التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل

عبد الرحمن المعلمي اليماني

ـ[التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل]ـ تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني (1313 - 1368) تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 2 [الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بالحواشي، ومضاف لخدمة التراجم]

_ * تضم هذه الطبعة: - طليعة التنكيل: للمؤلف نفسه - الكوثري وتعليقاته: محمد بهجة البيطار - المقابلة بين الهدى والضلال: عبد الرزاق حمزة

مقدمة الطبعة الثانية - زهير الشاويش

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونصلي على محمد نبيه ورسوله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فهذه الطبعة الثانية من "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل". أقدمها للقراء بعد العناية المتوجبة لهذا الكتاب القيم، الذي بذل فيه مؤلفه وأساتذتي العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي، والعلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة، والعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار، والمحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ما بذلوا فيه من جهد، مضيفاً إلى جهدهم الكريم بعض التيسير والتعليق والإضافة، مع إعادة صف الكتاب بحروف جديدة واضحة، وتصحيح وترتيب يتناسب والأهمية التي يستحقها. وقد قدمت "طليعة التنكيل" ثم "الكوثري وتعليقاته: ثم "المقابلة بين الهدى والضلال " بعد حذف مقدمتها، ثم " ترجمة المعلمي "، ثم " مقدمة الألباني" وجعلت الفهرس في آخر الكتاب. وقد استللت منه "القائد إلى تصحيح العقائد" وأفردته بالطبع. لأنه بحث خاص، وعمل غير مرتبط بما سبق. والله أسأل أن يحسن مثوبة الجميع وأن يتغمد برحمته فاضل الحجاز، وعين أعيان جدة الشيخ محمد بن حسين نصيف الذي كان له الفضل في الطبعة الأولى، وأن يتغمدنا جميعاً برحمته، والحمد لله رب العالمين. زهير الشاويش

طليعة التنكيل - المعلمي

طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل الطبعة الثانية تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني علق عليه: محمد ناصر الدين الألباني الجزء الأول المكتب الإسلامي

خطبة المؤلف: وفيها إجمال ما وقع فيه الكوثري في تأنيبه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فإني وقفت على كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري، الذي تعقب فيه ما ذكره الحافظ المحدث الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام أبي حنيفة من (تاريخ بغداد) (1) من الروايات عن الماضين في الغض من أبي حنيفة، فرأيت الأستاذ تعدى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة وحسن الذب عنه - إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونقلتها، حتى / تناول بعض أفاضل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد وأضرابهم وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته والرد لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، فأساء في ذلك جداً حتى إلى الإمام أبي حنيفة نفسه، فإن من لا يزعم أنه لا يتأتى الدفاع عن أبي حنيفة إلا بمثل ذلك الصنيع فساء ما يثني عليه (2) . فدعاني ذلك إلى تعقيب الأستاذ فيما تعدى فيه، فجمعت في ذلك كتاباً أسميته (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) ، ورتبته على أربعة أقسام:

_ (1) انظر " تاريخ بغداد " (2) كذا الأصل، وفي الطبعة الأولى «بمثل الطعن في هؤلاء الأكابر فقد فضح وأساء إلى من يريد الذب عنه بسوء صنيعه» .

من مغالطات الكوثري. النوع الأول: تبديل الرواة وسياق ثمانية أمثلة على ذلك

(القسم الأول) في تحرير القواعد التي خلط فيها. (الثاني) في تراجم الأئمة والرواة الذين طعن فيهم وهم نحو ثلاثمائة فيهم أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام، والأئمة الثلاثة، وفيهم الخطيب، وأدرجت في ذلك تراجم أفراد مطعون فيهم حاول توثيقهم، ورتبت التراجم على الحروف المعجمة. (الثالث) في الفقهيات، وهي مسائل انتقدت على أبي حنيفة وأصحابه، حاول الأستاذ الانتصار لمذهبه. (الرابع) في الاعتقاديات ذكرت فيه الحجة الواضحة لصحة عقيدة أئمة الحديث إجمالاً. وعدة مسائل تعرض لها الأستاذ، ولم أقتصر على مقصود التعقب، بل حرصت على أن يكون الكتاب جامعاً لفوائد غزيرة في علوم السنة مما يعين على التبحر والتحقيق فيها. وحرصت على توخي الحق والعدل، واجتناب ما كرهته للأستاذ، خلا أن إفراطه في إساءة القول في الأئمة جرأني على أن أصرح ببعض ما يقتضيه صنيعه. وأسأل الله التوفيق لي وله. والكتاب على وشك التمام (1) ، وهذه (طليعة) له أعجلها للقراء شرحت فيها من مغالطات الأستاذ ومجازفاته، وذلك أنواع. - 1 - فمن أوابده تبديل الرواة، يتكلم في الأسانيد التي يسوقها الخطيب طاعناً في رجالها واحداً واحداً، فيمر به الرجل الثقة الذي لا يجد فيه طعناً مقبولاً فيفتش الأستاذ عن رجل آخر يوافق ذلك الثقة في الاسم واسم / الأب ويكون مقدوحاً فيه، فإذا ظفر به

_ (1) قلت: قد تم والحمد لله وقد وفق الله فضيلة الشيخ محمد نصيف وشركاءه للسعي لنشره، والانفاق على طبعه جزاهم الله خيراً، وهو الذي يلي " الطليعة ". ن «وكم للشيخ نصيف تغمده الله برحمته من سعي ومشاركة في سبل الخير ونشر الحق ورد العدوان عن السلفية والإسلام -زهير-»

زعم أنه هو الذي في السند (1) . فمن أمثلة ذلك: 1، 2 - صالح بن أحمد، ومحمد بن أيوب. قال الخطيب في (التاريخ) (ج 13 ص394) «أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ حدثنا القاسم بن أبي صالح حدثنا محمد بن أيوب أخبرنا إبراهيم بن بشار قال سمعت سفيان ابن عيينة ... .» . تكلم الأستاذ في هذه الرواية ص97 من (التأنيب) فقال: (في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مقاتل القيراطي هروي الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث ... والقاسم بن أبي صالح الحذاء ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس وكف بصره كما قاله العراقي، ونقله ابن حجر في (لسان الميزان) ، ومحمد بن أيوب ابن هشام الرازي كذبه أبو حاتم، ولا أدري كيف يسوق الخطيب مثل ذلك الخبر بمثل السند المذكور، ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه فيما يدعي / أنه المحفوظ عند النقلة بخذلانه المكشوف في كل خطوة. (أقول) أما صالح فهو صالح بن أحمد، وهو موصوف في السند نفسه بأنه: (1) تميمي (2) وحافظ (3) ويظهر أنه همذاني لأن شيخه والراوي عنه همذانيان. (4) ويروي عن القاسم بن أبي صالح. (5) ويروي عنه محمد بن عيسى بن عبد العزيز.

_ (1) وقع له هذا في "تأنيبه" في اثني عشر موضعا أو أكثر كلها ترويج رأيه، ولم يقع له فيما يخالف رأيه موضع واحد، وهكذا في الضروب الأخرى، فمن السخرية بعقول الناس أن يقال أخطأ ووهم! «وهذا كان من الكوثري في عدد من الكتب أيضا مثل "ذيول تذكرة الحفاظ" ص 15/127 و358 فإنه بدل ابن الواني المؤذن الدمشقي المشهور إلى "اللواتي البربري" ليصل إلى الطعن بابن تيمية انظر "الرد الوافر" الترجمة (5) بتحقيقى -زهير-»

(6) وينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفي بعد القاسم بمدة. (7) وينبغي بمقتضى العادة أن لا يكون بين وفاته ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله. وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي، فلم يوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ وإن قيل كان يذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه لقب (الحافظ) ، ولم يذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هروي الأصل سكن بغداد (1) ولم تذكر له رواية عن القاسم (2) ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه، (3) «والظاهر أنه جيءَ به إلى بغداد طفلاً، أو ولد بها، فإن في ترجمته من (تاريخ بغداد) ذكر جماعة من شيوخه وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها، أو ممن ورد على بغداد، وسماعه منه قديم، فمن شيوخه البغداديين يعقوب الدروقي المتوفى سنة 252 (4) ، ويوسف بن موسى القطان المتوفى 253، ومن البصريين محمد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253، وصرح الخطيب في ترجمة فضلك الرازي بأن ابن أبي مقاتل بغدادي فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة» . (5) وكانت وفاته سنة 316هـ، أي قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة، وقبل وفاة محمد بن عيسى بن عبد العزيز بمائة وأربع عشرة سنة. / ومن اطلع على (التأنيب) وغيره من مؤلفات الأستاذ علم أنه لم يؤت من جهل بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد، ومعرفة كيف يعلم انطباق

_ (1) بل هو بغدادي، صرح به الخطيب 12/367، وشيوخه عراقيون أو وافدون إلى العراق. (2) والقيراطي متهم بسرقة الحديث؛ وإنما يحمله على ذلك ترفعه أن يروي عن أقرانه فمن دونهم، وشيوخه توفوا سنة 252 أو نحوه وأقدم شيخ سمي القاسم توفي سنة 277، وشيخه في هذه الحكاية توفي سنة 294، فكيف يروي سارق الحديث عن أصغر منه بنحو خمس عشر سنة عن أصغر من شيوخ السارق بنحو أربعين سنة؟ (3) بل لم يدركه، فإن شيوخ محمد توفوا سنة 375 فما بعدها إلا واحداً منهم يظهر أنه توفي قبلها بقليل، وذلك بعد وفاة القيراطي بنحو ستين سنة. (4) زيادة استدركها المصنف رحمه الله فيما يأتي من «التنكيل» (1/271) أمر أن تزاد هنا. ن

الترجمة على المذكور في السند من عدم انطباقها، ولا من بخل بالوقت ولا سآمة للتفتيش، فلا بد أن يكون قد عرف أكثر هذه الوجوه إن لم نقل جميعها وبذلك علم لا محالة أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس بالقيراطي فيحمله ذلك على مواصلة البحث، فيجد في (تاريخ بغداد) نفسه في الصفحة اليسرى التي تلت الصفحة التي فيها ترجمة القيراطي، وقد نقل الكوثري عنها، سيجد ثمة رجلاً آخر صالحاً «صالح بن أحمد بن محمد أبو الفضل التميمي الهمذاني قدم بغداد وحدث بها عن ... والقاسم بن بندار (وهو القاسم بن أبي صالح كما في ترجمته من (لسان الميزان) ، وقد نقل الأستاذ عنها) ... وكان حافظاً فهماً ثقة ثبتاً ... » . ولهذا الحافظ ترجمة في (تذكرة الحفاظ) ج3 ص181 وفيها في أسماء شيوخه «القاسم بن أبي صالح» وفيها ثناء أهل العلم عليه، وفيها أن وفاته سنة 384، وذكره / ابن السمعاني في (الأنساب) الورقة 592، وذكر في الرواة عنه أبا الفضل محمد بن عيسى البزاز، وإذا كانت وفاة هذا الحافظ سنة 384 فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومثل هذا يكثر في العادة في الفرق بين وفاة الرجل ووفاة شيخه ووفاة الراوي عنه، فاتضح يقيناً أن هذا الحافظ الفهم الثقة الثابت هو الواقع في السند. وقد عرف الكوثري هذا حق معرفته، والدليل على ذلك: أولاً: ما عرفناه من معرفته وتيقظه. ثانياً: أن ترجمة التميمي قريبة من ترجمة القيراطي التي طالعها الكوثري. ثالثاً: أن من عادة الكوثري، كما يعلم من (التأنيب) ، أنه عندما يريد القدح في الراوي يتتبع التراجم التي فيها ذلك الاسم واسم الأب فيما تصل إليه يده من الكتب، ولا يكاد يقنع بترجمة فيها قدح، لطمعه أن يجد أخرى فيها قدح أشفى لغيظه. / رابعاً: في عبارة الكوثري «والقاسم بن أبي صالح الحذاء ذهبت كتبه بعد الفتنة،

وكان يقرأ من كتب الناس وكف بصره، قاله العراقي، ونقله ابن حجر في (لسان الميزان) » . والذي في (لسان الميزان) جزء 4 ص460: « (ز) - قاسم بن أبي صالح بندار الحذاء ... روى عنه إبراهيم بن محمد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ ... قال صالح كان صدوقاً متقناً لحديثه وكتبه صحاح بخطه، فلما وقعت الفتنة ذهبت عنه كتبه فكأن يقرأ من كتب الناس وكف بصره، وسماع المتقدمين عنه أصح» . وحرف (ز) أول الترجمة إشارة إلى أنها من زيادة ابن حجر. وكما نبه عليه في خطبة (اللسان) ، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلاً على الميزان، وأنه إذا أراد ترجمة في (اللسان) فما كان من ذيل شيخه العراقي جعل في أول الترجمة حرف (ذ) وما كان من غيره جعل حرف (ز) فعلم من هذا أن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه لا من ذيل العراقي. وهب أن الكوثري وهم في هذا، فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي / عنه صالح بن أحمد الحافظ، فلماذا دلس الكوثري النقل وحرفه ونسبه إلى العراقي؟ الجواب واضح، وهو أن الكوثري خشي إن نسب الكلام إلى صالح بن أحمد الحافظ أن ينتبه القارئ فيفهم أن صالح بن أحمد الحافظ هذا هو في الواقع في سند الخطيب وليس هو القيراطي لوجهين: (الأول) أن القيراطي مطعون فيه، فلم يكن الحفاظ ليعتدوا بكلامه في القاسم، وكذلك الكوثري لم يكن ليعتد بكلام القيراطي. (الثاني) أن كلام صالح في الترجمة يدل أنه تأخر بعد القاسم، والقيراطي توفي قبل القاسم باثنتين وعشرين سنة، وبهذا يتبين أن الكلام في القاسم لا يضره بالنسبة إلى رواية الخطيب، لأنها من رواية صالح بن أحمد الحافظ نفسه عنه وهو المتكلم فيه، فلم يكن ليروي عنه إلا ما سمعه منه من أصوله قبل ذهابها، فأعرض الكوثري لهذين

الغرضين عن صالح بن أحمد الحافظ، ونسب كلامه إلى العراقي وحذف من العبارة ما فيه ثناء على القاسم، وهذه / عادة له ستأتي أمثلة منها إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا إثبات أن الكوثري قد عرف يقيناً أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثقة الثبت (1) ، ولكن كان الكوثري مضطراً إلى الطعن في تلك الرواية، ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزاً، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه وعرف أن هذا الفن أصبح في غاية الغربة فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي لا يرد ذلك عليه أحد، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر والله المستعان. وأما محمد بن أيوب فالكوثري يعلم بهذا الاسم في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق في الرواية هو الحافظ الجليل الثقة الثبت محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس ترجمته في (تذكرة الحفاظ) جزء 3 صفحة 195. وقد احتج الكوثري ص 114 في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن / أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمد بن أيوب عن ابن أبي سريج، وذلك بناء من الكوثري على أن شيخ ابن حمدان هو محمد بن أيوب بن يحيى ابن الضريس لشهرته، هذا مع أنه لا يعرف لابن الضريس رواية عن ابن سريج فأما روايته عن إبراهيم بن بشار فنص عليها المزي في ترجمة إبراهيم من (تهذيبه) قال: «روى عنه ... ومحمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس» .

_ (1) وليس من شأن الأستاذ تقليد معظمه ولا لجنته، وقد انتقدهما ص 56 في «تأنيبه» حيث لم يكن له هوى في موافقتهما. المؤلف. قلت: هذا جواب منه على ما جاء في الترحيل فراجع كلامه والرد عليه بأوسع مما هنا فيما يأتي من التنكيل (1/272 - 273) . ن

فأما محمد بن أيوب بن هشام فمقل مرغوب عن الرواية عنه، لا تعرف له رواية عن إبراهيم بن بشار ولا للقاسم بن أبي صالح رواية عنه. فقد بدل الكوثري عمداً في ذاك السند حافظين جليلين برجلين مطعون فيهما، وصنع ما صنع في شأن القاسم بن أبي صالح، وقد بان أنه ثقة وأن هذه الرواية من صحيح روايته. ومن العجائب أن الكوثري ارتكب هذه الأباطيل وهو يعلم أن ذلك لا يغني عنه شيئاً، ولو لم تتبين الحقيقة، لأن الأثر ثابت عن إبراهيم بن بشار من غير هذه الطريق، فقد ذكره ابن عبد البر في (الانتقاء) ص 148 / عن (تاريخ ابن أبي خيثمة) قال: «حدثنا إبراهيم بن بشار ... » و (الانتقاء) تحت نظر الكوثري كل وقت كما يدل عليه كثرة نقله عنه في (التأنيب) . وأعجب من هذا كله وأغرب قول الكوثري بعد تلك الأفاعيل: ولا أدري كيف يسوق الخطيب ... ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه بخلانه المكشوف في كل خطوة» . وهذا المترجى واقع ولكن بمن؟! 3- أحمد بن الخليل، قال الخطيب جزء13 ص 375: «أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا عبدة ... ذكر الكوثري هذه الرواية ص46 وقال: أحمد بن الخليل هو البغدادي المعروف بجور توفي سنة 260، قال الدارقطني / ضعيف لا يحتج به، وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب. أقول: الصواب في لقب البغدادي الذي تكلم فيه الدارقطني (حور) بالحاء المهملة كما ضبطه أصحاب (المشتبه) - والذي في (الميزان) و (اللسان) في وفاته (بقي إلى ما بعد الستين ومائتين ولم يذكروا له رواية عن عبدة، ولا ليعقوب بن سفيان رواية عنه، وقد قال يعقوب بن سفيان كما في ترجمة أحمد بن صالح من (تهذيب التهذيب) :

كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات. وقبل ترجمة (حور) في (تاريخ بغداد) ترجمة رجل آخر هو (أحمد بن الخليل أبو علي التاجر البغدادي ... روى عنه ... ويعقوب بن سفيان) وهذا التاجر له ترجمة في (التهذيب) ، وفيها رواية يعقوب بن سفيان عنه، وتوثيق الأئمة له وفيها: «قلت: لم أر له في أسماء شيوخ النسائي ذكراً بل الذي فيه أحمد بن الخليل نيسابوري كتبنا عنه لا بأس به، وقد قال الدارقطني: قديم، لم يحدث عنه من البغداديين أحد / وإنما حديثه بخراسان فلعله سكن خراسان» . أقول: فكأن النسائي نسبه إلى مسكنه - فهذا هو الواقع في سند الخطيب، لأنه هو الذي يروي عنه يعقوب بن سفيان، ولأنه ثقة، ويعقوب كتب عن الثقات، ولأنه سكن خراسان. وشيخه في السند عبدة، وهو خراساني، ولا ريب أن الكوثري عند تفتيشه عن أحمد ابن الخليل وقف أولاً على ترجمة هذا التاجر وعرف أنه هو الواقع في السند، ولكنه رآه ثقة، وهو بالحاجة إلى الطعن في تلك الرواية فعدل عنه إلى ذاك الضعيف (حور) نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وهكذا تكون الأمانة! 4- محمد بن جبّويه، قال الخطيب (ج3 ص 370) «جبريل بن محمد المعدل بهمذان حدثنا محمد بن حيويه (كذا) النخاس حدثنا محمود بن غيلان» ذكر الكوثري هذه الرواية ص 34 وقال «في الطبعات الثلاث، حيويه والصحيح جبويه، هو ابن جبويه النخاس الهمذاني وقد كذبه الذهبي في (تلخيص المستدرك) حيث قال في حديث مينا: ابن جبويه / متهم بالكذب» . وذكر الخطيب جزء 13 صفحة 381 أثراً آخر بمثل السند المتقدم فقال الكوثري ص 64: «ووقع في الطبعات الثلاث بلفظ حيويه، وهو تصحيف كما سبق، متهم بالكذب،

وقال الذهبي في (مشتبه النسبة) (كذا) (1) ومحمد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان. اهـ. لكن لا يمكن إدراكه لابن غيلان والحبر كذب ملفق» . (أقول) قول الكوثري «لا يمكن إدراكه لابن غيلان» واضح الدلالة على أنه اطلع على وفاة هذا الرجل، وليست مذكورة في (تلخيص المستدرك) ولا في (المشتبه) ، وإنما هي مذكورة في ترجمته من الكتب، إذن فقد اطلع الكوثري على ترجمته، وهذا واضح فإنه يبعد أن يعثر الأستاذ على ما في (تلخيص المستدرك) بدون أن يقف على الترجمة، وهبه عثر على ذلك قبل النظر في الترجمة، فمن عادته أنه لا يشتفي بمثل ذلك الطعن بل يفتش على الترجمة لعله يجد فيها طعناً أشد من ذلك، وكأنني بالكوثري أول ما نظر في هذا الرجل راجع (الميزان) و (اللسان) ، فوجد في الأول بين ترجمتي محمد ابن حنيفة ومحمد بن حيدره «محمد بن حيويه بن المؤمل الكرجي ... / قال الخطيب ... » ووجد في الثاني بين ترجمتي محمد بن حويطب ومحمد بن حيدره كما في الأول، وزاد: وروى أيضاً عن الدبري ... مات سنة 373 وأورد له الحاكم في المستدرك حديثاً في مناقب فاطمة. فقال الذهبي: محمد بن حيويه الكرجي متهم بالكذب» ولما وجد الكوثري فيهما «قال الخطيب» راجع (تاريخ بغداد) فوجد فيه ج 5 ص 233 في أواخر الحاء المهملة من أباء المحمدين ترجمة هذا الرجل، ولما وجد في (اللسان) ذكر (المستدرك) راجع فضائل فاطمة عليها السلام من المستدرك، فوجد فيه جزء 3 ص160 «حدثنا أبو بكر محمد بن حيويه بن المؤمل الهمذاني حدثنا إسحاق ... » وفي (تلخيصه للذهبي) : «حدثنا محمد بن حيويه الهمذاني حدثنا إسحاق الدبري» ثم قال الذهبي: «ابن حيويه متهم بالكذب» . ولم يجد الأستاذ في هذه المراجع كلها ما يشعر بأن هذا هو الواقع في سند تينك الروايتين عند الخطيب، بل وجد ما يدفع ذلك فإنهم أرّخوا وفاة هذا الرجل سنة 373 وشيخ الواقع في السند محمود ابن غيلان وفاته سنة 239، ومن هنا أخذ الأستاذ أنه لم يدركه، ثم راجع الكوثري (مشتبه الذهبي) لعله / يجد فيه ذكراً للواقع في السند

_ (1) يشير المصنف رحمه الله إلى خطأ الكوثري في تسميته كتاب الذهبي بما ذكر، وإنما هو «المشتبه» هكذا سماه المؤلف، ثم أن موضوعه أعم من «مشتبه النسبة» . ن.

فظفر بذلك «محمد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان» فعلم أن هذا هو الواقع في السند وأنه غير الكرجي. أولاً: لأنهم اتفقوا على أن أول اسم والد الكرجي حاء مهملة، وكلهم من أئمة (المشتبه) ، ومنهم الذهبي نفسه في (الميزان) وهو الذي ضبط والد الراوي عن محمود ابن غيلان بالجيم والموحدة. ثانياً: لأن الذهبي يقول في ابن جبويه «عن محمود بن غيلان» والكرجي لم يدرك محموداً، فانقسم الكوثري شطرين، شطره (1) حقق أن الصواب في الواقع في السند (محمد بن جبويه) بالجيم والموحدة، وشطره مال مع الهوى، فزعم أن الواقع في السند هو الذي اتهمه الذهبي! وكنت كذي رِجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت / وقد ذكر ابن ماكولا في (الإكمال) الرجلين فقال: «أما جبويه أوله جيم معجمة بعدها باء مشددة بواحدة، فهو محمد بن جبويه بن بندار أبو جعفر الهمذاني النخاس، يروي عن محمود بن غيلان حدث عنه ... » . (وجبريل بن محمد) وقال فيمن أوله حاء مهملة (وأما حيويه بياء قبل الواو معجمة باثنتين من تحتها فهو ... ومحمد بن حيويه أبو بكر الكرجي، يعرف بابن أبي روضة حدث عن ... وإسحاق الدبري» . وعذر الكوثري أن ابن جبويه لم يطعن فيه أحد، وهو مضطر إلى الطعن في تينك الروايتين، وهكذا تكون الأمانة عند الكوثري. هذا والأثر الأول رواه محمود بن غيلان عن وكيع، فقال الكوثري بعدما تقدم: «فلا يصح هذا الخبر عن وكيع بمثل هذا السند، والذي صح عنه هو ما أخرجه الحافظ أبو القاسم بن أبي العوام صاحب النسائي والطحاوي في كتابه (فضائل أبي حنيفة وأصحابه) المحفوظ بدار الكتب المصرية وعليه خطوط كثير من كبار العلماء الأقدمين وسماعاتهم، وهو من / مرويات السلفي حيث قال: حدثني محمد بن أحمد بن حماد قال: حدثنا إبراهيم بن جنيد قال حدثنا عبيد بن يعيش قال حدثنا

_ (1) هذا في الطبعتين، ولعل الصواب «شطر» في الموضعين. ن

وكيع ... اهـ، وأين هذا من ذاك؟! فبذلك تبين ما في رواية الخطيب بطريق ابن جبويه الكذاب من الدخائل. هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب، نسأل الله العافية» . (أقول) : المشهور من آل أبي العوام أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد، ولاه العبيديون الباطنية القضاء بمصر، فكان يقضي بمذهبهم، ولم أر من وثقه، روى عنه الشهاب القضاعي هذا الكتاب الذي ذكره الكوثري، رواه أحمد عن أبيه عن جده على أنه تأليف الجد عبد الله بن محمد وقد فتشت عن تراجمهم فأما أحمد بن محمد فله ترجمة في (قضاة مصر) وفي (الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية) لعبد القادر القرشي، ووعد القرشي أن يذكر أباه وجده، ثم ذكر الجد فقال: «عبد الله بن محمد بن أحمد جد أحمد بن محمد بن عبد الله الإمام المذكور في حرف الألف، ويأتي ابنه محمد» . هذا نص الترجمة بحذافيرها، ولم أجد / فيها (1) ترجمة لمحمد، فعبد الله هذا هو الذي يقول الكوثري فيه (الحافظ وصاحب النسائي والطحاوي) كأنه أخذ ذلك من روايته عنهما في ذاك الكتاب. فأما أحمد فقد عرف بعض حاله، وأما أبوه وجدّه فلم أجد لهما أثراً إلا من طريقه، وأما محمد بن أحمد بن حماد (2) فترجمته في (لسان الميزان) ج 5 ص 41. وأما إبراهيم بن جنيد فإن كان هو في الرقي فمجهول كما في (لسان الميزان) جزء1 ص 45. وإن كان هو إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي البغدادي، نسب إلى جده فثقة، لكن لم أر في ترجمته من (تاريخ بغداد) ذكر عبيد بن يعيش في شيوخه، ولا محمد بن أحمد بن حماد في الرواة عنه، وأما عبيد بن يعيش فذكره ابن حبان في الثقات وقال: «كان يخطئ» . وعلى فرض صحة هذه الرواية فليس فيها ما ينافي رواية الخطيب، بل هما متفقتان

_ (1) أي في «الجواهر المضيئة» . (2) قلت: وهو الدولابي صاحب كتاب «الكنى والأسماء» . ن

في أصل المعنى، غاية الأمر أن في رواية الخطيب زيادة، وقد يكون وكيع قال مرة / كذا، وقال مرة كذا، وعلى فرض التنافي فرواية الخطيب أثبت، والكوثري يتحقق ذلك، ولكنه يفعل الأفاعيل، ثم يبالغ في التهويل، ثم يقول: «نسأل الله العافية» ! 5- أبو عاصم، قال الخطيب ج 13 ص 391: «الأبار حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا أبو عاصم عن أبي عَوانة» فذكر الكوثري هذه الرواية ص 92 ثم قال: وفيه أيضاً أبو عاصم العباداني وهو منكر الحديث. (أقول) الكوثري يعلم أن الواقع في السند هو أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد الثقة المأمون، لأنه هو المشهور بأبي عاصم في تلك الطبقة والمراد عند الإطلاق، وعنه يروي الحلواني كما في ترجمة الضحاك من (تهذيب التهذيب) وترجمة الحلواني من (تهذيب المزي) ، ولكن هكذا تكون الأمانة عند الكوثري! وذكر الخطيب ج 3 ص 423 أثرين أحدهما من طريق أبي قلابة الرقاشي والآخر من طريق مسدد، كلاهما عن / أبي عاصم عن سفيان الثوري، فذكرهما الكوثري ص 169 ثم قال: وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العباداني وحاله معلومة. (فأقول) قد علم الكوثري أنه الضحاك بن مخلد النبيل الثقة المأمون، فإنه المعروف بالرواية عن الثوري كما في ترجمته من (تهذيب التهذيب) ، وترجمة الثوري من (تهذيب المِزي) وعنه يروي أبو قلابة الرقاشي كما في ترجمته من (تاريخ بغداد) ج 10 ص 425، وقد تغلب الكوثري هنا على هواه إلى حد ما، إذ اقتصر على قوله: «وربما» ولم يجزم كعادته. 6- أحمد بن إبراهيم. قال الخطيب ج13 ص 381: «الأبار أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال قيل لشريك ... » . ذكر الكوثري هذه الرواية ص 61 ثم قال: وأما أحمد بن إبراهيم فهو النكري ولفظه لفظ الانقطاع، ولم يدرك شريكاً إلا وهو صبي. (فأقول) أول مذكور ممن يقال له أحمد بن إبراهيم في (تاريخ بغداد) ، و (تهذيب التهذيب) «أحمد بن إبراهيم بن خالد / الموصلي..» وذكر الخطيب سماعه من

شريك، وذكر المزي في (التهذيب) شريكاً في شيوخه، ويعلم من تاريخ وفاته والنظر في مولد أن الأبار أدركه إدراكاً واضحاً وهو معه في بلد، وبذلك يعلم أنه هو الواقع في السند، ولكن الكوثري رأى هذا ثقة فالتمس غيره ممن تتهيأ له المغالطة به ويكون فيه مطعن فلم يجد إلا النكري وهو ثقة أيضاً لكن كان صغيراً عند وفاة شريك، ولم تذكر له رواية عن شريك، فقنع الكوثري بهذا، وهكذا تكون الأمانة عنده! وأما قوله: «لفظ انقطاع» فيرده أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة، وقد ثبت سماعه من شريك، ولم يكن مدلساً، فروايته عن شريك محمولة على السماع كما هو معروف في علوم الحديث، وأصول الفقه،، وسيأتي شرح هذه القاعدة وبعض دقائقها في القسم الأول من (التنكيل) إن شاء الله تعالى (1) . 7- أبو الوزير. قال الخطيب (ج 13 ص 384) / عبد الله بن محمود المروزي، قال سمعت محمد بن عبد الله بن قهزاذ يقول: سمعت أبا الوزير أنه حضر عبد الله بن المبارك..» . ذكر الكوثري هذه الرواية ص 69 ثم قال: عبد الله بن محمود مجهول الصفة، وكذا أبو الوزير عمر بن مطرف. أقول: عبد الله بن محمود من الحفاظ الأثبات كما يأتي في نوع (2) - 7 - من هذه الطليعة إن شاء الله تعالى. وأما الوزير فكيف يزعم الأستاذ أنه عمر بن مطرف، مع أن عمر بن مطرف لم يعرف برواية أصلاً، وإنما ذكر اسمه في نسب ابنيه إبراهيم ومحمد. وقد قال الكوثري ص 83: «قاعدة ابن المبارك في الفقه ... » وإنما أخذ ذلك مما رواه الخطيب ج 13 ص 343» أبو حمزة المروزي قال سمعت ابن أعْيَن أبا

_ (1) انظر ج 1 ص 78 - 83 من «التنكيل» . ن (2) في الطبعتين (فرع) والصواب ما أثبتنا.

الوزير» . وعادة الكوثري في الصبر على التنقيب تقضي بأنه قد راجع (الكنى) للدولأبي فوجد فيه جزء 2 صفحة 147 «أبو الوزير محمد بن أعين المروزي روى عن ابن المبارك» فبادر الأستاذ إلى نظر هذا الاسم في (تهذيب التهذيب) فوجد فيه جزء 9 ص 66 «محمد بن أعيَن / أبو الوزير المروزي خادم ابن المبارك، روى عنه وعن ابن عيينة وفضيل بن عياض، وخلق وعنه أحمد وإسحاق ... ومحمد بن عبد الله بن قهزاذ وآخرون، قال أبو محمد بن علي بن حمزة المروزي: يقال إن عبد الله أوصى إليه، وكان من ثقاته وخواصه، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقد ذكره ابن أبي حاتم ج 3 ق 2 صفحة 207 فقال: «وَصِيُّ ابن المبارك» . فعلم الكوثري يقيناً أن هذا هو الواقع في السند، ولكنه لم يجد مغمزاً لأن ثقة ابن المبارك به واعتماده عليه توثيق، ورواية الإمام أحمد عنه توثيق لما عرف من توقي أحمد (1) ، ومع ذلك توثيق ابن حبان، ولم يعارض ذلك شيء، ففزع الكوثري إلى التبديل كعادته، فزعم أن أبا الوزير الواقع في السند هو عمر بن مطرف لأنه لم يجد في كنى (التهذيب) ذكراً لأبي الوزير، فطمع أن من يتعقبه لا يهتدي إلى ترجمة محمد بن أعين! ثم رأى في الأبناء من (التهذيب) «ابن وزير جماعة منهم محمد» فرجع إلى من يقال (محمد بن الوزير) فوجد جماعة معهم «محمد بن أبي الوزير هو محمد بن عمر، تقدم» فنظر ترجمته فإذا هو محمد بن عمر بن مطرف، فمن هنا أخذ الكوثري اسم عمر بن مطرف والله أعلم. وهكذا تكون الأمانة عند الكوثري.!

_ (1) كان ابن المبارك رجل دين ودنيا فلم يكن ليثق في شؤونه في حياته وفي مخلفاته بعد وفاته إلا بعدل أمين يقض وهذا توثيق عملي قد يكون أقوى من القولي، والإمام أحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده؛ صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية، والسبكي في «شفاء السقام» والسخاوي في «فتح المغيث» ص 134 ويقتضيه ما في «تعجيل المنفعة» صفحة 15 و 19 وفي ترجمة عامر بن صالح ما يدل على ذلك.

8- محمد بن أحمد بن سهل: قال الكوثري صفحة 63 «وهناك رواية: وهي ما رواه هبة الله الطبري في (شرح السنة) عن محمد بن أحمد بن سهل (الأصباغي) عن محمد بن أحمد بن الحسن أبي علي بن الصواف ... » . كذا فسر الكوثري من عنده بقوله: «الأصباغي» ، مع أن الأصباغي سكن دمشق وهو مقل لا يعرف له رواية عن ابن الصواف، ولا لهبة الله رواية عنه ولا لقاء، واقتصر الخطيب في ترجمته ج 1 ص 307 على قوله: «سكن دمشق وحدث بها عن محمد بن الحسين البستنبان، وروى عنه أبو الفتح بن مسرور» . ومعرفة الكوثري ويقظته أن يكون قد شعر بهذا وفتش، فعلم أن شيخ هبة الله في السند هو محمد بن / أحمد بن سهل أبو الفتح بن أبي الفوارس الحافظ الثقة الثبت وترجمته في (تاريخ بغداد) ج 1 ص 352 وفيها «سمع من ... وأبي علي بن الصواف ... حدث عنه ... وهبة الله بن الحسن الطبري» . وإنما أسقط هبة الله في ذاك السند اسم الجد على ما يعرف من عادة المحدثين في تفننهم في ذكر شيوخهم الذين أكثروا عنهم. 9- محمد بن عمر، قال الخطيب (ج 13 ص 405) : «محمد بن الحسين بن حميد ابن الربيع حدثنا محمد بن عمر بن دليل قال: سمعت محمد بن عبيد الطنافسي ... » ذكر الكوثري هذه الرواية ص 126 وقال: «محمد بن عمر هو ابن وليد التيمي، وقد تصحف «وليد» إلى «دليل» في الطبعات كلها، ويقول عنه ابن حبان: يروى عن مالك ما ليس من حديثه» . أقول: لم يذكروا في ترجمة محمد بن عمر بن وليد التيمي الذي تكلم فيه ابن حبان وغيره أنه يروي عن محمد بن عبيد الطنافسي، ولا أنه يروي عنه محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع وأراه أقدم من ذلك، فإنه يروي عن المتوفين حوالي سنة 180هـ‍، كمسلم بن خالد، ومالك، وهشيم، فيبعد أن ينزل إلى محمد بن عبيد المتوفى سنة 204، ولم يذكروا روايا عن التيمي هذا إلا أبا زرعة المولود سنة 200، ويبعد أن

يكون أدركه، أعني التيمي هذا، محمد بن الحسين بن حميد الذي أقدم من سمي من شيوخه موتاً أبو سعيد الأشج المتوفى سنة 257، فالأقرب أن يكون الواقع في السند هو محمد بن عمر بن وليد الكندي الكوفي، يروي عن الكوفيين المتوفين حوالي سنة مائتين، وأقدم من سمي من شيوخه محمد بن فضيل المتوفى سنة 195. وذكر ابن أبي حاتم هذا الكندي فقال: «كتب عنه أبي في الرحلة الثالثة بالكوفة، وقدمنا الكوفة سنة 255 وهو حي فلم يقض السماع منه» وقال النسائي: «لا بأس به» ، وذكره ابن حبان في الثقات. فهذا كوفي يروي عن أقران محمد عبيد - ومحمد بن عبيد كوفي وقد أدركه - أعني الكندي - محمد بن حسين بن حميد بن الربيع وهو كوفي أيضاً، وهذا لا يخفى / على الكوثري لكنه لم يجد في هذا مغمزاً فعدل إلى التيمي المطعون فيه لحاجة الكوثري إلى الطعن في تلك الرواية، والله المستعان. 10- محمد بن سعيد. قال الخطيب (ج 13 ص375) : « ... محمود بن غيلان حدثنا محمد بن سعيد عن أبيه ... » فذكر الكوثري هذه الرواية ص 47 ثم قال: محمد بن سعيد هو ابن مسلم الباهلي، وقد قال ابن حجر عنه في (تعجيل المنفعة) : منكر الحديث مضطربه، وقد تركه أبو حاتم ووهاه أبو زرعة فقال ليس بشيء. اهـ. وإلى الله نشكو من هؤلاء الرواة الذين لا يخافون الله، هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب» . أقول: هذا يصلح أن يعد نوعاً مستقلاً من مغالطات الكوثري وهو اغتنام الخطأ الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه، والذي في (تعجيل المنفعة) ص 324 «محمد بن سعيد الباهلي البصري الأثرم عن سلام بن سليمان القارئ، وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد وشيخه ويعقوب بن سفيان ومحمد بن غالب تمتام وجماعة منهم أبو حاتم ثم تركه وقال: هو منكر الحديث مضطرب الحديث ووهاه / أبو زرعة، فقال ليس هو بشيء» فهذه الترجمة فيها تخليط لا أدري أعن سقط نشأ أم عن غلط، وهذا الذي تكلموا فيه ليس هو محمد بن سعيد بن سلم، ولا هو باهلي، بل هو محمد بن سعيد بن زياد أبو سعيد القرشي الكزبري البصري الأثرم، ذكره البخاري في (التاريخ) (ق 1 ج 1 ص96) » محمد بن سعيد القرشي

اجتماع فضيلة الشيخ سليمان الصنيع بالكوثري

البصري ... » وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (ج 3 ق2 ص 264) «محمد بن سعيد بن زياد القرشي أبو سعيد المصري (البصري) الأثرم سكن بغداد، سمع منه أبي ولم يحدث عنه، سمعته يقول: هو منكر الحديث مضطرب الحديث، سألت أبا زرعة عنه فقال: ضعيف الحديث وليس بشيء» وله ترجمة في (تاريخ بغداد) ج 5 ص 305 وفي (الميزان) و (اللسان) ، ولا أشك أن الكوثري عرف ذلك وعرف أن ما في (التعجيل) تخليط ولكن إذا كان الكوثري يصطنع المغالطات اصطناعاً كما مرَّ فكيف لا يغتنم ما جاء عفواً والذي يظهر أن هناك محمد بن سعيد الباهلي يروي عن سلام بن سليمان القارئ وعنه محمد بن سعيد بن زياد جار عبد الله بن أحمد فاختلط في (التعجيل) ترجمة هذا بترجمة محمد بن سعيد بن زياد القرشي الكزبري البصري الأثرم، فأما الواقع في السند فهو كما قال الكوثري محمد بن سعيد بن سلم الباهلي، ولم يطعن فيه أحد، وتأمل قول الكوثري: «وإلى الله نشكو ... » ! 11- أبو شيخ الأصبهاني، قال الخطيب (ج 13 ص 384) : «محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثني أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم» وقال ج 13 ص 411: «محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثنا أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم» أشار الكوثري ص 69 إلى الرواية الأولى وقال: «في سنده أبو شيخ الأصبهاني ضعفه بلديه الحافظ أبو أحمد العسال، وله ميل إلى التجسيم» ؛ وأشار ص 141 إلى الرواية الثانية وقال: «في سنده أبو الشيخ الأصبهاني وقد ضعفه العسال. (1)

_ (1) هذا التضعيف لم يثبت عن العسال، وقد تعقبه المؤلف في «التنكيل» بأنه لم يظفر به عن العسال، وقال هناك (1/39) : «وقد كنت كتبت إلى بعض أهل العلم أسألهم، فلم أحصل على خبر إلا أن أحدهم أخبرني أنه اجتمع بالأستاذ الكوثري نفسه» . هذا آخر كلامه، لم يذكر نتيجة الاجتماع كما علقت هناك. وكنت كتبت إلى فضيلة الشيخ محمد نصيف استوضحه الأمر، حتى أعلقه في هذا الموضع من «التنكيل» ، ولكن الجواب تأخر حتى فاجأنا الطبع، فرأيت أن أستدرك ذلك هنا للفائدة. كتب الشيخ محمد نصيف إلى فضيلة الشيخ سليمان الصنيع عضو مجلس الشورى بمكة المكرمة، ومدير مكتبة الحرم المكي سابقاً يسأله عن عبارة المعلمي المذكورة آنفاً فكتب فضيلته يقول =

وذكر / الكوثري ص 49 حكاية في سندها أبو محمد بن حيان فقال: «وأبو محمد بن حيان هو أبو الشيخ ... قد ضعفه بلديه الحافظ العسال» . أقول: أما أبو الشيخ وهو أيضاً أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان

_ = بعد السلام والتسمية والحمدلة: «وجوابي على ذلك أني اجتمعت بالكوثري عدة مرات في داره بمصر في ذلك الحين وسألته عن ذلك فلم أحصل على نتيجة منه ولو كان صادقاً فيما نسبه إلى أبي أحمد العسال لأوضحه لي حين سؤالي له، والذي يظهر لي أن الرجل يرتجل الكذب ويغالط كما يظهر ذلك مما أوضحه الشيخ عبد الرحمن في الطليعة وفي التنكيل يضاف إلى ذلك أن الحافظ الذهبي قد ترجم لأبي الشيخ الأصبهاني الأصبهاني في «تذكرة الحفاظ» ج3 ص 945 من الطبعة الثالثة وكذا في «شذرات الذهب» من 3 ص 69.. فالذهبي قال: حافظ أصبهان ومسند زمانه كان مع سعة علمه وغزارة حفظه صالحاً قانتا لله صدوقا. ثم قال: قال ابن مردويه ثقة مأمون ونقل عن أبي بكر الخطيب كان حافظاً ثبتاً متقناً ونقل عن أبي نعيم قوله كان ثقة. وفيما نقله الذهبي عن الخطيب وعن أبي نعيم كفاية ولا حاجة إلى إعادته يُضاف إلى ذلك أن الحافظ الذهبي لم يذكر أبا الشيخ الأصبهاني في «ميزان الاعتدال» لأنه يذكر فيه كل من تكلم فيه ولو كان ثقة للذب والدفاع عنه إن كان من الثقات. وهذا من الأدلة الواضحة على عدم صحة ما ذكره الكوثري من تضعيف أبي الشيخ وقد بحثت في جميع الكتب الموجودة لدي ككتاب «الأنساب» للسمعاني ومختصره «اللباب» وكل الكتب المطبوعة التي ترجمت لأبي الشيخ فلم أجد شيئاً مما ذكره الكوثري.. هذا ما لدي أكتبه إليكم لتبعثوه لفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. وأعتقد أن الشيخ عبد الرحمن قد وفى الموضوع حقه من الرد في كتابه «التنكيل» ، كما أن الشيخ محمد ناصر الدين لديه الكفاية من الاطلاع على كتب الرجال وغيرها وتوفر المراجع لديه من مخطوط ومطبوع. وأسأل الله أن يرزقنا الصدق في القول والإخلاص في العمل ويوفقنا لكل خير. حفظكم الله ورعاكم. "سليمان الصنيع" (1) =

الأصبهاني فتأتي ترجمته في (التنكيل) إن شاء الله تعالى (1) . وأما هذا الراوي عن الأثرم وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي فهو رجل آخر ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 2 ص 326: «محمد بن الحسين بن إبراهيم بن زياد بن عجلان أبو شيخ الأصبهاني، سكن بغداد وحدث بها عن ... وأبي بكر الأثرم، روى عنه أبو بكر الشافعي وكان ثقة» . فلا أدري أعرف الكوثري هذا وفعل ما فعل عمداً؟ أم استعجل هنا على خلاف عادته، فلم يبحث حتى يتبين له أن أبا شيخ هذا غير أبي الشيخ المشهور (1) . فالله أعلم. 12 - أبو الحسن بن الرزاز. في (تاريخ بغداد) ج 3 ص 121 ترجمة لمحمد بن العباس ابن حيويه أبي عمر الخزاز، وفيها: «حدثني الأزهري قال: كان أبو عمر بن حيويه مكثراً وكان فيه تسامح، وربما أراد أن يقرأ شيئاً ولا يقرب أصله منه فيقرؤه / من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة» . فاحتاج الكوثري إلى الطعن في ابن حيويه هذا، فذكر ص 21 بعض العبارة وقال: «على أن أبا الحسن بن البزاز الذي كان يثق بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب البزاز، وهو معمر متأخر الوفاة: نص الخطيب على أن ابناً له أدخل في أصوله تسميعات طرية، فماذا تكون قيمة تحديث من يثق بها فيحدث من تلك الأصول» .

_ = وأقول: من المصادر التي راجعتها تحقيقاً للموضوع كتاب «سير النبلاء» (10/215/1 - 216/2) للذهبي وهو غير مطبوع، نقل فيه أيضاً توثيق الخطيب لأبي الشيخ رحمه الله. وعن ابن مردويه أنه قال فيه: «ثقة مأمون» وختم ترجمته بقوله: «قلت: قد كان أبو الشيخ من العلماء العاملين، صاحب سنة واتباع، لولا ما ملأ تصانيفه من الواهيات» . (1) ج 2 ص 129. ن (2) قلت: اعترف الكوثري في الترحيب ص 38 بهذا التحقيق. ن

أقول: في (تاريخ بغداد) ج 11 ص 330: «علي بن أحمد أبو الحسن المعروف بابن طيب الرزاز ... له دكان في سوق الرزازين ... حدثني بعض أصحابنا قال: دفع إليَّ علي بن الرزاز ... وحدثني الخلال قال: أخرج إلي الرزاز ... قلت: وقد شاهدت جزءاً من أصول الرزاز، وكان الرزاز مع هذا كثير السماع» . ثم ذكر أنه ولد سنة 335 ومات سنة 419، فالذي كان ابن حيويه ربما يقرأ من كتابه هو «أبو الحسن بن الرزاز» وعلي بن أحمد هذا هو أبو الحسن الرزاز كما تكرر في ترجمته، / فأما قوله في أولها (1) «المعروف بابن طيب الرزاز» فقوله: «الرزاز» من وصف علي نفسه لا من وصف «طيب» . وسياق الترجمة يبين ذلك، وأيضاً فعلي بن أحمد أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة، فيبعد جداً أن يحتاج ابن حيويه في قراءة حديثه إلى كتاب هذا المتأخر، وأيضاً فلا يعرف بين الرجلين علاقة. وفي (تاريخ بغداد) ج 12 ص 85 «علي بن محمد بن سعيد أبو الحسن الكندي الرزاز ... قال العتيقي: وكان أميناً مستورداً له أصول حسان» وذكر أنه توفي سنة 372، فهذا أقرب إلى أن يكون هو المراد، لكنه (الرزاز) لا ابن الرزاز. وفي (تاريخ بغداد) ج 12 ص 113 «علي بن موسى بن إسحاق أبو الحسن، يعرف بابن الرزاز سمع ... روى عنه ابن حيويه والدارقطني، وكان فاضلاً أديباً ثقة عالماً» . فهذا هو الذي يتعين أن يكون المراد بقول الأزهري «فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب وإن لم يكن فيه سماعه» فكأن بعض كتب علي ابن موسى هذه صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، وكان فيها ما سمه ابن حيويه، لكن لم يقيد سماعه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ، وبهذا تبين أنه لا يلحق ابن حيويه عيب ولا يوجب صنيعه أدنى قدح، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة

_ (1) أي قول الخطيب في أول الترجمة.

النوع الثاني: يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح فيجعله جرحا

محمد بن العباس من (التنكيل) إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أن أبا الحسن بن الرزاز هو علي بن موسى بن إسحاق لا علي بن أحمد كما زعم الكوثري. وقد بقي غير هذه الأمثلة تأتي في مواضعها من (التنكيل) إن شاء الله تعالى. (1) -2- ومن عوامده أنه يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح فيجعله جرحاً! فمن أمثلة ذلك: 1و2: جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، قال الذهبي في خطبة (الميزان) : «وفيه: يعني / (الميزان) من تُكلم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وأقل تجريح، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته» . وهكذا قد ذكر في الترجمة عبارة لا قدح فيها ولا مدح، وإنما ذكرها لاتصالها بغيرها، فمن ذلك أنه ذكر جرير بن عبد الحميد فقال في أثناء الترجمة: «قال ابن عمار كان حجة وكانت كتبه صحاحاً، قال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عوانة يتشابهان ما كان يصلح إلا أن يكونا راعيين، وقال ابن المديني: كان جرير بن عبد الحميد صاحب ليل. وقال أبو حاتم: جرير يحتج به، وقال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عوانة يصلحان أن يكونا راعيي غنم كانا يتشابهان في رأي العين؛ كتبت عنه وأنا وابن مهدي وشاذان بمكة» لم يتعرض صاحب (التهذيب) مع محاولته استيعاب كل ما يقال من جرح أو تعديل لقضية التشابه ولا الصلاحية لرعي الغنم لأنه لم ير فيها ما يتعلق بالجرح والتعديل. وأما الذهبي فذكر ذلك لاتصاله بغيره، ولأن ذكر الصلاحية لرعي الغنم إنما فائدته تحقيق التشابه في رأي العين، وبيان أنهما كانا يتشابهان، ربما تكون له فائدة ما.

_ (1) ج 1 ص 450 رقم 208. ن

والمقصود أن مراد سليمان من بيان صلاحية الرجلين لرعي الغنم هو تحقيق تشابهما في رأي العين كما يبينه السياق، ووجه ذلك أن من عادة الغنم أنها تنقاد لراعيها الذي قد عرفته وألفته وأنست به وعرفت صوته، فإذا تأخر ذاك الراعي في بعض الأيام وخرج بالغنم آخر لم تعهده الغنم لقي منها شدة لا تنقاد له ولا تجتمع على صوته ولا تنزجر بزجره. لكن لعله لو كان الثاني شديد الشبه بالأول لانقادت له الغنم، تتوهم أنه صاحبها الأول، فأراد سليمان أن تشابه جرير وأبي عوانة شديد بحيث لو رعى أحدهما غنماً مدة حتى عرفته وأنست به ثم تأخر عنها وخرج الآخر لانقادت له الغنم، تتوهم أنه الأول. وقد روى سليمان بن حرب عن الرجلين، وقال أبو حاتم: «كان سليمان بن حرب قل من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة» . أما الكوثري فإنه احتاج إلى الطعن في هذين الحافظين الجليلين جرير وأبي عوانة، فكان مما تمحله للطعن فيهما تلك الكلمة، وقطعها، وفصلها بحيث يخفي المراد منها، فقال في صفحة 101 في جرير «مضطرب الحديث لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم عند سليمان بن حرب» . وقال ص 92 في أبي عوانة: «كان يراه سليمان بن حرب لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم» وأعاد نحو ذلك ص 118. هب أنه لا يعرف عادة الغنم فقد كان ينبغي أن ينبهه السياق، ولعله قد تنبه ولكن تعمد المغالطة، ولذلك قطع العبارة وفصلها. والله المستعان (1) . 3- محمد بن عبد الوهاب أبو أحمد الفراء. قال الكوثري ص 135: «معلول عند أبي يعلى الخليلي في (الإرشاد) » . أقول: إطلاق كلمة معلول على الراوي من بدع الكوثري، والذي في ترجمة محمد بن عبد الوهاب من «تهذيب التهذيب» : قال الخليلي في (الإرشاد) عقب حديث علي بن هشام بن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله - في

_ (1) لم يجب الكوثري في الترحيب عن هذا بشيء يذكر. وراجع التنكيل 1/ 216/ 63. ن

الوسوسة - قال لي عبد الله بن محمد الحافظ: أعجب من مسلم كيف أدخل هذا الحديث في / (الصحيح) عن محمد بن عبد الوهاب وهو معلول فرد. اهـ‍ ولم أر الحديث المذكور في (صحيح مسلم) إلا عن يوسف بن يعقوب الصفار عن علي بن عثام، فالله تعالى أعلم» . أقول: مقصود ابن حجر من ذكر هذه الحكاية التنبيه على ما فيها من رواية مسلم في (الصحيح) عن محمد بن عبد الوهاب، فإن ذلك غير ثابت إلا أن يصح هذا بأن يكون وقع في بعض النسخ من (صحيح مسلم) ، روايته الحديث عن محمد بن عبد الوهاب، وقد رواه أبو عوانة في (صحيحه) (ج 1 ص 79) عن محمد بن عبد الوهاب عن علي بن عثام، وقول عبد الله ابن محمد «وهو معلول وفرد» يريد الحديث كما لا يخفى، وعلته جاءت من فوق، ففي ترجمة سُعير بن الخمس من «تهذيب التهذيب» أن مسلماً أخرج له هذا الحديث الواحد، قال ابن حجر: «قلت رفعه هو وأرسله غيره» وإنما قال عبد الله بن محمد: «عن محمد بن عبد الوهاب» لأن محمداً من معاصري مسلم وعاش مسلم إحدى عشر سنة، ومن عادة المحدثين اجتناب رواية ما ينزل سندهم فيه، والنزول في رواية مسلم عن محمد بن عبد الوهاب واضح /، فتعجب عبد الله ابن محمد من إخراج مسلم الحديث في (الصحيح) ، مع أن هناك مانعين من إخراجه: الأول: نزول سنده. الثاني: أنه معلول وفرد، فبان أنه ليس في تلك الكلمة غض من محمد بن عبد الوهاب، وهو من الحفاظ الثقات الأثبات، ولم يجد الكوثري فيه مغمزاً، فاضطر إلى تلك المغالطة القبيحة، والله المستعان. 4- عبد الله بن محمد بن عثمان بن السقاء. قال الكوثري صفحة 147: «هجره أهل واسط لروايته حديث الطير / كما في (طبقات الحافظ للذهبي) » . أقول: الذي في ترجمة هذا الحافظ من (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 165 من قول الحافظ خميس الحوزي «من وجوه الواسطيين وذوي الثروة والحفظ. وبارك الله في

سنه وعلمه، واتفق أنه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به وأقاموا وغسلوا موضعه فمضى ولزم بيته» . أقول: أفلا يعلم الأستاذ أم هذه حماقة من العامة وجهل لا يلحق ابن السقاء بها عيب ولا ذم ولا ما يشبه ذلك، وحديث الطير مشهور روي من طرق كثيرة، ولم ينكر أهل السنة مجيئه من طرق كثيرة، وإنما ينكرون صحته، وقد صححه الحاكم، وقال غيره إن طرقه كثيرة يدل مجموعها أن له أصلاً، وممن رواه النسائي في الخصائص، فكأني بالكوثري يقول: كما أن عامة ذاك العصر اشتد نكيرهم على هذا الحافظ وظنوا أن روايته لذاك الحديث توجب سقوطه، فلعل عامة هذا الزمان إذا رأوا الأستاذ الكوثري قد ذكر الحكاية في معرض الطعن في ذاك الحافظ أن يظنوا أن في القصة ما يعد جرحاً ‍‍‍! والله المستعان. 5- سالم بن عصام. قال الخطيب (ج 13 ص410) : «أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان: حدثنا سالم بن عصام: حدثنا رستة عن موسى بن المساور قال سمعت جبر، وهو عصام بن يزيد يقول سمعت سفيان الثوري ... » قال الكوثري ص 136: «وسالم بن عصام صاحب غرائب» . أقول: ذكره الراوي عنه هنا وهو أبو محمد ويُقال أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه: «طبقات الأصبهانيين» (1) وقال: «وكان شيخاً صدوقاً صاحب كتاب وكتبنا عنه أحاديث غرائب، فمن حسان ما كتبنا عنه ... » . وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني في (تاريخ أصبهان) : «صاحب كتاب كثير الحديث والغرائب» . أقول: ومن كثر حديثه لا بد أن تكون عنده غرائب، وليس ذلك بموجب للضعف، وإنما الذي يضر أن تكون تلك الغرائب منكرة، وأبو الشيخ وأبو نعيم

_ (1) منه نسخة محفوظة في المكتبة الآصفية بحيدر أباد الدكن بالهند. قلت: ومنه أخرى في الظاهرية. ن

النوع الثالث: يهتبل ما وقع في بعض الكتب من تصحيف أو غلط فيبني عليه حيث يوافق هواه وسياق أمثلة على ذلك

التزما في كتابيهما النص على الغرائب حتى قال الشيخ في ترجمة الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد بن الفرات: «وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير» والغرائب التي كانت عند سالم ليست بمنكرة كما يُعلم من قول أبي الشيخ «كان شيخاً صدوقاً صاحب كتاب» ومع هذا فقد توبع على الأثر الذي ساقه الخطيب، قال أبو الشيخ في ترجمة موسى بن المساور من (الطبقات) «حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا رستة، قال: حدثنا موسى بن المساور قال: سمعت عصام ابن يزيد ... » فذكر مثل ما ذكر سالم، ومحمد بن عمرو أراه محمد بن عمرو الأبهري ذكر أبو الشيخ في ترجمته أنه من شيوخه وأنه يروي عن رستة، فإما أن يكون نسبه إلى جده وإما أن يكون سقط (بن أحمد) من النسخة. 6- الهيثم بن خلف الدوري، قال الكوثري ص 47: «يروي الإسماعيلي عنه في صحيحة إصراره على خطأ، وفي الاحتجاج برواية مثله وقفة» . أقول: الخطأ الذي يضر الراوي الإصرار عليه هو ما يخشى أن تترتب عليه مفسدة ويكون الخطأ من المصر نفسه، وذلك كمن يسمع حديثاً بسند صحيح فيغلظ فيركب على ذاك السند متناً موضوعاً فينبهه أهل العلم فلا يرجع، وليس ما وقع للهيثم من هذا القبيل، إنما وقع عنده في حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان، وقع عنده (محمد بن الربيع) بدل (محمود بن الربيع) وثبت على ذلك وهذا لا مفسدة فيه، بل ثبات الهيثم يدل على عظم أمانته وشدة تثبته إذ لم يستحل أن يغير ما في أصله، وقد وقع لمالك بن أنس الإمام نحو هذا، كان يقول في عمرو بن عثمان: (عمر بن عثمان) وثبت على ذلك، وقد قال الإسماعيلي نفسه في الهيثم أنه «أحد الأثبات» . 7- محمد بن عبد الله بن عمار. انظر ما يأتي (5: 11) . -3- ومن عجائبه اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه! فمن أمثلة ذلك.

1 - وضاح بن عبد الله أبو عوانة ذكروا في ترجمة علي بن عاصم مما عابوا به علي ابن عاصم أنه كان يغلط فيتبين له مخالفة الحفاظ له فلا يعبأ بذلك، بل ينتقص أولئك الحفاظ، ففي «تاريخ بغداد» (ج 11 ص 450) في ترجمة علي بن عاصم عن علي بن المديني مراجعة دارت بينه وبين علي بن عاصم وفيها « ... فقلت له إنما هذا عن مغيرة رأي حماد، قال: فقال من حدثكم؟ قلت: جرير، قال ذاك الصبي، ... قال: مُر شيء آخر، فقلت: يخالفونك في هذا، فقال: من؟ قلت أبو عوانة، قال: وضاح ذاك العبد، ... قال: وقال لشعبة: ذاك المسكين» . فوقعت هذه الحكاية في ترجمة علي بن عاصم من «تهذيب التهذيب» المطبوع ووقع فيها «وضّاع ذاك العبد» ولم يخف على ذي معرفة أن هذا تصحيف وأن الصواب «وضاح» كما في «تاريخ بغداد» ، وعلى ذلك قرائن منها السياق، فإنه إنما قال في جرير «ذاك الصبي» وفي شعبة «ذاك المسكين» : فلم يجاوز حد الاستحقار، فكذلك ينبغي في حق أبي عوانة. (ومنها) أن الذهبي لخص تلك الحكاية بقوله في (الميزان) : «وقيل كان يستصغر الفضلاء» . ومنها أن أبا عوانة من الأكابر، وعلى بن عاصم مغموز، فلو تجرأ علي بن عاصم فرمى أبا عوانة بالكذب لقامت عليه القيامة، ومنها أنه لم يُعرف لعلي بن عاصم كلام في الرواة بحق أو باطل، وإنما كان راويه، ومع ذلك فلم يحمد في روايته. ومنها أنه لو كان في عبارة علي بن عاصم ما يعد جرحاً لأبي عوانة لكان حقه أن يذكر في ترجمة أبي عوانة، وبالجملة فلا يشك عارف أن الصواب (وضاح ذاك العبد) كما في (تاريخ بغداد) ، ولا أشك أن الكوثري لا يخفى عليه ذلك حتى ولو لم يطلع على ما في (تاريخ بغداد) ، مع أنه قد طالع الترجمة فيه ونقل عنها، ولكنه كان محتاجاً إلى أن يطعن في أبي عوانة ووقعت بيده تلك الغنيمة الباردة فيما يريه الهوى فلم يتمالك أن وقع، فقال ص 92: وأما أبو عوانة ... لكن يقول عنه علي بن عاصم: (وضاع ذاك العبد) ، وقال ص 71: «بلغ به الأمر إلى أن كذبه علي بن عاصم» كذا صنع الكوثري الذي يقيم نفسه مقام من يتكلم في الصحابة والتابعين، ويكثر من كتابة «نسأل الله السلامة» ، «نسأل الله العافية» ! وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ. 2- أبو عوانة أيضاً ... أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اتفق الأئمة على الثناء

عليه والاحتجاج بروايته، وأخرج له الشيخان في (الصحيحين) أحاديث كثيرة، ويأتي بعض ثناء الأئمة عليه في ترجمته من (التنكيل) وصح أنه أدرك الحسن البصري وابن سيرين وحفظ بعض أحوالهما، قال البخاري في ترجمته من (التاريخ) ج4 ق 3 ص 181: «سمع الحكم ابن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة ... قال لنا عبد الله بن عثمان أخبرنا يزيد بن زريع قال: أخبرنا أبو عوانة قال: رأيت محمد / بن سيرين في أصحاب السكر فكلما رآه قوم ذكروا الله، وقال لنا موسى بن إسماعيل، قال لي أبو عوانة: كل شيء حدثتك فقد سمعته» يعني أنه لا يدلس ولا يروي عمن لم سمع منه. وقال ابن سعد في (الطبقات) ج 7 ق 2 ص 43: «أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا أبو عوانة قال: رأيت الحسن بن أبي الحسن يوم عرفة خرج من المقصورة فجلس في صحن المسجد وجلس الناس من حوله» وهذه الأسانيد بغاية الصحة، وفي (الصحيحين) من رواية أبي عوانة عن قتادة أحاديث، كحديث «ما من مسم يغرس غرساً ... » وحديث «من نسي الصلاة ... » وحديث «تسحروا فإن في السحور بركة» وأخرج له مسلم في (صحيحه) من حديثه عن الحكم بن عتيبة كما ذكره المزي في (تهذيبه) . ووفاة الحسن وابن سيرين سنة 110، والحكم سنة / 115 وقتادة سنة 117، وحماد سنة 120 وقيل قبلها، وذكر ابن حبان في ترجمة قتادة من (الثقات) وفاته سنة 117 وذكر في ترجمة أبي عوانة روايته عن قتادة ثم قال في أبي عوانة: «وكان مولده سنة اثنتين وتسعين، ومات في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة» هكذا في النسخة المحفوظة في المكتبة الآصفية في حيدر أباد الدكن تحت رقم 1-4 من فن الرجال المجلد الثالث الورقة 218 الوجه الأول، ومثله في نسخة أخرى جيدة محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدر أباد. وكانت عند الحافظ ابن حجر من (ثقات ابن حبان) نسخة يشكو في كتبه من سقمها، قال في (تهذيب التهذيب) (ج 8 ص 403) « ... ذكره ابن حبان في (الثقات) ... وقال: روى عنه حبيب، كذا في النسخة وهي سقيمة» وقال في (لسان الميزان) (ج 2 ص 442) :

«رافع بن سلمان ... ذكره ابن حبان في (الثقات) ، لكن وقع في النسخة - وفيها سقم ... رافع بن سنان» . فوقع في تلك النسخة السقيمة تخليط في ترجمة أبي عوانة فذكره ابن حجر في (تهذيب التهذيب) وبين أنه خطأ قطعاً، ومع ذلك ففي عبارة ابن حجر تخليط في النسخة من (تهذيب التهذيب) المطبوع. فيه جزء 11 ص118: «وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال كان مولده سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال: هو خطأ للشك فيه لأنه صح أنه رأى ابن سيرين ... » . وقوله: «وقال هو خطأ للشك فيه» صوابه والله أعلم: «كذا قال: وهو خطأ لا شك فيه» ، وقد علمت أن البلاء من نسخة (الثقات) التي كانت عند ابن حجر. وليس الكوثري ممن يخفى عليه هذا ولا ما هو أخفى منه، لكنه كان محتاجا إلى الطعن في أبي عوانة ظلمًا وعدواناً. فقال ص 118 في أبي عوانة: «فعلى تقدير ولادته سنة 122 كما هو المشهور - كذا - لا تصح رؤيته للحسن ولا لابن سيرين ... » . فليفرض القارئ أن الكوثري في مقام إثبات سماع أبي عوانة من الحكم بن عتيبة أو قتادة أو حماد، وأن بعض مخالفي الكوثري حاول دفع ذلك فقال: «فعلى تقدير ... » عبارة الكوثري نفسها، فما عسى أن يقول الكوثري في ذلك المخالف؟ أما نحن فنجترئ بأن نقول: هكذا تكون الأمانة عند الكوثري. 3- أبو عوانة أيضا، انظر ما يأتي 8: 2. 4- محمد بن سعيد، راجع ما تقدم 1: 10. 5- أيوب بن إسحاق بن سافري، في ترجمته من «تهذيب تاريخ بن عساكر» ج 3 ص 200 عن ابن يونس « ... وكان في خُلقه زعارة، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله ... » ومعروف في اللغة ومتكرر في التراجم أن يقال: «في خلق فلان زعارة» أي شراسة، وهذا وإن كان غير محمود فليس مما يقدح في العدالة أو يخدش في الرواية، لكن وقع في (تاريخ بغداد) : ج 7 ص 10 في هذه الحكاية «وكانت في خلقه دعارة» كذا وهذا تصحيف لا يخفى مثله على الكوثري، أولاً: لأنه

ليس في كلامهم «في خلق فلان دعارة» وإنما يقولون: فلان داعر بين الدعارة - إذا كان خبيثاً أو فاسقاً. ثانياً: لأن ابن يونس عقب كلمته بقوله: «سأله أبو حميد في شيء من الأخبار يكتبه عنه فمطله ... » وهذه شراسة خلق لا خبث أو فسق. ثالثاً: لأن المؤلفين في المجروحين لم يذكروا هذا الرجل ولو وصف بالخبث أو الفسق لما تركوا ذكره، ولكن الكوثري احتاج إلى الطعن في هذا الرجل فقال ص 137: ذاك الداعر ... تكلم فيه ابن يونس: كذا قال ولم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ يتكلم فيه ابن يونس بما يقدح وقد ذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال: «كتبت عنه بالرملة وذكرته لأبي فعرفه وقال: كان صدوقاً» . 7- عبد الله بن عمر الرماح، هو عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرماح، واسم الرماح سعد، له ولأبيه ترجمتان في (طبقات الحنفية) ، وهما معروفان عندهم، وللأب ترجمة في (تهذيب التهذيب) (ج 7 ص 498) وفي (تاريخ بغداد) (ج 11 ص 182) وفي كتاب ابن أبي حاتم وغيرها، ووقع في (تاريخ بغداد) (ج 13 ص 386) في سند حكاية «عبد الله بن عثمان بن الرماح» فاحتاج الكوثري إلى ردها والتي قبلها فقال ص 73 (وفي سند الخبر الأول الخزاز وفي الثاني ابن الرماح فلا يصحان مع وجودهما في السندين) اقتصر على قوله (ابن الرماح) ولم يتنبه على أن (عثمان) تصحيف والصواب (عمر) . كما ذكر الكوثري نفسه في اسم آخر قال ص 93: «فلعل لفظ - عمر - صحف إلى عثمان حيث يشبه هذا ذاك في الرسم عند حذف الألف المتوسطة في عثمان كما هو رسم الأقدمين» . وكأنه خشي أن ينبه القارئ على أن ابن الرماح هو ذاك العالم الحنفي لم يتكلم فيه أحد بما يرد روايته بل تركه يتوهم أن هذا رجل مجهول لأنه لا يجد في الكتب ترجمة لعبد الله ابن عثمان بن الرماح، بل يتوهم أنه ضعيف، وقف الكوثري على تضعيفه في الكتب التي لم تطبع، ولذلك قال ما قال ‍! 8- أحمد بن المعذل، ذكر الكوثري ص 95 قوله: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر المائلين إلى القياس تعمداً ... والراغبين عن التمسك بالأثر

ثم قال: وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذل يقول فيه: أضاع الفريضة والسنة ... فتاه على الإنس والجنة أقول: إنما قال عبد الصمد: (أطاع ... ) هكذا في (الديباج المذهب) ص 30 ولآلئ البكري ص 325 والسياق يعينه، كان عبد الصمد ماجناً، وكان أحمد عالماً صالحاً تقياً فكان يعظ عبد الصمد ويزجره، فقال عبد الصمد (أطاع ... ) البيت، وبعده: كأن لنا النار من دونه ... وأفرده الله بالجنة يريد أن أحمد معجب بتقواه وورعه، فأداه ذلك إلى أن أتاه على غيره. فإن قيل إنما أراد الكوثري التنكيت والتبكيت مقابلة الإساءة بمثلها، قلت رأس مال العالم الصدق، ومن استحل التحريف في موضع ترويجاً لرأيه لم يؤمن أن يحرف في غيره.

اعتبار: حيث تخالف الألفاظ الصحيحة غرض الكوثري، يدعي تصحيفها

اعتبار لكن الكوثري عندما تخالف الألفاظ هواه، كثيراً ما يدعى أنها مصحفة فيزعم أن (الدين) محرف عن (أرى) وأن (يكذب) محرف عن (يكتب) و (للفرس ... والرجل) عن (للفارس ... وللراجل) وغير ذلك. في (تاريخ بغداد) ج 13 ص386 « ... محبوب بن موسى قال سمعت يوسف بن أسباط يقول: قال أبو حنيفة لو أدركني رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أو أدركته لأخذ بكثير من قولي، قال وسمعت أبا إسحاق يقول: كان أبو حنيفة يجيئه الشيء عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فيخالفه إلى غيره» . ذكر الكوثري هذا ص 75 وذكر أن في النسخة الخطية زيادة سوق الخبر بسند آخر- وفي (تاريخ بغداد) ج 13 ص 390 « ... أبو صالح الفراء قال سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أربعمائة حديث أو أكثر ... وقال أبو حنيفة: لو أدركني النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وأدركته أخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن» .

ذكر الكوثري هذا ص 85 وهذه الكلمة (لو أدركني) لها تأويل قريب ذكرته في (التنكيل) ولم يقع / عليه الحنفية بل ذهبوا يتعسفون، فروى عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي: حدثني أبو طالب سعيد بن محمد بن أبان البردعي في مسجد أبي الحسن الكرخي ببغداد حدثني أبو جعفر ... الطحاوي أنبأنا بكار بن قتيبة أنبأنا هلال بن يحيى الرأي البصري سمعت يوسف بن خالد السمتي» فذكر قصة طويلة فيها عجائب، تراها في (مناقب أبي حنيفة) للموفق المكي ج2 ص 101- 109، وقد أشرت إلى بعضها في (التنكيل) وهذه الحكاية لا يشك عارف في أنها مكذوبة على الطحاوي، فعبد الله بن محمد ترجمته في (لسان الميزان) ج 3 ص 348 - وشيخه لا يعرف، وإنما ذكره صاحب (الجواهر المضيئة) بما تضمنته هذه الحكاية، فلم يسمع به إلا فيها، ويغلب على الظن أنه لا يوجد منه إلا اسمه، ولو كان للقصة أثر عند الطحاوي لما فاتت ابن أبي العوام ومن تدبر القصة لم يشك في اختلاقها، وفيها «لو أدركني البتي لترك كثيراً من قوله» مع أنه يعلم منها ومن غيرها أن البتي وهو عثمان بن مسلم البصري الفقيه كان يومئذ حياً يرزق. وذكر الأستاذ ص 13 ما رُوي عن حماد بن زيد قال: / ذكر أبو حنيفة عند البتي فقال: ذاك رجل أخطأ عصم دينه كيف يكون حاله. ثم قال الكوثري: «عثمان ابن مسلم البتي توفي سنة 143 هـ‍وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات، وكان يوسف بن خالد السمتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يجابه البتي» وفي تلك الأخلوقة أن أبا حنيفة قال: «لو أدركني البتي أول ما اجتمع به خالد بن يوسف، فمن تدبر علم أن تلك الأخلوقة المنسوبة إلى يوسف ابن خالد إنما اختلقت لما شاعت حكاية يوسف بن أسباط، فأراد المختلق علاجها فوقع فيما وقع فيه، ثم أن الكوثري لم يقتصر على ما قيل من دعوى التصحيف في «النبي» بل زاد أمرين: الأول: أنه على فرض أن أبا حنيفة قال تلك الكلمة بلفظ «النبي» فقوله: «لأخذ» المراد به «لأخذني» . الثاني: أنه رأى أن من تقدمه لم يتعرضوا لما وقع في إحدى الروايات «وهل الدين إلا الرأي الحسن» .

النوع الرابع: تحريف الكوثري نصوص أئمة الجرح والتعديل، وأمثلة على ذلك

فقال الكوثري ص 88: «فلا أشك أن - الدين - مصحف من أرى» وذهب يوجه احتمال العادة لمثل ذلك. وهذا موضع الاعتبار، بينما ترى الكوثري يصنع ما تقدم في الأمثلة فيغض النظر عن التصحيف الواضح والخطأ المكشوف إذا به يحاول دعوى التصحيف التي لا يشك في بطلانها، ولا عجب في ذلك إذ مغزى الكوثري إنما هو الانتصار لهواه، وقد تقدمت أن لتلك الكلمة المنقولة عن أبي حنيفة تأويلاً قريبا بدون دعوى التصحيف ولا التحريف، وستجده في (التنكيل) إن شاء الله. -4- ومن غرائبه تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل، تجيء عن أحدهم الكلمة فيها غض من الراوي بما لا يضره أو بما فيه تليين خفيف لا يعد جرحاً فيحتاج الكوثري إلى الطعن فيمن قيلت فيه فيحكيها بلفظ آخر يفيد الجرح، فمن أمثلة ذلك: 1- إبراهيم بن سعيد الجوهري، هو من شيوخ مسلم في (صحيحه) ومن كبار الحفاظ، قال فيه أحمد بن حنبل -كثير الكتاب، كتب فأكثر) وقال الكوثري نفسه ص 151: «كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: كل حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم» وتجد الحكاية بتمامها في ترجمة إبراهيم من (الميزان) . وكان من عادة المكثرين أن يترددوا إلى كبار الشيوخ ليسمعوا منهم، فربما جاء أحدهم إلى شيخ قد سمع منه ما لم يسمعه من قبل، فيتفق أن يشرع الشيخ يحدث بجزء قد كان ذاك المكثر سمعه منه قبل ذلك فلا يعتني باستماعه ثانياً أو ثالثاً لأنه يرى ذلك تحصيل حاصل فكأنه اتفق لإبراهيم هذا واقعة من هذا القبيل، فحكى عبد الرحمن ابن خراش قال: «سمعت حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم وأبو نعيم يقرأ وهو نائم -وكان الحجاج يقع فيه» . وسيأتي إيضاح الجواب في ترجمة إبراهيم من (التنكيل) . والمقصود هنا أن الكوثري ذكر تلك المقالة فحرفها تحريفاً قبيحاً. قال (ص 75) :

«كان يتلقى وهو نائم، كما قال الحافظ حجاج ابن الشاعر، فحجاج هذا ممن جرحه لا يندمل» . وقال ص 119: «رماه الحافظ حجاج بن الشاعر بأنه كان يتلقى وهو نائم» فعبارة حجاج تحتمل ما قدمنا، ليس فيها ما يدل على أن إبراهيم صار بعد ذلك المجلس يروي عن أبي نعيم أحاديث / يزعم أنه تلقاها في ذاك الوقت الذي كان إبراهيم فيه نائماً. وعبارة الكوثري تفيد هذا، وعبارة حجاج إنما تدل على مرة واحدة عند أبي نعيم، وعبارة الكوثري تدل أن التلقي في حال النوم كان من عادة إبراهيم عند أبي نعيم وغيره! فتدبر وتأمل. 2-مؤمل بن وهاب، قال الكوثري ص 65: «ضعفه ابن معين على ما حكاه الخطيب» . أقول: إنما حكى الخطيب ج 13 ص 181 عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال: «سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمل بن أهاب فكأنه ضعفه» فتدبر، وقد قال أبو حاتم (صدوق) وقال النسائي: (لا بأس) به وقال مرة: ثقة، وقال مسلمة بن قاسم: ثقة صدوق. 3- أحمد بن سلمان النجاد، قال الكوثري ص 65: «يقول الدارقطني: يحدث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله» . أقول: إنما الدارقطني: «حدث ... » كما في (تاريخ بغداد) و (الميزان) و (اللسان) ، وذاك يصدق بمرة واحدة كما حمله الخطيب وغيره كما يأتي في ترجمة النجاد تكرر مراراً! 4- أحمد بن كامل، قال الكوثري ص43: «فيه يقول الدارقطني ... ربما حدث بما ليس عنده كما رواه الخطيب» . أقول: عبارة الدارقطني كما في (تاريخ بغداد) وغيره « ... بما ليس عنده في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه، وتأتي ترجمة أحمد في (التنكيل) .

5- عبد الله علي المديني، قال الكوثري ص 168: «وهو لم يسمع من أبيه على ما يقال» . أقول: يريد الكوثري بهذا قول الدارقطني، وعبارة الدارقطني كما في (تاريخ بغداد) «أخذ كتبه وروى أخباره مناولة، قال: وما سمع كثيراً من أبيه» . فقوله: «وما سمع كثيراً من أبيه» واضح في أنه سمع/ منه، إلا أنه لم يكثر، وأول عبارته يفيد أن ما لم يسمعه من كتب أبيه وأخباره أخذه منه مناولة، وهي من طرق التلقي، فعلى هذا تكون روايته عن أبيه متصلة صحيحة إن صرح بالسماع فسماع، وإلا احتمل أن يكون سماعاً وأن يكون مناولة، والرواية التي ذكرها الخطيب من طريقه ولأجلها تعرض له الكوثري قد بين فيها السماع، هذا والسماع أصله أن يملي الشيخ بلفظه والتلميذ يسمع، لكن قد يطلق السماع على ما هو أعم من ذلك، وهذا هو المتبادر من قولهم: فلان لم يسمع من فلان، فيفهم منه أن روايته عنه منقطعة حتى ولو صرح بالاتصال يكون كذباً، وهذا هو مفهوم عبارة الكوثري لأنه قصد بها الطعن في رواية هذا الرجل التي بين فيها السماع، فانظر تحريفه لعبارة الدارقطني. 6- محمد بن أحمد الحكيمي، قال الكوثري ص 114: «قال البرقاني في حديثه مناكير» . أقول: لفظ البرقاني كما في (تاريخ بغداد) ج1 ص269 و (لسان الميزان) ج5 ص 45 «ثقة إلا أنه يروي مناكير» / وبين العبارتين فرق عظيم فإن «يروي مناكير» يقال في الذي يرويه ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة، بل الحمل فيها على من فوقه، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقي والتوقي الذين لا يحدثون مما سمعوا إلا بما لا نكارة فيه، ومعلوم أن هذا ليس بجرح، وقولهم: «في حديثه مناكير» كثيراً ما تقال فيمن تكون النكارة من جهته جزماً أو احتمالاً فلا يكون ثقة. وهذا المعنى هو الذي أراد الكوثري إفهامه، ولذلك حذف كلمة «ثقة» ؛ وقد

النوع الخامس: تقطيعه نصوص الأئمة، يأخذ قطعة من النص فيبني عليها ما يدل بقية النصوص على خلافه، وسياق أمثلة على ذلك

تعقب الخطيب كلمة البرقاني بقوله: «وقد اختبرت أنا حديثه فقلما رأيت فيه منكراً» فثبت أن هذا الرجل مع ثقته غير مقتصر في التنقي والتوقي، وأن ما وقع في روايته مما ينكر قليل جداً. وقال ابن حجر في (لسان الميزان) : «ذكرته - يعني زيادة على (الميزان) - لأن المصنف ذكر عثمان بن أحمد الدقاق الصدوق الثقة بسبب كونه يروي المناكير» . أقول: لا عذر لابن حجر في هذا. أولاً: لأنه أنكر على الذهبي ذكره لعثمان، كما يأتي في ترجمته من (التنكيل) ثانياً: لأن المناكير في مرويات عثمان كثيرة، والله المستعان. -5- ومن فواقره تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل، يختزل منها القطعة التي توافق غرضه، وقد يكون فيما يدعه من النص ما يبين أن معنى ما يقتطعه غير المتبادر منه عند انفراده، فمن أمثلة ذلك: 1- القاسم بن أبي صالح، راجع ما تقدم 1: 2. 2 و3- جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضاح، راجع ما تقدم (2-1و2) . 4- عبد الله بن علي بن المديني، راجع ما تقدم 4: 5. 5- محمد بن أحمد الحكيمي، راجع ما تقدم 4: 6. 6- محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال الكوثري ص 166: «قال عنه أبو حاتم: كان به غفلة حدّث حديثاً موضوعاً عن ابن عيينة» ، أقول عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه و (التهذيب) وغيرهما: «كان رجلاً صالحاً وكان به غفلة، رأيت عنده حديثاً موضوعاً قد حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقاً» هذا وابن أبي عمر مكثر جداً عن ابن عيينة، فإذا اشتبه عليه حديث واحد لم يضره،

ولعل أبا حاتم نبهه عليه فترك روايته، وقد يكون أبو حاتم أخطأ في ظن الحديث موضوعاً، وسئل الإمام أحمد: عمن نكتب؟ فقال أما بمكة فابن أبي عمر. وقد أكثر مسلم في (صحيحه) عن ابن أبي عمر، له عنده على ما حكي عن (الزهرة) مائتا حديث وستة عشر حديثاً. 7- محبوب بن موسى، قال الكوثري ص 17: «يقول عنه أبو داود لا تقبل حكاياته إلا من كتاب» . أقول: عبارة أبو داود كما في (التهذيب) و (الميزان) «ثقة: لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب» ويأتي تحقيق حال محبوب في ترجمته من (التنكيل) إن شاء الله تعالى. 8- سعيد بن عامر، قال الكوثري ص 109: «في حديثه بعض الغلط كما قال ابن أبي حاتم» . أقول: عبارة ابن أبي حاتم كما نقلها عن أبيه كما في كتابه وغيره «كان رجلاً صالحاً وكان في حديثه بعض الغلط وهو / صدوق» وتأتي ترجمة سعيد في (التنكيل) . 9- سليمان بن حسان الحلبي. قال الكوثري ص 109: «قال أبو حاتم عنه (1) سألت ابن أبي غالب عنه فقال: لا أعرفه ولا أرى البغداديين يروون عنه» . أقول: تتمة عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه و (تاريخ بغداد) ج 9 ص 21 «وروى عنه من الرازيين أربعة أو خمسة» قال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي ما تقول فيه؟ قال: هو صحيح الحديث» . 10- محمد بن العباس أبو عمرو بن حيوية، راجع ما تقدم 1: 12 وتأتي ترجمة محمد في (التنكيل) . 11- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، قال الكوثري ص 133: «قال ابن عدي رأيت أبا يعلى يسيء القول فيه ويقول: شهد على خالي بالزور. وله

_ (1) الكوثري يأتي بلفظ «قال عنه» بمعنى «قال فيه» .

عن أهل الموصل أفراد وغرائب اهـ، وأبو يعلى من أعرف الناس به وكلامه فيه قاض على كلام الآخرين، أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلى قوله بالزور وعقب ذلك كما في التهذيب، قال ابن عدي وابن عمار: ثقة حسن الحديث عن أهل الموصل معافى بن عمران وغيره، وعنده عنهم أفراد وغرائب، وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان، ولم أر أحداً من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة» . فحذف الكوثري توثيق ابن عدي وجميع مشايخه لابن عمار، وحذف الدليل على أن المراد بالأفراد والغرائب الأفراد والغرائب الصحيحة التي يمدح صاحبها لدلالتها على إكثاره عنايته ومهارته في الفن كما تقدم شيء من ذلك (2: 5) وحذف الدليل على أن أبا يعلى كان عنده نفرة عن ابن عمار توجب أن لا يعتد بكلامه المذكور فيه، كما يأتي إيضاح ذلك في ترجمة ابن عمار من (التنكيل) . والكوثري يتشبث بهذه القاعدة ويتوسع فيها جداً فيردد كثيراً من الروايات المحققة والجرح المفسر المحقق بدعوى انحراف الراوي أو الجارح من المجروح، وإن كان الراوي أو اجارح جماعة من الأئمة ولم يثبت ما يعارض قولهم بل مع ثبوت ما يوافق قولهم عمن كان موافقاً للمجروح مائلاً إليه، كما يأتي بعض ذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن الغلس من (التنكيل) . ثم يتناقض الكوثري ههنا فيزعم أن تلك الكلمة المحتملة الصادرة من أبي يعلى مع تبين نفرته عن ابن عمار يرد بها توثيق الجمهور لابن عمار، وسيأتي في القسم الأول من (التنكيل) تحقيق هذه القاعدة، وفي القسم الثاني ترجمة ابن عمار وبيان إمامته وجلالته. 12- محمد بن فضيل بن غزوان، قال الكوثري ص 39 في الكلام في القاسم التمار: «وقال ابن سعد عن (1) محمد بن فضيل الراوي عنه: بعضهم لا يحتج به» .

_ (1) بمعنى في.

النوع السادس: يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجا به وسياق أمثلة على ذلك

أقول: عبارة ابن سعد كما في (طبقاته) ج 6 ص 271 و (التهذيب) وغيرها: «كان ثقة صدوقاً كثير الحديث متشيعاً، وبعضهم لا يحتج به» . فحذف الكوثري التوثيق الصريح، والدليل على أن عدم احتجاج بعضهم بابن فضيل إنما هو لتشيعه، وقد وثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي وغيرهم، ولم يطعن أحد في روايته، وقال ابن شاهين: «قال علي ابن المديني: كان ثقة ثبتاً في الحديث» وقال الدارقطني: «كان ثبتاً في الحديث إلا أنه كان منحرفاً عن عثمان» وقد جاء ما يدافع هذا (1) . قال أبو هشام الرفاعي: «سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان ولا يرحم من لا يترحم عليه» وذكر ابن حجر في (مقدمة الفتح) كلام ابن سعد ثم قال: «قلت إنما توقف فيه من توقف لتشيعه» . ثم ذكر كلام أبي هشام ثم قال: «احتج به الجماعة» . يعني الشيخين في (صحيحهما) وبقية الستة، ولا أدري من هو الذي لم يحتج بابن فضيل أو توقيفه؟ ولعل المراد بذلك بعض المتشددين في السنة لم يرو عن ابن فضيل لأنه يراه متشيعاً ويرى في الرواية عنه ترويجاً للتشيع فتوقف لذلك، لا لأن ابن فضيل ليس بحجة، ويأتي في القسم الأول من (التنكيل) تحقيق حكم رواية المبتدع بما يعلم منه أن مثل ابن فضيل حجة على الإطلاق. -6- ومن عواقره أنه يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجاً به، فمن أمثلة ذلك. 1- الحسن بن الربيع، قال الكوثري ص 151: «يقول فيه ابن معين لو كان يتقي الله لم يكن يحدث بالمغازي، ما كان يحسن يقرؤها» . أقول: هذا الكلام إنما رواه بكر بن سهل الدمياطي عن عبد الخالق بن منصور

_ (1) أعني انحرافه عن عثمان.

عن ابن معين، وبكر بن سهل لم يوثقه أحد، بل ضعفه النسائي، ورماه الذهبي في (الميزان) بالوضع. 2- ثعلبة بن سهيل القاضي، قال الكوثري ص 11 ضعيف. أقول: هذا يصلح أن يعد من أمثلة النوع الثامن - 8 - لكن أظن الكوثري اعتمد على ما حكاه أبو الفتح محمد / بن الحسين الأزدي عن ابن معين أنه قال في ثعلبة «ليس بشيء» وهذه الحكاية منقطعة كما قاله الذهبي في (الميزان) ، لأن بين الأزدي وابن معين مفازة، ومع ذلك فالأزدي نفسه متهم! له ترجمة في (تاريخ بغداد) و (الميزان) و (اللسان) (1) ثم لو فرض صحة تلك الكلمة عن ابن معين، فابن معين مما يطلق «ليس بشيء» لا يريد الجرح وإنما يريد أن الرجل قليل الحديث. وقد ذكر الكوثري ذلك ص 129 ويأتي تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من (التنكيل) وحاصله أن ابن معين قد يقول «ليس بشيء» على معنى قلة الحديث فلا تكون جرحاً، وقد يقولها على وجه الجرح كما يقولها غيره فتكون جرحاً، فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين: «ليس بشيء» قليل الحديث وقد وثق، وجب حمل كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث، ووجدنا ابن معين نفسه قد ثبت عنه أنه قال في ثعلبة لا بأس به. وقال مرة: ثقة، كما في (التهذيب) ، وممن قال ابن معين فيه: «ليس بشيء» أبو العطوف الجراح بن المنهال فنظرنا في حاله فإذا له أحاديث غير قليلة ولم يوثقه أحد بل جرحوه، قال ابن المديني: «لا يكتب حديثه» وقال البخاري ومسلم: «منكر الحديث» وقال النسائي والدارقطني: «متروك» وقال أبو حاتم والدولابي الحنفي: «متروك الحديث ذاهب لا يكتب حديثه» وقال النسائي في (التمييز) : «ليس بثقة ولا يكتب حديثه» وذكره البرقي فيما اتهم بالكذب وقال ابن حبان «كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر ... » والكلام

_ (1) انظر (اللسان) ج 5 رقم 464 و 465 فإنهما ترجمة واحدة وقوله في سطر 15: فإما " إلى قوله في سطر 18: " انتهى " كلام معترض.

فيه أكثر من هذا فعرفنا أن قول ابن معين فيه: «ليس بشيء» أراد بها الجرح كما هو المعروف عند غيره في معناها، فتدبر ما تقدم ثم انظر حال الكوثري إذ يبني على حكاية الأزدي عن ابن معين إنه قال في ثعلبة «ليس بشيء» ويعلم حال الأزدي وأنه كان بعد ابن معين بمدة ويعرف أن ابن معين قد يطلق تلك الكلمة لا على سبيل الجرح، وأن الحجة قائمة على أن هذا من ذاك، ومع ذلك كله يقول الكوثري في ثعلبة «ضعيف» وفي أبي العطوف يرى الكوثري جرح الأئمة له وأن له أحاديث غير قليلة، وأن ذلك مبين أن قول ابن معين فيه: «ليس بشيء» إنما أراد بها الجرح، ولكن الكوثري يقول ص 129: «وقال ابن معين: ليس بشيء، وهو كثيراً ما يقول هذا فيمن قل حديثه» ‍! وعذر الكوثري أنه بحاجة إلى رد رواية رواها ثعلبة وإلى تقوية أبي العطوف، هكذا تكون الأمانة عند الكوثري ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! 3- عبد الله بن جعفر بن درستويه. قال الكوثري صفحة 39: «كان يحدث عمن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها، فادفع إليه درهماً يصطنع لك ما شيءت من الأكاذيب» ذكر الكوثري هذه التهمة في عدة مواضع كلها بالجزم، بل نبز هذا العالم الفاضل الذي لا ذنب له إلا أنه روى كتاباً مشهوراً وهو (تاريخ يعقوب بن سفيان) ، وقد ثبت سماعه له حتى أن الذي أنكر عليه رجع أخيراً فقصده فسمع منه، كما في ترجمته من (تاريخ بغداد) ، نبزه الكوثري بلقب «الدراهمي» مع أنه لا مستند للكوثري في ذلك، إلا ما حكاه الخطيب عن هبة الله الطبري أنه ذكر ابن درستويه وضعفه وقال: «بلغني أنه قيل له حدث عن ابن عباس الدوري حديثاً ونحن نعطيك درهماً، ففعل، ولم يكن سمع من عباس» . ولا يخفى على عالم أن هذه الحكاية لا يصح الاستناد عليها لجهالة المبلغ للطبري، والكوثري أعلم الناس بهذا بل جاوزه كثيراً فيقول راداً لروايات الثقات الأثبات عمن يصرحون باسمه وقد ثبتت صحبتهم له وهم مع ذلك أبرياء من التدليس فيقول الكوثري: «اللفظ لفظ انقطاع ‍! حتى أحوجني ذلك إلى أن بينت في القسم الأول

من (التنكيل) شرح قاعدة الاتصال والانقطاع، وتحقيق الحكم فيما يشتبه منها، ومع هذا فقد قال الخطيب: «هذه الحكاية باطلة ... » هكذا تكون الأمانة عند الكوثري ‍! ويأتي بقية الكلام في ترجمة عبد الله بن جعفر من (التنكيل) . 4- الأصمعي عبد الملك بن قريب. قال الكوثري ص 54: «كذبه أبو زيد الأنصاري» . أقول: حاكى ذلك عن أبي زيد هو أحمد بن عبيدة بن / ناصح وهو مطعون فيه، وفي (الميزان) في ترجمة الأصمعي «أحمد بن عبيد ليس بعمدة» ونقل الكوثري نفسه هذا ص 42 حين احتاج إلى رد رواية لأحمد بن عبيد. قال الكوثري: «فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من (الميزان) يجزم الأستاذ هنا بأنه ليس بعمدة، ثم يعتده فيقول في الأصمعي: كذبه أبو زيد الأنصاري. هكذا تكون الأمانة عند الكوثري! 5- جرير بن عبد الحميد. قال الكوثري ص 110: «تفرد برواية حديث الأخرس الموضوع» . أقول: مستند الكوثري حكاية سليمان الشاذكوني هالك ويأتي يوم شرح الحال في ترجمة جرير من (التنكيل) . (1) 6- سليم بن عيسى القارئ. قال الكوثري ص 60: «كان ضعيفاً في الحديث ... وقد روى عن الثوري خبراً منكراً ساقه العقيلي» . أقول: لا مستند للكوثري في قوله: «كان ضعيفاً في الحديث» / إلا ذكر العقيلي ومن تبعه سليم بن عيسى في كتب الضعفاء مع رواية ذاك الحديث من طريق سليم بن عيسى.

_ (1) ج 1 ص 216 رقم 63.

فأما ذكر الراوي في بعض كتب الضعفاء فلا يضره ما لم يكن فيما ذكر به ما يوجب ضعفه، وذلك أنهم كثيراً ما يذكرون الرجل لكلام فيه لا يثبت أو لا يقدح أو نحو ذلك. وأما ذاك الحديث فرواه العقيلي عن يحيى بن صالح (1) متكلم فيه وأبو صالح كاتب الليث ليس بعمدة تأتي ترجمته في (التنكيل) (2) ، فعلى هذا لا يثبت أن سليماً روى ذاك الحديث ومع هذا فسليم الذي ذكره العقيلي وروى عنه ذاك الحديث ليس هو بالقارئ صاحب حمزة الواقع في سند الخطيب، وإيضاح ذلك أن العقيلي قال «سليم بن عيسى مجهول في النقل حديثه منكر غير محفوظ. حدثنا يحيى ... » كما مرَّ فقول العقيلي «مجهول في النقل حديثه منكر» واضح في أنه عنده غير القارئ، فإن القارئ معروف مشهور، وهذا مجهول لا يعرف عنه إلا بذاك الحديث كما تقتضيه عبارة العقيلي، ويؤكد هذا أن الذي ذكره العقيلي وروى عنه ذاك الحديث، كنيته " أبو يحيى " كما في السند، هكذا هو في كتاب العقيلي في النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية في حيدر أباد الدكن (3) وهكذا هو في (الميزان) وليست هذه كنية القارئ، أما القارئ فقال ابن الجزري في ترجمته من (طبقات القراء) ج 1 ص 318 «كنيته أبو عيسى ويقال أبو محمد» . والذهبي وإن بدأ في الميزان فزعم أنه القارئ فإنه رجع بعد ذلك ولفظه «سليم بن عيسى الكوفي القارئ، إمام في القراءة، وروى عن الثوري خبراً منكراً ساقه العقيلي، ولعل هذا الرجل غير القارئ ... » . فقد أتضح أن سليم بن عيسى القارئ الواقع في سند الخطيب لا يناله وهن مما ذكر العقيلي ثم الذهبي، لأنه إن لم يكن هو الذي روى العقيلي عن يحيى بن عثمان

_ (1) كذا في النسختين، والصواب «ابن عثمان» كما في «الضعفاء» للعقيلي (ص 172) و «الميزان» للذهبي، ويأتي قريباً في الكتاب على الصواب. ن (2) ج 1/ 305 / 124. (3) قلت: وكذلك هو في النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق. ن

النوع السابع: تجهيله للمعروفين الموثقين عندما يقتضي غرضه ذلك وسياق أمثلة على ذلك

عن كاتب الليث عنه ذاك الحديث فواضح، وإن كان إياه فلا يثبت عنه رواية ذاك الحديث للكلام في كاتب الليث وفي الراوي عنه. ولنكتف بهذه الأمثلة هنا، ويأتي لها في قسم التراجم / من (التنكيل) نظائر منها في ترجمة حماد بن سلمة، ومنها في ترجمة محمد بن حسين بن حميد بن الربيع. اعتبار كما رأيت الكوثري حيث له غرض في الطعن في الراوي قد يعمد إلى جرح يعلم أنه لا يثبت فيجزم به، فكذلك حيث يكون له غرض في تقوية الراوي قد يعمد إلى ثناء عليه يعلم أنه لا يثبت فيجزم به، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحِمَّاني من (التنكيل) (1) والله المستعان. - 7 - ومن تجاهله ومجازفاته قوله في المعروف الموثق «مجهول» أو «مجهول الصفة» أو «لم يوثق» أو نحو ذلك، فمن الأمثلة: 1- عبد الله بن محمود. روى الخطيب جزء 13 ص 384 من طريق عبد الله بن محمود المروزي قال سمعت محمد بن عبد الله بن قهزاذ..» فقال الأستاذ ص 70 «وعبد الله بن محمود مجهول الصفة» . / أقول: في ترجمة محمد بن عبد الله بن قهزاذ من «تهذيب التهذيب» جزء 9 ص 271 «روى عنه ... وعبد الله بن محمود السعدي» . ولعبد الله بن محمود السعدي المروزي ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم وقال «كتب إلى أبي بمسائل ابن المبارك من تأليفه» وله ترجمة في (تذكرة الحفاظ) (جزء 2 ص

_ (1) ج 1 ص 170 رقم 34.

257) . قال الذهبي «الحافظ الثقة محدث مرو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن عبد الله السعدي. قال الحاكم: ثقة مأمون» . (1) 2- محمد بن مسلمة. روى الخطيب ج 13 ص 395 من طريق البخاري «حدثنا صاحب لنا قال: قلت لمحمد بن مسلمة ... » فقال الكوثري صفحة 103 في الحاشية «مجهول وليس هو بكاتب الحارث بن مسكين فإنه محمد بن سلمة ... » . أقول: قد قرأ الكوثري ترجمته في (الانتقاء) لابن عبد البر الذي بث الكوثري عقاربه في تعليقاته عليه 56 وفي (تاريخ البخاري) جزء 1 ق1 ص 240 «محمد بن مسلمة أبو هشام المخزومي المدني ... سمع مالكاً ... وقيل لمحمد / بن مسلمة ما لرأي فلان ... » . فذكر الحكاية التي ذكرها الخطيب، وقال ابن حبان في (الثقات) : «محمد بن هشام بن إسماعيل أبو هشام المخزومي.. يروي عنه هارون بن عبد الله الحمال والناس، وكان ممن يتفقه على مذهب مالك ويفرّع على أصوله، ممن صنف وجمع» وذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال « ... روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك ابن أبي شيبة وأبي ... سألت أبي عنه فقال: كان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان من أفقههم.. سئل أبي عنه فقال: مديني ثقة» . وفي (الديباج المذهب) صفحة 227 «محمد بن مسلمة.. روى محمد هذا عن مالك وتفقه عنده، وكان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك وكان أفقههم وهو ثقة، وله كتب فقه أخذت عنه، وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع توفي سنة 206» .

_ (1) وهو من شيوخ ابن خزيمة وابن حبان في ثقاته مع روايته عنه في صحيحه، وتوثيق ابن حبان لمن عرفهم وخبرهم من أعلى التوثيق، فإنه يتشدد في هؤلاء ويحسن الظن بغيرهم. قلت: وراجع " التنكيل " (1/ 315) من أجل ابن محمود. و (1/436 - 438) من أجل توثيق ابن حبان. فهناك تفصيل دقيق عنه.

ويبعد جداً أن يكون هذا كله خفي على الكوثري مع ما عرفناه منه من النشاط في التفتيش عن التراجم، بل في سياق كلامه ما يشعر بأنه هذا الرجل، فإنه قال صفحة 104 «ونهمس في أذن هذا المتعصب الهاذي: إن كنت ... فما رأيك في مذهب إمامك ... » يعني مالكاً، والله المستعان. 3- طاهر بن محمد، ذكر الخطيب جزء 13 ص 373 حكاية من طريق «طاهر بن محمد حدثنا وكيع ... » فقال الكوثري ص 43 «طاهر بن محمد مجهول» . أقول: بل معروف موثق، هو طاهر بن أبي أحمد بن عبد الله الزبيري، ذكره المِزي في (تهذيبه) في الرواة عن وكيع، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه وقال: «روى عنه محمد بن عبد الله الحضرمي وموسى بن إسحاق القاضي» وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «يروي عن وكيع وأبي أسامة حدثنا عنه محمد بن إدريس الشامي، مستقيم الحديث» وهذا من توثيق ابن حبان الذي لا مغمز فيه، كما يأتي شرحه في ترجمة ابن حبان من (التنكيل) . (1) 4- إسماعيل بن حمدويه. ذكر الخطيب ج 13 ص 414 أثراً من طريق «سلامة ابن محمود القيسي، حدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي قال سمعت الحميدي ... » فقال الكوثري ص 150: «إسماعيل بن حمدويه مجهول» . أقول ذكره ابن حبان في (الثقات) - ووقع في النسخة «السكندري» (2) . وقال: «يروى عن أبي نعيم وأبي الوليد وأهل البصرة، حدثنا عنه محمد بن المنذر شكر كان مقيماً بالرملة زماناً وكتب عنه شكر» . أقول: فقد عرفه ابن حبان وعرف حديثه، وتوثيقه لمن عرفه وعرف حديثه مقبول،

_ (1) ج1 ص 436 – 438. (2) ثم رأيته في نسخة أخرى جيدة (البيكندي) . والمؤلف. قلت: وهو الصواب كما أفاده المصنف في " التنكيل " (1 / 208 / 50) . ن

كتوثيق غيره من الأئمة، ويأتي ذلك في ترجمة ابن حبان من (التنكيل) . 5- عبد الرحمن بن داود بن منصور. ذكر الكوثري ص 184 رواية لأبي نعيم الأصبهاني عن أبي الشيخ عن عبد الرحمن بن داود بن منصور. فقال الكوثري: «عبد الرحمن بن داود مجهول» . أقول: ذكره أبو الشيخ وأبو نعيم أنفسهما في كتأبيهما، فقال أبو الشيخ: «عنده حديث الشام ومصر، أكثر الناس حديثاً عنهم، كان من الفقهاء صاحب أصول ثقة مأمون» . وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) نحو ذلك، وهذان الكتابان قد وقف عليهما الكوثري، فإنه قال ص 59 عند ذكر عمر بن قيس الماصر: «له ولذويه ذكر واسع في (تاريخ أصبهان) لأبي الشيخ» وقال ص 151 في أحمد بن عبد الله الأصبهاني: «مترجم في (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم» وفي كلا النقلين نظر، لكن المقصود هنا بيان وقوف الكوثري على الكتأبين، وقد دل على ذلك كلامه في سالم بن عصام كما مر (2: 5) ، (1) ولا يخفى على الكوثري أن عبد الرحمن هذا أصبهاني، فالظن به أنه راجع ترجمته في الكتأبين المذكورين. 6- أحمد بن الفضل بن خزيمة. وقال الكوثري ص 111 «لم يوثق» . أقول: هو أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 4 ص 347 وفيها وكان ثقة. 7- جعفر بن محمد الصندلي. قال الكوثري صفحة 141: « «الذي» أثنى ابن حيوية عليه وحده، لا يكون إلا من هذا الصنف» . أقول: ابن حيويه هو محمد بن العباس أبو عمر بن / حيويه الخزاز ستأتي ترجمته في (التنكيل) ، وهو أحد الثقات الإثبات العارفين، ومع ذلك ففي ترجمة جعفر هذا من (تاريخ بغداد) «وكان ثقة صالحاً ديناً سكن باب الشعير، أخبرنا أحمد بن أبي جعفر حدثنا يوسف بن عمر القواس حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي الأطروش سنة سبع عشرة وثلاثمائة ومات فيها، وكان يقال إنه من الأبدال» . ثم ذكر الخطيب

_ (1) يعني النوع الثاني من الترجمة الخامسة. (ص 61 – الطبعة الأولى) .

اعتبار: يزعم في المجاهيل الذي يريد الاحتجاج بهم أنهم معروفون موثوقون مجازفا بذلك

أن الصحيح أنه مات سنة 318، وقال ابن الجوزي في (المنتظم) ج6 ص234 في ترجمة جعفر هذا «وكان ثقة صالحاً ديناً، وكان يقال إنه من الأبدال» . اعتبار كما أن الكوثري يتجاهل المعروفين الثقات حين يكون هواه رد روايتهم، فكذلك يتعارف المجاهيل ويحتج بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه، وسيأتي في (التنكيل) أمثلة لذلك. منها: في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ذكر الخطيب أثراً من طريق علي بن حمشاذ عنه واستنكره، فقال الكوثري صفحة 151 «سعى الخطيب ... بأن يقول: إن أحمد بن عبد الله الأصفهاني مجهول، كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ مترجم في (تاريخ أصفهان) لأبي نعيم» . كذا قال: وقد فتشت (تاريخ أبي نعيم) فوجدت فيه ممن يقال له (أحمد بن عبد الله) جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يشعر بأنه هذا، وفوق ذلك جميعهم غير موثقين! (1) ومنها في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني، ذكر الخطيب بسنده حكاية عن ابن أبي خثيمة وردها بنكارتها لأن في السند مجاهيل. فاحتج الكوثري بتلك الحكاية جازماً بها ودفع كلام الخطيب بقوله «وهذا مما يغيظ الخطيب جداً ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى» . كذا قال، ثم لم يبين ما يعرف به أولئك الذين جهلهم الخطيب (2) . منها في ترجمة الإمام الشافعي فيما يتعلق / بكتاب (التعليم) المنسوب لمسعود بن شيبة، هذا الكتيب فيه جهالات في الطعن في مالك والشافعي، وذكر ابن حجر في (لسان الميزان) مسعود بن شيبة وقال: «مجهول لا يعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ

_ (1) وادعى الكوثري أن علي بن حمشاذ لا يروي إلا عن الثقات فبينت هناك كذب هذه الدعوى وسقت عدة من الروايات التي فيها رواية علي بن حمشاذ عن الضعفاء والمتهمين. (2) وقد عرف غيره بعضهم بالضعف الشديد كما ستراه في «التنكيل» .

تصحيح الكوثري قصة مجيء الشافعي إلى قبر أبي حنيفة في كل يوم زائرا

عنه، له مختصر سماه (التعليم) ... » فزعم الكوثري في حاشية صفحة 3 «أنه معروف عند الحافظ عبد القادر القرشي و ... وغيرهم، فنعد صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة لحاجة في النفس، وقانا الله اتباع الهوى» . كذا قال، والقرشي وغيره لم يعرفوا من حال مسعود بن شيبة إلا بما أخذوه من كتاب (التعليم) نفسه، وليس في ذلك ما يدل أنهم عرفوه المعرفة التي تنافي الجهالة، والواقع أن كتاب (التعليم) ألفه حنفي مجهول متعصب وكتب على ظاهره ذاك الاسم المستعار (مسعود بن شيبة) ولكن الكوثري مع معرفته الحقيقة يلدغ ويصيء ويرمي الأئمة بدائه ثم يقول: وقانا الله اتباع الهوى! ومما يدخل في هذا الضرب قول الكوثري ص 16 عند نقله ما ذكره الخطيب في موضع قبر أبي حنيفة: «كان من المناسب أن يذكر الخطيب هنا ما ذكره في ج 1 ص 123 من تبرك الشافعي بأبي حنيفة حيث قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال أنبأنا مكرم بن أحمد قال أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى اهـ. ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب» . أقول: أما الصيمري وشيخه فموثقان عند الخطيب أي في (تاريخه) كما هو الظاهر - ومع هذا فالظاهر أن هذه الحكاية من كتاب (مناقب أبي حنيفة) الذي جمعه مكرم بن أحمد، وكان كتاباً معروفاً، ولعله كان عند الخطيب نسخة منه وكان سماعه له من الصيمري، ومعظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة، ولم يكن الخطيب ليعتمد عليها إلا وهي صحيحة، فالصيمري وشيخه من الوسائط السندية - فلا يضر تلك الرواية أن يكون فيهما أو في أحدهما كلام - / على أنه لا كلام فيهما فيما أعلم، وأما مكرم فقد قال الخطيب في ترجمته «وكان ثقة» ولم أر ما يخالف ذلك سولى ما ذكره الخطيب ج4 ص 209 في ترجمة أحمد بن الصلت بن المغلس الحماني قال: «حدثني أبو القاسم الأزهري قال: سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا أسمع عن جمع

مكرم بن أحمد (فضائل أبو حنيفة) ؟ فقال: موضوع، كله كذب، وضعه أحمد بن المغلس الحماني ... » . فهذه العبارة تحتمل أوجهاً: الأول: أن يكون الدارقطني تجوز في قوله: (كله) وإنما أراد أن الموضوع بعض ما تضمنه ذاك المجموع، وهو ما فيه رواية عن أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس. الثاني: أن تكون عبارة الدارقطني على ظاهرها، ويكون ما في ذلك المجموع من غير الحماني أصله من وضع الحماني، ولكن كان لمكرم إجازات من أولئك الشيوخ فأسقط اسم الحماني من تلك الروايات ورواها عن أولئك المشايخ بحق الإجازة، كما قيل إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني ربما صنع مثل ذلك كما يأتي في ترجمته من (التنكيل) . الثالث: أن يكون مكرم واطأ الحماني، فوضع له الحماني تلك الحكايات عن شيوخ الذين أدركهم مكرم، فرواها مكرم عنهم، وهذا الوجه الثالث هو الموافق لظاهر سؤال الأزهري للدارقطني وجوب الدارقطني، لكن يدفعه توثيق الخطيب لمكرم، وأنه لم يذكره أحد في (الضعفاء) ، والوجه الثاني أيضاً موافق لظاهر سؤال الأزهري وجواب الدارقطني، وهو أدنى أن لا يدفعه ما يدفع الثالث. وعلى كل حال فلم ينحل الإشكال، فدعه وافرض أن الراجح هو الوجه الأول، وأن هذه الرواية صحيحة عن عمر بن إسحاق بن إبراهيم، فمن عمر هذا؟ ومن شيخه أموثقان هما عند الخطيب كما زعم الكوثري؟. أما أنا فقد فتشت (تاريخ بغداد) فلم أجد فيه، لا موثقين ولا غير موثقين، بل ولا وجدتهما في غيره، نعم في غيره علي بن ميمون الرقي يروي عن بعض مشايخ

النوع الثامن: يطلق صيغ الجرح بما لا يوجد في كلام الأئمة

الشافعي ونحوهم، وهو موثق لكن لا نعرف له رواية عن الشافعي، وقد راجعت (توالي التأسيس) لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي فلم أجد فيهم علي / ابن ميمون لا الرقي ولا غيره، انظر (توالي التأسيس) ص 81. هذا حال السند، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء، ويؤكد ذلك حال القصة، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضاً، إنما يعرف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد. والمقصود إنما هو المقابلة بين قول الكوثري «ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب» مع الأمثلة السابقة، وبين الأمثلة المتقدمة في النوع (1) (7) . وبيان أن الكوثري إن تجاهل المعروفين الموثقين من رواة ما يخالف هواه، فإنه يتعارف المجهولين من رواة ما يوافقه، والله المستعان. - 8 - ومن أعاجيبه أنه يطلق صيغ الجرح مفسرة وغير مفسرة بما لا يوجد في كلام الأئمة، ولا له عليه بينة، فمن أمثلة ذلك: 1- أنس بن مالك صاحب رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الكوثري صفحة 80 «وأما حديث الرضخ فمروي عن أنس / بطريق هشام بن زيد، وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل لكن عنعنة قتادة متكلم فيها، وقد انفرد برواية الرضخ أنس رضي الله عنه في عهد هرمه، كانفراده برواية شرب أبوال الإبل العيني في رواية قتادة (زاد في الحاشية - كما في (الكفاية) للخطيب ص 74 برغم حملات البدر العيني على الإتقاني وصاحب (العناية) في ذلك ... ) وبحكاية معاقبة العرنيين تلك العقوبة للحجاج الظالم المشهور، حينما سأله عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى استاء الحسن

_ (1) الأصل «الفرع» .

البصري من ذلك، ومن رأي أبي حنيفة رضي الله عنهم مع كونهم عدولاً ليسوا بمعصومين من مثل قلة الضبط الناشيءة عن الأمية أو كبر السن، فيرجح رواية الفقيه منهم على رواية غيره عند التعارض، ورواية غير الهرم منهم على رواية الهرم ... » . أقول: المقصود هنا ما في هذه العبارة من زعم أن أنساً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هرم واختل ضبطه! ولا أعرف أحداً قبل الكوثري زعم هذا. نعم ذكروا أنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما كبر نسي بعض حديثه لكن لا يلزم من النسيان اختلال الضبط فإن الناسي إن نسي الحديث أصلاً لم يحدث به البتة وكيف يحدث به وهو ناس له؟ وإن عرض له تردد في قصة أو في بعضها فإنه إذا كان ضابطاً لم يحدث بها، أو يحدث بها ويبين التردد والشك، فالضابط هو الذي لا يحدث إلا بما يتقنه، فما لم يتقنه لم يحدث به أو حدث به وبين شكه، سواء أكان عدم الاتقان لذاك أول مرة عند التلقي أم عارضاً. وزعمه أنه هرم غير قويم، لأن الهرم أقصى الكبر، ولم يبلغ أنس أقصى الكبر، أما من جهة كبر السن فقد قيل إنه لم يجاوز المائة وقيل بل جاوزها بثلاث سنين، وغلّطوا من قال إنه جاوزها بسبع سنين وقد كان في عصره من قومه وغيرهم من عاش فوق ذلك، فبلغ حسان مائة وعشرين سنة، وكان سويد بن غفلة يؤم الناس في قيام رمضان وقد أتى عليه مائة وعشرون سنة، ثم عاش حتى تم له مائة وثلاثون سنه، وبلغ أبو رجاء العطاردي مائة وسبعاً وعشرين سنه، وبلغ أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني مائة وعشرين سنة، وبلغ المعرور بن سويد مائة وعشرين سنة، وبلغ زر بن حبيش مائة وسبعاً وعشرين سنة، وبلغ أبو عثمان النهدي مائة وثلاثين وقيل مائة وأربعين سنة، وحسان صحأبي من قوم أنس، والستة الباقون كلهم ثقات أثبات مجمع على الاحتجاج بروايتهم مطلقاً، ولم يطعن أحد في أحد منهم بأنه تغير بأخرة. وأما من جهة قوة البدن فلم يزل أنس صالحاً حتى مات لم يعرض له وهن شديد،

تتبع المصنف لعبارة الكوثري ليتضح تحقيقه وتثبته

وأما من جهة كمال العقل وحضور الذهن فلم يزل أنس كامل العقل حاضر الذهن حتى مات. وأحب أن أتتبع عبارة الأستاذ السابقة ليتضح للقارئ تحقيق الأستاذ وتثبته ‍‍‍! أما هشام فهو ابن زيد بن أنس بن مالك، وليس هو بمدلس، والراوي عنه شعبة، وهو معروف بالتحفظ عن رواية ما يخشى فيه التدليس، والحديث في (الصحيحين) ، وأما أبو قلابة فهو عبد الله بن زيد الجرمي، وقد قال أبو حاتم «لا يعرف له تدليس» وسماعه من أنس ثابت كما في حديث العرنيين وغيره، فعنعنة هذين محمولة على السماع باتفاق أهل العلم. فقول الكوثري: «وفيه القتل بقول المقتول» إنما يكون فيه ذلك لو صرح بنفي الاعتراف، ولم يصرح به، وإذا وقع الاعتراف، وهذا كما في دلالة الاقتضاء المشروحة في أصول الفقه، وهي أنه إذا لم يصح المعنى الظاهر عقلاً أو شرعاً وجب إضمار ما يصح به الكلام، ولا يعد عدم صحة الظاهر مسوغاً لرده رأساً، فكذلك هنا، بل الأمر هنا أوضح فإن ترك الراوي لبعض الجزئيات مما يرى أنه لا يخفي ثبوته على أحد أسهل من الحذف في التركيب، هذا كله على فرض أنه لم ينقل الاعتراف وهو منقول ثابت في رواية قتادة. قول الكوثري: «عنعنة قتادة متكلم فيها» . أقول: دع عنعنته وخذ تصريحه، قال البخاري في (الصحيح) في «باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به» : حدثني إسحاق أخبرنا حبان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس ابن مالك أن يهودياً رَضَّ رأس جارية بين حجرين، فجيء باليهودي فاعترف - فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضَّ رأسه بالحجارة، وقد قال همام بحجرين. وفي (مسند الإمام أحمد) (1) ج 3 ص 269 حدثنا عفان حدثنا همام قال أنا

_ (1) طبع المكتب الإسلامي، مع فهرس للصحابة، صنع المحدث الألباني

ذكر شاهدين لحديث أنس

قتادة أن أنساً « ... خذ اليهودي فجيء به فاعترف» فهل في هذا عنعنة يا كوثري؟ (1) . (أقول) أما الانفراد فليس بمانع من الاحتجاج عند / أهل السنة، بل بإجماع الصحابة والتابعين، بل الأدلة في ذلك أوضح، ولم يشترط التعدد إلا بعض أهل البدع، نعم قد يتوقف في بعض الأفراد لقيام قرائن تشعر بالغلط، والمرجع في ذلك إلى أئمة الحديث، وليس قرينة، وأئمة الحديث قد صححوا هذا الحديث كما علمت. وأما قوله «في عهد هرمه» فقد تقدم أنه لم يهرم، وليس هناك دليل على أنه لم يحدث بهذا الحديث إلا بعد كبره، فالجزم بذلك مجازفة. قوله «كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة» . (أقول) في (فتح الباري) « ... وروى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعاً: الإبل شفاء للذربة بطونهم» والحديث في (الصحيحين) وغيرهما عن قتادة مصرحاً في بعض طرقه بالسماع من أنس.، بل ثبت في (الصحيحين) وغيرهما من رواية أبي قلابة مصرحاً في بعض طرقه بالسماع من أنس، وثبت في (صحيح مسلم) من رواية عبد العزيز بن صهيب وحميد بن أنس. وفي (تفسير ابن جرير) 6 / 119 - 120 بسند صحيح عن سعيد بن جبير ذكر القصة بسياق أخر وفيها «فاشربوا أبو الها وألبانها» . وما في (الكفاية) صفحة 74 حاصله أن الخطيب عقد باباً لما استثبت فيه الراوي غيره وميزه، فذكر في / جملة الأمثلة عن حميد عن أنس «فشربتم من ألبانها قال حميد وقال قتادة عن أنس: وأبوالها» فمقصود الخطيب أن حميداً لم يحفظ الحديث (وأبوالها) وإنما أخذه من قتادة، فهذا حجة على أن حميداً

_ (1) ليس هذا من الزيادة. إنما هو من تبيين المجمل وتعيين المحتمل، ومن يحتج بالمرسل فكيف يعقل أن يرد مثل هذا؟! المؤلف. قلت: هذا رد على ما في «الترحيب» ، فراجع التفصيل في «التنكيل» (1/207، 208) . ن

رمي الكوثري لأنس بالأمية والرد عليه

ليس في محفوظه عن أنس (وأبوالها) وليس فيه ما يدل أن قتادة تفرد بها، وقد ثبت من رواية أبي قلابة وعبد العزيز ابن صهيب، ثم فرض تفرد قتادة أحفظهم. قول الكوثري: «وبحكاية معاقبة العرنيين» . أقول: كان اجتماع أنس بالحجاج لما كان الحجاج بالبصرة وذلك سنة 75 هـ‍ قبل وفاة أنس ببضع عشرة سنة وليس في الحديث ما يصلح أن يكون شبهة للحجاج على ظلمه، ولو كان فيه ذلك فلم يكن الحجاج يحتاج في ظلمه إلى شبهة، ومع هذا فلأنس عذر، وهو أنه قد كان حدث بالحديث قبل ذلك، فلعله لما سأله الحجاج خشي أن يكون قد بلغ الحجاج تحديثه به، فإذا كتمه عند سؤاله إياه اتخذ الحجاج ذلك ذريعة إلى إيذاء أنس، ثم أقول إن كان مقصود الكوثري أن تحديث أنس للحجاج بتلك القصة يدل على اختلال ضبط أنس، فلا يخفي بطلان هذا وإن كان مقصوده أن ذلك موجب لفسق أنس فليصرح به. قوله «قلة الضبط الناشيءة عنه من الأمية أو كبر السن» . أقول: أما الأمية فليست مما يوجب قلة الضبط، وإنما غايتها أن يكون في رواية صاحبها كثير من الرواية بالمعنى، وليس ذلك بقادح، ومع ذلك فلم يكن أنس أمياً، ولا يخشى في حديث الرضخ، ولا حديث العرنيين رواية أنس بالمعنى، أما عدم الأمية ففي (الإصابة) «قال محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس أن أبا بكر لما استخلف بعث إلى أنس ليوجهه إلى البحرين على السعاية، فدخل عليه عمر فاستشاره فقال: ابعثه فإنه لبيب كاتب. وأما الرواية بالمعنى فإنما تخشى في الأحاديث القولية، والحديثان فعليان. قوله «فيرجح ... » . أقول: الترجيح إنما يكون عند قيام المعارض، ولم يعارض حديثي أنس - ولا سيما حديث الرضخ - شيء يعتد به، وليس مما يوهن أن يكون بحيث لو عارضه ما هو أرجح منه لقدم الراجح، فإن هذا الوهن إنما يحصل عند / وجود المعارض

أبو عوانة الوضاح رماه الكوثري بالاختلاط والتدليل على ذلك

الأقوى، فإذا لم يكن هناك معارض في أقوى لم يكن هناك وهن. وهذا وسيأتي بسط الكلام على حديث الرضخ في الفقهيات من (التنكيل) وتأتي ترجمة أنس في قسم التراجم هناك، (1) والله الموفق. 2- أبو عوانة الوضاح. قال الكوثري ص 92: « ... وما رواه في ست سنوات في آخر عمره، لا يعتد به لاختلاطه» . أقول: فتشت المظان فلم أر أحداً زعم أن أبا عوانة اختلط، وكأن الكوثري تشبت بما في (تاريخ بغداد) 13: 465 « ... محمد بن غالب حدثنا أبو سلمة قال: قال لي أبو هشام المخزومي: من لم يكتب عن أبي عوانة قبل سنة سبعين ومائة فإنه لم يسمع منه» ثم عقب ذلك بذكر وفاة أبي عوانة سنة 175، أو سنة 176، وحمل الكوثري قوله «فلم يسمع منه» على المجاز، أي فلم يسمع منه سماعاً يعتد به، ثم تخرص أن ذلك لأجل اختلاطه. ويدفع هذا أن مثل أبي عوانة في إمامته وجلالته وكثرة حديثه وكثرة الآخذين عنه لو اختلط لاشتهر بذلك وانتشر، فكيف لو دام ذلك سنوات؟ وقد اعتنى الأئمة بجمع أسماء الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، واعتنى المؤلفون في الضعفاء بذكر الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، ومن ذكره منهم لم يذكر أنه اختلط، وإنما ذكر أنه كان إذا حدث من حفظه يغلط، ومع ذلك فهذه الرواية لا وجود لها في (تهذيب التهذيب) مع حرصه على ذكر كل ما فيه مدح أو قدح، وظهر من ذلك أنها ليست في أصوله، والذي يظهر أنهم حملوها على أن المقصود بها بيان تاريخ الوفاة (2) لأن الخطيب عقبها بما هو صريح في ذلك، فإما أن يكونوا أعرضوا عنها لشذوذها وإجمالها وإما أن يكون وقع في نسخة التاريخ المطبوع سقط والأصل قبل سنة ست وسبعين فرأوا أن مع إجمالها محتملة للوجهين المصرح بهما، فإن كان ولا بد فقد يكون المراد بها معنى ما روى عن الإمام أحمد أن أبا عوانة كان في آخر عمره يقرأ من كتب الناس، يعني

_ (1) ج 1 ص 211 وحديث الرضخ في ج 2 ص 88. (2) هذا هو المتعين ولا حاجة لما بعده فقد صرح الحافظان الجليلان أبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد بن عدي بأن أبا عوانة مات سنة سبعين ومائة، كما في " تاريخ جرجان " ص 438. المؤلف.

اعتماداً على حفظه مع قول أحمد «إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه ربما وهم» فيكون أبو هشام بالغ في قوله «فلم يسمع منه» فأما الاختلاط فلا وجه له البتة. 3- محمد بن علي بن الحسين بن شقيق، في (تاريخ بغداد) 13: 414 من طريق «أحمد بن الحسين البلخي يقول: سمعت محمد بن علي بن الحسين بن شقيق يقول سمعت أبي يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لَحَديث واحد من حديث الزهري أحب إلي من جميع كلام أبي حنيفة» . فذكر الكوثري ص 151 أثراً قبل هذا، ثم قال «وفي سند الخبر الذي بعده محمد ابن شفيق (كذا) وليس بذاك، ومتن الخبر لحديث واحد ... » . فمحمد بن علي بن الحسين بن شقيق وثقة النسائي وغيره وقال الحاكم «كان محدث مرو» ولم يغمزه أحد، فأما أبوه فمن جلة أصحاب ابن المبارك احتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة. 4- حسين بن حريث أبو عمار المرزوي. قال الكوثري ص 83 «كثير الأغراب» . أقول: لم أجد للكوثري سلفاً في هذا، والحسين بن حريث من شيوخ الشيخين في (الصحيحين) ، وأبي داود والترمذي والنسائي في كتبهم، ووثقه النسائي وغيره ولم يغمزه أحد. 5- علي بن محمد بن مهران السواق. قال الكوثري ص 156: «من ضعفاء شيوخ الدارقطني» كذا قال الرجل روى عنه الدارقطني ووثقه الخطيب ولم يغمزه أحد (1) وتأتي ترجمته في (التنكيل) . 6- جعفر بن محمد بن شاكر. قال الكوثري ص 109: «بلغ تسعين سنة واختل ضبطه» .

_ (1) انظر لدفع التشكيك «تاريخ بغداد» 5 - 59 «وسنن الدارقطني» صفحة 57 و 255 و 409.

الإشارة إلى أنواع أخرى من مغالطات الكوثري ومجازفاته

أقول العمر فذكروا أن جعفر قارب التسعين، وأما اختلال الضبط فمن مجازفات الكوثري، قال الخطيب (7: 176) : «كان عابداً زاهداً ثقة صادقاً متقناً ضابطاً» وأسند عن ابن المنادي «كان ذا فضل وعبادة وزهد، انتفع به خلق كثير الحديث» وعنه أيضاً «كان من الصالحين، أكثر الناس عنه لثقته وصلاحه، بلغ تسعين سنة غير يسير» . وبلوغ التسعين لا يستلزم اختلال الضبط كما مر في ترجمة أنس، ويتأكد ذلك في هؤلاء المتأخرين، لأن اعتمادهم على أصول مثبتة منقحة محفوظة، لا على الحفظ، والله الموفق. فهذه ثمانية من فروع مغالطات الكوثري ومجازفاته؛ وبقي بعض أمثلتها، وسترى ذلك في (التنكيل) . وكذلك بقيت فروع أخرى ستراها في (التنكيل) إن شاء الله تعالى، منها أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضر، فيزعمه الكوثري جرحاً ترد به الرواية، كما قال في الحسن بن علي الحلواني، والحسن بن أبي بكر، وعثمان بن أحمد بن السماك ومحمد بن عباس بن حيويه. ومنها أن الكوثري قد يحكي كلاماً في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلم عليه، كأن يروي الخطيب عن رجل كلاماً قاله برأيه، فيحكي الكوثري في ذلك الرجل كلاماً حاصله أنه لم يكن جيد الحفظ، كما قال في إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وسفيان بن وكيع وقيس بن الربيع ومؤمل بن إسماعيل ومحمد بن ميمون أبي حمزة ومحمد بن جعفر بن الهيثم. ومنها أن الخطيب كثيراً ما ينقل الروايات عن بعض المصنفات المشهورة، ولكنه على عادة أقرانه لا يصرح بالنقل، بل يرويها بسنده الذي سمع به ذاك الكتاب، فيتكلف الكوثري الكلام في بعض من بين الخطيب وبين / مؤلف الكتاب، مع أن هذا لا يقدح في الرواية، إذ معظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة ككلامه في عبد الله بن جعفر ابن درستويه، والحسن بن الحسين بن دوما، ومحمد بن أحمد رزق، وأحمد بن كامل.

ومنها: أن الكوثري يعمد إلى كلام قد ردّه الأئمة فيتجاهل الكوثري ردهم ويحتج بذلك الكلام، ككلامه في علي بن عبد الله بن المديني، وبشر بن السرَي، وأحمد بن صالح، ومحمد بن بشار، وإسماعيل بن إبراهيم أبي معمر الهذلي، وأبي مسهر عبد الأعلى ابن مسهر، وعبد الله بن محمد بن أبي الأسود، ومحمد بن عبد الله بن عمار. ومنها: أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يعد جرحاً البتة فيعتد به ويهول، مثل كلامه في عبد الله بن الزبير الحميدي، والحسن بن أبي بكر بن شاذان، ورجاء بن السندي. ومنها: أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتهم لا أصل لها، كما قاله في الحميدي وأحمد بن علي الأبار، إلى غير ذلك. وسترى إلى شاء الله تعالى هذا كله وغيره في (التنكيل) . وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.

الكوثري وتعليقاته - محمد بهجة البيطار

الكوثري وتعليقاته بقلم علاّمة الشام الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار مقال نشرته مجلة الرابطة العربية التي تصدر بمصر بعددي 106 و107 المؤرخين 1 و8 جمادى الأولى 1357- 29 حزيران (يونية) و 6 تموز (يوليو) 1938 وجاء محرفاً وساقطاً عنه عدة سطور، فلزم طبعه.

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم إن تعجب فعجب لرجل أعجمي يدعي الغيرة على الإسلام والدفاع عن عقائده وعن فقه المسلمين، ثم تراه لا- يألو جهداً في نفي ما أثبت الله عز وجل لنفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه خاتم أنبيائه ورسله، - صلى الله عليه وسلم -، من آيات صفائه، ونعوت جلاله، تبارك وتعالى، ويطعن في أئمة الحديث، ونوابغ العلماء وأشهر مشاهير الأمة، من دون ورع ولا حياء، ولا يبالي أن يكتب العقائد من عند نفسه، وأن يملي التاريخ من حقده، فينحل أهل السنة عقائد المُعتزلة، ويثنى عليهم بها، ويشوه تراجم الرجال ومحاسنهم، ويقلب الحقائق رأساً على عقب. هذا هو الشيخ زاهد الكوثري الجركسي الذي كان سمح له الأستاذ السيد حسام الدين القدسي أن يصحح بعض مطبوعاته، وأن يعلق عليها تعليقات لا يخرج بها عن دائرة الحقيقة، ولا يفتات فيها على أحد بشيء. ولما وقف على هذا النزر الذتي علقه رأى فيه من ضروب الخيانات والجنايات ما تقف له الشعور، وتقشعر منه الجلود، ويسئل من مثله العافية، فاضطر الحسام الفاضل إلى إيقافه عن التصحيح والتعليق، وأعلن في مقدمة كتاب "الانتقاء" (1) خيانته على رؤوس الأشهاد، وجنايته على الدين وأهله، بما لم يسبق إلى مثله، وذكر أمثلة منها، تراجع في تلك المقدمة. وأشار إلى تعيين تعليقاته كلها ليكون القراء على بينة

_ (1) تجدها في الصفحة التالية من هذا الكتاب- زهير-

من أمرها. وإليك أيها القارىء الكريم أمثلة مما ذكرناه لتشهد بصحة قولنا فيه، ولتعلم مبلغ هذا الرجل من الدين والحقيقة والإنصاف. (3) هذا وقدكان الشيخ محمد زاهد الكوثري يصحح الكتاب ويعلق عليه ثم أوقفت ذلك في الصفحة 88 لما اطلعت عليه من دخلة في علمه وعمله دفعتني إلى النظر في تعليقاته على النزر من مطبوعاتي بغير العين التى كانت لاتأخذ منه إلاعالما مخلصا فرأيته في بعضها باحثا بمادة واسعة وتوجيه لم يحبق اله وهو شطر السبب في اعجابي به بما تأتى اليه من عدم النفاذ إلى أغراضه وفي بعضها يحاول الارتجال في التاريخ تعصبا واجتراء والباقي تعليق ككل تعليق وكلام ككل كلام. وخيفة أن أشاركه في الإثم إذا أنا سكت عن جهله بعد علمه سقت هذه الكلمة الموجزة معلناً براءتي مما كان من هذا القبيل. وأنا ضارب له مثلا ليقاس عليه فانه قال في " ذيول الطبقات ص 300 " عن الكلوناتي " شهدوا له بأنه أكثر معاصريه سماعا ملأ البلاد المصرية رواية" ويقول الأستاذ المحقق السيد أحمد رافع الطهطاوي "وهذه الشهادة إنما نقلت عن الأمير تغري برمش وفيها مجازفة فكم من كتاب وجزء ومعجم ومشيخة قرأه أوسمعه الحافظ ابن حجر لعل الكلوناتى ما رآه ". وقال الكوثري أيضاً في الذيول ص 137 وهو يدافع عن مغلطاي في أمور إن لم يكن ثابتاً أكثرها فبعضها لا تتماسك في دفعه حجة "وليس هذا الكلام مما يحط من مقدار من تكون إمامته وعلو شأنه كما أشرنا إليه كما لم يحط من مقدار ابن الجزري كلام من تكلم فيه" مع أنه قال في ترجمة ابن الجزري ص 377 "لما طلب منه الأمير الكبير ايتمس رفع حساب أوقافه التي كان جعلها تحت نظره أيام قضائه بالشام هرب إلى الروم ولم يكن في قضائه محمود السيرة كما ذكر السخاوي وغيره" وسكت. فلعله كان مبطلا في النفاح عن مغلطاي والوقيعة في الإمام ابن الجزري فتناقض

(4) وهو يشد من عصبيته في الأكثر لكل من يحسب أن يتصل بدم جركسي سواء أكان حنفيا أم غير حنفي فيخلق لهم من المحاسن والدفاع ما لا يكون على تصديقه التاريخ ويعلن بمساوئ غيرهم ولو قيلت للنيل منهم والوقيعة فيهم. ولو أن ابن تيمية أو السيوطي أو غيرهما كان في محل مغلطاي فيما قيل عنه لاستجمع ضروب القول ليثبت انتقاصه ولو قالوا عن أحدهم ما قاله عن الكلوناتي "شهدوا له" لسعى لنقده. ولابد لي هنا من التصريح بما هو له مما لم يعز إليه في موطنه وإن كانت القرائن تنادي بأنه من قلمه ليس غير: مقدمة الاختلاف في اللفظ ومقدمة وتعليقات بيان زغل العلم وترجمة السبكي في الدرة المضية وما يؤخذ به الخطيب البغدادي في ترجمته من التطفيل. ولا أعرض له الآن كما عرض لهم و (إنما يتذكر أولو الألباب) وهو زاهد بن حسن بن علي بن خضوع بن باى بن قانبت بن قنصو الجركسي الكوثري نسبة لقرية الكواثرة بضفة نهر شبز ببلاد القوقاز المولود عام 1296 على ما يقول. حسام الدين المقدسي

قلبه للحقائق رأسا على عقب

قلبه للحقائق رأساً على عقب قال الإمام أبو القاسم بن عساكر حافظ الشام في كتاب "تبيين كذب المفترى" فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري (ص 27) وقذفوه (أي الإمام الأشعري) بمثل ما قذفت به اليهودُ عبدَ الله بن سلام، وأباه سلاماً. ونقل في (ص 40) عن أبي بكر القيرواني أن أبا الحسن لما رجع عن مذهب الاعتزال صار عند المعتزلة ككتابيّ أسلم، وأظهر عوار ما تركه، فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة، وكذلك الأشعري أعدى الخلق إلى المعتزلة، فهم يشنعون عليه الأشانيع، وينسبون إليه الأباطيل. وعلق عليه الكوثري فقال في تعليل ما قذفت به اليهود ابن سلام وأباه، حيث قال اليهود: هو شرنا وابن شرنا، وتنقصوه حين علموا أنه أسلم، بعد أن كانوا يقولون فيه: هو خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، وهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور، على ما جاء في صحيح البخاري وغيره. (قال الكوثري) : وقد ورث منهم أفراخهم المشبهة الوقيعة في إمام السنة ببهتان يختلقونه هداهم الله تعالى. انتهى. فانظر أيها المطلع البصير إلى هذه الوقيعة الشنيعة في أئمة التوحيد والفقه والحديث، وكيف يجعلهم الكوثري أفراخ اليهود، ويرميهم بالتشبيه وباختلاق البهتان، وهم لم يزيدوا على أن أثبتوا لله تعالى ما أثبته هو لنفسه، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولاتعطيل. وهذا هو مذهب الإمام الأشعري الأخير الذي صار إليه، ودان الله به، وعزم أن يلقاه عليه.

وفي "التبيين " (ص 40) أنه- رحمه الله (1) - "صعد على منبر الجامع بالبصرة بعد صلاة الجمعة ومعه شريط شده في وسطه، وقال: اشهدوا عليّ أني كنت على غير دين الإسلام، وإني قد أسلمت الساعة، وأني تائب مما كنت فيه من القول بالإعتزال. فعلى مذهب هذا الأعجمي الشركسي صار الإمام أبو الحسن الأشعري فرخاً لليهود مجسماً، وقد كان على مذهب الأعتزال المعطل مسلماً!! ولذلك تراه يحمل مثالب المعتزلة على أهل السنة والجماعة مثبتي النصوص، وشمميهم: مشبهة، وأفراخ اليهود. وحاشاهم، وهو في كلامه أو سهامه التي يوجهها إليهم، يطعن في إمام الأشاعرة لرجوعه إلى المذهب الحق، وإيثاره نصوص الكتاب والسنة، واتباعه هدى سلف هذه الأمة، ويحاول أن ينقض بتعليقاته كتاب الإمام ابن عساكر الذي انتصر فيه للإمام أبي الحسن ومذهب السلف ودين الحق، إما عن جهل، أو سوء نية وقصد "والله عليم بذات الصدور" (2) . ولكن الإمام الأشعري صرح أنه كان في اعتزاله على غير الإسلام، وأنه أسلم منذ الساعة التي دخل فيها في مذهب السلف. فليختر الكوثري إما الدخول معه في الإسلام أو قبول ما كان عليه من قبل!!

_ (1) أي الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله- زهير-. (2) سورة آل عمران الآية 154. وأيضاً سورة التغابن الآية 64.

الكوثري وتبين كذب المفترى

الكوثري وتبين كذب المفترى (مخالفته لأهل السنة في إثبات الصفات) أرأيت هذا العنوان الذي هو إسم كتاب الحافظ ابن اعساكر -رحمه الله تعالى- إنه ينطبق على الكوثري فيما علق عليه، فهو أشد الناس عداوة لمذهب أئمة السلف في الأسماء والصفات، وهذا الكتاب ألف في الأشعري بعد رجوعه إلى مذهبهم. فدعوى الكوثري فيه كدعوى آل حرب في زياد، وتعليقاته عليه مفسدة لأصله مناقضة له، وقد عد في "التبيين" الكتب التي ألفها الإمام أبو الحسن وذكر أسماءها، وروى عن الأشعري- رحمه الله- أنه قال: وألفنا كتاباً كبيراً في الصفات- وهو أكبر كتبه- سميناه كتاب "الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات". نقضنا فيه كتاباً ألفناه قديماً على تصحيح مذهب المعتزلة، لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق فرجعنا عنه فنقضناه، وأوضحنا أبطلانه. فهلا رجع الكوثري عن مسائل أهل الزيغ والشبهات إلى مذهب الحق كما رجع الإمام؟ أم يريد أن يستمر في هذا التخبط بديجور الأكاذيب والأوهام. واليك شذرة من عقيدة الإمام الأشعري التي أفصح عنها في أول كتاب "الأبانة" (1) ليظهر لك من هو الأحق بالأنتساب إلى هذا الإمام. قال رحمه الله تعالى. باب في إبانة أهل الحق والسنة فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.

_ (1) وهو من مطبوعات المكتب الاسلامي.

قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسكَ بكتابِ ربنا عز وجل، وبسنة نبينا عليه الصلاة والسلام. وما روى عن الصحابة والتابعن وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم مفخم. وجملة قولنا: إنا نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاؤوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نردا من ذلك شيئاً. (ثم قال) : وإن الله مستو على عرشه كما قال (الرحمن على العرش استوى) . وأن له وجهاً كما قال (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خلقت بيدي) وكما قال: (بل يداه مبسوطتان) وأن له عينين بلا كيف كما قال: (تجري بأعيننا) . ثم عقد الإمام الأشعري في كتابها "الإبانة" أبواباً وفصولاً في إثبات الصفات الإلهية صفة صفة، ونصر العقائد السنية عقيدة عقيدة، ورد شبه أهل الزيغ والضلال المحرفين شبهة شبهة. فكتابه هذا- رحمه الله- هو مجموعة عقائد وحقائق لأهل السنة. ودحض أباطيل لأهل البدع والأهواء، ولكنه- رضي الله عنه- أقام الحجج القاهرة على أنه يدين الله تعالى بما يدل عليه كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن مذهبه هو مذهب الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، وهو مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل- نضر الله وجهه-. وترى من أبواب هذا الكتاب "الإبانة" "باب ذكر الاستواء على العرش" و "باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين". ولكن الكوثري- عامله الله بما يستحق- لا يقيم لشيء من هذا وزناً، ولا يرفع به رأسأ، بل يعده ضرباً من الضلال والخبال، وإن كان في كتاب الله المتعال، وفي كلام

النبي المبين، لما نزل من عند الله، وإن كان مذهب الصحابة والتابعين وأهل الحديث وأئمة الرواية، وحتى وإن كان مذهب أبي الحسن الأشعري الذي يزعم الانتصار له، بل وإن كان مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان الذي يدعي الانتماء إليه، وهو يرد عليه سفهاً. فقد قال الإمام أبو حنيفة- رضي الله عنه- في كتابه "الفقه الأكبر" المطبوع مع كتاب "الإبانة" (ص 16) : "من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض؟ فقد كفر، قال الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) فإن قال: أقول بهذه الآية ولكن لا أدري أين العرش، في السماء، أم في الأرض؟ فقد كفر أيضاً. وقال في كتاب الوصية (ص 10) : "ونقر بأن الله على العرش استوى. وقال في "الفقه الأكبر" أيضاً (ص 14) : وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة. اهـ. أترى الكوثري بعد هذا كله أشعرياً، أو حنفياً؟ أم تراه جهمياً أو معتزلياً؟ ثم تراه في ظلمات حواشيه يزعم أن كتاب "الإبانة" ليس مما ألفه الإمام في أواخر حياته، ويدعي أن طبعتها محرفة، وهو يريد بهذا التخريف إبطال الثقة بكتاب "الإبانة" وبالمذهب الحق الذي صار إليه الإمام، ورده إلى مذهب الاعتزال. وماذا بعد الحق إلا الضلال. وقد أذكرنا بهذا التعصب الذميم بما حكاه في رسالة الذب عن الأشعري الحافظ أبو محمد بن علي البغدادي أنه شاهد نسخة من "الإبانة" بخطه مقروءة مصححة (قال) : ونسخت منها نسخة وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي. "ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي

خيانته في النقل وجرأته على الله عز وجل

الحسن الأشعري- بيت المقدس- فانكرها وجحدها. وقال: ما سمعنا بها قط، ولا هي من تصنيفه، واجتهد آخراً في إعمال رويته، ليزيل الشبهة بفطنته، فقال بعد تحريك لحيته: لعله ألفها لما كان حشوياً!! فما دريت من أي أمر به أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته، وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه. واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها. اهـ فما أشبه الكوثري المحرف لآيات الكتاب المجيد، بهذا الجاهل العنيد، وهو مقلد له ولأمثاله في تلقيب مثبتي النصوص: بالحشوية، وهم الصحابة والتابعون وأئمة السلف والصالحون "كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا" " تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" "وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ". خيانته في النقل وجرأته على الله عز وجل إن مما يقضي بالعجب تلاعب الكوثري في النقل وتناقضه فيه. وجرأته على الله عز وجل، وطعنه في أهل القرون الثلاثة المفضلة، وهم الصحابة والتابعون وأتباعهم باحسان فيما اجمعوا عليه. وجعل عقيدتهم التي هي نصوص القرآن القطعية من شواذ شيخ الإسلام ابن تيمية. وإليك البيان: أورد الحافظ ابن حجر (ج 13) من شرحه للبخاري أقوال القرون الثلاثة ومن تبعهم بإحسان في قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) ثم نقل حافظ المشرق ابن حجر عن حافظ المغرب ابن عبد البر قوله "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئاً منها. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقر بها فهو مشبه. فسماهم من أقر بها معطلة" اهـ وترى الحافظ الذهبي في كتاب "إثبات العلو لله تعالى" (1) ينقل ما يؤيد ذلك عن

_ (1) الذي طبع باسم العلو" وقد اختصره أستاذنا الألباني باثبات الصحيح مع التخريج والتعليق، وهو مطبوع في المكتب الاسلامي باسم: "مختصر العلو للعلي الغفار"- زهير-.

جميع أصناف العلماء. ومثله الإمام ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" بما يجزم المؤمن معه أن إثبات الصفات عقيدة السلف قاطبة. ويجيىء في الزمن الأخير الكوثري المتعصب عليهم جميعا. الجريء على الحق بالهوى. فيطعن في عقيدتهم وعقيدة نابغة الإسلام، وعلم الأعلام، الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية، الذي جدد لنا في كتبه عهد السلف بسلامة إيمانهم وقوة برهانهم، والجمع بين صريح العقل وصحيح النقل جمعاً مطابقاً لنصوص اللغة، وحقائق الدين وهدي القرون الثلاثة المفضلة، ويعيب عليه في حواشية على "التبين" (ص 393) وفي "إشفاقه" (ص 74) ما قاله في نقض أساس التقديس للرازي (1) عند الكلام في الاستواء: "ولو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش عظيم؟ ". وهو ينتزع هذه الجملة من كلامه انتزاعاً ويحذف منها ليشوه وجه الحقيقة مع أن المراد منها ظاهر، وهو أن العرش وحملته محمولون بقدرته، وأصلها في الكواكب

_ (1) قال الأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار في إكماله لتفسير السيد الإمام لسورة يوسف عليه السلام ص 146: وانظر "مختصر المنار" ص 19. طبع المكتب الإسلامي. "هذا الكتاب من نفائس المخطوطات الظاهرية بدمشق، وهو يقع في بضع مجلدات، ومعظمه مفرق في مجلدات "الكواكب الدراري في تبويب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري" للإمام ابن عروة الدمشقي الحنبلي الذي رتب المسند على أبواب البخاري وشرحه في مائة وعشرين مجلداً ضخماً. قال السخاوي في "الضوء اللامع": وطريقته فيه: أنه إذا جاء لحديث الإفك مثلًا يأخذ نسخة من شرحه للقاضي عياض فيضعها بتمامها، وإذا مرت به مسألة فيها تصنيف مفرد لابن القيم أو شيخه ابن تيمية أو غيرهماوضعه بتمامه ويستوفي ذاك الباب ما "المغني" لابن قدامة ونحوه. هـ. وفي دار الظاهرية منه الآن عشرات من المجلدات متفرقة تبحث في التفسير والحديث والسيرة والأصول والتاريخ والأدب وغير ذلك. وكان ابن عروة زاهداً عابداً قانتاً، لا يقبل لأحد شيئاً ولا يأكل إلا من كسب يده، توفي سنة 837 رحمه الله وإيانا. وكتبه محمد بهجة البيطار".

(المجلد 25) لولا ذلك- أي قدرته وإرادته- ما استقل به العرش ولا الحملة، ولا السماوات والأرض ومن فيهن، ولو قد شاء لاستقر، على ظهر بعوضة، فاستقلت به بقدرته، ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السماوات السبع والأرضين السبع ... الخ. وقد حذف الكوثري قول شيخ الإسلام (ولطف ربوبيته) ليخفي المراد، وهو أن القدرة الإلهية قائمة بجميع المخلوقات مستقلة بها من العرش الذي هو أكبر مخلوق، إلى صغار الذر والبعوض، وهو تعالى بائن منها، مستغن عنها، عال عليها جميعاً. وإنما أراد الكوثري أن يشنع بضرب البعوضة مثلاً!! أو لا يذكر الكوثري أن الله تعالى ضربها مثلاً، فقال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... " الآية؟ ولما عاب الكفار ذكر النحل والنمل والذباب والعنكبوت في القرآن، ذكرهم تعالى في هذه الآية إن البعوضة فما فوقها من عجائب خلق الله، وأنها مشتملة على حكمة بالغة "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" وفي قوله تعالى: "فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا" الآية. «وفي هذا» ثناء عظيم على المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة الحمقاء كما قال الزمخشري في "كشافه": فيا ليت شعري من أي الفريقين هذا المعترض حتى يعيب مثلاً مضروباً في القرآن؟ وأصغر مخلوق لله هو خلق معجز للبشر عن أن يأتوا بمثله، كما أن أقصر سورة من القرآن هي وحي معجز لهم أن يأتوا بمثله (1) اهـ.

_ (1) نشر بمجلة الرابطة العربية بمصر عدد 106.

عرش الرحمن

عرش الرحمن ثبت بالنصوص القرآنية القطعية التي لا مجال للتأويل ولا التضليل فيها، أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، وأن عرش الرحمن أعظم مخلوقات الله، وقد أفرده الله بالذكر في آيات كثيرة، ووصفه بأوصاف دلت على أن له وجوداً مستقلًا عن سائر الموجودات، وهذه شذرة مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية، قال رضي الله عنه: وأما العرش فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض (1) قال الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ" وقال سبحانه وتعالى: "وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ" الآية. فأخبر أن للعرش حملة، اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للمؤمنين، ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها فحكمه حكم نظيره قال تعالى: "وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ" الآية، فذكر هناك أن الملائكة تحف من حول العرش، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله فقال: "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ" وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض كما قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ

_ (1) يريد بهذا أنه ليس هو الفلك التاسع الأطلسي كا يزعمه المنجمون القدماء وفلاسفة اليونان.

عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض" وفي رواية له "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شي" وفي رواية لغيره صحيحه "كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء". وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" وهذا التقدير بعد وجود العرش، وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى يتمدح بانه ذو العرش، كقوله سبحانه (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا" وقوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ. يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وقال تعالى: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ" وقد قرىء المجيد بالرفع صفة لله وقرىء بالخفض صفة للعرش. وقال تعالى "قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ" فوصف العرش بأنه مجيد، وأنه عظيم، وقال تعالى: "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" فوصفه بأنه كريم أيضاً وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" فوصفه الحديث بانه عظيم وكريم أيضاً" اهـ. فأين يذهب المعترض بهذه الآيات الكريمة والنصوص القطعية في إثبات العرش ووصفه، وهل من سبيل إلى إنكارها أو صرفها عن ظاهرها، وتاويل أعظم مخلوق وأكبر موجود بالعدم الصرف، وأي فرق بين وجود السموات والأرض والعرش والكرسي يا ترى وهل يعقل ما يقول من يعادي هذه النصوص، ويخرق الإجماع الذي

كذب مفضوح في كتاب مطبوع

حكاه ابن عبد البر، ويلقب ابن تيمية بالحشوي، ويسمي المؤولين والمعطلين بأهل السنة؟ ويقول عن ابن تيمية: لا يعد هذا الحشوي من صغار تلامذتهم، كا تراه في مقدمة تبيين كذب المفتري. وتلقيب شيخ الإسلام بالحشوي من الحشو الذي لم يقع له نظير، ومن التقليد المميت للعقل والشعور، بل من التعصب الشنيع الذي لا يرضاه لنفسه إلا ورثة اليهود البهت، فإن هذا الإمام جمع في كتابه بين العقل والنقل جمعاً كم فيه أفواه جميع أهل الابتداع والأهواء، وهذا الخوض بالباطل لا يضر شيخ الإسلام ولا يزيد مريديه إلا بصيرة في دينهم ورسوخاً، ويأبى الله للحق إلا أن يظهر، وللباطل إلا أن يذل ويقهر، وها هي ذي كتب شيخ الإسلام تطبع وتنشر، وتطرد بدورها ظلام الشكوك والأوهام "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ". كذب مفضوح في كتاب مطبوع لو كان هذا الرجل- الكوثري- ممن يتقي الله ويبالي خزي الدنيا ويوم الحساب، لما رضي لنفسه هذا الموقف الشاذ الذي وقفه من حملة القرآن، ودعاة السنة وحماتها، ولما استباح لنفسه الكذب في التاريخ والتجني على أئمة الدين، ومفاخر المسلمين في كل العصور. لا أطيل القول عليك أيها القارىء الكريم، وإنما أنقل لك جملة مما قال في كتابه الأخير الذي سماه "الإشفاق على أحكام الطلاق" كانه أشفق على المسلمن من أن يعودوا إلى عهد الطلاق الشرعي في الإسلام وأراد أن تستمر هذه الفوضى في البيوت، وتبقى نصوص القرآن محجوبة عن المسلمين- فقد عرض في كتابه هذا لنابغة الإسلام الإمام ابن تيمية كدأبه في عامة ما يكتب، ولكن هذه الكتابة من أفضح ما كتب وأخزاه، قال هداه الله (ص 73) . ولولا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه، إلى أن بلغ به الأمر أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوائل الجزء الثالث منه، بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل- لما قامت دولة الغلاة من الشيعة في بلاد الفرس والعراق وشرقي الأسيا (كذا) الصغرى وأذربيجان من عهد الملك المغولي خدابنده.

وابن المطهر الحلى لما وصل إليه كتاب ابن تيمية هذا، قال كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي، ولكن جوابي يكون بالفعل. حتى سعى سعياً إلى أن تمكن من قلب الدولة السنية من تلك الأقطار، إلى دولة غالية في التشيع بحمل خدابنده الملك الشعوب على التمذهب بمذهب ابن المطهر، ولم يزل الغلو في التشيع في تلك البلاد منذ عمل ابن تيمية هذا، ولو كان يسعى بحكمة لما بعدت شقة الخلاف بين الأخوان المسلمين على الوجه الذي تراه. اهـ أقول: كلامه هذا صريح في أن الإمامٍ ابن تيمية هو الذي أثار ثائرة الشيعة بتعصبه عليهم. وطعنه فيهم، وتنقيصه علياً عليه السلام بما يأبى مثله الخوارج، وأنه هو الذي حمل ابن المطهر على هذا الغلو في التشيع والسعي في نشر المذهب من عهد الملك المغولي خدابنده الذي تشيع وقلب دولته شيعية بسعي ابن المطهر الحلي، هذا وأن "منهاج السنة النبوية" في نقض كلام الشيعة والقدرية لشيخ الإسلام هو الذي زاد النار ضراماً. إلخ. سبحان الله!! ما أجرأ هذا الرجل على تشويه الحقائق وإفساد التاريخ، فهو ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، وإليك الجواب عن هذا الكذب الصريح. 1- إن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يؤلف كتابه "منهاج السنة النبوية" ابتداء، ولكنه ألفه رداً على كتاب الحلي الشيعي الذي سماه "منهاج الكرامة"، وقد قال رحمه الله في مقدمة كتابه. أما بعد فإنه أحضر إلى طائفة من أهل السنة والجماعة كتاباً صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقاً لهذه البضاعة، يدعو به إلى مذهب الرافضة الامامية من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم (إلى أن قال) وذكر من أحضر هذا الكتاب بأنه من أعظم الأسباب في تقرير مذهبهم عند من مال إليهم من الملوك وغيرهم، وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه خدابنده، وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب اهـ. فأنت ترى أن كتاب منهاج السنة النبوية قد كتب رداً لاعتداء من اعتدى على أهل السنة وتهجم عليهم، وطعن في دينهم، وأن شيخ الإسلام، قد أحضر إليه كتاب الشيعي ولم يكن رآه، وطلب منه أهل السنة والجماعة رد مفترياته على أهل السنة وهو

شيخهم بل شيخ الإسلام، ومن أولى منه ببيان الحق وأقدر منه عليه؟ 2- إن الملك المغولي خدابنده قد ترفض أو تشيع على يد ابن المطهر الحلى قبل صدصر رد شيخ الإسلام عليه كما هو ظاهر من كلامه. 3- إن أقصى ما في كلام شيخ الإسلام هو الدعوة إلى الاعتدال في الأقوال والأعمال، وتخفيف غلو الغاليين في العقائد، وتقليص ظل عصبيات أهل البدع والأهواء، ودفع أكاذيبهم وأباطيلهم، والغرض من ذلك كله تنوير العقول، وتقريب القلوب، وتطهيرها مما تراكم عليها من أوضار الباطل، وأوغار الحقد، وإزالة ما استحكم فيها من جفوة وقسوة. وهذه نبذة صغيرة من كلام شيخ الإسلام مصدقة لما ذكرناه. قال رحمه الله "وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية بأنه كان باغياً ظالماً، قال له الناصبي: وعلي أيضاً كان باغياً ظالماً لما قاتل المسلمن على إمارته وبدأهم بالقتال، وصال عليهم وسفك دماء الأمة بغير فائدة لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف مسلولاً في خلافته على أهل الملة، مكفوفاً على الكفار- إلى أن قال-: فالخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في علي- رضي الله عنه- وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون ". اهـ فانت ترى أن شيخ الإسلام يحكي كلام الروافض والنواصب والخوارج، ولكنه لا يحكم لفريق على فريق، بل يحكم بأنههم مخطئون مبتدعة ضالون، خلافاً لما يزعمه الكوثري، المقلد الغبي، من انتقاص مقام الإمام علي، فما أضيع البرهان عند المقلد! 4- وأوضح وأفضح مما تقدم أن هذا المعتدي على التاريخ، الذي أسقطه الحسام القدسي بسبب اعتدائه- كما بينا من قبل- دعواه أن ابن تيمية هو سبب الغلو في التشيع، وبسط سلطانه في الأرض، ويوهم كلامه أو يفهم أن السلطان خدابنده قد

ترفض ونشر مذهب ابن المطهر بسبب ابن تيمية، وتحامله على الشيعة في منهاج السنة النبوية، وقال: وابن المطهر الحلى لما وصل إليه كتاب ابن تيمية هذا، قال: كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي، ولكن جوابي يكون بالفعل حتى سعى سعياً إلى أن تمكن من قلب الدولة السنية من تلك الأقطار إلى دولة غالية في التشيع بحمل خدابنده الملك الشعوب على التمذهب بمذهب ابن المطهر، ولم يزل الغلو في التشيع متغلغلاً في تلك البلاد، منذ عمل ابن تيمية هذا. اهـ ونحن ننقل لك بعد هذا الكلام ما ذكره الشيعة الامامية أنفسهم في سبب ترفض الملك خدابنده، ليعلم مبلغ هذا الرجل من تحريف التاريخ وقلب الحقائق الواقعية بكل وقاحة وصفاقة، ونسجل عليه حقده وتعصبه على رجال الإسلام العظام، وافتراءه عليهم الكذب الصريح. جاء في كتاب "روضات الجنات في تراجم الشيعة" تأليف ميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الميلاد، والأصفهاني الموطن والمهاد- في ترجمة الحسن بن المطهر الحلي ما نصه، ثم نقل عن كتاب شرح مولانا التقى المجلسي على الفقيه نقلاً عن جماعة من الأصحاب: أن الشاه خدابنده المذكورغضب يوماً على امرأته فقال لها: أنت طالق ثلاثاً، ثم ندم وجمع العلماء فقالوا: لا بد من المحلل فقال عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة، أوَ ليس لكم هنا اختلاف؟ فقالوا لا، فقال أحد وزرائه: إن عالماً بالحلة وهو يقول ببطلان الطلاق، فبعث كتابه إلى العلامة (1) وأحضره- وهنا أطال في وصف اجتماعه بعلماء السنة ومناظرته لهم، بما يضحك الثكلى ويشبه كلام الصبيان (ثم قال) وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل، لأنه لم يتحقق شروطه، ومنه العدلان، فهل قال الملك بمحضرهما؟ قال لا. ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعاً فتشيع الملك، وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الإثنى عشر، ويضربوا السكك على أسمائهم، وينفقوها على أطراف المساجد، والمشاهد!! منهم (ثم قال) : والذي في أصفهان موجود الأن في الجامع القديم الذي كتب في زمانه

_ (1) يعني ابن المطهر.

ثلاثة مواضع منه، وكذا في معبديه- مكوار لنجان، ومعبد الشيخ نور الدين النطزي من الفرقاء، وكذا على منارة دار السيادة التي تممها هذا السلطان من بعد ما أحدثه أخوه غازان. اهـ. (ثم قال) : وهذه اليد العظمى والمنة الكبرى التي له على أهل الحق مما لم ينكره أحد من المخالفن والموافقين، حتى أن في بعض تواريخ العامة (أي أهل السنة) رأيت التعبير عن هذه الحكاية بمثل هذه الصورة ومن سوانح سنة سبع وسبعمائة، أظهر خدابنده شعار التشيع باضلال ابن المطهر. اهـ أعلمت الأن أيها القارىء الكريم السبب الذي من أجله ترفض هذا الجاهل الأعجمي المغولي وأنه مسألة شخصية. لا دخل فيها لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا لكتاب منهاج السنة النبوية، وهو كونه طلق زوجته ثلاثاً وهو غضبان، واستفتى أمثال الكوثري من علماء عصره فأفتوه بالمحلل، وهو الذي سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: التيس المستعار، وقال الملك لهم: عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة، أو ليس لكم هنا اختلاف قالوا لا، لا بد من المحلل- أي الملعون بلسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو والمحلل له، فاستنكف الملك عن هذا التحليل الذي هو زنا صريح، ولو أخذوا بما كان عليه الطلاق الثلاث في عهده - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد صاحبيه، لخرجوا من جحر الضب الذي أوقعوا الملك معهم فيه، ولو اهتدى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لوجد لمسألته عنده حلاً نبوياً سنياً غير شيعي، ولكن الكوثري يلبس شيخ الإسلام ذنب غيره، فعليه ما يستحق من ربه، لماذا تسكت أيها الكوثري عمن أحرجوا الملك فأخرجوه من بينهم، وتطعن في دين من يرده وقومه إلى حظيرة السنة؟ أكان بالله إثماً أن يؤلف ابن تيمية كتاب "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية". ويرد به ضلالات ابن المطهر الحلي. والكوثري السني فيما يزعم يتبجح بقول الحلي الشيعي لإمام السنة. كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي!. وفي كتاب روضات الجنات في تراجم الشيعة، الذي لخصنا عنه ما تقدم (ص

(171- 174) (1) نقلأ عن تذكرة الشيخ نور الدين علي بن عراق المصري- أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية الذي كان من جملة علماء السنة معاصراً للشيخ جمال الدين العلامة المذكور- منكرأ عليه في الخفاء كثيراً- كتب إليه إلعلامة بهذه الأبيات: لو كنت تعلم كل ما علم الورى ... طراً لصرت صديق كل العالم لكن جهلت فقلت أن جميع من ... يهوى خلاف هو اك ليس بعالم فكتب الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي في جوابه هذه القطعة وأرسلها إليه: يا من يموه في السؤال مسفسطا ... إن الذي ألزمت ليس بلازم هذا رسول الله يعلم كل ما ... علموا وقد عاداه جل العالم (3) وترى الكوثري ينوه بكلمة ابن المطهر الحمقاء التي أخذها من شعره، ولكنه لم يذكر جوابها السديد لبعض علماء السنة، ويمكنك أن تقف مما أوردناه لك على دخيلته، وتعرف حقيقة نحلته وخبيئته. وجملة القول. أن هذا الرجل (الكوثري) لا يعتد بعقله ولا بنقله ولا بعلمه ولا بدينه. ومن يراجع تعليقاته يتحقق صدق ما قلناه فيه، على أنا أوردنا شواهد منها دلت على سائرها، وعرفتنا حقيقة قائلها، فمن بقي له شك فيها فليرجع إليها، ليرى كيف أن التعصب يعمي ويصم، والله عليم بذات الصدور (3) .

_ (1) هذا في طبعة قديمة، وهو في 2/286 نشر دار العرفة بيروت. (2) غير أن البيت الأخير في "روضات الجنات" حرفت به كلمة "يعمل " الى "يعلم"، وأرجو أن يكون تصحيفاً غير مقصود، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ما عمل الورى، لأن فلك لعلم الله سبحانه والبيت على الصواب في "الرد الوافر"- زهير-. (3) بل إن عمى التعصب قد شمل عدداً ممن رافقوا الكوثري، أو تتمذوا عليه، أويماروا على نهجه. كتب الله الهداية للجميع- زهير-.

فصل: في الكشف عن مذهب المعتزلة وبيان حقيقته

فصل: في الكشف عن مذهب المعتزلة وبيان حقيقته كانت المعتزلة تقول: إن الله منَزَّه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود، ومقصودهم نفيُ الصفات ونفيُ الأفعال، ونفي مباينته للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبِّرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب، فإنهم إذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد، كالأعراض التى تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام، ولا ريب أن الله منزَّه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضاً. وكذلك إذا قالوا: إن الله منزَّه عن الحدود والأحياز والجهات، أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب إلى شيء، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية. وإذا قالوا: إنه ليس بجسم أوهموا أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه، ولا تقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق وأمثال ذلك. وإذا قالوا: لا

_ (*) إن هذا الفصل كتبه أستاذنا البيطار في كتابه القيم "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" نقلناه هنا لارتباطه بالموضوع.

تحله الحوادث أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان، أو مجيء وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل ونحو ذلك، وابن كُلاَّب ومن اتبعه وافقوهم على هذا، وخالفوهم في إثبات الصفات. الإمام الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلوّ ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش- أي هو تعالى مستول على كل شيء من مخلوقاته لا على العرش وحده، وهو العالي على كل شيء، المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه، لا يحيط به شيء، ولا يحتوي عليه شيء. وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: أنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين، والعقل عاضد له معاون، لكن المعتزلة القائلين بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه. وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك. وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإخهم مثبتون لها (أي الصفات الخبَرية) يردون على من ينفيها، أو يقف فيها فضلاً عمن يتأولها. وأمَّا مسألة قيام الأفعال الاختيارية به، فإنَّ ابن كُلاَّب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسالة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم ونسبوهم إلى البدعة، والصواب أن الله

خلاصة ما تقدم

بجميع صفات ذاته واحد، لم يزل ولا يزال، وما أضيف إلى الله من صفات فعله مما هو غير بائن عن الله فغير مخلوق. خلاصة ما تقدم الردّ بعشرات الآيات على من يقول: إن الله تعالى لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل (60- 63 ج 2) وقد جاء في آخرها قوله: وأمثال ذلك- كثير في كتاب الله تعالى، بل يدخل في ذلك عامَّة ما أخبر الله به من أفعاله لا سيما المرتبة كقوله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" (1) ، "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ" (2) ، "أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ" (3) ، وآيات كثيرة كلها تدل على أفعال الله تعالى بالتعاقب والترتيب. (ص 60) وخلاصة هذا المبحث الطويل الجليل هو في قوله: لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر، فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضة لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر عليه ويشاؤه من أفعاله تعالى التي ليست هي نفس المخلوقات. كلام هؤلاء الطوائف من تدبَّر كلام هؤلاء الطوائف بعضهم مع بعض تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدَث الذي ذمَّه السلف والأئمة، وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل

_ (1) سورة الضحى، الآية: 5. (2) سورة الروم، الآية: 27. (3) سورة المرسلات، الآية: 16 و 17.

نفي القول بخلق القرآن

والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام، وكذا مَن عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلماً ويقيناً بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنّة من كلامهم الذي يسمونه عقليات، هي من هذا الجنس الذي لا يتفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة مع مَن قلَّت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلكِ طعن فيما به يصير العبد مؤمناً، فيتعجَّل ردّ كثيرمما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لظنه أنَّه بهذا الرد يصير مصدِّقاً للرسول في الباقي. (ص 207) وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق، وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول، لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه، كالذين جعلوا من السمع أن الرب لم يزل معطلاً عن الكلام والفعل، لا يتكلم بمشيئته، ولا يفعل بمشيئته، بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته، فجعلى هؤلاء هذا قول الرسل، وليس هو قولهم، وجعل هؤلاء من المعقول أنه يمتنع دوام كونه قادراً على الكلام والفعل بمشيئته. (ص 111) فإذا خلق في الشجرة "إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (1) - ولم يقم هو به كلام- كان ذلك كلاماً للشجرة، فتكون هي القائلة!! والحوادث لا تحل به تعالى من غير مشيئة ولا قدرة، بل يفعلها بمشيئته وقدرته، واتصافه بها واجب لأنها صفات كمال، والذات الموصوفة بصفاتها، القادرة على أفعالها، مستلزمة لما يلزمها من الصفات، قادرة على ما تشاؤه من الأفعال. نفي القول بخلق القرآن (ص 123) إن الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي،

_ (1) سورة القصص، الآية: 30.

والقاضي أبي يعلى (سنة 458 هـ) وابن عقيل (سنة 255 هـ) وأبي الحسن الزعفراني (سنة 259 هـ) من أصحاب أحمد (سنة 241 هـ) وكابي المعالي (سنة 478 هـ) وأمثاله وأبي القاسم الرواسي، وأبي سعيد المتولي (سنة 478 هـ) وغيرهم من أصحاب الشافعي (سنة 304 هـ) ؛ والقاضي أبي الوليد الباجي (سنة 474 هـ) وأبي بكر الطرطوشي (سنة 520 هـ) وأبي بكر بن العربي (سنة 543 هـ) وغيرهم من أصحاب مالك (سنة 179 هـ) ، وكأبي منصور الماتريدي (سنة 333 هـ) وميمون النسفي (سنة 508 هـ) وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة (سنة 150 هـ) ، أنهم قالوا: لو كان القرآن مخلوقاً للزم أن يخلقه إما في ذاته أو في محل غيره، أو قائماً بنفسه، لا في ذاته ولا في محل آخر، و (الأوَّل) يستلزم أن يكون محلاَّ للحوادث، و (الثاني) يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه، فلا يكون ذلك الكلام كلام الله كسائر الصفات إذا خلقها في محل، كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك. و (الثالث) يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها، وهذا ممتنع. فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن، وقد سبقهم عبد العزيز المكي (سنة 240 هـ) صاحب المحاورة المشهورة إلى هذا التقسيم، وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه، وأنه كان يقول بقولهم أن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن قوله من جنس قول ابن كلاَّب، وليس الأمر على ذلك، فإن عبد العزيز هذا، له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث، وذكر طرفاً من هذه المناظرة التي جرت بحضور الخليفة المأمون بين عبد العزيز الكناني المكي وبشر المريسي (سنة 218 هـ) إلى أن قال عبد العزيز: وما كان قبل الخلق متقدماً، فليس هو من الخلق في شيء ثم قال: فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية، والنظر والمعقول. ثم قال ابن تيمية- معلقاً على كلام عبد العزيز وبشر-: والمقصود هنا أن ما قام بذاته، لا يسميه أحد منهم مخلوقاً، سواء كان حادثاً أو قديماً، وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر، فإن بشراً من أئمة الجهمية نفاة الصفات، وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة ولا فعل ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة، بل ما ثمَّ عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها كما تقول بذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين، (إحداهما) أنه إذا كان كلام الله

مخلوقاً، ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائماً بنفسه، لزم أن يكون مخلوقاً في نفس الله، وهذا باطل. و (الثانية) أن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات، إما القدرة كما أقر به بشر، وإما فعله وأمره وإرادته كما قاله عبد العزيز، وعلى التقديرين ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق، فبطل أصل قول بشر والجهمية أنه ليس لله صفة، وأن كل ما سوى الذات المجردة فهو مخلوق، وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة، وهذا حجة مثبتة الصفات للقائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات، وقال بخلق القرآن.

المقابلة بين الهدى والضلال - عبد الرزاق حمزة

المقابلة بين الهدى والضلال حول ترحيب الكوثري بنقد تأنيبه بقلم العلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة تحقيق: عبد الله بن صالح المدني الفقيه المكتب الإسلامي

مقدمة

مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الطريق الأقوم، المتفضل علينا بنعمة الإيمان والإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. أما بعد: فهذه الرسالة القيمة مما كتبه أستاذنا العلاَّمة: الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، أستاذ دار الحديث، وإمام الحرم المكي- عليه رحمة الله -. وقد كانت الرغبة في طبعها مع التعليقات عليها في حياته، ولكن ما أن باشرت اعدادها للطبع حتى وافاه الأجل. والله أسال له الرحمة والمغفرة، وأرجوه تعالى، أن يجعل من أبنائه وتلامذته خير خلفاء له، وأن يوفقهم للخير، وأن يسدد خطاهم لإكمال طريقه على النهج السوي. إنه تعالى أكرم مسؤول.

_ (*) قدم محقق هذه الرسالة في طبعتها السابقة سنة 1393 بصفحات تبين عوار بعض تلامذة الكوثري.. غيى أنني رأيت عدم طبعها ضمن هذه المجموعة- الناشر-.

ترجمة فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله

ترجمة فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله ولادته ونسبه: وُلد الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في إحدى قرى مصر (كفر شكر) التي تقع قريباً من) بنها (شمال القاهرة، وعلى بُعد خمسين) كلم (تقريباً) . وتنتهي شجرة نسبه إلى سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، لكنه رحمه الله لم يكن ليرضى أن يذكر شيئاً من هذا القبيل، لأن له من مبادئه وعقيدته التي كان يدعو إليها وينشرها بين ما يمنعه من ذلك. فالأنساب لا ترفع أحداً، وإن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وإنه لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتّقوى. دراستُهُ. تعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم في مدرسة قريته، وبعد أن بلغ السن القانونية التي تخوّله دخول الأزهر، أبدى رغبتَهُ لوالده، ورغم الممانعة التي أبداها ذووه محتجين ببُعد المسافة بين بلده والقاهرة فإنه أصَرَّ على طلبه، فنزل والده على رغبته وأدخله الأزْهر. وعُرف منذ انتظامه في طلب العلم بالجدِّيَّة والاجتهاد والتفوق في مختلف الموادّ؛ لهذا كان موضع تقدير أساتذته. ومدرسيه وزملائه؛ وفي مقدمة هؤلاء جميعاً شيخ الأزهر نفسه، فضيلة الشيخ سليم البشري- رحمه الله-.

في مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) . في ذلك الحين، قام السيد رشيد رضا- رحمه الله- بتأسيس معهد أسماه (دار الدعوة والإرشاد) غايته: بث الفكرة الإسلامية النقيّة من شوائب البدع والخرافات؛ وإحياء السنَّة المحمدية، والدعوة إلى الاقتداء، ونَبْذ التقليد في الدين. فانضم إلى المعهد العديد من شباب مصر وغيرها من البلاد العربية والإسلامية، منهم الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. وكان حضوره لدروس السيد رشيد رضا- رحمهما الله- باكورة اشتغاله بكُتُب الحديث والتخصص فيها؛ والإضطلاع بأعباء نشر الدعوة الإسلامية مصفّاةً من كل شائبة. ولقد توثقت صلتُهُ بمؤسس الدّار لاتفاق الميول وتوَحد الإتجاهات فيما يتعلَّق بشؤون العقيدة والعبادات. ومن ثَمَّ انطلق الشيخ محمد عبد الرزاق (رحمه الله) في القرى والمدُن ينشر الدعوة السلفيَّة ويبشِّر بها، محارباً كل بدْعة؛ راداً كُلّ فرْيَة، داعياً إلى كل سنَّةٍ. ولم يكن ليُبالي أبداً بما يلقاه من بعض المتعصبين والجهلة؛ بل استمر في دعوته إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. صلته بالشيخ عبد الظاهر أبي السَّمْح. كما توثقت صلتُهُ في (دار الدعوة والإرشاد) بالشيخ عبد الظاهر أبي السَّمْح الذي كان قد أوذي مراراً وتكراراً في سبيل دعوته السلفية ودفاعِهِ عنها، ومحاربتهِ للجهل والخرافة؛ ثم ترسَّخت هذه الصلة وتوطَّدت هذه العلاقة بعد أن تزوّج "أبو السمح" من شقيقة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. نشاطه العلمي في القاهرة. وعندما قامت الحرب العالمية الأولى اضطر صاحب "دار الدعوة" لإغلاق أبوابها. إِلا أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لم ينقطع عن الاتصال بالسيد رشيد رضا؛ فانتقل معه إلى إدارة مجلة (المنار) فكان السيد يستعين به في تصحيح ملازم المجلة،

أو يعهد إليه يتنقيح بعض النصوص الخطية، أو المتون المطبوعة، أو تصحيح الكتب التي أعادت طبعها دار "المنار". وكان يدبِّج المقالات التوجيهية الهادفة وينشرها في المجلات التي تصدرها بعض الجمعيات الإسلامية في القاهرة كمجلة "مكارم الأخلاق " ومجلة " الهدى النبوي ". في الحجاز. وفي عام (1344 هـ- 1925م) ، قصد الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ عبد الظاهر محمد أبو السمح إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج؛ فلقيا جلالة الملك عبد العزيز آل سعود- رحمه الله- حاجاً، فرحّب بهما وقد عرف عنهما بواسطة أستاذهما السيد رشيد رضا الشيء الكثير؛ فدعاهما لتولي منصب الإمامة والخطابة والتدريس في الحرمين الشريفن، فلبّيا الطلب، وانتقلا بأهلهما عام (1347 هـ، 1928 م) . في المدينة المنّورة. فقام بعمله الذي اوكل إليه في المدينة خير قيام، وكانت له جولات واسعة في الإصلاح الديني، ونظم دروساً صباحية ومسائية في الحرم النبوي في الحديث والتفسير والتوحيد، مما كان له الأثر الطيب في نفوس الشباب المثقَّف وخصوصاً في موسم الحج. الانتقال إلى مكة. لم تطل إقامة الشيخ محمد عبد الرزاق في المدينة المنورة، وفي غضون سنة (1348 هـ. 1929 م) انتقل إلى مكة المكرمة مساعداً للشيخ عبد الظاهر في الإمامة والخطابة في الحرم المكي الشريف. كما عُهِدَ إليه القيام بالتدريس في " المعهد العلمي السعودي " أكبر مؤسسة علمية يومئذٍ؛ ولم تقتصر دروسه في المعهد على المواد الدينية، بل تناولت العلوم المدنية كالرياضيات والحساب والهندسة والجبر والعلوم الطبيعية.

الدروس العامة. لقد أقبل على الدروس العامة في الحرم المكي بهمةٍ لا تعرف الكلل أو الملل؛ فقد خصَّص ما بين العشائين وبعد صلاة الفجر من كل يَومٍ لدروس التفسير والحديث متبعاً طريقة محبَّبة مما جعله محط أنظار المثقفين. الدروس الخاصة. ولقد اتخذ "رحمه الله " من حُجرته التي كانت تُعرف بقُبَّةِ الساعات- بجوار باب عليٍّ في الحرم المكي- موئلًا لطُلاَّب الدروس الخاصة في اللغة، والتفسير، والأصول، والعلوم المختلفة من جبرٍ وهندسة وفلك، مستخدماً في دروس الفلك الطرق العلمية الحديثة. ولقد دفعه ولَعُه بعلم الفلك إلى فكرة إقامة مرصد فلكي على رأس جبل أب قُبَيْس في مكة المكرمة للاستعانة به في رؤية الهلال؛ فاستجابت له السّلطات المسؤولة، واستحضرت بعض الآلات اللازمة، إلا أن الفكرة لم يُكتبْ لها التمام. من " دار الدعوة والإرشاد " إلى "دار الحديث ". كان الاهتمام بالحديث وعلومه الشغل الشاغل للشيخين عبد الظاهر أبي السمح، ومحمد عبد الرزاق حمزة، فقاما بتأسيس دار الحديث بمكة المكرمة بعد استئذان جلالة الملك عبد العزيز آل سعود- رحمه الله- وتشجيعه عام (1350 هـ 1931 م) . وقد ساعد على ذلك رجل الفضل الشيخ محمد نصيف. رحمه الله. فكان الشيخ عبد الظاهر مدير الدار، والشيخ محمد عبد الرزاق المدرِّس الأول؛ كما استعانا بنخبَةٍ من العلمِاء أهل الإختصاص والكفاءة؛ ولقد أدت هذه الدار خدماتٍ جُلَّي للناشيءة الإسلامية وطُلاب العلم. واستمر الشيخ عبد الظاهر في إدارتها حتى توفاه الله سبحانه وتعالى، فخلفه الشيخ عبد الرزاق حتى أقعدته الأمراض.

في الرياض. وفي عام (1372 هـ 1952 م) انتُدبَ الشيخ محمد عبد الرزاق بأمر من سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن ابراهيم للتدريس في المعهد العلمي بالرياض؛ فبقي هناك سنة واحدة عاد بعدها إلى مكة المكرمة. إحالته على التقاعد. وعند بلوغه الرابعة والستين من عمره أحيل إلى التقاعد بأمرٍ من سماحة رئيس القضاة بمكة المكرمة. ولكن هذا لم يمنعه من الاستمرار في أداء رسالته الدينية وخاصة في ميدان التدريس العام، مما جعل حتى أقرب المقرَّبين منه وخلصاءه لا يعلمون من أمر التقاعد شيئاً. مرضه ووفاته. وفي أواخر عام (1385 هـ 1965 م) اشتدت عليه وطاة الأمراض، فأجبرته على الغزْلة، مكتفياً بقراءة القرآن ومطالعة الكتب. ثم زادت عليه الوطأة؛ فلازم الفراش منذ عام (1390 هـ 1970 م) واستمر كذلك حتى وافاه الأجل المحتوم من بعد ظهر يوم الخميس في الثاني والعشرين من شهر صفر الخير عام 1392 هـ 1972 م. وصُلِّيَ عليه من بعد مغرب ذلك اليوم، ودفن بالمُعَلَّا. آثاره العلمية. 1- كتاب "الصلاة". ويعتبر دائرة معارف كاملة لموضوع الصلاة فقد جمع فيه كل ما يتعلَّق بالصلاة وأنواعها. 2- كتاب "الشواهد والنصوص". ألَّفه رداً على آراء عبد الله القصيمي الضالة في كتابه: (هذه هي الأغلال) .

3- رسالة في الرد على بعض آراء الكوثري. لما قام هذا بنشر اعتراضاته وشتائمه على الصحابة والتابعيين وكبار علماء الأمة. 4- كتاب "ظلمات أبي رَيّة"، ولقد ذكر العلَّامة الشيخ محمد عبد الرزاق- رحمه الله- أنه قد كتب هذا الرد وهو مريض في مستشفى الطائف. بعيداً عن مراجعه. ويعتبر ردّه هذا، من أمتن وأشهر ما كُتب، مدَعَّماً بالأدلة القواطع، والأقوال الفواصل. 5- "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر. طبعة مكة. 6- رسالة التوحيد، للإمام جعفر الصادق. 7- مورد الظمآن إلى زوائد ابن حِبّان. 8- الباعث الحثيث إلى فن مصطلح الحديث. 9- تعليقات على الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 10- تعليقات على رسالة الطلاق، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 11- تعليقات على "الكبائر" للذهبي. 12- ومن الرسائل التي ألَّفها ولم تُطْبَع رسالة (الحمد لله رب العالمين في الفِطَرِ والعقول والأديان) . رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته.

امتعاض الكوثري لطبع كتب السلف

بسم الله الرحمن الرحيم أطلع علينا الكوثري " ترحيبه " بنقد الشيخ عبد الرحمن اليماني لتأنيبه، فخرجنا من الاطلاع عليه بالعبر الآتية: (1) امتعض الكوثري امتعاضاً لم يستطع كتمانه من ظهور كتاب "النقض" على بشر المريسي للامام عثمان بن سعيد الدارمي، وكتاب "السنة" لامام أهل السنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أبي عبد الله الشيباني، رواية ابنه عبد الله عنه، مغتاظاً مما فيهما من إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي عدها سلفه الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم ومن اتبعِ خطواتهما، تجسيماً وتشبيهاً بزعمهم الفاسد، تعالى الله عما يقول الجعد وشيعته علوا كبيراً. ألا فليعلم الكوثري- إن كان يحب أن يعلم- أن كتاب "السنة" للامام أحمد، وكتاب "الرد على المريسي" للامام عثمان بن سعيد الدارمي وأمثالها، كلها تدور على روايات وصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء عن خيار الأمة وسلفها في ذلك، وإن شرق بما فيها الجهميون، والمريسيون، والجعديون، ومخانيث المتفلسفة، في كل مصر وزمان، وعصر ومكان، وعلى من لا يصدق أن يأتينا بخبر في الكتابين لا يوجد في كتب الأئمة الأعلام حفاظ الإسلام، أصحاب الدواوين المشهورة: كمالك (1) ، وأحمد (2) ، والشافعي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود،

_ (1) هو الإمام الجليل مالك بن أنس إمام أهل السنة وصاحب الموطأ في الحديث، وداعية إثبات الصفات عند بدء الضلالات. والقائل: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر. والمثبت أن الرحمن على عرشه. وكانت أوفاته بالمدينة سنة 179 هـ. عليه رحمة الله. (2) هو الإمام العظيم الفقيه المجتهد أبو عبد الله أحمد بن حنبل الصابر المحتسب، ناصر السنة:=

والترمذي ومَنْ بعدَهم كابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وأبي عوانة الأسفرائني، والآجري، والبيهقي، وابن عبد البر، ومن لا يعد ولا يحصى من أئمة الإسلام وحفاظه؛ وعلى من تحشرجت نفسه وضاق صدره بما في كتب هؤلاء الأعلام من الايمان بالله وصفاته، والهدى الذي جاء به الإسلام ودين النبيين جميعاً من وصف الله بالكمال وتنزيهه عن النقص والمحال، وأنها كلها تدور على رواية السنة التي تبين كتاب الله تعالى وتفسره- أقول: من ضاق بذلك ذرعاً فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، وليمت غيظاً وليتفصد حنقاً على الحق وأهله. إن الله تعالى وصف نفسه بما جاء في القرآن بأنه الرحمن الرحيم، الذي لم يلد ولم يولد، الأحد الصمد، لا تأخذه سِنَة ولا نوم يُطعِم ولا يٌطعَم كما قال: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (1) وبقوله: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ" (2) وبقوله: "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (3) وبقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ " (4) وبقوله: "وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" (5) وبقوله: "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ" (6) وبقوله: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ " (7) وبقوله: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " (8) وقوله: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" (9) وقوله: "وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا" (10) إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، بل هو أكثر آي القرآن وجمهرته، وأهم ما جاء فيه وأزكاه وأطيبه. فمن لم يؤمن بهذا وبما فسره من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الأئمة من

_ = وقد حفظ الله به الإسلام في رد عدوان المعتزلة والجهمية والمعطلة والمجسمة. ولد سنة 164 في بغداد، وكانت وفاته رحمه الله سنة 241. (1) سورة الفجر: 22 (2) سورة البقرة: 210 (3) سورة الزفر: 69. (4) سورة النحل: 50. (5) سورة آل عمران: 55. (6) سورة النساء: 158. (7) سورة الأنعام: 158. (8) سورة ص: 75. (9) سورة المائدة: 64. (10) سورة مريم: 52.

الصحابة والتابعين وتابعيهم ومقتفي آثارهم إلى يوم القيامة، فليبْكِ على نفسه وليندب حظه من الإسلام، ونعوذ بالله من مُضلات الفتن، ونسأل الله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء، أن يديم علينا الهداية، آمن. إن الدفع في صدور هذه النصوص وردها بالتحريف والإبطال والتكذيب هو داء قديم، ومرض عضال، أو سم زعاف، نفثه في هذه الأمة الجعد بن درهم (1) وتولى نشره قبل ذلك رأس الدهرية والزندقة فرعون رأس الكفر إذ يقول: " يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا" (2) فليس عند اللعين وشيعته إله فوق السماوات ولا رب استوى على العرش ولا خالق بائن من خلقه يتكلم ويفعل ما يشاء، وعند هؤلاء المخانيث فروخ المعطلة والجهمية أن وصف الله بما وصف به نفسه تشبيه وتجسيم وتجسيد، ويضربون لذلك الأمثال مخالفين قوله تعالى: "فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (3) وإذا سئلوا: هل تؤمنون أن رب العالمين وخالق الخلق موجود حي عليم قادر مريد سميع بصير؟ فيقول من لم يكابر منهم: نعم. فإذا سئل: عن المجيء لفصل الحساب، وإشراق الأرض بنور ربها وإتيانه في ظُلَلٍ من الغمام، ونزوله إلى سماء الدنيا، وندائه بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، إلى آخر ما جاء في النصوص (4) امتعض وانتفض وقال: هذه صفات المخلوقات وتدل على التجسيم، فيجب أن ننزه الخالق عنها بزعمهم. فإذا قيل له: وأي فرق بين الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر وبين هذه؟ أليست كلها موجودة في المخلوقات ونصف بها الخالق على وجه لا يشبه وصف المخلوقات؟ فنقول: حياته غير حياة المخلوقات، وكذلك علمه، وسمعه، وبصره.

_ (1) هو الجعد بن درهم المبتدع، أول من قال: بخلق القرآن وإنكار القدر وحكلم عليه العلماء بالزندقة، فقتله خالد القَسْرفي. وكان من للوالي، ويعتبر رأس أهل الرأْي في كثير من القضايا. قتل يوم الأضحى سنة 118. (2) سورة غافر: 37. (3) سورة النحل: 74. (4) رواه الإمام البخاري تعليقاً، وقواه شيخ الإسلام ابن تيمية وله شرح لطيف عليه.

وكذلك، مجيئه، ونزوله. فنصفه بالكمال، وننزهه عن مشابهة المخلوقات بها، فلماذا لا تقول فيما أنكرت من النصوص كما قلت فيما اعترفت به منها؟ والكل من وادٍ واحد، ومن مشكاةٍ واحدة، نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، كلها نور وايمان، والتنزيه في الجميع حتم لا بد منه، والاقرار في الجميع واحد، ونفي مشابهة صفات المخلوقات بصفات الخالق إيمان واجب على كل مؤمن. وإذا طولب المفرقون بفرقان بَيّن، وسئلوا عن الفرق بين ما قبلوا وما رفضوا. لم يكن عندهم إلا تقليد الجعد والجهم وبشر المريسي الذي توجع الكوثري من نشر: "نقض" الدارمي (1) له، وانتفخت أوداجه لطبعه، وطبع "السنة" للإمام أحمد، ولم يخف غيظه من أئمة الإسلام: البيهقي (2) وإمام الأئمة ابن خزيمة، والخلال، وأبي الشيخ، وأمثالهم من أئمة الهدى، والحديث والسنة، تحت ستار الدفاع عن أبي حنيفة الذي أغناه الله عن دفاع محب جاهل. وأخيراً- وليس بآخر- نقول للكوثري: إنا آمنا بهذه النصوص على ظاهرها مع

_ (1) هو الإمام الحافظ الحجة الثقة الفقيه، عثمان بن سعيد الدارمي الشافعي مؤلف كتاب "الرد على الجهمية" وغيره من الكتب. وكان واسع الرحلة، سمع بدمشق من ابراهيم بن العلاء وهشام بن عمار وسمع في غيرها من الإمام أحمد بن حنبل ويحي بن معين واسحق بن راهويه وعلي بن المدني وغيرهم. وأخذ الفقه عن أبي يعقوب البويطي وهو الذي قام على (محمد بن كرّام) الذي تنسب إليه الكرّمية إحدى فرق المجسّمة وطرده من "هراة" توفي رحمه الله سنة 280 هـ. وكتابه "الرد على الجهمية" من مطبوعات المكتب الإسلامي في دمشق. (2) البيهقي: (384 - 458) هو أحمد بن الحسن بن علي الشافعي "أبو بكر"، من أئمة الحديث، رحل إلى بغداد ثم إلى الكوفة ومكة وغيرها ثم استقر في (نيسابور) ، كثير التصانيف في نصرة مذهبه وتأييده. وقال عنه الذهبي: لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على لسعة علومه ومعرفته. ومن أعظم مؤلفاته "السُنَنُ الكبرى" و "مناقب الشافعي " وقد أورد فيه كثيراً من النقول التي انتقد فيها الإمام الشافعي الإمام أبا حنيفة، فكانت هذه كافية لأن يسلقه الكوثري بلسانه الحاد وأن يجعلها سبباً في افترائه عليه.

طلب المباهلة

تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات وان اقشعر منها جلد الجعديين والجهميين والمريسيين، ونوالي عليها ونعادي على إنكارها، ولنا في ابراهيم والذين آمنوا معه أحسن قدوة، وأزكى أسوة "إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" (1) . ولا نهن ولا نخاف ولا يزعجنا تنبز الألقاب (2) ، كحشوية أو مجسمهّ، أو اخترل مخترع لقصهّ البعوضة التي اخترعها الكوثري ليطفىِء نور الله بفمه. طلب المباهلة وإن شاء الكوثري أن نباهله: أن ذلك هو الصراط الستقيم، والسبيل السوي، ودين الله الذي جاءت به رسله من أولهم إلى آخرهم، وأن طريقة الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان (3) ، وبشر المريسي- الذي يتوجع له الكوثري ويغيظه طبع الرد عليه- هي طريقة النفاة المتفلسفة، وضعها لهم رأس الكفر فرعون، لعنة الله عليه إلى يوم الدين، واتبعه عليها كل متفلسف متحذلق مجانب للهدي النبوي، إن شاء أن نباهله على ذلك باهلناه، وإلا فَلْيَصِحْ ما طاب له الصياح، وليرتزق بهذه الأوراق التي يخرجها على الناس ما شاء له الارتزاق، وليمؤَه ما شاء له التمويه؛ وليدجل ما شاء له التدجيل. وإن أجاب إلى المباهلة فليذهب إلى ما شاء من مسجد، أو مشهد، أو قبر. وأنا سأقف أمام باب بيت الله الحرام الكعبة المشرفة، وأدعو الله أن ينزل لعنته على كل كذاب مفترٍ، معاد لسبيل الهدى، مبغض لسلف الأمة وأئمتها، مفترٍ عليهم، مشوِّه للحق الذي جاءوا به، محرف لنصوص الكتاب والسنة، صارف لها عن الهدى الذي جاءت به.

_ (1) سورة الممتحنة: 4 (2) النبْزُ: الرَّمْي والاتهام بالباطل المفترى، وهذا كان دأب الكوثري طوال حياته، وهو الآن منهج تلامذته وأتباعه بل زادوا عليه بالنفاق الخفي والظاهر سعياً وراء كسب دنيوي. وانظر لذلك "السيف الصقيل العبقري على اباطيل تلميذ الكوثري" للشيخ الفاضل عبد العزيز الربيعان. (3) هو الجهم بن صفوان السمرقندي، من موالي بني راسب، رأس "الجهمية" الضال المبتدع، قَبَضَ عليه "نَصْرُ بن سيّار" وأَمَر بقتله؛ وكان ذلك سنة 128 هـ.

الحقيقة والمجاز

الحقيقة والمجاز (2) كرر الكوثري وأعاد في الدال والمدلول، والحقيقة والمجاز، والحرف والصوت والمداد، وبهت بعض الأئمة كابن قدامة بما لا يصح أن يقوله عاقل، كل ذلك ليتحلل مما اشتهر عن أئمة السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ واليه يعود، وحاصل ما أبدأ وأعاد، أنه ليس لله تعالى كلام يتلى بيننا! وأن ما بين دفتي المصحف ليس كلام الله، فخالف النصوص، والاجماع، وسلف الأمة وأئمتها، فما أدري ما يقول في قوله تعالى "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ" (1) " وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (2) . بل أدري أنه سيقول، بل قد قال فعلاً: حتى يسمع مدلول، أو دال كلام الله، لا أن يسمع كلام الله حقاً، وهذا هو تحريف كلام الله بعد سماعه وعقله تقليداً لمتفلسفة اليونان. وإذ قيل له: هل نادى الله موسى وناجاه وقربه نجياً وهل سمع موسى كلام الله؟ فسيقول: بل قال: إنما سمع مدلول، أو دال كلام الله! وهكذا من أنواع هذه القرمطة التي تفسد العقول والفِطر، وتشكك في كتب الله وشرائعه. ونسأله عما تقر به العقول وتعترف به الفِطَر، أن الكلام هو كلام من قاله ابتداءً وانشاءً وتاليفاً؛ فهذا القرآن الذي نسمعه من القارىء ونسمع صوته به: من الذي

_ (1) سورة التوبة: 6. (2) سورة البقرة: 75.

قاله ابتداء، ومن أول من قال:"الم" "ألمص" "ألمر" " كهيعص" " طسم" " ص " "ق" "ن" أهو الله الذي تكلم بذلك أولَاً، ونزل به الروح الأمن جبريل على قلب النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقرأه النبي على أصحابه؟. إن قلت: ذلك، فهذا هو المطلوب، القرآن كلام الله تكلم به أولًا وهو كلامه حقاً، وما نسمعه من القارىء هو كلام الله نسمعه من صوت القارىء، وليس هو كلام القارىء، فالكلام كلام الله حروفه ومعانيه، والصوت صوت القارىء رخيماً أو غليظاً، ففرق في الفطر السليمة بين الكلام المؤلف من كلمات وحروف، وبين الصوت الذي هواهتزاز الهو اء في الحنجرة، والفم، وطبقات الهو اء، وكل ذي فطرة سليمة يعلم أن: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " (1) كلام الله، وصوت القارىء بها هو صوت القارىء، ومداد الكاتب لها مداده، وللكلام وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي الكتابة. فإن قلت: إن الذي نسمعه من القرّاء، ونكتبه في المصاحف، ليس كلام الله، فقل لي بربك: من أولَ من تكلم به، بكلماته، وحروفه، واعفنا بربك من دالٍّ ومدلول، وحكاية وعبارة، التي تؤول إلى أن القرآن بكلماته وحروفه ليس كلام الله، فتشبه فيلسوف قريش إذ يقول في القرآن: " إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ " (2) وقولهم " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " (3) . وبعد: فإنا نؤمن أن القرآن كلام الله؛ ألفاظه، وحروفه، ومعانيه، ليس من تأليف مخلوق، لا جبريل، ولا محمد، ولا اللوح المحفوظ، ولا من نظم أي مخلوق - غير الله تعالى- قرأه القارىء فالكلام كلام الله والصوت صوت القارىء، أوكتبه الكاتب، فالكلام المكتوب كلام الله، والكتابة والمداد وحركة اليد فعل الكاتب، والورق صنع الوراقين. والحديث يقول: (إن الله ينادي بصوت- أي يوم القيامة- يسمعه من قَرُبَ كما يسمعه من بَعُدَ" (4) ونقول: إن الله كلم موسى وأسمعه كلام الله

_ (1) الفاتحة: 1. (2) سورة المدِّثِّر: 24. (3) صورة الفرقان: 5. (4) رواه البخاري تعليقاً وقواه ابن تيمية. وشرحه برصالة صغيرة مفيدة. وإنا لنجد من المخترعات الحديثة ما جعل كلام البشر يسمع في هذه الدنيا من بعد كما يسمع من قرب. والذين حكموا =

الإيمان قول وعمل

في الجنة، فلا يكون شيء ألذ ولا أجمل من سماع كلام الله من الله، وليحرم الجهمية والجعدية، والمريسية، أنفسهم من الايمان بسماع كلام الله تعالى، وران على قلوبهم ما اخترعته لهم الفلسفة من دال ومدلول وعبارة وحكاية ومحال، حتى حرمتهم لذة كلام الله تعالى، والإيمان به عند تلاوته، وأسقطت حرمته من قلوبهم. اللهم ايماناً كإيمان العجائز، ونحمدك على العافية من فلسفة الرازي والآمدي، والتفتازاني، ونفي الجعد، والجهم، والمريسي وأذنابهم إلى عصر الكوثري، ولك الحمد والمنة على ما هديتنا ووفقتنا من الايمان بكتابك الكريم، وسنة نبيك الهادي إلى صراطك المستقيم، واتباع سلف الأمة وأئمتها، واقتفاء خُطاهم، وسلوك سبيلهم، ومجانبة طرق الغواية والضلال والغضب من أمثال جعد وجهم وَبِشْر ومن ينصرهم، ويغضب لهم، ويحمى حمية الجاهلية للرد عليهم وبيان زيغهم وزيفيم وممن يحذر من شرورهم، وينصح للمسلمين وأئمتهم وعامتهم، ولكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل الأذى في بيانها وتعليمها ونشرها والصبر عليها، والدعوة عليها وإن كرهها الكارهون، وغضب لتبيانها ونشرها، وطبع الكتب الهادمة لضلال جعد وجهم وبشر وأمثالهم (1) ، ومن غص بنصوص القرآن والسنة وطريق سلف الأمة وأئمتها، ونسأله تعالى بحقه وكرمه ولطفه كما هدانا لهذا أن يديمه علينا إلى الممات، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. الإيمان قول وعمل (3) يرمي الكوثري خيار الأمة الذين قالوا: إن الإيمان، قول، وعمل، واعتقاد؛ ويزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي قالوا ذلك اتباعاً للنصوص الصريحة المستفيضة من القرآن والسنة: بانهم- في سبيل الانحياز الى المعتزلة أو الخوارج متهماً لهم أنهم-

_ = عقولهم القاهرة في صفات الله جل وعلا فجعلوا هذا الحديث مما يُستَعْبِد عقلًا أخزاهم الله، فإنهم أجهل البشر، وتعالى الله عن كل تشبيه وتمثيل وله المثل الأعلى. (1) وقد يسر الله طبع الكثيرمن هذه الكتب على نفقة بعض المحسنين الذين غايتهم وجه الله. كما يقوم أعداء السنة بطبع الكثير من كتبهم وستكون عليهم حسرات في الدنيا والآخرة.

يقولون: إن من أخل بشيء من العمل يكون أخل بالإيمان، (1) فبئس ما افتراه عليهمْ، كبرت كلمة تخرج من فيك يا كوثري، أن يكون خيار الأمة وأكابر الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي ومن قبلهم من التابعين، والصحابة، ومن بعدهم ممن هو على آثارهم، منحازين إلى المعتزلة والخوارج، شاعرين بزعمك- أو غير شاعرين- وهم أعرف الناس بشرور المعتزلة والخوارج وضلالهم، وأنصح الأمة للأمة، بالبعد عن الانحراف عن طريق أهل السنة والجماعة، تشهد بذلك أقولهم وآثارهم وتعاليمهم، وكتبهم ومجالسهم وتلاميذهم، في كل بلد وفي كل عصر ومصر إلى يوم القيامة. لقد قالوا: يتفاوت الايمان من أدنى درجاته في آخر من يخرج من النار، إلى أعلى درجاته في أعلى عِلِّيين من أهل الغرف الذين يتراءون كالكوكب الدري الغابر في الأفق. ولم يقولوا: إن إيمان السكير العربيد الذي لا يدري عن نفسه- لسكره وعربدته- كايمان جبريل، وميكائيل، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصديق الأمة أبي بكر، وفاروقها عمر وغيرهم. لم يقولوا بهذه المخزيات، وإنما قالوا بما قال الله ورسوله: من تفاوت أهل الايمان في الإيمان والأعمال، وتدرجهم ممن في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان، إلى سكان الفردوس أعلى الجنة وصاحب الدرجة الرفيعة والوسيلة والمقام المحمود، ولا يقولون: إن من أخل بشيء من الأعمال يكون قد أخل بالإيمان، كما بَهَتَهُمْ به هذا البهات، وافتراه عليهم، فأقوالهم وكتبهم وتعاليمهم ومتواتر مذاهبهم: أن المؤمن يكون فيه خير وشرة وله حسنات وسيئات ولا يخلو من الخير إلا الشيطان الرجيم، ولا يسلم من الشر إلا الملائكة والنبيون صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا هو السبب في تصريحهم بالاستثناء في الايمان، فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء تعالى اعترافاً بالخطأ

_ (1) أنظر كلام الكوثري والرد عليه في "التنكيل " (2/363- 378) وقد طبعه رجل العلم والفضل في بلاد الحجاز الشيخ محمد نصيف عليه رحمة الله. وقد حققه المحدث الشيخ ناصر الدين الالباني وكان هذا مما أثار حفيظة أهل التخريف على الشيخ نصيف والمحدث الألباني ولهما الأجر إن شاء الله.

والنقص وتقريراً للتقصير والتواني؛ وإيماناً منهم بأن هذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه، فيسددون ويقاربون، ويستغفرون الله لتقصيرهم وعدم اللحاق بأول القافلة، فيستثنون في الايمان. لهذه المقاصد الصحيحة لا شكاً في دينهم كما تجناه عليهم هذا المتجني وأضرابه، الذين قالوا؛ سؤال: هل يجوز التزوج بالشافعية التي تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله، فتشك في دينها؟ والجواب: يجوز قياساً على الذمية اليهودية والنصرانية (1) ، يا للعجب العجاب وضياع العقل والصواب! مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعترف أن الايمان يزيد وينقص، بنص القرآن والحديث ولا تعرف كم عندها من درجات الإيمان، وكم حصلت من شعبه وأغصانه، أو بتعبير حسابي عصري كم النسبة المئوية أو الألفية عندها من الإيمان، فتكل الأمر إلى علام الغيوب وتقول: أنا مؤمنة إن شاء الله تعالى، فيأتي قوم يقولون: إن إيمان السكير العربيد كإيمان جبريل، وميكائيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، يقولون بكفرها، ويشككون في جواز نكاحها، ثم يستحي منهم من بقي للحياء فيه بقية، فيقيسها على اليهودية والنصرانية! مسلمة تقاس في جواز نكاحها بجواز نكاح اليهودية والنصرانية!؟ وأنا بدوري على قلة عنايتي بأصولهم، أتعجب من هذا القياس الذي تأباه أصولهم وأوضاعهم، فهذه المسلمة التقية التي استثنت في إيمانها خوفاً من الله تعالى أن تتإلى عليه بشيء لا تحيط بمداه وجوانبه، تحكم عليها قواعدهم أنها شاكة، فهي بزعمهم مرتدة، فكيف جاز قياسها على اليهودية والنصرانية في حل النكاح؟ فالقياس المتجه شكلاً على أصولهم، الباطل موضوعاً بنص كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن هذه الشَّاكَّة المرتدة تقتل بعد أن تستتاب؛ لا أن يحل زواجها قياساً على اليهودية والنصرانية- بزعمهم- التي لا تقتل ولا تستتاب، والقوم أهل القياس، فكيف غاب عنهم الفرق بين المرتدة والذمية؟ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بُشر بقصر في الجنة، رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكى

_ (1) أنظر النص المثبت في مقدمة "شرح العقيدة الطحاوية" (ص- 59) الطبعة الثامنة- المكتب الاسلامي.

إحراج الكوثري

للبشارة (1) ، وإن عائشة أم المؤمنين تقول في قول الله تعالى: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " (2) فتقول: هم الذين يزنون ويسرقون ويخافون؟ فيقَول لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يا ابنة الصديق، بل هم الذين يصلون ويتصدقون ويخافون أن لا تقبل منهم؛ أوكما قال - صلى الله عليه وسلم - على ما جاء الحديث في ذلك، في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه (3) وأرضاه، وأسكننا الجنة معه بمنه وكرمه. أفما يكفي هذا وأمثاله وأمثال أمثاله لزجر العاقل المؤمن عن أن يجزم بشيء لا يحيط علمه بحدوده؟ ويدير اجتماع شعت شجرة الايمان فيه؟ وهو لا يدرك معرفة عُشْر عشر معشارها، فضلاً عن العمل به، فيستحي أن يقول: أنا مؤمن حقأ، وأن إيمان السكير العربيد وآكل مال اليتامى، وقاطع الطريق، وربما قاتل الأنبياء والصديقين، هو كإيمان جبريل، وميكائيل، ومحمد، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ إحراج الكوثري لنا أن نسأل الكوثري سؤالاً، ليخرج لنا جواباً يَّتجر به ويأكل به طعامه ويرتزق به (وطالب القوت ما تعدى) نسأله سؤالا لعله يستجدي أهل الجدوى بسببه في نفقات طبع جوابه ونشره، ونكون قد أحسنا إليه ولو بطريق غير مباشر، وهذا هو السؤال: إذا كان الإيمان هو المعرفة والتصديق فقط ليس معه شيء من عمل القلب: خوفه، ورجائه، وخشيته، وتقواه. وليس معه شيء من عمل الجوارح: لا نطق اللسان، ولا عبادة الله، ولا الركوع، ولا السجود. بل وقد يكون معه: قتل الأنبياء، وتكذيبهم، والسجود للأصنام والذبح لهم- إذا كان الإيمان يكون هكذا، فلماذا كفر اليهود وهم الذين يعرفون الرسول والحقَّ كما يعرفون أبناءهم؟ ولماذا كان فرعون رأس الكفر وهو يعلم أن آيات موسى أنزلها رب السموات والأرض، بصائر وتأييداً لموسى؟ ولماذا كان هو

_ (1) أخرجه الشيخان انظر " مختصر صحيح مسلم " 1632. (2) سورة المؤمنون: 60. (3) سلسلة الأحاديث الصحيحة 162.

اللامذهبية

وقومه أكفر خلق الله، وهم الذين أيقنوا بآيات الله " وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ " (1) ولماذا كفر كفار قريش وهم الذين قال الله فيهم: " فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ " (2) ولماذا كان إبليس رافع راية الكفران، وهو يعلم أن الله رب العالمين وهو يعترف بعزة الله، وهدايته، وربوبيته؟. نريد جواباً إرجائياً أن الايمان معرفة فحسب، حتى يكون كل هؤلاء مؤمنين حقاً كإيمان جبريل، وميكائيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والعشرة المبشرة بالجنة، والصحابة أجمعين، وإلا فليستح المجادل في الحق بعد ما تبين، والرزق على الله تعالى، لا على الإشتراء بآيات الله ثمناً قليلًا، والتعيش بالدجل والتغرير بالاغنام، والاتجار بدين الله تجارة باطلة مغشوشة سخيفة ولنتوجه جميعاً إلى الاهتمام بالمسلمين اليوم، والفتن التي تحيط بهم، وتحل قريباً من دارهم، وأعداء الله ورسوله وأعداء الديانات جميعاً يتسابقون جميعا إلى اخترل المهلكات والمدمرات من قنابل ذرية جهنمية، وإيدروجينية، وجهنميات الجو والبر والبحر والسماء والأرض. فلنستح جميعاً من هذا الجدل الباطل، والتشكيك في دين الله تعالى، لدى العامة وأشباه العامة، وإضحاك العقلاء علينا، لأننا نعيش في غير عصرنا ونخالط من لا يعرفنا ولا نعرفه، إن كان بقي عندنا للحياء بقية. اللامذهبية (4) يرمي الكوثري المؤمنين بكتاب ربهم والمتبعين لسنة نبيهم، والمقتفين لآثار السلف الصالح من الصحابة، والتابعين المقتدين بأئمة الهدى، في العمل بالكتاب والسنة، المؤمنين بأن كتاب الله وسنة نبيه حق وهدى ونور، في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، وليست ألغازاً ولا أحاجي، ولم يتول الله بنفسه حفظ كتابه وسنة نبيه إلى اليوم، وإلى ما شاء الله تعالى إلا للعمل بهما والاهتداء بهديهما، لا لكتابة حُجُبٍ بهما، وأكل عيش بالتغني بها في مجالس الأفراح والمناحات، وأذية الأموات عند

_ (1) صورة النَّمْل: 14. (2) سورة الأنعام: 33.

القبور، وعدم حصر دين الله الكامل الشامل العام الرحمة المهداة إلى العالم أجمع، في نفر يقل عددهم عن أصابع اليد الواحدة، والزام الناس بآصار وأغلال ونحاتات أفكار سقيمة عقيمة، وتقييد الناس وتغليلهم بقيود المتهو كين (1) وأغلال من يشبه الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالإثم، الصادين عن سبيل الله البيضاء النيرة، التي تركنا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اضطروا الناس إلى الحشر في جحر الضب، من قيود التقاليد وأغلاها؛ واضطروهم إلى الخروج عن هذا الدين الحنيف الذي عسروه بضيق عقولهم، ودنسوه بسخفهم- إلى الخروج إلى حرية عصرية ومدنية فاسقة خليعة، بسوء عمل هؤلاء المسيئين إلى ربهم، وكتابه، ودينه، ورسوله- يسمي الكوثري هؤلاء المهتدين نبزاً لهم باللامذهبية، زاعماً: أنهم قنطرة اللادينية، (2) وهذا ليس وراءه وراء، في قلب الحقيقة، ولبس الحق بالباطل، وليس ذلك بأول عجائبه ولا بآخر لجاجه، فان متبعي الكتاب والسنة في كل زمان ومكان، هم حجج الله في أرضه، وهم نجوم الهداية لخلقه، وهم ورثة الانبياء الذين لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم والهدى والبصيرة في الدين. فهل لنا أن نسأل الكوثري عن البلاد التي نبذته مع أضرابه الذين لبسوا الدين مقلوباً، وجعلوا منه حجباً وتمائم، ومحللات نكاح بتيس مستعار. نسأله: كم كان فيها مهتدون بالكتاب والسنة ممن يسميهم: لا مذهبية سببوا لها استبدال قوانين أوروبا، ومدنيتها وكفرها بدين الله حقه وباطله؟ فليسِّم لنا واحداً ممن سألناه عنه، فإذا لم يقدر أن يسمي واحداً في تلك البلاد- وهو ما نسجله عليه من الآن إلا إذا كان

_ (1) المتهوِّكين: المتهوك- بالفتح- المتحير، والساقط في هو ة الردى. والوقوع في الشيء من غير مبالاة تهو راً. (2) لو صدقت هذه الكلمة الظالمة- ومعاذ الله أن تصدُق- لكانت بالصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد وعصور الخير أَلْصَق لأنهم كانوا أبعد الناس عن المذهبية. ولكن الله تعالى جعلهم قنطرة الهداية والايمان، وكذلك كل من دعا إلى كتاب الكه وسُنّة رسوله أَبَد الدَّهر، وإن تفشي اللادينية بين الناس لم يكن بسبب اتباع الكتاب والسنة، بل لأسبابٍ أخرى لا حاجة لذكرها هنا.

مباهتاً مفترياً (1) -. فليقل- رضي أو سخط- إن سبب خروج حكومة هذا الشعب الاسلامي على تعاليم الإسلام الصحيحة والخرافية، هو وأمثاله الذين شوهو ادين الله وجعلوه لعباً ولهو اً، وعصبية وباطلاً، وحجبا وتمائم، وتحليل أنكحة. وأنا أعفي الكوثري من السؤال عن سبب استبدال مصر بفقه الفقهاء، قوانين وضعية أساسها قانون (2) " نابليون "، لعله لا يعرف ذلك، أو يعرفه ولا يعترف به: إن أمير البلاد (3) طلب إلى شيوخها على لسان أحد المثقفين: أن يخرجوا خلاصة مذهبية مهذبة الأطراف والحواشي، مبوبة منظمة تعتمد قولاً واحداً من أقاويل متعددة لا يعرف الحق في أيها ليقدمه للمحاكم لتقضي به على المتحاكمين إليها من وطنيين وأجانب، فاستعفى الأميرَ ذلك المثقفُ بأنه كبرت سنه ولا يحب أن يطعن الشيوخُ في دينه بهذا الطلب منهم، لما يعلمه من جمودهم على ما هم فيه وطعنهم فيمن يحاول تحويلهم عنه، فلجأ الأمير إلى أرمني (4) لخص له خلاصة قانون نابليون وأعلنه حكما يتحاكم اليه في المحاكمِ، فنسخت بذلك شريعة الإسلام في المحاكم المدنية والجنائية وسائر المعاملات، فمن المسؤول عن تأخير فقه المذاهب ونسخ الشريعة الاسلامية فيها حتى لم تبق للمحاكم الشرعية إلا حثالة من الأحكام الشخصية، مثل الطوائف الأخرى من يهود، وقبط، ومارون، في النكاح والطلاق والعدد والنفقات: هل

_ (1) يقصد بذلك حكومة "أتاتورك " الملحدة؛ وهذا السؤال بقي بدون جواب من الكوثري وتلامذته حتى اليوم؛ لأنه لم يكن يستطيع أحد مخالفة أقوال مذهبه. بل جعلوا قراءة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - للبركة!!! واعتبرت كلمة المحدِّث السيد محمد جعفر الكتاني بدمشق حدثاً فظيعاً، عندما قال: والله لا نقرأ الحديث إلا للعمل، للعمل! وكادت أن تحدث له المصائب، لو لم يكن متمتعاً بالحماية الكافية. وكذلك فعل تلميذه (ابو غدة) فقد وجه اليه منذ سنتين ونصف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في مقدمته القيمة "لشرح العقيدة الطحاوية" عدداً من الأسئلة عن عقيدته وعقيدة شيخه. فلم يحر جواباً. وأغلب ظني انه أخر الجواب حتى يغادر بلاد التوحيد!!. (2) نابليون وقانونه. (3) الخديوي إسماعيل. (4) رئيس وزراء مصر الأرمني.

الكوثري يشتم الأئمة

المسؤول هم المهتدون بالكتاب والسنة الذين يسميهم الكوثري لا مذهبية، أم شيوخ التقليد وعمائم المذاهب، وأعداء المهتدين بكتاب الله وسنة نبيه، أمثال الكوثري ممن اتخذوا دين الله هزوا ولعبا، ثم يذهب في غير حياء فيرمي هؤلاء الهداة المهتدين بأنهم قنطرة اللادينية بهتاً وبغياً وعدوانا، فالله حسيبه يوم القيامة (1) . الكوثري يشتم الأئمة (5) يتبرأ الكوثري من تهمة الطعن في الأئمة، مع أنه سجَّلَ على نفسه الطعن في الأنساب الذي بقي في هذه الأمة من أمور الجاهلية، فليس للشافعي عنده ميزة من علم، ولا فضل، ولا فهم، ولا عربية، ولا معرفة بالكتاب والسنة، والعربية سوى قرشية فيها اختلاف، يفضله فيها من ليس في قرشيته خلاف، كقرشية أبي حنيفة مثلا، وليس لمالك مزية سوى سكنى المدينة في وقت لا فضل في سكناها، وليس لأحمد ابن حنبل فضل سوى كثرة الحديث، من غير تمحيص ولا غوص، فهي قليلة الجدوى. فمالك سكن المدينة في وقت لا فضل في سكنى المدينة فيه؟ ولأحمد كثرة من الحديث بلا تمحيص ولا غوص؟ والشافعي مختلف في قرشيته مع غمزه بفحوى الحديث: " من بطا به عمله لم يسرع به نسبه " (2) ولا ندري ما هو تبطيء عمل الشافعي به الذي لا ينفعه معه نسب مختلف فيه (3) ، فماذا بقي للأئمة من فضل عند

_ (1) أنظر دفع العلامة اليماني لمطاعن الكوثري هذه عن الأئمة في " التنكيل " (1/365، 372، 386) و (2/611، 618، 657) .. (2) رواه مسلم. (3) من أكبر أسباب طعن الكوثري بالإمام الشافعي الأقوال التي نقلت عن الإمام الشافعي وفيها مخالفته للإمام أبي حنيفة رحمها الله؛ أنظر لذلك كتاب "مناقب الشافعي " للإمام البيهقي، تحقيق الأستاذ: سيّد صقر. وأما عدواته للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- فإن منهج أحمد يخالف منهج الإمام أبي حنيفة بعض الشيء، ولكنه يخالف طريق المتعصبة من أتباع أبي حنيقة كل المخالفة. وأما أهل الانصاف منهم فإنهم مع الإمام أحمد في الكثير الكثير من مسائل الاعتقاد والفقه؛ ومن =

الكوثري يشتم الصحابة

من سماه بعضهم مجنون أبي حنيفة، وأنا لا أقول عنه مجنون أبي حنيفة. وإنما هو مجنون ارتزاق واستجداء وتكفف واتجار بالدين تجارة غير شريفة، بين أناس يهز أريحيتهم المالية، أمثال هذه التمويهات. الكوثري يشتم الصحابة وثالثة الأثافي طعنه على أنس بن مالك، خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحد فقهاء الصحابة! وحفاظها بالخرف والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمية، بسبب الكبر والشيخوخة وطول العمر الذي أعطاه الله إياه ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بثلاث: منها طول العمر فهل استجاب الله دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أنس؟ ليهرم ويخرف ويكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رضّ رأس اليهودي قاتل الجارية الانصارية بِرَضّ رأسها فقتله من غير بينة (1) ، ورواية الاعتراف دلَّسها قتادة (2) فيكون طول عمر أنس ببركة الدعوة النبوية ليكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل يهودياً بلا بينة ورض رأسه خلافاً لمذهب أبي حنيفة، الذي لو أدرك النبي لأخذ النبي الدينَ عن أبي حنيفة (وهل الدين إلا الرأي الحسن!) الذي امتاز به أبو حنيفة فلماذا لم يقتص من اليهودي بالسيف، ولو ضربها بأبا؟؟؟ قبيس! أقول: طعن الكوثري في أنس بهذه الطعون خرفٌ، وهرمٌ، وكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت ستار عدم رفع الصحابة إلى مستوى العصمة، وتحت ستار أن ابن عدي طعن في "كامله " في بعض الصحابة، وتحت ستار أن الطعن في أنس بهذه الطعون السالفة، هو من باب التخير في أقوال الصحابة، وأن ذلك منهج أهل التحقيق، وأن عقلية أبي حنيفة الجبارة صرفته عن الأخذ بحديث أنس، وانتصار الكوثري له، باتهام أنس بالخرف والهرم والشيخوخة والأمية، التي يكذب معها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تلك العقلية التي لو كانت ظهرت في

_ = تتبع تراجم الأحناف وجد الكثيرين منهم كانوا على مذهب الإمام أحمد السلفي، وبعضهم قد سُجن أو قُتل في سبيل ذلك. (1) رواه الشيخان. (2) هذا من كلام الكوثري وليس من كلام المؤلف رحمه الله، كا يدلك عليه ما سينقله عنه في الصفحة الآتية، لكن قتادة صرح بالحديث في رواية كا حققه الشيخ اليماني في " التنكيل " (2/860، 861) مع تعليق الشيخ الألباني عليه.

نماذج من احترام الكوثري لأئمة المسلمين

زمان رسول الله لترك لها الوحي، وأخذ بتلك العقلية الجبارة الفارسية الفلسفية، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وكاني بالكوثري يكسب رزقه بِرَمْيِنَا بعداوة أبي حنيفة، فأجيبه بالمثل السائر: (عدو عاقل خير من محب جاهل) وحكاية الدبة التي قتلت صاحبها بضرب الذبابة على وجهه بحجر، يعرفها صبيان المكاتب. نماذج!! إليك نموذجاً من احترام الكوثري لأئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم: 1- أنس بن مالك خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - شاخ وكبر، فخرف (1) وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله ولم يعمله من قتل يهودي بلا بينة ورضّ رأسه بالحجارة بدل قتله بالسيف الذي يراه أبو حنيفة، وهو الرأى الحسن الذي لا يكون الدين عنده إلا الرأي الحسن، خلافا للوحي، وللكتاب، والسنة. ورواية قتادة: أن القاتل اعترف، رواية مدلسة اخترعها قتادة لينقذ الموقف أمام صولة أصحاب الرأى الحسن، الذي لا يكون الدين عندهم إلا إياه. 2- الصحابة والتابعون ومن بعدهم الذين يقولون: الايمان قول وعمل واعتقاد، هم منحازون إلى المعتزلة والخوارج، شعروا أم لم يشعروا بذلك. والذي يقول: العمل من الايمان، يُلزمهم الكوثري: أن إلاخلال بشيء من العمل- أي إخلال كان- يكون مخلا بالإيمان فيلزمهم بتكفيى من قصر- أي تقصير في أي عمل من الأعمال (2) - وهو ما ينكرونه ويبدِّعون قائله ويضللونه، ولذلك تورعوا

_ (1) وهذا ما لم يقله مسلم قط قبل الكوثري- عليه ما يستحق- وليست الأولى له فقد طعن بعدد من الصحابة تعريضاً وتصريحاً مثل عبد الله بن عمرو، ومعاوية بن أبي سفيان، وبمن جهله هو من الصحابة ولو كان معروف العين عند الرواة والمحدثن. (2) وتلميذ الكوثري (الشيخ أبو غُدّة) يتابع شيخه على هذا الإلزام، فإنه ينقل كلامه في بعض تعليقاته مؤيداً إياه ومعجباً به. أنظرمقدمة الشيخ الألباني على "شرح العقيدة الطحاوية"- (ص- 58) الطبعة الثامنة- طبع المكتب الإسلامي. و "القائد" ص 222 بل في جميع كتبه تجده=

عن إطلاق: أنا مؤمن حقا، وتبرأوا من الغرور بالله وقالوا: بل نقول: نحن مؤمنون إن شاء الله، لا شكًّا في إيمانهم بل تفويضا للمشيئة الالهية والعلم الرباني في تقدير كمية إيمانهم، ونسبته المئوية من الكمال وبعداً عن الغرور، ورؤية العمل وتسليما بأن الايمان يتفاوت درجات لا يعلمها إلا الله تعالى، لذلك سماهم الكوثري وأشباهه شكاكين في ايمانهم، وتوقفوا في جواز زواج الشافعية التي تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله. تعالى، والمستحي منهم قاس جواز زواجها على جواز زواج اليهودية والنصرانية، مع أن ذلك قياس فاسد شكلا، باطل موضوعا على أصولهم، إذ كيف يقاس مرتد بزعمهم على كافر أصلي، وشاكٍ على ذمي؟ 3- مالك: إمام أهل المدينة، ليس له ما يرغب في اتباع مذهبه سوى سكنى المدينة في زمن لا مزية لسكناها إذ انتشر العلم في غيرها أكثر منه فيها. 4- الشافعي: إن رغب راغب في اتباعه لقرشيته، ففي قرشيته خلاف، ولا تنس الحديث: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (1) فَلَوَّح بابطاء عمل الشافعي به، فان صح نسب الشافعي، وهو ما فيه خلاف، فلن يجبر قصوره في عمله، فكيف والخلاف في نسب الشافعي قائم عند من ورث الجاهلية في الطعن في الأنساب. 5- أحمد بن حنبل: إن رغبت في مذهبه لكثرة حديثه فأنت مخدوع، فما جدوى كثرة الحديث بلا تمحيص ولا غوص ولا تحقيق، عند من ردها بالآراء الجبارة والأقيسة الفارسية؟ (2) 6- الذين قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وصفوا الله بالكلام والحرف والصوت، (3) فهم مجسمة مشبهة حشوية، لم يعرفوا الفرق بين الدال والمدلول، والحقيقة والمجاز- وكلام الله هو علمه، عند الكوثري، وعلم

_ = مهووساً بالكوثري. وكما أن المؤلف رحمه الله سمى الكوثري مجنون أبي حنيفة. فإنني أرى أن أبا غدّة مجنون الكوثري والجنون فنون، كتب الله لنا السلامة. (1) أنظر " التنكيل " (2/627) (2) أنظر نص كلام الكوثري والرد عليه في "التنكيل" (1/366 رقم 32) . (3) أنظر بيان هذا وتأييده في "القائد" (219- 221) . طبع المكتب الإسلامي.

الله: قائم بذاته، فليس لله تعالى على تحقيق الكوثري وأضرابه- بيننا كلام يتلى أو يكتب، ولا ثَمَّ إلا صوت القارىء، ومداد الكاتب، أما كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه وقرأه النبي على أصحابه وتلقاه الناس عن الصحابة، فلا وجود له بيننا، والذي يعترف به ورثة الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وبشر المريسي: أن الموجود عندنا من كلام الله عبارة أو حكاية أو ترجمة لكلام الله فقط لا أكثر ولا أقل، والقرآن من أوله إلى آخره أصوات القارئين ومداد الكاتبين وليس كلام الله (1) ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا. 7- أبو نعيم، والبيهقي، والخطيب، والخلال، وأبو الشيخ، والحاكم وغيرهم من الأئمة، متعصبون فهم غير ثقات، فلا يقبل توثيقهم، ويزيد الخطيب الذي روى ما سجله التاريخ من حال أبي حنيفة، ولم يزد على التاريخ حرفا واحداً، يزيده الكوثري بوسام يخصه به هو: أنه سخيف من سخفاء الرواة (2) . 8- أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري شيخ شيوخ أصحاب الكتب الستة ومعهم البخاري ومسلم هو وضاع كذاب فيكون رواية البخاري ومسلم عن هذا الوضاع الكذاب، غش وتدليس وتضليل، ويدافع عن هذا البهتان باستبعاد خطأ

_ (1) ولذلك يؤكد الكوثري أن الخلاف بين أهل السنة القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وبين المعتزلة وأمثالهم القائلين بأنه مخلوق، إنما هو خلاف لفظيّ! ويتابعه في هذا تلميذه (أبو غدة) في رسالة "مسألة خلق القرآن" وهذا منهما كالتصريح بان القرآن ليس كلام الله تعالى. ومن شاء التفصيل فليراجع: "مختصر لوامع الأنوار البهية" (ص 128) . (2) ومن سخافات الكوثري تعليقه على "الانتقاء" بأن ابن عبد البر قدم ترجمة مالك على أبي حنيفة. أن الإمام مالك مدني والشافعي مكي وأبو حنيفة كوفي والمدينة أفضل من مكة (كذا) وهذا التمحل في التفصيل ما أنزل الله به من سلطان. نعم فقد أثار بعضهم ذلك ولكن الإجماع انعقد بعد ذلك على إن مكة افضل والامام ابو حنيفة وعلماء الكوفة كانوا من الذين فضلوا مكة المكرمة. وأما ما ذكره أبو غدة (أبو حامد بن مرزوء) في الطعن بابن تيمية فسببه العصبية والافتراء. وقد طعن الكوثري بالحافظ الذهبي في اكثر من تعليق وشنع عليه لتأليفه كتاب "العلو" واختصاره لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة) .

امتعاض الكوثري لطبع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية3

الطابعين، وبأن الخطأ خلاف الواقع، فالمخطىء كاذب فهو واضع ووضاع، فلا بأس أن يكون أبو عوانة وضّاعا إذا عرف له خطأ على تحقيق الكوثري. والخطيب متهم فيما رواه من حال أبي حنيفة، ولو كان لم يرو إلا رواه الناس قبله: البخاري، وابن الجارود، والساجي وابن أبي خيثمة، وابن عبد البر حافظ المغرب وغيرهم من حفاظ الإسلام وبنادره وبحور علومه. 9- الحاكم أبو عبد الله مخلط إذ وجد في مستدركه الذي كان مسودة فلم يبيض عدة أحاديث موضوعة، فإذاً لا قيمة له في توثيق ولا تجريح. 10- الذهبي شيخ النقاد إذا نقد كلام الحاكم معتداً له، إنما يتابع الحاكم متابعة الأعمى لقائده، فلا قيمة لذلك عند الكوثري، وإن خالفه الناس جميعا في الانتفاع بعلم الذهبي وتحقيقه وجرحه وتعديله وتدوينه تاريخ الإسلام مطولا ومختصرا. طبع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية (6) يمتعض الكوثري من طبع الطابع مجموعة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فيها عدة رسائل فيها بيان عن رأس الحسين أين دفن؟ وبيان بقول الرافضة وأسانيدهم في النقل، وما يعولون عليه في بناء رفضهم، وفي المجموعة رسائل أخرى مفيدة كجهاد الكفار، والدعوة إلى التعاون، وإحياء طرق الخير وغيرها، مما يحبه كل محب للعلم النافع وتمحيص الحقائق، فإذا كنا عرفنا سبب امتعاض الكوثري وتوجعه من طبع (الرد على المريسي) توجعاً للمريسي وللجعد والجهم وغيظه على "السنة" لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، لما حوت من الروايات في إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي لا تعدو أن تكون بياناً لما جاء من ذلك في القرآن المجيد، والتي هي عمدة أهل الحق والسنة والجماعة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى في كل عصر ومصر، وإن اقشعرت منها جلود الجهنمية وأفراخ المتفلسفة- إذا كنا عرفنا سبب امتعاضه وألمه من ذلك، فإنا لما نعرف- وربما نعرف بعد ذلك أسباب غيظه من هذه المجموعة وطبعها وطابعها (1) - هل هو الشفقة على باطل الرافضة وتحليل أسانيدهم والحث على جهاد

_ (1) طبعت هذه الرسالة وقد كتب الشيخ محمد نصيف رحمه الله بأن التعليقات مجموعة رأس=

الكفار؟ أو هو البغض لشيخ الإسلام ابن تيمية وآثاره الطيبة؟ كبغض الجعل (1) للروائح الزكية؟ أو هو الترويج للعامة وما يعتقدوته في الحسين رضي الله عنه رأساً وجسداً أنه في ذلك المشهد المشهور بإسمه في القاهرة الذي أحدثه العبيديون، وإبقاء للعامة على ما هم فيه من ضلال وغلو وطواف بالقبر ونذور بنفيس الأموال والأوقات، حول قبر مفتعل ومشهد مصنوع، صنعه الملاحدة العبيديون الإسماعيلية، ولو كان جسد الحسين رضي الله عنه في هذا القبر ورأسه، لما جاز هذا الضلال والغلو عنده (2) ، فيكون قد أعطانا الكوثري لوناً آخر من ألوان نفسه غير ما نعرفه عنه من الدفاع عن الجهمية، وعداوة أهل السنة، ذلك اللون هو تألمه للرافضة والقبورية، وعداوته للناصح للناس، وهاديهم إلى طريق الحق، بالبيان، والعلم، والنصيحة، إن كان ذلك فنِعْمَ ما أبان الكوثري لنا من دخائل نفسه وذات صدره؛ ولا أصدق من اعتراف الجاني بجنايته وشهادة الشخص على خافيات صدره، وما يكنه قلبه، والاعتراف ولو بلحن القول أقوى الأدلة المثبتة، وأثبت البيانات والشواهد على المقر المعترف إلا إذا كان مخبولا يقول ما لا يعقل، وحينئذ نعرف من الكوثري: جهمياً، جعدياً، مريسياً، رافضياً، قبوريا عَدواً للأثمة والسنة والسلف، جاهلًا محباً للباطل، فليهنأ بذلك كله والموعد الله يوم القيامة. (7) يتمدح الكوثري بنزاهة قلمه وينتزع لنفسه من كلام ناقده (3) ، منزلة فوق مستوى البشر ويتضجر من بيان حاله في رسالة صاحب "الطليعة" أو المعلق عليه أو طابعها، وأصارحه أن هذه الألفاظ الجارحة هي من صاحب التعليق، لا من المؤلف ولا من الطابع، ذلك أني أردت أن ألفته عن أعراض الأئمة الكبار شموس أهل السنة وبدور تاريخ الإسلام: كأبي نُعْيم، والبيهقي، والخطيب، وأبي الشيخ،

_ = الحسين ليست له. (1) الجعل: دويَّبة لا تعيش إلا في القاذورات، وتقتلها الرواثح الطيبة. (2) بل لم يجز بقاء المسجد عليه. (3) هو العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. المتوفى 1966 يوم الخميس السادس من شهر صفر من عام 1386 من الهجرة، عليه رحمة الله.

والحاكم، وابن أبي خيثمة الذي لم يستح الكوثري النزيه المترفع فوق مستوى البشر، أن يسمي الحافظ الخطيب سخيفا من سخافا الرواة، ولا أن يتورع عن رمي هؤلاء الأئمة وأمثالهم بأنهم غير ثقات. وأنهم متعصبون متهمون وأن مبين تمويهاته الشيخ اليماني أنه مصحح أوراق بالمطبعة العثمانية - يعني أن يتكسب قوته بعرق جبينه - شأن المسلم التقي في خير العصور، لا أنه يعيش على الدجل والاستجداء، وجلب الرزق من تضليل العوام وتسميم عقولهم ودينهم وخلقهم، ونصب نفسه مدافعا عن ضلالهم وخرافاتهم (1) . فان قدرت أنا على تحويل الكوثري عن أعراض هؤلاء أئمة الدين والحديث والهدى، إلى عرضي - وما هو بغال عندي - في سبيل وقاية عرض هؤلاء من ارتزاق الكوثري، ومن الولوغ فيه ... أكون قد ربحت ربحا عظيما من جهة، ومن جهة أخرى أكون قد قدمت للكوثري عكازا يتوكأ عليه لجلب رزقه من جيوب مغفلين يسخون عليه بنفقات طبعها، وبذل سخي في شرائها وترويجها " كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ

_ (1) مما يؤيد ما تقدم ترامي الكوثري على أهل الثراء مع ضلالهم، مثل بعض الأمراء مصر، وقيامه بتقديم خدمات لهم، وترجمته تواريخهم من التركية إلى العربية، مع علمه بما فيها من كذب وضلال. وكذلك تزلفه للدجوي في الحرب العالمية الأخيرة. انظر مقالات الكوثري ص ... . بينما يتنكر لكل من خالفه أو خالف بعض تعصبه كما فعل مع شيخ الإسلام مصطفى صبري آخر مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية. وصاحب الفضل الكبير عليه. وقد جعله وكيلا للدرس في معهد سليمان الشرعي وقد استغل الكوثري هذا وجعل يسمى نفسه: وكيلا للمشيخة والفرق بينهما كبير جداً. وقد ورث مثل هذه الدعاوى تلامذته فبمجرد أن يضع أحدهم على رأسه العمامة ينثر لنفسه مختلف الألقاب والرتب ورحم الله من عرف حده ووقف عنده وكان من أهل الوفاء لكل من صنع له معروفاً. وانظر صنيعه مع أهل دمشق الذين أكرموا مثواه وإقامته فترة طويلة، وفيها نشرت أوائل الكتب التي علق عليها واستمر السيد حسام الدين القدسي ينشر كتبه في مصر فما كان منه إلا أن زعم أنه قد جاع في دمشق مرتين ولم يجد من يطمعه لقمة خبز!! كتب ذلك عن لسانه تلميذه الشيخ عبد الفتاح أو غُدَّة في كتابه "صبر العلماء" ص 71.

الكوثري والغلو

مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا " (1) ولا بأس أن نشغل الكوثري بشيء من هذا حتى نستريح من تجارته التي اعتادها من رمي خيار الأمة، بالتعصب وعدم الثقة، من أجل أنهم قاموا لله تعالى برد بطلان المبطلين، ولا بأس كذلك أن يرميني فوق ما رماني به من النذالة والبهتان بما شاء له قلمه وعلمه، ولست أستشهد لنفسي بألوف المصلين ورائي في المسجد الحرام، وإنما حسبي رضاهم وكفى. وليغضب عليّ بعد ذلك الكوثري ما شاء أن يغضب، وليسبني ما شاء له السب، وليشتمني ما شاء له الشتم، فأنا أجلس في حلقة تدريس التفسير والحديث في المسجد الحرام أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى، وأؤم الناس في الجمع والأعياد والجماعات، نيابة عن إمامه الأول، وأخطب الجمع والأعياد على منبر المسجد الحرام على ألوف الحجيج والمصلين، وأدرِّس الحديث متنه وفقهه بدار الحديث المكية، وحسبي ذلك كله في رد شتائم الكوثري وبذاءته. الكوثري والغلو!! يغلو الكوثري غلواً لا يقبله ذو عقل منصف في إمامه أبي حنيفة، بما نظن أن أبا حنيفة لا يرضى مثل هذا الغلو والاطراء عملا بحديث (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (2) . ويقول تعالى: " لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ " (3) وإذاً فأبو حنيفة كسائر الرجال له ما للناس وعليه وما عليهم، فليس هو كما زعم الزاعم فيه أنه لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين مثل ما ظهر له من الأصحاب والتلاميذ، ولا أنه لم ينتفع العلماء وجميع الناس بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة والمسائل المستنبطة والنوازل والقضاء إلى آخر ما حشى به كتابه هذا المحب الجاهل الذي خير منه عدو عاقل، يضع الأمور في ميزان العدل والانصاف، ويقول: إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم، وأن كل مؤمن له حسنات وسيئات كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فأبو حنيفة كسائر الناس، له ما كسب وعليه ما اكتسب.

_ (1) سورة الإسراء: 20 (2) متفق عليه (3) سورة النساء: 171

أزهر عصور الإسلام عصر اللامذهبية

أما السر الذي يحكيه الكوثري عن ابن الأثير بأمانة أو بغير أمانة، وشكنا في أمانته أنه لم يجرؤ أن ينقل في لفظ المجد ابن الأثير، وقد عرفنا أمانة الكوثري في تأنيبه للخطيب وحسبك منه بهت أنس بن مالك بالخرف والأمية واتهامه براوية ما يعلمه الرسول في قتل اليهودي، وقاتل الجارية الأنصارية بغير بينة، وأن أحد رواة الصحيحين أبي عوانة اليشكري وضَّاع - أي كذاب، حسبك في أمانته هذا إذا نقل نصوصا بألفاظها، فكيف إذا عدل عن النص إلى المعنى؟ كيف يكون أمينا عليه عند من عرف حاله هذه؟ هذا السر الذي يتكثر به الكوثري أنه ما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا يعبدون الله على فقه هذا الإمام - يعني أبا حنيفة - لو لم يكن لله سر خفي في ذلك، هذا السر الخفي عند الكوثري ومن نقل عنه هو حصاد التتار للملايين من هؤلاء الأتباع حصد القمح والشعير، وهذا السر هو سوم الجهريين من الروس والشيوعيين لهؤلاء الأتباع العابدين لله تعالى على مذهب هذا الإمام سوم الماشية التي تقتنى للحرث والسقي والحلب والذبح هذا السر هو شيخوخة الدولة العثمانية بعد الفتوة، حتى اندثرت وخلفتها حكومة لا دينية، طردت وكيل المشيخة الإسلامية إلى حيث لا رجعة له، إلى بلاد آمنت بمدنية مادية لا أثر للروح والدين فيها! تقول اللامذهبية التي يبهتها الكوثري بأنها قنطرة اللادينية تقول له ولأمثاله كلمة صريحة صادقة: إن أزهر عصور الإسلام هو عصر اللامذهبية، عصر الصحابة والتابعين إذ كانت هداية الناس وبصيرتهم مقتبسة من الكتاب والسنة، وإذ لم يكن هناك فيهم من يقول: الأصل كلام أصحابنا: فإن كان هناك ما يعارضه من القرآن تأولناه، وإن كان هناك حديث معارض رددناه كرد حديث أنس في رضِّ رأس اليهودي الذي رض رأس الأنصارية لأجل نقل عن أبي حنيفة (ولو ضربه بأبا قبيس) ، كانت خير عصور المسلمين عصر الصحابة والتابعين، حيثلا مذاهب تُرَدُ لأجلها نصوص الكتاب والسنة. فلما انحدر المسلمون إلى هو ة التقليد وصار فيهم من يقول: الأصل كلام

أسباب تدهور الإسلام وأهله

أصحابنا، ونرد ما خالفه من كتاب وسنة (1) دالت دولة المسلمين واستولى عليهم من لا يقيم للإسلام وزنا وإن تظاهر به لإسكات العامة، ثم كانت المصائب أتخم بها بطن التاريخ من غزو التتار لشرق البلاد وفيهم أتباع مقتدي الأمة وقدوة الأئمة، وغزو الافرنج للشام ومصر، وقبلها تنصير مسلمي الأندلس، ثم تنفس الإسلام بحيويته الكامنة؛ فكان طرد الفرنجة من الشام وشواطئ مصر وغزو الترك لشرق أوروبا وفتح القسطنطينية. ثم فترت همة الإسلام بشؤم التقليد، والإعراض عن الكتاب والسنة، حتى كان ما نراه اليوم وقبل اليوم من استيلاء الدهرية الأوروبية على معاقل الإسلام وحصونه ودياره من الهند وأندونيسيا وشواطئ إفريقيا؛ الجزائر وتونس ومراكش وطرابلس ومصر والشام والعراق وأطراف الأمبراطورية العثمانية وارتماء تركيا الحديثة إلى أحضان أوروبا ودهريتها وخلاعتها. كل هذا - وربك أيها القارئ - بشؤم وترك هداية الكتاب والسنة، وآخر الطوام خروج تركيا الفتاة وأعني رجال حكومتها عن دين الإسلام الصحيح والمحرف وإعلانهم دهرية الحكومة وأنها لا دين لها؛ فهل كان هذا من عواقب اللامذهبية الذي يأخذون دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أو هو شؤم التمهذهب بغير بصيرة ولبس الدين مقلوبا، وقياس المرأة المسلمة الشافعية التي تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله تعالى، في حل نكاحها على اليهودية والنصرانية، وجعل طول "الذَكَر" أو قصره من مرجحات الإمامة في الصلاة فيقدم طويل الذكر أو قصيره إماما على من ليس كذلك، وأخيراً: إن الأصل كلام أصحابنا، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وما خالفه من

_ (1) ومثلها عبارة الكرخي: كل آية أو حديث ليس عليه أصحابنا فهو منسوخ أو مؤول. وهذا الكلام خطير يجعل أقوال الناس - وبعضهم مجهول الحال أو العين - الحكم على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى فيه: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى". وهذا أسهل ممن جاء بعدهم ممن جعل للأحناف قواعد خاصة لتصحيح الحديث وتضعيفه، وجعل قواعدهم مقدمة على تصحيح وتضعيف المحدثين ... إلخ.

طريق العز والسؤدد بالتوجه إلى الكتاب والسنة

كتاب أوَّلناه؛ ومن سنة رددناه كرد حديث أنس في قتل قاتل الجارية بما قتل به أنه من تخريف أنس الذي شاخ وخرف فروى لنا قتل النبي ليهودي بلا بينة ولا اعتراف، ورواية الاعتراف يرويها قتادة المدلس، الذي لم يعرف البخاري تدليسه، وعرفه أذكياء: ولو ضربه بأبا قبيس، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وفي أصحابي من يبول قلتين لتقذير حديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وإذا كانوا في سفينة كيف يتفرقون لرد حديث: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا و ... و ... وأن القرآن الذي نسمعه ليس إلا صوت القارئ ونغمه، ليس هو كلام الله فليس لله كلام بيننا!! وإنما هي أصوات محدثة ليس من الله بدأ، ولا إليه يعود وإن إيمان السكير العربيد مثل إيمان جبريل وميكائيل ومحمد وأبي بكر وعمر ... إلخ. كل هذا وأضعافه كان سبب ضعف الإسلام؛ وزوال دوله وقوته وعزته، وتحكم الكفار في مصائر أهله، وسومهم سوء العذاب. وليس بين المسلمين اليوم إلى يوم القيامة وبين العز والسؤدد ومزاحمة ركب الحياة سوى التوجه إلى كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهما والعلاج بأدويتهما في تصحيح ما فسد من عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم ودينهم ودنياهم بلا تقيد بأحد معين كائنا من كان، سوى التقيد برواية الثقات منهم وإيضاح ما أبهم مما أثر من علم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. وقد حفظ الله القرآن فضلا منه، وإعذارا بنصه وحروفه وكلماته ومعناه، وقيض لما فسره من السنة النبوية من باعوا أنفسهم لله تعالى في تدوينها وتمحيصها وتهذيبها وتبويبها للتناول، وما على الناس إلا الاهتداء والعمل والاقتداء واليقظة بعد طول المنام والغفلة والجهالة، أخذ الله بأيدينا وقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا إلى سلوك الصراط المستقيم آمين. (9) يعجب الكوثري عجبا يبرر به جرح رواة حكاية الخراساني الذي جاء إلى أبي حنيفة ليسأله عن مائة ألف مسألة كما زعم، وقول أبي حنيفة له: هاتها، ويقول: إنها أسطورة ومخالفة للمعقول ونقول معه إنها كذلك، ولكن المسؤول عن مجازفتها ومخالفتها للمعقول وأسطوريتها هو الخراساني قائلها، وأبو حنيفة مستعملها لا ابن

عيينة، راويها ولا من رواها عن ابن عيينة. وفرعون عندما قال لهامان: "ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (*) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"، كان السخف في قوله وتصوره وعقله لا فيمن حكى هذا السخف وذلك الهراء عنه، فالمسؤول عن سخف السؤال عن مائة ألف مسألة: هو الخراساني السائل والمستمع المتهيء للإجابة، فالانصاف تحميل كل مسؤول مسؤوليته عن عمله، لا تبرئة المجرم وتحميل جرمه للبريء. ولو كنا نكذب الرواة الذي يروون جزاف المجازفين، وحماقة الحمقى، وإغراب المغربين، لما صح لنا شيء عن مجازف ولا أحمق ولا مجنون ولا دونت الغرائب والعجائب. كذلك حكاية كتابة ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، حينما كان أبو جعفر بالمدينة، بشهادة حماد ابن أبي سليمان عنده على قول أبي حنيفة بخلق القرآن، وأن أبا جعفر أمر بضرب عنقه إن شهد عليه آخر مع حماد، يحاول الكوثري ردها بما جاء فيها: أن أبا جعفر كان بالمدينة، فنسج له خياله أن ذلك كان في أيام هشام بن عبد الملك في العصر الأموي قبل أن تولد الدولة العباسية بزمن ليس باليسير، وقبل أن يعرف أبو جعفر؛ فإن كان في الدنيا عجب عجاب فهذا نموذج منه، وإن كان في الدنيا قلب للحقائق وإنكار للشمس في ضحى النهار، فهاك مثالا له، كأن أبا جعفر المنصور العباسي لم يدخل المدينة ولا وطئتها قدماه أيام خلافته لا في حج ولا زيارة ولا غيرها، ولا عرف المدينة إلا في عهد هشام كما تخيله الكوثري، وكأن ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بلغ من البلاهة وهو القاضي الذي يعرف من يكتب إليه ومن بيده تنفيذ ما يكتب، فيكتب إلى رجل مدسوس مغمور لا يملك من سلطة المسلمين والحكم فيهم قطمير ولا نقير؛ يكتب من الكوفة التي هو قاض فيها، متعديا عامل الكوفة وأميرها ومتعديا ملك المسلمين وخليفتهم حيث هو إلى رجل ليس له من الأمر شيء، هو أبو جعفر المنصور في عصر هشام بن عبد الملك الأموي، ربما كان فتى يطلب العلم ليس بيده من السلطة ولا سلطة شرطي، فيكتب إليه قاضي الكوفة في

ما ذكره أبو الحسن الأشعري عن أبي حنيفة من القول بخلق القرآن

مسألة استتابة فيها ضرب عنق! يا للهذر ويا للمحششة والأفينة! (1) . ثم يتصور الكوثري جواب أبي جعفر المنصور حينئذ الذي ليس بيده من الحكم تقليم ظفر أن يكتب إلى قاضي الكوفة بضرب عنق من قال بخلق القرآن، كأن القاضي ورواة الحكاية بلغوا من الجنون والهذيان ما يرثي لهم، كل هذه المضحكات المخزيات المبكيات يولدها الكوثري من لفظة: (المدينة) التي جاءت في الحكاية ليسوغ له رمي رواة الحكاية بالحمق الذي يتندر به ويماجن المجان به، أن يرووا حكاية أبطالها ومسرحهم وفصولهم لا تكون إلا في العصر العباسي، فيروونها في العصر الأموي، عصر هشام ابن عبد الملك جهلا منهم بألف باء التاريخ والواقع، من أجل أن الرواي روى فيها: أن القاضي قاضي الكوفة كتب إلى أبي جعفر المنصور العباسي الخليفة بالمدينة؛ فيحلل المحقق الكوثري من كلمة (بالمدينة) أن يكون ذلك في عهد هشام بن الملك الأموي قبل أن تولد الدولة العباسية، وقبل أن يعرف أحد الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور بالخلافة أو الملك، وأخيراً: ما لنا ولمناقشة هذه الهزيلة المسرحية حسب تصوير خيال الكوثري لها، وإنما نريد أن نسأله عما جاء في كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري من روايته عن حماد بن أبي سليمان لما بلغه قول أبي حنيفة بخلق القرآن: أبلغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من دينه (أو ما هذا معناه) . نريد تأنيبا شديدا للأشعري نسمع منه طرائف علم الكوثري فلعله يفتح له بابا من الرزق نضب منه معين تأنيب الخطيب، ولعلنا نسمع فيه نذالة الأشعري وبهته وحسده لأبي حنيفة من أجل حرمانه من القضاء الذي فاز به الحنفيون وتحسر عليه أهل الورع والتقوى من رواة الأخبار، التي جاءت في بيان حال أبي حنيفة، فحملهم الحسد أن يقولوا في أبي حنيفة ما ليس فيه، وعندما يخرج لنا تأنيب الأشعري نذكر له

دعوة الكوثري للمباهلة

ما جاء عن أبي حنيفة في كتاب "مشكل الحديث" لابن قتيبة ليخرج لنا تأنيبا ثالثا لابن قتيبة، ثم ما جاء في تواريخ البخاري الثلاثة، والضعفاء له، والضعفاء والمتروكين للنسائي، وتاريخ ابن أبي خيثمة، والساجي والخلال وما جاء في كتاب الحج للترمذي في باب إشعار الأبل، وما جاء في المحلى لابن حزم في كتاب الحج وغيره؛ وما جاء في الانتقاء لابن عبد البر وغيرها وغيرها، لنسمع طرائف من العلم ما كنا لنسمعها، لو لم نثر هذا الكاتب اللوذعي ونهيجه بنقل ما سجله التاريخ من كلام معاصري أبي حنيفة فيه، والحَكَم بينهم هو الله يوم القيامة. دعوة الكوثري للمباهلة وإن عودة الكوثري إلى رمي المؤمنين بالله وبما جاء من صفاته في القرآن والسنة، أنهم محددون لله ويصفونه بالجلوس والمس والحركة، وتجويز استوائه على ظهر بعوضة، إلى آخر ما هذى به. سبق الكلام على هذا البهتان وأجبنا عن ذلك الهراء ودعوناه إلى المباهلة ليحكم الله بيننا وبينه، أننا نؤمن بالله على الوجه الذي أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، مع التنزيه ونفي التشبيه، ولا تلزمنا لوازم النفاة الجعدية الجهمية المريسية، ونقول لمن يلزمنا إياها: سبحانك هذا بهتان عظيم. فإن شاء أن يباهل على ذلك، باهلته أنا أمام بيت الله تعالى وقت السحر وليتخير له ما شاء من ضريح أو معبد أو وثن أو مشهد وكفى بالله شهيداً، ونمر على ما وصف به خيار خلق الله، الذين يؤمنون بصفات الله تعالى كما أخبر بها بأنهم أهل الضلال الأغبياء والطغام، نمر على ذلك مر الكرام، كذلك ما وصف به الكوثري الخطيب لروايته ما جاء عن الأولين في تاريخه عن أبي حنيفة بأنه سخيف من سخفاء الرواة، ونعرض عن تناقضه إذا أراد تكذيب هشام بن عروة، فحينئذ يكون الحطيئة ثقة معتمداً عنده، ولسنا نعجب أن يكون الحاكم عند الكوثري بالغ التخليط من أجل أنه روى في مستدركه الذي قيل إنه كان مسودة لم يبيض فوقع فيه عدة أحاديث قابلة للتمحيص لو أمهلته المنية لأعاد النظر فيه، والعلماء قبلوا الحاكم عالماً راوياً وناقداً للرجال، ونقلوا أقواله في ذلك واعتمدوا إلا عند الكوثري في القرن الرابع عشر لنقله ما قيل في أبي حنيفة.

الصحابة والتابعون أعرف بالإيمان وبالكتاب والسنة من إمامه

وقبول الذهبي لتوثيق الحاكم لا قيمة له عند الكوثري، لأن الذهبي عند الكوثري كالببغاء ردد قول الحاكم وتابعه بلا فحص مباشر، فلا يكون كلامه من كلام أهل الشأن المعاصرين للراوي فليسقط توثيق الحاكم وتوثيق الذهبي معه (1) ، لأن الكوثري أسقطهما ولأنهما لِرَجُلٍ روى ما سجله التاريخ عن رجل عرفه أهل عصره، وجاء الغلاة فقالوا فيه: إمام الأئمة والإمام الأعظم وفقيه الأمة الأوحد ... إلخ. وعندما يحتاج الكوثري إلى اتهام هشام بن عروة أحد رجال الكتب الستة، بنقل لا يصح عن مالك يعتمد الخطيب وينقل تلك الفرية، وأعاد الكوثري رمي أهل السنة من الصحابة والتابعين الذين يقولون إن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، لأنهم لم يقولوا إن إيمان السكير العربيد قاطع الطرق كإيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فعاد يرميهم بالانحياز إلى طوائف الاعتزال والخوارج، شاعرين أو غير شاعرين. فنؤكد للكوثري أن هؤلاء الأئمة، من الصحابة والتابعين وتابعيهم أعرف بالإيمان وبكتاب الله تعالى وبالصراط المستقيم وطريق السنة والجماعة، وبما خالف ذلك من طرق الاعتزال والخروج، أعرف بذلك منه ومن إمامه ومن سائر المرجئة والجهمية والجعدية والمريسية، فليطمئن خاطرا أو ليحترق بما شاء من حطب الغيظ والحقد، ولينبزهم بما شاء له الهوى من ألقاب الضلال والحشو والغباء ... إلخ ما منحهم به مما جاد به عليهم من أدبه ونزاهته. لو كنت أعلم أن ما علقت به على طليعة الأستاذ اليماني أن سيرميني بالنذالة والبهت التي يكذبه فيها إمامتي بالمسجد الحرام أمام بيت الله الكعبة المشرفة بألوف المسلمين حجاج ومجاورين بلد الله ولكن: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليَّ لئامها

_ (1) هنا يرد الكوثري كلام الذهبي ويسقط منزلته بين أهل الفهم والدراية وكذلك جميع كلامه في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن إن جاء إلى الرسالة المزعومة جعل يكيل المدح للذهبي!! ودون إثبات رسالة الذهبي خرط القتاد.

رمي الكوثري المؤلف بالنذالة والبهت والعداوة لامامه والجواب عليه

لو كنت أعلم أنه سيرميني بالنذالة والبهت، وأنه سيرميني ويرمي خيار خلق الله من أتباع سلف الأمة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل مع التنزيه التام- بأنهم الضلال الطغام الأغبياء، أقول لو كنت أعلم ذلك ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لتركته يحترق في غيظه ويتفتت من حنقه وحقده من خيار خلق الله تعالى، وكنت التزمت النهي في قول الله تعالى: " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (1) . وأخيراً فليتهمني بما شاء من ألقاب النذالة؛ وليبهت الخطيب بما أحب من تسخيف وتكذيب؛ والحاكم بما شاء من تخليط، والذهبي بما شاء من تقليد أعمى ومتابعة بغير فهم ولا بصيرة؛ وأبا نعيم والبيهقي وأبا الشيخ بالتعصب وعدم الوثوق بهم وأهل السنة الذين يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل السنة الذين يؤمنون بزيادة الايمان ونقصه بسبب الطاعات والمعاصي اتباعاً لنصوص الكتاب والسنة، ولا يقولون إن إيمان السكير المعربد، كايمان جبريل وميكائيل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فليرم كل هؤلاء بالضلال والغباء والحشو والطغامية، حتى يبرد قلبه من النار التي أحرقته لبيان حال إمامه وما قاله فيه معاصروه فمن بعدهم بمبلغ علمهم واجتهادهم الذي يؤجرون عليه ولو أخطأوا ونسوق اليه بشرى أمل يكتب على رجائها تأنيباً آخر لحافظ الأندلس فيما قاله من نفسه أو أثره عن غيره مما لا ينقص عما نقله الخطيب إن لم يزد عليه، فنرى ماذا يتحف ابن عبد البر به من سباب وشتم وتجريح ثم قد نتمادى بإمداده بأسباب رزق له بما ننقل عن البخاري في تواريخه الثلاثة وضعفائه؛ وعن النسائي وعن الترمذي وعن كتاب الوتر لمحمد بن نصر المروزي، وعن كتاب مشكل الحديث لابن قتيبة والضعفاء والمتروكين لابن الجارود ممن ترجموا إمامه وبينوا حاله، فإن رمانا بعداوة إمامه تمثلنا له بالمثل المشهور: عدو عاقل خير من محب جاهل، فيكون عليه وحده تبعات ما أوجب صنيعه من اثارة مدفوعات الدفاتر، ودخائل الأثار وما صرح به علماء الجرح والتعديل الذي لا تأخذهم في الله لومة لائم

_ (1) سورة الأنعام: 108.

حكم القاضي لا يحل الحرام

فقالوا ونصحوا وبينوا وكتبوا ما حفظه عنهم التاريخ وما كنا نحب أن تثار لولا غلوه الجاهل وحبه الأحمق وجنونه على حد تعبير بعضهم فيه، وان كانت المسألة لا تعدو عند من دقق أن تكون مورد ارتزاق لمن أغلقت في وجهه سبل العيش المعتاد الهني الرغد. يتمدح الكوثري بما نقل عن ابن رجب أن مذهب أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص في الحديث متناً وسنداً، وأن ذلك احتياط بالغ في دين الله، ويصور ذلك بأن يرد سندان أحدهما بذكر راو والثاني بحذفه، فيعتمد الحذف ويجعل الخبر منقطعاً ويطرحه، ولم يقدر الكوثري أن يعين وجه بناء مذهبه على المرسل المتقطع، وفَرَّ عن ذلك فرار الجبان من مواجهة رماح الشجعان. ولا أدري ما هي الزيادة أو النقص متناً وسنداً في حديث أم سلمة في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليّ فأحكم بينكمْ بنحو مما أسمع، ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَنَ بحجته من بعض فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذ أو ليدع " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فأخذ العلماء من ذلك أن حكم القاضي لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال، وأما صاحب العقلية الجبارة والرأي الحسن، فرأى حكم القاضي يحل الحرام ويحرم الحلال، وأجاز لمن شهد زوراً بطلاق امرأة وأثبت القاضي طلاقها بهذه الشهادة الزور أن يتزوجها ذلك الشاهد زوراً وتحل له ليجمع عند الله بين شهادة الزور في طلاق من لم يطلق وينكح الفرج الحرام الذي حلله بشهادة الزور، وهذا من الاحتياط البالغ عند صاحب العقلية الجبارة والرأي الحسن في الدين، ولا أدري ما هي الزيادة والنقص متناً وسنداً في حديث جعله - صلى الله عليه وسلم - للفارس ثلاثة أسهم من الغنيمة، وللراجل سهم حتى رده صاحعب العقلية الجبارة، والاحتياط البالغ للدين بقوله: لا أُفَضِّل بهيمة على رجل مسلم- والعلماء يعلمون أن ذلك ليس من باب تفضيل البهيمة على الرجل المسلم، وإنما ذلك من تفضيل مسلم صاحب فرس أنفق عليها وأبلى بها بلاء حسناً في الجهاد على رجل راجل ليس معه هذه الفرس ولا له هذا البلاء، فلذلك أعطى الفارس بسبب فرسه لنفقته عليها وبلائه بها ثلاثة أسهم، فزيد سهمين على الراجل الذي لا فرس له، وهذا عَدْل جاء

حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا بما معه من القرآن

به الشرع وتشهد له الفطرة إلا عند صاحب العقلية الجبارة، ولا أدري ما الزيادة أو النقص في السند أو المتن، في حديث سهل بن سعد الساعدي في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا بإمرأة على ما معه من القرآن فرده صاحب العقلية الجبارة باشتراط أن يكون الصداق ربع دينار فأكثر، قياساً لحل الفروج على قطع اليد في السرقة، فأين البصرة من الدار البيضاء؟ ولا أدري ما هو القرآن أو الإجماع الذي دل على حديث نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وحديث نقض الوضوء بالقيء والرعاف الخ، وليست القهقهة في الصلاة بأفحش من قذف المحصنات الغافلات في الصلاة وهم لا ينقضون به الوضوء، فاين القياس والعقلية الجبارة والرأي الحسن؟ (10) أسرف الكوثري في جرح رجال أسانيد الخطيب الذين روى عنهم ما قيل في مثالب أبي حنيفة، واعتذر في ترحيبه بتأنيبه بأن روايتهم ساقطة بنفسها، لأنها تنافي ما زعمه من التواتر على رفع إمامة أبي حنيفة إلى مستوى لا يؤخذ عليه شيء ولا يناله خطأ ولا يتطرَّق إلى عصمته مساس، وهو الذي رمى أنس بن مالك خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخرف والأميَّة والكذب على الرسول في قتل قاتل الجارية الأنصارية بغير بينة بزعمه ولا إقرار سوى رواية قتادة بزعمه المتهم عنده بتدليسه لرواية الاعتراف لأن إمامه قرر برأيه الحسن- وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ - أن القصاص لا يكون إلا بالسيف ولو ضربه (بأبا قبيس) (1) ، وجعل ذلك من باب التخيير بين أقوال الصحابة، وإن كانت المسألة ليست من باب التخيير بين الأقوال، وإنما هي رد صريح لرواية صحابي من أجل رأي حسن أو قبيح، لمن يزعم أن الدين إنما هو الرأي الحسن، فإذا سألناه من هو الصحابي الآخر الذي رد إمامه رواية أنس بن مالك لأجل قوله أو روايته؟ فانا ننظر الجواب لنعرف العذر من رمي أنس الخرف واختلاق الرواية، وأن أبا حنيفة رد روايته لرواية صحابي آخر فيكون تخيراً، ولا نعيد لمز الشافعي بالخلاف في قرشيته وتبطيء عمله الذي لا يسرع به نسبه؛ ومالك بخلوه إلا من سكنى المدينة في وقت لا فضل

_ (1) إشارة إلى أمر لغوي أخطا به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهو أمر يسير لا يضره، ولكن المتعصّبة من أتباعه ركبوا الصعب والذلول لدفعه عنه مما أدى لجعله محلْ تَنَدِّرٍ من غيرهم.

اتهام الكوثري الشيخ اليماني بعداوته لأبي حنيفة

فيه لسكناه، وأحمد بن حنبل بعدم تمحيص الرواية وعدم الغوص فيها وإن كثرت رواياته إلخ. فهذا التواتر الذي رفع به إمامه فوق متناول النقد؛ وفوق درجات العصمة، وأنه أوحد الأمة وقدوة الأئمة، هذا التواتر هل كان يعرفه من أَرَّخَ أبا حنيفة؛ كالبخاري في تواريخه الثلاثة وضعفائه، ومحمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل والوتر"، وابن قتيبة في "مشكل الحديث" له. والترمذي في جامعه في باب الاشعار، والنسائي في "ضعفائه ومتروكيه"، وابن الجارود في "ضعفائه ومتروكيه"، والغزالي في "منخوله" أو "مستصفاه" إلى ابن عبد البر في "انتقائه". ويتهم الكوثري الشيخ اليماني صاحب التنكيل بعداوته لأبي حنيفة من أجل تكلُّمه على مغالطات الكوثري في تأنيبه، أوبيان تلبيساته في هذا الكتاب (1) ، وفات الكوثري أنه إن صحت تهمته للشيخ اليماني بهذه العداوة، فهي من باب عدو عاقل وهو خير من صديق جاهل، وحذف الشيخ اليماني متون أسانيد الخطيب عند كلامه على رجالها هو من باب العقل والحزم، وترك الحكم الفصل في ذلك لعلاَّم الغيوب الذي يأجر مجتهدهم وإن أخطأ أجرا واحداً ومصيبهم أجرين، فان كلام معاصري أبي حنيفة فيه ليس بأكثر ولا أشد مما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من خلاف أَدَّى إلى القتال بينهم، ومع هذا نعتقد أنهم جميعاً مجتهدون: إما مصيبون فلهم أجران، أو بعضهم مخطىء مع الاجتهاد فله أجر، ولسنا في كل وقت وبدون حاجة ضرورية إلى ذكر اختلافهم نذكره، وإن ذكرناه لم نغفل عن فضلهم وحسن بلائهم في الإسلام وعذرهم فيما نظن أنهم أخطاوا فيه. فكذلك مخالفوا أبي حنيفة وجارحوه والطاعنون عليه على حد تعبير ابن عبد البر، هكذا يرى الشيخ اليماني ما جرى بين معاصري أبي حنيفة من الكلام فيه بسبب ما علموه عنه أنهم في ذلك مجتهدون في النصح للاسلام إن أصابوا فلهم أجران؛ وإن

_ (1) إن نغمة اتهام كل من يرد خبراً نسب للإمام أبي حنيفة بالعداوة والبغضاء لهذا الإمام شِنْشنة معروفة عن الكوثري وطغمته مع أن من يردّ فريه أو يدفع باطلًا يكون موالياً لهذا الإمام الجليل أكز من الذين يريدون أن يثبتوا له ما لم يثبت للأنبياء من الفضائل.

متون في الطعن في أبي حنيفة نقلها المصنف عن الحافظ ابن عبد البر

أخطاوا فلهم أجر الاجتهاد، وبرفع عنهم وزر الخطأ، لذلك كف عن ذكر المنقول عنهم في ذلك، لهذا ولعلمه بما جاء في الحديث الصحيح الذي فيه (إن الله يجمع المؤمنين على قنطرة على الصراط قبل دخول الجنة، ويصفي ما بينهم من خلاف وتبعات، يتبعها العفو والتسامح والصفا، ولا يدخلون الجنة إلا وقد نُقُّوا وهُذِّبوا مما كان بينهم) ، (1) لذلك سكت الشيخ اليماني عن ذكر ما كان من معاصري أبي حنيفة من طعن أو جرح، فإن كان الإمام سفيان الثوري قد قال في أبي حنيفة أنه ضال مضل، لما بلغه عنه من القول بخلق القرآن الذي يدافع الكوثري عنه فيه، اخترعه من فلسفة دال ومدلول وحقيقة ومجاز مما يخرج منه أنه ليس لله تعالى بيننا كلام نسمعه من القارىء أو نقرؤه في المصحف، وإنما ذلك دال ومجاز عن كلام الله تعالى، فإذا كان الثوري لم يفهم هذه الفلسفة واشتد كلامه في أبي حنيفة مجتهداً في ذلك، أصاب أو أخطا، فهو مأجور على كلا الحالين، والموعد عند الله يوم القيامة وعلى قنطرة الصفاء قبل دخول الجنة يصفى ما بينهما، واليماني أحسن كل الإحسان بالسكوت عن تلك المتون التي هزت أعصاب الكوثري، فلم يشأ أن جهزها مراراً وتكراراً، أو يهز أعصاب غيره بلا داع. فإذا أراد محب أبي حنيفة- ولا أقول مجنونه على حد تعبير بعضهم- أن نذكر له هذه المتون فسأذكرها له من تاريخ الخطيب بل من الانتقاء لحافظ المغرب ومحدث الأندلس أبي عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وليخلع غليَّ الكوثري ما شاء من ألقاب النذالة والبهت في كتاب يعرضه في سوق الوراقين ويجود عليه بنفقات طبعه بعض أهل السخاء، ويكون لي من وراء ذلك ربح صَرْف الكوثري عن الخوض في أعراض خيار خلق الله تعالى. أما ما سيفيضه عليَّ الكوثري من سبابٍ وشتائم فهي رخيصة عندي في مقابل ما أربحه من صرفه عن هذه الأعراض الطيبة، وأكتفي بمعرفة من يصلي ورائي مقتدين بي في المسجد الحرام جمعة وعيداً وجماعة، ومعرفة من يخالطني في دروسي وأحوالي.

_ (1) أخرجه البخاري في "المظالم" من صحيحه.

متون في الطعن في أبي حنيفة نقلها المصنف عن الحافظ ابن عبد البر

يكفيني ذلك كله ولا أحتاج أن أقول مع ذلك متمثلا بقول الأول: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل (1) وأتمثل بقول الأخر: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليَّ لئامها وسأشرع في نقل ما أريد نقله من كتاب ابن عبد البر للغرض الذي شرحت آنفاً، مع إيماني بأن ما جرى من معاصري أبي حنيفة ومنه ليس بأشد مما جرى بين الصحابة، والكل مؤمنون وخلافهم عن اجتهاد يؤجر فيه أجرين والمخطىء أجراً واحداً إن شاء الله تعالى. ولا نكابر كالكوثري فندعي توتراً لا واقع له، ليكذب به الواقع الذي كاد يتواتر. قال ابن عبد البر حافظ المغرب: ونبدأ بما طعن عليه، لرده بما أَصَّلَهُ لنفسه في الفقه. صرد بذلك أخبار الآحاد الثقات، إذا لم يكن في كتاب الله تعالى، وما أجمعت الأمة عليه، دليل على ذلك الخبر، وسماه: الخبر الشاذ وطرحه، وكان مع ذلك لا يرى الطاعات وأعمال البر من الإيمان، فعابه بذلك أهل الحديث إهـ. فهذا كلام ابن عبد البر في أبي حنيفة، ورأيه فيه: أنه ردّ أخبار الثقات بما أصله لنفسه لا تابعاً في ذلك لأحد من السلف في اشتراط دلالة الكتاب والاجماع، ولا مستنداً في هذا الرد إلى معارضة كتاب أو صحيح من السنة أو إجماع إلخ. أقول معارضة ولا أقول باشتراط دليل من الكتاب لما يقبله من أخبار الثقات، فيطرح منها بزعمه ما لا دليل عليه بفهمه ويسميه شاذاً، فمن ذا الذي شرط في خبر الثقات هذا الشرط الباطل من سلف الأمة وأئمتها سوى أبا حنيفة فيما يقبله ويرفضه؟

_ (1) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها: لك يا منازل في القلوب منازل ...

أمثلة من السنة تدل على أن السلف كانوا يعملون بخبر الثقة خلافا لأبي حنيفة

ويا ليت شعري هل كان أبو حنيفة أعلم وأهدى من أهل قباء من الصحابة؟ الذين تحولوا في صلاتهم عن قبلة كانوا عليها متيقنين بها، لما أخبرهم مخبر ثقة أنه صلى مع رسول الله إلى الكعبة، فتحولوا كما هم ولا أدري هل كان عمال الزكاة الذين يذهبون لجبايتها وجمعها من سائر القبائل معهم إجماع أو دلالة من كتاب الله على أنهم رسُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم لأخذ زكاة أموالهم، ومن امتنع منهم عن أدائها إليهم كان يرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من يؤدبه ويخضعه لأدائها وإلا قاتله. فأين الكتاب والاجماع الذي مع هؤلاء العمال سوى صدقهم وأمانتهم؟، وعامله بخيبر لما بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتسلم منه شيئاً من التمر بأمارة (1) يعرفها الوكيل فلم يحتج مع هذا إلى دلالة كتاب أو اجماع، وهكذا رُسُلُ رسول الله إلى القبائل والملوك هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي، يذهب إليهم رسول واحد معه رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلقيها إليه من غير دلالة من كتاب ولا إجماع، تشهد له أنه رسولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى صدقه وثقته، إلى آخر ما طفحت به السّنة والسيرة وعمل الصحابة والتابعين، فتبين من هذا أنه أصَّل له أصلا انفرد به عن سائر المسلمن. فلماذا؟ ألا يغضب الثوري وابن عيينة ومالك من ذلك وحق لهم أن يغضبوا. وأما عدم جعله الطاعات وأعمال البر من الإيمان فالذين جعلوها من الإيمان أفقه بمعرفة نصوص الكتاب والسنة من أبي حنيفة خصوصاً وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعوهم باحسان وأعرف الناس بدينهم كمالك والثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد ومن سلك سبيلهم، وهم أبعد الناس عن الاعتزال والخروج والحرورية عن بينة وعلم وبصيرة، فليسوا منحازين إلى الاعتزال ولا الخروج، والحرورية كما رماهم بذلك محب أبي حنيفة أو مجنونه أنهم إذا جعلوا العمل من الايمان كانوا منحازين إلى الاعتزال والخروج شاعرين أو غير شاعرين. وكذب مجنون أبي حنيفة وافترى، فما منهم منحاز إلى الاعتزال والخوارج وإنما قالوا اتباعاً للكتاب والسنة والفطرة السليمة والعقل من أن إيمان السكير العربيد لا أن يكون كايمان جبريل وميكائيل إلخ. ولا أن إيمان آخر من يخرج من النار يكون كايمان الرسل وأولي العزم، حاشا ذا عقل أن يقول بهذا.

_ (1) العلامة والإشارة.

سرد ابن عبد البر أسماء الجماعة من الطاعنين فيه من الأئمة

قال ابن عبد البر: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيراً من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه، ويقول: الطاعات من الصلاة وغيرها، لا تسمى إيماناً، وكل من قال من أهل السنة: الايمان قول وعمل، ينكرون قوله ويبدِّعونه بذلك، وكان مع ذلك محسوداً لفهمه وفطنته اهـ. (قلت) وليست الفطنة والفهم مما يبدع بهما صاحبهما عند أهل السنة إذا جرى صاحبهما على قواعد السنة، ولم يشذ عن جادة الصواب من الكتاب والسنة. فترى ابن عبد البر أثبت تبديع أهل السنة لأبي حنيفة وانكارهم لقوله، وأما قوله: إنه كان مع ذلك محسوداً، فنرجىء معرفة أشخاص الحاسدين له، إلى أن نلقى ابن عبد البر يوم القيامة فنسأله: من هم؟ هل هم مالك والثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد والبخاري!! أو من هم؟ قال ابن البر: ونذكر في هذا الكتاب من ذمه، والثناء عليه ما يقف فيه الناظر على حاله. عصمنا الله وكفانا الحاسدين آمين رب العالمين (نقول معك: آمن رب العالمين) . قال: فممن طعن عليه وجرحه أو عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه في "الضعفاء والمتروكين": أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي. قال نعيم بن حماد، نا يحى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ، سمعا سفيان الثوري، قال: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: لعنه الله، إن كان (كاد) يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود شر منه. هذا ما ذكره البخاري اهـ كلام ابن عبد البر 1) .

_ (1) يوسف بن عبد الله القرطبي المالكي أبو عمر من كبار حفاظ الحديث، صاحب الرحلات الطويلة والمؤلفات الكثيرة. وكان يقال له: حافظ المغرب ولد سنة 368 في قرطبة. وكانت وفاته سنة 463 ب "شاطبة" وقد تَمَحَّلَ الكوثري في الإعتراض عليه لأنه قدم الإمام مالك والإمام الشافعي على الإمام أي حنيفة في كتابه "الإنتقاء" أضف إلى ما يضمره من عداوة لكل من خدم الحديث النبوي.

وليتحفنا الكوثري بِعَدِّه الثوري وابن عيينه، ويحيى القطان، ومعاذ العنبريَ ونعيم ابن حمادَ والبخاري وابن عبد البر، في عداد الحاسدين لأبي حنيفة، أما نحن فنصبر إلى أن يجمعهم الله يوم القيامة على قنطرة القصاص فيقتص لمظلومهم من ظالمه، وأما في الدنيا فنقول: رحم الله الجميع وتجاوز عن سيئاتهم وأخطائهم "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (1) ونقول: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (2) . وقال ابن عبد البر: وقد نقل عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في أبي حنيفة ما ذكر عن سفيان: شر مولود في الإسلام، وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف كان أهون. قال عبد البر: وروي عنه- أي عن مالك- أنه سئل عن قول عمر: بالعراق الداء العضال فقال: أبو حنيفة. قال ابن عبد البر: رَوَى ذلك كله عن مالك أهلُ الحديث، وأما أصحاب مالك من أهل الرأي فلم يرووا من ذلك شيئاً عن مالك اهـ. وابن عبد البر يعلم أن سكوت الساكت ليس حجة على رواية الرواي، وأن الحديث من أصحاب مالك، كابن وهب (3) ، ويحيى بن يحيى النيسابوري (4) والقعنبي (5) ،

_ (1) سورة الحشر: 10. (2) سورة البقرة: 134. (3) هو عبد الله بن وهب ابن مسلم. ولد بمصر سنة 125 روى عن نحو 400 شيخ من كبار المحدثين بمصر والحجاز والعراق وقد وثقه الإمام أحمد ويحى بن معين، وسماه الإمام مالك: الفقيه. وكان من أهل الصلاح والخوف من الله. وكانت وفاته بمصر سنة 197 وقد طعن به الكوثري وجعله من الرواة البعيدين عن الفقه غير المميزين.. فتأمل. (4) هو الإمام الجليل يحى بن يحى بن بكر التميمي النيسابوري ممن روى عنه البخاري ومسلم وجمع غفير بل لم يرو مسلم الموطأ إلا عنه. وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما أخرجت نيسابور تعد ابن المبارك مثل يحى بن يحى، وكان من اهل الورع الشديد. وكان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. (5) هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب المدني سكن البصرة وكانت وفاته بمكة سنة 221.

قول سفيان الثوري ووكيع في أبي حنيفة

والتنيسي، ويحي القطان وغيرهم من رجال الكتب الستة الذين رووا عن مالك هم أوثق من أصحاب الرأي من أصحابه فكيف سكت أهل الرأي ولم يخالفوا المحدثين إلا بسكوتهم؟ قال ابن عبد البر: وقال ابن الجارود في كتابه: في "الضعفاء والمتروكين": النعمان ابن ثابت أبو حنيفة: جُل حديثه وَهْمٌ، وقد اختلف في إسلامه ". قال ابن عبد البر: وهذا ومثله لا يخفى على من أحسن النظر والتأمل فيه. أقول: (1) نعم التشكيك في إسلام رجل من أهل القبلة ليس من قواعد الإسلام. فلنا ظاهر أهل القبلة، وباطنهم الى الله، وننكر ما يخالف الصراط السوي منهم، ونبين وجه الدين والسنة لمن خالفها، ولا نقول فيه: إنه الإمام الأعظم، ولا أنه قدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، ولم ينتفع بأحد ما انتفع به إلخ، هذا الغلو السمج. ونعتبر بما قال ابن الجارود: إن جل حديثه وهم (2) فلم يكن له من معرفة صحيح الحديث ما يرد به الزائد الى الناقص، ويتحكم في صحاح الأحاديث بالرد، بدعوى عدم دليل عليها من الكتاب والسنة، كما زعمه له الزاعمون. قال عبد البر بسنده الى أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن ابن مهدي: سألت سفيان- يعني الثوري- عن حديث عاصم، في المرتدة، فقال: أما عن ثقة فلا. قال ابن أبي خيثمة: وكان أبو حنيفة يروي حديث المرتدة عن عاصم الأحوال اهـ. ولا يحضرني الآن هذا الحديث فمن عرفه فليتكرم به مشكوراً! وبسنده الى وكيع قال سمعت أبا حنيفة قال: سمعت عطاء، إن كان سمعه- فدعوى أبي حنيفة السماع من عطاء موضع شك عند وكيع؛ فليستح من ادعى له سماع ثلاثين من الصحابة- من هذه المهاترة.

_ (1) القائل: هو المؤلف الشيخ عبد الرزاق حمزة. (2) ولابن الجارود سلف من أئمة الحديث في هذه الجملة؛ فراجع "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للشيخ ناصر الدين الألباني (4/78، 5/86) و (ص- 5) من رسالة التوضيح للأستاذ زهير الشاويش. التي قدم بها "شرح العقيدة الطحاوية".

قول ابن المبارك في أبي حنيفة وتركه إياه بعد أن عرفه

قال ابن عبد البر: وذكر الساجي في كتاب "العلل " أنه- يعني أبا حنيفة- استتيب في خلق القرآن فتاب، والساجي كان ينافس أصحاب أبي حنيفة. أقول: والعتب عليك يا ابن عبد البر إن كنت ترى منافسته لهم تحمله على الكذب على إمامهم، ثم تملاء كتابك بالنقل عنه، أو لعلّك أردت بذلك تأشيرة المرور فقط عند مجانين أبي حنيفة، قال ابن عبد البر: وذكر الساجي عن أبي السائب عن وكيع ابن الجراح قال: وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (قلت) لعلة خالفها إلى الرأي الحسن، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وبما أصله؛ من عَرْضِهَا على الكتاب والاجماع، وان شَذَّ بذلك عن صراط الصحابة والتابعين. ومن طريق الساجي، عن محمد بن نوح المدائني، عن معلى بن أسد، قلت لابن المبارك: كان الناس يقولون إنك تذهب إلى قول أبي حنيفة، قال: ليس كل ما يقول الناسُ يصيبون فيه، قد كنا نأتيه زمانا ونحن لا نعرفه، فلما عرفناه تركناه. (قلت) فهذا ابن المبارك شيخ شيوخ الجماعة ترك أبا حنيفة بعد معرفته به. وبسند ابن عبد البر إلى أحمد بن زهير: كان أبي يقرأ علينا في أصل كتابه حديث أهل الكوفة، وإذا مر بأحاديث عن أبي حنيفة لم يقرأها علينا، فهذا زهير بن معاوية شيخ شيوخ الجماعة يترك أبا حنيفة وأحاديثه، لماذا؟ وبسند ابن عبد البر إلى سفيان بن عيينة قال: كان أبو حنيفة يضرب بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمثال فيرده بعلمه، حدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار" فقال أبو حنيفة: أرأيتم إن كانوا في سفينة كيف يفترقون؟ هل سمعتم بشرّ من هذا؟ اهـ والحديث بالتثنية. والمثل المضروب لرده بالجمع، ولا بأس بذلك عند من يقول: ولو ضربه (بأبا قبيس) . قلت: ولمن يدافع عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: إفتراق كل شيء بحسبه، والسفينة لها مقدم ومؤخر وظهر وبطن، وجانب أيمن وأيسر ولها جوانب، ومن السفن ما هو كالمدينة، وذكروا منها ما على ظهره سباق خيل ومطبعة صحيفة أخبار. ولو عاش أبو حنيفة حتى رأى الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، التي هي مدن متحركة على ظهر البحر يضيع فيها الإنسان لسعتها وتعدد طبقاتها وغرفها، لعله كان

لا يقول: كيف يفترقان؟ وإن كان الحديث ليس على شرطه من دلالة الكتاب والاجماع عليه! قال ابن البر. وذكر الساجي عن أبي حاتم الرازي عن العباس بن عبد العظيم العنبري عن محمد ابن يونس قال: إنما استتيب أبو حنيفة لأنه قال: القرآن مخلوق، واستتابه عيسى بن موسى اهـ. فليكذِّب الكوثري الخطيب وليصدق ابن عبد البر أو ليكذبه مع الخطيب. وبسنده إلى أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري (وليس بوضاع كما افتراه عليه الكوثري) قال أبو عوانة: سمعت أبا حنيفة سئل عن الأشربة- يعني الانبذة المسكرة- فما سئل عن شيء إلا قال حلال، فسئل عن السكر فقال: حلال. فقلت: يا هؤلاء إنها زلة عالم فلا تأخذوا عنه. اهـ. وسيدافع مجنون أبي حنيفة عنه أن الخمر المحرمة إنما هي من العنب فقط، وإن كانت المدينة لا تعرف خمر العنب عندما نزل تحريم الخمر، وإنما كان خمرهم من البسر والرطب كما في حديث أنس وغيره. وأسند ابن عبد البر عن محمد بن جرير الطبري بسنده الى الحكم بن واقد: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار الى أن يعلى النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا، ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكلة لكفّا عن بعض الجواب ووقفا عنه، فنظر إليه وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما اهـ ص 147. فليردَّ أبي حنيفة ما في هذه الحكاية من علم طريف في السند والمتن، وهل تؤيد حكاية السائل الخرساني حامل المائة ألف مسألة، وهل استغراب الحكم بن واقد من جرأة أبي حنيفة من نوع استغراب ابن عيينة للجرأة على الفتوى فيما لا يعقل من المسائل، أو ذلك لون آخر، وعلى كل حال فهي مادة ليكتب عنها مجنون أبي حنيفة، ونرجو منه عذراً لابن عبد البر في إخراجها وليكن غير حسد الحكم بن واقد أو غيره من أحد رواتها، وفيهم امام المفسرين والمحدثن ابن جرير رحمه الله تعالى. وبسند ابن عبد البر ص 148 الى أبي أسامة حماد بن أسامة قال: مَرَّ قوم على رقبة- لعله ابن مصقلة- فقال: من أين جئتم؟ قالوا: من عند أبي حنيفة، فقال: يكفيكم من رأيه ما مضغتم، وترجعون الى أهليكم بغير ثقة اهـ.

ذم مسعر بن كدام

نقول لرقبة: لعلك لم تذق لذة الرأي الحسن، والعقلية الجبارة، التي عند قدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، فسميت ما سمعوا من رأيه مضغاً كمضغ العلك. وإنما الغريب رجوعهم عنه بغير ثقة، فهل كنت يا رقبة حاسداً للإمام الأعظم؟ أم كنت ناصحاً، والعجب أن يسكت هؤلاء الراجعون عن أبي حنيفة على كلام رقبة في أبي حنيفة، وما مضغوه من رأيه ورجوعهم منه بغير ثقة، فلم يعارضوا رقبة ولم يسكتوه، ولم يؤلفوا فيه كتأنيب الكوثري، ولكن ما سكت عنه هؤلاء الراجعون من مجلس أبي حنيفة، لا يمكن أن يسكت عنه مجنون أبي حنيفة، بل سترى الطرائف والظرائف منه في رقبة ومن دونه من رجال السند، حتى أحمد بن زهير، اللهم سلمه من لسانه وقلمه، واحفظ عرضه طاهراً من ولوغ الوالغين. قال ابن عبد البر ص 148. بسنده الى ابن عيينة، قال: مر رجل بمسعر بن كدام فقال: أين تريد؟ قال: أريد أبا حنيفة. قال: يكفيك من رأيه ما مضغت، وترجع إلى أهلك بغير ثقة. والمناقشة مع مسعر بن كدام كالمناقشة مع رقبة، أنه لم يذق طعم الرأي الحسن، ولم يعرف تلك العقلية الجبارة، فسمى سماعها مضغاً، ولكن العجب أن يكون الإمام الأعظم وقدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، عنده غير ثقة، سنرى ونسمع ما لم نر ولم نسمع، فلنتمهل حتى نرى تأنيباً جديداً، أو طبعة أخرى لتأنيب الأول يضم فيها ابن عبد البر خصما آخر لأصحاب العقول الجبارة، فضلا عن مسعر بن كدام، ورقبة، والثوري، وابن عيينة. قال ابن عبد البر ص 150: وذكر الساجي عن بندار ومحمد بن المقرى عن معاذ ابن معاذ العنبري عن سفيان الثوري قال: استتيب أبو حنيفة مرتين. اهـ ولعل الثوري ذلك الإمام الزاهد الورع التقي المحدث كان حاسداً للامام الأعظم ذي العقلية الجبارة، والرأى الحسن قدوة الأئمة ومقتدى الأمة الذيلم ينتفع بأصحاب أحد ما انتفع الناس بأصحابه (1) ، فنتركهم إلى قنطرة القصاص قبل دخول

_ (1) إن هذا الاطلاق من الكوثري يشمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يشمل أصحاب الصحابة والتابعين فهل يريد القول: إن الناس انتفعوا باصحاب أبي حنيفة أكثر من انتفاعهم بمن نقل=

الجنة ونقول: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (1) "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (2) . وذكر ص 151: عن أبي عبد الرحمن المقرىء قال: دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء غير مرة فلم أجبه. اهـ. وحسنا فعل أبو عبد الرحمن المقرىء إذ وقف مع سواد أهل السُّنة، والجماعة في الايمان ولم يقل: إن إيمان السكير كايمان جبريل وميكائيل. وذكر ابن عبد البر ص 151: عن أحمد بن سنان القطان قال: سمعت علي بن عاصم قال: قلت لأبي حنيفة: حديث إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسا- أي سهو اً- فأخذ أبو حنيفة شيئاً من الأرض ورمى به، وقال: إن كان جلس في الرابعة مقدار التشهد، وإلا فلا تساوي صلاته هذه- أي القشة التي أخذها من الأرض. ولا ندري ما هو الأصل الذي أصله أبو حنيَفة رحمه الله تعالى في ردّ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستدراك عليه وتصحيح ما يراه منها صحيحاً، وإبطال ما يراه منها باطلا، لا نعرف لذلك أصلا، إلا أن يكون ذلك هو الرأي الحسن، وحاشاه يقول ذلك (3) في العبادات، وأحسن الظن به، أنه لم يصدق حديث ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، غير أن التعبير الأبعد عن الايهام أن يقول: لعل ذلك لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فان صح فسمعاً وطاعة "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (4) وحينئذ يكون طعناً في صدق

_ = علم النبي - صلى الله عليه وسلم -!! أو أن انتفاعهم بأصحاب عمر بن الخطاب، وعلي بن أي طالب، وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم كان أقل من انتفاعهم بآراء أصحاب النعمان!! إن كان هذا مقصود الكوثري فسبحانك اللهم. هذا بهتان عظيم. (1) سورة الحشر: 10. (2) سورة البقرة: 134. (3) إن استغراب الشيخ عبد الرزاق حمزة أن يقول الإمام أبو حنيفة مثل هذا في غاية الانصاف والتماس العذر جزاه الله كل خير. (4) سورة النور: 51.

قول ابن المبارك في أبي حنيفة كان تهيما أو يتيما في الحديث

إبراهيم أوعلقمة أو ابن مسعود، وذلك كله أهو ن من تخطئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي كفر بالإجماع. وأسند ابن عبد البر ص 151: عن بشر بن المفضل قال: قلت لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" قال: هذا رجز؟! فقلت: قتادة عن أنس، أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين فرضَّ النبي رأسه بين حجرين، فقال: هذا هذيان. وعسى أن يكون بشر بن المفضل قد وهم في هذا النقل عن أبي حنيفة أوعَمَّنْ دونه فلا يقع في قلوبنا عن مسلم أن يقول مثل هذا، وأحسن محامله أن يكون شكاً في رواة الحديث، والعتب على ابن عبد البر أن يسكت على مثل هذا بعد روايته في كتاب كَتَبَهُ في فضائل الأئمة ومنهم أبو حنيفة!! وأسند ابن عبد البر ص 132 عن عبد الله بن عثمان قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: كان أبو حنيفة قديماً، أدرك الشعبي والنخعي وغيرهما من الأكابر، وكان بصيراً بالرأي يسلم له فيه، ولكنه كان تهيما (1) في الحديث. اهـ وإذن لم يعترف له ابن المبارك بادراك صحابي واحد، فأقدم ما عنده الشعبي والنخعي. والذي في النسخة تهيما في الحديث أي متهما فيه، والذي أحفظه فيما نقله محمد بن نصر المروزي يتيما في الحديث، أي قليل البضاعة فيه، وهذه أهو ن من ذلك، وأيا كان ابن المبارك لا يعترف لأبي حنيفة بعلم الحديث إلا يُتما أو اتهاما فيه، لا أنه امام فيه يرد ما شاء منه بما أصل لنفسه من أصول أو فطنة أو ذكاء، وإنما هي الجرأة التي انفرد بها عن الأئمة.

_ (1) هذا ما يقوله الإمام العابد المجاهد عبد الله المبارك عن منزلة الإمام أبي حنيفة في الحديث. فما هو رد الذين يجعلون ابن المبارك من تلاميذ أبي حنيفة، بل ويعدونه من مفاخر مذهبه تجاه هذه الشهادة منه عليه. وما أظن أن أبا غدة سيكون موقفه إلا العداء الشديد لابن المبارك لشهادته هذه في الإمام أبي حنيفة ولألحقه بمن طعن فيهم من الأئمة. (2) أخرجه الترمذي بنحوه وقال: والموقوف أصح.

قياس أبي حنيفة الشرب في قدح في بعض جوانبه فضة على الشرب من كف في أصبعه خاتم فضة

وأسند ابن البر ص 157 من طريق أبي يعقوب المكي عن عثمان بن زائدة قال: كنت عند أبي حنيفة فقال له: ما قولك في الشرب في قدح أوكأس في بعض جوانبها فضة؟ فقال: لا بأس به، فقال عثمان: فقلت له: ما الحجة في ذلك؟ فقال: أما ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب، فما كان غير الذهب والفضة فلا بأس بما كان فيهما منهما، ثم قال: يا عثمان ما تقول في رجل مر على نهر وقد أصابه عطش وليس معه إناء فاغترف الماء من الخهر فشربه بكفه وفي أصبعه خاتم- أي فضة- فقلت: لا بأس بذلك. قال: كذلك. قال عثمان: فما رأيت أحضر جواباً منه. ونحن بدورنا نحمد الله تعالى على التحلل من هذا القياس من تلك العقلية الجبارة قياس جواز الشرب في إناء مضبب بذهب أو فضة قد تكون الضبة أكثر حجم الأناء، وأظهره وأكثره على جواز الشرب باليد فيها الخاتم، وأقل الناس تفكيراً يدرك الفرق بين يد فيها خاتم فضة يأكل ويشرب بها، أن ذلك ليس استعمالا لآنية فضة، وبين إناء ضبب أو خلط فيه الذهب بغيره سبكا، وليتهنَّ الذين يشربون ويأكلون في أواني الذهب والفضة بما أضيف سبكا إليها من نحاس قليل للصلابة والقوة أنهم يستعملون ما يباح، كالاغتراف بيد فيها خاتم فضة، أما من ليس لهم هذه العقول الجبارة فيحمدون الله تعالى على نعمته عليهم بعدم هذه العقول الجبارة التي أباحت لهم هذه الأواني المنهي عنها. وأسند ص 154: عنِ المذكور بسنده إلى علي بن المديني يقول: حدثت أن رجلا من القواد تزوج امرأة سراً فولدت منه، ثم جحدها، فحاكمته إلى ابن أبي ليلى، فقال لها: هات بينة على النكاح، فقالت: إنما تزوجني على أن الله عز وجل الولي، والشاهدان الملكان، فقال لها: اذهبي وطردها فأتت المرأة أبا حنيفة مستغيثة، فذكرت له، فقال: لها ارجعي الى ابن أبي ليلى فقولي له: إني قد وجدت بينة، فإذا هو دعا به ليشهد عليه، قولي: أصلح الله القاضي، يقول هو كافر بالولي والشاهدين، فقال له ابن أبي ليلى ذلك فنكل ولم يستطع أن يقول ذلك، وأقر بالتزويج (التزوج) فألزمه المهر وألحق به الولد اهـ أقول: إذا تجاوزنا ما صيغت به الحكاية للاشادة بذكاء أبي حنيفة وفطنته وإنقاذه

لحرج الموقف، ونفع هذه الخدن الموطؤوة سراً بلا وليٍ ولا شهود ولا مهر حتى حملت ووضعت. إذا تجاوزنا عن هذا كله فالعجب من تصوير الحكاية بحيث يخفى على قاضي الكوفة ابن أبي ليلى أن النكاح باطل ولو اعترف به الواطىء المتخذ خِدْناً لخلوه من ولي وشاهدين شرطتها الأحاديث وظاهر القرآن، كحديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) (1) ، (والسلطان ولي من لا ولي له) (2) ، وحديث: (البغي أو العاهر هي التي تزوج نفسها) (3) ، وحديث: (البكر تُستأذن والأيم تُستأمر) (4) وقول الله تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ" (5) فخاطب الأولياء بالنهي عن العضل لأنهم هم الذين بيدهم أمر إبرام النكاح وعقده. وما أدري ماذا كانت فائدة هذه الحيلة إذا كان الواطىء المخادن لبقاً فاجاب القاضي: اني أومن بالله وملائكته، ولكن الله تعالى لم يشرع نكاحاً ليس فيه وليّ ولا شهود من الآدميين وجحد وطء المرأة، أفما كان عليها الرجم أو على الأقل التعزير. ثم الذين يقولون بمقتضى هذه الحكاية هل لنا أن يسألهم عن الفرق بين هذا النكاح المدعى صحته، وبن سفاح المخادنة السري وما يسمى في هذا العصر بخادمة السرير (كمريره) وقصة الخليعة انجريد السويدية وولادتها ولداً من سفاح ومن عشيق طلياني اعترف بولدها منه وأمثالها كثير، وكثير لا يحصى، تذكره الصحف الناشرة للخلاعة عن الأفرنج ومن سار على منهجهم في الفسوق والفجور. هل هناك فرق ديني من كتاب أو سنة بيئ هذه الأنواع من الفسق والفجور والمخادنة، وبن هذا النكاح الذي صورته الحكاية صحيحاً عن أبي حنيفة وألزم به القاضي بزعمه، وساقوا حكايته

_ (1) رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح كما قال الذهبي فيما نقله المناوي في "فيض القدير" و "التيسير لشرح الجامع الصغير" و"صحيح الجامع الصغير" 7433. (2) هو طرف من حديث أوّله: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها ... " أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسَّنه الترمذي؛ وصحّحه ابن حبان كما قال المناوي. (3) أخرجه الترمذي بنحوه وقال: والموقوف أصح. (4) رواه مسلم انظر "مختصر مسلم" رقم 802. (5) سورة البقرة: 232.

قصة أخرى في حيلة أبي حنيفة وتعقب المؤلف لها

لاثبات عبقرية أبي حنيفة (1) وأسند ابن عبد البر ص 157 إلى حكام بن سلم قيل لأبي حنيفة إن العزرمي يقول: "سافرت عائشة مع غير محرم " فقال أبو حنيفة: وما يدري العزرمي ما هذا؟ كانت عائشة أم المؤمنن كلهم، فكانت من كل الناس ذات محرم اهـ ولا أدري هل كان العزرمي يلتزم جميع لوازم الأمومة من خلوة وكشف زينة وتوارث، أم يقتصر بها على الحرمة، حرمة الزواج بها المنصوصة في القرآن، والاحترام والمودة فقط. وما لنا نسأل العزرمي، وإنما نسال مصور الحكاية هل هذه الأمومة حرمت أخوات أمهات المؤمنن وبناتهن على المؤمنين، وأجازت لهن الخلوة وكشف الزينة على المؤمنن، فضلا عن قسمة ما يملكنه تعد موتهن على أبنائهن المؤمنين الخ. أما سفر عائشة رضي الله عنها بغير محرم فلها عند الله عذر وتأويل نتركه لها. ولها عندنا من الحسنات ما يغطي ذلك. وأسند ص 158: عن زفر بن الهذيل قال: اجتمع أبو حنيفة، وابن أبي ليلى وجماعة من العلماء في وليمة لقوم، فأتوهم بطيب في مدهن فضة، فأبوا أن يستعملوه لحال المدهن، فأخذه أبو حنيفة وسلته باصبعه وجعله في كفه، ثم تطيب به. وقال لهم: ألم تعلموا أن أنس بن مالك أُتي بخبيص في جام فضة فقلبه على رغيف ثم أكله! فتعجبوا من فطنته وعقله اهـ. وعجبي من مصور الحكاية أن يفوته أن أخذ أبي حنيفة للمدهن وسلت الطيب منه، هو استعمال للمدهن الفضة واقرار لهذا الاستعمال، فإذا قصد بها ذكر ذكاء أبب حنيفة، فقد حطه في الفهم والورع من حيث لا يشعر، فتناول آنية فضة وإخراج ما فيها، هو استعمال لا يخفى على من دون أبي حنيفة.

_ (1) وفساد هذا الرأي أدركه أحد كبار المتعصبة للأحناف في هذا العصر فقد استفتى بحالة مماثلة جرت في اوربة فأفتى بفساد دعوى الزواج، ومنع إلحاق الولد. فهل فعل ذلك اجتهاداً منه مع مخالفته لأبي حنيفة؟ أم فعله بناء على أنه من الأمور الحادثة التي لم يعرفها الأئمة مثل:، "التأمين، والعقود التجارية، وأنواع الربا" الخ. اللهم احفظ ديننا وعقولنا.

وأما استشهاده بقصة أنس فانا نطلب ممن وقف عليها مسندة في غير هذه الحكاية أن يتحفنا بها، لكن لا من طريق ابن الثلجي، ولا الحسن اللؤلؤي وأمثالهما، ولا أن تكون بسند فيه أبو حنيفة لأنها ادعيت لذكائه، فالتهمه فيها ظاهرة. وأسند ابن عبد البر ص 159: إلى حمزة بن عبد الله الخزاعي: أن أبا حنيفة هرب من بيعة المنصور (مع) جماعة من الفقهاء، قال أبو حنيفة: لي فيهم أسوة، فخرج مع أولئك الفقهاء، فلما دخلوا على المنصور أقبل على أبي حنيفة وحده من بينهم، فقال له: أنت صاحب حيل، فالثه شاهد عليك، أنك بايعتني صادقاً من قلبك، قال: الله يشهد عليّ حتى تقوم الساعة، قال: حسبك. فلما خرج أبو حنيفة قال له أَصحابه: حكمت على نفسك ببيعته حتى تقوم الساعة، قال: إنما عنيت حتى تقوم الساعة من مجلسك إلى بول أو غائط أو حاجة أو حتى يقوم من مجلسه ذلك. اهـ والعجب لحاكي الحكاية أن يخفى عليه حديث: "يمينك على ما يصدقك عليه خصمك لما (1) لعله لا يصدق به، وإن كان في الصحيح - صحيح مسلم- لأنه ليس على شرط أصحاب العقلية الجبارة، فلعله عندهم شاذ أو مرفوض بالرأي الحسن والأصول التي أصلها صاحب العقلية الجبارة. فأبو جعفر المنصور فهم من عهد أبي حنيفة، واشهاد الله عليه التأييد من قوله: (حتى تقوم الساعة) وهو الفهم المتبادر من أمثال هذا التعبير، وأبو حنيفة قصد إلى فهم بعيد خفي لا يدل عليه سياق ولا قرينة ولا شاهد حال. وبعد فلو فتحنا هذا الباب من التلاعب بالألفاظ والكنايات الخفية لما استقام للناس عهد ولا عقد ولاخْتَلَّتْ معاملاتهم وعقودهم ولم يبق اطمئنان ولا ثقة بعهد ولا عقد ولا قسم، وخذ ما شيءت من الفوضى ومرج العهو د ما شيءت في ذلك، ولوخرج

_ (1) بل إن ثبتت عن الإمام ابي حنيفة بطريق صحيح فنقبل بها، لأن هذا الإمام من أهل الصدق والامانة، وضعفة من جهة حفظه فهو المعتمد.. وهذا لا يقدح في إمامته. بل الذي يقدح في امامته التعصب البغيض له حيث يعطي فوق قدرة البشر. وانظر تفصيل ذلك في "التوضيح " الذي قدم به شرح العقيدة الطحاوية الشيخ زهير الشاويش.

أبوحنيفة على أبي جعفر المنصور بناء على ما أخفاه في قلبه من تقييده بيعته بمجلسه إلى أن يقوم لبول أو غائط، وظفر به المنصور بعد خروجه عليه وصلبه- منفذاً فيه حكم الخوارج- لما كان ملاماً عند الله تعالى، لأنه عاقب خارجاً ناكثاً ببيعته أعطاها مع القسم، واشهاد الله تعالى على أبديتها بكلام فهم منه المنصور ذلك، وفهم منه الحاضرون ذلك؛ ولو استشهد المنصور الحاضرين لشهدوا أنه بايعه بيعة أبدية ولا ينفع أبا حنيفة- لا عند الله ولا عند الناس- أنه قصد بقوله: (حتى تقوم الساعة) قيام المنصور لبول أو غائط من مجلسه ذلك لأنه قَصْد خفي مستز لا تدل عليه العبارة ولا شواهد الحال ولا قرينة صارفة عن الظاهر المتبادر الذي فهمه المنصور والحاضرون معه في المجلس، والذي يفهمه كل ذي فهم مستقيم لم ينحرف عن الجادة بهذه الحيل. وحديث: (في المعاريض غنية للبيب عن الكذب) (1) لا يدخل في نطاقه العهو د والمواثيق والأيمان والعقود والخصومات، لأنه في باب الأخبار إبعاداً للكذب عنها بالمعاريض، لا في باب الانشاء للعقود والعهو د، وإلا فقل في فساد العقود والمعاملات ما شيءت إذا اعتبرنا هذه الحيلة السخيفة وذلك التلاعب الصبياني وذلك التحريف المكشوف. (2) وإذا سألنا أصحاب العقول الجبارة عن متعاقديْن على إيجار بستان أو مزرعة عشر سنين مثلا، وبعد ذلك اختلفوا، فقال المؤجر: أردت بعشر سنين أي جدبة قاحلة، ولكنا الآن في أعوام خصبة هاطلة. وقال المستأجر: بل عقدت معك على عشر سنين ظرفاً للإيجار تقدر بالأيام والأسابيع والشهو ر، ولم نرد منها صفتها من خصب أو جدب، فهل تحكمون للمؤجر الملتوي بنية لا دليل عليها، أم للمستأجر المتمسك بدلالة الكلام وعرفه وظاهره وما يفهمه الناس في أمثال هذه العقود؟

_ (1) رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي وقال: الصحيح موقوف. (2) ولم يأخذ بعض الناس من الإمام ابي حنيفة غير ذلك!! وإما صرعه وتقواه فقد تركوه لغيرهم وأما هم فلهم الحق في التحايل على الخلق والتلبيس عليهم، ونكث البيعة، وفتح الباب للخوارج والمنحرفين، وقولهم بجواز بيعتين في وقت واحد.. الخ هذا الهراء فانا لله وانا اليه راجعون.

استحسان الغزالي لحيلة من حيل إسقاط الزكاة

وكذلك لو تعاقد الولي والزوج بلفظ: "أنكحتك بنتي أو أختي" وقال الأخر: قبلت. ثم اختلفا، فقال الولي: أردت "بأنكحتك " من تناكحت الأشجار تمايل بعضها إلى بعض. "وبأختي" في الإسلام أو الانسانية، فأميلك اليها أو أميلها إليك مرة على وجه المداعبة والتحل من العقد، وقال الأخر: فهمت من النكاح ما يعرفه الناس جميعاً من عقد زوجية تحل بها المعاشرة والتمتع والاستيلاد والتوارث الخ ما يبيحه عقد الزواج والنكاح. فهل يحكم ذوو العقول الجبارة لالتواء الولي أو لصراحة المتزوج وهكذا؟ ولقد أذكرتني هذه العقلية الجبارة ما استسخفه الغزالي في إحيائه مما نقل عن أهل الحيل أن أحدهم يهب مائة لزوجته أو غيرها قبل الحول بيوم ثم يسترده منها بعده بيوم فتسقط عنه الزكاة التي قاتل الصديق مانعيها، فهذا السخف والتلاعب بدين الله تعالى الذي نفَر الناس من هذا الهزء فأنكروا ديناً يجىء بهذا التلاعب، وليتهم لا تبلغهم هذه الحكاية عن أبي حنيفة مع المنصور، أو ليتهم إذا بلغتهم يكذبونها ولا يصدقون أن ينسسب لإمام من المسلمين متبوع فيهم أن يصدرمنه مثل هذا الهراء. كما أذكرني الاحتيال على استعمال مدهن الفضة بحيلة صبيانية ما كنت سمعته عن حضور رهط من العلماء إلى مجلس بعض الخديوين أمير مصر أنهم زاروهُ وِصُبَّتْ لهم القهو ة في فناجين تحمل على ظروف ذهبية، فلما اعتُرض على من شرب منهم في ذلك أجاب أنه كان يرفع الفنجان الصيني بأصبعيه عن ظرفه الذهبي، فلم يكن بذلك مستعملا لآنية الذهب. فليت هذا التخلص يعرض على شاشة بيضاء لرواية هزلية مسلية للأطفال والنساء، لا عبقرية علم نحرير يتقي الله تعالى في امتثال أوامره في تحريم أواني الذهب والفضة، فلا يحتال عليها بأمثال هذه المضحكات. هذا وستجد في الكتاب المذكور (انتقاء ابن عبد البر) مناقشات لقتادة وعطاء، ولما نقل عن ابن عباس استدراكا عليه رأيت الإعراض عنها خيراً من الاشتغال بها، وعناء مناقشتها، فالوقت أنفس من ذلك كله، والزمن يخطو خُطىً سريعة ونحن نيام أو أموات.

رد ابن نصر المروزي على أبي حنيفة في إيجابه الوتر وأنه ثلاث ركعات لا يحوز الزيادة عليها والإتيان بواحدة

وقال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل" في باب ذكر الوتر بثلاث عن الصحابة والتابعين ص 123: طبعه عبد التواب الملتاني رحمه الله بالهند بعد ما ذكر الروايات في ذلك عن الصحابة والتابعين؛ ثم قال: وزعم النعمان- يعني أبا حنيفة- أن الوتر بثلات ركعات لا يجوز أن يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فمن أَوْتَر بواحدة فوتره فاسد، والواجب عليه أن يعيد الوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، فإن سلم في الركعتين بطل وتره، وزعم أنه ليس للمسافر أن يوتر على دابته، لأن الوتر عنده فريضة، وزعم أن من نسي الوتر فذكره في صلاة الغداة- أي الصبح- بطلت صلاته وعليه أن يخرج منها فيوتر ثم يستأنف الصلاة، وقوله هذا خلاف للأخبار الثابته عن رسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وخلاف لما أجمع عليه أهل العلم، وإنما أتى من قلة معرفته بالأخبار وقلة مجالسته للعلماء. سمعت إسحاق بن ابراهيم- يعني ابن راهويه شيخ الجماعة- يقول: قال ابن المبارك: كان أبو حنيفة يتيما في الحديث (أي بخلاف رواية ابن عبد البر تهيما من التهمة) حدثني علي بن سعيد النسوي، قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: هؤلاء أصحاب أبي حنيفة ليس لهم بصر بالحديث ما هو إلا الجرأة. قال محمد بن نصر فاحتج له بعض من يتعصسب له ليموِّه على أهل الغباوة والجهل الخ ما ساق من المناقشة إلى أن قال: ولم نجد في شيء من الأخبار أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى الوتر، قال: وزعم النعمان- يعني أبا حنيفة- في كتابه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى الوتر في اليوم الذي نام فيه عن الفجر حتى طلعت الشمس، فزعم أنه أوتر قبل أن يصلي ركعتي الفجر، ثم صلى الركعتين، وهذا لا يعرف في شيء من الأخبار. اهـ ما أردت نقله ولا أريد أن أعلق عليه. * * * قد فرغنا مما أحوجنا إلى كتابته محب جاهل غالى في رجل من المسلمن نظن به الخير وأنه لا يحب هذا الغلو الممقوت فيه، وأنه قدم على الله تعالى هو وخصومه يحكم بينهم "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (1)

_ (1) سورة البقرة: 134.

وليس علينا إلا الاهتداء بهديهم والدعاء لهم بالغفران والرحمة، وأدعو لله تعالى بهذا الدعاء المأثور: "اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل (فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) (1) ، اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ويقول اللة تعالى عن خيار عباده المؤمنين: " وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (2) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد النبي الأميّ خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم الى يوم الدين.

_ (1) سورة الزفر: 46. (2) سورة الحشر: 10.

ترجمة المؤلف - عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي

ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى (1) بقلم عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي هو عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي بكر المعلمي العتمي اليماني. ولد في أول سنة 1313هـ‍ بقرية (المحاقرة) من عزلة (الطفن) من مخلاف (رازح) من ناحية (عتمة) في اليمن، وكفله والداه، وكانا من خيار تلك البيئة، وهي بيئة متدينة وصالحة، ثم قرأ القرآن على رجل من عشيرته وعلى والده قراءة متقنة مجودة، وقبل أن يختم القرآن ذهب مع والده إلى (بيت الريمي) حيث كان أبوه يمكث يعلم - أولادهم ويصلي بهم. ثم سافر إلى (الحجرية) حيث كان أخوه الأكبر محمد بن يحيى رحمه الله كاتباً في محكمتها الشرعية وأدخل في مدرسة للحكومة كان يعلم فيها القرآن والتجويد والحساب واللغة التركية (2) فمكث مدة فيها، ومرض مرضاً شديداً، فحوله أخوه إلى بيت أرملة هناك فمرضته حتى شفاه الله تعالى بوصفة بلدية من رجل من أهل الصلاح هناك، ثم جاء والده إلى (الحجرية) ، وسأله عما قرأ؟ فأخبره، فقال له: والنحو؟ فأخبره أنه لم يقرأ النحو، لأنه لا يدرس في المدرسة، فكلم أخاه وأوصاه بقراءة النحو، فقرأ عنده شيئاً من (شرح الكفراوي) على (الأجرومية) نحو أسبوعين. ثم سافر مع والده.

_ (1) نشرت في مجلة الحج الصادرة بمكة بالجزء العاشر 16 ربيع الثاني سنة 1386 صحيفتي 617 و618 والعدد 11 جمادى الأولى من السنة ذاتها. أرسلها الشيخ محمد نصيف جزاه الله خيراً. والتعليقات الآتية عليها لفضيلته. (2) في زمن كان اليمن تحت سلطة الحكومة العثمانية كانت تفتح في البلاد مدارس كانت فائدتها في الأكثر لتعليم أبناء الموظفين وكان خط التعليم اللغة التركية أكثر من اللغة العربية.

ثم اتجهت رغبته إلى قراءة النحو؛ فاشترى بعض كتب النحو فلما وصل (بيت الريمي) وجد رجلاً يدعى أحمد بن مصلح الريمي فصارا يتذكران النحو في عامة أوقاتهما، مستعينين بتفسيري الخازن والنسفي، وأخذت معرفته تتقوى حتى طالع (المغني) لابن هشام نحو سنة، وحاول تلخيص بعض فوائده المهمة في دفتر، وحصلت له ملكة لا بأس بها. ثم ذهب إلى بلده (الطفن) ورأى ورأى والده أن يبقى هناك مدة ليقرأ على الفقيه العلامة الجليل أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي - وكان متبحراً في العلم، فلازمه ملازمة تامة، وقرأ عليه الفقه والفرائض والنحو. ثم عاد إلى (بيت الريمي) وانكب على كتاب (الفوائد الشنشورية) في الفرائض بحل مسائله، ويعرض مسائل أخرى ويحاول حلها ثم امتحانها وتطبيقها. وقرأ (المقامات) للحريري (1) وبعض كتب الأدب فأولع بالشعر فقرضه، فجاء أخوه من (الحجرية) فأعجبه تحصيله في النحو والفرائض فتركه وسافر إلى (الحجرية) ، ثم استقدمه فسافر إليها، وبقي هناك مدة لا يستفيد فيها إلا حضوره بعض مجالس يتذاكر فيها الفقه. ثم رجع إلى (عتمة) وكان القضاء قد صار إلى الزيدية (2) وعين الشيخ علي بن مصلح الريمي كاتباً للقاضي، فأنابه، فلزم القاضي الذي هو السيد علي بن يحيى بن المتوكل (وكان رجلاً عالماً فاضلاً معمراً إلا أنه لم يقرأ عليه شيئاً ولا أخذ منه إجازة) ثم عين بعده القاضي السيد محمد بن علي الرازي وكتب عنه مدة. وله إجازة من صدر شعبة الدينيات وشيخ الحديث في كلية الجامعة العثمانية بـ (حيدر آباد الدكن) الشيخ عبد القدير محمد الصديقي القادري قال فيها بعد البسملة والحمد لله والصلاة على النبي الأعظم صلوات الله عليه: ((إن الأخ الفاضل والعالم العامل الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني قرأ علي من ابتداء ((صحيح البخاري)) و ((صحيح مسلم)) ، واستجازني ما رويته

_ (1) كانت قراءة مقامات الحريري يحفظها بعض الناس ويكثرون من قراءتها، وهي لذيذة أحسن من الروايات الإفرنجية. (2) حسب الاتفاق بين الحكومة العثمانية والإمام يحيى أن قضاة المحاكم ينتخبهم الإمام.

عن أساتذتي، ووجدته طاهر الأخلاق طيب الأعراق، حسن الرواية جيد الملكة في العلوم الدينية، ثقة عدلاُ، أهلاً للرواية بالشروط المعتبرة عند أهل الحديث، فأجزته برواية ((صحيح البخاري)) و ((صحيح مسلم)) و ((جامع الترمذي)) )) و ((سنن أبي داود)) و ((ابن ماجه)) و ((النسائي)) و ((الموطأ)) لمالك رضي الله عنهم. حرر بتاريخ 13 - القعدة - سنة 1346هـ‍)) أعماله: ثم ارتحل إلى (جيزان) سنة 1329 والتحق بها في خدمة السيد محمد الإدريسي أمير (عسير) حينذاك، فولاه رئاسة القضاة، ولما ظهر لم من ورعه وزهده وعدله لقبه بـ (شيخ الإسلام) ؛ وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس، ومكث مع السيد محمد الإدريسي حتى توفي الإدريسي سنة 1341هـ‍ فارتحل إلى (عدن) ومكث فيها سنة مشتغلاً بالتدريس والوعظ. وبعد ذلك ارتحل إلى (الهند) وعين في دائرة المعارف العثمانية بـ (حيدر أباد الدكن) مصححاً لكتب الحديث وما يتعلق به وغيرها من الكتب في الأدب والتاريخ. وبقي بها مدة ثم سافر إلى مكة المكرمة ووصل إليها في عام 1371هـ‍وفي عام 1372هـ‍في شهر ربيع الأول منه بالذات عين أميناً لمكتبة الحرم المكي الشريف حيث بقي بها يعمل بكل جد وإخلاص في خدمة رواد المكتبة من المدرسين وطلاب العلم حتى أصبح موضع الثناء العاطر من جميع رواد المكتبة على جميع طبقاتهم

بالإضافة إلى استمراره في تصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بالهند، حتى وافاه الأجل المحتوم صبيحة يوم الخميس السادس من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين من الهجرة بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد الحرام وعاد إلى مكتبة الحرم حيث كان يقيم وتوفي على سريره. رحمه الله. مؤلفاته وما حققه من كتب: مؤلفاته: - المطبوع منها: 1- ((طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) . 2- ورسالة في مقام إبراهيم وهل يجوز تأخيره. 3- و ((الأنوار الكاشفة بما في كتاب ((أضواء على السنة)) من الزلل والتضليل والمجازفة)) 4- ومحاضرة في كتب الرجال وأهميتها ألقيت في حفل ذكرى افتتاح دائرة المعارف بالهند عام 1356هـ‍. مؤلفاته المخطوطة: ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) في مجلدين تحت الطبع. و ((إغاثة العلماء من طعن صاحب الوراثة في الإسلام)) . ورسائل أخرى في مسائل متفرقة لم يسمها (1) . وديوان شعر وآخر ما قال في الشعر القصيدة التي رثا بها جلالة الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - والتي نشرت في (المنهل) العدد (53) من السنة الرابعة عشرة. أما الكتب التي قام بتحقيقها وتصحيحها والتعليق عليها فهي: 1- التاريخ الكبير للبخاري إلا الجزء الثالث.

_ (1) قلت: سيأتي في مواضع من ((التنكيل)) أن له ((كتاب العبادة)) ، و ((أحكام الكذب)) . ن

2- وخطأ الإمام البخاري في تاريخه لابن أبي حاتم الرازي. 3- وتذكرة الحفاظ للذهبي. 4- والجرح والتعديل لابن حاتم الرازي أيضاً. 5- وكتاب موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي. 6- والمعاني الكبير في أبيات المعاني لابن قتيبة. 7- والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني. 8و9- وآخر ما كان يقوم بتصحيحه كتاباً ((الإكمال)) لابن ماكولا و ((الأنساب)) للسمعاني، وصل إلى خمسة أجزاء، تم طبعها وشرع في السادس من كل منهما حيث وافاه الأجل المحتوم.. هذا بالإضافة إلى اشتراكه في تحقيق وتصحيح عدد من أمهات كتب الحديث والرجال وغيرها مع زملائه في دائرة المعارف العثمانية بـ (حيدر أباد) بـ (الهند) . وأهمها ((السنن المبرى)) للبيهقي، و ((مسند أبي عوانة)) و ((الكفاية في علم الرواية)) للخطيب البغدادي و ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي و ((المنتظم)) لابن الجوزي أيضاً، و ((الأمالي الشجرية)) : 1- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده طبعة أولى (1) . 2- تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لكمال الدين أبي الحسن الفارسي. 3- الأمالي اليزيدية (فيها مراث وأشعار وأخبار ولغة وغيرها) . 4- عمدة الفقه لموفق الدين ابن قدامه (قابل الأصل وصححه وعلق عليه) . 5- كشف المخدرات لزين الدين عبد الرحمن بن عبد الله المعلى ثم الدمشقي. 6- شرح عقيدة السفاريني. 7- موارد الظمآن إلى زوائد صحيح بن حبان.

_ (1) وقع في ((المنهل)) هنا وفي ما يأتي من الكتب بعض الأخطاء المطبعية استفدنا تصحيحها من فضيلة الشيخ سليمان الصنيع. جزاه الله خيراً. ن

8- الجواب الباهر في زور المقابر. لابن تيمية (شارك في تحقيقه وإخراج أحاديثه) . 9- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لابن حجر العسقلاني. 10- نزخة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر. لعبد الحي بن فخر الدين الحسيني. وغير ذلك رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

مقدمة الطبعة الأولى - محمد ناصر الدين الألباني

مقدمة الطبعة الأولى بقلم: محمد ناصر الدين الألباني بسم الله الرحمن الرحيم وبه وحده أستعين الحمد لله، والصلاة والسلام على رَسُولُ اللهِ، وآله وصحبه وإخوانه أجمعين. أما بعد: فإني أقد اليوم إلى القراءِ الكرام كتاب ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى بن علي اليماني رحمه الله تعالى (1) ، بين فيه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة تجني الأستاذ الكوثري على أئمة الحديث ورواته، ورميه إياهم بالتجسيم والتشبيه، وطعنه عليهم بالهوى والعصبية المذهبية، حتى لقد تجاوز طعنه إلى بعض الصحابة، مصرحاً بأن أبا حنيفة رحمه الله رغب عن أحاديثهم! وأن قياسه مقدم عليها! فضلاً عن غمزه بفضل الأئمة وعلمهم، فمالك مثلاً عنده ليس عربي النسب بل مولى! والشافعي كذلك، بل هو عنده غير فصيح في لغته، ولا متين في فقهه. والإمام أحمد غير فقيه عنده! وابنه عبد الله مجسم، ومثله الأئمة ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي حاتم، وغيرهم، والإمام الدارقطني عنده أعمى ضال في

_ (1) انظر ترجمته في الصفحة 165. (2) ولا يخفى أن التعصب المذهبي لم يحفل به مثل الأستاذ زاهد الكوثري على الحقيقة، منذ مائة سنة على الأقل.

المعتقد، متبع للهوى، والحاكم شيعي مختلط اختلاطاً فاحشاً!!! وهكذا لم يسلم من طعنه حتى مثل الحميدي، وصالح بن محمد الحافظ وأبي زرعة الرازي وابن عدي وابن أبي داود والذهبي وغيرهم! ثم هو إلى طعنه هذا يضعف الثقات من الحفاظ والرواة، وينصب العداوة بينهم وبين أبي حنيفة لمجرد روايتهم عنه بعض الكلمات التي لا تروق لعصبية الكوثري وجموده المذهبي. وهو في سبيل ذلك لا يتورع أن يعتمد على مثل ابن النديم الوراق وغيره ممن لا يعتد بعلمه في هذا الشأن. وهو على النقيض من ذلك يوثق الضعفاء والكذابين، إذا رووا ما يوافق هواه! وغير ذلك مما سترى تفصيله في هذا الكتاب بإذن الله. ومنه يتبين للناس ما كان خافياً عليهم من حقيقة الكوثري، وأنه كان يجمع في نفسه بين صفتين متناقضتين: فهو في الفقهيات وعلم الكلام مقلد جامد، وفي التجريح والتعديل، والتوثيق والتضعيف، وتصحيح الحديث وتوهينه، ينحو منحى المجتهد المطلق، غير أنه لا يلتزم في ذلك قواعد أصولية، ولا منهجاً علمياً! فهو مطلق عن كل قيد وشرط! لذلك فهو يوثق في من شاء من الرواة ولو أجمع أئمة الحديث على تكذيبه، ويضعف من شاء ممن أجمعوا على توثيقه، ويصرح بأنه لا يثق بالخطيب وأبي الشيخ ابن حيان ونحوهما، ويضعف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه، ولو كان مما خرجه الشيخان في ((صحيحهما)) ولا علة قادحة فيه. ويصحح ما يعلم كل عارف بهذا العلم أنه ضعيف بل موضوع مثل حديث ((أبو حنيفة سراج أمتي)) ‍! إلى غير ذلك من الأمور التي ستتجلى للقارئ الكريم، مبرهناً عليها من كلام الكوثري نفسه في هذا الكتاب العظيم، بأسلوب علمي متين، لا وهن فيه، ولا خروج عن أدب المناظرة، وطريق المجادلة بالتي هي أحسن، بروح علمية عالية، وصبر على البحث والتحقيق كاد يبلغ الغاية، إن لم أقل: بلغها. كل

ذلك انتصاراً للحق، وقمعاً للباطل، لا تعصباً للمشايخ والمذهب، فرحم الله المؤلف، وجزاه عن المسلمين خيراً. هذا. وقد قمت على طبع الكتاب برغبة من فضيلة الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته، وعلقت عليه في بعض المواطن التي رأيت من الفائدة التعليق عليها، وميزت هذه التعليقات بالرمز لها بـ (ن) . وفي القسم الرابع من الكتاب تعليقات أخرى بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة حفظه الله تعالى (1) ، رمزت لها بـ (م ع) ، وقد أصرح باسمه، وما كان من التعليقات خلواً عن الرمز فهي للمؤلف على الغالب وكان فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق قد ألحق بقلمه بعض الجمل بأصل الكتاب بالحبر الأحمر، فنزلت بها إلى التعليق عازباً لها إليه وقد لا أفعل، فأجعلها بين معكوفين «» ، وإنما فعلت ذلك لأن الأمانة العلمية تقتضي ذلك ولأن ذلك رغبة المؤلف كما جاء على الوجه الأول من القسم المشار إليه ونصه. ((يقول المؤلف: إذا علق أحد على كتابه فليكن التعليق منفصلاً عن كلامه وعليه توقيعه)) . وكتب الشيخ عبد الرزاق حمزة تحته ما نصه: ((قرأت الكتاب المذكور (القائد إلى تصحيح العقائد) وعلقت عليه بعض تعليقات بالقلم الأحمر في أسفل بعض الصفحات، ولم أصحح في صلبه سوى بعض كلمات وقعت غلطاً في آيات قرآنية، سهو اً من الكاتب، وللمؤلف حواش مذيلة بلفظ ((المؤلف)) وما لم يذيل بهذا اللفظ فهي تعليقاتي أنا محمد عبد الرزاق حمزة، لي غنمها، وعلي غرمها وتبعتها. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد ذيلت على الكتاب بآخره تذييلاً نافعاً إن شاء الله تعالى. محمد عبد الرزاق حمزة)) (2) . وأقول: قد وقع في الكتاب وذيله والتعليق عليه بعض الألفاظ، صححتها،

_ (1) انظر ترجمته في الصفحة 102. (2) إن هذا لم يعد له علاقة بهذه الطبعة بعد أن فصلنا "القائد إلى تصحيح العقائد" بطبعة مفردة، زهير.

ونبهت على الأصل فيها ما أمكن، وسقطت بعض الألفاظ من بعض الآيات القرآنية في الذيل فأشرت إليها بجعلها بين معكوفين «» ، وقد يقع مثله في الكتاب أيضاً. والسهو من طبع الإنسان. وجل من لا يضل ولا ينسى. وإن مما يلفت النظر ويدل على فضل المؤلف رحمه الله تعالى وإنصافه أنه أذن لفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق بالتعليق على كتابه ونقده فيما يراه منتقداً منه. وقد تعقبه المؤلف في بعض المواطن، وكان الصواب حليفه في الغالب، وسكت في غيرها، مما زاد في قيمة الكتاب وفائدته، فجزى الله المؤلف والمعلق خيراً. ثم إنه والكتاب على وشك تمام طبعه، جاءني كتاب من فضيلة الشيخ محمد نصيف يبدي فيه رغبته بأن نعيد طبع رسالة ((طليعة التنكيل)) للمؤلف رحمه الله تعالى، وهي بمثابة المقدمة لهذا الكتاب ((التنكيل)) فوافق ذلك ما كان في نفسي من الرأي، وكنت صرحت به لفضيلته حين عرض علي القيام على طبع الكتاب، ولكن الشيخ حفظه الله وبارك فيه - لم ينشط لذلك يومئذ، وما قدر يكن. إن طبع ((الطليعة)) مع أصله ((التنكيل)) أمر هام لأنها أولاً كالمقدمة بالنسبة إليه كما ذكرنا. وثانياً: أن المؤلف يحيل عليها في الكتاب كثيراً، ويشير إلى صفحاتها بالأرقام من الطبعة الأولى منها، فقد كان الأنفع طبع الكتاب قبل الرسالة لنصحح الأرقام منه على وفق الطبعة الجديدة، ولكن هكذا قدر. وتداركا لما فات، فقد وضعت أرقام صفحات الطبعة الأولى على هامش هذه الطبعة تيسيراً على الطالب، واضعاً رقم كل صفحة بجانب السطر الذي فيه أول كلمة منها مشيراً إليها بوضع محور / أمامها. فما على القارئ إلا أن يتتبع رقم الصفحة المحال عليها من الهامش فيجد البحث المنشود. وقد اعتمدت في هذه الطبعة على الطبعة الثانية منها وذلك لأمرين: الأول: أنه كان وقع في الطبعة الأولى بعض الأخطاء نبه على أكثرها المصنف رحمه

الله فيما سيأتي من ((التنكيل)) (1/101 و271) (1) ، وذكر فيه آيات وتصحيحات ينبغي إلحاقها بـ (الطليعة) فاستدركها المؤلف في الطبعة الثانية، إلا جملة واحدة في سطور استدركتها أنا في هذه الطبعة، كما ستراه ص (20) (2) . والأمر الآخر: أن الطبعة الأولى كان قد أدرج فيها في المتن ولتعليق ما ليس من كلام المصنف رحمه الله تعالى، بخلاف الطبعة الثانية، فقد جاء على الوجه الأول منها: طبع للمرة الثانية بعد المقابلة على الأصل الذي كتبه المؤلف، وإخراج ما أدرج في الطبع الأولى من غير كلامه في المتن أو الحاشية)) . قلت: فهي طبعة منقحة ومزيدة بالنسبة إلى الأولى، وطبعتنا هذه امتازت بكونها أشد تنقيحاً وأكثر فائدة. هذا. ولعل من الحكمة في تقدير الله عز وجل طبع الرسالة بعد الكتاب، أننا تمكنا فيها من استدراك تعليق هام على موضع من ((التنكيل)) لك يتيسر لنا تعليقه هناك، فاستدركناه هنا كما ستراه في ((الرسالة)) (ص 33) (3) . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأخيراً، أسأل الله تعالى أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب، ويعرفهم بأثر أهل الحديث في خدمة الشريعة، ويجزي المؤلف والمعلق والمنفق على طبعه خير الجزاء، إنه خير مسؤول. دمشق 21 رمضان سنة 1386 محمد ناصر الدين الألباني.

_ (1) في طبعتنا هذه 1/296 و 485 (2) في طبعتنا هذه 1/201 - 202 (3) في طبعتنا هذه 1/218

الجزء الأول

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني (1313 - 1368) الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م مع تخريجات وتعليقات عبد الرزاق حمزة - محمد ناصر الدين الألباني - زهير الشاويش الجزء الأول المكتب الإسلامي

مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» . أما بعد: فهذا كتاب (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) . تعقبت فيه ما انتقدته من كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري مما يتعلق بالكلام في أئمة السنة ورواتها، غير عامد إلى ذب عن الإمام أبو حنيفة ولا خلافه، ورتبته إلى أربعة أقسام: الأول: في تحرير قواعد خلط فيها الأستاذ. الثاني: في تراجم الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ وأفراد حاول الدفاع عنهم. الثالث: في النظر في مسائل فقهية تعرض لها.

الرابع: في تثبيت عقيدة السلف التي طعن الأستاذ فيها وفي المعتصمين بها، ومسائل اعتقادية تعرض لها. وقد قدمت قبل هذا نموذجاً من مغالطاته طبع بمصر بعنوان (طليعة التنكيل) (1) وأجاب عنها برسالة سماها (الترحيب بنقد التأنيب) سأنظر فيما يُلتفت إليه مما فيها في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وأسال الله التوفيق. وأقدم فصولاً:

_ (1) انتقد الأستاذ في الترحيب كلمات نابية - كما يقول - وقعت في متن الطليعة والتعليق عليها وقد انتقدتها قبله وهي من تصرف المعلق الأستاذ محمد عبد الرزاق حمزة باجتهاده، وقد صرح بذلك في رسالته حول ترحيب الكوثري ص 37. وذكر لي بعض المطلعين أن عامة تلك الكلمات كانت على وجه التعليق، لكن التبس الأمر عند الطبع فأدرجت في المتن. المؤلف.

1- فصل: في بيان المقصود الأهم من الكتاب، وهو رد المطاعن الباطلة عن أئمة السنة

الفصل الأول المقصود الأهم من كتابي هذا هو رد المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها والذي اضطرني إلى ذلك أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها ومعرفة العربية وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه إنما مدارها على النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضر بهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله، بل في الدين من أصله. وحسبك أنَّ المقرر عند أهل العلم أنه إذا نقل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء ولم ينقل عن أحد منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قول بالحل، عد ذاك الشيء مجمعا على حرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حله، فإن ذهب إلى حله غافلاً عن الإجماع كان قوله مردوداً، أو عالماً بالإجماع فمن أهل العلم من يضلله، ومنهم من قد يكفره. لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قول بحل ذلك الشيء كانت المسألة خلافية لا يحظر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذلك الصحابي، أو بقول مفصل يوافق هذا في شيء، وذاك في شيء، ولا يحرم على المقلد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل إما على سبيل الترجيح والاختيار إن كان أهلاً، وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه. وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكل منهم، والاعتداد بتوثيق الموثق يتوقف على العلم

طعن الأستاذ في زهاء ثلاثمائة رجل غالبهم ثقات

بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحة سند التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثقه ثقة عارف، وصحة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله، وهلم جراً. والسعي في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق أو الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه، فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعاً للأمرين كان الأمر أشد جداً كما يعلم بالتدبر، ولولا أن أُنسب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة يترتب على الطعن فيهم - زيادة على محاولة إسقاط رواياتهم - محاولة توثيق جم غفير ممن جرحوه، وجرح جم غفير ممن وثقوه. ففي (التأنيب) الطعن في زهاء ثلاثمائة رجل تبين لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظاً، وجماعة من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟! على أن الأمر لا يقف عندهم فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتهم غير محصورة، فيمكن كل من يهوى رد شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته وموثقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك، بل يعيد (1) الملحدون الإسلام نفسه ذريعة لاتهام كل من روى من المسلمين ما يثبت النبوة والقرآن ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يساورون المتواترات بزعم التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض، لو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعلم أو غير متبوع لهان الخطب، ولكنه من رجل مشهور ينعته أصحابه بأمثال ما كتب على لوح كتابه (تأنيب الخطيب) الذي طبع تحت إشرافه بتصحيحه «تأليف الإمام الفقيه

_ (1) كذا الأصل، ولعله (يتخذ) .

المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... » (1) ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة (2) ، ويتبعه الحنفية وهم كما يقول السواد الأعظم، ويتابعه في الجملة كل من تخالف السنة هواه من غلاة المقلدين وأتباع المتكلمين وعباد القبور، ويعتضد بكلامه الملحدون. بلى إن في أفاضل علماء الحنفية أنفسهم جماعة يمقتون تصرف الأستاذ، ولكن تصدهم عن رفع أصواتهم بالإنكار عليه موانع هم أعلم بها. والله المستعان.

_ (1) هذه الألقاب كانت من دأب الكوثري لنفسه وأشياخه ومن يتعصب لهم، وجرى إتباعه عليها نحوه، ونحو أنفسهم، وانظر إذا شيءت مقدمة شرح الطحاوية وكشف النقاب عما في كلمات أبي غدة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (2) مع أنه يشير في صفحة 14 من (الترحيب) إلى كتب ابن خزيمة (*) ، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويقول: طبع كثير منها تحت ظلال الحرية ... بعد نسج هالات من التبجيل حول أسماء مؤلفيها تمهيداً للإضلال بأقاويلهم! (*) وهو صحيح ابن خزيمة بتحقيق العالم الدكتور محمد مصطفى الأعظمي. ومراجعة المحدث الألباني، وهو أحد كتابيه اللذين نال عنهما جائزة الملك فيصل - رحمه الله - عن السنَّة. وقد تم طبعه في المكتب الإسلامي بأربعة مجلدات.

2- فصل: من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل

الفصل الثاني من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، ويرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك فكان هذا من أعظم ما ساعد على أن انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره، ومقتهم الجمهور، وأوذوا فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين. وعلى هذا جرى الأمر في هذا القضية فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين وأسكت أهل العلم في مصر وغيرها برمي كل من يهم أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته، ولما اطلع الأستاذ على (الطليعة) جرد على صاحبها ذلك السلاح، ومن تصفح (الترحيب) علم أن ذلك، بعد المغالطة والتهويل هو سلاحه الوحيد، فهو يبدئ فيه ويعيد، ونفسه تقول هل من مزيد، ومع ذلك يضطرب، فمن جهة يقول في (الترحيب) ص 15: «أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلاً عن المتواتر وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأمة بالتواتر» ويقول بعد ذلك: «خبر الآحاد

يكون مردوداً عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد فضلاً عن مصادمته لما تواتر» ويقول ص 17 «وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد فيرد حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ» ويقول ص 39 «من المقدر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن» . ويعد حسناتي ذنوباً فيقول ص 99: «وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري (1) في موضوع المسألة لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مسقط فيكون ذكر المتون قاصماً لظهره» وقول ص 25 «ولو كان الناقد ذكر في طلب متنه الخبر المتحدث عنه كان القارئ يحكم بكذب الخبر مجرد سماعه لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاء لحاله» . ومن جهة أخرى يقول ص 19 «وعادة أيضاً في مثل تلك الأخبار تطلب ضعفاء بين رجال السند (2) بادئ ذي بدء ضرورة أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات» ويقول ص 19 «ومن المضحك تظاهره بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجروح ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها» . وأقول: أما الباعث لي على تعقب (التأنيب) فقد ذكرته في أول (الطليعة)

_ (1) التأنيب مطبوع والأستاذ أقدر على إعادة طبعه، وسواء أكان مقصودي ما شرحته في أول الطليعة في الفصل الأول أم الغرض الذي يرميني به الأستاذ أم كلاهما فعل كل حال لا داعي إلى ما اقترحه الأستاذ من نقل كلامه. المؤلف. (2) أرجو من القارئ أن يتدبر قول الأستاذ "وعادتي ... " مع مراجعة الطليعة ص 11 - 43 المؤلف.

وتقدم شرحه في الفصل الأول، وهب أن غرضي ما زعمه الأستاذ وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات فلا يخلو كلامي مبيناً على الأصول المألوفة المعروفة، أو يكون على خلاف ذلك، فإن كان الأول فلازم الحق حق، وإن كان الثاني ففي وسع الأستاذ أن يوضح فساده بالأدلة المقبولة، فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين (طليعتي) و (ترحيبه) حتى يتبين لهم أقام بنقض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم أم ردف ما في (التأنيب) من تهويل ومغالطة وتمحل بمثلها ولم يكد يضيف إلى ذلك إلا رمي مؤلف (الطليعة) ببغض أبي حنيفة؟! كأن الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تتقى إلا بالهوى، فأثاره ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمه شأنهم ليضرب به بينهم وبيم (الطليعة) و (التنكيل) حجاباً لا تمزقه حجة ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدة. والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق ولذلك أهملت ذكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد: الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة وهو أن يطلع عليها حنفي متحمس فيحمله ذكر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة ولا يستفيد إلا بغض من نسب إليه المتن من الأئمة. الثانية: أن يطلع عليها رجل من خصوم الحنفية فيجترئ بذاك المتن ويذهب يعيب أبا حنيفة غير مبال أصح ذاك المتن أم لم يصح. الثالثة: أن يطلع عليها عامي لا يميز فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض ويكبر ذلك عليه ويسيء الظن بهم جميعاً. فإهمال ذكر المتن يمنع هذه المفاسد كلها ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشت فيها الأستاذ. والواقع أيضاً أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم ولا يلزمني قصد ذلك، ومن تأمل عبارات الأستاذ في الجهة الأخرى بان له صحة قولي. وأزيد ذلك

إيضاحاً وشرحاً وتتميماً فأقول: وعامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في بعض رجال تلك الأسانيد وقد وافقته على ضعف جماعة منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقة رجل من رجال السند ثبوت ثقة غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإن المقالة المسندة، إذا كان ظاهرها الذم أو ما يقتضيه لا يثبت الذم إلا باجتماع عشرة أمور: الأول: أن يكون الرجل المعين الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة. الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد كلهم ثقات. الثالث: ظهور اتصال السند تقوم به الحجة. الرابع: ظهور أنه ليس هناك علة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية. الخامس: ظهور أنه لم يقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير قد توقع فيه الرواية بالمعنى. السادس: ظهور أن المراد في الكلام ظاهره. السابع: ظهور أن الذامّ بنى ذمه على حجة لا نحو أن يبلغه إنسان أن فلاناً قال كذا أو فعل كذا فيحسبه صادقاً وهو كاذب أو غالط. الثامن: ظهور أن الذام بنى ذمه على حجة لا على أمر حمله على وجه مذموم وإنما وقع على وجه سائغ. التاسع: ظهور أنه لم يكن للمتكلم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذام. العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذم لم يرجع عنه صاحبه. والمقصود بالظهور في هذه المواضع الظهور الذي تقوم به الحجة. وقد يزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية.

فهذه الأمور إذا اختل واحد منها لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل. والذي تصديت لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني فضلاً عن الجميع وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني لكن لا يلزم من ذلك تثبيت الثالث فضلاً عن الجميع، وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف فالمقصود من ذلك كشف مغالطته ولا يلزم من ذلك تثبيت الأمور كلها، وقد يتهم الأستاذ رجلاً في رواية مع علمه بأنه قد توبع متابعة تبين صدقه في تلك الرواية فيضطرني إلى التنبيه على تلك المتابعة. وقد يشنع على الخطيب بإيراده رواية من فيه كلام في صدد ما زعم أنه المحفوظ عنده، ويتبين لي من سقوط الشناعة من هذه الناحية أما لأنه إنما ذكر رواية ذلك الراوي في المتابعات وأما لأن الراوي إنما غمز بأنه يخطئ أو يهم وليس تلك الرواية مما يخشى فيه الخطأ أو الوهم فاحتاج إلى بيان ذلك. وكل هذا لا يلزم منه تثبيت الأمور كلها وأذكر هنا مثالاً واحداً: قال إبراهيم بن بشار الرمادي: سمعت بن عيينة يقول: ما رأيت أحداً أجرأ على الله من أبي حنيفة، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان فقال يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها، فهل سمعتم أحداً أجرأ على الله من هذا؟» هذه الحكاية أول ما ناقشت الأستاذ في بعض رجال سندها في (الطليعة) ص 12 - 20 فإنه خبط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في (الطليعة) وتكلم في الرمادي وستأتي ترجمته وزاد في (الترحيب) فتكلم في ابن أبي خثيمة بما لا يضره، وذكر ما قيل أن ابن عيينة اختلط بأخرة، وهو يعلم ما فيه وستأتي ترجمته وقد ذكر الأستاذ في (التأنيب) جواباً معنوياً جيداً ولكنه مزجه بالتخليط فقال بعد أن تكلم في السند بما أوضحت ما فيه في (الطليعة) : «وابن عيينة برئ من هذا الكلام قطعاً بالنظر إلى السند» . ثم قال بعد ذلك:

«وأما من جهة المتن فتكذب شواهد الحال الأخلوقة تكذيباً لا مزيد عليه ... رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبث ولا تريث» . «كذا قال، وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسالة واحدة فضلاً عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة فضلاً عن مائة ألف فضلاً عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها. وكان يمكن للأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشغب كأن يقول: يبعد جداً أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين، إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة فبالغ، وإما أن يكون بطالاً لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم، فإن الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب. فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بين الأستاذ ذلك في التأنيب) فكأنه كره قول أبي حنيفة: هاتها، لما يشعر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة، وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين، ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكف أحدهم عن الفتوى مبالغة في التورع واتكالاً على غيره حيث يوجد، فأما الجرأة فمعناها الإقدام والمقصود هنا كما يوضحه السياق وغيره الإقدام على الفتوى فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفة موثوق بها فهو محمود وإن كرهه المبالغون في التورع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: «لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن

مثال غريب على ذلك

عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً» وعنه أيضاً أنه قال: أكثر أبو هريرة، فقيل له: هل تنكر شيئاً مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ راجع الإصابة ترجمة ابن عباس وترجمة أبي هريرة. وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود، وقد روى الخطيب نفسه ... هاتين الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في (التأنيب) فهذا وغيره يدل على بعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما ينقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض. وحاصله أن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ والدليل قائم على خلاف قوله في كذا فدل ذلك على أنه أخطأ ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه، قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا، فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه. خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال «والله إنها لزوجة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي» أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً «فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار» . فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم فيه إما لأن حالهم غير حاله وإما لأنه يراه أخطأ -

رأي المصنف في كلمات بعض الأئمة في بعض مما يوهم الغض

أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه، فمن هذا ما في (المستدرك) (2 ص329) « ... عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في نفر فذكروا علياً فشتموه فقال سعد: مهلاً عن أصحاب رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فقال بعضهم فوالله إنه كان يبغضك ويسميك الأخنس، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك ثم قال أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلع ذلك أمانته ... » قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي. وفي الصحيحين وغيرهما عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال «ما سمعت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي» . وتروى عن كلمات أخرى من ذا وذاك وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة فكان علي إذا كان في جماعة يخشى أن يتبعوا سعداً بالقعود ربما أطلق غير كاذب كلمات توهم الغض من سعد وإذا كان مع من لا يخشى منه القعود فذكر سعداً ذكر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكاً من إطلاق كلمات فيها غض من مالك مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين» كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى. ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري.

وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد. وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حي من (تهذيب التهذيب) كلمات قاسية أطلقها بعض الأئمة فيه مع ما عرف من فضله، وفيها «أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حي - فقلت ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أو زارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم» . أقول: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطأوا فيه كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحري الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلو في تقليدهم. على أن الأستاذ إذا أحب أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأن ابن عيينة كان يعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعل ابن عيينة رأى أناساً قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطون مثل ما كان يقع منه من الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم اغتراراً منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار فاحتاج ابن عيينة في ردعهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشغبهم. والله أعلم.

3- فصل: فيه الرد على الأستاذ الكوثري في موقفه الشائن من أنس رضي الله عنه

الفصل الثالث حاول الأستاذ في (الترحيب) التبرؤ مما نسب إليه في (الطليعة) من الكلام في أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وفي هشام بن عروة بن الزبير وفي الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد. فأما كلامه في أنس فتراه وما عليه في (الطليعة) ص 98 - 106 ويأتي تمامه في ترجمته إن شاء الله تعالى. وينبغي أن يعلم أن منزلة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسان حال الأستاذ يقول: ومن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة، كما أشار إلى ذلك في (الترحيب) ص 24 إذ قال: «وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في (المؤمل) لأبي شامة الحافظ، وليس هذا إلا تحرياً بالغاً في المرويات يدل على عقلية أبي حنيفة الجبارة» فزادنا مع أنس جماعة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وإلى ما غالط به من الترجيح الذي دفعته (الطليعة) ص105 - 106 التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السند أن ينفرد برواية السنة بعض أولئك الصحابة. هذا مع أن رواية أنس في الرضخ تشهد لها أربع آيات من كتاب الله عز وجل بل أكثر من ذلك كما يأتي في (الفقهيات) إن شاء الله تعالى ومعها القياس الجلي، ولا يعارض ذلك شيء إلا أن يقال: إن عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدم قوله على ذلك كله، وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب عن قوله في

(التأنيب) ص 139 عند كلامه على ما روي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. قال الأستاذ هناك «ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً ففرع عليه المسائل فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلاً ففرع عليه الفروع ... » . إلا أن يقول الأستاذ إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب وإنما قلد فيها بعض التابعين كشريح وإبراهيم فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما قاله من عند نفسه، فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبق مسألة القود على هذه القاعدة. أما نحن فلا نعتد على أبي حنيفة بقول الأستاذ ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبيت أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة بل نقول لعل أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحد من الصحابة بل هو موافق لغيره في أن انفراد الصحابي مقبول على كل حال وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث لأنه لم يبلغه من وجه يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه، وإذا كان يأخذ برأي رجل من التابعين فيجعله أصلاً لباب عظيم من أبواب الشرع كشريح في الوقف وإبراهيم في المزارعة فكيف يرغب عن سنة لتفرد بعض الصحابة بها؟ ثم راجعت (المؤمل) فرأيت عبارته تشعر بأن الكلام فيما تفرد أنس ومن معه يقوله برأيه، لا في ما كان رواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأما التحري البالغ فإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه أن يقبل ورد ما حقه أن يرد فلا موضع له هنا، وإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه الرد

كرأي شريح في الوقف ورأي إبراهيم في المزارعة، وإلى رد ما حقه القبول كما يتفرد به بعض الصحابة ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كرد حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له فهذا إن وقع ممن لم يقف على الأدلة المخالفة له أو ذهل عنها وعن دلالتها، له اسم آخر لا يضر صاحبه إن شاء الله، وإن وقع ممن عرف ذلك كله فهو تجرٍ «بالجيم لا تحر بالحاء» أو قل تحر للباطل لا للحق. فإن كان المقصود التخييل الشعري فيستطيع من يرد انفراد الصحابي أي صحابي كان يقول أن ذلك تحر بالغ. بل من يرد السنن المتواتر، بل من يرد المتواتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه، بل من يرد المتواتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقتضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه، بل من يرد الدلالات الظنية من القرآن ويرد الإجماع، ولم يبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن؛ وشيوخ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها كما في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى. فأما القياس فهو بأن القياس إلغاؤه تحرياً واحتياطاً في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل: ويذهب بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا والمقصود هنا أن منزلة أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلا غرو أن يزعم الأستاذ أنه ليس في كلامه فيه ما ينتقد ‍! وفي (فتح الباري) في «باب المصراة» : «قال ابن السمعاني (1) في (الاصطلام) : التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة» ذكر ذلك في صدد رد كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصراة.

_ (1) هو أبو المظفر بن عبد الجبار كان أهل بيته حنفية ونشأ على ذلك ومهر في المذهب ثم تشفع تديناً، وترجمته في طبقات ابن السبكي ج 4 ص 21 وقد أسرف الشافعية في التبجح بذلك كما تراه هناك.

قصة هشام بن عروة في ذم المولدين أبناء السبايا القائلين بالرأي

وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة - وفي رواية للدرامي ج1 ص 51: هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة (1) . قال لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى ظهر فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا «فذكرها الأستاذ في (التأنيب) ص 98 ثم قال وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه (مالك) لقول مالك فيه بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذاب، قال فسألت يحيى بن معين؟ فقال عسى أراد في الكلام فأما في الحديث فهو ثقة» وعلق في الحاشية «هذا من انفرادات الساجي، وأهل العلم قد تبدر منهم بادرة فيتكلمون في أقرانهم بما لا يقبل فلا يتخذ ذلك حجة، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمر يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ» ففهمت من قوله «وإنما أراد هشام النكاية ... » أنه يريد أن هشاماً افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأن ذلك من الكذب الذي عني بالكلمة المحكية عن مالك «هشام بن عروة كذاب» ومن الكذب في الكلام على ما في الكلمة عن ابن معين ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية، وبنيت على ذلك في الكلمة التي كنت كتبتها إلى بعض الإخوان فاتفق أن وقعت بيد المعلق على (الطليعة) أو طابعها فطبعت كمقدمة للطليعة بدون علمي، قلت فيها كما في (الطليعة) المطبوعة ص 4: «وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام حتى نسب إليه الكذب في الرواية» فتعرض الأستاذ لذلك في الترحيب ص 48 وتوهم أو أو هم أنني إنما بنيت على ما في الحكاية التي ينقلها مما نسب إلى مالك من قوله « ... كذاب» فأعاد الأستاذ الحكاية هنالك ثم قال: «أهذا قولي أم قول مالك أيها الباهت الآفك؟ ‍‍!» . فأقول: أما قولك، فقد قدمت ما فيه من إفهام أن هشاماً افترى تلك الحكاية

_ (1) وهكذا في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من مقدمة كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.

محاولة الكوثري إثبات أن الأئمة يوثقون الرجل وإن علموا أنه يكذب في الكلام

انتقاماً من مالك، وأما قول مالك فلم يصح بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ أنه اقتصر فيما تظاهر به في صدر الحاشية من محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله: «من انفرادات الساجي» وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظ ثقة ثبت، وإن حاول في موضع آخر أن يتكلم فيه كما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، هذا مع جزمه في المتن بقوله: «لقول مالك فيه» والحكاية أخرجها الخطيب في (تاريخ بغداد) ج 1 ص 223، وتعقبها بقوله: «فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا» . يعني أحمد بن محمد البغدادي، وبغدادي لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولاً، فهذا هو المسقط لتلك الحكاية من جهة السند، ويسقطها من جهة النظر أن مالكاً احتج بهشام في الموطأ مع أن مالكاً لا يجيز الأخذ عمن جُرب عليه كذب في حديث الناس فكيف الرواية عنه فكيف الاحتجاج به؟! صح عن مالك أنه قال: «لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يتهم أن يكذب على رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... » أسنده الخطيب في (الكفاية) ص 116 وذكره ابن عبد البر في (كتاب العلم) كما في (مختصره) ص 122 وقال: «وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد ... » . وكأن الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاول أن يدخل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غض من أبي حنيفة وهكذا ما يرويه

طعن الأستاذ في الأئمة الثلاثة

أحدهم عن غيره مما فيه غض من أبي حنيفة ولومن بُعد كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كل كلام إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ولو- والعياذ بالله - تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون، أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيق الأئمة للرواة كلام ليس فيه إسناد خبر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن أن يكذبوا فيه، وتوثيق من بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذباً وإن كان قائله ثقة، وهكذا رواية من بعد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام، وبالجملة فيشمل ذلك سائر كلمات الجرح والتعديل، والمدح والقدح، قولها وروايتها، وحكاية مقتضيها وروايته، وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين وغير ذلك فكله كلام. وسيأتي تمام الكلام في القاعدة الأولى من قسم القواعد إن شاء الله تعالى. وأما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد فسيأتي إن شاء الله تعالى في تراجمهم ويكفي العبارة التي قالها في (التأنيب) في معرض الثناء عليهم زعم، ونقلها في (الترحيب) في معرض التبرؤ عن الطعن فيهم. وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يفرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصل من مجموع كلامه في (التأنيب) ، ويرى أنه قد تفضل على الأئمة الثلاثة وجامل أتباعهم بأن أو هم في بعض عباراته رفعهم عن تلك المنزلة قليلاً، فلما رآني لم أعتد بذاك الإيهام الفارغ كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته ويفهم العلماء أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهو ا. وتمام الكلام في التراجم إن شاء الله تعالى.

4- فصل: فيه الرد على دعوى الأستاذ أن ما روي من المثالب في أبي حنيفة إنما كان بعد فتنة القول بخلق القرآن

الفصل الرابع ذكر الأستاذ في (التأنيب) أسباباً اقتضت المنافرة بين الحنفية ومخالفيهم وأطنب في فتنة القول بخلق القرآن، ثم ذكر في (الترحيب) ص 18 - 19 أنه يتحتم علي أن أدرس ملابسات تلك الفتنة، يريد أن الدعاة إليها كانوا من أتباع أبي حنيفة كبشر المريسي وابن أبي داود، ونسبوا تلك المقالة إلى أبي حنيفة، وساعدهم حفيده إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة واستحوذوا على الدولة فسعت في تنفيذ تلك المقالة بكل قواها في جميع البلدان فكان علماء السنة يكلفون بأن يقولوا: إن القرآن مخلوق، فمن أجاب مظهراً الرضا والاعتقاد صار له منزلة وجاه في الدولة وأنعم عليه بالعطاء وولاية القضاء وغير ذلك، ومن أبى حرم عطاءه وعزل عن القضاء أو الولاية ومنع من نشر العلم، وكثير منهم سجنوا ومنهم من جلد، ومنهم من قتل، وأسرف الدعاة في ذلك حتى كان القضاة لا يجيزون شهادة شاهد حتى يقول إن القرآن مخلوق، فإن أبي ردوا شهادته، ومن أجاب مكرهاً ربما سجنوه وربما أطلقوه مسخوطاً عليه، وفي كتاب (قضاة مصر) طرف من وصف تلك المحنة. فيرى الأستاذ أن ذلك أو غر صدور أصحاب الحديث على أبي حنيفة فكان فيهم من يذمه ومنهم من يختلق الحكايات في ثلبه. فأقول ليس في ذلك ما يبرر صنيع الأستاذ. أما أولا فلأن أصحاب الحديث منهم من صرح بأنه لم يثبت عنده نسبة تلك المقالة إلى أبي حنيفة، كما رواه الخطيب من طريق المروذي عن أحمد بن حنبل،

حديث: "أبو حنيفة سراج أمتي" من وضع بعض الحنفية

ومنهم من وقعت له روايات تنسب إلى أبي حنيفة بأن القرآن غير مخلوق، وتلك الروايات معروفة في (تاريخ بغداد) و (مناقب أبي حنيفة) وغيرها، فكيف يظن بهم أن يحملوا على أبي حنيفة ذنباً يرونه بريئاً منه ويخرجوه من صفهم مع عدم استغنائهم عنه إلى صف مخالفهم؟. وأما ثانياً: فهل يريد الأستاذ أن يستنتج من ذلك أن أصحاب الحديث صاروا كلهم بين سفيه فاجر كذاب، وأحمق مغفل يستحل الكذب الذي هو في مذهبه من أكبر الكبائر وأقبح القبائح؟ فليت شعري عند من بقي العلم والدين؟ أعند الجهمية الذين يعزلون الله وكتبه ورسله عن الاعتداد في عظم الدين وهو الاعتقاديات ويتبعون فيها الأهواء والأوهام؟ ! يقال لأحدهم قال الله عز وجل ... ، وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فتلتوي عنقه ويتقبض وجهه تبرماً وتكرهاً، ويقال له: قال ابن سينا ... ، فيستوي قاعداً ويسمو رأسه وينبسط وجهه وتتسع عيناه وتصغي أذناه كأنه يتلقى بشرى عظيمة كان يتوقعها. فهل هذا هو الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص يا أستاذ!! وأما ثالثاً: فإن ما يسميه الأستاذ «مثالب أبي حنيفة» أكثرها كان معروفاً قبل المحنة ولهذا احتاج الأستاذ إلى مساورة كبار الأئمة وأركان الدين وجبال الأمة مثل أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وسفيان بن سعيد الثوري وحماد بن سلمة. وأما رابعاً: فقد أثبتها في كتبه أو أثبت مقتضاها من عاصر المحنة وعرف ما لها وما عليها كيعقوب بن سفيان والبخاري وهل يتهم البخاري إلا مجنون؟. وأما خامساً: فإن تلك المشادة لم تقتصر على أصحاب الحديث بل كان لأصحاب أبي حنيفة النصيب الأوفر من اختلاق الحكايات في مناقبه، بل جاوزوا ذلك إلى وضع الأحاديث كحديث: «يكون في أمتي رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي» ، وزاد بعضهم فيه «وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من إبليس»

فرية أخرى ضمها بعضهم إلى الحديث السابق أن بين كتفي أبي حنيفة خال، مضارعة لخاتم النبوة

وتناول الأعاجم هذه الفرية فاختلقوا لها قاعدة طرق وقبلها علماء الحنفية واحتجوا بها، حتى إن البدر العيني شارح (صحيح البخاري) الذي يحاول الأستاذ تفضيله على الحافظ الشهاب ابن حجر ويقول في تفضيل شرحه على (فتح الباري) : «وليس الشهاب كل حين بثاقب، بينما البدر ملتمع الأنوار من كل جانب» . (1) ذكر العيني تلك الطرق ثم قال: نقله الأستاذ في (التأنيب) ص 30 «فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرق مختلفة (بل مختلقة) ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا يدل على أن له أصلاً وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يدعون أنه موضوع، وربما كان هذا من أثر التعصب، ورواة الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام ... » . ولا أدري أأقول هذا مبلغ علم العيني أم مبلغ تعصبه؟ وقد سعى الأستاذ في تأييد كلام العيني وسيأتي الكلام في ترجمة محمد بن سعيد البورقي إن شاء الله تعالى. والذي تفنن في طرق تلك الفرية هو يونس بن طاهر النضري الملقب شيخ الإسلام ومن جملة رواياته ما ذكر الموفق في (مناقبه) ج 1 ص 16 من طريق النضري بسنده «رأى أبو حنيفة في المنام ... فارتحل إلى البصرة فسأل محمد بن سيرين عن هذه الرؤيا فقال: لست بصاحب هذه الرؤيا صاحب هذه الرؤيا أبو حنيفة، فقال: أنا أبو حنيفة، فقال: اكشف عن ظهرك، فكشف، فرأى بين كتفيه خالاً فقال له محمد بن سيرين: أنت أبو حنيفة الذي قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يخرج في أمتي رجلٌ يقال له أبو حنيفة بين كتفيه خال يحيى الله على يديه السنة» ، ولا يخفي ما في ذكر الخال بين الكتفين من المضارعة لخاتم النبوة. فالأستاذ عافانا الله وإياه يأخذ روايات الحنفية في مناقب أبي حنيفة كأنها مسلمة بل يصرح بأنها متواترة ويتجلد حق التجلد فيدافع عن أحمد بن محمد بن

_ (1) لا أحب أن أناقش الأستاذ في هذا فإنه يعرف حقيقة الحال، والله المستعان.

دفاع الأستاذ عمن أجمعوا على تكذيبه، وطعنه فيمن أجمعوا على أنهم أئمة أثبات

الصلت كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، ويطعن في أئمة الدين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وعبد الله ابن الزبير الحميدي وأضرابهما كما يأتي في التراجم إن شاء الله تعالى مع أن ابن الصلت مُجمَع على تكذيبه، والفزاري والحميدي وجماعة من أضرابهما الذين طعن الأستاذ مجمع على أنهم أثبات. ولا ريب أن في أتباع أصحاب الحديث جهالاً ومغفلين وفجاراً وأنه وقع من هؤلاء الكذب، ولولا أن الخطيب اجتهد فلم يورد في حكايات الغض ما بان له سقوطه لجاء بالعجب العجاب لكن الجهل في الجانب الآخر أعم وأطم لغلبة الجهل بالسنة، وقلة الرواية التي يراقب صاحبها ألسنة النقاد صباح مساء ويخاف أن يفقد رأس ماله بكلمة واحدة منهم. وكان مقتضى الحكمة إتباع ما مضى عليه أهل العلم منذ سبعمائة سنة تقريباً من سدل الستار على تلك الأحوال وتقارض الثناء واقتصار الحنفية في بعض المناسبات على التألم من الخطيب بأنه أورد حكايات لا تصح، فيقتصرون على هذا الإجمال ونحوه ولا يطعنون في الخطيب ولا في راوٍ بعينه ويعوضون أنفسهم بالاستكثار من روايات المناقب، فإن جاوز بعضهم ذلك فعلى قدر ومراعاة للجانب الآخر، فليت الأستاذ اكتفى بما يقرب من ذلك وطوى الثوب على غرة، فإن أبت نفسه إلا بعثرة القبور فليتحر الحق إما تديناً، وإما علماً بأن في الناس بقايا وفي الزوايا خبايا. أما أنا فقدمت بيان مقصودي ولا شأن لي بما عداه ولو ألجئت إلى نقد الروايات من الجانبين لتحريت الحق إن شاء الله تعالى، وذلك بالنظر في أحوال الرواة من الفريقين فمن وثقه أهل العلم فلا بد من قبوله، ولا يعد ميله إلى أبي حنيفة ولا انحرافه عنه مسوغاً لاتهامه بالكذب، كما سيأتي في قاعدة التهمة إن شاء

الله تعالى، ولا يلزم من ثقته بنفسه توجه الذم ولا تحقق المدح لما تقدم في الفصل الثاني، كما لا يلزم من اتجاه عدم قبول المروي سقوط رجال السند كلهم، بل ولا سقوط المتفرد به وإن كان من فوقه في السند كلهم ثقات أثباتاً لاحتمال الخطأ والغلط والتأويل وغير ذلك كما يعترف الأستاذ، نعم قد لا يكون مساغ لشيء من ذلك ويتحقق البطلان لكن الحكم بمثل هذا يحتاج إلى معرفة بالغة وإطلاع واسع؛ وصدر غني بالتقوى بعيد عن الهوى. وسترى في التراجم ما ترى إن شاء الله (1) .

_ (1) وأين التقوى ممن يكذب على الله ورسوله - مع عمله بذلك - وما عهدنا بأتباعه ببعيد، وعلى الأخص ما نشروا من رسائل ومقالات تحت أسماء مستعارة غالبا دون خوف من الله أو حياء من الناس ومنها: "الرد على صلاة التراويح" والتعليق عليها، و"التقرير عن شرح العقيدة الطحاوية" و"رسائل أرشد السلفي" و"مقالات عبد الله ابن عبد الجبار العلي" و"لعبة ... د. محمد راتب قولي" و"الرسائل التسع" و"الأمة العربية في تحقيق معركة الذات" و"دراسات تاريخية" و"حديث المزارعة عند أبي داود" و"رسائل أبي نوفل" و"ويلك آمن" ... إلخ. ولتفصيل ذلك مكان آخر إن شاء الله. زهير الشاويش.

5- فصل: فيه أن الأستاذ من أهل الرأي وغلاة المقلدين

الفصل الخامس الأستاذ من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه، ومن مقلدي المتكلمين، ومن المجارين لكتاب العصر إلى حد ما وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات، ودربة على التمحل في ردها، وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها. أما أهل الرأي فهذه بدايتهم في (الصحيح) عن أبي هريرة قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله الموعد، إني كنت امرءاً مسكيناً أصحب رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... » ومن تتبع السيرة والسنة علم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسألة وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان، ثم كان معظم أصحابه لا يحدثون بالحديث عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إلا عندما تدعو الحاجة، ومن لازم ما تقدم مع احتمال نسيان بعضهم أو موته قبل أن يخبر بالحديث أن يكون كثير من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة، ثم تفرق الصحابة في الأقطار فمنهم من هو في باديته ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كل جهة أحاديث من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر - كما روي عن مالك - ثم اجتهد أصحاب الحديث في

جمع السنة من كل وجه. وقد علم من الشريعة أنه ليس على العالم الإحاطة بالعلم كله، وأن من شهد له أهل العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاء أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليل فإن لم يجد وعرف أن لبعض الصحابة قولاً في تلك المسألة لم يعلم له مخالفاً أخذ به وإن علم خلافاً رجح، فإن لم يجد قول صحابي ووجد قول تابعي ممن تقدمه لم يعلم له مخالفاً فيه أخذ به وإن علم خلافاً رجح. وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالم قول من كان ببلده من الصحابة أو التابعين لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق هذا مع ما للإلف والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئاً مما تقدم اجتهد رأيه وقضى وأفتى بما يظهر له. ثم إذا قضى أو أفتى مستنداً إلى شيء مما تقدم ثم وجد دليلاً أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقاً أخذ من حينئذ بالأقوى. على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم كما هو مبسوط في مواضعه ومنها (إعلام الموقعين) . وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصاً، وكان منهم من يتوسع في ذلك، ثم نشأ من أهل العلم ولا سيما بالكوفة من توسع في ذلك، وتوسع في النظر في القضايا التي لم تقع وأخذوا يبحثون في ذلك ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك، واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبين وغير ذلك، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: «إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم» راجع (إعلام

محاولة الحنفية استنباط أصول ليعتذروا بها عن الأحاديث التي رووها

الموقعين) طبعة مطبعة النيل بمصر ج 1 ص 62 وراجع (كتاب العلم) لابن عبد البر. فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم فيه لمخالفتهم ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس) ، فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بداً من الأخذ به، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها إتباعا، وتلك التي ردوها مع قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم ربما أخذوا بشيء من النقل ثم بلغهم من السنة ما يخالفه أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح فقنعوا بالرأي كما ترى أمثلة لذلك في قسم الفقهيات ولا سيما في مسألة ما تقطع فيه يد السارق. وهذا ديدنهم وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم. ولهذا بينما تجد الحنفية يتبجحون بأن مذهب أبي حنيفة وسائر فقهاء العراق تقديم الحديث الضعيف على القياس. وقد ذكر الأستاذ ذلك في (التأنيب) ص 161، إذا بهم يردون كثيراً من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها آراء سلفهم وآراءهم التي أخذوا بها، وقد كان الشافعي ينعى عليهم ذلك، ومن كلامه كما في (سنن البيهقي) ج 1 ص 148: «والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض ولكنه يتبع الآثار، فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميداً، ولكنه يرد منها الصحيح الموصول المعروف ويقبل الضعيف المنقطع» . فالحنفية يعرفون شناعة رد السنة بالرأي ولكنهم يتلمسون المعاذير فيحاولون

استنباط أصول يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث التي ردوها بعذر سوى مخالفة القياس وسوى الجمود على إتباع أشياخهم، ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطرد لهم لأن أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها ولهذا يكثر تناقضهم، وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم بل من تدبر ما كتبوه في أصول الفقه بان له كثير من التناقض، كما ترى المتأخر منهم يخالف المتقدم حتى أن الأستاذ الكوثري ذكر في (التأنيب) ص 152 - 153 عدة أصول لمحاربة السنن الثابتة ومنها ما خالف فيه من تقدمه منهم، ولما تعقبته في (الطليعة) ص 102 في قوله: «عنعنة قتادة متكلم فيها» بأن الحديث في (صحيح البخاري) وفيه «حدثنا قتادة حدثنا أنس ... » وفي مسند أحمد وفيه «أن قتادة أن أنساً أخبره ... » أجاب في (الترحيب) ص 49 بقوله من مذهب أبي حنيفة أيضاً كما يقول ابن رجب في (شرح علل الترمذي) رد الزائد إلى الناقص في الحديث متناً وسنداً. وهذا احتياط بالغ في دين الله ... فهل عرفت الآن يا معلمي مذهب الإمام لتقلع عن نسج الأوهام» (1) . هذا والأستاذ يعلم أولاً أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يكفي في إثباتها قول رجل حنبلي بينه وبين أبي حنيفة عدة قرون! ويعلم ثانياً ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا. ويعلم ثالثاً أن قول الراوي: «قتادة عن أنس» وقوله مرة أخرى أو قول غيره: «قتادة حدثنا أنس» ومرة أخرى: «قتادة أن أنساً أخبره» ليس من باب النقص والزيادة وإنما هو من باب المحتمل والمعين أو المجمل والمبين. ويعلم رابعاً أن أصل الحنفية الاحتجاج بالمنقطع، فما لم يتبين انقطاعه بل هو متردد بين الاتصال والانقطاع أولى، فإذا ثبت مع ذلك اتصاله من وجه آخر فآكد. ويعلم خامساً أنه لا ينبغي له أن يدافع عن نفسه بإلقاء التهم على إمامه.

_ (1) يلاحظ أن العلامة المعلمي يخاطب الكوثري بـ: (الأستاذ) ، و (العلامة) ... والكوثري يخاطبه بهذه الجلافة. زهير

رد المتكلمين للأحاديث الصحيحة

فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يموه به الأستاذ فالتحري البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث فلا نعيده. هذا وحديث الرضخ سيأتي بسط الكلام فيه في الفقهيات إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه بل أربى عليهم جميعاً كما تراه في (الطليعة) ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافة فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيراً.! وأما المتكلمون فأول من بلغنا أنه خاض في ذلك عمرو بن عبيد، ذكر له حديث يخالف هواه، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمرو «لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله - عز وجل - يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا» (1) وتعدى إلى القرآن فقال في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} . «لم يكونا في اللوح المحفوظ» كأنه يريد أن الله تبارك وتعالى لم يكن يعلم بما سيكون من أبي لهب ومن الوحيد. ثم كان في القرن الثاني جماعة ممن عرف بسوء السيرة والجهل بالسنة ورقة الدين كثمامة بن أشرس والنظام والجاحظ

_ (1) ساقه الذهبي في ترجمة عمرو بن عبيد في «الميزان» مساق المسلمات. ن

كتاب العصر لا يعرفون معظم الموانع من الكذب

خاضوا في ذلك كما أشار إليه ابن قتيبة وغيره، وجماعة آخرون كانوا يتعاطون الرأي والكلام يردون الأخبار كلها، وآخرون يريدون أخبار الآحاد أي ما دون المتواتر، كسر الله تعالى شوكتهم بالشافعي حتى أن شيوخه ومن في طبقتهم من الأكابر كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي انتفعوا بكتبه قال الشافعي في (الأم) ج 7 ص 250 «باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها» ثم ذكر مناظرته لهم. ثم قال بعد ذلك: «باب حكاية قول من رد خبر الخاصة» فذكر كلامه معهم. وبسط الكلام في ذلك في (الرسالة) ، وفي (كتاب اختلاف الحديث) . ثم كانت المحنة وويلاتها وكان دعاتها لا يجرؤون على رد الحديث وسيأتي في ترجمة علي بن عبد الله بن المديني بعض ما يتعلق بذلك، ثم جاء محمد بن شجاع بن الثلجي فلم يجرؤ على الرد وإنما لفق ما حاول به إسقاط حماد بن سلمة كما يأتي في ترجمة حماد إن شاء الله تعالى، وجمع كتاباً تكلف فيه تأويل الأحاديث وتبعه من الأشعرية ابن فورك في كتابه المطبوع ثم اشتهر بين المتكلمين أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل ونحوها من الاعتقاديات وصرحوا بذلك في كتب الكلام والعقائد كالمواقف وشرحها، والأمر أشد من ذلك كما يأتي في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى. والأستاذ يدين بالكلام ويتشدد. ومع هذا كله فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمين لم يقدموا على اتهام الرواة الذين وثقهم أهل الحديث، وإنما يحملون على الخطأ والغلط والتأويل وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي والمقلدين، أما الأستاذ فبرز على هؤلاء جميعاً! وأما كتاب العصر فإنهم مقتدون بكتاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإسلاميات ونحوها وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منه. فمن الموانع التدين والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة وقد قال سبحانه {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} وفي

(الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «علامة المنافق ثلاث وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا أتمن خان وإذا وعد أخلف» وإخلاف الوعد أغلب ما يكون إذا كان الوعد كذباً، والخيانة تعتمد الكذب كما لا يخفى. وقال أبو بكر الصديق «الكذب مجانب للإيمان» (1) فأما توهم حل الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة لأن حظر الكذب مطلقاً هو من أظهر الأحكام الشرعية. وأولئك الكتاب لا يعرفون هذا المانع لأنهم لا يجدونه في أنفسهم ولا يجدون فيمن يخالطونه من تقهرهم سيرته على اعتقاد اتصافه بهذا المانع لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين. ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ (الأغاني) ونحوها وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة، كان فجرة الإخباريين يضعون تلك الحكايات لأغراض منها دفع الملامة عن أنفسهم - يقولون ليس هذا العيب خاصاً بنا بل كان من قبلنا كذلك حتى المشهورون بالفضل. ومنها ترويج الفجور والدعاية إليه ليكثر أهله فيجد الداعي مساعدين عليه ويقوي عذره. ومنها ترغيب الأمراء والأغنياء في الفجور وتشجيعهم عليه ليجد الدعاة المتأدبون مراعي خصبة يتمتعون فيها بلذاتهم وشهواتهم. ومنها التقرب إلى الأمراء والأغنياء بالحكايات الفاجرة التي يلذ لهم سماعها إلى غير ذلك. وما يوجد في تلك الكتب من الصدق إنما يصور طائفة مخصوصة كالأمراء المترفين والشعراء والأدباء ونحوهم. ولو عكف أولئك الكتاب على كتب السنة ورجالها وأخبارهم لعلموا أن هذه الطائفة وهي طائفة أصحاب الحديث كان ذلك المانع غالباً فيهم. وقد احتج بعضهم بما في (الأغاني) في أخبار عمر بن أبي ربيعة

_ (1) أخرجه أحمد بسند صحيح. ن.

من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت (وهو عبد العزيز بن عمران) عن محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه قال قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام ... » ولو راجع تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث وفكر في أحوالهم وفي حال القصة لعلم بطلان القصة حتماً. ومن الموانع خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكتاب يعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر المادي فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفاً من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم. بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالباً وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق بل لعلها تتعطل الأسواق فليتدبر القارئ ذلك. فأما الشطر المعنوي فإن أولئك الكتاب لا يقدرون قدره فأقول: كان العرب يحبون الشرف ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل وفي أوائل (صحيح البخاري) في قصة أبي سفيان بن حرب أن هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بمن كان بالشام من تجار قريش فأتى بأبي سفيان ورهط معه قال «ثم دعاهم ودعا ترجمانه وقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسباً، قال أدنوه مني وقربه أصحابه فجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم أني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبه قال: فوالله لولا الحياة من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه قال ابن حجر في «فتح الباري» : وفي قوله يأثروا دليل دون قوله يكذبوا دليلاً على أنه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ترك ذلك استحياءً وأنفة من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذاباً وفي رواية ابن اسحق التصريح بذلك» أقول وهذا هو الذي أراده هرقل ثم جاء الإسلام فشدد في تقبيح الكذب جداً حتى قال الله عز وجل {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً كذب عليه فبعث علياً والزبير وقال «أذهبا فإن

حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل من كذب عليه

أدركتماه فاقتلاه» . (1) وتوهم رجل من صغار الصحابة أمراً وأخبره بما توهمه وما يقتضيه ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة إذ أنزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، ثم كان الصحابي يرى إكرام التابعين له وتوقيرهم ويبجلهم ما لا يخفي أثره على النفس ويعلم أنه إن بان لهم من أنه كذب كذبة سقط من عيونهم ومقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمناً وإنما كان منافقاً. وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال ودام ذلك زماناً ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث، وكان التابعون إذا سمعوا حديثاً من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة ولم يبلغنا أن أحداً منهم كذب صاحبه غاية الأمر أنه قد يخطئه، وكان المهلب بن أبي صفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رخص فيه للمحارب من التورية الموهمة فعاب الناس عليه ذلك حتى قيل فيه: أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشح لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائباً في الطلب والحفظ والجمع ليلاً ونهاراً ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان ويقاسى المشاق الشديدة كما هو معروف في أخبارهم ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه، وفي (تهذيب التهذيب) ج 11ص 183 «قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: «كنت قاضياً وأميراً

_ (1) أخرجه الطحاوي في «مشكل الإثارة» (1/ 164- 165) من حديث بريده، والطبراني في «طرق حديث من كذب علي» (ق 47/ 1) من حديث عبد الله بن الحارث، وفي «المعجم الكبير» عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي «الأوسط» وعنه الضياء في «المختارة» عن عبد الله بن عمرو. ن

ووزيراً ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (1) من ذكرت؟ رضي الله عنك» وفيه ج 6 ص 314: «روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني» وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبعوا بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب كذب على البغلة بإيهامها أن المخلاة شعيراً والواقع أنه ليس فيها شيء. وفي (تهذيب التهذيب) ج 11ص 284 «وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه فسألته أن يملي علي شيئاً فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا؟ ... فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: «قدم علينا عبد الوهاب ابن عطاء فكتب إلى أهل البصرة: وقدمت بغداد وقبلني يحيى ابن معين والحمد لله» فمن تدبر أحوال القوم بان له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب، كما أنه من تدبر كثرة ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه وتدبر تعنت أئمة الحديث بان له أنه

_ (1) كان إذا كثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيت يسمع إملاء الشيخ الحديث ويستفهمه فيما يخفي ثم يعيد بصوت عال ليسمعه الحاضرون فهذا الرجل يقال له المستملي. وأحيانا يكون أكثر من واحد، كما يروى عن مجالس وعظ ابن الجوزي حيث يحضرها أكثر من ثلاثين ألفاً. - زهير

التعجب من أولئك الكتاب الذين يلاحظون الموانع في عصرهم هذا فيثقون بخبر من يعلمون صدقه ولو كان مخالفا للقرائن

ليس العجب ممن جرحوه بل العجب ممن وثقوه. ومن العجب أن أولئك الكتاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا بل في وقائعهم اليومية فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق فيثقون بخبره ولو كان مخالفاً لبعض ما يظهر لهم من القرآن بحيث لو كان المدار على القرائن لكان الراجح خلاف ما في الخبر، ويعرفون آخر بأنه لا يتحرز عن الكذب فيرتابون في خبره ولو ساعدته قرائن لا تكفي وحدها لحصول الظن، وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها فمن الصحف ما تعود الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن، وفيها ما هو على خلاف ذلك. وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائمة على الأخبار الظنية، ولو التزم الناس أن لا يعملوا بخبر من عرفوا أنه صدوق حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره لاستغنوا عن الأخبار بل لفسدت مصالح الدنيا. ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكتاب من الحق ولكني أقول: ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظناها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن أليس يكثر فيها الخطأ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم وطباع أهله وأغراضهم وسهو لة الإطلاع على العلامات والقرائن، فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع العمر ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع، ثم يقع، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح. والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم، فأما التي مضت عليها قرون والباحثون عنها قليل فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متديناً محترساً من الهوى، على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكتاب بل كثيراً ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره ويحاول اصطناع خلافها وسد الفراغ بالتهويل والمغالطة كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب وأسال الله لي وله التوفيق.

القسم الأول: في القواعد

القسم الأول: في القواعد

1- رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

1- رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي تقدم في الفصل الثالث قول مالك «لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في حديث الناس إذا جرب عليه ذلك وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... » أسنده الخطيب في (الكفاية) ص 116 إلى مالك كما تقدم ثم قال ص 117 «باب في أن الكاذب في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته - قد ذكرنا آنفاً قول مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبت توبته» ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند ص 23 -24 إلى الشافعي « ... ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه ... » وهذه العبارة ثابتة في رسالة الشافعي. وفي «لسان الميزان» ج 1 ص 469: «قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريراً (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد سمع من هشام بن عروة ولكنه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه» وفي (النخبة وشرحها) : «ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء ... ترتيبها على الأشد فالأشد في موجب الرد

على سبيل التدلى ... ) (إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبوي ... متعمداً لذلك (أو تهمته بذلك) بأن لا يروي ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفاً للقواعد المعلومة، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وهو دون الأول. (أو فحش غلطه) أي كثرته (أو غفلته) عن الإتقان (أو فسقه) ... (أو وهمه) بأن يروي علي سبيل التوهم (أو مخالفته) أي الثقات (أو جهالته) ... (أو بدعته) ... (أو سوء حفظه) ... » هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام ترد به الرواية مطلقاً وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتب عليها ضرر ولا مفسدة وقد ساق صاحب (الزواجر) الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال ج2 ص 169 «عد هذا هو ما صرحوا به قيل لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقاً بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء وقد لا يكون - انتهى - وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتد ضرره بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة بل صرح الروياني في (البحر) بأنه كبيرة وإن لم يضر فقال: من كذب قصداً ردت شهادته وإن لم يضر بغيره لأن الكذب حرام بكل حال. وروى فيه حديثاً. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه وكأن وجه عدولهم ذلك ابتلاء أكثر الناس به فكان كالغيبة على ما مر فيها عند جماعة» . أقول لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يتسامح في الراوي لوجوده: الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة فإن الشهادة تترتب على خصومة ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس ويتعرض للجرح فوراً، فمن جربت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر فخوف أن يجره تساهله في ذلك إلى التساهل في الرواية أشد من خوف أن يجره إلى شهادة الزور. الثاني: أن عماد الرواية الصدق ومعقول أن يشدد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدد في

بيان أن الكذب في رواية أثر عن صحابي أو تابعي أو عالم من بعده وفي تعديل بعض الرواة والتجريح قد يترتب عليه من الفساد أكثر من الكذب

الشهادة وقد خفف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفف في الشهادة، تقوم الحجة بخبر الثقة ولو واحداً أو عبداً أو امرأةً أو جالب منفعة إلى نفسه أو أصله أو فرعه أو ضرر على عدوه كما يأتي بخلاف الشهادة، فلا يليق بعد ذلك أن يخفف في الرواية فيما يمس عمادها. الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشد جداً من الضرر الذي يترتب على شهادة الزور فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية أكد وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته، والتخفيف في الرواية بما تقدم من قيام الحجة بخبر الرجل الواحد وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط لأن لذلك التخفيف حكماً أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك فتزداد تخفيفاً على تخفيف. الرابع: أن الرواية يختص لها قوم، محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس لأن المعاملات والحوادث التي يحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد ولا يحضرها غالباً إلا أو ساط الناس وعامتهم الذين ينشأون على التساهل فمعقول أنه لو ردت شهادة كل من جربت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جداً، ولا كذلك الرواية. نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه وصاحبه مع ذلك مستوحش منه ربما يغتفر. والله أعلم. فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث فلا خفاء في سقوط صاحبه، فإن الكذب في الرواية أثر عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقاً للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويرد به بعض أهل العلم حديثاً رواه ذاك الصحابي يخالفه ذلك القول ويأتي نحو ذلك في الكذب في رواية قول عن التابعي، أو عالم ممن بعده، وأقل ما في ذلك أن يقلده العامي.

رمي الأستاذ بعض الأئمة بتعمد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل

وهكذا الكذب في رواية تعديل لبعض الرواة فإنه يترتب عليه قبول أخبار ذلك الرواي وقد يكون فيها أحاديث كثيرة فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الكذب في رواية الجرح فقد يترتب عليها إسقاط أحاديث كثيرة صحيحة وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله «هو ثقة» «هو ضعيف» فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه وتترتب عليه مضار شديدة ومفاسد عظيمة فلا يتوهم محل للتسامح فيه على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع [في] حديث الناس. فالأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمن دونهم من ثقات الرواة بتعمد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه مقبولين كذا يقول (1) وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعاً. وليت شعري من الذي يعادي أبا حنيفة أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذب عنه إلا بمثل هذا الباطل أم من يقول: يمكن المتحري للحق أن يذب عنه بدون ذلك؟ تنبيه: ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهراً في خلاف الواقع محتملاً للواقع احتمالاً قريباً وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور بحيث إذا تدبر السامع صار الخبر عنده محتملاً للمعنيين على السواء كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء، وكالكلام المرخص به في الحرب، وكالتدليس فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله: «قال فلان» ويسمى شيخاً له ظاهراً في الاتصال بل يكون محتملاً، وهكذا من عرف بالمزاج إذا مزج بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يرد بها ظاهرها وإن كان

_ (1) وسيأتي ما فيه في القاعدة الآتية.

2- التهمة بالكذب

فيهم من لا يعرف ذلك إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبه في المجلس، وهكذا فلتأت الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثاني، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في رسالتي في أحكام الكذب فأما الخطأ والغلط فمعلوم أنه لا يضر وإن وقع في رواية الحديث النبوي فإذا كثر وفحش من الراوي قدح في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق. 2- التهمة بالكذب تقدم أن أشد موجبات ردُّ الراوي كذبه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك، وفي درجتها كذبة في غير الحديث النبوي، فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحو ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة، وقد ذكر علماء الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين بل درجات ونصوا على أن من كان من أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته سواء منها ما طعن فيه بسببه وغيره. والأستاذ يطعن في جماعة من أئمة السنة والموثقين من رواتها فيرمي بعضهم بتعمد الكذب وبعضهم بالتهمة بذلك ويجمع لبعضهم الأمرين يكذب أحدهم في خبر ويتهمه في آخر، ويجزم بأنهم متهمون في كل ما يتعلق بالغض من أبي حنيفة وأصحابه ولو على بعد بعيد كما يأتي في ترجمة أحمد بن إبراهيم، ويصرح في بعضهم بأنهم مقبولون فيما عدا ذلك، فهل يريد أنهم عدول مقبولون ثقات مأمونون مطلقاً، ولا يعتد عليهم بتكذيب الأستاذ ولا اتهامه لأنه خرق للإجماع في بعضهم ومخالف للصواب في آخرين ولأن الأستاذ لم يتأهل للاجتهاد في الكلام في القدماء، ولأن كلامه فيهم أمر اقتضته مصلحة مدافعة اللامذهبية التي يقول: إنها

بيان أن التهمة تقال على وجهين، وأن من وثقه إمام متقدم دون أن يتهمه غيره فاتهامه في العصر الحاضر مردود

قنطرة اللادينية! كما يقول بعض سلفه من المتكلمين: إن كثيراً من نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الله عز وجل ونحوها صريحة في الباطل مع علم الله عز وجل ورسوله بالحق في نفس الأمر ولكن دعت إلى ذلك مصلحة اجترار العامة إلى قبول الشريعة العملية! (1) فإن كان هذا مراد الأستاذ فالأمر واضح وإلا فإن أراد بالقبول القبول على جهة الاستئناس في الجملة انحصر الكلام معه في دعوى الكذب والتهمة وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن أراد أنهم في ما يتعلق بتلك الشجرة الممنوعة وهي الغض من أبي حنيفة وأصحابه كذابون ومتهمون وفيما عدا ذلك عدول مقبولون ثقات مأمونون، فهذا تناقض وخرق للإجماع فيما نعلم. نعم هناك أمور قد يتشبث بها في دعوى التهمة والعدالة وقد أشار الأستاذ إلى بعضها وسأكشف عنها إن شاء الله. وينبغي أن يعلم أن التهمة تقال على وجهين: الأول: قول المحدثين «فلان متهم بالكذب» وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناذ إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحمل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمد الكذب أم غلط فإذا تدبر وأنعم النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزماً، وقد يميل ظنه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه «متهم بالكذب» أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى. ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحد من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يتهم بعض المتقدمين رجلاً في حديث يزعم أنه تفرد به فيجد له بعض أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح، فأما من وثقه إمام من المتقدمين أو أكثر ولم يتهمه أحد من الأئمة فيحاول بعض أهل العصر أن يكذبه أو يتهمه فهذا مردود لأنه إن تهيأ له إثبات بطلان الخبر عن ذلك الراوي ثبوتاً لا ريب فيه فلا يتهيأ له الجزم بأنه

_ (1) ترى الكلام عن ذلك في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى.

تفرد به، ولا أن شيخه لم يروه قط ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به، بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذبه المتقدمون لكن مع الاستناد إلى كلامهم كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت وترجمة محمد بن سعيد البورقي، وإن كان الأستاذ يخالف في ذلك فيصدق من كذبه الأئمة وكذبه واضح، كما يكذب أو يتهم من صدقوه وصدقه ظاهر، شأن المحامين في المحاكم معيار الحق عند أحدهم مصلحة موكله! هذا والأستاذ فيما يهول بدعوى دلالة العقل والتواتر والنقل الراجح حيث لا ينبغي له دعوى ذلك، وليس من شأني أن أناقشه في كل موضع ولكني أقول: حيث تصح دعواه فلا يصح ما بناه عليها من تكذيب الثقات واتهامهم، وحيث يلزم من صحة الدعوى صحة البناء فالدعوى غير صحيحة، وإنما كتبت هذا بعد فراغي من النظر في التراجم، وأسال الله التوفيق. الوجه الثاني: مقتضى اللغة، والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم وهو كما في (القاموس) «من خطرات القلب أو مرجوح طرفي المتردد فيه» والتهمة بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحب أن يعتقد السامع ثبوته وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه وعلى من بينه وبينه نفرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يحمد عليه وإخباره عمن هو نافر عنه بما يذم عليه وقس على هذا كل ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب. وتلك الدواعي تخفى وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض وتعارضها الموانع من الكذب، وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس، فلذلك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإسلام والعدالة والصدق فمن ثبتت عدالته وعرف بتحري الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره لا يقدح في إخباره أن يقوم بعض تلك الدواعي ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته أو لا يعرف أثر العدالة على النفس أو من له هوى مخالف لذلك الخبر فهو يتمنى أن لا يصح كما قال المتنبي: شق الجزيرة حتى جاءني نبأ ... فزعت منه بآمالي إلى الكذب

بيان مخالفة الشهادة للرواية، وذكر الخلاف في الشهادة للأصل والفرع

حتى إذا لم يدع إلى صدقة أملاً ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي (1) وكأنه أخذه من قول الأول: إني أتتني لسان ما أسر بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر جاءت مرجمة قد كنت أحذرها ... لو كان ينفعني الإشفاق والحذر تأتي على الناس لا تلوي على أحد ... حتى أتتنا وكانت دوننا مضر إذا يعاد له ذكر أكذبه ... حتى أتتني بها الأنباء والخبر وجماعة من الصحابة روى كل منهم فضيلة لنفسه يرون أن على الناس قبول ذلك منهم فتلقت الأمة ذلك بالقبول، وكان من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذم الخوارج فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول، وكثيراً ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبار الرجل منهم بثناء غيره عليه فيتلقى أهل العلم ذلك بالقبول، وقبلوا من الثقة دعواه ما يمكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأصحابه أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك مما فيه فضيلة للمدعي وشرف له وداع للناس إلى الإقبال عليه وتبجيله والحاجة إليه، ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاستيثاق من حال الرواي يسألون إلا عما يمس دينه وعدالته. ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة، وفي (التحرير) لابن الهمام الحنفي مع (شرحه) لابن أمير حاج ج‍3 ص 245: «وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف) وعدم (الولادة) وعدم (العداوة) الدنيوية (فتختص بالشهادة) أي تشترط فيها لا في الرواية» . فأما الشهادة فإن الشرع شرط لها أموراً أخرى مع الإسلام والعدالة كما أشار إليه ابن الهمام وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور وفي غيره من الحدود ونحوها ذكرين، وفي الأموال ونحوها رجلا وامرأتين إلى غير ذلك.

_ (1) في ديوانه: 2/280 برثاء أخت سيف الدولة برواية: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآملي إلى كذب. - زهير-

[فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تقبل، وأما الشهادة للأصل وللفرع] (*) وللزوج وعلى العدو ففيها خلاف، وفي بعض كتب الفقه أن الرد في ذلك لأجل التهمة وظاهر هذا أن التهمة هي العلة فيبني عليها قياس غير المنصوص عليه، وهذا غير مستقيم، إذ ليس كل شاهد لنفسه حقيقا: بأن يتهم، ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدهم لنفسه لم نتهمه ولا سيما إذا كان غنياً والمشهود به يسيراً كخمسة دراهم، والمشهود عليه معروفاً بجحد الحقوق. أقول هذا لزيادة الإيضاح وإلا فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقاً حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحداً منهما بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط، وليس ذلك خاصاً بهم، بل كل من ثبتت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدلونه ولا الواثقون بتعديل المعدلين، فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدلين، ومتى ثبت التعديل الشرعي لم يلتفت إلى من لا يثق به، ولو كان لك أن تعدل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زوراً بخمسة دراهم مثلاً، لكان لك أن تعدل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زوراً، وهذا باطل قطعاً فان تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة، والعدالة «ملكة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... » فكيف يسوغ لك أن تشهد بهذه الملكة لمن تتهمه بما ذكر، ولو كان كل عدل حقيقياً بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل، وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر كأن يدعي صاحبنا على فاجر بمائة درهم فيجحده ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى فيجيء إلى صاحبنا فيقول له أنت تعرف هذه القضية فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا نعم أنا أعرفها ولكنك ظلمتني مائة درهم فأدها إلي إن أردت أن أشهد، فيدفع له مائة درهم فيذهب فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته، وفي أصحابنا من لو ائتمن على مئات الدراهم ثم بعد مدة ادعى ما يحتمل من تلفها أو أنه ردها على صاحبها الذي قد مات لما اتهمناه، نعم قد يتهمه من لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به، فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة فتراه يتهم العدول ولا يكاد يعرف عدالتهم ولو كانوا جيرانه.

_ Q (*) ما بين المعقوفتين ساقط في هذه الطبعة، وهو في طبعة مكتبة المعارف: (1/39) . أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الموسوعة الشاملة

بحث في الشهادة على العدو وتفصيل القول فيها رد منها

فان قيل يكفي في التعليل أن مظنة التهمة ولا يضر تخلفها في بعض الأفراد كما قالوا في قصر الصلاة في السفر أنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالملك المترفه، قلت: العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقة فكذلك تكون العلة في رد الشهادة للنفس هي أنها شهادة للنفس أو دعوى كما يومئ إليه حديث «لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ... » (1) فعلى هذا لا يتأتى القياس، ألا ترى أن في أعمال العمال المقيمين ما مشقته أشد من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة. فإن قيل الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة كما أن الشهادة مظنة لها، قلت فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشق وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل أو الفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، وقد يكون الرجل منفرداً عن أصله أو فرعه وبينهما عدواة. والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع ولم يعرج على التهمة ولكنه لما علم أن جماعة ممن قبله ذهبوا إلى الرد ولم يعلم لهم مخالفاً هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفاً، فحاول الاستدلال بما حاصله أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه ثم قال كما في (الأم) ج 7 ص 42: «وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً» كأنه ذكر هذا تقوية لذاك الاستدلال واعتذاراً عما فيه من الضعف، ولما علم بعض حذاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافاً ذهبوا إلى القبول. وليس المقصود هنا إبطال القول برد الشهادة للأصل والفرع والزوج وإنما المقصود أن الاستدلال عليه بقياس مبني على أن التهمة على غير مستقيم. فأما الشهادة على العدو فالقائلون أنها لا تقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ

_ (1) أخرجه الشيخان في «صحيحيها» واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً. ن

ذاك فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن تبلغ أن تسقط بها العدالة. أقول وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوه على صديقه، ويقوي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه وهذا يتمنى أن يفرح لذبح أطفاله ظلماً والزنا ببناته وارتداد زوجاته ونحو ذلك وقس على ذلك الحزن لفرحه وهذا مسقط للعدالة حتماً، فإن قيل قد يفرح بذلك من جهة أنه يحزن عدوه، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين، قلت: إن لم يغلب حزنه فرحه فليس بعدل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه، ولا يأمن من أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كل ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضرراً قد يكون يسيراً كعشرة دراهم. وهبة صح الرد بالعدواة مع بقاء العدالة فالقائلون بذلك يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه وهذا لا يتأتى للأستاذ إثباته في أحد ممن يتهمهم لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية، وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية فلا تأتي للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحد، أي أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، وهبة بلغ فقد تقدم أن الرواية لا ترد بالعدواة. هذا على فرض مجامعة ذلك للعدالة، وإلا فالرد لعدم العدالة. وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية فالشافعي إنما عنى العصبية لأجل النسب كما هو صريح في كلامه وذلك أمر دنيوي وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية ألبته سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينيه كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدى على أهل الذمة، والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر.

3 - رواية المبتدع

فقد أتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن التشبث به في رد رواية العدل، وبقى حكاية عن شريك ربما يؤخذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا يقبلها في الكثير، وفرع للشافعي قد يتوهم فيه نحو ذلك، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما قاله بعضهم في جرح المحدث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه فإن القاضي قد لا يكون خبيراً بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدلهما غيره فإذا كان المال كثيراً جداً بقي في نفسه ريبة وقد بين أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروي والتثبت فإذا تروى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإنما هم من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد رده إمام الحرمين وقال: إن أكثر الأئمة على خلافة وأما رواية المبتدع وجرح المحدث لمن هو ساخط عليه فأفرد كلا منهما بقاعدة. 3 - رواية المبتدع لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية الإسلام. وأنه إن ظهر عناده أو إسرافه في إتباع الهوى والإعراض عن حجج الحق ونحو ذلك مما هو أدل على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا فليس بعدل فلا تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية العدالة. وأنه إن استحل، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق فلا تقبل روايته.

نص مسلم في مقدمة صحيحه على ترك الرواية عن المتهمين والمبتدعة

وأن من تردد أهل العلم فيه فلم يتجه لهم أن يكفروه أو يفسقوه ولا أن يعدلوه فلا تقبل روايته لأنه لم تثبت عدالته. ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء، والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا تقبل روايته، وأما غير الداعية فكالسني واختلف المتأخرون في تعليل رد الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة فالداعية إليها الذي حقه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالته، وإلى هذا أشار مسلم في مقدمة صحيحه إذ قال: «إعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقى منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقال جل ثناؤه {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فدل بما ذكرنا أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الش|هادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم» . فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك وهو في معنى الفاسق لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته،

توجيه المصنف لقول من رد وراية الداعية إلى بدعته

والداعية الذي الكلام فيه واحد من هذين ولا بد، وقد عرف لأهل العلم العدالة بأنها «ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... » زاد السبكي «وهوى النفس» وقال «لا بد منه فإن المتقى للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة» نقله المحلي في (شرح جمع الجوامع) لابن السبكي ثم ذكر أنه صحيح في نفسه ولكن لا حاجه إلى زيادة القيد قال «لأن من عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه إتباع الهوى لشيء منه وإلا لوقع في المهوي فلا يكون عنده ملكة تمنع منه» أقول: ما من إنسان إلا وله أهو اء فيما ينافي العدالة وإنما المحذور إتباع الهوى ومقصود السبكي تنبيه المعدلين فإنه قد يخفى على بعضهم معنى «الملكة» فيكتفي في التعديل بأنه قد خبر صاحبه فلم يره ارتكب منافيا للعدالة فيعدله ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالبا يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيأ له ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظن المعدل حصول تلك الملكة وهي العدالة لصاحبه بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها فيكون صاحبه ليس بعدل وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه فكيف يشهد بحصولها له؟ كما هو معنى التعديل. وأهل البدع كما سماهم السلف «أصحاب الأهواء» وإتباعهم لأهو ائهم في الجملة ظاهر وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ ومن ثبت تعمده أو اتهمه بذلك عارفوه لم يؤمن كذبه وفي (الكفاية) للخطيب ص 123 عن علي بن حرب الموصلي: «كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي» يريد والله أعلم أنهم مظنة ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته. هذا وإذا كانت حجج السنة بينة فالمخالف لها لا يكون إلا معاندا أو متبعا للهوى معرضا عن حجج الحق وأتباع الهوى والإعراض عن حجج الحق قد يفحش جدا حتى لا يحتمل أن يعذر صاحبه فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه فإنه لولا

أنه معاند أو منقاد لهواه انقيادا فاحشا معرض عن حجج الحق إعراضا شديدا لكان أقل أحواله أن يحمله النظر في الحق على الارتياب في بدعته فيحاف أن كان متدينا أن يكون على ضلالة ويرجو أنه كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه وأحق إن كانوا على خطا أن لا يضرهم ذلك لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة ويحرصون على إتباع سبيل المؤمنين ولزوم صراط المنعم عليهم: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف فيقول في نفسه: هب أنهم على باطل فلم يأتهم من إتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة. ولا ريب أن من كانت هذه حالة فإنه لا يكفر أهل السنة ولا يضللهم ولا يحرص على إدخالهم في رأيه بل يشغله الخوف على نفسه فلا يكون داعية. فأما غير الداعية فقد مر نقل الإجماع على أنه كالسني، إذا ثبتت عدالته روايته، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك، وقيل عن مالك أنه لا يروي عنه أيضاً، والعمل على الأول. وذهب بعضهم إلى أنه لا يروي عنه إلا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته. وحكى بعضهم أنه إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخذ عنه، ولا ريب أن ذلك المروي إذا حكم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله، ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجح أنه تعمد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره، وإذا ترجح أنه أنما أخطأ فلا وجه لمؤاخذته بالخطأ، وإن ترجح صحة ذلك المروي فلا وجه لعدم أخذه، نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغير بعض السامعين بظاهرة فيقع في البدعة، قرأت في جزء قديم من (ثقات العجلي) ما لفظه «موسى الجهني قال جاءني عمرو بن قيس الملائي وسفيان الثوري فقال: لا تحدث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعلي «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (1) كان في الكوفة جماعة يغلون بالتشيع ويدعون إلى الغلو فكره عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا

_ (1) أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» ن.

هذا الحديث فيحملوه على ما يوافق غلوهم فيشتد شرهم. وقد يمنع العالم طلبة الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث لعلمه إنهم أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يروي، لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل ينسب إلى بدعة. هذا وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وكان هو نفسه مبتدعاً منحرفاً عن أمير المؤمنين علي متشدداً في الطعن على المتشيعين كما يأتي في القاعدة الآتية، ففي (فتح المغيث) ص142، «بل قال شيخنا إنه قد نص هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل: ومنهم زائغ عن الحق، وصدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، لكنه مخذول في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمونه بذلك» . والجوزجاني فيه نصب، وهو مولع بالطعن في المتشيعين كما مر، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلة اتفق أئمة السنة على توثيقهم وحسن الثناء عليهم وقبول روايتهم وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم ينسبوا إلى التشيع حتى قيل لشعبة: حدثنا عن ثقات أصحاب، فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة، الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت ومنصور. راجع تراجم هؤلاء في «تهذيب التهذيب» فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلص مما يكرهه من مروياتهم وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت، وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة المأمون في الرواية المقبول حديثه عند أهل السنة إذا روى حديثاً معروفاً عند أهل السنة غير منكر عندهم إلا أنه مما قد تقوى به بدعته فإنه لا يؤخذ وأنه يتهم. فأما اختيار أن لا يؤخذ فله وجه رعاية للمصلحة كما مر، وأما أنه يتهم فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه من عرف بدعته ولم يعرف

صدقه وأمانته ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر فيسيء الظن به بمروياته ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه أنما يحاول هذا المعنى فبهذا تستقيم عبارته، أما الحافظ ابن حجر ففهم منها معنى آخر، قال في (النخبة وشرحها) : «الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن ما يقوي مذهبه فيرد على المذهب المختار، وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي» وسيأتي الكلام معه إن شاء الله تعالى. ولابن قتيبة في كتاب (تأويل مختلف الحديث) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يقبل منه ما يقوي بدعته، ويقبل منه ما عدا ذلك قال: «وإنما يمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه، ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص» كذا قال، واحتج بأن شهادة العدل لا تقبل لنفسه وأصله وفرعه، وقد مر الجواب عن ذلك، ولا أدري كيف ينعت بالصادق من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثق بتقواه وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب بأي وجه كان مناف للتقوى، مجانب للإيمان. ولا ريب أن فيمن يتسم بإصلاح من المبتدعة وكذا من أهل السنة من يقع في الكذب إما تقحماً في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق، ولا يختص ذلك بالعقائد بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها كما يعلم من مراجعة كتب الموضوعات، وأعداء الإسلام، وأعداء السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أموراً عظاماً، ولم يزل الناس يغشون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها، ولم يحل ذلك دون معرفة الصحيح، والخالق الذي

ميل المصنف إلى قبول حديث الداعية مطلقا إذا ثبتت عدالته

هيأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام وتكفل بحفظه إلى الأبد وعنايته بحفظ الدين أشد وأكد لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها، وفي (تهذيب التهذيب) ج 1 ص 152: «قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً؟» وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة لأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعة خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق لعبادته فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا وانقطاع لعلة بقائهم فيها. قال العراقي في (شرح ألفيته) ج 1 ص 267: «روينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث، وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله، وروينا عن ابن المبارك قال: لوهَمَّ رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب» . والمقصود هنا أن من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص على أي وجه كان فلم تثبت عدالته، فإن كان كل من اعتقد أمراً ورأى أنه الحق وأن القربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمن منه ذلك فليس في الدنيا ثقة، وهذا باطل قطعاً، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافة بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل،

وإلا وجب أن لا يحتج بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها، والعدالة «ملكة تمنع من اقتراف الكبائر ... » وتعديل الشخص شهادة له بحصول هذه الملكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له، وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك الملكة تمنعه من تعمد التحريف والزيادة والنقص ومن غلب على الظن غلبة يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك فكيف لا يؤمن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمن أن يقع منه ذلك فلم يغلب على الظن أن له ملكه تمنعه من ذلك، ومن خيف أن يغلبه ضرب من الهوى فيوقعه في تعمد الكذب والتحريف لم يؤمن أن يغلبه ضرب آخر وإن لم نشعر به، بل الضرب الواحد من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة، فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن علي رضي الله عنه ويروي أحاديث منكرة في فضل علي ويقول: «إني لأسخر بهم» يعني بالشيعة، راجح ترجمته في (لسان الميزان) . وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي عن حبان بن هلال أحد الثقات الإثبات عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة عن أبي المهزم (1) عن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت ثم خلق نفسه منها» . وفي (الميزان) أن غرض الجهمية من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر «نفس الله» عز وجل إنما المراد بها بعض مخلوقاته. أقول: ولهم غرضان آخران: أحدهما: التذرع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة كما يأتي في ترجمته. الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل والشيعي الذي لا يؤمن أن يكذب في فضائل أهل البيت لا يؤمن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليرى الناس أنه غير متشدد في مذهبه يمهد بذلك ليقبل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه. وعلى كل حال فابن قتيبة على فضله ليس هذا فنه، ولذلك لم يعرج أحد من

_ (1) قلت: وهذا متروك كما في (التقريب) ن.

أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق. وفي فتح المغيث) ص 140 عن ابن دقيق العيد «إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته وإطفاء لناره وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقة وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره» . ويظهر أن تقييده بقوله: «وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته» وإنما مغزاه إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره بل المصلحة في عدم روايته كما مر، ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به وذلك يدعو إلى التثبيت فيه، وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملاً لهذا المعنى احتمالاً ظاهراً فلا يسوخ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مر فيها. وقال ابن حجر في (النخبة وشرحها) : الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن يروي ما يقوي مذهبه فيرد على المذهب وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي ... وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية وارده، فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية. والله أعلم. أقول الضمير في قوله «فيرد» يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أو قع الرد على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه، وقد قال قبل ذلك «والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة» والمراد برد الراوي رد مروياته كلها. وقد يقال يحتمل عود الضمير على المروي المقوي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه ما عداه، وقد يشعر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني فأقول إن كان معنى الرد على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة، وإن كان محكوماً بصحته فهذا هو المعنى الذي تقدم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني، وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهاماً لصاحبه ويرد معه سائر رواياته فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر

موافقته لعبارة الجوزجاني، وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهاماً لرواية فيه ومع ذلك يبقى مقبولاً فيما عداه فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مر وإنما هو قول ابن قتيبة. وسياق كلام ابن حجر ماعدا استناده إلى قول الجوزجاني يدل على أن مقصودة رد الراوي مطلقاً أورد ذاك الحديث وسائر روايات راويه وذلك لأمور منها أن ابن حجر صرح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا وقد قدم أن العلة في الداعية هي «أن تزين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه، ومن كانت هذه حالة فلم تثبت عدالته كما تقدم فيرد مطلقاً، ومنها أن هذه العلة اقتضت في الداعية الرد مطلقاً فكذلك هنا بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أولى لأن الداعية يرد مطلقاً وإن لم يروما يوافق بدعته وهذا قد روى. هذا وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح، ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهرة بدعهم، وأهل العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها ولا في راويها بروايته لها (1) ، بل في رواية جماعة منهم أحاديث ظاهرة جداً في موافقة بدعهم أو صريحة في

_ (1) كحديث مسلم من طريق الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال قال علي: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، عدي قال فيه ابن معين: شيعي مفرط. وقال أبو حاتم: «صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم» ، وعن الإمام أحمد «ثقة إلا إنه كان يتشيع» وعن الدارقطني «ثقة إلا أنه كان غالياً في التشيع» ووثقه آخرون. ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص، عهد النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: ألا إن آل أبي طالب ليسوا بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحماً سأبلها ببلالها، ورواه غندر عن شيعة بلفظ «إن آل أبي ... » ترك بياضاً، وهكذا أخرجه الشيخان. وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه. ولي في هذا كلام.

الرد عل الكوثري وبيان أن من طعن فيهم هم من أهل السنة فلا ترد روايتهم

ذلك إلا أن لها عللا أخرى، ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعفها أهل العلم بعضها بضعف بعض من فوق الأعمش في السند وبعضها بالانقطاع، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس، ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في «تاريخه الصغير» ص 68 ووهنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين. هذا وقد مر تحقيق علة رد الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمن منه ما ينافي في العدالة فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوي بدعته ولو لم يكن داعية وجب أن لا يحتج بشيء من مرويات من كان كذلك ولو فيما يوهن بدعته، وإلاّ - وهو الصواب - فلا يصح إطلاق الحكم بل يدور مع العلة، فذاك المروي المقوي لبدعة راويه إما غير منكر فلا وجه لرده فضلاً عن رد راويه، وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف، فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة كرميه بتعمد الكذب أو اتهامه به سقط البتة، وإن اتجه الحمل على غير ذلك كالتدليس المغتفر والوهم والخطأ لم يجرح بذلك، وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول من هو أعرف منه أو وقف، وقد مر أوائل القاعدة الثانية بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر فلا تغفل. وبما تقدم يتبين صحة إطلاق الأئمة قبول غير الداعية إذا ثبت صلاحه وصدقه وأمانته، ويتبين أنهم إنما نصوا على رد المبتدع الداعية تنبيهاً على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول وهو ثبوت العدالة. هذا كله تحقيق للقاعدة فأما الأستاذ فيكفينا أن نقول له: هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته فغالب الذين طعنت فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك، والآراء التي تعدها هوى باطلاً، منها ما هو عندهم حق، ومنها ما يسلم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعده بدعة، وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيان وتبين المحق من المبطل أن شاء الله تعالى، وفي الحق ما يغنيك لو قنعت به كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني، ومن لم يقنع

4- قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك

بالحق أو شك أن يحرم نصيبه منه كالرواي يروي أحاديث صادقة موافقة لرأيه ثم يكذب في حديث واحد فيفضحه الله تعالى فتسقط أحاديثه كلها! {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . 4- قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك كلام العالم في غيره على وجهين: الأول ما يخرج الذم بدون قصد الحكم، وفي «صحيح مسلم» وغيره من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهداً لم تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» وفي رواية «فأي المسلمين آذيته شتمته لعنته جلته فاجعلها له صلاة ... » . وفيه نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر، وجاء في هذا الباب عن غير هؤلاء، (1) وحديث أبي هريرة في صحيح البخاري مختصراً. ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبابا ولا شتاماً ولا لعاناً ولا كان الغضب يخرجه عن الحق، وإنما كان كما نعته ربه عز وجل بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وقوله عز وجل {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}

_ (1) أنظر تخريج أحاديثهم في كتابنا «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (رقم 83- 84) ن 1.

وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يخل بالمصلحة العمة أو مصلحة صاحبه نفسه فيكره صلى الله عليه وسلم ذلك وينكره فيقول «ما له تربت يمينه» ونحو ذلك مما يكون المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعو عليه وشده الإنكار لذلك وكأنه والله أعلم أطلق على ذلك سباً وشتما على سبيل التجوز بجامع الإيذاء فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادراً عند شدة الإنكار، ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب لا على وجه الحكم في مجموع الأمرين حكمة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السب والشتم واللعن والطعن ما لو سئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك حال الغضب على ظاهره جزماً. وكان حذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما وذكر هذا الحديث، وسئل بعض الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة عن شيء من ذلك فأراد أن يخبر وكانت امرأته تسمع فذكرته بهذا الحديث فكف. فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب وأن يراعوا فيما نقل منها هذا الأصل. بل قد يقال لو فرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتد بذلك حكماً ففي (الصحيحين) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان» لفظ البخاري، والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبر وتثبت أشد مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم فأما الحكم على العالم والراوي فيخشى منه

تفويت علم كثير وأحاديث كثيرة ولو لم يكن إلا حديثاً واحداً لكان عظيماً. ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم ما يقصد به الموعظة والنصحية، وذلك كأن يبلغ العالم عن صاحبة ما يكرهه له فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاء أن يكف عما كرهه له وربما يأتي بعبارة ليست بكذب ولكنها خشنة موحشة يقصد الإبلاغ في النصحية ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمراً لا بأس به بل قد يكون خيراً ولكن يخشى أن يجر إلى ما يكره كالدخول على السلطان وولاية أموال اليتامى وولاية القضاء والإكثار من الفتوى، وقد يكون أمراً مذموما وصاحبه معذورا ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر، وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر إذ قد يكون لمن وقع منه أولاً عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين ومن هذا كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل الثاني. وقد يتسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبر من لا يعد خبره حجة، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك. وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال «لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك» وكلام العالم إذا لم يكن بقصد الرواية أو الفتوى أو الحكم داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا ينظر إليه، وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة، ولكن قد يكون له عذر خفي وقد يترخص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت كما يتحفظ ويثبت في الرواية والفتوى والحكم. هذا والعارف المتثبت المتحري للحق لا يخفى عليه إن شاء الله تعالى ما حقه أن يعد من هذا الضرب مما حقه أن يعد من الضرب الآتي، وأن ما كان من هذا الضرب فحقه أن لا يعتد به على المتكلم فيه ولا على المتكلم. والله الموفق.

الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهو جرح مقبول إلا إن ثبت خطأه

الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يخشى فيه الخطأ، وأئمة الحديث عارفون متبحرون متيقظون يتحرزون من الخطأ جهدهم لكنهم متفاوتون في ذلك. وهما بلغ الحاكم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر. فقد تسمع رجلاً يخبر ثم تمضي مدة فترى أن الذي سمعت منه هو فلان، وأن الخبر الذي سمعته منه هو كيت وكيت، وأن معناه كذا، وأن ذاك المعنى باطل وأن المخبر تعمد الإخبار بالباطل، وأنه لم يكن له عذر وأن مثل ذلك يوجب الجرح. فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر فترى أن المخبر وإنما هو غيره وأن تخطيء في فهم المعنى، أو في ظن أنه باطل، أو أن المخبر تعمد، أو أنه لم يكن له عذر، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح إلى غير ذلك. وغالب الأحكام إنما تبني على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت، فمن الظنون المعتد بها ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة، ومنها ما ضابطه أن تطمئن إليه نفس العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيب النفس منشرح الصدر، فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف فيجزم، وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه فيقولون: «يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ» ومنهم لمعتدل، ومنهم البالغ التثبت. كان في اليمن في قضاء الحجرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون وكنت أحضر مع أخي فلاحظت أن ذلك القاضي مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: «في حفظي كذا، في ذهني كذا» ونحو ذلك فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إذا اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح، وفي ثقات المحدثين من هو أبلغ تحرياً من هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما

تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشك فيه مدخلاً، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال، روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشك فيه، فقال شعبة: شكك أحب إلي من يقين غيرك. وقال النضر بن شميل عن شعبة لأن أسمع من ابن عون حديثاً يقول فيه «أظن أنه سمعته أحب إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: قد سمعت. وعن شعبة قال: «شك ابن عون وسليمان التيمي يقين» . وذكر يعقوب بن سفيان حماد بن زيد فقال: معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع كثيراً الشك بتوقيه، وكان جليلاً، لم يكن له كتاب يرجع إليه فكان أحياناً يذكر فيرفع الحديث وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه. وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب. قال أبو طاهر السلفي: سألت أبا الغنائم النرسي عن الخطيب فقال: «جبل لا يسأل عن مثله ما رأينا مثله، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه» . وإذا سبق إلى نفس الإنسان أمر - وإن كان ضعيفاً عنده - ثم اطلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق ويحتمل خلافه فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوي ذلك في النفس جداً وإن كان ضعيفاً. وهكذا إذا كانت نفس الإنسان تهوى أمراً فاطلع على ما يحتمل ما يوافقه وما يخالفه فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها، والعقل كثيراً ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها، وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله، فالنفس بمنزلة المحامي عندما تميل إليه، ثم قد تكون هي الشاهد وهي الحاكم. والعالم إذا سخط على صاحبه فإنما يكون سخطه لأمر ينكره فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار وتهوى ما يناسبه ثم تتبع ما يشاكله وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه، فلا يؤمن أن يقوي عند العالم جرح من هو ساخط عليه لأمر لولا السخط لعلم أنه لا يُوجب الجرح وعلة الحديث متثبتون ولكنهم غير معصومين عن الخطأ وأهل العلم يمثلون لجرح الساخط بكلام النسائي في أحمد بن

كلام النسائي في أحمد بن صالح ووجهه عند العراقي

صالح، ولما ذكر ابن الصلاح ذلك في المقدمة عقبه بقوله: «قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أن عين السخط تبدي مساوئ. لها في الباطن مخارج صحيحة تعمى عنها بحجاب السخط لا أن ذلك يقع من مثله تعمداً لقدح يعلم بطلانه» . وهذا حق واضح إذ لو حمل التعمد سقطت عدالة الجارح، والفرض أنه ثابت العدالة. هذا وكل ما يخشى في الذم والجرح يخشى مثله في الثناء والتعديل فقد يكون الرجل ضعيفاً في الرواية لكنه صالح في دينه كأبان بن أبي عياش، أو غيور على السنة كمؤمل بن إسماعيل، أو فقيه كمحمد بن أبي ليلى، فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء غير قاصدين الحكم له بالثقة في روايته. وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن فيبالغ هو في المدح كما يروى عن حماد بن سلمة أنه ذكر له طعن شعبة في أبان ابن أبي عياش، فقال أبان خير من شعبة؛ وقد يكون العالم واداً لصاحبه فيأتي فيه نحو ما تقدم فيأتي بكلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم ولا سيما عند الغضب كأن تسمع رجلاً يذم صديقك أو شيخك أو إمامك فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء من ذمه وكذلك يقابل كلمات التنفير بكلمات (1) الترغيب، وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويحسن به الظن أسرع منه إلى تعديل غيره، واحتمال التسمح (2) في الثناء أقرب من احتماله في الذم، فإن العالم يمنعه من التسمح في الذم الخوف على دينه لئلا يكون غيبة، والخوف على عرضه فإن من ذم الناس فقد دعاءهم إلى ذمه. ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل

_ (1) الأصل «كلمات» ن (2) هو بمعنى التسامح، ومعناه التساهل، وقد أكثر المصنف رحمه الله من استعمال هذه اللفظة فيما مر ويأتي.

ومع هذا كله فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح، ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقاً بأن الجارح كان ساخطاً على المجروح، ولا ترجيح الجرح مطلقاً بأن المعدل كان صديقاً له، وإنما يستدل بالسخط والصداقة على قوة احتمال الخطأ إذا كان محتملاً، فأما إذا لزم من إطراح الجرح أو التعديل نسبة من صدر منه ذلك إلى افتراء الكذب أو تعمد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله من مثله فهذا يحتاج إلى بينة أخرى، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطاً أو محباً - وفي (لسان الميزان) ج 1 ص 16: «وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح، من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأي العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين والحديث، وأركان الرواية، فهذا إذا عارضه مثله أو أكثر منه فوثق رجلاً ضعفه قبل التوثيق، ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ فإنه من غلاة الشيعة بل نسب إلى الرفض فيتأنى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب ما يقع بين العصرين الاختلاف والتباين وغيره فكل هذا ينبغي أن يتأنى فيه ويتأمل» . أقول: قول ابن حجر: «ينبغي أن يتوقف» مقصودة كما لا يخفي التوقف على وجه التأني والتروي والتأمل، وقوله: «فهذا إذا عارضه مثله ... قبل التوثيق» محله ما هو الغالب من أن لا يلزم من إطراح الجرح نسبة الجارح إلى افتراء الكذب، أو تعمد الحكم بالباطل، أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوعه، فأما إذا لزم شيء من هذا فلا محيص عن قبول الجرح إلا أن تقوم بينة واضحة تثبت تلك النسبة. وقد تتبعت كثيراً من كلام الجوزجاني في المتشيعين فلم أجده متجاوزاً الحد،

وإنما الرجل لما فيه من النصب يرى التشيع مذهباً سيئاً وبدعة ضلالة وزيغاً عن الحق وخذلانا، فيطلق على المتشيعين ما يقضيه اعتقاده كقوله «زائغ عن القصد - سيء المذهب» ونحو ذلك، وكلامه في الأعمش ليس فيه جرح بل هو توثيق وإنما فيه ذم بالتشيع والتدليس وهذا أمر متفق عليه أن الأعمش كان يتشيع ويدلس وربما دلس عن الضعفاء وربما كان في ذلك ما ينكر، وهكذا كلامه في أبي نعيم، فأما عبيد الله بن موسى فقد تكلم فيه الإمام أحمد وغيره بأشد من كلام الجوزجاني وتكلم الجوزجاني في عاصم بن ضمرة وقد تكلم فيه ابن المبارك وغيره واستنكروا من حديثه ما استنكره الجوزجاني راجع (سنن البيهقي) ج 3 ص 51 غاية الأمر أن الجوزجاني هو ل وعلى كل حال فلم يخرج من كلام أهل العلم، وكأن ابن حجر توهم أن الجوزجاني في كلامه في عاصم يُسِّرحَسْوا في ارتغاء، وهذا تخيل لا يلتفت إليه. وقال الجوزجاني في يونس ابن خباب «كذاب مفتر» ويونس وإن وثقه ابن معين فقد قال البخاري «منكر الحديث» وقال النسائي مع ما عرف عنه «ليس بثقة» واتفقوا على غلو يونس ونقلوا عنه أنه قال: إن عثمان بن عفان قتل ابنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه روى حديث سؤال القبر ثم قال: ههنا كلمة أخفاها الناصبة، قيل له ما هي؟ قال أنه ليسأل في قبره: من وليك؟ فإن قال: عليٌّ نجا! فكيف لا يعذر الجوزجاني مع نصبه أن يعتقد في مثل هذا أنه كذاب مفتر؟ وأشد ما رأيته للجوزجاني ما تقدم عنه في القاعدة الثالثة من قوله «ومنهم زائغ عن الحق -» وقد تقبل ابن حجر ذلك على ما فهمه من معناه وعظَّمه كما مر، وذكر نحو ذلك في (لسان الميزان) نفسه ج1 ص11 وإني لأعجب من الحافظ ابن حجر رحمه الله يوافق الجوزجاني على ما فهمه من ذلك ويعظمه مع ما فيه من الشدة والشذوذ كما تقدم، ويشنع عليه ههنا ويهو ل فيما هو أخف من ذلك بكثير عندما يتدبر. والله المستعان.

5- هل يشترط تفسير الجرح

5- هل يشترط تفسير الجرح؟ إعلم أن الجرح على درجات الأولى المجمل وهو ما لم يبين فيه السبب كقول الجارح «ليس بعدل» «فاسق» ومنه على ذكره الخطيب في (الكفاية) ص 108 عن القاضي أبي الطيب الطبري قول أئمة الحديث «ضعيف» أو «ليس بشيء» وزاد الخطيب قولهم «ليس بثقة» . الثانية مبين السبب، ومثل له بعض الفقهاء بقول الجارح «زان» ، «سارق» ، «قاذف» . ووراء ذلك درجات بحسب احتمال الخلل وعدمه فقوله: «فلان قاذف» قد يحتمل الخلل من جهة أن يكون الجارح أخطأ في ظنه أن الواقع قذف، ومن جهة احتمال أن يكون المرمي مستحقاً للقذف، ومن جهة احتمال أن لا يكون الجارح سمع ذلك من المجروح وإنما بلغه عنه، ومن جهة أن يكون إنما سمع رجلاً آخر يقذف فتوهم أنه الذي سماه، ومن جهة احتمال أن يكون المجروح إنما كان يحكي القذف عن غيره، أو يفرض أن قائلاً قاله فلم يسمع الجارح أول الكلام، إلى غير ذلك من الاحتمالات، نعم إنها خلاف الظاهر ولكن قد يقوي المعارض جداً فيغلب على الظن أن هناك خللاً وإن لم يتبين. واختلف أهل العلم في الدرجة الأولى وهي الجرح المجمل إذا صدر من العارف بأسباب الجرح فمنهم من قال يجب العمل به، ومنهم من قال لا يعمل به لأن الناس اختلفوا في أشياء يراها نعضهم فسقاً ولا يوافقه غيره. وفصل الخطيب فيما نقله عنه العراقي والسخاوي قال: «إن كان الذي يرجع إليه عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابها، عالماً باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه» .

يريد أنه إذا كان عارفاً باختلاف الفقهاء فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما هو جرح باتفاقهم. وأقول: لا بد من الفرق بين جرح الشاهد وجرح الراوي، وبين ما إذا كان هناك ما يخالف الجرح وما إذا لم يكن هناك ما يخالفه، فأما الشاهد فله ثلاث أحوال: الأولى: أن تكون قد ثبتت عدالته في قضية سابقة وقضى بها القاضي ثم جرح في قضية أخرى. الثانية: أن لا تكون قد ثبتت عدالته ولكن وسئل عنه عارفوه، فمنهم من عدله ومنهم من جرحه. الثالثة: أن لا يكون قد ثبتت عدالته وسئل عنه عارفوه فجرحه بعضهم وسكت الباقون. فأما الثالثة: فإن كان القاضي لا يقبل شهادة من لم يعدل فأي فائدة في استفسار الجارح؟ وإن كان يقبلها فلضعفها يكفي الجرح المجمل. وأما الثانية: فقد يكثر الجارحون فيغلب على الظن صحة جرحهم وإن أجملوا، وقد لا تحصل غلبة الظن إلا بالدرجة الثانية من الجرح وهي بيان السبب، وقد لا تحصل إلا بأزيد منها مما مر بيانه، وإذا كان القاضي متمكناً من الاستفسار لحضور الجارح عنده أو قربه منه فينبغي أن يستوفيه على كل حال لأنه كلما كان أقوى كان أثبت للحجة وأدفع للتهمة. وأما الأولى: فينبغي أن لا يكفي فيها جرح مجمل ولو مع بيان السبب بل يحتاج إلى بيان المستند بما يدفع ما يحتمل من الخلل. وأما الراوي فحاله مخالفة للشاهد فيما نحن فيه من أوجه:

الأول: أن الذين تكلموا في الرواة أئمة أجلّة، والغالب فيمن يجرح الشاهد أن لا يكون بتلك الدرجة ولا ما يقاربها. الثاني: أن الذين تكلموا في الرواة منصبهم منصب الحكام وقد قال الفقهاء: إن المنصوب لجرح الشهود يكتفي منه بالجرح المجمل. الثالث: أن القاضي متمكن من استفسار جارح الشاهد كما مر والذين جرحوا الرواة يكثر في كلامهم الإجمال، وأن لا يستفسر هم أصحابهم، ولم يبقى بأيدي الناس إلا نقل كلامهم ولم يزل أهل العلم يتلقون كلماتهم ويحتجون بها. وبعد أن اختار ابن الصلاح اشتراط بيان السبب قال: «ولقائل أن يقول إنما يتعمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث ... وقلَّ ما يتعرضون لبيان السبب بل يقتصرون على ... فلان ضعيف، و: فلان ليس بشيء ونحو ذلك ... فاشترط بيان السبب يفضي إلى ذلك تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر، وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أو قع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أو جب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا (الصحيحين) وغيرهم ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن» . وتبعه النووي في (التقريب) و (شرح صحيح مسلم) ولفظه هناك: «على مذهب من اشترط في الجرح التفسير نقول: فائدة الجرح فيمن جرح مطلقاً أن يتوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح ... » وذكر العراقي في (ألفيته) و (شرحها) بعض الذين أشار ابن الصلاح إلى أن صاحبي (الصحيحين) احتجابهم وقد جرحوا فذكر ممن روى له البخاري عكرمة مولى ابن

تحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل

عباس وعمرو بن مرزوق الباهلي وممن روى له مسلم سويد بن سعيد، وهؤلاء قد سبق جرحهم ممن قبل صاحبي (الصحيح) وكذلك سبق تعديلهم أيضا فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل من اختلف فيه فعدله بعضهم وجرحه غيره جرحاً غير مفسر وسياق كلامهما يقتضي ذلك، بل الظاهر أن هذا هو المقصود فإن من لم يعدل نصاً أو حكما ولم يجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به، ومن لم يعدل وجرح جرحاً مجملا فالأمر فيه أشد من التوقف والارتياب. فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصاً ولا حكماً، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أورده، وسيأتي تفضيل ذلك إن شاء الله تعالى. 6- كيف البحث عن أحوال الرواة من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل عن حال رجل وقع في سند، فعليه أن يراعي أموراً: الأول: إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل فإن الأسماء كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها كما يأتي في الأمر الرابع، وراجع (الطليعة) ص 11 - 43. الثاني: ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب. راجع (الطليعة) ص 55 - 59. الثالث: إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا؟ راجع (الطليعة) ص 78 - 86 الرابع: ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه، وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك وقد

يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على آخر. ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ابن حزام الحزامي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي. حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث. فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني ووهمه المزي، ووثق أبو داود الثالث وضعف الأول، فذكرت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال: غلط عباس. وفي الرواة محمد بن ثابت البناني ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما، فحكى ابن أبي حاتم عن ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال في الأول «ليس بقوي ... » وذكر ابن حجر أن الذي في (تاريخ ابن أبي خيثمة) حكاية تلك المقالة في الثاني، وحكى عثمان الدرامي عن ابن معين في الثاني أنه ليس به بأس، وحكى معاوية بن صالح عن ابن معين أنه ينكر على الثاني حديث واحد. وحكى الدوري عن ابن معين أنه ضعف الثاني، وقال الدوري «فقلت له أليس قد قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط» وفي الرواة عمر بن نافع مولى عمر وعمر بن نافع الثقفي، حكى ابن عدي في ترجمة الأول عن ابن معين أنه قال: «ليس حديثه بشيء» فزعم ابن حجر أن ابن معين إنما قالها الثاني. وفي الرواة عثمان البتي وعثمان البري، حكى الدوري عن ابن معين في الأول «ثقة» وحكى معاوية بن صالح عنه فيه «ضعيف» قال النسائي «وهذا عندي خطأ ولعله أراد عثمان البري» وفي الرواة أبو الأشهب جعفر بن حيان وأبو الأشهب جعفر بن الحارث، وثق الإمام أحمد الأول فحكى ابن شاهين ذلك في الثاني - كما في نبذة من كلامه طبعت مع (تاريخ جرجان) وضعف جماعة الثاني فحكى ابن الجوزي كلماتهم

في ترجمة الأول. وفي الرواة أحمد بن صالح ابن الطبري الحافظ وأحمد بن صالح الشمومي، حكى النسائي عن معاوية بن صالح عن ابن معين كلاماً عده النسائي فذكر ابن حبان: إنما قاله ابن معين في الثاني. وفي الرواة معاذ بن رفاعة الأنصاري ومعان رفاعة السلامي نقل الناس عن الدوري أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الثاني وهو معان «ضعيف» ونقل أبو الفتح الأزدي عن عباس أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الأول وهو معاذ «ضعيف» فكأنه تصحف على الأزدي. وفي الرواة القاسم العمري وهو ابن عبد الله بن عمر بن حفص، والقاسم المعمري وهو ابن محمد فحكى عثمان الدارمي عن ابن معين أنه قال «قاسم المعمري كذاب خبيث» قال الدرامي «وليس كما قال يحيى» والمعمري قد وثقه قتيبة، أما العمري فكذبه الأمام أحمد وقال الدوري عن ابن معين «ضعيف ليس بشيء» فيشبه أن يكون ابن معين إنما قال «قاسم العمري كذاب خبيث» فكتبها عثمان الدارمي ثم بعد مدة راجعها في كتابه فاشتبه عليه فقرأها «قاسم المعمري ... » . وفي الرواة إبراهيم بن أبي حرة وإبراهيم بن أبي حية، روى ابن أبي حاتم من طريق عثمان الدارمي على ابن معين توثيق الثاني ومن تدبر الترجمتين كاد يجزم بأن هذا غلط على ابن معين وأنه إنما وثق الأول. وحكى أبو داود الطيالسي قصة لأبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي وحكى هو عن شعبة قصة نحو تلك لمحمد بن الزبير التميمي البصري. وأخشى أن يكون الطيالسي وهم في أحدهما. وذكر ابن أبي خيثمة في كلامه في فطر بن خليفة ما لفظه «سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت فطراً لأنه روى أحاديث فيها إزرار على عثمان» .

وذكر هو في كلامه في فضيل بن عياض «سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت حديث فضيل لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان» . وأخشى أن تكون كلمة قطبة إنما هي في فطر فحكاها ابن أبي خيثمة مرة على الصواب، ثم تصحفت عليه «فطر» بفضيل فحكاها في فضيل بن عياض. وحكى محمد بن وضاح القرطبي أنه سأل ابن معين عن الشافعي فقال «ليس بثقة» فحكاها ابن وضاح في الشافعي الإمام، فزعم بعض المغاربة أن ابن معين إنما قالها في أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الأعمى المشهور بالشافعي فأنه كان ببغداد، وابن وضاح لقي ابن معين ببغداد فكأنه سأل ابن معين عن الشافعي يريد ابن وضاح الإمام فظن ابن معين أنه يريد أبا عبد الرحمن لأنه كان حيا معهما في البلد. وفي ترجمة والد أبي عبد الرحمن من «التهذيب» أن ابن معين قال.. ما أعرفه وهو والد الشافعي الأعمى» الخامس: إذا رأى في الترجمة «وثقة فلان» أو «ضعفه فلان» أو «كذبه فلان» فليبحث عن عبارة فلان، فقد لا يكون قال: «هو ثقة» أو «هو ضعيف» أو «هو كذاب» ففي (مقدمة الفتح) في ترجمة إبراهيم بن سويد بن حبان المدني «وثقه ابن معين وأبو زرعة» والذي في ترجمته من (التهذيب) : قال أبو زرعة ليس به بأس» وفي (المقدمة) في ترجمة إبراهيم ابن المنذر الحزامي «وثقه ابن معين ... والنسائي» والذي في ترجمته من «التهذيب» : «قال عثمان الدارمي رأيت ابن معين عن كتب إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب ظننتها المغازي وقال النسائي ليس به بأس» . وفي (الميزان) و (اللسان) في ترجمة معبد بن جمعة «كذبه أبو زرعة الكشي» وليس في عبارة أبي زرعة الكشي ما يعطي هذا بل فيها أنه «ثقة في الحديث» وقد شرحت ذلك في ترجمة معبد من قسم التراجم.

السادس: أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب فإذا وجد اختلافاً بحث عن العبارة الأصلية ليبنى عليها. السابع قال ابن حجر في (لسان الميزان) ج 1 ص 17: «وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها ... فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي: أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة، ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضليه على يونس، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضليه على يونس، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر ... » (1) . أقول وكذلك ما حكوا من كلام مالك في ابن إسحاق إذا حكيت القصة على وجهها تبين أن كلمة مالك فلتة لسان عند سورة غضب لا يقصد بها الحكم. وكذلك ما حكوه عن ابن معين أنه قال لشجاع بن الوليد «يا كذاب» فحملها ابن حجر على المزاح. ومما يدخل في أنهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك، فإسماعيل بن عياش ضعفوه فيما روى غير الشاميين. وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون. وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم أو فيما رووه بعد الاختلاط. ثم قد يحكى التضعيف مطلقاً فيتوهم أنهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء. ويقع نحو هذا في التوثيق راجع ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود قال أحمد مرة

_ (1) في مقدمة رجال البخاري للباجي باب في هذا المعنى.

طريقة ابن حبان في التوثيق وابن سعد وابن معين والنسائي وما فيها من التساهل

ثقة وكذا قال ابن معين ثم بين كل منهما مرة أنه اختلط وزاد ابن معين فبين أنه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه غير صحيح الحديث عنهم. ومن ذلك أن المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حال في هذا الحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف، وقع مثل هذا للدارقطني في (سننه) وغيرها وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم. وقد ينقل الحكم الثاني والثالث وحده فيتوهم أنه حكم مطلق. الثامن: ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في (الثقات) من يجد البخاري سماه في (تاريخه) من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكر وإن كان الرجل معروفاً مكثرا والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو مشاهد، وإن لم يروا عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب الأسقع بن الأسلع والحكم بن عبد الله البلوي ووهب بن جابر الخيواني وآخرون، وممن وثقه النسائي رافع ابن إسحاق وزهير بن القمر وسعد بن سمرة وآخرون، وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً ولا يعرف الأسود وحنظله إلا في تلك الرواية فوثقهما ابن

بيان أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح على سبر حديث الرواي

معين وروى همام عن قتادة بن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً ولا يعرف قدامة إلا في هذه الرواية فوثقها ابن معين مع أن الحديث غريب وله علل آخر راجع (سنن البيهقي) 3 ج ص 248. من الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيماً وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في (الثقات) وذكره ابن حجر في (لسان الميزان) ج 1 ص 14 واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط ولَم يبلغه وما يوجب طعناً في دينه وثقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، (1) وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره. وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغداد شيخ فسمع منه مجلساً فرأى تلك الأحاديث مستقيمة ثم سأل عن الشيخ؟ وثقه وقد يتفق أن يكون الشيخ دجالاً استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك ذكر ابن الجنيد أنه سئل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال «ما كان به بأس» فحكى له عنه أحاديث تستنكر، فقال ابن

_ (1) يشير إلى ابن حبان فإنه قد يوثق الرجال بإيراده إياه في الكتاب (الثقات) مع أنه لا يعرفه. يؤيد ذلك أنني رأيته قال في بعض المترجمين عنده: «لا أعرفه، ولا أعرف أباه» ! وعلى مثل هذا التوثيق أقام كتابه (الصحيح) المعروف به، فاحفظ هذا فإنه مهم، لم يتنبه له إلا أهل التحقيق في هذا العلم الشريف منهم المصنف رحمه الله، وجزاه خيراً كما تقدم (وانظر كلامه الآتي في آخر الصفحة التالية: الأمر التاسع) وقد بسطت القول في هذه المسألة في «الرد على التعقيب الحثيث» ص 18 - 21 فليراجع. ن

معين: «فإن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب وألا فإني رأيت الشيخ مستقيماً» . وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: «ثقة وقد كتبت عنه» وقد كذبه أحمد وقال: «أحاديثه موضوعة» وقال أبو داود: «غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة» . وهكذا يقع في التضعيف ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد استنكره وقد يكون له عذر. ورد ابن معين مصر، فدخل على عبد الله بن الحكم فسمعه يقول: حدثني فلان وفلان وفلان. وعد جماعة روى عنهم قصة، فقال ابن معين: «حدثك بعض هؤلاء بجميعه وبعضهم ببعضه؟» فقال: «لا حدثني جميعهم بجميعه، فراجعه فأصر، فقام يحيى وقال للناس: «يكذب» . ويظهر لي أن عبد الله إنما أراد أن كلا منهم حدثه ببعض القصة فجمع ألفاظهم، وهي قصة في شأن عمر بن عبد العزيز ليست بحديث فظن يحيى أن مراده أن كلاً منهم حدثه بالقصة بتمامها على وجهها في ذلك، وقد أساء الساجي إذا اقتصر في ترجمة عبد الله على قوله: «كذبه ابن معين» . وبلغ ابن معين أن أحمد بن الأزهر النيسابوري يحدث عن عبد الرزاق بحديث استنكره يحيى فقال: «من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟!» وكان أحمد بن الأزهر حاضراً فقام فقال: «هو ذا أنا» فتبسم يحيى وقال: «أما إنك لست بكذاب ... » وقال ابن عمار في إبراهيم بن طهمان «ضعيف مضطرب الحديث» فبلغ ذلك صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة فقال: «ابن عمار من أين يعرف إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة.. والغلط فيه من غير إبراهيم» . التاسع: ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه

بكلام غيره، فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيماً، ولو كان حديثاً واحداً لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد، فإن شيءت فاجعل هذا رأيا لأولئك الأئمة كابن معين، وإن شيءت فاجعله اصطلاحاً في كلمة «ثقة» كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثق من حديث الراوي لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة. وقد اختلف كلام ابن معين في جماعة، يوثق أحدهم تارة ويضعفه أخرى، منهم إسماعيل بن زكريا الخُلقاني، وأشعث بن سوار، والجراح بن مليح الرواسي، وزيد بن أبي العالية، والحسن بن يحيى الخُشَني، والزبير بن سعيد، وزهير بن محمد التميمي، وزيد بن حبان الرقي، وسلم العلوي، وعافية القاضي، وعبد الله الحسين أبو حريز، وعبد الله بن عقيل أبو عقيل، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني، وعبد الواحد بن غياث، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهم. وجاء عنه توثيق جماعة ضعفهم الأكثر ون منهم تمام بن نجيح، ودراج ابن سمعان، والربيع بن حبيب الملاح وعباد بن كثير الرملي، ومسلم بن خالد الزنجي، ومسلمة بن علقمة، وموسى بن يعقوب الزمعي، ومؤمل بن إسماعيل، ويحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني؛ وهذا يشعر بأن ابن معين كان ربما يطلق كلمة «ثقة» لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب. وقد يقول ابن معين في الراوي مرة «ليس بثقة» ومرة «ثقة» أو «لا بأس به» أو نحو ذلك (راجع تراجم جعفر بن ميمون التميمي وزكريا بن منظور ونوح بن جابر) . وربما يقول في الراوي «ليس بثقة» ويوثقه غيره (راجع تراجم عاصم بن علي وفليح ابن سليمان وابنه محمد بن فليح ومحمد بن كثير العبدي» . وهذا قد يشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة «ليس بثقة» على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه ثقة على المعنى المشهور لكلمة «ثقة» .

قولهم "ليس بثقة" هل هو جرح جديد دائما؟

فأما استعمال كلمة «ثقة» على ما هو دون معناها المشهور فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف، قال أبو زرعة لعمر بن عطاء بن وراز «ثقة لين» وقال الكعبي في القاسم أبي عبد الرحمن الشامي «ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي» . وقال ابن سعد في جعفر بن سليمان الضبعي «ثقة وبه ضعف» . وقال ابن معين في عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم «ليس به بأس وهو ضعيف» وقد ذكروا أن ابن معين يطلق كلمة «ليس به بأس» بمعنى «ثقة» وقال يعقوب بن شيبة في ابن أنعم هذا «ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق رجل صالح» وفي الربيع بن صبيح: «صالح صدوق ثقة ضعيف جداً» وراجع تراجم إسحاق بن يحيى بن طلحة، وإسرائيل بن يونس وسفيان بن حسين وعبد الله بن عمر بن جعفر بن عاصم وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي وعبد السلام بن حرب وعلى بن زيد بن جدعان ومحمد بن مسلم بن تدرس ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن يمان. وقال يعقوب بن سفيان في أجلح «ثقة حديثه لين» وفي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى «ثقة عدل في حديثه بعض المقال لين الحديث عندهم» . وأما كلمة «ليس بثقة» فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعة منهم صالح مولى التوأمة وشعبة مولى ابن عباس وفي ترجمة مالك من (تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم عن يحيى القطان أنه سأل مالكاً عن صالح هذا؟ فقال: «لم يكن من القراء» وسأله عن شعبة هذا فقال «لم يكن من القراء» فأما صالح فأثنى عليه أحمد وابن معين، وذكر أنه اختلط بأخرة، وأن مالكاً إنما أدركه بعد الاختلاط، وأما شعبة مولى ابن عباس فقال أحمد «ما أرى به بأساً» وكذا قال ابن معين، وقال البخاري «يتكلم فيه مالك ويحتمل منه» قال ابن حجر «قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: قوله ويحتمل منه. يعني من شعبة وليس هو ممن يترك حديثه، قال ومالك لم يضعفه وإنما شح عليه بلفظة ثقة - قلت هذا التأويل غير شائع بل لفظة ليس بثقة في الاصطلاح توجب الضعف الشديد، وقد قال ابن حبان روى عن ابن عباس مالاً أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر» .

قول الكوثري "وكم من راو يوثق ولا يحتج به ... "

أقول: ابن حبان كثيراً ما يهو ل مثل هذا التهويل في غير محله كما يأتي في ترجمته وترجمة محمد بن الفضل من قسم التراجم، وكلمة «ليس بثقة» حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له «ثقة» ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى وقد ذكرها الخطيب في (الكفاية) في أمثلة الجرح غير المفسر، واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله «لم يكن من القراء» يشعر بأنه أراد هذا المعنى. نعم إذا قيل «ليس بثقة ولا مأمون» تعين الجرح شديد، وإن اقتصر على «ليس بثقة» فالمتبادر جرح شديد، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حملت عليه، وهكذا كلمة ثقة معناها المعروف التوثيق التام، فلا تصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية كقول يعقوب «ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق» وبقية الأمثلة السابقة، وإما حالية منقولة أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها كما مر في الأمر السابع عن (لسان الميزان) ، أو عن غيره ولا سيما إذا كانوا هم الأكثر. فتدبر ما تقدم وقابله بما قاله الكوثري في (الترحيب) ص 15 قال: «وكم من راو يوثق ولا يحتج به كما في كلام يعقوب الفسوي، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعد ثقة كما قال ابن مهدي: أبو خلدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة» . وعلى الأستاذ مؤاخذات: الأولى: أنه ذكر هذا في معرض الاعتذار، وأنا لم أناقشه فيما قام الدليل فيه. الثانية: أن كلمة يعقوب التي أشار إليها هي قوله «كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات ما أحد منهم أتخذه عنه الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر وأحمد بن حنبل بالعراق» أوردتها في (الطليعة) ص 21 إلى قوله «ثقات» ذكرت ذلك من جملة الشواهد على أن شيخ يعقوب في ذاك السند هو أحمد بن الخليل الموثق لا أحمد بن الخليل المجروح، فزعم الأستاذ في (الترحيب) أنني

اقتصرت على أول العبارة لأوهم أن شيخ يعقوب في ذاك السند ثقة يحتج به ‍! وهذا كما ترى، أولاً لأن سياق كلامي هناك واضح في أني إنما أردت تعيين شيخ يعقوب فأما الاحتجاج وعدمه فلا ذكر له هناك. ثانياً لأن بقية عبارة يعقوب لا تعطي أن شيوخه كلهم غير الأَحْمَدَيْن لا يحتج بأحد منهم في الرواية، كيف وفيهم أئمة أجلة قد أحتج براويتهم الأحمدان أنفسهما، بل قام الإجماع على ذلك، وإنما أراد يعقوب بالحجة عند الله من يؤخذ بروايته ورأيه وقوله وسيرته. الثالثة: أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ فأنها تعطي بظاهرها أن كلمة «ثقة» إنما تطلق على الدرجات كشعبة وسفيان، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلاً ضابطاً تقوم الحجة بروايته فلا يقال له «ثقة» بل يقال «صدوق» ونحوها وأين هذا من الأستاذ؟ الرابعة: أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين: الأول: أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة «ثقة» على العدل الضابط وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير. الثاني: أن أبا خلدة قد قال فيه يزيد بن زريع والنسائي وابن سعد والعجلي والدارقطني «ثقة» وقال ابن عبد البر «هو ثقة عند جميعهم وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ» وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال «حدثنا أبو خلدة -» فقال له رجل «كان ثقة؟» فأجاب ابن مهدي بما مر. فيظهر لي أن السائل فخم كلمة «ثقة» ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه

7- إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل

يريد أعلى الدرجات فأجابه بحسب ذلك فقوله «الثقة شعبة وسفيان» «ثقة» على المعنى المعروف، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر؛ وإن لم أر من نبه عليه، وقريب منه أن المروذي قال «قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان» ، وقد وثق أحمد مئات من الرواة يعلم أنهم دون يحيى القطان بكثير. الخامسة: أن قيام الدليل على إطلاق بعضهم في بعض المراضع كلمة «ثقة» كما قدمت أنا أمثلته لا يسوغ أن تحمل على ذلك المعنى حيث لا دليل. العاشر (1) إذا (2) جاء في الراوي جرح وتعديل فينبغي البحث عن ذات (‍‍‍!) بين الراوي وجارحه أو معدله من نفرة أو محبة، وقد مر إيضاح ذلك في القاعدة الرابعة. 7- إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟ قد ينقل في راو جرح وتعديل ولكننا إذا بحثنا بمقتضى القاعدة السابقة سقط أحدهما أو تبين أنه إنما أريد به ما لا يخالف الآخر، فهاتان الصورتان خارجتان عن هذه القاعدة، فأما إذا ثبت في الرجل جرح وتعديل متخالفان فالمشهور في ذلك قضيتان: الأولى: أن الجرح إذا لم يبين سببه فالعمل على التعديل، وهذا إنما يطرد في الشاهد لأن معدله يعرف أن القاضي إنما يسأله ليحكم بقوله، ولأن شرطه معرفته بسيرة الشاهد معرفة خبرة، ولأن القاضي يستفسر الجارح كما يجب فإذا أبى أن

_ (1) أي من الأمور التي على الباحث في كتب الجرح والتعديل أن يراعيها ن (2) الأصل (إذ) . ن

يفسر كان آباؤه موهناً لجرحه. فأما الراوي فقد يكون المثني عليه لم يقصد الحكم بثقته، وقد يكون الجرح متعلماً بالعدالة مثل «هو فاسق» والتعديل مطلق والمعدل غير خبير بحال الراوي إنما اعتمد على سبر ما بلغه من أحاديثه، وذلك كما لو قال مالك في مدني «هو فاسق» ثم جاء ابن معين فقال «هو ثقة» وقد يكون المعدل إنما اجتمع بالراوي مدة يسيرة فعدله بناء على أنه رأى أحاديثه مستقيمة والجارح من أهل بلد الراوي، وذلك كما لو حجَّ رازي فاجتمع به ابن معين ببغداد فسمع منه مجلساً فوثقه، ويكون أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه «ليس بثقة ولا مأمون» ففي هذه الأمثلة لا يخفي أن الجرح أولى أن يؤخذ به. فالتحقيق أن كلاً من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه، والذي ينبغي أن يؤخذ به منها هو ما كان احتمال الخلل فيه أبعد من احتماله في الآخر وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة كما إذا وجدنا البخاري ومسلما قد احتجا أو أحدهما براو سبق ممن قبلهما فيه جرح غير مفسر فأنه يظهر لنا رجحان التعديل غالبا وقس على ذلك وهذا تفصيل ما تقدم في القاعدة الخامسة عن ابن الصلاح وغيره لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل فقد يحتجان أو أحدهما بالراوي في شيء وقد لا يحتجان به، وإنما يخرجان له ما توبع عليه، ومن تتبع ذلك وأنعم فيه النظر علم أنهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة، بل يحملانه على أمر خاص، أو على لين في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنة الخطأ أو فيما توبع عليه ونحو ذلك، راجع الفصل التاسع من (مقدمة فتح الباري) . القضية الثانية: أن الجرح إذا كان مفسرا: فالعمل عليه، وهذه القضية يعرف ما فيها بمعرفة دليلها وهو ما ذكره الخطيب في (الكفاية) ص 105 قال: «والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه ويصدق المعدل ويقول له: قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، وإخبار

المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح.. ولأن من عمل بقول الجارح لم يتهم المزكي ولم يخرجه بذلك عن كونه عدلاً ومتى لم نعمل بقول الجارح كان في ذلك تكذيب له ونقص لعدالته وقد علم أن حاله في الأمانة مخالفة لذلك» . أقول: ظاهر كلام الخطيب أن الجرح المبين السبب مقدم على التعديل، بل يظهر مما تقدم عنه في القاعدة الخامسة من قبول الجرح المجمل إذا كان الجارح عارفاً بالأسباب واختلاف العلماء أن الجارح إذا كان كذلك قدم جرحه الذي لم يبين سببه على التعديل لكن جماعة من أهل العلم قيدوا الجرح الذي يقدم على التعديل بأن يكون مفسراً، والدليل المذكور يرشد إلى الصواب فقول الجارح العارف بالأسباب والاختلاف: ليس بعدل، أو: فاسق، أو: ضعيف أو: ليس بشيء، أو: ليس بثقة، هل يجب أن لا يكون إلا عن علم بسبب موجب للجرح إجماعاً؟ أو لا يحتمل أن يكون جهل أو غفل أو ترجح عنده مالا نوافقه عليه؟ أو ليس في كل مذهب اختلاف بين فقهائه فيما يوجب الفسق؟ فإن بين السبب فقال مثلاً: قاذف، أو قال المحدث: كذاب، أو: يدعى السماح ممن لم يسمع منه، أفليس إذا كان المتكلم فيه راوياً قد لا يكون المتكلم قصد الجرح وإنما هي فلتة لسان عند ثورة غضب أو كلمة قصد بها غير ظاهرها بقرينة الغضب؟ أو لم يختلف الناس في بعض الكلمات أقذف هي أم لا؟ حتى إن فقهاء المذهب الواحد قد يختلفون في بعضها. أو ليس قد يستند الجارح إلى شيوع خبر قد يكون أصله كذبة فاجر أو قرينة واهية كما في قصة الإفك؟ وقد يستند التحدث إلى خبر واحد يراه ثقة وهو عند غير ثقة، أو ليس قد يبني المحدث كلمة «كذاب» أو «يضع الحديث» أو «يدعي السماع ممن لم يسمع منه» على اجتهاد يحتمل الخطأ؟ فان فصل الجارح القذف أفليس قد يكون القذف لمستحقه؟ أو ليس قد يكون فلتة لسان عند سورة غضب كما وقع من محمد بن الزبير أو من أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس على ما رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة وكما وقع من أبي حصين عثمان بن عاصم فيما

8- قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا

ذكره وكيع وإن كانت الحكاية منقطعة؟ إذا تدبرت هذا علمت أنه لا يستقيم ما استدل به الخطيب إلا حيث يكون الجرح مبيناً مفسراً مثبتا مشروحاً بحيث لا يظهر دفعه إلا بنسبة الجارح إلى تعمد الكذب، ويظهر أن المعدل لو وقف عليه لما عدل، فما كان هكذا فلا ريب أن العمل فيه على الجرح وإن كثر المعدلون وأما ما دون ذلك فعلى ما تقدم في القضية الأولى. 8- قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ... قال البخاري في (جزء القراءة) : «والذي يذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يبين.. ولو صح.. فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد ولا يتهمه في الأمور كلها، وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في «الموطأ» وهما مما يحتج بحديثهما، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم وتأويل بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان وحجة ... وقال بعض أهل المدينة إن الذي يذكر عن هشام بن عروة قال كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي؟ لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه ... وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب وهشام لم يشهد» . وفي (فتح المغيث) للسخاوي ص 130 عن محمد بن نصر المروزي: «كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحة» . وفي ترجمة عكرمة من (مقدمة فتح الباري) عن ابن جرير:

«من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح، وما تسقط العدالة بالظن وبقول فلان لمولاه: لا تكذب عليَّ، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجهه إليه أهل الغباوة» . وقال ابن عبد البر: «الصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته بينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة» . قال السخاوي في (فتح المغيث) :.. ليس المراد إقامة بينة على جرحه بل المعنى أنه يستند في جرحه إلى ما يستند إليه الشاهد في شهادته وهو المشاهدة ونحوها» . قد يقال: إن كان المراد بثبوت العدالة أن يتقدم التعديل والحكم به والعمل بحسبه على الجرح، فهذا إنما يكثر في الشهود، وإن كان المراد بثبوتها حصول تعديل على أي حال كان، فهذا لا وجه له، فقد تقدم في القاعدة السادسة ما يعلم منه أن التعديل يتفاوت، ويحتمل كثير منه الخلل كما يحتمله الجرح الذي لم يشرح كل الشرح، أو أشد، ومن تتبع صنيع أهل العلم تبين له أنهم كثيراً ما يقدمون الجرح الذي لم يشرح كل الشرح على التوثيق، كما في حال إبراهيم بن أبي يحيى والواقدي وغيرهما، وكثيراً ما يقع للبخاري وغيره القدح فيمن لم يدركوه وقد سبق أن عدله معدل أو أكثر، ولم يسبق أن جرحه أحد. فأقول: الذي يتحرر أن للعدالة جهتين: الأولى استقامة السيرة، وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة تظهر فيمن تظهر عدالته ويعدل تعديلاً معتمداً وتمضي مدة ثم يجرح. فأما ما عدا فالمدار على الترجيح وقد مر في القاعدة السابقة.

الجهة الثانية: استقامة الرواية وهذا يثبت عند المحدث بتتبعه أحاديث الراوي واعتبارها وتبين أنها كلها تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة، وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نصوا على ما أنكروا من حديثه بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي فقد ثبتت استقامة روايته. وقد حاولت العمل بهذا في بعض الآتين في قسم التراجم كالحارث بن عمير والهيثم بن جميل. فأما ما عدا هذا فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامة رواية الرجل باحتجاج البخاري به في صحيحه لظهور أن البخاري إنما احتج به أن تتبع أحاديثه وسبرها وتبين له استقامتها، وقد علمنا مكانة البخاري وسعة إطلاعه ونفوذ نظره وشدة احتياطه في (صححه) ، وقس على ذلك وراجع ما تقدم في القواعد السابقة. والله الموفق. هذا وقد تعرض ابن السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من (طبقات الشافعية) لهذه القاعدة وزاد فيها فقال: «فنقول مثلاً لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت الدواعي على نقله وكان القاطع قائماً على كذبه ... ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما أصل عدالة الإمام المجروح ... وأصل عدالة الجارح ... فلا نلتف إلى جرحه ولا نجرحه بجرحه، فاحفظ هذا المكان فهو من المهمات ... فنحن نقبل قول ابن معين ... ولا نقبل قوله في الشافعي ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام القاطع على أنه غير محق بالنسبة إليه» . أقول هو ّل على عادته، والإنصاف أن الشافعي لم يكن معصوماً، ولم يقم القاطع اليقيني على أنه لم يقع منه ما إذا وقع من الرجل صح أن يجرح به ولم يكن الشافعي طول عمره في جميع أحواله لا يزال بحضرته جم غفير تقضي العادة حتماً بأنه لو وقع

9- مباحث في الاتصال والانقطاع

منه شيء مما ذكر لتوفرت الدواعي على نقله، نعم لو فرضنا أن الجارح ذكر أمراً يصح أن يقال فيه: لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله تواتراً: ولم يكن ذلك، فأنه لا يقبل منه. ولو أن السبكي ترك أن يفرض ما لم يقع بما وقع واعتنى بما وقع في الأمثلة التي ذكرها وبين وجوهها لأجاد وأفاد، وقد تعرضت لما وقفت عليه من ذلك في تراجم أولئك الثلاثة من قسم التراجم ولله الحمد. 9- مباحث في الاتصال والانقطاع المبحث الأول: في رواية الرجل بصيغة محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت لقاؤه له. ذكر مسلم في مقدمة (صحيحه) عن بعض أهل عصره: أنه شرط أن يثبت لقاء الراوي للمروي عنه ولو مرة فان لم يثبت لم يحكم لما يرويه عنه بالاتصال، وذكروا أن الذي شرط ذلك هو البخاري وشيخه علي بن المديني، وحكى مسلم إجماع أهل العلم سلفاً وخلفاً على الاكتفاء بالمعاصرة وعدم التدليس، وألزم مخالفه أن لا يحكم بالاتصال فيما لم يصرح فيه الراوي بالسماع وإن ثبت اللقاء في الجملة ولم يكن الراوي مدلساً. وتوضيح هذا الإلزام أنه كما أن الراوي الذي يعرف ويشتهر بالارسال عمن عاصره ولم يلقه قد يقع له شيء من ذلك، فكذلك الراوي الذي لم يعرف ويشتهر بالارسال عمن لقيه وسمع منه قد يقع له شيء من ذلك. فان كان ذلك الوقوع يوجب التوقف عن الحكم بالاتصال في الأول فيوجبه في الثاني، وإن لم يوجبه في الثاني فلا يوجبه في الأول، أجاب النووي بما إيضاحه أن رواية غير المدلس بتلك الصيغة عمن قد لقيه وسمع منه الظاهر منها السماع، والاستقراء يدل أنهم إنما يطلقون ذلك في السماع إلا المدلس. أقول فمسلم يقول: الحال هكذا أيضاً في رواية غير المدلس عمن عاصره، والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليس أيضاً عند الجمهور، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظاً لا ينكر أنها تدليس في المعنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه.

هذا وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، ويوافقه ما في (الكفاية) للخطيب ص 357. وذكر مسلم فيها إرسال بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه ولم تعد تدليساً ولا عدوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة قائمة عند إطلاقهم تلك الراوية تدفع ظهور الصيغة في السماع وقد كنت بسطت ذلك ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه. ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة، لأنا نقول: هذا مسلم ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليساً بأن تكون بقصد الإيهام والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين. وزعم النووي في (شرح صحيح مسلم) أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في (صحيحه) بقوله المذكور، وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم لقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء (صحيحه) تسعة عشر حديثاً كما ذكره النووي نفسه ومنها ستة في (صحيح البخاري) كما ذكره النووي أيضاً. وهذا ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلا بأن نفي مسلم العلم باللقاء لا يستلزم عدم علم غيره، وهذا ليس بجواب عن تصحيح مسلم لها، وإنما هو جواب عن قوله أنها عند أهل العلم صحاح. وقد دفعه بعض علماء العصر بأنه لا يكفي في الرد على مسلم مع العلم بسعة إطلاعه. أقول: قد كان على المجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في (صحيح البخاري) ، وكنت أظنهم قد بحثوا فلم يظفروا بما هو صريح في رد دعوى مسلم، فاضطروا إلى الاكتفاء بذاك الجواب الإجمالي، ثم إنني بحثت فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء بل

المبحث الثاني: في ضبط المعاصرة المعتد بها

ثبت في بعضها السماع، بل في (صحيح مسلم) نفسه التصريح بالسماع في حديث منها، وسبحان من لا يضل ولا ينسى، وأما بقية الأحاديث فمنها ما يثبت فيه السماع واللقاء فقط، ومنها ما يمكن أن يجاب عنه جواب آخر، ولا متسع هنا لشرح ذلك. وزعم بعض علماء العصر أن اشتراط البخاري العلم باللقاء. إنما هو لما يخرجه في (صحيحه) لا للصحة في الجملة، كذا قال، وفي كلام البخاري على الأحاديث في عدة من كتبه ك‍ (جزء القراءة) وغيره ما يدفع هذا. والله الموفق. المبحث الثاني: في ضبط المعاصرة المعتد بها على قول مسلم، ضبطها مسلم بقوله: «كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاءه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد ... » وجمعه بين «جائز وممكن» يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك. والمعنى يؤكد هذا فإنه قد ثبت أن الصيغة بحسب العرف ولا سيما عرف المحدثين وما جرى عملهم ظاهرة في السماع فهذا الظهور يحتاج إلى دافع فمتى لم يعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعدا:، الظاهر عدمه، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع الصيغة، وقد يكون الراوي عد ظهور عدم اللقاء قرينه على أنه لم يرد بالصيغة السماع، وإن احتمل اللقاء احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارض له، فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهراً بيناً فلا محيص عن الحكم بالاتصال وذلك كمدني روى عن عمر ولم يعلم لقاؤه له نصاً لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلا فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مراراً. فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فأنه يحكم باللقاء حتماً، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع. «وانظر ما يأتي في

المبحث الثالث: لا يكفي احتمال المعاصرة

الفقهيات في مسالة القضاة بالشاهد واليمين» . المبحث الثالث: لا يكفي احتمال المعاصرة لكن إذا كان الشيخ غير مسمى ففي كلامهم ما يدل على أنه يحكم بالاتصال وذلك فيما إذا جاءت الراوية عن فلان التابعي «عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم..» ونحو ذلك، راجع (فتح المغيث) ص 62، والفرق بين التسمية والإيهام أن ظاهر الصيغة السماع، والثقة إذا استعملها في غير السماع ينصب قرينة فالمدلس يعتد بأنه قد عرف منه التدليس قرينة وأما غيره فإذا سمى شيخاً ولم يثبت عندنا معاصرته له فمن المحتمل أنه كان معروفاً عند أصحابه أنه لم يدركه فاعتد بعلمهم بذلك قرينة، وأهل العلم كثيرا ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدث عنهم ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف «كمراسيل ابن أبي حاتم» وغيره، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك لكثرته فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة، فأما إذا أبهم فلم يسم فهذا الاحتمال منتف لأن أصحاب ذاك التابعي لم يعرفوا عين ذلك الصحابي فكيف يعرفون أنه لم يدركه أو أنه لم يلقه؟ ففي هذا تنفي القرينة وإذا انتفت ظهر السماع وإلا لزم التدليس والفرض عدمه. «هذا ما ظهر لي، وعندي فيه توقف» . المبحث الرابع: اشترط العلم باللقاء أو بالمعاصرة إنما هو بالنظر إلى من قصدت الرواية عنه فأما من ذكر عرضاً فالظاهر أنه يكفي فيه الاحتمال، فإذا كان غير مسمى فالأمر أو ضح لما مر في المبحث السابق، وذلك كما في حديث (الصحيحين) من طريق عبد العزيز بن صهيب قال: سأل رجل أنس بن مالك ما سمعت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في الثوم؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم..» لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «سئل أنس عن الثوم؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه ... » عبد العزيز معروف بصحبة أنس ولا ندري من السائل. ومن ذلك ما في (صحيح مسلم) من طريق حنظلة قال: «سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوساً أن رجلاً قال لعبد الله عمر ألا تغزو؟ فقال إني سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » وأخرجه البخاري من طريق حنظلة: «عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » وقد يأتي شبه هذا ويكون المبهم هو الراوي نفسه، وإنما كنى عن نفسه لغرض كحديث (الصحيحين) عن معاذة: «أن امرأة قالت لعائشة: أيجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ ... » لفظ البخاري، وفي (الفتح) : «بين شعبة في روايته عن قتادة أنها هي معاذة الراوية، أخرجه الإسماعيلي من طريقه وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن قتادة» . أقول: في (صحيح مسلم) من طريق يزيد الرشك «عن معاذة أن امرأة سألت ... » ومن طريق عاصم عن معاذة قالت: «سألت عائشة فقلت ... » وقد يجيء نحو ذلك والراوي لم يشهد القصة ولكنه سمعها بتمامها ممن قصد الرواية عنه كما في حديث البخاري من طريق علقمة قال: «كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا نزلت! فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه ... » ورواه مسلم من وجه آخر عن علقمة: «عن عبد الله قال كنت بحمص فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم قال: فقال لي رجل من القوم: والله ما هكذا أنزلت ... » . فإن لم يكن التصرف من الرواة فالجمع بين الروايتين أن علقمة كان مع عبد الله بن مسعود بحمص ولكنه لم يشهد القصة وإنما سمعها من عبد الله، ولما كان المقصود الرواية عنه هو عبد الله لم يلتفت إلى ما وقع في الرواية الأولى من إيهام شهود علقمة للقصة، وهكذا ما في قول معاذة: «أن امرأة سألت ... » من إيهام أن السائلة غيرها فإن مثل ذلك لا يضع حكماً ولا يرفعه. والسر في حمل تلك الأمثلة على السماع ما قدمناه، ومن شك في هذا لزمه أن يشك في اتصال قول ثقة غير مدلس قد عرف بصحبة ابن المبارك: طار غراب

المبحث الخامس: اشتهر في هذا الباب العنعنة مع أن كلمة «عن» ليست من لفظ الراوي

فقال ابن المبارك ... ، أو: هبت ريح فقال ابن المبارك ... ، وهذا لا سبيل إليه فكذا ذاك؛ والله الموفق. المبحث الخامس: اشتهر في هذا الباب العنعنة مع أن كلمة «عن» ليست من لفظ الراوي الذي يذكر اسمه قبلها بل هي لفظ من دونه وذلك كما لو قال همام «حدثنا قتادة عن أنس» فكلمة «عن» من لفظ همام لأنها متعلقة بكلمة «حدثنا» وهي من قول همام، ولأنه ليس من عادتهم أن يبتدئ الشيخ فيقول «فلان..» كما ترى بعض أمثلة ذلك في بحث التدليس من (فتح المغيث) وغيره، ولهذا يكثر في كتب الحديث إثبات «قال» في أثناء الإسناد قبل.. حدثنا» و «أخبرنا» وذلك في نحو قول البخاري: «حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد» وكثيراً ما تحذف فيزيدها الشرّاح أو قراء الحديث ولا تثبت قبل كلمة عن وتصفح إن شيءت (شرح القسطلاني على صحيح البخاري) فبهذا يتضح أنه في قول همام «حدثنا قتادة عن أنس» لا يدري كيف قال قتادة، فقد يكون قال: «حدثني أنس» أو «قال أنس» أو «حدث أنس» أو «ذكر أنس» أو «سمعت أنساً» أو غير ذلك من الصيغ التي تصرح بسماعه من أنس أو تحتمله لكن لا يحتمل أن يكون قال «بلغني عن أنس» إذ لو قال هكذا لزم هماماً أن يحكى لفظه أو معناه كأن يقول: «حدثني قتادة عمن بلغه عن أنس» وإلا كان همام مدلساً تدليس التسوية وهو قبيح جداً وإن خف أمره في هذا المثال لما يأتي في قسم التراجم في ترجمة الحجاج بن محمد. والمقصود هنا أنه لو قال راو لم يعرف بتدليس التسوية (حدثني عبد العزيز بن صهيب عن أنس» كان متصلاً لثبوت لقاء عبد العزيز لأنس وأنه غير مدلس مع أننا لا ندري كيف قال عبد العزيز فقد يكون قال «قال أنس» أو «ذكر أنس» أو «حدث أنس» أو ابتدأ فقال: «أنس» فالحمل على السماع في العنعنة يستلزم الحمل على السماع في هذه الصيغ وما أشبهها وقد صرحوا بذلك كما تراه في (فتح

المغيث) ص 69 وغيره، وما ذكروه من الخلاف في كلمة «أن» إنما هو في نحو أن يجيء «عن عبد العزيز أن أنس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم» ومعلوم أن عبد العزيز لم يدرك ذلك ومن حمله على السماع إنما مال إلى أن الظاهر أن عبد العزيز سمع القصة من أنس فكأنه قال: «حدثني أنس أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم..» وفي هذا المثال لا مزية لكلمة «أن» بل لو قال عبد العزيز «سأل أنس النبي صلى الله عليه..» لكان هذا كقوله: «عن عيد العزيز أن أنساً سأل ... » بل إن كلمة «أن» في المثال ليست من لفظ عبد العزيز وإنما هي من لفظ الراوي عنه فقوله: «حدثني عبد العزيز أن أنساً سأل» إنما تقديره «حدثني عبد العزيز بأن أنساً سأل» وقد يكون عبد العزيز قال «سأل أنس» وقد يكون قال غير ذلك. والله أعلم.

القسم الثاني في التراجم

القسم الثاني في التراجم

ذكر ترجمة الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ مع بيان ما له وما عليه

أسوق في هذا القسم على الحروف تراجم الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ في (التأنيب) وربما ذكرت غيرهم لاقتضاء الحال، فأذكر في كل ترجمة كلام الأستاذ وماله وما عليه متحرياً إن شاء الله تعالى الحق، فما لم أنسبه من أقوال أئمة الجرح والتعديل إلى كتاب فهو من (تهذيب التهذيب) أو (لسان الميزان) ، وعادة مؤلفهما أن لا يجزم بالنقل فيما لم بثبت عنده فإن تبين لي خلاف ذلك نبهت عليه، وما عدا ذلك فإني أسمي الكتاب وأبين المجلد والصفحة غالبا إن كان مطبوعا. وأعوذ بالله من شر نفشي وسيء عملي وأسأله التوفيق فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. 1- أبان بن سفيان. في (تاريخ بغداد) (13/ 399) « ... علي بن حرب حدثنا أبان بن سفيان حدثنا حماد بن زيد ... » قال الأستاذ في (التأنيب ص113 «في سنده أبان بن سفيان قال ابن حبان يروي عن (الثقات) أشياء موضوعة. وقال الدارقطني متروك» . أقول في (الميزان) و (اللسان) ذكر رجلين يقال لكل منهما أبان بن سفيان أحدهما بصري نزل الموصل من بلاد الجزيرة روى عن أبي هلال محمد بن سليم البصري قال فيه الدارقطني «جزري متروك» . والثاني مقدسي روى عن الفضيل بن عياض وعبيد الله بن عمر روى عنه محمد بن غالب الأنطاكي قال فيه ابن حبان: «روى أشياء موضوعة» وأورد له حديثين وقال: «هذان موضوعان» وناقشه

2- إبراهيم بن بشار الرمادي

الذهبي في (الميزان) ثم استظهر الذهبي أن الرجلين واحد وذكر ابن حجر أن النباتي فرق بينهما. أقول والفرق هو الظاهر فأما الذي في سند الخطيب فإن كان غير هذين فلا نعرفه وإن كان أحدهما، فالظاهر أنه الأول، فإن حماد بن زيد بصري من طبقة محمد بن سليم، وعلي ابن حرب موصلي. والله أعلم. 2- إبراهيم بن بشار الرمادي. في (تاريخ بغداد) «13م 389» (1) « ... إبراهيم ابن بشار الرمادي حدثنا سفيان بن عيينة ... » قال الأستاذ ص 82 «عنه يقول ابن أبي حاتم أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال سمعت أبي وذكر إبراهيم بن بشار الرمادي فقال ك كان يحضر معنا عند سفيان ثم يملي على الناس ما سمعوه من سفيان وربما أملي عليهم ما لم يسمعوا - كأنه يغير الألفاظ فتكون زيادة ليس في الحديث فقلت له إلا تثقي الله تملي عليهم ما لم يسمعوا - وذمة في ذلك ذماً شديداً» . أقول: وقال ابن معين «ليس بشيء ولم يكتب عند سفيان وكان يملي على الناس ما لم يقله سفيان» وقال النسائي: «ليس بالقوي» وقال أبو حاتم «صدوق» وقال أبو عوانة في صحيحه.. ثقة من كبار أصحاب ابن عيينة وممن سمع منه قديماً» وقال الحاكم «ثقة مأمون من الطبقة الأولى من أصحاب ابن عيينة» وقال يحيى بن

_ (1) ... كذا الأصل، وكذا في (التأنيب) ، والظاهر أنهما ينقلان عن نسخة غير النسخة المتداولة اليوم من (التاريخ) الطبعة الأولى سنة 1349 بمصر، فان الرواية فيها (13/ 405) ، وكذلك الأرقام في سائر التراجم الآتية تختلف عن الواقع في هذه الطبعة، فزد على كل رقم نحو عشرة تجد الرواية فيها إن شاء الله. وسبب هذا التفاوت بين النسخ - فيما بلغني - أن هذا الجزء الثالث عشر من «التاريخ» لما نزل إلى السوق واطلع عليه المتعصبين لأبي حنيفة رحمه الله ها لهم ما جاء في ترجمته من طعون رواها الخطيب بأسانيده، فكلف الشيخ الكوثري بالتعليق عليها ففعل وأعيد طبع الجزء مع التعليقات المذكورة. ن

الفضل «كان والله ثقة» وقال ابن حبان في (الثقات) «كان متقناً ضابطاً صحب ابن عيينة سنين كثيرة، وسمع أحاديثه مراراً ... » ولقد حدثنا أبو خليفة ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال: حدثنا سفيان بمكة و «عبَّادان» وبين السماعين أربعون سنة. سمعت أحمد بن زنجويه يقول سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كان الحميدي لا يكتب عند سفيان بن عيينة وإبراهيم بن بشار أحفظهما. أقول يتحصل من مجموع ما ذكر أن إبراهيم كان قد سمع من سفيان بن عيينة قديماً ثم كان يحضر مجالسه فربما حد حدث سفيان ببعض تلك الأحاديث فربما أبدل كلمة بأخرى أو نحو ذلك على ما هو معروف من عادة سفيان في الرواية بالمعنى، وكان بعض الحاضرين لا يتمكنون من الحفظ أو الكتابة وقت السماع فإذا فرغ المجلس رغبوا إلى إبراهيم فيملي عليهم ذاك المجلس فربما أملي عليهم كما حفظ سابقا ويكون في ذلك ألفاظه مغايرة للألفاظ التي عبر عنها سفيان في ذاك المجلس، فذاك الذي أنكره عليه أحمد ويحيى، وقد يقال إن كان إبراهيم لم يشعر بالاختلاف فالخطب سهل وإن شعر به فغايته أن يكون استساغ للجماعة أن يذهب أحدهم فيروي عن سفيان كما حدث سفيان قديماً وإن كان هو إنما سمعه بتغيير ما في الألفاظ كما ساغ لسفيان أن يروي ما سمعه تارة كما سمعه، وتارة بتغيير ما في الألفاظ، بل هذا أسوغ فإن اللفظيين كلاهما صحيح عن سفيان. وبالجملة فهذا توسع في الرواية بالمعنى لا يوجب جرحا، وظاهر قول أحمد «كأنه يغير الألفاظ» أنه جوز أن إبراهيم يغير الألفاظ من عنده وذلك أشد، وهكذا ما يروي عن ابن معين قال في إبراهيم «رأيته ينظر في كتاب وابن عيينة يقرأ ولا يغير شيئاً ليس معه ألواح ولا دواة» فالكتاب الذي كان ينظر فيه سماعه القديم من ابن عيينة فكان يعيد سماعه ليتثبت وقد عرف عادة ابن عيينة في الرواية بالمعنى فلم يكن يلتفت إلى اختلاف بعض الألفاظ ولعله لو رأى اختلافا معنويا لراجع ابن عيينة إما في المجلس وإما بعده.

3- إبراهيم بن الحجاج

وقد جاء عن يحيى القطان أنه ذكر لابن عيينة ما قد يقع في حديثه من اختلاف فقال ابن عيينة: «عليك بالسماع الأول فإني قد سئمت» كما في (فتح المغيث) ص429. وفي (التهذيب) : «وقال أحمد: كان سفيان الذي يروي عنه إبراهيم بن بشار ليس هو سفيان بن عيينة. يعني مما يغرب عنه وكان مكثرا عنه» . أقول: وحق لمن لازم مثل ابن عيينة في كثرة حديثه عشرات السنين أن يكون عنده عنه ما ليس عنده غيره ممن صحبه مدة قليلة. نعم قال البخاري في إبراهيم «يهم في الشيء بعد الشيء وهو صدوق» وأورد له حديثا رواه ابن عيينة مرفوعا (1) وغيره يرويه عن ابن عيينة مرسلا قال ابن عدي: «لا أعلم أنكر عليه إلا هذا الحديث الذي ذكره البخاري وباقي حديثه مستقيم وهو عندنا من أهل الصدق» أقول فإن كان وهم في هذا فهو وهم يسير في جانب ما روى فالرجل ثقة ربما وهم والسلام. هذا وقد توبع إبراهيم على الرواية التي ساقها الخطيب وذكر الأستاذ نفسه متابعة علي ابن المديني له غاية الأمر أن بين اللفظيين اختلافا ما وجهه أن ابن عيينة قال مرة كما ذكره إبراهيم ومرة كما ذكر ابن المديني. راجع ص 4 والله أعلم. 3- إبراهيم بن الحجاج. في (تاريخ بغداد) «13 / 392» . « ... الحسن بن سفيان عن إبراهيم بن الحجاج عن حماد بن زيد ... » قال الأستاذ ص 94 «قدري ففي قبول قوله في أئمة السنة وقفة» . أقول في ترجمة إبراهيم بن الحجاج السامي من (تهذيب المزي) أنه يروي عن حماد بن زيد ويروي عنه الحسن بن سفيان وكذا في ترجمة إبراهيم بن الحجاج النيلي وكلاهما موثق ولم أجد نسبة أحدهما إلى القدر وليس كل بصري قدريا

_ (1) كذا الأصل والصواب أن يقال: «موصولا» لأنه الذي يقابل قوله الآتي «مرسلا» ولأن المرسل مرفوع أيضا. ن

4- إبراهيم بن راشد الآدمي

ولا غالبهم قدرية بل غالبهم غير قدرية كما يأتي في ترجمة طلق بن حبيب وعلى فرض أن الرجل قدري فلم يكن داعية والمخالفة في المذهب لا تخدش في الرواية كما مر في القواعد. والله الموفق. 4- إبراهيم بن راشد الآدمي. في (تاريخ بغداد «13 / 406» « ... إبراهيم ابن راشد الآدمي قال: سمعت أبا ربيعة فهد بن عوف ... » قال الأستاذ ص 129 «المتهم عند ابن عدي كما ذكره الذهبي» . أقول تعقبه ابن حجر في (اللسان) قال: «لم أر في (كامل ابن عدي) ترجمته» وقد قال ابن أبي حاتم «صدوق» وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «كان من جلساء يحيى بن معين» وفي ترجمة علي بن صالح الأنماطي من (الميزان) حديث ساقه الذهبي من طريق أبي نعيم الأصبهاني «أنا عمر بن شاهين ثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني ثنا إبراهيم بن راشد الآدمي ثنا علي بن صالح الأنماطي ... » استنكر الذهبي وقال: «المتهم بوضعه علي فإن الرواة ثقات سواه» تعقبه ابن حجر في (اللسان) بأن عليا ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال «مستقيم الحديث» قال ابن حجر «وينظر فيمن دون صاحب الترجمة» أقول أخاف أن يكون هذا من بلايا الإجازة فإن أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ربما تكون له إجازة عامة من شيخ، ثم يسمع الشيء ويرويه رجل عن ذاك الشيخ فيرويه أبو نعيم عن الشيخ نفسه بلفظ «أخبرنا» على إصلاحه في الإجازة كما يأتي شرحه في ترجمته فيكون البلاء في هذا الحديث من الرجل الذي بين أبي نعيم وابن شاهين ويبرأ غيره. والله أعلم. 5- إبراهيم بن سعيد الجوهري. راجع (الطليعة) ص 66 - 98 قال الأستاذ في: (الترحيب) ص 50 «لا يتصور من مثل ابن الشاعر أن يقع فيه من غير أن يتكرر ذلك منه» . أقول أما كلمة حجاج فلا تقتضي إلا مرة واحدة وأما قول ابن خراش:

6- إبراهيم بن شماس

«وكان حجاج يقع فيه» فإن عنى تلك الكلمة بان حالها وإن عناها وغيرها فالوقيعة في الإنسان معناها مطلق الذم كأن يكون قال مرة تلك الكلمة وقال مرة «لم يكن بالذكي» وقال أخرى «مغرم بالكتابة عن كل أحد ليقال مكثر» ونحو ذلك من الكلمات التي لا توجب جرحاً. ثم مال الأستاذ إلى الإنصاف فذكر أنه يجب الذب عن إبراهيم بن سعيد ولكنه جعل الحمل على عبد الرحمن بن حراش وستأتي ترجمته. 6- إبراهيم بن شماس. في (تاريخ بغداد) 13 / 414 « ... إبراهيم بن شماس يقول كنت مع ابن المبارك في الثغر فقال لئن رجعت لأخرجن أبا حنيفة من كتبي» وفيه بعد ذلك « ... إبراهيم بن شماس يقول سمعت ابن المبارك يقول اضربوا على حديث أبي حنيفة» قال الأستاذ ص150 «إبراهيم بن شماس ذلك المتعبد الغازي ... على علو طبقته لم يخرج عنه أحد من أصحاب الأصول الستة ... بطل مغوار متعبد متعصب ... ملء أهابه التعصب على زهده» . أقول أما العبادة والزهد والجهاد والبطولة فنعم، وأما التعصب فإنما وصفه به بعض من لم يدركه وهو الإدريسي الذي ولد بعد إبراهيم بأكثر من مائة سنة وإنما قال «كان شجاعاً بطلاً ثقة متعصبا لأهل السنة» . فأما الذين أدركوه فإنما وصفوه بالسنة قال الإمام أحمد «كان صاحب سنة» وقال أحمد بن سيار «كان صاحب سنة وجماعة، كتب العلم، وجالس الناس ورأيت إسحاق بن إبراهيم «ابن راهويه» يعظم من شأنه ويحرضنا على الكتابة عنه» . وممن روى عنه الإمام أحمد وأبو زرعة والبخاري في غير (الصحيح) ، وأحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده كما يأتي في ترجمة محمد بن أعين، وأبو زرعة من عادته أن لا يروي إلا ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 416 والبخاري نحو ذلك كما يأتي في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن؛ ووثقه الدارقطني وابن

سبب عدم إخراج الستة له

حبان وغيرهما، وتحريض ابن راهويه على الكتابة عنه يدل على مكانته في الصدق والثبت، وقال ابن حبان في (الثقات) «كان متقنا ... سمعت عمر بن محمد البحيري يقول سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: رأيت ابن المبارك يقرأ كتابا على الناس في الثغر فلما مر على ذكر أبي حنيفة قال اضربوا عليه، وهو آخر كتاب قرأ على الناس ثم مات» . فأما عدم إخراج البخاري عنه في (صحيحه) فكأنه إنما لقيه مرة فإن إبراهيم كان دائبا في الجهاد فلم يسمع منه البخاري ما يحتاج إلى إخراجه في (الصحيح) وقد أدرك البخاري من هو أكبر من إبراهيم وأعلى إسنادا، وكم من ثقة ثبت لم يتفق أن يخرج عنه البخاري في (صحيحه) وأخرج عمن هو دونه بكثير. فأما بقية الستة فأبو داود ولد سنة 202 فقد أدرك إبراهيم فإن إبراهيم استشهد سنة 220 ولكن لعله لم يلقه وإنما روى في مسائل مالك عن رجل عنه على ما يظهر من (التهذيب) وقد سمع أبو داود جماعة ممن هو أكبر وأعلى إسناداً من إبراهيم. ومسلم ولد سنة 204 والباقون بعد ذلك، وجامعوا الكتب الستة يتحرون علو الإسناد والاختصار ولا ينزلون إلا لحاجة والراوية عن إبراهيم قليلة لاشتغاله بالجهاد ولأنه لم يعمر حتى يحتاج إليه، وقد روى عنه من هو أجل من أصحاب الكتب الستة كما مر. وقد ساق الأستاذ في تعليقه على شروط الأئمة كلاماً طويلا فيه ما فيه وقال في أواخره «ومن ظن أن ثقات الرواة هم رواة الستة فقد ظن باطلاً وجود الحافظ العلامة قاسم بن قطلوبغا الثقات من غير رجال الستة في مؤلف حافل يبلغ أربع مجلدات» . فأما المخالفة في المذهب والتعصب للسنة فلا يخدش في الرواية كما مر في القواعد. بقي أن الأستاذ قال بعد ما تقدم «ويقضي على مختلقات الخصوم في هذا الكتاب كثرة رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة في (المسانيد السبعة عشر) له ... فأنَّى تصح رواية ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام

7- إبراهيم بن أبي الليث

يسيرة» . أقول: الأستاذ يتذرع بهذا إلى الطعن في جماعة من الثقات الأثبات، إبراهيم وغيره كما يأتي في تراجمهم وذلك يضطرنا إلى مناقشته هنا فأقول: المسانيد السبعة عشر لأبي حنيفة منها ما جامعه مجروح، وما كان جامعه ثقة ففي أسانيده إلى ابن المبارك مجروح أو أكثر، وما عساه يصح إلى ابن المبارك لا يصح حمله على أنه مما حدث به ابن المبارك قديماً، فأنه لا يلزم من تركه الرواية عن أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة أن لا يروي الناس عنه ما سمعوه قبل ذلك ولا سيما الذين لم يحضروا أمره بالضرب أو لم يعملوا به، والله المستعان. 7- إبراهيم بن أبي الليث. في (تاريخ بغداد) 13/ 417 « ... إبراهيم بن أبي الليث قال سمعت الأشجعي غير مرة ... » قال الأستاذ ص 160 « ... عنه يقول ابن معين لو اختلف إليه ثمانون كلهم مثل منصور بن المعتمر ما كان إلا كذاباً. وكذبه غير واحد» . أقول ترجمة إبراهيم هذا في (تاريخ بغداد) ج 6 ص 191 فأما هذه الكلمة التي ذكرها الأستاذ فإنما رواها الخطيب من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز وترجمة ابن محرز هذا في (تاريخ بغداد) ج 5 ص83 ليس فيها تعريف بحاله وإنما فيها «يروى عن يحيى بن معين حدث عنه جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي» وكلمة ابن الدورقي المذكورة في (اللسان) و (التعجيل) هي في قصة طويلة رواها الخطيب من طريق أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ، والأزدي اتهموه، ونحتاج إلى الاعتذار عن ابن حجر في جزمه بها مع أنها من طريق الأزدي. وما في «اللسان» تبعاً لأصله أن ابن معين قال في إبراهيم «ثقة لكنه أحمق» إنما رواها الخطيب من طريق بكر بن سهل عن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين، وبكر بن سهل هذا إن كان هو الدمياطي المترجم في (الميزان) و (اللسان) كما بنيت عليه في (الطليعة) ص 78 وتأتي الإشارة إليه في ترجمة

الحسن بن الربيع ففيه كلام شديد وعقبها الخطيب بقوله ك «وهذا القول من يحيى في توثيقه كان قديماً ثم أساء القول فيه بعد وذمه ذماً شديداً» . والذي يتخلص من مجموع كلامهم أنهم لم ينقموا عليه شيئاً في سيرته، وأنه كانت عنده أصول الأشجعي التي لا شك فيها، وكان يذكر أنه سمعها من الأشجعي إلا مواضع كان يعترف أنه يسمعها فقصده الأئمة أحمد ويحيى وابن المديني وغيرهم يسمعون منه كتب الأشجعي فكانوا يسمعون منه، ثم حدث بأحاديث عن هشيم وشريك وغيرهما من حفظه فاستنكروا من روايته عن أولئك الشيوخ أحاديث تفرد بها عنهم وكان عندهم أنها مما تفرد به غير أولئك الشيوخ منها حديث رواه عن هشيم عن يعلي بن عطاء وكان عندهم أنه من أفراد حماد بن سلمة عن يعلى، فتوقف فيه أحمد لهذا الحديث حتى بان له أن غير حماد قد حدث به، وعذره أحمد في بقية الأحاديث، وأما ابن معين فشدد عليه وتبعه جماعة واختلف عن ابن المديني فقيل لَم يزل يحدث عنه حتى مات وقيل بل كذب بآخره. وقال أبو حاتم «كان أحمد يجمل القول فيه وكان يحيى بن معين يحمل عليه وعبيد الله القواريري (وهو ثقة عندهم من رجال الصحيحين) أحب إلي منه» وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال أبو داود عن ابن معين «أفسد نفسه في خمسة أحاديث» فذكرها قال ابن حجر في (التعجيل) : «وهذا عندي أعدل الأقوال فيه» . أقول قد ظهرت عدالة الرجل أولاً ثم عرضت تلك الأحاديث فاختلفوا فيها فمنهم من عذره ومنهم من رماه بسرقتها فالذي ينبغي التوقف عن سائر ما رواه عن غير الأشجعي وقبول ما رواه عن الأشجعي، فإن ذلك من أصول الأشجعي باعترافهم جميعاً ولم ينكروا منها شيئاً، وأحسب أن رواية الأمام أحمد وابنه عبد الله عن إبراهيم، إنما هي مما رواه من كتب الأشجعي، وقد يكون هذا رأي الأستاذ الكوثري فقد احتج ص 99: حدثنا ... قال حدثني إبراهيم ابن أبي الليث قال حدثني الأشجعي ... » فأما روايته هنا فهي عن الأشجعي لكنها حكاية لا

8- إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري

يظهر أنها كانت من أصول الأشجعي. والله أعلم. 8- إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري. في (تاريخ بغداد) 13/ 373 « ... سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول سمعت أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قال إبليس يا رب وقال أبو بكر الصديق يا رب ... » قال الأستاذ ص 40 «الفزاري كان يطلق لسانه في أبي حنيفة ويعاديه من جهة أنه كان أفتى أخاه على مؤازرة إبراهيم القائم في عهد المنصور فقتل في الحرب ... وحكم شهادة العدو في مذهب الشافعي ... معروف ... ويقول ابن سعد في (الطبقات الكبرى) :كان كثير الغلط في حديثه، ويقول ابن قتيبة في (المعارف) أنه كان كثير الغلط في حديثه ومثله في (فهرست محمد بن إسحاق النديم) لكن ذلاقة لسانه في أبي حنيفة وأصحابه نفعته في رواج رواياته بين أصحاب الأغراض ... مع أن الواجب فيمن كان كثير الخطأ في حديثه الإعراض عن انفراداته ... » وقال الأستاذ ص 71: «سامح الله أبا إسحاق الفزاري كأنه فقد اتزانه من فقد أخيه فأصبح يطلق لسانه في فقيه الملة في كل مجلس ومحفل حتى مجلس الرشيد كما تجد ذلك في (تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم ... غاية ما فعل أبو حنيفة أن أفتى أخاه بما أراه الله حين استفتاه» ، وقال الأستاذ ص 77: «إنما شأنه في السير والمغازي ولم يكن ابن سعد يرضاه فيها، ويذكره بكثرة الغلط، وابن سعد ذلك الأمام الكبير في السير والمغازي ... » وقال ص 77: «قال ابن سعد في الفزاري: كان ثقة فاضلاً صاحب سنة وغزو كثير الخطأ في حديثه» . أقول مدار كلام الأستاذ في أبي إسحاق على أمرين:

ترجمة يزيد بن يوسف الشامي الذي اعتمد على روايته الكوثري

الأول: قوله أنه كان يعادي أبا حنيفة الأستاذ أن يجعلها عداوة دنيوية لأجل الفتوى مع أن ذكر الفتوى لم يقع إلا في رواية ذكرت في (تاريخ بغداد) (13 / 384) في سندها يزيد بن يوسف الشامي فتكلم الأستاذ فيها ص 70: قال «يزيد بن يوسف الشامي يقول ابن معين فيه: ليس بثقة، ويقول النسائي: متروك» والكلام فيه أكثر من ذلك حتى قال ابن شاهين في الضعفاء «قال ابن معين: كان كذاباً» وقال ابن حبان: «كان سيئ الحفظ كثير الوهم يرفع المراسيل ويسند الموقوف ولا يفهم فلما كثر ذلك منه سقط الاحتجاج بأفراده» . فهذه الرواية ساقطة، والثابت رواية أخرى في (تاريخ بغداد) (13/ 384) فيها عن أبي إسحاق «قتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة فقال لي من أين أقبلت؟ وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المصيصة وأردت أخاً لي قتل مع إبراهيم، فقال أبو حنيفة: لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك من المكان الذي جئت منه ... » . وهناك رواية ثالثة في (تقدمة الجرح والتعديل) هي التي وقع فيها ما أشار إليه الأستاذ من إطلاق اللسان وفي إسنادها نظر، ولا ذكر فيها للفتوى، ولو صحت لكانت أدل على عدم الفتوى، فالحاصل أن الثابت أن أبا إسحاق بلغه قتل أخيه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الخارج على المنصور فقدم أبا حنيفة، فسأله أبو حنيفة فأجابه أنه جاء من المصيصة - الثغر الذي كان أبو إسحاق يرابط فيه لجهاد الروم ودفعهم عن بلاد الإسلام فقال أبو حنيفة: «لو أنك قتلت مع أخيك كان خيراً لك من المكان الذي جئت منه» . ومن المعلوم أن أبا إسحاق حبس نفسه غالب عمره على المرابطة في الثغر والتعرض للشهادة صباح مساء فلم يكن ليغمه قتل أخيه إلا لكونه في فتنة ولا لينقم على من رضي بقتل أخيه إلا لرضاه بما يراه

بحث جيد في الخروج على أئمة الظلم

فتنة ولا ليستعظم قول من قال له: «لو أنك قتلت مع أخيك ... » إلا لما فيه من تفضيل قتال المسلمين في غير كنهه عنده على الرباط والجهاد ودفع الكفار عن بلاد الإسلام، فهذا وغيره مما يوجد في الروايات الأخرى منها الرواية التي تقدمت أول الترجمة هو الذي أحفظ أبا إسحاق على أبي حنيفة فإن بلغ ذلك أن يسمى عداوة فهي عداوة دينية لا ترد بها الرواية بإجماعهم كما تقدم في القواعد، وسواء أكان الصواب استحسان الخروج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وتفضيله على الجهاد والرباط كما رأى أبو حنيفة أم خلافه كما كان يعتقده أبو إسحاق، فإن أبا إسحاق إما مصيب مشكور وإما مخطئ مأجور، ولا بأس بالإشارة إلى وجهتي النظر: كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظلم ويرى قتالهم خيراً من قتال الكفار، وأبو إسحاق ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم وتشتيت لجماعتهم وتمزيق لوحدتهم وشغل لهم بقتل بعضهم بعضاً، فتهن قوتهم وتقوى شوكة عدوهم وتتعطل ثغورهم، فيستولي عليها الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويذلونهم وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجة الفشل المخزي لهم جميعاً. وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق فكانت ثمرة ذلك بعد اللتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرة، ثم خرج القراء مع ابن الأشعث فماذا كان؟ ثم كانت قضية زيد بن علي وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى فخذلوه، فكان ما كان، ثم خرجوا مع بني العباس

شيء من ترجمة ابن سعد صاحب الطبقات

فنشأت دولتهم التي رأى أبو حنيفة الخروج عليها، واحتشد الروافض مع إبراهيم الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه ولو كتب له النصر لاستولى الروافض على دولته، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم! هذا والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة، والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جداً مما يغلب على الظن أنه يندفع به جاز الخروج وإلا فلا. وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان، وأولاهما بالصواب من اعتبر بالتاريخ وكان كثير المخالطة للناس والمباشرة للحروب والمعرفة بأحوال الثغور، وهكذا كان أبو إسحاق. وأما حال أبي إسحاق في الرواية فنبدأ بتلك الكلمة: «كثير الخطأ في حديثه» هذه الكلمة نقلها الأستاذ عن ابن سعد وابن قتيبة وابن النديم، فأقول: ابن قتيبة وابن النديم لا شأن لهما بمعرفة الرواية والخطأ والصواب فيها وأحوال الرواة ومراتبهم، وإنما فن ابن قتيبة معرفة اللغة والغريب والأدب، وابن النديم رافضي وراق، فنه معرفة أسماء الكتب التي كان يتجر فيها، وإنما أخذا تلك الكلمة من ابن سعد. وابن سعد هو محمد بن سعد بن منيع كاتب الواقدي، روى الخطيب في ترجمته أن مصعباً الزبيري قال لابن معين: «حدثنا ابن سعد الكاتب بكذا وكذا» فقال ابن معين «كذب» واعتذر الخطيب عن هذه الكلمة وقال: «محمد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل عل صدقه..» وقال أبو حاتم: «يصدق» ووفاة ابن سعد سنة 230 فقد أدركه أصحاب الكتب الستة إدراكاً واضحاً وهو مقيم ببغداد حيث كانوا يترددون، وهو مكثر من الحديث والشيوخ وعنده فوائد كثيرة ومع ذلك لم يخرجوا عنه شيئاً إلا أن أبا داود روى عن أحمد بن عبيد وستأتي ترجمته عن ابن سعد عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: «يقولون قبيصة بن وقاص له صحبة» وهذه الحكاية ليست بحديث ولا أثر ولا ترفع حكما ولا تضعه، والأستاذ كثيراً ما يتشبث

رد الكوثري قول إمام النقاد في إمامه "أخطأ في خمسين حدثيا"

في التليين بعدم إخراج أصحاب الكتب الستة للرجل مع ظهور العذر كما تقدم في ترجمة إبراهيم بن شماس، فأما ابن سعد فلا مظنة للعذر إلا أنهم رغبوا عنه، وأظن الأستاذ أول من منح ابن سعد لقب: «الإمام» ولم يقتصر عليه بل قال: «الإمام الكبير» وتغاضى الأستاذ عن قول ابن سعد في أبي حنيفة فإنه ذكره في موضعين من (الطبقات) ج 6 ص 256 وج 7 قسم 2 ص 67 وقال في كلا الموضعين: «وكان ضعيفاً في الحديث» ولم يقرن هذه الكلمة بشيء مما قرن به كلمته في أبي إسحاق فلم يقل: «ثقة» ولا «فاضل» ، ولا «صاحب سنة» ! ومع ذلك فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حد أن يقبل منه تليين من ثبته غيره أنه في أكثر كلامه إنما يتابع شيخه الواقدي، والواقدي تالف، وفي (مقدمة الفتح) في ترجمة عبد الرحمن بن شريح: «شذ ابن سعد فقال: منكر الحديث، ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا فإن مادته من الواقدي في الغالب والواقدي ليس بمعتمد» . وفيها في ترجمة محارب بن دثار: «قال ابن سعد: لا يحتجون به، قلت: بل احتج به الأئمة كلهم ... ولكن ابن سعد يقلد الواقدي» . وفيها ترجمة نافع بن عمر الجمحي: «قد قدمنا أن تضعيف ابن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي» . وقد رد الأستاذ ص 168 قول إمام النقاد علي بن المديني في أبي حنيفة: «روى خمسين حديثاً أخطأ فيها» فقال الأستاذ: «لم يذكر وجه تخطئته في الحديث حتى يحتاج إلى الجواب وهو على كل حال جرح غير مفسر» وذكر ص 158 قول ابن أبي داود: «إن أبا حنيفة أخطأ في نصف أحاديثه» فقال الأستاذ: «فلا نشتغل بالرد على هذا الكلام المرسل منه جزافاً من غير أن يبين ما هو خطؤه وفي أي حديث كان ذلك الخطأ» وذكر الأستاذ ص 90 قول ابن حبان في أبي حنيفة:

فقه الإمام الفزاري

«كان أجل في نفسه من أن يكذب ولكن لم يكن الحديث شأنه، فكان يروي فيخطئ من حيث لا يعلم ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم، حدث بمقدار مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما إسنادها أو غير متنها» . فأجاب الأستاذ جواباً إجمالياً يأتي مع النظر فيه في ترجمة ابن حبان إن شاء الله، يدفع الأستاذ هذه النصوص وإضعافها بأنها لم تفسر، ويتشبث في الغض من أبي إسحاق بتلك الفخارة النيئة «كثير الخطأ في حديثه» محاولاً أن ينطح بها الجبل الشامخ، وإذا قد تحطمت تلك الفخارة على رأس حاملها فلنذكر تقريظ الأئمة لأبي إسحاق (1) أما ثقته فقال ابن معين: «ثقة ثقة» ، وقال أبو حاتم: «الثقة المأمون الأمام» ، وقال النسائي: «ثقة مأمون أحد الأئمة» ووثقه جماعة غير هؤلاء واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة والناس. وأما فقهه فقال ابن المبارك: «ما رأيت رجلاً أفقه من أبي إسحاق الفزاري» وقال عبد الله ابن داود الخُريبي: «لقول أبي إسحاق أحب إليَّ من قول إبراهيم النخعي» . وأثنى عليه آخرون في الفقه. وأما معرفته بالسير فقال ابن عيينة: «ما ينبغي أن يكون رجل أبصر بالسير (وفي نسخة: بالسنن) منه» وقال الخليلي «أبو إسحاق يقتدى به وهو صاحب (كتاب السير) نظر فيه الشافعي وأملى كتابا على ترتيبه ورضيه» وقال الحميدي: «قال لي الشافعي: لم يصنف أحد في السير مثله» . وأما إمامته وفضله فقال سفيان بن عيينة: «كان إماماً» وقال أيضاً: «والله ما

_ (1) من «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم و «تذكرة الحافظ» الذهبي و «تهذيب التهذيب» . (2) انظر «تفسير سفيان بن عيينة» جمع وتحقيق أحمد صالح محايري. طبع المكتب الاسلامي. فقد قال عنه: «كان إماماً»

رأيت أحداً أقدمه عليه» وقال الفضيل بن عياض: «ربما اشتقت إلى المصيصة وما بي فضل الرباط بل لأرى أبا إسحاق» وقال أبو داود الطيالسي: «مات أبو إسحاق الفزاري وليس على وجه الأرض أفضل منه» وقال عبد الرحمن بن مهدي: «إذا رأيت شامياً يحب الأوزاعي وأبا إسحاق فاطمئن إليه، كانا إمامين في السنة» وقال أبو أسامة: «سمعت فضيل بن عياض يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس، فقال: هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري، والثناء على أبي إسحاق كثير، وفي هذا كفاية. فهؤلاء الأئمة ونظراؤهم الراضون عن أبي إسحاق والموافقون والمثنون عليه هم الذين سماهم الأستاذ فيما تقدم من عبارته «أصحاب الأغراض» وقال الأستاذ ص 66 في شأن أبي إسحاق: «حاله في علمه كما علمت وإنما وقعت ذلاقة لسانه في الوقوع في الناس موقع الإعجاب عند كثير ممن يحبون الوقوع في خصومهم بألسنة أناس آخرين فرفعوه إلى غير مرتبته!. أقول: إذا كان هؤلاء ساخطين على أبي حنيفة هذا السخط الذي يصوره الأستاذ فليت شعري من بقي غيرهم من أئمة الدين يسوغ أن يقال إنه راض عن أبي حنيفة؟ وهل بقي إلا كسير وعوير، وثالث ما فيه خير؟ ! وقال الأستاذ ص 77: «قال الحافظ (؟) ابن أبي العوام: حدثني ... سمعت إسماعيل ابن داود يقول: كان عبد الله بن المبارك يذكر عن أبي حنيفة فكانوا إذا اجتمعوا بالثغر - يعني المصيصة - لم يحدث ابن المبارك عن أبي حنيفة بشيء ولا يذكر أبو إسحاق الفزاري أبا حنيفة بسوء حتى يخرج ابن المبارك» . أقول: إن صحت هذه الحكاية فإنما تدل على أدب كل من الإمامين مع صاحبه وحسن اعتقاده فيه، ولو كان ابن المبارك يرى أن أبا إسحاق يكذب على أبي حنيفة ويحكي عنه ما لم يكن ويتكلم فيه بالهوى ما ساغ لابن المبارك أن يسكت.

تفرد الكوثري بقوله في الإمام الفزاري: منكر الحديث

وإن تعجب فعجب ما في التعليق على صفحة 387 من المجلد13 من (تاريخ بغداد) ، ونص ذلك: «أبو إسحاق الفزاري منكر الحديث وهذان الخبران وهذان الخبران من مناكيره» أما إني لا أكاد أصدق أن مثل هذا يقع في مصر تحت سمع الأزهر وبصره، وقريب من هذا ما يأتي في ترجمة صالح بن أحمد فإن القضية التي كشفت عنها في (الطليعة) ص 12 يعتذر عنها الأستاذ في (الترغيب) بأنه قد سبقته إليها اللجنة الأزهرية. والله المستعان. 9- إبراهيم بن محمد بن يحيى أبو إسحاق المزكي النيسابوري. في (تاريخ بغداد) 13/ 385 «أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري حدثنا محمد بن المسيب..» قال الأستاذ ص 71 «لم يكن البرقاني يرضاه، وتفصيل أحواله عند الخطيب» . أقول قال الخطيب في (التاريخ) 6/ 168: « ... وكان ثقة ثبتاً مكثراً مواصلاً للحج ... وكان عند البرقاني عنه سقط أو سقطان ولم يخرج عنه في (صحيحه) شيئاً فسألته عن ذلك فقال: حديثه كثيراً الغرائب وفي نفسي منه شيء فلذاك لم أروعنه في (الصحيح) . فلما حصلت بنيسابور في رحلتي إليها سألت أهلها ... فأثنوا عليه أحسن الثناء وذكروه أجمل الذكر، ثم لما رجعت إلى بغداد ذكرت ذلك للبرقاني فقال قد أخرجت في (الصحيح) أحاديث كثيرة بنزول، وأعلم أنها عندي بعلو عن أبي إسحاق المزكي إلا أني لا أقدر على إخراجها لكبر السن وضعف البصر وتعذر وقوفي على خطي لدقته - أو كما قال» أقول فزال ما كان في نفس البرقاني من المزكي وعاد فرضيه، وكانت نيسابور في ذاك العصر دار الحديث، وحكى الخطيب عن الحاكم قال: «كان إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي من العباد المجتهدين ... عقد له الإملاء بنيسابور سنة 336 وهو أسود الرأس واللحية وزكى في تلك السنة، وكنا نعد في مجلسه أربعة عشر محدثاً منهم أبو العباس الأصم وأبو عبد الله بن الأخرم وأبو عبد الله الصفار ومحمد بن صالح وأقرانهم» . وكثرة الغرائب إنما تضر الراوي في أحد حالين:

10- إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني

الأولى: أن تكون مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة. الثانية: أن يكون مع كثرة غرائبه غير معروف بكثرة الطلب. ففي الحال الأولى تكون تبعة النكارة على الراوي نفسه لظهور براءة من فوقه عنها، وفي الحال الثانية يقال من أين له هذه الغرائب الكثيرة مع قلة طلبه؟ فيتهم بسرقة الحديث كما قال ابن نمير في أبي هشام الرفاعي «كان أضعفنا طلبا وأكثرنا غرائب» . وحفاظ نيسابور كانوا يعرفون صاحبهم بكثرة الطلب والحرص عليه وطول الرحلة وكثرة الحديث، ولازم ذلك كثرة الغرائب، وعرفوه مع ذلك بالأمانة والفضل والثبت يشكوا فيه وهم أعرف به ولذلك رجع البرقاني إلى قولهم. 10- إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني. قال الأستاذ ص 115 في كتاب (الجرح والتعديل) : «أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتب إلي: عن أبي عبد الرحمن المقري قال كان أبو حنيفة يحدثنا فإذا فرغ من الحديث قال هذا الذي سمعتم كله ريح وأباطيل، ثم قال: أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتب إليَّ حدثني إسحاق بن راهويه قال: سمعت جريراً يقول: قال محمد بن جابر اليمامي: سرق أبو حنيفة كتب حماد مني» ثم قال الأستاذ «وابن أبي حاتم من أعرف الناس أن الجوزجاني منحرف عن أهل الكوفة حتى استقر قول أهل النقد فيه على أنه لا يقبل له قول في أهل الكوفة، وكان ناصبياً خبيثاً حريزي المذهب أخرجت جارية له فروجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها فقال: سبحان الله فروجة لا يوجد من يذبحها وعلي يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم. فمثل هذا الخبيث يصدقه ذلك التقي في أبي حنيفة» . أقول أما الحكاية الأولى فقد عرف عن أبي حنيفة أنه يترك العمل بكثير من الأحاديث كما يأتي في قسم الفقهيات إن شاء الله تعالى والحنفية ومنهم الأستاذ يعتذرون عن ذلك بما هو معروف، وأما تركه العمل بكثير من الآثار عن الصحابة والتابعين فواضح، فأي مانع أن يحدث بأشياء من ذلك ثم يقول تلك الكلمة؟ وأما

الحكاية الثانية فيأتي النظر فيها في ترجمة محمد بن جابر إن شاء الله تعالى. وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف وثقه تلميذه النسائي جامع «خصائص علي» وقائل تلك الكلمات في معاوية، ووثقه آخرون، فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في (الثقات) «كان حريزي المذهب ولم يكن بداعية وكان صلبا في السنة ... إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدى طوره» وقال ابن عدي شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الليل على علي» . وليس في هذا ما يبين درجته في الميل، فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» : «قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة ... » فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري ترجمته في (لسان الميزان) ج 5 ص140 تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث، والدارقطني إنما ولد بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة وإنما سمع الحكاية على ما في معجم البلدان (جوزجانان) من عبد الله بن أحمد بن عدبس ولابن عدبس ترجمة في (تاريخ بغداد) ج 9 ص 384 و (تهذيب تاريخ ابن عساكر) ج 7 ص 288 ليس فيها ما يبين حاله فهو مجهول الحال فلا تقوم بخبره حجة، وفوق ذلك فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض فقد يقولها من يرى أن فعل علي عليه السلام خلاف الأولى أو أنه اجتهد فأخطأ، وفي (تهذيب التهذيب) ج 10 ص 391 عن ميمون بن مهران قال: «كنت أفضل علياً على عثمان فقال عمر بن عبد العزيز أيهما أحب إليك رجل أسرع في المال أو رجل أسرع في كذا - يعني الدماء قال فرجعت وقلت: لا أعود» ، وهذا بين في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران كانا يريان فعل علي خلاف الأولى أو خطأ في الاجتهاد، ولا يعد مثل هذا نصبا إذ لا يستلزم البغض بل لا ينافي الحب، وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين ورأوا أنه أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه.

11- أحمد بن إبراهيم

فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة فخاض بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك، وليس أبو حنيفة كذلك ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد النظر في حط الجوزجاني على الشيعة وأتضح أنه لا يجاوز الحد وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غض منهم أو فيهم، وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد. والله الموفق. 11- أحمد بن إبراهيم. راجع (الطليعة) ص31- 32. وقع في (الطليعة) ص31 «وذكر سماعه من شريك» اعترضها الأستاذ في (الترحيب) بأنه ليس في (تهذيب التهذيب) ذكر ذلك، وصدق الأستاذ وقع الوهم في (الطليعة) لسبب الاختصار وصواب العبارة هكذا «ذكر الخطيب سماعه من شريك وذكر المزي في (التهذيب) شريكاً في شيوخه» . ثم ذكر الأستاذ أنه لا يحتج بالخطيب فيما هو منهم فيه، وأقول قد تقدم في القواعد الكلام في التهمة، والخطيب حجة على كل حال، على أن نص الخطيب على سماع أحمد ابن إبراهيم من شريك إنما وقع في ترجمة أحمد بن إبراهيم حيث لا عين لذكر أبي حنيفة ولا أثر، وبين تلك الترجمة وترجمة أبي حنيفة تسعة مجلدات، والخطيب لا يعلم الغيب. ولو علمه لنص على السماع عند تلك الحكاية نفسها، وكأن هم الأستاذ في (الترحيب) أن يقال: قد أجاب، لا أن يقال: لعله قد أصاب! 12- أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القطيعي. في (تاريخ بغداد) (13 / 411) «أخبرنا بشرى بن عبد الله الرومي ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ... » قال الأستاذ ص 141: «مختلط فاحش الاختلاط ... .» أقول قضية الاختلاط ذكرها الخطيب في (التاريخ) ج 4ص 73 قال «حدثت عن أبي الحسن ابن الفرات ... .» وذكرها الذهبي في (الميزان) عن ابن الصلاح قال «اختل في آخر عمره حتى كان لا يعرف شيئا مما يقرا عليه ذكر هذا أبو الحسن ابن الفرات» والظاهر أن ابن الصلاح إنما اخذ ذلك مما ذكره الخطيب،

ولا ندري من حدث الخطيب ومع الجهالة به لا تثبت القصة لكن ابن حجر شدها بأن الخطيب مكي في ترجمة أحمد بن أحمد السِّيبي أنه قال «قدمت بغداد وأبو بكر بن مالك حي ... . فقال لنا ابن الفرضي لا تذهبوا إلى ابن مالك فأنه قد ضعف واختل ومنعت ابني السماع منه» وهذه الحكاية في (التاريخ) ج 4 ص4 لكن ليس فيها ما في تلك المنقطعة مما يقتضي فحش الاختلاط وقد قال الذهبي في (الميزان) بعد ذكر الحكاية الأولى «فهذا القول غلو وإسراف» . أقول ويدل على أنه غلو وإسراف أن المشاهير من أئمة النقد في ذلك العصر كالدارقطني والحاكم والبرقاني لم يذكروا اختلاطاً ولا تغيراً. وقد غمزه بعضهم بشيء آخر قال الخطيب «كان بعض كتبه فاستحدث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماعه فغمزه الناس إلا أنا لم نر أحداً امتنع من الرواية عنه ولا ترك الاحتجاج به، وقد روى عنه من المتقدمين الدارقطني وابن شاهين ... سمعت أبا بكر البرقاني سئل عن ابن مالك فقال كان شيخاً صالحاً ... ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك فنسخها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه فغمزوه لأجل ذلك وإلا فهو ثقة» قال الخطيب «وحدثني البرقاني قال: كنت شديد التنقير عن حال ابن مالك حتى ثبت عندي أنه صدوق لا يشك في سماعه وإنما كان فيه بله، فلما غرقت «القطيعة» (1) بالماء الأسود غرق شيء من كتبه فنسخ بدل ما غرق من كتاب لم يكن فيه سماعه» . أقول أجاب ابن الجوزي في (المنتظم) ج 7 ص 93 عن هذا بقوله «مثل هذا لا يطعن به عليه لأنه يجوز أن تكون الكتب قد قرأت عليه وعورض بها أصله، وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والبرقاني وأبي نعيم والحاكم» .

_ (1) هي محال ببغداد أقطعها المنصور أناسا من الأعيان ليعموها ويسكنوها، وهي قطيعة إسحاق الأزرق وأم زبيدة بنت جعفر بن المنصور، كما في القاموس، وإليها ينسب المترجم. ن

أقول: وقال الحاكم «ثقة مأمون» ونسخه ما غرق من كتبه من كتاب ليس عليه سماعه يحتمل ما قال ابن الجوزي ويحتمل أن يكون ذاك الكتاب كان أصل ثقة آخر كان رفيقه في السماع فعرف مطابقته لأصله والمدار على الثقة بصحة النسخة، وقد ثبت أن الرجل في نفسه ثقة مأمون، وتلك الحكاية تحتمل ما لا ينافي ذلك فكان هو الظاهر، ولا أدري متى غرق القطيعة بالماء والأسود، وقد فتشت أخبار السنين في (المنتظم) فلن أره ذكر غرقا بالماء السود وإنما ذكر أنه في شهر رمضان سنة 367 غرق بعض المحال منها قطيعة أم جعفر فإن كان ذلك هو المراد فإنما كان قبل وفاة القطيعي بنحو سنة واحدة وقد سمع الناس منه الكتب كلها قبل ذلك مراراً وأخذت منها عدة نسخ، والذين ذكروا الاستنساخ لم يذكروا أنه روى مما استنسخه ولو علموا ذلك لذكروه لأنه أبين في التليين وأبلغ في التحذير، وليس من لازم الاستنساخ أن يروي عما استنسخه ولا أن يعزم على ذلك، وكأنهم إنما ذكروا ذلك في حياته لاحتمال أن يروي بعد ذلك عما استنسخه، وقد قال الخطيب في (الكفاية) ص 109: «ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وإن لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث ولا مسقطاً للعدالة، ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز. ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل من أخوات ونظائر ... » . فلما ذكروا في حياة القطيعي أنه تغير وأنه استنسخ من كتاب ليس عليه سماعه كان هذا على وجه الاحتياط، ثم لما لم يذكروا في حياته ولا بعد موته أنه حدث بعد تغير شديد أو حدث مما استنسخه من كتاب ليس عليه سماعه ولا استنكروا رواية واحدة وأجمعوا على الاحتجاج به كما تقدم تبين بياناً واضحاً أنه لم يكن منه ما يخدش في الاحتجاج به.

13- أحمد بن جعفر محمد بن سلم

هذا وكتب الإمام أحمد ك‍ (المسند) و (الزهد) كانت نسخها مشهورة متداولة قد رواها غير القطيعي وإنما اعتنوا بالقطيعي واشتهرت رواية الكتب من طريقة لعلو السند، ويأتي لهذا مزيد في ترجمة الحسن بن علي بن المذهب، والحمد لله الذي بنعمته يتم الصالحات. 13- أحمد بن جعفر محمد بن سلم. في (تاريخ بغداد) 13/ 369 «أخبرنا محمد ابن أحمد بن رزق أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن علي بن الآبار ... » قال الأستاذ ص 32: «فابن رزق ... وأقل ما يقال في شيخه أنه متعصب أعمى البصيرة» . أقول: ترجمة بن سلم هكذا في (التاريخ) ج 4 ص 71 وفيها: «كان صالحا ديناً مكثراً ثقة ثبتاً كتب عنه الدارقطني ثم نقل عن ابن أبي الفوارس قال: «توفي أبو بكر بن سلم.. سنة 369 وكان ثقة» . والخطيب يروي بهذا السند من مصنفات الآبار، وكذلك يروي عن الحسن بن الحسين ابن دوما عن ابن سلم عن الآبار فكل ما أسنده عن هذين عن ابن سلم عن الآبار فهو ثابت عن الآبار حتماً لا شأن لهؤلاء الثلاثة ابن رزق وابن دوما وابن سلم فيه، فإن كانت تبعه فعلى الأبار وستأتي ترجمته. 14- أحمد بن الحسن بن جنيدب أبو الحسن الترمذي الحافظ الرحال صاحب أحمد ابن حنبل. في (تاريخ بغداد) (13/ 418) : « ... أحمد بن الحسن الترمذي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول. . .»

15- أحمد بن الحسن بن خيرون

الأستاذ ص163 «وأحمد بن الحسن الترمذي من أصحاب أحمد، لا يقل تعصباً من عبد الله بن أحمد وإن روى عنه البخاري حديثاً واحداً في المغازي، وكم بين رجال البخاري من يؤخذ عنه شيء دون شيء» . أقول هذا الرجل معروف بالحفظ والمعرفة أثنى عليه أبو حاتم وابن خزيمة وهما ممن روى عنه وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج2 ص 416 ولم يذكر بشيء من التعصب لكن كونه من أصحاب أحمد وروى عنه تلك الكلمة كاف عند الأستاذ لرميه بشدة التعصب وقد تقدم تحقيق حكم التعصب في القواعد. أما قلة رواية البخاري عنه فلأنه من أقرانه، والبخاري كغيره من الأئمة يتحرى علو الإسناد، فلا يكاد يروي في (الصحيح) عمن هو أكبر منه بقليل فضلاً عن أقرانه إلا ما أعوزه أن يجده عند من هو في طبقة كبار شيوخه. وإذا كان الرجل بحيث يؤخذ عنه الحديث في (الصحيح) فلأن تؤخذ عنه الحكايات أولى. 15- أحمد بن الحسن بن خيرون. قال الأستاذ ص 31: «تكلم الحافظ أبو الفضل بن طاهر في أحمد بن الحسن المعروف بابن خيرون الذي كان الخطيب سلم إليه كتبه فاحترقت تلك الكتب في بيت هذا الوصي وبينها نسخة الخطيب من (تاريخ بغداد) حتى روى الناس (تاريخ الخطيب) من نسخة ابن خيرون لا عن الخطيب، وبنوا فيها زيادات على ما كانوا سمعوه من الخطيب فقالوا: إن ابن خيرون هو الذي زادها حتى رمى أبو الفضل «ابن طاهر» المقدسي ابن خيرون بكل سوء وإن لم يعجب ذلك الذهبي وقد نقل في (ميزان الاعتدال) عن ابن الجوزي أنه قال: سمعت مشايخنا يقولون إن الخطيب أوصى ابن خيرون أن يزيد وريقات في (تاريخه) وكان لا يحب أن تظهر منه في حياته، فبذلك تعلم أن الزيادة فيه لا شك فيها لكن هناك رواية أنها كانت بوصية من الخطيب فتكون تبعة الزيادة على عاتق المؤلف نفسه، أو الزائد هو ابن خيرون فيسقط ابن خيرون من مرتبة أن يكون مقبول الرواية على رأي أبي الفضل ابن طاهر المقدسي ومن الغريب أن المثالب الشنيعة المتعلقة بأبي حنيفة في (تاريخ الخطيب) لم تذع إلا بعد أن تحنف

عالم الملوك الملك المعظم عيسى الأيوبي ولذلك كان هو أول من رد عليها ولو ذاعت المثالب قبل ذلك لما تأخر العلماء من الرد عليها كما فعلوا مع عبد القاهر البغدادي وابن الجويني وأبي حامد الطوسي وغيرهم وسبط ابن الجوزي رد على الخطيب أيضاً في عصر الملك المعظم ... » أقول: ابن خيرون ذكره ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص87 وقال: «روى عنه أبو بكر الخطيب وحدثنا عنه أشياخنا وكان من الثقات، وشهد عند أبي عبد الله الدامغاني «قاضي القضاة الحنفي المشهور» ثم صار أميناً له» . وفي (تذكرة الحفاظ) ج 4 ص 7: «ذكره السمعاني فقال: ثقة عدل متقن واسع الرواية ... سمعت عبد الوهاب بن خيرون يقول: ما رُئُيَ مثل أبي الفضل بن خيرون لو ذكرت كتبه وأجزاءه التي سمعها يقول لك عمن سمع وبأي طريق سمع وكان يذكر الشيخ وما يرويه وما ينفرد به ... ، قال أبو طاهر السلفي: كان كيحيى بن معين في وقته ... ، وقد ذكرت في (ميزان الاعتدال) كلام ابن طاهر فيه بكلام مردود وأنه كان يلحق بخطه أشياء في (تاريخ الخطيب) وبينا أن الخطيب أذن له في ذلك، وأما خطه فمشهور وهو بمنزلة الحواشي، فكان ماذا؟» . وفي (الميزان) : أحمد بن الحسن بن خيرون أبو الفضل الثقة الثبت محدث بغداد تكلم فيه ابن طاهر بقول زائف سمج فقال: حدثني ابن مرزوق حدثني عبد المحسن بن محمد قال: سألني ابن خيرون أن أحمل إليه الجزء الخامس من (تاريخ الخطيب) فحملته إليه فرده، وقد ألحق فيه ترجمة محمد بن علي رجلين لم يذكرهما الخطيب، وألحق في ترجمة قاضي القضاة الدامغاني «الحنفي» : «كان نزهاً عفيفاً» وقال ابن الجوزي: قد كنت أسمع من مشايخنا أن الخطيب أمر ابن خيرون أن يلحق وريقات في كتابه ما أحب الخطيب أن تظهر عنه. قلت: وكتابته لذلك كالحاشية وخطه معروف لا يلتبس بخط الخطيب أبداً وما زال الفضلاء يفعلون ذلك، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير بل هو ثقة مطلقا..» .

أقول: (تاريخ الخطيب) قرئ عليه في حياته ورواه جماعة ويظهر أنها أخذت منه عدة نسخ في حياته الخطيب على ما جرت به عادة المثرين من طلبة العلم والمجتهدين منهم أن يستنسخ كل منهم الكتاب قبل أن يسمعه على الشيخ ثم يسمع في كتاب نفسه ويصحح نسخته، وكثير منهم يستنسخ قبل كل مجلس القطعة التي يتوقع أن تقرأ في ذلك المجلس إلى أن يتم الكتاب. وعبد المحسن الذي روى ابن طاهر من طريقه ذكر الزيادة هو عبد المحسن بن محمد الشيحي وفي ترجمته من (المنتظم) ج9 ص100 «أكثر عن أبي بكر الخطيب بصور وأهدى إليه الخطيب (تاريخ بغداد) بخطه وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له» ومن الواضح أن الخطيب لا يهدي نسخته الوحيدة من تاريخه الجليل ويبقى بلا نسخة فلا بد أن تكون عنده أخرى، ومن البين أن العالم لا يزال يحتاج إلى الزيادة في تأليفه فلعله زاد في النسخة التي بقيت عنده أشياء لم تكن في النسخة التي أهداها لعبد المحسن فإذا كانت هذه النسخة الأخيرة صارت لابن خيرون كما يقول الأستاذ فطلب ابن خيرون من عبد المحسن أن يبعث إليه بالجزء الخامس من نسخته فألحق ما ألحق فإن كان ألحق على أنه من الكتاب فإنما ألحق ذلك من نسخة الخطيب الأخيرة، وإن كان إنما كتب حاشية كما قال الذهبي فالأمر أوضح وما ذكره الأستاذ: أن كتب الخطيب احترقت عند ابن خيرون لا أتحققه، نعم ذكروا احتراقاً، ولكن لم أجد نصاً على أن نسخة الخطيب من (تاريخه) احترقت ولا أن الناس إنما رووا (التاريخ) بعد ذلك عن نسخة لابن خيرون لا عن خط الخطيب بل هذا باطل حتماً، وقد علمت أنه كان عند عبد المحسن نسخة أخرى بخط الخطيب، ولا بد أن تكون عند غيره نسخ مما صحح على نسخة الخطيب عند القراءة عليه وقد روى جماعة منهم ابن الجوزي وأبو اليمن الكندي أستاذ الملك المعظم وخليله سبط بن الجوزي (تاريخ بغداد) عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز يقول: «أخبرنا الخطيب» أو نحو ذلك، وفي ترجمته في من (المنتظم) ج 10 ص 90 «سَمَّعه أبوه وعمه الكثير، وكان صحيح السماع» ولا بد أن

تكون عنده نسخة أخرى سمع فيها الخطيب وإلا لطعنوا فيه بأنه يروي مما ليس عليه سماعه، ثم رأيت في (معجم الأدباء) ج4 ص 38: «قال السمعاني لما رجعت إلى خراسان حصل لي (تاريخ الخطيب) بخط شجاع بن فارس الذهلي «الحافظ الثبت» الأصل الذي كتبه بخطه لأبي غالب محمد بن عبد الواحد القزاز وعلى وجه كل واحد من الأجزاء: سماع لأبي غالب ولابنه أبي منصور عبد الرحمن ... » . فهذه النسخة كتبها ذاك الحافظ الثبت بخطه وسمع فيها القزاز وولده على الخطيب وصححت على نسخته، ولا أدري أكانت عند الابن نسخة أخرى مما سمع على الخطيب فكان يروي منها أم كان قد استنسخ من هذه التي بخط شجاع الذهلي نسخة أخرى قوبلت على الأصل، وكتب العلماء شهادتهم بذلك ونقلوا سماعه إلى نسخته الجديدة وباع الأصل حتى صار لابن السمعاني. وعلى كل حال فالنسخة التي كانت عند القزاز صحيحة عن الخطيب ولا شأن لها بنسخة عبد المحسن ولا بالنسخة التي كانت عند ابن خيرون ولا بنسخة ابن خيرون، ونسختا ابن الجوزي والكندي أستاذ المعظم مأخوذتان عن نسخة القزاز ونسختا سبط ابن الجوزي والمعظم تبع لذلك وكان المعظم ملكاً مسلطاً متعصباً وصاحبه سبط ابن الجوزي جوالاً متفانياً في هواه وهما أول من رد على الخطيب كما ذكر الأستاذ ولعلهما قد وقفا على عدة نسخ أخرى فلو عرفا أن بين النسخ اختلافاً في الموضع الذي ردا عليه لما سكتا عن بيان ذلك. فأما سكوت من قبلهما من علماء الحنفية عن الرد على الخطيب مع ردهم على غيره فلأنهم أعقل منهما ومن الأستاذ، إنما ردوا على رسائل صغيرة من شأنها أن تشيع وتذيع فأما ما في ذاك الموضع من (تاريخ بغداد) فرأوا أنه مدفون في كتاب كبير لا يقف عليه إلا الأفراد فتكلف الجواب إنما هو سعي في انتشار ذلك واشتهاره فعلموا أن السكوت أسلم ولما خالفهم الأستاذ وقع فيما تراه، وعلى أهلها تجني براقش. وقد ذكر ابن عساكر نسختين أخريين انظر

16- أحمد بن خالد الكرماني

(تاريخ دمشق) ج 1 ص 45- 46 (1) . وقد حقر الأستاذ ابن خيرون وعظم ابن طاهر والملك عيسى، فأما محمد بن طاهر فترجمته في (الميزان) و (لسانه) و (المنتظم) ج 9 ص157 ويأتي له ذكر في ترجمة الخطيب ومن طالع ذلك وتدبر ما يعتمده الأستاذ علم أن ابن طاهر لو وقع في إسناد حكاية فيها غض من أبي حنيفة أو أحد أصحابه لحط الأستاذ عليه أشنع حط، ولعله لا يتحاشى عن تكفيره فضلاً عن تفسيقه، وأما الملك عيسى فحسبك أن تتتبع ما يحكيه عنه خليله في المجلد الأخير من تاريخه (مرآة الزمان) في مواضع متعددة، ويمنعني من نقل ذلك هنا أنه كان له مشاهد في قتال الكفار، وأنه حكى عنه ما يدل على محافظته على الصلاة حتى في مرض موته. والله أعلم. 16- أحمد بن خالد الكرماني. في (تاريخ بغداد) 2/ 178 «محمد بن إسماعيل التمار الرقي قال حدثني أحمد بن خالد الكرماني قال سمعت المقدمي بالبصرة يقول قال الشافعي ... » . قال الأستاذ ص 183: «الكرماني مجهول» . أقول: أنا أيضاً لم أظفر له بترجمة ولا خبر إلا في هذه الرواية، أو ذكره في شيوخ التمار لكن مثل هذا لا يسوغ لأمثالنا أن يقول: «مجهول» وراجع (الطليعة) ص 86- 98. 17- أحمد بن الخليل. راجع (الطليعة) ص 20- 22 وما تقدم في القواعد أواخر القاعدة السادسة (2) . 18- أحمد بن سعد بن أبي مريم في (تاريخ بغداد) 13/ 420 « ...

_ (1) ذكر ابن عساكر روايته عن رجلين كل منهما عن الخطيب ثم قال: «كذا في النسختين من تاريخ بغداد ... » ووقع هناك «في الشيخين» وهو خطأ ظاهر. وفي تذكرة الحفاظ 4/ 61 في ترجمة أبي بكر السمعاني أنه سمع (تاريخ بغداد) من أبي محمد بن الأبنوسي. وأبو محمد من الرواة عن الخطيب. (2) أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب. يأتي في ترجمة صالح بن أحمد

أبو داود وبقي بن مخلد لا يرويان إلا عن ثقة

أحمد بن سعد ابن أبي مريم قال وسألته - يعني يحيى بن معين - عن أبي حنيفة فقال: لا تكتب حديثه» قال الأستاذ ص 168: «كثير الوهم وكثير الاضطراب في مسائله مع مخالفة روايته هذه لرواية الثقات عن ابن معين ويبدو عليه أنه غير ثقة حيث يخالف ثقات أصحاب ابن معين فيما يرويه عنه في أبي حنيفة وأصحابه» . أقول: ممن روى عن أحمد هذا النسائي وقال: «لا بأس به» وأبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده كما في (تهذيب التهذيب) في ترجمة الحسين بن علي بن الأسود وترجمة داود بن أمية، وبقي بن مخلد وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده كما في ترجمة أحمد هذا من (تهذيب التهذيب) (1) . فأما كثرة وهمه وكثرة اضطرابه في مسائله فلم أعرفه، وكان على الأستاذ أن ينقل ذلك عمن يعتد بقوله، أو يذكر عدة أمثلة لما زعمه، وقد رد الأستاذ قول إمام النقاد علي بن المديني في أبي حنيفة: «أخطأ في خمسين حديثاً» بأنه لم يفصل ذلك كما سلف مع نظائره في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث، فكيف يطمع الأستاذ أن نقبل من مثله هذه المجازفة؟! وأما دعوى مخالفة روايته هذه لروايات الثقات عن ابن معين فالجواب من أوجه: الأول: المطالبة بتثبيت تلك الروايات. الثاني: أنه كما يعلم الأستاذ قد جاءت عن ابن معين روايات أخرى في التليين لعلها أثبت من روايات التوثيق. الثالث: أن ابن معين كثيراً ما تختلف أقواله وربما يطلق الكلمة يريد بها معنى غير المشهور كما سلف في القواعد في القاعدة السادسة. الرابع: أن كلمة «لا تكتب حديثه» ليست بصريحة في الجرح فقد يكون ابن معين مع علمه برأي غيره من المحدثين علم أن أحمد قد استكثر من سماع الحديث

_ (1) قلت ولهذا قال الحافظ في ترجمته من (التقريب) : «صدوق» ، ولم يورده الذهبي في (الميزان) . ن.

19- أحمد بن سلمان النجاد

ويمكنه أن يشتغل بما هو أنفع له من تتبع أحاديث أبي حنفية. وعلى كل حال فأحمد هذا قد قبله الأئمة واحتجوا به ولم يطعن فيه أحد منهم. والله الموفق. 19- أحمد بن سلمان النجاد. في (تاريخ بغداد) 13/ 383: «أخبرنا محمد بن عبد الله أبان الهيتي حدثنا أحمد بن سلمان النجاد حدثنا عبد الله ... » قال الأستاذ ص65 «يقول فيه الدارقطني: يحدث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله» . وفي (تاريخ بغداد) 13/ 404: خبر آخر من طريق النجاد فقال الأستاذ ص 125 «والنجاد ممن يروي عما ليس عليه سماعه كما نص على ذلك الدارقطني كما في (4/ 191) من (تاريخ الخطيب) وليس قول الدارقطني فيه: قد حدث أحمد بن سلمان من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله، مما يزال بلعل ولعل» . أقول: لفظ الدارقطني «حدث ... » كما في (تاريخ بغداد) في الموضع الذي أحال عليه الأستاذ وهكذا في (تذكرة الحفاظ) وفي (الميزان) و (اللسان) ، وهذه الكلمة تصدق بمرة واحدة كما حملها عليه الخطيب إذ قال «كان قد كف بصره في آخر عمره فلعل بعض طلبه الحديث قرأ عليه ما ذكر الدارقطني» بخلاف ما نسبه الأستاذ إلى الدارقطني أنه قال «يحدث من كتاب غيره ... » ، «ممن يروي عما عليه سماعه» فإن هاتين العبارتين تعطيان أن ذلك كان من شأنه، تكرر منه مراراً! وقد تصرف الأستاذ مثل هذا التصرف وأشد منه في مواضع راجع (الطليعة) ص 66- 72، ويعتذر الأستاذ في (الترحيب) ص16 بقوله «وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كل وقت وكفى بالاحتفاظ بجوهر المعنى» .

أقول: على القارئ أن يراجع تلك الأمثلة في (الطليعة) ليتبين له هل احتفظ الأستاذ بجوهر المعنى؟ ولا أدري ما الذي عسر عليه المراعاة لعله كان بعيداً عن الكتب فلم يتيسر له مراجعتها وإنما اعتمد على حفظه؟ أو لا يحق لي أن أقول إن الذي عسر عليه ذلك هو أنه رأى كلمات الأئمة التي تصرف فيها ذاك التصرف لا تشفي غيظه ولا تفي بغرضه فاضطر إلى ما وقع منه، يدل على هذا أني لم أر كلمة واحدة من كلمات التليين في الذين يريد جرحهم تصرَّف فيها فجاءت عبارته أخف من أصلها، بل رأيته يحافظ على حرفية الجرح حيث يراه شافياً لغيظه كما يأتي في الترجمة رقم 23 وغيرها! وعلى هذا يكون اعتذاره المذكور اعترافاً بما قلته في (الطليعة) ص 66. وقول الأستاذ «مما يزال بلعل ولعل» يريد قول الخطيب «.. فلعل بعض الطلبة ... » وقد مر، ولولا شدة غيظ الأستاذ على المحدثين لاكتفى بنص عبارة الدارقطني وعبارة الخطيب قائلاً: فعلى هذا ينبغي التثبت فيما يرويه عن النجاد من لم يكن في عصره معروفاً بالتيقظ، ورواي تينك الحكايتين عن النجاد هو محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي قال فيه الخطيب « ... وكان مغفلاً مع خلوه عن علم الحديث ... » وإذا كانت هذه نهايته فما عسى أن تكون بدايته؟ فلا يؤمن أن يكون سمع تينك الحكايتين من النجاد في ذاك المجلس الذي حدث فيه النجاد من كتاب غيره بما ليس في أصوله. أقول لو كان الأستاذ يكفكف من نفسه لاكتفى بهذا أو نحوه فإذا قيل له: القضية النادرة لا يعتد بها في حمل غيرها عليها وإنما الحمل على الغالب فقد يمكنه أن ينازع في هذا، أما أنا فأقول: إنما قال الدارقطني «بما لم يكن في أصوله» ولم يقل «بما يكن من حديثه» أو نحو ذلك فدل هذا على احتمال أن يكون ما حدث به من ذلك الكتاب كان من حديثه» أو نحو ذلك فدل هذا على احتمال أن يكون ما حدث به من ذلك الكتاب كان من حديثه أو روايته وإن لم يكن في أصوله، وذلك كأن يكون سمع شيئاً فحفظه ولم يثبته في أصله ثم رآه في كتاب غيره كما حفظه فحدث به، أو يكون حضر سماع ثقة غيره في كتاب ولم يثبت اسمه فيه. ثم رأى ذلك

20- أحمد بن صالح أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري

الكتاب وهو واثق بحفظه فحدث منه بما كان سمعه، أو تكون له إجازة بجزء معروف ولا أصل له به ثم رأى نسخة موثوقاً بها منه فحدث منها، نعم كان المبالغون في التحفظ في ذاك العصر لا يحدث أحدهم إلا بما في أصوله حتى إذا طولب أبرز أصله، ولا ريب أن هذا أحوط وأحزم لكنه لا يتحتم جرح من أخل بذلك إذا كانت قد ثبتت عدالته وأمانته وتيقظه وكان ما وقع منه محتملاً لوجه صحيح، وقد قال أبو علي ابن الصواف «كان النجاد يجيء معنا إلى المحدثين ونعله في يده فيقال له في ذلك فيقول: أحب أن أمشي في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حافياً» فقال أبو إسحاق الطبري «كان النجاد يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة تصدق بذلك الرغيف وأكل تلك اللقم التي استفضلها» وكان ابن رزقويه يقول «النجاد ابن صاعدنا» قال الخطيب «عني بذلك أن النجاد في كثرة حديثه واتساع طرقه وأصناف فوائده لمن سمع منه كابن صاعد لأصحابه إذ كل واحد من الرجلين كان واحد وقته» وقال الخطيب: «كان صدوقاً عارفاً صنف كتاًبا كبيراً في السنن وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجملة للفتوى وحلقة بعدها للإملاء» هكذا في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 80 وقال الذهبي أول الترجمة: «النجاد الإمام الحافظ الفقيه شيخ العلماء ببغداد» . وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والحاكم وأكثر عنه في المستدرك - وابن منده وابن مردويه وغيرهم ولم ينكر عليه حديث واحد، الثقة تثبت بأقل من هذا، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ببينة واضحة لاحتمال فيها كما تقدم في القواعد. والله الموفق. 20- أحمد بن صالح أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري. في (تاريخ بغداد) 8/422 « ... أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد بن أبي النجاد

حدثنا يونس - يعني ابن زيد - قال رأيت أبا حنيفة عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن وكان مجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول ربيعة» . قال الأستاذ في حاشية ص173 «أحمد بن صالح مختلف فيه» . أقول اقتصارك في صدد القدح في الرواية على قولك في الراوي «مختلف فيه» ظاهر في أنه لم يتبين لك رجحان أحد الوجهين، والأستاذ يعلم إجماع أهل العلم على رد كلام الموهن لأحمد بن صالح هذا حتى نصوا على ذلك في متن المصطلح قال العراقي في ألفيته: وربما رد كلام الجارح ... كالنسائي في أحمد بن صالح فربما كان لجرح مخرج ... غطى عليه السخط حين يحرج وقد لجأ الأستاذ إلى هذه القاعدة وزاد عليها وبالغ واتخذها عكازة يتوكأ عليها في رد كلام كثير من الأكابر وتخطى ذلك إلى رد روايتهم وتعداه إلى الطعن فيهم. فأما ابن الطبري فوثقه الجمهور وعظموا شأنه، وقال النسائي «غير ثقة ولا مأمون تركه محمد بن يحيى ورماه يحيى بالكذب» وبين رمي يحيى بقوله: «حدثنا معاوية بن صالح سمعت يحيى بن معين يقول أحمد بن صالح كذاب يتفلسف» وأنكر عليه أحاديث زعم أنه تفرد بها أو خالف. فأما قوله: «غير ثقة ولا مأمون» فمبنية على ما بعدها، وأما قوله: «تركه محمد بن يحيى» فوهم فإن رواية محمد بن يحيى عن أحمد بن صالح موجودة، وقال ابن عدي «حدث عنه البخاري والذهلي «محمد بن يحيى» واعتمادهما عليه في كثير من حديث الحجاز» وكأن الذهلي لما سمع منه النسائي لم يحدثه عن أحمد ابن صالح فظن النسائي أنه تركه، ولعله إنما لم يحدثه عنه لأنه كان حياً ورأى الذهلي أن النسائي كغيره من طلبة الحديث إنما يرغبون في العوالي. وأما رواية معاوية صالح، عن ابن معين فقد قال البخاري في أحمد بن صالح ابن الطبري «ثقة صدوق وما رأيت أحداً يتكلم فيه بحجة كان أحمد بن حنبل وعلي «ابن المديني» وابن نمير وغيرهم يثبتون أحمد بن صالح، وكان يحيى

21- أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو نعيم الأصبهاني الحافظ

«ابن معين» يقول سَلو أحمد فإنه أثبت. فإن كان هناك وهم في النقل فالظاهر أنه في رواية معاوية لأن البخاري أثبت منه ولموافقة سائر الأئمة وإن كان ليحيى قولان، فالذي رواه البخاري هو المعتمد لموافقة سائر الأئمة. وزعم ابن حبان أن أحمد بن صالح الذي كذبه ابن معين رجل آخر غير ابن الطبري يقال له الأشمومي كان يكون بمكة، ويقوي ذلك ما رواه البخاري من تثبيت ابن معين لابن الطبري وأن ابن الطبري معروف بالصدق لا شأن له بالتفلسف، وقد تقدم في القواعد في أوائل القاعدة السادسة أمثلة للخطأ الذي يوقع فيه تشابه الأسماء. وأما الأحاديث التي انتقدها النسائي على ابن الطبري فقد أجاب عنها ابن عدي، وراجع ما تقدم في القواعد القاعدة الرابعة. 21- أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو نعيم الأصبهاني الحافظ. في (تاريخ بغداد) 13/ 325: «أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو أحمد الغطريفي ... » قال الأستاذ ص 17: «قد أخرج رحلة منسوبة إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه في (حلية الأولياء) بسند فيه أحمد بن موسى النجار وعبد الله بن محمد البلوي وهما كذابان معروفان ... ويذكر الخبر الكاذب وهو يعلم أنه كذب ويعلم أيضاً ما يترتب على ذلك من اغترار جهلة أهل مذهبه بذكره الخبر المذكور وسعيهم في الفتنة سعى الموتور في الثأر. نسأل الله الصون. ومن المعروف أن عادة أبي نعيم الأخبار الكاذبة بأسانيده بدون تنبيه على كذبها. وهو أيضاً ممن يسوق ما يرويه فقط مع ما سمعه في مساق واحد ويقول في الاثنين: حدثنا، وهذا تخليط فاحش وليس جرح ابن منده فيه مما يتغاضى عنه بهوى الذهبي» . أقول: أما الرحلة فباطلة بذلك السياق حتماً وهل تنبه أبو نعيم لبطلانها؟ الله أعلم. وأما سياقه في مؤلفاته الأخبار والروايات الواهية التي ينبغي الحكم على كثير

بيان متى يكون الراوي للحديث كذبا

منها بالوضع فمعروف، ولم ينفرد بذلك بل كثير من أهل عصره ومن بعدهم شاركوه في ذلك ولا سيما في كتب الفضائل والمناقب، ومنها مناقب الشافعي ومناقب أبي حنيفة. ثم يجيء من بعدهم فيحذفون الأسانيد ويقتصرون على النسبة إلى تلك الكتب، وكثيراً ما يتركون هذه النسبة إلى تلك الكتب، وكثيراً ما يتركون هذه النسبة أيضاً كما في (الإحياء) وغيره، وفي (فتح المغيث) ص 106 في الكلام على رواية الموضوع: «لا يبرأ من العهدة في هذه الإعصار بالاقتصار على إيراد إسناده بذلك لعدم الأمن من المحذور به وإن صنعه أكثر المحدثين في الإعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جراً خصوصاً الطبراني وأبو نعيم وابن منده فإنهم إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته ... . قال شيخنا وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان ... .» . أقول مدار التشديد في هذا على الحديث الصحيح «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ومن تدبر علم أنه يكون كاذباً على أحد وجهين: الأول: أن يرسل ذاك الحديث جازماً كأن يقول «قال النبي صلى الله عليه وسلم ... » . الثاني: أن يكون ظاهر حاله في تحديثه أن ذاك الخبر عنده صدق أو محتمل أن يكون صدقاً فيكون موهماً خلاف الواقع فيكون بالنظر إلى ذاك الإيهام كاذباً، وقد علمنا أن قول من صحب أنساً «قال أنس ... » موهم بل مفهم إفهاماً تقوم به الحجة أنه سمع ذلك من أنس إلا أن يكون مدلساً معروفاً بالتدليس فإذا كان معروفاً بالتدليس فقال فيما لم يسمعه من أنس «قال أنس ... » لم يكن كاذباً ولا مجروحاً وإنما يلام على شرهه ويذكر بعادته لتعرف فلا تحمل على عادة غيره، وذلك أنه لما عرف بالتدليس لم يكن ظاهر حاله أنه لا يقول «قال أنس ... » إلا فيما سمعه من أنس، وبذلك زال الإفهام والإيهام فزال الكذب، فهكذا وأولى منه من عرف بأنه لحرصه على الجمع والإكثار والأغراب وعلو الإسناد يروي ما سمعه من

سوق أبي نعيم ما يرويه بالاجازة بصيغة أخبرنا

أخبار وإن كان باطلاً ولا يبين، فإنه إذا عرف بذلك لم يكن ظاهر حاله أنه لا يحدث غير مبين إلا بما هو عنده صدق أو محتمل للصدق، فزال الإيهام فزال الكذب، فلا يجرح ولكن يلام على شرهه ويذكر بعادته لتعرف، وكما يكفي المدلس أن يعرف عادته أهل العلم وإن جهلها غيرهم فكذلك هذا، لأن الفرض على غير العلماء مراجعة العلماء، على أن العامة يشعرون في الجملة بما يدفع اغترارهم الذي هو ل به الأستاذ، ولذلك كثيراً ما نسمعهم إذا ذكر لهم حديث قالوا: هل هو في البخاري؟ فعلى هذا نقول في أبي نعيم جرى مجراه: إن احتمل أنهم لانهماكهم في الجمع لم يشعروا ببطلان ما وقع في روايتهم من الأباطيل فعذرهم ظاهر، وهو أنهم لم يحدثوا بما يرون أنه كذب وإنما يلامون على تقصيرهم في الانتقاد والانتقاء، وإن كانوا شهروا ببطلان بعض ذلك فقد عرفت عادتهم فلم يكن في ظاهر حالهم ما يوجب الإيهام فلا إيهام فلا كذب، فإن اغتر ببعض ما ذكروه من قد عرف عادتهم من العلماء بالرواية فعليه تبعة أو من لم يعرف عادتهم ممن ليس من العلماء بالرواية فمن تقصيره أتي، إذ كان الفرض عليه مراجعة العلماء بالرواية ولذلك لم يجرح أهل العلم أبا نعيم وأشباهه بل اقتصروا على لومهم والتعريف بعادتهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. قول الأستاذ «وهو ممن يسرق ما يرويه بإجازة فقط مع ما سمعه في مساق واحد ويقول في الاثنين حدثنا» . أقول يشير إلى ما في «تذكرة الحفاظ» : «قال يحيى بن منده الحافظ سمعت أبا الحسين القاضي يقول سمعت عبد العزيز النخشبي يقول لم يسمع أبو نعيم «مسند الحارث ابن أبي أسامة» بتمامه من ابن خلاد فحدث به كله» . أقول عقب هذا في «التذكرة» : «قال ابن النجار: وهم «النخشبي» في هذا

فأنا رأيت نسخة الكتاب عتيقة وعليها خط أبي نعيم يقول: سمع مني فلان إلى آخر سماعي في هذا المسند من ابن خلاد، فلعله روى باقيه بالإجازة» . أقول: وقول النخشبي «فحدث» إنما تعطى أن أبا نعيم حدث السامعين عنه لا أنه ذكر في كل حديث من المسند أن ابن خلاد حدثه، وابن منده ومن فوقه من خصوم أبي نعيم كانت بين الفريقين نفره شديدة كما يأتي فلا يقبل ما قالوه فيه مما يطرقه الاحتمال على ما سلف في القواعد. بقي أمران: أحدهما يتعلق برواية أبي نعيم لجزء محمد بن عاصم، ويكفي في هذا ما أوضحه الذهبي في «تذكرة الحفاظ» . الثاني: قال الذهبي: «قال الخطيب قد رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها منها أنه يقول في الإجازة: أخبرنا - من غير أن يبين» قال الذهبي «فهذا ربما فعله نادراً فإني رأيته كثيراً ما يقول: كتب إلي جعفر الخلدي، و: كتب إلي أبو العباس الأصم، و: أنا أبو الميمون بن راشد في كتابه، لكني رأيته يقول: أنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه فالظاهر أن هذا إجازة» . وفي (فتح المغيث) للسخاوي ص 222 عن شيخه ابن حجر أن هذا اصطلاح لأبي نعيم قد صرح به فقال: إذا قلت: أخبرنا - على الإطلاق من غير أذكر فيه إجازة أو كتابة أو كتب إلي أو أذن لي فهو إجازة، أو: حدثنا فهو سماع، قال ابن حجر «ويقوي التزامه لذلك أنه أورد في «مستخرجه على علوم الحديث للحاكم» عدة أحاديث رواها عن الحاكم بلفظ الإخبار مطلقاً وقال في آخر الكتاب: الذي رويته عن الحاكم بالإجازة ... » أقول وإذ عرف اصطلاحه فلا حرج، ولكن من أقسام الإجازة العامة بأن يجيز الشيخ للطالب جميع مروياته أو جميع علومه فينبغي التثبت في روايات العاملين بهذه الإجازة فإذا ثبت في أحدهم أنه لا يروي بها إلا ما ثبت عنده قطعاً أنه من مرويات المجيز فهذا ممن يوثق بما رواه بالإجازة، وإن بان لنا أو

احتمل عندنا أن الرجل قد يروي بتلك الإجازة ما يسمع ثقة عنده يحدث به عن المجيز فينبغي أن يتوقف فيما رواه بالإجازة لأنه بمنزلة قوله: حدثني ثقة عندي، وإن بان لنا في رجل أنه قد يروي بتلك الإجازة ما يسمع غير ثقة يحدث به عن المجيز فالتوقف في المروي أو جب فأما الراوي فهو بمنزلة المدلس عن غير الثقات فإن كان قد عرف بذلك فذاك، وإلا فهو على يدي عدل. وإذا تقرر هذا فقد رأيت في (تاريخ بغداد) ج 8 ص 345 «أخبرنا أبو نعيم الحافظ أخبرنا جعفر الخلدي في كتابه قال سألت خير النساج ... » فذكر قصة غريبة ثم قال الخطيب «قلت جعفر الخلدي ثقة وهذه الحكاية طريفة جداً يسبق إلى القلب استحالتها وقد كان الخلدي كتب إلى أبي نعيم يجيز له رواية جميع علومه وكتب أبو نعيم هذه الحكاية عن أبي الحسن بن مقسم عن الخلدي ورواها عن الخلدي نفسه إجازة وكان ابن مقسم غير ثقة. والله أعلم» . أقول فقول أبي نعيم: «أخبرنا الخلدي في كتابه» أراد به أن الخلدي كتب إليه بإجازته له جميع علومه فأما القصة فإنما سمعها من ابن مقسم عن الخلدي وابن مقسم غير ثقة، فهذا أشد ما يقدح به في أبي نعيم لكن لعله اغتر بما كان يظهره ابن مقسم من النسك والصلاح فظنه ثقة، فإن ابن مقسم وهو أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 4 ص 429 وفيها «حدثنا عنه أبو نعيم الحافظ ومحمد بن عمر ... وكان يظهر النسك والصلاح ولم يكن في الحديث بثقة» وقد تكلم الدارقطني وغيره في ابن مقسم. والله المستعان. والحق أن أبا نعيم وضع من نفسه ومن كتبه فجزاؤه أن لا يعتد بشيء من مروياته إلا ما صرح فيه بالسماح الواضح كقوله في الحكاية المارة أول الترجمة «حدثنا أبو أحمد الغطريفي» بخلاف ما استدل به الأستاذ ص 107 وفيه عن أبي نعيم «أخبرني القاضي محمد بن عمر وأذن لي» فإن هذه الصيغة مما يستعمله أبو نعيم في الإجازة، ومع ذلك فالقاضي محمد بن عمر هو الجعابي متكلم فيه.

الاشارة إلى الاختلاف بين أبي نعيم وابن منده

ولكن كما أن لأبي نعيم إصلاحاً خاصاً في صيغة «أخبرنا» فكذلك للأستاذ اصطلاح خاص في كلمتي «العقل» و «التواتر» وإنما الفرق أن أبا نعيم بين اصطلاحه، والأستاذ لم يبين، بل يعامل ما يطلق عليه تينك الكلمتين كما ينبغي أن يعامل به العقل والتواتر بمعناها المعروف فيحتج بما يوافق ذلك وإن سنده ساقطاً ويرد ما يخالفه وإن بغاية القوة، فإذا رأى أن مخالفيه يظلمونه فلا يقبلون ذلك منه استحل أن يكيل لهم الكيل الذي كشفت عنه في (الطليعة) . والله المستعان. وأما كلام ابن منده في أبي نعيم فقد مر بعضه وتبين حاله ولن يكن باقيه إلا طعنا في العقيدة أو من كلمات النفرة، والتنفير أو ما لا يتحصل منه - إذا نظر فيه كما ينبغي على ما سلف في القواعد - ما يثبت به الجرح، إذ قد عرف الناس أنه كان بين آل منده وأبي نعيم اختلاف في العقيدة، جر إلى عداوة شخصية شديدة، وعند الأستاذ أن الحق فيما اختلف فيه الفريقان مع أبي نعيم، وقد ذكر الذهبي في «التذكرة» ج 3 ص 377 عن السلفي «سمعت محمد بن عبد الجبار الفرساني حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي المعدل في صغري فلما فرغ من إملائه قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم، وكان مهجوراً في ذلك الوقت بسبب المذهب وكان بين الحنابلة والأشعرية تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقال وقيل وصداع، فقام إلى ذلك الرجل أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد أن يقتل» . والذهبي معروف بالميل إلى الحنابلة فهواه مع ابن منده فلم يكن للأستاذ أن ينسبه إلى عكس ذلك. 22- أحمد بن عبد الله الأصبهاني. قال الأستاذ ص151 في طعنه في عبد الله بن حنبل وستأتي ترجمته إن شاء الله: «مثله لا يصدق في أبي حنيفة وقد بلى فيه الكذب (!) وقد روى علي بن حمشاذ - وأنت تعرف منزلته في العلم - أنه سمع

أحمد بن عبد الله الأصبهاني يقول: أتيت عبد الله بن حنبل فقال: أين كنت؟ فقلت: في مجلس الكديمي، فقال: لا تذهب إلى ذاك فإنه كذاب، فلما كان في بعض الأيام مررت به فإذا عبد الله يكتب عنه فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قلت: لا تكتب عن هذا فإنه كذاب؟ قال: فأومأ بيده إلي فيه أن أسكت، فلما فرغ وقام من عنده قلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قلت: لا تكتب عنه؟ قال: إنما أردت بهذا أن لا يجيء الصبيان فيصيروا معنا في الإسناد واحداً. اه‍. وإن سعى الخطيب في إعلاله في 3/ 439 بأن يقول: إن أحمد بن عبد الله الأصبهاني مجهول، كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ مترجم في (تاريخ أصفهان) لأبي نعيم، ليس ابن حمشاذ الحافظ الثقة ممن يروي عن المجاهيل، ولا هو ممن يعول على من لا يعول عليه، وإن تجاهله الخطيب لحاجة في النفس فليس ذلك بضائره» . أقول: في هذا الكلام أمور: الأول: قوله في عبد الله بن أحمد: «وقد بلي فيه الكذب» ثم ساق القصة لإثبات ذلك وستعلم من الكاذب؟! الثاني: قوله «قد روى علي بن حمشاذ» بصيغه الجزم والتحقيق مع أنه إنما أخذ الحكاية من (تاريخ الخطيب) وإنما قال الخطيب: «حُدّثت عن أبي نصر محمد ابن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي قال: سمعت علي بن حمشاذ يقول ... » فلم يذكر الخطيب من حدثه فكيف يجزم الأستاذ ويحقق؟ فإن قيل: إن الخطيب أعلّ القصة بالأصبهاني فدل ذلك على ثقة الخطيب بمن حدثه قلت: ليس هذا بلازم فقد لا يكون الخطيب وثق بمن حدثه حق الثقة ولكن رأى إعلال الحكاية بالأصبهاني كافياً، ومع ذلك فقد ذكر الأستاذ ص 56 قول الحماني: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق. فقال الأستاذ: «قول الراوي: سمعت الثقة، يعدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات» فهل يستثني الأستاذ أبا بكر الخطيب من هذا القاعدة ويزيد فيرى أنه إذا لم يسم شيخه وأشار إلى أنه لم

أخذ الكوثري ثقة أحمد بن عبد الله من مجرد رواية ابن حمشاذ عنه

يتهمه ثبت بذلك ثقة شيخه فتقوم الحجة بقول الخطيب: «حُدثت عن فلان» ولا تقوم بقول غيره: «حدثني عشرة كلهم ثقات» ؟! الثالث: قوله: «بأن يقول «الخطيب» إن أحمد بن عبد الله الأصبهاني مجهول» . وإنما قال الخطيب: «قلت: كان عبد الله بن أحمد أتقى لله من أن يكذّب من هو عنده صادق ويحتج بما حكى عنه هذا الأصبهاني وفي هذه الحكاية نظر من جهته» وليس في العبارة كلمة «مجهول» ولا هي صريحة في معناها إذ يحتمل أن يكون الخطيب عرف الأصبهاني بالضعف ويحتمل انه لم يعرفه ولكن استدل بنكارة حكايته على ضعفه، ولا يلزم من عدم معرفته له أن يجزم بأنه مجهول فإن المتحري مثل الخطيب لا يطلق كلمة «مجهول» إلا فيمن يئس من أن يعرفه هو أو غيره من أهل العلم في عصره، وإذا لم ييأس فإنما يقول: «لا أعرفه» ومن لم يراع هذا وقع فيما وقع فيه الأستاذ في مواضع تقدمت أمثلة منها في (الطليعة) ص 86 - 93. الرابع: قوله: «كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ» لا أضايق الأستاذ في إطلاقه أن هذا الرجل من شيوخ ابن حمشاذ وإن لم يعرف لابن حمشاذ عنه إلا هذه الحكاية إن صح أن ابن حمشاذ حكاها، ولا في جزمه بذلك مع ما مر في الأمر الثاني، وإنما النظر في جزمه بأن هذا الرجل من الثقات فمن أين لك ذلك؟ أنقلاً؟ فلماذا لم يذكره؟ أم اجتهاداً؟ فما حجته؟ أم مجازفة؟ فالله حسيبه. والذي يظهر - إن كان ابن حمشاذ حكى هذه الحكاية - أن الأصبهاني أصغر منه، فإن كان ابن حمشاذ كما يأتي يروي فيكثر عن عبد الله بن أحمد وعن الكُديمي، وسماعه منهما ببغداد كما هو ظاهر، فلو سمع الحكاية حين كان ببغداد أو قبل ذلك لكان الظاهر أن يستثبت عبد الله بن أحمد ولو فعل لحكى ذلك مع الحكاية فدل هذا على أنه إن كان حكاها فإنما سمعها بعد ذلك كأن هذا الأصبهاني زعم له أنه دخل بغداد بعده وجرى له ما حكاه. الخامس: قوله: «مترجم في (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم» قد ذكرت هذا في

(الطليعة) ص 92 - 93 وقلت: هناك «كذا قال وقد فتشت (تاريخ أبي نعيم) فوجدت فيه مما يقال له: أحمد بن عبد الله - جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يشعر بأنه هذا، وفوق ذلك فجميعهم غير مُوثَّقين» فتحامى الأستاذ في (الترحيب) التعرض لذاك الموضع البتة! السادس: قوله: «وليس ابن حمشاذ ممن يروي عن المجاهيل ولا هو ممن يعول على من لا يعول عليه» . إن أراد بالتعويل الاعتماد فمن أين عرف أن ابن حمشاذ اعتمد على تلك الحكاية وها نحن نجده يروي عن عبد الله بن أحمد وعن الكديمي، فمن روايته عن عبد الله في (المستدرك) ج 1 ص 63 و301، و453، وج 2 ص 165، وج 3 ص 269، و612 وغيرها، ومن روايته عن الكديمي في (المستدرك) ج 1 ص 68، ج3 ص 556، وج 4 ص 13، وغير ذلك. وإن أراد بالتعويل مطلق الرواية أي أن ابن حمشاذ لا يروي إلا عن ثقة فمن أين عرف ذلك؟ وقد وجدنا ابن حمشاذ يروي عن جماعة ممن يكذبهم الأستاذ ظلماً فمنهم أحمد بن علي الأبار كما في (المستدرك) ج 1 ص33 و227، ومنهم محمد بن عثمان بن أبي شيبة كما في (المستدرك) ج 3 ص 146 و395، وكذلك يروي عن جماعة تكلموا فيهم والعمل على التوثيق كالحارث بن أبي أسامة وإبراهيم بن ديزيل والحسن بن علي المعمري، وعن جماعة متكلم فيهم كالكديمي وقد مرَّ، ومحمد بن منده الأصبهاني كما في (المستدرك) ج1 ص359 وج2 ص315، وج3 ص107 و507، وج4 ص593، وقد كذبوا محمد بن منده هذا راجع (لسان الميزان) ج 5 ص 393، وعلي بن صقر السكري كما في (المستدرك) ج 1 ص 240، وراجع (لسان الميزان) ج 4 ص 235، وعبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير كما في (المستدرك) ج 1 ص 187، وراجع (لسان الميزان) ج 3 ص 262، وهناك: (قال الدارقطني متروك» ولم يذكر في الترجمة ما يخالف ذلك، وإسحاق بن إبراهيم بن سنين كما في (المستدرك)

23- أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن العكي

ج3 ص 210 وراجع (لسان الميزان) ج 1 ص 348، وجنيد بن حكيم الدقاق كما في (المستدرك) ج 3 ص 561 ومحمد بن المغيرة السكري كما في (المستدرك) ج2 ص53، و189، و330، 483، 541، وراجع (لسان الميزان) ج 5 ص 386. ولعل ابن حمشاذ قد روى عمن هو أضعف من هؤلاء فتجنب الحاكم الرواية عن ابن حمشاذ عنهم في (المستدرك) على (الصحيحين) فابن حمشاذ كغالب محدثي عصره يروي عن الثقات وعن الضعفاء الأحاديث النبوية فما بالك بالحكايات؟ السابع قوله: «وإن تجاهله الخطيب لحاجة في النفس فليس ذلك بضائره» . الظاهر أنه يعني ابن حمشاذ، ولا أدري من أين أخذ أن الخطيب تجاهل ابن حمشاذ؟ إن كان أراد أن الخطيب تجاهل أن ابن حمشاذ لا يروي إلا ثقة فقد علمت ما فيه، وإن كان أراد أنه لم يورد له ترجمة في (التاريخ) فليس على شرطه وإنما التزم أن يذكر من الغرباء من دخل بغداد وحدث بها ولا دليل على أن ابن حمشاذ حدث ببغداد. فليتدبر العاقل هل يسوغ لعالم يصفه أصحابه - أو قل يصف نفسه - بما في عنوان (التأنيب) «الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة أن يقدم على تكذيب عبد الله بن أحمد بن حنبل الإمام ابن الإمام في الحق حقاً، محتجاً في زعمه الحكاية، ثم يخلط هذا التخليط مع التخاليط الأخرى مما ترى الكشف عن بعضه في (الطليعة) وفي مواضع أخر في هذا الكتاب؟ أو أن يرمي مثل أبي بكر الخطيب في ما قاله في هذه الحكاية بأنه «لحاجة في النفس» ولا يلتفت إلى ما في نفسه؟! 23- أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن العكي (؟) . في (تاريخ بغداد) 13/406 « ... الأبار حدثنا أحمد بن عبد الله العكي أبو عبد الرحمن - وسمعت منه بمرو- قال حدثنا مصعب بن خارجه بن مصعب سمعت حماداً ... »

قال الأستاذ ص 127 «أحمد ابن عبد الله هو الفرياناني المروزي، قال أبو نعيم: مشهور بالوضع، وقال النسائي ليس بثقة، وقال ابن عدي: يروي عن الفضيل وعبد الله بن المبارك وغيرهما المناكير، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس في حديثهم، وعن الأثبات ما لم يحدثوا به، وقال ابن السمعاني: وكان ممن يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم وكان محمد بن علي الحافظ سيئ الرأي فيه» ثم قال «الصواب: العتكي، كما في (أنساب ابن السمعاني) » . أقول ذكره ابن السمعاني في (الفرياناني) ووقع في النسخة «العتكي الهاشمي» كذا والهاشمي لا يجتمع في حق النسب مع العتكي ولا مع العكي، وليس في (الميزان) ولا (اللسان) أنه هاشمي ولا عتكي ولا عكي، وليس فيهما ولا في «الأنساب» أنه يروي عن مصعب بن خارجه ولا أنه يروي عن الأبار، لكن لم أجد غيره يصلح أن يكون هو الواقع في السند، فالظاهر أنه هو. ومما قاله ابن السمعاني أن (فريانان) خربت قال: «وبقي قبر أبي عبد الرحمن بها يزوره الناس ويدورون حوله زرته غير مرة» قال «وسئل أحمد بن سيار عنه؟ فقال: لا سبيل إليه» . وهذا يدل أن الرجل كان له شهرة وصيت في تلك الجهات (1) وقد روى عنه الحسن ابن سفيان وغيره كما في (الميزان) ، وقال الذهبي «وقد رأيت البخاري يروي عنه في كتاب (الضعفاء) . أقول في باب الإمام ينهض بالركعتين من (جامع الترمذي) : «قال محمد بن إسماعيل «البخاري» : ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً» والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله «لا أروي عنه» أي بواسطة، وقوله «وكل من كان

_ (1) قلت: ولذلك كان زوار قبره يدورون حوله، وهذه وتنبيه لا يرضاها الإسلام. والله المستعان. ن

تحقيق أن البخاري لا يروي إلا عن صدوق يتميز صحيح حديثه من سقيمه

مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً» يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة. وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يروعن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه. فإن قيل قد يعرف بموافقته الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة فإن ابن ليلى عند البخاري وغيره صدوق وقد وافق عليه الثقات في كثير من أحاديثه ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمن غلطه حتى فبما وافق عليه الثقات، وقريب منه من عرف بقبول التلقين فأنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حد ثوابه ولكنه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم فأنه قد يسمع من أقرأنه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم. فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الرواي من شيوخه بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين إما أن يكون الراوي ثقة ثبتا فيعرف صحيح حديثه بتحديثه وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة كيحيى بن عبد الله بكير روى عنه البخاري وقال في (التاريخ الصغير) : ما روى يحيى «ابن عبد الله» بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني اتقيه» ونحو ذلك. فإن قيل قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح فأنه إن كان يروي مالا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟ لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في

وصف الكوثري لأحمد بن علي بن مسلم الأبار الحافظ بـ: "المأجور"

كتب البخاري غير الصحيح أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟ قلت: أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل وذلك بأن يحمل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته، ويبقى النظر فيما عدا ذلك، وقد يقال أنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقاً، وإذ رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك فأنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيناً الواقع بالقول أو الحال. والله أعلم. والمقصود هنا أن رواية البخاري عن الفرياناني تدل أنه كان عنده صدوقاً في الأصل، وقد لقيه البخاري فهو أعرف به ممن بعده وقد تأيد ذلك بأن الرجل كان مشهور في تلك الجهة بالخير والصلاح كما مر وأن أحمد بن سيار على جلالته لما سئل عنه قال «لا سبيل إليه» كأنه يريد أنه لا ينبغي الكلام فيه بمدح لضعفه في الرواية ولا قدح لصلاحه في نفسه على أن أكثر الذين تكلموا فيه لم يرموه بتعمد الكذب، فأما أبو نعيم فمتأخر وقد تتبعنا كلام من تقدمه فلم نجد فيه ما تحصل به النسبة إلى الوضع فكيف الشهرة؟ هذا والحكاية التي ذكرها الخطيب عن أحمد بن عبد الله ليست من طريق البخاري وإنما هي من طريق الأبار، والأبار ناقل لا ناقد، ولكن الأستاذ لم يقنع بتوهين تلك الحكاية بل قال «ومن يعول على الوضاع لا يكون إلا من طراز الأبار المأجور» ولا يبعد أن يكون أراد التعريض بالبخاري، وما أو هن رأياً يضطر الجدل التحرير في الدفاع عنه إلى الطعن في مثل البخاري!! فأما الأبار فهو أحمد بن علي بن مسلم حافظ تأتي ترجمته، وقول الأستاذ «المأجور» كلمة فاجرة مبنية على خيال كاذب، وسوء ظن صدقه الأستاذ على عادته، حاصل ذلك الخيال أن الأستاذ زعم أن الحافظ الفاضل دعلج بن أحمد السجزي - وسيأتي ترجمته - كان يصل الأبار بالمال الوافر فكان الأبار يجمع

24- أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود

الروايات الموافقة لهوى دعلج، وسيأتي في ترجمة الأبار ما يتضح به أنه ليس هناك أي دلالة على أن دعلجاً وصل الأبار بفلس واحد، وهب أنه ثبت أنه وصله بمال كثير، فمثل ذلك لا يسوغ اتهام ذينك الحافظين تهمة ما فضلاً عن هذه التهمة الخبيثة، كيف وقد ثبتت عدالتهما وفضلهما، وكانا من أول عمرهما إلى آخره على مذهب واحد وهو مذهب أهل الحديث المعروف. أفرأيت إذا ثبت أن بعض تجار الحنفية يصل الأستاذ، أيحل لمخالفي الأستاذ أن يطلقوا عليه تلك الكلمة؟ هذا مع أن بين الرجلين بعد المشرقين وكذلك بين صنيعيهما فالأبار لم يزد على رواية ما سمع، والأستاذ يتصرف التصرفات التي ترى الكشف عن بعضها في (الطليعة) وهذا الكتاب، وإنما يحق أن يسمى مأجوراً من يأتي ما يرى أنه مخالف للدين والشرف والمروءة طمعاً في المال ونحوه. بلى إن الأبار لمأجور أجراً عظيماً إن شاء الله تعالى على صدقه وحسن قصده ونيل الكوثري من عرضه. 24- أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود. ذكر الأستاذ ص 125 للخطيب من طريق عبد الله بن محمد بن جعفر وستأتي ترجمته، ثم قال: «وقد فعل مثل ذلك في أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي الذي كذبه هو ... » . أقوله كذَّب الخطيب أحمد هذا وروى في غير ترجمة أبي حنيفة من طريقه حكايتين غير منكرتين ولا عيب في ذلك على الخطيب، فقد روى السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم من الأئمة عن الكلبي مع اشتهاره بالكذب، وفي ترجمته من (الميزان) : «يعلى ابن عبيد قال، قال الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل: فإنك تروي عنه، قال أنا أعرف صدقه من كذبه» .

25- أحمد بن عبيد بن ناصح أبو عصيدة النحوي

25- أحمد بن عبيد بن ناصح أبو عصيدة النحوي. في (تاريخ بغداد) 13/ 373 «أحمد بن عبيد ثنا طاهر بن محمد ... » قال الأستاذ ص 42: «فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من (الميزان) ، وقال الخطيب 2/ 260: «قال ابن عدي يحدث بمناكير» وقال أبو أحمد «الحاكم الكبير» : لا يتابع في جل حديثه» . أقول: لفظ ابن عدي على ما في (تهذيب التهذيب) : «حدث عن الأصمعي ومحمد بن مصعب بمناكير» قال ابن حجر «قال الحاكم أبو عبد الله هو إمام في النحو وقد سكت مشايخنا عن الرواية عنه» وقال ابن حبان في (الثقات) : «ربما خالف» وقال ابن عدي: «هو عندي من أهل الصدق» . أقول: كأن ابن حبان وابن عدي رأيا أنه لا يعتمد الكذب ولكن يخطئ ويهم، مع احتمال أن يكون البلاء في كثير من مناكيره من محمد بن مصعب، فأنه ضعيف يروي المناكير واتهمه بعضهم. فأما الأصمعي فثقة، ويأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته ذكر الحديث الذي أورده الأزدي من طريق أحمد بن عبيد هذا عن الأصمعي واستنكر هو وغيره فأجاب الذهبي بأن أحمد بن عبيد ليس بعمدة فأخذها الأستاذ هنا، وأعرض عنها عندما احتاج إلى الكلام في الأصمعي! والله المستعان. 26- أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي مؤلف (تاريخ بغداد) (1) قال ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 267: «كان أبو بكر الخطيب قديماً على مذهب أحمد بن حنبل فمال عليه أصحابنا «الحنابلة» لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه فانتقل إلى مذهب الشافعي» .

_ (1) اطلعت بعد كتابة هذه الترجمة وغيرها ببضع سنين على ترجمة الخطيب بقلم الدكتور يوسف العش أجاد فيها فاستفدت منها قائدتين سألحقهما في موضعهما وأنبه على ذلك.

تحقيق أنه سلفي العقيدة وذكر فصل من كلامه في ذلك

أقول أقدم النظر في عقيدة الخطيب، زعم بعضهم أنه كان يذهب إلى مذهب الأشعري فرد الذهبي ذلك بقوله: «قلت مذهب الخطيب في الصفات أنها تمر كما جاءت صرح بذلك في تصانيفه» فاعترضه ابن السبكي في (طبقات الشافعية) ج 3 ص13 بقوله: «قلت هذا مذهب الأشعري ... وللأشعري قول آخر بالتأويل» . أقول: الذي شهره المتعمقون عن الأشعري التأويل وإن كان آخر مصنفاته (كتاب الإبانة) أعلن فيه اعتماده مذهب الإمام أحمد وأهل الحديث، فالقائل أن الخطيب كان يذهب مذهب الأشعري أوهم أنه كان من المتأولين، ولم يزد الذهبي على دفع هذا الإيهام، ولكن ابن السبكي لغلوه شديد العقوق لأستاذه الذهبي؛ وقد نقل الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 319 فصلاً من كلام الخطيب في الاعتقاد ينفي عنه التأويل والتعطيل، قال الخطيب: «أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية (1) والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا بذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والفصل إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ... » . ويظهر أن ابن الجوزي أميل إلى المبتدعة من الخطيب، قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (شرح العقيدة الأصفهانية) ص 68: «وأما الانتساب فانتساب الأشعري وأصحابه إلى الإمام أحمد خصوصاً وسائر أئمة الحديث عموماً ظاهر مشهور في كتبهم كلها، وما في كتب الأشعري مما يوجد

_ (1) مراده كغيره نفي الكيفية المدركة بالعقول كما جاء عن ربيعه الرأي ومالك وغيرهما «الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول» وليس المراد نفي أن يكون في نفس الأمر كيفية، كيف وذلك من لوازم الوجود. المؤلف. قلت: وكلام الخطيب هذا محفوظ في بعض مجاميع الظاهرية. ن

انتقاله من مذهب أحمد إلى مذهب الشافعي وبيان الباعث له على ذلك

مخالفاً للأمام أحمد وغيره من الأئمة فيوجد في كلام كثير من المنتسبين إلى أحمد كأبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي وصدقة بن الحسين وأمثالهم ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه» . وإذ قد بان أن عقيدة الخطيب كانت مباينة لعقائد المبتدعة فلننظر في انتقاله عن مذهب أحمد في الفروع الظاهر أن معنى أنه كان على مذهب أحمد أن والده وأهله كانوا على مذهب أحمد وأنه هو انتقل إلى مذهب الشافعي في صغره زمان طلبه العلم، فما الباعث له على الانتقال؟ يقول ابن الجوزي: إن ذلك لميل الحنابلة عليه وإيذائهم له، فلماذا آذوه؟ يقول ابن الجوزي: لما رأوا ميله إلى المبتدعة. قد تقدم إثبات أن عقيدة أن عقيدة الخطيب كانت مباينة لعقائد المبتدعة وذلك ينفي أن يكون ميله إليهم رغبة في بدعتهم أو موافقة عليها، فما معنى الميل وما الباعث عليه؟ كان الحنابلة في ذاك العصر ينفرون بحق من كل من يقال أنه أشعري أو معتزلي وينفرون عن الحنفية والمالكية والشافعية لشيوع البدعة فيهم، وكان كثير من الحنابلة يبالغون في النفرة ممن نفروا عنه فلا يكادون يروون عنه إذا كان من أهل الرواية ولا يأخذون عنه غير ذلك من العلوم، وإذا رأوا الطالب الحنبلي يتردد إلى أو مالكي أو شافعي سخطوا عليه وقد ذكر ابن الجوزي نفسه في (المنتظم) ج 9 ص 213 عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي قال «وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً» وتقدم في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي نعيم الأصبهاني ما لفظه «قال إنسان من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم فليفعل - وكان مهجوراً في ذلك الوقت بسبب المذهب وكان بين الحنابلة والأشعرية تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقال وقيل وصداع، فقام إلى ذلك الرجل أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد أن يقتل» ، مع أن مجلس أبي نعيم إنما كان لسماع الحديث لا للدعوة إلى الأشعرية. وقد قال ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 267 في وصف الخطيب:

حرصه عل العلم وإيذاء العامة له

«كان حريصاً على علم الحديث وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه» وقال قبل ذلك بورقة «أول ما سمع الحديث في سنة 403 وهو ابن إحدى عشرة سنة ... وأكثر من السماع من البغداديين ورحل إلى البصرة ثم إلى نيسابور ثم إلى أصبهان ودخل في طريقه همذان والجبال ثم عاد إلى بغداد وخرج إلى الشام وسمع بدمشق وصور ووصل إلى مكة ... وقرأ (صحيح البخاري) على كريمة ... في خمسة أيام» . أقول فحرصه على تحصيل العلم وولوعه به هو الذي كان يحمله على أن يقصد كل من عرف بالعلم مهما كان مذهبه وعقيدته وكان الحنابلة إذ ذاك يخافون عليه بحق أن يقع في البدعة، وإذ كانت نهمته تضطره إلى الانطلاق في مخالفتهم وغيرتهم تضطرهم إلى المبالغة في كفه بلغ الأمر إلى الإيذاء وكان وهو حنبلي لا يرجو من غيرهم أن يعطف عليه ويحميه وينتصر له فاحتاج أن يتحول إلى مذهب الشافعي ليحميه الشافعيون ولا يعارضوه في الاختلاف إلى من شاء من أهل العلم مهما كان مذهبه وعقيدته لأن الشافعية لم يكونوا يضيقون في ذلك مع أنهم إنما استفادوا الخطيب فهم أشد مساحة، وهذا وإن نفعه من جهة الظفر بأنصار أقوياء يتمكن في حمايتهم من طلب العلم كيف شاء لكن من شأنه أن يزيد حنق الحنابلة عليه وغيظهم منه وكانت بغداد مقر الحنابلة وأكثر العامة معهم، والعامة كما لا يخفي إذا اتصل بهم السخط على رجل تسارعوا إلى إيذائه وبالغوا، قال الكوثري في (التأنيب) ص 12: «وفي حلقة الخطيب بجامع المنصور فناولوا حدثنا صبيح الوجه ديناراً وقالوا له قف بإزائه ساعة وناوله هذه الرقعة فناوله الصبي وإذا فيها - ما ذكره السبط مما لا حاجة إلى ذكره هنا. ثم قال: وكانوا يعطون السقاء قطعة يوم الجمعة فكان من بعيد يإزائه ويميل رأس القربة وبين يديه أجزاء فيبتل الجميع فتتلف الأجزاء. وكانوا يطينون عليه باب داره في الليل فربما احتاج إلى الغسل لصلاة الفجر فتفوته ... » .

فصل: فيه ذكر حكاية النخشبي أن الخطيب كان يتهم بشرب الخمر وبيان علتها وبطلانها

قال الكوثري: «وفي ذلك عبر من ناحية الخطيب وأحوال الحنابلة في آن واحد» . أقول: السبط ليس بعمدة كما يأتي وابن طاهر لم يدرك الخطيب لكن ما تضمنته القصة من تتبع أولئك العامة للخطيب وإيذائه يوافق في الجملة ما تقدم عن ابن الجوزي، وكذلك يوافق ما في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 318 عن الحافظ المؤتمن الساجي «تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه» وابن الجوزي نفسه يتألم آخر عمره من أصحابه الحنابلة حتى قال في (المنتظم) ج 10 ص 253 بعد أن ذكر تسليم المدرسة إليه وحضور الأكابر وإلقاءه الدرس: «وكان يوماً مشهوداً لم ير مثله ودخل على قلوب أهل المذهب غم عظيم» وزاد سبطه في (المرآة) عنه: «لأنهم حسدوني» قال السبط «وكان جدي يقول: والله لولا أحمد الوزير ابن هبيرة لانتقلت عن المذهب فإني لو كنت حنفياً أو شافعياً لحملني القوم على رؤوسهم» . وليس السبط بعمدة لكن عبارة المنتظم تشعر بصحة الزيادة. هذا حال ابن الجوزي في آخر عمره، فأما الخطيب فأنه كان انتقاله في حداثته ليتمكن من طلب العلم لا ليحمل على الرؤوس، وكأن كلام ابن الجوزي هذا مما جرأ السبط على الانتقال إلى مذهب أبي حنيفة تقرباً إلى الملك عيسى ابن أبي بكر الأيوبي، وقد دافع عنه صاحب (الذيل) على كتابة (المرآة) كما في (لسان الميزان) بقوله «وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلا في الصورة الظاهرة» . وهذا العذر يدفع احتمال أن يكون انتقل تديناً ويعين أنه إنما انتقل لأجل الدنيا. فصل قد علمت بعض ما كان يلقاه الخطيب من إيذاء العامة حتى في الجامع وقت إملاء الحديث وفي بيته، إذ كانوا يطينون عليه بابه فيحولون بينه وبين شهود الجماعة. عاش الخطيب في هذا الوسط إلى أن ناهز الستين من عمره، وأولئك المؤذون يتعاقبونه نهاراً وليلاً يتمنون أن يقفوا له على زلة، أو يعثروا له على عثرة،

فيشيعوها ويذيعوها ويدونها خصومه في كتبهم وتواريخهم لكنه لم يكن من ذلك شيء، أفليس في هذا الدلالة القاطعة على نزاهة الخطيب وطهارة سيرته؟ اللَّهم إلا أن في (معجم الأدباء) لياقوت ج4 ص29 عن ابن السمعاني عن عبد العزيز النخشبي أنه في معجم شيوخه: «ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ... حافظ فهم ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا وقال لي لقيت أبا بكر الخطيب سكران! فقلت له قد لقيته متغيرا واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران، ولعله قد تاب إن شاء الله تعالى» قال ابن السمعاني: «ولم يذكر من الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي مع أبي لحقت جماعة كثيرة من أصحابه» . أقول النخشبي لم يكن من أهل بغداد وإنما دخلها في رحلته وابن السمعاني دخل بغداد نخلاً، وجمع تاريخاً لها ولقي جماعة لا يحصون من موافقي الخطيب ومخالفيه وأصدقائه وأعدائه من المتثبتين والمجازفين، ومعروف في العادة أنه لا يشرب المسكر فيتغير ثم يخرج يجول في الشوارع إلا من صار شرب المسكر عادة له لا يبالي أن يطلع عليها الناس، وإذا صار عادة استمر زماناً، فلو كانت هذه حال الخطيب لما خفيت على جميع أهل بغداد وفيهم من أعداء الخطيب جماعة يراقبون حركاته وسكناته ويطينون عليه باب داره بالليل، ويتعطشون إلى أن يظفروا له بعثرة ليذيعوها فيشتفوا بدلاً مما يسيئون به إلى أنفسهم وإلى من ينتسبون إليه أكثر من إساءتهم إلى الخطيب. وفي ذلك مع ظاهر سياق عبارة النخشعي أنه إنما أخذ التهمة من الفقيه التي حكاها وحاصلها أنه كان يعرف من عادة الخطيب أنه إذا لقيه بدأه بالسلام حتى

فصل: خروج الخطيب من بغداد إلى دمشق ثم نفيه منها وبيان سبب ذلك

لقيه مرة فلم يبدأه بالسلام، والظاهر أن النخشبي بدأ هو بالسلام فرد عليه الخطيب ولم ينبسط إليه، فإن النخشبي من أهل العلم فلم يكن ليترك السلام معتذراً أن الخطيب لم يبدأه مع أن الظاهر أن النخشبي أصغر من الخطيب وإن مات قبله، والسنة أن الأصغر أولى أن يبتدئ بالسلام ولو سلم الخطيب فلم يرد عليه لحكى ذلك فأنه أدل على مقصوده، فاستنكر النخشبي من الخطيب أنه لم يبدأه بالسلام ولا أنبسط إليه على أعادته فعد ذلك الشبه تغير، ومعلوم أن الإنسان قد يعرض له ما تضيق به نفسه من هم أو غم أو تفكير في حل مشكل أو تكدر خاطر من سماع مكروه أو إيذاء مؤذ فيقصر عما جرت به عادته من الانبساط وحسن الخلق. والنخشبي يقول «لحقني بعض أصحابنا وقال لي لقيت الخطيب سكران؟» أحسبه يعني بقوله (أصحابنا) الحنابلة فكأنه لقي الخطيب بعض العامة الذين يتعاقبون الخطيب ويأذونه كما سلف وكأنه آذى الخطيب واسمعه المكروه فأعرض الخطيب وتغافل متكدراً وأسرع في المشي فمر بالنخشبي وهو حديث عهد بسماع المكروه من بعض أصحابه فلم ينبسط إليه، وكذلك صنع باللاحق فهذا هو شبه التغيير الذي أراه النخشبي وهو السكر الذي أطلقه ذلك اللاحق (1) هذا كله دفع لاحتمال فامن الثبوت الشرعي فلاحظ لتلك الحكاية فيه بحال (2) . فصل بعد أن قضى الخطيب قريبا من ستين سنة على الحال التي تقدمت من الانهماك في

_ (1) هذا إذا كانت كلمتا «لقي» و «الحق» . في عبارة النخشبي على ظاهرهما وإلا فيحتمل أن ذلك اللاحق هو المؤذي نفسه. (2) ولا حاجة بنا هنا إلى نحو ما يأتي في ترجمة الحسن بن إبراهيم. (المؤلف) قلت: وذلك لأن الحكاية لم تثبت لأن مدارها على رجل لم يسن وهو بعض أصحاب النخشبي. ن.

سبب آخر في ذاك وبيان علته

العلم ليلاً ونهاراً حتى كان يمشي في الطريق وبيده يطالعه وفي تلك الصيانة والنزاهة التي أعجز بها أولئك المؤذين فلم يعثروا له على عثرة خرج من بغداد في أيام الفتن وقصد دمشق وأقام بها، وكانت إذ ذاك تحت ولاية العبيديين الرافضة الباطنية، ولكن كانوا يتظاهرون بعدم التعرض لعلماء السنة فاستمر الخطيب على إعماله العلمية إلى أن بلغ عمره خمساً وستين سنة، وحينئذ أمر أمير دمشق من جهة العبيديين الرافضة الباطنية بالقبض على الخطيب ونفيه عن دمشق، فأما مؤرخ دمشق الحافظ الثبت ابن عساكر فقال «سعى بالخطيب حسين الدميني إلى أمير الجيوش وقال هو ناصبي يروي فضائل الصحابة والعباس في جامع دمشق» . فهذا سبب واضح لنفي الخطيب، فإن العبيديين رافضة باطنية يكفرون الصحابة والعباس ويسرفون في بغضهم، ويرون في نشر فضائل الصحابة والعباس على رؤوس الأشهاد بجامع دمشق تحدياً لهم وتنفيراً عنهم ودعوة إلى الخروج عليهم ودعاية لخصومهم بني العباس الذين كانوا ينازعونهم الخلافة ويقاتلونهم عليها. وأما ابن طاهر وما أدراك ما ابن طاهر؟ فحكى سبباً آخر وقبل أن اشرحه أذكر شيئاً من حال ابن طاهر، يقول ابن الجوزي في ترجمة ابن طاهر من (المنتظم) ج 9 ص 178 « ... . فمن أثنى عليه فلأجل حفظه للحديث وإلا فالجرح أولى به، ذكره أبو سعد بن السمعاني وانتصر له بغير حجة بعد أن قال سألت شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي عن محمد بن طاهر؟ فأساء الثناء عليه وكان سيئ الرأي فيه، وقال سمعت أبا الفضل محمد بن ناصر يقول محمد بن طاهر لا يحتج به صنف كتاباً في جواز النظر إلى المرد وأورد فيه حكاية عن يحيى بن معين قال رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها، فقيل له تصلي عليها؟ فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح - ثم قال: كان يذهب مذهب الإباحة. قال ابن السمعاني. وذكره أبو عبد الله محمد بن الواحد الدقاق الحافظ فأساء الثناء عليه جداً ونسبة إلى أشياء. ثم انتصر له ابن السمعاني فقال: لعله قد تاب. فوا عجباً ممن سيره قبيحة فيترك الذم لصاحبها لجواز أن يكون قد تاب، ما أبله هذا المنتصر. ويدل على

صحة ما قاله ابن ناصر من أنه كان يذهب مذهب الإباحة ما أنبانا به أبو المعمر المبارك بن أحمد النصارى قال أنشدنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي لنفسه: دع التصوف والزهد الذي اشتغلت ... به جوارح أقوام من الناس وعج على دير داريا فإن به الـ ... رهبان ما بين قسيس وشماس فاشرب معتقة من كف كافرة ... تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس ثم استمع رنة الأوتار من رشأ ... مهفهف لحظة أمضى من الماس وذكره الذهبي في (تذكرة الحفاظ) 4/ 37 وذب عنه قال: «الرجل مسلم معظم للآثار وإنما كان يرى إباحة السماع «يعني سماع الغناء والملاهي» لا الإباحة المطلقة ... معلوم جواز النظر إلى الملاح عند الظاهرية فهو منهم» وذكر ثناء جماعة عليه، وله ترجمة في (لسان الميزان) والمقصود أن ابن طاهر كان له ولوع بالجمال وتعلق به وتسمح فيه وإن لم يخرجه إن شاء الله تعالى إلى ما يوجب الفسق. وإنما ذكرته هنا لأن له أثراً على حكايته الآتية كما سترى. في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 318: «قال ابن طاهر في (المنثور) أخبرنا مكي الرملي «صوابه الرميلي» قال: كان سبب خروج الخطيب من دمشق أنه كان يختلف إليه صبي مليح فتكلم فيه الناس وكان أمير البلد رافضياً متعصباً، فجعل ذلك سبباً للفتك بالخطيب فأمر صاحب شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل ويقتله وكان سنياً فقصده تلك الليلة في جماعته فأخذه وقال له بما أمر به ثم قال: لا أجد لك حيلة إلا أنك تفر منا وتهجم دار الشريف ابن أبي الحسن العلوي ... ففعل ذلك، فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به: فقال له: أيها الأمير ... ليس في قتله مصلحة ... أرى أن تخرجه من بلدك. فأمر بإخراجه، فذهب إلى (صور) وأقام بها مدة» . وذكر ياقوت في (معجم الأدباء) ج 4 ص 34 عن ابن طاهر نحو ذلك وفيه « ... كان يختلف إليه صبي مليح الوجه قد مكي، وأنا نكبت عن ذكره» .

أقول: قد عرفت ابن طاهر فأما مكي الرميلي الذي حكى ابن طاهر القصة عنه فحافظ فاضل شافعي كالخطيب ومن تلامذة الخطيب المعظمين له، ترجمته في (تذكرة الحفاظ) ج4 ص 22 و (الطبقات الشافعية) ج 4 ص 20 وذكروا أنه سمع من الخطيب بصور، ثم سمع منه ببغداد كما يعلم من (ترجمة الخطيب) ، وكان مبجلاً للخطيب روى ابن عساكر عنه أنه رأى في المنام لما كانوا يقرؤون على الخطيب (تاريخه) ببغداد أنه حضر مجلس الخطيب القراءة التاريخ على العادة فرأى رجلاً لم يعرفه، فسأل عنه فقيل له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليسمع (التاريخ) . انظر الرؤيا مبسوطة في (طبقات الشافعية) ج 3 ص15 وذكرها الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص321 قال: «قال غيث الأرمنازي قال مكي الرميلي: كنت ببغداد نائماً في ليلة ثاني عشر في ربيع الأول ثلاث وستين فرأيت كأنا عند الخطيب لقراءة (تاريخه) على العادة ... » . ويؤخذ مما تقدم أن الرميلي لم يلق الخطيب إلا بعد خروج الخطيب من دمشق فلم يحضر الرميلي ذلك الخروج فهل أخبره الخطيب بسبب إخراجه؟ قد عرفنا الخطيب وعرفنا الرميلي وعرفنا ابن طاهر فما الذي يتوقع من الخطيب بعد شيخوخته؟ وما الذي يتوقع أن يخبر به عما جرى له؟ وما الذي يتوقع أن يخبر به الرميلي عن أستاذه المبجل؟ وما الذي يتوقع من ابن طاهر؟ أما السؤال الأول فالعادة قاضية أن العالم الفاضل المستغرق في العلم الذي قضى عامة عمره في صيانة ونزاهة يمتنع أن يعرض له بعد شيخوخته داء العلاقة بالصبيان. وأما الثاني: فمن عرف الخطيب ونزاهته وصيانته وعقله وتحفظه علم امتناع أن يخبر في شيخوخته بما يشينه شيئاً مزرياً. وأما الثالث: فيبعد جدا أن يحكى الرميلي ما يشين أستاذه الذي يبجله ذاك التبجيل.

شيء من ترجمة سبط ابن الجوزي وأنه كان رافضيا حنفيا

وأما الرابع: فقد طهر الله ابن طاهر من اختلاق الكذب، ولكن لا مانع أن يسمع حكاية لها علاقة ما بالجمال الذي كان مولعاً به متسمحاً في شأنه فتصطبغ في نفسه صبغة تناسب هواه فيحكيها بتلك الصبغة على وجه الرواية بالمعنى. فعسى أن يكون بعض أعداء الخطيب في دمشق لما سعوا به إلى ذاك الأمير الرافضي على ما تقدم عن ابن عساكر توقف لأن أكثر أهل الشام أهل سنة ويخشى أن يعلموا أنه تعرض للخطيب لأجل المذهب ففكر أولئك السعاة في حيلة، فرأوا في طلبه العلم الذين كانوا يختلفون إلى الخطيب فتى صبيحاً فتكلموا بين الناس بأن في اختلاف مثله إلى الخطيب ريبة وربما اختلقوا ما يوقع الريبة عند بعض الناس ثم قالوا للأمير تأخذ الخطيب على أنك إنما أخذته بهذه التهمة التي قد تحدث بها الناس. فإذا كانت الواقعة هكذا فهي معقولة فقد يقع مثلها لأفضل الناس ويخبر بوقوعها له أعقل الناس وأحزمهم إذا كان يعلم أن معرفتهم بحاله تحجزهم عن أن يتخرصوا منها ما يكره، ويحكى وقوعها لأستاذه أبر الناس وأوفاهم، ولكن ابن طاهر لما سمعها اصطبغت في فهمه ثم في حفظه ثم في عبارته بميله وهواه ورأيه الذي ألف فيه ويؤيد هذا أن الرميلي لما حكى القصة سمى ذاك الفتى ولم ير في ذكر اسمه غضاضة عليه فلما حكاها ابن طاهر لم يسمه بل قال: «قد سماه مكي وأنا نكبت عن ذكره» لأن لونها عند ابن طاهر غير لونها عند مكي ولم يحتج ابن طاهر إلى تسميته كما احتاج إلى ذكر وقوع القصة للخطيب لتكون شاهداً لابن طاهر على ما يميل إليه كما استشهد بما حكاه عن ابن معين من قصة الجارية. فتدبر ما تقدم ثم استمع لسبط ابن الجوزي وتصرفه. قال الذهبي في (الميزان) : «يوسف بن فرغلي الواعظ المؤرخ شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي روى عن جده وطائفة، وألف (مرآة الزمان) فتراه يأتي فيه بمناكير الحكايات، وما أظنه بثقة فيما ينقله بل يجنف ويجازف، ثم أنه ترفض وله في ذلك مؤلف ... قال الشيخ محي الدين ... لما بلغ جدي موت سبط ابن الجوزي قال لا رحمه الله كان رافضيا. قلت كان بارعاً في الوعظ ومدرساً للحنفية» .

شيء من ترجمة الملك عيسى بن أبي أيوب

أقول قد تقدم أنه كان حنبلياً ثم تحنف في الصورة الظاهرة على ما قاله مذيل مرآته لأجل الحظوة عند الملك عيسى بن أبي بكر بن أيوب يلقيه الكوثري «عالم الملوك الملك المعظم» فإن هذا الملك كان أهله شافعية فتحنف وتعصب، قال فيه الملا علي القاري الحنفي، كما في (الفوائد البهية في مناقب الحنفية) ص 152: «كان متغالياً في التعصب لمذهب أبي حنيفة قال له والده يوماً كيف اخترت مذهب أبي حنيفة وأهلك كلهم شافعية؟ فقال أترغبون عن أن يكون فيكم رجل واحد مسلم» ! وهذا الملك قد أثنى عليه خليله السبط في (المرآة) ومع ذلك ذكره في مواضع متفرقة بفظائع، وقد سبق له ذكر في ترجمة أحمد بن الحسن بن خيرون وذكرت المانع من تتبع هفواته. فأما السبط فقد مر عن الذهبي ما علمت ومن طالع (المرآة) علم صدق الذهبي فيما يتعلق بالحكايات المنكرة والمجازفات ولا سيما فيما فيه مدح لنفسه، ويظهر من (المرآة) ما يرافق قول صاحب (الذيل عليها) أنه إنما تحنف في الصورة الظاهرة، وكذلك لا يظهر منها أنه رافضي فكأنه إنما ألف كتابه في الترفض تقرباً إلى بعض الرافضة من أصحاب الدنيا. فهذا المجازف اتصل بالملك عيسى وقد عرفت بعض حاله في التعصب فتحنف السبط إرضاء له، وألف كل منهما رداً على الخطيب كما مر في ترجمة أحمد بن الحسن ابن خيرون، وحاول السبط التقرب إلى عيسى بذم الخطيب وذكر حكاية ابن طاهر فزاد فيها، قال الأستاذ ص12 «قال سبط ابن الجوزي في (مرآة الزمان) : قال محمد بن طاهر المقدسي: لما هرب الخطيب من بغداد عند دخول البساسيري إليها قدم دمشق فصحبه حدث صبيح الوجه كان يختلف إليه، فتكلم الناس فيه وأكثروا حتى بلغ والي المدينة وكان من قبل المصريين شيعياً، فأمر صاحب الشرطة بالقبض على الخطيب وقتله وكان صاحب الشرطة سنياً فهجم عليه فرأى الصبي عنده وهما في خلوة فقال للخطيب قد أمر الوالي بقتلك وقد رحمتك ... فأخرجوه فمضى إلى صور واشتد غرامه بذلك الصبي، فقال

شيء من ترجمة ابن كادش

فيه الأشعار فمن شعره ... » . فيقال لهذا الجانف المجازف توفي ابن طاهر قبل أن يولد جدك فمن أين لك هذه الحكاية عنه على هذا اللون؟ قد حكاها غيرك عن ابن طاهر حتى ياقوت مع شدة غرامه بالحكايات الفاجرة حتى في ترجمة الكسائي فلم يذكروا ما ذكرت، بل نقلها خليلك الملك عيسى في رده على الخطيب ص 277 من خط ابن طاهر كما قال ولم يذكر هذه الزيادة ولا ما يشير إليها. استنفدت هذه من ترجمة الخطيب للدكتور يوسف العش، وكانت القصة وابن طاهر في سن تسع سنين، ولم يكن بدمشق فمن سمع الحكاية؟ لم يسمعها على هذا الوجه من مكي الرميلي فإنه حكى ما سمعه من مكي علي غير هذا، وقد تقدم حال مكي بما يعلم أنه يمتنع أن يحكيها على هذا الوجه أو ما يقرب منه، مع أن مكياً لم يشهد القصة فممن سمعها؟ وفي أقل من هذا ما يتضح به نكارة القصة على هذا الوجه وبطلانها، ولو كان السبط ثقة لاتجه الحمل على ابن طاهر وتثبيت مجازفته لكن حال السبط كما علمت وقد حكاها غيره عن ابن طاهر على وجه يغتفر في الجملة فالحمل على السبط. أما الأشعار المنسوبة إلى الخطيب فلا أدري ما يصح منها وما وجد منها بخطه قد يكون لغيره وما عسى أن يكون له فذاك على عادة العلماء الذين أخذوا بحظ من الأدب يقول أحدهم الأبيات على طراز ما عرف من شعراء زمانه كما ينقل عن ابن سريج وغيره، وما في (معجم الأدباء) عن أبي العز ابن كادش لا يعبأ به، ترجمة ابن كادش في (لسان الميزان) ج1 ص218 وفيها عن ابن النجار «كان مخلطاً كذاباً لا يحتج بمثله» وتكلم فيه ابن ناصر وغيره. وذكر ابن عساكر أن ابن كادش أخبره أنه وضع حديثاً في فضل أبي بكر وتبجح بذلك قائلا «بالله أليس فعلت جيداً؟» ! فقد اتضح بحمد الله عز وجل سلامة الخطيب في عقيدته ونزاهته في سيرته وأن ما ظن غمزا في سيرته مع وضوح أنه ليس مما يعتد به شرعاً ليس مما يسوغ احتماله

شيء من ترجمة الحسن بن زياد اللؤلؤي

تخرصاً بل تقضي القرائن وشواهد الأحوال وقضايا العادات ببطلانه. ومن المضحك المبكي صنيع الأستاذ الكوثري يقول ص 10 في الخطيب «على سوء سلوك ينسب إليه ويجعله في عداد أمثال أبي نواس في هجر القول وسوء الفعل» ويقول ص 51 «إذاً فماذا يكون حاله حينما اقترف ذلك الذنب في دمشق» ويورد عن سبط ابن الجوزي القصة محتجا بها وفي مقابل ذلك يري كلام الأئمة في الحسن بن زياد اللؤلؤي الذي كذبه ابن معين وابن نمير وأبو داود وأبو ثور ويعقوب بن سفيان وغيرهم وقال صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة «ليس بشيء. لا هو محمود عند أصحابنا ولا عند أصحابهم يتهم بداء سوء وليس في الحديث بشيء» وفي (لسان الميزان) ج 2 ص 209 «قال أبو داود عن الحسن بن علي الحلواني رأيت اللؤلؤي قبل غلاما وهو ساجد، ... وقال أحمد بن سليمان الرهاوي «رأيته يوماً في الصلاة وغلام أمرد إلى جانبه في الصف فلما سجد مدَّ يده إلى خد الغلام فقرصه» وصالح والحلواني والرهاوي كلهم من الحفاظ الثقات الأثبات فيضج الأستاذ من هذا ويعج ويقول ص 188 «والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار استهانتهم بأمر القذف الشنيع هكذا فيما لا يتصور قيام الحجة فيه مع علمهم بحكم الله في القذفة ولا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل» يقول هذا ثم يرمي الخطيب بما رماه ويصرح أو يكاد مع أن القصة ولوكما حكاها سبط ابن الجوزي ليس فيها ما هو ظاهر في التقبيل فضلاً عن غيره ومع علمه بحال سبط ابن الجوزي وحال ابن طاهر وأن السبط لم يدرك ابن طاهر ولم يذكر سنده إليه وأن ابن طاهر لم يدرك القصة ولا ذكر في رواية السبط من أخبره بها وأن الرميلي الذي ذكر ابن طاهر القصة عنه على الوجه المذكور في (تذكره الحفاظ) لم يشهد القصة ولم يذكر عمن أخذها ومع طعن الأستاذ في الرميلي إذا قال ص 121 «تجد بينهم من يجعل النبي صلى الله عليه واله وسلم يحضر مجلس إقراء الخطيب لتاريخه ... . ولا يكون منشأ ذلك إلا رقة الدين والنفاق الكمين» !!!

فصل: فيه قول ابن الجوزي في كتب الخطيب من أين استفادها وجواب المصنف عليه

فليتدبر القارئ أيهما أولى بأن يكون قذفا شرعيا أكلمات الأستاذ بانياً على ما ليس بشيء أم قول صالح بن محمد الحافظ المبني على ما سمعه من الناس من اتهامهم اللؤلؤي: «يتهم بداء سوء» وإخبار الحافظين الآخرين بما شاهداه من الؤلؤي في حال سجوده من التقبيل وقرص الخد وأيهما أولى بأن يكون استهانة بأمر القذف الشنيع فيما لا يتصور قيام الحجة فيه مع العلم بحكم الله في القذفة؟! وأيهما أولى وأحق بأن يقال فيه: «لا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل» ؟! وكذلك الرميلي الحافظ الفاضل ليس بترتيب على صدقه فيما حكى ما تقوم به حجة شرعية على أن تاريخ الخطيب كله حق، فأي حجة أو شبهة تبعد أن يكون صادقاً فيما حكى؟ فمن الأولى برقة الدين والنفاق الكمين؟! فصل قال ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 266 بعد أن عدد جملة من مصنفات الخطيب «فهذا الذي ظهر لنا من مصنفاته ومن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيأ له مما لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره وقد روي لنا عن أبي الحسن ابن الطيوري أنه قال أكثر كتب الخطيب مستفادة من كتب الصوري ابتدأ بها» قال ابن الجوزي «وقد يضع الإنسان طريقا فيسلك، وما قصر الخطيب على كل حال» . أقول: لم يسم ابن الجوزي من حكى له ذاك القول عن ابن الطيوري، وابن الطيوري هذا هو المبارك عبد الجبار وثقه جماعة وكذبه المؤتمن الساجي الحافظ، والصوري هو محمد بن عبد الله الساحلي ترجمته في (التذكرة) ج 3 ص 293 وفيها أن مولده سنة ست أو سبع بعد السبعين وثلاثمائة ووفاته سنة 441 فهو أكبر من الخطيب بنحو خمس عشرة سنة، ومع حفظه ففي (التذكرة) ج3 ص 298 في ترجمة أبي نصر السجزي المتوفى سنة 444 «قال ابن طاهر سألت الحافظ أبا إسحاق الحبال عن أبي نصر السجزي والصوري أيهما أحفظ؟ فقال:

كان السجزي أحفظ من خمسين مثل الصوري» وفي (التذكرة) ج 1 ص 314: «قال ابن ماكولا كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظاً واتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفنناً في علله وأسانيده وعلماً بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه، ثم قال: ولَم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله، وسألت الصوري عن الخطيب وأبي نصر السجزي ففضل الخطيب تفضيلاً بيناً» وقد علمت أن الصوري توفي سنة 441 أي قبل وفاة الخطيب باثنتين وعشرين سنة، ووفاة السجزي سنة 444 وابن طاهر لقي الحبال سنة 470 كما في (التذكرة) ج 3 ص 363 فتفضيل الحبال بين السجزي والصوري كان بعد موتهما فهو بحسب ما انتهى إليه أمرهما ن وأما تفضيل الصوري بين الخطيب والسجزي ففي حياتهما لكن أحدهما وهو السجزي كان في أواخر عمره والآخر وهو الخطيب في وسط عمره لأن الصوري مات سنة 441 كما مر فالسؤال منه وجوابه يكون قبل ذلك فإذا فرضنا أنه قبل ذلك بشهر مثلاً حيث كان سن السائل وهو ابن ماكولا نحو عشرين سنة فإن مولده سنة 422 كان قبل وفاة السجزي بنحو ثلاث سنين وقبل وفاة الخطيب بنحو اثنين وعشرين سنة، فيخرج مما تقدم أن الخطيب باعتراف الصوري كان قبل موته باثنتين وعشرين سنة بحيث يفضل تفضيلاً بيناً على من هو بحكم الحبال أحفظ من خمسين مثل الصوري فما عسى أن يكون بلغ بعد ذلك؟ وإذا كانت النسبة بينهما هي هذه فما معنى ما حكى عن ابن الطيوري؟ هل معناه أن الصوري ابتدأ في أكثر الكتب التي تنسب إلى الخطيب ولم يتم شيئاً منها؟ يقول ابن السمعاني أن مؤلفات الخطيب ستة وخمسون مصنفاً فهل ابتدأ الصوري في عمل ثلاثين مصنفاً أو نحوها ولم يتم شيئا منها؟ فإن كان أتم شيئاً شيئاً منها أو قارب أو على الأقل كتب منه كراسة مثلاً فقد كان ابن الطيوري من أخص الناس بالصوري كما يؤخذ من (لسان الميزان) ج5 ص10 أفلم يكن عنده شيء من ابتداءات الصوري فيبرز للناس تصديقاً لقوله؟ ولعل أصل الحكاية على ما يؤخذ من (معجم الأدباء) أن الكتب التي كانت ملك الصوري صار جملة منها بعد موته إلى الخطيب فاستفاد منها

فصل: فيه قول ابن الجوزي تعصب في كتبه على الحنابلة والرد عليه

الخطيب، لكن قد علمنا أن الخطيب لا يكاد يورد شيئاً إلا بأسانيده المعروفة، ومن تدبر مؤلفاته علم أنها من مشكاة واحدة أوائلها وأواخرها. هذا وفي رواية عن ابن الطيوري أن الصوري كان ترك كتبه عند أخت له بصور. وأن الخطيب أخذها عند خروجه إلى الشام (كأنه يعني عند دخوله صور وذلك بعد إقامته بدمشق) واحتج الدكتور بهذا على بطلان زعم ابن الطيوري من أصله لأن أكثر كتب الخطيب ثبت تأليفه لها قبل خروجه إلى الشام - وذكر دليل ذلك - وبأن الصوري إمام ببغداد نيفاً وعشرين سنة وبها مات فكيف يعقل أن لا يطلب كتباً تركها عند أخته؟! فصل قال ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 267 بعد أن ذكر ميل الحنابلة على الخطيب حتى انتقل عن مذهبهم ما لفظه «وتعصب في تصانيفه عليهم فرمز إلى ذمهم وصرح بقدر ما أمكنه فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: «سيد المحدثين» ، وفي ترجمة الشافعي: «تاج الفقهاء» فلم يذكر أحمد بالفقه. وقال في ترجمة حسين الكرابيسي أنه قال عن أحمد: أي شيء نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق، قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق، قال: بدعة، وله دسائس في ذمهم من ذلك أنه ذكر مهنأ بن يحيى ... ومال الخطيب على أبي الحسن «عبد العزيز بن الحارث» التميمي ... ومال الخطيب على أبي «عبد الله» عبيد الله بن «محمد بن» بطة ... ومال الخطيب على أبي علي «الحسن ابن علي» ابن المذهب. وكان في الخطيب شيئان: أحدهما الجري على عادة عوام المحدثين في الجرح والتعديل فإنهم يجرحون بما ليس بجرح، وذلك لقلة فهمهم، والثاني التعصب على مذهب أحمد وأصحابه ... » . أقول: رحمك الله يا أبا الفرج! لا أدري أجاوزت الحد في غبطة الخطيب على مصنفاته التي أنت عيال عليها كما يظهر من مقابلة كتبك بكتبه، فدعتك نفسك إلى

التشعيث منه والتجني عليه؟ أم أردت التقرب إلى أصحابك الذين دخل في قلوبهم من يومك المشهود الذي لم ير مثله غم عظيم؟ أم كنت أنت المتصف بما ترمي به المحدثين من قلة الفهم؟ أما ما قاله الخطيب في ترجمتي أحمد والشافعي فلفظه في المطبوع ج 4 ص 412 في ترجمة أحمد « ... إمام المحدثين الناصر للدين والمناضل عن السنة والصابر في المحنة ... » وفي آخر الترجمة ج 4 ص 423 «قد ذكرنا مناقب أبي عبد الله أحمد بن حنبل مستقصاة في كتاب أفردناه لها فلذالك اقتصرنا في هذا الكتاب على ما أوردنا منها» وعبارته في ترجمة الشافعي ج 2 ص 56 « ... زين الفقهاء وتاج العلماء ... » فعلى هذا للشافعية أن يعاتبوا الخطيب قائلين: لم تذكر الشافعي بالحديث فإن كنت لا تراه محدثاً فقد سلبته أعظم الفضائل ولزم من ذلك سلبه الفقه والعلم الذي يعتد به، وإن كنت تراه محدثاً فقد جعلت أحمد إماماً له أو سيداً للمحدثين مطلقاً فشمل ذلك الفقهاء منهم فلزم أن يكون إمام الفقهاء أو سيدهم مطلقاً، ومع ذلك لم تذكر الشافعي بنصرة الدين ولا النضال عن السنة، فأما قولك «زين الفقهاء وتاج العلماء» فلا يدفع ما تقدم لأن المتزين أفضل من الزينة، ولا بس أفضل من التاج. والصواب أن المناقشة في مثل هذا ليست من دأب المحصلين وإنما الحاصل أن المترجم يتحرى في صدر الترجمة أشهر الصفات فأحمد لتبحره الحديث وتجرده لنصر السنة كان أشهر بذلك منه بالفقه، والشافعي لتجرده للفقه كان أشهر به. وأما قضية الكرابيسي فإن الخطيب روى بسنده في ترجمته ص 8 ص 64 عن يحيى بن معين أنه «قيل له أن حسينا الكرابيسي يتكلم في أحمد بن حنبل، قال ما أحوجه أن يضرب» وروي عن يحيى أيضا أنه قال «ومن حسين الكرابيسي لعنه الله ... » ثم ذكر القصة التي فيها تلك الكلمة ثم ذكر روايات عن أحمد في تبديع الكرابيسي والتحذير منه ثم ذكر قصة فيها غض الكرابيسي من فضل أمير المؤمنين

فصل: فيه انتقاد ابن الجوزي على الخطيب ذكره أحاديث في الجهر بالبسملة لا تصح وكذا في القنوت

علي بن أبي طالب، وأن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكذب الكرابيسي. فالخطيب ذكر تلك الكلمة لفائدتين. الأولى: تفسير ما تقدم أجماله من أن الكرابيسي كان يتكلم في أحمد، ليتبين أنه كلام فارغ. الثانية: زيادة التشنيع على الكرابيسي فمن توهم أن الخطيب حاول انتقاص أحمد فهو كمن يتوهم أن ذكره القصة التي فيها غض الكرابيسي من فضل علي بن أبي طالب، محاولة من الخطيب لانتقاص علي! وابن الجوزي يرمي الخطيب وعامة المحدثين بقلة الفهم وهذه حاله! وأما ما زعمه ابن الجوزي من ميل الخطيب على مهنأ والجماعة الذين سماهم فقد أفردت لكل منهم ترجمة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى وتتضح براءة الخطيب مما تخيله ابن الجوزي. وقد وثق الخطيب جمعاً كثيراً بل جمعاً غفيراً من الحنابلة وأطاب الثناء عليهم. فإن ساغ أن يرمى بالتعصب على الحنابلة لذكره القدح في أفراد منهم فليسغ رميه بالتعصب لهم لتوثيقه أضعاف أضعاف أولئك، وليسغ رميه بالتعصب على الشافعية لذكره القدح في كثير منهم وقد من قريباً ما ذكره في الكرابيسي وهكذا حال بقية المذاهب فهل يسوغ أن يقال إن الخطيب كان يتعصب لأهل مذهب وعليهم؟ فإن قيل بل ينظر في كلامه ن قلت فستراه في التراجم. فصل قال ابن الجوزي: «وقد ذكر في (كتاب الجهر) أحاديث يعلم أنها لا تصح، وفي (كتاب القنوت) أيضاً، وذكر مسألة صوم في يوم الغيم حديثاً يدري أنه موضوع، فاحتج به ولم يذكر عليه شيئاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من روى حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (1) . وذكر

_ (1) أخرجه مسلم في مقدمة (صحيحه) ن.

الكوثري في (التأنيب) ص10 عبارات أخرى لابن الجوزي تشتمل على زيادة فذكر مما أخرجه الخطيب في (كتاب الجهر بالبسملة) «مثل حديث عبد الله بن زياد بن سمعان وقد أجمعوا على ترك حديثه، قال مالك: كان كذاباً، ومثل حديث حفص بن سليمان (1) ، قال أحمد: هو متروك الحديث» ومما يتعلق بـ (كتاب القنوت) : «ما أخرجه عن دينار بن عبد الله عن أنس قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى مات، قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاجه به وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين، لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس آثاراً موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيه» . أقول: الجواب من أوجه: الأول: أن الخطيب إن كان قصد بجمع تلك الرسائل جمع ما ورد في الباب فلا احتجاج وإن كان قصد الاحتجاج فبمجموع ما أورده، بكل حديث على حدة. الثاني: أننا عرفنا من ابن الجوزي تسرعه في الحكم بالوضع والبطلان وترى إنكار أهل العلم عليه في كتب المصطلح في بحث «الموضوع» . الثالث: أن من جمة ما أورده في «الموضوعات» وحدها أكثر من ثلاثين حديثاً رواها الإمام أحمد في (مسنده) ولعله أورد في (الأحاديث الواهية) أضعاف ذلك، فيقال له: إن كنت ترى أنه خفي على الإمام أحمد ما علمته من كون تلك الأحاديث موضوعة أو باطلة فما نراك أحسنة الثناء عليه، وعلى ذلك فالخطيب

_ (1) هو أبو عمر البزاز الأسدي الكوفي القارئ، وهو متروك الحديث كما يأتي في التعليق. ن.

تحقيق أن عبد الله بن سمعان لا يستشهد به خلافا للمصنف (تعليق)

أولى أن يخفى عليه، وإن كنت ترى أن الإمام أحمد علم أنها موضوعة أو باطلة ومع ذلك أثبتها في (مسنده) ولم ينبه عليها فكفى به أسوة الخطيب. الرابع: لا يلزم من زعم ابن الجوزي أن الحديث موضوع باطل أن يكون الخطيب يرى مثل رأيه. الخامس: قد يجوز أن يكون الحديث موضوعاً أو باطلاً ولم ينتبه الخطيب لذلك. السادس: إذا روي الحديث بسند ساقط لكنه قد روي بسند آخر حسن أو صالح أو ضعيف ضعفاً لا يقتضي الحكم ببطلان المتن مطلقاً، ولا يدخل من رواه بالإسنادين معاً في حديث «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» لأنه لا يرى الحديث نفسه كذباً، وقد يتوسع في هذا فيلحق به ما إذا كان المتن المروي بالسند الساقط ولم يرو بسند أقوى لكن قد روي معناه بسند أقوى، ويقوي هذا أن المفسدة إنما تعظم في نسبة الحكم إلى النبي صلى الله عيه وآله وسلم مع ظن أنه كذب لا في نسبة اللفظ وشاهد هذا جواز الرواية بالمعنى. الأمر السابع: قوله في عبد الله بن زياد بن سمعان: «أجمعوا على ترك حديثه» فيه نظر فقد أكثر عنه ابن وهب ووثقه على ما في (مختصر كتاب العلم لابن عبد البر) ص199، ومجموع كلامهم فيه يدل أنه صدوق في الأصل فلا بأس بإيراد حديثه في المتابعات والشواهد (1) .

_ (1) قلت: بل الصواب فيه أنه ضعيف جداً، لا يصلح للاستشهاد به، كما يشير إلى ذلك قول الذهبي في (الميزان) : «تركوه ... قال خ: سكتوا عنه ... وقال أحمد: إبراهيم بن سعد يحلف أن ابن سمعان يكذب. وروى ابن القاسم عن مالك: كذاب» . وكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كذاب فهذا جرح مفسر، فتوثيق ابن وهب إياه إن ثبت عنه، غير مقبول، كما يقتضيه علم المصطلح، وبينه المصنف رحمه الله في بحث (2- التهمة بالكذب) (ص 36 - 42) . ن.

تحقيق أن حفص بن سليمان القاري متروك الحديث

وأما حفص فروى عبد الله حنبل عن أحمد «متروك الحديث» وروى عبد الله أيضاً عن أبيه: «صالح» ، وروى حنبل عن أحمد أيضاً «ما به بأس» فيأتي في حديثه نحو ما مرَّ (1) ، وإنما ذكر الخطيب رواية هذين مع عدة روايات عن غيرهما، والروايات في ذلك معروفة تراها في (سنن الدراقطني) و (سنن البيهقي) وغيرهما، وفي ذلك آثار عن الصحابة منها صحيح فما دونه. وحديث أنس النافي للهجر قد أعل بعدة علل كما ترى ذلك في بحث المعلل من) تدريب الراوي) (2) وجمع الشيخ تقي الدين ابن تيمية بأن الأصل عدم الجهر ولكن

_ (1) قلت: بل يقال ما سبق آنفاً في ابن سمعان، فقد اتفقوا على تضعيفه أيضاً بل كذبه ابن معين في رواية وابن خراش، ولم يذكروا توثيقه إلا عن وكيع، وإلا ما ذكره المصنف عن أحمد من الروايتين عنه. ومثل هذا التوثيق مما لا يلتفت إليه بعد اتفاق الجمهور على تجريحه وتكذيب بعضهم له على أنه يمكن جمل التوثيق المذكور على راو آخر اسمه حفص بن سليمان أيضاً كما نبه على ذلك المصنف في (كيف البحث عن أحوال الرواة) ، ويؤيده أن ابن شاهين حمل قول أحمد «صالح» على حفص بن سليمان المنقري التميمي البصري، كما في (التهذيب) ولكي لا يشتبه هذا بالأول قال ابن حبان «وليس هذا بحفص بن سليمان البزار أبي عمر القاري، ذاك ضعيف. وهذا ثبت» . ن. (2) قلت: إنما أعلّ حديث أنس من جهة ما جاء في بعض طرقه من الألفاظ التي تدل بظاهرها على نفي قراءة البسملة أصلاً، وهو ما رواه عن مسلم عن قتادة عنه: «صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله رب العالمين) لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا في ألفاضه الأخرى التي اتفقت على إثبات قراءتها، وفي بعضها سراً. فليس معلولاً. هذا هو الذي انصب عليه كلام الحافظ السيوطي في الكتاب المذكور: (التدريب) ، فراجعه متأملاً، على أن قوله. «يذكرون» يمكن تأويله بنفي ذكرها جهراً كما كانوا يجهرون بالفاتحة، فلا ينافي حينئذ الألفاظ الأخرى، فعلى هذا فليس الحديث معلا أصلاً، وهو حجة في إثبات قراءتها سراً، وهو الذي اعتمده الحافظ في (الفتح) فارجع إليه فإنه مهم. ن.

تحقيق أن أحاديث الجهر على قسمين

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما جهر ليعلم أصحابه وكذلك أصحابه كان أحدهم ربما جهر ليعلم من يسمعه، وفي (الصحيح) عن أبي قتادة «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة يسمعنا الآية أحياناً» وللنسائي عن البراء « ... فنسمع منه الآية بعد الآية ... » ولابن خزيمة عن أنس نحوه كما في (فتح الباري) فإسماعه إياهم البسملة في الجهرية آكد لأنه إذا أسرّ بها وجهر بما بعدها توهموا أنه تركها البتة. فمن لم يقع له هذا الجمع أو لم يقو عنده وقوي عنده ما ورد في الجهر فأخذ به مطلقاً كالشافعي فلا لوم عليه، ومن احتج من أتباعه بما ورد في الجهر بالأسانيد القوية وألحق بها م يوافقها مما في سنده نحو ابن سمعان وحفص بن سليمان فلا حرج عليه (1) .

_ (1) قلت: قد علمت من التعليق السابق رقم (1) ، والذي قبله أن المذكورين واهيان جداً، لا يستشهد بهما، وما أفاده المصنف رحمه الله من ورود الجهر بالأسانيد القوية فيه نظر عندي، لأن البحث الدقيق في أحاديث الجهر قد دلَّ على أنها تنقسم إلى قسمين: الأول: صريح في الجهر، ولكن ليس فيها ما يصح إسناده أصلاً، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموعة الفتاوى) (1/76 - 77 طبع كردي) اتفاق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس بالجهر بها حديث صريح، وإنما يوجد الجهر بها في أحاديث موضوعة ... يرويها من جمع هذا الباب كالدارقطني والخطيب وغيرهما، فإنهما جمعوا ما روي، وإذا سئلوا عن صحتها قالوا بموجب علمهم، كما قال الدارقطني لما دخل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر؟ فجمعها، فقيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، وأما الصحابة، فمنه صحيح منه ضعيف. وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك فذكر حديث معاوية لما صلى بالمدينة، وذكر الخطيب أنه أقوى ما يحتج به، وليس بحجة كما يأتي بيانه.» ثم أطال في بيان ضعف إسناده من وجوه فراجعها فيه. والقسم الآخر: أحاديث غير صريحة في الجهر، وأصح ما ورد فيه كما قال الحافظ في «الفتح» حديث أبي هريرة من رواية نعيم المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) ثم بأم القرآن ... ويقول: إني لأشبهكم صلاة برسول الله =

نص مطلع رسالة ترك الجهر بالبسملة

وأما حديث «ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في الصبح حتى مات» فقد ورد من وجهين آخرين أو أكثر عن أنس، صحح بعض الحفاظ بعضها (1) وجاء نحو معناه من وجوه أخرى راجع، «سنن الدارقطني» و «سنن

_ = صلى الله عيه وسلم» . فهذا كما ترى ليس فيه ذكر الجهر، وقوله: «فقرأ» يحتمل أن يكون قرأها سراً، ويكون نعيم علم بذلك بقربه منه، فإن قراءة السر إذا قويت يسمعها من يلي القارئ كما قال ابن تيمية. والخلاصة أنه لم يصح في الجهر بالبسملة في الصلاة ما تقوم به الحجة في الحديث والتفصيل لا يتسع له هذا المكان فليراجع من شاء (نصب الراية) 1/335 - 336، بلى قد صح الإسرار بها من حديث أنس كما سبقت لإشارة إلى ذلك في التعليق السابق. وللحافظ محمد بن طاهر المقدسي رسالة جيدة في هذه المسألة اختار فيها لإسرار قال في مطلعها: «أما بعد، فإن سائلاً سألني عن السبب الموجب لترك الجهر بقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول الفاتحة ... بعد أن كنت أجهر بها؟ فكان الجواب: إنني لما نشأت، كنت على مذهب أخذته تقليداً، إذ الصبي يكون مذهبه قبل التمييز مذهب أبويه وأهل بلده، فكنت على ذلك حيناً أعتقد صحته، جهلاً مني بطرق الأحاديث التي هي المرقاة المتوصل بها إلى معرفة ذلك، فلما رزقني الله تعالى من العلوم أجلها وأنفعها عاجلاً وآجلاً، دعاني ذلك إلى تناول الصحيح مما نقل عن صاحب الشريعة وترك ما سواه، وذلك أني تتبعت هذه المسألة وأحاديثها لفريقين فلم أجد في الجهر بها في الصلاة حديثاً صحيحاً يعتمد عليه أهل النقد ... » . (1) يشير المصنف رحمه الله تعالى إلى الحاكم فهو الذي صحح الحديث من غير طريق دينار، وتعقبه ابن القيم وابن حجر وغيرهما بأن فيه أبا جعفر الرازي وهو ضعيف سيئ الحفظ، وأما الوجوه الأخرى التي أشار إليها المصنف، فهي واهية جداً لا تصلح للاستشهاد بها على أن بعضها ليس فيها ذكر القنوت في الصبح والمداومة عليها فليست شاهداً تاماً لو ثبت، وتفصيل هذا في كتابنا «سلسلة الأحاديث الضعيفة» رقم (1238) .

فصل: فيه ذكر مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في أي الإمامين أعلم بكتاب الله

البيهقي» وبمجموع ذلك يقوى الحديث. وقد جمع ابن القيم بينه وبين ما جاء في ترك القنوت، فإذا أخرج الخطيب الحديث من تلك الأوجه القوية ثم ألحق بها رواية دينار لم يلزمه أن يبين في ذاك الموضع حال دينار لما مرَّ في الوجه السادس على أنه قد بيّن الخطيب في موضع آخر حال دينار وبينه وغيره واشتهر ذلك، وقد بين الأئمة كالثوري وابن المبارك وغيرهما حال الكلبي ثم كانوا يروون عنه ما لا يرونه كذباً ولا يذكرون حاله. وأما النهي عن صوم يوم الشك فلم أعثر عليه (1) غير أن الأدلة على ذلك معروفة في (الصحيحين) وغيرهما وعن الإمام أحمد في صوم يوم الشك إذا كان غيم رواية أنه لا يصام واختاره بعض المحققين من أصحابه فعند الخطيب أن الحكم ثابت بأحاديث صحيحة وبقية الكلام يعلم مما مرّ. وأما قول ابن الجوزي «وقاحة عظيمة وعصبية بارد وقلة دين» فابن الجوزي أحوج إلى أن يجيب عنها! غفر الله للجميع. فصل في (تاريخ بغداد) 2/177 «أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: ثنا محمد بن إسماعيل التمار قال: حدثني الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحداً إلا تمعر وجهه ما خلا محمد بن الحسن. أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أنبأنا دعلج بن أحمد قال: أنبأنا أحمد بن علي الأبار قال: حدثني يونس - يعني ابن عبد الأعلى - قال سمعت الشافعي يقول: ناظرت محمد بن الحسن وعليه ثياب رقاق فجعل تنتفخ أوداجه ويصيح حتى لم يبق له

_ (1) قلت: الظاهر أنه حديث «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم» فقد أورده الفتني في (تذكرة الموضوعات) عن (الخلاصة) وقال ص71: «هذا كلام عمار بن ياسر» . وهو ثابت عنه وقد خرجته في (الإرواء) .

زر إلا انقطع قلت: (الصواب: قال) ما كان لصاحبك أن يتكلم ولا كان لصاحبي أن يسكت، قال قلت له: نشدتك بالله هل تعلم أن صاحبي كان عالماً بكتاب الله؟ قال: نعم، قال قلت: فهل كان عالماً بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم، قال قلت: أفما كان عاقلاً؟ قال: نعم، قلت: فهل كان صاحبك جاهلاً بكتاب الله؟ قال: نعم، قلت: وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم، قلت: وكان عاقلاً؟ قال: نعم، قال: قلت: صاحبي فيه ثلاث خصال لا يستقيم لأحد أن يكون قاضياً إلا بهن، - أو كلاماً هذا معناه» قال الأستاذ ص180 في جملة الكلام على الحكاية الثانية في شأن تغير محمد بن الحسن: «هذا خلاف ما صح عنه في () انتقاء ابن عبد البر ص24 وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق أنه لم ير من لا يتغير عند المناظرة سواه» . أقول: الذي في «الانتقاء» في تلك الصفحة «حدثنا خلف بن قاسم قال نا الحسن ابن رشيق قال نا محمد بن الربيع بن سليمان ومحمد بن سفيان بن سعيد قالا نا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يوماً، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدور وتنقطع أزراره فكان فيما قلت له يومئذ: نشدتك الله هل تعلم أن صاحبنا - يعني مالكاً - كان عالماً بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم، قلت: وعالماً باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: اللهم نعم» فالاختلاف بين الروايتين بالنسبة إلى تغير محمد اختلاف يسير لا تكاد تخلوا عن مثله حكاية تروى من وجهين مختلفين. أما قول الأستاذ «وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق ... » فقد قدم الخطيب روايته في ذلك وفي سندها محمد بن إسماعيل التمار قال الأستاذ إنه غير موثق كما يأتي في ترجمته، ولا منافاة، بل معنى قوله «ما ناظرت أحداً إلا تمعر وجهه» على العموم فيعم كل مناظر في كل مناظرة فلا ينافي ذلك أنه تغير في مناظرة واحدة مثلاً.

نص الرواية الصحيحة في المناظرة المتقدمة والتي فاتت الكوثري

ثم ذكر الأستاذ بقية القصة ثم قال «لا أدري متى كان أبو حنيفة أو مالك قاضياً ... » . أقول هذا هين فإن من لازم أهلية القضاء أهلية الاجتهاد، ثم قال: «وتلك العبارة لم ترد في رواية من الروايات أصلاً بل هذه تغير من الخطيب حتماً وقد زاد في الآخر «أو كلاماً هذا معناه» ليتمكن من التملص من تبعة هذا التحريف الشنيع حينما يهتك ستر وجهه بأن قيل له استقصينا طرق تلك الحكاية من طريق يونس ابن عبد الأعلى وغيره استقصاء لا مزيد عليه فلم نجد تلك العبارة في شيء منها فتكون أنت غيرت وبدلت، فيجيب الخطيب قائلاً: ما ادعيت أن ما سبق ذكره هو نص عبارة الرواية بل هذا معناه، وكفى أن نقول لمثل هذا المحرف المنحرف أفليس في روايتك: ما كان لصاحبك أن يتكلم ولا كان لصاحبي أن يسكت، فكيف تتصور أن يوجب محمد ابن الحسن الكلام والإفتاء على من هو جاهل بكتاب الله وسنة رسوله ويحرم ذلك على العالم بهما، فيكون مع الخبر ما يبطله على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن ... عَلِمَ عِلْمَ اليقين منزلة صاحبه عنده من معرفة الكتاب والسنة. أقول قولك: «لم ترد في رواية من الروايات أصلاً» إن أردت الإطلاق فهذه مجازفة، فإن كثيراً من كتب الحديث فضلاً عن كتب الحكايات منها ما قد فقد ومنها ما ليس في متناول الأيدي، وحسبك أنك ادعيت الاستقصاء الذي لا مزيد عليه ومع ذلك فاتك في كلامك أثبت الطرق، وهي رواية ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم وهي في موضعين من كتاب (تقدمة الجرح والتعديل) الذي نقلت عنه في غير موضع منها ما مرّ في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث، وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة مالك التنبيه عليها وهو في متناول يدك كل وقت وفي لفظ ابن أبي حاتم: «حدثنا محمد بن عبد الله بن الحكم قال سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالك بن

أنس، قلت على الإنصاف؟ قال نعم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبن أو صاحبكم؟ قال قال: صاحبكم، يعني مالك، قلت فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتقدمين صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قال الشافعي فقلت: لم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على واحد من هذه الأشياء فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شيء يقيس؟ فاتت الأستاذ مع زعمه أنه استقصى استقصاء لا مزيد عليه - هذه الرواية مع أن في ترجمة مالك من (تهذيب التهذيب) : «وقال ابن أبي حاتم ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول ... » نعم نقل الأستاذ متن هذه الرواية عن كتاب لم تستند فيه ولا أشير إلى إسنادها فقال: «ولفظ ابن أبي إسحاق الشيرازي في (طبقات الفقهاء) ص 42 بدون سند قال الشافعي -» وذكر الأستاذ رواية ابن عبد الحكم من وجهين آخرين. الأول: عن ص 23 من (انتقاء عبد البر) من طريق «إبراهيم بن نصر سمعت محمد ابن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم أم صاحبكم؟ - يعني أبا حنيفة ومالكاً - وما كان على صاحبكم أن يتكلم وما كان على صاحبنا أن يسكت، قال: فغضبت وقلت: نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك أو أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام» . الثاني: عن (مناقب أحمد) لابن الجوزي ص 498 من طريق «يحيى بن آدم الجوهري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول: صاحبنا أعلم أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أم

الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف، قلت: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والإجماع والسنة والقياس، قال: قلت: أنشدك أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ قال: إذ أنشدتني بالله فصاحبكم، قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قلت: فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا، قلت: فنحن ندعي القياس أكثر مما تدعونه وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس، قال: ويريد بصاحبه مالك بن أنس» . ثم نقل عن (كتاب ذم الكلام) للهروي رواية أخرى من طريق الربيع عن الشافعي وبين الألفاظ اختلاف كما هو شأن الرواية بالمعنى، ومثل ذلك يكثر في رواية الأحاديث النبوية كما سترى أمثلته في «قسم الفقهيات» من هذا الكتاب، فما بالك بالحكايات؟ وأثبت هذه الروايات وأولاها بأن يكون متنها هو اللفظ الذي قاله الشافعي رواية ابن أبي حاتم لجلالته ولأنه أثبتها في موضعين من كتابه بلا فرق فدل ذلك أنه أثبتها في أصله عند تلقيها من ابن عبد الحكم ثم نقلها بأمانتها إلى كتابه المصنف. فأما بقية الروايات فلم تقيد في كتاب إلا بعد زمان بعد أن تداولها جماعة من الرواة وذلك مظنة بالتصرف على جهة الرواية بالمعنى، نعم رواية الخطيب من طريق الأبار عن يونس مقيدة في مصنف للأبار يرويه الخطيب بذاك السند لكن لم يقم دليل على أن الأبار أثبتها في أصله عند السماع إلا أن رواية ابن عبد البر دلت على ضبط الأبار، وإنما الظاهر أن يونس لم يكتب الحكاية عند سماعها من الشافعي ولم يتقن حفظها فاتسع في روايتها بالمعنى واحتاط. وإيضاح ذلك أن القصة مبنية على المفاضلة، والمفاضلة قد يعبر عنها بالجمع كأن يقال: «أيهما أعلم» وقد يعبر عنها بالتفريق كأن يقال: «وأما كان فلان كذا» ثم يقال في الآخر: «فهل كان فلان كذا» على الوجه الذي يؤدي التفضيل فرواية ابن عبد الحكم من طرقها الثلاث، وكذا رواية الربيع سلكت طريق الجمع «أيهما أعلم» أما يونس فسلك طريق التفريق فوقع في روايته عند الخطيب وابن عبد البر: «هل

تحقيق أن التغيير المشار إليه إنما هو من غير الخطيب

تعلم أن صاحبي - أو صاحبنا - عالم ... » فلزم من هذا بحسب الظاهر أن يقال في المقابل: «فهل كان صاحبك جاهلاً» فجرى الأمر على ذلك كما في رواية الخطيب، وكأن يونس أحس بالخلل في الظاهر فقال في رواية الخطيب «أو كلاماً هذا معناه» فأما في رواية ابن عبد البر فقد يكون الاقتصار من يونس لشعوره بعدم إتقانه للقصة، فكما أنه لأجل ذلك لما حدث الأبار واستوفى القصة، فكما أنه لأجل ذلك لما حدث الأبار واستوفى القصة قال: «أو كلاماً هذا معناه» فكذلك لما حدث الأبار واستوفى القصة قال: «أو كلاماً هذا معناه» فكذلك لما حدث محمد بن الربيع ومحمد بن سفيان اقتصر على أولها وترك ما يتبين به الخلل. وقد يكون - وهو الظاهر - الاقتصار من عبد البر، وذلك لأسباب: الأول: أن بقية الحكاية ليس من مقصوده في الموضع الذي ذكرها فيه. الثاني: أن ذكر بقيتها مناف لمقصوده في الانتقاء من الإجمال والمجاملة. الثالث: أنه شعر أن في بقيتها خللاً بحسب الظاهر. أما قولي بأن الخلل بحسب الظاهر فقط فلأن القرائن تدل أن المقصود بكلمة «جاهل» الجهل النسبي، وفي (فتح المغيث) ص162: «فقد يقولون: فلان ثقة، أو، ضعيف، ولا يريدون أنه ممن يحتج به ولا ممن يرد، إنما ذاك بالنسبة لمن قرن معه ... قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ... فقال: ليس به بأس، قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف. فهذا لم يرد به ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقاً بدليل قوله أنه لا بأس به، وإنما أراد أنه ضعيف بالنسبة لسعيد المقبري. وأما احتمال أن يكون الاقتصار من ابن عبد البر فمثل ذلك جائز عند الجمهور في الحديث النبوي فكيف الحكايات؟ وفي (تدريب الراوي) : «قال البُلْقيني: يجوز حذف زيادة مشكوك فيها بلا خلاف وكان مالك يفعله كثيراً تورعاً» . وأما قولي: إن التغيير من يونس فلوجهين:

الأول: أن رواية ابن عبد الحكم بطرقها الثلاث ورواية الربيع قد دلت أن القصة مطولة، وأن موضوعها المفاضلة بين مالك وأبي حنيفة، ورواية ابن عبد البر من طريق يونس لا تفي بذلك. الثاني أن رواية ابن عبد البر قد وافقت رواية الخطيب في التغيير في ذكر مالك بلفظ «عالم» وذلك من يونس اتفاقاً، وهو مقتض كما تقدم أن يقال في مقابله «جاهل» فبان أن هذا أيضاً من يونس. ولولا رواية ابن عبد البر، لجاز أن يكون التغيير من الأبار بأن يكون لما سمع القصة لم يثبتها في أصله ولم يتقن حفظها، فلما احتاج إلى ذكرها في مصنفة رواها بالمعنى ولما أحس بالخلل بحسب الظاهر قال «أو كلاماً هذا معناه» . فأما احتمال أن يكون التغيير من الخطيب خطأ فباطل لأوجه: الأول: ما تقدم من الدلالة على أن التغيير من فوق. الثاني: أن الخطيب إنما يروي بذلك السند من كتاب معروف للأبار. الثالث: أن الخطيب لم يكن يتساهل في الرواية من حفظه، وفي (تذكرة الحفاظ) : ج4 ص4 «قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلا أحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه» وفي الصفحة التي تليها عن السلفي: «سألت أبا الغنائم النرسي عن الخطيب؟ فقال: جبل لا يسأل عن مثله، ما رأينا مثله، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه» . وفيها ج3 ص318 عن عبد الوارث الشيرازي: «كنا إذا سألنا عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألحنا عليه غضب، كانت له بادرة وحشة» . الرابع: أن الخطيب يعلم عادة المحدثين في تتبع عثرات المحدث مع أنه قد أو غر قلوب كثير منهم فلو تساهل بالرواية من حفظه لما أخذه من مصنف معروف كما صنع الأستاذ ذلك في مواضع معتذراً بما تقدم في ترجمة أحمد بن سلمان، لقالوا له:

هذا كتاب معروف متداول وليس فيه كما ذكرت، إن قال: قد قلت: «أو كلاماً هذا معناه» قالوا: لم تبين أن هذا من عندك، ومع ذلك فعادتك التثبت الزائد حتى إذا سُئلت عن شيء أحلت على الكتاب فكيف يعقل أن تتساهل فيما تثبته في مصنفك. هذا وقد علمنا أن الأئمة وثقوا الخطيب وثبتوه وبالغوا في إطرائه ولم يعثر له المتعنتون على أدنى خلل في الرواية وقد علمت محاولة ابن الجوزي الغض من الخطيب فلم يظفر بشيء من باب الرواية وإنما تعنت في أمور أخر قد مرّ ما فيها، فمحاولة الأستاذ أن ينسب التغيير إلى الخطيب وأنه تعمده تناوش من مكان بعيد. قول الأستاذ «أليس في روايتك. ما كان لصاحبك أن يتكلم.. فكيف تتصور..» . أقول قد يكون هذا من جملة التغيير ويكون الصواب ما في رواية ابن الجوزي من طريق ابن عبد الحكيم «ما كان على صاحبكم أن يتكلم» لكن في رواية الهروي من طريق الربيع «قد رأيت مالكاً وسألته عن أشياء فما كان يحل له أن يفتي» وقد مرّ بيان كلمة «جاهلاً» في رواية الخطيب المراد به الجهل النسبي وحاصله أنه دون مالك في العلم بالكتاب والسنة ومعروف عن أهل الرأي أنهم يؤكدون أمر الرأي والقياس ويقولون من كان عنده من العلم بالكتاب والسنة ما يكفيه وكان جيد النظر في الري والقياس كان عليه أن يفتي ومن كان ضعيف النظر في الرأي والقياس لم يكن له أن يفنى وإن كان أعلم من الأول بالكتاب والسنة. وقد أشار الشافعي في عدة مواضع من كتبه إلى زعم أهل العراق ضعف مالك في القياس ففي (الأم) ج4 ص6: «أرأيت من نسبتم إليه الضعف من أصحابنا وتعطيل النظر وقلتم: إنما يتخرص فيلقى ما جاء بلسانه..» وفيها ج7 ص257 «فسمعت بعض من يفتي منهم يحلف بالله ما كان لفلان أن يفتي لنقص عقله وجهالته وما كان ليحل فلان أن يسكت - آخر من هل العلم» على أن المحاجة والملاحة التي تبلغ بالحليم الوقور أن تنتفخ أوداجه وتنقطع أزراره مظنة للإسراف في القول.

مغمز آخر للكوثري في المناظرة وذكره لها بلفظ معارض لسائر الروايات

قول الأستاذ «على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن ... » . أقول: قد سلف أنه ليس في تلك الرواية ولا غيرها نفي محمد أن يكون لأبي حنيفة علم بالكتاب والسنة، وإنما في الروايات كلها أنه دون مالك في ذلك، فأما العلم بالسنة فيكفي في الشهادة لذلك الموازنة بين ما روى محمد عن أبي حنيفة وما روى عن مالك، وأما العلم بالكتاب فإن كان في كتب محمد ما ينافي اعترافه فالأستاذ أحوج إلى أن يجيب عن هذا جواباً معقولاً، ولقائل أن يقول: إن محمداً لما يضايقه الشافعي وسأله بالله عز وجل وناشده إياه وشرط عليه الإنصاف راجع نفسه فلم يسعه إلا الاعتراف، ولعله جرى في بعض كتبه على الاسترسال في الميل إلى أبي حنيفة، والحق إن شاء الله تعالى أنه ليس في كتب محمد ما هو صريح في منافاة اعترافه. قال الأستاذ «ملازمة الشافعي لمالك إلى وفاته لم ترد إلا في خبر منكر ... والمعروف أنه صحبه إلى أن أتم سماع «الموطأ» منه في نحو ثمانية أشهر، وأما محمد بن الحسن فقد لازم مالكاً ما يزيد على ثلاث سنين فلا يتصور أن يسأل محمد بن الحسن عن الشافعي مبلغ علم أبي حنيفة، ومالك كما وقع في رواية الشيرازي، لأن أبا حنيفة لم يدركه الشافعي حتى يتحاكم في علمه إليه، وكذلك لم يلازم مالكاً أكثر من محمد بن الحسن، فالمفاضلة بين الإمامين بصيغة صاحبنا وصاحبكم هذه غير مستساغة» . أقول الذي وقع في رواية الشيرازي هو الواقع في أثبت الروايات وهي رواية ابن أبي حاتم التي فاتت الأستاذ م زعمه أنه استقصى استقاء لا مزيد عليه. وكذلك هي في الوجهين الآخرين عن ابن عبد الحكيم، والشافعي حجازي فلعله عاد إلى المدينة بعد قراءته (الموطأ) وخروجه منها بل لعله تردد مراراً، وكان الشافعي، وكان الشافعي يدين أو ّلاً بقول مالك ويذب عنه، فإن لم يكن تلقى جميع ذلك منه فقد تلقى بعضه منه وبعضه من أصحابه، ومعرفة الشافعي بمبلغ علم أبي حنيفة يكفي فيه نظرة في كتبه وكتب أصحابه، وسؤال محمد للشافعي ليس على وجه التحكيم بل على وجه

فصل: فيه شرح معنى لفظة "المحفوظ" عند المحدثين

السؤال عن رأيه، والشافعي حجازي كمالك كان أولاً يدين بقوله ثم صار ربما خالفه مع انتسابه إليه، وحينئذ وقعت القصة، وإنما أكثر خلافه لمالك بعد دخوله مصر، وذلك بعد موت محمد ابن الحسن، ومحمد بن الحسن عراقي كأبي حنيفة ينتسب إليه ويتبعه في أصوله ويذب عن قوله غالباً، فأي غبار على أن يقول محمد للشافعي «صاحبكم» يريد مالكاً و «صاحبنا» يريد أبا حنيفة؟ هذا وقد أشار الأستاذ في ما علقه على «الانتقاء» لابن عبد البر ص24 إلى الروايات واختلافها ثم قال «والمخلص من ذلك النظر في الأسانيد والمقارنة بينها وضرب ما يروى بغير إسناد عرض الحائط» . ثم حاول عبثاً الرجوع عن هذا القضاء العدل في (التأنيب) 183 إذ قال: «ولعل الصواب في الأمر هو ما حكاه القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد العامري في (مبسوطه) حيث قال في كتبه المذكور أن الشافعي سأل محمداً: أيما أعلم مالك أو أبو حنيفة؟ فقال محمد: بماذا؟ قال: بكتاب الله، قال: أبو حنيفة، فقال: من أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو حنيفة أعلم بالمعاني ومالك أهدى للألفاظ» ! مُنى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً فصل قال الخطيب (13/369) بعد ذكر المناقب «قد سقنا عن أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبي بكر بن عياش وغيرهم من الأئمة أخباراً كثيرة تتضمن تقريظ (1) أبي حنيفة والمدح له والثناء عليه، والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبي حنيفة خلاف ذلك» .

_ (1) الأصل (تقريض) والتصويب من «الخطيب» .

27- أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأبار

فأخذ الأستاذ يتكلم على الروايات ثم يقول «وهذا من المحفوظ عند الخطيب» ويشنع. فأقول ابن حجر في (النخبة) وقرره السخاوي في (فتح المغيث) ص82. «فإن خولف - أي الراوي - بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له المحفوظ ومقابله وهو المرجوح يقال له الشاذ» . فالمحفوظ عندهم ما كان أرجح من مقابله فنقد كلمة الخطيب إنما هي بالموازنة فإن بان رجحان ما ذكره أخيراً صحَّ كلامه حتى على فرض أن يكون الثاني ضعيفاً فإن الضعيف أرجح من الأضعف، ولا يضره أن يكون فيما ذكره أخيراً رواية ساقطة توافق أخرى قوية، أو تكون عمن لم يتقدم في المناقب عنه شيء، ولا يحتسب على الخطيب ولا له بما عند غيره ولا يؤاخذ في أحوال الرواة بخلاف اعتقاده واجتهاده فإن مدار صدق كلمته على الرجحان عنده. وقد كنت جمعت ما في الترجمة عن أيوب والسفيانين وأبي بكر بن عياش ونظرت فيها، ثم كرهت شرح ذلك هنا لطوله وإن كان فيها إظهار حجة الخطيب وتصديق كلمته. وأقتصر في ترجمة الخطيب على هذا القدر وأدع الكلمات المفرقة في (التأنيب) وسينكشف حال غالبها إن شاء الله تعالى. 27- أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأبار. في (تاريخ بغداد) 13/325 «أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم الخُتَّلي حدثنا أحمد ابن على الأبار ... » قال الأستاذ ص19 «والأبار من الرواة الذين كان دعلج التاجر يدر عليهم الرزق فيدونون ما يروقه للنكاية في مخالفيه في الفروع والأصول فللأبار قلم مأجور ولسان ذلق في الوقيعة في أئمة أهل الحق، وكفى ما يجده القارئ في روايات الخطيب عنه في النيل من أبي حنيفة وأصحابه لتعرف مبلغ عدواته وتعصبه، ورواية العدو المتعصب مردودة عند أهل

النقد، كيف وهو يروي عن مجاهيل بل الكذابين في هذا الباب ما ستراه، فلا يحتاج القارئ الكريم في معرفة سقوط هذا الراوي إلى شيء سوى استعراض مروياته فيمن ثبتت إمامته وأمانته، فكفى الله المؤمنين القتال» . أقول في (تذكرة الحفاظ) للذهبي ج2 ص192 «الأبار الحافظ الإمام أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم محدث بغداد، يروي عن مسدد وعلي بن الجعد وشيبان بن فروخ وأمية بن بسطام ودُحيم وخلق كثير حدث عنه دعلج وأبو بكر النجاد وأبو سهل بن زياد والقطيعي وآخرون. قال الخطيب كان حافظاً متقناً حسن المذهب، قال جعفر الخلدي: كان الأبار أزهد الناس استأذن أمّه في الرحلة إلى قتيبة فلم تأذن له فلما ماتت رحل إلى بلخ وقد مات قتيبة وكانوا يعزونه على هذا. قلت وله تاريخ وتصانيف مات يوم نصف شعبان سنة تسعين ومائتين» . رأى الأستاذ في الرواة عن الأبار دعلج بن أحمد السجزي ورأى في ترجمة دعلج أنه كان تاجراً كثير المال كثير الأفضال على أصحاب الحديث وغيرهم وأنه أخذ عن ابن خزيمة مصنفاته وكان يفتي بقوله، فاستنبط الأستاذ أن دعلجاً كان متعصباً لابن خزيمة في الأصول يعني العقائد، وفي الفروع، وابن خزيمة عند الأستاذ مجسم، وأبو حنيفة عنده منزه، والتنزيه الذي يسميه خصومه تعطيلاً وتكذيباً، فعلى هذا كان دعلج متعصباً عند أبي حنيفة للعقيدة وللمذهب معاً! ثم استنبط الأستاذ في شأن الأبار أنه جمع ما جمعه في الغض من أبي حنيفة تقرباً إلى دعلج المثري المنفق، وأن دعلجاً كان يوسع العطاء للأبار لأجل ذلك! فأقول: لا يخفى على عارف بالفقه والحديث أنه يكفي في رد هذه التهمة أن يبين أن الأبار ودعلجاً من الحفاظ المعروفين روى عنهما أئمة الحديث العارفون بالعدالة والرواية ووثقوهما وأثنوا عليهما، ولم يطعن أحد في عدالتهما ولا روايتهما، ولم يذكر أحد دعلجاً بتعصب بل كان فضله وأفضاله كلمة وفاق، ولم يذكر أحد الأبار يحرص على الدنيا كما ذكروا الحارث بن أبي أسامة وعلي بن عبد العزيز البغوي وغيرهما بل وصفه شيخ الزهاد ورواية أخبارهم جعفر بن محمد بن نصير

الخلدي بأنه كان أزهد الناس كما سلف. ومع هذا فالأبار كان ببغداد، وسكنى دعلج بها وحصول الثروة له وما عرف به من الإنفاق وتجرد ابن خزيمة للكلام في العقائد وأخذ دعلج كتبه وأتباعه له كل ذلك إنما كان بعد وفاة الأبار بمدة، إن أقدم من سمي من شيوخ الأبار مسدد المتوفى سنة 228 فعلي بن الجعد المتوفى سنة 210 وتوفي سنة 290 كما مرّ، ومولد دعلج سنة 260 بسجستان وبها نشأ ثم كان يطوف البلدان لطلب العلم والتجارة ويظهر أن أول دخوله بغداد في أواخر سنة 282 أو أوائل التي تليها، إن أعلى من سمع دعلج منه ببغداد كما يؤخذ من ترجمته في (تذكرة الحفاظ) محمد بن ربح البزاز ومحمد بن غالب تمتام وكانت وفاتهما سنة 283 وقد كان ببغداد الحارث بن أبي أسامة وهو أسن منهما وأعلى إسناداً وأشهر ذكراً وتوفي يوم عرفة سنة 282 ولم يذكروا لدعلج عنه رواية ولو أدركه ما فاته، فعلى هذا أول ما لقي دعلج الأبار سنة 283 وسن الأبار يومئذ نحو سبعين سنة، وسن دعلج نحو ثلاث وعشرين سنة، ولم يكن دعلج حينئذ ذا ثروة ولا إنفاق لأنه أقام بعد ذلك بمكة زمناً وسمع بها من الحافظ المعمر عالي الإسناد على بن عبد العزيز البغوي المتوفى سنة 286، وكان البغوي بغاية الفقر حتى كان يضطر إلى أخذ الأجرة على الحديث ويقول كما في (تذكرة الحفاظ) ج2 ص179 «يا قوم أنا بين الأخشبين وإذا ذهب الحجاج نادى أبو قبيس قعيقعان يقول من بقي؟ فيقول: المجاورون، فيقول: أطبق!!» وبقي من ذلك إلى أن مات إذ لو كف قبل موته لكان الظاهر أن يذكر ذلك تلامذته الأجلاء وهم كثير ولهم حرص على أن يدفعوا عن شيخهم ما عيب به فيقول واحد منهم أو أكثر: إنما كان يأخذ للضرورة ثم كف عن ذلك. ولو كان دعلج تلك المدة قد اتسعت ثروته وإنفاقه لكان جديراً بأن يعطى شيخه ما يخلصه من انطباق الأخشبين والمشاحة على الدرهم والدرهمين. وفي (تاريخ بغداد) ج8 ص390 - قصة من سخاء دعلج وفي آخرها أنه

سئل عن ثروته وإنفاقه فقال: «نشأت وحفظت القرآن وسمعت الحديث وكنت أتبزز فوافاني رجل من تجار البحر فقال لي: أنت دعلج بن أحمد؟ فقلت نعم، فقال: قد رغبت في تسليم مالي إليك لتتجر فيه، فما سهل الله من فائدة فهي بيننا، وما كان من جائحة كانت في أصل مالي، وسلم إليّ البرنامجات بألف ألف درهم ... ولم يزل يتردد إليّ سنة بعد سنة يحمل إليّ مثل هذا والبضاعة تنمى فلما كان في آخر سنة اجتمعنا فيها، قال لي: أنا كثير الأسفار في البحر فإن قضى الله عليّ بما قضاه على خلقه فهذا المال لك على أتتصدق منه وتبني المساجد وتفعل الخير» . ففي أي سن تر اشتهرت أمانة دعلج وديانته وحذقه بالتجارة حتى يأتمنه تاجر سمع به ولم يعرفه على مثل ذلك المال؟ ويكفيك النظر في عادات الناس تعلم أن الرجل لا يكاد يرسخ في التجارة ويتوفر رأس ماله وسخو نفسه بالإنفاق إلا بعد الأربعين من عمره، فكيف إذا لاحظت أن دعلجاً لم يكن متجرداً للتجارة، بل كان كثير التطواف سماع الحديث، والأبار توفي سنة 290 أي وسن دعلج ثلاثون سنة، وعاش دعلج بعده فوق ستين سنة فإنه توفي سنة 351 والظاهر مما ذكروه من أنه أقام بمكة زماناً أنه لم يسكن بغداد إلا بعد وفاة الأبار بمدة، فبالنظر فيما تقدم يتبين أنه ليس هناك أدنى قرينة أن يكون دعلج وصل الأبار بفلس واحد. أما ابن خزيمة فإنه توفي سنة 311 أي بعد وفاة الأبار بإحدى وعشرين سنة، وإنما تجرد للتأليف في العقائد في أواخر عمره وفي (تذكرة الحفاظ) ج2 ص262 عن الحاكم عن جماعة «لما بلغ ابن خزيمة من السن والرياسة والتفرد بهما ما بلغ، كان له أصحاب صاروا أنجم الدنيا.. فلما ورد منصور الطوسي كان يختلف إلى ابن خزيمة للسماع وهو معتزلي ... واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ وقالا: هذا إمام لا يسرع من الكلام وينهي عنه، وقد نبغ له أصحاب يخالفونه وهو لا يدري فإنهم إلى مذهب الكلامية ... » ثم ذكر كلاماً فيه أن ذلك الخلاف كان بعد ضيافة عملها ابن خزيمة «في جمادي الأولى سنة تسع» يعني سنة 309 وكأن ذاك الخلاف هو الذي دعا ابن خزيمة إلى التأليف في العقائد، وعلى كل حال

28- أحمد بن الفضل بن خزيمة

فالظاهر البين أن أخذ دعلج كتب ابن خزيمة وإفتاءه بقوله إنما كان بعد وفاة الأبار بمدة. وإنما الثابت أن الأبار كان ساخطاً على أبي حنيفة سخطاً ما كما يدل عليه جمعه ما جمع وذلك شأن أهل الحديث في عصره كالبخاري ويعقوب بن سفيان وزكريا الساجي والعقيلي وغيرهم، فإن صح أن يسمى ذلك عداوة وتعصباً فهي عداوة دينية لا ترد بها الشهادة فكيف الرواية؟ وقد مر إيضاح ذلك في القواعد. قول الأستاذ أن الأبار «يروي عن مجاهيل بل الكذاب» . أقول: كل من تكلم فيه الأستاذ ممن روى عنهم الأبار ترى في هذا الكتاب فإن صح أن يكون منهم من هو مجهول أو كذاب فلا اعتداد بروايته ولا يضر الأبار ذلك شيئاً، فقد روى السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم عن محمد بن السائب، وهو من أشهر الناس بالكذب. قول الأستاذ: «فلا يحتاج القارئ الكريم ... » . أقول: الكريم من اتقى الله عز وجل، وثبوت الإمامة والأمانة كان في عصر الأبار وقبله محل النِزاع كما يعلم الأستاذ. والله أعلم. 28- أحمد بن الفضل بن خزيمة. راجع (الطليعة) ص 91 (معجم الأدباء) ج4 ص30 عن ابن السمعاني: «والخطيب في درجة القدماء من الحفاظ والأئمة الكبار كيحيى بن معين وعلي ابن المديني.. وطبقتهم..» . وراجع ترجمة أحمد بن إبراهيم فيما مضى. 29- أحمد بن كامل القاضي. في (تاريخ بغداد) 13/374: «أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا سليمان بن حرب، وأخبرنا ابن الفضل أيضاً أخبرنا أحمد بن كامل القاضي حدثنا محمد بن موسى البربري حدثنا ابن الغلابي عن سليمان بن حرب..» قال الأستاذ ص 43 «وأحمد بن كامل

القاضي فيه يقول الدارقطني: أهلكه العجب كان متساهلاً في الرواية ربما حدث من حفظه بما ليس عنده، كما رواه الخطيب» . أقول: ذكرت في (الطليعة) ص 69 أن عبارة الدارقطني كما في (تاريخ بغداد) وغيره «.. بما ليس عنده في كتابه» وهذا القيد «في كتابه» يدفع القدح فإنه لا يلزم من عدم كون الحديث عند أحمد في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه» فلأمر ما حذف الأستاذ ذاك القيد! أجاب الأستاذ في (الترحيب) ص51 بقوله: «ليس عادة النقاد أن يقولوا لم ليس في كتاب الراوي أنه عنده، فلا يكون سقوط «في كتابه» مغيراً للمعنى ولا مقصوداً، فهم الناقد «يعني المعلمي» أم لم يفهم» . أقول: لا يخفى أن الظاهر من قولهم «عنده» يتناول ما في كتابه وما في حفظه وعادة النقاد جارية على هذا الظاهر، وتجد أمثلة من ذلك في (تهذيب التهذيب) ج1 ص110 ولا حاجة إلى تتبع نظائر ذلك مادام هو الموافق للظاهر كما تقدم. وكفى دليلاً على ذلك تقييد الدارقطني بقوله: «في كتابه» فأما القصد فالله أعلم، ولكن القرائن تدل عليه كما مر في ترجمة أحمد بن سليمان. وعلى كل حال فقد ثبت كما اعترف به الأستاذ أن كلمة الدارقطني فيما حدث به أحمد بن كامل «وليس عنده في كتابه» لا تنفي أن يكون عنده في حفظه، بل قد تثبت ذلك بمقتضى دليل الخطاب، وبذلك ثبت أنه لا قدح، غاية الأمر أن الدارقطني رأى أنه كان الأحوط لأحمد بن كامل أن لا يحدث بما ليس في كتابه وإن كان يحفظه، وترك الراوي للأحوط لا يقدح فيه، بل إذا خاف أن يكون تركة رواية ما حفظه ولم يثبته في كتابه الأصل كتماناً للعلم وتعريضاً وجب عليه أن يرويه. وراجع ما تقدم في ترجمة أحمد ابن جعفر بن حمدان. وأما قول الدارقطني: «أهلكه العجب» ففسرها الدارقطني بقوله: «فإنه كان

30- أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي

يختار ولا يضع لأحد من الأئمة أصلاً» فقيل له: كان جريري المذهب؟ فقال «بل خالفه واختار لنفسه وأملى كتاباً في السنن وتكلم على الأخبار» . فحاصل هذا أنه لم يلتزم مذهب إمام معين بل كان ينظر في الحجج ثم يختار قول من رجح قوله عنده. أقول وهذا أيضاً ليس بجرح بل هو بالمدح أولى، وقد قال الخطيب: «كان من العلماء بأيام الناس والأحكام وعلوم القرآن والنحو والشعر وتواريخ أصحاب الحديث، قال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله» . أقول فيحق له أن ينشد: إن أكن معجباً فعجب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد 30- أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي. وفي (تاريخ بغداد) (13/ 411) «أخبرنا البرقاني حدثني محمد بن العباس أبو عمر الخزندار حدثنا أبو الفضل جعفر ابن محمد الصندلي - وأثنى عليه أبو عمر - حدثني المروذي أبو بكر أحمد «بن محمد» بن الحجاج: سألت أبا عبد الله - وهو أحمد بن حنبل - عن أبي حنيفة وعمرو بن عبيد، قال: أبو حنيفة أشد على المسلمين من عمرو بن عبيد لأن له أصحاباً» . قال الأستاذ ص141: « ... المروذي هو صاحب الدعوة إلى أن المقام المحمود هو إقعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العرش في جنبه تعالى، تعالى الله عما يقول المجسمة علواً كبيراً.. فيا سبحان الله متى كان أحمد يقول إن عمرو بن عبيد لا أصحاب له وقد امتلأت البصرة وبغداد بأصحابه وأصحاب أصحابه، وهلم جرا حتى أوقعوا أحمد في تلك المحنة وكان أحمد يترحم على أبي حنيفة ويثني عليه كما سبق من الخطيب ص 327» . أقول: قد أفردت للاعتقاديات قسماً من هذا الكتاب، والمقام المحمود قد

اختلف السلف في تفسيره وروى ابن جرير في (تفسيره) ج15ص92- «عن مجاهد قال: يجلسه معه على عرشه» ثم قال «ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمداً - صلى الله عليه وسلم - على عرشه قول غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر..» وأطال في ذلك وأطاب، وقد أعطى الله ورسوله في ليلة الإسراء ما أعطى، وقال له {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} . ولم يرد أحمد أن عمرو بن عبيد لا أصحاب له البتة وإنما أراد أنه ليس له أصحاب في مثل غلوه جادين في نشر شرهم، كان عمرو غالياً جداً كما أشرت إليه في الاعتقاديات، ولا أعرف أحداً ممن لقيه وتأثر بكلامه كان غالياً مثله، ولا أعرف أن عمرو بن عبيد تكلم إلا في القدر والوعيد، والمعتزلة الذين ينتسبون إليه لم يوافقوه في غلوه ولكنهم تابعوا جهماً في مسائل لم يتكلم فيها عمرو، والذين دعوا إلى المحنة كبشر المريسي وابن أبي داود معروفون هم من أصحاب أبي حنيفة واشتهروا بأنهم جهمية، ومسألة القول بخلق القرآن ليست من مسائل عمرو بن عبيد بل هي من مسائل جهم، نعم إن المعتزلة المنتسبين إلى عمرو بن عبيد لأتباعهم له في الجملة وافقوا جهماً فيها ولعل من يقول إن دعاة المحنة معتزلة اغتر بموافقتهم المعتزلة في تلك القضية وقضايا أخرى تتفرع عن قول جهم، والصواب أن ينظر في قولهم في القدر والوعيد فإن كانوا لا يوافقون المعتزلة فيهما وهذا وهذا هو الظاهر فهم جهمية ولا ينبغي أن يسموا معتزلة. وقد كان لهم من إعلان ضلالتهم والدعوة إليها إلى أن ما جرى ما جرى ما لم يكن للمنتسبين إلى عمرو بن عبيد ما يقاربه، وكانوا ينسبون جهميتهم إلى أبي حنيفة، وفي روايات غيرهم عنه اضطراب وقد روى الخطيب من طريق المروذي عن أحمد أنه لم يثبت عنده أن أبا حنيفة قال: إن القرآن مخلوق، فكأنه قوي عنده عند الثبوت فترحم إن صح ما رواه الخطيب ص327 وقوي عنده الثبوت مرة فشدد والله أعلم. وعلى كل حال فصدق المروذي وأمانته وفضله كلمة وفاق قبل

31- أحمد بن محمد بن الحسين الرازي

الأستاذ كما يعلم من ترجمته في (تاريخ بغداد) وغيره. 31- أحمد بن محمد بن الحسين الرازي. يأتي مع محمود بن إسحاق إن شاء الله تعالى. 32- أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني إمام أهل السنة. قال أحمد الدورقي «من سمعتموه يذكر أحمد بسوء فاتهموه على الإسلام» ومرّ في ترجمة الخطيب أن ابن معين بلغه أن الكرابيسي يتكلم في أحمد فقال «ومن حسين الكرابيسي لعنه الله ... » وعن سفيان بن وكيع قال: «أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد عندنا فهو فاسق» وقال ابن أعين: وإذا سمعت لأحمد منتقصاً ... فاعلم بأن ستوره ستهتك عرض الأستاذ في مواضع بالطعن في عقيدة الإمام أحمد وتتبع أصحابه وأصحابهم طاعناً في عقيدتهم ليلجئ من يقرأ كتابه إلى اعتقاد الطعن في عقيدة أحمد نفسه، وقد أفردت البحث في العقائد بقسم خاص من هذا الكتاب وهو بمثابة تتمة لترجمة الإمام أحمد وأقتصر هنا على ما عدا ذلك. قال الأستاذ ص4 «من تابع أحمد بن حنبل وذكره بكثرة الحديث فله ذلك لكن كثرة الحديث بمجردها إذا لم تكن مقرونة بالتمحيص والغوص تكون قليلة الجدوى» . أقول: نفيه عن أحمد التمحيص الغوص كذب مكشوف. فإن زعم الأستاذ أنه إنما أرادا أبا حنيفة كان أبلغ في ذلك. قلنا أما تمحيص الروايات لمعرفة الصحيح من السقيم والراجح من المرجوح والناسخ من المنسوخ فأحمد أرجح الأئمة في ذلك لأنه أو سعهم رواية وأعلمهم بأحوال الرواة وعلل الحديث وأعلمهم بآثار الصحابة والتابعين. وأما تمحيص النصوص لمعرفة معانيها فأحمد من أحسن الأئمة معرفة لذلك،

اتهامه إياه بالخطأ في اللغة والنحو والجواب عنه

وهب أن غيره قد يفوقه في هذا فإنما يمحص الإنسان ما يعرفه ويغوص فيما يجده فمن لم يبلغه النص فأي شيء يمحص وفي أي شيء يغوص؟ وقد تقدم في ترجمة الخطيب قول الشافعي لمحمد ابن الحسن بعد اعتراف محمد بأن مالكاً كان أعلم بالكتاب والسنة والآثار من أبي حنيفة: «لم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على واحد من هذه الأشياء ومن لم يعرف الأصول على أي شيء يقيس؟» وقد ذكر الأستاذ ص139 ما نقل عن الشافعي «أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها» نقل الأستاذ: « ... ولأبي حنيفة بعض أبواب الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً ففرع عليه المسائل فأصبحت فروع هذا الكتاب غير مقبولة حتى ردها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث خذ بقول إبراهيم النخعي وجعله أصلاً ففرع عليه الفروع ... » . أقول فلم ينفعه في تلك الكتب تمحيصه وغوصه إذ لم يطلع على ما ثبت من السنة وآثار الصحابة. فصل قال الأستاذ ص26 «وأما أحمد فدونك (مسائل أبي داود) و (إسحاق بن منصور الكوسج) و (عبد الله بن أحمد) فيا ترى هل يمكنك أن تقرأ صفحة منها على صحة الأصول من غير أن تجابهك خطيئات في اللغة والنحو؟» أقول أما أنا فلم أقف على نسخة من هذه المسائل فإن كان الأستاذ وقف عليها فهل ما وقف عليه هو بخطوط هؤلاء الذين سماهم؟ فإن لم تكن بخطوطهم ولا بخطوط تلامذتهم بل تداولها النساخ والرواة فمن أين يتجه أن يعد ما فيها من خطأ هو من أحمد نفسه؟! ونحن نرى النساخ يغلطون كثيراً حتى في كتابة القرآن مع أنهم ينقلون من مصاحف واضحة الخط منقوطة الضبط. ولم أر أحداً قبل الأستاذ

فصل: زعمه أن تفقه أول ما تفقه على أبي يوسف وبيان ما فيه، وأنه كان يستخرج الأجوبة الدقيقة من كتب محمد بن الحسن

حاول الطعن في عربية أحمد ولا نسب إليه شيئاً من اللحن كما نُسب إلى غيره من الأئمة. فصل قال الأستاذ ص141 «تفقه أول ما تفقه عل أبي يوسف القاضي وكتب عنه ثلاثة قماطر من العلم كما في أوائل (سيرة ابن سيد الناس) و (تاريخ الخطيب) 3/177. أقول الذي في (تاريخ الخطيب) في ذاك الموضع « ... إبراهيم بن جابر حدثني عبد الله ابن أحمد قال كتب أبي عن يوسف ومحمد ثلاثة قماطر، فقلت له كان ينظر فيها؟ قال كان ربما نظر فيها، وكان أكثر نظره في كتب الواقدي» ، وهذا لا يُعطى أنه تفقه على أبي يوسف فأما الكتابة عنه وعن محمد إن صحت فالظاهر أنه إنما كتب عنهما مما يرويانه من الآثار ومع ذلك لم يروعن أحد منهما ولا بنى على رويته حكماً. وفي الحكاية أنه كان قليل النظر في كتبهما كثير النظر في كتب الواقدي، هذا مع أنه من أسوأ الناس رأياً في الواقدي فلم يكن ينظر في كتبه ليعتمد عليه، بل رجاء أن يرى فيها الشيء مما يهمه فيبحث عنه من غير طريق الواقدي على حد قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فلم يأمر بإلغاء خبر الفاسق إذ لعله صادق، بل أمر بالتبين فخبر الفاسق يكون تنبيهاً يستدعي الالتفات إلى ما أخبر به والاستعداد له وعدم الاسترسال مع ما يقتضيه الأصل من عدمه حتى يبحث عنه فيتبين الحال. فصل قال الأستاذ: «وكان يستخرج الأجوبة الدقيقة من كتب محمد بن الحسن كما

فصل: زعم الكوثري أن أحمد كان يعيب أبا حنيفة ومذهبه

روى عنه إبراهيم الحربي على ما في (تاريخ الخطيب) 3/177. أقول الراوي عن إبراهيم غير موثق، على أن محمداً لمهارته في الحساب وشغفه بالدقة كان يفرض القضايا التي لا تكاد تقع مما يحتاج إلى دقيق الحساب فيضخم بها كتبه. ومن عرف النصوص الشرعية وفهمها وعلم الأحكام فهو الفقيه، فإن عرضت واقعة يحتاج إلى تفصيل الحكم فيها إلى حساب دقيق فاستعان بحاسب لم يكن في ذلك ما يتوهم منه أنه تعلم الفقه من الحاسب. فصل ثم ذكر الأستاذ رواية أن أحمد «كان يعيب أبا حنيفة ومذهبه» ثم قال: «يقول الملك المعظم: أنا أصدق هذا، لأن أصحاب أحمد إلى يومنا هذا لم يفهم أحد منهم (الجامع الكبير) ولا عرف ما فيه ومتى وقف على ما فيه فلا شك أنه ينكره فخل عنك باقي كتب أصحاب أبي حنيفة» ثم قال الأستاذ: «ومن جهل شيئاً «أنكره و» (1) عاداه» . أقول هذا موضع المثل: سألته عن أبيه؟ فقال: خالي شعيب! لم يعب أحمد كل مسألة تكلم فيها أبو حنيفة ولا عاب المسائل الحسابية الدقيقة التي ضخم بها محمد كتبه، وإنما عاب ما يراه مخالفاً للسنة وهذا يتحقق عند أحمد سواء أفهم أتباعه (الجامع الكبير) لمحمد؟ وهل نظر فيه وتفهمه غيرهم من غير الحنفية؟ وقول الملك عيسى الذي تقدمت الإشارة إلى حاله في ترجمة الخطيب:

_ (1) سقطت من قلم المصنف رحمه الله تعالى، فاستدركتها من (التأنيب) ، وقد سقطت منه في الموضع الآتي أيضاً، ولكنه تنبه لذلك هناك فاستدركه كما يدل عليه أثر الكشط، وفاته الاستدراك هنا.

فصل: زعمه أن الإمام أحمد غير فقيه مع قول الشافعي فيه أنه أفقه أهل بغداد

«ومتى وقف على ما فيه فلا شك أن ينكره» مجازفة، نعم، ينكر ما فيه مما يراه مخالفاً للسنة، وعسى أن يتوقف بعضهم في بعض المسائل الدقيقة، وقول الأستاذ «ومن جهل شيئاً أنكره وعاداه» لا محل هنا فإن دعوى أن أحمد كان يجهل طريق استدلال أبي حنيفة في القضايا التي رد بها السنة دعوى باطلة، بل أكثر الناس يفهمون ذاك الاستدلال ويعرفون بطلانه كما ستراه في قسم الفقهيات وسترى هناك بعض ما يروى عن أبي حنيفة من مجابهة النصوص بتلك الكلمات التي تدل على ما تدل عليه إن صحت. فصل قال الأستاذ «وليس بقليل بين الفقهاء من لم يرض تدوين أقوال أحمد في عداد أقوال الفقه باعتبار أنه محدث غير فقيه عنده، وأنَّى لغير الفقيه إبداء رأي متزن في فقه الفقهاء. أقول يشير بهذا إلى أن ابن جرير لم ينقل أقوال أحمد في كتابه الذي ألفه في «اختلاف الفقهاء» ، ولأن يعاب بهذا ابن جرير أولى من أن يعاب به أحمد، ولكن عذره أمه كما يعلم من النظر في كتابه إنما قصد الفقهاء الذين كانت قد تأسست مذاهبهم ورتبت كتبهم، ولم يكن هذا قد اتضح في مذهب أحمد فإنه رحمه الله لم يقصد أن يكون له مذاهب ولا أتباع يعكفون على قوله وإنما كان يفتي كما يفتي غيره من العلماء، ويكره أن يكتب كلامه، فكانت فتاواه عند موته مبعثرة بأيدي الطلبة والمستفتين وأدركها ابن جرير كذلك، وإنما رتبها وجمعها أبو بكر الخلال وهو أصغر من ابن جرير بعشر سنين. وقول هذا الخائب: «وأنى لغير الفقيه ... » كلمة أدع جوابها إلى القارئ. وفقه أحمد أظهر وأشهر من أن يحتاج إلى ذكر شهادات الأكابر، ويغني في ذلك قول الشافعي:

فصل: فيه حكاية ما ذكره الكوثري عن الإمام من القول في أبي حنيفة وتحميله إياه من المعنى ما لا يحتمل والرد عليه من ثلاثة وجوه

«خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل» . هذا رأي الشافعي في أحمد قبل أن يموت أحمد بنيف وأربعين سنة. فصل ذكر الأستاذ ص143 ما روي من قل أحمد: «ما قول أبي حنيفة والبعر عندي إلا سواء» قال الأستاذ المصدر المضاف من ألفاظ العموم عند الفقهاء فيكون لذلك اللفظ خطورة بالغة لأن أبا حنيفة يعتقد في الله تعالى ما يكون خلافه كفراً وبدعة شنيعة ... فيكون امتهان قوله في المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية التي م نازعه فيها أحد من المسلمين محض كفر لا يصدر عمن له دين» . أقول هذه مخاطرة فاجرة ومحاولة خاسرة. أولاً: لأن من المعلوم قطعاً أن أحمد لا يمتهن الحق، وإنما روى الناس امتهان الحق عن غيره كما ترى بعض ذلك في (قسم الفقهيات) ، والعموم يخص بما هو دون هذه الدلالة بكثير. ثانياً: هبه سلم العموم فمعلوم أن م في تلك الكلمة إنما هو حكم على القول من حيث هو قول ذاك القائل فلا يتعداها إلى حيثية أخرى. ثالثاً: عموم القول لا يستلزم عموم التسوية للصفات فإذا قيل: سواء زيد والأسد، لم يفهم منه إلا التسوية التي في بعض المعاني وه الشجاعة. فالتسوية بين القول والبعر إنما هي في عدم الاعتداد فمعنى تلك الكلمة إنما هو أن أحمد لا يعتد بقول أبي حنيفة دليلاً أو خلافاً كما لا يعتد بالبعر مالاً. فأما عدم اعتداده به دليلاً لا غبار عليه، ولا يقول أحد إن قول أبي حنيفة دليل شرعي يلزم من بعده من المجتهدين الأخذ به، وأما عدم الاعتداد به خلافاً فكما قاله بعضهم في قول داود

بعض النقول في ثناء الأئمة على الإمام أحمد

الظاهري، فلو كلف الأستاذ نفسه الاتزان لحمل الكلمة على عدم الاعتداد دليلاً، ثم يقول: فإن أراد عدم الاعتداد بقول أبي حنيفة خلافاً فغير مسلم له ... هذا وقد ثبت عمن لا يحصى من الأئمة من عظيم الثناء على أحمد ما لم يثنوا به على أحد من الأئمة كما يعلم من كتاب ابن الجوزي و (تاريخ بغداد) وغيرهما وأكتفي ههنا ببعض ما في (تهذيب التهذيب) : قال إبراهيم بن شماس: سمعت وكيع بن الجراح وحفص بن غياث يقولان: ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى - يعنيان أحمد، وقال القطان: ما قدم عليّ مثل أحمد، وقال مرّة: حبر من أحبار الأمة، ... وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه منه ولا أورع، وقال أبو عاصم: ما جاءنا من ثمة أحد غيره يحسن الفقه، وقال يحيى بن آدم: أحمد إمامنا، وقول الشافعي ... (قد مرَّ) ، وقال عبد الله «بن داود» الخُريبِي: كان أفضل زمانه ... ؛ وقال قتيبة: أحمد إمام الدنيا، وقال أبو عبيد: لست أعلم في الإسلام مثله، ... وقال العباس بن الوليد بن مزيد: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحداً يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال لا، إلا شاب في ناحية المشرق، يعني أحمد، ... ، وقال بشر بن الحارث: أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر، وقال الحجاج بن الشاعر: ما رأت عيناي روحاً في جسد أفضل من أحمد بن حنبل، وقال أحمد الدورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بسوء فاتهموه على الإسلام» . 33- أحمد بن سعيد بن عقدة. في (تاريخ بغداد) 13/ 387 « ... أحمد بن سعيد الكوفي حدثنا ... عن بشر بن مفضل قال: قلت: لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. قال: هذا رجز. قلت: قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. قال: هذيان» . وفيه (13/ 403) عبد الله بن المبارك قال: من نظر في (كتاب الحيل) لأبي حنيفة أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله» قال الأستاذ ص 78 «وأحمد بن

سعيد في السند هو ابن عقدة الكوفي شيعي جلد وكلام الخطيب فيه شديد فيلزمه أن لا يعول عليه» وقال ص 122 «حاول بعض الكذابين رواية (كتاب الحيل) عن أبي حنيفة ... وهو أبو الطيب محمد بن الحسين ... وقد قال مُطيَّن إن محمد بن الحسين هذا كذاب ابن كذاب وأقره ابن عقدة ... وقد قوي ابن عدي أمر ابن عقدة ورد على الذين تكلموا فيه، بل قال السيوطي ... من كبار الحفاظ وثقة الناس وما ضعفه إلا عصري متعصب» . أقول ما نقله عن السيوطي مجازفة، ولم أر في (الميزان) و (اللسان) ما نسبه إلى ابن عدي وابن عقدة لا نزاع في سعة حفظه ومعرفته، قال البرقاني «قلت للدارقطني أيش أكثر ما في نفسك من ابن عقدة؟ قال: الإكثار بالمناكير» . وفي (الميزان) : «قرأت بخط يوسف بن أحمد الشيرازي: سئل الدارقطني عن ابن عقدة فقال لم يكن في الدين بالقوي، وأكذب من يتهمه بالوضع، إنما بلاؤه هذه الوجادات» وفيه «قال ابن عدي سمعت أبا بكر بن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث لأنه كان يحمل شيوخاً بالكوفة على الكذب يسوي لهم نسخاً ويأمرهم أن يرووها ثم يرويها عنهم» ، وفي (اللسان) : «وقال ابن عدي أيضاً سمعت أبا بكر الباغندي يقول كتب إلينا ابن عقدة: قد خرج شيخ بالكوفة عنده نسخ الكوفيين، فقدمنا عليه وقصدنا الشيخ فطالبناه بالأصول، فقال: ما عندي أصل وإنما جاءني ابن عقدة بهذه النسخ وقال لي: اروِ هذه يكون لك ذكر ويرحل إليك أهل بغداد، قال وسمعت ابن مكرم يقول لنا عند ابن عثمان ابن سعيد في بيت وقد وضع بين أيدينا كتب كثيرة فنَزع ابن عقدة سراويله وملأه منها سراً من الشيخ ومنا فلما خرجنا قلنا ما هذا الذي تحمله؟ فقال: دعونا من ورعكم هذا» وفيه أيضاً «وقال ابن الهراوني (؟) أراد الحضرمي أبو جعفر يعني - مطينا - أن ينشر أن ابن عقدة كذاب ويصنف في ذلك فتوفي رحمه الله قبل أن يفعل» . أقول: الذي يتحرر من هذه النقول وغيرها أن ابن عقدة ليس بعمدة، وفي

34- أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني

سرقة الكتب والأمر بالكذب وبناء الرواية عليه ما يمنع الاعتماد على الرجل فيما ينفرد به. وانظر ما يأتي في ترجمتي محمد بن حسين بن حميد ومحمد بن عثمان. 34- أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلِّس الحماني. وقد ينسب إلى جده وإلى أبي جده، ويقال له، أحمد بن عطية وغير ذلك أخرج الخطيب من طريقه في مناقب أبي حنيفة عدة حكايات ثم أخرج عنه (13/ 419) حكايتين: الأولى: قوله «سمعت يحيى بن معين وهو يسأل عن أبي حنيفة: أثقة هو في الحديث؟ قال: نعم، ثقة ثقة، كان والله أورع من أن يكذب وهو أجل قدراً من ذلك» . الثانية: قوله «سئل يحيى بن معين: هل حدث سفيان عن أبي حنيفة؟ قال: نعم كان أبو حنيفة ثقة صدوقاً في الحديث والفقه مأموناً على دين الله» . ثم قال الخطيب: «أحمد بن الصلت هو أحمد بن عطية وكان غير ثقة» . قال: الأستاذ ص165 «سبق أن تحدث عن أحمد بن الصلت هذا في هامش ص353 من (تاريخ الخطيب) ... » . أقول عبارته هناك «وعنه يقول ابن أبي خيثمة لابنه عبد الله: اكتب عن هذا الشيخ يا بني فإنه كان يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة، ... وفي شيوخه كثرة وقد أخذ عنه أناس لا يحصون من الرواة وتحامل أبي عدي عليه كتحامله على البغوي، ولعل ذنبه كونه ألف في مناقب النعمان. وحديث ابن جزء لن ينفرد هو بروايته والكلام في حقه طويل الذيل، ومن الغريب أنه إذا طعن طاعن في رجل تجد أسراباً من ورائه يرددون صدى الطاعن أيا كانت قيمة طعنه» . أقول أما الحكاية عن ابن أبي خيثمة فأعادها الأستاذ في (التأنيب) ص 167 ثم اتبعها بقوله:

«وهذا ما يغيظ الخطيب جداً ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى» . وقد نعيت على الأستاذ في (الطليعة) ص 93 أنه «يتعارف المجاهيل ويحتج بروايته إذا كانت روايتهم توافق هواه» ص93 أنه «يتعارف المجاهيل ويحتج بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه» ثم ذكرت ص93 هذه الحكاية وقلت «كذا قال ثم لم يبين ما يعرف به أولئك الذين جهلهم الخطيب» . فتعامى الأستاذ في (الترحيب) عن ذلك فلم يذكر فيه شيئاً. فلننظر في سند هذه الحكاية أصحيح هو؟ حتى يسوغ للأستاذ أن يجزم بقوله «يقول ابن أبي خيثمة» وماذا قال الخطيب في هذه الحكاية؟ أركب كل مركب للتخلص منها بدون جدوى؟ قال الخطيب ج4 ص209 «أخبرنا علي بن المحسن التنوخي: حدثني أبي: ثنا أبو بكر محمد ابن حمدان بن الصباح النيسابوري بالبصرة: حدثنا أبو علي الحسن بن محمد الرازي قال قال لي عبد الله بن أبي خيثمة قال لي أبي أحمد بن أبي خيثمة: أكتب عن هذا الشيخ يا بني فإنه يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة - يعني أبي العباس أحمد بن الصلت المغلس الحماني» قال الخطيب «قلت: لا أبعد أن تكون هذه الحكاية موضوعة، وفي إسنادها غير واحد من المجهولين، وحال أحمد بن الصلت أظهر من أن يقع فيها الريبة» . فلندع الجملة الأولى والثالثة، ولننظر في الوسطى، هل جميع رجال السند معروفون ثقات حتى يسوغ للأستاذ أن يعول بدون جدوى، وأن يجزم بنسبة ذاك القوم إلى ابن أبي خيثمة. أما علي بن المحسن وأبوه معروفان، فمن أبو بكر محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري؟ ومن شيخه؟ وهل يعرف لابن أبي خيثمة ابن اسمه عبد الله؟ أما الأول ففي (لسان الميزان) ج 5 ص 147 «محمد بن حمدان صباح بن النيسابوري عن الحسن بن محمد الرازي وعنه علي بن الحسن (صوابه: المحسن) التنوخي قال الخطيب مجهول» ولم يتعقبه بشيء، نعم عرفنا محمد بن حمدان هذا بأنه يروي فيكثر عن ابن الصلت صاحب هذه الترجمة وعنه التنوخي، أخرج

الخطيب في مناقب أبي حنيفة بهذا الطريق عدة حكايات منها في ص339 مرتين في ص340 وص443 وص445 وص346 وص353 وص358 وأكل الاستنتاج إلى القارئ. أما الثاني ففي (لسان الميزان) ج2 ص253 «الحسن بن محمد بن نصر عثمان بن الوليد بن مدرك الرازي أبو محمد (كذا) المتطيب، قال: الحاكم قدم نيسابور سنة 337 وكان يحدث عن الكديمي وأقرانه بعجائب فمنها ... » فذكر حكاية قال ابن حجر: «قلت هذا لا يحتمله الكديمي وأن كان ضعيفاً، وروى الخطيب في (تاريخه) عن علي بن الحسن (كذا) ابن علي التنوخي عن أبيه عن أبي بكر بن أحمد (كذا) النيسابوري عن الحسن بن محمد الرازي عن محمد (كذا) بن أحمد بن أبي خيثمة حكاية باطلة، وقال: في إسنادها غير واحد من المجهولين وعنى بذلك الحسن بن محمد الراوي عنه» . أقول: وللحسن هذا عجائب في (مناقب أبي حنيفة) للموفق. وأما الثالث فلم أر أحدا ذكر أن لأحمد بن أبي خيثمة ابناً اسمه عبد الله وما سبق عن ابن حجر من جعله بدل عبد الله «محمد» فهل وقع في نسخته من تاريخ الخطيب «محمد» ؟ أم وقع فيها «أبو عبد الله» وهي كنية محمد، أم وقع فيها كما في النسخ المطبوع عنها «عبد الله» ولكنه ظن أن الصواب «أبو عبد الله» وأن كلمة «أبو» سقطت من الناسخ، الأشبه هذا الثالث ولوتم هذا لنجا الثالث من الجاهلة والضعف فإن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن أبي خيثمة معروف ثقة، لكن وجدت الحكاية في (تهذيب تاريخ ابن عساكر) ج2 ص57 وفيها «عبد الله» فضعف ما ظنه ابن حجر. هذا حال الإسناد فكيف ترى حال الأستاذ؟ وهب أن الحكاية صحت عن أحمد بن أبي خيثمة فأي شيء فيها؟ لم يعرف ابن أبي خيثمة بالتوقي عن الرواية عن الضعفاء فضلا عن الكتاب عنهم، بل عامة المحدثين يكتبون عن كل أحد إلا أن منهم أفراداً كانوا يتقون أن يرووا إلا عن

ثقة ويكتبون عن الضعفاء للمعرفة كما مر في ترجمة الإمام أحمد من نظره في كتب الواقدي. وأحمد بن أبي خيثمة وابنه محمد لو اتجه ظن ابن حجر كانا مشتغلين بجمع (التاريخ) والتاريخ يحتاج إلى مواد وتسامح في الرواية عن الضعفاء، فلو صحت القضية لما كان فيها إلا شهادة ابن أبي خيثمة لابن الصلت انه كان يكتب معهم من زمان طويل وبذلك علل «و» أمر ابنه بالكتابة عنه على ما جرت عادتهم من الحرص على الكتابة عن المعمر ولو كان ضعيفاً رغبة في العلو وعلى كل حال فليس فيها توثيق. قول الأستاذ: «وفي شيوخه كثرة» أقول سيأتي كلام الأئمة فيه وبه تعرف أن من كان في مثل حاله فالناس كلهم شيوخه! قوله «وقد أخذ عنه أناس لا يحصون» . أقول أما الذكورون في ترجمته فقليل ومع ذلك فليس فيهم من عرف بأنه لا يروي عن الساقطين وهذا الكلبي أشهر الرواة بالكذب روى عنه السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم من الأئمة فلم ينفعه ذلك. قوله «وتحامل عليه ابن عدي كتحامله على البغوي» . أقول: لا سواء، البغوي وهو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز تأتي ترجمته، تحامل عليه ابن عدي بما ليس بجرح، ثم عاد فأثنى عليه، ووثقه الناس، وابن الصلت جرحه ابن عدي جرحاً صريحاً مفسراً وجرحه الناس كما يأتي، ولم يثن عليه أحد، ومع ذلك فقد رجع الأستاذ حين احتاج إلى الكلام في البغوي فلم يعد كلام ابن عدي فيه تحاملاً بل بني على ذاك التحامل وهو ل، ورمى البغوي بالكذب! قوله: «ولعل ذنبه كونه ألف في مناقب النعمان» . أقول: لم يخب رجاء الأستاذ فإن من ذنب ابن الصلت عندهم أنه خلط في

قول الكوثري إن حديث ابن جزء جاء بسند ليس فيه ابن الصلت

المناقب كما يأتي وذلك واضح لكل متدبر، وسيأتي أن أعلى الجارحين لابن الصلت حافظ حنفي! قوله: «وحديث ابن جزء لم ينفرد هو بروايته» في (التأنيب) ص 166: «بل أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ج 1 ص 45 بسند ليس فيه ابن الصلت» . أقول: في الموضع المذكور من كتاب (العلم) : «وأُخبِرنا أيضاً عن أبي يعقوب يوسف بن أحمد الصيدلاني المكي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي وأبو علي عبد الله بن جعفر الرازي ومحمد بن سماعة عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: حججت مع أبي سنة ثلاث وتسعين ولي ست عشرة سنة..» ذكر القصة. فينظر في المخبر لابن عبد البر من هو؟ وفي الصيدلاني فإني لم أجد من وثقه، ومع هذا ففي بقية السند تحريف لم يشر إليه الأستاذ رجاء أن يغتر به من لا معرفة له، فإن الصيدلاني لم يدرك ابن سماعة والعقيلي لم يدرك أبا يوسف ولا ابن سماعة، وعبد الله ابن جعفر هذا قد جاء كما يأتي هذا الخبر عنه عن أبيه عن ابن سماعة، وعبد الله بن جعفر هذا قد جاء كما يأتي هذا الخبر عنه عن أبيه عن ابن سماعة. فصواب هذه العبارة كما يعلم من (الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية) للقرشي 1/ 273: « ... العقيلي ثنا أبو عبد الله بن جعفر الرازي ثنا (أو: عن) محمد بن سماعة..» ترجم القرشي عبد الله ابن جعفر هذا أخذاً من هذا الموضع في (كتاب العلم) فقط كما يتضح من مراجعة كلامه. ولما شعر أن عبد الله بن جعفر لا يدري من هو رأى حقا عليه أن يموه فخلع عليه لقب «الإمام» وفي (مناقب أبي حنيفة) للموفق 1/25 عن الجعابي: «حدثني أبو علي عبد الله بن جعفر الرازي من كتاب فيه حديث أبي حنيفة حدثنا أبي عن محمد سماعة عن أبي يوسف قال: «حججت مع أبي سنة ست تسعين ولي ست عشرة سنة ... » وذكر القصة. زاد في السند كما مر، وقال: «سنة ست وتسعين» وفي كتاب (العلم) و (الجواهر المضيئة) عنه: «سنة ثلاث وتسعين» تارة حاول أن يقرب التاريخ من وفاة عبد الله بن الحارث، وتارة راعى المعروف من

قوله أن الحديث المذكور يثبت أنا أبا حنيفة تابعي

مولد أبي حنيفة. وفي (لسان الميزان) و (ذيل اللآليء) للسيوطي من طريق أبي علي الحسن بن علي الدمشقي عن عبد العزيز بن حسن الطبري عن مكرم بن أحمد عن محمد بن أحمد بن سماعة عن بشر ابن الوليد عن أبي يوسف، فذكر القصة. قال في (اللسان) : وهو باطل أيضاً.. وللحسن بن علي الدمشقي ترجمة في (لسان الميزان) 2/236 وفي (شرح مسند أبي حنيفة) لعلي قاري: «الأقرب ما ذكره أبو منصور البغدادي بإسناده عن بلال بن أبي العلاء عنه قال: حملني أبي على عاتقه وذهب إلى عبد الله بن الحارث ... » ولا أدري ما ذاك السند؟ ومن بلال بن أبي العلاء؟ وربما كان عند القوم غير هذا!. قال الأستاذ: «فثبت أنه لم ينفرد بروايته فيجب أن تزول نقمة الذهبي بزوال سببها» . أقول: هذا إذا كان سند المتبعة مقبولاً، أما إذا كان ساقطاً فلا يدفع التهمة بل يقال بعضهم وضع، وبعضهم سرق أو وهم أو لقن أو أدخل عليه، على أنه إذا كان مقبولاً والمروي منكراً فإن الراوي يبرأ وتلصق التهمة بمن فوقه، ومع ذلك فلا ينفع ابن الصلت زوال تبعة ذلك الحديث عنه إلى فقوه لأن له بلايا أخر لا تحصى. قال الأستاذ: «ولكن لا يمكنهم أن يسامحوه لأنه بروايته الحديث المذكور بطريق أبي حنيفة يثبت أن أبا حنيفة من التابعين حتى عند من لا يكتفي بالمعاصرة أو الرؤية في ذلك وهذا مما لا يمكن مسامحته والصفح عنه ... » . أقول: لخصمك أن يقول أنت أحق بالتهمة وأهلها، بل الأمر أو ضح من أن يسمى تهمة ومع ذلك لو جئت بحجة صحيحة لوجب قبولها، فكيف ترجو أن ترد حجج الأئمة باتهامك لهم؟ . وفي (التأنيب) ص165 بعد الإشارة إلى قول الذهبي في الحديث «هذا كذب فابن جزء مات بمصر ولأبي حنيفة ست

سنين» قال الأستاذ «تغافل الذهبي عن أن في مواليد رجال الصدر الأول ووفياتهم اختلافاً كثيراً لتقدمهم على تدوين كتب الوفيات بمدة كبيرة فلا يبت في أغلب الوفيات برواية أحد النقلة، وها هو أبي بن كعب رضي الله عنه من أشهر الصحابة اختلفوا في وفاته من سنة 18 إلى سنة 32 والذهبي يصر على أن وفاته سنة 22 في كتبه جميعاً مع أن عاش إلى سنة 32 وشارك جمع القرآن في عهد عثمان كما يظهر من طبقات ابن سعد وأين منْزلة ابن جزء من منْزلة أبي حتى يبت بوفاة تروي له عن ابن يونس وحده، وقد قال الحسن بن علي الغزنوي أن وفاته سنة 96 كما في «شرح المسند» لعلي القاري، ولعل ذلك هو الصواب في وفاته» . أقول الجواب من وجوه: الأول: وقوع الاختلاف في ذلك في الجملة إنما هو بمنزلة وقوعه في أدلة الأحكام لا يبيح إلغاء الجميع جملة بل يؤخذ بما لا يخالف له وينظر في المتخالفين فيؤخذ بأرجحها، فإن لم يظهر الرجحان أخذ بما اتفقا عليه، مثال ذلك ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص سنة 51، 54، 55، 56، 57، 58، فإن لم يترجح أحدها أخذ بما دل عليه مجموعها أنه لم يعش بعد سنة 58. فان جاءت رواية عن رجل أنه لقي سعد بمكة سنة 65 مثلاً استنكرها أهل العلم، ثم ينظرون في السند فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقة حملوا عليه. فابن جزء قيل في وفاته سنة 85، 86، 87، 88، وأرجحها الثاني لأنه قول ابن يونس مؤرخ مصر وهي مع ذلك مجتمعة على أنه لم يعش بعد سنة 88، فلما جاءت تلك الرواية أنه لقي بمكة سنة 96 أو 98 استنكرها أهل العلم ووجدوا أحق من يحمل عليه ابن الصلت، فأما قول الغزنوي المتأخر أن ابن جزء توفي سنة 99 فهو من نمط ما في (المناقب) للموفق ج 1 ص 26 روى من طريق الجعابي القصة وفيها أن اللقاء كان سنة 96 ثم حكى عن الجعابي أن ابن جزء مات سنة 97 فهذان القولان مع تأخر قائليهما إنما حاولا بهما تمشية القصة، رأيا أن فيها أن اللقاء كان بالموسم وأن المعروف في وفاة ابن جزء أنها بمصر بقرية يقال لها سفط القدور كما جاء عن

الطحاوي وأن من شهد الموسم لا يمكن أن يصل إلى مصر إلا في السنة التالية فبنيا على ذلك ولم تمكنهما الزيادة على ذلك لئلا تفحش المخالفة لما نقل عن المؤرخين جداً. الوجه الثاني: ابن جزء أقرب إلى عصر تدوين الوفيات من أبي بن كعب ففي (فهرست ابن النديم) ص 281 أن لليث بن سعد تاريخاً، وتواريخ المحدثين مدارها على بيان الوفيات والليث ولد سنة 94 ومات سنة 175 ومن أشهر شيوخه يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128وهو أشهر الرواة عن ابن جزء. وفي (تدريب الراوي) في شرح النوع الستين «وقال سفيان الثوري لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ» والثوري ولد سنة 97 ومات سنة 161 فيظهر أن البحث والسؤال عن الوفيات قد شرع فيه في حياة الرواة عن ابن جزء وهكذا غيره ممن تأخرت وفاته فلم يكن بين الباحث وبين الصحابي إلا رجل واحد فيخبره عما أدركه بخلاف الحال في متقدمي الوفاة كأُبيّ بن كعب. الوجه الثالث: كان الصحابة في عهد أبي بن كعب متوافرين فلم يكن لطلبة العلم كبير حرص على لقائه لأنهم يجدون غيره من الصحابة ويرون أنه مات لم يفتهم شيء لبقاء كثير من الصحابة، وهو لعلمه بذلك لم يكن يبذل نفسه حتى نسب إلى شراسة الخلق فلعله لم يكن يتجشم لقاءه إلا ذوو الأسنان، فإذا نظرنا في الرواة عنه فلم نجد فيهم إلا من كان رجلاً في عهد عمر لم يكن في ذلك دلالة بينة على أنه توفي في عهد عمر، فأما ابن جزء فكان آخر الصحابة بمصر فطلبة العلم بغاية الحرص على السماع منه لأنهم يرون أنه إن مات لم يجدوا صحابياً آخر وتزلوا طبقة عظيمة وهو لعلمه بذلك يبذل نفسه لتحديث من يريد أن يسمع منه، صغيراً كان أم كبيراً كما كان سهل بن سعد يقول: «لومت لم تسمعوا أحداً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في ترجمته من (الاستيعاب) ، يحرضهم بذلك والله أعلم على السماع منه. ولما مات أنس قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم. قيل كيف ذاك؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا تعال إلى من سمعه من النبي صلى

الله عليه وآله وسلم. فالظن بمن كان من طلبة العلم بمصر أنه إذا بلغ سن الطلب في حياة ابن جزء كان أهم شيء عنده أن يلقاه ويسمع منه فلو عاش ابن جزء إلى سنة 97 أو 99 لكان في الرواة عنه من لم يبلغ سن الطلب إلا قبل ذلك بقليل، ولو كان فيهم من هو كذلك لأشتهر أمره لعلو سنده ولما خفي على مثل ابن يونس وغيره ممن ذكر وفاة ابن جزء، وقد تتبع الرواة عن ابن جزء فإذا أخرهم وفاة عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب توفي سنة 131 وقد روى عبيد الله أيضاً عن ناعم مولى أم سلمة ووفاة ناعم سنة 80 على ما قيل ولم يذكروا خلافه. الوجه الرابع: لو حج ابن جزء سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين في الموسم واجتمع الناس حواليه كما تزعمه تلك الرواية لكان من حضر الموسم من أهل العلم وطلبة الحديث أحرص الناس على لقائه والسماع منه، أنه لم يبق حينئذ على وجه الأرض صحابي سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدث عنه إلا هو على فرض صحة الرواية، ثم لتناقلوا ما يسمعون منه وتنافسوا فيه لعلوه، ولا سيما ذاك الحديث المذكور في تلك الرواية «من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب» فإن فيه بشارة عظيمة لهم وفضيلة بينة وترغيباً في طلب العلم، ولا يعرفونه من رواية غيره فما بالنا لا نجد لذلك أثراً إلا ما تضمنته تلك القصة؟ الوجه الخامس: لو لم يكن فيما يدل على تأخر وفاة أُبيّ بن كعب إلا ما أشار إليه الأستاذ من الرواية التي عند ابن سعد لاستنكرها أهل العلم لكن لذلك شواهد وعواضد منها ما روي عن عبد الرحمن بن أبزي أنه قال: «قلت لأبي لما وقع الناس في أمر عثمان يا أبا المنذر -» ومنها ما روى عن زر بن حبيش أنه لقي أُبياً في خلافة عثمان، ومنها ما روي عن الحسن البصري في قصة أن أُبياً مات قبل مقتل عثمان بجمعة. فأما الرواية في لقى ابن جزء بمكة سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين فلا شاهد لها ولا عاضد. فإن قيل أرأيت لو وجد لها شواهد وعواضد قوية أتقبلونها؟ قلت أن صح سندها فنعم وأي شيء في هذا؟ أرأيت من قامت عليه

النظر في قول الكوثري: نص ابن عبد البر على رؤية أبي حنيفة لأنس رضي الله عنه

البينة العادلة بما يوجب القتل أيدرأ عنه القتل أن يقال لو وجدت بينة عادلة بجرح الشهود لما كان عليه قتل؟. الوجه السادس: متأخرو الوفاة من الصحابة قد يقع الاختلاف في تاريخ وفاتهم لكنه لا يكاد يكون التفاوت شديداً فعبد الله بن أبي أوفى سنة 86، 87، 88، وسهل بن سعد الساعدي سنة 88، 91، وأنس سنة 91، 93، 95، وأشد ما رأيته من التفاوت ما قيل في وفاة السائب بن يزيد وذلك نادر مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي وللسائب نحو سبع سنين وعامة روايته عن الصحابة، وقد يرسل، أما ابن جزء فروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعاً ولم يذكروا له رواية عن غيره فالحرص على السماع من ابن جزء محقق بخلاف السائب. ثم قال الأستاذ «على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي عمن يزيد على مائة ألف من الصحابة ولم تحتو الكتب المؤلفة في الصحابة عشر معشار ذلك ولا مانع من اتفاق كثير منهم في الاسم واسم الأب والنسب لا سيما المقلين في الرواية» . أقول حاصل هذا أنه يحتمل أن يكون هناك صحابي آخر وافق عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي في الاسم واسم الأب والنسب فيكون هو الذي جاء في تلك القصة أن أبا حنيفة لقيه بمكة سنة 97 أو 98، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال لا يكفي لدفع الحكم مع أنه قد علم مما تقدم في الوجه الرابع وغيره ما يدفع هذا الاحتمال، فإن كان الأستاذ يشير بقوله «في الاسم واسم الأب والنسب» ولم يذكر اسم الجد - إلى عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب فذاك تابعي معروف. ثم ذكر الأستاذ أن ابن عبد البر «نص على أبا حنيفة رأى أنس بن مالك وعبد الله ابن جزء الزبيدي رواية عن ابن سعد» . أقول: يحكي الذهبي عن ابن سعد أنه روى عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه رأى أنساً، ولم أر في (الطبقات) المطبوع لا ذا ولا ذاك فلا أدري أفي كتاب آخر

فصل: حديث "طلب العلم فريضة" يرويه ابن الصلت بسنده عن أبي حنيفة

لابن سعد؟ أم حكاية مفردة رويت بسند، فإن كان الثاني فلا أدري ما حال ذاك السند وكيف وقعت لابن عبد البر زيادة «وعبد الله بن جزء الزبيدي» مع أني لم أعرف سيف بن جابر، وما دام الحال هكذا فلا تقوم بذلك حجة، مع أن صنيع ابن عبد البر في (الاستيعاب) يقتضي أنه لم يعتد بما حكاه في (كتاب العلم) من رؤية أبي حنيفة لابن جزء، فإنه قال في ترجمة أنس بعد أن ذكر أنه توفي سنة 91 و92 و93 «ولا أعلم أحداً مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبا الطفيل» وقال في ترجمة ابن جزء «كانت وفاته بعد الثمانين وقد قيل سنة ثمان أو سبع وثمانين سنة خمس وثمانين» . فصل في (تاريخ بغداد) 4/207 من طريق ابن الصلت «حدثنا بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف حدثنا أبو حنيفة قال سمعت أنس ابن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم» ثم قال الخطيب: لم يروه عن بشر غير أحمد بن الصلت وليس بمحفوظ عن أبي يوسف، ولا يثبت لأبي حنيفة سماع من أنس بن مالك. والله أعلم. حدثني علي بن محمد بن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول سئل أبو الحسن الدارقطني وأنا أسمع عن سماع أبي حنيفة من أنس يصح؟ قال: لا ولا رؤيته، لم يلحق أبو حنيفة أحداً من الصحابة» أشار الأستاذ إلى هذا ثم قال: «مع أن أبا حنيفة كان أكبر سناً من أقل سن التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس مع ثبوت قدومه إلى الكوفة قبل وفاته اتفاقاً» . أقول: أما أنا فلم أعرف أن أنساً قدم الكوفة في أواخر عمره فإن بنى هذا على ما اشتهر من تحديثه للحجاج بحديث العرنيين وإيذاء الحجاج له وكتابة أنس إلى

عبد الملك يشكوه فهذا كان بالبصرة سنة 75 على أن الحجاج انتقل من الكوفة إلى واسط سنة 86 وفيها مات عبد الملك كما هو معروف في التاريخ. وإن بنى على ما حكى عن ابن سعد في رؤية أبي حنيفة لأنس فقد مر ما فيه. وإن بني على أن الدارقطني على ما في (تبييض الصحيفة) عن حمزة السهمي قال: «لم يلق أبو حنيفة أحداً من الصحابة إلا أنه رأى أنساً بعينه ولم يسمع منه» كما نقله الأستاذ ص15 وأن جماعة ممن بعد الدارقطني ذكروا رؤية أبي حنيفة لأنس كما ذكره ص15 أيضاً فلا أرى في هذا حجة، أما ما حكاه السيوطي عن حمزة فقد عارضه ما مر عن الخطيب، والخطيب يروي في مواضع كثيرة من (تاريخه) عن علي بن محمد نصر عن حمزة سؤالات حمزة للدارقطني وغيره كما ترى شواهد ذلك في المقدمة (تاريخ جرجان) فيعلم مما ذكر مع النظر إلى عادة الخطيب وعادة أهل عصره التي أشرت إليها في (الطليعة) ص 110، أنه كان عنده نسخة من كتاب حمزة وسمعها من علي بن محمد بن نصر فما روى عن علي بن محمد بن نصر عن حمزة من سؤالات الدارقطني فهو من ذاك الكتاب، فرواية الخطيب ثابتة. وأما حكاية السيوطي فان كان أخذها من نسخة من كتاب حمزة فنسخة الخطيب أثبت لقرب العهد وسماعه للكتاب بواسطة واحدة ولما عرف من تثبيت الخطيب، وإن كان أخذها من مأخذ آخر فلا ندري ما حاله؟ وزعم الأستاذ أن ما وقع في (التاريخ) : «مما غيرته يد أثيمة وكم لمصحح الطبع من إجرام في الكتاب وكان أصل الكلام ... إلا رؤيته - فغيرته اليد الأثيمة إلى: ولا رؤيته» . أقول الكتاب أي (تاريخ بغداد) طبع بمصر ولعل الأستاذ إن كان شك في تلك الكلمة قد راجع الأصل المطبوع عنه أو روجع له كما عرف من عادته في الحرص على تأييد قوله والتنديد بمخالفيه كالمصحح الذي عناه، فلو وجد في الأصل «إلا رؤيته» لصرح به، فإن عاد فحمل على الأصل نفسه فما باله يذكر مصحح الطبع؟ هل أذكرته كلمة «الطبع» قولهم: قيل للغراب لم تسرق الصابون؟ قال:

فصل: فيه ذكر الخلاف في سنة ولادة أبي حنيفة والقول الراجح فيها

الأذى طبعي! . (1) وعلى كلا الحالين ليس لخصمه أن يعارضه باتهام مصحح «تبييض الصحيفة» أو كاتب أصلها؟ ومع هذا فلا مانع من صحة الحكايتين معناً بأن يقال كان الدارقطني استند فيما في «تبييض الصحيفة» من قوله «إلا أنه رأى أنساً بعينه» إلى رواية لينة أو شهرة بين حنفية عصره تسمح بذلك لأن ذكر الروية وحدها «من باب المناقب الذي يتساهل فيه» كما قال الأستاذ ص 21 في قضية أخرى، فلما سئل في رواية الخطيب على الصحة نفاها، وقول الأستاذ ص 15 «ونفيه لسماعه بعد إثباته لرؤيته دعوى مجردة وشهادة على النفي» يرد عليه أن دعوى الرؤية دعوى مجردة أيضاً، فإن قيل الظاهر أنه لم يقل ذلك إلا عن حجة، قلنا هذا الظاهر لا يبلغ أن يكون حجة ولا سيما مع التساهل في المناقب، ومع هذا فكذلك الظاهر أنه لم ينفي السماع إلا عن حجة قد تكون بنفي خاص تقبل على مثله الشهادة. فأما من ذكر الرؤية ممن بعد الدارقطني فبنوا على اشتهار ذلك بين متأخري الحنفية وأنه «من باب المناقب الذي يتساهل فيه» كما نص عليه الأستاذ. فصل قضية سماع أبي حنيفة ترتبط بقضية ميلاده فلا بأس فيها هنا. في «تاريخ بغداد» (13/330) من طريق ابن عقدة بسنده إلى «مزاحم بن داود بن علية يذكر عن أبيه أو غيره قال: ولد أبو حنيفة سنة إحدى وستين ... » قال الخطيب «لا أعلم لصاحب هذا القول متابعاً» . قال الأستاذ ص 19:

_ (1) وعاد الأستاذ فعلق على ص 167 قوله «وما نسب إلى الدارقطني في (4 / 208) من نفي رؤيته لأنس من تصرف مصحح الطبع كما سبق تحقيقه في صدر الردود على الخطيب ... » كذا يجازف هذا الرجل هذه المجازفة ثم يضج ويعج إذا نسب إلى بعض ذلك.

«ألف في رواية أبي حنيفة الأحاديث عن جملة من الصحابة مباشرة جماعة من القدماء من أمثال أبي حامد محمد بن هارون الحضرمي ... وإلى هذه الرواية في ميلاده يكون ميل هؤلاء وإلا ما ساغت روايته من بعض تلك الأحاديث في عداد مسموعاته ... » . أقول ابن عقدة هو أحمد بن محمد بن سعيد تقدمت ترجمته، ومزاحم وأبوه ضعيفان على أنه لم يدر أعن أبيه أم عن غيره؟ فأما الذين ألفوا في رواية أبي حنيفة عن جملة من الصحابة فليسوا متقدمين على عصر الخطيب ولا هم ممن يعتد به في هذا الشأن، بلغهم شيء فرووه ووكلوا النقد إلى أهله. ثم ذكر الأستاذ أنه رأى في نسخة قلمية من (ضعفاء ابن حبان) تاريخ ميلاد أبي حنيفة سنة سبعين وأن بعض المطالعين صحح في الهامش: سنة ثمانين، وأن في «أنساب ابن سمعاني» المطبوع بالزنكوغراف في مادة «الخزاز» : سنة سبعين، وفي موضع آخر من الكتاب سنة ثمانين، وأن في «ملخصه» لابن الأثير وفي مادة «الخزاز» : سنة ثمانين، وأن أبا القاسم السمعاني عصري الخطيب ذكر قولين: سبعين، ثمانين، وأن صاحب «الجواهر المضيئة» ذكر ثلاث روايات: 61، 63، 80، وأن العيني ذكر في «تاريخه» ثلاثاً أيضاً: 61، 70، 80، أقول أما رواية 61 فقد مر ما فيها. وأما رواية 63 فتفرد بذكرها في جملة ما قيل صاحب «الجواهر المضيئة» المتوفى سنة 775 ولم يذكر من قالها. وأما رواية 70 فحكاها السمعاني عصري الخطيب ولم ينسبها إلى قائل ووقعت في نسخة من (الضعفاء) لابن حبان وفي موضع من نسخة من (الأنساب) كما مر عن الأستاذ مع ما فيه، فغاية الأمر انه قيل بها في القرن الرابع. وأما سنة ثمانين فثبتت من طرق في «انتقاء ابن عبد البر» ص 122- 123 و «تاريخ بغداد» (13/ 330) عن أبي نعيم الفضل بن دكين وهو إمام جليل كوفي كأبي حنيفة سمع منه وروى عنه، وكذلك في «تاريخ بغداد) عن زفر بن

الهذيل صاحب أبي حنيفة، وفيه أيضاً ص 325- 326 عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة «ولد جدي في سنة ثمانين وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب ... » وفي السند نظر لكن الأستاذ أحتج بتلك الرواية في تعليقه على «مناقب أبي حنيفة» الذهبي ص 7 وقال «صح عن إسماعيل بن حماد ... » وكذلك في «الانتقاء» عن يحيى بن نصر بن حاجب وهو حنفي توفي سنة 215، وفي «الانتقاء» آخر ص 123 من طريق أبي يعقوب يوسف ابن أحمد بن يوسف المكي الذي يكثر الأستاذ من ذكر كتابه والثناء عليه يعبر عنه بابن الدخيل تلميذ العقيلي قال «سمعت القاضي أبي الحسن أحمد بن محمد النيسابوري قال: وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده أنه ولد سنة ثمانين ... » والنيسابوري هذا متقدم على الذين ذكروا سنة سبعين، ومن العجب أن الأستاذ قال ص 20 «قول ابن عبد البر: وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده ... ، يدل على أنه لم يطلع على تلك الروايات، وعذره انه لم يرحل إلى الشرق ... » ولا أدري أغلط هذا أم مخالطة، فأن ابن عبد البر لم يقل ذلك من عند نفسه، وإنما رواه عن شرقي متقدم كما رأيت. وعلى كل حال فتاريخ المورد لم يثبت ببعض ما ذكر فضلاً عن جميعه ولم يعارض ذلك ما يستحق أن يلتفت إليه. ولا يبعد أن تكون الأقوال الأخرى. إنما بنيت على رواية على بعض تلك الأحاديث الواهية دفعاً لوضوح البطلان عنها كما تقدم في قول من قال: أن وفاة عبد الله ابن الحارث بن جزء سنة 97 أو 99 ثم أخذها بعض من لم ينظر فيها! ومن عجيب شأن التعصب أنه يبلغ بصاحبه من العمى أن يسعى جاهداً في الإضرار بمن يتعصب له متوهماً أنه أنما يسعى في نفعه، لو كان مولد أبي حنيفة متقدماً كما زعموا بحيث أدرك جماعة من الصحابة وأكابر التابعين كان الذي ينبغي له يتحرى له أنه السماع منهم لأحاديث كثيرة يحتج بها في كتبه ويرويها عنه أصحابه كأبي يوسف ومحمد في كتبهم الثابتة عنهم، فلو ثبت مع ذلك أحاديث عن أولئك لكنها قليلة وكان معظم روايته عمن سنه قريب من سنه كحماد ابن أبي سليمان لكانت شُنْعَةً عليه أن يتشاغل عن الاستكثار من أولئك حتى يبلغ عمره ثلاثين أو

أربعين سنة أو أكثر بالمخاصمة في الإرجاء والقدر كما يأتي، وسيأتي في ترجمة أبي العطوف جراح بن منهال عن سلمة بن سليمان أحد ثقات أصحاب ابن المبارك قال: «قال على لابن المبارك هل كان أبو حنيفة عالماً؟ قال: لا ما كان خليقاً لذاك، ترك عطاء وأقبل على أبي العطوف» وقد نازع الأستاذ في صحة هذه الحكاية عن ابن المبارك بما فيه ما فيه، وهب أنها لم تصح عن ابن المبارك فالشنعة بحالها، ولذلك حاول الأستاذ أن يثبت أن أبا حنيفة استكثر من عطاء، وربما أنظر في ذلك في ترجمة أبي العطوف، وعلى كل حال فهذه الشنعة أخف بكثير من عدم الاستكثار من الصحابة وكبار التابعين، فكيف إذا لم تثبت عنه رواية واحدة عن صحابي أو تابعي كبير؟! فأولئك المساكين والأستاذ معهم يركبون - كما يعبر به الأستاذ - كل مركب لمحاولة إثبات أن أبا أدرك عدة من الصحابة ويحتمل أن يكون قد سمع منهم. وفي ذلك عبرة! قال الأستاذ «والاختلاف شديد في مواليد رجال الصدر الأول» . أقول: قد مر ما فيه، وهو على كل حال لا يسوغ التشكك فيما قامت عليه الحجة من ذلك. قال: «والأكثرون على أن أبا حنيفة ولد سنة 80 ترجيحا منهم لأحدث التواريخ المروية في المواليد وأقدمها في الوفيات أخذاً بالأحوط في الحكم بالاتصال أو الانقطاع» . أقول: لا أثر ههنا للاحتياط المذكور بل القطع بسنة ثمانين أخذاً بالحجة الواضحة التي لم يعارضها ما يستحق أن يلتفت إليه. قال الأستاذ: «هنا أمور تخدش ما اختاره الأكثرون» . أقول: فلننظر فيها واحداً واحداً. قال: «منها ما فعله أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار المتوفى سنة 331

في جزئه الذي سماه: (ما رواه الأكابر عن مالك) حيث عد حماد بن أبي حنيفة من هؤلاء الأكابر، فساق حديثاً بطريق حماد بن أبي حنيفة عن مالك، وحماد هذا وإن توفي قبل مالك بنحو ثلاث سنين لكن عدة من الأكابر لا يتم إلا إذا كان ميلاده قبل ميلاد مالك أيضاً فيجب أن يكون ميلاد أبي حنيفة قبل سنة 80 بمدة لا تقل عن عشر سنين ... وابن مخلد من الحفاظ البارعين من شيوخ الدارقطني فلا يحيل عن التحقيق فيما يكتب وجزؤه المذكور محفوظ بظاهرية دمشق في قسم المجاميع رقم 98 وعليه تسميعات وبخطوط كثيرة من حملة الرواية» . أقول: يكفي لحل هذه الشبهة أن الأستاذ نفسه قال في تعليقه على (الانتفاء) لابن عبد البر: «وفي هذا الجزء رواية الزهري ... والثوري ... وحماد بن زيد، وإبراهيم ابن طهمان، وورقاء وغيرهم» . ومولد مالك سنة 93، والثوري سنة 97، وحماد بن زيد سنة 98، ولعل في الجزء من ولد بعد ذلك (1) وإبراهيم بن طهمان لم يذكروا ميلاده ويظهر من أسامي شيوخه أنه اصغر من حماد بن زيد لكنه صار من الأكابر في حياة مالك ومات قبله فإن مالكاً عمر، فإذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 80 فإنه يبلغ سنة آخر سنة 98 وهي السنة التي ولد فيها حماد بن زيد تسع عشر سنة فأي مانع من أن يولد له في هذه السنة أو قبلها، والأقرب أن ابن مخلد - إن صح ما في ذاك الجزء - إنما نظر إلى حماد بن أبي حنيفة بلغ مبلغ الأكابر في حياة مالك ومات قبله ولم يدقق في ميلاده لأنه غير معروف، وبالنظر إلى سن أبيه يحتمل أن يكون ولد سنة 97 كالثوري أو سنة 98 كحماد بن زيد أو قريباً من ذلك. فاتضح أنه ليس فيما وقع في ذلك الجزء ما يخدش فيما قامت عليه الحجة الواضحة أن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين.

_ (1) ... قلت: صدق ظن المؤلف رحمه الله تعالى، ففي الجزء المذكور رواية عبد الله بن وهب عن مالك في عدة مواضع منه (ق 205/ 2 - 207 و2/ و208 / 2) ومولد ابن وهب سنة 125، وفيه (ق 206/ 2) رواية أشهب وهو ابن عبد العزيز عنه، ومولده 145. ن

رواية حماد بن أبي حنيفة عن مالك (تعليق)

هذا كله إذا بنينا على صحة ما وقع في ذلك الجزء، وإلا فالغالب على الظن خلاف ذلك فإن ذاك الحديث وقع في ذاك الجزء هكذا: «نا أبو محمد القاسم بن هارون، نا عمران، نا بكار بن الحسن الأصبهاني، نا حماد بن أبي حنيفة ثنا (1)

_ (1) كذا هو في تعليق الكوثري على (الانتقاء) ص 13، ولعله خطأ غير مقصود من الكوثري لغرض في نفسه، فإن الذي في الجزء المذكور من النسخة التي أثار إليها الكوثري نفسه (ق 204 / 2) « ... عن مالك ... » ليس فيها تصريح حماد بالتحديث، وكذلك هو في نسخة أخرى محفوظة أيضاً في ظاهرية دمشق وعليها سماعات كثيرة (ق 38 / 2) ، وإسناد الرواية فيهما هكذا: ثنا أبو محمد القاسم ابن = =هارون بن جمهور بن منصور الأصبهاني، ثنا حماد بن أبي حنيفة عن مالك بن أنس ... » فتأمل كيف تعمد الكوثري أن يسقط من السند نسب عمران «بن عبد الرحيم الباهلي» مع ثبوت ذلك في النسختين من الجزء، وما ذلك - والله أعلم - إلا تعمية لحاله، وتمشية لحال إسناد روايته ليتم له الاستدلال بها على ما رمي إليه من إثبات رواية حماد بن أبي حنيفة عن مالك، التي حاول أن يستنبط منها أن ميلاده كان قبل ميلاد مالك وأن ميلاد أبي حنيفة كان قبل سنة 80! وهيهات هيهات، فإنها ظلمات بعضها فوق بعض، فقد كشف المؤلف رحمه الله تعالى أن عمران هذا هو ابن عبد الرحيم كما جاء في السند، وأنه متهم بالوضع، وأن ما استلزمه الكوثري من روايته - على فرض ثبوتها - غير لازم. وأزيد عليه فأقول: إن حماد بن أبي حنيفة نفسه ليس بحجة في الرواية، فقد ضعفه ابن عذب وغيره من قبل حفظه، ولهذا أورده الذهبي في كتاب (الضعفاء) وقال (ق 35 / 1) : «مقل ضعيف الحديث» . ثم إن ما استظهره المصنف رحمه الله تعالى من أصل الجزء المذكور إنما هو «حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة ... » وأن الناسخ زاغ نظره من «أبي حنيفة ... » لا يساعد عليه، أن النسخة الأخرى متفقة مع الأول في عدم ذكر أبي حنيفة، زد على =

حكاية نقلها الكوثري ساكتا عليها ليثبت بها أن أبا حنيفة أدرك جماعة من الصحابة وبيان أنها لا تصح

مالك ... » كما نقله الأستاذ فيما علقه على (الانتقاء) ، وذكر هو أن ذاك الحديث قد رواه الدارقطني في (غرائب مالك) وابن شاهين عن «محمد بن مخزوم عن جده محمد بن الضحاك ثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهاني ثنا بكار بن الحسن، ثنا حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة عن مالك ... » فعمران في سند ابن مخلد هو عمران بن عبد الرحيم في سند الدارقطني وابن شاهين، وفي ترجمته من (الميزان) عن السليماني: «هو الذي وضع حديث أبي حنيفة عن مالك» . فابن مخلد لم يشترط في ذاك الجزء الصحة وإنما اكتفى بما روي فلو وقع في روايته من طريق عمران بسقوط أبي حنيفة لكان الظاهر أن يذكر الرواية الأخرى فإنه لا بد أن يكون عند تأليفه ذاك الجزء تتبع ما يصلح أن يذكر فيه ويبعد أن لا يظفر بالرواية المشهورة عن عمران أن بثبوت أبي حنيفة عن أبي حنيفة ثنا مالك» فزاغ نظر ناسخ ذاك الجزء من (حنيفة) الأولى إلى الثانية، ولا يدفع ذلك ما على الجزء من التسميعات، وقد رأينا عدة من الأصول القديمة عليها كثير من التسميات والتصحيحات وبقي فيها مثل هذا الخلل أو أشد منه، راجع (التاريخ الكبير) للبخاري (ج 1 قسم 1) (ص 70، 79، 80، 101، 105، 154، 157) . ومن غرائب الأستاذ أن يحاول تثبيت ما وقع في الجزء المذكور مع احتماله كما رأيت، ثم يحاول في (التأنيب) أن يخفي اصطلاح ابن مخلد في «الأكابر» ويثبت أنه إنما يعني بهم الذين ولدوا قبل مالك، ثم يبالغ في الثناء على ابن مخلد ليخدش بصنيعه المزعوم في نصوص المتقدين الصريحة، كل ذلك ليثبت أن أبا حنيفة أدرك

_ = ذلك أنه قد كتب ناسخ الأولى على الوجه منها وتحت اسم الكتاب أكثر أسماء الرواة عن مالك، وفيهم حماد بن أبي حنيفة دون أبي حنيفة، فهذا وذاك يرجح أن لا زوغ من الناسخ، وأن الرواية هكذا وقعت لابن مخلد. والله أعلم. ن «ولكن الزوغان والروغان من الكوثري. زهير»

شدة إبراهيم النخعي على المرجئة وبعض أقواله في ذلك

جماعة من الصحابة وأكابر التابعين ويحتمل أن يكون سمع منهم مع علمه أنه لا تثبت عن أبي حنيفة رواية واحدة عن واحد منهم، ويغفل عن النتيجة التي سلفت الإشارة إليها. قال الأستاذ: «ومنها أن العقيلي روى في ترجمة حماد بن أبي سليمان ما يفيد أن إبراهيم بن يزيد النخعي لما مات اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة فجمعوا نحو أربعين آلف درهم ثم أعطوه حماد بن أبي سليمات ليستعين به ويتفرغ لرياسة الجماعة في العلم وكانت وفاة إبراهيم النخعي سنة 95 ولو كان ميلاد أبي حنيفة سنة ثمانين لكان سنة عند وفاة النخعي خمس عشرة سنة، ومن يكون في مثل السن لا يتصور أن يهتم هذا الاهتمام بمن يخلف النخعي ... » . أقول قال الأستاذ نفسه فيما علقه على (مناقب أبي حنيفة) الذهبي ص 7 «قال العقيلي في الضعفاء) حدثنا أحمد بن محمد الهروي، قال: حدثنا محمد بن المغيرة البلخي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأصفهاني، قال: لما مات إبراهيم اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة فجمعوا أربعين ألف درهم وجاءوا إلى الحكم بن عتيبة فقالوا: أنا قد جمعنا أربعين آلف درهم نأتيك بها وتكون رئيسنا في الأرجاء فأبى عليهما الحكم فأتوا حماد بن أبي سليمان فقالوا له فأجابهم وأخذ الأربعين ألف درهم» ! لا أناقش الأستاذ في تمويهه، وإنما أنظر في الحكاية فالهروي والبلخي لم أجدها وإسماعيل لم يتضح لي من هو، وابن الأصبهاني متكلم فيه، قال أبو حاتم: «لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به» وأخرج له النسائي حديثاً ثم قال «هذا خطأ، ابن الأصبهاني ضعيف» وقال ابن عدي «مضطرب الحديث قليل الحديث مقدار ماله قد أخطأ في غير شيء» . وكانت وفاته سنة 181، ويظهر من وفيات شيوخه أنه لم يدرك موت إبراهيم، فإن صح سند الحكاية إليه، فممن سمع القصة؟ وما عسى أن يكون أخطأ في سياقها؟ ثم أي شيء فيها؟! كان إبراهيم شديداً على المرجئة وفي ترجمته من (طبقات ابن سعد) عدة حكايات في ذلك منها عن الحارث العكلي عن إبراهيم قال: «إياكم وهذا الرأي المحدث يعني المرجئة» وعن مجل بن محرز عن

إبراهيم قال: «كان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم لا تجالسنا» وعن محل أيضاً «قال لنا إبراهيم: «لا تجالسوهم يعني المرجئة» وعن حكيم بن جبير عن إبراهيم قال: «لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» وعن غالب بن أبي الهديل أنه كان عند إبراهيم فدخل عليه قوم من المرجأة قال فكلموه فغضب وقال: «إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي» . وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة ذر بن عبد الله المرهبي «قال أبو داود: كان مرجئاً وهجرة إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير للإرجاء» وفيه ترجمة محمد بن السائب الكلبي «وقال ابن فضيل عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لمحمد بن السائب: ما دمت على هذا الرأي لا تقربنا، وكان مرجئاً» . فكأنهم كانوا مقموعين في حياته فلما مات خلالهم الجو واستعانوا بالمال، وفي ترجمة إبراهيم من «تهذيب التهذيب» : «روى عنه الأعمش ومنصور وابن عون وزبيد اليامي وحماد بن أبي سليمان ومغيرة بن مقسم الظبي وخلق» وهؤلاء سوى حماد منكرين للأرجاء ولما دخل فيه حماد أنكروا عليه، وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد: «قال أبو حذيفة: ثنا الثوري قال: كان الأعمش يلقي حماداً حين تكلم في الأرجاء فلم يكن يسلم عليه، ... وقال شعبة: كنت مع زبيد فمررنا بحماد فقال: تنح عن هذا فأنه قد أحدث» وفيه في ترجمة عمر بن مرة «قال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء فتهافت الناس فيه» . وعلى فرض صحة سند الحكاية إلى ابن الأصبهاني وأنه سمع من ثقة، فالظاهر أنها تأخرت عهن موت إبراهيم مدة، وفي كتاب ابن أبي حاتم ج 2 قسم 2 ص

146: «أنا أحمد بن سنان الواسطي أنا أبو عبد الرحمن المقرئ نا ورقاء عن المغيرة قال: لما مات إبراهيم دلس الحكم وأصحابه إلى حماد حتى أحدث ما أحدث. قال المقرئ يعني الأرجاء» . ورجاله ثقات. وعلى صحة تلك الحكاية وأنها على ظاهرها في أن القضية وقعت عقب موت إبراهيم فقد يكون ذكر أبي حنيفة مدرجاً أو قع فيه اشتهاره بالأرجاء مقرونة بعمر بن قيس الماصر كم قرناً في البيتين الذين في (تاريخ بغداد) 13 / 380 و (التأنيب) ص 59، وبعد التيار والتي فإبراهيم توفي في أوائل سنة 97 وذلك أن أبا نعيم الفضل بن دكين قال سنة 96، وقال ابن حبان: «مات بعد الحجاج بأربعة أشهر» ، والحجاج هلك في شوال سنة 95، وقيل في رمضان منها، فإذا كان أبو حنيفة ولد أول سنة ثمانين فأنه يتم له عند وفاة إبراهيم ست عشر سنة ومن كان في هذا السن وهو جلد ذكي لا يمتنع أن يستعين به أصدقاء أبيه في جمع المال ونحوه ولا سيما إذا كان أبوه مرجئا فانه ينشا متحمساً لأري أبيه جاهداً فيه. قال الأستاذ: «ومنها أنه قد تظافرت الروايات على أن أبا حنيفة قبل انصرافه إلى الفقه كان جدلياً يشتغل بعلم الكلام حتى هبط البصرة نحو عشرين مرة ليناظر القدرية وغيرهم، ثم انصرف إلى الفقه، ومن تكون سنة عند وفاة النخعي كما ذكرناه لا يمكن له الاشتغال الطويل بجدل قبل انصرافه إلى الفقه» . أقول: ما تظافرت الروايات بل تنافرت، ففي (تاريخ بغداد) 13/331 من طريق «محمد بن شجاع الثلجي ثنا الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لم أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها ... قلت: فإن نظرت في الكلام ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنعات الكلام فيرما بالزندقة.. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل ونفتي الناس وتطلب للقضاء وأن كنت شاباً قلت: ليس في العلوم شيئاً أنفع من هذا فلزمت الثقة وتعلمت» وروايات المخالفة لهذه والموافقة لها يعلم بما فيها بالنظر في أسانيده، وهب أنه صح أن أبا حنيفة كان جديداً ثم أنصرف إلى الفقه، فمتى أنصرف؟

فصل: فيه عودة ابن الصلت وحديث "طلب العلم فريضة" وتضعيف الأئمة له

إن قيل: قد جاء عنه أنه لازم حماداً ثمانية عشر سنة، قلت: أن صح ذلك فلعله لازمه أولاً بالأرجاء، فان حماداً كان يقول به في الجملة كما مر، ثم أكمل المدة للفقه فأن صح هبوطه البصرة نحو عشرين مرة للمخاصمة القدرية فليس من لازم انصرافه إلى الفقه هجره الكلام في القدر البتة، ولا من لازمة ملازمته حماداً أن لا يغيب عنه في السنة الأسبوع والأسبوعين والشهر والشهرين بالحجج والحاجة. على أن حماداً توفي سنة 120 كما قال أبو بكر ابن أبي شيبة. وحكى ابن سعد إجماعهم عليه، وقول البخاري وتبعه ابن حبان سنة 119 متأخر عن هذا الإجماع، وملازمة أبي حنيفة حداداً ثمانية عشر سنة معناه إذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 180 أنه ابتدأ في الملازمة وسنة نحو ثلاث وعشرين سنة فلا مانع أن يكون قد مهر في مسائل الكلام المعروفة حينئذ كالأرجاء والقدر، وهذا ابن سينا يزعم أنه أحكم المنطق وإقليدس والمجسطي والطبيعي والإلهي والطب وألف فيها أو في أكثرها وكان مع ذلك يلتقي الفقه ويناظر فيه، وأخذ الأدب، كل ذلك وعمر إحدى وعشرين سنة، ولذلك نظائر. وبالجملة فلم يأتي الأستاذ بعد اللتيا والتي بما يصح أن يعد معارضاً لما ثبت من أن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين، ولم يستفد إلا تضيع وقته ووقت من يعقبه، والسعي فيما لو صح لأنتج نقيض مقصودة كما سلف. والله المستعان. فصل ولنعطف على ابن الصلت، هب أن أبا حنيفة ولد سنة 61 أو قبلها وأنه سمع من أنس وروى عنه عدة أحاديث، فان هذا لا يدفع أمثال الخطيب ذلك الحديث على ابن الصلت، من جهة أنه لم يروه غيره عن بشر، ولا يحفظ عن أبي يوسف ولا يثبت عن أبي حنيفة، وهذا الحديث مما توفر الدواعي على كثرت روايته واشتهاره، فلو كان عند أبي حنيفة لكثر تحديثه به لعلو السند، واثبات السماع من الصحابي،

فصل: فيه رواية أخرى لابن الصلت عن ابن عيينة في فضل أبي حنيفة

والترغيب فيما كان يدعوا إليه من طلب والعلم، لو حدث به لكثر التحديث تلاميذه به وإثباته في كتبهم، فلو قال قائل: لو كان عنده لتواتر عنه، لما أبعد. وأهل العلم من قديم يلهجون بمتن هذا الحديث ويتطلبون له إسناداً صحيحاً فلا يجدونه، ولأجل ذلك وقع كثير من الناس في روايته بأسانيد مركبة أو مدلسة أو نحو ذلك واحتاج أهل العلم إلى نقله من وجوه ضعيفة، ذكره ابن عبد البر في أوائل (كتاب العلم) ثم قال: «هذا حديث يروى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة كلها معلولة ولا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد» . ثم ذكر عن إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238 «أنه كان يقول: طلب العلم واجب ولم يصح في الخبر» وقال ابن عبد البر «يريد إسحاق - والله أعلم - أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكنه معناه صحيح عندهم..» فصل ثم روى الخطيب من طريق ابن الصلت: «حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث قال: سمعت ابن عيينة قال: العلماء ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وأبو حنيفة في زمانه» قال الخطيب: قلت: ذكر أبي حنيفة في هذه الحكاية زياد من الحماني (ابن الصلت) ، والمحفوظ ما أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المقرئ الحذاء أخبرنا أحمد بن جعفر بن سالم (صوابه: سلم) الختلي حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق حدثنا أبو بكر المروزي «صوابه: المروذي» حدثني محمد بن أبي محمد (صوابه: محمد بن أبي عمر، كما قاله الأستاذ) عن سفيان بن عيينة قال: علماء الأزمنة الثلاثة، ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه»

ثم قال: «فإن قيل ما أنكرت أن تكون رواية الحماني صحيحة، والرواية الثابتة فيها ذكر أبي حنيفة، وحذفه بعض النقلة، قلت: منع من ذلك أمران، أحدهما أن عبد الرزاق بن هارون يروي عن ابن عيينة مثل هذا القول الثاني سواء، والأمر الآخر أن المحفوظ عن أبي عيينة سوء القول في أبي حنيفة. من ذلك ما أخبرنا محمد بن عبد الله الحنائي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق المروزي: حدثنا أحمد بن محمد المنكدر: حدثنا محمد ابن أبي عمر قال: سمعت ابن عيينة يقول (ح) وأخبرنا ابن الفضل: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني محمد بن أبي عمر - يعني العدني - قال: قال سفيان: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة. وهكذا روى الحميدي عن ابن عيينة. ولسفيان بن عيينة في أبي حنيفة كلام غير هذا كثير شبهه في المعنى. ثم ذكرناه في أخبار أبي حنيفة» . إشارة الأستاذ ص 166 إلى رواية ابن الصلت عن محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث بقوله « ... وبأنه روى عن ابن محمد بن المثنى عن ابن عيينة ... » وأشار إلى رواية ابن أبي عمر وقال في الحاشية: «الفرق بين الروايتين عن ابن عيينة فرق ما بين محمد بن المثنى ومحمد بن عمر العدلي، نسأل الله المعافاة، فبهذا أطلعت على جلية صنيع الخطيب هناك أيضاً» . أقول: لا يكاد الأستاذ يقول «نسأل الله الصون» أو: السلامة، أو: المعافاة، إلا حيث يكون قد فعل إحدى الفعلات، والفعلة هنا أنه لم يسرق السند وفيه: عن ابن الصلت «حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث» واقتصر في الأصل (التأنيب) وفي حاشيته في ذكره شيخ ابن الصلت عن قوله «محمد بن المثنى» فلم يكن «صاحب بشر بن الحارث» وإشارة إلى رجحان محمد بن المثنى على محمد بن يحيى بن أبي عمر يريد إيهام أنه محمد بن المثنى بن عبيد ابن قيس بن دينار العنزي أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن، أنه هو الذي يفهم عند إطلاق «محمد بن المثنى» وليس

في كتب أسماء الرجال المتداولة من يقال له «محمد بن مثنى» غير وقد سمع من ابن عيينة وأدرك ابن الصلت، فعلم الأستاذ أن من يطالع (التأنيب) ولا يقف على «تاريخ الخطيب) ، أولاً يراجعه في ذاك الموضوع لا يقع إلا على هذا الحافظ. والواقع أن الذي في السند «محمد بن مثنى صاحب بشر بن الحارث» كما مضى، وهذا رجل آخر، ترجمته في «تاريخ بغداد» ج 4 ص 286 «محمد بن المثنى بن زياد أبو جعفر السمسار كان أحد الصالحين صحب بشر بن الحارث وحفظ عنه وحدث عن نوح بن يزيد وعفان بن مسلم وغيرهم ... » ثم ذكر قول ابن أبي حاتم: «كتبة عنه مع أبي وهو صدوق» وأنه «مات سنة 260» وهذا دون ابن أبي عمر بكثير ولم يخرج له أحد من الستة وابن أبي عمر روى عنه مسلم في صحيحه مائتي حديث وستة عشر حديثاً على ما في «التهذيب» عن كتاب «الزهرة» وستأتي ترجمته والنظر في كلام الأستاذ فيه. وفوق ذلك فالسمسار يظهر أنه لم يدرك ابن عيينة وان ابن الصلت افتضح في روايته عنه انه قال «سمعت ابن عيينة» فان ابن عيينة مات سنة 98 والمسلمون من شيوخ السمسار ماتوا بعد ذلك بزمان، فبشر ابن الحارث سنة 227 وعفان 220، ونوح بن يزيد قريباً من ذلك، ولم اظفر بتاريخ وفاته ولكن ذكروا في الرواة عن أحمد بن سعد بن إبراهيم أبا إبراهيم الزهري الذي ولد سنة 198 كما في «تاريخ بغداد» ج 4 ص 181، وأحمد بن علي بن الفضيل أبا جعفر الخراز المقرئ المتوفى سنة 286 كما في «تاريخ بغداد» ج4 ص303 فظهر بذلك أن وفاة كانت سنة بضع عشرة ومائتين أو بعد ذلك. أضف إلى ذلك آن من عادتهم أنهم يحرصون على أن يذكروا في ترجمة الرجل أقدم شيوخه واجلهم فلو عرف لسمسار سماعاً من ابن عيينة أو أحد أقرانه أو من قرب منه لكن أولى أن يذكروه في شيوخه من نوح وعثمان. فإن قيل: أن كان ابن الصلت أراد الكذب فما الذي منعه أن يسمى شيخاً أشهر من السمسار واثبت لا يشك في سماعه من ابن عيينة؟ قلت منعه علمه بان الكذب على المشاهير سرعان ما يفتضح لإحاطة أهل العلم بما رووه بخلاف المغمورين الذين لم يرغب

أهل العلم في استقصاء ما رووه. ومع ما تقدم فلا معنى للموازنة بين شيخ ابن الصلت وبين ابن أبي عمر ما دام ابن الصلت فيه ما فيه ومع ذلك فقد عضد الخطيب رواية ابن أبي عمر برواية عبد الرزاق بن هارون وهي عنده في ترجمة سفيان من (التاريخ) ج 9 ص 154 من وجهين بنحو رواية ابن أبي عمر، وقريب منها رواية العباس بن يزيد البحراني في (تاريخ بغداد) ج 3 ص 227. فقد اتضح جدا صحة قول الخطيب أن المحفوظ عنده اقتصار ابن عيينة على الثلاثة لم يذكر أبا حنيفة، فإن المحفوظ عندهم هو الطرف الراجح كما مر في ترجمة الخطيب ولا يخفى على عارف اطلع على ترجمة ابن الصلت أن روايته بالنسبة إلى ما قال الخطيب أنه المحفوظ عنده نسبة الوهم إلى الظن. وأما قول الخطيب: «الأمر الآخر إن المحفوظ عن ابن عيينة ... » فالحكاية التي ذكرها ساقها بسندين في أحدهما المنكدري وفي الآخر ابن درستويه وستأتي ترجمتهما وحاصل الكلام فيهما أن المنكدري ليس بعمدة ولكنه أحسن حالا من ابن الصلت بكثير وأن ابن درستويه موثق لا يضره ما قيل فيه مع أن رواية الخطيب من طريقة عن يعقوب بن سفيان إنما يأخذهما من (تاريخ يعقوب بن سفيان) فرجحان هذه الرواية وحدها على رواية واضح جدا فقول الأستاذ: «أفبمثل هذين الإسنادين يكون الخبر محفوظا؟» لا وجه له على أن الخطيب ضم إلى ذلك رواية الحميدي وهي عنده في (التاريخ) ج 13 ص 399 من وجهين رجال كل منها ثقات وإن تكلم الأستاذ في بعضهم بما بينت حاله في تراجمهم والحميدي إمام وان كره الأستاذ. ثم أشار الخطيب إلى الكلمات الأخرى وهي معروفة. ومن تأمل ما تقدم وعرف ابن الصلت معرفة جيدة ولم يعمه الهوى لم يرتب في صحة حكم الخطيب على ابن الصلت بأنه زاد تلك الزيادة من عنده، على أن

المدار في هذه الأمور على غلبة الظن فلا يلتفت إلى الاحتمالات البعيدة. بل من تدبر ما يرويه ابن الصلت في المناقب وقارن ذلك بما رواه الثقات فيها وفي غيرها عرف تزيده في غير موضع. والله المستعان. ثم قال الأستاذ «فكان ابن الصلت كفر في نظر الخطيب بذكره أبا حنيفة في عدد هؤلاء الثلاثة ... وهذا هو محض الإجحاف، أبو حنيفة الذي ملأ ما بين الخافقين علما ... إذا ذكر في صف هؤلاء الثلاثة يكون ذلك من أبرز الحجج على كذب ابن الصلت كذباً بيناً، هذا ما لا يقوله إلا من اعتل اعتلالاً لا دواء له ... » . أقول: هذا ديدن الأستاذ إذا أعوزته الحجة لجأ إلى التهويل على العامة، قد ذكر الخطيب حجته كما تقدم شرحه، وأئمة الحديث كثيرا ما يطعنون مثل ذاك الطعن بنحو تلك الحجة، وإن كان المروي فضيلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأحد كبار أصحابه كما تراه في كتب الموضوعات وكتب الضعفاء، فهل يرد كلامهم بمثل هذا التهويل؟ فلينظر الأستاذ أو غيره من العارفين في (دلائل النبوة) لأبي نعيم أو في (الخصائص الكبرى) للسيوطي، وليراجع نفسه فيما يستنكر وعم نشأ استنكاره أعن اعتقاد نقصاً في النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بغض له أو حرص على غمط فضله؟ فالخطيب لم يجعل زيادة ابن الصلت من أبرز الحجج على كذبه من جهة أنها منقبة لأبي حنيفة بل من الوجهين اللذين نص عليهما مع ما عرف من حال ابن الصلت بغير هذه الحجة وماذا يغني الضجيج أمام الحجة إلا كما قيل: أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل! أو كما قال الآخر: فلا تكثروا فيها الضجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا

فصل: فيه تقدير سنة ولادة ابن الصلت وأنه روى عن جماعة لم يدركهم

فصل ثم ختم الأستاذ كلامه بقوله ص 168 «ومن الغريب أنه طعن طاعن في رجل تجد أسرابا من الرواة يركضون وراءه يرددون صدى الطاعن أيا كانت قيمة طعنه ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يغبطون عليه» . أقول مات ابن الصلت سنة 308 ولم يذكروا مولده لكن قال ابن عدي «رأيته سنة 297 فقدّرت أن له سبعين أو أكثر» فلنجعل الزيادة المحتملة سبعاً فيكون مولده سنة 220 لكنه يروي عمن مات سنة 228 كمسدد ويحيى الحماني، وسنة 227 كبشر بن الحارث وسعيد بن منصور وأحمد بن يونس، وسنة 226 كإسماعيل بن إبراهيم، وسنة 221 كالقعنبي وعاصم بن علي، وسنة 220 كعفان، وسنة 219 كأبي نعيم وأبي غسان، وسنة 215 كثابت بن محمد الزاهد ومن هؤلاء من لم يكن بالكوفة منشأ ابن الصلت، فلو كان أدركهم وطبقتهم وسمع منهم لكان مولده تقريباً على رأس المائتين فيكون بلغ من العمر مائة سنة وثماني سنين، ولو صح ذلك أو احتمل الصحة عند محدثي عصره لفتنوا به كعادتهم في الحرص على الإسناد، ولو كان في الشيخ لين، وقد تشبث الأستاذ بذلك في كلامه في عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أنه لم يدرك أولئك القدماء الذين يحدث عنهم، وقد صرحوا بذلك كما يأتي، وليس بيد الأستاذ إلا تلك الحكاية عن ابن أبي خيثمة وقد علمت حالها. فأما الطاعنون فوقفت على جماعة منهم: الأول: حافظ الحنفية عبد الباقي بن قانع البغدادي (ولد سنة 265 أو في التي تليها ومات سنة 351) وكان مع ابن الصلت في بغداد ولما بلغ أوان الطلب كان ابن الصلت على فرض صحة سماعه من أولئك القدماء في نحو ثمانين سنة من عمره

فلا بد أن يكون ابن قانع قد قصده وجالسه وسمع منه طلبا للسماع مع علو السند والموافقة في المذهب، ولكنه بعد اختباره لابن الصلت قال فيه: «ليس بثقة» فهل كان ذنب ابن الصلت عند ابن قانع الحنفي ما قاله الأستاذ ص 167: «لكن ذنب الرجل أنه ألف كتابا في مناقب أبي حنيفة» ؟! الثاني: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ الشافعي (277- 365) ينظر تمام كلامه في ابن الصلت في (كامله) والمنقول منه في (لسان الميزان) : «رأيته سنة سبع وتسعين وثلاثمائة ... ما رأيت في الكذابين أقل حياء منه كان يترك (؟) الوراقين فيحمل من عندهم رزم الكتب ويحدث عمن اسمه فيها ولا يبالي متى مات وهل مات قبل أن يولد أو لا» قال ابن حجر: «ثم ذكر له أحاديث» يعني مما يبين كذبه. الثالث: أبو حاتم محمد بن حبان البستي الحافظ (قبل 280 - 354) قال في ابن الصلت «راودني أصحابنا على أن أذهب إليه فأسمع منه، فأخذت جزءاً لانتخب فيه، فرأيته قد حدث عن يحيى بن سليمان بن نضلة عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: «رد دانق من حرام أفضل من مائة ألف في سبيل الله» . ورأيته حدث عن هناد عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «لرد دانق من حرام أفضل عند الله من سبعين حجة مبرورة» . فعلمت أنه يضع الحديث فلم أذهب إليه، ورأيته يروي عن جماعة ما أحسبه رآهم» . وابن عدي دخل بغداد سنة 297 وابن حبان دخلها سنة 300 وكان أحمد بن علي الأبار قد توفي سنة 290 ولكن الأستاذ يقول: «ذنب الرجل أنه ألف كتابا في مناقب أبي حنيفة حينما كان خصوم أبي حنيفة يتمنون أن يصفوا الجو للأبار الذين كانوا حملوه على تدوين مثالب أبي حنيفة إفكاً وزوراً فتحاملوا على الحماني هذا ليسقطوا رواياته» !

الرابع: أبو الحسن علي بن عمر بن مهدي الدارقطني الحافظ (306 - 385) قال في ابن الصلت: «يروي عن ثابت الزاهد وإسماعيل بن أبي أويس وأبي عبيد القاسم بن سلام ومن بعدهم، يضع الحديث» هكذا في (تاريخ بغداد) (ج 5 ص 104) وفيه (ج4 ص 209) «حدثني أبو القاسم الزهري قال: سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا اسمع عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبي حنيفة فقال: موضوع كله كذب وضعه أحمد ابن المغلس الحماني» . وراجع (الطليعة) ص 96 - 97. الخامس: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم صاحب (المستدرك) (321-403) قال «روى ابن الصلت عن القعنبي ومسدد وابن أويس وبشر بن الوليد أحاديث وضعها وقد وضع أيضا المتون مع كذبه في لقي هؤلاء» وبشر بن الوليد مات سنة 238 فإن صح فرضناه من مولد ابن الصلت فقد أدرك بشراً، وعن بشر روى حديث «طلب العلم فريضة» كما تقدم. السادس: أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني الحافظ (333 - 425) عد ابن الصلت فيمن وافق الدارقطني عليه من المتروكين. السابع: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الحافظ (336 - 430) قال في ابن الصلت «روى عن شيوخ لم يلقهم، بالمشاهير والمناكير» . الثامن: أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ (338 - 412) قال في ابن الصلت: «كان يضع» هكذا في (تاريخ بغداد) ، وفي (الميزان) و (اللسان) : «كان يضع الحديث» . التاسع: أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ (392 - 463) قال في ابن الصلت: «حدث عن ثابت بن محمد الزاهد وأبي نعيم ... أحاديث أكثر باطلة هو وضعها، وحكى أيضاً عن بشر بن الحارث ويحيى بن معين وعلى ابن المديني أخباراً جمعها بعد أن صنفها «في (اللسان) : وضعها» في مناقب أبي حنيفة» .

وذكر المثالين السابقين حديث طلب العلم والزيادة في الحكاية عن ابن عيينة. العاشر: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (673 - 748) قال في ابن الصلت مرة «هالك» ومرة «وضاع» ومرة «كذاب» وأورد له الحكاية في أبي حنيفة لعبد الله بن الحارث بن جزء وقد مر ذلك. الحادي عشر: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 - 852) ذكر في (لسان الميزان) كلام الأئمة في ابن الصلت ثم قال: «ومن مناكيره روايته عن بشر الحافي عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: أزهد في الدنيا يحبك الله - الحديث ... وهذا الحديث بهذا الأستاذ بهذا باطل» . فهؤلاء أحد إماماً طعنوا في ابن الصلت وجرحوه جرحاً مفسراً مشروحاً ولو تتبعنا لوجدنا معهم عيرهم كابن عساكر وابن السمعاني وآخرين ولكن الأستاذ الذي جاء بعدهم بقرون يأتي إلا أن يجعلهم أسرابا يركضون وراء يرددون صدى الطاعن أياً كانت قيمة طعنه ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يغبطون عليه» مع أنه عرف حججهم ولم يجد ما يصح أن يعد مخالفاً لهم، وينسى موقفه يوم القيامة كأنه مرفوع عنه القلم دونهم، ويذكرون في ابن درستويه ما هو بالنسبة إلى ما في ابن الصلت كالهباءة بالنسبة إلى الجبل العظيم ثم يقول: «وتضعف كواهل الخطيب وأذنابه عن حمل أثقال التهم التي ركبت على أكتاف هذا الأخباري الهاذي» ولكن لا تضعف كواهله عما على ابن الصلت كأن الخطيب وغيره من أئمة الحديث كما قال حسان: لو يدب الحولي من ولد الذر ... عليها لندبتها الكلوم لكنه هو (ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل) ولو اكتفى بقوله ص 165 «متكلم فيه ولسنا بحاجة إلى رواياته في مناقب أبي حنيفة وعندنا بطرق رجال لم يتكلم فيهم روايات كثيرة بمعنى ما رواه» لاستراح وأراح، لكنه عاد فدل على وثوقه بدعواه. وخير للحنفية أن يغسلوا أيديهم من ابن الصلت فإن المدافعة عن

35- أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبو طلحة الفزاري الوساوسي

مثله شهادة من المدافع عن نفسه بماذا؟ 35- أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبو طلحة الفزاري الوساوسي. في (تاريخ بغداد) (13 / 309) « ... حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد بن عبد الكريم الوساوسي حدثنا عبد الله ... » قال الأستاذ ص 58 «تكلموا فيه فلا يلتفت إلى وساويسه» . أقول: سأل عن الدارقطني فقال: «تكلموا فيه» وقال الخطيب في «التاريخ» ج5 ص 58 «سألت البرقاني عن أبي طلحة الفزاري فقال: ثقة» فكلمة «تكلموا فيه» ليست يجرح إذا لا يدري من المتكلم وما الكلام؟ والتوثيق صريح في العمل عليه. 36- أحمد بن محمد بن عمر. تقدم (1) في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت رواية المنكدري، بمتابعة يعقوب بن سفيان، أشار إليها الأستاذ ص 166 وقال: «أما المنكدري فكثير الانفراد والأغراب، وقال الإدريس: في حديثه المناكير، وأنكر عليه أيضا أبو جعفر الأرزناني، وقال الحاكم كان له إفرادات وعجائب قال السمعاني: يقع في حديثه المناكير والعجائب والأفرادات» . أقول الذي فيه «الميزان» و «اللسان» عن الإدريس: «يقع في حديثه المناكير ومثله إن شاء الله لا يعتمد الكذب سألت محمد ابن أبي سعيد السمرقندي الحافظ فرأيته حسن الرأي فيه وسمعته يقول سمعت المنكدري يقول: أناظر في ثلاثمائة ألف حديث فقلت هل رأيت بعد ابن عقدة أحفظ من المنكدري؟ قال: لا» ومن يضاهي ابن عقدة في الحفظ والإكثار فلا بد أن يقع في حديثه الأفراد والغرائب وإن كان أوثق الناس فأما المناكير فقد يكون الحمل فيها على من فوقه وعلى كل

_ (1) ص 192.

37- أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلاف

حال فلم يذكروا فيه جرحا صريحا ولا توثيقا صريحا لكنهم قد أنكروا عليه في الجملة فالظاهر أنه ليس بعمدة فلا يحتج بما ينفرد به. والله أعلم. 37- أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلاف. في (تاريخ بغداد) (13/ 414) «أخبرنا الحسن بن أبي طالب أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف حدثنا محمد بن جعفر المطيري ... » قال الأستاذ ص 150 «تكلم محمد بن أبي الفوارس في روايته عن المطيري وطعن فيه. وقال الأزهري: ابن دوست ضعيف رأيت كتبه كلها طرية، قيل: إنه كان يكتب الأجزاء ويتربها ليظن أنها عتق. والكلام فيه طويل راجع (تاريخ الخطيب) ج 5 ص 125» . أقول: ذكر الخطيب ما حكاه الأستاذ عن أبي الفوارس روى عن عيسى بن أحمد ابن عثمان الهمداني كلاماً يتعلق بابن دوست وفيه من قول عيسى: «كان محمد بن أبي الفوارس ينكر علينا مضينا إليه وسماعنا منه، ثم جاء بعد ذلك وسمع منه» فكأن ابن الفوارس تكلم أولاً في سماع ابن دوست من المطيري لأنه كان عند موت المطري ابن اثنتي عشرة سنة، ثم كأنه تبين لابن أبي الفوارس صحة السماع فعاد فقصد ابن دوست وسمع منه، وذلك أن والد ابن دوست كان من أهل العلم والصلاح والرواية والثقة ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 3 ص 409 ووفاته ستة 381 ومولد أحمد سنة 323 فقد ورد له في شبابه فكأنه اعتنى به فبكر به لسماع وقيد سماعه وضبطه له على عادة أهل العلم في ذاك العصر وقد صحح المحدثون سماع الصغير المميز. وأما الأزهري فتمام عبارته « ... وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت فستدرك نسخها» . فالتضعيف مفسر يما بعده، وأعلم أن المتقدمين كان يعتمدون على الحفظ فكأن النقاد يعتمدون في النقد عدالة الراوي واستقامة حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان حديث مستقيماً وثقوه. ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع فكان النقاد إذا استنكروا شيئاً من حديث الراوي طالبوه بالأصل. ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقيد السماع فشدد النقاد

فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوق به المقيد سمعه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصلاً لم يعتمدوا عليه وربما صرح بعضهم بتضعيفه، فإذا ادعى السماع ممن يستبعدون سماعه منه كان الأمر أشد. ولا ريب أن في هذا الحالة الثالثة احتياطاً بالغة، ولكن إذا عرفت عدالة الرجل وضبطه وصدقه في كلامه، وأدعى سماع محتملاً ممكن، ولن يبزر به أصلاً وأعتذر بعمل محتمل قريب ولم يأتي بما ينكر فبأي حجة يرد خبره؟ وقد قال الخطيب «حدثني ابن عبد الله الصوري قال: قال لي حمزة بن محمد بن طاهر: قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: أراك تملي المجالس من حفظك فلم لا تملي من كتابة؟ فقال لي: أنظر فيما أمليه فأن كان لك فيه زلل أو خطأ لم أملي من حفظي، وأن كان جميعه صواباً وما الحاجة إلى الكتاب؟ أو كما قال» فيظهر أن والده لم يكتف بتسميعه بل أعتني بتحفيظه ما سمع، فإذا كانت أصوله بعد حفظه ما فيها غرقت فابتلت وخيف تقطع الورق وبقية الكتابة تقرأ فستنسخ منها، أو ذهبت فنسخ من حفظه، أو من كتبت قد كانت قوبلت على أصوله، أو لم تقابل ولكنه أعتبرها بحفظه فأي حرج في ذلك؟ وإذا كان اعتماده على حفظه فهب أنه لم يكن له أصول البتة، أو كانت فتلفت ولم يستدرك نسخها إلا يكون له أن يروي من حفظه؟ أو لا تقوم الحجة بخبره إذا كان عدلاً ضابطاً؟ وأما قضية التتريب فهي في عبارة للبرقاني قال الخطيب «سألت أبا بكر البرقاني عن ابن دوست؟ فقال كان يسرد الحديث من حفظة، وتكلموا فيه، وقيل: إنه كان يكتب الجزاء ويرتبها ليظن أنها عتق» فقوله تعنت بعض الطلبة وكان إذا سئل يبين الواقع كما في بقية عبارة الأزهري التي تركها الأستاذ وأما قول البرقاني «تكلموا فيه» وما في الترجمة أن الدارقطني تكلم فيه فمحصول على ما صرحوا به مما مر، ومر ما فيه. وبعد فقد وصفوا ابن دوست بالحفظ والمعرفة قال الخطيب «كان مكثراً من الحديث عارفاً به حافظاً له، مكث مدة يملي في جامع المنصور بعد وفاة أبي طاهر

38 - أحمد بن المعذل

المخلص ثم انقطع عن الخروج ولزم بيته، كتب عن الحسن بن محمد الخلال وحمزة بن محمد بن طاهر الدقاق وأبو القاسم الأزهري وهبة الله بن الحسين الطبري وعامة أصحابنا، وسمعت منه جزءاً وأحداثه ولم يغمزوه في دينه بشيء، ولا استنكروا له حديثاً واحداً، فلا أرى أمره إلا قوياً والله أعلم. 38 - أحمد بن المعذل (1) في (تاريخ بغداد) (13 / 393) «أخبرنا القاضي أبو عبد الله الصيمري ... لأحمد بن المذل: إن كنت كاذبة الذي حدثني ... » قال الأستاذ ص 95 «هو أول من قام بنشر مذهب مالك بالبصرة بعد أن تفقه على عبد الملك ابن الماجشون، وشيخه هذا حينما رحل إلى العراق من المدينة المنورة رحل ومعه من يغنيه فزهد فيه أهل العلم ... وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذل يقول فيه: أضاع الفريضة والسنة ... فتاه على الإنس والجنه « ... الأبيات» . أقول: أما البيت فالرواية فيه «أطاع الفريضة ... » كما شرحته في (الطليعة) ص63 فتجلد الأستاذ وقال في (الترحيب) ص 45: «هذا تمحل لو كان مراده هذا لقال: أقام،.. وإنما الطاعة لله ولرسوله ولا للعمل، وهذا ظاهر» كذا قال ولو لم يوجد هذا الشعر إلا في كتاب واحد وفيه «أطاع» ولم يكن في السياق وغيره ما يدل على صحة ذلك ما ساغ لعالم تغييره لأن العربية لا تضيق بمن «أطاع الفريضة» بل يمكن تخريجها على عدة أوجه كالمجاز والتضمين وغير ذلك فكيف بالتغيير إلى أضاع مع إبطال الأدلة المعنوية كعجز البيت، والبيت الثاني وسبب قول ذلك الشعر وما هو معلوم من حال أحمد. هذا كله توضيح للواضح، وقابل هذا

_ (1) بفتح الذال المعجمة المشددة كما في (المشتبه) للذهبي، وقال: «من أئمة المالكية ... » . ولم ترد هذه النسبة في (أنساب السمعاني) ، ووقع في (تاريخ الخطيب) : «ابن المعدل» بالدال المهملة، وهو تصحيف. ن

39- أحمد بن موسى النجار

بما يأتي في ترجمة الشافعي في الكلام على ما وقع في (مختصر المزني) : «وليست الأذنان من الوجه فيغسلان» . وأما عبد الملك فلم يزهدوا فيه لاستجازته الغناء فقد سبقه إليه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوق المجمع على توثيقه، وإنما زهدوا في عبد الملك لمنكراته في روايته ولاتهامه برأي جهم كما ترى في ترجمته من (التهذيب) ، وأحمد بن المعذل لم يطعن أحد في روايته ولا عقيدته ولا عرف بالترخيص في الغناء فيما علمت وقد وثق، ولا يضر العالم آن يكون في شيوخه مطعون فيه، ومن شيوخ أحمد من أصحاب مالك محمد بن مسلمة الذي تجاهله الأستاذ في (التأنيب) ونبهت عليه في (الطليعة) ص87- 89 فاعترف الأستاذ في (الترحيب) ، وسمع أحمد أيضاً من بشر بن عمر وإسماعيل بن أبي أويس وغيرهما من أصحاب مالك. وذكر الأستاذ ما يتعلق بمذهب مالك من الأخذ بالقياس، وسألم بذلك في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى. 39- أحمد بن موسى النجار. قال الأستاذ ص 17 في ذكر أبي نعيم الأصبهاني: «أخرج رحلة ... بسند أحمد بن موسى النجار وعبد الله بن محمد البلوى وهما كذابان معروفان» . أقول: البلاء من البلوى وهو الكذاب المعروف فأما النجار فلم يعرف (1) 40- أحمد بن يونس. في (تاريخ بغداد) 13/379 من طريق «عباس بن عبد العظيم حدثنا أحمد بن يونس، قال: اجتمع ابن أبي ليلى وأبو حنيفة عند عيسى العباسي والي الكوفة ... » قال الأستاذ ص 56: «إن كان أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي المتوفى سنة 227 قلم يكن في عهد عيسى بن موسى والي الكوفة في سن تمكنه من الحضور في مثل تلك المجالس فيكون الخبر مقطوعاً، وأن كان أحمد بن يونس، فإنه غالباً ينسب إلى جده ولا يفهم عند

_ (1) أحمد بن نصر الذراع - يأتي في ترجمة محمد بن جعفر الراشدي.

41- الأحوص الجواب أبو الجواب

إطلاق أحمد بن يونس في تلك الطبقة غيره ومولده سنة 133 أو في التي تليها وقد صح عنه أنه قال: «مات الأعمش وأنا أربع عشرة سنة ورأيت أبا حنيفة ومسعراً، وابن أبي ليلى يقضي خارج المسجد من أجل الحيض» ومات الأعمش سنة 147 وقيل في التي تليها، ومات ابن أبي ليلى سنة 148 وعمر أحمد خمس عشرة على المشهور من وفاة الأعمش، وقد يبرز الأمير للناس أو يأذن عاماً أو يدخل عليه ابن الغلام ابن أربع سنة مع أبيه عمه مثلاً. والله أعلم. 41- الأحوص الجَوَّاب أبو الجواب. في (تاريخ بغداد) 13 / 407 من طريق إسحاق بن إبراهيم البغوي: «حدثنا أبو الجواب ... » قال الأستاذ ص 133: «لم يكن بالقوي عند ابن معين» . أقول: في (تهذيب التهذيب) : «قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس بذاك القوي» وهذا إنما يعطي أنه ليس غاية في الاتفاق فكأن ابن حبان فسر ذلك إذ قال في (الثقات) : «كان متقناً ربما وهم» وهذا إنما يظهر آثره عند ما يخالف من وثقوه مطلقاً، والأحوص من رجال مسلم في (صحيحه) . 42- إسحاق بن إبراهيم الحنيني. في (تاريخ بغداد) 13/396 من طريق «الحسن ابن الصباح، حدثنا إسحاق بن الحنيني قال: قال مالك..» قال الأستاذ ص 105: «كره ابن الجوزي في (الضعفاء) ، وقال الذهبي: صاحب أوابد، وقال البخاري: في حديثه نظر - وهو من أشد كلمات الجرح عنده -، وقال الحاكم أبو أحمد: «في حديثه بعض المناكير، وقال البزار» : كف بصره فاضطرب حديثه، وقال أبو حاتم: لم يرضه أحمد بن صالح، وقال النسائي: ليس بثقة» . أقول: وقال الذهبي في (الميزان) : «كان ذا عبادة وصلاح، وقال عبد الله بن يوسف التنيسي: كان مالك يعظم الحنيني» وفي (تهذيب التهذيب) : «قال ابن حبان في (الثقات) : كان يخطئ، وقال عبد الله بن يوسف: كان مالك يعظمه ويكرمه ... وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: صالح، يعني في دينه لا في حديثه»

43- إسحاق بن إبراهيم الموصلي

وذكروا أن البخاري يقول: «فيه نظر» أو «سكتوا عنه» فيمن هو عنده ضعيف جداً، قال السخاوي في (فتح المغيث) ص 161 «وكثيراً ما يعبر البخاري بهاتين ... فيمن تركوا حديثه، بل قال ابن كثير: إنهما أدنى المنازل عنده وأردؤها» ولم يقل البخاري في الحنيني: «فيه نظر» إنما قال: «في حديثه نظر» وبينها فرق فقوله: «فيه نظر» تقتضي الطعن في صدقه وقوله: «في حديثه نظر» تشعر بأنه صالح في نفسه وإنما الخلل في حديثه لغفلة أو سوء حفظ ولعل الأستاذ يقول: هذا تمحل فيقال له: ألم تقل ص 48 «وأما قوله في (تاريخه الكبير) :كان مرجئا سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه فبيان لسبب إعراض عنه» وقد علمت أن «سكتوا عنه» هي أخت «فيه نظر» بل هي الكبرى. والمقصود هنا أن الحنيني كان صالحا في نفسه وقد سقنا شواهد ذلك فأما حديثه فكلمة البخاري تقتضي أنه مطرح لا يصلح حتى للاعتبار وكذلك كلمة النسائي وصنيع ابن حبان يقتضي انه يعتبر به وكذا كلمة الحاكم أبي أحمد ويوافقهما قول ابن عدي: «ضعيف ومع ضعفه يكتب حديثه» وكلمة البزار تقتضي أن حديثيه كان قبل عماه مستقيما فينظر متى عمي؟ ومتى سمع منه الحسن بن الصباح؟ وهل روايته التي ساقها الخطيب من مظان الغلط؟ 43- إسحاق بن إبراهيم الموصلي. في (تاريخ بغداد) 14/249 من طريق «محمد ابن أبي الأزهر حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي حدثني ... » قال الأستاذ: ص 176: «حماد إسحاق الموصلي ... هو وأبوه من رجال الأغاني ... » . أقول: تراجع ترجمتاهما في (تاريخ بغداد) وزعم الأستاذ أن في القصة غضاضة على أبي يوسف وليس ذلك بظاهر وفيما هو منقول عن الحنفية من الحيل المباحة عندهم ما هو أقرب إلى الإيحاش منها. أما الخطيب فلعله إنما قصد بإيراد تلك الحكاية الظريفة تزيين (التاريخ) .

44 - إسحاق بن عبد الرحمن

44 - إسحاق بن عبد الرحمن. في (تاريخ بغداد) 13 / 378 من طريق «جعفر ابن محمد الصندلي حدثنا إسحاق بن إبراهيم «بن عبد الرحمن البغوي» ابن عم ابن منيع: حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن حدثنا حسن بن أبي مالك ... » قال الأستاذ ص 52: «وإسحاق بن عبد الرحمن لا يعلم» . أقول: شيخ الصندلي قديم يروي عن إسماعيل بن عليه المتوفى سنة 193 وعنه البخاري في (الصحيح) وغيره والحسن بن أبي مالك توفي سنة 204 فلو كان للأستاذ غرض في تصحيح تلك الرواية لربما جزم بأن لفظ «حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن» كان بهامش أصل قديم على أنها بدل «حدثنا إسحاق بن إبراهيم» وذلك بنسبة إسحاق إلى جده، فتوهم الناسخ أن تلك الحاشية لحق فأدرجها في المتن، ولذلك نظائر في النسخ الخطية. 45 - إسحاق بن عبد الرحمن. ذكر الأستاذ ص 184 رواية أبي نعيم الأصبهاني عن أبي الشيخ عن عبد الرحمن بن داود عن عبيد بن خلف عن إسحاق بن عبد الرحمن عن الحسين الكرابيسي فذكر قصة. قال الأستاذ «إسحاق بن عبد الرحمن مجهول ... فلا يجدي تكلف التاج ابن السبكي في ترقيع السند» . أقول: إنما قال ابن السبكي في (طبقات الشافعية) ج1 ص253 «كذا في السند: عبيد عن إسحاق. وعبيد صاحب الكرابيسي ولا يمتنع أن يسمع عنه كما سمع منه» فأين الترقيع؟. 46- أسد بن موسى بن إبراهيم المرواني الأموي، يقال له: أسد السنة. في (تاريخ بغداد) (13 / 383) من طريق «الربيع بن سليمان يقول: سمعت أسد بن موسى، قال ... » قال الأستاذ ص 65 «منكر الحديث عند ابن حزم» أقول قد قال البخاري: «مشهور الحديث» وهذا بحسب الظاهر يبطل قول ابن حزم، لكن يجمع بينهما قول ابن يونس «حدث بأحاديث منكرة وأحسب الآفة من غيره» وقول النسائي «ثقة ولو لم يصنف كان خيراً له» وذلك أنه لما صنف احتاج

47- إسماعيل بن إبراهيم بن معمر أبو الهذلي الهروي الكوفي

إلى الرواية عن الضعفاء فجاءت في ذلك مناكير، فحمل ابن حزم على أسد، ورأى ابن يونس أن أحاديثه عن الثقات معروفة، وحقق البخاري فقال «حديثه مشهور» يريد والله أعلم مشهور عمن روى عنهم فما كان فيه من إنكار فمن قبله، وقد قال ابن يونس أيضاً والبزار وابن قانع حافظ الحنفية: ثقة، وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وفي (الميزان) : «استشهد به البخاري، واحتج به النسائي وأبو داود وما علمت به بأساً» . وقد أساء الأستاذ إلى نفسه جداً إذ يقتصر على كلمة ابن حزم في صدد الطعن، مع علمه بحقيقة الحال ولكن! 47- إسماعيل بن إبراهيم بن معمر أبو الهذلي الهروي الكوفي. في (تاريخ بغداد) (13/400) من طريق إبراهيم بن عبد الرحيم ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال كل منهما «حدثني أبو معمر ... » قال الأستاذ ص 114 «هو ممن أجاب في المحنة وقال: كفرنا وخرجنا، ويقال إن ابن معين قال: خرج الهذلي هذا إلى الرقة وحدث خمسة آلاف حديث أخطأ في ثلاثة آلف منها» . أقول: قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فأبو معمر ممن أكره والأستاذ يعلم من هو الذي شرح صدره بتلك المقالة. وأما ما جاء عن الإمام أحمد أنه كان ينهى عن الكتابة عن الذين أجابوا في المحنة فليس ذلك على معنى جرح من أجاب مكرها، بل أراد بذلك تثبيت أهل العلم والعامة، أما أهل العلم فخشية أن يبادروا بالإجابة قبل تحقق الإكراه، وأما العامة فخشية أن يتوهموا أن الذين أجابوا أجابوا عن الشراح صدر، فإن كان مغزى الأستاذ الطعن على أبي معمر لإيمانه بأن القرآن غير مخلوق، وقوله إن القول بأنه مخلوق

48- إسماعيل بن بشر بن منصور السليمي أبو بشر البصري

كفر، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها. وأما الحكاية عن ابن معين فقد أنكرها الخطيب وغيره من أئمة الحديث ولكن الأستاذ، فإنه مع إظهاره أنه متهالك في القاع عنه، يكثر من التشبث بالأشياء المردودة والباطلة، ويلجأ إلى المغالطة والتهويلات الفارغة، وذلك يلجئ الناظر إلى ما يلجئه، فيقول لولا أن تلك المطاعن أو أكثرها حق لما اضطر مثل الكوثري في سعة اطلاعه وقوة عارضته إلى ما أضطر إليه في الإجابة عنه والمعروف عن ابن معين توثيق أبي معمر، قال عباس الدوري «سأل يحيى بن معين عن أبي معمر وهارون بن معروف فقال: أبو معمر أكيس» هذا مع قوله هو وغيره في هارون «ثقة» وقال ابن سعد في أبي معمر «هو من هذيل أنفسهم صاحب سنة وفضل وهو ثقة ثبت» وقال ابن قانع حافظ الحنفية «ثقة ثبت» وروى عنه البخاري ومسلم في «الصحيحين» . 48- إسماعيل بن بشر بن منصور السليمي أبو بشر البصري. في (تاريخ بغداد) (13/ 396) من طريق «عبد الله بن أحمد الجصاص حدثنا إسماعيل بن بشر قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول ... » قال الأستاذ ص 107 «قدري يعادي مثبتي القدر، فلا يثبت بسند فيه مثله ومثل أبي المفضل عزوا هذا القول إلى أبي المهدي كما لا يثبت ما يعزوا إليه أبو نعيم في «الحلية» بطريق رسته لما سيأتي في رسته» . أقول: قد تقدم في القواعد أن العداوة الدينية لا ترد بها الشهادة فكيف الرواية؟ ولم يكن إسماعيل داعية وقد قال أبو داود «صدوق» وروى عنه في «سننه» ولا يروي إلا عن ثقة كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم وكذلك روى عنه ابن خزيمة مع تثبته وأخرج له النسائي في «السنن» وذكره ابن حبان في «الثقات» ورسته هو عبد الرحمن بن عمر تأتي ترجمته.

49- إسماعيل بن أبي الحكم

49- إسماعيل بن أبي الحكم. في (تاريخ بغداد) (13/380) من طريق «الأثرم حدثني هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر ابن عبيد ... » قال الأستاذ ص 58 «فيكون إسماعيل هذا مجهولاً» . أقول ذكره المزي في شيوخ هارون، وفي كتاب ابن أبي حاتم «إسماعيل بن أبي الحكم الثقفي روى عن عمران بن عيينة وعيسى بن يونس، روى عنه أبو زرعة، سئل أبي عنه فقال: شيخ» وفي «لسان الميزان» ج 3 ص 416 «فمن عاد أبي زرعه أن لا يروي إلا عن ثقة» . 50- إسماعيل بن حمدويه. ذكرته في «الطليعة» ص 90 وذكرت هناك أنه وقع في النسخة «الثقات» «الإسكندرية» . ثم وقفت على نسخة أخرى أصح من الأولى محفوظة في المكتبة السعدية بحيدر أباد دكن وفيها «البيكندي» على الصواب. 51- إسماعيل بن عرعرة. قال الأستاذ ص 48 «وأما قول أبي عبد الله بن الجعفي «البخاري صاحب الصحيح» في «تاريخه الصغير» : سمعت إسماعيل بن عرعرة يقول: قال أبو حنيفة: جاءت امرأة جهم إلينا فأدبت نسائنا. فليس بأحسن حالاً من سابقه بالنظر إلى تأخر طبقة إسماعيل بن عرعرة، فبينة وبين أبي حنيفة انقطاع، وإسماعيل بن عرعرة هذا مجهول الصفة لم يذكره أحد من أصحاب التواريخ التي اطلعنا عليها حتى البخاري ... نعم له ذكر في كتابة «السنة» لعبد الله بن أحمد في ص 27 و154 بما يدل أنه بصري معاصر لعباس عبد العظيم العنبري، وليس في هذا أدنى غناء بعد أن أعلم أنه لم يرو أحد من أصحاب الأصول الستة عن ابن عرعرة هذا» . أقول: في «إكمال بن ماكولا» «برند» أنه لعروة بن البرند البصري ابناً اسمه إسماعيل، وعروة ولد سنة 110 ومات سنة 193 فلا مانع أن يكون له ابن أدرك أبا حنيفة ثم عاش حتماً حتى أدركه البخاري، وقد مر في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو

52- إسماعيل بن عياش الحمصي

عبد الرحمن أن البخاري لا يروي أي عن صدوق يتميز صحيح حديثه من سقيمه، وقد يكون الرجل ثقة مقلا من الرواية إنما لا يروي قليلاً من الحكايات فلا يعتني به أهل التواريخ ولا يحتاج إليه في الأمهات الست، وراجع ما مر في ترجمة إبراهيم بن شماس. 52- إسماعيل بن عياش الحمصي. في (تاريخ بغداد) 13/394 من طريق «محمد ابن عوف: حدثنا إسماعيل بن عباس الحمصي حدثنا هشام بن عروة ... » قال الأستاذ ص100 «الصواب: إسماعيل بن عياش ... وروايته عن غير الشاميين مردودة عن أهل النقد» . أقول: إسماعيل ثقة في نفسه لكن عن غير الشاميين تخليط كثير فحده إذا روى عن غير الشاميين أن يصلح في المتابعات والشواهد. تلك الحكاية تابعه عليها سفيان بن عيينة وغيره كما يأتي في ترجمة هشام، وراجع ص 9. 53- إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي. في «تاريخ بغداد» 13 / 387 من طريق «عبد السلام بن عبد الرحمن حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي قال: حدثني أبو إسحاق الفزاري ... » قال الأستاذ ص 77: «إسماعيل بن عيسى من المجاهيل» . أقول: الصواب أن يقول: «لم أعرفه» فأن عدم معرفة مثل الأستاذ بالرجل لا يستلزم أن يكون مجهولاً، راجع «الطليعة» ص 86 - 98. 54- الأسود بن سالم. في «تاريخ بغداد» 13 / 409) من طريق أبو عبيد: «كنت جالساً مع الأسود بن سالم في مسجد الجامع بالرصافة فتذكروا مسألة فقلت: أن أبا حنيفة يقول: فيها كيت وكيت، فقال لي الأسود تذكر أبا حنيفة في المسجد؟ فلم يكلمني حتى مات» . قال الأستاذ ص 134: «أين الأسود بن سالم من أبي عبيد الإمام في كل علم؟ وكان الأسود بن سالم بن العباد المتقشفين المقبلين على الله، ولم يكن له سعة في العلم ولا الالتفات إلى الفقه، كان يصعب عليه أن

55- أصبغ بن خليل القرطبي

يشتغل في المسجد بغير ذكر الله غير شاعر بأن مذاكرة الفقه من ذكر الله، وله رأيه وللأهل العلم رأيهم، ولم يكن هو ممن يحتج بقوله في هذا الموضع، ولا أدري لماذا تكلف الخطيب الرواية عنه وحاله معلوم مما رواه الخطيب نفسه في ج7 ص36 حيث قال: أخبرنا ... سمعت حبش بن برد يقول رأى أسود بن سالم يغسل وجهه من غدوة إلى نصف النهار فقيل له أيش خبرك؟ قال: رأيت اليوم مبتدعاً فان أغسل وجهي منذ رأيته وإلى الساعة وأنا أظنه لا ينفي» ! أقول: وأنا ما أدري لماذا تكلف الأستاذ بالتأويل المستكره؟ فأنه لا يخفي أن الأسود لم ينكر المذاكرة من حيث هي، ولو كان كذلك لنكرها عليهم عند شريعتهم فيها ولما كان لذكر أبي حنيفة وجه ولما حكى أبو عبيد الإمام في كل فن القصة على ما حكاها فأما قصة غسل الوجه فالذي في «التاريخ» حبش بن الورد، فكأن حبش بن أبي الورد المترجم في «التاريخ» أيضاً باسم محمد بن الورد ولقبه حبش وهو من المذكورين بالعبادة والزهد يروي الحكايات ولم يوثق. والأستاذ يعد قول الراوي «قيل لفلان» أو سئل فلان» منقطعاً للجهل بالقائل أو السائل، وقد رددت عليه ذلك في القواعد وغيرها، وقول حبش «رئي أسود» ظاهر في الانقطاع بخلاف «قيل» و «سئل» فإن الراوي قد يحضر الواقعة ويكون القائل أو السائل غيره دونه فأما أن يحضرها ويكون الرائي غيره دونه فلا إلا أن يكون أعمى. فليبحث الأستاذ لعله يجد نصا على أن حبشاً كان أعمى فيصير قوله «رئي أسود» بمنزلة قول غيره «قيل لفلان» و «سئل فلان» ونحو ذلك كقول سلمة «قال رجل لابن المبارك» ! فإن صحت القصة بالأسود أنه إنما قصد تنقير الناس عن البدع وأهلها! 55- أصبغ بن خليل القرطبي. قال الأستاذ ص 105: «روى الحافظ أبو الوليد بن الفرضي عن أبي القاسم أصبغ بن خليل القرطبي الذي دارت عليه الفتوى في مذهب مالك خمسين عاماً وتوفي سنة 273 أنه قال: لأن يكون في تابوتي رأس خنزير أحب إلي من أن يكون فيه (مصنف ابن شيبة) » !

56- أنس بن مالك صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -

أقول: (مصنف ابن أبي شيبة) مشتمل مع أحاديث صحاح على ضعاف وعلى أقوال مختلفة محكية عن بعض الصحابة وبعض التابعين وبعض من بعدهم، والظن بأصبغ أنه لم يقصد ذم الأحاديث، كيف وكان هو يروي (الموطأ) وغيره؟ وبعد، فماذا على المالكية من أصبغ هذا وقد كذبه أجلتهم كالقاسم بن أصبغ وابن الفرضي وعياض، ودوران الفتوى عليه إنما هو نتيجة أن العامة كانوا حريصين على الجمود على أقوال ابن القاسم صاحب مالك، والدولة موافقة لهم على ذلك، وكان هو عارفا بها جامداً عليها. وفي المالكية من حفاظ الحديث والمتبعين له إذا خالفه المنقول في مذهبهم عدد غير قليل، لعلهم يفضلون بذلك على بعض أصحاب المذاهب الأخرى! ومن تأمل حال كثير من علماء المذاهب رأى أن كثيراً منهم قد تكون حالهم عند التحقيق شراً من حال أصبغ وذلك أنهم يظهرون التدين بقبول الحديث وتعظيم (الصحيحين) ويزيد بعضهم حتى من أهل عصرنا هذا فيقول: إن الحديث إذا كان في (الصحيحين) أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، فإذا جاءوا إلى حديث مخالف لمذهبهم حرفوه أقبح تحريف، فالرد الصريح أخف ضرراً على المسلمين وأهو ن مؤنة على أهل «العلم والدين من إثارة الشبه والتطويل والتهويل الذي يغتر به كثير من الناس ويضطر العالم» إلى صرف وقته في كشف ذلك. والله المستعان. 56- أنس بن مالك صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. تقدم ما يتعلق به في (الطليعة) ص 98- 106، وفي الفصلين الثاني والخامس من أوائل هذا الكتاب، وذكرت ص 100- 101 من (الطليعة) بعض المعمرين من ثقات التابعين المحتج بهم مطلقاً إجماعاً، ويزاد عليهم مغرور ابن سويد وزر بن حبيش وأبو عثمان النهدي بلغ الأول مائة وعشرين سنة، والثاني مائة وسبعاً وعشرين سنة، والثالث مائة وثلاثين - وقيل: أربعين - سنة. وذكرت في ص 103 من (الطليعة) شاهداً لرواية أنس في أبوال الإبل ثم رأيت في (تفسير ابن جرير) ج 6 ص 119 - 130 «حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة عن عبد الكريم بن مالك الجزري وسئل عن أبوال الإبل؟

57- أيوب بن إسحاق بن سافري

فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح فاشربوا أبوالها وألبانها» فذكر القصة وسياقها مخالف لسياق رواية أنس وفي آخرها الإشارة إلى حديث أنس وذلك يدل أن سعيد بن جبير تلقاها من غير أنس من الصحابة. والحديث مرسل صحيح رجاله ثقات كلهم وتأتي ترجمة محمد بن علي وترجمة أبي حمزة محمد بن ميمون السكري. وعلي بن الحسن بن شقيق من متقدمي أصحاب أبي حمزة أن يظهر أن سماعه منه كان قبل أن يعمى أبو حمزة وعلي من المتثبتين وفي ترجمته من (تهذيب التهذيب) أنه قيل له: «سمعت (كتاب الصلاة) من أبي حمزة السكري؟» فقال: «نعم سمعت ولكن نهق حمار يوماً فاشتبه علي حديث فلا أدري أي حديث هو فتركت الكتاب كله» وكلام الأستاذ في (الترحيب) في العنعنة تقدم ما فيه في الفصل التاسع من أوائل الكتاب. والله الموفق. 57- أيوب بن إسحاق بن سافري. راجع (الطليعة) ص 59 -60 أشار الأستاذ إلى ذلك في ص 44 من (الترحيب) فلم يأت بشيء بل حاول الطعن في مهذب (تاريخ ابن عساكر) ، وذلك لا يغني عنه شيئاً، ثم قال: «لم يكن السافري إلا داعراً سافر الوجه، أصبحت الدعارة خلقاً فيه وملكه عنده رغم أنف هذا الناقد» . أقول: أرغم الله أنف من يكابر، ويدفع الحق بالباطل، وانظر (طبقات أبي يعلى) 1/ 171. (1) 58- بشر بن السري. في (تاريخ بغداد) 13/391 من طريق «رجاء بن السندي سمعت بشر بن السري قال: أتيت أبا عوانة..» قال الأستاذ (ص92) :

_ (1) بشار بن قيراط. يأتي في ترجمة أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم.

59- بقية بن الوليد

«يقول عنه الحميدي جهمي لا يحل أن يكتب عنه» . أقول: ثبته عبد الرحمن بن مهدي جداً، وقال أحمد: «حدثنا بشر السري وكان متقناً للحديث عجباً» ووثقه ابن معين وغيره، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة. فأما التهجم فقال ابن معين في بشر: «رأيته يستقبل البيت يدعو على قوم يرمونه برأي جهم ويقول: معاذ الله أن أكون جهمياً» وقال أحمد: «سمعنا منه ثم ذكر حديث {نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فقال: ما أدري ما هذا، إيش هذا؟ . فوثب به الحميدي وأهل مكة، فاعتذر فلم يقبل منه وزهد الناس فيه، فلما قدمت المرة الثانية كان يجيء إلينا فلم نكتب عنه» . أقول: لم ينصفوه فلعله إنما كان سمع ما صح عن مجاهد من تفسيره «ناظرة» في الآية بقوله: «تنتظر الثواب» فلما سمع الوجه الآخر استنكره من جهة كونه تفسيراً للآية لا من جهة إنكار الرؤية، أما ما زاده محمد بن حميد في الحكاية عن مجاهد: «لا يراه من خلقه شيء.» فمحمد بن حميد متهم. فإن كان بشراً استنكر الرؤية فقد كان حقهم أن يينوا له النصوص في إثباتها، فإذا أقر تبين أنه كان معذوراً فيما فرط منه، وإن أصر هجروه عن بينة. على أن الإجماع انعقد بعد ذلك على عذره والاحتجاج بروايته. 59- بقية بن الوليد. في (تاريخ بغداد) 2 / 179 من طريق «بقية يقول: قيل لإسماعيل بن عياش ... » قال الأستاذ ص 186: «حاله يقل سمعت رد روايته عند الجميع» . أقول: بقية يدلس عن الضعفاء، فإذا لم يصرح بالسماع وجب التوقف لاحتمال أنه إنما سمع من ضعيف. 60- تمام بن محمد بن عبد الله الأذني. في (تاريخ بغداد) 13 / 419

61- ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي

«أخبرنا العتيقي حدثنا تمام بن محمد بن عبد الله الأذني بدمشق أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي ... » ذكر الأستاذ ص 164 بلفظ «تمام بن محمد بن عبد الله الرازي» وكتب في الحاشية: «وقع بدله (الأذني) في الطبعات الثلاث وهو تحريف، ومبلغ تعصب تمام وشيخه معلوم عند من عرف أحوالهما» . أقول ترجمتاهما في (تاريخ دمشق) ولتمام ترجمة في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 243، ولم أر من نسيهما ولا أحدهما إلى تعصب، ولا عرفت من أحوالهما ما يدل على ذلك. والمخالفة للمذهب لا تستلزم التعصب. وقد تقدم الكلام في التعصب في القواعد. 61- ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي. راجع (الطليعة) ص 78 - 81، وما ذكرته هناك من أن ابن معين قد يطلق كلمة «ليس بشيء» لا يريد بها التضعيف وإنما يريد قلة الحديث ترى مستنده في ترجمة عبد العزيز بن المختار من (مقدمة الفتح) وترجمة كثير بن شنظير من (تهذيب التهذيب) ويعترف به الأستاذ كما ستراه في الترجمة الآتية. 62- جراح بن منهال أبو العطوف. في (تاريخ بغداد) (13 / 406) من طريق «سلمة بن سليمان يقول قال رجل لابن المبارك ... سلمة بن سليمان يقول: قال رجل لابن المبارك: أكان أبو حنيفة عالما؟ قال: لا ما كان بخليق لذاك ترك عطاء وأقبل على أبي العطوف» قال الأستاذ ص 128 «فيه انقطاع ومجهول لأنه لم يبين أنه سمع الرجل يقول وأنه حضر القصة كما لم يبين من هو هذا الرجل ... ثم من الغريب أن يزعم زاعم ... مع أنه ما من مسند من المسانيد السبعة عشر المؤلفة في أحاديث أبي حنيفة إلا وفيه روايته عن عطاء بكثرة وأما أبو العطوف ... فهو متأخر الوفاة عن أبي حنيفة بنحو ثماني عشر سنة وقد قلت رواية أبي حنيفة عنه جدا ولا مانع من الرواية عنه قبل طروء الغفلة، وقد ذكره أحمد بالغفلة فقط وقال ابن معين: ليس بشيء وهو كثيرا ما يقول هذا فيمن قل

حديثه ومن ظن بأبي حنيفة أنه لا يميز بين من به غفلة أو تهمة فقد ظن باطلا وأبو حنيفة يكثر جدا عن عطاء ... . بل ليس بين شيوخه بعد حماد بن أبي سليمان من يكثر عنه قدر إكثاره عن عطاء. وأما أبو العطوف فرواياته عنه كلها لا تزيد على نحو خمس روايات ... » . أقول: أما الانقطاع والمجهول فقد تقدم النظر فيه في القواعد. وأما قوله: «ما من مسند من المسانيد السبعة عشر ... إلا وفيه روايته عن عطاء بكثرة» وقوله «وأبو حنيفة يكثر جدا عن عطاء» ففيه نظر ظاهر لأن غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون وجماعة منهم متهمون بالكذب ومن لم يكن منهم متهما يكثر آن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة من لا يعتد بروايته ومع ذلك فقد تصحفت (جامع المسانيد) فلم أجد فيه عن أبي حنيفة عن عطاء إلا نحو ثلاثين رواية لعله لا يصح منها عن أبي حنيفة خمس أو ست فأين الكثرة؟ فضلا عن الإكثار جدا. على أن الحميدي قد قال: «حدثنا وكيع قال حدثنا أبو حنيفة انه سمع عطاء إن كان سمعه أخرجه الخطيب ورواه ابن أبي حاتم في كتابه (تقدمة الجرح والتعديل) في باب «ما ذكر من معرفة وكيع بن الجراح بناقلة الأخبار ورواة الآثار وكلامه فيهم» رواه عن أبيه عن الحميدي وذكره الأستاذ ص130 فزعم أن كلمة «إن كان سمعه» من قول الحميدي. ولم يضع الأستاذ شيئا هي من قول وكيع لكن ليس المقصود بها كما ذكر الأستاذ الشك في سماع أبي حنيفة مطلقا وإنما المقصود الشك في سماع خبر معين ذكره وكيع ولم يذكره الحميدي إذ كان قصد الحميدي إنما هو حكاية تلك الكلمة عن وكيع. وقد يحتمل أن الشك ليس من وكيع وإنما هو من أبي حنيفة نفسه كان يكون قال في ذلك الخبر: سمعت عطاء - إن كنت سمعته.. فعبر وكيع بما تقدم فإن كان هذا هو الواقع فليس فيه طعن من وكيع في أبي حنيفة كما فهموه. والله أعلم. قوله «ولا مانع من الرواية عنه قبل طروء الغفلة» هذه دعوى مجردة فلم يذكر أحد قبل الأستاذ أن أبا العطوف طرأت عليه الغفلة، بل قدحوا فيه على الإطلاق

63- جرير بن عبد الحميد

كما ترى بعض ذلك في (الطليعة) ص80 ولو كان إنما بليته الغفلة وكانت طرأت عليه بعد أن سمع أبو حنيفة أو غيره لما طعنوا فيه بل كانوا يعدونه في جملة المختلطين الذين يوثقهم أهل العلم ويحتجون بما سمع منهم قبل الاختلاط. فأما قوله «ذكره أحمد بالغفلة فقط» فأحمد إمام ورع إذا كفاه غيره الكلام في رجل ورأى الناس قد تركوا حديثه لم يستحسن أن يشيع الكلام فيه، ومع ذلك فلم يشر أحمد إلى أن الغفلة طرأت كما زعم الأستاذ بل قضية كلامه أن الرجل لم يزل كذلك. وأما قول ابن معين «ليس بشيء» فلا ريب أنه يقولها في الراوي بمعنى قلة ما رواه جداً، يعني أنه لم يسند من الحديث ما يشتغل به كما مرت الإشارة إليه في ترجمة ثعلبة، فأما أنه كثيراً ما يقول هذا فيمن قل حديثه» فهذه مبالغة الأستاذ! وعلى ذلك فقد مضى تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من (الطليعة) . وحاصله أن الظاهر المتبادر من هذه الكلمة الجرح فلا يعدل عنه إلا بحجة فلما كان ابن معين قد وثق ثعلبة ولم يقدح فيه غيره وثعلبة قليل الحديث جداً تبين أن مراد ابن معين بتلك الكلمة لو ثبتت قلة الحديث، وأبو العطوف لم يوثقه ابن معين ولا غيره بل أو سعوه جرحاً وحديثه غير قليل فقد ذكر له الأستاذ خمسة، وفي (لسان الميزان) ثلاثة أخرى لو لم يكن له غيرها لما كانت من القلة بحيث يصح أن يقال: إنها ليست بشيء ولولا أنهم تركوه ولم يكتبوا حديثه لوجدنا له غير ما ذكر، ولعله لولا أن جامعي المسانيد السبعة عشر علموا أن أبا العطوف تالف لوجدنا له في تلك المسانيد عشرات الأحاديث، فمن الواضح أن قول ابن معين في أبي العطوف «ليس بشيء» إنما محملها الجرح الشديد، فمحاولة الأستاذ أن يعكس القضية قلب للحقائق. 63- جرير بن عبد الحميد. راجع (الطليعة) ص 43 - 46 وص 83، واقتصر الأستاذ في (الترحيب) ص 40 على أنه ليس فيما ذكرته ما يجدر التحدث عنه، كذا قال!

وقال في (التأنيب) ص110 «مضطرب الحديث ... وكان سيئ الحفظ انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع، والكلام فيه طويل الذيل وليس هو ممن يساق خبره في صدد سرد المحفوظ عند النقلة إلا في مذهب الخطيب» . أقول: أما قوله «مضطرب الحديث» فكلمه لم يقلها أحد قبل الأستاذ، وليس هو ممن يقبل منه مثل هذا غاية الأمر أن تعد دعوى، فما البينة؟ ليس بيده إلا قصة طلاق الأخرس وعليه في ذلك أمران: الأول: أن القصة تفرد بها سليمان بن داود الشاذكوني وليس بثقة، قال البخاري: «فيه نظر» وهذه من أشد كلمات الجرح في اصطلاح البخاري كما مر في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الحنيني، وقال أبو حاتم «متروك الحديث» وقال النسائي «ليس بثقة» وقال صالح بن محمد الحافظ «كان يكذب في الحديث» والكلام فيه كثير، وفي القصة ما ينكر. فإن الشاذكوني قال «قدمت على جرير فأعجب بحفظي وكان لي مكرماً فقدم يحيى بن معين والبغداديون الذين معه وأنا ثَمَّ، فرأوا موضعي منه، فقال بعضهم: إن هذا بعثه ابن القطان وعبد الرحمن ليفسد حديثك ... » وابن القطان وعبد الرحمن هما إماما مصرهما يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن الممتنع أن يكذب يحيي بن معين ورفقته عليهما هذا الكذب الفاحش. الأمر الثاني: أن القصة لا تفيد اضطراباً وإنما تفيد تدليساً، زعم الشاذكوني أن جريراً ذكر أولاً عن مغيرة عن أيراهم في طلاق الخرس، ثم ذكره ثانياً عن سفيان عن مغيرة، ثم ثالثاً عن ابن المبارك عن سفيان، ثم قال «حدثنيه رجل خرساني عن ابن المبارك» فلو صحت القصة لما كان فيها إلا التدليس، بإسقاط ثلاثة، ثم بإسقاط اثنين، ثم بإسقاط واحد، ثم ذكره على وجهه، ولهذا قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) : «إن صحت حكاية الشاذكوني فجرير كان يدلس» ولم يذكره في طبقات المدلسين لأن القصة لم تصح ذكر وقد ذكر أبو خيثمة جريراً فقال: «لم يكن يدلس» .

وقول الأستاذ: «كان سيئ الحفظ لم يقلها أحد قبله أيضاً، وإنما المعروف أن جريراً كان لا يحدث من حفظه إلا نادراً، وإنما يحدث من كتبه، ولم ينكروا عليه شيئاً حدث به من حفظه، وأثنوا على كتبه بالصحة، فأما ما حكاه العقيلي عن أحمد أنه قال «لم يكن بالذكي اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول حتى قدم عليه بهز فعرفه» فقد ذكر هذا لابن معين فقال: «ألا تراه قد بينها» يعني أن جريراً بين لمن بروي عنه أن حديث أشعث وعاصم اختلط عليه حتى ميز له بهز ذلك، وعلى هذا فلم يحدث عنهما حتى ميز له بهز فكان يحدث عنهما ويبين الحال، وهذا هو محض الصدق والنصيحة والضبط والإتقان، فإنه لا يطلب من المحدث أن لا يشك في شيء وإنما المطلوب منه أن لا يحدث إلا بما يتقنه فإن حدث بما لا يتقنه بين الحال، فإذا فعل ذلك فقد أمنا من غلطة وحصل بذلك المقصود من الضبط. فإن قيل فإنه يؤخذ من كلامهم أنه لم يكن يحفظ وإنما اعتماده على كتبه. قلت: هذا لا يعطي ما زعمه الأستاذ «أنه كان سيئ الحفظ» فان هذه الكلمة إنما تطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ ومع ذلك يحدث من حفظة فيخطئ، فأما من لا يحدث من حفظه إلا بما أجاد حفظه كجرير فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيد الحفظ. وأما قول الأستاذ: «انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع» فهذا تقليد من الأستاذ للشاذ كوني فانه هو الذي حكم على ذلك الخبر بأنه موضوع، والشاذ كوني قد عرفت حاله، فأما الخبر فإنما حدث به جرير عن مغيرة قوله كما في (الميزان) عن عثمان ابن أبي شيبة، وليس بموضوع ولا ضعيف، سواء أتوبع عليه جرير أم لم يتابع، فإنه لا ينكر لمثل جرير أن يتفرد بحديث مرفوع، فضلاً عن شيء من قول مغيرة بن مقسم. وأما قول الأستاذ «والكلام فيه طويل الذيل» . فلم يبق إلا كلام الموثقين! قال الإمام أحمد «جرير أقل سقطاً من شريك، وشريك كان يخطئ» وقال ابن معين

64- جعفر بن محمد بن شاكر

نحوه. وقال العجلي والنسائي «ثقة» وقال ابن أبي حاتم «سألت أبي عن أبي الأحوص وجرير في حديث حصين، فقال: كان جريراً أكيس الرجلين، وجرير أحب إلي، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم، جرير ثقة، وهو أحب إلي في هشام بن عروة من يونس بن بكير» وقال ابن عمار «حجة كانت كتبه صحاحاً» وقال أبو أحمد الحاكم «هو عندهم ثقة» وقال الخليلي «ثقة متفق عليه» وقال اللالكائي «مجمع على ثقته» وقال قتيبة «ثنا جرير الحافظ المقدم لكني سمعته يشتم معاوية علانية» . أقول: لم يبين ما هو الشتم؟ ولم يضره ذلك في روايته، بل أجمعوا على توثيقه كما رأيت واحتج به صاحبا (الصحيحين) وبقية الستة والناس. قول الأستاذ «وليس هو ممن يساق خبره في صدد سرد المحفوظ عند النقلة إلا في مذهب الخطيب» . أقول: ومذهب أهل العلم كافة كما رأيت! 64- جعفر بن محمد بن شاكر. راجع (الطليعة) ص 109. قال الأستاذ في (الترحيب) «لا أريد التكلم عن ابن المنادي، وحاله معروف» . أقول: نعم بالثقة والأمانة ومعه عصره أبو بكر الخطيب. 65- جعفر بن محمد الصندلي. راجع «الطليعة» ص 91 - 93 ذكر الأستاذ في «الترحيب» أن الخطيب لا يحتج به فيما هو مهتم فيه. أقول: الخطيب ثقة مأمون إمام قد تقدمت ترجمته، وذكر ابن السمعاني أنه من نظراء يحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي خيثمة وطبقتهم، كما تراه في ترجمة من «معجم الأدباء» لياقوت، والكلام في التهمة قد تقدم في القواعد، ومع الخطيب جماعة كما في «الطليعة» .

66- جعفر بن محمد الفريابي

66- جعفر بن محمد الفريابي. في «تاريخ بغداد» «13 / 418» من طريق العقيلي «ثنا سليمان بن داود العقيلي قال: سمعت أحمد بن الحسن الترمذي يقول «قال الخطيب ح» وأخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ حدثنا عثمان بن جعفر بن محمد السبيعي حدثنا الفريابي جعفر بن محمد حدثني أحمد بن الحسن والترمذي قال سمعت أحمد ابن حنبل ... » قال الأستاذ ص 163 «جعفر بن محمد الفريابي كان يجتمع عليه في مجلس تحديثه ثلاثون ألف رجل بينهم نحو عشرة آلاف أصحاب محابر، فعدلا روى مثله شيئاً يسير به الركبان، وهو الذي آذن على أذن مجنون على مل الأشهاد فنادى الجني هارباً بحيث يسمع الجماعة: من بشوم محمد مكو. على لسان المجنون بمعنى: أنا أنصرف ولا تقل محمد. كما في «تاريخ الخطيب» ، ومثل هذا الراوي لا نستطيع أن نقول فيه شيء، والله من وراءهم محيط» . أقول هذا الرجل من كبار الحفاظ والأثبات. فأما قصة التأذين في أذن المصاب فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقي ويأمر بالرقية، وكثيراً ما تظهر فائدة ذلك حالاً. ومن المعروف بين الناس سلفاً وخلفاً أن المصاب يتكلم بكلام كأنه كلام شخص آخر، فيقول الناس أن ذاك كلام الجني على لسان المصاب. هذا وذاك الكلام أنه سمع من المصاب والقائل أنه كلام الجني هو راوي القصة ولم يقع من الفريابي إلا التأذين في أذن المصاب أتباعاً لما ورد في الأثر، فأي شيء في ذلك؟ 67- حاجب بن أحمد الطوسي. في (تاريخ بغداد) (13/401) «أنبأنا القاضي أحمد بن الحسن الحرشي أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد الطوسي حدثنا عبد الرحيم قال: قال عفان ... » قال الأستاذ ص 117 «قال الحاكم: لم يسمع حديثاً قط لكنه كان له عم قد سمع فجاء البلاذري إليه فقال: هل كنت تحضر مع عمك في المجلس؟ قال: بلا، فأنتخب له من كتب عمه. ويقال: أنه كان ابن مائة وثماني سنين كما ذكره الذهبي، ولفظ عبد الرحيم لفظ الانقطاع» . أقول: تتمة الترجمة في «الميزان» بعد قوله «من كتب عمه» : «تلك الأجزاء الخمسة، قال الحاكم في (تاريخه) : بلغني أن شيخنا أبا محمد أبا البلاذري كان يشهد له

68- الحارث بن عمير البصري

بلقي هؤلاء وكان يزعم أنه ابن مائة وثمانين سنين، سمعت منه ولم يصل إلي منه ما سمعته ... » فظهر بهذا أن قوله أولاً: «لم يسمع حديثاً قط» إنما أراد به أنه لم يتصد للسماع بنفسه وإنما كان عمه يحضره معه مجالس السماع والبلاذري حافظ أثنى عليه الحاكم، أنظر ترجمته في «تذكرة الحفاظ» ج 3 ص 101، ولم يغمزوا حاجباً في عدالته ولا أنكروا عليه شيئاً من مروياته، ويأخذ مما تقدم أنه أنما كان يروي تلك الأجزاء التي أنتخبها له البلاذري من أصول عمه ولم يتعده وأحاديثه في «سنن البيهقي» أحاديث معروفة تتدل على صدقه وأمانته، وقد روى عنه ابن منده والقاضي أحمد بن الحسن الحرشي الراوي هذه الحكاية وهما من الثقات الإثبات. وعبد الرحيم ثقة غير مدلس فقوله «قال عفان» حكمه الاتصال كما سلف في القواعد. 68- الحارث بن عمير البصري نزيل مكة في «تاريخ بغداد» «13/ 370» من طريق «الحميدي حدثنا حمزة بن الحارث عن عمير عن أبيه قال سمعت رجل يسأل أبا حنفية في المسجد الحرام ... » قال الأستاذ ص 36 «مختلف فيه والجرح مقدم، قال الذهبي «الميزان» : وما أراه إلا بين الضعف، فإن ابن حبان قال في «الضعفاء» : روى عن الإثبات والموضوعات. وقال الحاكم: روى عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة. وفي «تهذيب التهذيب» : قال الأزدي: منكر الحديث. ونقل ابن الجوزي عن ابن خزيمة أنه قال: الحارث بن عمير كذاب» . أقول الحارث بن عمير وثقة أهل عصره والكبار قال أبو حاتم عن سليمان بن حرب «كان حماد بن زيد يقدم الحارث بم عمير ويثني عليه» زاد غيره «ونظر إليه مرة فقال: هذا من ثقات أيوب» وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وقد قال الأكرم عن أحمد: «إذا حدث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة» وقال ابن معين والعجلي وأبو حاتم وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: «ثقة» زاد أبو زرعة «رجل صالح» وفي «اللآلي المصنوعة» ص 118 - 119 عن الحافظ بن حجر في ذكر الحارث «استشهد به البخاري في «صحيحه» وروى عنه من الأئمة عبد الرحمن بن مهدي وسفيان بن عيينة واحتج به أصحاب السنن» وفيها بعد ذلك

تحقيق أن ابن الجوزي كثير الأوهام

«قال الحافظ ابن حجر في أماليه ... أثنى عليه حماد بن زيد ... وأخرج له البخاري تعليقاً ... » ولم يتكلم فيه أحد من المتقدمين، والعدالة تثبت بأقل من هذا، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا بحجة وبينة واضحة كما سلف في القواعد. فلننظر في المتكلمين فيه وكلامه: أما الأزدي: فقد تكلموا فيه حتى اتهموه في الوضع راجع ترجمته في (لسان الميزان) ج 5 رقم 464 مع الرقم الذي يليه من «قال الخطيب» إلى آخر الترجمة فإنه كله متعلق بالأزدي، وقال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب في الفصل التاسع مع «مقدمة الفتح» : «لا عبرة بقول الأزدي لأنه هو ضعيف فكيف يعتمد في تضعيف الثقات» وذكر نحو ذلك في ترجمة خثيم بن عراك وغيرها فقال في ترجمة علي بن أبي هاشم «قدمت غير مرة أن الأزدي لا يعتبر تجريحه لضعفه هو» على أن الأزدي أستند إلى ما أستند إليه ابن حبان وسيأتي ما فيه. وأما ابن خزيمة فلا تثبت تلك الكلمة عنه بحكاية ابن الجوزي المعضلة، ولا نعلم ابن الجوزي التزم الصحة فيما يحكيه بغير سند، ولو التزم لكان في صحة الاعتماد على نقله نظر لأنه كثير الأوهام، وقد أثنى عليه الذهبي في (تذكرة الحفاظ) كثيراً ثم حكى عن بعض أهل العلم أنه قال في ابن الجوزي: «كان كثير الغلط فيما يصنفه فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره» . قال الذهبي: «نعم له وهم كثير في تواليفه يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر ومن أجل أن علمه من كتب صحف ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغي» وذكر ابن حجر في (لسان الميزان) ج3 ص84 حكاية عن ابن الجوزي ثم قال: «دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينقد ما يحدث به» . وقد وقفت أنا على جملة من أو هامه منها أنه حكى عن أبي زرعه وأبي حاتم أنهما قالا في داود بن عمر بن زهير: «منكر الحديث» وإنما قالا ذلك في داود بن عطاء المدني، راجع التعليق على (تاريخ البخاري) ج 2 قسم 1 ص 215. ومنها أنه حكى في إسحاق بن ناصح عن الإمام أحمد كلاماً إنما قاله أحمد في إسحاق بن

نجيح راجع (لسان الميزان) ج1 ص376. ومنها أنه قال في الربيع بن عبد الله بن خطاف: «كان يحيى بن سعيد يثني عليه، وقال ابن مهدي لا تروعنه شيئاً» وهذا مقلوب كما في ترجمة الربيع من (التهذيب) . ومنها أنه حكى في سوار بن عبد الله بن سوار أن الثوري قال فيه: «ليس بشيء» مع أن سواراً هذا إنما ولد بعد موت الثوري وإنما قال الثوري تلك الكلمة في جده سوار بن عبد الله كما في (التهذيب) . ومنها أنه حكى في صخر بن عبد الله بن حرملة الحجازي أن ابن عدي وابن حبان اتهمته بالوضع، وإنما اتهما صخر بن محمد، ويقال ابن عبد الله الحاجي المروزي، راجع (التهذيب) و (اللسان) . ومنها أنه حكى في جعفر ابن حبان أبي الشهب البصري كلاماً عن الأئمة قالوه في جعفر بن الحارث أبي الأشهب الواسطي. راجع (التهذيب) ومنها أنه ذكر معاوية بن هشام فقال: وقيل هو معاوية بن أبي العباس روى ما ليس من سماعه فتركوه. كذا قال ومعاوية بن هشام من الثقات لم يروما ليس من سماعه ولم يتركه أحد، وإنما روى مروان بن معاوية الفزاري عن معاوية ابن أبي العباس أحاديث عن شيوخ الثوري وهي معروفة من حديث الثوري فقال ابن نمير، وأخذه عنه أبو زرعة وغيره: إن معاوية بن أبي العباس رجل متروك كان جاراً للثوري فلما مات الثوري أخذ معاوية كتبه فرواها عن شيوخه فسمعوا منه، ثم فطنوا لصنيعه فافتضح وتركوه، وبقي مروان يروي عنه. ورأى بعض الحفاظ أن معاوية بن هشام روى تلك الأحاديث عن الثوري، فسمعها منه مروان ثم دلس مروان اسمه وأسقط الثوري من السند فدلس مروان «تدليس» تسوية بعد تدليسه الاسم، وهذا القول على وهنة كما بينته في تعليقي على (الموضح) لا يفيد أن معاوية بن هشام روى ما لم يسمع ولا أنهم تركوه بني على أنه ذكر في موضوعاته حديثاً رواه الطبراني قال: حدثنا أحمد حدثنا إسحاق بن وهب العلاف حدثنا بشر بن عبيد الفارسي ... » ثم قال ابن

ترجمة محمد بن زنبور

الجوزي «إسحاق كذاب ... » قال السيوطي في (اللآلي) 1 / 206: «إنما الكذاب إسحاق بن وهب الطهرمسي فالتبس على المؤلف ... » يعني ابن الجوزي وصدق السيوطي، العلاف موثق وهو من شيوخ البخاري في (صحيحه) . والطهرمسي كذبوه إلى غير ذلك من أوهامه. وأما الحاكم فأحسبه تبع ابن حبان، فان ابن حبان ذكر الحارث في (الضعفاء) وذكر ما أنكره من حديثه، والذي يستنكر من حديث الحارث حديثان: الأول رواه محمد بن زنبور المكي عن الحارث عن حميد، والثاني رواه ابن زنبور أيضاً عن الحارث عم جعفر بن محمد، فاستنكرها ابن حبان وكان عنده أن ابن زنبور ثقة فجعل الحمل على الحارث، وخالفه آخرون فجعلوا الحمل على ابن زنبور، قال مسلمة في ابن زنبور: «تكلم فيه لأنه روى عن الحارث بن عمير مناكير لا أصول لها وهو ثقة» وقال الحاكم أبو أحمد في ابن زنبور «ليس بالمتين عندهم تركه محمد بن إسحاق بن خزيمة» وهذا مما يدل على وهم ابن الجوزي. وساق الخطيب في (الموضح) فصلاً في ابن زنبور فذكر أن الرواة عنه غيروا اسمه على سبعة أوجه وهذا يشعر بان الناس كانوا يستضعفونه لذلك كان الرواة عنه يدلسونه. وقال ابن حجر في ترجمة الحارث من (التهذيب) : «قال ابن حبان كان ممن يروي عن الإثبات الأشياء الموضوعات لا أصل له» ثم ساقه ابن حجر بسنده إلى محمد بن أبي الأزهر عن الحارث. وكذلك ذكره السيوطي في (اللآلي المصنوعة) ج1 ص118 وابن الأزهر هو ابن زنبور وأسند الخطيب في (الموضح) هذا الحديث في ترجمة ابن زنبور. ثم قال ابن حجر: «والذي يظهر لي أن العلة فيه ممن دون الحارث» يعني من ابن زنبور، وخالفهم جميعاً النسائي فوثق الحارث، ووثق ابن زنبور أيضاً وقال مرة: «ليس به بأس» . قال المعلمي: لو كان لا بد من جرح أحد الرجلين لكان ابن زنبور أحق بالجرح، لأن عدالة الحارث أثبت جداً وأقدم، ولكن التحقيق ما اقتضاه صنيع

ذكر جماعة من الثقات مضعفون في شيوخ معينين

النسائي من توثيق الرجلين، ويحمل الإنكار في بعض حديث ابن زنبور عن الحارث على خطأ ابن زنبور، وقد قال فيه ابن حبان نفسه في (الثقات) : «ربما أخطأ» . والظاهر أنه كان صغيراً عند سماعه من الحارث كما يعلم من تأمل ترجمتها، وقد يقدم في ترجمة جرير، فكأن ابن زنبور في أوائل طلبه كتب أحاديث عن الحارث ثم سمع من رجل آخر أحاديث كتبها في تلك الورقة ولم يسم الشيخ، ثقة بأنه لن يلتبس عليه، ثم غفل عن ذاك الكتاب مدة ثم نظر فيه فظن أن تلك الأحاديث كلها مما سمعه من الحارث. وقد وثق الأئمة جماعة من الرواة ومع ذلك ضعفوهم فيما يروونه عن شيوخ معينين منهم عبد الكريم الجزري فيما يرويه عن عطاء، ومنهم عثمان بن غياث وعمرو بن أبي عمرو وداود ابن الحصين فيما يروونه عن عكرمة، ومنهم عمرو بن أبي سلمة فيما يرويه عن زهير بن محمد، ومنهم هشيم فيما يرويه عن عكرمة، ومنهم عمرو بن أبي سلمة فيما يرويه عن زهير بن محمد، ومنهم هشيم فيما يرويه عن الزهري، ومنهم ورقاء فيما يرويه عن منصور بن المعتز، ومنهم الوليد بن مسلم فيما يرويه عن مالك. فهكذا ينبغي مع توثقاه ابن زنبور تضعيفه فيما يرويه عن الحارث بن عمير. فإن قيل: فأين أنت عما في (الميزان) «ابن حبان ثنا الحسن بن سفيان ثنا محمود بن غيلان أنبأنا أبو أسامة ثنا الحارث بن عمير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس. قال العباس: لأعلمن ما بقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا، فاتاه فقال يا رسول الله لو اتخذنا لك مكاناً تكلم الناس منه، قال بل اصبر عليهم ينازعوني ردائي ويطأون عقبي ويصيبني غبارهم حتى يكون الله هو يريحني منهم. رواه حماد بن زيد عن أيوب فأرسله أو أن ابن عباس قاله - شك» فهذا الحديث لا شأن لابن زنبور فيه، وليس في سنده من يتجه الحمل عليه غير الحارث. قلت: ليس في هذا الحديث ما ينكر وقد رواه حماد بن زيد غير أنه شك في إسناده وقد قال يعقوب بن شيبة «حماد بن زيد أثبت من ابن سلمة وكلّ ثقة غير أن ابن زيد

69- حبيب بن أبي حبين كاتب مالك

معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع، كثير الشك بتوقيه وكان جليلاً لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحياناً يذكر فيرفع الحديث، وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه» فأي مانع من أن يكون هذا مما قصر فيه حماد، حفظه الحارث، وقد كان حماد نفسه يثني على الحارث ويقدمه كما مر. فإن شدد مشدد فغاية الأمر أن يكون الخطأ في وصله، وهل الخطأ من الحارث أو ممن بعده؟ وعلى فرض أنه من الحارث فليس ذلك مما يوجب الجرح، ومثل هذا الخطأ وأظهر منه قد يقع للأكابر كما لك والثوري، والحكم المجمع عليه في ذلك أن من وقع منه ذلك قليلاً لم يضره بل يحتج به مطلقاً إلا فيما قامت الحجة على أنه أخطأ فيه، فالحارث بن عمير ثقة حتماً. والحمد لله رب العالمين. 69- حبيب بن أبي حبين كاتب مالك. في (تاريخ بغداد) (13/396) من طريق «الأبار حدثنا أبو الأزهر النيسابوري حدثنا حبيب كاتب مالك بن أنس عن مالك ... » . قال الأستاذ ص 106 يقول عنه داود: من أكذب الناس، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها موضوعة، وقال أحمد: ليس بثقة، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات» . أقول: اتفقوا على جرحه فلا معنى للرواية عنه ولو في المتابعات. 70- الحجاج بن أرطاة. في (تاريخ بغداد) 13 / 415 من طريق «حماد بن زيد يقول: سمعت الحجاج بن أرطاة يقول: من أبو حنيفة؟! ... » قال الأستاذ ص155: «من فقهاء الكوفة ومحدثيها ويتكلم النقاد في حديثه» . أقول: ليس له هنا رواية إنما هو شيء من قوله، وحاصل كلامهم في حديثه أنه صدوق مدلس يروي بالمعنى، وقد لخص ذلك محمد بن نصر المروزي قال: «والغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ» فإذا صرح بالسماع فقد أمنا تدليسه وهو فقيه عارف لا يخشى من روايته بالمعنى لكن إذا خالفه في اللفظ ثقة يتحرى الرواية باللفظ، وكان بين اللفظيين اختلاف ما في المعنى قدم فيما اختلافا فيه لفظ الثقة الآخر. فأما محل الحجاج في علمه فقال ابن عيينة: «سمعت

71- الحجاج بن محمد الأعور

ابن أبي نجيح يقول: ما جاءنا منكم (يعني أهل الكوفة) مثله - يعني الحجاج بن أرطاة» وقال سفيان الثوري: «عليكم به فإنه ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه» وقال حماد بن زيد: «قدم علينا جرير بن حازم من المدينة فكان يقول: حدثنا قيس بن سعد عن الحجاج بن أرطاة، فلبثنا ما شاء الله ثم قدم علينا الحجاج ابن ثلاثين أو إحدى وثلاثين فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على بن أبي سليمان، رأيت عنده داود بن أبي هند ويونس بن عبيد ومطر الوراق جثاة على أرجلهم يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟» . 71- الحجاج بن محمد الأعور. في (تاريخ بغداد) 13 / 405 من طريق سُنَيد بن داود حدثنا حجاج قال: سألت قيس بن الربيع عن أبي حنيفة قال: أنا أعلم الناس به ... » قال الأستاذ ص 126: «سنيد إنما روى عن الحجاج بعد أن اختلط اختلاطاً شديداً، وقد رآه أهل العلم يلقن الحجاج فيتلقن منه، والملقن في السقوط عند أهل الفقه، وقال النسائي (في سنيد) : «غير ثقة» . أقول: أما سنيد فستأتي ترجمته، وأما الحجاج فمدار الكلام فيه على الاختلاط والتلقن وههنا مباحث: الأول: هل اختلط حجاج؟ وإن كان اختلط فهل حدث بعد اختلاطه؟ قال ابن سعد: «كان قد تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد» وقال إبراهيم الحربي: أخبرني صديق لي قال: لما قدم حجاج الأعور آخر قدمة إلى بغداد خلط فرأيت يحيى بن معين عنده فرآه يحيى خلط فقال لابنه: لا تدخل عليه أحداً، قال: فلما كان بالعشي دخل الناس فأعطوه كتاب شعبة فقال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عيسى بن مريم عن خيثمة! فقال يحيى لابنه: قد قلت لك» فكلمة ابن سعد ليست بصريحة في الاختلاط لأن التغيير أعم من الاختلاط، وحكاية إبراهيم الحربي صريحة في الاختلاط لكن لا ندري من هو صديقه؟ وسكوت الحفاظ الأيقاظ كابن معين وأحمد وأبي خيثمة وكلهم بغداديون عن نقل اختلاط حجاج وبيان

التحقيق في سماع سنيد بن داود من الحجاج

تاريخه وبيان من سمع منه فيه مع إطلاقهم توثيق حجاج وتوثيق كثيرين ممن روى عن حجاج يدل حتماً على أحد أمرين: إما أن لا يكون حجاج اختلط، وإنما تغير تغيراً يسيراً لا يضر، وإما أن لا يكون سمع منه أحد في مدة اختلاطه، والثاني أقرب فكأن يحيى بن عشي ذاك اليوم في الوقت الذي جرت العادة بالدخول فيه على القادم للسماع منه خشية أن لا يعمل ابن حجاج بما أمره به، فوجد الأمر كذلك أذن لهم الابن فدخلوا ويحيى معهم قطعوا المجلس وحجبوا حجاباً حتى مات فلم يسمع منه أحد في الاختلاط. فلما وثق يحيى وبقية أهل العلم بذلك لم يروا ضرورة إلى أن يشيعوا اختلاط حجاج وبيان تاريخه، بل كانوا يوثقونه ويوثقون كثيراً من الذين سمعوا منه مطلقاً، لعلهم أن ما بأيدي الناس من روايته كله كان في حال تمام ضبطه. وفي ترجمة حجاج من (مقدمة الفتح) : «أجمعوا إلى توثيقه وذكره أبو العرب الصقلي في (الضعفاء) بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، لكن ما ضره الاختلاط فان إبراهيم الحربي حكى أن يحيى بن معين منع ابنه أن يدخل عليه بعد اختلاطه أحداً» فأما قوله في (التهذيب) : «وسيأتي في ترجمة سنيد بن داود عن الحلال ... » فستعلم ما فيه قريباً. المبحث الثاني متى سمع سنيد من الحجاج؟ روى الأثرم وهو ثقة عن الإمام أحمد انه قال: «سنيد لزم حجاجاً قديماً، قد رأيت حجاجاً يملي عليه، وأرجوا، لا يكون حدث آلا بالصدق» وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: «رأيت سنيدا عند حجاج بن محمد وهو يسمع منه كتاب (الجامع لابن جريج) «وفيه» أخبرت عن الزهري. وأخبرت عن صفوان بن سليم. وغير ذلك. قال فجعل سنيد يقول لحجاج: يا أبا محمد قل: ابن جريج عن الزهري. وابن جريج عن صفوان بن سليم. قال فكان يقول له هكذا» قال عبد الله: «ولم

يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج وذمة على ذلك قال أبي: وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جرير أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي ممن آخذها» حكى هذا في (تهذيب التهذيب) ثم قال «وحكى الخلال عن الأثرم نحو ذلك ثم قال الخلال وروى (؟ ونرى) أن حجاجاً كان هذا منه في وقت تغيره، ويرى (؟ ونرى) أن أحاديث الناس عن حجاج صحاح إلا ما روى سنيد» . أقول: هذا حدس يرده نص الإمام أحمد كما تقدم، ومبنى هذا الحدس على توهم أن القصة ما يخدش في تثبيت حجاج، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان إذا قيل: ابن جريج عن فلان. يحمل عللا سماع ابن جريج من فلان، وليس الأمر كذلك لأن ابن جريج مشهور بالتدليس، فإذا قيل: ابن جريج عن الزهري. ولم يجيء بيان السماع من وجه آخر، فأنه لا يحكم بالاتصال، بل يبنى على أو هن الاحتمالين وهو أن بين ابن جريج وبين الزهري واسطة، وذلك لاشتهار ابن جريج بالتدليس، وعلى هذا فسيان قيل: ابن جريج أخبرت عن الزهري. و: ابن جريج عن الزهري. ولهذا قال الإمام أحمد: أرجو أن لا يكون حدث إلا بالصدق. وإنما ذكر في رواية عبد الله كراهيته لذلك لأنه رآه خلاف الكمال في الأمانة. وفي (الكفاية) ص187 من طريق «عبد الله بن أحمد قال: كان إذا مر بأبي لحن فاحش غيره، وإذا كان لحناً سهلاً تركه، وقال: كذا قال الشيخ» فأنت ترى أحمد يمتنع من تغيير اللحن فما ظنك بما يقدم؟. فإن قيل فما الحامل لسنيد على التماس ذلك من حجاج؟ قلت: طلب الاختصار والتزيين الصوري. فتدبر ما تقدم يتبين لك أنه ليس في الحكاية ما يشعر بوهن في تثبيت حجاج حتى يقوي الحدس بأنها كانت في وقت تغيره، ويتضح لك أن ما تقدم من الدليل على أن حجاجاً لم يحدث في وقت تغيره هو على إطلاقه. المبحث الثالث في التلقين:

ثناء الأئمة على الحجاج

التلقين القادح في الملقن هو أن يوقع الشيخ في الكذب ولا يبين، فإن كان إنما فعل ذلك امتحاناً للشيخ وبين ذلك في المجلس لن يضره، وأما الشيخ فإن قبل التلقين وكثر ذلك منه فإنه يسقط. دخل حفص بن غياث ويحيى بن سعيد القطان على موسى بن دينار المكي فوجدا عنده أبا شيخ جارية بن هرم الفقيمي فجعل حفص يقول لموسى امتحاناً: حدثتك عائشة بنت طلحة عن عائشة بكذا؟ وحدثك القاسم بن محمد عن عائشة بكذا؟ وحدثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بكذا؟ ويذكر أحاديث قد علم أن موسى لم يسمعها ممن ذكر فأجابه موسى بالإثبات، وكان أبو شيخ مغفلاً فكتبها فلما فرغ حفص مد يده إلى ما منبه أبو شيخ فمحاه وبين له الواقع. راجع ترجمة موسى وجارية في (لسان الميزان) . وما وقع من سنيد ليس بتلقين الكذب وإنما غايته أن يكون تلقيناً لتدليس التسوية، وتدليس التسوية أن يترك الراوي واسطة بعد شيخه كما يحكى عن الوليد بن مسلم أنه كان عنده أحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن الزهري، وأحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن نافع، فكان يقول فيها: حدثني الأوزاعي عن الزهري، وحدثني الأوزاعي عن نافع! وهذا تدليس قبيح، لكنه في قصة سنيد وحجاج لا محذور فيه لاشتهار ابن جريج بالتدليس كما مر. وبذلك يتبين أن حجاجاً لم يتلقن غفلة ولا خيانة وإنما أجاب سنيداً إلى ما التمسه لعلمه أنه لا محذور فيه، وكره أحمد ذلك لما تقدم. ومن ثناء الأئمة على الحجاج: قال الإمام أحمد «ما كان اضبطه وأشد تعاهده للحروف» وقال المعلي الرازي «قد رأيت أصحاب ابن جريج ما رأيت فيهم أثبت من حجاج» وقال علي ابن المديني والنسائي «ثقة» وكذا وثقه مسلم والعجلي وابن قانع ومسلمة بن قاسم وغيرهم واحتج به الجماعة. 72- حرب بن إسماعيل الكرماني السيرجاني. لم ينقم عليه الأستاذ رواية. ولكنه علم أنه من أصحاب الإمام أحمد، فتناوله من بعد يسر حسواً في ارتغاء! قال

73- الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان أبو علي بن أبي بكر

ص 115 في ابن أبي حاتم «أفسده حرب بن إسماعيل السيرجاني في المعتقد حتى أصبح ينطوي على العداء لمتكلمي أهل الحق» . وقال السها يا شمس أنت خفية ... وقال الدجى يا صبح لونك حائل وقد أفردت المعتقد بقسم. وحرب من ثقات أصحاب أحمد لم يتكلم فيه أحد (1) . 73- الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان أبو علي بن أبي بكر. في (تاريخ بغداد) (13 / 399) «أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا حامد بن محمد الهروي ... » قال الأستاذ ص 113 «يقول عنه الخطيب: إنه كان يشرب النبيذ» . أقول: قال الخطيب ج 7 ص 279 «كتبنا عنه وكان صدوقاً صحيح الكتاب وكان يفهم الكلام على مذهب الأشعري وكان مشتهراً بشرب النبيذ إلى أن تركه بأخرة كتب عنه جماعة من شيوخنا كأبي بكر البرقاني ... سمعت أبا الحسن بن رزقويه يقول أبو علي ابن شاذان من أوثق من برأ الله في الحديث، وسماعي منه أحب إلي من السماع من غيره، أو كما قال» . فسماع البرقاني وغيره منه يدل انه كان على مذهب العراقيين في الترخيص في النبيذ ومثل ذلك لا يجرح به اتفاقاً، ومع ذلك فقد ترك ذلك بأخرة وسماع الخطيب منه متأخر، وغالب السماع أو جمعية في ذاك العصر من الكتب، وقد قال الخطيب: «كان صدوقاً صحيح الكتاب» . (2)

_ (1) حديث بن عبد الرحمن أبو عمرو، يأتي مع محمود بن إسحاق. (2) أقول: من المعروف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يرخص في شرب النبيذ، فيكون هو سلف أبي علي في ذلك فكيف يجعل الكوثري ذلك طعناً في أبي علي، ثم ينسى أنه يصيب به إمامه؟ ! ن

74- الحسن بن الحسين بن العباس بن دوما النعالي

74- الحسن بن الحسين بن العباس بن دوما النعَّالي. في (تاريخ بغداد) 13/374: «أخبرنا الحسن بن الحسين بن العباس النعالي أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم حدثنا أحمد ابن علي الأبار حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ عن أبيه قال: دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء. أخبرنا ابن رزق أخبرنا جعفر الخلدي حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ... » بمثله وزاد فيه «فأبيت» قال الأستاذ ص 46: «النعالي هو ابن دوما المزور، قال عنه الخطيب نفسه: أفسد أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم يكن عليها سماعه فكيف تكون رواية مثله في عداد المحفوظ عند النقلة؟ هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب، وكأن الخطيب استشعر تداعي هذا السند حتى ساق شاهداً فيه ابن رزق والحضرمي، ولكن نعترف للخطيب ونقول له: قد يصدق الكذوب، ولا مانع من أن يكون أبو حنفية داعيا إلى الإرجاء الذي سبق» . أقول: ابن رزق هو محمد بن أحمد بن رزق ثقة تأتي ترجمته، والحضرمي حافظ جليل تأتي ترجمته، فالسند الثاني لا غبار عليه، وإذا كان المتن محفوظاً بسند صحيح لم يزده سوقه مع ذلك بسند فيه مقال إلا تأكيدا على أن المقال في ابن دوما لا يضر ههنا، فإن كان الخطيب إنما يروي بذاك السند ما يأخذه من مصنف الأبار والعمدة في ذلك على أن تكون النسخة موثوقاً بها كما لو روى أحدنا بسند له من طريق البخاري مطعون فيه، وقد شرحت هذا في (الطليعة) وغيرها، والأبار هو الحافظ أحمد بن علي بن مسلم تقدمت ترجمته، والخطيب معروف بشدة التثبيت بل قد يبلغ به الأمر إلى التعنت فلم يكن ليروي عن مصنف الأبار إلا عن نسخة موثوق بها بعد معرفته صحة سماع ابن دوما. وفوق ذلك فالطعن في ابن دوما فيه نظر، ذكره الخطيب فقال «كان كثير السماع إلا أنه أفسد نفسه ... » العبارة التي حكاها الأستاذ، ثم قال الخطيب: «وذكرت للصوري جزءا من حديث الشافعي حدثنا ابن دوما فقال لي: لما دخلت بغداد رأيت هذا الجزء وفيه سماع ابن دوما الأكبر وليس فيه سماع أبي علي ثم سمع أبو علي فيه لنفسه وألحق اسمه مع اسم أخيه» فمن الجائز

75- الحسن بن الربيع أبو علي البجلي الكوفي

أنهم كانوا يحضرونه مع أخيه ولم يكتبوا إسماعه لصغره فرأى أنه كان مميزاً وأن له الحق الرواية بذلك، فإن كان كتب سماعه في المجلس فهذا تدليس قبيح قد يكون استجازه بناء على ما يقوله الفقهاء في مسألة الظفر ونحوها بعلة أنه لا يصل إلى حقه إلا بذلك. وعلى كل حال فكما أن الخطيب لم يرو عنه الجزء الذي ذكره من حديث أبي بكر الشافعي فكذلك لم يرو عنه الخطيب شيئا إلا مما ثبت عنده صحة سماعه له مع الوثوق بالنسخة. 75- الحسن بن الربيع أبو علي البجلي الكوفي. في (تاريخ بغداد) 13 / 414 من طريق «أبي بكر العين عن الحسن بن الربيع قال: ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة» قال الأستاذ ص 151: «يقول فيه ابن معين: لو كان يتقي الله لم يكن يحدث بالمغازي، ما كان يحسن يقرؤها. ومع ذلك لفظه لفظ انقطاع» . أقول: لم تصح هذه الكلمة عن ابن معين، راجع (الطليعة) ص 78، ولذلك لم تذكر في (التهذيب) ولا ذكر الحسن في (الميزان) ولا ذكر ابن حجر في (مقدمة الفتح) فيمن فيه كلام من رجال البخاري، ومع ذلك فقد أجاب عنها الخطيب. وفي (التهذيب) : قال ابن شاهين في (الثقات) : قال عثمان بن أبي شيبة: «الحسن بن الربيع صدوق وليس بحجة» وهذه الحكاية منقطعة فيما يحكيه في (ثقاته) عمن لم يدركه. وعثمان على قلة كلامه في الرجال يتعنت وكلمة «ليس بحجة» لا تنافي الثقة فقد قال عثمان نفسه في أحمد بن عبد الله بن يونس الثقة المأمون: «ثقة وليس بحجة» وراجع (فتح المغيث) ص 157. والحسن قد وثقه الناس قال أبو حاتم تشدده: «كان من أوثق أصحاب ابن إدريس» وقال العجلي: «كوفي ثقة صالح متعبد» وقال ابن خراش: «موفي ثقة» وروى عنه البخاري ومسلم في (الصحيحين) وأبو داود في (السنن) وهو لا يروي إلا عن ثقة كما مر في ترجمة أحمد

76- الحسن بن الصباح أبو علي البزار الواسطي

بن سعد بن أبي مريم، وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 416 وأخرج له بقية الستة بواسطة، وقال ابن حبان في (الثقات) : «هو الذي غمض ابن المبارك ودفنه» وليس بمدلس، فقوله: «ضرب ابن المبارك» محكوم له بالاتصال كما سلف في القواعد (1) . 76- الحسن بن الصباح أبو علي البزار الواسطي. في (تاريخ بغداد) 13/396 من طريق «يعقوب بن سفيان حدثني الحسن بن الصباح حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني ... » . قال الأستاذ ص 105: «ليس بقوي عند النسائي» . أقول: عبارة النسائي: «ليس بالقوي» وبين العبارتين فرق لا أراه يخفي على الأستاذ ولا على عارف بالعربية، فكلمة «ليس بقوي» تنفي القوة مطلقاً وأن لم تثبت الضعف مطلقاً، وكلمة «ليس بالقوي» إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة، والنسائي يراعي هذا الفرق فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء منهم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل فبين ابن حجر في ترجمتيها من (مقدمة الفتح) أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقراهما، وقال في ترجمة الحسن بن الصباح: «وثقه أحمد وأبو حاتم، وقال النسائي: صالح، وقال في الكنى: ليس بالقوي. قلت: هذا تليين هين، وقد روى عنه البخاري وأصحاب (السنن) إلا ابن ماجة ولم يكثر عنه البخاري» . 77- الحسن بن علي بن محمد الحلواني نزيل مكة. في (تاريخ بغداد) 13/398 من طريق «الأبار حدثنا الحسن بن علي ابن توبة ... » قال الأستاذ ص 109: «لم يكن أحمد يحمده كما ذكره الخطيب» . أقول: إنما لم يحمده أحمد لأنه بلغه عنه أنه مع قوله (0 القرآن كلام الله غير مخلوق ما نعرف غير هذا» أمتنع من إطلاق الكفر على القائلين بخلق القرآن فكأن أحمد

_ (1) الحسن بن زياد اللؤلؤي، يأتي في ترجمة محمد بن سعد العوفي.

78- الحسن بن علي بن محمد أبو علي المذهب التميمي

رأى أن امتناع العالم في ذاك العصر من إطلاق الكفر عليهم يكون ذريعة لانتشار تلك البدعة التي جَدَّ أهلها والدولة معهم في نشرها وحمل الناس عليها، ولعل الحلواني لم ينتبه لهذا، وعارض ذلك عنده ما يراه مفسدة أعظم. فأما قول أحمد: «لا أعرفه بطلب الحديث ولا رأيته يطلبه» فحق وصدق، أحمد في بلد والحلواني في بلد آخر، وقد قال يحيى القطان في عبد الواحد بن زياد: «ما رأيته طلب حديثاً قط» ولم يعدوا هذا تضعيفاً، والحلواني قال فيه يعقوب بن شيبة: «كان ثقة ثبتاً» وقال النسائي: «ثقة» وقال الترمذي: «كان حافظاً) . وروى عنه البخاري ومسلم في (صحيحهما) وأبو داود مع أنه لا يروي إلا عن ثقة ومع شدة متابعة لأحمد (1) . 78- الحسن بن علي بن محمد أبو علي المذهب التميمي. له ذكر في ترجمة الخطيب وتكلم فيه الأستاذ في موضع آخر، وحاصل الكلام أن الخطيب قال في (التاريخ) ج 7 ص390: «كان يروي عن ابن مالك القطيعي (مسند أحمد بن حنبل) بأسره، وكان سماعه صحيحاً إلا لأجزاء منه فانه ألحق اسمه فيها وكذلك فعل في أجزاء من (فوائد ابن مالك) . وكان يروي عن ابن مالك أيضاً كتاب (الزاهد) لأحمد بن حنبل ولم يكن له به أصل عتيق وإنما كانت النسخة بخطه كتبها باخرة. وليس بمحل للحجة. حدثنا ابن المذهب ... ثنا ابن مالك وأبو سعيد الحرقي قالا ثنا أبو شعيب الحراني ثنا البابلتي ... وجميع ما كان عند ابن مالك عن أبي شعيب جزء واحد وليس هذا الحديث فيه. حدثني ابن المذهب حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق وعلي بن عمر والحافظ وأبو عمر بن مهدي قالوا حدثنا الحسين بن إسماعيل ... فأنكرته عليه وأعلمته أن هذا الحديث لم يكن عند أبي عمر بن

_ (1) ... قلت: وأورده الذهبي في (تذكرة الحفاظ) 2 / 94 ووصفه ب «الإمام محدث مكة.. ورحل إلى عبد الرزاق فأكثر وصنف وتعب في هذا العلم، قال إبراهيم بن أرومة: بقي اليوم في الدنيا ثلاثة: الدهلي بخراسان، وابن الفرات بأصبهان، والحلواني بمكة» . ن

مهدي فأخذ القلم وضرب على اسم ابن مهدي؛ وكان كثيراً يعرض عليّ أحاديث في أسانيدها أسماء قوم غير منسوبين ويسألني عنهم فاذكر له أنسابهم، فليحقها في تلك الأحاديث ويزيدها في أصوله موصولة بالأسماء، وكنت أنكر عليه هذا الفعل فلا يثني عنه» . أقول: أما الأمر الأول، وهو إلحاق السماع فأجاب ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 155 بقوله «هذا لا يوجب القدح لأنه إذا تبين سماعه للكتاب جاز أن يكتب سماعه بخطه؛ والعجب من عوام المحدثين كيف يجيزون قول الرجل أخبرني فلان ويمنعون أن يكتب سماعه بخط نفسه أو إلحاق سماعه بما يتقنه» . أقول: جرت عادتهم بكتابة السماع وأسماء السامعين في كل مجلس فمن لم يسمع له في بعض المجالس دل ذلك على أنه فاته فلم يسمعه، فإذا أدعى بعد ذلك سمعه أنه ارتابوا فيه لأنه خلاف الظاهر فإذا زاد فألحق اسمه أو تسمعيه بخط كاتب التسميع الأول قالوا: زوَّر. والظاهر أن هذا لم يقع من ابن المذهب، ولو كان وقع لبالغ الخطيب في التشنيع، وإنما ألحق ما ألحق بخطه الواضح، ولا ريب أن من استيقن أنه سمع جاز له أن يخبر أو يكتب أنه سمع، وأن من تثبيت عدالته وأمانته ثم ادعى سماعاً ولا معارض له، أو يعارضه ما مر ولكن له عذر قريب كأن يقول فاتني أولاً ذلك المجلس وكان الشيخ يعتني بي فأعاده لي وحدي ولم يحضر كاتب التسميع، فإنه يقبل منه، ولعل هذا هو الواقع، فقد دل اعتماد الخطيب عليه في كتاب (الزهد) كما يأتي واقتصاره في الحكم على قوله «ليس بمحل للحجة» أنه كان عنده صدوقاً، وذكر ابن نقطة كما في (الميزان) أن مسندي فضالة ابن عبيد وعوف بن مالك وأحاديث من مسند جابر لم تكن في كتاب ابن المذهب وهي ثابتة في رواية غيره عن شيخه قال: «ولو كان يلحق اسمه كما زعم الخطيب لألحق ما ذكرناه» يعني لو كان يلحق اسمه فيما لم يسمع، والخطيب لم يقل ذلك، وإنما أطلق أنه الحق اسمه لأن ثبوت السماع بمجرد الدعوى مع الصدق ليس في درجة ثبوته بالبينة، وقد قال الخطيب في (الكفاية) ص 109 «ومذاهب النقاد

للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره ... رجاء إن كان الراوي حيا أن يحمله ذلك على التحفظ ... وإن كان ميتاً أن ينزله من ينقل عنه منزلته فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز ... » وقال شجاع الذهلي: «كان شيخاً عسراً في الرواية وسمع الكثير ولم يكن ممن يعتمد عليه في الرواية كأنه خلط في شيء من سماعه» وقال السلفي: «كان مع عسره متكلماً فيه ... » والعسر في الرواية هو الذي يمتنع من تحديث الناس إلا بعد الجهد وهذه الصفة تنافي التزيّد ودعوى سماع ما لم يسمع، إنما يدعي سماع ما لم يسمع من شهو ة شديدة في ازدحام الناس عليه وتكاثرهم حوله، ومن كان هكذا كان من شأنه أن يتعرض للناس يدعوهم إلى السماع منه ويرغبهم في ذلك، فأما من يأبى التحديث بما سمع إلا بعد جهد فأي داع له إلى التزيّد؟ وأما الأمر الثاني وهو قضية كتاب (الزهد) فقد قال السلفي عقب ما مر عنه «حدث بكتاب الزهد بعد ما عدم أصله من غير أصله» فدل هذا على أنه كان لابن المذهب أصل بكتاب (الزهد) ولكن عدمه وبقيت عنده نسخة بخطه فلعله كان قد عارضها بأصله أو أصل آخر علم مطابقته لأصله. ويقوي ذلك أن الخطيب نفسه سمع منه كتاب (الزهد) وروى منه أشياء. وأما الأمر الثالث وهو قول الخطيب «وليس بمحل للحجة» فحاصله أنها لا تقوم الحجة بما يتفرد به، وهذا لا يدفع أن يعتمد عليه في الرواية عنه من مصنف معروف: (المسند) و (الزهد) وسيأتي في ترجمة عبد العزيز بن الحارث طعنهم فيه وتشنيعهم عليه وتشهيرهم به بسبب حديثين نسبهما إلى (المسند) وهم يرون أنهما ليسا منه، ولم يغمزوا ابن المذهب بشيء ما من هذا القبيل، وذلك يدل أوضح دلالة على علمهم بمطابقة نسختيه اللتين كان يروي منهما (المسند) و (الزهد) لسائر النسخ الصحيحة فالكلام فيه وفي شيخه لا يقتضي أدنى خدش في صحة (المسند) و (الزهد) ، فليخسأ أعداء السنة.

79- الحسن بن الفضل البوصرائي

وأما الخبران اللذان ذكرهما الخطيب، فالذي يظهر لي أن ابن المذهب كان يتعاطى التخريج من أصول بعض الأحاديث فيكتب الحديث من طريق شيخ من شيوخه ثم يتصفح أصوله فإذا وجد ذاك الحديث قد سمعه من شيخ آخر بذاك السند كتب اسم ذاك الشيخ مع اسم الشيخ الأول في تخريجه وهكذا وهذا الصنيع مظنة للغلط كان يريد أن يكتب اسم الشيخ على حديث فيخطئ فيكتبه على حديث آخر، أو يرى السند متفقاً فيتوهم أن المتن متفق، وإنما هو متن آخر، وأشباه ذلك وقد قال ابن معين «من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف ومن سمع منه نسخاً فهو صحيح» وقال يعقوب بن سفيان في سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي «كان صحيح الكتاب إلا أنه كان يحول، فإن وقع فيه شيء فمن النقل وسليمان ثقة» والمراد بأصناف حماد وتحويل سليمان نحو ما ذكرت من التخريج، وكأن ابن المذهب شعر بهذا من نفسه ولذلك ضرب على الاسم. وأما إلحاقه ما كان يذكر له الخطيب من أساب غير المنسوبين فتساهل لا يوجب الجرح ولكنه يدل على أن ابن المذهب لم يكن بمتقن وأنه كان فيه سلامة وحسن ظن بالخطيب ومعرفته، ولا نشك أن الخطيب لم يكن يذكر له من الأنساب إلا ما يستفتيه فالخطب إن شاء الله تعالى سهل؛ وعلى كل حال فلم ينصف ابن الجوزي إذ ينقم على الخطيب ما ذكره في ابن المذهب، ويزعم أن هذه الأمور كلها ليس فيها ما يستحق الذكر في ترجمة الراوي وأن الخطيب إنما جرى على عادة عوام المحدثين يجرحون بما ليس بجرح مع ميل من الخطيب على الحنابلة؛ كذا قال! فهو لا يتهم الخطيب فيما حكاه، وإنما يتهمه في اعتداده بهذه الأمور. ومن عرف وأنصف علم أن الخطيب لم يخرج عن طريق أئمة النقاد، وأنه مع ذلك لم يعتد بهذه الأمور مسقطاً للرواية البتة، وإنما قال «ليس بمحل للحجة» وقد قدمت ما يبين ذلك ويهو نه. والله المستعان. 79- الحسن بن الفضل البوصرائي. في (تاريخ بغداد) 13 / 417: «أخبرنا البرقاني أخبرنا محمد بن الحسن السراجي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم

80- الحسين بن أحمد الهروي الصفار

الراوي حدثني أبي قال: سمعت محمد بن كثير العبدي يقول ... » فذكر حكاية ثم أردف ذلك بقوله «أخبرنا محمد ابن الحسين بن محمد المتوثي أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا الحسن ابن الفضل البوصرائي قال: حدثنا محمد بن كثير العبدي ... » فذكر نحوه. قال الأستاذ ص 161 «قال ابن المنادي: أكثر الناس عنه ثم انكشف أمره فتركوه وخرقوا حديثه؛ قاله الذهبي، ومثله في كتاب الخطيب نفسه، وهكذا المحفوظ عنده» . أقول: قد روى عن البوصرائي جماعة من الأكابر كابن صامد والصفار، وكلام ابن المنادي غير مفسر، وقد كانوا ربما يغضبون على التحدث، ويخرقون حديثه لغير موجب كما مر في (الطليعة) ص 49 وكما تراه في ترجمة محمد بن بشر الزنبري من (لسان الميزان) والحكاية ثابتة بالسند الأول عن ابن حاتم، وقد أتثبتها في كتابة (الجرح والتعديل) ، وفي المعنى المقصود منها روايات أخرى كثيرة وبذلك يثبت أنه هو المحفوظ، فأما رواية البوصرائي فان لم تؤكد ذلك لم توهنه، فلا وجه لقول الأستاذ: «هكذا المحفوظ عنده» . 80- الحسين بن أحمد الهروي الصفار. في (تاريخ بغداد) 13 / 423: «أخبرنا محمد بن عمير بن بكير المقرئ أخبرنا الحسين بن أحمد الهروي الصفار ... » قال الأستاذ ص170: «قال البرقاني ... عندي عنه رزمة ولا أخرج عنه في الصحيح حرفاً واحداً، سمع من أبي القاسم البغوي ثلاثة أحاديث أو أربعة أحاديث، ثم حدث عنه بشيء كثير، كتبت عنه ثم بان لي أنه ليس بحجة. وقال الحاكم: كذاب لا يشتغل به، فبرئت بذلك ذمة الثوري من مثل تلك الكلمة الساقطة وركبت على أكتاف الخطيب الذي يعلم كل ذلك» . أقول: الهروي هذا له مستخرج على (صحيح مسلم) وروايته عن البغوي ما لم يسمعه منه قد تكون عملاً بالإجازة أو إعلام الشيخ، وعبارة البرقاني إنما فيها أن الرجل ليس بحجة ولا يخرج عنه في الصحيح وهذا يشعر بأنه يروى عنه في غير الصحيح للاعتبار، فأما قول الحاكم «كذاب» فبناها على ظاهر روايته عن البغوي

81- الحسين بن إدريس الهروي

ما لم يسمعه منه وقد مر ما في ذلك، ثم قال الحاكم: « ... انصرف الرجل من الحج ورفض الحشمة وحدث بالمناكير» والتحديث بالمناكير إنما يضره إذا كانت النكارة من جهته، والمقصود هنا أنه لا يثبت بما ذكر تعمد الهروي للكذب المسقط وهو على ما اقتضاه كلام البرقاني ممن يكتب حديثه ويروى عنه للاعتبار، وتلك الكلمة التي في حكايته توجد لها في الترجمة عند الخطيب عدة أخوات عن الثوري توافقها في المعنى الذي ادعاه الخطيب بقوله «والمحفوظ ... » أقربها إليها حكايتان قبلها عن أبي عاصم عن الثوري، وأبو عاصم هذا هو النبيل الثقة المأمون، وحاول الأستاذ أن يجعله العباداني المجروح كما شرحته في (الطليعة) ص 29- 30. 81- الحسين بن إدريس الهروي. في (تاريخ بغداد) 13/408: «أخبرنا البرقاني أخبرنا محمد بن عبد الله بن خميرويه أخبرنا الحسين بن إدريس قال: قال ابن عمار ... » قال الأستاذ ص 133 «يقول عنه ابن أبي حاتم بعد أن ذكر له أحاديث باطلة: لا أدري البلاء منه أم من خالد بن هياج. والهروي وخالد مذكوران في (ثقات ابن حبان) جهلاً منه بحالههما وتساهله في التوثيق مردود عند أهل النقد» . أقول: الحسين بن إدريس يروي عن سعيد بن منصور وعثمان بن أبي شيبة وداود بن رشيد وهشام بن عمار - وابن عمار وهو محمد بن عبد الله بن عمار - وخلق منهم خالد بن هياج. وخالد بن هياج يروي عن جماعة منهم أبوه هياج بن بسطام، وهياج قال فيه الإمام أحمد «متروك الحديث» وقال يحيى بن معين: «ضعيف الحديث ليس بشيء» وقال أبو داود: «تركوا حديثه» وألان أبو حاتم القول فيه قال: «يكتب حديثه ولا يحتج به» . وخالد ابن هياج يروي عن أبيه مناكير كثيرة روى عنه الحسين بن إدريس عدة منها، فتلك الأحاديث التي أنكرها ابن أبي حاتم يجوز أن يكون البلاء فيها من هياج ويبرأ منها خالد والحسين، ويجوز أن تكون من خالد ويبرأ منها هياج والحسين، ويجوز أن تكون من الحسين ويبرأ منها هياج وخالد، فأما ابن أبي

حاتم فيمن هو عنده عن أبيه أن هياجاً «يكتب حديثه ولا يحتج به» وهذه الكلمة يقولها أبو حاتم فيمن هو عنده صدوق ليس بحافظ يحدث بما لا يتقن حفظه فيغلظ ويضطرب كما صرح بذلك في ترجمة إبراهيم بن المهاجر. فرأي ابن أبي حاتم أن تلك المناكير التي رآها فيما كتب به إليه الحسين لا يحتملها هياج، ولم يكن يعرف خالداً ولا الحسين فجعل الآمر دائراً بينهما. ومقتضى كلام الأمام أحمد ويحيى ابن معين وأبي غير خالد من الثقات عن هياج، وما رواه خالد عن الثقات غير هياج، وما رواه الحسين عن الثقات غير خالد م وبذلك يتبين الحال، لذا وجدنا غير خالد من الثقات قد رووا عن هياج مناكير يتجه الحمل عليه، ووجدنا خالدا قد روى عن غير هياج من الثقات أحاديث عديدة كلها مستقيمة، ووجدنا الحسين قد روى عن الثقات غير خالد أحاديث كثيرة كلها مستقيمة، وسقط هياج وبرئ خالد والحسين، وهذا هو الذي تبين لابن حبان فذكر هياجاً في (الضعفاء) وقال: «كان مرجئاً يروي الموضوعات عن الثقات» ، وذكر خالداً في (الثقات) وكذلك ذكر الحسين وقال: «كان ركناً من أركان السنة في بلده» واخرج له في (صحيحه) وقد عرفه حق المعرفة، وتوثيق ابن حبان لمن عرفه حق المعرفة من اثبت التوثيق كما يأتي في ترجمة ابن حبان (1) وقد وافقه غيره على توثيق الحسين فوثقه الدارقطني. وقال ابن مأكولا: «كان من الحفاظ المكثرين» وقال ابن عساكر عقب كلمة ابن أبي حاتم: «البلاء في الأحاديث المذكورة من خالد بلا شك» فإما أن يكون ابن عساكر يبرئ هياجاً أيضاً ويجعل الحمل على خالد كما فعل الحاكم ويحيى بن أحمد بن زياد الهروي، وإما أن يكون مراده تبرئة الحسين ويكون الأمر دائراً بين وهياج، فالحسين ثقة اتفاقاً، وأما خالد والهياج فالأشبه صنيع ابن حبان فإن كبار الأئمة طعنوا في هياج كما مر، وفي ترجمة من (الميزان) أحاديث انتقدت عليه رواها غير خالد عنه ولم يذكروا لخالد شيئاً من

_ (1) انظر ترجمة «محمد بن حبان» .

82- الحسين بن حميد بن الربيع

المناكير رواه عن غير هياج. والمقصود هنا بيان حال الحسين وقد اتضح بحمد الله تعالى أنه ثقة. 82- الحسين بن حميد بن الربيع. ذكر الأستاذ ص 122: محمداً ولد الحسين هذا فقال: «الكذاب ابن الكذاب ... وقد قال مطين أن محمد بن الحسين هذا كذاب ابن كذاب، واقره ابن عقدة، ثم اقر ابن عدي وأبو أحمد الحاكم ابن عقدة في ذلك» . أقول: الحكاية عن مطين تفرد بها أحمد بن سعيد بن عقدة، وقد تقدم في ترجمة أنه ليس بعمدة، لكن ابن عدي قوى الحكاية فيما يتعلق بالحسين بقوله: «سمعت عبدان يقول سمعت حسين بن حميد بن الربيع يقول: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يتكلم في يحيى بن معين يقول: من أين له حديث حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: من أقال نادماً عثرته. هو ذا كتب حفص بن غياث عندنا، وكتب ابنه عمر بن حفص ليس فيها من ذا شيء» وقال ابن عدي: «هذه الحكاية لم يحكها عن أبي بكر غير حسين هذا، وهو متهم فيها، ويحيى أجل من أن فيه مثل هذا، ... وهذا الحديث قد رواه زكريا بن عدي عن حفص بن غياث ... » ثم ذكر أنه قد رواه عن الأعمش أيضاً مالك بن سعير (1) ثم قال: «الحسين متهم عندي كما قال مطين» . أقول: كلمة مطين لم تثبت، وقد كان يحيى بن معين ينتقد على الرواة ما يراهم تفردوا به، وربما شدد فلعله بلغ أبا بكر بعض ذلك فرآه تشديداً في غير محله فذكر ما حكاه الحسين عنه يريد انه كما تفرد يحيى بهذا وليس ليحيى أن يشدد في مثل ذلك على من عرفت ثقته وأمانته؛ وعلى هذا لا يكون المقصود الطعن في يحيى كما فهمه الحسين وابن عدي، وبنى عليه ابن عدي استنكار الحكاية واتهام الحسين، لكن ابن

_ (1) في (اللسان) «قد رواه الأعمش أيضاً عن مالك بن سعير» خطأ.

83- الحسين بن عبد الأول

عدي علم أن يحيى تكلم في حميد ابن الربيع كلاماً شديداً، قال مرة: «أخزى الله ذاك ومن يسأل عنه» وقال أخرى: «أو يكتب عن ذاك؟ ! خبيث غير ثقة ولا مأمون يشرب الخمر ويأخذ دراهم الناس ويكابرهم عليها حتى يصالحوه» فوقع في نفس ابن عدي أن الحسين أراد الانتقام لأبيه من يحيى. وأقول: هذا وحده لا يوجب اتهام الحسين باختلاق الحكاية، بل يكفي اتهامه بأنه أبرزها في ذاك المعرض «يتكلم في يحيى بن معين» وليس هذا بالكذب المسقط على أنه قد يكون فهم ذلك ولم يتنبه لمقصود أبي بكر، والحسين مكثر، عارف قال الخطيب: «روى عن أبي نعيم ومسلم بن إبراهيم ومحمد بن طريف البجلي وأحمد بن يونس وغيرهم ... وكان فهماً عرفاً له كتاب مصنف في التاريخ» . فإذا كانت هذه حاله ولم ينكر عليه شيء إلا تلك الحكاية، فلا أرى اتهامه بالكذب لأجلها إلا ظلماً. والله أعلم. 83- الحسين بن عبد الأول. في (تاريخ بغداد) 13 / 379 من طريقة «أخبرني إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة قال: هو قول أبي حنيفة: القرآن مخلوق» . قال الأستاذ ص 56: «قال أبو زرعة: لا أحدث عنه. وقال أبو حاتم: تكلم الناس فيه. وقال الذهبي: كذبه ابن معين» . أقول: ذكر الخطيب هذه الحكاية في إثناء الروايات عن أبي حنيفة في تلك المسألة فذكر أولا: روايات تبرئ أبا حنيفة عن تلك المقالة ثم قال: «ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن ... » فساق روايات هذه واحدة منها فلم يعتمد الخطيب على رواية الحسين هذه، ولا جزم بما تضمنته هي والروايات القوية التي معها، بل قدم الروايات في نفي ذلك على أن نسبة إسماعيل هذه المقالة إلى جده مشهورة انظر ترجمته في (تاريخ بغداد) و (لسان الميزان) . والأستاذ وإن طعن في الراوي فإنه يثبت المروي ويتبجح به. 84- الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي. قال الأستاذ ص 184: «متكلم فيه» .

85- حماد بن سلمة بن دينار

أقول: تكلموا فيه لخوضه في طرف من الكلام واستخفافه بالإمام أحمد بن حنبل كما مر في ترجمة الخطيب، وأما الرواية فلم أر من غمزه فيها بل قال ابن حبان في (الثقات) : «كان ممن جمع وصنف ممن يحسن الفقه والحديث، أفسده قلة عقله» . (1) (2) 85- حماد بن سلمة بن دينار. في (تاريخ بغداد) (13/390) عنه «أبو حنيفة هذا يستقبل السنة يردها برأيه» وفيه (13/406) من طريق فهد بن عوف «سمعت حماد بن سلمه يكني أبا حنيفة أبا جيفة» قال الأستاذ ص 91 «حماد بن سلمة ليس ممن يفرق بين من يأخذ بالسنة ومن يردها، وهو راوي تلك الطامات في الصفات منها رؤية الله في صورة شاب ومثله يجب أن يسكت عن الأئمة حتى يسكت الناس عن تخليطه، وقال ص 139 «يروي تلك الطامات المدونة في كتب (الموضوعات) وقد أدخل في كتبه ربيباه ما شاء من المخازي كما قال ابن الجوزي، وتحاماه البخاري ولم يذكر مسلم من أحاديثه إلا ما سلم من التخليط من رواياته قبل أن يختلط، وكان المسكين على براعته في العربية وصيته الطيب مبدأ أمره، ساءت سمعته وأصبح أداة صماء بأيدي الحشوية في أواخر عمره ... » أقول: الكلام في حماد يعود إلى أربعة أوجه: الأول: أنه سيئ الحفظ يغلط. وهذا قد ذكره الأئمة، إلا أنهم خصوه بما يرويه عن غير ثابت وحميد واتفق أئمة عصرهم على أنه اثبت الناس في ثابت، وقال أحمد «أثبتهم في ثابت حماد بن سلمة» وقال أيضاً: «حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حميد وأصح حديثاً» . وقال في موضع آخر: «هو أثبت الناس في حميد الطويل ... » وقال ابن معين: «من خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد» ، وقال أيضاً من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن

_ (1) حسين بن محمد بن أيوب الذارع. أنظر ترجمة عبد الله بن محمد العتكي. (2) حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي. مر في ترجمة أبيه.

سمع منه نسخاً فهو صحيح» يعني أن الخطأ كان يعرض له عندما يحول من أصوله إلى مصنفاته التي يجمع فيها من هنا وهنا، فأما النسخ فصحاح، وقال علي ابن المديني: «لم يكن في أصحاب ثابت اثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد وهي صحاح» . الوجه الثاني: أنه تغير باخرة. وهذا لم يذكره إلا البيهقي، والبيهقي أرعبته شقاشق أستاذه ابن فورك المتجهم الذي حذا حذو ابن الثلجي في كتابه الذي صنفه في تحريف أحاديث الصفات والطعن فيها، وإنما قال البيهقي: «هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثاً أخرجها في الشواهد» . أقول: أما التغير فلا مستند له ونصوص الأئمة تبين أن حماداً أثبت الناس في ثابت وحميد مطلقاً، وكأنه كان قد أتقن حفظ حديثهما، فأما حديثه عن غيرهما فلم يكن يحفظه، فكان يقع له فيه الخطأ إذا حدث من حفظه أو حين يحول إلى الأصناف التي جملها كما مر. ولم يتركه البخاري بل استشهد به في المواضع من (الصحيح) فأما عدم إخراجه له في الأصول فلا يوجب أن يكون عنده غير أهل لذلك، ولذلك نظائر، هذا سليمان بن المغيرة الذي تقدم أنه من أثبت الناس في ثابت وأنه أثبت فيه من حماد بن زيد وقد ثبته الأئمة جداً، قال أحمد: «ثبت ثبت» وقال ابن معين «ثقة ثقة» والثناء عليه كثير ولم يغمزه أحد، ومع ذلك ذكروا أن البخاري لم يحتج به ولم يخرج له إلا حديثاً واحداً مقرونا بغيره. وقد عتب ابن حبان على البخاري في شأن حماد بن سلمة وذكر أنه قد أخرج في غير الشواهد لمن هو دون حماد بكثير كأبي بكر بن عياش وفليح وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. واعتذر أبو الفضل بن طاهر عن ذلك بكلام شريف قال: «حماد بن سلمة إمام كبير مدحه الأئمة وأطنبوا، لما تكلم بعض منتحلي الصنعة (كما يأتي)

أن بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه لم يخرج عنه البخاري معتمداً عليه، بل استشهد به في مواضع ليبين أنه ثقة، وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث أقرانه كشعبة وحماد بن زيد وأبي عوانة وغيرهم. ومسلم اعتمد عليه لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء والمتأخرين لم يختلفوا وساهد مسلم منهم جماعة وأخذ عنهم، ثم عدالة الرجل في نفسه وإجماع أئمة أهل النقل على ثقته وأمانته» . الوجه الثالث: زعم بعضهم انه كان له ربيب يدخل في كتبه وقيل ربيبان وصحف بعضهم «ربيب حماد» إلى «زيد بن حماد» راجع (لسان الميزان) ج 2 ص 506. ومدار هذه التهمة الفاجرة على ما يأتي، وقال الذهبي في (الميزان) : «الدولابي حدثنا محمد بن شجاع ابن الثلجي حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان حماد بن سلمة لا يعرف بهذه الأحاديث - يعني التي في الصفات - حتى خرج مرة إلى (عبادان) فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطاناً خرج إليه من البحر فألقاها إليه. قال ابن الثلجي: فسمعت عباد بن صهيب يقول إن حماداً كان لا يحفظ، وكانوا يقولون إنها دست في كتبه، وقد قيل: إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه» قال الذهبي: «قلت: ابن الثلجي ليس بمصدق على حماد وأمثاله وقد اتهم. نسأل الله السلامة» . أقول: الدولابي حافظ حنفي له ترجمة في (لسان الميزان) ج 5 ص41 وهو بريء من هذه الحكاية إن شاء الله إلا في قبوله لها من ابن الثلجي وروايتها عنه. كان ابن الثلجي من إتباع بشر المريسي جهمياً داعية عدواً للسنة وأهلها، قال مرة: «عند أحمد ابن حنبل كتب الزندقة، وأوصى أن لا يعطي من وصيته إلا من يقول: القرآن مخلوق. ولم أر من وثقه، بل اتهموه وكذبوه قال ابن عدي «كان يضع أحاديث في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث يثلبهم بذلك» وذكر ما رواه عن حبان بن هلال، وحبان ثقة، عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة مرفوعا «إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت ثم خلق نفسه منها» وكذبه أيضاً الساجي والأزدي وموسى بن القاسم الأشيب. فأما ما نسب غليه من التوسع في الفقه

وإظهار التعبد فلا يدفع ما تقدم. وحكايته هذه يلوح عليها الكذب، إبراهيم بن عبد الرحمن ابن مهدي ولد أبوه سنة 135 فمتى ترى ولد إبراهيم؟ ومولد ابن الثلجي كما ذكر عن نفسه سنة 181 فمتى تراه سمع من إبراهيم؟ وفي ترجمة قيس بن الربيع من (التهذيب) شيء من رواية ابن المديني عن إبراهيم وهذا يشعر بأنه عاش بعد أبيه، وأبوه مات سنة 198 فإذا كان إبراهيم مات سنة 200 فمتى تراه ولد؟ وقد قال الخليلي: «مات وهو شاب لا يعرف له إلا أحاديث دون العشرة يروي عنه الهاشمي جعفر بن عبد الواحد أحاديث أنكروها على الهاشمي وهو من الضعفاء» وحماد بن سلمة توفي سنة 167. ومقتضى ما تقدم أن يكون إبراهيم حينئذ إما صبياً صغيراً وإما لم يولد فمتى صحب حماد بن سلمة حتى عرف حديثه وعرف أنه لم يكن يروي تلك الأحاديث حتى خرج إلى «عبادان» وكيف عرف هذا الأمر العظيم ولم يعرفه أبوه وكبار الأئمة من أقران حماد وأصحابه؟ وكلهم أبلغوا في الثناء على حماد كما يأتي، ولا داعي إلى الحمل على إبراهيم لأنه لم يوثقه أحد، وذكر ابن حبان له في (الثقات) لا يجدي لأنه لم يثبت عنه أحاديث كثيرة يعرف باعتبارها أثقة هو أم لا؟ ولا إلى أن يقال لعل إبراهيم سمع ذلك من بعض الهلكى بل الحمل على ابن الثلجي كما ذكر الذهبي؛ وكذلك ما ذكره عن عباد بن صهيب مع أن عباداً متروك، وقال عبدان: لم يكذبه الناس وإنما لقنه صهيب بن محمد بن صهيب أحاديث في آخر الأمر» فعلى هذا فعباد وهو المبتلى بابن أخيه يدخل عليه في حديثه، وفي (الميزان) أحاديث من مناكيره. الوجه الرابع: أن حماداً روى أحاديث سماها الكوثري: طامات، وأشار إلى أن أشدها حديث رؤية الله في صورة شاب. والجواب: أن لهذا الحديث طرقاً معروفة في بعضها ما يشعر بأنها رؤيا منام، وفي بعضها ما يصرح بذلك، فإن كان كذلك اندفع الاستنكار رأساً، وإلا فلأهل العلم في تلك الأحاديث كلام معروف، وفي (اللآلئ المصنوعة) أن محقق الحنفية

86- حنبل بن إسحاق

ابن الهمام سئل عن الحديث فأجاب بان حجاب الصورة، وبقية الأحاديث إذا كانت من رواية حماد عن ثابت أو حميد أو مما حدث به أصوله فهي كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الأنعام - 89. وأختم بطرف من ثناء الأئمة على حماد في حياته وبعد وفاته ليتبين هل ساءت سمعته في أواخر عمره كما زعم الأستاذ؟ ! : قال ابن المبارك: «دخلت البصرة فما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة» وقال عفان: «قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواضبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حماد بن سلمة» وقال رجل لعفان: أحدثك عن حماد؟ قال: من حماد ويلك؟ قال: ابن سلمة. قال: ألا تقول: أمير المؤمنين؟ (وقال عبد الرحمن بن مهدي - والد إبراهيم الذي نسب إليه ابن الثلجي ما نسب -: «لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً» وقال أيضاً: «حماد بن سلمة صحيح السماع، حسن اللقي، أدرك الناس، لم يتهم بلون من الألوان، ولم يلتبس بشيء، أحسن ملكه نفسه ولسانه ولم يطلقه على أحد فسلم حتى مات» وقال حماد بن زيد: «ما كنا نرى أحداً يتعلم بنية غير حماد ابن سلمة، وما نرى ألبوم من يعلم بنية غيره» وقال إسحاق بن الطباع: قال لي أبن عيينة: العلماء ثلاثة، عالم بالله وبالعلم، وعالم بالله ليس بعالم بالعلم، وعالم بالعلم ليس بعالم بالله. قال ابن الطباع: «الأول كحماد بن سلمة ... » وقال علي بن المديني: «من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في الدين» . 86- حنبل بن إسحاق. في (تاريخ بغداد) 13 / 371 من طريقه «حدثنا الحميدي حدثنا حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه قال: سمعت رجلاً يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: اشهد أن الكعبة حق، ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا؟ فقال: مؤمن حقاً. وسأله عن رجل قال: أشهد أن

87- خالد بن عبد الله القسري

محمد بن عبد الله نبي، ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم؟ فقال: مؤمن حقاً ... » . وفيه 13 / 381 من طريقه «حدثنا الحميدي قال: سمعت سفيان قال: كنت في جنازة أم خصيب بالكوفة فسأل رجل أبا حنيفة عن مسالة من الصرف؟ فأفناه، فقلت يا أبا حنيفة إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في هذه فغضب وقال للذي استفتاه: أذهب فاعمل بها فما كان فيها من إثم فهو علي» قال الأستاذ ص36: «يتكلم فيه بعض أهل مذهبه ويرميه ابن شاقلا بالغلط في روايته كما ذكره ابن تيمية في تفسير سورة القلم، لكن لا نلتفت إلى كلامهم ونعده ثقة مأمونا كما يقول ابن نقطة في (التقييد) » وقال ص 84: «غالط غير مرضي عند بعض أهل مذهبه» . أقول: قال الدارقطني: «كان صدوقا» وقال الخطيب: «كان ثقة ثبتا» وتخطئته في حكاية إنما تدل على اعتقاد أنه لم يكن معصوما من الخطأ وليس هذا مما يوهن الثقة المكثر كحنبل وقد خطا أهل العلم جماعة من اجله الصحابة بل قالوا: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد يخطئون في أمور الدنيا بل قال بعضهم: قد يعرض لهم الخطأ في شيء من أمر الدين ولكن ينبهو ن في الحال لمكان العصمة في التبليغ وقد تعرضت لذلك في قسم الاعتقاديات. والمقرر عند أهل العلم جميعا أن الثقة الثبت قد يخطئ فإن ثبت خطؤه في شيء فإنما يترك ذاك الشيء فأما بقية روايته فهي على الصواب ومن ادعى الخطأ في شيء فعليه البيان والأستاذ يعلم ذلك كله ولكن ... والله المستعان. 87- خالد بن عبد الله القسري. في (تاريخ بغداد) 13/381 من طريق «محمد بن فليح المدني عن أخيه سليمان وكان علامة بالناس أن الذي استتاب أبا حنيفة خالد القسري..» قال الأستاذ ص 62: «هو الذي بنى كنيسة لأمه تتعبد فيها وهو الذي يقال عنه انه ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أضحية عنه ... ما كان العلماء ليسكتوا في ذلك العهد أمام استخفافه لشعيرة من شعائر

الدين ... وسفك دم من وجب قتله شيء وذبحه على أن يكون أضحية شيء آخر وكانت سيرة خالد وصمة عار في تاريخ الإسلام» . أقول: كان خالد أميرا مسلما خلط عملا صالحا كإقامة الحدود وآخر سيئا الله أعلم ما يصح عنه منه. وقد جاء عن جماعة من الأئمة كما في (التأنيب) نفسه أن أبا حنيفة استتيب في الكفر مرتين فإن كان خالد هو الذي استتابه في أحدهما وقد شهد أولئك الأئمة أنها استتابة عن الكفر فأي معنى للطعن في خالد؟ هبه كان كافرا! أيجوز أن يحنق عليه مسلم لأنه رفع إليه إنسان يقول قولا شهد علماء المسلمين أنه كفر فاستتابه منه؟ وكان خالد يماني النسب وكان له منافسون على الإمارة من المضريين وأعداء كثيرون يحرصون على إساءة سمعته، وكان القصاصون ولا سيما بعد أن نكب خالد يتقربون إلى أعدائه بوضع الحكايات الشنيعة في ثلبه ولا ندري ما يصح من ذلك؟ وقضية الكنيسة إن صح فيها شيء فقد يكون بر أمه بمال فبنى لها وكيلها كنيسة فإنها كانت نصرانية وليس في هذا ما يعاب به خالد فقد أحل الله عز وجل نكاح الكتابيات والتسري بهن ونهى عن إكراههن على الإسلام وأمر بإقرارهن على دينهن وأمر ببر الأمهات. فأما قضية الجعد فإن أهل العلم والدين شكروا خالد عليها ولا يزالون شاكرين له إلى يوم القيامة ومغالطة الأستاذ في قضية التضحية مما يضحك ويبكي يضحك لتعجرفه ويبكي لوقوعه من رجل ينعته أصحابه أو ينعت نفسه «الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... » لا يخفي على أحد أن الضحية الشرعية هي ذبح شاه أو بقرة أو بدنة بصفة مخصوصة في أيام الأضحى تقربا إلى الله تعالى بإراقة دمها، وليأكل منها المضحي وأهله ويهدي من لحمها إلى أصحابه ويتصدق على المساكين، وأن خالداً لم يذبح الجعد ليأكل من لحمه ويهدي ويتصدق، وإنما سماه تضحية لأنه إراقة دم يوم الضحى تقرباً إلى الله تعالى فشبهه بالضحية المشروعة من هذا الوجه كما سمى بعض الصحابة وغيرهم قتل عثمان رضي الله عنه تضحية لأنه وقع في أيام الضحى.

88- خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك

فقال حسان: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا وقال أيمن بن خريم: ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى ... وأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا وقال القاسم بن أمية: لعمري ليئس الذبح ضحيتم به ... وختم رسول الله في قتل صاحبه فان قيل: لكن يظهر من القصة أن خالدا لم يضح، بل اجتزأ بذبح الجعد. قلت: ليس ذلك بواضح، وكان خالد يذبح كل يوم عدة ذبائح وهب أنه لم يضح ذاك اليوم، فغاية الأمر أن يكون اجتزأ بإقامة ذلك الحد من جهة كونه قربه إلى الله عز وجل وإقامة حد من حدود، والضحية عند جمهور أهل العلم ليست بواجبه، فلا إثم على من تركها، فإن كان مع تركه لها قد قام بقربه عظمية ورأى أن ما يفوته من اجر الضحية وإقامة الشعائر بما يجبره ما يرجوه على تلك القربة الأخرى فهو أبعد عن الإثم، ولو ضحى الرجل ألف أضحية لما بلغ من أجرها وإقامة الشعائر بها أن توازن إقامة الحد على الجعد، وإماتة فتنته. 88- خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك. في (تاريخ بغداد) (13/412) عنه قال: «أحل أبو حنيفة ... » قال الأستاذ ص 145 «يقول عنه ابن معين: بالشام كتاب ينبغي أن يدفن، (كتاب الديات) لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة. قال ابن أبي الحواري: سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته للعطار فأعطى الناس فيه حوائج. قال النسائي: غير ثقة. وقال أحمد: ليس بشيء» . أقول: إنما ذكر خالد في هذه الحكاية مسائل فقهية انتقدت على أبي حنيفة قد نظرت فيها في قسم الفقهيات - ومع ذلك فقد وثقه أحمد بن صالح المصري والعجلي

89- داود بن الحجر

وبلديه وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن عدي «لم أر من أحاديث خالد هذا إلا كل ما يحتمل في الرواية أو يرويه ضعيف عنه فيكون البلاء من الضعيف لا منه» وكتاب الديات قد يكون ما فيه مما استنكره ابن معين أخذه خالد عن الضعفاء فأؤصله. والله أعلم. (1) 89- داود بن الحجر. في (تاريخ بغداد) (13 / 392 - 393) عدة روايات تتعلق بالمحرم إذا لم يجد إزاراً فلبس سراويل، أو لم يجد نعلا فلبس خفين - وقد ذكرت المسالة في الفقهيات - تكلم الأستاذ ص 94 في الروايات إلى أن قال «وأما ما رواه ابن عبد البر في (الانتقاء) ص 140 من أنه لما قيل لأبي حنيفة ... قال لم يصح في هذا عندي ... وينتهي كل امرئ إلى ما سمع. فغير ثابت عنه لأن في سنده داود بن المحبر متروك باتفاق.. بل حديث إباحة لبس الخفين ... مخرج في (مسانيد أبي حنيفة) ، قفي (مسند أبي محمد البخاري الحارثي) عن أبي سعيد بن جعفر عن أحمد بن سعيد الثقفي عن المغيرة بن عبد الله عن أبي حنيفة عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس ... ، فهذا الحديث بهذا السند يرد على من يقول انه لم يبلغه حديث في هذا الباب ... فينهار بهذا البيان جميع تلك المزاعم ... هكذا يفضح الله الأفاكين» . أقول: داود وثقة ابن معين وقال أبو داود «ثقة شبه الضعيف، بلغني عن يحيى فيه كلام أنه يوثقه» وبهذا يعلم ما في قول الأستاذ «متروك باتفاق» وإن كان الصواب ما عليه الجمهور أن داود ساقط. ومع رد الأستاذ ذاك الخبر هنا فقد احتج به ص 74 غذ قال «وأبو حنيفة الذي يقول: لعن الله من يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، كما في (الانتقاء) لابن عبد البر ص 141 كيف يخالف حديثاً صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ومن زعم ذلك فقد أبعد في البهت نسأل الله

_ (1) خلف بن بيان يأتي في ترجمة محمد بن الحسين بن حميد.

ترجمة الحارثي رواي مسند أبي حنيفة وبيان أنه وضاع

الصون» وقوله «لعن الله ... » قطعة من خبر داود الذي رده الأستاذ هنا. وغرض الأستاذ في الموضعين واحد وهو رد الروايات القوية فانه احتج به في ص 74 على رد روايات قوية متعددة وختم بقوله «نسأل الله الصون» ورده ص 94 ليرد روايات قوية ثم احتج على الرد بما هو أسقط من خبر داود وهو خبر الحارثي بذاك الإسناد والحارثي في (لسان الميزان) ج1 ص 27 وفيها: «قال له ذكر في ترجمة علي بن جرير وترجمة الحارثي في (لسان الميزان) ج 1 ص 27 وفيها: «قال ابن الجوزي قال أبو سعيد الرواس: يتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان الخليلي ... له معرفة بهذا الشأن وهو لين، ضعفوه، حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب» وسترى ما يكشف بعض حاله في ترجمة علي بن جرير. وشيخه أبو سعيد بن جعفر هو أبّا بن جعفر ترجمته في (لسان الميزان) ج 1 ص 27 وفيها «قال ابن حبان كان يقعد يوم الجمعة بحذاء مجلس الساجي ... ذهبت إلى بيته للاختبار ... فرأيته قد وضع على أبي حنيفة أكثر من ثلاثمائة حديث ما حدث بها أبو حنيفة قط ... » قال ابن حجر «وقال حمزة (السهمي الحافظ) عن الحسن بن علي ابن غلام الزهري (الحافظ) : أبا بن جعفر كان يضع الحديث وحدث بنسخة نحو المائة عن شيخ له مجهولا زعم أن اسمه أحمد بن سعيد بن عمرو المطوعي عن ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن أنس، وفيها مناكير لا تعرف. وقد أكثر عنه أبو «محمد» الحارثي في «مسند أبي حنيفة» . وشيخه هنا أحمد بن سعيد الثقفي لا يعرف أو لم يخلق، وهكذا المغيرة بن عبد الله ومن العجائب أن صاحب «جامع المسانيد» زعم أن المغيرة بن عبد الله اليشكري الذي يروى عن المغيرة بن شعبة المتوفى سنة خمسين!! وأعجب من ذلك قول الأستاذ «فهذا الحديث بهذا السند يرد ... » وهذه سخريه من الأستاذ لا أدري أبالعلم أم بنفسه أم بالذين يرى أنهم سيتلقون كلامه بالقبول الإعجاب؟ ثم ختم الأستاذ بقوله «هكذا يفضح الله الأفاكين» ولا يخفى أين موضع هذه الكلمة! والله المستعان.

90- دعلج بن أحمد السجزي

90- دعلج بن أحمد السجزي. في (تاريخ بغداد) (13/379) من طريقه «أخبرنا أحمد بن علي الأبار حدثنا سفيان بن وكيع قال جاء عمر بن حماد ... » قال الأستاذ ص57 «فدعلج تاجر مثرٍ كان عنده قفاف مملوءة ذهبا تبهر عيون من يبيت عنده من الرواة وتسلب ألبابهم، يتعانى الرواية ويواسي الرواة من أهل مذهبه في التشبيه وكان عنده تعصب وتغفل وكان الرواة الأظناء يبيتون عنده ويدخلون في كتبه أشياء فيرويها بسلامة باطن وذكر الذهبي من الوضاعين الذين كانوا يدخلون في كتبه اثنين أحدهما علي ابن الحسين الرصافي وقد قال عنه: يضع الحديث ويفتري على الله قال الدارقطني: لا يوصف ما أدخل هذا على الشيوخ ثم عمل محضر بأحاديث ادخلها على دعلج. وكذا أدخل أبو الحسين العطار المخرمي أحاديث على دعلج أيضا كما ذكره الذهبي ويجعلها ابن حجر شخصا واحدا بدون حجة» أقول: قد سلف في ترجمة أحمد بن علي الأبار أن دعلج سجستاني كان يطوف البلاد لسماع العلم وللتجارة ودخل بغداد وسنة نيف وعشرون سنة وسن الأبار فوق السبعين فسمع منه ومن غيره ومات الأبار بعد ذلك بسنوات وبقي دعلج في تطوافه ثم سكن مكة مدة ثم تحول إلى بغداد وأقام بها إلى أن مات سنة 351 وذلك بعد وفاة الأبار بإحدى وستين سنة. وتقدم أيضا أن دعلجا إنما أثرى بعد موت الأبار بدهر. فأما مطاعن الأستاذ في دعلج فأولها: أنه كان يعتقد التشبيه! وإنما أخذ الأستاذ ذلك من ذكرهم أن دعلجا أخذ عن ابن خزيمة كتبه وكان يفتى بقوله وابن خزيمة عند الأستاذ مشبه! وهبه ثبت أن دعلجا كان على عقيدة ابن خزيمة. وعقيدة ابن خزيمة هي في الجملة عقيدة أئمة الحديث وهي محض الأيمان وقد أفردت الاعتقاديات بقسم. وثانيها: أنه كان متعصبا! وهذا تخرص من الأستاذ فأما ما جاء من طريقة من الروايات فشيء سمعه فرواه وقد عاش دعلج ببغداد عشرات السنين كان الثناء عليه كله وفاق بينهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.

وثالثها: أن الرواة الأظناء كانوا يبيتون عنده ويدخلون في كتبه (1) وهذا تخرص أيضا نعم حكي عن رجل غير ظنين أنه بات عنده واراه ماله ولم يقل إن كتبه كانت مطروحة له ولا لغيره ممن يخشى منه العبث بها فأما إدخال بعضهم عليه أحاديث فذلك لا يقتضي الإدخال في كتبه بل إذا استخرج الشيخ أو غيره من أصوله أحاديث وسلمها إلى رجل ليرتبها وينسخها فذهب الرجل ونسخها وأدخل فيها أحاديث ليست حديث الشيخ وجاء بالنسخة فدفعها إليه ليحدث بها صدق انه أدخل عليه أحاديث ثم إذا كان الشيخ يقظا فاعتبر تلك النسخة بحفظه أو بمراجعة أصوله أو دفعها إلى ثقة مأمون عارف كالدارقطني فاعتبرها فأخرج تلك الزيارة ولم يحدث بها الشيخ لم يكن عليه في هذا باس ولعله هكذا جرى فقد قال الخطيب في دعلج «كان ثقة ثبتا قبل الحكام شهادته واثبتوا عدالته ... وكان أبو الحسن الدارقطني هو الناظر في أصوله والمصنف له كتبه فحدثني أبو العلاء الواسطي عن الدارقطني قال صنفت لدعلج (المسند الكبير) فكان إذا شك في حديث ضرب عليه ولم أر في مشايخنا اثبت منه ... حمزة بن يوسف السهمي يقول: سئل أبو الحسن الدارقطني عن دعلج بن أحمد؟ فقال: كان ثقة مأمون - وذكر له قصة في أمانته وفضله ونبله» وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 92 «دعلج بن أحمد بن دعلج الإمام الفقيه محدث بغداد ... . روى عنه الدارقطني والحاكم وابن رزقويه وأبو إسحاق الأسفرائني وأبو القاسم بن بشران وعدد كثير. وقال الحاكم: سمعت الدارقطني يقول: صنف الدعلج (المسند الكبير) ولم أر في مشايخنا أثبت منه ... » وجعل الأستاذ المدخلين جماعة من أمانيه والمعروف رجل واحد ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 11 ص 385 «على بن الحسين بن جعفر أبو الحسين البزاز يعرف بابن كرنيب وبابن العطار المخرمي ... بلغني عن الحاكم أبي عبد الله محمد ابن عبد النيسابوري قال: ذكر الدارقطني ابن العطار فذكر من إدخاله على المشايخ شيئا فوق الوصف وأنه اشهد عليه واتخذ

_ (1) وقد شاهدنا من الكوثري وتلامذته في كتب السيد أحمد خيري التي آلت إلى جامعة محمد بن سعود. زهير

91- الربيع بن سليمان المرادي

محضرا بإدخاله أحاديث على دعلج» وذكر الذهبي في (الميزان) واقتصر على قوله «أدخل على دعلج أحاديث قاله الدارقطني» ثم ذكر «علي بن الحسين الرصافي» وقال «قال الدارقطني لا يوصف ما أدخل على الشيوخ ثم عمل محضر عليه بأحاديث أدخلها على دعلج» فقال ابن حجر في (اللسان) هذه صفة علي بن الحسين بن كرنيب وقد مر» وحجته في ذلك أن القصة متفقة والاسم متفق واسم الأب متقارب فإن اسم «الحسن» و «الحسين» يكثر تحرف أحدهما إلى الآخر وليس في (تاريخ بغداد) إلا رجل واحد، والمخرم والرصافة محلتان ببغداد وقد يكون مسكن الرجل بينهما فينسب إلى هذه وإلى هذه وابن حجر مطلع على مأخذ الذهبي ولم يقف في شيء منها إلا على رجل واحد؛ وهذه الأمور إن لم تكف للجزم بأنه رجل واحد فلا ريب أنها تكفي للتوقف عن الجزم بأنها اثنان. وهب أنهما اثنان أو عشرة فإن ذلك لا يضر دعلجاً وروايته ما لم يثبت أن كان على وجه يتمناه الأستاذ هو الإمام أبو الحسن الدارقطني وهو الذي كان الناظر في أمور دعلج والمصنف له كتبه وهو الذي وثقه أثبت توثيق كما سلف، وفي ذلك ما يقطع نزاع من يخضع للحق، فأما المعاند فلا يقطعه إلا أن تشهد عليه أعضاؤه! 91- الربيع بن سليمان المرادي. في (تاريخ بغداد) 13 / 410 عنه «سمعت الشافعي يقول: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب عليها» قال الأستاذ ص139 «الربيع المرادي الذي يقول فيه أبو يزيد القراطيسي ما يقول» . أقول في ترجمته من (التهذيب) : «قال أبو الحسين الرازي الحافظ والد تمام أخبرنا على ابن محمد بن أبي حسان الزيادي بحمص: سمعت أبا يزيد القراطيسي يوسف بن يزيد يقول: سماع الربيع بن سليمان من الشافعي ليس بالثبت وإنما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي؛ قال أبو الحسين: هذا لا يقبل من أبي يزيد، بل البويطي كان يقول: الربيع أثبت مني، وقد سمع أبو زرعة الرازي

92- رجاء بن السندي

كتب الشافعي كلها من الربيع قبل موت البويطي بأربع سنين» وقول القراطيسي: ليس بالثبت إنما مفاده نفي أن يكون غاية في الثبت ويفهم من ذلك انه ثبت في الجملة كما شرحته في ترجمة الحسن بن الصباح. ويوضح ذلك هنا ما بعده وحاصله أنه لم يكن للربيع في بعض مسموعاته من الشافعي أصول خاصة محفوظة عنده لأنه إنما أخذ أكثر الكتب من ورثة البويطي. وهذا تشدد من أبي يزيد في غير محله فقد يكون للربيع أصول خاصة محفوظة عنده ولا يمنعه ذلك من أخذ غيرها من ورثة البويطي ليحفظها، وعلى فرض انه لم يكن له ببعض الكتب أصول خاصة، وإنما كان سماع الربيع لها ثابت وقد عرف الكتب وأتقنها فإذا وثق بأنها لم تزل محفوظة في بيت البويطي حق الحفظ حتى أخذها فأي شيء في ذلك؟ . وقد قال الخليلي في الربيع «ثقة متفق عليه، والمزني مع جلالته استعان على ما فاته عن الشافعي بكتاب الربيع» ووثقه آخرون واعتمد الأئمة عليه في كتب الشافعي وغيرها. ومع هذا كله فالحكاية التي يحاول الأستاذ بمضمونها كما يأتي في ترجمة الشافعي، وقد روى الربيع عن البويطي عن الشافعي أشياء كما تراه بهامش (الأم) ج 6 ص 57 وكان عمر القراطيسي حين مات الشافعي ثماني عشرة سنة ولم يأخذ عن الشافعي وإنما رآه رؤية فلا خبرة له بما سمعه الربيع وإنما بني على الحدس كما سلف. 92- رجاء بن السندي. في (تاريخ بغداد) 13 / 391 عنه «سمعت بشر بن السري قال أتيت أبا عوانة ... » قال الأستاذ ص 92 «طويل اللسان وقد اعرض عنه أصحاب الأصول الستة» . أقول: أوهم الأستاذ بهذه العبارة أن رجاء كان بذيئاً وأن أصحاب الأصول لم يرضوه، وليس الأمر كذلك ولكن كان فصيحاً، قال بكر بن خلف: «ما رأيت أفصح منه» فهذا طول لسانه في اصطلاح الأستاذ الذي يقصد به الإيهام، فعل ذلك في مواضع! وتوفي رجاء سنة 221 فلم يدركه الترمذي والنسائي وابن ماجة

93- رقبة بن مصقلة

وأدركوا من أقرانه ومن هو أكبر منه من هو مثله أو أعلى إسناداً منه فلم يحتاجوه إلى الرواية عن رجل عنه لإيثارهم العلو، وأدركه أبو داود في (الجملة) لأنه مات وسن أبي داود نحو تسع عشرة سنة ولكنه في بلد غير بلده، فالظاهر أنه لم يلقه. فأما مسلم فإنه كان له حين مات رجاء لائقاً بأن يعتمده في (الصحيح) ويمكن أن يكون مسلم تشاغل أول عمره بالسماع ممن هو أسن من رجاء وأعلى إسناداً ففاته رجاء، وأما البخاري فقد ذكر الكمال انه روى عنه لكن قال المزي: «لم أجد له ذكراً في الصحيح» فقد لا يكون البخاري لقيه، وقد يكون لقيه مرة فلم يسمع منه إلا شيئاً عن شيوخه الذين أدرك البخاري أقرانهم فلم يحتج إلى النزول بالرواية عن رجاء. فتحصل من هذا أنهم إنما لم يخرجوا عنه إيثاراً للعلو من غير طريقه، على النزول من طريقه. وراجع ترجمة محمد بن أعين، وروى عنه أيضاً غبارهم بن موسى وأبو حاتم وقال: «صدوق» . وقال الحاكم «ركن من أركان الحديث» . 93- رقبة بن مصقلة. في (تاريخ بغداد) (13 / 416) عن أبي أسامة «مر رجل على رقبة فقال من أين أقبلت؟ قال؟ من عند أبي حنيفة. قال: يمكنك من رأى ما مضغت وترجع إلى أهلك بغير ثقة» قال الأستاذ ص 158 «ليس من رجال الجرح والتعديل، وإنما هو من رجالات العرب الذين يحبون التنكيت والتندر وهو الذي استلقى على ظهره في المسجد، وهو يتقلب ويقول لمن يسائله عما به: إني صريع الفالوذج. يعني أنه متخوم بأكله، أو مصروع بالتشوق إليه. ومثل هذا الكلام موضعه كتب النوادر والمحاضرات..» أقول رقبة عن أنس فيما قيل وعن أبي إسحاق وعطاء ونافع وعبد العزيز بن صهيب وثابت البناني وطلحة بن مصرف وغيرهم، وعنه جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة وابن عيينة وغيرهم؛ قال الإمام أحمد: «شيخ ثقة من الثقات مأمون»

94- زكريا بن يحيى الساجي

وقال ابن معين والعجلي والنسائي «ثقة» واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وغيرهما. ومثله لو جرح أو عدَّل لقبل منه، فأما الدعابة فلم تبلغ به بحمد الله عز وجل ما يخدش في دينه وأمانته، وقصة الفالوذج إن صحت إنما فيها أنه أكل فالوذجا فتأذى به فقال ما قال تلطفاً ونصيحة لغيره فكان ماذا؟ ومع هذا كله فليس في كلمته التي ذكرها الخطيب جرح لأبي حنيفة. وقوله «ترجع إلى أهلك بغير ثقة» يعني بالرأي لأنه قد يرجع أبو حنيفة عنه بعد ساعة وقد قال حفص بن غياث «كنت أجلس إلى أبي حنيفة فاسمعه يسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيفتي فيها بخمسة أقاويل فلما رأيت ذلك تركته وأقبلت على الحديث» ذكره الأستاذ ص 123. وقال زفر صاحب أبي حنيفة «كنا نختلف إلى أبي حنيفة ... فقال يوما أبو حنيفة لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمعه مني فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غداً، وأرى الرأي غداً فأتركه بعد غد» ذكره الأستاذ ص 118. 94- زكريا بن يحيى الساجي. في (تاريخ بغداد) (13/325) عنه «سمعت محمد ابن معاوية الزبادي يقول سمعت أبا جعفر يقول: كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زوطرة فسمى نفسه النعمان وسمى أباه ثابتاً» قال الأستاذ ص18 «شيخ المتعصبين كان وقاعاً، ينفرد بمناكير عن مجاهيل وتجد في (تاريخ بغداد) نماذج من انفراداته عن مجاهيل بأمور منكرة، ونضال الذهبي عنه من تجاهل العارف، وقال أبو الحسن ابن القطان: مختلف فيه في الحديث وثقه قوم وضعفه آخرون. وقال أبو بكر الرازي بعد أن ساق الحديث بطريقه: انفرد به الساجي ولم يكن مأموناً، وكفى في معرفة تعصب الرجال الاطلاع على أوائل كتاب (العلل) له» . أقول: أما التعصب فقد مر حكمه في القواعد في القواعد، وبينا أنه إذا ثبتت ثقة الرجل وأمانته لم يقدح ما يسميه الأستاذ تعصباً في روايته ولكن ينبغي التروي فيما يقوله برأيه لا اتهاماً له بتعمد الكذب والحكم بالباطل، بل لاحتمال أن الحنق حال بينه

وبين التثبت، وبهذه القاعدة نفسها نعامل ما حكاه الأستاذ عن أبي بكر الرازي إن كان ممن ثبتت ثقته وأمانته فلا نقبلها منه بغير مستند مع مخالفته لمن هو أثبت منه وأعلم بالحديث ورجاله، ولأمر ما ستر الأستاذ على نفسه وعلى الرازي فلم يذكر الحديث ولا بين موضعه. فأما قوله: «كان وقاعاً» فمن تصدى للجرح والتعديل والتنديد بمن يخالف السنة احتاج إلى ما يسميه الأستاذ وقيعة، وإنما المذموم أن يقع الرجل في الناس بما لا يراه حقاً أو بما لا يعذر في جهل أنه باطل. وأما الانفراد بمناكير عن مجاهيل إن صح فلا يضره، وإنما الحمل على أولئك المجاهيل ولا يترتب على ذلك مفسدة، ومثل ذلك ما يرويه عن الضعفاء، وكالحديث الذي في ترجمته في (لسان الميزان) سمعه من الساجي أبو داود وعبدان والبزار وغيرهم، رواه الساجي عن عبد الله ابن هارون بن أبي علقمة الفروي، وعبد الله هذا يقال له: «أبو علقمة الصغير» له ترجمة في (تهذيب التهذيب) ج 12 ص 172 وفيها: «قال الحاكم أبو أحمد: منكر الحديث ... وقال ابن عدي: له مناكير ... وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: يخطئ ويخالف وقال الدارقطني في غرائب مالك: متروك الحديث» فإن كان ذاك الحديث منكراً فالحمل فيه إلى الفروي، كالأحاديث الأخرى التي أنكرت عليه. وأما كلمة ابن قطان فلم يبين من هم الذين ضعفوه وماهر التضعيف وما وجهه، ومثل هذا النقل المرسل على عواهنه لا يلتفت إليه أمام التوثيق المحقق، وأخشى أن يكون اشتبه على ابن قطان بغيره ممن يقال له: «زكريا بن يحيى» وهم جماعة، وابن القطان ربما يأخذ من الصحف فيصحف فقد وقع له في موضع تصحيف في ثلاثة أسماء متوالية. راجع (لسان الميزان) ج 2 ص 201- 202 قد قال ابن حجر في (اللسان» متعقباً كلمة ابن القطان «ولا يغتر أحد بقول ابن القطان، وقد جازف بهذه المقالة، وما ضعف زكريا الساجي هذا أحد قط ... وذكره ابن أبي حاتم فقال: كان ثقة يعرف الحديث والفقه، وله مؤلفات حسان في الرجال واختلاف آلفها وأحكام القرآن ... وقال مسلمة بن القاسم: بصري ثقة» . والذهبي إنما قال

95- سالم بن عصام

في (الميزان) : «أحد الأثبات ما علمت فيه جرحاً أصلاً. قال أبو الحسن بن القطان ... » فما الذي تجاهله الذهبي؟ أما كلمة ابن القطان فقد ذكرها. وأما ما حكاه الأستاذ عن الرازي، فليس الرازي ممن يذكر في هذا الشأن حتى يتتبع الذهبي وغيره كلامه، فيسوغ أن يظن بالذهبي أنه وقف على كلمته وأعرض عنا لمخالفتها هواه كما يتوهمه أو يوهمه الأستاذ! 95- سالم بن عصام. وذكرته في (الطليعة) ص 50 - 51 فأشار إلى ذلك في (الترحيب) ص 40 - 41 وتعرض لأبي الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان وستأتي ترجمته، وهو ثقة جبل وإن كره الأستاذ، وذكر أن كلمة «صدوق» دون كلمة «ثقة» وصدق في ذلك، ولكن أبا الشيخ أردفها بقوله «صاحب كتاب» وصاحب الكتاب يكفيه كونه في نفسه صدوقاً وكون كتابه صحيحاً. وقد توبع سالم كما ذكرته في (الطليعة) . 96- سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير. في (تاريخ بغداد) 13/375 عنه «قلت لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئاً؟ ! قال: نعم، قلت: أكان جهمياً؟ قال نعم، قلت: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان أبو حنيفة مدرساً فما كان من قوله حسناً قبلناه، وما كان قبيحاً تركناه» . قال الأستاذ ص 46 «عامل أرمينية في عهد الرشيد وقد حاق بالمسلمين ما حاق من البلايا هناك من سوء تصريف هذا العامل شيءون الحكم وابتعاده في الحكم عن الحكمة والسداد كما في (تاريخ ابن جرير) وغيره، وليس هو ممن يقبل له قول في مثل هذه المسائل» . أقول حسن السياسة شيء، والصدق في الرواية شيء آخر، ولسعيد ترجمة في (تاريخ بغداد) ج9 ص74 وفيها « ... قال العباس بن مصعب قدم مرو زمان المأمون ... وكان عالما بالحديث والعربية إلا أنه كان لا يبذل نفسه للناس» ولو قال الأستاذ: لم يوثق. لكفاه.

97 - سعيد بن عامر الضبعي

97 - سعيد بن عامر الضبعي. في (تاريخ بغداد) 13 / 397 عنه «حدثنا سلام أبي مطيع قال: كان أيوب قاعداً في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل نحوه، فلما رآه أيوب قد أقبل نحوه، قال لصحابه: لا يعدنا بجربه، وقوموا. فتفرقوا» قال الأستاذ ص109 «في حديثه بعض الغلط كما قال ابن أبي حاتم» . أقول: إنما حكى ذلك ابن حاتم عن أبيه قال: «كان رجلاً صالحاً، وكان في حديثه بعض الغلط» وقد وقفت لسعيد على خطأ في إسناد حديث أو حديثين وذلك لا يضره وإنما حده أنه إذا خالف من هو أثبت منه ترجح قول الأثبت، وقد أثنى عليه الإمامان ابن مهدي والقطان، وقال ابن معين: «ثنا سعيد بن عامر الثقة المأمون» ووثقه أيضاً ابن سعد والعجلي وابن قانع حافظ الحنفية، وروى عنه الأئمة ابن المبارك وأحمد ويحيى وإسحاق وأبو خيثمة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وغيرهم. 98- سفيان بن سعيد الثوري. في (تاريخ بغداد) في ترجمة أبي حنيفة عدة كلمات منسوبة إلى الثوري فيها غض من أبي حنيفة تعقبها الأستاذ في (التأنيب) بما تعقبها وفي بعض ذلك ما يؤول إلى الطعن في الثوري، فمن ذلك ما يتعلق بالإرجاء، وقد ذكرته في قسم الاعتقاديات، ومن ذلك الروايات في أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين، جاءت تلك الروايات عن الثوري وجماعة فتكلم الأستاذ في الروايات بما لا شأن لنا به هنا، وقال ص 65: «روى ابن عبد البر بسنده عن عبد الله داود الخريبي الحافظ تكذيب استتابته مطلقا. فليراجع (الانتقاء) » أقول: تلك الرواية في (الانتقاء) ص 150 وهي من طريق محمد بن يونس الكديمي وقد قال الأستاذ ص 60: «الكديمي متكلم فيه راجع (ميزان الاعتدال) » . أقول: وارجع أيضاً (تهذيب التهذيب) ، وحاصل ذلك أن الكديمي ليس بثقة،

غمز الكوثري من مذهب الإمامين الثوري والأوزاعي

وقد كذبه جماعة. وقال الأستاذ ص 66: «وهناك رواية أخرى ... وذلك ما حدثه ابن أبي العوام الحافظ (؟) عن الحسن بن حماد سجادة قال، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البصري ... » ثم قال الأستاذ: «وفي ذلك القول الفصل لأن أبا القاسم بن أبي العوام الحافظ (؟) صاحب النسائي وسجادة وأبو قطن كلهم من الثقات الإثبات» . أقول ابن العوام ذكرته في (الطليعة) ص 27 - 28 فراجعها، ولم يتعقب الأستاذ في (الترحيب) ذلك بشيء وأي قيمة لتوثيق الكوثري؟! ومع ذلك فلم يدرك سجادة، لأن سجادة توفى سنة 241 والنسائي نفسه يروي عن رجل عنه ويظهر أنه إنما وقع في كتاب ابن أبي العوام «حدثت عن الحسن بن حماد سجادة» فقول الأستاذ «وذلك ما حدثه» حقها أن تقرأ هكذا بالبناء للمجهول فعلى هذا لا يدري من شيخ ابن أبي العوام إن كان له شيخ غير نفسه وصح الخبر عنه. ومن ذلك أن الخطيب ساق عدة روايات عن الثوري والأوزاعي قال: «ما ولد في الإسلام مولود أشأم على هذه الأمة من أبي حنيفة» فقال الأستاذ ص 72: «لو كان هذا الخبر ثبت عن الثوري والأوزاعي لسقطا بتلك الكلمة وحدها في هو ة الهوى والمجازفة كما سقط مذهباهما بعدهما سقوطا لا نهو ض لهما أمام الفقه الناضج وقد ورد: لا شؤم في الإسلام. وعلى فرض أن الشؤم يوجد في غير الثلاث الواردة في السنة وأن صاحبنا مشؤوم فمن أين لهما معرفة أنه في أعلى درجات المشؤمين ... .» أقول: لم يريدا الشؤم الذي نفاه الشرع وإنما أرادا الشؤم الذي يثبته الشرع والعقل، إذا كان في أخلاق الإنسان وأقواله وأفعاله ما من شأنه ديانة وعادة وقوع الضرر والمصائب بمن يصحبه ويتبعه ويتعدى ذلك إلى غيرهم ووقع ذلك ولم يزل ينتشر ودلت الحال على أنه لن يزال في انتشار صح أن يقال إنه مشيءوم وإذا ظن أن ما يلحق الأمة من الضرر بسبب رجل آخر صح أن يقال: إنه لم يولد مولود

أشأم على الأمة منه. كان الثوري والأوزاعي كجمهور الأئمة قبلها وفي عصرهما يريان الإرجاء ورد السنة بالرأي والقول ببعض مقالات الجهمية كل ذلك ضلالة من شأنها أن يشتد ضررها على الأمة في دينها ودنياها ورأيا صاحبكم وأتباعه مخطئين أو مصيبين جادين في نشر ذلك ولا تزال مقالاتهم تنتشر وتجر إلى ما هو شر منها حتى جرت قوما إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقا وآخرين إلى رد الأخبار مطلقا كما ذكره الشافعي ثم جرت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يحتج بها في العقائد! ثم إلى نسبه الكذب إلى أنبياء الله عز وجل وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات. شاهد الثوري والأوزاعي طرفا من ذلك ودلتهما الحال على ما سيصير إليه الأمر فكان كما ظنا وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي أصحابكم ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم؟ وفي كتاب (قضاة مصر) طرف من وصف ذلك. وهل جر إلى استفحال تلك المقالات إلا تلك المحنة؟ وأي ضر نزل بالأمة أشد من هذه المقالات؟ فأما سقوط مذهبيهما، فخيرة اختارها الله تبارك وتعالى لهما، فإن المجتهد قد يخطئ خطأ لا يخلو عن تقصير، وقد يقصر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليد الذي نرى عليه كثيراً من الناس منذ زمان طويل، الذي يتعسر أو يتعذر الفرق بينه وبين اتخاذ الإجبار والرهبان أرباباً من دون الله، فقد يلحق المجتهد كفل من تلك التبعات، فسلم الله تعالى الثوري والأوازعي من ذلك، فأما ما يرجى من الأجر على الإتباع في الحق فلهما من ذلك النصيب الأوفر بما نشراه من السند علماً وعملاً، وهذه الأمهات الست المتداولة بين الناس حافلة بالأحاديث المروية من طريقهما وليس فيها لصاحبكم ومشاهير أصحابه حديث واحد! وقد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في (تاريخه الكبير) في ترجمة الثوري «قال لنا عبدان عن ابن المبارك: كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً، وإذا شئت رأيته محدثاً، وإذا شئت رأيته في غامض الفقه. ومجلس شهد (في التاريخ الصغير ص 187: شهدته)

كيف انتشر مذهب الحنفية وعلى يد من كانت المحنة

ما صلي فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -. يعني مجلس النعمان» ولهذه الحكاية طرف في (تاريخ بغداد) و (تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم وغيرهما. وقد علمنا كيف انتشر مذهبكم، أولاً: أولع الناس به لما فيه من تقريب الحصول على الرئاسة بدون تعب في تعب في طلب الأحاديث وسماعهما وحفظهما والبحث عن رواتها وعللها وغير ذلك، إذ رأوا أنه يكفي الرجل يحصل له طرف يسير من ذلك من ثم يتصرف برأيه، فإذا به قد صار رئيساً! ثانياً: ولي أصحابكم قضاء القضاة فكانوا يحرصون على أن لا يولوا قاضياً في بلد من بلدان الإسلام إلا على رأيهم، فرغب الناس فيه ليتولوا القضاة، ثم كان القضاة يسعون في نشر المذهب في جميع البلدان. ثالثاً: كانت المحنة على يدي أصحابكم واستمرت خلافة المأمون وخلافة المعتصم وخلافة الواثق، وكانت قوى الدولة كلها تحت إشارتهم فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع القطار، وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه فقصدوه بأنواع الذي ولذلك تعمدوا أبا مسهر الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي (1) والإمام أحمد بن حنبل حامل راية فقه الحديث (2) وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي (3) وابن عبد الحكيم وغيره من المالكية بمصر، وفي كتاب (قضاة مصر) طرف مما صنعوه بمصر وفي ذلك يقول الشاعر يمدح قاضيكم بمصر: ولقد بجست العلم في طلابه ... وفجرت منه منابعاً لم تفجر فحميت قول أبي حنيفة بالهدى ... ومحمد واليوسفي الأذكر

_ (1) يأتي ترجمته وقد حصل إلى العراق وهدد بالقتل ثم أودع السجن حتى مات. (2) قصته معروفة. (3) حمل من مصر في القيود والأغلال ثم أودع السجن مقيداً إلى أصاف ساقيه مغلولة يداه إلى عنقه إلى أن مات.

وفتى أبي ليلى وقول قريعهم ... زفر القياس أخى الحجاج الأنظر وحطمت قول الشافعي وصحبه ... ومقالة ابن علية لم تصحر ألزقت قولهم الحصير فلم يجز ... عرض الحصير فإن بدا لك فاشبر والمالكية بعد ذكر شائع ... أخملتها فكأنها لم تذكر ثم ذكر إكراه علماء مصر على القول بخلق القرآن وغير ذلك، راجع كتاب (قضاة مصر) ص 452. رابعاً: غلبت الأعاجم على الدولة فتعصبوا لمذهبكم لعلة في سبيلها وما فيه من التوسع في الرخص والحيل! خامساً: تتابعت دول من الأعاجم كانوا على هذه الوتيرة. سادساً: قام أصحابكم بدعاية لا نظير لها واستحلوا في سبيلها الكذب حتى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما نراه في كتب المناقب. سابعاً: تمموا ذلك بالمغالطات التي ضرب فيها الكوثري المثل الأقصى في (التأنيب) كما شرحت أمثلة من ذلك في (الطليعة) وفي هذا الكتاب، ومر بعضها في هذه الترجمة نفسها. فأما النضج الذي يدعيه الأستاذ فيظهر نموذج منه في قسم الفقهيات، بل في المسألة الأولى منها! وقد كان خيراً للأستاذ ولأصحابه ولنا وللمسلمين أن يطوى الثوب على غزة ويقر الطير على مكناتها ويدع ما في (تاريخ بغداد) مدفوناً فيه ويذر النزاع الضئيل بين مسلمي الهند مقصورا عليهم ويتمثل قول زهير: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وماهر عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا أضريتموها فتضرم

طرف من فضائل الإمامين

فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشحا ثم تنتج فتتم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم وقد جرني الغضب للسنة وأئمتها إلى طرف مما أكره، وأعوذ بالله من شر نفسي وسيء عملي، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . ومن أحب الوقوف على فضائل الثوري والأوزاعي فليراجع تراجمهما في (تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، و (تهذيب التهذيب) وغير ذلك، ولنتبرك بذكر طرف منها: قال شعبة وابن عيينة وابن معين وغير واحد من الأئمة: «سفيان أمير المؤمنين في الحديث» وقال عبد الله بن المبارك: «كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان» ، ثم قال: «ما رأيت من سفيان» . وقال عبد الله بن داود الخريبي: «ما رأيت أفقه من سفيان» . وقال أبو إسحاق الفزاري: «ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي والثوري ... ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي.. وكان والله إماماً إذ لا نصيب اليوم إماما» . وقال ابن المبارك: «لو قيل لي أختر لهذه الأمة لاخترت الثوري والأوزاعي، ثم لاخترت الأوزاعي لأنه أرفق الرجلين» وقال الخريبي: «كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه» . 99- سفيان بن عيينة. شارك الثوري في بعض الكلمات التي نقمها الأستاذ، ولا حاجة لذكر ذلك هنا ولعلك ترى طرفا منه في مواضعه، وأكتفي بالنظر فيما ذكره الأستاذ في (الترحيب) ص 27 قال: «لم أذكر في (التأنيب) أن سفيان بن عيينة نفسه كان قد اختلط قبل وفاته بسنة أو أكثر فيمكن أن يقع منه هذا التخليط في عام الاختلاط» .

أقول: قال الذهبي في (الميزان) : «روى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن يحيى بن سعيد القطان قال: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة فمن سمع منه فيها فسماعه لاشيء ... قلت: سمع منه فيها محمد بت عاصم صاحب ذاك الجزء العالي، ويغلب على ظني أن سائر شيوخ أئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع، وأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها لأنه توفي قبل قدوم الحاج بأربعة أشهر؛ وأنا استبعد هذا الكلام من القطان وأعده غلطاً من ابن عمار، فإن القطان مات في صفر من سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحاج، ووقت تحدثيهم عن أخبار الحجاز، فمتى يمكن يحيى بن سعيد من أن يسمع اختلاط سفيان ثم يشهد عليه بذلك والموت قد نزل به؟ فلعله بلغه ذلك في أثناء سنة سبع مع أن يحيى متعنت جداً في الرجال، وسفيان فثقته مطلقا والله أعلم» . قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) : «ابن عمار من الإثبات المتقين وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة ممن حج في تلك السنة واعتمد قولهم وكانوا كثيراً فشهد على استفاضتهم؟ وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئاً يصلح أن يكون سبباً لما نقله عن ابن عمار في حق ابن عيينة، وذلك ما أورده أبو سعيد ابن السمعاني في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن من (ذيل تاريخ بغداد) بسند له قوي إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه؟ فقال: عليك بالسماع الأول فإني قد سئمت. وقد ذكر أبو معين الرازي في زيادة (كتاب الإيمان) لأحمد أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره باخرة، وإن سليمان بن حرب قال له: إن ابن عيينة أخطأ في عامة حديثه عن أيوب» . أقول: كان ابن عيينة بمكة والقطان بالبصرة ولم يحج القطان سنة فلعله حج سنة ست فرأى ابن عيينة قد ضعف حفظه قليلا فربما أخطأ في بعض مظان الخطأ من الأسانيد وحينئذ سأله فأجابه كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن بشر ثم كأنه بلغ القطان في أثناء سنة سبع أو أوائل سنة ثمان أن ابن عيينة اخطأ في حديثين فعد

100- سفيان بن وكيع

ذلك تغيرا أطلق كلمة «اختلط» على عادته في التشديد. وقد كان ابن عيينة أشهر من نار على علم فلو اختلط الاختلاط الاصطلاحي لسارت بذلك الركبان وتناقله كثير من أهل العلم وشاع وذاع وهذا (جزء محمد بن عاصم) سمعه من ابن عيينة في سنة سبع ولا نعلمهم انتقدوا منه حرفا واحدا فالحق أن ابن عيينة لم يختلط ولكن كبر سنه فلم يبق حفظه على ما كان عليه فصار ربما يخطئ في الأسانيد التي لم يكن قد بالغ في إتقانها كحديثه عن أيوب والذي يظهر أن ذلك خطأ هين ولهذا لم يعبا به أكثر الأئمة ووثقوا ابن عيينة مطلقا. ومع هذا فالحكاية التي تكلم فيها الأستاذ هي واقعة جرت لابن عيينة أخبر بها وليس ذلك من مظان الغلط وراويها عنه إبراهيم بن بشار الرمادي من قدماء أصحابه قال أبو عوانة في (صحيحه) ج 1 ص 365: «كان ثقة من كبار أصحاب سفيان وممن سمع قديما منه» . ومناقب ابن عيينة في الكتب المشار إليها في ترجمة الثوري وغيرها ومن ذلك قال ابن وهب صاحب الإمام مالك: «ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله من ابن عيينة» وقال الشافعي: «ما رأيت أحدا من الناس فيه من آلة العلم ما في ابن عيينة وما رأيت أحدا أكف عن الفتيا منه» وقال أحمد: «ما رأيت أحدا علم بالقرآن والسنن منه» . 100- سفيان بن وكيع. في (تاريخ بغداد) 13 / 379 عنه قال: «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا فقال: سمعت أبي حماد يقول بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن فقال: مخلوق ... .» قال الأستاذ ص 57 «كان وراقه كذبا يدخل في كتبه ما شاء من الأكاذيب فيرويها هو فنبهو هـ على ذلك وأشاروا عليه أن يغير وراقه فلم يفعل فسقط عن مرتبة الاحتجاج عند النقد» . أقول: حسن الترمذي بعض أحاديثه وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال:

101- سلام بن أبي مطيع

«كان شيخا فاضلا صدوقا إلا إنه ابتلى بوراق سوء ... وهو من الضرب الذين لأن يخر أحدهم من السماء أحب إليهم من أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وذكر له ابن عدي خمسة أحاديث معروفة إلا أن في أسانيدها خللا ثم قال: «إنما بلاؤه أنه كان يتلقن، يقال: كان له وراق يلقنه من حديث موقوف فيرفعه أو مرسل يوصله أو يبدل رجلا برجل» والحكاية التي ساقها الخطيب ليست من مظنة التلقين ولا من مظنة الإدخال في الكتب فإذا صح أن هذا الرجل صدوق في نفسه لم يكن في الطعن فيه بقصة الوراق فائدة هنا واكبر ما في الحكاية قول أبي حنيفة المقالة المذكورة والأستاذ يثبت ذلك ويتبجح به. 101- سلام بن أبي مطيع. مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة سعيد بن عامر. قال الأستاذ ص 109: «قال ابن حبان لا يجوز أن يحتج بما ينفرد به. وقال الحاكم: منسوب إلى الغفلة وسوء الحفظ» . أقول هذا الرجل من رجال (الصحيحين) منسوب إلى العقل لا إلى الغفلة فكأن الحاكم صحف، قال أبو داود: «كان يقال هو أعقل أهل البصرة» وقال البزار: «كان من خيار الناس وعقلائهم» وقال أحمد وأبو داود: «ثقة» . وقال ابن عدي: «لم أر أحداً من المتقدمين نسبة إلى الضعف، وأكثر ما فيه أن روايته عن قتادة فيها أحاديث ليست بمحفوظة وهو مع ذلك كله لا بأس به» . فكأن ابن حبان رأى بعض حديثه عن قتادة غريباً فأطلق، وروايته هنا هنا ليست عن قتادة، وإنما هي قصة جرت لأيوب شهدها سلام وليس ذلك من مظنة الغلط. راجع ص9. 102- سلامة بن محمود القيسي. في (تاريخ بغداد) 13/374 عنه «حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو قال سمعت أبا مسهر يقول كان أبو حنيفة رأس المرجئة» قال الأستاذ ص 445 «من الزهاد المستثنين في كل شيء إلا في مثل هذا» !

103- سلمة بن كلثوم

أقول: يعني أن الرجل منهم كان إذا قال: أنا مؤمن. قال: إن شاء الله. وليس هذا بقادح، وقد ذكرت هذه المسألة في قسم الاعتقاديات (1) . 103- سلمة بن كلثوم. في (تاريخ بغداد) 13 / 397 من طريق أبي توبة «حدثنا سلمة بن كلثوم وكان من العابدين في أصحاب الأوزاعي أحيا منه قال: قال الأوزاعي لما مات أبو حنيفة: الحمد لله إن كان لينقض الإسلام عروة عروة» قال الأستاذ ص 109: «يقول عنه الدارقطني: كثير الوهم» . أقول عبارة الدارقطني على ما في (التهذيب) «يهم كثيراً» وليست حكايته هذه مظنة للوهم، وقد توبع عليها. وراجع ص 9. وقال أبو اليمان «كان يقاس بالأوزاعي» . (2) 104- سليمان بن عبد الله. في (تاريخ بغداد) 13 / 382 من طريق «أحمد بن مهدي حدثنا أحمد إبراهيم حدثني سلم (وفي طبعة الهند: سليمان) بن عبد الله حدثتا جرير عن ثعلبة ... » وفيه (13 / 398) مثل هذا السند وفيه «سليمان بن عبد الله» باتفاق النسخ، قال الأستاذ ص 65: «واه إن كان سلم بن عبد الله الزاهد، وليس بشيء إن كان سليمان ابن عبد الله الراقي، وإن كان غيرهما فمجهول» وقال ص 110: «هو أبو وليد الرقي قال ابن معين: ليس بشيء» . أقول ذكر الذهبي في (الميزان) سليمان بن عبيد الله أبا أيوب الرقي، وذكر قول ابن معين «سليمان بن عبيد الله الرقي ليس بشيء» وذكر قبله بتراجم «سليمان بن عبد الله أبو الوليد القي قال ابن معين: ليس بشيء تعقبه ابن حجر في (اللسان) في هذا فقال: «ما أعلم أن هذا غير أبي أيوب أم لا؟ بل لعله هو فقد ذكر المؤلف

_ (1) سلم بن الباهلي. لم أجده - سلم بن عبد الله - يأتي في سليمان بن عبد الله. (2) سليم بن عيسى راجع (الطليعة) ص 83 - 85. سليمان بن حسان الحلي. راجع (الطليعة) ص 74.

في ترجمته قول ابن معين هذا» . وابن حجر واسع الإطلاع وقد استدرك على الذهبي عدة أو هام، ويظهر أن الذهبي كان إذا ظفر باسم في مطالعاته قيده في مذكراته ليلحقه في موضعه من (الميزان) فقد يقع التصحيف والوهم إما من المأخذ نقل عنه الذهبي وغما من سرعة كتابة الذهبي في مذكرته. وعلى كل حال فقد جازف الأستاذ بجزمه أن الواقع في السند هو هذا الذي ذكره الذهبي لأنه إن كان هذا الذي ذكره الذهبي لا وجود له فواضح، وإن كان موجوداً فلا يدري في أي عصر كان، وعمن روى، ومن روى عنه، وليس هو من بلد أحمد بن إبراهيم، ولا من بلد جرير، وهذا الاسم «سليمان بن عبد الله» ليس بغريب حتى يقل الاشتراك فيه. أرأيت لو قال قائل: بل المذكور في السند هو سليمان بن عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله ابن محمد بن سليمان أبي داود الحراني لأنه موجود قطعاً وكان في تلك الطبقة قطعا ألا يكون هذا أقرب من قول أبي داود الحراني لأنه موجود قطعاً وكان في تلك الطبقة قطعاً ألا يكون هذا أقرب من قول الأستاذ ويقول: هذا سعي في تصحيح المثالب التي يأبى العقل صحتها. فنقول له إن كان العقل الذي يعرفه الناس فلا يضرك معه أن يكون هذا الواقع في السند هو الحراني أو هو أثبت منه لأن الخبر المخالف للعقل لا يقبل ولو من الثقة كما ذكرته أنت في (الترحيب) ، وإذا تفرد الثقة بما لا يقبل حمل على الخطأ واسترحت منه. وإن كان المراد بالعقل ما يسميه الناس الهوى فليس لك أن تتبعه، فإن لم تستطع إلا اتباعه فعلى الأقل لا ترم بدائك من هو أقرب إلى الحق منك، فإن صح أن له هوى مضادا لهو اك وتنكر على من خالفك أن تجحده بقلبك وإن جحدته بلسانك، كأن يقال إن المتنين المرويين بهذا السند قد رويا وما في معناهما من طرق أخرى قوية قد ذكرتها أنت أو بعضها في (تأنيبك) . بل لعل أحدهما متواتر التواتر في اصطلاح أهل العلم لا في اصطلاحك الخاص إن أحسنا الظن بك، فإنك تطلق كلمة «متواتر» على ما يشتهر في كتب المناقب وإن كان أصله مما لا تقوم به الحجة!

105- سليمان بن عبد الحميد البهراني

105- سليمان بن عبد الحميد البهراني. ذكر الخطيب من طريقة حكاية في ترجمة محمد بن الحسن فقال الأستاذ ص 186 «مختلف فيه يقول النسائي عنه: كذاب ليس بثقة» . أقول: قد أحسن الأستاذ بقوله «مختلف فيه» فإن سليمان هذا وثقه مسلمة وقال ابن أبي حاتم: «هو صديق أبي كتب عنه، وسمعت منه بحمص وهو صدوق» وروى عنه أبو داود وهو لا يروى إلا عن ثقة عنده كما مر في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم. وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «كان ممن يحفظ الحديث ويتنصب» والنسائي رحمه الله نسب إلى طرف من التشيع وهو ضد التنصب فلعله سمع سليمان يحكي بعض الكلمات الباطلة التي كان يتناقلها أهل الشام في تلك البدعة التي كانت رائجة عندهم وهي النصب. وقد قال الأستاذ ص 463: «فلا يعتد بقول من يقول: فلان يكذب. ما لم يفسر وجه كذبه ... » ! 106- سليمان بن فليح. تقدمت من طريقة حكاية في ترجمة خالد القسري. وفي (تاريخ بغداد) 14 / 256، من طريق «هارون بن موسى الفروي حدثني أخي عمران بن موسى قال حدثني عمي سليمان بن فليح قال حضرت مجلس هارون الرشيد ... » قال الأستاذ ص 62: «قال أبو زرعة: لا أعرفه ولا أعرف لفليح ولداً غير محمد ويحيى» وذكر نحو ذلك ص 175 وزاد «قلت وله أيضاً موسى إلا أنه في عداد المجاهيل، وأما ما يقوله ابن حجر في (اللسان) من احتمال كون الاسم مقلوباً عن فليح بن سليمان فبعيد عن القبول والاحتمال ... فسليمان ابن فليح مجهول على كل حال فمجرد تصور شخص يغشى مجلس الرشيد ويرد على مثل أبي يوسف ولا تكون شخصيته معلومة عند أهل العلم سلفا وخلفا كاف في معرفة أن الخبر مختلق، والسند مركب» . أقول في (الأغاني) ج 18 ص73 من طريق «أبي محمد اليزيدي قال كان الرشيد جالسا في مجلسه فأتى بأسير من الروم فقال لذفافة العبسي: قم فاضرب عنقه

107- سنيد بن داود

فضرب فنبا سيفه. فقال لابن فليح المدني: قم فاضرب عنقه. فضربه فنبا سيفه أيضاً. فقال: أصلح الله أمير المؤمنين تقدمتني ضربة عبسية ... » وفيها ج14 ص59 «أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء ثنا الزبير بن بكار عن عمه عن فليح بن سليمان المشهور توفي سنة 168 قبل ولاية الرشيد الخلافة، ولا أحسبه دخل بغداد، ولو دخلها لما كان له شأن بمروره مع خالصة في موكبها؛ ومع ذلك فليس هو من آل أبي فروة وهارون وعمران ابنا موسى لم أعرفهما؛ والأشبه والله أعلم أنه كان لفليح بن سليمان المعروف أربعة أبناء محمد ويحيى وموسى وسليمان وجهل أبو زرعة سليمان كما جهل موسى؛ ثم كان لموسى ابنان هارون وهو ابن فليح الذي ذكره اليزيدي وهو الواقع في رواية (الأغاني) الثانية باسم «فليح بن سليمان» أما أن يكون انقلب، وإما أن يكون الأصل «ابن فليح بن سليمان» فسقطت كلمة «ابن» . ولم يكن لسليمان هذا اعتناء برواية الحديث فيعرفه أهل الحديث وإنما كان كما قال أخوه «علامة بالناس» يعني بأخبارهم، ويشهد لذلك قوله في رواية اليزيدي «تقدمتني ضربة عبسية» يشير إلى قصة ورقاء بن زهير العبسي التي ذكرها الفرزدق في قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... تبا بيدي ورقاء عن رأس خالد وكان منقطعاً إلى خدمة الرشيد وآله، وكثير من هذا الضرب وممن هو أولى بالاشتهار منه لا نكاد نعرف عنهم شيئاً كما يأتي في ترجمة أبي جزي، ومثل هذا لا مانع أن تكون له دالة تجرئه على الكلام في مجلس الرشيد. وعلى كل حال فليس هو ممن يثبت بروايته خبر فان كان هناك ما يدفع صحة خبره كما يقول الأستاذ فالحمل عليه، ولا مسوغ للحكم على السند بأنه مركب، كما زعم الأستاذ. وراجع (الطليعة) ص 27- 28 و93 - 64. 107- سنيد بن داود. مرت حكايته وكلام الأستاذ فيه والجواب عن بعضه

108- شريك بن عبد الله النخعي القاضي

في ترجمة حجاج بن محمد وبقي قول النسائي: غير ثقة» وقول أبي داود: «لم يكن بذلك» وقول أبي حاتم: «ضعيف» كذا في كتاب ابنه، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في. لسان الميزان) ج 2 ص 416 وقال الخطيب: «كان له معرفة بالحديث، وما أدري أي سيئ غمضوا عليه، وقد ذكره أبو حاتم في شيوخه الذين يروي عنهم فقال: بغدادي صدوق» . قال الخطيب: «كان له معرفة بالحديث وضبط» . أقول: ما أراهم غمضوا عليه إلا ما تقدم في ترجمة حجاج، ولعل من شدد لم يتدبر القصة وقد تقدم الجواب الواضح عنها وكفى بقول حاكيها نفسه وهو الإمام أحمد: «كان سنيد لزم حجاجاً قديما، وقد رأيت حجاجاً يملي عليه، وأرجو أن لا يكون حدث إلا بالصدق» . 108- شريك بن عبد الله النخعي القاضي. في (تاريخ بغداد) 13 / 372 عمه: «كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى ... » وفيه 13 / 381 عن أحمد بن إبراهيم قال: «قيل لشريك استتيب أبو حنيفة؟ وقال: قد علم ذلك العوائق في خدورهن» ، وعن يحيى ابن آدم: «سمعت شريكاً يقول: استتيب من الزندقة مرتين» وعن أبي معمر (إسماعيل بن آبارهم معمر) قال: «قيل لشريك: مم استتبتم أبا حنيفة؟ قال: من الكفر» وفيه 3/397 عن شريك «لو كان في كل ريع من أرباع الكوفة خمار يبيع الخمر كان خيراً من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة» قال الأستاذ ص 40: «معروف أن شريكا كان له لسان ذلق لا واخذه الله وتشنيعه هذا تشنيع من لا يفرق بين مدلولي أو المعتزلة من حيث لا يعلم» وقال ص 61: «والتحقيق أن شريكا ثقة في الحديث لكنه طويل اللسان في الناس» وقال ص 64: «الخبر كذب ملفق وخاصة بهذا اللفظ (استتبت أبا حنيفة) لأن شريكا إنما ولي القضاء بعد وفاة أبي

109- صالح بن أحمد

حنيفة بخمس سنين» وقال بعد ذلك: «كان يكون ممن لا يعرف ما هي الزندقة؟» وقال ص 108: «ولو فرضنا أن شريكا قال هذا لكان آذى نفسه ... لأن أبا حنيفة وأصحابه على قولهم المعروف في الأشربة غير الخمر كانوا يمنعون الناس من احتسائها بخلاف شريك ... فيكون شريك كأنه ما كان يعجبه منع أصحاب أبي حنيفة من احتساء النبيذ حتى نتمنى أن يكون في كل حي من الأحياء خمار لينتشي كما يشاء ... وشريك ممن عرف بطول اللسان وقد اضطربت أقواله في أبي حنيفة بين مدح وقدح، وقول أهل النقد فيه معروف، وحسابه على الله» . أقول: أما القضية الأولى وهي في الارجاء فقد ذكرت المسألة في قسم الاعتقاديات. وأما حال شريك في نفسه فمن أجلة العلماء وأكابر النبلاء، فأما في الرواية فكثير الخطأ والغلط والاضطراب فلا يحتج بما ينفرد به أو يخالف، ونسبه الدارقطني وابن القطان وعبد الحق إلى التدليس. وأما قوله: «استتبت أبا حنيفة» وقولهم له «استتبتم أبا حنيفة؟» فلا مانع من صحته، وقد جاء نحو ذلك سفيان الثوري. وحقيقة الاستتابة أن يقال للرجل «تب» فقد يقول العالم وإن لم يكن قاضيا ولا أميراً ذلك لغيره، وقد يجتمع عالمان أو أكثر على واحد فيقولون له: «تب» وقد يهددونه بأنه إذا لم يتب رفعوه إلى الحاكم، وقد يحضر الحاكم بعض العلماء ويناورهم في رجل فيستتيبونه بحضرته. وهذا واضح جداً. وأما ما قاله الأستاذ في قضية الأشربة فعبث ومقصود شريك واحد والنبيذ عند أهل العراق الذين يرخصون فيه ليس بخمر عندهم، وشريك إنما ذكر الخمار لا النباذ. ولو ذكر الأستاذ ما عنده عن شريك في المدح كما أشار إليه لكان أولى من ما ذكره هنا، بشرط أن يكون في روايته بعض القوة، ولكن الأستاذ يعرف بضاعته! 109- صالح بن أحمد. راجع (الطليعة) ص 12 - 18. ووقع في آخر

السطر السابع من صفحة 13 «أن» والصواب «ألاّ» ويزاد بعد السطر الثالث عشر هذه العبارة «والظاهر أنه جيء به إلى بغداد طفلا أو ولد بها فإن في ترجمته من (تاريخ بغداد) ذكر جماعة من شيوخه وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها أو ممن ورد على بغداد، وسماعه منهم قديم فمن شيوخه البغداديين يعقوب الدورقي المتوفى سنة 202 ويوسف بن موسى القطان المتوفى سنة 253، ومن البصريين محمد بن يحيى بن أبي حزم القطعي المتوفى سنة 253 وصرح الخطيب في ترجمة فضلك الرازي بأن أبي مقاتل بغدادي، فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة» ويبدل السطر الرابع من صفحة 15 بكلمة «بست وأربعين» فإن محمد بن عيسى بن عبد العزيز قتل سنة 430 كما في ترجمته من (تاريخ بغداد) ج 2 ص406 وسقط هناك لفظ «عبد» خطأ كما لا يخفى وإن حاول الأستاذ أن يشكك فيه لإفلاسه، وفي (تاريخ بغداد) 1 / 214 «أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزار بهمذان قال سمعت أبا الفضل صالح بن أحمد بن محمد التميمي الحافظ يقول ... » . ووقعت في الترجمة من (الطليعة) أخطأ مطبعية لا بأس بأن أشير إليها هنا. ص 12 س 4: 1، و20. ص 10: ابن أبي مقاتل. س 14: بصره كما قاله س 16: بمثل السند. ص 13 س 4: همذاني - همذانيان. س 7: العادة إلا. س 12: همذاني. ص 14 س 11: أبو الفضل. س 14 عنها) ... وكان. س 15: ثبتا ... » ص 15 س 1. 592. س 3: بست وأربعين. ص 16 س 5: الحذاء ... روى عنه. س 6: الحافظ ... قال. ص 17 س 11: باثنتين.

هذا ولما كانت قضية صالح بن أحمد معها أول انتقاد أتى في (الطليعة) رأى الأستاذ أنه لا يجدر به السكوت عليها مهما كلفه الكلام من التعسف والتعجرف. وكنت ذكرت في (الطليعة) سبعة أوجه تبين أن صالح بن أحمد في السند هو أبو الفضل التميمي الهمذاني الحافظ الثقة المأمون لا ابن أبي مقاتل القيراطي المطعون فيه، فحاول الأستاذ في (الترحيب) الاعتراض على الثلاثة الأوجه الأولى بما حاصله أن كلاً منها لا يقتضي البت. فأقول: ما منها إلا ما لو بنيت الحكم عليه وحده لصح، وراجع (فتح المغيث) للسخاوي ص 449 طبعة الهند فكيف بسبعة أوجه لعل تلك الثلاثة أضعفها، وقد قدمت هنا ما يؤيد تلك الأوجه. هذا وشيوخ القيراطي قدماء كما مر، وهو مرمي بسرقة الحديث، والباعث على سرقة الحديث هو الغرام بدعوى العلو، فمن حملة غرامه بالعلو على الكذب فكيف بعد سماعه من الذين توفوا سنة 252 ينزل إلى الرواية عمن كان في تلك السنة طفلاً أو لم يولد؟ وهو القاسم بن أبي صالح المتوفى سنة 338 فإن أقدم من سمي من شيوخ القاسم أبو حاتم الرازي المتوفى سنة 277، بل لو روى القيراطي عن محمد بن أيوب شيخ القاسم في تلك الحكاية لكان نزولاً فإن محمد بن أيوب توفي سنة 294. ثم ذكر الأستاذ في (الترحيب) ص 26 أنه قد سبقه إلى القول بأن صالح بن أحمد الواقع في السند هو القيراطي، الملك عيسى واللجنة الأزهرية التي علقت على الطبعة الثانية للمجلد الثالث عشر من (تاريخ بغداد) . فأقول أما أنا فلم أكن وقفت على ذلك. وليس للأستاذ في ذلك عذر، إذ ليس هو ممن يقلد مثل من ذكره في هذه المواضع، وكلامه يدل على أنه لم يقلد، بل بحث ونظر، فغاية الأمر، أن يكون جرأه الغلط على التغالط، فيلحق ذلك بنظائره في (الطليعة) ص52 -66. وقد رد على عيسى واللجنة حيث لم يكن له هوى في الموافقة وذلك قوله ص 56 من (التأنيب) : «وأبو مسدد قطن بن

إبراهيم ... وليس المراد قطن بن نسير كما ظن ذلك الملك المعظم، وما وقع في كتاب الملك المعظم المطبوع من ذكر (بشير) بدل (نسير) تصحيف آخر ومتابعة للواهم في (قطن) » . ثم قال الأستاذ في (الترحيب) ص 28: «ومع هذا لا مانع من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عد صالح بن أحمد في السند هو الموثق مقداراً بحثه ... » ثم عاد فأقام الحجة على أن في نفسه مانعاً فقال: «على أن صالح بن أحمد المضعف ... » وذكر في ص29 أنه لا يبعد أن يكون بين محمد بن عيسى وبين صالح بن أحمد اسم راو سقط من الأصل. يعني فيكون محمد بن عيسى روى عن رجل عن صالح بن أحمد وسقط اسم الرجل. أقول: هذا التجويز يدل على مبلغ اضطرار الأستاذ. وإنني لأعجب من عقليته الجبارة كيف يجمع بين هذا وأمثاله وبين التألم مما فهمه من (الطليعة) من نسبته إلى تعمد المغالطة؟! على أن هذا التجويز الذي استروح إليه لا يقتصر الحال على أنه لا دليل عليه، بل الدلائل قائمة على خلافة كما يعلم بتدبر ما في (الطليعة) وما هنا. وتعرض الأستاذ لما ذكرته في (الطليعة) ص 19 - 20 من أن الحكاية ثابتة أيضا من وجه آخر عن إبراهيم بن بشار يعرفه الأستاذ، فقال ص 25 من (الترحيب) : «ولم يدر المسكين أن ذلك الخبر في السقوط بحيث لا يمكن أن يقوم على قدم فضلاً عن قدمين لاستحالة المتن» . كأن القيام على قدم أيسر عند الأستاذ من القيام على قدمين، وثبوت الخبر بسند أقوى من ثبوته بسندين!!! أما الاستحالة فقد مرَّ الكلام عليها في الفصل الثاني من المقدمة، وتقدم الإشارة إليها قريباً في ترجمة سليمان بن عبد الله. ثم ذكر أن ابن أبي خيثمة نسب إلى القدر وكان مختصاً بعلي بن عيسى، وأن إبراهيم بن بشار متكلم فيه، وأن سفيان عيينة اختلط بأخرة.

فأقول: أما إبراهيم وسفيان فقد تقدمت ترجمتاهما، وأما ابن أبي خيثمة فقال الدارقطني «ثقة مأمون» وقال الخطيب: «كان ثقة عالما متقناً حافظاً» هكذا في (تذكرة الحفاظ) و (لسان الميزان) ووقع في (تاريخ بغداد) : «متفقا» بدل ... متقناً» وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) : «الحافظ الحجة الأمام» فأما القدر فلو ثبت عنه لم يضره كما سلف في القواعد فكيف وهو غير ثابت إذ لا يدري من الناس الذين نسبوه إليه؟ وما مستندهم في تلك النسبة؟ وقد قال الأستاذ ص 56 في قول الحماني: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق. فقال الأستاذ: «قول الراوي: سمعت الثقة يعد كرواية عن مجهول وكذا الثقات» . (1) وأما اختصاصه بعلي بن عيسى فالظاهر أن الفرغاني لم يذكرها على جهة الذم إذ ليس فيها ما يقتضيه فإن علي بن عيسى الوزير كان من خيار الوزراء مع مشاركته في العلم وعنايته بالعلماء واختصاص ابن أبي خيثمة إنما كان لعلقة العلم. بعونه تعالى وتوفيقه تم الجزء الأول من «التنكيل» ويليه الجزء الثاني، وأوله 110

_ (1) قلت: في هذا العطف نظر، وأظنه من عنديات الكوثري ككثير غيره مما سبق! فقد قال الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 392 رقم الحديث 1044) وقد ساقه من طريق عدة من أبناء أصحاب رسول الله عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو ... فأنا خصمه يوم القيامة» . قال الحافظ: «وسنده لا بأس به ولا يضره جهالة من لم يسمع من أبناء الصحابة، فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم» . ومع ذلك فلا يزال اعتراض المؤلف على الكوثري قائماً في قوله: «وما مستندهم في تلك النسبة؟» . ن.

الجزء الثاني

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني (1313 - 1368) الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م مع تخريجات وتعليقات محمد ناصر الدين الألباني - زهير الشاويش - عبد الرزاق حمزة الجزء الثاني المكتب الإسلامي

تابع: القسم الثاني: التراجم

بسم الله الرحمن الرحيم 110- صالح بن محمد التميمي الحافظ الملقب: «جزرة» ذكر الأستاذ ص 187 قول صالح في الحسن بن زياد اللؤلؤي: «ليس بشيء لا هو محمود عند أصحابنا ولا عندهم يتهم بداء سوء وليس هو في الحديث بشيء» فقال الأستاذ: «جزرة على سعة علمه في الحديث كان بذيء اللسان مداعبا أسوأ مداعبة وهو القائل لمن رأى سوأته قد انكشفت: لا ترمد عيناك أبداً. بدل أن يخجل ويستتر. وقد قال مرة لمن سأله عن الثوري: كذاب. فكتب السائل قوله، فخاطبة أحد جلسائه مستنكراً صنيعه: لا يحل لك هذا فالرجل يأخذه على الحقيقة فيحكيه عنك. فقال: أما أعجبك من يسأل مثلي عن مثل سفيان الثوري يفكر فيه أنه يحكى أو لا يحكى. كما في (تاريخ الخطيب) 9/426 و427. فيفيد جوابه هذا أنه ممن لا يقبل قوله لضياع كلامه بين الهزل والجد. والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار استهانتهم بأمر القذف الشنيع هكذا فيما لا يتصور قيام الحجة مع علمهم بحكم الله في القذفة. ولا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل» . أقول: قوله «بذيء اللسان» كلمة شنيعة لا مبرر لها. وقوله «مداعباً أسوأ مداعبة» إسراف لا مسوغ له، وقد ذكر أشهر ما يحكى من مداعبة صالح فليزنها القارئ وليحكم أهي مما يسوغ لمثل الكوثري أن يقول في هذا الرجل الجليل «بذيء اللسان مداعباً أسوا مداعبة» ؟ ولفظ القصة «كنا نقرأ على صالح جزرة وهو عليل فتحرك فبدت عورته فأشار إليه بعض أهل المجلس بأن يجمع عليه ثيابه، فقال: رأيته؟ لا ترمد عيناك أبداً» فلا يشك عاقل أنه بادر فاستتر،

ولوضوح ذلك لم يحتج الراوي إلى ذكره، فأما الخجل فهو حال نفسية ليس في القصة دليل على عدمه، على أن الذين حضروا وثقلوا عليه في مرضه بطلب السماع أولى بأن يخجلوا، فأما هو فمريض معذور. وأما قوله لمن سأله عن الثوري فكان السائل كما في القصة «من أهل الرستاق» وفي ذلك مع جواب صالح ما يعلم منه أن السائل كان جاهلاً مغفلاً وثقل على صالح بالسؤال عن المحدثين حتى بلغ من جهله أن يسأل عن سفيان الثوري المجمع على إمامته وجلالته إجماعاً صادقا لا يخفى عن طالب العلم في تلك الأزمنة، وكان الحاضرون غير ذاك الجاهل يعرفون عادة صالح في التنكيت، ويشاهدون جهل السائل وتثقيله، ويعرفون اعتقاد صالح في الثوري، فتجوز صالح في تلك الكلمة عالما بأن الحاضرون سينهبون السائل على الحقيقة، ولو لم ينبهوه لنبهه صالح في المجلس، وما وقع في القصة «أما أعجبك» صوابه «ما أعجبك!» كما يوضحه السياق وقوله «من يسأل مثلي» يريد به أن الرجل مغفل فلو فرض أنه لم ينبه في المجلس وذهب يحكي عن صالح أنه قال لما سأله عن الثوري «كذاب» لما قبل منه ذلك أحد ولا التفتوا إليه لظهور تغفيله عن العلم بحال الثوري وعقيدة صالح فيه. قول الأستاذ «فيفيد جوابه هذا أنه ممن لا يقبل قوله في الأئمة» . إن أراد به أنه حكى بعض المغفلين عن صالح مثل تلك الكلمة أنه قالها في مثل الثوري فيما تقدم لم يلتفت إلى تلك الحكاية فحق، وإن كنا لا نعلم شيئاً من هذا القبيل غير ما تضمنته تلك الحكاية. قوله «لضياع قوله بين الهزل والجد» باطل وأي شيء له من الهزل في هذا الباب غير تلك الحكاية الفذة التي مر توجيهها؟ أما جده في هذا الباب أعني كلامه في

الرواة جرحاً وتعديلاً فأكثر من أن يحصى وهو في قبول ذلك منه كغيره من أئمة الحديث بإجماع أهل العلم. قوله «والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار ... » إن أراد به قول صالح في الحسن ابن زياد يتهم بداء سوء» فليس بقذف كما لا يخفى على ذي فقه. أولاً: لأن صالحاً يثبت، وإنما ذكر أن الحسن يتهم، أي يتهمه بعض الناس، وفي كتب الحنفية أنفسهم «إن قال قد أخبرت بأنك زان لم يكن فيه حد» . ثانياً: لأنه لم يثبت الفعل وإنما أثبت اتهام بعض الناس. ثالثاً: لم يذكر صريح الزنا، وإنما قال «بداء سوء» وأدواء السوء كثيرة بل لعل تلك الكلمة لا تعريض فيها بموجب الحد، وإنما المراد بداء السوء ما دون الفاحشة ولم تقتصر حال اللؤلؤي على التهمة بما دون الفاحشة بل شهد عليه الأئمة الإثبات بفعله في الصلاة كما سلف في ترجمة الخطيب، وتراه في ترجمة اللؤلؤي من (لسان الميزان) وغيره. وصالح مكلف شرعاً بإخبار سائله عن اللؤلؤي بحاله في ما يقتضي عدالته أو جرحه، وقد نص جماعة من أهل العلم على أن قاصد الجرح إذا قال في المسئول عنه «هو زان» لم يكن قذفاً محرماً وإنما هو شهادة وجب عليه أداؤها. فتدبر ما تقدم ثم انظر هل هناك كلمة يؤدي بها صالح ما وجب عليه أعف وأطهر من قوله «يتهم بداء سوء» ؟ وقد حكى الحنفية أنفسهم عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة كلمة شنيعة قالها وليس في ترجمة الخطيب كلمات الكوثري في حقه، فالأستاذ يستحل لنفسه ولأصحابه ما لا يكاد يحل لمن رفع عنه القلم، ويحاول التشنيع على هذا الحافظ المجمع على ثقته وأمانته بكلمة هي أعف وأطهر ما يمكنه أن يؤدي بها ما أوجب الله تعالى عليه، ثم يضج ويعج من مخالفيه إذا نسبوه إلى تعمد المغالطة. وستأتي شيء من حال اللؤلؤي في الرواية في ترجمة محمد بن سعد العوفي.

111- الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مغول

111- الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل. في (تاريخ بغداد) 13/332 «أخبرني البرقاني أخبرنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا عمر بن سعد حدثنا عبد الله بن محمد حدثني أبو مالك بن أبي بهز البجلي عن عبد الله بن صالح بن أبي يوسف ... » قال الأستاذ ص29: «أبو مالك هو محمد بن الصقر بن عبد الرحمن ابن بنت مالك بن مغول المعروف بابن مالك بن مغول فالصقر وعبد الرحمن من الكذابين المعروفين ... » أقول الصقر وعبد الرحمن لا شأن لهما بهذه الحكاية، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والصقر ذكره أبو حاتم فقال «صدوق» وذكره ابن حبان في (الثقات) في موضعين سماه في الأول «سقر» وقال «يخطئ ويخالف» وسماه في الثاني «صقر» وقال «في قلبي من حديثه ما حدثنا أبو يعلى ثنا الصقر ... » فذكر حديثاً قد أنكره غيره على الصقر حتى رماه بعضهم لأجله بالكذب ووضع الحديث، وذاك الحديث رواه الصقر ابن عبد الله بن إدريس أحد الثقات الأثبات عن المختار بن فلفل. قال ابن حجر في (لسان الميزان) : «لم ينفرد الصقر بهذا فقد رواه إبراهيم بن زياد السكوني عن بكر بن المختار بن فلفل عن أبيه، وتقدم في ترجمة بكر ورواه ابن أبي خيثمة في (تاريخه) عن عبد الأعلى بن أبي المساور عن المختار بن فلفل - مثله، لكن ابن أبي المساور واهٍ فالظاهر أن الصقر سمعه من عبد الأعلى وأبو بكر فجعله عن عبد الله بن إدريس ليروج له، أو سها» أقول قد بان بصنيع أبي حاتم الرازي وأبي حاتم ابن حبان أنه لم ينكر على الصقر إلا هذا الحديث، وأن بقية أحاديثه مستقيمة، فالحمل على السهو والغلط هو الأقرب وكم من رجل وثقوه وقد وقع له ما يشبه هذا، فأما عبد الرحمن بن مالك بن مغول فتالف. والله أعلم. 112- ضرار بن صرد. في (تاريخ بغداد 13/380 من طريق «محمد بن يونس ثنا ضرار بن صرد قال حدثني سليم ... » فذكر الحكاية، ومن طريق «عبد الأعلى بن واصل: ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد قال سمعت سليم بن عيسى ... »

فذكرها. وقال البخاري في ترجمة سليم من (التاريخ الكبير) «قال لي ضرار بن صرد حدثنا سليم سمع سفيان: قال لي حماد بن أبي سليمان أبلغ أبا حنيفة المشرك أني برئ منه. وقال وكان يقول: القرآن مخلوق» وفي رواية الخطيب الثانية «قال سليم كان يزعم أن القرآن مخلوق» وفي الرواية الأولى « ... إني برئ منه حتى يرجع عن قوله في القرآن» وكأن ذلك من تخليط محمد يونس الكديمي. قال الأستاذ ص60 «ضرار بن صرد هو أبو نعيم الطحان الذي يقول عنه ابن معين: كذاب ... » أقول: قال علي بن الحسن الهسنجاني عن ابن معين: «بالكوفة كذابان أبو نعيم النخعي وأبو نعيم ضرار بن صرد» وظاهر هذا تعمد الكذب لكن قال الأستاذ ص163 «الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم فمن غلط أو وهم في شيء يمكن عده كاذباً على هذا الرأي ... فلا يعتد بقول من يقول: فلان يكذب. ما لَم يفسر وجه كذبه ولذا عد عند كثير من أهل النقد قول القائل: كذب فلان. من الجرح غير المفسر ... » أقول وقد قال ابن معين لشجاع بن الوليد أبي بدر السكوني: يا كذاب وقد قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين «شجاع بن الوليد ثقة» وثقه غيره ولكنه يهم ويغلط. فلننظر كلام غير ابن معين في أبي نعيم النخعي واسمه عبد الرحمن بن هانئ. ثم في أبي نعيم ضرار بن صرد. فأما النخعي فقد قال العجلي «ثقة» وقال أبو حاتم «لا بأس به يكتب حديثه» وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج2 ص416. وقال البخاري «فيه نظر» معدودة من أشد الجرح في اصطلاح البخاري لكن تعقيبه هنا بقوله «وهو في الأصل صدوق» يخفف من وطأتها. وأما ضرار فروى عنه أبو زرعة أيضاً، وقال البخاري والنسائي «متروك الحديث» لكن البخاري روى عنه وهو لا يروي إلا عن ثقة كما صرح به الشيخ تقي الدين ابن تيمية ومر النظر في ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن. والظاهر التوسط وهو أن البخاري

113- طريف بن عبيد الله

لا يروي إلا عمن هو صدوق في الأصل يتميز صحيح حديثه من سقيمه كما صرح به في رواية الترمذي عنه كما تقدم في تلك الترجمة. فقوله في ضرار «متروك الحديث» محمول على أنه كثير الخطأ والوهم لا ينافي ذلك أن يكون صدوقاً في الأصل يمكن لمثل البخاري تمييز بعض حديثه. وقال أبو حاتم في ضرار: «صدوق صاحب قرآن وفرائض يكتب حديثه ولا يحتج به، روى حديثاً عن معتمر عن أبيه عن الحسن عن أنس عن النبي- صلى الله عليه وسلم - في فضيلة بع الصحابة ينكره أهل المعرفة بالحديث» . أقول: متنه: «قال لعلي: أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي» أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج3 ص122، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» قال الذهبي: «بل هو فيما أعتقده من وضع ضرار قال ابن معين: كذاب» . أقول: لا ذا ولا ذاك، والصواب ما أشار إليه أبو حاتم، فإنه أعرف بضرار وبالحديث وعلله. فكأن ضراراً لقن أو أدخل عليه الحديث أو وهم، فالذي يظهر أن ضراراً صدوق في الأصل لكنه ليس بعمدة فلا يحتج بما رواه عنه من لم يعرف بالإتقان ويبقى النظر فيما رواه عنه مثل أبي زرعة أو أبي حاتم أو البخاري. والله أعلم. ولضرار رواية في (مناقب أبي حنيفة) كما في (تاريخ بغداد) . (1) 113- طريف بن عبيد الله. في (تاريخ بغداد) 13/413 عنه «سمعت ابن أبي شيبة ... » قال الأستاذ ص147: «ضعيف عنده مناكير، قال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو زكريا يزيد بن محمد بن إياس الموصلي في (تاريخه) لم يكن من أهل الحديث، توفي سنة 304» . أقول: لم يتهموه بتعمد الكذب، ولكن يظهر أنه كان مغفلاً يحدث على التوهم. والله أعلم.

_ (1) طاهر بن محمد. راجع (الطليعة) ص79.

114- طلق بن حبيب

114- طلق بن حبيب. في (تاريخ بغداد) 13/374 من طريقين عن «سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد قال: جلست إلى أبي حنيفة فذكر سعيد بن جبير فانتحله في الإرجاء، فقلت: يا أبا حنيفة من حدثك؟ قال: سالم الأفطس. قال: قلت: سالم الأفطس كان مرجئاً، ولكن حدثني أيوب قال: رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق فقال: ألم أرك جلست إلى طلق؟ لا تجالسه. قال حماد: وكان طلق يرى الإرجاء. قال: فقال رجل لأبي حنيفة: ما كان رأي طلق؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم قال: ويحك كان يرى العدل» قال الأستاذ ص43: «وقع في الطبعات الثلاث: العدل. وهو مصحف من: القدر. وتصويبه من (الجواهر المضيئة) ... ولفظ ابن أبي العوام: حدثني أبو بكر محمد بن جعفر الإمام قال: حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان الحمال قال: حدثنا سليمان بن حرب بن حماد بن زيد قال: جلست إلى أبي حنيفة بمكة فقلت له: حدثنا أيوب قال: رآني سعيد بن جبير قد جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق؟ لا تجالسه. قال أبو حنيفة: كان طلق يرى القدر ... وطلق بن حبيب بصري من أصحاب ابن عباس ... والإرجاء الذي يقول هو به بالمعنى الذي قال به جمهور أهل الحق، وقد أحسن أبو حنيفة صنعاً في تَرَوّيه في نسبته إلى شيء من البدع الممقوتة على تقدير صحة المحادثة لأن الجواب على مثله في مثله عدم التسرع، ولما اضطر إلى الجواب بتكرير السؤال أجاب بأنه بصري كان ينسب إلى القدر كغالب أهل البصرة، فيكون هذا هو السبب لقول سعيد بن جبير السابق لا الإرجاء الذي كان يقول به فإنه رأي مشترك بينهم، وأبو حنيفة أعرف بمذهب سعيد بن جبير لأنه من أهل الكوفة وقد أدركه بخلاف حماد بن زيد فإنه بصري متأخر» . أقول: (تاريخ بغداد) مطبوع عن أصلين عتيقين جيدين بتصحيح جيد وقد دل اتفاق الثلاث الطبع (!) على أن الكلمة فيها الكلمة فيها «العدل» ، ومن عرف حرص الأستاذ على تقوية ما يقوله يكاد يجزم بأنه قد راجع الأصلين أو روجعا له. واقتصار الأستاذ على قوله: «وتصويبه من (الجواهر المضيئة) » يجعلنا نشك في الواقع في

أصل كتاب ابن أبي العوام، فإن كان وقع فيه «القدر» كما قال الأستاذ فالواقع في (تاريخ بغداد) أثبت، وحال ابن أبي العوام قد أشرت إليها في (الطليعة) ص27-28. ومؤلف (الجواهر المضيئة) من أهل القرن الثامن ولم يشتهر بالضبط والإتقان، ولا بين مأخذه، وإنما ذكر أن أبا حنيفة قد تكلم في الجرح والتعديل فأوردت كلمات منها أنه قال: «كان طلق يرى القدر» وقد يكون أخذ من كتاب ابن أبي العوام وأصل كتاب (الجواهر المضيئة) وتصحيحه لا يوازي أصلي (تاريخ بغداد) وتصحيحه وتحريف كلمة «العدل» إلى «القدر» هو الجاري على طريقة التصحيف والتحريف فإن القارئ أو الناسخ إنما يعدل عما لا يعرفه إلى ما يعرفه وقد شرحت طرفاً من ذلك في قسم الفقهيات في مسألة سهمان الخيل من الغنيمة وقد يفهم بعضهم من قول أبي حنيفة: «كان يرى العدل» أنه أراد بالعدل القدر لأن القدرية يسمون أنفسهم أهل العدل فأبدلها ذاك الفاهم بكلمة «القدر» لأنه يرى المعنى واحداً وكلمة «القدر» أو ضح. وإنما أراد: القول العدل، أي: الحق في زعمه يعني الإرجاء. ومن عرف أبا حنيفة وقوة عارضته جزم أو كاد بأنه لو كان عنده أن طلقاً كان قدرياً وأن سعيد بن جبير إنما نهى عن مجالسته لذلك لبادر إلى ذكر ذلك دفعاً لحجة خصمه، والتروي الذي ذكره الأستاذ لا وجه له، بل ربما يقال: لو كان أبو حنيفة إنما قال بعد أن ألجئ إلى الجواب «كان يرى القدر» لكان هذا أطلق للسان من يعيبه فإن طلقاً لم يصفه أحد بالقدر وقد وصفوه بالإرجاء وهو كالمضاد للقدر. وصف طلقاً بالإرجاء حماد بن زيد وأبو حاتم وابن سعد وقال البخاري في (تاريخه الكبير) ج2 قسم 2 ص360: «حدثنا مسدد ثنا حماد بن زيد عن أيوب: «ما رأيت أحد أعبد من طلق بن حبيب، فرآني سعيد بن جبير جالساً معه، فقال: ألم أرك مع طق؟ لا تجالس طلقاً، وكان يرى الإرجاء» . وهذا السند بغاية الصحة، ويبعد أن لا يبين سعيد لأيوب سبب المنع إلا وهو يرى أنه لا يعرفه، وكذلك الحال في أيوب وحماد. والذي كان يعرفه حماد أن السبب هو الإرجاء وشدة أيوب على المرجئة معروفة، وفي (تذكرة الحفاظ) ج2

ص76 من طريق: «عبد الرحمن بن مهدي عن سلام بن أبي مطيع سمعت أيوب وعنده رجل من المرجئة، فقال الرجل: أرأيت قوله عز وجل {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ، أمؤمنون أم كفار؟ قال: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية فيه ذكر النفاق، فإني أخاف على نفسي» . قول الأستاذ: «قال به جمهور أهل الحق» . قد كشفت حاله في الاعتقاديات وقد هجر سعيد بن جبير بن عبد الله المرهبي لأجل الإرجاء كما في ترجمة ذر. (التهذيب) . قوله: «بصري كان ينسب إلى القدر كغالب أهل البصرة» ، مردود عليه فإن القدر إنما فشا في البصرة بعد سعيد بن جبير بمدة ومع ذلك، فلم يبلغ أن يكون هو الغالب، وقد ذكر إبراهيم الحربي أبا قطن عمرو بن الهيثم ثم قال: «ثنا عنه أحمد يوماً فقال له رجل إن هذا تكلم بعدكم في القدر. فقال أحمد إن ثلث أهل البصرة قدرية» هكذا في ترجمة أبي قطن من (التهذيب) مع أن كلمة أحمد محتملة للمبالغة لأن المقام يقتضيها. قَوْله: «أبو حنيفة أعرف بمذهب سعيد بن جبير ... » مردود عليه أيضاً فإن سعيد أُخرج من الكوفة عقب وقعة ابن الأشعث، وعمر أبي حنيفة سنتان أو ثلاث، وأيوب صحب سعيداًُ مرة فكيف لا يكون أعرف به؟ وحماد أعرف الناس بأيوب، وهما أعرف بطلق، فإنه بصري مثلهما وقد جالسه أيوب. هذا وقد عرف من القصة أنه لم يكن لأبي حنيفة حجة على نسبة الإرجاء إلى سعيد ابن جبير إلا ما ذكر أن سالماً الأفطس حدثه. ولا ندري ما قال سالم عن سعيد، وما الذي سمعه من سعيد فظنه إرجاء، والمرجئة يتمسكون بآيات وأحاديث

115- عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي

يحملونها على معاني يخالفهم أهل السنة فيها، فلعل سالماً سمع من سعيد كلاماً حمله على الإرجاء، ولو نقله بنصه لبان على خلاف ما حمله عليه، وسالم وثقه جماعة ونسبوه إلى الإرجاء، وقال بعضهم إنه كان داعية، وقال ابن حبان: «كان ممن يرى الإرجاء، ويقلب الأخبار، وينفرد بالمعضلات اتهم بأمر سوء، فقتل صبراً» . قيل اتهم بالممالأة على قتل إبراهيم الإمام. 115- عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي. في (تاريخ بغداد) 13/371 من طريقه عن مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن عباد بن كثير حكاية قال الأستاذ ص38: «مجهول الحال، ولم يخرج له أحد من أصحاب الأصول الستة» . أقول: هو مقل واغترب عن بغداد، وقد أدرك الأئمة الستة شيوخه ومن هو أكبر منهم، وقد روى الخطيب نحو حكايته من وجه آخر» وراجع ترجمة إبراهيم بن شماس. 116- عباد بن كثير. تقدم قريباً الإشارة إلى حكايته. قال الأستاذ ص38 «هو الثقفي البصري كان الثوري يكذبه ويحذر الناس من الرواية عنه فكيف يتصور أن يروي الثوري عن مثله؟» أقول هناك عباد بن كثير آخر، هو الرملي وثقه ابن معين وغيره ووهنه الأكثرون ولم يتبين لي أيهما الواقع في السند؟ وتحذير الثوري من الثقفي معروف، فأما تكذيبه له إنما حكاه الحاكم وأبو نعيم الأصبهاني، ولا أدري من أين أخذاه، فإن صح إنما أراد الوهم والغلط، وقد أثنى على الثقفي بالصلاح جماعة منهم ابن المبارك وأحمد وابن معين وأبو زرعة والعجلي ووصفوه مع ذلك بأنه ليس بشيء في الحديث، وأنه يحدث بما لم يسمع لبلهه وغفلته، فانظر هل يتناول ذلك حكايته المذكور، وهي قَوْله: «قلت لأبي حنيفة ... » فذكر سؤالاً وجواباً، وقد تقدم أن الخطيب روى نحوها من وجه آخر. وعلى كل حال فلا مانع أن يحكي الثوري عن

117- عبد الله بن أبي القاضي

عباد ما يظهر له صحته، وفي ترجمة محمد بن السائب الكلبي من (الميزان) «يعلى بن عبيد قال: قال الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل: فإنك تروي عنه. قال: أنا أعرف صدقه من كذبه» . 117- عبد الله بن أبي القاضي. في (تاريخ بغداد) من طريقه «سمعت محمد بن حماد يقول رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ... » قال الأستاذ ص121: «لم نر أحداً وثقه من رجال هذا الشأن وإن روى البخاري عنه في (الضعفاء) ، وأما من ظن أنه روى عنه في (الصحيح) فقد وهم وليس هو من شرطه ولم يخرج عنه أحد من أصحاب الأصول الستة» . أقول: ذكره الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج2 ص 206 قال: «عبد الله بن أبي الخوارزمي الحافظ قاضي خوارزم رحّال جوّال مفضال لحق أحمد بن يونس اليربوعي وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وسليمان ابن بنت شرحبيل وإسحاق بن راهويه وطبقتهم، حدث عنه الإمام أبو عبد الله البخاري في (كتاب الضعفاء) و ... وقد روى البخاري في (صحيحه) : أنا عبد الله عن سليمان بن عبد الرحمن (وهو ابن بنت شرحبيل) ، فقيل: إنه هو، مات سنة نيف وتسعين ومائتين عن سن عالية التقارب التسعين ... » وفي ترجمته من (التهذيب) ذكر الحديث المذكور قال: «فقيل إنه ابن حماد الآمُلي، ويحتمل أن يكون هذا فإنه قد روى (البخاري) في (الضعفاء) عدة أحاديث عنه عن سليمان بن عبد الرحمن وغيره سماعاً وتعليقاً» وأشار المزي إلى ذلك في ترجمة عبد الله بن حماد فذكر ابن حجر عن جماعة أنهم جزموا بأنه ابن حماد وأنه وقع في بعض النسخ منسوباً كذلك. وفي هذا أمران: الأول: أن البخاري قد روى عنه في (كتاب الضعفاء) عدة أحاديث سماعاً وتعليقاً وذلك يقضي بأنه عنده ثقة أو صدوق كما سلف في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن. الثاني: أن المزي والذهبي اتفقا على أنه يحتمل أن يكون هو الذي روى عنه في (الصحيح) وهذا يقضي بأن عندهما أهل لأن يخرج عنه البخاري في (صحيحه)

118- عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني

وأقرهما ابن حجر على ذلك، غير أنه رجح أن الواقع في (الصحيح) لأنه قد جاء منسوباً في بعض النسخ وجزم به جماعة. فأما عدم إخراج البخاري له في (الصحيح) إن صح أن راوي ذاك الحديث غيره فهذا لا يدل على أنه ليس على شرط الصحيح لاحتمال أن البخاري إنما لم يخرج له في (الصحيح) بنزول، وقد سمع البخاري من شيوخ هذا الرجل وممن هو أكبر منهم بكثير. فأما بقية الستة فإنما لم يرووا عنه لأنه من أقرانهم، وأصغر من بعضهم، وقد سمعوا من شيوخه وممن هو أكبر من شيوخه وبلده بعيد فلم يحتاجوا إلى الرحلة إليه والرواية عنه بنزول. [راجع ترجمة إبراهيم بن شماس] . 118- عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني. في (تاريخ بغداد) 13/414 من طريقه عن أبي بكر الأعين الحكاية التي تقدمت في ترجمة الحسن بن الربيع. قال الأستاذ ص151: «وعبد الله بن أحمد صاحب (كتاب السنة) ، وما حواه كتابه هذا كاف في معرفة الرجل، ومثله لا يصدق في أبي حنيفة وقد بلي فيه الكذب ... » إلى آخر ما مرّ في ترجمة أحمد بن عبد الأصبهاني. أقول: أما (كتاب السنة) فهو من صفات المحدثين التي لم يلتزم بها صحة كل خبر على حدة، فقد يقع فيه ما في سنده ضعف، وما يكون في الأدلة الثابتة عند أئمة السنة ما يخصصه أو يقيده أو يبينه أو نحو ذلك، وبحسب هذا يكون اعتقاد جامعه وما يريد تثبيته. ومع هذا فلا اعتداد باستنكار من استقى عقيدته من مستنقعات مقالات الراغبين على الصراط المستقيم إلى غيره فإن هؤلاء يستنكرون معاني القرآن نفسه وقد أشبعت الكلام في ذلك في قسم الاعتقاديات، وأما قوله: «لا يصدق في أبي حنيفة» فمن أماني الأستاذ. وأما قَوْله: «وقد بلي فيه بالكذب» فإن كان المراد أنه قد بلي في أبي حنيفة بالكذب، يعني أن الناس قد كذبوا في شأنه، فجوابه أنه قد بلي فيه الصدق أيضاً، والحق إنما هو تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فأما ما سلكه الأستاذ من تصديق الكذابين كأحمد بن محمد

119- عبد الله بن جعفر بن درستويه

بن الصلت ابن المغلس الحماني، وتكذيب الصادقين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وأضرابه كعبد الله بن أحمد فهذا طريق لا يرضاه مؤمن. وإن أراد أنه قد بلي في عبد الله بن أحمد الكذب، أي أنه قد جرب عليه أن يكذب، فهذا من قبيل تكذيب الصديقين وقد تقدم الكلام في تلك الحاكية في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني واتضح هناك من هو الكاذب! وقد كنت أشرت إلى طرف من ذلك في (الطليعة) ص92-93 فلم يعرض الكوثري لما في (الترحيب) بشيء. وعبد الله قد أثنى عليه أبوه ووثقه النسائي وابن أبي حاتم والدارقطني والخطيب وغيرهم وأجمع أهل العلم على الاحتجاج به. والله الموفق. 119- عبد الله بن جعفر بن درستويه. كان يروي (تاريخ يعقوب بن سفيان) فرواه عن جماعة، ويروي الخطيب عن رجل عنه فيأخذ الخطيب الحكاية من (تاريخ يعقوب) ولا ينص على ذلك بل يسوقها بالسند عن شيخه عن ابن درستويه عن يعقوب الخ على ما جرت به عادة محدثي عصره كما ترى في (سنن البيهقي) يأخذ من سنن أبي داود وسنن الدراقطني ومؤلفات أخرى كثيرة فيسوق الحديث بسنده إلى أبي داود ثم يصله بسند أبي داود، ويكرر ذلك في كل حديث، وقد قرر أهل العلم أن جل الاعتماد في مثل هذا على الوثوق بصحة النسخة، فلا يضر أن يكون مع ذلك في الوسائط التي دون مؤلف الكتاب رجل فيه كلام، لأنه واسطة سندية فقط، والاعتماد على صحة النسخة، وهذا كما لو أحب إنسان منا أن يسوق بسند له إلى البخاري ثم يصله بسند البخاري لبعض الأحاديث في (صحيحه) ، فإنه بعد ظهور أنه إنما يروي بذلك السند من (صحيح البخاري) لا يكون هناك معنى لأن يعترض عليه بأن في سنده إلى البخاري رجلاً فيه كلام. والأئمة الإثبات كالبيهقي والخطيب قد عرف عنهم كمال التحري والتثبت في صحة النسخ، وتأكد ذلك بأن من كان من أهل العلم والنقد في عصرهم وما بعده لم ينكروا عليهم شيئاً مما رووه من تلك الكتب مع وجود نسخ أخرى عندهم، وكانوا بغاية الحرص على أن يجدوا للمحدث زلة أو تساهلاً فيشيعوا ذلك ويذيعوه نصيحة

للدين من وجه، وحباً للسمعة وللشهرة من وجه آخر، ولما قد يكون في صدر بعضهم من الحنق على الرجل أو الحسد له من وجه ثالث، وقد كان القدماء كسعيد بن أبي عروبة ووكيع وغيرهما يروون من حفظهم وتكون لأحدهم كتب ومصنفات لا تحيط بحديثه فكثيراً ما يحدث من حفظه بما ليس في كتبه، مع ذلك كان الرجل إذا روى عن أحد هؤلاء ما ليس في كتبه أنكر الناس عليه ذلك قائلين: ليس هذا في كتب ابن أبي عروبة، ليس هذا في كتب وكيع، حتى تناول بعضهم يحيى بن معين إذا روى عن حفص بن غياث حديثاً لم يوجد في كتب حفص كما تقدم في ترجمة حسين بن حميد، فما بالك بالمتأخرين الذين إنما يروون من الكتب، فما بالك بمثل الخطيب الذي قد عرف أنه إنما يروي بذاك السند من كتاب يعقوب، فإذا لم يطعن أحد في شيء يرويه الخطيب من طريق ابن درستويه عن يعقوب ولا قال أحد: هذه الحكاية ليست في (تاريخ يعقوب) . ولا هذا السياق مخالف لما في (تاريخ يعقوب) بزيادة أو نقص أو تغيير، فقد ثبت بذلك وبغيره صحة نسخة الخطيب وثبوت ذلك عن يعقوب، وهكذا لم يطعن أحد في شيء رواه ابن درستويه عن يعقوب بأنه ليس في كتاب يعقوب إما البتة وإما بذلك السياق، فظهر بذلك أن كل ما رواه ابن درستويه عن يعقوب فهو ثابت في كتاب يعقوب، وبهذا يتبين أن محاولة القدح في كل الحكايات التي يرويها الخطيب من طريق ابن درستويه عن يعقوب بمحاولة الطعن في ابن درستويه تعب لا يجدي ولا يفيد، ولا يبدئ ولا يعيد. ومع ذلك فلننظر في حال ابن درستويه. قال الأستاذ ص 35 «كان يحدث عمن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها، فادفع إليه درهماً يصطنع لك ما شيءت من الأكاذيب، وروايته عن الدوري ويعقوب خاصة منكرة، وقول البرقاني واللالكائي فيه معروف، وتضعف كواهل الخطيب وأذنابه عن حمل أثقال التهم التي ركبت على أكتاف هذا الإخباري الهاذي، وقد أكثر الخطيب عن عبد الله بن جعفر هذا جد الإكثار» . أقول: قَوْله «يحدث عمن لم يدركه» فرية كما سترى، وَقَوْلُه «لأجل دريهمات يأخذها» فرية أخرى، وصار الأستاذ يكررها في مواضع وينبز هذا الرجل بقوله:

«الدراهمي» ويسيء القول فيه في عدة مواضع. وحقيقة الحال أن هذا الرجل كان يروي عن عباس الدوري أحاديث، ويروي عن يعقوب بن سفيان (تاريخه) ، وغير ذلك، وكانت ولادة هذا الرجل سنة 271 ووفاة يعقوب سنة 277 فقد أدركهما قطعاً، وكان سنه لما مات عباس ثلاث عشرة سنة. وقد ذكر الخطيب أن جعفر بن درستويه والد عبد الله هذا كان «من كبار المحدثين وفهمائهم وعنده عن علي بن المديني وطبقته فلا يستنكر أن يكون بكر بابنه في السماع» أقول بل هذا هو الظاهر كما جرت عليه عادة المحدثين في ذاك العصر من التبكير بأبنائهم للسماع من المعتمرين على أمل أن يعيش الابن فيكون سنده علياً فيكون له بذلك صيت وشهرة ويرحل الناس إليه، وتلك مرتبة يحرص المحدث أن ينالها ابنه. وقد ولد أبو حنيفة سنة 80 بالكوفة ونشأ بها ولم يعرف والده بشيء من العلم، ونشأ هو غير معنيّ بطلب الحديث كما يدل عليه النظر في وفيات شيوخه الذين تثبت روايته عنهم، وعاش أنس رضي الله عنه بالبصرة إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وقيل بعدها بسنة وقيل بسنتين. أي وعمر أبي حنيفة ما بين إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة ولم يكن عادة الناس في ذاك العصر بالتبكير بالسماع. وفي (الكفاية) ص54 «قل من كان يثبت (وفي نسخة: يكتب) الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريباً منه إلا من جاوز حد البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكراتهم وسؤالهم، وقيل: إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة» . ثم روي بعد ذلك حكايات منها «أنه قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغاراً حتى يستكملوا عشرين سنة» . وروى الخطيب في (التاريخ) من طريق حمزة السهمي قال «سئل الدارقطني عن سماع أبي حنيفة من أنس هل يصح؟ قال: لا ولا رؤيته» فذكر الأستاذ ذلك ص15 ونازع في ذلك بما نظرت فيه في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت، وضج الأستاذ في ص196 من إنكار سماع بي حنيفة من أنس، قال «مع أن أبا

حنيفة كان أكبر سناً من أقل سن التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس» . هذا كله مع أن أسطورة الدراهم والتحديث عمن لم يدركه، إنما أخذها الأستاذ من قول الخطيب «سمعت هبة الدين الحسين الطبري (اللالكائي) ذكر ابن درستويه وضعفه وقال: بلغني أنه قيل له حدث عن عباس الدوري حديثاً ونحن نعطيك درهماً ففعل، ولم يكن سمع من عباس» قال الخطيب «وهذه الحكاية باطلة لأن أبا محمد بن درستويه كان أرفع قدراً من أن يكذب لأجل العرض الكثير فكيف لأجل التافه الحقير وقد حدثنا عنه ابن رزقويه بآمالي أملاها في جامع المدينة وفيها عن عباس الدوري أحاديث عدة» أقول واللالكائي توفي سنة 418 وقد قال الخطيب في ترجمته «عاجلته المنية فلم ينشر عنه كبير شيء» فهذا يدل أن مولد اللالكائي كان بعد وفاة ابن درستويه بمدة فإن وفاته كانت سنة 347. وَقَوْلُه «بلغني ... » لا يدري من الذي بلغه، ومثل هذا لا يثبت به حكم ما، وقد قال الحماني «سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق» فرده الأستاذ ص56 بقوله «قول الراوي سمعت الثقة. يعد كرواية عن مجهول وكذا الثقات» ثم تراه يبني على قول اللالكائي «بلغني ... » القصور والعلالي جازماً بذلك مكرراً نبز ابن درستويه بقوله «الدراهمي» وغير ذلك، ومع أن المبلغ اللالكائي إنما قال: «ولم يكن سمع من عباس» فلم يقنع الأستاذ «الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقاً» كما نعته صاحبه على لوح (التأنيب) أو كما نعت نفسه، ولم يقنع بذلك بل قال: «كان يحدث عمن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها» ، ثم مع هذا وأمثاله وكثرة ذلك يضج ويعج ويرغى ويزيد إذا نُسب إلى المغالطة، وليت شعري كيف يمكننا إحسان الظن به وحمله على الغلط والوهم من (1) أن تلك الزلات الكثيرة كلها فيما يؤيد به هواه، ولا أذكر له زلة واحدة فيما يخالف هواه.

_ (1) كذا الأصل ولعل الصواب (مع) . ن

هذا ولم ينكروا على ابن درستويه حديثاً واحداً مما حدث به عن الدوري فدل ذلك على أن تلك الأحاديث ثابتة عن الدوري حتماً، وإنما زعم من لا يُدرى من هو أن ابن درستويه لم يسمع من الدوري، وقد علمت إمكان سماعه منه، فإن ثبت أن ابن درستويه ثقة - وسنثبته إن شاء الله تعالى - ثبت السماع. أما ما شأنه مع يعقوب بن سفيان فقد علم بما مرّ أنه لما توفي يعقوب كان سن ابن درستويه نحو عشرين سنة لكن قال الخطيب: «سألت البرقاني عن ابن درستويه فقال. ضعفوه لأنه لما روى (التاريخ) عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك وقالوا له: إنما حدث يعقوب بهذا الكتاب قديماً فمتى سمعته؟ !» . ولم يبينوا تاريخ تحديث يعقوب بـ (التاريخ) فقد يكون حين كان سن ابن درستويه اثنتي عشرة سنة أو نحوها واستبعدوا أن يكون سمع حينئذ لصغره، وعلى هذا يدل قول الخطيب عقب ما حكاه عن البرقاني، قال: «في هذا القول نظر لأن جعفر بن درستويه من كبار المحدثين ... فلا يستنكر أن يكون بكر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان» ثم استأصل الخطيب الشأفة واقتلع الجرثومة بقوله «مع أن أبا القاسم الأزهري حدثني قال رأيت أصل كتاب ابن درستويه بتاريخ يعقوب بن سفيان لما بيع في ميراث ابن الآبنوسي (1) فرأيته أصلاً حسناً ووجدت سماعه فيه صحيحاً» ، والأزهري من أهل المعرفة والتيقظ والثقة والأمانة ترجمته عند (الخطيب) ج10 ص385. فثبت السماع وبطل النزاع. فأما حال ابن درستويه فتضعيف اللالكائي له قد بين وجهه، وهو قَوْله «بلغني ... » وقد علمت أنه ليس في ذلك حجة، وقول البرقاني «ضعفوه» قد بين وجهه، وهو استبعادهم أن يكون سمع (التاريخ) ، وقد ثبت سماعه له فزال سبب التضعيف. على أنه لو لم يتبين أن ذلك هو وجه التضعيف لكان تضعيفاً مجرداً وهو جرح غير مفسر، وقد ثبت التوثيق. قال الخطيب: «سألت أبا سعد الحسين بن

_ (1) بمد الألف وفتح الباء الموحدة أو سكونها وضم النون نسبة إلى (آبنوس) نوع من الخشب البحري. ن

عثمان الشيرازي عن ابن درستويه؟ فقال: ثقة ثقة، حدثنا عنه أبو عبيد الله «الصواب: أبو عبد الله. كما في (لسان الميزان) وهو الحافظ محمد بن إسحاق بن منده من شيوخ الشيرازي هذا كما في ترجمته من (التاريخ) ج8 ص84» ابن منده الحافظ بغير شيء وسألته عنه، فأثنى عليه ووثقه» وقال الخطيب في ترجمة الشيرازي هذا «كتبنا عنه وكان صدوقاً متنبهاً» وقد تقدم ثناء الخطيب على ابن درستويه. وذكر الأستاذ ص105 ما رواه الخطيب من طريق ابن درستويه عن يعقوب عن الحسن بن الصباح عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: «قال مالك ما ولد في الإسلام مولود أضر على الإسلام من أبي حنيفة. وكان (مالك) يعيب الرأي. ويقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ... » فذكر الأستاذ أن ابن عبد البر ذكر في (كتاب العلم) عن (تهذيب الآثار) للطبري عن الحسن بن الصباح عن الحنيني أن مالكاً قال «قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » ولم يذكر ما قبله، قال الأستاذ «فيكون ابن درستويه الدراهمي هو الذي زاد في أول الخبر ما شاءه» . أقول: ليس هذا بشيء وإنما اقتصر ابن جرير أو ابن عبد البر على موضع الحجة، وقد جرت عادتهم بتقطيع الأحاديث النبوية كما فعله البخاري في (صحيحه) وغيره فما بالك بمثل هذا؟ وقال الخطيب في ترجمة ابن درستويه: «حمل عنه من علوم الأدب كتب عدة صنفها منها (تفسير كتاب الجرمي) ، ومنها كتاب في النحو الذي يدعى (الإرشاد) ، ومنها كتابه في الهجاء وهو من أحسن كتبه، وروى عنه محمد بن المظفر والدارقطني وابن شاهين ... حدثنا عنه أبو الحسن بن رزقويه وأبو الحسين بن الفضل وأبو علي بن شاذان ... » وفي (تاريخ ابن خلكان) : «تصانيفه في غاية الجودة والإتقان، منها ... » وزاد على ما ذكره الخطيب (شرح الفصيح) ، (الرد على المفضل الضبي في الرد على الخليل) ، (كتاب الهداية) ، (كتاب المقصور

120- عبد الله بن خبيق

والممدود) ، (كتاب غريب الحديث) ، (كتاب معانيي الشعر) ، (كتاب الحي والميت) ، (كتاب التوسط بين الأخفش وثعلب في تفسير القرآن) ، (كتاب خبر قس بن ساعدة) ، (كتاب الأعداد) ، (كتاب أخبار النحويين) ، (كتاب الرد على الفراء) في المعاني. 120- عبد الله بن خُبَيْق. في (تاريخ بغداد) 13/390 من طريقه «حدثنا أبو صالح الفراء ... » قال الأستاذ ص85 «صالح، غير صالح لتلقي شيء منه غير القراءة» . أقول: أما صلاحه فمشهور، وأما روايته فلم يغمزه فيها أحد، وقد ذكره ابن أبي حاتم فقال: «كتب إلى أبي بجزء من حديثه» . 121- عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي. تقدمت الإشارة إلى بعض حكاياته في ترجمة الحارث بن عمير وغيرها. قال الأستاذ ص 36 «الحميدي كذبه عبد الله بن عبد الحكيم - في كلامه في الناس. راجع (طبقات السبكي) ج1 ص224 وهو شديد التعصب وقّاع مضطرب يروي مرة عن حمزة بن الحارث ومرة عن الحارث مباشرة» . أقول: أما التعصب فحقيقته هنا نفرة دينية وقد مر حكمها في القواعد. وأما الوقيعة ففيمن يراه من أهل البدع. قال يعقوب بن سفيان «ثنا الحميدي وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه» وأما الاضطراب في تلك الحكاية فقد أشار الخطيب إلى أن الصواب عن الحميدي ثنا حمزة، وقول محمد بن محمد الباغندي عن أبيه عن الحميدي: حدثني الحارث. وهم من ابن الباغندي أو أبيه، وقد طعن الأستاذ فيهما كما سيأتي في موضعه. وأما قصته مع ابن عبد الحكم فهذه عبارة ابن السبكي التي استند إليها الأستاذ جازماً بقوله «كذبه ... في كلامه في الناس» ! قال ابن السبكي «قال ابن خزيمة فيما رواه الحاكم عن الحافظ حسينك التميمي عنه: كان ابن عبد الحكم من أصحاب الشافعي فوقعت بينه وبين البويطي وحشة في مرض الشافعي فحدثني أبو جعفر السكري صديق الربيع قال: لما مرض الشافعي جاء ابن عبد الحكم ينازع

البويطي في مجلس الشافعي، فقال البويطي: أنا أحق به منك. فجاء الحميدي وكان بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من البويطي، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. فقال له ابن عبد الحكم: كذبت. فقال له الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك. وغضب ابن عبد الحكم فترك مذهب الشافعي. فحدثني ابن عبد الحكم قال: كان الحميدي معي في الدار نحواً من سنة، وأعطاني كتاب ابن عيينة، ثم أبوا إلا أن يوقعوا بيننا ما وقع» . فأول ما يجب البحث عنه هنا هو النظر في أبي جعفر السكري حاكي القصة أثقة هو أم لا؟ أما الأستاذ فلم يهمه هذا إذ كان في القصة ما يوافق هواه، وأما أنا فقد فتشت عنه فلم أعرفه، ورأيت القصة في (تاريخ بغداد) ج14 ص301 وفيها «صديق للربيع» وهذا يشعر أنه ليس بالمعروف. فعلى هذا لا تثبت القصة، وإن دلت الشواهد على أن لها أصلاً في الجملة، فإن ذلك لا يُثبت من تفاصيلها ما لا شاهد له. وفي (توالي التأسيس) ص84 عن الربيع صاحب الشافعي قال: «وجه الشافعي الحميدي إلى الحلقة، فقال: الحلقة لأبي يعقوب البويطي فمن شاء فليجلس ومن شاء فليذهب» وكان البويطي أسن أصحاب الشافعي وأفقههم حتى كان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه إذا جاءته مسألة كما في (الطبقات الشافعية) وكان ابن عبد الحكم حينئذ فتى ابن إحدى وعشرين سنة فلم يكن قد استحكم علمه ولا عقله، فمنازعته للبويطي طيشة من طيشات الشباب. وكان الحميدي أعلمهم بالحديث وأقدمهم صحبة للشافعي، لأنه قدم معه من الحجاز إلى مصر، والباقون إنما صحبوه بمصر، والحميدي قرشي مكي كما أن الشافعي كذلك فهو أقربهم إلى الشافعي وألصقهم به، ولذلك والله أعلم لما ذهب أصحاب الشافعي في مرضه إلى الجامع تخلف الحميدي عنده ثم خشي الشافعي أن يتنازعوا الحلقة فأرسل الحميدي إليهم ليبلغهم عنه، فلو شك ابن الحكم في خبر الحميدي لكان حقه أن يذهب ليراجع الشافعي لكنه عرف صدقه فاضطرم في نفسه اليأس والحزن والغضب وإن بدرت منه تلك الكلمة فهي من فلتات الغضب كما لا يخفى فلا يتشبث بمثلها في الطعن في مثل الحميدي إلا مثل الأستاذ! وقد قال هو نفسه في حاشية

تكهنه بأن الشافعي استصحب الحميدي إلى مصر فطمع الحميدي أن يخلفه بعد وفاته

ص99: «وأهل العلم قد تبدر منهم بادرة فيتكلمون في أقرانهم بما لا يقبل فلا يتخذ ذلك حجة» . وقد أسلفت تحقيق هذا المعنى في القاعدة الرابعة من قسم القواعد، والأستاذ يقصر عن الحق تارة، ويتعداه أخرى! صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميّلها تمل وهكذا إن كان الحميدي لما استقبله صديقه الفتى الطياش بتلك الكلمة غلبه الغضب فأجاب بما أجاب، وحق للحميدي أن ينشق غضباً فإنه لو جاء بذاك الخبر أكذب الناس لما ساغ لعاقل أن يكذبه فيه لأن الشافعي حي يرزق بالقرب منهم، تمكن مراجعته بالسهو لة، فمن الذي يجترئ أن يكذب عليه مع علم الحميدي (1) بصدقه وأمانته وأنه لا هوى له، بل لو كان له هوى لكان مع ابن الحكم صديقه الذي أضافه في بيتهم نحواً من سنة كما نص على ذلك ابن عبد الحكم نفسه. وعلى كل حال فذاك الجواب فلتة غضب أيضاً كما لا يخفى، ولا عتب على الأستاذ في تشبثه به أيضاً لما احتاج إلى الكلام في ابن عبد الحكم كما يأتي في ترجمته! ولم يبق الأستاذ على نفسه بل أخذ يتكهن فقال في ص 130 في الحميدي: «لما استصحبه الشافعي إلى مصر باعتبار أنه رواية ابن عيينة أخذ يطمع أن يخلف الشافعي بعد وفاته، ولما علم أن أصحابه لا يرضونه لبعده عن الفقه، حكى الشافعي أن أحق جماعته بمقامه هو البويطي، فكذبه محمد بن الحكم، ولم يكن مثل الإمام الشافعي ليسر إلى آحاد الآفاقيين بما يكتمه عن جماعته، ولو كان رأيه أن يكون البويطي خلفاً له لجاهر بذلك أمام جماعته لئلا يختلفوا بعده، وقد غرم البويطي ألف دينار والألف كثير إلى أن يصلح قلوب الجماعة كما حكى الحافظ ابن حجر في (توالي التأسيس) ، وللبراطيل أفاعيل، وكان هوى الحميدي مع البويطي

_ (1) كذا الأصل، ولعله سبق قلم المؤلف، والصواب ابن عبد الحكم، كما يدل عليه السياق. ن

لتقاربهما في المنزع، وبعدهما عن الغوص على دقائق الفقه، بخلاف المزني وابن عبد الحكم ولولا أن كان راويه ابن عيينة لكان الناس استغنوا عنه وعن حديثه لبذاءة لسانه» . أقول: الحميدي هو الذي اعتمد صحبة الشافعي وفي كتاب ابن أبي حاتم ج3 قسم 2 ص 202 عن الحميدي أنه يقول: «كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة فقال لي ذات يوم: ههنا رجل من قريش له بيان ومعرفة. قلت: ومن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وكان أحمد بن حنبل قد جالسه في العراق. فلم يزل حتى اجترني إليه ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ فوقع كلامه في قلبي فجالسته فغلبتهم عليه ... وخرجت مع الشافعي إلى مصر» وكان الشافعي قد استكثر من ابن عيينة فلم يكن به حاجة إلى الحميدي ولا غيره، وزعم طمع الحميدي أن يخلف الشافعي بمصر من مخلوقات الأستاذ ليس عليه أدنى شبهة بل كان الحميدي مكيناً بمكة مؤثراً لها، وإنما فارقها تلك المدة إلى مصر إيثاراً لصحبة الشافعي، فكان أقصى همه أن يعود إليها ودعوى بعده عن الفقه مخلق آخر. إنما كان الغالب على الحميدي الحديث، وقد صحب ابن عيينة وأخذ من أخلاقه، وقد تقدم قول الشافعي في ابن عيينة: «ما رأيت أحداً من الناس فيه من آلة العلم ما في ابن عيينة، وما رأيت أحداً أكف عن الفتيا منه» ولعل هذين الأمرين إيثاره الرجوع إلى مكة، وعدم التبسط في الفتوى، من الأسباب التي منعت ترشيحه لخلافة الشافعي. وحكايته عن الشافعي أن البويطي أحق الجماعة كانت برسالة من الشافعي وهو حي بالقرب منهم يمكنهم مراجعته كما تقدم في القصة نفسها، ومحاولة الأستاذ أن يري القارئ أن الحميدي إنما أخبر بذلك بعد وفاة الشافعي مخلوق آخر من مخلوقاته! وتكذيب ابن عبد الحكم له إن صح طيشة فتى غر محنق كما سلف،

والشافعي لم يسرَّ إليه، وإنما كان عنده وبقية الأصحاب بالجامع فأرسله إليهم وهم بحيث تمكنهم مراجعته. وقد جاء عن الربيع قال: «دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني وابن عبد الحكم، فنظر إلينا الشافعي فأطال، ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا يعقوب فستموت في حديدك، وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هنات وهنات، ولتدركن زماناًُ تكون أقيس أهل زمانك، وأما أنت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قال الربيع: «فكان كما قال» ترى القصة بسندها في (توالي التأسيس) ص85. والحميدي وإن لم يكن مصرياً فقد كان أعلم الجماعة بالحديث وأقدمهم صحبة للشافعي، ورفيقه في سفره، وكان قرشياً مكياً كالشافعي، فأخصيته به واضحة. والمجاهرة قد وقعت. وذاك الاختلاف كان في حياة الشافعي كما هو صريح في القصة. وغرامة البويطي ألف دينار لا شأن للحميدي بها، ولا لاختلاف الأصحاب، فإن الأستاذ إنما أخذ مما في (توالي التأسيس) : «قال زكريا الساجي: سمعت إبراهيم بن زياد يقول سمعت البويطي يقول: لما مات الشافعي اجتمعنا في موضعه جماعة من أصحابه فجعل أصحاب مالك يسعون بنا عند السلطان حتى بقيت أنا ومولى الشافعي، ثم صرنا بعد نجتمع ونتألف ثم يسعون بنا حتى نتفرق، فلقد غرمت نحواً من ألف دينار حتى تراجع أصحابنا وتألفنا» . فغرامة الألف كانت للسعي في إنقاذه من تحبسه الأمراء أو تنفيه من الأصحاب، فإن كان هناك برطيل فللأمراء وأشياعهم. وزعم أن البويطي رشا الحميدي حتى شهد له زوراً بهتاناً عظيم لا يضر في الدنيا والآخرة غلا مختلقه. وزعم أن هوى الحميدي كان مع البويطي مخلوق آخر ولو كان للهوى مدخل لكان هواه مع ابن عبد الحكم صديقه ومضيفه، وكان آل عبد الحكم أهل الكلمة والمكانة والثروة بمصر، لا يكاد يذكر البويطي في ذلك بالنسبة إليهم. وزعم التقارب في المنزع خلاف الواقع فإن الحميدي كان محدثاً قبل كل شيء والبويطي كان فقيهاً قبل كل شيء وبُعد

ذكر الوحشة التي كانت بين أبي يوسف ومحمد نقلا من مصدر من مصدر حنفي

البويطي عن الغوص مخلوق آخر فقد كان الشافعي يحيل عليه بالفتوى في حياته وإن كان أقل مخالفة له من المزني، والمزني لم يكن عند وفاة الشافعي يحيل عليه بالفتوى في حياته وإن كان أل مخالفة له من المزني، والمزني لم يكن عند وفاة الشافعي في حد أن يصلح لخلافته كما يعلم من قول الشافعي له: «وليأتين عليك زمان ... » وكانت سنه عند وفاة الشافعي دون الثلاثين وكأنه إنما صحب الشافعي بأخرة فإنه استعان على ما فاته عن الشافعي بكتاب الربيع كما مر في ترجمة الشافعي. فأما ابن عبد الحكم فكان دون ذلك بكثير كما يعلم مما مر. ولم ير الأستاذ في تخرصاته بعد عنائه الطويل ما يغتر به عاقل فأردف ذلك بحاشية علقها على ص 131 أعاد فيها بعض ما تقدم وحاول الاستنساخ على ذلك الأسلوب فلا أطيل بذكر ذلك وما عليه، لكن زاد فيها ما قيل: أن البويطي لما حبس قال: «بريء الناس من دمي إلا ثلاثة حرملة والمزني وآخر» . وقال بعضهم أنه أراد بالآخر ابن الشافعي. فالحكاية ذكرها السبكي بقوله: «قال أبو جعفر الترمذي فحدثني الثقة عن البويطي أنه قال ... » ولا أدري كيف سندها إلى أبي جعفر ومن شيخ أبي جعفر أثقة كان حقاً أم لا، أسمع من البويطي أم بلغه عنه، والحكاية منكرة، لأن ألئك الثلاثة إن كانوا سعوا به كما قيل فالمباشر لترحيله من مصر وتقييده وحبسه غيرهم فكيف يبرئ المباشرين لظلمه دون الساعين؟ وأيضاً فلا موضع للسعي لأن قضاة مصر الحنفية الجهمية كانوا يتبعون كل من عرف بعلم أو فقه فيكرهو نه على القول بخلق القرآن وشمل ذلك جميع علماء الشافعية والمالكية بمصر. وأشبه ما تحمل عليه الحكاية إن صحة هو أن يكون الجهمية حينئذ إنما كانوا يتعرضون لمن جاهر بالإنكار عليهم وأعلن منابذتهم وتضليلهم، وكان البويطي يؤثر عدم المجاهرة فجاهر أولئك الثلاثة فأدى ذلك إلى قبض الجهمية على البويطي باعتبار أنه رئيس الجماعة والمعروف عن أولئك الثلاثة عقيدة أهل السنة. وكأن الأستاذ يقيس أصحاب الشافعي على أصحاب أبي حنيفة إذا كذب أبو يوسف محمداً تكذيباً صريحاً فيما يرويه عنه ما في كتب الحنفية كـ (شرح السير الكبير) ج 1 ص3 إذ ذكر الوحشة التي كانت بين أبي يوسف ومحمد ثم قال: «وسببها الخاص ما يحكى أنه جرى ذكر محمد رحمه الله في مجلس الخليفة فأثنى عليه

من ثناء الأئمة على الحميدي وسبب شدته على أبي حنيفة

الخليفة فخاف أبو يوسف أن يقربه فخلا به وقال: أترغب في قضاء مصر؟ فقال محمد: ما غرضك في هذا؟ فقال: قد ظهر علمنا بالعراق وأحب أن يظهر بمصر. فقال محمد: حتى أنظر. وشاور في ذلك أصحابه فقالوا له: ليس غرضه قضاؤك ولكن يريد أن ينحيك عن باب الخليفة. ثم أمر الخليفة أبا يوسف أن يحضره مجلسه، فقال أبو يوسف: إن به داءً لا يصلح معه لمجلس أمير المؤمنين. فقال: وما ذاك؟ قال: به سلس البول بحيث لا يمكنه استدامة الجلوس. فقال الخليفة: فأذن له بالقيام عند حاجته. ثم خلا بمحمد رحمه الله وقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، وهو رجل ملول فلا تطل الجلوس عنده، وإذا أشرت إليك فقم ... ولما مات أبو يوسف رحمه الله لم يخرج محمد رحمه الله في جنازته» . لكن الفرق يا أستاذ واضح كان إمام أبي يوسف ومحمد مجلس الرشيد وملاذ الدنيا وبدر الدنانير وتخوت الثياب وغير ذلك، ولم يكن أمام البويطي شيء من ذلك، إنما أمامه مخالفة المالكية والجهمية والدولة واحتاج أن ينفق من صلب ماله وقوت عياله حتى ختم الله له على أيدي أصحابك بالحسنى وزيادة. من ثناء الأئمة على الحميدي قال الإمام أحمد «الحميدي إمام» وقال أبو حاتم: «هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام» وقال يعقوب بن سفيان: «ثنا الحميدي وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه» . فأما شدة الحميدي على أبي حنيفة فاضطره إليها ما بلغه عنه مما ذكر بعضه في الترجمة وقد صرح الأستاذ نفسه ص 36 في بعضها أنه كفر صرخ، وتلك الحكاية سمعها الحميدي من حمزة بن الحارث بن عمير يرويها عن أبيه أنه سمعها من أبي حنيفة. وقد روى رجاء بن السندي - وقد تقدمت ترجمته - عن حمزة بن الحارث عن أبيه نحوها كما في الترجمة، وحمزة ثقة عندهم وكذلك أبوه عند القدماء كما تقدم في ترجمته فكان ثقة عند الحميدي، فكان عند الحميدي أن الحكاية صحيحة. وسمع الحميدي أبا صالح الفراء وهو محبوب بن موسى يحدث عن الفزاري وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: قال أبو حنيفة: «إيمان آدم وإيمان إبليس واحد ... » وقد قال عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا محبوب بن

122- عبد الله بن سعيد

موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: «إيمان أبي بكر الصديق وإيمان أبي بكر واحد ... » وقد مرت ترجمة الفزاري، وتأتي ترجمة عثمان وحبوب. وكان عند الحميدي أن هذه الحكاية صحيحة أيضاً. ومن تدبر الترجمة علم أنه كان عند الحميدي حكايات أخرى قد سمعها ممن هو عنده ثقة وبهذا يتبين للعالم العاقل أن الحميدي إن كان مخطئاً فهو معذور مأجور إن شاء الله تعالى. وقد عذر أهل السنة بعض من قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وجاهر بسبه ولعنه، فإن كان الحميدي مخطئاً فهو أولى وأجدر بأن يعذر ويؤجر. فإن قيل فكذلك ينبغي أن تعذروا الكوثري وإن اعتقدتم خطأه. قلت: أما في خطئه الذي يعذر به فحباً وكرامة، وأما ما زاد على ذلك، فقد جعل الله لكل شيء قدر! 122- عبد الله بن سعيد. في (تاريخ بغداد) 13/380 من طريق أبي بكر الشافعي «حدثني عمر بن الهيثم البزاز أخبرنا عبد الله بن سعيد - بقصر ابن هبيرة - حدثني أبي أن أباه أخبره أن ابن أبي ليلى كان يتمثل ... » قال الأستاذ ص 60 «إن كان أبا عباد المقبري ... وإن كان أبا سعيد الأشج.. وإن كان غيرهما كان مجهولاً هو وأبوه وجده» . أقول: ما هو بأحدهما. والله أعلم. 123- عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود السجستاني. في (تاريخ بغداد) 13/383 عنه أنه قال لأصحابه «ما تقولون في مسألة ... » قال الأستاذ ص68 «كذبه أبوه وابن صاعد وإبراهيم ابن الأصبهاني وابن جرير وهو ناصبي مجسم خبيث روى أخلوقة التسلق عن الزهري كذباً وزوراً، وقد شهد عليه بذلك شهود عدول هم الحفاظ محمد بن العباس الأخرم وأحمد بن علي بن الجارود ومحمد بن يحيى بن منده وكاد أن يراق دمه في أصبهان بيد أميرها أبي ليلى لولا سعي بعض الوجهاء ممن كان يجل أباه في استنقاذه بالطعن في أمثال هؤلاء

الشهود. وهذا حاله وإن راج على من لم يعرف دخائله. وكان هو في صف أبي عبد الله الجصاص المكشوف الأمر ضد ابن جرير» . أقول: أما كلام أبيه فقال ابن عدي على ما في (الميزان) و (لسانه) : «حدثنا علي بن عبد الله الداهري سمعت أحمد بن محمد بن عمر بن كركرة (وفي (تذكرة الحفاظ) : محمد بن أحمد بن عمرو) بن كركرة (1) سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله كذاب قال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه» . الداهري وابن كركرة لم أجد لهما ذكراً في غير هذا الموضع وقول ابن صاعد: «ما قال أبوه فيه» إن أراد هذه الكلمة، فإن كانت بلغته بهذا السند فلا نعلمه ثابتاً، وإن كان له مستند آخر فما هو؟ وإن أراد كلمة أخرى فما هي؟ وقد ارتاب الذهبي في الحكاية فقال في (تذكرة الحفاظ) ج2 ص302 بعد ذكر الحكاية بسندها: «وأما قول أبيه فيه فالظاهر أنه إن صح عنه فقد عنى أنه كذاب في كلامه لا في الحديث النبوي وكأنه قال هذا وعبد الله شاب طري ثم كبر وساد» . وقال ابن عدي - مع حشره كلما قيل في عبد الله - قال: كما في (الميزان) «ولولا ما شرطنا (يعني من ذكر كل من تكلم فيه وإن كان الكلام فيه غير قادح) (2) لما ذكرته ... وهو معروف بالطلب وعامة ما كتب مع أبيه، هو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فما أدري أيش تبين منه» . أقول لم تثبت الكلمة، وقال ابن عدي: «سمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود

_ (1) وفي مخطوطة الظاهرية من «كامل ابن عدي» (228/2) : « ... سمعت أحمد بن محمد بن عمرو بن عيسى كركرة يقول: سمعت علي بن الحسين ... » . وهي نسخة جيدة عتيقة لولا أن فيها خرما. ن (2) ما بين القوسين من كلام المصنف رحمه الله كبيان لعبارة ابن عدي التي اختصرها الذهبي، وقد كاد المصنف أن يوافق عبارة ابن عدي فإن لفظها في (الكامل) : «ولولا شرطنا في أول الكتاب أن كل من تكلم فيه متكلم ذكرته في كتابي هذا ... » . ن

السجستاني يقول: ومن البلاء أن عبد الله يطلب القضاء» . كان أبو داود على طريقة كبار الأئمة من التباعد عن ولاية القضاء، فلما طلبه ابنه كره ذلك ومن الجائز إن صح أنه قال: «كذاب» أن يكون إنما أراد الكذب في دعوى التأهل للقضاء والقيام بحقوقه. ومن عادة الأب الشفيق إذا رأى من ابنه تقصيراً أن يبالغ في تقريعه. وقد قال الأستاذ ص163. «الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم ... فلا يعتد بقول من يقول: فلان يكذب. ما لم يفسر وجه كذبه» . وأما ابن صاعد وابن جرير فلم أجد لهما كلاماً غير قول الأول: «كفانا ما قال أبوه فيه» وقد تقدم. وقول الثاني لما قيل له: إن ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي بن أبي طالب: «تكبيرة من حارس» وهذا ليس بجرح إنما مقصوده أنه كما أن الحارس قد يقول رافعاً صوته: الله أكبر، لا ينوي ذكر الله عز وجل وإنما يقصد أن يسمع السراق صوته فيعرفوا أنه موجود يقظان فلا يقدموا على السرقة، فكذلك قد يكون بن أبي داود يروي فضائل علي ليدفع عن نفسه ما رماه بعض الناس من النصب وهو بغض علي رضي الله عنه. وقد قال الذهبي في (التذكرة) : «لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه، كما لم يعتد تكذيبه لابن صاعد، وكذا لا يسمع قول ابن جرير فيه، فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة» . أقول وقد قدمت تحقيق هذا البحث في القواعد. وأما ابن الأصبهاني، فقال ابن عدي: «سمعت موسى بن القاسم الأشيب يقول: حدثني أبو بكر سمعت إبراهيم الأصبهاني يقول: أبو بكر بن أبي داود كذاب، أبو بكر شيخ الأشيب يحتمل أن يكون هو ابن أبي الدنيا لأنه ممن يروي عن إبراهيم وممن يروي عنه الأشيب، ويحتمل أن يكون غيره لأن أصحاب هذه الكنية في ذاك العصر ببغداد كثيرون ولم يشتهر ابن أبي الدنيا بهذه الكنية بحيث إذا ذكرت وحدها في تلك الطبقة ظهر أنه المراد، فعلى هذا لا يتبين ثبوت هذه الكلمة عن ابن الأصبهاني. وابن أبي داود إن كان سنة عند وفاة الأصبهاني سنة 266 فوق

ثناء الحافظ صالح بن أحمد على ابن أبي داود

الثلاثين فلم يكن قد تصدى للرواية في زمانه. قال الخطيب: «أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد الحافظ قال: أبو بكر عبد الله بن سليمان إمام أهل العراق وعلم العلم في الأمصار نصب السلطان المنبر فحدث عليه لفظه ومعرفته، وحدث قديماً قبل التسعين ومائتين، قدم همذان سنة نيف وثمانين ومائتين وكتب عنه عامة مشايخ بلدنا ذلك الوقت وكان في وقته بالعراق مشايخ أسند منه ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو» . بلى كان يذاكر وربما يتعرض لأكابر الحفاظ يذاكرهم فيتفق أن يكون عنده حديث ليس عندهم فتعجبه نفسه ويتكلم بما يعد جرأة منه وسوء أدب فيغضبهم كما فعل مع أبي زرعة. قال «قلت لأبي زرعة «ألق عليَّ حديثاً غريباً من حديث مالك. فألقى عليَّ حديث وهب بن كيسان عن أسماء: لا تحصي فيحصى عليك. رواه لي عن عبد الرحمن بن شيبة - وهو ضعيف. فقلت له: يجب أن تكتبه عني عن أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع بن مالك. فغضب وشكاني إلى بي وقال: انظر إلى م يقول لي أبو بكر» هكذا في (تهذيب تاريخ ابن عساكر) وغيره. فلعله كان يتعرض بمثل هذا لابن الأصبهاني، فاتفق أن وهم ولجّ فقال ابن الأصبهاني ما قال، إن صحت الحكاية عنه. فأما بعد أن تصدى للحديث فإن الناس أكثروا السماع منه وكان كثير من الحفاظ يعادونه ويتعطشون إلى أن يقفوا له على زلة في الرواية فلم يظفروا بشيء، ولم ينكر أحد عليه حديثاً واحداً، وكانوا كلما استغربوا شيئاً من حديثه أبرز أصله بسماعه من أبيه وهو القائل: إذا تشاجر أهل العلم في خبر ... فليطلب البعض من بعض أصولهم إخراجك الأصل فعل الصادقين فإن ... لم تخرج الأصل لم تسلك سبيلهم فاصدع بعلم ولا تردد نصيحتهم ... وأظهر أصولك إن الفرع متهم وأما النصب فقال ابن عدي على ما في (تذكرة الحفاظ) : «نسب في الابتداء إلى شيء من النصب ونفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط ثم رده علي بن عيسى

أخلوقة التسلق وإساءة ابن أبي داود بروايتها دون أن يصرح ببطلانها

فحدث وأظهر فضائل علي ثم تحنبل فصار شيخاً منهم، وهو مقبول عند أصحاب الحديث» ولم يتحقق من الذي نسبه إلى النصب وما حجته في ذلك، وكان الرجل شكس الأخلاق تياهاً وله أعداء. فإن كان شيء فقد تاب وأناب، قال أحمد يوسف الأزرق: «سمعت أبا بكر بن أبي داود غير مرة يقول: كل من بيني وبينه شيء - أو قال: كل من ذكرني بشيء - فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب» . وأما أخلوقة التسلق فقال ابن عدي: «سمعت محمد بن الضحاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهد على محمد بن يحيى بن منده بين يدي الله قال: أشهد على أبي بكر بن أبي داود بين يدي الله أنه قال: روى الزهري عن عروة قال: حفيت أظافر فلان من كثرة ما كان يتسلق على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -» محمد بن الضحاك هذا له ترجمة في (تاريخ بغداد) ج5 ص376 لم يذكر فيه توثيقاً ولا جرحاً. وابن منده هو أحد الذين شهدوا بأصبهان فجرحوا، وقد ذكر الحافظان الأصبهانيان الجليلان أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان وأبو نعيم في كتابيهما في (تاريخ علماء أصبهان والواردين عليها) أبا بكر بن أبي داود وأثنيا عليه ولم يتعرضا في ترجمته للقصة، لكن ذكراها في ترجمة محمد بن عبد الله بن الحسن بن حفص فقال أبو الشيخ: «كان ورد أصبهان أبو بكر بن أبي داود السجستاني وكان من العلماء الكبار فكان يجتمع معه حفاظ أهل البلد وعلماؤهم فجرى منهم يوماً ذكر علي بن بي طلب رضوان الله عليه فقال ابن أبي داود: إن الناصبة يروون عليه أن أظفاره حفيت من كثرة تسلقه على أم سلمة. فنسبوا الحكاية إليه وألغوا ذكر الناصبة وألبوا عليه جعفر بن شريك وأولاده ... » وساق أبو نعيم القصة بأتم من ذلك قال: «محمد بن عبد الله بن الحسن بن حفص الهمذاني ... وهو الذي عمل وسعى في خلاص عبد الله بن أبي داود لما أمر أبو ليلى الحارث بن عبد العزيز بضرب عنقه لما تقولوا عليه وكان رحمه الله احتسب في أمر عبد الله بن أبي

داود السجستاني لما امتحن، وتشمر في استنقاذه من القتل، وذلك أن أبا بكر بن أبي داود قدم أصبهان وكان من المتبحرين في العلم والحفظ والذكاء والفهم، فيحسده جماعة من الناس، وأجرى يوماً في مذاكرته ما قالت الناصبة في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإن الخوارج والنواصب نسبوه إلى أن أظافيره قد حفيت من كثرة تسلقه على زوج أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونسبوا الحكاية إليه وتقولوا عليه وحرضوا عليه جعفر بن محمد بن شريك وأقاموا بعض العلوية خصماً له، فأحضر مجلس أبي ليلى الحارث بن عبد العزيز وأقاموا عليه الشهادة فيما ذكر محمد بن يحيى بن منده وأحمد بن علي بن الجارود ومحمد بن العباس الأخرم، فأمر الوالي أبو ليلى بضرب عنقه، واتصل الخبر بمحمد بن عبد الله بن الحسن فحضر الوالي أبا ليلى، وجرح الشهود فنسب محمد بن يحيى إلى العقوق وأنه كان عاقاً لوالده، ونسب ابن الجارود إلى أنه مُربي يأكل الربا ويؤكل الناس، ونسب الأخرم إلى أنه مفتري غير صدوق، وأخذ بيد عبد الله بن أبي داود فأخرجه وخلصه من القتل، فكان عبد الله بن أبي داود يدعوا لمحمد بن عبد الله طول حياته ويدعوا على الذين شهدوا عليه فاستجيب له فيهم وأصابت كل واحد منهم دعوته، فمنهم من احترف، (!) ومنهم من خلط وفقد عقله» . فهذان حافظان جليلان من أهل البلد الذي جرت القضية فيه، وهما أعرف بالقصة والشهود. وبعد أن قضى الحاكم ببراءة ابن أبي داود فلم يبق وجه للطعن فيه بما برأه منه الحكم، وقد شهد ثلاثة خير من هؤلاء على المغيرة بن شعبة وتلكأ الرابع فحد الصحابة الشهود ونجا المغيرة (1) ثم اتفق أهل السنة على أنه ليس لأحد أن يطعن في المغيرة بما برأه منه الحكم. فإن كان أهل العلم بعد ذلك عدلوا الثلاثة الذين شهدوا على ابن أبي داود فليس في ذلك ما ينفي أن يكونوا كانوا حين الشهادة مجروحين بما جرحوا به في مجلس الحكم. بل يقال: تابوا مما جرحوا به

_ (1) قد ثبتت هذه القصة من طرق ذكرت أكثرها في «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» رقم (2419) وقد أو شك على التمام، يسر الله إتمامه بمنه وكرمه. ن

فلذلك عدلهم أهل العلم. وبعد فقد كانت أم سلمة رضي الله عنها أتم أمهات المؤمنين ولاء لفاطمة عليها السلام وللحسن والحسين وأبيهما، وكان علي رضي الله عنه يثق بعظم ولائها وبعقلها ورأيها ودينها فكان يستنصحها ويستشيرها، فقد يكون بعض الناس روى أن علياً كان يتردد عليها ذلك فأخذ بعض أعداء الله تلك الحكاية وغيرها ذاك التغيير الفاجر، كما غير بعضهم حديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» فجعل بدل هارون قارون كما تراه في ترجمة حريز بن عثمان. وكان من عادة المحدثين التباهي بالإغراب يحرص كل منهم على أن يكون عنده من الروايات ما ليس عند الآخرين لتظهر مزيته عليهم وكانوا يعتنون شديداً لتحصيل الغرائب ويحرصون على التفرد بها كما ترى في ترجمة الحسن بن علي المعمري من (لسان الميزان) وغيره، وكانوا إذا اجتمعوا تذاكروا فيحرص كل واحد منهم على أن يذكر شيئاً يغرب به على أصحابه بأن يكون عنده دونهم، فإذا ظفر بذلك افتخر به عليهم واشتد سروره وإعجابه وانكسارهم. وقد حكى ابن فارس عن الوزير أبي الفضل ابن العميد قال: «ما كنت أظن في الدنيا كحلاوة الوزارة والرياسة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة الطبراني وأبي بكر الجعابي ... » فذكر القصة وفيها غلبة الطبراني قال ابن العميد «فخجل الجعابي، فوددت أن الوزارة لمتكن وكنت أنا الطبراني وفرحت كفرحه» راجع (تذكرة الحفاظ) ج3 ص121. ولم يكونوا يبالغون في سبيل إظهار المزية والغلبة أكان الخبر عن ثقة أو غيره، صحيحاً أو غير صحيح؟ وقد كان عند زكريا الساجي حديث عن رجل واه ومع ذلك لما لم يوجد ذاك الحديث إلا عند الساجي صار له به شأن. وفي (لسان الميزان) : «قال الساجي: كتب عني هذا الحديث البزاز وعبدان وأبو داود وغيرهم من المحدثين. قال القراب: هذا حديث الساجي الذي كان يسأل عنه» . وكانت طريقتهم في المذاكرة أن يشير أحدهم إلى الخبر الذي يرجو أنه ليس

عند صاحبه ثم يطالبه بما يدل على أنه قد عرفه، كان يقول الأول: مالك عن نافع قال ... ، فإن عرفه الآخر قال: حدثناه فلان عن فلان عن مالك. وقد يذكر ما يعلم أنه لا يصح أو أنه باطل كأن يقول: المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: «أبغض الكلام إلى الله الفارسية» . أو يقول: أبو هريرة مرفوعاً: «خلق الله الفرس» الخ. وقد تقدم في ترجمة حماد بن سلمة. وكان ابن أبي داود صلفاً تياهاً حريصاً على الغلبة فكأنه سمع من بعض النواصب يروي بسند فيه واحد أو أكثر من الدجالين إلى الزهري أنه قال: قال عروة ... فحفظ ابن أبي داود الحكاية مع علمه واعتقاده بطلانها لكن كان يعدها للأغراب عند المذاكرة ولما دخل أصبهان ضايق محدثيها في بلدهم فتجمعوا عليه وذاكروه فأعوزه أن يغرب عليهم ففزع إلى تلك الحكاية فقال: الزهري عن عروة ... فاستفظع الجماعة الحكاية ثم بدا لهم أن يتخذوها ذريعة إلى التخلص من ذلك التياه الذي ضايقهم في بلدهم، فاستقر رأيهم على أن يرفعوا ذلك إلى الوالي ليأمر بنفي ابن أبي داود فيستريحوا منه، إذ لا يرون في القضية م يوجب القتل فلما مر أبو ليلى بما أمر سقط في أيديهم، رأوا أنهم إن راجعوه عاد الشر عليهم فقيظ (1) الله تبارك وتعالى ذلك السّري الفاضل محمد بن عبد الله بن الحسن فخلصهم جميعاً. ومن الجائز أن يكون ابن أبي دود قبل نفيه من بغداد وقعت له مثل هذه الواقعة ولكن كان أهل بغداد أعقل من أهل أصبهان فاقتصروا على نسبته إلى النصب ونفيه من بغداد. وعلى كل حال فقد أساء جد الإساءة بتعرضه لهذه الحكاية من دون أن يقرنها بما يصرح ببطلانها، ولا يكفيه من العذر أن يقال قد جرت عادتهم في المذاكرة بأن يذكر أحدهم من يرجوا أن يغرب به على الآخرين بدون التزام أن يكون حقاً أم باطلاً. لكن الرجل قد تاب وأناب كما تقدم والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولو كان الذنب كفراً صريحاً. وبعد التوبة لا يجوز الطعن في الرجل بما قد تاب منه ولو كان كفراً. والذين كانوا يشنعون على أبي حنيفة بأنه

_ (1) كذا الأصل، وهو لغة في جعل الضاد ظاء وخاصة في الشعر. ن

124- عبد الله بن صالح

استتيب من الكفر مرتين إنما كانوا يستروحون إلى أن عوده إلى ما استتيب منه حتى استتيب ثانياً كأنه يريب في صحة توبته الأولى، وأنه بقي عنده ما يناسب ما استتيب منه وإن لم يكن كفراً، وهذا تعنت سوغه عندهم أنهم احتاجوا إليه للتنفير عن أتباع أبي حنيفة فيما لم يرجع عنه مما يرونه أخطأ فيه. وبعد فقد أطبق أهل العلم على السماع من ابن أبي داود وتوثيقه والاحتجاج به ولم يبق معنى للطعن فيه بتلك الحكاية وغيرها مما مرّ، فروى عنه الحاكم أبو أحمد والدارقطني وابن المظفر وابن شاهين وعبد الباقي بن قانع حافظ الحنفية وأبو بكر بن مجاهد المقري، وخلق لا يحصون، وتقدم قول بي الفضل صالح بن أحمد التميمي الهمذاني الحافظ فيه: «إمام العراق وعلم العلم في الأمصار ... » وتقدم أيضاً ثناء أبي الشيخ وأبي نعيم، وذكر السلمي أنه سأل الدارقطني عنه؟ فقال: «ثقة إلا أنه كثير الخطأ في الكلام على الحديث» وقال الخليلي «حافظ إمام وقته عالم متفق عليه واحتج به من صنف الصحيح أبو علي النيسابوري وابن حمزة الأصبهاني. وكان يقال: أئمة ثلاثة في زمن واحد ابن أبي داود وابن خزيمة وابن أبي حاتم» وقد طعن لأستاذ في هؤلاء الثلاثة كلهم وعدهم مجسمين يعني أنهم على عقيدة أئمة الحديث، وقد ذكرت ما يتعلق بذلك في قسم الاعتقاديات. وقال محمد بن عبد الله بن الشخير في ابن أبي داود «كان زاهداً عالماً ناسكاً رضي الله عنه وأسكنه الجنة برحمته» . 124- عبد الله بن صالح. مرت الإشارة إلى حكايته في ترجمة الصقر قال الأستاذ ص29 «كتب الليث المختلط» . أقول: لم يتبين لي أهو هو أم عبد الله بن صالح العجلي أحد الثقات أم غيرهما؟ وكاتب الليث لم يختلط، ولكن أدخلت عليه أحاديث وترى شرح ذلك والفصل فيه في (مقدمة فتح الباري) . (1) 125- عبد الله بن عدي أبو أحمد الجرجاني الحافظ مؤلف (الكامل) وغيره.

_ (1) عبد الله بن عثمان. الصواب عبد الله بن عمر. يأتي

126- عبد الله بن عمر بن الرماح

تعرض له الأستاذ ص169 قال: كان ابن عدي عل بعده من الفقه والنظر والعلوم العربية طويل اللسان في أبي حنيفة وأصحابه» . أقول: أبو أحمد إمام في الحديث ورجاله وعلله، واشتغاله بذلك عن التبسط في الفقه والنظر، لا يدل على بعده عن التأهل لذلك، وكان عنده من معرفة اللسان ما يكفيه، وأما طول لسانه فذلك مقتضى مقامه وله في ذلك أسوة بأكابر أئمة السنة. (1) 126- عبد الله بن عمر بن الرماح. راجع (الطليعة) ص60 - 61. وفي (تهذيب التهذيب) ج7 ص447 وص160: أنه يقال لعمر بن ميمون بن بحر بن الرماح والد عبد الله هذا «عمر بن الرماح» ينسب إلى جده الأعلى، وهكذا وقع في (سنن الترمذي) في «باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر» ومن لازم هذا أن يقال لعبد الله هذا: «عبد الله بن عمر بن الرماح» فزعم الأستاذ في (الترحيب) ص44 - 45 أنني أنا تزيدت في نسبه ما شيءت من الأسماء. تهمة باطلة، إنما بينت ما قام عليه الدليل، فأما تصحيف «عمر» إلى عثمان كعكسه فكثير في الكتب، وقد ذكرت في (الطليعة) شاهده من كلام الأستاذ نفسه. وإذا ذكر صاحب العلم أنه وقع في العبارة تصحيف أو نسبة للرجل إلى جده أو غير ذلك، فالمدار على الدليل فإن كان معه دليل فحقه أن يشكر، وإلا فحقه أن يعاب ويزجر، ولا سيما إذا كان الدليل يدفع ما ذكره. فلا يكفي الأستاذ في دفع ما انتقدته عليه من هذا القبيل مما يخالف الدليل أن ينتقد علي ما وقع مني من ذاك القبيل حيث يقتضيه الدليل!. بقي أن الأستاذ زعم أن عبد الله زعم أن عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرماح مجهول الصفة. فأقول: قال ابن حبان في (الثقات) : «عبد الله بن عمر بن ميمون بن الرماح السعدي أبو عبد الرحمن البلخي قاضي نيسابور روى عن مالك ووكيع وأهل

_ (1) عبد الله بن علي المديني. راجع (الطليعة) ص 69 - 70.

127- عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري

العراق، حدثنا عنه الحسين بن إدريس الأنصاري وعبد الله بن محمد الأزدي: مستقيم الحديث إذا حدث عن الثقات، وقد قيل: كنيته أبو محمد، وكان مرجئاً، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين» . وهذا من ابن حبان توثيق مقبول كما يأتي في ترجمته. قال الأستاذ: «فلا يناهض ما تواتر ... » . أقول: أجل، لا يناهض ما صح تواتره، بل لا يناهض ما هو أثبت منه وإن لم يتواتر، فإن كان الذي يناقض خبر عبد الله هذا متواتراً حقاً أو أثبت من خبر عبد الله على الأقل، اندفع خبر عبد الله، وليس هذا موضع النظر في ذلك، وقد عرفنا الأستاذ ودعاويه. والله الموفق. 127- عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري. في (تاريخ بغداد) 13/382 من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «حدثني أبو معمر قال: قيل لشريك ... » قال الأستاذ ص64: «فإن كان عبد الله بن عمرو المنقري البصري فهو قدري لا تقبل روايته في حق مخالفه في المذهب، وإن كان الهروي فقد سبق. على أن لفظ أبي معمر لفظ انقطاع» . أقول: هو الهروي حتماً واسمه إسماعيل بن إبراهيم بن معمر تقدمت ترجمته، وفي ترجمته من (تهذيب التهذيب) : « ... نزيل بغداد روى عن ... شريك ... وعنه البخاري ومسلم ... وعبد الله بن أحمد ... قال عبد الله بن أحمد سمعت أبا معمر يقول: من زعم أن الله لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر - وذكر أشياء من الصفات - فهو كافر بالله ... مات ... سنة 236» فأما المنقري فبصري معقد توفي سنة 224 وعبد الله بن أحمد ولد ببغداد سنة 213 وليس في ترجمته من (التهذيب) ذكر روايته عن شريك ولا رواية لعبد الله بن أحمد عنه، وهو مع ذلك ثقة جليل. وما ذكر به من القدر لا يقدح فيه، وقول الأستاذ: «لا تقبل روايته في حق مخالفه» وقد تقدم النظر في ذلك في القواعد، وكذلك النظر فيما يتعلق بقوله: «لفظ انقطاع» . وكلا الرجلين أعني: المنقري، والهروي غير مدلس. والله الموفق.

128- عبد الله بن محمد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود

128- عبد الله بن محمد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود. في (تاريخ بغداد) (13/387 -) عنه «عن بشر بن مفضل قال قلت لأبي حنيفة ... » قال الأستاذ ص78: قال ابن أبي خيثمة: كان ابن معين سيء الرأي في أبي بكر بن أبي الأسود» . أقول هذا مجمل وقد جاء عن ابن معين أنه قال: «ما أرى به بأساً» وجاء عنه أيضاً أنه قال: «لا بأس به ولكنه سمع من أبي عوانة وهو صغير وقد يطلب الحديث» فهذا يفسر رواية ابن أبي خيثمة. وقال ابن المديني: «بيني وبين أبي الأسود ستة أشهر ومات وأبو عوانة وأنا في الكتاب» ومولد ابن المديني سنة 161 وذكر هو أن وفاة أبي عوانة سنة 175 وقال غيره سنة 176. فعلى ذلك يكون سن ابن أبي الأسود حين وفاة أبي عوانة خمس عشرة سنة أو أكثر وكان ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي فقد يكون ساعده هو أو غيره في الضبط، وقد صح الجمهور السماع في مثل تلك السن وفيما دونها. نعم يؤخذ من كلام بعضهم أن أبا عوانة توفي سنة 270 ووقع في (تاريخ جرجان) لحمزة السهمي حكاية ذلك عن بعض الحفاظ كما يأتي في ترجمة أبي عوانة فعلى هذا يكون سن ابن أبي الأسود نحو تسع سنين لكن ذلك القول شاذ ومع ذلك فابن تسع سنين قد يصح سماعه عندهم. والذي يرفع النزاع من أصله أنه ليس في سماع الرجل وهو صغير ما يوجب الطعن فيه، وإنما يتوجب الطعن فيه، وإنما يتوجه الطعن إذا كان السماع غير صحيح، ومع ذلك كان الرجل يبني عليه ويروي بدون أن يبين وهذا منتف ها هنا، أما أو ّلاً فلأن احتمال صحة سماعه من أبي عوانة ظاهر ولا سيما على المعروف من أن وفاة أبي عوانة كانت سنة خمس أو ست وسبعين ومائة. وأما ثانياً فلأن البخاري وأبا داود والترمذي أخرجوا لابن أبي الأسود ولم يذكروا شيئاً من روايته عن أبي عوانة وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن يكون ابن أبي الأسود لم يروعن أبي عوانة شيئاً، وإما أن يكون ربما روى عنه مع بيان الواقع. وعلى هذا فيكون كلام ابن معين وابن المديني إنما هو على

129- عبد الله بن محمد بم جعفر بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ

سبيل الاحتياط علماً أنه سمع من أبي عوانة وهو صغير فخشيا أن يعتمد على ذلك فيروي من غير بيان. فأما حاله في نفسه وفي روايته عن غير أبي عوانة فلا مطعن فيه، وقد روى عنه البخاري في (صحيحه) وروى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده كما في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم، وقال الخطيب: «كان حافظاً متقناً» . وحكايته المتقدمة أول الترجمة من روايته عن بشر بن المفضل المتوفى سنة 187، أي حين كان سن ابن أبي الأسود ستا وعشرين سنة أو أزيد. والله الموفق. 129- عبد الله بن محمد بم جعفر بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ. قال الأستاذ ص49: «صاحب (كتاب العظمة) و (كتاب السنة) وفيهما من الأخبار التالفة مالا آخر له، وقد ضعفه بلديه الحافظ العسال بحق» . أقول: أما ما في كتبه من الأخبار الواهية فهو كغيره من حفاظ عصره وغيرهم قال ابن حجر في (لسان الميزان) ج3 ص75 في ترجمة الطبراني: «عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه الأحاديث الأفراد مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات ... وهذا أمر لا يختص به الطبراني ... بل أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلم جرا إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته» وقد مر النظر في ذلك في ترجمة أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. فأما العسال فهو أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان الأصبهاني، له أيضاً كما في ترجمته من (تذكرة الحفاظ) ج3 ص97 (كتاب العظمة) ، و (كتاب المعرفة في السنة) ، و (كتاب الرؤية) وغيرها ولعل فيها نحو ما في كتب أبي الشيخ. وما زعم الأستاذ أن العسال ضعف أبا الشيخ فلم أظفر بذلك، إلا أني أذكر أنني قبل مدة وقفت على قصته في كتاب لا أذكر الآن أي كتاب هو؟ جرت ببن عالمين، فإن كانا هما العسال وأبا الشيخ فحاصل القصة على ما أذكر أن

130- عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني

أبا الشيخ كان عنده حكاية يرى العسال أنه خطأ من بعض الرواة أو أن فيه مقالة رجع عنها صاحبها، وذكر العسال أنه سيهجر أبا الشيخ حتى يخرج الحكاية من كتابه، وليس في هذا تضعيف، ولا أذكر في القصة ما يصح أن يعد تضعيفاً، وعلى العالم أن لا يُعمي مصدره فيتعب الناس ويرتابوا فيه. بل ينبغي له أن ينص على مصدره اللهم إلا أن يكون على طرف التمام كأن يقول في راوٍ: ضعفه فلان، وذلك موجود في ترجمة الرجل من (الميزان) مثلاً فهذا لا حرج فيه. فأما من يعمي مصدره ولا سيما في عصرنا هذا، فإنما يدل على أنه لأمر م يكره أن يعرفه الناس والكتب التي بأيدينا ليس فيها إلا لثناء على أبي الشيخ وتوثيقه وإطراؤه فلم يذكر الذهبي في (الميزان) ولا ابن حجر في (اللسان) ولا أشار الذهبي إلى تليين له في (تذكرة الحفاظ) وهكذا عدة كتب أخرى توجد فيها ترجمته وذلك م تعمية الأستاذ لمصدره كافٍ في الدلالة على أن ما زعمه لأستاذ غير صحيح، إما لعدم صحة إسناده، وإما لأنه ليس ما وقع بتضعيف، وإما لغير ذلك. هذا وقد كنت كتبت إلى بعض أهل العلم أسألهم، فلم أحصل على خبر إلا أن أحدهم أخبرني أنه اجتمع بالأستاذ الكوثري نفسه (1) . 130- عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني. في (تاريخ بغداد) (13/404) : أخبرني أبو نصر أحمد بن الحسين القاضي بالدينور أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني الحافظ قال: حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا هارون بن إسحاق سمعت محمد بن عبد الوهاب القناد يقول: حضرت مجلس أبي حنيفة فرأيت مجلس لغو لا وقار فيه، وحضرت مجلس سفيان الثوري فكان الوقار والسكينة والعلم فلزمته» . قال الأستاذ ص125: «ليس أبا الشيخ ابن حيان لأنه لم يدرك هارون بن إسحاق الهمذاني المتوفى سنة 258 بل هو القاضي القزويني الكذاب

_ (1) كذا الأصل، والظاهر أن المصنف لم يتذكر جيداً نتيجة الاجتماع، فأحب التأكد منها بسؤال المخبر فلم يتيسر له ذلك، حتى جاءه الموت. رحمه الله تعالى.

المشهور الذي وضع على لسان الشافعي نحو مائتي حديث ولم يرو الشافعي شيئاً من ذلك أصلاً، لكن الخطيب لا يتورع أن يروي بطريقه في مثالب أبي حنيفة كما لا يتحرج أن يروي بطريقه في مناقب الشافعي ... ولولا مثل هذه الأمور المكشوفة لما كانت السهام المصوبة إلى نحر الخطيب لتصيب المقتل منه» . أقول: أما الجزم بأنه ليس أبا الشيخ ففي محله، وأما الجزم بأنه القزويني فليس بجيد لأنهم لم ينصوا على أنه يروي عن هارون ولا على أن ابن السني يروي عنه، وكتب الرجال التي بين أيدينا لم تستوعب الرواة، نعم يظهر من كلام الذهبي في خطبة (الميزان) أنه استوعب المتكلم فيهم، أن من لم يذكره فهو إما ثقة وإما مستور، ومعلوم أن ذلك بحسب ما وقف عليه ولم يغفل عنه، وقد استدرك عليه من بعده جماعة ووقفت أنا في الكتب الأخرى على أفراد مضعفين لم يذكروا في (لسان الميزان) . وحاول جماعة استيعاب الثقات. والموجود بين أيدينا من كتاب ابن حبان وهو مختص بالقدماء هارون ابن إسحاق وطبقته من قبلهم، وكثيراً ما يوجد في أسانيد كتب الحديث التي لم يعتن أهل العلم باستيعاب رواتها وكتب التاريخ وغيرها مما تذكر فيه الأخبار بأسانيدها أسماء رواة لا نجدهم في الكتب التي بأيدينا ومنها أسماء تشبه الموجودين في الكتب ولكن تقوم القرائن على أن المذكور في السند رجل آخر، فإن فرضنا أن الخطيب التزم أن لا يروي في (تاريخه) شيئاً عن مثل القزويني فهذه قرينة على أنه كان يرى أن هذا الرجل غير القزويني، وإن كان الخطيب لم يلتزم ذلك وفرضنا أن هذا الرجل هو القزويني وأن الخطيب عرف ذلك فعذر الخطيب واضح وهو أنه لم يلتزم أن لا يروي عن مثله مثل تينك الحكايتين. أما الحكاية التي في (مناقب الشافعي) فإنما هي رؤيا لا تضع حكماً ولا ترفعه، والمناقب مما يتسامح فيها وقد تسامح الحنفية في رواية الأكاذيب المكشوفة والأحاديث الموضوعة في مناقب إمامهم كما يأتي في ترجمة محمد بن سعيد البورقي مع أمثلة أخرى لا تحصى، وتبعهم الخطيب نفسه فروى في مناقب أبي حنيفة كثيراً من

131- عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بصاحب الخان بأرمية

ذلك، بل تسامح الحنفية في الكتب التي يسميها الأستاذ «المسانيد السبعة عشر» ، وزاد عليهم الأستاذ فاحتج أشياء من ذلك. وأما الحكاية التي في صدر هذه الترجمة فما يتعلق منها بالثوري ثابت من غير وجه كما يعلم من مراجعة ترجمته في (تقدمة الجرح التعديل) لكتاب ابن أبي حاتم و (تاريخ بغداد) وغيرهما «حتى كان الرجل يجئ إلى المكان الذي فيه الثوري وأصحابه فيقرب من المكان فيحسبه خالياً فإذا فتح الباب وجده غاصاً بالناس» . وما يتعلق بأبي حنيفة إنما المراد باللغو رفع الأصوات في المناظرة وبالرأي والمراد بالوقار خفض الأصوات. وعلى هذا فمعنى ذلك ثابت أيضاً بروايات أخرى. ومع هذا فالقزويني إنما خلط في آخر عمره فإن كان هو الواقع في السند وعرف الخطيب ذلك فلعله علم أن سماع بن السني من القزويني قديم. قال مسلمة بن قاسم في القزويني: «كان كثير الحديث والرواية وكان فيه بأوٌ (1) شديد وإعجاب، وكان لا يرضى إذا عورض في الحديث أن يخرج لهم أصوله ويقول: هم أهو ن من ذلك. قال: فحدثني أبو بكر المأمون وهو من أهل العلم العارفين بوجوهه قال: ناظرته يوماً وقلت له: ما عليك لو خرجت لهم أصلاً من أصولك؟ فقال: لا ولا كرامة ثم قام فأخرجها، وعرض عليّ كل حديث اتهموه فيه مثبتاً في أصوله» وقال ابن يونس: «كان محموداً في القضاء وكانت له حلقة بمصر وكان يظهر عبادة وورعاً، وثقل سمعه جداً، وكان يفهم الحديث ويحفظ ويُملي ويجتمع إليه الخلق فخلط في الآخر ووضع أحاديث ... » ثم قال: «مات بعد أن افتضح بيسير» . 131- عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بصاحب الخان بأرمية. في (تاريخ بغداد) 13/398 «أخبرنا أبو نصر أحمد بن إبراهيم المقدسي بسادة حدثنا عبد الله (كذا) محمد بن جعفر المعروف بصاحب الخان بأرمية قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الديبلي ... » قال الأستاذ ص111 «والله أعلم بحال من لا يعرف إلا بصاحب الخان بأرمية» .

_ (1) أي تكبر وتفاخر - زهير

132- عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني ويقال الفرهاذاني

أقول: وأنا لم أعرفه ولا أدري ما الساقط أكلمة «بن» بعد عبد الله أم كلمة «أبو» قبلها؟ 132- عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني ويقال الفرهاذاني. في (تاريخ بغداد) الأئمة تلعن أبا فلان على هذا المنبر - وأشار إلى منبر دمشق. قال الفرهياني: وهو أبو حنيفة» قال الأستاذ ص145 «من شيوخ ابن عدي ومحمد بن الحسن النقاش ومن طرازهما في المعتقد فلا يوثقه إلا مثله» قال قبل ذلك: «لعن شخص معين لا يكون فيه نص في الشرع على أنه من أهل النار يعد ذنباً عظيماً في هذا الدين الحنيف ... على أن ... في رواية أبي مسهر ... كانت الأئمة تلعن أبا فلان ... فجعل الفراهيناني (1) الخبيث أبا فلان أبا حنيفة من غير دليل ... » أقول: قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج2 ص25 «الحافظ الإمام الثقة ... روى عنه محمد بن الحسن النقاش المقرئ وأبو أحمد بن عدي وأبو بكر الإسماعيلي وبشر بن أحمد الأسفرائني وأبو عمرو بن حمدان وغيرهم قال ابن عدي: كان رفيق النسائي وكان ذا بصر بالرجال وكان من الأثبات، سألته أن يملي عليّ عن حرملة؟ فقال: حرملة ضعيف. ثم أملى عليّ ثلاثة أحاديث ولم يزدني» وقد حاول الأستاذ ص66 أن يجعل ابن أبي العوام من الثقات الأثبات لأنه روعن النسائي، مع أن رواية عن مثل النسائي أو من هو خير منه لا تدل على إسلام الراوي فكيف عدالته؟ فكيف أن يكون من الثقات الأثبات. فأما مرافقة مثل النسائي في العلم وطلبه فدلالتها على حسن حال المرافق ظاهرة؛ وابن عدي من أجلة

_ (1) كذا قال الأستاذ، وقال: «وقع في الطبعات الثلاث بدل (الفراهيناني) (الفرهياني) وهو غلط» كذا قال، وفراهينان من قرى مرو ليس منها هذا الرجل، وإنما هو من فرهاذان فيقال له: «الفرهاذاني» على الأصل و «الفرهياني» على التغيير كما في (معجم البلدان) . (المؤلف) قلت: ونحوه في «اللباب» وذلك مما يؤكد غلط الكوثري. ن

133- عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي

أئمة الفن وإن كره الأستاذ. ومعتقده هو السنة بل هو الإسلام وإن رغم الجهمية! وقد تقدم الإشارة إلى هذا في قسم القواعد وبسطت الكلام في العقائد في قسم الاعتقاديات. وأما لعن المعين فالخلاف فيه مشهور. ولعل من شدد في المنع منه إنما ذهب إلى سد الذريعة لئلا يتوصل إلى لعن بعض الصحابة. على أنه قد كان يبلغ علماء دمشق عن أبي حنيفة كلمات يرونها كفراً وبعضها مسطر في (التأنيب) نفسه، وظاهر أسانيدها الصحة، فلا مانع أن يبنوا على ظاهر ذلك ومن بنى على الظاهر فأخطأ فهو معذور. وقول الفرهياني «وهو أبو حنيفة» لم يقلها بغير دليل وقد مرّ في (الترجمة) نفسها من (تاريخ بغداد) 13/378 من طريق أبي مسهر نفسه «قال سلمة بن عمرو القاضي على المنبر: لا رحم الله أبا حنيفة فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق» والدعاء بعدم الرحمة هو معنى الدعاء بالإبعاد عنها وهو معنى اللعن. فأما قول الأستاذ: «الخبيث» فأدع حسابها إلى الله عز وجل. 133- عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي ابن بنت حمد بن منيع. و: ابن منيع. و: المنيعي. في (تاريخ بغداد) 13/378: «أخبرنا العتيقي أخبرنا جعفر ابن محمد بن الطاهري حدثنا أبو القاسم البغوي حدثنا زياد بن أيوب حدثني حسن بن أبي مالك وكان من خيار عباد الله قال: قلت لأبي يوسف القاضي: ما كان أبو حنيفة يقول في القرآن؟ قال فقال: كان يقول: القرآن مخلوق. قال قلت: فأنت يا أبا يوسف؟ فقال: لا. قال أبو القاسم: فحدثت بهذا الحديث القاضي البرتي، فقال لي: وأي حسن كان، وأي حسن كان؟ يعني: الحسن بن أبي مالك. قال أبو القاسم: فقلت للبرتي: هذا قول أبي حنيفة؟ قال: نعم المشيءوم، قال جعل يقول: أحدث بخلقي» قال الأستاذ ص54: «هذه كذبة متراكبة على ألسنة أبي يوسف وابن أبي مالك وأحمد بن القاسم البرتي وثلاثتهم من أغير أهل العلم على مذهب بي حنيفة، وأرطبهم لساناً في الثناء على أبي حنيفة. ولا أتهم بهذه الرواية السخيفة سوى أبي القاسم البغوي - إن كان الخطيب سمعها من العتيقي،

وقد قال ابن عدي عن حاله عند أهل بغداد: وجدت الناس أهل العلم والمشايخ مجمعين على ضعفه. وتجد بعد هذا الإجماع من يروي عنه. وكم أوقع الرواة تطلب العلو في الرواية عن الضعفاء والهلكى، لولا أن البغوي الحنبلي عاش وعلت سنه لما كان يروي عن أحد ممن له شأن لظهور مبدأ أمره كما سبق» . أقول: أما غيرة أولئك الثلاثة على مذهب أبي حنيفة وثناؤهم عليه فلم يصح من ذلك أن يخالفوه في تلك المقالة كما خالفه أبو يوسف في مسائل لا تحصى، ولا مانع من أن يخبر بعضهم بعضاً بها، ولا أن يخبرها الحسن زياداً ليعلمه براءة أبي يوسف من تلك المقالة، ولا سيما إذا علم أنه مستفيضة عن أبي حنيفة، وكان حفيده إسماعيل بن حماد يصرخ بها صراخاً أيام المحنة وأنها دين أبيه وجده، وجاء عن الحِمَّاني أنه حدثه عشرة كلهم ثقات أنهم سمعوا أبا حنيفة يقول هذه المقالة. الأستاذ وإن تكلم في الرواة فهو يعترف بل يتبجح بأن أبا حنيفة كان يقول ذلك. وكذلك لا مانع أن يخبر البرتي البغوي لعلمه بأنه قد علم ذلك وليعلمه براءته، مع أن الحسن والبرتي كانا من لاعتدال والاستقامة وحب السنة بمكان، ولذلك أطاب أهل الحديث أنفسهم الثناء عليهما. وأما البغوي فإن أهل العلم بعده أجمعوا على توثيقه، هذا ابن عدي بعد أن حط عليه بما لا يوجب جرحاً لم ينكر عليه إلا حديثاً واحداً أشار إلى أنه غلط في إسناده فأثبت ابن حجر في (لسان الميزان) أن الغلط من شيخ البغوي، وأن البغوي بعد اطلاعه على أنه غلط كف عن روايته ثم عاد ابن عدي فأنصف وقال: «ولولا أني شرطت أن كل من تُكُلِّمَ فيه (يعني ولو بكلام يسير لا يقدح) أذكره أذكره وإلا كنت لا أذكره» . وأعرض الخطيب عن كلام ابن عدي رأساً، وذكره ابن الجوزي في (المنتظم) ج6 ص229 وذكر بعض كلام ابن عدي وأجاب عنه وقال: «هذا كلام لا يخفى أنه صادر عن تعصب» وقال الذهبي في (الميزان) : «تكلم فيه ابن عدي بكلام فيه تحامل ثم في أثناء الترجمة أنصف ورجع عن الحط عليه» . وإنما كان البغوي عالي الإسناد حديد اللسان يفتخر على المحدثين في عهده في

عبد الله بن محمد بن عثمان المزني الحافظ: ابن السقاء (تعليق)

بلده ويتكلم فيهم فيتكلمون فيه بم ليس بموجب جرحاً، وروى الخطيب أن ابن أبي حاتم سئل البغوي فقال: «لا شك أنه يدخل في الصحيح» وعن الدارقطني أنه سئل عن البغوي فقال: «ثقة جبل إمام من الأئمة ثبت أقل المشايخ خطأ» وعن موسى بن هارون أنه سئل عن البغوي؟ فقال: «ثقة صدوق لو جاز أن يقال لإنسان إنه فوق الثقة لقيل له» . وقال الخطيب في أول ترجمته «كان ثقة ثبتاً مكثراً فهماً عارفاً» . وقال الذهبي في (التذكرة) : «واحتج به عامة من خرج الصحيح كالإسماعيلي والدارقطني والبرقاني ... وقال أبو يعلى الخليلي: البغوي شيخ معمر ... حافظ عارف صنف مسند عمه وقد حسدوه في آخر عمره فتكلموا فيه بشيء لا يقدح فيه» . ووثقه أيضاً مسلمة بن قاسم كما في (لسان الميزان) فهذا هو الإجماع يا أستاذ! وهل يضر البغوي بعد ذلك أن يتهمه مثلك؟ وأما الخطيب فقد ترجمته وأنت تعرف صدقه وثبته حق المعرفة وإن أظهرت التشكك. والله المستعان. (1) 134- عبد الله بن محمد العتكي. في (تاريخ بغداد) 13/325 من طريق «الأبار حدثنا عبد الله بن محمد العتكي البصري حدثنا محمد بن أيوب الذراع قال: سمعت يزيد بن زُريع ... » قال الأستاذ ص16: «العتكي والذراع مجهولان» . أقول: لم أعرفهما بعد وفي الرواة حسين بن محمد بن أيوب الذراع يروي عن يزيد بن زريع وغيره كما في ترجمته من (التهذيب) وهو بصري ثقة. فالله أعلم. 135- عبد الله بن محمود. راجع (الطليعة) ص86 - 87. زعم الأستاذ في (الترحيب) أنه لم يوثقه أحد من أهل عصره (2) وأن الحاكم متأخر عنه، مع أن الحاكم

_ (1) عبد الله بن محمد بن عثمان المزني الحافظ المعروف بابن السقاء راجع (الطليعة) ص48-49 وراجع (تذكرة الحفاظ) ج3 ص231. (2) انظر ما يأتي في ترجمة عبيد الله بن عبد الكريم.

136- عبد الله بن معمر

لا يعتد به. فأما الذهبي فمتابع للحاكم. ثم أومأ الأستاذ إلى أن بعض أهل عصره وثقه، وأنني إذا فتشت وجدته. فأقول: لا حاجة إلى التفتيش، والحاكم أقرب إلى عبد الله بن محمود من ابن معين إلى أبي حنيفة! فضلاً عن التابعين وأتباعهم الذين يوثقهم ابن معين وعمل أهل العلم بتوثيقه لهم، والحاكم إمام مقبول القول في الجرح والتعديل ما لم يخالفه من يرجح عليه وستأتي ترجمته. ولم يقتصر الذهبي على حكاية كلمة الحاكم بل قال من عنده: «الحافظ الثقة» ، وفوق ذلك فعبد الله من شيوخ ابن خزيمة كما في (تذكرة الحفاظ) ولعله روى عنه في صحيحه. ومن شيوخ ابن حبان كما في معجم البلدان (بُسْت) وذكره في (ثقاته) وذكر تاريخ وفاته، وتوثيق ابن حبان لمن عرفه حق المعرفة من أثبت التوثيق كما يأتي في ترجمته. 136- عبد الله بن معمر. في (تاريخ بغداد) 13/382 من طريق أحمد بن مهدي حدثنا عبد الله بن معمر حدثنا مؤمّل بن إسماعيل ... » قال الأستاذ ص65: «متروك كما في (الميزان) » . أقول: الذي في (الميزان) لا يتبين أهذا هو أم غيره. والحكاية التي ساقها الخطيب لما عنده عدة طرق أخرى. 137- عبد الأعلى بن مسهر أبو مسهر الدمشقي. في (تاريخ بغداد) 13/382 من طريق «يعقوب بن سفيان حدثني علي بن عثمان بن نفيل حدثن أبو مسهر حدثني يحيى بن حمزة ... » قال الأستاذ ص39: «ممن أجاب في المحنة، فترد الرواية مطلقاً عند من يرد رواية من أجاب في المحنة» . أقول: هذا إمام جليل من الشهداء في سبيل السنة ومن فرائس الحنفية الجهمية لمخالفته لهم في الفقه والعقيدة ولم يجب بحمد الله تعالى، ومن زعم أنه أجاب فقد صرح بأن ذلك بعد تحقق الإكراه، قال ابن سعد: «أشخص من دمشق إلى المأمون في المحنة فسئل عن القرآن فقال: كلام الله. فدعي له بالسيف ليضرب عنقه، فلما

138- عبد الرحمن بن بشير بن سلمان

رأى ذلك فقال: مخلوق. فأمر بإشخاصه إلى بغداد فحبس بها فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات» وقال أبو داود: «كان من ثقات الناس، لقد كان من الإسلام بمكان حمل على المحنة فأبى، وحمل على السيف فمد رأسه وجرد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات» . وأبو داود أثبت من عدد مثل ابن سعد، والظاهر أنه لم يحضر الواقعة واحد منهما ولكن بعض الحاضرين لها من الجهمية أخبر بما ذكر ابن سعد، وبعض الحاضرين من أهل السنة أخبر بما ذكر أبو داود. والمشدِّد على الذين أجابوا في المحنة هو الإمام أحمد ومع ذلك لم يقل لا تقبل روايتهم، وإنما كره الكتابة عنهم. وقد سلف بيان الوجه في ذلك في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن معمر، ثم الظاهر أن ذاك خاص بمن أجاب قبل تحقق الإكراه. فأما أبو مسهر فإن كان أجاب فبعد تحقق الإكراه وقد أثنى عليه بعد موته الإمام أحمد نفسه قال أبو داود: «سمعت أحمد يقول: رحم الله أبا مسهر ما كان أثبته» . 138- عبد الرحمن بن بشير بن سلمان. في (تاريخ بغداد) (13/181) من طريق «علي بن ياسر حدثني عبد الرحمن بن الحكم بن شتر (؟ بشير) بن سلمان عن أبيه أو غيره وأكبر ظني أنه من غير أبيه قال: كنت عند حماد بن أبي سليمان ... » قال الأستاذ ص 61: «ولم أر من وثقه» . أقول: ذكر ابن أبي حاتم في جملة من روى عن عبد الرحمن هذا أبا زرعة ومن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2ص 416. وذكر ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن موسى قال: ما رأيت أحداً أفهم لمشيخة أبي إسحاق الهمداني من عبد الرحمن بن الحكم» قال ابن أبي حاتم: «سمعت محمد بن مسلم (بن وارة) يقول: كان عبد الرحمن بن الحكم أعلم الناس بشيوخ الكوفيين» . ورأيت ابن أبي حاتم ينقل أشياء من كلامه جرحاً وتعديلاً وهذا يقتضي أنه عنده ممن يقبل منه ذلك (1) .

_ (1) عبد الرحمن بن داود بن منصور. راجع (الطليعة) ص 90 - 91: عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد أبو الميمون البجلي تقدم في ترجمة تمام.

139- عبد الرحمن بن عمر الزهري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق المعروف برسته

139- عبد الرحمن بن عمر الزهري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق المعروف برسته. في (تاريخ بغداد) (13/410) عنه عن جبر وهو عصام بن يزيد الأصبهاني «سمعت سفيان الثوري يقول: أبو حنيفة ضال مضل» قال الأستاذ ص136: «رسته أصبهاني ميلاده سنة 188 في رواية ابن أخيه قبل وفاة ابن مهدي بعشر سنين فقط ويستبعد أن يجهل ابن أخيه ميلاده، ومع هذا يقال: إنه روى عن ابن مهدي ثلاثين ألف حديث فلا يتصور هذا لإكثار لابن عشر وقد انفرد ابن ماجه من أصحب الأصول الستة بالرواية عنه. قال أبو موسى المديني: تكلم فيه أبو مسعود - وهو الحافظ البارع أحمد بن الفرات الرازي - كتب إلى أهل الري وينهاهم عن الرواية عنه. ويكثر الغريب في حديثه، وقال أبو محمد بن حيان غرائب حديثه تكثر» . أقول في (تهذيب التهذيب) : «قال محمد بن عبد الله بن عمر بن مزيد: ولد عمي عبد الرحمن سنة 188 ومات سنة 255 وقال أبو الشيخ: مات سنة 246 ويقال سنة 50» قال ابن حجر «في صحة ما ذكر من مولده نظر. فإن أبا نعيم في (تاريخ أصبهان) وصفه بأنه كان رواية يحيى القطان وابن مهدي ... وابن مهدي مات سنة198 ... ويحيى القطان مات أيضاً في أوائل سنة 98» أقول: وقفت على نسخة قلمية من (كتاب أبي الشيخ) ونسخة قلمية من (تاريخ أبي نعيم) وفي كل واحد منهما أنه مات سنة 346 ويقال سنة 50 (1) ولم يذكروا خلاف ذلك ولا ذكرا مولده ولم أجد فيهما ترجمة لابن أخيه. وذكرا أخاه عبد الله وأنه أيضاً رواية لابن مهدي والقطان وأنه توفي سنة 252 زاد أبو نعيم: «ولد سنة سبع وثمانين ومائتين» كذا، وفي المطبوعة: سبع وثمانين ومائة. وذكر أبو نعيم أخاهما محمد بن عمر وقال: «توفي سنة ثلاث وستين ومائتين وله اثنان وسبعون سنة وكان أصغر الأخوة» ! وكنت أخشى أن يكون في العبارة تصحيفاً، لكن في النسخة المطبوعة 1/187 ما يوافقها، ولفظه: «توفي سنة ثلاث وستين ومائتين في الوباء وله اثنان وتسعون

_ (1) قلت: وكذلك في مخططة الظاهرية من (طبقات المحدثين بأصبهان» (ق 73/2) .

سنة» ؛ فعلى هذا سكون مولده سنة 171 فعلى أقل تقدير يكون مولد عبد الرحمن سنة 170. وذكر أبو الشيخ وأبو نعيم ترجمة لابن عبد الرحمن وهو الحسن بن عبد الرحمن بن عمر وأنه سمع من عثمان بن الهيثم، وعثمان بن الهيثم توفي سنة 220. وروى أبو نعيم من طريق الحسن: «نا العلاء بن عبد الجبار» والعلاء توفي سنة 212 وهو بصري نزل مكة فسمع الحديث، كل هذا وعمر عبد الرحمن نحو أربع وعشرين سنة. وروى أبو الشيخ عن إبراهيم بن محمد بن الحارث عن أحمد بن حنبل قال: «ما ذهبت يوماً إلى عبد الرحمن بن مهدي إلا وجدت الأخوين لأزرقين عنده، يعني عبد الرحمن وأخاه» ولإبراهيم هذا عند أبي الشيخ وأبي نعيم ترجمة حسنة وإن لم يصرحا بتوثيقه. وفي (التهذيب) في ترجمة عبد الرحمن هذا: «قال أحمد: ما ذهبت إلى ابن مهدي إلا وجدته عنده» وابن مهدي قدم بغداد سنة ثمانين ومائة وفي التي تليها وأخذ أحمد يتردد إليه من حينئذ. وربما كان الصواب في عمر محمد «اثنان وسبعون سنة» فلا يلزم أن يكون مولد عبد الرحمن على أقل تقدير سنة 170 كما مرّ. ومع ذلك فكلمة الإمام أحمد وما تقدم من رواية الحسن بن عبد الرحمن: حدثنا العلاء بن عبد الجبار. يدفع أن يكون مولد عبد الرحمن سنة 188 ولولا ذلك لقلت: لعله ولد أول سنة 188 وكان أخوه عبد الله أكبر منه بسنة فوردا بغداد في سنة 196 وأحد هما في التاسعة والآخر في العاشرة وكان الوارد بهما رجل ثقة ثبت ذو جاه فحظي عند ابن مهدي والقطان فأقبلا على الإملاء على الغلامين بحضرة كل منهما وضبط لهما سماعهما في أصول محققة، فاطلع أبو زرعة وأبو حاتم وابن وارة على تلك الأصول فوجدوها مثبتة محققة فاعتمدوا عبد الرحمن. والله أعلم بحقيقة الحال. وقال أبو موسى المديني: «تكلم فيه أبو مسعود، وخرج إلى الري فكتب إليهم فيه فلم يبالوا بكتابه وحضر مجلسه أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة» . وقال ابن أبي

140- عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرازي

حاتم: «روى عن عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ... روى عنه أبي وأبو زرعة ... سئل أبي عنه فقال: صدوق» . ومن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج2 ص416. وكل من أبي زرعة وأبي حاتم وابن وارة أجل من أبي مسعود وأثبت وأيقظ وأعرف، فما رووا عن هذا الرجل عن ابن مهدي والقطان إلا وقد عرفوا صحة سماعه منهما. وأما الغرائب، فمن كثر حديثه كثرت غرائبه، وليس ذلك بقدح ما لم تكن منا كير الحمل فيها عليه، وليس الأمر هنا كذلك، وقد قال أبو الشيخ في أبي مسعود: «وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير» ويقول نحو هذا في تراجم آخرين وثقهم هو وغيره. وذكر ابن حبان عبد الرحمن هذا في (الثقات) . وفي ترجمة جبّر من (كتاب أبي الشيخ) من طريق سفيان صالح بن مهران عن جبر عن الثوري كلمة أخرى أشد مما رواه عبد الرحمن فهي في معنى المتابعة له. والله أعلم. (1) 140- عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرازي. في (تاريخ بغداد) 13/400 عنه «حدثنا أبي حدثنا ابن أبي سريج قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك بن أنس، وقيل له تعرف أبا حنيفة؟ فقال: نعم، ما ظنكم برجل لو قال هذه السارية ذهب لقام دونها حتى يجعلها من ذهب أو فضة وهي من خشب أو حجارة!. قال أبو محمد: يعني أنه كان يثبت على الخطأ ولا يرجع إلى الصواب إذا بان له» تكلم الأستاذ في هذا ص 114 - 116 وهو كلام طويل، فلنلخص مقاصده: الأول: أن المعروف في الحكاية «لقام بحجته» بدل «لقام دونها ... » كذلك في (تاريخ بغداد) 13/335 و (المنتظم) لابن الجوزي وكذلك في رواية أبي الشيخ عن أبي العباس الجمال عن أبي سريج ومثلها في (طبقات الفقهاء) للشيرازي. الثاني: أن مقصود مالك مدح أبي حنيفة بقوة العارضة، وقد روى ابن عبد البر

_ (1) عبد الرحمن بن مالك بن مغول. تقدم في ترجمة الصقر.

من طريق «أحمد بن خالد الخلال: سمعت الشافعي يقول: سئل مالك ... قيل له: فأبو حنيفة؟ قال: لو جاء إلى أساطينكم هذه - يعني السواري - فقايسكم على أنها من خشب لظننتم أنها خشب» . الثالث: أن ابن أبي حاتم مع اعترافه بأنه يجهل علم الكلام كما في (الأسماء والصفات) ص296 يدخل في مضايق علم أصول الدين مباعداً التفويض والتنزيه كما يعلم من كتابه (الرد على الجهمية) ويقول: بأن قول «لفظي بالقرآن مخلوق» كفر مخرج عن الملة. الرابع: أنه روى عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ما فيه غض من أبي حنيفة مع علمه بانحراف الجوزجاني من أهل الكوفة. الخامس: قال الأستاذ: «لو كشفنا الستار عما ينطوي ابن أبي حاتم عليه من الاعتقاد الرديء الحامل له على أعداء أهل الحق لطال بنا الكلام فلنكتف بهذه الإشارة، ليعلم أنه لا يؤخذ منه إلا فنه فيما لا يكون مثار تعصبه» . أقول: أما حكاية ابن أبي سريج عن الشافعي عن مالك فرواية ابن أبي حاتم أثبت إسناداً فإنه حافظ ثقة ثبت قيدها في كتاب مصنف وأبوه إمام، أما رواية الخطيب التي أشار إليها الأستاذ فرواها عن البرقاني هو على اصطلاح الأستاذ مجهول الصفة إنما ذكروا أن البرقاني سمع منه في أول أمره، ومحمد بن أيوب في تلك الطبقة وذاك البلد اثنان أحدهما: محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الحافظ الثقة، والثاني محمد بن أيوب بن هشام، كذبه أبو حاتم ولا تعرف لواحد منهما رواية عن ابن أبي سريج ولا عن واحد منهما رواية لابن حمدان. وقد روى الخطيب (13/394) من طريق القاسم بن أبي صالح حدثنا محمد بن أيوب بن هشام الرازي كذبه أبو حاتم» هذا مع أن ابن هشام هذا لا تعرف له رواية عن

إبراهيم، وإنما الذي يروي عن إبراهيم هو محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس كما في ترجمة إبراهيم من (تهذيب المزي) فإن أحب الأستاذ فليعترف بأن محمد بن أيوب هناك هو ابن يحيى بن الضريس فنعترف له بأن الظاهر هنا أنه هو أيضاً، وإن لم نعرف له رواية عن ابن أبي سريج، لكن هو المشهور في تلك الطبقة والمتبادر عند الإطلاق ويبقى النظر في ابن حمدان. فأما رواية أبي الشيخ فلم أقف عليها، فإن ثبتت عنه بقي النظر في حال أبي العباس الجمال، وقد ذكره أبو الشيخ وأبو نعيم فوصفاه بالعلم، ولم يوثقاه. فأما ما في (المنتظم) فمأخوذ من رواية الخطيب وكذلك ما في (طبقات الفقهاء) مأخوذ من رواية أبي الشيخ، فابن حمدان والجمال على اصطلاح الأستاذ مجهول الصفة فأين هما من ابن أبي حاتم؟ ومحمد بن أيوب بن يحيى الضريس وإن كان ثقة ثبتاً إلا أنه دون أبي حاتم، مع أن هناك احتمالاً أن محمد بن أيوب هو ابن هشام وهذا الاحتمال وإن كان خلاف الظاهر لكنة لا يهدر عند الحاجة إلى الترجيح. فأما رواية ابن عبد البر ففي سندها أحمد بن الفضل وهو كما قال لأستاذ «الدَيْنَوري» له ترجمة في (لسان الميزان) ج1 ص246 وفيها عن الحافظ ابن الفرضي « ... وكان عنده مناكير وقد تسهل فيه الناس وسمعوا منه كثيراً وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى: لقد كان بمصر يلعب به الأحداث ويسرقون كتبه وما كان ممن يكتب عنه» وفيها عن أبي عمرو الداني أنه بلغه أن أبا سعيد ابن الأعرابي كان يضعف أحمد بن الفضل هذا ويتهمه ومع ذلك فليست هذه الرواية من طريق ابن أبي سريج. فقد أتضح أن رواية ابن أبي حاتم هي الثابتة. وأما ما هو مقصود مالك فالله أعلم، فقوله في رواية ابن أبي حاتم: «حتى يجعلها ذهباً» يحتمل معاني: الأول: أن تكون «حتى» بمعنى إلى و «يجعل على حقيقته. أي لقام دونها وبقي على دعواه ومناظرته إلى أن يصير السارية ذهباً، وذلك ما لا يكون فالمعنى: أنه لا يرجع عن دعواه ومجادلته أبداً، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ

فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . المعنى الثاني: أن تكون حتى بمعنى إلى أيضاً و «يجعل ... » بمعنى يجعل في ظن السامع أي لا يزال يورد الشبهات إلى أن يخيل للسامع أن السارية ذهب. المعنى الثالث: أن تكون «حتى» بمعنى كي و «يجعل ... » بمعنى يجعل في ظن السامع أي لقام يستدل على أنها ذهب لكي يخيل إلى السامع ذلك. والمعنى الأول هو الذي فهمه ابن أبي حاتم وهو ذم؛ والمعنى الثاني وصف بقوة العارضة والقدرة على الجدل. والمعنى الثالث وصف باستمرار الموصوف على ما سبق أن قاله، ومحاولة أن يخيل للسامع صحته. وقوله في الرواية الأخرى «لقام حجته» ظاهر في المعنى الثاني فإنه لا يمكن أن تكون هناك حجة حقيقة على أن الحجر أو الخشب ذهب وإنما قد يمكن أن تورد شبهة يتوهم السمع أنها حجة. وهذا المعنى كما تقدم وصف بقوة العارضة والقدرة على الجدل، وهو فيما بين الناس مدح، فأما بالنظر إلى الأحكام الشرعية فيحتمل المدح بأن يكون المقصود أن أبا حنيفة كان من القدرة على بيان الحق وإقامة الحجة عليه غاية بحيث لو فرض أنه ادعى الباطل لأمكنه أن يخيل لسامع أنه حق فما بالك بالحق؟ ويحتمل الذم بأن يكون المقصود أنه كان ماهراً في الجدل والمخاصمة بحيث يُرى الباطل حقاً والحق باطلاً. وزعم الأستاذ أن ابن أبي حاتم إنما سمع الحكاية بلفظ «لقام بحجته» فغيرها إلى ما وقع في روايته ليصرفها إلى الذم، تهمة باطلة وفرية كاذبة وبهتان عظيم. أولاً: لما ثبت من ديانة ابن أبي حاتم وأمانته وصدقه وورعه. ثانياً: لأن اللفظ الواقع في روايته يحتمل ن يكون مدحاً كما مر فلو كان ممن يستحل التغيير لغير إلى لفظ صريح في الذم واستغنى عن التفسير الذي يمكن أن

تحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء كفرا أن يحكم على كل من وقع منه بالكفر

ينازع فيه. ثالثاً: لفظ «لقام حجته» يحتمل أن يكون ذماً أيضاً كما مر فلو كان ابن أبي حاتم حريصاً على أن يحمل الحكاية على الذم لأمكنه أن يفسر هذا اللفظ بما يقتضي الذم ويحتج بقول الله عز وجل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وبعد أحاديث معروفة، فما الذي يلجئ ابن أبي حاتم إلى أن يضحي بأمانته في النقل وهي رأس مال مثله لأجل غرض يمكنه تحصيله بدون تلك التضحية؟ ولو فرضنا أن الحكاية رويت عن ابن أبي سريج من عدة أوجه صحيحة وثيقة يجب ترجيحها على رواية ابن بي حاتم لما ساغ أن يتهم، بل يحمل على أنه سمع الحكاية، ففهم منها المعنى الذي ظهر من اللفظ الذي عبر به ولم يكتبها، ثم مضت عليها مدة فاحتاج إلى أن يذكر الحكاية فلم يتذكر لفظها فعبر عنها بما يراه يؤدي ذلك المعنى الذي فهمه. واحتاط فلم يأت بلفظ صريح، بل أتى بلفظ محتمل، ثم فسره بالمعنى الذي فهمه. ومثل هذا أو أشد منه قد يتفق في الأحاديث النبوية لمن هو أجل من ابن أبي حاتم ثم لا يكون موجباً وهناً ما في الراوي. أما الأمر لثالث فقد أجبت عنه في قسم الاعتقاديات وإن صح عن ابن أبي حاتم إطلاق إن قول «لفظي بالقرآن مخلوق» كفر مخرج عن الملة، فمراده بذلك، قول تلك الكلمة معنياً بها أن القرآن مخلوق، وأهل العلم قد يحكمون على الأمر بأنه كفر ولا يحكمون بأن كل من وقع منه خارج عن الملة، لأن شرط ذلك أن لا يكون له عذر مقبول. ويأتي مثل هذا في الزنا والربا وغيرهما، وقد جاء في الحديث تعريف الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، (1) وقد يذكر المؤمن أخاه بما يكره غير شاعر بأنه يكرهه بل ظاناً أنه يحبه. فلا يلحقه الإثم وإن صح أن يسمى ما وقع منه غيبة، وصح أن يقال: الغيبة حرام يأثم صاحبها، وقد قال الله تبارك وتعالى {مَنْ

_ (1) أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. ن

كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النحل - 106. المختار من معنى الآية أن التقدير: «من كفر بالله بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» ، فحذف هذا الجواب وهو قولنا «فعليهم غضب ... » لدلالة ما بعد ذلك عليه. فدل الاستثناء على أن من أكره فأظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فقد كفر من بعد إيمانه وإن كان لا غضب عليه ولا عذاب. ومع هذا فقد يكون أطلق في القرآن في مواضع كثيرة ترتب العقوبة على الكفر. فعلم بذلك جواز ذاك الإطلاق وإن كان الحكم مختصاً بغير المكره لأنه قد قام الدليل على إخراج المكروه فلا محذور في الإطلاق. فكذلك هنا لا حرج في إطلاق أن قول تلك الكلمة كفر مخرج عن الملة. وإن كان هذا الحكم مختصاً بمن ذكرنا. وأما الأمر الرابع فقد سلف الجواب عنه في ترجمة الجوزجاني. وأما الأمر الخامس فجابه في قسم الاعتقاديات وفي القاعدة الثالثة من قسم القواعد. أما قوله: «لا يؤخذ منه إلا فنه فبما لا يكون مثار تعصبه» إن أراد به رد ما يرويه ابن أبي حاتم مما فيه غض من أبي حنيفة وأصحابه فقد أبطل، وأتى بما لا يستحق أن يذكر، فكيف أن يقبل؟! وإن أراد رد رأي ابن أبي حاتم كقوله في تفسير تلك الكلمة: «يعني أنه كان يثبت على الخطأ ... » فلا وجه للرد ولكن ينبغي التثبت والتدبر، فإن تبين خطأ ابن أبي حاتم رد عليه خطؤه كما يرد على غيره، وإن تبين صوابه وجب القبول، وإن لم يظهر ذا ولا ذا نظرنا فإن كان ذاك حكماً منه في جرح أو تعديل كقوله: «فلان ثقة» أو «فلان ضعيف» وجب قبوله إلا أن يعارضه ما هو أولى بالقبول منه. وراجع ترجمة ابن أبي حاتم في (تذكرة الحفاظ)

141- عبد الرزاق بن عمر البزيعي

ج3 ص46. وفي مقدمتي لكتابه «الجرح والتعديل» (1) . 141- عبد الرزاق بن عمر البَزيعي. في ترجمة أبي يوسف من (تاريخ بغداد) (14/256) حكاية من طريقه عن ابن المبارك. قال الأستاذ ص178: «ليس في ترجمة أبي يوسف عند الخطيب كلمة تعزى إلى ابن المبارك إلا في سندها من لا يجوز الاحتجاج به ومن هو غير ثقة مثل ... وعبد الرزاق بن عمر» . أقول: قال الراوي عنه محمد بن عبيد بن عتبة الكندي: «كان من خيار الناس» وذكره ابن حبان في (الثقات) . 142- عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي. في (تاريخ بغداد) 13/387 من طريقه «حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي قال: حدثني أبو إسحاق الفزاري قال: كنت آتي أبا حنيفة أساله عن الشيء من أمر الغزو، فسألته عن مسألة فأجاب فيها ... » قال الأستاذ ص77: «عزله يحيى بن أكثم لسبب لا بد أن يكون غير ضعفه في الفقه ثم أعاده الحشوية إلى القضاء حينما قامت لهم سوق» . أقول: روى عنه مسلم في مقدمة (صحيحه) وأبو داود في (سننه) ، وأبو داود لا يروي إلا عن ثقة كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد، وذكره ابن حبان في (الثقات) . وفي (التهذيب) : «قال أبو علي بن خاقان أحسن أحمد القول فيه قال: ما بلغني إلا خير. وقال أحمد بن كامل: كان عفيفاً، قال: وبلغني أن المتوكل قال ليحيى: لم عزلته؟ قال: أراه ضعيفاً في الفقه. قال: فكتب المتوكل إلى أهل بغداد كتاباً وكتب عهداً ولم يسم القاضي وأمر أن يسأل عن الوابصي فإن رضوا به وقع اسمه في العهد فأجمعوا على الرضا به. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: «كان جميل الطريقة» ، كان الوابصي سنياً فكأن الجهمية ألحوا على يحيى بن أكثم في عزله فعزله اتقاء لشرهم فلما كان في خلافة المتوكل بعد ارتفاع المحنة كانوا ربما يسألون الإمام أحمد عمن يريدون توليته القضاء فسألوه عن محمد بن شجاع ابن الثلجي الجهمي

_ (1) عبد الرحمن بن هانئ أبو نعيم البجلي. في ترجمة ضرار بن صرد.

143- عبد السلام بن محمد الحضرمي

الذي تقدم شيء من حاله في ترجمة حماد ابن سلمة، فقال أحمد: لا ولا على حارس. وكأنه سئل عن الوابصي فقال: ما علمت إلا خيراً. فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: لم عزلته؟ فكأنه خاف أن يقول: إرضاءً للجهمية، فأجاب بما تقدم. فكأن الأستاذ أشار إلى هذا، كأنه أراد أن الوابصي - كما يقول - من الحشوية. وأراد بالحشوية أهل السنة الإمام أحمد وأصحابه وموافقيه. ولا أجازي الأستاذ على هذا ولكني أقول: الموفق حقاً ومن وفق لمعرفة الحق وأتباعه ومحبته، والمحروم من حرم ذلك كله، فما بالك بمن وقع في التنفير من الحق وعيب أهله؟! 143- عبد السلام بن محمد الحضرمي. مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة بقية. قال الأستاذ ص186: «يقول عنه أبو حاتم: صدوق. إلا أن هذا اللفظ مصطلح عنده فيمن يجب النظر في أمره، فيكون مردود الرواية إذا لم يتابع. ولم يتابع» . أقول: أبو حاتم رحمه الله معروف بالتشدد، قلما وجدته يقول في رجل «هو صدوق» إلا وقد وثقه غيره، وعبد السلام هذا ذكره ابن حبان في (الثقات) وتفرده بتلك الحكاية لا يضره. والله الموفق. 144- عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي. مر في ترجمة الخطيب أحمد بن علي بن ثابت تجني ابن الجوزي على الخطيب أنه مال على أبي الحسن ووعدت أن أفرد له ترجمة أو ضح فيها ما ظهر لي أن الخطيب إما مصيب مشكور وإما مخطئ معذور. ترجمة أبي الحسن في (تاريخ بغداد) 10/461 وذكر فيه أمرين وذكر في ترجمة ابنه عبد الوهاب 11/33 ثالثاً، وهي هذه الأول: قال: «حدثني الأزهري قال: قال لي أبو الحسن بن رزقويه: وضع أبو الحسن التميمي في مسند أحمد بن حنبل حديثين فأنكر أصحاب الحديث عليه ذلك وكتبوا محضراً أثبتوا فيه خطوطهم بشرح حاله. قال الأزهري: ورأيت المحضر عند ابن رزقويه، وفيه خط الدارقطني وابن شاهين وغيرهما» .

الثاني: قال الخطيب: حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن علي العكبري قال: حدثني الحسن بن شهاب عن عمر بن المسلم قال حضرت مع عبد العزيز بن الحارث الحنبلي بعض المجالس فسئل عن فتح مكة أكان صلحاً أو عنوة؟ فقال: عنوة. فقيل: ما الحجة في ذلك؟ فقال: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا عبد الرزاق عن مالك - أو معمر: قال عبد الواحد: أنا أشك - عن الزهري عن أنس أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في فتح مكة أكان صلحاً أو عنوة؟ فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عنوة. قال ابن المسلم: فلما خرجنا من المجلس قلت له: ما هذا الحديث؟ قال: ليس بشيء وإنما صنعته في الحال لأدفع به الخصم» . الثالث: قال الخطيب في ترجمة عبد الوهاب: «حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكنية بن عبد الله التميمي قال سمعت أبي يقول ... » فساق السند مسلسلاً بالآباء إلى أكنية «يقول سمعت علياً وسئل عن الحنان المنان ... » وساق الذهبي في ترجمة أبي الحسن من (الميزان) بالسند إليه قال «سمعت أبي ... » بسلسلة الآباء إلى «أكنية يقول سمعت أبي الهيثم يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما اجتمع قوم على ذكر إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة» قال الذهبي: «المتهم به أبو الحسن وأكثر أجداده لا ذكر لهم في تاريخ ولا في أسماء رجال» . فأما الأمر الأول، فأجاب عنه ابن الجوزي في (المنتظم) ج7 ص110 بقوله: «يجوز أن يكون قد كتب في بعض المسانيد من مسند آخر، ومن مسموعاته من غير ذلك المسند، متى كان الشيء محتملاً لم يجز أن يقطع على صاحبه بالكذب، نعوذ بالله من الأغراض الفاسدة على أنها تحول عن صاحبها» . أقول: يقع في بعض مسانيد الصحابة من (المسند) أحاديث لصحابي آخر ففي مسند ابن عباس من (المسند) ج1 ص258 حديث من رواية أبي هريرة مرفوعاً وفي الصفحة التي تليها حديث من رواية أنس مرفوعاً، ولذلك نظائر فكأن مقصود

ابن الجوزي أنه يجوز أن يكون أبو الحسن حول الحديثين المذكورين مثلاً فألحق الأول في مسند أبي هريرة والثاني في مسند أنس. ولا يخفى بُعد هذا الاحتمال إذ لو كان هذا هو الواقع لما كان هناك ما يدعو الحفاظ الأثبات كالدارقطني وابن شاهين إلى شدة الإنكار وكتابه المحضر، ولما عبر ابن رزقويه بقوله: «وضع أبو الحسن» فأما قول ابن الجوزي «ومن مسموعاته» فكأنها راد به أنه إن لم يكون ذانك الحديثان من (المسند) فيجوز أن يكون سمعها من أبو الحسن خارج (المسند) بسند (المسند) كأن يكون (المسند) عنده من روايته عن ابن الصواف عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وسمع بهذا السند نفسه حديثين مفردين فألحقهما في (المسند) . وهذا الاحتمال أقرب من الأول، وعليه فلم فلم يكن من أبي الحسن وضع ولا افتراء. ويبقى النظر في صورة إلحاقه، فإن كان أنهما علقهما في الحاشية على سبيل الفائدة الزائدة لا على إيهام أنهما منه، فقد أساء، إلا أنه لا يكون ذلك وضعاً للحديث وافتراءً له. وإنكار الحفاظ وكتابة المحضر وقول ابن رزقويه «وضع ... في (مسند أحمد) » يدل أن الواقع لم يقتصر على الكتابة في الحاشية بدون إيهام. وقد وقع التقصير من الجانبين، قصر الأزهري عن تفصيل القضية فلم يذكر ما هما الحديثان وما قال الحفاظ، وقصر محدثوا الحنابلة فلم يراجعوا عند كتابة المحضر ولم ينقلوا بيان الحال إن كان كان الواقع على وجه لا يضر صاحبهم أبا الحسن. فلو ساغ لابن الجوزي أن يتهم الخطيب بالميل لساغ لمن يدافع عن الخطيب أن يقول: لو كان هناك ميل لتداركه محدثوا الحنابلة في عصر الخطيب عندما سمعوا ما ذكره الخطيب في (تاريخه) ، ولعلهم كانوا قد علموا بالقضية أو سألوا عنها فعرفوها ورأوا أن السكوت عنها أولى، لأن ذكرها مفصلة لا ينفع صاحبهم بل لعله يكون أضر عليه. وقد كان ابن الجوزي قريباً من عصر الواقعة فإن لم يعتن بالبحث عنها والسؤال فقد قصر، وإن بحث وسأل فعرفها فما باله اقتصر على التجويزات البعيدة والتجني على الخطيب؟ ولا يظن به أنه بحث وسأل فلم يجد خبراً ولا أثراً إلا ما ذكره الخطيب، لأنه لو كان الأمر

هكذا لكان الظاهر أن يذكره ابن الجوزي فإنه أقوى للدفاع مما اقتصر عليه. وبعد فالأسلم للجانبين والأحقن لدم الأخوين أن يقال: لعل أبا الحسن سمع ذينك الحديثين مفردين ليسا من (المسند) ولكنهما بسنده فألحقهما في الحاشية أو بين السطور غير قاصد الإيهام، ولكن كانت صورة الإلحاق موهمة فأبو الحسن معذور لعدم قصده، والمنكرون معذورون لبنائهم على الظاهر. والله أعلم. وأما الأمر الثاني، فأجاب عنه بأن عبد الواحد «لا يعول على قَوْله ... » وستأتي ترجمة عبد الواحد، فلا هو بالذي تقوم الحجة بما ينفرد به ولا هو بمن يظنه أن يختلق مثل هذه القصة اختلاقاً. وإذا كان الأمر كذلك فلا مانع منه أبداً. احتمال يخف به الاستبعاد كأن يقال لعل صاحب القصة رجل آخر غير أبي الحسن ويكون ابن المسلم لم يسمعه بل قال مثلاً «بعض الفقهاء» أو «بعض الشيوخ» ولعله ذكر مذهبه، فظن عبد الواحد أنه أبو الحسن فسماه. وأما الأمر الثالث، فلم يذكره الخطيب في ترجمة عبد العزيز، وإنما الذي اهتم به عبد العزيز هو الذهبي، ولا حجة للذهبي على ذلك إلا أن عبد الوهاب موثق وعبد العزيز قد قيل فيه ما تقدم في الأمرين السابقين، وقد علمت أن الأمر الثاني لم يثبت ولا قارب، وأن الأمر الأول لا يخلوا عن احتمال، فالأولى في هذا الأمر الثالث الحمل على أحد الآباء المجاهيل. ومع أن ابن الجوزي دافع عن أبي الحسن فلم يذكر أن أحداً من حفاظ الحنابلة أو غيرهم وثقه، ولا وثقه هو، بل اقتصر على أنه لا يجوز القطع عليه بالكذب، وإنما ذكر قول أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي «رجل جليل القدر وله كلام في مسائل الخلاف وتصنيف في الأصول والفرائض» . والذي يتحصل هنا أنه لم يثبت ما يقطع به أبي الحسن أنه وضع الحديث لكنه مع ذلك لم يثبت على قواعد الرواية ما يقتضي أن تجب الحجة برواية ينفرد بها. فأم الخطيب فمن أنصف علم بأنه لم يعتد ما يوجبه عليه فنه ومقامه. والله أعلم.

145- عبد الله بن حبيب القرطبي أحد مشاهير المالكية

145- عبد الله بن حبيب القرطبي أحد مشاهير المالكية. ذكر الأستاذ ص6 عن الباجي «روى عبد الملك بن حبيب أخبرني مطرف أنهم سألوا مالكاً عن تفسير الداء العضال ... » وفيه قول الباجي «وعندي أن هذه الرواية غير صحيحة ... » قال الأستاذ ص8 «ووجه حكمه يظهر من ترجمة مطرف ... وعبد الملك في كتب الضعفاء» . أقول: كان ابن حبيب فقيهاً جليلاً نبيلاً صالحاً في نفسه لكن لم تكن الرواية من شأنه كان يتساهل في الأخذ ويروي على التوهم. هذا محصل ما ذكروه في ترجمته وقد توبع في هذه الحكاية كما يأتي في ترجمة مطرف. 146- عبد الملك بن قريب الأصمعي. ذكر الأستاذ ص 24 ما حكى عن الأصمعي في قول العبي «لا تعقل العاقلة ... » وأن الأصمعي قال: «كلمت أبا يوسف بحضرة الرشيد فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته» فقال الأستاذ ص 25: «لا نقيم لكلامه وزنا فان كنت لا تكفي بما في الكتب المؤلفة في الضعفاء من قول مثل أبي زيد الأنصاري فيه: فعليك بكتاب التنبيهات على أغاليط الرواة لأبي القاسم علي بن حمزة البصري لتطلع على أغلاط هذا المتقعر وكلام الناس في أمانته في النقل» وذكر الأستاذ ص 54 عن (تاريخ بغداد) حكاية من طريق الأصمعي فقال: «كذبه أبو زيد الأنصاري وذكر علي بن حمزة ... . ورماه بأمور تؤيد رأي أبي زيد فيه وليس بقليل ما ذكره الخطيب من نوادره ومن جملة نوادره أن الأصمعي لما توفي سنة 215 قال أبو قلابة الجرمي في جنازته: ... » فذكر البيتين. أقول: أما الحكاية الأولى فمسألة لغوية قد ذكرتها في الفقهيات. والحكاية الثانية لم ينفرد بها الأصمعي ومعناها مشهور إن لم يكن متواترا. وأما ما روى عن أبي زيد فلم يصح. كما أوضحته في (الطليعة) ص 82 - 83. ولو صح لما أو جب جرحا لأنه لم يفسر ويحتمل أن يراد به النسبة إلى الخطأ والغلط كما ذكره الأستاذ ص 163 ويؤيده أنه كان بين أبي والأصمعي منافسة دنيوية

ثناء الأئمة على الأصمعي

واختلاف في الاعتقاد مع أن بعض أئمة الحديث تكلم في أبي زيد كما تراه في ترجمته من (التهذيب) والأصمعي وثقه الأئمة كما يأتي. وقال الأستاذ في (الترحيب) : «وأما الأصمعي فقد وثقه غير واحد في الحديث وأما أخباره ونوادره المدونة في الكتب ففيها كثير مما يرفض وقد قال أبن أخي الأصمعي عبد الرحمن بن عبد الله وقد سئل عن عمه: هو جالس يكذب على العرب. وقال أبو رياش: كان الأصمعي مع نصبه كذبا. وقال: سأله الرشيد: لم قطع علي يد جدك أصمع؟ فقال: ظلما يا أمير المؤمنين. وكذب عدو الله. إنما قطعه في سرقة. وأطال أبو القاسم علي بن حمزة ... . ومما قال: كان مجبرا شديد البغض لعلي كرم الله وجهه. وتكذيبه ليس بمنحصر فيما يروي عن أبي زيد الأنصاري» . أقول: كان الأستاذ يحسب الكلام في الأصمعي كما قالت الأعراب: قد هدم اليربوع بيت الفاره ... فجاءت الزغب من الوباره وكلها يشتد بالحجارة من عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي يا أستاذ؟! وهل عرفه الناس إلا بكلمات يرويها عن الأصمعي؟ ولعلها إن صحت الكلمة عنه كلمة قالها في صباه وهو يلعب مع الأطفال فاستظرفت من ذاك الصبي فنقلت. وأما أبو رياش فمن أبو رياش؟ اذكروه بأكثر من أنه كان حفظه للأشعار؟ أو أنه كان يتشيع أو أنه كان وسخا دنسا إلى الغاية وهل يحتج بكلامه في أصمعي عاقل؟ ولمعرفتنا بحاله لا نطالبك بتصحيح النقل عنه وكان بعد الأصمعي بزمان طويل. أما علي بن حمزة فمعدود من علماء اللغة بينه وبين اًلأصمعي زمان طويل حده أن يقبل منه تخطئة من قبله إذا أقام الحجة. وقوله: «إن الأصمعي كان مجبرا» دليل على أنه هو كان قدريا والقدرية تسمى أهل السنة «مجبرة» وقوله: «شديد البغض لعلي كرم الله وجهه» قول لا حجة عليه ولا نعلم عن الأصمعي شيئا يثبت عنه يسوغ أن ينسب لأجله إلى النصب. ودونك ثناء الأئمة على الأصمعي قال الأمام الشافعي بعد أن فارق بغداد: «ما

كثير مما يحكى عن الأصمعي من النوادر منحول

رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي» فتدبر هذه الكلمة وأنظر من كان ببغداد من الأكابر الذين رآهم الشافعي بها. وقال أبو أمية الطرطوسي: «سمعت أحمد ويحيى يثنيان على الأصمعي في السنة. قال: وسمعت على بن المديني يثني عليه» وقال عباس الدوري: قلت لابن معين: أريد الخروج إلى البصرة فعمن أكتب؟ قال: عن الأصمعي فهو صدوق» وقال أبو داود: «صدوق» وقال نصر بن علي: «كان الأصمعي يقول لعفان ك اتق الله ولا تغير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولي» قال نصر بن علي: «كان الأصمعي يتقي أن يفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتقي أن يفسر القرآن» وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «ليس فيما يروي عن الثقات تخليط إذا كان دونه ثقة» . أقول: وتجد في كتب اللغة ومعاني الشعر مواضع كثيرة يتوقف عنها الأصمعي وذلك يدل على توقيه وتثبته. وكأن ابن جني أشار إلى كلام علي بن حمزة إذا قال في (الخصائص) : «وهذا الأصمعي وهو صناجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء والثقلة، ومنه يجنى الفقر والملح، وهو ريحان كل مغتبق ومصطبح، كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه، ومعلوم قدر ما حذق من اللغة فلم يثبته لأنه لم يقو عنده غذ لم يسمعه ... فأما إسفاف من لا علم له وقول من تمسك به أن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا، فكلام معفو عنه غير معبوء به ولا متقدم في مثله حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتحرزه من الكلام في الأنواء» . وأما ما يحكى عن الأصمعي من النوادر فقد نحله الناس حكايات كثيرة جدا وكل من أراد أن يضع حكاية نسبها إلى الأصمعي فلا يلتفت من ذلك إلا إلى ما صح سنده ولن يوجد في ذلك إلا ما هو حق وصدق، أو يكون الحمل منه على من فوق الأصمعي؛ ومحاولة الأستاذ التفرقة بين الحديث والحكايات محاولة فاشلة، والصدق الذي يثنى به على الراوي شيء واحد إما أن يثبت للأصمعي كله، وهو الواقع كما صرحت به كلمة الشافعي السابقة، واقتضته كلمات غيره، وإما أن يسقط كله. وقد

147- عبد الملك بن محمد أبو قلابة الرقاشي

تقدم شرح ذلك في القواعد. وأما قول الأستاذ: «ومن جملة نوادره أن الأصمعي لما توفي..» فهذا من العجائب كيف تكون من نوادره وقد مات؟ ! أو لم يستطع الأستاذ تخلصاً إلى ذينك البيتين اللذين هجي بهما الأصمعي بعد موته لتعطش الأستاذ إلى ذكرهما؟ والحكاية من رواية أبي العيناء وحاله معروف يأتي له ذكر في ترجمة الإمام مالك مع أن تمام الحكاية: «قال أبو العيناء: وجذبني من الجانب الآخر أبو العالية الشامي فأنشدني: لله در بنات الدهر إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلقا» لم أورد هذه التتمة منكراً على الأستاذ إعراضه عنها. ولكن كان الأجدر به وهو يعلم أن هذه تمام الحكاية أن يعرض عن أو لها يكون - أو لئلا يقال أنه - ممن يرضيه القول والزور الفاجر ويسخطه القول الصادق البار. هذا وقد كان الأصمعي أوائل أمره يخالط الخلفاء والأمراء ثم انقطع عن ذلك ولزم بيته ومسجده حتى أن المأمون الخليفة حرص جهده على أن يصير الأصمعي إليه فأبى، فكان المأمون يجمع المسائل ثم يبعث بها إلى الأصمعي بالبصرة ليجيب عنها. وليس للأصمعي ذنب إلا أنه من أهل السنة. والله المستعان. 147- عبد الملك بن محمد أبو قلابة الرقاشي. في (تاريخ بغداد) 13 / 423 من طريق الأصم «حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثنا أبو عاصم قال: سمعت سفيان الثوري بمكة وقيل له: مات أبو حنيفة. فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من الناس» ومن طريق الأصم أيضاً: «حدثنا محمد بن علي الوراق حدثنا مسدد قال: سمعت أبا عاصم يقول: ذكر عند سفيان موت أبي حنيفة فما سمعته يقول: رحمه الله، ولا شيئاً، قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به» . قال الأستاذ ص 169: «أبو قلابة الرقاشي كثير الخطأ في الأسانيد والمتون على ما نقله الخطيب عن الدارقطني» . أقول: قال الدارقطني: «لا يحتج بما تفرد به، بلغني عن شيخنا أبي القاسم ابن بنت

148- عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ

منيع (هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي تقدمت ترجمته) أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرة أجزاء ما منها حديث مسلم، إما في الإسناد وإما في المتن ن كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام فيه» ولا حاجة بنا ولله الحمد إلى مضايقة الأستاذ بأن نقول: أنت لا تثق بالبغوي فليس لك أن تعول عليه هنا. بل نقول: قال ابن جرير: «ما رأيت أحفظ منه» . وقال مسلمة بن قاسم عن ابن الأعرابي: « ... ما رأيت أحفظ منه وكان من الثقات ... » . قال مسلمة: «وكان رواية للحديث مثقفاً ثقة ... » وقال أبو داود: «رجل صدق أمين مأمون كتبت عنه بالبصرة» وقال ابن خزيمة: «ثنا أبو قلابة بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد» . فاتضح أن أبا قلابة كان ثقة متقناً إلا أنه تغير بعد أن تحول إلى بغداد، وفيها سمع منه البغوي. فإن كان الأصم منه بالبصرة ثبتت الحكاية، وإلا فقد تابعه عليها جبل من الجبال كما رأيت (1) قال البخاري في (صحيحه) في «باب من أين يخرج من مكة» : «كان يقال: هو مسدد كاسمه ... سمعت يحيى بن معين يقول ك سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسدداً أتيته في بيته لاستحق ذلك، وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد» . 148- عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ. ذكر الأستاذ ص 187 أن الخطيب روى من طريقة عن صالح بن محمد بن جزرة الحافظ كلاماً في الحسن بن زياد اللؤلؤي فقال الأستاذ: «عبد المؤمن ليس ممن يصدق فيه لأنه كان ظاهرياً طويل اللسان على أهل القياس» . أقول: قد سلف في القواعد أن المخالفة في المذهب لا ترد بها الرواية، كالشهادة، وهذا ما لا أرى عالماً يشك فيه. ومن حكم له أهل العلم بالصدق والأمانة والثقة فقد اندفع عنه أن يقال: «لا يصدق في كذا» اللهم إلا أن تقام الحجة الواضحة على أنه تعمد كذباً صريحاً فيزول عنه اسم الصدق والأمانة البتة،

_ (1) يعني مسدداً وهو ابن مسر هد. ن.

149 - عبد الواحد بن برهان العكبري

والأستاذ يمر بالجبال الرواسي فينفخ ويخيل لنفسه وللجهال أنه أزالها أو جعلها هباء. والذي جرأه على ذلك كثرة الأتباع وغربة العلم وما لا أحب ذكره. والله المستعان. 149 - عبد الواحد بن برهان العكبري، هذا الرجل روى عن الخطيب أشياء تتعلق برواة الحديث، ومن جملة ذلك ما تقدم في ترجمة عبد العزيز بن الحارث أبي الحسن التميمي وما يأتي في ترجمة عبيد الله بن محمد بن بطة العبكري. فاعترضه ابن الجوزي فقال في ترجمة أبي الحسن: «هذا العبكري لا يعول على قوله فإنه لم يكن من أهل الحديث والعلم، إنما كان يعرف شيئاً من الحديث. وكذلك ذكر عنه الخطيب، وكان أيضا معتزلياً يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار» وذكر نحو ذلك في ترجمة ابن بطة ثم قال: فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمين فهو خارج عن الإسلام فكيف يقبل جرحه؟ وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني كان ابن برهان يميل إلى المرد ويقبلهم» وقال في ترجمة عبد الواحد من (المنتظم) ج 8 ص 236 «كان مجودا في النحو، وكان لا يغطي رأسه، وذكر محمد بن عبد الملك: كان ابن برهان يميل إلى المرد الصباح ويقبلهم من غير ريبة. وقوله: من غير ريبة. أقبح من القبيل، لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهو ة فهل يكون التقبيل بغير شهو ة؟ ... » وفي (لسان الميزان) ج 3 ص 82: «قال ابن ماكولا: كان فقيهاً حنفياً قرأ اللغة واخذ الكلام من أبي الحسين البصري. قلت: وقد بالغ محمد بن عبد الملك الهمذاني في (تاريخه) فقال: كان يمشي مكشوف الرأس وكان يميل إلى المردان من غير ريبة، ووقف مرة على مكتب عند خروجهم فاستدعى واحداً واحداً فيقبله ويدعو له ويسبح الله فرآه ابن الصباغ فدس له واحداً قبيح الوجه فأعرض عنه وقال: يا أبا نصر لو غيرك فعل بنا هذا» وفي ترجمة عبد الواحد من (تاريخ بغداد) ج 11 ص 17: «كان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله ابن بطة وغيره إلا أنه لم يرو شيئاً وكان مضطلعاً بعلوم كثيرة منها النحو واللغة ومعرفة النسب

والحفظ لأيام العرب وأخبار المتقدمين وله إنس شديد بعلم الحديث» . أقول: فقد كان ابن برهان على بدعته من أهل العلم والزهد والمنزلة بين العلماء ومحمد بن عبد الملك الهمذاني لا أعرف ما حاله؟ وقد ذكر ابن حجر أنه بالغ. وقد تصرف ابن الجوزي في عبارة الهمذاني ففي موضع زاد فيها «ويقبلهم» وحذف «من غير ريبة» وفي موضع زاد «الصباح فيقبلهم» وإنما أخذ الصباحة والتقبيل من قصة المكتب، وقد كان ببغداد في ذاك العصر عدد كثير من مشاهير العلماء ما منهم إلا من يخالف عبد الواحد في العقيدة والمذهب أو أحدهما، وكان عبد الواحد على غاية الصيانة ذكروا أنه «لما ورد الوزير عميد الدين إلى بغداد استحضر فأعجبه كلامه فعرض عليه مالاً فلم يقبله فأعطاه مصحفاً بخط ابن البواب وعكازة حملت إليه من الروم فأخذهما فقال له أبو علي ابن الوليد المتكلم: أنت تحفظ القرآن وبيدك عصا تتوكأ عليها فلم تأخذ شيئاً فيه شبهة؟ فنهض ابن برهان في الحال قاضي القضاة ابن الدامغاني وقال له: لقد كدت أهلك حتى نبهني أبو علي ابن الوليد وهو أصغر سناً إليه» فما كان في ذاك الجم الغفير من أهل العلم من ينكر علي ابن برهان ما نسبه ابن الجوزي إليه؟ ! وما كان فيهم من يعيبه بذلك الشاذة من ذاك الهمذاني؟ وليس المقصود رد كلمة الهمذاني وإنما المقصود تجريدها عما فيها من المبالغة التي أشار إليها ابن حجر. فأقول: كانت المكاتب في ذاك العصر خاصة بالأطفال إنما هي لتعليم القراءة والكتابة فأما ما زاد عن ذلك من العلم فكان محله الجوامع والمساجد ومجالس العلماء في بيوتهم والمدارس الكبيرة، فمر على ما يقول الهمذاني ابن برهان مع جماعة من أهل العلم وغيرهم فيهم الإمام أبو نصر الصباغ الشافعي بمكتب من مكاتب الأطفال فصادف وقت خروجهم فأخذ ابن برهان يقبلهم ويدعو لهم تنشيطاً لهم ورجاء أن يصيروا رجالاً صالحين فمازحه ابن الصباغ بأن قدم إليه واحدا منهم قبيح

150- عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري

الصورة فأعرض عنه ابن برهان علكاً بأنه لا مجال هناك لأدنى ريبة ولو كان هناك مجال لريبة لكان الظاهر أن يقبل ذاك القبيح كغيره. وأي عقل يميز أن يكون فيما جرى شيء من الريبة ويقره الحاضرون من أهل العلم وغيرهم ويقتصر ابن الصباغ على تلك الملاطفة؟ فأما أهل بغداد المخالفون لابن برهان في العقيدة أو المذهب أو كليهما فلم يروا فيما جرى ما يسوغ أن يعاب به ابن برهان. وأما ذلك الهمذاني فدعته نفرته عن ابن برهان لمخالفته في العقيدة والمذهب إلى أن عبر بقوله: «يميل إلى المردان» فنازعه واعظ الله تعالى في قلبه فدافعه بقوله: «من غير ريبة» وذكروا قصة المكتب فجاء ابن الجوزي فصنع ما تقدم، ولا أدري ما صنع سبطه، فإنه كثير التصرف في مثل هذا، فوقع التزيد في الحكاية كما تراه في (بغية الوعاة) وغيرها. أما العقيدة فذكروا أن ابن برهان كان معتزلياً ولا أدري ما الذي كان يوافق فيه المعتزلة، فأما قوله بأن الكفار لا يخلدون في العذاب، فهي مسألة مشهورة ولو رأى علماء بغداد أن قول ابن برهان فيها مخرج عن الإسلام لسعوا في إقامة الحد عليه فما بالهم أعرضوا عن ذلك وكانوا يجلون ابن برهان ويحترمونه؟ نعم. ابن برهان لم يوثقه أحد فيما نعلم، ومن المحتمل أنه كان يهم فيما يرويه من الحكايات أو يبنى على الظن، فحقه آن لا تقوم الحجة بما ينفرد به ولكنه يذكر في المتابعات والشواهد كما صنع الخطيب. والله الموفق. 150- عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري. في (تاريخ بغداد) (13 / 388) عنه حكايتان في رد أبي حنيفة حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» بقوله: «هذا سجع» ورده قولاً لعمر بن الخطاب في الولاء بقوله «هذا قول شيطان» بقوله: «هذا سجع» ورده قولاً لعمر بن الخطاب في الولاء بقوله: «هذا قول شيطان» قال الأستاذ في حاشية ص 81: «قدري كما ذكره الخطيب في (الكفاية) وقدرية البصرة في غاية من الانحراف عن أبي حنفية لكثرة هبوطه البصرة للرد عليهم في مبدأ أمره» ؛ أقول: هبوط أبي حنيفة البصرة للمخاصمة في القدر لم يثبت، وقول عبد الوارث بالقدر في ثبوته نظر، قال ابنه عبد الصمد وهو من

151- عبد بن أحمد أبو ذر الهروي

الثقات الأثبات: «إنه لمكذوب على أبي، وما سمعت منه يقول قط في القدر وكلام عمرو بن عبيد» فإن كان في نفسه منه شيء فلم يكن يرى خلافة ضلالة فيعادي مخالفيه وإلا لكان أهم شيء عنده أن يدعو ولده. وقد شهد له ابن المبارك أنه لم يكن داعية ذكره الذهبي في ترجته من (تذكرة الحفاظ) ج 1 ص 237. فليس هنا ما يتشبث به دفع رواية عبد الوارث وهو مجمع على ثقته وجلالته. 151- عبد بن أحمد أبو ذر الهروي. تأتي له حكاية في ترجمة عبيد الله بن محمد ابن بطة فقال ابن الجوزي في (المنتظم) ج 7 ص 194: «كان من الأشاعرة المبغضين وهو أول من أدخل الحرم مذهب الأشعري ولا يقبل جرحه لحنبلي يعتقد كفره» . أقول: قال ابن الجوزي نفسه في ترجمة أبي ذر من (المنتظم) نفسه ج 8 ص 115: «كان ثقة ضابطاً فاضلاً ... وقيل: إنه كان يميل إلى مذهب الشعري» ويظهر من هذه العبارة الأخيرة أن الميل لم يثبت، فإن ثبت فما مقداره؟ وقد كان ابن الجوزي نفسه مائلاً بل يوجد في كلامه وكلام كثير من الحنابلة ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من كلام الأشعري وأصحابه. هكذا قاله أعرف الناس بهم وهو رجل منهم (1) كما تقدم في ترجمة الخطيب. هب أن أبا ذر أشعرياً فما تفصيل ذلك؟ والنقل عن الشعري مختلف وأصحابه مختلفون. وعلى كل حال فلا يكفرون الحنابلة. نعم قد يبد عونهم. ولكن عقلاءهم ولا سيما العارفين بالرواية منهم كالبيهقي لا يرون ذلك موهنا للرواية ولا مسوغا للبغض والعداوة وقد مرت الإشارة إلى ذلك في القواعد، وأشبعت القول في قسم الاعتقاديات. فالحق الذي لا معدل عنه أن أبا ذر ثقة تقبل روايته ويرد عليه من قوله ورأيه ما أخطأ فيه الحق. (2)

_ (1) هو شيخ ابن تيمية راجع ص 127 (2) عبدة بن عبد الله الخراساني «يأتي في «عبيدة» .

152- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي

152- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي. حكى الأستاذ ص 42 عن كتاب ابن أبي العوام «حدثني إبراهيم بن أحمد بن سهل الترمذي قال: حدثنا عبد الواحد بن أحمد الرازي بمكة قال: أنبأنا بشار بن قيراط عن أبي حنيفة ... » وعلق الأستاذ في الحاشية على بشار بن قيراط: «مقبول عند الحنفية بنيسابور كما قال الخليلي في الإرشاد وإن طال لسان أبي زرعه فيه لكونه من أهل الرأي» . أقول: ابن أبي العوام قد تعرضت له في (الطليعة) ص 27 - 28. فأعرض الأستاذ في (الترحيب) عن ذلك، ولنا أن نسأله: من إبراهيم بن أحمد في السند؟ ومن شيخه؟ فما بال الأستاذ أعرض عن ذلك كله وتناول بشاراً؟ أليوهم أن بقية السند ثقات إجماعاً؟ أم ليتوصل إلى الغض من أبي زرعة؟ بشار قديم من أبي حنيفة المتوفى سنة 150، كذبه أبو زرعة الذي ولد سنة 200 وقال أبو حاتم الذي ولد سنة 195 «هو نيسابوري قدم الري مضطرب الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به» وقال ابن عدي المولود سنة 277: «روى أحاديث غير محفوظة وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق» وقال الخليلي المولود بعد ذلك بزمان فإنه توفي سنة 446: «كان يتفقه على رأي أبي حنيفة رضيته الحنفية بخراسان، ولم يتفق عليه حفاظ خراسان» . وقد سبق في ترجمة عبد الله بن محمود، ذكر ما زعمه الأستاذ من أن من لم يوثقه أهل عصره يكون مجهول الصفة، وتراه هنا يرد جرح المتقدمين لبشار ويتشبث بقول المتأخر عنه بقريب من مائتي سنة «رضيته الحنفية بخراسان» ويزيد الأستاذ فيزعم أن أبا زرعة إنما كذبه لأنه مخالف له في المذهب. وقد علم مما سلف في القواعد أن من شهد له أهل العلم أنه «صدوق» لا يقبل من أحد أن يقول: إنه تعمد الكذب أو الحكم بالباطل إلا لأن يقيم على ذلك حجة صارمة، فما بالك بمن شهدوا له بأنه ثقة؟ فما بالك بمثل أبي زرعة في إمامته وجلالته وتثبته؟ والخليلي متأخر جداً عن زمن بشار كما مر. ولا ندري إلى ماذا استند في قوله: «رضيته الحنفية بخراسان» وهبه ثبت الرضا، فمن حنفية خراسان في ذلك الزمان؟ وقد

153- عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري

يكونون رضوه في رأيه ولا يدرون ما حاله في الحديث. كما رضي أهل المغرب أصبغ بن خليل وقد مرت ترجمته. وقد كان يمكن الأستاذ أن يقول: ذكروا أن أبا زرعة الرازي كذبه ولا ندري ما الذي اعتمده في تكذيبه، ولا كلام أبي حاتم يعطي أن بشاراً صدوق إلا أنه مضطرب الحديث، ويقوى ذلك رضا حنفية خراسان به والتصديق يقدم على التكذيب المبهم. والله أعلم. لكن الأستاذ لا يرى لأئمة السنة حقاً ولا حرمة، ولا يرقب فيهم إلا ولا ذمة لا يرعى تقوى ولا تقية، ولا يرى أن في أهل الحق بقية، فيدع بقية، فلندعه يصرح أو يكني، وعلى أهلها براقش تجني! 153- عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 عنه: «حدثنا محمد بن أيوب بن المعافى البزار قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: وضع أبو حنيفة أشياء في العلم مضغ الماء أحسن منها. وعرضت يوماً شيئاً من مسائله على أحمد بن حنبل فجعل يتعجب منها. ثم قال: كأنه هو يبتدئ الإسلام» قال الأستاذ ص 148 «من أجلاد الحشوية له مقام عندهم إلا أنه لا يساوي فلساً، وهو الذي روى حديث ابن مسعود (كلم الله تعالى موسى عليه السلام يوم كلمه وعليه حبة صوف، وكساء صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي) فزاد فيه: (فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ قال: أنا الله) . والتهمة لاصقه به لا محالة لانفراده الزيادة كما يظهر من طرق الحديث في (لسان الميزان) وغيره، وما فعل إلا ليلقى في روع السامع أن كلام الله تعالى من قبيل كلام البشر بحيث يلتبس على السامع كلامه تعالى بكلام غيره. تعالى الله عن مزاعم المشبهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى. وكتبه من شر الكتب وله طامات» . أقول: أما ذاك الحديث فيظهر أن ابن بطة لم يذكر تلك الزيادة على أنها من الحديث، وإنما ذكرها على جهة الاستنباط والتفسير أخذاً من الحديث ومن قول الله تبارك وتعالى في شأن موسى «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي

الحديث المشهور اصطلاحا والكشف عن علة حديث "كلم الله موسى ... وعليه جبة صوف" (تعاليق)

الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (القصص:30) وقوله عز وجل «فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (النمل 8-9) وابن بطة كغيره من أئمة السنة بحق يعتقدون أن الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت، وقد نقل بعض الحنفية اتفاق الأشاعرة والماتريدية على أن الله تعالى كلم موسى بحرف وصوت كما نقلته في قسم الاعتقاديات. وذكر الحنفية في كتابهم المنسوب إلى أبي حنيفة باسم (الفقه الأكبر) ما لفظه: «وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى» قال المغنيساوي في شرحه: «والله تعالى قادر أن يكلم المخلوق من الجهات أو الجهة الواحدة بلا آلة ويسمعه بالآلة كالحرف والصوت لاحتياجه إليها في فهمه كلامه الأزلي فإنه على ذلك قدير لأنه على كل شيء قدير» . وكما يحتاج موسى إلى الحرف والصوت يحتاج إلى أن يكون بلغته وان يكون على وجه يأنس به. فعلى كل حال قد دل الكتاب والسنة كالآيات المتقدمة وسياق الحديث على أن الله تعالى كلم موسى بحرف وصوت، وظهر بما تقدم أنه كلمه بلسانه العبراني على الوجه الذي يأنس به. ودلت الآية الثالثة على أن موسى سمع الكلام فقال في نفسه إن لم يقل بلسانه: «من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة» فأجيب بقول الله تعالى: «إنه (1) أنا الله العزيز الحكيم» فذكر ابن بطة ذلك على وجه الاستنباط والتفسير، واعتمد في رفع الالتباس على قرينة حالية مع علمه بأن الحديث مشهور (2) فجاء من بعده فنوهم أنه ذكر الكلام على أنه جزء

_ (1) الأصل (إني) . (2) قلت: الحديث المشهور اصطلاحاً يشمل الصحيح والضعيف وما لا أصل له، فليس في وصف الحديث بالشهرة ويعطي حديث ثابت، وهذا الحديث نفسه الذي رواء ابن بطة وزاد فيه ما زاده لا يثبت من أصله. فقد قال فيه الأمام أحمد: «منكر ليس =

النظر في ابن بطة من حيث الرواية

من الحديث. ولابن بطة أسوة فيمن اتفق له مثل من الصحابة وغيرهم كقول ابن مسعود مع حديث الطيرة «وما منا إلا» ومع حديث التشهد «إذا قلت هذا ... » ومع حديث آخر «ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار» وأمثال هذا كثير، قد أفردت بالتأليف كما تراه في الكلام على قسم المدرج من (تدريب الراوي) وغيره. قول الأستاذ: «تعالى الله عن مزاعم المشبهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى» . جوابه: بل تعالى الله عن العجز والكذب، وتفصيل هذا في قسم الاعتقاديات قوله: «وكتبه من شر الكتب» . جوابه بل شر الكتب ما تضمن تكذيب خبر الله تعالى وخبر رسوله كذلك. قوله: «وله طامات» . إن كان يريد ما يتعلق بالعقائد فقد علم جوابه مما مر، وإن أراد ما يتعلق بالرواية فدونك النظر فيه: ذكر الخطيب في (تاريخه) ابن بطة وحكى أشياء انتقدت عليه في الرواية فتعقبه ابن الجوزي في (المنتظم) وأنحى باللائمة على الخطيب. قال الخطيب في أول الترجمة: «كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد بن حنبل ... أخبرني الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري (بها) حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان ابن بطة حدثنا أبو القاسم

_ = بصحيح» . وضعفه أيضاً العقيلي وابن عدي وغيرهما، وذكروا أنه تفرد به حميد الأعرج، وهو ضعيف جداً، كما بينته في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (1240) ، فلو أن ابن بطة كان من علماء هذا الشأن لكان الأولى به أن يبين ضعف الحديث كما فعل إمامه، بدل أن يزيد فيه تلك الزيادة التي جرأت عليه الكوثري وغيره من ذوي الأهواء فاتهموه ظلماً بالوضع. والله المستعان.

ذكر أمور تسعة انتقدت عليه فيما يتعلق بالرواية

حفص بن عمر بن الخليل بأردبيل حدثنا رجاء بن مرجي بسمرقند ... » ثم حكى عن عبد الواحد بن علي بن برهان وقد مرت ترجمته «قال: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة» ثم حكى عن أبي حامد أحمد بن محمد الدلوي وهو أشعري «قال: لما رجع أبو عبد الله ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة فلم ير خارجاً منه في سوق ولا رئي مفطراً إلا في يوم الأضحى والفطر، وكان أماراً بالمعروف ولم يبلغه خبر منكر إلا غيره - أو كما قال» وفي أواخر الترجمة «أخبرنا العتيقي قال سنة 387 فيها توفى بعكبرا أبو عبد الله ابن بطة في المحرم وكان شيخاً صالحاً مستجاب الدعوة» . وذكر الخطيب أموراً انتقدت على ابن بطة فيما يتعلق بالرواية. الأول: أنه روى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجي (كتاب السنن) له فذكر الخطيب أن أبا ذر عبد بن أحمد الهروي كتب إليه من مكة أنه سمع نصر الأندلسي. قال: وكان يحفظ ويفهم فذكر قصة حاصلها أنه سمع من ابن بطة (كتاب السنن) لرجاء بن مرجى من ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء فذكر ذلك للدارقطني، قال: «هذا محال دخل رجاء بن مرجى بغداد سنة أربعين ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة سبعين ومائتين فكيف سمع منه؟» وذكر الخطيب عن ابن برهان قصة حاصلها أن ابن بطة ورد بغداد فحدث عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجئ (كتاب السنن) قال: «فأنكر ذلك أبو الحسن الدارقطني وزعم أن حفصاً ليس عنده عن رجاء وأنه يصغر عن السماع منه، فابردوا بريداً إلى (أردبيل) وكان ابن حفص بن عمر حياً هناك وكتبوا غليه يستخبرونه عن هذا الكتاب، فعاد جوابه بأن أباه لم يرو عن رجاء بن مرجى ولا رآه قط وأن مولده كان بعد موته بسنين» قال ابن برهان: «فتتبع ابن بطة النسخ التي كتبت عنه وغير الرواية وجعلها عن ابن الراجيان عن (فتح بن) شحرف (1) عن رجاء. أجاب ابن الجوزي بأن أبا ذر أشعري وأن ابن برهان مبتدع على ما تقدم في

_ (1) كذا الأصل بالحاء المهملة، وفي «التاريخ» (10 / 37) بالمعجمة.

ترجمتيهما، ولا يخفي سقوط هذا الجواب فإن أبا ذر ثقة كما مر، وابن برهان يدل سياقه للحكاية على أنه صادق فيها، ورواية ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء ثابتة كما تقدم أن الخطيب روى عن الحسن ابن شهاب عن ابن بطة بهذا السند والحسن بن شهاب حنبلي ثقة. ورجاء توفي ببغداد وكان قد أقام بها آخر عمره مدة والأردبيلي توفي سنة 339 وبين وفاتيهما تسعون سنة يضاف إليها مدة إقامة رجاء ببغداد آخر لأن الأردبيلي إنما سمع منه إن كان سمع بسمرقند على ما رواه الخطيب عن الحسن ين شهاب، وأضف إلى ذلك مقدار سن الأردبيلي الذي مكنه أن يرحل من بلده إلى سمرقند حيث سمع رجاء، وهذان المقداران يمكن حزرهما بعشرين أو ثلاثين سنة تضاف إلى التسعين التي بين الوفاتين، وعلى هذا يكون الأردبيلي بلغ من العمر مائة وبضع عشرة سنة على الأقل فيكون مولده قريباً من سنة 220 على الأقل باطل حتماً وبيانه أن عادة الذهبي في «تذكرة الحفاظ) أن يذكر من مشايخ الرجل أقدمهم وإنما قال في ترجمة الأردبيلي «سمع أبا حاتم الرازي ويحيى بت أبي طالب وعبد الملك بن محمد الرقاشي وإبراهيم بن ديزيل» وهؤلاء كلهم ماتوا بعد سنة 274 فهل رحل الأردبيلي وسمع سنة 230 فسمع من رجاء بسمرقند ثم رقد بعد ذلك أربعين سنة ثم استيقظ فسمع من الذين سماهم الذهبي؟ فالوهم لازم لابن بطة حتماً وسببه انه ساح في أول عمره فكان يسمع ولا يكتب ولم يكن يؤمل أن يحتاج آخر عمره إلى أن يروي الحديث ولهذا لم تكن له أصول، وفي (لسان الميزان) : «قال أبو ذر الهروي: جهدت على أن يخرج لي شيئاً من الأصول فلم يفعل، فزهدت فيه» وبعد رجوعه من سياحته انقطع في بيته مدة ثم احتاج الناس إلى أن يسمعوا منه فكان يتذكر ويروي على حسب ظنه فيهم، وكأنه سمع (سنن رجاء بم مرجى) من الأردبيلي عن رجل فتوهم بآخره أن الأردبيلي رواها عن رجاء نفسه، وقد رجع ابن بطة عن هذا السند لما تبين له أنه وهم. والله أعلم. الأمر الثاني: ذكر الخطيب عن ابن برهان قال: «قال لي الحسن بن شهاب

سألت أبا عبد الله ابن بطة: أسمعت من البغوي حديث علي بن الجعد؟ فقال: لا» قال ابن برهان: «وكنت قد رأيت في كتب ابن بطة نسخة بحديث علي بن الجعد قد حككها وكتب بخطه سماعه عليها» . أقول: تفرد بهذا ابن برهان ولم يرو ابن بطة حديث علي بن الجعد عن البغوي، وابن برهان لا يقبل منه ما تفرد به، ولعله وهم كأن كان الخط غير خط ابن بطة فاشتبه على ابن برهان، وكأن يكون ابن بطة إنما كتب «هذا الكتاب من مسموعاتي» أو نحو ذلك يعني أنه سمعه من غير البغوي فوهم ابن برهان. الثالث: ذكر الخطيب عن ابن برهان قال: وروى ابن بطة عن أحمد بن سلمان النجاد عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي نحواً من مائة وخمسين حديثاً فأنكر ذلك عليه بن محمد بن ينال وأساء القول فيه وقال: إن النجاد لم يسمع من العطاردي شيئاً حتى همت العامة أن توقع بابن ينال واختفى. قال: وكان ابن بطة قد خرج تلك الأحاديث تلك الأحاديث في تصانيفه وضرب على أكثرها وبقي بقيتها على حاله» . أقول: قد مر الكلام في ابن برهان ولكن دخول الوهم عليه في هذا بعيد والنجاد يقال إنه ولد سنة 253 وسمع من الحسن بن مكرم المتوفى سنة 274 ورحل إلى البصرة وسمع بها من أبي داود المتوفى سنة 275 ووفاة العطاردي سنة 272 فلا مانع من أن يكون النجاد قد سمع من العطاردي فإن قبلنا ما حكاه ابن برهان عن ابن ينال فلا مانع من أن يكون للنجاد إجازة من العطاردي ولابن بطة إجازة من النجاد فروى ابن بطة تلك الأحاديث بحق ألا جازة فكان ماذا؟ فأما حكه لبعضها فلعله وجدها أو ما يغني عنها بالسماع من وجه آخر فحك ما رواه بالإجازة وأثبت السماع. الرابع: قال الخطيب: «حدثني أحمد بن الحسن بن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة ب (معجم البغوي) في نسخة كانت لغيره وقد حكك اسم صاحبها وكتب اسمه عليها» وفي (لسان الميزان» عن ابن عساكر قال: «وقد أراني شيخنا أبو

القاسم السمرقندي بعض نسخة ابن بطة بـ (معجم البغوي) فوجدت سماعه فيه مصلحاً بعد الحك كما حكاه الخطيب عن ابن خيرون» . أجاب ابن الجوزي بقوله ك «أتراه إذا حصلت للإنسان نسخة فحك اسم صاحبها وكتب سماع نفسه وهي سماعه أن يوجب هذا طعنا؟» . أقول: هذا بمقتضى العادة يدل أنه لم يكن لابن بطة أصل بسماعه (المعجم) من البغوي فإنه لو كان له اصل به لكان اسمه كتب وقت السماع فإن كان سمع في ذاك الأصل مع آخر فإنه يكتب سماعها معاً فما الحاجة إلى الحك ثم الكتابة مرة أخرى؟ وقد قال الخطيب: «قال لي أبو القاسم الأزهري ك ابن بطة ضعيف ضعيف ليس بحجة، عندي عنه (معجم البغوي) ولا أخرج عنه في الصحيح شيئاً. قلت: له ك كيف كان كتابه ب (المعجم) ؟ فقال: لم نر له أصلاً وإنما دفع غلينا نسخة طرية بخط ابن شهاب فنسخنا منها وقرأنا عليه» . وتقدم عن أبي ذر الهروي أنه جهد أن له ابن بطة شيئاً من أصوله فلم يفعل. وذكر ابن بطة فيما رواه أبن الجوزي قصة سماعه (المعجم) من البغوي وفيها: «ثم قرأنا عليه (المعجم) في نفر خاص في مدة عشر أيام أو أقل أو أكثر وذلك في سنة خمس عشر أو ست عشرة» والظاهر أنه لو كان أصل سماعه عنده لكان التاريخ مقيدا فيه فلا يحتاج إلى الشك. فأما قول أبن الجوزي: «قرأت بخط أبي القاسم ابن الفراء ... قابلت أصل ابن بطة (المعجم) فرأيت سماعة في كل جزء إلا أني لم أر الجزء الثالث أصلا» . فذاك هو السماع الملحق الذي ذكره ابن خيرون وابن عساكر. فالذي يتحصل أنه لم يكن عند ابن بطة أصل سماعه ب (المعجم) فإما إن يكون كان له أصل فضاع أو تلف وإما أن يكون سمع في نسخة لغيره لم تصر إليه وكأنه ظفر بنسخة أخرى وثق بصحتها فتسمح في الرواية عنها. والله أعلم. الخامس: ذكر الخطيب عن أبي القاسم التنوخي عن أبي عبد الله بن بكير قال: «لبن بطة لم يسمع (المعجم) من البغوي وذلك أن البغوي حدث به دفعتين،

الأولى منها قبل سنة ثلاثمائة (قبل مولد ابن بطة) في مجلس عام والأخرى بعد سنة ثلاثمائة في مجلس خاص لعلي بن عيسى (الوزير) وأولاده» قال الخطيب: «وفي هذا القول نظر لأن محمد بن عبد الله بن الشخير قد روى عن البغوي (المعجم) وكان سماعه بعد الثلاثمائة بسنين عدة ولعل ابن بكير أراد بالمرتين قبل سنة عشر وثلاثمائة وبعدها ... ومما يدل على ذلك أن أبا حفص أبن شاهين كان من المكثرين عن الغوي وكذلك أبو عمر حيوية وابن شاذان ولم يكن عند أحد منهم (المعجم) فهذا يدل على أن رواية العامة كانت قبل العشر بسنين عدة» . أجاب ابن الجوزي بأن التنوخي كان معتزليا يميل إلى الرفض. أقول: هو صدوق ولكن قد دل ما ذكره الخطيب أن سماع ابن الشخير كان بعد الثلاثمائة بسنين عدة على أن البغوي حدث ب (المعجم) دفعة ثالثة ولعلها كانت لنفر خاص فلم يقف عليها ابن بكير ولم يحضرها ابن شاهين وابن حيوية ابن شاذان. وقد تكون هناك دفعة رابعة خاصة أيضا. وقد ذكر ابن بطة فيما رواه ابن الجوزي قصة حاصلها أن أباه بعثه وهو صغير مع شريك له من أهل بغداد فأدخله على البغوي واسترضوه أن يحدثهم ب (المعجم) في نفر خاص قال: «ثم قرأنا عليه المعجم ... » إلى آخر ما تقدم آنفا. وفي القصة: «وأذكره وقد قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة 244 فقال المستملي خذوا هذا قبل أن يولد كل محدث على وجه الأرض. وسمعت المستملي وهو أبو عبد الله بن مهران يقول له: من ذكريات يا ثلث الإسلام» والظاهر أن هذا كان في مجلس عام حدث فيه الغوي بأحاديث غير المعجم الذي أختص به ابن بطة ومن معه ويشهد لذلك أن ابن بطة قد روى عن البغوي أحاديث ليست في (المعجم) كما يأتي. والله أعلم. السادس: قال الخطيب: شاهدت عند حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق نسخة بكتاب محمد ابن عزيز في (غريب القرآن) وعليها سماع ابن السوسنجردي من ابن بطة عن ابن عزيز فسألت حمزة عن ذلك؟ فأنكر أن يكون ابن بطة سمع الكتاب من ابن عزيز وقال: ادعى سماعه ورواه» .

أقول: ليس هناك ما يدفع دعواه فقد أدرك ابن عزيز إدرار كأبينا. السابع: قال الخطيب: «قلت: وكذلك أدعى سماع كتب أبي محمد بن قتيبة ورواها عن شيخ سماه: ابن أبي مريم. وزعم أنه دينوري حدثه عن ابن قتيبة. وابن أبي مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم ولا ذكره سوى ابن بطة. والله أعلم» . أقول: كأن ابن بطة لقي في سياحته رجلا دينوريا ذكر له أنه سمع كتب ابن قتيبة ويكون هذا الدينوري سياحا لم يتصد للرواية وإنما اتفق أن لقيه ابن بطة في سياحته. الثامن: ذكر الخطيب عن ابن برهان قال: «قال لي محمد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب بن عبد الله عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم» . قال الخطيب: «قلت: هذا الحديث باطل من حديث مالك ومن حديث مصعب ومن حديث البغوي عن مصعب وهو موضوع بهذا الإسناد والحمل فيه على ابن بطة» . (1) أقول: تقدم أن ابن برهان ليس بعمدة ولعله سمع من أبي الفوارس يقول: بلغني عن ابن بطة أو نحو ذلك. ولو روى ابن بطة هذا الحديث لكان الظاهر أن يشتهر عنه وينتشر. ولو صح عنه لحمل على الوهم فإنه سمع من البغوي. وهو صغير ولم يكن له أصول إنما كان يحمل على حفظه فيهم فيحتمل أن يكون سمع الحديث من البغوي بسند آخر وسمع منه حديثا أو أكثر بهذا السند فوهم. (2) . التاسع: قال الخطيب: «حدثني أحمد بن محمد العتيقي بلفظه من أصل كتابه وكتبه لي بخطه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان الفقيه (ابن بطة) بعكبرا

_ (1) قلت: قال الذهبي في (سير النبلاء) 10 / 280/ 1 عقب عبارة الخطيب هذه: «قلت: أفحص العبارة وحاشى الرجل من التعمد لكنه غلط ودخل عليه إسناد في إسناد» . ن (2) قلت: وهو الذي جزم به الحافظ الذهبي كما تقدم آنفا. ن

حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري حدثنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا» الحديث. وهذا الحديث أيضا باطل من رواية البغوي عن مصعب. ولم أره عن مصعب عن مالك أصلا، والله أعلم» . أقول: الحديث في (الصحيحين) وغيرهما من رواية جماعة عن مالك ولا يبعد أن يكون عند مصعب أيضا فلا يرويه عنه إلا البغوي لكن يبعد جدا أن يكون الحديث كان عند الغوي من هذا الوجه العالي فلا يرويه عنه إلا ابن بطة الذي حمل إليه وهو صغير ولم يطل مقامه عنده فالحكم بوهم ابن بطة في هذا واضح. (1) ولنعم ما قال الذهبي في (الميزان) : «إمام ذو أو هام ... ومع قلة إتقان ابن بطة في الرواية كان إماماً في السنة، إماماً في الفقه، صاحب أحوال وإجابة ودعوة رضي الله عنه» (2) . وعليك أن لا تقصر نظرك على هذه الأمور فترى في اجتماعها واستضعافك لبعض الأجوبة ما يحملك على سوء الظن بابن بطة، بل ينبغي لك أن تنظر أيضاً إلى حاله في نفسه، وقدم قول ابن برهان المعتزلي نفسه: «لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة» . وقول أبي حامد الدلوي الأشعري: « ... ولا رئي مفطراً إلا في يوم الأضحى والفطر (3) وكان أماراً بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيره» . وقول العتيقي: « ... كان شيخاً صالحاً مستجاب الدعوة» . وقال أبو الفتح بن القواس: «ذكرت لأبي سعد الإسماعيلي ابن بطة وعلمه وزهده، فخرج غليه، فلما عاد قال: هو فوق الوصف» . وقال ابن الجوزي في

_ (1) قلت: ولذلك قال الذهبي عقب الحديث من (الميزان) : «وهو بهذا الإسناد باطل» . ن (2) وقال في «السير» : «قلت: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط» . وقال في (الغلو للعلي الغفار) ص 141 طبع الأنصار: «صدوق في نفسه، وتكلموا في إتقانه» . (3) قلت: هذا صوم الدهر فلا يشرع، ولحديث «لا صام ولا أفطر» فلا يمدح به! ن

154- عبيدة الخراساني

(المنتظم) ج 7 ص 164: «أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن أبي محمد الحسن بن علي الجوهري قال: سمعت أخي عبد الله الحسين بن علي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علينا المذاهب فبمن نقتدي؟ فقال لي عليك بأبي عبد الله ابن بطة. فلما أصبحت لبست ثيابي وأصعدت إلى عكبرا فدخلت إليه، فلما رآني تبسم وقال: صدق رسول الله. صدق رسول الله. صدق رسول الله. يقولها ثلاثاً» . فالذي يتحصل أن ابن بطة مع علمه وزهده وفضله وصلاحه البارع كثير الوهم في الرواية فلا يتهم بما ينافي ما تواتر من صلاحه ولا يحتج بما ينفرد بروايته، ولا يشنع على الخطيب فيما صنعه وفاء بواجب فنه وإظهاراً لمقتضى نضره. والله الموفق. 154- عبيدة الخراساني. في (تاريخ بغداد) 14 / 257: «أبو داود سليمان بن الأشعث ثنا عبده بن عبد الله الخراساني قال: قال رجل لابن المبارك ... » . قال الأستاذ ص 178: « ... من لا يجوز الاحتجاج به ومن هو غير ثقة مثل ... وعبيدة الخراساني ... » . أقول: في الرواة عن ابن المبارك «عتبه بن عبد الله» و «عبدة بن سليمان» وكلاهما مروزيان. ومرو من خراسان، وهما ثقتان فإن كان هذا غيرهما فقد تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم أن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة. (1) 155- عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك الدقاق. في (تاريخ بغداد) 13 / 289 من طريقه «حدثنا حنبل بن إسحاق ... » مرت الحكاية في ترجمة حنبل. قال الأستاذ ص 84: «والمغموز عند الذهبي برواية الفاضحات» . أقول: عبارة الذهبي في (الميزان) : «صدوق في نفسه لكن روايته لتلك البلايا

_ (1) قلت: ليس في كتب الرجال «عبيدة الخراساني» فقول الكوثري فيه: «لا يجوز الاحتجاج به» أو «غير ثقة» من عندياته! والذي في سند الخطيب «عبدة بن عبد الله الخراساني» وهذا أيضاً ليس له ذكر في الكتب، كما يشير إليه كلام المصنف. ن

156- عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ

عن الطيور كوصية أبي هريرة، فالآفة من بعده (يعني في سياق السند) أما هو فوثقه الدارقطني وينبغي أن يغمز ابن السماك بروايته لهذه الفضائح» . قال ابن حجر في (اللسان) : «لو فتح المؤلف على نفسه ذكر من روى خبراً كذباً آفته من غيره ما سلم معه سوى القليل من المتقدمين فضلاً عن المتأخرين، وأني لكثير التألم من ذكره لهذا الرجل الثقة في هذا الكتاب بغير مستند وقد عظمه الدارقطني ووصفه بكثرة الكتابة والجد في الطلب، وأطراه جداً. وقال الحاكم في (المستدرك) حدثنا أبو عمرو ابن السماك الزاهد حقاً ... » وأقول: نعم ينبغي أن يغمز بما يناسب حاله ن فلا يركن إلى ما يرويه بدون النظر في رجاله كما يركن إلى ما يرويه يحيى بن سعيد القطان مثلاً، وأنت إذا نظرت إلى سنده في هذه الحكاية وجدتهم ثقات. 156- عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ. في (تاريخ بغداد) 13 / 324 من طريقة «سمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني» . قال الأستاذ ص 16: «صاحب (النقض) مجسم مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه، ويصرح بإثبات القيام والقعود والحركة والثقل والاستقرار المكاني والحد ونحو ذلك لله تعالى، ومثله يكون جاهلاً بالله سبحانه، بعيداً عن أن تقبل روايته» . أقول: كان الدارمي من أئمة السنة الذين يصدقون الله تعالى في كل ما أخبر به عن نفسه ويصدقون رسوله في كل ما أخبر به عن ربه يدون تكييف ومع إثبات انه سبحانه ليس كمثله شيء، وذلك الإيمان وإن سماه المكذبون جهلاً وتجسيماً (1) ،

_ (1) أقول: لا شك في حفظ الدارمي وإمامته في السنة، ولكن يبدو من كتابه «الرد على المريسي» أنه مغال في الإثبات فقد ذكر فيه ما عزاه الكوثري إليه من القعود والحركة والثقل ونحوه، وذلك مما لم يرد به حديث صحيح، وصفاته تعالى توقيفية فلا تثبت له صفة، بطريق اللزوم مثلا، كأن يقال: يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة، فان هذا إن صح بالنسبة للمخلوق، فالله ليس كمثله شيء فتأمل. ن

157- علي بن أبي الحسن المعروف بابن طيبة الرزاز

وقد بسطت الكلام في قسم الاعتقاديات، ومر في القواعد أن مثل هذا الاعتقاد ليس مما يقدح في الرواية، وكذلك مر فيها ما يتعلق بما يرويه الرجل مما فيه غض من مخالفه في الاعتقاد أو المذهب. وهذه الحكاية منقطعة لأن يوسف بن أسباط أصغر من أبي حنيفة بأربعين سنة، ولا ندري ممن سمعها. 157- علي بن أبي الحسن المعروف بابن طيبة الرزاز. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 «أخبرني علي بن أحمد الرزاز اخبرنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي قال: حدثنا الحسن بن الوضاح المؤدب ... » فذكر حكاية قد جاءت من غير هذا الوجه. قال الأستاذ ص 72: «كان له ابن أدخل في أصوله تسميعات طرية على ما حكاه الخطيب فكيف يعول الآن على روايته» . أقول: قال الخطيب في ترجمة الرزاز: شاهدت أنا جزءاً من أصول الرزاز بخط أبيه ... ثم رأيته قد غير فيه بعد وقت ... وكان الرزاز مع هذا كثير السماع كثير الشيوخ وإلى الصدق ما هو» فهذه الحكاية مما رآه الخطيب في أصول الرزاز الموثوق بها كما هو معروف من تحري الخطيب وتثبيته. 158- علي بن إسحاق بن عيسى بن زاطيا. في (تاريخ بغداد) 13 / 381 من طريقه «حدثنا أبو معمر القطيعي ... .» قال الأستاذ: ص 63 «لم يكن بالمحمود كما أقر به الخطيب» . أقول: حكى الخطيب هذه الكلمة عن ابن المنادي وهذه الكلمة تشعر بأنه محمود في الجملة كما مر نظيره في ترجمة الحسن بن الصباح فإن عدت جرحا فهو غير مفسر وقد قال ابن السني: «لا بأس به» . 159- علي بن جرير الباوردي. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 من طريق محمد بن المهلب السرخسي «حدثنا علي بن جرير قال: كنت في الكوفة فقدمت البصرة وبها ابن المبارك فقال لي: كيف تركت الناس؟ قال قلت تركت بالكوفة قوماً يزعمون أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » ومن طريق محمد بن أبي عتاب الأعين «حدثنا علي بن جرير الأبيوردي قال: قدمت على ابن

المبارك فقال له رجل: إن رجلين تماريا عندنا في مسألة فقال أحدهما: قال أبو حنيفة، وقال الآخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الأول: كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء ... » قال الأستاذ ص 148: «لا نجد لعلي بن جرير رواية مطلقاً عن ابن المبارك في غير هذين الخبرين وعلي بن جرير البارودي هذا زائغ لم يستطيع ابن حاتم أن يذكر شيخاً له ولا راوياً عنه، وجعله بمنزلة من يكتب حديثه وينظر فيه - رواية عن أبيه - لا في عداد من يحتج به ونحن قد نظرنا فيه فوجدنا باهتا ... » . أقول: ذكره ابن حبان في (الثقات) قال: «علي بن جرير من أهل (أبيورد) يروي عن حماد بن سلمة وابن المبارك وكان يخضب لحيته روى عنه أحمد بن سيار. سمعت محمد بن محمود ابن عدي يقول: سمعت (محمد بن عبد الله) بن قهزاز يقول: سمعت علي بن جرير يقول: قلت لابن المبارك: رجل يزعم أن أبا حنيفة أعلم بالقضاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله: هذا كفر. قلت: يا أبا عبد نفذ الكفر، قالوا: رويت فروى الناس. قال: ابتليت به. ودمعت عيناه» . فقد روى علي بن جرير عن إمامين عنه أربعة من الثقات. وفي ترجمة عمر بن صبح من (التهذيب) «قال البخاري في (التاريخ الأوسط) : حدثني يحيى اليشكري عن علي بن جرير ... » فهذا خامس. وقال أبو حاتم: «صدوق» ولم يكن ليقول ذلك حتى يعرفه كما ينبغي، وأبو حاتم معروف بالتشدد، وقد لا تقل كلمة «صدوق» منه عن كلمة «ثقة» من غيره، فإنك لا تكاد تجده أطلق كلمة «صدوق» في رجل إلا وتجد غيره قد وثقه هذا هو الغالب، ثم ذكره ابن حبان في (الثقات) وأورد له تلك الحكاية التي يستنكرها الأستاذ ولا يضره بعد ذلك أن لا يعرفه ابن أبي حاتم. وما أكثر الذين لم يعرفهم وقد عرفهم غيره. فأما قول الأستاذ «فوجدناه باهتا» فأطال في محاولة توجيهه بما أشعر أنه يمتنع أن يقول أن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أقدم جاهل على امتنع أن لا يرفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع.

فأقول: أما امتناع القول، فإن كان المراد أن قائل ذلك لا يبقى مسلماً فهذا لا يدفع هذه الحكاية، وإن كان المراد امتناع أن يقول ذلك إنسان ينتحل الإسلام فهذا لا وجه له، فقد غلا كثيرا من منتحلي الإسلام في أفراد فادعوا لهم العصمة أو النبوة أو الألوهية، وذلك معروف مشهور. وقد حكيت عن أبي حنيفة كلمات لا يبعد أن يسمعها بعض جهلة معظميه فيتوهم أن الحكام التي مردها إلى القضاة بمنزلة الرأي في مصالح الدنيا كتدبير الحروب والمعايش وقد قال الله تبارك وتعالى لرسوله: «وشاورهم في الأمر» وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (1) وأنه ربما كان يرى الرأي في تدبير الحرب فيخبره بعض أصحابه بأن غيره أولى فيرجع إلى قوله، فمن تلك الكلمات ما حكى عنه في تلقيه من يذكر له حديثا يخالف قوله بمثل «من أصحابي من يبول قلتين، هذا حديث خرافة، لا آخذ به، دعنا من هذا. هذا رجز. هذا سجع. هذيان. حك هذا بذنب خنزير» وما عزي إليه من قوله: «لو أدركني النبي (في رواية: رسول الله) صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من قولي» زاد في رواية «وهل الدين إلا الرأي الحسن؟» وقد ذكرها الأستاذ ص 75 و85. وهذه الكلمة قد يكون أريد بها أن كثيراً مما أقوله باجتهادي موافق للحق فلو كنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعلم صحة كثير من قولي وصوبه وحكم بما يوافقه كما يُروى من موافقات عمر أنه قد كان يرى الرأي أو يقول القول فينزل القرآن بموافقته. فأما قوله: «وهل الدين إلا الرأي الحسن» فالرأي الحسن حقاً هو المطابق للحكمة الحقة حق المطابقة وكذلك الدين. وقد زعم بعضهم أن أبا حنيفة إنما قال: «لو أدركني البتي ... » فصحف بعضهم فقال: «النبي» ثم رواها بعضهم بالمعنى فقال: «رسول الله» وجرى الأستاذ على هذا ولا بأس بالنظر فيه، قال الأستاذ: «وأما أصل الحكاية ... » فذكر طرفاً مما في (مناقب أبى حنيفة) للموفق المكي ج 2 ص 101 - 109 والرواية هناك من طريق عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي

_ (1) قلت: أخرجه مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما. ن.

قال: «حدثني أبو طالب سعيد بن محمد البرذعي بن قتيبة أبنا هلال بن يحيى الرأي البصري سمعت يوسف بن خالد السمتي قال: اختلفت إلى عثمان البتي فقيه أهل البصرة وكان يذهب مذهب الحسن وابن سيرين ومذهب البصريين فأخذت من مذاهبهم وناظرت عليها ثم استأذنته في الخروج إلى الكوفة ... فأذن لي فلما قدمت الموفية ... فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به ... فتوسمت أنه أبو حنيفة ... فقال: كنت من المختلفة إلى البتي؟ قلت: نعم، قال: لو أدركني البتي لترك كثيراً من قوله ... » إلى أن قال يوسف: «كنت أختلف إلى أبي حنيفة فكنت أمر بنادي قوم فمن كثرة مروري بهم صاروا لي أصدقاء ثم انقرضوا فصار أولادهم لي أصدقاء ثم استأذنت بالخروج إلى البصرة ... » وفي القصة عجائب. وقد ذكر الأستاذ البتي والسمتي في ص 113 قال: «عثمان بن مسلم البتي هو فقيه البصرة توفي سنة 143 كما سبق وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات ... وكان يوسف بن خالد السمتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يجابه البتي وأصحابه ... حتى ثاروا ضده ... ولكن لما حل زفر بالبصرة جرى على الحكمة في مناظرتهم ... » . يشير الأستاذ إلى ما في كتاب ابن أبي العوام عن الطحاوي بسنده كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 477 «قدم زفر بن الهذيل البصرة فكان يأتي حلقة عثمان البتي ... فلم يلبث أن تحولت الحلقة إليه وبقي عثمان البتي وحده» فقد اتضح أن البتي أدرك أبا حنيفة، ويقول الأستاذ أنه كانت تجري بينهما مراسلات، وصرحت القصة نفسها أن البتي كان حيا يرزق حين لقي يوسف السمتي أبا حنيفة وقال له أبو حنيفة كما تزعم القصة «له أدركني البتي ... » ويعلم من كلام الأستاذ أن البتي عاش بعد ذلك إلى أن أكمل السمتي تفقهه ورجع إلى البصرة ثم إلى أن ظهر إخفاق السمتي وورد زفر البصرة فليتدبر القارئ هل يقول أبو حنيفة والبتي حي يرزق يراسله ويكاتبه: «لو أدركني البتي ... » ؟ ثم ليحرز ما أقل ما يحتمل بحسب العادة أن يكون عمر السمتي حين استأذن البتي وذلك بعد اختلاف السمتي إليه وأخذه من

مذاهبهم ومناظرته عليها؟ ثم ليحرز ما عسى أن يكون عمر أبي حنيفة وعمر ولده حماد حين رآهما السمتي؟ والقصة تقول: «فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به» ثم تصرح بعد ذلك بأن الكهل أبو حنيفة وأن الغلام ابنه حماد. ثم ليحرز ما عسى أن تكون مدة عكوف السمتي على الأخذ من أبي حنيفة والقصة تقول: «أمر بنادي قوم فمن كثرة مروري بهم صاروا لي أصدقاء ثم انقرضوا فصار أولادهم لي أصدقاء ثم استأذنت ... » فكم المدة إلى أن استأذن في العود إلى البصرة واحتفل له أبو حنيفة بتلك الوصية الطويلة العريضة؟ ثم ليحرز ما عسى أن تكون مدة بقاء السمتي بالبصرة حتى تبين إخفاقه إلى أن ورد زفر فسحر أهل البصرة وبقي البتي وحده؟ ثم ليعرض النتائج على الحقائق التاريخية، مولد السمتي سنة 330 كما في (طبقات ابن سعد) ج 7 قسم 2 ص 47، أو بعد ذلك بسنتين على ما في (التهذيب) عن ابن سعد، ومولد أبي حنيفة سنة ثمانين على الأصح وسنة سبعين أو ستين على رأي الأستاذ كما تقدم في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت. ومولد حماد حول سنة 100 على ما يظهر وعلى رأي الأستاذ مولد حماد قبل مولد مالك، ومالك ولد سنة ثلاث وتسعين وقيل قبل ذلك، ووفاة البتي سنة 143 كما تقدم. والقصة تقول: أن السمتي الذي ولد سنة عشرين ومائة أو سنة عشرين ومائة أو سنة اثنتين وعشرين ومائة كان يختلف إلى البتي ويأخذ من مذاهبهم حتى صار يناظر عليها ثم قدم الكوفة فلقي الأعمش وجرت بينهما محاورة ثم لقي أبا حنيفة وجرت بينهما محاورة، فلنفرض أن ذلك كان وعمر السمتي دون عشرين سنة فليكن حول سنة أربعين ومائة وعمر أبي حنيفة حينئذ على قولنا ستون سنة وعلى رأي الأستاذ سبعون أو ثمانون. وعمر حماد على ما يظهر أربعون سنة وعلى رأي الأستاذ خمسون سنة، لكن القصة ذكرتهما بقولها: «فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به» !! ثم لا أدري كم نفرض بقاء السمتي مع أبي حنيفة وهي مدة كان أولاً يمر بقوم فصاروا له أصدقاء ثم انقرضوا فصار أبناؤهم له أصدقاء ثم رجع إلى البصرة فوجد البتي حياً إلى آخر ما ذكر الأستاذ، وقد علمت متى توفي البتي!! وأدع البقية إلى القارئ وإن أحب فليراجع القصة ليزداد بصيرة. والأستاذ عافانا الله وإياه يعمد إلى أمور نسبتها إلى هذه نسبة الخيال إلى

الحقيقة فيرد بها روايات الثقات الأثبات ومنها ما يروى من وجهين أو أكثر ومنها ما هو متواتر على الحقيقة فأما هذه الحكاية فتفرد بها الحارثي وهو تالف مرمي بالوضع راجع ترجمته في (لسان الميزان) ج 3 ص 348 - وشيخه لا يذكر إلا في هذه الحكاية وقد ذكره صاحب (الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية) ص 249 بما يؤخذ من هذه الحكاية فقط فإما أن يكون اسماً اختلقه الحارثي، وإما أن يكون رجلاً مغموراً هلك فاختلق الحارثي هذه الحكاية ونسبها إليه فإن القصة تدل على اطلاع وتفيهق وهذه صفة الحارثي يمتنع أن يكون شيخه بهذه الصفة ثم لا يذكر إلا في هذه الحكاية، فأما الطحاوي فبريء منها حتماً ولو كان عنده شيء منها لما فات ابن أبي العوام. والظاهر أن الحارثي سمع ما حكى عن أبي حنيفة من قوله: «لو أدركني النبي ... » فحاول أن يعالجها فوقع فيه. وكأن الأستاذ شعر بذلك فحاول التأويل فزعم أن معنى قول أبي حنيفة «لأخذ بكثير من قولي» لأخذني أي للامني ووبخني! ولا يخفى حال هذا التأويل، على أنه ناقصة بما أجاب به عن قوله: «وهل الدين إلا الرأي الحسن» فزعم أن كلمة «الدين» محرفة عن «أرى» وأن الأصل «وهل أرى إلا الرأي الحسن» ولنقتصر على هذا القدر. فأما امتناع أن يقول قائل: «أبو حنيفة أعلم ... » ولا يرفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع، فإنما يتجه إذا قاله على رؤوس الأشهاد، وليس فيما رواه علي بن جرير ما يقتضي ذلك. وقد مر علي بن جرير بالكوفة غريباً فإذا سمع يقول ذلك ولم يكن هناك جمع كثير رأى أنه لا فائدة في الذهاب إلى القاضي غذ لعله لو قال للقائل تعال معي إلى القاضي امتنع، فان ذهب علي إلى القاضي قال له القاضي: ومن القائل؟ فلا يعرفه، فإن عرفه فلعل القائل يجحد، بل لعلهم يعكسون القضية على ذاك الغريب ويؤذونه! بقي ما وقع من اختلاف ألفاظ الحكاية. فأقول: ذاك من جهة الرواية بالمعنى ومثله كثير، وفي (صحيح مسلم) في أحاديث لا تقضي الحائض الصلاة، من طريق «يزيد الرشك عن معاذة أن امرأة سألت عائشة ... » ومن طريق «عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت ... »

160 - علي بن زيد الفرائضي

ولهذا نظائر. فأما قول الأستاذ في علي بن جرير «زائغ السفيه. الخبيث. النذل. الخبيث» فحاسبها إلى الله عز وجل. 160 - علي بن زيد الفرائضي. في (تاريخ بغداد) 13/398 من طريقه قال: «حدثنا علي بن صدقة قال: سمعت محمد بن كثير قال: سمعت الأوزاعي ... » قال الأستاذ ص 111: «تكلموا فيه» . أقول: كذا قال ابن يونس ولم يبين من المتكلم ولا ما هو الكلام، وقد قال مسلمة بن قاسم: «ثقة» والتوثيق، مقدم على مثل هذا الجرح كما لا يخفى. 161- علي بن صدقة. تقدم الإشارة إلى روايته في الذي قبله. قال الأستاذ ص 111: «كثير الإغراب» . أقول ذكره ابن حبان في «الثقاة» وقال: «يغرب» . وابن حبان قد يقول مثل هذا لمن يستغرب له حديثاً واحداً أو زيادة في حديث فقول الأستاذ: «كثير الإغراب» من تصرفاته، والحكاية التي ذكرها الخطيب بهذا السند معروفة جاءت من عدة طرق. 162- علي بن عاصم. في (تاريخ بغداد) 13/387 عنه قال: «حدثنا أبا حنيفة بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لا آخذ به. فقلت: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: لا آخذ به» قال الأستاذ ص 78: «أبو حنيفة كغيره من أهل العلم في عدم الأخذ بحديث علي بن عاصم الذي يكتبه الوراقون ويحدث هو به بدون سماع ولا مقابلة بأصل صحيح، والكلام فيه طويل الذيل في كتب الضعفاء فتباً لمن يقيم نفسه مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجعل الرد عليه رداً على المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. وأبو حنيفة الذي يقول: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أكرمنا الله وبه استنقذنا كما في (الانتقاء) لابن عبد البر ص 141 كيف يخالف حديثاً صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن زعم فقد أبعد في البهت نسأل الله الصون» . أقول: أما ما في (الانتقاء) فطرف من حكاية ردها الأستاذ نفسه ص 94؛

163- علي بن عبد الله بن المديني

وقال في حاكيها داود بن المحبر «متروك باتفاق» فكيف يستند إليها هنا جازماً بقوله «الذي يقول» ؟ وظاهر قول علي بن عاصم «حدثنا أبا حنيفة ... » إنه وافقه غيره على التحديث، وهبه لم يوافقه أحد أفما كان ينبغي أن يجيبه أبو حنيفة بقوله: «من روى هذا معك؟» أو نحو ذلك، وهبه علم تفرده، أفما كان الأولى أن يجيبه بقوله: «لم يثبت عندي» أو نحو ذلك، بل لو قال له: لا أثق بروايتك لكان أولى من قوله: «لا آخذ به» . فأما علي بن عاصم فالذي يظهر من مجموع كلامه فيه أنه خلط في أول أمره ثم تحسنت حاله، وبقي كثرة الغلط والوهم، فما حدث به أخيراً ولم يكن مظنة الغلط فهو جيد. 163- علي بن عبد الله بن المديني. تقدم في ترجمة إبراهيم بن بشار الرمادي متابعة ابن المديني له في حكايته عن ابن عيينة. أشار الأستاذ ص 82 إلى ذلك ثم قال: «لو فكر ابن المديني في مسايرته لابن أبي داود ... وسعى في إعداد الجواب ... لكان أحسن له ونحسن أنه لم يعد ولن يعد ... » . وفي (تاريخ بغداد) 13/420 من طريق عبد الله بن علي بن المديني أنه سأل أباه عن أبي حنيفة؟ «فضعفه جداً، وقال: لو كان بين يدي ما سألته عن شيء، وروى خمسين حديثاً أخطأ فيها» قال الأستاذ ص 168: «إن كان ابن المديني كما نهش الخطيب عرضه في (11/459) وابن الجوزي في (مناقب أحمد) لا يكون لكلامه قيمة» ثم أشار الأستاذ إلى أن ابن المديني تناقض قال: «ينافي ما ذكره أبو الفتح الأزدي في (كتاب الضعفاء) وحيث قال: قال علي ابن المديني أبو حنيفة روى عنه ... وهو ثقة لا بأس به» ثم قال الأستاذ: «نسأل الله السلامة» وفي (تاريخ بغداد) (13/423) عنه: «قال لي بشر بن أبي الأزهر النيسابوري رأيت في المنام ... » قال الأستاذ ص 170: «ليس بقليل ما ذكره الخطيب عن ابن المديني في (تاريخه) ومن جملة ذلك صلته الوثيقة بأحمد ابن أبي داود في محنة أهل الحديث ... وقد ترك أبو زرعة وأحمد الرواية عنه بعد المحنة وبشر بن «أبي» الأزهر من أخص أصحاب أبي

يوسف ... ومن أتبع أهل العلم لأبي حنيفة وأرعاهم لجانبه فلا أشك أن هذه الرواية مختلقة» . أقول: أما مسايرته لابن أبي داود فقد أجاب عنها مراراً بأنه مكره وكان في أيام المحنة إذا خلا بمن يثق به من أهل السنة ذكر له ذلك وأنه يرى أن الجهمية كفار، جاء ذلك من طرق. فإن قيل: لم يكن الدعاة يكرهو ن أحداً أن يكون معهم وإنما كانوا يكرهو ن على قول مثل مقالتهم كما فعلوا بيحيى بن معين وغيره، فكيف أكرهو اابن المديني على مسايرتهم؟ قلت: كان الدعاة يرون أنه لا غنى لهم عن أن يكون بجانبهم من يعارضون به الإمام أحمد ولم يكن هناك إلا ابن المديني أو يحيى بن معين، فأما ابن معين فإنه وإن كان أضعف صبراً وأقل ثباتاً من أحمد بحيث أنه أجاب عند الإكراه إلى إجراء تلك المقالة على لسانه، فلم يكن من الضعف بحيث إذا هددوه وخوفوه على أن يسايرهم ليجيبهم إلى ذلك، ولعلهم قد حاولوا ذلك منه فأخفقوا، فما بقي إلا ابن المديني، وكان هو نفسه شهد على نفسه بالضعف قال: «قوي أحمد على السوط ولم أقو» وقال لابن عمار: «خفت أن أقتل وتعلم ضعفي أني لو ضربت سوطاً واحداً لمت» أو نحو هذا. وقال لأبي يوسف القلوسي لما عاتبه: «ما أهو ن عليك السيف» . وقال لعلي بن الحسين: «بلغ قومك عني أن الجهمية كفار ولم أجد بداً من متابعتهم لأني حبست في بيت مظلم وفي رجلي قيد حتى خفت على نفسي» وذكر عند يحيى بن معين فقال: «رجل خاف» . وإنما أنكر عليه في طول مسايرته للجهمية ما جرى في حديث الوليد بن مسلم، كان الوليد يروي عن الأوزاعي عن الزهري عن أنس عن عمر أنه قرأ قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فتردد في معنى الأب ثم قال: «أيها الناس خذوا بما بين لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى عالمه» فأخطأ الوليد مرة فقال: «إلى خالقه» . كأنه جعل الضمير للأب ونحوه مما ذكره الله عز وجل من مخلوقاته، فكان أهل العلم يروونه عن الوليد على الصواب وربما ذكروا أنه أخطأ فقال: «إلى خالقه» ورواه ابن

المديني بالبصرة: «إلى عالمه» ونبه على الخطأ فيما يظهر، ثم كأن الجهمية عرفوا ذلك فألزموا ابن المديني أن يرويه بلفظ «إلى خالقه» قائلين: إنك قد سمعت مرة كذلك، فإذا رويته كذلك لم يكن فيه كذب. فاضطر إلى إجابتهم، فسأله عباس العنبري فأجابه بقوله: «قد حدثتكم بالبصرة» وذكر أن الوليد أخطأ فيه. فذكروا للإمام أحمد أن ابن المديني روى بلفظ «إلى خالقه» ، فقال: «كذب» يريد أحمد أن ابن المديني يعلم أن الصواب «إلى عالمه» وأن كلمة: «إلى خالقه» كذب وقع من الوليد خطأ. وفي الحديث الصحيح: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ، فقيل لأحمد: «إن عباساً العنبري قال لما حدث به علي بـ (العسكر) قلت: إن الناس أنكروه عليك، فقال: قد حدثتكم به بالبصرة. وذكر أن الوليد أخطأ فيه» فغضب أحمد وقال: «نعم، قد علم أن الوليد أخطأ فلمَ أراد أن يحدثهم به؟ يعطيهم الخطأ» وعذره في هذا ما قدمناه. فأما ترك أحمد وأبي زرعة الرواية عن علي بعد أن وقعت المحنة فقد تقدم الجواب عنه في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن معمر. وأما قول الأستاذ: «ونحسب أنه لم يعد ولن يعد» فكأنه يشير إلى أن الدعاة كانوا على حق وأن ابن المديني سايرهم عارفاً أنهم على حق والحق لا يحتاج الإنسان إلى أن يعد عن اختياره له جواباً. فإن كان هذا مغزى الأستاذ فالكلام فيه مشروح في قسم الاعتقاديات. وأما ما ذكره الأزدي، فالأزدي نفسه متهم، ولا ندري مع ذلك ما سنده إلى ابن المديني، وهل أن ذلك صح فلا يدفع رواية ولد ابن المديني عن أبيه، فإن كثيراً من الأئمة تختلف أقوالهم في الرجال توثيقاً وجرحاً، إما لتغيير الاجتهاد، وإما لأن إحدى الكلمتين أريد بها خلاف ما يظهر منها، وإما لغير ذلك، كأنه يقال هنا: كان دعاة المحنة حنفية، وكانوا ينسبون مقالتهم التي امتحنوا الناس فيها إلى أبي حنيفة ويدعون إلى مذهبه في الفقه كما مرت الإشارة إلى طرف منه في ترجمة سفيان الثوري، فكأنهم استكرهو اابن المديني على أن يثني على أبي حنيفة ويوثقه فاضطر إلى أن يوافقه وقد يكون ورَّى فقصد بكلمة: «ثقة» معنى أنه لم يكن

164- علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني

يكذب، ثم لما سأله ابنه أخبره بما يعتقده. وأما استبعاد أن يخبر بشر وهو من أتباع أبي حنيفة في الفقه بتلك الرؤيا فلا يكفي لدفع الرواية إذا صح سندها، فقد يعترف الرجل على نفسه، فإذا أخبر بذلك عنه ثقة قبل، فما الظن بما يخبر به عن أستاذه أو أستاذ أستاذه، وقد يكون بشر مع متابعته لأبي حنيفة في الفقه يخالف في بعض العقائد كما روي عن أبي يوسف أنه قال: «إنما كان مدرساً فما كان من قوله حسناً قبلناه، وما كان قبيحاً تركناه» تراه في (التأنيب) ص 46. وقد يكون بشر يرى أن تلك الرؤيا أضغاث أحلام فلا يقيم لها وزناً وإنما أخبر بها تعجباً. وقد يكون يرى أن لها تأويلاً تكون بحسبه فضيلة وبشارة لأبي حنيفة وأصحابه. فيتأول السواد بالسؤدد، وصحبة القسيسين بالإشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) المائدة: 82 ـ 85. ولو قيل: إن الخطيب إنما ختم ترجمة أبي حنيفة بهذه الرؤيا نظراً إلى هذا التأويل كعادته في ختم التراجم بالرؤيا التي فيها بشارة لأصحابها كما فعل في ترجمة محمد بن الحسن وغيرها لكان أقوى بكثير من كثير من دعاوي الأستاذ. والله الموفق. 164- علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني. ذكر الأستاذ ص 167 ما روي عن الدارقطني من نفيه سماع أبي حنيفة من أنس ثم قال: «وهو الذي يستبيح أن يقول: إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ثلاثتهم ضعفاء. وأين هو من محمد بن عبد الله الأنصاري الذي يقول في إسماعيل: ما ولي القضاء من لدن عمر بن الخطاب إلى اليوم أعلم من إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. يعني بالبصرة. وأين هو أيضاً من محمد بن مخلد العطار الحافظ الذي ذكر حماد بن أبي حنيفة في عداد الأكابر الذين رووا عن مالك. وأين هو أيضاً من هؤلاء الذين

أثنوا على أبي حنيفة ... والدارقطني هو الذي يهذي في أبي يوسف بقوله: أعور بين عميان. وهو الأعمى المسكين بين عور حيث ضل في المعتقد وتابع الهوى في الكلام على الأحاديث واضطراب» وقال ص 178: «ومن طرائف صنيع الخطيب أيضاً روايته عن الدارقطني أنه قال عن أبي يوسف: أعور بين عميان. بعد أن ذكر عنه من رواية البرقاني أنه قال: هو أقوى من محمد بن الحسن. والدارقطني هو الذي يذكر محمد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في (غرائب مالك) عن حديث الرفع عند الركوع: حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني. كما تجد نص هذا النقل منه في (نصب الراية) 1 / 408 كما سبق وقد اعترف الدارقطني في رواية البرقاني بأن أبا يوسف أقوى من محمد فيكون أبو يوسف حافظاً ثقةً وفوق الثقة عنده فإذا قال في بعض المجالس في حق مثله: أعور بين عميان كما حكى الخطيب يكون قوله هذياناً بحتاً وسفهاً صرفاً، فلو عارضه أحد أصحابنا قائلاً: بل هو الأعمى بين عور. ما بعد عن الصواب، لأن الله سبحانه أعمى بصيرة هذا المتسافه في صفات الله سبحانه حتى دون في صفات الله سبحانه ما لا يدونه إلا مجسم وهو حديث الشاب الجعد القطط، وحديث الإقعاد الذي يلهج هو به، كما أعمى بصيرة كثير من زملائه وهو معهم في الفروع، فإذن هو فاقد البصر في المعتقد كما أنه فاقد البصر في الفروع ومن يكون فاقد البصرين يكون هو الأعمى بين أناس عور لم يفقدوا إلا إحداهما بفقدهم التبصر في بعض الفروع فقط. راجع ما ذكره المحدث البارع الشيخ عبد العزيز الفنجابي الهندي مؤلف (نبراس الساري في أطراف البخاري) في حاشيته على (نصب الراية) 3 / 8 لتطلع على جلية أمر الدارقطني في الثقة والأمانة، نسأل الله السلامة» . والذي في تلك الحاشية مع إصلاح بعض الأخطاء «من مارس كتابه علم أنه قلما يتكلم على الأحاديث إلا حديثاً خالف الشافعي فيظهر عواره، أو وافقه فيصححه إن وجد إليه سبيلاً، لا أقول: أنه يفعل ذلك بهوى النفس ولكن إذا كان ثقة ضعفه بعضهم، أو ضعيفاً فيه كلام لبعضهم، أو ضعيفاً وثقه بعضهم، أو وجد مجهولاً لا يترقب، ويظهر طرفه الموافق لإمامه ... وهذا محمد بن عبد الرحمن بن أبي

ليلى القاضي رجل واحد يوثقه في حديث طهارة المني ص 46 ويقول: ثقة في حفظه شيء. ويشدد القول فيه في حديث شفع الإقامة ص 89 ويقول: ضعيف سيء الحفظ. وفي حديث القارن يسعى سعيين ص 273 يقول: رديء الحفظ كثير الوهم كأنه عليه غضبان وله غائض» أقول: أما استباحة أبي الحسن قوله: «ثلاثتهم ضعفاء» فلم ينفرد بها والكلام في أبي حنيفة أشهر من أن نحتاج إلى ذكره (1) . وحماد ترجمته في (لسان الميزان) ج2 ص 346 ودعوى أن ابن مخلد ذكره في الأكابر الذين رووا عن مالك فيها نظر كما مر في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت، فإن ثبت ذلك فكبر العمر لا يستلزم الثقة في الرواية، وذاك الحديث باطل لم يروه حماد ولا أبوه فإن كان خفي على ابن مخلد بطلانه دل ذلك على ضعف نقده، وإن كان عرف ذلك وتسامح فلأن يتسامح في ذكر حماد أقرب. وكذلك إسماعيل ترجمته في (اللسان) ج1 ص 398. وقد زعم مصححه الحنفي أنه أخرج له أبو داود والترمذي كأنه يزعم أنه هو إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان! وهذا من عجائب هؤلاء القوم، والأنصاري إن صح أنه قال تلك الكلمة تغير تغيراً شديداً في آخر عمره فلعله قال تلك الكلمة حين تغيره، على أنه كان مضطرباً في ميله إلى الرأي كان يتعصب له حتى يلي القضاء فإذا أو لي القضاء قضى بالحديث، وكان بينه وبين معاذ بن معاذ نفرة، ذكروا له قضية لمعاذ بن معاذ فأفتى بخلافها فلما ولي القضاء قضى بقول معاذ فقيل له في ذلك فقال: «كنت أنظر في كتب أبي حنيفة فإذا جاء دخول الجنة والنار لم نجد القول إلا ما قال معاذ» . وأخرج الدارقطني في (السنن) ص214 حديث من طريق محمد بن موسى الحارثي (الإصطخري) عن إسماعيل بن يحيى ين بحر الكرماني عن الليث بن حماد الإصطخري عن أبي يوسف عن غورك بسنده. قال الدارقطني: «تفرد به غورك عن

_ (1) قلت: راجع كلمات الأئمة فيه مجموعة في كتابنا «الأحاديث الموضوعة» (ج 5 ص 86 رقم الحديث (458) بما لا تجده مجموعاً في كتاب آخر. ن

قول المحدث "رواه جماعة ثقات حفاظ" لا يقتضي أن يكون كل من ذكره ثقة حافظ

جعفر وهو ضعيف جداً ومن دونه ضعفاء» فروى الخطيب عن بعضهم أنه لما كانت (السنن) تقرأ على الدارقطني بلغ هذا الموضع فقيل له: إن فيهم أبا يوسف فقال: «أعور بين عميان» يريد أن أبا يوسف وإن كان فيه ضعف ما فهو أحسن حالاً من غورك والليث بن حماد ومن معهما في السند من الضعفاء. فأما قوله مرة أخرى إن أبا يوسف أقوى من محمد فذلك والله أعلم بالنظر إلى حال محمد مطلقاً فإن من الأئمة من يتكلم في محمد ومنهم من قواه في روايته عن مالك خاصة كما قاله الذهبي في (الميزان) فمحمد قوي في روايته (الموطأ) عن مالك خاصة، فأما في بقية حديثه فيرى الدارقطني أن أبا يوسف أقوى منه. وأما ما حكاه الزيلعي عن كتاب (غرائب الرواة عن مالك) من قوله: «حدث به عشرون نفراً من الثقاة الحفاظ منهم محمد بن الحسن ... » فالجواب عنه من وجهين: الأول: ما تقدم أن محمد قوي عندهم فيما يرويه في (الموطأ) عن مالك ولين فيما عدى ذلك، فلا مانع أن يعده الدارقطني في ذاك الحديث الذي هو عنده في (الموطأ) عن مالك من جملة الثقات الحفاظ، ثم يلينه في سائر شيوخه، ويقول: إن أبا يوسف أقوى منه مع لين أبي يوسف عنده غاية الأمر أن كلمات الدارقطني تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض وليس في ذلك ما يضره فإن النصوص الشرعية أنفسها قد تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض، على أن سياق كلامه في (الغرائب) يدل على التقييد ولعله كان مع كلمته الأخرى ما يدل على ذلك. الوجه الثاني: أن قول المحدث «رواه جماعة ثقات حفاظ» ثم يعدهم لا يقتضي أن يكون كل من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدث وحده لقال: «ثقة حافظ» هذا ابن حبان قصد أن يجمع الثقات في كتابه ثم قد يذكر فيهم من يلينه هو نفسه بالكتاب نفسه (1) ، وهذا الدارقطني نفسه ذكر في (السنن) ص35 حديثاً فيه مسح

_ (1) قلت: وذلك أنه يصف بعض من يورده في «الثقات» بصفة تدل على أنه ضعيف من قبل حفظه كقوله في عبيد الله بن الأخنس: «يخطئ كثيراً» . وقوله في عبيد الله بن =

الرأس ثلاثاً وهو موافق لقول أصحابه الشافعية ثم قال: «خالفه جماعة من الحفاظ الثقات ... » فعدهم وذكر فيهم شريكا القاضي، وأبا الأشهب جعفر بن الحارث، والحجاج بن أرطأة، وجعفر الأحمر. مع أنه قال ص 132 «شريك ليس بالقوي فيما يتفرد به» وجعفر بن الحارث لم أر له كلاما فيه ولكن تكلم فيه غيره من الأئمة كابن معين والنسائي، وحجاج بن أرطأة. قال الدارقطني نفسه في مواضع من (السنن) : «لا يحتج به» وفي بعض المواضع «ضعيف» ، وجعفر الأحمر اختلفوا فيه. وقال الدارقطني كما في (التهذيب) : «يعتبر به» وهذا تليين كما لا يخفى. ونحو هذا قول المصنف: «شيوخي كلهم ثقات» أو «شيوخ فلان كلهم ثقات» فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق «هو ثقة» وإنما إذا ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات فاللازم أنه ثقة في الجملة أي له حظ من الثقة وقد تقدم في القواعد أنهم ربما يتجوزون في كلمة «ثقة» فيطلقونها على من هو صالح في دينه وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك. وهكذا قد يذكرون الرجل في الجملة من أطلقوا أنهم ضعفاء وإنما اللازم أن له خطأ ما من الضعف كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيرا من الثقات الذين تكلم فيهم أيسر كلام. هذا كله مع أن الدارقطني لو تناقضت بعض كلماته البتة لم يكن في ذلك ما يبيح سوء الظن به، فإن غيره من الأئمة اتفق لهم ذلك وما أكثر ما تجده من التناقض في كلمات ابن معين كما تقدم في القواعد. وأما الفنجابي الذي يخلع عليه الأستاذ لقب (المحدث البارع) وينوه بكتابه

_ = سعيد بن مسلم وغيره: «يخطئ» ، وهما عنده بمعنى واحد، فإنه أورد ابن مسلم هذا في «الضعفاء» أيضاً فقال: «كثير الخطأ فاحش الوهم ... » وكقوله في علي بن هاشم بن البريد « ... وروى المناكير عن المشاهير» . وقد يقول في بعض (ثقاته) : «يخطئ أحياناً، يعتبر حديثه ... » كما سيأتي في ترجمة (قطن) من الكتاب رقمها (181) . ن

كلام المحدث في الراوي على وجهين وبيان أنه لا تعارض بينهما

«نبراس الساري» الذي لا أجحد إفادته وإن كان يتمكن من ترتيبه الطالب العادي فما يظهر من كلامه أن الدارقطني إنما يصحح ما يوافق مذهب الشافعي (1) وذكر ص 42 خبرا فيه الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر فصححه وهو خلاف مذهب الشافعي، ولذلك نظائر لا أرى حاجة لتتبعها. وأما ما ذكر من اختلاف الظاهر كلامه في ابن أبي ليلى فذلك لاختلاف مقتضى الحال. ينبغي أن تعلم أن كلام المحدث في الراوي يكون على الوجهين: الأول: أن يسأل عنه في فيحيل فكره في حاله في نفسه وروايته ثم يستخلص من المجموع ذلك معنى يحكم به. الثاني: أن يستقر في نفسه هذا المعنى ثم يتكلم في ذاك الراوي في صدد النظر في الحديث الخاص من روايته، فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغيير الاجتهاد. وأما الثاني فإنه كثيراً ما ينحي به نحو حال الراوي في ذاك الحديث، فإذا كان المحدث يرى أن الحكم المطلق في الراوي أنه صدوق كثير الوهم ثم تكلم فيه في صدد حديث من روايته ثم في صدد حديث آخر وهكذا، فإنه كثيراً يتراءى اختلاف ما بين كلماته، فمن هذا أن الحجاج بن أرطأة عند الدارقطني صدوق يخطئ فلا يحتج بما ينفرد به واختلفت كلماته فيه في (السنن) فذكره ص 35 في صدد الحديث وافق فيه جماعة من الثقات فعده الدارقطني في جملة «الحفاظ الثقات» كما مر، وذكره ص 531 في صدد حديث أخطأ فيه وخالف مسعراً وشريكاً فقال الدارقطني: «حجاج ضعيف» وذكره في مواضع أخرى فأكثر ما يقول: «لا يحتج به» وعلى هذا ينزل كلامه في ابن أبي ليلى فإنه عنده صدوق سيء الحفظ، ففي

_ (1) قلت: وهو الصحيح، لأن للحديث شواهد يتقوى بها، خرجتها في «إرواء الغليل

ص 46 ذكر حديثاً رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً في طهارة المني. وذكر أن وكيعاً رواه عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس من قوله. وقد رواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس من قوله. فالحديث صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد رواه وكيع وهو من الثقات الأثبات عن ابن أبي ليلى كذلك، ورواه شريك عن ابن أبي ليلى فرفعه، فحال ابن أبي ليلى في هذا الحديث جيدة لأنه في أثبت الروايتين عنه وافق الأثبات، وفي رواية الأزرق عن شريك عنه رفعه، وقد يحتمل أن يكون الخطأ من الأزرق أو من شريك، فان الأزرق ربما غلط، وشريكاً كثير الخطأ أيضاً، وقد رواه وكيع عن ابن أبي ليلى على الصواب فهذا اقتصر الدارقطني على قوله: (لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظه شيء) . وفي ص 89 ذكر حديثاً رواه الجبلان سفيان وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلاً، وخالفهما محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فرواه موصولاً، فحاله في هذا الحديث رديئة، فظهر أثر ذلك في كلمة الدارقطني فقال: (ضعيف سيئ الحفظ) وفي ص 273 ذكر أحاديث في القارن يطوف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً، وهناك روايات عن علي وابن مسعود أنهما قالا طوافين وسعيين. ثم ذكر من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي أنه (جمع بين الحج والعمرة فطاف لهم طواف واحد (كذا) وسعى لهما سعيين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل) . ولا يخفي ما في هذا من التخليط فهذا هو الذي أغضب الدارقطني وغلظه أستاذ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! فلذلك قال: (رديء الحفظ كثبر الوهم) . فأين إتباع الهوى وأين الاضطراب؟ وماذا أفادتكم الحذلقة والانتحال؟ وأما حديث الشاب الجعد القطط فقد تقدم الجواب عنه في ترجمة حماد بن سلمة. وحديث الإقعاد تقدم الجواب عنه في ترجمة أحمد بن محمد بن الحجاج. وأما ما زعم الأستاذ من ضلال الدارقطني وأئمة الحديث في المعتقد وعمي البصيرة فيه عمي بصيرة المخالفين لأبي حنيفة في الفروع فيعلم ما فيه من قسم الاعتقاديات

165- على بن عمر بن محمد

وقسم الفقهيات، وأدع ما بقي موفوراً على الأستاذ! 165- على بن عمر بن محمد. في (تاريخ بغداد) (13/373) : «أخبرني الخلال حدثنا على بن عمر بن محمد المشتري حدثنا محمد بن جعفر الأدمي ... » قال الأستاذ ص 42: «علي بن عمر بن محمد المشتري لم أجد من وثقه» . أقول: أما أنا فلم أجده إلا أن يكون هو علي بن عمر بن محمد الحميري يقال له: السكري، والصيرفي، والكيال، والختلي، والحربي، ترجمته في (تاريخ بغداد) (12/40) وذكر في الرواة عنه الخلال، وذكر عن البرقاني أنه قال فيه: «لا يساوي شيئاً» وعن الأزهري قال: «صدوق كان سماعه في كتب أخيه لكن بعض أصحاب الحديث قرأ عليه شيئاً منها لم يكن فيه سماعه وألحق فيه السماع، وجاء آخرون فحكوا الإلحاق وأنكروه، وأما الشيخ فكان في نفسه ثقة» وعن عبد العزيز الأزجي: «كان صحيح السماع ولما أضر قرأ عليه بعض طلبة الحديث شيئاً لم يكن فيه سماعه ولا ذنب له في ذلك» وعن العتيقي «حدث قديماً وأملى في جامع المنصور وذهب بصره في آخر عمره وكان ثقة مأموناً» . أقول: فحاصل القصة أن الرجل لم يكن يحفظ وكان سماعه مقيداً في كتب أخيه وكان من الكتب ما لم يقيد سماعه فيه فلما عمى كان يخرج الكتب فينظر المحتاطون ما سماعه فيه فيقرؤونه عليه فاتفق أن جاء بعض من لا خير فيه فطلب إخراج الكتب فاتفق أن رأى جزأً ليس عليه سماع الشيخ، فعلم أنه لم يروه قبل ذلك فألحق فيه سماعاً للشيخ، والشيخ لا يدري، وقال للشيخ: أحب أن أقرأ عليك هذا الجزء فإن سماعك فيه. فظنه الشيخ صادقاً فقال: اقرأ؛ ثم عثر أهل الحديث على ذاك الجزء، فمنهم من لم يحقق كالبرقاني ظن أن ذلك الإلحاق برضا الشيخ فتكلم فيه، ومنهم من حقق، فعلم أن الشيخ بريء من ذلك كما رأيت. فالقول فيه أن ما سمعه منه قبل عماه الصحيح، فأما بعد عماه فما رواه عنه المحتاطون كالخلال، أو سمع منه بحضرة واحد من المحتاطين فهو صحيح. والله أعلم.

166- علي بن محمد بن سعيد الموصلي

166- علي بن محمد بن سعيد الموصلي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة علي بن أحمد الرزاز. قال الأستاذ ص 72: «كذبه أبو نعيم وقال ابن الفرات: مخلط غير محمود» . أقول تَسَمَّحَ الخطيب فروى من طريقه ما جاء من طريق أخرى قوية. والله المستعان. 167- علي بن محمد بن مهران السواق. تقدم له ذكر في (الطليعة) ص 109 فأشار الأستاذ في (الترحيب) ص 39 وص 60 إلى أني جعلت السواق الصواف، وصدق الأستاذ، وهو الذي سبقني إلى ذلك! وذلك أنه وقع في (تاريخ بغداد) 13/416: «أخبرنا الخلال حدثنا أحمد بن إبراهيم شاذان أخبرنا علي بن محمد بن مهران السواق حدثنا محمد بن حماد المقرئ ... » فقال الأستاذ ص 156: «علي بن محمد بن مهران السواق من الضعفاء شيوخ الدارقطني» مع إنه لا ذكر للدارقطني في السند ففتشت عن علي بن محمد بن مهران فلم أجد، إلا أنني وجدت في (تاريخ بغداد) 12/71 «علي بن محمد بن يحيى بن مهران أبو الحسن الصواف الضرير حدث عن أحمد بن محمد السكوني ... روى عنه الدارقطني وكان ثقة» فحدست أن الأستاذ يرى أن المذكور في السند هو هذا ومن عادتهم في الأسانيد أن يختصروا فيحذفوا بعض الأسماء في النسب كما يقولون أحمد بن حنبل، ثم يقولون في ابنه «عبد الله بن أحمد بن حنبل» مثل هذا كثير. بقى أن الذي في السند «السواق» والذي في الترجمة «الصواف» فراجعة ترجمة السكوني هي في (تاريخ بغداد) 5/59 فإذا فيها «روي عنه ... وعلي بن محمد بن يحيى السواق» فقوي الظن. ثم راجعت (سنن الدارقطني) فوجدت فيها ص 255 «نا علي بن محمد بن مهران السواق» وفيها ص 409 «نا علي بن محمد بن مهران السواق» فوضح الأمر وبان أن الواقع في سند الخطيب هو صاحب تلك الترجمة الذي قيل فيه «روى عنه الدارقطني وكان ثقة» وأن ما وقع في الترجمة

168- علي بن مهران الرازي

«الصواف» تحريف والصواب «السواق» وأن ذكر الأستاذ أن الواقع في السند من شيوخ الدارقطني كان عن تحقيق، فأما زعمه أنه من ضعفائهم فمن عنده! 168- علي بن مهران الرازي. في (تاريخ بغداد) 14/257 من طريقه «ثنا ابن المبارك ... » قال الأستاذ ص 178 « ... وفي سندها من لا يجوز الاحتجاج به ومن هو غير ثقة مثل سليم بن سالم وعلي بن مهران» . أقول: قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: «كان رديء المذهب غير ثقة» وقد تقدمة ترجمة الجوزجاني وتبين أنه يميل إلى النصب، ويطلق هذه الكلمة «رديء المذهب» ونحوها على من يراه متشيعاً وإن كان تشيعه خفيفاً، وتحقق في ترجمته في القواعد أنه إذا جرح رجلاً ولم يذكر حجة وخالفه من هو مثله أو فوقه فوثق ذلك الرجل فالعمل على التفريق، وعلى هذا ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال ابن عدي: «لا أعلم فيه إلا خيراً ولا أرى فيه منكراً وقد كان روايته لسلمة بن الفضل» . 169- عمار بن زريق. في (تاريخ بغداد) 13/407 من طريق أبي الجواب قال: «قال لي عمار بن زريق: خالف أبا حنيفة فإنك نصيب» . قال الأستاذ ص 133: «يقول السليماني عنه: إنه كان من الرافضة» . أقول: هذا حكاه الذهبي في (الميزان) قال: (ثقة، ما رأيت لأحد فيه تلييناً إلا قول السليماني أنه من الرافضة. والله أعلم) . ولم يذكر المزي ولا ابن الحجر هذه الكلمة في ترجمة عمار بن زريق، والسليماني مع تأخره وإنزوائه في (بيكند) مما ينسب المتقدمين إلى نحو هذا. وفي (لسان الميزان) ج3ص433 عنه أنه قال: قال: «ذكر أسامي ألشيعة من المتحدثين ... الأعمش، النعمان بن ثابت، شعبة بن الحجاج ... » والمتقدمون الذين هم أعرف بعمار اعتمدوه ووثقوه ولم يعيبوه بشيء. قال الإمام أحمد: «كان من الأثبات» ، ووثقه ابن معين وابن المديني وأبو زرعة وغيرهم وأخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.

170- عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأشناني

170- عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأشناني. في (تاريخ بغداد) 13/378: «أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن حدثنا عمر بن الحسن القاضي ... » قال الأستاذ ص 54: «عمر بن الحسن الأشناني القاضي متكلم فيه وقد ضعفه الدارقطني وكذبه الحاكم وكان يساوي بين السماع الإجازة» . أقول: حكي الخطيب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سأل الدارقطني عن هذا الرجل فقال: «ضعيف» وعن الخلال أنه قال: «ضعيف تكلموا فيه» ، فأما السلمي فأراهم يحتملون حكاياته عن الدارقطني مع أنه يدي عدل، راجع ترجمته في (لسان الميزان) ج5ص 140 ومع ذلك لم يفسر السبب وكذلك كلمة الخلال. وقال الخطيب: «بلغني عن الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يذكر أبقن الأشناني فقلت: سألت عنه أبا على الحافظ فذكر أنه ثقة. فقال: بئس ما قال شيخنا أبو علي، دخلت عليه وبين يديه كتاب (الشفعة) فنظرت فيه فإذا فيه: عن عبد العزيز بن معاوية عن أبي عاصم عن مالك عم الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة في الشفعة، وبجنبه عن أبي إسماعيل الترمذي عن أبي صالح عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون عن مالك عن الزهري. وذلك أنه بلغه أن الماجشون جوده فتوهمه أنه عبد العزيز. قال: فقلت له: قطع الله يد من كتب هذا ومن حدث به، ما حدث به أبو إسماعيل ولا أبو صالح ولا الماجشون وما زال يداريني ... ورأيت في كتابه عن أحمد بن سعيد الجمال عن قبيصة عن الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: نهى عن بيع الولاء، وكان يكذب» ولم يذكر الخطيب من بلغه عن الحاكم. وقال الذهبي في (الميزان) : «ويروى عن الدارقطني أنه كذاب، ولم يصح هذا» والظاهر إن الذهبي عنى هذه الحكاية وأنها لم تصح للجهالة بمن بلغ الخطيب. أما ابن الحجر فقال في (اللسان) : «قال الحاكم: قلت للدارقطني: سألت أبا على الحافظ عنه؟ فذكر أنه ثقة. فقال: بئس ما ما قال شيخنا أبو علي» كذا جزم مع أن من عادته أن لا يجزم بما لا يصح. ثم قال ابن حجر: «وقال أيضاً: دخلت عليه - يعني الأشناني -

وبين يديه كتاب الشفعة ... » ساق القصة التي مضت؛ وقوله: «وقال أيضاً» يوهم سياق أن مراده: «وقال الحاكم» . وعلى ذلك بني الأستاذ قوله: كذبه الحاكم» وقد علمت أن الذي في (تاريخ بغداد) إنها من جملة ما بلغ الخطيب عن الحاكم عن الدارقطني، ومع جزم ابن حجر هنا فإنه قال في ترجمة عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي «قال موسى بن هارون ... » ، فجزم مع أن راوي تلك الكلمة عن موسى هو ابن الأشناني هذا كما في (تاريخ بغداد) ، وكذلك قال الذهبي في ترجمة محمد بن محمد بن سليمان الباغندي من (الميزان) وأقره ابن الحجر في للسان «قال محمد بن أحمد بن أبي خثيمة ... » مع أن الخطيب إنما أسند تلك الكلمة من طريق ابن الأشناني فجزم ابن حجر في هذين الموضعين يقتضي بمقتضى التزامه توثيق ابن الأشناني، والذي يتجه هنا هو ما أشار إليه الذهبي أن الحكاية التي قال فيها الخطيب: «بلغني عن الحاكم ... » لأتثبت الجهالة من بلغ الخطيب ويزيدها وهناً أن الدارقطني يروي عن ابن الأشناني هذا كما يأتي، وأن الخطيب يعتمد عليه في مواضع، وذكر في ترجمة عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حكاية فيها ذكر موسى بن هارون ثم قال: «والمحفوظ ... » فذكر حكاية من طريق ابن الأشناني. وهب أنها تثبت فما فيها من قوله: «بئس ما قاله شيخنا أبوعلي» وقوله «وكان يكذب» مبني على ما ظهر له من حال ذنيك الحديثين حديث الشفعة وحديث الولاء وسيأتي الجواب عنهما. وقال الخطيب أيضاً: «أخبرني محمد بن نعيم الضبي (هو الحاكم) قال: سمعت أبا علي الهروي يحدث عن عمر بن الحسن الشيباني القاضي فسألته عنه فقال: صدوق. قلت: أني رأيت أصحابنا ببغداد يتكلمون فيه فقال: ما سمعنا أحداً يقول فيه أكثر من أنه يرى الإجازة سماعاً، وكان لا يحدث إلا من أصوله» . أقول: هذه الحكاية مسندة صحيحة، وقوله: «يرى الإجازة سماعاً» ، يريد به الإجازة الخاصة بدليل قوله: «وكان يحدث إلا من أصوله» وهي قوية فإن كان معنى أنه يراها سماعاً هو أنه يعتد بها ويروي ما أجيز له عمن أجازه فليس في هذا

حديث الولاء متواتر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر

إلا أنه يصحح الإجازة الخاصة وهو قول أكثر أهل العلم وإن كان معناه أنه يروي ما أجيز له بلفظ «حدثنا» فاصطلاح له قد عرف ولا محذور فيه، وقوله أبي علي «وكان لا يحدث إلا من أصوله» عظيم القيمة كما سترى؛ فأما حديث الشفعة فهو في (الموطأ) مرسل، ورواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد والماجشون عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله عن مالك فوصلاه بذكر أبي هريرة، وفي تلك الحكاية أنه رئي في كتاب الأشناني من طريق أبي عاصم فعرف ذلك ولم ينكر، ورئي إلى جنبه عن أبي إسماعيل الترمذي عن أبي صالح عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون عن مالك، فاستنكر هذا، وحدس المستنكر أن ابن الأشناني بلغه أن الماجشون وافق أبا عاصم في تجويده أي وصله فظن أن الماجشون هذا هو عبد العزيز فركب السند إليه. والجواب أنه قد روى غيره هذا الحديث عن أبي إسماعيل الترمذي عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي قتيلة عن مالك فذكره موصولاً كما في (سنن البيهقي) ج6ص103 فمن المحتمل أن يكون ابن الأشناني سمع هذا من الترمذي في جملة ما سمع، ولم يكتبه أو كتبه ولم يهتد إلى موضعه من كتبه وبقى عالقاً بذهنه أنه سمع الحديث من الترمذي من الطريق أخرى غير طريق أبي عاصم فلما بلغه أن الماجشون رواه موصولاً ظن أنه عبد العزيز وكان قد سمع من الترمذي عن أبي صالح عن عبد العزيز أحاديث فحدس هذا الحديث منها فكتبه كذلك ليتذكره ثم يبحث في أصوله لعله يجده ولم يكن من نيته أن يرويه قبل أن يجده في أصوله، فقد تقدم أنه كان «لا يحدث إلا من أصوله» وليس في هذا ما يغمز به عل أنه لو كان كتبه في بعض مسوداته وهو يعلم بطلانه فإنه لا يلزمه اسم الكذب حتى يحدث به، وإذا علم بأن من عادته أن لا يحدث إلا من أصوله فقد علم أنه لم يكن يريد أن يحدث بذلك الذي كتبه فكانت كتابته له ضرباً من العبث. وأما حديث الولاء فهو متواتر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رواه الثوري وعبد الله بن عمر وجمع كثير من عبد الله بن دينار. ثم رواه يحيى بن سليم الطائفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر فظنوا أنه وهم، لكن رواه أبو ضمرة ويحيى بن سعيد

الأموي عن عبيد الله عن عبد الله بن دينار ونافع معاً عن ابن عمر وعلى ما في الحكاية رئي في كتاب ابن الأشناني عن أحمد بن سعيد الجمال عن قبيصة عن الثوري عن عبيد الله عن نافع، فاستنكر هذا لأنه لم يعرف رواه عن الثوري كذلك. والجواب أنه يحتمل أن يكون الوهم من أحمد بن سعيد الجمال فقد عرف له شبيه ذلك ففي ترجمته في (تاريخ بغداد) ج 4ص 170 عن قبيصة عن الثوري عن عبد الله بن دينا عن ابن عمر مرفوعاً: «من أريد ماله بغير حق فقاتل دونه فهو شهيد» . وذكر الخطيب أن المحفوظ عن الثوري عن عبد الله بن الحسن عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن عمر بن وقاص مرفوعاً. وقال الذهبي في (الميزان) : «أحمد بن سعيد الجمال البغدادي الصدوق ... تفرد بحديث منكر رواه عنه أحمد بن كامل وغيره: حدثنا أبو نعيم ثنا هشيم حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة مرفوعاً ابن السبيل أول شارب - يعني من زمزم» وهذا أخرجه الطبراني في (الصغير) ص 50 «ثنا إبراهيم بن علي الواسطي المستملي ببغداد ثنا أحمد بن سعيد الجمال ثنا أبو نعيم ... » قال الطبراني: «لم يروه عن عوف إلا هشيم ولا عن هشيم إلا أبو نعيم تفرد به أحمد بن سعيد الجمال» فإذا قد عرف للجمال مثل هذا فالأولى حمل حديث الولاء عليه، وابن الأشناني مكثر لا يستنكر لمثله التفرد عن الجمال هذا. وذكر الذهبي لابن الأشناني حديثاً ثالثاً قال: «قال الدارقطني حدثنا عمرو بن الحسن بن علي ثنا محمد بن هشام المروزي هو ابن أبي الدميك الموثق - ثنا محمد بن حبيب الجارودي ثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس ... » قال الذهبي: «فآفة هذا هو عمر، ولقد أثم الدارقطني بسكوته عنه فإنه بهذا الإسناد باطل ما رواه ابن عيينة قط ... » تعقبه ابن حجر في (اللسان) فقال: «لم ينفرد بهذا، تابعه عليه في (المستدرك) الحاكم ولقد عجبت من قول المؤلف ما رواه ابن عيينة قط مع أنه رواه عنه الحديدي وابن أبي عمر وسعيد بن منصور وغيرهم من أصحابه إلا أنهم وقفوه على مجاهد لم يذكروا ابن عباس فيه فغايته أن يكون محمد بن حبيب وهم في رفعه (1) .

_ (1) قلت: في تعقب الحافظ على الذهبي نظر عندي من وجوه: الأول: قوله تابعه الحاكم. وهم صوابه «شيخ الحاكم» فإنه عنده (1/373) هكذا =

171- عمر بن قيس المكي

وذكر الخطيب في ترجمة ابن الأشناني تحديثه في حياة إبراهيم الحربي ثم قال: تحديث أبن الأشناني في الحياة إبراهيم الحربي له فيه أعظم الفخر وأكبر الشرف وفيه دليل على أنه كان في أعين الناس عظيماً ومحله كان عندهم جليلاً. أخبرنا على بن الحسن أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال ... واستقصى في هذا اليوم أبا الحسين ... المعروف بابن الأشناني ... وهذا رجل من جلة الناس ومن أصحاب الحديث المجودين وأحد الحفاظ له وحسن المذاكرة بالأخبار ... وقد حدث كثيراً وحمل الناس عنه قديماً وحديثاً» . أقول: ولم ينكر عليه مما حدث به وسمعه الناس منه خبر واحد فلا أراه إلا قوياً. والله أعلم. 171- عمر بن قيس المكي. في (تاريخ بغداد) 13/407 من طريق مؤمل بن إسماعيل قال: قال عمرو بن قيس: من أراد الحق فليأت الكوفة فلينظر ما قال أبو حنيفة وأصحابه فليخالفهم» . قال الأستاذ ص 133: «منكر الحديث ساقط على ما ذكره غير واحد من النقاد» .

_ = حدثنا علي بن «حمشاذ» العدل ثنا عبد بن محمد بن هشام المروزي ... وعلي بن «حمشاذ» (*) مضى في الكتاب ذكره. الثاني: ليس في حديث الحاكم: «وهي هزمة جبريل ... » . الثالث: تعجبه من قول الذهبي: «ما رواه ابن عيينة قط» ليس في محله، لأن ما جزم الذهبي بنفيه إنما هو رفع الحديث عن طريق ابن عباس. ومن ذكرهم الحافظ إنما رووه مقطوعاً موقوفاً على مجاهد بل إن هذا ليؤيد قول الذهبي ولا يخالفه لأدنى تأمل. على أن قول الذهبي: «أثم الدارقطني ... » خطأ بين، لأنه مجتهد، وتأثيمه إنما يجوز لو علم الذهبي أنه موافق له في أن الحديث باطل ... حين سكت عليه، ودون معرفة ذلك خرط القتاد، والأمر في الحديث كما قال الذهبي، وإن لم تكن الآفة من الأشناني فممن فوقه، مع العلم أن متابعته ليست تامة، كما سبق. وهو مخرج في «الإرواء» (1111) . ن.

172- عمر بن محمد بن عمر بن الفياض

أقول: صدق الأستاذ ولم يحسن الخطيب بذكر هذه الحكاية. 172- عمر بن محمد بن عمر بن الفياض. في (تاريخ بغداد) 13/390 حكاية من طريقه قد توبع على أكثر ما فيها قال الأستاذ ص 85: «غير موثق» . 173- عمر بن محمد بن عيسى السذابي الجوهري. في ترجمة أبو حنيفة من (تاريخ بغداد) حكايات من طريقه عن الأثرم منها ص 380 و384 و405 و417 قال الأستاذ ص 58: قال الذهبي: في حديثه بعض النكرة. تفرد برواية ذاك الحديث الموضوع: القرآن كلامي ومني خرج ... » . أقول: روى السذابي هذا الحديث عن الحسن بن عرفة فقد يكون رواه من حفظه فوهم أو أدخله عليه بعض الجهال. فأما روايته من الأثرم فالظاهر أنها من كتاب مؤلف، والاعتماد في ذلك على صحة النسخة كما مر في ترجمة عبد الله بن جعفر وغيرها ولذلك تجد تلك الحكايات مستقيمة قد توبع عليها (1) . 174- عمر بن علي بن البحر أبو حفص الفلاس. في (تاريخ بغداد) 13/382 من طريق إبراهيم عن سعيد الجوهري، ثم من طريق عمر بن علي يقول كل منهما: سمعت معاذ بن معاذ يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: استتبت أبا حنيفة من الكفر مرتين» قال الأستاذ ص 65: «شديد التعصب وشديد الانحراف عن أهل الكوفة» . أقول: لا أعرفه بالتعصب، ولو عرف به ما كان ذلك خادشاً في روايته مع ما ثبت من ثقته وأمانته (2) والحكاية مشهورة بل متواترة حقاً.

_ (1) عمر بن مطرف أبو الوزير. راجع (الطليعة) ص 31-34 وستأتي ترجمة محمد بن أعين. (2) قلت: هو من الحفاظ الثقات الأثبات. أورده الذهبي في (التذكرة) ووصفه بالقول: « ... الحافظ الإمام الثبت أحد الأعلام ... سمع يزيد بن زريع و ... فأكثر وأتقن وجود وأحسن، حدث عنه الستة ... » . وقال الحافظ في (التقريب) : «ثقة حافظ» . ن.

175- عمران بن موسى الطائي

175- عمران بن موسى الطائي. في (تاريخ بغداد) 13/389 من طريق سلامة بن محمود القيسي: حدثنا عمر بن موسى الطائي حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ... » قال الأستاذ ص 82 في الحاشية: قد أعل الدارقطني حديثاً في (السنن) لانفراد هذا الطائي به وعده منكراً راجع (سنن الدارقطني) ج 1ص 225» . أقول: الذي في ذاك الموضع من (سنن الدارقطني) : «حدثنا محمد بن مخلد حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الأشقر أبو بكر ثنا عمران بن موسى الطائي بمكة ثنا إسماعيل بن سعيد الخراساني ثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله كم وزن صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حررته، قلت: يا أبا عبد الله خالفت شيخ القوم. قال من هو؟ قلت: أبو حنيفة يقول: ثمانية أرطال. فغضب غضباً شديداً وقال: قاتله الله ما أجرأه على الله، ثم قال لبعض جلسائه: يا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع عمك، ويا فلان هات صاع جدتك. قال إسحاق فاجتمعت آصع ... » ولم يتكلم الدارقطني عليه بشيء. وإنما في الحاشية: «قال صاحب التنقيح: إسناده مظلم وبعض رجاله غير مشهور ... » وفي كتاب ابن أبي حاتم ج 3 قسم 1 ص 306 «عمران بن موسى الطرسوسي وهو أبو موسى روى عن رواد (1) بن الجراح وفيض بن إسحاق وعبد الصمد بن يزيد خادم الفضيل روى عنه أبي ... سئل أبي عنه فقال: صدوق ثقة» ربما يكون هذا وقد توبع على الحكاية التي ذكرها الخطيب رواها ابن أبي خيثمة في (تاريخه) عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ عمران وزاد في آخرها «قال سفيان: هل سمعتم بشر من هذا؟» . نقله ابن عبد البر في (الانتقاء) ص 149. 176- عنبسة بن خالد. قال الأستاذ ص 173 في الحاشية: «قال ابن أبي حاتم عنه أنه كان على خراج مصر وكان يعلق النساء بثديهن، وقال ابن القطان: كفى

_ (1) هكذا في نسخة مصورة عن نسخة كوبريلي ووقع في المطبوع «داود» خطأ.

بهذا في تجريحه، وكان أحمد يقول: مالنا ولعنبسة ... هل روى عنه غير أحمد بن صالح؟ وقال يحيى بن بكير: إنما يحدث عن عنبسة مجنون أحمق لم يكن بموضع للكتابة عنه» . أقول: الذي في كتاب ابن أبي حاتم ج 3 قسم 1 ص 402: «سألت أبي عن عنبسة بن خالد فقال: كان على خراج وكان يعلق النساء بثديهن» وأبو حاتم ولد سنة 195 وأول طلبه الحديث سنة 209 وإنما دخل مصر بعد ذلك بمدة فلم يدرك عنبسة ولا ولايته الخراج لأن عنبسة توفي سنة 198 ولا يدرى من أخبر أبا حاتم بذلك؟ فلا يثبت ذلك ولا ما يترتب عليه من الجرح وقال ابن أبي حاتم: «سمعت محمد بن مسلم (ابن وارة) يقول: روى ابن وهب عن عنبسة بن خالد. قلت لمحمد بن مسلم: فعنبسة بن خالد أحب إليك أو وهب الله بن راشد؟ فقال: سبحان الله ومن يكون عنبسة إلى وهب الله؟ ما سمعت بوهب الله إلى الآن منكم» فقد روى عن عنبسة أحمد بن صالح على إتقانه وعبد بن وهب على جلالته وتقدمه وكل منهما أعقل وأفضل من مائة مثل يحيى بن بكير وروى عنه محمد بن مهدي الإخميمي وغيرهم كما في (التهذيب) . فأما الإمام أحمد فكأنه سمع بأن عنبسة كان يجبي الخراج فكرهه لذلك وليس في ذلك ما يثبت به الجرح وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) وأخرج له البخاري في (الصحيح) مقروناً بغيره، وأخرج له أبو داود في (السنن) وقال الآجري عن أبي داود: «عنبسة أحب إلينا من الليث بن سعد سمعت أحمد بن صالح يقول عنبسة صدوق» ، كنت استعظمت هذه الكلمة للاتفاق على جلالة الليث وإمامته ثم تبين لي كما يرشد إليه السياق أن مراده تفضيل عنبسة على الليث في أمر خاص وهو روايتهما عن يونس بن يزيد الأيلي. فإن أصول يونس كانت صحيحة كما قاله ابن المبارك وغيره وكان إذا حدث من غيرها ربما يخطئ وكان الليث سمع من يونس من غير أصوله وعنبسة سمع من عمه يونس من أصوله وكانت أصوله عند عنبسة ويدل على هذا أن أبا داود قال عقب كلمته تلك: «سألت أحمد بن صالح قلت: كانت أصول يونس أو نسخها؟ قال: بعضها أصول وبعضها نسخة» فعنبسة يروي عنه ابن وهب ويصدقه أحمد بن صالح، ويثني

177- فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد

عليه ابن وارة ويثبته أبو داود، ويستشهد به البخاري، ويوثقه ابن حبان (1) . 177- فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد. في (تاريخ بغداد) 13/406 من طريق «إبراهيم بن راشد الأدمي قال: سمعت أبا ربيعة محمد (؟) بن عوف يقول: سمعت حماد بن سلمة ... » . قال الأستاذ ص 129: «وأبو ربيعة فهد بن عوف، وقد كذبه ابن المديني» . أقول: قال ابن أبي حاتم: «سمعت أبي يقول: ما رأيت بالبصرة أكيس ولا أحلى من أبي ربيعة فهد بن عوف وكان ابن المديني يتكلم فيه ... قيل لأبي: ما تقول فيه؟ فقال: تعرف وتنكر، وحرك يده» . ثم ذكر عن أبي زرعة قصة حاصلها: أن أبا إسحاق الطالقاني ورد البصرة فحدث من حديث ابن المبارك بحديثين غريبين أحدهما عن وهيب بسنده، والآخر عن حماد بن سلمة بسنده فبعد مدة يسيرة حدث فهد بالحديث الأول عن وهيب بن خالد بذاك السند، والثاني عن حماد بن سلمة بسنده، فرموا فهداً بسرقة الحديثين وأنه إنما سمعهما من الطالقاني عن ابن المبارك عن وهيب وعن حماد فحدث بهما عن وهيب وعن حماد، وغلط مع ذلك فروى الأول عن وهيب بن خالد، وإنما وهيب شيخ ابن المبارك وهيب بن الورد. والحجة في رميه بسرقة الحديث الثاني أنه حديث غريب لم يكن في كتب حماد بن سلمة ولا رواه عنه غير ابن المبارك حتى حدث به الطالقاني عن ابن المبارك فوثب عليه فهد. وقد يحتمل في هذا أن يكون فهد قد سمعه من حماد بن سلمة ثم غفل عنه فلما حدث به الطالقاني واستفاده الناس وأعجبوا به فتش فهد في كتبه فوجده عنده عن حماد بن سلمة ولكن في هذا الاحتمال بعد. فأما الحديث الأول فالتهمة فيه أشد لأنه ليس من حديث وهيب بن خالد أصلاً وإنما هو من حديث وهيب بن الورد. ولا يخفى أنه ليس من الممتنع أن يكون الحديث عند وهيب بن خالد أيضاً ولم يسمعه منه إلا فهد، لكن في هذا من البعد ما فيه. فالظاهر أن هذين الحديثين هما، ولا سيما الأول بلية هذا الرجل ولأجل ذلك

_ (1) عيسى بن عامر. يأتي في ترجمة محمد بن الفضل.

178- القاسم بن حبيب

كذبه ابن المديني وتكلم فيه غيره لكن يظهر من كلمة أبي حاتم أنه متوقف، وقال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي زرعة: يكتب حديثه؟ فقال: أصحاب الحديث ربما أراهم يكتبونه» وأسند إلى ابن معين أنه سأل عنه فقال: «ليس لي به علم، لا أعرفه، لم أكتب عنه» وقد يبعد أن لا تكون القصة بلغت ابن معين، ومع ذلك توقف. وقال العجلي: «لا بأس به» . وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «مات يوم الاثنين لأربع خلون من المحرم سنة تسع عشرة ومائتين» . والذي يتجه أنه إن كان صرح في الحديث الأول بسماعه من وهيب بن خالد فقد لزمته التهمة وإن لم يصرح وإنما رواه بصيغة تحتمل التدليس، فقد يقال: لعله دلسه، ولكن يبقى أنهم لم يذكروه بالتدليس، والمدلس إنما يسلم من الجرح بالتدليس إذا كان قد عرف عنه أنه يدلس، فإن ذلك يكون قرينة تخلصه من أن يكون تدليسه كذباً، وقد يقال: كان جازماً بصحة الخبرين عن وهيب وحماد فاستجاز تدليسهما وإن لم يكن قد عرف بالتدليس. وفي هذا نظر. والله أعلم. 178- القاسم بن حبيب. في (تاريخ بغداد) 13 / 373 من طريق «ابن فضيل عن القاسم بن حبيب قال: وضعت نعلي في الحصى ثم قلت لأبي حنيفة: أرأيت رجلا صلى لهذه النعل حتى مات إلا أنه يعرف الله بقلبه؟ فقال: مؤمن» قال الأستاذ ص 39: «هو راوي حديث ذم القدرية والمرجئة عند الترمذي وقال ابن معين: ليس بشيء ولفظ لبن أبي حاتم: ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: القاسم بن حبيب الذي يحدث عن نزار بن حبان لا شيء أهم يعني حديث المرجئة والقدرية عند الترمذي وتوثيق ابن حبان لا يناهضه بل الجرح مقدم» . أقول: أفاد الأستاذ أن كلمة ابن معين مدارها على حديث المرجئة والقدرية وكلمة ابن معين تحتمل أوجها: الأول: أن يكون قوله: «الذي ... » قصد به تميز هذا الرجل عن آخر يقال له: القاسم بن حبيب أيضا. وهذا بعيد لأننا لا نعرف آخر يقال له: «القاسم بن حبيب» .

الثاني: أن يكون أراد بقوله: «الذي» الحديث كأنه قال: «حديثه الذي يحدث به ... » وهذا كأن فيه بعدا عن الظاهر. الثالث: أن يكون ذلك إيحاء إلى العلة كأنه قال: «لا شيء لأجله حديثه الذي حدث به عن نزار» . وقول الأستاذ: «يعني حديث المرجئة والقدرية عند الترمذي» . ظاهرة أنه يحمل كلمة ابن معين على الوجه الثاني وأيا ما كان فالمدار على ذاك الحديث فإذا تبين أن القاسم بريء من عهدته أو معذور فيه تبين أنه لا مطعن فيه فإنه يروي عن جماعة منهم عكرمة ومحمد بن كعب القرظي وسلمة بن كهيل وغيرهم، ولم ينكر عليه خبر واحد إلا ذاك الخبر الذي رواه عن نزار وحينئذ يصفو له توثيق ابن حبان فلننظر في ذلك نزار بن حبان لم يوثقه أحد وذكره ابن حبان في (الضعفاء) وقال: «يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه المعتمد لذلك» . والقاسم إنما روى هذا الحديث عن نزار عن عكرمة فكان ابن حبان يشير إليه. والقاسم قد روى عن عكرمة كما مر فلو أراد الكذب لروى ذاك الحديث عن عكرمة رأسا وربح العلو وشهادة نزار له. وقد تابع القاسم على رواية هذا الحديث عن نزار ابنه علي بن نزار وقال ابن معين في علي بن نزار: «ليس حديثه بشيء» لعله أراد هذا الحديث وعلي بن نزار قد روى عن عكرمة فلو أراد الكذب لروى هذا الحديث عن عكرمة رأسا ويربح العلو والشهادة لأبيه. وقال ابن عدي في ترجمة علي في هذا الحديث «أنكروه على علي وعلى والده» . ويؤخذ من (الميزان) أن بعضهم رواه عن فضيل عن نزار وابنه عنه عكرمة ولكن أشار الذهبي إلى أن المحفوظ: «عن ابن فضيل عن القاسم بن حبيب وعلي بن نزار» يعني كلاهما عن نزار عن عكرمة كما في (سنن الترمذي) فالذي يتجه اتجاها واضحا أن الحمل في هذا الحديث على نزار له غنمه وعليه غرمه وقد قال الترمذي بعد أن رواه من طريق القاسم بن حبيب وعلي بن نزار عن نزار عن عكرمة: «وفي الباب عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج وهذا حديث غريب حسن صحيح» ثم قال عقبه: «حدثنا محمود

179- القاسم بن عثمان

ابن رافع حدثنا محمد بن بشر حدثنا سلام بن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عيه وسلم ونحوه» ، فهذا سلام بن أبي عمرة قد تابع نزار لكن تكلموا في سلام فقال ابن معين: «ليس بشيء» وقال ابن حبان: «يروي عن الثقات المقلوبات لا يجوز الاحتجاج بخبره وهو الذي روى عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية» والترمذي يقول: إن الحديث «حسن صحيح» كما مر. والذي يهمنا هنا شأن القاسم بن حبيب وقد تبين براءته من تبعه هذا الحديث فارتفعت عنه كلمة ابن معين وصفا له توثيق ابن حبان. ومع هذا فحكايته التي حكاها عن أبي حنيفة قد روى نحوها يحيى بن حمزة وهو ثقة وستأتي ترجمته ولفظه: «إن أبا حنيفة قال: لو أن رجلا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسا» ذكره الأستاذ ص 39 أيضا وهناك كلمات أخرى تلاقي هذا في المعنى وقد أشرت إلى الجواب الذي يرفع معرة تلك الكلمات عن أبي حنيفة في موضع آخر. والله المستعان (1) . 179- القاسم بن عثمان. في (تاريخ بغداد) 13 / 373: «حدثنا أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدسكري لفظا بحلوان أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم السهمي بجرجان حدثنا أبو شافع معبد بن جمعة الروياني حدثنا أحمد بن هشام بن طويل قال: سمعت القاسم بن عثمان يقول: مر أبو حنيفة بسكران يبول قائما فقال أبو حنيفة: لو بلت جالسا. قال: فنظر في وجهه وقال: ألا تمر يا مرجئ؟ قال أبو حنيفة: هذا جزائي منك صيرت إيمانك كإيمان جبريل» . قال الأستاذ ص 41: «صيغة القاسم بن عثمان الرحال صيغة انقطاع وعنه يقول العقيلي: لا يتابع «على» (2) حديثه ومعبد بن جمعة كذبه أبو زرعة الكشي، وفي

_ (1) القاسم بن أبي صالح راجع (الطليعة) ص 13 - 14 (2) سقطت من الكوثري لا المصنف، واستدركتها من (الضعفاء) للعقيلي (363) وكذلك هو في (الميزان) . ن.

180- القاسم بن محمد بن حميد المعمري

السند رجال مجاهيل هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب ‍‍! والذي أخرجه الحافظ أبو بشر الدولابي عن إبراهيم بن جنيد عن داود بن أمية المروزي قال: سمعت عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد يقول: جاء رجل إلى أبي حنيفة وهو سكران فقال له: يا مرجئ فقال له أبو حنيفة: لولا أني أثبت لمثلك الإيمان ما نسبتني إلى الأرجاء ولولا أن الأرجاء بدعة ما باليت أن أنسب إليه. اهـ. رواه ابن أبي العوام عن الدولابي ... » . أقول: قوله «الرحال» تبع فيه ابن حجر في (اللسان) والمعروف أن القاسم الرحال آخر اسم أبيه يزيد له ترجمة في (اللسان) أيضا وكلاهما يروي عن أنس وذكرهما ابن حبان في (الثقات) والقاسم بن عثمان الذي في (اللسان) تكلم فيه البخاري والدارقطني ولم يتبين أنه هو الواقع في سند الحكاية ومعبد بن جمعة لم يكذبه الكشي بل وثقه كما يأتي في ترجمة. ويوسف بن إبراهيم السهمي موثق والحكاية التي ذكرها الأستاذ في كتاب ابن أبي العوام قد نظرت في بعض رجالها في (الطليعة) ص 27 - 28 وعبد المجيد مرجئ متكلم فيه ومع ذلك لا تنافي بين الحكايتين وقد جاء عن أبي حنيفة أشد من ذلك والحنفية والأستاذ في أخرهم يعترفون بأن أبا حنيفة يقول: إن الأيمان لا يزيد ولا ينقص فإذا أثبت لذلك السكران الأيمان فقد أثبت له أن إيمانه كإيمان جبريل وهم لا ينكرون هذا فأي وجه لإنكار الحكاية؟ 180- القاسم بن محمد بن حميد العمري (*) . ذكر الأستاذ ص 62 ما روي في ذبح الجعد بن درهم ثم قال: «والخبر على شيوعه وانتشاره وذيوعه غير ثابت لانفراد القاسم بن محمد بن حميد المعمري وبروايته ويقول عنه ابن معين: كذاب خبيث كما في (ميزان الذهبي) » . أقول: عبارة (الميزان) : «وثقه قتيبة وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث. قال عثمان الدارمي: ليس هو كما قال يحيى وأنا أدركته ببغداد» وفي (التهذيب) : قال عثمان بن سعيد: سمعت ابن معين يقول: قاسم المعمري كذاب خبيث. قال

_ (*) وقع في الأصل "المعمري" وهو خطأ مطبعي (صفحة 973)

181- قطن بن إبراهيم

عثمان: وليس كما قال يحيى. ثم ذكر توثيق قتيبة له ثم قال: «وذكره ابن حبان في (الثقات) » وذكره ابن أبي حاتم في كتاب ج 3 قسم 2 ص 119 وذكر مقالة عثمان: «سمعت يحيى بن معين يقول: قاسم المعمري خبيث كذاب. قال عثمان: وقد أدركت قاسما المعمري وليس كما قال يحيى» وذكره البخاري في (تاريخه) ج4 قسم 1ص 158 فقال: «سمع عبد الرحمن بن محمد بن حبيب روى عنه قتيبة» وأخرج القصة من طريقه في كتاب (خلق أفعال العباد) ورواية البخاري من تقويه كما مر في ترجمة أحمد بن الله أبو عبد الرحمن. وأحسب ابن معين لم يتكلم في هذا وإنما تكلم في قاسم المعمري ولكن الدارمي خَطْرَفَ الكتابة أولا ثم صحف ثم رجع يخالف كما تقدمت الإشارة إليه في القاعدة السادسة. ولعل الأستاذ يحرص على أن لا تصح قصة الجعد لتتوفر عليه الأولية مع أنه لا منافاة! والله المستعان. 181- قطن بن إبراهيم. في (تاريخ بغداد) 13 / 379 من طريق «مسدد بن قطن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد ... » قال الأستاذ ص 56: «حدث بحديث إبراهيم بن طهمان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في الدباغ فطالبوه بالأصل فأخرجه وقد كتبه على الحاشية فتركه مسلم بعد أن صار إليه وكتب عنه جملة وهو متهم بسرقة حديث حفص عن محمد بن عقيل» . أقول: هو حديث واحد رواه محمد بن عقيل عن حفص عن عبد الله السلمي عن إبراهيم بن طهمان. وكان قطن قد سمع من حفص كثيرا. ثم ذكر محمد بن عقيل أن قطنا سأله: أي حديث عندك من حديث إبراهيم بن طهمان أغرب؟ فذكر له هذا الحديث. فذهب قطن فحدث به بالعراق عن حفص فبلغ محمد بن عقيل فأنكر ذلك وقال: «لم يكن حفظ هذا الحديث - يعني عن حفص - إلا أنا ومحمود أخو خشتام» وأتهم قطنا أنه سرقه منه ثم حدث به قطن بنيسابور فطالبوه بالأصل فدافعهم ثم أخرجه فرأوا الحديث مكتوبا على الحاشية فأنكروا ذلك. هذا حاصل

182- قيس بن الربيع

القصة. وقطن مكثر عن حفص وغيره وقد قال الحاكم أبو أحمد: «حدث بحديثين لم يتابع عليها ويقال: دخل له حديث في حديث وكان أحد الثقات النبلاء» وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «يخطئ أحيانا يعتبر حديثه إذا حدث من كتابه» وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة ومن عادة أبو زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 416 وقال النسائي: «فيه نظر» ثم روى عنه في (السنن) . وقال الذهبي في (الميزان) : «صدوق» . فإذا كانت هذه حالة ولم ينقم عليه مع إكثاره إلا ذاك الحديث فلعل الأولى أن يحمل على العذر فلا يمتنع أن يكون قد سمع الحديث من حفص ثم نسيه أو خفي عليه أنه غريب أو طمع أن يدله محمد بن عقيل على حديث غريب آخر ثم ذكره وتنبه لفريته فرواه وقد يكون كتبه بعد أن سمعه في الحاشية أو لا يكون أو لا ثم لما ذكر أنه سمعه أو عرف أنه غريب ألحقه في الحاشية وكان مع حفص في بلد واحد فلا مانع أن يكون سمع منه الحديث في غير المجلس الذي سمع فيه محمد بن عقيل وصاحبه. وأهل الحديث جزاهم الله خيرا ربنا يشددون على الرجل وهم يرون أن له عذرا خشية أن يتساهل غيره طمعا في أن يعذروه كما عذروا ذاك. والله أعلم. 182- قيس بن الربيع. في (تاريخ بغداد) 13 / 405 « ... . سئل قيس بن الربيع عن أبي حنيفة فقال: من أجهل الناس بما كان وأعلمه بما لم يكن» ومن وجه آخر «أنا من أعلم الناس به كان أعلم الناس بما لم يكن وأجهلهم بما كان» قال الأستاذ ص 126: «تركه غير واحد وكان أبنه يأخذ أحاديث الناس فيدخلها في كتابه فيرويها أبو قيس بسلامة باطن» . أقول: وثقه جماعة منهم سفيان الثوري وشعبة وأثنوا عليه بالعلم والفضل وتكلموا في روايته وليس ما هنا من روايته حتى ننظر فيها. 183- مالك بن أنس الأصبحي الإمام. قال الأستاذ ص 100 عند ذكر الموالي: «حتى إن مالكا منهم عند الزهري ومحمد بن إسحاق» وفي الحاشية «حيث قال البخاري ... بسنده إلى ابن شهاب الزهري: حدثني ابن أبي أنس مولى التيميين.

وابن أبي أنس مالك هذا عم مالك بن أنس رضي الله عنه» . أقول: كلمة «مولى» تطلق في لسان العرب على معاني مختلفة منها الحليف وذلك معروف مشهور في كلامهم وأشعارهم وهو المراد هنا كما بينه مالك وغيره وابن أبي أنس الذي روى عنه الزهري هو نافع بن مالك بن أبي عامر وقال البخاري في (تاريخه) في ترجمة نافع هذا: «الأصبحي حليف بني تيم من قريش» وقال في ترجمة أبيه مالك بن أبي عامر: «الأصبحي حليف عثمان بن عبيد الله التيمي» وهكذا قال في ترجمة مالك الإمام. فأما ابن إسحاق فيظهر أنه إنما كان يطلق أن مالكا مولى يريد أنه حليف ولكن يحب أن يوهم خلاف ذلك لكدورة كانت بينه وبين مالك. ولا نلوم الأستاذ في التشبت بالشبهات فإنه أقام نفسه مقاما يضطره إلى ذلك ولكننا كنا نود لو أعرض عن الشبهات التي قد سبق إليها فحلت وانحلت واضمحلَّت واقتصر على الشبهات الأبكار التي يجد لذة في اختراعها ويجد أهل العلم لذة في افتراعها! وذكر الأستاذ ص 116 ما روي عن مالك أنه ذكر أبا حنيفة فقال: «كاد الدين كاد الدين» قال الأستاذ (لست أدري كيف يرميه من يرميه بكيد الدين مع أنه لم يكن متساهلا في أمر الطهو ر ولا متبرئا من المسح على الخفين في رواية من الراويات ولا منقطعا عن الجمعة والجماعات ... .» ذكر الأستاذ أمورا تنسب إلى مالك ليس فيها ما يداني ما عيب به غيره بل ليس فيما يصح منها بحمد الله عز وجل ما يسوغ الذي علم أن يذكره في معرض العيب وأشفها لزوم البيت وترك حضور الجماعة وقد روي عن مالك أنه قيل له في ذلك فقال: «ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره» فعرف الناس أن له عذرا وعلموا أنه مؤتمن على دينه ما كان ليمنعه من ذلك إلا عذر شديد وقد يكون ذلك كراهية الصلاة خلف أمراء الجور ومثل هذا العذر لو باح به بطشوا به وأفقدوا الأمة علمه وإمامته وفي ذلك من الضرر على الدين والأمة ما فيه.

وقال الأستاذ ص 67: «ذكر المبرد في كتاب (اللحنة) عن محمد بن القاسم التمائمي عن الأصمعي قال: دخلت المدينة على مالك بن أنس فما هبت أحدا هيبتي له فتكلم فلحن فقال: مطرنا البارحة مطرا أي مطرا. فخف في عيني فقلت ... . فقال: فكيف لو رأيتم ربيعة كنا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيرا بخيرا. أقول: هذه الحكاية منكرة عن الأصمعي فينظر من حكاها عن كتاب المبرد وعلى فرض ثبوتها عن المبرد ففيه كلام معروف ومحمد بن القاسم التمائمي لم أعرفه ولعله محمد بن القاسم اليمامي وهو أبو العيناء أصله من اليمامة وليس بثقة قد اعترف بوضع الحديث فما بالك بالحكايات. ومما يدل على بطلان هذه الحكاية أمور: الأول: أن الأصمعي كان من أشد الناس توقيرا لأئمة السنة. الثاني: أنه كان مبجلا لمالك حتى روي عنه أنه كان يفتخر بأن مالكا روى عنه. الثالث: أن فيها قرن مالك بشيخه ربيعة وهذا يدل على تحري الطعن في علماء المدينة وليس ذلك دأب الأصمعي إنما هو دأب أصحاب الرأي. الرابع: أن اللحن الذي تضمنته الحكاية خارج عن المعتاد فإن العامة فضلا عن العلماء يقفون بالسكون. وهذا كله يدل أن هذه الحكاية فرية قصد بها الغض من علماء المدينة. وقال الأستاذ ص 106: «ومالك هو القائل في أبي حنيفة ... عرقت مع أبي حنيفة إنه لفقيه يا مصري ... وهو الذي كان عنده عن أبي حنيفة فقط نحو ستين ألف مسألة كما رواه الطحاوي بسنده عن عبد العزيز الدراوردي ونقله مسعود بن شيبه في (كتاب التعليم) وكان يستفيد من كتب أبي حنيفة كما ذكره أبو العباس بن أبي العوام بسنده ... . وكان يذاكره العلم في المسجد النبوي كلما قدم كما ذكره الموفق الخوارزمي وغيره» . أقول: الحكاية الأولى لم يذكر سندها. والثانية منكرة ولم يذكر سند الطحاوي ثم إن لم توجد إلا في (كتاب التعليم) فكتاب التعليم حديث خرافة كما بينته في

(الطليعة) وغيرها، والثالثة يعلم حالها من حال ابن أبي العوام وسنده، والرابعة يراجع ما قد يفيدها في (مناقب أبي حنيفة) للموفق ج 2 ص 33 - ليعرف ما في تلك الأسانيد المظلمة. وليت الأستاذ جاء بخير واحد قوي يمكنه أن يثبت قليلا أمام الأخبار التي يضج منها الأستاذ ‍‍! وقال الأستاذ ص 105: «وكان مالك صاحب القدح المعلى في الرأي ... . وما رده من الأحاديث التي رواها هو بأصح الأسانيد عنده في (الموطأ) ولم يعمل هو به يزيد على سبعين حديثا ... عن الليث بن سعد قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال فيها مالك برأيه ... وما دونه أبو العباس محمد بن إسحاق السراج الثقفي من مسائله البالغة سبعين ألفا كما في (طبقات الحفاظ) للذهبي ج 2 ص 269 صريح في أنه كان من أهل الرأي ... ...» . أقول: أما الأحاديث فقد توقف مالك عن الأخذ ببعضها وليس ما توقف عنه وقد رواه بأصح الأسانيد عنده في (الموطأ) بكثير كما زعم الأسانيد بدون أن يذكر مستندا ومع ذلك فلم يرد مالك حديثا واحدا بمحض الرأي ولا ذكر له حديث فقال: هذا سجع. أو: هذا رجز. أو: حك هذا بذنب خنزير أو نحو ذلك من الكلمات المروية عن غيره بل أشتهر عنه قوله: «ما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر» يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق السنة فخذوا به» (1) . وكان يأخذ بالرأي عند الضرورة وجاء عنه من وجوه أنه كان يسأل عن مسائل فيجيب عن بعضها ويدع سائرها ولو جاءه رجل فقال: جئتك بمائة مسألة لبادر إلى الأمر بإخراجه فكيف يقاس إلى من قيل له: «جئتك بمائة ألف مسألة» فقال: «هاتها» ! فأما ما حكي عن الليث فالأفهام في السنة تختلف، يختلف العالمان في فهم الحديث أو في ترجيح أحد الحديثين على الآخر فيري كل منها أن قول صاحبه مخالف للسنة، وقصة سبعين ألف

_ (1) انظر تخريج هذين الأثرين عن مالك وما في معناه عن سائر الأئمة في مقدمة كتابنا «صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -» . ن.

مسألة حكاها الذهبي بقوله: «وعن السراج ... .» ولا ندري كيف سندها إلى السراج. ومع ذلك فقول الأستاذ «صريح في أنه كان من أهل الرأي» مجازفة وهذه كتب الظاهرية موجودة فليتصفحها الأستاذ وليحص المسائل التي فيها ليعلم بطلان ما زعمه من الصراحة وأوضح من هذا أن الظاهرية وأهل الحديث يجيبون عن كل مسألة حدثت أو تحدث وذلك يزيد عن سبعين ألفا مضروبة في مثلها بدون أن يكونوا من أهل الرأي وخاصة أهل الرأي هي الرغبة عن العناية بالسنة استغناء بالرأي ورد السنن الصحيحة بمحض الرأي ومالك رحمه الله تعالى بريء من هذا. قال أبو مصعب عن مالك «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وقال حرملة عن الشافعي: «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين» وأتفق الشافعي ومحمد بن الحسن على أن مالكا أعلم من أبي حنيفة بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وقال ابن عيينة وعبد الرزاق في حديث أبي هريرة مرفوعا «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» (1) . هو مالك. وما روي عن ابن عيينة أنه قال مرة: هو العمري العابد لا وجه له لأن العمري العابد وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن الله بن عمر - لم يشتهر بالعلم - بالمعنى المعروف، بل لم يعرف به، بل قال ابن حبان: «لعل كل شيء حدث في الدنيا لا يكون أربعة أحاديث» . وليس له في الأمهات الست ولا في الكتب الأخرى لأصحابها التي أخذ رجالها في (التهذيب) إلا حديث واحد مرسل في (مراسيل أبي داود) ولم تضرب إليه أكباد الإبل بل لعله لم يرحل إليه بعير واحد وإنما كان هو رحمه الله يخرج إلى البراري لتعليم الأعراب ضروريات الدين فكيف ينطبق عليه هذا الحديث؟ فأما انطباقه على مالك فكالشمس وضوحا ولم يثبت في فضل غيره من الأئمة ما يظهر انطباقه مثل هذا الظهور ولا قريبا منه. والله الموفق.

_ (1) قلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه، وفيه نظر بينته في تعليقي على «الأحكام الكبرى» لعبد الحق الاشبيلي رقم الحديث (76) وذكرت له هناك شاهداً.

184- محبوب بن موسى أبو صالح الفراء

184- محبوب بن موسى أبو صالح الفراء، جاءت من طريقه روايات تقدم بعضها في ترجمة عبد الله بن الزبير الحميدي وبعضها في ترجمة عثمان بن سعيد ألد ارمي. قال الأستاذ ص 17: «صاحب تلك الحكايات التالفة الذي يقول عنه أبو داود: لا تقبل حكاياته إلا من كتاب» . أقول لفظ أبي داود «ثقة لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب» كما تقد في (الطليعة) ص 73. فقوله «ثقة» يدفع عنه الكذب والمجازفة والتساهل الفادح ويعين أن ^ 385 المقصود أنه كان لا يتقن حفظ الحكايات كما يحفظ الحديث فكان إذا حكاها من حفظه يخطئ. فلا يحتج من حكاياته إلا بما رواه من كتابه أو توبع عليه أو ليس بمظنة للخطأ. وقد قال العجلي: «ثقة صاحب سنة» وقال ابن حبان قي (الثقات) : «متقن فاضل» وقال أبو حاتم «هو أحب إلي من المسيب بن واضح» . 185- محمد بن إبراهيم بن جناد المنقري. في (تاريخ بغداد) 13 / 414 من طريقه قال: «حدثنا أبو بكر الأعين حدثنا إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن خراش ولعله كان على مذهبه» . أقول: قد روى عنده موسى بن هارون الحمال الحافظ الجليل وغيره ولم يغمزه أحد , وقال ابن خراش «ثقة مأمون» وقد توبع على هذه الحكاية معناها على وجهه. وقال ابن حبان في ترجمته إبراهيم بن شماس من (الثقات) : «سمعت عمر بن محمد البحيري يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: سمعت إبراهيم شماس يقول: رأيت ابن مبارك يقرأ كتابا على الناس في ثغر , وكلما مر على ذكر أبي حنيفة قال: اضربوا عليه، وهو آخر كتاب قرأ على الناس , ثم مات» . وقال أبو حاتم في ترجمته النعمان: «تركه ابن المبارك فأخره» ومع تضافر الروايات بذلك حاول الأستاذ ص 124 وص 150 أن يدفعه في ذكر أوجها: أحدها إن ابن مهدي لم ينشد مرثية أبي تميلة لابن المبارك فبلغ المنشد قوله:

وبرأي النعمان كنت بصيرا ... حين يؤتي مقاييس النعمان قاطعة قائلا: «أسكت فقد أفسدت الشعر وليس لابن المبارك ذنب بالعراق غير روايته عن أبي حنيفة» قال الأستاذ: «ولو كان ابن مهدي يعلم أنه رجع عن الرواية عن أبي حنيفة لصارحه بذلك ومثله في انحرافه عن أبي حنيفة واهتمامه بابن المبارك جدير بأن يعلم رجوعه لو كان رجع. وكذلك لو صح رجوع ابن المبارك عن الأخذ والرواية عن أبي حنيفة ما صح لأبي تميلة أن يمدح في مرثيته بكونه بصيرا برأي النعمان وأهل بلده الرجل أعرف بأحواله. الثاني: أن في (مسانيد أبي حنيفة) أحاديث كثيرة من طريق ابن المبارك عنه. الثالث: كثرة ما يروي من ثناء ابن المبارك على أبي حنيفة. أقول: أما الوجه الأول فلا يخفي وهنه فإن ترك ابن المبارك الرواية عن أبي حنيفة كان في أواخر عمره كما صرحت به الروايات فقد لا يكون ذلك بلغ ابن مهدي حين أنشد المرثية وقد يكون بلغة ولكنه رأى أن الرواية قد وقعت ووقع ما يترتب عليها من المفسدة وتركها بأخرة لا يمحو تلك المفسدة ولم يكن المنشد في مقام الاحتجاج بأن ابن المبارك كان يروي عن أبي حنيفة حتى يحتاج ابن مهدي إلى أن يقول له: قد تركه باخرة وإنما سمع شعرا فأنشده. وأبو تميلة لم يثن على ابن المبارك بأنه كان يروي عن أبي حنيفة وإنما أثنى عليه بأنه كان بصيرا برأيه والبصر بالرأي فضيلة على كل حال لا يعاب بها أحد وإنما يعاب الرغبة عن السنة وردها بالرأي وكان ابن المبارك بحمد الله عز وجل بريئا من ذلك أو لا وأخرا. وأما أن أهل بلده الرجل أعرف بأحواله فلا يجدي شيئا لأن أبا تميلة لم يشر أدنى إشارة إلى نفي الترك ولو أشار أو صرح لم يكن في ذلك ما يدفع روايته المثبتين ومنهم من كان أخص بابن المبارك من أبي تميلة كالحسن بن الربيع الذي غمض ابن المبارك عند موته. وأما مسانيد (أبي حنيفة) فقد تقدم الكلام فيها في ترجمة الجراح بن منهال، فإن صح عن ابن المبارك شيء من روايته عن أبي حنيفة فهو مما

186- محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغطريفي الحافظ

رواه سابقا فأنه لا يلزم من تركه الرواية عنه باخرة أن يمحي ما رواه سابقا من الصدور والدفاتر ولا يتحتم على من بلغه الترك باخرة أن لا يروي ما سمعه سابقا. وأما ما يروي عن ابن المبارك من الثناء فحاله تعرف بالنظر في أسانيده ومتونه كتلك الأبيات السخيفة التي يلهج بها الحنفية ومنهم الأستاذ. وقوم لم يتورعوا عن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناقب إمامهم كيف يستبعد منهم الكذب على ابن المبارك؟ فإن قوي شيء من تلك الروايات فليوازن بينه وبين روايات الذم , على أنه لا مانع من أن يثني على رجل لمعنى ويذم لمعنى آخر بل هذا موجود بكثرة. 186- محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغطريفي الحافظ. في (تاريخ بغداد) 13 / 325 «أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو أحمد الغطريفي قال سمعت الساجي ... .» قال الأستاذ ص 18: «صاحب مناكير وقد أنكروا عليه حديثه في إهداء الرسول صلى الله عليه وسلم جملا لأبي جهل وكان يزعم أن فلانا وفلانا أفاداه من غير أن يخرج أصله وأنكروا عليه أيضا تحديثه بـ (مسند ابن راهويه) من غير أصله وقد تفرد عن أبي العباس بن سريج بأحاديث لم يروها عنه غيره وقد ذكره ابن الصلاح في عداد المختلطين ومع ذلك يبقى هو وأبو نعيم والخطيب مقبولين مرضيين عند أهل مذهبهم» . أقول: قوله: «صاحب مناكير» لم يقلها أحد ولا في كلامهم ما يعطي ذلك كما سترى. أما حديث الجمل ففي (الموطأ) في «المناسك» «باب ما يجوز من الهدي» : «مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى جملا كان لأبي جهل ابن هشام في حج أو عمرة» وهكذا رواه

الناس عن مالك حتى رواه سويد بن سعيد عن مالك فقال: «عن الزهري عن أنس عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ... » فأنكر على سويد حتى قال ابن معين لما ذكر له هذا: «لو أن عندي فرسا خرجت أغزوه» وممن رواه عن سويد أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي فأستنكره الناس فأبرز الصوفي أصله العتيق ثم تبين أن جماعة رووه عنه سويد كذلك. ثم رواه الغطريفي إما عن الصوفي كما يظهر من بعض العبارات وإما عن صاعد وابن مظاهر عن الصوفي كما يظهر من بعضها قال حمزة السهمي في ترجمة الغطريفي من (تاريخ جرجان) ص 387: «وقد أنكروا على أبي أحمد الغطريفي رحمه الله حيث روى حديث مالك ... وكان يذكر أن ابن صاعد وابن مظاهر أفاده عن الصوفي هذا الحديث ولا يبعد أن يكون قد سمع إلا أنه لم يخرج أصله وقد حدث غير واحد من المتقدمين والمتأخرين هذا الحديث عن الصوفي ... » وفي (تاريخ بغداد) ج 4 ص 83: «أخبرنا البرقاني قال: سألت أبا بكر الإسماعيلي عن حديث الصوفي ... أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا لأبي جهل؟ فقال لي: حدثناه بحضرة ابن صاعد وابن مظاهر فاختلفا فيه ... فأخرج الصوفي أصله العتيق فكان كما قال. قال البرقاني: وحدثناه عن الصوفي أيضا أبو أحمد الغطريفي كذلك وذكر القصة نحو هذا» . والإسماعيلي إمام وكذلك البرقاني وكان الغطريفي رفيق الإسماعيلي في الطلب ثم كان نازلا في بيته وروى عنه الإسماعيلي في (الصحيح) أحاديث كثيرة وسئل عنه فقال: «ما علمته إلا صواما قواما» . وكان الذين أنكروا عليه الحديث توهموا أنه تفرد به وقد أتضح خطأهم في ذلك. فأما عدم إبرازه أصله فلا يضره إذا قد يكون قصر فلم يكتبه أو كتبه وغاب عنه أصله أو لم يعثر عليه حينئذ فإنه كان مكثرا جدا وأما تحديثه ب (مسند إسحاق) من غير أصله فمسند إسحاق كتاب مصنف محفوظ مروي فإذا لم يصل إلى أصله الذي سمع فيه ووصل إلى نسخة أخرى يثق بمطابقتها لأصله لم يكن عليه حرج في ذلك وإنما المحذور أن يحدث الرجل من كتاب لا يثق بمطابقته لأصله. وأما أحاديثه عن ابن سريج فإنما قال حمزة: «لا أعلم روى عنه غيره» يعني تلك الأحاديث لم يستنكر حمزة شيئا منها وابن سريج كان بابه الفقه،

187- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه

ولم يكن يبذل نفسه لإملاء الحديث وكان الغطريفي مولعا بالإكثار واستيعاب ما عند الشيخ كما في ترجمته من (تذكرة الحفاظ) : «سمع أبا خليفة حتى استوعب ما عنده» فكأنه ألح على ابن سريج حتى أخذ ما عنده ولم يكن غيره يحرص على السماع من ابن سريج لأنه لم يكن مكثرا من الحديث ولا متجردا له ولا عالي الإسناد فإنه مات وعمره بضع وخمسون سنة على أنه يحتمل أن يكون غير الغطريفي قد روى عن ابن سريج تلك الأحاديث ولم يعلم حمزة. وأما حكاية الاختلاط فقد ردها العراقي وذكر أن المختلط رجل آخر غير الغطريفي. ولو كان هناك اختلاط أو شبهه لتعرض له حمزة في (تاريخ جرجان) فإنه بلدي الغطريفي وصاحبه وقد جمع كل ما قيل فيه. وقد أتضح أنه ليس فيما تجنوه على الغطريفي ما يضره وقال الذهبي في (الميزان) بعد حكاية ما قيل: «قلت: ثقة ثبت من كبار حفاظ زمانه» . وقال في (تذكرة الحفاظ) : «الحافظ المتقن الإمام ... من علماء المحدثين ومتقنيهم صواما قواما صالحا ثقة» 187- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه. قال الأستاذ ص 32: «إنما لازمه الخطيب بعد أن هرم وكف بصره والكفيف لا يؤخذ عنه إلا ما يحفظه عن ظهر القلب ... والإكثار عن مثل هذا الضرير لا يصدر إلا من المتساهلين ... » . أقول: قد حقق الخطيب نفسه هذه القضية في (الكفاية) ص 226 - 229 وص 258 - 259 وذكر هنالك من كان يروي من كتبه بعد ما عمي ومنهم يزيد بن هارون وأبو معاوية محمد بن حازم وعبد الرزاق. والذين حكى عنهم المنع من ذلك اعتلوا بخشية أن يزاد في كتاب الأعمى وهو لا يدري. وغيرهم يقول:

188- محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الآدمي

المدار في هذا الأمر على الوثوق فإذا كان الضرير واثقا بحفظ كتابه ثم قرأ عليه منه ثقة مأمون متيقظ فقد حصل الوثوق وقد استغنى أهل العلم منذ قرون بالوثوق بصحة النسخة فمن وثق بصحة نسخة كان له أن يحتج بما فيها كما يحتج به لو سمعه من مؤلف الكتاب. والخطيب كما يعلم من (تاريخه) غاية في المعرفة والتيقظ والاحتياط فإذا وثق بأن كتب ابن رزق محفوظة ثم دفع إليه ابن رزق كتابا منها فرأي سماعه فيه صحيحا وعلم أنه قد رواه مرارا قبل عماه فقد حق له أن يحتج بما يجد فيه وإن لم يقرأه هو أو غيره بحضرته على ابن رزق فكيف إذا وفي الحجة بقراءته عليه؟ بل إذا تدبرت علمت أن الوثوق بهذا أمتن من الوثوق بما يرويه الرجل من حفظه فإن الحفظ خوان. وقد رأيت في (تاريخه) ج 9 ص 309: «دفع إلي ابن رزق أصل كتابه الذي سمعه من مكرم ابن أحمد القاضي فنقلت منه ثم أخبرنا الأزهري أخبرنا عبد الله بن عثمان أخبرنا مكرم ... » فذكر خبرا؛ وهذا مما يبين تحري الخطيب وتثبته. وفوق ذلك فعامة ما رواه الخطيب عن ابن رزق في ترجمة أبي حنيفة إنما هو من كتاب مصنف للآبار وجل الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة كما تقد في ترجمة الحسن بن الحسين. 188- محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الآدمي. في (تاريخ بغداد) 13 / 405: أخبرنا البرقاني حدثني محمد بن أحمد بن محمد الأدمي حدثنا محمد بن علي الأيادي حدثنا زكريا بن يحيى الساجي حدثنا بعض أصحابنا قال: قال ابن إدريس: إني لأشتهي من الدنيا أن يخرج من الكوفة أبي حنيفة وشرب المكسر وقراءة حمزة» . قال الأستاذ ص 127: «ترى البرقاني يصف نفسه في صف هؤلاء فيروي عن مثل الآدمي ... راوي (العلل) للساجي وهو لم يكن صدوقا يسمع لنفسه في كتب لم يسمعها وكان بذيء اللسان كما سبق من الخطيب ... وواضع الحكاية على لسان ابن إدريس وقح قليل الدين يجمع بين شرب المسكر وبين الفقه والقراءة المتواترة» .

189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

أقول: لفظ الخطيب في ترجمة الآدمي ج1 ص 349: «قال لي أبو طاهر حمزة بن محمد ابن طاهر الدقاق: لم يكن الآدمي هذا صدوقا في الحديث كان يسمع لنفسه في كتب لم يسمعها. فسألت البرقاني عن الآدمي فقال لي: ما علمت إلا خيرا وكان شيخا قديما ... . غير أنه كان يطلق لسانه في الناس ويتكلم في ابن مظفر والدارقطني» . فعدم التفات البرقاني إلى كلام حمزة يدل على أنه لم يعتد به لأن حمزة لم يبين أي كتاب الحق الآدمي سماعه فيه ولم يسمعه ومن أين علم حمزة أنه لم يسمعه؟ وقول البرقاني: «غير انه كان يطلق لسانه ... » كأنه قصد بها أن الآدمي كان يتكلم في الناس فتكلم بعضهم فيه ومثل هذا يقع فيه التجوز والتسامح فلا يعتد به إلا مفسرا محققا مثبتا. ومع هذا فالخبر في كتاب (العلل) للساجي ولم يكن البرقاني ليسمع الكتاب من الآدمي حتى يثق بصحة سماعه وبصحة النسخة فهب أن البرقاني أو الخطيب قال: «قال الساجي في (العلل) ... » أل يكفي هذا للحجة؟ وقد كان يكفي الأستاذ أن يقول: شيخ الساجي لا يدري من هو. ولكنه يأبى إلا التطويل والتهويل. وزعمه أن الحكاية موضوعة مجازفة منه وكلام أئمة السنة في ذلك العصر في قول أبي حنيفة متواتر حق التواتر وكلام جماعة منهم في قراءة حمزة مشهور والقرآن متواتر حقا فأما وجوده الأداء التي تفرد بها حمزة فالأئمة الذين أنكروها لا يعلمون صحتها فكيف تواترها؟ وراجع ترجمة حمزة في (الميزان) . 189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله. هكذا نسبه صاحبه الربيع كما في صدر كتاب (الرسالة) وأسنده إليه الخطيب في (تاريخ بغداد) والسند إليه بغاية الصحة. وهكذا نسبه صاحبه الزعفراني كما تراه عنه من وجهين في (توالي التأسيس) ص 44؛ وهكذا نسبه الإمام أبو محمد

تحقيق أنه قرشي مطلبي إجماعا

عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في (كتابه) ج 3 ص 201. وهكذا نسبه أحمد بن محمد بن عبيد العدوي النسابة رواه عنه زكريا الساجي في (مناقب الشافعي) كما في (توالي التأسيس) أيضا و (تاريخ بغداد) . وقال ابن النديم في (الفهرست) ص 294: «قرأت بخط أبي القاسم الحجازي في كتاب (الأخبار الداخلة في التاريخ) أنه أبو عبد الله محمد بن إدريس من ولده شافع بن السائب بن عبيد ... » كما مر. وقال أبو عمر بن عبد البر في (الانتقاء) ص 66: «لا خلاف علمته بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس من أهل السير والعلم بالخبر والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب وأهل الحديث والفقه أن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ... » كما مر. وقال ابن أبي حاتم في (كتابه) : «حدثني أبو بشر بن أحمد بن حماد الدولابي نا أبو بكر بن إدريس قال: سمعت الحميدي يقول: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة فقال لي ذات يوم: ههنا رجل من قريش له بيان ومعرفة قلت: ومن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، -وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق - فلم يزل بي حتى اجترني إليه فجلسنا إليه ودارت مسائل فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش له هذه المعرفة وهذا البيان؟ ... » . الدولابي حافظ حنفي فيه مقال ومثله لا يهتم في هذا وشيخه هو وراق الحميدي ثقة والحميدي قرشي إمام. وفي أوائل (سنن الشافعي) التي رواها الطحاوي عن المزني صاحب الشافعي بسندين إلى الطحاوي قال: «حدثنا ... المزني في ذي القعدة من سنة 252 قراءة منه علينا قال: حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي ... » والذين ذكروا الشافعي وأثنوا عليه بأنه قريش أو مطلبي من أقرانه والذين يلونهم كثير وقد جاء عنه أنه لما حمل إلى بغداد ناظر محمد بن الحسن فاستعلى عليه فبلغ ذلك هارون الرشيد فأعجبه وقال: «صدوق الله ورسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا من

قريش ولا تعلموها وقدموا قريش ولا تؤخروها ... .» كما في (توالي التأسيس) ص 70 وفيها ص 47 من وجه آخر عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: «ناظر الشافعي محمد بن الحسن فبلغ الرشيد فقال: أما علم محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قدموا قريشا فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض» . وفيها ص 60: «وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي وهو من كبار الأئمة: تصفحنا أخبار الناس فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أو ضح شأنا ولا أبين بيانا ولا أفصح لسانا من الشافعي مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقال بعد قليل: «وقال داود بن علي الأصبهاني فيما أخرجه البيهقي من طريقه قال: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره فأول ذلك شرف نسبه ومنصبه وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم» . وفيها ص 61: «وأخرج الحاكم من طريق داود بن علي قال في مسألة ذكرها: هذا قول مطلبينا الشافعي الذي علاهم بنكته وقهرهم بأدلته وباينهم بشهامته وظهر عليهم بحمازته، التقي في دينه النقي في حسبه الفاضل في نفسه المتمسك بكتاب ربه المقتدي قدوة رسوله الماحي لآثار أهل البدع الذاهب بجمرتهم الطامس لسنتهم فأصبحوا كما قال تعالى: {فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} » ومثل هذا من الثناء عليه بأنه قرشي أو مطلبي أو من رهط النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير وهذا ابن دريد يقول في مرثيته: لرأى ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب صادع وفي (تاريخ البخاري) ج 1 قسم 1 ص 242: «محمد بن مسافع بن مساور ... وقال سعيد بن سليمان: محمد بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن. عبد مناف» وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب. وفي (توالي التأسيس) ص 5: «أخرج الحاكم

من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمه سمعت مسلم ابن الحجاج يقول: عبد الله بن السائب كان والي مكة وهو أخو شافع بن السائب جد محمد ابن إدريس الشافعي ... » . وقال الشافعي في (الأم) ج 7 ص 250: «قال لي قائل ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه: أنت عربي والقرآن نزل بلسان من أنت منهم ... » وقال في وصيته المثبتة في (الأم) ج 4 ص 49 «وأوصي لفقراء آل شافع بن السائب بأربعة أسهم ... » . وقال في (الأم) ج 4 ص 38 ونحوه في (مختصر المزني) بهامش الأم ج 3 ص 193 ... فماذا كان المعروف عند العامة أن من قال من قريش: لقرابتي - لا يريد جميع قريش ... فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال: من بني عبد مناف، ثم يقال: قد يتفرق بنو عبد مناف فمن أيهم؟ فبقال: من بني المطلب، فيقال: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، هم قبائل، قيل فمن أيهم؟ قيل: نعم هم بنو السائب بن عبيد ابن عبد يزيد، قيل: وبنو شافع وبنو علي وبنو عباس، وكل هؤلاء من بني السائب، فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه، فإذا كان من آل شافع فقال: لقرابته، فهو لآل شافع دون آل علي وآل عباس ... » . فالشافعي ومن أدركه وأقرانه وأصحابه ومن جاء بعدهم إلى نحو مائتي سنة بعد الشافعي - ما بين ناسب له ولمن عرف من أهل بيته بالعلم كعمه محمد بن علي بن شافع، ومحمد بن العباس ابن عثمان بن شافع وابنه إبراهيم وغيرهم هذا النسب تفضيلاً أو إجمالاً، وبين سامع له غير منكر. ولو كان الانتساب إلى قوم من الأعاجم لقد كان يجوز أن يقال: يمكن أن يكون الرجل - إن كان أهلاً أن يتوهم فيه الكذب - نسب نفسه بدون تحقيق فاتفق أن تغافل أهل المعرفة عن الإنكار عليه، أما العجم فلعدم اعتداد مسلميهم بأنسابهم وإنما كانوا ينتسبون إلى مواليهم من العرب، وأما العرب فلا يهمهم أن ينتسب الأعجمي إلى من شاء من العجم، وقريب من هذا لو انتسب إلى قبيلة خاملة من العرب، ولم يكن له هو من النباهة ما

ذكر أول من كابر في نسب الإمام وزعم أن جده شافعا مولى لأبي لهب

يحمل كثيرا من الناس على حسده ومنافسته فيدعوهم إلى مناقشته، فهل يسوغ ذو عقل مثل هذا في رجل يقوم في القرن الثاني فيدعى لعشيرته كامله أنها من العرب ثم مر قريش ثم من بني عبد مناف ثم من بني المطلب فيثبت لها بذلك حقا في الخلافة، وحقا في الفيء، وحقا في خمس الخمس، والكفاءة لبني هاشم، والخلفاء منهم، فلا يبقى بينها وبين بني هاشم فرق آي في الفضل مع أنها تشاركهم في نصيب منه لما في (الصحيحين) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وثبت عن فاطمة عليها السلام أنها لما وقفت صدقتها جعلتها لبني هاشم وبني المطلب وكذلك فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقوم هذا الرجل في القرن الثاني فيدعي هذا ويعلنه ويلهج به عارفوه وأصحابه وجماعة من عشيرته ثم لا يثور عليه التكذيب والعقوبة من كثير من الجهات؟ بل ولا ينكر عليه أحد هذا مع أن الرجل بغاية من النباهة ولم يكن له ولا لأحد من أقاربه ما يهاب لأجله ويتقي من منصب في الدولة أو نحو ذلك وقد كان في مبدأ أمره ولي بعض الولايات وطار له صيت بالعدل والجود والقبول فنسب إليه ترشيح نفسه للخلافة فحمل إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد وجاء من غير وجه أنه خاطبه بقوله: نحن إخوتكم من بني المطلب فأنتم ترونا أخوة. هذا والعارفون بالأنساب ولا سيما نسب قريش في ذاك العصر كثير وللرجل حساد يحرقون عليه الأرم ومع ذلك قبل الناس دعواه ووفقوه عليها وأستمر الأمر على ذلك تسمع موافقته من كل جهة ولا يحس وجس بمخالفته إلى نحو مائتي عام. ثم إذا كان بعد ذلك؟ ذاك متفقه حنفي ملأه غيظا تبجح الشافعية بأن إمامهم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسولت له نفسه أن يحاول المكابرة في ذلك فلم يجد إلى ذلك سبيلا فلجأ إلى غير ملجأ فقال: إن أصحاب مالك لا يسلمون أن الشافعي من قريش بل يدعون أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر رضي الله عنه أن يجعله من موالي قريش فامتنع فطلب من عثمان رضي الله عنه ففعل» فافتضح هذا القائل الظالم لنفسه فان أصحاب مالك - وإن كان فيهم من

حقيقة كتاب "التعليم" المنسوب لعماد الدين مسعود بن شيبة الحنفي المجهول

هو حنق على الشافعي وأصحابه لا يعرفون قائلا منهم بهذه المقالة وهذا صاحبهم ابن عبد البر أعرف الناس بهم وبأحوالهم ومقالاتهم نقل الإجماع على نسب الشافعي كما سلف. ولو أن ذلك الحنفي نسب تلك المقالة إلى إنسان معروف من المالكية لساغ احتمال أنه لم يكذب على ذلك المالكي وأن كذبه وإنما رأى في بعض الروايات أن الشافعي لما حمل إلى الرشيد كان معه رجل من آل أبي لهب ثم حاول أن يروج مقالته بما نسب إلى عمر فزادها فضيحة فهل كان عمر ينكر أن يكون بنو هاشم من قريش؟ أم كان ظالما جائرا يمنع المولى حقه الواضح؟ تذهب هذه الأضحوكة ذهاب ضرطة عير بالفلاة، وتمر على ذلك ثلاثمائة سنة أخرى تقريبا وإذا بحنفي آخر محترق يكتب كتيبا يضمنه أشياء في فضل أبي حنيفة وعيب سائر الأئمة ولاسيما الشافعي وخوفا من الفضيحة نحل الكتاب من لا وجود له فكتب عنوانه « (كتاب التعليم) لشيخ الإسلام عماد الدين مسعود بن شيبة ابن الحسين السندي» ثم رمى بالكتاب في بعض الخزائن فعثر الناس عليه بعد مدة فتساءل العارفون: من مسعود بن شيبة؟ لا يجدون له خبرا ولا أثرا إلا في عنوان ذاك الكتيب. القضية مكشوفة إلا أنها صادفت هوى في نفوس بعض الحنفية فصار بعض مؤرخيهم وجامعي طبقاتهم ومناقبهم يذكرون مسعود بن شيبة وينقلون من ذاك الكتيب فاضطر الحافظ ابن حجر إلى أن يقيم لذلك وزنا ما فقال في (لسان الميزان) : «مسعود بن شيبة ... مجهول لا يعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه له مختصر سماه التعليم كذب فيه على مالك وعلى الشافعي كذبا قبيحا ... » فيجئ الأستاذ الذي يصف نفسه كما في لوح كتابه الذي طبع بتصحيحه ومراجعته بأنه «الأمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقا» فيحتج بذاك الكتيب المسمى ب (التعليم) ويذكر مسعود بن شيبة كعالم حقيقي ويزيد على ذلك فيقول في حاشية ص 3 من التأنيب «وابن شيبة هذا جهلة ابن حجر فيما جهل مع أنه معروف عند الحافظ (؟) عبد القادر القرشي وابن دقاق المؤرخ والتقي المقريزي والبدر

محاولة الكوثري الخدش في الإجماع على قرشية الشافعي مع المواربة

العيني والشمس ابن طولون الحافظ وغيرهم فنعد صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة - لحاجة في النفس - وقانا الله إتباع الهوى» كذا يقول هذا الظالم لنفسه وهو يعلم حق العلم أن هؤلاء الذين سماهم وكلهم متأخرون لم يعرفوا إلا ذاك الكتيب فتجاهلوا حلمه وذكروا مسعود بن شيبة بما أخذوه من ذاك الكتيب فإن كانت هذه معرفة فالحافظ ابن حجر لم ينكرها بل أثبتها في تلك الترجمة والداهية الدهياء أن يختم الأستاذ عبارته بقوله: «وقانا الله إتباع الهوى» أفليس هذا أشنع وأفظع وأدل على المكروه من قول شارب الخمر حين يشربها: باسم الله؟ ! يقع في ذلك الكتيب ما نقله عنه الأستاذ كما يأتي، تناسى الناس ذاك الكتيب إلا أماني كما سبق ومضت بعد ذلك قرابة سبعمائة سنة فينشأ الكوثري فيبعثر فظائع أصحابه علق على (انتقاء ابن عبد البر) حيث حكى ابن عبد البر الإجماع على نسب الشافعي قوله: «ومن زعم أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع فطلب من عثمان ذلك ففعل فقد بعد عن الصواب وشذ عن الجماعة والتعويل عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصب بارد ولهم أن يناقشوا في علمه لا في نسبه» . وغرضه هنالك إنما هو محاولة الخدش في الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر ولكن حاول المواربة وزعمه أن بعض الحنفية والمالكية عولوا على تلك الفرية فرية أخرى إنما رمي بها ذاك الحنفي المحترق على المالكية والمالكية براء منها فإن كان هناك من يسوغ أن يقال إنه عول عليها فهو الكوثري فقد قضي على نفسه بالتعصب البارد وذلك أخف ما ينبغي أن يقضي عليه به! وقال في (التأنيب) ص 100 فما بعدها عند الذكر الموالي «حتى إن الشافعي منهم عند أهل العلم (؟) وعلق عليه في الحاشية مقاله ذاك الحنفي ثم قال: «ومنهم

ذكر الإختلاف في موضع ولادة الشافعي وأنه لا يدعو إلى الشك في نسبه

من يعده في عداد موالي عثمان كما في (التعليم) لمسعود بن شيبة» وقد علمت حاله هذين ثم قال: «وكان الشافعي يعضه فقر مدقع في نشأته كما في كتب المناقب والصليب في قريش كان يتناول من الديوان في ذلك العصر ما يقيم به أوده» . أقول: الذي يقوي سنده من تلك الحكايات ما روي عن الشافعي أنه قال: كنت يتيماً في حجر أمي ولم يكن لها مال وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة وكانت دارنا في شعب الخيف فكنت أكتب في العظم فإذا كثر طرحته في جره عظيمة، والحكايات الأخرى في أسانيدها مقال وهي مع ذلك لا تزيد على هذا، وهذا لا يصدق عليه كلمة «يعضه فقره مدقع» فقد كانت له دار وكفاف في المطعم والملبس وإلا لما تركته أمه يطلب العلم بل كانت تسلمه في حرفة، فإن كان يصل إليه من الديوان شيء فلا ندري ما قدره وقد لا يكون يصل إليه شيء لأن الأمراء كانوا ظلمة يصرفون بيت المال في أغراضهم وشهو اتهم، وكان والد الشافعي كما تشير إليه بعض الروايات ممن خرج مع العلوية على العباسين ولذلك اضطر إلى الفرار بأهله من الحجاز إلى فلسطين حيث ولد الشافعي وكان الأمراء يتتبعون من كان كذلك بالقتل والسجن فضلا عن حرمان حقهم في بيت المال، وقد نال ذلك ذرية فاطمة عليها السلام قال دعبل: أرى فيأهم في غيرهم متقسما ... وأيديهم من فيئهم صفرات وقال الكوثري في ما كتبه على (مغيث الخلق) : «لم أرى أحد قبل زكريا الساجي رفع نسب شافع إلى عبد مناف» . أقول قد أريناك. قال: «والساجي متكلم فيه» مما لا يعتد به وهو أحد الإثبات كما مر في ترجمته. قال: اختلاف الروايات في مسقط رأس الأمام الشافعي ... . وعدم ذكر ترجمه لوالديه ولا تاريخ لوفاتهما في (كتاب الثقات) مما يدعوا إلى التثبت في الأمر» ! أقول: أما الاختلاف في موضع ولادته فليس مما يدعوا إلى التشكك وهؤلاء أبناء فاطمة وأبناء العباس لم تتعرض التواريخ لمواضع ولادة كثير منهم إذ ليس ذلك

بيان أن في أجداد الشافعي صحابيا واحدا أو أكثر

مما يهتم به فيحفظ الناس إلى الآن مختلفون في تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومولده وكان والد الشافعي مشردا مطردا بسبب خروجه مع العلويين فكان مختفيا بأهله في فلسطين حيث ولد له الشافعي والذين ذكروا موضع ولادة الشافعي إنما استندوا إلى أخباره , فأقوى الروايات عنه أنه قال «بعسقلان» وفي رواية عنه أنه قال «بغزة» فإن ثبتت هذه أيضا تبين أنه ولد بإحداهما وأطلق عليها في رواية أخرى اسم أخرى لأنها من مضافاتها أو ولد في قرية صغيرة بينهما أطلق عليها في أحدا الروايتين اسم هذه وفي الأخرى اسم الأخرى لأنها لا تعرف إلا باضافتها إلى إحداهما، فأما ما روي عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب من ذكر اليمين فلذلك أسوة بال أحاديث الكثيرة التي غلط فيها أحمد هذا الغلط الفاحش حتى اضطر أخيرا إلى الرجوع عنها ومع ذلك فقد تكلف بعضهم تأويل روايته المذكورة بما لا حاجة إلى ذكره. وأما أنهم لم يذكروا ترجمة لوالدي الشافعي فلم يعرف أبوه بالعلم، وما كل قرشي حفظت له ترجمة ولعل الذين حفظت تراجمهم لا يبلغون عشر معشار الذين كانوا موجودين. وأما تاريخ الوفاة فالمحدثون إنما عنوا بتقيد وفيات الرواة لمعرفة اتصال الرواية عنهم وانقطاعها، وما أكثر الرواة المشاهير الذين لم تقيد وفياتهم والذين ذكرت وفياتهم منهم وقع في كثير منها الاختلافات المتباينة فأما والدا الشافعي فلم يتعانيا الرواية أصلا والأستاذ نفسه يتحقق هذا كله ولكن يأبى إلا الشعبذة على الجهال وقد عرف الناس تاريخ ولادة الشافعي وأن أباه توفي عقب ذلك بستة أو نحوها فأما أمه فعاشت إلى أن بلغ أبها مبلغ العلماء وجهزته حيث خرج إلى اليمن فولي فيها ما ولي قال الكوثري: «وعد شافع صحابيا أول من ذكره هو أبو الطيب الطبري» أقول: لم أر في المنقول ما يصرح بصحبته فهو على الاحتمال فإن كان ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو صحابي وإلا كفتنا صحبة أبيه. قال: «أول من عد السائب صحابيا من مسلمة بدر هو الخطيب في (تاريخه) بدون سند» . أقول: في (الإصابة) «قال الزبير في (كتاب النسب) ولد عبيد بن عبد يزيد

السائب وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسر يوم بدر وذكر ابن الكلبي أنه كان يشبه بالنبي وأخرج الحاكم في «مناقب الشافعي» من طريق أبي محمد أحمد بن عبد الله بن العباس بن عثمان بن نافع بن السائب قال: سمعت أبي يقول أشتكى السائب بن عبيد فقال عمر: أذهبوا بنا نعود السائب بن عبيد فأنه من مصاصة قريش قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى به وبعمه العباس هذا أخي. وذكر في ترجمة شافع ما رواه الحاكم من طريق أيأس بن معاوية عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم في القسطاس إذ جاء السائب بن عبيد ومعه ابنه فقال من سعادة المرء أن يشبه أباه وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب كما تقدم، فالسائب صحابي حتماً ولا يهمنا أتقدم إسلامه أم تأخر وقد عدوا في الصحابة عبيداً والد السائب وعبد يزيد جده وعلى كل حال ففي أجداد الشافعي صحابي حتماً وقيل اثنان في نسق وقيل ثلاثة وقيل أربعة وقد قال الأستاذ ص 165: «على أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عمن يزيد عددهم على مائة ألف من الصحابة ولم تحتوي الكتب المؤلفة في الصحابة عشر معشار ذلك فإذا لم ينص المتقدم على صحبة رجل فاستدركه من بعده لم يكن في ذلك ما يريب في صحته. ثم قال الأستاذ: «وربما يعذرنا إخواننا الشافعية ... » . أقول لا ريب أنهم إذا عرفوا الأستاذ وما يقاسيه من ذات نفسه يعذرونه في أنفسهم ويرحمونه، وإن كان ذلك لا ينفعه عند الله عز وجل. وقد ضج الأستاذ ص 18 مما روي عن يزيد بن زريع: «كان أبو حنيفة نبطيا» فقال الأستاذ: «ومن ساق هذا الخبر الكاذب ليطعن في نسبة فهو لم يزل على خلال الجاهلية» مع أن الأستاذ يعرف من مذهبه أن العجم أكفاء بعضهم لبعض من جهة النسب، وليسوا أكفاء للعرب، وأن سائر العرب ليسوا أكفاء لقريش، ولعل النبط أقرب إلى الشرف الديني من الفرس! وقال الكوثري ص 4 من (التأنيب) : «ومن تابع الشافعي قائلا: إنه قرشي،

وضع الكوثري لحديث "من بطأ به عمله ... " في غير موضعه

فله ذلك، لكن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم. وفي (صحيح مسلم) : «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» . على أن هناك من العلماء من هو قرشي باتفاق فيفضل على من في قرشيته خلاف، لو كان هذا الأمر بالنسب» . أقول: قد علمت الإجماع إلى نسب الشافعي مع الحجج الأخرى. فأما أن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم، فإن أراد أنه لا يجب أن يكون كل قرشي أعلم من كل أعجمي مثلا فهذا حق لا يشتبه على أحد، وكذلك لا يجب أن يكون كل تابعي أعلم من كل ما يأتي بعده ولا كل من كثر أتباعه أعلم من كل من أقل منه أتباعا، وكذلك كل من أبطأ به عمله لا تسرع به تابعيته ولا كثرة أتباعه بل ذلك أضر عليه. وقد وضع الحديث في غير كوضعه، فإن الشافعي لم يبطئ به علمه وإنما ينبغي أن يذكر هنا حديث (الصحيحين) وغيرهما وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهو ا» . ومن ذكر من أهل العلم في مزايا الشافعي أنه عربي قرشي مطلبي فلم يحتج بفضلية النسب من حيث هو نسب، ولكن من حيث ما هو مظنة، فإن ذلك يقتضي فضل معرفة بالدين الذي أنزله الله تعالى على النبي العربي بلسان عربي روعي فيه عقول العرب وإفهامهم وطباعهم، ويقتضي فضل محبة الدين وغيره وحرص على عدم الشذوذ عنه، فإن من أجتمع له الحق والهوى أشد لزوما للحق ممن جاء الحق خلاف هواه، وقد قال الله تبارك وتعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (البقرة:127) «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (البقرة - 127- 129) . وقال عز وجل: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ

حديث "لو كان الإسلام بالثريا ... "

مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (الجمعة 2 - 4) . فالأميون الذين بعث فيهم الرسول عليهم آيات الله وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وكانوا من قبل في ضلال مبين هم العرب الذين أدركوا نبوته، علمهم مباشرة أو قريبا منها بأن أرسل إليهم رسولا، وهو صلى الله عليه وسلم حي ينزل عليه الوحي، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم قد نص القرآن أنهم «منهم» فهم ذريتهم، فأما ما روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الآخرين فسكت عنه ثلاثا ثم وضع يده على سلمان الفارسي وقال: «لو كان الإسلام بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» فهذا لا يخالف الدلالة الواضحة من القرآن، وإنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن جواب السؤال لأن القرآن واضح بنفسه لمن تدبره ثم وضع يده على سلمان وقال ما قال على سبيل أسلوب الحكيم كأنه قال: الأولى أن يسأل السائل هل يختص الدين بالأميين الذين بعث فيهم الرسول مباشرة ومن يلحق بهم منهم؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال المقدر. فأما ما وقع في الرواية «رجال أو رجل» فشك من الراوي وأكثر الروايات «رجال» بلا شك لكن جاء حديث آخر «لو كان الدين عند بالثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال من أبناء فارس - حتى يتناوله» ولم يذكر في هذا الحديث قصة الآية لكن كلا الحديثين من رواية أبي هريرة فإن كان أصل الحديثين واحدا، واللفظ «رجل» فلا شبهة أنه كناية عن سلمان كما تعينه القرينة. وإن كانا حديثين فالرجل سلمان والرجال هو وآخرون، هذا هو المعنى الواضح لمن أراد أم يفهم المراد من الكتاب والسنة. وأما من يريد أن يجرهما إلى هواه فلا كلام معه. والمقصود هنا أن الشافعي ممن نالته المزية التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل وذكرت في الآيات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله والفضل العظيم. وقال الله تبارك وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» آل عمران 33 - 34 وجاء في كتاب الله عز وجل عدة آيات تدل على انقطاع الاصطفاء عن ذرية آل عمران وبقي في غيرهم من

حديث "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ... "

آل إبراهيم، وفي (الإصحاح الثاني) من (سفر أرميا) في صدد توبيخه اليهود على ارتدادهم وعبادتهم الأصنام ما يدل على أن بني قيدار كانوا في عهدة ثابتين على ملة إبراهيم، قال: «لذلك أخاصمكم يقول الرب وبني بنيكم أخاصم فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهو اجدا (1) وانظر هل صار مثل هذا هل بدلت أمة آله وهي ليست آلهة، أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع» . هكذا في النسخة المطبوعة بنيويورك سنة 1867 م. وبنو قيدار هم بنو إسماعيل ومنهم عدنان أبو قريش وجاء في (الصحيحين) وغيرهما (كالمستدرك) ج 4 ص 605 وغيره كما ترى تفصيل ذلك في (فتح الباري) «باب قصة خزاعة» وفي (الإصابة) ترجمة أكتم بن الجون ما يعلم منه أن عمر بن لحي أول من بدل دين إبراهيم أي والله أعلم في مكة ونواحيها، وعمرو هذا من اليمن على الراجح وليس من ذرية إسماعيل على الراجح، وكان في عصر كنانة، وفي (صحيح مسلم) وغيره من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم «فهذا يدل أن عمرو بن لحي استغوى بعض بني إسماعيل وثبت كنانة، ثم سرى التبديل إلى بعض ذرية كنانة، وثبت قريش فانفرد بالاحتراز عن التبديل أو عن الإغراق فيه، ثم سرى الفساد في ذرية قريش وانفرد هاشم بنحو ما انفرد به قريش، فكان بنو هاشم أقرب الناس إلى الحق حتى اصطفى الله تعالى رسوله منهم، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ، افترق بنو عبد مناف فانضم بنو نوفل إلى عبد شمس وانضم بنو المطلب إلى بني هاشم فكانوا معه ودخلوا معهم شعب أبي طالب لما فاطعن قريش بني هاشم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقوا مع بني هاشم في الإسلام، وبقوا

_ (1) كأنه إشارة إلى أن بني قيدار بنو عمكم ولم يبعث فيهم نبي إسماعيل وبعث فيكم عدد كثير من الأنبياء وبعضهم بين ظهرانيكم ومع ذلك هم ثابتون على الدين الحق وأنتم خرجتم منه.

فصل: في محاولة الكوثري التشكيك في لسان الشافعي والرد عليها

معهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما افترق بنو هاشم، انضم بنو المطلب إلى ألصق الفريقين بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنوا ابنته وكان والد الشافعي معهم فلما أصيبوا فر إلى فلسطين حيث ولد له الشافعي، فالشافعي من آل إبراهيم ثم من كنانة ثم من قريش ثم من بني المطلب الذين هم وبنو هاشم شيء واحد ثم ظهر في الإسلام أنهم ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من بعض بني هاشم، ثم فقه: وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل بل قد يقال: إن الله تعالى اختص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته بخصائص كثيرة فلا يكاد يوجد لغيرهم فضيلة إلا ولهم من جنسها ما هو أفضل، وهذه الأمة قد كادت تطبق على إتباع أربعة علماء فيهم رجل واحد من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقضية ما تقدم أن يكون أكمل من بقية الأربعة. وقد ذكر بعضهم أن مذهب الشافعي هو مذهب أهل البيت لأنه من بني المطلب الذين كانوا وبني هاشم شيئا واحدا، ثم لما افترق بنو هاشم انضموا إلى ألصق الفريقين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بنو فاطمة في عصر تأسيس المذاهب مضطهدين مروعين لا يكاد أحد يتصل بهم إلا وهو خائف على نفسه فلم يتمكنوا من نشر علمهم كما ينبغي، وكان من أبناء الأعاجم قوم لهم منازع سياسية ضد الإسلام كانوا يتذرعون بإظهار التشيع للعلويين إلى أغراضهم فكذبوا على أئمة العلويين كذبا كثيرا، فاشتبه الأمر على كثيرا من أهل العلم، أما الشافعي فإنه تلقف العلم من أصحاب جعفر بن محمد بن علي الحسين وغيرهم، ثم تجرد للعلم وأعرض عن السياسة فصفا له الجو فأسس مذهبه فساغ أن يقال إن مذهبه هو مذهب أهل البيت. والذي لا ريب فيه أنه إن صح يسمى واحد من المذاهب الأربعة: مذهب أهل البيت فهو مذهب الشافعي، وأهل البيت أدرى بما فيه. فصل كما حاول الأستاذ أن يشكك في عربية الشافعي في نسبة كذلك حاول أن يتكلم

في عربيته في لسانه، فذكر حكايتين عن (كتاب التعليم) وقد عرفت حاله وذكر قضايا أخرى. الأولى: أن الشافعي فسر قوله تعالى «أن لا تعولوا» بقوله: تكثر عيالكم. أقول: نص الكسائي على أن من العرب الفصحاء من يقول: عال فلان - بمعنى كثر عياله. وكذلك جاء عن الأصمعي وغيره من الأئمة، ومع ذلك فعال يعول يأتي اتفاقا بمعنى الزيادة والكثرة كالعول في الفرائض، والآية تحتمل هذا الوجه أي أكثر أن لا تكثروا، ويكون المراد بدلالة السياق: يكثر عيالكم. أما الاعتراض بأن أكثر المفسرين فسروها بقولهم: أن لا تميلوا، فليس الكلام هنا في رجحان وجه على آخر، وإنما الكلام في قول الشافعي أخطأ هو في العربية أم صواب؟ وقد ثبت بما تقدم أنه ليس بخطأ في العربية، فغاية الأمر أن يقال هو خطأ في التفسير، وذلك لا يضرنا هنا لأن جماعة من الصحابة قد أخطأوا في بعض التفسير ولم يعد ذلك قادحا في فصاحتهم. ومع هذا فقد يرجح تفسير الشافعي بوجهين. الأول: أن طاووس قرأ «أن لا تعيلوا» والمعنى على هذا حتما تكثر عيالكم، واتحاد المعنى على القراءتين أولى من اختلافه. الوجه الثاني: أن سياق الآية «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا» (النساء:3) ومعنى قولهم ذلك أدنى أن لا تميلوا، هو ذلك أدنى أن تعدلوا، وهذا قد علم من أول الآية فيكون تأكيدا، فإذا احتملت الآية ما قال الشافعي فهو أولى، لأن التأسيس أولى من التأكيد ن وقد صح نحو تفسير الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم رواه ابن جرير، ونسبة بعضهم إلى زيد بن أسلم نفسه. الثانية: قال الأستاذ «قوله: حارة في تفسير «موصدة» ... مع أنها بمعنى محيطة

بلا خلاف» . أقول: لم أجد هذا التفسير عن الشافعي. وقول الكوثري: «بمعنى محيطة بلا خلاف» غلط بل منهم من قال: مطبقة، ومنهم من قال: مغلقة. فان صح ما نسب إلى الشافعي فهو من التفسير باللازم المقصود لأنها إنما تطبق أو تغلق ليشتد حرها. الثالثة: قال: «وقوله: معلمي الكلاب - في تفسير «مكلبين» مع أنه بمعنى مرسلي الكلاب» !. أقول: المعروف في اللغة والتفسير ما قال الشافعي. الرابعة: قال: «وقوله: فحل الإبل والبقر - في تفسير الفحل في قول عمر رضي الله عنه: لا شفعة في البئر ولا في الفحل. مع أنه فحل النخل» . أقول: يرد هلي هذا أمور: الأول: أنه مطالب بتصحيح النسبة إلى الشافعي. الثاني: أن الأثر مروي عن عثمان لا عن عمر. الثالث: أنه لو صح ذلك عن الشافعي لكان دليلاً على فصاحته لأن لفظ «فحل» يطلق على الإبل والبقر بلا خلاف، فأما في النخل فالمعروف أن يقال «فحال» بل قال بعضهم لا يقال فيه إلا فحال كما في (النهاية) . الخامسة: قال: «وقوله في التصرية أنها من الربط مع أنها من جمع الماء في الحوض ... » أقول: عبارة الشافعي كما في (مختصر المزني) بهامش (الأم) ج 2 ص 184 وغيره «التصرية أن تربط إخلاف الناقة أو الشاة ثم تترك من الحلاب اليوم واليومين والثلاثة حتى يجتمع بها لبن ... » . وهذه العبارة إنما تعطي أن حقيقة التصرية هي ما يحصل من مجموع تلك الأمور: الربط، وترك الحلاب مدة، واجتماع اللبن. فأما

اشتقاق الكلمة أمن الصر وهو الربط، أم من الصري وهو الاجتماع، فهذا لا علاقة له بكلام الشافعي، أولا: لأنه في مقام بيان المعنى لا الاشتقاق، ثانيا: لأنه قد ذكر الاجتماع كما ذكر الربط. وربط الإخلاف لازم التصرية في عادة العرب وذلك أنها إذا لم تربط رضعها ولدها، أو حلبها محتاج، وكان العرب يتسامحون في حلب إبل غيرهم إذا لم تكن مصراه، يعدون عدم تصريتها بمنزلة الإذن لمن يحتاج في حلبها قال الشاعر: قد عاث ربك هذا الخلق كلهم ... بعام خصب فعاش الناس والنعم وأبهلوا سرحهم من غير تودية ... ولا ديار ومات الفقر والعدم يعني أرسلوها غير مصراه لاستغنائهم عن اللبن فلا يبالون أن ترضعها أولادها أو يجلبها من شاء وفي الحديث «لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم آن تؤتى مشربته فتكسر خزانته ... » وجاءت أحاديث أخرى بالإذن، منها حديث أبي سعيد مرفوعا: «إذا أتيت على راع فناده ثلاثا فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد» . وجمع بعض أهل العلم بين الأحاديث بأن النهي محمول على المصراة، لأن تصريتها علامة على عدم الإذن، والآذن في غيرها لأن ترك التصرية دليل على الآذن، وهذا أقوى ما تحمل عليه الأحاديث، وفيها إشارة إليه لقوله في الأول «فتكسر خزانته» والكسر إنما يكون إذا كانت مغلقة وإغلاق صرع الناقة هو تصريته، فأما غير المصراة فهي شبيهة بالخزانة المفتوحة، ولقوله في الحديث الآخر «من غير أن تفسد» ، وحل الرباط إفساد. والمقصود هنا أن الربط كان من لازم التصرية في عادتهم فكانت حقيقة التصرية إنما تحصل بالربط والترك مدة واجتماع اللين كما قال الشافعي. وذكر بعض أئمة اللغة أنه يجوز أن تكون المصراة أصلها المصررة أي المربوطة إلى آخر ما قال، ولا حاجة بعبارة الشافعي إلى هذا كما علمت. السادسة: قال: «وقوله في تفسير الفهر في قول عمر: كأنهم اليهود قد خرجوا من فهرهم - البيت المبنى بالحجارة الكبار، مع أنه موضع عبادتهم أو اجتماعهم

ودرسهم مطلقا سواء كان في بنيان أو صحراء» . أقول عليه في هذا أمور: الأول: أنه مطالب بتثبيت النسبة إلى الشافعي. الثاني: أن الأثر منسوب إلى علي كما في (نهاية ابن الأثير) لا إلى عمر، ولفظه في النهاية «خرجوا من فهو رهم» . الثالث: قوله: «مطلقا ... » لم أجدها في كتب اللغة والغريب ن وراجع مفردات الراغب ليتبين لك كثرة الكلمات التي يطلق تفسيرها في كتب اللغة وحقها التقييد. الرابع: كلمة «خرجوا من» ظاهرة في التقييد بالبيان. الخامس: أنه قد أختلف في تفسير الفهر فقيل: مدارس اليهود يجتمعون إليه في عيدهم وقيل يوم يأكلون فيه ويشربون، فقول القائل: البيت المبني أن الصواب غيره دل ذلك على أنه يعرف معنى الكلمة وإنما قال باجتهاده وهذا لا يدل على عدم فصاحته، فإنه ليس من شرط الفصيح أن يعرف معاني جميع الألفاظ العربية فقد كانت تخفي على بعض الصحابة معاني بعض الكلمات من القرآن فيجتهدون ويقول كل منهم ما ظنه فيختلفون ويخطئ بعضهم وليس ذلك من عدم الفصاحة في شيء، ويتأكد هذا إذا كانت الكلمة أصلها من غير لغة العرب كهذه، فإنها نبطية أو عبرانية. ولا لوم على العربي الفصيح أن يخطئ» فزعم أن اليرندج ثوب ينسج، وقال آخر: «ولم تذق من البقول الفستقا» فزعم أن الفستق يقل، ولذلك نظائر معروفة. السابعة: قال: «وصف الماء بالمالح مع أن الماء لا يوصف به وفي القرآن «ملح أجاج» وأما المالح فيوصف به نحو السمك» .

أقول: المعروف عن الأصمعي ومن تبعه أنه لا يقال لا في الماء ولا في السمك، وذكر ابن السيد في (الاقتضاب) ص 116 ذلك ن ثم نقضه بعده حجج ثم قال: «وحكى علي ابن حمزة عن بعض اللغويين أنه ثقال: ماء ملح فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة، قال ولا يقال: ماء مالح، لأن الماء هو الملح بعينه، وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس، لأن صفة الماء بأنه مالح أقرب إلى القياس من وصف السمك، لأنهم قالوا: ملح الماء وأملح، فاسندوا غليه الفعل مكان يسند إلى الفاعل ولم يقل أحد: ملح السمك. إنما قالوا: ملحت السمك إذا جعلت فيها الملح» ثم قال: «وأنشد أبو زياد الأعرابي قال أنشدني أعرابي فصيح: صبحن قوا والحمام واقع ... وماء قو مالح وناقع» وفي (لسان العرب) عن ابن الأعرابي «ماء أجاج ... وهو الماء المالح» وعن الجوهري «ولا يقال: مالح، قال وقال أبوالدقيش: ماء مالح وملح» ثم قال: «قال ابن بري: قد جاء المالح في أشعار الفصحاء ... وقال عمر بن أبي ربيعة: ولوتفلت في البحر والبحر مالح ... لصبح ماء البحر من ريقها عذبا قال ابن بري: وجدت هذا البيت المنسوب إلى عمر بن أبي ربيعة في شعر أبي عيينة محمد ابن أبي صفرة ... » . والحاصل أن قولهم: ماء مالح - ثابت عن العرب الفصحاء نصا، وثابت قياسا، لكن أكثر ما يقولون: ملح - ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي: مالح. أتى بها الشافعي في كتبه لأنه كان يتحرى التقريب إلى إفهام الناس كما يأتي عن صاحبه الربيع، ومع هذا فقد شهد جماعة للشافعي بأنه من الفصحاء الذين يحتج بقولهم فيكون قوله حجة على صحة الكلمة، فإن تنازلنا وسلمنا أن الشافعي مختلف في فصاحته قلنا فالكلمة مختلف في صحتها، فحقها إن لم يقم دليل على صحتها أن

كذب الكوثري على الشافعي وثعلب وغيره

لا يحتج على صحتها باستعمال الشافعي لها، ولا يطعن في فصاحته لاستعماله لها للاختلاف في الأمرين، فكيف إذا قام الدليل على صحة الكلمة من غير قوله، وقال الدليل علفى فصاحته؟ ! الثامنة: قال: «وقوله ثوب نسوي لفظة عامية» . أقول: هذا أيضا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي، ثم إن كان نسبة إلى النساء فهو الصواب كما قال سيبويه وغيره، وإن كان نسبة إلى (نسا) وهي البلدة المعروفة فهو القياس، وقول ياقوت: «والنسبة الصحيحة إليها نسائي وقيل نسوي أيضا وكان من الواجب كسر النون» فيه ما فيه. التاسعة قال: «وقوله: العفريت - بالفتح - مما لم يقله أحد» . أقول: ولا قاله الشافعي فيما نعلم، فيما قاله لعددناها لغة لبعض العرب. العاشرة: قال: «وقوله: أسليت الكلب - بمعى زجرته، خطأ صوابه أن ذلك بمعنى أغريته كما قال ثعلب وغيره» أقول: لم يكف هذا الأنوك (1) أن كذب على الشافعي حتى كذب على ثعلب وغيره، والموجود في كتب استعماله بمعنى الأعزاء، وثعلب إنما زعم أنه بمعنى أن تدعوه إليك، قال: فأما الإغراء فإنمات يقال: آسدته» . وصحح غيره مجيئه في المعنيين. العاشرة: قال: «وقوله في (مختصر المزني) : وليست الأذنان من الوجه فيغسلان - والصواب: فيغسلا» . أقول: عليه في هذا أمور: الأول: أن النصب في مثل هذا مرجوع أو ممتنع وفي (الهمع) ج 2

_ (1) أي الأحمق. ن.

ص 12: «وإن تقدمت جملة اسمية نحو: ما زيد قائم فيحدثنا - فأكثر النحويين على أنه لا يجوز النصب لأن الاسمية لا تدل على المصدر» وذهب طائفة إلى جوازه، وقال أبوحيان: الصحيح الجواز بشرط أن يقوم مقام الفعل ظرف أو مجرور ... ، فإن قيل: فإن «ليس» فعل، قلت: جامد لا يدل على المصدر، فأما دلالتها على النفي فكدلالة «ما» فإن «ليس» فعل، قلت: جامد لا يدل على المصدر، فأما دلالتها على النفي فكدلالة «ما» . بل قال جماعة: إن النصب بعد الفاء لا يجب بحال قال الرضي في (شرح الكافية) ج 2 ص 245: «وقد يبقى ما بعد فاء السببية على رفعه قليلا كقوله تعالى: «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» وقوله ألم تسأل الربع القواء فينطبق - وقوله - لم تدر ما جزع عليك فتجزع - جاء جميع هذا على الأصل ومعنى الرفع فيه كمعنى النصب لونصب ... جاز لك أن لا تصرف في المواضع المذكورة إلى النصب اعتمادا على ظهور المعنى» . ومع هذا فقد جاء إهمال «أن» مضمرة وظاهرة وعد ابن هشام من الأول قول الله عز وجل: «أفغير الله تأمروني أعبد» وقوله ك ب ومن آياته يريكم البرق» ومن الثاني قراءة ابن محيصن: «لمن أراد أن يتم الرضاعة» برفع الميم. وفي (الهمع) ج2 ص 3 «قال الرؤاسي من الكوفيين: فصحاء العرب ينصبون (بأن) وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها» . الثاني: أن المزني لم يسق عبارات الشافعي بنصها، فقد قال أول (المختصر) «اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقربه على من أراده» وربما صرح بنسبة بعض ما ينقله عن الشافعي إلى بعض كتبه المطبوعة في (الأم) فإذا قوبلت العبارتان وجدتا مختلفتين في اللفظ. فقول المعترض «وقوله ... » يعني الشافعي - مجازفة. الثالث: أن النساخ لم يزالوا من قديم يخطئون ويزيدون وينقصون

ويغيرون فنسبة عدم حذف النون إلى المزني يتوقف على وجودها في النسخة التي بخطه أو على نص ثقة سمع منه أنه قالها. الرابع: قول المعترض: «والصواب: فيغسلا» لحن، والصواب «فتغسلا» وقد قالوا في قول الشاعر «ولا أرض أبقل إبقالها» وقول الآخر ك إن السماحة والشجاعة ضمنا» أنه ضرورة شعرية مع تأويل الأرض بالمكان، والسماحة والشجاعة بالجرد والبأس مثلا، ولا ضرورة في النثر، ولا يسوغ بعد النص على التأنيث في قوله: «ليس» تأويل، ولا حمل على مذهب الكوفيين. ثم قال الكوثري: «ولفظ الشافعي غثبات النون، وحذفها من تصرف الطابع، وأمانته في العلم كأمانته ... » أقول: جزمه بأنه لفظ الشافعي مجازفة كما مر. وقوله: «من تصرف الطابع» مجازفة أيضا فهل وقف على الأصول المطبوع عنها ن وهل علم آن حذفها من فعل الطابع نفسه لا من إصلاح المصححين على ما ظهر لهم ن والذي في خاتمة طبع (الأم) و (المختصر) أن القائمين بالتصحيح مصححودار الطباعة نصري بن محمد العادلي ومحمد العادلي ومحمد البلبيسي ومحمود حسن زناتي. ولم يذكر لصاحب العزة أحمد بك الحسيني إلا أن الطبع على نفقته. ومع هذا فلم يزل المصححون ومنهم الأستاذ يصلحون ما يجدونه في الأصول القلمية مما يرونه خطأ، والغالب في ما يطبع بمصر أن لا ينبه على ما كان في الأصل، بناء على أن الخطا من النساخ كما جرت عاداهم حتى في كتابة القرآن. وقد وقفت على (منية الألمعي) للعلامة قاسم بن قطلوبنا الحنفي ومقدمة الكوثري عليها وتصفحت ما فصله قاسم من الأغلاط الكثيرة التي في نسخة الزيلعي من كتابه (نصب الراية) ، ومع ذلك أصلح الكوثري وأحبابه كثيرا منها في الطبع بدون تنبيه فعد الكوثري صنيعهم منقبة لهم قال: «وفي عداد تعقبات العلاقة الحافظ قاسم أمور قد يتبه إليها الفطن بنفسه لظهور أنها من قبيل سبق القلم فيوجد بعض ما هو من هذا القبيل على الصحة في النسخة المطبوعة لأن الانتباه إلى الصواب من فضل الله سبحانه؛ وفضل الله لا يكون وقفا على أحد» لكن عذر الأستاذ واضح وهو أنه راض عن نفسه وأحبابه! ولذلك رأى التصرف في طبع (نصب

الراية) من فضل الله سبحانه، وساخط على الحسيني لسعيه في طبع بعض كتب الشافعي فهو مضطر إلى أن يتجنى عليه، ولعنا لو لم ننبه على هذا لعدنا الأستاذ من الأغبياء الذين لا يعرفون بين السخط والرضا. والله المستعان. الحادية عشر، والثانية عشرة - قال: «وقوله: الواوللترتيب، والباء للتبعيض، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان بل الأولى للجميع مطلقا، والثانية للإلصاق» . أقول: جازف في النفي والإثبات، أما النفي فقد نقل القول بأن الواوللترتيب عن قطرب والربعي والفراء وثعلب وآبى عمر الزاهي كما في (المغني) . ونقل القول بأن الباء تجيء للتبعيض عن الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك وعن الكوفيين كما في (المغني) أيضا. وأما الإثبات فلم يقل الشافعي قط أو الواوللترتيب ولا أن الياء للتبعيض، ولا ما هو بين في هذا، وإنما بنى في الواوعلى قاعدة التقديم والتأخير المتفق عليها وهي أن ما يسوغ في أصل التركيب تقديمه وتأخيره لا يقدم في الكلام البليغ إلا لنكة عليها وهي أن ما يسوغ في أصل التركيب تقديمه وأخيره لا يقدم في الكلام البليغ إلا لنكتة فإذا قال البليغ: «ادع زيدا وبكرا» فلم يقدم زيدا إلا لنكتة والقرينة فمن قدم ولا نكتة ولا قرينه فقد أخطأ من وجهين ومن قدم مع وجود أحدهما فقط بينها وبين الفاء و (ثم) أن الواووإن كانت بمقتضى قاعدة التقديم بأن الواوللترتيب، والفرق بينها وبين الفاء و (ثم) أن الواووإن كانت بمقتضى قاعدة التقديم والتأخير يقتضي الترتيب فذلك ظاهر يجوز خروجها عنه لنكتة بقرينه، والفاء و (ثم) للترتيب حتما. وقد يقال بل التقديم في الحكم نكتة من النكت فحيث كانت هناك أو ضح منها مثل «جاء الملك وكاتبه» لم يفهم من الواوإلا مطلق الجمع، وإلا فالظاهر الترتيب في الحكم. والشافعي رحمه الله إنما تعرض لهذا في الترتيب الوضوء. فنزع بالآية، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بما بدأ الله به، وأنه في السعي بدأ بالصفا وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» (1) وأنه

_ (1) أخرجه مسلم وغيره وأما لفظ «ابدوا ... » فشاذ كما بينته في غير الموضع. ن.

من ثناء العلماء على فصاحة الشافعي وأنه ممن يؤخذ عنه اللغة

في رمي الجنار يجب البدء بما بدأ به صلى الله عليه وسلم. فهذه حجته، فكيف يتوهم انه بنى قوله على زعم أن الواوبمنزلة الفاء وثم؟ ‍‍! وأما الباء فإنه قال في مسح الرأس «كان معقولا في الآية أن مسح من رأسه شيئا فقد مسح برأسه ... ودلت السنة على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله ... » (1) وهذا قد يكون بناء على معنى الإلصاق فقد ذكروا من أمثلة «أمسكت بزيد» مع أن يدك إنما تلاصق بعضه، وعلى هذا الفرق بين الباء و «من» أن «من» نص على التبعيض، وباء الإلصاق مطلقة تصدق بالبعض وتصدق بالكل، ولعل هذا مراد من أطلق أنها تجيء للتبعيض. وراجع لكلام الحنفية في الحكم والآية واضطرابهم في ذلك (روح المعاني) ج 2 ص 257- 258. وههنا انتهت المطاعن في فصاحة الشافعي، ولقد سعى الكوثري في تثبيت فصاحة الشافعي جهده، فإن أهل المعرفة يعلمون أن في الكلام الفصيح مواضع يعسر توجيهها حتى لو كان كلام من يجوز عليه اللحن لجزموا بأنها لحن، فإذا رأوا هذا المجلب بخيله ورجله لم يجد فيما ثبتت نسبته إلى الشافعي موضعا واحدا بهذه الصفة، فأضطر إلى الاتيان بما تقدم مع الكلام عليه، فأي ريبة تبقى في فصاحة الشافعي؟ ومما ذكره ابن حجر في (توالي التأسيس) ومن عادته أن لا يجزم إلا بما صح عنده قال: «قال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام: الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم وحدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضا سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان، قال: وكتب إلى عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت جعفر بن محمد الخوارزمي يحدث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال ك قرأت شعر الشنقري على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلت لعمي: على من قرأت شعر هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب

_ (1) لم نجد في السنة ما يدل على ذلك، بل الثابت فيها مسح الرأس كله؛ فإذا اقتصر على بغضه أثم المسح على العمامة. راجع لذلك «زاد المعاد» لابن القيم. ن.

محاولة الكوثري الطعن في ثقة الشافعي

يقال له: محمد بن إدريس» - وقال أيضا: «قال الحاكم سمعت محمد بن عبد الله الفقيه: سألت آبا عمر غلام ثعلب عن حروف أخذت على الشافعي مثل قوله: ماء مالح. وقوله / أنبغي أن يكون كذا وكذا، فقال لي: كلام الشافعي صحيح، وقد سمعت أبا العباس ثعلبا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه» . وقال: «قال الآبري أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارا: لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولوأنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم يقدر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضح للعوام» (1) فصل وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي وفي فصاحته حاول القدح في ثقته

_ (1) قلت: ومن أجمع ما رأيت في الثناء على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قول ابن عبد الحكم: «ما رأينا مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض من علم الحديث لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه. ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والديانة. ويجيئه أصحاب الأدب، فيقرؤن عليه الشعر، فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان من أضبط الناس لتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله عز وجل» . أخرجه الخطيب في «جزء مسألة الاحتجاج بالشافعي فيما أسند إليه، والرد على الطاعنين بعظم جهلهم عليه» . وفيه فوائد هامة في ترجمة الشافعي وغيره من الأئمة لا توجد في ترجمة الإمام في «تاريخ بغداد» ، وهو جزء صغير في (13) ورقة، وقد عملت الأرضة في كثير منها حتى أتت على بعض كلماتها، فعسى أن يسخر الله له من ينشره، قبل أن تقضي الأرضة عليها.

كلمة ابن معين وإنكار أحمد عليها

فقال: ص 165: «ومن الغريب أنه إذا روى ألف راوعن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلا، تعد هذه الرواية عنه كاذبة، بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه» ! أقول: لا نطالب الكوثري بألف ولا بمائة ولا بعشرة، وإنما نطالبه سالم، ولن يجد إلى ذلك سبيلا، إنما حكى هذه الكلمة عن ابن معين محمد بن وضاح الأندلسي، وابن وضاح قال فيه الحافظ أبووليد ابن الفرضي الأندلسي وهو بلديه وموافق به في المذهب: «له خطأ كثير بحفظ عنه ن وأشياء كان بغلط فيها، وكان لا علم عنده بالفقه، ولا بالعربية» . وكان الأمير عبد الله بن الناصر ينكر عليه هذه الحكاية ويذكر انه رأى اصل ابن وضاح الذي كتبه بالشرق وفيه: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: هو ثقة. كما حكاه أبن عبد البر في (كتاب العلم) . ولم ينقل أحد غيره عن ابن معين أنه قال في الشافعي: «ليس بثقة» أو ما يؤدي معناها أو ما يقرب منها، ولابن معين أصحاب كثيرون اعرف به وألزم له وأحرص على النقل عنه من هذا المغربي، وكان في بغداد كثيرون يسرهم أن يسمعوا طعنا في الشافعي فيشيعوه. فأما قول ابن عبد البر «قد صح عن ابن معين من طرق أنه يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له: لم تر عيناك مثل الشافعي» فالذي قدمه هو قوله: «ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضا قوله في الشافعي، فقال أحمد: من أين يعرف يحيى الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي - أو نحو هذا، ومن جهل شيئا عاداه! قال ابوعمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي، وقد حكى عن ابن معين أنه سئل عن مسالة من التيمم فلم يعرفها، ولقد احسن أكثم بن صيفي في قوله ك ويل لعالم أمر من جاهلة، من جهل شيئا عاده ومن أحب شيئا استعبده» . والتكلم في الرجل قد يكون بما ليس بجرح ن فلا يصلح قولهم: «كان يتكلم فيه» متابعة لكلمة:

رواية أخرى عن ابن معين في الثناء على الشافعي وتوثيقه

«ليس بثقة» . وقدم ابن عبد البر أيضاً أن ابن معين سئل عن الشافعي فقال ك نا أحب حديثه ولا ذكره. وهذا تكلم للشافعي ولا يعطي معنى: «ليس بثقة» ولا ما يقرب منها، وقد جاء أن ابن معين رأى كتاب للشافعي تسميته لمقاتلي علي رضي الله عنه بغاة، فأنكر ذلك، وعرضه على أحمد فقال أحمد: فماذا يقول؟ أو كما قال - يعني أن هذا الوصف هو الذي وصف به الكتاب والسنة الطائفة التي تقاتل أهل الحق مطلقا -: فقد يكون ابن معين عد ذلك ميلا إلى التشيع فأو حشه ذلك، وقد تواتر أن أحمد وابن معين كانا يكثران الاجتماع والمذاكرة، فلما ورد الشافعي بغداد لزمه أحمد وقصر في مجالسة ابن معين، وهذا أيضا مما يوحش ابن معين ن وقد مان ابن معين اعتاد من أصحاب الحديث أن يهابوه ويحترموه ويلاطفوه كما ترى شواهد في ترجمته من (التهذيب) وفي ترجمة موسى بن إسماعيل، فكأن الشافعي، لما ورد بغداد قصر في ذلك، وهذا أيضا مما يورث الوحشة، وقد كاتن الشافعي حسن الظن بإبراهيم بن آبى يحيى يكثر الرواية عنه، وابن معين والجمهور يكذبون ابن ابي يحيى، فلا بدع أن تجتمع هذه الأمور في نفس ابن معين فيقول في الشافعي: «لا أحب حديثه ولا ذكره» ولا يعطي ذلك معنى: «ليس بثقة» ولا تقارب. وقد روى الزعفراني وغيره عن ابن معين ثناء على الشافعي في الرواية كما تراه في (للتهذيب) و (تذكرة الحفاظ) وراجع ترجمة الزبير بن عبد الواحد الأسدابادي في. التذكرة) (1) . وقد كان الرواة الذين هم اثبت من ابن وضاح يخطئون على ابن معين، يتكلم السادسة من قسم القواعد ولعل هذا منه كما أو ضحته هناك. وإذا اختلف النقل عن إمام، أو اشتبه أو ارتيب فينظر في كلام غيره من الأئمة، وقضى فيما روى عنه بما ثبت عنهم، فإذا نظرنا كلام الأئمة في الشافعي لا نجد إلا البالغ ممن هو أكبر من ابن معين كابن مهدي ويحيى القطان، ومن أقران ابن

_ (1) قلت: وتجد توثيق ابن معين للأمام من غير رواية الزعفراني عند الخطيب في الجزء السابق (ق 11/ 2) .

فصل: محاولة الكوثري الطعن في فقه الشافعي

معين كالإمام أحمد وابن المديني، وممن هو بعده حتى قال أبو زرعة الرازي: «ما عند الشافعي حديث غلط فيه» ، وقال أبو داود: «ليس للشافعي حديث غلط» ، وقال النسائي: «كان الشافعي عندنا أحد العلماء، ثقة مأمونا» وأمثال هؤلاء كثير. فتدبر ما تقدم ثم تصفح ما قيل في أبي حنيفة وأصحابه مما يثبت إسناده، ثم انظر كلمة الأستاذ هل تجد لها مسوغ، افرض أن لمحدثي الشافعية كلهم هوى في توثيق الشافعي وتليين مخالفية فهل يسوغ رد الحق لموافقته هواهم؟ أم هل يسوغ رد الحق لمخالفته هوى الكوثري؟ ! فصل وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي وفي فصاحته وفي ثقته، حاول الطعن في فقهه، قال الأستاذ ص 139 بعد أن ذكر ما روي عن الشافعي أنه قال: «أبو حنيفة يضع أول المسالة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها» قال الأستاذ: «لأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلا ففرع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب (المزارعة) حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلا ففرع عليه الفروع، ولكن ما هو من هذا القبيل من مسائل (؟) أبي حنيفة ربما لا يبلغ في العد (1) عدد أصابع اليد الواحدة، في حين أن ما عند ذلك العائب من هذا القبيل (؟) بحيث يحار فيه كبار الفقهاء من أهل مذهبه فتجدهم مضطربين فيما يختارون في المذهب بين قديم المسائل وجديدها ن وبين الأجوبة الشفعية المروية عن الإمام التي يقال فيها: فيها قولان ن فيشكون من عدم مشي الفروع على الأصول، وعدم الاطراد في التأصيل والتفريع، ومما ليس هذا موضع شرحه، وله محل آخر» .

_ (1) الأصل (العدد) فصححته من (التأنيب) . ن.

وذكر (ص 137) (1) قول ابن ابي حاتم عن ابن عبد الحكم: «قال لي محمد بن إدريس الشافعي ك نظرت في كتب لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة ن فعددت فيها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة» . قال الأستاذ: « ... بل لفرض أن متن الرواية مما أسر به الشافعي إلى محمد بن عبد الحكم على خلاف ما تواتر (؟) عن الشافعي أنه قال: الناس كلهم عيال فب الفقه ... » وعلى فرض أن أحد أصحاب ابي حنيفة أخطأ في غالب مسائل كتيب فماذا على ابي حنيفة من ذلك؟ والشافعي نفسه رجع عما حواه كتاب (الحجة) كله المعروف بالقديم وأمر بغسله والإعراض عنه ... ولولا أن الشافعي رأى قديته كله مخالفا للكتاب والسنة لما رجع هذا الرجوع ولا شدد هذا التشدد ... وذلك العالم المفروض خطاؤه لم يعترف بعد بالخطأ اعتراف الشافعي بخطئه في القديم ... وها هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ... ألف كتابا سماه: (ما خالف فيه الشافعي كتاب الله وسنة رسوله) ... فهل نصدقه فيما يقول بالنظر إلى مبالغة ابن خزيمة في الثناء عليه حيث يقول: ليس تحت قبة السماء أحد اعلم باختلاف الصحابة والتابعين واتفاقهم من محمد بن عبد الله بن الحكم ... » . وقال ص 119: «يوجد بين الئنة من يروي عنه أجوبة في مسالة واحدة كالروايات الست عن مالك في المسح على الخفين وكالأجوبة المشفعة (2) في (الأم) للشافعي ... وأما مذهب ابي حنيفة فلا تجد في مسائل ظاهر الرواية إلا قولا واحدا منه في كل مسالة، وأما كتب النوادر فحكم مساءلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذة ... على أن قيمة روايات النوادر تقدر بأحوال رواتها» . أقول: أما كلمة الشافعي الأولى فقد اعترف الأستاذ بما يوافقها وزيادة، فدل

_ (1) الأصل (132) وعليه آثار المحو والتصليح، والتصحيح من (التأنيب) . ن. (2) يعني المسائل التي للأمام الشافعي فيها قولان. ن

تلخيص مطاعن الكوثري والجواب عنها

مجموع كلامة على أن لأبي حنيفة كتبا من كتب الفقه وهي الأبواب العظيمة فيه ككتاب الوقف وكتاب المزارعة يرى الأستاذ أنها لا تزيد على خمسة كتب بناها أبو حنيفة على ما ليس بحجة وهو مع ذلك مخالف للحجة ثم فرع فروع تلك الكتب كلها على ذلك، فأصبحت فروع تلك الكتب كلها غير مقبولة، وزلم يرجع عنها أبو حنيفة ن وإنما ردها صاحباه من بعده، وأما كلمة لصحاب ابي حنبفة كتابا عدد أو راقه مائة وثلاثون، ثمانون منها مخالف للكتاب والسنة. واعترف الأستاذ بالأولى اعتراف بإمكان هذه كأن يكون في ذلك الكتاب بعض تلك الكتب المردودة ككتاب الوقف وكتاب المزارعة مع كتاب آخرأة لاكثر. وأما مطتعنة فب فقه الشافعي فيتلخص في أمور: الأول: أنه رجع عن قديمه وأمر بغسله. الثاني: أنه يذكر في المسألة قوانين ولا يرجع. الثالث: أن فروع مذهبه يكثر فيها عدم الجريان على أصوله. فأما الأول فالأستاذ يعلم قبل غيره أنه يركب فيه المجازفة الفاحشة والكذب المفضوح، فإنه يعلم أنه لا بد أن يكون في القديم كثير من المسائل الإجماعية التي يخالفها الشافعي أو لا ولا أخرا وكثير من المسائل التي لم يزل الشافعي موافقا فيها لمالك لأن عانة المسائل التي رجع عنها في الجديد كان في القديم موافقا فيها لمللك، وكثير من المسائل التي كان في القديم موافقا فيها للحنيفة واستمر على ذلك في الجديد. فبأي دين أم بأي عقل يقول الأستاذ: «رجع عما حواه كتاب (الحجة) كله» ؟ !!!. أما أمر الشافعي بغسل كتاب (الحجة) وأن لا يروي عنه إن صح فإنما هو - كما يعلم الأستاذ - لأنه كان فيه مسائل رجع عنها الشافعي، ولأنه لم يكن تهيأ له إتقان تهذيبه وترتيبيه واستيفاء الحجج وإيضاح البيان فيه، وعلم أن جميع ما فيه عدا المسائل التي رجع عنها قد ضمنه كتبه الجديدة مع سلامتها من تلك النقائص

وزيادتها لحجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ضمنه كتبه الجديدة مع سلامتها من تلك النقائص وزيادنها لحجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ير لبقائه وروايته عنه فائدة بل فيه مضرة ما، كأن يغتر بعض أتباعه ببعض المسائل التي رجع عنها أو يغتر مخالفة بما فيه من تقصير في الاحتجاج في بعض مسائل الخلاف فيتوهم أنه لا حجة للشافعي إلا ما في ذلك الكتاب. وهذا أمر بغاية الوضوح يخجل صاحب العلم من سرحه ولكن ماذا نصنع بالأستاذ؟ ويحاول التلبيس على الجهال فيضطرنا إلى أن نشرح القضية كأننا نشرحها لأجهل الناس، ويضيع وقته ووقت غيره، كأنه لا يوقن أنه مسؤول عن عمره فيم أفناه؟ وأما الأمر الثاني، فقد ذكر محققوالشافعية أن ذلك إنما وقع للشافعي في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا فقد يكون الشافعي يرى رجحان أحد لبقولين وإنما لم ينص على ذلك ليلجئ أصحابه إلى النظر والتدبر ليكون ذلك أعون لهم على تحصيل ملكة الاجتهاد التي يتمكنون بها من النظر لأنفسهم فبما ذكره الشافعي وفيما لم يذكره وهذا كان مقصوده الأعظم من تأليف الكتب. قال المزني أول مختصر: «اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهية عن تقليد وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه» ويقرب من هذا ما تراه في كتب التعليم من إيراده عدة أسأله بدون حلها تمرينا للطالب ليعمل فكره في حلها. وقد لا يكون تمكن في الوقت من استيفاء النظر ولم تكن القضية واقعة حتى يلزمه استفياء النظر فيقع في مثل ما ذكره الأستاذ في (التأنيب) ص 123 عن حفص بن غياث قال: «كنت أجلس إلى أبي حنيفة فأسمعه يسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيبقى فيها بخمسة أقاويل» ! وأما الأمر الثالث، فلا ريب أن في مذهب الشافعي فروعا يتعسر على أصوله ولكن ما فيه من هذا القبيل لا يكاد يذكر في جانب ما في مذهب أبي حنيفة ن وكل عارف بفقه المذهبين وأصولهما يعرف الحقيقة وليس هذا موضع بسطها، ومن اطلع على قسم الفهيات من كتابنا هذا اتضح له الأمر. وكذلك ما

فصل: زعم الكوثري أن علم الشافعي مستفاد من محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة

زعمه الكوثري من حيرة فقهاء الشافعية واضطرابهم ليس بالنسبة إلى ما وقع لفقهاء الحنفية، ومن شاء فليطالع كتب الفقه في المذهبين بل يكفيه أن ينظر أول مسالة من قسم الفقهيات وهي مسألة ضرورية من مبادىء الطهارة ارتبك فيها الحنفية أشد الارتباك، وما ذكره من كتب ظاهر الرواية عندهم ليس بشيء، ولأن كتب ظاهر الرواية يقع فيها الإختلاف. وأما كتاب ابن عبد الحكم فلم يعترف الشافعية بصدقه كما اعترف الكوثري وغيره بصدق كلمة الشافعي كما مر، والعلم باتفاق الصحابة والتابعين واختلافهم لا يستلزم جودة النظر وصحة الفهم للترجيح فيما اختلفوا فيه ن واستنباط حكم ما لم ينقل عنهم فيه شيء، والأستاذ وكل ذي معرفة يتحقق آن البون في هذا بين الشافعي وابن عبد الحكم بعيدا جدا، وإن كان الشافعي غير معصوم عن الخطأ، وابن عبد الحكم غير محجوب البتة عن الإصابة. وأما ما نقل عن الشافعي أنه قال: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة» فلم يتواتر كما زعم الأستاذ. ولو شيءنا لقلنا نقتصر هنا على ما يعترف به الأستاذ وهو أن أبا حنيفة إذا عرف الأصل أحسن في التفريع وأجاد ن وإذا لم يعرف الأصل أو لم يأخذ به وقع في التخطيط كما وقع له في الكتب التي تقدم ذكرها، ويقول الأستاذ: إنها لا تجاوز الخمسة فثناء الشافعي بحسب الضرب الأول وانتقاده بحسب الضرب الثاني. وأما ما يتعلق بمحمد بن الحسن فيعلم فيه مما يأتي. فصل عرف الأستاذ أن مطاعنة في الشافعي لا تؤثر الأمر الذي يهو اء أو لا تؤثر البتة، فحاول تحصيل بعض مقصوده من جهة أخرى، وهي زعمه أن علم الشافعي مستفاد من محمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة، وسأشرح ملخصا مبدأ الشافعي إلى اجتماعه بمحمد بن الحسن وما جرى له معه فأقول:

زعم الكوثري أن محمد بن الحسن درب الشافعي على الأخذ والرد

ثبت بالروايات الجيدة أن الشافعي شرع طلب العلم وستة نحوعشر سنين فأخذ عن علماء مكة والمدينة، وخرج غير مرة إلى اليمن، واقام بالبادية مدة، وكان فيمن أخذ عنه من الفقهاء بمكة من كان يشارك في طريقة أهل العراق كسعيد بن القداح، وكان الشافعي يبحث مع من يقدم مكة من علماء الآفاق. وفي (توالي التأسيس) ص 58: «قال زكريا الساجي: حدثنا الزعفراني قال: حج بشر المريسي «الحنفي» إلى مكة ثم قدم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله ولا مجيبا، يعني الشافعي، (1) قال: فقدم الشافعي علينا بعد ذلك فاجتمع إليه الناس فجئت إلى بشر فسألته فقال: إنه قد تغير عما كان عليه ... » وفيها ص 56 «وأخرج الآبري من طريق الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين فدرسته في ليلتين ثم تقدمت إلى حبقة بشر فناظرته فيه فقطعته، فقال ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا» . بقي الشافعي نحوعشرين سنة بالحجاز ثم ولي بعض الولايات باليمن، وفي (توالي التأسيس) ص 78 «قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إدريس وراق الحميدي حدثنا الحميدي قال: قال الشافعي ... ثم نجران وبها بنوالحارث بن عبد المدان وموالى ثقيف ... وتظلم عندي أناس كثير وقلت: اجمعوا لي سبعة يكون من عدلوه عدلا ومن جرحوه مجروحا، ففعلوا ... حتى آتيت على جميع الظلامات، فلما انتهيت جعلت أحكم واسجل ... حتى حملت إلى العراق ن وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند الخليفة فاختلفت غليه ن وقلت هو أولى من حهة الفقه، فلزمته، وكتبت عنه وعرفت أقاويلهم ن وكان إذا قام ناظرت أصحابه، فقال لي ك بلغني انك تناظر فناظرني في الشاهد واليمين، فامتنعت، فألح علي، فتكلمت معه، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأعجبه ووصلني» وقد ذكر الأستاذ ص 184 طرفا من هذه

_ (1) قلت / إلى هنا رواه الخطيب في «جزء ... الاحتجاج بالشافعي ... » . ق 10 / 1) من طريق الحسن بن سعيد جعفر النصري. قال أبو نعيم ك «في حديثه وفي روايته لين» ، وترجمته في «الميزان» و «اللسان» . ن.

الحكاية ثم حملها مالا تطيق، فمن جملة ما قاله: «وبها يعلم أن محمد بن الحسن بعد أن درب (؟) الشافعي على الأخذ والرد هكذا رفع حديثه إلى الرشيد» . أقول: الشافعي مدرب من بيته كما تقدم ورافع الحديث إلى الرشيد غير محمد كما تعينه عدة روايات أخرى ن والشافعي إنما جالس محمدا ليأخذ عنه كتبهم سماعا ليعرف أقوالهم، ومغزاه في ذلك أمران: أحدهما: ما صرح به في بعض الروايات أنه أحب إن يعرف اقاويلهم وما يحتجون به ليتمكن من الرد عليهم فيما يراه خطأ ومناظرتهم فيه ن فإن عماد المناظرة أن يحتج على المخالف بأقواله لإنه قد يحتج بما ليس بحجة فيقال له ك إن كانت هذه حجة فلم خالفتها في موضع كذا وموضع كذا؟ وقد يرد الحجة فيقال له ك فقد احتججت بها أو بمثلها في موضع كذا وموضع كذا. ولا تكاد تخلومناظرة من مناظرات الشافعي من هذه الطريقة. المغزى الآخر مغزى كل عالم متدين، وهو أن يعرف ما يحتجون به فربما وقف على حجة لم يكن قد عرفها أو على ما يدل على خلل في دليل كان يستدل به، أو نظر قد كان يعنمده وهذا لا يأنف منه المجتهد المتدين ن فإن غالب حجج الفقه ظنية لا يأمن المجتهد إن يخطئ وأن يكون عند غيره ما ليس عنده. فالحق إن الشافعي سمع بعض الكتب من محمد على سبيل الرواية، والعالم قد يسمع ممن هو فوقه وممن مثله وممن هو دونه. وقد يكون حضر بعض دروس محمد للمغزى المتقدم، كل ذلك والشافعي باق على مذهبه لم يقلد محمدا ولا تابعه متابعة التلميذ المطلق لأستاذه، بل كان محمد إذا قام ناظر الشافعي أصحاب محمد يقرر لهم مذهبه ويحتج عليه ويفند ما استدل به محمد وغيره. أما تأبيه أول من مناظرة محمد فمن كمال عقله ووفور أدبه، لأنه كان محتاجا إلى سماع تلك الكتب ومعرفة أقاويل القوم ن فخشى إن يتكدر محمد فيتعسر عليه، وقد جاء انه تعسر عليه في كتاب فكتب إليه أبياتا أثنى عليه فيها وقال فيها:

بيان أن المناظرات التي في (الأم) منها ما هو مع محمد بن الحسن وأنه كان لها أثر في الرجلين

العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله لعله يبذله ... لأهله لعله قال الشافعي: «فحمل محمد الكتاب في كمه وجاء به معتذرا من حينه» . ومن الأثقال التي حملها الأستاذ تلك الرواية قوله «فبهذه الرواية يعلم إن ما في (الأم) من محادثات للشافعي مع بعض الناس ليس مناظرة للشافعي مع محمد بن الحسن بل مع بعض أصحابه على خلاف ما توهمه بعضهم» . أقول: من مكارم أخلاق الشافعي وكمال عقله وصدق إخلاصه أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمى من المناظر، ولأن مقصوده إنما هو تقرير الحق ودفع الشبهات وتعليم طرق النظر. وتسمية المناظر يتوهم فيها حظ النفس كأنه يقول: ناظرت فلانا المشهور فقطعته، وفيها غض من المناظر بما يبين من خطائه. والواقع أن المناظرات التي في (الأم) وغيرها من كتب الشافعي، منها ما هو مع محمد بن الحسن، ومنها ما هو مع بعض أصحابه في حياته أو بعد وفاته، وربما صرح الشافعي باسم محمد بن الحسن» كما تراه في (الأم) ج 7 ص 278 السطر الأول وص283 السطر 24 وص 300 السطر 300 والسطر 15 وساق ج 3 ص 106 المناظرة مع غير مسمى ثم قال في أثنائها آخر الصفحة: «وقلت لمحمد بن الحسن أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب ... » وإنما صرح به لئلا يكون رواية عن مجهول، ثم صرح به الصفحة الثانية السطر 16 لأنه قد عرف سابقا فلم يبق معنى لإيهامه وانظر ج 7 ص 82. وربما لم يسمعه ولكن يكني عنه بما يعلم أنه محمد بن الحسن كما في ج 1 ص 231 وج 4 ص 5 ود 7 ص 79 وربما يكون في السياق ما يدل أنه محمد بن الحسن كما في ج 1 ص 56 وج 3 ص 189 وج 4 ص 17 وج 5 ص 119. هذا ومناظرته لمحمد في الشاهد واليمين مشهورة في تلك الرواية وغيرها ومع ذلك ساقها الشافعي في (الأم) ولم يسم مناظرة، ومن المناظرات ما يدل السياق أنها مع غير محمد كما في

ج 3 ص 195 و275 ومنها ما هو على الاحتمال، وإنما تأبى الشافعي أو لا لما سبق، فلما عرف غنصاف محمد واغتبط محمد بمناظرته كثرت المناظرات بينهما. وفي (توالي التأسيس) ص 71 من طريق «أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكبا فنظر فرأى الشافعي قد جاء فثنى رجله ونزل وقال لغلامه: أذهب فاعتذر، فقال له الشافعي / لنا وقت غير هذا، قال: لا، وأخذ بيده فدخلا الدار / قال أبوحسان: وما رأيت محمدا يعظم أحدا إعظام الشافعي» . ومن تدبر مناظرات الشافعي لمحمد وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهدا كاملا، وأن محمدا كان مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف أنه كان لتلك المناظرات أثر في الرجلين فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكا، أو رجع محمد عما كان يتابع فيه أبا حنيفة، ومن تصفح كتب الحنفية التي يذكر فيها قول الشافعي ظهر له صحة ما قلنا، وواضح أنه لا يلزم من هذا أن يتفقا في جميع المسائل التي تناظرا فيها. ومن براعة الشافعي الفائقة ومهارته الخارقة أنه يجمع في مناظراته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق حتى في التشنيع، ساق في كتاب (اختلاف الحديث) بابا تراه في هامش (الأم) ج 7 ص 105- 125 في أحكام الماء وفيه ذكر القلتين وغير ذلك الأحاديث ومناظرة مع من لم يسمعه، لكن يتبين بالسياق أنها ولا إجماعا ولا قياسا، ولقد قلتم فيه أقاويل لعله لوقيل لعاقل: تخلطا، فقال ما قلتم لكان قد أحسن التخاطؤ» ! ثم ذكر الأحاديث وسأله: ^ 423 أثابتة هي؟ فاعترف بثبوتها فقال ص 116: «فقلت له: لقد خافتها كلها وقلت قولا اخترعته مخالفا للأخبار خارجا من القياس، قال: وما هو؟ قلت: اذكر القدر ... قال: الذي إذا حرك أدناه لم يضطرب اقصاه» فأجابه، ثم ساق الكلام إلى أن قال ص 120:

مناظرة لطيفة له مع بعضهم وأدبه فيها

«قلت ... إني لأحسبكم لو قال هذا غيركم لبلغتم به أن تقولوا القلم عنه مرفوع! فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ» ، ثم ساق إلى أن قال ص 121- 122: «فقال: ما أحسن قولكم في الماء؟ قلت: أفترجع إلى الحسن؟ فما علمته رجع ... » . ومن لطائفه ما تراه في (الأم) ج 6 ص 160 ذكر مناظرته مع بعضهم إلى أن قال: «وكانت حجته في أن يقتل المرأة على الردة شيئا رواه عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس ... وكلمني بعض من يذهب هذا المذهب وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث فما علمت واحدا منهم سكت عن أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل العلم حديثه، فقلت له: قد سمعت ما قال هؤلاء الذين لا شك في علمهم بحديثك ... قال م إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس ... » فكأن الشافعي كان متوقعا البحث في ذاك المجلس عن هذه المسألة، وأن يستدل مناظره بحديث أبي حنيفة عن عاصم، وكره الشافعي أن يقول هو في أبي حنيفة شيئا يسوء صاحيه، وكان لا بد له من بيان آن الحديث أن يحضروا المجلس ليكون الكلام في أبي حنيفة منهم، ولعله أتم اللطف بأن أظهر انه لم يتواطأ معهم على الحضور! وألطف من هذا أنه حافظ على هذا الخلق الكريم في حكايته المناظرة في كتابه وهو بمصر بعيدا عن الحنفية فقال: «رواه عن عاصم» وترك تسمية الراوي عن عاصم وهو أبو حنيفة، وقال في حكاية قوله الجماعة: «والذي روى هذا» ولم يقل: «وأبو حنيفة» - وقد حاول التركماني استغلال هذا الأدب فقال في (الجوهر النقي) «أبو رزين صحابي، وعاصم وإن تكلم فيه بعضهم، قال الدارقطني: في حفظه شيء وقال ابن سعد: ثقة ن إلا أنه كثير الخطأ في حديثه، فإن ضعفوا هذا الأمر لجله فالأمر فيه قريب فقد وثقه جماعة ... وإن ضعف لأجل أبي حنيفة فهو وإن تكلم فيه بعضهم فقد وثقه كثيرون

وأخرج له ابن حبان في (صحيحه) ... » أطنب في مدح أبي حنيفة إلى إن قال: «وذكر أبو عمر في. التمهيد) أن أبا حنيفة والثوري رويا هذا الأثر عن عاصم ن وكذا أخرجه الدارقطني بسند جيد عنهما عن عاصم وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) عنه فقد تابع الثوري أبا حنيفة..» كذا قال، وسعى جهده في قلب الحقائق فذكر أو لا أن يكونوا أرادوا عاصما ومهد لذلك بأن ذكر غمز الدارقطني وابن سعد له، ولما ذكر أبا حنيفة لم يذكر شيئا من كلامهم فيه. وإنما اكفى بخطفه مجملة ثم راح يطنب في إطرائه. وذكر إخراج ابن حبان في (صحيحه) ونسى كلام ابن حبان في أبي حنيفة في (كتاب الضعفاء) كما يأتي في ترجمة ابن حبان وغرضه أن يوقع في نفس القرىء. ترجيح أنهم أرادوا عاصما أرادوا أبا حنيفة وأعرض عما رواه البيهقي نفسه في ذاك الموضع « ... أحمد بن حنبل ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فقال: أما من ثقة فلا» . وحكى عن (التمهيد) ولا أشك أن صاحب (التمهيد) قد أو ضح أن الثوري إنما سمعه من أبي حنيفة ثم حكى عن الدارقطني، والذي في (سنن الدارقطني) المطبوع ص 338 « ... عبد الرزاق عن سفيان عن ابي حنيفة عن عاصم ... » نعم ذكروا أن عبد الرزاق رواه في (مصنفه) «عن سفيان عن عاصم» ولا يبعد أن يكون سفيان إنما قال: «يحكى عن عاصم» أو نحو ذلك فأطلق بعضهم «سفيان عن عاصم» اتكالا على أنه لا مفسدة في هذا لاشتهار سفيان بالتدليس فلا فلا يحمل على السماع كما قدمت شرحه في ترجمة حجاج بن محمد، وقد ساق الخطيب في (تاريخه) بعض ما يتعلق بهذا الحديث فاكتفى الأستاذ بالتبجح بأن سفيان قد روى عن ابي حنيفة! وقد روى ابن ابي حاتم في ترجمة الثوري من (تقدمه الجرح والتعديل) عن صالح بن أحمد بن حنبل عن علي ابن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال: «سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فانكر وقال: «ليس من حديثي» وقد أعل ابن التركماني بعض الأحاديث بان الثوري مدلس، وتغافل عن ذلك هنا مصرا على إن الثوري قد تابع أبا حنيفة. وإذا تسامح العالم نفسه مثل هذه المسامحة، فالجاهل خير منه بألف درجة! والمقصود هنا بيان كرم أخلاق الشافعي رحمه الله.

190- محمد بن أبي الأزهر

ومع مراعاة الشافعي للحنفية إلى حد الذي رأيت وإطلاقه الكلمة التي تكاد تكون رأس مالهم «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة» ومجاملة أصحابه لهم حتى آلف جماعة منهم في مناقب الحنفية كان جزاؤه من الأستاذ ما تقدم. فأما الخطيب فإنما سرد أقوال الناس في الغض كما ساق ما روي في المناقب وذلك واجبه من جهة أنه مؤرخ ومحدث ن ومع ذلك فأعرض سائر الشافعية عما نقله الخطيب بل منهم من عرضه ومنهم من عارضه ومنهم من رد عليه كما حكاه الأستاذ، ولما تعرض للرد عليه الملك عيسى ومأجورة السبط وفي ردهما ما فيه من التهافت لم يعرض لهما أحد من لم يخلق كما تقدم، وفيه إن واحدا منهم ذكر إن مسعود بن شيبة مجهول، وبالجملة فإن مجاملة الشافعية للحفية بلغت حد الادهان ن فحسبها الأستاذ استكانة لا حراك بعدها ن فصنع ما صنع، ولم يدر أن للصبر حدا وأن للحق أنصارا، وأن وراء الأئمة رجالا، وقد جريت في كتابي هذا على المجاملة ما أمكن ن وأعددت لاستيفاء الحق عدته إن ألجئت إليه. والله المستعان. 190- محمد بن أبي الأزهر. تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة إسحاق بن إبراهيم. قال الأستاذ ص 176: «يقول عنه الخطيب نفسه ج 3 ص 288: «كان كذابا قبيح الكذب ظاهره. اهـ. فظهر أن الخطيب فيما عزاه إلى أبي يوسف من الاحتيال بهات شنيع البهت ظاهرة» . أقول: قد يعرف صدق بعض أخبار الكذاب بدللة، وأشهر الرواة بالكذب محمد بن السائب الكلبي ومع ذلك روى عنه ابن جريج والسفيانان وابن المبارك وغيرهم من الآجلة، وكان الثوري يحذر منه ويروي عنه ويروي عنه فقيل له في ذلك؟ فقال: أنا اعرف صدقه من كذبه. ورووا عنه في التفسير وغيره فما بالك بالتاريخ الذي تدعوالحاجة إلى تزيينه بالحكايات المستظرفة. وراجع ما تقدم في ترجمة إسحاق.

191- محمد بن إسحاق بن خزيمة

191- محمد بن إسحاق بن خزيمة. تعرض له الأستاذ ص 19 ولا دخل له هناك وإنما جرت الأستاذ عقليته الجبارة وعدؤه للحق وأهله إلى إن تطرق من الكلام في الحافظ أحمد بن علي الابار إلى الكلام في الحافظ دعلج مع أنه لا دخل لدعجل هنا ثم قال: «ودعلج كان على مذهب ابن خزيمة في اعتقاد والفقه ن واعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب (التوحيد) ... وعنه يقول صاحب (التفسير) ... أنه كتاب الشرك فلا حب ولا كرامة» (أقول: نفسك ظلمت، وغياها حرمت ن أما صاحب التفسير وهو الفخر الرازي فقد ظهر منه بأخرة التوبة والإنابة، كما ذكرناه في (الاعنقاديات) ومنها يعرف حال الإمام ابن خزيمة وكتابه، وحال مبغضيه. 192- محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري صاحب (الصحيح) . قال الأستاذ ص 48: «وأما قوله في (تاريخ الكبير) : كان «أبو حنيفة» مرجئا سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه ... فبيان لسبب إعراض من أعرض عنه، على أن إرجاءه هو محض السنة رغم تقولات جهلة النقلة، ... فالمعرض عنه، إما خارجي يزكي مثل عمران بن حطان وحريز بن عثمان، أو معتزلي قائل بالمنزلة بيت المنزلتين» . أقول: قد تقدم مراد البخاري بقوله في بعض الرواة: «سكتوا عنه» في ترجمة إسحاق الحنيني، فأما إرجاء ابي حنيفة فقد نظرنا فيه في (الاعتقاديات) ، وبذلك تنكشف مغالطة الأستاذ. على أني سلكت هناك سبيل المجاملة وليس هذا موضع استيفاء الحق. وأما عمران وحريز فقد اتفق أهل العلم على أنهما من اصدق الناس في الرواية ن وقد جاء انهما رجعا عن بدعتيهما ن وذكر البخاري رجوع حريز في ترجمته من (التاريخ) ن ولم يحتج البخاري بعمران إنما ذكره في المتابعات في حديث واحد. ولعمري إن محاولة الأستاذ في دفاعه عن أبي حنيفة الطعن في أئمة الإسلام كسفيان الثوري وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وعبد الله بن الزبير الحميدي والإمام أحمد بن حنبل والإمام أبي عبد الله البخاري وغيرهم من الأئمة لأضر على أبي حنيفة من

193- محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي

كلام هؤلاء الأئمة فيه، ولو قال قائل: لا يتأتى تثبيت أبي حنيفة إلا بإزالة الجبال الرواسي لكان أخف على ابي حنيفة ممن يقول لا يتأتي محاولة ذلك إلا بالطعن في هؤلاء الأئمة، وإن صنيع الكوثري لأضر على أبي حنيفة من هذا كله، لأنم الناس يقولون الكوثري عالم مطلع، كاتب بارع، إن أمكن أحدا الدفاع عن أبي حنيفة فهو، ولوأمكنه ذلك بدون الطعن في هؤلاء الأئمة ودون ارتكاب المغالطات الشنيعة لكان من ابعد الناس عن ذلك. هذا وفضائل البخاري معروفة حتى قال ابوعمروالخفاف وهو من الحفاظ كما في (أنساب ابن السمعاني) : «حدثنا التقي النقي العالم الذي لم أر مثله محمد بن إسماعيل وهو أعلم بالحدبث من إسحاق وأحمد وغيرهما بعشرين درجة. من قال فيه شيئا فعليه مني ألف لعنة» . 193- محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي. في (تاريخ بغداد) 13 / 398 من طريق جماعة عنه «حدثنا ابوتوبة حدثنا الفزاري قال ك سمعت الأوزاعي وسفيان يقولان ما ولد في الإسلام مولود اشأم عليهم - وفي رواية شر عليهم - من أبي حنيفة» قال الأستاذ ص 111: «تكلم فيه ابوحاتم» وفي (تاريخ بغداد) 13 / 403 من طريقه «حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا عبد الله بن المبارك قال: من نظر في كتاب (الحيل) لأبي حنيفة أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله» قال الأستاذ ص 121: «قال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه» . أقول: لم يتكلم فيه أبو حاتم وإنما قال ابنه ك «تكلموا فيه» ولا يدري من المتكلم ولا الكلام ن وقد وثقه النسائي ومسلمة والدارقطني وغيرهم ن فهو ثقة حتما. (1) 194- محمد بن أعين أبو الوزير (راجع الطليعة) ص 31- 34. روى

_ (1) قلت: بل هو من الحفاظ الكبار، أورده الذهبي في (التذكرة) 2 / 163 ووصفه «الحافظ الكبير الثقة. وقال الخطيب: كان متقنا مشهورا بمذهب السنة ... » . وقال الحافظ في (التقريب 9: -- ثقة حافظ، لم يتضح كلام ابن أبي حاتم» . ن

الخطيب في (التاريخ) من طريق أبي الوزير عن ابن المبارك فزعم الأستاذ في (التأنيب) أن أبا الوزير هو عمر بن مطرف فكشف مغالطته في (الطليعة) وأوضحت أنه محمد بن أعين، فرأى الأستاذ أنه لا فائدة في المكابرة فعدل في (الترحيب) إلى محاولة توهين بن أعين فقال: «توثيق ابن حبان على قاعدته ... وكون المرء خادما أو كاتبا أو وصيا أو معتمدا عنده في شيء ليس بمعنى توثيقه في الرواية عندهم، وقول الناقد: أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة. رأي مبتكر، وروايته عن مثل عامر بن صالح معروفة. أقول: قاعدة ابن حبان يأتي تحقيقها في ترجمته وبذلك يعرف أن توثيقه لابن أعين من التوثيق المقبول، وابن أعين قالوا: «أوصى إليه ابن المبارك وكان من ثقاته» وابن المبارك كان رجلا في الدين، رجلا في الدنيا فلم يكن ليعتمد بثقته في حياته وإيصائه بعد وفاته إلا إلى عدل أمين يقظ لا يخشى منه الخطأ في حفظ وصاياه وتنفيذها، فهذا توثيق فعلي قد يكون أبلغ من التوثيق القولي، غاية الأمر أنه قد يقال: ليس من الممتنع أن يكون ابن أعين ممن ربما اخطا في المواضع الملتبسة من الأسانيد، وهذا لا يضر هنا، لأن روايته في (تاريخ بغداد) إنما هي واقعة لابن المبارك على أن ذاك الاحتمال يندفع برواية أحمد وتوثيق ابن حبان، وأنه لم يتعرض أحد بغمز لابن أعين في روايته؛ وكون أحمد لا يروي إلا عن ثقة لم أقله، وإنما قلت: «ورواية أحمد عنه توثيق لما عرف من توقي أحمد» ومع ذلك فقد نص ابن تيميه والسبكي في (شفاء السقام) على أن أحمد كان لا يروي إلا عن ثقة. وفي (تعجيل المنفعة) ص 15 و19 وغيرهما ما حاصله أن عبد الله بن أحمد كان لا يكتب في حياة أبيه إلا عمن أذن له أبوه ن وكان أبوه لا يأذن له بالكتابة إلا عن الثقات. ولم يكن أحمد ليترخص أنفسه ويشدد على ابنه، وفي (فتح المغيث) ص 134: «تتمة ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر الأمام أحمد وبقي بن مخلد ... » وقوله: «إلا في النادر» لا يضرنا، إنما احترز بها لأن بعض أولئك المحتاطين قد يخطئ في التوثيق فيروي عمن يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى

195- محمد بن بشار بندار

حكاية شيء عمن ليس بثقة فيحكيه ويبين أنه ليس بثقة. والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين أن يبحث عنه فإن تكون توثيقا، وإن وجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقا، وإن وجد أن غيره جرحه جرحا أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح. وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق، وابن أعين لم يغمزه أحد، ولا أحمد ولا غيره، بل وثقه ابن المبارك توثيقا فعليا كما سلف، ووثقه ابن حبان. فأما عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير فلم يقتصر أحمد على الرواية عنه، بل وثقه بالقول كما في ترجمته من (التهذيب) وغيره، فإن ترجح توثيق أحمد فذاك، وإن ترجح جرح غيره لم يضرنا لأن من كان شأنه إصابة اخطأ في النادر ثم جاء عنه مالا يعلم أنه أخطأ فيه، فهو محمول على الغالب، وهو الإصابة، سواء أكان محدثا أم ناقدا أم قاضيا أن مفتيا كما هو معروف وقد جاء عن ابن معين الذي جرح عامرا هذا أنه قيل له ك إن أحمد يحدث عنه، فقال ابن معين ك «ماله، جن؟ !» وهذا يدل أوضح دلالة على أن ابن معين يعرف من أحمد أنه لا يروي إلا عن ثقة. فإن كنت لما كتبت ما كتبت في (الطليعة) استحضرت هذه النقول أو بعضها، وإن كنت بنيت على ما عرفته بالممارسة من حال الأمام أحمد فذاك أكمل، وعلى كلا الحالين فقد تبين أنه ليس برأي مبتكر، كما زعم الكوثري. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. (1) 195- محمد بن بشار بندار. في (تاريخ بغداد) 13 / 407 من طريقة: «سمعت عبد الرحمن «بن مهدي» يقول: كان بين ابي حنيفة وبين الحق حجاب» . قال الأستاذ ص 32: «تكلم فيه الأقدمون إلى أن اتهموا بالكذب وسرقة الحديث، ثم استقر عمل المتأخرين على الانتقاء من رواياته» .

_ (1) محمد بن أيوب بن هشام. راجع (الطليعة) ص 12 - 19. محمد بن أيوب الذراع تقدم في ترجمة عبد الله العتكي.

أقول: هذا ثقة جليل وثقة أبو حاتم مع تشدده والنسائي والذهلي ومسلمة وابن خزيمة وكان يسميه: «إمام زمانه» وآخرون، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة. وفي (التهذيب) عن (الزهرة) : «روى عنه البخاري مائتي حديث وخمسة أحاديث، ومسلم أربعمائة وستين» . ولم يتهمه أحد بالكذب بالمعنى المتبادر ولا بسرقة الحديث، وفي ترجمة محمد بن المثنى أبي موسى الزمن من (التهذيب) وغيره عن السلمي عن الدارقطني أن عمرو بن علي الصيرفي سئل عنه وعن بندار هذا فقال: «ثقتان يقبل منهم كل شيء إلا ما تكلم به أحدهما في الآخر» يعني لأنه كانت بينهما منافسة. والدارقطني لم يدرك عمرو بن علي ولكن الاستشهاد بمثل هذا مقبول. وقال عبد الله بن محمد بن يسار: سمعت عمرو بن علي يحلف أن بندارا يكذب فيما يروي عن يحيى، قال ابن سيار: وبندار وأبو موسى ثقتان، وأبو موسى اصح» وإنما أراد عمرو بن علي بالكذب الوهم والخطأ بدليل أنه قد جاء عنه توثيق بندار كما مر، وأن الراوي عنه وهو ابن سيار وثق بندارا، وإنما رجح آبا موسى عليه ن وقد كانت بين عمرو بن علي وبندار مخاشنة، ففي ترجمة عمرومن (التهذيب) : «حدث عمرو بن علي عن يحيى القطان فبلغه أن بندارا إلى أن قال ك ما نعرف هذا من حديث يحيى، فقال أبوحفص «عمروابن علي» : وبلغ بندار إلى أن يقول: ما نعرف؟ !» فهذا قضى عمرو بن علي بندار وأنى موسى أن لا يقبل كلام كل منهما في الآخر فقد قضى على نفسه ن والحق انه أراد إنما أراد الوهم والخطأ. وقد قال الأستاذ ص 163: «الإخبار بخلاف الواقع هو يكذب ما لم يفسر وجه كذبة ... » وفي (التهذيب) : «قال عبد الله بن علي ابن المديني: سمعت أبي وسألته عن حديث رواه بندار عن ابن مهدي عن أبي مهدي عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحروا فإن في السحور بركة» ؟ فقال: هذا كذب، وأنكره أشد الإنكار، وقال: حدثني أبو داود: «موقوفا» ، يعني ليس فيه: «عن النبي صلى الله عليه وسلم» ، وقد رواه النسائي عن بندار مرفوعا، ثم قال: «وقفه عبيد الله بن سعيد» ثم رواه من طريقة: موقوفا، والمتن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس

وهو في (الصحيحين) وقد روي من حديث أبي هريرة، والخطأ في مثل هذا يقع كثيرا من الثقات، وإنما أراد ابن المديني أن رفعه من تلك الطريق غير واقع، لا أن بندارا تعمد الكذب، وهذا واضح، فبندار قد يقع له الخطا في مظانه كالحديث المذكور. وأما سرقة الحديث فإنما أخذها الأستاذ مما روي عن أبي موسى أنه سبق بندارا إلى تصنيف حديث داود بن أبي هند ثم قال ك هنا قوم لوقدروا أن يسرقوا حديث داود لسرقوه - يعني بندارا - وإنما كانت بين الرجلين منافسة فأراد أبو موسى أن بندارا يحسده على السبق إلى تصنيف حديث داود حتى لوأمكنه أن يسرق ذاك الكتاب ليفقده أبا موسى لفعل. وليس هذا من سرقة الحديث في شيء، ولم يقع من بندار لا هذا ولا ذاك، ولا هو ممن يقع منه ذلك، وإنما بالغ أبو موسى كما لا يخفى. ومع هذا لم يكن بين الرجلين بحمد الله ما يسمى عداوة، وقد توفي بندار قبل آبى موسى فجاء بعض الجهلة إلى أبي موسى فقال له: البشري، مات بندار. يعني وخلا لك الجو. فقال له أبو موسى ك «جئت تبشرني بموته؟ ! علي ثلاثون حجة إن حدثت أبدا» . فعاش بعد ذلك تسعين يوما لم يحدث ثم مات رحمهما الله تعالى، وإنما حلف أبو موسى أن لا يحدث على ما سبق منه من المنافسة وإظهارا لأنها لم تبلغ به إن يسر بموت صاحبه ن فامتنع من الحديث الذي كانت المنافسة فيه. وأما استقرار العمل على الانتقاء من رواياته فهذا يقال على وجهين: الأول: أن يتقى ما تبين أنه أخطأ فيه ويؤخذ غيره. الثاني: أن لا يؤخذ من رواياته إلا ما توبع عليه، فإن أراد الأستاذ هنا الأول فليس فيه ما ينفعه، وإن أراد الثاني فهو مردود عليه، ومع ذلك فقد توبع بندار في المقصود من هذه الحكاية كما ذكر الأستاذ نفسه في غير نوضع، وليست من مظان الخطأ والوهم. والله أعلم. (1)

_ (1) محمد بن الرقي. يأتي مع محمد بن الحسن بن حميد.

196- محمد بن جابر اليمامي

196- محمد بن جابر اليمامي. ذكر الأستاذ ص 115 قول ابن أبي حاتم: «أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوز جاني فيما كتب إلي حدثني إسحاق بن راهويه قال: سمعت جريرا يقول قال محمد بن جابر اليمامي: سرق أبو حنيفة كتب حماد مني» قال الأستاذ ص 116 «الأعمى قد قال فيه أحمد: لا يحدث عنه إلا من هو شر منه. وقد ضعفه ابن معين» . أقول: أما كلمة «لا يحدث عنه إلا من هو شر منه» ففي (التهذيب) : «قال ابن حبان كان أعمى ... قال أحمد بن حنبل لا يحدث عنه إلا من هو شر منه» فناسب الكلمة إلى أحمد هو ابن حبان وبين ابن حبان وأحمد مفازة ولا يدري ممن سمع تلك الكلمة، ولو صحت عن أحمد لكانت الكلمة أقرب إلى الإطراء البالغ منها إلى الذم، فقد روى عن محمد بن جابر من يعتقد أحمد عون وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وآخرين، فلا معنى يقال إن هؤلاء شر منه إلا إطراؤه بأنه خير منهم وعلى كل فالحكاية منقطعة منكرة، فأما تضعيف ابن معين وغيره له فلأمور. الأول: أنه كان سيئ الحفظ يتعاطى الرواية من حفظه فيغلط. الثاني: أنه اختلط عليه حديثه ن قاله ابن معين ن وكأنه كان في كتبه أحاديث سمعها من رجل وأحاديث سمعها من آخر فاختلط عليه بعض كتبه ن فدخلت أحاديث من حديث بعض شيوخه في حديث شيخ آخر. الثالث: أن كتابه ذهب بأخرة فتأكد احتياجه إلى أن يروي ما علق منه بحفظه وهو سيئ الحفظ. الرابع ك أن إسحاق ابن الطباع قال: «حدثت محمدا بحديث، قال: فرأيت في كتابه ملحقا بين سطرين بخط طري» والرجل كان أعمى فالملحق غيره حتما، ورواية

الأجلة عنه وشهادة جماعة منهم له بأنه صدوق تدل أن الإلحاق لم يكن بعلمه. فأما قول ابن حبان «كان أعمى يلحق في كتبه ما ليس من حديثه ويسرق ما ذوكر به فيحدث به» فإنما أخذه من هذه القضية، وقد بان أن الإلحاق من غيره، وإذا كان بغير علمه كما يدل عليه ما سبق فليس ذلك بسرقة. فالحكم فيه أن ما رواه الثقات عنه ونصوا على انه من كتابه الذي عرفوا صحته فهو صالح. ويتوقف فيما عدا ذلك. لآلما هذه الحكاية وهي قوله: «سرق أبو حنيفة كتاب حماد مني» فليست بمظنة الإختلاط ولا الإلحاق، ثم إن أراد بسرقة الكتاب سرقة الحديث أي أبا حنيفة سمع منه عن حماد أحاديث فرواها أبو حنيفة عن حماد، فهذا ظن منه لا تقوم به حجة ن فان أبا حنيفة قد صحب حمادا واختص به فلعل ما سمعه من محمد بن جابر كان عنده عن حماد، وإن أراد سرقة الكتاب نفسه فلم يبين كيف عرف ذلك؟ وقد يكون كان في مجلس فيه أبو حنيفة وغيره ففقد كتابه ثم بلغه أن أبا حنيفة يحدث عن حماد فتوهم ما توهم وليس في هذا حجة. وقد جاء عنه ما لوصح لكان تفسيرا لهذا حكاه الأستاذ بحاشية ص 115 (1) وهو أن العقيلي أخرج بسند فيه محمد بن حميد عن محمد بن جابر قال ك جائني أبو حنيفة من كتبي عن حماد فلم أعطه ن فدس إلي ابنه فدفعت كتبي إليه فدفعها إلى أبيه فرواها أبو حنيفة من كتبي عن حماد» قال الأستاذ «والرواية عن الخط مخالفة لمذهب أبي حنيفة ثم في سند الخبر إبراهيم بن سعيد ومحمد بن حميد» . أقول: أما مخالفة المذهب إن صحت فلا تكفي هنا كما لا يخفي ن وإبراهيم بن سعيد ثقة كما تقدم في ترجمته، وإنما الوهن من محمد بن حميد فإنه ليس بعمدة (2) . 197- محمد بن جعفر الأدمي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة أحمد بن عبيد قال الأستاذ ص 42: «قال عنه محمد بن أبي الفوارس كان قد خلط فيما حدث» .

_ (1) الأصل (15) . (2) محمد بن حيوية. راجع (الطليعة) ص 22 - 29.

198- محمد بن جعفر الأنباري

أقول: ذكروا أنه كان شاهدا فقد كان معدلا عند القضاة لكن لم أر من وثقه، فأما التخليط فلم يبين ما هو. (1) 198- محمد بن جعفر الأنباري. في (تاريخ بغداد) 13 / 397: «أخبرنا ابن رزق والبرقاني قالا: أخبرنا محمد بن جعفر بن الهيثم الأنباري حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر ... » قال الأستاذ ص 109 «فيه بعض الشيء كما قال الخطيب» . أقول: ترجمته في (التاريخ) ج 2 ص 151 وفيها: «سألت البرقاني عن ابن الهيثم فقلت: هل تكلم فيه أحد؟ قال: لا، وكان سماعه صحيحا بخط أبيه» ثم حكى عن ابن أبي الفوارس: «كان قريب الأمر فيه بعض الشيء وكانت له أصول بخط أبيه جياد» . والظاهر أن بعض الشيء إنما هو فيما يتعلق بالسيرة لا بالرواية ولم يفسر، فلعله تقصير خفيف لا يعد جرحا، ومع ذلك فحاكيته هذه رواها عنه البرقاني وهو إمام مثبت فهي من تلك الأصول التي اتفقوا على صحتها. (2) 199- محمد بن جعفر الراشدي. في (تاريخ بغداد) 13 / 411 من طريقة «حدثنا أبو بكر الاثرم ... » قال الأستاذ: ص 141 «راوي (العلل) للأثرم وراوياه القطيعي وأحمد بن نصر الذراع غير صالحين للرواية» . أقول: الراوي عنه هنا القطيعي وهو أحمد بن جعفر بن حمدان تقدمت ترجمته وأنه ثقة الراشدي وثقة غير واحد، ومع ذلك فالحكاية مأخوذة من ذاك المصنف المقطوع بنسبته، فلا يضرها لو كان في بعض الوسائط كلام. 200- محمد بن حبان أبو حاتم البستي الحافظ. نقل الأستاذ ص 90 قوله في أبي حنيفة «كان أجل في نفسه من أن يكذب ولكن لم يكن الحديث شأنه، فكن يروي فيخطئ من حيث لا يعلم ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم، حدث بمقدار

_ (1) محمد بن جعفر الأسامي. يأتي في ترجمة محمد بن علي اللبلخي. (2) ذكره الأستاذ ص 29 في الحاشيبة أستطرادا.

كلام ابن حبان في أبي حنيفة وتنديد الكوثري به في أمور والجواب عنها

مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما قلب إسنادها أو غير متنها» . أجاب الأستاذ بوجهين: الأول: حاصله أم أبا حنيفة مشهور بالحفظ والفهم، واشتهر عنه أنه لا يبيح الرواية إلا لمن استمر حفظه من الأخذ إلى الأداء، ولا يبيح الرواية مما يجده الراوي بخط يده ما لم يذكر أخذه له، وتواتر (؟) عنه ختمه القرآن في ركعة - ونحو هذا. الثاني: التنديد بابن حبان. أقول: أما الوجه الأول فلم ينفرد ابن حبان بنسبة الخطأ والغلط في الرواية إلى أبي حنيفة بل وافقه على ذلك كثيرون حتى من المائلين إلى أبي حنيفة، نعم انفرد بذاك التحديد، لأنه اعتنى بذلك والف كتابين: أحدهما كتاب (علل ما استند إليه أبو حنيفة) ، والثاني كتاب (علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه) . واشتهار ابي حنيفة بالحفظ غير مسلم، وحفظ القرآن لا يستلزم حفظ الأحاديث، والفهم لا يستلزم الحفظ، وفهم المعاني والعلل غير فهم وجوه الرواية. وقد اشتهر ابن أبي ليلى بالفقه حتى كان الثوري إذا سئل قيل: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى رديء الحفظ للروايات كثير الغلط. وما اشتهر عن أبي حنيفة من اشتراط استمرار الحفظ إن صح فمراده التذكر في الجملة وإلا لزام ما هو أشد، والتذكر في الجملة لا يدفع احتمال التوهم والخطأ، وكان على الأستاذ أن ينقل نصوصا صحيحة صريحة عن الأئمة المعتمد عليهم ترد قول ابن حبان كما جاء في الشافعي قول أبي زرعة الرازي «ما عند الشافعي حديث غلط فيه» وقول أبي داود: «ليس للشافعي حديث أخطأ فيه» ، أو يتجشم جمع الأحاديث التي يثبت أن ابا حنيفة رواها وبيان ما يثبت من موافقة الثقات له ومخالفتهم. وأما التنديد بابن حبان فذكر الأستاذ أمورا: منها أن ابن الصلاح وصفه بأنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه. أقول: ابن الصلاح ليس منزلته أن يقبل كلامه في مثل ابن حبان بلا تفسير،

اصطلاح ابن حبان في كتابه الثقات وتحقيق المصنف فيه وما يقبل من توثيقه وما لا يقبل

والمعروف مما ينسب ابن حبان فيه إلى الغلط أنه يذكر بعض الرواة في (الثقات) ثم يذكرهم في (الضعفاء) ، أو يذكر الرجل مرتين أو يذكره في طبقتين ونحو ذلك. وليس بالكثير وهو معذور في عامة ذلك وكثير من ذلك أو ما يشبهه قد وقع لغيره كابن معين والبخاري. ومنها أن الذهبي وصفه بالتشغيب والتشنيج. أقول: إنما ذلك في مواضع غير كثيرة يرى ما يستنكره للراوي فيبالغ في الحط عليه ن وهذا أمر هين، لأنه إن كان فيمن قد جرحه غيره فكما يقول العامة «لا يضر المقتول طعنه» وإن كان فيمن وثقه غيره لم يلتفت إلى تشنيعه وإنما ينظر في تفسيره وما يحتج به. ومنها أنه يةثق المجاهيل الذين لم يسير أحوالهم. أقول: قد بين ابن حبان اصطلاحه وهو أنه يذكر في (الثقات) كل من روى عنه ثقة ولم يرومنكرا، وأن المسلمين على الدالة حتى يثبت الجرح، وقد ذهب غيره من الأكابر إلى قريب من هذا كما قدمته في (قسم القواعد) في القاعدة السادسة. نعم إنه ينى على رأيه أن المسلمين على العدالة واستأنس بصنيع بعض من تقدمه من الأئمة من ذكر ذلك الرجل بدون إشارة ضعف فيه، وأهل العلم من الحنفية وغيرهم كثيرا ما يقوون الراوي بقولهم: «ذكره البخاري وابن ابن حاتم ولم يذكرا فيه جرحا» (1) ومع ذلك يبين ابن حبان بعدم ذكر شيخ للرجل ولا راو عنه أنه لم

_ (1) قلت: وقد جرى على هذا بعض المحققين من أهل الحديث المعاصرين، وكنت استنكر ذلك في نفسي دون أن يكون لدي نقل يؤيدني، حتى رأيت ابن أبي حاتم يقول في كتابه 1 / 38: «على أنا قد ذكرنا اسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشمل الكتاب على كل من روى عنه العلم ن رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم. فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى» . قلت: فرايت أن اثبت هذا تنبيها وتذكيرا. ن.

جواب المصنف عن قول ابن حبان إن صح في النبوة أنه العلم والعمل

يعرفه (1) . ومنها أنه عريق في التعصب. أقول: أئمة الحديث كلهم في رأي الأستاذ متعصبون ولا أعرف ابن حبان بتعصب. ومنها أنه حكي عنه أنه قال في النبوة أنها العلم والعمل. أقول: إن صح هذا عنه فهو قول مجمل وابن حبان معروف عنه في جميع تصانيفه أنه يعظم أنه يعظم النبوة حق تعظيمها ولعله أراد أن المقصود من أيجاد الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم هو ويعمل، ثم يبين للناس فيعلموا ويعلموا. وقد نسب إليه أنه أنكر الحد لله، ولعله امتنع من التصريح بإثبات الحد باللفظ الذي اقترح عليه، أو آتى بعبارة حملها المشنعون على إنكار الحد كما اتفق للبخاري في القرآن، وغير ذلك، وكتب ابن حبان من أو لها إلى آخرها جارية على التمسك بالسنة والثناء على أصحابها وذم من يخالفها ن وهو من أخص أصحاب ابن خزيمة أحد ائمة السنة. ثم أحال الأستاذ على ما في (معجم البلدان) : (بست) . وأقول: هناك عبارة طويلة زعم ياقوت انه نقلها من خط ابن النفيس أنه نقلها من خط السليماني في (معجم شيوخه) ، وياقوت ليس بعمدة والأئمة الذين ذكروا ترجمة ابن حبان قد وقفوا على كتب السليماني ونقلوا عنها ثم لم يحكوا في ترجمة ابن حبان حرفا من تلك العبارة، وفيها ذكر أحوال لابن حبان تتعلق بسمرقند ونيسابور وبخاري، ولكل من هذه البلدان (تاريخ) ذكر فيه ابن حبان، ونقل ياقوت وغيره من تلك التواريخ فلم يقع في ذلك شيء مما في تلك العبارة وإنما نقلوا عن تلك التواريخ تعظيمه والثناء البالغ عليه ن على أن ما وصف به في تلك العبارة منه ما ليس

_ (1) قلت: بل إنه ليقول أحيانا في بعض ثقاته «لا أعرفه» ، أو «لا أعرفه ولا اعرف آباه» ، كما أثبتناه بالقول عنه في غير هذا الموضع، وسبقت الإشارة إلى هذا في التعليق على الصفحة (67) .

درجات توثيق ابن حبان وفيه تفصيل دقيق لا تراه لغير المصنف

بجرح، ومنه ما هو جرح غير مفسر أو مفسر بما لا يقدح، أو غير مثبت، ضرورة أن قائل ذلك لم يكن ملازما لابن حبان في جميع تنقلاته في تلك البلدان، وإنما لفقت إن صحت عن السليماني من قيل، وقالوا، وزعموا، فعلى كل حال لا وجه للتعويل عليها، ولا الإلتفات إليها. والله المستعان. هذا وقد أكثر الأستاذ من رد توثيق ابن حبان، والتحقيق أن توثيقه على درجات، الأولى: أن يصرح به كأن يقول «كان متقنا» أو «مستقيم الحديث» أو نحو ذلك. الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم. الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة. الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة. الخامسة: ما دون ذلك. فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل. والله أعلم. (1)

_ (1) قلت: هذا تفصيل دقيق، يدل على معرفة المؤلف رحمه الله تعالى، وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره ن فجزاء الله خيرا، غير أنه قد ثبت لدي بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا يعرف، ويشهد بذلك صنيع الحفاظ كالذهبي والعسقلاني وغيرهما من المحققين، فإنهم نادرا ما يعتمدون على توثيق ابن حبان وحده ممن كان في هذه الدرجة، بل والتي قبلها أحيانا. ولقد أجريت لطلاب الجامعة افسلامية في المدينة المنورة يوم كنت أستاذ الحديث فيها سنة (1382) تجربة عملية في هذا الشأن في بعض دروس (الأسانيد) ، فقلت =

201- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش

201- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش. في (تاريخ بغداد) 13 / 386 حكاية من طريقه. قال الأستاذ ص 74: «كذاب زائغ من اسقط خلق الله، ولولا أن الداني المقرىء بعيد الدار عن الشرق لما خفيت عليه مخازيه» . أقول: كان هذا الرجل مقرئا مفسرا تعب في الطلب وجمع فأكثر لكنهم نقموا عليه في أحاديث، فأما الدارقطني فكان يجمل القول فيه ويحمله على الهم والتساهل في الأخذ، وأما البرقاني وغيره فحطوا عليه وتبعهم الخطيب، وإنما روى عنه لأنه لم ينفرد بمعنى ما روى، وكان الأولى به ترك الرواية عنه. والله المستعان. 202- محمد بن الحسن بن حميد بن الربيع. ساق الخطيب في (التاريخ) 13 / 403 عدة روايات جيدة في تشديد ابن المبارك في شأن كتاب أطلق عليه (كتاب الحيل لأبي حنيفة) وروايته عن النضر بن شميل ليس فيها ذكر أبي حنيفة، وأشار الأستاذ إلى ما ذكره الذهبي في جزء (مناقب أبي حنيفة وصاحبه) ، ولفظ الذهبي في ذاك الجزء ص 52 - 53: «الطحاوي سمعت محمد بن أبي عمران يقول: قال محمد بن سماعة: سمعت محمد بن الحسين يقول: هذا الكتاب - يعني كتاب (الحيل) - ليس من كتبنا إنما ألقي فيها. قال ابن أبي عمران: إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة» . وقال الأستاذ ص 122 في الحاشية: «قال أبوسليمان

_ = لهم: لنفتح على أي راوفي كتاب «خلاصة تذهيب الكمال» تفرد بتوثيقه ابن حبان، ثم لنفتح عليه في «الميزان» للذهبي، و «التقريب» للعسقلاني، فسنجدهمت يقولان فيه «مجهول» أو «لا يعرف» ، وقد يقول العسقلاني فيه «مقبول» يعني لين الحديث، ففتحنا على بضعة من الرواة تفرد بتوثيقهم ابن حبان فوجدناهم عندهما كما قلت: أما مجهول، أو لا يعرف، أو مقبول. إلا أن ما ذكر المؤلف من رد الكوثري لتوثيق ابن حبان ن فإنما ذلك حين يكون هو اء في ذلك، وإلا فهو يعتمد عليه ويتقلبه حين يكون الحديث الذي فيه راووثقه ابن حبان، ويوافق هواه، كبعض الأحاديث التي رويت في «التوسل» وقد كشفت عن صنيعه هذا في كتابي (الأحاديث الضعيفة) رقم (23) .

الجوزجاني: من قال إن محمدا رحمه الله صنف كتابا سماه: (الحيل) فلا تصدقه، وما في أيدي الناس إنما جمعه وراقوبغداد كما في (مبسوط السرخسي) ... » وفي (فتح الباري) ذكر لكتاب (الحيل) لبي يوسف، وأطال الأستاذ في دفع نسبة ذاك الكتاب إلى أبي حنيفة، وأصحابه. والذي تضافرت عليه الروايات الجيدة أنه كان في عصر ابن المبارك فما بعده كتاب يسمى (كتاب الحيل لبي حنيفة) أو (كتاب حيل أبي حنيفة) ن وهناك قرائن تدفع أن يكون من تصنيف أبي حنيفة نفسه؛ وهذه القرائن لا تقع التسمية فقد يكون مصنفه نسبة إليه أو يكون الناس لما رأو هـ مبنيا على قواعد أبي حنيفة أطلقوا عليه هذا الاسم، فأطلق عليه ابن المبارك اسمه المعروف به بين الناس غير قاصد الجزم بأنه تصنيف ابي نفسه، ولا ريب أنه لا يستنبط الحيل من قواعد أبي حنيفة إلا رجل عارف بتلك القواعد له يد في الاستنباط وليس هو بابي يوسف، ولا بمحمد بن الحسن، وقد مر عن ابن ابي عمران وهو من أجلتهم قوله: «إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة» . والمقصود هنا أنه من المقطوع به وجود ذلك الكتاب وانه كان متداولا بين الناس في تلك الأزمنة، وتضافرت الروايات على أنه كان معروفا بذاك الاسم. ثم قال الأستاذ ص 122 وقد حاول: بعض الكذابين رواية كتاب في الحيل عن أبي حنيفة في زمن التأخر بسند مركب فافتضح وهو أبو الطيب محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع الكذاب ابن الكذاب حيث زعم بعد سنة ثلاثمائة أنه كان سمع كتاب (الحيل) سنة 258 ب (سر من رأى) من أبي عبد الله محمد بن بشر الرقي عن خلف بن بيان وقد قال مطين: أن محمد بن الحسين هذا كذاب ابن كذاب، وأقره ابن عقدة، ثم أقر ابن عدي وأبو أحمد الحاكم ابن عقدة في ذلك. وقد قوى ابن عدي أمر ابن عقدة. ورد على الذين تكلموا فيه بل قال السيوطي في «التعقبات» ص 57: ابن عقدة من كبار الحفاظ وثقه الناس، وما ضعفه إلا عصري متعصب. اهـ، ثم شيخ محمد بن الحسين مجهول الصفة، بل مجهول العين، وشيخ شيخه مجهول أيضا بل لا

وجود له» . أقول: أما رواية أبي الطيب هذا الكتاب فليس فيها ما يريب في صدقه، فقد تحقق أن الكتاب كان موجودا بأيدي ناس يسمى ذاك الاسم، فأي ريبة أم أي بعد في أن يجده أبو الطيب عند بعض الوراقين فيزعم الوراق أنه يروي بالسماع فيسموه منه أبو الطيب، وقد يكون ذاك الوراق كذابا زعم ما زعم يروج له الكتاب، ولم يفتش أبو الطيب عن حاله على عادتهم في ذاك العصر من الأخذ عن كل أحد وترك التحقيق لأهله أو لنقته. ثم أن صح قول الأستاذ «بعد سنة ثلاثمائة» فليس يلزم من ذلك أن لا يكون أبو الطيب ذكر قبل ذلك أن الكتاب عنده يروي، وكثيرا ما يروي الرجل بعد أن يسمع بستين أو سبعين سنة أو أكثر وقد كان للأستاذ في نهالة الشيخ أبو الطيب وشيخ شيخهم ما يكفيه في دفع النسبة إلى أبي حنيفة المحاولة الطعن في أبي الطيب الموثق كما يأتي، ومحاولة الدفاع عن أبي عقدة المجروح كما تقدم في ترجمته وهو أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة مع دعوى تقوية ابن عدي له، وفي ذلك ما فيه. فأما ما نسب إلى مطين فدون الشارحة: زعم ابن عقدة أنه كان عن مطين فمر أبو الطيب فقال المطين هذا كذاب ابن كذاب. وفي بعض المواضع الزيادة (أبن كذاب) أخرى، فحكى ابن عدي عن أبي عقدة هذا وقواه بالنسبة إلى حسين بن حميد والده أبو الطيب كما تقدم في ترجمته مع النظر فيه، فأما أبو أحمد الحاكم فإنما قال في ابي الطيب: «كان أبن عقدة سيئ الرأي فيه» ، وهذا يشعر بأنه لن يعتمد على رواية ابن عقدة عن مطين وإلا بقال: «كان مطين سيئ الرأي فيه» ، وابن عقدة يس بعمده كما تقدم في ترجمته. وقد تعقب الخطيب حكايته هذا في «التاريخ» ج 2 ص 237 وقال: «في الجرح بما يحكيه أبو العباس بن سعيد «ابن عقدة» نظر، حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة السهمي يقول: سالت أبا بكر ابن الدان عن ابن عقدة إذا حكى حكاية عن غيره من الشيوخ في جرح فهل يقبل قوله أم لا؟ قال: لا يقبل «وهذه الروية مأخوذة عن كتاب معروف لحمزة. ثم روى الخطيب عن أبي يعلى الطوسي توثيق أبي الطيب قال:

203- محمد بن حماد

«كان ثقة صاحب مذهب حسن وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكان ممن يطلب للشهادة فيابا «وقال ابن الجوزى في «المنتظم» ج 6 ص 235: «كان ثقة يفهم، وقد روى ابن عقدة عن الحضرمي «مطين» أنه قال: هو كذاب - وهذا ليس صحيح «وقال ابن حجر في» (اللسان) : «الظاهر أن جرح ابن عقدة لا يؤثر فيه بينهما من المتباينة في الاعتقاد» . أقول: أما جرحه من قبل نفسه بلى حجة فنعم، وأما روايته عن غيره فلو كان ثقة لم ترد بالمباينة في الاعتقاد ولكنه في نفسه على يدي عدل، فألمبتينة في الاعتقاد تزيده وهنا على وهن. والله الموفق 0 203- محمد بن حماد. في (تاريخ بغداد) 13 / 402 من طريق «عبد الله بن أبي القاضي يقول: سمعت محمد بن حماد يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ... » قال الأستاذ: ص 141 «وضاع معروف من أصحاب مقاتل» . أقول: صاحب مقاتل قديم ففي ترجمته من «اللسان» أنه قال: «اشخصني هشام بن عبد الملك من الحجاز إلى الشام ... » وقد مر في ترجمته عبد الله بن أبي القاضي أن أعلى شيخ له أحمد بن عبد الله بن يونس المتوفى سنة 227، وهشام مات سنة 125 فأني يدرك عبد الله أبن ابي من كان في زمن هشام رجلا؟ فهذا رجل أخر. والله المستعان. 204- محمد بن حمدويه أبو رجاء المروزي. ذكروا أنه ذكر في «تاريخ مرو» وأن محمود بن غيلان توفى سنة 229 وأن البخاري وغيره قالوا: أن محمودا توفى سنة 239 فذكر الأستاذ هذا ص 64 وأطلق على أبي رجاء «رواية الغرائب» . ولا يخفى أن هذا الخطأ الواحد لا يبرر هذه الكلمة وراجع «الطليعة» ص 22- 29 لتعرف حال الكوثري في تلك القضية. 205- محمد بن روح. في «تاريخ بغداد» 13 / 412 من طريق «زكريا بن

206- محمد بن سعد العوفي

يحيى الساجي حدثني محمد بن روح قال: سمعت أحمد بن حنبل ... » قال الأستاذ ص 143: «مجهول» أقول: في «تاريخ بغداد» ج 5 ص 277 «محمد بن روح العكبري ... » ثم روى من طريق «عثمان بن إسماعيل بن بكر السكري ثنا محمد بن روح العكبري بعكبرا وكان صديقا لأحمد بن حنبل وكان أحمد بن حنبل إذا خرج الى عكبرا ينزل عليه «وعثمان هذا توفى سنة 323 كمكا في «التاريخ» ج 11 ص 296 والسياجي توفى سنة 307 ولم يكن أحمد ليصادق رجلا وينزل عليه إلا وهو خير فاضل. 206- محمد بن سعد العوفي. في ترجمة الحسن بن زياد اللؤلوي من (لسان الميزان) تكذيب الأئمة له وطعنهم فيه، ساق كثبرا من ذلك ثم قال: «ومع ذلك كله أخرج له أبو عوانة في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة» ذكر هذا استنكارا له، فجاء الكوثري فقال ص 187 في ترجمة اللؤلؤي: «مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشأن ... أخرج عنه الحافظ أبو عوانة ... في (الصحيح المسند المستخرج) وهذا توثيق منه، والحاكم في (المستدركه) ... وهذا أيضا توثيق منه ووثقه مسلمة بن قاسم ... وكان يأبى الخرض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة. كما ذكره ابن حزم ... ومع هذا كله تجد ترجمته عند الخطيب من أسوأ التراجم ... » وهكذا قدم الكوثري المؤخر وعرف المنكر واحتج ببعض الروايات الزائفة ورد بعض الروايات الثابتة التي تقدمت الإشارة إلى بعضها في ترجمة الخطيب وفي ترجمة صالح بن محمد الحافظ، وحاول هدم أركان الإسلام لينصب هذا التالف. ثم قال «وقد روى - يعني الخطيب - في كتابه أيضا عن الساجي وابن معين وابن المديني ويعقوب بن سفيان وغيرهم تضعيف الحسن ابن زياد أو تكذيبه إلا أن في أسانيد تلك الروايات أمثال محمد بن «عثمان بن» أبي شيبة ومحمد بن سعد العوفي، والأدمي، وعبد الله «بن محمد بن عبد العزيز» البغوي، ودعلج، والآجري، والعقيلي وأضرابهم، وأمرهم يدور بين كذاب، وضعيف،

تسمية بضعة عشر رجلا طعن الكوثري فيهم شرهم خير من ألف مثل اللؤلؤي

ومتعصب مردود القول، ومغفل، ومجسم متعصب، لا يقبل قوله في أهل السنة» . ترى الأستاذ يطعن في بضعة عشر رجلا شرهم خير من ألف مثل اللؤلؤي، وأنا أسوق أسماءهم ليقابل العاقل تراجمهم في هذا الكتاب وغيره بترجمة اللؤلؤي في (لسان الميزان) وغيره، الحافظ أحمد علي الأبار، وإدريس بن عبد الكريم، وإسحاق بن إسماعيل، والحافظ الحسن ابن علي الحلواني، والحافظ دعلج بن السجزي، الحافظ صالح بن محمد جزرة، عبد الله ابن جعفر بن درستويه، الحافظ عبد الله بن سليمان أبو بكر ابن أبي داود، الحافظ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، الحافظ عبد الله عبد المؤمن بن خلف، محمد بن رزق، محمد ابن جعفر الأدمي، محمد بن سعد العوفي، محمد بن العباس الخزار، الحافظ محمد بن عثمان بن ابي شيبة، الحافظ محمد بن علي بن عثمان الآجري، الحافظ محمد بم عمروالعقيلي. ولم أطلق كلمة «الحافظ» إلا على من أطلقها عليه أهل العلم - لا كالكوثري يطلقها على من دب ودرج من أصحابه! ولا بأس بأن نناقش الكوثري هنا فأقول: أما أبو عوانة فقد ذكر الأستاذ ص 17 عبد الله بن محمد البلوي فقال فيه وفي آخر: «كذابان معروفان» . وقد قرأ الأستاذ في (الميزان) و «اللسان» في ترجمة البلوي «روى عنه أبو عوانة في (صحيحه) في الإستسقاء خبرا موضوعا» وروى أبو عوانة في (صحيحه) ج 1 ص 236 - 237 حديثا في سنده عبد الله بن عمروالواقفي وجابر بن يزيد الجعفي وكلاهما متهم. وفي (فتح الباري) في شرح «باب القصد والمدارمة على العمل» من كتاب «الرقاق» « ... وهذا من الأمثلة لما تعقبه على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات يحكم بصحتها ... ووجهه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك، لكن لم يفوا به» .

كلمة عن المستخرجات ومستدرك الحاكم

«أقول: أصحاب المستخرجات يلتزمون إخراج كل حديث من الكتب التي يستخرجون عليها» فأبو عوانة جعل كتابه مستخرجا على «صحيح مسلم» ومعنى ذلك أنه ألتزم أن يخرج بسند نفسه كل حديث أخرجه مسلم، فقد لا يقع له بسند نفسه الحديث إلا من طريق رجل ضعيف فيتساهل في ذلك، لأن أصل الحديث صحيح من غيره طريقه، ومع ذلك زاد أبو عوانة حديث ضعيفا لن يحكم هو بصحته فأنما يسمى كتابه «صحيحا» لأنه مستخرج على «الصحيح» ولأنه معظم أحاديثه وهي مستخرجة الصحاح، فأخرجه لرجل لا يلتزم توثيق ولا تصديق بل صحاب «الصحيح» نفسه قد يخرج في المتابعات والشواهد لمن لا يوثق وهذا أمر معروف عند أهل الفن لا يخفى على الكوثري! فأما «مستدرك الحاكم» فحدثه عنه ولا حرج، فأن في «مستردكا» كثيرا الرواة التالفين، وجماعه منهم قد قطع هو نفسه بضعفهم الشديد، ويأتي بسيط ذلك في ترجمته فأن الأستاذ حط عليه حيث خالفه، ثم عاد يحتج به هنا. وأما مسلمة بن قاسم وقد جعل الله بكل شيئا. قدرا. حده أن يقبل منه توثيق من لم يجرحه من هو وأجل منه ونحو ذلك، فأما آن يعارض بقوله نصوص جمهور الأئمة فهذا يقوله عاقل. وأما قضية القهقهة فتراها في ترجمته اللؤلؤي من «لسان الميزان» ولا يرتاب مطلع أن اللؤلؤي إنما ولي دبره خشية أن يريد عليه ما لا قبل له به (1) إذ قد كان يمكنه أن

_ (1) يشير المصنف رحمه الله تعالى إلا القصة التي وقعت اللؤلؤي مع بعض أصحاب الشافعي في مسائل القهقهة في الصلاة التي أشار إليها الكوثري الذي حاول ستر انهزام اللؤلؤي أمام الحجة القاطعة بما سمعت من التأويل الباطل، وأليك القصة كما في «اللسان» : «البويطي» : سمعت الشافعي يقول: قال لي الفضل بن الربيع: أنا اشهي مناظرتك واللؤلؤي، فقلت: إنه ليس هناك، فقال: أنا أشتهي ذلك، قال: فأحضرنا وأتينا بطعام فأكلنا ن فقال رجل معي له: ما تقول في رجل قهقه في الصلاة؟ قال ك بطلت صلاته، قال: طهارته؟ قال: فطهارته ن قال: فما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة؟ قال: بطلت صلاته، ثقال: فطهارته؟ قال: فطهارته، قال: مجالها! فقال له: قذف المحصنات اشد من الضحك في الصلاة! قال: فأخذ اللؤلؤي نعليه، وقام، فقلت للفضل: قد قلت لك: إنه ليس هناك» .

ترجمة محمد بن سعيد الكوفي ورد الكوثري لروايته ومعه جماعة

يجيب بهذا العذر الذي ذكره الكوثري ثم ينظر ما يرد عليه، على أنه يعلم أن هذا العذر باطل فإن أهل الرأي يردون بالقياس النصوص الصحيحة الثابتة فكيف يتقون أن يخوضوا فيه في مقابل مثل هذا الحديث؟! وجاء أن اللؤلؤي لما ولي القضاء لم يدر كيف يقضي! وذكر الحنفية أنه كان يثقل على أبي يوسف بالمناظرو، فقال ابويوسف لصحابه إذا جاء فابدروه بالمسالة فجاء فلم يستتم السلام حتى قال: ما تقول في كذا؟ خاف أن يبدروه بتلمسالة فبدرهم؟ يؤخذ من هذا أنه كان ضعيف البديهة، بطيء الإدراك، فكان يطيل الفكر في بيته في بعض المسائل وما يمكن آن يقال فيها أو يورد عليها وما يمكن أن يدفع به ذلك الإيراد ويمعن في ذلك ويتحفظ، ثم يجيء إلى أبي يوسف أو غيره ويناظر في تلك المسالة، وعرف أبو يوسف هذا فأمر أصحابه أن يبدروه فيسألوه عن مسألة لأنه يغلب أنه لم يكن استعد لها فينقطع، وعرف هو من نفسه هذا فبدرهم ن فكأنه لما سأله رفيق الشافعي عن مسالة القهقهة وأورد عليه ما أورد أجتمع عليه حرج الموقف وعدم استعداده فاعتصم بالفرار. وأما من يحتج بالمرسل فذلك إذا كان الإرسال ممن لا يرسل إلا عن ثقة ن وليس حديث القهقهة من ذاك فقد وصف الذي أرسله بأنه كان ممن يصدق كل أحد. وأما الجماعة الذين طعن فيهم الأستاذ فتراجمهم في مواضعها، فأما محمد بن سعد العوفي فقد ذكروا أن الحاكم حكى عن الدارقطني أنه لا باس به. وقال الخطيب: «كان لينا في الحديث» وعلق الأستاذ على مناقب أبي حنيفة) للذهبي ص 28 - 29 «قال الخطيب أخبرنا أبن رزق حدثنا أحمد بن علي بن عمرو بن حبيش الرازي سمعت محمد بن أحمد بن عصام يقول: سمعت محمد بن سعد ولا يحدث بما لا يحفظه» قال الأستاذ: «وهذا يقضي على من يرميه بقلة الضبط» وقد تكلم الأستاذ في الراوية الخطيب عن محمد بن أحمد بن رزق. وأشار إلى ذلك هنا كما مر ن ولا أدري ما يقول في محمد بن عصام ن فجعل الأستاذ هذه الرواية مع إنها من طريق محمد بن سعد العوفي وقد انفرد بها هذا الأستاذ قاضية على إجماع الأئمة ومعهم ابن

207- محمد بن سعيد البورقي

معين من عدة أوجه عنه ثم تراه هنا يرد رواية محمد بن سعد ومعه جماعة عن ابن معين ومعه جميع الأئمة إلا ما شذ! أما الحسن بن زياد فقد روى تكذيبه ثلاثة عن ابن معين وقال ابن أبي حاتم في كتابه «قريء على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: حسن اللؤلؤي كذاب» ولعل الأستاذ قد وقف على ذلك في (تاريخ عباس) . ثم قال ابن أبي حاتم «سألت ابي عنه فقال: ضعيف الحديث ليس بثقة ولا مأمون» وفي كتاب (الضعفاء والمتروكين) للنسائي المطبوع في الهند «حسن بن زياد اللؤلؤي ليس بثقة ولا مأمون» وفي الجزء الملحق به وهو روايته، والضعفاء من أصحابه يوسف بن خالد السمتي، كذاب، والحسن ابن زياد اللؤلؤي، كذاب خبيث، ومحمد بن الحسن ن ضعيف، والثقات من أصحابه أبو يوسف القاضي ثقة ... » وفي ترجمة اللؤلؤي من (لسان الميزان) : «قال محمد بن عبد الله بن نمير: يكذب على ابن جريج، وكذا كذبه أبو داود فقال ك كذاب غير ثقة، وقال ابن المديني ك لا يكتب حديثه ... وقال أبوثور: ما رأيت اكذب من اللؤلؤي وقيل ليزيد بن هارون: ما تقول في اللؤلؤي قال: أو مسلم هو؟ وقال يعلي بن عبيد: اتق اللؤلؤي، وقال ابن أبي شيبة: كان أبو أسامة يسميه الخبيث ن وقال يعقوب بن سفيان والعقلي والساجي: كذاب ... » . فأما قضية التقبل وقرص الخد في الصلاة فقد تقدمت الإشارة إليها في ترجمة الخطيب ثم في ترجمة صالح بن محمد وهي بغاية الثبوت. فهذا هو الذي يصفه الكوثري بأنه «مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشان ... » استخفافا بالدين وأهله وسخرية من عقول الناس وعقله! (1) 207- محمد بن سعيد البورقي. في (تاريخ بغداد) 13 / 335 من

_ (1) محمد بن سعيد الباهلي راجع (الطليعة) ص 37 - 39 وانظر ما يأتي في ترجمة الهيثم بن خلف.

حديث: "أبو حنيفة سراج أمتي" مع ذكر أسماء الذين دار هذا الحديث الموضوع عليهم

طريقه (1) : «حدثنا سليمان بن جابر بن سليمان بن ياسر بن جابر حدثنا بشر بن يحيى قال: أخبرنا الفضل بن موسى السيناني عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي رجلا اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي ن هو سراج أمتي ن هو سراج أمتي» قال الخطيب: «قلت: وهو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي وقد شرحنا فيما تقدم أمره وبينا حاله» يعني في ترجمة وهي في (التاريخ) ج 5 ص 308 - 309 وفيها عن حمزة السهمي «محمد بن سعيد البورقي كذاب حدث بغير حديث وضعه» وعن الحاكم «هذا البورقي قد وضع من المناكير على الثقات ما لا يحصى وأفحشها روايته ... سيكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي. هكذا حدث به في بلاد خرسان ثم حدث به بالعراق بإسناده وزاد فيه انه قال: سيكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من إبليس» وذكر الخطيب غير هذا من مناكيره. قال الأستاذ ص 30: «استوفى طرقه البدر العيني في (تاريخه الكبير) واستصعب الحكم عليه بالوضع مع وروده بتلك الطرق الكثيرة وقد قال: « ... فهذا الحديث كما ترى قد روى بطرق مختلفة ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا يدل على أنه له أصلا، وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يدعون أنه موضوع وربما كان هذا من أثر التعصب، ورواة الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام متعمدا» ! ذيل عليه الكوثري بقوله: «وعالم مضطهد طول حياته يموت وهو محبوس ثم يعم علمه البلاد من أقصاها إلى أقصاها شرقا وغربا ويتابعه في فقهه شطر الأمة المحمدية بل ثلثلها على توالي القرون، رغم مواصلة الخصوم من فقيه ومحدث ومؤرخ مناصبة العداء له، نبأ جلل لا يستبعد أن يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ... » !

_ (1) وقع هناك «الدورقي» خطأ.

أقول: لا أدري أعلم هؤلاء القوم أحرى أن يؤسف عليه أم دينهم أن عقولهم؟! قد تأملت روايات هذا الحديث في (مناقب أبي حنيفة) وغيرها فرأيته يدور على جماعة: أولهم البورقي وقد عرفت حاله رواه عن مجهول عن مثله عن السيناني بذاك السند، وقد صح عن السيناني أنه قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابي من يبول قلتين. يرد على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجس» ذكره الأستاذ ص 83. الثاني: أبو علي أحمد بن عبد الله بن خالد الجويباري الهروي وهو مشهور بالوضع مكشوف الأمر حدا وله فيه أربع طرق: الأولى: عن السيناني بذاك السند. الثانية: عن أبي يحيى المعلم عن حميد عن أنس. الثالثة: عن أبي يحيى عن أبان عن أنس. الرابعة: عن عبد الله بن معدان عن أنس، والراوي عنه في بعض هذه مأمون بن أحمد السليمي وهو شبيهه في الشهرة بالوضع الفاحش. الثالث: أبو المعلى بن مهاجر، أن كان له ذنب، وهو مجهول رواه محمد بن يزيد المستملي وهو متهم عن مجهول عن مثله عن أبي المعلى عن أبان عن أنس. ورواه النظري بثلاثة أسانيد أخرى كلهم مجاهيل عن أبي المعلى عن أبان عن أنس. الرابعة: أبو علي الحسن بن محمد الرازي، وهو متهم قد تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت رقم «64» رواه النظري من طريقه بسند كلهم مجاهيل إلا عبد الله بن مغفل «؟» عن علي بن أبي طالب قوله. الخامسة: النضري قال فيه ابن السمعاني في «الأنساب» «الخيوي» باسم «أبي

القاسم يونس بن طاهر بن محمد بن يونس بن خيو النضري الخيوي من أهل بلخ الملقب شيخ الإسلام ... » ولم يذكر فيه توثيقا ولا جرحا والله أعلم به وبعض الطرق المتقدمة من طريق وزاد بسند كلهم مجاهيل عن أبان عن أنس، وبسند كلهم مجاهيل عن أبي هُدبه عن أنس، وبسند كلهم مجاهيل عن موسى الطويل عن ثابت عن انس، وبسند كلهم مجاهيل عن حماد عن الرجل عن نافع عن ابن عمر، وبسند كلهم مجاهيل عن أبي قتادة الحراني عن جعفر بن محمد عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. هذا ما وقفت عليه، في الأربعة الأولون قد عرفتهم، وأما الخامس وهو النضري فالله أعلم به، وعلى كل حال فكان بين قوم أعاجم جهال متعصبين لا بدع أن يتقربوا إلى الله عز وجل بتكثير الطرق وكلهم مجاهيل، وأبان وأبو هدبة وموسى الطويل ثلاثتهم هلكى، ومع ذلك لا أراهم إلا أبرياء من هذا الحديث، وإلا لاشتهر في زمانهم. فما باله لم يعرف له أثر إلا بعد أن وضعه الجوبياري في القرن الثالث؟ وأبو قتادة الحراني فسد بآخره ومع ذلك لأراه إلا بريئا من هذا وحماد الذي روى عنه عن رجل عن نافع عن أبي عمر لا أدري من هو وربما يكون المقصود حماد بن أبي حنيفة فإنه قد قيل أنه يروي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فكأن بعض المجاهيل سمع بذلك فركب السند إليه بهذا الحديث فاستحيا النضري عن أن يقول عن مالك عن نافع عن ابن عمر فيكون أشنع للفضيحة فكنا عن مالك برجل! وهذا ومن شأن الدجالين أن يركب أحدهما الحديث الواحد عدة أسانيد تغريرا للجهال وأن يضع أحدهم فيسرق الأخر وليركب سند من عنده، ومن شأن الجهال المتعصبين أن يتقربوا بالوضع والسرقة وتركيب الأسانيد وقد قال أبو العباس القرطبي: «استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي يدل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعه لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ... ولأنهم لا يقيمون لها سندا صحيحا» . وقد أشار إلى هذا ابن الصلاح بقوله: «وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه

208- محمد بن الصقر بن عبد الرحمن

القياس الى النبي صلى الله عليه وسلم» . فتدبر ما شرحناه ثم تأمل ما تقدم عن العيني، ثم راجع الطرق الكثيرة بالأسانيد الصحيحة لقصة استتابة أبي حنيفة من الكفر مرتين وأكثر تلك الطرق مسلسلة بالرجال المعروفين ما بين محدث ثقة وحافظ ثقة وإمام شهير، وانظر ما يقول فيها العيني والكوثري حتى كان أئمة الحديث ورجاله وفقهاء المذاهب الأخرى أهل عند العيني والكوثري لكل كذب، وإن اشتهروا بالإمامة والثقة والصدق والتقوى بخلاف أصحابها أهل الرأي كأنه لا يكون منهم ولا من حمرهم وكلابهم إلا الصدق. ومع ذلك يرمي هؤلاء القوم مخالفهم بالتعصب وإتباع الهوى ويكثر الأستاذ من قوله: «وقانا الله إتباع الهوى. نسأل الله الصون. نسأل الله السلامة» وأشباه ذلك ويتحرى بهذه الكلمات مواضع ارتكابه الموبقات! والله المستعان (1) 208- محمد بن الصقر بن عبد الرحمن. مرت روايته في ترجمته عبد الله بن صالح. قال الأستاذ ص 29: «فالصقر وعبد الرحمن من الكاذبين والمعروفين» . أقول: لا أدري أوهم الأستاذ؟ «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (2) .؟! 209- محمد بن العباس بن حيوية أبو عمر الخزاز. راجع «الطليعة» ص 40 - 41. حاول الأستاذ في «الترحيب» ص 38 - 40 أن يجيب فتغافل عن الدليل الواضح وهو أن الذي في الحكاية «أبو الحسن أبو الرزاز» وصاحب هذا الاسم موجود وهو علي بن موسى فكيف يعدل عنه إلى من لم يذكر بهذا الاسم أصلا وهو علي بن أحمد فإنه وإن كان يكنى أبا الحسن فإنما تكرر وصفه في ترجمته وغيرها مرارا كثيرة بأنه «الرزاز» وذكروا أنه كان له دكان يبيع فيه الأرز ولم

_ (1) محمد بن سليمان الباغندي - يأتي في ترجمته ابنه محمد بن محمد. محمد بن شجاع ابن الثلجي - تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمته حماد بن سلمة. (2) النجم: 37

يوصف قط بأنه «ابن الرزاز» . وذهب الأستاذ يصارع ما ذكرت من أن علي بن أحمد أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بأنهما علاقة، فذكر «أنهما من أهل بغداد وعاشا هناك متعاصرين سبعا وأربعين سنة فماذا كان يمنع هذا من الاجتماع بذاك؟» . أقول: أنا لم أدع امتناع الاجتماع وإنما بينت أن مما يرجح أن المراد في الحكاية ابن الرزاز وهو علي بن موسى أنه من شيوخ ابن حيويه بخلاف الرزاز وهو علي بن أحمد فإنه أصغر منه ولا تعرف له به علاقة. وأزيد الأمر إيضاحا فأقول: عبارة الأزهري: «كان أبو عمر بن حيوي مكثرا، وكان فيه تسامح، لربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن ابن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعا، وكان مع ذلك ثقة» . ويأخذ منها مع ما تقدم أمور: الأول: أنها تقتضي أن ذاك الكتاب كان في متناول ابن حيويه في كثير من الأوقات واحتمال أن يكون كتاب علي بن موسى أبي الحسن بن الرزاز صار بعد وفاته إلى تلاميذه ابن حيويه فكان متناوله ن أقرب من احتمال أن يكون الكتاب علي بن أحمد الرزاز الذي ولد بعد ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بأنهما علاقة كان يكون في متناول ابن حيوي. وهذه الأقربية لا يدفعها احتمال اجتماع ابن حيويه بعلي أحمد الرزاز. الأمر الثاني: أن في عبارة الأزهري: «لثقته بذلك الكتاب» وابن حيويه يصفه الأزهري في العبارة نفسها بأنه ثقة. ويصفه العتيقي بأنه «كان ثقة صالحا دينا» وبأنه «كان ثقة متيقظا» ويصفه بأنه البرقاني بأنه «ثقة ثبت حجة» ومن كانت هذه صفته فاحتمال أن يثق بكتاب أستاذه الذي كان فاضلا أديبا ثقة ولعله قد قابل بأصله أقرب من احتمال أن يثق بكتاب من ولد بعده بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة.

الأمر الثالث: عبارة الأزهري تقتضي أنه لم يتفق لابن حيويه القراءة من غير أصله إلا من ذاك الكتاب، واقتصاره الوثوق بغير أصله على كتاب لأستاذه معقول بخلاف اقتصاره على كتاب لإنسان أصغر منه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة، فلو كان ابن حيويه يتساهل بالقراءة من كتاب لعلي بن أحمد لتساهل بالقراءة من كتب جماعة أكبر من علي بن أحمد وأوثق وعلاقتهم بابن حيويه معروفة. الأمر الرابع: إطلاق البرقاني مع إمامته وجلالته والعتيقي مع ثقته وتيقظه ذاك الثناء البالغ على ابن حيويه يدل على أنه لم يكن منه تساهل يخدش فيما أثنيا عليه به، والأزهري وإن ذكر التساهل فقد عقب بقوله: «وكان من ذلك ثقة» وهذا يقضي أنه أن ساغ أن يسمى ما وقع منه تساهلا فهو تساهل عرفي لا يخدش في الثقة والتيقظ والحجة، وهذا إنما يكون بفرض أن ذاك الكتاب الذي قرأ منه كان موثوقا به وبمطابقته لأصل ابن حيويه، وإنما فيه أنه ليس هو أصله الذي كتب عليه سماعه وقد كانوا يكرهون مثل هذا وذلك من باب سد الذريعة، فأما أن يثق بكتاب لأصغر منه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة ولا يوثق بمطابقته لأصله فعباراتهم تدفع هذا أشد الدفع. قال الأستاذ: «رواية الخزاز لو كانت عن كتاب أحد شيوخه لكانت رواياته من أصل شيخه ولما كان يرمي بالتسامح» . أقول: علي بن موسى أبو الحسن ابن الرزاز شيخ الخزاز حتماً، ثم هناك احتمالان: الأول: أن يكون شيخه في ذاك الكتاب. الثاني: أن لا يكون شيخه فيه وإنما سمعه الخزاز من رجل آخر. فعلى الأول وهو الذي بنى عليه الأستاذ فصورة التساهل موجودة فإنه من المقرر عندهم أن التلميذ إذا سمع وضبط أصله ثم بعد مدة وجد في أصل شيخه زيادة أو

مخالفة لما في أصله لم يكن له أن يروي إلا ما في أصله، وقد قال حمزة السهمي في «تاريخ جر جان» ص 122 - 123 «أخبرنا أبو أحمد بن عدي ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. - في كتابي بخطي: عثراتهم. - ورأيت في كتاب ابن عدي بخطه: عقوبتهم» فلو أن حمزة أنه روى ذاك الحديث وقال: «عقوبتهم 99 ثم رأى أهل العلم أصله وفيه «عثراتهم» فراجعه في ذلك فقال: نعم، ولكن بعد سماعي بمدة رأيت في أصل شيخي «عقوبتهم» لعدوا هذا تساهلا. ومن روى من أصل شيخه لا يؤمن أن يقع في نحو هذا إلا إذا كان قد كرر مقابلا حتى وثق كل الوثوق بالمطابقة، وأولى به وإن وثق كل الوثوق أن لا يروي إلا من أصله نفسه فإن كان الخزاز سمع ذاك الكتاب ومن أبي الحسن ابن الرزاز فتساهله هو ترك الأولى كما عرفت. وعلى الاحتمال الثاني لا يكون للخزاز أن يروي من كتاب ليس هو أصله ولا أصل شيخه إلا أن يقابله بأصله مقابلة دقيقة فيثق بمطابقته لأصله، ومع ذلك فالأولى به أن لا يروي إلا من أصله، وعلى هذا فتساهل الخزاز هو في ترك الأولى كما اقتضته عباراتهم في الثناء عليه كما مر. قال الأستاذ: «وكان ينبغي أن يذكر في السند اسم شيخه الذي ناوله أصله، وليس بمعقول أن يهمل التلميذ ذكر شيخه في سند ما حمله وتلقاه بطريقه» . أقول: هذا مبني على الاحتمال الأول وأن لا يكون الخزاز سمع الكتاب أصلا وإنما ناوله إياه ابن الرزاز، والذي نقوله إنه كان على الاحتمال الأول فالخزاز سمع ذاك الكتاب سماعا من ابن الرزاز، وإلا لغمزوه بأنه يعتمد على الإجازة بل عبارة الأزهري نفسه تصرح بهذا فإن فيها «ربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز» وهذا يدل أن له أصلا بذاك المصنف غير ذاك الكتاب، إلا أنه لم يقرب منه ولو كان إنما يرويه بمناولة الشيخ ذاك الكتاب لما كان له أصل آخر. ثم إن كان سمع ذاك المصنف من ابن الرزاز فقد كان إذا قرأ منه قال: «أخبرنا أبو الحسن ابن الرزاز» ثم يقرأ من الكتاب، وإن كان إنما سمعه من غير ابن الرزاز فإنما كان يذكر اسم شيخه في ذاك المصنف

210- محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي

ولا معنى لذكر ابن الرزاز. فإن بنى الأستاذ على الاحتمال الأول وقال: لكني لم أر في (تاريخ الخطيب) شيئا رواه الخطيب من طريق الخزاز عن ابن الرزاز. قلت: أما كونه شيخه، فقد صرح به الخطيب؛ وأما اجتناب الخطيب أن يروي من طريق الخزاز عن ابن الرزاز فذلك من كمال احتياط الخطيب وتثبته البارع لم تطب نفسه أن يروي من ذاك الوجه الذي قد قيل فيه، وإن كان ذاك القيل لا يضر. والله أعلم. 210- محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي. في (تاريخ بغداد) 13 / 382 «أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي حدثنا أحمد بن سلمان النجاد حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: قلت لأبي: كان أبو حنيفة استتيب؟ قال: نعم» . قال الأستاذ ص 65 «كان مغفلا مع خلوه من علم الحديث كما يقول الخطيب» . أقول: أول عبارة الخطيب: «كانت أصول أبي بكر الهيتي سقيمة كثيرة الخطأ أي أنه كان شيخا مستورا صالحا فقيرا مقلا معروفا بالخير وكان مغفلا ... » والخطيب معروف بالتيقظ والتثبت فلم يكن ليروي عن هذا الرجل إلا ما يثق بصحته، وقضية الاستتابة متواترة. 211- محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر الشافعي. قال الأستاذ ص 111 «يكثر المصنف عنه جدا في مثالب أبي حنيفة وكان كلفا بأن يدعى بالشافعي وليس له عمل في مذهب الشافعي غير النيل من فقيه الملة بالرواية عن مجاهيل وكذابين في مثالبه ... وأنت تعلم أن كثيرا من النقاد لا يقبل كلام الناس بعضهم في بعض عند اختلاف مذاهبهم ... حتى أن الإمام الشافعي لا يقبل شهادة المتعصب» .

212- محمد بن عبد الله سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه «مطين»

أقول: قد تتبعت تلك الروايات فلم أر في شيوخه فيها كذابين ولا مجاهيل إنما له رواية واحدة عن الكديمي، والكديمي قد وثقه بعضهم، وأطلق بعضهم تكذبيه، وروايتان أخريان عن رجل لم أظفر بترجمته، وآخر لم أظفر بترجمته، وسائر رواياته عن الثقات المعروفين، ولم يعرف هذا الرجل بتعصب، وأما قضية اختلاف المذاهب وزعم أن الشافعي يرد شهادة المتعصب فقد مر تحقيقه في القواعد. وأبو بكر ثقة حافظ متفق على توثيقه وتثبيته راجع ترجمته في (تاريخ بغداد) و (تذكرة الحفاظ) . 212- محمد بن عبد الله سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه «مُطين» تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل. قال الأستاذ ص 38: «تكلم فيه بن أبي شيبة» . يعني محمد بن عثمان بن أبي شيبة وستأتي ترجمته وقول الأستاذ فيه: «الكذاب كذبه غير واحد» ! وقوله: «الكذاب مكشوف الأمر» فإن كانت هذه أو نصفها حاله عنده فكيف يعتد بكلامه في هذا الحافظ الجليل الذي قال فيه الدارقطني: «ثقة جبل» والأستاذ يعلم أنه كانت بين الرجلين ثغرة شديدة وهو يكرر الرواية بما دونها، فكيف لا يرد بها قول أحدهما في الآخر! على أن ذاك الكلام ليس فيه بحمد الله ما يقدح، لكن غير الأستاذ يلام على تشبته بما يعلم بطلانه!! 213- محمد بن عبد الله بن الحكم. مرت روايته في ترجمة الشافعي. قال الأستاذ ص 137: «لا أتكلم ... ولا بنقل ما قاله الحميدي والربيع المؤذن في ابن عبد الحكيم ... » . أقول: أما كلمة الحميدي في ابن عبد الحكم فهي ككلمة ابن عبد الحكم في الحميدي، فلتة لسان عند استحقاق غضب كما سبق في ترجمة الحميدي فلا تضر ذا ولا ذاك كما سبق في القواعد. وأما مقالة الربيع فقد أجاب عنها أهل العلم كما في

214- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ

(التهذيب) وغيره. ووثقوا ابن عبد الحكم. 214- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ. في (تاريخ بغداد) 13 / 407 من طريق «الحسين بن إدريس قال ابن عمار: إذا شككت في شيء نظرت إلى ما قال أبو حنيفة ... » قال الأستاذ ص 133: «قال ابن عدي: رأيت أبا يعلي سيئ القول فيه ويقول شهد على خالي بالزور عن أهل الموصل أفراد وغرائب. اهـ وأبو يعلي الموصلي من أعرف الناس به، وكلامه قاض على كلام الآخرين» . أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلي قوله «بالزور» ، ثم قال ابن عدي: «وابن عمار ثقة حسن الحديث عن أهل الموصل معافى بن عمران وغيره وعنده عنهم أفراد وغرائب وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان ولم أر أحدا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة» ووثقه وأثنى عليه جماعة كثيرة، فأما أبو يعلي فكانت بينه وبين ابن عمار مباعدة ما في المذهب كما يدل عليه عكوف أبي يعلي على سماع كتب أهل الرأي من بشر بن الوليد، وردفتها كدورة عائلية كما يدل عليه قول أبي يعلي: «شهد خالي بالزور» وهذه كلمة مرسلة لم يبين ما هو الزور؟ ومن أين عرف أبو يعلي أنه زور؟ وعلى فرض تحققه ذلك فهل تعمد ابن عمار الشهادة بالباطل أو أخطأ؟ وإعراض الناس - ومنهم ابن عدي حاكي الكلمة عن أبي يعلي - عن كلمته يبين أنها كلمة طائشة لا تستحق أن يلتفت إليها. وابن عمار أكبر من أبي يعلي بنحو خمسين سنة فلعل أبا يعلي سمع خاله - ومن خاله؟ - يقول: شهد على ابن عمار بالزور فأخذها أبو يعلي ولم يحققها، وقدمنا في القواعد في القواعد أنه إذا ظهر أن بين الرجلين ثغرة لم يقبل ما يقوله أحدهما في الآخر إلا مفسرا محققا مثبتا، ويتأكد ذلك بإعراض الناس عن كلمة أبي يعلي وإجماعهم على توثيق ابن عمار. فأما الغرائب فقد دلت كلمة ابن عدي على أنها غرائب صحاح ولهذا ذكرها في صدد المدح، فحوله الكوثري إلى القدح. والله المستعان. 215- محمد بن عبد الله بن محمد بن حموديه أبو عبد الله الضبي الحاكم

اتهام الكوثري له بالتعصب والاختلاط الفاحش

النيسابوري. قال الأستاذ ص 70: «اختلط في آخره اختلاطا شنيعا على تعصبه البالغ» وقال ص 149: «شديد التعصب اختلط في آخره، ويقال عنه أنه كان رافضيا خبيثا» . أقول: أما التعصب فإن كان للحاكم طرف منه ففي تشيعه الخفيف، وأما على أهل الرأي فلم يعرف بتعصب وقد سبق حكم التعصب في المقدمة، وأما قول بعضهم «إمام في الحديث رافضي خبيث» فقد أجاب عنهما الذهبي في (الميزان) قال: «إن الله يحب الإنصاف ما الرجل برافضي، بل شيعي فقط» . وتذكرني هذه الكلمة ما حكوه أن الصاحب ابن عباد كتب إلى قاضي قم: أيها القاضي بقم ... قد عزلناك فقم فقال القاضي: ما عزلتني إلا هذه السجعة. وأما قول الكوثري «اختلط ... اختلاطا شنيعا فمجازفة، بل لم يختلط، وإنما قال ابن حجر في (اللسان) بعد أن ذكر ما في (المستدرك) من التساهل: «قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه (المستدرك) كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب (الضعفاء) له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في (مستدركه) وصححها» ولعل المراد بقوله «ذكر بعضهم» ما في «تذكرة الحفاظ» وهذا لا يستلزم الغفلة، ومع ذلك قوله «تغيير وغفلة» لا يؤدي معنى الاختلاط، فكيف الاختلاط الشنيع؟ وقد رأيت في (المستدرك) المطبوع إثبات تواريخ السماع على الحاكم في أوله أي ج 1 ص 2 ثم ص 36، ص 69 فـ ص 94 فـ ص 129 فص 163، وتاريخ الأول سابع المحرم سنة 393 (1) ، والثاني بعد ثلاثة أشهر

_ (1) وقع في موضعين من المواضع المشار إليها من «المستدرك» وهما ص 2 و94 سنة ثلاث وسبعين، وهذا خطأ مطبعي، ولذلك لم يعرج عليه مؤلف رحمه الله تعالى. ن.

تقريبا، وهكذا بعد كل ثلاثة أشهر يملي جزءا في نيف وثلاثين صفحة من مطبوع، ولم يستمر إثبات ذلك في جميع الكتب، وآخر ما وجدته فيه ج 3 ص 156 في غرة ذي القعدة سنة 402 وهذا يدل أن تلك الطريقة استمرت منتظمة إلى ذاك الموضع، فأما بعد ذلك فلا أعلم، فإنه لو بقي ذاك الانتظام لم يتم الكتاب ألا سنة 410 لكن الحاكم توفي سنة 405 وفي المجلد الرابع ص 249 ذكر الحاكم أول سند «أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ... » لكنه بلا تاريخ. هذا واقتصاره في كل ثلاثة أشهر على مجلس واحد يملي فيه جزء بذاك القدر يدل أنه أنما ألف الكتاب في تلك المدة، فكان الحكام مع اشتغاله بمؤلفات أخرى يشتغل بتأليف «المستدرك» والتزام أن يحضر في كل ثلاثة أشهر جزء ويخرجه للناس فيسمعونه إذا لو كان قد ألف الكتاب قبل ذلك وبيضه فلماذا يقتصر في أسماع الناس على يوم في كل ثلاثة أشهر؟ فأما إسراعه في أواخر فلعله فرغ من مصنفاته الأخرى التي كان يشتغل بها مع «المستدرك» فتفرغ لـ «المستدرك» وفي «فتح المغيث» ص 13 عند ذكر تساهل الحاكم في المستدرك «فيه عدة موضوعات حمله على تصحيحها إما التعصب لما رمي به من التشيع، وإما غيره فضلا عن الضعيف وغيره، بل يقال: أن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد حصلت له غفلة وتغير وأنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدا لما فيه فأنه وجد عنده: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم» . أقول: لا أرى الذنب للتشيع فإنه يتساهل في فضائل بقية الصحابة كالشيخين وغيرهم (1) وفي المطبوع ج 3 ص 156 «حدثنا الحاكم ... أمل غرة ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة» وعادته كما تقدم أن يملي في المجلس جزء في بضع وثلاثين صفحه من المطبوع فقد أملى إلى نحو صفحة 190 من المجلد الثالث المطبوع وذلك أكثر من نصف الكتاب فأما الموضع الذي فيه ج 4 ص 349 فإنما فيه «أخبرنا ... » وليس فيه لفظ «إملاء» ولا ذكر التاريخ.

_ (1) قلت: وفي غير الفضائل أيضا، مما يؤكد إن السبب ليس هو التعصب. ن.

الأسباب التي أدت إلى وقوع الخلل في "المستدرك"

والذي يظهر لي في ما وقع في «المستدرك» من الخلل أن له عدة أسباب: الأول: حرص الحاكم على الإكثار وقد قال في خطبة «المستدرك» : «قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على الألف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة» فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء. والثاني: أنه قد يقع حديث بسند عال أو يكون غريبا مما يتنافس فيه المحدثين فيحرص على إثباته وفي «تذكرة الحفاظ» ج 2 ص 270 «قال الحافظ أبو عبد الله الأخرم استعان بي السراج في تخريجه على «صحيح مسلم» أتحير من كثرة حديثه وحسن أصوله، وكان إذا وجد الخبر عاليا يقول: لا بد أن يكتبه «يعني في المستخرج» فأقول: ليس من شروط صاحبنا «يعني مسلما فشفعني فيه» . فعرض للحاكم نحو هذا كلما وجد عنده حديثنا يفرح بعلوه أو غرابته اشتهى أن يثبته في «المستدرك» . الثالث: أنه لأجل السببين الأولين ولكي يخفف عن نفسه من التعب في البحث والنظر لم يلتزم أن لا يخرج ما له علة وأشار إلى ذلك، قال في الخطبة: «سألني جماعة ... أن أجمع كتابا: يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها إذ لا سبيل إلى إخراج مالا علة له فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما» ولم يصب في هذا فإن الشيخين ملتزمان أن لا يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة قادحة، وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة وأنه يخرج ما كان رجاله مثل وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس علة قادحة. الرابع: أنه لأجل السببين الأولين توسع في معنى قوله: «بأسانيد يحتج ... بمثلها» ، فبنى على أن في رجال الصحيحين من فيه كلام فأخرج عن جماعة يعلم أن

إنما يخرج الشيخان لمن فيه كلام في مواضع ثلاثة وبيانها

فيهم كلاما. ومحل التوسع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة. أحدها: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضره في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة. الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونا أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك. ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما يسمع منه غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس. فيخرجان للرجل حيث يصلح ولا يخرجان له حيث لا يصلح. وقصر الحاكم في مراعاة هذا وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له بناء على أنه نظير من قد أخرجا له، فلو قيل له: كيف أخرجت لهذا وهو متكلم فيه؟ لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان وفيه كلام قريب من الكلام في هذا ولو وفى بهذا لهان الخطب، لكنه لم يف به بل أخرج لجماعة هلكى. الخامس: أنه شرع في تأليف (المستدرك) بعد أن بلغ عمره اثنتين وسبعين سنة وقد ضعفت ذاكرته كما تقدم عنه وكان فيما يظهر تحت يده كتب أخرى يصنفها مع (المستدرك) وقد استشعر قرب أجله فهو حريص على إتمام (المستدرك) وتلك المصنفات قبل موته، فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له، أو أنه فلان الذي أخرجا له، والواقع أنه رجل آخر، أو أنه لم يخرج أو نحو ذلك، وقد رأيت له في (المستدرك) عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها فيقول في الرجل: قد أخرج له مسلم، مثلا، مع أن مسلما إنما أخرج لرجل آخر شبيه اسمه، يقول في الرجل: فلان الواقع في السند هو فلان بن فلان. والصواب أنه غيره. لكنه مع هذا كله لم يقع خلل ما في روايته لأنه إنما كان ينقل من أصوله المضبوطة، وإنما وقع الخلل في أحكامه ن فكل حديث في (المستدرك) فقد سمعه

تساهل الحاكم إنما هو بالنسبة للمستدرك فقط

الحاكم كما هو، هذا هو القدر الذي تحصل به الثقة، فأما حكمه بأنه على شرط الشيخين، أو أنه صحيح، أو أن فلانا المذكور فيه صحابي، أو أنه هو فلان بن فلان، ونحو ذلك، فهذا قد وقع فيه (1) كثير من الخلل. هذا وذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ (المستدرك) فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها أعلم، وبهذا يتبين أن التشبث بما وقع له في (المستدرك) وبكلامهم فيه لأجله إن كان لإيجاب التروي في أحكامه التي في (المستدرك) فهو وجيه، وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير (المستدرك) في الجرح والتعديل ونحوه فلا وجه لذلك، بل حاله في ذلك إطراح ما قام الدليل على أنه أخطا فيه، وقبول ما عداه. والله الموفق. 216- محمد بن عبد الله بت محمد بن عبد الله أبو الفضل الشيباني. في (تاريخ بغداد) 13 / 396: «أخبرني الأزهري حدثنا أبو الفضل الشيباني حدثنا عبد الله بن أحمد الجصاص ... » . قال الأستاذ ص 107: «كتبوا عنه ثم بان كذبه فتركوا حديثه كما في (تاريخ الخطيب) ج 5 ص 467» . أقول: ذكروا أنه كان ذا هيئة وسمت حسن يحفظ فانتخب عليه الدارقطني سبعة عشر جزءا وسمعها الناس منه وقال الدارقطني: «يشبه الشيوخ» ثم روى عن ابن المراد شيئا، فقيل له: الأكبر أم الأصغر؟ فقال: الأكبر. فقيل له: متى سمعت منه؟ فقال: سنة 310. فبلغ ذلك الدارقطني، فكذبه في ذلك وتركوا السماع منه، ثم فسد بعد ذلك فانضم إلى الرافضة، وصار يضع لهم على ما قال الخطيب. والأزهري الذي روى الخطيب هنا عنه من هذا الرجل هو ممن حكى القصة، فإنما روى عنه من تلك الأجزاء التي انتخبها الدارقطني. والله المستعان (2) .

_ (1) الأصل «في» ن. (2) محمد بن عبد الوهاب الفراء. راجع (الطليعة) ص 46 - 48

217- محمد بن عبيد الطنافسي

217- محمد بن عبيد الطنافسي. قال الأستاذ في (الترحيب) ص 37: «يقول فيه أحمد: يخطئ. ولا يرجع عن خطئه» . أقول: الظاهر أن خطأه إنما كان في اللحن فقد وصف بأنه يلحن، فأما الثقة، فقد وثقه أحمد نفسه، وابن معين وابن عمار والنسائي والعجلي وابن سعد والدارقطني وغيرهم، وقال ابن المديني: «كان كيسا» ، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الأئمة. وانظر ما يأتي في ترجمة المسيب بن واضح. 218- محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين. مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن إبراهيم بن جناد. قال الأستاذ ص 158: «لم يكن من أهل الحديث، كما قال ابن معين» . أقول: هذه كلمة مجملة، وقد فسرها الخطيب بقوله: «يعني لم يكن بالحافظ للطرق والعلل، وأما الصدق فلم يكن مدفوعا عنه» . وقال الأمام أحمد: «رحمه الله تعالى، مات ولا يعرف إلا الحديث، ولم يكن صاحب كلام، وإني لأغبطه» ، وذكره ابن حبان في (الثقات) وأخرج له مسلم في مقدمة (صحيحه) ولروايته المشار إليها شواهد كثيرة. 219- محمد بن عثمان بن أبي شيبة. جاءت عنه كلمة مرت الإشارة إلى موضعها في ترجمة راويها عنه طريف بن عبيد الله، وفي (تاريخ بغداد) 13 / 420: «أخبرنا ابن رزق معين وسئل عن أبي حنيفة فقال: كان يضعف في الحديث» . قال الأستاذ ص 147: «المجسم الكذاب كذبه غير واحد» وقال ص 168: «كذاب مكشوف الأمر» . أقول: أما ما يسميه الأستاذ تجسيما مما يجرح به كما مر في القواعد، وقد بسطت الكلام في قسم الاعتقاديات من هذا الكتاب. وأما التكذيب فإنه تفرد بنقله أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة وليس بعمدة

كما تقدم في ترجمته، وتقدم في ترجمة محمد بن الحسين أنه لا يقبل من ابن عقدة ما ينقله من الجرح، ولا سيما إذا كان في مخالفة في المذهب كما هنا. ويؤكد ذلك هنا أن ابن عقدة نقل التكذيب عن عشرة مشهورين من أهل الحديث وتفرد بذلك كله فيما اعلم فلم يرو غيره عن أحد منهم تكذيب محمد بن عثمان ن وقد كان محمد ببغداد وبغاية الشهرة كثير الخصوم فتفرد ابن عقدة عن أولئك العشرة كاف لتوهين نقله. وقد كانت بين محمد بن عثمان ومحمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي مطين مشاقة ساق الخطيب بعض خبرها عن الحافظ أبي نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الذي توسط بينهما، ثم قال أبو نعيم: «طهر لي أن الصواب الإمساك عن قبول كل واحد منهما في صاحبه» . وليس في القصة ما هو بين في التكذيب. وذكر الخطيب عن حمزة السهمي أنه سأل الدارقطني عن محمد بن عثمان؟ فقال: «كان يقال: أخذ كتاب ابن أبي أنس وكتب غير محدث» وليس في هذا ما هو بين في الجرح لأنه لا يدري من القائل؟ ولا أن محمدا أخذ الكتب بغير حق، أو روى منها بغير حق، والحافظ العرف قد يشتري كتب غيره ليطالعها، كما كان الإمام أحمد يطلب كتب الواقدي وينظر فيها. وقال الخطيب: «سألت البرقاني عن ابن أبي شيبة فقال: لم أزل اسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه» . وليس في هذا ما يوجب الجرح، غذ لم يبين من هو القادح وما هو قدحه؟ وكأن ذلك إشارة إلى كلام مطين ونقل ابن عقدة، وقد مر ما في ذلك. وروى الخطيب عن ابن المنادي قال: «أكثر الناس عنه على اضطراب فيه ... كنا نسمع شيوخ أهل الحديث وكهولهم يقولون: مات حديث الكوفة بموت موسى بن إسحاق ومحمد بن عثمان واني جعفر الحضرمي وعبيد بن غنام» واضطرابه في بعض حديثه ليس بموجب جرحا. وقال الخطيب أول الترجمة: «كان كثير الحديث واسع الرواية له معرفة وفهم ... سئل أبو علي صالح بن محمد عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة؟ فقال: ثقة. سئل عبدان عن ابن عثمان بن أبي شيبة فقال: ما علمنا إلا خيرا» وفي (الميزان) و (اللسان) : «قال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا وهو على ما وصف لي عبدان

220- محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان

لا بأس به» . وفي (اللسان) (ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال كتب عنه أصحابنا ... وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به كتب الناس عنه ولا أعلم أحدا تركه» . وذكر الأستاذ ص 63 حكاية من (شرح السنة) جاءت من طريق محمد بن عثمان وفيها زيادة هن خالد بن نافع، وراح الأستاذ يتكلم فيها ويحمل على محمد بن عثمان. فأما زيادة خالد بن نافع إن قام الدليل على بطلان ما فيها فالذنب لخالد وأما بقية الحكاية فإنما الإيهام في سياقها، فإنه يوهم أن حمادا شهد عند ابن أبي ليلى بعد ولايته القضاء، والذي تبينه الروايات الأخرى أن حمادا كان يذكر ذلك ثم بعد موت حماد رفعت القضية إلى ابن أبي ليلى وشهد ناس بمثل ما يذكره حماد، وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يهم، فما من ثقة إلا وقد أخطأ، وإنما شرط الثقة أن يكون صدوقا الغالب عليه الصواب، فإذا كان فما تبين أنه أخطأ فيه اطرح، وقبل ما عداه. والله الموفق. 220- محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان. في (تاريخ بغداد) 13 / 393 من طريق أبي بكر الشافعي «حدثنا محمد بن علي أبو جعفر حدثنا أبو سلمة ... » قال الأستاذ ص 96: «هو حمدان الوراق حنبلي جلد من أصحاب أحمد» . أقول: بحسب حمدان من الفضل أن لا يجد هذا الطعان ما يذمه به إلا نسبته إلى السنة وإمامها. والحمد لله الذي أنطق الكوثري بتلك الكلمة فإنها مما يكشف تمويه الجهمية، ويهتك الحجب التي سدلوها بين المسلمين وكتاب ربهم وسنة نبيهم وإمامهم الحق. ولحمدان ترجمة في (تذكرة الحفاظ) ج 2 ص 152 قال: «الحافظ المتقن ... قال الخطيب: كان فاضلا حافظا عارفا ثقة، روى ابن شاهين عن أبيه قال: كان من نبلاء أصحاب أحمد، وقال ابن المنادي: حمدان بن علي مشهود له الفضل والصلاح والصدق ... وقال الدارقطني: ثقة» .

221- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق

221- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق. راجع (الطليعة) ص 108 قال الأستاذ في (الترحيب) ص 50: «أما قولي في محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: ليس بالقوي فيكفي في إثباته إعراض الشيخين عن إخراج حديثه في (الصحيح) مع روايتهما عنه خارج (الصحيح) » . أقول: ليس هذا بشيء، من شأنهما في (الصحيح) أن يتطلبا العلو ما وجدوا إليه سبيلا، ولا يرضيان بالنزول إلا أن يتفق لهما حديث صحيح تشتد الحاجة إلى ذكره في (الصحيح) ولا يقع لهما إلا بنزول. فلم يتفق لهما ذلك هنا، وهذا الرجل سنه قريب من سنهما فروايتهما عنه نزول، وهناك وجوه أخر لعدم إخراجها للرجل في الصحيح، راجع ترجمة إبراهيم بن شماس ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجها للرجل في الصحيح، راجع ترجمة إبراهيم بن شماس ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجها فلم يعدوا عدم إخراجهما الحديث دليلا على عدم صحته، ولا عدم إخراجها للرجل دليلا على لينه. ومحمد هذا وثقه النسائي، والنسائي ممن قد يفوق الشيخين في التشدد كما نبهوا عليه في ترجمته، ووثقه غيره أيضا، وروى عنه أبو حاتم وقال: «صدوق» وأبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في لسان الميزان (ج 2 ص 416) ، وبقي بن مخلد وهو لا يروي إلا عن ثقة كما مر في ترجمة أحمد بن سعد، وابن خزيمة وهو لا يروي في (صحيحه) إلا عن ثقة. والله الموفق. 222- محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 حكاية من طريقة. قال الأستاذ ص 147: «أحد السالمية ويقول عنه الخطيب: إن له أشياء منكرة في الصفات. ثم روى عنه» . أقول: عبارة الخطيب ج 3 ص 89: «صنف كتابا سماه (قوت القلوب) على لسان الصوفية ذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة في الصفات ... قال العتيقي: وكان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة» . أقول: يراجع كتابه فقد يكون المستنكر إنما هو من رأيه، لا روايته، فإذا كان

223- محمد بن علي البلخي

كذلك فقد مر تحقيقه في القواعد. 223- محمد بن علي البلخي. في (تاريخ بغداد) 13 / 409: أخبرنا أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي الحافظ بنيسابور أخبرنا محمد بن أحمد بن الغطريف بجرجان حدثنا محمد بن علي البلخي حدثني محمد بن أحمد التميمي بمصر حدثني محمد بن جعفر الأسامي قال: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق ... » . حكى الأستاذ هذه العبارة ص 135 وزاد فيها قبل بن محمد بن جعفر «عبد الله بن» بين قوسين يعني أن الصواب « ... بمصر حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر الأسامي ... » ثم قال: «محمد بن علي بن الحسن البلخي الهروي يغلب على رواياته المناكير ومحمد بن أحمد التميمي العامري المصري كان كذابا يروي نسخة موضوعة كما قال ابن يونس وبالنظر إلى أن وفاته سنة 343 لا يكون شيخه ولد إلا في النصف الأخير من المائة الثالثة فيكون بين محمد ابن جعفر الأسامي شيخه وبين شيطان الطاق المعاصر لأبي حنيفة زمان» . أقول: البلخي الذي ذكره الأستاذ يقال له: «الجباخاني» توفي سنة 357 فكأنه أصغر من الغطريفي فإن مولد الغطريفي قديم فقد سمع من الحسن بن سفيان المتوفى 303 ونحوه. ومحمد بن أحمد الذي تكلم فيه ابن يونس هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الجبار بن هاشم بن عبد الجبار ابن عبد الرحمن بن عيسى بن وردان الورداني العامري المصري، لم يذكروا أنه يقال له: «التميمي» والذي في سند الخطيب «التميمي» وليس فيه «العامري» والتميمي والعامري لا يجتمعان في حاق النسب، زد على هذا أن العامري توفى سنة 343 فسنه قريب من سن الغطريفي والجباخاني - هذا وفي السند قول التميمي: «حدثني محمد بن جعفر الأسامي» . فإن كان الأستاذ أومأ بزيادته إلى أنه عبد الله بن محمد بن أسامة الأسامي المذكور في (الميزان) و (اللسان) فلا أرى العامري أدركه لأن عبد الله يروي عن الليث بن سعد المتوفى سنة 175 وابن لهيعة المتوفى قبل ذلك، وإن أراد أن شيخ العامري هو والد عبد الله هذا فذلك أبعده مع أنه محمد بن أسامة، لا محمد بن جعفر.

224- محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي

فالحاصل أننا لم نعرف التميمي ولا الأسامي ولم نتحقق من هو البلخي؟ والله اعلم. 224- محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن عثمان بن أبي شيبة. قال الأستاذ ص 147: «وهذا أيضا في عداد المحفوظ عند النقلة في النظر الخطيب نع أنه هو الذي يقول عن أبي العلاء الواسطي: رأيت له أصولا مضطربة وأشياء سماعه فيها مفسود إما مصلح بالقلم وإما مكشوط بالسكين، وقد انفرد برواية المسلسل بأخذ اليد» . أقول: أما القضية المحفوظ فقد أجبنا عنها في ترجمة الخطيب، وأما ما وقع في أصول أبي العلاء فالخطيب هو الذي حقق ذلك، فالظن به أنه انتقى من مرويات أبي العلاء ما تبين له صحة سماعه فذاك هو الذي يرويه عنه، وأما المسلسل فقد بين أبو العلاء وهمه فيه ورجع عنه كما ذكره الخطيب. وقال ابن حجر في (اللسان) : «الذي يظهر لي ... أنه وهم في أشياء بين الخطيب بعضها، وأما كونه اتهم بها أو ببعضها فليس هذا مذكورا في تاريخ الخطيب ولا غيره ... وفي الجملة فأبو العلاء لا يعتمد على حفظه فأما كونه متهماً فلا» . أقول: قد يقال: إنه اتهم في دعوى السماع، وإن لم يتهم بالوضع. والله أعلم. 225- محمد بن عمر بن محمد بن بهتة. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة ابن عقدة. قال الأستاذ ص 78: «شيعي لا يرضاه الخطيب» . أقول: إنما قال الخطيب «سألت البرقاني عن ابن بهتة فقال: لا بأس: لا بأس به إلا أنه كان يذكر أن في مذهبه شيئا، ويقولون: هو طالبي. قلت للبرقاني تعني بذلك أنه شيعي، قال نعم. أخبرنا أحمد بن محمد بن محمد العتيقي قال سنة 274 فيها توفي أبو الحسن محمد بن عمر بهتة في رجب وكان ثقة» . فقد ثبت التوثيق ولم يثبت ما ينافيه. (1)

_ (1) محمد بن عمر بن وليد راجع (الطليعة) ص 35 - 37.

226- محمد بن عمرو العقيلي الحافظ

226- محمد بن عمرو العقيلي الحافظ. قال الأستاذ ص 150: «ذلك المتعصب الخاسر» وقال ص 163: «لا نستطيع أن نثق بمثل الخطيب ولا بمثل العقيلي بعد أن شاهدنا منهما ما شاهدناه» . أقول: لا حرج أن نتسامح مع الأستاذ فنقول: قد كان في العقيلي تشدد ما فينبغي التثبيت فيما يقول من عند نفسه في مظان تشدده، فأما روايته فهي مقبولة على كل حال وقد تقدم إيضاح ذلك في القواعد، فأما الخسران فالعقيلي بعيد عنه بحمد الله، وأما قوله: «لا نستطيع أن نثق» فليس الأستاذ بأول من غلبه هواه! 227- محمد بن عوف. تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة إسماعيل بن عياش قال الأستاذ ص 100 «مجهول لأنه ليس أبا جعفر الطائي الحمصي الحافظ لتأخر ميلاده عن وفاة إسماعيل بن عياش» . أقول: لم يتضح لي أمره ولعله وقع في السند سقط والحكاية ثابتة من وجوه أخرى. 228- محمد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم. في (تاريخ بغداد) 13 / 392 من طريق الآبار وحدثنا عن الحسن بن علي الحلواني «حدثنا يزيد بن هارون عن حماد ... ح ... الآبار وحدثنا أبو موسى عيسى بن عامر حدثنا عارم عن حماد ... » ثم ساق الخطيب نحو ذلك من طريق إبراهيم بن الحجاج عن حماد بن زيد. قال الأستاذ ص 94: «عارم - محمد ابن الفضل اختلط اختلاطا شديدا بعد سنة 220 وعيسى بن عامر ممن سمع منه بعد ذلك» . أقول: أما هذه الحكاية فقد تابع عارما عليها ثقتان كما رأيت، وأما سماع عيسى من عارم بعد اختلاطه فلم يثبته الأستاذ، وقد قال الدارقطني في عارم: «تغير بأخرة وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة» وخالفه ابن حبان فرد عليه

229- محمد بن فليح بن سليمان

الذهبي كما في (الميزان) (1) . 229- محمد بن فليح بن سليمان. مرت الإشارة إلى حكايته في ترجمة سليمان بن فليح قال الأستاذ ص 62: «يقول عنه ابن معين: إنه ليس بثقة» . أقول: روى أبو حاتم عن معاوية بن صالح عن ابن معين: «فليح بن سليمان ليس بثقة، ولا ابنه» . فسئل أبو حاتم فقال: «ما به بأس، ليس بذاك القوى» وقد اختلفت كلمات ابن معين في فليح قال مرة: «ليس بالقوي ولا يحتج بحديثه، هو دون الدراوردي» وقال مرة: «ضعيف ما أقربه من أبي أويس» وقال مرة: «أبو أويس مثل فليح: صدوق وليس بحجة» . فهذا كله يدل أن قوله في الرواية الأولى: «ليس بثقة» ، إنما أراد أنه ليس بحيث يقال له ثقة وترداد الوطأة خفة في قوله: «ولا ابنه» فإنها أخف من أن يقال في الابن: «ليس بثقة» ويتأكد ذلك بأن محمد بن فليح روى عنه البخاري في (الصحيح) والنسائي في (السنن) وقال الدارقطني: «ثقة» وذكره ابن حبان في (الثقات) . 230- محمد بن كثير العبدي. في (تاريخ بغداد) 13 / 417 من طريق ابن أبي حاتم «حدثني أبي قال سمعت محمد بن كثير العبدي يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر حديثا فقال رجل حدثني فلان بغير هذا، فقال: من هو؟ قال: أبو حنيفة. قال: أحلتني على غير مليء» قال الأستاذ ص 161: «فيه يقول ابن معين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة» . أقول: قال الإمام أحمد: «ثقة، لقد مات على سنة» وقال أبو حاتم مع تشدده:

_ (1) محمد بن فضيل بن غزوان راجع (الطليعة) ص 76 - 77 وأبو هشام الرفاعي من رجال مسلم في (صحيحه) . المؤلف. قلت: الرفاعي ليس له علاقة بما هنا، وإنما ب (الطليعة) . ن

231- محمد بن كثير المصيصي

«صدوق» وأخرج له الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة روى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم، وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 416 وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان تقيا فاضلا» وهذا كله يدل أن ابن معين إنما أراد بقوله: «ليس بثقة» أنه ليس بالكامل في الثقة، فأما كلمة «لا تكتبوا عنه» فلم أجدها، نعم قال ابن الجنيد عن ابن معين: «كان في حديثه ألفاظ، كأنه ضعفه» قال: «ثم سألته عنه فقال: لم يكن لسائل أن يكتب عنه» وابن معين كغيره إذا لم يفسر الجرح وخالفه الأكثرون يرجح قولهم. ولهذه الحكاية عدة شواهد عند الخطيب وغيره. 231- محمد بن كثير المصيصي. تقدمت روايته في ترجمة علي بن زيد الفرائضي. قال الأستاذ ص 111: «ضعفه أحمد عندي ثقة» هو أحمد أيضا لا أبو حاتم وقال أحمد عقبها: «بلغني أنه قيل له كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إلي إنسان من اليمن» . فهذه حجة أحمد، حمل الحكاية على أن محمد بن كثير لم يسمع من معمر، وإنما بعث إليه أنسأن بصحيفة من اليمن فيها أحاديث عن معمر فظن محمد بن كثير أن ذلك يقوم مقام السماع من معمر. وليس هذا بالبين غذ قد يكون مراده «سمعت منه باليمن وتركت أصلي باليمن ثم بعث إلي» فأما أبو حاتم فإنما قال: «كان رجلا صالحا سكن المصيصة، وأصله من صنعاء اليمن، كان في حديثه بعض الإنكار» وقال أيضا: «سمعت الحسن بن الربيع يقول: محمد بن كثير اليوم أوثق الناس، وينبغي لمن يطلب الحديث لله تعالى أن يخرج إليه، كان يكتب عنه وأبو إسحاق الفزاري حي، وكان يعرف بالخير مذ كان» وقال ابن الجنيد عن ابن معين: «كان صدوقا» وقال عبيد بن محمد الكشوري عن ابن معين: «ثقة» وقال ابن سعد: «كان ثقة ويذكرون أنه اختلط في أواخر عمره» وقال ابن حبان في

(الثقات) : «يخطئ ويغرب» وقال أبو داود: «لم يكن يفهم الحديث» . وقال أبو حاتم: «دفع إلى محمد بن كثير كتاب من حديثه عن الأوزاعي فكان يقول في كل حديث منها: ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي» ! وقال الذهبي: «هذا تغفيل يسقط الراوي به» . أقول: أما السقوط فلا، وقد انتقدوا عليه أحاديث ذكرها الذهبي في (الميزان) . الأول: روى عن الثوري عن إسماعيل عن قيس عن جرير: أظنه - شك ابن كثير - فذكر حديثا. قالوا: الصواب بالسند عن قيس عن دكين. وقد شك محمد بن كثير وبين شكه وليس من شرط الثقة أن لا يشك. الثاني: حديث في قراءة (يس) رفعه محمد بن كثير وصوبوا أنه مرسل، وهذا خطأ هين يحتمل للمكثر. الثالث: حديث رواه عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن آبى هريرة مرفوعا: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه ... » رواه هكذا أبو داود من طريق محمد بن كثير، ورواه آخرون عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيد المقبري حدث عن أبيه ... » وليس في هذا ما يقطع به بالوهم، فإن كان وهم فمثله يحتمل للمكثر لأن الأوزاعي مما يروي عن ابن هذا ما عجلان عن سعيد المقبري. الرابع: أخرج الترمذي عن الحسن بن الصباح عن محمد بن كثير - زاد في بعض النسخ: العبدي (؟) - عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فقال: هذان سيدا كهو ل الجنة ... » قال الترمذي: «حسن غريب من هذا الوجه» ثم أخرجه من حديث علي. وهذا الحديث ذكر في (الميزان) و (التهذيب) في ترجمة محمد بن كثير المصيصي وأنه أنكر عليه ن ذكر لابن المديني فقال: «كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ، فالآن لا أحب أن أراه» وأحسب أبا

232- محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه

حاتم وابن حبان إنما أشارا إلى هذا الحديث إذ قال الأول: «في حديثه بعض الإنكار» وقال الثاني: «يغرب» والحديث مذكور من حديث علي رضي الله عنه، ووهم محمد بن كثير في إسناده لا يسقطه بل حقه أن يتقى ما يظهر أنه وهم فيه ن ويحتج به فيما توبع عليه، وينظر فيما تفرد به، وليس بمنكر. والله أعلم. 232- محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه. تاريخ بغداد 13 / 371: «أخبرني الحسن بن محمد الخلال حدثنا محمد بن العباس الخزاز- وأخبرنا محمد بن أحمد بن حسنون الترسي أخبرنا موسى بن عيسى بن عبد الله السراج - قالا حدثنا محمد بن الباغندي حدثنا أبي قال: كنت عند عبد الله بن الزبير فأتاه كتاب أحمد بن حنبل: اكتب إلي بأشنع مسألة عن أبي حنيفة فكتب إليه: حدثني الحارث بن عميد قال: سمعت أبا حنيفة يقول ... » . قال الأستاذ ص 37: « ... قال الدارقطني: كان كثير التدليس يحدث بما لم يسمع وربما سرق اهـ ... وكان إبراهيم بن الأصبهاني يكذبه، وكان الأب يكذب الابن، والابن الأب، وكثير من أهل النقد يصدقهما في تكذيب أحدهما الآخر ... ومن الدليل على بطلان الخبر من أسامة أن الحميدي مكي لم يجالس أصحاب أبي حنيفة ولا درس فقهه، وأحمد عراقي تفقه على أصحاب أبي حنيفة فمثل أحمد العراقي لا يسأل الحميدي المكي ... » . أقول: أما خبر تكذيب كل منهما الآخر، فرواه الخطيب عن أبي العلاء محمد بن علي الواسطي وقد تقدمت ترجمته عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي (1) قال: قال أبو بكر أحمد بن أبي الطيب المؤدب ... وأبو بكر هذا لم أظفر بترجمته، فإن صحت الحكاية فالظاهر أن الأب إنما أنكر على الابن شدة التدليس الذي صورته كذب كما يأتي، فأما كلمة الابن ففلتة لسان عند سورة غضب فلا يعتد بها، والأب ذكره ابن حبان في (الثقات) وحكى السلمي عن الدارقطني أنه قال: «لا بأس به» ، وقال الخطيب: «مذكور بالضعف، ولا أعلم لأية علة ضعف فإن رواياته كلها مستقيمة

_ (1) وقع في (التاريخ) «الزينبي» وهو تصحيف.

ولا أعلم في حديثه منكرا» . أقول: لعل ابن أبي الفوارس إنما ضعفه لأنه قد يخطئ كما وقع في هذه الحكاية جعلها من رواية الحميدي عن الحارث بن عمير والصواب: الحميدي عن حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه كما قاله حنبل بن إسحاق. وأما الابن فقال الإسماعيلي: «لا أتهمه ولكنه خبيث التدليس» وقال ابن مظاهر: «هذا رجل لا يكذب ولكن يحمله الشره على أن يقول حدثنا» . وروى الخطيب من طريق عمر بن الحسن بن علي وقد تقدمت ترجمته قال: «سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن أبي خيثمة وذكر عنده أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي فقال: ثقة كثير الحديث لو كان بالموصل لخرجتم إليه ولكنه منطرح إليكم ولا تريدونه» جزم الذهبي في (التذكرة) و (الميزان) وتبعه ابن حجر في (اللسان) بنسبة هذه الكلمة إلى محمد بن أحمد أبي خيثمة بناء على الوثوق بعمر بن الحسن وقد مرت ترجمته. وقال الحاكم عن ابن المظفر: «الباغندي ثقة إمام لا ينكر منه إلا التدليس والأئمة دلسوا» وقال الخطيب: «لم يثبت من أمر ابن الباغندي ما يعاب به سوى التدليس ورأيت كافة شيوخنا يحتجون بحديثه ويخرجونه في الصحيح» وقال الذهبي بعد أن حكى كلمة ابن الأصبهاني: «بل هو صدوق من بحور الحديث» وقال ابن حجر في (طبقات المدلسين) ص 15: «مشهور بالتدليس مع الصدق والأمانة» . أقول: هي قضية واحدة أطلق بعضهم أنها كذب وبعضهم أنها تحديث بما لم يسمع وبعضهم أنها تدليس خبيث. وهو أنه كان يطلق فيما أخذه من ثقة عن أبي بكر بن أبي شيبة مثلا «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة» ! وإذا قد عرف اصطلاحه في هذا فليس بكذب. وفي (فتح المغيث) ص 75 نظائر قال: «كقول الحسن البصري خطبنا ابن عباس، و: خطبنا عتبة بن غزوان. وأراد أهل البصرة بلده فإنه لم يكن بها حين خطبتهما ونحوه في قوله: ثنا أبو هريرة. وقول طاوس: قدم علينا معاذ اليمن. وأراد أهل بلده فإنه لم يدركه» وقال: قبل ذلك: «بل وصف به من

صرح بالإخبار في الإجازة كأبي نعيم والتحديث في الوجادة كإسحاق بن راشد الجزري وكذا فيما لم يسمعه كفطر بن خلفية ... وقال ابن عمار عن القطان: كان فطر صاحب ذي: سمعت، سمعت. يعني أنه يدلس فيما عداها» ولا شبهة في جواز مثل هذا لغة إذا كانت هناك قرينة، وقد خاطب الله تعالى اليهود في عصر محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» الآيات وفيها: «وإذ قلتم يا موسى» وفي (الصحيح) عن السائب بن يزيد: «كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » . قال ابن حجر في (الفتح) : «وفيه إسناد القائل الفعل بصيغة الجمع التي هو فيها مجازا ... لأن السائب كان صغيرا جدا ... فكأن مراده بقول: كنا، أي الصحابة» . وكثيرا ما يقع في أشعار العرب: «قتلنا فلانا» وفعلنا وفعلنا، والفاعل غيره من قومه، فإذا كانت هناك قرينة تنقي الحقيقة أو تدافع ظهور الكلمة فيها خرجت عن الكذاب، ومن القرينة أن يعرف عن الرجل أنه مما يستعمل هذا وإن لم تكن هناك قرينة خاصة، اتكالا على هذه القرينة العامة وهي أنه مما يستعمل ذلك. وأما قول الدارقطني: «ربما سرق» فكأنه أراد بها أنه قد يقول: «حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة» مثلا فيما لم يسمعه من أبي بكر ولا ممن سمعه من أبي بكر وإنما وجده في كتاب رجل سمعه من أبي يكر، كأن الدارقطني أخذ هذا من قصة حكاها عن ابن حنزابة وليست بالبينة في ذلك، وهب أن ذلك صح فالوجادة صحيحة من طرق التحمل فآل الأمر إلى التدليس، وقد دلت استقامة حديث الباغندي وخلوه عن المناكير على أنه كان لا يدلس إلا فيما لا شبهة في صحته عمن يسميه فلا يقول مثلا: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة» إلا فيما يستيقن أن أبا بكر بن أبي شبيه حدث به فهذا تحقيق حاله. أما قول الأستاذ: «ومن الدليل على بطلان الخبر ... » فليس بشيء لأن غالب

233- محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو المفتوح الخياط

الكلمات المستشنعة من أبي حنيفة كانت منه إذ كان بمكة في أوائل أمره كما يعلم من تتبع الحكايات، وكان الحميدي تتبع ذلك وأصحاب أبي حنيفة الذين سمع منهم أحمد شيئا في بدء أمره، وقد تقدم النظر في ذلك في ترجمته - كان أدبهم يمنعهم من الأخبار عن شيخهم بما يستشنع، ولا سيما إذا علموا أن ذلك كان في أول أمره، ثم رجع أو كف عنه. والله المستعان. (1) 233- محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو المفتوح الخياط. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن علي بن عطية. قال الأستاذ ص 148: «لا يعرفه أحد سوى الخطيب ولا روى عنه أحد سواه» . أقول: بنى هذه المجازفة على قول الخطيب في ترجمة هذا الرجل: «كتبت عنه في سنة 413 وهو شيخ صدوق كان يسكن دار إسحاق، ولا أعلم كتب عنه أحد غيري» . ويكفي هذا الرجل رواية الخطيب وتصديقه. 234- محمد بن معاوية الزيادي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي. قال الأستاذ ص 18: «والزيادي ممن أعرض عنهم الأئمة الستة في أصولهم، وعادة ابن حبان في التوثيق معروفة» . أقول: قد قدمنا مرارا أن كونهم لم يخرجوا للرجل ليس بدليل على وهنه عندهم ولا سيما من كان سنة قريبا من سنهم وكان مقلا كهذا الرجل فإنهم كغيرهم من أهل الحديث إنما يُعنون بعلو الإسناد ولا ينزلون إلا لضرورة، وقد روى النسائي عن هذا الرجل في (عمل اليوم والليلة) وقال في مشيخته: «أرجو أن يكون صدوقا، كتبت عنه شيئا يسيرا» وإنما قال «أرجو ... » لأنه إنما سمع منه شيئا يسيرا ولم يتفرغ لاختباره لاشتغاله بالسعي وراء من هم أعلى منه إسنادا ممن هم

_ (1) محمد بن مسلمة. راجع «الطليعة» ص 87 - 89.

235- محمد بن موسى البربري

في طبقة شيوخ هذا الرجل، وقد قال مسلمة بن قاسم: «ثقة صدوق» وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان صاحب حديث» . فدل هذا أنه قد عرفه حق معرفته وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن مثل هذا من توثيقه توثيق مقبول، بل قد يكون أثبت من توثيق كثير من الأئمة، لأن ابن حبان كثيرا ما يتعنت في الذين يعرفهم، ولم يغمزه أحد. 235- محمد بن موسى البربري. في (تاريخ بغداد) 13 / 374 من طريق يعقوب ابن سفيان قال: «حدثنا سليمان بن حرب» ثم من طريق البربري هذا «حدثنا ابن الغلابي عن سليمان في ترجمة طلق بن حبيب. قال الأستاذ ص 43: «قال عنه الدارقطني إنه لم يكن بالقوي. ولم يكن يحفظ غير حديثين أحدهما موضوع عند الأكثرين» . أقول: كلمة الدارقطني تعطي أنه في الجملة كما مر في ترجمة الحسن بن الصباح، وأما الحفظ فليس بشرط، كان علم الرجل في كتبه ومنها يروي، وذلك أثبت من الحفظ، والحديث الذي زعم الكوثري أنه موضوع، هو حديث الطير، وقد تقدمت الإشارة إليه في ترجمة عبد الله بن محمد بن عثمان ابن السقاء، وأهل الحديث يروونه قبل أن يخلق البربري بزمان طويل، فأي شيء عليه إذا رواه؟ فأما حفظة له فكأنه لأن الناس كانوا يكثرون من السؤال عنه. ومع هذا فقد توبع البربري في هذه الحكاية كما رأيت. 236- محمد بن ميمون أبو حمزة السكري. في (تاريخ بغداد) 13 / 394 من طريق «إسحاق بن راهويه حدثني أحمد بن النضر قال: سمعت أبا حمزة السكري يقول: سمعت أبا حنيفة ... » قال الأستاذ ص 97: «مختلط وإنما روى عنه من روى من أصحاب الصحاح قبل الاختلاط» . أقول: لم يختلط، وإنما قال النسائي: «ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب

237- نصر بن محمد بن مالك

عنه قبل ذلك فحديثه جيد» وإنما يخشى منه بعد عماه أن يحدث من حفظه بالأحاديث التي تطول أسانيدها وتشتبه فيخطئ، وليس ما هنا كذلك، فأما ذكر ابن القطان الفاسي له فيمن اختلط فلم يعرف له مستند غير كلام النسائي، وقد علمت أن ذلك ليس بالاختلاط الاصطلاحي. 237- نصر بن محمد بن مالك. (تاريخ بغداد) 13 / 412: «أخبرني الحسن بن أبي طالب أخبرنا محمد بن نصر بن مالك حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم النجاد ... » قال الأستاذ ص 144: «ذلك الكذاب صاحب التسميع الطري ... » . أقول: قال الأزهري: «حضرت عند محمد بن نصر بن مالك فوجدته على حاله عظيمة من الفقر والفاقة وعرض على شيئا من كتبه لأشتريه، ثم انصرفت من عنده وحضرت عند أبي الحسن ابن رزقويه فقال لي: ألا ترى ابن مالك؟ جاءني بقطعة من كتب أبي الدنيا قال اشترها مني فإن فيها سماعك معي ... قال الأزهري: فنظرت في تلك الكتب وقد سمع فيها ابن مالك بخطه لبن رزقويه تسميعا طريا» فهذا الرجل أنما خلط بأخرة لعظم ما نزل به، والحكاية التي رواها الخطيب من طريقه راويها عنه من المتثبتين الذين كانت عادتهم أن لا يسمعوا من الرجل إلا من أصوله الموثوق بها. (1) 238- محمد بن يعلي زنبور. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريقة: «سمعت أبا حنيفة يقول: قدمت علينا امرأة جهم بن صفوان فأدبت نسائنا» . قال الأستاذ ص 48: «قال البخاري عنه: ذاهب الحديث. و «قال» النسائي: ليس بثقة - و «قال» أبو حاتم: متروك و «قال» أحمد بن سنان: كان جهميا. ومن المقرر عند أهل النقد أن رواية المبتدع لا تقبل فيما يؤيد به بدعته ... على أنه مات سنة 204 فيصغر عن إدراك ما يمكن أن يتصور حدوثه في أواخر الدولة الأموية» .

_ (1) محمد بن يحيى ابن أبي العدني. راجع «الطليعة» ص 72 - 73.

239- محمد بن يوسف الفريابي

أقول: قد وثقه أبو كريب وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «لا يجوز الاحتجاج به فيما خالف فيه الثقات» والظاهر أنهم شددوا عليه لبدعته ورواية المبتدع قد تقدم النظر فيها في القواعد ن وروايته هذه لها شوهد تدل أن للقصة أصلا، والمنقول أنه توفي سنة 205 ولم يحك أنه شاهد القصة: إنه يصغر عن إدراكها، إنما حكى قول أبي حنيفة وقد أدركه وسمع منه وروى عنه. 239- محمد بن يوسف الفريابي. في (تاريخ بغداد) 13 / 412 من طريقه «كنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز بدمشق ... » قال الأستاذ ص 146: «ذلك الرجل الصالح الذي سكن عسقلان مرابطا ... وكان يأمر أهل الثغر بالاستثناء في كل شيء ... وكان بالغ العداء للمرجئة الذين لا يستثنون في الإيمان ... » أقول: الإرجاء والاستثناء قد تعرضت لهما في قسم الاعتقاديات. والمخالفة في المذهب قد تقدم النظر فيها في القواعد واتضح أنها لا تقدح في الرواية كما لا ترد بها الشهادة، والفريابي ثقة ثبت فاضل لا يتهمه إلا مخذول. 240- محمد بن يونس الجمال. في (تاريخ بغداد) 13 / 416 من طريقة «سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت شعبة يقول: كيف من تراب خير من أبي حنيفة» . قال الأستاذ ص 159: «قال محمد بن الجهم هو عندي متهم، قالوا: كان له ابن يدخل عليه الأحاديث، وقال ابن عدي: ممن يسرق الناس ... » أقول: محمد بن الجهم هو السمري صدوق وليس من رجال هذا الشأن وقوله: «قالوا كان له ابن ... » لم يبين من القائل، وابن عدي إنما رماه بالسرقة لحديث واحد رواه عن ابن عيينة فذكر ابن عدي أنه حديث حسين الجعفي ثقة ثبت فالحديث ثابت عن ابن عيينة وقد سمع الجمال من ابن عيينة فالحكم على الجمال بأنه لم يسمعه وإنما سرقه ليس بالبين، لكن لم أر من وثق الجمال فهو ممن يستشهد به في الجملة. والله أعلم. 241- محمد بن يونس الكديمي مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة ضرار بن صرد قال الأستاذ ص 60: «متكلم فيه راجع (ميزان الاعتدال) » .

242- محمود بن إسحاق بن محمود القواس

أقول: الكديمي ليس بعمدة وقد توبع على روايته المذكورة كما تقدم، ومر له ذكر في ترجمة سفيان الثوري. 242- محمود بن إسحاق بن محمود القواس. في (تاريخ بغداد) 13 / 411 «أخبرني محمد بن عبد الملك القرشي أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين الرازي حدثنا محمود بن إسحاق بن محمود القواس بخاري قال: سمعت أبا عمرو وحريث بن عبد الرحمن ... » قال الأستاذ ص 42: «لا نثق بالقواس وصاحبه» . أقول إذا كان أهل العلم قد وثقوهما وثبتوهما ولم يتكلم أحد منهم فيهما فماذا ينفعك أن تقول: لا تثق بهما؟ ومحمود هو صاحب الأنام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري روى عنه (جزء رفع اليدين) و (جزء القراءة خلف الأمام) وهو آخر من روى عنه ببخاري كما في (مقدمة الفتح) والراوي عنه هو الحافظ البصير ترجمته في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 218 والحكاية تتعلق بالطلاق قبل النكاح وقد نظرت فيها في قسم الفقهيات. 243- مسدد بن قطن. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 من طريق الحاكم «سمعت أبا جعفر محمد بن هانئ يقول: حدثنا مسدد بن قطن حدثنا محمد بن أبي عتاب الأعين حدثنا علي بن جرير الأبيوردي ... قال الأستاذ ص 149: «ليس بأحسن حالا من أبيه السابق ذكره» . أقول: قد تقدمت ترجمة أبيه، والنظر فيما قيل فيه ولا شأن له بهذه الرواية، فأما مسدد فترجمته في (تاريخ نيسابور) وفيها كما في (مرءاة الجنان) و (الشذرات) : «كان مربي عصره والمقدم في الزهد والورع» ولم يتكلم فيه أحد، وروايته هذه قد صحت عن علي ابن جرير من أوجه كما تقدم في ترجمته علي بن جرير، وما فيها من ترك ابن المبارك الرواية عن أبي حنيفة بأخرة، قد ثبت من عدة وجوه أخرى (1) .

_ (1) مسعود بن شيبة راجع (الطليعة) ص 94. وتقدم له ذكر في ترجمة الإمام محمد بن إدريس الشافعي.

244- مسلم بن أبي مسلم

244- مسلم بن أبي مسلم. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريق «الحسن بن الوضاح المؤدب حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرفي (؟) حدثنا أبو إسحاق الفزاري ... » قال الأستاذ ص 72: «مسلم بن أبي مسلم عبد الرحمن الجرمي وثقه الخطيب الفزاري ... » قال الأستاذ ص 72: «مسلم بن آبى عبد الرحمن الجرمي وثقة الخطيب لكن في (اللسان) أنه ربما يخطئ، وقال البيهقي غير قوي. وقال أبو الفتح الأزدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها» . أقول: ذكره ابن حبان في (الثقات) : «مسلم بن أبي مسلم الجرمي سكن بغداد يروي عن يزيد بن هارون ومخلد بن الحسين ثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى، ربما أخطأ، مات سنة أربعين ومائتين» . وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن توثيقه، لمن قد عرفه من أثبت التوثيق، وقوله «ربما أخطأ» لا ينافي التوثيق، وإنما يظهر اثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه، فآما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، فليس في نفسه كل ما حدث به، وإنما شرطه أن لا يتفرد بالمناكير عن المشاهير فيكثر، والظاهر أن الأزدي إنما عني الحديث الذي ذكره البيهقي وهو ما رواه مسلم هذا عن مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا: لا يقل أحدكم زرعته، ولكن ليقل حرثته، قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قول الله «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) » . وهذا الحديث أخرجه ابن جرير في تفسير سورة الواقعة عن أحمد بن الوليد القرشي عن مسلم وفي (اللسان) أن البيهقي أخرجه في (شعب الأيمان) من وجهين «عنه» وقال إن مسلما غير قوي (1) . ولعل ابن حبان إنما أشار بقوله «ربما أخطأ» إلى هذا الحديث حمله

_ (1) قلت: وكذلك قال في «السنن الكبرى» (6 / 138) ، ومن طريق مسلم هذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (رقم 1135 - موارد) والطبراني في «الأوسط» (1 / 149 / 1 - زوائده) وقال / «تفرد به مسلم» . قلت: وقد حسن له الحافظ في «الفتح» (3 / 279) حديثا آخر. ن.

245- المسيب بن واضح

على أن الصواب موقوف وأخطأ مسلم في رفعه، ومسلم مكثر في التفسير كما يعلم من (تفسير ابن جرير) فإن ترجح خطاؤه في هذا الحديث الواحد لم يضره ذلك إن شاء الله. وابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي. 245- المسيب بن واضح. ذكر الأستاذ ص 75 رواية محبوب بن موسى عن يوسف بن أسباط «قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو أدركته لأخذ بكثير من قولي: «وفي الطبعة الهندية والمخطوطة بدار الكتب المصرية زيادة سوق الخبر بسند آخر ... عن المسيب بن واضح عن يوسف بن أسباط إلى آخره» ثم قال: «يقول أبو حاتم عن المسيب: صدوق يخطئ كثيرا، فإذا قيل له لم يقبل اهـ. ومثله يكون مردود الرواية، وقد ضعفه الدارقطني وابن الجوزي» . أقول: ذكر الخطيب في (الكفاية) ص 143 - 147 ما يتعلق بخطأ الراوي وبعدم رجوعه، فذكروا أنه يرد رواية من كان الغالب عليه الغلط، ومن يغلط في حديث مجتمع عليه فينكر عليه فلا يرجع. ومعلوم من تصرفاتهم ومن مقتضى أدلتهم أن هذا حكم الغلط الفاحش الذي تعظم مفسدته فلا يدخل ما كان من قبيل اللحن الذي لا يفسد المعنى، ومن قبيل ما كان يقع من شعبة من الخطأ في الأسماء وما كان يقع من وكيع وأشباه ذلك، وكما وقع من مالك كان يقول في عمرو بن عثمان: «عمر بن عثمان» وفي معاوية بن الحكم «عمر بن الحكم» وفي أبي عبد الله الصنابجي «عبد الله الصنابجي» وقد جاء عن معن بن عيسى أنه ذكر ذلك لمالك فقال مالك: «هكذا حفظنا وهكذا وقع في كتأبي، ونحن نخطئ، ومن يسلم من الخطأ» فلم يرجع مالك مع اعترافه باحتمال الخطأ، فكلمة أبي حاتم في المسيب لا تدل على أنه كان الغالب عليه، ولا أن خطأه كان فاحشا، ولا أنه بين له في حديث اتفاق أهل على تخطئته فلم يرجع. وقد قال أبو عروبة في المسيب: «كان لا يحدث إلا بشيء يعرفه يقف عليه» وهذا يشعر بأن غالب ما وقع منه من الخطأ ليس منه بل ممن فوقه، وفكان يثبت على ما سمع قائلا في نفسه: إن كان خطأ فهو ممن فوقي لا

مني. وفي (الميزان) و (اللسان) عن ابن عدي أنه ساق الأحاديث التي تنتقد على المسيب ثم قال: «أرجو أن باقي حديثه مستقيم وهو ممن يكتب حديثه» وذكر في (الميزان) أربعة أحاديث، إما أن تكون هي جميع ما ذكره ابن عدي (1) ، وإما أن يكون الذهبي رأى الأمر فيما عداها محتملا. الأول: رواه المسيب عن يوسف بن أسباط، ويوسف ربما أخطأ في الأسانيد. الثاني: حديث رواه ابن عدي عن الحسين بن إبراهيم السكوني - لم أقف على ترجمته - عن المسيب بسنده عن ابن عمر مرفوعا أنه كره شم الطعام، وقال: إنما تشم السباع. وقد روى الطبراني في (الكبير) والبيهقي في (الشعب) كما في (الجامع الصغير) من حديث أم سلمة مرفوعا: «لا تشموا الطعام كما تشمه السباع» . فلينظر في سنده ويقارن بسند حديث المسيب لعله يتبين وجه الغلط. (2) . والثالث: ليس بالمنكر أراه، فإن كان فيه خطأ فيحتمل أن يكون من فوق.

_ (1) قلت: بل جميع ما ذكره له ابن عدي في «الكامل» (ق 392 / 1 - 2) عشرة أحاديث، ليس فيها الحديث الخامس الذي نقله المصنف رحمه الله عن «اللسان» وقال ابن عدي عقبها: «وللمسيب حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالفه فيه الناس هو ما ذكرته، وأرجو أن باقي حديثه مستقيم صالح، وهو ممن يكتب حديثه، وهذا الذي ذكرته لا يعتمده. بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به» .ن (2) قلت: هذا لم يذكر له ابن عدي علة سوى التفرد، فقال عقبه: «لا أعلم يرويه غير المسيب» . وقد يخطر في بال البعض أن حديث أم سلمة قد يشهد له، والجواب: أنه لا يصلح للشهادة لشدة ضعفه، قال المناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» : «قال البيهقي عقب تخريجه: إسناده ضعيف. اهـ فحذف المصنف ذلك من كلامه غير صواب. وقال الهيثمي عقب عزوه للطبراني: فيه عباد بن كثير الثقفي وكان كذابا متعمدا. هكذا جزم به» .

والله أعلم. (1) الرابع: قالوا: صوابه موقوف. وعلى هذا فإنما أخطأ في رفعه. وزاد في (اللسان) خامسا: وهو من رواية المسيب عن يوسف بن أسباط. وقال ابن عدي: «كان النسائي حسن الرأي فيه ويقول: الناس يؤذوننا فيه» . وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «وكان يخطئ» . وقال الدارقطني: «فيه ضعف» وسئل عبدان عن عبد الوهاب بن الضحاك والمسيب فقال: كلاهما سواء» وهذا إسراف، عبد الوهاب كذابل، والمسيب صدوق، هذه أن لا يحتج بما ينفرد به، والحكاية التي تكلم فيه الأستاذ من أجلها قد توبع عليها وليست من مظان الغلط. والله أعلم. وللمسيب رواية في ترجمة أبي يوسف وقع فيها أن رجلا قال لابن المبارك: «مات أبو يوسف» فقال ابن المبارك: «مسكين ... » قال الأستاذ ص 187: «ابن المبارك مات قبل أبي يوسف بسنة كاملة اتفاقا ... هكذا يفضح الله البهاتين» . أقول: كثيرا ما يشاع موت الرجل خطأ، وقد كان ابن المبارك شديدا على أبي يوسف لولايته القضاء، ومجالسته الخلفاء، وقد غضب ابن المبارك على إسماعيل بن إبراهيم ابن علية لولايته شيئا خفيفا وقال فيه تلك الأبيات السائرة، وإذا كان أبو حنيفة يفتي بالخروج على المنصور العباسي ويرى أنه أفضل من الرباط في قتال الروم

_ (1) قلت: ما ذكره المؤلف من الاحتمال بعيد بل خطأ، لأنه ليس فوقه غير أبي إسحاق الفزاري عن حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومرة قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري ثنا سفيان الثوري عن عاصم به ولذلك قال ابن عدي عقبه: «فسواء قال: عن الثوري، أو عن حماد، كلاهما غير محفوظ» . قلت: ومتن هذا الإسناد: «الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة» .

246- مصعب بن خارجة بن مصعب

كما تقدم في ترجمة إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري، فليت شعري ماذا كان يقول في أبي يوسف لو أدرك ولايته القضاء ومجالسته الرشيد؟. 246- مصعب بن خارجة بن مصعب. تقدمت روايته في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن وفيها قوله: «سمعت حمادا ... » . قال الأستاذ ص 127: «مجهول الصفة كما يقول أبو حاتم» . أقول: قد عرفه ابن حبان فقال في (الثقات) : «مصعب بن خارجة بن مصعب من أهل سرخس يروي عن حماد بن زيد وأبيه روى عنه أهل بلدة مات سنة إحدى أو اثنتين ومائتين وكان على قضاء سرخس» ونقل ابن حجر في (اللسان) بعض هذه العبارة وفيه العبارة وفيه أيضا «حماد ابن زيد» فقول الأستاذ: إن حماد في الحكاية هو ابن سلمة فيه ما فيه (1) . 247- مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري الأصم. في (تاريخ بغداد) 13 / 399 من طريق «القاسم بن المغيرة الجوهري حدثنا كطرف أبو مصعب الأصم قال: سئل مالك بن انس عن قول عمر في العراق: بها الداء العضال. قال الهلكة في الدين، ومنهم أبو حنيفة» . ذكر الأستاذ ص 113 أن الصواب «عن قول كعب لعمر» لأنه كذلك في (الموطأ) . ثم قال ص 114: «قال ابن عدي يروي المناكير عن ابن أبي ذئب ومالك، ولذا فند هذه الرواية أبو الوليد الباجي ... » . أقول: فسر ابن عدي كلمته بأن ذكر أحاديث مناكير رواها ابن عدي عن أحمد بن داود بن عبد الغفار عن أبي مصعب فرد الذهبي وغيره على ابن عدي بأن الحمل في تلك الأحاديث على أحمد بن داود، وأحمد بن داود كذبه الدارقطني، ورماه العقيلي وابن طاهر بالوضع.

_ (1) مضر بن محمد البغدادي - انظر «نصر بن محمد البغدادي» .

أقول: قد وقع لابن عدي شبيه بهذا في غالب القطان قال ابن حجر في (مقدمة الفتح) : «وأما ابن عدي فذكره في (الضعفاء) وأورد له أحاديث الحمل فيها على الراوي عنه عمر بن مختار البصري وهو من عجيب ما وقع لابن عدي، والكمال لله» . ويظهر لي أن لابن عدي هنا عذراً ما، ففي ترجمة أحمد بن داود من (اللسان) : قال أبو سعيد بن يونس: حدث عن أبي مصعب بحديث منكر، فسألته عنه فأخرجه من كتابه كما حدث به» وفيه بعد ذلك، ذكر حديثه عن أبي مصعب عن عبد الله بن عمر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله، إلخ، قال: «قال ابن عدي لما حدث أحمد بهذا الحديث عن مطرف: كانوا يتهمونه ... فظلموه لأنه قد رواه عن مطرف علي بن عمر وعباس الدوري والربيع ... » فقد يكون الحديث في أصل أحمد بن داود وعرف أن غيره قد رواه عن مطرف ورأى أن الحمل فيه على مطرف البتة فقاس بقية الأحاديث عليه، وقد يكون الحديث الذي ذكره ابن يونس غير هذا الحديث، ويكون ابن عدي رأى الأحاديث في اصل أحمد بن داود فاعتقد براءته منها للدليل الظاهر وهو ثبوتها في أصله فحملها كلها على مطرف، فإن كان الأمر على هذا الوجه الثاني فذاك الدليل وهو ثبوت الأحاديث في أصله يحتمل الخلل، ففي (لسان الميزان) ج 1 ص 253: «أحمد بن محمد بن الأزهر ... قال ابن حبان: كان ممن يتعاطى حفظ الحديث ويجري مع أهل الصناعة فيه ولا يكاد يذكر له باب إلا وأغرب فيه عن الثقات ويأتي فيه عن الإثبات بما لا يتابع عليه، ذاكرته بأشياء كثيرة فأغرب علي فيها، فطاولته على الانبساط، فأخرج إلي أصول أحاديث ... فأخرج إلي كتابه بأصل عتيق ... قال ابن حبان: فكأنه كان يعملها في صباه ... » . فهذا رجل روى أحاديث باطلة وأبرز أصله العتيق بها فإما أن يكون كان معه وقت طلبه، كان يسمع شيئاً ويكتب في أصله معه أشياء يعملها، وإما أن يكون كان دجالاً من وقت طلبه، كان يسمع شيئاً ويكتب في أصله معه أشياء يعملها، وإما أن يكون كان معه وقت

طلبه بعض الدجالين، فكان يدخل عليه ما لم يسمع كما وقع لبعض المصريين مع خالد بن نجيح كما تراه في ترجمة عثمان بن صالح السهمي من (مقدمة الفتح) . وفي ترجمة محمد بن غالب تمتام من (الميزان) أنه أنكر عليه حديث فجاء بأصله إلى إسماعيل: «ربما وقع الخطأ للناس في الحداثة» . وفي (الكفاية) ص 118 - 119 عن حسين ابن حبان: «قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع وقال: ظننتها، فأما إذ أنكرتموها علي فقد رجعت عنها؟ فقال: لا يكون صدوقا أبدا، ... فقفلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يخرج كتاباً عتيقا فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق، فيكون شبه له وأخطأ كما يخطئ الناس فيرجع عنها» . فأنت ترى ابن معين لم يجعل ثبوتها في الأصل العتيق دليلاً على ثبوتها عمن رواها صاحب الأصل عنهم، بل حمله على أنه شبه له وأخطأ في أيام طلبه. إذا تقرر هذا فلعل الأحاديث التي ذكرها ابن عدي عن أحمد بن داود عن أبي مصعب رآها ابن عدي في أصل عتيق لأحمد بن داود فبنى على ذلك دليل ثبوتها عن أبي مصعب، وهذا الدليل لا يوثق به كما رأيت لكن في البناء عليه عذر ما لابن عدي يخف به تعجب الذهبي إذ يقول: «هذه أباطيل حاشا مطرفاً من روايتها، وإنما البلاء من أحمد بن داود فكيف خفي هذا على ابن عدي؟ !» . بقي حديث مطرف عن عبد الله عمر العمري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رفعه «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء» فهذا رواه جماعة عن أبي مصعب وأخرجه الترمذي وقال: «غريب من هذا الوجه» وزاد في بعض النسخ «حسن» وأخرج قبل ذلك من طريق عمروابن دينار مولى آل الزبير عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عمر - نحوه» وعمرو بن دينار هذا متكلم فيه وعدوا هذا الحديث فيما أنكر عليه، وأحسب أن بعض الرواة سمع هذا وسمع حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: «من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات

248- معبد بن أبو شافع

الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة» فاشتبه عليه الحديثان فحسب الأول بسند الثاني فرواه كذلك، وقد يكون هذا الخطأ من مطرف وقد يكون من شيخه عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم فإنه لين حتى قال البخاري: «ذاهب لا أروي عنه شيئا» فإن كان الخطأ من أبي مصعب فقد يخطئ على عبد الله بن عمر ما لا يخطئ على مالك لمزيد اختصاصه به. والأثر: «إن بالعراق الداء العضال» ثابت في (الموطأ) عن مالك، ومطرف يقول: «سئل مالك» فليس هنا مظنة الخطأ، ومطرف قال فيه أبو حاتم: «مضطرب الحديث صدوق» ورجحه على إسماعيل بن أبي أويس، وقال ابن سعد والدارقطني: «ثقة» وروى أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما مر مرارا، وروى عنه البخاري في (صحيحه) . 248- معبد بن أبو شافع. تقدمت روايته في ترجمة القاسم بن عثمان، وتقدم هناك قول الأستاذ: «كذبه أبو زرعة الكشي» . أقول: هكذا وقع في (الميزان) و (اللسان) ، وأبو زرعة الكشي هو محمد بن يوسف الجنيدي. قال حمزة السمي في (تاريخ جرجان) في ترجمة معبد «حدثنا عنه جماعة سمعت أبا زرعة محمد بن يوسف الجنيدي يقول: كان أبو شافع اسمه واسم أبيه واسم جده غير ما ذكر، هو غير أسماءهم وكان ثقة في الحديث إلا أنه كان يشرب المسكر» . فكأن بعضهم استروح إلى قوله: «هو غير أسماءهم» فعدها تكذيباً، وتبعه غيره بدون تحقيق، وتغيير الاسم ليس بكذب وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة (1) وغير في بعضهم اسمه واسم أبيه، اللهم أن يدعي الرجل أن اسمه لم يزل كذلك، وهذا يدفعه قول الكشي «وكان ثقة في الحديث» . فأما شرب المسكر فقد تأول جماعة في ما عدا الخمر المتفق عليها فيشربون القدر الذي لا يسكرهم، ولم يعد أهل العلم ذلك قادحاً في العدالة، وإن ذم أكثرهم

_ (1) انظر الأحاديث الصحيحة» (205 - 212) . ن

249- المفضل بن غسان الغلابي

ذلك (1) . فهذا هو الذي وقع من أبي شافع بدليل قول الكشي «وكان ثقة في الحديث» . والله المستعان. 249- المفضل بن غسان الغلابي. في (تاريخ بغداد) 13 / 420 عنه قال «أبو حنيفة ضعيف» قال الأستاذ ص 169: «من المنحرفين عن أهل الكوفة مثل عمرو ابن علي الفلاس البصري وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الناصبي وحالهم يغني عن التعرض للأسانيد، على أن الجرح غير المفسر لا يؤثر في أي راو فضلا عمن ثبتت إمامته، وتواترت أمانته» . أقول: تقدمت ترجمة الجوزجاني وترجمة عمرو بن علي وبينا أن الجوزجاني شديد على الشيعة ولم تبلغ شدته بحمد الله عز وجل أن يخرج عن الحد، إنما يقول في الشيعي «زائغ» أو «رديء المذهب» أو نحو ذلك، وأبو حنيفة لم يشتهر بالتشيع، وعمرو بن علي والغلابي لا أعرفهما بانحراف، نعم هؤلاء كلهم مخالفون لأبي حنيفة في المذهب، والمخالفة لا تقتضي اطراح جرح المخالف البتة وقد قبل الناس من يحيى بن معين وغيره من الأئمة جرحهم لكثير من الرواة المخالفين لهم في المذهب، والجرح غير المفسر هو الخطأ، فمتى تبين أو ترجح أنه خطأ لم يؤخذ به، والإمامة في الفقه لا تستلزم الثقة في الحديث، ولا يضر الحنفية أن يثبت أن أبا حنيفة ممن لا تقوم الحجة بما ينفرد بروايته، ولا تكاد توجد لهم مسألة يمكن أن يستدلوا عليها بشيء تفرد أبو حنيفة بروايته إلا وهم يستدلون عليها بأشياء أخرى، وقد استدل بعضهم على الشافعي بحديث أبي حنيفة عن عاصم في المرتدة، فلما رد عليه ذلك لم يكابر بل قال: «إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس ... » كما تقدم في ترجمة الشافعي. وكما أن الإنصاف يقضي أن لا يتخذ ما ثبت عن

_ (1) انظر الترجمة (73) وتعليقنا عليها ص 230. ن

250- منصور بن أبي مزاحم

الأئمة كسفيان الثوري وغيره من قولهم في أبي حنيفة ما يقتضي أنها لا تقوم الحجة [بما ينفرد بروايته، ذريعة إلى الطعن في فقهه جملة وفي مذهبه، فكذلك يقضي أن لا يتخذ] (*) ما يستدل به على فقهه جملة ذريعة إلى رد كلام أئمة الفن في روايته (1) . وأقتصر هنا على هذا القدر. وأسأل الله تعالى التوفيق. 250- منصور بن أبي مزاحم. في (تاريخ بغداد) 13 / 400 من طريقين عنه أنه سمع مالك بن أنس يقول في أبي حنيفة «كاد الدين ... » قال الأستاذ ص 116: «ليس منصور بن أبي مزاحم التركي البطل المغوار من رجال هذا الميدان» . أقول: ذكروا أن هذا التركي كان كاتبا في الديوان، ثم ترك ذلك وتجرد للحديث، وهو عندهم ثقة، قال أبو زرعة عن ابن معين: «تركي ثبت» وقال أبو حاتم: «صدوق» وذكر أنه سأل ابن معين عنه فأثنى عليه وقال: «كتبت عنه» وقال الدارقطني: «ثقة» وأخرج له مسلم في (صحيحه) وأبو داود والنسائي وخطأه أحمد في حديث، ولا يضره ذلك. وقد غلبت الأستاذ هنا نزعته الجنسية فلم يقل في هذا التركي إلا أنه ليس من رجال الميدان ولا أدري ما عنى بذلك؟ وفي مقابل ذلك خلع عليه لقب «البطل المغوار» جزافاً وإنما كان كاتبا ثم صار محدثاً. 251- موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي. في (تاريخ بغداد) 13 / 393 من طريقة «حدثنا أبو عوانة قال سمعت أبا حنيفة ... » قال الأستاذ: «رواية تلك الطامات عن حماد بن سلمة» . أقول: يعني ما رواه من أحاديث الصفات وقد تقدم النظر في ذلك في ترجمة حماد بن سلمة وتلك الأحاديث ما بين حق قد وكل الله به قوما يؤمنون به وبين حق محمول على معنى يليق به، فإن كان في شيء خطأ فلا شأن لأبي سلمة به وهو مجمع على ثقته والاحتجاج به.

_ (1) راجع التعليق على الصفحة 585.Q (*) ما بين معقوفتين سقط من هذه الطبعة، وهو في طبعة دار المعارف (2/484) . أسامة بن الزهراء - فريق عمل الموسوعة الشاملة

252- موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي

252- موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي. تقدمت روايته في ترجمة عبد الرحمن بن عمر. قال الأستاذ ص 136: «من رجال (الحلية) مجهول الحال ولم أر من وثقه» . أقول: قال أبو الشيخ في (طبقات الأصبهانيين) : «روى عن سفيان بن عيينة وعبيد الله ابن معاذ ووكيع والناس وكان خيراً فاضلاً ترك ما ورثه من أبيه لأخوته ولم يأخذ منه شيئاً لأن أباه كان يتولى للسلطان ... » (ونحو ذلك في (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم. وبذا يثبت أن الرجل عدل صدوق ويبقى النظر في ضبطه، وسكوت هذين الحافظين وغيرهما من حفاظ أصبهان وغيرهم عن الكلام في روايته يدل أنه لم يكن به بأس. 253- مؤمل بن إسماعيل. تقدمت روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل. قال الأستاذ ص 38: «يقول فيه البخاري: إنه منكر الحديث. ويقول أبو زرعة: «في حديثه خطأ كثير» . أقول: وثقه إسحاق بن راهويه ويحيى بن معين، ووثقه أيضاً ابن سعد والدارقطني ووصفاه بكثرة الخطأ، ولخص محمد بن نصر المروزي حاله فقال: «إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف فيه ويتثبت، لأنه كان سيئ الحفظ كثير الغلط» . فحده أن لا يحتج به إلا فيما توبع فيه، وفيما ليس من مظان الخطأ. 254- مؤمل بن إهاب. راجع (الطليعة) ص 68. وحاصل ذلك أن الأستاذ قال في (التأنيب) ص 65: «ضعفه ابن معين على ما حكاه الخطيب» فبينت أن الخطيب إنما حكى عن ابن الجنيد قال: «سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمل بن إهاب فكأنه ضعفه» وقد وثقه جماعة فقال الأستاذ في (الترحيب) ص 45: «فقول القائل - كأنه ضعفه - لا يفرق كثيراً من قوله: ضعفه لكون الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف، وعلى الرجال بالثقة والضعف، في أخبار الآحاد مبنيا على ما يبدو للناظر، لا على ما في نفس الأمر، فظهر أن ذلك

عبارة عن غلبة الظن فيما لا يقين فيه، وسبق أن نقلنا عن أحمد في الرمادي: كأنه يغير الألفاظ - وقد بني الذم الشديد باعتبار أن ظن الناظر ملزم» . أقول: ابن الجنيد هنا راو لا ناظر وباب الرواية اليقين، فإن كان قد يكفي الظن فذاك الظن الجازم وآيته أن يجزم الراوي الثقة. فأما قوله: «أظن» مثلا، فإنه يصدق بظن ما وقد قال الله تعالى: «إن بعض الظن إثم» فما بالك بقوله: «فكأنه ضعفه» وأصل كلمة «كأن» للتشبيه، والتشبيه يستلزم كون المشبه غير المشبه به. فأما معناها الثاني فعبر عنه في مغنى اللبيب بقوله: «الشك والظن» فدل ذلك على أنها دون «أظنه» . وفي ترجمة الحسن بن موسى الأشيب من (مقدمة الفتح) مثل هذه الكلمة «كأنه ضعيف» فدفعها الحافظ ابن حجر بقوله: «هذا ظن لا تقوم به حجة» . هذا وتردد ابن الجنيد يحتمل وجهين أظهرهما: أن يكون جرى من ابن معين عندما سئل عن مؤمل ما يشعر بأنه لم يعجبه مؤمل. ولا ندري ما الذي جرى منه وما قدر دلالته؟ على أنهم مما يقولون: «ضعفه فلان» مع أن الواقع من فلان تليين يسير كما تقدمت الإشارة إليه في القاعدة السادسة من قسم القواعد، فما بالك بقوله: «فكأنه ضعفه» ؟ وإنما ينقل أهل العلم أمثال هذه الكلمة لاحتمال أن يوجد تضعيف صريح فيكون مما يعتضد به. فأما هنا فلا يوجد إلا التوثيق، نعم الثقات يتفاوتون في درجات التثبيت ويظهر أن مؤملاً لم يكن في أعالي الدرجات ففي الرواة من هو أثبت منه، وإنما يظهر أمر ذلك عند التحالف والتعارض عند الأولين. فأما كلمة الإمام أحمد في إبراهيم بن بشار الرمادي فقد تقدم لفظها في ترجمة إبراهيم فراجعها يتبين لك أن أحمد كان جازماً بأن إبراهيم كان يملي علي الناس على خلاف ما سمعوا، وأنه إنما لامه وذمه على ذلك، وإنما قال: «كأنه يغير الألفاظ» لأحد أمرين: الأول: أن يكون أحمد جوز أن تكون العبارة التي ساقها إبراهيم هي

255- مهنأ بن يحيى

عبارة ابن عيينة نفسه قبل ذلك المجلس وأن تكون عبارة إبراهيم نفسه بأن غير ألفاظ ابن عيينة وعبر عن المعنى، وكانت نفس أحمد مائلة إلى هذا الاحتمال الثاني: «كأنه يغير الألفاظ» أي من عنده. الأمر الثاني: أن يكون أحمد قد علم جملة حين سمع في ذاك المجلس عبارة سفيان ثم عبارة إبراهيم اختلاف العبارتين، ولم يحقق حينئذ وجه الاختلاف، ثم لما اخبر بذلك مال إلى أن الوجه هو تغيير الألفاظ، وعلى كلا الأمرين فأحمد محقق لاختلاف العبارتين جازم به، وعلى ذلك بنى اللوم والذم، لا على مجرد احتمال أن إبراهيم يغير الألفاظ، فإن قيل: اختلاف العبارتين مستلزم لتغيير الألفاظ؟ قلت: إن صح هذا استعمل أحمد «كأن» في التحقيق بدليل ما قبلها، وذلك خلاف المعنى المتبادر منها، وليس في نقل الجنيد ما يوجب صرفها عن أصل معناها الذي تقدم بيانه. وإذا اشتبه الأمر في المنقول عن إمام، وجب الرجوع إلى المنقول عن غيره، وقد ذكرت في (الطليعة) توثيق الأئمة لمؤمل، وبذلك يرجح رجحاناً ظاهراً أن ابن معين لم يضعفه. والله المستعان. 255- مهنأ بن يحيى. في (تاريخ بغداد) 13 / 411 من طريق «عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا مهنأ بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ... » قال الأستاذ ص 143: «قال أبو الفتح الأزدي ... : منكر الحديث، وتابعه الخطيب» . أقول: الأزدي نفسه متكلم فيه حتى رمي بالوضع، وقد رد ابن حجر في مواضع من (مقدمة الفتح) جرحه وبين أنه لا يعتد به، (1) وقول الكوثري: «وتابعه الخطيب» باطل فقد روى ابن الآبنوسي عن الخطيب: «كل من ذكرت فيه أقاويل الناس من جرح أو تعديل فالتعويل على ما أخرت» كما في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 315، وههنا بدأ الخطيب في ترجمة منها بحكاية قول الأزدي

_ (1) قلت: راجع ص 221 تجد فيها مثالا على ذلك. ن

ثم أتبعا برواية السلمي عن الدارقطني: «ثقة نبيل» ، ثم ذكر مكانة مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه، فعلم بذلك أن التعويل عنده على التوثيق. وبهذا يعلم ما في عبارة ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 368 في تجنياته على الخطيب: «ذكر مهنأ بن يحيى وكان من كبار أصحاب أحمد وذكر عن الدارقطني أنه قال: مهنأ ثقة نبيل، وحكى بعد (!) ذلك عن أبي الفتح الأزدي ... وهو يعلم أن الأزدي مطعون فيه عند الكل ... فلا يستحي الخطيب أن يقابل قول الدارقطني في مهنأ بقول هذا ثم لا يتكلم عليه؟ هذا ينبئ عن عصيبة وقلة دين» . أقول: عفا الله عنك يا أبا الفرج، ما أرى الباعث لك على التجني على الخطيب إلا ما قدمته في ترجمته، وعليك في كلامك هذا مؤاخذات: الأولى: أن الموجود في (تاريخ الخطيب) تعقيب كلمة الأزدي بحكاية السلمي عن الدارقطني كما مر. الثانية: أن هذا مع ذكر مكانة مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه في قوة الرد على كلمة الأزدي كما مر. الثالثة: أنك إذ ذكرت ما قيل في الأزدي كان ينبغي أن تذكر ما قيل في السلمي حاكي التوثيق عن الدارقطني وقد ذكر ترجمته في (المنتظم) ج 8 ص 6 وفيها قول محمد ابن يوسف القطان: «كان أبو عبد الرحمن غير ثقة ولم يكن سمع من الأصم شيئا يسيرا فلما مات الحاكم أبو عبد الله ابن البيع حدث عن الأصم بـ «تاريخ يحيى بن معين» وبأشياء كثيرة سواها، وكان يضع للصوفية الأحاديث» . ولم تتعقب هذا ولا ذكرت ما يخالفه. الرابعة: أن الأزدي ذكر متمسكه، فلا يسوغ رد قوله إلا ببيان سقوط حجته. الخامسة: أنك بعد التسامح بما تقدم لم يكن ينبغي لك «أن» تقول: «عصبية وقلة دين» محاذرة على الأقل أن يشاحك مشاح فيرد ذلك عليك. أما متمسك الأزدي فهو أن مهنأ روى عن زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن جابر حديثا في

256- نصر بن محمد البغدادي

الجمعة، ولا يعلم رواه أحد غيره عن زيد بن أبي الزرقاء، ولا عن غيره عن سفيان الثوري؛ فلا يعرف عن الثوري إلا بهذا الإسناد. وإنما يعرف من رواية عبد الله بن محمد العدوي التميمي رواه عن علي بن زيد، والعدوي طعنوا فيه، وقال وكيع: «يضع الحديث» وحكى ابن عبد البر عن جماعة أهل العلم بالحديث أنهم يقولون: إن هذا الحديث من وضعه؟ كذا في ترجمة العدوي من (التهذيب) وفي ترجمة مهنأ من (اللسان) عن ابن عبد البر: «لهذا الحديث طرق ليس فيها ما يقوم به حجة إلا أن مجموعها يدل على بطلان قول من حمل على العدوي أو على مهنأ بن يحيى» فلو كان ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وحقق لكان أولى به مما صنع، وعلى كل حال فغاية ما في الباب أن يكون مهنأ أخطأ في سند هذا الحديث، فكان ماذا؟ ! وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «كان من خيار الناس في حديث أحمد بن حنبل وبشر الحافي مستقيم الحديث» . ويكفيه مكانته عند أحمد وثناء أصحابه عليه. والله أعلم. 256- نصر بن محمد البغدادي. في (تاريخ بغداد) 13 / 419 من طريق أبي الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي: «سمعت نصر بن محمد البغدادي يقول سمعت يحيى ابن معين يقول: كان محمد بن الحسن كذابا وكان جهميا، وكان أبو حنيفة جهميا ولم يكن كذابا» . قال الأستاذ ص 164: «كانا والله بريئان (؟) من الكذاب والتجهم، وقد احتج الشافعي إمام الخطيب بمحمد بن الحسن. ووثقه علي ابن المديني أيضا كما جزم بذلك ابن الجوزي في (المنتظم) وابن حجر في (تعجيل المنفعة) مع أن ابن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة، والدارقطني على تعصبه البالغ يقول في (غرائب مالك) ... وابن معين من أبرأ الناس من أن يكذب عليهما وهو الذي يقول: إني سمعت (الجامع الصغير) من محمد بن الحسن، وليس هو ممن يتفقه على الكذابين في نظره ... نعم لو كان ... أو كل من ينزه الله سبحانه عن مشابهة المخلوق وعن حلول الحوادث فيه، أو حلوله في الحوادث

جهميا كما هو مصطلح الحشوية، لكان كذابا وجهميا كل من يفهم ما يقول وينزه الله سبحانه عن لوازم الجسيمة ... فلا يكون الخبر إلا مكذوبا على ابن معين ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمد البغدادي. ومن الغريب أنه إذا روى ألف راو عن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلاً تعد هذه الرواية عنه كاذبة بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه ... نعم سبق أن كذب أبو يوسف محمداً في مسائل عزاها إليه، ولما بلغ الخبر محمدا قال: كلا ولكن الشيخ نسي. ثم تبين أن قول محمد هو الصواب ... قاتل الله التعصب ما أفضحه لصاحبه» . أقول: لا توجد في (تاريخ بغداد) ولا غيره ترجمة باسم «نصر بن محمد البغدادي» وإعراض الأستاذ عن أن يشير إلى هذا فيقول «مجهول» أو نحوه إلى الطريق التي سلكها بدل أنه قد عرف أن لفظ «نصر» تحريف وأن الصواب «مضر» ولمضر بن محمد البغدادي ترجمة في (تاريخ بغداد) ج 13 ص 261 وفيها أنه يروي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأن الدارقطني قال فيه: «ثقة» . فأما الشافعي فلا نعلمه احتج بشيء ينفرد به محمد بن الحسن حتى أن يقال: إنه احتج به، ومع ذلك فلو وثق الشافعي محمدا لما دل ذلك على بطلان النقل عن ابن معين فقد كان الشافعي يوثق إبراهيم بن أبي يحيى الذي كذبه الجمهور، ثم استقر الاتفاق على قولهم. وأما توثيق ابن المديني فإنما ذلك حكاية حكاها ابنه عبد الله عنه أنه قال: «صدوق» وقد طعن الأستاذ في رواية عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه مطلقا كما تقدم في ترجمته، واستهان بقولهم «صدوق» وكذب من قيلت فيه كما تقدم في ترجمة علي بن جرير البار ودي. وأما زعم الأستاذ أن أبن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة ففيه نظر غذ قد يكون ثناؤه أمام مسايرته للجهمية

الحنفية كما تقدم في ترجمته، وقد يستدل على ذلك أن نيل ابن ثابت وابن المديني أقرب إلى ذلك كما قال الأستاذ فكيف ثبت عنه خلافه؟ والتحقيق أنه لا منافاة والاختلاف في مثل هذا كثير. وأما كلمة الدارقطني فقد مر البحث فيها في ترجمته، ثم الكلام في ذلك كالكلام في كلمة ابن المديني، وأما ما ذكره الأستاذ أن ابن معين قال: «سمعت (الجامع الصغير) من محمد بن الحسن» فلا منافاة بل قد يكون سماعه (للجامع) في مبتدأ أمره ثم تبين له ما تبين وفي ترجمة محمد بن كثير القرشي من (التهذيب) : «قال رأيت حديث الشيخ مستقيما» . وقد ذكر الأستاذ تكذيب أبي يوسف لمحمد، والظاهر أنه كان فبل ذلك عنده حسن الحال ثم طرأ ما اقتضى أن يكذبه، ومع هذا كله فلم ينفرد هذا الرجل بما رواه عن ابن معين فقد قال العقيلي «حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة قال: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: جهمي كذاب «هكذا في ترجمة محمد بن الحسن من (لسان الميزان) (1) وروى محمد بن سعيد العوفي عن ابن معين أنه رمى محمدا بالكذب وقد تقدمت ترجمة العوفي، وفيها ابن أبي مريم عن ابن معين في محمد بن الحسن «ليس بسيئ، ولا يكتب حديثه» . وقال المفضل الغلابي ومعاوية بن صالح عن ابن معين «حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان» ولم يأت عن ابن معين ما يخالف نقل هؤلاء الجماعة، فأما قضية (الجامع الصغير) فقد مر ما فيها. وأمنا قضية التجهم فقد اعترف الأستاذ باصطلاح أهل السنة سماهم «الحشوية» وهو وجميع أهل العلم يعلمون أن يحيى بن معين كان من أهل ذاك الاصطلاح، واعترف الأستاذ بأن أبا حنيفة ومحمد بن الحسن جهميان بذاك المعنى،

_ (1) قلت: وكذا هو في «الضعفاء» للعقيلي (ص 276) ، والسند صحيح، وابن صدقة حافظ متقن له ترجمة في «التاريخ» (5 / 40 - 41) و «تذكرة الحفاظ» (2 / 280 - 281) . ن

257- النضر بن محمد المروزي

وبذلك ثبتت رواية مضر بن محمد البغدادي، أما ما فيها من نسبة الجهمية فباعتراف الأستاذ، وأما ما فيها من التكذيب فبالحجة الواضحة، فبقي قوله: «فلا يكون الخبر إلا مكذوبا على ابن معين ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمد البغدادي» ! من باب قول العامة «عنز ولو طارت» . وقوله: «ومن الغريب أنه لو روى ألف راو ... » تقدم النظر فيه في ترجمة الشافعي فليراجعها القارئ وليوازن بينها وبين رواية مضر ليتبين له أن الكوثري لا ينتفع بأن يساوي الذرة بالجبل، بل يحاول أن يجعل ذرة في عظم جبل ويجعل جبلاً في ذرة! ولعل الأستاذ يضج من قضية نصر ومضر. فأقول: هو ن عليك يا أستاذ وخذ اعترافي أو شهادتي بأن نصراً غير مضر، فهل ينفعك ذلك شيئاً؟ هذا كله مناقشة للأستاذ في تكذيبه الرواة عن ابن معين، وما تشبت به في ذلك. فأما محمد بن الحسن فهو أجل وأفضل مما يتراءى هنا، ولتحقيق ذلك موضع آخر. 257- النضر بن محمد المروزي. في (تاريخ بغداد) 13 / 401 من طريق عبد الرحيم بن منيب «حدثنا النضر بن محمد قال: كنا نختلف إلى أبي حنيفة وشامي معنا، فلما أراد الخروج جاء ليودعه فقال: يا شامي، تحمل هذا الكلام إلى الشام؟ فقال: نعم، قال: تحمل سراً» . قال الأستاذ ص 118: «ضعفه البخاري في (كتابه الصغير) لكن وثقه النسائي، وهو من فقهاء أصحاب أبي حنيفة ومن المكثرين عنه، فبالنظر إلى حاله يريد بقوله هذا على تقدير ثبوته عنه التنكيت على أهل الشام» . أقول: إنما قال البخاري: «فيه ضعف» ، وكذا قال الساجي، وقال الحاكم أبو أحمد: «ليس بالقوي» ، وقال النسائي والدارقطني: «ثقة» ، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال ابن سعد: «كان مقدما في العلم والفقه والعقل والفضل، وكان صديقاً لابن المبارك، وكان من أصحاب أبي حنيفة» ، وهذا يقتضي أنه لم يكن

258- نعيم بن حماد

يتابع أبا حنيفة في كل شيء، فهم مقبول. وليس هو المخاطب للشامي كما قد يوهمه كلام الأستاذ، وإنما المخاطب للشامي بما ذكر أبو حنيفة نفسه كما صريح الرواية، واحتمال أن يكون أبو حنيفة إنما أراد التنكيت لا يخفى حاله. 258- نعيم بن حماد. ذكر الأستاذ ص 49 عن (الأسماء والصفات) للبيهقي رواية من طريقة: «سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر جهم وجاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهماً ... » وفي (تاريخ بغداد) 13 / 396 من طريقة. «قال سفيان: ما وضع في الإسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان - لرجل صلب» . قال الأستاذ ص 49: «معروف باختلاق مثالب ضد أبي حنيفة، وكلام أهل الجرح فيه واسع الذيل، وذكره غير واحد من كبار علماء أصول الدين في عداد المجسمة بل القائلين باللحم والدم. وقال الأستاذ ص 107: «له ثلاثة عشر كتاباً في الرد على من يسميهم: الجهمية، ودعا إليها العجلي فاعرض عنها ... ولا شك أنه كان وضاع مثالب كما يقول أبو الفتح الأزدي وأبو بشر الدولابي وغيرهما، وكم أتعب أهل النقد بمناكيره، ويوجد من روى عنه من الأجلة رغبة في علو السند، ولا يرفع ذلك من شأنه إن لم يضع من شأن الراوي، ومن حاول الدفاع عنه يتسع عليه الخرق» . أقول: نعيم من أخيار الأمة وأعلام الأئمة وشهداء السنة ما كفى الجهمية الحنفية أن اضطهدوه في حياته إذ حاولوا إكراهه على أن يعترف بخلق القرآن فأبى فخلدوه في السجن مثقلاً بالحديد حتى مات، فجر بحديده فألقي في حفرة ولم يكفن ولم يصل عليه - صلت عليه الملائكة - حتى تتبعوه بعد موته بالتضليل والتكذيب على أنه لم يجرؤ منهم على تكذيبه أحد قبل الأستاذ، إلا أن أحدهم وهو الدولابي ركب لذلك مطية الكذب فقال: «وقال غيره ... » . أما عقيدته أئمة السنة المخلدة في كتاب الله عز وجل، وأما الذين كان يسميهم «الجهمية» فكان أئمة المسلمين في زمانه وقبله وبعده يسمونهم هذا الاسم،

وأما إعراض العجلي عن كتبه فلم يعرض عنها مخالفة لنعيم ولا رغبة عن الأخذ عنه وهو ممن وثق نعيماً كما يأتي، وإنما كان العجلي مستغرقاً في الحديث فلم يحب أن يتشاغل بالنظر في أقوال المبتدعة والرد عليها إشفاقاً على نفسه من أن يعلق به بعض أو ضارها. وأما كلام أئمة الجرح والتعديل فيه بين موثق له مطلقا، ومثن عليه ملين، لما ينفرد به مما هو مظنة الخطأ، بحجة أنه كان لكثرة ما سمع من الحديث ربما يشبه عليه فيخطئ» وقد روى عنه البخاري في (صحيحه) وروى له بقية الستة بواسطة إلا النسائي (1) لا رغبة في علو السند كما يزعم الأستاذ فقد أدركوا كثيراً من أقرانه وممن هو أكبر منه، ولكن علماً بصدقه وأمانته، وأن ما نسب إلى الوهم فيه ليس بكثير في كثرة ما روى. فأما الدولابي فهو محمد بن أحمد بن حماد له ترجمة في (الميزان) و (اللسان) قال ابن يونس: «من أهل الصنعة حسن التضعيف وكان يضعف» وقال الدارقطني: «تكلموا فيه لما تبين من أمره الأخير» وذكر ابن عدي قول الدولابي في معبد الجهني الذي روى أبو حنيفة عن منصور بن زازان عن الحسن عنه، أنه معبد بن هو ذة الذي ذكره البخاري في (تاريخه) . قال ابن عدي: «هذا الذي قاله غير صحيح، وذلك أن معبد بن هو ذة أنصاري فكيف يكون جهنيا؟ «ومعبد الجهني معروف ليس بصحابي، وما حمل الدولابي على ذلك إلا ميله لمذهبه» . وقال ابن عدي أيضاً: «ابن حماد متهم فيما قاله في نعيم بن حماد لصلابته في أهل الرأي» . وفي ترجمة نعيم من (مقدمة الفتح) بعد الإشارة إلى حكاية الدولابي «وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصباً عليه لأنه كان شديداً على أهل الرأي. وهذا هو

_ (1) قلت: لم يحتج به الشيخان، أما البخاري فأخرج له مقروناً كما في خاتمة «الترغيب» للمنذري، وترجمة نعيم من «التهذيب» . وأما مسلم، فأخرج له في مقدمة «صحيحه» كما يشعر بذلك رمزهم له ب «مق» . ن.

كلام الأئمة فيه وترجيح الاحتجاج فيما توبع عليه

الصواب» وقال في (التهذيب) : «حاشى الدولابي أن يتهم، وإنما الشأن في شيخه الذي نقل ذلك عنه فإنه مجهول متهم» . أقول: لا أرى الدولابي يبرأ من عهدة ذاك النقل المريب فإن ابن عدي قال كما في (التهذيب) : «قال لنا ابن حماد - يعني الدولابي - نعيم يروي عن ابن المبارك قال النسائي: ضعيف، وقال غيره: كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات في ثلب حنيفة كلها كذب. قال ابن عدي وابن حماد متهم ... » فلا يحتمل أن يكون الدولابي سمع تلك الكلمة ممن يعتد بقوله وإلا لصرح به وصرخ به صراخاً. فإن كان سمعها ممن لا يعتد به فلم يكن له أن يحكيها على هذا الوجه بل كان عليه أن يعرض عنها لعدم الاعتداد بقائلها، أو على الأقل أن يصرح باسمه. وإن كان يسمعها من أحد وإنما اختلق ذلك فأمره أسوأ، وإن كان كنى بقوله: «غيره» عن نفسه كأنه أراد «وقلت أنا» فالأمر في هذا أخف، وقد عرف تعصب الدولابي على نعيم، فلا يقبل قوله فيه بلا حجة مع شذوذه عن أئمة الحديث الذين لا يكاد هو يذكر معهم. وأما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي فهو نفسه على يدي عدل! وترجمته في (تاريخ بغداد) و (الميزان) و (اللسان) تبين ذلك، مع أنه إنما نقل كلام الدولابي وإن لم يصرح باسمه، والدليل على ذلك توافق العبارتين، أما عبارة الدولابي فقد مرت، وأما عبارة الأزدي فقال: «قالوا كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات مزورة قي صلب أبي حنيفة كلها كذب» . أما كلام الأئمة فقال الإمام أحمد: «لقد كان من الثقات» وقال العجلي:: «ثقة» ، وقال أبو حاتم مع تشدده: «صدوق» وروى عنه البخاري في (صحيحه) كما مر وأخرج له بقية الستة إلا النسائي، وصح عن ابن معين من أوجه أنه قال: «ثقة» وروى عنه، وجاء عنه أنه مع ثنائه عليه لينه في الرواية، وأتم ذلك رواية علي بن حسين بن حبان وفيها عن ابن معين «نعيم بن حماد صدوق ثقة رجل صالح،

سبب أوهام نعيم وذكر ثمانية أحاديث له مما انتقد عليه

أنا أعرف الناس به، كان رفيقي بالبصرة ... إلا أنه كان يتوهم الشيء فيخطئ فيه، وأما هو فكان من أهل الصدق» . وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، ثم قيل له في قبول حديثه؟ فقال: قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة فصار في حد من لا يحتج به» . وهذا يدل أن ما روي عن النسائي أنه قال مرة: «ليس بثقة» إنما أراد بها أنه ليس في أن يحتج به، وهب أن النسائي شدد فكلام الأكثر أرجح ولا سيما ابن معين، لكمال معرفته ولكونه رافق نعيماً وجالسه انتقدت عليه ثم قال: «وعامة ما أنكر عليه هو الذي ذكرته وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيماً» . وقال ابن حجر في (التهذيب) : «أما نعيم فقد ثبتت عدالته وصدقه ولكن في حديثه أو هام معروفة وقد قال فيه الدارقطني: إمام في السنة كثرة الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: ربما يخالف في بعض حديثه. وقد مضى أن ابن عدي تتبع ما وهم فيه، فهذا فصل القول فيه» . وإنما أوقع نعيماً فيما وقع فيه من الأوهام أنه سمع فأكثر جداً من الثقات ومن الضعفاء، قال أحمد بن ثابت أبو يحيى «سمعت أحمد ويحيى بن معين يقولان: نعيم معروف بالطلب» ثم ذمه بأنه يروي عن غير الثقات. وفي (الميزان) عن ابن معين يقولان: نعيم معروف بالطلب» ثم ذمه بأنه يروي عن غير الثقات. وفي (الميزان) عن ابن معين: «نعيم بن حماد ... كتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث» . هذا ما سمعه من رجل واحد ليس هو بأشهر شيوخه فما ظنك بمجموع ما عنده على شيوخه؟ وقال صالح بن محمد «كان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها» فلكثرة حديث نعيم عن الثقات وعن الضعفاء واعتماده على حفظه كان ربما اشتبه عليه ما سمعه من بعض الضعفاء بما سمع من بعض الثقات فيظن أنه سمع الأول بسند الثاني فيرويه كذلك. ولو لم يخطئ وروى كما سمع أتبين أنه إن كان هناك نكارة فالحمل فيها على من فوقه. وقد تقدم أن ابن عدي تتبع ما انتقد على نعيم، وذكر الذهبي في (الميزان)

الحديث الأول:

ثمانية أحاديث وكأنها أشد ما انتقد على نعيم، وما عداها فالأمر فيه قريب، ولا بأس أن أسوقها هنا وأنظر فيها على مقدار فهمي. وأسأل الله التوفيق. الحديث الأول: أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 430 « ... نعيم بن حماد ثنا عيسى بن يونس عن حرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين» . أقول: هذا الحديث أشد ما أنكر على نعيم. أنكره ابن معين ووثق نعيما وقال: «شُبِّه له» وقال دحيم: «هذا حديث صفوان بن عمرو، حديث معاوية» يعني أن إسناده مقلوب، لهذا الحديث شواهد مرفوعة وموقوفة في (المستدرك) ج 1 ص 128 و (سنن الدارمي) ج 1 ص 65 وغيرهما (1) . وقد تابع نعيماً على روايته عن عيسى بن يونس جماعة منهم ثلاثة أقوياء سويد بن سعيد الحدثاني، وعبد الله بن جعفر الرقي، والحكم بن المبارك الخواستي، وسويد من رجال مسلم إلا أنه كان في آخر عمره يقبل التلقين لكن في ترجمته ما يدل أنه كان إذا نبه على خطئه رجع، وقد روجع في هذا الحديث فثبت على أنه سمعه من عيسى بن يونس. والرقي موثق إلا أنه نسب إلى الاختلاط بأخرة، لكن ذكر ابن حبان أن اختلاطه لم يكن فاحشاً، وراوي هذا الحديث عنه ثقة وهو الذي أخبر بأنه اختلط، فقد يقال لو علم أنه اختلط اختلاطاً شديداً وكان إنما سمع منه هذا الحديث عند

_ (1) قلت: فيما أشار إليه المؤلف رحمه الله نظر، فإن الذي في «المستدرك» عدة أحاديث في تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهي صحيحة كما بينته في غير هذا الموضع، لكن ليس في شيء منها ذكر القياس والتحريم والتحليل، وهو بيت القصيد - كما يقال - في حديث نعيم: والذي عند الدارمي أثر عن ابن مسعود، وعن غيره من التابعين في ذم قوم يقيسون الأمر برأيهم. وفي اعتبار مثل هذا مع وقفه وقصوره عن الشهادة الكاملة شاهداً لحديث نعيم المرفوع نظر ظاهر عندي. فيتأمل.

الحديث الثاني:

اختلاطه، لكن الظاهر أن لا يرويه عنه إلا مقرونا ببيان أنه إنما سمع منه هذا الحديث عند اختلاطه، لكن الظاهر أن لا يرويه عنه إلا مقرونا ببيان أنه إنما سمعه منه بعد الاختلاط. والخواستي وثقه ابن حبان وابن منده وابن السمعاني، وقال ابن عدي في ترجمة سويد «يقال أنه لا بأس به» لكنه عده عند هذا الحديث في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن بن وهب فيمن سرق هذا الحديث من نعيم. وذكر الذهبي في (الميزان) متابعة هؤلاء الثلاثة لنعيم ثم قال: «قلت هؤلاء الأربعة لا يجوز في العادة أن يتفقوا على باطل، فإن كان خطأ، فمن عيسى بن يونس» . والله أعلم. (1) الحديث الثاني: قال ابن جرير في تفسير سورة «سبأ» : «حدثني زكريا بن أبان المصري قال: ثنا نعيم قال: ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله أن يوحي بالأمر أخذت السموات منه رجفة - أو قال: رعدة - شديدة خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله» . سئل عنه دحيم فقال: لا أصل له. أقول: المتن غير منكر، وله شواهد، ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة مرفوعاً «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة علة صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الذي قال: قال: الحق وهو العلي الكبير ... » هكذا في تفسير سورة «سبأ» ، وأخرجه البخاري أيضاً في «التوحيد» وذكر معه «قال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا

_ (1) أنظر «الأحكام الكبرى» بتحقيقي رقم (144) .

الحديث الثالث:

أنه الحق من ربكم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق» وذكر ابن حجر في (الفتح) طرق حديث ابن مسعود وأنه جاء من عدة أوجه مرفوعاً وفي بعض طرق « ... فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول الحق، قال: فينادون الحق الحق» وراجع تفسيره سورة «سبأ» من (تفسير ابن جرير) ، وراجع (الفتح) في تفسيره سورة (سبأ» وفي «التوحيد» فالنكارة في السند فقط، وقد يقال: نعيم مكثر جداً، وكان يتتبع هذا الضرب من الأحاديث، والوليد مكثر جداً تفرد بأحاديث كثيرة فيحتمل هذا الحديث لنعيم، فإن كان هناك خطأ فقد مر وجهه. والله اعلم. الحديث الثالث: في (تاريخ بغداد) ج 13 ص 311 من طريق محمد بن إسماعيل الترمذي «حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن إسماعيل الترمذي «حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه تعالى في المنام في أحسن صورة شاباً موفراً رجلاه في خف عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب» . أقول في (اللآلئ المصنوعة) ج 1 ص 16 بعد ذكر حديث نعيم هذا: «ولم ينفرد بهذا الحديث فقد رواه جماعة عن ابن وهب قال الطبراني: حدثنا روح بن الفرج حدثنا يحيى ابن بكير ح وحدثنا أحمد بن رشدين حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي وأحمد بن صالح قالوا: حدثنا عبد الله بن وهب - فذكره بسنده ومتنه سواء» ثم ذكر حديث حماد بن سلمة بسنده إلى ابن عباس مرفوعاً: «رأيت ربي في صورة شاب له وفرة» وتصحيح أبي زرعه له وعدة متابعات وشواهد له. والطبراني وروح ابن الفرج ويحيى بن بكير من الثقات، وفي يحيى كلام يسير لا يضره، وهو من رجال (الصحيحين) . ويحيى بن سليمان وأحمد بن صالح ثقتان لكن الراوي عنهما أحمد ابن الحداد الفقيه أنه سمع النسائي يقول: «ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله عز وجل؟!» وهذا يشعر بأن النسائي عرف ثبوت الحديث عن بن عثمان حتى يصدق على الله عز وجل؟!» وهذا يشعر بأن النسائي عرف ثبوت الحديث عن ابن وهب

الحديث الرابع:

بسنده فلم يحمل على نعيم ولا يحيى بن بكير وإنما ترقى إلى مروان بن عثمان ومروان ضعفه أبو حاتم، وقال ابن حبان في ترجمة عمارة بن عامر: «حدثنا منكراً، لم يسمع عمارة من أم الطفيل» فأعلمه بالانقطاع. وعلى كل حال فقد ظهرت براءة نعيم من عهدة هذا الحديث. الحديث الرابع: قال الترمذي في أواخر «كتاب الفتن» من _ جامعه) : «حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني حدثنا بن حماد الترمذي نعيم حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ك إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمكر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منكم بعشر ما أمر به نجا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد بعشر ما أمر به نجا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة، قال: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد» . أقول: حديث أبي ذر في (مسند أحمد) ج 5 ص 155 و (التاريخ الكبير) للبخاري ج 1 قسم 2 ص 371. فكأنه وقع لنعيم حديث أبي ذر أو أبي سعيد بسند، وحديث آخر عن سفيان بن عيينة بسنده فاشتبه عليه الحديثان، فظن أنه سمع ذاك سمع ذاك المتن بهذا السند. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس: في (الميزان) : «ومنها حديثه عن ابن المبارك وعبدة عن عبيد الله عن نافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، والمحفوظ أنه موقوف» وفيه «نعيم عن الدر أوردي عن سيهل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، قال: لا تقل أهر يق الماء ولكن قل أبول. والصواب أنه موقوف» . أقول: إن ثبت رجحان الوقف فيهما فالأمر هين ومثل هذا الخطأ لم يكد يسلم منه أحد كما ترى في كتب العلل. وقد اغتفر أكثر من ذلك لمن لا يساوي نعيما في كثرة الحديث ولا ينصفه.

الحديث السابع والثامن:

الحديث السابع والثامن: في (الميزان) : «بقية عن ثور عن خالد بن معدان عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: المتعبد بلا فقه كالحمار في الطاحونة. وبه قال: تغطية الرأس بالنهار فقه، وبالليل ريبة. لم يروهما عن بقية سواء» . أقول: بقية بن الوليد بحر لا ساحل له يأخذ عن كل من دب ودرج ويدلس فالتفرد عنه ليس بالمنكر ولا سيما لمثل نعيم. فهذه هي الأحاديث التي ذكرت في (الميزان) في ترجمة نعيم وقضية ذلك أنها أشد ما انتقد عليه، ومن تدبر ذلك وعلم كثرة حديث نعيم وشيوخه، وأنه كان يحدث من حفظه، وكان قد طالع كتب العلل جزم بأن نعيماً مظلوم، وأن حقه أن يحتج به ولو انفرد، إلا أنه يجب التوقف عما ينكر مما ينفرد به، فإن غيره من الثقات المتفق عليهم قد تفردوا وغلطوا، هذا التوقف عما ينكر مما ينفرد به، فإن غيره من الثقات المتفق عليهم قد تفردوا وغلطوا، هذا الوليد بن مسلم يقول أبو داود: «روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها أربعة عن نافع» ، ولذلك نظائر. أما الاحتجاج به فيما توبع عليه فواضح جداً، وكذلك ما يرويه من كلام مشايخه أنفسهم، إلا أنه قد يحتمل أن يروي بعض ذلك بالمعنى فيتفق أن يقع فيما رواه لفظ أبلغ مما سمعه وكلمة أشد، فإذا كان للفظ الذي حكاه متابعة أو شاهد اندفع هذا الاحتمال. والله أعلم. (1) 259- الوضاح بن عبد الله أبو عوانة أحد الأئمة. راجع (الطليعة) ص 43 و46 و53 و106 و108 والعبارة التي نقلتها ص 57 عن (الثقات) وجدتها كذلك في نسخة أخرى من (الثقات) جيدة في المكتبة السعيدية بحيدر آباد، وما ذكرته في الموضع الأخير رأيت ما يتعلق به في ترجمة أبي عوانة من (تاريخ جرجان) لحمزة بن يوسف السهمي قال «سمعت أبا بكر الإسماعيلي

_ (1) نوح بن أبي مريم. تقدم له ذكر في ترجمة نعيم لما رواه البيهقي عن نعيم عنه وكما قال الأستاذ «كلام أهل الجرح فيه معلوم» .

وعبد الله بن الحافظ يقولان: أبو عوانة اسمه الوضاح وهو من سبي جرجان سكن البصرة وهو مولى يزيد بن عطاء الواسطي مات سنة سبعين ومائة» . وتعقب الأستاذ في (الترحيب) ص 41 ما ذكرته في (الطليعة) ص 53 - 55 أن علي ابن عاصم إنما قال: «وضاح» لا «وضاع» فذكر الأستاذ أن قولي في دائرة الاحتمال، قال: «لكن قول علي بن عاصم في جرير بن عبد الحميد: ذاك الصبي - وفي شعبة: ذاك المسكين - يبعد احتمال ذكر اسم أبي عوانة على أن الغالب في اسمه: الوضاح - باللام، بل يكون علي ابن عاصم أسرف في رميه أبا عوانة بالوضع والكذب» . أقول: ليس في هذا ما يدفع الحق فقد ذكرت في (الطليعة) من القرائن ما هو أقوى من هذا بكثير، بل ليس لهذا قوة البتة، فإن من المعروف أن ذكر الرجل بكنيته إكرام له، وكان أبو عوانة مشهوراً بكنيته لا يكاد يذكر إلا بها فنص علي بن عاصم على اسمه تأكيداً لاحتقاره، رداً على مخاطبة الذي ذكره بلفظ «أبو عوانة» كأنه قال: «ليس بأهل أن يذكر بكنيته وإنما ينبغي أن يذكر اسمه» ولهذا الغرض نفسه قال: «ليس بأهل أن يذكر بكنيته وإنما ينبغي أن يذكر اسمه» ولهذا الغرض نفسه قال: «وضاح» بترك اللام، لأن في الإتيان باللام تفخيماً للاسم ينافي غرضه، ولم يتفق له مثل هذا في شعبة وجرير لأنهما معروفان باسميهما، ولا تدخل عليهما اللام فاعتاض عن ذلك بأن ترك التلفظ باسميهما، على أن في ترجمة أبي عوانة من (تاريخ البخاري) «وضاع» بدون لام، وأكثر ما يذكر أبو عوانة بكنيته، فالغلبة التي زعمها الأستاذ ليست بحيث يسوغ الاعتداد بها، ولا أرى الأمر إلا أو ضح من هذا، ولولا غلبة الهوى على الأستاذ الكوثري لما كابر، والذي أو قع مصحح (تهذيب التهذيب) في الغلط مع قرب الشكل أنه لم يكن ممارساً للفن، وترجمة أبي عوانة متأخرة عن ترجمة علي بن عاصم التي ذكرت فيها تلك العبارة، وذكر أبي عوانة فيما قبل ذلك يقع بكنيته، وقد عرف ذاك المصحح أن من ألفاظ المحدثين «وضاع» فمشى عليه الخطأ كما مشى عليه مثله وأبعد منه في مواضع كثيرة من الكتاب يعرفها الأستاذ وغيره.

260- الوليد بن مسلم

260- الوليد بن مسلم. في (تاريخ بغداد) 13 / 400 من طريق آبى معمر «حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن انس: أيتكلم برأي أبي حنيفة عندكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تسكن» ومن وجه آخر عن أبي معمر: «عن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن انس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تسكن» . قال الأستاذ ص 114: «ينسبه ابن عدي إلى التدليس الفاحش» . أقول: قد علم الأستاذ أن التدليس ليس بجرح، وإنما يذكر صاحبه به ليعرف فلا يقضي على ما جاء عنه بالعنعنة أنه متصل ما لم يتبين ذلك من وجه آخر، وقد صرح الوليد هنا بالسماع غاية التصريح فلا مدخل للتدليس هنا البتة. 261- هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. تقدم ما يتعلق به في الفصل الثالث أوائل الكتاب. وقال الأستاذ في حاشية ص 98 من (التأنيب) : « ... على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمور تتعلق بالضبط في التحقيق وإلا فمالك أخرج عنه في (الموطأ) » . أقول: في (تهذيب التهذيب) : «قال أبو الحسن بن القطان: تغير قبل موته، ولم نر له في ذلك سلفاً» . وقال الذهبي في (الميزان) : «هشام بن عروة أحد الأعلام، حجة، إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه أو وهم ... ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسيراً أحاديث لم يجودها، ومثل ذلك يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط، وذر خلط الأئمة الثقات بالضعفاء والمختلطين فهو شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان!» . أقول: أما النسيان فلا يلزم منه خلل في الضبط لأن غايته أنه كان أولاً يحفظ أحاديث فحدث بها ثم نسيها فلم يحدث بها.

وأما الوهم، فإذا كان يسيراً يقع مثله لمالك وشعبة وكبار الثقات فلا يستحق أن يسمى خللاً في الضبط، ولا ينبغي أن يسمى تغيراً، غاية الأمر أنه رجع عن الكمال الفائق المعروف لمالك وشعبة وكبار الثقات، ولم يذكروا في ترجمته شيئاً نسب فيه إلى الوهم إلا ما وقع له مرة في حديث أم زرع، والحديث في (الصحيحين) وغيرهما عنه عن أبيه عن عائشة قالت: «جلس إحدى عشرة امرأة ... » فساقت القصة بطولها وفيها ذكر أم زرع، وفي آخره: «قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع» . وهذا السياق صحيح اتفاقاً ولكن رواه هشام مرة أخرى فرفع القصة كلها، وقد توبع على ذلك كما في (الفتح) ولكن الأول أرجح، وأستدل بعضهم على رفع القصة كلها بأن المرفوع اتفاقاً وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» مبنى على القصة فلا بد أن يكون صلى الله عليه وسلم بدأ فذكر القصة ثم بنى عليها تلك الكلمة أو بدأ بتلك الكلمة فسألته عائشة فذكر القصة. وأجيب باحتمال أن تكون القصة كانت مما يحكيه العرب وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سمعهم يحكونها وعلم أن عائشة قد سمعنها فبنى عليها تلك الكلمة. وعلى كل حال فهذا وهم يسير قد رجع عنه هشام. يقي ما قيل: إن هشاماً كان يدلس ن قال يعقوب بن سفيان: «ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نرى أن هشاما تسهل لأهل العراق، إنه كان لا يحدث عن أبيه آبى بما سمعه منه، فكن تسهله أنه أرسل عن أبيه عما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه» وجاء عن ابن خراش ما يفهم منه هذا المعنى وقد تفهم منه زيادة لا دليل عليها فلا تقبل من ابن خراش، وعدة ابن حجر في الطبقة الأول من المدلسين، وهو طبقة من لم يوصف بذلك إلا نادراً. والتحقيق أنه لم يدلس قط ولكن كان ربما يحدث بالحديث عن فلان عن أبيه فيسمع الناس منه ذلك ويعرفونه ثم ربما ذكر ذلك الحديث بلفظ «قال أبي» أو نحوه

262- هشام بن محمد بن السائب الكلبي

اتكالاً على أنه قد سبق بيان أنه إنما سمعه من فلان عن أبيه، فيغتنم بعض الناس حكايته الثانية فيروي ذاك الحديث عنه عن أبيه لما فيه صورة العلو، مع الاتكال على أن الناس قد سمعوا روايته الأولى وحفظوها. وفي مقدمة (صحيح مسلم) ما يصرح بأن هشاماً غير مدلس، وفيه أن غير المدلس قد يرسل وذكر لذلك أمثلة منها حديث رواه جماعة عن هشام «أخبرني أخي عثمان بن عروة عن عروة» . ورواه آخرون عن هشام عن أبيه، ومع هذا فإنما اتفق لهشام مثل ذلك نادراً، ولم يتفق إلا حيث يكون الذي بينه وبين أبيه ثقة لا شك فيه كأخيه عثمان ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة. والله الموفق. 262- هشام بن محمد بن السائب الكلبي. من عادة الخطيب أن يذكر آخر ترجمة الرجل تاريخ وفاته ورؤيا رئيت له بعد موته وأبياتاً قيلي في رثائه حيث يتيسر ذلك، فذكر في آخر ترجمة محمد بت الحسن تاريخ وفاته، واتصل بذلك أبيات رثى بها ذكر ما روي أنه رئي في المنام فقال: «قال لي إني لم أجعلك وعاء للعلم وأنا أريد أن أعذبك - قيل له فما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقي - قيل فما فعل أبو حنيفة؟ قال: فوق أبي يوسف بطبقات» . وربما اتفق أن يكون فيما يختم به الترجمة من الشعر غضاضة ما على صاحب الترجمة فيغتفرها الخطيب في سبيل تزيينه (التاريخ) كما فعل في ترجمة الأصمعي حيث ذكر البيتين المعروفين: لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشبات أعظماً تبغض النبي وأهل الـ ... بيت والطيبين والطيبات وهذا مع تبجيل الخطيب للأصمعي وأنه لا غرض له في ذمة، فاتفق له ما هو دون هذا بكثير في ترجمة أبي يوسف، ذكر ما روي عن معروف الكرخي أنه قال: «رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قصر قد بني وثم شرفه ... فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لأبي يوسف القاضي ... بتعليمه الناس الخير ... » ثم ذكر تاريخ وفاته وذكر من طريق هشام ابن الكلبي أبياتاً ذكر أنها أنشدت على قبر أبي يوسف عقب وفاته أولها:

263- الهيثم بن جميل

سقى جدثاً به يعقوب أمسى ... من الوسمى منبجس ركام (1) وفيها تنكيت شعري خفيف بلا سبب ولا لعن، فجاء الكوثري فذكر الأصمعي وغضب عليه لروايته ما سمع، وتجني عليه وذكر بدون أدنى مناسبة بيتي اللعن تشفياً من الأصمعي فقط، ثم في ترجمة محمد بن الحسن ضج وعج وهاج وماج وطول ينقم على الخطيب إيراد الإثبات المذكورة، والوقت أعز من أن نضيعه في تعقب تهويل الكوثري فأما ابن الكلبي فكما قال. 263- الهيثم بن جميل. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريق عبد الله بن خبيق قال: سمعت الهيثم بن جميل يقول: سمعت أبا عوانة يقول: كان أبو حنيفة مرجئا يرى السيف ... ، قال الأستاذ ص 71: «قال ابن عدي: لم يكن بالحافظ يغلط على الثقات» . أقول: روى عبد الله بن أحمد عن أبيه: «كان أصحاب الحديث ببغداد أبو كامل وأبو مسلمة الخز الخزاعي والهيثم، وكان الهيثم أحفظهم وأبو كامل أتقنهم» . ذكر هذا في (التهذيب) في ترجمة أبي كامل مظفر بن مدرك ثم قال: «وحكى أبو طالب عن أحمد نحوه وزاد: لم يكونوا يحملون عن كل أحد، ولم يكتبوا إلا عن الثقات» وذكر في ترجمة الهيثم قول أحمد: «ثقة» قال: «وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال إبراهيم الحربي: أما الصدق فلا يدفع عنه، وهو ثقة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ» . وذكر قبل ذلك قول ابن سعد « ... وكان ثقة» أما الغلط فذكر له الذهبي في (الميزان) حديثاً واحداً، فإن كان هو الذي أشار إليه ابن عدي، فابن عدي هو الغالط، والحديث هو ما رواه الهيثم عن أبي عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد

_ (1) كذا هو بخط المصنف رحمه الله تعالى، والذي في «التاريخ» في المكان الذي أشار إليه (14 / 262) : « ... أضحى رهيناً لليل هزج ركام» . وكذا هو في «التأنيب» (ص 177) ، فالظاهر أن المؤلف كتب البيت من حفظه، لا نقلا عن «التاريخ» ، ويؤيد ذلك أنه ليس فيه قول المؤلف: «على قبر أبي يوسف عقب وفاته» . ن.

264- يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي

بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. كأن المغلط بنى على أن هذا المتن معروف من رواية سفيان الثوري عن عبد الأعلى، فأما أبو عوانة فالمعروف من روايته عن عبد الأعلى بهذا السند حديث «لتقوا الحديث عني إلا ما علمتم من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ويجاب عن هذا بأن في (مسند أحمد) ج 1 ص 323. حدثنا أبو الوليد ثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى ... اتقوا الحديث عني ... ومن كذب في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» فجمع بين الجملتين، وأخرج الترمذي عن سفيان بن وكيع عن سويد عمرو الكلبي عن أبي عوانة نحوه وقال في الجملة الثانية «ومن قال في القرى، ... » فتبين أن المتنين حديث واحد اقتصر الثوري في روايته عن عبد الأعلى أحدهما، واقتصر أبو عوانة في روايته الهيثم على الآخر، وجمعهما في رواية أبي الوليد وسويد بن عمرو. وفي (سنن البيهقي) ج 7 ص 462 من طريق ابن عدي بسنده إلى الهيثم «نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحرم الرضاع إلا ما كان في الحولين» ثم حكى عن ابن عدي قال: «غير الهيثم يوفقه علي ابن عباس» وذكره الدارقطني في (السنن) ص 498 ثم قال: «لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ «. أقول: فإن حكم للهيثم كما قد يشعر به كلام الدارقطني فذاك، وإن ترجح خطؤه حكما يشير إليه كلام ابن عدي فمثل هذا الخطأ اليسير لم يسلم منه كبار الأئمة كما يعلم من كتب العلل. ومع ذلك فحكاية الهيثم عن أبي عوانة في شان أبي حنيفة بمظنة للخطأ. والله المستعان. (1) 264- يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي. في (تاريخ بغداد)

_ (1) الهيثم بن خلف الدوري راجع (الطليعة) ص 51- 52 وراجع ما مر في ترجمة المسيب بن واضح وراجع (تاريخ جرجان) ترجمة سعيد بن سلم.

265- يحيى بن عبد الحميد الحماني

13 / 372 من طريق «يعقوب بن سفيان حدثني علي بن عثمان بن نفيل حدثنا أبو مسهر حدثنا يحيى بن حمزة وسعيد يسمع أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلاً عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأساً. فقال سعيد: هذا الكفر صراحاً» . قال الأستاذ ص 39 «يحيى بن حمزة قدري لا يتخذ قوله ضد أئمة السنة حجة» . أقول: أما قوله من رأيه فربما، وأما روايته فلا وجه لردها كما مر تحقيقه في القواعد، وقد وثقه ابن معين ودحيم وأبو داود والنسائي ويعقوب بن شيبة وغيرهم، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وسائر الأئمة ولم يغمز بشيء سوى القدر، ولم يكن داعية، وقد توبع في هذه الحكاية كما مر في ترجمة القاسم بن حبيب - والله أعلم. 265- يحيى بن عبد الحميد الحماني. في (تاريخ بغداد) 13 / 379 من طرق مسدد بن قطن سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد يقول: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق» قال الأستاذ ص 56: «متكلم فيه إلى أن قيل فيه: كذاب» . أقول: أما يحيى بن معين فكان يوثقه ويدافع عنه، وقد تضافرت الروايات على أن يحيى بن عبد الحميد كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها عن شيوخهم، فإن كان يصرح في ذلك بالسماع فهذا هو المعروف بسرقة الحديث، وهو كذاب، وإلا فهو تدليس، وعلى كل حال فلم يتهم بوضع حديث أو حكاية، والأستاذ يعترف بأن أبا حنيفة كان يرى أن القرآن مخلوق ويعد ذلك من مناقبه. (1) 266- يزيد بن يوسف الشامي. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريقة «قال لي أبو إسحاق الفزاري جاءني نعي أخي من العراق ... » قال الأستاذ ص 70: «يقول عنه ابن معين: ليس بثقة. والنسائي: متروك» . أقول: عبارة النسائي «متروك الحديث» وقال أبو داود: «ضعيف» وقال صالح بن

_ (1) قلت: ومن ارتاب في ذلك فليراجع «التأنيب» (ص 53) . ن.

267- يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي

محمد: «تركوا حديثه» وحكى ابن شاهين في (الضعفاء) أن ابن معين قال: «كان كذاباً» وقد أجمل بعضهم القول فيه، وتوبع على أصل القصة لكن في روايته زيادة أن أبا حنيفة هو الذي أفتى أخا أبي إسحاق بالخروج فتشبث الأستاذ في كلامه في أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري بهذه الزيادة كما مر في ترجمة أبي إسحاق، وتغافل عن تفرد يزيد هذا بتلك الزيادة. والله المستعان. 267- يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي. قال الأستاذ ص 100: «يقال: إنه كان يتكلم في عثمان» . أقول: يعقوب إمام جليل علماً وحفظاً وإتباعا للسنة عنها، وهذه الساقطة التي لقطها الأستاذ أشار إليها الذهبي في ترجمة يعقوب من (تذكرة الحفاظ) ج 2 ص 146 قال «قيل إنه كان يتكلم في عثمان رضي الله عنه، ولم يصح» ! 268- يوسف بن أسباط. في (تاريخ بغداد) 13 / 324 من طريق «محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني» قال الأستاذ ص 17 «من مغفلي الزهاد، دفن كتبه واختلط، واستقر الأمر على أنه لا يحتج به، وأين هذا السند من سند الخبر الذي يليه في (تاريخ الخطيب) نفسه وفيه: وولد ثابت على الإسلام ... وجد أبي حنيفة النعمان بن قيس المرزبان بن زوطى بن ماه كان حامل راية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم النهر - كما ذكره ... السمناني في كتاب (روضة الفضلاء) ... ودعاء علي كرم الله وجهه لوالد أبي حنيفة في عهد جده مما ساقه الخطيب بسنده ... بل لم يكن بين أجداده نصراني أصلاً لأنه منحدر النسب من دم فارسي» . أقول: أما التغفيل والاختلاط فمن مفتريات الكوثري، وأما دفن كتبه فصحيح، وكذلك فعل آخرون من أهل الورع، (1) كانوا يرون أن حفظ الحديث

_ (1) هذا من قبيل إضافة المال، والعلم أعز منه، فأين هو من الورع؟! وبيانه في «تلبيس إبليس» 377.ن

وروايته فرض كفاية، وأن في غيرهم من أهل العلم من يقوم بالكفاية وزيادة، ويرون أن التصدي للرواية مع قيام الكفاية بغيرهم لا يخلو من حظ النفس بطلب المنزلة بين الناس. ثم لم يتصد يوسف للرواية بعد أن دفن كتبه ولكن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرغب في الطاعة ويحذر من المعصية، ويحض علي أتباع السنة / وينفر عن البدعة، فربما احتاج لآي أثناء ذلك؟ قال ابن معين: «ثقة» وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان من عباد أهل الشام وقرائهم، سكن إنطاكية وكان لا يأكل إلا الحلال، فإن لم يجده استف التراب، وكان من خيار أهل زمانه، مستقيم الحديث، ربما أخطأ مات سنة 195» فعبارة ابن حبان تعطي أن خطأه كان يسيراً لا يمنع من الاحتجاج حيث لم يتبين خطؤه، ويشهد لذلك إطلاق ابن معين أنه ثقة. وقال البخاري: «كان قد دفن كتبه فصار لا يجيء بالحديث كما ينبغي» . وهذا يشعر بأنه كان يكثر منه الخطأ في مظانه، وقريب من ذلك قول ابن عدي: «من أهل الصدق إلا أنه لما عدم كتبه صار يحمل على حفظه فيغلظ ويشتبه عليه ولا يعتمد الكذب وبالغ الخطيب فقال: «يغلط في الحديث كثيراً» . فأما قول الأستاذ: «وأين هذا من سند الخبر الذي يليه» فذاك الخبر من طريق عمر ابن حماد بن أبي حنيفة قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى فأما زوطى فإنه من أهل كابل، وولد ثابت على الإسلام وكان زوطى مملوكاً لبني تيم الله ثعلبة فأعتق ... » فهذا الخبر وإن خالف ما مر عن يوسف بن أسباط، فهو مخالف لما زاده السمناني عصري الخطيب كما يقوله الأستاذ ولم يذكر السمناني سنداً فيما يظهر وبينه وبين النهروان نحو أربعمائة سنة، ومخالف أيضاً لما يروي عن إسماعيل بن حماد من إنكار أن يكونوا مولى عتاقة» وما ذكر من دعاء علي رضي الله عنه لا يصح

269- أبو الأخنس الكناني

سنده إلى إسماعيل بن حماد كما أشار إليه في (تهذيب التهذيب) ، وإسماعيل إسماعيل! وفي الحكاية ما ينكره الأستاذ وهو قوله: «ولد جدي النعمان سنة ثمانين» وإن صح أنه من أبناء فارس لم يمنع ذلك أن يكون تنصر أحد آبائه، وقد كان سلمان الفارسي نصرانياً، وفي قصته أنه كان في بلاد فارس دعاة إلى النصرانية، وأيا ما كان فالحرص على إثبات شيء مما يتعلق بذاك الاختلاف لا يليق بأهل العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» . 269- أبو الأخنس الكناني. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريق «أحمد بن على الأبار حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثني أبو الأخنس الكناني قال: رأيت أبا حنيفة - أو حدثني الثقة أنه رأى أبا حنيفة - آخذا بزمام بعير مولاة للجهم قدمت «من» خراسان يقود جملها بظهر الكوفة» قال الأستاذ ص 50: «الراوي عن أبي حنيفة في هذه الحكاية مغفل لا يدري هل رأى أبا حنيفة أو سمع من رآه» . أقول: الظاهر أن الشك ممن بعده، وأبو الأخنس هذا اسمه بكير كما ذكره الدولابي الحنفي في (الكنى) ج 1 ص 117 وساق إلى «معاوية بن صالح قال: ثنا منصور بن أبي مزاحم قال: ثنا أبو الأخنس بكير الكناني ... » وقد تعددت الحكايات في شأن أبي حنيفة وامرأة جهمية، واختلفت في نسبتها إلى جهم، ففي بعضها أنها امرأة جهم، وفي بعضها أنها مولاته، وفي بعضها أنها امرأة كانت تجالسه. والله أعلم.

270- أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي

270- أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي. في «تاريخ بغداد» 13 / 375 من طريق يعقوب بن سفيان: «حدثنا أبو جزي (بن) عمرو بن سعيد ابن سالم «صوابه سلم» قال: سمعت جدي قال: قلت: لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئاً؟ قال: نعم قلت: أكان جهمياً؟ قال: نعم «قلت» (1) : فأين أنت منه قال: أنما كان أبو حنيفة مدرساً فما كان من قوله حسناً قبلنها وما كان قبيحاً تركنها ذكر الأستاذ ص 46 أن في الطبعة الهندية والنسخة الخطية من «التاريخ» : «أبو جزي ابن عمرو» وهو الصواب ثم شكك في سعيد ابن سالم ومال إلى أنه سعيد بن سلم ثم قال: «على أنه لا يعرف له ابن يسمى عمراً ولا أبن ابن يكنى أبا جزي» أقول: بل ذلك معروف ففي الباب 41 من الجزء الرابع من «خصائص ابن حني» «أنشد الأصمعي آبا توبة ميمون بن حفص مؤدب عمرو بن سعيد بن سلم بحضره سعيد» وفي «الكامل» للمبرد ص 716: «حدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو هلابة الجرمي قال: حججنا مرة مع أبي جزي بن عمرو بن سعيد قال: وكنا في ذراه وهو إذ ذاك بهي وضي فجلسنا في المسجد الحرام: هذا أبو جزء أمير ابن عمرو وكان أميراً ابن سعيد وكان أميراً ابن سلم وكان أميرا ابن قتيبة وكان أميراً» وراجع ترجمة أحمد ابن الخليل. 271- أبو جعفر تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة زكريا يحيى الساجي قال الأستاذ ص 18: «مجهول» .

_ (1) كذا الأصل، ولا داعي لوضع المعكوفتين، فان لفظه (قلت) ثابتة في «التاريخ» ، وكأن المصنف رحمه الله كان قد نقل هذه الحكاية من «التاريخ» إلى مسودته، فسقطت هذه اللفظة من قلمه، فلما كتب الحكاية هنا، ولم ير اللفظة تنبه لها، وأن السياق يقتضيها فاستدركها مشيراً إلى ذلك بوضعها بين المعكوفتين ظاناً أنها سقطت من الأصل لا من قلمه، ولم يتنبه لها فيما سبق فاستدركتها أنا هناك. ن.

272- أبو محمد

أقول: لم يتبين لي من هو؟ (1) 272- أبو محمد. في (تاريخ بغداد 13 / 379) من طريق «العباس بن عبد العظيم حدثنا أحمد بن يونس ... » ومن طريق «محمد بن العباس - يعني المؤدب - حدثنا أبو محمد - شيخ له - أخبرني أحمد بن يونس ... قال الأستاذ ص 57: «شيخ مجهول» . أقول: إنما هي متابعة. 273- ابن سختويه بن مازيار. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريق أبي حامد ابن بلال «حدثنا ابن سختويه بن مازيار حدثنا علي بن عثمان ... » قال الأستاذ ص 48: «ليس محمد بن عمرو الشيرازي لتقدم وفاته، ولا هو إبراهيم بن محمد المزكي النيسابوري لتأخر وفاته عن وفاة أبي حامد بن بلال بدهر، ولا هو أحد أجداد المزكي لأن جد هذا البيت سختويه بن مازيار كما هنا وعلى وعلى فرض أنه أقيم عبد الله مقام مازيار يكون غير معلوم الصفة» . أقول: ينبغي أن يراجع (تاريخ نيسابور) للحاكم ولم أقف عليه. «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (2) .

_ (1) أبو عاصم راجع (الطليعة) ص 29 - 30 ولا تلتفت إلى حركة المذبوح. (2) الحشر (10) .

القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية

القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الذي من يرد به خيراً يفقه في الدين، وأشهد وألا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمد وعلى آله، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل ابراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فهذه بضع عشرة مسألة وردت فيها أحاديث ذكر الخطيب في ترجمة أبي حنيفة من (تاريخ بغداد) إنكار بعض المتقدمين على أبي حنيفة ردها، فتعرض لها الأستاذ محمد زاهد الكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب) فتعقبه في ذلك كما تعقبه في غيره وسأذكر في كل مسألة كلامه، وماله، وما عليه. وأسأل الله التوفيق.

المسألة الأولى: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس

المسألة الأولى: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس في (تاريخ بغداد) 13/389 من طريق «الفضل بن موسى السيناني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابي من يبول قلتين. يرد على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجس» . قال الأستاذ ص83: «وحديث القلتين (1) لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين (2) لأن في ذلك اضطراباً عظيماً (3) ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون (4) ولم ينفع تصحيح من صححه في الأخذ به لعدم تعين المراد بالقلتين (5) حتى أن ابن دقيق العيد يعترف في شرح (عمدة الأحكام) بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم في (الصحيح) (6) فدعونا معاشر الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نغطس في المستنقعات» . أقول: في هذه العبارة ستة أمور كما أشرت إليه بالأرقام. فأما الأمر الأول فالمنقول عن السلف قبل أبي حنيفة وفي عصرها مذهبان: الأول: أن الماء سواء أكان قليلاً أم كثيراً لا ينجس إلا أن تخالطه النجاسة فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، وإليه ذهب المالك، وكذلك أحمد في رواية وهو أيسر المذاهب علماً وعملاً، وقد جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث

أن الماء طهوراً لا ينجسه شيء (1) وجاء في الروايات استثناء ما غيرت النجاسة أحد أوصافه، وهي ضعيفة من جهة الاسناد، ولكن حكوا الاجماع على ذلك. المذهب الثاني: أن هذا حكم الماء الكثير بحسب مقداره في نفسه فأما القليل فينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يغير أحد أوصافه، والقائلون بهذا يستثنون بعض النجاسات كالتي لا يدركها الطرف، والتي تعم بها البلوى وميتة ما لا دم له سائل، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم المشهور في التقدير أن ما بلغ قلتين فهو كثير وما دون ذلك فهو قليل جاء في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث القلتين، وروي من قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي هريرة، ومن قول مجاهد وغيره من التابعين، وأخذ به نصاً عبيد الله بن عبد الله بن عمر وبعض فقهاء مكة، والظاهر أن كل من روى الحديث من الصحابة فمن بعدهم يأخذ به، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا بإثبات خلافة، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدير آخر، فأما من بعده فرويت أقوال: أولها عن ابن عباس ذكر ذنوبين (2) ، وفي سنده ضعف، ولو صح لما تحتمت مخالفته للقلتين فإن ابن عباس معروف بالميل إلى التيسير والتوسعة فلعله حمل القلتين على الإطلاق فرأى أنه يصدق بالقلتين الصغيرتين اللتين تسع كل منها ذنوباً (3) فقط. ثانيها: عن سعيد بن جبير ذكر ثلاث قلال، وسعيد كان بالعراق فكأنه رأى قلال العراق صغيرة، كما أشار الشافعي القرب إلى ذلك في القرب، فحرز سعيد أن

_ (1) - انظر تخريج الحديث طرقه ومن صححه من الأئمة في كتابنا «إرواء الغليل» رقم (12) ، وقد قاربنا الفراغ منه، ويسر الله طبعه بمنه وكرمه، وفي (صحيح أبي داود) رقم 59.ن (2) و (3) الذنوب: الدلو، والقرب مثله.

ثلاثا من قلال العراق تعادل القلتين اللتين يحمل عليهما الحديث. ثالثها: عن مسروق قال: «إذا بلغ الماء كذا لم ينجسه شيء» ونحوه عن ابن سيرين وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهؤلاء عراقيون فإما أن يكونوا لم يحققوا مقدار القلتين في الحديث بقلال العراق فأجملوا، وإما أن يكون كل منهم أشار إلى ماء معّين فأراد بقوله: «كذا» أي بمقدار هذا الماء المشار إليه، وقد ثبت بقولهم أنهم يرون التقدير، ولأن يحمل ذلك على التقدير المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من أن يحمل على تقدير لا يعلم له مستند من الشرع. رابعها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أربعين قلة، وروي مثله من وجه ضعيف عن أبي هريرة، وقيل عنه أربعين غرباً (1) ، وقيل، أربعين دلواً. وهذا القول يحتمل معنيين، الأول: المعنى المعروف لحديث القلتين، والمعنى الثاني أن ما بلغ الأربعين لا ينجس البتة، إلا مخالطة نجاسة لا تغير أحد أوصافه، لأنه قلتان وأكثر، ولا بمخالطة نجاسة تغير أحد أوصافه لأن ذلك لا يقع عادة، إذ لا يعرف ذاك العصر ببلاد العرب ماء يبلغ أربعين أو أزيد تقع فيه نجاسة تغيره. والمعنى الأول يحتاج إلى الاستثناء من منطوقه فيقال: إلا أن يتغير، ومن مفهومه فيقال: إلا بعض النجاسات كميتة ما لا دم له سائل، مع ذلك لا يكون لمفهومه مستند معروف من الشرع بل المنقول عن الشرع خلافه. وأيضاً فلم يذهب إليه أحد من الفقهاء. فأما أن يترجح المعنى الثاني وتكون فائدة ذاك القول أن من ورد ماء فوجده متغيراً فإن كان من الكثرة بحيث لا يعرف عادة أن تقع فيه نجاسة تغيره فله استعماله بدون بحث، وإن كان دون ذلك فعليه أن يتروى ويبحث، وإما أن يحمل على المعنى الأول ويطرح مفهومه ويقال: لعل ذاك القول كان عند سؤال عن ماء بذاك المقدر وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فذكر الأربعين لموافقة الواقع لا للتقيد.

_ (1) الغرب: هو إناء من جلد البقر يستخرج به الماء من الآبار.

ذكر مذهب الحنفية في الماء وما عندهم فيه من الروايات

هذا، ولم أجد عن المتقدمين من الفقهاء، وغيرهم حرفا واحداً فيه التفات إلى ما اعتمده الحنفية من اعتبار مساحة وجه الماء دون مقداره وكان الأستاذ شعر بهذا فحاول عبثاً أن يشرك مع مذهبه في ذلك مذهب القلتين، إذ قال: «لم يأخذ به أحد الفقهاء قبل المائتين» وقد علم أن القول بالقلتين مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم. فأما الحنفية فذهبوا في الجملة إلى الفرق بين القليل والكثير لكنهم لم يعتبروا مقدار الماء في نفسه، وإنما نظروا إلى مساحة وجهه وعندهم في ذلك روايات: الأولى: أن الماء راكد الذي تقع فيه نجاسة لا تغير أحد أوصافه، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاج خلوص النجاسة من أحد طرفية إلى الآخر بنجس وإلا فلا. الثانية: أنه إذا كانت بحيث ذا حرك أدناه اضطرب شديد جداً كما تراه في كتبهم المطولة. واستبعد بعضهم عدم اعتبار العمق، فاشترطوا عمقاً! واختلفوا في قدره! فقيل أن يكون بحيث لا ينحسر بالاغتراف، وقيل: أربع أصابع، وقيل: ما بلغ الكعبين، وقيل: شبر، وقيل: ذراع، وقيل: ذراعان!!! واختلف على الرواية الثانية في الحركة فقيل: حركة المغتسل، وقيل المتوضئ، وقيل اليد، ولم يعتبروا وقوع الحركة إنما ذكروها لمعرفة قدر المساحة، سواء في الحكم عندهم أكان الماء عند وقوع النجاسة وبعدها ساكناً أم تحرك، وقالوا: إذا كان بالمساحة المشروطة فللمحتاج أن يغتسل النجاسة وإن لم يكن قد تحرك! وقالوا: إذا كانت مساحة وجه الماء تساوى القدر المشروط كفى وإن كان دقيقاً كأن يكون طوله مائة ذراع وعرضه ذراعاً! وقال محققهم ابن الهمام في ترجيح الرواية الأولى: «هو الأليق بأصل أبي حنيفة أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي» . أقول: والرواية الأولى فيها تحكم، والبول مثلاً إذا وقع في الماء ثم تحرك الماء خلصت ذرات البول إلى جميع الماء كما تشاهد إذا صببت قارورة مداد في حوض فقد

يظهر لون مداد في الماء واضحاً، وقد يظهر بتأمل، وقد لا يظهر ذلك بسب اختلاف قدر الماء وقدر المداد وقدر لونه، وعلى كل حال فالخلوص محقق، وإنما لا يظهر اللون لتفرق الذرات، وظنون الناس لا ترجع غالباً إلى دلالة وإنما ترجع إلى طبائعهم، فمنهم متقزز ينفر عن حوض كبير إذا رأى إنساناً واحداً بال فيه وآخر لا ينفر، ولكن لوا رأى ثلاثة بالوا فيه لنفر، وثالث لا ينفر ولو رأى عشرة بالوا فيه. وإذا جردت الرواية الأولى عن التحكم، لم يكد يتحصل منها إلا أن قائلها وَكَّل الناس إلى طباعهم، وفي عد هذا قولاً ومذهباً نظر. وقد حكى الحنفية أن محمد بن الحسن كان يقول: بعشر في عشر، ثم رجع وقال: «لا أوقت شيئاً» وعقد الشافعي لهذه المسألة باباً طويلاً تراه في الكتاب (اختلاف الحديث) بهامش (الأم) ج7ص105-125 وذكر أنه أنه ناظر بعضهم، والظاهر أنه محمد بن الحسن، وفي المناظرة: «قال قد سمعت قولك في الماء» فلو قلت لا ينجس الماء بحال للقياس على ما وصفت أن الماء يزيل الأنجاس كان قولاً لا يستطيع أحدُ رده ... قلت: ولا يجوز إلا أن ينجس شيء من الماء إلا بأن يتغير ... أو ينجس كله بكل ما خالطه؟ قال: ما يستقيم في القياس إلا هذا، ولكن لا قياس مع خلاف خبر لازم. قلت: فقد خالفت الخبر اللازم ولم تقل معقولاً ولم تقس» وقال في موضع آخر: «فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ» . وقال في موضع آخر: «ما أحسن قولكم في الماء» . أقول: فانحصر الحق في المذهبين الأولين وسقط ما يخالفهما. وأما الأمر الثاني: وهو الاضطراب في روايات ذاك الحديث فالاضطراب الضار أن يكون الحديث حجة على أحد الوجهين مثلاًَ دون الأخر ولا يتجه الجمع ولا الترجيح، أو يكثر الاضطراب ويشتد بحيث يدل إن الراوي المضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يضبط. وليس الأمر في هذا الحديث كذلك كما يعلم من مراجعة (سنن الدارقطني) و (المستدرك) و (سنن البيهقي (1)) .

_ (1) قلت: وقد بينت ذلك في «صحيح سنن أبي داود» رقم (58) .ن

الرد على الكوثري في زعمه أن حديث القلتين لم يصححه إلا المتساهلون

وأما الأمر الثالث وهو قول الأستاذ «ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون» ففيه مجازفة فقد صححه الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام، وحكى الشافعي عن مناظرة من الحنفية ويظهر أنه محمد بن الحسن أنه اعترف بثبوته، كما في كتاب (اختلاف الحديث) بهامش (الأم) ج7ص 115ولفظة «فقلت: أليس تثبيت الأحاديث التي وصفت. فقال: أما حديث الوليد بن كثير «وهو حديث القلتين» ، وحديث ولوغ الكلب في الماء، وحديث موسى بن أبي عثمان فتثبت بإسنادها، وحديث بئر بضاعة فيثبت بشهرته وأنه معروف» ؛ واعترف الطحاوي بصحته كما يأتي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، قال الحاكم في (المستدرك) ج1ص132: «حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعاً بجمع رواته ولم يخرجاه، وأظنهما والله أعلم لم يخرجاه لخلاف فيه ... » ثم ذكر الخلاف وأثبت أن ما هو متابعة تزيد الحديث قوة. وأما الأمر الرابع وهو قول الأستاذ: «ولم ينفع تصحيح صححه لعدم تعين المراد بالقلتين» ففي (فتح الباري) : «واعترف الطحاوي من الحنفية بذلك (يعنى بصحة الحديث) لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرب تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة ولم يثبت في الحديث تقديرهما فيكون مجملاً فلا يعمل به وقواه ابن دقيق العيد ... .» أقول: قال الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ومن المساكين الصغير والكبير والطويل الجسيم والقصير القضيف، ومن المماليك الصغير والكبير وقد يقال نحو ذلك في الإطعام والكسوة إذ يصدقان بتمرة تمرة وقلنسوة، وأمثال هذا في النصوص كثير، وفيها ذكر المقادير كالصاع والرطل والمثقال والميل والفرسخ وغير ذلك مما

ذكر الاختلاف في تفسير القلتين

وقع فيه الاشتباه والاختلاف، ولم يقل أحد في شيء من ذلك أنه مجمل، بل منهم من يقول بمقتضى الإطلاق، ومنهم من يذهب إلى الغالب أو الأوسط، ومنهم من يختار الأكمل فيمكن الأخذ بمعنى الإطلاق في القلتين فيؤول ذلك إلى تحقيق المقدار بما يملأ قلتين أصغر ما يكون من القلال ولا يخدش في ذلك أنه قد يكون مقدار قلة كبيرة أو نصفها مثلاً كما قد يأتي نحو ذلك في كسوة المساكين على القول بأنه يكفى ما يسمى كسوة المساكين. ويمكن الأخذ بالأحوط كما فعل الشافعي وغيره، ولا ريب أن ما بلغ قلتين من أكبر القلال المعهودة حينئذ وزاد على ذلك داخل في الحكم منطوق الحديث حتماً على كل تقدير، وهو أنه لا ينجس، وأن ما لم يبلغ قلتين من أصغر القلال المعهود حينئذ داخل في الحكم مفهوم الحديث حتماً، وهو أنه ينجس، فلا يتوهم في الحديث إجمال بالنظر إلى هذين المقدارين وإنما يبقى الشك في ما بينهما فيؤخذ فيه بالاحتياط. وقال ابن التركماني في (الجوهر النقي) : «وقد اختلف في تفسير القلتين اختلافاً شديداً كما ترى، ففسرتا بخمس قرب، وبأربع، وبأربعة وستين رطلا، وباثنين وثلاثين رطلا، وبالجرتين مطلقا، وبالجرتين بقيد الكبر وبالخابيتين، والخابية: الحُبَّ، فظهر بهذا جهالة مقدار القلتين فتعذر العمل بها» . أقول: أما الاختلاف في تفسير القلة بمقتضى اللغة فمن تأمل كلام أهل اللغة وموارد الاستعمال وتفسير المحدثين السابقين ظهر له أن القلة هي الجرة، وإنما جاء قيد الكبر من جهتين: الأولى: تفسير أهل الغريب لما ورد في الحديث في ذكر سدرة المنتهى «فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة» وقلال هجر مشهورة بالكبر، وتفخم شأن السدرة يقتضي الكبر. الثانية: تفسير المحتاطين لحديث القلتين، وفي (سنن البيهقي) ج1ص264 عن مجاهد تفسير القلتين بالجرتين ونحوه عن وكيع ويحيى بن آدم، وعن ابن إسحاق: «هذه الجرار التي يستقى فيها الماء والدواريق» وعن هشيم: «الجرتين الكبار» وعن

ذكر الاختلاف في مقدار ما تسع

عاصم بن منذر: «الخوابي العظام» . وأكثر الآخذين بحديث القلتين أخذوا بالاحتياط فاشترطوا الكبر والخابية هي الحب والحب هو الجرة أو الجرة الكبيرة، وعلى كل حال فما بلغ جرتين من أكبر ما يعهد من الجرار داخل في الحكم منطوق الحديث حتماً وما لم يبلغ الجرتين من اصغر ما يعهد من الجرار داخل في حكم مفهومه حتماً كما سلف. وأما الاختلاف في مقدار ما تسع فأكثر الأوجه التي ذكرها ابن التركماني جاءت في خبر رواه ابن جريج عن محمد بن يحيى عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً ولا بأساً» رواه أبو قرة عن ابن جريج وقال فيه: «قال محمد فرأيت قلال هجر فأظن كل قلة تأخذ قربتين» ورواه الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري عن أبي حميد المصّيِصي عن حجاج عن ابن جريج وقال فيه: «قال فأظن أن كل قلة تأخذ الفَرَقَيْن» رواه البيهقي عن أبي حامد أحمد بن على الرازي عن زاهر بن طاهر عن أبي بكر النيسابوري بإسناده مثله وزاد «والفرق ستة عشر رطلاً» ورواه الشافعي ثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج لا يحضرني ذكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً. وقال في الحديث بقلال هجر. قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. قال الشافعي: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة أو نصف القربة فيقول: خمس قرب هو أكثر ما يسع قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قرب. قال الشافعي فالاحتياط أن تكون القلة فربتين ونصف ... وقرب الحجاز كبار ... » ومسلم بن خالد وإن ضعفه الأكثر ونسبوه إلى كثرة الغلط فقد وثقة ابن معين وغيره وقالوا: كان فقيه أهل مكة وكانت له حلقة في حياة ابن جريج، وهذا الخبر مما يحتاج إليه الفقيه فلا يظن به الغلط فيه (1) وقد تابعه في الجملة أبو قرة

_ (1) قلت هذا غير مسلم، فإن لازمه قبول أحاديث الأحكام والزيادات التي تفرد بها بعض =

وهو ثقة فلفظ «القربتين» ثابت عن ابن جريج، فأما لفظ «الفرقين» فإن كان بفتح الراء فيدفعه أن قلال هجر معروفة بالكبر بحيث يضرب بها المثل كما مر، وقد قال الأزهري بعد إن عاش في هجر معروفة بالكبر بحيث ونواحيها سنين «قلال هجر والإحساء ونواحيها معروفة تأخذ القلة منها مزادة كبيرة من الماء وتملأ الرواية قلتين» والقربة تكون من الجلد واحد والمزادة من جلدين ونصف أو ثلاثة والرواية هو البعير الذي يحمل مزادتي الماء فالمراد هنا أن المزادتين اللتين يستقي فيهما على البعير تملآن قلتين،

_ = الفقهاء المتكلم فيهم أمثال أبي حنيفة وابن أبي ليلى وغيرها، وهو مما لا يقوله المؤلف ولا غيره من أهل العلم، ثم لو سلمنا بذلك هنا فإسناد الزيادة من فوق مسلم بن خالد ضعيف لجهالة من فوق ابن جريج، فإن حمل على رواية أبي قرة عنه، فهي ضعيفة أيضاً لأن يحيى بن يعمر تابعي، ومحمد بن يحيى مجهول. وأما متابعة أبي قرة، له في الجملة، فلا تفيد هنا لأن البحث خاص بزيادة «بقلال هجر» وهى مما لم يتابعه عليها أبو قرة، وهب أنه قد توبع فهي لا تثبت لما عرفت من الضعف. على أن قوله «وقال في الحديث: بقلال هجر» ليس صريح في الوقف. فيسقط الاستدلال بها جملة. ثم كيف يمكن أن تكون زيادة محفوظة، ولم ترد في شيء من طرق الحديث المحفوظة التي بها ثبتت أصل حديث القلتين لا برواية مسلم بن خالد له، بل القواعد الحديثية تعطى أن هذه الزيادة منكرة لتفرد ابن خالد بها وقد ضعفه الأكثرون. والحق أن حديث القلتين مع صحته، فالاستدلال به على ما ذهب إليه الشافعية صعب إثباته، وعليه اعتراضات كثيرة لا قبل لهم بردها، ولقد جهد المؤلف رحمه الله لتقرير الاستدلال به وتمكينه من بعض الوجوه من حيث منطوقة ومفهومه، ولم يتعرض للإجابة عن الاعتراضات المشار إليها، فمن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى تحقيق ابن القيم في «تهذيب السنن» (1/56-74) . والمختار في هذه المسألة إنما هو المذهب الأول الذي قرره المؤلف رحمه الله تعالى، لأن حديثه مع ثبوته فالاستدلال به سالم من أي اعتراض علمي، بل هو الموافق لسماحة الشريعة ويسرها. ن

بعض الأحاديث الضعيفة في تحديد القلتين

فكيف يعقل أن يكون ما تسعه القلتان من قلال هجر من الماء أربعة وستين رطلاً فقط؟ فإما أن يكون لفظ «الفرقين» تصحيفاً من بعض الرواة والصواب «القربتين» وإما أن يكون «الفرقين» بسكون الراء، والفرق بسكون الراء مائة وعشرون رطلاً وما وقع في رواية البيهقي عن الرازي عن زاهر «الفرق ستة عشر رطلاً» تقدير من بعض الرواة ظن الفرقين بفتح الراء، وزاهر فيه كلام. وأما ما ذكره ابن التركماني من تفسير القلتين معاً باثنتين وثلاثين رطلاً فإنما أخذه من قوله «وقد جاء ذكر الفرق من طريق آخر أخرجه ابن عدي من جهة المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء وذكر أنهما فرقان» قال ابن تركماني: وهذا يقتضي أن تكون قلتان اثنين وثلاثين رطلاً. والمغيرة هذا ضعفه ابن عدي، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه صالح، وعن أبي زرعة: جزري لا بأس به» أقول: الرواي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعناً شديداً لا يزيده ثناء بعض الغرباء عليه إلا وهناً، لأن ذلك يشعر بأنه كان يتعمد التخطيط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فظن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حله. وهذه حال المغيرة هذا فإنه جزري أسقطه محدثو الجزيرة فقال أبو جعفر النفيلي: لم يكن مؤتمناً. وقال علي بن ميمون الرقي: كان لا يسوى بعرة. وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان كأنهما لقياه في رحلتهما فسمعا منه فتزين لهما كما تقدم فأحسنا به الظن. وقد ضعفه ممن جاء بعد ذلك الدارقطني وابن عدي لأنهما اعتبرا أحاديثه، وحسبك دليلاً على تخليطه هذا الحديث فإن الناس رووه عن ابن إسحاق عن ابن عبد الله بن عمر عن أبيه ولا ذكر فيه لقلال هجر ولا للتقدير فخلط فيه المغيرة ما شاء. وهذا والذي في (الميزان) في ترجمة المغيرة هذا « ... عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، والقلة أربعة آصع»

الجواب عن احتجاج الحنفية بحديث النهي عن البول

ففي هذا أن القلة الواحدة اثنان وثلاثون رطلاً لا القلتان معاً، والصاع عند العراقيين ثمانية أرطال، وقد يكون المغيرة رأى في بعض الروايات التقدير بالفرقين بتقدير الراء كما تقدم، وهو تالف على كل حال. هذا والفرقان بسكون الراء قريب من قربتين وشيء من قرب الحجاز فإنها كبار كما ذكره الشافعي فالفرقان مائتان وأربعون رطلاً، ومر عن الشافعي وشيخه مسلم بن خالد صاحب ابن جريج جعل شيء نصفاً وحررّ بعض أصحاب الشافعي القربة مائة رطل فتكون قلة مائتين وخمسين رطلا فتقاربت روايتا الفرقين والقربتين وشيء. فأما ما روى عن الإمام أحمد أن القلتين أربع قرب فكأنه رجح رواية أبي قرة عن ابن جريج ورأى أن قلتين في أصل الحديث مطلقتان، وأن قلال هجراً أكبر من قلال المدينة فرأى أن الزيادة على أربع قرب غلو في الاحتياط لا حاجة إليه. وأما قول إسحاق بن راهويه أن القلتين ست قرب فكأنه أخذه من قول الشافعي خمس قرب مع قوله أن قرب الحجاز كبار فاحتط إسحاق فجعلها ست قرب بقرب العراق. وعلى كل حال فذاك المقدار أعنى خمس قرب من قرب الحجاز داخل هو وما زاد عليه في حكم منطوق الحديث حتماً أعني أنه لا ينجس، لأنه يشتمل على قلتين أو قلتين وزيادة على جميع التفاسير، فدلالة الحديث على أنه لا ينجس حتمية ... وكذلك دلالة الحديث على أن الماء القليل الذي لا يبلغ أن يكون قلتين في تفسير من التفاسير ينجس واضحة، فبطلت دعوى تعذر العمل بالحديث، وتحتم على من يعترف بصحته أن يعمل به فيما ذكر. وأما الأمر الخامس وهر الاحتجاج بحديث الماء الدائم فإنه صح في ذلك حديثان: الأول: في النهى عن البول فيه. ففي (صحيح مسلم) من حديث جابر «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يبال في الماء الراكد» ومن حديث أبي هريرة «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه» وفي رواية «لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه»

وحديث أبي هريرة في (صحيح البخاري) وفيه: «ثم يغتسل فيه» فقد يقال من جانب الحنفية: ها هنا ثلاث قضايا: الأولى: فرق الحديث بين الراكد وغيره وهو قولنا. الثانية: دلّ على البول في الماء الراكد ينجسه، ولم يشترط التغير فهو حجة لنا على من يشترطه. الثالثة: قال في رواية البخاري: «ثم يغتسل فيه» وهو ظاهر في شمول الحكم للماء الذي يمكن الإنسان أن يغتسل فيه، ولابد أن يكون أكثر من قلتين فهو حجة لنا على من يقول بالقلتين. أقول: أما القضية الأولى فدلالة الحديث على التفرقة إنما هي بمفهوم المخالفة، والحنفية لا يقولون بها فيلزمهم إلحاق الجاري بالراكد قياسياً أو يقيموا على مخالفته دليلاً آخر. أما نحن فنقول بدلالة مفهوم المخالفة ولكننا نقول ليس وجه المخالفة ما توهمه الحنفية أو بعضهم حتى قال بعضهم «إناءان ماء أحدهما طاهر، والآخر نجس فصبا من مكان عال فاختلطا في الهواء ثم نزلا طهر كله! ولو أجرى ماء الإناءين في الأرض صار بمنزله ماء جار» وقال بعضهم «لو حفر نهراً من حوض صغير أو صب رفيقه الماء في ميزاب وتوضأ فيه وعند طرفة الآخر إنا يجتمع فيه الماء جاز توضؤه به ثانياً وثم وثم» وذكروا أن هذا معتبر حتى على القول بنجاسة الماء المستعمل، وقضية هذا أنه لو عمد إلى جرة يصب الماء منها في ميزاب وقعد آخر على وسط الميزاب يبول يبول فيه ويسيل بوله مع الماء وعلى طرف الميزاب إناء يجتمع فيه ذاك الماء كان ذاك الماء الذي خالطه البول واجتمع في ذاك البول الإناء طاهراً مطهراً مع أنه لو وضع في الجرة ابتداء. شيء يسير من ذاك البول لصار ماؤها نجساً! ولا يخفى أن مثل هذا الفرق لا يعقل له وجه، وإنما الماء الجاري الخارج بمفهوم المخالفة في الحديث هو بمقتضى التبادر والنظر ما كان جارياً بطبعه كالأنهار والعيون مما ليس مفسدة البول فيه كمفسدة البول في الراكد فإن الراكد

تصويب المصنف أن في النهي المذكور عدة علل

يختلط به البول ويبقى بحاله فإن اغتسل منه البائل وغيره كان مغتسلاً بماء مخالطه البل من أول اغتساله إلى آخره. وأما الجاري كماء النهر فإن الدافعة التي وقع فيها البول تذهب فوراً ولا تعود فلا يمكن البائل أن يعود فيغتسل فيها وإنما يمكنه أن يعود فيغتسل في تلك البقعة ولا صغير، فان الماء الذي يكون فيها ماء جديد لم يخالطه بوله، ومن شأن الماء الجاري أن يتلاحق فلا تكاد تمر الدافعة التي وقع فيها البول مسافة لهم قدر حتى يتلاحق بها الماء المتجدد فيتغلب عليها وعلى أنها حفظت بعض حالها حتى مرت بإنسان يغتسل فسرعان ما تجاوزه ويعقبها الماء الجديد بل المتجدد فيذهب بأثرها فهذا هو المعنى المعقول الذي به خالف الجاري الراكد فوجب البناء عليه وبذلك على الجواب. وأما القضية الثانية فلو دل الحديث الجابر على تنجس الراكد بالبولة الواحدة لدل على تنجس كل ماء راكد قل أو كثر حتى البحر الأعظم فالصواب أن هناك عدة علل إذا خشيت واحدة منها تحقق النهي: الأولى: التنجيس حالاً إما بأن يكون الماء قليلاً جداً تغيره البولة الواحدة، وإما بأن يكون دون المقدار الشرعي وقد تقدم الكلام فيه. الثانية: التنجيس مآلاً وذلك أنه لو لم ينه عن البول في الماء الراكد لأوشك أن يبول هذا ثم يعود فيبول ويتكرر ذلك وكذلك يصنع غيره فقد يكثر البول حتى يغير الماء فينجسه. الثالثة: التقدير حالاً، قال الشافعي كما في هامش (الأم) ج7ص111 «ومن رأى رجلاً يبول في ماء نافع قذر الشرب منه والوضوء به» وقال قبل ذلك: «كما ينهى أن يتغوط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي الناس إليها لما يتأذى به الناس من ذلك» الرابعة: التقذير مآلاً؛ قد يكون الغدير أو المصنعة كبيراً جداً لا يقذره الإنسان لبولة واحدة لكن إذا علم أن الناس يعتادون البول فيه قذره.

علة النهي عن الاغتسال في ماء دائم بال فيه

الخامسة: فشّو الأمراض، فقد تحقق في الطب أن كثيراً من الأمراض إذا بال المبتلى بأحدها خرجت الجراثيم المرض مع البول فإن كان البول في ماء راكد بقيت تلك الجراثيم حتى تدخل في أجسام الناس الذين يستعملون ذاك الماء فيصابون بتلك الأمراض والإصابة بذلك أكثر جداً من الإصابة بالجذام للقرب من المجذوم وقد ثبت في الصحيح (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) وكثير منها أشد ضرراً من جرب الإبل وقد ثبت في (الصحيح) «لا يردون ممرض على مصلح» ، وبهذا يبقى الحديث على عمومة ولا يحتاج الى إخراج عن ظاهرة بمجرد الاستنباط فأما حال الضرورة فمستثنى من اكثر النواهي. ثم إن تحقق بعض هذه العلل في ماء يصدق علية انه ليس براكد وجب أن يشمله الحكم، أما على قول من لا يعتد بمفهوم المخالفة كالحنفية فواضح، وأما على قول من يعتد به فيخص عمومه بالقياس الواضح ولا ريب إن الشرع لا يبيح إن يلقى في الماء الجاري ما يضر بالناس أو يؤذيهم، وعلى هذا قيل لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمول المنع لكل ماء جار فيلزم اطراح المفهوم رأساً؛ قلت: بل تبقى مياه السيول ونحوها التي تمر بنفسها على مواضع النجاسة فلا يبقى وجهه لمنع الإنسان عن البول فيها على إن الذين يعتقدون بمفهوم المخالفة يشترطون ما لعلنا لو دققنا لَلَاح لنا أنه غير متحقق هنا، وفي القرآن عدة آيات لا يأخذون فيها بمفهوم المخالفة ويعتلون بوجوه إذا تدبرت وجدت بعضها وارداً هنا. وأما حديث أبي هريرة فإن كان قوله: «ثم يغتسل منه» على معنى الخبر كما قدرة القرطبي قال: «كحديث لا يضرب أحدكم امرأته ثم يضاجعها» فالكلام فيه كما مر إلا أنه زاد بقولة: «ثم يغتسل منه» التنبيه على بعض العلل كأنه قال: كيف يبول فيه ثم لعله يحتاج إليه فيغتسل منه فيتنجس أو يتقذر أو يدع الاغتسال مع حاجته إليه؟ وإذا كان هو يستقذره لبوله فيه فغيره أولى بالاستقذار، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولا يدفع هذا أن تكون هناك علة أخرى فإن النهي عام وقد

جاء مثله بدون هذا التنبيه وهو حديث جابر؛ وإن كان المعنى على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال انصب النهي على الاغتسال بعد البول كأنه قيل: لا يغتسل في ماء دائم قد بال فيه؛ ويحتمل هذا النهي عللا إحداها التنجس، ثانيتها التقذر، ثالثتها إن يكون عقوبة للبائل لان الإنسان إذا علم أنه إن بال في الماء حضر علية الاغتسال منه كان مما يمنعه عن البول، وقريب منه حديث المرأة التي لعنت ناقتها فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخلية الناقة كأنة جعل عقوبة المرأة على لعنها الناقة أن لا تنتفع بها لكي تزجر هي وغيرها عن اللعن، فأي واحدة من هذه العلل وجدت النهي وبذلك يساوق التعليل عموم النص؛ وإن كان المعنى: لا يبل في الماء الدائم فإن عصى فبال فلا يغتسل منه فآخره كما ذكر، وأوله كما مر في حديث جابر. وأما القضية الثالثة فقد مر ما يعلم بها الجواب عنها، على أن الماء إذا كان دون القلتين بقليل وكان في حفرة ضيقة أو حوض بقدر قعدة الإنسان إلا أنه عميق أمكن الانغماس فيه لأنه إذا قعد ارتفع الماء من جوانب فيغمره، ومع ذلك فالاغتسال في الماء يصدق بأن يقعد وسطه ويغرف على نفسه، وفوق هذا كلمة «فيه» كأنها شاذة، والغالب في الروايات من ذلك الوجه وغيرة كلمة «منه» . الحديث الثاني: النهى عن اغتسال الجنب فيه، وهو في (الصحيحين) عن أبي السائب «أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقال كيف يفعل يا أبا هريرة. قال: يتناوله تناولاً» . قد يستدل به على أن الماء يصير باغتسال الجنب فيه نجساً أو غير مطهر، فأما النجاسة فرويت عن أبي حنيفة ثم رغب عن ذلك الحنفية أنفسهم وأما سلب التطهير فوافقهم عليه فيما دون القلتين الشافعية والحنابلة. ومن يأبي ذلك يقول إن علة النهى هي التقذير، وقد يحتمل غير ذلك من العلل تظهر بالتأمل فيساوق التعليل عموم النص. وأما التفرقة بين دائم والجاري فقد مر ما فيها، وكذا إن قيل: إن الحديث

رد زعم الكوثري أن ابن دقيق العيد اعترف بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم (تعليق)

يدل على حصول المفسدة في لماء الذي يمكن أن يغتسل فيه الجنب ولا يكون إلا فوق القلتين فقد مر مثله والجواب عنه. وأما الأمر السادس وهو قول الأستاذ «فدعونا معاشر لحنيفة نتوضأ من الحنيفات ولا نغطس في المستنقعات» فأبى الأستاذ إلا التقليد حتى في السخرية. (1)

_ (1) أقول: لقد فات المصنف رحمه الله تعالى النظر فيما ادعاه الأستاذ من اعتراف ابن دقيق العيد بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم. فإن الواقع خلافة، فهاك نص كلامه في الشرح المذكور (1/121-1215- بحاشية «العدة» ) . «وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين، هذا الحديث العالم في النهى على ما دون القلتين، جمعاً بين الحديثين، فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقها، وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه، والخاص مقدم على العام» . فليتأمل القاري في كلا ما ابن دقيق هذا أهو اعترف أم اعتراض؟!

المسألة الثانية: رفع اليدين

المسألة الثانية: رفع اليدين في (تاريخ بغداد) 13/389 من طريق وكيع: «سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟ قال وكيع: وكان ابن المبارك رجلاً عاقلاً فقال: إن كان طار في الأولى فإنه يطير في الثانية. فسكت أبو حنيفة ولم يقل شيئاً» . قال الأستاذ ص 83: « ... (1) مع ظهور الحجة في حديث ابن مسعود ... (2) لم يسلم سند من أسانيد الرفع عند الركوع من علة (3) بل لم يصح حديث في الرفع غير حديث ابن عمر (4) وهو لم يأخذ به في رواية أبي بكر بن عياش ... (5) ودعوى أحد الفرقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة (6) وإنما المتواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون، وجماعة منهم كانوا يرفعون (7) فيدل ذلك على التخيير الأصلي (8) وإنما خلافهم فيما هو الأفضل» . أقول: أما الأمر الأول فحديث ابن مسعود كما قال الدارقطني: «تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفاً عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب» ومحمد بن جابر ذكره الأستاذ ص 116 بمناسبة ما جاء عنه أنه قال: «سرق مني أبو حنيفة كتاب حماد» فقال الأستاذ: «الأعمى قال فيه أحمد لا يحدث عنه إلا من هو شر منه» .

وترى ترجمته في قسم التراجم والحاصل أنه ليس بعمده. وحماد بن سليمان سيء الحفظ حتى قال حبيب بن أبي ثابت: «كان حماد يقول: قال ابراهيم: فقلت له والله إنك لتكذب على ابراهيم أو إن إبراهيم ليخطئ» وقال شعبة: «قال لي حماد بن سليمان يا شعبة لا توقفني على إبراهيم فإن العهد قد طال، وأخاف أن أنسي أو أكون قد نسيت» أنظر (تقدمه الجرح والتعديل) ص 165 وقوله: «لا توقفني إلخ» معناه إذا قلت: «قال إبراهيم» أو نحو ذلك فلا تسألني أسمعته من إبراهيم لا؟ فيتبين بهذا أنه قد كان يقال ك «قال إبراهيم» ونحوه فيما لا يتحقق أنه سمعه من إبراهيم. وقد أجاب ابن التركماني عن الكلام الدارقطني فدافع عن محمد بن جابر بما لا يجدي وقال: «إذا تعارض الوصل مع الإرسال، والرفع مع الوقف، فالحكم عند أكثرهم للرافع والواصل، لأنهما زادا وزيادة الثقة مقبولة» . كذا قال وقد علم أن محمد بن جابر ليس بثقة وحماداً سيء الحفظ، فالحديث ضعيف من أصله فكيف مع الخلاف؟ وقد قال الأستاذ ص153: «من أصوله - يعنى أبا حنيفة - أيضاً رد الزائد متنا كان أو سنداً إلى الناقص ... » والذي عليه جهابذة الحديث الترجيح، هذا في اختلاف الثقات وليس هذا منه كما مر. وروى النسائي من طريق ابن المبارك عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن ابن الأسود عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ألا أخبركم بصلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فقام فرفع يديه أول مرة ثم لم يعد. وقد روى الترمذي عن ابن المبارك قال: «لم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا أول مرة» وفي (سنن الدارقطني) ص 110 و (سنن البيهقي) ج 2ص79 عن ابن المبارك قال: «لم يثبت عندي ... » نحوه. قد يقال: لعل ابن المبارك عنى حديث محمد بن جابر. لكن قد دل جزمه بعدم الثبوت ومحافظته على رفع اليدين على أنه لا يرى فيما رواه عن سفيان ما يشد حديث محمد بن جابر ولو من جهة المعنى، وحديث سفيان رجاله ثقات وعاصم وإن قال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، فقد وثقه جماعة وأخرج له مسلم في (الصحيح) ، لكن هناك علل:

الأولى: أن سفيان يدلس ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث عنه تصريحه بالسماع. الثانية: أنه قد اختلف عليه قال أبو داود عقب روايته عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع وستأتي: «ثنا الحسن بن على ثنا معاوية وخالد بن عمرو وأبو حذيفة قالوا نا سفيان بإسناده هذا قال: رفع يديه في أول مرة، وقال بعضهم: مرة واحدة» وفي (مسند أحمد) ج 1 ص 442 «ثنا وكيع عن سفيان عن عاصم ... قال عبد الله: أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه في أول» وأخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع وفيه «فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة» . الثالثة: قال أحمد في (المسند) ج1ص 418: «ثنا يحيى بن آدم ثنا عبد الله بن إدريس من كتابه عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود نا علقمة عن عبد الله قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، فكبر ورفع يديه ثم ركع وطبق بين يديه وجعلها بين ركبتيه، فبلغ سعداً فقال، صدق أخي قد كنا نفعل كذلك ثم أمرنا بهذا - وأخذ بركبتيه - حدثني عاصم بن كليب بهذا» فأعل البخاري في (جزء رفع اليدين) حديث سفيان بحديث ابن إدريس وقال «ليس فيه: ثم لم يعد، فهذا أصح لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم» يشير البخاري إلى بعض الرواة لما لم ير في القصة ذكر الرفع عند الركوع وكان المشهور عن أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة فهم أن الواقع في القصة كذلك، ثم لما روى من حفظه بحسب ما كان فهم، وممن أعل حديث سفيان من الأئمة أحمد وأبو داود ,ابوحاتم ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، فمنهم من حمل الوهم على وكيع ومنهم من حمله على سفيان، وزعم بعض الناس أن اختلافهم في هذا يقتضي ردّ قولهم جملة، وليس هذا بشيء والذي يظهر أنه كان سفيان دلسه فالحمل على شيخه الذي سمعه منه، وإلا فالوهم. وراجع (نصب الراية) (ج1 ص 395) .

التطبيق عند ابن مسعود وموقف الإمام بين الاثنين

الرابعة: أنه ليس في القصة تصريح من ابن مسعود بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا في أول الصلاة، وغاية الأمر أنه ذكر أنه سيخبرهم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام فصلى بهم، فإن بنينا على رواية ابن إدريس عن عاصم فليس فيها ذكر أن عبد الله لم يرفع في غير أول الصلاة. فقد يكون رفع ولم يذكر الرواي ذلك كما لم يذكر وضع اليدين على الصدر والقراءة والتكبير للركوع، وكأنه إنما كان يهمه من ذكر القصة شأن التطبيق، وفي (مسند أحمد) ج 1ص 413 من طريق «أبي إسحاق عن أبي الأسود عن علقمة والأسود أنهما كانا مع ابن مسعود، فحضرت الصلاة فتأخر علقمة والأسود، فأخذ ابن مسعود بأيديهما فأقام أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، ثم ركعا فوضعا أيديهما على ركبهما، وضرب أيديهما ثم طبق بين يديه وشبك وجعلها بين فخذيه، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله» وبنحوه رواه منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود كما في (صحيح مسلم) . وفيه من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة نحوه وزاد قال: فلما صلى قال ... وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعاً، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وليجنأ وليطبق بين كفيه فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراهم» ؛ فأكثر الروايات لا تذكر عدم الرفع كما ترى وكثير منها لا تذكر حتى الرفع أول الصلاة فيظهر من هذا أن الذي كان يهم ابن مسعود من تعليمهم في تلك الصلاة ويهمهم من رواية القصة إنما هو مقام الثلاثة والتطبيق ولذلك لم يذكر عقب الصلاة إلا هذين إذ قال: «إذا كنتم ثلاثة ... » كما مر. فإن قيل: فقد اشتهر عن علقمة والأسود وغيرهما من أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة، ولو رأياه رفع في غير ذلك ولاسيما في تلك الصلاة لكان الظاهر أن يأخذوا ذلك عنه، فقد أخذوا عنه التطبيق وغيره؟ قلت: فقد أشار بعض أهل العلم إلى احتمال أن تكونا غفلا عن رفعه يديه في غير أول الصلاة، وأشار بعهم إلى احتمال أن يكون ابن مسعود ذهل عن الرفع

كبعض ما يسهو الرجل لأن المهم في تلك الصلاة كان بيان الموقف والتطبيق كما مر. فإن قيل هذه احتمالات بعيدة، قلت هي على كل حال أقرب من دفع ما ثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع، وما تواتر عنهم أنهم كانوا يرفعون. فإن قيل فقد ذهب بعضهم إلى احتمال النسخ، قلت: من الممتنع جداً أن يقع نسخ في مثل هذا الحكم ولا يطلع عليه جمهور الصحابة ويختص به ابن مسعود ثم يكتفي من تبليغه مع اشتهار الرفع والإطباق عليه بما وقع في القصة على فرض ثبوتها. فإن قيل فهل من شيء غير هذا؟ قلت: ذكر بعض أهل العلم أنه كما أن ابن مسعود طبق وأخبر بالتطبيق وأمر به، وقد تبين أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، واتفق الناس على ترك التطبيق، وكما قال إن موقف إمام الاثنين بينهما وخالفه الناس في ذلك واعتذروا باحتمال أن يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في بيت ضيق، فكذلك حاله في عدم الرفع إن ثبت عنه، قد يكون الرفع في غير أول الصلاة لم يشرع منذ شرعت الصلاة، فرأى ابن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام يصلى ولا يرفع إلا في أول الصلاة فأخذ ابن مسعود بذلك كما أخذ بالتطبيق والموقف، وإن كان كل ذلك كان أولاً ثم ترك، وقد يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع في بعض الصلوات لبيان أنه ليس بواجب فأخذ ابن مسعود بذلك. فإن قيل: قضية الموقف قريبة لأن غالب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجماعة بأكثر من اثنين فأما قضيتا التطبيق والرفع ففيما ذكر بعد. قلت: قد فتح الله تعالى وله الحمد بوجه يقرب الأمر في الثلاث كلها وهو أن يقال كأنه كان من رأي ابن مسعود أن النسخ لا يثبت بالترك وحده بل يبقى الأول

مشروعاً في الجملة على ما يقتضيه حاله، ويرى أن على العالم إذا خشي أن ينسى الناس الأمر الأول أن يسعى في إحيائه، فأما التطبيق فقد علم ابن مسعود أنه كان مشروعاً ثم ترك العمل به ورأى هو أن تركه ليس نسخاً له، بل إما أن يكون تركه رخصة لأنه فيما يظهر أشق من الأخذ بالركب وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يدع الأمر المستحب كراهية المشقة كما كان يعجل صلاة العشاء إذا جمعوا وأبطأ بها ليلة ثم خرج فصلى وقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» وإما أن يكونا سواء والمصلى مخير بينهما، وإما أن يكون التطبيق مندوباً أيضاً وإن كان الأخذ بالركب أفضل، وقد علم ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما يدع ما هو في الأصل مندوب ليبين للناس أنه ليس بواجب وربما يفعل ما هو في الأصل مكروه ليبين للناس أنه ليس بحرام، وكان أبو بكر وابن عباس لا يضحون، كانوا يدعون التضحية ليبينوا للناس أنها ليست بواجبة، فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على ترك التطبيق رأى أنه سنة قد أميتت فأحب إحياءها ففعله، وأمر أصحابه بفعله ولم يخش أن يؤدي ذلك إلى إماتة الأخذ بالركب، لعلمه أن مشروعية ذلك معلومة بين الناس، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قصد بيان الجواز فترك ما هو في الأصل مكروه لا يخبر بقصده بل يكل الناس إلى ما قد عرفوه من الدليل على ما هو الأصل في ذلك، وكذلك لم ينقل أن أبا بكر وعمر وابن عباس كانوا حين يتركون التضحية يبينون قصدهم بل كانوا يتكلون على ما قد عرفه الناس من مشروعيتها. وأما وقوف إمام الاثنين بينهما، فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة ثم تقدم فعلهم ابن مسعود الأمرين ولكنه رأى أن الأول لم ينسخ وأن كلا الأمرين مشروع وإن كان التقدم أفضل، ثم لما رأى الناس أطبقوا على التقدم أحب إحياء تلك السنة. وأما ترك الرفع في غير أول الصلاة فإن ثبت عن ابن مسعود فالظاهر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه، إما في أول الإسلام بأن يكون كان أولاً

يقتصر على الرفع أول الصلاة، ثم رفع في بقية المواضع، وأما بعد ذلك بأن يكون ربما ترك الرفع في غير الموضع مواظبتهم على الرفع أول الصلاة تركه لمصلحة البيان، وحال ذلك عنده دون حال التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بدليل أنه عقب تلك الصلاة أمر بهذين ولم يعرض للرفع كما مر في حديث مسلم وربما يقال قد يكون ابن مسعود علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولا يطبق ولا يرفع عند الركوع والرجوع منه، ثم ترك التطبيق ورفع، فرأى ابن مسعود أن الرفع بدل من التطبيق، فأما الأخذ بالركب فقد يكون رخصة فقط فلما بدا لابن مسعود إحياء التطبيق طبق ولم يرفع لئلا يجمع بين البدل والمبدل. والله اعلم. فهذا غاية ما يقتضيه حسن الظن بابن مسعود وهو أهل أن يحسن الظن به. وعلى كل حال فقد ثبت الرفع قطعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فعل عبادي متعلق بالصلاة ولا يعقل أن يكون الفعل مندوباً مطلقاً، ويكون الترك أيضاً مندوباً مطلقاً فما بقا الاحتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بمثل ما روي عن ابن مسعود مع ما فيه من الكلام وما يطرقه من الاحتمال، وقد ترك الصحابة في عهد عثمان تكبيرات الانتقال أو الجهر بها واستمر ذلك حتى ظن بعض التابعين أن ذلك غير مشروع كما يأتي، ولا يظهر للترك سبب إلا الترخص في ترك المندوب، ونحن لم نظن بابن مسعود في ترك الرفع ذلك ولا ما هو أبعد عن الملامة كالنسيان والذهو ل، وإنما ظننا به قصد البيان وتثبيت الحق. فإن قيل يظهر إن ابن مسعود واظب على الترك ورضي لأصحابه المواظبة عليه، قلت فكذلك في التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بل هو في هذين آكد فإنه عَقِب تلك الصلاة أمرهم بهما ولم يعرض لترك الرفع كما مر في حديث مسلم والحق أن غاية ما في الأمر أن يكون رضي لهم المواظبة مدة ليكون ذلك أوفى بما قصده من البيان، كما واظب أبو بكر وعُمر وابن عباس على ترك التضحية، ورأى ابن مسعود أنه إن خفي على أصحابه حقيقة الخال فسيعلمونها عندما يرون غيره من الصحابة وكبار التابعين

الرد على زعم الكوثري في الرفع، والإشارة إلى بعض الأحاديث الصحيحة في إثباته

ويسمعون منهم ويتدبرون فما اتفق مما يخالف ذلك فابن مسعود غير مسؤول عنه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قصد البيان فترك ما هو في الأصل مندوب أو فعل ما هو في الأصل مكروه، ربما يراه من لم يعرف الدليل السابق فيفهم خلاف المقصود، وربما توهم بعضهم النسخ، وربما يقع هذا التوهم لبعض فقهاء الأمة ويبقى ذلك في اتباعه، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة حتى في نصوص القرآن مما يقع بسببه بعض الناس في الخطأ ويبقى ذلك في أتباعه كما ترى ذلك واضحاً في اختلاف المذاهب، ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة يستيقنها المؤمن , إن لم يحط بها علماً، وليس هذا موضع النظر في ذلك (1) . وأما الأمر الثاني والثالث، وهما قول الأستاذ: «لم يسلم سند للرفع من علة ولم يصح فيه إلا حديث ابن عمر» فمجازفة، وقال البخاري كما يأتي: «لا أسانيد أصح من أسانيد الرفع» وحديث ابن عمر قطعي الثبوت عنه وصح معه عدة أحاديث منها في (الصحيحين) حديث مالك بن الحويرث، وفي (صحيح مسلم) حديث وائل بن حجر، وأشار البخاري في (الصحيح) إلى حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان وصححا حديث علي في ذلك، وفي (الفتح) : «قال البخاري في (جزء رفع اليدين) : من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه، ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع، ... وذكر البخاري أيضاً أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم ابن منده ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً» وتواتر باعتراف الكوثري الرفع عن جماعة من الصحابة بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً، وتواتره عنهم يستلزم تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في الأمر الخامس.

_ (1) علما أن الإمام معذور، ولكن ليس للمقلدة وقد عرفوا الوهم أي عذر. وانظر رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع المكتب الإسلامي. زهير

وأما الأمر الرابع، وهو قول الكوثري أن ابن عمر «لم يأخذ به في رواية أبي بكر ابن عياش» ففيه مجازفة أيضاً، فإن المراد رواية أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: «ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح» . ولو صح هذا عن مجاهد لما دل على أن ابن عمر لم يرفع، فكيف أن يدل على انه لم يأخذ بالحديث؟ وأنا أذكر جماعة من العلماء وغيرهم صحبتهم مدة وصليت معهم وأتذكر الآن هل أذكر رفعهم عند الركوع أو ولكني تحريت ذلك في جماعة، فأنا الآن أذكر بعد طول العهد. ومجاهد لم يقل: رأيت ابن عمر لا يرفع، وإنما قال - إن صحت الحكاية عنه: «ما رأيت ابن عمر يرفع ... » وهذا يشعر بأنه لا ينفي أن يكون ابن عمر ورفع ولم يروه مجاهد، ومذهب مجاهد الرفع كما ذكر البخاري وغيره، فإن صح عنه ذاك القول فكأنه لم يتفق له أن يتحرى تفقد ابن عمر في رفعه، ,وإنما اتفق أنه شاهده رفع في أول الصلاة، ثم اشتعل مجاهد بصلاة نفسه. وقد صح عن ابن عمر أنه كان ربما يرفع رفعاً تاماً وربما يتجوز، ذكر مالك في (الموطأ) عن نافع «أن ابن عمر كان إذا ابتداء الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذ رفع رأسه من الركوع رفعها دون ذلك» وفي (سنن أبي داود) عن ابن جريج قال: «قلت نافع: أكان ابن عمر وصح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الرفع حذو المنكبين في الأولى وغيرها، قال الباجي في (المنتقى) : «ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر كان يفعل الأمرين جميعاً ويرى ذلك واسعاً فيهما» . أقول: يدل مجموع الروايات عن ابن عمر أنه كان يرى أن أكمل الرفع أن تحاذي يداه منكبيه، وأن أصل السنة يحصل بما دون ذلك ولا سيما إذا كان هناك عذر، فكأن ابن عمر لما كبر وضعف كان ربما يتجوز في الرفع فيرفع إلى الثديين أو نحو ذلك، وربما يرفع في الأولى رفعاً تاماً لأنها آكد ويتجوز في الباقي. وكان ابن جريج جوزّ أن يكون المشروع التفرقة بأن يكون الرفع في الأولى أعلى، وسأل عن فعل ابن عمر ليستدل به على ذلك وفهم نافع هذا فأجابه بحسبه، فمحصل

الجواب أن ابن عمر لم يكن يتحرى التفرقة تحرياً يشعر بأنها مشروعة، بل كان ربما كان ربما يتجوز في الأولى أيضاً. فمن الجائر في الحكاية عن مجاهد أنه كان وراء ابن عمر غير قريب منه فاتفق أن ابن عمر رفع في الأولى رفعاً تاماً رآه مجاهد، وتجوز في الباقي فلم يره. ومن الجائز أن يكون ابن عمر سها في تلك الصلاة التي رقبه فيها مجاهد إن كان رقبه، وقد قال البخاري في (جزء الرفع اليدين) في الجواب عن تلك الحكاية: «قال ابن معين: إنما هو توهم لا أصل له، أو هو محمول على السهو كبعض ما يسهو الرجل في صلاته ولم يكن ابن عمر ليدع ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما رواه عن ابن عمر مثل طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وأبي الزبير أنه كان يرفع يديه ... » وروي البخاري في (جزء رفع اليدين) عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. وإذا ترك ابن عمر الرفع في بعض صلاته سهواً أو ضعفاً لم يصدق عليه مع ما تواتر عنه من الرفع أنه لم يأخذ بالحديث، فكيف والذي في تلك الحكاية إنما هو نفي الرؤية لا نفي الرفع ولا تلازم بين النفيين كما سلف. ومع هذا كله فأبو بكر بن عياش عندهم شيء الحفظ كثير الغلط، ولم يخرج له البخاري في (الصحيح) إلا أحاديث ثبتت صحتها برواية غيره كما تراه في (مقدمة الفتح) ولم يخرج له مسلم شيئاً إلا أنه ذكر في (المقدمة) عنه عن مغيره ابن مقسم قال: «لم يكن يصدق على على رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود» ، فلو كانت روايته هذه مخالفة لما ثبت برواية الجماعة عن ابن عمر لوجب ردها كما لا يخفى. وأما الأمر الخامس وهو قول الأستاذ: «ودعوى أحد الفريقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة» . فكأن الأستاذ انتقل ذهنه من التواتر إلى الإجماع، فإن الإجماع هو الذي يسوغ أن يقال: لا تسمع دعواه في مواضع الخلاف للإجماع. فأما التواتر فلا منافاة بينه وبين الخلاف المتوارث كما ستراه، بل إن الخلاف المتوارث إذا لم يثبت أن ابتداءه

الرد عليه في زعمه أن دعوى التواتر في الرفع غير مسموعة

كان عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوراً لم يمنع من دعوى إجماع سابق، فلنا أن ندعي في قضيتنا هذه إجماع الصحابة، لأن جماعة منهم رووا الرفع وتواتر العمل به عن كثير منهم كما اعترف به الكوثري، بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً فاشتهر ذلك وانتشر ولا يعرف عن أحد منهم ما يدل على أنه غير مشروع، فأما ما روي عن بعضهم أنه تركه فلم يثبت، وقد مر الكلام على ما روي عن ابن مسعود ويأتي الكلام على غيره، ولوثبت بعض ذلك فإنما هو ترك جزئي، أي في ركعة واحدة أو صلاة واحدة، وذلك لا يدل على أن التارك يراه غير مشروع، وإذ قد يكون ترخص لعذر أو لغير عذر في ترك ما يعلمه مندوباً. بل لوثبت أن بعضهم تركه مدة طويلة لما دل ذلك على أنه يراه غير مشروع، فقد جاء عن أبي بكر وعمر وابن عباس أنهم كانوا لا يضحون. بل قد ثبت أن الصحابة تركوا في عهد عثمان تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها، واستمر ذلك حتى أن علياً لما قدم العراق وصلى بهم وأتى بالتكبيرات الخفض والرفع أو الجهر قال عمران بن حصين كما في (الصحيحين) وغيرهما «ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وقال أبو موسى الأشعري فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح في (الفتح) «ذكرنا الصلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما نسيناها وإما تركناها عمداً» واستمر الترك بالحجاز حتى أن أبا هريرة حين استخلفه مروان على إمارة المدينة في عهد معاوية صلى بهم فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكروا ذلك، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كما في (صحيح مسلم) : «قلنا يا أبي هريرة ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وصلى بهم بمكة فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكروا ذلك، وقال عكرمة كما في (صحيح البخاري) وغيره «فقلت لابن عباس إنه أحمق، قال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -» . فأما التواتر فأمره واضح، فإنه قد يحصل لشخص دون آخر، وقد جاء عن ابن مسعود أنه كان يقول أن المعوذتين ليستا من القرآن واعتذر أهل

الرد عليه في قوله أنه تواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون

العلم عنه بأنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصرح بقرآنيتهما ولا تواتر ذلك عنده مع أن من المقطوع به تواتر ذلك عند غيره، فلا يخدش في تواتر الرفع مخالفة بعض التابعين من الكوفيين إذ لا يلزم من تواتر عند غيرهم تواتره عندهم بل عرضت لأولهم شبهة الترك فتوهموا أو بعضهم أنه غير مشروع، كما توهم غيرهم من ترك عثمان وغيره تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها أن ذلك غير مشروع حتى أنكروا على أبي هريرة كما تقدم، ثم جاء بعدهم من الكوفيين من بلغته الأحاديث والآثار ولعلمها تواترت عنده فلم تطب نفسه بترك ما ألفه واعتاده وفر إلى احتمال النسخ ورأى أن الترك أحوط له وأطيب لنفسه. وقد اعترف الكوثري بتواتر الرفع عن جماعة من الصحابة وذلك لا يستلزم تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه فعل تعبدي في الصلاة، لو لم يعلموا أنه مشروع وفعلوه، فإن فعلوه لا على وجه التعبد كان تلاعباً بالصلاة وإيهاماً لمشروعية ما لم يشرعه الله وذلك كذب على الله ورسوله ودينه، وإن فعلوه على وجه التعبد فذلك صريح البدعة الضلالة والكذب على الله والتكذيب بآياته. فهذا يثبت قطعاً أنهم كانوا يعتقدون أنه مشروع ويمتنع اعتقادهم ذلك من جهة الرأي إذ لا مجال للرأي فيه، على أن الرأي إنما يصار إليه في إثبات الفعل إذا لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه تركاً مستمراً مع قيام السبب وانتفاء المانع، ويمتنع على الذين تواتر عنهم الرفع أن يجهلوا جميعاً أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع أم لا بعد أن طالت صحبتهم له ومراقبتهم لصلاته كما أمروا به. وأما الأمر السادس وهو قول الأستاذ «المتواتر أن جماعة من لصحابة كانوا لا يرفعون وجماعة منهم كانوا يرفعون» فالشطر الثاني وهو تواتر الرفع حق، وأما الشطر الأول فلا، وهذا إمام النقل أبو عبد الله البخاري يقول كما تقدم «لم يثبت عن أحد منهم تركه وإنما نقل الترك فيه قوة ما عن ابن مسعود وقد مر النظر

فيه؛ وروي أيضاً عن عمر وعلي، فأما عمر فقد جاء عنه الرفع من روايته ومن فعله، وروي حسن بن عياش عن عبد الملك بن أبحر عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال «صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا في افتتاح الصلاة» وأُعِلّ هذا بثلاثة أوجه. الأول: أن حسن بن عياش لينه بعضهم، قال عثمان الدارمي عن ابن معين: «ثقة وأخوه أبو بكر ثقة» قال عثمان «ليستا بذاك وهما من أهل الصدق والأمانة» واتفقوا على تليين أبي بكر في حفظه حتى قال يحيى القطان: «لو كان أبو بكر بن عياش حاضراً ما سألته عن شيء» وكان إذا ذكر عنده كلح وجهه، وقال أبو نعيم الفضل بن دكين «لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطاً منه» وقد روى الثوري عن الزبير بن عدى عن إبراهيم عن الأسود «أن عمر كان يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه» لم يذكر ما في رواية الحسن أبن عياش عن ابن أبجر عن الزبير بن عدي، وكان الثوري لا يرفع، فلو كان في قصة ما ذكره الحسن لما أغفله الثوري، والخطأ في مثل هذا قريب فإنه كان عند إبراهيم حكايات عن أهل الكوفة في عدم الرفع فيقوى احتمال دخول الاشتباه على الحسن. الوجه الثاني: أن إبراهيم ربما دلس. وفي (معرفة علوم الحديث) للحاكم ص 108 من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين فأخذنا في تمييز أخبارهم فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة وسهم بن منجاب وخزامة الطائي وربما دلس عنهم» . الثالث: أنه قد روي عن عمر الرفع من روايته ومن فعله، ويكفي في ذلك ما تواتر عن ابنه عبد الله مع أنه كان ملازماً لأبيه متحرياً الافتداء به قال زيد بن اسلم عن أبيه: «ما وجد قاصد لباب المسجد داخل أو خارج بأقصد من عبد الله لعمل أبيه» رواه ابن سعد، وقد جاء عن إبراهيم أنه ذكر له الحديث ابن وائل بن حجر عن أبيه في الرفع فقال إبراهيم: «ما أرى أباه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ذاك اليوم

الرد على إبرايهم النخعي في قوله أن وائل بن حجر ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلا ذاك اليوم الواحد (تعليق)

الواحد (1) . فحفظ ذلك وعبد الله «بن مسعود» لم يحفظ عنه؟ !» فيقال لإبراهيم: إن صح عنه ما رواه الحسن بن عياش: ما نرى الأسود رأى عمر إلا ذاك اليوم الواحد أفيكون أعلم به من ابنه عبد الله بن عمر؟ ورواية وائل مثبتة محققة تثبت رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الواضع، ومعلوم أن الرفع لا يكون إلا تعبداً إذ ليس هنا داع طبيعي إلا فعله مكررا في المواضع، وإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحد ثبتت مشروعيته في الصلاة مطلقاً كما هو الشأن في غيره من أعمال الصلاة، إلا ما يثبت اختصاصه، وقد قدمنا ما يثبت أو يقوى عن أن مسعود لا يتحقق فيه منافاة لذلك، فأما في الرواية عن الأسود إن صحت إليه فمن الجائز أن يكون عمر كان إمام الأسود غير قريب منه فرفع عمر أول الصلاة رفعاً تاماً رآه الأسود ثم رفع عمر عند الركوع وما بعده رفعاً تجوز فيه كما تقدم عن ابن عمر -فلم يره الأسود فظن أنه لم يرفع أصلاً. وأما على فروى أبو بكر النهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن على رضي الله عنه «أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة ثم لا يرفع في شيء منها» وروى ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن على عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذ قام إلى الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ويصنع ذلك أيضاً إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعا إذا رفع رأسه من الركوع ... وإذا قام من سجدتين

_ (1) قلت: هذا مجرد رأي، ومع ذلك فقد صح ما يبطله، وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن كليب وائل أنه قال «لأنظرن إلى الصلاة رسول - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلى ... » قلت: فذكر الحديث وفيه رفع اليدين عند الركوع والرفع منه وقال فيه: «ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب تحرك أيديهم تحت الثياب» . وأخرجه أحمد (4/318) وله عنده (4/319) طريق أخرى عن عبد الجبار عن بعض أهله أن وائلاً قال: «أتيته مرة أخرى وعلى الناس ثياب فيها البرانس وفيها الأكيسة فرأيتهم يقولون هكذا تحت الثياب» .

رفع يديه كذلك ... » في «نصب الرواية» وغيرها عن امام أحمد بن حنبل أنه سئل عن حديث ابن أبي الزناد هذا وقال؟ فقال «صحيح وذكر البخاري في (جزء القراءة) أثر النهشلي ثم ذكر حديث حديث ابن أبي الزناد وقال «وهذا اصح» أخرج الترمذي حديث ابن أبي الزناد في «كتاب الدعوات» من (جامعه) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» وصححه أيضاً ابن حزيمة وابن حبان، وفي (سنن البيهقي) ج2ص80 عن عثمان بن سعيد الدارمي ذكر أثر النهشلي وقال: «فهذا قد روى من هذا الطريق الواهي عن علي، وقد روى عبد الرحمن عن هرمز الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفعها عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع، فليس الظن بعلي رضي الله عنه أن يختار فعله على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو يثبت به سنة لم يأت بها غيره» ، اعترضه ابن التركماني فقال: «بل الذي روي من الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع عن علي لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد» ، ثم ذكر قول الدارمي: فليس الظن.. الخ. فقال: «لخصمه أن يعكسه فيجعله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على نسخ ما تقدم» . أقول: إذا صرفنا النظر عن النهشلي وابن أبي الزناد فسند المرفوع أثبت لأن رجاله كلهم ثقات أثبات احتج بهم احتج بهم الجماعة. وسند الموقوف فيه مقال، عاصم وإن أخرج له مسلم ووثقه جماعة فلم يخرج له البخاري، وقال بن المديني «لا يحتج به إذا انفرد» وأبوه وإن وثقه ابن سعد وأبو زرعة فلم يخرج له البخاري ولا مسلم، وقال النسائي: «لا نعلم أحداً روى عنه غير ابنه وغير ابراهيم بن مهاجر، وإبراهيم مهاجر، وإبراهيم ليس بقوي في الحديث» فأما النهشلي وابن أبي الزناد فلا شك أننا إذا وازنا بينهما إجمالاً فالنهشلي أثبت أخرج له مسلم ووثقه ابن مهدي وأحمد وابن معين وأبو داود والعجلي وقال أبو حاتم: «شيخ صالح يكتب حديثه وهو عندي خير من أبي بكر الهذلي» والهذلي ضعيف جداً، وقال ابن سعد في النهشلي: «كان مرجئاً، وكان عابداً ناسكاً وله أحاديث ومنهم من يستضعفه» وأما ابن أبي الزناد فلم يحتج به

إذا اختلفوا في راو توثيقا وتليينا فهو وسط ...

صاحبا (الصحيح) وإنما علق عنه البخاري وأخرج له مسلم في المقدمة، ووثقه جماعة وضعفه بعضهم وفصل الأكثرون. وههنا أمران الأول أن أئمة الحديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم، وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطاً كالنهشلي وابن أبي الزناد. وقد صحح الأئمة حديث ابن أبي الزناد المذكور ولين البخاري والدرامي آثر النهشلي كما مر. والأمر الثاني: إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينة بعضهم ولم يأت في حقه تفصيل فالظاهر أنه وسط فيه لين مطلقاً وهذه حال النهشلي، وإذا فصلوا، أو أكثرهم، الكلام في راو فثبتوه في حال وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذ حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في حديث لم يتبين من أي الضربين هو، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله، فمن كان ثقة ثبتا ثم اختلط فهو غاية في الصحة، أو بعده فضعيف، وابن أبي لزناد من هذا القبيل فإن أكثر الأئمة فصلوا الكلام فيه، قال موسى بن سلمة «قدمت المدينة فأتيت مالك بن أنس فقلت له إني قدمت إليك لأسمع العلم وأسمع ممن تأمرني به. فقال: عليك بابن أبي الزناد» ومالك مشهور بالتحري لا يرضي هذا الرضا إلا عن ثقة لا شك فيه، ولذلك عد الذهبي هذا توثيقاً، بل قال في (لميزان) : «وثقة مالك قال سعيد بن أبي مريم قال لي خالي موسى بن سلمة: قلت لمالك: دلني على رجل ثقة، قال: عليك بعبد الرحمن بن أبي الزناد» وقال صالح بن محمد: «تكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة - يعنى الفقهاء - وقال أين كنا عن هذا؟» وإنما روي هذا بعد أن انتقل إلى العراق كما يأتي عن ابن المديني. وقال عبد الله بن علي ابن المدني عن أبيه «ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث في بغداد أفسده البغداديون، ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان، قال ولقنه البغداديون عن فقهائهم» يعني الرواية عن أبيه عن المشيخة بالمدينة أو الفقهاء بها، وهذا هو الذي حكى صالح بن محمد أن مالكاً أنكره، تبين أن ابن أبي

ترجمة بن أبي الزناد مفصلا

الزناد إنما وقع منه ذلك بالعراق، وابن مهدي إنما كان عنده عن ابن أبي الزناد مما حدث به العراق كما يدل عليه كلام ابن المديني، ويأتي نحوه عن عمرو بن علي. وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة صدوق وفي حديثه ضعف، سمعت على ابن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب وما حدث به العراق فهو مضطرب. قال علي: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي فرأيتها مقاربة» وقال عمر بن علي: «فيه ضعف فما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد» . وقال أبو داود عن ابن معين «أثبت الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد» هذا مع أنه قد روى عن هشام مالك والكبار» . وفيما حكاه الساجي عن ابن معين «عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج 'ن أبي هريرة حجة» . وقال معاوية بن صالح وغيره عن ابن معين «ضعيف» وفيما حكاه الساجي عن أحمد: «أحاديثه صحاح» وقال أبو طالب عن أحمد «يروى عنه» قال أبو طالب: «قلت يُحمل؟ قال نعم» وقال صالح بن أحمد عن أبيه: «مضطرب الحديث» وقال العجلي: «ثقة» . وقال الترمذي في «اللباس» من (جامعه) «ثقة حافظ» ، وصحح عدة من أحاديثه. وأخرج له في «المسح على الخفين» حديثه عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما. ثم قال: «حديث المغيرة حديث حسن صحيح وهو حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ... . ولا نعلم أحداً يذكر عن عروة عن المغيرة «على ظاهرهما» - غيره ... قال محمد يعني البخاري - وكأن مالك يشير بعبد الرحمن بن أبي الزناد» . فإذا تدبرنا ما تقدم تبين لنا أن لابن أبي الزناد أحوالاً: الأولى: حاله فيما يرويه عن هشام بن عروة، قال ابن معين إنه أثبت الناس فيه، فهو في هذه الحال في الدرجة العليا من الثقة.

الحال الثانية: حاله فيما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة، ذكر الساجي عن ابن معين أنه حجة. وهذا قريب من الأول. وظاهر الاطلاق أنه سواء في هاتين الحالتين ما حدث به المدينة وما حدث به ببغداد، وهذا ممكن بأن يكون أتقن ما يرويه من هذين الوجهين حفظاً فلم يؤثر فيه تلقين البغداديين، وإنما أثر فيه فيما لم يكن يتقن حفظه فاضطرب فيه واشتبه عليه. الثالثة: حاله فيما رواه من غير لوجهين المذكورين بالمدينة فهو في قول عمرو بن علي والساجي أصح مما حدث به ببغداد، ونحو ذلك قول على ابن أبن المديني على ماحكاه يعقوب وصرح ابن المدني في حكاية ابنه أنه صحيح. ويوافقه ما روي عن مالك من يوثقه إذ كان بالمدينة والإرشاد إلى السماع منه مخصصاً له من بين محدثي المدينة، ويلتحق بذلك ما رواه بالعراق قبل أن يلقنوه ويشبهو اعليه، أو بعد ذلك ولكنت من أصل كتابة، وعلى ذلك تحميل أحاديث الهاشمي عنه لثناء إن المديني عليها، بل الأقرب أن سماع الهاشمي منه أصل كتابه، فعلى هذا تكون أحاديثة عنه أصح مما حدث به بالمدينة من حفظه. الرابعة: بقية حديثة ببغداد ففيه ضعف، إلا أن يعلم في حديث منذلك أنهكان يتقن حفظه مثل اتقانه لما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة، فإنه يكون صحيحاً وعلى هذا يدل صنيع الترمذي في انتقائه من حديثه وتصحيحه لعدة أحاديث منه، وقد دل كلام الإمام أحمد أن القلتين إنما أو قعة انتقائه في لاضطراب. فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة دل ذلك على أنه من صحيح حديثه. فابن أبي الزناد الحالين الأولين وما يلتحق بهما أثبت من النهشلي بكثير، وفي الحال الثالثة إن لم يكن فوقهفليس بدونه، وفي الرابعة دونه. وهذا الحديث مما حدث به بالمدينة فان ممن وراه عنه عبد الله بن وهب كما في (سنن البيهقي) ج2ص33 بسند صحيح، وهو من أحاديث الهاشمي عنه كما في (سنن أبي داود) و (الترمذي) وغيرهما وجاء من غير وجه وتيرة واحدة وصححه من تقدم من الأئمة، فحاله فيه فوق حال النهشلي، وتأكد ذلك برجحان

سنده على سند النهشلي كما مر، وبموافقة للأحاديث الثابتة عن جماعة من الصحابة ومخالفة أثر النهشلي لمقتضى تلك الأحاديث ومقتضى الآثار المتواترة من الصحابة. على أني أقول: لا مانع من صحة أثر النهشلي في الجملة وبيان ذلك أننا إذا علمنا الاختلاف في مسألة الرفع ثم رأينا عالماً لم نعرف مذهبه في ذلك، وأردنا أن نعرفه فرقبناه في بعض صلاته فلم نره رفع فإنه يقع قي ظننا أن مذهبه عدم الرفع وأن ذلك شأنه، فإذا مضت على ذلك مدة ومات ذاك العالم ثم بدا لنا أن نذكر حاله في الرفع فقد نبني. على ما تقدم فنقول: لم يكن يرفع. فمن الجائز أن يكون اتفق لكليب أنه رقب علياً في بعض صلاته ليرى أمن مذهبه الرفع أم لا؟ فاتفق أن رفع على عند الإفتتاح رفعاً تاماً رآه كليب، ثم تجوزعلى في الرفع عند الركوع فما بعده فلم يره كليب، فظن أنه لم يرفع، وأن مذهبه عدم الرفع، فذهب يحكي عنه بحسب ذلك. فإن قيل: لكن هذا الاحتمال لا يخلوعن بعد. قلت: لكنه أقرب الاحتمال. فإن قيل: قدّ روي عن إبن إسحاق السبيعي انه قال: «كان أصحاب عبد الله وأصحاب على لا يرفعون ايديهم إلا في افتتاح الصلاة» . قلت: إنما أراد الذين صبحوا عبد الله ثم صبحوا علياً ولذلك قدم ذكر عبد الله مع أن علياً أفضل، وكان أبو إسحاق يتشيع وأصحاب عبد الله هم كانوا بعده المقتدي بهم من أصحاب على، وفي مقدمة (صحيح مسلم) عن المغيرة بن مقسم قال: «لميكن يصدق على عليّ في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود» . وكان أصحاب عبد الله يلزمون ما أخذوه عنه، وإن رأوا علياً يخالفه كما لزموا التطبيق وغيره. وقد تقدم الكلام على أخذهم عن عبد الله ترك الرفع فلا تفغل فإن قيل: ولماذا لم ينكر عليهم على؟ قلت: لعله لم يقف على ذلك من خالهم، أو أنكر عليهم فلم ينعوا كما يحتمل ذلك في قضية التطبيق. بقي قول ابن تركماني: «لخصمه أن يعكسه فيجعل فعل علي بعد النبي عليه

الرد على ابن التركماني في جعله ترك علي للرفع دليلا على نسخ الرفع

السلام دليلاً على نسخ ما تقدم» . فأقول: ليس هذا بشيء فقد تقرر في الأصول أن الحكم إذا ثبت فادعي بعض الصحابة نسخة وخالفه غيره منهم، لم يثبت النسخ بتلك الدعوى إذ قد يكون استند صاحبها إلى مالا يوافقه غيره على أنه دليل يوجب النسخ. وقد اختلف الصحابة في عدة أحكام ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وخالفه غيره، ولم يرا المخالف في قول صاحبه: هذامنسوخ حجة، ولا رأى القائل قوله ذلك كافيا في إثبانت النسخ، فكيف يظن بعلي أن يكون يرى أن الرفع منسوخ ثم يخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع، ويعلم أن غيره من الصحابة يخبرون بذلك ويعلمون به عملاً شائعاً ذائعاً ثم لا يتبع على إخباره بذلك ببيان الحجة على نسخة ويعلن ذلك؟ بل يقتصر على ماليس بدليل على النسخ ولا صريح في دعواه ولا ظاهر فيها وهو الترك، إذ قد لا يرقبه الناس في صلاته، فإن رقبة بعضهم فقد يقول لعله ترك لبيان ألجواز، أو لعذر، أو سها، أو ترخص كما ترخص عثمان وغيره في ترك التكبيرات أوجهر بها كما تقدم. هذا ما لا يكون فالحق ماتقدم من وهم أثر النهشلي أو وهم كليب، وتحقق ما قاله البخاري إنه لا يثبت عن أحد من الصحابة ترك الرفع إلى ان يكون بعضهم تركه في وقت ما لبيان الجواز أو غيره مما تقدم. والله أعلم. وأما الامر السابع وهو قول الكوثري: «فيدل ذلك على التخيير الأصلي» فإن أراد بالتخيير الأصلي إن احد الأمرين مندوب والأخر جائز فهذا وجه ويتعين أن يكون المندوب هو الرفع فيكون تركه تركاً لمندوب وهو جاء في الجملة ولا يصح عكسه فإن من يرفع على وجه التعبد كما لا يخفى ولو كان الرفع غير مشروع فكان فعله على وجه التعبد بدعة وكذباً على الله تعالى وتكذيباً بآياته فيكيف يقال أنه جائز؟ وإن أريد ان كلا الامرين مندوب، فندب الرفع حق ثابت معقول ولا دليل على ندب الترك مطلقاً، ولا هو مع ندب الفعل بمعقول، فإن ترك المندوب حيث ندب إنما يكون مكروهاً أو خلاف الأولى والتخيير بين

الرد على الحنفية في استدلالهم بحديث "اسكنوا في الصلاة" على ترك الرفع

المندوبين إنما يكون بين فعلين كالا اذكار المأثورة في إفتتحاح الصلاة، إذا ثبت منها إثنان مثلا فيقال أيهما أتنى به المصلي فقد احسن، وإذا اتى بها بأحدهما لم يكن تركه للأخر مكروهاً ولا خلاف الاولى، لأنه إا تركه إلى أخر يقوم مقامه. فإن قيل: فههنا أيضاً امران: الرفع والسكون، فمن رفع الترك فقد أتى بالسكون وهو مندوب. (1) قلت: السكون ترك وإنما شرع السكون في الصلاة عن الحركات التي لم تشرع فيها كما في (صحيح مسلم) وغيره من حديث جابر بن سمرة قال (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل الشمس؟ إذا سلم أحدكم فيلتفت الى صاحبه ولا يويء بيده) فأمرهم بالسكون عن تلك الحركة وهيه رفع أيدي عند السلام، ولإشارة بها يمنى ويسرى وأمرهم بالالتفات وهو حركة أيضاً وإنما الفرق إن الحركة الاولى غير مشروعه، فعلى هذا يجري الأمر في سائر الحركات في الصلاة فما كان واجباً لم يعقل أن يكون السكون عنه جائزاً، وما كان مندوباً لم يعقل أن يكون السكون عنه الى مكروهاً أو خلاف الاولى، وما كان مباحاً فالسكون عنه مباحاً والله الموفق (1) .

_ (1) ومما يؤكد ما قاله المصنف رحمه الله على مذهب الحنفية، أنهم يرون مشروعية الرفع اليدين تكبيرات الزوائد في صلات العيدين، وكذا في تكبيرات الجنازه في إختيار المشايخ بلخ كما في (شرح الكنز) وغيره من كتبهم. فله كان الحديث المذكور (أُسكنوا في لصلاة) يشمل الرفع في التكبير، لكان مذهبهم هذا مخالفاً له، مع العلم بأن الرفع في الزوائد لا يصح حديثه الذي استدل به ورفع في الجنازه لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما عدا الرفع في تكبيرة الإحرام، كما كنت بنيته في كتاب (احكام الجنائز وبدعها) يسر الله تمام طبعه بمنه وكرمه. فأعجب لقوم هذا مذهبهم، يستدلون بالحديث على كراهة رفع اليدين في تكبيرات الانتقال مع تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يستدلون به على كراهة الرفع في الجنازه والعيدين مع عدم ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - زد على ذلك أن هو اللاايق والمناسب اتم من مناسبة لقول أبي حنيفة (يريد أن يطير فيرفع يديه) لأن الرفع في الصلاتين المذكورتين اوخصوصاً صلاة العيد أقرب إلى هذا القول لتتابع الرفع فيه،، وقد سلم الكوثري بصحتهم عنه بسكوته عنه وتأويله إياه بأن أبا حنيفة قال لإبن المبارك ممازحة وهل ممازحة جائزة إلىة هذا الحد في مذهب الكوثري،، فاللهم هداك

وأما الأمر الثامن وهو قول الكوثري: (وإنما خلافهم فيما هو الأفضل) فوجيه في الجملة فإن منهم من عرف أن الرفع سنة باقية، وفعل السنة افضل من تركها، ومن تابعين فمن بعدهم من لم تبلغه هذه السنة منوجه يثبت أو بلغته ولكن غلبت عليه شبهه ترجح بها عنده أنها منسوخة فيكون عنده أم الرفع بدعة، وترك البدعة أفضل من فعلها، وكذلك من التبس عليه الحال فإن نا يحتمل أن يكون سنة ةإن يكون بدعة فتر كه أفضل، فأما من أعرض عن الحجج واسترسل مع الشهاب إيثار لهواه، فله حكم آخر. والله المستعان.

المسألة الثالثة: أفظر الحاجم والمحجوم

المسألة الثالثة: أفظر الحاجم والمحجوم في (تاريخ بغداد) 13/388 من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه: «قال: ذكر لأبي حنيفة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم. فقال: هذا سجع» . قال لاأستاذ ص 81: «حديث: أفطر أفطر لحاجم والمحجوم لم يثبته كثير من أهل الحديث منهم ابن معين بمعنى أنهما عرضه للأفطار ... » . قلت: ممن صحح الحديث من وجه أو أكثر الإمام أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهو ية والبخاري وأبو زرعة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهم. فأما ابن معين ففي (الفتح) : قال المروذي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت. فقال: هذا مجازفة» . وزعم الأستاذ أن من أثبته يراه منسوخاً أو مؤولاً، ليس كما قال، فإنه ترك القسم الثالث، قال ابن حجر في (فتح الباري) : «وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً، وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابورى وابن حبان ... وبذلك قال الداودي من المالكية» . فأما دعوى النسخ بحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم. فالحديث رواه عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: «احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم» ،

ورواه وهيب عن أيوب بسنده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم» . وفي (الفتح) «ورواه ابن علية معمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، واختلف على حماد بن زيد في وصلة وإرساله» . وجاء عن مقسم عن ابن عباس:: «احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة وهو صائم محرم» . وذكر البيهقي ج4 ص 263 وقال: «وراه أيضاً ميمون بن مهران عن ابن عباس» ، وكذلك في رواية لابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كما في (الفتح) عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد ج1 ص305 ذكر قصة اليهودية التي وضعت السم في الطعام النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد من ذلك شيئاً احتجم، قال: فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئاً فاحتجم» . وقد أجاب ابن خزيمة عن هذا الحديث بأن للمسافر إذا أصبح صائماً ثم بدا له أثناء النهار أن يفطر، وحاصل الجواب انه - صلى الله عليه وسلم - أصبح في سفرة صائماً ثم لما هاج به الوجع احتجم فأفطر، وكأن ابن عباس لم يكن قد بلغه أن الحجامة تفطر الصائم احتج بالقصة على حسب ظنه. وهذا كما سمع أسامة يحدث بحديث: «لا ربا إلا في النسيئة» ولم يثبت عنده حديث: «لا تبيعوا الذهب مع بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً يداً بيد» فكان يفتي بحل ذهب بالذهب مع التفاصيل نقداً وكذا الفضة بالفضة، ثم جاء أن بعض الصحابة أخبره بالحديث الاخر فرجع (1) . وكما أخبره أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فلم يصلي فيها، فكان يفتي بذلك، وقد صح عن بلال أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، وأنه صلى بين العمودين المقدمين، وكما كان يرى أن لا قراءة في السرية، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ فيها، فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه، فغضب. وقد أثبت غيره القراءة بما لا تبقى معه شبهة. وأمثال هذا كثير ممال يحتج به الصحابي على

_ (1) ثبت ذلك عن ابن عباس من طريق، وقد خرجتها في «إرواء الغليل» (1326) . ن

تحقيق أن الحديث منسوخ بحديث "رخص في الحجامة للصائم"

حسب ظنه ويتبين أن ظنه كان خطأ. وقد روى عطاء ذاك الحديث عن ابن عباس ثم ذهب إلى الافطار كما مر. فإن قيل: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر بالحجامة لكان الظاهر أن يبين ذلك للناس؟ قلت: يجاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بما سبق منه من بيان أنه يفطر الحاجم والمحجوم، ومن بيان أن الصائم في السفر يحل له الافطار. فإن قيل: فقد جاء عن أبي سعيد الخدري وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الحجامة للصائم. (1) قلت: في صحة ذلك عنهما كما ترى في (فتح الباري) ، ولوصح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس من احتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو وهو صائم في سفره، وقد مر ما فيه. وأما التأويل بصرف النص عن ظاهره فلا مسوغ له. والله أعلم (1) .

_ (1) قلت: لاشك أن التاويل المذكور لا مسوغ له، ولكنى أرى ان الجواب الصحيح هو أن الحديث منسوخ بنص حديثي أبي سعيد وأنس المذكورين، فإنهما حديثان صحيحان، له عن أبي سعيد طريقان، أحدهما صحيح، وعن أنس ثلاث طرق أحدهما صحيح أيضا، وأما الكلام الذي أحال المصنف فيه على «الفتح» فليس فيه ما يمكن أن يكون علة في الحديث لا سيما إذا نظر إليه من جميع طرقه، فإن كثرة الطرق الحديث تدل أن له أصلا. فكيف إذا كان بعض مفرداتها صحيحاً في نفسه، وليس هذا مجال شرح ذلك، ومحله في «إرواء التغليل» (913) ، ولكن لابأس من الإشارة إلى شيء من كلام الحافظ رحمه الله مع التعليق الموجز عليه قال في بعض طرق أنس: «ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكرلأن فيهأن ذلك كان في الفتح، وجعفر قتل قبل ذلك» . =

المسألة الرابعة: إشعار الهدى

المسألة الرابعة: إشعار الهدى في (تاريخ بغداد) 13/390 عن يوسف بن أسباط: « ... وأشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة» قال الأستاذ ص87: «ليس من قوله فقط، بل أثر يرويه عن حماد عن إبراهيم النخعي كما يشتر إلى ذلك الترمذي ... .، يريدان إشعار أهل زمانها المبالغ فيه ولام التعريف تحمل على المعهود في زمانهما ... على أن الأعمش يقول: لم نسمع إبراهيم النخعي يقول شيئاً إلا وهو مروي، كما تجد ما بمعناه في (الحلية) لأبي نعيم، فيكون قول النخعي هذا أثراً يحتج به، وأنت عرفت قيمة مراسيل النخعي عند ابن عبد البر وغيره» .

_ = قلت: وهذا سهو من الحافظ رحمه الله، فإنه ليس في الحديث ذكر للفتح أصلاً، وعليه فالحديث صحيح لا نكارة فيه، والعجيب أن الحافظ ادعى ما سبق بعد أن ذكر الحديث بدون ذكرالفتح وهذا لفظه: «أخرجه الدارقطني ولفظه «أول ما كرهت الحجامة للصائم، إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد في لحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. رواته كلهم ثقات ... » وهكذا هو عند الدارقطني في «سننه» (ص239) . وإذا عرفت هذا اللفظ الصريح في النسخ يتبين لك أن قول المؤلف رحمه الله: «ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس ... » أنه غير ممكن، فتأمل. ن

أقول أما الترمذي فروى من طريق وكيع حديث إشعار النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: «سمعت يوسف بن عيسى (وهو ثقة) يقول: «سمعت وكيعاً يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأى في هذا فإن الاشعار سنة وقولهم بدعة» قال الترمذي: سمعت أبا السائب (سلم بن جنادة وهو ثقة) يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأى: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول أبو حنيفة: هو مثلة؟ قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعاً غضب غضباً شديداً، وقال:: أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا» . القائل: «فإنه قد روي عن إبراهيم» لا يدري من هو وممن سمعه وكيف إسناده، ولكن الأستاذ بنى على دعاوى: الأولى: أن ذاك الرجل ثقة. الثانية: أن قوله: «فإنه قد روي» معناه فإن أبا حنيفة روي. الثالثة: أنه سمع ذلك من أبي من أبي حنيفة. الرابعة: أن أباحنيفة روي ذلك عن حماد، مع أنه لا ذكر لحماد في الحكاية. الخامسة: أن ذلك أثر، مع أن الأستاذ نقم نحو ذلك في (الترحيب) ص 28 فقال: «وإطلاق الأثر على مالم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم في دين الله شيء مبتكر في سبيل تقوية الخبر الزائف من هذا الناقد الصالح!» . السادسة: أن 'براهيم النخعي لم يكن يستنبط ولا يقيس وإنما كان يقول ما يرويه بنصه، والأستاذ يعلم أن المتواتر عن إبراهيم خلاف ذلك، غاية الأمر أنه يسوغ أن يقال: إنه لم يكن يفتي برأيه المحض، وإنما كان يستنبط من المرويات ويقيس عليها فيكون عرضة للخطأ كغيره.

السابعة: أن تلك المرويات التي كان إبراهيم لا يتعدي منصوصهاً لا تشمل أقول من قلبه من التعابعين ولا الصحابة وإنما هي النصوص النبوية فتكون أقول إبراهيم وفتاواه كلها كلها مراسيل أرسلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامنة: أن ذلك حجة. ولا أطيل بمناقشة الأستاذ في هذه المزاعم، وقد رجع هو عن الثلاث الأخير بقوله: «يريدان إشعار أهل زمانهما المبالغ فيه ... » ومع ذلك فهذه دعوى جديدة، والظاهر الواضح من قول القائل: «الإشعار مثله» الحكم على الإشعار مطلقاً ولوأراد ما زعمه الأستاذ لقال: «لمبالغة في الأشعار مثلة» أو نحو ذلك. فأما إبراهيم فلم يثبت ذاك القول عنه، فلا ضرورة إلى الاعتذار عنه بعذر، إن دفع الملامة من جهة، أو قع فيها من جهتين: الأولى: الاطلاق الموهم للباطل. الثانية: أتهامه جميح أهل زمانه وفيهم بقايا الصحابة والتابعون بالاطباق على مالا يجوز حتى استساغ أن يطلق ولا بفصل. وأما أبو حنيفة فقد اعتذر عنه الطحاوي بقوله: «إنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن ... فأرادسد هذا الباب عن العامة لأنهم لا يراعون لاحدّ في ذلك، وأما من كان عارفاً بالسنة فى ذلك فلا» . والمقصود هنا إثبات أن الأشعار سنة وذلك حاصل على كل حال.

المسألة الخامسة: المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه

المسألة الخامسة: المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه في (تاريخ بغداد) 13/392 من طريق حماد بن زيد قال: «شهدت أبا حنيفة رسئل عن محرم لم يجد إزاراً فلبس سراويل، قال: عليه الفدية، قلت: سبحان الله ... ...» قال الأستاذ ص 94: «فهذان إنما أبيحا لعذر كمن به أذى في رأسه فلا تحول هذه الإباحة دون وجوب الفدية كمن في رأسه أذي فلَبس، على ما في القرآن الكريم، وليس في الأحاديث ما يصرح بسقوط الفدية عن المعذور. أقول: الذي في القرآن هو قول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) . فالذي في الآية الحلق، فقول الأستاذ «فلبس، على ما في القران الكريم» لا وجه له اللهم إلا أن يريد: قياساً على ما في القرآن ففي عبارته تلبيس ومع ذلك ففي صحة القياس نظر لتوقفها على عدم الاحرام - أعني التحلل - كما جعل السلام علماً على الخروج من الصلاة، والسلام من خطاب الناس وهو أشد

_ (1) البقرة: 196

منافاة للصلاة من غيره بدليل أنه لا يجوز منه في الصلاة قليل ولا كثير حتى في حال القتال، وإن احتاج إليه لاستغاثة مثلاً بخلاف الحركة مثلاً فإنها وإن كانت منافية للصلاة أيضاً إلا أنه لا يجوز القليل منها مطلقاً ويجوز الكثير في صلاة الخوف، فالتشديد في الحلق لايستلزم التشديد فيما هو أخف منه. فإن كان هناك إجماع على وجوب الفدية على من احتاج إلى لبس عمامة لمرض مثلاً فلا يقاس عليه لبس فاقد الإزار للسراويل، وفاقد النعلين للخفين، لأن ستر الرأس غير المطلوب شرعاً كطلب ستر العورة ووقاية الرجلين مما قد يمنع من استطاعة المشيء إلى الحج وأداء أعماله، والتشديد في الأول لا يستلزم التشديد في الثاني. فأما قياس لبس السراويل والخفين على الحلق المنصوص في القرآن فأبعد عن الصحة لاجتماع الفارقين معاً، فإن قيل: أرأيت إذا تمكن فاقد الازار من فتق السراويل وتلفيقه بالخياطة حتى يكون إزار كافياً له، وتمكن فاقد النعلين من تقطيع الخفين حتى يصيرا نعلين؟ قلت: لا يتجه إلزامه ذلك لأنه يكثر أن لا يتمكن الانسان من ذلك، وإذا تمكن ففيه إفساد للمال ينقص قيمته ومنفعته. هذا وقد صح في الباب حديثان: الأول حديث ابن عمر في (الصحيحين) وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم فقال: «لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ... ...» ويؤخذ منه من باب أولى الإذن في السراويل لمن لم يجد إزاراً لان الحاجة الى ستر أسفل البدن أشد وكونه مطلوباً شرعاً أظهر ويبقى النظر في القطع فقد يقال كما أمر بقطع أعلى الخفين فكذلك ينبغي قطع ما تحت الركبتين من السراويل وقد يقال إنما يقطع ما تحت أنصاف الساقين لأنما فوق ذلك إلى الركب مشروع ستره أيضاً وان لم يجب بخلاف ستر الكعبين وما فوقهما وقد يقال لا يتعين القطع بل الأولى العطف والثبيت بالخياطة لأن ذلك محصل للمقصود بدون إفساد، وله كان يتاتى بنحو ذلك في الخفين لقلنا به فيهما أيضاً فأما فتق السراويل ثم تلفيقه بالخياطة حتى يكون ازاراً فقد دل على عدم لزومه إكتفاء الحديث بما اكتفى به في الخفين ولم

المسألة السادسة: درهم وجوزة بدرهمين

يشترط تقطيعهما حتى يصيرا نعلين. الحديث الثاني: الحديث ابن عباس في (الصحيحين) وغيرهما «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات: من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين» ففي هذا الحديث النص على السراويل والخفين معاً ولم يذكر القطع، فمن أهل العلم من أخذ به على اطلاقه وقال إنه نسخ للأمر بقطع الخفين لأن حديث أبن عباس، متأخر ومنهم من حمل المطلق على المقيد فقال بقطع الخفين، فعلى الأول يكون عدم وجوب قطع السراويل أولى، أما على الثاني فقد يتمسك فيه بالاطلاق، وقد يقال بل يكون حكمه ما تقدم في الكلام على الحديث الأول. وعلى كل حال فسكوت الحديثين عن ذكر الفدية يدل أنها لا تجب، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والبيان المتقدم في القرآن لم يتعرض لقضية السراويل والخفين لا نصاً ولا تنبيهاً كما تقدم. والله أعلم. المسألة السادسة: درهم وجوزة بدرهمين في (تاريخ بغداد) 13/412 عن خالد بن يزيد بن أبي مالك قال: «أحل أبوحنيفة الزنا والربا ... أما تحليل الربا فقال: درهم وجوزة بدرهمين نسيئة لا بأس به ... » قال الأستاذ ص 145: «فرية بلا مرية لأنها على خلاف المدون في مذهبه، وأبو حنيفة من أشد الفقهاء في النسيئة» . أقول: إن صح الكلام الأستاذ فقد يكون أبو حنيفة قال قولاً ثم رجع عنه، وقد يكون خالد رأى إجازة ذلك نقداً تستلزم إجازة نحوه نسيئة كما يأتي، وبيان

أن ذلك من مرفوع تلك القاعدة: صاع تمر ودجرهم نقد بخمسة آصع من تمر نقداً، يعتل الحنفية في إجازة ذلك بأنه في معنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً وأربعة آصع بدرهم نقداً فيقال لهم: فكذلك صاع تمر ودرهم نقداً بخمسة آصع نسيئة أحدها نقداً والباقي نسيئة، إذيمكن أن يقال هو في امعنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً أربعة آصع نسيئة بدرهم نقداً. فإن التزموا ذلك جاء ربا النسيئة، وإن قالوا لا ننجيزه إذ قد يقصدان الربا كأن يكون عند رجل تمر جيد وعند آخر صاع تمر ردى لا يسد حاجته فيحتالان بتلك البيعة قاصدين صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً نقداً بأربعة آصع نسيئة. قلنا فكذلك النقد قد يقصدان صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً بأربعة آصع نقداً، فالأستاذ تبرأ من ربا فوقع فى ربا. والحاصل ان هناك معنيين أحدهما ربا قصداه وقام الدليل على قصدهما إياه، والآخر جائز حاولا أن يوهماه / أفلا يعاب من أعرض عن الأول وينى الحكم على الثاني؟ نعم إذا لم يراع سد الذريعة أن يصحح العقد إحساناً للظن بالمسلمين، ويكره لهم هذه المعاملة مطلقاً لأنها متهمة وذريعة إلى الربا / وربما يمكن الحنفية تنزيل قول أبي الحنفية على هذا، وبذلك يدفعون المعرة عن إمامهم وأنفسهم. والله الموفق.

المسألة السابعة: خيارالمجلس

المسألة السابعة: خيارالمجلس في (تاريخ بغداد) 13/387 عن بشير بن المفضل قال: «قلت لأبي حنيفة: نافع عن أبن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. قال: هذا رجز» . قال الأستاذ ص 87: «إذا حمل - يعنى الحديث - على خيار المجلس يكون مخالفاً لنص كتاب الله الذى يبيح التصرف لكل من المتعاقدين فيما يخصه بمجرد تحقق ما يدل على التراضي قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» . أقول: في (روح المعاني) ج 2 ص 77 «المعنى: لا يأكل بعضهم أموال بعض، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم، قاله السدي وهو المروى عن الباقر ري الله عنه. وعن الحسن: هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعوض. وأخرج عنه وعن عكرمة ابن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في سورة النور «وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكرن أكلاً بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت

ولاتنسخ إلى يوم القيامة» . أقول: المعنى الأول مبني على أن الباء في قوله «بالباطل» للسبية، وأن الباطل ما لا يعتد به الشرع سبباً للحل. والمعنى الثاني مبني على أن الباء للمقابلة وأن الباطل ما لا تحقق له ونسبة المعنى الأول إلى السّدي لا أراها تصح، وإنما قال السدي كما في (تفسير ابن جرير) ج5ص19 «بالباطل: الربا والقمار والبخس والظلم. إلا أن تكون تجارة: ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع» فأول عبارته يصلح للمعنيين، وبيان صلاحيتها للثاني في القمار والبخس والظلم ظاهر، فأما الربا فإن من أقرض مائة ليقتضي مائة وعشرة يأكل العشرة بما لا تحقق له فإن غايته أن يقول: لو لم أقرض المائة لعلي كنت اتجرت فيها فربحت، ولعل المستقرض اتجر فيها فربح. فيقال له هذا لا تحقق له لعلك لو لم تقرضها لسرقت منك، ولعلك لو اتجرت فيها لخسرت مع ما يلحقك والعناء، ولعل المستقرض لم يتجر فيها، ولعله اتجر فخسر أو ذهب منه رأس المال، فإن ربح فيتبعه. ولتمام هذا موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن ذكر السدي للربا لا يحتم أنه قائل بالمعنى الأول. وآخر عبارة السدي ظاهر في معنى الثاني وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الاية ولكنه مستثنى استثناء متصلاً على ما هنوالأصل في الاستثناء، ولنفرض مثالاً يبين ذلك: ثوبان قيمة كل منهما بخسب الزمان والمكان عشرة، فقد يجهل البائع ذلك ويظن قيمة كل منهما خمسة فقد فيبيعها بعشرة، وقد يجهل المشترى فيظن قيمة كل منها عشرين فيشتريها بأربعين فمن أخذهما بقيمة أحدهما فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لاتحقق له، ومن باعهما بمثلي قيمتها فقد أخذ نصف الثمن بما لا يحقق له، هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان، وهو المتعارف بين الناس، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعده الناس غابناً أو مغبوناً البتة، ولكنك إذا تعمقت قد تقول: إنما القيمة الحقيقة مقدار ما غرمه البائع على السلعة، أو مقدار ما ينقصه فقدها، فيقال لك: هذا بالنظر إلى البائع، فأما بالنظر إلى المشترى فقيمتهما مقدار ماتنفقه، وقد يتعارضان، كمن عنده ماء كثير فباع منه شربة

لمضطر، ويبقى النظر في الثمن ويخفى الأمر ويضطرب وتضيق المعاملة جداً. لا جرم عدل الشرع إلى اعتبار ما تراضي به المتبايعان، فما تراضيا به فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة، لكن هذا لا يمنع أن يسمى الغبن أكلاً بالباطل بالنظر إلى التحقق، وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرماً في الشرع، وفي الحديث: «كل شيء يلهو به الرجل باطل غلا رمية بقوسة وتأديبة فرسه وملاعبته امراته فإنهن من الحق (1) » ومعلوم أن فيما يلهو به الرجل غير هذه الثلاث ما هو مباح إجماعاً. فأما ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فإنه إذا عمل فيه بالمشروع لم يكن على كلا المعنيين من الأكل بالباطل، وذلك أن الباذل قد يقصد مكافأة المبذول له على إحسان سابق، وقد يرجوعوضاً مستقبلاً، إما مالاً وإما منفعة، وأقل ذلك الثناء، والأكل في مقابل غحسان سابق أكل بأمر متحقق، والمشروع للمبذول له على رجاء مستقبل أن يقبل عازماً غعلى المكافأة فيكون بمنزله من يفترض عازماً على لأن يقضى، وإنما كان بعض الصحابة أولاً يتورعون عن الأكل في بيوت أقاربهم وأصدقائهم خشية أن لا يتيسر لهم المكافأة المرضية. فبين الله تعالى لهم في آية النور أنه لا حرج في الأكل، يريد والله أعلم مادام ذلك جارياً على المعروف، والمعروف أن الناس يكرم بعضهم بعضا ويكافئ بعضهم بعضا بالمعروف، فمن أكل عازماً على المكافأة بحسب ما هو معروف بين أهل المروءات فلم يأكل بما لا تحقق له، نعم لو فرضنا أن رجلاً غنياً لئيماً اعتاد أن يتردد على بيوت أقاربه وأصدقائه ليأكل عندهم غير عازم على المكافأة المعروفة كان هذا والله أعلم داخلاً في الباطل على كلا المعنيين. وإذا تدبرت علمت أنه على المعنى الثاني ليس هناك نسخ، وإنما هو بيان لدفع ما توهمه أولئك المتحرجون، وقد عرف عن السلف أنهم ربما يطلقون النسخ على

_ (1) حديث صحيح، خرجته في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» رقم (310) . ن

حديث أبغض الحلال إلى الله الطلاق

مطلق البيان، فهذا والله أعلم من ذاك. وبهذا كله اندفع مارجح به المعنى الأول وترجح المعنى الثاني فيكون الاستثناء متصلاً كما هو الأصل. والله أعلم. وقوله تعالى: «عن تراض» نص في اشتراط رضا كلٍ من المتبايعين، والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدار الحكمة كالرضا ههنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط ههنا؟ بنى الأستاذ على أنه الصيغة أي الإيجاب والقبول كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين: الأول: أن الصيغة قد علمت بقوله: «تجارة» . الثاني: أنها ليست بواضحه الدلالة على الرضا إذ تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال قبل تمكن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلا مرة، ويحتاط الناس له ما لا يحتاطون للبيع، والشارع يتشوف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوف إلى تثبيت البيع، جاء في الحديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق (1) » وجاء فيه: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» ومبنى البيع على المشاحة ومبنى النكاح على مكارمه، وأوضح من هذا كله أن في الحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة (2) ففرق هذا ثلاثة وبين غيرها كالبيع، على أن تعين الضابط غنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد تعيين الضابط التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول، وأما احتيار اللزوم، وأما أن يستمرا على ظاهر حالهما من التراضي مدة اجتماعهما ويتفرقا على ذلك، ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة

_ (1) في إسناده مقال ذكرته في «الارواء» . والحديث الذي بعده صحيح مخرج هناك. ن (2) حديث حسن بمجموع طرقه، وقد خرجتها في المصدر السابق. ن

الرد على الكوثري في حمله الحديث على خيار الرجوع

للحكمة، أما اختيار اللزوم فواضح أنه بين في استحكام التراضي، وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتدار كه صاحبه قبل التفرق ولا سيما إا علم أن التفرق يقطع الخيار. فبان بهذا أن الحديث مفسر للآية التفسير الواضح المطابق للحكمة، لا مخالف لها كما زعم الكوثري، وراجع (تفسير أبن جرير) . ويؤكد هذا المعنى مافي (سنن أبي داود) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عت أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون الصفقة خيار ولا يحل له ان يفارق5 صاحبه خشية أن يستقيله» . والمراد والله أعلم انه لا يحل لأحد هما أن يستغفل صاحبه فبفارقه وهو لا يشعر إذ قد لا يكون استحكم رضاه وكان يريد الفسخ إلا أنه أمهل اعتماداً على أن ذلك لا يفوت، حتى لورآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ. فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاًُ يعجبه فارق صاحبه، فمحمول على مبادرته بالمفارق وصاحبه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة، وقوله: «حتى يستقله» ، لا يدل على الزوم العقد، فإن الاستقاله بعد الزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة. إذا قد يستقله بعد أن يفارقه ويمضي زمان، وإنما المراد والله أعلم أن صاحبه قد يندم في المجلس فلا يبادر إلى الفسخ ويرى من حسن الأدب والعشرة أن يقول له: «أقلني» ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس. قال الكوثري: «على أن لحديث إذا حمل على الخيار الرجوع بمعنى ان البائع والمشترى إذا أو جب فله حق الرجوع قبل قبول الآخر في المجلس فيزول خيار الرجوع من الموجب بائعاً كان أو مشترياً بقبول الآخر قبل انقطاع المجلس، فهذا المعنى يكون غير مخالف لكتاب الله تعالى» . أقول: قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكل من المتبايعينبعد تبايعهما غير مخالف لكتاب الله تعالى، وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري فالحديث غير محتمل له كما يأتي، ولو احتمله وحمل عليه لبقي ما في

القرآن في معنى المجمل لأن أحدهما «بعت» وقول الآخر فوراً: «اشتريت» لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال كما مر. ثم حاول الأستاذ تقريب احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال: «وعلى هذا التقدير يكون لفظ «المتبايعين» حقيقة، إذ هذا اللفظ محمول على حال العقد في تقديرنا، وحمله على مابعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازاً كونياً. وفائدة الحديث أن خيار الرجوع ثابت لهما مادام أحدهما أو جب ولم يقبل الآخر في المجلس لاكا لخلع على مال والعتق على مال، لأنه ليس المزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة والعبد» . أقول: فللمجيء إلى الفرارإلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنفية «المتبايعان» بالمتساومين والتفرق بالايجاب والقبول أبطل بوجوه، منها أنه أخرج للَّفظ عن حقيقة بلا حجة، ومنها أن الحديث يبقى بلا فائدة إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء. وستعلم أن هذا الفار كالمستجير من الرمضاء بالنار. قوله: «يجعله مجازاً كونياً تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق يصدق على المةصوف حقيقة حين وجود المعنى المشتق منه، فإن لم يكن فىخر جزء منه، فأما قبل حصوله فمجاز كوني أي باعتبار ما سيكون، واختلف فيما بعد زواله فقيل حقيقة، وقيل مجاز كوني أي باعتبار ما كان. فأقول الأصل يقضي بأنه لا يصدق حقيقة على الإنسان لفظ «بائع» إلا حين وجود البيع حقيقة، وإنما يكون ذلك عند آخر حرف من الصغة المتأخر، والحديث يثبت أن لكل منهما حينئذ الخيار ويستمر إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا. وأو ضح من ذلك أن الذي الحديث «المتبايعان» والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربت رجلاً أنه لا يصدق أنه لا يصدق عليكما «متضاربان» ولا عليك أنك احد الضاربين، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربه لك فحينما تصيبك ضربته يوجد التضارب حقيقة فيصدق عليكما أنمكما متضاربان وأنك أحد المتضاربين. فإن قلت: كيف وقد زال

قول الكوثري أن التفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة

فعلي؟ قلت: الزائل هو ضربك والفعل المشتق منه هنا هو التضارب وهو الفعل واحد ضربك جزء منه والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضر زواله، ألا ترى أنه لا يصدق حقيقة على من يتكلم أنه «متكلم» عند آخر حرف من كلامه مع أن كثير الحروف قد زالت؟ فإنما يصدق حقيقة على المتبايعين أنهما «متبايعان» عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمراً أن يتفرقا، وهذا قولنا. ووجه ثالث وهو أن الحديث كما في (الموطأ) و (الصحيحين) يثبت أن «لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا» فهو ثابت للمتأخر قطعاً يثبت له آخر حرف من صيغته مستمراً إلى أن يتفرقا، ولا قائل بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم فثبت له عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمراً إلى أن يتفرقاً، وهو قولنا. ولوقال المحتسب للعون وهو يرى رجلاً يضرب آخر: أمسك الضارب حتى تحضره عند الحاكم لكانت كلمة «الضارب» حقيقة لحكم بالإمساك مستمراً إلى غايته، وإن كانت الضرب ينقطع قلبها، وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك، فقد اتضح أن قولنا مبني على حقيقة، وضل سعي الأستاذ في زعمك أنه يكون مجازاً، فأما القولالذى اختاره فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازاً. فأما قولهخ: «وفائدة الحديث ... .» فمبنى على القول الذي قد فرغنا منه، ومع ذلك فالحديث أثبت الخيار لكل واحدٍ من المتبايعين، وصيغة الموجب للبيع لا يتضمنمالا يحتاج إلى قبول بخلاف موجب الخلع أو العتق على مال فإن اجابه يتضمن الطلاق أو العتق، فإيجابه في معنى تعليق الطلاق أو العتق ولا رجوع في ذلك، فثبت أنه لا يتوهم في البادي بالصيغة من المتساومين أنه لا رجوع له، فحمل الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثل حمله على المتساومين في أنه لا يكون له فائدة. هذا ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشهبه ما تجرئه على زعم كلمة «يتفرقا» في الحديث إن حملت إلى قولنا كانت مجازاً، وإن حملت على قولهم كانت حقيقة،، فعدل إلى قوله: «والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحوقوله تعالى:

حديث: "افترقت اليهود" وأنه حديث صحيح

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» وقوله تعالى وقوله تعالى «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» وقوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ (1) اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» وفي الحديث (افترقت اليهود - الحديث) (2) بل التفرق بالأبدان خروج من شأنه لإفساد العقود في الشرع لا إتمامها كعقد الصرف قبل القبض، وعقد السلم قبل القبض لرأس المال، والدين بالدين قبل تعيين أحدهما وفي حمل الحديث على التفرق بالأبد ان خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى وأما حملة على التفرق بالأقوال فليس فيه خروج عن الأصول ولا مخالفة لكتاب الله تعالى مع كونه أشهر في الكتاب والسنة» .

_ (1) وقع في (التأنيب) ص 79 «إن يتفرقا يغنى» واقتصر في إصلاح الأغلاط ص 190 على إصلاح «يغن» ! (2) قلت: وتمامة «على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى علىاثنين وسبعين فرقة، وتفترق امتى على ثلاث وسبعين فرقة» هذا هو تمامن الحديث اختصره الكوثري عمداً ظنا منه في آخر: «كلها في النار» وهو يذهب ضعيفة بدعوى أنها منة ورواية محمد بن عمروولا يحتج به عنده! والحقيقة أن الحديث المذكور وهو من حديث أبي هريرة -هو ابن عمر المذكور، وهو مع كونه حسن الحديث عند المحقيقين، فليس في حديثه هذا الزيادة المذكورة خلافاً لدعوى الكوثري، ولكن الزيادة صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق خرجتها في «الأحاديث الصحيحة» رقم (203) ، ومن عجيب هوى الكوثري أنه في الوقت الذي يذهب إلى تضعيف هذه الزيادة يميل إلى تقوية الحديث بزيادة «كلها في الجنة إلا واحدة» وهي باطلة كما حققته في «الأحاديث الضعيفة» (1035) ، وكلام الكوثري فيما ذكرنا تراه في مقدمته على «التبصير في لدين» لأبي المظفر الأسفرايني ص 5-9، وردنا عليه في المصدرين السابقين. ن

أقول: التفرق فك الاجتماع، وهو حقيقة في التفرق بالأبدان بلا شبهة، وكثيراً ما يأتي الإجتماع والتفرق مجازاً في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن، ومن ذلك الشواهد التي ساقها الأستاذ، ومجيء الكلمة في موضع أو أكثر مجازاً بقرينته لا يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذه كلمة «أسد» كثر جدا استعمالها في الرجل الشجاع مع القرينة حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل أنه يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذا أصل قطعي ينبغي استحضاره فقد كثر تغافل المتأو لين عنه تلبيساً على الناس. نعم إذا ثبت ان الشارع نقض الكلمة الى معنى الآخر صارت حقيقة شرعيه في معنى الذي نقلة اليه وهذا هنا، إذ لا يدعي أحد أن الشارع نقض كلمة «التفرق» الى معنى غير معناها اللغوي. وأما كثرة مجيئها في القران في الأمور المعنوية فانما ذلك لأن تلك الامور مهمة في نظر الشارع فكثر ذكرها دون افتراق الابدان، ولها في ذلك اسوة بكلمات كثيرة كرقبه والكظم والزيغ والخيف واللين والغلظ وغير ذلك. ولا اختصاص للشواهد التى ذكرها الأستاذ بالقول بل كلها في تفرق معنوى قد يقع بالقول وقد يقع بغيره، فالتفرق عن الإعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض، ويبتدع ويجاهر بالعصيان بعض، وكل من كفر والابتداع والعصيان قد يقع بالإعتقاد وبالفعل، وبالقول وتفرق اهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم، وإشتداد كفر بعضهم ولا اختصاص لذلك بالقول، وتفرق الزوجين قد يكون بالفعل كارضاعها ضرة لها صغيرة، وبالقول من الجانبين، وبنية الزواج القاطعة على قول مالك، وافتراق اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبني عليها من الأفعال والأقوال. ومع هذا فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق، وتعاقد متساومين اجدر بأن يسمى اجتماعاً بعد تفرق كما لا يخفى. لكننى أرفد الأستاذ فأقول: إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما وتحملهما الرغبة في لبيع على أن يبقيا مجتمعين ساعة، ثم إذا تعاقد زال سبب الأجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق فقد

الرد على قول الكوثري: حمل الحديث على التفرق بالأبدان خروج عن الأصول ومخالفة للكتاب

يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك، لكن قد يقال: ليس التعاقد سبباً مباشراً، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع، ثم إن ساغ ذاك الاطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا ملجيء إليه، بل الحديث نص صريح في قولنا، فقفي (الصحيحين) من حديث الإمام الليث بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ... وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» . قوله «بل التفرق بالأبدان من شأنه افساد العقود ... » . أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرق بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق وهي صيرورته رباً في الأولى، وبيع في بدين في الأخريين، وتفرق المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلاً لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يثبت العقد ويؤكده وهو تبين صحة التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيراً ما يناط بالأمر الواحد حكمان مختلفتان من جهتين مختلفيتين كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح، إذا كان الآخر كافراً، ويثبة إذا أسلم الآخر أيضاً، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف، وكإسلام المرأة الأيم يُحل نكاحها للمسلم ويحرمه للكافر، ويمنع إرثها من أرقابها الكفار، ويثبته لها من أرقابها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى. على أن الأثر الحاصل بالتفرق في مسألتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور فإن العقد قد صح بالإيجاب والقبول وإنما أثر التفرق قطع الخيار، وإن شيءت فقل إفساد الخيار. قوله «خروج عن الأصول ومخالفة لكتاب الله تعالى» . أقول: أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس يسمونه خروجاً عن

الأصول تمويهاً وتهويلاً وتستراً وقد تقدم الجواب الواضح عماد ذكره الأستاذ من القياس. وبينما الأستاذ يتبجح في آخر ص 161 بقوله: «أجمع فقهاء العراق على ان الحديث الضعيف «يرجح على القياس» ويقول ص 181 في الحسن بن زياد «كأن يأبي الخوض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في المسألة القهقهة في الصلاة» يعنى ببعض المشاغبين الإمام الشافعي ورفيقاً له أورد على الحسن بن زياد أنه يرى أن قذف المحصنات في الصلاة لا يبطل الوضوء فكيف يرى أن القهقهة تبطله؟ فقام الحسن وذهب، (1) إذا بالأستاذ يرد أحاديث خيار المجلس زاعماً أنها مخالفة للقياس، هذا مع ضعف حديثه القهقهة ورضوح القياس المخالف له وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها. وأما المخالفة للكتاب فقد تقدم تفنيد زعمها، وبينما ترى الأستاذ يحاول التشبت بدعوى مخالفة الكتاب هنا، إذا به يعرض في مسألة القصاص في القتال بالمثل ومسألة مقدار ما يقطع سارقه عن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث الصحيحة وموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص. إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلف بينه أمر واحد هو الذب عن المذهب، والغلو في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئة صاحبه من أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، واتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله؛ والله المستعان. قال الأستاذ «ولا نص فيما يروى عن ابن عمر من القيام من مجلس العقد على أن خيار المجلس من مذهبه، بل قد يكون هذا منه لأجل أن يقطع على من بايعه حق الرجوع لاحتمال أنه ممن يرى خيار المجلس، وقد خوصم ابن عمر إلى عثمان في البراءة من العيوب فحمله عثمان على خلاف رأيه فيها فأصبح يرعى الآراء في عقوده» . أقول: قد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث صريحاً في

_ (1) تقدمت القصة بتمامها في التعليق على الصفحة (444) . ن

إثبات خيار المجلس كما تقدم، وفي (صحيح البخاري) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ... الحديث، ثم قال نافع: «وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه» وفي (صحيح البخاري) من طريق الزهرى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «بعت من أمير المؤمنين عثمان ... فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادّني البيع، وكانت السنة المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا ... فلما وجب بيعي رأيت أني قد غبنته» . فصراحة الحديث نفسه ثم جعله سبباً لمفارقة ابن عمر من يشتري منه ما يعجبه وقوله: «وكانت السنة ... » وقوله: «فلما وجب بيعي وبيعه ... » بغاية الوضوح في بطلان قول الأستاذ «قد يكون هذا منه ... » . قال الأستاذ: «ولأصحابنا حجج ناهضة» . أقول: بل شبه داحضة. قال: «وعالم دار الهجرة مع أبي حنفية وأصحابه في هذه المسألة، ومن ظن وهناً بما انفق عليه إمام أهل العراق وإمام أهل الحجاز فقد ظن سواء» . أقول: أما من اعتقد وهن قولهما المخالف لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية جماعة من الصحابة وعمل به وقضى به جماعة منهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم لهم مخالفة من الصحابة فإنما اعتقد ما يحب على كل مسلم أن يعتقده، فمن زعم أن هذا المعتقد قد ظن سواء فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه. ثم ذكر الأستاذ كلمة ابن أبي ذئب وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وقد ذكرتها في ترجمتة في قسم التراجم. وفي (تاريخ بغداد) 13/389 عن ابن عينية قال: «ما رأيت أجراً على الله من أبي حنيفة كان يضرب الأمثال لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرده. بلغه أني أروي

«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فجعل يقول: أريت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في السجن، أرأيت إن كانا في سفر كيف يتفرقان؟ قال الأستاذ ص 82: «هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق الافتراق بالأقوال لا الأبدان» . أقول: مغزى تلك العبارة أننا إذا قلبنا الحديث ورد علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتأبيعان من التفرق. والجواب أن الحديث قد فتح لهما باباً آخر يتمكنان به من إبرام العقد وهو أن يختارا اللزوم فيلزم من غير تفرق، وإن أرادا أو أحدهها الفسخ فظاهر. وكان أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرحة بذلك. فإن قيل قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم ويأبي الآخر أن يختار اللزوم أو يفسخ فيتضرر والمبادر لأنه لا يمكنه إبرام العقد ولا فسخه. قلت: هو المضيق على نفسه بمبادرته فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ، أو يطلقا أو أحدهما من السجن، أو ينقل أحدهما إلى سجن آخر، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من الانفراد والتباعد عن الرفقة. فإن قيل لكن المدة قد تطول مع جهالتها. قلت اتفاق أن يجتمع أن يبادر أحدهما ويمتنع التفرق وتطول المدة وتفحش الجهالة، نادر جداً، ويقع مثل ذلك كثيراً في خيار الرؤية، وكذلك في الصرف والسلم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق، فمثل ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يعتد به ففى التوفيق عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلالته نظر، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن الحديث بغاية الصحة والشهرة ووضوح الدلالة، فهو في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن ابن عمر، وصح عنه من قوله وفعله ما يوافقه، وهو في (الصحيحين) غيرهما من حديث حكيم بن حزام، وصح عن أبي برزة أنه رواه وقضى به، جاء من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرة ةغيرهم، وجاء عن أمير المؤمنين على القضاء به، ولا مخالف من الصحابة، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة وإبراهيم النخعي بالكوفة، واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له: إن مالكاً لا يأخذ بهذا الحديث، فقال: «يستتاب فإن تاب وإلا يقتل»

ومالك إنما اعتذر في (الموطأ) بقوله بعد أن روى الحديث «ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه» ؛ وتعقبه الشافعي وغيره بأن الحد معروف نقلا ونظراً، فإنه معلوم أن التفرق حقيقة في التفرق بالأبدان، وحده معروف في العرب، وقد اتفقوا على نظيرة في الصرف والسلم، والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من أئمة التابعين بالمدينة وغيرهما. وراجع كتاب (الأم) للشافعي أوائل المجلد الثالث (1) .

_ (1) الجزء الثالث الصفحة الرابعة، تحقيق الأخ الفاضل محمد زهري، طبع شركة الطباعة الفنية - زهير

المسألة الثامنة: رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال: نحن زوجان

المسألة الثامنة: رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال: نحن زوجان تقدم في المسألة السادسة قول خالد بن يزيد بن أبي مالك: «أحل أبو حنيفة الزنا ... » . قال: «وأما تحليل الزنا فقال: لوأن رجلاً وامراة اجتمعا في بيت وهما معروفا الأبوين فقالت المرأة: هو زوجي. وقال هو: هي امرأتي لم عرض لهما» قال الأستاذ ص145: «قال الملك المعظم في (السهم المصيب) : إذا جاء واحد من امراة ورجل فقالا له: نحن زوجان، فبأي طريقة يفرق بينهما أو يتعرض عليها لأن كل واحد منهما يدعى أمراً حلالاً، ولوفتح هذا الباب لكان الإنسان كل يوم بل ساعة يشهد على نفسهو على زوجه أنهما زوجان وهذا لم يقل به أحد منالائمة، وفيه من الحرج مالايخفى على أحد» . أقول: على كتب الحنفية: «إن إقرار الرجل أنه زوجها وهي أنها زوجته يكون إنكاحاً ويتضمن إقرارهما «الانشاء» فهذه هي مسألة ابن أبي مالك استشهاد الاسناذ نفسه وكذالك ملكه المعظم عنده ولذلك لجأ إلى المغالطة. وحاصلها أننا إذا عرفنا رجلاً وامرأة نعلم أنهما ليسا بزوجين ثم وجدناهما في خلوة مريبة فقال: هي زوجتى، وقالنت: هو زوجى، فأبو حنيفة يقول يقول: يكون اعترافهما عقداً ينقد به النكاح فيصيران زوجين من حينئذ ولا يعرض لهما! ففى هذا ثلاثة أمور. الأولى: أنه بلا ولي. الثاني: أنه كيف يكون إنشاء وإن لم يقصداه.

الثالث: أنه كيف لا يعرض لهما بإنكار وتعزير على الأقل لأنهما قد ارتكبا الحرام قطعاً وهو خلوة لأنهما إن كانا تلفظا بزواج قبل العثور عليهما فذاك باطل إذ لا ولي ولا شهود وإن لم يتلفظا إلا بدعواهما الزوجية، أو اعترافهما بها عند العثور عليهما فالأمر أوضح، وأيضاً فالتعزيز متجه من وجه آخر وذلك لئلا يكون هذا تسهيلاً للفجور، يخلو الفاجر بالفاجرة آمنين مطمئنين قائلين: إن لم يطلع علينا فذاك المقصود، وإن اطلع علينا قلنا: نحن زوجان! .

المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح

المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح (1) في (تاريخ بغداد) 13/411: عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: قول أبي حنيفة: الطلاق قبل النكاح؟ فقال: «مسكين أبو حنيفة، كأنه لم يكن من العراق، وكأنه لم يكن من العلم بشيء، قد جاء فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة، وعن نيف وعشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، عطاء، وطاوس، وعكرمة كيف يجترى أن يقول: تطلق؟» . قال الأستاذ ص 142: « ... على أن مذهب أبي حنيفة أنه لا طلاق إلا في ملك أو مضافاً إلى ملك أو علقة من علائق الملك، ... وقد أجمعت الأمة أنه لا يقع طلاق قبل النكاح لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ» الآية، فمن علق الطلاق بالنكاح وقال: إن نكحت فلانة فهي طالق. لا يعد هذا المعلق مطلقاً قبل النكاح ولا طلاق واقعاً قبل النكاح، وإنما يعد مطلقاً بعده حيث يقع الطلاق بعد عقد النكاح فيكون هذا خارجاً من متناول الآية ومن متناول حديث: لا طلاق قبل النكاح، لأن الطلاق في تلك المسألة بعد النكاح لا قبله، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابة الثلاثة وعثمان البتي. وهو قول الثوري ومالك والنخعي ومجاهد والشعبي وعمر بن عبد العزيز فيما إذا خص. والأحاديث في هذا الباب لا تخلو عن اضطراب، والخلاف طويل الذيل بين السلف

_ (1) الأصل: نكاح وهو خطأ مطبعي (صفحة 988)

فيما إذا عم أو خص. وقول عمر بن الخطاب صريح فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابة، وتابع الشافعي ابن المسيب سواء عم أو خص، وإليه ذهب أحمد. أقول: قال البخاري في (الصحيح) : «باب لا طلاق قبل النكاح وقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» . وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ويروى في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعيد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق» . والآثار عن جماعة من هؤلاء صحيحه كما في (الفتح) ولم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروي عن ابن مسعود إنه إذا خص وقع وإذا عم كأن قال: «كل أمرأة ... » لم يقع، وعن ابن عباس انه انكر هذا فقال: «ما قالها زلم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروى عن ابن مسعود أنه إذا خص وقع، وإذا عم كأن قال: «كل امرأة ... » لم يقع، وعن ابن عباس أنه أنكر هذا فقال: «ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم ... قال الله تعالى ... » فتلا الآية وممن نقل عنه هذا القول الشعبي وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وهو مشهور عن مالك، وقيل عنه كالجمهور أنه لا يقع مطلقاً وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع مطلقاً. ولا يعلم له سلف في ذلك. فأما الآية فاحتج بها حبر الأمة وترجمان القران عبد الله بن عباس ثم زين العابدين على بن الحسين ثم البخاري على عدم الوقوع مطلقاً، وزعم بعضهم كالأستاذ أنها لا تدل على أنه لا يقع الطلاق على المرأة قبل نكاحها فأما من قال: «إن تزوجت فلانة فهي طالق» فلا تدل الآية على عدم وقوعه لأنه إذا وقع فإنما يقع

بعد النكاح، وأقول: يقال: «طلقت (بفتح اللام مخففة) فلانة أي انحلت عقدة نكاحها بقول من الزوج، ويقال: «طلق فلان امرأته» أي جعلها تطلق كما يقال سرّحها أي جعلها تسرح، وسيّرها جعلها تسير، وغير ذلك. فطلاق الرجل يتضمن أمرين: الأول: قوله الخاص. والثاني: وقوع الأثر على المرأة فتنحل به عقدة نكاحها. وإذا قيل: «طلق فلان امرأته اليوم» فالمتبادر أن قوله وانحلال العقدة وقعا ذاك اليوم فهذا هو الحقيقة فمن قال لإمراته يوم السبت: إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق لم يصدق على وجه الحقيقة أن يقال قبل يوم الجمعة: إنه طلق. ولا أن يقال: طلق يوم السبت، ولا طلق قبل يوم الجمعة ولكنه يقال بعد مجيء يوم الجمعة: إنه طلق. فإذا أُريد التفضيل قيل: علق طلاقها يوم السبت وطلقت يوم الجمعة. ونظير ذلك، إذا جرح رجل آخر يوم السبت جراحة مات منها يوم الجمعة فلا يقال حقيقة قبل الموت أنه قتل، ولكن يقال بعد الموت أنه قتله، ولا يقال قتله يوم السبت ولا يوم الجمعة بل يقال جرحه يوم السبت فمات يوم الجمعة. فقوله تعالى في الآية: «ثم طلقتموهن» يقتضي تأخير الأمرين معاً: قول الرجل وانحلال العقدة. ويؤيده أمرين: الأول: قوله: «ثم طلقتموهن» وكلمة «ثم» تقتضي المهلة، وإذا كان الطلاق معلقاً بالنكاح، وقلنا إنه يقع وقع بلا مهلة. الثاني: قوله: «وسرحوهن سراحاً جميلاً» والتسريح هنا إرجاعها إلى أهلها وإنما يكون ذلك إذا كانت قد زفت إليه، ومن كان معلوماً أنه بنكاحه يقع طلاقه فمتى تزف إليه المرأة حتى يقال له: سرحها سراحاً جميلاً؟ وأما الحديث فاحتج به جماعة من المتقدمين على عدم الوقوع، وتأوله بعضهم بما ذكر الأستاذ، وأقول: إن كان لفظ «طلاق» فيه اسماً من التطليق كالكلام من التكلم سقط التأويل كما يعلم مما مر، وإن كان مصدر قولنا «طَلَقَتِ المرأةُ» كان للتأويل مساغ، والأول هو الأكثر والأشهر في الاستعمال، وقد دفع التأويل بأنه لا

رد زعم الكوثري أن أحاديث الباب لا تخلوا عن اضطراب

يجهل أحد أن المرأة لا تطلق ممن ليس لها بزوج فحمل الحديث على هذا النفي يجعله خلوا عن الفائدة. وأما النظر فلا ريب أن الله تبارك وتعالى وإنما شرع النكاح والطلاق لمقاصد عظيمة، وأن مثل ذلك الطلاق لا يحتمل أن يحصل به مقصد شرعي، وهو مضاد لشرع النكاح. وبعد فإذا لم يثبت عن السلف قبل أبي حنيفة إلا قولان، وأحدهما تدفعه الأدلة المذكورة وهو ضعيف في القياس، تعين القول الآخر وهو مذهب علي وابن عباس ثم مذهب الشافعي وأحمد. والله الموفق (1) .

_ (1) قلت: بقى على المؤلف رحمه الله شيء مما زعمه الكوثري لم يتعقبه، وهو حقيق بذلك وهو قوله: «إن الأحاديث في الباب لا تخلو عن اضطراب» . فهذا القول على إطلاقه باطل، ما أظن يخفى بطلانه حتى على الكوثري نفسه! فإن في الباب أحاديث كثيرة منها خالية عن أي اضطرب أو علة قادحة، وأحدها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق عنه عند أبي داود والترمذي وحسنه. والثاني: عن جابرعند الطيالسي والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. والثالث: عن المسور بن مخزمة، أخرجه ابن ماجه بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ البوصيرى. وهذه الأحاديث وغيرها مخرجة في «إرواء الغليل» رقم (2068) .ن

المسألة العاشرة: العقيقة مشروعة

المسألة العاشرة: العقيقة مشروعة في (تاريخ بغداد) 13/411 عن أحمد بن حنبل «في العقيقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث مسندة وعن أصحابه وعن التابعين، وقال أبو حنيفة: هو من عمل الجاهلية» . قال الأستاذ ص 142: «نعم كان أهل الجاهلية يرون وجوب العقيقة وأبيحت في الإسلام من غير وجوب في رأي أبي حنيفة وأصحابه قال الإمام محمد ابن الحسن الشيباني في (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كانت العقيقة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام رفضت. قال محمد: وأخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا رجل عن محمد ابن الحنفية أن العقيقة: كانت في الجاهلية فلماء جاء الإسلام رفضت» . ثم قال الأستاذ: «يرى أبو حنيفة أن ما كان من عمل أهل الجاهلية معتبرين وجوبه عليهم إذا عمل به في الإسلام لا يدل هذا العمل إلا الإباحة لا على إبقاء الوجوب المعتبر في الجاهلية ... » . أقول: قول القائل: «من عمل الجاهلية» ظاهر في أنها محظورة، وكلمة «عمل» تدل أن كلامه في العقيقة نفسها لا في اعتقاد وجوبها فقط، وقول القائل «فلما جاء الإسلام رفضت» ظاهر في أنها غير مشروعة البتة فيكون اعتقاد مشروعيتها ضلالاً كبيراً وتديناً بما لم ينزل الله به سلطاناً، فأما محمد بن الحنفية فلا يصح الأثر عنه، إذ لا يدرى من شيخ أبي حنيفة أثقة أم لا؟ وأما ابراهيم فناف، والمثبت مقدم عليه. وقد ورد في مشروعيتها أحاديث قولية منها حديثان في (صحيح البخاري) ذكرهما البيهقي في (السنن) ج9 ص 298 فاعترضه ابن التركماني قائلاً:

رد دعوى الكوثري أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون وجوب العقيقة (تعليق)

«ظاهرهما دليل على وجوبها فهما غير مطابقين لمدعاه» . والقول بالوجوب منقول عن الظاهرية، واحتج من يقول بالندب بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان..» وهذا الحديث أيضاً يدل على مشروعيتها فإن النسك عبادة إذا لم تكن واجبة كانت مندوبة ولابد، وسواء أكان أهل الجاهلية يعتقدون وجوبها أم لا، فإنها لم ترفض في الإسلام بل هي مشروعة فيه. (1)

_ (1) قلت: ليس في السنة ما يشهد لقوله الكوثري أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون وجوبها، فهذه كتب السنة ليس فيها شيء من ذاك، وإنما هي مجرد دعوى منه، ليبنى عليها ذلك التأويل الذي بين المؤلف رحمه الله بطلانه بالدليل القاطع. ومما يؤكد بطلان ذلك التأويل ويدل أن أبا حنيفة نفسه كان لا يقول به قول الإمام محمد في «الموطأ هـ» (ص 286) : «أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام، ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ... » قلت: هذتا نص منه بنسخ مشروعية العقيقة، فهل يجوز العمل بالمنسوخ؟! ولو كان عند الكوثري شيء من الإنصاف لاعتذر عن أبي حنيفة بأي عذر مقبول، ولانتصر للسنة على الأقل مثلها ينتصر لإمامه، ولغار عليها أن تعطل عن العمل بها يجعلها أمراً مباحاً فحسب كأي ذبيحة يذبحها الإنسان ليأكل من لحمها في غير مناسبة مشروعة، لو كان الكوثري منصفاً لقال العلامة أبو الحسنات اللكنوى -وهو حنفي مثله، ولكن شتان ما بينهما! - قال في تعليقه على كلمة الامام محمد المتقدمة: «وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة، فلما جاء الإسلام رفض استحبابها وشرعيتها فهو غير مسلم، فهذه كتب الحديث المعتبرة مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها ... » . قلت: ثم إن حديث عمر بن شعيب ... «فأجب أن ينسك ... » لا يصلح دليلاً على صرف الأمر إلى الندب فإنه كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد الحج فليتعجل» ، فهل يدل على ان الأمر بالحج ليس للوجوب؟ ولذلك فالقواعد الأصولية توجب إبقاء الأمر على ظاهره، وذلك يقتضي وجوب العقيقة وبه قال الحسن البصري والامام الليث بن سعد كما في «الفتح» (9/582) قال: «وقد جاء الوجوب أيضاً عن أبي الزناد، وهي رواية عن أحمد» .

المسألة الحادي عشرة: للراجل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة، سهم له وسهمان لفرسه

المسألة الحادي عشرة: للراجل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة، سهم له وسهمان لفرسه في (تاريخ بغداد) 13/390 عن يوسف بن أسباط « ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفرس سهمان وللرجل سهم. قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن» قال الأستاذ ص86: فقوله (للفر سهمان وللرجل سهم) هكذا في بعض الروايات وفي بعضها (للفارس سهم وللرجل سهمان) وهو الذى اختاره أبو حنيفة وهو الذى وقع في الفظ مجمع بن جارية المخرج في (سنن أبي داود) ... فأبو حنيفة لما رأى اختلاف ألفاظ الرواة ... نظر فوجد أن الشرع لا يرى تمليك البهائم فحكم على أن رواية (للفرس سهمان) المفيدة بظاهرها تمليك بهيمة ضعف مايملك الرجل من غلط الرواى حيث كانت الألف تحذف من الوسط في خط الأقدمين في غير الاعلام أيضاً فقرأهذاالغالط (فرساً) و (رجلاً) ماتحب قرأءته (فارساً) و (راجلاً) فتتابعت رواة على الغلط قاصدين باللفظين المذكورين الخيل والإنسان مع إمكان إرادتهم الفارس من الفرس كما يراد بالخيلالخالية عند قيام القرينة جمعاً بين الروايتين، ومضى آخرون علىرواية الحديث على الصحة. فرد أبو حنيفة على الغالطين بقوله: لأني لا أفضل بهيمة على مؤمن. ليفهمهم أنه لا تمليك في الشرع للبهائم، والمجاز خلاف الأصل، وإنما تكلم عن التفضيل مع أنه ايضاً لا يقول بمساوة البهيمة لمؤمن لأن كلام في الحديث المغلوط فيه ... وقول أبي يوسف في الخراج بعد وفاة أبي حنيفة ومتابعة الشافعي له في (الأم) مع زيادة تشنيع بعيدان عن مغزى فقيه الملة ... وأما ما ورد في مضاعفة سهم الفارس في بعض الحروب فقد حمله أبو حنيفة على التنفيل جمعا بين الأدلة، لأن الحاجة إلى

الأحاديث التي يتشبث بها الحنفية في المسألة وبيان عللها

الفرسان تختلف باختلاف الحروب. أبهذا يكون أبو حنيفة رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. حاشاه» . أقول: لايخفى ما في هذا التوجيه من التعسف. وقد كثرت الحكايات عن أبي حنيفة في مجابهة من يعترض عليه بالكلماتالموحشة، فقد يقال: أنه كان يتبرم بالمعرضين، ولا يراهم أهلاً للمناظرة، فكانيدفعهم بتلك الكلمات لئلا يعودوإلى التعرض، غير مبال بما يترتب على ذلك من اعتقادهم. فهل جرى على هذه الطريقة مع أصحابة حتى أن أخصهم به وآثرهم عنده وأعلمهم بمقاصده -وهو أبو يوسف -لم يتفطن له الأستاذ؟ فأما حذف الألف في كتاب المتقدمين فيقع في ثلاثة مواضع الأول: حيث يؤمن اللبس إما لعدم ما يلتبس به مثل: القاسم بن فلان سليمان بن فلان. وإسحاق بن فلان. فإن هذه الأعلام إذا كتبت بلا ألف لا يوجد ما يلتبس بها. وأما في متابة القرآن الذي من شأنه أن يؤخذ بالتلقي والتلقين وتعم معرفته بحيث إذا أخطاء مخطئ لم يلبث أن ينبه. وأما فيما يصح على كلا الوجهين مثل جبريل و «ملك يوم الدين» وليس قوله في الحديث «للفرس للرجل» . في شيء من هذا. اللهم إلا أن يخطيء الكاتب يسمع «للفارس للرجل» فيحسب ذلك مما يجوز تخفيفه في الكتابة فيكتب «للفرس. للرجل» لكنه كما قد يحتمل هذا فكذلك قد يحتمل أن يخطئ القارى بأن يكون الكاتب سمع «للفرس. للرجل» فكتبها كذلك، ثم توهم القارئ أن الأصل «للفارس. للرجل» وإنما حذف الألف تخفيفاً في الكتابة فيقرؤها «للفارس. للرجل» ويريها كذلك. وأما تقديم الحقيقة على المجاز، فالذي في الرواية «جعل للفرس همين وللرجل سهماً» ولا يتجه في قوله: «للفرس» مجاز، بل اللام لام التعليل، أي جعل لأجل الفرس. فغن قيل: بل اللام لشبه التمليك، قلنا فما الحجة على أن لام شبه التمليك مجاز؟ فإن كانت هناك حجة فجعلهاللتعليل اولى تقديماً للحقيقة على المجاز وكذلك لوساغ أن يطلق «الفرس» ويراد «الفارس» كما زعم الأستاذ.

على أن سواغ ذلك غير مسلم فإنه غير معروف ولا قرينة عليه، فأما إطلاق «الخيل» وإرادة «الفرسان» فمستفيض، وإنما يسوغ بقرينة، وإنما جاء حيث يكون المقام ذكر الجيش حيث لا تكون الخيل إلا مع فرسانها فيكون بينهماضرب من التلازم. هب أنه اتجه المجداز فتقدم علىالمجاز محله في الكلمة الواحدة يجب حملها على معناها الحقيقي ولا يجوز حملها علىمعنى مجازى بلاحجة كما ارتبكه الأستاذ في غير موضوع. فأما روايتان مختلفتان متنافيتان والكلام في إحد اهما حقيقة وفي الأخرى مجاز صحيح بقرينته فلا يتجه تقديم الأولى للان المتكلم كما يتكلم بالحقيقة فكذلك يتكلم بالمجاز، والمخطئ كما يخطئ من الحقيقة إلى المجاز، فكذلك عكسه، بل احتمله أقرب، لأن أغلب ما يكون الخطأ بالحمل على المألوف، وغالب كا يقع من التصحيف كذلك، فقد رأيت مالا أحصيه اسم «زَبر» مصحفاً إلى «أنس» واسم «سعر» مصحفاً إلى «سعد» ولا أذكر أننى رأيت عكس هذا. قال الشاعر: فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان أيام الخُنان وقال الآخر: كساك ولم تستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وياصر فصحف الناس قافيتى هذين البيتين إلى «الختان. ناصر» وأمثال هذا كثيرة لا يخفى على من له إلمام. وهكذا الخطاء في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة، فهشام بن عروة غالب روايته عن أبيه عن عائيشة، وقد يروى عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير فقد يسمع رجل من هشام خبراً بالسند الثاني ثم مضي على السامع زمان فيشبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن

عائشة، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطؤوا الثاني، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا مالا يحصى. هب أن الحقيقة تقدم على المجاز في الروايتين المتنافيتين فإنما لا يبعدذلك جداً حيث لا يوجد للرواية الأخرى مرجح قوي، ليس الأمر ها هنا كذلك بل من تتبع الروايات وجد الأمر بغاية الوضوح. وشرح ذلك أن الحنفية يتشبثون بأربعة أشياء: أولها: حديث مجمع، والجوابعنه أنه من رواية مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه بسنده وفي (سنن لبيهقي) ج6ص325 ان الشافعي قال: «مجمع بن يعقوب شيخ لا يعرف» . أقول: أما مجمع فمعروف لا بأس به، فلعل الشافعي أر اد أباه يعقوب بن مجمع ففي (نصب الراية عن ابن القطان «علة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع ولا يعرفروى عنه غير ابنه. وذكر المزي راويين آخرين ولكنهما ضعيفان، ولم يوثق يعقوب أحد فأما ذكر ابن حبان له في (التقات) فلا يجدى شيئاً لما عرف من قاعدة ابن حبان من ذكر المجاهيل في (الثقاب) فقد ذكر الأستاذ ذلك في غير موضع، وشرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد، وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. وفي الحديث وهم آخر فإن فيه أن فرسان المسلمين يوم خبير كانوا ثلثمائة، والمعروف أنهم كانوا مائتين، وأبو داود وإن أخرج الحديث في (سننه) فقد تعقبه كما في (نصب الراية) بقوله: «هذا وهم إنما كانواغ مائتي فارس فأعطى الفرس سهمين وأعطى صاحبه سهما» وأخرج جماعة منهم الحاكم في (المستدرك ج2326عن ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسم المائتي فرس يوم خبير سهمين سهمين» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن صالح بن كيسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم يوم خيبر لمائتي فرس لكل منهم سهمين. وهو لاء كلهم ثقات متفق عليهم وصالح من أفاضل التابعين. وفي (سنن البيهقي) ج ص 326 بسند (السيرة) عن ابن إسحاق

«حدثني ابن محمد بن مسلمة عمن أدركه من أهله وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: كانت المقاسم على اموال خيبر على الف وثمان مائة سهم الرجال الف واربع مائة والخيل مأتين فرس، فكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللرجال سهم وأكثر الروايات وأثبتها في عدد الجيش انه الف واربع مائة وفي بعض الرواياتن الف وخمس مائة وجمع اهل العلم بين ذذلك بأن عدد مقاتل المستحقين للسهم كانوا الفاً واربع مائة ومعهم نحومائة ممن لا يستحق سهماً من العبيد والنساء وصبيان وجاء عن بشير بن يسار قال: شهيدها مائة فرس وجعل للفرس سهمين وهذا محمول على خيل الأنصار فأما مجموع الخيل فكانت مائتين. الثاني: حديث عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري عن نافع عن بن عمر: «أن رسول اللله - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للفارس سهمين وللراجل سهما» اخرجه الدارقطني ثم قال: «ورواه القعنبي عن العمري بالشك في الفارس والفرس ثنا أبو بكر ثناء محمد بن على الوراق نا القعنبي عنه» فقد شك العمرى وهو مع ذلك كثير الخطأ حتى قال البخاري «ذاهب لا أروي عنه شيئاً» ومن أثنى عليه فلصلاحه وصدقه، وأنه ليس بالساقط. الثالث: ما وقع في رواية بعضهم عن عبيد الله بن عمنر بن حفص بن عاصم رسيأتي ذلك في الكلام على حديثه. الرابع: قال ابن أبي سيبة في (المصنف) : «غنذر عن شعبة عن أبي إسحاق عن هانئ عن على قال: للفارس سهمان قال شعبة: وجدته مكتوباً عند (بياض) » وقال قبل ذلك: «معاذ ثنا حبيب بن شهاب عن أبيه عن أبي موسى أنه أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً» . أما الأثر عن على فقول شعبة: «وجدته ... .» عبارة مشككة. وقد روى الشافعي كما في (سننالبيهقي) ج6ص327 «عن شاذان (الأسود بن عامر) عن زهير عن أبي إسحاق قال: غزوت مع سعيد بن عثمان فأسهم لفرسي سهمين ولي

حديث عبيد الله بن عمر بن حفص عن ابن عمر مرفوعا

سهما. قال أبو إسحاق: وكذلك حدثني هانئ بن بن هانئ عن على، وكذلك حدثني حارثة بن مضرب عن عمر» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «وكيع ثنا سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق قال: شهدنا غزوة مع سعيد بنم عثمان، ومعى عثمان بن هانئ ومعي فرسان ومع هانئ فرسان، فأسهم لي ولفرسي خمسة اسهم، وأسهم لهانئ ولفرسية خمسة أسهم» وهذا غير مخالف لرواية زهير لأنه إذا أسهم للفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فقد أسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما. وهذا بلا شك أثبت مما ذكره شعبة. ومع هذا فهانئ بن هانئ لم يرو عنه إلا أبو إسحاق وحده قال ابن المدينى. «مجهول» وقال النسائي: «ليس به بأس» . ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد. وأما الأثر عن أبي موسى فسنده جيد وقد تأوله بعضهم بأن معناه للفارس من حيث هو ذوفرس وذلك لا ينافي أن يكون له سهم ثابت من حيث هو رجل وفي هذا تعسف. وقد ذكر أبن التركماني أن أبن جرير ذكر في (تهذيبه) أن هذا كان في واقعه (تستر) فكأن هذا رأى لأبي موسى فيما إذا كانت الواقعة قتال حصين يضعف غناء الخيل فيه، وقد جاء عن جماعة من التابعين أنهم كانوا ينقصون سهام الخيل في قتال الحصون أو لا يسهمون لها شيئاً، ذكر ذلك ابن أبي شيبة وغيره، وذكره إنكار عمنر بن عبد العزيز ذلك، وإنكار مكحول له واحتجاجه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم في غنائم خبير للفرس سهمين ولصاحبه سهما مع أن خيبر كانت حصناً. ولعل ابن جرير قد ذكر هذا المعنى في (التهذيب) فليراجعه من تيسر له ذلك. حديث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عبيد الله هذا ثقة جليل أثبت من أخيه عبد الله بما لا يحصى بل جاء عن يحيى بن

سعيد القطان والإمام أحمد وأحمد بن صالح أن عبيد الله أثبت أصحابه نافع، وفيهم مالك وغيره. وقد وقعت على الجماعة الحديث. الأول: الإمام المضروب به المثل في الحفظ والإتقان والفقه والزهد والعبادة والسنة أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثورى، قال الإمام أحمد في (المسند) ج2ص152: «ثنا عبد الرزاق أنا سفيان بن عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً» ورواه الدارقطني في (تالسنن) ص467 ن طريق عبد الله بن الوليد العدتي عن سفيان -بسنده - (1) «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم ولفرسه سهمان» . ورواه البيهقي في (السنن) ج6ص325 من طريق أبي حذيفة عن سفيان -بسنده - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان» . الثاني: الحافظ المقدم هشيم بن بشير الواسطي رواه عنه الامام أحمد في (المسند) ج2ص2 وهو أول حديث في (مسند ابن عمر) ولفظه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً» . الثالث: أبومعاوية محمد بن خازم الضرير رواه عنه الامام أحمد في (المسند) ج2ص2 ولفظه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهماً له، وسهمين لفرسه» ، وراه ابودالود في (السنن) عن أحمد، وقد رواه عن أبي معاوية أيضاً على بن محمد بن أبي الشوارب عند ابن ماجه، والحسن بن محمد الزعفراني عند الذار قطني ص 467، وسعدان بن نصر عند البيهقي ج6 ص325. الرابع: إسحاق الأزرق عند الشافعي كما في (مسنده) بهامش «الأم» ج6ص250 « ... . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب للفرس بسهم» ؟ الخامس: سليم بن أخضر رواه مسلم في (صحيحه) عن يحيى بن يحيى وأبي كامل عنه « ... .أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهماً» وقع

_ (1) وقع في النسخة «عن عبد الله» والصواب «عن عبيد الله» .

عند بعض رواة الصحيح «للراجل» وقد رواه عن سليم أيضاً عبد الرحمن بن مهدى (مسند أحمد) ج2 ص62، وعفان (مسند أحمد) ج2ص72، وأحمد بن عبده وحميد بن مسعدة عند الترمذى وفي روايتهم جميعاً: «للرجل» . السادس: أبو أسامة رواه عنه عبيد ابن إسماعيل عند البخاري في (صححه) في «كتاب الجهاد» : « ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً» وكذلك رواه عن أبي أسامة محمد بن عثمان بن كرامة عند الدارقطني ص 467، وأبوالأزهر عند البيهقي ج 6 ص 324، ورواه ابن أبي شيبة في (المصنف) عن أبي أسامة وعبد الله ابن نمير وسيأتي. السابع: عبد الله بن نمير رواه عنه الإمام أحمد في (المسند) ج 2 ص143: « ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم للفرس سهمين وللرجل سهما» وكذلك رواه الدارقطني ص467 من طريق أحمد، رواه مسلم في (الصحيح) عن محمد بن نمير عن أبيه، وأحال على متن سليم بن أخضر قال: «مثله ولم يذكر: في النفل» ورواه الدارقطني أيضاً من طريق عبد الرحمن بن بشير بن الحكم عن عبد الله بن نمير. وفي (مصنف أبن أبي شيبة) باب «في الفارس كم يقسم له؟ من قال: ثلاثة أسهم» . حدثنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير قالا: ثنا عبيد الله بن عمر ... أن رسول ألله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً» وذكره ابن حجر في (الفتح) عن (مصنف ابن أبي شيبة) وذكر أن أبي عاصم رواه في «كتاب الجهاد» له عن ابن أبي شيبة كذلك. وقال الدارقطني ص 469: «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد بن منصور (الرمادي) نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة وابن زيد نمير ... أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفارس سهمين , وللراجل سهماً. قال الرمادي: كذا يقول ابن غير. قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو الرمادي لأن أحمد ابن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن غير خلاف هذا, وقد تقدم ذكره عنهما , ورواه ابن كرامة وغير عن أبي أسامة خلاف هذا أيضاً وقد تقدم.

أقول: الوهم من الرمادي فقد تقدم عن (مصنف ابن أبي شيبة) : للفرس. للرجل وكذلك نقله ابن حجر عن (المصنف) وكذلك رواه ابن أبي عاصم عن ابن أبي شيبه كما مر , ويؤكد ذلك أن ابن أبي شيبه صدر بهذا الحديث الباب الذي قال في عنوانه: «من قال ثلاثة أسهم» كما مر , ثمذكر باباً آخر عنوانه: «من قال للفارس سهمان؟» فذكر فيه حديث مجمع وأثري علي وأبي موسى فلو كان عنده أن لفظ ابن غير كما زعم الرمادي أو لفظ أبي أسامة أو كليهما «للفارس. للرجل» لوضع الحديث في الباب الثاني. فإن قيل: لعله تأول التأويل الذي تقدمت الإشارة إليه في الكلام على أثر أبي موسى. قلت: يمنع من ذلك التأويل. الثاني: تصديره باب «من قال: ثلاثة أسهم» بهذا الحديث. الثالث: أن ذاك التأويل يحتمله أثرا عل وأبي موسى ولم يدرجهما في هذا الباب، بل جعلهما في باب «من قال: للفارس سهمان» . فإن قيل: فقد قال ابن تركماني في (الجوهر النقي) : «وفي «الأحكام» لعبد الحق: وقد روي عن أبن عمر أنه عليه السلام جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً. وذكره أبو بكر ابن أبي شيبة وغيره» ونقل الزيلعي في (نصب الراية) ج3ص حديث ابن أبي شيبة وفيه: «للفارس. للرجل» ثم قال: «ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدارقطني في (سننه) وقال أبو بكر النيسابورى ... » . أقول: أما عبد الحق فلا أراه إلا اعتمد على رواية الرمادي، وأما ابن التركماني فالمعتبة عليه فإنه ينقل كثيراً عن (مصنف ابن أبي شيبة) نفسه، بل نقل عنه بعد أسطر أثر علي، فما باله أعرض هنا عن النقل عنه، وتناوله من بعيد من (أحكام

عبد الحق) ؟! وأمات الزيلعي فلا أراه إلا اعتمد على رواية الدارقطني عن النيسابوري عن الرمادي، فإما أن لا يكون راجع (المصنف) لظنه موافقته لما الرمادي، وإما أن يكون حمل الخطأ على النسخة التي وقف عليها من (المصنف) خطأ كما قاله الرمادي. والله المستعان. الثامن: زائدة بن قدامة عند البخاري في (صحيحه) في «غزوة خيبر» رواه البخاري عن الحسن بن إسحاق عن محمد بن سابق عن زائدة « ... قسم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً. فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم» وهذا التفسير يدل أن الصواب في المتن «للرجل» لكن وقع في نسخ (الصحيح) كما رأيت، وزائدة متقن لكن شيخ البخاري ليس بالمشهور، ومحمد بن سابق، قال ابن حجر في ترجمته من الفصل التاسع من (مقدمة الفتح) : «وثقة العجلي وقواه أحمد بن حنبل وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة وليس ممن يوصف بالضبط. وقال النسائي: لا بأس به، وقال أبن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. قلت ليس له في البخاري سوى حديث واحد في «الوصايا» ... وقد تابعه عليه عبيد الله بن موسى» . كذا قال وفاته هذا الحديث، وعذر البخاري أنه رأى أن الوهم في هذا الحديث يسير يجبره التفسير. ومع ذلك فلم يذكره في «باب سهمان الخيل» وإنما ذكره في «غزوة خيبر» . التاسع: ابن المبارك رواه عته علي بن الحسن بن شقيق كما في (فتح الباري) ، ذكر روايوالرمادي عن نعيم عن ابن المبارك الآيتة ولفظها « ... عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اسهم للفارس سهممين وللرجل سهماًَ، ثم قال: «وقدجرواه على ابن الحسن ابن شقيق - هو أثبت من نعيم - عن ابن المبارك بلفظ: أسهم للفرس» ولم يذكره بقية لأنه إنما اعتنى بلفظ الفارس والفرس وقد قال قبل ذلك: « ... فيما رواه أحمد ابن منصور الرمادي عن أبي بكر بن أبي شيبة ... بلفظ: أسهم للفارس سهمين

قال الدارقطني ... » . فأما ما رواه الدارقطني ص 469 «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد بن منصور (الرمادي) نا نعيم بن حماد نا ابن المبارك ... عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً. قال أحمد كذا لفظ نعيم عن ابن المبارك، والناس يخالفونه. قال النيسابوري: ولعل الوهم من نعيم لان ابن المبارك من اثبت الناس» . أقول: نعيم كثير الوهم، وكلام الحنفية فيه شديد جذاً كما في ترجمته من قسم التراجم، ولكني أخشى أن يكون الوهم من الرمادي كما وهم على أبي بكر بن أبي شيبة. ولا أدرى ما بليته في هذا الحديث مع انهم وثقوه. وقال ابن تركماني: «رواه ابن تركمانى عن عبيد الله بإسناده فقال فيه: للفارس سهمين وللرجل سهماً ذكره صاحب (التمهيد) » . أقول: وهذه معقبة أخرى على ابن التركمانى، إذا لم يذكر أن صاحب (التمهيد) إنما رواه من طريق الرمادي عن نعيم! والله المستعان. العاشر: حماد بن سلمة. قال الدار قطنى ص 468 «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد ابن يوسف السلمي نا النضر بن محمد بن موسى اليمامى نا حماد بن سلمة ... أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للفارس سهماً وللفرس سه. خالفه حجاج بن المنهال عن حماد فقال: للفارس سهمين وللرجل سهماً» . أقول: حماد كثير الخطأ إنما ثبتوه فيما يرويه عن ثابت وحميد، وكلام الحنفية فيه الشديد كما تراه في ترجمته من قسم التراجم، وأولى روايتيه بالصحة ما وافق فيه الثقات الأثبات. وفي الباب مما يدل على ان للفرس سهمين ولصاحبه سهماً في (نصب الراية) ج 3 ص 416 عن الطبراني (الأو سط) : «ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا هشام بن يونس عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع

أحاديث أخرى في المسألة

عن ابن عمر عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم له يوم خيبر ثلاثة أسهم سهما له. وسهمين لفرسه» ، قال الطبراني: «ورواه الناس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تفرد به هشام ابن يونس عن أبي معاوية» . أقول: وقد رواه جماعة عن أبي معاوية فلم يقولوا فلم يقولوا «عن عمر» وقالوا: «أسهم للرجل» نعم وقع في (سنن أبي داود) عن أحمد عن أبي معاوية «أسهم لرجل» وهذا كأنه يشد من رواية هشام، وهشام ثقة، ولا يبعد أن يكون الحديث عند عبيد الله عن نافع من الوجهين، ولكن الناس أعرضوا عن هذا لخصوصة بعمر، وعنوا بالآخر لعمومه. وروى عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عند النسائي، ومحاضر بن المورع عند الدارقطني ص 471 «عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده أنه كان يقول: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم سهماً للزبير وسهماً لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير وسهمين للفرس» سعيد ومحاضر من الرجال مسلم وفي كل منهما مقال، واقتصر النسائي في «باب سهمان الخيل» على هذا الحديث، ولم يتعقبه بشيء، وذاك يشعر بأنه صحيح عنده لا يضره الخلاف. وقد رواه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة، ومحمد بن بشر العبدي عند الدارقطني ص 417، واتبن غيينة عند الشافعي كما في (مسند) بهامش (الأم) ج 6 ص 250 ثلاثتهم عن هشام عن يحيى مرسلاً، ولفظ ابن عيينه «أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم، سهم له، وسهمين لفرسه، وسهم في ذوي القربى» وعند الدارقطني ص 417 عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة روايتان إحداهما عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال «أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أربعة أسهم ... » والأخرى: عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن الزبير..» بمعناه، وإسماعيل يخلط فيما يرويه من غير الشاميين. وفي (مسند أحمد) ج 1 ص 166 «ثنا عتاب ثنا عبد الله ثنا فليح بن محمد عن المنذرين الزبير عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الزبير

سهماً وأمه سهماً وفرسه سهمين ى ذكره9 أحمد في (مسند الزبير» وليس من عادة أحمد في (المسند) إخراج المراسيل. وعتاب هو ابن زياد المروزي وثقة أبو حاتم وغيره ولم يغمزه أحد، وعبد الله هو ابن المبارك وقد تصفحت على بعضهم كلمة «بن» بين محمد والمنذر، فجرى البخاري في تاريخه ومن تبعه على ذلك كما في ترجمة فليح في (تعجيل المنفعة) . ولم يذكر البخاري من رواه كذلك عن ابن المبارك، فالصواب إن شاء الله رواية أحمد. أما فليح فغير مشهور لكن رواية ابن المبارك عنه تقوية. وفي الباب من حديث أبي عمرة عند أحمد في (المسند) ج 4 ص 138، أبي داود في (السنن) ، والدارقطني ص 468، وابن منده كما في ترجمة أبي عمرة (من الإصابة) . ومن الحديث ابن عباس والمقداد وأبي رهم وأبي رهم وأبي كبشة وجابر وأبي هريرة، تراها عند الدارقطني وغيره، كاها متفقة على أن للفرس سهمين ولصاحبه سهماً. وفي (مصنف ابن أبي شيبة) مراسيل عن مجاهد وخالد بن معدوان ومكحول وغيرهم وقد تقدم بعضها، كمرسل صالح بن كيسان ومرسل بشير بن يسار. وفي (المصنف) : «ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن الحسن وابن سيرين قالات: كانوا إذا غزوا فأصابوا الغنائم قسموا للفارس من الغنيمة حين تقسم ثلاثة أسهم سهمين له، وسهماً لفرسه وسهماً للراجل» وفيه «حدثنا جعفر بن عون عن سفيان عن سلمة بن كهيل: ثنا أصحابنا عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: للفرس سهمان وللرجل سهم» وفيه حدثنا محاضر قال: ثنا مجالد عن عامر (الشعبي) قال: لما فتح سعد عن أبي وقاص (جلولا) أصابة المسلمون ثلاثين ألف ألف مثقال فقسم

للفارس ثلاثة آلاف، وللرجل ألف مثقال» وفيه «حدثنا وكيع قال: ثنا سفيان عن هشام عن الحسين قال: لا يسهم لأكثر من فرسين فإن كان مع الرجل فرسان أسهم له خمسة أسهم أربعة لفرسيه وسهم له» وفي (نصبالراية) ج3ص419 «قال سعيد ابن منصور ثنا فرج بن فضالة ثنا محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عمر ابن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهماً فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب» . وفي (سنن الدارقطني) ص 470 عن خالد الحذاء (وقد رأى أنساً) قال: «لا يختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للفارس ثلاثة وللرجل سهم» . وذكر الأستاذ ص 87 عن كتاب (اختلاف الفقهاء) لابن جرير عن مالك قال: «إني لم أزل أسمع أن للفرس سهمين وللرجل سهماً» .

المسألة الثانية عشرة: أما على القاتل بالمثقل قصاص؟

المسألة الثانية عشرة: أما على القاتل بالمثقل قصاص؟ في (تاريخ بغداد) 13 / 332 عن غبراهيم الحربي قال: «كان أبوالحنفية طلب النحو.. فتركه ووقع في الفقه فكان يقيس ولم يكن له علم بالنحوفسأله رجل بمكة فقال له: رجل شجّ رجلاً بحجر. فقال: هذا خطأ ليس عليه شيء لوأنه حتى يرميه بأبا قبيس لم يكن عليه شيء» قال الأستاذ ص23: «وأدلة أبي حنيفة في حكم القتل بالمثقل مبسوطة في كتب المذهب ... وقد صحت أحاديث وآثار عند النسائي ,أبي داود وابن ماجه وابت حبان وأحمد وابن راهو ية وابن أبي شيبة وغيرهم يؤيد ظاهرها هذا المذهب، وقد صحت احاديث ... » قوله: منها حديث عبد الله بن عمروعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن دية الخطأ شبه العمد، وما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح. ومنها حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شبه العمد قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة. أخرجه ابن راهو ية. ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء - أخرجه عبد الرزاق. إلى غير ذلك من الأحاديث» . أقول: في هذه القضية آيات من كتاب الله عز وجل أعرض عنها الأستاذ! الآية الأولى: قوله تعالى: «وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأً ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله» إلى قوله: «ومن يقتل

مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم» الآية -سورة النساء: 92-93. من المعلوم في العربية أن عمد القتل وتعمده هو قصده، وأن وقوعه خطأ هو أن يقع بلا قصد. ولا ريب أنه إذا كان هناك قتل يوصف بأنه خطأ شبيه بالعمد فإنما هو أن يتعمد سبب القتل كالضرب مثلاً ولا يقصد القتل، وإنما يقصد الإيلام بلا قتل، فهذا القتل خطأ لأنه لم يقصد ولكنه شبيه بالعمد من جهة أن سببه متعمدة. ولا يشك عاقل أن من عمد إلى طفل أو أو ضعيف فوضع رأسه على صخرة وجاء بأخرى فضرب بها رأسه حتى فضحه حبلاً في عنقه ثم شد طرفه بشجرة ثم جذب طرفه الآخر جذباً شديداً راسه وعنقه وصدره وظهره حتى مات فقد قتله عمداً فقد خرج عن لغة العرب. ألاية الثانية: قوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى» الآية –البقرة 178 نصت ألاية على وجوب القصاص في كل قتيل يتأتي فيه، القصاص يدل على المماثلة، والمقصود المماثلة في المعاني التي يعقل لها دخل في الحكم، فلا تتناول القتيل بحق لأن قتل قاتلة يكون بغير حق، ولا القتيل خطأ محضاً لأن قتل قاتلة إنما يكون عمداً، ولا القتيل الذي دلت شواهد الحال على أنه إنما قصد إيلامه لا قتله كالمضروب ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة لأن قتل قاتلة يكون مقصوداً. وتتنازل الآية القتلى في الصور المتقدمة سابقاً وهي فضح الرأس وما معه ونحوها إذا كان بغير حق، لأنه قصد فيها سبب القتل وقصد فيها القتل، وقتل القاتل يقتضي مثل ذلك بدون زيادة فهو قصاص، فالآية تنص على وجوب القصاص في تلك الصور ونحوها حتماً.

الآية الثالثة: قوله عز وجل «ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً» الإسراء -33والإسراف هو تعدي المماثلة التي تقدم بيانها، أو قل: تعدي القصاص، فمن قُتل بحق فلم يقتل مظلوماً، ولا يكون قتل قاتلة إلا إسرافاً، وبقية الكلام كما في الآية السابقة، وقتل القاتل في تلك الصور التي منها فضخ الرأس وما معه وما في معناها لا يتعدي المما ثلة المعتبرة فلا إسراف فيه فقد جعل الله تعالى للولي سلطاناً عليه، وذلك شرع القصاص. الآية الرابعة: قوله سبحانه «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» البقرة -179 ولا ريب أنه إذا لم يكن في القتل قصاص لم يتقه الناس، فيتحرون القتل بالمثقل عدواناً وانتقاماً فيفوت المقصود من شرع القصاص. الآية الخامسة قوله تعالى: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» النحل - 126.الآية السابعة: قوله تعالى «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا الله» البقرة -194. الآية الثامنة: قوله تبارك وتعالى «وجزاء سيئة سيئة مثلها» الشورى - 40 وأما الأحاديث التي ذكرها الأستاذ فحديث «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ... » مختلف في إستاده فقيل عن القاسم بن ربيعة مرسلاً، وقيل عنه عن عبد الله بن عمرومرفوعاً. وقيل عنه من عقبة بن أو س مرسلاً، وقيل عنه عن عقبة عن رجل من الصحابة، وقيل غير ذلك، وقد ساق النسائي أكثرتلك الوجوه. وذلك الاختلاف والاضطراب قد يتسامح فيه إذا لم يكن المتن منكراً، ومن قواه من المحدثين لا

تأييد المحقق للكوثري في تصحيحه لحديث ابن عمرو خلافا للمصنف

يرى معناه ما يزعمه الحنفية مما يخالف الكتاب والسنة الصحيحة، ولورأى أن ذلك معناه لأنكره فرده بذلك وبذاك الاختلاف والاضطراب (1) مع ذلك فعقبة بن أوس المتفرد به غير مشهور، وإنما وثقه من من عادته توثيق المجاهيل وإن كانوا مقلين إذا لم ير في حديثهم ما ينكره، وقد شرحت ذلك في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد. ولورأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لما أثنوا على عقبة، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرد بالمنكر، ولا سيما إذا كان مقلاً غير مشهور. والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة كما مر في المسألة السابعة، وكما يأتي في مسألة الخامسة عشرة، فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث مع ما في سنده من الاختلال ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن. فإن قيل: وهل يحتمل معنى آخر؟ قلت نعم، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصد القتل، كالصور التي تقدم التمثيل بها من فضح الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه. ومنه ما يتردد فيه أقصد أم لم يقصد كمن أغضبه رفيقه وكان

_ (1) قلت: بل الحديث صحيح السند كما قال الكوثري، والاضطراب الذي ذكره المصنف رحمه الله هو من الاضطراب الذي لا يؤثر في صحة الحديث، فقد ذكرت في «الارواء» رقم (2259) أشهر وجوه الاضطراب فيه، ثم قابلت بينها على ما يقتضيه علم المصطلح والجرح والتعديل، فتبين لي أنها غير متماثلة في القوة وعدد رواة كل وجه، وأن أرجحها رواية من رواه عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أو س عن عبد الله بن عمرو، وعلى ذلك حكمت عليه بالصحة، لأن رجاله كلهم ثقات، وعقبة بن أو س قد وثقه ابن سعدوالعجلي وابن حبان، وهؤلاء وإن كانوا متساهلين في التوثيق كما أشار إليه المصنف، فاتفاقهم عليه، مع عدم توجه أي انتقاد عليه، بل قبله الحفاظ من بعدهم ولم يردوه، مثل الحافظ ابن حجر فقال في «التقريب» : «صدوق» . زد على ذلك أن من جملة من خرج الحديث ابن الجارود في كتابه «المنتقى» رقم (773) ، وذلك منه توثيق لرجاله كما لا يخفى. ولذلك فالاعتماد في الرد على الحنفية في استدلا لهم بهذا الحديث على ما زعموا، إنما هو على المعنى الآخر الذي أوضحه المؤلف جزاه الله خيراً.

معنى الحديث المشار إليه عند المصنف

بيده فأس أو عصا كبيرة فضرب رأسه فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا كبيرة فضرب رأسه فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة فمات فهذه ثلاثة أضرب وقوله في أول الحديث: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد» مُخْرجٌ للضرب الأول حتماً لأنه عمد محض لا يعقل أن يسمى خطأ شبه عمد، فبقى الأ خيران والظاهر أنه شامل لهما. أما الثالث فواضح وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبين قصد القتل فالأصل عدمه. فقوله بعد ذلك: «ما كان بالسوط والعصا» حقه أن يكون تقيداً ليخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل، وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى فيقع التردد، ومن الحكمة في ذلك زجر الناس عن استعمال السلاح حيث لا يحل لهم القتل، وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يشتر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» . وفيه من حديثه أيضاً «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأُمه» . وفي (المستدرك) ج4 ص290 من حديث جابر قال: «نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاطى السيف مسلولاً» ومن الحديث أبي بكرة قال: «مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يتعاطون سيفاً مسلولاً، فقال رسول ألله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله من فعل هذا، أو ليس قد نهيت عن هذا؟ إذا سل أحدكم سيفاً ينظر إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم ليناوله إياه» وعلى ذاك المعنى فكلمة «ما» من قوله: «ما كان بالسوط والعصا» إما موصولة بدل بعض من «الخطأ شبه العمد» وإما مصدرية زمانية، أي: وقت كونه بالسيف والعصا، كما قيل بكل من الوجهين فيما قصة الله تعالى عن شعيب: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» . هو د: 88. ويؤيد ذلك أن في بعض الروايات عند النسائي وغيره منها رواية أيوب عن القاسم ورواية هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم « ... الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ... » ليس فيه «ما كان» والتقييد في هذا ظاهر. على أن الشارع وإن قضى بأنه إذا كان القتل بسلاح ونحوه عمد حيث يتردد في القصد فإنه يبالغ في حض ولي الدم على أن لا يقتص. أخرج أبو داود في (السنن) من حديث أبي

هريرة قال: «قتل الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردت قتله، قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للولي: أما إنه إن كان صادقاً ثم قتلته لتدخلن النار. قال: فخلى سبيله» ثم أخرجه من حديث وائل بن حجر وفيه «قال كيف قتلته؟ قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله ... قال للرجل: خذه فخرج به ليقتله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه إن قتله كان مثله ... » وحديث وائل في (صحيح مسلم) وفيه «كيف قتلته. قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته ... » وفي رواية «فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاتل والمقتول في النار ... » وتأوله بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سأل الولي أن يعفوفأبى. وهذا ضعيف من وجهين: الأول: انه ليس في القصة من الأمر بالعفوإلا بالعفوإلا ماوقع من بيان الإثم أو ما بعده. الثاني: أنه ليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أحداً بترك حقه أمراً جازماً يأثم المأمور إن لم يمتثله وقد رغب - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بريرة لما عتق أن لا تفسح نكاح زوجها فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، وإنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه. ولم يعقب هو بأبي وأُمي ولا أحد من أصحابه على بريرة. فالصواب ما دل عليه حديث أبي هريرة أن إثم الولي إن قتل إنما هو مبني على قول القاتل: لم أرد قتله. مع قوة احتمال صدقه. وقد ذكر الطحاوي في، مشكل الآثار) ج 1ص 409 الحديث ثم قال: «فكان معنى ذلك والله أعلم أن البينة التي كانت شهدت عليه بقتله لأخي خصمة شهدت بظاهر فعله الذي كان عندنا أنه عمد له لا شك عندنا فيه، وكان المدعى عليه أعلم بنفسه وأيما كان منه من ذلك فادعى باطناً كان منه في ذلك لا بحجة معه ... » . أقول: لم أر في شيء من الروايات لإقامة بينة أي شهود بل في بعض الروايات

أن الولي قال: «أما إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البينة» فإنما كان في الواقعة اعترف الرجل بالضرب وبتعمده وبآلته وصفته، وضرب الرأس بالفأس يقتضى قصد القتل، إلا أن هناك ما عارضه وهو وبتعمده وبآلته وصفته، وضرب الرأس بالفأس يقتضي قصد القتل، إلا أن هناك ما علرضه وهو أنه لم يسبق بينهما عداوة وكانت الفأس بيد الجاني يختبط بها فثار غضبه بسبب السب فضرب بما كان في يده وادعى أنه لم يرد القتل وأقسم على ذلك. فالحديث يدل أنه في مثل هذه الحال يقضى بأن القتل عمدٌ تأكيد للزجر عن القتل والتنفير عنه، ولا يمنع الولي من الاقتصاص ولكنه يحرم عليه فإن قيل: وكيف لا يمنع مما يحرم عليه؟ وقلت: لأنه لومنع منه حكماً لفات المقصود من تأكيد الزجر عن القتل. ويشبه هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كا يعطى الملحف في السؤال وإن كان غير مستحق، وفي (مسند أحمد) و (المستدرك) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: «أما والله إن أحدكم ليخرج بمسألته من عندي يتأبطها وما هي إلا نار. قال عمر: لم تعطيها إياهم؟ قال: ما أصنع؟ يأبون إلا ذلك ويأبى الله لي البخل» . وفي (صحيح مسلم) من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، فلست بباخل» (1) . فإذا حمل ذاك الحديث على معنى الذي ذكرنا لم يكن مخالفاً لكتاب الله عز وجل ولا للسنة الصحيحة ولا للنظر المعقول، فلا يكون منكراً، وعلى هذا بنى من قواه من المحدثين ووثق راويه المتفرد به مع ما فيه من الخلل. فإن أبى الحنفية إلا المعنى الذي يتشبثون به قلنا فعلى ذلك يكون الحديث منكراً فيرد ويضعف راوية اتفاقاً. خذ أنف هرشى أو قفاها فإنما كلا جانبي هرشى لهن طريق علىانه سيأتي في الحديث الثاني التقييد بأن يكون القتل في مناوشة بين عشيرتين بدون ضغينة ولا حمل سلاح فيقتل رجل لا يدرى من قاتله. وعلى هذا فلوصح هذا الحديث وكان مطلقاً لوجب حمله على ذاك المقيد. ومقتضى الحديث أنه في

_ (1) وأخرجه أبن حبان في «صحيحة» نبحوحديث أبي سعيد كما في «الترغيب» (2/15) ، وهو في «موارد الظمآن» رقم (2074) مختصراً، وإسناده حسن.

بيان ضعف حديث ابن عباس الذي استدل به الكوثري ساكتا عنه

تلك الصورة يقضى بأن القتا شبه عمد فينظر في العشيرتين المتناوشتين فأيتهما كان المقتول منها كانت ديته مغلظة على الأخرى، لأن الظاهر أن القاتل منها وأنها عاقلته، فأما إذا كان هناك ضغينة وحمل سلاح فإنه يقضى بأن القتل عمد فيجعل قسامة، وأماإذا عرف القاتل فله حكمه. والله أعلم. قول الأستاذ: «منها حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شبه قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة. أخرجه أبن راهو ية» . أقول: ذكرناه الزيلعي في (نصب الراية) ج4ص332 وذكر أن ابن راهو ية رواه عن عيسى بن يونس عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس، وأنه مختصر، وأحال يتمامه على ما تقدم له يعني ج4ص327 الحديث هناك: «العمد قود إلا أن يعفوولي المقتول، والخطأ عقل لا قود فيه، وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمي السهم فيه الدية مغلظة من اسنان الابل» نسبه إلى ابن راهو ية بالسند نفسه. والحديث في (سنن الدارقطني) ص328 من طريق: «يزيد بن هارون نا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو بسوط فهو دية المغلظة في أسنان الإبل» . وإسماعيل بن أمية ضعيف وقد اضطرب كما رأيت وجعل فيه في رواية ابن راهو ية رمي السهم وهو عمد عند الحنفية. ورواه أبو داود وغيره من طريق سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبن عباس يرفعه «من قتل في عميا أو رمياً تكون بينهم بحجر أو سوط فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمداً فقود يده» . سليمان متكلم فيه. ورواه الدارقطني ص 328 من طريق الحسن بن عمارة عن عمروعن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً. والحسن بن عمارة ضعيف جداً. ورواه الدارقطني ص 327 من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار بسنده. والصحيح عن حماد أنه رواه مرسلاً، قال أبو داود في باب «عفوالنساء عن الدم» : «حدثنا محمد بن عبيد نا حماد، ح ونا ابن السرح نا سفيان وهذا حديثه عن عمروعن طاوس قال: من قتل. وقال ابن عبيد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل عنداً في عميا في رمي يكون بينهم بحجارة أو

بالسياط أر ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمداً فهو قود، وقال ابن عبيد: قود يد ... وحديث سفيان أتم» . ورواه ابن السرح عن سفيان بن عيينة عن عمروعن طاوس قوله كما مر عن أبي داود، ولكن رواه الشافعي كما في (سنن البيهقي) ج8ص45 عن سفيان عن عمروعن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم عن أبن جريج عن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً، والوليد شديد التدليس يدلس التسوية. وقد رواه الدارقطني ص 328 من طريق: «عبد الرزاق أنا ابن جريح أخبر عمرو بن دينار أنه سمع طاوس يقول: أرجا يصاب في الرمي في القتال بالعصا أو بالسياط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يعلم من قاتله؟» قال ابن جريج: «وأقول: ألا ترى إلى قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهذليتين: ضربت إحدهما الأخرى بعمود فقتلها، إذ لم يقتلها بها ووداها وجنينها. أخبرناه ابن طاوس عن أبيه لم يجاوز طاوس» . أقول: قصة الهذليتين ستأتي. وأخرج أيضاً من طريق: «عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني أبن طاوس عن أبيه، قال (1) عند أبي كتاب فيه ذكر العقول جاء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ففي ذلك الكتاب وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتل العمية ديته دية الخطأ، الحجر والعصا والسوط ما لم يحمل سلاحاً» ومن طريق «عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن أبيه أنه قال: من قتل في عمية رمياً بحجر أو عصا أو سوط ففيه دية المغلظة» . فالروايات الصحيحة تجعله عن طاوس من قوله أو عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وتفسيره بما سمعت، وقد مر توجيه ذلك في آخر الكلام على الحديث السابق فلا متشبث فيه للحنفية. و (العميا) فسرها أهل الغريب كما في (النهاية) بقولهم: «أن يوجد بينهم قتيل يعمي أمر، ولا يتبين قاتله» .

_ (1) يعني ابن طاوس واسمه عبد الله. ن

حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح وذكر من رواه من الصحابة

وأخرجه الدارقطني من طريق إدريس بن يحيى الخولاني: «حدثني بكر بن مضر حدثني حمزة النصيبي عن عمر بن دينار حدثني طاوس عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل في عميا رمياً تكون بينهم ... » ثم أخرجه من طريق عثمان بن صالح: «نا بكر بن مضر عن عمرو بن دينار ... » ومن وجه آخر عن عثمان بن صالح: «نا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار» . حمزة النصيبي هالك، وعثمان بن صالح صالح في نفسه لكنة من الذين ابتلوا بخالد بن نجيح، كانوا يسمعون معه فيملي عليهم ويخلط. وخالد هالك. قول الأستاذ: «ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء - أخرجه عبد الرزاق» . أقول: جاءت القصة من رواية جماعة من الصحابة: الأول: زوج المرأتين حمل بن مالك بن النابعة ومنه سمعة ابن عباس، ففي (مسند أحمد) ج 4 ص 80 «ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جريح قال: أنا عمرو بن دينار أنه سمع طاوساً يخبر عن ابن عن عمر رضي الله عنه أنه نشد قضاء. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فجاء حمل ابن مالك بن النابغ فقال: كنت بين بيتي امرأتي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغرة وأن تقتل بها. قلت لعمرو: لا، أخبرني عن أبيه بكذا وكذا قال: لقد شككتني» . ورواه أبي داود عن أبي عاصم عن أبن جريج بمعناه إلى قوله: «أن تقتل» وبعده: «قال أبو داود قال النضر بن شميل: المسطح وهو الصوبج. قال أبو عبيد: السطح عود الخباء» . ورواه البيهقي ج8ص43 من طريق عبد الرزاق بنحوه وفيه من قول ابن جريج: «فقلت لعمرو: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قضاء بديتها وبغرة عن جنبيها. قال: لقد شككتني: ورواه النسائي من طريق عكرمة عن أبن عباس وفيه: «فرمت إحداهما الأخرى بحجر» . وروى الطبراني من طريق أبي المليح ابن أسامة

الهذلي عن حمل بن مالك: «أنه كان له امرأتان لحيانية ومعاوية ... فرفعت المعاوية حجراً فرمت به اللحيانية وهي حبلى فألقت جنيناً، فقال حمل لعمران بن عويمر: (أخي القاتلة) أدّ إلى عقل امرأتي، فأبى فترافعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: العقل على العصبة» . وذكره ابن حجر في ترجمة عمران من (الإصابة) . الثاني: أخوالمقتولة عويم، ويقال: عويمر الهذلي. في ترجمته من (الإصابة) : «أخرج ابن أ «ي خثيمة والهيثم بن كليب والطبراني وغيرهم من طريق محمد بن سليمان بن سموأل أحد الضعفاء عن عمرو بن تميم بن عويم الهذلي عن أبيه عن جده قال: كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها: أم عفيف ... تحت رجل منا يقال له: حمل بن مالك ... فضربت أم عفيف أختي بمسطح بيتها ... » ) . الثالث: أسامة بن عمير الهذلي روى الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة الهذلي عن أبيه قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له: عمران بن عويم ... فقال عمران: يا نبي الله إن لها ابنين هما سادة الحي وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم. قال: أنت أحق أن تعقل عن أختك ... » ذكره ابن حجر في ترجمة عمران من (الإصابة) وذكر في (الفتح) أن الحارث بن أبي أسامة أخرجه من طريق أبي المليح وفيه «فخذفت إحداهما الأخرى بحجر» . الرابع: المغيرة بن شعبة وحديثه في (صحيح مسلم) وغيره من طرق عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضلة عن المغيرة وفيه «بعمود فسطاط» وفي رواية للترمذي «بحجر أو ع ود فسطاط ... » . الخامس: أبو هريرة وحديثه في (الصحيحين) وغيرهما من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي سامة عن أبي هريرة «أن إمراتين من الهذيل رمت إحداهما الأخرى

جواب المصنف عن استدلال الكوثري به

فطرحت جنينها ... » وفي رواية أخرى في (الصحيحين) من طريق يونس عن أبن سهاب بسنده وفيه «فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها، وما في بطنها ... » وفي (صحيح البخاري) في «باب الكهانة» من «كتاب الطب» من طريق عبد الرحمن بن خالد عن أبن شهاب « ... فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها ... » وفيه «ثنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها ... » . السادس: يزيدة الأسلمي أخرج أبوداوود والنسائي من طريق عبد الله بن يزيدة عن أبيه أن امراة حذفت (أو خذفث) امراة فأسقطت ... ونهى يومئذ عن الحذف» . هذا ماتيسر الإشارة إليه من طريق القصة، وقد رأيت الاختلاف في الفعل أضرب هو أم رمي أم حذف أم حذف. وفي الآلة: مسطح -حجر- عمود فسطاط. والطريق العلمية في مثل هذا أن يجمع فإن لم يمكن فالترجيح. فقد بقال أما الفعل فحذف لأن الحذف هو الرمي عن جانب فكل حذف رمي، ولا عكس، وإنما كان ذلك سبباً للنهي عن الحذف لأن كلاً منهما رمي بحجر ولتقاربهما لفظاً. وقد يطلق على الرمي ضرب كما مر في بعض الروايات «ضربت امراة ضربتها بحجر» أما الآلة فقد يقال إنها حجر كان صوبجاً وذلك أن في رواية زوج المراة «بمسطح» وفي رواية عنه «بحجر» وفي رواية أخي المفتولة «بمسطح» والمسطح كلمة مشتركة يطلق على الصوبيج وهو ما يرقق به العجين ويخبز وقد يكون عند أهل البادية حجراً، ويطلق على عمود الخباء والفساط، فجاء في رواية منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن المغيرة «بعمود فسطاط» وفي رواية «بحجر أو عمود فسطاط» وفي رواية الأعمش عن ابراهيم «بحجر» فكأنه كان في أصل الرواية «بمسطح» . فحمله بعضهم على احد معنييه وبعضهم على الآخر، وشك بعضهم. وفي رواية أبي المليح عن أبيه «بعمود خباء» وفي الأخرى منه «بحجر» فكأنه كان في

إعلال الكوثري لحديث الرضخ والرد عليه بما يبين تجاهله للحق

الأصل «بمسطح» وفي رواية أبي هريرة في (الصحيحين) «بحجر» ولم يختلف عليه، فإن اتجه ذاك التوجية وإلا فما اتفق عليه الشيخان أرجح. إذا تقرر هذا فنقول: إن حذف المراة صاحبتها بحجر ليس مما يتبين به مطلقاً لا قصد القتل. ^ 87^ فإن قيل عدم استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن القتل بمثل ذلك شبه عمد على كل حال، قلت: لم يذكر في شيء من الروايات اختلاف من الخصمين في القتل أعمد أم شبه العمد؟ ولا فغي موجبة بل تقدم في رواية أبي المليح عن حمل «فقال حمل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة) أد إلى عقل أمرأتي فأبى فترافعا» في روايته عن أبيه «فقال عمران يانبي الله لها ابنين هما سادة الحي وهم احق أن أن يعقل عن أمهم» . فقد اتفق الخصمان فبل الترافع وبعده على أن في القتل دية على العاقلة، وإنما اختلفا في العاقلة التي تلزمها الدية في الواقعة الأخ أم الا بنان؟ ومعنى ذلك اتفاقهما على أن القتل شبه عمد. وافرض أن خصمين ترافعا إلى قاض فقال أحدهما إن اخت هذا قتلتن أختي شبه عمد وهو عاقلتها فأطالبه بالدية، فقال الآخر: قد صدق ولكن للقاتلة بنون وهم أحق أن يفعلوا عن أمهم. ألا ترى أنه لا حاجة بالقاضي إلى السؤال عن صفة القتل، لتصادق الخصمين على أنه شبه عمد، وإنما اختلفا في غيره؟ قول الأستاذ: «وقد أعل أبو حنيفة حديث الرضخ كما سيأتي» . أقول في (تاريخ بغداد) 13/387 من طريق «بشر بن مفضل قال: قلت لأبي حنيفة ... قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين. قال هذيان» . فهل هذا إعلال؟ ! قال الأستاذ ص 80: وأما حديث الرضخ فمروي عن أنس بطرلايق هشام بن زيد، وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل لكن عنعنة قتادة متكلم فيها (1) . ثم راح يتكلم

_ (1) قلت: قد صرح قتادة بالتحديث كما بينه المؤلف فيما يأتي، فهل ذلك الكوثري أم تجاهل؟ أغلب الظن الثاني، وعلى كل حال، فهو كما قال الشاعر: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ن

بيان أن رأي أبي حنيفة أن القود بالسيف فقط خلاف المماثلة المنصوص عليها في القرآن

في أنس رضي الله عنه. أقول: أما هشام فهو هشام بن زيد بن أنس بن مالك وحديثه هذا عن جده في (الصحيحين) وغيرهما، وهشام غير مدلس وسماعة من جده أنس ثابت، ومع ذلك فالراوي عنه شعبة ومن عادته التحفظ من رواية ما يخشى فيه التدليس، وحديثه في (الصحيحين) . ومن عادتهما التحرز عما يخشى فيه التدليس فسماع هشام لهذا الحديث من جده أنس بن مالك ثابت على كل حال. وأما أبو قلابة فهو عبد الله بن زيد الجرمي وقد قال فيه أبو حاتم: «لا يعرف له التدليس» وذكر ابن حجر في ترجمة من (التهذيب) ما يعلم منه أن معنى ذلك أن أبا قلابة لا يروى عمن قد سمع منه إلا ما سمعه منه. وقد ثبت سماعه من أنس كما في قصة العرنيين وغيرهما وحديثه في (الصحيح) أيضا، فالحكم في حديثه هذا أنه سمعه من أنس. أما قتادة فمدلس لكنه قد صرح بالسماع. قال البخاري في (الصحيح) في «باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به» : حدثني إسحاق أخبرنا حيان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس أبن مالك أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين ... فجئ باليهودي فأعترف، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بالحجارة» . وقد قال همام: - «بحجرين» وفي «مسند أحمد» 36 ص269: «ثنا عفان قال ثنا همام قال: أنا قتادة أن أنساً أخبره ... فأخذ اليهودي فجيء به فاعترف» وتمام الكلام في (الطليعة) ص 101-103 وترجمة أنس من قسم التراجم، وفي مقدمة (التنكيل) أوائل الفصل الثالث وفي أثناء الفصل الخامس. قال الأستاذ: «ومن رأية (يعني أبا حنيفة) أيضاً أن القود بالسيف فقط تحقيقاً لعدم الخروج عن المماثلة المنصوص عليها في الكتاب» ! أقول: الخروج عن المماثلة كمل يكون بالعدوان، فكذلك يكون بالنقصان، وكما

أن العدل يقتضي منع الولي من الاعتداء فكذلك يقتضي تمكينه من الاستيفاء، ومن قتل إنساناً ظلماً برضخ رأسه بالحجارة فالقصاص أن يقتل مثل تلك القتلة، فإن قيل: ربما يقع في هذا زيادة فخفيفة غير مقصودة ولا محققة ولا مانعة من أن يقال: إنه قتل مثل قتلته، وفي تمكين الولي من ذلك شفاء لغيظة، وتطييب لنفسه، وزجر للناس، وردع عم الجمع بين القتل ظلماً وإساءة القتلة، وقد شرع الله تبارك وتعالى رجم الزاني المحصن إبلاغاً في الزجر، والقتل ظلماً أشد من الزنا. نعم قال الله تبارك وتعالى «وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله» وكما أن العفوقد يكون بترك المجازاة البتة فقد يكون بتخفيفها فغاية الأمر أن يكون الاقتصاص بضرب العنق أولى، وعلى هذا يحمل ما ورد في ذلك على ذلك على ضعفه ومعارضة غيره له. والله الموفق.

المسألة الثالثة عشرة: لا تعقل العاقلة عبدا

المسألة الثالثة عشرة: لا تعقل العاقلة عبداً قال الأستاذ ص 24: «قول صاحب القاموس (ع ق ل) : وقول الشعبي لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ... معناه أن يجني على عبد ... قال الأصمعي: كامت أبا يوسف بحضرة الرشيد فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته» قال الأستاذ: «وعقلته يستعمل في معنى غقلت عنه، قال الأكمل في (العناية) : وسباق الحديث وهو: لا تعقل العاقلة عمداً. وسياقه وهو: «ولا صلحاً ولا اعترافاً» يدلان على ذلك لأن معناه: عمن عمد وعمن اعترف اه ويؤيده ما أخرجه أبو يوسف في (الآثار) عن أبي حنيفة عن حماد بن غبراهيم أنه قال: لا تعقل العاقلة العبد إذا قتل خطأ. وما أخرجه محمد بن الحسن في (الموطأ) عن عبد الرحمن بقن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد اله بن عتبة بن مسعود عن أبن عباس قال: لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحا ولا أعترافاً ولا ما جنى المملوك ... اه وما جنى المملوك نص على أن المراد بقوله: لا تعقل العاقلة عبداً أن العاقلة لا تعقل عن العبد الجاني رغم كل متقول. وأخرج البيهقي بطريق الشعبي عن عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. ثم قال: هذا منقطع، والمحفوظ أنه من قول الشعبي» ثم حكى عبارة أبي عبيد وفي آخرها «قال أبو عبيد فذا كرت الأصمعي فقال: القول عندي ما قال ابن أبي ليلى وعليه كلام عرب، ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان: لا تعقل العاقلة عن عبد» ثم قال الأستاذ: « ... ولا منافاة بين هذا وبين أن يأتي في لسان العرب: عقل عنه. بمعنى: ودى. بل:

عقله. في هذا الباب بمعنى: عقل عنه. على الحذف والإيصال لأأن أصل الكلام: عقل فلان قولئم الجمال ليدفعها دية عن فلان. فاستغني عن المفعول الصريح وأو صل إلى المدفوع عنه بحذف -عن- وهذا من أسرار العربية، والقصد من الآثار المروية عن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي واحد ... » أقول: عاقلة الانسان عصبته على تفصيل معروف في كتب العلم، فإذا قتل حرّ حراً خطأ محظاً أو شبه عمد وثبت ببينة فالدية على عاقلة القاتلا، ومن الحكمة في ذلك أن أولياء المقتول يطلبون بثأره، ومن شأن عصبة القاتل أن تقوم دونه وهم محقون في ذلك فيقال لهم: من شأنكم أن تقدموا دونه فاغرموا مالزم بفعله. وإن كان القتل عمداً أو لم يثبت إلا باعتراف القاتل لم يلزم العاقلة شيء لأنهم قد يقولون في العمد: لوطلب دمه لم نقم دونه ولا يحل لنا ذلك وهو أو قع نفسه باختياره. ويقولون في الاعتراف: هو جر البلاء باختياره وهكذا إذا لم يلزم شيء إلا بمصالحته لأن ذلك كاعترافه. وبقيت مسألتان: الأولى: أن يقتل عبد حراً فليس في هذا شيء على عاقلة العبد ولا على عاقلة سيده. أما عاقلة العبد فلأنه مادام عبداً في معنى الأجنبي عنهم، وأما عاقلة سيده فلأنهم يقولون: القاتل المطالب هو العبد ولا شأن لنا به ولا نقوم دونه. الثانية: أن بقتل حر عبداً فقيل: إذا كان عمداً ثبت القود، وقيل: لا قود بحال، لأن هذا ليس من مظنة الفتنة، فإن سيد العبد لا يهمه أن يأخذ بثأر عبده وإنما يهمه أن يأخذ مالاً يستعيض به منه. فأما إذا كان خطأ محضاً أو شبه عمد فلا قود اتفاقاً وإنما يجب المال، واختلفوا في الواجب فقال قوم: الواجب قيمة العبد بالغة ما بلغت، لأن سيده يستحق ما يعادل ما فاته ومقدار ذلك معروف وهو القيمة كما لو كان المقتول فرساً، وإلى هذا رجع أبو يوسف وهو قول الشافعي وغيره. وقيل: الواجب دية لكن مقدارها هو القيمة بشرط أن لا تساوي دية الحر ولا تزيد عليها فإن ساوت أو زادت لم يجب إلا دون دية الحر بعشرة، وهذا قول أبي حنيفة ولا

يخفى ما فيه. ثم اختلفوا في تعزيم العاقلة، فقال قوم: ليس عليها شيء لأنه إن كان الواجب قيمة فكما لو كان المقتول فرساً، وإن كان دية فليس من شأن سيد العبد أن يطلب دم القاتل فيكون ذلك من مثار تعصب عاقلته. وقال أبو حنيفة: تلزم العاقلة. احتج مخالفوه بما روي عن الشعبي: لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً. فقال أبو حنيفة: إنما معنى هذا وارد في المسألة الأولى، وهي أن يكون العبد هو القاتل فرده الأصمعي بما مر وأجاب الأستاذ بما سمعت. وأقول: أما ما ذكر عن إبراهيم، فقوله: «قتل» لا أدري أبا لبناء للفاعل أم المفعول، فإن كان للمفعول وهو الظاهر فهو نص في خلاف قول أبي حنيفة. فإن قيل: رواية أبي حنيفة له تدل على أنه عنده بالبناء للفاعل، قلنا: بل رواية أبي يوسف له تدل أنه عنده بالبناء للمفعول، والحق اطراح هذين فإن إبراهيم تابعي، والعالم كأبي حنيفة وأبي يوسف قد يروي من أقوال التابعين ما لا يقول به، لكن إذا ثبت أن المعروف في اللغة عقلت القتيل. دون: عقلت القائل. تبين أن الفعل في قول إبراهيم مبني للمفعول وهو الظاهر. وأما الأثر عن أبن عباس فليس من الواجب مطابقته لما روي عن غيره، بل هي خمس مسائل اتفق القولان على ثلاث، وانفرد كل منها بواحدة، ويتعين الجزم بهذا إذا كان المعروف في اللغة: عقلت القتيل، لا عقلت القائل. فتبين أن المدار على اللغة. فأما ما ذكره صاحب (العناية) فليس بشيء، بل المعنى لا تعقل العاقلة دية عمد ولا قيمة عبد ولا واجب صلح ولا واجب اعتراف. وأما تحقيق الأستاذ فيقال له: العبارة التي زعمت أنها الأصل وهي «عقل فلان قوائم الإبل ليدفعها دية عن فلان» إنما تعطي بمقتضى العربية أن فلاناً الثاني هو القاتل فإننا نقول: «دفعت عن فلان الدين الذي عليه، وأديت عنه الدية التي لزمته» ويصح أن يقال بهذا المعنى: «وديت عنه» أي: أديت عنه الدية التي لزمته، فأما المقتول فإنما يقال: «وديته» وقد يقال: هذه دية من القتيل أي بدل عنه قال الشاعر:

عقلنا لها من زوجها عدد الحصى قال ابن قتيببة في (كتاب المعاني) : «يقول قتلنا زوجها فلم تجعل عقلة إلا همها ... والمفعول يولع بلقط الحصى وعدة» و «من» هذه هي البدلية متلها في قةله تعالى: «ٌ أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة» وفي صغار كتب العربية أن «عن» للمجاوزة، وإذا أديت الدية فإنما جعلتهال تجاوز ذمة القاتل كما تقول: اديت عن فلان الدين الذي كان عليه، ولا معنى لمجاوزنها المقتول. وبعد فلا ريب أن الأصل «عقلت قوائم الإبل، لكن استغنوا عن القوائم على كل حال فقالوا: «اعقل ناقتك» ثم كثر عقل الإبل في الدية فاستغنوا في ذكر الدية عنلفظ الإبل، يقول ولي المقتول أو المصلح: اعقلوا. ويقول أولياء القايل سنعقل. وكثر ذلك حتى صار المتبادر من العقل في قضايا القتل معنى الدية فاستعمل في معناها حتى جمع جمعها فقيل: «عقول» بمعنى «ديات» فإذا قيل في قضايا القتل: عقلته. فمعناه: وديته. أي أديت ديته. وإذا قيل: عقلت عنه. فالمعنى: وديت عنه. أي أديت عنه الدية التي كانت مستقرة عليه فجعلتها تجاوزه. هذا هو المعروف في العربية.

المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا

المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً في (تاريخ بغداد) 13/391 حكايتان عن أبي عوانة «كنت عند أبي حنيفة جالساً فأتاه رسول من قبل السلطان ... فقال يقول الأمير: رجل سرق ودياً فما ترى؟ فقال غير متعتع: ان كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه ... » قال الأستاذ ص92: «قال الامام محمد بن الحسن الشيباني في (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمنة يومئذ عشرة دراهم ولا يقطع بأقل من ذلك ... قال الإمام محمد في (الموطأ) : قد اختلف الناس فيما تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم ورووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمروعن عثمان وعن على وعن عبد الله بن مسعود وعن غير واحد فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أن ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أم ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود مما يدراً بالشبهات فالأ خذ برواية عشرة دراهم في القطع أحوط فيؤخذ بها حيث لم يعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة» . أقول: رأيت للحنفية مسالك في محاولة التخلص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة نشطت للنظر فيها هنا. المسلك الأول هذا الذي تقدم، وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عمل بالناسخ،

مناقشة الطحاوي في مسلكه واستدلاله بحديث ضعيف مخالف لعموم القرآن

فإن لم يعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يعلم الناسخ فتعين العمل بالراجح. ومن المرجحات نفي الحد , أي أنه كان أحد الدليلين المتعارضين مثبتاً لحد والآخر نافياً له , كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبتة للحد في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم نافية للحد فيما ذلك , فجاء التعارض فيما يساوى ربع دينار أو يزيد عله ولكنه لا يبلغ العشرة , ولم يعلم الناسخ فترجح النافي. والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يثبت كما ستراه مفصلاً فليس بدليل أصلاً. هبه ثبت فعد نفي الحد من المرجحان فيه نظر , وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هبه ثبت فلا حجه فيه للاتفاق على أن الحد يثبت بخير الواحد ونحوه مما يقول الحنفية أنه دليل فيه شبهة , وإنما الشبهة التي يدراً بها الحد ما يقتضي عذراً ما للفاعل كمن أخذ ماله فيه حق , فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي, وكالواطئ في نكاح بلا ولي فإن له أن يقول لم أزن وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول سرقت عالماً بأن السرقة حرام , لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذا توجب الحد. فلا عذر له , ولا يدرأ عنه الحد , كما لا يدرأ عمن قال: «سرقت عالماً» بأن السرقة حرام , ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى فإنه إذا لم يعذر بجهل وجوب الحد من أصله فكيف يعذر بالتردد ? هبه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح. فللمثبت مرجحات أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله. المسلك الثاني للطحاوي. بدأ في كتاب (معاني الآثار) بذكر حديث ابن عمر «أ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنة ثلاثة دراهم» وهو في (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرها، رواه مالك وجماعة عن نافع عن أبن عمر فهو في أعلى درجات الصحة. ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يقطع فيما دون ذلك. ثم روي من طريق أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رفعه «لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن» قال الطحاوي: «فعلمنا

بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقفهم عند قطعة في المجن على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن» . أقول: أبوواقد هذا ذكر بصلاح في نفسه وغزو، قال أحمد: «ما رأى به بأساً» لكنهم ضعفوه في روايته، قال ابن معين: «ضعيف الحديث» وضعفه أيضاً على أبن المديني والعجلي وأبو زرعة وأبو داود والنسائي وأبو أحمد والحاكم وابن عدي، وقال البخاري وأبو حاتم والساجي: «منكر الحديث» . وقال ابن حبان: «كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم، ويسند المرسل ولا يفهم، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحق الترك» ومما أنكروه عليه حديثه عم سالم عن أبيه عن عمرورفعه: «من وجدتموه قد غل فأحرقوا متاعه» قال البخاري: «وحديث الباطل ليس له أصل» وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في (مشكل الآثار) على ما في (المعتصر) ج2ص238، (1) وفي (المعتصر) عن الطحاوي: «وكتاب الله يخالف ذلك، قال الله تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا» فإذا لم يكن في سرقة مال ليس للسارق فيه شركة سوى قطع اليد لا جزاء له غير ذلك فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظ إحراق رحله» . أقول: دلالة الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالة لا يقول بها الجمهور. وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغال قطع إذ يقال ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له فكيف يزاد الغال على مع أن له شبهة؟ . فإما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال على لشبهته قطع ولكن عليه عقوبة دون ذلك. فليس في هذا ما ينكر، كما أن الزاني المحصن الرجم فقط وليس على غير المحصن رجم ولكن عليه الجلد. وكما أن من ارتكب موجب الحد يحد ولا يعزر ومن ارتكب ما دون ذلك لم يحد ولكنه يعزر. رد الطحاوي حديث أبي واقد في الغال بدعوى مخالفة لا حقيقة لها , لدلالة لا

_ (1) الطبعة الثانية.

النظر في قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم

يقول بها الجمهور، ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفة محققة لدلالة متفق عليها من الآية نفسها , فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحق على كل منهم اسم «السارق» وهم كل من كان مسروقة أقل من قسمة المجن والآية توجب بعمومها قطع كل من يحق عليه - 95- اسم «السارق» ودلالة العموم متفق عليها بل يقول الحنفية أنها قطعية. ثم يبالغ الطحاوي فيقول «فعلمنا بهذا ... » كأنه يرى أبا واقد معصومها يوجب حديثه العلم. ويجعل ذلك أمراً مفروغاً منه , وإنما الشأن في معرفه قيمة المجن؟ ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في القيمة المجن. ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق. قال: «وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لايقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعداً , واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود (وهو إبراهيم بن سامان داود الأ سدي البرلسي) و (أبو زرعة) عبد الرحمن بن عمروالدمشقي قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال. ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال كان قيمه المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» أقول: ابن إسحاق متكلم فيه وفي حفظه شيء كما في (الميزان) ، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي فخبره هذا غير صالح للحجة أصلا فكيف يعارض به حديث (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرهما المتواتر عن نافع عن ابن عمر؟ ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود كما يشير إلى ذلك تقديم الطحاوي له، فأما، فأما الدمشقي فقال الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 378: «حدثنا أبو العباس محمد يعقوب (الأصم) ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد ابن خالد الوهبي ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم عشرة دراهم» . وهذا هو الصواب من حديث الوهبي كذلك أخرجه الدارقطني في (السنن) ص 369: «نا محمد بن إسماعيل الفارسي نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة نا أحمد بن خالد الوهبي» وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن)

بيان الفرق بين ثمن السلعة وقيمتها

ج8 ص 257: «ثنا أبوطاهر الفقيه أنبأ ابوبكر القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا أحمد بن خالد الوهبي ... » كلاهما بلفظ الأصم عن الدمشقي إلا أن ابن نجدة قدم كلمة «يقوم» ذكرها بعد كلمة «المجن» فإن قيل فالمعنى واحد. قلت: كلاّ، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة «المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -» والمحفوظ وهو لفظ الدمشقي وأبن نجدة والسلمي يجعلها قيمة المجن مطلقاً كما تقوم: كانت الغنم رخيصة في عهد فلان، كان ثمن الشاة يقوم درهمين. فإن قيل وكيف يستقيم ذلك والمجان تختلف جودة ورداءة، وجدة وبلى، وسلامة وعيباً، وترخص في وقت وتغلوفي آخر؟ قلت: كأن قائل ذلك بلغه أن أقل ما قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مجن ورأى أنه لا ينبغي القطع في أقل من ذلك، وأعوزه أن يعرف ذاك المجن أو يعرف قيمته على التعين أو يجد دليلاً يغنيه عن ذلك، ففزع إلى اعتبار جنسه ليحمله على أقصى المحتملات احتياطاً، أو على أولاها في نظره، فرأى أن العشرة أقصى القيم أو أو سطها أو غالبها أو أقصى الغالب أو أو سطه. فإن قيل فهلا تحمل كلمة «المجن» في لفظ الجماعة على ذلك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوافق لفظ الطحاوي؟ قلت: يمنع من ذلك أمور. الأول: أن الظاهر إرادة الجنس. الثاني: قوله «كان ... يقوم» وهذا يقتضي تكرار التقويم ولا يكون ذلك في ذاك المجن المعين. الثالث: أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذ بما يخالف الحديث الثابت المحقق وهو حديث ابن عمر. فإن قيل قد يكون ابن عمر قوم باجتهاده فقال: عشرة. قلت: هذا باطل من أوجه. الأول: أن الواجب في التقويم أنه إذا رفعت إلى الحاكم سرقة فكان المسروق مما لا يعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يقطع فيه أو لا أن يبدأ الحاكم فيأمر العدول

حديث: "قطع يد سارق سرق ترسا ... "

العارفين بتقويم المسروق، وابن عمر في دينه وتقواه وورعه وعلمه بأنه سيبنى على خبره قطع أيد كثيرة لا يظن به أن يجزم إلا مستنداً إلى ما جرى به التقويم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن أثبت الرويات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ: «ثمنه» كما تراه في (صحيح البخاري) مع (فتح الباري) وأصل الفرق بين الثمن والقيمة أن الثمن هو ما يقع عوضاً عن السلعة، والقيمة ما تقوم به السلعة فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم، وكانت تساوي أكثر أو أقل فالثلاثة ثمنها، والذي تساويه هو قيمتها، فإذا أتلف رجل سلعة الآخر فقومت بثلاثة دراهم فقضى بها الحاكم فقد لزمت الثلاثة عوضاً عن السلعة، فصح أن تسمى ثمناً لها فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال: «ثمنها ثلاثة دراهم» إلا إذا كانت قومت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم فقضى بحسب ذلك. وكأن هذا هو السر في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم «ثمنه» وبعضهم «قيمته» مع أن قول بعضهم «قيمته» لا يخالف ما تقدم، لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى «قيمته» لكن مالم يعلم أنه وقع به التقويم فالقضاء، فإنه لا يصح أن يسمى ثمناً فتدبر. الثالث: أن ابن عمر لوبنى على حدسه لكان الغالب أن تتردد. الرابع: أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قيم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر، يقول هذا: ثلاثة. ويقول الآخر: عشرة. قال ابن حجر في (الفتح) : «محال في العادة أن يتفاوت هذا فقد جاء في بعض الروايات عن أبن عمر كما في (سنن أبي داود) والنسائي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق سرق ترساً صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم (1) وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفة بها فهو المقدم على غيره. هذا كله على فرض صحة خبر ابن

_ (1) د قلت: وإسناد هذه الرواية صحيح عل شرط الشيخين. ن

اضطراب ابن اسحاق في رواية حديث العشرة المتقدم

إسحاق، وقد علمت أنه لا يصح، وسيأتي تمام ذلك والصواب مع صرف النظر عن الصحة أن القائل عشرة دراهم إنما نظر إلى الجنس على ما تقدم بيانه. فإن قيل فقد قال أبو داود في (السنن) : «حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» . قلت: هذا لفظ ابن أبي السري كما صرح به أبو داود، وابن أبي السري وإن حكى أبن الجنيد أن ابن معين وثقة فقال قال أبو حاتم «لين الحديث» وقال مسلمة: «كان كثير الوهم وكان لا بأس به» وقال ابن وضاح: «كان كثير الغلط» ، وقال ابن عدي «كثير الغلط» . والمحفوظ عن ابنن نمير كما تقدم نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير ... » والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا. فإن قيل: فقد قال ابن أبي شيبة في (المصنف 9: «حدثنا عبد الأعلى عن محمد عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم» وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27 عن عياش عن عبد الأعلى نحوه. فكلمة «المجن» الأولى للعهد فكذلك الثانية. قلت: ليس هذا بلازم با الثانية للجنس كما في غالب الروايات، على انه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضاً، ويمكن أن تكونا معاً للعهد، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدم لا تحقيقي. فإن قيل: فقد قال ابن التر كماني «قال صاحب (التمهيد) : ثنا عبد الوارث ثنا قاسم ثنا محمد يوسف ثنا ابن إدريس ثنا محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قاتل: «قوم المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . قلت: المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني ص 368: «ثنا ابن صاعد

ثنا ابن خلاد بن أسلم ثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قال: «كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» سند الدارقطني أقصر وأثبت فإن محمد بن وضاح كان ممن يخطئ وقاسم بن أصبغ اختلط باخرة» . هذا وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا فرواه مرة عن عطاء عن ابن س كما هنا، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مر، وقال مرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي، ومرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول: «ثمنه يؤمئذ عشرة دراهم» أخرجه النسائي وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27، ورواه مرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلاً كما في (الفتح) ، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلاً، لم يذكر فيهما ابن عباس رجعله من كلام عطاء، ذكر النسائي الثانية قال: «أخبرني محمد بن وهب قال: حدثنا محمد بن سلمة قال: حدثني ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء، مرسل» . فإن قيل فقد قال أبو داود: «ورواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده» ظاهر هذا الوصل. قلت: لم يذكر أبو داود من حدثه عن محمد بن سلمة، والنسائي ذكر ذلك وحققه فهو أولى. وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال فإنه فإنه قال عقب ذلك: «أخبرني حميد بن مسعدة عن سفيان –هو ابن حبيب –عن العرزمى –هو عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن. قال: وثمن المجن يؤمئذ عشرة دراهم» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوم المجن في زمانهم ديناراً أو عشرة دراهم» . وقال ابن التركماني: «في (كتاب الحجج) لعيسى بن أبان ... » ثم قال: «وفي (كتاب الحجج) عن

مصعب بن سلام ويعلى بن عبيد قلا: ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل ما يقطع فيه السارق؟ قال ثمن المجن. وكان في زمانهم يقوم ديناراً أو عشرة درهم» . وهذا الحديث في حكم مختلف فيه تعم به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمر، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلم به وألزم له ايوب بن موسى وعمرو بنشعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم. وهذا عبد الكلك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا عبد الملك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال: «لزمت عطاء سبع عشرة سنة) 9 وقال: «جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء» زكان يدلس عن غير عطاء فأما عن عطاء فلا، قال: «إذا قلت: قال: عطاء فأنا سمعه منه وإن لم أقل سمعت» ، وإنما هذا لإنه كان يرى أنه قد استوعب ماعند عطاء فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء. وهذا كما قال أبو إسحاق: «قال أبو صالح (ذكوان) و (عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا أصادق هو أم كاذب» يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علما أنه كاذب، لأحاطتهما بحديث أبي هريرة. وقال الإمام أحمد: «ابن جريج أثبت الناس في عطاء» وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب، قال ابن التركماني: «في (مصنف عبد الرزاق) عن ابن جريج قال كان يقول: لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم» . مع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه، قال: «حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا ابن عاصم ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم» وهذا يشعر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب، وهذا عكس ما زعمه ابن إسحاق، أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فيترك أن يقول: كان قول عطاء على قول ابن عباس. ويعدل إلى عمرو بن شعيب؟

وقد كان لابن عباس أصحاب حفاظ فقهاء كأنه ألزم له وأعلم به من عطاء ولم يروأحد منهم عنه في هذا الباب شيئاً، فأما ما روى عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن أبن عباس قال: «ثمن المجن الذي يقطع فيه دينار» ذكره ابن التركماني، فليس بشيء، إبراهيم ساقط ولا سيما إذا لم يصرح بالسماع، وأما حسن ظن الشافعي به فكأنه كان متماسكاً لما سمع منه الشافعي ثم ظهر فساده، وقد قال ابن أبي شيبة في (المنصف) : «حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد (بن مهران الحذاء) عن عكرمة قال: تقطع اليد في ثمن المجن. قال قلت له: ذكر لك ثمنه؟ قال أربعة أو خمسة وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين. أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم فيعدل عنه إلى مالا يدري عمن أخذه مع شكة فيه؟ فهذا كله يبين أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قط، وأن عطاء لم يحدث به عن ابن عباس قط، وإنما هو قول عطاء، وقد علمت مع ذلك أنه مبنى على الحدس. والله الموفق. فإن قيل: فقد قال البخاري في (التاريخ) : «وقال الوليد بن كثير حدثني من سمع عطاء عن ابن عباس –مثله» . قلت: وصله الدارقطني ص369 «حدثنا أحمد نا شعيب بن أيوب نا أسامة عن الوليد بن كثير حدثني عن سمع عطاء عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة» قلت: أبو أسامة كان يدلس ثم ترك التدليس بأخرة ولا يدرى متى حدث بهذا؟ وشيخ الوليد لا يدرى من هو، ولو كان به طرق لما كنى عنه، وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدث عن عطاء محمد بن عبد الله العرزمى الهالك ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه فليس في هذا ما يجدى، والصواب ما تقدم. قال الطحاوي: «حدثنا أبن أبي داود وعبد الرحمن بن عمروالدمشقي قال ثنا الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -مثله» يعنى مثل حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن

عطاء عن ابن عباس وقد أقمنا الحجة على أن ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق فيأتي مثل ذلك هنا، وقد قال الدارقطني ص369: «نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحأبي نا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. نا محمد بن مخلد نا محمد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبونشيط نا أحمد بن خالد الوهبي نا محمد بن إسحاق بإسناده نحو» . وفي (نصب الراية) ج3 ص359 ابن أبي شيبة روى في (مصنفه) عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن. قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (تفسير ابن كثير) أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن أبن إسحاق –فذكر مثله. والذي وجديه في النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: القطع في ثمن المجن» وفيها «حدثنا عبد الأعلى وعبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قال: كان يقول: ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (سنن البيهقي) ج8 ص269 من طريق أبي يعلى «ثنا أبن نمير ثنا أبي ثنا محمد بن إسحاق «عن عمرو بن شعيب (1) » عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وقال الدارقطني ص 368: «حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عبد الله بن إدريس وعبد الله بن نمير عن ابن إسحاق ح ونا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحاربي عن محمد ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على

_ (1) سقطت من الأصل. ن

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وفي (مسند أحمد) ج2ص18 «ثنا ابن إدريس ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم) . وقال النسائي في (السنن) «أخبرنا خلاد بن أسلم عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وفي (نصب الراية) ج3 ص 466 عن (مسند إسحاق بن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مابلغ ثمن لمجن ففيه القطع. وكان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. قال. وسئل عن اللقطعة؟ فقال: عرفها سنة» هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطعة وغيرها. وفي (مسند أحمد) ج2ص302 «ثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاً من مزينة يسأله عن ضالة الإبل ... وسأله عن الحريسة التي توجد في مراتعها قال: فقال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، قال: فما أخذ من أعطانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن، فسأله فقال: يا رسول الله اللقطة نجدها في سبيل العامر؟ قال: عرفها سنة ... » وفي (المسند) ج2 ص 207 «ثنا يزيد (بن هارون) أنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلاً من مزينة وهو يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - -فذكر نحوالحديث ابن إدريس - قال: وسأله عن الثمار ... فقال ... ومن وجديه قد احتمل ففيه ثمنه مرتين وضرب نكال، فما أخذ من جرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ... » فأما الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن ففي (المسند) ج 2 ص 204 «حدثنا نصر بن باب عن الحجاج (بن أرطاة) عن عمرو بن شعيب عنأبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا قطع فيما دزن عشرة دراهم» . وأخرج الدارقطني ص 369 من طريق أبي مالك الجني عن حجاج بسنده بإسناده: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» ؛

ترجمة عمرو بن شعيب عن ابن حجر وغيره من المتقدمين ورأي المصنف في ذلك

والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء وفيه كلام غير ذلك وفي (نصب الراية) : «قال في (التنقيح) : والحجاج بن أرطاة مدلس ولم يسمع من عمروهذا الحديث» . وابن إسحاق أيضاً مدلس وهو ممن يروي عن الحجاج فأخلق به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب فرواها عن عمروابن شعيب تدليساً عل تدليس. لكن قال البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص27 «قال لنا على حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن أبن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب أن شعيباً حدثه أن عبد حدثه عبد الله بن عمروكان يقول - وحدثني أن مجاهداً أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة» . فهذا اللفظ الذي في هذه الرواية قوي لتصريح أبن إسحاق بالسماع، وقال الدارقطني ص 368: «نا أحمد علي بن أبي العلاء نا أبو عبيدة بن أبي السفر نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن عشرة دراهم» . وأبو أسامة كان أولاً يدلس كما سبق، فإن سلمت هذه الرواية من تدليسه كانت متابعة جيدة لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرح فيه بالسماع. فإن أغمضنا عن اضراب ابن إسحاق وعن تدليسه أبي أسامة قلنا: إنه يثبت أن عمروابن شعيب روى عن أبيه عن جده هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن أبي إسحاق المصرحة بالسماع ورواية أبي أسامة عن الوليد عن الوليد بن كثير وهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» . ويبقى النظر في عمرو بن شعيب، وقد لخص ابن حجر كلامهم فيه بقوله: ضعفه ناس مطلقاً، ووثقه الجمهور، ومن ضعفه مطلقاً فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة ... . فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها ... . وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله بن عمروفي أماكن ... . لكن هل سمع منه ما روى عنه أم سمع بعضها والباقي صحيفة؟ الثاني أظهر عندي وهو الجامع لاختلاف الاقوال فيه وعليه ينحط كلام الدراقطني

وأبي زرعة» . فإن قيل فإذا لم يصرح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمروفغاية ذلك ان يكون من الصحيفة، وقد قال ابن حجر: «قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه وما روي عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل وهو ضعيف من قبل انه مرسل، وجد شعيب كتب عبد الله بن أبي عمروفكان يرويها عم جده إرسالاً وهي صحاح عن عبد الله بن عمروغير أنه لم يسمعها» قال ابن حجر: «فإذا شهد له ابن معين ان أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي ان يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل» وذكر بعد ذلك كلاماً ليعقوب بن شيبة وفيه: «وقال علي ابن المديني وعمرو بن شعيب عندنا ثقة وكتابة صحيح» قلت: الساجي لم يدرك ابن معين، وقول ابن المديني: «كتابه صحيح» لعله أراد كتابه الخاص الذي قيد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة، وقد قال الامام أحمد: «له أشياء مناكير وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا» . وقال مرة: «ربما احججنا به وربما وجس في القلب منه شيء» مأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكراً، وفي كلام أبي زرعة «ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر» وهذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة. وبذلك صرح ابن حبان في (الثقات) وراجع (أنساب ابن السمعاني) الورقة 319 الف، وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن تكون تلك الصحيفة مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرولم تحفظ كما يجب فوقع العبث بها. وإما أن يكون عمروأو أبوه اوكلاهما كما يدلس عن الصحيفة يدلس عن فير الصحيفة. فالذي يتحصل أم ما صرح في عمروبالسماع من أبيه، وبسماع أبيه من عبد الله بن عمروفإنها تقوم به الحجة، وما لم يصرح بذلك ففيه وقفة، ولم أر في شيء. من طرق الحديث التصريح بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو، فأما سماعه من أبيه فوقع التصريح به في لفظ «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» في رواية ابن إسحاق عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن الوليد بن

كثير عن عمرو، إلا أن فيه اضطراب ابن اسحاق وتدليس أبي أسامة مع عدم التصريح بسماع شعيب. وقد قال الشافعي لمن ناظره من الحنفية: «عمرو بن شعيب قد روى أحكاماً توافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم عن الثقات فرددتموها ونسبتموه الى الغلط فأنتم محجوجون، إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها وخالفتموها، اواكثرها، وهي نحوثلاثين حكماً حجة عليكم، وإلا فلا تحاجوا به» . وبعد اللتيا والتي إن أصبح شيء عن عبد بن عمروفهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس كما توضحه أكثر الروايات «كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» وقد مر انه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة ان المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت قيمته ثلاثة دراهم. فأما الجملة المرفوعة ولفظها فيما نسبه الزيعلي وابن كثير الى (مصنف ابن أبيشيبة) «لا يقطع السارق في دون ثمن المجن» وفي النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) «القطع في ثمن المجن» وفي رواية ابن راهويه عن ابن إدريس عن ابن إسحاق عن عمرو «ما بلغ ثمن المجن ففيه القطع» فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل، كما وقد تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو. ورواه النسائي من طريق ابن عجلان عن عمرو «عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق قال ... .ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة، ومن يسرق شيئاً بع أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ... .» ومن طريق ابن وهب «أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروأن رجلاً من مزينة اتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع الا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد ... .» ومن طريق عبيد الله ابن الاخنس «عن عمرو بن الاشعب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - في كم تقطع اليد؟ قال: لا تقطع اليد في ثمرة معلق فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولاتقطع جريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن» . وأخرجه أبو داود في «اللقطة» من طرق عن عمرو، ويظهر من أن الحديث أطول مما ساقه النسائي. فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث. ولم أر في شيء من طرقه التصريح بسماع عمرومن أبيه ولا بسماع أبيه من عبد الله ابن عمرو، وقد ذكر البيهقي في (السنن) ج 8 ص 263 حديث رافع بن خديج مرفوعاً «لا قطع في ثمرة ولا كثر» وحديث عمرو بن شعيب هذا فقال ابن التركماني: «ذكر الطحاوي أن الحديث الاول تلقت العلماء متنه بالقبول وأحتجوا به، والحديث الثاني لا يحتجون به ويطعنون في إسناده ولا سيما ما فيه مما يدفعه الاجماع من غرم المثلين» . أقول: وإنما الطعن في إسناده لمكان عمرو بن شعيب عب أبيه عن جده، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من الحديث ولا بشيء من هذا رواية عمروعن أبيه عن جده وقد أخرج مالك في (الموطأ) قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي الحسين المكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن أبي حسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرح به مالك في رواية الشافعي عنه كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 255. وعلى فرض صحة حديث اللقطة فالمراد بكلمة «المجن» ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل فاستشعر من سؤاله حرصه على الالتقاط وما يقرب من السرقة أو يكونها، فشدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر غرامة المثلين وجلدات النكال، ثم ذكر له القطع وعدل عن أن يقول: «ما بلغ ثلاثة دراهم» أو «ما بلغ ربع دينار» ليتنبه السائل لموضع العبرة، ويعلم أن ذلك أمر مفروغ منه، قد نفذ به الحكم وجرى به العمل، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من ردعه. ولمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الأمم السابقة. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

التنبيه على سهو للمؤلف رحمه الله (تعليق)

تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة (فصلت) فلما بلغ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» بادر عتبة فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحم أن يكف (1) . وكأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا ولم يبحث عن قيمة ذاك المجن، ولا بلغه ما يغني عن ذاك فلما سئل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطر الى الحدس باعتبار الجنس كما تقدم شرحه، وقد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. قال الطحاوي: «حدثنا فهد قال ثنا محمد بن سعيد ابن الاصبهاني أخبرني معاوية بن هشام عن سفيان عن منصور عم مجاهد وعطاء عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. قال: وكان يقوم يومئذ ديناراً» . أقول: هذا بهذا اللفظ من غريب هذا الوجه، وابن الاصبهاني كثير الغلط، (2) وقد قال النسائي في (السنن) : «حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا معاوية قال:

_ (1) أخرجه البغوي في «تفسيره» (7 / 327) من طريق الحماني ثنا ابن فضيل عن الأجلح عن الذيال حرملة عن جابر بن عبد الله. وأعله الحافظ ابن كثير فيتفسيره (3197) بلأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي فقال: «وقد ضعف بعض الشيء» . قلت: والذيال هذا ترجمة أبي حاتم (1 / 2 / 45) ولم يذكر فيه جرماً ولا تعديلاً. والحماني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي قال الحافظ: «صدوق يخطأ» . وسيأتي كلام المصنف فيه ص 110. ن (2) كذا الأصل وهو سهو من المصنف رحمه الله تعالى، أراد أن يقول: «معاوية بن هشام» فسبقه القلم وقال: «ابن الأصبهاني ... .» ثم لم ينتبه لذلك، فأعاده في الموضع الآخر ص 110 س 5، وجل من لا يسهو امن لا ينسى. أقول هذا لأن ابن الأصبهاني متفق عليه توثيقه، وهو من شيوخ البخاري في «الصحيح» ولم يجرحه أحد البتة، ولذلك قال الحافظ في ترجمته من «التقريب» : «ثقة ثبت» . ... وأما معاوية بن هشام فهو الذي ينطبق عليه قول المصنف: «كثير الغلط» ، وهو أخذ من قول أحمد فيه: «كثير الخطأ» وقول الحافظ: «صدوق له أو هام» فهو علة هذا اللفظ، حفظه عنه ابن الأصبهاني. ن

حديث أيمن الحبشي في القطع في مجن قوم دينارا وبيان ضعفه

حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد وعطاء (1) عن أيمن قال: لم يقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - السارق إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار» . محمود أثبت جداً من أن ابن الاصبهاني. وأخرجه النسائي من طريق ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أيمن «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن المجن وقيمته يومئذ دينار» ومن طريق محمد بن يوسف عن سفيان عن الحكم عن مجاهد عن أيمن مثله. ادخل في هذه الرواية الحكم بين منصور ومجاهد وكذلك رواه الحسن وعلي ابنا صالح عند النسائي، وكذلك رواه أبو عوانة وشليبان عند البخاري في (التاريخ) ج 1 قسم 2 ص27 كلهم عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن أيمن. ورواه جرير عن منصور فلم يذكر الحكم اخرجه النسائي، وكذلك رواه شريك كما ياتي، والمحفوظ ذكر الحكم، والحكم مدلس ولم يصرح بالسماع، وايمن هو ايمن الحبشي كما صرح به في الرواية، ولفظ البخاري في (التاريخ) : قال «قال لنا موسى (بن اسماعيل) عن أبي عوانة - وتابعه شيبان - عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن الحبشي ... » فاما ان يكون هو ايمن الحبشي والد عبد الواحد كما يدل عليه ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن داود: «سمعت عبد الواحد بن ايمن عن أبيه- قال: وكان عطاء ومجاهد قد رويا عن أبيه. ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين واما ان يكون آخر لا يعرف. فإن قيل فقد قال النسائي: «أخبرنا على بن حجر قال أنبأنا شريك عن منصور عن عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن - قال أبو الوليد: رفعه: لا يقطع السارق الا في مجن أو حجفة قيمته دينار» .

_ (1) في النسخة «عن مجاهد عن عطاء» .

قلت: شريك على فضله سئ الحفظ كثير الغلط، ونسبه الدارقطني وعبد الحق الى التدليس، وأيمن بن أم ايمن ليس بجبشي بل هو كما نسبه غير واحد أيمن بي عبيد بن زيد ... أبن عوف بن الخزرج. فهو عربي أنصاري. فإن قيل: لعله قيل له: الحبشي، لأن أمه حبشية. قلت: هذا بعيد، ومع ذلك أختلف في أم أيمن، نسبها غير واحد كابن عبد البر في (الاستيعاب) : « ... بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان» . فعلى هذا هي عربية لا حبشية. فإن قيل: لعل أمها كانت حبشية. قلت: وما الموجب لهذا التعسف؟! وقد ذكر أهل المغازي وغيرهم أن أيمن أبن أم أيمن أستشهد يوم حنين، وشريك قد تقدم حاله، وقد تفرد بقوله: «أبن أم أيمن» ، ويجوز أن يكون زاد ذلك وهما، أو يكون قال: «أيمن بن أم أيمن» كما يقال: «أحمد أبن أم أحمد، وإن لم تكن كنية أمه أم أحمد، وفي محاورة جرت بين سلمان وحذيفة أن حذيفة قال: يا سلمان أبن أم سلمان. فقال سلمان: يا حذيفة أبن أم حذيفة. فلهذا الخبر علتان: الأول: قد ليس الحكم. الثانية: أن أيمن تابعي لم يدرك الخلافاء الراشدين، أو غير معروف. هذا وقد تفرد شريك بقوله: «قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم» وشريك قد تقدم حاله، والائمة الاثبات لا يذكرون ذلك ورواية الطحاوي عن فهد عن أبن الاصبهاني عن سفيان شاذة بل باطلة. وأبن الاصبهاني كثير الغلط جداً (1) . فإن قيل: فقد قال الطحاوي: «ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك عن منصور عن عطاء عن أيمن عن أم أيمن قالت: قال

_ (1) قلت: بل هو ثقة حجة، والعلة من معاوية بن هشام كما بيناه ص 108 ن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع السارق إلا في جحفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . قلت: زاد ابن الحماني ضغتاً على أبالة، وهو متكلم فيه وإن الح ابن معين في توثيقه. وفي كتاب (العلل) لأبن أبي حاتم ج 1 ص 457: «سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح ... قال قال أبي: هو مرسل، وارى انه والد عبد الواحد بن ايمن وليست له صحبة. قلت لأبي: قد روى هذا الحديث يحيى الحماني..؟ قال أبي: هذا خطأ من وجهين: احدهما: ان اصحاب شريك لم يقولوا: عن ام ايمن ... والوجه الآخر: ان الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن قوله» .فأما المتن في رواية الجماعة ففيه جملتان: فالأولى: في رواية سفيان: «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية علي بن صالح: «لم تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية جرير: «لا يقطع السارق الا في ثمن المجن» . وفي رواية الحسن بن صالح وأبي عوانة وشيبان: «يقطع السارق في ثمن المجن» . وسفيان إمام، وعلي ثقة، والباقون جماعة وقد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول: «ما رأيت أحداً إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح» . والجملة الثانية: لم تقع في رواية جرير، ولفظة في رواية سفيان: «ثمن المجن يومئذ دينار» .وفي رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن صالح فلفظها عنده: «كان ثمن المجن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً أو عشرة دراهم» ، ولعل هذا هو الاصل، فاختصره الجماعة. وعلى كل حال فهذا من قبيل ما تقدم من اعتبار الجنس، وقد ثبت التحقيق

حديث عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعدا" وجواب الطحاوي عنه والرد عليه

بحديث ابن عمر فسقط الحدس. قال الطحاوي: «فلما اختلف في قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتيط في ذلك فلم يقطع إلا فيما أجمع أن فيه وفاء بقيمة المجن التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدراً لا يقطع فيما هو أقل منها، وهو عشرة دراهم» . أقول: قد علمت أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أنه لا قطع فيما دون قيمة ذاك المجن، ولا يصلح دليلاً يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم. ثم قال الطحاوي: «وقد ذهب آخرون الى أنه لا يقطع الا في ربع دينار فصاعداً، واحتجوا على ذلك بما حدثنا يونس أخبرنا به أبن عيينة ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعداً. قيل لهم: ليس هذا حجة لأن عائشة إنما أخبرت عام قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» . أقول: روى ابن شهاب الزهري وجماعة عن عمرة عن عائشة في القطع في ربع دينار واختلفوا، ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري، وهذا الذي ذكر الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الاعلى عن ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة، وهكذا رواه جماعة عن ابن عيينة منهم يحيى بن يحيى عند مسلم، وأحمد في (مسنده) ، وإسحاق وقتية عند النسائي. وخالفهم جماعة عن ابن عيينة. قال ابن حجر في (الفتح) : «أورد الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقطع اليد _ الحديث» . ولفظ الشافعي كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 254: «أن رسوالله - صلى الله عليه وسلم - قال: القطع في ربع دينار» . ولفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي فيما بعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي فيما بعد من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة ولفظه: «قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السارق إذا سرق ربع دينار قطع» . ولنجب على قول الطحاوي: ليس هذا بحجة» ثم ننظر في الروايات. فأما الجواب: فإن أراد أن الحديث بذلك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، فجوابه مبني على رأي أصحابه في اهدار مفهوم المخالفة ولا شأن لنا به الآن. وإن أراد ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم فقد أبطل. قوله: «يحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» . قلنا: وعلى هذا الاحتمال يكون حجة. فإن قيل: قد خالفها غيرها. قلنا: كلا، لم يخالفها أحد، فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غير حديث ابن عمرووهو موافق لهذا الحديث لأن صرف الدينار كان حينئذ أثني عشر درهماً. وقول الحنفية: كان صرفه عشرة دراهم مردود كما بين في محله، وهب أنه كان صرفه في وقت ما عشرة، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر. وهب أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم، فالفرق نصف درهم وليس في حديث ابن عمر نفي للقطع فيما دون ثلاثة دراهم. وهب أن عائشة قومت ذاك المجن درهمين ونصفاً فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم لأنه إذا قطع فيما قطع فيها. وأما الروايات، فالواجب ان يبدأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم برواية غير الزهري عن عمره. والطحاوي عدل عن هذا، فأخذ احدى الروايتين عن ابن عيينة وهي المخالفة لرواية غيره، وانما بدأ بها الطحاوي ثم قال: «حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب قال: اخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تقطع يد السارق في ربع دينار

فصاعداً» (1) ثم قال: «يونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة» ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، وانهم اختلفوا، فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه، وحاول ترجيح الوقت، ثم عاد فذكر رواية الحميدي والحجاج بن منهال عن ابن عيينة ورواية ابراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها ثم قال: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا واختلف على غيره من عمرة على ما وصفنا ارتفع ذلك فلم تجب الحجة بشيء منه اذا كان بعضه بنفي بعضاً» كذا قال حسيبة الله! فلندعه ولنسلك الجادة. اما الروايتان عن ابن عيينة فقد ترجح رواية الشافعي الحميدي ومن وافقها بأمور: الأول: ان رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديماً وقد جاء عن يحيى القطان «قلت لأبن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدث اليوم وتزيد في اسناده أو تنقص منه. فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت» كأنه يريد سئم من مراجعة اصوله. الوجه الثاني: ان من رواتها عن الشافعي والحميدي وكان لهما مزيد اختصاص به، وجاء عن الحميدي انه لزمه سبع عشرة سنة. وقال الأمام أحمد «الحميدي عندنا إمام» وقال أبو حاتم: «هو اثبت الناس في ابن عيينة وهو رئيس اصحابه وهو ثقة إمام» . الوجه الثالث: ان الحميدي لما روى هذا في مسنده عن ابن عينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث فقال كما ذكره الطحاوي - وقرأته في نسخة من (مسند الحميدي) : «عن سفيان قال: حدثنا اربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه، عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى، وعبد ربة بن سعيد، والزهري

_ (1) قلت: هذا أخرجه مسلم أيضاً في «صحيحه» (5 / 112) من طرق أخرى قالوا: حدثنا ابن وهب به مرفوعاً بلفظ: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» .

أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: «ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فهذا يدل ان ابن عيينة لما حدث الحميدي اعتنى بالحديث واحتفل له وذلك احرى ان يتحرى التحقيق في روايته ولعله راجع اصل كتابه. الوجه الرابع: أن الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري اومعناه. الوجه الخامس: أن الذين رووه عن عمرة غير الزهري، رواه اكثرهم بلفظ الحميدي أو معناه أيضاً. الوجه السادس: أن في (الصحيحين) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ادنى من ثمن المجن ترس اوحجفة وكان كل واحد منهما ذا ثمن» (1) فقولها: «ترس أو حجفة» يدل أنها لم تعرفه، واذا لم تعرفه لا يمكنها ان تقومه. وقولها: «وكان كل واحد منهما ذا ثمن» ظاهر في أنها لم تعرف ثمن ذاك المجن والا لبينته لتتم الفائدة المقصودة. فإن قيل لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجن أن لا تعرف قيمته غيره مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان وكان ثمنه ثلاثين درهماً، وقطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي وتجحده. وهاتان الواقعتان ليس فيها ربع دينار فكيف تأخذ عائشة منهما أو من احدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار.

_ (1) قلت ورد حديث عائشة بلفظين آخرين، حقق المصنف أنهما شاذان. وذلك في آخر هذهالمسألة ص (138) . ن

فإن قيل لعلها اخذت ذلك من واقعة اخرى غير هذه الثلاث. قلت: لا يعرف ذلك، ولو كان ذاك عندها لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عرفت قيمته فذلك اوفى بمقصودها من ذكر ما لم تعرف ولا عرفت قيمته. فإن قيل قد قال النسائي: «اخبرنا قتيبة ثنا جعفر بن سليمان عن حفص بن حسان عن الزهري عن عروة عن عائشة، قطع النبي صلى الله عليه وسلم في ربع دينار» قلت: جعفر فيه كلام، وحفص مجهول. فإن قيل، فقد يعكس عليك الأمر فيقال، لو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اونحوه لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها. قلت: هناك مسألتان: الأولى: هل يقطع في ربع دينار؟ الثانية: هل يقطع فيما دون ذلك؟ فحديثها مرفوعاً «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» يدل علىالمسألة الأولى بمنطوقة، ولا يدل على الثانية الا بمفهوم المخالفة، فكأنها لما أرادت الإحتجاج على أنه لا يقطع في الشيء التافه، استضعفت ان تخصص القرآن بمفهوم المخالفة، فلم تحتج بهذا الحديث وعدلت الى ما رواه هشام عن أبيه عنها وكأنها كانت تجوز أن تكون قيمة ذاك المجن كانت أقل من ربع دينار، فأخبرت بما عندها، وهو أنه أقل ما يقطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتركت النظر لغيرها. فإن قيل فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع اليد الا في ربع دينار فصاعداً» وهذا واضح الدلالة على

اختلاف الرواة فيه على ابن عيينة

المسألة الثانية. قلت: هذا اللفظ مرجوح، والمحفوظ «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اما في معناه كما يأتي بيانه ان شاء الله، وكأن من روى بلفظ: «لا تقطع ... » انما روى بالمعنى فصرح بمقتضى مفهوم المخالفة اذ تقرر هذا فلوصح عنها انها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار» لوجب حمله على انها انما اخذته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» بناء على ان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - ان يوافق فعله قوله، فإذا قال، «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» علم منه انه كان اذا رفع اليه في سرقة ربع دينار قطع، فإن لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع فهو واقع بالقوة. والحق ان ذاك اللفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع فير ربع دينار فصاعداً» لا يثبت عن عائشة، ولكن يمكن ان تكون تلك حال ابن عيينة سمع الحديث بلفظ «) تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) فرواه تارة كذلك وذلك حين اعتنى بالحديث عنه تحديثه للحميدي كما مر، وتارة بلفظ «القطع في ربع دينار» ، وتارة «السارق اذا سرق ربع دينار قطع» وتارة: «قالت عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعداً» والثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى، اما الثاني والثالث فظاهر، واما الرابع فلما استقر في نفس ابن عيينة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا قال شيئاً فقد عمل به اوكأنه قد عمل به، وقد ذكر الطحاوي في (مشكل الآثار) ج 2 ص 270 حديثاً من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده: قال رجل يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك - ثلاث مرات. قال: ثم من؟ قال أبوك. ثم رواه من طريق ابن عيينة وفيه ذكر كلام الأم مرتين فقط ثم قال الطحاوي: «قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه شجاع لأن ابن عيينة كان يحدث من كتابه» وعَبَّرَ صاحب (لمعتصر) (ج 2 ص

286) (1) بعبارة منكرة. وفي (المعتصر) ج 2 ص205 في الكلام على حديث «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» أن ابن عيينة روى «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» ثم قال في (المعتصر) : «ففيه غلط من ابن عيينة لأنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أن يكون جعل مكان اليهود والنصارى المشركين إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميز بين ذلك» كذا في (المعتصر) وقوله: إذ لم يكن ... .» عبارة بشعة لا أرى الطحاوي يتفوه بها، وإنما هي من تغيير المختصر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة كما فعل ابن عيينة كما فعل المختصر في المرضع السابق. والمقصود إنما هو ابن عيينة كان كثيراً ما يروي من حفظه ويروي بالمعنى. هذا وصنيع مسلم في (صحيحه) يقتضي أنه لا فرق في المعنى، فإنه صرح أولاً بلفظ ابن عيينة الأول: «قالت عائشة كان رسول الله ... » ثم ساق الإسناد عن معمر وإبراهيم ابن سعد وسليمان بن كثير وقال: «كلهم الزهري بمثله» مع أن لفظ معمر وإبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة ولفظ سليمان الشافعي عن ابن عيينة. أما البخاري فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة كأنه يقول: أختلفت الرواية عنه، وفي رواية غير الكفاية. والحق أن رواية الحميدي ومن وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة وأنه لو لم يعرف أرجح بصرف النظر عن رواية غيره فإنه يعرف بالنظر في رواية عيره فنقول مثلاً: يونس وابن عيينة من جانب، وابن عيينة وحده من جانب أيهما أرجح؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي. وفي (فتح الباري) : «وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس، فليس متفقاً عليه عندهم، بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري، وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة، وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مراراً،

_ (1) طبعة ثانية.

وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاثة وعشرون ومائة، ورجع الزهري فمات في التي بعدها» . أقول: أما الحفظ فابن عيينة أحفظ، وأضبط بلا شك ولا سيما فيما رواه قديما إلا أنه كثير الرواية بالمعنى، ويونس دونه في الحفظ ولكن كتابه صحيح كما شهد له ابن المبارك وابن مهدي. وعلى كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا، ولكن الطحاوي لأمر ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة وعقبها برواية يونس، ونصب الخلاف بينهما. وقد علمت ان الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب وروايته الراجحة ويونس من جانب، فأي معى للموازنة بين الرجلين؟ أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة: الأول: يونس بن يزيد. تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن مهب عنه، وبنحوه رواه البخاري في (الصحيح) عن ابن أبي أويس عن ابن وهب، وكذلك رواه عن ابن وهب الحارث بن مسكين عند النسائي، وابن السرح ووهب بن بيان وأحمد بن صالح عند أبي داود، ورواه مسلم عن حرملة والوليد بن شجاع عن ابن وهب وقالا في المتن: «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة، والاولون أكثر وأثبت. وأخرج الامام أحمد (المسند) ج 6 ص 311 عن عتاب، وأخرج النسائي عن حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعاً: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وهذا أثبت مما تقدم لأن أبن المبارك أثبت من ابن وهب وكان يقول: كتاب يونس صحيح. وكان من عادة ابن المبارك تتبع أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه، ويشد لذلك أنه لم يذكر عروة، وبقية الرواية عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة، وحديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ، وفي (الفتح) : «يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة، وهذا يقع لهم كثيراً» .

أقول: إنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدث من حفظه أو من فرع خرجه من أصوله، فأما إذا حدث من أصله فإنما يكون على الوجه. فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه، ولقوة هذه الرواية ذكرها الامام أحمد عقب رواية ابن عيينة كأنه يشير الى أن رواية يونس هذه هي الصواب. الثاني: إبراهيم بن سعد عند البخاري في (الصحيح) عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس. وكذلك ذكره الطحاوي «ثنا ربيع المؤذن ثنا أسد ثنا إبراهيم، وأخرجه مسلم في (الصحيح) عن أبي بكر بن أبي شيبة «ثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان ابن كثير وإبراهيم ... » ولم يسق المتن. وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «القطع في ربع دينار فصاعداً» وهذا لفظ سليمان. الثالث: سليمان بن كثير تقدمت روايته قريباً. الرابع والخامس والسادس: قال البخاري في (الصحيح) عقب رواية إبراهيم «وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر» وفي (الفتح) : «أما متابعة عبد الرحمن.. فوصلها الذهلي في (الزهريات) عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحورواية إبراهيم ... . وأما متابعة ابن أخي الزهري ... فوصلها أبو عوانة في (صحيحه) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي شهاب عن عمه ... . وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، ووصلها هو أيضاً وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب ... . وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه. رواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه، أخرجه النسائي» . أقول: رواية أحمد في (المسند) ج 6 ص 163، ورواية مسلم هي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن عبد الرزاق، ورواية النسائي هي عن إسحاق

عن عبد الرزاق، وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 254 من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق. ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه، وقد عدوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن أبي عروبة، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط وبعده، وهذا لا يضر هنا فإن قول سعيد «نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب» يقضي بأن سعيدا روى هذا قديماً، فإن معمراً ولد سنة ست أو سبع وتسعين، وسعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143، واشتد به قليلاً سنة 145 واستحكم سنة 148. هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك فأما المنقطعة فلا عبرة بها. فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي عن سويد بن نصر عنه، وسويد مات سنة 240 وعمره 91 سنة فقد أدركه الشيخان ولكنهما لم يخرجا عنه في (الصحيح) وإنما روى له النسائي والترمذي ووثقه النسائي ومسلمة ابن قاسم وقال ابن حبان: «كان متقناً» فالله أعلم. وقد روى النسائي عنه ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع في ربع دينار فصاعداً. وأثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك وابن عيينة عنه عن عمرة عن عائشة: «ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فإن لم يكن وهو في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر. وقد قال الامام أحمد: «حديث عبد الرزاق عن معمر أحب الي من حديث هؤلاء البصريين (عن معمر) ، كان (معمر) ، يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن (حيث سمع منه عبد الرزاق) ، وكان يحدثهم حفظاً بالبصرة» . وسعيد بن أبي عروبة أقدم سماعاً، فإن لم يكن الوهم من سويد فكأن معمراً حدث بالحديث مرة من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشك في الرفع فقصر به كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد. وقد حدث به معمر قبل ذلك حيث سمع من ابن أبي عروبة فرفعه وحدث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه، والإمام أحمد إنما سمع عن

متابعات الزهري في هذا الحديث عن عمرة

عبد الرزاق من أصوله كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من (التهذيب) . السابع: زمعة بن صالح. في (مسند أبي داود الطيالسي) ص 220 «حدثنا زمعة عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي والشافعي وغيرهما عن ابن عيينة الزهري، وإنما هناك اختلاف على ابن عيينة ومعمر، وأرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين. وهب أن الاختلاف عنهما ضارُّ فبروايتهما فقط، ويثبت الحديث برواية الباقين وليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ مع اتحاد في المعنى، فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمى اضطراباً، فضلاً عن أن يكون اضطراباً مسقطاً كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة، مع تشبثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله! وأما بقية الرواة عن عمرة فجماعة: الأول: ابن ابن أخيها محمد بن عبد الرحمن عبد الله بن الرحمن بن سعدة بن زرارة الأنصاري. قال البخاري في (الصحيح) : حدثنا عمران بن ميسرة ثنا عبد الوارث حدثنا الحسين (المعلم) عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثه أن عائشة حدثتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تقطع اليد في ربع دينار» . ورواه عن عبد الوارث أيضاً أبنه عبد الصمد وصرح بسماع يحيى بن أبي كثير، ورواه عن يحيى أيضاً حرب بن شداد وهمام بن يحيى كما في (الفتح) عن الإسماعيلي، ورواية حرب في (مسند أحمد) ج 6 ص 252 وكذلك رواه هقل بن زياد عن يحيى كما في (الفتح) عن (مسند أبي يعلى) . وقال النسائي «أنا حميد بن مسعدة ثنا عبد الوارث ثنا حسين يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري ثن ذكر كلمة معناها عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» . لم يتقن حميد بدليل قوله: فذكر كلمة معناها» والصواب «تقطع اليد في ربع دينار» كما مر.

وروى النسائي من طريق إبراهيم بن عبد الملك أبي إسماعيل القناد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عمرة عن عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار. والقناد ليس بعمدة، وذكر الساجي أن ابن معين ضعفه. وقال العقيلي: «يهم في الحديث» وقال ابن حبان في (الثقات) «يخطئ» فقد وهم في السند بقوله: «بن ثوبان» ووهم في المتن كما رأيت. الثاني: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه عنه جماعة، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في (صحيحه) من وجهين، وعند الطحاوي من وجهين آخرين، ومنهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي، ومنهم ابن إسحاق عند الطحاوي والبيهقي، وقال في المتن المرفوع «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» وفي رواية البيهقي ج 8 ص 255 من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر «أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلي عمرة بنت عبد الرحمن أي بني إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يقطع في دون ربع دينار» وفي (مسند أحمد) ج 6 ص 80 و (سنن البيهقي) ج 8 ص 255 من طريق محمد بن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني قال: «قدمت المدينة فلقيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل على المدينة فقال: أتيت بسارق (زاد البيهقي: من أهل بلادكم حوراني قد سرقة سرقة يسيرة. قال) فأرسلت إلي خالتي عمرة بنت عبد الرحمن أن لا تعجل ... قال: فأتتني فأخبرتني أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقطعوا في ربع الدينار ولاتقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» . الأثبت عن عمرة لفظ (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) وقد دل حديث عروة كما تقدم على أن هذا هو اللفظ الذي كان عند عائشة، فما وقع في هذه الرواية (تقطع اليد إلا ... ) ونحوه من الرواية بالمعنى. والمقتضى لذلك هنا والله أعلم أن الحديث يدل على حكمين: الأول: اثبات القطع في ربع دينار.

الثاني: نفي القطع فيما دون ذلك. فإذا كان الاول هو الاهم فحقه أن يقال مثلا ً: (تقطع اليد في ربع دينار) . وإذا كان الثاني هو الاهم فحقه أن يقال مثلاً: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) . وإذا كانا سواء جمع بين اللفظين فلما كان الاهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني وقع التعبير لما يوافقه. والاشبه أن التصرف من أبي بكر، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني. فثبت في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني فعبر بذلك، ثم كأنه أستشعر حيث أخبر النسائي أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء فجمع بين اللفظين، وأنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الاول، والمقام يقتضي أهمية الثاني فتدبر. الثالث: سليمان بن يسار. أخرجه مسلم في (الصحيح) من طريق ابن ووهب مخرمة ابن بكير بن الاشج «عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي عن يونس عن ابن وهب مثله إلا أنه قال «يد السارق» قال الطحاوي: أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم عن خاله موسى ابن أبي سلمة قال سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئاً؟ فقال: لا» . اقول: قال ابوداود: «لم يسمع من أبيه الا حديثاً واحداً وهو حديث الوتر» فقد سمع من أبيه في الجملة، فان كان ابوه اذن له ان يروي ما في كتابه ثبت الإتصال والا فهي وجادة، فان ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر، ويدل على صحة الكتاب ان مالكاً كان يعتد به، قال أحمد: «اخذ مالك كتاب مخرمة فكل شيء يقول: بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان» . وربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج. وقد قال ابوحاتم: «سالت اسماعيل بن أبي اويس قلت: هذا هو الذي يقول مالك: حدثني الثقة - من هو؟

قال: مخرمة بن بكير» . واخرج النسائي من طريق ابن اسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقطع اليد الا في ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار» . ومن طريق مخرمة عن أبيه «سمعت عثمان بن الوليد الأخنسي يقول، سمعت عروة بن الزبير يقول: كانت عائشة تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: لا تقطع اليد الا في المجن اوثمنه، وزعم ان عروة قال: المجن اربعة دراهم. وسمعت سليمان بن يسار يزعم انه سمع عمرة تقول: سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه» . أقول: ابن إسحاق في حفظه شيء ويدلس، وكأنه اومن فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه فخلط الحديثين، والصواب حديث مخرمة، فذكر المجن إنما هو من رواية بكير عن عثمان بن الوليد عن عروة، ورواية سليمان لا ذكر فيها للمجن، وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في (الثقات) وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال لما عرف من قاعدة ابن حبان لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه فإنها تقويه، فقد قال أحمد بن صالح: «إذا رأيت بكير بن عبد الله (بن الأشج) روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه» . وهذه العبارة تحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد بقوله: «فلا تسأل عنه» . أي: عن ذاك المروي. أي: لا تلتمس لبيكير متابعاً فإنه أي بكيراً الثقة الذي لا شك فيه ولا يحتاج الى متابع. الوجه الثاني: أن يكون المراد فلا تسأل عن ذاك الرجل فأنه الثقة. يعني أن بكيراً لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه. والله أعلم. وعلى كل حال فالصواب من حديث عروة ما في (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى

من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن» . الرابع: أبو الرجال وهو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان. قال النسائي: «أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقطع يد السارق في ثمن المجن، وثمن المجن ربع دينار» . ذكر ابن حجر هذه الرواية في (الفتح) بقوله: «أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة» كذا وقع في النسخة والصواب إسقاط كلمة «عن» الواقعة قبل «محمد» . هذا وأبوالرجال ثقة عندهم وعمرة أمه، وأبينه عبد الرحمن وثقة أحمد أبن معين وغيرهما، لكن لينة أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود. وقال ابن حبان في (الثقات) : «ربما أخطأ» ، وأراه خلط حديثين فإنه لا يعرف عن عمرة ذكر المجن. وقد دل حديث (الصحيحين) عن عروة أن عائشة لم تكن تحق ثمن المجن كما تقدم شرحه. الخامس والسادس والسابع. قال الطحاوي: «حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا عبد الله ابن صالح. قال: ثنى يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة عن العلاء بن الأسود بن جارية ويقال: الأسود ابن العلاء بن جارية) وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خميس أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها فقالت: قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع إلا في ربع دينار» . قال الطحاوي: «أما أبوسلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعاً، ولا نعلمه لقيه أصلاً» . أقول: ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جزء، وعبد الله توفى سنة 86 على الراجح. وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل بعدها

بسنتين فيشبه أن يكون مولد جعفر نحوسنة 75. وقد أختلف في وفاة أبي سلمة وقيل سنة 94 وقيل سنة 104 فاللقاء ممكن. والله أعلم. وكان في المدينة ربيعة الرأي الفقيه وكان قوله: القطع فيما يبلغ درهماً فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ «لا تقطع اليد ... » أو نحوه ذلك كما وقع في رواية سليمان بن يسار وغيرها. الثامن: أبوالنضر فيما رواه ابن لهيعة «ثنا أبوالنضر عن عمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه. قالت عمرة بنت عبد الرحمن: فقلت لعائشة: ما ثمن المجن يومئذ؟ قالت: ربع دينار» . أخرجه البيهقي ج 8 ص 256 وابن لهيعة ضعيف. التاسع: يحيى بن يخيى الغساني فيما أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) ص 3 وص 89 عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري وعن خالد بن أبي روح الدمشقي كل منهما عن إبراهيم بن هاشم بن يحيى بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن عمرة عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القطع في ربع دينار فصاعداً» . قال الطبراني: «لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده» ، زاد في الموضع الثاني «وهم ثقات» . وإبراهيم بن هاشم ذكره أبن حبان في (الثقات) وأخرج له في (صحيحه) ، لكن طعن فيه أبو حاتم وذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة. والله أعلم. العاشر: يحيى بن سعيد الانصاري. وهو من أجل من كثير من الذين تقدموا، وإنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه الى الخطأ كما يأتي. قال النسائي: «أخبرنا الحسن بن محمد (بن الصباح الزعفراني) قال: حدثنا عبد الوهاب (بن عطاء) عن سعيد (بن أبي عروبة) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» .أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل قال: أنبأنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا أبان قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن

عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وقال الطحاوي: «حدثنا محمد بن خزيمة ثنا مسلم بن إبراهيم ... » فساقه مثله. الحسن ثقة من رجال البخاري، وعبد الوهاب من رجال مسلم، وثقة جماعة مطلقاً ولينة آخرون، وقدموه في روايته عن سعيد، قال الأمام أحمد: «كان عالماً بسعيد» . وسأل ابوداود عنه وعن السهمي في حديث ابن أبي عروبة؟ فقال: عبد الوهاب اقدم. فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط (يعني اختلاط سعيد) فقال: من قال هذا؟ ! سمعت أحمد يقول: عبد الوهاب اقدم» . وقال ابن سعد: «لزم سعيد ابن أبي عروبة، وعرف بصحبته، وكتب كتبه ... » . وقال البخاري: «يكتب حديثه» قيل له: يحتج به؟ قال: «ارجوا إلا انه كان يدلس عن ثور واقوام احاديث مناكير» . وسعيد ثقة جليل إلا انه اختلط بأخرة، وسماع عبد الوهاب منه قديم. وأما السند الثاني فشيخ النسائي لم يوثق ولكن قد تابعه محمد بن خزيمة كما رأيت، ومسلم ثقة متفق عليه. وأبان من رجال مسلم. واخرج له البخاري في (الصحيح) بلفظ: «قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان ... » وبالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتماً. لكن اعله بعضهم بأن مالكاً وابن عيينة رويا عن يحيى عن عمرة: قالت عائشة: «ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار» وبنحوه رواه جماعة عن يحيى، وروى أخوه عبد ربه وعبد الله بن أبي بكر ورزيق بن حكيم عن عمرة: قالت عائشة: «القطع في ربع دينار» . بل حاول الطحاوي إعلال من أصله، وأجاب البيهقي وغيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة فتخبر به تارة وتستفتى فتفتي بمضمونه أخرى. وفي (الموطأ) عن عبد الله ابن أبي بكر عن عمرة قالت: «خرجت عائشة ... إلى مكة ومعها مولاتان لها ... فسئل العبد عن ذلك فأعترف، فأمرت به عائشة ... فقطعت يده وقالت عائشة: القطع في ربع دينار فصاعداً ويؤيد الجمع أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . ولفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذ: «القطع في

ربع دينار فصاعداً» وزاد يحيى قبله: «ما طال علي ولا نسيت» . والمدار في هذا الباب على غلبة الظن، ولا ريب أن من تدبر الروايات غلب على ظنه غلبة واضحة صحة كل من الخبرين وأنه لا تعارض بينهما، وعلم أن الحمل على الخطأ بعيد جداً. هذا وقد قال أبن التركماني: «قال الطحاوي: حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي ثنا مؤمل بن إسماعيل الرملي (كذا) عن حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب: وحدث يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه، فقال له عبد الرحمن: أنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه» . وبمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد (1) لكن يظهر أن له أصلاً، فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد عن يحيى عن عمرة عن عائشة مرفوعاً باللفظ الذي رواه الإثبات الذيثن رفعوا الحديث «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وروى مالك وابن عيينة عن يحيى عن عمرة ان عائشة قالت: ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار. وقوله: «القطع في ربع دينار» هو اللفظ الذي رواه الواقفون فهذا يدل انه كان عند يحيى كلا الخبرين، فكان يحدث بالمرفوع فأنكر عليه بعض من لم يسمعه وسمع الموقوف، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صوناً لنفسه عن ان يتهمه من لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ. هذا، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق (2) ثم قال: «إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيت ولا طال علي، القطع

_ (1) قلت: يعني لأن مؤمل بن إسماعيل سيء الحفظ كما سبق في ترجمته من الكتاب برقم (252) وهو بصري نزيل مكة، فالظاهر أن الذي عند الطحاوي (الرملي) صوابه: (الملكي) . والله أعلم. ن (2) بالراء ثم الزاي مصغراً، ويقال فيه بتقديم الزاي، وهكذا وقع عند الطحاوي وقد اخرجه (2 / 94) من طريق الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة، وقد مضى بالكتاب قريباً ص 113. ن

في ربع دينار» . اعترف به الطحاوي بقوله: «قد يجوز أن يكون معناها في ذلك ما طال علي ولا نسيت ما قطع فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما كانت قيمته عندها ربع دينار» . أقول: قد مر دفع الاحتمال وبيان أنه لا يعرف فيما قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم ما هو قليل إلا المجن، وقد دل حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المجن ولا قيمته. وبهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق تدل أيضاً على الرفع، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي، ولا يعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ثم جعجع الطحاوي بما علم رده مما تقدم ثم قال: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، وأختلف على غيره عن عمرة كما وصفنا، أرتفع ذلك كله فلم تجب الحجة بشيء منه إذا كان بعضه ينقض بعضاً» . كذا قال، وقد أقمنا الحجة الواضحة على انه لا اضطراب ولا تناقض (1) ثم

_ (1) قلت، ومما يسهل على القارئ المنصف تبين سقوط كلام الطحاوي أنه لو سلمنا جدلاً بصحة ما ادعاه من الاضطراب في الحديث فهي محصورة في الطرق التي ساقها هو إلى الزهري، ومن تابعه في روايته عن عمرة، ولكن الطحاوي لم يستوعب الطرق كلها أو جلها إليه وإليها. كما فعل المصنف جزاه الله خيراً فقد ذكر متابعة عشرة من الثقاة للزهري عن عمرة عن عائشة. وكلهم أتفقوا على رفعه، إلا يحيى بن سعيد في إحدى الروايات عنه، وهي في حقيقتها لا تخالف الروايات الأخرى المرفوعة، وهب أن الرواية عند يحيى مضطرية أيضاً، ففي الروايات التسع ما يكفي ويشفي، وكلها متفقة على الرفع، وبأقل من ذلك يثبت الرفع كما لا يخفى على المصنف، وهي وإن اختلفت في ضبط الكتن، هل هو: «تقطع اليد ... » أو «لا تقطع ... » والمؤلف رجح الأول، وقد يمكن ترجيح الآخر بقاعدة «زيادة الثقة مقبولة» ، وسواء كان هذا أو ذاك، فالحجة في الحديث قائمة على أن اليد تقطع في ربع دينار، وذلك ما لا يقوله الطحاوي تبعاً لمذهبه. والله المستعان. ن.

الرد على الطحاوي في إدعائه الإجماع على قطع سارق العشرة دراهم

قال: «ورجعنا إلى أن الله عز وجل قال في كتابه: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» فأجمعوا أن الله عز وجل لم يعن بذلك كل سارق وإنما عنى به خاصة ... فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه، وقد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم» . أقول: عليه في هذا أمور: الأول: دعواه الإجماع غير مقبولة وفي (الفتح) في تعداد المذاهب: «الأول يقطع في كل قليل وكثير تافهاً كان أو غير تافه، نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري، وبه قال أبو عبد الرحمن أبن بنت الشافعي ... . الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئاً تافهاً لحديث عروة الماضي. لم يكن القطع في شيء من التافه، ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع أبن الزبير في نعلين. أخرجها أبن أبي شيبة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه في مد أو مدين. الرابع: تقطع في درهم فصاعداً وهو قول عثمان البتي ... من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ... » . وأقول لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقة على إبقاء الآية على عمومها، وإنما المدار على تحقق أسم «السارق» فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحق عليه أسم «السارق» وهذا لازم للمذهب الأول، إذ يمتنع أن يقول عالم أن من أخذ حبه بر مثلاً حق عليه أسم «السارق» . وأما المذهب الثالث فلعل قائله نحا هذا المنحي أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحق على آخذه أسم «السارق» لا يتبين دخوله في الآية، والقطع إنما هو على من يتبين دخوله فيها. وأما المذهب الرابع فالبتي وربيعة الرأي كانا ممن يتفقه ويتعانا الرأي والنظر، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبين بها الدخول في الآية معنى غير منضبط فرأيا ضبطها بالدراهم.

الكلام على أثر ابن مسعود في القطع في العشرة

الأمر الثاني: هب أنه سلم للطحاوي ما ادعاه من الإجماع، فقد علمنا أن ظاهر القرآن وجوب القطع على كل سارق، وظاهر القرآن حجة قطعاً، ويوافقه حديث (الصحيحين) : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» ، وهذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة، فإن لا يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع فإن كان هناك إجماع على خروج شيء، فأما ما أختلف فيه فقيل بخروجه وقيل ببقائه فهو باق على ظاهر القرآن، لأن القائلين بخروجه بعض الأمة، وليس في قول بعض الأمة حجة يترك بها ظاهر القرآن. فإن قيل: فقد أختلف النظار في العام الذي قد خص، فقال بعضهم: إنه لا يبقى حجة في الباقي. قلت: هذا قول مخالف لإجماع السلف، وقد رغب عنه الحنفية أنفسهم، وتمام الكلام في رده في أصول الفقه. الأمر الثالث: هب أنه قويت دعوى الإجماع، وقوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة، ففي السنة الثابتة ما يكفي، فقد صح حديث ابن عمر، واندفع ما عورض به، وصح حديث عائشة، وبطلت دعوى اضطرابية، فثبت القطع في ثلاثة دراهم وفي ربع دينار، وبقي النظر فيما هو أقل من ذلك، وليس هذا موضع البحث فيه. ثم ذكر الطحاوي خبر المسعودي عن القاسم عن أبن مسعود: «لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم» ورواه بعضهم عن المسعودي عن القاسم عن أبيه والمسعودي أختلط. ثم هو منقطع لأن القاسم لم يدرك أبن مسعود، وكذلك أبوه عبد الرحمن نفى جماعة سماعة من ابن مسعود، وأثبت بعضهم سماعة منه لأحرف معدودة ذكرها أبن حجر في (طبقات المدلسين) ص 13، ثم قال: «فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه (أبن مسعود) أربعة أحدها، موقوف وحديثه

إذا قال إبراهيم النخعي قال عبد الله فهو عن غير واحد من أصحاب عبد الله بن مسعود

عنه كثير ... معظمها بالعنعنة هذا هو التدليس» . أقول: وليس هذا الخبر من تلك الأربعة. وروى الثوري عن «حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لا تقطع اليد إلا في ترس أو حجفة. قلت لإبراهيم: كم قيمته؟ قال: دينار» .والثوري يدلس، وحماد سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت: «وكان حماد يقول: قال إبراهيم: ط فقلت والله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ» . وقد قال حماد نفسه لما قيل له: قد سمعت من إبراهيم؟ : «إن العهد قد طال بإبراهيم» . وإبراهيم عن عبد الله منقطع، وما روي عنه (1) أنه قال: إذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. لا يدفع الانقطاع لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه وليس بثقة، (2) واحتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته،

_ (1) قلت: تصدير المصنف رحمه الله لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر إصطلاحاً - بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6 / 190) : أخبرنا عمروا بن الهيثم أبوقطن قال: حدثنا شعبة عن الأعمش قال: قلت: لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان» . وهذا إسناد صحيح رجال ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق 131 / 2) : حدثنا أحمد بن سيبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنه قال: «فحدثني وحده» . أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم «من غير واحد من الصحابة» يتبين له ضعف بعض الإحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: قال ابن مسعود، فأن قوله: «من أصحابه» يبطل قول المصنف «أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبد الله» ، كما هو ظاهر. وعذره في ذلك، أنه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب» ، ولم يقع فيه قوله: «من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال. ن. (2) قلت: هذا فيه بعد. فأننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين من ليس بثقة، ثم أن عبارته المتقدمة منا آنفاً صريحة في أنه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا الذي كان حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه. فكون الأكثر منهم - لا الواحد - غير ثقة بعيد جداً. لا سيما وإبراهيم إنما يروي كذلك مشيراً إلى صحة الرواية عن ابن مسعود. والله أعلم.

واحتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ «قال عبد الله» ، ثم يحكى عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف فلا يتنبه من بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ «قال عبد الله» ولا سيما إذا كان فيمن بعده من هو سيئ الحفظ كحماد. وفي (معرفة علوم الحديث) للحاكم ص108 من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدومن مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فأشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة، وسهم بن منجاب، وخزامة الطائي، وربنا دلس عنهم» . وقد ذكر الأستاذ ص 56 قول يحيى الحماني: «سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول القرآن مخلوق» فقال الأستاذ: «قول الراوي سمعت الثقة يعد كرواية عن مجهول، وكذا الثقت» . (1) وما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: «لا تقطع اليد في أقل من ثمن الحجفة، وكان ثمنها عشرة دراهم» قول إبراهيم، وقد يكون إنما أخذ من عمروأبن شعيب أو مما روي عن مجاهد وعطاء وقد تقدم ما فيه. وقد روي الثوري أيضاً عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن أبن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه خمسة دراهم. قال أبن التركماني: «فيه ثلاثة علل، الثوري مدلس وقد عنعن، وابن أبي عزة ضعفه القطان وذكره الذهبي في كتابه في (الضعفاء) ، والشعبي عن أبن مسعود منقطع» . أقول: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فإنما حكى ذلك العقيلي، وهو لم يدرك

_ (1) قلت: لنا على هذا العطف نظر سبق بيانه في التعليق على الصفحة (274)

التنبيه على أن كتاب الضعفاء للذهبي هو غير كتاب الميزان خلافا لظن المصنف (تعليق)

القطان، (1) ومع ذلك فهو جرح غير مفسر، وابن أبي عزة وثقه أحمد وابن معين وابن سعد، فأما الذهبي فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في (الميزان) (2) كل من تكلم

_ (1) -كذا قال المصنف رحمه الله، وعمدته في ذلك قول الحافظ في «التهذيب» : وذكره المقيلي في «الضعفاء» وقال: ضعف حديثه يحيى بن سعيد القطان» : فأن ظاهره أن المقيلي حكى التضعيف لم يروه بسنده كما هو النالب عليه وعلى أئمة الجرح والتعديل، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد قال العقيلي في كتابه المذكور: «حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي قال: سألت يحيى عن حديث عيسى بن أبي عزة (قلت: فذكره وقال:» فضعف الحديث» . (2) -قلت «الميزان» غير «الضعفاء» ، وهذا هو الذي عزى اليه ابن التركمانى تضعيف القطان. وجواب المصنف يشعر بأنه هو «الميزان» نفسه، وليس كذلك، فانهما كتابان، قاعدته في الأول منهما كما ذكره المصنف، وقاعدته في الآخر كما نص عليه هو في مقدمته: «فهذا ديوان أسماء الضعفاء والمتروكين، وخلق من المجهولين، وأناس ثقات فيهم لين» . ونحن الآن في صدد تحقيقه، يسر الله إتمامه، وطريقته فيه، إما أن يذكر رأيه في المترجم، كأن يقول فيه «ضعيف» أو «متروك» أو «متهم» ونحوه، كما هو أسلوب الحافظ ابن حجر في «التقريب» . وأما أن ينقل الجرح عن بعض الأئمة،:ان يقول: «ضعفه الدارقطني» أو «قال النسائي: ليس بقوي» . أو قال أبو حاتم: «لا يحتج به» وهكذا، فكل من يورده فيه ضعيف إلا أفراداً قليلين يصرح بتوثيقهم، أما تمييزاً وإما لدفع التهمة عنهم، فمن الأول قوله: «إبراهيم بن نافع الحلاب البصري قال أبو حاتم: كان يكذب. أما إبراهيم بن نافع عن عطاء المالكي فثقة» . ومن آخر قوله: «أحمد بن حسن بن خيرون، ثقة حافظ تكلم فيه ابن طاهر بعلاك بارد، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير» ، وقد لاحظنا أنه كثيراً ما يختلف اجتهاده في هذا الكتاب، عنه في «الميزان» ومن الأمثلة القريبة على ذلك، عيسى بن أبي عزة هذا، فإنه حكى فيه تضعيف القطان له، ثم توثق جماعة من الأئمة له، ثم ختم ذلك برأيه فيه فقال: «حديثه صالح» . وهذا معناه أنه مقبول عنده، ومع ذلك أورده في ديوانه «الضعفاء» وضعفه بقوله «قال القطان: حديثه ضعيف» . والظاهر أن المصنف لم يراجع «الميزان» حين كتب الجواب، وإلا لكان يجد فيه رداً أقوى في الذهبي: «حديثه صالح» ، وذلك بين لا يخفى. والعصمة لله وحده. ن

آثار عن الصحابة في القطع فيما دون العشرة

فيه ولو كان الكلام يسيراً لا يقدح. وأما الثالثة فنعم، ولكن الشعبي جيد المرسل، قال العجلي: «لا يكاد الشعبييرسل إلا صحيحاً» . وقال الآجري عن أبي داود: «مرسل الشعبي أحب إلى من مرسل النخعي» . والظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء فهو في ذكر القطع في المجن مطلقاً وأما التقويم فممن بعده أخذاً من حديث أنس عن أبي بكر وسيأتي، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر. وروى ابن عيينة عن حميد الطويل قال: «سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع؟ فقال: حضرت أبا بكر قطع سارقاً في شيء ما يسوى ثلاثة دراهم. أو: ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» وقد رواه أبو حاتم الرازي عن الانصاري عن حميد وفيه: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» بدون شك. أخرجه البيهقي ولا يلزم من قول أنس: «ما يسرني ... » أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم، فأن من لا يحتاج إلى سلعة لا يسره أنها له بقيمة مثلها، وإنما يسره أن تكون بأقل من قيمتها ليبيعها فيربح فيها أو يدخرها لوقت الحاجة. وقد روى قتادة عن أنس قصة أخرى، وهي أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم. رواه النسائي والبيهقي في (السنن) ج 8 ص 259 من طريق الثوري عن شعبة عن قتادة. ورواه النسائي أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي قال: «حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنساً يقول: سرق رجل في عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع. ورواه أبوهلال محمد بن سليم عن قتادة فقال: «عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... .» . وأبوهلال ليس بعمدة ولا سيما في قتادة. ورواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال، وسئل هشام مرة فقال: «هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فهو عن أبي بكر» . ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس أن أبا بكر قطع في

مجن قيمته خمسة دراهم، أو أربعة دراهم، شك سعيد، وصوب النسائي وغيره رواية شعبة وذلك واضح. ومن أحب تتبع هذه الروايات فليراجع (سنن النسائي) و (سنن البيهقي) . وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن شريك عن عطية بن مقسم عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أُتي عمر بسارق فأمر بقطعه، فقال عثمان: إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم قال: فأمر به عمر فقومت ثمانية دراهم فلم يقطعه. القاسم لم يدرك عمر ولا كاد، وعطية مجهول الحال، وشريك سئ الحفظ ونسبه بعضهم الى التدليس كما مضى. ورواه الثوري عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي عن القاسم قال: «أُتي عمر بن الخطاب بسارق قد سرق ثوباً فقال لعثمان: قومه، فقومه ثمانية دراهم فلم يقطعه» . ويؤخذ من كلام البخاري وأبي حاتم أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك، فإن صح هذا فهو مجهول الحال، وإلا فكلاهما مجهول. ولو صحت القصة، فلفظ الثوري أقرب، ويكون ترك القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت. وسيأتي عن عثمان أنه قطع في أترجة قومت ثلاثة دراهم ومر عنه أنه قطع في فخارة خسيسة. فكيف يقول ما وقع فيه لفظ شريك؟! وفي (نصب الراية) ج 3 ص363 أن في (مصنف عبد الرزاق) : «عن معمر عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال: «كم أخذ من ثمر شيئاً فليس عليه قطع حتى يأو ي الجرين، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربع دينار قطع» . عطاء الخراساني لم يدرك عمر، لكن هذا أقوى من رواية عطية. وفي (الفتح) : أخرجه «ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: إذا أخذ السارق ربع دينار قطع» . وفيه أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور عن مجاهد عن ابن المسيب عن عمرة: لا تقطع الخمس إلا في خمس» . ابن المسيب عن عمر منقطع، إلا أنه جيد، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) من طريق قتادة عن ابن المسيب، وقتادة مشهور بالتدليس. وروى مالك في (الموطأ) ، وابن عيينة كما في (مصنف ابن أبي شيبة) عن عبد الله

بن أبي بكر عن عمرة أن سارقاً في زمن عثمان سرق أترجة فأمر به عثمان أن تقوم، فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار فقطع عثمان يده» . وعمرة يقال أنها ماتت سنة 98 وعمرها سبع وسبعون سنة. فعلى هذا يكون سنها لمقتل عثمان فوع أربع عشرة سنة. وقد جاء عن عثمان ما هو أشد من هذا كما تقدم. وروى حاتم بن إسماعيل كما في (مصنف ابن أبي شيبة) ، وسليمان بن هلال كما في (سنن البيهقي) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار. وقال الشافعي في (الأم) ج 6 ص 116: «أخبرنا أصحاب جعفر عن جعفر عن أبيه أن علياً رضي الله عنه قال: «القطع في ربع دينار» . محمد بن علي لم يدرك علياً، لكن لم يعارض هذا عن علي ما هو أقوى منه، وإنما ذكر البيهقي (السنن) ج 8 ص 261 أثراً عن علي فيه: «لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم» ثم قال: «هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء» (1) . فقال ابن التركماني: «قد جاء من وجه آخر ضعيف إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك. فروى عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار عن على قال: لا تقطع اليد في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فعدل البيهقي عن هذه الرواية الى تلك لزيادة التشنيع» . ... أقول: وهذه ليست مما يفرح به، الحسن بن عمارة طائح، قال شعبة: أفادني الحسن ابن عمارة سبعين حديثاً عن الحكم فلم يكن لها أصل» . ونص شعبة على أمثلة

_ (1) قلت: بل هو ضعيف جداً فإن من رواته جويبراً وهو ابن سعيد البلخي أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: «متروك الحديث» . وقال الحافظ في «التقريب» : «ضعيف جداً» . قلت: ومع هذا فهو خير من الحسن بن عمارة الآتية روايته، فإنه لم ينسب إلى الكذب أو وضع، بخلاف ابن عمارة، فإنه أشد ضعفاً منه، قد نسبوه إلى الوضع كما يأتي في الكتاب، وقال الإمام أحمد: أحاديثه موضوعة. فهل خفي هذا على ابن التركماني حتى زعم أن روايته أجود من رواية جوبير، أم هو التعصب المذهب؟!

المسلك الثالث في التخلص من أحاديث القطع في ثلاثة دراهم

منها، سئل الحكم عنها فلم يعرفها. قال شعبة: «قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي - سبعة أحاديث، فسألت الحكم عنها فقال: نا سمعت منها شيئاً» وقال ابن المديني في الحسن بن عمارة: «كان يضع» . المسلك الثالث: لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر. كان الرجل مشهوراً بطول الباع وسعة الاطلاع والوهد والعبادة، (1) وكان يقرر أن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت. وكان مع ذلك غاية في الجمود على المذهب والتفاني في الدفاع عنه. وفي مسلكه هذا ما يظهر منه علوطبقته في ذلك؛ ذكر أن

_ (1) هو العلامة الشيخ محمد أنور الكشميرى، وكلامه الذي أشار إليه المؤلف مذكور في كتابه «فيض البارى على صحيح البخاري» (4/446-447) ، وهو بحق كما وصفه المصنف في سعة العلم، ولكنه مع الأسف لم يستفد كثيراً من علمه، صده عن ذلك التقليد المتوارث مع أنه من أحق العلماء المتأخرين بالخلاص منه، والاستقلال في النظر والاختيار، فانظر إليه مثلا في موقفه من مسألة رفع اليدين في الركوع التي لا يمكن للباحث في أدلتها إلا أن يقول بمشروعيتها واستحبابها، ولو كان حنيفاً غير متعصب مثل العلامة اللكنوي رحمه الله فإنه لم يسعه إلا أن يقول بمشروعيتها واستجابها في بحث له جيد في «التعليق الممجد» ، وأما الشيخ الكشميرى فلم يستطع التصريح بالاستحبات، على الرغم من أن التحقيق الذي وصل إليه يلزمه ذلك، - فهو يقول في الكتاب المذكور (2/257-259) : فقد ثبت الأمران عندي (الرافع والترك) ثبوتاً لا مرد له، ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز» . ثم نقل عبارة لأبي بكر الجصاص تؤيد ما ذكره من الجواز، ثم قال: «فاسترحت حيث تخلصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع» ! كذا قال، وفي عبارة من الركعة ما لا يخفى، وإذا قال بجواز الرفع وأراد الجواز الذي يستوى فيه الفعل والترك، فلم يأت بشيء جديد بإثباته الرفع، لأن القائلين به لايقولون بوجوبه، وإن أراد به جوازاً مع استحباب فهلا صرح به؟ لأنه لم يجد في مذهبه من سبقه إلى ذلك! ثم إذا صح ظننا به، فهل كان يرفع يديه كسباً للثواب، بل وبياناً للجواز ولو بالمعنى الأول، علم ذلك عند أصحابه، وظني أنه لم يفعل، لغلبه العصبية المذهبية على من حوله. والله المستعان. ن

لأصحابه طرقاً في التملص من أحاديث (الصحيحين) في هذهالمسألة، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، وأنه لم يرتض شيئاً من ذلك، واختار طريقاً جديداً يجمع بين الادلة في زعمه، وهو أولاً كان في ثمن المجن كما في حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكانت قيمة المجن أولاً قليلة، ثم أخذت تزيد بزيادة أتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأقر الأمر عليها، وترك اعتبار ثمن المجن، وذلك كما هو الحال عنده في الدية. قال: «وعلى نحوهذا حملت حد الخمر ومقدار المهر» . أقول: لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك لكن قد يقال: كان المعيار الشرعي لما يجب في القطع هو قيمة المجن فكأنها كانت أولاً لا تزيد عن أقل ما يحق على آخذه اسم «السارق» وحينئذ أنزل الله عز وجل: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ، ثم كأنها ترقت قليلاً فصارت كقيمة الحبل والبيضة وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده» ثم ترقت فصارت ربع دينار وهو عند الحنفية درهمان ونصف، وحينئذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم، وحينئذ قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجن قيمته ثلاثة دراهم. ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شيء يقول أنس: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» . ثم كأنها ترقت فصارت خمسة دراهم، وحينئذ قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم. وكأنها بقيت على ذلك إلى عهد عمر، وحينئذ قال - لو صح عنه -: لا تقطع الخمس إلا في خمس. ثم كأنها نقصت إلى درهمين ونصف فحينئذ قال عمر - لو صح عنه - إذا أخذ السارق ربع دينار قطع. ثم كأنها ترقت فصارت عشرة دراهم وحينئذ امتنع - لو صح عنه - من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم. ثم نقصت في عهد عثمان وحينئذ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم، ثم ازدادت نقصاً وحينئذ قطع في فخارة خسيسة. ثم تحسنت الحال قليلاً في زمن علي وحينئذ قطع في بيضة حديد قيمتها ربع دينار، وأفتت عائشة بالقطع في ربع

اختلاف الرواة في ضبط متن حديث عائشة في القطع في ثلاثة دراهم

دينار، ثم لا أدري متى عادت فترقت إلى عشرة دراهم، وحينئذ بمقتضى هذا المسلك نزل الوحي وبإلغاء اعتبار قيمة المجن، وأن يكون هو العشرة الدراهم!! ولعمري لقد تكرر في الأخبار ذكر المجن، وأن بعض الألفاظ ليوهم اعتبار المجن، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقل ما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - مجن، وحملوا ما يوهم اعتبار المجن على ما تقدم مفصلاً، ولم يعرج أحد منهم على هذا المسلك الطريف ولكن: لكل ساقطة في الأرض لاقط ... وكل كاسدة يوماً لها سوق ومن العجيب أنه لم يرتض دعوى بعض أسلافه النسخ ثم وقع فيها، وأنه يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم يخالف صرائحها ويتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة. فأما حديث هشام عن ابن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سنداً ومتناً. أما السند فمنهم من ذكر عائشة، ومنهم من لم يذكرها وجعله مرسلاً من قول عروة، نبه على ذلك البخاري في (الصحيح) ، والصواب ذكر عائشة. وأما المتن فعلى ثلاثة أوجه: الأول: ما رواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة «أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في مجن حجفة أو ترس» . ثم روى البخاري عن عثمان أيضاً عن حميد «ثنا هشام عن أبيه عن عائشة. مثله» . الثاني: ما رواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة «لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس كل واحد منهما ذوثمن» . الثالث: رواه البخاري «حدثني يوسف بن موسى ثنا أبو أسامة قال: هشام بن

عروة أخبرنا عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل منها ذا ثمن» . فالأول: مداره على عثمان بن أبي شيبة عن عبدة وعن حميد، وقد خولف عن كل منهما فرواه مسلم في (صحيحه) عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده: «لم تقطع يد سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس وكلاهما ذوثمن» . وهذا على الوجه الثالث كما ترى. ورواه البيهقي في (السنن) ج8 ص 256 من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده «لم تكن يد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس» . وهذا على الوجه الثاني كما ترى، وبهذا بان ضعف الوجه الأول، بل ظاهره باطل، لأنه يعطي أن القطع لم يقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في ذاك المجن، وقد ثبت قطع سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهماً. وثبت قطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده. وأما الوجه الثاني فقد اختلف على عبدة كما رأيت، وكذلك اختلف على ابن المبارك، رواه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة: «لم تقطع يد سارق في أدنى من حجفة أو ترس، وكل واحد منهما ذوثمن» . وهذا على الوجه الثالث كما ترى. فبان رجحان الوجه الثالث، لأنه رواه عن هشام أبو أسامة ولم يختلف عليه فيه، ورواه ابن نمير عن حميد عن هشام وابن نمير اثبت من عثمان بن أبي شيبة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام. ... وقد رجح الشيخان والنسائي الوجه الثالث. أما البخاري فساقها على هذا الترتيب، ثم عقب بحديث ابن عمر، فأشار والله أعلم بالترتيب إلى ترتيبها في القوة، فالثاني أقوى من الأول، والثالث أرجح منهما.

أو قل: أشار الى أن الثاني يفسر الأول من وجه والثاني (1) يفسرهما جميعاً، وأشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا الحديث وحديث ابن عمر عن واقعة واحدة، فعائشة حفظت أن أقل ما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك المجن ولم تذكر قيمته، وابن عمر حفظ قيمته ولم يذكر أنه أقل ما قطع النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وأما مسلم فصدر بحديثه عن محمد بن عبد الله بنمير وساقه بتمامه وهو على الوجه الثالث كما مر ثم قال: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح وثنا أبوكريب ثنا أبو أسامة كلهم عن هشام بهذا الإسناد نحوحديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرواس، وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة: «وهو يومئذ ذوثمن» فحمل سائر الروايات على حديث ابن نمير وهو على الوجه الثالث كما مر، ولم يعتد بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة مع اعتداده بالإختلاف في قول ابن نمير «وكلاهما ذوثمن» وقول عبد الرحيم وأبو أسامة: «وهو يومئذ ذو (2) ثمن» ثم عقب مسلم ذلك بحديث ابن عمر. وأما النسائي فأنه مع تصديه لجمع الروايات في ذكر المجن لم يسق من طرق حديث هشام المذكورة إلا رواية سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام، وهي على الوجه الثالث. وصاحب هذا المسلك أنما يكون له متشبث ما في الوجه الثاني، وقد علمت أنه مرجوح من جهة الرواية، وهكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي، وعلى فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح فلا يصح التمسك بما اختص به بعض الروايات وخالفها وغيرها، لأن الاختلاف إنما جاء من جهة الروايتين بالمعنى فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح أنها باللفظ الاصلي أو موافقة له.

_ (1) كذا الأصل والظاهر أنه خطأ، والصواب «والثالث» . (2) الأصل «ذون» .ن

ومع هذا فاللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يقطع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا مانع أن تعرف عائشة هذا ولا تعرف قيمة ذاك المجن. وهذا المعنى أقرب وأولى مما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يزعم أن المعنى قيمة أن اليد لم تكن تقطع إلا فيما يبلغ ثمن مجن من المجان أي مجن كان، وهذا بغاية البعد، فإن من المجان الردئ البالي المعيب الذي تكون قيمته درهماً واحداً أو دونه، ومنها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة، ولم يعهد من حكمة الشارع وإيثاره الضبط، أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط. فإن قيل قد يختار مجن من أو سط الغالب على نحوما قدمت أول المسألة. قلت: أو سط الغالب بعيد أيضاً عن الانضباط، والذي تقدم إنما هو من بعض من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وآلة وسلم، وعرف أنه ذاك المجن ولم يعرف ثمنه فأضطر إلى الحدس، والشارع لا ضرورة تلجئه ة لا حاجة تدعوه إلى مثل هذا، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط وهو قادر على الضبط بالذهب أو الفضة، فيكون المناط ظاهراً منضبطاً سهل المعرفة جارياً على ما يعرفه الناس ويتعارفونه؟! فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الاسلام، وكان أغلب أموالهم الإبل ووصفها الشارع بصاف معروفة تقربها من الإنضباط، ولا يخشى بعد ذلك التباس ولا مفسدة كما يخشى في نوط القطع بثمن مجن، فإن وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة، فلو كانت عنده نفيسة، وأراد أن يشتري بها عشراً كلهن على وصف الدية مكن من ذلك، فيشتري بتلك الناقة عشراً ويدفعها فتحسب له عشراً، واحتمال ان لا يتمكن من ذلك بعيد، فإن اتفق ذلك فللفقيه أن يقول هي بمنزلة المعدومة، ويعدل الى قيمة القدر الواجب من الغالب - كما قيل بنحو ذلك في الزكاة. فأما إذا طابت نفس صاحبها فدفعها فلا إشكال. والحنفية لم

ينكروا وجوب الإبل، وإنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وإن يتعين بالتراضي أو القضاء. وأقول أما التراضي فلا إشكال فيه، وكذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة وهو قيمة الإبل. وأما إذا لم يكن ذلك قيمتها، فجعل الخيرة للقاضي مناف للعدل وفتح لباب اتباع القضاة للهوى، وأصول الشرع تأبى ذلك. والمقصود هنا انه مفسدة في جعل الزكاة من الإبل، فإن الواجب الحقيقي هو أقل ما يتحقق به الصفة فالمستحق بين أن يحصل له حقه، وأن يحصل له دونه برضاه، وأن يحصل له فوقه برضا الدافع. ... وعلى فرض أن المقوم اخطأ في التقويم، فالخطب سهل، إنما هو خسارة مالية يجبرها الله عز وجل من فضله. ... واما المجن فإن قيل: إنه يقطع في سرقته مطلقاً بأي صفة كان فلا يخفى ما فيه، وإن قيل: لا يقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص، فما هو ذاك الوصف؟ وما الدليل على تعيينه؟ وإن قيل. لا يقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حداً معيناً كما يدل عليه قول أنس: «سرق رجل مجناً على عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع» فهذا قولنا وبطل هذا المسلك الطريف رأساً. وإذا كان المسروق ذهباً أو فضة، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أولا؟ وهذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السلع بالذهب والفضة. وإذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج الى تقويمين، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة، وتقويم المجن الذي لم تبين صفته بالذهب أو الفضة، واحتمال الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد. فإن قيل: إنما كان ذلك في أول الأمر ثم استقر الحال على العشرة الدراهم. قلت: فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر وقد قال الشاعر: رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا

وإذا كان المجن لا يصلح أن يجعل معياراً مستمراً، فكذلك لا يصلح أن يكون معياراً موقتاً بلا ضرورة ولا حاجة. فإن قيل: قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: فيلزم أن يكون ذاك المجن محفوظاً في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في بيوت الخلفاء، فكلما رفع سارق، قوم المسروق ثم أخرج ذاك المجن فقوم بقيمة الوقت! وهذا باطل من وجوه: منها انه لم ينقل، ولو كان لنقل لغرابته، ومنها أن النقل يأباه، ومنها انه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تبرره حكمة. وكثير مما تقدم يرد على هذا أيضاً. أشد ذلك الداهية الدهياء وهي النسخ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن قيل: لعل صاحب هذا المسلك إما أراد أن ذلك التدرج واستقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت ظاهر صنيعه خلاف ذلك لتنظيره بحد الخمر، ولأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذكر العشرة، (1) وإنما يصح إن صح شيء عمن بعده وبعد الخلفاء الراشدين. وهب أنه أراد ما زعمت، لم يأت عليه بشبهة فضلاً عن حجة، ويرد عليه أكثر ما تقدم. وكيف يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم ينسخها بما لم يثبت؟ ! وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده، وإنما اقتسر الحنفية قياسه على ما يقطع فيه السارق، والأصل باطل، والقياس أبطل. وأما حد الخمر فالحق أنه أربعون. واستنبط الصحابة من تدرج الأمر في الخمر

_ (1) قلت: في هذا نظر، فإن المومى إليه قد صرح بتصحيح حديث ابن عباس في العشرة!

من حكم إلى أشد منه رعاية للحكمة جواز زيادة التشديد تعزيزاً، واستأنسوا الزيادة بقولهم: «إنه إذا سكر هذا، وإذا هذا افترى» (1) مع علمهم بأنه لا يلزم بمجرد الاحتمال حكم المرتد ولا حكم المطلق ولا غيرها ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه، والسرقة لم يقع في تحريمها تدريج، لا من حال إلى أشد منها، ولا من حال إلى أخف منها. فإن قيل قد يقال، إن للتدريج حكمة، وهي أن الناس كانوا في ضيق فكان المسروق منه يتضرر بأخذ اليسير من ماله، ثم اتسعوا فصار لا يتضرر إلا بأخذ أكثر من ذلك وهكذا. قلت: تعقل الحكمة لا يثبت به الحكم، مع أن ما ذكر تم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفف على السارق لكثرة الحاجة، وقد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول وذلك يدرء الحد عن المضطر، وما يروى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة (2) . فإن قيل: إن المقدار لم يتغير في المعنى، لأن السلع كلها أو غالبها تساير المجن، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسة حين بلغ ثمن المجن خمسة، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة، وهكذا الدراهم نفسها، فإن الثلاثة كانت أولاً تغنى غناء تغنيه أخيراً إلا الخمسة مثلاً. قلت: هذا كله لا يغني فتيلاً فيما نحن بصدد، ثم هو غير مستقيم، فقد تغلوا سلعة وترخص أخرى، ولا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعاً وانخفاضاً إلى يوم القيامة، ولماذا إذ كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيراً بالعشرة؟ ! وقد يزيد

_ (1) هذا لم يصح، وهو مطل في إسناده ومتنه، وقد بينت ذلك في «إرواء الغليل» .ن (2) قلت يشير إلى ما روى عن عمر رضي الله عنهأنه قال: «لا قطع في غدق، ولا في عام سنة» .نده جهالة كما ىبينة في المصدر السابق (2496) .

الاتساع فتصير خمسة عشر لا تغني إلا غناء الثلاثة، وقد يعود الضيق ويشتد أشد مما كان أولاً، والمعروف إنما هو ضبط أثمان السله بالدنانير والدراهم، لا ضبط الدنانير والدراهم بالسلع، فكيف بالسلعة لا تنضبط؟ وقد أطلت في رد هذا المسلك مع أنه لا يحتاج في رده إلى هذا كله، ولكن دعا إلى ذلك شهرة قائلة. والله المستعان.

المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال

المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال قال الأستاذ ص 185: «وأما القضاء بشاهد ويمين فلم يرد فيه ما هو غير معلل عند أهل النقد، وحديث مسلم فيه انقطاعات مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه كما فصل في محله. والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه ... حتى أن يحيى الليثي رواية (الموطأ) وغيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكاً في المسألة، وكم بين الشافعية من خالف الشافعي في المسألة، فسل قضاة العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لوحكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة؟ فضلاً عن الضعف الظاهر فيما يحتجون به في الأخذ بشاهد ويمين» . أقول: حديث مسلم هو قوله في (صحيحه) : «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد ابن عبد الله بن نمير قالا ثنا زيد - وهو أبن حباب - ثني سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشهادة» . فأما الإنقطاعات المزعومات فأحدهما بين عمرووابن عباس. والآخرين بين قيس وعمرو. أما الأول فقال ابن التركماني: «في (علل الترمذي) : سألت محمداً (البخاري) عنه- أي هذا الحديث - فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس» .

أقول: ليس لهذه العندية ما يسندها سوى أمرين: الأول: أن محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه: عن عمروعن طاوس عن ابن عباس. وبعضهم قال: عن عمروعن جابر بن يزيد عن ابن عباس. الثاني: استبعاد صحة الحديث لعدم اشتهاره عن ابن عباس ومخالفته لظاهر القرآن. فأما الأول فقد أجاب عنه البيهقي بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء، فأما التقات فرووه عن الطائفي عن عمروعن ابن عباس كما يأتي: ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء. أقول: ومع ذلك فلوصح الوجهان المذكوران أو أحدهما لصح الحديث أيضاً كما صحح الشيخان حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر في لحوم الخيل، مع رواية ابن عيينة وغيره له عن عمروعن جابر. (1) ولهذا نظائر. وأما الثاني: فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه فلا يزيله إلا دعوى أن بين عمرووابن عباس واسطة ضعيفة، إذ لو كان بينه وبينه ثقة لصح الحديث أيضاً كما مر، وليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا فأن عمراً لا يدلس مثل هذا التدليس، وإنما قد يرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه، ومحمد إمام حجة. وقد تتبعت ما قيل أن عمراً أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق، فلم أجد إلا حديثاً حاله كحال الحديث السابق، وذلك أن في (مسند أحمد) ج3 ص 368:

_ (1) أنظر تخريجه في «الإرواء» (2551) .

بحث هام في التدليس

«ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمروا بن دينار عن جابر ... ، قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا» . والحديث في (صحيح البخاري) من طريق ابن عيينة «قال عمرو: أخبرني عطاء أنه سمع جابراً ... .» فبين عمرووجابر في هذا عطاء بن أبي رباح، وهو إمام حجة. ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما، فإن صح فالواسطة في أحدهما عكرمة وطاوس أو أحدهما. وفي الثاني: ابن أبي مليكة، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات. فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمروعن ابن عباس: لعله لم يسمعه منه. فإنما يسوغ أن يفرض أن عمراً سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس. وفي ترجمة عمرومن (تهذيب التهذيب) : قال الترمذي: قال البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت» . قال ابن حجر: «قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلساً» . أقول: لم أظفر برواية عمروذاك الحديث عن ابن عباس، والقصة - وفيها الحديث- ثابتة في (صحيح مسلم) و (مسند الحميدي) من رواية عمروعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، فإن كان بعضهم روى الحديث عن عمروعن ابن العباس فلا ندري من الراوي؟ فإن كانت ثقة فالحال في هذا الحديث كما تقدم، حدث به عمرومراراً عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس، ثم قال مرة على سبيل الفتيا أو المذاكرة: «قال ابن عباس» وليس هذا بالتدليس، على أنه لا مانع من أن يسمع من أبن أبي مليكة عن ابن عباس القصة وفيها الحديث ويسمع من ابن عباس نفسه الحديث. ولا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن سيخ ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه ثم يرويه تارة كذا. وهذا النوع يسمى «المزيد في متصل الأسانيد» وقد عد بعضهم منه حديث عمروفي لحوم الخيل. وقد ذكر مسلم في مقدمة (صحيحه) أمثله مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه، وذكر

منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل وقد مر، وهذا حكم من مسلم بأن عمراً غير مدلس، وأن ما قد يقع عن مثل ذاك الإرسال ليس بتدليس. وأحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمروالتي لم يصرح فيها بالسماع، واحتج مسلم بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمروعن جابر، مع انه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمراً لم يصرح فيه بالسماع من جابر. وهذا الترمذي حاكي الحكايتين عن البخاري صح في لحوم الخيل رواية ابن عينة التي فيها «عمروعن جابر» وخطأ حماد بن زيد في قوله «عمروعن محمد بن علي عن جابر» مع جلالة حماد وإتقانه، فلو كان عند الترمذي أن عمراً يدلس لما كان عنده بين الروايتين منافاة. والصحيح أنه لا منافاة ولا تدليس كما مر. فأما ما في (معرفة الحديث) للحاكم ص 111 في صدد كلامه في التدليس: «فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ... وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة» . فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قط ولا سمع منه شيئاً، فإن تلك العبارة هي في صدد قوله ص 109 «الجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ... » . وحاصل ذلك أن عمراً يرسل عمن لم يره من الصحابة، وهذا على قلة ما قد يوجد عن عمروفيه ليس بتدليس وإنما يسميه جماعة تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، فأما أن يرسل المحدث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه فلا إيهام فيه فلا تدليس. وعادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن ينصوا على أسماء الذين روى عنهم ولم يسمع منهم، كما تراه في تراجم مكحول والحسن البصري وأبي قلابة عبد الله بن زيد وغيرهم، ولم نجد في ترجمة عمروإلا قول ابن معين: «لم يسمع في البراء بن عازب» ولعله لم يرسل عن البراء إلا خبراً واحداً. وسماع عمرومن ابن عباس ثابت، والحكم عندهم فيمن ليس بمدلس ولكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة علة السماع إلا أن يتبين أنه لم يسمع، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمروعن جابر وقد تقدم. ووجه ذلك أنه لم يثبت

عليه إلا أنه قد يرسل لا على وجه الإيهام، ومعنى ذلكأنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه، فحيث وجدنا دليلاً واضحاً على عدم السماع فذاك، وحيث لم نجد كان الحكم هو السماع ألا ترى أن الثقة قد يخطئ، ومع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ، فأولى من ذلك أن يحكم بالاتصال في حديث من لم يعرف عنه ألا الإرسال حيث لا إيهام، لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه بخلاف المرسل. والحكم عندهم فيمن عرف بالتدليس وكثر منه إلا أنه لا يدلس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه أن عنعنته مقبولة، كما قالوه في ابن عيينة فما بالك بما نحن فيه؟ وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس فلا يضره بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه وهو عمرو بن دينار، وكم من حديث صححه الشيخان وغيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثل هذا أو أشد منه، هذا حديث «إنما الأعمال بالنيات» عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا أنه نصف العلم. وهذا مما يقتضي اشتهاره، وفي روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، وذكر فيه أن عمر بن الخطاب رواه وهو يخطب على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، ومع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر بن الخطاب، ولا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد غير يحيى بن سعيد الأنصاري، ومع ذلك صححه الشيخان وغيرهما وجعلوه أصلاً من أصول العلم، بل جعلوه نصف العلم كما مر. فإن قيل: لكن له شواهد. قلت: وحديث القضاء بالشاهد اليمين كذلك فقد جاء من رواية جماعة من

رد دعوى مخالفة الحديث لآية "واستشهدوا شهيدين ... "

الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها. وجاء من رواية آخرين بأسانيد نصلح للاستشهاد، (1) وجاء من مرسل عدة من التابعين، وكان عليه عمل أهل الحجاز لا يعرف عندهم خلافه. فإن قيل: فقد قلت في حديث ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المجن ما قلت. قلت: ذاك خبر اضطرب فيه ابن إسحاق أشد أضطراب، وابن إسحاق في حفظه شيء، وجاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء، لا من روايته عن ابن عباس كما تقدم تفصيله في المسألة السابقة، وليس الأمر ههنا كذلك، ولا قريباً من ذلك. وقد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث، ومنها ما لو انفرد لم يضر. وأما مخالفته لظاهر القرآن كما قد يشير إليه صنيع البخاري في (صحيحه) فكم من حديث صححه هو وغيره وهو مخالف لظاهر القرآن كحديث المنع من الجمع بين المرآة وعمتها أو خالتها، وحديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب، وحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وغير ذلك. وكم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم، وقد تقدم شيء من ذلك في المسألة الثانية عشر، وذكر ابن حجر في (الفتح) أمثلة من ذلك، وبسط الشافعي كلام في (الأم) ج 7 ص 6 - 31 ومع ذلك فمخالفة حديث القضاء بشاهد ويمين لظاهر القرآن مدفوعة كما ستراه. قال الله تبارك وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ» إلى أن قال: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ

_ (1) سيأتي ذكر بعض شواهده 156-157.ن

إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» إلى أن قال «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» إلى أن قال «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ» . إن قيل: أمر الله تعالى أن يستشهد عند المدينة رجلان فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك. فالجواب: إن أردتم أنه لا يثبت مطلقاً إلا بذلك فهذا باطل، إذا قد يثبت الحق بالاعتراف، بالنكول فقط عند الحنفية، ومع يمين المدعي عندنا، وإن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك فهذا لا يفيدكم، فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد واليمين لا بالشاهد وحده. فإن قيل: لو كان يثبت بشاهد ويمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل وامرأتين فائدة. قلنا: بلى، له فوائد عظيمة، الأولى ما نصت عليه الآية: «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» ، وهذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده، فكذلك يحصل بالشهادة التامة، فإن القضاء يحصل بشهادة تامة أظهر في القسط والعدل من القضاء بشاهد ويمين، وأقوم للشهادة لأن كلاً من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر، وأبعد عن الريبة كما لا تخفى، وقد دل الآتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط، وقيام الشهادة، والبعد عن الريبة، قد يحصل بما هو دون ما ذكر، فما هو؟ ليس إلا الشاهد واليمين، كما دل

عليه الحديث، فالآية تدل على صحة الحديث، لأنه لو لم يكن صحيحاً لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية. الفائدة الثانية: أن ذلك أحوط للحق، إذ لوأستشهد رجل واحد فقط فقد يموت قبل أداء الشهادة، أو يعرض له ما تفوق به شهادته، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغيبة، فإذا كانا إثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معاً، وهذه أدنى درجات الاحتياط نبهت عليها الآية، ولم تمنع مما فوقها، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط، وذلك كأن تكون مدة الدين طويلة كخمس عشرة سنة، ووجد شاهدان شيخين كبيرين فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعاً قبل حلول الدين، أو يعرض لهم جميعاً ما تفوت به شهادتهم. الفائدة الثالثة: إن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق بل لا بد معه من اليمين، وقد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها، أو لأنه لم يحضرها وإنما حضرها مورثة الذي قد مات، وقد يجن الدائن أو يموت ويكون وارثه صبياً أو مجنوناً فتتعذر اليمين وقت المطالبة فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه اويموت. فإن قيل: ذكر البخاري في (الصحيح) عن ابن شبرمة انه أحتج على أبي الزناد بالآية وذكر قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» قال: «قلت: إذا كانت يكتفى بشاهد شاهد ويمين المدعي فما يحتاج أن تذكر أحدهما الأخرى؟ ما كان يصنع بذكر هذه الاخرى؟» . قلت: قد تقدم ما يعلم منه الجواب، ولا بأس بإيضاحه فأقول: يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقياً حاضراً جائز الشهادة أن تتم فيكون ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأبعد عن الارتياب. ولا يتوقف ثبوت الحق على يمين المدعي وقد تكبر عليه أو تتعذر منه فيضيع الحق، أو يتأخر كما تقدم، وإن

كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوت شهادته، شهدت المرآتان وحلف المدعى معهما وثبت الحق كما هو مذهب مالك، والظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد، وهو مذهب قوي فإن الآية أقامت المرأتين مقام الرجل، وفي (الصحيحين) من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد ومروره على النساء وموعظته لهن «قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى» وهذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل، فأما إشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل فإنما هو والله اعلم لأن المطلوب في حق النساء الستر والصيانة، والشهادة تستدعي البروز وحضور مجالس الحكام والتعرض لطعن المشهود عليه. فقد أتضح بحمد الله تبارك وتعالى انه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال إن الحديث مخالف لظاهر القرآن، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة. وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة فذكروا هاهنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس أنه أدعى على رجل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» . وحديث (الصحيحين) عن ابن عباس مرفوعاً: «لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» لفظ مسلم. والجواب على الحديث الاول: أنه في (الصحيحين) وغيرهما من طريق أبي وائل شقيق ابن سلمة عن الاشعث بن قيس، وأختلفت ألفاظ الرواة في مقاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي رواية «شاهداك أو يمينه» ، وفي أخرى «بينتك أو يمينه» وفي ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث: ألك بينة؟» قال الأشعث: قلت: لا، «قال فيحلف» هكذا في (صحيح البخاري) في «كتاب الأحكام» في «باب الحكم في البشر» من طريق سفيان الثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل، وهكذا رواه أبومعاوية عن الأعمش إلا أنه قال: «فقال لليهودي: احلف» . أخرجه البخاري في «كتاب الشهادات» من (صحيحيه) ، «باب سؤال الحاكم المدعي: ألك بينة؟» .

ونحوه في (صحيح مسلم) و (مسند أحمد) ج 5 ص 211 من طريق أبي معاوية ووكيع عن الأعمش - إلى غير ذلك فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أجل من روى الحديث عن أبي منصور والأعمش وأجل من رواه عنهما سفيان الثوري وهو إمام الاتقان والفقه، وروايته هي الأشبه بآداب القضاء أن يبدأ فيسأل المدعي أله بينة؟ فإن لم يكن له بينة وجه اليمين على المدعى عليه. والبينة كل ما بين الحق، فتصدق على البينة التامة وهي ما لا يحتاج معها الى يمين، وبالبينة الناقصة وهي ما يحتاج معها الى يمين. على انه لوثبت ان لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» فدلالة هذا على نفي القضاء بشاهد ويمين ليست بالقوة، ودلالة أحاديث القضاء بالشاهد واليمين واضحة. فإن قيل يقوي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قلت: فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل وامرأتين. فإن قيل: يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبول رجل وامرأتين. قلت: ويجوز أن يكون قد علم قبول شاهد ويمين. والحق أنه يجوز ان لا يكون قد علم ذا ولا ذاك، وليس هناك محذور، لأن من شأن المدعي أن يكون حريصاً على إظهار مل ما يؤمل أن ينفعه، فلو كان له شاهد وامرأتان أو شاهد فقط أو امرأة واحدة وقيل له: «شاهداك أو يمينه» لقال لا أجد شاهدين ولكني أجد كذا، وقد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة فإن فيها «قلت يا رسول الله ما لي بيمينه؟ وإن تجعلها تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر» أفتراه ينازع في هذا ويأخذ بما يشعر به قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان ما قاله «شاهداك» فلا يقول: لي شاهد واحد إن كان له؟ وأما الحديث الثاني فأوله يبين آخره، ويدل على أن محل قوله «اليمين على المدعى عليه» حيث لا يكن للمدعى إلا دعواه فقط، وكما أنه لا يتناول من له شاهدان لأنه لم يعط بمجرد دعواه، وإنما أعطي بدعواه مع شهادة الشاهدين فكذلك لا يتناول من له شاهد، لأنه إن أعطي فلم يعط بمجرد دعواه.

الجواب عن الانقطاع في الموضع الثاني والرد على الطحاوي في حكمه على الحديث أنه منكر

وأما ما يقال: إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول، فحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي مخالف للأصول، فتهويل، ويمكن دفعه بأن لما اقام شاهدا عدلا صار الظاهر بيده، فاذا اصر المدعي عليه على الانكار فهو مدع لبطلان ذاك الظهور، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه وصار المدعى عليه في معنى المدعي. ويمكن معارضته بأصل آخر، وهو: انه لا يخالف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعى. فان قيل: ذاك إذا كانت بينة تامة. قلت: لنا أن نمنع هذا. ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه انه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة، ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددا بين هذا الاصلين، فيؤخذ فيه بالدليل الخاص به، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي، فان حلف صارت البينة في معنا التامة، وان أبى صار في معنى من لا شاهد له أصلا. والله الموفق. وأما الانقطاع الثاني وهو مبين في قيس وعمر وفلا وجه له، ولم يقله من يعتد به، وقد تقدم ان البخاري كأنه استبعد صحة الحديث، ثم لم يكن عنده إلا أن حدس إن عمرا لم يسمعه من ابن عباس، وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وهو الذي يشدد في اشتراط العلم باللقاء، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرولما تركه البخاري والتجأ إلي ذاك الحدس الضعيف الذي لا يجدي، وقيس ولد بعد عمروومات قبله، وكان معه في مكة وسمع كل منهما من عطاء وطاوس وسعد بن جبير ومجاهد وغيرهم، وكان عمرولا يدع الخروج الى المسجد الحرام والقعود فيه إلي أن مات، كما تراه في ترجمة من (طبقات ابن سعد) ، وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضا، وسمع عمرومن ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم ولم يدركهم قيس، فهل يظن بقيس انه لم يلق عمرا وهو هـ معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟ أو لم يكونا يصليان في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء غيره في المسجد ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة اذرع. اويظن بقيس انه استنكف السماع من عمرولأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالا؟ وقد قاتل الأستاذ أشد القتال

لمحاولة دفع قولهم أن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها، معرضا عن سماع الحديث لم يسمع من انس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين وقيل بعدها بسنه اوسنتين، وليس بيده إلا أنه قد قيل: أن أبا حنيفة رأى أنسا! وقد تعرضت لذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت من قسم التراجم، ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال. وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال «وأما حديث ابن عباس فمنكر لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» فتوهم جماعة من آخرهم الأستاذ الكوثري أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسا عن عمرو منقطع لعدم ثبوت اللقاء بناء على القول باشتراط العلم به، القول الذي رده مسلم في مقدمة (صحيحه) ، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه. وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهموه، فإنه ادعى أن الحديث منكر، ثم وجه ذلك بقوله: «لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» ولم يتعرض لسماعه منه ولقائه له بنفي ولا إثبات. ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيراً من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء. فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد. قلت: بل قد يكون لسبب آخر، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضل بن فضالة القتباني لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم عن الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري فكأن الطحاوي رأى أن قيس لو كان يروي عن عمر لجاء من روايته عنه عدة أحاديث لأن عمراً كان أقدم وأكبر وأجل. وقد سمع من الصحابة وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه بمكة منذ ولد، فحدس الطحاوي أن قيساً كان ممتنعاً من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره كما قد نستنكر أن نرى حديثاً من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى. فإن قيل فقد يكون لإستنكاره خشي إنقطاعه. قلت: كيف يبنى على ظن امتناع قيس من الرواية عن عمر نفسه أن يحمل هذا

الحديث على أنه أرسله عنه؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسه كان أشد امتناعاً من أن يروي عن رجل عنه فضلاً عن أن يرسل عنه - أو بعبارة أخرى - يدلس، وقيس غير مدلس. فإن قيل: فعلى ماذا يحمل؟ قلت: أما الطحاوي فكأنه خشي أن يكون سيف وهو راوي الحديث عن قيس - أخطأ في روايته عن قيس عن عمر. فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟ قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يعرجوا عليه، هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث فيما يظهر إنما حدس أن عمراً لم يسمعه من ابن عباس، وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو، وهذا مسلم أخرج الحديث في (صحيحه) ، وثبته النسائي وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ، وسيف ثقة ثبت لوجاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم عن محمد بن يحيى لوجب قبوله، لأن المحدث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه، هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار ... » ووهب وأبوه من الثقات الأثبات. ذكر البيهقي ذلك في الخلافيات ثم قال: «ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا» نقله ابن التركماني في (الجوهر النقي) ، ثم راح يناقش البييهقي بناءاً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مر إبطال هذا الوهم، والطحاوي أعرف من أن يدعي ذلك لظهور بطلانه، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهم للقاء والسماع على فرض أن هناك مجالاً للشك في اللقاء، وقد بينا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع، ولكن قيساً عاجله الموت، ولما كان يحدث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حياً في المسجد نفسه ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو لأن عمراً معهم بالمسجد،

ذكر بعض الشواهد للحديث

فكان قيس يحدث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمراً عن ذلك الحديث فحدثهم به فرووه عنه ولم يحتاجوا الى ذكر قيس، واستغنى سيف في هذا الحديث، وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس لأنه ثقة ثبت، ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو. هذا وقد تابع قيساً على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي، ذكر أبو داود في (السنن) حديث سيف ثم قال: «حدثنا محمد بن يحيى وسلمة ابن شبيب قالا: ثنا عبد الرزاق نا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار - بإسناده ومعناه، قال سلمة في حديث قال عمرو: في الحقوق، وأخرجه البيهقي في (السنن) ج 10 ص 168 من طريق عبد الرزاق ومن طريق أبي حذيفة - كلاهما عن الطائفي. والطائفي استشهد به صاحبا (الصحيح) ، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وغيرهم، وقال ابن معين مرة: «ثقة لا بأس به وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطأ وإذا حدث من كتابه فليس به بأس، وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحب الي من داود العطار في عمرو» . وداود العطار هذا هو داود بن عبد الرحمن ثقة متفق عليه وثقة ابن معين وغيره. وقال عبد الرزاق «ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوري» . وقال البخاري عن ابن مهدي «كتبه صحاح» . وقال ابن عدي: «لم أر له حديثاً منكراً» وضعفه أحمد، ولم يبين وجه ذلك، فهو محمول على أنه يخطأ فيما يحدث به من حفظه. فأما قول الميموني: «ضعفه أحمد على كل حال من كتاب وغير كتاب» ، فهذا ظن الميموني، سمع أحمد يطلق التضعيف فحمل ذلك على ظاهره، وقد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل، ولا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ وقد اندفع احتماله بمتابعة سيف. (1)

_ (1) كذا في الأصل، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب: «قيس» فهو المتابع للطائفي كما هو ظاهر. ن

ترجمة المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي

هذا، وللحديث شواهد منها حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» كان سهيل أصيب بما أنساه بعض حديثه ومن ذلك هذا الحديث، فكان سهيل بعذ ذلك يرويه عن ربيعة ويقول: «أخبرني ربيعة وهو عند يثقة أني حدثته إياه - ولا أحفظه» . والنسيان على غير قادحة، وقد رواه يعقوب ابن حميد عن محمد بن عبد الله العامري «أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدث عن أبيه - فذكره» وذكر ابن التركماني أنه اختلف على سهيل، رواه عثمان بن الحاكم عن زهير بن محمد عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت. قلت: إن كان هذا مخالفاً لذاك فذاك أثبت، (1) عثمان مصري، قال فيه أبو حاتم: «ليس بالمتين» وزهير أنكروا «عليه» الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين. وروى المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» قال ابن التركماني: «مغيرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء» . أقول: هذا حكاه عباس عن ابن معين. وقد قال الآجري: قلت «لأبي داود: إن عباساً حكى عن ابن معين أنه ضعف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ووثق (مغيرة بن عبد الرحمن) المخزومي. فقال: غلط عباس» احتج به الشيخان وبقية الستة، وقال أبو زرعة: «هو أحب إلي من أبي الزناد وشعيب» ، يعني في حديث أبي الزناد. كما في (التهذيب) .وشعيب هو ابن حمزة ثقة متفق عليه. قال أبو زرعة: «شعيب أشبه حديثاً وأصح من ابن أبي الزناد» . وابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة الثانية، وقد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال: «عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة» . وحكى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: «ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا» . قال ابن التركماني: «قال صاحب (التمهيد) : أصح إسناد لهذا الحديث حديث

_ (1) قلت: قد صحح الطريقين عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت الإمامان: أبو حاتم وأبو زرعة الرازى، كما بينبته في «الإرواء» ، فإشارة ابن التركماني الى إعلاله انتصاراً لمذهبه لاقيمة له. ن

قصة ابن المبارك مع الكوفيين حين أقام الحجة عليهم في النبيذ

ابن عباس. وهذا بخلاف ما قال ابن حنبل» . أقول: كلاهما صحيح، ولا يفيد الحنفية الإختلاف في أيهما أصح. وذكر ابن عدي أن ابن عجلان وغيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله. (1) وهذا لا يوهن رواية المغيرة، إذا لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من الوجهين، وإنما كانم يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحاً عراقي، والخلاف في المسألة مع العراقيين، ومن عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم، ويردون الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازين، ولذلك جاء عن محمد بن علي بن الحسين أنهم سألوه: أقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد؟ قال: «نعم، وقضى به علي رضي الله عنه بين اظهركم» . ذكره البيهقي ج 10 ص 173. وذكر البخاري عن زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر الكوفيين في النبيذ «فجعل ابن المبارك يحتج بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار من أهل المدينة، قالوا: لا، ولكن من حديثنا! قال ابن المبارك ... عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إذا سكر من شراب لا يحل له أن يعود فيه أبداً. فنكسوا رؤوسهم، فقال ابن المبارك للذي يليه: رأيت أعجب من هؤلاء؟ أحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه والتابعين فلم يعبأو ابه، وأذكر عن إبراهيم فنكسوا رؤوسهم!» حكاه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 298. وروى عبد الوهاب الثقفي وهو ثقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» . أعله جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلاً. ونازع في ذلك الدارقطني ثم البيهقي. (2) ...

_ (1) قلت: عزو هذا لابن عدي فيه نظر، فإنه ليس عنده في ترجمة المغيرة من «الكامل» (ق386/2-1) ، والمصنف أخذه من «التهذيب» ، ولكن هذا لم يصرح بعزوه الى ابن عدي وانما هو من قول الذهبي في «الميزان» مصرحاً به أنه من قوله. ن (2) قلت: وهب أن الراجح أنه مرسل. فهو مرسل صحيح الاسناد، وهو حجة عند الحنفية، لا سيما وله شواهد موصولة كما تقدم، فالحديث صحيح حجة عند الجميع لولا العصيبة المذهبية عفانا الله منها. وقد خرجت كثيراً من الشواهد لهذا الحديث عن جماعة من الصحابة في «إرواء الغليل» .

تأويلات الحنفية للحديث وردها

وفي الباب أحاديث أخرى ومراسيل ومقاطيع عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما، والحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدعي لها الحنفية الشهرة، ويحتجون بها على خلاف القرآن والسنن المتواترة. وأما قول الأستاذ: «مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه» . فيشير به إلى تأويلات أصحابه، فمنها زعم بعضهم في حديث مسلم: «قضى بيمين وشاهد» أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين، وقضى بشاهد حيث وجد الشهود، والمراد بـ (شاهد) الجنس وهذا التأويل كما ترى! أولاً: لأنه خلاف الظاهر. ثانياً: لأنه يجعل الكلام لا فائدة له، فإن لا يخفى على أحد أنه يقضى باليمين حيث لا بينة، ويقضى بالشاهدين حيث وجدا. ثالثاً: حمل شاهد على الجنس ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله. رابعاً: هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف. وقد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف، فقال: «قضى باليمين مع الشاهد» . رواه الإمامان الشافعي وأحمد عن عبد الله بن الحارث كما في (الأم) ج 6 ص 273 و (مسند أحمد) ج 1 ص 323 وزاد في رواية الشافعي: «قال عمرو: في الأموال» . وفي رواية أحمد: «قال عمرو: إنما ذاك في الأموال» . وعبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب، فإن زيداً قد وصف بأنه يخطئ، ولم يوصف بذلك عبد الله، وكلاهما ثقتان من رجال مسلم. وهكذا رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمروإلا أنه قال: «قال عمرو: في الحقوق» فقوله: «قضى باليمين مع الشاهد» . لا يمكن ولوعلى بعد بعيد على أجراء تأويلهم المذكور فيه، ورواية عن ابن عباس - وهو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه - أقره على المعنى الذي نقول به ولهذا خصة في الأموال، والقضاء باليمين حيث لا شهود فد يكون في غير الأموال، وكذلك القضاء بالشاهدين. وهكذا جاء لفظ هذا الحديث «قضى باليمين مع الشاهد» في حديث أبي هريرة وحديث جابر وغيرهما. وفي بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع التصريح الواضح.

ومن التأويلات في قول بعضهم في لفظ «قضى باليمين مع الشاهد» أن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي، ورود بأوجه: منها أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين والشاهد وأنه قضى بينهما معاً، ومنها أن الرواية الأولى ترد هذا التأويل، ومنها أن روية عن ابن عباس وهو ثقة جليل فقيه أقره على ظاهره كما سلف، ومنها ما ورد في بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع من التصريح الواضح. وفي (الفتح) عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة، وهي أن رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فأدعى المشتري أن به عيباً، وأقام شاهداً واحداً، فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة، ويرد العبد. أقول: حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولاً العيب، فأقام المدعي وهو المشتري شاهداً واحداً، فأعترف المدعي عليه وهو البائع، ولكنه أدعى دعوى أخرى وهي أنه باع بالبراءة فأنكر المشتري، ولم يكن للبائع بينة فيحلف المشتري. وأنت خبير أن هذه قضيتان قضي في الأولى بالاعتراف، وفي الثاني باليمين وذهب الشاهد لغواً فكيف يعبر الصحابة عن هذا بلفظ «قضى باليمين مع الشاهد» و «قضى بيمين وشاهد» ؟ فإن كلاً من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين والشاهد معاً. فإن قيل: قد يقال: لم يعترف البائع بل قال لا عيب، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة. قلت: فعلى هذا أن حلف المشتري على وجود العيب وعدم البراءة فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط وفي الأولى بشاهده ويمينه وهو الذي تفرون منه. وإن حلف على عدم البراءة فقط ومع ذلك قضى له برد العبد فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط، وفي الثاني بشاهد واحد بلا يمين، وهو أشد مما تفرون منه. على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يقبل قول البائع «لا عيب ... » بل يقال له: أما أن تعترف بوجود العيب، وإما أن تصر على إنكارك، فإن أعترف فقد تقدم، وإن أصر على إنكاره، قيل للمشتري ألك شاهد آخر؟ فإن قال: لا، فعلى قولكم يقال للبائع: احلف، فإن حلف قضي له يمينه وذهب الشاهد لغوا، ولم يحتج إلى دعوى

رسالة الليث بن سعد إلى مالك في القضاء بشاهد ويمين

البراءة. وإن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعي عليه وذهب الشاهد لغوا وتمت القضية الأولى، ثم ينظر بالقضية الثانية. وعلى قولنا يقال للمشتري احلف مع شاهدك، فإن حلف ثبت العيب بشاهده ويمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى، وإن أبى قيل للبائع احلف أنه لا عيب، فإن أبى قضى له بيمينه واستغنى عن الدعوى الثانية وذهب الشاهد لغوا. وإن أبى قيل للمشتري احلف على وجود العيب (وهذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد) فإن حلف قضى له بيمينه مع نكول البائع واستغنى عن الشاهد، ثم ينظر في القضية الثانية، وإن أبى سقط حقه واستغنى عن القضية الثانية. فإن قال قائل: أنا أخالفكم في رد اليمين وفي القضاء بالشاهد واليمين إلا في صورة واحدة وهي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد ونكل المدعي عليه عن اليمين فيحلف المدعي ويستحق، ففي هذه يقضى له بشهاده مع يمينه. قلنا: فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه ولا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه بل تكلفه اليمين فوق ذلك فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي حتى لو لم يكن له شاهد لكن جانبه أقوى، فهل يقول هذا أحد؟ ! وأما قول الأستاذ: «والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه» . فهذه الرسالة في (إعلام الموقعين) ج 3 ص 82 وهي تفيد أن مالكاً كتب إلى الليث يعاتبه في إفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة فأجابه الليث بهذه الرسالة، فذكر أولاً أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة، وكان الخلفاء يكتبون إليهم قال: «ومن ذلك القضاء بشاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت أنه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالشام ولا بحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في حإياء السنن والجد في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما قد مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق ... إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذاك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين» .

مقصود الليث فيما يظهر أن الأحكام على ضربين، منها ما لا يسع فيه الاختلاف ومنها ما دون ذلك. وإن الخلفاء كانوا يكتبون إلي بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفون فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهو نم عنه، وأما الضرب الثاني فكانوا يقرون فيه كل مجتهد على اجتهاده؛ وأن هذه القضية من الضرب الثاني كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين وكان من بالأقطار التي سماها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدل ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني، وأستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان في المدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به، ثم لما كان في الشام كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنه قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجة على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه. أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وأن حمل كلام الليث على غير هذا المعنى صار زللاً داحضاً لا رداً ناهضاً. ونحن لم ندع أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقص قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا. وأما قول الأستاذ: «حتى أن يحيى الليثي ... » فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قوي عند المخالفين أنه لا يقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد اقمناها. وأما قول الأستاذ: «فسل قضاة العصر ... » فجوابه أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يعتد به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال، وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقسن على ما يقول الحنفية، أو رأيت أو قال قضاة العصر قد فسد الزمان فلا يقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكوت القرائن مساعدة لشهادتهم؟ . وكما أن الفساد يخشى من إدعاء الباطل، فإن أشد منه يخشى من جحد الحق.

تتمة

فإن شددت بالشهادة دفعاً لما يخشى من ظلم المدعي للمدعي عليه، فقد سهلت بذلك ظلم المدعى عليه للمدعي، وهذا أشد، فإن الغالب أن يكون المطالب عند الحاكم هو الضعيف اتلذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه فكيف أن يظلمه؟ فالقسطاس المستقيم هو إتباع الشريعة، والله عز وجل متكفل بحفظهما، وضامن بقدره أن يسدد المتبع لها، ويسد ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يجبره. وهو سبحانه اللطيف الخبير، على كل شيء قدير. تتمة يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في هذه المسألة أن محمداً مع إنكاره أن يقضي بشاهد ويمين ورده الأحاديث في ذلك وزعمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن كان يقول: إن نسب الطفل إلى المرأة وبالتالي إلى صاحب الفراش مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق والحرية والتناكح والتوارث والاستحقاق الخلافة وغير ذلك يثبت بشهادة وحدها. فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر «رواه عن علي رضي الله عنه رجل مجهول يقال له: عبد الله ابن نجي، ورواه عنه جابر الجعفي وكان يؤمن بالرجمة» . فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه: الأول: أن قبول شهادة القابلة إنما هو استهلال المولود ليصلى عليه أو لا يصلى. الثاني: أن ابن نجي غير مجهول فقد روى عنه عدة ووثقه النسائي وابن حبان. الثالث: أن جابر الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده ووثقه الثوري. الرابع: أنه قد تابعه عطاء بي أبي مروان عن أبيه عن علي. الخامس: أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القابلة، والأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي.

السادس: قال الأستاذ: «محمد بن الحسن استنبط قبول قول المرأة فيما يخص معرفته من قوله تعالى: «ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن» ، ووجه دلالته أن الاستهلال مما تشهده النساء دون الرجال عادة فإبطال شهادتهن ينافي قبول قول المرأة فيما تخصها معرفته كما هو المستفاد من الآية» . أقول: أما الأول فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عن أبي حنيفة وصاحبيه في بعض الصور وعندهما في صور أخرى فمن شاء فليراجع كتبهم، وليقل معي: أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمد زاهد الكوثري! فأما القبول في الاستهلال ليصلي عليه أو لا يصلي فهذا يوافق عليه الشافعي وغيره وليس بشهادة، وإنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر. وأما الثاني: فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي. وقال البخاري: «فيه نظر» . وهذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني وتراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم، فأما توثيق ابن حبان فقاعته توثيق المجاهيل كم اذكره الأستاذ غيرة مرة ومرت الإشارة إليها في القواعد وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. (1) وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في القواعد. وأما الثالث: فجابر الجعفي اسقر الأمر على توهينه، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل ولم يصرح بالسماع. وأما الرابع: فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد وهو إنما يصلح للاعتبار فيما صرح فيه بالسماع وحدث به قبل عماه، أو بعده وروجع فيه فثبت. وهب أنه يصلح

_ (1) قلت: هذا مثال آخر لاعتداد الكوثري بتوثيق ابن حبان إذا وافق مذهبه وهواه، وراجع تعليقنا في المكان الذي أشار اليه المصنف. ن

للاعتبار في هذا فأي فائدة في ذلك وخبر الجعفي طائح؟ ! وأما الخامس: فالأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى هالك، وارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه أما لأنه سمع من أصوله، وأما لأنه كان متماسكاً ثم فسد بعد ذلك (1) وهذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي، ومع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفروي وهو هالك باتفاقهم. والزهري عن عمر منقطع. ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال لأجل الصلاة على المولود فليس هذا محل النزاع كما سلف. وأما السادس: فقوله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن» الكلام فيع على التوزيع، أي: ل يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها، والنهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع، وإنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف، فغاية ما في هذا الدلالة على أنه يقبل منها الاعتراف، فإذا ذكرت أنها قد تمت أقراؤها كان هذا اعترافاً بأنه لا نفقة لها، وادعاء لأنه لا رجعة للزوج عليها فيقبل منها الاعتراف وينظر في الادعاء، فإن قبل منها الادعاء أيضاً فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل؟ فإن قلتم: نعم!. لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها: هذا ابني من فلان، وتثبتوا بذلك نسبه وميراثه وغير ذلك. فإن قلتم: إنما هو موضع الاستنباط أن الآية أشعرت بأنه يقبل قول المرأة في الحيض والحمل وأن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم بذلك إلا من جهتها فقلنا:

_ (1) قلت: وإما لأنه لم يتبين له حاله، ولم يعرفه كما عرفه غيره من الأئمة كمالك وأحمد وغيرها. قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 223) بعد أن روى عن الشافعي أنه كان يقول فيه: كان قدرياً: «لم يبين له أنه كان يكذب، وكان يحسب أنه طعن الناس عليه من أجل مذهبه في القدر» . ن

والولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء فأخذنا النساء من ذلك قبول شهادتين فيها. قلنا: أما قبول قولها وحدها في حيضها وحملها، فهذا مما تختص هي بمعرفته دون غيرها، والولادة ليست كذلك بل يطلع عليها غيرها من النساء، أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة؟ فقد تحضر عدة قوابل وقد تحضر مع القابلة عدة نساء وقد يحيط رجال بالخيمة مثلاً بعد كشفها، والعلم بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة وطفل معها فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل، دع قضية الرجال فإنها نادرة، ولكن هل قلتم دلت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة، ودلت آية الدين على اشتراط العدد، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي؟ أو ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال كما يتفق في الجامع يوم الجمعة؟ بل في كل شيء إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء ورجل فيما يختص به الرجال فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين: إما أن يكفي الواحد رجلاً كان أو امرأة، وإما أن يشترط رجل أو امرأتان، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال ورادتكم يميناً. فإن قلتم لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين. قلنا: قد قال بذلك أستاذه مالك وهو مذهب قوي كما سلف؛ والله الموفق.

المسألة السادسة عشرة: نكاح الشاهد امرأة شهد زورا بطلاقها

المسألة السادسة عشرة: نكاح الشاهد امرأة شهد زوراً بطلاقها في (تاريخ بغداد) 13 / 371 من طريق الحارث بن عمير قال: قال «سمعت أبا حنيفة يقول ... ، قال الحارث بم عمير وسمعته يقول: لوأن شاهدين شهدا عند قاض أن فلان بن فلان طلق امرأته وعلما جميعاً أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها؟ قال: نعم. قال: ثم علم القاضي بعد أله أن يفرق بينهما؟ قال: لا» . قال الأستاذ ص 37: «مسألة نفاذ حكم القاضي ظاهراً وباطناً هو مقتضى الأدلة وإن كان شاهد الزور يأثم إثماً عظيماً لكن لا يحول ذلك دون نفاذ حكم القاضي ظاهراً أو باطناً وإلا لزم إباحة وطئها للزوج الأول في السر فيما بينه وبين الله وإباحة وطئها للزوج الجديد بحكم الحاكم، وأي قول يكون أقبح وأشنع من هذا؟ يكون لامرأة احدة زوجان في حالة واحدة أحدهما يجامعها في السر والآخر في العلانية، ونعترف أن أبا حنيفة لا يمكنه أن يرى مثل هذا الرأي رغم مل تشنيع، بل يرتد على مخالفيه ومشنعيه كما صورناه، وأبو حنيفة من أبرأ الناس من أن يحدث الفوضى في الأحكام، وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه بحال الشاهدين فليس من مسائل أبي حنيفة وإنما مذهبه التروي في الحكم مطلقاً» . أقول: يتفوه الأستاذ بالقبح والشناعة وينسى ما في صنيعه هذا منهما، أما إباحتها لزوجها الحقيقي فذلك حكم الله تبارك وتعالى من فوق سبع سموات! وأما إباحتها لذلك الشاهد الفاجر فإنما يقول بها أبو حنيفة، فأما مخالفوه ومنهم أصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر فإنهم قائلون بحرمتها عليه أشد التحريم.

والحاصل أن أبا حنيفة يقول هي حرام في حكم الله تعالى على زوجها، مباحة في حكم الله تعالى للشاهد الفاجر! ومخالفوه يقولون بعكس هذا. غاية الأمر أن القاضي لجهله في نفس الأمر يحول بينها وبين زوجها ويسلط الشاهد الفاجر عليها، ولا قبح في هذا ولا شناعة، أرأيت إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته فحكم القاضي بذلك، وكانت المرأة في نفس الأمر أم المدعي أو أخته أو بنته والقاضي لا يعلم، أليس يسلطه عليها في قول أبي حنيفة وغيره؟ ونظير مسألتنا ما إذا كان لزيد أمة فادعى بكر أنها أمته وأقام شاهدي زور فقضى له القاضي، فأبو حنيفة يوافق في هذه أن الأمة لا تزال في ملك زيد حلالاً له وحرماً على بكر، وإن كان القاضي يحول بينها وبين زيد ويسلط عليها بكراً. وليت الأستاذ كان ذكر الأدلة التي زعم أن نفاذ حكم القاضي ظاهراً وباطناً هو مقتضاها فكنت أنظر فيها، وعسى أن تكون في ذلك فائدة، ولكن الأستاذ عدل عنها إلى سلاحه الوحيد من المغالطة والتهويل على عادته. ومن العجيب قوله: «وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه ... » أليس من المعلوم أنه في قول أبي حنيفة إذا علم حقيقة الحال قضى بأنها امرأة ذلك الشاهد الفاجر حلال له ظاهراً وباطناً؟ أو ليس إذا كان هذا قضاءه لم يكن هناك وجه عنده للتفريق بينهما؟ .

المسألة السابعة عشرة: القرعة المشروعة

المسألة السابعة عشرة: القرعة المشروعة في (تاريخ بغداد) 13 / 390 من طريق يوسف بن أسباط قال: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وأقرع أصحابه، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار» قال الأستاذ ص 87: «وأما مسألة القرعة فقد قصرها أبو حنيفة على موردها وقال: إنما يجري الإقراع عند إرادة السفر بين النساء، وعند القسمة التي ليس فيها باطل حق ثابت، باعتبار أن القرعة وردت في ذلك على خلاف القياس» . أقول: الذي في كتب الحنفية عن أبي حنيفة أنه لا حكم للقرعة، وإنما تستحب تطييباً للنفس ثم لا يلزم العمل بها، فللزوج أن يخرج بأي أزواجه شاء حتى لو أقرع فخرج سهم إحداهن فله الخروج بغيرها. وهكذا في القسمة يكون حق التعيين للقاضي. وقد بقين للقرعة موارد أخرى. ودعوى أنها خلاف القياس كأنه أريد بها في الأصل قمار. وسنوضح بعون الله عز وجل بطلان ذلك ونثبت أن القرعة في بابها قياس من أعدل الأقيسة وأقومها وأوفقها بالأصول، وأن جعل التعيين إلى الزوج والقاضي في الفرعين السابقين هو مخالف للأصول. أعلم أن صورة القرعة قد تستعمل في أربعة أبواب: الباب الأول: أن يقصد بها إبطال حق صاحب الحق وجعله لمن لا يحق له، كأن يقول الرجل لصاحبه ألق خاتمك وألقي خاتمي ونقترع عليهما فأينا خرج سهمه استحق الخاتمين. أو يقول أحدهما: أقارعك على خاتمي هذا فإن خرج سهمك

أخذته أنت. أو يتداعيا داراً في يدهما فيقال أقرعوا بينهما فان خرج سهم المدعي أخذ الدار. الباب الثاني: أن يتنازعا حقاً أن يكون لهما معاً ولا دليل يرجح جانب أحدهما، كأن يتنازعا داراً بيدهما معاً، ولا دليل لأحدهما، وحلف كل منهما أنها جميعها له ليس لصاحبه منها شيء. الباب الثالث: أن يختص الحق بأحدهما بعينه ويتعذر تعيينه، كمن طلق بائناً إحدى امرأتيه وتعذر تعيينها. الباب الرابع: أن يكون الحق في الأصل ثابتاً لكل منهما لكن اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه. فأما الباب الأول فلا نزاع أن القرعة إذا استعملت فيه فهي قمار، وكذلك الباب الثاني. وأما الباب الثالث ففيه نظر وقد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه. وأما الباب الرابع فهو مورد القرعة، والفرق بينه وبين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنه إذا اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه فما بقي إلا طلب طريق للتعيين لا ميل فيه ولا حيف، فإذا ظفرنا بطريق كذلك لم يكن فيه إبطال حق ثابت ولا إثبات حق باطل، فما هوهذا الطريق؟ من كانت له امرأتان واحتاج إلى السفر واستصحاب إحداهما فقط، فقد ثبت بالدليل باعتراف أبي حنيفة أن له ذلك وبقي التعيين، ومن مات عن ابنين فقسم القاضي المال نصفين فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أنه ينبغي تخصيص أحدهما بأحد النصفين والآخر بالآخر وبقي التعيين. فأبو حنيفة يقول: يعين الزوج والقاضي، ومخالفوه يقولون: الزوج والقاضي منهيان عن الميل وعن كل ما يظهر منه الميل، ولا ريب أن تعيينهما برأيهما ميل أو يظهر منه الميل والأصل في ذلك التحريم، فإباحته لهما مخالف للأصول والقياس وفتح لباب الهوى ومناف للحكمة. وإذا عين الزوج برأيه إحدى امرأتيه ظنت الأخرى أنه إنما عينها ميلاً إلى هواه فحزنها ذلك، وأدى ذلك إلى مفاسد،

وإذا عين القاضي برأيه أحد النصفين لزيد وكان بكر يريده ظن بكر أن القاضي إنما مال مع هواه، وساءت ظنون الناس بالقاضي وجر ذلك إلى مفاسد. فإن قال أبو حنيفة: فما المخلص؟ قالوا قد بينه الله تعالى ورسوله وهو القرعة، فإن قال: القرعة قمار. قيل له: إنما تكون قماراً في غير هذا الباب كما تقدم شرحه، وإذا صح أن أبا حنيفة إستحب القرعة فقد لزمه أنها ليس في هذا الباب بقمار وإنها مشروعة، وإذا اعترف بأنها مشروع فما بقي إلا أن يجب العمل بها أو يجوز تركها وجعل التعيين إلى الزوج والقاضي، والحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج والقاضي لأنه فتح لباب الميل كما تقدم، ولا ضرورة إليه ولا حاجة. وقد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع، وبذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبه. قال الله تبارك وتعالى في قصة مريم: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا» إلى أن قال «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (آل عمران: من الآية44) . فالقوم وفيهم نبي الله زكريا عليه السلام اختصوا في كفالة مريم، ففزعوا إلى القرعة، وظاهر أنهما إنما يرضون بالقرعة عند تساويهم في أصل الإستحقاق وإقتضاء مصلحة الطفلة أن يختص بكفالتها أحدهم. فقص الله تبارك وتعال ذلك في كتابه وأخبر أنها كفلها زكريا، أي والله أعلم بأن أخرج سهمه في القرعة فكان هو القارع. وقال عز وجل في قصة يونس: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ الصافات» (الصافآت: 140 - 142) ذهب يونس إلى فلك مشحون أي موقر ليركب فيه فكأنه والله أعلم طلع إلى الفلك هو وجماعة حاجتهم كحاجته

فكأن صاحب الفلك أخبرهم أنه لا يمكنه أن يسافر بهم جميعاً لأن فلكه مشحون أي موقر، وطلب منهم أن ينزل بعضهم فتشاحوا فإقترعوا فطله سهم يونس في المدحضين أي في الذين خرجت القرعة بأن ينزلوا - والظاهر أن الفلك كان لا يزال بالمرفأ وليس في النزول منه خطر ظاهر، لكن الله عز وجل قضى على يونس بما قضى وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لويعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لأستهموا ... » وفي (صحيح مسلم) من حديثه أيضاً مرفوعاً: «لوتعلمون - أو يعلمون - ما في الصف المقدم لكانت قرعة» أي أنهم يحضرون معاً ويكثرون ويتشاحون ولا يكون هناك مرجع فيحتاج إلى القرعة وفي (صحيح البخاري) ، وغيره من حديث أم العلاء قالت: «طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ... .» وفيه من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ... » وفي (صحيح مسلم) وغيره عن عمران بن حصين: «أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق أثنين وأرق أربعة» ووجه ذلك أن تصرف المريض مرض الموت وصية يصح منها الثلث فقط، ومن الأصول الشرعية مراعات أن تعتق الرقبة كاملة كما ثبت فيمن أعتق في حال صحته بعض مملوكة أنه يعتق عليه كله، وفيمن أتعق شركاً له في مملوك أنه أن كان المعتق موسراً عتق المعتوق كله وغرم المعتق قيمة ما زاد على نصيبه لشريكه، وإن كان معسراً فقد قال بعض أهل العلم: يعتق المملوك كله ويسعى في قيمة ما زاد على نصيب المعتق حتى يدفعها إلى الشريك، وقال آخرون: قد عتق منه ما عتق ويبقى باقيه على الرق. ومن المعنى في مراعاة عتق الرقبة كاملة أن مقصود العتق هو أن يحصل للملوك وعليه جميع الحقوق المختصة بالأحرار ويغني عن المسلمين غناء الحر، وليس المبعض كذلك، فإن من حقوق الأحرار ما لا يحصل له ولا عليه منها شيء، ومنها ما يحصل له جزء من فقط، ومع ذلك يكون التبعيض منشأ نزاع مستمر بين المبعض ومالك بعضه، فيلحق الضرر بكل منها، ويشتبه الحكم في كثير من الفروع على المفتي والقاضي، كما تراه في أحكام المبعض في كتب الفقه، فجاءت

السنة بأن يجزأ الستة ثلاثة أجزاء ليعتق إثنان كاملان فكلهم متساوون في أصل الحق، واقتضى الدليل أن يخص إثنان منهم وبقي التعيين، فهذه الصورة من الباب الرابع الذي وردت فيه القرعة. فثبت أن القرعة في ذاك الباب أصل من الأصول الشرعية قرره الكتاب والسنة، واقتضاه العدل والحكمة. «والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه وسلم» .

§1/1