وعليه الحكام. واختلف أصحابنا: في أن القاضي يحكم بالجرح والتعديل بقول أصحاب المسائل، أو بقول المزكين، وأن المراد من قول الشافعي رضي الله عنه: ولا تقبل المسألة عنه، ولا تعديله ولا جرحه إلا من اثنين منهم. قال أبو إسحاق: المراد منه: المزكون، والقاضي يحكم بقول المزكي، فعلى هذا يجوز أن يكون صاحب المسائل واحداً؛ فإذا عاد بالجرح، توقف الحاكم، ولا يستدعي الجارح؛ لأن فيه فضيحة الشاهد، بل يقول للخصم: زد في الشهود، وإن عاد بالتعديل لم يحكم به بل يدعو المزكي؛ فيسأله حتى يخبره مشاهدة؛ بأن الدعوى عدلته، هذا لئلا يوافق اسم اسماً أو نسب نسباً، ولا يقبل إلا من اثنين. وقال الإصطخري: المراد منه: أصحاب المسائل، والقاضي يحكم بشهادتهم، ويشترط أن يكونا اثنين، ويسألهم القاضي سراً، فإن أخبروه بالجرح لم يظهره. وإن أخبروه بالتعديل سراً، ثم حضر الشهود أخبروه علانية بتعديلهم، وإنما يسأل سراً؛ ليكون أستر للمسئول عنه إن نسب إلى الجرح. فإن كان عدلاً أظهره، ليعلم أن المعدل هذا لا يوافق اسم اسماً، ولا نسب نسباً. قال الشافعي- رحمه الله-: ولا يقبل الجرح إلا بالمعاينة، أو بالسماع. أراد به: أن القاضي إذا استدعى الجارح؛ وسأله عن الجرح، أو صاحب المسألة إذا سأل وأخبر بالجرح، فلا يقبل إلا ممن يضيفه إلى نفسه ويقول: رأيته يزني ويشرب، أو يضيف إلى سماع؛ فيقول: سمعته يقر بالزنا أو بالشرب أو بالقذف، أو يستفيض ذلك منه؛ فيحصل به العلم. أما إذا قال: بلغني عنه كذا، أو قيل لي: إنه يفعل كذا، أو يقول كذا- فلا يجوز أن يشهد به؛ لأن الله- تعالى- يقول: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].\ قال الشافعي: ولا يقبل التعديل؛ حتى يقول: عدل علي ولي. وقال أبو إسحاق: لا يقبل تعديله؛ حتى يقول: عدل علي ولي.

وقال: لأن مجرد قوله: هو عدل- لا يقتضي العدالة على الإطلاق [لأنه قد يكون عدلاً في بعض أشياء دون بعض، وعلى بعض الناس دون بعض؛ فلا يثبت عدالته على الإطلاق] إلا بهذا اللفظ. ومن أصحابنا من قال- وهو قول الإصطخري، وهو الأصح-: إنه ليس بشرط، والشافعي- رحمه الله- ذكر على سبيل الاستحباب للمبالغة في التعديل؛ لأنه يجوز أن يكون عدلاً عليه وله، ولا يكون عدلاً على المشهود عليه؛ بأن يكون عدواً له، ولا يكون عدلاً للمشهود له؛ بأن يكون ولداً له. وقيل: معناه: أن التعديل لا يقبل إلا ممن تقبل شهادته له، والجرح لا يقبل ممن تقبل شهادته عليه؛ فيعني بقوله: عدل علي ولي أي: ليس بيني وبينه ولادة تمنع قبول شهادته لي، ولا عداوة تمنع قبول شهادته علي. وهل يشترط من المزكي لفظ الشهادة؛ فيقول: أشهد أنه عدل؟ فيه وجهان. وإذا ثبتت عدالة الشاهد، ثم شهد بعده بزمان قريب بحق آخر، يحكم بشهادته، ولا يعدل ثانياً. وإن شهد بعده بزمان طويل، ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بشهادته؛ لأن الأصل بقاء العدالة. والثاني- وهو قول أبي إسحاق-: لا يحكم؛ حتى يعيد السؤال عن عدالته؛ لأن طول الزمان يغير الأحوال. وإذا شهد مجهول العدالة، فقال المشهود عليه: هو عدل- هل يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن البحث عن العدالة لحق المشهود عليه، وقد أقر هو بعدالته. والثاني: لا يجوز؛ لأن الحكم بشهادته حكم بعدالته، فلا يثبت بقول الواحد؛ ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق الله تعالى؛ ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق، لم يجز الحكم بشهادته. وإذا رأى القاضي في الشهود خفة عقل، أو ارتاب فيهم- يستحب أن يفرقهم في أداء الشهادة، ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن اليوم الذي تحمل فيه، وعن مكانه وعمن كان فيه؛ ليستدل به على صدقهم، ويقف على عورة إن كانت في شهادتهم، ويعظهم ويخوفهم.

وإن سأل الخصم تفريقهم، فرقهم؛ لأنه ربما يعرف فيهم ما لا يعرفه القاضي. وإن كانوا جامعين للعفاف والعقل، فلا يفرقهم، وإن فرق بمسألة الخصم فلا بأس. فصل في استحباب تعيين القاضي كاتباً له ينبغي للقاضي أن يجعل كاتباً أميناً لكتبة السجلات والمحاضر، ويثبت حجج الخصوم وشهاداتهم، ويعطي أجرة الكاتب، وثمن القرطاس من بيت المال. فإن لم يكن في بيت المال مال يقول للمدعي: إن أتيت بصحيفة أكتب فيها خصومتك وشهادة شهودك، وإلا فلا أكرهك عليه، غير أني لا أسمع شهادة شهودك إن لم تأت به؛ لأني ربما أنسى شهادتهم عند الحاجة. وإذا ثبت عند القاضي حق بإقرار، أو بنكول المدعى عليه ويمين المدعي- فيسأله المحكوم له أن يشهد على ما ثبت عنده، لزمه أن يشهد؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر المحكوم عليه. وإن ثبت بالبينة فسأل المدعي الإشهاد؛ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب له؛ لأن له بينة، فلا يجب بينة أخرى. والثاني: يجب؛ لأن في إشهاده تعديلاً للبينة، وإثباتاً للحق. فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأت به المحكوم له، لا يلزمه أن يكتب. وإن كان عنده قرطاس في بيت المال أو أتى به صاحب الحق- هل يلزمه أن يكتب المحضر؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزم؛ لأنه وثيقة بالحق؛ كالإشهاد. والثاني: لا يجب؛ لأن الحق يثبت باليمين أو بالبينة، لا بالمحضر. ويثبت القاضي في كل خصومة أسماء الشهود وأنسابهم وحليتهم. فإذا كانت الخصومة بين رجلين لا يعرفهما القاضي، كتب أسماءهما وأنسابهما وحليتهما، ويتولى القاضي بنفسه ضم نسخ الشهادات والمحاضر، ويعضها حيث لا يصل غيره إليها؛ حتى لا تغير ولا يزاد فيها ولا ينقص، ويجعل ما كان من حجج الخصمين وشهادتهما في مكان واحد مترجمة بأسمائهم مؤرخة بتاريخ ذلك اليوم والشهر والسنة مختومة ويفرد خصومات كل شهر. فإذا مضت سنة،

عزلها، وكتب عليها: خصومات سنة كذا وختمها، وكل نسخة يثبتها لنفسه يكتب للمشهود له مثلها، إلا أنه لا يختم على نسخة المشهود له. فإذا احتاج إلى شيء مما عنده من النسخ لا يفتحها؛ حتى ينظر إلى ختمه وعلامته، وإذا فتحها لا يعمل بما فيها، وإن وجدها مختومة بختمه مكتوبة بخطه حتى يذكرها؛ لأن الخط يشبه الخط كما لا يجوز أن يشهد على خطه إذا لم يذكر. وعند أبي يوسف: يجوز أن يحكم ويشهد إذا رأى خطه، وإن لم يذكر ويشهد عنده شاهدان: أنك حكمت بكذا، لا يحكم بشهادتهما، ولا يلزمه الحق بقولهما، حتى يذكر أو يعيد الخصم الدعوى والشهادة؛ فيحكم ثانياً. أما إذا شهد شاهدان عند حاكم آخر؛ بأن القاضي فلان بن فلان حكم بكذا- يجب عليه قبول شهادتهما والحكم بقولهما. وإن علم أن فلاناً القاضي لم يحفظ حكمه. أما إذا كان ذلك القاضي أنكر حكمه، لا يجوز للقاضي الثاني أن يحكم بشهادتهما؛ إذا علم أن الأول أنكر حكمه وقيل: إن علم أن الأول قد توقف عن الحكم به؛ فإن لم يتذكر، لا يجوز للثاني أن يقضي به، وكذا لو شهد شهود الفرع عند القاضي، ثم شهد شاهدان أن شاهدي الأصل توقفا عن الشهادة، فلا يجوز أن يحكم بشهادة الفرع. فلو تذكر القاضي حكمه، فقال المدعي: حلف المدعى عليه أنه لا يعرف حكمكما، يحلف. قال: يحتمل وجهين. أما في رواية الحديث: إذا نسي الراوي الحديث، يجوز أن يقبل ممن سمع منه كان سهيل بن أبي صالح يروي عن أبيه، عن أبي هريرة؛ فأصابته شجة؛ فنسي الحديث- وكان قد سمع منه ربيعة فكان يقول: أخبرني ربيعة عني؛ أني أخبرته عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكذلك يجوز رواية الحديث عن كتاب إذا رآه بخطه، ولم يغب عنه الكتاب يجوز وإن لم يذكره؛ بخلاف الشهادة؛ لأنه يشدد الأمر في الشهادة ما لا يشدد في الرواية؛ بدليل أنه يقبل في الرواية: حدثني فلان عن فلان، ولا يقبل ذلك في الشهادة.

فصل في قضاء القاضي بعلم نفسه لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه؛ مثل: أن ادعى رجل على رجل آخر حقاً، وأقام عليه بينة؛ والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا؛ وقد رآه القاضي حياً بعده، أو ادعى نكاح امرأة، وقد سمعه القاضي طلقها- لا يجوز أن يقضي به؛ وإن أقام عليه شهوداً. وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه؛ مثل: أن ادعى عليه ألفاً؛ وقد رآه القاضي أقرضه، أو سمع المدعى عليه أقر به؟ ففيه قولان: أصحهما- وبه قال أبو يوسف ومحمد-: يجوز أن يقضي بعلمه؛ وهو اختيار المزني؛ لأنه لما جاز أن يحكم بشهادة الشهود؛ وهو من قولهم على ظن فلان- يجوز بما رأه وسمعه؛ وهو منه على علم أولى. قال الشافعي رحمه الله في كتاب "الرسالة": أقضي بعلمي" وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين أو بشاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وبشاهد ويمين؛ وهو أقوى من النكول ورد اليمين. والقول الثاني: لا يقضي بعلمه؛ وهو قول ابن أبي ليلى؛ لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء؛ ولم يوجد، وكذلك لا يقضي لولده؛ لتمكن التهمة منه. وإن قلنا: لا يقضي بعلمه، هل يجعل علمه كشاهد واحد؛ حتى إذا أقام شاهداً واحداً، يجب الحكم به؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ كما لو ادعى عند قاض آخر؛ فشهد هذا القاضي مع ذلك الشاهد- يجب الحكم به. والثاني: لا؛ لأجل التهمة، وهذا في المال. أما في العقوبات؛ نظر: إن كانت العقوبة من حقوق العباد؛ كالقصاص، وحد القذف- هل يحكم فيه بعلم نفسه؟ يرتب على المال: إن قلنا هناك: لا يقضي فهاهنا أولى، وإلا فقولان. والفرق: أن العقوبات تندرئ بالشبهة؛ فيحتاط لدرئها. وإن كانت العقوبة من حقوق الله- تعالى- كحد الزنا، والشرب، وقطع السرق- يرتب على حقوق العباد: إن قلنا هناك: لا يقضي بعلم نفسه فهاهنا أولى، وإلا فقولان. والفرق: أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة، ولا فرق على القولين؛ بين أن يحصل

العلم للقاضي في بلد ولايته، أو زمان ولايته، أو في غيره. وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته، أو في زمان ولايته- له أن يقضي بعلمه، وإلا فلا. قلنا: العلم لا يختلف باختلاف هذه الأحوال، فوجب ألا يختلف الحكم باختلافهما. فصل في قضاء القاضي لنفسه أو أحد أقاربه ولا يجوز للقاضي أن يقضي لولده، ولا لأحد من أولاد أولاده وإن سفلوا؛ كما لا يقضي لنفسه. وكذلك لا يقضي لأحد من آبائه وأجداده وإن علوا؛ كما لا تقبل شهادته لهم. وإن وقعت لولده أو لوالده خصومة، رده إلى خليفته؛ كما لو كانت الخصومة بين القاضي وغيره، تحاكما إلى الخليفة. ويجوز أن يحكم على ولده وعلى والده؛ كما يقبل شهادته عليه. وإذا ادعى رجل شيئاً على ابن القاضي، يجوز أن يحلف ابنه؛ لأنه ليس بحكم، بل قطع للخصومة. فلو أقام المدعي على ابنه بينة سمعها، فإن أتى ابنه برفع لا يسمعه، بل يبعثه إلى خليفته. وإذا تحاكم إليه والده مع ولده، فحكم لأحدهما على الآخر- لا يجوز؛ كما لو حكم له على أجنبي. ولو شهد عند القاضي ابنه، هل تسمع شهادته؟ فيه وجهان؛ وكذلك المزكي إذا زكى ولده، هل يقبل تزكيته؟ فيه وجهان. وإذا استخلف في أعماله والده أو ولده، يجوز؛ لأنهما يجريان مجرى نفسه. وإذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضياً، لم يجز أن يختار ولده أو والده؛ كما لا يجوز أن يختار نفسه. ولو أقر القاضي في حال القضاء؛ بأني حكمت لفلان بكذا- يقبل؛ لأنه يملك الإنشاء؛ فكان إقراره كالإنشاء؛ حتى لو قال القاضي: نساء هذه القرية طوالق، أو عبيدهم أحرار؛ على سبيل الحكم - يحكم به.

أما إذا قال في غير ولايته، أو قال بعد العزل: كنت حكمت لفلان بكذا- لم يقبل؛ لأنه لا يملك الحكم، ولا يكون شاهداً على فعل نفسه. أما إذا لم يضف الحكم إلى نفسه، بل قال: أشهد أن هذا ملك فلان- يقبل، وكذلك لو قال: اشهد أن فلاناً أقر في مجلسي بكذا- فإنه يقبل؛ لأن هذه شهادة على الإقرار وعلى الملك، لا على الحكم؛ كالقسام إذا قسم مالاً بين رجلين، ثم شهد لأحدهما؛ بأن هذا نصيب فلان- يقبل. ولو قال: أنا قسمت لم يقبل، ولو قال: أشهد أن حاكماً عدلاً حكم بكذا، فيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأنه لم يضف الحكم إلى نفسه، والظاهر أنه يريد حكم غيره. والثاني: لا يقبل؛ لاحتمال أنه يريد حكم نفسه، فلابد من البيان؛ لتزول الريبة. ولو ادعى رجل على القاضي حقاً يرفعه إلى خليفته؛ ليحكم بينهما، ولو ادعى عليه أنه ظلمني في الحكم، أو حكم علي بباطل يريد: تغريمه ما أتلف- لا يسمع، ولا يحلف إلا ببينة تقوم عليه؛ كما لو ادعى على الشاهد؛ أنه شهد بغير حق في طلاق أو عتق، يريد: تغريمه ما أتلف عليه بشهادته- لا يسمع ولا يحلف؛ لأن القاضي أمين الشرع، وكذلك الشاهد. ولو سمع عليه مثل هذه الدعوى، لم يعجز أحد عن مثله، ويؤدي ذلك إلى امتناع القضاة عن القضاء والشهود عن الشهادة. ولو ادعى عليه رجل بعد العزل؛ أنه أخذ مني مالاً بغير حق، أو أقرضه كذا- دعاه القاضي الثاني وحلفه. وإن ادعى أنه حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين- ففيه وجهان: أحدهما: يحضره ويسأله، فإن قال: حكمت عليه بشهادة حرين عدلين، حلفه عليه؛ كما لو ادعى على المودع خيانة حلفه، وإن كان أميناً. والثاني: لا يحضر- وهو المذهب- ولا يحلفه إلا بسنة؛ لأنه كان أمين الشرع، والظاهر أنه حكم بحق. وإن ادعى خطأ في الحكم؛ فإن لم يكن للاجتهاد فيه مساغ نقضه وإن كان للاجتهاد فيه مساغ؛ مثل: أن حكم عليه بثمن الكلب، أو بضمان ما أتلف على الذمي من الخمر- لم ينقضه.

فصل في الاستخلاف في القضاء لا يتولى أحد القضاء إلا بتولية الإمام، أو بتولية من فوض إليه الإمام. وإذا ولى الإمام رجلاً قضاء بلد، لا يجوز أن يقضي، ولا أن يسمع بينة، ولا أن يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله. وهل يجوز له أن يستخلف في ولايته؟ نظر: إن [كان] أذن له الإمام في الاستخلاف، يجوز أن يستخلف. ويستحب للإمام أن يأذن لمن ولاه في الاستخلاف، وإن نهاه عن الاستخلاف، لا يجوز أن يستخلف. وإن أطلق التولية؛ نظر: إن كان ما ولاه يمكنه النظر في جميعه بنفسه، لا يجوز له أن يستخلف؛ على ظاهر المذهب؛ لأن الذي ولاه لم يرض بنظر غيره. وقال الإصطخري: يجوز له أن يستخلف؛ لأن الإمام نصبه للنظر في المصالح؛ فيجوز له أن ينظر فيها بنفسه وبغيره؛ كالإمام يجوز له أن يستخلف. وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضي فيه بنفسه؛ لكثرته- فيجوز أن يستخلف في القدر الذي لا يمكنه القيام بنفسه؛ لأن الإمام لما ولاه ما لا يمكنه أن يقوم به، يتضمن ذلك إذناً في الاستخلاف؛ كما لو دفع ثوباً إلى بزاز ليبيعه، يتضمن ذلك إذناً في الدفع إلى من يتأدى عليه. فعلى هذا: هل يجوز له أن يستخلف فيما يمكنه القيام فيه بنفسه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لما جاز أن يستخلف في البعض، جاز أن يستخلف في الكل. والثاني- وهو الأصح-: لا يجوز؛ لن مطلق التولية لا يتضمن الإذن في الاستخلاف فيما ي مكنه [فيه] القيام بنفسه. أما إذا مرض القاضي، أو أراد [أن يغيب عن البلد؛ لشغل- جاز له أن يستخلف وجهاً واحداً. ولو أراد] أن يستخلف في أمر خاص من سماع بينة، أو تحليف، أو لعان بين الزوجين- قيل: هو على ما ذكرنا من الاختلاف. وقال الشيخ القفال- وهو الأصح-: يجوز وجهاً واحداً- وإن لم يكن مأذوناً في الاستخلاف؛ لأن القاضي لا يستغني عن ذلك. ولو ولى الإمام رجلين قضاء بلد واحد؛ نظر: إن عين لكل واحد طرفاً من البلد، لا

يشاركه فيه الآخر، أو جعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الثاني في حق آخر، أو إلى أحدهما في زمان، والآخر في زمان آخر- جاز. وإن جعل إليهم في مكان واحد، وحق واحد، وزمان واحد- ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لما يكون فيه من الاختلاف؛ وهو أن يدعو كل واحد رجلاً واحداً؛ فلا يمكنه إجابتهما؛ كالإمام الأعظم لا يجوز أن يكون إلا واحداً. والثاني: يجوز؛ كما يجوز قاضيان في بلدين. فعلى هذا إذا جاءه رسول كل واحد [منهما] يدعواته، يجيب الأسبق منهما، وإذا جاءا معاً يقرع بينهما. فصل في التحكيم ولو أن رجلين حكماً رجلاً ممن يصلح أن يكون حاكماً؛ ليحكم بينهما- هل ينفذ حكمه، أم لا؟ نظر: إن كانت خصومتهما في المال، ففيه قولان: أحدهما: ينفذ؛ لما روي أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. والثاني: لا ينفذ؛ لأنه غير مولى من جهة الإمام؛ ففي تنفيذ حكمه وقوع الخلاف. واختلفوا في محل القولين. منهم من قال: محل القولين إذا لم يكن في البدل قاض، فإن كان فيه قاض لم يجز. ومنهم من قال: محل القولين إذا كان في البدل قاض؛ فإن لم يكن، يجوز؛ لأجل الضرورة. ومنهم من قال: في الحالين قولان. فإن قلنا: يجوز، إنما يجوز إذا كان المحكم مجتهداً، فإن لم يكن لا يجوز حكمه، وإذا جوزناه مع القاضي فينفذ حكمه. وإن كان رأيه بخلاف رأي القاضي، وإذا جوزنا؛ فبأي شيء يلزم حكمه؟ فيه قولان: أحدهما: يلزم بتراضيهما بعد الحكم؛ لأنه لا ولاية له؛ فلا يلزم حكمه إلا بالتراضي؛

حتى لو طلبا الحكم وحكم ثم لم يرض أحدهما، لا يلزم؛ فكما يعتبر رضاهما في الحكم، يعتبر رضاهما في لزوم الحكم. والقول الثاني: يلزم بنفس الحكم؛ لأن من جاز حكمه، لزم حكمه؛ كالقاضي فإذا امتنع أحدهما قبل الحكم، لا يجوز له أن يحكم؛ حتى لو أقام المدعي شاهدين بين يدي المحكم فقال المدعى عليه: عزلتك، لم يجز الحكم، ويجوز للمحكم أن يشهد على شهادة الشاهدين. فإن قلنا: يجوز التحكيم، اختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم: منهم من قال: يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان؛ من: النكاح، واللعان، والقصاص، وحد القذف، وما يجوز للقاضي أن يحكم فيه، لأنه لما جاز في بعضه، جاز في كله. ومنهم من قال: لا يجوز إلا في الأموالح لأن حكم المال أخف من حكم غيره، وسائر الحقوق يبنى أمرها على الاحتياط؛ فلا يتولاها إلا من نصبه الإمام. أما العقوبات التي هي حقوق الله- تعالى- فالمذهب: أنه لا يجوز فيها التحكيم. فصل في عزل القاضي إذا مات الإمام الأعظم، أو والي الإقليم، لا ينعزل القضاة، وكذلك إذا مات القاضي لا ينعزل القوام الذي بين يديه. وهل ينعزل مكاتبه؟ نظر: إن كان في أمر خاص من بيع أو نحوه، ينعزل؛ كالوكيل ينعزل بموت الموكل. وإن كان مكاتباً في قرية، ففيه وجهان. ولو أن الإمام الأعظم عزل قاضياً، أو القاضي عزل نفسه؛ نظر: إن لم يكن ثم من [لا] يصلح للقضاء لا ينعزل، وإن كان نظر: إن كان أصلح منه ينعزل، وإن كان مثله ففيه وجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ لأنه لا عذر لعزله. والثاني: ينعزل؛ لأنه ربما علم من باطنه أنه لا يصلح للقضاء.

فإن قلنا: ينعزل؛ فإذا عزله الإمام، هل ينعزل قبل بلوغ الخبر إليه؟ قيل: فيه قولان؛ كالوكيل إذا عزل، هل ينعزل قبل بلوغ الخبر إليه، أم لا؟ والصحيح: أنه لا ينعزل؛ لأنه يؤدي إلى فساد عظيم؛ فإنه يقضي قبل بلوغ الخبر إليه، ثم يحتاج إلى رد قضائه. فإن قلنا: ينعزل، فذلك إذا كتب إليه: إنك معزول أو عزلتك. أما إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي؛ فأنت معزول- ما لم يصل إليه الكتاب. فإن قلنا: ينعزل القاضي بالعزل أو مات، هل ينعزل خليفته؟ نظر: إن لم يكن مأذوناً في الاستخلاف ينعزل، وإن كان مأذوناً فيه نظر: إن قال الإمام: استخلف عني لا ينعزل، وإن قال: عنك ينعزل، وإن أطلق فعلى وجهين: أصحهما: ينعزل. وكذلك إذا عزل القاضي خليفته هل ينعزل؟ فعلى هذا التفصيل؛ بخلاف القوام؛ حيث قلنا: لا ينعزلون بموت القاضي؛ لأنه يؤدي إلى سد باب المصالح. وإذا فسق القاضي، أو جن، أو أغمي عليه، أو خرس- ينعزل؛ بخلاف الإمام الأعظم لا ينعزل بالفسق؛ لأن في عزله بالفسق فتنة عظيمة بين المسلمين. ولو أخبر الإمام أن فلاناً القاضي فسق، أو مات؛ فولى غيره، ثم بان بخلافه- كان الثاني قاضياً، لأن عزل القضاة إلى الإمام بلا سبب. والله أعلم. باب كتاب قاض إلى قاض روي عن الضحاك بن سفيان قال: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. إذا ادعى رجل على إنسان حقاً والمدعى عليه غائب عن مجلس الحكم- هل يسمع أم لا؟ نظر: إن لم يكن بينة لا يسمع، وإن كانت له بينة نظر: إن تعذر إحضار الخصم؛ بأن كان مريضاً أو مختفياً أو ممتنعاً لا يمكن إحضاره، أو كان غائباً إلى مسافة القصر- فيجوز للقاضي أن يسمع الدعوى والبينة، ويقضي عليه؛ كما لو كان ميتاً؛ لأنا لو لم نسمع صارت

الغيبة والانقطاع والامتناع طريقاً إلى إبطال الحقوق التي نصب الحكام لحفظها. وإن كان المدعى عليه ظاهراً في البلد، يمكن إحضاره، أو كان غائباً إلى مسافة قريبة- فالصحيح من المذهب: أنه لا يجوز القضاء عليه، وسماع الدعوى من غير إحضاره؛ لأنه إذا أحضره، ربما يقر؛ فيكفيه مؤنة سماع البينة والتعديل؛ ومبنى القضاء على الفصل بما هو الأقرب. ومن أصحابنا من قال: يجوز القضاء عليه وسماع الدعوى من غير إحضاره؛ لأنه إن كان منكراً فهو قضاء على المنكر، وإن كان مقراً فالبينة تقوي إقراره؛ حتى قال هذا القائل: لو كان حاضراً في مجلس الحكم، يجوز للقاضي أن يسمع البينة عليه، ويقضي من غير أن يسأله. والأول المذهب. فإن قلنا: لا يجوز القضاء عليه في غيبته إذا كانت المسافة قريبة، واختلفوا في تلك المسافة: منهم من قال: ما دون مسافة القصر، ومنهم من قال: أن يكون على مسافة لو خرج بكرة يمكنه أن يأتي أهله ليلاً، وإن كان فوق ذلك يجوز القضاء عليه؛ كما لو كان على مسافة القصر؛ لأن في إحضاره مفارقة الأهل بالليل؛ فحيث جوزنا القضاء على الغائب فهل يشترط في سماع الدعوى أن ينصب الحاكم مسخراً ينكر عن الغائب؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط حتى يقيم البينة على إنكار منكر. والثاني- وهو الأصح-: لا يشترط؛ لأن المدعى عليه ربما يكون مقراً؛ فيكون إنكار المسخر كذباً. ويشترط أن يقول المدعي في الدعوى: لي على فلان كذا؛ وهو منكر، فإن لم يقل: هو منكر بل قال: لا آمن أن ينكر- لا تسمع منه. فإذا ادعى على الغائب مالاً وأقام عليه بينة، يعدل القاضي البينة، ويحلف المدعي بعد تعديل البينة؛ أنه ما أبرأ المدعى عليه، ولا عن شيء منه، ولا استوفاه ولا شيئاً منه ولا أحال عليه أحداً ولا بشيء منه، وإنه لثابت عليه الآن. ولو اقتصر على قوله: إنه لثابت عليه، كفى. وإنما حلفناه؛ لأن المدعى عليه لو كان حاضراً وادعى شيئاً من هذه الأشياء- كان له تحليفه. وكذلك لو كان في القضاء على المجنون والصبي والميت، يحلف المدعي مع البينة. وإن كان للميت وارث، كان التحليف بمسألته، وإن لم يكن له وارث حلفه القاضي، ثم بعد ما حلفه يحكم به. ويجوز القضاء على الغائب بالشاهد واليمين؛ لأن كل حجة جاز الحكم بها على

الحاضر- جاز على الغائب. ثم هل يكتفي بيمين واحدة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحلف يمينين: أحدهما لإكمال الحجة، والثاني: لإثبات المال. والثاني: يكتفي بيمين واحدة. وعند أبي حنيفة: لا يجوز القضاء على الغائب، إلا أن يكون له اتصال بالحاضر؛ بأن يكون له نائب حاضر، أو قال: لي على فلان الغائب كذا، وهذا الحاضر كفيل، أو أحالني على هذا، أو باع فلان الغائب شقصاً من هذا الحاضر؛ وأنا شفيع، أو أدعت المرأة النفقة على زوجها الغائب، وقالت: لي على هذا الحاضر دين ونحو ذلك. والحجة عليه: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وكان ذلك قضاء على زوجها: أبي سفيان؛ وهو كان غائباً. وإذا قضى على غائب بمال، فإن كان للغائب مال حاضر أدى حقه منه، وإن لم يكن كتب بمسألة المدعي إلى قاضي البلد الذي الخصم به؛ أنه حضر قبلي فلان بن فلان الفلاني في يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا، وادعى على فلان بن فلان الغائب ببلد كذا، وأقام عليه بينة؛ فسمعت شهادتهم وعدلتهم وحلفته، وحكمت له بالمال؛ فإذا أتاك كتابي [هذا] فامض فيه على موجب الشرع، ويقرأ كتابه على شاهدين ويشهدهم على حكمه، أو يأمر من يقرؤه بين يديه؛ وهو مقر به، ويشهدهم عليه. ويستحب: أن ينظر الشاهدان في الكتاب حالة القراءة؛ حتى لا يحرف منه شيء، فإن لم ينظر أجاز؛ لأنهما يؤديان ما سمعا، ويختم كتابه ويشهدهم عليه. ولو أمرهم بكتابة أسمائهم في الكتاب فحسن، وختم الكتاب مستحب؛ فلو لم يختم، جاز. وعند أبي حنيفة: لا يجوز إلا مختوماً، ولو لم يقرأ الكتاب على الشهود، بل دفع إليهم كتاباً مختوماً، وقال: اشهدوا أن هذا كتابي- فلا يجوز. وعند أبي حنيفة: يجوز. ولا يجب كتابة أسامي الشهود الذين شهدوا بالحق في الكتاب، وثبوت عدالتهم عند القاضي الكاتب كاف؛ فيكتب: ثبت عندي بشهود عدول كذا. فإن لم يثبت عدالتهم، فيكتب أسماءهم؛ حتى يكشف المكتوب إليه عن أحوالهم.

أما الشهود الذين يشهدهم القاضي الكاتب على حكمه، فثبوت عدالتهم عند المكتوب إليه شرط، فلو عدلهم الكاتب لا تثبت. وقال القفال الشاشي: تثبت؛ وهذا لا يصح؛ لأن فيه تزكية نفسه؛ كما لو عدل المدعي شهوده، ولأنه تعديل قبل أداء الشهادة؛ فلا يحسب. فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، أحضر المقضي عليه وأخبره، فإن أقر بالحق، وإلا شهد الشهود أن هذا كتاب فلان القاضي حكم لفلان بن فلان على هذا بكذا؛ فيفض القاضي الختم بعد أن يعدل الشهود، ويمضي قضاءه. وإذا شهدوا على أن هذا كتاب فلان القاضي وختمه- لا يجوز أن يحكم به ما لم يشهدوا على حكمه بما فيه ويبينوا. وعند أبي حنيفة: إذا شهدوا على أنه كتاب فلان القاضي وختمه؛ [و] أشهدنا عليه- يحكم به؛ وإن لم يشهدوا على ما فيه. وإن قال المدعى عليه: لي دفع بذلك البلد، كلفه القاضي أداء المال، ثم هو متمكن من الإثبات بالدفع؛ متى قدر عليه. وإن ادعى أنه أبرأني عنه؛ فإن كان الذي حمل الكتاب هو المدعي حلفه؛ أنه لم يبرئه، وإن كان حامل الكتاب وكيله كلفه القاضي أداء المال، ثم إذا ظفر بالمدعى عليه حلفه. ولو أنكر المقضي عليه؛ أن اسمه ما كتب فيه فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل أن لا مطالبة عليه؛ فعلى المدعي إثبات اسمه. فإن قال: اسمي هذا، ولكن لي سمي في البلد؛ فلست أنا المحكوم عليه- فلا تقبل إلا ببينة تقوم على أن له سمياً. فإن أثبت له سمياً فعلى الشهود أن يميزوا بينهما بزيادة نسب، أو حلية، أو صناعة. وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه، [واستوفى منه الحق] فقال المدعى عليه: اكتب إلى القاضي الكاتب أنك حكمت علي؛ حتى لا يدعي علي ثانياً هل يلزمه أن يكتب؟ فيه وجهان: أحدهما- قاله الإصطخري-: يلزمه؛ لأنه لا يأمن أن يدعي عليه ثانياً. والثاني: لا يلزم؛ لأن الحاكم إنما يكتب فيما حكم به أو ثبت عنده، والكاتب هو الذي حكم به، وثبت عنده لا المكتوب إليه.

ولو ضاع الكتاب في الطريق، أو امحي، أو انكسر الختم- فالشهود يشهدون على حكم القاضي الكاتب؛ فتقبل الشهادة. وعند أبي حنيفة: لا تقبل الشهادة إلا على الكتاب. ولو مات القاضي، أو عزل، أو جن، أو خرس، أو أغمي عليه- يجب على المكتوب إليه قبول كتابه، والحكم بما شهد عليه الشهود. وعند أبي حنيفة: لا تقبل [الشهادة]. ولو ارتد القاضي الكاتب، أو فسق قبل وصول الكتاب؛ فإن كان في حكم مبرم، قبله المكتوب إليه، وأمضاه. وإن كان في سماع شهادة لا يقبله؛ كالشاهد إذا فسق بعد الشهادة، أو ارتد قبل الحكم، لا يحكم بشهادته، وإن كان بعد الحكم لا ينقض. ولو مات المكتوب إليه أو عزل، فعلى من يلي قضاء تلك البلدة قبول ذلك الكتاب، والعمل به، وإن لم يكن الكتاب باسمه. فإن كان المحكوم عليه قد غاب إلى بلد آخر، فالمدعي: إن شاء دفع الكتاب إلى المكتوب إليه، ويشهد عليه الشهود، والمكتوب إليه يمضيه ثم يكتب كتاباً إلى قاضي البلد الذي غاب إليه الخصم؛ بأن قد جاءني كتاب من فلان، وأمضيته وكتبت إليك، فإذا أتاك كتابي، فامض فيه بموجب الشرع، ويشهد عليه. وإن شاء المدعي أن يحمل الكتاب إلى قاضي البلد الذي غاب إليه الخصم، جاز، وعليه قبوله وإمضاؤه. وإن كان الكتاب باسم غيره؛ لأنه يحكم بشهادة الشهود. ويجوز لمن حكم على غائب لا يعلم مكانه أن يكتب الكتاب مطلقاً إلى كل من يبلغه من قضاة المسلمين، ثم كل قاض حمل إليه ذلك الكتاب، وشهد الشهود عليه- أن يقبله ويمضيه. وعند أبي حنيفة: لا يجوز؛ حتى يسمى المكتوب إليه، أو يقول: إلى فلان، وإلى كل من يبلغه من قضاة المسلمين. وإذا أراد شهود الكتاب أن يتخلفوا في الطريق- نظر: إن أرادوا التخلف في موضع ليس فيه قاض، ولا شهود- لم يكن لهم ذلك، بل عليهم الخروج إلى موضع فيه قاض وشهود. فإن طلبوا أجرة للخروج إلى موضع القاضي، لم يكن لهم أكثر من نفقتهم، وكذا دوابهم؛ بخلاف ما لو كان في البلد شهود لهم ألا يخرجوا، ويطلبوا للخروج أكثر من أجر المثل؛ لأنه لا ضرورة إليهم هناك؛ فإن القاضي يقدر على إشهاد غيرهم.

وإن أرادوا التخلف في موضع فيه قاض وشهود، فلهم فيه طريقان: فإن شاء كل واحد من الشاهدين أن يشهد على شهادته شاهدين يشهدان على شهادتهما بين يدي القاضي المكتوب إليه بقضاء القاضي فلان: لفلان على فلان كذا وإن شاءوا حملوا الكتاب إلى قاضي البلد الذي يتخلفون فيه، ويشهدون عنده على حكم القاضي الكاتب؛ فهو يمضيه، ويكتب إلى قاضي بلد الخصم. هذا إذا ادعى على غائب ديناً. فإن ادعى على غائب عيناً؛ نظر: إن كانت حاضرة، سلمها إليه بعد إقامة البينة والتحليف، وإن كانت غائبة؛ نظر: إن كانت عقاراً سمع البينة وحكم، وكتب: أني حكمت لفلان بن فلان على فلان بدار، أو أرض في بلدك؛ موضعها كذا وكذا. وإن كان منقولاً، هل تسمع الدعوى والبينة؟ فيه قولان: أحدهما: تسمع؛ وبه قال أبو يوسف، وابن أبي ليلى؛ كما في العقار. والثاني- وبه قال أبو حنيفة-: لا تسمع؛ لأنه يتغير، ويختلط؛ فلا يمكن الوقوف عليه. فإن قلنا: تسمع، هل يقضي؟ فيه قولان: أحدهما: يقضي؛ كما في العقار. والثاني: لا يقضي؛ بل بعد سماع البينة وتعديلها، يكتب إلى قاضي بلد الخصم والمال ثم المكتوب إليه بعد ما أتاه الكتاب له طريقان: أحدهما: أن ينتزع العين من يد من هي في يده، ويختم عليها. وإن كان عبداً جعل في عنقه قلادة، ووضع عليها ختمه، ودفعه إلى المدعي وكفله، وبعثه إلى القاضي الكاتب؛ حتى يشهد الشهود على عينه. فإن سلمت العين له، كتب ببراءة الكفيل، وإلا كلف المدعي رد العين، ومؤنة رد العين، وأجر مثل مدة الحيلولة؛ وبه قال أبو يوسف. وقال الشافعي: ومنعني من هذا: أنها إن كانت جارية لا يؤمن أن يطأها المدعي، ولأنه يؤدي إلى الحيلولة بين المالك وملكه. والطريق الثاني: أن القاضي المكتوب إليه ينزع العين من يد المدعى عليه، ويبيعها من المدعي، ويضع الثمن على يد عدل، أو يكلفه، أو يبيعه إلى القاضي الكاتب. فإن

سلمت للمدعي كتب ليبرئ الكفيل، ويرد الثمن، وإلا فالبيع صحيح؛ يدفع الثمن إلى المدعى عليه. ويجوز القضاء على الغائب في غير العقوبات، ويقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي. وهل يجوز القضاء على الغائب في العقوبات؟ نظر: إن كان من حدود الله- تعالى- مثل: حد الزنا، والشرب، وقطع السرقة؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ كما في الأموال. ثم يكتب إلى قاضي البلد الذي به المشهود عليه؛ حتى يحده. والثاني: لا يجوز؛ لأن الحدود يحتاط لدرئها. وإن كان من حقوق العباد؛ كالقصاص، وحد القذف- فالمذهب: أنه يجوز القضاء فيه على الغائب؛ لأن مبنى حقوق العباد على الضيق. وخرج قول من حدود الله: أنه لا يجوز؛ لأنه يندرئ بالشبهة. وكما يجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر في القضاء المبرم لتنفيذه؛ وهو أن يكتب بعدما سمع بينة المدعي وحلفه وحكم، يجوز أيضاً أن يكتب في غير المبرم، وهو أن يسمعبينة المدعى ولا يحلفه، ويكتب إلى قاضي بلد الخصم"؛ ليحكم به، ويقبل الكتاب في القضاء المبرم لتنفيذه، وإن كانت المسافة قريبة. أما في غير المبرم: فتقبل في مسافة القصر، ولا تقبل في مسافة لو خرج بكرة أمكنه أن يأتي أهله ليلاً وفيما بينهما؟ وجهان؛ كالشهادة على الشهادة. والفرق بين القضاء المبرم حيث قبلنا فيه الكتاب على قرب المسافة ولم نقبل في غير المبرم-: أن الحكم قد نفذ في المبرم، وربما لا يمكنه إقامة الشهود عند القاضي الثاني مرة أخرى وقد يختلف اجتهادهما؛ فيكون فيه نقض القضاء بالاجتهاد. وفي غير المبرم لم يقبل؛ لأن المدعي يمكنه أن يدعو لحمل الشهود إلى القاضي الآخر؛ ليشهدوا عنده، ولذلك لم تقبل شهادة شهود القرع على قرب المسافة بينهم وبين شهود الأصل؛ لأنه يمكنه حمل شهود الأصل إلى القاضي ليشهدوا إذا لم يكن لهم عذر من مرض ونحوه. وكذلك إذا كان في بلد قاضيان؛ حيث جوزنا [أن يقبل] كتاب أحدهما إلى الآخر

في القضاء المبرم، ولا يقبل في غير المبرم. ويقبل كتاب الإمام الأعظم إلى القاضي، وكتاب القاضي إلى الإمام، وكذلك كتاب القاضي إلى خليفته، وكتاب الخليفة إليه. ولو جاء رجل إلى القاضي، واستعدى على خصمه ليحضره- يجب أن يشخصه ويحضره إن كان خصمه في البلد، وكان ظاهراً صحيحاً يمكن إحضاره، وإن كان مريضاً أو امرأة مخدرة فلا يكلفها الحضور، بل يوكل من يجيب عنها. وإن توجهت عليها يمين، بعث الحاكم إليها من يحلفها. وإن كان غائباً عن البلد، نظر: إن لم يكن في ولايته لا يمكنه إشخاصه، وإن كان في ولايته نظر: فإن كان على مسافة القصر لا يشخصه، بل يسمع البينة ويكتب إلى خليفته في بلد الخصم وإن كان على مسافة لو خرج بكرة يمكنه أن يأتي أهله ليلاً عليه أن يشخصه. وفيما بينهما من المسافة؟ وجهان. ولو أن قاضيين ولايتهما متصلة حضر كل واحد طرف ولايته؛ فنادى أحدهما الآخر؛ بأني حكمت لفلان على فلان الذي في ولايتك بكذا- فيجب على القاضي السامع إمضاءه؛ لأنه أبلغ من الكتاب. وكذلك لو كان للقاضي خليفة في البلد فأيهما أخبر الآخر؛ بأني حكمت لفلان بكذا، يجب عليه إمضاؤه. ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها خليفة؛ فأخبر القاضي خليفته؛ أني قد قضيت على فلان في هذه القرية بكذا- فعلى الخليفة إمضاؤه؛ لأن كل واحد في ولايته، وكذلك لو أخبره الخليفة؛ بأني حكمت لفلان على فلان في البلد بكذا، فإذا عاد القاضي إلى البلد يمضيه. لأنه أخبر في ولايته. ولو دخل الخليفة البلد، فأخبر القاضي لا يحكم به؛ لأنه ليس في ولايته؛ كما لو قال القاضي بعد العزل: حكمت لفلان بكذا- لم يقبل. ولو أخبر القاضي الخليفة؛ بأني حكمت لفلان في قريتك بكذا، فإذا عاد الخليفة إلى قريته هل يمضيه؟ فيه قولان؛ بناء على أن القاضي هل يقضي بعلم نفسه؟ لأن القاضي أخبر في ولايته؛ فيقع به العلم، والخليفة يسمع في غير ولايته.

وكذلك لو خرج قاضي بلد إلى بلد آخر؛ فأخبر الخارج قاضي البلد الذي خرج إليه- لا يحكم به. وإذا أخبر ذلك القاضي هذا الخارج، فإذا عاد هل يمضيه؟ فعلى قولين؛ لأن إخباره بالقضاء كإنشاء القضاء، ومن حضر لم يكن في محل ولاية الخارج. ومن حضر في مجلس الحكم؛ فسمع القاضي قضى بشيء لإنسان- له أن يشهد به وإن صار قاضياً بعده هل يقضي [به]؟ فيه قولان. ولو نادى القاضي في ولايته: أني حكمت لفلان على فلان بكذا؛ فسمع عدلان قوله وشهدا بين يدي قاض بلد آخر على المحكوم عليه- يجب على من شهدا عنده الحكم به. وإذا سمع القاضي الشهادة على غائب، ثم حضر الغائب قبل القضاء- لا يجب إعادة الشهادة؛ بخلاف شهود الأصل إذا حضروا بعدما شهد شهود الفرع قبل القضاء لا يقضي إلا بشهادة شهود الأصل؛ لأن شهود الفرع والبدل لا حكم له بعد حضور الأصل. وإذا حكم القاضي على غائب بحق، ثم قدم الغائب أو على صبي؛ فبلغ الصبي- كان على حجته في القدح في الشهود وإقامة البينة على قضاء الحق، والإبراء عنه. ولو أقام وكيل المدعي بينة على وجه وكيل المدعى عليه، وحكم القاضي به، ثم حضر المدعى عليه، وقال: كنت عزلت الوكيل قبل إقامة البينة- لا ينفعه ذلك؛ لأن القضاء على الغائب جائز. ولو حضر المدعي وقال: كنت عزلت وكيلي قبل إقامة البينة، وقلنا: ينعزل الوكيل قبل بلوغ الخبر إليه- لا يصح الحكم؛ لأن القضاء للغائب لا يجوز. والله أعلم. باب القسام قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا} [النساء: 8]. فيه دليل على أن المال إذا كان مشتركاً بين جماعة، يجوز لهم أن يقسموا؛ ليتميز نصيب كل واحد منهم؛ فيتمكن كل واحد من التصرف في نصيبه كيف شاء ويتخلص من سوء المشاركة؛ وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقسم الغنائم بين الغانمين.

وعلى الإمام أن ينصب ف كل بلدة قاسماً؛ فإن لم تقع الكفاية بواحد، فأكثر قدر ما تقع بهم الكفاية ويرزقهم من بيت المال. [وكذلك ينصب كاتباً؛ لكتبة الصكوك وغيرها، ويرزقه من بيت المال]. فإن لم يكن في بيت المال مال، أو [لم] يعط- فلا يعين قاسماً ولا كاتباً؛ لأنه إذا تعين غالى في الأجرة، بل يترك الناس يستأجرون الكتاب والقسام كيف شاءوا. فإذا نصب قاسماً، يشترط أن يكون عالماً بالحساب عدلاً، نزهاً من الطمع. ثم إن لم يكن في القسمة تقويم، جاز قاسم واحد، وإن كان فيها تقويم ثم لم يجز أقل من اثنين. وإن كان فيها خرص، هل يكتفي بخارص واحد؟ فيه قولان. ثم إن كان القاسم قد نصبه الحاكم، فرزقه وأجرته من بيت المال سهم المصالح، وإن لم يكن في بيت المال شيء، فيكون على الشركاء. ثم ينظر: إن استأجر جماعة قاسماً وسمى كل واحد شيئاً واحداً جاز، وعلى كل واحد ما سمى. وإن سموا أجرة واحدة. [فإن قالوا: اقسم بيننا هذا المال على عشرة دراهم، فيوزع العشرة عليهم على قدر أملاكهم؛ فمن كان نصيبه أكثر، كان عليه من الأجرة أكثر؛ بخلاف الشفعة توزع على عدد رءوس الشركاء؛ سواء مع تفاوت- أنصبائهما على أحد القولين؛ لأن الشفعة لا تستحق بسبب الشركة وهم في أصل الشركة سواء، وهاهنا يستحق الأجرة للعمل وعمله لصاحب الكبير أكثر منه لصاحب القليل؛ كما ل كان بين رجلين حمل ثقيل؛ لأحدهما ثلثه، وللآخر ثلثاه؛ فاستأجرا رجلاً بعشرة ليحمله إلى موضع معلوم، فحمله- تكون العشرة بينهما أثلاثاً: الثلثان على صاحب الثلثين؛ والثلث على الآخر، فإن كان القاسم من جهة الشركاء يجوز أن يكون فاسقاً وعبداً؛ لأنه وكيل لهم؛ بخلاف منصوب الإمام يشترط أن يكون حراً عدلاً لأنه منصوب لإلزام الحكم؛ كالحاكم. إذا كان بين رجلين مال من نوع واحد وطلب أحدهما القسمة، وامتنعا لآخر- هل يجبر الممتنع؟ نظر: إن لم يكن على واحد منهما ضرر؛ كالقسمة في الدراهم والدنانير والحنطة

والشعير وسائر الحبوب والأدهان والثوب الغليظ الذي لا تنتقص قيمته بالقطع، والأرض والدار المستوية أجزاؤها- يجبر الممتنع على القسمة. وإن كان عليهما ضرر؛ كالجواهر والثوب المرتفع الذي تنتقص قيمته بالقطع والكسر، والرحاء الواحدة، والبئر والحمام الصغير الذي لا يمكن أن يتخذ منه حمامان- فلا يجبر الممتنع على القسمة؛ لأن في قسمته إضاعة للمال؛ ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال؛ وفيه ضرر عليهما؛ وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "لا ضرر ولا إضرار". وإن كان على أحدهما ضرر؛ بأن كانت أرضاً تسعة أعشارها لواحد، وعشرها لآخر، ينتفع صاحب التسعة أعشار [بالقسمة]، ويتضرر بها صاحب العشر؛ إذ لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إذا انفرد، أو كانا سواء في قلة النصيب، ولكن لأحدهما بجنبه ملك خالص إذا انضم إليه نصيبه ينتفع به؛ فإن طلب القسمة من لا ضرر عليه، يجبر صاحبه على القسمة. وقال أبو ثور: لا يجبر؛ لأنه يتضرر به الناس قلنا: من ينتفع بالقسمة لا يجب عليه ترك حقه لضرر الغير؛ كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقضي دينه- يجبر على أداء الدين؛ وإن تضرر به. وإن طلب القسمة من يتضرر بالقسمة، فلا يجبر الآخر عليه؛ لأنه يطلب ما لا يقع له فيه، بل عليه فيه ضرر، فإن تراضيا جاز. وإن كانت بينهما أرض مختلفة الأجزاء في بعضها أشجار أو بناء، وبعضها خال، أو بعضها يسقى بالنهر وبعضها لا يصيبه الماء؛ فيسقى بالنضح، أو بينهما دار بعضها مبني بالآجر، وبعضها بالخشب أو الطين- فإن أمكن أن يقسم الجيد بينهما على الانفراد والردئ على الانفراد، وأيهما امتنع أجبر الآخر عليه. وإن لم يمكن، إلا بأن نجعل الجيد لواحد، والرديء لآخر، ويرد من يأخذ الجيد شيئاً؛ فلا يجبر عليه، إلا أن يتراضيا.

وكذلك لو كان بينهما دار لها علو وسفل؛ فإن أمكن أن يجعل لكل واحد منهما نصفها علواً وسفلاً- أجبر عليه. وإن اقتسما على أن يكون السفل لواحد، والعلو لآخر- فلا يجوز إلا بالتراضي. وإن أمكن قسمة الأرض المختلفة بالتعديل؛ بأن تكون الأرض ثلاثين جريناً: عشرة أجرنة من جيدها بقيمة عشرين جريناً من رديئها؛ فدعا ذلك إلى أحدهما- هل يجبر عليه؟ فيه قولان: أحدهما- وهو الأصح: لا يجبر إلا أن يتراضيا عليه؛ لتعذر التساوي في الزرع؛ كما لو كانت بينهما دور وبساتين في مواضع مختلفة؛ فطلب بعضهم قسمتها أعياناً بالقيمة- لا يجاب إليه، إلا أن يتراضيا، بل يقسم كل واحدة على الانفراد. والثاني: يجبر؛ لوجود التساوي في المشترك بالتعديل؛ فعلى هذا: في أجرة القسام وجهان: أحدهما: على كل واحد نصفها؛ لاستوائهما في أصل الملك. والثاني: على صاحب العشرة ثلثها، وعلى صاحب العشرين ثلثاها؛ لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة. وإن كان بين ملكي رجلين عرصة جدار مشتركة بينهما؛ فأرادا قسمتها نظر: إن أرادا قسمتها طولاً في جميع العرض؛ بأن كان طولها عشرة أذرع وعرضها ثلاثة أشبار؛ فأرادا قسمتها طولاً؛ فتصير لكل واحد خمسة أذرع في جميع العرض- جاز، وأيهما طلب ذلك أجبر الآخر عليه. وإن أرادا قسمتها عرضاً في جميع الطول، فيكون لكل واحد شبر ونصف في جميع الطول. فإن تراضيا عليه جاز، وإن امتنع أحدهما لم يجبر الآخر عليه؛ لأن الجبر يكون بالقرعة. وإذا أقرع بينهما، ربما يخرج لكل واحد منهما ما يلي ملك صاحبه؛ فلا ينتفع به. أما إذا كان بين ملكيهما جدار مشترك بينهما، فأرادا قسمته: إن أرادا قسمته عرضاً في جميع الطول، يجوز بالتراضي إذا كان الجدار عريضاً، وأمكن شقه إلى آخره. وإذا امتنع أحدهما لا يجبر الآخر عليه؛ للمعنى الذي أشرنا إليه في موضع الجدار. وإن أرادا قسمته عرضاً في جميع الطول، يجوز بالتراضي طولاً في جميع العرض. فهل يجبر عليه إذا امتنع منه أحدهما؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجبر؛ كما في عرصة الجدار. والثاني: لا يجبر؛ لأنه لا يمكن إلا بقطع الجدار، وفيه إتلاف بعض الجدار؛ فلا يصار إليه إلا بالتراضي. وإن كان بينهما أصناف مختلفة من المال مشتركة؛ كالكرم والنخل والحنطة، مع الشعير والأشجار المختلفة والعبيد مع الدواب؛ فأرادا قسمتها أصنافاً؛ فيجعل لكل واحد صنف على الانفراد- يجوز ذلك بالتراضي، وإذا امتنع أحدهما لا يجبر عليه، بل يقسم كل صنف على الانفراد. وكذلك إذا كان المالان من صنف واحد، والنوع مختلف- لا يجعل [على كل] واحد نوع على الانفراد إلا بالتراضي، ب يقسم كل نوع على الانفراد بينهما. فإن كانت الأنواع مختلطة؛ كالتمر الجيد مع الرديء، والجوز الهش مع الصلب ولا يمكن التمييز بينهما- فلا يجوز قسمتهما أجزاء إلا بالتراضي. وإن كان بينهما أعيان متفقة النوع؛ كالعبيد والدواب، أو الأشجار أو الثياب، أو الخشب؛ فأرادا قسمتها- نظر: إن أمكن القسمة بينهما مع الاستواء في العدد والقيمة؛ بأن كان بينهما عبدان قيمتهما سواء، [أو حماران قيمتهما سواء، أو ثوبان أو شجرتان من نوع واحد قيمتهما سواء]- فالمذهب أنه يجبر على القسمة إذا طلب أحدهما؛ وهو قول أكثر الأصحاب. وقال ابن أبي هريرة: لا يجبر الممتنع إلا أن يتراضيا عليه؛ لأنها أعيان مختلفة؛ كالدور المتفرقة لا تقسم أعياناً. والأول المذهب، وليس كالدور المتفرقة؛ لأنها كالأصناف المختلفة؛ لاختلاف محالها. ولو أمكن التسوية بينهما في القيمة مع تفاوت العدد؛ بأن كان بينهما ثلاثة أعبد قيمة واحد مائة وقيمة اثنين مائة- فهل يجبر على القسمة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجبر؛ للتفاوت في العدد، إلا أن يتراضيا عليه. والثاني: يجبر؛ لوجود التساوي [بينهما] في القيمة، وإن لم يمكن التسوية بينهما في القيمة أيضاً؛ مثل: أن كان بينهما عبدان؛ قيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، أو ثلاثة أعبد؛ قيمة اثنين مائة، وقيمة واحد مائتان- هل يجبر على القسمة؟ ترتب على الأول:

إن قلنا ثم: لا يجبر، فهاهنا أولى وإلا فوجهان. والأصح: أنه لا يجبر؛ لأن الشركة هاهنا لا ترتفع بالقسمة. فإن قلنا: يجبر أو تراضيا، يقرع بينهما؛ فمن خرجت له قرعة العبد الذي قيمته مائة أخذها، وربع الآخر. فصل في إحصاء أهل السهمان إذا أراد القاسم قسمة أرض أو دار أو غيرها، يجب أن يحصي عدد أهل السهمان؛ فيعدل السهام بالأجزاء أو بالقيمة، ثم إن استوى عددهم وسهامهم؛ بأن كانوا ثلاثة وبينهم أرض أثلاثاً، جزأها ثلاثة أجزاء، ثم قطع ثلاث رقاع صغار مستوية وكتب على كل رقعة اسم واحد منهم، وجعلها في بنادق من طين سوى بينهما في الوزن وجففها، وجعلها في حجر من لم يحضر الكتاب ولا إدخالها في الطين ثم قال: أخرج على السهم الأول فمن خرج اسمه أخذ ذلك السهم ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه، ويتعين السهم الآخر للثالث، وإن شاء كتب أسامي السهام على الرقاع، ثم قال: أخرج [على السهم الأول؛ فمن خرج اسمه أخذ ذلك، ثم يخرج على السهم الثاني؛ فمن خرج اسمه أخذه، ويتعين] باسم فلان؛ فأي سهم خرج، دفع إليه. وإن اختلف سهامهم؛ بأن كان لواحد النصف، ولآخر الثلث، والثالث السدس- فيقسم على أقل السهام؛ وهو السدس؛ فيجعل أسداساً، ويكتب الأسامي في الرقاع، ويخرج على السهام؛ فيقول: أخرج على السهم الأول. فإن خرج اسم صاحب النصف، دفع إليه ذلك السهم والسهمين اللذين يليانه، ثم يقول: أخرج على السهم الرابع؛ فإن خرج اسم صاحب الثلث، دفع إليه مع السهم الذي يليه ويتعين السهم الآخر لصاحب السدس؛ فإن خرج السهم الأول لصاحب السدس دفع إليه. ثم أخرج على السهم الثاني؛ فإن خرج اسم صاحب النصف، دفع إليه ثلاثة أسهم، وتعين السهمان الآخران لصاحب الثلث. ولا يكتب على الرقاع أسماء السهام عند اختلاف السهام؛ لأنه إذا كتب أسماء السهام، ثم خرج على الأسامي ربما تتفرق أملاكهم، فيتضررون. وكل قسمة فيها رد، فهي بيع يشترط [فيه] لفظ البيع والتمليك. فيقول من اختار الأجود؛ ليرد شيئاً: اشتريت منك مالك فيما صار لي بما لي فيما صار لك وبعشرة دنانير، فيقول الآخر: بعتك أو ملكتك. وكذلك إذا كانت الأرض مختلفة الأجزاء، لا يمكن القسمة بينهما مع التساوي في الأجزاء؛ فاقتسما على التعديل، أو اقتسما الأموال على الأصناف. وكل قسمة لا يجبر

عليها؛ فتراضيا عليها، فهو بيع يشترط فيها لفظ التمليك، وتثبت فيها أحكام البيع. وإن لم يكن في القسمة رد؛ بأن كان بينهما حنطة أو شيء من الحبوب والأدهان، أو كانت بينهما أرض مستوية الأجزاء، أو دار مستوية الأبنية، أو كرم متفقة الأشجار، أمكن قسمتها من غير تفاوت؛ فاقتسما- فتلك القسمة بيع، أم إفراز حق؟ فيه قولان: أصحهما: أنه بيع؛ لأنه ما من جزء من ذلك المال إلا وهو مشترك بينهما، فإذا أخذ كل واحد نصفه، فكأنه باع ماله فيما أخذ لصاحبه بما لصاحبه فيما أخذه. والثاني: أنه إفراز حق؛ بدليل أنه إذا امتنع أحدهما، يجبر الآخر عليه، ويدخله القرعة، والبيع لا يدخله القرعة والجبر، ولا يحتاج إلى لفظ التمليك. والأول أصح؛ أنه بيع، والجبر والقرعة للحاجة إليه؛ كما أن الحاكم يبيع مال المديون جبراً؛ لأجل الحاجة، ولا يخرج عن أن يكون بيعاً. أما لفظ البيع والتمليك: [فقد قيل] إذا قلنا: إنه بيع، يشترط لفظ البيع والتمليك. وقيل: لا يشترط، بل إذا اقتسما، فله حكم البيع. والصحيح: أنه لا فرق بين أن تكون قسمتهما بالتراضي، أو بالجبر أنه على القولين. وقيل: [القولان] فيما إذا اقتسما جبراً؛ فإن كان بالتراضي، فهو بيع قولاً واحداً. أما إذا اقتسما على التفاوت بالتراضي فلا خلاف أنه بيع. وفائدة القولين: تتبين في أنهما لو اقتسما على التفاوت بينهما شيئاً من مال الربا؛ إن جعلناه بيعاً، يشترط القبض في المجلس، وإن جعلناه إفراز حق، فلا يشترط. ولو اقتسم المكيل بالوزن، أو الموزون بالكيل؛ فإن كان من مال الربا، وجعلناه بيعاً- لا يجوز. وإن جعلناه إفراز حق، يجوز؛ وإن لم يكن من مال الربا؛ كالجص والنورة ونحوهما يجوز قسمتها وزناً وكيلاً قولاً واحداً. وإن كان بينهما أرض مزروعة، وطلب أحدهما القسمة- نظر: إن طلب قسمة الأرض دون الزرع، أجبر عليه؛ لأن الزرع في الأرض كالمتاع في البيت؛ لا يمنع المتاع قسمة البيت. وإن طلب القسمة مع الزرع، لم يجبر عليه؛ لأن الزرع لا يمكن تعديله؛ فهو كالحشيش في الأرض؛ لا يجبر على قسمته. وإن تراضيا عليه، هل يجوز أم لا؟ نظر: إن

كان الزرع بذراً لم ينبت، لم يجز؛ لأنه مجهول. وإن كان قد نبت؛ نظر: إن كان فصيلاً لم يظهر فيه الحب جاز، وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز؛ لأنا إن قلنا: القسمة بيع، فهو بيع أرض وطعام بأرض وطعام. وإن قلنا: إفراز حق فهو قسمة مجهول ومعلوم. وإذا اقتسما شيئاً، ثم تقايلا: إن قلنا: القسمة بيع، صحت الإقالة، وصار كأن القسمة لم تكن. وإن قلنا إفراز حق، فلا معنى للإقالة والقسمة بحالها. فإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم، وسألاه أن ينصب قاسماً يقسم بينهما شيئاً ففعل فعدل القاسم السهام، وأقرع بينهما- لزم، ولا يعتبر بعده التراضي؛ لأن هذه القسمة إجبار وكما لم يعتبر التراضي في ابتداء هذه القسمة، لم يعتبر بعد خروج القرعة؛ كما في الابتداء. وفيه قول آخر: أنه يعتبر بعد خروج القرعة. أما إذا تراضى الشريكان بقاسم يقسم بينهما؛ فعدل السهام، وأقرع- فالمنصوص أنه يعتبر التراضي بعد خروج القرعة؛ كما في الابتداء. وفيه قول آخر: أنه لا يعتبر بعد خروج القرعة؛ كما ذكرنا فيما لو حكما رجلاً ليحكم بينهما فحكم- فهل يلزم بنفس الحكم، أم يشترط تراضيهما بعد الحكم؟ فيه قولان. أما إذا كان في القسمة رد، وخرجت القرعة، لا يلزم إلا بالتراضي. وقال الإصطخري: يلزم بخروج القرعة من غير التراضي؛ كقسمة الإجبار، وليس بصحيح بل يعتبر التراضي بعد خروج القرعة؛ كما في الابتداء؛ بخلاف قسمة الإجبار؛ لأن ثم لا يعتبر التراضي في الابتداء؛ فلم يعتبر بعد خروج القرعة. فإن كانت داراً أو أرضاً موقوفة على جماعة لا يجوز لهم قسمتها؛ لأن تغيير الوقف لا يجوز؛ كما لا يجوز أن تجعل الدار الموقوفة بستاناً ولا البستان داراً. وإن كان نصفها موقوفاً، والنصف مملوكاً، فهل يجوز قسمتها أم لا؟ إن قلنا: القسمة إفراز حق جاز، وإن قلنا: بيع لا يجوز؛ لأن بيع الموقوف لا يجوز. فصل في قسمة المهايأة إذا كان بينهما شيء لا يقبل القسمة من بئر، أو طاحونة، أو دابة، أو عبد؛ فاقتسماها مهايأة؛ حتى ينتفع بها أحدهما مدة معلومة، ثم ينتفع الآخر مثلها- جاز؛ لأن الأعيان القابلة

للقسمة لما جازت قسمتها كذلك المنافع. وإن طلب أحدهما المهايأة، وامتنع الآخر- هل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان. والثاني- وهو الأصح، والمنصوص عليه: لا يجبر؛ لأن فيه تعجيل حق أحدهما، وتأخير الآخر؛ بخلاف الأعيان؛ فإنه لا يتأخر بالقسمة فيها حق أحدهما. فإن قلنا: يجبر، أو تراضيا على المهايأة مياومة أو مشاهرة أو مشافهة- جاز وإن لم يتفقا على أن يبدأ أحدهما بالانتفاع، يقرع بينهما؛ فإذا انتفع أحدهما مدة، ثم انهدمت الدار، ومات العبد- فعلى الذي انتفع بها نصف أجرة المثل للمدة التي انتفع بها صاحبه. ولو لم تتلف العين، ولكن امتنع الثاني من الانتفاع: فإن قلنا: يجبر على المهايأة فلا شيء للمتنع؛ لأنه ضيع حظ نفسه. ولو رغب في الانتفاع قبل مضي مدته، ليس للآخر منعه. وإن قلنا: لا يجبر على المهايأة، فللثاني ألا ينتفع بها، بل يطلب من الذي انتفع بها نصف أجر مثل المدة التي سكنها. ولو أراد الثاني أن يسكنها؛ فقال الذي سكن: لا أدعك تسكنها، وأغرم لك نصف أجرة مثل ما سكنت- فله ذلك. فإن قلنا: لا يجبر على المهايأة، ولم يتراضيا، هل للقاضي بيعها عليهما؛ قطعاً للمنازعة؟ فيه وجهان: المذهب: أنه لا يبيع عليهما؛ لأنهما مكلفان مطلقان بل يؤاجر عليهمأ، ويصرف الأجرة إليهما. ولو اتفقا في العبد المشترك على المهايأة، تدخل في المهايأة الأكساب العامة؛ كالاحتطاب، والاصطياد، والاحتشاش. فما اكتسب في يوم أحدهما، يكون له، وكذلك المؤن العامة، كالنفقة تدخل في المهايأة؛ فيجب على كل واحد منهما نفقة اليوم الذي يعمل له. أما الأكساب النادرة مثل: الركاز، واللقطة يجدها وقبول الهبة والوصية، وكذلك المؤن النادرة مثل: أجرة الطبيب، والفصاد والحجام وصدقة الفطر- هل تدخل في المهايأة؟ فيه قولان: أصحهما- وهو المذهب-: تدخل في المهايأة؛ كالعامة.

والثاني: لا تدخل في المهايأة، بل الكسب النادر يكون بينهما في أي يوم كان، والمؤنة النادرة تكون عليهما في أي يوم كان. وكذلك من بعضه حر، وبعضه رقيق، فأكسابه تكون بينه وبين سيده، والمؤن عليهما. وإن كان بينهما مهايأة، فتدخل المهايأة الأكساب، والمؤن العامة. وفي النادرة وجهان: المذهب: أنها تدخل في المهايأة. وإن كان بينهما بقرة حلوب لا يجوز فيها المهايأة؛ لأن اللبن مجهول، وربما يكون في يوم أحدهما أكثر. فصل في الغلط في القسم إذا قسم القاسم مالاً بين رجلين، ثم ادعى أحدهما غلطاً في القسمة- لا يسمع، ولا يحلف القاسم؛ كما لو ادعى المحكوم عليه على الحاكم أنه ظلم، أو على الشاهد أنه كذب- لا يسمع. فإن أقام البينة على الغلط يسمع، وترد القسمة، كما لو أقام البينة على ظلم القاضي، وكذب الشاهد. ولو أقر القاسم؛ أني غلطت، أو تعمدت؛ نظر: إن صدقه الشركاء تنقض القسمة، وإن كذبوه لا تنقض، وعليه رد الأجرة، وكذلك القاضي إذا قال: غلطت في الحكم، أو تعمدت الجور؛ فإن صدقه المحكوم له، يجب عليه رد المال إلى المدعى عليه، وإن كذبه فلا يجب عليه رده، وعلى القاضي الغرم. ولو استحق بعض المقسوم؛ لا يخلو: إما أن استحق شيء معين، أو جزء شائع: فإن استحق شيء معين؛ نظر: إن استحق من نصيب كل واحد مثل ما استحق من نصيب الآخر أمضيت القسمة، وإن استحق من نصيب أحدهما شيئاً دون الآخر فالقسمة باطلة، وإن استحق جزءاً شائعاً من الكل قال ابن أبي هريرة: بطلت القسمة في المستحق. وهل تبطل في الباقي؟ فعلى قولين بناءً على تفريق الصفقة. وقال أبو إسحاق: بطلت القسمة في الكل؛ لأن المقصود من القسمة تمييز الحقوق، ولم يحصل ذلك؛ لأن المستحق صار شريكاً لكل واحد منهما. ولو قسمت التركة بين الورثة، ثم ظهر على الميت دين يحيط بالتركة- فهذا يبنى على أن الوارث إذا باع بعض التركة، وعلى الميت دين هل يصح البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن التركة كالمرهون في الدين، وبيع المرهون لا يصح. والثاني: يصح؛ كالمريض يصح بيعه مع تعلق حق الورثة بماله، وليس كالمرهون؛

لأن المالك أغلق على نفسه باب التصرف فيه لعقده، والوارث لم يعقد عقداً يمنع نفسه من التصرف. فإن قلنا: بيع الوارث صحيح، فالقسمة هاهنا صحيحة. فإن أدى الوارث الدين، وإلا نقضت القسمة، وبيعت التركة في الدين. وإن قلنا: بيع الوارث لا يصح، فإن جعلنا القسمة بيعاً فهي باطلة، وإن جعلناها إفرازاً للحق صحت القسمة؛ فإن لم يؤدوا الدين، نقضت القسمة، وبيعت في الدين. ولو ظهرت وصية بعد قسمة التركة؛ نظر: إن كانت الوصية مرسلة فكالدين، وإن كانت بعين من الأعيان فكالاستحقاق، وإن كانت بالثلث لا تنقض القسمة، وأخذ الموصي له من كل واحد ثلث ما خصه. ولو تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في الدار التي اقتسماها؛ فادعى كل واحد أن هذا البيت نصيبي ولم يكن بينة تحالفاً، ونقضت القسمة؛ كالمتبايعين إذا اختلفا، تحالفا، وفسخ البيع. وإن وجد أحدهما بما صار له عيناً، فله الفسخ، كما يفسخ البيع بالعيب. وإذا كانت دار في أيدي جماعة طلبوا الحاكم أن يقسمها بينهم- نظر: إن أقاموا بينة أنها ملكهم، عليه أن يقسمها بينهم. وإن لم يقيموا بينة، فهل له أن يقسمها؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقسهما إلا ببينة تشهد أنها ملكهم؛ لاحتمال أنها في أيديهم بعارية أو إجارة. فإذا قسمها بينهم، ثم جاء مالكها؛ فهم يدعون أنها ملكهم، ويقيمون البينة على أن فلاناً الحاكم قسمها بينهم؛ فيبطل به حق المدعي. والثاني: يقسمها بينهم؛ لأن اليد دليل ملكهم، ويكتب في الذكر؛ أنه قسمها بينهم بقولهم، ويشهد عليه؛ حتى إذا ظهر لها مالك تكون على حجته. ولو جاز ألا يقسم، وجب ألا تبقى في أيديهم؛ خوفاً من أن يأتي قاض بعده؛ فيرى إقراره في أيديهم حكماً لهم بها. ولا فرق عندنا بين العقارات وغيرها. وعند أبي حنيفة: لا يقسم العقار من غير بينة، ويقسم غير العقار؛ فنقيس أحدهما على اِلآخر. والله أعلم بالصواب. قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وهذا أمر على سبيل الإرشاد؛

حتى لو باع ولم يشهد، صح البيع؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- ابتاع من أعرابي فرساً ولم يشهد فجحد الأعرابي؛ فشهد خزيمة بن ثابت، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: بم تشهد ولم تحضر؟ فقال: نصدقك على خبر السماء؛ أفلا نصدقك على خبر الأرض. فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا الشهادتين. ولو كان الإشهاد واجباً، لم يتركه النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا يجب الإشهاد في شيء من العقود إلا في النكاح. ولو وكل وكيلاً بالبيع، وقال: لا تبع إلا بمحضر شاهدين؛ فباع بغير محضر شاهدين- لم يصح البيع؛ لمخالفة الموكل. ثم الشهادات على قسمين: على عقوبة، وعلى غير عقوبة. أما العقوبة: إن كان حد الزنا فلا تثبت إلا بأربعة من الرجال العدول؛ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

أما الإقرار بالزنا: هل يثبت بشهادة رجلين؟ فيه قولان: أحدهما: لا يثبت إلا بأربعة كنفس الزنا. والثاني: يثبت برجلين؛ لأنه شهادة على حركات اللسان؛ كسائر الأقارير. أما غير الزنا من الجنايات الموجبة للعقوبة: فلا يثبت إلا برجلين عدلين؛ سواء كانت العقوبة قتلاً أو قطعاً أو جلداً؛ وسواء كانت حقاً لله مثل قتل الردة، وقطع السرقة، وحد الشرب، أو حقاً للعباد مثل: قتل القصاص، وقطع القصاص، وحد القذف، وكذلك التعزير؛ وسواء كانت شهادتهم على نفس الجريمة، أو على الإقرار بها، ولا مدخل لشهادة النساء في العقوبات. أما غير العقوبات فقسمان: أحدهما: ما لا يكون المقصود منه المال. والثاني: ما يكون المقصود منه المال. أما ما لا يكون المقصود منه المال؛ فينظر: إن كان مما يطلع عليه الرجال غالباً؛ كالنكاح، والطلاق، والعتاق، والخلع، والإيلاء، والظهار والرجعة، وانقضاء العدة، والبلوغ، والموت، والكتابة، والولاء، والنسب، والإعسار والإسلام، والردة وجرح الشهود وتعديلهم، والإقرار بهذه الأشياء- فلا يثبت شيء منها إلا برجلين عدلين، وكذلك الوصاية، والوكالة، وإن كانت الوكالة في المال. والشركة، والقراض كالوكالة؛ لأنها تفويض التصرف إلى الغير كالوصية؛ ولأن من ادعى أنه وكيل فلان في استيفاء حقه، يحتاج إلى إثبات فعل الغير. وعند أبي حنيفة: يثبت النكاح، والطلاق، والعتاق- برجل وامرأتين. وإن كان ذلك مما يطلع عليه النساء غالباً؛ كالولادة، والرضاع، والاستهلال، والثيوبة، والبكارة، والحيض، والرتق، والقرن والعيوب التي تحت إزار النساء؛ من: برص وغيره- تثبت برجلين، وبرجل وامرأتين، وأربع نسوة ولا تثبت بشاهد ويمين. وفي الاستهلال قول آخر: أنه لا يثبت إلا [بشهادة برجلين. وعند أبي حنيفة: تثبت الولادة] بشهادة القابلة وحدها، إذا كان الحمل ظاهراً، أو الفراش قائماً، ولا يثبت الرضاع عنده إلا برجلين أو رجل وامرأتين؛ فنقيس على الولادة؛

ولأنه مما يطلع عليه النساء غالباً. والعيب الذي بوجه المرأة أو كفها لا بيثبت إلا برجلين، وإن كان ببدنها يثبت بأربع نسوة؛ لأن الوجه والكف ليسا بعورة منها. وإن كان العيب بوجه الأمة، أو بموضع من بدنها يبدو في المهنة- يثبت برجل وامرأتين وبشاهد ويمين؛ لأن المقصود منه المال، وإن كان على عورتها يثبت بأربع نسوة. وإن أصاب فرج المرأة جراحة في الحمام؛ فإن كانت موجبة للقصاص فلا تثبت إلا برجلين، وإن كانت موجبة للمال فتثبت برجل وامرأتين وبشاهد ويمين، ولا تثبت بأربع نسوة؛ لأن جنس الجراحة مما يطلع عليه الرجال غالباً. أما ما يكون المقصود منه المال؛ كالبيع، والإقالة، والهبة، والرهن والإجارة، والوصية، والحوالة، والضمان، والقرض، والصلح، والإبراء، والشفعة، والإقرار- فهذه الأشياء تثبت كلها برجل وامرأتين وبشاهد ويمين؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. وكذلك ضمان المتلفات، والغصب، وأروش الجنايات التي لا قود فيها؛ كجناية الأب على الابن، والحر على العبد، والمسلم على الذمي، وقتل الصبي والمجنون، وجناية الخطأ، والجائفة، والسرقة التي لا قطع فيها، والصداق في النكاح، وفي وطء الشبهة، واستحقاق السلب، وعجز المكاتب- تثبت كلها برجلين، وبرجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، وكذلك لا تثبت بمجرد النساء. ويثبت استيفاء الدين برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، ولا يثبت استيفاء القصاص والحدود والعفو عن القصاص إلا برجلين, ويثبت الخيار والأجل في الدين برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين؛ على الأصح. ولو ادعى رجل نكاح امرأة وأنكرت، فالقول قولها مع يمينها، ولا يثبت إلا برجلين. فإن اتفقا على النكاح، واختلفا في قدر [الصداق]، أو في صفته- يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. وكذلك إذا ادعت المرأة؛ أنها خالعها؛ [فأنكر]، فالقول قوله مع يمينه، ولا يثبت إلا برجلين. وإن اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر المال أو صفته- فيثبت برجلين، وبرجل

وامرأتين، وبشاهد ويمين. وكذلك لو ادعى العبد على المولى؛ أنه كاتبه أو دبره، أو الجارية وأنه استولدها- فلا يثبت إلا برجلين. فإن اتفقا على الكتابة، واختلفا في قدر المال، أو صفته- يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. ولو ادعى المكاتب أداء نجم من النجوم، يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. أي نجم كان. وقيل: لا يقبل على أداء آخر النجوم إلا عدلان؛ لأنه يتعلق به العتق، والأول أصح؛ لأنه شهادة على أداء المال، وإن ترتب عليه العتق. وكذلك لو اتفق الزوجان على الطلاق، أو أقر السيد بعتق العبد، واختلفا: فقال الزوج: طلقتك على ألف- فقالت: بل مجاناً، أو قال السيد: أعتقتك على ألف فقال: بل مجاناً- فالقول قول المرأة والعبد. فإن أقام الزوج أو السيد رجلاً وامرأتين، أو شاهداً وحلف معه- يثبت؛ لأن المقصود منه ثبوت المال. وكذلك لو مات سيد المدبر؛ فادعى الوارث أنه كان رجع عن التدبير- على قولنا: إن الرجوع جائز- وأنكر العبد- ففالقول قول العبد. ولو أقام الوارث رجلاً وامرأتين، أو شاهداً وحلف معه على الرجوع- يقبل. ولو ادعى على شخص أنه عبدي؛ وهو يقول: أنا حر، أو ادعى جارية في يد الغير أنها أم ولدي؛ وهو منكر؛ فأقام المدعي رجلاً وامرأتين، أو شاهداً وحلف معه- يثبت؛ لأنه يثبت لنفسه ملك الرقبة وهو مال، وكل ما يثبت بشاهد ويمين يثبت برجل وامرأتين، وقد يثبت برجل وامرأتين ما لا يثبت بشاهد ويمين، وهو كل ما يثبت بشهادة النساء على الانفراد، ولا يثبت بشهادة الخنثى المشكل إلا ما يثبت بشهادة النساء، ويقوم اثنان منهم مقام رجل واحد. ولو ادعى مالاً وأقام امرأتين، وحلف معهما، لا يثبت. وعند مالك: يثبت؛ لأن المرأتين بمنزلة رجل واحد. قلنا: يمين المدعي إنما يثبت بها الحكم، إذا كان معها شهادة رجل كشهادة

المرأتين، إنما تكون حجة إذا كان معها شهادة رجل. ولو شهد أربع نسوة على المال، لا يثبت، ولا تجعل المرأتان كالرجل كذلك هاهنا. فصل في أن قضاء القاضي لا ينفذ إلا في الظاهر. روي عن أم سلمة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع منه؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا [يأخذه]، إنما أقطع له قطعة من النار".

قضاء القاضي لا ينفذ إلا ظاهراً؛ حتى لو شهد شاهدان على إنسان بشيء زوراً، فقضى القاضي به، ولم يعلم- لا يحل للمشهود له أخذ ما قضى له. ولو شهدا بالطلاق كذباً، فقضى القاضي، لا يحرم على المشهود عليه وطؤها. وعند أبي حنيفة: ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً في العقود والفسوخ؛ حتى قال: لو شهد شاهدان بالزور؛ أن فلاناً طلق زوجته ثلاثاً، ونكحها هذا، فقضى به القاضي- قال: يحرم على الأول، ويحل للثاني وطؤها؛ وبالاتفاق: لا ينفذ قضاؤه ففي الأملاك المطلقة إلا ظاهراً؛ والحديث حجة عليه. فإن قيل: إذا كان الشهود صادقين، [أليس ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؟ قلنا: قضاؤه لا ينفذ إلا ظاهراً؛ غير أن الشهود إذا كانوا صادقين] وقضاء القاضي وافق ما عند الله تعالى- فهذا بخلاف اللعان؛ حيث تقع به الفرقة ظاهراً وباطناً، وإن كان الزوج كاذباً؛ لأن اللعان سب الفرقة؛ كالطلاق. وكذلك إذا اختلف المتبايعان تحالفا، وفسخ العقد [و] يرتفع العقد ظاهراً وباطناً؛ لأنه سبب الفسخ؛ كالرد بالعيب. أما في المجتهدات؛ مثل: أن قضى حنفي بشفعة الجار، أو بانقطاع الرجعة في كنايات الطلاق، أو بوقوع الطلاق بتعليق سبق النكاح- فالصحيح أنه ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؛ لأن نفوذه لاختلاف العلماء، ولا يتصور ارتفاعه، وظهور بطلانه يقيناً في الدنيا. وقال أبو إسحاق الإسفراييني: لا ينفذ قضاؤه في المجتهدات إلا ظاهراً. وقيل: إذا كان حكم الحاكم بخلاف رأي المحكوم له؛ بأن حكم له بالشفعة بسبب الجوار؛ وهو يعتقد خلافه- فيجوز ذلك. قال: ولا يحل له أخذه. والصحيح: أنه يحل له أخذه بحكم الحاكم؛ سواء قلنا: وافق رأيه أو خالفه، إلا أن يتبين بما لا يحتمل أنه حكم بخلاف الحق؛ فحينئذ يرد. وهل

تقبل شهادة الشاهد فيما لا يعتقد؛ كمن يشهد بشفعة الجوار؛ وهو لا يعتقده، ونحو ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه لا يعتقد؛ كالقاضي لا يقضي بخلاف عقيدته. والثاني: يقبل؛ لأنه مجتهد فيه، والاجتهاد إلى القاضي لا إلى الشاهد. والله أعلم. باب التحفظ في الشهادة قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال جل ذكره: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بعد العلم [بما شهد] به؛ ثم هو على ثلاثة أقسام: منها: ما يشترط فيه الرؤية؛ وهو الشهادة على فعل الزنا، والسرقة، وإتلاف المال، والغصب، والرضاع، والولادة؛ فلا يجوز أن يشهد عليها ما لم يشاهد بعينه، ومنها: ما يشترطفيه السماع والمشاهدة؛ كالبيع، وعقد النكاح، وسائر العقود، والطلاق، والأقارير، فلا يجوز أن يشهد عليها ما لم يشاهد القائل، ويسمع قوله؛ لأن العلم فيه لا يحصل إلا بهما. ومنها: ما يكتفي فيه بالسماع والاستفاضة؛ وهي ثلاثة: النسب، والموت، والملك. أما النسب: إذا سمع رجلاً ينتسب إلى فلان مرة، واستفاض في الناس؛ أن فلاناً ابن فلان، أو من قبيلة فلان، ولا يدافعه أحد- جاز أن يشهد أنه ابن فلان، أو من قبيلة فلان، وهل يجوز أن يشهد على إثبات النسب من المرأة بالسماع؛ أنه ابن فلانة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما يجوز من الرجل. والثاني: لا يجوز؛ لأن إقامة البينة على أنها ولدته ممكن ولا يتصور من الرجل أنه مخلوق من مائه. وكذلك يجوز الشهادة على إثبات نسب المرأة بالسماع بعد أن أثبتها وعرفها، وإن سمع رجلاً يقر بأن هذا ابني أو أبي؛ فإن صدقه المقر له، جاز له أن يشهد به؛ لأنه شهادة على إقراره.

وإن كذبه، لم يجز أن يشهد به؛ لأن النسب لا يثبت مع إنكاره. وإن سكت، فله أن يشهد به؛ لأن السكوت رضا في النسب؛ بدليل أنه إذا بشر بمولود؛ فسكت عن نفيه، لحقه النسب. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يشهد مع السكوت؛ حتى يتكرر الإقرار من المقر. ويثبت الموت بالاستفاضلة، وبظاهر الأخبار إذا استفاض أن فلاناً قد مات، جاز أن يشهد به. [واختلفوا في عدد من يثبت بقولهم: منهم من قال: إذا سمع من عدلين]، جاز أن يشهد به؛ كما يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة عدلين ومنهم من قال: لا يجوز أن يشهد؛ حتى يسمع من عدد يقع العلم بخبرهم؛ بحيث لا يجوز عليهم التواطؤ؛ لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد لا يقع به العلم. وعند أبي حنيفة: يجوز أن يشهد على الموت بقول عدل واحد. أما الشهادة على الملك: إذا رأى داراً أو عبداً أو عيناً في يد إنسان مدة طويلة، يتصرف فيها تصرف الملاك، لا ينازعه فيها أحد- جاز أن يشهد له بالملك مطلقاً؛ لأن التصرف مع امتداد المدة دليل الملك. ومن أصحابنا من قال؛ وهو قول أبي إسحاق: يجوز أن يشهد له باليد، ولا [يجوز أن] يشهد له بالملك؛ لأنه قد يكون في يده بإجارة، أو يكون وكيلاً للغير، يتصرف فيه باليد، والتصرف لا يدل على الملك. والأول أصح. فإذا قبلنا الشهادة، فلا يقول الشاهد في شهادته: إني رأيته يتصرف فيه تصرف الملاك من غير منازع، وإذا شهد هكذا لا يسمع، بل يده وتصرفه تطلق، إن شهد له بالملك مطلقاً. ولو رآه في يده مدة طويلة؛ لكنه لا يتصرف فيه، أو رآه في يده زماناً [يسيراً، يتصرف فيه]- يجوز له أن يشهد له باليد، ولا يجوز أن يشهد بالملك. وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه، ولكن الناس لا ينسبونه إليه- فيجوز له أن يشهد له باليد. وهل يجوز له أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان.

وليس لطول مدة التصرف حد بل هو إلى العادة. وقيل: أقله سنة. أما الزوجية والعتق والولاء والوقف، هل يجوز له أن يشهد عليها بالاستفاضة، وبظاهر [الأحوال] فيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ كالبيع. وقال الإصطخري: يجوز؛ لأن هذه الأمور للتأبيد؛ فبعد طول المدة، يتعذر إثباتها بالشهدة إلا بطريق التسامع. وكل ما يثبت بالسماع والاستفاضة يقبل فيه شهادة الأعمى؛ لأنه كالبصير في السماع، مثل: أن كان الرجل معروفاً باسمه ونسبه الأدنى، لا يشاركه فيه غيره. واختلفوا في نسبه الأعلى؛ بأن عرفوا أنه فلان ابن فلان، ووقع النزاع في كونه هاشمياً، تقبل [فيه] شهادة الأعمى له؛ أنه هاشمي، أو دار معروفة يشهد أنها لفلان، وفلان معروف لا يشتبه، فيقبل. أما ما يشترط فيه المعاينة، أو يحتاج في أداء الشهادة إلى الإشارة إليه- فلا يثبت بشهادة الأعمى إلا في موضع واحد؛ وهو أن يكون الأعمى في مكان؛ فيضع رجل فمه على أذنه، ويد الأعمى على رأس الرجل؛ بحيث يتحقق أنه يسمع منه؛ فيقر لرجل معروف بشيء، أو يقر بطلاق أو عتاق، وتعلق به الأعمى؛ حتى حضر الحاكم؛ فيشهد عليه [بالسمع]. أما إذا لم يضع فمه على أذنه، واحتمل أن الأعمى يسمع من غيره- فلا تقبل شهادته عليه. ولو تحمل شهادة وهو بصير، ثم عمي فأدى؛ نظر: إن تحمل على رجل معروف لرجل معروف بالاسم والنسب؛ بحيث لو كان بصيراً لم يحتج إلى الإشارة إليه، أو كان يد المقر في يده حين أقر فعمي، ويده في يده فشهد عليه- يقبل، وإن لم يكن بهذه الصفة لا يقبل. وعند أبي حنيفة: شهادة الأعمى لا تقبل بحال. قلنا: اتفقنا على أن شهادة الأعمى والبصير على الميت، والغائب مسموعة، مع أنه لا يشاهدهما؛ فكذلك الأعمى.

وعند مالك: شهادة الأعمى تقبل على الإطلاق؛ لأنه يميز بالصوت؛ كما تقبل منه رواية الحديث، وله أن يستمتع بزوجته؛ لأنه يميز بالصوت. قلنا: الشهادة تعتمد العلم، ولا يحصل ذلك بالسماع؛ لأن الصوت يشبه الصوت، ورواية الحديث، والاستمتاع بالزوجة تجوز بالظن؛ وهو خبر الواحد، وأيضاً جوزنا له الاستمتاع بزوجته؛ للضرورة، ولا ضرورة له في الشهادة؛ كالقضاء لا يجوز من الأعمى. ولو تحمل الشهادة على امرأة في إقرار أو بيع، فلا يصح؛ حتى يرى وجهها ويكتب حليتها؛ حتى يعرفها إذا احتاج إليه؛ فلو لم تكشف وجهها وعرفها رجلان، لا يصح التحمل. ولو قال الرجلان: نحن نشهد أن هذه فلانة بنت فلان تقر لفلان بكذا- فالمعروف كشاهد الأصل، والسامع كشاهد الفرع. وكان الشيخ القفال يكتب في مثل هذا: ثبت عندي بشهادة فلان وفلان إقرار فلانة بكذا، ثم لا يقبل شهادته بمحضر المعرفين؛ كما لا تقبل شهادة شهود الفرع بمحضر شهود الأصل. وكل علم تطلق له الشهادة تطلق له اليمين في الدعوى عليه. ويجوز أن يحلف على ما لا يجوز أن يشهد على مثله؛ وذلك أن يجد في تذكرة أبيه: أن لي على فلان كذا؛ فادعى عليه، وأنكر المدعى عليه، ونكل عن اليمين- هل له أن يحلف؟ قال الشيخ القفال رحمه الله: إن المدعى يعتمد على كتبة أبيه؛ بحيث [أنه] لو وجد في تذكرته: أن لفلان على كذا، لا يجد من نفسه أن يحلف على نفيه، ويؤدي ذلك المال من تركته؛ فله أن يحلف في رد اليمين إليه إذا كان هو المدعى. وبمثله لو وجد في تذكرة أبيه: أن لفلان على فلان كذا، لا يجوز أن يشهد عليه؛ سواء صدق أباه أو لم يصدقه. ولا يقبل شهادة الأخرس بالإشارة؛ لأن إشارته محتملة، والشهادة أمرها على الاحتياط. وقال ابن سريج: تقبل [منه]، كما يصح منه سائر التصرفات بالإشارة؛ والأول

أصح، وصح منه سائر العقود لأجل الضرورة؛ فإنه لا يحصل إلا من جهته، ولا ضرورة إلى شهادته؛ لأنها تصح من غيره؛ والله أعلم بالصواب. باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة قال الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. من تحمل شهادة؛ فدعي لأدائها- وهو عدل، ومعه شاهد آخر- يثبت بها الحكم- يجب عليه الإجابة، فإن أبى عصى الله تعالى. وإن لم يكن إلا شاهد واحد هل تجب عليه الإجابة؟ نظر: إن كان شيئاً يثبت بشاهد ويمين تجب الإجابة، فإن أبى عصى الله تعالى، وإن كان لا يثبت فلا تجب الإجابة. وإن كان سواهما شهود كثير، فهو فرض على الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين؛ وإذا دعي واحد منهم، فهل عليه الإجابة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ كما لو دعي لتحمل الشهادة وثم غيره، لا يتعين عليه الإجابة. والثاني- وهو الأصح-: يجب؛ بخلاف التحمل؛ لأن ثم يدعي لتحمل أمانة، فلا يلزمه، وهاهنا يدعي لأداء أمانة تحملها فلزمه الإجابة. وإن كان فاسقاً نظر: إن كان فسقاً مقطوعاً به، لا يجوز أن يشهد، وإن شهد عصى الله تعالى، وإن كان فسقه خفياً؛ لأنه يلبس الأمر على القاضي، وإن كان مجتهداً فيه؛ كشرب النبيذ يجب أن يشهد؛ وإن كان القاضي ممن يرى تحريم النبيذ، وقد رد شهادة مثله؛ لأنه ربما يتغير اجتهاده إلى القبول. ولا يجوز أخذ الأجرة على أداء [الشهدة؛ وإن كان القاضي معه في البلد، لا يجوز أخذ الأجرة على] حضور مجلس القضاء. وإن لم يكن القاضي معه في البلد؛ نظر: إن كان على مسافة القصر، لا يلزمه الحضور، ولكن يشهد على شهادته. وإن كان على مسافة لو خرج بكرة يمكنه أن يأتي أهله ليلاً- يلزمه الإجابة؛ لأنه لا تقبل فيه الشهادة على الشهادة، ويجوز له طلب المركوب، ونفقة الطريق.

فإن دفع إليه شيئاً وقال: اصرفه إلى نفقة الطريق، أو اكتريه مركوباً- هل له صرفه إلى شيء آخر، أو إمساكه والمشي راجلاً؟ فيه وجهان، كما لو دفع إلى الفقير شيئاً، وقال: اشتر به لنفسك ثوباً، هل له صرفه إلى شيء آخر؟ فيه وجهان: وإن كان على مسافة لو خرج بكرة لا يمكنه أن يأتي أهله ليلاً- هل يلزمه الإجابة؟ فيه وجهان: فإن كان الشاهد مريضاً، لا يمكنه حضور مجلس الحكم إلا بمشقة- لا يلزمه الحضور، بل يشهد على شهادته، أو يبعث القاضي إليه من يسمع شهادته؛ لقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]. وعلى المرأة حضور مجلس الحكم؛ لأداء الشهادة؛ إن لم تكن مخدرة؛ فإن كانت مخدرة؛ وهي التي لا تخرج إلى السوق لحوائجها، ولا إلى الولائم، ولا تخرج إلا إلى الحمام بالنهار- لا يجب عليها الحضور، بل يشهد على شهادتها. قال الشيخ القفال: لا معنى للتخدير، فعليها أن تخرج وتشهد. أما إذا طلب من الرجل تحمل الشهادة؛ نظر: إن كان هناك غيره لا يلزمه الإجابة، وإن لم يكن فعلى وجهين: أحدهما: يجب أن يتحمل الشهادة؛ لقوله تعالى: {وَلا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]. والثاني: لا يجب؛ لأن أصل الشهادة غير واجبة، والمراد من الآية الأداء. فإن قلنا: لا يجب، إنما يجب إذا حضر من عليه الحق ليشهده، فإن دعاه إلى نفسه لا يلزمه الإجابة، إلا أن يكون مريضاً، أو امرأة مخدرة: إن قلنا: التخدير أصل، فيجب أن يحضرها. فإن قلنا: يجب وثم غيره واحد. فإن كان الذي يشهد عليه مالاً لا تجب الإجابة؛ لأنه يثبت بشاهد ويمين، وفي غير المال يجب.

وهل يجب كِتْبَةُ الذكر إذا دعي إليه الكاتب؟ فكالتحمل إن كان ثم غيره لا يجب، وإلا فوجهان. فإن قلنا: لا يجب، فإذا كتب له طلب الأجرة؛ وإن قلنا: يجب، فهل له طلب الأجرة؟ فيه وجهان؛ كما لو أسلم رجل، ولم يكن من يعلمه الفاتحة إلا واحد- يجب عليه تعليمه وهل له طلب الأجرة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز؛ لأنه وإن افترض عليه، فإنما وجب عليه لفقد الغير، لا أنه فرض على العين؛ كما يجب عليه بذل الطعام للمضطر، وله طلب الثمن. أما تلقين الكافر كلمة الشهادة ففرض على العين؛ فلا يجوز أخذ الأجرة عليه. فصل في شهادة الحسبة روي عن زيد بن خالد الجهني؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؛ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". وروي عن عمران بن حصين؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها"، وهذا ذكره على سبيل الذم لهم. ووجه الجمع بين الحديثين: أن الأول فيما تقبل فيه شهادة الحسبة، والثاني فيما لا تقبل فيه شهادة الحسبة. وجملته: أن ما كان من حقوق الله- تعالى- مثل: حد الزنا، والشرب، وقطع [السرقة]، وحد قاطع الطريق، والزكاة، والكفارات، والإسلام، والطلاق، والعتاق، والاستيلاد- تقبل فيها شهادة الحسبة؛ غير أن ما كان من حدود الله تعالى يستحب ألا يشهد به؛ لأنه مندوب إلى ستره، وكذلك النسب، والبلوغ، وبقاء العدة، وانقضاؤها- تقبل فيه شهادة الحسبة.

وما كان من حقوق العباد؛ كالقصاص، وحد القذف، والبيوع، والأقارير- فلا تقبل فيها شهادة الحسبة؛ حتى يدعيه صاحبه، ويسأله الشهادة، فحينئذ يشهد. فإن لم يكن لصاحبه به علم أخبره؛ حتى يطلب، ثم يشهد هو بمسألته. ولا تقبل على التدبير وتعليق العتق؛ لأنه لا يثبت العتق في الحال؛ وكان شيخي الإمام- رحمه الله- يقول: تقبل؛ كما في الاستيلاد، ولا تقبل على الخلع والكتابة.

وإذا أدى المكاتب آخر النجوم، أو وجدت الصفة في التعليق- فيجوز أن يشهد حسبة على العتق. أما على أداء آخر النجوم فلا، وتقبل على الوصية للفقراء وعلى الوقف على عامة المسلمين، وعلى القناطر والرباطات. وهل تقبل على الوقف على جماعة متعينين؟ فيه وجهان: أحدهما: تقبل؛ كما لو وقف على غير المتعينين. والثاني: لا تقبل؛ لأن أرباب الوقف يمكنهم القيام بالدعوى، وإقامة البينة، وهل تسمع دعوى الحسبة فيما تقبل فيه شهادة الحسبة؛ مثل: أن ادعى على رجل أنك طلقت زوجتك، أو أعتقت عبدك، أو وقفت دارك؟ قيل: لا تسمع؛ لأن ثبوته بالبينة، والشهود [يمكنهم] أن يشهدوا حسبة؛ فلا ضرورة إلى الدعوى. وكان شيخي رحمه الله يقول: تسمع؛ لأنه يطلب بالدعوى إقرار المدعي عليه، وربما لا يكون له عليه بينة. وعند أبي حنيفة: لا تقبل شهادة الحسبة على الطلاق، وعتق الأمة؛ لأنه يتضمن تحريم الفرج، ولا تقبل على عتق العبيد. قلنا: تحريم الفرج ليس فيه إلا أنه لا يجري فيه البدل، فالرق كذلك، بل هذا أولى؛ لأن المرأة إذا أقرت بالنكاح يقبل، ومن عرف بالحرية إذا أقر على نفسه بالرق لا يقبل؛ فدل أن حكم الرق أعظم. وكل موضع قلنا: لا تقبل فيه شهادة الحسبة؛ فلو شهد قبل الاستشهاد هل يخرج عن العدالة؟ فيه وجهان؛ والله أعلم. باب: الأقضية واليمين مع الشاهد روي عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو: في الأموال.

من ادعى مالاً على إنسان، وأقام عليه شاهداً، وحلف معه- يقضي له به. وكذلك كل ما كان المقصود منه المال من: البيع، والهبة، وإتلاف المال، والجنايات الموجبة للمال. وعند أبي حنيفة: لا يقضي باليمين والشاهد؛ والحديث حجة عليه؛ وذلك لأن اليمين يكون حجة لمن يقوى جانبه. فإذا لم يكن للمدعي شاهداً، يقوى جانب المدعى

عليه؛ من حيث إن الأصل براءة ذمته. فإذا أقام المدعي شاهداً، يقوى جانبه؛ فقبلت يمينه، وإنما يحلف بعد تعديل الشاهد، فإن حلف قبله لم يحسب؛ لأن جانبه يتقوى بالشاهد؛ وينبغي أن يورد شهادة الشاهد في يمينه؛ فيقول: والله إن شاهدي لصادق فيما شهد، وإني مستحق لهذا المال.

ولا تثبت عدالة الشاهد بقوله: وإن شاهدي لصادق، بل هو لتأكيد اليمين. ثم القضاء بماذا يقع؟ فيه وجهان: أصحهما: يكون بهما جميعاً؛ بدليل أنه لا يقضي بأحدهما؛ كما لو أقام شاهدين، يكون القضاء بهما جميعاً. والثاني: يكون باليمين؛ لأن الشاهد الواحد لا يكون حجة، واليمين نفسها تكون حجة؛ فإن المدعى عليه يسقط دعوى المدعي عن نفسه بمجرد اليمين. وفائدته: تتبين في ما لو رجع الشاهد بعد الحكم، وقلنا: يجب الغرم على شهود المال إذا رجعوا- فهل يجب الغرم على الشاهد؟ إن قلنا: يقع القضاء بهما، يجب على الشاهد نصف الغرم، وإن قلنا: يقع باليمين، فلا غرم عليه. ولو فسق الشاهد بعد القضاء، لا ينتقض القضاء؛ وإن فسق قبل القضاء، صار كأنه لم يقم الشاهد؛ فيحلف المدعى عليه؛ فإن نكل، حلف المدعي، ولا يحسب اليمين الأولى. ولو أقام المدعي شاهداً، ولم يحلف معه، حلف المدعى عليه، وسقط دعوى المدعي فلو نكل المدعى عليه، هل للمدعي أن يحلف يمين الرد؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه أبطل حقه بالنكول الأول. والثاني- وهو الأصح-: يحلف؛ لأن هذه اليمين غير تلك اليمين التي نكل عنها؛ بدليل أن بهذه اليمين يثبت الطلاق، والعتاق، والعقوبات؛ وهي يمين الرد؛ فلا يثبت شيء منها باليمين مع الشاهد. وكذلك لو ادعى على رجل مالاً، فأنكر المدعى عليه، ونكل عن اليمين، ولم يحلف المدعي يمين الرد، ثم أقام شاهدين- يقبل. ولو أقام شاهداً، وأراد أن يحلف معه، هل له ذلك أم لا؟ فيه قولان. المنصوص، أنه يحلف. فصل في الدعوى إذا حضر الغائب أو أفاق المجنون أو بلغ الصبي إذا مات رجل عن اثنين: واحد منهما حاضر، والآخر غائب، أو واحد منهما عاقل

بالغ، والآخر صبي أو مجنون؛ فجاء الحاضر أو العاقل البالغ، وادعى على إنسان عيناً أنها كانت ملكاً لأبي؛ فصارت ميراثاً لي ولأخي، أو ادعى ديناًمن جهة الأب؛ أنه صار ميراثاً لنا، وأقام عليه شاهدين- أخذ حصته. وإذا حضر الغائب، أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون- أخذ حصته، ولا يحتاج إلى إعادة الدعوى والحجة؛ وهل ينتزع في الحال نصيب الغائب والصبي من يده؟ نظر: إن كان عيناً تنتزع، وإن كان ديناً ففيه وجهان: أحدهما: تؤخذ منه؛ كالعين. والثاني: لا تؤخذ؛ لأن نظر الغائب والصبي في تركه عليه؛ فإن الدين في الذمة لا يخشى عليه الهلاك وإذا صار عيناً يخشى عليه الهلاك. وهذا بخلاف ما لو ادعى لنفسه، ولأخيه الغائب مالاً، لا من جهة الميراث، بأن قال: أوصى لنا أبوك بكذا، أو أقرضنا كذا، أو اشترينا منك هذه العين، وأقام شاهدين- أخذ نصيبه، ولا ينزع من يده نصيب الغائب والصبي. وإذا حضر الغائب، أو بلغ الصبي، يحتاج إلى إعادة الدعوى والشهادة؛ لأن هذه الدعوى عن أشخاص، ولا تصح إقامة البينة عن الغير بغير إذنه، بخلاف الميراث؛ فإن الدعوى هناك على شخص واحد؛ وهو الميت. ولو ادعى الحاضر من جهة الميت عيناً أو ديناً [أو] ميراثاً له ولأخيه الغائب، أو الصبي أو المجنون، وأقام شاهداً واحداً، وحلف معه، وأخذ حصته- فلا تؤخذ حصة الآخرين؛ لأنهم لو كانوا حضوراً بالغين، ولم يحلفوا، لم يثبت لهم شيء؛ فإذا حضر الغائب، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، وحلف- أخذ حصته؛ فلا يحتاج إلى إعادة الشاهد؛ بخلاف ما لو كانت الدعوى من جهة الإرث، بل إذا ادعى أن أباه أوصى لنا بكذا، أو أقرضنيه أنا وأخي الغائب، وأقام شاهداً، وحلف معه، وأخذ حصته، فإن حضر الغائب وبلغ الصبي- يحتاج إلى إعادة الشاهد. وفي الميراث: إذا حلف الحاضر البالغ وأخذ حصته، ثم مات الغائب أو الصبي، حلف وارثه، وأخذ حصته؛ وإن كان وارثه هذا الذي حلف، لا يحسب يمينه الأول، حتى لو كان الوارثان حاضرين وأقاما شاهداً، وحلف أحدهما على جميع الحق ومات الآخر قبل

أن يحلف والحالف وارثه- لا يأخذ حصته إلا بيمين جديدة. فصل فيما إذا ادعى جارية مع ولد إذا ادعى على رجل جارية ي يده مع ولد؛ أن هذه الجارية أم ولدي؛ استولدتها في ملكي، وهذا ولدي منها، وأقام عليه شاهدين- يثبت ما يدعيه؛ ولو أقام عليه شاهداً وحلف معه، أو أقام رجلاً وامرأتين- يحكم له بالجارية؛ لأنها شهادة على إثبات المال، ثم تكون أم ولد له بإقراره. وهل يقضي له بالولد؟ فيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني-: يقضي، وحرية الولد تترتب على ملك الجارية؛ كما لو كان في يد رجل عبد؛ فجاء رجل وادعى أن هذا الذي يستعبده كان ملكي، وقد أعتقته وأنت تسترقه ظلماً، وأقام عليه شاهداً وحلف معه- ينتزع من يده، ويحكم بحريته بإقراره، وكان مولى له فيثبت بالشاهد واليمين رق ترتب عليه حرية، وكذلك هاهنا. والقول الثاني: لا يحكم له بالولد؛ بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك يثبت الحرية لمن يثبت عليه الرق؛ فأثبتنا الملك فيه؛ ثم رتبنا عليه الحرية. وهاهنا نثبت الرق في شخص، والحرية في شخص آخر، لا يمكن إثبات الملك فيه؛ وهو الولد؛ فلا تثبت الحرية إلا بحجتها؛ وهي عدلان؛ نظير الحرية هناك أمومة الولد، وهاهنا تثبت في الأم. فصل في ثبوت الوقف بالشهادة هل يثبت الوقف برجل وامرأتين أو بشاهد ويمين؟ يبنى على أن الملك في رقبته لمن يكون؟ إن قلنا: للموقوف عليه أو للواقف، يثبت: وإن قلنا: زال إلى الله تعالى، ففيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني، وبه قال أبو إسحاق-: لا يثبت؛ كالعتق. والثاني- وهو الأصح، والمنصوص عليه وبه قال ابن سريج-: يثبت؛ لأن الموقوف عليه يثبت لنفسه منفعة العين؛ كمن ادعى على حر أني استأجرتك شهراً يثبت برجل وامرأتين وبشاهد ويمين وليس كالعتق؛ لأنه لتكميل الأحكام، وإثبات الولايات. أما إذا ادعى على رجل؛ بأنك غصبت هذه الدار؛ وهي وقف وقفها أبونا علينا- فهذه دعوى الغصب تثبت بشاهد ويمين، وبرجل وامرأتين، كما لو ادعى أن هذه الجارية أم ولدي، وأنت غصبتها فيفرع على قول من يثبت الوقف بالشاهد واليمين؛ فيقول: لو مات رجل عن خمسة بنين؛ ادعى ثلاثة منهم؛ أن هذه الدار وقفها أبونا علينا دونكم، وأنكر

اثنان؛ أو مات عن ثلاثة بنين وأبوين؛ فادعى البنون؛ أن أبانا وقف هذه الدار علينا، وأقاموا شاهداً- نظر: إن حلفوا معه فالدار وقف عليهم، وإن نكلوا فهي ميراث يقضى منها ديون الميت ووصاياه، ويقسم الباقي بينهم على فرائض الله عز وجل؛ فما خص المدعين يكون وقفاً عليهم بإقرارهم. فإن حلف واحد، ونكل اثنان، فثلث الدار وقف على الحالف، والباقي ميراث يقضي منها ديون الميت ووصاياه، ثم ما بقي يقسم بين الناكلين والمنكرين من الورثة دون الحالف؛ فما خص الناكلين يكون وقفاً عليهما بإقرارهما. ثم المدعون للوقف لا يخلو: إما إن قالوا: وقفها أبونا علينا، ثم على أولادنا أو قالوا: وقفها علينا وعلى أولادنا- فإن قالوا: ثم على أولادنا، وأقاموا شاهداً، وحلفوا معه، وأخذوا ثم ماتوا- هل ينتقل إلى أولادهم من غير يمين؟ فيه وجهان؛ بناء على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف، أو من البطن الأول؟ وفيه قولان: أصحهما: من الواقف. فعلى هذا لا يأخذون إلا باليمين؛ كالبطن الأول. والثاني: يتلقون من البطن الأول، فعلى هذا يأخذونه بلا يمين. فإن قلنا: لا يأخذون إلا باليمين: فإن كان المدعون قالوا: وقف علينا، ثم على المساكين؛ فإن كان المساكين متعينين محصورين؛ بأن قال: مساكين هذه القرية، حلفوا وأخذوا. وإن لم يكونوا متعينين، فلا يمكن تحليفهم. ثم ما حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما: بطل الوقف، ويرد إلى المدعى عليهم؛ لأنه وقف يستحق باليمين، ولا وصول إلى يمين المساكين. والثاني: يصرف إليهم بلا يمين؛ لأن الوقف يثبت بيمين المدعين، فلا يمكن إبطاله. ولو مات واحد من الحالفين، يصرف نصيبه إلى إخوته. وإذا مات الثاني، يصرف إلى الثالث، ولا يصرف إلى ولد الولد؛ لأن شرط الانتقال إليهم انقراض البطن الأول، ولم يوجد [ذلك]. وهل يصرف إلى الحي من غير يمين؟ يبنى على أن البطن الثاني هل يحلفون؟ إن قلنا: لا يحلفون ويأخذون بلا يمين، فهاهنا أولى، وإلا فعلى وجهين: أحدهما: يحلفون؛ لأن الوقف ينتقل إليهم من غيرهم؛ كالبطن الثاني.

والثاني: لا يحلفون؛ بخلاف البطن الثاني؛ فإنهم لم يصيروا من أهل الوقف باليمين، وهؤلاء صاروا من أهل الوقف باليمين، واستحقوا على شرط الواقف. فأما إذا ادعى المدعون، وأقاموا شاهداً، ونكلوا عن اليمين وماتوا- فلا شيء لأولادهم من غير يمين؛ فهل لهم أن يحلفوا، ويأخذوه وقفاً؟ فيه قولان: إن قلنا: البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف حلفوا، وكان وقفاً عليهم؛ وهذا أصح. وإن قلنا: من البطن الأول فلا؛ لأن البطن الأول أبطلوا حقهم بالنكول. أما إذا حلف واحد من المدعين في البطن الأول، ونكل اثنان- فنصيب الحالف وهو الثالث وقفه عليه، والباقي متروك في يد المدعى عليه. فإن مات بعضهم؛ نظر: إن مات الناكلان كان نصيبهما الذي حكم بكونه وقفاً بإقرارهما للحالف؛ لأنه يثبت بإقرارهما؛ أنه وقف، وحلف عليه الحالف؛ فلا يمكن صرفه إلى ولد الولد؛ لأن انقراض البطن الألو لم يوجد وهل يحتاج الحالف إلى اليمين؟ فيه وجهان؛ كما ذكرنا. وإن مات الحالف- والناكلان حيان- فنصيب الحالف إلى من يصرف؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الناكلين؛ لأن الحالف أقر أن لا حق للبطن الثاني إلا بعد انقراض البطن الأول، ثم هل يأخذان بلا يمين؟ فيه وجهان: والوجه الثاني: يصرف إلى أقرب الناس بالمجلس، ما دام الناكلان حيين؛ لأن شرط الانتقال إلى البطن الثاني لم يوجد؛ وهو انقراض البطن الأول، والناكلان بطل حقهما بالنكول. والوجه الثالث- وهو الأصح، وإليه أشار الشافعي- رحمه الله- في "الأم": أنه يصرف إلى ولد الولد؛ لأن الناكلين أبطلا حقهما بالنكول؛ فصارا كالمعدومين، وعند عدم البطن الأول يصرف إلى البطن الثاني. وهل يحلفون؟ فيه قولان. وإن مات الحالف والناكلان جميعاً: إن قلنا: البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف، حلف أولاد الحالف وأولاد الناكلين جميعاً، وأخذوا جميع الوقف. وإن قلنا: البطن الثاني يتلقون من البطن الأول، فنصيب الحالف لولده بلا يمين ولا شيء لأولاده الناكلين، بل نصيبهما متروك في يد المدعى عليه.

وأما إذا قال المدعون: وقفها أبونا علينا وعلى أولادنا، وأقاموا شاهداً: فإن حلفوا أخذوا، وكان وقفاً عليهم؛ وإن حلف واحد منهم، أخذ نصيبه، والباقي متروك في يد المدعي. وإذا لم يحلفوا، كان للبطن الثاني أن يحلفوا قولاً واحداً؛ بخلاف المسألة الأولى إذا قالوا: ثم على أولادنا؛ لأنهم يتلقون الوقف من الواقف هاهنا؛ بلا واسطة بينهم وبين الواقف. فإذا حلف المدعون وأخذوا، ثم ولد لواحد من المدعين ولد- يوقف ربع غلة الوقف للمولود؛ حتى يبلغ فيحلف. فإذا بلغ وحلف أخذ، وإن لم يحلف بطل حقه وجعل كأنه لم يكن، وصرف ما وقف من الغلة إلى الحالفين. وإذا مات المولود بعد ما بلغ ونكل، لا يحلف وارثه؛ لأنه أبطل حقه بالنكول. وإن مات بعد البلوغ قبل النكول، أو مات قبل البلوغ، حلف وارثه، وأخذ ما وقف له من الغلة؛ أي وارث كان. ثم من بعد موته تقسم غلة الوقف بين الثلاثة الحالفين؛ كما قبل ولادته. فلو وقفنا ربع الغلة للمولود، فبلغ المولود خمس سنين، ثم مات وأخذ من الحالفين- فيوقف من وقت موته ثلث الغلة للمولود؛ لأنهم عادوا إلى ثلاثة. وإذا بلغ وحلف أخذ الثلث والربع، وإذا بلغ ونكل يسلم الربع الموقوف إلى الحيين، وإلى وارث الحالف الميت، ويصرف الثلث الذي وقف بعد موت الحالف إلى الحيين دون وارث الحالف. ولو ولد لواحد من الثلاثة ولد؛ فبلغ مجنوناً، فربع الغلة موقوف له؛ حتى يفيق فيحلف. ولو ولد للمجنون ولد، يوقف لذلك الولد الخمس، وللمجنون الخمس من يوم ولادته؛ لأنهم صاروا خمسة. فإذا أفاق المجنون، وبلغ ولده وحلفا، أخذ المجنون ربع الموقوف من يوم ولادته إلى ولادة ولده، والخمس من يوم ولادة ولده وأخذ الخمس ولده من يوم ولادته. ولو مات المجنون في حياة ولده، فيوقف الربع لولده من يوم موته، ويصرف الموقوف له إلى ورثته إذا حلفوا؛ كما لو مات المولود قبل البلوغ، كان الموقوف له لوارثه إذا حلف. قال المزني: إذا جاء لواحد منهم ولد؛ فبلغ ولم يحلف، وجب ألا يرد نصيبه إلى الحالفين، بل يوقف؛ حتى يحلف، أو يحلف وارثه بعده؛ فيأخذ، لأن الحالفين أقروا أن هذا المولود شريكهم في الوقف؛ فلا يجوز لهم أخذ نصيبه بامتناعه عن اليمين. قلنا: إنما صرفنا إليهم؛ لأن الحق يثبت لهم بيمينهم، والمولود دخل عليهم على

سبيل التعويل؛ كمن مات على ألف درهم، وجاء ثلاثة نفر ادعى كل واحد عليه ألفاً، وأقاموا شاهداً. فإن حلفوا معه كان الألف بينهم، وإن حلف واحد منهم كان الألف له، وإن حلف اثنان كان لهما. والله أعلم بالصواب. باب موضع اليمين قال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 1.6]. قيل في التفسير: بعد صلاة العصر. الأيمان تغلظ بثلاثة أشياء: باللفظ، والزمان، والمكان. أما اللفظ: فقد يكون بتعديد الأيمان؛ وهو مختص بالقسامة واللعان؛ وذلك واجب لا يجوز تركه. وقد يكون بذكر زيادة الصفات؛ مثل: أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. والتغليظ بالمكان، هو أنه إن كان بـ"مكة"، يحلف بين الركن والمقام، وإن كان بـ"المدينة" فتحت منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وإن كان في غيرها من البلاد، ففي المسجد الجامع تحت المنبر وهل يصعد المنبر؟ فيه قولان؛ كما ذكرنا في "اللعان". والتغليظ بالزمان: هو أن يحلف بعد العصر أي يوم كان، والأولى أن يكون يوم الجمعة. والأيمان تغلظ بهذه الأشياء فيما عظم خطره من دعوى دم، أو نكاح، أو رجعة، أو طلاق، أو عتاق، أو لعان، أو إيلاء، أو حد، وفي كل ما ليس بمال، ولا المقصود منه المال. فإن كان في مال؛ نظر: إن كان يبلغ نصاباً عشرين ديناراً ذهباً خالصاً، أو مائتي درهم نقرة خالصة- فتغلظ، وتغلظ في الجناية إذا كانت موجبة للقود، وإن صغرت الجناية. وتغلظ في جناية الخطأ إذا كان أرشها نصاباً، فإن كان أقل من نصاب فلا تغلظ. وإذا كان المال نصاباً، وأقام المدعي شاهداً، وأراد أن يحلف معه تغلظ اليمين. وإذا ادعى العبد على سيده عتقاً أو كتابة، وأنكر السيد- تغلظ اليمين على السيد إن

كانت قيمته نصاباً، وإن كان أقل من نصاب فلا تغلظ، وإن نكل السيد عن اليمين تغلظ اليمين على العبد وإن قلت قيمته؛ لأنه يثبت العتق. ويغلظ في النسب، والولاء، والوصاية. وكل ما لا يثبت بشاهد ويمين لا يغلظ، إلا أن يكون نصاباً، وإلا فيلظ، كالعتق. أما الوقف في جانب المدعي؛ [إن قلنا: يثبت بشاهد ويمين] لا يغلظ، إلا أن تكون قيمته نصاباً؛ لما روي عن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه رأى قوماً يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا. قال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا؛ قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. والتغليظ باللفظ مستحب؛ حتى لو اقتصر على قوله: بالله، جاز. والتغليظ بالمكان والزمان واجب، أو مستحب؟ فيه قولان: أحدهما: مستحب؛ كالتغليظ باللفظ بذكر الصفات. والثاني: واجب؛ حتى لو ترك لا يحسب، ويعاد؛ بخلاف اللفظ؛ لأن التغليظ باللفظ تكرير ذكر الصفات؛ وكل ذلك يندرج تحت قوله: والله؛ بخلاف المكان والزمان. فعلى هذا: لو رضي الخصم بترك التغليظ، لم يجز للحاكم تركه؛ لأنه حق الله تعالى. ولا فرق في التغليظ بين أن يكون الحالف رجلاً أو امرأة أو عبداً، ويقرأ على الحالف: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] الآية. ويحلف الذمي والمستأمن حيث يعظمه من بيعة أو كنيسة؛ فيقول لليهودي: بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، ويحلف المجوسي: بالله الذي خلق النار والنور. ولا يحلف في بيت النار؛ لأنه لم يكن له أصل في شرع ما. وقيل: نحلفهم فيه؛ لأنهم يعظمونه؛ فيكون أردع لهم، ولا نحلفهم بما لا يعرف في الإسلام؛ كالصليب ونحوه. وإن كان وثنياً، لا يحلف بالصنم، بل نحلفه بالله؛ ولو لم يزد في التحليف على قوله: بالله، جاز.

وإذا توجه الحكم على اليهودي يوم السبت، يكسر عليه سبته، ويحضر مجلس الحكم، ويحضر المسلم الحكم يوم الجمعة قبل أن يصعد الخطيب المنبر، وبعده لا يحضر؛ حتى يفرغ من الصلاة. ولو رأى الحاكم التغليظ باللفظ فيما دون النصاب من المال؛ فإن رأى الحالف مجترئاً، جاز ولا تحسب اليمين قبل تحليف الحاكم. روي أن ركانة طلق امرأته ألبتة. فقال: والله، ما أردت إلا واحدة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال: والله ما أردت إلا واحدة فأعاد اليمين عليه بعد ما كان حلف؛ لأن [اليمين الأول كانت قبل الاستحلاف. ولو حلفه الحاكم فقال: قل: بالله، فقال: بالرحمن- لم يحسب؛ وكان نكولاً. ولو قال: قل بالله فقال: والله، أو تالله، أو قال: قل: بالله الذي لا إله إلا هو، فقال: بالله ولم يزد عليه، أو قال: قل: بالله الذي لا إله إلا هو، فقال: بالله الرحمن الرحيم- هل يكون نكولاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه أتى بأصل اليمين بعد التحليف. والثاني: يكون نكولاً؛ لأنه لم يأت به على الوجه الذي حلفه الحاكم؛ فصار كما لو قال: قل بالله فقال: بالرحمن. ووضع المصحف في حجر الحالف عند التحليف استحسنه الشافعي؛ تغليظاً له. ولو أراد الحاكم التغليظ به؛ فامتنع، هل يكون نكولاً؟ فيه وجهان، كما لو امتنع من التغليظ باللفظ. ولو حلفه الحاكم، فاستثنى نظر: إن استثنى بقلبه، لا يعمل الاستثناء: لا ظاهراً ولا باطناً؛ فكان يمينه يميناً؛ لأن الاعتبار بنية الحاكم. وإن استثنى بلسانه، أو وصل به شرطاً، لم ينعقد يمينه. وإن سمعه الحاكم عزره، وأعاد عليه اليمين. وإن وصله بكلام لم يفهمه الحاكم، أو رآه يحرك لسانه، منعه عنه، وأعاد عليه اليمين من أولها. فإن قال: أذكر الله، فيقول: ليس هذا موضعه. فلو كان الحالف أخرس؛ لا تفهم إشارته، يوقف إلى أن يفهم. فإن قال المدعي: أنا

أحلف، لم يكن له ذلك؛ لأن يمينه تتعلق بنكول المدعى عليه، ولم يوجد نكوله. وإن كان المدعى عليه حلف بالطلاق ألا يحلف يميناً مغلظة: فإن كان التغليظ مستحقاً، يجب عليه أن يحلف؛ وإن حنث في يمينه بالطلاق، فإن امتنع، كان ناكلاً، ورد اليمين على خصمه. وإن كان التغليظ غير مستحق، لم يغلظ عليه، فإن امتنع من التغليظ، لا يجعل ناكلاً. فصل في الحلف على البت على نفي العلم من حلف على فعل نفسه يحلف على البت؛ نفياً كان أو إثباتاً؛ لأن علمه يحيط بحاله؛ فعل أو لم يفعل. وإن حلف على فعل الغير: فإن كان في إثبا حق حلف على البت؛ لأن له طريقاً إلى العلم بما فعل غيره. وإن كان على نفي، حلف على نفي العلم؛ لأنه لا طريق له إلى القطع فيه. بيانه: إذا ادعى رد وديعة، يحلف على البت؛ لقد رددته. ولو ادعى ديناً على إنسان؛ فأنكر حلف على البت؛ أنه لا يلزمه. ولو قال المدعى عليه: قبضته، أو أبرأتني، يحلف المدعي على البت أنه لم يقبضه ولم يبرئه. ولو ادعى على ميت ديناً فقال: لي في الذمة أبيك ألف درهم، لا يسمع، حتى يقول: وأنت تعلم، والتركة في يدك يلزمك أداؤها منها؛ فإذا أنكر الوارث، حلف على نفي العلم؛ فيقول: لا أعلم أن لك في ذمة أبي كذا فإن نكل، حلف المدعي على البت. ولو قال الوارث: إنك قد أبرأت أبي، أو إن أبي قد قضاه- حلف المدعي على البت أنه لم يبرئه ولم يقضه. ولو ادعى الوارث أن لأبي عليك ألف درهم؛ فقال: إن أباك أبرأني أو قبضه، حلف المدعي على نفي العلم؛ فيقول: لا أعلم أن أبي أبرأه، أو قبضه. وكذلك لو ادعى أن الدار التي في يدك غصبها أبوك مني، أو غصبها بائعك مني

وباعك- لا تسمع الدعوى ما لم يقل: وأنت تعلم، ثم يحلف المدعى عليه؛ أنه لا يعلم أن أباه أو بائعه غصبها. فكل موضع جوزنا له أن يحلف على العلم؛ فلو حلف على البت، جاز، والدعوى أبداً تكون على البت؛ وهذا مطرد إلا في مسألة؛ وهي أنه إذا اعى على رجل أن عبدك جنى، وأنكر السيد- ففيه وجهان: أحدهما: يحلف على نفي العلم لا أعلم أن عبدي جنى عليك؛ لأنه يمين على نفي فعل الغير. والثاني- وهو الأصح-: يحلف على البت؛ لأن عبده ماله؛ فهو في الحقيقة يمين في حق نفسه؛ كما لو ادعى أن دابتك أتلفت زرعي، يحلف [على] البت أنها لم تتلف. ومن قال بالأول، أجاب بأن العبد له ذمة يتعلق بها الحق، بخلاف الدابة. قال الشيخ: ويمكن بناء الوجهين على أرش جناية العبد يتعلق برق رقبته؛ حتى لا يبيع بالفضل إذا عتق أم يتعلق برقبته وذمته؟ فيه قولان: إن قلنا- بالأول- وهو الأصح- يحلف على البت. وإن قلنا- بالثاني يحلف على نفي العلم. وكل دعوى يقبل فيها إقرار المدعى عليه، يقبل منه يمينه، إذا أنكر. وعند أبي حنيفة: لا مدخل لليمين في النكاح، والخلع، والطلاق، والرجعة. وحديث ركانة حجة عليه. والله أعلم بالصواب. باب الامتناع عن اليمين إذا ادعى رجل على رجل آخر حقاً، يجب على الحاكم أن يصغي إلى دعواه ولا يقبل على خصمه؛ حتى يصحح المدعي دعواه، وتصحيحه أن يقول: لي على هذا ألف درهم؛ يصفها أنها من نوع كذا، وأنها صحاح أو مكسرة، يلزمه أداؤها إلى اليوم مره فليؤدها حتى لو لم يقل: يلزمه تسليمها أو أداؤها لا يطالب خصمه بالجواب؛ لاحتمال أن يكون الدين مؤجلاً، أو يكون المدعى عليه مفلساً وإذا لم يقل: مره فليؤدها لا يلزم الحاكم؛ لأنه إنما يلزمه طلب حقه عند مطالبته.

وإذا ادعى عيناً أنه غضبها مني، يجب أن يقول: يلزمه ردها مره فليردها؛ لاحتمال أنه أجرها منه بعد الغصب، ويأمره بإحضار العين مجلس الحكم إن أمكن إحضارها، ومؤنة الإحضار على المدعى عليه إن تثبت للمدعي، وإن لم تثبت فعلى المدعي مؤنة الإحضار والرد. وإن لم يمكن إحضارها؛ لثقلها، أو كان عقاراً. فإن أمكن وصف العين، أو كان العقار معروفاً، أو يصير معلوماً ببيان الحد- وصفها، وذكر حدود العقار. وإن لم يمكن وصفها، بعث الحاكم إليهما من يسمع الدعوى على عينها. فإذا صحح الدعوى، يقبل الحاكم على الخصم، ويسأله فإن أقر، لزمه الأداء بمطالبته. فإذا قال: أنا مقر، لا يكون إقراراً؛ لأنه قد يريد: أنا مقر ببطلان ما تدعيه؛ فيسأله الحاكم بماذا تقر؟ وكذلك لو قال: لا أقر ولا أنكر، لا يكون إقراراً؛ فإن أنكر، وقال: لا أقر، أو سكت عن الجواب- يكون سكوته إنكاراً فيقول الحاكم للمدعي: هو منكر هل لك بينة؟ فإن كانت له بينة أقامها، وإن قال: بينتي غائبة، أو قال: لي بينة حاضرة، ولكن أريد تحليفه- له ذلك؛ لأنه قد يكون له في ذلك غرض وهو أن يتورع عن اليمين؛ فيقر، وإثبات الحق بالإقرار أسهل من إثباته بالبينة]. فإن سأل تحليف الخصم، حلفه الحاكم. فلو حلفه الحاكم قبل مطالبته، لا تحسب؛ لأنها يمين قبل وقتها. فإن لم يسأل تحليفه، ولا إقامة البينة خلى سبيله، حتى يأتي بالبينة. ولو أمسك عن تحليفه، ثم أراد تحليفه بالدعوى السابق جاز؛ لأنه لم يسقط حقه عن اليمين؛ فإن قال: أبرأتك من اليمين، سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله أن يستأنف الدعوى، ويحلفه. وإن أقام المدعي شاهدين عدلين، حكم به؛ فلو قال المدعى عليه بعد إقامة البينة: حلفه أيها الحاكم؛ أنه يأخذ هذا مني بحق- لم يكن له ذلك؛ لأنه يطعن في الشهود؛ ولأنه أقام حجة؛ فلا يكلف حجة أخرى؛ بخلاف ما لو ادعى على غائب أو ميت؛ فأقام بينة، يحلف مع البينة؛ لأن الخصم لو كان حاضراً ربما ادعى أداءً أو إبراءً. ولو قال حلفه: أنه لا يعلم أن شهوده كذبة، أو فسقة، أو جرحى- هل يحلف؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا يحلف؛ لأن الظاهر عدالتهم؛ ولأن أمر الشهود إلى المزكين؛ وقد عدلوهم. والثاني: يحلف؛ لأنه لو أقر به بطلت شهادتهم. ولو قال المدعى عليه بعد إقامة المدعي البينة: إنه أبرأني، أو أقبضته، أو كان عيناً، وادعى أنه باعها، أو وهبها مني- نظر: فإن قال: أبرأ، أو باع بعد إقامة البينة، فإن مضى زمان إمكانه، يحلف المدعي وإلا فلا يحلف. وإن قال: أبرأني أو قضيت، أو باع قبل إقامة البينة- نظر: إن قاله قبل قضاء القاضي ببينة المدعي، يسمع ويحلف المدعي؛ أنه لم يبرئه، ولم يقبضه، ولم يبع، ولم يهب منه. وإن قاله بعد قضاء القاضي، ففيه وجهان: أصحهما: لا يسمع، ولا يحلف المدعي؛ لأن المال قد ثبت عليه بالقضاء. والثاني: يسمع، ويحلف. لأن ما يقوله محتمل، والشهود شهدوا على الظاهر. وإن لم يكن للمدعي بينة، وطلب يمين المدعى عليه، يحلفه الحاكم بعد طلب المدعي، وإذا حلف خلى سبيله. فإن أتى المدعي ببينة بعد ما حلف المدعى عليه، يقضي له ببينته، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين؛ وهو أن يعرض عليه الحاكم اليمين، وقال: قل بالله، فقال: لا أحلف. أما إذا قال له الحاكم: احلف، فقال: لا أحلف أو قال: أتحلف؟ قال: لا. لا يكون هذا نكولاً حتى يعرض عليه اليمين فإذا عرض عليه اليمين، فقال: لا أحلف أو سكت، يكون سكوته نكولاً؛ حتى لو سأله الجواب أول مرة فسكت، يكون سكوته إنكاراً. فإذا عرض عليه اليمين؛ فسكت، يكون سكوته نكولاً. ويستحب أن يعرض عليه اليمين ثلاثاً، والاستحباب فيما إذا سكت أكثر منه فيما لو نكل صريحاً. وعند أبي حنيفة: يجب أن يعرض عليه اليمين ثلاثاً. وإذا رأى الحاكم فيه سلامة صدر، أخبره أ، ك إذا نكلت حلف صاحبك، ولزمك المال؛ فإذا نكل المدعى عليه عن اليمين، لا يقضي عليه بالنكول، بل يرد اليمين إلى المدعي. وإن لم يعلم المدعي أن اليمين صارت إليه، قال القاضي: أتحلف وتستحق؟ فإذا حلف، قضى له. وعند أبي حنيفة: يقضي عليه بالنكول، إلا في القصاص في النفس. وعندنا: لا يقضي؛ لأن نكوله يحتمل أن يكون للرفع عن اليمين البار'، ويحتمل أن

يكون للتورع عن اليمين الفاجرة، والأصل براءة الذمة، فلا تشتغل إلا باليقين؛ كما في القصاص. ولو نكل المدعي عليه عن اليمين، وأقام المدعي شاهداً، لا يجعل نكوله مع الشاهد كيمين المدعي مع الشاهد، ثم يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه بمنزلة الإقرار من المدعي عليه أم بمنزلة إقامة البينة من المدعي؟ فيه قولان: أصحهما: بمنزلة الإقرار من المدعى عليه؛ لأن يمين المدعي صدر عن نكوله، فكأنه أقر. والثاني: بمنزلة البينة من المدعي؛ لأن الحجة هي اليمين، وهي في جانبه؛ كما لو أقام بينة. وفائدة القولين تتبين في مسائل تأتي متفرقة في مواضعها. ولو رغب المدعى عليه في اليمين بعد ما نكل، وأراد أن يحلف- نظر: إن كان بعدما عرض الحاكم اليمين على المدعي، لم يكن له ذلك. وإن كان قبله، له أن يحلف، إلا أن يرضى المدعى قال شيخنا الإمام الأجل رضي الله عنه: وكذلك لو حكم الحاكم على المدعى عليه بالنكول، لم يكن له بعده أن يحلف، إلا أن يرضى المدعي. وقيل: بمجرد النكول صار الحق للمدعي، فلم يكن للمدعى عليه أن يحلف. وإن هرب المدعى عليه قبل أن يحكم عليه الحاكم بالنكول، وقبل أن يعرض اليمين على المدعي- لم يكن للمدعي أن يحلف يمين الرد. وإذا رددنا اليمين على المدعي فلم يحلف، سئل عن سبب نكوله؛ فإن قال: حتى أنظر في الحساب، أو أسأل الفقهاء أو أتفكر أو آتي ببينة- يترك، ولا تبطل به دعواه؛ لأنه حضر مختاراً؛ بخلاف المدعى عليه إذا توجه عليه اليمين فنكل، لا يسأل عن سبب نكوله. فإن قال: حتى أنظر في الحساب أو أسأل لم يترك، إلا أن يتركه المدعي؛ لأنه حضر مجبوراً. وقيل: يمهل المدعي عليه ثلاثاً، ولا يزاد؛ بخلاف المدعى لا تضيق عليه المدة؛ لأن يترك المدعي لا يتأخر إلا حقه ويترك المدعي عليه يتأخر حق المدعي؛ لأن بنكوله وجب للمدعي حق في رد اليمين والقضاء له، وبنكول المدعى عليه لا يجب لغيره حق. فإذا ذهب المدعي؛ لينظر في الحساب، أو يسأل، أو يأتي ببينة، أو هرب، ثم بعده

بمدة جاء ليحلف- له ذلك؛ فإن لم يذكر القاضي نكول خصمه، أثبته بالبينة. وكذلك لو أثبت عند قاض آخر نكول خصمه، له أن يحلف. وكذلك إذا نكل المدعى عليه مع الوكيل، ثم حضر الموكل- له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف الدعوى. ولو نكل المدعي عن اليمين بلا سبب، سقطت دعواه، ولم يكن له أن يحلف بعده؛ كما لو حلف المدعي عليه؛ فلو أراد بعد ذلك إقامة البينة، يسمع. ولو أقام شاهداً، وأراد أن يحلف معه، هل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه نكل مرة. والثاني- وهو الأصح-: له ذلك؛ لأن هذه اليمين غير اليمين التي نكل عنها. وكذلك لو أقام بينة بعدما حلف المدعى عليه، تسمع؛ سواء كان عالماً به حالة تحليفه أن له بينة، أو لم يكن؛ حتى لو قال: لا بينة لي، أو بينتي غائبة؛ فحلف المدعى عليه، ثم أقام البينة- تسمع، ويحمل قوله: لا بينة لي، على: أنها غير حاضرة. وقال مالك: إن كان عالماً حالة التحليف أن له بينة، بطل حقه عن البينة. ولو قال: ليست لي بينة حاضرة ولا غائبة، وكل بينة أقمتها فهي باطلة كاذبة، ثم أقام بينة- لا تسمع. وقيل: تسمع؛ لأنه يجوز أن يكون ما علم أو نسي، فقال ذلك. فإن ادعى هذا، أو قال: كنت أظن أن لا بينة لي، فالآن علمت- يقبل، وتسمع بينته. ولو قال: شهودي فسقة أو عبيد، ثم أقام بعد مدة يحصل فيها الاستبراء والعتق- يسمع. فصل في تعذر [رد] اليمين إذا ادعى رجل على رجل حقاً وأنكر ونكل عن اليمين، ولم يكن هناك من يرد عليه اليمين- هل يقضي بالنكول؟ مثل: إن جاء الساعي يطلب الزكاة، فقال رب المال: هي وديعة عندي، أو لم يحل عليه الحول، وجاء يطلب العشر، فقال رب الحائط: غلط الخارص في الخرص، أو أصابته جائحة- فالقول قول رب المال مع يمينه. فإن نكل، هل يقضي بالنكول؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يقضي؛ لأنه لا حجة هاهنا ولا يقضي بلا حجة، والأصل براءة ذمته. والثاني: يقضي. ثم فيه وجهان: أحدهما: تؤخذ منه الزكاة؛ لأن الظاهر أن ما في يده ملكه. والثاني: يحبس؛ حتى يقر؛ فيؤخذ منه الزكاة، أو يحلف؛ فيترك. وعلى هذا: لو غاب الذمي، ثم عاد، وقد أسلم؛ فقال: أسلمت قبل الحول؛ فلا جزية علي. وقال الإمام بعده: فعليك الجزية- يحلف الذمي؛ فإن نكل، هل يقضي عليه؟ فعلى هذين الوجهين: فإن قلنا: يقضي، هل تؤخذ منه الجزية، أم يحبس؛ حتى يقر؟ فعلى وجهين: وكذلك لو وجد في السبي أمرد؛ فكشف عن مؤتزره؛ فإذا هو قد أنبت بالعلاج وقال: أنا غير بالغ- يقبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل حقن الدم. فإن نكل، هل يقضي عليه؟ فعلى وجهين: فإن قلنا: يقضي، هل يقبل، أم يحبس؛ حتى يقر، أو يحلف؟ فعلى وجهين: وعلى هذا لو جاء واحد من الغزاة يطلب سهم المقاتلة، وذكر أنه قد احتلم- حلف، وأخذ السهم. فإن لم يحلف، اختلف أصحابنا فيه. قال "صاحب التلخيص" تخريجاً: إنه يحكم عليه، ولا يعطى السهم، إلا أن يحلف. ومنهم من قال: يعطى؛ لأن الظاهر استحقاقه بحضوره الواقعة. ومنهم من قال- وإليه ذهب الشيخ أبو زيد-: يقبل قوله بلا يمين ويعطي السهم؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته؛ كما لو علق العتق بمشيئة غيره؛ فقال: شئت، يصدق، ولا يمين عليه. ولو مات رجل، ووجد في تذكرته: أن لي على فلان كذا؛ فنصب القاضي قيماً؛ حتى ادعى عليه؛ فأنكر، ولم يحلف- فعلى وجهين: أحدهما: يؤخذ منه المال. والثاني- وهو الأصح-: يحبس؛ حتى يحلف، أو يقر. وكذلك لو نصب رجل وصياً؛ فمات، وجاء الوصي، وادعى على الوارث أن أباك أوصى بثلث ماله للفقراء، وأنكر الوارث- فالقول قوله مع يمينه. ولو نكل، لا يحلف الوصي. وهل يؤخذ المال، أم يحبس الوارث؛ حتى يحلف، أو يقر؟ فعلى وجهين: ولو ادعى أبو الوصي، أو قيم الصبي، أو ولي المجنون مالاً على إنسان، فأنكر

المدعى عليه، ونكل عن اليمين- هل يحلف الأب، أو القيم؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحلف؛ لأن الاستيفاء إليه، والمستحق ليس من أهل اليمين. والثاني: لا يحلف؛ كالساعي والوكيل؛ لأن أحداً لا يستحق بيمين الغير شيئاً. والثالث: إن باشر الولي تلك المعاملة بنفسه، حلف، وإلا فلا يحلف. فإن قلنا: لا يحلف الولي لا يقضي بالنكول، بل يترك؛ حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون؛ فيحلف. وكذلك لو أقام الولي شاهداً، هل يحلف معه؟ فعلى هذه الأوجه الثلاثة. ولو ادعى قيم الوقف، أو قيم المسجد شيئاً للوقف أو للمسجد، وأنكر المدعى عليه، ونكل عن اليمين- هل يحلف القيم؟ فعلى هذه الأوجه: فإن قلنا: لا يحلف، هل يقضي بالنكول؟ فعلى وجهين، لأنه ليس هاهنا أحد يحلف. أما قيم المحجور عليه بالسفه، إذا ادعى للمحجور شيئاً، ونكل المدعى عليه عن اليمين، يحلف المحجور عليه، لأنه مكلف، ويقول في يمينه: يلزمك تسليم هذا المال مطلقاً، ولا يقول: إلي؛ لأن التسليم إلى المحجور لا يجوز؛ والقيم يقول في دعواه: يلزمك تسليمه إلي. فصل في كون الجواب على وفق الدعوى إذا ادعى على رجل قرضاً، أو ادعى: أني اشتريت منك كذا فسلمه إلي فأجاب: أنه لا يلزمني تسليم شيء إليك، أو أجاب: أنك لا تستحق علي شيئاً- يسمع هذا الجواب ويحلف عليه، ولا يكلف أن يحلف على نفي القرض والبيع؛ لأنه يجوز أن يكون قد استقرض منه، ثم أداه، أو باع منه، ثم استقاله أو اتهبه. فإذا حلف على نفي القرض والبيع، يكون كاذباً، غير أنه إذا حلف على وفق دعواه: أنه لم يستقرض، ولم يبع، يجوز. وإن كان جوابه محتملاً أنه لا يلزمني تسليم شيء إليك. وعند أبي يوسف: يشترط أن يكون جوابه على وفق دعواه فيقول: ما استقرضته، وما بعت. أما إذا أجاب على وفق دعواه: أنه ما استقرض، ولم يبع، وأراد أن يحلف مجملاً: أنه لا يلزمني تسليم شيء إليك، أو لا تستحق علي شيئاً- هل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ كما لو أجاب ابتداء كذلك. والثاني: ليس له ذلك؛ حتى يحلف على وفق ما أجاب؛ لأنه نفى ما ادعاه المدعي؛

فيجب أن يحلف على نفيه. ولو ادعى على رجل ألف درهم؛ فأنكر، يجب أن يحلف: أنه لا يستحق ما يدعيه، ولا شيئاً منه. فإن حلف على أنه [لا يستحق الألف، أو] لا يلزمني الألف- لم يخرج عن دعواه؛ لأن يمينه على نفي الألف لا تمنع وجوب بعضها. فلو قال له الحاكم: قل: بالله لا يلزمني تسليم الألف إليه ولا تسليم شيء منها فقال: بالله لا يلزمني تسليم الألف إليه، ونكل عن الباقي- لا يجب عليه تمام الألف، ويكون ناكلاً عما دونه [و] يحلف المدعي، وينقص في يمينه شيئاً عن الألف وإن قل. فلو نكل المدعى عليه عن أصل اليمين، وأراد المدعي أن يحلف على خمسمائة- له ذلك، إن عرض الحاكم اليمين عليه على ألف، وعلى كل جزء منها. فإن عرض على ألف فحسب، فليس له ذلك، بل يستأنف الدعوى بخمسمائة. ولو ادعى على رجل ألفاً، فقال المدعى عليه: لا أحلف وأعطي المال، لا يجب على المدعي قبوله من غير إقرار، وله تحليفه؛ لأنه لا يأمن أن يدعي عليه ما دفع إليه بعد هذا. وكذلك لو نكل المدعى عليه عن اليمين، وأراد المدعي أن يحلف يمين الرد، فقال المدعى عليه: لا تحلفه؛ حتى أبذل المال بلا يمين- له أن يحلف، ويقول له الحاكم: إما أن تقر بالحق أو يحلف المدعي بعد نكولك. ولو ادعى مالاً؛ فقال المدعى عليه: إنه قد حلفني على هذا مرة- نظر: إن قال للحاكم: حلفني عندك، والحاكم يحفظه، لا تسمع دعوى المدعي؛ وإن لم يحفظ، سمع دعوى المدعي. وإن قال: حلفني عند قاض آخر، أو أطلق، تسمع دعواه، ويحلف المدعي أنه لم يحلفه، ثم يدعي المال. وإن نكل، حلف المدعي عليه أنه حلفه، وتسقط الدعوى. فلو نكل المدعي عن يمين التحليف، ورددنا اليمين على المدعى عليه، وأراد أن يحلف يمين الأصل، لا يمين التحليف- لم يكن له ذلك، إلا بعد استئناف الدعوى؛ لأنه تخللها دعوى أخرى. فلو قال المدعى عليه: إنه حلفني مرة، وأراد تحليفه فقال المدعي: إنه قد حلفني مرة بأني ما حلفته فحلفه على هذا- لا يحلف المدعى عليه؛ لأنه يؤدي إلى ما لا نهاية له.

ولو ادعى على رجل مالاً؛ فأنكر، وحلف، ثم بعد مدة جاء المدعي، وقال: حلفت يومئذ؛ لأنك كنت معسراً، فكنت صادقاً في يمينك أنه لا يلزمك أداؤه، واليوم أيسرت- فهل يسمع منه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسمع وله تحليفه؛ لأنه محتمل. والثاني: لا يسمع؛ لأنه لا يتناهى. ولو ادعى مالاً على إنسان، وقال: قد قضى لي عليه فلان القاضي إن أقام لي عليه بينة [تسمع]، وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. ولو قال: أنت قضيت؛ فإن ذكره القاضي أمضاه، وإن لم يذكره فلا. فلو ادعى على إنسان عيناً؛ فقال المدعى عليه: إنه باعها مني، أو باعها من بائعي؛ فهو إقرار للبائع بالملك- فالقول قول البائع مع يمينه أنه لم يبع منه، ولا من بائعه. ولو ادعى ديناً؛ فقال المدعي عليه: إنه أبرأني عن هذا الدين- فهو إقرار للمدعي، والقول قول المدعي أنه لم يبرئه. ولو قال: أبرأني عن الدعوى، اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: تسمع، ويحلف المدعي. ومنهم من قال- وهو اختيار الشيخ القفال- لا تسمع، ولا يصح الإبراء عن الدعوى. ولو كان لجماعة على رجل حق؛ فوكلوا رجلاً في استخلافه- لم يجز أن يحلف لهم يميناً واحدة؛ [لأن لكل واحد عليه يميناً؛ فلا تتداخل. وإن رضوا؛ بأن يحلف لهم يميناً واحدة]، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق جماعة. والثاني- وهو المذهب-: لا يجوز؛ لأن اليمين للزجر، وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل من الجمع؛ كما لو رضيت المرأة بأن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة- لا يجوز. ولو ادعى على رجل عيناً؛ فأنكر المدعى عليه أن في يده مثل تلك العين- حلف عليه وإذا حلف، للمدعي أن يدعي عليه القيمة؛ لاحتمال أن العين هلكت في يده. وإن نكل

حلف المدعي على كون العين في يده، وحبس المدعى عليه؛ حتى يحضرها، أو يقيم بينة على هلاكها؛ ولو لم يدر المدعي أن العين قائمة في يده؛ حتى يدعيها، أو هالكة؛ حتى يدعي قيمتها- فقد قيل: يدعي عليه العين، ويحلف عليها، ثم يدعي القيمة، ويحلف يميناً أرخى. وقيل: والحكام عليه: أنه يحلفه يميناً واحدة أنه لا يلزمني تسليم هذه العين إليه ولا قيمتها. وعلى هذا الوجه تسمع الدعوى على التمثيل؛ فيقول: لي عنده ثوب، صفته كذا، يلزمه تسليمه إلي، أو قيمته إن كان هالكاً؛ حتى لو دفع إليه ثوباً؛ ليبيعه، فجحد، فلم يدر صاحب الثوب أنه قائم في يده؛ فعليه رده، أو أهلكه؛ فعليه قيمته، أو باعه؛ فعليه ثمنه. فعلى الوجه الأول: يحلف ثلاث أيمان يدعي العين؛ فيحلفه، ثم يدعي الثمن؛ فيحلفه، ثم يدعى القيمة؛ فيحلفه. وعلى الثاني: يدعي متمثلاً أنه يلزمه رد الثوب، أو ثمنه إن كان باعه، أو قيمته إن هلك؛ فيحلف يميناً واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب إليه، ولا قيمته، ولا ثمنه. والله أعلم. باب: من تجوز شهادته ومن لا تجوز قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال جل ذكره: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. شرائط قبول الشهادة سبعة: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والعفة، والمروءة وانتفاء التهمة؛ فشهادة الكافر لا تقبل؛ لأن المعروفين بالكذب من المسلمين لا تقبل شهادتهم؛ فالكافر يكذب على الله- تعالى- والله- تعالى- يشهد على كذبه؛ فأولى ألا تقبل شهادته. وعند أبي حنيفة: تقبل شهادة الذمي على الذمي، ولا تقبل شهادة العبد؛ لأنه ناقص الحال قليل المبالاة؛ فلا يصلح لهذه الأمانة. [وقال أنس بن مالك: تقبل شهادة العبد]، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال الشعبي والنخعي: تقبل شهادة العبد في الشيء التافه.

ولا تقبل شهادة من لم يبلغ؛ لأنه لا حكم لقوله.

وقال مالك: تقبل شهادة الصبيان على الجراحات التي تقع في الملاعب قبل التفرق، ولا تقبل بعد التفرق؛ لأنه ربما يتلقن بعضهم من بعض. والعفة شرط وهو: ألا يكون مرتكباً كبيرة، ولا مصراً على صغيرة. ولا يشترط أن يكون الشاهد معصوماً عن المعاصي كلها؛ فإن الآدمي لا يخلو عن ذلك، وجاء في الحديث: "ما منا إلا من عصى، أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا". فإن ارتكب كبيرة من زنا، أو لواط، أو قذف، أو غصب، أو سرقة، أو شرب خمر، أو قتل بغير حق- ترد شهادته، وإن فعل مرة واحدة. والصغيرة لا توجب رد الشهادة؛ لأن الاحتراز عنها قل ما يمكن ما لم يصر عليها؛ فإن غلب ذلك عليه، فسق، وردت شهادته.

وكل ما يوجب الحد من المعاصي، فهو كبيرة، والزنا كبيرة، والنظر إلى الأجنبية بالشهوة، ولمسها صغيرة. وقيل: كل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب، أو سنة- فهو كبيرة]. ومن ترك فريضة واحدة من الفرائض مع العلم؛ حتى خرج وقتها- ترد شهادته. وقيل: بواحدة لا ترد شهادته؛ حتى يتكرر ذلك منه. ومن اعتاد ترك السنن الرواتب، وتسبيحات الركوع والسجود- ترد شهادته؛ لتهاونه بالسنن؛ فإن كان يفعله أحياناً، لا ترد شهادته. ومن اعتاد الجلوس على الديباج، أو الشرب من الذهب والفضة، أو اعتاد من الرجال لبس الديباج- فهو فسق يوجب رد الشهادة. ولا تقبل شهادة من لا مروءة له؛ لأن من لا مروءة له لا يستحي. قال: ومن لا يستحي قال ما شاء، وصنع ما شاء. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت". والمروءة هي حسن العشرة، والسيرة والهيئة، والصناعة، وهي مما يتصل بآداب النفس، مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، يتعاطى ما يستحيا من إظهاره؛ بأن كان يقبل زوجته فيما بين الناس، أو إن فعل في الخفية حكاه للناس. ويخرج من حسن العشرة مع الأهل، والخدم، والجيران، والمساكين. ويخرج في المعاملة مع الناس إلى حد السفه، والاستقصاء في اليسير الذي لا يستقصي فيه. وفي الهيئة يجب أن يسير بسيرة أمثاله في بلده؛ حتى أن الفقيه إذا لبس القباء في هذه البلاد أو تقلنس وخرج، أو التاجر إذا لبس ثوب الحمالين- ترد شهادته.

أما في بلده عادة علمائهم لبس القباء، فلا ترد شهادتهم، والحمال إذا لبس العمامة، والذراعة، والطيلسان- ترد شهادته؛ لأنه يتخذ نفسه ضحكة. والذي يمشي في الأسواق كاشفاً عن بدنه فوق العادة، أو مكشوف الرأس، أو الفقيه يأكل في السوق، أو يشرب من سقاية السوق- ترد شهادته، إلا أن يكون لغلبة عطش. أما السوقي إذا أكل في السوق، لا ترد شهادته. ثم هذا في حق من اعتاد تكلف ذلك، أما من اعتاد ترك التكلف كأهل الصفة، فلا ترد شهادته بلبس ما يلبس؛ وأهل الحرف الدنيئة كالحجام، والكناس، والدباغ، والإسكاف، والقصاب، والقيم في الحمام، والحائك، والحارس- فهل تقبل شهادتهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل؛ لأن رضاهم بهذه الحرف الدنيئة مع كثرة الحرف دليل على دناءتهم وقلة مروءتهم. والثاني- وهو الأصح-: تقبل شهادتهم؛ لأن هذه الحرف مباحة، وبالناس إليها حاجة؛ فلو ردت شهادتهم بها، لامتنعوا عنها وتضرر به الناس. واللعب بالشطرنج مكروه؛ لأنه اشتغال بما لا يعنيه.

وعند أبي حنيفة: حرام. وروي عن سعيد بن جبير؛ أنه كان يلعب به استدباراً. ومن لعب به، لا ترد شهادته، إلا أن يقامر به، أو يفحش بلسانه، أو تخرج الصلاة عن الوقت؛ فإن فعل شيئاً من ذلك، ردت شهادته. فإن لم يفعل شيئاً من ذلك، لكنه يداوم على ذلك، ردت شهادته؛ لما فيه من ترك المروءة. والقمار فيه: أن يكون المال من الجانبين، وكل واحد يكون بين الغرم والغنم. فإن كان المال من أحدهما؛ بأن قال: إن غلبت فلا شيء لي، وإن غلب صاحبي فله كذا- فليس بقمار، ولا ترد به الشهادة، ولكن لا يكون العقد صحيحاً، لأنه ليس من آلة الحرب. أما اللعب بالنرد فحرام؛ لما روي عن بريدة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من لعب بالنرد شير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه". وقال الشيخ أبو إسحاق: هو كالشطرنج. والحديث حجة على تحريمه؛ ولأن المعول فيه على ما يخرجه الكعبان؛ فأشبه بالأزلام. واللعب بالحمام أخف كراهية من الشطرنج؛ لأنه يستعان به على إنهاء الأخبار في الأسفار البعيدة، وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج. أما اتخاذ الحمام فجائز؛ لما روي عن عبادة بن الصامت؛ أن رجلاً شكا إلى

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الوحشة فقال: "اتخذ زوجاً من حمام"، ولأن فيه منفعة بالبيض والفرخ. ولا تقبل شهادة المغني الذي يأتي الناس، والناس تأتيه للغناء، وكذلك من اشترى غلاماً مغنياً، أو جارية لهذا الأمر. وكذلك القوال والرقاص الذي يداوم عليه، لا تقبل شهادته. فإن لم يتخذه كسباً، ولم يداوم عليه، لا ترد شهادته. والغناء وسماعه من غير آلة مطربة مكروه؛ لما روي عن ابن مسعود، عن

النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل". ولكنه غير حرام إذا لم يكن معه آلة مطربة؛ فمن غنى لنفسه، أو سمع غناء غيره، ولم يكثر ذلك منه- لا ترد شهادته. روي عن عائشة قالت: "دخل أبو بكر- وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث- قالت: وليستا بمغنيتين [فقال أبو بكر: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم]؟ وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا". وروي أن عمر- رضي الله عنه- كان إذا خلا في داره ترنم بالبيت والبيتين، فاستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف، وهو يترنم فقال: أسمعتني يا عبد الرحمن؟ قال: نعم. قال: إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول الناس. وروي عن أبي الدرداء، وكان من زهاد الصحابة، وفقهائها أنه قال: إني لأجم قلبي بشيء من الباطل؛ لأستعين به على الحق. وأما الآلات المطربة، كالعود والطنبور، والصنج، والطبل، والمزمار- فيحرم

استعمالها، والاستماع إلى أصواتها. وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] قال ابن عباس: هي الملاهي. وفي اليراع وجهان: أصحهما: حرام؛ كالمزمار. والثاني: مباح؛ لأنه ينشط على السير في الأسفار. وقيل: كان داود عليه السلام يضربه في أغنامه. وضرب الدف مباح في الإملاكات والختان، وحرام في غيرهما، جاء في الحديث: "أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف". وضرب القضيب على الوسائد حرام. وقال العراقيون: مكروه غير حرام؛ لأنه لا يطرد إذا انفرد عن الغناء، بخلاف سائر الآلات؛ فهو تابع للغناء؛ فكان مكروهاً، كالغناء. فما حكمنا بتحريمه من هذه الأشياء، فهو من الصغائر لا ترد الشهادة بما قل منه، فإن كثر من رجل ردت شهادته، وما حكمنا بإباحته فهو كالشطرنج. وسماع الحداء ونشيد الأعراب مباح؛ لأنه ينشط الإبل على السير، ويوقظ النوام. قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن رواحة: "حرك بالقوم" فاندفع يرتجز. فإذا جاز تحسين الصوت بالحداء والرجز، فبالقرآن أولى. قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن". وسمع

رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن قيس يقرأ فقال: "لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وحمله الشافعي على تحسين الصوت. وقال لو كان المراد منه: الاستغناء: لقال: لم يتغانى بالقرآن. أما القرآن بالألحان: قال في موضع: أكرهه، وقال في موضع: لا أكرهه؛ وهي على حالين؛ حيث قال: أكرهه، أراد به: إذا جاوز الحد في التطويل والمد، وحيث قال: لا أكرهه، أراد به: إذا لم يجاوز الحد. قال: وأحب ما يقرأ إلي حدراً، أو تحزيناً. والشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ويجوز قول الشعر، وكان للنبي- صلى الله عليه وسلم شعراء: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الشعر. وقال للشريد: "أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء"؟ قلت: نعمفأنشدته بيتاً فقال: "هيه"، فأنشدته بيتاً آخر، فقال: "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. وشهادة الشاعر مقبولة، إذا كان لا يهجو المسلمين، ولا يبالغ في المدح والذم، ولا يشبب بامرأة ولا بغلام بعينه، ولا يبتهر، ولا يبتار.

فالابتهار: أن يقول فعلت بامرأة كذا من الفساد؛ وهو فيه كاذب. والابتيار: أن يكون فيه صادقاً؛ قال الكميت: [من المتقارب]. قبيح لمثلي نعت الفتاة فإما ابتهاراً وإما ابتياراً تقبل شهادة أهل الأهواء والبدع؛ كالمعتزلة والرافضة، وغيرهم؛ لأن منهم من يرى الكذب كفراً؛ فيعرف أنه لا يقصد الكذب، إلا الخطابية؛ وهم قوم يرون الكذب كفراً؛ فربما يسمع ممن يوافقه في الاعتباد: أن لي على فلان كذا فيشهد على موافقة قوله؛ لما يرى أنه لا يجيز الكذب، إلا أن يقول: أقر فلان لفلان بكذا، أو رأيت فلاناً أقرض فلاناً، أو قتل فلاناً فيقبل. هذا إذا كان لا يقول في بدعته ما يكون كفراً، ولا يرتكب ما يكون فسقاً. ومذهب أكثر الفقهاء: أنهم لا يكفرون أحداً من أهل البدعة. قال الشافعي رضي الله عنه: إلا الذين ينفون علم الله بالمعدوم؛ وهم يقولون: لم يعلم الله الأشياء؛ حتى خلقها؛ فهم كفار، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] مخبراً عن أمر لم يكن أنه يكون. ومن سب الصحابة والسلف، ترد شهادته، لفسقه.

قال الشيخ: وإن استحله، كفر. وتقبل شهادة المخالفين في الفروع؛ لأن مسائل الفروع مبنية على أدلة غير مقطوع بها، والمخالف فيها غير مقطوع بخطئه؛ فلا ترد شهادته. وكل من تأول حراماً عندنا فيه حد أو لا حد فيه، لا ترد شهادته؛ فإن من الصحابة من كان يجيز بيع الدرهم بالدرهمين نقداً، وكان ابن عباس يجيز نكاح المتعة. ولا ترد شهادة من اعتقده؛ وتقبل شهادة أهل البغي، مع أنهم يسفكون دماءنا متأولين.

والحنفي إذا شرب القليل من النبيذ، لا يفسق، ولا ترد شهادته، لأنه يعتقد إباحته، إلا أن يسكر فترد شهادته؛ لأن السكر حرام بالاتفاق، ولكنه يحد بشرب قليله. وإذا شربه من يعتقد تحريمه: اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: ترد شهادته؛ لأنه ارتكب محظور عقيدته. ومن أصحابنا من قال: لا ترد شهادته؛ وهو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه فإنه لم يفصل بين من يعتقد تحريمه وإباحته؛ في أن شهادته لا تر؛ هذا لأن استحلال الشيء أعظم من فعله، بدليل أن من استحل الزنايكفر، وبفعله لا يكفر؛ فإذا لم ترد شهادة مستحل القليل من النبيذ، فلأن لا ترد شهادة من شربه أولى. وقال المزني- رحمه الله-: وجب أن ترد شهادة من شربه؛ كما يحد، وإن لم ترد شهادته وجب ألا يحد. قلنا: إقامة الحد إلى الإمام؛ فيجري فيه على اعتقاده. ورد الشهادة بارتكاب محظور العقيدة، ولم يوجد، بخلاف الكافر ترد شهادته، وإن لم يرتكب محظور عقيدته؛ لأن بطلان عقيدته مقطوع به، وهذا مجتهد فيه. وهذا؛ لأن الحد للزجر عما يميل الطبع إليه، والحاجة إلى الزجر عن النبيذ كالحاجة إليه في الخمر. ورد الشهادة لارتكاب محرم يجرئه على فعل مثله، ولم يوجد في شرب النبيذ؛ لأنه لم يرتكب محرماً؛ فيظن أنه يجرئه على شهادة الزور. أما من شرب الخمر قصادً وإن كان قطرة- ترد شهادته، ويحد. ولا تقبل شهادة المغفل الذي لا يحفظ شيئاً، وكذلك شهادة من يكثر [منه] الغلط؛ لأنه لا يؤمن أن يغلط فيما يشهد. وتقبل شهادة من يقل منه الغلط؛ لأن أحداً لا ينفك عنه، وإن شهد من يكثر منه الغلط مفسراً؛ بأن بين الوقت والمكان الذي يحمل فيه الشهادة؛ بحيث زالت فيه الريبة عن شهادته- تقبل. وتقبل شهادة ولد الزنا. [وقال مالك: لا تقبل]، وكذلك يجوز أن يكون [ولد الزنا] قاضياً ولا يكون إماماً؛ لأن النسب في الإمامة شرط.

وتقبل شهادة القروي على البدوي، وشهادة البدوي على القروي. وقال مالك: لا تقبل شهادة البدوي على القروي؛ لأن البدوي يحضر القرية للإشهاد، والقروي لا يخرج إلى البادية للإشهاد. قلنا: قد يدخل البدوي القرية؛ فيشهد القروي. فصل في أن انتفاء التهمة شرط في الشهادة انتفاء التهمة شرط في الشهادة؛ حتى تقبل؛ فلا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً بشادته، أو يدفع عن نفسه ضرراً؛ كما ذكرنا في "باب الشهادة على الجناية". ولا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا لأحد من نوافله وإن سفلوا، وكذلك لا تقبل

شهادة الولد لواحد من آبائه وأجداده وإن علوا؛ لما روي عن ابن عمر؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين ولا ذي جنة". وأراد بالضنين: المتهم، والولد مع الوالد كل واحد منهما متهم في شهادته بالميل إلى من يشهد له؛ لأنه بعضه. وقال أبو ثور: تقبل [شهادة الولد للوالد، والوالد للولد. وقال مالك: تقبل] شهادة الولد لوالده، ولا تقبل شهادة الوالد لولده؛ وكذلك عندنا: لا تقبل شهادة الرجل لمكاتب ولده، ولا لمكاتب والده. أما شهادته على ولده، وعلى والده تقبل؛ لأنه لا تهمة فيه. وقيل: لا تقبل شهادة الولد على الوالد بالقصاص، وحد القذف، لأنه لا يلزمه القصاص بقتله، ولا حد القذف بقذفه؛ والأول المذهب. وتقبل شهادة الأخ، وابن الأخ، والعم، والخال. وتقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه، وعليه، إلا الزوج لا تقبل شهادته بالزنا على زوجته. وقيل: في قبول شهادة أحدهما لصاحبه قولان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة-: لا تقبل. والمذهب: قبولها قولاً واحداً؛ لأنه ليس بينهما إلا معاقدة؛ وذلك لا يورث تهمة في

الشهادة؛ كالأجير إذا شهد للمستأجر بشيء، تقبل. وتقبل شهادة الصديق لصديقه. وعند مالك: لا تقبل. ولا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم في الشهادة عليه، وتقبل شهادته له؛ لأنه لا تهمة فيه؛ كما تقبل في حق كافة الناس لهم وعليهم. هذا إذا كانت الخصمة بينهما ظاهرة، ولا يرتكب كل واحد منهما في عداوته ما يفسق به فإن فعل في عداوته ما يفسق به، فيكون مردود الشهادة له وعليه في حق كافة الناس. ولو خاصمه رجل وسبه، وهو ساكت، فشهد الساكت عليه- تقبل [شهادته] لأن الشهادة لو ردت بمثله، لم يعجز أحد عن فعله بمن شهد عليه، فينسد باب الشهادة عليه. وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة العدو على العدو، إذا لم يظهر في عداوته ما يفسق به. والعصبية لا توجب رد الشهادة؛ وهو أن يبغض رجلاً؛ لأنه من بني فلان، إلا أن يظهره ويدعو له؛ فيفسق به، وترد شهادته؛ وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعشيرته؛ فتقبل شهادته لهم وعليهم، ومن أبغض رجلاً لفسقه فهو دين، لا ترد شهادته له ولا عليه. وتقبل شهادة المستخفي؛ وهو أن يكون لرجل على آخر حق يقر به إذا خلا مع خصمه، ويجحد في الظاهر؛ فأجلس المدعي شاهدين في خفية، وجلس مع خصمه؛ حتى أقر، وسمعه الشاهدان فشهدا عليه- تسمع عند كثير من أهل العلم. وقال ابن سريج والشعبي والنخعي: لا تسمع. وهذا لا يصح؛ لأنه حصل لهم العلم بالمشهود به؛ فتقبل شهادتهم؛ كما لو أقر ظاهراً؛ فسمعه رجل وشهد، تسمع وإن لم يشهده. فصل قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ....}

إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4]. كل من لا تقبل شهادته بسبب معصية؛ فإذا تاب، تقبل شهادته. والتوبة توبتان: توبة في الباطن فيما بينه وبين الله [تعالى]. وتوبة في الظاهر التي يتعلق بها قبول الشهادة، وعود الولاية. وأما التوبة في الباطن: فينظر: إن كانت المعصية مما لا يتعلق بها حق الآدمي، ولا حد لله- تعالى- فيه؛ كتقبيل الأجنبية، ولمسها بالشهوة ووطؤها مما دون الفرج، فالتوبة منها: أن يندم على ما فعل، ويعزم على ألا يعود إلى مثلها؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} إلى قوله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135]. وإن تعلق بها حق لآدمي: فالتوبة منه: أن يندم على ما فعل، ويعزم على ألا يعود، ويتبرأ من حق الآدمي. وإن كان مالاً رده إن كان قائماً، أو بدله إن كان تالفاً، أو يبرئه صاحب الحق. وإن كان قصاصاً، أو حد قذف، فيخبره؛ حتى يستوفي، أو يعفو. وإن تعلق بالمعصية حد لله- تعالى- كحد الزنا، والشرب؛ فإن لم يظهر ذلك منه، فيندم عليه، ويتوب في السر. والأولى: أن يستر على نفسه؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله تعالى؛ فإن من أبدى لنا صفحته؛ أقمنا عليه حد الله". فإن أظهره حتى أقيم عليه الحد، جاز؛ كما فعل ماعز والغامدية، أقرا على أنفسهما بالزنا؛ حتى أقام النبي- صلى الله عليه وسلم- عليهما الحد. وإن كان قد ظهر ذلك منه؛ فيحتاج إلى أن يذهب إلى الإمام؛ حتى يقيم عليه الحد؛ لأنه إذا ظهر، فلا معنى للستر. فأما التوبة في الظاهر: فهي التي يتعلق بها قبول الشهادة، وعود الولاية؛ فينظر في المعصية: فإن كانت فعلاً؛ كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر- فالتوبة عنها تكون بالفعل؛ وهو أن يصلح عمله مدة، وينتقل من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ

الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89]. ولا بد من مضي مدة عليه في حسن الحال؛ حتى تقبل شهادته، وتعود ولايته وقدر أصحابنا تلك المدة بسنة؛ حتى تمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع؛ كما يضرب للعنين أجل سنة. وقد علق الشرع أحكاماً بالسنة من الزكاة، والجزية، والعقل. وإن كانت المعصية بالقول: فإن كانت ردة، فالتوبة عنها أن يظهر الشهادتين، وإن كان قذفاً: قال الشافعي رضي الله عنه: فالتوبة منه إكذابه نفسه؛ فاختلف أصحابنا فيه. قال الإصطخري: يقول: كذبت فيما قلت: ولا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق: لا يقول: كذبت؛ لأنه ربما يكون صادقاً، بل يقول: القذف باطل، ندمت على ما قلت، رجعت عنه؛ فلا أعود إليه. فلا بد من إصلاح العمل من بعد، ومضي المدة؛ كما ذكرنا في الفسق بسبب الزنا والسرقة. فأما شهود الزنا إذا لم يتموا أربعة: فإن قلنا: لا حد عليهم، فلا حاجة إلى التوبة. وإن قلنا: يجب عليهم الحد، فالتوبة أن يقول: ندمت على ما قلت، ولا أعود إلى مثله، ولا يشترط فيه مضي المدة لإصلاح العمل، لأن عمر- رضي الله عنه- كان يقول لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك. ولم يذكر إصلاح العمل؛ بخلاف القذف الصريح؛ فإن هناك سقطت شهادته بالنص؛ فلزم إصلاح العمل بالنص. والشاهد على الزنا إن لم يتب، فخبره مقبول وإن لم تقبل شهادته؛ فإن أبا بكرة مقبول الرواية بالاتفاق. والقاذف ترد شهادته بمجرد القذف؛ سواء قذف محصناً، أو غير محصن؛ حراً أو

عبداً؛ حتى لو قذف عبداً لنفسه ترد شهادته، وإن لم يجب الحد، وإذا تاب، وحسنت حالته، تقبل شهادته؛ سواء كان بعد إقامة الحد عليه، أو قبله. وقال أبو حنيفة: لا ترد شهادته بنفس القذف؛ حتى يحد، وإذا حد فلا تقبل شهادته بعده أبداً، وإن تاب والآية حجة عليه، لأن الله- تعالى- رتب على القذف ثلاثة أحكام: الحد ورد الشهادة، والتفسيق. ثم وجوب الحد يتعقب القذف، فكذلك رد الشهادة، والتفسيق. ثم بعد ما حكم برد الشهادة، استثنى التائب؛ فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] دل على أن شهادته بعد التوبة مقبولة. وتقبل شهادة المحدود بعد التوبة في جنس ما حد فيه. وعند مالك: لا تقبل.

ومن شهد بالزور فسق، وردت شهادته؛ لأنها من جملة الكبائر.

روي عن خريم بن فاتك قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح فلما انصرف قام فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" ثلاث مرات، ثم تلا قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 3.]، وإنما يثبت كونه شاهد زور بإقراره، أو ببينة تشهد أنه شاهد زور، أو شهد بما يقطع بكذبه. فإن كان شهد على رجل؛ أنه قتل فلاناً، أو زنا بامرأة في موضع كذا، في وقت معين؛ فثبت أن المشهود عليه كان في ذلك الوقت ببلد آخر. أما إذا شهد بشيء أخطأ فيه لم يكن شاهد زور، أو شهد لرجل بشيء، وشهد به آخر لغيره- لم يكن شاهد زور؛ لأنه ليس أحدهما بأولى بالتكذيب من الآخر. وإذا ثبت أنه شاهد زور: فإن رأى الإمام تعزيره بالضرب، والحبس فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته، نادى عليه أنه شاهد زور؛ فاعرفوه؛ حتى ينزجر، ويعتبر به غيره- فعل.

قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "اذكروا الفاسق بما فيه؛ يحذره الناس". وإذا تاب شاهد الزور، يخبر حاله؛ كسائر الفسقة إذا تابوا؛ فبعد مضي سنة على الصلاح، تقبل شهادته في غير هذا الحكم، ولا تقبل في هذا الحكم، وإن كانوا غالطين في الشهادة، فلا حاجة إلى الاختبار وتقبل شهادته في غير هذا الحكم ولا تقبل في هذا الحكم. ولو شهدوا عند القاضي؛ فقبل القضاء جاءوا، وقالوا: توقف في القضاء؛ حتى نتثبت في شهادتنا؛ فتوقف القاضي، ثم عادوا فقالوا: تثبتنا؛ فاحكم- هل يحكم القاضي؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم؛ لأنهم لم يرجعوا عن الشهادة. والثاني: لا يحكم؛ لأنه وقع ريبة في شهادتهم. فصل في شهادة من ليس أهلاً للشهادة إذا صار أهلاً لها إذا شهد عند القاضي عبد، أو مكاتب، أو صبي، أو كافر- لا يصغي إلى شهادته. فإذا لم يعلم حالهم؛ فسمع شهادتهم، ثم علم؛ فردها، ثم عتق العبد والمكاتب، وبلغ الصبي، وأسلم الكافر وأعادوا تلك الشهادة- تقبل. أما إذا شهد فاسق؛ فردت شهادته؛ لفسقه ثم تاب، وحسنت حالته، فأعاد تلك الشهادة- لا تقبل. وقال المزني وأبو ثور- رحمهما الله-: تقبل؛ كما تقبل من الصبي إذا بلغ، ومن الكافر إذا أسلم. قلنا: فرق بينهما من حيث إن الفاسق يستنكف من فسقه، ويلحقه عار برد شهادته؛ فهو في إعادة تلك الشهادة متهم بدفع ذلك العار عن نفسه، والشهادة ترد للتهمة. أما الصبي والعبد لا عار عليهما في رد شهادتهما، والكافر يفتخر بكفره؛ فلا يلحقه عار برد شهادته؛ فلا يكون متهماً في الإعادة.

ولو شهد السيد لمكاتبه بمال، أو لعبده بنكاح؛ فردت شهادته، ثم أعادها بعد العتق- هل تقبل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا تقبل؛ لأن رد شهادته للتهمة؛ فلا تقبل إذا أعاد بعد زوال التهمة؛ كالفاسق إذا تاب. والثاني: تقبل؛ لأنه لم يكن عليه في رده عار، فلا يكون متهماً في الإعادة. أما المكاتب إذا شهد لسيده؛ فردت شهادته، ثم عتق؛ فأعاد- تقبل؛ ولو ردت شهادته؛ لعداوة بينه وبين المشهود عليه، ثم حسن الحال بينهما؛ فأعادها- هل تقبل؟ فعلى وجهين: الأصح: لا تقبل. وكذلك لو بيع شقص له ثلاث شفعاء؛ فشهد اثنان على عفو الثالث قبل أن يعفوا- لا تقبل شهادتهما. فلو عفوا، وأعاداها، هل تقبل؟ فيه وجهان: الأصح: لا تقبل. ولو شهد رجل قبل الاستشهاد؛ حيث لا تقبل شهادة الحسبة- لا تقبل، وهل يصير مجروحاً؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يصير مجروحاً؛ فلا يشترط استبراء الحال؛ حتى لو شهد في حادثة أخرى يسمع؛ فلو أعاد تلك الشهادة في غير ذلك المجلس، تقبل؛ لأنه لا يلحقه بعدم القبول عار يكون متهماً في الإعادة. وإن قلنا: لا يصير مجروحاً؛ فلو أعاد في ذلك المجلس، تقبل. ولو شهد لأبيه، ولأجنبي بشيء، لا تقبل لأبيه، وهل تقبل للأجنبي؟ فيه قولان. فصل إذا مات رجل عن ابنين: أقر أحدهما بدين على الميت، وأنكر الآخر- يجب على المقر نصف ذلك الدين إذا لم يكن النصف أكثر من نصيبه؛ لأنه أقر به في جميع التركة، وليس في يده إلا نصف التركة؛ فيلزمه بنسبة نصيبه نصيبه؛ [لأنه أقر في جميع نصيبه].

وإن كانوا ثلاثة، وأقر واحد، يلزمه الثلث. وحكى بعض أصحابنا قولاً عن القديم؛ وهو قول أبي حنيفة: يلزمه جميع المقر به، إلا أن يكون أكثر من حصته من التركة فلا يلزمه الزيادة؛ لأن الدين مقدم على الميراث؛ وهو مقر أنه لا يحل له شيء من التركة ما دام على الميت دين. ولو شهد واحد من الورثة بدين على الميت، هل يقبل أم لا؟ سواء شهد بعد الإقرار أو قبله؟ فإن قلنا: لا يلزمه بالإقرار إلا بقدر حصته من التركة يقبل؛ لأنه لم يجر إلى نفسه نفعاً بهذه الشهادة. ثم إن شهد اثنان من الورثة، يثت الدين كله. وإن شهد واحد، حلف المقر له معه، ويثبت الكل. وإن قلنا: يلزمه بالإقرار جميع الدين، لا تقبل شهادته؛ لأنه متهم في شهادته بإسقاط بعض الدين عن نفسه، وإن شهد واحد منهم وهو فاسق، فهو كالإقرار عند أبي حنيفة. إن شهد واحد منهم بعد الإقرار، لا يقبل، لأجل التهمة، وإن شهد قبله يقبل. فإن قلنا: لا يلزمه إلا بقدر حصته، فلو مات الابن المنكر، وهذا المقر وارثه، وعاد جميع التركة إليه- هل يلزمه جميع المقر به؟ فيه وجهان: الأصح- وهو المذهب-: يلزمه؛ لأن جميع التركة في يده. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه ورث بعض التركة من منكر. والأول المذهب؛ كما لو ادعى على رجل ديناً فأنكر، ثم مات فأقر به وارثه- يلزمه؛ لأن التركة في يده، وقد أقر بها. ولو أقر أحد الابنين؛ أن أبانا أوصى لفلان بكذا، وأنكر الآخر- لا يخلو؛ إما إن كانت الوصية مرسلة أو بجزء شائع، أو بمتاع بعينه: فإن كانت الوصية مرسلة، فهو كالدين لا يلزمه إلا نصف المقر به، إذا لم يكن أكثر من ثلث نصيبه؛ على القول الجديد؛ وهو المذهب. وما حكي عن القديم: يلزمه جميع الموصى به إذا لم يكن أكثر من ثلث نصيبه. ففي الجديد وهو المذهب، وعلى ما حكي عن القديم: يتعلق نصف المقر به بثلث نصيبه.

وفي القديم: يتعلق كل المقر به بثلث نصيبه، مثل: إن كانت التركة ثلاثة آلاف، أخذ كل واحد ألفاً وخمسمائة، أقر أحدهما أنه أوصى لإنسان بخمسمائة: ففي الجديد: يلزمه مائتان وخمسون. وفي القديم: يلزمه خمسمائة، وإن أقر أنه أوصى بألف، يلزمه خمسمائة، على القولين جميعاً. وإن أقر أحدهما أنه أوصى لفلان بجزء شائع: فإن قال: أوصى له بثلث ماله، أو بربع ماله، وأنكر الآخر- يجب على المقر أن يدفع إليه ثلث حصته، أو ربع حصته. فإن شهد أحد الاثنين، أن الأب أوصى له بثلث ماله، حلف معه الموصى له، وأخذ ثلث جميع التركة. ولو أقر أحدهما أن الأب أوصى له بعين أشار إليها، وكذبه الآخر- نظر: إن كان قبل قسمة التركة، يسلم إلى المقر له حصة المقر من تلك العين، والباقي للمنكر، ثم للمقر له أن يدعي على المنكر، ويحلفه. وإن كان بعد القسمة؛ نظر: إن كانت العين كلها في يد المقر، عليه تسليمها إلى المقر له ولا شيء له على الآخر، وإن كانت في يد المنكر، فعلى المقر نصف قيمة العين للمقر له. ولو شهد أحدهما؛ بأن العين التي في يد أخي ملك لفلان، وحلف الموصى له معه- سلمت العين إليه، ورجع المشهود عليه على الذي شهد بنصف قيمتها؛ حتى يستويا في التركة. باب الشهادة على الشهادة يجوز الشهادة على الشهادة في غير العقوبات؛ لأن الحق يثبت تارة بالإقرار، وتارة بالشهادة، ثم الشهادة على الإقرار مقبولة، وكذلك على الشهادة؛ وسواء فيه الحقوق المالية وغير المالية؛ كالنكاح وغيره وسواء فيه حقوق الله- تعالى- كالزكوات، ووقف المسجد، أو حقوق العباد.

أما العقوبات: فإن كانت من حدود الله- تعالى- كحد الزنا، والشرب، وقطع السرقة، وحد قاطع الطريق- هل تثبت بالشهادة على الشهادة؟ فيه قولان: أحدهما: تثبت؛ لأن ما يثبت بالشهادة يثبت بالشهادة على الشهادة؛ كالأموال. والثاني- وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة-: لا يثبت؛ لأن الشهادة على الشهادة لتأكيد الوثيقة؛ ليتوصل بها إلى إثبات الحق، والعقوبات يحتاط لدرئها، وإسقاطها. وإن كانت من حقوق العباد؛ كالقصاص وحد القذف- فالمذهب: أنه يثبت بالشهادة على الشهادة؛ لأن مبنى حقوق العباد على الضيق والشدة. وخرج [ابن الحداد] قولاً من حدود الله- تعالى- أنه لا يثبت؛ لأنه مما يندرئ بالشبهة، وما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي، وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب القاضي، لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي؛ كما يتحمل شاهد الفرع من شاهد الأصل، وإنما تقبل شهادة شهود الفرع عند تعذر الوصول إلى شهود الأصل بموت، أو مرض، أو غيبة إلى مسافة القصر.

فإن كان شاهد الأصل على مسافة دون مسافة القصر- نظر: إن كان على مسافة لو خرج بكرة وأدى الشهادة يمكنه أن يرجع إلى أهله بالليل؛ فلا تقبل شهادة شهود الفرع. وإن كان لا يمكنه أن يرجع إلى أهله بالليل، فعلى وجهين: ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة؛ حتى يشهد شاهد الأصل عنده، ويشهد على شهادته ويسترعيه فيقول: اشهد على شهادتي؛ فلو سمع رجلاً يقول: لفلان على [فلان] كذا، لا يجوز أن يشهد على قوله؛ لأنه قد يقول ذلك عن عدة وعدها لفلان؛ خلاف ما لو سمع رجلاً يقر على نفسه، فيقول: لفلان على كذا، يجوز أن يشهد على إقراره؛ لأن المقر يوجب الحق على نفسه، فالظاهر أنه لا يقر على نفسه إلا عن صدق. وقد يحكي عن الغير لا عن يقين، ولأن الشهادة آكد من الإقرار؛ لأنه يعتبر فيها العدالة، ولا يشترط في الإقرار العدالة؛ فيجب أن يقول شاهد الأصل: أشهد أن لفلان على فلان كذا، ويبين سببه فيقول: له على فلان ألف درهم من قرض، أو بدل إتلاف، أو ثمن متاع، فاشهد أنت على شهادتي، أو اشهد بما شهدت؛ حتى لو لم يقل: فاشهد أنت به، لا يجوز أن يشهد. ولو قال: اشهد به، ولم يقل: على شهادتي، أو بما شهدت به- لا يجوز أن يشهد؛ لأنه ما لم يسترعه لا يتحقق الوجوب. فلو أشهد على شهادته رجلاً على هذا الشرط؛ فسمعه رجل، جاز أن يشهد على شهادته؛ لأن الإشهاد إذا صح في حق واحد تحقق الوجوب؛ فجاز لكل من سمع أن يشهد. وعند أبي حنيفة: لا يجوز ما لم يشهده بعينه وكذلك عندنا: لو شهد رجل عند القاضي أن لفلان على فلان كذا، فسمعه [القاضي] وجماعة، لم يقض به؛ حتى عزل- جاز لتلك الجماعة أن يشهدوا على شهادته، وإن لم يقل لهم: اشهدوا على شهادتي. وكذلك يجوز للقاضي أن يشهد عند قاض آخر، لأن وجوب الحق قد تحقق بأداء الشهادة عند القاضي. وكذلك لو شهد عند المحكم؛ سواء جوزنا التحكيم، أو لم نجوز- فيجوز لمن سمع أن يشهد على شهادته. وقال الإصطخري: عندي المحكم إنما يجوز على قول جواز التحكيم؛ فأما [على]

القول الآخر فلا يجوز. وقال الشيخ القفال- رحمه الله-: إذا قال شاهد الأصل: أشهدتك على شهادتي أن فلاناً أقر لفلان بكذا، أو قال: اشهد على شهادتي؛ أن لفلان على فلان كذا- يكفي هذا القدر للتحمل. وإذا أراد شاهد الفرع أداء الشهادة، أداها على الصفة التي تحمل، فإن أشهده شاهد الأصل، واسترعاه. قال: اشهد أن فلاناً شهد أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن سمعه [شهد] عند الحاكم يقول: اشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا. ويستحب للقاضي أن يسأل شاهد الفرع؛ بأي سبب ثبت هذا المال هل أخبرك به شاهد الأصل؟ ولو لم يسأل جاز. ولا تقبل في الشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي وشهادة النساء. وإن كان شاهد الأصل امرأة، وكانت شهادتها على مال أو رضاع؛ لأن شاهد الفرع يثبت بشهادة شاهد الأصل، وليس ذلك بمال، ولا المقصود منه المال؛ وهو مما يطلع عليه الرجال. ويجوز تحمل الشهادة على الشهادة من الفاسق، والصبي، والعبد، والأخرس؛ كتحمل شهادة الأصل؛ ثم الأداء لا يصح إلا بعد البلوغ، والتوبة، والعتق، وزوال الخرس. أما إذا كان الأصل يوم يشهدهم فاسقاً، أو صبياً، أو عبداً، أو كافراً- لا يصح التحمل؛ لأنهم ليسوا من أهل الشهادة بأن تقبل شهادتهم. ولو كان عدلاً يوم التحمل؛ ففسق، أو ارتد أو صار عدواً. نظر: إن أدى شاهد الفرع شهادته في حال فسق الأصل، أو ردته- لم يقبل، وإن أدى بعد توبته تقبل، وإن حدثت هذه المعاني بعد أداء الشهادة قبل القضاء، لا يقضي. قال شيخنا الإمام- رحمه الله-: وإن أدى في حال جنون الأصل، أو بعد ما عمي تقبل، كما لو أدى بعد موت الأصل؛ وكما يجوز القضاء بعد جنون الشهود. ولو شهد شهود الفرع ي حال غيبة شهود الأصل، ثم حضر شهود الأصل؛ فإن كان بعد القضاء لا ينقض، وإن كان قبل القضاء لا يقضي إلا بشهادة شاهد الأصل؛ لأن شهادة

شاهد الفرع بدل له لا حكم له بعد وجود الأصل؛ كالمتيمم يجد الماء قبل الشروع في الصلاة، لا يجوز أن يصلي بالتيمم. وكذلك لو كذب شهود الأصل شهود الفرع، أو رجع بعد القضاء- لا تنقض، وإن كان قبل القضاء لا يقضي؛ ولا تقبل الشهادة على الشهادة؛ حتى يسمي شاهد الفرع شاهد الأصل بما يعرف به؛ لأن عدالته شرط، فإذا لم يعرف لم يعلم عدالته. فإن قال شهود الفرع: تشهد على شهادة عدلين، ولم يسموهما، لم يحكم؛ لأنه يجوز أن يكونوا عدولاً عندهم غير عدول عند الحاكم. ولا يحتاج شاهد الفرع في أداء الشهادة إلى تعديل شاهد الأصل، بل يطلق الشهادة، ثم القاضي يبحث عن عدالته. وعند أبي حنيفة: يشترط أن يعدل شاهد الفرع شاهد الأصل. وعندنا: لو عدله جاز، ولو كان شهود الفرع مزكين صح تعديلهم، ولا يحتاج إلى إعادة التعديل؛ على ظاهر المذهب؛ وإن لم يكونوا مزكين لا يعتبر تعديلهم، ويعاد. فإن قيل: إذا شهد شاهدان على حكم، وكان أحدهما مزكياً فزكى الآخر قلتم: لا يجوز، وهاهنا جوزتم تعديل شاهد الفرع شاهد الأصل؟ قلنا: قد قيل: فيهما وجهان، والصحيح هو الفرع بينهما؛ وذلك أن أحد الشاهدين قام بأحد شطري الشهادة؛ فيزكيه الشاهد الآخر قياماً بالشطر الثاني؛ فلم يجز؛ ولذلك لا يجوز إلا أنيكون على شهادة كل أصل شاهدان آخران. أما تزكية شاهد الفرع شاهد الأصل من تتمة شهادته؛ حتى قال بعض أصحابنا: لا تقبل شهادة شاهد الفرع؛ حتى يزكي شاهد الأصل في شهادته. فصل في عدد شهود الفرع العدد شرط في شهود الفرع؛ فإن كان شهود الأصل اثنين، وشهد على شهادة كل واحد منهما رجلان عدلان سوى من شهد على الآخر- جاز. وإن شهد واح على شهادة أحدهما، وشهد آخر على شهادة الآخر، لم تثبت؛ لأنه لم يشهد على شهادة كل واحد إلا واحد. وإن شهد عدلان على شهادة أحدهما، ثم هما شهدا على شهادة الآخر- ففيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المزني، وقوله الجديد-: لا يجوز؛ حتى يشهد على شهادة كل أصلي شادان آخران؛ لأنهما إذا شهدا على شهادة أحد الأصلين كانا كشاهد واحد، يثبت بشهادته أحد الشطرين، فلا يثبت به شيء من الشطر الآخر؛ كمن شهد على شيء، ثم أعاد

الشهادة، لا تجعل كما لو شهد اثنان. وقال في القديم- وبه قال أبو حنيفة-: يجوز؛ لأ، هـ إثبات قول اثنين، فيجوز بشاهدين؛ مكا لو شهد على إقرار رجلين. والأول أصح؛ لأنه يشترط أن يكون على شهادة كل واحد شاهدان؛ فعلى هذا: لو شهد أربعة على شهادة أحدهما، ثم هؤلاء الأربعة شهدوا على شهادة الآخر- هل يثبت؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأنه وجد بعدد كل أصلي رجلان. والثاني: لا يثبت؛ لأن جميع هؤلاء الأربعة قاموا بأحد شطري الشهادة؛ فلا يثبت بهم الشطر الثاني. ولو أقام شاهدين على شهادة شاهدين، وقلنا: لا تثبت، فله أن يحسب عن أيهما شاء؛ فيكون كما لو أقام شاهداً، وحلف معه؛ فيثبت المال. ولو كان شهود الأصل رجل وامرأتان، فلا تثبت شهاتهم إلا بستة على شهادة كل واحد منهم عدلان؛ على القول الأصح. والثاني: يكتفي باثنين على شهادة الكل. وإإن كان شهود الأصل أربع نسوة في الولادة، والرضاع- فعلى القول الجديد: لا يثبت إلا بشهادة ثمانية، يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن. وعلى القول الآخر: يثبت بشهادة عدلين، يشهدان على شهادة الكل. أما الزنا: إذا قلنا: يجوز إثباته بالشهادة على الشهادة، فإن كان شهود الأصل أربعة، فلم يشترط عدد شهود الفرع؟ إن قلنا- بقوله القديم-: إنه يقبل على شهادة الألين شاهدين- فهذا يبنى على أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين؟ وفيه قولان. ووجه الشبه بينهما: أن هذه شهادة على قول يثبت به الزنا، ليست على فعل الزنا. فإن قلنا: يثبت الإقرار بشهادة رجلين، فهاهنا يكتفي برجلين يشهدان على شهادة الكل. وإن قلنا: لا يثبت الإقرار بالزنا إلا بأربعة، فهاهنا لا يكتفي إلا بأربعة يشهدون على شهادة الكل. وإن قلنا بقوله الجديد: إنه يشترط على شهادة كل أصل شاهدان- فهذا يبنى على ما ذكرنا. إن قلنا: يثبت الإقرار بالزنا بشهادة رجلين، فيشترط هاهنا ثمانية رجال على شهادة كل أصلي شاهدان.

وإن قلنا: لا يثبت الإقرار بالزنا إلا بأربعة، فيشترط ستة عشر رجلاً على شهادة كل أصلي أربعة. ولو شهد أحد الأصلين، ثم جاء هو مع فرعين، وشهدا على شهادة الأصلي الآخر- لا يثبت بالاتفاق، ويجوز لشهود الفرع أن يشهدوا على شهادتهم، ولشهود فرع الفرع كذلك، وإن بعدوا وكل واحد يشهد غير من أشهده الآخرز ولا تثبت شهادة كل واحد من شهود فرع الفرع إلا برجلين؛ على القول الأصح؛ حتى لا يثبت الأصليان إلا بأربعة، ولا يثبت الأربعة الفرعيون إلا بمثمانية، ولا يثبت الثمانية إلا بستة عشر. والله أعلم. باب الشهادة على الحدود قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. لا يثبت الزنا إلا بأربعة من الشهود ذكور، ويجب أن يصفوا الزنا؛ فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة. ولو شهدوا مطلقاً أنه زنى لا يثبت؛ لأنهم ربما يرون المفاخذة، والاستمناء زناً، وإذا لم يفسروا عليهم حد القذف. وإذا أقر على نفسه بالزنا، هل يشترط أن يفسر؛ حتى يقبل إقراره؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط؛ كالبينة. والثاني: لا يشترط؛ كما لو قذف إنساناً يحد، ولا يطلب التفسير. ويجب أن يتبينوا أنه زنى بامرأة أجنبية؛ لأنهم قد يرون إتيان البهيمة زنا، وقد يكون المفعول بها جارية مشتركة بينه وبين غيره، وجارية ابنه، ويجب أن يتفقوا على مكان واحد. ولو شهدوا أنه زنى بها في بيت واحد وعين كل واحد زاوية في البيت غير ما عينها الآخر، لا يثبت الزنا على المشهود عليه؛ وهل يجب على الشهود حد القذف؟ فيه قولان. [وكذلك إذا شهد أقل من أربعة، فهل عليهم حد القذف؟ فيه قولان:].

أصحهما- وبه قال أبو حنيفة-: يجب عليهم الحد. وكذلك لو شهد اثنان أنه زنى بـ"البصرة"، وآخران أنه زنا بـ"الكوفة"-لا يجب الحد على المشهود عليه؛ وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فيه قولان: وعند أبي حنيفة هاهنا: لا يحد الشهود مع قوله: إن الشهود إذا انتقص عددهم يحدون. وقال في شهود الزوايا: القياس أنهم قذفة يحدون، لكن استحسن؛ فأرجمهما. قال الشافعي: وأي استحسان في سفك دم امرأين مسلمين. فلو شهد ثلاثة بالزنا وفسروه، وشهد الرابع ولم يذكر الزنا، بل فسره بما لا يكون زنا؛ كقوله: رأيت نفساً يعلو وإستا [ينبو]- فلا حد على المشهود عليه، ولا يجب حد القذف على الرابع، وفي الثلاثة قولان: ولو شهد أربعة على الزنا، ثم فسره ثلاثة بالزنا، وفسره الرابع بما ليس بزنا- لا يجب الحد على المشهود عليه، ويجب حد القذف على الرابع قولاً واحداً، لأنه قذفه بالزنا؛ وهل يجب حد القذف على الثلاثة؟ فيه قولان: ولو شهد أربعة بالزنا، ومات واحد منهم قبل أن يفسر، وفسره الآخرون بالزنا- لا يجب الحد على المشهود عليه؛ لجواز أن يكون الرابع يفسر بما ليس بزنا، ولا يجب حد القذف على الثلاثة؛ لجواز أن يكون الرابع يفسره بالزنا؛ فيسقط الحدان بالشبهة. ومن أقر بين يدي الحاكم بما يوجب عقوبة لله تعالى، أو ادعى عليه العقوبة- يجوز للحاكم أن يعرض له بالرجوع، ويلقنه ما يوجب سقوط [العقوبة] فيقول في الزنا: لعلك فاخذت أو لمست؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لماعز: "لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت"، ويقول في شرب الخمر: لعل ما شربته لم يكن مسكراً، أو لعلك لم تعلم كونه مسكراً. وفي السرقة يقول: لعلك غصبت، أو أخذت من غير حرز أو أخذت بإذن المالك؛ كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- للسارق: "لا إخالك سرقت". فإن قيل: إذا ثبت هذا التعريض بالحديث، فهلا قلتم: إنه يستحب؟ وقال الشافعي- رحمه الله-: لا بأس به. فجعله مباحاً. قلنا: بل هو مباح، والإمام فيه مخير؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد فعله، وتركه كان أكثر،

ولو كان مستحباً ما تركه. وقيل: يستحب، وجعله مباحاً؛ لأن كل مستحب مباح. وأما في حقوق العباد: فلا يجوز أن يلقنه ما يسقط، سواء كان مالاً، أو عقوبة؛ مثل: القصاص، وحد القذف، وفي السرقة لا يعرض له بما يسقط المال، إنما يلقنه ما يسقط القطع، لأن حقوق الله مبناها على المساهلة، ولذلك يستحب فيه الستر، وفي حقوق العباد يجب الإظهار. قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أسلم يقال له: هزال: "يا هزال لو سترته بردائك؛ لكان خيراً لك". وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالتوق في حدود الله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه يورث قدحاً في الشهود. والثاني: يجوز، فإن عمر- رضي الله عنه- عرض لزياد في الشهادة على المغيرة، فقال: إني لأرجو ألا يفضح الله على لسانك أحداً من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وكما يجوز أن يعرض للمقر بالتوقف. فصل فيما يطرأ على الشهود بعد الشهادة إذا شهد الشهود على إنسان بحق من: حد أو غيره، ثم مات الشهود قبل القضاء- يجوز للقاضي أن يقضي بشهادتهم، وإن كان قبل التعديل يعدلهم بعد الموت؛ فإن عدلوا، حكم بشهادتهم. وكذلك لو غاب الشهود، أو عموا، أو خرسوا، أو جنوا قبل القضاء- يجوز للقاضي أن يقضي بشهادتهم إذا ثبت عندهم عدالتهم حالة الشهادة، وإن كان التعديل بعد حدوث هذه المعاني. أما إذا فسق الشهود بعد الشهادة قبل الحكم، أو ارتدوا، لا يجوز أن يحكم بشهادتهم؛ لأن الفسق يوقع ريبة في شهادتهم المتقدمة؛ من حيث إن الناس يستبطنون الفسق، فإذا ظهر ذلك الفسق، لا يؤمن أن ذلك فيهم حالة الشهادة، فلم يجز ذلك الحكم؛ بخلاف الموت، والعمى.

وكذلك لو قذف المشهود عليه الشاهدين بعد الشهادة قب الحكم لا تسقط شهادتهما، ويحكم بها؛ لأن العداوة أمر حدث بعد الشهادة؛ فلا يورث ريبة فيما مضى؛ لأن العداوة لا تستبطن؛ فلم تمنع الحكم. أما إذا فسقوا بعد القضاء، أو ارتدوا، فلا ينقض القضاء؛ كما لو تغير- اجتهاد القاضي قبل الحكم لا يحكم، ولو تغير بعد القضاء لا ينقض. وكذلك لو رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم، لا يجوز أن يحكم بشهادتهم، ولو رجعوا بعد الحكم والاستيفاء، لا ينقض الحكم. ويأتي الكلام في الغرم. وإن رجعوا بعد الحكم قبل الاستيفاء؛ نظر: إن كان حداً لله- تعالى- فلا يجوز الاستيفاء؛ لأنه يسقط بالشبهة رجوعهم عن الشهادة؛ فوقع شبهة فيه. وإن كان مالاً أو عقداً، ففيه وجهان: أصحهما- وهو المنصوص-: أنه يستوفى؛ لأن الشبهة لا تؤثر فيه، وقد نفذ الحكم به؛ فلا يرد. والثاني: لا يستوفي؛ لأن الرجوع حصل قبل استقرار الحكم. وإن كان عقوبة للعباد؛ مثل: القصاص، وحد القذف: فمن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: لا يستوفي؛ لأنه يدرأ بالشبهة؛ كحدود الله تعالى. والثاني: حكمه حكم المال؛ لأن مبنى حقوق العباد على الضيق. وقيل في النكاح: هل يسلم حكمه حكم القذف والقصاص، ولو فسق الشهود أو ارتدوا بعد الحكم قبل الاستيفاء، حكمه حكم الرجوع. فصل في اختلاف الشهود لا تثبت السرقة إلا بشاهدين. ويجب بيان قدر المال في الشهادة، ووصف الحرز وتسمية المسروق منه. ويشترط اتفاق الشادين في الشهادة، فلو شهد أحد الشاهدين؛ أنه سرق من فلان كذا، ووصفه غدوة، وشهد الآخر؛ أنه سرق ذلك الشيء بعينه عشية- لا يثبت به القطع، ويحلف المدعي مع أحد الشاهدين، ويأخذ الغرم؛ لأن المال يثبت بشاهد ويمين. أما إذا شهد الشاهدان أنه سرق ثوباً أو كبشاً؛ صفته كذا غدوة، وشهد آخر؛ أنه شهد ذلك الثوب، أو الكبش بعينه عشية- فقد تعارضت البينتان؛ فلا يحكم بواحد منهما؛ بخلاف

المسألة الأولى؛ لأن هناك لم يقع التعارض في الحجة؛ لأن الشاهد الواحد لا يكون حجة ما لم تنضم إليه اليمين، وهاهنا تعارضت الحجتان؛ فسقطتا. أما إذا كان لم يعينا الكيس، بل شهد أحدهما؛ أنه سرق كبشاً غدوة، وشهد الآخر؛ أنه سرق كبشاً عشية، أو شهد أحدهما؛ أنه سرق ثوباً أبيض، وشهد الآخر؛ أنه سرق ثوباً أسود- فلا قطع، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء وأخذ الغرم. وإن ادعاهما جميعاً، حلف مع كل واحد منهما، وحكم له بهما. أما إذا شهد شاهدان؛ أنه سرق كبشاً غدوة وشهد آخران؛ أنه سرق كبشاً عشية- وجب القطع، والغرم فيهما، لأنهما سرقتان كملت حجة كل واحد منهما. ولو شهد أحد الشاهدين؛ أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، وشهد آخر؛ أنه سرق ذلك الثوب بعينه، وقيمته ثمن دينار- يثبت الأقل؛ لاتفاقهما عليه، ويحلف مع الآخر على الزيادة؛ كما لو شهد أحدهما؛ أنه سرق ربع دينار، وشهد الآخر؛ أنه سرق ثمن دينار- يثبت الأقل، ولا يجب القطع. أما إذا شهد شاهدان؛ أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، أو أتف ثوباً قيمته ربع دينار، وشهد آخر؛ أن قيمته ثمن دينار- يثبت الأقل عندنا أيضاً؛ لاتفاق الشهود عليه، ووقع التعارض في الزيادة. وعند أبي حنيفة: يحكم بالأكثر. وبالاتفاق: لا يجب القطع؛ وبمثله: لو شهد شاهدان؛ أنه سرق قطعة ذهب، وزنها ربع دينار، وشهد آخران؛ أن وزنها ثمن دينار- يثبت الأكثر بالاتفاق؛ لأن عند من شهد بالأكثر زيادة علم، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن اختلافهما ثم في القيمة، وهي بالاجتهاد، وقد يعلم شاهد الأقل به عيباً ينتقص قيمته؛ ولا يجب القطع بالشبهة. والله أعلم. باب الرجوع عن الشهادة إذا شهد الشهود بحق، ثم رجعوا بعد الحكم والاستيفاء، أو بعد الحكم قبل الاستيفاء، وقلنأ: يستوفي- هل يجب الغرم على الشهود أم لا؟ لا يخلو: إما إن كان شيئاً لا يمكن تداركه، أو يمكن؛ فإن لم يمكن تداركه؛ مثل: أن يشهدوا بقتل، أو قطع، فاستوفي، أو بجلد؛ فجلد؛ فمات فيه المشهود عليه، ثم رجع

الشهود وقالوا: تعدمنا- يجب عليهم القصاص، أو الدية؛ على ما ذكرنا في "كتاب الحدود". وإن شهدوا على غير عقوبة مما لا يمكن تداركه؛ مثل: أن شهدوا على عتق عبد أو طلاق بائن من خلع، أو ثلاث طلقات، أو لعان، أو رضاع، أو غير ذلك من أنواع الفرقة، ثم رجعوا بعد الحكم- لا يرد العتق ولا الفراق؛ لأن القضاء مضى بالاجتهاد، ولا يتحقق صدقهم في قولهم: إنا كذبنا؛ فلا يرد القضاء بقول محتمل، ويجب على الشهود قيمة العبد في العتق، والمهر في فراق النكاح بطلاق، أو رضاع، أو غيرهما؛ سواء كان قبل الدخول، أو بعده. وعند أبي حنيفة: لا شيء على الشهود إن كان بعد الدخول؛ فيقول: قد وقعت الحيلولة بين الرجل وبين زوجته بشهادته؛ فإذا رجع عنها، يجب الغرم؛ كما لو كان قبل الدخول. ثم عندنا: إن كان بعد الدخول، يجب على الشهود كمال مهر المثل. وإن كان قبل الدخول، نقل المزني: أنه يجب على الشهود كمال مهر المثل. ونقل الربيع: أنه يجب عليهم نصف مهر المثل؛ فمن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: في المسألة قولان: أحدهما: يجب عليهم نصف مهر المثل؛ لأن الزوج لم يغرم لها إلا نصف المهر، وقد عاد إليه نصفه؛ ألا ترى أنهما لو شهدا بالإقالة، ثم رجعا، لم يغرما شيئاً؛ لأنهما إن أخرجا السلعة عن ملك المشتري، فقد رد إليه الثمن. والثاني- وهو الأصح- يجب عليهم كمال مهر المثل؛ لأنهم أتلفوا عليه جميع البضع؛ فيجب عليهم جميع بدله؛ كما في العتق يجب عليهم كمال قيمة العبد. ومن أصحابنا من قال: المسألة على اختلاف الحالين إن كان الزوج قد سلم الصداق إليها، فيرجع على الشهود بجميع مهر المثل؛ لأنه لا يمكنه أن يسترجع شيئاً منها؛ لأن بزعمه أنها زوجته؛ وهي مستحقة جميع الصداق؛ وإن كان قبل التسليم، فلا يرجع إلا بنصف المهر؛ لأنها لا تطالبه إلا بنصف الصداق. والأصح: أنه يجب على الشهود جميع المهر؛ لأن الاعتبار بما أتلف عليه، لا بما غرم؛ ألا ترى أنه يرجع بمهر المثل، وإن غرم المسمى؛ سواء كان مهر المثل أقل من المسمى، أو أكثر. ولو أبرأته المرأة عن الصداق، فالزوج يرجع بالمهر على الشهود، وإن لم يغرم شيئاً؛

وكذلك في العتق يرجع بقيمة العبد على الشاهد، وإن كان ملكه بالهبة، أو اشتراه بأقل من قيمته، أو باعه وقد أبرأه عن الثمن. ولو نكح بلا مهر، ثم شهد الشهود، أنه طلقها قبل الدخول، ورجعوا بعد القضاء- يجب على الزوج المتعة، ولا يجب على الشهود المتعة، بل يجب مهر المثل، أو نصفه أو كله؟ فعلى ما ذكرنا من الاختلاف. ولو شهدوا أنه أعتق مدبرة، أو مكاتبه، أو المعلق عتقه بالصفة، أو أم ولده، ثم رجعوا بعد الحكم- تجب القيمة على الشهود؛ وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وعند أبي حنيفة: لا يجب الغرم في أم الولد. ولو شهدوا على طلاق رجعي، ثم رجعا بعد الحكم فإن لم يراجعها الزوج،، حتى انقضت العدة، يجب المهر على الشهود، فإن راجعها فلا غرم؛ بخلاف ما لو شهدوا على طلاق بائن، ثم نكحها الزوج- لا يسقط الغرم؛ لأن الملك قد زال هناك بشهادتهم. وغذا رجع شهود الطلاق، وغرموا المهر، ثم قامت بينة على إخوة الرضاع بين الزوجين- يسترد الشهود ما غرموا. ولو شهدوا على تدبير عبد، واستيلاد جارية، ثم رجعا بعد الحكم- فلا غرم؛ لأن الملك لم يزل به، غلا أن يعتق بموته؛ فيغرمان بالرجوع السابق. قال الشيخ الإمام: وكذلك لو شهدا على تعليق العتق، أو الطلاق، [ثم رجعا]. ولو شهد شاهدان على تعليق العتق، أو الطلاق بالصفة، وآخران على وجود الصفة، ثم رجعوا بعد الحكم- فالغرم على شهود التعليق؛ على الصحيح من المذهب. وقيل: عليهما نصفان. ولو شهدا على وقفية شيء على الفقراء، أو على المساجد، أو شيء من وجوه الخير، ثم رجعا بعد الحكم- لا يرد الحكم؛ كما في العتق، ويجب على الشهود قيمته. ولو شهدا أنه تزوج امرأة بألف، ثم رجعا بعد الحكم- فلا ضمان عليهما؛ لأن العقد لا يرتفع. ولو شهدوا أنه أعتق عبده على مال، ثم رجعوا بعد الحكم- عليهم الغرم. فإن كانت

قيمة العبد ألفين، وشهدوا أنه اعتقه على ألف، أو مهر المرأة ألفين وشهدوا أنه طلقها على ألف، ثم رجعوا بعد الحكم- لا يجب عليهم الألف؛ لأنه وصل إليه ألف من جهة العبد والمرأة. ولو شهد على الطلاق، أو العتق رجلان، ثم رجعا- فالغرم عليهما نصفان؛ وإن رجع أحدهما، فعليه نصف الغرم. ولو شهد ثلاثة فرجعوا، فالغرم عليهم أثلاثاً؛ على كل واحد ثلثه، ولو رجع واحد منهم، فالصحيح من المذهب؛ وهو قول أبي حنيفة: أنه لا غرم على الراجع؛ لأنه قد بقي من يتعلق الحكم بشهادته. وفيه وجه آخر- وبه قال المزني-: يجب عليه ثلث الغرم. وإن رجع منهم اثنان، فعلى الصحيح من المذهب: يجب عليهما نصف الغرم؛ لأنه قد بقي هناك من يتعلق بشهادته نصف الغرم. وعلى قول المزني: يجب عليهما ثلثا الغرم، وقد ذكرناه في "كتاب الحدود". ولو شهد على الرضاع أربع نسوة، ثم رجعت واحدة منهن- عليها ربع الغرم، وإن رجعن جميعاً، فعليهن جميع الغرم أرباعاً. ولو شهد عليه رجل وامرأتان؛ فإن رجع الرجل، فعليه نصف الغرم؛ وإن رجعت المرأتان، فعليهما النصف على كل واحد ربعها؛ وإن رجعت واحدة منهما، فعليها الربع. ولو شهد عليه رجل وأربع نسوة؛ فرجعوا، فيجب على الرجل ثلث الغرم، وعلى النساء الثلثان؛ على كل واحدة سدس الغرم. وإن رجع الرجل وحده، فلا شيء عليه؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه قد بقي من يتعلق بشهادتهن الحكم. وعلى قول المزني: عليه ثلث الغرم. وإن رجعت امرأتان، فكذلك لا شيء عليهما؛ على الصحيح من المذهب. وعلى قول المزني: عليهما ثلث الغرم. ولو شهد رجل وعشرة نسوة ثم رجعوا، فعلى الرجل سدس الغرم، والباقي عليهن؛ على كل واحدة نصف السدس. ولو رجع الرجل دونهن، فلا شيء عليه؛ على الصحيح من المذهب؛ لأن الرضاع يثبت بشهادة من بقي. وكذلك إذا رجع الرجل مع المرأتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو

ست- فلا شيء عليهم. فإن رجع سبع منهن مع الرجل، فعليهم ربع الغرم، وإن رجع مع ثمان فعليهم نصف الغرم، فإن رجع مع تسع فثلاثة أرباع الغرم، ويجب على الرجل مثلاً ما على المرأة. وعند المزني: إذا رجع الرجل وحده، عليه سدس الغرم، وعلى كل امرأة ترجع نصف السدس فإن بقي في الشهادة من يقع بهم الحكم. وإن رجع النساء دون الرجال، فعليهن نصف الغرم؛ على الصحيح من المذهب. وعلى قول المزني: عليهن خمسة أسداس الغرم. أما إذا شهدوا على ما يمكن تداركه؛ مثل: أن يشهدوا على إنسان بعين، أو بدين لآخر، ثم رجعوا بعد القضاء، والاستيفاء- لا يرد المال على المدعي عليه؛ وهل يجب الغرم على الشهود؟ فيه قولان: أحدهما- وبه قال مالك، وأبو حنيفة: يجب عليهم الغرم؛ لأن ما يضمن بالإتلاف بغير الشهادة يضمن بالإتلاف بالشهادة؛ قياساً على النفس؛ وذلك لأنهم فوتوا الملك على المالك بشهادتهم الباطلة؛ فيضمنون؛ كما في العتق والطلاق. والقول الثاني- وهو المنصوص-: لا يجب عليهم الغرم؛ لأنه لم يوجد هاهنا حقيقة التفويت؛ بدليل أن المشهود له إذا صدق الشهود في الرجوع، يجب عليه رد المال؛ بخلاف الطلاق والعتق، فإن المرأة والعبد لو صدقا الشهود في الرجوع، لا يرد الطلاق والعتق. وهذا؛ لأن ضمان المال إنما يجب إما بإتلاف، أو بإيقاع الحيلولة؛ بالاستيلاء عليه، وهاهنا وقعت الحيلولة من غير استيلاء من الشهود على المال؛ فلا يجب الضمان؛ كما لو حبس المالك عن ملكه؛ حتى هلك ملكه- لا يجب الضمان على الحابس. فمن أصحابنا من بنى هذين القولين على ما لو قال: غصبت هذه الدار من فلان، لا: بل من فلان- تسلم الدار إلى الأول؛ وهل يغرم للثاني قيمتها؟ فيه قولان، ويجعل رجوع الشهود عن الشهادة كرجوع المقر عن الإقرار. ولو كان بين رجلين عبد شهد شاهدان على أحد الشريكين؛ أنه أعتق نصيبه، وهو موسر؛ فقضى القاضي بعتقه والسراية، ثم رجعوا- يجب على الشهود قيمة نصيب المشهود عليه؛ وهل يجب قيمة نصيب الشريك؟ فعلى قولي ضمان المال. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه: ولو شهدوا على قتل الخطأ، وأخذت الدية، ثم

رجعوا- هل يضمنون؟ فعلى قولي ضمان المال. وإن قلنا: يضمنون، ضمنوا الدية للعاقلة. فإن قلنا: يجب الغرم على الشهود. فإن شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا- فعلى الرجل نصف الغرم، وعلى المرأتين نصفه؛ كما ذكرنا في "الرضاع". ولو شهد رجل وأربع نسوة، ثم رجعوا، فالصحيح من المذهب: أنه يجب على الرجل نصف الغرم، وعليهن النصف. وقيل: يجب على الرجل ثلث الغرم، وعليهن الثلثان؛ لأن كل امرأتين بمنزلة رجل؛ كما في "الرضاع"؛ والمذهب الأول: أن على الرجل نصف الغرم؛ بخلاف الرضاع؛ لأن الرضا يثبت بشهادة النساء على الانفراد؛ مقام كل امرأتين فيه مقام رجل، والمال لا يثبت بشهادة النساء، وإن كثرن؛ حتى يكون معهن رجل؛ فلم يجب عليهن من الغرم إلا ما يجب على رجل واحد، وإن كثر عددهن. ولو رجع منهن امرأتان، لا شيء عليهما؛ على الصحيح من المذهب؛ لأنه قد بقي من يتعلق الحكم بشهادتهم. وعلى قول المزني: يجب عليهما ربع الغرم. ولو رجع النساء، فعليهن نصف الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، يجب على الرجل النصف، وعليهن النصف؛ على المذهب الصحيح. وعلى الوجه الآخر: على الرجل سدس الغرم، والباقي عليهن. ولو رجع الرجل دونهن، فعلى الرجل نصف الغرم؛ على المذهب الصحيح، وعلى الوجه الآخر: سدس الغرم. ولو رجع النساء دون الرجل، فعليهن نصف الغرم؛ على المذهب الصحيح. وعلى الوجه الآخر: خمسة أسداس الغرم. ونفرع على الأول؛ فنقول: لو رجع الرجل مع ثمان نسوة، يجب على الرجل

النصف، ولا شيء على النساء؛ لأنه لا يثبت بشهادتهن إلا نصف الحق، وقد بقي من النساء من يتعلق بشهادتهن نصف الحق. وعلى مذهب المزني: يجب على الرجل النصف، وعلى النساء أربعة أخماس النصف؛ كما لو رجعوا كلهم. ولو رجع ثمان نسوة، لا شيء عليهن؛ على المذهب الصحيح؛ لأنه قد بقي هناك من يثبت الحق بشهدتهم. وعند المزني: يجب عليهن أربعة أخماس النصف. ولو رجع الرجل مع تسع نسوة؛ فعلى الرجل النصف، وعليهن الربع. وعند المزني: عليهن تسعة أعشار النصف. ولو قضى القاضي بشهادة شهود الفرع، ثم رجعوا، نظر: إن رجع شهود الأصل، وقالا: كذبنا- يجب عليهم الغرم؛ وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليهما، وإن رجع شهود الفرع عليهم الغرم، وإن رجعوا جميعاً فالغرم على شهود الفرع؛ لأنهم ينكرون إشهاد شهود الأصل، ويقولون: نحن كذبنا فيما قلنا؛ وكل موضع لم يوجب على الشهود عقوبة إذا رجعوا يعزرون إن تعمدوا، وإن أخطؤوا فلا يعزرون، وإن أوجبنا عليهم عقوبة من: قتل، أو قطع، أو حد قذف- يدخل التعزير فيها؛ والله أعلم. باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]. إذا شهد عند القاضي في حكم من لا يقبل شهادته فيه؛ من: كافر، أو عبد، أو مراهق، أو امرأة فيما لا تقبل فيه شهادة النساء، أو فاسق، والقاضي عالم بحاله- لا يجوز أن يصغي إلى شهادته؛ فإن لم يعلم؛ فقضى بشهادة شخصين، ثم بانا كافرين، أو عبدين، أو امرأتين، أو مراهقين- يجب عليه رد قضائه؛ كما لو قضى باجتهاده، ثم بان النص بخلافه- يجب عليه رد قضائه؛ وإن بانا فاسقين؛ بأن شهد شاهدان على فسقهما، فإن

شهدا مطلقاً ولم يستند الفسق إلى حالة القضاء- لا ينقض القضاء؛ لاحتمال حدوثه بعد الحكم. فإن شهدا أنهما كانا فاسقين يوم الحكم، هل ينقض الحكم؟ فيه قولان: أصحهما- وهو اختيار المزني- رحمه الله-: أنه ينقض فإذا ثبت عند قاض آخر ينقضه، كما لو بانا عبدين، بل نقضه بالفسق أولى؛ لأن شرط العدالة منصوص عليه. قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وشرط الحرية غير منصوص عليه. والثاني: لا ينقض؛ لأن فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر؛ فلا ينقض به حكم نفذ في الظاهر. وقال أبو إسحاق: ينقض الحكم قولاً واحداً؛ كما لو بان رقيقاً، وما ذكره المزني أنه قال في موضع آخر: إن طلب الخصم جرحه أجله بالمصر وما قاربه، وجعله قولاً آخر في أن الحكم لا ينقض، ليس كذلك، بل قصده الفرق بين ما قبل الحكم وبعده؛ وهو أنه إذا أقام بينة على فسق الشهود مطلقاً؛ فإن كان قبل الحكم لا يحكم، وإن كان بعده لا ينقض؛ حتى يبينوا أنهم كانوا فسقة يوم الحكم. أو أراد به إذا شهدوا على فسق مجتهد فيه؛ مثل: شرب النبيذ؛ فإنه لا ينقض الحكم. وقوله: "أجله بالمصر وما قاربه" أراد به: أن المشهود عليه إذا قال قبل الحكم عليه ببينة المدعي: لي بينة على [جرح الشهود- يؤخر الحكم، ويؤجله؛ حتى يأتي بالبينة على] جرح الشهود إذا كانوا بموضع قريب يمكن إحضارهم في مدة سيرة، ولا يؤجل أكثر من ثلاثة أيام. فإذا لم يأت بها أنفذ الحكم؛ فحيث قلنا: ينقض الحكم. أما في الفسق، أو في الرق، أو الكفر وغيره، فإن كان المحكوم به طلاقاً أو عتقاً، أو عقداً- رده. وإن كان إتلافاً من: قتل، أو قطع استوفاه، أو حداً أقامه؛ فمات فيه- يجب الضمان على الحاكم ويكون على عاقلته، أم في بيت المال؟ فيه قولان، ولا يجب القود؛ لأنه مخطئ، وإنما أوجبنا على الحاكم؛ لأن الشهود يقولون: نحن صدقنا فيما شهدنا، والمشهود له ييقول: أنا أخذت حقي بالحكم، فلم يبق إلا الحاكم. وإذا ضمن بعاقلة الإمام، أو بيت المال، هل يرجع على الشاهدين؟ نظر: إن كانا فاسقين سراً لا يرجع وإن كانا معلنين أو عبدين، أو كافرين، أو امرأتين- ففيه وجهان: النص يدل على أنه لا رجوع عليهما؛ لأنهم يقولون: نحن صدقنا، فكان من حق الحاكم أن يحتاط ويبحث عن باطن الشهود؛ بخلاف الشهود إذا رجعوا عن الشهادة، يجب عليهم

الضمان؛ لأنهم أقروا أنهم شهدوا بغير الحق؛ عمداً أو خطأ. وعند أبي حنيفة: يجب الضمان على المزكين. وعندنا لا يجب، لأن الحكم لم يقع بشهادتهم. وإن كان المحكوم به مالاً؛ نظر: إن كان باقياً في يد المحكوم له، يجب رده، فإن كان تالفاً، يجب عليه ضمانه، وإن كان له مال يؤخذ منه؛ وإن كان معسراً، أو كان ماله غائباً، يجب الضمان على الحاكم؛ ويكون في ماله، أم في بيت المال؟ فيه قولان: إن قلنا: ضمان الدية على العاقلة، فضمان المال في ماله. وإن قلنا: ضمان الدية في بيتالمال، فضمان المال كذلك. ثم الحاكم يرجع بعد ما ضمن على المحكوم له؛ والفرق بين ضمان المال؛ حيث أوجبناه على المحكوم له وبين ضمان الإتلاف؛ حيث أوجبناه على الحاكم؛ أن المال يضمن باليد، وقد حصل في يد المحكوم له فضمنه، والإتلاف لا يضمن باليد، إنما يضمن بكونه واقعاً على وجه محرم، وبتمكين الحاكم فيه خرج عن أن يكون محرماً؛ فلم يجب على المحكوم له، ووجب على الحاكم؛ لتفريطه في التفحص عن حال الشهود. والله أعلم. باب الشهادة في الوصية رجل له عبدان: كل واحد ثلث ماله، وأعتقهما في مرض موته- نظر: إن أعتقهما على الترتيب؛ بأن قال: سالم خر، وغانم حر، ولم يجز الوارث- عتق الأول. وإن أعتقهما معاً، يقرع بينهما؛ [فمن خرجت له قرعة الحرية، حكم بعتقه، ورق الآخر. وإن علق بالموت، وقال: إن مت فسالم حر، وغانم حر- يقرع بينهما]، ولا يقدم من سبق ذكره. فلو شهد شاهدان؛ أنه أعتق في مرض موته سالماً؛ وهو ثلث ماله؛ وشهد آخران؛ أنه أعتق غانماً؛ وهو ثلث ماله- نظر: إن أرخا بتاريخين مختلفين، فالسابق حر دون الآخر، وإن أرخا تاريخاً واحداً، أو أطلقا، واحتمل السبق والوقوع معاً- يقرع بينهما؛ فمن خرجت له قرعة الحرية، كان حراً، والآخر رقيقاً؛ وإن عرف سبق أحدهما، ولم يعلم السابق منهما، ففيه قولان:

أحدهما: يقرع بينهما؛ كما لو أعتقهما معاً؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر؛ فلا وجه إلا القرعة. والقول الثاني: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنا علمنا سبق أحدهما؛ فإذا أقرع بينهما، لا بأس أن يخرج سهم الرق على السابق منهما؛ فيكون فيه إرقاق حر؛ وإعتاق عبد؛ كما لو أوصى لرجلين لكل واحد منهما بثلث ماله، ولم يجز الورثة- يجعل الثلث بينهما نصفين. وإن علمنا السابق منهما، ثم اشتبه، فقد قيل: فيه أيضاً قولان. وقيل هاهنا: يعتق من كل واحد منهما نصفه قولاً واحداً. أما إذا كانت الشهادة على العتق المعلق بالموت: شهد شاهدان؛ أنه أعتق عبده سالماً بعد موته، أو أوصى بعتقه؛ وهو ثلث ماله، وشهد آخران، أنه أعتق غانماً بعد موته؛ وهو ثلث ماله- يقرع بينهما؛ سواء أرخا أو أطلقا؛ لأن المعلق بالموت لا يقدم معه السابق؛ فهو كما لو أعتقهما معاً في المرض. ولا فرق بين أن يكون الشهود من الأجانب، أو من الورثة، إذا كان الوارث لا يجر إلى نفسه نفعاً، حتى لو شهد أجنبيان؛ أنه أعتق عبده سالماً في مرض موته؛ وهو ثلث ماله، وشهد وارثان؛ أنه أعتق غانماً؛ وهو ثلث ماله، ولم يكذب الوارثان الأجنبيين، بل شهدا مطلقاً، وقالا: لا ندري: هل أعتق سالماً أم لا؟ وكانا عدلين- فالحكم على ما ذكرنا في الأجنبيين. فإن صدق الوارثان الأجنبيين، فقد ثبت عتقهما، فإن أجاز الورثة الزيادة على الثلث عتق العبدان جميعاً، وإن لم يجيزا فعلى ما ذكرنا من القولين. وإن كذب الوارثان الأجنبيين، وقالا: لم يعتق سالماً، بل أعتق غانماً- عتق العبدان جميعاً: الأول بشهادة الأجنبيين، والثاني بإقرار الوارثين، إذا كانا يرثان جميع المال. فإن كان معهما وارث آخر، يعتق من الثاني بحصتهما؛ لأن تكذيبهما لا يبطل شهادة الأجنبيين، وبزعمهما أن الثاني حر؛ لأن الأول رقيق. وإن كانت إحدى البينتين غير عادلة، نظر: إن كان الأجنبيان غير عدلين، والوارثان

عدلان- عتق العبد الذي شهد بعتقه الوارثان من الثلث، وكان الآخر رقيقاً. وإن كان الأجنبيان عدلين والوارثان غير عدلين- عتق العبد الذي يشهد بعتقه الأجنبيان. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه-: ويقرع بينهما؛ على قياس ما ذكر من بعد؛ فإن خرجت القرعة للذي شهد بعتقه الأجنبيان لا يعتق هذا، وإن خرجت لهذا: فالأول حر؛ بشهادة الأجنبيين، ويعتق الثان من ثلث ما بقي؛ بإقرار الوارثين، إن لم يكن سواهما وارث، وإلا فبقدر حصتهما. أما إذا شهد أجنبيان؛ أنه أعتق عبده سالماً في مرضه؛ وهو ثلث ماله، وشهد وارثان؛ أنه أعتق غانماً؛ وهو سدس ماله- يبنى على المسألة الأولى، إذا كانت قيمة كل واحد سواء. إن قلنا هناك: يقرع بينهما، فهاهنا: يقرع بين العبدين: فإن خرجت القرعة للذي قيمته ثلث ماله عتق كله، وكان الآخر رقيقاً، وإن خرجت للذي قيمته سدس ماله، عتق كله ونصف العبد الأول؛ حتى يتم الثلث. وإن قلنا هناك: يعتق من كل واحد منهما نصفه، فهاهنا وجهان: أحدهما- وبه قال أبو حنيفة-: يعتق ثلاثة أرباع العبد الذي هو ثلث ماله، ونصف العبد الآخر؛ لأن نصف سالم قد عتق بشهادة الأجنبيين، وقول الوارث في إبطال عتقه لا يقبل؛ للتهمة. وفي النصف الآخر غير متهم؛ لأنه يقر بعتق غانم في مقابلته، وقيمته مع نصف قيمة سالم سواء؛ فينتصف العتق بين غانم وبين نصف سالم؛ فيعتق ربع سالم ونصف غانم، وجملته: ثلث المال. والوجه الثاني- وبه قال أبو يوسف-: يعتق من كل عبد ثلثاه؛ لأن الوصية إذا زادت على الثلث، ينظر: كم نسبة ما زاد على الثلث من جميع الوصية؟ فنسبة تلك الزيادة تنقص عن كل واحد منهم، فهاهنا نسبة ما زاد على الثلث من جميع الوصية نسبة الثلث ويرد العتق في ثلث كل عبد، ويعتق ثلثاه؛ كما لو أوصى لإنسان بثلث ماله، ولآخر بسدس ماله، ولم يجز الورثة- ينقص الثلث من وصية كل واحد منهما. هذا إذا شهد الوارثان. أما إذا لم يشهدا بدليل، بل أقرا أنه أعتق هذا العبد الآخر، أو شهدا؛ ولم تقبل شهادتهما؛ لفسقهما، أو كان الوارث واحداً، فشهد وأقر، بأن الميت أعتق هذا العبد الآخر- نظر: إن كذبا الأجنبيين عتق العبدان جميعاً، وإن لم يكذبا، بل قالا: لا نعلم حال الأول، فالعبد الأول حر بشهادة الأجنبيين، ويقرع بين العبدين بحكم إقرار الوارث؛ فإن خرجت

قرعة الأول تقرر عتقه، وكان الذي أقر به الوارث رقيقاً، وإن خرجت القرعة للثاني، فالأول حر بشهادة الشهود، والثاني يعتق من ثلث ما بقي من المال بإقرار الوارث [له]. أما إذا كانت الشهادة على تعليق العتق بالموت: شهد أجنبيان؛ أنه أوصى بعتق عبده سالم بعد موته؛ وهو ثلث ماله، وشهد وارثان؛ أنه رجع عن عتق سالم، وأوصى بعتق غانم؛ وهو ثلث ماله- تقبل شهادة الوارثين على الرجوع، ويحكم بعتق غانم؛ لأنهما لا يجران لأنفسهما نفعاً؛ لأن قيمة كل واحد من العبدين ثلث ماله. وعند أبي حنيفة، ومالك: لا يقبل قولهم في الرجوع. وإن كان الوارثان فاسقين، لا يقبل قولهما في الرجوع، ويحكم بعتق من شهد بعتقه الأجنبيان؛ لأن الثلث يحتمله، ويعتق من الآخر بقدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال؛ لأنا نجعل الأول كأنه غصب من التركة. أما إذا شهد أجنبيان؛ أنه أوصى بعتق عبده: سالم بعد موته؛ وهو ثلث ماله، وشهد وارثان؛ أنه رجع عن عتق سالم، وأوصى بعتق غانم، وهو سدس ماله؛ وهما عدلان- فالوارث متهم في بعض شهادته، وهو رد العتق في نصف العبد الأول؛ فلا تقبل شهادته فيه؛ وهل تقبل في الباقي؟ فعلى قولي تبعيض الشهادة. فإن قلنا: لا تتبعض؛ وبه أجاب هاهنا، ترد شهادة الوارثين في الكل، وعتق العبد الأول بشهادة الأجنبيين، وعتق من الثاني بقدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال؛ بإقرار الوارثين. وإن قلنا: تتبعض الشهادة، عتق نصف العبد الأول، وجميع العبد الثاني؛ لأن التهمة لم توجد إلا في نصف العبد الأول. هذا إذا لم يكن في التركة وصية سوى العتق. فإن كان قد أوصى لزيد بثلث ماله، تقبل شهادة الوارثين؛ أنه رجع عن عتق الأول، وأعتق الثاني الذي قيمته سدس ماله؛ لأنهما لو شهدا على الرجوع، ولم يشهدا بعتق الثاني تقبل؛ لأن رد الزيادة على الثلث ثابت لهما؛ فلا تهمة في شهادتهما. فإن قبلنا شهادتهما؛ أنه رجع عن الأول، وأعتق [الثاني] الذي قيمته السدس- يجعل الثلث أثلاثاً بين العبد الثاني، وبين الموصى له بالثلث؛ فيعتق ثلثا العبد الثاني، ويعطي الموصي له ثلثي الثلث؛ كما لو أوصى لإنسان بثلث ماله، ولآخر بسدس ماله.

أما إذا شهد أجنبيان؛ أنه أوصى بعتق عبد قيمته الثلث، وشهد أجنبيان آخران؛ أنه رجع نه، وأوصى بعتق عبد قيمته السدس- يقبل، ويعتق من قيمته السدس دون الأول؛ لأن الأجنبيين لا يجران إلى أنفسهما نفعاً بشهادتهما. ولو شهدا شاهدان أن الميت كان قد أوصى بعتق سالم؛ وهو ثلث ماله، وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع الشاهدان، وشهد آخران؛ أنه أوصى بعتق غانم؛ وهو ثلث ماله، ولم يجز الوارث إلا الثلث- فإنه يقرع بين العبدين؛ فإن خرجت القرعة لسالم، ثبت عتقه، وبقي الآخر رقيقاً، والشاهدان يغرمان قيمة سالم للورثة؛ لأنهما لما رجعا، فقد أقرا بإتلافه. ولو خرجت القرعة لغانم كان حراً، والأول رقيق، ولا غرم على الشاهدين؛ لأنا لما حكمنا برقه، بان أنهما لم يتلفا شيئاً. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه: عندي يحكم بعتق غانم من غير قرعة، وعلى الشاهدين قيمة سالم للورثة؛ لأن القرعة إذا خرجت لسالم، وأوجبنا قيمته، وأرفقنا غانماً- لم يذهب شيء من التركة في الوصية. فصل إذا شهد شاهدان على رجل؛ أنه أوصى لفلان بثلث ماله، وشهد آخران؛ أنه أوصى لفلان آخر بثلث ماله، ولم يجز الورثة- يجعل الثلث بينهما نصفين. أما إذا شهد الآخران؛ أنه رجع عن الأول، وأوصى للثاني بالثلث- بطل الأولى وكان الثلث كله للثاني، وتقبل شهادة الثاني على الرجوع؛ وارثاً كان أو أجنبياً؛ لأنه لم يجر إلى نفسه نفعاً بهذه الشهادة. ولو شهد آخران؛ أنه رجع عن الوصية الثانية، وأوصى لثالث- كان كله للثالث. ولو شهد شاهدان؛ أنه أوصى لفلان بثلث ماله، وشهد آخران؛ أنه أوصى لفلان آخر بثلث ماله، وشهد آخر؛ أنه رجع عن إحدى الوصيتين وعينها- كان الثلث كله للآخر الذي لم يرجع عن وصيته. فإن قالا: رجع عن إحدى الوصيتين ولم يعينا- فالثلث يكون بينهما نصفين؛ وهذه الشهادة غير مقبولة، للاحتمال؛ كما لو شهدا أنه أوصى بثلث ماله لأحد هذين الرجلين، ولم يعينا الموصى له- يقبل؛ حتى لو شهد شاهدان؛ أنه أوصى لفلان بثلث ماله، وشهد

آخران؛ أنه رجع عن الوصية الأولى، وأوصى لآخر بالثلث، وشهد آخران؛ أنه رجع عن إحدى الوصيتين- فهذه الشهادة باطلة، وكان الثلث كله للثاني. فصل إذا شهد شاهدان؛ أنه أوصى لفلان بثلث ماله، وشهد واحد؛ أنه أوصى لفلان آخر بثلث ماله، وحلف معه الموصى له- ففيه قولان: أحدهما: الشاهد واليمين لا يعارضان الشاهدين؛ لأن الشاهد بنفسه ليس بحجة؛ فيكون الثلث كله للأول. والثاني: يتعارضان؛ لأن الشاهد واليمين حجة في المال؛ كالشاهدين؛ فيكون الثلث بينهما. أما إذا شهد شاهدان؛ أنه أوصى لفلان بثلث ماله، وشهد واحد؛ أنه رجع عن تلك الوصية، وأوصى لآخر- حلف معه الموصى له، ويحكم برجوعه، ويكون الثلث للثاني؛ لأن ههنا شهد الشاهد الواحد، فثبت ما شهد به الأولان، ويشهد بشيء آخر، وهو الرجوع عن الوصية الأولى، ووصيته للثاني، فلا يقع بينهما تعارض. فصل من ادعى على إنسان حقاً، لم يكن له ملازمته بمجرد الدعوى، وإن كانت له بينة؛ حتى يقيمها؛ فإن أقام المدعي بينة، عاد له، فإن كان المدعى عليه ممن لا يعلم؛ أن له دفع البينة بالجرح- أعلمه الحاكم؛ أنه قد شهد عليك فلان وفلان بكذا، وثبتت عدالتهما عندي، فإن كان لك حجة على جرحهما، فأقمها. وإن كان ممن يعلم؛ أن له دفع البينة بالجرح؛ فإن شاء الحاكم قال له ذلك، وإن شاء سكت. فإن قال المشهود عليه؛ لي بينة على جرحهما، أمهله يوماً إلى ثلاثة أيام، ولا يجاوز الثلاث. وكذلك لو قال: لي بينة على قضاء الحق، أو على الإبراء- أمهله هذا القدر. وللمشهود له ملازمته إلى أن يقيم البينة على الجرح، أو القضاء؛ لأن الحق قد يثبت في الظاهر. فإن أقام المدعي شاهدين، ولم تثبت عدالتهما في الباطن- فهل يحبس المشهود عليه

على تعديل الشهود؟ لا يخلو: إما إن شهدا على عقوبة، أو مال: فإن شهدا على عقوبة؛ إن كانت حقاً لله تعالى، مثل: حد الزنا، والشرب، وقطع السرقة- لا يحبس؛ لأن مبناها على المساهلة؛ بدليل أنه لو هرب بعد وجوب الحد عليه، لا يتبع. وإن كان حقاً للعباد؛ مثل: القصاص، وحد القذف؛ سواء قذف زوجته، أو أجنبياً- يحبس المشهود عليه؛ لأن المدعي أتى بما عليه، ولم يبق إلا البحث عن العدالة؛ والأصل في الناس العدالة. وإن شهدا على مال، نظر: إن كان عيناً، ينتزع من يد المشهود عليه بمسألة المدعي، ويوقف، ويمنع من التصرف فيه؛ حتى يعدل الشهود. وإن كان ديناً، لا يستوفي؛ وهل يحبس المشهود عليه؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو قول أبي إسحاق-: يحبس؛ لأن الظاهر عدالة الشهود. والثاني- وهو قول الإصطخري-: لا يحبس؛ لأن الأصل براءة ذمته، بخلاف القصاص، وحد القذف يحبس فيه؛ لأنه يستوفي من بدنه. وقيل: لا يحبس، بل يكفل، وللمدعي ملازمته إلى أن يعطي الكفيل. وإذا بعث القاضي معهما رجلاً؛ ليكفل، فالأجرة على المدعي. وكذلك لو ادعت امرأة على زوجها؛ أنه طلقها، وأقامت شاهدين- يفرق بينهما إلى تعديل الشهود. ولو ادعى عبد على سيده؛ أنه أعتقه، وأقام شاهدين؛ لا تعرف عدالة باطنهما، وسأل العبد أن يحال بينه وبين سيده- يحال بينهما، ويؤاجره الحاكم؛ فينفق عليه من كسبه، ويكسوه، ويقف ما فضل؛ فإن تم عتقه كان له، وإن رق كان للسيد؛ وهل يحال بينه وبين السيد من غير مسألة العبد؟ وفي المال من غير مسألة المدعي؟ فيه وجهان. وبعدما حال الحاكم بينهما، ووقف العين، فجميع تصرفات المتداعيين فيها باطلة إلا أربعة: الإقرار؛ وهو أن يقر به لإنسان، والعتق، والتدبير، والوصية؛ فإن هذه التصرفات من أيهما توجد، وتتوقف. فإن حصل الحكم له نفذ، وإلا فلا ينفذ؛ لأن هذه التصرفات تتعلق بالإخطار، والإقرار يتوقف على التفسير. أما سائر التصرفات، فلا يصح؛ لأنها لا تتوقف.

أما قبل أن يحول الحاكم بينه وبينها، لا ينفذ تصرف المدعي فيه، وهل ينفذ تصرف المدعي عليه؟ إن قلنا: مسألة المدعي شرط للوقف؛ فينفذ. وإن قلنا: ليس بشرط؛ فوجهان: أحدهما: لا ينفذن كما بعد الوقف. والثاني: ينفذ؛ كتصرف المفلس قبل الحجر عليه ينفذ. وكل موضع قلنا: يحبس المشهود عليه، أو يوقف المال، إذا أقام المدعي شاهدين، فإن أقام شاهداً واحداً، وقال: لي شاهد آخر، وسأل الحبس والوقف؛ إلى أن يأتي به- هل يحبس؟ وهل يوقف المال، أو يمنع من التصرف؟ فيه قولان: أصحهما: لا يحبس، ولا يوقف، لأنه لم يأت بحجة تامة. والثاني: يحبس، ويوقف، لأنه أتى ببعض الحجة. وقال أبو إسحاق: إن كان الحق مما يقضى فيه بالشاهد واليمين- يحبس، وإلا فلا. وكذلك لو ادعى نكاح امرأة، وأقام شاهداً- هل يحبس؟ فيه وجهان: فإن قلنا: لا يحبس، هل يطالب بكفيل يتكفل ببدنها؟ فيه وجهان؛ لأنه ليس في الكفالة ضرر عليها؛ بخلاف الحبس. فصل إذا كان له عبدان؛ فقال لسالم: إن مت في رمضان فأنت حر، وقال لغانم: إن مت في شوال فأنت حر؛ فأقام سالم بينة على موته في رمضان، وغانم بينة على موته في شوال- ففيه قولان: أحدهما: يتعارضان؛ لأن بينة كل واحد تنفي ما تقوله الأخرى. والثاني: ترجح بينة الموت في رمضان؛ لأن عندها زيادة علم وهو الموت في رمضان، ويجوز أن يخفى ذلك على الأخرى. وإن قلنا بالتعارض، ففي قول: يسقطان. قال شيخنا الإمام: ورق العبدان. وفي الثاني: يستعملان.

وفيه أقوال في قول: يوقف. والثاني: يقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة، يحكم بعتقه. و [في] الثالث: يعتق من كل واحد نصفه؛ وكذلك لو كان له عبد واحد؛ فقال له: إن مت في رمضان فأنت حر، ثم اختلف العبد مع الوارث، وأقام كل واحد بينة- فعلى قولين: في قول: يتعارضان. وفي الثاني: بينة العبد أولى. وقال المزني: بينة الوارث أولى؛ لأن عندها زيادة علم؛ وهي بقاء حياته إلى شوال. قال شيخنا الإمام- رضي الله عنه- فإن لم تكن بينة، فالقول قول الوارث مع يمينه، وكذلك لو قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل، وأقام الوارث بينة؛ أنه مات- فيه قولان: أحدهما: يتعارضان. والثاني: بينة العبد أولى؛ لأن عنده زيادة علم، ويحكم بعتقه. فإن قلنا بالتعارض، فأصح الأقوال أنهما يسقطان. والقول قول الوارث مع يمينه؛ لأن الأصل يفارقه. وإن قلنا: يستعملان، ففيه أقوال: أحدها: يوقف. والثاني: يقرع بين العبد والوارث؛ فإن خرجت القرعة للعبد، يحكم بعتقه، وإن خرجت للوارث كان رقيقاً. والثالث: يعتق نصف العبد. ولو قال: إن مت من مرضى فسالم حر، وإن برئت فغانم حر، فأقام سالم بينة؛ أنه مات من مرضه، وأقام غانم بينة على أنه برئ منه، ثم مات- يتعارضان. فإن قلنا: يسقطان، رق العبدان.

وفيه وجهان آخران: أحدهما: بينة الموت أولى؛ لأن عندها زيادة علم، وهو الموت من ذلك المرض. والثاني: بينة البرء أولى؛ لأن عندها زيادة علم؛ وهو بقاء حياته. والله أعلم.

كتاب الدعوى والبينات

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الدعوى والبينات روي عن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه.

وروي عن ابن عباس؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". وروي عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: "جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي؛ فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق؛ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة؟ قال لا؛ قال: "فلك يمينه" قال: يا رسول الله؛ إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه؛ قال: "ليس لك منه إلا ذلك". الدعوى في اللغة هي التمنى، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي يتمنون. ومن ادعى شيئاً لا يعطى إليه ما يدعيه إلا بحجة يقيمها؛ كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] طلب منهم البرهان على دعواهم، والنبي- صلى الله عليه وسلم- جعل البينة حجة للمدعي، واليمين حجة للمدعى عليه. قال أبو حنيفة: المدعي من يثبت شيئاً، والمدعى عليه من ينفيه. وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان استنبطهما أصحابه من مسائله: أحدهما: المدعي من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً. والثاني: المدعي من لو سكت ترك، وسكوته، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. بيانه: من ادعى على إنسان ديناً؛ فأنكر، أو ادعى عيناً في يده؛ فأنكر- فالمديع يدعي أمراً باطناً؛ وهو اشتغال ذمة المدعى عليه وما في يد المدعى عليه ليس له والمدعى عليه يدعي

أمراً ظاهراً؛ وهو فراغ ذمته وأن ما في يده ملك له، والمدعي لو سكت ترك وسكوته ودعواه تترك، والمدعى عليه لا يتركه بل يطالبه بما يدعيه. والدعوى لا تسمع مجهولاً إلا في الوصية. وإن ادعى ديناً، يجب أن يذكر الجنس، والنوع، والصفة؛ وإن ادعى عيناً، يذكر صفتها، ولا يجب ذكر القيمة؛ فإن ذكر، كان أحوط وإن كانت العين تالفة: فإن كان لها مثل ذكر صفتها، وإن ذكر القيمة؛ كان أحوط. وإن لم يكن لها مثل، ذكر قيمتها؛ وإن كان حلياً من ذهب قومه بالفضة، وإن كان من فضة قومه بالذهب؛ وإن ادعى قتلاً ذكر صفته؛ كما ذكرناه في "كتاب الجنايات". ومن ادعى دعوى صحيحة، تسمع؛ سواء ادعى على دنيء، أو شريف؛ عرف بينهما سبب معاملة، أو لم يعرف. وقال مالك: لا تسمع دعوى الدنيء على الشريف؛ إذا لم يعرف بينهما معاملة. ولو ادعى داراً أو عيناً في يد رجل؛ فأنكر المدعى عليه- حلف، وحكم له بها. فلو أقام المدعي بينة بعد ما حلف المدعي عليه، أو قبله- يقضي له. وإنما قدمنا البينة؛ للحديث؛ ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك، واليد تحتمل الملك وغيره، ويتقوى باليمين، واليمين لا تخلو عن التهمة؛ فكانت البينة أولى؛ فلو أقام صاحب اليد بينة بعد ما عدلت بينة المدعي- تسمع، ويقضي لصاحب اليد؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، وترجح جانب المدعي عليه باليد. وعند أبي حنيفة: لا تسمع بينة ذي اليد، إلا في ثلاث مواضع: أحدها: في دعوى النتاج وهو أن يتنازعا في دابة أقام كل واحد منهما بينة أنها ملكي أنا أنتجتها. والثاني: إذا تنازعا في ثوب؛ لا ينسج إلا مرة واحدة، وأقام كل واحد بينة أنه ملكي، أنا نسجته. الثالث: إذا عزيا الملك إلى شخص واحد، أقام كل واحد بينة؛ أنها ملكي، اشتريته من فلان؛ سميا رجلاً واحداً. قال في هذه المواضع: تسمع بينة ذي اليد، وترجح؛ فنحن نقيس عليها. ثم عندنا: بينة الخارجي مسموعة، إذا شهدوا له بالملك مطلقاً، ولم يبينوا السبب. أما بينة ذي اليد، فهل تسمع من غير بيان السبب؛ أنه ابتاعها، أو ورثها، أو اتهبها؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو الظاهر-: تسمع؛ كبينة المدعي. والثاني: لا تسمع؛ حتى يبينوا السبب؛ لأنهم ربما يشهدون له بظاهر اليد.

وإن قلنا: لا يشترط بيان السبب، فبينة ذي اليد مرجحة بكل حال؛ سواء بينت بينة الخارجي [ذكر] السبب أو أطلقت. وإن قلنا: يشترط بيان السبب؛ فلم يبين- يقضى للخارجي؛ سواء بينت بينته السبب، أو أطلقت. وهل يحلف ذي اليد مع بينته؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الأصح-: لا يحلف؛ كما لا يحلف الخارجي إذا أقام البينة. والثاني: يحلف؛ لاحتمال أنهم شهدوا له بظاهر اليد؛ وهي في يده بإجارة، أو عارية. وأصل هذا: أن القضاء يقع باليد، أم بالبينة؟ فيه وجهان: أحدهما: بالبينة، وترجحت باليد؛ فعلى هذا لا يحلف. والثاني: باليد؛ لأن البينتين تعارضتا؛ فسقطتا؛ فيصار إلى اليمين. ولو أقام ذو اليد البينة قبل إقامة المدعي البينة- لا تسمع؛ لأنه مستغن عن إقامة البينة باليد، وحجته اليمين. وقال ابن سريج: تسمع بينته؛ كما تسمع بعد إقامة المدعي البينة. أما إذا أقام ذو اليد البينة بعد ما أقام المدعي البينة قبل تعديلها- فهل تسمع؟ هذا يرتب على ما لو أقام قبل إقامة البينة: إن قلنا هناك: تسمع، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والأصح: أنه تسمع وترجح؛ لأن يده أشرفت على الزوال بإقامة المدعي البينة. ولو أقام ذو اليد البينة بعدما قضى القاضي للمدعي بينته- هل تسمع؟ فيه وجهان: الأصح: وهو المذهب-: تسمع؛ كما لو أقام أجنبي البينة بعد ما قضى القاضي للمدعي بينته- تسمع. وقيل: لا تسمع؛ لما فيه من نقص قضاء القاضي. ولو أقام الخارجي شاهدين، وأقام ذو اليد شاهداً وامرأتين- تسمع، وترجح بينة ذي اليد. ولو أقام الخارجي شاهدين، أو شاهداً وامرأتين، وأقام ذو اليد شاهداً، وحلف معه - ففيه قولان: أحدهما: يقضي لذي اليد؛ لأن الشاهد واليمين؛ كالشاهدين في المال. والثاني: يقضي للخارجي؛ لأن حجته أقوى.

قال شيخنا الإمام رضي الله عنه: ولكن بناء القولين؛ على أن صاحب اليد، هل يحلف مع بينته، أم لا. إن قلنا: يحلف، فها هنا يقضي للخارجي؛ لأن اليمين ثابت مع البينة الكاملة، فلا تقع في معارضة بينة المدعي. وإن قلنا: لا يحلف، فاليمين ها هنا كشاهد آخر يقيمه؛ فيترجح به. ولو لم يكن لهما بينة؛ فنكل صاحب اليد عن اليمين، وحلف المدعي، وقضي له، ثم أقام ذو اليد بينته- تسمع؛ كما لو أقام البينة بعد إقامة المدعي البينة. وقيل: إذا قلنا: النكول ورد اليمين بمنزلة إقرار المدعى عليه- لا تسمع بينته، كما لو أقام بعد الإقرار والأول أصح؛ لأنه جعل كالإقرار حكماً، لا أنه حقيقة إقرار. ولا فرق في ترجيح بينة ذي اليد بين أن يدعيا الملك مطلقاً؛ على المذهب الصحيح الذي يقول: لا يجب على ذي اليد بيان سبب الملك، وبين أن يبينا سبب الملك؛ وسواء اتفق السببان؛ أو اختلفا؛ بأن يقول أحدهما: هذا ملكي اشتريته من فلان، ويقول الآخر: بل ملكي ورثته من أبي، أو أصدقني زوجي وسواء عزيا الملك إلى شخص واحد؛ بأن يقول كل واحد: هذا ملكي اشتريته من زيد أو كان أحد الخصمين امرأة تقول: أصدقني زوجي، ويقول الآخر: اشتريته من زوجك؛ أو عزيا إلى شخصين؛ بأن يقول أحدهما: ملكي اشتريته من زيد، ويقول الآخر: ملكي اشتريته من عمرو، وأقام كل واحد بينة- ترجح بينة ذي اليد؛ في الأحوال كلها. أما إذا أقام الخارجي بينة؛ أنها ملكي غصبها مني ذو اليد، أو أجرتها منه، أو أودعتها منه، وأقام ذو اليد بينة؛ أنها ملكي- فالصحيح أنه يقضي لذي اليد. وقال الشيخ ابن سريج: يقضى للخارجي؛ لأن بينته تثبت له اليد والملك؛ ولأن يد المستأجر والوديعة تكون للمالك؛ كما في الغصب. أما إذا ادعى الخارجي تلقي ذلك في ذي اليد؛ بأن قال: اشتريته منك، وأقام عليه بينة، وذو اليد يقيم البينة؛ أنها ملكه يقضى للخارجي، لأن بينته تثبت الملك لذي اليد، ثم ينقله منه؛ فكانت الناقلة أولى؛ لأن عندها زيادة علم؛ حتى لو أقام الخارجي بينة؛ أني اشتريتها من أبيك، وأقام ذو اليد بينة؛ أني ورثتها من أبي- ترجح بينة الخارجي، ويقضى له. وكذلك لو أقامت امرأة بينة؛ أن أباك أصدقني هذه الدار، وأقام ذو اليد بينة؛ أنه ورثها من أبيه- يقضى للمرأة.

وكذلك لو أقام رجل بينة؛ أن أبا المدعى عليه وقفها، أو كان عبداً أقام بينة؛ أن أباه أعتقه وأقام ذو اليد بينة، أنه ورثه من أبيه- يقضى له بالوقف والعتق. هذا إذا كانت الدار والعين في يد أحد المتداعيين فأما إذا كانت الدار في أيديهما؛ يدعي أحدهما كلها، والآخر نصفها- فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده. فإن أقام مدعي الكل البينة، قضي له بالكل، وإذا أقام كل واحد بينة، كان بينهما؛ فينبغي أن يقيم مدعي الكل البينة أولاً؛ لأن مدعي النصف لا يدعي أكثر مما في يده. وبينة ذي اليد لا تسمع ابتداءً؛ فإذا أقام مدعي الكل البينة؛ على أن جميعها له- سمعت بينته، وإن كان النصف مسلماً له، ودخول ذكر ذلك النصف في كلام الشهود- لا يقدح في شهادتهم. ولو شهدت له بينته؛ أن النصف الذي في يد صاحبه له- صح، وقضي له بجميعها، ثم مدعي النصف يقيم البينة؛ فيرجح بينته باليد فتكون الدار بينهما. ولو ادعى كل واحد منهما؛ أن جميع الدار له، حلف كل واحد منهما على ما يدعيه، وكانت بينهما وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قضى للحالف بالكل؛ ولو أقام كل واحد بينة، كانت بينهما؛ لأنه ترجحت بينة كل واحد منهما في النصف الذي في يده. بيانه: من أقام البينة أولاً، سمعت بينته في النصف الذي في يد صاحبه، ثم الثاني إذا أقام البينة، سمعت بينته في الكل؛ فرجحت في النصف الذي في يده باليد؛ فيحتاج صاحبه إلى أن يعيد البينة على النصف الذي في يده، للمعارضة؛ فتكون الدار بينهما. وإن كان أحدهما يدعي جميع الدار، والآخر يدعي ثلثها- فالقول قول مدعي الثلث في الثلث مع يمينه؛ لأنه صاحب يد فيها؛ فإن أقاما بينتين، ترججت بينة مدعي الثل في الثلث، والباقي لمدعي الكل. أما إذا كانت الدار في يد ثالث؛ فادعاها رجلان- يحلف صاحب اليد يمينين على نفي دعواهما. فإن أقام أحد المتداعيين بينة، قضي له بها؛ وإن أقاما بينتين، تعارضتا، فإذا تعارضت البينتان، ففيه قولان: أصحهما: وهو اختيار المزني-: أنهما يتهاتران، ويسقطان؛ لأنهما متناقضان من حيث يستحيل أن يكون جميع الدار لكل واحد منهما في وقت واحد؛ كالدليلين إذا تعارضا سقطا، ويصار إلى طلب دليل آخر كذلك ها هنا يجعل كأنهما لم يقيما البينة؛ فيصار إلى اليمين. والقول الثاني: أن البينتين بعد التعارض لا يسقطان، بل يستعملان؛ لأن البينتين اتفقتا؛ على أن لا حق لصاحب اليد فيها؛ فتنتزع من يده ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال:

أحدها: يقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة، قضي له بها؛ لأن القرعة لها مدخل في الشرع؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقرع بين العبيد في العتق وقسم الغنائم بالقرعة. ثم إذا خرجت القرعة لواحد، هل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن بينته ترجحت بالقرعة؛ فتمت الحجة. والثاني: يحلف؛ لأنهما استويا في البينة؛ فالقرعة لتجعله أحق باليمين. والقول الثاني: يوقف؛ حتى يتبين أو يصطلحا؛ لأنا نعلم أن المالك أحدهما لا بعينه؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ومات قبل البيان- يوقف الميراث بينهما؛ حتى يصطلحا. والقول الثاني: وبه قال أبو حنيفة: يجعل بينهما نصفين؛ لأن كل واحد من البينتين لو انفردت، عمل بها؛ فعند التعارض لا يسقطان؛ كما لو مات عن ألف، وله غريمان؛ لكل واحد عليه ألف، يشتركان فيه؛ وكرجلين أقام كل واحد بينة؛ أنه أوصى له بجميع هذه العين؛ يجعل بينهما. وإن كانت الدرا في يد ثالث جاء رجلان [أقام أحدهما بينة] أن نصفها له، وأقام الآخر بينة؛ أن جميعها له؛ فتعارضت البينتان في نصف الدار. إن قلنا: بقول التهاتر، بطلت البينة في نصف الدار وهل تبطل في النصف الذي لا يدعيه إلا أحدهما؟ فيه قولان؛ بناء على تبعيض الشهادة. إن قلنا: لا تتبعض، بطل في الكل وصار كما لو لم يكن لواحد منهما بينة. وإن قلنا تتبعض تسلم نصفها لمدعي الكل. وإن قلنا: بقول الاستعمال، يكون نصفها لمدعي الكل. وفي النصف الآخر أقوال: في قول: يقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة، كان له. وفي قول: توقف؛ حتى يتبين. وفي قول: تنصف بينهما؛ فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباع الدار، ولمدعي النصف ربعها. وإذا كانت الدار في يدهما، أو في يد ثالث، فأقام أحدهما رجلين، والآخر رجلاً وامرأتين فهما متعارضتان وإن أقام أحدهما- شاهدين، أو رجلاً وامرأتين، وأقام الآخر شاهداً وحلف معه- ففيه قولان: أحدهما: تتعارضان؛ كما لو أقام كل واحد شاهدين؛ لأن كل واحد حجة كاملة في المال.

والثاني: يقضى لمن له شاهدان؛ لأن حجته مجمع عليها؛ وحجة الآخر مختلف فيها. وإذا أقام أحد المتداعيين رجلين، أو رجلاً وامرأتين، وأقام الآخر أربعة أو عشرة- فهل ترجح بكثرة العدد. في الجديد وهو المذهب-: لا ترجح؛ لأن كل واحد حجة كاملة. وعلق القول في القديم. وكذلك لو أقام كل واحد بينة عادلة، وإحدى البينتين أورع- هل يقع به الترجيح؟ فعلى هذا الاختلاف. والمذهب: أنه لا ترجيح. وما ذكره في القديم- حكاية مذهب مالك. وإذا اختلف البينتان في التاريخ؛ مثل: أن أقام أحدهما بينة؛ أنها ملكه منذ سنة، وأقام الآخر بينة؛ أنها ملكه منذ سنتين- هل ترجح بسبق التاريخ؟ فيه قولان: روي البويطي: أنه لا يرجح وهما سواء؛ لأن مبنى الملك على التنقل؛ فالاعتبار بثبوت الملك في الحال؛ وهما متعارضان فيه؛ كما لو كانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد. وروي الربيع- وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الأصح-: ترجح، ويقضى لمن سبق تاريخه، لأنه ثبت له ملك من قبل بلا معارضة. وإن قلنا: ترجح بسبق التاريخ؛ فلو أرخت إحدى البينتين، وأطلقت الأخرى- ففيه وجهان: أحدهما: يقضى لمن أرخت بينته. والثاني: لا، بل هما متعارضتان؛ لاحتمال أن المطلقة سابقة على المؤرخة. وكذلك لو تنازعا في دابة أقام أحدهما بينة؛ أنها نتجت في ملكه، وأقام الآخر بينة؛ أنها ملكه مطلقاً-فهو كما لو أرخت إحدى البينتين، وأطلقت الأخرى. وكذلك لو تنازعا في أرض مزروعة، أقام أحدهما البينة، أنها أرضه زرعها، وأقام الآخر بينة؛ أنها ملكه مطلقاً فهو كما لو أرخت إحدى البينتين، وأطلقت الأخرى، لأن بينة من يشهد بالزرع تثبت الملك من وقت الزراعة. فإن قلنا: ترجح بسبق التاريخ، فإن كانت العين في يد

أحدهما، وبينة الخارجي أسبق تاريخاً، بأن أقام الخارجي بينة؛ أنها له منذ سنة، وأقام ذو اليد بينته؛ أنها له منذ شهر. إن قلنا: لا ترجح بسبق التاريخ، حكم لصاحب اليد. وإن قلنا: ترجح بسبق التاريخ، فها هنا ترجح بالسبق، أم باليد؟ وفيه وجهان: أحدهما: بالسبق؛ كما لو كانت في يد ثالث. والثاني: باليد؛ لأنها سبب موجود في الحال، فهي أولى من ملك متقدم. ولو عزيا إلى شخص واحد بتاريخين، بأن أقام أحدهما بينة؛ أنه اشتراها من زيد منذ سنة، وأقام الآخر بينة، أنه اشتراها من زيد منذ شهر- فالسابق أولى. فإن عزيا إلى شخصين، بأن أقام أحدهما بينة؛ أنه اشتراها من زيد منذ سنة، وأقام الآخر بينة؛ أنه اشتراه من عمرو منذ شهر- فهل ترجح بالسبق؟ فعلى القولين. وإن كان في يد رجل عبد ادعى رجل؛ أن هذا العبد لي، اشتريته منك [بألف]، وقال الذي في يده: بل هو لي اشتريته منك- فأيهما أقام البينة قضي له؛ وإن أقاما بينتين، فبينة ذي اليد أولى؛ لفضل يده- ووافقنا أبو حنيفة، وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: يحكم به للخارجي. ولو ادعى رجل داراً على رجل، وأقام بينة شهدت أن هذه الدار كانت ملكاً له بالأمس - ففيه قولان: قال في الجديد وهو المذهب-: لا يقضى له بالملك؛ لأن مبنى الملك على التنقل؛ وهم لم يشهدوا له بالملك في الحال، كما لو ادعى شيئاً، وقال: كان ملكاً لي بالأمس، ولم يقل: الآن ملكي- لا تسمع الدعوى؛ كذلك لا تسمع البينة. وقال في القديم: يقضى له بالملك؛ لأنهم أثبتوا له الملك بالأمس، والأصل دوامه، وكذلك في دعوى اليد: إذا ادعى أن هذه العين كانت في يدي بالأمس، فغصبها مني- تسمع؛ وإن شهد شهود، أنها كانت في يده بالأمس، ولم يقوموا: غصبها منه هذا- فهل تسمع؟ فعلى هذين القولين. وهذا بخلاف ما لو ادعى على رجل؛ أن هذا الشخص الذي في يدك تسترقه كان عبداً

لي، وأعتقته، وأقام عليه بينة- تسمع. وإن كانوا لا يثبتون له في الحال ملكاً؛ لأنهم يشهدون على وفق دعواه؛ وهو لا يدعي الملك لنفسه في الحال، وما نحن فيه بخلافه. ولو ادعى رجلان داراً في يد رجل، أقام أحدهما بينة؛ أنه غصبها مني، وأقام الآخر بينة؛ أن الذي في يده أقر له بها- فبينة الغصب- أولى؛ لأن الغصب ثبت ببينته وإقرار الغاصب في المغصوب لغير من غصب منه- لا يقبل. فصل في دعوى النكاح الدعوى على ثلاثة أقسام: دعوى تسمع مطلقاً؛ وهو دعوى المال. إذا ادعى؛ أن لي على فلان كذا درهم، لا يحتاج إلى بيان السبب؛ لأن أسبابه كثيرة. الثاني: دعوى لا تسمع إلا مفسراً؛ وهو دعوى القتل؛ كما ذكرنا في القسامة. الثالث: دعوى النكاح. إذا ادعى نكاح امرأة: قال الشافعي: لا تسمع؛ حتى يقول: نكحتها بولي وشاهدي عدل، ورضاها إن كان رضاها شرطاً، وكذلك الشهود إذا شهدوا بالنكاح، فلا يقبل إلا مفسراً. واختلف أصحابنا فيه: منهم من قال وهو المذهب: لا يسمع إلا مفسراً- كما ذكرنا- لأن مبنى النكاح على الاحتياط؛ تغليظاً لأمر الفرج؛ فإنه معنى تتعلق بجنسه العقوبة، فاشترط فيه التفسير؛ كالدم. ومن أصحابنا من قال: تسمع الدعوى مطلقاً؛ لأنه دعوى في ملك؛ كدعوى المال. وما قاله الشافعي- رضي الله عنه- محمول على الاستحباب. ومن أصحابنا من قال: إن ادعى؛ أن هذه زوجته، فلا يحتاج إلى التفسير؛ لأنه يدعي دوام النكاح فلا يشترط في دوام النكاح الولي والشهود والرضا. وإن ادعى؛ أني نكحتها، فيحتاج إلى التفسير؛ لأنه يدعي الابتداء، والابتداء يحتاج إلى هذه الشرائط؛ والمذهب: أن لا فرق بينهما وهذا بخلاف ما لو ادعى؛ أن هذه الجارية ملكي، يسمع، وتقبل البينة مطلقاً؛ لأن المقصود منه المال، وحكم المال أخف؛ بدليل أن العقد على المال لا يفتقر إلى الشهادة؛ بخلاف عقد النكاح. وأيضاً: فإن بضع الحرة لا يملك إلا بوجه واحد؛ وهو النكاح؛ فشرطنا التفسير؛ حتى لا يكون واقعاً على وجه فاسد؛ بخلاف ملك اليمين؛ فإنه يحصل من وجوه شتى، وفي يوم واحد مراراً، فقل، ما يشتبه؛ فلا يشترط فيه التفسير.

أما الإقرار بالنكاح، هل يقبل مطلقاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ حتى يقول: هذه زوجتي نكحتها بولي، وشاهدي عدل ورضاها، والمرأة إذا أقرت فكذلك. والثاني: يقبل مطلقاً، ويثبت؛ بخلاف الدعوى؛ كما لو ادعى ألفاً، لا تسمع إلا مفسراً. ولو أقر بألف مطلقاً، تسمع وإن ادعى مالاً بجهة عقد من: بيع أو هبة، أو ادعى عقد إجارة- هل يحتاج إلى ذكر شروطه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: لا يحتاج؛ لأن المقصود منه المال؛ فلا يفتقر إلى ذكر الشروط؛ كدعوى المال. والثاني: يحتاج إليه؛ لأنه دعوى عقد؛ فيفتقر إلى ذكر شروطه؛ كعقد النكاح. والثالث: إن كان يدعي عقداً على جارية، يحتاج إلى ذكر الشروط؛ لأنه يملك به الوطء؛ كالنكاح، وفي غير الجارية لا يحتاج إلى ذكرها. إذا ثبت هذا، فإذا ادعى رجل نكاح امرأة؛ لا يخلو: إما إن كانت المرأة خلية، أو كانت تحت زوج: فإن كانت خلية؛ لا يخلو: إما إن كانت صغيرة أو بالغة: فإن كانت صغيرة؛ نظر: إن كانت بكراً، فالدعوى تكون على الأب؛ لأن عقد النكاح عليها إلى الأب، ويقبل إقراره عليها. وإن كانت ثيباً، فلا تسمع دعوى نكاحها؛ لأنه لا يملك أحد تزويجها. فإن ادعى؛ أني نكحتها؛ وهي بكر، لا تسمع أيضاً؛ لأن الدعوى تكون على الأب، والأب لا يملك تزويجها في هذه الحال. وإن كانت المرأة بالغة، فالدعوى تكون عليها بكراً كانت أو ثيباً؛ لأنها مالكة لأمرها؛ ثم نظر: إن أقرت بالنكاح، ثبت النكتاح بتقارها هذا هو المذهب، وقوله الجديد؛ سواء كانا غريبين أو بلديين. وقال في القديم- وبه قال مالك-: إن كانا بلديين، فلا يثبت النكاح بتقارهما، لأنه يمكنهما إثباته بالبينة. وإن كانا غريبين، يثبت. والأول المذهب؛ حتى لو ادعى على امرأة، أن أباك زوجك مني بمشهد فلان وفلان، وأقرت المرأة، وأنكر الأب والشهود يحكم بالنكاح؛ لأن الحق في دوام النكاح لها. وإن أنكرت المرأة النكاح، فالقول قولها مع يمينها، وفإن حلفت، لها في الحال أن تنكح

زوجاً آخر، وليس له أن ينكح أختها، ولا أربعاً سواها، ولا ابنتها ما لم يطلقها، ولا يحل له نكاح أمها أبداً. وإن نكلت، حلف الزوج، وقضي له بالنكاح؛ كما لو أقام بينة. أما إذا كانت المرأة تحت زوج؛ فادعى رجل نكاحها- فالصحيح من المذهب: أن الدعوى تكون على المرأة، لا على من هي تحته؛ لأن اليد لا تحتوي على المرأة. ثم إن أقام بينة، قضي له بها، ولا ينظر إلى إقرارها لمن هي تحته. وإن أقام كل واحد بينة، لا ترجح بينة من هي تحته؛ لأن الزوجة لا تثبت عليها اليد؛ وهما بمنزلة أجنبيين ادعيا نكاح امرأة خلية، وأقام كل واحد بينة- فينظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، فهي للسابق؛ بخلاف المال لا يرجح بالسبق؛ على أحد القولين؛ لأن مبنى المال على الانتقال من يد إلى يد؛ بخلاف الزوجة. وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد- فقد تعارضتا: إن قلنا: يسقطان، فهو كما لو لم يكن لأحدهما بينة. وإن قلنا: يستعملان يوقف، حتى يتبين؛ ولا يأتي قول القرعة، ولا قول القسمة. ولو أقام أحدهما بينة؛ أنها زوجته، وأقام الآخر بينة، أنها أقرت له بالنكاح- فبينة من شهدت له؛ أنها زوجته أولى؛ لأن إقرارها بالزوجية للغير بعد قيام الحجة عليها لواحد- لا تسمع؛ كما لو أقام أحد المتداعيين بينة، أنه غصب مني هذه العين، وأقام الآخر بينة، أنه أقر له بها- فبينة الغصب أولى. أما إذا لم يكن لواحد بينة؛ نظر: إن أنكرت دعوى المدعي، وأقرت لمن هي تحته- فهي زوجة لمن هي تحته. وهل للمدعي تحليفها، أم لا؟ يبنى على أنها لو أقرت للثاني بعد ما أقرت للأول- لا تكون زوجة للثاني. وهل تغرم المهر للثاني؟ فيه قولان: إن قلنا: تغرم المهر، له تحليفها؛ رجاء أن يقر؛ فيغرم المهر. وإن قلنا: لا يغرم، فهذا يبنى على أن النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار من المدعى عليه، أو بمنزلة البينة من المدعي؟ وفيه قولان:

إن قلنا: بمنزلة الإقرار، لا تسمع دعواه عليها، وليس له تحليفها؛ لأن أقصى ما فيه أن يقر، أو ينكل؛ فيحلف المدعي؛ فيكون كالإقرار، ولا فائدة له في إقرارها. وإن قلنا: بمنزلة البينة، له تحليفها، وإن حلفت لا شيء عليها، وإن نكلت حلف المدعي، وأخذ المهر. ولا ينفسخ نكاح من أقرت له؛ لأن النكول ورد اليمين كالبينة في حق المتداعيين، لا في حق غيرهما. ولو أقرت للمدعي، أو قالت: كنت زوجة لك؛ فطلقتني، فهو إقرار له بالنكاح، يقضي أنها زوجته. وإذا ادعت المرأة الطلاق حلف؛ أنه لم يطلقها. أما المرأة إذا ادعت على رجل؛ أنه نكحها؛ نظر: إن كانت تطلب حقاً لها؛ بأن قالت: نكحتني فعليك المهر، أو النفقة، أو الكسوة، أو بعد موته تدعي الميراث- تسمع دعواها. وإن لم تكن تطلب شيئاً منها، ولكن ادعت محض الزوجية- ففيه وجهان: أحدهما: لا تسمع دعواها؛ لأن بإنكاره يرتفع النكاح، فلا معنى لدعواها؛ ولأن النكاح حق الزوج، ودعوى المرأة إقرار له، ولا معنى للإقرار مع إنكار المقر له. والثاني: تسمع؛ لأن النكاح في نفسه مقصود يتضمن حقوقاً، وفائدته: أنه إذا نكل، تحلف المرأة، وتستحق المهر والنفقة؛ فحيث قلنا: يسمع، فإذا أنكر الرجل، فالقول قوله مع يمينه، وإذا حلف لا شيء عليه، وله أن ينكح أربعاً سواها وأختها، وليس عليه نفقة لها، وليس لها أن تنكح ما لم يطلقها المدعي عليه، أو يموت، أو يعسر؛ فينفسخ النكاح بسبب الإعسار. وإن كان موسراً، ولكنه لا ينفق عليها؛ لإنكاره الزوجية- فهل لها أن تفسخ النكاح؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الموسر إذا امتنع من الإنفاق، هل للمرأة فسخ النكاح؟ فيه وجهان. وإذا أنكر الزوج النكاح، ثم قال بعد ذلك: هي صادقة يقبل؛ كما لو ادعى الزوج أنه راجعها؛ فكذبته؛ ثم قالت: صدق- قبل، وتثبت الرجعة. ومهما أنكر الزوج النكاح، فلا نكاح بينهما في الظاهر؛ وهل يكون طلاقاً في الباطن؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون طلاقاً ينتقص به العدد، وقد قال الشافعي: لو نكح حر أمة، ثم قال: كنت يوم النكاح واجداً لطول حرة- فرق بينهما بطلقة؛ وهذا يدل على أن إنكاره، ومنع كل واحد منهما عن الآخر- كالطلاق؛ فعلى هذا: يجوز لها أن تنكح زوجاً غيره، كما لو طلقها صريحاً.

والثاني: لا يكون طلاقاً ولا ينتقص به العدد؛ وهي زوجته في الباطن إن كان كاذباً في إنكاره؛ لأنه لم يوجد منه صريح طلاق، ولا كناية؛ وكذلك لا يجوز لها أن تنكح زوجاً آخر؛ فإن نكحها المدعي عليه بعده ظاهراً، تكون عنده بثلاث طلقات. وكذلك لو نكح رجل امرأة، ثم قال: كنت يوم العقد محرماً، أو كانت هي محرمة، أو معتدة أو مرتدة، أو كان الشهود فسقة- فلا نكاح بينهما في الظاهر بقول الزوج، ولا يقبل قوله في حقها؛ حتى إن كان قبل الدخول، يجب لها نصف المسمى، وإن كان بعده فجميع المسمى. وهل يجعل في الباطن طلاقاً ينتقص به العدد؟ فيه وجهان: وينبغي أن يوفق الحاكم بينهما في هذه المواضع؟ فيقول له: إن كنت نكحتها، فطلقها؛ حتى تحل لمن نكحها. ولو أن امرأة لها ولد، ادعت على رجل؛ أنه نكحها، وهذا الولد منه: فإن أنكر الزوج النكاح والنسب جميعاً، فالقول قوله مع يمينه. وإن قال: هذا ولدي من غيرها، أو هذا ولدي، ولم يقل: منها- لا يكون إقراراً بالنكاح، ويكون إقراراً بالنسب. ولو قال: ولدي منها يجب المهر؛ لأن الإصابة المثبتة للنسب لا تخلو عن المهر، ولا تحمل على استدخال الماء؛ لأنه نادر. وإن أقر الرجل بالنكاح، وأنكر المهر، يجب عليه المهر، والنفقة، والكسوة؛ لأن النكاح لا يخلو عن المهر، فإن قال: كان النكاح تفويضاً؛ فإن كان قبل الدخول، لها مطالبته بالفرض، وإن كان بعد الدخول، فقد وجب المهر بالدخول؛ فلا معنى لإنكاره. فصل إذا ادعى داراً، أو عيناً في يد رجل؛ فقال المدعي عليه. هذه الدار ليست لي، أو قال: ليست لي ولا لك، أو قال: هي لرجل لا أعرفه، أو قال: لا أسمي هل تنتزع الدار من يده؟ فيه وجهان: أحدهما: تنتزع الدار من يده؛ وهو مال ضائع يحفظه الحاكم إلى أن يظهر مالكها، أو يقيم المدعي بينة، فتكون له. والثاني: وهو الأصح-: لا تنتزع من يده؛ لأن الظاهر أن ما في يده ملكه، ولا يزول ملكه بقوله: ليس لي.

فعلى هذا: إن أقام المدعي بينة، أخذها، وإلا حلف المدعي عليه؛ أنه لا يلزمه تسليمها إليه، وإن نكل حلف المدعي، وأخذ. فإن كان يصر على قوله: ليست لي، ولا يحلف- فهو ناكل، يحلف المدعي. وفيه وجه آخر ثالث: أنه تسلم إلى المدعي؛ لأنه ها هنا مدعياً غيره. وقيل: إن قال المدعي عليه: ليست هذه لي ولا لك، أو هو لغائب لا أعرفه- هل تنتزع من يد المدعي عليه؟ فعلى الوجهين، ولا تسلم إلى المدعي وجهاً واحداً، إلا بحجة. ولو قال المدعي عليه: نصف هذه الدار لي، والنصف الآخر لا أدري لمن هو فالنصف له، وفي النصف الآخر الأوجه الثلاثة: في وجه تترك في يده. وفي الثاني: يحفظه الحاكم؛ كالمال الضائع. والثالث: يسلم إلى المدعي. أما إذا قال المدعي عليه: ليست هذه الدار لي، ولكنها لفلان سماه- نظر: إن كان فلان حاضراً وصدقه، سلمت الدار إلى فلان، وانتقلت الخصومة إليه؛ فالمدعي يدعي عليه العين، فإن كانت له بينة، أقامها، وأخذها وإن لم تكن له بينة، حلف المقر له، وسقطت دعوى المدعي عنه. وهل له أن يدعي على المقر القيمة؟ فيه قولان؛ بناء على ما لو أقر له بعدما أقر للأول، لا تسلم العين إليه. وهل يغرم له القيمة؟ فيه قولان: إن قلنا: يغرم، له أن يدعي عليه، ويحلفه؛ رجاء أن يقر، فيغرم. وإن قلنا: لا يغرم؛ فهذا يبنى على أن النكول، ورد اليمين بمنزلة البينة، أم بمنزلة الإقرار؟ إن قلنا: بمنزلة الإقرار، ليس له أن يحلفه؛ لأن أقصى ما فيه أن يقر، أو ينكل عن اليمين؟ فيحلف المدعي، فيكون كالإقرار، وبالإقرار لا يلزمه شيء. وإن قلنا: بمنزلة البينة، له أن يحلفه؛ رجاء أن ينكل، فيحلف المقر له، فإن حلف المقر له، سقط حق المدعي عن العين، ويمسك القيمة.

وإن نكل المقر له عن اليمين، حلف المدعي، وأخذ العين، ورد القيمة إلى المقر؟ لأن القيمة أخذت منه؛ لإيقاع الحيلولة بين المدعي، وبين العين، وقد ارتفعت الحيلولة بوصول العين إليه. وأما إذا كذبه المقر له، وقال: ليست الدار لي- اختلف أصحابنا فيه: قال ابن سريج- وهو الأصح-: يأخذها الحاكم، ويحفظها إلى أن يظهر مالكها؛ كالمال الضائع؛ لأن من في يده يفي ملكه عنها بالإقرار لمن يصح له الإقرار. والمقر له أسقط إقراره بالتكذيب، ولا حجة للمدعي على دعواه فلم يبق إلا أن يحفظها الحاكم؛ كالمال الضال. وقال أبو إسحاق: يسلم إلى المدعي؛ لأن ليس هاهنا من يدعيها غيره، وهذا ضعيف؟ لأنه حكم له بمجرد الدعوى وقيل هاهنا: يترك في يد المدعي عليه، كما ذكرنا فيما لو أقر لمجهول؛ وليس بصحيح. فأما إذا أقر المدعي عليه لغائب، فلا تسقط دعوى المدعي عنه بهذا الإقرار؛ لأن العين في يده. ثم لا يخلو: إما إن كان للمدعي بينة، أو لم يكن: فإن لم يكن له بينة، له أن يحلف المدعي عليه؛ أنه لا يلزمه تسليم العين إليه، وإن نكل حلف المدعي وأخذ، وكتب في السجل؛ أنه أخذه بيمينه بعد إقرار المدعي عليه لفلان ونكوله. وإن أقام المدعي بينة، أخذ العين. وهل يحتاج أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج؛ لأنا حكمنا بإقرار المدعي عليه؛ أنها ملك للغائب، والقضاء على الغائب بالبينة يكون مع اليمين. والثاني: وهو قول أبي إسحاق: لا يحتاج إلى اليمين؛ لأنه قضى على الحاضر؛ وهو المدعي عليه؛ فصار كما لو أقر به لحاضر، وأقام المدعي بينة أخذها بلا يمين. وإذا أخذها المدعي، كتب في السجل: أنه أخذها ببينته بعد ما أقر المدعي عليه لفلان؛ حتى إذا رجع المقر له وادعاها، وأقام البينة، قضي له؛ لأن له يداً وبينة، وإن لم يقم بينة أقرت في يد المدعي. فإن سأل المدعي الحاكم أن يزيد في السجل: أن فلاناً الغائب قدم، ولم يأت ببينة- فعل فلو أراد المدعي عليه إقامة البينة؛ أنها للغائب- هل تسمع؟ فالمنصوص: أنها لا تسمع؛ لأنه ليس بمالك للعين بزعمه، ولا وكيل من جهة المالك. وحكى أبو إسحاق عن بعض أصحابنا: أن المدعي عليه إن كان يدعي أنها في يده بإجارة، أو رهن تسمع بينته؛ لأنه يدعي لنفسه حقاً فيها على المالك؛ فتسمع البينة ليثبت الملك للغائب، ثم يحكم له بالإجارة، والرهن. وإن كان يدعي، أنها في يده بعارية أو وديعة- لا تسمع بينته؛ لأنه لا يدعي لنفسه حقاً،

وهذا ضعيف؛ لأنا إذا لم نسمع بينته في إثبات الملك للغائب وهو الأصل، ففي إثبات الإجارة؛ وهي فرع الملك أولى ألا نسمع، فلو أقام المدعي والمدعي عليه كل واحد بينة. إن قلنا: لا تسمع بينة المدعي عليه، يحكم للمدعي. وإن قلنا: تسمع، ترجح بينته، لأنه فيما يدعيه كصاحب اليد؛ كما لو قال: هذا لفلان الغائب، وأنا وكيله- كانت بينته أولى. ولو ادعى على رجل عيناً في يده، فقال المدعي عليه: هي لابني الطفل، ووقف على ابني الطفل- فلا تسقط عنه الدعوى بهذا؛ كما لو أقر للغائب؛ فإن أقام المدعي بينة أخذها. وإن لم يكن له بينة قال شيخنا الإمام رضي الله عنه: حلف المدعي عليه؛ أنه لا يلزمني تسليمها إليك إن كان هو قيم الطفل. ولو ادعى المدعي أنها وقف علي، وقال من في يده: هي ملك لي حلف المدعي عليه، فإن نكل حلف المدعي، وأخذ، فإن قال المدعي عليه: هذا ملك لفلان، فادعاه فلان- سلم إليه، وانتقلت الخصومة إليه، وليس للمدعي أن يدعي على المقر القيمة؛ لأنه يدعي الوقف، ولا يعتاض عن الوقف. والله أعلم. باب الدعوى في الميراث إذا مات رجل عن ابنين: مسلم، وكافر، واختلفا في دين الأب: فقال المسلم: مات مسلماً؛ فلي الميراث، وقال الكافر: بل مات كافراً؛ فلي الميراث- نظر: إن عرف أصل دين الأب؛ أنه كان كافراً- فالقول قول الابن الكافر مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء كفر الأب. فإن أقام أحدهما بينة قضي له، وإن أقام كل واحد بينة، فبينة المسلم أولى؛ لأن عندها زيادة علم؛ وهو انتقال الأب من الكفر إلى الإسلام. ولو وجدت من الأب كلمة عند موته؛ فقال المسلم: كانت كلمة الإسلام، وقال الآخر: كانت كلمة الكفر- فالقول قول من تمسك بأصل دينه. فإن أقاما كل واحد بينة، تعارضتا. فإن قلنا: يتهاتران، يسقطان، والقول قول الابن الكافر مع يمينه. وإن قلنا: يستعملان، فعلى الأقوال الثلاثة: في قول: يوقف؛ حتى يصطلحا.

وفي الثاني: يقسم؛ فيجعل نصفه لورثته المسلمين، ونصفه لورثته الكفار. والثالث: يقرع بينهما- فمن خرجت له القرعة، كانت التركة له. وإن لم يعرف أصل دين الأب، كان المال بينهما بعد أ، حلف كل واحد لصاحبه. وإن أقاما بينتين، تعارضتا؛ كما ذكرنا؛ وبهذا الشك لا يترك الصلاة عليه، بل يصلى عليه بالنية إن كان مسلماً، ويدفن في مقابر المسلمين. ولو مات مسلم، عن ابنين: مسلم وكافر، ورث المسلم منه دون الكافر؛ فلو وجدنا الابن الكافر مسلماً بعد موت الأب فقال: أسلمت قبل موت الأب، وقال الآخر: بل أسلمت بعده فلا ميراث لك- فالقول قول من يقول: أسلمت بعده مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر؛ وإن أقاما بينتين، فبينة من يدعي أنه أسلم قبل موته أولى؛ لأن عندها زيادة علم. وكذلك لو اتفقا؛ على أن الأب مات يوم الجمعة، وقال الابن: أسلمت يوم الخميس، وقال أخوه: بل يوم السبت- فالقول قول من يقول: أسلمت يوم السبت- ولو اتفقا؛ على أنه أسلم يوم الجمعة، واختلفا في موت الأب: فقال المسلم الأصلي: مات يوم الخميس، وقال الآخر: بل مات يوم السبت- فالقول قول من يقول: مات يوم السبت؛ لأن الأصل بقاء حياته. ولو مات رجل عن أبوين كافرين، وابنين مسلمين؛ فقال الأبوان: مات كافراً؛ فالميراث لنا، وقال الابنان: مات مسلماً؛ فلنا. أحدهما: القول قول الأبوين، لأنه إذا ثبت كفرهما كان المولود محكوماً بحكم الأبوين قال ابن سريج: وهذا أشبه بقول العلماء. والثاني: يوقف الميراث إلى أن يصطلحوا؛ لأن الولد إنما يتبع الأبوين في الكفر قبل البلوغ، أما بعد البلوغ، فله حكم نفسه؛ فيحتمل أنه كان مسلماً، ويحتمل أنه كان كافراً؛ فيتوقف حتى ينكشف الأمر. وعلى هذا: لو مات رجل عن: زوجة مسلمة، وأخ مسلم، وأولاد كفرة، واختلفوا: فقالت الزوجة والأخ: مات مسلماً؛ فلنا الميراث، وقال الأولاد: بل مات كافراً، فالميراث لنا - فإن عرف أصل دينه، فالقولقول من تمسك بأصل دينه؛ وهم الأولاد. وإن أقام كل واحد بينة، ترجح بينة من يقول: مات مسلماً؛ لأنها ناقلة، ويجعل الميراث بين الزوجة والأخ. فإن لم يعرف أصل دين الأب، فالميراث موقوف. فإن اتفقوا، واصطلحوا، يجعل بين الطائفتين: نصفه للزوجة والأخ، والنصف للأولاد- ثم الزوجة كم تأخذ من النصف الذي جعلناه لها وللأخ؟ فيه وجهان:

أحدهما: ربع ذلك النصف، ويجعل كأن التركة لم تكن إلا ذلك القدر. والثاني: تأخذ نصفه؛ ليكون لها ربع جميع التركة؛ لأن الأخ مقر أن لها ربع الجميع. وإن أقاما بينتين يتعارضان ثم يتهاتران، أم يستعملان؟ فعلى الاختلاف الذي ذكرنا. وإذا كان لرجل زوجة؛ وابن منها؛ فماتت الزوجة والابن، ثم اختلف الزوج مع أخي الزوجة: فقال الأخ: مات الابن أولاً، وورثته الأم، ثم ماتت الأم؛ فصار ميراثها لي وللزوج. وقال الزوج: بل ماتت المرأة أولاً؛ فصار ميراثها لي وللابن، ثم مات الابن؛ فصار ميراثه لي - فإن أقام أحدهما بينة، قضي له، وإن أقاما بينتين، أو لم يكن بينة- فهي مسألة عمى الموت لا يورث أحد الميتين من الآخر، بل ميراث الابن للأب، وميراث الزوجة نصفه للزوج، والباقي للأخ. فصل إذا ادعى رجل مالاً في يد آخر؛ أنه ورثه من أبيه، وأقام عليه بينة- دفع إليه إن لم يكن له وارث سواه، وإن كان له وارث سواه، دفع إليه نصيبه، ووقف نصيب الآخرين. وإن لم يعرف عدد ورثته، ينتزع المال من يد المدعي عليه، ويوقف؛ حتى يعرف عددهم. وإن جاء رجل، وادعى؛ أنه وارثه، لا يسمع؛ حتى يبين أنه ابنه، أو أخوه. وإذا أقام بينة؛ أنه ابنه لا يقضى؛ حتى يقول: ابنه وارثه؛ لأنه قد يكون ابناً، ولا يكون وارثاً. فإن شهدوا؛ أنه ابنه وارثه لا نعرف له وارثاً سواه: فإن كان الشهود من أهل الخبرة الباطنة دفع إليه التركة، وإن كان هذا الوارث صاحب فرض، رفع إليه أكمل الفروض من غير كفيل. وإنما شرطنا أن تكون البينة من أهل الخبرة الباطنة. لأن الإنسان قد يتزوج في بلاد الغربة، ويولد له بها؛ فلا يطلع عليه إلا من كان من أهل الخبرة الباطنة. ولو أن الشهود لم يقولوا: لا نعرف له وارثاً سواه، ولكن قطعوا، وقالوا: ليس له وارث سواه- لا يقدح ذلك في شهادتهم، ولكن يقال لهم: أخطأتم بالقطع؛ لأنه قد يتسرى ويتزوج في الخفية؛ فيولد له. وإن لم يكن الشهود من أهل الخبرة الباطنة، أو كانوا من أهل الخبرة الباطنة ولكن لم يقولوا: لا نعرف له وارثاً سواه- نظر: إن كان المشهود له صاحب فرض، لا يحجب ويعطى أقل فرضه عائلاً قبل التلوم والتفحص عن البلاد التي كان بها الميت؛ كالزوجة تعطى ربع الثمن عائلاً؛ يجعل كأنه مات عن: أبوين وبنتين وأربع زوجات، والزوج يعطى الربع عائلاً، يرجع

كأنها ماتت عن: أبوين وبنتين وأربع زوجات، والزوج يعطى الربع عائلاً يجعل كأنها ماتت عن: أبوين وبنتين وزوج، ويعطى الأبوان السدس عائلاً. ففي الأب: إن كان الميت ذكراً، يجعل كأنه مات عن: أبوين وبنتين وزوجة، وإن كان الميت أنثى؛ كأنها ماتت عن: أبوين وبنتين وزوج. وفي الأم: إن كان الميت ذكراً، يجعل كأنه مات عن: أختين لأب وأم وأختين لأم وزوجة وأم، وإن كان الميت أنثى؛ كأنها ماتت عن: أختين لأب وأم وأختين لأم وزوج وأم لها سهم من عشرة. ولو كان الحاضر ابناً وزوجة، تعطى الزوجة ربع الثمن غير عائل؛ لأن المسألة لا تعول مع الابن؛ وإن كان المشهود له عصبة، لا يحجب؛ كالابن، أو ممن يصير عصبة؛ كالبنت؛ فلا يعطى قبل التفحص عن البلاد التي كان بها الميت. فإذا تفحص القاضي، ومضت مدة لو كان له بها وارث لظهر، ولم يظهر- حينئذ يعطى المال إلى هذا الابن؛ وهل يطالب بالضمين؟ نص ها هنا أنه يعطى إليه بالضمين. وقال في "الأم"؟ أحب أن يأخذ ضميناً. اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يعطى إلا بالضمين؛ لأنه ربما يظهر له وارث آخر. والثاني: يستحب أن يأخذ ضميناً، ولا يجب؛ لأن الظاهر: أنه لا وارث له غيرهم. ومنهم من قال: لا يجب أخذ الضمين. وحيث قال: يعطى بالضمين، أراد به: على طريق الاستحباب، أو أراد به: إذا كان الوارث الظاهر ممن يحجب فإن كان ممن يحجب؛ كالأخ وابن الأخ- فهل يعطى بعد التفحص؟ فيه وجهان: أصحهما: يعطى، ولا يعطى إلا بضمين. وقيل في مطالبته بالضمين: قولان؛ كالابن؛ لأن الابن يحجب حجب النقصان؛ كما يحجب الأخ حجب الحرمان.

باب جامع الدعوى إذا ادعى رجلان داراً في يد رجل، وادعى أحدهما؛ أني اشتريتها منه بمائة، ونقدت الثمن؛ فليسلم إلي، وادعى الآخر؛ أني اشتريتها بمائتين، ونقدت الثمن؛ فلتسلم إلي- فإن لم يكن لواحد بينة، حلف لمدعي عليه لهما يمينين، وإن أقر لأحدهما سلم إليه، والآخر يدعي عليه الثمن الذي دفع؛ كما لو هلك المبيع قبل القبض؛ وإن أقام أحدهما بينة سلمت إليه، والآخر يدعي ثمنه الذي أعطى. وإن أقاما بينتين، نظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، فهي للسابق منهما، والآخر يدعي ثمنه؛ وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة- فقد تعارضت البينتان. إن قلنا: يتهاتران، سقطتا، ويحلف المدعي عليه يمينين؛ كما لو لم يكن بينة. وإن قلنا: يستعملان، فلا يجيء قول الوقف؛ لأنهما يتداعيان عقداً، والعقد لا يوقف. ويجيء القولان الآخران: في قول: يقسم. وفي قول: يقرع؛ فمن خرجت له القرعة، سلمت إليه الدار، والآخر يرجع عليه بالثمن الذي سمي؛ لأن شهوده شهدوا على أنه نقد الثمن. وقيل: يجيء قول الوقف؛ فتنتزع من يده، ويوقف إلى أن ينكشف الحال. فإن قلنا بقول القسمة، يجعل بينهما نصفان، ولكل واحد منهما فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له جميع ما اشترى؛ ثم إن فسخنا، رجع كل واحد بجميع الثمن الذي سماه شهوده على المدعي عليه. وإن أجازا، رجع كل واحد بنصف الثمن الذي سماه شهوده. وإن أجاز أحدهما، ثم رد الآخر، فالذي رد رجع بجميع الثمن، والذي لم يرد يرجع بنصف الثمن، ولا يسلم إليه ما رد صاحبه؛ لأنه رضي بنصفه، حيث أجاز. ولو عرض أولاً على أحدهما، ورد، وفسخ- هل للآخر أخذ جميعها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن هذا جواب على قول القسمة، فلا نسلم لأحدهما الكل؛ كما في الصورة الأولى. والثاني: له ذلك؛ بخلاف الصورة الأولى؛ لأن هناك أجاز قبل رد الثاني، فكأنه رضي في النصف، ورد في النصف. وهاهنا لم يجز قبل رد الثاني، ولم يرض بالنصف- فكان الفسخ له بسبب المزاحمة،

وقد ارتفعت المزاحمة؛ فله أخذ الكل. وإذا أقام كل واحد بينة؛ فكانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو أحدهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، وأقر المدعي عليه لأحدهما فإن قلنا بقول التهاتر، فهي للمقر له؛ كما لو لم يكن بين؛ فأقر له. وإن قلنا بقول الاستعمال، ففيه وجهان: قال ابن سريج: يجعل لمن صدقه البائع؛ لأن الدار في يد البائع، وقد نقل يده بالإقرار إلى أحدهما؛ فقد اجتمع في حقه اليد والبينة. والثاني: وهو قول أكثر الأصحاب؛ وهو الأصح: لا يرجح بالإقرار؛ لأن البينتين اتفقتا على إزالة الملك من البائع، وإسقاط يده، بل هي على القولين في الاستعمال. في قول: يقرع بينهما. وفي قول: يقسم ولا يأتي قول الوقف؛ كما ذكرنا. وقيل: يأتي قول الوقف؛ وهذا كله إذا كانت الدار في يد البائع، فإن كانت الدار في يد أحد المتداعيين، وأقاما بينتين- يقضى لصاحب اليد. ولو ادعى رجلان ثوباً في يد رجل: فقال أحدهما: كان هذا الثوب ملكي بعته منك بمائة؛ فأد الثمن. وقال الآخر: كان ملكي بعته منك بمائتين؛ فأد الثمن. فأنكر الذي في يده - فالقلو قوله مع يمينه؛ يحلف يمينين لهما؛ فإن أقر الذي في يده لأحدهما، دفع إليه الثمن الذي يدعيه، وحلف للآخر؛ وإن أقام أحدهما بينة، قضى له بالثمن الذي شهدت به بينته. وإن أقام كل واحد بينة؛ نظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين؛ يجب على المدعي عليه الثمنان جميعاً؛ كأنه اشتراه من أحدهما، ثم صار ملكاً للآخر؛ فاشتراه منه. وإن كانت البينتان مؤرختين بتاريخ واحد، يتعارضان: فإن قلنا: بقول التهاتر، حلف المدعي عليه لهما. وإن قلنا: بقول الاستعمال، ففي قول: يقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة، قضى له بالثمن الذي شهدت به بينته. وفي قول القسمة: أخذ كل واحد نصف الثمن الذي شهدت له به بينته، كأن الثوب لهما؛ فباعاه في وقتين بثمنين مختلفين. وفي قول: يوقف إلى أن يتبين.

وقيل: لا يأتي قول الوقف في كل موضع كان الاختلاف في العقد؛ لأن العقد لا يوقف. وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة- ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان؛ كالمؤرختين بتاريخ واحد. والثاني: هما كالمؤرختين بتاريخين مختلفين؛ فيلزمه الثمنان جميعاً؛ لأنه يحتمل أنه اشتراه من أحدهما، ثم صار ملكاً للآخر؛ فاشتراه منه؛ وهو اختيار المزني. وكذلك إذا كانت شهادتهما على إقرار المدعي عليه، أقام أحدهما بينة؛ أنه أقر أنه اشتراه منه بمائة، وأقام الآخر بينة؛ أنه أقر أنه اشتراه بمائتين- فالحكم في إطلاق البينتين والتاريخ بأن شهد؛ أنه أقر أني اشتريته في وقت كذا- ما ذكرنا. وإذا ادعى ثوباً في يد رجل؛ فقال: إنه ملكي اشتريته من فلان- فلا تسمع هذه الدعوى؛ حتى يقول: اشتريته من فلان، وكان يملكه، بخلاف ما لو ادعى على صاحب اليد؛ أني اشتريته منك- لا يحتاج أن يقول: وأنت تملكه؛ لأن يده تدل على أنه ملكه. ولو قال: اشتريته من فلان، وسلمه إلي، وتسلمت منه ذلك- جاز؛ لأنه لا يسلم إلا ما يملك. فإذا ادعى وقال ذلك، وقال من في يده: أنا اشتريته من فلان، وكان يملكه؛ سواء سمى الذي سمى المدعي، أو غيره- فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. وإن أقاما بينتين، فبينة ذي اليد أولى. وإذا جاء أجنبيان، وادعى كل واحد؛ أني اشتريته من فلان، وكان يملكه؛ فأنكر صاحب اليد- يحلف لهما يمينين. وإن أقاما بينتين، يتعارضان؛ سواء عزيا إلى شخص واحد، أو إلى شخصين. فإن قلنا: يسقطان، ترك في يدي صاحب اليد؛ وهو يحلف لهما. وإن قلنا: يستعملان، ففي قول: يقرع بينهما. وفي قول: يقسم، ولا يأتي قول الوقف؛ كما ذكرنا. ويشترط أن يقول الشاهد في شهادته: اشتراه من فلان، وكان يملكه، أو اشتراه من فلان وسلمه إليه، أو تسلمه منه، فلو لم يقبل بينة أحدهما، وكان فلان يملكه، أو سلمه إليه- قضى للذي قالته بينته. ولو أقام أحدهما بينة؛ أنه اشتراه من فلان، وكان يملكه، وأقام الآخر بينة؛ أني اشتريته

منك- قاله لهذا الذي أقام البينة- أو أقام البينة على ذي اليد أني اشتريته منك- ترجح بينة من يقول- أني اشتريته منك، ولا يحتاج أن يقول: اشتريته منك، وأنت تملك لا لذي اليد، ولا لمقيم البينة؛ لأن اليد والبينة تدل على أنه ملكه. فصل عبد في يد رجل ادعى رجل؛ أني اشتريته منك وادعى العبد أن الذي في يده أعتقه: فإن أنكر ذو اليد دعواهما، حلف لهما يمينين، فإن أقام أحدهما بينة، قضي له، وإن أقام كل واحد بينة على ما يدعيه؛ نظر: إن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفتين، قضى للسابق منهما، وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين بتاريخ واحد- يتعارضان. فإن قلنا بقول التهاتر سقطتا، وحلف ذو اليد لهما. وإن قلنا بقول الاستعمال، ففي قول: يقرع بينهما. وفي قول: يقسم؛ ولا يأتي قول الوقف. وإن قلنا: بقول القسمة، يعتق نصفه، ونصفه للمدعي بنصف الثمن، وله الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع المعقود عليه، فإن فسخ العقد، فلا يمين عليه، ولا يحكم بعتق النصف الذي فسخ منه العقد؛ لأنه لا يكون حكماً بالقسمة. وقيل: يحكم بعتق جميعه؛ لارتفاع المزاحمة. وعند المزني: بينة العبد أولى؛ لأنه في يد نفسه بالحرية، وبينة صاحب اليد أولى. قلنا: لو كان العبد تحت يده، لكان الدعوى على العبد، لا على السيد؛ فلما كان الدعوى على السيد، ثبت أنه في يد السيد. وإذا ادعى رجل، على شخص مجهول النسب؛ أنه عبدي، وأقام عليه بينة، وأقام المدعي عليه بينة؛ أنه كان ملكاً لفلان؛ فأعتقه- فبينة العبد أولى، لأن عنده زيادة علم؛ وهو النقل من الرق إلى الحرية. ولو ادعى على شخص؛ أنك عبدي، وقال المدعي عليه: أنا حر- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل في الناس على الحرية. فإن أقام المدعي بينة على رقه، وأقام المدعي عليه بينة؛ أنه حر- فبينة الرق أولى؛ لأن عندها زيادة علم؛ وهو إثبات الرق. ولو ادعى عبد في يد رجل؛ أنه ولد أمته، وأقام عليه بينة- لا يحكم له بالملك؛ لأنه قد

يكون ولد أمته، ولا يكون ملكاً له؛ بأن تلد في ملك غيره. فإن شهدوا؛ أنه ملكه ولدته أمته، أو لم يقولوا: ولدته أمته- يحكم له بالملك. وإن شهدوا أن أمته ولدته في ملكه، نص أنه يقضى له به؛ كما لو أقام بينة؛ أنه ملكه، وهذه شهادة بملك متقدم؛ لأنهم يشهدون أنها ولدته في ملكه، ويشهدون بالملك في تلك الحالة؛ وهي حالة الولادة. وقد ذكرنا أنه إذا أقام بينة؛ أنه كان ملكه بالأمس، لا يحكم به؛ على أصح القولين؛ فإن ابن سريج نقل جواب تلك المسألة إلى هذه، وجعلهما على قولين. وسائر أصحابنا فرقوا، وقالوا هاهنا: يقضى له به قولاً واحداً؛ بخلاف تلك المسألة؛ لأن شهادتهم هناك بأصل الملك، فلم تقبل إذا لم يثبتوا الملك في الحالة. وهاهنا شهادتهم بنماء الملك؛ فلم يفتقر إلى إثبات الملك في الحال، إذا حصلت الشهادة بحدوثه في الملك. ولو شهدوا؛ أن هذه الشاة نتجت في ملكه، أو هذه الثمرة حصلت من شجرته- فهو كما لو شهدوا؛ أنه ولد أمته ولدته في ملكه. أما إذا شهدوا أن هذا الغز من قطنه، أو هذا الكرباس من غزله، أو هذا الخبز من دقيقه، أو هذا الدقيق من حنطته، أو هذا الطير من بيضته، أو هذا الآجر من طينه- يقضى له بالملك؛ لأن جميع ذلك عين ماله تغيرت صفته؛ بخلاف ولد الجارية، وثمرة الشجرة. فصل في اختلاف المتكاريين إذا اختلف المتكاريان: فقال المكري: أكريتك هذا البيت من هذه الدار بعشرة، وقال المكتري: بل جميع الدار بعشرة- يتحالفان، ثم يفسخ العقد بينهما. وعلى المكتري أجر مثل ما سكن؛ فإن سكن جميع الدار، فعليه أجر مثل جميعها، وإن سكن بيتاً، فعليه أجر مثله. فإن أقام أحدهما بينة قضى له، وإن أقام كل واحد بينة على ما يدعيه يتعارضان؛ فإن قلنا بقول التهاتر، سقطتا، ويتحالفان. وإن قلنا بقول الاستعمال، يقرع بينهما، ولا يأتي قول الوقف ولا القسمة؛ لأن المكتري لا يدعي الملك. وفيه قول آخر- وبه قال أبو حنيفة-: بينة المكتري أولى؛ لأنها تثبت زيادة؛ وهي اكتراء جميع الدار؛ حتى لو كانت الزيادة في جانب المكري في الكراء يقول: أكريتك الدار بعشرين، والمكتري يقول بعشرة- فكان القول قول المكري مع يمينه؛ على هذا القول. وإن كانت الزيادة مع الجانبين؛ بأن يقول المكري: أكريتك هذا البيت بعشرين، ويقول المكتري: بل جميع الدار بعشرة- ففيه وجهان:

أحدهما: يتعارضان. والثاني: ذكره ابن سريج-: يقضي للمكتري باكتراء جميع الدار بعشرين؛ أخذاً بالزيادة من الجانبين؛ وهذا ضعيف؛ لأنه حكم بخلاف البينتين، وبخلاف قول المتداعيين. ولو ادعاه رجلان: أقام أحدهما بينة؛ أنه اكترى هذه الدار سنة من رمضان بكذا، وأقام الآخر بينة أنه اكتراها سنة من شوال بكذا- فبينة رمضان أولى؛ لأنها أسبق. فصل إذا ادعى رجل ألفين على رجل، وأقام شاهدين: شهد أحدهما بألف، والآخر بألفين- ثبت الألف بشهادتهما. فإذا أراد المدعي إثبات الألف الأخرى، حلف مع شاهده، وأخذ الكل. وكذلك لو كانت شهادتهما على الإقرار: شهد أحدهما؛ أنه أقر له بألف، وشهد الآخر؛ أنه أقر له بألفين- ثبت الألف. وعند أبي حنيفة: لا يثبت الألف. ووافقنا: أنه لو شهد أحدهما بألف، والآخر بألف وخمسمائة- أنه يثبت الألف. أما إذا كان المدعي يدعي ألفاً؛ فشهد أحدهما بألف، والآخر بألفين؛ فشاهد الألفين شهد بالزيادة قبل الاستشهاد- فهل يجرحه ذلك؟ فيه وجهان: إن قلنا: يجرحه، حلف المدعي مع شاهد الألف، وأخذ. وإن قلنا: لا يجرحه، فشهادته في الزيادة مردودة، وهل تبطل في الباقي؟ فعلى قولي تبعيض الشهادة. إن قلنا: تتبعض، ثبت الألف. وإذا أراد المدعي إثبات الألف الثانية، يحتاج إلى استئناف الدعوى والشهادة. ولو شهد أحدهما بثلاثين، والآخر بعشرين- فالمذهب: أنه يثبت العشرون، كما ذكرنا في الألف والألفين. وقيل: لا يثبت العشرون؛ لأن لفظ العشرين غير موجود في الثلاثين، وفي الألف والألفين لفظ الألف موجود في كلام الشاهد؛ فيحتمل أن يكون أحدهما لم يسمع الزيادة، واتفقا على سماع الألف. ولو ادعا ألفاً. فشهد أحدهما؛ أن له عليه ألفاً من ثمن متاع، وشهد الآخر؛ أن له عليه

ألفاً من قرض، أو شهد أحدهما؛ أن له عليه ألفاً من ثمن عبد، وشهد الآخر؛ أن له عليه ألفاً من ثمن ثوب- لا يثبت واحد منهما. فإن عين المدعي أحدهما، واستأنف الدعوى- حلف مع شاهده، واستحقه. وإن ادعاهما، وحلف مع كل واحد من الشاهدين- استحقهما. وإن كانت شهادتهما على الإقرار: شهد أحدهما؛ أنه أقر؛ أن عليه ألفاً من ثمن متاع، وشهد الآخر؛ أنه أقر؛ أن له عليه ألفاً من قرض- هل يثبت الألف؟ فيه وجهان؛ بناء على ما لو ادعى على رجل ألفاً من ثمن متاع، فقال المدعي عليه: هي من جهة القرض- فهل يحل له أخذ تلك الألف؟ فيه وجهان: إن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الأخذ، لا يثبت الألف، إلا أن يحلف مع أحدهما. وإن قلنا: لا يمنع الأخذ؛ يثبت. والفرق بين الإقرار، وبين الصورة الأولى: أن الإقرار إجبار، وقد يقر الإنسان بشيء واحد مراراً بألفاظ مختلفة، واختلاف الألفاظ [لا يمنع] الثبوت. ولو ادعى على رجل ألفاً، وشهد شاهدان؛ أن له عليه ألفاً، وشهد أحدهما؛ أنه قد قضاه أو أبرأه- نظر: إن ذكر القضاء، أو الإبراء موصولاً بشهادته- بطلت شهادته؛ لأنه وصل بشهادته ما يضادها؛ فيبقى للمدعي شاهد واحد يحلف معه، ويأخذ. وإن لم يقله موصولاً بشهادته، بل عاد بعد ذلك وقاله- نظر: إن عاد قبل الحكم بشهادته، سئل: فإن قال: كان قد قضاه قبل أن شهدت، فهذا رجوع عن الشهادة، وإقرار ببطلانها، وبقي للمدعي شاهد آخر؛ بحلف معه، ويأخذ. وإن قال: قضاه بعد ما شهدت، ذكر "صاحب التلخيص"؛ أن شهادته تبطل، ويحلف المدعي مع الشاهد الآخر، وذكر فيما لو كان شهادتهما على الإقرار؛ بأن شهد شاهدان؛ أنه أقر بألف، وشهد أحدهما؛ أنه قضاه، أو أبرأه- فهو على التفصيل الذي ذكرنا: إن قاله موصولاً، بطلت شهادته، وإن لم يقل موصولاً، بل عاد بعده - وقاله: فإن عاد قبل الحكم بشهادته، سئل: فإن قال: كان قد قضاه، أو أبرأه قبل أن شهدت- فهو رجوع عن الشهادة وبطلت شهادته، فيحلف المدعي مع الشاهد أو أبرأه الآخر وأخذ وإن قال: قضاه أو أبرأه بعدما شهدت- قال صاحب "التلخيص": يقضى له بالألف، إلا أن يحلف المدعي عليه مع شاهده؛ أه قد قضى. أراد: أن شهادته لا تبطل؛ فهذه شهادة للمدعي عليه بالقضاء والإبراء؛ بخلاف الصورة الأولى؛ فإن هناك شهد؛ بأن الحق عليه. وقوله: "قضاه"، أو "أبرأه" مخالف له؛ فكان رجوعاً. وفي هذه الصورة: لم يشهد؛ أن

الحق عليه، بل يشهد على إقراره، وقد يقر بالحق، ثم يقضي؛ فليس في قوله: قضاه ما يؤثر في إقراره. وذكر الشيخ أبو زيد في المسألة الأولى وجهاً آخر، أن شهادته لا تبطل، وتقع شهادته للمدعي عليه بالقضاء والإبراء؛ إن حلف معه برئ؛ كما لو قاله بعد الحكم، لا فرق فيه بين الإقرار والإنشاء. والأصح: هو الفرق بينهما قبل الحكم؛ كما ذكر صاحب "التلخيص". ولو شهد شاهدان على الوكالة: شهد أحدهما أو وكيله؛ أنه وكله بكذا، وشهد الآخر؛ أنه وكله وعزله: فإن قال موصولاً بطلت شهادته، وإن قال بعده؛ نظر: إن قال قبل الحكم: أشهد؛ أنه عزله، سأله القاضي: متى عزله؟ فإن قال: عزله قبل أن شهدت، بطلت شهادته. وإن قال: عزله بعد ما شهدت، ذكر ابن سريج فيه قولين: أحدهما: بطلت شهادته؛ فلا يحكم بها؛ لأنه حدث قبل الحكم ما لو كان مقروناً بالشهادة لأبطلها؛ كالفسق. والثاني: يحكم؛ لأن الشهادة بالوكالة صحت، وهذه شهادة بالعزل؛ فلا يثبت به وحده؛ كما لو قال بعد الحكم: إنه كان عزله، لا يرد الحكم. وقال صاحب "التلخيص": لو ادعى على رجل؛ أنه أقرضه ألفاً، وأنكر المدعي عليه أن يكون عليه شيء؛ فأقام المدعي بينة؛ أنه أقرضه ألفاً، وأقام المدعي عليه بينة؛ أنه قضاه الألف، ولم يعلم التاريخ- فبينة القضاء أولى. ولو ادعى؛ أنه أقرضه ألفاً، وأنكر أن يكون أقرضه؛ فأقام المدعي بينة؛ أنه أقرضه ألفاً- فبينة القرض أولى. والفرق بين الصورتين: أن في الصورة الأولى لم يتعرض المدعي عليه للقرض، لكن أنكر أن يكون عليه شيء؛ فيسمع بينته على القضاء بعد إقامة المدعي البينة؛ لأن بينته لا تكذبه. وفي الصورة الثانية: أنكر القرض؛ فهو إقرار، بأنه لم يقضه شيئاً؛ فلم تسمع بينته على القضاء. نظيره: ما قال الشافعي: لو ادعى وديعة؛ فقال المدعي عليه: ما لك عندي شيء؛ فأقام المدعي البينة؛ أنه أودعه، ثم أقام المدعي عليه بينة على الرد تسمع. ولو قال: لم يودعني شيئاً، ثم أقام المدعي البينة؛ فأقام المدعي عليه بينة على الرد- لم

تسمع؛ لأن قضية قوله: لم يودعني- أنه لم يزد عليه شيئاً؛ فلا تسمع بينته على خلافه. وإذا شهد أحد الشاهدين؛ أنه باع عبداً؛ صفته كذا بألف، وشهد الآخر؛ أنه باع ذلك العبد بعينه بألفين- لا يثبت، ويحلف المدعي مع أيهما شاء، ويأخذ. ولو شهد شاهدان؛ أنه باع عبداً بألف، وشهد آخران؛ أنه باع ذلك العبد بعينه بألفين - يتعارضان؛ لأن كل واحد حجة كاملة؛ فتعارضا؛ بخلاف الصورة الأولى. ولو شهد شاهدان على الوكالة: شهد أحدهما، أنه وكله، وشهد الآخر؛ أنه أقر بوكالته- لا يجمع بينهما. وكذلك لو اختلف الشاهدان في زمان، أو مكان. أما إذا كانت شهادتهما على الإقرار؛ فشهد أحدهما؛ أنه أقر في البيت، أنه وكل فلاناً، وشهد الآخر؛ أنه أقر في السوق؛ أنه وكله فلان، أو شهد أحدهما؛ أنه أقر يوم السبت؛ أنه وكله، وشهد الآخر؛ أنه أقر يوم الأحد؛ أنه وكله- يجمع بينهما، لأن الإقرار يتكرر. ولو شهد أحدهما؛ أنه وكله بالبيع وحده، وشهد الآخر؛ أنه وكله مع فلان- لا يثبت. ولو شهد أحدهما؛ أنه وكله بالبيع، وقبض الثمن، وشهد الآخر؛ أنه وكله بالبيع- يثبت البيع دون قبض الثمن. ولو شهد أحدهما، أنه وكله بالبيع، وشهد الآخر؛ أنه أذن له في البيع- يجمع؛ لأن التوكيل ليس هو إلا الإذن بالبيع. وكذلك لو شهد أحدهما؛ أنه قال له: أنت وكيلي؛ فشهد الآخر؛ أنه أذن له، أو سلطه - يجمع؛ لأن أحدهما ينقل لفظ الموكل، والآخر يخبر عنه. وكذلك لو شهد أحدهما؛ أنه وكله بتطليق زوجته، وشهد الآخر؛ أنه سلطه، على تطليقها- يثبت. ولو شهد أحدهما؛ أنه قال له: أنت وكيلي بكذا، وشهد الآخر؛ أنه قال: جريي- لا يثبت؛ لأنهما اختلفا في لفظ المشهود عليه. والجري: الوكيل بلغة "البصرة". وكذلك لو شهد أحدهما؛ أنه قال له: وكلتك، وشهد الآخر؛ أنه قال له: أذنت لك- لا يثبت. أما إذا شهد أحدهما؛ أنه أقر؛ أنه وكيله، وشهد الآخر؛ أنه أقر؛ أنه جريه- يثبت.

باب القافة ودعوى الولد روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعرف السرور في وجهه. فقال: ألم ترى أن مجزراً المدلجي نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما؛ فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". إذا ادعى رجلان، أو أكثر نسب مولود مجهول النسب، أو اشترك رجلان أو جماعة في وطء امرأة؛ فأتت بولد لمدة يمكن أن يكون من كل واحد منهم- فلا يلحق بهم جميعاً، بل يرى معهم القائف؛ فبأيهم ألحقه، يلحق به. وعند أبي حنيفة: يلحق بهم جميعاً؛ وإن كثروا. وإن ادعته امرأتان، أو ثلاث، أو أربع، يلحق بهن، ولا يلحق بأكثر منهن. وعند أبي يوسف: إذا ادعاه رجلان، أو ثلاثة، يلحق بهم، ولا يلحق بأكثر، ولا يعمل بقول القائف عندهم. والحديث حجة عليه؛ من حيث إن النبي- صلى الله عليه وسلم- أظهر السرور بقول مجزر في أسامة وزيد ولو لم يكن ذلك حقاً، لكان لا يظهر السرور، ولكان يزجره عنه، ويقول: إنك وإن أصبت هاهنا، فربما تخطئ في غيره؛ فيكون في خطئك قذف محصنة، ونفي نسب. ويشترط: أن يكون القائف مسلماً، عاقلاً، بالغاً- وهل يشترط أن يكون حراً ذكراً؟ فيه وجهان: المذهب: أنه يشترط؛ كالقاضي. وفيه وجه آخر: أنه يجوز أن يكون عبداً، أو امرأة؛ وهل يختص ببني مدلج. فيه وجهان: أحدهم: لا؛ بل هو علم يتعلم، فمن تعلمه، عمل بقوله؛ سواء كان عربياً، أو أعجمياً. والثاني: يختص ببني مدلج؛ وقد يخص الله- تعالى- قوماً بنوع من العلم والفضائل، لا

يشاركهم فيه غيرهم؛ كما خص قوماً بالنبوة والولاية. ومن الرعاة من له هداية تتبع الأغنام في ظلمة الليل، وهي تلد؛ فيلتقط السخال؛ فيلقيها في وعاء، ثم إذا أضاء النهار، يلقي كل سخلة بين يدي أمها، ولا يخطئ. حتى قال الإصطخري: إذا تنازع رجلان في سخلة، يؤخذ بقول هذا الراعي؛ كما يحكم بقول هذا القائف. والمذهب: أنه لا يعمل فيه بقول الراعي، ويعمل بقول القائف في نسب الآدمي؛ لشرفه؛ حتى لا يضيع نسبه. ويكتفي بقائف واحد؛ كالقاضي يكون واحداً. وقيل: يشترط اثنان؛ كالمزكي والمقوم. والأول أصح. ويشترط: أن يكون القائف مجرباً معروفاً بالقافة؛ كما لا يصح القضاء إلا ممن عرف بالعلم. وكيفية تجربته: أن يؤتى بولد معروف النسب مع جماعة من النسوان؛ فيقال له: ألحقه بإحداهن، أو يؤتى بأولاد من نسوة، وبامرأة واحدة؛ فيقال: ألحق ولدها بها من بين الكل؛ فإذا عرفوا إصابته، حينئذ يرجع إليه، ولا يجرب بالأب؛ لأن لحوق الولد بالأب لا يعلم يقيناً؛ فلا تحصل به التجربة. وإذا مات الوالد أو الولد، هل يرى القائف بعد الموت؟ نظر: إن كان بعد ما تغير لا يرى، وإن كان قبل التغير: فإن كان بعد الدفن لا ينبش، وإن كان قبله وجهان: قال أبو إسحاق: يرى القائف؛ لأنا لشبه لا تنقطع بالموت. والثاني: لا يرى؛ لأن القائف قد يلحق بالأشباه الخفية، من: الكلام والحركة، ونحوهما وذلك ينقطع بالموت. وإذا مات أحد المتداعيين، يرى مع ابنه وأخته أو عمته القائف. ولو ألحق أحد القائفين الولد بأحد المتداعيين بالأوصاف الظاهرة، وألحقه قائف آخر بالثاني بالأوصاف الباطنة من الخلق ونحوه- فأيهما أولى؟ فيه وجهان: أحدهما: الأوصاف الظاهرة؛ لأنها أظهر.

والثاني: الباطنة أولى؛ لأن فيها زيادة علم وبصيرة. ولو ألحقه قائف بأحدهما، ثم رجع؛ فألحقه بالآخر- لا يقبل رجوعه؛ كالقاضي إذاقضى لم يكن له نقضه. وإن لم يكن هناك قائف، أو أشكل عليه، أو ألحقه بهما- فلا يعمل به، بل يترك؛ حتى يبلغ الصبي؛ فينتسب إلى أحدهما؛ وليس ذلك على التشهي، بل يجتهد؛ فأيهما كان طبعه إليه أميل، انتسب إليه، لأن الإنسان قد يجد ميلاً في طبعه إلى من هو أبوه. فإذا انتسب إلى أحدهما، ثم رجع إلى الآخر، لا يقبل- والانتساب يكون بعد البلوغ. وقيل: إذا بلغ سناً يخير فيه بين الأبوين؛ وهو سبع سنين، أو ثمان سنين- ينتسب. والأول المذهب. فإذا انتسب إلى أحدهما، ثم وجد القائف؛ فألحقه بالآخر- يقدم قول القائف؛ لأنه حكم. وإذا ألحقه القائف بأحدهمأ، ثم أقام الآخر بينة- تقدم البينة؛ لأنها أقوى. والمسلم والذمي في دعوى النسب سواء. ولو ادعى عربي نسب عجمي مجهول النسب، أو هندي نسب تركي- يسمع. وجملته: أن كل من ادعى نسب مجهول، أمكن ثبوت نسبته منه- يلحق به؛ إن كان صغيراً- وإن كان كبيراً؛ فأقر، ثبت، وإن أنكر، فالقول قول المنكر مع يمينه. فإن أقام المدعي بينة، أو نكل المدعي عليه عن اليمين، وحلف المدعي- حكم بثبوت نسبه. فإن كان المدعي أو المدعي نسبه رقيقاً، أو معتقاً- فهل يثبت بمجرد الدعوى من غير بينة؟ فيه اختلاف ذكرناه في "كتاب اللقطة". باب متاع البيت يختلف فيه الزوجان إذا اختلف الزوجان في متاع البيت؛ فأيهما أقام بينة على عين؛ أنها له- قضي له بها. فإن لم يكن له بينة، فما كان في يد واحد منهما، فالقول قوله مع يمينه. فإن كان سيف في عنق الرجل، أو في عنق المرأة، أو قلادة، في عنق واحد منهما، أو منطقة على وسط واحد منهما، أو ثوباً وأحدهما لابسه- فالقول فيه قول صاحب اليد مع يمينه.

أما ما كان في البيت، وهما يسكنانه، يجعل في أيديهما، سواء كان في حال بقاء الزوجية بينهما، أو بعد المفارقة، أو بعد موتهما اختلف ورثتهما، أو بعد موت أحدهما اختلف الحي مع وارث الميت؛ وسواء كان المتاع مما يصلح للرجال أو يصلح للنساء؛ كما لو تداعيا الدار التي يسكنانها، تجعل في أيديهما. ثم لكل واحد أن يحلف صاحبه؛ فإن حلف، قسم بينهما، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر- قضى بالكل للحالف. وقال أبو حنيفة: ما يصلح للرجا؛ كالسيف والمنطقة- يجعل في يد الزوج، وللمرأة تحليفه؛ وما يصلح للمرأة؛ كالحلي والخنش والمغزل- يجعل في يد المرأة وللزوج تحليفها، وما يصلح لكل واحد منهما يجعل في أيديهما في حال بقاء الزوجية، وبعد الفراق يجعل للزوج، وبعد موت أحدهما يجعل للحي. قلنا: لا يجوز الحكم بالصلاحية عند التنازع من غير دليل؛ كما لو تنازع عطار ودباغ في عطر ودباغ في أيديهما- لا يجعل العطر للعطار، والدباغ للدباغ، أو تنازع ملك وفقير في جوهرة نفيسة هي في أيديهما- لا تجعل اليد فيها للملك؛ لأنها بحاله أليق كذلك هاهنا. ولو كانت الدار يسكنها إنسان بالأجرة، فاختلفا في متاع البيت- فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأنه في يده. ولو تداعيا سلما فيها؛ نظر: إن كان مسمراً- فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأنه من أجزءا الدار، وإن كانت غير مسمر فالقول قول المكتري؛ كمتاع البيت. أما الرفوف إن كانت مسمرة، فللمكتري، وإن كانت غير مسمرة: قال الشافعي رضي الله عنه-: تجعل بينهما، ويتحالفان؛ لأن الرف قد يترك في العادة، وقد ينتقل، فيجوز أن يكون لكل واحد منهما. ولو تداعيا دابة، وأحدهما راكبها، والآخر أخذ بلجامها- فهي للراكب. وكذلك إذا كان لأحدهما على ظهرها حمل، فهي لصاحب الحمل. فإن كانا آخذين بلجامها، فوثب أحدهما؛ فركبها- لا يصير به صاحب يد. ولو تداعيا أرضاً، ولأحدهما فيها غراس أو بناء- فهي لصاحب الغراس والبناء. وكذلك إذا كان لأحدهما فيها زرع، فهي لصاحب الزرع. وكذلك لو تنازعا في دار لأحدهما فيها متاع- فهي لصاحب المتاع. فإن كان متاعه في

بيت واحد؛ يقضى له بذلك البيت، دون سائر الدار. وإن تنازعا في جارية أو دابة حامل، واتفقا على أن الحمل لأحدهما- فهي لصاحب الحمل. ولو تنازعا في ثوب، وأحدهما لابسه، والآخر أخذ بكمه- فهو للابس. وإن تنازعا في عمامة، وفي يد أحدهما منها ذراع، والباقي في يد الآخر- فهي بينهما يحلفان. ولو تداعيا عبداً، ولأحدهما عليه ثياب- فهو بينهما، ولا يقدم صاحب الثياب؛ لأن منفعة الثياب تعود إلى العبد، لا إلى المدعي والله أعلم. باب أخذ الرجلب حقه ممن يمنعه إياه روي عن عائشة- رضي الله عنها - أن هنداً قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل - شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه سراً؛ وهو لا يعلم؛ فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وإذا كان لرجل على آخر حق، وهو مليء غير ممتنع عن أدائه- لم يكن له أن يأخذ من ماله شيئاً دون إذنه، وإن كان جنس حقه؛ فإن أخذ، فعليه رده فإن تلف عنده، ضمنه؛ لأنه أخذ مال غيره بغير حق. وإن كان ممتنعاً عن أدائه، نظر: إن كان لا يقدر على أخذه بالحاكم؛ بأن كان جاحداً ولا بينة لصاحب الحق، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله بغير إذنه، وليس له أخذ غير جنس حقه إذا وجد جنس حقه؛ فإن لم يجد إلا غير جنس حقه، له أخذه. وقيل: هو بالخيار: إن شاء أخذ جنس حقه، وإن شاء أخذ غير جنسه. والأول أصح. وإن لم يصل إلى ماله إلا بنقب جداره، له نقبه، وأخذ حقه. وإن كان يقدر على أخذ حقه بالحاكم، بأن كان من عليه مقراً، ولكنه ممتنع عن الأداء، أو كان جاحداً، ولصاحب الحق بينة عادلة، يمكنه إثبات الحق عليه- فهل يجوز له أخذ حقه من غير أن يثبته بالحكم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يقدر على أخذه بالحكم؛ كما لو قدر على أخذه بالتقاضي. والثاني: يجوز؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لهند: "خذي ما يكفيك وولدك" أذن لها في الأخذ مع القدرة على الأخذ بالحكم، ولأنه يلحقه في المرافعة وإثباته بالحكم مؤنة ومشقة.

وعند أبي حنيفة: ليس له أخذ غير جنس حقه، إلا أن يأخذ أحد النقدين عن الآخر؛ فيجوز والحديث حجة عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإذن لهند في أخذ ما يكفيها من غير فصل بين جنس حقها، وغير جنسه. ثم إذا أخذ جنس حقه، ملكه، وإن أخذ غير جنس حقه، لا يملكه، بل يبيعه، ثم إن كان نقد البلد جنس حقه، باعه بجنس حقه، لا يملكه، بل يبيعه؛ ثم إن كان نقد البلد جنس حقه، باعه بجنس حقه، وإن كان نقد البلد غير جنس حقه، لا يبيعه بجنس حقه، بل يبيع بنقد البلد، ثم يصرف الثمن في حقه- ثم إن كان الحاكم عالماً بالحال، لا يبيعه إلا بإذنه؛ على ظاهر المذهب. وإن كان جاهلاً، ولا بينة له، باعه بغير إذنه؛ لأنه إذا أقر بين يدي الحاكم، أني أخذت مال فلان بحقي، لا يصدقه الحاكم بغير حجة، وما أخذه صاحب الحق من ماله، هل يكون مضموناً عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالمرهون حتى لو تلف في يده يكون من ضمان من عليه الحق. والثاني: يكون مضموناً عليه؛ لأنه أخذه بغير إذن مالكه، بخلاف المرهون. فإن قلنا: يكون مضموناً عليه، فإن كانت قيمته زائدة؛ فانتقصت، أو ناقصة فزادت يكون مضموناً عليه بالأكثر. ولا يجوز له الانتفاع بتلك العين، فإن فعل، فعليه أجر المثل ولو أخذ أكثرمن قدر حقه، نظر: إن أمكنه ألا يأخذ إلا قدر حقه- فالزيادة مضمونة عليه، وإن لم يمكنه، بأن لم يجد عيناً قيمتها أكثر من حقه- ففي ضمان الجميع ما ذكرنا من الوجهين، وكما يجوز لصاحب الحق أخذ مال غريمه، يجوز أخذ مال غريم غريمه؛ مثل: إن كان لزيد على عمرو حق؛ وهو منكر، أو مماطل، ولعمرو على بكر حق- جاز لزيد أن يأخذ من مال بكر حقه الذي له على عمرو؛ لأن بكراً غريم غريمه. ولو كان لزيد على عمرو حق؛ وهو جاحد، فجاء بكر؛ وأقر بحق لعمرو، ورد عمرو إقراره، وقال: لا شيء لي عليك، وصدق بكر زيداً؛ أن له على عمرو ما يدعيه- فيجوز لزيد أن يأخذ من بكر ما أقر به لعمرو. وقال شيخنا الإمام رضي الله عنه: ولو جحد بكر حق زيد على عمرو، وعلم زيد؛ أنه ما أقر به بكر لعمرو ثابت عليه- فلزيد أن يأخذ مال بكر دون إذنه- والله أعلم.

كتاب العتق

كتاب العتق قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] جعل الله عز وجل المخرج عن إثم القتل والظهار تحرير رقبة وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] أي: يكون الجواز على العقبة بفك الرقبة. وروي عن أبي هريرة؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار؛ حتى فرجه بفرجه العتق: إزالة الملك عن رقبة الآدمي؛ تقرباً إلى الله عز

وجل وهو أمر مندوب إليه، ويصح من المكلف المطلق، مسلماً كان أو كافراً، ولا يصح إعتاق الصبي والمجنون والمحجور عليه بالسفه ولا يصح إعتاق العبد [عن] نفسه؛ لأنه لا ملك له، فلو وكله مولاه بأن يعتق عبده عن المولى- جاز. وفي إعتاق المحجور عليه بالفلس قولان: أحدهما: لا ينفذ؛ لحق الغرماء. والثاني: يكون موقوفاً؛ فإن فك الحجر عنه وفصل عن الغرماء- نفذ؛ وإلا فلا. وعتق المريض في مرض موته يعتبر من الثلث، وإن لم يخرج من الثلث عتق بقدر ما يخرج. ويصح تعليق العتق بالصفات؛ كالطلائق، ولو أضاف العتق إلى جزء شائع أو جزء معين من العبد- عتق كله. ويحصل العتق بصريح اللفظ، وإن لم ينو، ويحصل بلفظ الكتابة إذا نوى، فصريحه لفظتان: الإعتاق والتحذير، فإذا قال لعبد: أعتقتك، أو أنت عتيق، أو معتق، أو حررتك، أو أنت حر أو محرر- عتق، وإن لم ينو حتى لو قال لعبده؛ على وجه السخرية: أنت حر أو بالفارسية: [ابجلذا دمرد] عتق. والكنايات: كقوله: لا ملك لي عليك، أو: لا سلطان لي عليك، أو: لا سبيل، ولا يد،

أو لا أمر، أو لا خدمة لي عليك، ونوى به الحرية- عتق، وإن لم ينوه لا يعتق، ولو قال: ملكت رقبتك- ففيه وجهان: أحدهما: صريح؛ لورود القرآن به. والثاني: كناية؛ لأنه غير معهود في عرف اللسان. وجميع كنايات الطلاق وصرائحه كناية في العتق. ولو قال لأمته: أنت علي كظهر أمي، ونوى العتق- ففيه وجهان: أحدهما: يعتق؛ لأنه لفظ يوجب التحريم؛ كلفظ "الطلاق". والثاني: لا يعتق؛ لأنه لا يزيل الملك. ولو قال لعبده: أنت حرة، أو لأمته: أنت حر- عتق بلا نية. والخطاب في التذكير والتأنيث: لا يمنعه. ولو قال لعبده: أنت مولاي، أو قال بالفارسية: [توبارخذاي مني] أو لأمته يؤكد ما نوى [مني]، ونوى العتق- عتق، وإن لم ينو لم يعتق. ولو قال: أنت سائبة، ونوى عتق. ولو قال لعبده: جعلت عتقك إليك، أو قال: خيرتك ونوى تفويض العتق إليه، فأعتق نفسه في المجلس عتق؛ كما في الطلاق. فلو قال لعبده: أعتقتك على ألف، أو: أنت حر على ألف، فقبل في المجلس، أو قال العبد ابتداءً: أعتقني [على ألف] فقال: أعتقت- عتق في الحال، وعليه الألف. ويشترط القبول في المجلس، ولو قال: أعتقتك على ألف إلى شهر، فقبل - عتق في الحال، والألف عليه مؤجلة إلى شهر. ولو قال: أعتقتك على أن تعمل لي كذا، وبينه، أو قال: على أن تخدمني شهراً، فقبل - عتق وعليه ما قبل، ولو لم يبين الخدمة- عتق، وعلى العبد قيمة رقبته. وكذلك: لو قال: على أن تخدمني أبداً ومطلقاً، فقبل- عتق، وعليه قيمته. ولو أعتقه على خدمة شهر، فخدم نصف شهر، ثم مات- مات حراً وللمولى في تركته نصف قيمته.

ولو قال: بعت نفسك منك بألف، فقال: اشتريت، أو قال العبد: بعني نفسي بألف، فقال: بعت، فالمذهب أنه يصح، ويعتق في الحال، وعليه الألف، وله عليه الولاء؛ كما لو أعتقه على ألف. قال الربيع: وفيه قول آخر: أنه لا يصح؛ لأن السيد لا يجوز له مبايعة عبده؛ كما لا يجوز أن يبيع منه شيئاً آخر، ولأن البيع لإثبات الملك، والعبد لا يملك نفسه، والمذهب: الأول، ويقال: هذا القول من كيس الربيع، وليس كما لو باع من عنده شيئاً آخر لا يجوز؛ لأن الرق ينافي الملك، فلو صح كان لسيهد، وصار كأن السيد باع مال نفسه من نفسه- لم يجز، وفي بيع نفسه منه: يعتق العبد؛ فلا يبقى للسيد عليه ملك، ويصح، فإن قلنا: يصح يثبت عليه الولاء للمولى؛ كما لو أعتقه على مال، وقيل: لا ولاء له عليه؛ لأن البيع يزيل الولاء عن البائع، كما لو أعتقه عن غيره بمسألته: يكون الولاء للسائل؛ فزال الولاء ههنا عن المولى؛ لأنه باعه، ولا يثبت الولاء للعبد على نفسه. قال الشيخ الإمام- رضي الله عنه- ولو أعتق عبده على خمر أو خنزير أو شيء لا يملك، فقبل- عتق، وعليه قيمة رقبته للمولى. ولو قال: بعتك نفسك بهذه العين أو بخمر أو بخنزير، فقبل: قال الشيخ- رضي الله عنه-: فإن قلنا: يصح البيع من نفسه، ويثبت الولاء - يعتق، وعليه قيمته، كما لو قال بلفظ العتق، وإن قلنا: لا ولاء عليه، إذا بعه بمال- فلا يصح ولا يعتق، كما لو باعه من أجنبي بخمر- لا يصح. ولو قال لعبده: وهبت نفسك منك، أو ملكتك نفسك، فقبل- عتق، وإن لم يقبل في المجلس- لا يعتق. وعند أبي حنيفة: يعتق بلا قبول. وكذلك: لو أوصى له برقبته؛ فلا بد من القبول بعد الموت حتى يعتق، ويكون من الثلث، قال الشيخ الإمام: إذا ذكر لفظ الهبة لا على طريق التمليك، بل قال: وهبت نفسك، ونوى به العتق- فهو كناية يعتق به من غير قبول، وذكره بعض أصحابنا، ولو أعتق جارية حاملاً- عتق الحمل مع الأم، حتى لو قال: أعتقتك دون الحمل- عتق الحمل معها، ولا يصح استثناء الحمل؛ [كما لا يصح استثناء الحمل] في البيع، غير أن البيع لا يصح أصلاً، والعتق ينفذ؛ لغلبة العتق، كما لو استثنى عضوا في العتق- عتق كله، ولو استثنى عضواً في البيع- لم يصح

البيع، ولو أعتق الحمل دون الأم- عتق الحمل دون الأم؛ فإن الأم لا تكون تبعاً للحمل، ولو كان الحمل لواحد، والأم لآخر، فأعتق مالك الحمل الحمل- عتق دون الأم، ولو أعتق مالك الأم الأم- عتقت دون الحمل؛ بخلاف ما لو كانا لواحد- يعتق الحمل بعتق الأم؛ لأن عتق الحمل هناك- ليس بطريق السرايا عن الأم؛ بل بطريق الاستتباع، كما تتبع الأم في البيع، وإذا اختلف المالكان- فلا يستتبع، ولو قال لجارية: كل ولد تلدينه، فهو حر- نظر: إن كانت حاملا في تلك الحالة، فولدت- كان الولد حراً، وإن كانت حائلاً فحبلت بعده، وولدت- ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتق؛ لأنه تعليق عتق قبل الملك. والثاني: يصح، فإذا ولدت عتق، لأنه كان مالكاً للأصل، كما لو أوصى لإنسان بثمرة شجرة، ولا ثمرعليها في الحال- يصح. ومن قال بالأول- فرق: بأن الثمرة تحدث من غير إحداث شيء في الشجرة؛ فكانت كالموجود حالة الوصية، والولد لا يحصل من غير إحداث شيئ. نظيره: لو أوصى بحمل جارية هي في الوقت حائل- ففي صحته وجهان. ولو قال لجاريته: أول ولد تلدينه، فهو حر، فولدت ولدين- عتق الأول دون الثاني، فإن كان الأول ميتاً- انحلت به اليمين، ولا يعتق الثاني. وعند أبي حنيفة: يعتق الثاني ووافقنا فيما لو قال أول عبد رأيته من عبيدي- فهو حر، فرأى واحداً منهم ميتاً- تنحل اليمين؛ حتى لو رأى بعده حياً- لم يعتق، ولو قال: إن ولدت ولداً، فأنت حرة، فولدت ميتاً، عتقت الأم؛ لأن الولد قد حصل ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاماً، فهو حر، وإن كانت جارية، فأنت حرة، [فولدت غلاماً وجارية]-: نظر: إن خرجا معاً يعتق واحد منهما؛ لأنه علق بالأول، وليس أحدهما بهذه الصفة. وكذلك: إن كانا ذكرين أو أنثيين وخرجا معاً. وإن سبق أحدهما- نظر: إن سبق الغلام فهو حر، والجارية وأمها رقيقان. وإن سبقت الجارية- عتقت الأم والغلام جميعاً؛ لأن الغلام كان في البطن حين عتقت الأم بولادة الجارية؛ فعتق بعتق- الأم، والجارية رقيقة.

وإن أشكل الأمر، فلم يدر أنهما خرجا معاً، أو أحدهما بعد الآخر- لا يعتق واحد منهم؛ لأن الأصل بقاء الملك على الكل، وإن تيقن أن أحدهما سبق الآخر، فلم يدر أيهما خرج أولاً- فالغلام حر بكل حال، لأنه إن سبق فهو حر، وإن سبقت الجارية عتق الغلام بعتق الأم، والجارية رقيقة. أما الأم: فيحتمل [حريتها]؛ بسبق الجارية، ويحتمل رقها؛ يسبق الغلام فأيهما قامت به البينة، حكم به؛ وإلا فهي رقيقة؛ [لأن الأصل رقها]. وقيل- وبه قال ابن الحداد: يقرع في حقها، فإن خرج لها سهم الحرية- كانت حرة؛ كما لو طار طائر، فقال رجل: إن كان غراباً- فعبدي حر، وإن لم يكن غراباً- فامرأتي طالق، ولم يتبين-: يقرع للحرية والأول أصح، لأن القرعة: إنما تكون في موضع تحقق الوقوع فأشكل، وههنا: لم يتحقق الوقوع؛ فلا قرعة؛ كما لو طار طائر، وقال رجل: إن كان هذا غراباً فعبدي حر، ولم يتبين لا يعتق العبد ولا يقرع للحرية، وفيما أوردوا من الحرية والطلاق تيقن الحنث في أحدهما، فأشكل فأقرعنا للحرية. باب عتق الشريك روي عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعتق- شركاً له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد- قوم [العبد] عليه قيمة عدل، فأعطي شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد؛ وإلا فقد عتق منه ما عتق.

وفي رواية: "من أعتق شركاً له في عبد- عتق ما بقي من ماله، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد. ثم إذا كان بين شريكين عبد، فأعتقه أحدهما، أو أعتق نصيبه، أو نصفه مطلقاً- عتق نصيبه، ثم إن كان معسراً- بقي نصيب الشريك رقيقاً، وإن كان موسراً- سرى العتق إلى نصيب شريكه، وعتق عليه كله، وولاؤه له، وعليه قيمة نصيب الشريك.

وإن كان موسراً بقيمة بعض نصيب شريكه- عتق عليه بذلك القدر. وعند أبي حنيفة: لا يسرى العتق، بل إن كان المعتق معسراً- فالشريك الآخر مخير بين أن يعتق نصيب نفسه، أو يستسعى العبد حتى يؤدي قيمة [نصيبه من المعتق، حتى يعتق] كله؛ حتى قال أبو حنيفة: لو أعتق رجل نصف عبد، كله له- لا يسري، بل يستسعي العبد في النصف الباقي. وعند أبي يوسف ومحمد: يسري، ثم بعد السراية: يستسعي، وكذلك قالا في أحد الشريكين، إذا أعتق نصيبه: يسري إلى الباقي، ثم يستسعي العبد أو يضمن المعتق، إن كان موسراً، والحديث وإن كان موسراً فيتخير بين هذين، أو يأخذ قيمة نصيبه من المعتق حتى يعتق كله حجة لمن قال بالسراية عند اليسار، ويوقف العتق على نصيبه عند الاعتبار إذا ثبت أن عتق الموسر يسري إلى نصيب الشريك- فمتى يسري. فيه ثلاثة أقوال: أصحها: وهو اختيار المزني-: تقع السراية بنفس اللفظ؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق شركاً له في عبد- عتق ما بقي في ماله"، ولأنه سراية العتق، وقد حصل العتق؛ فلا معنى للتوقف. والقول الثاني: يعتق نصيب الشريك بعد أداء القيمة؛ لقوله عليه السلام-: "قوم العبد عليه، فأعطي شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد"؛ حكم بالعتق بعد إعطاء حصة الشركاء؛ دل أن قبله: لا يعتق؛ ولأن السراية لدفع الضرر عن العبد، وفي إزالة ملك الشريك، قبل وصول القيمة إليه- إضرار به؛ فلم يجز. والثالث: يكون مراعي؛ فإن أدى القيمة بان أنه عتق بنفس اللفظ. وعلى الأقوال كلها: يعتبر قيمته بيوم الاعتاق؛ لأنه السبب الموجب للتقويم؛ كالمفوضة: يجب لها مهر المثل بالدخول باعتبار يوم العقد؛ لأن البضع دخل في ضمانه بالعقد. وقيل: إن قلنا: يعتبر بأداء القيمة- تعتبر قيمته بأكثر ما كانت من يوم العتق إلى يوم أداء القيمة؛ وليس بصحيح. [وإن كان معسراً يوم الإعتاق، فأيسر بعده- لا يقام عليه]، وإن كان موسراً يوم

الإعتاق- للشريك مطالبته بأداء القيمة؛ على الأقوال كلها؛ حتى لو مات المعتق: تؤخذ القيمة من تركته. وإن قلنا: يعتق العبد بأداء القيمة- لأن سبب الضمان، وهو العتق- وجد من جهته في الحياة؛ كمن حفر بئر عدوان في حياته، فهلك بها مال إنسان بعد موته- يؤخذ الضمان من تركته. فإذا دفع المعتق القيمة- أجبر الشريك على قبولها، فإن أمسك الشريك عن الطلب، والمعتق عن الدفع، وقلنا: العتق موقوف على أداء القيمة، فللعبد مطالبة المعتق بالدفع، ومطالبة الشريك بالقبض. فإن أمسكوا جميعاً: فللحاكم المطالبة بالدفع والقبض؛ لما في العتق من حق الله تعالى. وإن مات المعتق معسراً، وكان يوم الإعتاق موسراً: فإن قلنا: السراية تقع بنفس اللفظ فالقيمة في ذمته. وعلى القولين الآخرين: لا يعتق نصيب الشريك. ولو مات العبد قبل أداء القيمة: فإن قلنا: تقع السراية بنفس اللفظ- مات حراً ويورث منه، ويطالب بالقيمة. وإن قلنا: مراعى، فأدى القيمة بعد موته- بان أنه مات حراً. وإن قلنا: يعتق بأداء القيمة- مات نصفه رقيقاً. وهل للشريك مطالبة المعتق بالقيمة بقيمة نصيبه؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن الضمان لتحصيل العتق لنصيب الشري:، والميت لا يعتق. والثاني: بلى، لأن السبب وجد منه في حياته، فإذا حكمنا بالسراية بنفس اللفظ- فهو حر قبل أداء القيمة في شهادته وحدوده وجناياته وميراثه. وإن قلنا: بأداء القيمة- فهو رقيق في هذه الأحكام. وإن قلنا: مراعى، فالأحكام موقوفة. ولو أعتق الشريك [نصيبه] قبل أخذ القيمة- لا ينفذ عتقه على الأقوال كلها؛ لأنا - وإن قلنا: "تقع السراية بأداء القيمة"- فهو مستحق للعتق على الأول؛ فلا يجوز صرفه إلى

غيره؛ كما أن أم الولد مستحقة للعتاق على المولى بجهة الاستيلاد؛ فلا يمكن صرف عتقها إلى غيره. وقيل: إذا قلنا: "تقع السراية بأداء القيمة"- نفذ عتق الشريك، وسقطت القيمة عن المعتق. والأول المذهب؛ كما لا يجوز للشريك بيعه ولا هبته قبل أخذ القيمة على الأقوال كلها. ولو أعتق أحد الشريكين نصيبه من أمه، وهو موسر، فاستولدها الشريك الآخر قبل أخذ القيمة- قال الشيخ الإمام- رحمه الله-: لا ينفذ استيلاده؛ كما لا ينفذ عتقه. قال: يخرج على قولنا: "إن السراية تقع بأداء القيمة"؛ للوجه الذي ذكرنا في العتق أن استيلاده ينفذ. ولو استولدها أجنبي قبل أداء القيمة- فالولد حر على قولنا: إن السراية تقع بنفس اللفظ. أو يكون مراعى. وإن قلنا: تقع بأداء القيمة- فنصف الولد رقيق، على أصح [الأقوال في] المذهب؛ كما لو استولد جارية نصفها حر. ولو كانت أمة بين رجلين فأولدها أحدهما- نظر: إن كان المستولد معسراً، صار نصيبه أم ولد له، ونصيب الآخر [قن] يجوز له بيعه. والولد هل يكون كله حراً أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يكون كله حراً، وعليه نصف قيمته للآخر. والثاني: يكون نصفه رقيقاً كالأم، فعلى هذا. لا يجب شيء من قيمة الولد. وإذا ملك نصيب الشريك من الجارية- هل تصير أم ولد [له]؟ قال الشيخ الإمام: إن قلنا: الولد نصفه رقيق- لا يصير؛ لأن علق برقيق. وإن قلنا: كله حر- فعلى قولين؛ كما لو استولد جارية الغير بالشبهة، ثم ملكها- هل

تصير أم ولد له؟ فيه قولان؛ [لأن العلوق كان بحر. وإن كان المستولد موسراً سرى الاستيلاد إلى نصيب الشريك، فصار الكل أم ولد له؛ لأن الاستيلاد أقوى من العتق؛ بدليل أن استيلاد الأب جارية الابن، واستيلاد المجنون والمحجور عليه بالسفه- ينفذ، وإعتاقهم لا ينفذ، ثم العتق يسري إلى نصيب الشريك فالاستيلاد أولى، وعليه نصف القيمة للشريك، ونصف مهر المثل. ثم السراية: تقع بنفس العلوق أم بأداء القيمة؟ فعلى الأقوال التي ذكرنا في العتق، فإن قلنا: تقع بنفس العلوق، أو قلنا: يكون مراعى؛ فأدى القيمة لا يجب عليه قيمة الولد. وإن قلنا: بأداء القيمة- يجب نصف قيمة الولد؛ لأن العلوق سبق الملك. ولو وطئها الثاني قبل أخذ القيمة: فإن قلنا: تقع السراية بنفس العلوق- يجب على الثاني كمال مهرها للأول. وإن قلنا: بأداء القيمة، فلا يجب إلا نصف المهر. قال الشيخ- رحمه الله-: ولا حد على الأقوال كلها، لاختلاف العلماء في الملك. ولو أولدها أحدهما- وهو معسر- ثم وطئها الثاني، وأولدها-: صار نصيبه أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الأول وإن كان موسراً؛ لأن أم الولد لا تقبل النقل من ملك إلى ملك، وأيهما أعتق نصيبه عتق نصيبه، ولا يسري إلى نصيب الآخر. ولو كان بين رجلين عبد، قد دبر أحدهما نصيبه- صح، ولا يسري التدبير إلى نصيب الآخر؛ بخلاف الاستيلاد؛ لأنه ينزل منزلة الإتلاف، بدليل أنه يمنع التصرف؛ فكان كالعتق في تقويم نصيب الشريك عليه، والتدبير ليس فيه؛ معنى الإتلاف [فلا يسري] بدليل أنه لا يمنع التصرف كما لو علق أحدهما عتق نصيبه بصفة- لا يسري التعليق إلى نصيب الآخر. وإذا مات من دبر نصيبه وعتق نصيبه- لا يسري إلى نصيب الشريك، لأنه لا سراية على الميت. ولو علق عتق نصيبه بصفة، فوجدت الصفة- عتق نصيبه، وسرى إلى نصيب شريكه؛ إن كان المعلق موسراً يوم وجود الصفة. ولو كان بين رجلين مدبر: بأن قال كل واحد لعبد مشترك بينهما: إذا مت فأنت حر،

فأعتق أحدهما نصيبه، هل يسري إلى نصيب شريكه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يسري؛ لأن السراية لتكميل عتق الشريك العبد [و] المدبر قد ثبت له سبب الحرية؛ فيتكامل به عتقه؛ كأم الولد بين رجلين، إذا أعتق أحدهما نصيبه- لا يسري. والثاني: يسري؛ لأن المدبر بمعنى القن في قبول التصرف وجواز البيع؛ فكذلك في قبول السراية، بخلاف أم الولد. فكل موضع قومنا نصيب الشريك على المعتق، أو على المستولد: فلو كان موسراً بقيمة [بعض نصيب الشريك] يقوم عليه ذلك القدر، وإن كان المعتق موسراً، ولكن عليه دين يستغرق ماله- فالدين هل يمنع التقويم؟ فيه قولان؛ كالزكاة، وهل يمنعها الدين؟ فيه قولان: الأصح: وهو المذهب لا يمنع التقويم، ولا الزكاة؛ فلو كان بين رجلين عبد، قيمته عشرون، فقال رجل: لا يملك إلا عشرة لأحد الشريكين: أعتق نصيبك من هذا العبد عني؛ على هذه العشرة، فأعتقه- عتق عن السائل، ولا يقوم عليه نصيب الشريك؛ لأن العشرة خرجت عن ملكه بالتعيين؛ فهو معسر. وإن قال: أعتقه عني على عشرة في ذمتي، فأعتق- عتق عن السائل. وهل يقوم عليه نصيب الشريك؟ إن قلنا: الدين يمنع السراية- لا يسري؛ لأنه- وإن ملك عشرة- ففي ذمته عشرة. وإن قلنا: الدين لا يمنع السراية- يسري العتق إلى نصيب الشريك، وتصرف العشرة إليهما جميعاً: لكل واحد منهما خمسة في ذمته. ولو ملك شقصين من عبدين، فأعتقهما، وهو موسر، بنصف قيمة أحدهما- نظر: إن أعتقهما معاً، عتق نصيباه، وسرى إلى نصف نصيب كل واحد منهما، فيعتق من كل عبد ثلاثة أرباعه. وإن أعتقهما معاً، على الترتيب- عتق كل الأول، وهل يسري العتق في العبد الثاني من نصيبه إلى نصيب الشريك أم لا؟ إن قلنا: الدين يمنع السراية- فلا يسري؛ لأن قيمة نصيب الأول دين عليه، وإن قلنا: الدين لا يمنع السراية، فيسري، وما في يده من المال: يصرف إليهما، والباقي في ذمته. أما إذا ملك شقصين من عبدين- لا مال له غيرهما، فأعتقهما معاً- عتق نصيباه، ولا

يسري وإن أعتق على الترتيب- عتق جميع الأول؛ لأنه موسر يملك الشقص الآخر، فإذا أعتق الثاني- لا يعتق إلا نصيبه؛ لأنه معسر به. فصل إذا كان بين شريكين عبد فادعى أحد الشريكين على الآخر، والمدعى عليه موسر: أنك أعتقت نصيبك، فيقوم عليك نصيبي، وأنكر المدعي عليه- فالقول قول المنكر مع يمينه، ولا يعتق نصيبه. وهل يعتق نصيب المدعي؟ إن قلنا: السراية تقع باللفظ- يعتق بإقراره، وإن أعتق المدعى عليه- سرى إليه. وإن قلنا: يقع بأداء القيمة- لا يعتق نصيبه، فإذا حكمنا بعتق نصيب المدعي- فلا يعتق نصيب المنكر، وإن كان المدعي موسراً؛ لأنه لم يثبت العتق من قبله؛ كما لو ادعى أحد الشريكين على رجل: أنك اشتريت نصيبي، وأعتقته، وأنكر المدعى عليه- عتق نصيب المدعي بإقراره، ولا يسري إلى نصيب شريكه، ثم ولاء نصيب المدعي يكون موقوفاً، فإن صدقه شريكه- عتق كله وله الولاء. وإن كان المدعي عليه معسراً فلا يعتق شيء منه فإن اشترى المدعي نصيب شريكه عتق بالشراء؛ لأنه أقر بحريته، ولا يسري إلى الباقي. ولو ادعى كل واحد من الشريكين على صاحبه: أنك أعتقت نصيبك، وأنكر المدعي عليه- نظر: إن كانا موسرين، فإن قلنا: السراية تقع بنفس اللفظ- عتق جميع العبد نصيب كل واحد بإقراره، والولاء موقوف. ولكل واحد منهما أن يدعي على صاحبه قيمة نصيبه، ويحلف صاحبه. وإن قلنا: تقع السراية بأداء القيمة- لا يعتق شيء منه. وإن كانا معسرين- لا يعتق شيء منه، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر- حكم بعتق نصيبه ولا يسري؛ لأنه لم ينشئ عتقه. إنما حكمنا بعتقه؛ لإقرار سبق [منه] على الغير أنه أعتقه، ولو باع أحدهما نصيبه من زيد، والآخر باع نصيبه من عمرو- صح، ولا يعتق. ولو باعا من رجل واحد أو اجتمع ملك النصيبين لأجنبي بسبب- يحكم بعتق نصفه؛ لأن

عتق أحد النصفين يقين، وقد جمعهما ملك واحد، ولا يرجع الأجنبي على بائعه بشيء: لأنه لا يقر بعتقه. وإن كان أحدهما موسراً عتق نصيب المعسر؛ لأن بزعمه: إن عتق الموسر- سرى إليه، وولاؤه موقوف، ولا يعتق نصيب الموسر. فإن اشتراه المدعي- عتق كله. وعلى هذا: لو طار طائر، فقال أحد الشريكين: إن كان هذا غراباً- فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن هذا غراباً- فنصيبي حر، ولم يتبين فإن كانا موسرين، وقلنا: السراية تقع بنفس اللفظ- عتق العبد؛ لأن كل واحد يقول: حنث صاحبي، وعتق نصيبه، وسرى إلى نصيبي، والولاء موقوف، ولكل واحد أن يدعي قيمة نصيبه على شريكه ويحلفه. وإن كانا معسرين لا يعتق- نصيب واحد منهما، فإن ملك نصيب الآخر- عتق نصفه، وإن كان أحدهما موسراً عتق نصيب المعسر دون نصيب الموسر، ولو قال أحدهما لشريكه: "أعتقت أنا وأنت معاً" وأنكر الشريك، فقال: ما أعتقت أنا، أو قال: ما أعتقت أنا ولا أنت، وهما موسران- حلف الشريك، وعتق نصيب المقر، ويقوم عليه نصيب الشريك. وإن كانا معسرين، أو كان المقر معسراً- حلف المنكر، وعتق نصيب المقر دون نصيب المنكر. ولو كان بين ثلاثة عبد، شهد اثنان منهم أن الثالث أعتق نصيب- نظر: إن كان المشهود عليه موسراً- لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعاً، وهو وجوب قيمة نصيبهما على المشهود عليه، ويعتق نصيب الشاهدين لإقرارهما بسراية العتق إليه، فإن كان معسراً- تقبل شهادتهما، ويحكم بعتق نصيب المشهود عليه. فصل إذا علق أحد الشريكين- عتق نصيبه على عتق نصيب شريكه، فقال: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر- فهو حر. أو قال: إذا أعتقت نصيبك، فنصيب حر عبد نصيبك، فأعتق المقول له نصيبه، وهو موسر- عتق نصيبه.

ثم إن قلنا: السراية تقع باللفظ- عتق الكل عن المعتق، وعليه قيمة نصيب المعلق، [وكذلك: إذا قلنا: الأمر مراعى، فأدى القيمة، وإن قلنا: تقع السراية بأداء القيمة- فنصيب المعلق] عمن يعتق؟ فيه وجهان: أحدهما: عن المعتق، وعليه قيمته. والثاني: عن المعلق بوجود الصفة، ولا قيمة على المعتق. أما إذا قال: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر مع نصيبك: فإذا أعتق المقول له نصيبه عتق جميع العبد: نصفه عن المعتق بالإعتاق، ونصفه عن المعلق بوجود الصفة، ولا شيء على المعتق. وقيل: قوله: "مع نصيبك" كقوله: "بعد نصيبك"؛ وليس بصحيح. ولو قال: "إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر قبل نصيبك"، فإذا أعتق القائل نصيبه- وهو موسر- عتق نصيبه، وقوم عليه نصيب الشريك. ولو أعتق المقول له نصيبه- نظر: إن كانا معسرين، أو كان القائل معسراً- عتق نصيب كل واحد منهما عن صاحبه من غير سراية، والولاء بينهما. وإ، كان القائل موسراً، فعلى قول ابن الحداد، ومن ذهب مذهبه في عمل الدور، ولا ينفذ عتق المقول له في نصيبه؛ لأنه لو نفذ- يعتق نصيب القائل قبله، وسرى إلى نصيب المقول له. وإذا سرى مع عتقه، فنقول: عتقه يؤدي إلى سقوطه؛ فلم ينفذ. وعلى قول من لا يقول بالدور: يعتق نصيب كل واحد عن صاحبه، ولا شيء لأحدهما على الآخر؛ كما لو قال: نصيبي حر مع نصيبك. فصل إذا كان ثلاثة عبد، لأحدهم نصفه، وللآخر ثلثه، وللثالث سدسه، فأيهم أعتق نصيبه- وهو موسر- يقوم عليه نصيب الشريكين، وإن كان موسراً بثلث الباقي، يقوم عليه [ثلث نصيب كل واحد منهما.

ولو أعتق اثنان منهم نصيبهما معاً: فإن كان أحدهما موسراً- يقوم عليه] نصيب الثالث، وإن كانا موسرين؛ مثل إن أعتق صاحب الثلث والسدس نصيبهما معاً، أو وكلا رجلاً بالإعتاق، فأعتق النصيبين دفعة واحدة-: عتق الكل، وعليهما قيمة نصيب الثالث، ثم يقسم بينهما على عدد الرؤوس أم على قدر الأنصباء؟ قيل: فيه قولان؛ كالشفعة. والمذهب: أنه يكون عليهما سواء؛ بخلاف الشفعة تقسم بين الشركاء على قدر الأنصباء على أحد القولين؛ لأن الشفعة بمنزلة وقف الملك؛ فتكون بين الشركاء على قدر الملك؛ كثمرة الشجرة ونتاج الدابة المشتركة، يكون بين الشركاء على قدر الملك في الأصل، وضمان العتق بمنزلة ضمان الجناية؛ لأن المعتق بالإعتاق يتلف على الشريك ملكه، وضمان الجناية يكون على عدد رؤوسهم كما لو جرح جماعة رجلاً، فمات من جراحتهم- كانت الدية عليهم على عدد رءوسهم وإن خرج بعضهم أكثر. فصل إذا أعتق أحد الشريكين نصيه من العبد- وهو موسر- وأوجبنا عليه قيمة نصيب الشريك، فاختلفا في قيمة العبد يوم الإعتاق بعد موت العبد أو غيبته أو تغيره، فقال المعتق: كانت قيمته خمسين، وقال الشريك: بل مائة، فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: وهو اختيار المزني-: القول قول المعتق مع يمينه؛ لأنه غارم؛ كما لو اختلفا في قيمة المغصوب بعد تلفه- كان القول قول الغاصب- مع يمينه. والقول الثاني: القول قول الشريك مع يمينه؛ لأنه المتملك عليه نصيبه، كالشفيع مع المشتري؛ إذا اختلفا في ثمن الشقص- كان القول قول المشتري مع يمينه. وأصل القولين: أن السراية تقع باللفظ أم بأداء القيمة؟ إن قلنا: باللفظ؛ فهو كالجناية، يكون القول فيه قول الجاني، وإن قلنا: بأداء القيمة، أو مراعى- فالقول قول الشريك؛ لأن ملكه على نصيبه باق، فلا ينتزع عنه إلا بما يقوله كالشقص لا يؤخذ من يد المشتري إلا بما يقوله. ولو ادعى الشريك فيه منقبة، فقال: كان محترفاً وأنكر المعتق، فالقول قول المعتق مع يمينه؛ لأن الأصل عدمها وبراءة ذمته؛ كما في الغصب، لو ادعى المالك: أن العبد المغصوب كان محترفاً، وأنكر الغاصب- كان القول قول الغاصب مع يمينه. ولو ادعى المعتق به عيباً، وأنكره الشريك- نظر: إن ادعى عيباً أصلياً في الأعضاء

الظاهرة؛ بأن قال: خلق أعور أو أشل أو أخرس- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الشريك يمكنه إثبات سلامته بالبينة. وإن ادعى حدوث عيب بأعضائه الظاهرة؛ بأن قال: كان قد عمي أو شلت يده بعد السلامة، أو ادعى عيباً بأعضائه الباطنة أصلياً أو حادثاً؛ بأن قال: كان مقطوع الذكر، أو أنه كان آبقاً أو سارقاً- فالقول قول من يكون؟ فيه قولان: أصحهما: القول قول الشريك مع يمينه؛ لأن الأصل سلامته وبراءته من العيوب. والثاني: القول قول المعتق مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فصل إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه في مرض موته؛ فإن خرج كله من الثلث- عتق كله، وعليه قيمة نصيب الشريك. وإن لم يخرج من الثلث إلا نصيبه-[عتق نصيبه]، ولا يسري. وإن خرج من الثلث نصيبه وبعض نصيب شريكه- سرى إلى ذلك القدر من نصيب الشريك، فالمريض في الثلث كالصحيح في جميع المال. ولو ملك شقصين من عبدين، فأعتقهما في مرض موته، سواء كان الشريك فيهما واحداً أو اثنين- نظر: إن خرجا جميعاً من الثلث- عتقا جميعاً، سواء أعتقهما معاً أو على التوالي، وعليه قيمة نصيب الشريكين. وإن لم يخرج من الثلث إلا نصيباه- نظر: إن أعتقهما معاً- عتق نصيباه، ولم يسر إلى نصيب الشريك، وإن أعتقهما على الترتيب عتق جميع الأول، ولا يعتق شيء من الثاني؛ لأنه لزمه قيمة نصيب الشريك، فصار نصيبه من الثاني مستحق الصرف إليه. وإن خرج من الثلث نصيباه مع نصيب أحد الشريكين، نظر: إن أعتقهما على الترتيب- عتق كل الأول، ولا يعتق من الثاني إلا نصيبه. وإن أعتقهما معاً- ففيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحداد-: يعتق من كل عبد ثلاثة أرباعه: يعتق نصيباه، والنصف من نصيب كل واحد من الشريكين؛ كما لو أعتقهما في حالة الصحة- وهو موسر- بنصيب أحد الشريكين.

والثاني: يقرع بينهما، فمن خرجت له قرعة الحرية- عتق كله، ولم يعتق من الآخر إلا نصيبه؛ لأن القرعة مشروعة في عتق المريض، ولا يصار إلى التشقيص مع إمكان التمليك. وإن كان لا يخرج من الثلث إلا أحد نصيبه، وأعتقهما معاً- فيه وجهان: أحدهما: يعتق من كل واحد نصف نصيبه، وهو ربع كل عبد؛ لأن التكميل ههنا لم يمكن. والثاني: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة- عتق منه جميع نصيبه، ولا يعتق من الآخر شيء؛ قال الشيخ الإمام: وهذا أصح فأما إذا أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته، فأعتق بعد موته - لا يسري وإن خرج كله من الثلث. وكذلك: لو دبر أحدهما نصيبه بأن قال: إذا مت فنصيب حر، أو قال: هو حر بعد موتي، فمات- عتق نصيبه، ولا يسري؛ لأن ملكه تزول بالموت؛ فلا يسري عليه. فإن أوصى، وقال: أعتقوا عني نصيبي، وكملوا العتق منه- حينئذ: يكمل [العتق] إن خرج من الثلث، ولو ملك شقصين من عبدين، فأوصى بإعتاقهما بعد موته- يعتق عنه، ولا يسري. [وإن كثر ماله] فلو أوصى، وقال: أعتقوا عني هذين الشقصين، واستتموا العتق في الباقي: فإن خرج الكل من الثلث- يكمل العتق فيهما، وإن خرج تمام عتق أحدهما فاختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: فيه وجهان؛ كما لو لم يجز العتق في المرض، ولم يخرج من الثل ثإلا نصيباه مع نصيب أحد الشريكين؛ أحدهما: ما يتم به الثلث نقص عليهما، فيعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه. والثاني: يقرع بينهما: فمن خرجت له قرعة الحرية- يكمل العتق فيه، ولا يعتق من الآخر إلا نصيبه. ومنهم من فرق، وقال: ههنا: يقرع بينهما؛ لأن قصده تكميل الحرية حيث أمر بالاستتمام، فمن خرجت له القرعة كمل العتق فيه، ولم يعتق من الآخر إلا نصيبه، وفي المنجز: لم يقصد التكميل، إنما قصد التسوية بينهما، فقلنا: نقص عليهما، ولأن المنجز يقبل السراية فسرى العتق فيهما إلى ما بقي من الثلث، والمعلق بالموت لا يسري، فقلنا: يقرع، والله أعلم.

باب عتق العبيد لا يخرجون من الثلث والإقراع روي عن عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته- لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثاً ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة".

إذا أعتق عبيداً في مرض موته، لا مال له سواهم، ولم يجز الورثة- ينفذ في الثلث، فيقرع بينهم حتى نجمع الحرية في بعضهم؛ مثل إن كانوا ثلاثة، قيمتهم سواء- يعتق واحد منهم بالقرعة؛ سواء قال: أعتقتكم، أو أنتم أحرار، أو أعتقت واحداً منكم، أو أعتقت ثلثكم، أو ثلثكم حر. وعند أبي حنيفة: يعتق ثلث كل واحد منهم، ويستسعي في الباقي، والحديث حجة عليه؛ حيث أعتق النبي- صلى الله عليه وسلم- اثنين منهم بالقرعة. أما إذا قال: أعتقت ثلث كل واحد منكم، أو قال: أثلاث هؤلاء أحرار ففيه وجهان: أحدهما: يعتق من كل واحد ثلثه. والثاني: وهو الأصح-: يقرع [بينهم] لجمع الحرية في واحد؛ لأن العتق في الملك في الحياة لا يتجزأ؛ فإن من أعتق بعض عبده- عتق كله، فهو كما لو أعتقهم جميعاً، وقيل: إذا قال: أعتقت ثلثكم، أو: ثلثكم حر- فهو كقوله: أعتقت ثلث كل واحد منكم، فيكون على وجهين: أما إذا قيد بما بعد الموت- نظر: إن قال: أنتم أحرار بعد موتي، أو: واحد منكم بعد موتي حر، أو: أعتقتكم، أو: أعتقت واحداً منكم بعد موتي؛ ولا مال له سواهم- يقرع بينهم، فمن خرج له سهم الحرية- كان حراً، ورق الآخران؛ كما في الحياة ولا مال. فأما إذا قال: أثلاث هؤلاء أحرار بعد موتي، أو قال: ثلث هؤلاء أو: ثلث كل واحد منهم حر بعد موتي- يعتق من كل واحد ثلثه؛ لأنه لا سراية للعتق بعد الموت حتى يجعل كقوله: أعتقتكم بعد موتي يعتق من كل واحد ثلثه؛ لأنه لا سراية للعتق بعد الموت؛ حتى نجمع الحرية في واحد. وقيل: يقرع كما لو لم نجز والأول المذهب. وقرع ابن الحداد على هذا: لو كان له ثلاثة أعبد، لا مال له سواهم، فقال: أنصاف

هؤلاء أحرار بعد موتي- فقد أوصى بنصف ماله، فإذا لم يجز الورثة-: يقرع بينهم، لإبطال الزيادة- بسهم رق وسهمي عتق، فيعتق نصفان من عبدين، ويرق كل الثالث، ولو نجز في مرض الموت، فقال: أنصاف هؤلاء أحرار- عتق واحد منهم بالقرعة، فيقرع بينهم بسهم عتق وسهمي رق. ولو كان له عبدان، قيمتهما سواء، لا مال له سواهما، فقال لأحدهما: نصف هذا حر بعد موتي، وقال للآخر: ثلث هذا حر، فقد زاد نصف السدس على الثلث- فيقرع بينهما؛ لينظر لمن تخلص الوصية، فإن خرجت القرعة: لمن أعتق نصفه عتق نصفه وسدس الآخر؛ وذلك ثلث المال، وإن خرجت القرعة لمن أعتق ثلثه- عتق ثلثه لأنه لم يوص له بأكثر من الثلث، ويعتق من الآخر ثلثه، فيكون ثلث جميع المال. وإن نجز العتق في المرض- نظر: إن قال: نصف هذا حر، وثلث هذا حر عتق من الأول الثلثان، ولم يعتق شيء من الثاني؛ لأن التبرع المنجز في مرض الموت يقدم فيه الأسبق، فإن قال: معاً، فقال: نصف هذا، وثلث هذا حر يقرع بينهما بسهم عتق وسهم رق؛ كما لو أعتقهما، فمن خرج له سهم الحرية- عتق ثلثاه، ورق ثلثه مع جميع الآخر. فصل في كيفية القرعة إذا كان العبيد ثلاثة، قيمتهم سواء- أعتقهم في مرض موته، لا مال له غيرهم- فكيفية القرعة: أن تكت ثلاث رقاع مستوية فيكتب في رقعتين: رق رق، وفي واحدة: حرية، ثم تجعل في بنادق من طين مستوية، وتوزن، وتستخف، ثم تلقى في حجر من لم يحضر الكتابة، ولا إدخالها في الطين، ولو جعلت في حجر صبي- كان أبعد من التهمة، ويستتر بثوب، ثم يقال: أخرج على اسم فلان، ويسمى واحداً من العبيد، أو على هذا ويشير إليه. فإن خرج سهم الحرية- عتق ورق الآخران، وإن خرج سهم الرق عليه- رق. ويقال: اخرج على فلان لعبد آخر، فإن خرج سهم الحرية- عتق، ورق الثالث، وإن خرج سهم الرق رق، وعتق الثالث، وإن شاء: كتب في الرقاع أسماء العبيد، في كل رقعة اسم [واحد]، ثم يقول: اخرج باسم الحرية، فمن خرج اسمه- عتق، وإن شاء- قال: اخرج باسم الرق، حتى يتعين الأخير للحرية، والإخراج باسم الحرية أولى؛ لأنه أقرب إلى فصل القضاء.

وإن كان المقصود إعتاق النصف من العبيد- يجزءون نصفين، وإن كان إعتاق الربع يجزءون أرباعاً. ولو أعتق عبدين، لا مال له سواهما، قيمتهما سواء-: يقرع بينهما بسهم رق وسهم حرية، فمن خرج له سهم الحرية- عتق ثلثاه، وإن كان قيمة واحد مائة، وقيمة الآخر مائتان، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائة- عتق كله، ورق الآخر، وإن خرج للآخر- عتق نصفه. وإن كانوا ثلاثة، قيمة واحد مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلاثمائة-: يقرع بينهم بسهمي رق وسهم حرية، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائتان- عتق كله، ولا تعاد القرعة؛ لأنه تمام الثلث، وإن خرج للذي قيمته ثلاثمائة- عتق ثلثاه. وإن خرج للذي قيمته مائة عتق كله، ثم تعاد القرعة بين العبدين الآخرين بسهم رق وسهم حرية، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائتان- عتق نصفه، وإن خرج للذي قيمته ثلثمائة- عتق ثلثه. وإن كان العبيد أكثر من ثلاثة، وأراد إعتاق الثلث منهم- نظر: إن أمكن التسوية بين الأجزاء في العدد والقيمة- يجزءون ثلاثة أجزاء؛ مثل: إن كانوا ستة، قيمتهم سواء-[يجعل كل عددين جزءاً]، وإن كانوا تسعة، قيمتهم سواء]-: يجعل كل ثلاثة جزءاً، وكذلك: إن كانوا ستة، ثلاثة منهم قيمة كل واحد منهم مائة، وثلاثة منهم قيمة كل واحد خمسون، يضم كل واحد ممن قلت قيمته إلى واحد، ممن كثرت قيمته، ويقرع بينهم بسهمي رق وسهم حرية. وإن كانوا ستة، قيمة اثنين أربعمائة سواءً، وقيمة اثنين مائتان، وقيمة اثنين ستمائة-: يجعل اللذان قيمتهما أربعمائة- جزءاً، ويضم واحد ممن قيمتهما ستمائة إلى واحد ممن قيمتهما مائتان حتى تستوي الأجزاء، ثم يقرع بينهم. وإن أمكن التسوية بين الأجزاء في القيمة دون العدد؛ مثل إن كانوا ستة، قيمة واحد مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة ثلاثة مائة-: يجعل الواحد جزءاً، والاثنان جزءاً، والثلاثة جزءاً، فنقرع بينهم بسهمي رق وسهم حرية. وإن لم يمكن التسوية بين الأجزاء في القيمة: فإن أمكن في العدد، فلا اعتبار به- ففيه قولان:

أحدهما: يجزءون ثلاثة أجزاء؛ للحديث؛ ولأن المقصود منه إقرار الثلث؛ فيجزءون أثلاثاً. والثاني: يراعى ما هو الأقرب إلى فصل القضاء. بيانه: إذا كانوا ستة، قيمة واحد مائتان، وقيمة اثنين خمسون، وقيمة ثلاثة خمسون-: فعلى القول الأول: يجزءون أثلاثاً؛ يجعل الواحد الذي قيمته مائتان جزءاً، والاثنان اللذان قيمتهما خمسون جزءاً، والثلاثة جزءاً، ثم يقرع بينهم بسهم رق وسهم حرية، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائتان- عتق نصفه، وتم الثلث، ورق الآخرون. وإن خرج للذين قيمتهما خمسون- عتقا، ثم تعاد القرعة بين الباقين، ويجزءون أثلاثاً؛ يجعل [الواحد] الذي قيمته مائتان جزءاً، وواحد من الثلاثة جزءاً، واثنان جزءاً، ويقرع بينهم: فإن خرج الذي قيمته مائتان- عتق ربعه، وتم الثلث. وإن خرج للاثنين- عتقا، ثم تعاد القرعة هكذا؛ حتى يتم الثلث، وعلى القول الثاني: إن شاء جزأهم جزأين؛ جعل الذي قيمته مائتان جزءاً، وجعل الخمسين جزءاً، فإن خرج سهم الحرية للواحد- عتق نصفه، وإن خرج للآخرين- عتقوا جميعاً، ورق الواحد. وإن شاء كتب اسم كل عبد على رقعة، ويخرج باسم الحرية إلى أن يتم الثلث. وإن كانوا أربعة، قيمتهم سواء- فعلى [القول] الأول: يجزءون أثلاثاً، اثنان وواحد وواحد، فإن خرج سهم الحرية لأحد الفردين- عتق، ثم تعاد القرعة بين الثلاثة، فيجزءون أثلاثاً، فمن خرج له سهم الحرية- عتق ثلثه، وإن خرجت القرعة للاثنين- تعاد القرعة بينهما بسهم رق وسهم حرية، فمن خرج له سهم الحرية- عتق كله وثلث الآخر. وعلى القول الثاني: يكتب اسم كل عبد في رقعة، ويخرج باسم الحرية، فمن خرج اسمه أولاً- عتق كله، ويعتق من الثاني ثلثه. وإن كانوا خمسة، قيمتهم سواء، فعلى القول الأول: يجزءون أثلاثاً: اثنان واثنان وواحد. وعلى القول الثاني: يكتب اسم كل عبد في رقعة، ويخرج باسم الحرية، حتى يتم الثلث، وقس عليه ما زاد.

فصل ولو أعتق عبيداً في مرض موته، وعليه دين يحيط ببعض التركة- فيقرع أولاً- بين الدين والتركة-: مثل إن كان الدين يحيط بنصف التركة، فيقرع بينهم بسهمين: سهم الدين، وسهم التركة، ولا يجمع بين العتق والدين في القرعة؛ لأن العتق وصية، والدين مقدم على الوصية، وإن كان الدين ثلث التركة: يقرع بينهم بسهم دين وسهمي تركة، ثم يقرع في التركة للعتق؛ مثل: إن كان العبيد ستة، قيمة كل واحد مائة، وعليه مائتا درهم [دين]-: يجزءون ثلاثة أجزاء، كل عبدين جزءاً، ويقرع بينهم بسهم دين [وسهمي تركة، وكل جزء خرج عليه سهم الذي يباع في الدين، ثم يقرع بين العبيد الأربع للعتق. وكذلك: إن كانوا ثلاثة، قيمة كل واحد مائة، وعليه مائة درهم دين-: يباع واحد في الدين بالقرعة، ثم يقرع بين العبدين للعتق. وإن كانوا أربعة، قيمة كل واحد مائة، وعليه دين مائة درهم-: يقرع بينهم بسهم دين] وثلاثة أسهم تركة، فأيهم خرج عليه سهم الدين- يباع فيه، ثم يقرع بين الثلاثة بسهمي رق وسهم عتق، فمن خرج له سهم العتق- عتق، ورق الآخران. وقيل: يجمع بين قرعة الدين والعتق، فيقرع بين العبيد الثلاثة: إن كانوا ثلاثة؛ بسهم دين وسهم عتق، وسهم تركة؛ فأيهم خرج عليه سهم الدين- بيع في الدين، وأيهم خرج له سهم العتق- عتق ثلثاه، ورق ثلثه مع العبد الثالث. والأول المذهب؛ وأن قرعة العتق تؤخر عن قرعة الدين. فأما إذا ظهر على الميت دين [بعدما أعتقنا بعض العبيد] بالقرعة- نظر: إن كان الدين يستغرق التركة، فالعتق مردود، فلو قالت الورثة: نحن نقضي الدين؛ لينفذ العتق، هل ينفذ؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفذ؛ لأن المانع من العتق هو الدين، وقد قضوا الدين. والثاني: لا، بل العتق مردود، لأن الوصية لا نفوذ لها مع وجود الدين، فإن كان الدين يحيط ببعض التركة- فعلى وجهين: أحدهما: العتق مردود، وكذلك لو قسمت التركة بين الورثة، ثم ظهر دين: فالقسمة

منتقضة، كما لو قسم شريكان مالاً [بينهما] ثم ظهر شريك ثالث- كانت القسمة مردودة، فعلى هذا: يقرع للدين، ثم يقرع للعتق؛ كما ذكرنا. والوجه الثاني: إن تبرع الوارث بأداء الدين- كان العتق نافذاً، وإن لم يتبرع- يرد من العتق بقدر الدين، فإن كان الدين قدر نصف التركة- يرد العتق في نصف من أعتقناه. وإن كان قدر ثلث التركة- يرد العتق في الثلث. بيانه: أعتقنا عبدين من ستة، قيمة كل واحد مائة، ثم ظهر عليه مائتا درهم دين، فعلى الوجه الأول: العتق مردود، فيقرع للدين، ثم للعتق؛ كما ذكرنا وعلى الوجه الثاني: يقرع بين العبدين اللذين أعتقناهما بسهم حرية وسهم رق؛ فمن خرج له سهم الحرية- كان حراً مع ثلث الآخر، ورق ثلثان من الآخر، وإن ظهر ثلاثمائة دين- يقرع بين العبدين، فمن خرج له سهم الحرية- كان حراً، ورق الآخر. وإن كان العبيد ثلاثة، وأعتقنا منهم واحداً، ثم ظهر مائة درهم دين-: رق ثلث العبد الذي أعتقناه على هذا الوجه. قال شيخنا الإمام- رضي الله عنه-: وإن كان العبيد أربعة وأعتقنا بالقرعة عبداً وثلثاً، ثم ظهر مائة درهم دين، وقلنا: لا يرد العتق أصلاً- يباع في الدين واحد ممن أرققنا، ويقرع بين الذين أعتقنا: فإن خرجت القرعة للذي أعتقنا كله- كان حراً ورق الآخر، وإن خرج للآخر - قال - رضي الله عنه- فثلثه حر، ومن الآخر ثلثاه. فصل ولو ظهر للميت مال بعدما أعتقنا بعض العبيد بالقرعة؛ بحيث يخرج كلهم من الثلث-: يحكم بعتق جميعهم، ويدفع إليهم جميع ما اكتسبوا من يوم أعتقهم، ولا يرجع الوارث بما أنفق عليهم؛ لأنه كان متبرعاً بالإنفاق- لم يكن معذوراً؛ كمن نكح امرأة نكاحاً فاسداً على ظن أنه صحيح، ثم فرق القاضي بينهما: لا رجوع للزوج بما أنفق عليها. ولو أعتقنا واحداً من ثلاثة، [ثم ظهر له مال-: يخرج] من الثلث عبد آخر، يقرع بين الرقيقين، فمن خرج له سهم الحرية-: كان حراً مع الأول، وكل عبد أعتقناه بالقرعة، فيحكم بعتقه من يوم الإعتاق، [لا من يوم القرعة، وتعتبر قيمته بذلك اليوم، ويسلم له ما اكتسب بعد

الإعتاق] [قبل القرعة غير محسوب من الثلث، سواء اكتسب في حياة المعتق أو بعد موته]، ومن بقي رقيقاً- تعتبر قيمته بيوم الموت؛ حتى أن ما كان باقياً من كسبه يوم موت المعتق يحسب على الوارث في الثلثين، [وما اكتسب بعد موته-: لا يحسب على الوارث في الثلثين]، وإن حصل قبل القرعة؛ لأنه حصل على ملك الوارث. بيانه: لو أعتق ثلاثة أعبد في مرض موته، لا مال له سواهم، قيمة كل واحد [منهم] مائة، واكتسب واحد منهم مائة-: يقرع بينهم: فإن خرج سهم الحرية للمكتسب- عتق، وتبعه كسبه غير محسوب في الثلث، ورق الآخران. وإن خرجت القرعة لغير المكتسب- عتق كله، ثم تعاد القرعة: فإن خرجت القرعة الثانية لغير المكتسب- عتق ثلثه، وبقي ثلثاه للوارث مع العبد الثالث وكسبه، وجملته مثلاً: ما ذهب في الوصية. وإن خرجت القرعة الثانية للمكتسب: يحتاج أن يعتق منه شيئاً محسوباً في الثلث، ويتبعه من المكسب بعضه غير محسوب في الثلث، ويبقى [للوارث من الرقيق والكسب مثلاً ما أعتقنا، ولا يعرف ذلك إلا بعمل الدور فيقول: عتق من العبد الثاني شيء، ويتبعه من الكسب مثل غير محسوب في الثلث؛ بقي] للورثة ثلثمائة ناقصة بشيئين؛ تعدل مثلي ما أعتقنا، والذي أعتقنا مائة وشيء، فمثلاه مائتان وشيئان، فمائتان وشيئان في مقابلة ثلثمائة ناقصة بشيئين، فتجبر الثلاثمائة الناقصة بالشيئين، وتزيد على المائتين والشيئين شيئين؛ فيصير مائتين وأربعة أشياء في مقابلة ثلثمائة، فيذهب المائتان بالمائتين، فيبقى أربعة أشياء في مقابلة مائة، فيكون كل شيء ربع المائة، وهو خمس وعشرون؛ فعلمنا أن الشيء الذي أعتقنا من العبد المكتسب ربعه وتبعه ربع الكسب، فقد أعتقنا عبداً قيمته مائة، وربع عبد، قيمته خمس وعشرون؛ بقي للوارث مثلاه، وهو عبد قيمته مائة، وثلاثة أرباع العبد الآخر، قيمته خمسة وسبعون، وثلاثة أرباع الكسب خمسة وسبعون، فجملته: مائتان وخمسون. ولو اكتسب واحد من العبيد الثلاثة مائتين- يقرع بينهم: فإن خرجت القرعة للمكتسب- عتق، وتبعه الكسب، ولا تعاد القرعة وبقي الآخران رقيقين، وإن خرجت القرعة لغير المكتسب- عتق كله، ثم تعاد القرعة بين العبدين الآخرين.

فإن خرجت القرعة الثانية لغير المكتسب- عتق ثلثاه، وبقي ثلثه مع العبد الآخر، وكسبه للوارث. وإن خرجت القرعة الثانية للمكتسب كم يعتق منه فنقول: عتق منه شيء، وتبعه من الكسب مثلاه غير محسوب في الثلث، بقي للورثة أربعمائة ناقصة بثلاثة أشياء، تعدل مثلي ما أعتقنا، والذي أعتقنا مائة وشيء، فمثلاه مائتان وشيئان، فمائتان وشيئان في مقابلة أربعمائة ناقصة بثلاثة أشياء فنجبر الأربعمائة الناقصة بثلاثة أشياء، [ويزيد] على المائتين والشيئين ثلاثة أشياء؛ فتصير مائتان وخمسة أشياء في مقابلة أربعمائة، وتذهب المائتان بالمائتين؛ فيبقى خمسة أشياء في مقابلة مائتين؛ فيكون كل شيء خمس المائتين، وهو أربعون؛ فعلمنا: أن الشيء الذي أعتقنا من العبد أربعون، وتبعه من الكسب ثمانون، فقد أعتقنا عبداً قيمته مائة، ومن عبد آخر، قيمته مائة قدر أربعين، بقي للوارث مثلاه؛ وهو عبد قيمته مائة ومن العبد الآخر ثلاثة أخماسه، وهو ستون ومائة وعشرون من الكسب؛ فجملته مائتان وثمانون. ولو اكتسب واحد من العبيد الثلاثة خمسين- يقرع بينهم، فإن خرجت القرعة للمكتسب - عتق، وتبعه الكسب، وإن خرجت لغير المكتسب- عتق كله، ثم تعاد القرعة، فإن خرجت القرعة الثانية لغير المكتسب- عتق سدسه، وتم الثلث، وإن خرجت للمكتسب- كم يعتق منه؟ فنقول: عتق منه شيء، وتبعه من الكسب مثل نصفه، بقي للوارث مائتان وخمسون ناقصة بشيء ونصف، تعدل مثل ما أعتقنا، والذي أعتقنا مائة وشيء؛ فمثلاه مائتان وشيئان، فمائتان وشيئان في مقابلة مائتين وخمسين ناقصة بشيء ونصف، فنجبر المائتين والخمسين الناقصة بشيء ونصف، ونزيد على المائتين والشيئين شيئاً ونصفاً، فيكون مائتان وثلاثة أشياء، ونصف في مقابلة مائتين وخمسين، تذهب المائتان بالمائتين؛ فيبقى ثلاثة أشياء ونصف في مقابلة خمسين، فالشيء من ثلاثة أشياء ونصف سبعاه وسبعا خمسين سبع مائة فعلمنا: أنه عتق من العبد سبعه، وهو سبعمائة، وتبعه من الكسب نصفه، وهو سبع خمسين، فقد أعتقنا عبداً قيمته مائة وسبع عبد آخر، وبقي للوارث مائتان وسبعا عبد، قيمته مائة وستة أسباع عبد آخر، وثلاثة أسباع مائة من الكسب. وعلى هذا: لو أعتق عبدين في مرض موته، ولا مال له سواهما، قيمة كل واحد مائة، فاكتسب أحدهما مائة-: يقرع بينهما؛ فإن خرجت القرعة لغير المكتسب- عتق كله، وبقي للوارث مثلاه، وهو للعبد الآخر مع كسبه، وإن خرجت القرعة للمكتسب، فنقول: عتق منه

شيء، وتبعه من الكسب مثله، يبقى للوارث ثلاثمائة ناقصة بشيئين، [تعدل مثلي ما أعتقنا، وما أعتقنا شيء فمثلاه شيئان، فشيئان في مقابلة ثلثمائة ناقصة بشيئين نجبر الثلاثمائة الناقصة بشيئين، ونزيد على الشيئين شيئين؛ فيكون: أربعة أشياء في مقابلة ثلثمائة؛ فيكون كل شيء ربع ثلثمائة، وهو خمس وسبعون، فعلمنا: أن الشيء الذي عتق من العبد ثلاثة أرباعه، وقيمته خمسة وسبعون، وتبعه من الكسب خمسة وسبعون؛ بقي للوارث مثلاً خمس وسبعين عبد، قيمته مائة، وربع عبد، قيمته خمس وعشرون، ومن الكسب خمس وعشرون؛ فجملته: مائة وخمسون. ولو أعتق عبداً في مرض موته لا مال له سواه، قيمته مائة، واكتسب العبد مائة، فنقول: عتق منه شيء وتبعه من الكسب مثله، بقي للوارث مائتان ناقصتان بشيئين، تعدل مثلي ما أعتقنا، والذي أعتقنا شيء، فمثلاه شيئان، فشيئان في مقابلة مائتين ناقصتين بشيئين، فنجبر المائتين الناقصتين بشيئين، ونزيد على الشيئين شيئين؛ فتصير: أربعة أشياء في مقابلة مائتين؛ فيكون كل شيء ربع المائتين، وهو خمسون. فعلمنا: أنه [عتق] من العبد نصفه، وقيمته خمسون وتبعه من الكسب خمسون غير محسوب في الثلث، فبقي للوارث نصف العبد ونصف الكسب، وجملته مائة. ولو أعتق ثلاثة أعبد في مرض موته، قيمة كل واحد مائة-: لا مال له سواهم واكتسب كل واحد منهم مائة-: يقرع بينهم، فإن خرجت القرعة لواحد-: عتق، وتبعه كسبه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين، فمن خرجت له القرعة، يقال [له] عتق منه شيء، وتبعه من الكسب مثله، بقي للورثة أربعمائة ناقصة بشيئين، تعدل مثلي ما أعتقنا، والذي أعتقنا مائة وشيء، فمثلاه مائتان وشيئان، فمائتان وشيئان في مقابلة أربعمائة- ناقصة بشيئين؛ فنجبر الأربعمائة الناقصة بشيئين، ونزيد على المائتين والشيئين شيئين؛ فتكون: مائتان وأربعة أشياء بمقابلة أربعمائة، تذهب المائتان بالمائتين؛ فيبقى أربعة أشياء في مقابلة مائتين؛ فيكون كل شيء منها خمسين؛ فعلمنا: أنه عتق من هذا العبد نصفه، وقيمته خمسون، وتبعه من الكسب نصفه؛ فقد أعتقنا عبداً قيمته مائة ونصف عبد، قيمته خمسون؛ بقي للوارث نصف عبد، قيمته خمسون، ونصف كسبه، وعبد آخر قيمته مائة، وكسبه مائة، فجملته: ثلاثمائة، فإن كانت قيمة العبيد متفاوتة؛ مثل: إن كانت قيمة واحد مائة، وقيمة واحد مائة، وقيمة واحد مائتين، وقيمة الثالث ثلثمائة، واكتسب كل واحد بقدر قيمته، فالذي قيمته مائة- اكتسب مائة، والذي قيمته مائتان

- اكتسب مائتين، والذي قيمته ثلثمائة- اكتسب ثلثمائة؛ فنحتاج أن نعتق نصف العبيد؛ لأن قيمتهم ستمائة، واكتسبوا ستمائة، فيقرع بينهم، فإن خرجت القرعة للذي قيمته ثلثمائة عتق، وتبعه كسبه، وتم الثلث؛ لأن المحسوب في الثلث قيمة العبد؛ وهي: ثلثمائة؛ بقي للوارث ستمائة؛ وهو العبدان الآخران وكسبهما. وإن خرجت القرعة للذي قيمته مائتان عتق، وتبعه كسبه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين. وإن خرجت القرعة الثانية للذي قيمته مائة عتق، وتبعه كسبه، وتم الثلث؛ لأن المحسوب في الثلث قيمة العبد، وهي ثلاثمائة، بقي للوارث ستمائة، وهو العبدان الآخران وكسبهما. وإن خرجت القرعة للذي قيمته مائتان- عتق، وتبعه كسبه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين، فإن خرجت القرعة الثانية للذي قيمته مائة- عتق، وتبعه كسبه، وتم الثلث؛ بقي للوارث العبد الذي قيمته ثلاثمائة [وكسبه]، وذلك مثلاً ما أعتقنا. وإن خرجت القرعة الثانية للذي قيمته ثلثمائة- عتق ثلثه، و [تبعه] ثلث كسبه، بقي للوارث ثلثاه مع ثلثي كسبه، والعبد الذي قيمته مائة مع كسبه، فجملته: ستمائة. وإن خرجت القرعة الأولى للذي قيمته مائة- عتق، وتبعه كسبه، ثم تعاد القرعة. فإن خرجت القرعة [الثانية] للذي قيمته مائتان- عتق، وتبعه كسبه، وتم الثلث، وإن خرجت الثانية للذي قيمته ثلثمائة- عتق ثلثاه، وتبعه ثلثا كسبه، فبقي للوارث ثلثه، وثلث كسبه، والعبد الذي قيمته مائتان مع كسبه. ولو كانوا ثلاثة، قيمة كل واحد مائة أعتقهم في مرض موته، لا مال له سواهم، وعلى الميت مائة درهم دين، فاكتسب واحد منهم مائة-: يقرع لأجل الدين: فإن خرجت قرعة الدين على غير المكتسب: بيع في الدين، ثم يقرع بين العبدين للمعتق؛ كما ذكرنا فيما لو لم يكن له إلا عبدان، واكتسب واحد منهم مائة. فأما إذا خرجت قرعة الدين على المكتسب-: فلا تصرف جميع رقبته إلى الدين؛ لأنه حينئذ: يبقى كسبه للوارث بلا قرعة، ولا يصرف كسبه إلى الدين، لأنه ربما تخرج قرعة الحرية له فيتبعه كسبه؛ بل نصرف نصف رقبته ونصف كسبه إلى الدين؛ بقي نصفه ونصف كسبه

والعبدان الآخران؛ فيقرع بينهم لأجل العتق؛ فإن خرجت القرعة لغير المكتسب- عتق، وتم الثلث؛ بقي للوارث مائتان؛ عبد قيمته مائة، ونصف عبد قيمته هذا العبد ونصف كسبه، وجملته: مائتان وإن خرجت قرعة العتق للمكتسب- عتق النصف منه، وتبعه الباقي من كسبه غير محسوب في الثلث، ثم تعاد الرعة بين العبدين الآخرين فأيهما خرج له سهم الحرية- عتق ثلثه؛ فجملة ما ذهب في العتق: ثلاثة وثمانون وثلث؛ بقي للوارث مثلاً عبد قيمته مائة، وثلثا عبد قيمته ستة وستون وثلثان. ولو زادت قيمة بعض الرقيق بعد العتق قبل القرعة- فحكم الزيادة حكم الكسب، فإن خرجت القرعة للذي زادت قيمته عتق، وتبعه الزيادة غير محسوبة في الثلث. وكذلك: لو كانت في الرقيق جارية، فولدت قبل القرعة، فحكم الولد حكم الكسب، فإن خرجت القرعة للوالدة- عتقت، وتبعها الولد غير محسوب في الثلث. وإن خرجت لغير الوالدة أو لغير من زادت قيمته، فعمل الدور كما ذكرنا في الكسب. وعلى هذا: لو قال لجارية له حامل في مرضه: أنت حرة، أو: ما في بطنك، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم العتق، قبل موت السيد: فإن خرجا من الثلث: يقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للأم عتقت مع الولد، وإن خرجت للولد- عتق [منه بقدر الثلث] وإن لم يخرجا من الثلث يقرع: فإن خرجت القرعة للولد- عتق منه بقدر الثلث، وإن لم يخرج كله من الثلث، وإن خرجت للأم- يعتق منها شيء ويتبعها من [الولد] شيء؛ كما ذكرنا فيما لو كانت له أمة واحدة، فأعتقها، فولدت، أو اكتسبت. أما إذا اكتسب واحد من العبيد، بعد موت المعتق قبل القرعة، [مثل: أن] كانوا ثلاثة قيمة كل واحد مائة، فاكتسب واحد مائة، فإن خرجت القرعة للمكتسب- عتق، وتبعه الكسب غير محسوب في الثلث، كما في حال الحياة. وإن خرجت القرعة [لغير المكتسب] عتق، ولا تعاد عليه القرعة؛ لأن الكسب حصل على ملك الوارث، فلا يحسب على الوارث في الثلثين. ولو كانت فيهم جارية، فولدت بعد موت المعتق، نظر: إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من يوم الموت، فكالكسب إن خرجت القرعة للوالدة- عتقت وتبعها الولد.

وإن خرجت لغير الوالدة- عتقت، ولا تعاد القرعة؛ لأن الولد حدث على ملك الوارث، فلا يحسب عليه. وإن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم الموت؛ بأن كان موجوداً يوم الموت، فهل يحسب على الوارث حتى تعاد القرعة؟ قال شيخنا الإمام- رضي الله عنه-: يبنى على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا: لا يعرف، فهو كالحادث بعد الموت؛ فلا تعاد القرعة. وإن قلنا: يعرف، فهو كالحادث قبل الموت؛ فتعاد القرعة. أما إذا انتقصت قيمة بعضهم؛ مثل: إن كانوا ثلاثة، قيمة كل واحد مائة، فانتقصت قيمة واحد منهم وتراجعت إلى خمسين قبل موت المعتق- يقرع بينهم: فإن خرجت القرعة للمنتقص قيمته- عتق، ولا يعتق شيء من الآخرين؛ لأن ما يحسب في الثلث تعتبر قيمته بيوم الإعتاق، ويوم الإعتاق كانت قيمته مائة تمام الثلث. وإن خرجت القرعة لغير المنتقص-: يعتق خمسة أسداس قيمته ثلاثة وثمانون وثلث يجعل كأنه لم ييترك إلا مائتين وخمسين، وهذا ثلثها؛ لأن ما يحسب في الثلثين يعتبر بيوم الموت؛ فلا يحسب النقصان على الورثة. ولو أعتق عبدين في مرض موته، قيمة كل واحد مائة، لا مال له سواهما، وتراجعت قيمة أحدهما إلى خمسين قبل موت المعتق-: يقرع بينهما: فإن خرجت القرعة لغير المنتقص [قيمته] عتق نصفه، وإن خرجت للمنتقص قيمته- يحتاج إلى أن يعتق منه شيئاً معتبراً بيوم الاعتاق. ويبقى للوارث مثلاه باعتبار يوم الموت فنقول: عتق منه شيء، وتراجع ذلك إلى نصفه، بقي للورثة مائة وخمسون ناقصة بنصف شيء تعدل مثلي ما أعتقنا والذي أعتقنا شيء، فمثلاه شيئان، فشيئان في مقابلة مائة وخمسين ناقصة بنصف شيء، فنجبر المائة والخمسين الناقصة بنصف شيء، ونزيد على الشيئين نصف شيء؛ فيصير: شيئان ونصف في مقابلة مائة وخمسين، والشيء من الشيئين ونصف خمساه وخمسا مائة وخمسين ستون؛ فعلمنا: أنه عتق من العبد يوم الإعتاق ستون فتراجعت إلى ثلاثين؛ بقي للوارث مثلاً ستين، فهو مائة وعشرون. ولو أعتق عبداً قيمته مائة في مرضه. لا مال له سواه، وتراجعت قيمته إلى خمسين قبل موت المعتق، فنقول: عتق منه

شيء، وتراجع إلى نصفه؛ بقي للوارث خمسون ناقصة بنصف شيء، تعدل مثلي ما أعتقنا والذي أعتقنا شيء، فمثلاه شيئان، فشيئان في مقابلة خمسين الناقصة بنصف شيء، فنجبر الخمسين بنصف شيء، ونزيد على الشيئين نصف شيء؛ فيكون: شيئان ونصف في مقابلة خمسين، والشيء من شيئين ونصف خمساه وخمسا خمسين عشرون. فعلمنا: أنه عتق من العبد يوم الإعتاق عشرون، وتراجع إلى نصفه، وهو عشرة؛ بقي للوارث مثلاً عشرين وهو أربعون. ولو انتقصت قيمة بعضهم بعد موت المعتق قبل القرعة، فهل يحسب النقصان على الورثة أم لا؟ نظر: إن كان الوارث مقصور اليد عن [التركة] محولاً بينه وبينها-: فلا يحسب عليه؛ كما في حال الحياة. وإن لم يكن مقصور اليد عنها-: ففيه وجهان: أصحهما: يحسب عليه حتى لو كانوا ثلاثة، وانتقصت قيمة واحد منهم بعد الموت، ثم خرجت القرعة لغير المنتقص- عتق كله، ويحسب النقصان على الورثة في الثلثين. والثاني: لا يحسب عليهم، ولا يعتق من الذي خرجت عليه القرعة إلا بعضه، كما في حال الحياة؛ لأن الوارث: إن لم يكن محولاً عن التركة حساً- فهو محول عنها حكماً؛ لأن الوصية مقدمة على الميراث. وعلى هذا: لو أعتق ثلاثة أعبد في مرضه، قيمتهم سواء، فمات واحد منهم قبل موت المعتق-: يقرع بينهم-: فإن خرجت القرعة للميت: بان أنه مات حراً ويورث منه، وبقي الآخران للورثة وإن خرجت القرعة لواحد من الحيين: يجعل كأن الميت لم يخلف إلا عبدين، فعتق ممن خرجت قرعته ثلثاه. ولو مات واحد منهم بعد موت المعتق قبل القرعة؛ فإن كان الوارث محولاً بينه وبين التركة-: فالحكم هكذا، وإن لم يكن محولاً بينه وبين التركة، فعلى الوجهين: أحدهما: هكذا إذا خرجت القرعة لواحد من الحيين: لا يعتق إلا ثلثاه. والوجه الثاني: يعتق كله، ويحسب الميت على الوارث. ولو قتل واحد من الثلاثة في حال حياة المعتق، أو بعد موته-: فسواء؛ فيقرع بينهما:

فإن خرجت القرعة لواحد من الحيين- عتق كله؛ لأن قيمة القتيل تقوم مقامه، فيبقى للوارث العبد الأخير وقيمة القتيل. وإن خرجت القرعة للقتيل- بان أنه قتل حراً، وعلى قاتله الدية لورثته. وهل يجب القود، إن كان القاتل حراً؟ من أصحابنا من قال: لا يجب بخلاف ما لو قال لعبده: إن جرحت، فأنت حر قبله فجرحه حر، ومات فيه- بان أنه عتق قبل الجرح، وعلى جارحه القود؛ لأن ثم تعينت الحرية فيه قبل القتل، وههنا: لم يتعين؛ إنما تعينت بالقرعة. قال الشيخ الإمام- رحمه الله-: يحتمل أن يكون في المسألتين جميعاً وجهان في وجوب القود؛ لأنه أقدم على قتل من اعتقد رقه، وأن القود لا يجب بقتله؛ كما لو قتل شخصاً عرفه رقيقاً، ثم بان أنه كان قد عتق، ففي وجوب القود قولان. ولو أعتق عبداً في مرض موته، لا مال له سواه، فمات العبد بعد موت المعتق-: مات ثلثه حراً؛ كما لو مات بعد موته؛ لأن حق الوارث تعلق به في مرض المعتق، والثلث مات كله حراً؛ لأن ما هلك في حياة الموصي لا حق للوارث فيه، فلا يرد تبرعه لحق الوارث. قال الشيخ- رحمه الله-: وأصله أنه إذا تبرع في مرضه بأكثر من الثلث، وأجاز الوارث بعده-: فإجازته تنفيذ لما فعله المريض، أو ابتداء تمليك؟ فيه قولان: إن قلنا: تنفيذ لما فعله المريض-: مات كله حراً؛ لأن ما فعله كان منعقداً. وإن قلنا: ابتداء تمليك-: مات ثلثه حراً؛ لأن تبرعه غير نافذ فيما زاد على الثلث حتى يجيزه الوارث. فصل التبرعات المنجزة في مرض الموت والمعلق بالموت- يستويان بالاعتبار من الثلث، ويختلفان في ثلاثة أحكام: أحدها: أن المنجز يملكه المتبرع عليه قبل الموت، والمعلق لا يملك إلا بعد الموت. الثاني: أنه لا يملك الرجوع عن المنجز، ويجوز أن يرجع عن المعلق بالموت، وفي التدبير قولان.

الثالث: أن في المنجز يقدم الأسبق فالأسبق؛ إن لم يخرج الكل من الثلث، وفي المعلق لا يقدم ما لم يقيد به. بيانه: لو قال في مرض موته لثلاثة أعبد له: سالم حر، وغانم حر، وزياد حر، فإن خرجوا من الثلث- عتقوا جميعاً، وإن خرج واحد من الثلث- عتق الأول، وإن خرج اثنان عتق الأول والثاني ورق الثالث. وإن عقب الكل بلفظ الحرية، فقال: سالم وغانم وزياد أحرار، ولم يخرجوا من الثلث - يقرع بينهم. ولو أعتق، ثم باع شيئاً بالمحاباة أو حابى أولاً، ثم أعتق، ولم يخرجا من الثلث- ينفذ الأسبق، سواء كان الأسبق هو العتق أو المحاباة أو غير ذلك من التبرعات، وسواء كانت المحاباة مقبوضة أو لم تكن؛ لأنها معلقة بالمعاوضة؛ فلا يتوقف [تمامها] على القبض. أما إذا وهب، ولم يقبض، ثم أعتق بعده، أو حابى، ثم أقبض الموهوب، ولم يخرج من الثلث- يقدم العتق أو المحاباة؛ لأن الملك في الهبة يحصل بالقبض، والقبض كان متأخراً. وإن فعل الكل دفعة واحدة- فالكل سواء، إن لم يكن فيها عتق، ويوزع الثلث على جميعها باعتبار القيمة، فإن استوت: فعلى التساوي، وإن تفاضلت: فعلى التفاضل؛ كما نفعل في الديون، فإن كان فيها عتق، فهل يقدم العتق؟ فيه قولان: أصحهما: أن الكل سواء. والثاني: يقدم العتق؛ لأن له غلبة، فأما المعلق بالموت من الوصايا، إذا عجز عن الثلث كالهبات. والمحاباة لا يقدم بعضها بالسبق؛ لأن لزوم الكل في وقت واحد، وهو عند الموت فيقسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت، وعلى التساوي إن استوت. وإن كان فيها عتق وغيره، هل يقدم العتق؟ فيه قولان: الأصح: لا يقدم، وإن كان الجميع عتقاً- يقرع بين العبيد؛ مثل: إن قال: إن مت فسالم حر، وغانم حر، وزياد حر، ولم يخرجوا من الثلث- يقرع بينهم. فإن قيد بالتأخير، فقال: إن مت فسالم حر، ثم غانم حر، وخرج أحدهما من الثلث - عتق سالم.

وكذلك: لو قال: إن مت فسالم حر، وأعتقوا غانماً، أو قال: سالم حر، وغانم حر، إن دخل الدارن ولم يخرج إلا واحد من الثلث- عتق سالم، ولا يعتق غانم. ولو كان له عبدان، فقال: إذا مت من مرضي هذا- فسالم حر، وقال للآخر: إذا مت فغانم حر، فقد دبر أحدهما تدبيراً مطلقاً، ودبر الآخر مقيداً، فإن برئ من مرضه- بطل المقيد، فمتى مات بعده- عتق غانم، وإن مات من ذلك المرض- عتق العبدان جميعاً؛ لأنه وجد شرط عتقهما. فإن لم يحتمله الثلث- يقرع بينهما. ولو أوصى بوصايا، وبعضها قربة؛ بأن أوصى لإنسان بمال، ويعتق عبد، ولم يخرجا من الثلث، هل تقدم القربة؟ فيه قولان: أصحهما: لا تقدم، وإن كان فيها كتابة، هل تقدم؟ فيه طريقان. أحدهما: هي كالعتق. والثاني: لا تقدم، لأنه ليس لها من القوة والسراية ما للعتق. ولو أوصى للفقراء بشيء، وبعتق عبد- فهما سواء؛ لأن كلا قربة. ولو قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حر، ثم أعتق سالماً في مرضه، فإن خرجا من الثلث - عتقا جميعاً، وإن خرج أحدهما من الثلث- عتق سالم؛ لأن عتق غانم مرتب على عتق سالم، والأسبق أولى. وكذلك: لو قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حر في حال إعتاقي إياه، فأعتق سالماً، ولم يخرجا من الثلث- عتق سالم دون غانم، ولا يقرع؛ لأنه ربما تخرج القرعة لغانم؛ فيمتنع العتق فيهما. ولو كانوا ثلاثة فقال: إن أعتقت سالماً، فغانم وزياد حران، ثم أعتق سالماً في مرض موته، فإن خرجوا من الثلث- عتقوا جميعاً، وإن خرج واحد منهم- عتق سالم، ورق الآخران. وإن بقي شيء من الثلث بعد عتق سالم- يقرع بين الآخرين، فمن خرجت له قرعة الحرية- عتق كله، إن خرج من الثلث كله، وإن خرج بعضه فبقدر ما يخرج- يعتق. وإن خرج واحد منهما من الثلث، وبعض الثالث، فمن خرجت له قرعة الحرية- عتق

كله، وينتقص من الآخر. ولو قال لعبده: إذا تزوجت فأنت حر، فتزوج في مرض موته بمهر المثل- كان المهر ورأس المال والعتق من الثلث، ولو تزوج بأكثر من مهر المثل- نظر: إن كانت المرأة [ممن] ترث الزوج- فالزيادة على مهر المثل مردودة، لأنها وصية للوارث. وإن لم تكن المرأة ممن ترث الزوج بأن كانت ذمية، والزوج مسلم-: فالزيادة على مهر المثل وصية لها تعتبر من الثلث. فإذا خرجت الزيادة، وعتق العبد من الثلث- نفذا جميعاً، وإن لم يخرجا من الثلث يقدم المهر؛ لأنه أسبق؛ لأنه يجب بعقد النكاح، والعتق مرتب على النكاح. ولو قال: إذا تزوجت امرأة، فأنت حر في حال حياة تزويجي، فتزوج بأكثر من مهر المثل، ولم يخرجا من الثلث- يوزع الثلث على ما زاد، وعلى العتق، مثل: إن كانت قيمة العبد عشرين، والزيادة على مهر المثل عشرة، والثلث عشرون: يجعل الثلث أثلاثاً: ثلثاه للعتق، فيعتق من العبد ثلثاه، وثلثه لزيادة المهر؛ فيكون ثلثا عشرة، ولا يقرع، لأنه لا يدخل للقرعة في غير العتق. وإنما وزعنا؛ لأن التوزيع لا يرفع النكاح الذي علق به العتق؛ بخلاف المسألة الأولى حيث لم يوزع الثلث فيها على عتق العبدين؛ لأن التوزيع يمنع تكميل العتق في سالم، فيمتنع به عتق الآخرين؛ لأن كمال عتقه شرط لنفوذ العتق في الآخرين. ولو قال في مرض موته لجارية له حامل: إذا أعتقت نصف حملك، فأنت حرة، ثم أعتق نصف حملها- عتق جميع الحمل والأم؛ إن خرج الكل من الثلث. وإن لم يخرج من الثلث إلا أحدهما-: إما الأم أو النصف الآخر من الولد؛ بأن كان ثلث ماله مائة، وقيمة النصف الآخر من الولد خمسون، وقيمة الأم خمسون؛ فيقرع بين النصف الآخر من الولد وبين الأم: فإن خرجت القرعة للولد- عتق كله، ورفت الأم، وإن خرجت الأم، فلا يمكن عتقها دون الولد؛ لأن الولد يتبع الأم في العتق، فيعتق نصف الأم ونصف ما بقي رقيقاً من الولد، وهو ربع الولد؛ يكون ثلاثة أرباع الولد حراً ونصف الأم. وإن كانت قيمة الأم مائة، وقيمة الولد مائة، وثلث ماله مائة، وخرجت القرعة للأم - عتق ثلثها، وثلث ما بقي رقيقاً من الولد، وهو سدس الولد؛ فيكون من الولد ثلثاه حراً، ومن

الأم ثلثها، وهو تمام الثلث. فصل رجل له عبيد، فقال: أعتقت واحداً منكم، أو قال: واحد منكم حر- نظر: إن عين واحداً بقلبه- يؤمر بالبيان، فإذا بين في واحد، وقال: عنيت هذا- يحكم بعتقه، وللآخر أن يدعي عليه أنك عنيتني ويحلفه، فإن نكل حلف المدعي، وعتقا جميعاً؛ الأول: ببيانه، والثاني بيمين العبد بعد نكوله، وإن مات قبل البيان- قام وارثه مقامه في البيان. وقيل: فيه قولان؛ كما لو لم يعين واحداً بقلبه. فإن قلنا: يقوم مقامه-: فإذا بين الوارث في أحدهما- عتق، وللآخر تحليفه على نفي العلم. ولو قال لإماء له: واحدة منكن حرة، وعين بقلبه واحدة، ثم وطئ بعضهن فالوطء لا يكون بياناً للعتق في غير الموطوءة حتى لو بين في الموطوءة عليه الحد والمهر. ولو قتل واحداً منهم- لا يكون بياناً؛ فيؤمر بالبيان: فإذا بين في المقتول- يجب عليه القود، وإن لم يعين واحداً منهم بقلبه- يؤمر بالتعيين، فإذا عين في واحد منهم- لا تسمع دعوى الآخر عليه؛ كما لو أعتق واحداً منهم ابتداءً، ثم هذا اللفظ منهم عتق موقع، ومحله غير معين أم التزام عتق في الذمة؟ فيه جوابان: أحدهما: عتق موقع؛ لأنه قال: أعتقت. والثاني: التزام عتق؛ لأنه لم يعين، فالتعيين يوقع ما التزمز ولو مات قبل التعيين، هل يقوم وارثه مقامه؟ فيه قولان: أحدهما: بلى؛ كالقسم الأول. والثاني: لا يقوم مقامه؛ لأن المورث لم يعين له أحداً، فلا يصح تعيين الوارث. فإن قلنا: يقوم مقامه، فإذا أعتق في واحد- عتق، وليس للآخر تحليفه. فإن قلنا: لا يقوم وارثه مقامه، أو قلنا: يقوم مقامه في الصورتين؛ فلم يكن له وارث، أو قال الوارث: لا أعلم -يقرع بين العبيد، فمن خرجت له القرعة- حكم بحريته، سواء كان أقلهم قيمة أو أكثرهم، وإن كن إماء فوطئ بعضهن، هل يتعين العتق في غير

الموطوءة أم لا؟ فيه قولان؛ كما ذكرنا في الطلاق. أحدهما: لا يتعين. والثاني: وهو قول أبي يوسف ومحمد، واختيار المزني- رحمه الله-: أنه يتعين؛ لأن الظاهر أن المسلم لا يطأ إلا ملكه. فإن قلنا: لا يكون تعييناً: فلو عين في الموطوءة- لا حد عليه، وهل يجب المهر؟ قال الشيخ- رحمه الله: إن قلنا: لفظه التزام عتق في الذمة- لا يجب؛ وإلا فيجب. وقال أبو حنيفة: الوطء لا يكون تعييناً إلا أن تعلق منه. ولو قبل بعضهن، أو لمس بشهوة، فهل يكون تعييناً في غيرها؟ يرتب على الوطء: إن قلنا: الوطء لا يكون تعييناً، فاللمس أولى؛ وإلا فوجهان. والفرق: أن حكم اللمس أخف من حكم الوطء. وعند أبي حنيفة ومحمد: يكون اللمس تعييناً، أما الاستخدام: فلا يكون تعييناً، هذا هو المذهب؛ لأنه يتصور مباحاً في غير الملك والعرض على البيع؛ كالاستخدام: فلو باع بعضهم أو وهب وأقبض [أو رهن أو أجر وأقبض]، قال الشيخ: ينبغي أن يكون على وجهين؛ بناءً على الوطء، لأنه من تصرفات الملك، وعند أبي حنيفة: يكون تعييناً. ولو أعتق واحداً منهم لا يكون تعييناً، ثم إذا عين في المعتق قبل منه، ورق الآخرون. وإن عين في غيره- عتقاً جميعاً. ولو قتل السيد واحداً منهم- لا يكون تعييناً، ثم إن عين في غير المقبول لا ضمان عليه في المقتول، إلا الكفارة تلزمه، فإن عين- فالمقتول فلا قود عليه للشبهة، وعليه الدية لورثته، إن قلنا: لفظه عتق موقع. وإن قلنا: التزام عتق، فلا ضمان عليه، ولو قتل أجنبي واحداً منهم، فلا قود إن كان القاتل حراً. ثم إن عين في غير القتيل- أخذ القيمة من القاتل، وإن عين في القتيل: إن قلنا: لفظه عتق موقع- فعلى القاتل الدية لورثة القتيل. وإن قلنا: التزام عتق- تجب القيمة للسيد؛ كما لو نذر إعتاق رقبة بعينهما، فقيل: يجب

على القاتل القيمة للسيد. وعند أبي حنيفة: بالقتل ينقطع البيان. وإذا شهد شاهدان: على رجل أنه قال: إحدى امرأتي طالق، وهو منكر- يحكم عليه. وكذلك: لو شهد أنه قال: أحد هذين العبدين حر- يسمع، ويحكم به. وقال أبو حنيفة: يحكم به في الطلاق دون العتاق؛ لأن الطلاق فيه تحريم الفرج، وهو حق الله- تعالى- فتسمع البينة من غير دعوى، والعتق حق العبد؛ فلا تسمع إلا بعد دعواه وبالاتفاق: لو شهد الشهود بعد موته أنه أوصى بعتق أحدهما - تسمع. ولو كان له عبدان، فقال: أحدهما حر على ألف درهم، فقبل- عتق أحدهما، ويقال له: بين، فلو مات قبل البيان، ولا ولي له- يقرع بينهما؛ فمن خرجت قرعته- عتق، وعليه قيمة رقبرته للمولى؛ لأن المولى لم يعتقه مجاناً، وفسد المسمى؛ لأنه لم يعتق واحداً منهما، والله أعلم. باب من يعتق بالملك قال الله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 92، 93] نفى الولاد مع العبودية، فثبت أنهما لا يجتمعان. وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا يجزي ولد والده إلا أن جده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". يعني: بالشراء يعتقه. [هـ]. إذا ملك أباه أو أمه أو واحداً من أجداده أو جداته وإن علا، أو ملك واحداً من أولاده

أو أولاد أولاده وإن سفل من الذكور والإناث-: يعتق عليه، سواء ملك بشراء أو إرث أو اتهاب أو قبول وصية أو أي سبب كان، ولا يعتق غير الوالدين والمولودين. وقال أبو حنيفة: يعتق كل ذي رحم محرم؛ كالأخ وابن الأخ والعم والخال. فنحن نلحق هؤلاء ببني الأعمام؛ لأن شبههم ببني الأعمام أكثر، وهم يلحقونهم بالوالدين والمولودين، ووافقنا أن المكاتب لو ملك أخاه لا يكاتب عليه، فنقول قريب لا يتكاتب على المكاتب، فلا يعتق على الحر؛ قياساً على بني الأعمام. ولو ملك في مرض موته من يعتق عليه- نظر: إن ابتاعه بثمن مثله-: عتق عليه من ثلثه، ولا يرثه منه؛ لأن عتقه وصية، ولا يجمع بين الوصية والميراث؛ وكذلك: لو اشترى أخاه، فأعتقه في مرض موته- عتق، ولا يرث منه، ولو ورث في مرض موته من يعتق عليه أو وهب له أو أوصى [له]، فقبل-: عتق عليه، وهل يعتبر عتقه من الثلث؟ فيه وجهان: أصحهما: تعتبر من الثلث؛ كما لو اشتراه. والثاني: لا يعتبر؛ لأنه لم يبذل عليه عوضاً. والأول أصح، كما لو ورث مالاً فاشترى به من يعتق عليه، [أو وهب له مال، فاشترى به من يعتق عليه]-: عتق واعتبر من الثلث، ومن قال بالثاني- قال فرق بين أن يوصي له بالمال، فيشتري به وبين أن يوصي له بمن يعتق عليه، كما لو وهب لصبي من يعتق عليه، والصبي معسر- حاز لوليه أن يقبل ويعتق. ولو وهب له مال، لا يجوز لوليه أن يشتري به قريبه وكذلك المكاتب لا يشتري قريبه ولو وهب له يقبل ولو وهب له مال؛ فلا شيتري به قريبه. فإن قلنا: يعتبر من الثلث- لم يرثه- وإلا فيرثه، أما إذا ورث أخاه أو أوصى له بأخيه أو وهب له، فقبل في مرضه، وأعتقه- عتق من الثلث، ولا يرث؛ لأن ملكه قد استقر على الأخ فأزاله فكان وصية، ولم يستقر على الوالد؛ فخروجه عن الملك لم يكن وصية في وجه.

عن الملك لم يكن وصية في وجه. ولو اشترى في مرض موته من يعتق عليه، وعليه ديون-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لو صح لعتق، ولا يجوز تقديم الوصية على الدين. والثاني: وهو الأصح-: يصح، ولا يعتق، ويباع في الدين. ولو ورث من يعتق عليه في مرضه ولا مال له سواه: فإن اعتبرنا عتقه من الثلث- عتق ثلثه، وإن لم يعتبر- عتق كله. وإن كان عليه ديون، ولا مال له، إن اعتبرنا من الثلث- لم يعتق، وبيع في الدين، وإن لم يعتبر- عتق كله. ولو اشترى من يعتق عليه بأقل مما يساوي في مرضه مثل: إن اشتراه بخمسين، وقيمته مائة-: يعتبر الخمسون من الثلث أم من المائة؟ فيه وجهان؛ كالهبة، إن قلنا: الموهوب يعتبر من الثلث-: فههنا تعتبر المائة، وإن قلنا: الموهوب لا يعتبر من الثلث؛ فيعتبر الخمسون من الثلث؛ لأن ما زاد على الخمسين كالموهوب له، وعلى الوجهين جميعاً: لا يرث. ولو أوصى لإنسان بابنه، فمات الموصى له، وخلف أخاً، وقبل الأخ الوصية-: صح، ووقع به الملك للموصى له، وعتق على الأب، ولا يرث؛ لأنا لو ورثناه، صار الأخ محجوباً، وإذا صار محجوباً، لا يصح قبوله، وإذا لم يصح قبوله، لم يعتق الابن؛ فيجر ثبوت الميراث إلى سقوطه. أما إذا مات الموصى له عن ابن آخر، فقبل صح وعتق. وهل يرث أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرث؛ لأنا لو ورثناه، صار القابل محجوباً عن بعض الميراث. والثاني: يرث؛ لأنه لا يصير محجوباً عن جميع الميراث كما لو مات عن أخ؛ فأقر بابن للميت ثبت النسب ولا يرث الابن، وإن مات عن ابن آخر، فأقر- يثبت النسب، وشاركه في الميراث. ولو أن الابن جرح أباه، فاشتراه الأب في مرض موته، ثم مات الأب من تلك الجراح، هل يعتق الابن؟ إن قلنا: تصح الوصية للقاتل- يعتق من ثلثه؛ وإلا فلا يعتق.

قال الشيخ- رحمه الله-: على هذا: هل يصح الشراء؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يصح. والثاني: يصح، ولا يعتق؛ كما ذكرناه فيما لو اشتراه، وعليه دين. فصل إذا ملك بعض من يعتق عليه عتق ذلك القدر وهل يسري إلى الباقي، إن كان موسراً [أم لا]؟ - نظر: إن ملك ذلك الشقص باختياره؛ بأن اشتراه أو اتهبه أو أوصي له، فقبل- يسري، وعليه قيمته للشريك، وإن ملك بغير اختياره بأن ورثه لا يسري؛ لأنه لا صنع له في الإعتاق حتى يلزمه الضمان. ولو دخل في ملكه بقصد شيء آخر- فعلى وجهين؛ مثل: إن كاتب عبداً، فاشترى مكاتبه بعض من يعتق على سيده، ثم عجز المكاتب، ففسخت الكتابة-: صار ذلك [الشقص] ملكاً للمولى، وعتق عليه وهل يسري؟ فيه وجهان: أحدهما: يسري؛ لأنه قصد إلى فسخ الكتابة. والثاني: لا يسري؛ لأنه لم يقصد تملكه، وكذلك لو باع بعض من يعتق على وارثه بثوب؛ مثل: إن اشترى بعض زوجته الأمة، وله منها ولد، قد عتق، فباع ذلك [الشقص] من أجنبي بثوب، فمات، فوجد مشتري الشقص به عيباً، فرد على الوارث-: عتق عليه ولا يسري. ولو وجد الوارث بالثوب عيباً، فرده، واسترد الشقص-: عتق عليه، وهل يسري؟ فعلى وجهين: وكذلك: لو أوصى لإنسان بعض من يعتق على وارثه؛ كأنه أوصى له ببعض جارية، وللموصى له منها ابن: فإن قبل الموصى له الوصية، ثم مات-: صار الشقص لوارثه، وعتق، ولم يسر. ولو مات الموصى له قبل القبول، وقبل الوارث الوصية-: عتق الشقص، وهل يسري؟ فعلى وجهين:

أحدهما: يسري؛ لأنه قصد تملكه بالقبول. والثاني: لا يسري؛ لأن قبوله يوقع الملك للموصى له، ثم ينتقل إليه إرثاً. أما إذا أوصى له ببعض من يعتق عليه دون وارثه؛ مثل: أن أوصى له بشقص من أمة، ووارثه أخ من الأب، فمات قبل القبول وقبل أخوه-: عتق ذلك الشقص على الميت، وهل يسري؟ نظر: إن كان للموصى له تركة-: يسري؛ وإلا فلا؛ وإنما قلنا: يسري؛ لأنا نحكم له بالملك حالة الحياة، وقبول وارثه بمنزلة قبوله. ولو وهب لعبده بعض من يعتق على السيد، فقبل، وقلنا: لا يحتاج في القبول إلى إذن المولى-: صح القبول، وعتق على السيد، ويقوم عليه الباقي؛ لأن قبول العبد كقبول المولى. فصل هل يجوز لولي الصبي أن يشتري من يعتق عليه لا يجوز لولي الصبي والمجنون أن يشتري له من يعتق عليه: فإن فعل فالشراء باطل، فأما إذا أوصى للصبي بمن يعتق عليه، أو وهب له- هل يجوز للمولي أن يقبله؟ نظر: إن كان القريب كسوباً- يجوز للولي أن يقبل ويعتق، ونفقته في كسب، وإن لم يكن كسوباً- نظر: إن كان الصبي معسراً بحيث لا يلزمه نفقة القريب- يجوز للولي أن يقبله ويعتق [على الصبي، ونفقته في بيت المال]، وإن كان الصبي موسراً- لا يجوز للولي أن يقبله، ولو قبل- يكون مردوداً، لأن فيه إضراراً بالصبي بإيجاب نفقة القريب عليه، فأما إذا وهب للصبي شقص ممن يعتق عليه، أو أوصى له به، هل يجوز للولي أن يقبله- نظر: إن كان الصبي معسراً - يجوز، ويعتق ذلك الشقص عليه، ولا يسري، وإن كان موسراً- نظر: إن لم يكن العبد كسوباً - لا يجوز أن يقبل، ولو قبل يكون مردوداً، وإن كان كسوباً، هل يجوز أن يقبل؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه إذا قبل يعتق، ويسري؛ فيلزم الصبي قيمة نصيب الشريك. والثاني: يجوز أن يقبل ثم يعتق عليه ذلك الشقص، ولا يسري؛ لأن الضرر في السراية لا في القبول، والله أعلم.

باب الولاء روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب" من أعتق عبداً أو أمة- ثبت له عليه الولاء، سواء نجز عتقه أو علق عتقه بصفة فوجدت الصفة، أو كاتبه فعتق بأداء النجوم، أو استولد جارية فعتقت بموته، أو اشترى قريبه فعتق قريبه، أو أعتق شقصاً له في عبد، فسرى، أو قال لغيره. أعتق عبدك عني، فأعتق-: عتق على السائل، وله الولاء، والولاء تلو النسب يورث به ولا يورث، كالنسب يورث به ولا يروث، ويثبت بالولاء ثلاثة أحكام: ولاية التزويج، وتحمل العقل، والميراث فولاية التزويج تثبت للمعتق على المعتقة، وكذلك الميراث يثبت للمعتق من المعتق، أما المعتق فلا يثبت له تزويج لمعتقه، ولا يثبت له الميراث من المعتق، أما تحمل العقل فالمعتق يتحمل من المعتق، وهل يتحمل المعتق؟ فيه قولان.

ومن أعتق عبداً سائبة، وشرط أن لا ولاء عليه- يلغو الشرط، ويثبت الولاء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء الله أحق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق" ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب، فإذا أعتق رجل أو امرأة عبداً أو أمة، ومات المعتق، ولا وارث له من جهة النسب-: فميراثه لمعتقه رجلاً كان أو امرأة. وكذلك: يأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض، فإن لم يكن المعتق حياً، فلعصبات المعتق، فكل من كان أقرب إلى المعتق من عصباته-: فهو أولى بميراث المعتق. ولا يرث النساء بولاء الغير؛ فلا ترث ابنة المعتق، ولا أمه ولا أخته، وإنما يرث المعتق بولاء المعتق ذكر يكون عصبة للمعتق، لو مات المعتق يوم موت المعتق بصفته فإن كان للمعتق ابن وبنت- ورث الابن دون البنت، ولو كان له أخ وأخت لأب وأم أو لأب- ورث الأخ دون الأخت. ولو أعتق مسلم عبداً كافراً، ومات عن ابنين: كافر ومسلم، ثم مات المعتق- كان ميراثه للابن الكافر؛ لأن المعتق: لو مات [اليوم] بصفة الكافر- كان ميراثه لابنه الكافر، فلو أسلم المعتق، ثم مات - كان ميراثه للابن المسلم، ولو أسلم الابن الكافر بعد موت الأب، ثم مات المعتق مسلماً- كان ميراثه بينهما. وتوريث عصبات الولاء كتوريث عصبات النسب؛ إلا في مسائل ذكرتها في "كتاب الفرائض". منها: أن في النسب: الجد مع الأخ للأب والأم أو للأب-: يستويان في الميراث، وفي الولاء: إذا كان للمعتق جد وأخ- ففيه قولان:

أحدهما: هما سواء. والثاني: أن الأخ أولى؛ لأنه يدلي بالبنوة؛ فيقول: أنا ابن أب المعتق، والجد يدلي بالأبوة، والابن أولى من الأب. وكذلك: من يدلي بالبنوة- كان أولى، وترث المرأة بالولاء، إذا باشرت العتق، حتى ترث من معتقها وأولاد معتقها ومن ينتمي إلى معتقها بولاء أو نسب. روي أن ابنة لحمزة أعتقت جارية، فماتت الجارية عن بنت، والمعتقة، فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم- نصف ميراثها للبنت، والنصف للمعتقة. ولو اشترت امرأة أباها، فعتق عليها، ثم الأب أعتق عبداً، فمات المعتق بعد موت الأب، وللأب أخ أو عم، فميراث المعتق لأخ الأب، أو لعمه دون البنت؛ لأنها معتقة المعتق، وعصبة المعتق أولى من معتق المعتق، فإن لم يكن للأب عصبة من جهة النسب، فحينئذ: ميراثه للبنت لكونها معتقة المعتق. ولو اشترى أخ وأخت أباهما فعتق عليهما، ثم اشترى الأب عبداً، فأعتقه؛ ثم مات الأب: فميراثه لولده؛ للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فلو مات المعتق بعده، فجميع ميراثه للأخ دون الأخت؛ لأن الأخت معتقة المعتق، والأخ عصبة الأب من جهة النسب، [فهو أولى] من معتق المعتق؛ حتى لو كان الأخ ميتاً قبل موت المعتق، وله ابن وابن ابن، ثم مات المعتق-: كان ميراثه لابن الأخ دون الأخت. ولو أن أختين اشترتا أباهما، فعتق عليهما، فمات الأب، فميراثه بينهما: الثلثان بالنسب؛ والباقي بالولاء، فلو ماتت واحدة منهما بعد موت الأب، فللأخرى ثلاثة أرباع ميراثها. النصف بالأخوة، ومن الباقي نصفه بسبب الولاء؛ لأنها معتقة نصف أبيها، والربع لبيت المال. فلو ماتت إحدى الأختين أولاً وأخذ الأب ميراثها، ثم مات الأب-: فالأخت الأخرى ترث سبعة أثمان ميراث الأب، النصف؛ وهو أربعة من ثمانية، بالبنوة، ومن الباقي النصف؛ وهو سهمان بسبب ولائها عليه؛ لأنها معتقة نصفه، ونصف الربع الباقي؛ وهو سهم؛ لأن الولاء الثابت للأولى يكون لعصباتها، وهذه للأخت عصبة؛ نصفها لإعتاقها نصف أبيها. ولو أن أختين اشترتا أباهما، ثم إحدى الأختين مع الأب اشتريا الجد أبا هذه الأب،

وعتق عليهما، فمات الأب-: فثلثا ميراثه للبنتين بالبنوة، ولأبيه الثلث، والباقي له بعصوبة النسب، فلو مات الجد بعد موت الأب-: فثلثا ميراثه لبنتي الابن بالبنوة، ومن الباقي نصف للتي اشترته مع الأب، لأنها معتقة نصفه، والسدس الباقي بينهما؛ لأنهما معتقا معتق نصفه. ولو أن أختين اشترت إحداهما أباها، فعتقا عليها، واشترت الأخرى أمها، فعتقت عليها، فإذا مات الأب، فثلثا ميراثه للبنتين، والباقي لمن اشترته، وكذلك: الأم إذا ماتت، فثلثا ميراثها للبنتين، والباقي للتي اشترتها، فلو ماتت التي اشترت الأم بعد ذلك-: فنصف ميراثها للأخت بالأخوة، والباقي لها بحق الولاء؛ لأنها معتقة أبيها، وكذلك لو ماتت التي اشترت الأب أولاً-: فنصف ميراثها للأخرى بالأخوة، والباقي بالولاء؛ لأنها معتقة أمها، وهي لم تجر ولاءها بإعتاق الأب. فصل روي عن عمر وعثمان- رضي الله عنهما- أنهما قالا: "الولاء للكبر" والمراد منه الكبر في الدرجة لا في السن، وصورته: ثلاثة إخوة: اثنان لأب وأم، وواحد لأب، فأعتق أحد الذين لأب وأم عبداً، ثم مات، فماله وولاء مواليه كله لأخيه من الأب والأم، فلو مات الأخ الذي [هو] لأب وأم بعد موت المعتق، وخلف ابناً له وأخاً لأبيه-: [فماله لابنه؛ ولكن كان الولاء للأخ للأب؛ حتى لو مات المعتق كان ميراثه للأخ؛ لأنه أقرب إلى المعتق من ابن أخيه: فإنه لو مات اليوم- كان ميراثه للأخ للأب، لا لابن الأخ للأب والأم، ولو ظهر للمعتق مال- كان لابن أخيه، وكذلك: لو أعتق رجل عبداً، ومات عن ابنين كان ولاء المعتق بين الابنين، فلو مات أحدهما عن ابن- فميراثه لابنه، والولاء للأخ، ولو أعتق عبداً ومات عن ابنين- كان ولاء المعتق بين الابنين، والولاء للأخ. ولو أعتق عبداً ومات عن ثلاث بنين، ثم مات البنون، وخلف أحدهم ابنين، والآخر

ثلاثة، والثالث خمسة-: فالولاء يكون لهم، حتى لو مات المعتق يكون ميراثه بينهم أعشاراً؛ لأن المعتق لو مات اليوم كان ميراثه كذلك. ولو ظهر للمعتق مال- يكون بينهم أثلاثاً؛ ثلثه للابنين، وثلثه للثلاثة، وثلثه للخمسة؛ لأنه انتقل إلى آبائهم من الجد بالسوية، ثم حصة كل واحد صار ميراثاً لأولاده. فصل في جر الولاء إذا تزوج حر أصلي حرة أصلية، أو معتقة، فأتت بولد-: فلا ولاء لأحد على الولد، وقيل: إن كانت الأم معتقة: يثبت الولاء على الولد لموالي الأم، وليس بصحيح، لأن ابتداء حرية الأب تبطل ولاء موالي الأم، فاستدامة حريته أولى أن يمنعه. ولو تزوج حر أمة، فأتت منه بولد- فالولد رقيق لمالك الأم، فإذا أعتقه مولاه، فله ولاؤه. أما المعتق إذا نكح حرة أو معتقة، وأتت منه بولد-: ثبت الولاء على الولد لموالي الأب. ولو تزوج المعتق أمة، فالولد رقيق لمالك الأمة، فإذا أعتقه، كان ولاؤه له دون موالي الأب، ولو أعتقها مولاها، ثم أتت بولد بعدما أعتقها- نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم أعتقها-: بان أنه كان موجوداً يوم عتق الأم، وعتق بعتق الأم فولاؤه لمعتق الأم؛ لأنه باشر إعتاقه، ولا ينجر، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم أعتقها-: بان أنه [لم يكن موجوداً يوم عتق الأم]؛ فالود حر، وولاؤه لموالي الأب؛ لأنا لم نتحقق وجوده يوحم عتق الأم. أما العبد إذا نكح حرة، فأتت منه بولد-: فالولد حر، لا ولاء عليه، فإذا أعتق الأب- ثبت عليه الولاء لموالي الأب. وإن نكح العبد معتقة، فأتت بولد-: يثبت الولاء على الولد لموالي الأم، فإذا عتق الأب انجر إلى مولى الأب؛ وكذلك: لو مات الأب رقيقاً، وعتق الجد- ينجر إلى موالي الجد، وإذا عتق الجد أولاً، والأب رقيق هل ينجر الولاء إلى موالي الجد؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن الجد إذا أسلم، والأب الكافر حي، هل يحكم بإسلام النافلة تبعاً للجد؟ فيه وجهان: فإن قلنا: ينجر إلى موالي الجد، وهو قول مالك: فإذا عتق الأب- ينجر من موالي الجد إلى موالي الابن، وإن

قلنا: لا ينجر، وبه قال أبو حنيفة: فيبقى لموالي الأم حتى يموت الأب، فينجر إلى موالي الجد. أما العبد إذا نكح أمة، فأتت بولد-: فالولد رقيق لمالك الأمة، فإذا أعتقه، كان ولاؤه له، فإذا عتق الأب لا ينجر إلى موالي الأب، لأن الولد مسه الرق، فلا ينرج ولاؤه عمن باشر إعتاقه، فلو أعتق مالك الأم الأم، ثم أتت بعده بولد- نظر: إن أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم عتق الأم-: بان أنه عتق بعتق الأم، فولاؤه لموالي الأم، وإذا عتق الأب، لا ينجر إليه، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر- نظر: إن لم يفارقها الزوج، فولاؤه لموالي الأم، فإذا عتق الأب، ينجر الولاء إلى مواليه؛ لأنا لم نتحقق وجوده يوم عتق الأم، وإن كان الزوج قد فارقها قبل العتق- نظر: إن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق-: فالولد منفي عن الزوج؛ وولاؤه لموالي الأم وإذا عتق الأب، هل ينجر إلى موالي الأب؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينجر؛ لأنا جعلناه موجوداً يوم العتق؛ بثبوت النسب من الزوج؛ كذلك في حق الولاء. والثاني: ينجر، ونجعله حادثاً بعد عتق الأم، بخلاف ثبوت النسب من الزوج؛ حيث جعلناه موجوداً، لأن النسب ثبت بالإلحاق، ومهما انجر الولاء إلى موالي الأب، فإذا لم يبق أحد من موالي الأب، وتفانوا- فلا يعود الولاء إلى موالي الأم، بل ميراثه لبيت المال؛ وكذلك: متى ثبت الولاء لموالي الأب- فلا يصير لموالي الجد؛ وعلى هذا: عبد له ابن مملوك، وابن ابن مملوك، فتزوج الأسفل معتقة، وأتت بولد-: فالولد حر، وولاؤه لموالي الأم، وإن أعتق الآباء انجر إلى موالي أبيه، حتى لو مات الولد، ولم يكن أحد من موالي أبيه حياً- فلا ميراث لموالي جده، بل يثبت لمعتق معتق الأب، ثم لعصباته، فإن لم يكن أحد من عصبات معتق أبيه، ولا من عصبات معتق معتق أبيه، لا يكون الميراث لمعتق الجد، بل يكون لبيت المال. وإذا تزوج عبد معتقة وأتت بولد، وثبت الولاء على الولد لموالي الأم، فاشترى الولد أباه، عتق عليه، وهل يجر ولاء نفسه من موالي الأم؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح-: لا يجره؛ لأنه لا يثبت له الولاء على نفسه، بل يكون باقياً

لموالي الأم، ويجر ولاء إخوته. والثاني: يجر ولاء نفسه، لا على معنى أن يكون [له] على نفسه الولاء، ولكن يزول عنه الولاء بعتق الأب؛ فيصير حراً، لا ولاء عليه. فرع على ما ذكرنا: رجل حر الأصل، وأبواه حراً الأصل، وأبوا ابيه مملوكان، ويتصور ذلك في الغرور ووطء الشبهة، وأبو أمه مملوك، وأم أمه معتقة-: فولاء هذا الرجل لمعتق أم أمه، ثم إذا أعتق، أبو أمه- انجر إليه، ثم إذا أعتقت أم أبيه- انجر إليه، ثم إذا عتق أبو الأب- انجر من موالي أم الأب إلى موالي أب الأب، واستقر عليه، وإذا أثبتنا الولاء لموالي الأم، فمات من عليه الولاء، وأخذ ومالي الأم ميراثه، ثم عتق الأب- ليس لمواليه استرداد الميراث من موالي الأم؛ لأن الاعتبار بحالة الموت، وحالة الموت لم يكن لموالي الأب عليه ولاء [فيها] ولو تزوج عبد حرتين: إحداهما أصلية، والأخرى معتقة، فأتت المعتقة بولد، فمات الولد: فثلث ميراثه للأم، والثلثان لموالي الأم، فلو أتت الحرة الأصلية بعده بابن- نظر: إن أتت بهلأقل من ستة أشهر من يوم موته- يسترد الميراث من موالي الأم، ويكون للأخ؛ لأنه مناسب، والتوريث بالنسب يقدم على التوريث بالولاء وإن أتت به لستة أشهر فأكثر- لا يسترد المياث؛ لاحتمال أنه حدث بعد موته. ولو كان تحت المكاتب معتقة، فأتت منه بولد، فالولد حر، والولاء عليه لموالي الأم إلا أن يعتق الأب، فينجر إلى موالي الأب: فلو مات المكاتب ثم الولد، واختلف السيد مع مولى الأم، فقال السيد مات المكاتب بعد أداء النجوم، فميراث الولد لي، وقال مولى الأم: بل مات قبله- فالميراث لي، فالقول قول مولى الأم، مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء رق المكاتب، وبقاء الولاء لموالي الأم. ولو أقام السيد شاهداً وامرأتين، أو شاهداً، وحلف معه- قضي له على الأصح، لأنه شهادة على أداء النجم، ولو أقر السيد في حياة المكاتب- عتق بإقراره، وجر الولاء.

كتاب التدبير

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب التدبير روي عن جابر بن عبد الله، قال: "دبر رجل غلاماً، ليس له مال غيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن النحام. التدبير هو: تعليق عتق المملوك بدبر الحياة، وهو الموت. فإذا قال لعبده: أنت حر أو عتيق بعد موتي، أو: أعتقتك بعد موتي أو: إن مت، أو متى مت- فأنت حر-: فهو صريح فإذا مات، عتق. ولو قال: أنت مدبر أو دبرتك- نص أنه صريح يعتق به بعد الموت، وإن لم ينو، وصن في الكتابة أنه لو قال لعبده: كاتبتك على كذا فلا يعتق، حتى يقول: إن أديت إلي، فأنت حر، أو ينويه، فاختلف أصحابنا فيها، فمنهم من قال: فيهما قولان: أحدهما: [هما] صريحان؛ لأن كل واحد موضوع لهذا النوع الخاص من العتق. والثاني: كنايتان؛ لأنه ليس في واحد منهما صريح لفظ العتق والحرية، وهما موضوعان لهذا الأمر، والصحيح هو الفرق بينهما، وهو أن التدبير صريح؛ لأنه كان معروفاً لهذا النوع قبل الشرع، وتركه الشرع على ما كان كلفظ "التحرير" للعتق المنجز، ولفظ "الكتابة" لفظ مشترك بين هذا العقد وبين المخارجة، وهو أن يكون له عبد كسوب، فخارجه على أن يؤدي كل يوم كذا، ولا يعتق به؛ فيشترط النية فيه؛ كما في كنايات العتق والطلاق.

ويجوز التدبير بلفظ الكتابة؛ إذا اقترنت به النية؛ مثل: أن يقول خليت سبيلك بعد موتي، فينوي التدبير، وكذلك سائر الكنايات، ويجوز التدبير مطلقاً ومقيداً: فالمطلق: أن يعلق عتقه بالموت من غير شرط، والمقيد: أن يشرط معه شرطاً؛ مثل: أن يقول: إن مت في هذا الشهر، أو: من هذه العلة، أو: في هذا البلد-: فأنت حر، فإن مات على تلك الصفة - عتق؛ وإلا فلا يعتق. ولو قال: إن مت فأنت حر، فقتل- عتق، ولو قال: إن قتلت- فأنت حر، فمات- لم يعتق؛ لأن كل قتل موت، وليس كل موت قتلاً. وقوله: "إن قتلت، فأنت حر" من جملة التدبير المقيد، فإن قال: إن مت حتف أنفي، فأنت حر، فقتل-: لم يعتق. ويجوز تعليق التدبير؛ مثل: أن يقول: إذا أو: متى دخلت الدار، فأنت حر بعد موتي، أو أنت مدبر، ولا يحصل التدبير ما لم يدخل الدار. ولا يشترط الدخول في الحال، بل إذا دخل قبل موت المولى- صار مدبراً، ولو مات المولى قبل الدخول- بطل التعليق: فلو دخل بعده، لم يعتق. ولو قال إذا مت، ثم دخلت الدار-: فأنت حر؛ يشترط الدخول بعد الموت، ويكون على التراضي، فمتى دخل بعد موته- عتق، وليس للوارث بيعه بعد الموت قبل الدخول، كما لو أوصى لإنسان بشيء، فلا يجوز للوارث بيعه بعد موت الموصي؛ بخلاف ما لو قال لعبده: إذا مات فلان، ثم دخلت الدار- فأنت حر، فمات فلان-: يجوز للسيد بيعه قبل دخول الدار؛ لأن هناك: حصل البيع من المالك في تعليق العتق قبل وجود الصفة، وههنا-: صار العبد في حكم الموصى له بعد موت الموصي؛ فلا يجوز للوارث بيعه، وبعد موت المولى قبل وجود الصفة يكون العبد على حكم ملك الوارث: يكون له كسبه، وله أن يتصرف فيه بما لا يزيل الملك من الخدمة والإجارة؛ وكذلك: إذا قال: إذا مت، ومضى يوم- فأنت حر، فبعد الموت قبل مضي يوم: يجوز للوارث استخدامه، ولا يجوز بيعه، ولو قال: إذا مت، ودخلت الدار- يشترط الدخول بعد الموت؛ إلا أن يريد الدخول قبل الموت. ولو قال: أنت حر إذا مت، إن دخلت الدار فالاعتبار بنيته، إن أراد الدخول قبل الموت - يشترط قبله، وإن أراد: بعد الموت- فيشترط: "بعده"، وإن أطلق- وجهان: فإن شرطنا الدخول قبل الموت، [فمات المولى قبل الدخول- بطل التعليق، وإن دخل

قبل الموت] صار مدبراً، وإن شرطنا الدخول بعد الموت: فإذا مات المولى- ليس للوارث بيعه قبل الدخول؛ كما ذكرنا. ولو قال: إن شئت، فأنت مدبر، أو قال: أنت حر بعد موتي، إن شئت، فما لم يشأ- لا يصير مدبراً، ويشترط المشيئة في مجلس التواجب حتى لو طال الفصل أو اشتغل بشيء آخر قبل المشيئة- بطل حكمه. ولو قال: متى، أو: مهما شئت، فأنت مدبر، فهو على التراضي، فمتى شاء- صار مدبراً. ولو قال إذا مت، فشئت، فأنت حر-: يشترط المشيئة بعد الموت على الفور. ولو قال: إذا مت، ثم شئت، أو إذا مت فشئت بعد موتي- فأنت حر، يشترط المشيئة بعد الموت، ويكون على الفور أم على التراضي؟ فيه وجهان: أحدهما: على الفور؛ كما في الحياة. والثاني: يكون على التراضي، لأن الميت خرج من أن يخاطب، حتى يكون جوابه على الفور، بخلاف ما لو قال: فشئت- يشترط المشيئة على الفور، لأن الفاء للتعقيب. ولو قال: إذا مت فمتى شئت، فأنت حر- يشترط المشيئة بعد الموت؛ ويكون على التراضي. ولو كان عبد بين شريكين، فقالا؛ متى متنا، فأنت حر- فلا يعتق العبد، ما لم يموتا جميعاً؛ لأن كل [واحد] علق العتق بموتهما جميعاً. وقال أبو إسحاق: ليس هذا بتدبير، بل هو تعليق؛ لأن التدبير ما يتعلق بموت السيد، وهذا يتعلق بموته مع غيره. وقيل: إذا مات السيدان معاً- فليس بتدبير فإذا مات أحدهما- كان نصيب الثاني مدبراً؛ لأنه يتعلق عتق نصيبه بموته؛ وكذلك: إذا قال رجل لعبده: إذا مت أنا وفلان، فأنت حر. قال الإمام- رحمه الله: ولعل فائدته في الرجوع، فإذا مات أحدهما- كان نصيبه

لوارثه، ما لم يمت الآخر، ويجوز للآخر بيع نصيبه، ولم يكن للوارث الميت بيع نصيب الميت، كما لو قال لعبده: إذا مت، ثم دخلت الدار- فأنت حر؛ فلا يجوز للوارث بيعه بعد الموت قبل الدخول، وإذا قال لعبد بينهما: أنت حبيس على آخرنا موتاً، فإذا مات الآخر، فأنت حر-: فهو كما لو قال: إذا متنا، فأنت حر، إلا في شيء واحد، وهو أن هناك: إذا مات أحدهما- كان نصيبه لوارثه إلى أن يموت الآخر، وههنا-: إذا مات أحدهما- كانت منفعة نصيبه موصى بها للآخر بقوله: أنت حبيس على آخرنا موتاً، فإذا مات الآخر عتق. ولو قال أحد الشريكين: إذا مت، فأنت حر: فإذا مات، عتق، ولا يسري. ولو دبر نصف عبده- جاز، فإذا مات، عتق النصف، ولا يسري. وعند أبي يوسف: إذا دبر نصف عبده صار كله مدبراً. ولو قال لعبده: دبرت يدك، أو: إذا مت، فيدك حر- قال القاضي حسين- رحمه الله-: يحتمل وجهين؛ بناءً على ما لو قال لرجل: زنى يدك، هل يكون قذفاً؟ فيه قولان: أحدهما: هو لغو. والثاني: يصير كله مدبراً. فصل عتق المدبر يعتبر من الثلث، فإن دبر عبداً، ولم يخرج من الثلث إلا بعضه- فبعد موته: يعتق ذلك القدر، ولو كان عليه دين يستغرق تركته- لم يعتق منه شيء، وإن كان يستغرق نصف قيمته- بيع نصفه في الدين، وعتق من الباقي ثلثه ولا يستسعى. وعند أبي حنيفة: يستسعى العبد لحق الورثة، والدين، حتى يعتق كله. قلنا: تكميل الحرية في العبد لإزالة الضرر عن العبد، ولا يجوز إزالة الضرر عنه بإلحاق الضرر بغيره، وفي إلزامه مال السعاية إضرار بأرباب الدين وبالورثة من جهة تأخير حقوقهم إلى أن يحصلها العبد بالكسب. فإن مات رجل عن مدبر، وماله غائب، هل يعتق شيء منه؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتق ثلثه في الحال؛ لأن أسوأ الأحوال أن يهلك المال الغائب، فيبقى للوارث ثلثا العبد.

والثاني: وهو الأصح-: لا يعتق شيء منه؛ حتى يصل المال الغائب إلى الوارث؛ لأن في تنجيز عتق الثلث فيه تنفيذ الوصية في الثلث قبل أن يسلم للوارث مثلاه؛ لأن الثلثين من العبد لا يكون مسلماً للورثة، ولا ينفذ تصرفهم فيه، بل يكون موقوفاً على تبين أمر الغائب. فإن قلنا: لا يعتق شيء منه، فأكسابه موقوفة بعد موت المعتق، فإن وصل المال الغائب إلى الوارث- بان أنه عتق بالموت، والأكساب له، وإن قلنا: يعتق ثلثه- فثلث كسبه له, ويوقف الباقي، وإن كان بعض ماله حاضراً، وبعضه غائباً-: فإن كان الحاضر مثلي قيمة العبد- عتق كله، وإن كان أقل- عتق مثل نصفه على القول الأصح؛ مثل: إن كانت قيمة العبد مائة، وله مائتان غائبتان، وقلنا: لا يعتق شيء منه: فإذا حضر منها مائة- عتق نصف العبد؛ لأنه سلم الوارث مائة، ويوقف الباقي، فإن تلفت المائة الغائبة- حكم بعتق ثلثي العبد، وسلم للوارث ثلثه مع المائة. ونظيره: لو كانت التركة ديناً في ذمة إنسا، فأبرأه صاحب الدين في مرضه، أو أبرأ عن ثلثه، هل يبرأ عن الثلث قبل وصول الثلثين إلى الوارث؟ فعلى وجهين: الأصح: لا يبرأ وكذلك لو أوصى لإنسان بعين، ومات، وسائر ماله غائب هل يسلم إلى الموصى له ثلث العين؟ فعلى وجهين: أما إذا أوصى له بثلث ماله وله مال حاضر وغائب، أو بعض تركته دين على إنسان، [والبعض عين- دفع إلى الموصى له ثلث المال الحاضر، وثلث العين] وإلى الوارث الثلثان، وكلما حضر من الغائب، أو قضى من الدين شيء- قسم كذلك؛ لأن ما دفع إلى الوارث يسلم له- ههنا- وينفذ تصرفه فيه، لأن حق الوصية غير متعين فيه. فصل يجوز للسيد بيع المدبر وهبته، سواء كان التدبير مطلقاً أو مقيداً. وقال أبو حنيفة: بيع المدبر غير جائز، إذا كان التدبير مطلقاً؛ لأن عتق تعلق بالموت مطلقاً، فمنع البيع كالاستيلاد. والحديث حجة عليه، وليس كالاستيلاد؛ لأن سبب العتق فيه آكد؛ بدليل أنه لا يمنعه الدين؛ ولا يعتبر من الثلث، بخلاف التدبير، فإنه يعتبر من الثلث، ويمنعه الدين، فأشبه التدبير المقيد.

وإذا باع المدبر وأقبضه، ثم عاد إليه، هل يعود التدبير حتى يعتق بموته؟ هذا يبنى على أن التدبير وصية أم تعليق عتق بصفة؟ قال في القديم: هو وصية وفي الجديد قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني- وصية؛ لأنه تبرع يتعلق بالموت، ويعتبر من الثلث كالوصية. والثاني: تعليق عتق بصفة؛ لأنه عتق تعلق بالموت مطلقاً، كما لو علق بموت الغير. فإن قلنا: وصية؛ فإذا عاد إلى ملكه- لا يعود التدبير، كما لو أوصى لإنسان بعين، فباعها-: بطلت الوصية، وإذا اشتراها بعده لا يعود. وإن قلنا: تعليق عتق بصفة- فعلى قولي عود اليمين، وعلى هذا: إذا رجع عن التدبير بالقول، فقال: رجعت فيه، أو نقضته، أو أبطلته، أو فسخته- هل يبطل إن قلنا: وصيته، يبطل، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة- فلا يبطل كما لو علق: بموت الغير- لا يجوز أن يرجع عنه، ولا فرق فيه بين التدبير المطلق أو المقيد، [على ظاهر المذهب. وقيل: القولان في التدبير المطلق، أما المقيد] فلا يصح الرجوع عنه قولاً واحداً، لأنه لم يتعلق بمطلق الموت، فكان بالتعليق أشبه، والأول أصح. ولو وهب المدبر، ولم يقبض، أو لم يقبل الموهوب له، أو عرض على البيع، أو ساوم، وجوزنا الرجوع-: كانت هذه الأشياء رجوعاً. لأنه يستدل بها على الرجوع؛ وإلا فلا. ولو قال: إن أديت بعد موتي ألفاً، فأنت حر، فإن صححنا الرجوع- كان بهذا رجوعاً، ولا يعتق بالموت ما لم يؤد الألف، وإن لم يصحح، فلا يكون رجوعاً، وإذا مات، عتق. ولو علق عتق المدبر بصفة أخرى- صح، والتدبير بحالة كما لو دبر المعلق عتقه بالصفة - جاز، ثم إذا وجدت الصفة قبل الموت- عتق، وإن مات قبل وجود الصفة- عتق عن التدبير، كما لو علق عتق عبده بصفة، ثم علق بصفة أخرى- يعتق بالأسبق وجوداً. ولو باع بشرط الخيار- يكون رجوعاً على القولين، وقيل: إذا وهبه هبة بتات، ولم يقبض، فكذلك، ولو استخدمه، أو كانت جارية فزوجها- لا يكون رجوعاً. ولو قال: رجعت في نصفك، أو ربعك. إن قلنا: لا يصح الرجوع- فالتدبير بحاله.

وإن قلنا: يصح- كان رجوعاً في ذلك القدر. فصل في جناية المدبر جناية المدبر كجناية العبد القن: فإن جنى على حر أو على عبد جناية موجبة للقصاص - يقتص منه، وإن كانت موجبة للمال أو عفى على مال- تباع رقبته في الجناية؛ إلا أن يختار السيد الفداء، فإن بيع في الجناية، ثم عاد إليه- هل يعود التدبير؟ فعلى ما ذكرنا من القولين. وإن احتيج إلى بيع بعضه، بيع بقدره، والباقي مدبر، وإذا اختار السيد الفداء، بقي العبد مدبراً، ويفديه بما يفدى به العبد القن. وعند أبي حنيفة: يجبر السيد على الفداء؛ كما في جناية أم الولد. ولو مات السيد قبل بيع المدبر- فقد اجتمع العتق، والجناية؛ فيكون بمنزلة إعتاق الجاني، هل ينفذ؟ فيه قولان: إن قلنا: يعتق- أخذ الأرش من تركة المولى، لأن سبب العتق- وجد منه في خال الحياة؛ فيؤخذ الأقل من أرش جنايته أو قيمته، وإن قلنا: لا يعتق فالوارث بالخيار: إن شاء سلمه للبيع في الجناية، وإن شاء فدى، وأعتق المدبر من الثلث. وإن جنى على المدبر. فهو كالجناية على القن: فإن جنى على طرفه، فهو مدبر كما كان وللسيد أن يقتص إن كانت الجناية موجبة للقصاص، ولا يحتاج إلى إذن المدبر، وإن كانت موجبة للمال- فالأرش للسيد ولو قتل المدبر- فالقيمة للسيد، ولا يجب أن يشتري بها عبداً آخر؛ فيدبره. ولو صالح عن قيمته على عبد آخر- جاز، ولا يجب أن يدبره، بخلاف ما لو وقف متاعاً، فأتلف- يشتري بقيمته مثله، فيوقف؛ لأن المقصود من الوقف: إيصال النفع إلى أقوام، وهم موجودون ومن التدبير إيصال النفع إلى العبد، وقد فات. وإذا ارتد المدبر فكالقن يصير دمه هدراً؛ ولكن لا يبطل التدبير حتى لو مات المولى قبل المدبر- يعتق، وإن التحق بدار الحرب فسبي- فهو على تدبيره؛ وكذلك: المكاتب وأم الولد لا يبطل بردتهما حق العتاق الذي ثبت لهما، ولو ارتد السيب ما حكم مدبره؟ نص في التدبير على أنه إذا مات مرتداً- كان ماله فيئاً، والمدبر حراً، اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: هذا يبنى على أن ملك المرتد هل يزول بالردة؟ وفيه أقوال: أحدها: وبه أجاب- ههنا-: لا يزول؛ فعلى هذا: التدبير بحاله، وإن مات أو قتل- عتق.

والثاني: ملكه زائل، فعلى هذا: بطل التدبير فإن مات أو قتل في الردة [لم يعتق] وإن عاد إلى الإسلام، هل يعود التدبير فعلى قولي عود اليمين. وإن قلنا: ملكه موقوف، فالتدبير موقوف: فإن عاد إلى الإسلام- فالتدبير بحاله، وإن مات أو قتل في الردة- بان أن ملكه كان زائلاً، ولم يعتق. وقال أبو إسحاق المروزي: سواء قلنا: ملكه باق أو زائل- لا يبطل التدبير، حتى لو مات أو قتل في الردة- يعتق؛ لأن الردة تؤثر في العقود المستقبلة لا في الماضية، كما لو رهن شيئاً بدين، ثم ارتد- لا يبطل الرهن. أما المرتد: إذا دبر عبداً، إن قلنا: ملكه باق صح تدبيره، وإن لم يحجر عليه، وإن قلنا: زائل- لم يصح تدبيره، وإن قلنا: موقوف- فالتدبير موقوف فإن عاد إلى الإسلام- بان أنه كان صحيحاً، وإن مات أو قتل في الردة- بان أنه كان باطلاً. فصل إذا علق عبده بصفة في حال الصحة، فوجدت الصفة في المرض- هل يعتبر عتقه من الثلث- نظر: إن علق بصفة لا توجد إلا في المرض؛ بأن قال: إن دخلت الدار في مرض موتي، أو: إن مرضت مرض الموت- فأنت حر-: يعتبر من الثلث، أما إذا علق بصفة يجوز أن توجد في الصحة، ويجوز أن توجد في المرض- ففيه قولان: أصحهما: يعتق من رأس المال؛ اعتباراً بحالة التعليق، لأنه لم يكن متهماً بالقصد إلى الورثة. والثاني: وبه قال أبو حنيفة- يكون من الثلث؛ اعتباراً بحالة وجود الصفة؛ لأن العتق حصل في المرض. ولو علق عتق عبد بصفة، ثم جن أو حجر عليه بالسفه، ثم وجدت الصفة-: يعتق قولاً-: واحداً. ولو علق في حال الإطلاق، ثم حجر عليه بالسفه، ثم وجدت الصفة-: يعتق قولاً واحداً، ولو علق في حال الإطلاق، ثم حجر عليه بالفلس ثم وجدت الصفة: إن قلنا: الاعتبار بحالة التعليق- عتق. وإن قلنا: الاعتبار بحالة وجود الصفة- فكإعتاق المفلس.

وإنما بنينا على هذا الأصل؛ كما في المرض- لأن الحجر عليه في الموضوعين- لحق الغير في الإفلاس لحق الغرماء، وفي المرض لحق الورثة؛ بخلاف حجر السفيه والمجنون. ولو ادعى العبد على سيده: أنك دبرتني، أو ادعى تعليق العتق بالصفة، أو الأمة ادعت [الاستيلاد]-: فالمذهب أنه يسمع، والقول قول السيد مع يمينه، ولا يجعل إنكار السيد التدبير رجوعاً، على قول جواز الرجوع، حتى يحلف على إنكاره: فإن أراد العبد إقامة البينة - لا تقبل إلآ من رجلين عدلين، وكذلك: بعد الموت إذا ادعى على الوارث: أن أباك دبرني, وقد عتقت بالومت-: يحلف الوارث أنه لا يعلم أن مورثه دبره، وإذا أقام العبد بينة- فلا تقبل إلا من عدلين، فإن قال الوارث: بلى دبرك، ولكنه رجع عن تدبيرك، وقلنا: يجوز الرجوع عن التدبير-: فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرجوع، فلو أقام الوارث رجلاً وامرأتين أو شاهداً وحلف معه على الرجوع-: يسمع؛ لأن مقصوده إثبات المال، والله أعلم. باب وطء المدبرة يجوز للسيد وطء المدبرة والمعلق عتقها بالصفة؛ كما يجوز وطء أم الولد؛ بخلاف المكاتبة حيث لا يجوز له وطؤها؛ لأن المكاتبة صارت أحق بنفسها من سيدها بدليل أنها إذا وطئت أو جني عليها- يكون المهر وأرش الجناية لها، وفي المدبرة والمعلق عتقها بالصفة [وأم الولد] يكون المهر وأرش الجناية للسيد-: فهو كما لو أوصى برقبة أمة لإنسان- جاز للموصي وطؤها، فلو وطئ المدبرة- لا يكون رجوعاً عن التدبير، سواء عزل أو لم يعزل؛ لأن في ترك العزل خوف الإحبال، وفي الإحبال تحقيق ما يراد من التدبير، وهو العتق بعد الموت؛ بخلاف ما لو أوصى لإنسان بجارية، ثم وطئها، ولم يعزل- كان رجوعاً؛ لأنه ترك العزل قصد إبقائها لنفسه، فبطلت الوصية، وإذا استولد مدبرته- بطل التدبير؛ لأن الاستيلاد أقوى؛ كما أن ملك النكاح يرتفع بملك اليمين، ولا يصح تدبير أم الولد؛ لأنها استحقت العتاق بالموت بجهة أقوى. ولو دبر مكاتبه صح لأن كل واحد تعليق عتق بصفة أخرى، فإذا أدى مال الكتابة- عتق، وبطل التدبير، وإن مات السيد قبل أداء النجوم: فإن خرج من الثلث- عتق، وارتفعت الكتابة، وإن لم يخرج من الثلث كله، عتق منه بقدر ما يحتمله الثلث عن التدبير، وبقي الباقي مكاتباً يعتق بالأداء. ولو دبر، ثم كاتب- صح أيضاً، ثم إن قلنا: التدبير وصية- كان رجوعاً عنه كما لو

أوصى لإنسان بعبد، ثم كاتبه-: كان رجوعاً. وإن قلنا: التدبير تعليق عتق بصفة- لا يكون رجوعاً، وهو كالقسم الأول، إن أدى المال - عتق، وإن مات المولى قبل الأداء- عتق بقدر ما يحتمله من الثلث؛ والباقي بالأداء. فصل إذا أتت المدبرة بولد من زوج أو زنا، هل يثبت حكم التدبير للولد؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال ابو حنيفة: يثبت؛ كالاستيلاد، ويثبت حكمه للولد، وكما لو نذر هدياً أو أضحية معينة- يثبت ذلك الحكم في الولد. والثاني: [و] هو الأصح، وهو اختيار المزني: لا يثبت؛ لأنه عقد يقبل الفسخ فلا يسري إلى الولد؛ كالرهن، وكما لو أوصى لإنسان بجارية، فأتت بولد لا تسري الوصية إلى الولد، ولا يبنى القولان على القولين في أن التدبير وصية أم تعليق عتق، بل في ثبوت الحكم في الولد قولان على القولين جميعاً؛ لأن الشافعي فرع على قولنا: إنه وصية حتى جوز الرجوع فيه، ثم جعل في الولد قولين. أما إذا كانت حاملاً يوم التدبير، يبنى على أن الحمل هل يعرف؟ وفيه قولان: أصحهما: يعرف؛ فعلى هذا: يثبت حكم التدبير في الولد؛ كما لو باعها- دخل الحمل في البيع. وإن قلنا: لا يعرف- فكالولد الحادث بعد التدبير، على قولين: قال الشيخ الإمام- رحمه الله: المذهب: أنه يثبت حكم التدبير في الولد، إذا كان موجوداً في البطن يوم التدبير، سواء قلنا: الحمل يعرف أو لا يعرف؛ كما يدخل في البيع قولاً واحداً، وإنما يعرف كون الولد موجوداً [في البطن] يوم التدبير، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم التدبيرن فإن أتت به لأكثر من أربع سنين- فهو حادث من بعد، وإن أتت به لأقل من أربع سنين، ولأكثر من ستة أشهر من يوم التدبير- نظر: إن كان لها زوج يطؤها - فهو كالحادث من بعد؛ وكذلك: إن لم يكن لها زوج أصلاً، وإن كان لها زوج فارقها قبل التدبير، فأتت به لأقل من أربع سنين من يوم فارقها-: فالولد ملحق به، وهل يجعل كالموجود في حق التدبير؟ فيه قولان: أصحهما: بلى، كما جعلناه موجوداً في ثبوت النسب من الزوج.

والثاني: لا، بل هو كالحادث من بعد؛ لأن التدبير لا يثبت بمجرد الإمكان، والنسب يثبت، فحيث قلنا: يثبت حكم التدبير في الولد فإذا ماتت الأم في حياة المولى لا يبطل التدبير في الولد؛ كأم الولد، إذا ماتت - لا يبطل حكم العتاق في ولدها، وإذا رجع المولى عن تدبير أحدهما، وجوزنا الرجوع، نظر: إن كان الولد خارجاً وقت الرجوع كان رجوعه رجوعاً في حق من رجع عن تدبيره دون الآخر، فإن كان الولد في البطن حالة الرجوع- نظر: إن رجع في تدبير الولد- كان رجوعاً فيه، دون تدبير الأم، وإن رجع في تدبير الأم- نظر: إن قال: رجعت في تدبيرها دون الولد- كان رجوعا في تدبير الأم دون الولد، وإن لم يقل: دون الولد ففيه وجهان: أحدهما: يكون رجوعاً فيهما؛ فالولد يتبع الأم في الرجوع؛ كما يتبعها في التدبير. والثاني: وهو الأصح، لا يكون رجوعاً في الولد، وعليه يدل النص، بخلاف التدبير؛ لأن فيه معنى الحرية، وللحرية من الغلبة ما ليس لغيرها، فلو رجع في تدبير الأم دون الولد، ثم اتت بولد- نظر: إن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الرجوع -فهو مدبر؛ لأنه كان موجوداً يوم الرجوع، فثبت له حكم التدبير، ولم يثبت حكم الرجوع، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم الرجوع- نظر: إن كان لها زوج يطؤها، أو لم يكن [لها زوج أصلاً] فهو قن كالأم، وإن كان الزوج قد فارقها وأتت به [لمدة] يلحق الزوج، هل يجعل موجوداً يوم الرجوع، فعلى القولين. ولو دبر الحمل في البطن- جاز، كالعتق، ولا يسري إلى الأم، فإذا مات- عتق الحمل دون الأم. ولو باع الأم صح وتبعها الولد فكان رجوعاً عن التدبير. فصل إذا علق عتق أمة بصفة، فأتت بولد، هل يثبت حكم التعليق للولد؟ فيه قولان، سواء علق بصفة توجد لا محالة؛ مثل: مجيء الأوقات، أو بما يحتمل أن يوجد، ويحتمل ألا يوجد مثل دخول الدار ونحو ذلك، ولا نعني بقولنا: ثبت حكم التعليق للولد: أن التعليق ينعقد للولد، حتى يعتق بوجود الصفة فيه، بل نعني به: أن الأم إذا وجدت فيها الصفة يعتق الولد بعتقها.

وفائدته: تظهر فيما إذا كان الولد خارجاً يوم وجود الصفة، فإن كان في البطن- يعتق تبعاً للأم قولاً واحداً؛ كما إذا أعتق جارية حاملاً- يعتق الحمل تبعاً للأم؛ وكذلك: لو مات المولى، والمدبرة حامل - يعتق الحمل تبعاً للأم، وإذا قلنا: يتبعها الولد، فإذا بطلت الصفة في الأم؛ بموتها أو بموت المولى-: بطل في الولد؛ لأن الولد يتبعها في العتق، لا في الصفة؛ بخلاف التدبير؛ فإن الولد يتبعها في التدبير، فإذا بطل فيها، بقي فيه. ولو قال لأمته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين، فإذا مات لا تعتق حتى تمضي عشر سنين. وقيل: مضيها يكون كسبها ومنفعتها للوارث، ولا يتصرف الوارث في رقبتها تصرفاً يزيل الملك، فإن أتت بولد قبل موت المولى، هل يثبت حكم التدبير للولد؟ فعلى القولين. وإن أتت به بعد موته قبل مضي عشر سنين- نص أن الولد يتبعها، اختلفوا فيه: منهم من قال: فيه قولان؛ كما لو أتت به قبل موته. ومنهم من قال: يتبع قولاً واحداً؛ لأن سبب الحرية تؤكد ههنا بالموت؛ بدليل أن أحداً لا يقدر على إبطاله؛ فكان كالاستيلاد [بالبيع]. وقبل الموت: لم يتأكد؛ بدليل أن المولى يقدر على إبطاله بالبيع. وقيل: على هذا القياس: إن الولد يعتق من رأس المال؛ كولد أم الولد. فصل إذا قلنا: يثبت حكم التدبير للولد، فاختلفا: قالت المدبرة: ولدت بعد التدبير، وقال المولى بل قبله وهو قن فالقول قول المولى مع يمينه لأنه ملكه، وهي تدعي التدبير، وتسمع دعوة المدبرة عن ولدها حسبة، حتى لو كانت الأم قنة، فادعت على المولى أنك دبرت ولدي- تسمع، وكذلك بعد موت المولى، إذا اختلفت مع الوارث؛ فقالت: أتيت به بعد التدبير، وعتق بالموت، وقال الوارث: بل أتت به قبل التدبير- فالقول قول الوارث مع يمينه؛ وكذلك: أم الولد إذا أتت بولد واختلفت فيه مع السيد، أو مع الوارث، وكذلك: لو قالت المدبرة أتيت به بعد موت المولى- فهو حر، سواء قلنا: يسري التدبير، أو: لا يسري، وقال الوارث: لا، بل قبل موته، وقبل التدبير-: فالقول قول الوارث مع يمينه، وهذا بخلاف ما لو كان في يد المدبر مال بعد موت السيد، فقال: استفدته بعد موت المولى، وقال الوارث: بل قبله، فهو

ميراث- لي: فالقول قول المدبر مع يمينه؛ لأن مال في يده في زمان يتصور له الملك و [فيه]، والوارث يدعيه-: فالقول قول صاحب اليد؛ بخلاف الولد؛ فإنه ليس تحت يدها؛ إذ الحر لا تحتوي عليه اليد، فلو اختلفا في المال، وأقام كل واحد بينة، فبينة المدبر أولى؛ لأن اليد له، ولو أقام الوارث بينة: أن هذا المال كان في يد المدبر حال حياة المولى. فقال المدبر: صدق؛ كان لفلان في يدي فملكته بعد موت المولى. قال الشافعي: صدق العبد؛ لأن البينة تشهد بيد متقدمة، ويد العبد ثابت في الحال. باب في تدبير النصراني إذا دبر الكافر عبده الكافر، أو علق عتقه بصفة-: صح، فإذا مات أو وجدت الصفة عتق؛ كما لو استولد أمة، تعتق بموته سواء كان الكافر كتابياً أو مجوسياً [أو وثنياً] أو ذمياً أو حربياً، ولا يمنع من أن يحمل مدبرة الكافر وأم ولده الكافرة إلى دار الحرب؛ سواء وجد التدبير والاستيلاد في دار الحرب، ثم دخل إلينا بأمان، أو وجد في دار الإسلام، بخلاف ما لو كاتب عبده الكافر، فلم يخرج معه إلى دار الحرب- لم يكن له أن يقهره؛ لأن المكاتب صار أحق بمكاسبه، فأحيل ملك المولى عليه، ولو كان للكافر عبد مسلم، فدبره-: ينقض تدبيره، ويباع عليه، وإذا دبر عبده الكافر، ثم أسلم العبد بعد التدبير- نظر: إن رجع المولى عن تدبيره، وجوزنا الرجوع-: يباع عليه، وإن لم يرجع، هل يباع عليه؟ فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني-: يباع عليه، وينقض تدبيره؛ لأنه لا يؤمن من أن يستذله المولى، وقد صار عدواً له بالإسلام. والثاني: لا يباع؛ طمعاً في حصول الحرية، وينزع من يده؛ فتكون عند مسلم عدل، ويصرف كسبه إلى مولاه، فإن خرج المولى إلى دار الحرب- لم يكن له أن يحمله مع نفسه، بل يستكسب، فينفق عليه من كسبه، ويصرف الفضل إلى سيده، فإن مات السيد عتق إن خرج من الثلث، وإن لم يخرج كله من الثلث- عتق بقدر ما خرج، ويباع الباقي على الوارث، والله أعلم.

كتاب المكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المكاتب قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} الآية [النور: 33] الكتابة جائزة، وهي تعليق العتق بصفة بطريق معاوضة معدولة. وصورتها: أن يقول لمملوكه: كاتبتك على كذا، ويسمي مالاً معلوماً يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم، وما يؤدى في كل نجم، ويقول: إذا أديت ذلك المال، فأنت حر، أو ينوي ذلك بقلبه، وما لم يقله أو ينوه- لا يعتق، ويقول العبد: قبلت، وتجوز كتابة المملوك، عبداً كان أو أمة، ويشترط أن يكون عاقلاً بالغاً، فإن كان صبياً أو مجنوناً- لا تصح كتابته؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]؛ ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون. وعند أبي حنيفة: يجوز كتابة الصبي، ويقبل عنه المولى. ويشترط أن يكون المولى مكلفاً مطلقاً فإن كان صبياً أو مجنوناً أو محجوراً عليه بالسفه-: لا تصح كتابته؛ كما لا يصح بيعه، وتصح كتابة المرأة. وعند أبي حنيفة: يصح كتابة الصبي بإذن الولي. ثم العبد إذا جمع الأمانة والقوة على الكسب، وطلب الكتابة؛ يستحب للمولى أن يكاتبه، ولا يجب. وعند داود نجب ويعتق.

وفسر الشافعي رضي الله عنه: "الخير" المذكور في قوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]. بهذين الشيئنين؛ لأن مقصود الكتابة قل ما يحصل إلا بهما، ينبغي أن يكون كسوباً [يحصل المال] ويكون أميناً يصرفه في نجومه، ولا يضيعه. وإذا فقد الشرطان أو أحدهما- لا يستحب أن يكاتبه ولو كاتب لم يكره؛ لأنه سبب العتق. وقيل: إذا كان أميناً لا كسب له يستحب؛ لأن الأمين يعان عليه، وإذا رغب المولى في كتابة العبد، وأبى العبد- لا يجبر عليه، ولا يجوز كتابة العبد المرهون؛ لأن الرهن يقتضي البيع، والكتابة تمنع البيع. ولا يجوز أن يكاتب عبداً أجيراً؛ لأنه في تصرف الغير، فلا يتمكن من التصرف. ولا يجوز عقد الكتابة حالاً. وعند أبي حنيفة: يجوز. وإنما لم نجوز؛ لأن العبد لا يتصور له ملك يؤدى في الحال. وإذا عقد حالاً [لا] تتوجه عليه في الحال، لعجزه حقيقة عن أدائه، فلا يحصل مقصود العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل-: لا يصح، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر- جاز؛ لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق عن أدائه. ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر: روي عن عثمان، أنه غضب على عبده، فقال: لأضيقن عليك الأمر، ولأكاتبنك على نجمين، ولو جاز على أقل من ذلك، لكاتبه على الأقل؛ لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم؛ لأنه عقد إرفاق، ومن تتمة الإرفاق والتنجيم ليتيسر عليه الأداء، كما أن تحمل العاقلة للإرفاق. وشرط فيه التأجيل والتنجيم؛ ليتيسر عليهم الأداء، فإن كاتبه على نجوم معلومة، وفاوت في هذه النجوم، وفيما يؤدى في كل نجم- جاز. ولو كاتب على مال قليل إلى نجمين قصيرين- جاز. وإن كاتب على مال كثير إلى نجمين قصيرين، أو إلى نجمين أحدهما طويل، والآخر قصير، وشرط في النجم الأقصر أداء الأكثر- هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الغالب عجزه عن الأداء.

والثاني: يجوز؛ لأنه يتصور أن يستفيد ذلك في تلك المدة، كما لو أسلم إلى معسر في مال كثير- جاز، ولو ملك شقصاً من عبد- وباقيه حر، فكاتب ذلك الشقص حالاً، أو على نجم واحد، هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: [لا يجوز، كما لو كان] الكل مملوكاً. والثاني: يجوز؛ لأنه يتصور أن يكون له ملك بنصفه الحر فالعجز لا يكون حقيقة عن الأداء. ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها إلى أجل واحد؛ وكذلك: لو قال: إلى عشر سنين] يؤدي في كل سنة عشرة-: لم يصح، لأنه لم يبين أنه يؤديها في أول السنة، أو في آخرها، فإن قال: "يؤدي عند انقضاء كل سنة عشرة جاز. ولو كاتبه على عين [يؤديها في نجمين] لم يجز لأن العين لا تقبل الأجل. ولو كاتبه على مال موصوف في الذمة؛ مثل إن قال: كاتبتك على عبد حنفته كذا، وعلى ألف درهم على أن يؤدي العبد بعد سنة والألف بعد سنة أخرى-: جاز، ويجب أن يصف العبد بصفات المسلم. ولو كاتبه على عين وصفها على أن يؤدي نصفها في السنة الأولى، والنصف في السنة الثانية- لم يصح؛ لأنه إذا سلم النصف في السنة الأولى يتعين النصف الآخر للسنة الثانية. ولا تصح الكتابة على العين، وتجوز الكتابة على المنافع؛ لأنها مما يثبت في الذمة، فلو قال: كاتبتك على خدمة شهر، ودينار تؤديه بعد الشهر بيوم واحد، أو شهر-: جاز؛ لوجود التنجيم والتأجيل، ويجب أن يبين جهة العمل في الخدمة، ويبين الدينار بالوصف إذا كان في البلد نقود، فإن لم يصف، وفي البدل نقد غالب-: انصرف إليه ولو قال: على خدمة شهر، ودينار بعد الشهر، أو مع انقضائه-: قال الشافعي- رحمه الله- يصح. قال الشيخ أبو إسحاق المروزي: لا يصح؛ لأنه كاتبه على نجم واحد؛ لأن بعد الفرغ من الخدمة يجب الدينار في الحال، وحمل النص على ما لو قال: "ودينار بعده بيوم أو شهر"، والمذهب: جوازه؛ لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي يستحق فيه المنفعة؛ لأنا نجعل المنفعة كالمسلمة في الحال، والدينار إلى أجل. فإن قيل: حينئذ: يكون كتابة على نجم حال، ونجم مؤجل.

قلنا: إنما جوزنا ذلك؛ لأنه يقدر على الاشتغال بالخدمة في الحال، ويكتفي في تسليم الخدمة والمنفعة: بأن يشتغل بها، بخلاف ما لو كاتبه على دينارين، أحدهما يؤديه في الحال، والآخر بعد شهر-: لم يجز؛ لأنه لا يقدر على تسليم الدينار في الحال، وكذلك لو قال: كاتبك على خدمة شهر ودينار يؤدى في أثناء الشهر بعد يوم أو يومين [وشيء]، أو قال على دينار يؤدي بعد يومين وخدمة شهر، سواء قدم ذكر الدينار أو أخر-: جاز على ظاهر المذهب، وعند أبي إسحاق: لا يجوز. ولو قال: علي دينار يؤدى بعد شهر وخدمة شهر بعده-: لم يجز، لأنه جعل عليه خدمة زمان في المستقبل، وإجازة الزمان المستقبل- لا تصح. ولو قال: على خدمة شهر موصول بالعقد، وأن تحصل لي أجراً أو لبناً وصفه أو قال على خدمة شهر موصول بالعقد، وعلى خياطة ثوب موصوف في الذمة-: جاز على الأصح؛ كما لو شرط عليه تحصيل دينار. ولو كاتبه على خدمة شهرين-: لم يجز؛ لأنه أجل واحد، فإن جعلها أجلين؛ بأن قال: على خدمة شهر، ثم شهر بعده: لم يجز؛ لأن الشهر الثاني منفعته متعينه، شرط تأخير تسليمها؛ فلم يصح. ولو كاتبه على خدمة شهر ودينار بعده، فمرض وعجز عن الخدمة بطلت الكتابة في قدر الخدمة، وهل [يؤدي في أثناء الشهر بعد يوم أو يومين وبين أو قال: على دينار تؤدي بعد يومين، وخدمة شهر؛ سواء قدم ذكر الدينار أو أخر-: جاز على ظاهر المذهب، وعند أبي إسحاق: لا يجوز، ولو قال: على دينار يؤدي بعد شهر، وخدمة شهر بعده-: لم يجز؛ لأنه جعل عليه خدمة زمان في المستقبل وأجازه الزمان المستقبل] بعده، فمرض وعجز على الخدمة بطلب الكتابة في قدر الخدمة، وهل تبطل في الباقي؟ فيه طريقان، كما لو ابتاع عبدين، فهلك أحدهما قبل القبض-: ينفسخ العقد فيه، وفي الثاني طريقان. ولو قال: كاتبك على أن تخدمني شهراً، فقبل، فخدم شهراً-: عتق، ورجع السيد عليه بقيمته، وهو على السيد بأجر مثل خدمته، وإن خدم أقل من شهر- لا يعتق؛ بخلاف ما لو قال: أعتقتك على أن تخدمني شهراً، فقبل-: عتق في الحال، وعليه الخدمة، ثم لا شيء أحدهما على الآخر. ولو قال: كاتبتك على أن تخدمني أبداً. لم يعتق أبداً فإن قال: أعتقتك على أن تخدمني

أبداً أو مطلقاً فقبل- عتق في الحال، خدم أو لم يخدم، ورجع السيد عليه بقيمته؛ لأنه لم يرض بعتقه مجاناً، وهو لا يرجع على السيد بشيء. ولو قال لعبده: كاتبتك على أن أبيعك ثوبي أو على أن تبيعني داراً، إن اشتريته-: لم يصح العقد، للشرط الفاسد. ولو قال: كاتبتك وبعتك هذا الثوب بألف إلى سنتين يؤدي خمسمائة عند انقضاء الأولى، وخمسمائة عند انقضاء الثانية، فإن أديت فأنت حر، فقبل العبد-: اختلفوا فيه، منهم من قال: فيه قولان؛ لأنه جمع بين مختلفي الحكم، وهو البيع والكتابة، أحدهما: هما صحيحان، والثاني: باطلان. ومنهم من قال- وهو الأصح-: البيع باطل قولاً واحداً؛ لأنه وجد أحد مصراعيه قبل أن يصير العبد من أهل أن تصح معاملته مع المولى بقبول الكتابة، وهل تصح الكتابة؟ فيه قولان: بناءً على ما لو قال: باع عبده وعبد غيره-: لا يصح في عبد غيره، وهل يصح في عبده؟ فيه قولان: فإن قلنا: يصح- يوزع المسمى على قيمة الثوب والعبد بقدر ما يقابل العبد يلزمه في النجمين؛ فإذا أدى عتق. فصل إذا كاتب ثلاثة أعبد كتابة واحدة، فقال: كاتبتكم على مائة درهم إلى نجمين بينهما على أنكم إذا أديتم- عتقتم فقبلوا-: نص على أن الكتابة صحيحة، ونص فيما لو نكح أربع نسوة بعقد واحد على صداق واحد؛ أن النكاح صحيح، وفي صحة التسمية قولان؛ من أصحابنا من جعل في هذه المسألة أيضاً قولين، ومنهم من قال: ههنا تصح الكتابة قولاً واحداً، ذكرناه في النكاح، فإن قلنا: تصح الكتابة يوزع المسمى على قدر قيمتهم؛ مثل إن كانت قيمة أحدهما مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلثمائة، فعلى الذي قيمته ثلثمائة نصف المائة يؤديه في النجمين، وعلى الذي قيمته مائتان ثلث المائة المسماة في النجمين، وعلى الثالث سدس المائة في نجمين، والاعتبار في قيمتهم بيوم الكتابة؛ لأن سلطان المولى يزول عنهم يومئذ، ثم كل من أدى حصته من المال- عتق؛ لأنه برئ مما عليه، ومن عجز- رق، ولا يتوقف عتق البعض على أداء شريكه، حتى لو مات بعضهم قبل الأداء أو عجز- فهو رقيق، والذي أدى

حر، ولا يكون بعضهم ضامناً عن بعض. وعند أبي حنيفة ومالك: يكون كل واحد ضامناً عن صاحبه، ولا يعتق واحد منهم بأداء نصيبه ما لم يوجد الأداء من الكل. وعندنا: بخلافه، حتى لو ضمن بعضهم عن بعض حصته صريحاً- لم يصح؛ لأن نجوم الكتابة لا يصح ضمانها. ولو شطر السيد عليهم في العقد أن يضمن بعضهم عن بعض-: يفسد العقد، وإن قلنا: الكتابة فاسدة- تثبت الصفة، فأيهم أدى نصيبه-: عتق، وعليه قيمة رقبته للسيد، باعتبار يوم العقت، ويرجع هو بما أدى على السيد؛ هذا هو المنصوص عليه. وقيل: القياس لا يعتق واحد منهم إلا بأداء جميعهم؛ لأن الكتابة الفاسدة تعليق عتق بصفة ولا يحصل العتق في التعليق إلا بوجود كمال الصفة؛ بخلاف الكتابة الصحيحة، فإذا قلنا: "تصح الكتابة"، فأدوا المال المشروط، ثم اختلفوا، فقال: من قلت قيمته أدينا على عدد الرءوس، وأنا أديت الثلث، وهو أكثر مما وجب علي، فالزيادة لي وديعة عند السيد، أو قرض على من كثرت قيمته. وقال من كثرت قيمته: بل أدينا على [القيم، نص] ههنا على أن القول قول من قلت قيمته مع يمينه، وقال في موضع آخر: القول قول من كثرت قيمته [مع يمينه] فمن أصحابنا من جعل على قولين: أحدهما: القول قول من قلت قيمته؛ لأن الظاهر أن ما في أيديهم بينهم سواء. والثاني: القول قول من كثرت قيمته مع يمينه؛ لأن من قلت قيمته يدعي أنه أدى أكثر مما عليه؛ فلا يقبل منه إلا بحجة؛ لأن الظاهر من حال من عليه الدين: أنه لا يؤدي أكثر مما عليه ومن أصحابنا من قال: هي على حالين؛ حيث قال: القول قول من قلت قيمته-: أراد به: إذا أدوا بعض مال الكتابة، ولم يؤدوا الكل بحيث لو وزع ما دفعوا على عدد رؤوسهم-: لم يخص كل واحد أكثر مما عليه وحيث قال: القول قول من كثرت قيمته-: أراد به: إذا أدوا الجميع، فمن قلت قيمته، يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، فلا يقبل إلا ببينة، فلو أدى بعضهم عن بعض كتابته، أو كاتب رجل عبدين: كل واحد بعقد مفرد، ثم أدى أحدهما كتابة الآخر هل يصح أم لا؟ نظر: إن أدى بعدما عتق- صح، كما لو أدى دين الغير، ثم إن أدى بإذنه- رجع

عليه؛ وإلا فلا، وإن أدى قبل العتق- فهو تبرع منه- لا يجوز بغير إذن السيد، وهل يجوز بإ ذنه؟ فيه قولان: وقيل: أخذ السيد إياه غذن ورضي، وليس بصحيح، بل إذا لم يأذن صريحاً- لا يصح. فإن قلنا: يصح الأداء- فلا يرجع المؤدي على السيد، وهل يرجع على المؤدى عنه بما أدى؟ نظر: إن أدى بإذنه- رجع؛ وإلا فلا يرجع، وإذا أثبتنا الرجوع: فإن كان قد عتق المؤدى عنه- فهو دين [عليه]، وإن لم يكن عتق- أخذ مما في يديه مقدماً على نجوم الكتابة، وحيث قلنا: لا يصح الأداء- فليس للمؤدي أن يرجع على المؤدى عنه، بل يسترد من السيد ما دفع إليه، فإن كان قد حل عليه نجم- يصير به قصاصاً، وإن لم يحل- يسترد، فلو لم يسترد حتى أدى النجوم عتق، وهل يسترد أم لا؟ نص على أنه لا يستدر، ونص فيما إذا جنى على المكاتب فعفا عن المال بغير إذن المولى، ثم عتق-: كان له أخذ المال- فعلى قياس ما نص - ههنا- ينبغي أن يصح عفوه؛ فحصل في المسألة قولان: أحدهما: في الموضوعين لا يأخذ شيئاً؛ لأن المانع من صحة تبرعه وعفوه رقه، وقد زال؛ فيصح. والثاني: يأخذ؛ لأن أداؤه وعفوه- لم يصح؛ فلا ينقلب صحيحاً بعده. وأصل القولين: أن تصرفات المفلس [باطلة، أو موقوفة] فيه قولان: إن قلنا: باطلة- فههنا-: يرجع. وإن قلنا: موقوفة فالأداء العفو- ههنا- موقوفان، فإن فضل عن حق السيد وعتق- بان أنه كان صحيحاً؛ وإلا فلا، وكذلك: الحكم فيما إذا كان سيد أحد العبدين غير الآخر، فكاتب كل واحد عبده، ثم أدى أحدهما عن الآخر بغير إذن المولى- لا يجوز وبإذنه: على قولين. وكذلك: جميع تبرعات المكاتب، فإن قلنا: لا يصح- يسترد، فإن عتق قبل الاسترداد - هل له أن يسترد بعده؟ فيه قولان: ولو كاتب رجل عبداً، فبان نصفه حراً- فالعقد باطل في نصفه الحر، وهل يبطل في الباقي فعلى قولين، كما لو باع عبداً، فبان نصفه حراً أو مستحقاً، فإن قلنا: باطل- فلا يعتق حتى يدخل جميع المسمى؛ لأن العتق فيه- يحصل بوجود الصفة، وهو يتعلق بأداء جميع المسمى، فإذا أدى، عتق، وعليه قيمة نصفه، ويسترد من السيد ما أعطى. وإن قلنا: صحيح، فكم يلزمه من المسمى نصفه أم كله؟ فيه قولان؛ كما في البيع إذا

خرج نصف المبيع مستحقاً، وأجاز المشتري في النصف الثاين، فكم يجيز؟ فيه قولان. والخيار ثابت أبداً للعبد في الكتابة؛ فلا تختص به هذه الصورة. فصل في الكتابة الفاسدة تعليق العتق بالصفة على ثلاثة أقسام: قسم هو تعليق محض، لا معاوضة فيه، كقوله: إن دخلت الدار، فأنت حر، ونحوه-: فحكمه: أن يكون لازماً من الجانبين، لا يقدر واحد منهما على إبطاله بالقول، ويبطل بموت السيد، وكسب العبد يكون للمولى، وإذا عتق، فلا يتبعه الكسب، وفي معناه: إذا قال: إن أديت إلي ألفاً، فأنت حر، لأن ذكر المال فيه ليس على طريق المعاوضة، فحكمه ما ذكرنا [ولا يعتق فيه بالإبراء]، ولا يثبت فيه التراجع. وقسم فيه معاوضة، وجانب المعاوضة فيه مغلب، وهو: الكتابة الصحيحة؛ فهي موافقة للتعليقات في حكم واحد، وهو ألا يثبت فيها التراجع، ومخالفة لها في سائر الأحكام؛ فإنها جائزة من جهة العبد، ولا تبطل بموت المولى، ويعتق بالإبراء، وكسبه يكون له فإذا عتق: يتبعه الكسب. وقسم فيه معنى المعاوضة؛ لكن الغلبة فيه للتعليق، وهو الكتابة الفاسدة: بأن شرط فيها شرطاً فاسداً أو يكاتب حالاً، أو إلى أجل واحد، أو على عوض فاسد، أو مجهول-: فهو يوافق الكتابة الصحيحة في حكمين: أحدهما: أن كسبه يكون له؛ حتى لو جني عليه أو كاتب جارية، فوطئت بالشبهة- يكون الأرش والمهر لها. والثاني: إذا عتق بأداء المال- يتبعه الولد والكسب الذي بقي بعد أداء المال. ويشبهه التعليق في أحكام: منها: أن السيد إذا أبرأه عن المال لا يعتق، حتى يؤدي؛ كما في التعليق، ويبطل بموت السيد كما يبطل التعليق؛ حتى لو أدى المال بعد موته إلى الوارث- لا يعتق. وإذا أعتق المكاتب كتابة فاسدة- يعتق لاعن الكتابة؛ ويكون فسخاً، وقد نص الشافعي- رضي الله عنه- على أن إعتاقه عن الكفارة يجوز؛ دل أنه لا يعتق عن الكتابة. قال الشيخ أبو علي- رحمه الله-: وإذا لم يكن عتقه على حكم الكتابة، فلا يتبعه الولد والكسب، بخلاف الكتابة الصحيحة؛ لأن- ثم - استحق العتق على المولى بعقد صحيح، فاستحق الأولاد والأكساب، ولا تبطل بالإعتاق، وفي الفاسد: لم يستحق، حتى يجوز للمولى

إبطاله؛ فيصير بالإعتاق مبطلاً، واستحسنه الشيخ القفال، ويشبه التعليق- أيضاً- من حيث إنه لو أوصى برقبته- جاز، ولا يجوز أن يصرف إليه سهم المكاتبين؛ نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- وقال: لو وضع فيه، ولم يعلم، فدفع هو إلى السيد يسترد؛ لأنه لا يملك نفسه [ولا كسبه بالفاسد، بل] حكمه مراعىً على العتق. وقيل: لا يسترد؛ لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب. ويجب على السيد زكاة فطر المكاتب كتابة فاسدة، ولا ينفذ تصرف المكاتب فيما في يده؛ كما في التعليق، قال الشيخ الإمام- رحمه الله-: وعلى هذا القياس: لا تجوز معاملة المولى معه، ولا يجوز أن يسافر بغير إذن المولى، ولا يجب على المولى: أن يؤتيه شيئاً من مال الكتابة. [وإذا كاتب جارية]، وعجزت عن أداء المال-: لا يجب على المولى الاستبراء، كما في التعليق. ولو عجل النجوم قبل المحل في الكتابة الفاسدة، هل يعتق؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتق، كما في الصحيحة. والثاني: لا يعتق؛ لأنه تعليق، ولم توجد الصفة على وجهها، وتخالف الكتابة الفاسدة الكتابة الصحيحة، والتعليق في حكمين، أحدهما: أن للسيد فسخ الكتابة الفاسدة؛ بخلاف الكتابة الصحيحة والتعليق؛ لأن العوض لا يسلم للسيد في الكتابة الفاسدة، فإن للعبد أن يسترد ما أعطى، فإذا كان العوض لا يسلم له- فله أن يفسخه. الثاني: أن المولى لا يملك ما أخذ في الكتابة الفاسدة، فالعبد يرجع عليه بما دفع إليه، إن كان ما دفع إليه مالاً، وهو يرجع على العبد بقيمة رقبته؛ لأن فيها معنى المعاوضة، وقد حصل العتق بأداء المال فيصير كأن المعقود عليه قد هلك؛ فلا يمكن الرجوع فيه وفي المعاوضة الفاسدة، إذا تلف المعقود عليه في يد المشتري- يرجع البائع عليه بقيمته، وهو يرجع على البائع بالثمن الذي أدى، وتعتبر قيمته بيوم العتق، لأن التلف حصل به، فإن كان الذي دفع العبد شيئاً لا قيمة له من خمر أو خنزير- لا يرجع على السيد شيء، والسيد يرجع عليه بقيمة رقبته فإن كان ما دفع مالاً حلالاً، وكان هالكاً- يرجع بمثله إن كان مثلياً، وبقيمته: إن كان متقوماً فإن كان ما وجب على المولى مالاً من جنس القيمة يتقاصان، وصاحب الفضل

يرجع بالفضل، وإذا أبطل السيد الكتابة الفاسدة بعد أداء المال لا يبطل؛ لأن العتق قد حصل بأداء المال، وإن أبطل قبل أداء المال- يبطل حتى لو أدى المال بعده-: لا يعتق، والأولى: أن يشهد حتى يعلم العبد، فلو لم يعلم العبد برجوعه، وأدى المال، فقال السيد: كنت قد رجعت، وفسخت الكتابة، وأنكر العبد، فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرجوع، وعلى المولى [البينة]. قال صاحب "التلخيص": فإن أدى الفاسد قبل أن يبطله أحدهما أو يبطله الحاكم- عتق. قوله "أو يبطله الحاكم"؛ أراد أن يطلب السيد من الحاكم أن يبطلها، أما من غير طلبه فلا. وأما إذا دفع المال في الكتابة الفاسدة، فخرج مستحقاً- لم يعتق، فإن كاتبه على عين علق عتقه بدفعها، فدفع- عتق، فإن خرج ما دفع مستحقاً-: رد ما أخذ، ورجع بقيمته. ولو جن السيد أو العبد في الكتابة الفاسدة قبل الأداء أو أغمي على واحد منهما؛ من أصحابنا من قال: يبطل العقد؛ لأنه عقد جائز كالشركة والوكالة. وقال الشيخ أبو حامد: أيهما جن لا يبطل؛ لأنه تعليق عتق بصفة، ولا يبطل التعليق بالجنون؛ والصحيح من المذهب: أنه إذا جن السيد أو حجر عليه أو أغمي- عليه- يبطل، ولا يبطل بجنون العبد، وإغمائه، حتى لو كان له مال، فأخذه المولى بعد جنونه أو أفاق العبد فأدى-: عتق، والفرق: أن الكتابة لا حظ فيها للمولى، بل نظره في فسخها، فقلنا: يبطل بجنونه؛ نظراً له، وللعبد فيها حظ ونظر؛ فلم تبطل بجنونه. وإذا كاتب عبده كتابة صحيحة، ثم جن العبد فأدى السيد المال- عتق، ولا يتراجعان، ولو كاتب عبده العاقل كتابة فاسدة، ثم جن، وله مال، فأداه المولى - عتق؛ لوجود الصفة، ويتراجعان. أما إذا كاتب عبده المجنون، فالكتابة فاسدة، ونقل المزني: أنه يعتق بأخذ المال، ولا يتراجعان، ونقل الربيع: أنهما يتراجعان. قال ابن سريج: يثبت التراجع، لأنها كتابة فاسدة، ونقل المزني وقع خطأ، والصحيح من المذهب، وبه قال أبو إسحاق-: لا يثبت التراجع، لأن المجنون ليس من أهل العقد؛ فيبطل معنى المعاوضة فيه بالكلية، ويبقى مجرد التعليق؛ فصار كما لو قال: إن أديت إلي ألفاً، فأنت حر، فإذا أدى الألف- عتق لوجود الصفة، ولا يتراجعان، ونقل الربيع وقع خطأ،

أو أراد به، إذا كاتب عبده العاقل كتابة فاسدة، ثم جن، وأدى-: عتق، ويتراجعان، وكذلك: لو كاتب عبده الصبي، فقبل-: فهو فاسد، فإذا أدى المسمى-: عتق؛ لوجود الصفة، وفي ثبوت التراجع: هذا الاختلاف؛ فمن أثبت التراجع في الصبي والمجنون، قال: ما فضل من الكسب- يكون له، ومن لم يثبت التراجع- قال: لا يكون الكسب له، وهذا أصح؛ لأن العقد مع الصبي والمجنون ليس بعقد، وكذلك: إذا اشترى شيئاً، فهلك عبده-: لا يضمن؛ بخلاف البالغ إذا اشترى فاسداً، فهلك عنده-: ضمن. فصل روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "المكاتب عبد؛ ما بقي عليه درهم من كتابته". المكاتب: لا يعتق شيء منه؛ ما لم يؤد آخر النجوم، فإن مات، وقد بقي عليه درهم فأقل من نجومه-: يموت رقيقاً؛ لأن عتقه معلق بأداء آخر النجوم؛ ولم يوجد. وعند أبي حنيفة: إذا مات وخلف وفاءً-مات حراً، وإن لم يخلف وفاءً، وله ولد، يستسعى الولد حتى يؤدي النجوم، فيحكم بحريته، وإن لم يكن له ولد- مات رقيقاً. وقال مالك: إن خلف وفاءً وولداً-: مات حراً فإن قلنا: المعقود عليه في الكتابة هو الرقة؛ لأن الملك يزول عنها بأداء النجوم، وعند الفساد: ترجع إلى قيمتها، وقد فات المعقود عليه في يد العاقد، فأشبه تلف المبيع قبل القبض. ولو أتى المكاتب بالنجوم، فقال السيد: هذا حرام- نظر: إن كان للسيد بينة على أنه حرام أو مغصوب-: لم يجبر على أخذه، وإن لم يكن له أن يحلف العبد على أنه حلال، فإن لم يحلف- حلف السيد، ولم يجبر على أخذه، وإن حلف العبد- يقال للسيد: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئه عن قدره، فإذا أخذه برئت ذمة العبد عن ذلك القدر، ثم إن كان السيد سمى رجلاً، وقال: هذا لفلان-: يجب عليه تسليم ما أخذ إليه، وإن لم يسم رجلاً، بل قال: هو حرام، هل ينتزع من يده؟ فيه وجهان: وإن أبى السيد أني أخذه أو يبرئه- أخذه الحاكم، وعتق العبد، والحاكم يمسك ما أخذه إلى أن يأخذه المولى، وإذا أدى المكاتب عوضاً في النجم الأول، فوجد السيد به عيباً، فإن

شاء- رضي به معيباً، وإن شاء رده فاستبدل، وإن خرج مستحقاً- رجع عن المكاتب بعوضه، وإن أدى آخر النجوم عوضاً، فخرج مستحقاً- بان أنه لم يعتق؛ لأن الأداء- لم يكن صحيحاً، وإن ظهر الاستحقاق بعد موت المكاتب-: بان أنه مات رقيقاً، وما تركه للمولى دون الورثة، وإن أدى آخر النجوم عوضاً، فوجد المولى به عيباً، ولم يرد-: فله أن يرده، ويطالبه بالبدل قال صاحب "التقريب": بأدائه عتق في الظاهر؛ فإن رضي به-: استقر العتق؛ لأن ذمته برئت من النجوم، وإن رده، ارتفع العتق. وقال الشيخ القفال: لا يحصل العتق بأدائه، حتى يرضى، خرج منه أنه إذا رضي بالعيب يحصل العتق من وقت الأداء، أم من وقت الرضا؟ فيه وجهان، بناءً على ما استوفى المسلم فيه، ثم وجد به عيباً، ورده، هل يجعل كأنه استوفى في حقه، ثم فسخه، حتى تبقى الزوائد له، أم يجعل كأنه لم يستوفه؛ حتى يجب رد الزوائد؟ فيه وجهان، وهذا بناء على أن الصرف إلى الذمة إذا وجد بالمقبوض عيباً بعد التفرق- هل له الاستبدال؟ فيه قولان: وإذا أدى آخر النجوم عرضاً، [فقال له السيد: أنت حر، ثم خرج العرض مستحقاً-: رده، وهو رقيق كما كان؛ لأن قوله: "أنت حر"- كان بناءً على سلامة العرض؛ كما لو خرج المبيع مستحقاً في يد المشتري: له أن يرجع بالثمن على البائع، وإن كان يقر بأنه كان ملكاً للبائع- اشتريته منه؛ لأنه لم يسلم له المبيع بذلك القول. ولو اختلفا، فقال المكاتب: أعتقتني بقولك: "أنت حر" وقال السيد: أردت أنك حر بما أديت، وبان أنه لم يصح الأداء-: فالقول قول السيد مع يمينه. ولو أدى آخر النجوم عرضاً]، فتلف في يد المولى أو بعيب، ثم وجد به عيباً قديماً، فعلى المكاتب أرش النقصان، [فإن لم يؤد للمولى لعجزه رد العتق]؛ كما لو دفع دنانير فخرجت ناقصة عليه-: جبر النقص، وفي كيفية وجوب النقصان وجهان: أحدهما: عليه ما انتقص من قيمة العرض. والثاني: عليه [ما انتقص من] قيمة الرقبة؛ بنسبة ما انتقص من قيمة العرض، فإن انتقص عشر قيمة العرض-: [عليه قيمة عشر الرقبة؛ وإنما وزعنا قيمة الرقبة على قيمة العرض]، ولم نوزع على جميع النجوم؛ لأن العتق يحصل بأداء آخر النجوم لا يتوزع على النجوم.

فصل قال الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. روي عن علي- عليه السلام في تفسير [هذه] الآية: يحط عنه ربع مال الكتابة. [ويجب على المولى: إيتاء المكاتب، وهو أن يحط عنه جزءاً من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءاً مما أخذ منه، ولأن يحط أولى من الدفع. وعند أبي حنيفة: لا يجب، والآية حجة عليه. ويستحب أن يحط ربع المال؛ لما رويناه عن علي عليه السلام فإن لم يفعل، فالسبع؛ لما روي عن ابن عمر: أنه كاتب عبداً له بخمس وثلاثين ألفاً، ووضع عنه خمسة آلاف. واختلفوا في القدر الواجب، فمنهم من قال- وهو الأصح-: يجب أن يضع عنه أو يؤتيه ما يقع عليه اسم المال، وإن قل؛ كما أن له سهماً من الزكاة، ولا تقدير له. وقال أبو إسحاق وإليه ذهب بعض أصحابنا-: يجب أن يحط عنه قدراً يقع به الاستغناء؛ وذلك يختلف بكثرة المال وقلته، فإن اختلفا: قدره الحاكم باجتهاده؛ كالمتعة تختلف بيسار الزوج وإعساره، وفي وقت وجوبه وجهان: أحدهما: يجب أن يؤتيه بعد العتق؛ كالمتعة تجب بعد الطلاق. والثاني: وهو الأصح-: أنه يجب قبل العتق من حين كاتب إلى أن يؤدي آخر النجوم؛ كسهم الزكاة يدفع إليه قبل العتق بعد الكتابة، والأولى أن يحط من آخر النجوم، حتى ينبني عليه العتق، وإذا أخذ جميع المال عليه أن يرد إليه شيئاً مما أخذ. فإن دفع من غير جنس مال الكتابة-: لا يجوز، وإن دفع إليه من جنسه، لا من عينه-: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز كما لو دفع من غير جنسه. والثاني: يجوز؛ كما لو أخرج الزكاة من جنس مال الزكاة لا من عينه- يجوز. فلو مات المولى بعد ما أخذ جميع النجوم-: فالمكاتب يحاص أهل الدين بحقه، سواء أوصى به أو لم يوص، وتقدم على سائر الوصايا كسائر الديون، فإن أوصى المولى، وقال:

آتوه عشرة، فيقدر أقل ما يتمول يحاص أهل الدين، وبالزيادة: يحاص أهل الوصايا. فصل في الاختلاف إذا ادعى العبد على سيده؛ أنك كاتبتين، وأنكر السيد-: فالقول قول السيد مع يمينه، وكذلك بعد موت السيد: إذا ادعى على وارثه؛ أن أباك كاتبني-: فالقول قول الوارث، ويحلف بالله، لا أعلم أن أبي كاتبه، وإنما قلنا: يحلف على العلم؛ لأنه يمين على نفي فعل الغير. ولو اتفقا على الكتابة، واختلفا في قدر النجوم، أو في صفتها، أو بعد أداء نجمين لم يكن في يده وفاء فقال: كاتبتني على ثلاثة أنجم، وقال المولى بل على نجمين، أو قال المولى: كاتبتك على ألف، فقال: بل كاتبتين مع عبد آخر على ألف، وقلنا: يصح - يتحالفان، ثم بعد التحالف- نظر: إن كان المولى لم يقبض شيئاً من النجوم أو قبض بعضه، سواء قبض أقل مما يدعيه العبد [أو أكثر؛ لكنه لم يقبض جميع ما يدعيه المولى] أو كان الاختلاف في الجنس، والسيد لم يقبض جنس ما يدعيه، إنما قبض ما يدعيه العبد فقد قيل: تنفسخ الكتابة بالتحالف، والمذهب: أنه لا تنفسخ، ولكن إن لم يتراضيا على شيء يفسخ القاضي الكتابة بينهما، ويعود العبد قنا؛ كما كان، وإن كان المولى قد قبض جميع ما يدعيه غير أن المكاتب يقول: الزيادة وديعة لي عندك-: فالعتق قد حصل بقبض ما يدعيه المولى؛ فلا يرد ويتراجعان-: فالسيد يرجع على المكابت بقيمة رقبته، والمكاتب يرجع بما أدى: فإن كان الجنس واحداً- تقاصا، وصاحب الفضل يرجع بالفضل. ولو قال السيد: كاتبتك على نجم واحد، وقال العبد: بل على نجمين-: فالقول قول السيد مع يمينه، لأنه يدعي فساد العقد، ولو قال المولى: كاتبتك، وأنا مجنون أو محجور، وأنكر العبد جنونه وحجره- نظر: إن عرف به جنون أو حجر سابق- قبل قوله مع يمينه، وإن لم يعرف-: فالقول قول العبد مع يمينه ولو ادعى المكاتب أداء النجوم، وأنكر السيد، فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل اشتغال ذمة المكاتب بها، فلو أراد العبد إقامة البينة، فقال: أنظروني، يمهل يومين وثلاثة، ولا يزاد عليها؛ بخلاف ما لو ادعى رجل على آخر دينا، فقال: أبرأني، أو أديت-: كان إقراراً بالدين؛ فلو استمهل حتى يأتي ببينة على الإبراء، أو على الأداء-: لا يمهل، بل يؤمر بأداء الدين ثم إن أتى بحجة على الإبراء يسترد، لأن الكتابة عقد إرفاق، وهذا الإمهال من تتمة الإرفاق، ثم هذا الإمهال في الكتابة- واجب أم مستحب؟ فيه وجهان، ويقبل من المكاتب شاهد وامرأتان على الأداء، ولو أقام شاهداً، وحلف معه-:

يثبت؛ لأنه شهادة على المال، والعتق يحصل ضمناً، بخلاف ما لو ادعى أصل الكتابة-: لا يقبل عليه إلا عدلان، ولو وضع على المكاتب شيئاً من النجوم، فاختلفا، فقال السيد: وضعت من أول النجوم، وقال المكاتب: بل من آخرها، أو ادعى المكاتب أنه وضع الكل، وقال السيد: بل بعضه-: فالقول قول السيد مع يمينه. ولو كاتبه على دراهم، ثم أبرأه عن الدنانير، أو كاتب على عرض، ثم أبرأه عن دنانير-: لا يصح، ولا يعتق؛ لأنه لم يبرئه عما عليه. ولو كاتبه على ألف درهم، فوضع عنه عشرة دنانير-: لا يصح، فإن قال: أردت مائة درهم بقيمة عشرة دنانير-: صح. فلو اختلفا فيما عنى؛ فقال المكاتب: عنى مائة درهم بقيمة عشرة دنانير، وأنكر السيد-: فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعرف بما عنى. ولو قال: وضعت عنك من الدراهم ما يقابل عشرة دنانير: فإن كان معلوماً عندهما-: صح، وإن كان مجهولاً-: فقولان، بناءً على ما لو أوصى بأكثر من الثلث، فأجاز الوارث، وهو جاهر بالزيادة- فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، للجهل. والثاني: يصح، ويحمل على أقل ما يتيقن. ولو قال السيد: استوفيته، أو قال العبد أليس أوفيتك، قال: بلى، ثم ادعى المكاتب: أنه أوفاه الجميع، وقال المولى: بل بعضه، فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأن الاستيفاء- قد يقع على البعض. ولو كان له مكاتبان-: أقر أني استوفيت نجوم أحدهما، أو أبرأت أحدهما، وأشكل عليه، قال الشافعي: يقرع بينهما، وأراد به بعد الموت، أما في حياته- يحكم بعتق أحدهما، ويقال له: تذكر [وبين]، ويحبس حتى يبين: فإن بين في أحدهما، للآخر أن يدعي عليه، ويحلفه أنه لم يستوف نجومه، فإن حلف- كان المدعي مكاتباً إلى أن يؤدي النجوم، وإن نكل السيد حلف المدعي، وعتقا جميعاً، فلو مات السيد قبل البيان-[هل يقوم وارثه مقامه في البيان] فيه قولان: أحدهما: لا، بل يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة- كان حراً، وعلى الآخر أداء

النجوم، وله تحليف الوارث: أنه لا يعلم أن أباه استوفى نجومه. والقول الثاني: قام الوارث مقام المورث في البيان، فإن بين في أحدهما- حكم بعتقه، وللآخر: أن يدعي عليه، ويحلفه أنه لا يعلم أن مورثه استوفى نجومه، فإن نكل- حلف هو، وعتقا جميعاً. وإن قال الوارث: لا أعلم، حلف لكل واحد منهما على الانفراد: أنه لا يعلم، وأمر العبدان [أن] يؤديا النجوم، لأن الأصل اشتغال ذمتهما بالمال. فصل إذا مات رجل عن اثنين، وله عبد، ادعى العبد أن أباكما كاتبني-: لا يخلو: إما أن كذباه، أو صدقاه، أو صدقه أحدهما وكذبه الآخر: فإن كذباه- فالقول قولهما: يحلف كل واحد منهما بالله لا نعلم أن أباه كاتبه. وإن صدقاه: فهو مكاتب، وإذا استوفى أحدهما نصيبه من النجوم بإذن الآخر- هل يستبد به؟ فيه قولان: فإن قلنا: يستبد به، أو أبرأه عن نصيبه، أو أعتقه- عتق نصيبه، وهل يقوم عليه الباقي؟ نظر: إن كان معسراً لا يقوم، بل النصف الآخر مكاتب، فإن عجز- كان رقيقاً، وإن كان موسراً - هل يقوم عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يقوم؛ كالشريكين يكاتبان عبداً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، يقوم عليه الباقي. والثاني: لا يقوم؛ لأن هذا العتق بحكم كتابة الأب، والميت لا يقوم عليه، وأصل القولين: أن رق المكاتب، هل يورث؟ فيه جوابان: إن قلنا: لا يورث- لا يقوم؛ لأنه عتق بحكم كتابة الأب. وإن قلنا: يورث - يقوم. وقال أبو حنيفة والمزني إذا أبرأ أحدهما عن نصيبه-: لا يعتق نصيبه؛ لأن الأب: لو كان حياً، وأبرأه عن نصف النجوم-: لا يعتق شيء منه، ولو أعتق يعتق. قلنا: لأن الأب إذا أبرأ عن النصف-: لم يبرئه عن جميع ماله عليه، فلم يعتق شيء منه، [وأحد الاثنين: إذا أبرأ- فقد أبرأه عن جميع ماله عليه؛ فيعتق نصيبه] كأحد الشريكين، إذا

أبرأ عن نصيبه يعتق نصيبه. قال الشيخ الإمام- رحمه الله: إذا أبرأ أحد الاثنين عن نصيبه، أو أعتق نصيبه، أو استوفى بإذن الآخر، وقلنا: يستبد به-: وجب أن يكون في عتق نصيبه قولان: أصحهما: لا يعتق نصيبه، وعليه يدل النص بل يوقف، والشافعي- رضي الله عنه- قال: فأعتق أحدهما نصيبه فهو برئ عن نصيبه، ولم يقل: عتق نصيبه، ثم ذكر بعده، وقال في موضع آخر: يعتق نصفه، عجز أو لم يعجز؛ ففيه دليل على أن أحد الاثنين: إذا أبرأ عن نصيبه، أو أعتق نصيبه-: لا يعتق، على أحد القولين؛ بل يكون موقوفاً؛ فإن أدى نصيب الآخر-: عتق كله، وولاؤه للأب، فإن عجز قوم على المعتق، إن كان موسراً وولاؤه له، وبطلت كتابة الأب، وإن كان معسراً- فنصفه حر، وولاؤه للمعتق، ونصفه رقيق للابن الآخر. قال الشيخ- رحمه الله-: وإنما يعتق عند العجز نصيبه؛ إذا كان أعتقه صريحاً، فإن كان بإبراء أو استيفاء-: فلا يعتق شيء منه، إذا عجز؛ إنما يعتق إذا أدى نصيب الابن الآخر؛ لأن الكتابة تبطل بالعجز، والعتق في غير الكتابة- لا يحصل بالإبراء قال الشيخ- رحمه الله-: بخلاف الأب لو أعتق [نصيبه-: عتق] كله؛ لأن الكل له، فلا يتجزأ فيه عتقه، وفي الاثنين: يتجزأ ملكهما وعتقهما؛ فكان إعتاق أحدهما كإبرائه في عدم نفوذ العتق في الحال: فإن قلنا: يعتق نصيبه في الحال، وهو موسر-: هل يقوم عليه نصيب الابن الآخر؟ فيه قولان: فإن قلنا: لا يقوم- فهو مكاتب، فإن أدى نصيب الآخر، أو أبرأه الآخر، أو أعتقه- عتق كله، وولاؤه للأب، وإن عجز-: بقي نصفه رقيقاً ونصفه حراً، وولاؤه للأب، وهل ينفرد به الابن الذي عتق نصيبه أم يكون بينهما؟ فيه وجهان: أصحهما: يكون بينهما؛ لأنه عتق بحكم كتابة الأب. والثاني: يكون لمن أعتقه؛ لأن نصيب الآخر بقي رقيقاً. وإن قلنا: يقوم عليه نصيب الابن الآخر، متى يقوم؟ فيه قولان؛ كالشريكين، إذا كاتبا أو أعتق. أحدهما: نصيبه: يقوم في الحال، لأن التقويم لعتق نصيبه، وقد عتق نصيبه الآن. والثان: يقوم عند العجز، لأن حق العتاق ثابت له بكتابة الأب؛ فلا يبطل: فإن قلنا: يقوم في الحال- تنفسخ الكتابة في النصف المقوم، وولاؤه للمقوم عليه، وولاء النصف الأول للأب، وهل ينفرد به الابن الذي أعتقه؟ فعلى الوجهين. وإن قلنا: يقوم عند العجز: فإذا أدى نصيب الابن الآخر-: عتق كله، وولاؤه للأب،

وإذا عجز عن أدائه- يقوم على الأول، وولاء [كله] له، وبطلت كتابة الأب، وصار كأنه أعتق ملك نفسه. وقيل: إذا قومنا عند العجز- فولاء هذا النصف له، وفي ولاء النصف الآخر وجهان. فأما إذا ادعى العبد الكتابة، فصدقه أحد الاثنين، وكذبه الآخر-: فنصيب المصدق مكاتب، ونصيب المكذب قن، وللعبد تحليفه: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه. ولو شهد المصدق مع عدل آخر: أن الأب كاتبه-: يقبل، وكان كله مكاتباً، وإن لم يكن معه عدل [آخر-: فلا يحلف المكاتب معه؛ لأن الكتابة لا تثبت بشاهد ويمين، وبقي نصفه قنا، فنصف كسبه للابن المنكر، ونصفه يدفعه إلى الآخر عن نجوم كتابته. فلو اتفقا على المهايأة؛ يكسب يوماً للمنكر، ويوماً لنفسه، يؤديه في النجوم-: جاز، فإذا أدى نصف النجوم إلى المقر-: عتق نصفه، ولا يرجع المنكر عليه بشيء؛ لأنه كان يستخدمه بنصفه الرقيق، وما فضل من كسب ذلك النصف عن النجوم يكون للمكاتب، ولا يقوم عليه نصيب المنكر؛ لأنه عتق بحكم كتابة الأب، ولا يقوم على الميت؛ كما إذا أقر أحد الابنين: أن أبانا أعتق هذا العبد، وأنكر الآخر-: عتق نصيبه، ولا يقوم الباقي عليه، ولا هذا النصف الذي عتق بأداء النجوم يكون بينهما أم ينفرد به المقر؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون بينهما؛ لأنه عتق بحكم كتابة الأب. والثاني: للمقر؛ لأن المنكر أبطل حقه بالإنكار؛ كما لو ادعى وارثان ديناً من جهة الميت، وأقام شاهداً، وحلف أحدهما معه، ولم يحلف الآخر-: أخذ الحالف نصف الدين، ولا يشاركه الآخر فيه، فلو مات هذا العبد، وقلنا: يورث ممن نصفه حر، وجعلنا ولاء ذلك النصف بينهما-: فنصف تركته للمقر، والنصف يوقف؛ لأن المنكر لا يدعيه، حتى ينكشف الحال، فلو أن المصدق أعتقه، وأبرأه عن النجوم-: عتق نصيبه، وهل يقوم عليه الباقي، إن كان موسراً؟ قيل: فيه قولان؛ كما إذا صدقاه، ثم أعتقه أحدهما؛ غير أ، ثم: إنما يقوم إذا أعتق صريحاً: يقوم في أحد القولين عند العجز، وههنا: إذا قلنا: يقوم في الحال قولاً واحداً؛ لأن الابن الآخر منكر للكتابة-: فلا يمكن الوقف على العجز. وقيل: ههنا: يقوم قولاً واحداً في الحال؛ لأن الابن الآخر منكر للكتابة؛ [فلا يمكن الوقف على العجز. وقيل: ههنا: يقوم]؛ فيدعي على المعتق الآخر السراية.

قال الشيخ الإمام رحمه الله: ينبغي أن يجعل إبراء المصدق كالاستيفاء في أنه لا يقوم عليه نصيب المنكر، [إنما يقوم إذا أعتق صريحاً]، فإن قلنا: لا يقوم-: فالنصف رقيق للمنكر، وفي ولاء النصف الذي عتق- وجهان: أحدهما: للمصدق. والثاني: بينهما. وإن قلنا: يقوم-: فولاء النصف الذي قوم للمقوم عليه، وفي ولاء النصف الآخر وجهان. أما إذا عجز عن أداء النجوم، وعجزه المقر [له] عاد كله رقيقاً، ويكون بينهما، والكسب الذي في يده يكون للمقر؛ لأن المنكر أخذ نصيبه. فلو اختلفا في شيء من الكسب، فقال المقر: حدث بعد الكتابة، فأخذت أنت نصيبك، وهذا لي، وقال المنكر: بل حدث قبل الكتابة، فكان ملكاً للأب؛ فيكون بيننا-: فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه قبل الكتابة. باب كتابة بعض العبد إذا كاتب رجل نصف عبد- نظر: إن كان باقيه حراً-: جاز؛ لأنه عقد الكتابة على جميع ما فيه من الرق؛ فيصح، كما لو كان كله رقيقاً، فكاتبه. فإن كاتب جميعه-: فالكتابة في نصفه الحر باطلة، وفي النصف الرقيق قولان. وإن كان باقيه رقيقاً-: لا يخلو إما إن كان الباقي له، أو لغيره: فإن كان جميع العبد له، فكاتب نصفه- نص على أنه لا يجوز، ونص فيما لو كاتب عبداً في مرض موته، لا مال له سواه، يتكاتب ثلثه-: اختلف أصحابنا [فيه] قال ابن سريج: في كتابة بعض العبد قولان؛ كما لو كان العبد بين شريكين، فكاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ كما لو باع أو رهن نصفه؛ يجوز. والثاني: لا يجوز؛ لأن المكاتب يحتاج إلى التردد والمسافرة؛ لتحصيل النجوم، والسيد يمنعه بنصفه الرقيق؛ فلا يحصل مقصود العقد، ولأنه لا يمكن أن يوضع فيه سهم

المكاتبين؛ لأن نصفه يكون للسيد الذي لم يكاتب؛ بخلاف ما لو كان باقيه حراً يجوز الوضع فيه. ومنهم من قال وهو المذهب- لا يصح كتابة بعض العبد قولاً واحداً؛ بخلاف ما لو كاتب في مرض موته عبداً [لا مال له سواه يتكاتب ثلثه؛ وكذلك: لو أوصى بكتابة بعض عبده-: لا يصح؛ لأن العتق في حال الصحة يسري، ولا سراية للكتابة؛ فلم يجز كتابة البعض. وإذا أوصى بعتق بعض عبد أو أعتق في مرضه]، ولا مال له سواه، يعتق ثلثه، ولا يسري، فصحت الوصية بكتابة بعض العبد، حتى لو كاتب في مرض موته بعض عبد يخرج كله من الثلث-: لا يصح على هذا الطريق. فإن جوزنا كتابة بعض العبد: فإذا أدى النجوم-: عتق ذلك القدر، وسرى إلى الباقي، وإن لم نجوز-: فهي كتابة فاسدة في النصف، فإذا أدى المال قبل أن يفسخ المولى كتابته-: عتق، وسرى؛ كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار، فنصفك حر، فإذا دخل-: عتق نصفه، وسرى إلى الباقي، ثم العبد يرجع على السيد بما دفع إليه، والسيد يرجع عليه بنصف قيمته، إن كاتب نصفه، وإن كاتب ربعه فربع قيمته، ولا يرجع بقيمة النصف الذي عتق بالسراية؛ لأنه لم يعتق بحكم الكتابة الفاسدة، وإن أدى المال بعدما رجع السيد عنه-: لم يعتق، فأما إذا كان العبد مشتركاً بين رجلين، فكاتب أحدهما نصيبه- نظر: إن كاتب بغير إذن شريكه-: لم يجز لمعنيين: أحدهما: لأن الشريك يتضرر به؛ لأنه ينتقص به ملكه. والثاني: لأن العبد لا يمكنه المسافرة والتردد لتحصيل النجوم؛ لأن الشريك يمنعه؛ فلا يحصل مقصود الكتابة. وإن كاتب بإذن الشريك-: ففيه قولان: أصحهما:- وهو اختيار المزني-: لا يصح؛ لأن الشريك يمنعه عن المسافرة بنصفه الرقيق. وقال في "الإملاء": يصح، وهو على المعنى الأول. وقال أبو حنيفة: إن فعل بغير إ ذن الشريك-: لا يجوز، وإن فعل بإذنه: يجوز ثم إذا أدى النجوم عتق ويستسعى العبد في النصف الآخر [وقال محمد بن الحسن إن كاتب بغير إذن

الشريك-: فللشريك فسخه، وإن كاتب بإذنه-: يتكاتب الكل؛ مثل: أن كاتب نصيبه بألف يتكاتب الكل بألفين. وقال مالك: لا يصح كتابه بعض العبد بحال. فإن قلنا: يصح كتابة أحد الشريكين-: فنصف كسبه الذي لم يتكاتب ونصفه يؤديه في النجوم، وإن تهايأ فيستخدمه من لم يكاتب يوماً، ويتركه يوماً؛ لتحصيل النجوم-: جاز، وإذا دفع جميع كسبه إلى من كاتبه حتى تم مال الكتابة-: لا يعتق؛ لأن نصفه للشريك الآخر، فإذا أدى جميع النجوم من نصف كسبه-: عتق نصيبه، وكذلك: إذا أبرأه من كتابته عن النجوم، أو أعتقه-: عتق نصيبه، ويقوم عليه نصيب الشريك، إن كان موسراً، وإذا عجز أو عجزه السيد-: عاد قنا، وما في يده من الكسب للذي كاتبه، لأن الشريك الآخر قد أخذ حقه. وإن قلنا: لا يصح كتابة بعض العبد-: فهي كتابة فاسدة، فإن رجع من كاتبه-: ارتفعت الكتابة. وإن لم يرجع، وكان العبد يؤدي الكسب إلى السيدين، حتى تم مال الكتابة-: عتق نصيب من كاتبه، ويقوم عليه نصيب الشريك، إذا كان موسراً، والعبد يرجع على من كاتبه بما دفع إليه، وهو يرجع على العبد بنصف قيمته. ولو دفع العبد جميع كسبه إلى من كاتبه، حتى تم مال الكتابة-: لا يعتق؛ لأن نصفه لغيره، ويجب أن يعطى مما يملك التصرف فيه؛ كما في الكتابة الصحيحة: لا يحصل العتق بأداء مال الغير. وقيل: يعتق؛ لأن العتق في الفاسد يحصل بالصفة، وهي الأداء، وقد وجد، وليس بصحيح، والشريك الذي لم يكاتب يرجع على من كاتب بنصف ما أخذ؛ لأنه ملكه؛ هذا إذا كاتب أحد الشريكين قبل الآخر، أو دون الآخر؛ فإن كاتباه معاً أو وكلا رجلاً بالكتابة، فكاتب الكل أو وكل أحدهما صاحبه، فكاتب الكل عن نفسه وعن شريكه-: يصح قولاً واحداً. ويشترط: أن تكون النجوم متفقة، وأن تكون حصة كل واحد على قدر نصيبه، فإن كان لكل واحد نصفه-: يجب أن يكون المال مناصفة، ولو كان لأحدهما ثلثه-: يجب أن يكون المال أثلاثاً، فإن استويا في الملك، وتفاضلا في مال الكتابة، أو تفاضلا في الملك، واستويا في مال الكتابة، أو كاتب أحدهما نصفه على نجمين، والآخر على ثلاثة أنجم، واختلف المالان في الجنس-: فهو كما لو كاتب أحدهما دون الآخر-: لا يصح بغير إذن الشريك، وهل يصح بإذنه؟ فعلى قولين: الأصح أنه لا يصح.

فإذا صحت كتابتهما، فأخذ أحد الشريكين جميع كسب العبد دون إذن الآخر حتى أخذ حصته من مال الكتابة-: لا يعتق نصيبه، لأن نصف ما أخذه لشريكه، وإن أخذ بإذن شريكه، هل يستبد بما أخذ؟ فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: لا يستبد به، ولا يعتق نصيبه، كما لو أخذ بغير إذن شريكه؛ لأنه لا حق للسيد فيما في يد المكاتب، بل حقه في ذمته فإذنه فيما لا حق له فيه كلا إذن. والقول الثاني: وبه قال أبو حنيفة-: يستبد بما أخذ، ويعتق نصيبه؛ لأن للشريك حقاً فيما في يده، وعدم جواز الأخذ دون إذنه- لحقه، وقد أذن فيه. وكذلك: لو كان لرجل في ذمة إنسان قرض أو ثمن مبيع، فمات من له الدين عن اثنين، فأخذ أحدهما نصيبه دون إذن الآخر-: لا يستبد به، وإن أخذ بإذنه فعلى قولين: وقال المزني: ليس في إذن الشريك بالاستيفاء أكثر من أن قال: استوف بقبض النصف حتى أنا استوفي بعدك، فأخذ النصف-: لا يستبد به، كما لو وزن لأحدهما قبل الآخر. قلنا: هناك لم يبطل حقه، وههنا: بخلافه. فإن قلنا: يستبد بما أخذ-: عتق نصيبه، ثم نظر: إن كان معسراً- لم يعتق النصف الآخر عليه، بل إن كان في يد المكاتب مال قدر ما يؤدي نصيب الآخر-: أدى وعتق كله، وإن لم يكن في يده ما فيه وفاء لحق الشريك-: يجوز للآخر تعجيزه. وإن كان الشريك الذي أخذ نصيبه موسراً-: يقوم عليه نصيب الشريك، ومتى يقوم؟ فيه قولان: أحدهما: في الحال؛ لأن التقويم لعتق نصيب الشريك، وقد وجد. والثاني: يقوم عند عجز المكاتب عن أداء نصيب الشريك؛ لأنا لو قومنا في الحال-: تضرر به العبد؛ لأنه لا يتبعه الولد والكسب، فإن قلنا: في الحال-: فبنفس عتق الشريك أم بأداء القيمة؟ فيه قولان. وإن قلنا: يقوم [عند العجز-: فهل يعتق نصيب الشريك بنفس العجز أم بأداء القيمة؟ فإن قلنا: يقوم في الحال-: تنفسخ كتابة الشريك، وولاء كله للمقوم عليه، ويكون كسبه للإذن؛ لأنه حصل في حال تفارقه، والآخر أخذ نصيبه.

وإن قلنا: يقوم عند العجز: فإذا أدى نصيب الشريك الآخر-: عتق عن الكتابة، والولاء بينهما وإن عجز، قوم عن الأول، وعتق كله وولاء كله للمقوم عليه، وما اكتسب حين عتق نصفه الأول-: يكون بين المكاتب والشريك للإذن، فإن مات قبل أن يعجز أو يؤدي نصيب الشريك الآخر-: فقد مات، ونصفه حر، ونصفه رقيق، هذا إذا استوفى أحدهما نصيبه. أما إذا أبرأ أحدهما عن نصيبه أو أعتق نصيبه-: عتق نصيبه، ثم إن كان موسراً-: يقوم عليه نصيب الشريك، ومتى يقوم؟ في الحال أو عند العجز عن أداء نصيب الشريك، فعلى ما ذكرنا من القولين. وإذا كاتبه الشريكان معاً، فعجز عن أداء النجوم، فعجزه أحد الشريكين، وأراد الآخر تبقية الكتابة في نصيبه. قيل: هو كابتداء الكتابة، إن أراد التبقية بغير إذن الشريك-: لا يجوز، وبإذنه على قولين. وقيل ههنا يجوز قولاً واحداً؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء. وإذا كاتبا عبداً معاً، ثم ادعى العبد بأني أديت إليكما مال الكتابة، إلى كل واحد نصيبه: فإن صدقاه-: عتق، وإن كذباه، فالقول قولهما مع يمينهما، وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، عتق نصيب المصدق، والقول قول المكذب مع يمينه؛ أنه لم يأخذ، فإن حلف-: بقي نصيبه على الكتابة، وهو بالخيار: إن شاء-: رجع على العبد بحصته من النجوم، وإن شاء-: شارك المصدق فيما أخذ، مثل: إن كاتباه على ألف، فأخذ المصدق خمسمائة-: أخذ المكذب منه مائتين وخمسين، ومن المكاتب مائتين وخمسين؛ لأن كسب المكاتب كان مشتركاً بينهما، فإذا أخذ منهما أو من العبد-: عتق كله، وإذا أخذ منهما المصدق-: لا يرجع على العبد بما أخذ منه المكذب؛ لأنه مقر بأنه مظلوم، فلا يرجع على غير من ظلمه، وكذلك: إذا أخذ من العبد لا يرجع على المصدق؛ فلو أن المصدق شهد بأن شريكي أخذ نصيبه-: لا تقبل شهادته؛ لنه سقط بشهادته عن نفسه مشاركته فيما أخذ، فيكون متهما، ثم إذا أدى العبد إلى المكذب حصته-: عتق، وإن لم يكن في يده وفاء وعجزه-: رق نصفه، ولا يقوم نصيبه على المصدق؛ لأنه لا يقر له أني سبقتك بالإعتاق؛ بل يقول: أخذنا معاً- فهو كشريكين في عبد، فقال أحدهما: أعتقنا هذا العبد معاً، وأنكر الآخر-: عتق نصيب المقر، ولا يقوم عليه الباقي، لأنه لم يسبق بالإعتاق، ولا فرق بين أن يكون هذا الاختلاف في أداء آخر النجوم أو في أولها إلا أن الاختلاف إذا كان في النجم الأول: لا يحصل العتق إذا صدقاه أو أحدهما؛ فأما إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: دفعت إليك الألف كلها، لتأخذ منها نصيبك، وتدفع الباقي إلى الشريك الآخر، فقال: لا، بل دفعت إلي نصيبي، ودفعت نصيب الآخر إليه بنفسك، وأنكر

الآخر-: عتق نصيب المقر والقول قوله مع يمينه في أنه لم يأخذ نصيب الآخر، وبقي نصيب النمكر على الكتابة، والقول قول المنكر في نصيبه؛ أنه لم يقبضه بلا يمين؛ لأن المكاتب لا يدعي عليه شيئاً، ثم المنكر يتخير بين أن يأخذ خمسمائة من العبد، وبين أن يأخذ من المقر مائتين وخمسين، ومن العبد مائتين وخمسين، ثم لا رجوع لأحدهما على الآخر. ولا تقبل شهادة المقر على المنكر؛ فإذا أخذ المنكر حصته: إما من المكاتب، أو منهما عتق العبد. وإن عجز المكاتب عن أداء ما يجب عليه: إما عن الخمسمائة، إن رجع بالكل عليه، أو عن مائتين وخمسين؛ إن رجع بالنصف-: له تعجيزه، فإذا عجزه-: كان نصفه حراً، ونصفه رقيقاً، كما سبق. قال الشافعي في هذه الصورة: ويقوم على المقر النصف الأخير: فمن أصحابنا من نقل جواب هذه إلى الأولى؛ فخرجهما على قولين، وليس بصحيح؛ بل المذهب أن هناك: لا يقوم، وههنا: يقوم. والفرق: أن التقويم يراد لحظ العبد، وهناك: يقول العبد: أنا حر؛ لأني أديت المال إلى المستحق؛ فلا معنى لتقويمه، وههنا: يدعي أنه مملوك مستحق للتقويم؛ لأنه يقر بأني ما أديت إلى الشريك الآخر حقه، فأما إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: دفعت إليك الألف؛ لتأخذ نصيبك، وتدفع إلى الآخر نصيبه، فقال: قد فعلت ما قلت، وعتقت، وأنكر الشريك الآخر: أن يكون أخذ شيئاً-: عتق نصيب المقر، والقول قول المنكر مع يمينه في نصيبه، فإذا حلف-: كان نصيبه مكاتباً كما كان، وله الخيار بين أن يأخذ من المكاتب خمسمائة، وبين أن يرجع بجميع الخمسمائة على المقر؛ لأنه أقر بأخذها، ومن أيهما أخذ-: عتق المكاتب، ثم إن أخذ من المكاتب-: رجع المكاتب بالخمسمائة على المقر، سواء صدقه في دفعه إلى الشريك المنكر، أو كذبه، لأنه- وإن صدقه-: فإنه يقول: كان عليك أن تدفع دفعاً مبرئاً، ويشهد عليه، وإن أخذ المنكر الخمسمائة من المقر-: لا رجوع له على المكاتب، لأنه مقر بأنه مظلوم، فلا يرجع بالظلم على غير من ظلمه، فلو اختار المنكر الرجوع على المكاتب، [فعجز]، وهذا مما يبعد؛ لأن له أن يأخذ من المقر الخمسمائة، فيؤديها في النجوم؛ لكنه لم يفعل، واختار العجز، فيكون نصفه حراً بإقرار المقر، ونصفه رقيقاً، ويقوم هذا النصف على المقر، فالمنكر يرجع عليه بقيمة ذلك النصف، ويرجع بالخمسمائة التي أقر بقبضها؛ لأنه كسب نصف العبد الذي كان له، والله أعلم.

باب ولد المكاتبة لا يجوز للمولى وطء مكاتبته؛ لاختلال ملكه عليها، فإن وطئها لا حد عليه، لشبهة الملك، سواء كان عالماً بالتحريم أو [كان] جاهلاً؛ لأن له فيها ملكاً، وإن كان ضعيفاً؛ بدليل نفوذ عتقه فيها، ويعزر من كان منهما عالماً، ولا يعزر الجاهل، ويجب المهر، علماً أو جهلاً، مكرهة كانت الجارية أو مطاوعة، فإن عجزت قبل أخذ المهر-: سقط المهر، وإن عتقت بأداء النجوم-: أخذت المهر. ولو وطئها السيد وأحبلها-: فالولد حر، وصارت أم ولد له، والكتابة بحالها، فإن عجزت، ثم مات السيد- عتقت عن الاستيلاد، وتبقى أكسابها للمولى، ويتبعها الأولاد الذين حصلوا بعد الاستيلاد من زوج أو زناً، وما حصلوا قبله أرقاء. ولو مات السيد قبل عجزها-: عتقت، ثم يقع عتقها عن الكتابة أم عن الاستيلاد فالصحيح: أن عتق الكاتب لا يقع إلا عن الكتابة، سواء تقدم الاستيلاد على الكتابة أو تأخر عنها. وكذلك: لو علق عتق مكاتبه بصفة أو كاتب، ثم علق عتقه بصفة، فإذا وجدت الصفة، أو مات المولى في الاستيلاد قبل أداء النجوم-: يعتق عن الكتابة؛ كما لو أدى النجوم قبل وجود الصفة. ويجوز: أن يقع عتق المكاتب عن الكتابة قبل أداء النجوم؛ كما لو أعتقه المولى وأبرأه عن النجوم-: كان عتقه عن الكتابة. وقيل: إن مات السيد قبل أداء النجوم أو وجدت الصفة: تعتق عن الاستيلاد ووجود الصفة وغن كان كسبها لها؛ كما لو أعتقها المولى، ولا يختلف القول به، وإن كاتبها، ثم استولدها، ومات المولى-: تبعها جميع أكسابها، فأما الأولاد التي حصلت من زوج أو زناً-: فما حصل بعد الاستيلاد: يتبعها، وما حصل بعد الكتابة قبل الاستيلاد-: فعلى قولين، سنذكره - إن شاء الله تعالى. وإن استولد، ثم كاتب، وأدى النجوم-: فالأكساب التي حصلت بعد الكتابة-: تتبعها، وما حصلت قبل الكتابة بعد الاستيلاد: يكون للمولى، والأولاد الذين حصلوا من زوج أو زناً بعد الاستيلاد يتبعونها.

فصل إذا أتت المكاتبة بولد من زوج أو زناً-: هل يثبت للولد حكم الكتابة؟ فيه قولان: أصحهما: يثبت، وهو المنصوص ههنا؛ لأن سبب الحرية كحقيقة الحرية في استتباع الولد؛ كالاستيلاد يستتبع الولد؛ فعلى هذا: إن عتقت-: عتق الولد، وإن عجزت-: فهو رقيق. والقول الثاني: لا يثبت للولد حكم الكتابة؛ لأنه عقد [يقبل] الفسخ؛ كالمرهونة: إذا أتت بولد- لا يثبت حكم الرهن في الولد؛ بخلاف الاستيلاد؛ فإن حق العتاق هناك آكد؛ بدليل أنه لا يقبل الفسخ، والكتابة أولى بالسراية من التدبير؛ لأنها آكد من التدبير، فإنها تمنع البيع، والتدبير لا يمنع البيع، هذا في ولد لم يتحقق وجوده يوم الكتابة؛ فإن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم الكتابة: فإن تحقق وجوده يوم الكتابة-: بأن أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم الكتابة: فإن قلنا: الحمل لا يعرف-: فهو كالحادث من بعد، وإن قلنا: يعرف-: فلا تسري الكتابة إلى الولد؛ بخلاف التدبير، فحيث قلنا: يسري إلى الولد؛ لأن تدبير الصغير يجوز. قال الشيخ- رحمه الله-: سواء قلنا: الحمل يعرف أو لا يعرف: وجب أن يثبت حكم الكتابة والتدبير في الولد؛ لأن ثبوته في الولد ليس بطريق [السراية، بل بطريق] الاستتباع، كما يتبع الولد الأم في البيع، وإن كان البيع لا يقبل السراية. فإن قلنا: لا يثبت حكم الكتابة للولد: فهو قن، يجوز للمولى بيعه وهبته وإعتاقه عن كفارة، وإن كاتب جارية-: يجوز له وطؤها. وإذا وطئت بالشبهة-: [يكون المهر له، وإن قتل: تكون القيمة له كسائر عبيده، وإن قلنا: يثبت له حكم الكتابة]: لا نعني به: أنه يجب على الولد شيء من النجوم، بل نعني به: أن الأم إذا أدت النجوم، وعتقت-: عتق الولد تبعاً لها؛ فعلى هذا: الحق في ذلك الولد لمن يكون؟ فيه قولان: أحدهما: الحق لها؛ لأنه يكاتب عليها. والثاني: يكون للسيد؛ لأن الحرية لم تكمل في الأم، حتى يثبت لها الحق فيه. وفائدته: فيما إذا قتل ذلك الولد: يجب على القاتل قيمته، ثم إن قلنا: الحق للمولى-: فالقيمة تكون له؛ لأن الولد تبع للأم، والأم لو قتلت-: كانت القيمة للمولى؛ كذلك قيمة

الولد، وجعله الشافعي- رضي الله عنه- أشبه القولين، وإن قلنا: الحق لها-: فالقيمة تكون لها؛ تستعين بها على أداء النجوم، وهو اختيار المزني، رحمه الله. ولو جني على ذلك الولد، أو كانت جارية، فوطئت بالشبهة، أو اكتسبت: فإن قلنا: الحق في الولد لها-: فالأرش والمهر والكسب لها تستعين بها على أداء النجوم، ونفقة الولد تكون عليها؛ كولد المكاتب من أمته: تكون نفقته عليه. وإن قلنا: الحق فيه للسيد-: فقد قيل: يكون الأرش والمهر والكسب للسيد؛ كالقيمة: إذا قتل، وليس بصحيح، بل المذهب: أنه ينفق على الولد من الأرش والمهر والكسب، ويداوي به جرحه، وما فضل-: يوقف، فإن عتقت-: فكله للولد، وإن رق بعجز الأم-: فللسيد كما أن كسب الأم يكون لها إن عتقت، وإن عجزت-: فللسيد، وعلى هذا: إن لم يف كسبه بنفقته، أو لم يكن له كسب-: فنفقته على السيد؛ لأنه موقوف له، فإذا مات الولد-: فالحكم في كسبه كالحكم في قيمته، إذا قتل، وفيه قولان: أحدهما: يكون للسيد. والثاني: لها؛ فتستعين به في أداء النجوم. ولو أعتق السيد ولد المكاتبة: [فإن قلنا: الحق لها-: فلا ينفذ عتقه، وكما لو أعتق عبد المكاتب] وإن قلنا: الحق للسيد-: ينفذ عتقه فيه، بخلاف عبد المكاتب: لا ينفذ عتقه فيه؛ لأنه لا حق له فيه؛ وهذا بخلاف ولد المكاتب من أمته، إذا أعتقه السيد-: لا يعتق قولاً واحداً. والفرق: أن المكاتب يملك ولد أمته، إذا كان من زوج أو زناً، ولا ينفذ إعتاق السيد فيه، وولده من أمته ولد أمته، فلم ينفذ عتقه فيهز والمكاتبة لا تقر يدها على ولدها؛ بحيث تقدر على بيعه: إنما تقر يدها على ولد أمتها، وولدها لا يكون ولد أمتها؛ إنما يثبت لها حق العتاق؛ كالأم، فإذا أعتقه المولى-: يعتق، كما لو أعتقها. ولو وطئ السيد ولد المكاتبة-: عزر، ولا حد عليه لشبهة الملك. أما المهر-: فيؤخذ منه على قولنا: إن حكم الكتابة يثبت في الولد، ثم إن قلنا: الحق فيه للأم-: فالمهر لها تستعين به في أداء النجوم.

وإن قلنا: الحق للمولى-: فينفق منه على الولد، ويوقف الباقي: [فإن عتق بعتق الأم-: كان له] وإن عجزت الأم-: فللمولى، وإن أحبلها-: صارت أم ولد له، ولا يجب عليه قيمتها؛ لأنها ليست بملك للأم، إنما يثبت لها [حق العتاق] بكتابة الأم، وقد تأكد ذلك بالاستيلاد. [قال الشيخ- رحمه الله-: وحكم الكتابة فيها قائم، حتى يعتق بعتق الأم، والكسب لها على قولنا: إن الحق لها]. قال الشيخ- رحمه الله-: فإن مات السيد-: يعتق الولد بموته، وتؤخذ القيمة من تركته لها، إذا جعلنا الحق لها؛ كما لو قتله المولى، وإذا استولد [المولى] مكاتبته قد ذكرنا: أن الولد حر، وصارت أم ولد له، وهل يجب على المولى قيمة الولد؟ إن قلنا: ولد المكاتب من غير السيد قن للمولى، أو قلنا يتكاتب عليها ولكن الحق فيه للمولى؛ لا يجب عليه قيمة الولد؛ كما إذا قتل المولى ولدها. وإن قلنا: الحق في ولدها لها-: فيجب على المولى قيمة الولد لها؛ تستعين بها في أداء النجوم، فإن عجزت-: قيل: إن أخذت سقط عنه، وإن عتقت قبل الأخذ-: لها مطالبته بها. فصل لا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن المولى، ويجوز بإذنه. وقيل: في نكاحه بإذن المولى قولان؛ كتبرعاته؛ لأنه يلزمه المهر والنفقة، والمذهب الأول: أنه يجوز بإذنه مولاه قولاً واحداً؛ لأنه لم يبذل المهر والنفقة مجاناً؛ إنما يبذله بمقابلة عوض، وهو البضع. ولا يجوز للمكاتب أن يتسرى على ظاهر المذهب، وإن أذن له المولى، ويجوز له شراء الجواري للتجارة؛ لأنه قد يحصل له عليها الربح، فلو اشترى جارية ووطئها-: لا حد عليه؛ لشبهة الملك، فلو أحبلها-: فالولد ثابت النسب، ثم نظر: إن أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم عتق المكاتب، وكان يطؤها-: فالولد حر، لا ولاء عليه إلا الولاء الذي على الأب، والجارية تصير أم ولد له، وإن أتت به في حال الكتابة-: يتكاتب الولد عليه: يعتق بعتقه، ويرق برقه، وعليه نفقته، وإذا عتق بعتقه-: كان ولاؤه له، لأنه عتق عليه، وكذلك-: إذا أتت به بعد العتق لأقل من ستة أشهر: فقد يتكاتب عليه، وعتق بعتقه؛ بخلاف ولد المكاتبة: لا يتكاتب عليها؛

على أحد القولين؛ لما ذكرنا: أن المكاتبة لا تقر يدها على ولدها؛ فلم يتكاتب عليها، والمكاتب تقر يده على ولد أمته إذا كان من زوج أو زناً، وولده من أمته ولد أمته، فيقر عليه يده، ثم يتكاتب عليه لحق القرابة، ثم الحق في ولد المكاتب [من أمته]: يكون للمكاتب، حتى لو قتل: تكون القيمة له، ولا ينفذ إعتاق السيد فيه، وإن كانت جارية، فوطئها السيد-: يجب عليه مهرها [كما لو وطئ أمة المكاتب: يجب عليه مهرها]، إذا ثبت أن ولد المكاتب من أمته يتكاتب عليه- فهل تصير الجارية أم ولد له؟ فيه قولان: أحدهما: تصير أم ولد له، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ حتى لا يجوز له بيعها؛ لأنه لما ثبت للولد حكم الحرية، حتى تكاتب عليه-: ثبت للأم حكم أمومة- الولد. والقول الثاني: وعليه نص ههنا، وفي عتق أمهات الأولاد-: لا تصير أم ولد له، وهو الصح؛ لأنه لم تتم فيه الحرية، والولد ثبت له حكم الحرية لا بالاستيلاد في الملك، بل بحصول الملك في الولد؛ ألا ترى: لو ملك ولده في الكتابة: صار مثله، وإذا اشترى [أم] ذلك الولد-: لا تصير أم ولد له فإن قلنا: تصير أم ولد له، حتى لا يجوز [له] بيعها، فإذا عتق بأداء النجوم-: فقد استقر أمومة الولد، وإذا عجز، فملك السيد هي وولدها-: يجوز له بيعها، فإذا باعها المولى، ثم عتق العبد، فملكها-: لا تصير أم ولد له؛ لأنا تبينا بطريان العجز: أن حكم أمومة الولد لم تثبت، وأن العلوق حصل برقيق. وإن قلنا: لا تصير أم ولد له، حتى يجوز له بيعها، فإن عجز وبيعت، ثم عتق، واشتراها-: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت برقيق؛ وكذلك: لو عتق بأداء النجوم-: فالمذهب هذا أيضاً: [أنها] لا تصير أم ولد له. وقال أبو إسحاق: تصير أم ولد له، تخريجاً من الراهن: إذا وطئ المرهونة، وأحبلها، وقلنا: لا تصير أم ولد له، فإذا بيعت، ثم ملكها تصير أم ولد له [في قول] وليس بصحيح؛ لأن- ثم - علقت منه بحر، وههنا [علقت] برقيق، هذا إذا أتت بالولد في حال الكتابة، أو بعد العتق لأقل من ستة أشهر. فإن أتت [به] بعد العتق بستة أشهر فأكثر: قال الشافعي: صارت أم ولد له. فمن أصحابنا من قال- وهو الأصح-: أراد به: إذا وطئها بعد الحرية، وولدت لستة أشهر فصاعداً من يوم الوطء؛ حتى يكون العلوق في الحرية، فأما إذا لم يكن وطئها بعد الحرية

-: فلا تصير أم ولد له؛ على هذا القول. ومنهم من قال: تصير أم ولد له؛ سواء وطئ بعد الحرية أو لم يطأ؛ لأنها كانت فراشاً قبل الحرية، وبعد الحرية: ذلك الفراش مستديم. ولو أتت بالولد لوقت يجوز أن يكون العلوق في الملك التام، وهو بعد الحرية؛ فتصير به أم ولد [له]؛ بخلاف ما لو أتت به لدون ستة أشهر؛ لأن- ثم - لا تحتمل العلوق بعد الملك التام، ولو زوج أمته من عبده، ثم كاتب العبد، ثم باع زوجته منه، فأتت بولد، فاختلفا: فقال المولى: ولدت قبل الكتابة، فهو [قن] لي، وقال المكاتب: بل بعد الكتابة والشراء: قد كاتب علي-: فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ بخلاف المكاتبة، إذا أتت بولد، وقلنا: يتكاتب عليها، فاختلفا، وقال المولى: أتيت به قبل الكتابة-: فهو رقيق لي، وقالت: [بل] بعد الكتابة والشراء-: فالقول قول المولى مع يمينه؛ وكذلك: لو أدت المال، وعتقت، ثم اختلفا: فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على ثبوت الملك للمولى في الولد؛ لأن ولد المكاتبة مملوك للمولى. وإن اختلفا في أنه هل يكون مكاتباً أم لا؟ أما ولد المكاتب-: جعلنا القول فيه قول المكاتب؛ لأن يد المكاتب تقر على ولده، فدعواه الولد دعوى ملك، واليد تدل عليه؛ كما لو كان في يد المكاتب مال ادعاه السيد-: كان القول قول المكاتب؛ فالمكاتبة لا تدعي الملك؛ لأن يدها لا تقر على ولدها؛ بل تدعي أن الولد موقوف، واليد لا تدل على الوقف، ولا على الكتابة. ولو أقام السيد أربع نسوة على أنها أتت به قبل الكتابة، قبل؛ لأنها شهادة على الولادة، ثم الملك يثبت ضمناً. وإن اتفقا على أنها أتت به بعد البيع-: يتكاتب عليه، سواء أتت به لأقل من ستة أشهر أو لأكثر؛ كمن اشترى جارية، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم الشراء-: يكون للمشتري، حتى لو أتت بتوءمين، أحدهما: قبل البيع، والآخر: بعده وبينهما أقل من ستة أشهر-: فالأول للسيد، والثاني يتكاتب عليه؛ كما في الشراء، والله أعلم. باب المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما إذا كاتب رجلان أمة معاً، ثم وطئها أحدهما-: لا حد عليه؛ لشبهة الملك، وعذر إن

كان عالماً، وعليه المهر لها، فيأخذه إن لم يحل عليها نجم، وإن حل عليها نجم، فإن كان في يدها ما تدفع إلى السيد، الذي لم يطأ، مثل المهر-: فعلت، وصار المهر الذي على الواطئ بمثله من النجوم قصاصاً، وإن لم يكن معها شيء تدفعه إلى الآخر-: فالذي لم يطأ يأخذ نصف المهر من الواطئ، والنصف الآخر يصير قصاصاً بمثله من النجوم؛ فتبرأ ذمة [المكاتب] عن قدر المهر من النجوم، فإن عتقت النجوم المكاتبة- نظر: إن كان قبل أخذ المهر، ولم يصر قصاصاً بالنجوم-: أخذته بعد العتق، وإن كان بعد أخذ المهر-: فلا شيء لها، وإن عجزت- نظر: إن كان بعد أخذ المهر: فإن كان قائماً في يدها-: يكون للسيدين، وإن كان هالكاً-: فلا شيء على أحد، وإن عجزت] قبل أخذه: فإن كان في يدها مال بقدر المهر-: أخذه السيد الآخر، وبرئت ذمة الأول، وإن لم يكن في يدها شيء- أخذ السيد الذي لم يطأ نصف المهر من الواطئ، وإن وطئها أحدهما، وأحبلها، ولم يدع الاستبراء بعد الوطء-: صار نصيبه أم ولد له مع بقاء الكتابة، ثم نظر: إن كان معسراً-: لا يقوم عليه نصيب الشريك، وعليه جميع المهر لها، وفي الولد وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة-: ينعقد كله حراً. والثاني: وهو الأصح: وهو قول أبي إسحاق: نصفه حر، ونصفه مملوك؛ لأن أحد نصفي الجارية ليس له، ولو لم تكن كلها له: كان الولد رقيقاً؛ [فكذلك: إذا لم يكن نصفها له-: كان نصف الولد] رقيقاً. فإن قلنا: ينعقد الولد كله حراً، كم يجب عليه من قيمة الولد؟ إن قلنا: ولد المكاتبة قن للمولى-: فعلى الواطئ نصف قيمته للشريك الآخر، والنصف ساقط. وإن قلنا: يتكاتب عليها: فإن قلنا: الحق فيه للمولى-: فهكذا. وإن قلنا: الحق فيه لها-: فعليه جميع قيمة الولد، لها تستعين بها في أداء النجوم؛ فإن عتقت قبل الأخذ-: أخذت، وإن عجزت قبل الأخذ-: أخذ الشريك الآخر نصفها، وسقط النصف وإن قلنا: ينعقد [نصف] الولد حراً-: فالنصف المملوك ما حكمه؟ إن قلنا: ولد المكاتبة قن للمولى-: فهو للشريك الآخر، ولا شيء على الشريك الواطئ من القيمة، وإن قلنا: ولد المكاتبة يتكاتب عليها-: فالنصف الآخر يتكاتب على الأم

يعتق بعتقها، ويرق برقها للشريك الآخر، وهل يجب على الواطئ قيمة النصف الحر على هذا القول؟ إن قلنا: الحق في ولد المكاتبة للسيد-: لا يجب. وإن قلنا: الحق لها-: يجب. ثم إن عتقت-: عتق الولد، وسلم لها نصف القيمة، فإن لم تكن أخذت تأخذه، وإن عجزت-: سقط عنه. فإن كان قد دفع، استرد إن كان قائماً في يدها، والنصف الآخر رقيق للشريك [الآخر]. هذا إذا كان الواطئ معسراً، فإن كان موسراً-: كان الولد حراً، ويقوم عليه نصيب الشريك، فتكون جميعها أم ولد له، ومتى يقوم. فيه قولان: أحدهما: يقوم في الحال. والثاني: عند العجز؛ كما ذكرنا في الإعتاق. فإن قلنا: يقوم في الحال- تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، فنصفها مكاتب، ونصفها أم ولد، فعلى الواطئ للشريك نصف مهر مثلها، ونصف قيمتها. وهل يجب نصف قيمة الولد؟ إن قلنا: السرايا تقع بأداء القيمة- يجب؛ لأن العلوق يقدم على الملك. وإن قلنا: بنفس العلوق-: لا يجب. أما نصيب الواطئ-: لا تنفسخ فيه الكتابة-: فعليه لها نصف المهر، فتستعين على أداء النجوم. وهل يجب نصف قيمة الولد؟ فعلى ما ذكرنا في ولد المكاتبة- لمن يكون؟ فإذا أدت مال الكتابة لنصيب الواطئ-: عتق ذلك النصف، وسرى إلى الباقي. وإن قلنا: يقوم عند العجز، فإذا أدت النجوم-: [عتقت] عن الكتابة، وبطل حكم الاستيلاد، ويجب لها مهر المثل على الواطئ فتأخذه، إن لم تكن أخذت، ولا تجب قيمتها.

وأما قيمة الولد: إن قلنا: ولد المكاتبة قن للسيد: يجب نصف قيمته للشريك. وإن قلنا: يتكاتب عليها: فإن قلنا: الحق للسيد: فكذلك. وإن قلنا: الحق لها: فتجب جميع القيمة لها. وإن لم تؤد النجوم، وعجزت: يجب على الواطئ نصف مهر مثلها، ونصف قيمتها، ونصف قيمة ولدها كلها- للشريك. ولو وطئها أحدهما، وادعى الاستبراء، وأتت بولد بعد الاستبراء بستة أشهر: لم يلحقه، وهو كولد المكاتبة من زوج أو زناً. هذا إذا وطئها أحدهما. أما إذا وطئاها جميعاً- نظر: إن لم يحصل العلوق: يجب على كل واحد كمال مهرها لها، وإن حصل العلوق- لا يخلو: إما إن أتت بولد واحد، أو بولدين: فإن أتت بولد واحد- نظر: إن ادعيا الاستبراء، [أو حلفا عليه: فالولد منفي عنهما]، وهو كولد أتت به من زوج، أو زنا. وإن لم يدعيا الاستبراء: فله أربعة أحوال: إحداها: أن يعلم أنه ليس لواحد منهما: فإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الآخر: فهو كولد أتت به من زوج، أو زناً. الثانية: أن يعلم أنه من الأول؛ بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر، ولدون أربع سنين من وطء الأول، ولأقل من ستة أشهر من وطء الثاني: فهو للأول، وحكمه ما ذكرنا في وطء أحدهما من أنها [تكون] أم ولد له، وإن كان موسراً. ومتى يسري إلى نصيب الشريك؟ فعلى القولين. وإن كان معسراً: فلا يسري. فإن كان موسراً، حتى حكمنا بالسراية: فإن وطئها الثاني بعد العجز: فأداء القيمة عليه تمام المهر الأول. وإن وطئها قبلا لعجز: إن قلنا: تقع السراية في الحال- فكذلك: عليه كمال المهر: نصفه للأول، ونصفه لها؛ تستعين به في أداء النجوم.

[وإن قلنا: يقع عند العجز: فعليه كمال المهر لها؛ تستعين به في أداء النجوم]. الحالة الثالثة: أن يعلم أن الولد من الثاني؛ بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولأكثر من ستة أشهر، ولدون أربع سنين من وطء [الثاني]: فهو للثاني، ويصير نصيبه أم ولد له، ولا يقوم عليه نصيب الأول، إن كان معسراً. ونصف الولد هل يكون رقيقاً؟ فيه قولان. وإن كان موسراً: فالولد حر، ويقوم عليه نصيب الشريك؛ كما ذكرنا. أما الأول، فماذا عليه؟ نظر: إن كان الثاني معسراً: فعلى الأول كمال المهر؛ تستعين به في أداء النجوم، وإن كان الثاني موسراً: إن قلنا: السراية تقع بعد العجز: فهكذا. وإن قلنا: في الحال: انفسخت الكتابة في نصيب الأول، ولا يجب عليه إلا نصف المهر لها؛ تستعين به على أداء نجوم نصيب الشريك. الحالة الرابعة: إذا احتمل كون الولد منهما؛ بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين من وطء كل واحد منهما: يرى القائف؛ فبأيهما ألحقه التحق به، وكان نصيبه أم ولد له، ويقوم عليه نصيب الشريك، إن كان موسراً. وإن لم يكن قائف: يترك حتى يبلغ، فينتسب، فإذا انتسب إلى أحدهما: كان نصيبه أم ولد له. أما إذا أتت من كل واحد بولد- نظر: إن كانا موسرين، أو كان الأول موسراً: تصير أم ولد للأول، وعليه للثاني نصف قيمتها ونصف مهرها، وهل يجب نصف قيمة الولد؟ إن قلنا: السراية تقع بنفس العلوق: لا يجب. وإن قلنا: تقع بأداء القيمة، أو قلنا: تتوقف على العجز عن أداء نصيب الشريك: يجب. ثم الثاني: إن كان وطئها بعد العجز، وأداء القيمة، فإن كان جاهلاً بالحال: عليه للأول تمام مهرها، وتمام قيمة الولد يوم سقط، والولد حر. وإن كان عالماً بالتحريم عليه الحد، والولد رقيق للأول.

وإن كان وطئها قبل العجز: إن قلنا: [السراية] تقع بنفس العلوق فهكذا عليه كمال المهر، وقيمة الولد، ثم المهر: نصفه للأول، ونصفه لها؛ تستعين به على أداء نجومها؛ لأن كتابة نصفها باقية، ونصف قيمة الولد للأول. والنصف الآخر لها أم للأول؟ فعلى قولي ولد المكاتبة. وإن قلنا: السراية تقع بأداء القيمة، وكان قبل أداها، أو قلنا: يقوم عند العجز عليه نصف المهر للأول. وهل يخلف نصف الولد رقيقاً، أم يكون كله حراً؟ فيه قولان، ولا يصير نصيبه أم ولد له، وإن صادف الوطء ملكه؛ لأنه صار مستحق الصرف إلى الأول. فأما إذا كانا معسرين، أو كان الأول معسراً: صار نصيب الأول أم ولد له، مع بقاء الكتابة، ولم يسر إلى الباقي. فإذا أحبلها الثاني: صار نصيبه- أيضاً- أم ولد له، وفي ولد كل واحد قولان: أحدهما: كله حر، وعلى كل واحد للآخر نصف قيمته. والثاني: نصفه حر، ونصفه [رقيق] للآخر. ثم هو قن للآخر، أم يتكاتب عليها؟ فعلى القولين، ولا يجب على كل واحد منهما شيء من قيمة الولد، ويجب على كل واحد تمام مهرها لها، فإن عجزت قبل الأخذ: كان على كل واحد نصف المهر للشريك الآخر وأيهما أخذ نصيبه من مال الكتابة: عتق نصيبه دون نصيب الآخر، وأيهما مات: عتق نصيبه دون نصيب الآخر. هذا إذا لم يشكل الأول؛ فإذا أشكل [الأول]، وادعى كل واحد منهما: أنه استولد أولاً، لا يخلو: إما إن كانا موسرين، أو معسرين، أو كان أحدهما موسراً. فإن كانا موسرين، فاختلفا؛ وقال كل واحد منهما: أنا وطئت أولاً؛ فيقوم على نصيبك، وكل واحد يدعي على الآخر جميع المهر، وجميع قيمة الولد، ويقر له بنصف المهر ونصف قيمة الجارية: فيتحالفان، ثم يتحالفان على النفي والإثبات أم على النفي؟ فيه وجهان:

فإذا تحالفا: فهي أم ولد لواحد منهما لا بعينه، ولا شيء لأحدهما على الآخر، ونفقتهما عليهما، فإذا مات أحدهما: لم يعتق شيء منها؛ لاحتمال أن الثاني أحبلها أولاً، فإذا ماتت: عتقت، وولاؤها موقوف بينهما. وإن كانا معسرين: فهو كما لو عرف الأول، فأيهما مات: عتق نصيبه، وولاؤه لورثته. والاعتبار في اليسار والإعسار بحالة الإحبال. وإن كان أحدهما موسراً، والآخر معسراً: تحالفا؛ كما ذكرنا، ونصيب الموسر أم ولد له بلا منازعة. وفي نصيب المعسر منازعة: فنصف نفقتها على الموسر، والنصف الآخر عليها. ثم إن مات الموسر أولاً: عتق نصيبه، وولاء ذلك النصف له؛ لأن نصيبه لا يتقوم على شريكه ثم إن مات المعسر بعده: عتق النصف الآخر، وولاء ذلك النصف موقوف؛ لاحتمال أن الموسر أحبل أولاً؛ فصار الكل أم ولد له. وإن مات المعسر أولاً: لم يعتق شيء منها؛ لاحتمال أنها أم ولد الموسر، ثم إن مات الموسر: عتق كلها، وولاء نصفها له، وولاء النصف موقوف. فأما إذا كان الاختلاف على عكسه، قال كل واحد لصاحبه: أنت وطئت أولاً فيقوم عليك نصيبي، وكانا موسرين: تحالفا، ثم بعده: عليهما نفقتها. فأما إذا مات أحدهما: لا يعتق نصيبه؛ لاحتمال أن الآخر سبقه بالاستيلاد، ويعتق نصيب الحي؛ لأنه يقر بأن الميت سبق بالوطء، وسرى إلى نصيبي، وعتق بموته، وولاء ذلك النصف موقوف. فإن مات الآخر: عتقت كلها، وولاء الكل موقوف. وإن كان أحدهما موسراً، والآخر معسراً، فقال [المعسر للموسر]: أنت أحبلت أولاً، فيقوم عليك نصيبي، وقال الموسر: لا؛ بل أنت أحبلت أولاً فلا يتقوم علي نصيبك: تحالفا، ثم بعد التحالف: تكون نفقتها عليهما. وإذا مات الموسر أولاً: عتقت كلها: نصيب الموسر بموته، ونصيب المعسر بإقراره،

وولاء نصيب الموسر له، وولاء نصيب المعسر موقوف. وإذا مات المعسر أولاً: لا يعتق شيء منها؛ لاحتمال أن الموسر سبقه بالإحبال، ثم إن مات الموسر: عتقت كلها، وولاء نصيب الموسر له، وولاء نصيب المعسر موقوف. باب تعجيل الكتابة إذا أتى المكاتب بمال الكتابة قبل المحل، هل يجبر السيد على قبوله؟ نظر: إن كان للسيد غرض في الامتناع من الأخذ؛ بأن كان أيام فتنة ونهب، أو كان حيواناً يحتاج إلى علفه، ويخاف هلاكه، أو كان طعاماً يريد أن يأكله عند المحل غضاً طرياً، أو كان يحتاج في حفظه إلى مؤنة؛ كالطعام الكثير، والخشب الثقيل" ونحوها،: فلا يجبر على القبول. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، والمال مما لا يخشى عليه التغير؛ كالدراهم والدنانير والصفر والنحاس والحديد، ولا يحتاج في حفظه إلى مؤنة: يجبر على القبول؛ لأن للمكاتب غرضاً في تعجيله؛ وهو حصول الحرية له؛ فإن لم يأخذ: أجبره الحاكم عليه، وعتق المكاتب، وإن كان في زمان الخوف والفتنة، وكان يوم عقد الكتابة بهذه الصفة، هل يجبر على القبول أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر؛ لأن العقد وجد، والبلد بهذه الصفة. والأصح: أنه لا يجبر؛ لأنه قد يرجو زوال الفتنة عند المحل. وإن أتى به في بلد آخر غير بلد العقد نظر: إن كان في نقله مؤنة، أو كان المكان خرباً: لا يجبر على القبول، وإن لم يكن: يجبر. وإذا أتى ببعض النجوم بعد المحل على أن يبرئه عن الباقي أخذ السيد ما أتى به، ولا يجب عليه أن يبرئه عن الباقي. ولو عجل قبل المحل بعضه، على أن يبرئه عن الباقي، ففعل: لا يصح الدفع، ولا الإبراء. وكذلك: لو أبرأه المولى عن البعض قبل المحل؛ بشرط أن يعجل الباقي: لا يصح الإبراء، ويجب عليه أن يرد ما أخذ، لأنه يضاهي ربا الجاهلية؛ فإنهم كانوا يزيدون في الحق؛ ليزيد صاحب الحق في الأجل، فهذا ينقص [من الحق؛ لينقص] من الأجل، فإن أخذ السيد ما

معه، فأبرأه عن الباقي من غير شرط، أو اختيار العبد تعجيز نفسه، فأخذ السيد ما في يده وأعتقه: جاز؛ قال الشافعي- رضي الله عنه- فإن أحب أن يصح- فليرض المكاتب بالعجز، ويرضى السيد بشيء يأخذه منه على أن يعتقه، فيجوز؛ هذه حيلة ذكرها الشافعي- رضي الله عنه: ليصل المكاتب إلى الحرية بما معه من المال، ولكن المكاتب لا يأمن في هذا من أن يأخذ السيد ما معه بعد فسخ الكتابة، ولا يعتقه، فالطريق فيه أن يقول المولى: إذا عجزت نفسك، ودفعت إلي ألفاً: فأنت حر، فإذا عجز نفسه، ودفع الألف: عتق، ثم يتراجعان: يسترد العبد ما دفع إليه، ويأخذ المولى منه قيمته. فإن استويا: تقاصا، وإن كان بينهما فضل: يرجع صاحب الفضل بالفضل، وإنما أثبتنا التراجع؛ لأنه جعل التعجيز وبذل المال عوضاً عن العتق، والتعجيز لا يصح أن يكون بدلاً عن العتق، فكأنه أوقع العتق على بدل فاسد، فيجب عليه قيمته. قال الشيخ الإمام- رحمه الله-: صورة هذا أن يرضى المكاتب بالعجز وقال له المولى ذلك، قبل فسخ الكتابة، لأن مجرد العجز: لا يرفع الكتابة؛ ما لم يفسخه المولى- فإذا عجز نفسه، ودفع الألف: عتق لوجود الصفة، ويكون عتقه واقعاً عن الكتابة؛ لأنه في حال بقاء الكتابة؛ فيكون الكسب له، و [كذلك]: يسترد ما دفع، والسيد لم يرض بإعتاقه مجاناً، بل أعتقه على مسمى، وأفسد ذلك المسمى شرط التعجيز؛ فوجد على العبد قيمته؛ فهذا وجهه عندي، والله أعلم. باب [بيع] المكاتب وشرائه الكتابة: معاقدة يتسلط بها العبد على أكسابه، فيجمعها، ويؤديها إلى المولى، فيعتق ولا يملك مكاسبه ولا رقبته. وقال أبو حنيفة: يملك ما تحت يده، ويجوز له أن يتصرف بالبيع، والهبة، والشراء، والإجارة، والأخذ بالشفعة، وقبول الهبة والصدقة، ويجمع المال بالاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد؛ وهو في المعاملة مع المولى كالأجنبي مع الأجنبي، وهل له أن يسافر بغير إذن المولى؟ قال في كتابة بعض العبد المكاتب: لا يمنع من السفر، وقال في "الإملاء": لا يسافر بغير إذنه.

اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه ربما يرى جمع المال في السفر. والثاني: (ليس له ذلك)، لأنه مخاطرة بالمال؛ بدليل أن الشريك لا يجوز له أن يسافر بمال شريكه [بغير إذنه]. ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، وقيل: هي على حالين حيث جوزنا إرادته، [إذا كان سفره قصيراً دون مسافة القصر، وحيث لم نجوز إرادته] إذا بلغ مسافة القصر؛ لأن الخطر فيه أكثر. وإذا باع السيد أو أجنبي شقصاً من ربع المكاتب، فيه شرك له: أخذه بالشفعة، وإذا باع هو شقصه للسيد، والأجنبي: أخذه بالشفعة. ولا يصح تبرع المكاتب؛ كالإقراض، والهبة، والإبراء عن الدين، والبيع بالمحاباة وبالنسيئة وبالإنفاق على أقاربه الأحرار بغير إذن المولى. وهل يصح بإذن المولى فيه قولان: أصحهما: يصح؛ لأن الحق في ماله لا يعدوهما وقد رضيا به. والثاني: لا يصح؛ لأنه تعلق بماله حق العتاب، وهو حق الله تعالى، فإن جوزنا تبرعه بإذنه، فقال له: بع شقصك بالمحاباة، فباعه والسيد شفيع له: أخذه بالشفعة. وإذا باع شيئاً نسيئة: فهو تبرع؛ لأنه يخرج المال من يده بلا عوض، سواء أخذ الرهن والكفيل، أو لم يأخذ، وسواء باع بثمن المثل أو بأكثر: فلا يصح بغير إذن المولى، وبإذنه قولان: وكذلك: لا يجوز أن يقرض، وإن أخذ به رهناً وضميناً. وكذلك: الهبة بشرط الثواب؛ لأنا- وإن أوجبنا الثواب مثل قيمته، أو أعطاه أكثر من قيمته: فالثواب نسيئة؛ لأن استحقاق الثواب يكون بعد الإقباض والتمليك في الموهوب. ولو باع ما يساوي عشرة بعشرين عشرة أخذها نقداً، وعشرة نسيئة: جاز. وإذا اشترى شيئاً نسيئة بثمن النقد: جاز، وإن اشترى بثمن النسيئة: فهو تبرع؛ لا

يجوز بغير إذن المولى. وإذا اشترى نسيئة، أو استسلف: فلا يجوز أن يرهن به شيئاً، وهو كالتبرع؛ لأنه ربما يتلف؛ فيكون من ضمان الراهن. وكذلك: لا يجوز أن يعطى قراضاً، لأنه ربما لا يعود إليه، ولو باع شيئاً: لم يكن له تسليم المبيع قبل قبض الثمن، وإن أسلم في شيء: لا يجوز لأنه يحتاج إلى تسليم رأس المال أولاً. وقيل: يجوز له تسليم المبيع؛ ليسلم العوض في الحال، أو في المجلس، وكذلك: في التسلم. وإن كان عليه دين مؤجل: لا يجوز تعجيله؛ لأنه يقطع تصرفه مما يعجله من المال من غير ضرورة. ولو وهب لسيده شيئاً، أو باعه منه نسيئة، أو بالمحاباة، أو أقرض مالاً، أو ضاربه، أو عجل له مؤجلاً: فهو كما لو تبرع بإذنه؛ [فيكون] على قولين. وإذا لزمته كفارة قتل أو ظهار أو يمين: لا يجوز أن يكفر بالمال دون إذن المولى، وبإذنه على قولين: فإن جوزنا: إنا نجوز بالإطعام والكسوة، أما بالعتق: فلا يجوز. فإذا لم نجوز: يكفر بالصوم. ولو أعتق المكاتب عبداً، أو كاتبه: فقد قيل: هو كسائر التبرعات؛ لا يجوز بغير إذن المولى، وبإذنه على قولين، وقيل: هو كسائر ترتب الكتابة والعتق بإذن المولى على سائر التبرعات، وإن لم نجوز سائر التبرعات: فالعتق والكتابة أولى، وإن جوزنا سائر التبرعات: ففي العتق والكتابة قولان: أصحهما: أنهما لا يصحان؛ لأنهما يعقبان الولاء، والمكاتب ليس من أهل أن يثبت له الولاء؛ كالعبد. هذا إذا أعتق عن نفسه، فإن أعتق عن سيده أو عن غير سيده بإذن سيده: فكالهبة تصح على أصح القولين؛ لأن ولاءه يكون للمعتق عنه، وهو من أهله.

وقال أبو حنيفة: يجوز للمكاتب أن يكاتب، ولا يجوز أن يعتق مجاناً، ولا على مال؛ فنحن نقيس على العتق على المال. فإن قلنا: لا تصح كتابة المكاتب، فإذا أدى مكاتبه المال: لا يعتق؛ بخلاف الحر إذا كاتب عبده كتابة فاسدة، فأدى المال: عتق؛ لأن الحر يملك إعتاقه على صفة، والمكاتب لا يملكه، وإن قلنا: تصح كتابة المكاتب: فالمكاتب الثاني يؤدي النجوم إلى الأول، ثم هو يصرفه إلى السيد، فإذا أدى: عتق، وإن لم يعتق الأول. فإذا عتق الأول ثم الثاني: فولاء الثاني للأول، فإذا مات المكاتب الأول قبل أن يعتق: لا تصح كتابة الثاني؛ لأن الأول كان كالنائب عن السيد في كتابته: فبعد موته: يؤدي إلى المولى ويعتق، ثم ولاء هذا المكاتب الذي كاتبه المكاتب، أو أعتقه لمن يكون؟ فيه قولان: أحدهما: للسيد؛ لأن المكاتب ليس من أهل ثبوت الولاء له. والثاني: يوقف؛ فإن عتق المكاتب: فله ولاؤه، وإن عجز أو مات: فللسيد ولعصباته. فإن قلنا: ولاؤه موقوف: فلو مات المعتق قبل عجز المكاتب وعتقه: فميراثه لمن يكون؟ فيه قولان: أحدهما: للسيد وعصباته. والثاني: يوقف على تبين حال المكاتب، فإن عجز أو مات: فللسيد؛ فإن عتق فله. ولو أوصى المكاتب لإنسان بشيء: قال الشيخ القفال: لا يصح، سواء أوصى بعين أو بثلث [ماله]؛ لأن ما في يده ملكه عليه غير تام؛ فلا تصح فيه الوصية، فإذا لم تصح فيه الوصية لا يصح فيما يستفيده من بعد. وعند أبي حنيفة: إذا أضاف إلى الموت والحرية: صح؛ وإلا فلا. ولو أقر المكاتب ببيع شيء: يقبل منه؛ لأنه يملك الإنشاء، ولو اشترى المكاتب قريبه الذي يعتق على الحر من ولد أو والد بغير إذن السيد: لا يصح، وإن اشترى بإذنه: فعلى قولي تبرعاته.

فإن جوزنا: يتكاتب عليه؛ فلا يجوز له بيعه بعتق يعتقه، وبرق يرقه للمولى. أما إذا أوصى له بمن يعتق على الحر أو وهب له فقبل- نظر: إن لم يكن كسوباً: لا يصح بغير إذن السيد، وبإذنه قولان، لأنه يلزمه نفقته؛ فكان كالتبرع. وإن كان كسوباً يقدر أن يقوم بكفايته: يصح قبوله بغير إذن المولى؛ لأنه لا ضرر عليه فيه، ويتكاتب عليه، ونفقته في كسبه، وما فضل من كسبه: يستعين به المكاتب على أداء النجوم. وإذا مرض أو عجز عن الكسب: فعلى المكاتب أن ينفق عليه من مال نفسه؛ لأنه من صلاح ماله. وإن جنى على إنسان يباع في جنايته، وإن لم يكن للمكاتب أن يفديه؛ بخلاف عبد المكاتب إذا جنى: جاز له أن يفديه؛ لأنه تبقى له رقبته؛ فيصرفها في نجوم الكتابة. ولذلك: يجوز أن يشتريه ابتداء؛ بخلاف القريب. ولو اشترى المكاتب زوجته: يصح، وينفسخ النكاح. وعند أبي حنيفة: لا ينفسخ. وإذا أجر المكاتب نفسه أو عبيده أو ماله: يجوز، ثم إذا عجز السيد: ينفسخ العقد، ويجوز للمكاتب أن يؤدب عبيده تعزيراً؛ لأنه من صلاح المال؛ كما يجوز أن يختنه ويفصده، ولا يجوز أن يحده على ظاهر المذهب؛ لأنه إلى من يكون أهلاً للولاية، والمكاتب ليس بأهل له. ولو كان للمكاتب على سيده دين من جنس مال الكتابة ووصفه، وكانا حالين: يتقاصان. وفيه أربعة أقوال ذكرناها في "كتاب البيع". أحدها: بنفس الوجوب يسقطان. والثاني: لا يسقطان إلا بتراضيهما. والثالث: إذا رضي أحدهما: صار قصاصاً. والرابع: حتى ينفذ أحدهما ويسلم، ثم يأخذ عما عليه.

وإن كانا مؤجلين بأجلين مختلفين، أو أحدهما حال والآخر مؤجل: فلا يتقاصان. [وإن كانا مؤجلين بأجل واحد: فيه وجهان: أصحهما: لا يتقاصان]. فصل لا يجوز للمولى بيع نجوم الكتابة قبل الأخذ؛ لأن بيع الدين من غير من عليه: لا يجوز، ولأنها غير مستقرة؛ فإنه يجوز لمن عليه إسقاطها بتعجيز نفسه. وكذلك: لا يجوز الاعتياض عنها؛ فلو باعها: فإن أداها المكاتب إلى البائع: عتق، وإن أداها إلى المشتري: هل يعتق؟ ذكر ابن سريج فيه قولين: أحدهما: يعتق؛ لأن السيد سلط المشتري على أحدهما؛ كما لو وكل وكيلاً بالقبض. والثاني: وهو الأصح: لا يعتق؛ بخلاف ما لو وكل بالقبض؛ لأن الوكيل يأخذه للموكل، والمشتري ههنا يأخذه لنفسه. وقال أبو إسحاق: إن قال المولى المكاتب بعد البيع. أده إليه، أو قال للمشتري: خذه، فأخذ: عتق؛ لأنه ابتداء توكيل. وإن لم يقيله لا يعتق؛ لأنه لم يأخذ بإذن؛ إنما أخذه بما تضمنه البيع من الإذن، والبيع فاسد، فما تضمنه يكون باطلاً. فإن قلنا: يعتق: فالسيد يرجع على المشتري بما دفع إليه المكاتب. وإن قلنا: لا يعتق: فالسيد يرجع على المكاتب، والمكاتب يرجع بما دفع إلى المشتري. ولو أن المكاتب أحال السيد بنجوم الكتابة على إنسان، أو السيد أحال غريمه على المكاتب، فيه وجهان: أحدهما: يجوز كسائر الديون. والثاني: لا يجوز؛ لأنه دين غير مستقر؛ كما لا تجوز الإحالة بالسلم، وعلى السلم، ولا

يجوز [للمولى بيع رقبة المكاتب على قوله الجديد؛ وهو المذهب، ولا يجوز] إعتاقه عن الكفارة؛ لأن الكتابة عقد يمنع من وقوع أرش الجناية [عليه]؛ فيمنع البيع؛ كما لو باع عبداً من إنسان: لا يجوز أن يبيعه من آخر. وقال في القديم: إنه يجوز بيعه وإعتاقه عن الكفارة؛ كالمعلق عتقه بالصفة. فإن قلنا بقوله القديم: إنه يجوز بيعه، فباعه، هل تنفسخ الكتابة؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ فإذا أعتقه المشتري: يكون الولاء له. والثاني: لا ينفسخ حتى لو أدى النجوم إلى المشتري: يعتق، [وولاؤه للبائع؛ كما لو مات السيد، فأدى النجوم إلى الوارث: يعتق]، وولاؤه للميت: فإن قلنا بظاهر المذهب: أن بيعه لا يجوز فباعه، ثم المكاتب أدى النجوم إلى المشتري، هل يعتق؟ فيه قولان: كما ذكرنا في بيع النجوم. وإذا انتفع به المشتري مدة، ثم ظفر المكاتب بالحاكم، فأثبت بالبينة أن سيده كاتبه، ثم باعه قبل العجز، ينزعه الحاكم من يد المشتري، [وهل يضرب المكاتب مثل المدة التي كانت في يد المشتري] فيه قولان: أصحهما: لا يضرب؛ لأن المدة محصورة لا يزاد عليها، بل يأخذ من المشتري أجر مثل تلك المدة، ويصرفه إلى المولى، فإن وفى بالنجوم، وإلا فللمولى تعجيزه. والثاني: يضرب له مثل تلك المدة؛ فيؤخذ أجر المثل من المشتري؛ فيكون للمولى؛ وكذلك: لو حبس المولى مكاتبه مدة، أو قهره فاستعمله، هل يضرب له مثل تلك المدة، أم يؤخذ أجر المثل من المولى، ويصرف في النجوم، فإن وفى؛ وإلا عجزه؟ فيه قولان: الأصح: يجب أجر المثل؛ لأن المنافع لا تضمن بالمثل، بل بالقيمة. ولو قهر أهل الحرب المكاتب على نفسه مدة ثم أفلت؛ فلا يمكن إيجاب الأجرة ههنا. وهل تجب تخليته تلك المدة؟ قيل ههنا: لا يجب؛ لأنه لم يكن الحبس من جهة المولى. والصحيح: أنه لا فرق بين الحالين لأنه فات ما استحق بالعقد؛ فلا فرق بين أن يكون بتفريط، وغير تفريط؛ كالمبيع إذا هلك في يد البائع.

ولو وهب المولى رقبة الكاتب: فهو كبيعه، ولا يجوز له بيع ما في يد المكاتب من الأموال، ولا إعتاق عبيده، ولا تزويج إمائه؛ كما لا يتصرف في مال الغير. ولو قال أجنبي للمولى: أعتق مكاتبك على ألف، فأعتق: عتق، ويستحق الألف على القائل، ويكون بمنزلة فداء الأسير. وكذلك: لو قال: أعتق أم ولدك على ألف، فأعتق: عتقت، واستحق الألف، أما إذا قال: أعتق مكاتبك، أو أم ولدك عني على ألف، أو لم يقل: على ألف، فأعتق: لا يعتق عن السائل لأنهما لا يقبلان النقل من ملك إلى ملك. وهل يعتق عن السيد المعتق؟ فيه وجهان؛ كما لو أعتق عبده عن الغير بغير إذنه لا يعتق عن الغير، وهل يعتق عن المعتق؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يعتق: لا يستحق على السائل شيئاً، والله أعلم. باب كتابة الكفار إذا كاتب الذمي، كتابياً كان أو مجوسياً، عبده الكافر، أو المستأمن كاتب عبده على ما يجوز في الإسلام: تصح كتابته؛ كما تصح كتابة المسلم. فإذا خرج المولى إلى دار الحرب: فإن وافقه المكاتب؛ وإلا فليس له إجباره على الخروج معه؛ لأنه صار أحق بنفسه؛ فاختل ملك المولى عليه. وإذا أسلم السيد: فالكتابة بحالها، وإذا أسلم المكاتب: لا يباع؛ لأنه خارج عن تصرف المولى؛ لا يمكنه استذلاله؛ بخلاف المدبر إذا أسلم: يباع في قول؛ لأنه غير خارج عن تصرف المولى. ولو أسلم عبد لذمي، ثم كاتبه، أو اشترى الكافر عبداً مسلماً، وقلنا: يصح الشراء؛ فكاتبه قبل أن يباع عليه، فيه قولان: أحدهما: الكتابة باطلة، ويباع عليه؛ لأن إزالة ملكه عنه واجبة، وبالكتابة: لا يزول ملكه كما لو دبره بعدما أسلم، أو علق عتقه بصفة: يباع عليه؛ فعلى هذا: لو لم يتفق البيع حتى أدى النجوم: عتق بحكم الكتابة الفاسدة، ويتراجعان. والقول الثاني: صحت الكتابة، ولا يباع؛ لأنه بالكتابة يخرج عن تصرفه، فلا يمكنه

استذلاله، وهو اختيار المزني، فإذا عجز بيع عليه، فلو كاتب الذمي عبده على ما لا يجوز في الإسلام من خمر أو خنزير، فإن أسلما، أو ترافعا إلينا بعد قبض المسمى: فقد عتق، ولا يرجع السيد عليه بشيء؛ لأنه مضى في الشرك على اعتقادهم. وإن أسلما أو ترافعا إلينا قبل قبض شيء منه، أو بعد قبض بعضه: يفسخه الحاكم، فإذا أدى بعد الفسخ: لا يعتق؛ كالمسلم في الكتابة الفاسدة، وإن أسلما قبل القبض، ثم قبضا، ثم ترافعا إلينا: فقد حصل العتق، ويتراجعان؛ فالسيد يرجع عليه بقيمته، وهو على السيد بما دفع إليه، [إن كان ما دفع إليه] شيئاً له قيمة، فإن لم يكن له قيمة: فلا يرجع المكاتب بشيء، وإن كان قد قبض [بعض] الفاسد في الشرك؛ بأن كاتبه على زقي خمر، فقبض أحدهما، ثم أسلما، فقبل أن يفسخ الحاكم العقد بينهما: أخذ الزق الآخر عتق، ووجب عليه جميع قيمة رقبته؛ لأن العتق يحصل بأداء النجوم؛ وذلك وجد في الإسلام. فصل وإذا كاتب الحربي عبده في دار الحرب: يصح؛ فإن قهره: عاد قنا، وارتفعت الكتابة، وإن دخل إلينا بأمان قبل قهره: فهو على كتابته، ولو دخل علينا مسلماً: فلا يتعرض لمكاتبه في دار الحرب. وإن خرج إلينا بأمان، ثم كاتب عبداً، ثم أراد أن يعود إلى دار الحرب: فإن وافقه مكاتبه؛ وإلا لم يكن له أن يحمله قهراً، بل يؤكل من يقبض النجوم له، ويبعث إليه. فلو مات السيد في دار الإسلام، أو بعدما عاد إلى دار الحرب: فالكتابة بحالها، وفي مال الكتابة قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: يبعث إلى وارثه في دار الحرب. والثاني: هو فيء؛ لأنه مال كافر لا أمان له، وإذا سبى السيد- لا تبطل الكتابة، ثم إن من عليه أو فودي: أخذ النجوم، وعتق المكاتب، وإن استرق: فلا تبطل الكتابة أيضاً، ويعتق المكاتب بالأداء، وولاؤه موقوف، فإن عتق المولى: كان له، وإلا فلا ولاء عليه، وماذا يفعل بمال الكتابة؟ يبنى على الموت، إن قلنا: إذا مات يكون فيئاً، فههنا: قولان: أحدهما: يكون فيئاً؛ كما لو مات؛ لأن بالاسترقاق: يزول ملكه كما بالموت.

والثاني: يوقف؛ لأنه يرجى له ملك، فإن عتق: كان له، وإن مات يغنم. وإن قلنا في الموت: يصرف إلى وارثه: فههنا: يوقف، فإن عتق: فهو له، وإن مات في الرق: فيه وجهان: أحدهما: يصرف إلى وارثه، فههنا: يوقف؛ كما لو مات حراً. والثاني: وهو الأصح: يكون فيئاً؛ لأنه رقيق، والرقيق لا يورث منه. ولو أن حربياً كاتب عبداً، ثم خرج المكاتب إلينا مسلماً، فهو حر، وبطلت الكتابة. ولو قهر سيده في دار الحرب، ولم يسلم: صار حراً، وصار سيده عبداً له؛ لأن الدار دار قهر. ولو أن مسلماً كاتب عبداً كافراً في دار الإسلام، أو في دار الحرب: صح، ثم إذا وقع في الأسر: فهو على كتابته؛ لأنه في أمان بحق سيده؛ كما لو أعتق مسلم عبداً كافراً، فالتحق بدار الحرب: لا يسترق. وكذلك: لو استولى الكفار على مدبر مسلم، أو أم ولده: لا يبطل حكم تدبيره واستيلاده. فصل إذا كاتب مسلم عبداً مسلماً، ثم ارتد السيد: لا تبطل الكتابة؛ سواء قلنا: ملكه زائل أو غير زائل؛ كما لا تبطل الكتابة ببيعه ورهنه. ولو كاتب المرتد عبداً، هل يصح أم لا؟ إن قلنا: إن ملكه زائل: لا يصح. وإن قلنا: إن ملكه موقوف: ففي الجديد: لا تصح كتابته؛ لأن العقد لا يقبل الوقف في الجديد، وفي القديم: يكون موقوفاً، فإن عاد إلى الإسلام: بأنه كان صحيحاً، وإلا فلا. وإن قلنا: ملكه باق، فإن كان قبل أن حجر عليه: صحت كتابته، وإن كان بعد ما حجر عليه: إن قلنا: حجره حجر السفيه: لا تصح كتابته. وإن قلنا: حجر الفلس: ففيه قولان: كتصرف المفلس. أحدهما: باطل. والثاني: موقوف، فإن عاد إلى الإسلام: بان أنه كان صحيحاً.

وإن مات أو قتل في الردة: بان أنه كان فاسداً، فإذا صححنا كتابته على هذا القول، فسلم المال إلى السيد: عتق إن لم يكن حجر عليه، وإن حجر عليه، أو كانت الكتابة قبل الردة، ثم بعد الردة على قولنا: إن ملكه زائل، أو موقوف على قولنا: إنه باق، ولكن حجر عليه الحاكم- لا يجوز تسليم المال إليه، فإن سلم إليه: لم يعتق، بل يدفع إلى الحاكم حتى يعتق فإن دفع إلى السيد- نظر: إن بقي في يده ما فيه وفاء بالنجوم، فدفعه إلى الحاكم: عتق، وإن لم يبق في يده وفاء: يسترد ما دفع إلى المولى، ويدفعه إلى الحاكم؛ ليعتق؛ فإن لم يمكنه الاسترداد، وقد حل عليه النجوم: فللحاكم تعجيزه، فإن عجزه، ثم مات السيد، أو قتل في الردة: كان رقيقاً، وإن عاد إلى الإسلام، هل يلغى التعجيز؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلغى؛ كما لو أخذ المحجور عليه بالسفه النجوم، فعجزه وليه، ثم زال الحجر: لا يلغى التعجيز. والثاني: يلغى التعجيز، ويصح الاسترداد، ويحكم بعتقه؛ بخلاف المحجور؛ لأن حجره أقوى من حجر المرتد؛ بدليل أن تصرفه لا ينفذ، وتصرف المرتد نافذ في قول. ولو ارتد المكاتب: لا تبطل الكتابة، فإن مات أو قتل في الردة: ارتفعت الكتابة، وما في يده لسيده. وقال أبو حنيفة: يؤدي من مال كتابته، وما بقي لوارثه، سواء اكتسب في حال الردة أو في حال الإسلام، والله أعلم بالصواب. باب جناية المكاتب ورقيقه إذا جنى المكاتب: لا يخلو: إما إن جنى على سيده، أو على أجنبي. فإن جنى على سيده- نظر: إن جنى على طرفه، وكان عمداً، له استيفاء القود، فإن عفى على الدية، أو كانت الجناية خطأ: تعلق الأرض بكسبه، فإن كان في يده مال: أخذ الأرض منه، ولم يكن له تعجيزه وإن لم يكن في يده مال، هل له تعجيزه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له تعجيزه؛ لأنه لا فائدة له فيه، فإن أرش جنايته لا يتعلق برقبته. والثاني: وهو الأصح: له تعجيزه؛ لأنه لا فائدة له فيه، فإن أرش جنايته لا يتعلق برقبته، ويستفيد [به] أنه يرده إلى تصرفه، فإذا عجز بسبب الجناية، أو لأجل النجوم، هل

يسقط الأرش أم يكون في ذمته، حتى يعتق؟ فيه وجهان؛ بناءً على ما لو كان له في ذمة عبد الغير دين، فملكه، هل يسقط أم لا؟ فيه وجهان، أما إذا لم يعجز، حتى عتق: يتبعه بالأرش قولاً واحداً. فأما إذا جنى على نفس السيد، فقتله: فلوارثه استيفاء القصاص، فإن عفى على الدية، أو كان القتل خطأ: تؤخذ الدية مما في يده، فإن لم يكن في يده مال: فللوارث أن يعجزه. هذا هو المذهب، ثم هل تسقط الدية، أم تكون في ذمته حتى يعتق؟ فيه وجهان. وإن جنى المكاتب على ابن سيده، نظر: إن جنى على طرفه: فهو كما لو جنى على أجنبي: فللسيد أن يقبض منه، [وإن جنى على نفسه: فللسيد أن يقتص منه] فإن عفى على الدية، أو كانت الجناية خطأ: أخذ الدية مما في يده، وإن لم يكن في يده مال: فالمذهب: أن له تعجيزه؛ كما ذكرنا، وإن جنى المكاتب على أجنبي: فللمجني عليه استيفاء القصاص، إن كان طرفاً، وإن كان نفساً: فلوارثه، فإن عفى على الدية، أو كانت الجناية خطأ: تؤخذ الدية مما في يده، ومن كسبه يؤخذ أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته؟ فإن كان أرش الجناية أكثر من قيمته: ليس له أن يعطى الزيادة بغير إذن المولى، وبإذنه: فعلى قولين: فإن لم يكن في يد المكاتب مال، وسأل من له الأرش تعجيزه: عجزه الحاكم، وبيع ثم إن استغرق الأرش [جميع] قيمته: بيع كله؛ وإلا بيع بقدر أرش الجناية، وكان الباقي على كتابته، فإذا أدى كتابة باقية: عتق بقدره، وللمولى أن يستبقي الكتابة فيه باختيار الفداء، ومهما اختار الفداء بعد التعجيز، أو في حال بقاء الكتابة: بماذا يفدى؟ نظر: إن قال: ضمنت فداءه: يلزمه الأقل من قيمته، أو أرش جنايته على قوله الجديد، وعلى قوله القديم: يلزمه أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ولو اختار الفداء، ثم رجع- نظر: إن كان العبد باقياً: فله الرجوع، ويباع في الجناية، وإن [كان قد] مات بعد اختيار الفداء: فلا رجوع له، ولو لم يختر الفداء، غير أن السيد أعتقه، أو أبرأه عن النجوم بعد الجناية: عتق، وصار السيد مختاراً للفداء، وبماذا يفدى؟ قيل: فيه قولان، كما لو اختار الفداء في حال بقاء الكتابة وقيل ههنا: يجب أقل الأمرين من قيمة العبد، أو أرش الجناية قولاً واحداً؛ بخلاف حال بقاء الكتابة؛ لأن هناك: الرق باق، فلو بيع: ربما اشتراه راغب بأكثر من قيمته، وبعد العتق: لا يتصور ذلك.

وكذلك: لو جنى أب المكاتب أو ولده الذي يكاتب عليه، ثم أعتق السيد المكاتب: يجب على السيد الفداء؛ لأن الجاني عتق بإعتاقه المكاتب؛ بخلاف ما لو جنى عبد المكاتب، ثم أعتق السيد المكاتب: لا يصير مختاراً للفداء؛ لأن العبد الجاني لا يعتق بإعتاق المكاتب. ولو عتق المكاتب بأداء النجوم: فضمان جنايته عليه، ولا يجب على المولى؛ لأن المولى مجبور على قبض النجوم، بخلاف ما لو أعتقه مختاراً. وماذا يجب على المكاتب؟ فعلى ما ذكرنا من الطريقين، وهذا بخلاف ما لو جنى المكاتب على سيده، ثم أدى النجوم، فعتق، أو أبرأه السيد، أو أعتقه: يجب أرش الجناية، بالغاً ما بلغ على المكاتب، فإن كان قد قطع يده: عليه نصف الدية قولاً واحداً؛ لأن المكاتب: إذا جنى على سيده: لا يتعلق الأرش برقبته، بل يتعلق بذمته؛ بدليل أنه لا تباع رقبته فيه؛ فلما تعلق بذمته: وجب كمال الأرش؛ كما لو جنى حر على حر، وأن أرش جنايته على الأجنبي يتعلق برقبته؛ بدليل أنه تباع رقبته فيه، فلم تجب أكثر من قيمة الرقبة. ولو جنى المكاتب جنايات متفرقة أو معاً، يؤخذ ضمانها مما في يده ومن كسبه، وهو الأقل من أرش الجنايات كلها، أو قيمته مرة واحدة، فإن لم يكن في يده مال، وسألوا تعجيزه: عجزه الحاكم، وبيعت رقبته، وقسمت قيمته بينهم على قدر أروش جنايتهم، وإن أبرأ بعضهم عن حقه: قسم على الباقين، فإن اختار السيد الفداء: لا يباع، وبماذا يفدى فيه قولان: في الجديد: بأقل الأمرين من أروش الجنايات كلها، أو قيمته مرة [واحدة]. وفي القديم: بأروش الجنايات كلها؛ فلو أعتقه السيد، أو أبرأه عن النجوم: صار مختاراً للفداء. وماذا يلزمه؟ أو أدى المكاتب النجوم، وعتق، ماذا يجب على المكاتب بعد العتق؟ ينظر: إن كانت الجنايات معاً؛ بأن هدم عليهم جداراً، أو ضربهم ضربة واحدة، فقتلهم: فعلى ما ذكرنا من القولين فيما لو اختار الفداء في حال الرق في الجديد: عليه أقل الأمرين من أروش الجنايات كلها، أو قيمته مرة واحدة. وقال في القديم: [عليه] أروش الجنايات كلها. وإن كانت الجنايات متفرقة ففي الجديد قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: هكذا عليه أقل الأمرين من أروش الجنايات كلها أو قيمته مرة واحدة؛ لأنه لم يوجد منه إلا منع واحد بالإعتاق.

والثاني: يجب أن يفدى كل جناية بانفرادها بأقل الأمرين من أرشها، أو قيمته مرة؛ لأن البيع عقيب كل جناية كان ممكناً؛ فكأنه أحدث عقيب كل جناية منعاً؛ بخلاف ما لو كانت الجنايات معاً، وبخلاف ما لو فدى في حال بقاء الرق؛ لأن الرق ثم باق [فـ] أمكن بيع الرقبة، نظيره من القن: لو جنى، ففداه السيد، ثم جنى ثانياً: يجب عليه أن يفدى ثانياً بالأقل من قيمته، أو أرش جنايته؛ فهذا كأم الولد في جناياتها. فصل في جناية عبد المكاتب. إذا جنى عبد المكاتب- لا يخلو: إما إن جنى على الأجنبي، أو على سيد سيده، أو على سيده؛ وهو المكاتب: فإن جنى على أجنبي: فله استيفاء القصاص. فإن كان خطأ أو عفى على الدية: تباع رقبة العبد فيه، إلا أن يفدى المكاتب، وفي يده ما يفديه، فلا تباع. وفي بدل الفداء: لا يحتاج إلى إذن السيد، إن كان أرش الجناية أقل من قيمة العبد، وإن كان أكثر [من قيمته]؛ فلا يجوز أن يفدى بأكثر من قيمته بغير إذن السيد، وبإذنه قولان؛ كتبرعاته، فإن لم يأذن المولى أو أذن، وقلنا: لا يجوز للمجني عليه أن يبيع العبد لأنه ربما يشتريه راغب بأكثر من قيمته، فإن كان هذا الجاني ولد المكاتب، أو والده ممن تكاتب عليه لا يجوز للمكاتب أن يفديه بغير إذن السيد وبإذنه قولان؛ كتبرعاته؛ لأنه لا فائدة له في هذا الفداء، لأنه لا يمكنه أن يصرف رقبته في نجوم الكتابة، بل يسلمه ليباع في الجناية. أما إذا جنى عبد المكاتب على سيد سيده: فهو كما لو جنى على أجنبي؛ تباع رقبته في جنايته، إلا أن يفديه المكاتب، ويفدى بالأقل من قيمته أو أرش جنايته فأما إذا جنى عبد المكاتب على سيده، [وهو المكاتب] فإن كان موجباً للقصاص: له استيفاء القصاص دون إذن المولى وإن كان ابناً: تكاتب عليه، وإن كان خطأ، أو عفى على مال: لا يجب المال؛ لأنه لا يجب له على عبده مال. وإن كان للمكاتب عبيد وجنى بعضهم على بعض، فللمكاتب استيفاء القصاص دون إذن المولى إلا أن يكون الجاني أبا المكاتب، أو جده: لم يكن له أن يقتص منه؛ كما لو جنى عليه: لا قصاص له، وإن كان ابناً له- فله القود. وإن كانت الجناية خطأ أو عفى عن القود: فلا يجب المال له على عبده.

وإن كان الجاني أبا المكاتب أو ابنه: فله أن يبيع منه بقدر أرش الجناية. ولو كاتب رجل ثلاثة أعبد كتابة واحدة، وجوزنا، فجنى بعضهم: لا يلزم الباقين شيء من الأرش. وعند مالك: يتعلق الأرش برقبة الكل، وإذا أقر المكاتب بدين معاملة: يقبل، وإن أقر بدين جناية، هل يقبل؟ فيه قولان: أصحهما: يقبل صدقه المولى أو كذبه، وهو المذهب، ويؤدي مما في يده كدين المعاملة، وإن لم يكن في يده مال: يباع فيه. والثاني: لا يقبل؛ لأنه يؤدي من كسبه بلا عوض، فإن قلنا: يقبل- قال الإمام الشيخ رحمه الله: فإن أقر بدين جناية هو أكثر من قيمته: لا يلزم إلا قدر قيمته، ولو أقر بدين معاملة هو أكثر من قيمته: يؤدي الكل من كسبه، فإذا قبلنا إقراره بدين الجناية: فلو عجز قبل أن يؤخذ منه: ففيه قولان: أحدهما: يباع فيه؛ لأنه أقر في وقت كان إقراره مقبولاً. والثاني: لا يباع، بل يكون في ذمته حتى يعتق إلا أن يصدقه المولى؛ كما لو أقر بعد العجز؛ لأن بالعجز صارت رقبته للمولى، وقبل العجز: قبلنا فيما في يده. وقد نص الشافعي- رضي الله عنه- في نظيره على قولين: قال: لو قتل المكاتب عبداً، وقال: كانت قيمته ألفين، وقال سيد المكاتب: كانت ألفاً: ففيه قولان: أحدهما: يوقف إقراره: فإن أدى الكل قبل العجز: صح، ولا يرجع سيده على سيد المقتول بشيء، وإن عجز قبل الأداء: فعلى سيده الأقل من قيمته أو ألف درهم، ويباع فيه إلا أن يفديه السيد. وإن أدى ألفاً وخمسمائة، ثم عجز: صح ما أدى، وبطلت الخمسمائة الباقية. والقول الثاني: صح إقراره وبيع في الألفين؛ إلا أن يفديه السيد بالألفين، أو قيمته، فالألف الثانية يقر به المكاتب، ويكذبه المولى، فجعل فيها قولين عند عجز المكاتب، ولا يقبل إقرار السيد على المكاتب بالجناية، فلو كاتب عبده، ثم أقر أنه كان قد جنى قبل الكتابة: لا تقبل؛ لأن يد المولى قصرت عنه بالكتابة؛ كما لو باعه. فصل إذا اجتمع على المكاتب ديون من نجوم الكتابة، وديون المعاملة، وأروش الجنايات للمولى، أو للأجانب، وكلها حالة، وما في يده لا يفي بالكل: فهو كالحر في الحجر عليه

وقسمة ماله، فإن لم يحجر عليه: فله تقديم أيها شاء. وإن كانت نجوم الكتابة مؤجلة: فله تعجيلها، وتقديمها على سائر الديون، وإن كانت ديون المعاملة مؤجلة: فليس له تعجيلها بغير إذن المولى، وبإذنه قولان؛ كالتبرعات. والأولى: أن يقدم دين المعاملة؛ لأنه يختص بما في يده، والسيد والمجني عليه يرجعان إلى الرقبة، فإن فضل شيء عن دين المعاملة: قدم حق المجني عليه؛ لأنه يقدم على حق المالك في العبد القن؛ كذلك في المكاتب. فإن قدم حق السيد، فأدى النجوم: عتق، ودين الأجنبي في ذمته، وإذا حجر عليه الحاكم: قسم ماله بين السيد والغرماء؛ على قدر ديونهم، ولا يقدم البعض على البعض. وإذا حجر عليه، فهل يحل ديونه المؤجلة؟ فيه قولان: فإن قلنا: تحل: قسم ماله على الكل. وإن قلنا: لا تحل: فعلى الديون الحالة. فإن لم يف ماله بالدين: فلا يعجز بسبب دين المعاملة، وللسيد تعجيزه بسبب النجوم، وللمجني عليه بسبب [دين] الجناية؛ لأنهما يرجعان في الرقبة؛ فإن الرقبة تعود إلى المولى، وأرش الجناية تباع فيه رقبته، فإن عجزه السيد بسبب النجوم: ارتفعت الكتابة، وتباع بسبب دين الجناية، إلا أن يختار السيد الفداء، وإن لم يعجزه السيد، وأراد المجني عليه تعجيزه بسبب الجناية: ليس له تعجيزه بنفسه، بل يرفعه إلى الحاكم حتى يعجزه، فلو أنظره المجني عليه مدة، ثم بدا له أن يعجزه: فله ذلك. وإذا عجزه السيد بسبب النجوم، وعليه دين معاملة: لا تباع رقبته في دين المعاملة، بل إن كان في يده مال يؤدي به دين المعاملة وإن لم يكن: فيكون في ذمته حتى يعتق، وإن كان دين المعاملة للمولى، هل يسقط بالعجز؟ فيه وجهان: إن قلنا: لا يسقط، فيحاص الغرماء إن كان له مال؛ وإلا فحتى يعتق. وإن أعتقه المولى، وأدى المكاتب المال فعتق: لا يصير به السيد مختاراً لدين المعاملة، بل يؤدي من مال إن كان له؛ وإلا فحتى يعتق، والله أعلم. باب الجناية على المكاتب إذا جني على المكاتب: لا يخلو: إما إن جني على نفسه، أو على طرفه:

فإن جُنِيَ على نفسه، فقتل: بطلت الكتابة، ومات رقيقاً، ثم نظر فيه: إن قتله سيده: فلا شيء عليه إلا الكفارة. وإن قتله أجنبي: فللمولى أن يقتص إن كان القاتل عبداً فقتله عمداً. وإن كان القتل خطأ أو كان القاتل حراً، أو عفا السيد على مال: أخذ قيمته. وإن جني على طرفه نظر: إن كان موجباً للقصاص؛ بأن قطع يده عبد أجنبي، أو عبد سيده: فللمكاتب أن يقتص دون إذن المولى، وكذلك: لو جنى على عبد من عبيده طرفاً أو نفساً: فللمكاتب أن يقتص دون إذن المولى؛ كما لو جنى على المكاتب عبده. فلو عفا المكاتب- نظر: إن عفا على مال: ثبت، ولا يحتاج إلى إذن المولى في العفو عن القصاص، وإن عفا مطلقاً: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين أو قلنا: موجبه القود، ولكن مطلق العفو يوجب المال: يجب المال للمكاتب؛ فيأخذ الأرش، ويستعين به على أداء النجوم. وإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال: لا يجب شيء، وإن عفا مجاناً: سقط القود، ثم إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين: لا يسقط المال، إن عفا بغير إذن السيد. وإن عفا بإذنه: فعلى قولي تبرعاته. وإن قلنا: موجب العمد هو القود، إن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال؛ [فلا يجب شيء، وإن كان بغير إذن المولى، وإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال]: ففيه وجهان: أحدهما: يجب المال، إن كان بغير إذن المولى، وإن كان بإذنه: فعلى قولين؛ كما لو كانت الجناية موجبة للمال، فعفا عن المال. والثاني: لا يجب المال، وإن كان العفو بغير إذن المولى، لأن الجناية على هذا القول غير موجبة للمال؛ وإنما يثبت المال بعفوه، وعفوه على المال اكتساب، وعفوه مجاناً امتناع عن الاكتساب، وإذا امتنع المكاتب عن الاكتساب: لا يجبر عليه. ولو صالح عن القود على أقل من أرش الجناية: فحكم ما نقص عن أرش الجناية حكم العفو على أن المال عليه. أما إذا كانت الجناية موجبة للمال: فلا يصح عفوه عن المال بغير إذن السيد وبإذنه على قولين، فحيث قلنا: لا يسقط المال بالعفو: فلو عتق بعد العفو قبل أخذ المال: هل له

أخذه؟ فيه قولان، بناءً على أن تصرف المفلس باطل أو موقوف. وفيه قولان، المنصوص ههنا: أن له أخذ المال بعد العتق؛ لأن عفوه لم يكن صحيحاً. ولو جنى السيد على طرف المكاتب، فإن كانت النجوم [مؤجلة]: فللمكاتب مطالبته بالأرش. وإن كانت حالة، واتفق الأرش ومال الكتابة جنساً ووصفاً: يتقاصان. وإن كان أحدهما أكثر: فلصاحب الفضل أن يأخذ الفضل، فإذا حكمنا بالتقاص، وعتق المكاتب، ثم سرت الجراحة إلى النفس، ومات: يجب على السيد ديته لوارثه إلا القدر الذي صار قصاصاً بالنجوم؛ بخلاف ما لو جرح عبد نفسه، ثم أعتقه، فمات بالسرايا: أنه لا ضمان عليه؛ لأن ابتداء تلك الجناية لم يكن مضموناً؛ [فلم يجب الضمان في الانتهاء، وابتداء الجناية على المكاتب كان مضموناً]؛ فهو كما لو جرح عبد الغير، فعتق، ثم سرى: تجب الدية. فإن قيل: الواجب في الدية الإبل، فكيف يصير قصاصاً بالنجوم؟ قيل: كان الواجب في الابتداء ههنا نصف القيمة، فقطع اليد، فصار قصاصاً بالنجوم، ثم عند السراية: يجب الفصل من الإبل. فإن قيل: أليس أن من قطع طرف إنسان: لا تؤخذ الدية إلا بعد الاندمال، فكيف يصير قصاصاً في الحال؟ قلنا: قد قيل: هل تؤخذ الدية قبل الاندمال؟ فيه قولان، وقيل في المكاتب: يجوز الأخذ قبل الاندمال؛ لأنه يتوهم سقوط كله بتعجيز المكاتب أو موته، والكتابة عقد إرفاق، فأثبتنا المطالبة في الحال، حتى لا يؤدي إلى إبطال العتق؛ بخلاف الحر: فإن في الحر: لا يتوهم سقوط جميع الضمان؛ إنما يتوهم الانتقاص بمشاركة الغير؛ فلم يؤخذ في الحال، والله أعلم. باب عتق المكاتب في المرض والوصية به إذا كاتب عبده في مرض موته- تعتبر قيمته من الثلث، سواء كاتبه بمثل قيمته، أو بأقل منه، أو بأكثر؛ لأن فيه تعجيل ما يخرجه عن الملك، وتأخير ما يأخذ؛ كالبيع نسيئة، ثم إن

خرج من الثلث بأن كان له مثلاً قيمته إذا استفاد قبل موته مثلي قيمته: صحت كتابة كله. وإن لم يكن له سواه مال- نظر: إن أدى النجوم قبل موت السيد: عتق ثلثاه، إن كان كاتبه على مثل قيمته؛ بأن كانت قيمته مائة، وكاتبه على مائة، فأخذها، وإن كاتبه على مائتين، وقيمته مائة، فأخذ كلها: عتق كله؛ لأنه بقي للوارث مثلاً قيمته. أما إذا باع نسيئة في مرض موته بثمن مثله، فأخذ الثمن: صح البيع في كله؛ لأن ثم: لو لم يبع العبد: لم [يكن] يحصل له الثمن، فالثمن الذي أخذه بمقابلة ما خرج عن ملكه. وفي الكتابة: لو لم يكاتب العبد: كان كسبه له، ويبقى لوارثه، فإذا كاتبه بمائة، وقيمته مائة، فأخذها: صار كما لو ملك، مائتين، فنفذ تبرعه في ثلثها، وهو ثلثا العبد. وإن قبض في الحياة خمسين: صحت الكتابة في نصف العبد. ولو مات السيد قبل أخذ النجوم: يوقف على إجازة الوارث، فإن أجاز: صحت الكتابة في الكل، ثم إذا عتق بأداء النجوم: فولاؤه لمن يكون؟ إن قلنا: إجازة الوارث تنفيذ لما فعله المورث: فولاء جميعه للمورث: يصير منه لعصباته. وإن قلنا: إجازة الوارث ابتداء تمليك منه: فولاء ثلثه للميت، وولاء الثلثين للورثة على قدر مواريثهم، وإن رد الوارث الزيادة على الثلث: فثلثه مكاتب، فإذا أدى نجوم ذلك الثلث: عتق ثلثه، ثم هل يزاد في الكتابة قدر نصف ما أدى وهو سدس العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يزاد؛ لأن الكتابة قد بطلت في الثلثين؛ فلا يعود. والثاني: يزاد؛ فتصح الكتابة في نصف ما أدى؛ كما إذا ظهر للمورث مال كان له في حياته، أو حدث بعد موته؛ بأن كان قد نصب شبكة، فتعلق بها صيد بعد موته: يزاد في الكتابة. فإن قلنا: يزاد، وكان بعد مضي المدة: هل يجب أن يعطى نجوم ذلك السدس في الوقت أم يضرب له سدس الأجل الذي كان في الابتداء؟ فيه جوابان؛ بناءً على ما لو حبس السيد مكاتبه مدة، ثم خلى سبيله، هل يضرب له مثل مدة حبسه؟ فيه قولان: فإن قلنا: يزاد في الكتابة قدر نصف الثلث، فإذا أدى نجوم ذلك السدس: عتق نصفه،

ويزاد نصف السدس، هكذا لا يزال يزيد في قدر نصف ما يؤدي، حتى ينتهي إلى ما لا ينتصف، ولو أجاز الوارث في بعض الثلثين، إن قلنا: إجازته، تنفيذ لما فعله المورث: صحت إجازته فيما أجاز، والحكم في الباقي على ما ذكرنا. وإن قلنا: إجازته تمليك: فعلى قولي كتابة بعض العبد. ولو كان له عبدان لا مال له سواهما، قيمتهما سواء، فكاتب أحدهما، وباع الآخر نسيئة في مرضه معاً: فهما موقوفان. فإن أديا المال في الحياة: صحا جميعاً، وإن لم يؤديا حتى مات السيد، ولم يجز الوارث: صحت الكتابة في ثلث هذا، وصح البيع في ثلث الآخر. فإذا أدى أحدهما: إما العبد نجوم الثلث أو المشتري ثمن الثلث: فهل يزاد قدر نصف ما أدى؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يزاد فيهما [جميعاً]: تصحح الكتابة في نصف السدس، والبيع في نصف السدس [الآخر] وإن كان المؤدي أحدهما، ولو كاتب عبده في الصحة، واستوفى النجوم في المرض، أو استوفاه وارثه بعد موته: يكون من رأس المال، وإن كاتبه على أقل من قيمته؛ كما لو باع بالمحاباة في الصحة، واستوفى الثمن في المرض. ولو أقر في المرض أنه قد استوفى: يقبل من رأس المال؛ كالإقرار بقبض الديون. ولو كاتب عبده في الصحة، ثم أبرأه عن النجوم في مرض موته، أو أعتقه، أو أوصى بعتقه، أو بوضع النجوم عنه بعد الموت: فيكون من الثلث: فإن خرج من الثلث [عتق كله، وسقط عنه النجوم، وإن لم يخرج من الثلث] بأن لم يكن له مال سواه، فإن اختار العجز: عتق ثلثه، ورق ثلثاه، وإن اختار البقاء على الكتابة- نُظر: إن استوفى القيمة والنجوم: عتق ثلثه، وبقي الثلثان مكاتباً، فإن كان معه ما يؤدي نجوم الثلثين: أدى، وعتق؛ وإلا فللوارث تعجيزه، إن كان قد حل عليه مال الكتابة، وإن لم يحل عليه مال الكتابة: يعتق الثلث في الحال؛ فتبقى الكتابة في الثلثين إلى أن يحل الأجل [ويعتق] وقيل: لا يعتق الثلث في الحال حتى يسلم للوارث الثلثان: إما بأداء نجوم الثلثين، أو بالعجز. وإن كان بين النجوم والقيمة تفاوت: يعتبر بالأقل من الثلث، لأن الذي يتحقق بقاؤه

للوارث وهو الأقل؛ لأن القيمة: إن كانت أقل: فربما يعجز عن أداء النجوم؛ فلا يكون للوارث إلا الثلثان من العبد، وإن كانت النجوم أقل فربما يؤدي؛ فلا يكون للوارث سوى الثلثين من النجوم. بيانه: إن كانت النجوم أقل بأن كانت النجوم مائة، والقيمة مائتان: عتق ثلثه، وسقط عنه [ثلث] النجوم؛ وهو المحسوب في الثلث، وبقي للوارث ثلثا النجوم. وإن كانت القيمة أقل بأن كانت القيمة مائة، والنجوم مائتان، فيحتاج أن يعتق منه شيئاً محسوباً في الثلث، ويبرئه عن مثله من النجوم غير محسوب في الثلث، ويبقى للوارث مثلاً ما أعتقنا، ولا يعرف إلا بعمل الدورن فيقول: عتق منه شيء، وبرئ من النجوم من مثليه غير محسوب في الثلث؛ بقي للوارث من النجوم مائتان ناقصتان بشيئين تعدل مثلي ما أعتقنا، والذي أعتقنا شيء، فمثلاه شيئان، فشيئان في مقابلة مائتين ناقصتين بشيئين، نجبر المائتين الناقصتين بشيئين، وتضم إلى الشيئين شيئين؛ فتصير أربعة أشياء في مقابلة مائتين؛ فيكون كل شيء منها خمسون؛ فعلمنا: أنه عتق من العبد بقدر خمسين وهو نصفه، وسقط من النجوم عنه مثلاه، وهو مائة، بقي للوارث مائة من النجوم، وهو مثلاً خمسين التي أعتقنا من العبد. فصل إذا أوصى بكتابة عبد بعد موته، فإن كان يخرج كله من ثلثه: يكاتب كله، إن شاء العبد، وإن لم يشأ: فلا يكاتب؛ بخلاف ما لو أوصى بإعتاق عبد: يعتق، شاء أو أبى؛ لأن العتق ينفرد به السيد؛ فينفرد به الوارث [ولا ينفرد السيد بالكتابة؛ فلا ينفرد به الوارث] وإن لم يخرج كله من الثلث، ولم يجز الوارث: يكاتب منه بقدر ما يخرج من الثلث؛ إن شاء العبد: حتى لو لم يكن له سواه مال: يكاتب ثلثه. وقيل: هو ككتابة بعض العبد. والمذهب: جوازه قولاً واحداً؛ لأن الوصية تحتمل من التبعيض ما لا تحتمل معاملة الصحة، فإذا كوتب ثلثه، وأدى نجومه: عتق الثلث، وولاؤه للميت، وثلثاه رقيق للوارث، وإن أجاز الوارث، وكاتب كله، فإذا أدى النجوم: عتق كله. ثم إن قلنا: إجازة الوارث تنفيذ: فولاؤه كله للميت. وإن قلنا: ابتداء تمليك: فولاء الثلث للميت، وولاء الثلثين للوارث.

ولو أوصى بوصايا للعباد وبالكتابة، هل تقدم الكتابة، لما فيها من القربة؟ فيه قولان: ولو قال: كاتبوا أحد عبيدي: لا يكاتب أمة ولا خنثى إلا أن يكون الخنثى واضحاً ذكراً. ولو قال: إحدى إمائي: لا يجوز عبد ولا خنثى؛ إلا أن يكون واضحاً امرأة. ولو قال أحد رقيقي: يجوز العبد والأمة، وهل يجوز الخنثى المشكل؟ قال المزني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن اسم الرقيق يشمل الكل، وقال الربيع؛ لا يجوز. ولو قال: كاتبوا فلاناً، فلم يرد فلان: بطلت الوصية، ولا يكاتب غيره. وكذلك: لو أوصى بأن يشتري عبد فلان، فيعتق، فلم يبعه فلان- لا يشتري غيره؛ كما لو أوصى لزيد بشيء، فرده: لا يصرف إلى غيره. فصل إذا أوصى بوضع النجوم عن المكاتب: يجوز، ويعتبر من الثلث. فلو قال: ضعوا عنه كتابته: يوضع الكل، ولو قال: ضعوا أكثر ما عليه، أو أكثر ما بقي عليه: يوضع نصف ما عليه، وزيادة شيء بقدر ما شاء الوارث. ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما [بقي عليه، ونصف مثله: يوضع عنه ثلاثة أرباع ما عليه، وزيادة شيء. ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما] عليه ومثله: يوضع الكل، والزيادة لغو. ولو قال: ضعوا عنه [نجماً من نجومه: كان للوارث أن يضع أي نجم شاء، قليلاً كان أو كثيراً. ولو قال: ضعوا عنه] ما شاء من نجوم الكتابة، فأراد المكاتب وضع الكل: لا يوضع الكل، بل يبقى أقل ما يتمول؛ لأن "من": للتبعيض. ولو قال: ضعوا عنه ما شاء: نقل المزني: أنه إن شاء الكل: لا يوضع الكل، بل يبقى شيء. فمن أصحابنا من وافقه، ومنهم من قال: يجوز وضع الكل؛ كما لو قال ضعوا عنه إن

شاء يوضع الكل إن شاء ولو قال: ضعوا عنه [ما قل أو كثر] وضع الوارث عنه ما شاء من قليل أو كثير؛ لأنه ما من قدر إلا وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر منه، وكثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه. وكذلك لو قال: ما خف أو ثقل. ولو كان كاتبه على نجوم متفاوتة؛ بعضها أكثر [من بعض] مالاً، وبعضها أطول مدة، فقال: ضعوا عنه أكثر نجومه: يوضع عنه أكثرها مالاً؛ لأن إطلاق الأكثر: ينصرف إلى المال دون المدة؛ فإنه يقال في المدة: أطول وأكثر. وإن قال: ضعوا عنه أوسط النجوم، واجتمع في نجومه الأوسط في القدر، والأوسط في الأجل، والأوسط في العدد، كان للوارث: أن يضع من أي الثلاث شاء، فالقدر أن يكون أحد النجوم مائة، والآخر مائتين، والثالث ثلاثمائة، فالمائتان أوسطها. والأجل: أن يكون أحدها: إلى شهر، والآخر: إلى شهرين، والثالث: إلى ثلاثة أشهر، فالذي إلى شهرين أوسطها. والعدد أن تكون النجوم ثلاثة، فالثاني منها أوسطها، فإن لم يكن أوسط في القدر والأجل؛ بأن كانت الآجال متساوية والقدر متساوياً: يحمل على العدد. فإن كانت النجوم ثلاثة: وضع الثاني، وإن كان أربعة: وضع عنه الثاني والثالث، وإن كانت خمسة: وضع الثالث. فصل إذا أوصى برقبة المكاتب لإنسان: لا يجوز إلا على القول القديم الذي يجوز بيعه. ولو أوصى برقبته إذا عجز: صح، فإذا عجز وأراد الوارث إنظاره: كان للموصى له تعجيزه. ولو أوصى بنجوم مكاتبه لإنسان: يجوز، ويعتبر من الثلث، فإذا حل النجم، ولم يكن له ما يؤدي، فأراد الموصى له أن ينظره، وأراد الوارث تعجيزه: كان للوارث أن يعجزه؛ لأن الرقبة تعود إليه. ولو أراد الموصى له إبراءه على النجوم: ذكر شيخنا القاضي الإمام- رحمه الله- وجهين:

أحدهما: يجوز؛ لأنه يملك استيفاءه لنفسه، فيملك الإبراء عنه؛ كالسيد [ويعتق]. والثاني: لا يجوز؛ لأن الموصى له ليس بخليفة الميت، والمكاتب لا يعتق إلا بأداء النجوم، أو بإبراء من المولى أو نائبه. ولو أوصى لرجل بما في ذمة مكاتبه، ولآخر برقبته إذا عجز: صحت الوصيتان، ثم ينظر في العبد: فإن أدى مال الكتابة: عتق، وكان ذلك المال للموصى له بما في الذمة، وتبطل وصية الآخر. وإن عجز نفسه: سلمت الرقبة على الموصى له بالرقبة، وبطلت الوصية الأخرى. ولو قال: أوصيت لك بما يعجله مكاتبي من مال الكتابة: فإن عجل شيئاً مما عليه: دفع إلى الموصى له، وإن لم يعجل، بل أدى الكل: بطلت الوصية. أما إذا كانت الكتابة فاسدة، فأوصى بنجومه لإنسان: لا يصح؛ لأنه لو أداه إلى السيد لا يملك السيد؛ بل هو كوجود الصفة في التعليق. ولو أوصى برقبته لإنسان: نظر: إن كان عالماً بفساد الكتابة: يصح. كما لو باعه مع العلم بفساد الكتابة: يصح]؛ هذا هو المذهب، وقيل: هو كما لو كان جاهلاً بفسادها: ففيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ لأن اعتقادهما أنه وصية باطلة. والثاني: وهو اختيار المزني: تصح اعتباراً بحقيقة الحال؛ وكذلك: لو باع بيعاً فاسداً، ثم أوصى بالمبيع لإنسان، وهو جاهل بفساد البيع: ففي صحة الوصية قولان. ولو باع المكاتب كتابة فاسدة؛ أو المبيع بيعاً فاسداً، أو الموهوب هبة فاسدة، أو وهبه، أو رهنه، وهو جاهل بفسادها- اختلف أصحابنا فيه. منهم من قال: هو على هذين القولين. ومنهم من قال: القولان في الوصية. أما البيع والرهن: فباطلان قولاً واحداً؛ لأن الوصية تقبل من الغرر ما لا يقبله البيع والرهن.

وكذلك: لو باع مال أبيه على ظن أنه حي؛ فبان أنه قد مات، وصار المال له أو وكل وكيلاً بشراء عبد له بعينه، ثم باعه الموكل، أو وهبه، ولم يعلم: أن الوكيل قد اشتراه، ثم بان أنه قد اشتراه، أو باع مال يتيم، ثم بان أن أباه جعله وصياً، أو باع مال رجل، ثم بان أن صاحب المال قد وكله ببيعه- هل يصح [أم لا] فعلى هذين الطريقين. وتخرج من هذا: أن بيع الهازل هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ كما يقع طلاق الهازل وعتقه. والثاني: لا يصح؛ بخلاف الطلاق والعتق؛ لأن لهما غلبة ليست للبيع. باب موت سيد المكاتب إذا مات سيد المكاتب، وابنته تحت مكاتبه: نظر: إن لم تكن البنت وارثة بأن كانت قاتلة الأب، أو رقيقة أو ذمية، والأب مسلم: لا ينفسخ النكاح. وإن كانت وارثة: ينفسخ النكاح؛ لأنها ملكت بعض زوجها، فإن الملك في المكاتب ينتقل إلى الوارث؛ بدليل: أنه لو عجز يكون ملكاً له، وإذا ملك أحد الزوجين صاحبه: تنفسخ الكتابة وعند أبي حنيفة: لا تنفسخ الكتابة بموت سيد المكاتب عن المكاتب وابنته. وبالاتفاق: لو مات رجل عن ابنة ومكاتب: لا يجوز للمكاتب أن ينكحها، ولولا أنها ملكته: لكان لا يمنع ابتداء النكاح، وكذلك: لو تزوج الابن مكاتبة أبيه، ثم مات الأب: إن لم يكن الابن وارثاً: لا ينفسخ النكاح، وإن كان وارثاً: ينفسخ النكاح؛ لأنه ملك زوجته، ولا يجوز للسيد أن يتزوج مكاتبته، ولا أمة مكاتبته، ولا للمرأة أن تنكح مكاتبها، ولا عبد مكاتبها، فأما إذا نكح أمة، فاشتراها مكاتبه: لا يرتفع النكاح؛ كما لا يجوز للرجل أن يتزوج أم ولده، ولو كح أمة، ثم اشتراها ولده: لا ينفسخ النكاح، ولو مات سيد المكاتب، والمكاتب ممن يعتق على وارثه عتق. وعند أبي حنيفة: لا يعتق. وإذا مات سيد المكاتب: لا ترتفع الكتابة، حتى إذا أدى النجوم إلى الوارث يعتق، فإن

كان له وارثان- يجب أن يدفع إليهما، فلو دفع إلى أحدهما: لم يعتق، وإن كان الوارث صغيراً أو مجنوناً: لم يعتق بالدفع إليه، حتى تدفع إلى قيمه، أو إلى وصي أبيه، فإن كان الأب أوصى إلى وصيين يجب أن يدفع إليهما معاً، فإن دفع إلى أحدهما: لم يعتق. ولو مات عن وارث، وعليه دين- نظر: إن كان الوارث وصياً في قضاء الدين، فدفع إليه: عتق، حتى لو تلف في يد الوارث، أو أتلفه: لا شيء على المكاتب، وإن لم يكن الوارث وصياً أو كان السيد قد أوصى بوصايا: فهي كالدين؛ فيجب أن يدفع [النجوم] إلى الحاكم أو إلى الوصي في قضاء الدين؛ فتنفذ الوصايا] فإن دفع إلى الغريم: لم يعتق، ولو دفع إلى الوارث، فإن قضى الدين والوصايا: عتق، وإن أتلفه: فالضمان على المكاتب، ولا يعتق. باب عجز المكاتب الكتابة: عقد لازم من جهة السيد؛ لا يمكنه الفسخ؛ إلا أن يعجز المكاتب عن أداء ما عليه؛ وهو جائز من جهة العبد؛ لأن النظر في الكتابة للعبد؛ فلا يجبر على المقام عليه، وهي على السيد؛ فلم يكن له إسقاطه من غير اختيار من له الحق؟ كما أن الرهن لازم من جهة الراهن؛ جائز من جهة المرتهن. ونعني قولنا: إنه جائز من جهة العبد: أنه لا يجبر على أداء المال، وإن كان معه وفاء، وله أن يمتنع من الأداء، ويعجز نفسه، ثم يقال للسيد إن شئت، فافسخ العقد، وإن شئت، فاصبر حتى يؤدي. وهل يملك المكاتب الفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا ضرر عليه. والثاني: له ذلك؛ كالمرتهن يفسخ الرهن. وعند أبي حنيفة: إذا كان في يده وفاء لنجومه: لم يكن له تعجيز نفسه، وإذا حل على المكاتب نجم، أي نجم كان، وهو عاجز عن أداء ما ضرب عليه في ذلك النجم، أو عن بعضه: فللسيد فسخ الكتابة، إن شاء فسخ بنفسه، وإن شاء رفع إلى الحاكم حتى يفسخ. وإنما جاز أن يفسخ بنفسه؛ لأنه فسخ مجمع عليه؛ كفسخ البيع بسبب العيب، وإذا عجز: فالاحتياط أن يشهد عليه؛ لأن المكاتب إذا أنكر التعجيز، وادعاه المولى: كان القول قول المكاتب مع يمينه.

ولو سأل المكاتب النظرة، إذا لم يكن في يده وفاء عند حلول النجم: يستحب أن ينظره، ولا يلزم. فلو أنظره، ثم بدا له أن يرجع، ويعجزه: له ذلك. أما إذا كان في يده مال؛ لكنه عروض عليه أن ينظره، حتى يبيعها، ولا يلزم أكثر من ثلاثة أيام. فإن كان في السوق كساد: لا يلزمه أن ينظره إلى نفاق السوق، وإن كان للمكاتب في ذمة السيد مال قدر ما بقي من النجوم: لم يكن له تعجيزه، بل إن كان من جنس مال الكتابة: يتقاصان، وإن لم يكن من جنسه: نفذه، وأمهله حتى يحصل به جنس مال الكتابة] وإن كان ماله غائباً، فإن كان على مسافة القصر: لا يجب إنظاره، وإن كان على أقل: يجب إنظاره؛ حتى يحضره. وإن كان ماله ديناً على إنسان: فإن كان حالاً على ملئ: يجب إنظاره، حتى يأخذه؛ كما لو كان وديعة عند إنسان. وإن كان مؤجلاً: إن كان على معسر: لا يجب إنظاره؛ لأن عليه ضرراً في الإنظار الطويل، وإذا حل عليه النجم، وهو غائب، فله أن يفسخ الكتابة: إن شاء بنفسه، وإن شاء رفع إلى الحاكم؛ لأنه كان من حق المكاتب: أن يحضر عند حلول الأجل، ويبعث المال، حتى يؤدي وإن كان الطريق مخوفاً، أو كان المكاتب مريضاً عاجزاً عن الرجوع؛ فللمولى تعجيزه، لأنه لا ذنب للمولى في عذره، ثم إن فسخ بنفسه: يشهد عليه؛ لئلا يكذبه العبد إذا رجع. وإن رفع إلى الحاكم: فلا يحكم بتعجيزه حتى يثبت بالبينة حلول النجم على مكاتبه، وتعذر الأداء، ويحلفه الحاكم مع البينة؛ لأنه قضاء على الغائب، لم يحكم له بالفسخ، فيفسخ المولى، بخلاف ما لو كان المكاتب حاضراً: لا يحلف المولى؛ لأن الحاضر يمكنه أن يعبر ع نفسه؛ فيظهر مالاً إن كان له، أو يدعي أداء، فيحلفه، ولو كان للغائب مال حاضر: لم يكن للقاضي أن يؤدي منه نجومه، ولا يمتنع به تعجيز المولى؛ كما لو كان العبد حاضراً، أو المال غائب؛ بخلاف ما لو جن المكاتب، وله مالك قضى الحاكم منه نجومه؛ لأن المجنون ليس من أهل النظر بنفسه؛ [فعلى الحاكم مراعاة نظره، والغائب

العاقل من أهل النظر لنفسه] ولا يؤدي عنه الحاكم؛ لأنه لو كان حاضراً: ربما اختار تعجيز نفسه، ولم يؤد المال وإن كان المولى قد أنظر المكاتب بعد حلول النجم، وأذن له في السفر، فغاب المكاتب، ثم بدا للمولى: أن يعجزه: ليس للمولى أن يفسخ في الحال؛ لجواز أن يكون المكاتب قد حصل مالاً في سفره؛ بل يرفع إلى الحاكم، ويثبت عنده بالبينة حلول النجم على مكاتبه وغيبته بعد الإنظار، ويحلفه الحاكم مع البينة، ثم يكتب إلى حاكم البلد الذي به المكاتب، فإذا أتاه الكتاب- دعا المكاتب وسأله فإن أظهر العجز: كتب إلى حاكم بلد المولى حتى يخبر المولى بعجز المكاتب؛ فتنفسخ الكتابة إن شاء. وإن ذكر أن له مالاً أمره بإيصاله إلى المولى، ويصبر المولى قدر إمكان الوصول إليه، فإن لم يصل إليه: فسخ الكتابة. وإن كان للسيد وكيل ببلد العبد: أمره الحاكم بالدفع إليه، فإن فعل عتق، وإن لم يفعل: كان للسيد أن يفسخ، أو لوكيله إن جعل الفسخ إليه في الحال. ولو جن المكاتب، أو غلب على عقله: لا تنفسخ الكتابة؛ لأنه عقد لازم من أحد الطرفين؛ كالرهن. فإن وجد السيد له مالاً: أخذه وعتق العبد، وإن لم يجد أتى الحاكم، وأثبت عنده الكتابة والعجز، واستحلفه الحاكم؛ لأنه قضاء على من لا يعبر عن نفسه، ثم يبحث الحاكم عن حال المكاتب: فإن وجد له مالاً- دفعه إلى المولى، وعتق المكاتب، وإن لم يجد- فقد ثبت عجزه؛ فللسيد فسخ الكتابة، فإذا فسخ الكتابة عاد العبد إلى ملكه، ويجب عليه نفقته، فإن ظهر له مال؛ أو أفاق المكاتب وأتى بمال حصله قبل التعجيز دفع إلى السيد، ورد التعجيز، وعتق العبد؛ لأنا حكمنا بعجزه في الظاهر وبان بخلافه ويجب على المكاتب أن يرد إلى السيد ما اتفق عليه [من وقت الفسخ إلى رد العجز؛ لأنه لم يتبرع بالإنفاق، إنما أنفق عليه] على أنه عبده، وبان بخلافه. فأما إذا أفاق المكاتب، وأقام بينة على أنه كان قد أدى مال الكتابة قبل جنونه: يحكم بعتقه، ولا يرجع السيد بما أنفق عليه؛ لأنه تطوع بالنفقة على علمه بحريته. ولو جن السيد، أو حجر عليه بالسفه: لا تبطل الكتابة أيضاً، وعلى المكاتب أداء النجوم إلى وليه حتى يعتق، فإن أدى إلى السيد: لم يعتق؛ لأنه ليس من أهل الأخذ، حتى لو

أدى إليه، وتلف عنده ولم يكن في يد المكاتب شيء آخر يؤدي: لوليه تعجيزه، فإذا عجزه ولي المحجود عليه ثم انفك الحجر عن المولى: لم يكن له رد التعجيز. وقيل: فيه قولان؛ كما ذكرنا في المرتد إذا أخذ النجوم، وعجز الحاكم المكاتب، ثم أسلم المرتد، هل يرد التعجيز؟ فيه قولان. والأول: المذهب. ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم بتمامه: مات رقيقاً. ولو عجز وفسخ المولى الكتابة: عاد رقيقاً وكذلك: كل قن تكاتب عليه من ولد، أو والد: كانوا أرقاء للمولى، وإن كان له شيء من المال: كان للمولى إن لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين: يقضي منه ديونه، سواء كان دين جناية، أو دين معاملة، فإن فضل شيء: يكون للمولى. وإن كان الدين أكثر: يلقى الله عز وجل به في الموت. وفي العجز: إن كان دين جناية تباع رقبته فيه. وإن كان دين معاملة: يتعلق بذمته حتى يعتق، والله أعلم بالصواب.

كتاب عتق أمهات الأولاد

كتاب عتق أمهات الأولاد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6]. الاستمتاع بملك اليمين حلال للرجال. أما المرأة إذا ملكت عبداً: لا يحل الاستمتاع بينهما. فإذا وطئ الرجل أمته، فأتت منه بولد حي أو ميت، أو ألقت مضغة ظهر فيها شيء من خلق الآدميين، أو ظهر فيها التخطيط: صارت أم ولد [له]. وإن لم يظهر فيها التخطيط: ترى القوابل فإن قال أربع نسوة من أهل العدالة والعلم به إنها لحم الولد، وظهر فيها التخطيط باطناً: صارت أم ولد له. وإن قلن: هي لحم مبتدأ خلق الآدمي، ولكن لم يظهر فيه التخطيط، أو شككن في ظهور التخطيط: فالصحيح أنها لا تصير أم ولد له؛ كما لو شككن في كونها لحم الولد؛ ذكرناه في "كتاب العدة". فإذا أتت الأمة بولد من السيد: كان الولد حراً، لا ولاء عليه، وإذا استولد جارية بالنكاح: يكون الولد رقيقاً، فإذا ملكها يوماً: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه برقيق، حتى لو ملك زوجته الأمة، وهي حامل منه: عتق الولد عليه بالملك، ويثبت له [عليه] الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.

وعند أبي حنيفة: تصير أم ولد له. قلنا: حصل العلوق برقيق؛ فلا تثبت به أمومة الولد كما لو زنى بجارية، فأولدها، ثم ملكها. ولو استولد جارية بالشبهة، ثم ملكها- نظر: إن وطئها على اعتقاد أنه يطأ زوجته الحرة، أو أمته المملوكة: فالولد حر، وعليه قيمته لمولاها، فإذا ملكها، هل تصير أم ولد له؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت [منه] في غير ملك يمين؛ كما لو علقت [بالنكاح. والثاني: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر؛ كما لو علقت] في الملك. ولو استولد المرتد جاريته. قلنا: ملكه باق، تصير أم ولد له. وإن قلنا: ملكه زائل: فلا تصير في الحال أم ولد له. فإذا أسلم، فعلى القولين. وإن قلنا: ملكه موقوف: فأمر الاستيلاد موقوف، فإذا أسلم: كانت أم ولد له؛ فكل موضع جعلناها أم ولد له: فالحكم فيها أنه لا يجوز للمولى بيعها، ولا هبتها، ولا رهنها، ولا الوصية بها. فإذا مات المولى تعتق بموته من رأس المال؛ مقدماً على الديون. ولو قتلت سيدها: عتقت؛ لأن استحقاق العتق: يثبت لها بزهوق الروح، وقد وجد؛ [كمن] عليه الدين المؤجل، إذا قتل من له الدين يحل الأجل؛ لأن حلوله بزهوق الروح. وقد مثل الشافعي القول في جواز بيعها أو عتقها بالموت في بعض المواضع؛ فقال في "الرهن": تعتق بموته في قول من يعتقها، وقال في "الكفارة" ولا تجوز أم الولد في قول من لا يبيعها. وهذا التمثيل لشيء يروى فيه عن علي- رضي الله عنه- وليس بمشهور.

واتفق المسلمون على أنه لا يجوز بيعها، وتعتق بموته، وهي كالقنة في سائر الأحكام، حتى يجوز للسيد وطؤها واستخدامها وإجارتها، ويجوز [له] تزويجها جبراً؛ على أصح الأقوال. وإذا قتلت: يجب على قاتلها قيمتها للمولى. وإذا أتت أم الولد بولد من زوج، أو زناً: فهو رقيق للمولى، وحكمه حكم أم الولد، لا يجوز للمولى بيعه ولا هبته [ولا رهنه]، ويعتق بموته؛ كالأم. ولو أعتق السيد أحدهما: إما الأم أو الولد: لا يعتق الآخر، حتى يموت السيد؛ بخلاف ما لو أعتق المكاتبة: عتق ولدها الذي يكاتب عليها؛ لأنها استحقت العتاق بالبراءة من النجوم، وقد حصلت، وأم الولد استحقت العتاق بالموت، ولم يوجد؛ فهو كولد المدبرة إذا أثبتنا له حكم التدبير إذا أعتق المولى أحدهما: لا يعتق الآخر حتى يموت المولى. وكذلك: لو ماتت أم الولد قبل موت السيد: يموت رقيقاً ولا يعتق الولد حتى يموت السيد. ولو أتت أم الولد بولد من وطء شبهة: نظر: إن وطئها الواطئ على اعتقاد أنه يطأ زوجته الأمة: فالولد رقيق للسيد كالأم، ويعتق بموته. وإن وطئها على اعتقاد أنه يطأ أمته أو زوجته الحرة، فالولد: حر، وعليه قيمته لسيد أم الولد. ولو أتت أمته بأولاد من زوج، أو زنا، ثم استولدها السيد فلا يثبت للأولاد الذين حصلوا قبل الاستيلاد حكم أم الولد؛ حتى يجوز للمولى بينهم، ولا يعتقون بموته؛ لأنهم حصلوا قبل ثبوت الحق للأم. ولو استولد جارية بالشبهة، ثم ملكها، وقلنا: تصير أم ولد له، فأتت بعده بأولاد من زوج أو زنا: يثبت لهم حكم الأم. ولو أتت بأولاد قبل أن ملكها المستولد من زوج أو زنا، ثم ملكها المستولد مع الأولاد، وقلنا: يثبت للأم حكم أمومة الولد: لا يثبت للأولاد حكم أمومة الولد، وإن حصلوا بعد الاستيلاد؛ لأنهم حصلوا قبل ثبوت الحق للأم.

وإذا أسلمت أم ولد الكافر، أو بعدما أسلمت استولدها: لا تباع عليه؛ لأن بيع أم الولد لا يجوز، ولا يجبر على إعتاقها، ويحال بينه وبينها؛ فتكون عند امرأة مسلمة ثقة، وعليه نفقتها، وتصرف مكاسبها إليه، فإن خرج إلى دار الحرب: وكل من يأخذ مكاسبها إليه، فإن خرج إلى دار الحرب وكل من يأخذ مكاسبها بعد الفضل عن نفقتها، فإن مات السيد: عتقت، وإن أسلم خلى بينه وبينها. وحكم جناية أم الولد مذكور في "كتاب الجنايات". والحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين؛ فعلى أهله الأطيبين الأطهرين. تم الربع، وبه تم الكتاب؛ بحسن توفيق الله، وفرغ من نسخه العبد الراجي رحمة ربه تعالى وغفرانه: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحسين في شهر الله الأصم رجب، من سنة تسع وتسعين وخمسمائة، حامداً الله تعالى ومصلياً على رسوله محمد النبي الأمي وعلى آله ومسلماً. تم

§1/1