التنبيه على مشكلات الهداية

ابن أبي العز

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا -. أما بعد: فإني لما رأيت كتاب «الهداية شرح البداية» على مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى -، من أجل الكتب المصنفة في مذهبه ومن أغزرها نفعًا، وأكثرها فوائد، وأشهرها بين الأصحاب، يعتمدون عليه في الحكم والإفتاء. قد شرحه جماعة منهم، وكتبوا عليه الحواشي، وألقوا منها الدروس، وحفظه بعضهم مع طوله على الحفظ؛ وما ذاك إلا لحسن لفظه وصحة

نقله للمذهب. ورأيت فيه حال مطالعتي له مواضع مُشْكِلة، أحببت أن أنبه عليها، وأفردها بالكتابة في هذا الكتاب؛ لاحتمال أن يظهر في وقت آخر أجوبة عنها فأعلقها إن شاء الله تعالى. وهي ثلاثة أنواع: نوع على لفظ المصنف، ونوع على تعليله، ونوع على نفس الحكم، مع إقراري بتعظيم شأن مصنفه -رحمه الله تعالى -، وشأن من تقدم من علمائنا -رحمهم الله تعالى -. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءُوف رحيم}. وسميته «كتاب التنبيه على مشكلات الهداية»، ليطابق الاسم المعنى المطلوب. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * * *

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة قوله: (ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها؛ إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل، وفي باب الصوم لمد الحكم إليها، إذ الاسم ينطلق على الإمساك ساعة). رد المصنف بهذا التعليل على زفر -رحمه الله تعالى -. وفيه نظر؛ لأنه لو حلف لا يكلم زيدًا إلى رمضان لا يدخل رمضان في اليمين، مع أنه لولا

الغاية لكانت اليمين متأبدة، ولم يجعل ذكر الغاية مسقطًا لما وراءها. ويحكى عن جواهر زاده أنه قال: لا وجه ليخرج هذا النقض إلا المنع على رواية الحسن عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى -يعني أن رمضان يدخل على هذه الرواية، فيكون كالمرافق سواء. وذلك أنه لما رأى قوة الإيراد احتال لدفعه بحيلة ضعيفة. ولأن اليد المطلقة في الشرع، والعرف، واللغة -

على خلاف في نقل اللغة -إلى الرسغ؛ فكان ذكر المرافق لمد الحكم إليها لا لإسقاط ما وراءها، بدليل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وإنما تقطع يد السارق من الزند. ولأن السنة للمتوضئ أن يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء ثلاثًا، وذاك إلى الرسغ، والأمر به من الشارع مطلق. ولأن الدية الواجبة في اليد تجب بقطعها من الرسغ ولهذا لو قطعت من نصف الساعد أو من المرفق، أو من الإبط؛ ففي الزائد حكومة عدل. وإنما

تجب دية اليد بقطع أصابعها لأنها هي الأصل فيها، لا لأنها هي اليد، كما في حشفة الذكر وحلمة الثدي. ولأنه قد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم -مسح يديه في التيمم إلى الرسغ، والأمر به مطلق. وإنما قال أبو حنيفة -رحمه الله -: إن المسح فيه إلى المرفقين لما ذكر له من الدليل في باب التيمم. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وفي العرف، إذا قيل: اغسل يديك، أو غسل فلان يديه لا يفهم منه إلا إلى الرسغ. وفي "المحكم" لابن سيده في اللغة: واليد الكف. وقال أبو إسحاق: اليد من أطراف الأصابع إلى الكف. ولأن المغيا هو الغسل لا محله، وهو من أطراف الأصابع إلى المرفق؛/ فمن أين جاء إسقاط ما بين المرفق والإبط؟! وأقوى من هذا الدليل أن الغاية لما كان منها ما لا يدخل كما في نحو: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، ومنها ما يدخل كما في: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، كان حكمها مجملاً

تبينه القرائن. والحكم هنا قد بينه -صلى الله عليه وسلم -بفعله، فإنه: "توضأ وأدار الماء على مرفقيه". وفي حديث آخر: "فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين". وحكى أبو هريرة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين، رواه مسلم بمعناه. ولم يرو عنه خلاف ذلك. ولأنه هو الذي فهمه الصحابة -رضي الله عنهم -، ولم يحك عنهم فيه اختلاف، وإنما حكي الخلاف عمن بعدهم.

ولأن الصلاة وجبت في ذمته، والطهارة شرط سقوطها، ولا تسقط بالشك. قوله: (والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، لما روى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أتى سباطة قوم فبال وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفيه"). قال السروجي -رحمه الله -في شرحه: عن حذيفة -رضي الله عنه -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أتى سباطة قوم فبال، وتوضأ ومسح على خفيه"، وليس فيه ذكر المسح على الناصية، أخرجه مسلم. وفي حديث المغيرة بن شعبة، في بعض طرقه، أنه -عليه السلام -: "كان في سفر فتوضأ ومسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين". رواه مسلم. وفي أكثر طرقه: المسح على الخفين دون الناصية، وليس فيه "سباطة

قوم". فهذا الذي ذكره القدوري مركب من حديثين، فقد جعلهما حديثًا واحدًا ونسبه إلى المغيرة. انتهى. والحديث روي كله عن المغيرة لكن من طريقين، وظاهر كلام المصنف أنه من طريق واحدة. ولم يكمل المصنف أيضًا حديث المغيرة؛ فإنه قال فيه: "وكمل على العمامة"، فلا يدل على الاكتفاء بالناصية. وسيأتي الكلام في

ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: (والكتاب مجمل فالتحق بيانًا له). دعوى الإجمال مشكلة، ولم يدع الإجمال من الأصحاب إلا من رجح أن المفروض مقدار الناصية، وأما من رجح أن المفروض قدر ثلاثة أصابع، وقالوا: لأنه أكثر ما هو الأصل في آلة المسح، وهو رواية هشام عن أبي حنيفة -رحمه الله -، قالوا: وهو ظاهر الرواية. ومن رجح أنه مقدر بالربع وقالوا: إن الربع يقوم مقام الكل فليس الكتاب عندهم مجملاً، وهم أكثر الأصحاب، أو كثير منهم.

ومن قال بوجوب مسح الرأس كله كما هو المشهور عن مالك، وأحمد -رحمهما الله -، أو مسح أكثره ويعفى عن القليل منه كما روي عنهما أيضًا، قال: قوله: {وامسحوا برءوسكم} نظير قوله في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. لفظ المسح في الموضعين، وحرف الباء فيهما، وإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الموضوع، وهو مسح بالتراب، فكيف يدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل، والمسح فيه بالماء؟. وما قرر به دعوى الإجمال من أن العلماء اختلفوا في مقدار الممسوح

من الرأس، فاختلافهم فيه يدل على إجماله لا يصح؛ لأن ما قاله الشافعي -رحمه الله -لم يكن على وجه التقدير؛ بل لأن هذا أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، كما في تقدير الركوع والسجود عندكم، وإن كان الشافعي وغيره قد قدروهما بقدر تسبيحة ونحو ذلك، ولم تجعلوا الأمر بالركوع والسجود مجملاً. والعكس أولى؛ لأن محل المسح وهو الرأس له نهاية، ولا كذلك طول الركوع والسجود. وإذا كان الأقل غير مراد يصار إلى تعميم الرأس بالمسح، وإلى تقدير الركوع والسجود لثبوت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم -،

وعدم ثبوت الاقتصار على مسح/ الناصية أو أقل منه، أو الأقل في الركوع والسجود. ولو كان ذلك مجزئًا لفعله النبي -صلى الله عليه وسلم -ولو مرة تبيينًا للجواز. ولأنه إذا سلم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم، أو العفو عن ترك القليل فيه كان في مسح الوضوء أولى. ولا يقال: التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واليدين، والاستيعاب فيه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه. ألا ترى أن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين. وأيضًا فالسنة المستفيضة من عمل

النبي -صلى الله عليه وسلم -الاستيعاب، وأما حديث المغيرة ففيه: "وكمل على العمامة". وعند الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك؛ فمن توضأ ومسح بناصيته وكمل على العمامة أجزأه بذلك من غير عذر. وعند مالك لا يجزئه ذلك إلا من عذر. ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع، وأجزأه بدون العذر

عند الثلاثة. ولم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم -أنه اقتصر على بعض رأسه فقط. وأما حديث أنس -رضي الله عنه -الذي رواه أبو داود: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة"؛ فليس إسناده بالقوي.

ومقصود أنس أنه لم ينقض العمامة حتى يستوعب رأسه بالمس، ولم ينف التكميل على العمامة، وفي حديث المغيرة أثبت التكميل على العمامة، وهو أصح من حيث أنس. قوله: (وهو حجة على الشافعي -رحمه الله -في التقدير بثلاث شعرات). إنما يكون حديث المسح على الناصية حجة على الشافعي على الوجه الذي ذكره المصنف إذا سلمت دعوى الإجمال، ولم تثبت، وإلا فله أن يقول: ورد عنه -صلى الله عليه وسلم -المسح بالناصية، وورد عنه المسح على كل رأسه، فإذا لم يكن مسح كل رأسه حجة عليكم في الاكتفاء بما دونه، فكذلك لا يكون مسح الناصية حجة علي في الاكتفاء بما دونه. قوله: (وفي بعض الروايات قدره أصحابنا بثلاث أصابع من أصابع اليد؛ لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح).

يرد على هذه الرواية أيضًا المسح في التيمم؛ فإن المذكور في مسح الرأس في الوضوء، وفي مسح الوجه واليدين في التيمم لفظ "المسح" وحرف "الباء"، فكيف ساغ التفريق بين الحكمين بما ذكر من غير نص؟. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "لا وضوء لمن لم يسم"). قال الأثرم: سمعت أحمد يقول: ليس في هذا حديث يثبت. وقال:

أنا لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يجزئه الوضوء؛ لأ [نه] ليس فيه حديث أحكم به. ذكر ذلك عنه أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله تعالى -. قوله في السواك: (والأصح أنه مستحب) مشكل!. بل الأصح أنه سنة مؤكدة؛ لحث النبي -عليه السلام عليه -، ومواظبته عليه، وترغيبه فيه، وندبه إليه، وتسميته إياه من الفطرة، حتى إنه -صلى الله عليه وسلم -قال: "أكثرت عليكم في السواك"، أخرجه البخاري. وقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، رواه الجماعة.

والعجب من المصنف كيف يقول ذلك، وهو يقول قبله: وعند فقده يعالج بالإصبع؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام -فعل ذلك. وهذا يدل على المواظبة من غير ترك؛ لأنه انتقل عند فقده إلى بدل، وهو الإصبع، وذلك يفيد الوجوب؛ فلا أقل من كونه سنة. مع أنه لم يرد أنه كان -عليه السلام يعالج بالإصبع عند فقد السواك، وإنما ورد أنه -عليه السلام -قال: "يجزئ في السواك الأصابع"، رواه البيهقي من طرق، وقال: هو حديث ضعيف.

ولهذا اختلف في الاستياك بالإصبع؛ هل فاعله مصيب للسنة أم لا؟ على أقوال: ثالثها: يصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء. رابعها: يصيب السنة إن لم يجد عودًا. خامسها: إنه لا يصيب السنة مع وجود خرقة، فلا يجزئه مع وجود عود. سادسها: إن كانت الإصبع خشنة أصاب السنة، وإلا فلا.

قوله: (وكيفيته أن يمضمض ثلاثًا، يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا ثم يستنشق. كذلك هو المحكيّ من وضوئه -عليه الصلاة والسلام -). هذه الكيفية لم تثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والثابت في كيفية المضمضة والاستنشاق ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -تمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثًا". وفي لفظ: "مضمض واستنشق، واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات". ولم يجيء الفصل بين المضمضة والاستنشاق إلا في حديث/ طلحة بن

مصرف عن أبيه عن جده: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يفصل بين المضمضة والاستنشاق". خرجه أبو داود، ولكن لا يدرى من طلحة عن أبيه عن جده؟!. ولم يثبت لجده صحبة. وينبغي أن يقال في المضمضة

والاستنشاق بأنهما سنة مؤكدة، أو واجب في الوضوء؛ لأن النبي -عليه السلام -واظب عليهما من غير ترك؛ ولهذا قال الإمام أحمد بفرضيتهما فيه. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "الأذنان من الرأس"، والمراد بيان الحكم دون الخلقة).

في استدلاله بهذا الحديث على الشافعي في أنه يأخذ لأذنيه ماء جديدًا نظر؛ فإن الحديث إنما يدل على أنهما ممسوحتان، وبه يقول الشافعي، ولا يدل على أنه لا يأخذ لهما ماء جديدًا. قال الشافعي: وقد ورد أنه -عليه الصلاة والسلام -أخذ لأذنيه ماء جديدًا، فقلت به. قوله: (وتخليل اللحية لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -أمره جبريل بذلك). عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -: "أنه -عليه السلام -أخذ كفًا من ماء

فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته الكريمة، ثم قال: هكذا أمرني ربي". رواه أبو داود، وليس فيه ذكر جبريل. قال أبو عمر بن عبد البر: روي عنه -عليه السلام -أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعاف. وقال الإمام أحمد وأبو زرعة: لم يثبت في تخليله اللحية حديث. قوله: (وقيل: هو سنة عند أبي يوسف، جائز عندهما؛ لأن السنة

إكمال الفرض في محله، والداخل ليس بمحل له). في تعليله نظر؛ لأن السنة لا يلزم أن تكون لإكمال الفرض في محله، كما في المضمضة، والاستنشاق، والسواك، والتسمية، وكم سنة منفصلة عن الفرض!. قوله: (وتخليل الأصابع لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "خللوا أصابعكم قبل أن تخللها نار جهنم"). رواه الدارقطني بمعناه وضعفه. قوله: (وتكرار الغسل إلى الثلاث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا تقبل الصلاة إلا به"، وتوضأ مرتين مرتين وقال: "هذا

وضوء من يضاعف له الأجر مرتين"، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا. وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم").

ذكره السروجي في شرحه من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه إلى قوله: "ووضوء الأنبياء من قبلي". ثم قال أبو حاتم: عبد الرحيم متروك الحديث، وأبو [هـ] زيد العمي ضعيف، ولا يصح هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو زرعة: هو حديث واه ضعيف. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. ثم قال بعد ذلك بأسطر: وثبت في الصحيحين أنه -عليه السلام -قال: " [إن] أمتي يأتون غرًا محجلين من آثار الوضوء".

وقال أبو محمد الأصلي: هذا الحديث الثابت يدل على أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من [بين] سائر الأمم؛ فلا يثبت أنه -عليه السلام -توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "وهذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي". وهو حديث لا يصح كما تقدم. ثم قال بعد ذلك بأسطر: وحديث زيد العمي ليس فيه: "فقد تعدى وظلم". وحديث عمرو بن شعيب فيه: "فقد تعدى وظلم"، وليس

فيه "مرة مرة، ومرتين مرتين"، فالذي ذكره في الكتاب مركب من حديثين كما ترى. انتهى. ولكن حديث عمرو بن شعيب فيه: "فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم"، هكذا في رواية أحمد، والنسائي، وابن ماجه، [وابن خزيمة]. وهو في رواية أبي داود: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء". وليس في رواية أحد ممن رواه: "أو نقص" غير أبي داود، وقد تكلم فيه مسلم وغيره.

ووضوء النبي -صلى الله عليه وسلم -مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا ومختلفًا بعضه مرتين وبعضه ثلاثًا كله ثابت في الصحيحن. قوله: (والوعيد بعدم رؤيته سنة). يعني قوله: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم". وقد اختلف في تأويل قوله -صلى/ الله عليه وسلم -: "فقد تعدى وظلم"، على أقوال: هذا أحدها، وهو ضعيف؛ لأن من زاد على الثلاث متعدِّ وإن

الثلاث سنة، فإن الإتباع كما يكون في الفعل يكون في الترك، فالفعل سنة والترك سنة. وكما أن فعل المرة الثانية والثالثة سنة فترك الرابعة والخامسة سنة. وكان الصحابة -رضي الله عنهم -يحتجون بتركه، ويعتدون به كما يحتجون

بفعله ويعتدون به. وما يذكره الأصحاب في كتب الفقه "أن الوضوء على الوضوء نور على نور" لم يذكر في كتب الحديث، وإنما روى عن ابن عمر -رضي الله عنه -أنه -صلى الله عليه وسلم -كان يقول: "من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات". رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والترمذي وضعفه هو وغيره؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف.

ولعله اشتبه عليهم بما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -توضأ مرتين مرتين، وقال: "هو نور على نور" أخرجه رزين. قوله: (ولنا أنه لا يقع قربة بدون النية، لكنه يقع مفتاحًا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم؛ لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة، أو هو ينبئ عن القصد). للمخالف أن يمنع هذا الاستدلال ويقول: الوضوء الشرعي هو الذي يثاب فاعله كما في قوله -عليه السلام -: "إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء"، وأمثال ذلك. والثواب لا يكون

إلا مع النية، فالوضوء لا يكون إلا مع النية. فإن قلتم: الطهارة شرط من شروط الصلاة [أيضًا] فلا يشترط لها النية كاللباس وإزالة النجاسة. فالجواب: أن اللباس والإزالة يقعان عبادة وغير عبادة، ولهذا لم يرد نص بثواب الإنسان على جنس اللباس والإزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء. وإن قلتم: النصوص وردت بالثواب على الوضوء المعتاد، وعامة المسلمين إنما يتوضؤون بالنية، والوضوء الخالي عن النية نادر. فالجواب: أن هذا الوضوء الذي اعتاده المسلمون هو الوضوء الشرعي الذي تصح به الصلاة، وما سواه لا يدخل في نصوص الشارع؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم -:

"لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، والوضوء لم يعرف إلا من جهة الشارع، وكل فعل لم يعلم إلا من جهة الشارع فهو عبادة، كالصلاة والصيام وغير ذلك. ولأن غير الطهارة من الشروط يستوي فيها حال الابتداء والبقاء بخلاف الطهارة، ولهذا لو حلف لا يغتسل أو لا يتوضأ وقد اغتسل أو توضأ قبل ذلك فاستدام ذلك لم يحنث، ولو حلف لا يلبس، أو لا يستقبل القبلة وهو لابس، أو مستقبل القبلة فاستدام ذلك حنث. فعلم أن هذا الشرط ليس كغيره من الشروط التي يراعى وجودها، لا وجودها قصدًا، بل يراعى وجوده قصدًا. والفرق بين الحدث والخبث أن طهارة الخبث من باب التروك، فإن الواجب عدم النجاسة، فكيف مازالت حصل المقصود، وطهارة الحدث

من باب الأفعال والعبادات، وإضمار الثواب فقط. في قوله -عليه الصلاة والسلام -: "الأعمال بالنيات" ممنوع بل الحديث على ظاهره وعمومه، فإنه -صلى الله عليه وسلم -لم يرد بالنيات في هذا الحديث النية الصالحة وحدها، بل أراد النية المحمودة والمذمومة، ولهذا قال في تمامه: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وهذا ذكره تفصيلاً بعد إجمال، فعلم أن مقصوده جنس الأعمال لا نفس العمل الذي هو قربة بنفسه كالصلاة والصوم، ومقصوده ذكر جنس النية،

وهذا مما خصه الله به من جوامع الكلم. مع أن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، إنما يفهم منه المخاطب غسل الوجه وما بعده لأجل الصلاة، كما يفهم من قوله: إذا واجهت الأمير فترجل، وإذا دخل الشتاء فاشتر الفرو، ونحو ذلك. فقد دل الكتاب والسنة على اشتراط النية. قالوا: وأما/ قولكم: إنه يقع مفتاحًا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر فممنوع؛ لأن الوضوء طهارة شرعية لعدم النجاسة على الأعضاء حقيقة وحكمًا، أما حقيقة فظاهر، وأما حكمًا فلقوله -عليه السلام -: "إن المؤمن لا ينجس"، وليس المراد نفي الحقيقة. وأنتم قلتم في الماء المستعمل: إن المنتقل إليه نجاسة الآثام، وإذا كان كذلك فنجاسة الآثام لا تزول بغير نية، فالماء حينئذ كالتراب، كلاهما طهور أي مطهر من الآثام، يؤيده قوله -عليه السلام -: "الطهور شطر الإيمان".

وسيأتي التنبيه على معنى الخلفية بين الماء والتراب في التيمم في بابه إن شاء الله تعالى. قالوا: ولا ينفعكم التفريق بينهما يكون الماء مطهرًا بنفسه، والتراب ملوثًا؛ لأن المقصود الطهارة من الآثام، وهما في ذلك سواء، ألا ترى أن من أفعال الوضوء مسح الرأس، والمسح هو الإصابة، وهي غير مزيلة؟ فهذا الفرق صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة، فإنه مزيل لها بطبعه، وأما الحدث فإنه ليس رافعًا له بطبعه، إذ الحدث ليس جسمًا محسوسًا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة، وإنما يرفعه بالنية، فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله، فلا فرق حينئذ بينه وبين التراب. فإن قلتم: لم يعلم الأعرابي النية، فلو كانت شرطًا لبينها له. قلنا: ولم ينقل عنه أنه علمه النية في الصلاة، فما كان جوابكم هناك

فهو جوابنا هنا. قوله: (فالترتيب في الوضوء سنة). ينبغي أن يكون الترتيب واجبًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -واظب عليه من غير ترك، ولأنه -عليه الصلاة والسلام -أجاب حين سئل عن البداءة بالصفا أو المروة في السعي بقوله: "ابدأوا بما بدأ الله به"، والغيرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قالوا: إنه لو بدأ بالمروة إلى الصفا لم يحسب له ذلك الشوط، فكيف يحسب له الوضوء المنكوس!

وقد أوردوا قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}، وإن الله بدأ بالوصية قبل الدين، وإنما يبدأ بالدين قبل الوصية، وهذا الإيراد لا يصح؛ لأن المذكور في هذه الآية الكريمة حرف "أو"، وهو لأحد المذكورين، أي لا ميراث إلا من بعد إخراج الوصية إن كان ثم وصية، أو إخراج الدين إن كان ثم دين. وليس في الآية ذكر اجتماعهما، وإنما عرف حكم اجتماعهما وقدر ما ينفذ فيه الوصية من المال من السنة.

وأيضًا فإدخال الممسوح في الآية بين المغسولين يقتضي لزوم الترتيب؛ لأن العدول عن مقتضى نظم الكلام يدل على إرادة الترتيب. قوله: (والبداءة بالميامن فضيلة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "إن الله يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل"). هذا الحديث بهذا اللفظ في ثبوته نظر، والمحفوظ عن عائشة -رضي الله

عنها أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يعجبه التيمن في تنعله وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله". متفق عليه. وقد سها الشيخ علاء الدين بن التركماني -رحمه الله تعالى -في كتابه الذي خرج فيه أحاديث "الهداية" و"الخلاصة"، فقال: حديث التيامن متفق عليه، والأمر كما ذكرت لك. ونفس تخريجه لأحاديث هذين الكتابين فقط فيه ما فيه، فقد نقل عن وكيع بن الجراح أنه قال: من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلبه ليقوي رأيه فهو صاحب بدعة. وروى الدارقطني بسنده أيضًا أنه قال: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم. * * *

فصل في نواقض الوضوء

فصل في نواقض الوضوء قوله: (وقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: وما الحدث؟ قال: "ما يخرج من السبيلين"). قال السروجي فيي شرحه: إن هذا الحديث لا يعرف أصلاً. انتهى. وأحاديث الوضوء من الخارج من الخارج من غير السبيلين نفيًا ........

وإثباتًا، لم يخرج أهل الصحيح منها شيئًا، بل ضعف أهل الحديث غالبها. قال أبو عمر ابن عبد البر: المتوضئ بإجماع لا ينتقض وضوؤه باختلاف إلا أن يكون هناك سنة، وهي معدومة هاهنا. وقال أبو بكر ابن المنذر في "الإشراف": لا أعلم مع من أوجب الوضوء من ذلك حجة. قال ذلك بعد ذكره أقوال/ العلماء فيه. وقد احتج بعض الأصحاب لوجوب الوضوء من الخارج من غير السبيلين

بحديث عائشة -رضي الله عنها -: أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي، وتوضئي لكل صلاة". فنبه على العلة الموجبة للوضوء وهي كونه دم عرق، ثم أمرها بالوضوء لكل صلاة. وعزاه بعضهم

بهذه الزيادة إلى "الصحيحين"، وليس هذه الزيادة في "صحيح مسلم"، وإنما هي في صحيح البخاري وحده، فبطل عزوها إلى "الصحيحين". ثم هي في بعض طرق الحديث، قال البخاري بعد أن فرغ من سياق الحديث: قال هشام -يعني ابن عروة بن الزبير -قال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". ولهذا قال مالك -رحمه الله -: إن المستحاضة ومن في معناها يستحب لهم الوضوء لكل صلاة، ولا يجب؛ لأن هذه الزيادة مضطربة لا تثبت بمثلها حجة.

والصحيح أن هذه الزيادة مرفوعة، وقد رواها مرفوعة أيضًا أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححها، ولكن هل لكون ذلك الدم من أحد السبيلين تأثيرًا، أم المؤثر كونه دم عرق مع قطع النظر عن كونه من أحد السبيلين؟ فيه احتمال!. ففي انتفاض الطهارة الثابتة بيقين به ..............

والحالة هذه -نظر!. قوله: (والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول). إطلاق كثير من الفقهاء على بعض الأحكام أنه غير معقول إنما هو لكونهم لم يعقلوا معناه، وإلا فله معنى يعقل في نفس الأمر، علمه من علمه وجهله من جهله. ففي إطلاق مثل هذا النفي نظر! وهو نظير قولهم:

على خلاف القياس، وقولهم: تعبد لا يعقل، ونحو هذه العبارة، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. قوله: (ثم مالا يكون حدثًا لا يكون نجسًا، يروى ذلك عن أبي يوسف، وهو الصحيح؛ لأنه ليس بنجس حكمًا حيث لم تنقض به الطهارة). في تصحيح المصنف -رحمه الله -نظر، وإن كان قد سبقه إلى التصحيح السمرقندي وغيره. والذي صححه غيرهم أنه نجس أولى. وهو قول محمد، واختاره

أبو جعفر الهندواني وغيره. وهذا الذي يجب الأخذ به؛ لأن لازم القول الأول أنه لو عصر بثرة فخرج بعصره دم كثير، أو قيح، أو صديد، أو تقيأ قليلاً في مجالس بحيث لو جمع كان كثيرًا لا يكون نجسًا لأن الأول مخرج. وقالوا: إنه لا يكون حدثًا فلا يكون نجسًا، وكذلك القيء لأنه في مجالس. ولو صب هذا المقدار الكثير في الماء القليل وتغير به لا ينجس؛ لأنه طاهر اختلط بطهور فلا يسلبه الطهورية ما لم يغلب عليه. وإنما ألجأهم إلى هذا، دعوى التلازم بين وصف النجاسة والحدث؛ أي ما كان نجسًا كان خروجه حدثًا، وخروج هذا ليس بحدث فلا يكون نجسًا. والشأن في ثبوت هذه الدعوى؛ فإن القول بأن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة عن جميع البدن، ودعوى أن هذا معقول المعنى، فيه نظر! بل بدنه طاهر حقيقة وحكمًا؛ أما حقيقة فظاهر، وأما حكمًا فلحديث حذيفة

ابن اليمان -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لقيه وهو جنب، فحاد عنه فاغتسل، ثم جاء فقال: كنت جنبًا، فقال: "إن المسلم لا ينجس"، رواه الجماعة إلا البخاريـ والترمذي. وروى الجماعة كلهم نحوه عن أبي هريرة. وهو عام في الحي والميت. وزاد البخاري: قال ابن عباس: "لا ينجس حيًا ولا ميتًا". وأيضًا؛ فإن الغسل يجب بالجماع، وفيه نجاسة المني كلام سيأتي إن شاء الله تعالى. وإنما يجب إمساس هذه الأعضاء الماء امتثالاً لأمر الله، وطاعة له، وتعبدًا، وذلك يؤثر في نظافته وطهارته ما لا يؤثر غسله بالماء والسدر.

وكان الأصل أنه كلما قام إلى الصلاة يتوضأ، لكن خفف الله عنه، وأبقى حكمه إلى غاية، وقد أعلمنا أن خروج الخارج من السبيلين غاية للطهارة، وشككنا في خروج الخارج من غير السبيلين، وهو طاهر بيقين، والأصل بقاء الطهارة/ فلا يخرج [عنها] بالشك.

وفي صحة هذه الرواية عن أبي يوسف نظر! ولكن قد قال السروجي بعد حكاية القولين: وعلى الأول لو امتلأ الثوب لا يمنع جواز الصلاة، كما يكون لأصحاب القروح يصيب ثيابهم مرة بعد مرة من غير تجاوز مكان العذر لا يمنع وإن كثر. روى ذلك أصحابنا عن ابن عمر، وحكوه عن أبي يوسف وعليه الفتوى. انتهى. وأظن المنقول عن ابن عمر وأبي يوسف في حق صاحب القروح، وخرج على أنه لم يمنع جواز الصلاة لأنه ليس بحدث، فلا يكون نجسًا. ولا يلزم من جواز صلاة مثل هذا المعذور أن يكون ذلك الدم والقيح طاهرًا، بل هو نجس عفي عنه للضرورة، كما في أكل الميتة حالة الضرورة.

قوله: (والنوم مضطجعًا أو متكئًا أو مستندًا إلى شيء لو أزيل لسقط). قال الشيخ حافظ الدين النسفي في "الكافي": ولو نام مستندًا إلى شيء لو أزيل عنه لسقط لا ينتقض في ظاهر المذهب، وعن الطحاوي أنه ينتقض. انتهى. قال السروجي: وهو اختيار القدوري في مختصر جمعه لابنه. والصحيح رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا كان مقعده على الأرض لا ينتقض وضوؤه كيف ما كان.

قوله: (والأصل فيه قوله عليه [الصلاة والسلام]: "لا وضوء على من نام قائمًا، أو قاعدًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، إنما الوضوء على من نام مضجعًا؛ فإنه إذا نام مضجعًا استرخت مفاصله"). هذا الحديث ضعيف، ولم يخرجه أهل الحديث بهذا اللفظ كله إلا في رواية شاذة.

قوله: (ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام -: "ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعًا"). هذا الحديث قد روي من طرق كلها ضعيفة. قوله: (وأما إذا عصرها فخرج بعصره لا ينقض؛ لأنه مخرج وليس بخارج). فيه نظر؛ لأن المخرج خارج أيضًا، فلا يصح أن يقال: وليس بخارج،

ولهذا لم يفرق في انتقاض الطهارة بالقيء بين من ذرعه القيء وبين من استقاء. وقد ذكر في "النوازل"، و"الذخيرة" أنه ينتقض. وكذلك الخارج من السبيلين، لا يفترق الحكم فيه بين من سبقه القيام وبين من استدعاه. وقد تقدم الكلام في انتقاض الطهارة بالخارج من غير السبيلين. * * *

فصل في الغسل

فصل في الغسل قوله: (بدليل قوله عليه -[الصلاة و] السلام -: "إنهما فرضان في الجنابة، سنتان في الوضوء"). يعني المضمضة والاستنشاق. قال السروجي: لا يعرف هذا الحديث. انتهى. فإن قيل: هذا الحديث رواه أصحابنا وهم ثقات؟. فالجواب: إنهم وإن كانوا ثقاتًا فبينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم -مفاوز لابد فيها من الإسناد، والإسناد من خصائص دين الإسلام، به حفظ الله الدين. قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فإذا سئل عمَّن؟ بقي. انتهى. أي دام الدين واستمر، وإلا

ذهب إذا لم يسند الحديث، بل قال من شاء ما شاء. وقال أيضًا: بيننا وبين القوم القوائم. يعني الإسناد. جعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير إسناد، كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم. وحكى أبو إسحاق الطالقاني قال: قلت لابن المبارك: الحديث الذي جاء: "إن من البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك"، فقال ابن المبارك: عمن هذا؟ قلت: من حديث شهاب بن خراش، قال: ثقة. عمن؟ قلت: عن الحجاج بن

دينار. قال: ثقة. عمن؟ قلت: قال رسول -صلى الله عليه وسلم -. قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بين دينار وبين النبي -صلى الله عليه وسلم -مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف. والحجاج بن دينار من تابعي التابعين، فكيف بمن بعده! وهذا إنما ينفع عند بحث أهل المذهب بعضهم مع بعض، وأما مع المخالف فلا يكون حجة حتى يثبت؛ لأن المنقولات لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى. والمرجع في التمييز من هذا وهذا إلى أهل العلم بالحديث، فلكل علم رجال يعرفون به.

وقال السروجي في شرحه: وروى/ أبو بكر الرازي عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة: "أنه -عليه الصلاة والسلام -جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثًا فريضة". وانعقد الإجماع على إخراج اثنتين منها عن الفرض، فبقي مرة واحدة حتى لا يلزم ترك النص. انتهى. وهذا استدلال ضعيف لوجهين:

أحدهما: أن هذا الحديث قال ابن الجوزي: إنه حديث موضوع. وقال الدارقطني: هذا باطل، لم يحدث به غير بركة بن محمد، وببركة هذا يضع الحديث. والصواب حديث وكيع الذي كتبناه قبل هذا مرسلاً عن ابن سيرين عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "أنه سن الاستنشاق في الجنابة ثلاثًا". وتابع [وكيعًا] عبيد الله بن موسى وغيره. الثاني: قوله: انعقد الإجماع على إخراج اثنين منها عن الفرض، فإن الإجماع لا ينسخ الكتاب ولا السنة عند جمهور العلماء، وإنما شذت

طائفة وجوزته، وهو باطل؛ لأنه لا نسخ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وإسقاط اثنين من ثلاث بمنزلة إسقاط الثلاث؛ لأنه اسم خاص. وقال السروجي أيضًا: وفي الدارقطني عن ابن سيرين، قال: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بالاستنشاق من الجنابة ثلاثًا"، وفيه عن ابن عباس: "فإذا نسي المضمضة والاستنشاق إن كان جنبًا أعاد المضمضة والاستنشاق واستأنف الصلاة". انتهى. وهذا استدلال واه، لأن الأول مرسل ضعيف، والثاني موقوف

ضعيف؛ فإنه يرويه الحجاج بن أرطاة، عن عائشة بنت عجرد، عن ابن عباس. والحجاج بن أرطأة ليس بحجة، وعائشة بنت عجرد زعم بعضهم أن لها صحبة، وليس ذلك بصحيح، بل هي امرأة لا يعرف من حالها ما يوجب قبول خبرها، ولم يثبت سماعها من ابن

عباس. وقال الدارقطني: لا تقوم بها حجة. وقال الشيخ أبو الحجاج المزي/ روت عن رجل عن ابن عباس، وروى أبو حنيفة عن رجل عنها. ومن الأصحاب من استدل لفريضة المضمضة والاستنشاق في الغسل بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة" رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. قال

الأصحاب: وداخل الفم بشرة، وداخل الأنف شعر فيجب غسله. وهذا الحديث في سنده الحارث بن وجيه، قال أبو داود: حديث منكر وهو ضعيف. وكذلك قال أبو حاتم. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. ويغني عن هذه التعسفات الاستدلال بقوله [تعالى]: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا}، فإنه يقتضي غسل كل ما يمكن غسله من البدن بلا (حرج)، وداخل الفم والأنف غسله ممكن بلا (حرج).

قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام لأم سلمة -رضي الله عنها -: "يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك"). حديث أم سلمة رواه مسلم، وأهل السنن الأربعة، وليس فيه هذا اللفظ الذي ذكره المصنف. وإنما لفظه أن أم سلمة قالت: كنت امرأة أشد ضفر رأسي، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، أو ثلاث حنفات ثم تفرغي عليك، فإذا أنت قد طهرت").

قوله: (والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة). الجنابة ليست خروج المني، بل هي تحصل بخروج المني، فكانت غيره. وإنما هي من البعد؛ لأن الرجل إذا قضي شهوته يجانب المرأة أي يعرض عنها وتنوء بجانبه، ولا يقال: بعد الماء عن محله جنابة؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: أجنب الماء. وإنما يقال: أجنب الرجل. قوله: (والحديث محمول على الخروج عن شهوة). يعني قوله -صلى الله عليه وسلم -: "الماء من الماء". وفيه نظر؛ لأنه لابد من بيان السبب الموجب للحمل وإلا فذلك مجرد دعوى. وأقوى منه أن الحديث منسوخ؛ لما روى سهل بن سعد الساعدي عن أبي بن كعب -رضي الله عنهما -أنه قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: "الماء من الماء" كانت رخصة كان -عليه السلام -رخص

بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدها. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه -قال: ناداني رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل، فاغتسلت وخرجت، فأخبرته فقال: "لا عليك،/ الماء من الماء". قال رافع: ثم أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعد ذلك بالغسل. رواه أحمد. وهو حديث ضعيف، ولكن يصلح للاعتضاد لا للاعتماد. وعن الزهري قال: سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل فقال: نول الناس أن يأخذوا بالآخر من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. حدثني عائشة -رضي الله عنها -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل

بعد ذلك وأمر الناس بالغسل". رواه أبو حاتم البستي، والدارقطني. قوله: (والتقاء الختانين من غير إنزال لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل"). هذا الحديث ضعيف، والصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه -، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل". متفق عليه. وعند مسلم وأحمد: "وإن لم ينزل". وفي رواية البيهقي "أنزل أو لم ينزل".

وعن عائشة -رضي الله عنها -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" رواه مسلم. وعنها -رضي الله عنها -: "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وفعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا". رواه الترمذي وصححه. قوله: (وقال مالك: هو واجب). يعني غسل الجمعة. وليس ذلك مذهب مالك -رحمه الله -. قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب. انتهى. ولكن أصحاب مالك يسمون ما تأكد استحبابه وكره تركه سنة واجبة، ولهذا قالوا: غسل الجمعة سنة واجبة، والأضحية سنة واجبة، والعقيقة

سنة واجبة، وطواف القدوم سنة واجبة. وإنما قال بوجوب غسل الجمعة أهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي هريرة، وعمار بن ياسر -رضي الله عنهما -. قوله: (والودي: الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه خروجًا، فيكون معتبرًا به. والمني خائر ينكسر منه الذكر. والمذي رقيق يضرب إلى

البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله. والتفسير مأثور عن عائشة -رضي الله عنها -). لا يعرف هذا التفسير عن عائشة -رضي الله عنها -، وإنما يذكره أهل اللغة وغيرهم. * * *

باب الماء الذي تجوز به الطهارة

باب الماء الذي تجوز به الطهارة قوله: (والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون، هو الصحيح). ينبغي أن يقيده بقوله: ما دام اسم الماء وطبعه باقيين عليه؛ لأنه لو تغير اسمه كالأنبذة فسيأتي في كلامه ما فيه من الخلاف. وقد قال من قبل: ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق، ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة. ولو تغير طبعه بحيث لم يبق سيالاً مرويًا فقد

تقدم في كلامه أنه لا يجوز الوضوء به. فإنه قال: لا يجوز بما غلب عليه غيره فأخرجه عن طبع الماء، فتصحيحه اعتبار الغلبة بالأجزاء يوهم أن المؤثر هو الغلبة بالأجزاء فقط. قوله: (وكل ماء وقعت فيه نجاسة لم يجز الوضوء منه، قليلاً كان أو كثيرًا). هذا لفظ مشكل؛ فإنه صدره بكل المقتضية للشمول، ثم أكده بقوله: "قليلاً كان أو كثيرًا"، وهذا ممنوع في الماء الجاري، وفي الراكد الكثير بالإجماع. وقد أصلح في بعض النسخ: "قليلاً كانت النجاسة، أو

كثيرًا". ومنهم من اعتذر له، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن معناه: وكل ما لاقته النجاسة، وحكمه أنه لا يجوز الوضوء به قليلاً كان الماء أو كثيرًا، جاريًا كان أو ركدًا. الووجه الصاني: أن يقال: المراد بالكثير ما لا يتغير بوقوع النجاسة فيه، وهو الذي جعله مالك كثيرًا، أو القلتان وهو الذي جعله الشافعي كثيرًا، فيكون هذا لإثبات الكثير المختلف فيه بيننا وبينهما. وهذا التخصيص المذكور ليس في الكلام ما يدل عليه، وكون المصنف أراده لا اطلاع لنا عليه.

قوله: (والذي رواه مالك ورد في بئر بضاعة، وماؤها كان جاريًا في البساتين). يعني حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بشر تلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن؟. فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، رواه أبو داود، وحسنه الترمذي، وصححه الإمام أحمد.

وفي المسند أيضًا عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء". وعن/ ابن عباس أيضًا -رضي الله عنهما -أنه قال: اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -من جفنة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من فضلها فقالت له، فقال: " [إن الماء] لا ينجسه شيء". أخرجه أبو حاتم. وعن عائشة -رضي الله عنها -قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء" رواه أبو عمر بن عبد البر

في التمهيد. وقد ذكر صاحب «الهداية» حديث بئر بضاعة في أول الباب، وزاد فيه: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه". وخرجه بهذه الزيادة الدارقطني، والبيهقي من حديث أبي أمامة الباهلي من طريق رشدين بن سعد،

عن معاوية بن صالح، وكلاهما ضعيف. ويمكن إجراء الحديث على ظاهره من غير استثناء؛ لأنه إذا ظهر أثر النجاسة فيه يكون المستعمل له مستعملاً للنجاسة، بخلاف ما إذا ذهب أثرها بالاستحالة؛ فإنه يكون كالأرض إذا أصابتها نجاسة وذهب أثرها؛ فإنها تعود طاهرة، فكذلك الماء. قوله: (وماؤها كان جاريًا في البساتين). هكذا ذكر الطحاوي ................................................................

عن الواقدي. وقد غلط الواقدي في ذلك، وليس هو ممن يحتج بقوله، وغلطه هنا ظاهر؛ فإنه لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بالمدينة عين جارية أصلاً، ولم يكن بها إلا الآبار، وبئر بضاعة باقية إلى اليوم شرقي المدينة معروفة. وعين الزرقاء وعين حمزة محدثة، وإنما ينازع في

هذا من لا خبرة له بأحوال المدينة. وحينئذ يظهر رجحان قول مالك أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن قل. وهو منقول عن علي، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وحذيفة، وابن المسيب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، وعطاء، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجابر بن زيد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وجعفر الصادق، والليث، وعبد الله

ابن وهب، وداود، وروي عن أبي هريرة، والنخعي. قال ابن المنذر: وبهذا المذهب أقول، واختاره الغزالي، والروياني وقال: وعليه العمل في الحرمين، وبلاد الغرب، وغيرها من بلاد الجبال، قال: وهو اختياري، واختيار جماعة رأيتهم

بخراسان، والعراق. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها كثير من أصحابه. ولا شك أن الإمام مالكًا أعلم بأحوال المدينة الشريفة. والعبرة بعموم اللفظ. ولو فرض أن ماء البئر كان جاريًا؛ فقد أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم -بلفظ عام، وهو قوله: "الماء طهور ... " الحديث، لم يخصه بالبئر، ولا بالجاري، والتخصيص بالجاري لحديث المستيقظ، والنهي عن البول في الماء الدائم، وحديث ولوغ

الكلب قد أجابوا عنه بأجوبة: أحدها: أن النهي عن الاغتسال وعن البول؛ لأن ذلك قد يقضي إلى الإكثار من ذلك حتى يتغير الماء. وإذا بال ثم اغتسل فقد يصيبه بوله قبل استحالته. الثاني: أن النص إنما ورد في البول، وهو أغلظ من غيره من النجاسات؛ فإن أكثر عذاب القبر منه، وصيانة الماء عنه ممكنة؛ لأنه يكون باختيار الإنسان فلا يقاس عليه ما هو دونه. الثالث: أن نهيه عن البول في الماء الدائم يعم القليل والكثير، فيقال

لصاحب القلتين: أتجوز البول فيما فوق القلتين؟ فإن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمته فقد نقضت دليلك. وكذلك يقال لمن قدره بعشرة أذرع في عشرة: إذا كان الغدير أطول من عشرة في عشرة وهو دقيق أتسوغ البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص؛ وإلا نقضت قولك. وقالوا: محال في العقول أن يكون ماءان أحدهما يزيد على الآخر بقدح أو رطل، والنجاسة لا أثر لها في واحد منهما، أحدهما طاهر والآخر نجس. وأما حديث ولوغ الكلب؛ فإنه لما كان الإناء [هو الإناء] المعتاد لوضع الماء فيه،/ والكلب يلغ بلسانه شيئًا فشيئًا، فلابد أن يبقى في الماء من لعابه ما يبقى، وهو لزج، فلا يحليه الماء القليل؛ بل يبقى فيكون ذلك الخبث مانعًا من

استعماله، كما قلتم فيما إذا وقعت قطرة من الخمر في دن خل أنه لا يجوز الشرب منه في الحال، ولو صب في كوز خمر ولم ير لها أثر جاز الشرب منه؛ لأن الكثير لما لم ير له أثر دل على استحالته خلاً، والقليل لا أثر له فيستدل بذهابه على الاستحالة؛ فلابد من زمان يغلب على الظن فيه أنه استحال خلاً. قالوا: من أين لكم التقدير بعشرة أذرع، والمقادير لا تعرف إلا سماعًا؟. فإن قلتم: التقدير باعتبار امتحان الغدير الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر المقيس على البحر. قيل: اعتبار التحريك لا يمكن ضبطه أصلاً، وقد اضطرب فيه؛ فقيل بتحريك المغتسل، وقيل بتحريك المتوضئ، وقيل بتحريك اليد. وعلى كل تقدير فما من غدير وإن كبر إلا إذا حرك جانبه فشا أثر التحريك إلى آخره. فإن قيل: المعتبر وصول أثر التحريك من ساعته لا بعد المكث؛ وهو أن يرتفع وينخفض لا تموج وجهه.

قيل: هذا لا ينضبط أيضًا، ولا يمكن تقدير الزمان الذي يصل فيه أثر التحريك، وكما أن الحركة متفاوتة، فالنجاسة أيضًا متفاوتة، فالنجاسة الكثيرة تصل إلى ما لا تصل إليه القليلة. قالوا: والماء إذا لم يظهر أثر الخبث فيه فوصف الطيب باق عليه؛ فإذا لم يظهر للنجاسة أثر دل على استحالتها إلى طبع الماء، فطهرت بالاستحالة كما تطهر الخمر إذا استحالت [خلاً]، [و] الأرض إذا أصابتها نجاسة واستحالت إلى طبع التراب وذهب أثرها، وكذلك العذرة إذا صارت رمادًا أو ملحًا على الصحيح. والذين فرقوا بينهما فقالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة، بخلاف البول والدم. ضعف فرقهم بأن جميع النجاسات إنما نجست أيضًا بالاستحالة؛ فإن البول والدم مستحيل عن أعيان طاهرة، وكذلك العذرة وغيرها. فالله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث، كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب؛ فإذا زال وصف الخبث بالاستحالة خلص وصف الطيب، كما أنه إذا زال وصف الطيب بالاستحالة خلص وصف الخبث، كالبيضة إذا حال مخها دمًا، والعصير إذا صار خمرًا، والدم

والبول والعذرة المستحيلة عن الطعام والماء، واللبن يخرج من بين الفرث والدم طاهرًا بسبب استحالته. ولا يقال: نتنزه عنه لما فيه من الخلاف، فإنه إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم -توضأ من تلك البئر التي يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؛ فكيف يسوغ لنا أن نتنزه عما فعله؟. وقد قال -عليه السلام -: "ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده". وأيضًا فالأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل، ولا دليل على النجاسة؛ إذ ليس في ذلك نص، ولا إجماع، ولا قياس صحيح. قوله: (وما رواه الشافعي ضعفه أبو داود، أو هو يضعف عن احتمال النجاسة). يعني حديث القلتين. فأما نسبة التضعيف إلى أبي داود ففيه نظر! قال

السروجي: فقد خرجه أبو داود في سننه ولم يتكلم فيه بشيء. انتهى. ولكن ضعفه ابن العربي في شرح الترمذي، وابن عبد البر في التمهيد، وغيرهما.

ولا شك أن الماء القليل مما تعم به البلوى، وتشتد الضرورة إلى معرفة حكمه، ومثله لا يثبت بما هو متزلزل لا يرويه الثقات الأثبات، بل شدة الحاجة إليه توجب توفر الهمم على نقله، ولو كان حدًا لازمًا لم يضيعوه ويهملوه، ولا ينقله إلا مطعون عليه. وأما قوله: أو هو يضعف عن احتمال النجاسة، يعني إذا بلغ في الانتقاص إلى هذا المقدار لا في الزيادة. يرد هذا التأويل الرواية الأخرى: "إذا بلغ الماء قلتين لا ينجسه شيء". وأضعف من هذا التأويل أنه يحتمل أن يكون المراد من القلتين القامتين، أو/ رأس الجبلين. أما التأويل بالقامتين فإنهم لا يعتبرون زيادة

العمق حتى لو كان أكثر من قامتين وسعة وجهه دون العشرة يتأثر عندهم. والتأويل برأس الجبلين يصان كلام الشارع عن مثله، بل التأويل بمثله يشبهه الاستهزاء بكلامه -صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا لم يكن إلا في الطوفان في عهد نوح -عليه السلام -، وإنما عادته -صلى الله عليه وسلم -أن يقدر المقدرات بأوعيتها، كما قال: "ليس في أقل من خمسة أوسق ..............................

صدقة"، وكالتقدير بالصاع والمد ونحوه. والتمثيل لا يكون بمختلف متفاوت؛ لأن التقدير به لا يكون بيانًاـ وهو -صلى الله عليه وسلم -بلغ البلاغ المبين. ولكن حديث القلتين إن كان صحيحًا فمنطوقه موافق لحديث بئر بضاعة، وحديث ابن عباس المتقدم؛ وهو أنه: "إذا بلغ الماء قلتين لا ينجسه شيء".

وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه مخالف للحكم في المنطوق به بوجه من الوجوه، ولا يلزم أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت عنه مخالف للحكم في كل صورة من صور المنطوق به. وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس، بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود. وأيضًا فالنبي -صلى الله عليه وسلم -لم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن يماه الفلاة التي تردها السباع والدواب، والتخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة، كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}، خص هذه الصورة بالنهي لأنها هي الواقعة،

لا لأن التحريم يختص بها. ونظائرها كثيرة في القرآن. فالتقدير في حديث القلتين: أن ما دون القلتين قد يحمل الخبث، وقد لا يحمله بأن كان الخبث يسيرًا وهو كثير، بخلاف القلتين، فإنه لا يحمل في العادة الخبث الذي سألوه عنه، فاتفقت دلالة الحديثين بهذا الاعتبار على تقدير ثبوته. ووجدت في كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله -أن مثل هذا لا يجوز أن يكون من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم -، يعني حديث القلتين، وكان -رحمه الله -يرجح أن حديث القلتين موقوف على ابن عمر، وتابعه في ذلك شيخ الحفاظ في عصره أبو الحجاج المزي. قوله: (ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام -: "هذا هو الحلال أكله، وشربه، والوضوء منه"). يعني الماء إذا مات فيه ما ليس له نفس سائلة. عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوؤه"، رواه الدارقطني وضعفه. وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فكأنه نقله منه بالمعنى.

وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء". أخرجه البخاري. والظاهر موته بذلك، فلو أفسده [لم] يؤمر به. قال ابن المنذر في "الإشراف": ولا أعلم في ذلك خلافًا إلا ما كان من أحد قولي الشافعي. قوله: (ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة غليظة اعتبارًا بالمستعمل في النجاسة الحقيقية). يعني الماء المستعمل. وهذه رواية شاذة غير مأخوذ بها، ذكره قاضي خان. وفي اعتبار الماء المستعمل في إزالة الحدث بالمستعمل في النجاسة

الحقيقية نظر؛ لأن المستعمل في النجاسة الحقيقية إنما لا يجوز استعماله لأن المستعمل له مستعمل للنجاسة. ولهذا إذا لم ير لها أثر في الماء جاز استعماله إن كان جاريًا أو كثيرًا بالإجماع، وكذا إن كان قليلاً عند مالك وأحمد في رواية. وقد تقدم ذكر ما رجوا به هذا القول. وأما المستعمل في إزالة الحدث فلم تنتقل إليه نجاسة، ولكن أزيلت به نجاسة الآثام، وذلك/ لا يوجب تنجسه، بل ولا خروجه عن وصفه بالطهورية كما هو قول عطاء، والحسن البصري، والنخعي، ومكحول، والزهري، وأبي ثور، وأهل الظاهر، ورواية عن الثوري، ومالك، ..

والشافعي، وأحمد، ورجحها كثير من أصحابهم. وروي عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة، فيمن نسي مسح رأسه إذا وجد بللًا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل، حكاه عنهم ابن المنذر، وصاحب المغني. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء -رضي الله عنها-: "أن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ ومسح رأسه من فضل ما كان بيده". وفي لفظ: "مسح رأسه من فضل ما بقي من وضوء في يديه" أخرجهما أحمد. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنة، فجعل النبي -عليه السلام- يتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله! أني كنت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يخبث". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وظاهر المذهب أنه طاهر غير طهور كما حكاه صاحب الهداية وغيره، وقال: لأن ملاقاة الطاهر الطاهر لا يوجب التنجس، إلا أنه أقيمت به قربة كمال الصدقة. وفي اعتباره بمال الصدقة نظر؛ فإن مال الصدقة لا تلزمه الصفة؛ فإن النبي عليه السلام أكل مما تصدق به على بريرة، وقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية"، ومما تصدق على نسيبة وقال: "قد بلغت محلها". ولو صار درهم الصدقة إلى هاشمي على وجه الهدية جاز له التصدق به مرة أخرى، وعلى القول بزوال وصف الطهورية عن الماء لا يجوز الوضوء به مرة أخرى.

وأيضًا فاعتباره بمال الصدقة يقتضي أنه لا يصير مستعملًا إلا بإسقاط الفرض كما هو قول زفر، وأحد قولي الشافعي، ومالك، وأحمد؛ لأنه قال في "باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز" لما ذكر أنه لا يدفع الزكاة إلى بني هاشم: بخلاف التطوع؛ لأن المال هاهنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض. أما التطوع بمنزلة التبرد بالماء. فقد جعل صدقة التطوع بمنزلة التبرد بالماء مع وجود نية القربة. ولأن رمي الجمار بالحصا التي رمى بها هو أو غيره جائز. ولم تجعل إقامة القربة مرة مانعة من إقامة القربة [به] مرة أخرى. ولأن الأصل بقاء وصفه بالطهورية، ولم يرد نص بإزالة وصف الطهورية عنه. وما استدل به على زوال وصف الطهورية من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الاغتسال في الماء الدائم؛ فقد أجيب عنه بأن النهي لما في ذلك من تقذير الماء

لا لنجاسته، ولا لتصييره مستعملًا؛ فإنه قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال: "إن الماء لا يجنب"، وأنه: "لا ينجسه شيء"، كما قد ثبت عنه: "أن المؤمن لا ينجس". ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس، ويجنب، وعرق الجنب والحائض طاهر بالإجماع، وكذا سؤرهما. أو أن النهي لاحتمال وجود النجاسة على البدن لسد الذريعة؛ فلا يزول وصف الطهورية عنه بالشك. وأما نهيه المستيقظ من نومه عن إدخال يده في الإناء قبل غسلهما ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده، فقد ذكر في حكمة النهي ثلاثة أقوال: أحدها: خوف نجاسة يكون على يده، مثل مرور يده على موضع الاستنجاء مع العرق، أو على دمل ونحو ذلك. الثاني: أنه تعبد لا يعقل معناه.

الثالث: أنه من ملابسة الشيطان ليده كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه"، فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه، فيمكن أن يكون الأمر بغسل اليد لذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار؛ / فلا يلزم سلب الماء صفة الطهورية. وقد روى البيهقي أيضًا بإسناده، عن عائشة -رضي الله عنها-، أنها سئلت عن رجل يدخل يده الإناء وهو جنب قبل أن يغتسل فقالت: "إن الماء لا يجنبه شيء، ولكن ليبدأ فيغسل يده، قد كنت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نغتسل من إناء واحد".

والطهور بالفتح اسم لما يتطهر به، كما أن الوضوء والسحور، والوقود، والفطور، اسم لما يتوضأ به، ويتسحر به، ويوقد به، ويفطر عليه. وهو بالضم اسم للمصدر؛ ولهذا قال تعالى في موضع: {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا}، وفي موضع: {ماءً ليطهركم به}. وأما لفظ الطاهر فلا يدل على ما يتطهر به، وهذا هو الفرق عند أهل المعرفة بالعربية، لا كما يظنه طوائف من أهل العلم أن الطهور معدول عن

طاهر، كما يأتي فعول معدولًا عن فاعل، فيكون بمنزلته في التعدية واللزوم النَّحويَّيْن، فإن هذا قول من لم يحكم ما قاله من جهة العربية. فلا يجوز أن يراد بالطهور الطاهر لفساد المعنى إذا حمل على ذلك. ولا يجوز أيضًا أن يكون طَهور تعدية لطاهر لفساد الاستعمال فتأمله!. وبهذا يظهر رد ما قاله المصنف في تعليل قول مالك، والشافعي أن الماء الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع؛ فإن "قطوعًا" معدول عن "قاطع" للمبالغة في الوصف كالحَمول، والظَّلوم، والغفور، و"الكتوم"، والمنوع، وكالصبور، والشكور. وطهورًا هنا ليس من هذا الباب، بل من باب ما يستعمل فيه فعُول بضم الفاء لاسم المصدر، وبفتحها لما يحصل به الفعل كما تقدم تمثيله. قوله: (وكذا يطهر لحمه، وهو الصحيح).

صحح جماعة من المشايخ عدم طهارة اللحم بالذكاة، وهو الصحيح؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر عن القُدور التي كان فيها لحوم الحمر الأهلية: "أهريقوها، واكسروها". فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك". ولو كانت تطهر بالذكاة لم يحتج إلى غسل القدور. قوله: (إذ الهاء في قوله تعالى: {فإنه رجس} منصرف إليه لقربه). إنما يعود الضمير إلى المذكور كله، وهو الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ فإن الأصل: قل لا أجد فيما أوحي إلي شيئًا محرمًا، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم قال: إلا كذا وكذا. فإن هذا المذكور كله رجس، وإعادة الضمير إلى بعض المذكور فيه نظر. قوله: (لأن الذكاة تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة). فيه نظر!.

لأن الرطوبات لا تزول بالذكاة، وإنما يخرج بالذكاة الدم المسفوح، وليس المطهر للذكاة إخراج الدم المسفوح وحده، ولهذا لا تحل ذبيحة المجوسي، ويحل الصيد بالذكاة الاضطرارية وإن لم يخرج الدم المسفوح. قوله: (إذ الموت زوال الحياة). الموت أمر وجودي، قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة}، والعدم لا يكون مخلوقًا. وإنما يقول إن الموت زوال الحياة الفلاسفة ومن وافقهم. وقولهم باطل. والكلام معهم معروف في موضعه. وقد اعتذر عن الشيخ هنا بأنه كنى عنه بلازمه؛ لأنه إذا وجد الموت زالت الحياة، ولكن العبارة السديدة: إن الموت ضد الحياة.

فصل في البئر

فصل في البئر تقدم الكلام على حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وحسنه الترمذي، وصححه الإمام أحمد، وهو أحق ما بني عليه مسائل الآبار. ولم تثبت الآثار التي أشار إليها المصنف عند أهل الحديث.

قوله: (ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس). فيه نظر!. لأنه إن كان مراده على خلاف القياس الفاسد، فالقياس الفاسد ساقط الاعتبار، لا يجوز العمل به، وكل الشرائع/ على خلافه. وإن أراد على خلاف القياس الصحيح، فالشريعة لا تأتي على خلافه قط. وما يظهر

مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم ولابد؛ إما أن يكون القياس فاسدًا، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع. فالشريعة لا ترد إلا على وفق القياس الصحيح، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين. فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس. وهو الميزان الذي جاءت به الرسل كما قال تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل

موجودة في الفرع من غير معارض يمنع حكمها. ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافع قط. وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فهذا القياس أيضًا لا تأتي الشريعة بخلافه. وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره، فلابد أن يختص ذلك الفرع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره. لكن الوصف الذي اختص به ذلك الفرع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر. وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد. ومن رأى شيئًا من الشريعة أنه على خلاف القياس؛ فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر.

والأصحاب يقولون: إنه ثابت بالاستحسان، وهو القياس الخفي. والقياس الصحيح منه جلي، ومنه خفي. والقياس الفاسد منه جلي، ومنه خفي. فهذه الأحكام موافقة للقياس الصحيح الخفي؛ فلا يضرها كونها مخالفة للقياس الفاسد الجلي. فإطلاق مخالفتها للقياس فيه نظر؛ لأن ظاهرها أنها مخالفة للقياس الصحيح. فمما يطلقون أنه على خلاف القياس مسائل الآبار، والماء الدائم الذي لا يجري وإن كثر. حتى حكي عن بشر المريسي أنه أتبع ما ظنه قياسًا وقال:

تطم البئر إذا وقعت فيها نجاسة وإن قلت. وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة ينجس، ثم ينجس به ما يليه، ثم ما يليه، وهلم جرًا. والنجس لا يزيل النجاسة. قال بعض المخالفين: لم قلت: إن القياس يقتضي أن الماء ينجس إذا لاقى نجاسة؟ فإن قلت: الحكم في بعض الصور كذلك. قيل: هذا ممنوع عند من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير. فإن قلت: يقاس مالم يتغير على ما تغير بجامع وجود النجاسة فيه. قيل: هذا قياس فاسد. وليس جعل إزالة النجاسة به مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجس الماء مخالفًا للقياس. بل يقال: إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس، كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس. فهذا القياس أصح من ذلك القياس، ولهذا لم يقل أحد من المسلمين بطرده؛ فإن طرده يوجب تنجس البحر. وبهذا يظهر فساد هذا القياس.

ولأن النجاسة تزول بالماء حسًا وشرعًا. وأما تنجس الماء بالملاقاة فمورد نزاع بين العلماء، فكيف يجعل موارد النزاع حجة على مواقع الإجماع؟ والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع. فإن قلت: القياس يقتضي أن الماء لا يزيل النجاسة لتنجسه بأول الملاقاة، والنجس لا يطهر غيره. قلنا: النجاسة نجست المحل الذي أصابته باعتبار عينها، فيزول تنجيسها بزوال عينها. ولهذا كان الصحيح جواز إزالة النجاسة بسائر المائعات القالعة للنجاسة على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وأيضًا فالذي يقتضيه العقل أن الماء إذا لم يتغير بالنجاسة لا يتنجس؛ فإنه باق على أصل خلقته، وهو طيب، فيدخل في قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}. وهذا هو القياس في المائعات جميعها والدليل على أنه طيب الحس والشرع. أما الحس فلأن الخبث لم يظهر فيه له أثر، ولا لون ولا طعم ولا ريح. ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه.

وأما الشرع فلأنه كان قبل الملاقاة طيبًا، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه. وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة؛ استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربًا، وأكلًا، وملابسة. واستصحاب الحكم الثابت له وهو الطهارة. واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. وأيضًا

فلو وقعت فيه قطرة من لبن امرأة، ولم ير لها أثر، فشرب منه صغير لم يتعلق به تحريم، فكذلك النجاسة. ولأن الله تعالى قال: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا}، فكل ماء فالطهارة تجوز به إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والذين قالوا: إن الأصل تنجس الماء بالملاقاة لم يمكنهم طرد أصلهم. فمنهم من استثنى مقدار القلتين على اختلافهم فيها، ومنهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر على اختلافهم فيه أيضًا، ومنهم من فرق بين الوارد عليه النجاسة والوارد على النجاسة.

وما ذكره صاحب الهداية من الآثار في الاكتفاء بنزح دلاء فغير ثابتة. وإن كان ما هو ثابت فيحمل على الاستحباب لا على الوجوب كما قال مالك رحمه الله تعالى. ولعله أخذ من قوله -صلى الله عليه وسلم- في الفأرة التي سئل عنها أنها وقعت في سمن: "ألقوها وما حولها". فإن الصحيح أن ذلك لا يختص بالجامد، فقالوا: نخرج النجاسة الواقعة في البئر وما حولها. ولهذا اختلف العدد بحسب كبر جسد الحيوان الذي يموت في البئر وصغره. هذا على تقدير صحة تلك الآثار.

قوله: (وعند محمد يجوز شربه للتداوي وغيره؛ لطهارته عنده). يعني بول ما يؤكل لحمه. وقول محمد في طهارته يشهد له قصة العرنيين، ولا يجوز التداوي بشرب المحرم لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". والأصل عدم الخصوص. ولا يعارضه قوله عليه السلام: "استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه"، وقوله: "أما أحدهما فكان لا يستتر من

البول". فإن الأول ضعيف، والثاني الألف واللام للعهد لا للنجس فلا تعم، بدليل ما ورد في أكثر طرق الحديث: "فكان لا يستنزه من بوله". فيكون

التعريف بالألف واللام بدل هذه الإضافة. والأصل أن يكون التعريف للعهد إذا كان ثم معهود، ولا يصار إلى الجنس إلا عند فقد العهد. هذا هو الصحيح. وهنا يترجح العهد بأن عذاب القبر إنما هو من بول الآدمي نفسه الذي يصيبه كثيرًا، لا من بول البهائم الذي لا يصيبه إلا نادرًا. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في مرابض الغنم، وأذن بالصلاة فيها من غير اشتراط حائل.

ولأنه لم يأمر العرنيين بغسل أفواههم وأوعيتهم منه مع حاجتهم إلى البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. والقول بأنه منسوخ لا يثبت؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولابد من تأخر الناسخ، وعدم إمكان التوفيق بين النصين هذا على قول من يقول بالمعارضة بين العام والخاص. وفي دعوى نسخ المثلة الواردة في قصة العرنيين كلام يأتي ذكره في السير والقصاص إن شاء الله تعالى. وقول من يقول: إن حديث العرنيين منسوخ كشطره فيه نظر على تقدير نسخ المثلة الواردة فيه. فكيف ولم يثبت نسخها؟ فإن نسخ حكم من أحكام النص لا يوجب نسخ

بقيتها، وإن كان دل تقدمه على ناسخ ذلك الحكم، فلا يلزم تقدمه على النص الآخر. قوله: (وإن وجدوا فيها فأرة أو غيرها، ولم يدروا متى وقعت ولم تنتفخ، ولم تتفسخ أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضؤوا منها، وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها). أما إعادة الصلاة فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما خلع نعليه وهو/ في الصلاة وقال لأصحابه: إن جبريل أخبره أن بهما أذى لم يعد الصلاة. ولما ألقى كفار قريش السلا على ظهره وهو ساجد ثم طرحته عنه فاطمة

-رضي الله عنها- لم يستقبل الصلاة. وهذا مذهب ابن عمر، وعطاء، وابن المسيب، وطاوس، وسالم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، والنخعي، ويحيى الأنصاري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، هكذا حكاه عنهم ابن المنذر واختاره. وقال النووي: وهو قوي في الدليل، وهو المختار، وكان قد حكى قبل ذلك أن من صلى بنجاسة نسيها أو جهلها، أن الأصح من مذهب الشافعي وجوب الإعادة. وهو القول الجديد من قولي الشافعي. والقول القديم لا تجب الإعادة. وإذا كان مع التحقيق، فكيف مع التوهم؟. ومالك يرى الإعادة في الوقت لا بعده. وأما تنجيس الماء من غير أن يتغير بالنجاسة فقد تقدم الكلام فيه.

فصل في الأسآر وغيرها

فصل في الأسآر وغيرها قوله: (وعرق كل شيء معتبر بسؤره لأنهما يتولدان من لحمه؛ فأخذ أحدهما حكم صاحبه). السؤر: ما يبقيه الشارب في الإناء. ولا يتولد من اللحم إلا اللعاب الذي يحتمل أن يختلط منه شيء بالماء. ففي قوله: إن السؤر يتولد من اللحم نظر. وفي كلامه نظر آخر؛ وهو أنه ينبغي أن يقول: سؤر كل شيء معتبر بلعابه لوجوه: أحدها: أن هذا الفصل للسؤر، وهو إنما يعتبر باللعاب بحسب طهارته ونجاسته، فلا مناسبة لذكر العرق. الثاني: أن حكمهما مأخوذ من غيرهما، وهو اللحم، فلا يؤخذ حكم أحدهما من صاحبه. الثالث: أن حكم عرق البغل والحمار مخالف لسؤره كما يأتي في كلامه بعد ذلك فانتقض قياسه. وقد أجيب عن الوجه الثالث بأن الأصل

المساواة، ولكن خرج حكم عرق البغل والحمار بدليل. قوله: (وسؤر الكلب نجس، ويغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا"). روى الدارقطني عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، من طريق عبد الوهاب بن الضحاك، في الكلب يلغ في الإناء أنه يغسله ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا. قال النسائي: عبد الوهاب متروك. فلا يعارض هذا الحديث الضعيف الحديث الصحيح المتفق على صحته في الأمر بالسبع. ولا يصلح أن يكون حجة على الشافعي في

اشتراط السبع. فإن قيل: قد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات"، وأبو هريرة هو راوي الحديث، ولا يظن به أنه خالف ما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا إلى مثله، فيكون منسوخًا. فالجواب أن ذلك لم يثبت. وعلى تقدير ثبوته، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال. ولأنه يمكن أن يكون فتواه قبل روايته، أو له عذر في مخالفته؛ إما أنه نسي، أو غفل، أو تأوله على أن الأمر بالسبع للاستحباب دون الإيجاب، أو غير ذلك، فلا يتعين النسخ. وإذا أمكن أن تكون المخالفة عن رأي واجتهاد، وهو مأجور مغفور له،

فالعبرة حينئذ لما روى لا لما رأى. فإن ما رواه ثابت عن قائل معصوم، وما روي عنه غير ثابت عن قائل غير معصوم. وقد أخذ الأصحاب في مواضع برواية من أفتى من الصحابة بخلاف (روايته)؛ كما في حديث أبي هريرة في البحر: "هو الطهور ماؤه". وقد روى سعيد بن منصور في "سننه" عنه أنـ[ــــه] قال: "ماءان لا يجزيان في غسل الجنابة؛ ماء البحر وماء الحمام".

وكما في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان"، وهي كانت تقول: "الأقراء هي الأطهار". وكما روي عن/ ابن عباس أنه قال: ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق. وهو راوي: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعوه". فأخذ الأصحاب

بروايته في وقوع طلاق المكره مع أن روايه كان يقول: إن طلاق المكره غير واقع. ومثل هذا أخذ الأصحاب بحديث عائشة -رضي الله عنها-: "فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين". وقد صح أنها أتمت الصلاة في السفر، فلم يدعوا روايتها لرأيها. وكما في حديث عمر -رضي الله عنه-: "لا يقتص لولد من والده".

وقد قال: لأقتصن للولد من الوالد، فلم يأخذوا برأيه بل بروايته، وكان ينهى عن التمتع، وهو ممن روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمتع، أي جمع بين

النسكين في سفرة واحدة، فلم يأخذوا برأيه بل بروايته. وكما روي عن عائشة -رضي الله عنها-، أنها كانت تواظب على ركعتين بعد العصر، وهي قد روت نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، فلم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه برأيها، بل بروايتها. فما هذا بأول حديث خالفه راويه، وأخذ فيه بما روى دون ما رأى. ولا يلزم أن يكون الأمر بغسل الإناء للنجاسة؛ إذ لو كان للنجاسة لما احتيج إلى السبع؛ فإن لعابه لا يكون أنجس من العذرة، وبول الإنسان، ولا يشترط فيه السبع. ولكن لما ورد الأمر بالغسل سبعًا وجب الامتثال وإن لم يعقل معناه، كما في أمر الجنب بالاغتسال والتطهر.

وبه قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وداود الظاهري، ومن وافقهما. قالوا: قد أبيح اتخاذ الكلب للصيد، والماشية، والزرع أيضًا، فصار من الطوافين علينا. وقد نبه عليه السلام على سقوط اعتبار النجاسة بعلة الطواف في الهرة. ويحتمل أن يكون الأمر بالسبع لخوف أذاه؛ إذ قد يكون منه داء الكلب، فكان العدد للاستشفاء كما في حديث: "من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"، وحديث "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل

أو كيتهن". وحديث الدعاء للمريض سبع مرات: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك". والرقية بالسبع المثاني. وفي تقسيم الأسآر إلى نجس، ومكروه، ومشكوك فيه من غير نص نظر. والأصل بقاء وصف الطهورية إلا أن يعلم قيام النجاسة بالماء لم تستحل إلى طبعه بعدكما تقدم التنبيه عليه في أوائل الباب. قوله: (ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث).

فيه نظر، لأن عند الشافعي رحمه الله تعالى، بوله ودمه وسائر ما هو نجس منه لا يطهر إلا بالغسل سبعًا، كذا في "الوسيط"، و"التهذيب"، ولا اعتبار باشتراط الثلاث في إزالة النجاسة عندهم، بل الشرط زوالها ولو مرة واحدة. قوله: (ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "الهرة سبع"). يعني لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني، والبيهقي، والحاكم. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح. والحاكم معروف تساهله. وإنما هو حديث ضعفه غير واحد من أهل الحديث.

قوله: (وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته). النص الوارد في تحريم لحوم الحمر الأهلية صحيح ثابت لم يعارضه شيء. وما يروى عن غالب بن أبجر أنه قال: لم يبق من مالي إلا حميرات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل من سمين مالك" رواه أبو داود،

وعثمان الدارمي في الأطعمة. ولا يعرج على مثله؛ فإنه غير صحيح. وفي بعض طرقه أنه كان في عام مجاعة، وقد يحل في الضرورة الميتة؛ فلا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم لحوم الحمر الأهلية. قوله: (قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة، فلا يصح دعوى النسخ، والحديث مشهور ...) إلى آخره. حديث الوضوء بنبيذ التمر لم يثبت، فضلًا عن أن يكون مرات متعددة.

بل قد ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: (لم أكن ليلة الجن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووددت/ أني كنت معه). وإنما كانت

ليلة الجن بمكة مرة واحدة. قال السروجي: [وقوله] قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة موهم أنها كانت بالمدينة أيضًا، ولم ينقل ذلك في كتب الحديث فيما علمته. وقوله: الحديث مشهور عملت به الصحابة، فيه نظر؛ لأن المشهور عندنا ما تلقته الأمة بالقبول، وعملت به. ثم قال: وهذا الحديث إن عمل به واحد أو اثنان من الصحابة، لم يعمل به الباقون، فكيف يكون مشهورًا. انتهى. ومسألة نبيذ التمر من فروع مسألة: "الماء إذا خالطه شيء طاهر فغير بعض أوصافه". وقد ذكرها المصنف في أول الباب. وقد قال هناك: إن الغلبة تعتبر بالأجزاء هو الصحيح.

فمقتضى تصحيحه أن يترجح في مسألة نبيذ التمر قول (أبي يوسف)، ولا يحتاج إلى تصحيح الحديث. ولكن قد تقدم أنه لابد من تقييد كلامه بأنه: مادام اسم الماء وطبعه باقيان عليه. وفي أثناء كلامه يقول: ولنا أن اسم الماء باق عليه، ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة. وهذا قد تجدد له اسم؛ فإنه يقال له: "نبيذ التمر" فلا يتوضأ به كما أنه لا يتوضأ بغيره من الأنبذة، بل يتيمم. وروى نوح بن [أبي] مريم عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قول أبي يوسف،

وهو الأصح. وذكر أبو بكر الرازي أن قول أبي يوسف هو آخر أقوال أبي حنيفة في المسألة. فعلى هذا، ما ينبغي الانتصار لقول ضعيف الدليل [مرجوع عنه]. ***

باب التيمم

باب التيمم قوله: (والميل هو المختار في المقدار). اختلفت عبارات الأصحاب في المقدار. وينبغي أن يكون المختار خوف الضرر بغالب الظن، ولا يتقدر بمساحة؛ لأن الضرر مدفوع شرعًا. وليس في التقدير بالميل نص شرعي، وإنما هو مأخوذ من الحرج، فيدار

الحكم على خوفه بغالب الظن، كما في المرض المبيح للتيمم، لا على قدر معين من المسافة لتفاوتها باعتبار الزمان والمكان والحال. مع أن مقدار الميل في كلام العرب مختلف فيه: فقيل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: أربعة آلاف. وقال في "المغرب": الميل في كلام العرب مقدار مد البصر من الأرض. ونحوه في الصحاح. وكأن الاختلاف في ذرعه بحسب حدة البصر وضعفه. فينبغي أن يفوض إلى رأي المبتلى به لا إلى غيره. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"). رواه الدارقطني، والحاكم في "المستدرك" وقال: لا أعلم أحدًا أسنده

عن عبد الله بن عمر غير علي بن ظبيان، وهو صدوق. وتساهل الحاكم معروف. وقد طعن فيه غير واحد من أهل الحديث. وقال ابن قدامة في "المغني": قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعاف جدًا، ولم يرو منها أهل السنن إلا حديث ابن عمر. قال أحمد: ليس بصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنما هو عن ابن عمر، وهو عندكم حديث منكر.

وقال الخطابي: يرويه محمد بن ثابت وهو ضعيف، انتهى. وقال ابن المنذر في صفة التيمم: وفيه قول رابع، وهو أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، هذا قول عطاء، ومكحول، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وبهذا نقول. الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن التيمم ضربة للوجه والكفين. انتهى. وحكاه في "المغني" عنهم، وعن علي، وعمار، وابن عباس،

ومالك، ثم قال: ولنا ما روى عمار -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: "إنما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه" متفق عليه. انتهى. ومقتضى/ قول الأصحاب في مسح الرأس أن المفروض فيه مقدار الناصية أن يكون المفروض في التيمم هو المسح إلى الرسغ، والاكتفاء بضربة؛ لأنه قد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- هذا، وورد عنه المسح إلى المرفقين بضربتين على تقدير صحته. فيكون المفروض المسح إلى الرسغ بضربة، والزائد سنة. كما قالوا: إن المفروض في مسح الرأس الناصية ومسح الباقي سنة؛ لأنه فعل هذا وهذا، فكان الأقل هو المفروض والزائد سنة، إذ المذكور في

الموضعين لفظ المسح وحرف الباء. وكيف يكون المسح إلى المرفقين في التيمم فرضًا وهو لم يثبت؟. ومقدار الناصية هو المفروض في مسح الرأس بحديث المغيرة، وفيه: "وكمل على العمامة"؟ ومسح كل الرأس ثابت. وقد روى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أنه سئل عن التيمم فقال: "إن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}. وقال في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}،

وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وكانت السنة في السرقة قطع الكفين، إنما هو في الوجه والكفين، يعني التيمم. قوله: (ولابد من الاستيعاب [في] ظاهر الرواية لقيامه مقام الوضوء). في تعليله نظر؛ فإن المسح على الخفين قائم مقام غسل القدمين ولم يجب فيه الاستيعاب؛ والبدل يأخذ حكم المبدل لا وصفه، وليس الاستيعاب؛ لأن الباء صلة، أي زائدة كما يقوله كثير من الأصحاب وغيرهم. وهو

مذهب نحاة الكوفة. بل الباء في مسح الرأس في الوضوء، وفي مسح الوجه واليدين في التيمم على بابها للإلصاق، وهي لا تقتضي التبعيض. وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. قوله: (لما روي أن قومًا جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال، ولا نجد الماء شهرًا أو شهرين، وفينا الجنب والحائض، والنفساء. فقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بأرضكم"). هذا الحديث ضعفه ابن الجوزي وغيره. قوله: (ثم لا يشترط أن يكون عليه غبار عند أبي حنيفة رحمه الله لإطلاق ما تلونا).

فيه نظر! بل قد دلت الآية على اشتراط التصاق شيء من الصعيد بالوجه واليد، كما دلت على اشتراط التصاق شيء من الماء بالرأس في مسحه في الوضوء. وذلك مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما؛ لأن الباء للإلصاق، وهي لا تدخل إلا لفائدة، فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أو بغيرها أفادت قدرًا زائدًا، كما في قوله تعالى: {عينًا يشرب بها عباد الله}، فإنه لو قيل: يشرب منها لم يدل على الري، فضُمِّن "يشرب"

معنى "يروي"، فعدي بالباء فقيل: يشرب بها، فأفاد ذلك أنه شُربٌ يحصل معه الري. وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى تعديته كثير، كما ضمن قوله تعالى: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} معنى الضم المعدَّى بـ "إلى" فعدي بها. وقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} معنى خلصناه. وقوله: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} معنى يصرفوك عن بعض ما أنزل الله إليك. وأمثال ذلك كثير في القرآن. وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفوه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف. فالمسح في الوضوء والتيمم ضُمِّن معنى الإلصاق، فعدي بالباء، فأفاد

معنى: ألصقوا برؤوسكم ووجوهكم شيئًا بهذا المسح. والمفعول- وهو شيء أو نحوه- محذوف لأنه فضلة يسوغ حذفه إذا دل عليه دليل. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. فإن "مِنْ" ههنا للتبعيض لا للغاية. أي ألصقوا بوجوهكم وأيديكم بعضه. قال الزمخشري في «الكشاف»: فإن قلت: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسَّف، ولا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن/ الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما يقول، والإذعان للحق خير من المراء. انتهى. قوله: (والماء طهور بنفسه على ما مر). إن أراد أنه مطهر من النجاسة العينية فمسلم، وليس الكلام فيها، وإن أراد أنه طهور من النجاسة المعنوية وهي نجاسة الآثام فتلك متوقفة على النية،

فاستوى الماء والتراب بهذا الاعتبار، ولكن قدم الماء عليه لما فيه من زيادة وصف الوضاءة. وبه تقع طهارة الأشياء من الأدناس والأقذار، وصير إلى التراب عند فقد الماء لمناسبة بينهما؛ وهو أن كليهما أصل الآدميين وأقواتهم. ووصف الوضاءة يخلفه وصف ذل العبودية بتعفير الوجه واليدين في التراب امتثالًا لأمر الرب تعالى، ولم يكن في القدمين لمباشرتهما التراب كل وقت في المشي، ولا في الرأس لأنه لا يباشر التراب إلا عند المصائب والنوائب.

وأيضًا فإن التيمم جعل في العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين؛ فإن الرجلين تمسحان في الخف، فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو. والمقصود أن التراب شقيق الماء كلاهما سواء في إزالة النجاسة المطلوب إزالتها بكل منهما؛ إذ ليس على العضو نجاسة عينية يزيلها الماء بطبعه حتى يستغنى عن النية في إزالتها. قوله: (والنائم عند أبي حنيفة رحمه الله قادر تقديرًا). فيه نظر، فإن معنى قوله: "تقديرًا"، أي يجعل قادرًا حكمًا وإن لم يكن قادرًا حقيقة، والحكم لا يثبت إلا بدليل شرعي، ولم يوجد، ولا قدرة بدون العلم، ولا علم للنائم ولا شعور. وفي "فتاوى قاضي خان": وقيل: ينبغي ألا ينتقض عند الكل؛ لأنه لو تيمم وبقربه ماء لا يعلم به يجوز تيممه عند الكل. انتهى.

قوله: (ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، فصار كالطامع في الجماعة). فيه نظر؛ لأن الصلاة بالتيمم حال فقد الماء كالصلاة بالوضوء حالة القدرة عليه، فكان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى لأنها تفوت لا إلى خلف. أما الصلاة في الجماعة فإنها أفضل من صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة، فإذا فاتت فضيلة أول الوقت فاتت إلى خلف، وهو تحصيل فضل الجماعة، وهي فوق فضيلة أول الوقت. ***

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين قوله: لكن من رآه ثم لم يمسح آخذًا بالعزيمة كان مأجورًا). فيه نظر؛ لقوله -عليه السلام-: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" رواه أحمد، وابن خزيمة، والحاكم في صحيحه. ولهذا قال الإمام أحمد بتفضيل المسح. وفي الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس

منه". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة". وليس أفضل الأعمال أعظمها مشقة، بل ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع. ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزع الخف، وإن كانتا مكشوفتين غسلهما ولم يلبس الخف للمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في مسألة "الأفضل من المسح والغسل". قوله: (لأنه معدول عن القياس، فيراعي جميع ما ورد به الشرع). في كلامه المؤاخذة التي تقدم التنبيه عليها، وهي أن الشريعة لا تأتي على خلاف القياس الصحيح.

فالعبارة السديدة أن يقال: لأنه عرف من جهة الشرع فيراعى فيه جميع ما ورد به الشرع؛ فإن المراد أنه أمر تعبدي قد لا يدرك العقل معناه، لا أن العقل يدرك خلافه. فإن الشرع قد يأتي بما يحار فيه العقل، ولا يأتي قط بما يحيله العقل. وقوله: "معدول عن القياس" يوهم أن العقل يحيله والقياس الصحيح يأباه ولكن الشرع ورد به. وهذه العبارة فيها فساد وإن كانت متداولة على ألسنة كثير من الفقهاء، لكن من يطلقها منهم لا يتنبه للازمها. قوله: (فإنه يقول: البدل لا يكون له بدل). هذا تعليل لا يرتضيه الشافعي؛ فإن البدل قد يكون له بدل، كما في كفارة الظهار، فإن الصوم بدل عن التحرير، والإطعام بدل عن الصوم، وغير ذلك.

وإنما يقول: إن المسح على خف بدل عن غسل/ القدم، ولو جاز المسح على الجرموق فوق الخف من غير نص شرعي لكان في ذلك نصب بدل عن البدل الشرعي بغير دليل. فحينئذ ساغ أن يقال في جوابه: إنه كخف ذي طاقين، وليس ببدل عن الخف. قوله: (ولا يجوز المسح على العمامة). قال ابن المنذر في "الإشراف": وثبت أن رسول أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسح على "العمامة، وبه نقول. واختلفوا في المسح على العمامة، فممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق، وبه قال عمر بن الخطاب، ......................

وأنس، وأبو أمامة، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن البصري، وقتادة، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. انتهى. وحديث المسح على العمامة رواه مسلم من حديث المغيره بن شعبة، وقد تقدم، ومن حديث بلال. والبخاري من حديث عمرو بن أمية الضمري، وأحمد من حديث .............................

بلال، والمغيرة، وثوبان، وسلمان، وعمرو بن أمية الضمري. ولما كان المسح على الخفين أشهر من المسح على العمامة حصل الخلاف في المسح عليها دونهما، ولكن لا عذر لمن بلغه الحديث الصحيح فيه. وحكى ابن المنذر عن أنس أنه مسح على قلنسوته، وقال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا قال به.

وحكى أيضًا عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار. ولم يثبت في غير الخفين والعمامة حديث مرفوع. قوله: (ويجوز المسح على الجبائر وإن شدها على غير وضوء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك وأمر عليًا به). روى الدارقطني عن ابن عمر أنه عليه السلام: "مسح على الجبائر". قال البيهقي: لا يثبت عنه عليه السلام في مسح الجبائر شيء، وإنما هو عن

ابن عمر من فعله صحيح. وروى ابن ماجه عن زيد بن علي عن أبيه عن جده علي قال: كسرت إحدى زندي يوم أحد، "فأمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمسح على الجبائر". قال النووي: اتفقوا على ضعفه. انتهى. ولكن صح عن ابن عمر ولم يعرف له مخالف من الصحابة. وهو أولى بشرع المسح من الخفين؛ لأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف.

باب الحيض والاستحاضة

باب الحيض والاستحاضة قوله: (أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة أيام". وهو حجة على الشافعي في التقدير بيوم وليلة). لا يكون الحديث حجة إلا بعد ثبوته. ولو تناظر فقيهان [في مسألة]، لا تقوم الحجة على المناظر إلا بحديث يعلم أنه مسند إسنادًا تقوم به الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك. أما إذل لم يعلم إسناده، ولا يثبته أئمة النقل فمن أين يعلم صحته؟ وكيف يكون حجة على المناظر. ولم يثبت في تقدير

أقل الحيض ولا أكثره، ولا أقل الطهر حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟. وإنما احتج الطحاوي في تحديد أقل الحيض وأكثره بالثلاثة والعشرة بحديث أم سلمة، إذ سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المرأة التي كانت تهراق الدم فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، ثم تغتسل وتصلي". قال: فأجابها بذكر عدد الأيام والليالي من غير مسألة لها عن مقدار حيضها قبل ذلك، وأكثر ما يتناوله "أيام" عشرة، وأقله ثلاثة. انتهى.

قالوا: لا حجة في ذلك؛ لأن الكلام خرج مخرج الغالب، فلا يلزم أن كل امرأة لا يكون حيضها إلا أيامًا. وأيضًا فقد قال تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر}. ولو أفطر المريض [أو المسافر] يومًا لكان عليه قضاؤه بهذا النص. وما ذكره المصنف رواه الدارقطني وضعفه. وقد صرح بعض أهل الحديث بأن جميع ما روي في ذلك موضوع. وعلي -رضي الله عنه- قد جوز أن تحيض المرأة في شهر ثلاث حيض.

وقد أخذ به أحمد، ومالك وغيرهما. وقالوا: إن الله تعالى قال: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا .. النساء في/ المحيض} الآية. وقال: {واللائي يئسن من المحيض ...} الآية.

وهذا يبين أن المحيض هو الحيض، وهو سبحانه ذكر المحيض معرفًا باللام، فدل على أنه معروف عند المخاطبين، وأنهم يعرفون المحيض ويميزون بينه وبين ما ليس بمحيض. وهو لم يحده الشرع بحد [لا] لأقله ولا لأكثره، ولا للطهر بين الحيضتين. ومما يبين ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح للمستحاضة: "دم الحيض أسود يعرف"، فبين أن دم الحيض معروف من غيره كما يعرف المني من المذي والبول. وجاء في حديث آخر: "إن المستحاضة تجلس قدر ما كانت تحبسها حيضها". وفي آخر: "جعل المتحيرة تجلس غالب الحيض ستًا، أو

سبعًا". والتفريع على هذا الأصل معروف عند القائلين به.

قال أبو عمر بن عبد البر: قال أحمد بن المعذل: واختلف قول أصحابه- يعني أبا حنيفة- في [عدد] الحيض وانقطاعه وعودته اختلافًا يدلك على أنه لم يأخذوه على أثر قوي، ولا إجماع. قال: واختلف أيضًا قول مالك وأصحابه في عدد من عدد الحيض رجع فيها من قول إلى قول، وثبت هو وأهل بلده على أصل قولهم في الحيض أنه خمس عشرة. قال: وإنما ذكرت لم اختلاف أمر الحيض واختلاطه على العلماء ليعلم أنه أمر أخذ أكثره بالاجتهاد؛ فلا يكون عندك سنة قول أحد من المختلفين فيضيق على الناس اختلافهم. [قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب").

وقوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن"). وقوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يمس القرآن إلا طاهر").

الأحاديث الثلاثة خرجها أهل السنن وضعفها أهل الحديث. وقد روى مسلم وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ناوليني الخمرة من المسجد"، فقلت: إني حائض، فقال: "حيضتك ليست في يدك". وروى سعيد بن منصور في "سننه"، عن جابر -رضي الله عنه- قال: (كان أحدنا يمر في المسجد جنبًا مجتازًا). ولهذا قال الشافعي وغيره: يجوز

المرور في المسجد للحائض والجنب دون اللبث فيه. وقد روى الترمذي عن علي -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرئنا القرآن على كل حال ما لم نكن جنبًا"، وقال: حديث حسن صحيح.

ولهذا قال مالك رحمه الله: تقرأ الحائض القرآن إذا خافت النسيان، أو كان الإقراء حرفًا حرفًا. وفي "الصحيحين" في حديث هرقل: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم"، وفيه: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشْهدوا بأنا مسلمون}. ولكن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يمس القرآن إلا طاهر" هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم، وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، تلقوه بالقبول والعمل، وإن كان سنده ضعيفًا]. قوله: (وإن انقطع لعشرة أيام حلَّ وطؤها قبل الغسل؛ لأن الحيض لا

مزيد له على العشرة، إلا أنه لا يستحب قبل الاغتسال للنهي في القراءة بالتشديد). في كلامه نظر؛ فإن قوله: "لا يستحب" بعد قوله: "حل وطؤها" مشكل. فإن نفي الاستحباب لا يزيد على معنى الجواز. فكأنه قال: حل وطؤها قبل الغسل، إلا أنه يحل وطؤها قبل الغسل. ولو قال: إلا أنه يستحب أن يؤخر الوطء إلى بعد الاغتسال لكان أظهر. ومسألة "وطء الحائض إذا طهرت ولم تغتسل" الخلاف فيها معروف، والمنع منه قول زفر والأئمة الثلاثة، وأكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: إنه كالإجماع. انتهى. ودلالة القرآن على المنع أقوى؛ فإن قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن}. قال مجاهد: {حتى يطهرن} حتى ينقطع الدم، {فإذا تطهرن} اغتسلن بالماء. وقد ذكر الله تعالى غاية وشرطًا؛ فإن قوله تعالى: {حتى يطهرن} غاية التحريم الحاصل بالحيض، وهو تحريم لا

يزول بالاغتسال ولا غيره، فهذا التحريم يزول بانقطاع الدم، ثم يبقى الوطء جائزًا بعد ذلك بشرط الاغتسال، لا يبقى محرمًا على الإطلاق. وهذا كقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}. فقوله: {حتى تنكح زوجًا غيره} غاية للتحريم الحاصل بالثلاث، فإذا نكحت زوجًا غيره زال ذلك التحريم، لكن صارت في عصمة الثاني، فحرمت لأجل حقه، لا لأجل الطلاق الثالث، فإذا طلقها جاز للأول أن يتزوجها. وكقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم}، فمن بلغ النكاح من اليتامى جاز الدفع إليه بشرط إيناس الرشد منه، فالمنع من دفع المال إليه لأجل صغره ويتمه زال بالبلوغ، وبقي المنع للسفه، وبهذا حصل الجواب عن قولهم: إن قوله تعالى: {فإذا تطهرن} إباحة ثانية وابتداء كلام، وعن غيره.

قوله: (وإذا عرف حكم الصلاة عرف حكم الصوم والوطء بنتيجة الإجماع). يعني في حق المستحاضة. أي أجمع المسلمون على وجوب الصلاة عليها، ويلزم منه وجوب الصوم وحل الوطء؛ لأنه جعل الدم عدمًا في حق الصلاة مع أنها تنافيها فيجعل عدمًا في حقهما. وفيه نظر/ في حق الوطء. فإن جواز وطء المستحاضة فيه خلاف. قال ابن المنذر: عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "المستحاضة لا يأتيها زوجها"، وبه قال النخعي، والحكم. وكره ذلك ابن سيرين. وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يخاف العنت في رواية. فلم يجمعوا على التسوية بين الصلاة والصوم. وبين الوطء، فلا يصح الاستدلال بنتيجة الإجماع.

ولا يلزم من عدم اعتباره في حق الصلاة والصوم عدم اعتباره في حق الوطء؛ لأن شرط الطهارة عن الحيض في حق الصلاة والصوم عرف بالشرع. أما وطء الحائض فأمر يدرك العقل قبحه. فالمخالف يقول: المستحاضة في حق الوطء بمنزلة الحائض، لأن الوطء في كل منهما في محل الأذى. وإن كان الصحيح قول جمهور العلماء بجواز قربانها؛ فإن من منع من قربانها لأن دم الاستحاضة أذىً كدم الحيض، يرد عليه من بها سلس البول. ويفرق بينه وبين دم الحيض بأنه ليس من الرحم كدم الحيض، وإنما هو دم عرق خارج الرحم، كما أن مجرى البول خارج الرحم، فلم يكن وطء

المستحاضة كوطء الحائض، والوطء في الدبر. ***

فصل في الاستحاضة

[فصل في الاستحاضة] قوله: (والمستحاضة هي التي لا يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه، وكذلك كل من في معناها). فيه نظر: قال السغناقي في شرحه: هذا في حق الدوام والبقاء، أما في حق الابتداء، فاستيعاب الوقت كله بالحدث شرط لتصير مستحاضة. وكذلك ذكر [هـ] غيره من الشارحين وغيرهم. ومعنى قولهم: استيعاب الوقت أنه لا يخلو من الوقت قدر ما تتوضأ فيه وتؤدي الفرض، لا الدور المستمر. ويرد على الحد الذي ذكره المصنف

أيضًا أمر آخر، وهو ما ذكر في "الجامع الكبير": سال دمها في أول وقت العصر ثم انقطع فتوضأت على الانقطاع، ودخل وقت المغرب لم تعد الوضوء. والوضوء الواقع على الانقطاع لا ينتقض بخروج الوقت إذا لم يسل الدم بعده. وهذا هو الصحيح، فإن وضوءها وضوء الطاهرات. والشرع لم يعتبر الحدث المعدوم حقيقة موجودًا حكمًا، ولكن لم يعتبر الحدث الموجود حقيقة موجودًا حكمًا. وبهذا يظهر الجواب عن طعن عيسى بن أبان. ومقتضى قول صاحب "الهداية" أنها ينتقض وضوؤها بخروج وقت العصر لدخولها في الحد الذي حد به المستحاضة. وقلما تسلم الحدود مما ينقضها. ***

فصل في النفاس

فصل في النفاس قوله: (وأكثره أربعون يومًا، والزائد استحاضة، لحديث أم سلمة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت للنفساء أربعين يومًا"). المحفوظ عن أم سلمة أنها قالت: كانت النساء يجلسن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين يومًا، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف".

رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، والترمذي. ***

باب الأنجاس وتطهيرها

باب الأنجاس وتطهيرها [لو قال: والطهارة منها لكان أولى؛ لأن النجاسة لا تطهر، وإنما يطهر محلها]. قوله: (لقوله تعالى: {وثيابك فطهر}). قال قتادة، ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب، فكنى عن النفس بالثوب. وهو قول إبراهيم، والضحاك، والشعبي، والزهري. وقال عكرمة: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} فقال: (لا تلبسها على معصية ولا غدر). وذكر الواحدي: أنه قول أكثر أهل

التفسير. وقوله تعالى: {والرجز فاهجر}. قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد: المراد بالرجز الأوثان: قال: فاهجرها ولا تقربها. وقال الضحاك: يعني الشرك. ويؤيد ذلك أن هذه السورة نزلت قبل نزول الشرائع من وضوء، وصلاة، وغير ذلك. ولكن وجوب إزالة

النجاسة من الثياب والأبدان ومكان الصلاة ثابت بالسنة. قوله: (لأنه يتنجس بأول الملاقاة، والنجس لا يفيد الطهارة، إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة). قال السروجي في شرحه: قال في "الحواشي": وما ذكره من تنجيس المائع بأول الملاقاة فليس بشيء؛ لأنه إنما يتنجس بانتقال النجاسة إليه، وما داما على الثوب لا يتحقق الانتقال؛ لأن النجاسة قائمة بالثوب، والمائع قائم به أيضًا، والحيز الذي شغله الماء من الثوب غير الحيز الذي شغلته النجاسة لاستحالة حلول الجسمين في حيز واحد، فكان النجس باقيًا على نجاسته،

والطاهر باقيًا على طهارته إلا أنه يمنع/ من استعماله لأجل مجاورة النجس، فإذا زالت مجاورتها عن الثوب بتكرار الغسلات لم يبق في الثوب إلا بلة طاهرة، فعدينا هذا الحكم من الماء إلى المائع بالعلة المشتركة، ولأن الحكم إذا ثبت لمعنىً يزول بزوال ذلك المعنى لما عرف، فلما كان المعنى في تنجيس المحل وجود العين النجسة فإذا ارتفعت وجب أن تزول نجاسة المحل. ولأن دن الخمر النجس بالخمر لما طهرت الخمر بانقلابها خلًا علم أن الخل هو المطهر له إذ لم يوجد مطهر سواه فصارت كالشث والقرظ في تطهير جلد الميتة. انتهى. ولا شك أن بعض المائعات أقلع للنجاسة من الماء. وقوله عليه السلام: "ثم اغسليه بالماء" لا يمنع غير الماء، وإنما نص على

الماء لتيسره غالبًا؛ ولأنه لولا قوله: "بالماء" لكان يغلب على الظن توقف الجواز على الخل ونحوه من المائعات القالعة لأثر النجاسة لأنه أبلغ في الإزالة والتطهير، بخلاف غسل الأعضاء بعد الحدث؛ لأنه ليس عليها نجاسة حقيقية، وإنما عرف من جهة الشارع فيراعي فيه ما ورد به الشرع. والشارع قد نقل الحكم عند فقد الماء إلى التيمم بالصعيد، فلم يكن الوضوء والغسل من باب إزالة النجاسات. وإن كان لإزالة نجاسة الآثام فذلك لا يدركه العقل. وإنما يدرك العقل منه أن بالطاعة وامتثال الأمر يذهب درن الذنوب؛ فإن تأثير استعمال المطهر بنية القربة في إزالة نجاسة الآثام أعظم من تأثير الصابون مع الماء في إزالة النجاسة الحقيقية. ولهذا كان القول باشتراط النية في الوضوء والغسل أقوى دليلًا من القول بعدم اشتراطها كما تقدم تقريره. فلذلك لم يتعد الجواز إلى الخل ونحوه في الوضوء والغسل. وأيضًا فمفهوم لفظ الماء في قوله: "ثم اغسليه بالماء" مفهوم اللقب وليس بحجة، فإن قوله تعالى: {محمد رسول الله} لا ينفي رسالة غيره

على ما هو معروف في أصول الفقه. وأيضًا فقد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إزالة النجاسة بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالأحجار. ومنها: قوله في النعلين: "ثم ليدلكهما بالتراب؛ فإن التراب لهما طهور".

ومنها: قوله في الذيل: "يطهره ما بعده". ومنها: أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يكونوا يغسلون ذلك. ومنها: قوله في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، مع أنها تأكل الفأر ولا تغسل فمها إلا بريقها. وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لما في ذلك من إتلاف المال. كما لا يجوز الاستنجاء بها؛ ولذلك نص

الشارع على الماء في قوله: "ثم اغسليه بالماء"، لا لأنها لا تزيل النجاسة. قوله: (في المني لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة -رضي الله عنها-: "فاغسليه إن كان رطبًا، وافركيه إن كان يابسًا"). المحفوظ في ذلك فعل عائشة -رضي الله عنها- من غير صريح الأمر. وإن كان الظاهر أنه لا يكون إلا عن أمر. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما يغسل الثوب من خمس، وذكر منها المني"). عن عمار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما تغسل ثوبك من الغائط، والبول، والمني، والدم، والقيء". رواه الدارقطني، وضعفه، والبيهقي وقال: هذا باطل لا أصل له.

وأنكره غيره من أهل الحديث أيضًا. وخرجه البزار، ولفظه: أتى علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تصنع؟ " فقلت: أغسل ثوبي من جنابة أصابته. قال: "يا عمار! إنما يغسل الثوب من الغائط، والبول، والقيء، والدم"، ومفهوم هذا السياق أنه لا يغسل من المني. ولم يثبت في المني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء يدل على/ نجاسته، فهو مما سكت عنه، فكان عفوًا؛ فإنه مما يعم به البلوى، فلو كان نجسًا لكان يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإزالته كما أمر بالاستنجاء، وكما أمر الحائض بغسل دم الحيض من ثوبها. بل إصابة المني للناس أعظم من إصابة دم الحيض لثوب الحائض، فعلم أن إزالته غير واجبة.

وكون عائشة -رضي الله عنها- كانت تغسله تارة من ثوب رسول -صلى الله عليه وسلم-، وتفركه تارة لا يقتضي تنجيسه؛ فإن الثوب يغسل من المخاط، والبصاق، والوسخ. وقد ورد فهم هذا المعنى عن ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- وغيرهما حيث قالوا: (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، أمطه عنك ولو بإذخرة). ورواه الدارقطني مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن

عباس -رضي الله عنهما-، وصحح وقفه. وقال البيهقي: هذا صحيح عن ابن عباس من قوله. وقد روي مرفوعًا، ولا يصح رفعه. وسواء كان الرجل مستنجيًا أو مستجمرًا؛ فإن أكثر الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يستجمرون بالأحجار، ولم يرد عنهم في ذلك تفصيل، ولا فرقوا بين خروج المني قبل المذي وعكسه. بل المذي أيضًا مما تعم به البلوى، وقد قال الإمام أحمد بطهارته في رواية

عنه لذلك. ولكن أكثر العلماء على القول بنجاسته. وإذا كان كذلك فلا يضر احتمال وجوده مع المني؛ لأن النجاسة يعفى عن يسيرها في مواضع الضرورة، وهذا منها. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الأرض يبسها").

وفي الأسرار جعله أثرًا عن عائشة. وقال أهل الحديث: إن هذا الحديث لا يعرف له إسناد أصلًا. ولكن الأرض من شأنها أن تحيل الأشياء وتنقلها إلى طبعها، فإذا ذهب أثرها بالشمس، والريح، وطبيعة الأرض، علم أنها استحالت إلى طبع الأرض فصارت كتخلل الخمر. ويشهد لذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنت شابًا عزبًا أبيت في المسجد، وكانت الكلاب تبول، وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك". أخرجه مالك في الموطأ، وأبو داود، وأبو بكر بن خزيمة في صحيحه. قال الخطابي وابن خزيمة: هذا

الحديث صحيح. قوله: (وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطًا بنص الكتاب، فلا تتأدى بما ثبت بالحديث). قال السروجي: وفي رواية ابن كاس، يجوز التيمم بها أيضًا قياسًا على جواز الصلاة. انتهى. وهذا هو الصحيح؛ فإن طهارة المكان ثابتة بدلالة النص كما قد تقرر في موضعه. والثابت بالدلالة كالثابت بالعبارة. وقد صار المكان طاهرًا في

حق الصلاة عليه مع كونه ثابتًا بنص الكتاب، فكذلك التيمم. وقد ثبت في الصحيح أنه كان في مكان مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- قبور من قبور المشركين فأمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فنبشت. فلو كان تراب القبور نجسًا لأمر بنقل ذلك التراب؛ فإنه لابد أن يختلط ذلك التراب بغيره. وهل يقول أحد إنه لا يجوز التيمم بتراب مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!. وقد فرق السروجي بفروق أخر ضعيفة: أحدها: أن طهارة الصعيد شرط في التيمم بالإجماع، وهذا ليس بطاهر بالإجماع، إذ فيه اختلاف بين العلماء. جوابه: أن طهارة الماء شرط في الوضوء بالإجماع، والماء المختلف في نجاسته ليس بطاهر بالإجماع، ويجوز الوضوء منه عند القائل بطهارته. الثاني: أن التيمم يفتقر إلى طهارة الصعيد وطهوريته لرفع الحدث، والصلاة تفتقر إلى طهارة المكان لا غير، وبالخبر ثبتت الطهارة دون الطهورية. جوابه: أن الصعيد متى ثبتت طهارته ثبتت طهوريته؛ إذ لم يقل أحد من

العلماء إن الصعيد منه ما هو طاهر، ومنه ما هو طهور، كما اختلفوا في الماء. وفي خلافهم في الماء/ فيه ما فيه. الثالث: أن الأرض تنشف النجاسة، والهواء يجذب فتقل النجاسة، والقليل من النجاسة لا يمنع جواز الصلاة، ويمنع التطهر به. جوابه: أنه ليس هذا وحده، بل الأرض تحيل النجاسة إلى طبعها كما تقدم في كلامه هو. فإذا استحالت النجاسة ترابًا حكم بطهارة ذلك التراب كما يحكم بطهارة الخمر إذا استحالت خلًا، كما قال هو أيضًا. وإلا يلزم من طرد ذلك القول نجاسة وجه الأرض، خصوصًا المدن والقرى وما حولها، فإنها لابد أن تكون قد أصابتها نجاسة ثم استحالت. قوله: (وقدر الدرهم وما دونه من النجاسة المغلظة كالدم، والبول، والخمر، وخرء الدجاج، وبول الحمار، جازت الصلاة معه، وإن زادت لم تجز) إلى آخره.

فيه نظر من وجوه: أحدها: التقدير بالدرهم، فإنه لم يرد فيه عن الشارع نص، والتقدير لا يعرف إلا بالسمع. وما يروى فيه: "تعاد الصلاة من قدر الدرهم" يعني من الدم. ذكره البخاري في تاريخه. وهو حديث باطل لا أصل له، ويرويه روح بن غطيف عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة يرفعه. وروح منكر الحديث، يعرف بهذا الحديث، ذكره البخاري وغيره. والعجب أنهم استدلوا بهذا الحديث ولم يعملوا به؛ فإن فيه: "تعاد الصلاة من قدر الدرهم"، وهم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر

الدرهم، وإنما تعاد من أكثر من قدر الدرهم. وتفويض التقدير في مثله إلى العرف أظهر. الثاني: تعميم البول بتغليظ النجاسة؛ فإن بول الصغير الذي لم يأكل الطعام صح فيه الاكتفاء برش الماء عليه كما في حديث أم قيس بنت محصن: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبال على ثوبه: "فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله". رواه الجماعة. وعن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بول الغلام الرضيع ينضح، وبول الجارية يغسل". قال قتادة: (وهذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسلا جميعًا). رواه أحمد،

والترمذي وقال: حديث حسن. وفيه أحاديث غير ذلك أيضًا. وكذا بول ما يؤكل لحمه أيضًا لما تقدم. الثالث: استثناء خرء الدجاج؛ فإنه ليس فيه نص. وقد قال المصنف بعد ذلك: وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت بدليل مقطوع به. وأين الدليل المقطوع به على نجاسة خرء الدجاج دون بقية الطيور التي يؤكل لحمها؟!.

قوله: (وإذا أصاب الثوب من الروث وأخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى بالروثة وقال: هذا رجس أو ركس" لم يعارضه غيره). فيه نظر؛ فإن الذي في الصحيح: "أنه ألقى الروثة، وقال: هذا ركس". وجاء في رواية في غير الصحيح، أخرجها الدارقطني ولم تثبت: "هذه رجس". والرجس المتقذر، ولا يلزم من الاستقذار النجاسة. وعلى تقدير أنها نجسة، لا يصح الاستدلال بذلك على نجاسة روث ما يؤكل لحمه؛ لاحتمال أن يكون روثة ما لا يؤكل لحمه.

وفي صحيح ابن خزيمة: أنها كانت روثة حمار. والركس الرجيع. قال أبو عبيدة: هو شبيه بالرجيع. يقال: ركست الشيء وأركسته إذا رددته. قال النسائي: الركس طعام الجن. وما قاله أبو عبيدة تفسير له من حيث اللغة. وما قاله النسائي تفسير له من حيث الشرع. يشهد لذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن". رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، واللفظ له من حديث ابن مسعود راوي حديث الحجرين والروثة.

وقد جاء التنبيه على هذه العلة أيضًا في حديث أبي هريرة، وأنس، وغيرهما. فكان النهي عن الاستنجاء بها لئلا ينجسها لا لئلا يتنجس بها. وثبت في "الصحيحين" وغيرهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف بالبيت/ على راحلته"، فأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع المساجد، المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتركها حتى طاف سبعًا. وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنها قد تبول وتروث، فلو كان ذلك نجسًا لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أنه لا ضرورة في ذلك.

والحبوب تداس بالبقر، ولابد أن تبول وتروث، فلو كان ذلك ينجس الحبوب لحرمت. وبهذا وغيره استدل من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وطهارة روثه. وهو مالك، وأحمد، والثوري، وعطاء، والنخعي. فإن لم تثبت به الطهارة فلا أقل من التخفيف. قوله: (ويروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة، [ويروى من حيث الوزن]).

فيه نظر، فإن التقدير بالدرهم إنما أخذ من موضع الاستنجاء. قال السروجي: قال إبراهيم النخعي: أرادوا أن يقولوا: مقدار المقعد، فاستقبحوه وقالوا: مقدار الدرهم؛ لأنه لا يزيد على مساحة الدرهم، فإذا ثبت أنه عفي عنه في موضع الاستنجاء للضرورة والحرج كان معفوًا عنه في سائر المواضع. وفيه ما فيه. ولكن إذا قام الدليل على العفو عن القليل من النجاسة المغلظة، وما دون الكثير الفاحش من المخففة، كان التقدير لذلك بالرأي والاجتهاد خفيفًا لا يضر اضطراب أقوال المختلفين فيه. وكان التقدير بالدرهم

في حد القليل، وبالربع في حد الكثير الفاحش بالاستحسان على سبيل التقريب، لا على سبيل التحديد المتحتم. قوله: (ثم هو أدب، وقيل سنة في زماننا). يعني الاستنجاء بالماء. وفيه نظر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالاستجمار، وأباحه للأمة شرعًا عامًا في زمنه وبعده؛ فإنه أمر الصحابة أن يبلغوا عنه. مع أنه كان في زمنه الصحيح والمبطون، ومن يكون الخارج منه رقيقًا سائلًا، ومن يكون الخارج منه غليظًا شديدًا، ولم يرد عنه في ذلك استفصال. ومعلوم أن أحوال الناس في هذا مختلفة، فلا يصح التفريق بين زماننا وزمانه -صلى الله عليه وسلم- في كون الاستنجاء بالماء أدب أو سنة في زماننا دون زمانه. ***

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة قوله: (وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي بالشك). يعني أن وقت الظهر لا ينقضي إذا صار ظل كل شيء مثله. بل إذا صار ظل كل شيء مثليه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وفيه نظر؛ فإنه لا يعارض قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". حديث إمامة جبريل: "أنه عليه السلام صلى بالنبي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به العصر في

اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله إذ الإبراد يحصل قبل ذلك بكثير. ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤخر إلى ذلك الوقت. فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبرد"، ثم أراد أن يؤذن فقال له: "أبرد"، حتى رأينا فيء التلول. الحديث متفق عليه.

ورؤية فيء التلول يكون قبل أن يصير ظل كل شيء مثله بكثير، ولا تثبت المعارضة إلا إذا كان الإبراد لا يكون إلا بعد أن يصير ظل كل شيء مثله، وليس الأمر كذلك. وفي حديث إمامة جبريل: "أنه صلى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه". ولهذا قال مالك، والشافعي، والثوري، وأحمد في رواية: أنه يخرج وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد ذلك إلا لضرورة. فكيف يقال بدخول وقتها [في الوقت] الذي دل الحديث على خروجه فيه؟!. وحديث المثل الذي ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله: / "مثلكم ومثل الأمم قبلكم كمثل رجل استأجر أجيرًا ... " الحديث، إنما يدل على أن وقت العصر من وقت الظهر، وهذا لا ريب فيه.

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يخرج وقت الظهر ويدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، كقولهما. واختاره الطحاوي، وعليه عمل الناس. وذلك كله سوى فيء الزوال كما هو معروف في "الهداية" وغيرها. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفق هو الحمرة"، وله قوله عليه الصلاة والسلام: "آخر وقت المغرب إذا اسودَّ الأفق"). أما الحديث الأول، وهو قوله: "الشفق الحمرة" فرواه الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا. قال البيهقي: الصحيح أنه موقوف، يعني أنه من كلام ابن عمر نفسه.

وأما الحديث الثاني، وهو قوله: "آخر وقت المغرب إذا اسود الأفق"، فلا يعرف. ولكن روى النسائي، وأبو داود عن أبي مسعود الأنصاري قال: " كان عليه السلام يصلي هذه الصلاة- يعني العشاء- حين يسود الأفق". ولا يدل ذلك على أنه أول الوقت، لاحتمال أنه كان يؤخرها عن أول وقتها قليلًا لإحراز الفضيلة، فإنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل"، ..................

مع أن سواد الأفق يبدو من بعد أن يغيب الشفق الأحمر. وفي حديث ابن عمر [و]: "ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" رواه مسلم، وأبو داود، ......................

ولفظ أبي داود: "فور الشفق". والثور والفور بمعنى الثوران والفوران. وذلك بغيبوبة الحمرة. وقد نقل كثير من أهل اللغة أن الشفق عند العرب هو الحمرة. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر". قال السروجي: هذا الحديث لم يعرف أصلًا في كتب الحديث، ولا في كتب الفقه التي شرحها مني عرف الحديث. انتهى. ودليل بقاء وقت العشاء إلى طلوع الفجر قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة:

"التفريط أن تؤخروا صلاة حتى يدخل وقت الأخرى". رواه مسلم. ولأن الصحابة والتابعين اتفقوا على أن الحائض لو طهرت قبل طلوع الفجر الثاني وجدبت عليها صلاة العشاء. واختلفوا في وجوب المغرب. فلو لم يكن الوقت باقيًا لما وجبت العشاء.

فصل

فصل قوله: (ويستحب الإسفار بالفجر لقوله عليه الصلاة والسلام: "أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر". الحديث المذكور لو كان معارضًا لم يقاوم الأحاديث الواردة في التغليس في الصحة والشهرة والعمل؛ ف إنه هو فعله -صلى الله عليه وسلم- حتى مات،

وفعل الخلفاء الراشدين بعده. ولهذا تأوله الطحاوي رحمه الله وغيره على الإسفار بالخروج منها. أي أطيلوا صلاة الفجر حتى تخرجوا مسفرين. وقيل المراد بالإسفار التبين، أي صلوها إذا تبين الفجر وانكشف ووضح؛ فإن في "الصحيحين" عن ابن مسعود قال: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلا ة المغرب بجمع".

وصلاة الفجر إنما صلوها يومئذ بعد طلوع الفجر. هكذا في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "وصلى صلاة الفجر حين برق الفجر". وإنما مراد عبد الله بن مسعود أنه كان يؤخر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر، وذلك اليوم عجلها قبل ذلك. وبهذا يتفق معاني أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأما إذا أخرها بسبب يقتضي التأخير مثل المتيمم يؤخرها ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد حتى يصلي آخر الوقت في جماعة، والعاجز عن القيام حتى يصلي آخر الوقت قائمًا، ونحو ذلك مما فيه فضيلة تزيد على

فضيلة الصلاة في أول الوقت، فالتأخير لذلك أفضل. ولا ينبغي تأخيرها/ لتكثر الجماعة؛ لأنهم إذا علموا أنهم لا ينتظرون سارعوا إلى الحضور، وإذا علموا أنهم ينتظرون تهاونوا. قوله: (وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الشتاء والصيف، لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده). لا يعارض هذا المعنى اللطيف النصوص الواردة والمعاني التي هي أقوى منه. أما النصوص فحديث أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي العصر والشمس مرتفعة، فيذهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة" متفق عليه. وفي رواية: "فيذهب الذاهب منا إلى قباء". وفي أخرى: قال اسعد بن صهل بن حنيف: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس فوجدناه يصلي العصر،

فقلت: يا عم! ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كنا نصلي معه. وفي أخرى لمسلم قال: "صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العصر، فلما انصرف أتاه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! إنا نريد أن ننحر جزورًا لنا، وإنا نحب أن تحضرها. قال: "نعم". فانطلق معه فوجدنا الجزور لم تنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا قبل أنت تغيب الشمس". وحديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر والشمس في حجرتها".

قال البخاري: وقال أبو أسامة، عن هشام: "في قعر حجرتها". وحديث إمامة جبريل، فإنه صلى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الأول العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وفي اليوم الثاني مثليه، ثم قال بعد ذلك: "الوقت ما بين هذين". وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل" رواه مسلم. ومعناه يؤخرون الصلاة عن أول وقتها، فهذا هو المنقول عن أولئك

الأمراء، وهو التأخير عن أول الوقت لا عن الوقت كله. فمعنى صل الصلاة لوقتها. أي لأول وقتها. وهذا الحديث يشمل العصر وغيرها. وفي مسند أبي حنيفة: عن يحيى، عن بريدة: [قال] قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بكروا لصلاة العصر". وأما المعاني فالمبادرة إلى أداء العبادة وامتثال الأمر أفضل من التواني. قال تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم}، وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}. وأيضًا ففي تأخيرها تعريضها للفوات، وعروض الآفات. وأيضًا ففي التأخير احتمال خروج وقتها الاختياري بصيرورة ظل كل

شيء مثليه، لحديث إمامة جبريل، كما ذهب إليه مالك، والشافعي، وغيرهما، وكمما وقع عليه الاتفاق في العشاء. وأيضًا فإن جبريل لما صلى بالنبي-صلى الله عليه وسلم- المغرب في اليومين في وقت واحد قلنا بكراهة تأخير المغرب. وكذلك لما صلى به العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل أو نصفه اتفقت الأمة على كراهة تأخيرها عن ذلك الوقت.

فمقتضاه أن يقول هنا بكراهة تأخير العصر إلى ما بعد صيرورة ظل كل شيء مثليه، ولا فرق بينهما أصلًا. فإن قلتم: المغرب يكره التنقل قبلها بخلاف العصر. قلنا: بل هو غير مكروه. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ولم يرد في تأخير العصر ما يصلح لمعارضة هذه النصوص والمعاني. فما رواه أبو داود: "أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية"، وما رواه الدارقطني: "أنه عليه السلام كان يأمر بتأخير هذه الصلاة، يعني العصر"، وما رواه الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أشد تعجيلًا للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلًا للعصر منه"،

ضعف أهل الحديث الأحاديث الثلاثة. وحديث أم سلمة المذكور إنما يدل على زيادة التعجيل، وإذا ظهر الدليل فلا عذر لمن خالفه، ولا يمكن الاحتياط هنا بالخروج من الخلاف أصلًا، ولا يمكن أن يصلي العصر في وقت مجمع عليه؛ فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول: يدخل وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه. وعند مالك والشافعي يخرج وقتها الاختياري./ فيتعين النظر في الدليل، ورد تلك الرواية الشاذة عن أبي حنيفة، والأخذ برواية الحسن عند الموافقة لقول صاحبيه، وقول سائر العلماء. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء). هذا الحديث منكر، لا عرف في كتب الحديث. والمحفوظ ما رواه

عقبة بن عامر أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤدوا المغرب حتى تشتبك النجوم"، رواه أحمد وأبو داود. والأدلة على استحباب تعجيل المغرب وتأخير العشاء من السنة مذكورة في كتب الحديث، وليس هذا اللفظ فيها.

فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة

فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة قوله: (في حديث عقبة: "وعند زوالها حتى تزول"). ليس لفظ الحديث كما قال المصنف، وإنما قال: "وحين تقوم قائمة الظهيرة حتى تميل". وليس في معناه قول المصنف: عند زوالها؛ لأن زوالها بعد استوائها، والمكروه الصلاة عند استوائها لا عند زوالها. قوله: (والمراد بقوله: "أن نقبر" صلاة الجنازة، لأن الدفن غير مكروه). فيه نظر! لأن الإمام أحمد يقول بكراهة الدفن في هذه الأوقات الثلاثة. وكره الشافعي تحري الدفن فيها؛ لحديث عقبة المذكور، وهو

نص في كراهة الدفن فيها. فإنه يقال: قبره إذا دفنه، وأقبره إذ أعد له قبرًا. ولا وجه لحمله على صلاة الجنازة؛ لأنه يقال: قبره إذا صلى عليه. وقد عرف حكم كراهة الصلاة عليه في هذه الأوقات الثلاثة من ذكر الصلاة، ودخلت في عمومها بقرينة ذكر الدفن. قوله: (إلا عصر يومه عند الغروب؛ لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت). قال السروجي: وفيه منع؛ فإنه يجوز أن يكون السبب الجزء الأول وتكون الصلاة في الجزء الثاني والثالث قبل خروج الوقت أداء لا قضاء لبقاء الوقت؛ إذ الواجب موسع. ويمكن أن يقال: إن أجزاء الوقت فارقت خارج الوقت في جعل الواقع فيها أداء، وفي خارج الوقت قضاء. وهذا الاختصاص لصلاحية كل جزء من أجزاء الوقت للسببية.

ثم نقل بعد ذلك بأسطر عن شمس الأئمة السرخسي أنه قال في أصول الفقه: ولا بد من أن يجعل جزء من الوقت سببًا للوجوب، فقلنا: سبب الوجوب الجزء الأول من الوقت، فبإدراكه يثبت حكم الوجوب وصحة أداء الواجب. قال: هذا معنى ما نقل عن محمد بن شجاع أن الصلاة تجب بأول جزء من الوقت وجوبًا موسعًا، وهو الأصح. وكذال نقله علاء الدين السمرقندي في "الميزان".

وفي "التقويم" لأبي زيد: ومن الناس من ظن أن الأداء لما لم يلزم في أوال الوقت لم يكن وجوب الصلاة متعلقًا بأوله- وإنه غلط- ويتعين وقته بالفعل كالكفارة. وفي "مختصر البزدوي": الوجوب بأول جزء من الوقت، خلافًا لبعض مشايخنا. انتهى. وهذا القول هو الموافق لقول سائر الأئمة، وهو الذي يتعين الأخذ به. والكلام في ذلك مبسوط في موضعه. فإذا عرف أن الصحيح من المذهب أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبًا

موسعًا (استوى) الفجر والعصر، وظهر ضعف دعوى نقصان السبب في حق من أخر العصر إلى اصفرار الشمس، وضعف تفريق المصنف بين صلاة الفجر وصلاة العصر بقوله عن العصر: إنه أداها ناقصة كما وجبت،÷ بخلاف غيرها من الصلوات لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، أخرجه الجماعة. وفي رواية للبخاري: "إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته". والمراد بالسجدة الركعة.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا" رواه مسلم وغيره. فثبت أنه يكره تأخير الفجر/إلى طلوع الشمس، ولا تفسد بطلوعها فيها. ويكره تأخير العصر إلى غروبها، ولا تفسد بغروبها بل يتمها لأنه مأمور بإتمامها بقوله: "فليتم صلاته" كما تقدم. والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت يحمل على النهي عن ابتدائها فيه لا عن استدامتها توفيقًا بين الدليلين؛ فإنه لم يقل: لا تتموا الصلاة في هذا الوقت. والدوام أسهل منت الابتداء، كما أن العدة تنافي ابتداء النكاح دون بقائه، والإسلام ينافي ابتداء الرق دون دوامه، والذهول عن النية ينافي

ابتداء العبادة دون بقائها، وأمثال ذلك. قوله: (والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة الكراهة، حتى لو صلاها فيه أو تلا فيها سجدة فسجدها جاز؛ لأنها أديت ناقصة كما وجبت، إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة). في تعليله نظر؛ فإنه كلام متناقض؛ لأن قوله: لأنها أديت ناقصة كما وجبت يشير إلى أن السبب في حق صلاة الجنازة وسجدة التلاوة هو الوقت الناقص. وقوله: إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة، يشير إلى أن سبب صلاة الجنازة حضور الجنازة، وسبب سجدة التلاوة تلاوة آيتها. وهذا تناقض بين. والصحيح أن حضور الجنازة سبب لصلاتها، وتلاوة آية السجدة سبب لسجدتها. والوقت ليس بسبب لهما، ولا شرط فيهما، وإنما هو ظرف محض، ولكن ورد النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. وصلاة الجنازة صلاة، وسجدة التلاوة في معنى الصلاة، فدخلتا في عموم النهي.

وقلنا بالكراهة دون عدم الأجزاء لأن النهي لسد الذريعة إلى التشبه بمن يصلي للشمس أو يسجد لها، وإن كان المصلي والساجد لا يقصد ذلك. فعلى هذا سواء تلا قبل الطلوع وسجد عنده، أو تلا عند الطلوع وسجد عنده فإنه يكره، وكذلك صلاة الجنازة. قوله: (لأن الكراهة كانت لحق الفرد ليصير الوقت كالمشغول به، لا لمعنى في الوقت). في تعليله نظر؛ إذ لو كان كذلك لكره التنفل بعد سائر الفروض، ولكره غير الصلاة أيضًا من الأفعال المنافية لصلاة الفرض، ولكان غير الصلاة أولى بالكراهة من الصلاة. ولكن التعليل الصحيح أن ما يقرب من الشيء يأخذ حكمه، والصلاة عند الطلوع والغروب مكروهة، فكرهت أيضًا بعد الفرض قبلهما سدًا للذريعة. وكان هذا بمنزلة الحريم للوقت [المكروه] والحمى له. كما شبه النبي-صلى الله عليه وسلم- بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.

قوله: (لأن الوجوب لغيره). أي لا يصلى بعد صلاة الفجر، ولا بعد صلاة العصر ما وجب لغيره، ويصلى فيهما ما وجب لعينه. والتفريق في ذلك بين ما له سبب وما لا سبب له أولى من التفريق فيه بين ما وجب لعينه وما وجب لغيره؛ لأنه فرق شهد له النص بالاعتبار، وهو: "أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قضى سنة الظهر بعد العصر لما شغله ناس من عبد القيس عنها" متفق عليه. ففي الحديث دليل على أن السنن تقضى وأن ما له سبب لا يكره فعله في أوقات النهي. ويؤيده قوله-صلى الله عليه وسلم-: "لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها". متفق عليه. وفي لفظ: "لا تحينوا"، فيحمل المطلق على المقيد

لأن الحكم واحد. قوله: (ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض لما فيه من تأخير الفرض). فيه نظر؛ فإنه صح عن أنس أنه قال: "كان المؤذن إذا أذن قام الناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السواري حتى يخرج النبي-صلى الله عليه وسلم- وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الآذان والإقامة شيء". وفي رواية: "ولم يكن بينهما إلا قليل". وفي رواية قال: "كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من (يصليهما). أخرج الأولى البخاري والنسائي، والثانية مسلم. وعن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين"، ثم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين". قال في الثالثة:

"لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة". رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، وأبو حيان/ وزاد: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى قبل المغرب ركعتين". وعنه أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة". قال في الثالثة: "لمن شاء". أخرجه الجماعة إلا الموطأ. وما قال السروجي: إنما يحمل حديث الركعتين التي كان يصليها الصحابة

رضي الله عنهم قبل المغرب على أول الأمر قبل النهي، أو قبل أن يعلم ذلك رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-]، فقول بغير دليل. بل يرده حديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نصلي على عهد -صلى الله عليه وسلم- كعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب". قال: فقلت: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (صلاهما)؟ قال: "كانا يرانا (نصليهما) فلم يأمرنا ولم ينهنا". أخرجه مسلم وأبو داود.

وكذلك قوله فيما تقدم: "حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم كذلك". وأصرح من ذلك كله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا قبل المغرب ركعتين .... " الحديث كما تقدم ذكره. قوله: (ولا إذا خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة إلى أن يفرغ). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: (ولا إذا خرج الإمام للخطبة). وسيأتي ما في ذلك من باب الجمعة. والثاني: أنه ينبغي أن يستثنى تحية المسجد كما قال به الشافعي، وأحمد؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: "دخل رجل يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، قال: صليت"؟ قال: لا. قال: "فصل ركعتين".

وفي رواية: "قم فاركع". وفي أخرى: "قم فصل الركعتين". وفي أخرى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليركع ركعتين". أخرجه البخاري ومسلم. ولمسلم قال: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أركعت ركعتين"؟ قال: لا. قال: "قم فاركع". وفي أخرى قال له: "يا سليك! قم فاركع ركعتين [و] تجوز فيهما". زاد في أخرى: ثم قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما".

وما نقله السروجي عن أبي بكر بن العربي من معارضة هذه الأحاديث لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت". فجعل الأمر بالإنصات الذي هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغوًا محرمًا، فالنفل أولى. ولأن الخطبة في حكم الصلاة، ولو وجد الإمام يصلي لم يركع، فكذا إذا وجده يخطب. ورد حديث سليك بأنه خبر واحد يعارضه ما هو أقوى منه، وأصول من القرآن والشريعة، فوجب تركه، أو أنه يحمل على أنه كان قبل نسخ الكلام من الصلاة، أو أنه لما خاطب سليكًا سقط عنه فرض الاستماع؛ لأنه ترك الخطبة في حال تكليمه إياه - وجعل هذا أقوى ما في الباب - أو أن سليكًا لما كان ذا بذاذة وفقر أراد أن يقيمه لترى حاله فيعتبر به، أو يتصدق

عليه، يمكن أن يجاب عنه. أما ما ذكره من معارضة الآية الكريمة فغير مسلم، وليست الخطبة كلها قرآنًا فيستدل بالآية على وجوب الإنصات لها، وإن كان فيها قرآن، والاستماع لها واجب فيخص منه هذه السورة بالسنة الثابتة الصحيحة. وما هذا بأول سنة قيدت مطلق الكتاب، أو خصصت عمومه، وليس هذا من باب المعارضة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت" فالمراد الحض على الإنصات وترك الكلام وإن كان من باب الأمر بالمعروف، لا ترك هذه الصلاة التي ورد الأمر بها، فيكون هذا الحديث مقيدًا لإطلاق هذا الحديث. وأما كون الخطبة في حكم الصلاة، فليست في معنى الصلاة من كل وجه حتى يكون من وجده يخطب كمن وجده يصلي، بل كان النبي/ -صلى الله عليه وسلم- يسأل في الخطبة ويجيب، ........................

ويأمر وينهى. وأما قوله عن حديث سليك: إنه خبر واحد؛ فقد تقدم أنه حديث ثابت صحيح تلقته الأمة بالقبول، وعمل به من بلغه. وأما حمله على أنه كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، فنسخ الكلام لا يلزم منه نسخه في الخطبة، وإنما يحرم الكلام على المستمع للخطبة لأجل الاستماع لها، وأما على الخطيب فلا. فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقطع الخطبة لحاجة تعرض له، أو لسؤال أحد من الصحابة ثم يعود إلى الخطبة.

وربما نزل لحاجة ثم عاد فأتم الخطبة، كما نزل لأخذ الحسن والحسين فأخذهم ثم رقى المنبر فأتم الخطبة. وكان يقول: "يا فلان اجلس، يا فلان صل". ولم يرد لهذا ناسخ. وأما قوله: إنه لما خاطب سليكًا سقط عنه فرض الاستماع؛ لأنه خطبة في حال تكليمه إياه. فالجواب أنه إنما كلمة قبل صلاته، ولم يكلمه في حال الصلاة.

بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حال صلاة الرجل كما في السنن من حديث أبي سعيد الخدري وصححه الترمذي، ولفظه: "أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب فأمره فصلى ركعتين والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب". وقوله: إن هذا أقوى دليل في الباب. تبين ضعف الكل؛ لأنه إذا كان هذا الأقوى واهيًا فكيف بغيره؟!. وأما قوله: إن سلكًا كان ذا بذاذة فأراد أن يقيمه لترى حاله، فلو كان هذا المعنى هو المراد لم يأمره بفعل ما لا يجوز.

باب الأذان

باب الأذان قوله: (وما رواه كان تعليمًا فظنه ترجيعًا). ولا يظن بأبي محذورة الغلط، ولو كان على وجه الغلط لبين له، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونه ويقرونه على الغلط، بل ذلك يؤدي إلى تغليط كل من سمعه من الصحابة. وأيضًا ففي بعض طرق حديث أبي مح ذورة في الصحيح قال: "تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن

لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله ... إلى آخره". فهذا يدل على أنه فعله بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له به. فانتفى أن يكون فعله ذلك بظنه. ولا يؤخذ بأذن بلال وإقامة أبي محذورة على وجه الإهمال لغيرهما، بل على وجه أن كلًا سنة، يفعل هذا في مكان وهذا في مكان، أو هذا تارة وهذا تارة. ومن رجحهما على وجه الإهمال لغيرهما، أو رجح أذان أبي محذورة وإقامة بلال على وجه الإهمال لغيرهما فهو مشكل.

قوله: (ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين؛ لأن بلالًا رضي الله عنه قال: الصلاة خير من النوم، حين وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- راقدًا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "وما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك"). عن سعيد بن المسيب عن بلال رضي الله عنه، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤذنه لصلاة الفجر، فقيل: هو نائم؛ فقال: "الصلاة خير من النوم- مرتين"، فأقرت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك. أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وليس فيه: ما أحسن هذا يا بلال!.

وفي حديث أبي محذورة قال: قلت يا رسول الله! علمني سنة الأذان، فمسح مقدم رأسه وعلمه، وقال: "فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، [الصلاة خير من النوم]، الله أكبر، الله أكبر، [لا إله إلا الله] "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وأبو حاتم. قوله: (والإقامة مثل الأذان إلا أنه يزيد بعد الفلاح: قد قامت الصلاة، مرتين. هكذا فعل الملك النازل من السماء، وهو المشهور). فيه نظر، فقد روى الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحة حديث عبد الله بن زيد الذي فيه قصة المنام الذي رأى فيه الملك النازل من/ السماء، وفيه أنه أفرد الإقامة. وصححه الترمذي،

وذكر أنه سأل عنه البخاري فقال: هو عندي صحيح. انتهى. وإنما روى أن الإقامة مثنى في حديث المنام الدارقطني، وأبو داود من طريق فيه كلام. وفي "الصحيحين" وغيرهما: "أن بلالًا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" ............................

وإنما يروى بشفع الإقامة عن أبي محذورة. وعنه في رواية: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". وقال بكير بن عبد الله بن الأشج: (أدركت أهل المدينة في الأذان مثنى مثنى، وفي الإقامة مرة). وبكير من كبار التابعين، وهو يخبر بهذا عن الصحابة والتابعين في دار الهجرة. وكان

يقام للخلفاء الأربعة مرة مرة. وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم. ومذهب الفقهاء السبعة وأكثر العلماء بعدهم، منهم الأئمة الثلاثة، ولم ينقل اختيار تثنية الإقامة إلا عن الثوري، وأبي حنيفة،

وابن المبارك، كذا ذكره الحاكم. فظهر أن المشهور إنما هو إفراد الإقامة، خلاف ما ادعاه صاحب الهداية. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أذنت فترسَّل، وإذا أقمت فاحدُر").

هذا حديث ضعيف. قال الترمذي: وإسناده مجهول. قوله: (والتثويب في الفجر: حيَّ على الصلاة حي على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة حسن). عن مجاهد قال: دخلت مع ابن عمر مسجدًا وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: (اخرج بنا من عند هذا المبتدع)، ولم يصل فيه. رواه أبو داود والترمذي. وعن بلال قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُثَوِّبَنَّ في شئ من الصلوات إلا في صلاة الفجر". أخرجه الترمذي.

والمصنف قال بعد ذلك: (وهذا تثويب أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم لتغير أحوال الناس). وفيه نظر؛ فإن ما أحدث بعد عهد الصحابة لا يكون حسنًا. وقد قال رسول الله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". رواه أبو داود والترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود. وما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما رآه المسلمون حسنًا

فهو عند الله حسن"، الصحيح أنه من كلام عبد الله بن مسعود، ولا يدل على أنه ما رآه بعض المسلمين حسنًا فهو عند الله حسن، وإنما يدل على أن ما رآه المسلمون كلهم حسنًا؛ لأن الألف واللام للعموم بمنزلة كل، وهذا يكون إجماعًا ولا كلام فيه. وإنما الكلام فيما استحسنه بعضهم ومنعه بعضهم. وما يستدل به من قول عليه الصلاة والسلام: "من سنن سنة خيرٍ واتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئًا. ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليها وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئًا" أخرجه الترمذي، على أن البدع منها حسن، ومنها

قبيح، وذلك قال عمر رضي الله عنه صلاة التراويح: "نعم البدعة هذه"، فغير مسلم، بل عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "كل بدعة ضلالة" لا يخص منها شئ؛ لأن المراد المبدعة الشرعية لا اللغوية. أي كل بدعة لم تشرع في الدين فهي ضلالة. وصلا التراويح ليست ببدعة شرعية، وإن كانت بدعة لغوية لكونها حدثت بعد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا، وهذا/ بعده مأمون.

مع أنه لو لم يبين العذر في ترك المواظبة لكان مما سنه الخلفاء الراشدون، وقد أمرنا بإتباعهم فيما سنوه لنا. وإحداث عثمان رضي الله عنه الأذان الأول يوم الجمعة لم يخالفه فيه أحد من الصحابة، فكان مما رآه المسلمون حسنًا، فيكون ثابتًا بالإجماع، وأيضًا فقد سنه هذا الإمام الخليفة الراشد المهدي فوجب إتباعه. وأما ما حدث بعد الخلفاء الراشدين ورآه بعض الناس حسنًا دون البعض ففيه الكلام.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "يؤذن لكم خياركم"). رواه أبو داود وابن ماجه. وفي سنده الحسين بن عيسى الحنفي منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لابني أبي مليكة: "إذا سافرتما أذنا وأقيما"). إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لمالك بن الحويرث، ولابن عم له، أو صاحب له، وفي آخر الحديث: "وليؤمكما أكبركما"، رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود.

وفي "الصحيحين" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا- وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا رفيقًا- وظن أن قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه. قال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم، ومرورهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". وللبخاري: "وصلوا كما رأيتموني أصلي". ولمسلم مختصر قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا وصاحب لي فقال لنا: "إذا حضرت الصلاة فأدنا ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما". وقد اشتبه على المصنف اسم من قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أذناه وأقيما ... الحديث"، فنسبه إلى ابني أبي مليكة، وابنا أبي مليكة تابعان: أحدهما: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي، مشهور، روى عن

جماعة من الصحابة، وروى له الجماعة كلهم في كتبهم. توفي سنة سبع عشرة ومائة. وأخوه أبو بكر روى عن عائشة، ومن التابعين عن عبيد بن عمير، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وابن جريح وغيرهما. روى له البخاري، وهو من المقلين.

باب شروط الصلاة التي تتقدمها

باب شروط الصلاة التي تتقدمها قوله: (ويروى ما دون سرته حتى تجاوز ركبته). قال السروجي: قوله: (حتى تجاوزت ركبته) لم يذكر في الحديث، وضعف أيضًا حديث: "الركبة من العورة". ولم يثبت في كون الركبة من العورة حديث، ولا في السرة، بل قد ثبت ما يدل على خلاف ذلك في حديث أبي موسى: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قاعدًا في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبتيه -أو ركبته- فلما دخل عثمان غطاها"

رواه البخاري. وقول أبي هريرة للحسن رضي الله عنه: "أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل، فقال بقميصه فقبل سرته" رواه أحمد. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما صاحبكم فقد غامر ... الحديث" رواه البخاري. قوله: (ولهما أن الربع يحكي حكاية الكمال كما في مسح الرأس

[والحلق في الإحرام. ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته. وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة]). [في التعليل والتنظير كله نظر؛ فإن كون الربع يحكى حكاية الكل مجرد دعوى، ومسح الرأس] قد علل له فيما تقدم أن الكتاب مجمل في المقدار، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه بالمسح على الناصية، وقد تقدم الكلام معه في ذلك. ولا تصح هذه الدعوى إلا إذا ثبت أن الأصل في مسح الرأس في الوضوء الكل، وأن الاكتفاء بالربع لقيامه مقامه، ولم يقل به. وأما حلق الرأس في الإحرام فأنه [في] كتاب الحج أحاله على مسح الرأس في الوضوء، وهي حوالة تاوية.

وقد قيل فيه: إن الرفق يحصل بحلق ربع الرأس كما يحصل بحلقه كله. وفيه نظر؛ فإن كمال الرفق بحلق كله، وبحلق بعضه يحصل/ بعض الرفق. وأما قوله: ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة، فعجب؛ فإن الوجه ليس هو وحده أحد الجوانب الأربعة. ولو نظر إنسان بوجهه من طاقة في حائط وباقية وراء الحائطـ، لأخبر من نظر إلى وجهه أنه رآه وأن لم ير باقي بدنه. ولو لم يكن منشورًا عنه حتى نظر إليه وأخبر عن رؤيته لم يكن ذلك لكونه رأى أحد جوانبه الأربعة، بل لكونه رأى شخصه كله. فالناظر إلى الشخص لا يرى ربعه فقط، ولو قال قائل إنما رأى سدسه لأن الجهات ست، وقد يكون الرائي فوق المرئي، وتحته لكان قوله نظير هذا القول. [وقول] أبي يوسف أقوى دليلا؛ لأن كون أكثر الشيء يقوم مقامه كله لأن ما يقابله يوصف بالقلة بالنسبة إليه أمر معقول لا ينكر، بخلاف الربع

لأنه لا ينهض على إقامته مقام الكل دليل. قوله: (يحسن ذلك لاجتماع عزيمته). يعني يحسن ذكر نية الصلاة بلسانه، وفيه نظر. قال في "المفيد": كره بعض مشايخنا النطق باللسان؛ لأن النية علم القلب، والله تعالى مطلع على ما في الضمائر، فلا حاجة إلى الإفصاح باللسان. وهذا هو الصحيح؛ فإن قول القائل: نويت صلاة كذا وكذا من نوع العبث من وجوه: أحدها: أنه لم ينقل. الثاني: أنه إما أن يريد الإنشاء أو الإخبار، وكل منهما باطل. أما الإنشاء فلأن الصلاة ليست من باب العقود التي يثبت حكمها بالإنشاء.

وأما الإخبار فكذلك أيضًا؛ لأنه إما أن يريد إخبار نفسه، أو ربه، أو الكرام الكاتبين، وكل منا لا يصح. فإن قيل: هذا بمنزلة قوله: "وجهت وجهي" إلى آخره، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا ورد به الشرع، وهذا لم يرد به. الثاني: أن هذا من باب التكلم بالعقيدة فيكون بمنزلة الشهادتين، وهذا من باب نية العمل وقصده فيكون بمنزلة قوله: نويت أن آكل أو أشرب ونحو ذلك. وأيضًا فإن سائر العبادات مفتقرة إلى النية، لم يقل أحد من المسلمين أن من قرأ أو سبح وأمر بالمعروف أو أدى الزكاة أو نحو ذلك أنه يقول بلسانه شيئًا. فإن طردتم اشتراط القول باللسان في الكل قلتم يقول لا قائل به. وإن فرقتم طولبتم بالفرق المؤثر، ولن تجدوه. وأيضًا، فما الذي بقوله بلسانه؟ أهو لفظ: "نويت الصلاة" أو يضيف إليها ذكر صفتها، وعدد ركعاتها، ووصف الإمامة أو الانفراد، أو الاقتداء واستقبال القبلة؟ فما الضابط في ذلك؟ فإن ذكرتم ضابطًا طولبتم

باعتبار الشرع له. قوله: (ومن أم قومًا في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه وصلى كل واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلفه ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم). في تصوير المسألة نظر؛ فإنهم لا بد لهم من سماعهم صوت الإمام ليتمكنوا من الاقتداء به، وإذا سمعوا صوته علموا مقامه. وكيف يخفي مقام الإمام على من جعل ظهره إلى ظهره؟! ولا بد أن يعلم ضرورة أنه وراءه إذا سمع صوته، وكذلك من هو إلى جانبه. ويستحيل تصور المسألة والحالة هذه. والله أعلم. * * *

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة قوله: ([لقوله تعالى]: {وربك فكبر} والمراد تكبيرة الافتتاح). في قوله: والمراد تكبيرة الافتتاح نظر؛ فإن قوله تعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر (2) وربك فكبر} من أول ما نزل من القرآن بمكة حين أمر بالإنذار لما أتاه الملك بالرسالة وهو في غار حراء، فرجع إلى أهله وهو يقول: "دثروني"، فنزل {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر *} قال أهل التفسير: {قم فأنذر} كفار مكة، {وربَّك فكبر} أي فعظمه عما تقوله عبدة الأوثان. وقد تقدم الكلام على بقية الآية الكريمة في أول "باب الأنجاس"، ولم تكن الصلاة/ قد فرضت بعد.

ففي الاستدلال بالأمر بالتكبير للرب على أن المراد تكبيرة الإحرام والحالة هذه نظر. ويغني عن هذا الاستدلال الاستدلالُ بقوله عليه الصلاة والسلام: "تحريمها التكبير"، وقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: "ثم استقبل القبلة وكبر"، و"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفتتح الصلاة بالتكبير" وفعله خرج بيانًا لمجمل الكتاب، وكل ذلك ثابت صحيح. قوله: (والقيام، لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}).

في استدلاله بهذه الآية الكريمة على فرض القيام في الصلاة نظر؛ فإن فرض القيام في الصلاة سابق على نزول الآية؛ لأن الآية نزلت بالمدينة بعد الهجرة بسنة، والصلاة فرضت ليلة الإسراء بمكة مجملة، وأمَّ جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلمه كيفية الصلاة ومواقيتها، وعلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه. والقيام المذكور في الآية ليس المراد به انتصاب القامة، بل المراد به فعل المأمور به، وأن يكون على وجه الطاعة لله، والامتثال لأمره؛ فإن الرجل يقوم بأشياء ويكون قائمًا بأمر على وجه الطاعة تارة، وعلى وجه المعصية أخرى. فأمروا أن يقوموا لله بما أمرهم به حال كونهم طائعين. ومن صلى قاعدًا مخلصًا مطيعًا فهو قائم لله قانتًا وإن كان قاعدًا، وكذلك لو كان على نبه. يشهد لذلك قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا وما بصاحبكم من جنة}، وقوله تعالى: {قائمًا بالقسط}، وقوله تعالى: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}، وقوله تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}. وفي السورة الأخرى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط}، وقيام رمضان، وقيام الليل هو صلاة رمضان، وقيام الليل هو صلاة الليل، ويحتمل أن يكون المراد بالقيام لله في الآية الصلاة بخصوصها. ويكون المعنى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله} بالصلاة {قانتين} فيها، {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا}. فإن قوله: {وقوموا لله قانتين} [قد] ذكرت الصلاة قبله وبعده، فكان الظاهر إرادة الصلاة هنا بخصوصها.

وأما إرادة القيام في الصلاة بمجرده من هذه الآية فغير ظاهر. ويغني عن هذا الاستدلال الاستدلال بحديث عمران بن حصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا ... الحديث" أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي. وعلى فرضية القيام في المكتوبة على المستطيع انعقد الإجماع. وأما في النافلة فليس بلازم، "لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينتقل على الراحلة، ويتنفل وهو قاعد" متفق عليه. قوله: (والقعدة في آخر الصلاة مقدار التشهد لقوله عليه الصلاة

والسلام لابن مسعود رضي الله عنه حين علمه التشهد: "إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك". علق التمام بالفعل، قرأ أو لم يقرأ). أصل حديث ابن مسعود في التشهد في "الصحيحين" لكن هذه الزيادة التي استدل بها غير ثابتة في الصحيح، وإنما خرجها أحمد وأبو داود والطحاوي. ولفظ أحمد وأبي داود: "إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك". وفي الاستدلال بهذه الزيادة على فرضية القعدة الأخيرة دون التشهد نظر، بل يلزم من الاستدلال بها على فرضية القعدة الأخيرة القول بفرضية التشهد فيها، والقول بفرضية الخروج من الصلاة بالسلام، وغير ذلك كما صح فيه الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفعال الصلاة؛ لأنه إنما صح

الاستدلال على الفرضية بهذا الحديث مع كونه خبر واحد لأنه بيان لمجمل الكتاب، وهو الأمر بإقامة الصلاة. أما الاستدلال على فرضية التشهد فيها فإن في الحديث أنه علمه التشهد قال له: "قل: التحيات لله"، والأمر للوجوب. كيف وهو بيان لمجمل الكتاب!. وقوله/ في آخر الحديث: "إذا قلت هذا، أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك" لا تنافيه؛ لأنه قد قيل إنه مدرج من كلام ابن مسعود. ذكر ذلك الخطيب، والبيهقي، والدارقطني وقال: الصحيح أن قوله: "إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود. فصله شبابة عن

زهير وجعله من كلام ابن مسعود. ولو كان غير مدرج فيه من كلامه؛ فإن قوله: "إذا قلت هذا أو فعلت هذا" الظاهر أن الشك من ابن مسعود: أي ثم قال لي: " إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك". أو قال لي:"إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك". كأنه شك في أي اللفظين قال له: "قلت هذا"، أو "فعلت هذا". وتكون الإشارة بقوله: "فعلت هذا". وتكون الإشارة بقوله: "فعلت هذا"، إلى القعدة والتشهد فيها؛ فإن قراءة التشهد تسمى فعلًا. وأما الخروج من الصلاة بالسلام فإنه إذا سلم لنا أن هذا الحديث لا ينفيه لاحتمال أن يكون الشك من الراوي، صح إثباته بالأحاديث الصحيحة الواردة فيه فعلًا وأمرًا؛ فإنهم ما ردوا على من قال بفرضية السلام إلا

بالمعارضة بحديث ابن مسعود في التشهد حيث لم يذكره، وجعل الصلاة تامة بدونه. وكمال الاستدلال على المنافاة أن تكون "أو" من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد تقدم ما فيه من الاحتمال. فإن قيل: قوله: "فقد تمت صلاتك" ينافيه!. قلنا: يحمل قوله: "تمت" على معنى أنها قاربت التمام. وبهذا احتج المصنف في باب الحدث في الصلاة لأبي حنيفة على الصاحبين في القول بفرضية الخروج من الصلاة بفعل المصلى. فإذا قيل: إن معنى "تمت" قاربت التمام، صح إثبات فرضية السلام بالأحاديث المشهورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا وفعلًا؛ فإن الفعل كان بيانًا لمجمل الكتاب. ولا يقال: لم يعلم الأعرابي المسئ صلاته الخروج من الصلاة بالسلام فلا يكون فرضًا؛ لأنا نقول: لم يعلمه القعدة الأخيرة قدر التشهد

أيضًا، بل قال له في آخر الحديث: "ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم قم". فما كان جوابكم عن القعود قدر التشهد فهو جوابنا عن التشهد والخروج بالسلام. وأما أن يقال: إن حديث ابن مسعود حجة في فرضية القعود قدر التشهد دون التشهد والسلام مع كونه محتملًا أن تكون كلمة "أو" من كلام ابن مسعود فغير مسلم. قوله: (ولأن رفع اليد لإعلام الأصم). فيه نظر لانتفاضة طردًا وعكسًا.

أما طردًا فبترك الرفع في صلاة الجنازة عنده مع احتياج الأصم إلى الإعلام. وأما عكسًا فبالرفع في حالة الانفراد، والرفع على الصفا والمروة، وعرفات، والجمرتين. فإن قيل: ذلك الرفع للدعاء. قلنا: صدق، وبطل حصر الرفع في سبع مواطن. قوله: (ولهما أن التكبير هو التعظيم لغة، وهو حاصل). فيه نظر؛ فإن التكبير غير مرادف للتعظيم، بل هو أبلغ من التعظيم، ففيه معنى التعظيم وزيادة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام، فيما يروي عن ربه عز وجل، أنه قال: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا [منهما] عذبته". جعل صفة العظمة بمنزلة الإزار للابس، وصفة

الكبرياء بمنزلة الرداء، ومنزلة الرداء فوق منزلة الإزار. ولهذا -والله أعلم- جعل الجهر به من شعائر الدين في مواضع عينها لنا، منها: التكبير في الأذان، ومنها تكبير التشريق، ومنها التكبيرات الزوائد في صلاة العيد، ومنها: التكبير في الدخول في الصلاة، والانتقال فيها من حال إلى حال. وما عرفت الصلاة إلا من جهة الشارع، وقد قال لمالك بن الحويرث وأصحابه في آخر ما وصاهم به: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يدخل قط في الصلاة بدون التكبير. فلو أغير التكبير مقامه لفعله ولو

مرة تعليمًا للجواز. ويأتي في كلام المصنف في الاستدلال على اشتراط/ الخطبة في الجمعة: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما صلاها بدون الخطبة في عمره. فهلا قال هناك كذلك أنه ما صلى صلاة بدون التكبير! وقد قال عله الصلاة والسلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، وذلك كله بيان لمجمل الكتاب. وقال: "من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، وذلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر". فقدم التسبيح على التحميد، والتحميد على التكبير، وذلك من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ ولهذا جاء في رواية: "أنه يكبر أربعًا وثلاثين"، جعل الزيادة التي هي تكملة المائة

من التكبير، فدل على زيادة الاهتمام به. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رفع الصوت بالذكر [حين ينصرف الناس من المكتوبة] كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن عباس: "كنت أعرف إذا انصرفوا من ذلك إذا سمعته"، وفي لفظ: "كنت أعرف انقضاء صلوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتكبير" أخرجاه في "الصحيحين". وتخصيصه التكبير في هذه الرواية يدل على زيادة الجهر به عن بقية الذكر، أو لأنه معظم الذكر، فعب عنه به. والله أعلم. فقياس [غير] التكبير عليه والحالة هذه فيه نظر. قوله: (فإن افتتح الصلاة بالفارسية، أو قرأ فيها بالفارسية، أو ذبح وسمى بالفارسية، وهو يحسن العربية أجزأه عن أبي حنيفة. وقالا: لا يجزئه إلا في الذبيحة). قال المصنف في آخر كلامه هنا: (ويروي رجوعه في أصل المسألة إلى

قولهما، وعليه الاعتماد). وإذا كان الأمر كذلك فلم يكن لنصبه الخلاف فائدة. وقد قال محمد بن الفضل البخاري من الأصحاب: هذا الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصد، فمن تعمد ذلك فهو زنديق أو مجنون. فالمجنون يداوي، والزنديق يقتل. وينبغي التنبيه على ضعف ذلك القول المرجوع عنه لئلا يظن أحد قوته فيأخذ به؛ فإن أبا حنيفة رحمه الله إنما رجع عنه لضعفه، بل لسقوطه. فقول المصنف: لقوله تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين}، ولم يكن فيها بهذه اللغة مغلطة! فإنه ليس المراد أن القرآن نزل معناه على الرسل بلغتهم، بل المراد من كونه في زبر الأولين ذكره والإخبار عنه. وإلا فالقرآن لم ينزل

إلا مرة واحدة على رسول الله، محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم ينزل على غيره من الرسل. وليست التوراة هي الإنجيل، ولا الإنجيل التوراة، بل كل منهما غير الآخر وغير القرآن أيضًا. ومن قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه لم يسمع منه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، فمشكل. فإن سورة {تبت} غير سورة الإخلاص قطعًا، سورة البقرة غير سورة الفيل، فكيف لا يكون القرآن غير التوراة والإنجيل؟!. ومن الدليل على أن المراد من كونه في زبر الأولين ذكره والإخبار عنه لفظ الزبر؛ فإنه جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. فوجوده مكتوبًا في كتابهم

كوجود النبي الذي ينزل عليه القرآن في كتابهم كما أخبر تعالى أنه {يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل}. فلفظ الزبور يدل على أنه مكتوب فيه غير القرآن، والقرآن في ذلك المكتوب. وهذا بخلاف قوله: {والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رقٍ منشور}، فالرق: اسم له قبل الكتابة، فهو مكتوب في شئ غير مشغول بغيره، بخلاف كتابته في شئ مشغول بغيره، فإنه يكون المراد الإخبار عنه كالنبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. وإنما حصلت الشبهة باعتبار أن القرآن باعتبار أن القرآن يكتب تارة، واسمه أخرى، بخلاف الرسول فإنه لا يكتب إلا اسمه. وليس في التوراة قصة بدر، وأحد، والأمر بالتوجه إلى الكعبة في الصلاة ونسخ التوجه إلى بيت المقدس ونحو ذلك. ومن قال: إن القرآن اسم للمعنى فقط وأن نظمه مخلوق فقوله مشابه لقول المعتزلة القائلين بخلقه. والحق أن القرآن كلام الله نظمه ومعناه كما

ذكره الشيخ حافظ الدين النسفي في "المنار" وغيره من المشايخ. وإذا عرف أن/ القرآن اسم لمنظوم عربي، ونحن أمرنا بقراءة القرآن في الصلاة، فمن قرأه بغير العربية لم يكن قارئًا للقرآن، بل قد تكلم بكلام مناف للصلاة فتبطل، سواء كان يعرب العربية أولا يعرفهاـ، وإن كان لا يعرف القرآن وإنما يعرف ما قد عبر له عنه الفارسية من القرآن وحفظه، فهذا أمي يجب عليه أن يتعلم القرآن. قوله: (وفي الأذان يعتبر التعارف). في اعتبار التعارف في الأذان نظر؛ فإن الأصحاب قد أنكروا الترجيع في الأذان مراعاة لأتباع المنقول. وأنكروا على الشيعة قولهم: "حي على خير العمل". وإن كانت بمعنى "حي على الصلاة" فكيف إذا عدل إلى لغة

أخرى غير التي ورد بها النقل. وهذا بخلاف التسمية على الذبيحة؛ لأن المراد ذكر اسم الله، وهو حاصل بأي لغة كانت، وكذلك الخطبة؛ لأن المراد منها الموعظة والتذكير، ولهذا لم يلزم فيها خطبة واحدة لا تغير. أما الأذان فالمحافظة على ألفاظه لازمة لا يسوغ بغيرها. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة"). هذا الحديث لا يعرف مرفوعًا ظن وإنما ورد عن علي رضي الله عنه: "من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة". أخرجه أبو داود والإمام أحمد. وفي طريقه عبد الرحمن بن إسحاق ضعفوه.

وفي وضع اليمين على الشمال في القيام في الصلاة غير هذا الحديث في "السنن"، وإنما الكلام في هذا الحديث بخصوصه. قوله: (وعن أبي يوسف أنه يضم إليه قوله: "وجهت وجهي" -إلى آخره- لرواية علي رضي الله عنه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول ذلك").

قال السروجي رحمه الله: ليس في رواية علي رضي الله عنه الجمع بينهما، وإنما ذلك في رواية جابر، وذكر حديث جابر وقال: رواه البيهقي. انتهى. والخلاف في الأولوية، وقد ورد في الاستفتاح لفظ آخر، وهو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد". متفق عليه. ويترجح الاستفتاح بـ "سبحانك اللهم وبحمدك" بأنه ثناء محض، والثناء أفضل من الدعاء والإخبار عن الإخلاص. واختيار نوع من الاستفتاحات أو نوع من التشهدات بمنزلة اختيار نوع من أنواع المناسك. قوله: (والأولى أن يأتي بالتوجه قبل التكبير لتتصل النية به هو الصحيح). في تصحيحه نظر؛ فإن المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "كان

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام الصلاة كبر ثم قال: وجهت وجهي" أخرجه مسلم. ولم يرد تقديم الاستفتاح على تكبيرة الإحرام، فلا وجه لتصحيحه، بل الصحيح ما كان على الوجه الذي وردت به السنة من أي فعل كان. قوله: (لقول ابن مسعود: "أربع يخفيهن الإمام، وذكر منها: التعوذ، والتسمية، وآمين"). لم يعرف ذلك عن ابن مسعود، وإنما نقله ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي. وقال ابن عبد البر: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وجوه ليست بالقائمة، أنه قال: "يخفي الإمام أربعًا .... " إلى أخره. قوله: (له قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها").

أخرجه الترمذي بمعناه، وضعفه عبد الحق الأشبيلي. قوله: (ولنا قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، والزيادة

عليه بخبر الواحد لا تجوز، ولكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبهما). اختلف المفسرون في قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} على قولين: أحدهما: أن المراد القراءة في الصلاة. والثاني: أن المراد القراءة نفسها. وهذا القول أظهر بديل عطف الصلاة عليها في آخر الآية بقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة}. قالوا: نقلهم الله عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة، فقال تعالى:/ {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ...} إلى آخر السورة، فانتفى أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" زيادة على النص، بل تقرير وزيادة بيان لمجمل الكتاب في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} الذي بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله، وقوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي". وايضًا فكيف تثبت فرضية القراءة في الصلاة بقوله تعالى: {فاقرءوا ما

تيسر من القرآن} مع الاختلاف في المراد منه كما تقدم؟! فإن قيل: الأمر بالقراءة يقتضي الوجوب، ولا تجب القراءة خارج الصلاة فتعين أن يكون المراد في الصلاة. قيل: بل يكون المراد دراسة القرآن وحفظه. وهذا فرض على الأمة من فروض الكفاية، فقد قلنا بموجب الأمر، ولم يتعين ما قلتم من أن المراد القراءة في الصلاة. فإن قيل: عطف الأمر بالصلاة على الأمر بالقراءة من باب عطف عام على الخاص. قيل: لا يصح هذا لوجوه: أحدها: أن الأصل في العطف التغاير المطلق، ولا يثبت أن أحدهما بعض الآخر إلا بدليل. الثاني: أن المعهود في الأمر عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} ونحو ذلك. أما عكسه فإما نادر، أو معدوم. الثالث: أنه إنما يعطف العام على الخاص، أو بالعكس، توكيدًا لذلك

الخاص على سائر أفراد العام كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} ونحوه. وهنا قوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} تسهيل لأمر القراءة، وتفويض لمقدارها إلى اختيار العبد، فليس فيه من الاهتمام ما يوجب ذكره مرتين، لأنه ليس بأوكد أركان الصلاة، بل الأركان الفعلية أوكد منه بالاتفاق، ولهذا تجب على الإمام والمؤتم بالإجماع. فالمقتضى للتخصيص في مثل هذا منتف. الرابع: أن المعهود من عطف الخاص على العام أو عكسه عطف الأفراد، فأما الحقيقة المركبة فلا عهد لنا بعطف كلها على جزئها، وذلك

لأن المفرد مستقل بنفسه، فيحسن ذكره منفردًا. أما جزء العبارة فلا قوام له بنفسه، فإنه لا يصح إلا بوجود سائر الأجزاء فلو ذكر بعدها كان أهون. أما أن يبدأ به فهذا لا نعرفه، فيحتاج مثله إلى نظير. أو يقال: إن الأمر بقراءة ما تيسر مطلق، وذلك لا ينفي الأمر بقراءة شيء [معين أيضًا، فيكون قراءة شئ معين في الصلاة وهو الفاتحة ثابت بالسنة، وقراءة] ما تيسر مع ذلك في الصلاة ثابت بالآية. ويشهد لصحة هذا حديث أبي سعيد الخدري قال: "أمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نقرأ الفاتحة وما تيسر" رواه أحمد. أو يقال: أنه لا خلاف أن المصلي له أن يقتصر على ما تيسر له، فإنه لو قرأ ما دون الآية لا يجزئه، ولا يجب عليه أن يقرأ جميع ما يراه متيسرًا عليه، مثل البقرة، وآل عمران، فلا بد من توقيت القراءة الواجبة، فبعض يقول: آية، وبعض يقول: ثلاث آيات، وبعض يقول: سبع آيات.

فالرجوع إلى ما وقته النبي -صلى الله عليه وسلم- وقدره لأمته هو الذي يجب أتباعه، دون توقيت لو لم يخالف السنة لكان تقديرًا بغير توقيف ولا إجماع ولا قياس صحيح، وهو غير جائز. وليس في هذا إلا أن يقال: نحن نقدر ولا نعين، وأنتم تعينون. فنقول: الآية ليس فيها تقدير ولا تعيين، فتقييدها بالسنة من حيث التعيين والتقدير أولى من تقييدكم إياها من حيث التقدير بمجرد الرأي. أو يقال: إن قراءة الفاتحة قد تيسرت غالبًا، فتعين قراءتها، وتكون قراءة ما زاد عليها كقراءة ما زاد على الآية أو الثلاث أو السبع عند من قدر القراءة الواجبة بذلك. أو يقال: إن هذه الآية نزلت بمكة، وقراءة الفاتحة فرضت بالمدينة، فيكون الله تعالى قد أوجب قراءة الفاتحة بعد أن لم تكن واجبة بعينها. وعدم وجوب الفاتحة ليس حكمًا ثابتًا بخطاب حتى يقال: إن رفعه نسخ، بل هو بمنزلة تحريم كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير، بعد قوله

تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلى محرمًا} الآية. أو يقال: إن المراد القراءة في قيام الليل، ولكن كان أولًا قيام نصف الليل أو أزيد أو أنقص، ثم خفف الله تعالى عن المسلمين وأسقط عنهم قيام هذا المقدار، وأمرهم بقراءة ما تيسر عليهم قراءته في الصلاة غير مؤقت بوقت محدد كما كان أولًا. فقال تعالى: {علم أن لن تحصوه} الآية. وليس في ذلك تعرض لقراءة الفاتحة بنفي ولا إثبات. وإنما فيها الأمر بقيام ما تيسر من الليل، وقراءة ما تيسر من القرآن. ومسألة الزيادة على الكتاب بخبر الواحد مشهورة، وفيها من الإشكال أن كثيرًا من الأحاديث المشهورة تعامل معاملة أخبار الآحاد، ويقال: هذا لا يزاد على الكتاب. وكثيرًا من أخبار الآحاد تعامل معاملة الأحاديث المشهورة ويقال: هذا مشهور يزاد به على الكتاب. وما يقع لأئمة الفتوى من هذا فهم مأجورون مغفور لهم. ومن تبين له شئ من ذلك لا يعذر في التقليد، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله تعالى قد قالا: لا يحل أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه. وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى منه فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا في عدالته بلا نزاع. بل هذا أولى بالحق،

وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معين غير الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب إتباعه دون الأئمة الآخرين، فهو ضال جاهل. بل قد يكون كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس إتباع واحد بعينه من هذه الأئمة رضي الله عنهم أجمعين دون الآخرين فقد جعله بمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك كفر. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمر. وأما من كان محبًا للأئمة مواليًا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة محسن في ذلك. والصحابة والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة، فإجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين، كالرافضي، والناصبي، والخارجي،

فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب، والسنة، والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة. ومن تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه فاتبعه فقد أصاب واهتدى، زاده الله هدى، وقد قال تعالى: {وقل رب زدني علمًا}.

ومن جملة أسباب تسليط الله تعالى التتر على بعض بلاد الشرق، وتسليط الفرنج على بعض بلاد الغرب كثرة التعصب، والتفرق بينهم في المذاهب وغيرها. وكل ذلك من أتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى. والأخبار الواردة في تعيين الفاتحة أشهر من قراءة من قرأ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}، {وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك}، وأشهر من حديث: "لا قود إلا بالسيف"، .......................

وحديث: "وما طفا فلا يؤكل"، وحديث: "لا اعتكاف إلا بصوم"، وحديث: "زكاة الخيل"، وحديث اشتراط المصر الجامع في

الجمعة، وحديث: "صدقة الفطر عن كل حر وعبد، صغير وكبير، يهودي أو نصراني أو مجوسي"، وحديث: "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه"، وغير ذلك.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لأنس رضي الله عنه: "إذا ركعت فضع يدك على ركبتيك، وفرج بين أصابعك" هذا حديث منكر ضعيف. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وذلك أدناه" أي أدنى كمال الجمع). قال السروجي: وقول صاحب الكتاب: أي أدنى كمال الجمع، فيه بعد، إذا الجمع ليس له ذكر في الحديث، ولا له معنى، بل الصواب أدنى كمال

السنة، أو أدنى كمال التسبيح. ثم ذكر بعد ذلك بأسطر الحديث بمعناه عن عون بن عبد الله بن عتيبة عن ابن مسعود. وقال: رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. قالوا: هو مرسل، وعون لم يلق ابن مسعود. وفي تسمية هذا مرسلًا خلاف بين أهل الحديث: مذهب/ أبي عبد الله الحاكم ابن البيع: أن المرسل ما رواه التابعي الكبير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مما لا خلاف فيه عندهم. أو التابعي مطلقا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحديث ليس كذلك، بل هو منقطع. والمنقطع ما سقط منه قبل الوصول إلى التابعي راوٍ لم يسمع من الذي فوقه، والساقط بينهما غير مذكور.

والفقهاء يطلقون الإرسال على الكل، وهو مذهب أبي بكر الخطيب وغيره من أهل الحديث. انتهى. قوله: (وله قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد". هذه قسمة، وإنها تنافي الشركة). قولهما أقوى، لأن قوله: "فقولوا: ربنا لك الحمد" يحتمل أن يعود الضمير فيه إلى القوم وحدهم، ويحتمل أن يعود إليهم وإلى الإمام معهم. وما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الذكرين يدل على دخول الإمام في ضمير الجمع مع القوم كما في التأمين.

قوله: (ولأنه يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وهو خلاف موضوع الإمامة). في هذا التعليل نظر؛ فإنه يشير إلى أن المؤتم يقول: "ربنا لك الحمد" في حال قول الإمام: "سمع الله لمن حمده". والذي يدل عليه ظاهر السنة أن المؤتم يقول: "ربنا لك الحمد" و"الله أكبر" بعد الإمام؛ فإن في صحيح مسلم من حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أقيموا صفوفكم، وليؤمكم أقرؤكم، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يكبر قبلكم، ويرفع قبلكم. وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم". قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فتاك بتلك ... " الحديث.

وفي رواية لأحمد وأبي داود من حديث أبي هريرة المتفق عليه: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع .... " الحديث. وفي رواية للبخاري من حديث أنس المتفق عليه: "فلا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع". وكل هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن الإمام يسبق المؤتم بالقول والفعل، وهذا حو حقيقة الاقتداء، ولو كان المؤتم لا يتأخر عن الإمام في ذلك لم يكن مؤتمًا. وهذا يدل [أيضًا] على قوة قول الصاحبين في أن المؤتم يكبر تكبيرة الإمام لا معه. قوله: (والإمام بالدلالة آتٍ به معنى).

فيه نظر؛ لأن مراده أن الدال على الخير كفاعله، ولا يكون كفاعله إلا إذا [أتى] منه بما يقدر عليه، وإلا من أمر غيره بالصلاة، والصدقة، والصيام، ونحو ذلك ولم يصل، ولم يتصدق، ولا يصم، لا يكون كفاعل خير. ولو كان من دل على خير ولم يفعله كفاعله لاستحال ذم من أمر الناس بالبر ونسى نفسه. وقوله: (وكذا في الانتقال إذ هو غير مقصود). عني الانتقال من الركوع إلى السجود، ومن السجدة إلى السجدة. يشير إلى أن القيام من الركوع، والقعود بين السجدتين غير مقصودين. وهذه مجرد دعوى لم يقم عليها دليلًا. والله تعالى أمرنا بالصلاة مجملًا، وبينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله، فالتحق بيانا به، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:" وصلوا كما

رأيتموني أصلي"، فجميع ما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته يكون فرضًا إلا ما خرج بدليل. ولم يرد معنا دليل على أن القيام من الركوع والقعود بين السجدتين ليسا بفرض. بل ورد ما يدل على فرضيتهما، وهو ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود"، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. هذا نص صريح في أن الرفع من الركوع، وبين السجدتين، والاعتدال، والطمأنينة فرض لا تصح الصلاة بدونه. وفي حديث علي بن شيبان: "يا معشر المسلمين! لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود" رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، ولفظ أحمد

في هذا الحديث: "لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه/ من ركوعه وسجوده". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه من ركوعه وسجوده" رواه أحمد. وفي سنن البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود" وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسيء صلاته بإعادتها ثلاث مرات، ثم أمره بالطمأنينة في الصلاة كلها، والأمر للوجوب. وقد اعترض على ذلك بأنه أقره على صلاته، ولو كانت فاسدة لم

يقره عليها. وأجيب بأن تارك الطمأنينة مسئ تارك للواجب، فلماذا أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإساءة وترك الواجب؟ فما كان جوابكم عن هذا كان جواب أولئك. وذلك أن تأخير الأمر إذا كان لمصلحة راجحة كان حسنًا، كما أقر الأعرابي الذي بال في السجد حتى فرغ من بوله في المسجد للمصلحة الراجحة. وكذلك إمهال هذا حتى يصلي فإنه من تمام حسن التعليم؛ إ التعليم على هذا الوجه أكمل من قطع صلاته عليه؛ لأنه قد يدهشه فيتضرر بذلك ولا يتلقى التعليم بقبول، فكان إمهاله حتى يأتي وهو حاضر القلب مصغ لما يقول له، مقبل على استماع كلامه أولى من قطع صلاته. ولأنه لم يتبين له أنه لا يحسن غير ذلك، لاحتمال أنه كان يحسن الطمأنينة وإنما تعمد تركها إهمالًا وتهاونًا، فأمره بالإعادة لعله يأتي بها إن كان يحسنها، فلما تبين له أنه لا يحسن غير تلك، وطلب منه التعليم علمه.

وليس سكوته عن بول الأعرابي في المسجد إلى أن فرغ ثم نهاه بعد ذلك دليلًا على جواز البول في المسجد. ومثل ذلك حديث عمر رضي الله عنه الذي في "الصحيح" لما سمع هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير القراءة التي كان تلقاها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتقد أن تلك القراءة لا تجوز، قال: فكدت أساوره. ثم أمهله حتى فرغ ثم لببه بردائه وجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وايضًا؛ فإن تارك الواجب ليس كفاعل المنكر، فإن تركه للواجب إذا فعله في أثناء الوقت لم يكن في ذلك محذورًا إذا لم يخف الفوات.

وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا". وأيضًا؛ فقد ثبت في "صحيح البخاري" عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأي رجلًا لا يتم ركوعًا ولا سجودًا، فلما انصرف من صلاته دعاه حذيفة فقال له: "منذ كم صليت هذه الصلاة؟ قال: قد صليتها منذ كذا وكذا؛ فقال حذيفة: ما صليت، أو ما صليت لله صلاة - شك مهجي- وأحسبه قال: ولو مت مت على غير سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-".

وفي "الفتاوى الظهيرية"، قال أبو اليسر: من ترك الاعتدال يلزمه الإعادة، ولو أعاد يكون الفرض الثاني دون الأول. انتهى. وهذا منه اختيار لقول أبي يوسف لقوته، وهو كما قال. وقول المصنف رحمه الله: (وفي آخر ما روي تسميته إياه صلاة حيث قال: "وما نقصت من هذا شيئًا فقد نصت من صلاتك"). جوابه: أن تسميته إياها صلاة ناقصة لا يدل على إجزائها؛ فإنه لو نقص منها سجدة كانت صلاة ناقصة غير مجزئة.

قوله: (لأن وائل بن حجر رضي الله عنه وصف صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فسجد وأدعم على راحتيه ورفع عجيزته). هذا الحديث لا يعرف عن وائل بن حجر، وكأن المصنف اشتبه عليه، وإنما هذا الوصف معروف عن البراء بن عازب رضي الله عنه. قوله: (ووضع اليدين والركبتين سنة عندنا لتحقق السجود دونهما). تعليله مشكل؛ فإن تصوير السجود على الجبهة والقدمين فقط في غاية العسر. وفي "الواقعات": لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند سجوده لا يجزئه. كذا قال أبو الليث، قال: وفتوى مشايخنا عل الجواز حتى لو

كان موضع ركبتيه نجسًا يجوز. وقال في "الذخيرة": لم يصحح أبو الليث هذه الرواية. وفي "عمدة الفتاوى": الصحيح أن موضع الركبتين إذا كان نجسًا لا يجوز، وكذا موضع اليد. وفي "المحيط": لو لم يع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزئه. انتهى. وزفر يقول بفرض السجود على سائر أعضاء السجود كما قال الإمام أحمد، والإمام الشافعي في أحد قوليه، ورجحه كثير من أصحابه.

ورجحانه ظاهر لقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ... " الحديث. متفق عليه. وفي بعض طرقه: "أمرنا أن نسجد ... ". وكذا قولهما في عدم جواز الاقتصار على الأنف لغير عذر أرجح؛ لأن المعروف من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام إنما هو السجود على الجبهة. وفي "شرح المجمع": وروى أسد عن أبي حنيفة أنه لا يجوز- يعني

الاقتصار على الأنف- إلا من عذر. وهو قولهما وعليه التقوى. قوله: (فإن سجد على كور عمامته، أو فاضل ثوبه جاز، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسجد على كور عمامته). قال عبد الحق الأشبيلي في "أحكامه الكبرى": وذكر عبد الرازق عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسجد على كور عمامته". في إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك. وقد روي من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثله. وهو من رواية ...................

عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط. جابر متروك، عن آخر متروك. قوله: (ويبدي ضبعيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "وأبد ضبيعك"، ويروى: " وأبد ضبيعك"). قال السروجي عن الحديث: لم أجده في كتب الحديث المشهور.

انتهى. وقال التركماني: لم أره. انتهى. ولو أستدل بدل هذا الحديث الذي لا أصل له بحديث عبد الله بن مالك ابن بحينة، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه" متفق عليه، لكان أحق وأولى.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا سجد أحدكم فليقل في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وذلك أدناه"، أي أدنى كمال الجمع). تقدم أن قوله: أي أدنى كمال الجمع فيه بعد. قوله: (لقوله [عليه] الصلاة والسلام: "إذا سجد المؤمن يسجد كل عضو منه، فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع". هذا حديث منكر لا أصل له. قوله: (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يختم بالوتر). يعني في تسبيح الركوع والسجود. لم يذكر في كتب

الحديث. والمعروف من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وتر يحب الوتر"، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. فيدخل إيتار التسبيح في عمومه. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبيرات العيدين"، وذكر الأربع في الحج. والذي يروى من الرفع محمول على الابتداء، كذا نقل عن ابن الزبير رضي الله عنهما). قال السروجي: ورواية أصحابنا في كتب الفقه: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن" لم تذكر في كتب الحديث، وإنما المذكور فيها: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن"، وقد تقدم.

وكان قد قال قبل ذلك: عن ابن عمر وابن عباس قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ترفع الأيدي في سبع مواطن، عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين". رواه الحاكم، والبيهقي. انتهى. وقال ابن التركماني: وروى جماعة منهم الطحاوي، والبزار من حديث ابن عباس، وابن عمر وذكره، ثم قال: وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وحده. قالوا: وقف عليهما، وهو أصح. قال: وقول ابن الزبير: الرفع كان في الابتداء، لم أره. انتهى. وأحاديث الرفع تكاد تبلغ التواتر، فقد رواها عشرة من الصحابة، وقيل

أكثر من ثلاثين منهم. وقد رواها من صلى خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخره عمره كوائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، ...............

وهو مذهب أهل الحديث، وأكثر أهل المدينة، ورواية الموطأ عن مالك، ولكن روى ابن القاسم عنه خلاف/ ذلك. وعذر أبي حنيفة وسفيان الثوري ومن وافقهم من علماء الكوفة في عدم الرفع واضح؛ فإنهم تلقوه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكفى به قدوة. ولكن إذا كان عند غيره من الصحابة زيادة وجب على من بلغته العمل بها كما في التطبيق في الصلاة. فإن ابن مسعود رضي الله عنه نقل عنه أنه كان إذا ركع في الصلاة طبق بين يديه، كما كانوا يفعلون أول الإسلام، ثم

إن التطبيق نسخ بعد ذلك، وأمروا بأخذ الركب، وخفي ذلك عنه. والرفع المتنازع فيه ليس من فرائض الصلاة، بل تجوز الصلاة بدونه، وما يحكى من فساد الصلاة به فقول بغير دليل؛ لأنه لو كان منافيا فهو قليل، فكيف وهو من جنس الصلاة! كما في الرفع عند تكبيرة الإحرام، والتكبيرات الزوائد في العيدين، وتكبيرة القنوت. والمفسد للصلاة إنما هو العمل الكثير المنافي للصلاة، وهذا ليس كذلك. وما استدل به من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة" رواه مسلم.

وأن الأمر بالسكون في الصلاة ينافي الرفع عند الركوع والرفع [منه] لا يقوى؛ لأنه قد جاء في رواية أخرى لمسلم عنه، قال: صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكنا إذا أسلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس! إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده". وأيضًا، فلا نسلم أن الأمر بالسكون في الصلاة ينافي الرفع عند الركوع والرفع منه؛ لأن الأمر بالسكون ليس المراد منه ترك الحركة في الصلاة مطلقًا، بل الحركة المنافية للصلاة، بدليل شرع الحركة للركوع والسجود، ورفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبيرات العيدين، فإن قيل: خرج ذلك بدليل. قيل: وكذلكم خرج الرفع عند الركوع والرفع منه بدليل، فعلم أن المراد منه الإشارة بالسلام باليد. والله أعلم.

قوله: (ووضع يديه على فخذيه، وبسط أصابعه وتشهد. ويروى ذلك في حديث وائل رضي الله عنه). قال السروجي: قد ذكرنا حديث وائل، وفيه: "ثم عقد أصابعه"، وليس فيه بسط أصابعه. انتهى. وقال ابن التركماني: وحديث وضع اليدين على الفخذين وبسط الأصابع لم أره. انتهى. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ربتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها".

وأخرجه أحمد والنسائي أيضًا. فاتفق حديث ابن عمر وحديث وائل على عقد أصابع اليد اليمني وإن اختلفا في الكيفية. قال السروجي: وفي "الذخيرة": لم يذكر الإشارة في "الأصل"، منهم من قال: لا يشير لأن مبنى الصلاة على السكينة. ومنهم من قال يشير. وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثًا: "أنه عليه السلام كان يشير". قال محمد: يصنع لصنع النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: وهو قول أبي حنيفة. ومثله في "المحيط". انتهى. وهذا هو الصواب، وقول من قال لا يشير لأن مبنى الصلاة على

السكينة مشكل؛ فإن الإشارة بالإصبع في التشهد لا تنافي السكينة كبقية أفعال الصلاة. قوله: (لقول ابن مسعود رضي الله عنه: "علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد في وسط الصلاة وآخرها، فإذا كان وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإن كان آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء"). قال السروجي: لم أجده في كتب الأثر. وقال ابن التركماني: لم أره. قوله: (وهذا بيان الأفضل، هو الصحيح). يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ في الشفع الثاني لبيان الأفضل. كان/ الأقرب إلى الدليل تصحيح رواية الحسن عن أبي حنيفة أن القراءة في الأخريين واجبة. فإنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ترك القراءة في الأخريين، و [لا] قال ما يدل على جواز تركها، وقد خرج فعله بيانا لمجمل الكتاب. وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. قوله: (والذي يروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قعد متوركًا، ..................

ضعفه الطحاوي). رواه الطحاوي من طريق فيها عبد الحميد بن جعفر وضعفه، ولكن رواه البخاري في صحيحة من طريق صحيحة ليس فيها عبد الحميد. وأخرجه أيضًا أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث

حسن صحيح. فبطل تضعيف الطحاوي له. والتورك المذكور إنما هو التشهد الثاني، وتنتظم الأدلة بترك التورك في التشهد الأول، والتورك في التشهد الثاني. والله أعلم. قوله: (والفرض المروي في التشهد هو التقدير). يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل. فقال عليه السلام: "لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: التحيات لله" وذكره إلى آخره. رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. فبين عبد الله أنه قد فرض، وهذا نص لا يدفع بالتأويل الذي ذكره المصنف رحمه الله لأن فيه: "قولوا: التحيات لله"، والأمر للوجوب، فهذه القرينة في الحديث تمنع من تأويله، ولم يرد ما ينافيه. بل قد تقدم ما يؤيده أيضًا، وهو قوله في حديث ابن مسعود المتقدم: "وعلمني التشهد كما

يعلمني السورة من القرآن، وقال: قل: التحيات لله" إلى آخره. وتقدم أن قوله: "إذا قلت هذا، أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك" لا ينافي فرضية التشهد؛ لأنه يحتمل أن يكون كلمة "أو" من كلام ابن مسعود. أي قال لي: "إذا قلت هذا، أو قال: إذا فعلت هذا". فمع هذا الاختلاف لا يصرف قوله: "قبل أن يفرض التشهد" عن ظاهره، واستعماله إلى احتمال بعيد غير مستعمل في مثله، وإنما يستعمل في المقدرات كالمكيل، والموزون، والمذروع، والمعدود. ومنه فرض القاضي النفقة أي قدرها. ويؤيده قول عمر رضي الله عنه: "ى تجوز صلاة إلا بتشهد" رواه سعيد وغيره، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وزاد السروجي وجهين آخرين، فقال:

الثاني: هو قوله: ولعله كان ذلك منه اجتهادًا، وقوله ليس بحجة عنده الثالث: أن التشهد الذي حكاه عبد الله أنه فرض لم يقبل الشافعي، فكان متروكًا جواب ذلك، إن لم يكن قوله حجة عند الشافعي، ولم يقبل بتشهده، فقوله حجة عندك، وأنت أخذت بتشهده بحديثه كله وقوله: (ولا يدعو بما يشبه كلام الناس تحرزًا عن الفساد) فيه نظر؛ لأنه لو تكلم في هذه الحالة، أو أحدث معتمدًا لم تفسد صلاته عند أبي حنيفة وأصحابه، فكيف إذا دعا بما يشبه كلام الناس؟!

وقد أجيب عن هذا بأن المراد تحرزًا عن فساد هذا الجزء الذي يكون فيه الدعاء، لا فساد الصلاة، ولكت يجب تقييد هذا الإطلاق وإلا لسبق إلى الذهن فساد الصلاة. وفي فساد الصلاة بالدعاء بما يشبه كلام الناس، وهو ما لا يستحل سؤاله من العباد نظر، ففي حديث فضالة بن عبيد، "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي، ثم ليدع بعد [بـ] ما شاء". رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ولكن قد قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين}. وقد قيل: إن من العدوان أن يقول الداعي: اللهم ارزقني سكباحة طيبة، .......

ونحو ذلك من الكلام الذي [لو] سأله من آدمي مثله لاستقبح منه، فمثل هذا من العدوان المنهي عنه، فلا يدعو بما فيه اعتداء. قوله: (وقوله: اللهم ارزقني من قبيل الأول هو الصحيح). في تصحيحه نظر؛ فعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني" رواه الترمذي، وأبو داود إلا أنه قال فيه: "وعافني"، مكان "واجبرني". فكان

قوله: "اللهم ارزقني" من الأدعية المأثورة. قوله: (ولنا ما روينا من حديث ابن مسعود). يعني قوله: "فإذا قلت هذا أو فعلت هذا". وقد تقدم- الكلام فيه.

فصل في القراءة

فصل في القراءة قوله: (ويخفيها الإمام في الظهر والعصر). تخصيص الإمام بالذكر لا فائدة فيه، بل فيه إبهام أن المنفرد يجمهر فيهما، أو يخير بين الجهر والمخافتة، وليس كذلك، بل تخافت المنفرد كالإمام وأولى. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة النهار عجماء"). قال السروجي: وروى جماعة من أصحابنا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم أقف عليه. وذكر الحديث صاحب المذهب أيضًا. قال النووي: باطل غريب لا أصل له.

قوله: (لأنه أمكن قضاؤها على الوجه المشروع). يعني قضاء السورة بعد الفاتحة الآخرين من العشاء. وفيه نظر؛ وهو أن القضاء على الصفة المذكورة وإن كان مشروعًا باعتبار ترتب السورة على الفاتحة، لكنه غير مشرع باعتبار أن الشفع الثاني لم يشرع فيه قراءة الفاتحة، ولم يشرع فيه الجهر. فاعتبار ترتب الفاتحة على السورة يعارضه مخالفة المشروع من الوجهين المذكورين. قوله: (وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة عند أبي حنيفة آية). تقدم في تعيين الفاتحة. قوله: (وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها لا يجوز غيرها؛ لإطلاق ما تلونا). تقدم أن إطلاق النص يقيده الخبر المشهور بتعيين الفاتحة كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وجمهور أهل العلم.

قوله: (ويكره أن يوقت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات، مثل أن يقرأ "سورة السجدة" و "هل أتى على الإنسان" في الفجر كل جمعة، لما فيه من هجران الباقي وإيهام التفضيل). قال السروجي: قال الإسبياجي والطحاوي: هذا إذا رآه ختمًا واجبًا لا يجزئ غيرها، أو رأى القراءة بغيرها مكروه [ـة]، أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركًا بقراءة -رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيها، أو تأسيًا به، أو لأجل التيسير عليه، فلا كراهية في ذلك ومثله في "المحيط" لكن بشرط أن يقرأ ذلك أحيانًا لئلا يظن الجاهل الغبي أنه لا يجوز غير ذلك انتهى وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يراعي مناسبة الحال بالقراءة، ولهذا -والله أعلم-كان يقرأ في فجر يوم الجمعة بالسورتين المذكورتين، لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون يوم الجمعة من المبدأ، والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار. وكان يقرأ في العيدين بـ "قاف".

"واقتربت" لاشتمالهما على التوحيد، والمبدأ والمعاد، وقصص الأنبياء مع أمهم، وما عامل به من كذبهم من الهلاك، ومن آمن بهم من النجاة. وتارة ب "سبح" و"الغاشية" إذا قصد التخفيف. وتارة يقرأ في الجمعة ب"الجمعة" و "المنافقون" لما في "سورة الجمعة" مما يتعلق بأحكام الجمعة، وما في "سورة المنافقون" من ذكر المنافقين تحذيرًا لأمته من النفاق المردي، وتحذيرًا لهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة، وعن ذكر الله، وتحذيرًا لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإقالة ويتمنون الرجعة ولا يجابون إليها. وكان يقرأ في سنة الفجر وسنة المغرب بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل

هو الله أحد} لما تضمناه من الإخلاص. هذه لتوحيد العبادة، وهذه لتوحيد المعبود؛ فنجعل القراءة بهما أول عمل النهار وآخره. وتارة يقرأ في سنة الفجر بآيتي الإيمان والإسلام: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية، و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} الآية؛ لما اشتملتا عليه من معرفة الإيمان والإسلام. فإذا قصد بقراءة مثل هذا اتباع السنة من غير هجر غيره كان حسنًا. وأما قوله: (وإيهام التفضيل) ففيه النظر؛ فإن الناس تنازعوا هل بعض كلام الله أفضل من بعض أم لا؟.

وهي مسألة كبرى! وأدلة التفضيل من الكتاب والسنة الكثيرة: منها قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، فدل على أن الآيات تارة تماثل، وتارة تتفاضل، وقال تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}، وقال تعالى: {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. والقول هنا المراد به القول المنزل من عند الله. يدل على ذلك ما قبل الآية وما بعدها، ولأنه ليس كل قول يجوز استعماله كالذب، والزور، والباطل، والكفر، ونحوه. وقال تعالى: {فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}. وقد أخرج أهل الصحيح في فضل "سورة الإخلاص" أنها تعدل ثلث القرآن، وفي فضل "الفاتحة" أنها أعظم سورة في القرآن، وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم.

وأنه لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها. وفي فضل آية الكرسي أنها أعظم آية في القرآن، وروى أنها سيدة آي القرآن، وفي "المعوذتين" قوله: "أنزلت على آيات لم ير مثلهن قط، المعوذتان".

وأخرج أهل السنن في فضل "الزلزلة" أنها تعدل نصف القرآن، وفي فضل "قل يا أيها الكافرون" أنها تعدل ربع القرآن. وأيضًا فالتوراة والإنجيل والقرآن كلام الله، مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب المنزلة قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه}، وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني}، فدل [على] أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله، وغير المنزلة وأيضًا فلا يقوم غير الفاتحة مقامها في الصلاة باتفاق المسلمين، سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها، أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه، أو قيل إنها سنة فلم يقل أحد أن قراءة غيرها مساوية لقراءتها من كل وجه

وأيضًا فالقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف وأيضًا فكونه مستويًا في أنه كلام الله لا يمنع أن يكون بعضه أفضل من بعض. ألا ترى أن المخلوق يتكلم بكلام هو كله كلامه، لكن كلامه الذي يذكر ربه أعظم من كلامه الذي يذكر بعض المخلوقين، سواء أريد بالكلام المعاني فقط، أو الألفاظ فقط، أو كل منهما. فلا ريب في تفاضل الألفاظ والمعاني من المتكلم الواحد، ولا يلزم من كونه كله عظيمًا أن لا يكون أعظم من بعض، ولا يلزم أن ما فضل عليه غيره يكون معيبًا منقوصًا، وهذا التوهم هو منشأ الغلط.

وكذلك الكلام في أسماء الله تعالى وصفاته، كما وردت السنة بذكر الاسم الأعظم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي". وفي رواية: "سبقت رحمتي غضبي"، فهذا دليل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها، وهما صفتان من صفاته. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه كان يقول في سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من

عقوبتك، وأعوذ بك منك". ففيه التعوذ ببعض صفاته من بعض، وختم الحديث بأن الأمر كله له، لا ملجأ منه إلا إليه، فاستعاذته به منه باعتبار جهتين؛ يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار الأخرى. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين). أما الحديث فأخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني من طرق كلها ضعاف. وأما دعوى إجماع الصحابة فغير صحيحة، فقد روى عبد الرازق في مصنفه عن عبادى بن الصامت أنه قال: "لا أدعها إمامًا ولا

مأمومًا". يعني قراءة الفاتحة. هكذا رواه عنه ولم يقيده بجهر ولا مخافتة. وروي أيضًا عن أبي بن كعب أنه يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر وكذا روى عن ابن عمر [و] أيضًا. وروى أيضًا عن عمر رضي الله عنه أمر بالقراءة خلف الإمام. ورورى أيضًا عن ابن عباس أنه قال: "لابد أن يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام جهر أو لم يجهر". وكذلك [حكى] الخلاف في القراءة خلف الإمام عن جماعة من التابعين.

قوله: (ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد رحمه الله، ويكره عندهما لما فيه من الوعيد). أطلق استحسان القراءة فيما يروى عن محمد، وإنما قال محمد في حال المخافته. وهو اختيار أبي حفص الكبير، وهو قول مالك، والأوزاعي والليث، وأشهر الروايتين عن أحمد. وهو أعدل الأقوال، وهو الذي فهمه جمهور الصحابة.

ففي حديث أبي هريرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ معي منكم آنفًا"؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله. فقال: "إني أقول: ما لي أنازع القرآن". فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يجهر فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". رواه مالك، وأبو داود، والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن. وبه تنتظم الأدلة التي تذكر في القراءة خلف الإمام وعدمها، ويندفع التعارض؛ فإن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}، وقوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فانصتوا" الحديث. إنما يكون الإنصات في حال الجهر، ومعلوم أن

الإمام يجهر لأجل المؤتم، ولهذا يؤمن على دعائه، فإذا لم يستمع ضاع جهره. والاستماع والإنصات إنما يكون لما يسمع، فإذا لم يسمع فليقرأ لأنه لا يسمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة، فإذا قرأ لنفسه حصل له أجر القراءة فلا تفوته بلا فائدة، بل يكون إما مستمعًا وإما قارئًا. وإن كان الإمام متحملًا عنه فرض القراءة فقراءته خير له من السكوت الذي لا استماع معه؛ ليتدبر معاني القرآن، ولا تغلبه الوساوس، مع أن في تحمل الإمام فالقراءة عن المأموم خلافًا بين المشايخ. قال السروجي: وذكر في "شرح الجامع" للشيخ ركن الإسلام علي السغدي عن بعض مشايخنًا: أن الإمام لا يتحمل القراءة عن المقتدي [في الصلاة المخافتة]. انتهى.

والإنصات لا يكون إلا في حال الجهر، وأما المخافتة فليس فيها صوت مسموع حتى ينصت له. وقول المصنف: (إقامة لفرض الإنصات) فيه نظر؛ فإنه ذكر في "المغرب" أنصت: سكت للاستماع، فعلم أن السكوت المجرد لا يقال له: "أنصت"؛ لأنه غير مرادف له. فإذا فات الاستماع فات الإنصات، والمأمور به الإنصات لا السكوت. والإنصات والسكوت والاستماع كل منها له معنى يخصه. فالإنصات سكوت للاستماع -كما قال في "المغرب"- فهو أخص من كل الاستماع والسكوت، فعطفه على الاستماع من باب عطف الخاص على العام، فلا يتصور الإنصات في حال المخافتة. وقوله: (ويكره عندهما لما فيه من الوعيد).

فيه نظر؛ لأنه لم يرد نهي ولا وعيد لمن قرأ في حال مخافته الإمام. وما ورد من النهي والوعيد المطلق لم يثبت منه شيء.

باب الإمامة

باب الإمامة (الجماعة سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام: "الجماعة من سنن الهدى، لا يتخلف عنها الإ منافق"). قال السروجي: إنه من قول ابن مسعود، لم يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورفعه خطأ. انتهى. وقد استدل بهذا الحديث من قال بفرضيتها؛ فإن لفظ الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. وما من

رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، وبرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة. ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف" رواه مسلم. ووجه الدلالة أنه جعل التخلف عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم نفاقهم، ولا يكون ذلك إلا لترك فريضة أو فعل محرم، وأكد ذلك بقوله: "من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا". وسمى المتخلف عنها تاركًا للسنة التي هي طريقة رسول الله، وشريعته التي شرعها لأمته، وليس المراد السنة التي من شاء فعلها ومن شاء تركها؛ فإن تلك لا يكون تركها ضلالًا ولا من علامات النفاق وضموا إلى ذلك [أدلة] من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآية ووجه الدلالة أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في حال الخوف، وذلك دليل على وجوبها

حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن وأيضًا فإنه شرع صلاة الخوف جماعة، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك التخلف عن متابعة الإمام. قالوا: وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة لكان قد التزم فعلًا محظورًا مبطلًا للصلاة، وترك المتابعة الواجبة لأجل سنة، مع أنه كان من الممكن أن يصلوا وحدانًا صلاة تامة، فعلم أنها واجبة، أي فرض. ومنها: قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآوتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}.

والمراد المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة، لأن الأمر بالصلاة قد تقدم، فلابد من فائدة أخرى. وتخصيص الركوع لأن بإدراكه تدرك الصلاة، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة. ومنها حديث أبي هريرة المتفق عليه، عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفي لفظ: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت ... " الحديث. وفي المسند وغيره: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت أن تقام الصلاة ... " الحديث.

فبين العذر في عدم التحريق، وذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلى، وقد قال سبحانه: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} الآية. ولا يقال إنما هم بقتلهم لنفاقهم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يقتلهم على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب، أو فعل محرم، ولأنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة، فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره. ومنها أن أعمى أستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يصلي في بيته فأذن له، فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "أجب الصلاة" رواه مسلم، والنسائي. والرجل الأعمى هو ابن أم مكتوم كما جاء مصرحًا به في رواية أبي

داود والنسائي أيضًا. ولا يصح معارضة هذا الحديث بحديث عتبان بن مالك، فإن ذاك قال: يا رسول الله، إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي. فكان عذره أمرًا زائدًا على مجرد العمى، وهو حيلولة السيول بينه وبين المسجد. وأجابوا عن احتجاج المسقطين لفرضيتها بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده، فقالوا: التفضيل لا يدل على أن المفضول جائز، فقد قال تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم}. والسعي واجب، والبيع لا يجوز. أو هو محمول على المعذور؛ فإن هذا بمنزلة قوله: "صلاة القاعد على

النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد". والمراد المعذور، وهذا أحد القولين في تفسير هذا الحديث، وهو الصحيح. والقول الآخر أن المراد النفل دون الفرض، ومن قال هذا القول لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعًا. وقد التزمه بعض المتأخرين. ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثًا في الإسلام، وقالوا: لا يعرف أن أحدًا قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح، ولو كان مشروعًا لفعلوه، أو فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو مرة تبينًا للجواز. فإنه ورد أنه تنفل قاعدًا،

وعلى راحلته، ولم يرد أنه تنفل مضطجعًا. فإن قيل: قد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر/ كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم". فالجواب أن هذا الأجل نيته وعجزه عنه. وهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح إذا كانت تينه أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح. وأيضًا فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح ولكن عجز عنه. فالحديث يدل على أن من كانت عادته الصلاة في الجماعة والصلاة قائمًا، ثم ترك ذلك لمرضه فإنه يكتب له ما كان يعمل وهم صحيح مقيم، وكذلك المتطوع. وأما من لم يكن عادته الصلاة في الجماعة ولا الصلاة قائمًا، إذا مرض فصلى وحده، أو صلى قاعدًا فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح. وأيضًا فهذا التفضيل إنما يكون بين صلاتين صحيحتين، فإن الحديث ما سيق لبيان صحة الصلاة وفسادها، فوجوا القيام والجماعة وسقوطهما يتلقى من أدلة أخر.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من صلى خلف عائم تقي فكأنما صلى حلف نبي". قال السروجي: لم أقف عليه في كتب الحديث، لكن معناه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم بينكم وبين ربكم" رواه الدارقطني. انتهى. وهذا الذي رواه الدارقطني ضعيف، ضعفه البيهقي وغيره. والأول منكر. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لا بني أبي مليكة: "أذنًا وأقيمًا وليؤمكما أكبر كما سنًا"). قوله: (وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام). يعني صلاة

عائشة بالنساء جماعة. قال السروجي: وفيه بعد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشر [ة] سنة، هكذا رواه البخاري ومسلم. ثم تزوج عائشة رضي الله عنها وبني بها بالمدينة وهي بنت تسع، فبقيت عنده تسع سنين. قال صاحب المحيط: صلت بهن العصر، وما تصلي إمامًا إلا بعد بلوغها، فكيف يستقيم حمله على ابتداء الإسلام؟ لكن يمكن أن يقال: إنه

منسوخ وإن لم يكن في ابتداء الإسلام، بل كان ذلك حين كان النساء يحضرن الجماعات ثم نسخت جماعتهن، هكذا قالوا. انتهى ما قال السروجي رحمة الله. ولقد أنصف إذ قال: هكذا قالوا. فإن هذه عبارة فيها تلويح بضعف هذه المقالة، والأمر كذلك. فما أصعب هذه الدعوى، وأصعب إثباتها! فأين شروط النسخ من وجود معارض مقاوم متأخر؟ وليس النسخ بمجرد الدعوى! ولا يترك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة صحيحه أبدًا بدعوى إجماع، ولا دعوى نسخ، إلا أن يوجد ناسخ صحيح صريح متأخر نقلته الأمة وحفظته؛ إذ محال على الأمة أن تضيع الناسخ الذي يلزمها حكمه، وتحفظ المنسوخ الذي قد بطل العمل به، ولم يبق من الدين. ولا يجوز أن يقال: يمكن أن يكون منسوخًا، ولا يذكر التاريخ ومن وراه. وكان النساء يحضرن الجماعات ويصلين جماعة، ولم يمنعن من

ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وبعد وفاته لا يمكن النسخ. قوله: (أما المرأة فلقوله عليه الصلاة والسلام: "أخروهن من حيث أخرهن الله". قال السروجي: هذا الحديث مذكور في كتب الفقه، ثم نقل عن شيخه قاضي القضاة، صدر الدين سليمان: أنه كان يعزوه إلى مسند رزين بن معاوية. انتهى. وذكره ابن الأثير في "جامع الأصول" وعزاه إلى مسند رزين أيضًا. وقال ابن التركماني: ذكره الطبراني موقوفًا على ابن مسعود. والعجب أن المصنف رحمه الله ادعى بعد هذا في مسألة المحاذاة أنه من

المشاهير، وهو/ غير ثابت عند أهل الحديث، فضلًا عن شهرته. قوله: (لأنها عرفت مفسدة بالنص، بخلاف القياس، فيراعي جميع ما ورد به النص). ليس في مسألة المحاذاة حديث غير الحديث المتقدم، وهو "أخروهن من حيث أخرهن الله". وفي ثبوته نظر؛ فأين ورد النص بأن تكون الصلاة مشتركة، وأن تكون مطلقة، وأن تكون المرأة من أهل الشهوة، وأن لا يكون بينهما حائل، وأن ينوي المأموم إمامتها، وأن تكون المحاذاة في ركن كامل؟ قوله: (غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة. أما في الفجر والعشاء فهم نائمون، وفي المغرب بالطعام مشتغلون). الظاهر أن هذا مما يختلف باختلاف الأحوال، وكأن الإمام أبا حنيفة

رحمه الله بني الجواب على ما بلغه من حال فساق زمانه. وأما في زماننا، فأكثر ما ينتشر في وقت العشاء والمغرب يستترون بظلمة الليل؛ فيجب على المفتي النظر في مثل ذلك. ولهذا نظائر تأتي في أماكنها يقول الأصحاب فيها: هذا مما يختلف باختلاف العصر والزمان. قوله: (ويصلي القائم خلف القاعد. وقال محمد: لا يجوز، وهو القياس لقوة حال القائم، ونحن تركناه بالنص، وهو ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام صلى آخر صلاته قاعدًا والقوم خلفه قيام"). قال ابن المنذر: واختلف أهل العلم في الإمام يصلي بالناس جالسًا من علة، فقالت طائفة: يصلون قعودًا، فمن فعل ذلك جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير.

وبه قال أحمد وإسحاق، قال أحمد: كذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله أربعة من الصحابة. قال أبو بكر: الرابع هو في الخبر الذي رويناه عن قيس بن (قهد)، أن إمامًا لهم اشتكى على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يؤمنا جالسًا ونحن جلوس، ثم حكى بقية الأقوال، ثم اختار قول أحمد. ويؤيد ما ثبت في حديث عائشة، وأنس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه لما سقط عن فرس فجحش شقه الأيمن". وفي رواية: "فانفكت قدمه، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فحضرت

الصلاة، فصلى بهم قاعدًا، وصلوا وراءه قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا فصلوا وراءه قعودًا. فلما قضي الصلاة قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع لله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدًا فصلوا جلوسًا أجمعين" متفق عليه. وفي رواية لأبي داود من حديث جابر: "ولا تفعلوا كما تفعل فارس بعظمائها". ولم يثبت ما ينسخه؛ فإن صلاته التي صلاها في مرض موته جالسًا، اختلفت الصحابة رضي الله عنهم فيها، هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإمام أو أبو بكر رضي الله عنه؟.

فعن أنس رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه أبي بكر قاعدًا". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدًا" رواهما الترمذي وصححهما. وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويفتدي الناس بصلاة أبي بكر". وعنها رضي الله عنها قالت: "من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في الصف. ومنهم من يقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- المقدم بين يدي أبي بكر". ذكره ابن عبد البر في التمهيد بسنده. وعن جابر قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره" رواه مسلم. ومع هذا الاضطراب لا يثبت النسخ.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أم قومًا ثم ظهر أنه كان محدثًا، أو جنبًا، أعاد صلاته وأعادوا". رواه الدارقطني بإسناده عن أبي جابر البياضي، عن ابن المسيب، أنه عليه الصلاة والسلام: "صلى بالناس وهو جنب، فأعاد وأعادوا". وعن على/ رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه صلى بهم ثم انصرف، ثم جاء ورأسه يقطر، فأعاد بهم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة من خلفه".

قال أبو الفرج: أما الحديث الأول، فقال الدارقطني: هو مرسل وأبو جابر متروك الحديث. وأما الحديثان الأخيران فلا يعرفان. انتهى. وما رواه المصنف رحمه الله فغير معروف، وإنما روى الإمام أحمد عن أبي بكرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استفتح الصلاة فكبر، ثم أومأ إليهم: أن مكانكم، ثم دخل فخرج ورأسه يقطر، فصلى بهم. فلما قضي الصلاة قال: "إنما أنا بشر، وإني كنت جنبًا". رواه أبو داود أيضًا، وقال: رواه أيوب، [و] ابن عون، وهشام

عن محمد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فكبر ثم أومأ إلى القوم: أن أجلسوا، وذهب فاغتسل)). انتهى. وهذه الإعادة للتذكر في الصلاة، أما التذكر بعد الصلاة فقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم، فأعاد ولم يعيدوا. وكذلك عثمان، ويروى عن علي من قوله، ذكر ذلك في المنتقى في الأحكام.

وزاد ابن المنذر ابن عمر، وحكاه عن الأئمة الثلاثة وغيرهم، واختاره. ويشهد لذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)). والله أعلم. ***

باب الحدث في الصلاة

باب الحدث في الصلاة قوله: (والقياس أن يستقبل، وهو قول الشافعي -رحمه الله-). الصحيح من مذهب الشافعي جواز الاستخلاف، وهو قوله الجديد. قال النووي: ومن أصحابنا من قطع بالجواز، وقال: إنما القولان في الاستخلاف في الجمعة خاصة. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((من قاء، أو رعف، أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته ما لم يتكلم))). تقدم في ذكر نواقض الوضوء الإشارة إلى ضعف الحديث المذكور. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف

فليضع يده على فمه، وليقدم من لم يسبق بشيء))). قال ابن التركماني: وروى الدارقطني عن علي قال: ((إذا أم القوم فوجد في بطنه رزءًا، أو رعافًا، أو قيئًا، فليضع ثوبه على أنفه، وليأخذ بيد رجل من القوم فليقدمه)) ضعفوه. وما ذكره في الهداية في هذا الحديث: ((وليقدم من لم يسبق بشيء)) لم أره. انتهى. وقول أبي حنيفة بجواز البناء والاستخلاف دليل على جلالة قدره، فإنه [ترك الـ] أخذ بالقياس لمثل هذا الحديث، فكيف إذا بلغه حديث صحيح في حكم من الأحكام، فلا والله، ما أظنه قط أنه كان يعرض عنه ويعدل إلى القياس. فمن انتسب إليه يجب أن يسلك طريقته، ولا يأخذ بالقياس مع وجود

النص وإن كان الحكم منقولًا عن إمامه، فعذر إمامه لا ينفعه عند الله. وهذا معلوم، ولكن الهوى يحمل بعض المتعصبين على العمل بخلافه. قوله: (فالعجز عن القراءة غير نادر). يعني إذا حصر الإمام عن القراءة فقدم غيره. وفي تعليله نظر؛ فإن عجز الإمام عن أن يقرأ ولو آية قصيرة في غاية الندرة، وإنما يحكى عن بعض الأئمة. والأخذ بقول أبي يوسف ومحمد في عدم جواز الاستخلاف بسبب الحصر عن القراءة أولى. قوله: (ومن اقتدى بالإمام بعدما صلى ركعة، فأحدث الإمام فقدمه أجزأه لوجود المشاركة في التحريمة). في جواز استخلاف المسبوق إشكال، وهو أنه روي في صدر الباب في

الحديث الذي ذكره: ((وليقدم من لم يسبق بشيء)). وحكم الاستخلاف عرف بالنص، فيقتصر عليه. ولو لم يرد التقييد بغير المسبوق في النص لكان المقياس يقتضي عدم جواز استخلافه؛ لعجزه عن التسليم بالقوم إذا جاء أوانه، فكيف إذا ورد النص بالتقيد على ما روى هو. وجواز أصل الاستخلاف لضرورة صيانة المؤدى عن البطلان، واستخلاف المسبوق من التسليم بالقوم عمل مناف من غير ضرورة، فيكون مبطلًا للصلاة. ***

باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها

باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن))، وما رواه محمول على رفع الإثم). فيه نظر؛ فقد ورد من السنة ما يؤيد ما ذهب إليه الشافعي، وهو حديث ذي اليدين، فإن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه كان ناسيًا، وكلام غيره لإصلاح الصلاة.

ودعوى النسخ فيها نظر؛ لأن نسخ الكلام في السنة الثانية من الهجرة لما نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}، وراوي حديث ذي اليدين

أبو هريرة، وإسلامه في السنة السابعة عام خيبر. وعن عطاء: ((أن ابن الزبير صلى المغرب فسلم في ركعتين ونهض ليستلم الحجر، فسبح القوم، فقال: ما شأنكم؟ قال: فصلى ما بقي، وسجد سجدتين)) قال: فذكر ذلك لابن عباس فقال: ((ما أماط عن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-)). رواه أحمد. وأيضًا فإن الكلام في الصلاة من باب التروك، فيعذر فيه بالخطأ والنسيان كما في الصوم، بل أولى؛ لأن الكف عن الأكل والشرب في الصوم [ركن]، والكلام في الصلاة محظور، والإثم فيه مرفوع إجماعًا، فإذا رفع إثمه لم يبق محظورًا. وإذا لم يكن الأكل ناسيًا منافيًا للصوم مع كون الكف عنه ركنًا فلأن لا يكون الكلام ناسيًا منافيًا للصلاة بطريق الأولى. قوله: (وإن كان من وجع، أو مصيبة قطعها؛ لأن فيه إظهار الجزع والتأسف، فكان من كلام الناس). يعني التأوه، وفيه تفصيل، وهو أنه إن أمكن الامتناع يفسد، وإلا فلا.

ذكره المحبوبي عن أبي يوسف، وهذا لابد منه. وفي تعليله نظر؛ فإن اللفظ على ثلاث درجات: أحدها: أن يدل على معنى بالوضع، كيد، وخذ، وفي. وهذا هو الذي يسمى المركب منه كلامًا في العرف واللغة. الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالأنين، والتأوه، والبكاء، ونحو ذلك. الثالث: أن لا يدل على معنى لا بالوضع ولا بالطبع كالنحنحة، وكل من هذين النوعين لا يسمى كلامًا، لا عرفًا، ولا لغة. حتى لو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور. ولو حلف ليتكلمن لا يبر بمثل هذه الأمور.

قوله: (وقيل: بأن الأصل عنده أن الكلمة إذا اشتملت على حرفين وهما زائدان، أو أحدهما لا يفسد). في ثبوت هذا عن أبي يوسف -رحمه الله- نظر. فإن هذا غلط؛ فإن الحروف الزوائد لم تسم زوائد لأنها لا تكون إلا زوائد، بل لأنها لا تكون الزوائد إلا منها. أي الزوائد على أصل بنية الكلمة كالهمزة من ((أخرج))، والتاء من ((تكلم))، والهمزة من ((انطلق))، والهمزة والسين والتاء من ((استخرج))، ونحو ذلك. وأما إذا قيل: ((نسي)) مثلًا، فهذه الحروف كلها أصول غير زوائد، وإن كان قد يوجد منها في كلمة أخرى ما هو زائد على أصل تلك الكلمة كالنون من ((انكسر))، والسين من ((استكمل))، والياء من ((كريم))، ونحو ذلك. وقد قال المصنف بعد ذلك إن هذا لا يقوى، ولكنه ما أشبع في البيان. قوله: (وينوي الفتح على إمامه، دون القراءة، هو الصحيح؛ لأنه مرخص فيه، وقراءته ممنوع عنه). تصوير القول المرجوح، وهو أن ينوي بالفتح على إمامه القراءة دون

الفتح عليه فيه بعد كبير؛ لأن النية عمل القلب، وهو حين جهر بالقراءة إنما جهر بها ليسمع الإمام ويتذكر ما نسي، وهذا هو الفتح على الإمام. فإذا قال: أنا أريد أن أقرأ، ولا أريد أن يسمع الإمام ليتذكر كان هذا إخبارًا عن غير الواقع، وكان حاله يكذبه، ومحال أن يريد شيئًا وينوي خلافه؛ لأن النية هي الإرادة، أو أنها إرادة مخصوصة. فإن النية تتعلق بعمل نفسه، والإرادة تتعلق بعمله وعمل غيره؛ فإنك تقول: أردت من فلان كذا. ولا تقول: نويت منه. وقراءة المؤتم جهرًا ليسمع الإمام إرادة من نفسه للقراءة والإسماع. ولو أراد القراءة فقط لم يجهر ليسمع إمامه، فالقول المرجوح ممنوع تصوره فلا يحتاج أن يقول: لأنه مرخص فيه، وقراءته ممنوع عنه. قوله: (ولو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله). قال السروجي: قال في ((المحيط)): وذكر في ((الأصل)) و ((الجامع الصغير)) أنه يجوز مطلقًا؛ لأن الفتح عمل يسير، وأنه تلاوة حقيقة.

وفي ((قاضي خان)): إن قرأ مقدار ما تحوز به الصلاة ففتح عليه، قالوا: تفسد صلاته وصلاة الإمام إن أخذ منه. والأصح أنه لا تفسد للحاجة. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يقطع الصلاة مرور شيء)). أخرجه أبو داود، وضعفه ابن قدامة المقدسي والنووي). وما ورد من الدليل على قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود البهيم، والمرأة، والحمار، صحيح لا يصلح هذا لمعارضته. وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب. ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل)). وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره [إذا كان بين يديه] مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة

الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود)). قال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي، سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كما سألتني فقال: ((الكلب الأسود شيطان)). رواها مسلم وأبو داود وغيرهما. قال ابن المنذر: قال أنس بن مالك، والحسن البصري، وأبو الأحوص: ((يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة)).

وقالت عائشة: ((لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود))، وبه قال أحمد. وقال: في قلبي من الحمار والمرأة شيء. وقال ابن قدامة المقدسي: وحديث عائشة، من الناس من قال: ليس بحجة على هذا؛ لأن المار غير اللابث، وهو في التطوع، وهو أسهل. والفرض آكد. وحديث ابن عباس: ((مررت بين يدي بعض الصف)) ليس بحجة، لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. انتهى. ***

فصل

فصل قوله: (لقوله -عليه السلام-: ((إن الله كره لكم ثلاثًا)) وذكر منها: ((العبث في الصلاة))). ذكر السروجي تتمة الحديث وهي: ((والرفث في الصيام، والضحك في المقابر)). وقال: ذكر هذا الحديث في كتب الفقه. يعني أنه لم يثبت. قوله: (ولأن العبث خارج الصلاة حرام، فما ظنك به في الصلاة). قال السروجي: فيه نظر؛ فإن من عبث بثيابه، أو بلحيته، أو بذكره خارج الصلاة يكون تاركًا للأولى، ولا يحرم ذلك عليه. ولهذا قال في الحديث الذي ذكره: ((كره لكم ثلاثًا))، وذكر منها: ((العبث في الصلاة))، فلم يبلغه درجة التحريم في الصلاة، فما ظنك بخارجها!.

ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-رجلًا يعبث [في] الصلاة فقال: ((لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)). ذكره في ((المغني)) لابن قدامة. انتهى. ولو كان مثل ذلك محرمًا لأنكره عليه كما ينكر على مرتكب الجرم. وفي حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خرجنا في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وبيده عود ينكت به الأرض، فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) الحديث أخرجه أبو داود وغيره.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر ((يا أبا ذر، مرة وإلا فذر))). هذا الحديث منقول بالمعنى، وأصله أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى، فقال: ((واحدة أو دع)) رواه أحمد. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لو علم المصلي من يناجي ما التفت))). قال السروجي: قالت عائشة -رضي الله عنها-: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن

الالتفات في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وأحمد. ثم ذكر حديث أنس، وحديث أبي ذر، وحديث ابن عباس، وحديث سهل

ابن الحنظلية، ثم قال: وفي كتب الفقه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو علم المصلي من يناجي ما التفت)). قوله: (ولا يرد السلام بلسانه لأنه كلام، ولا بيده لأنه سلام معنى). قال السروجي: وفي ((الذخيرة))، و ((مختصر البحر))، قال الحلواني وبرهان الدين صاحب المحيط: لا بأس أن يتكلم مع المصلي ويجيب برأسه. انتهى. فعلى قولهما رد السلام بالإشارة لا بأس به بطريق الأولى. ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور أنه يرد السلام بالإشارة، ......................

[واستدلوا بحديث صهيب، وحديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد السلام بالإشارة]، وحملوا حديث جابر، وابن مسعود، في عدم الرد على الرد بالقول توفيقًا بين الأدلة. والمثبت أولى. وقد قال السروجي عن الرد بالإشارة: لعله كان نهيًا لهم عن السلام فظنه ردًا. قال: وما ذكره صهيب يحتمل أنه كان في حال التشهد، وهو يشير بأصبعه فظنه ردًا. انتهى.

وهذا بعيد، فإن مثل هذا يعرف بقرائن الحال، ولا يظن بالصحابة أن يخفى مثل هذا عنهم، وينقلونه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن غير ضبط. ولا يجوز أن ينسب هذا إلى الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين. قوله: (ولا يكف ثوبه لأنه نوع تجبر). في تعليله نظر؛ لأنه كف الثوب -وهو جمع أذياله، أو تشمير أكمامه -من فعل أرباب الأعمال والصناعات والخدم، لا من فعل المتجبرين. وإنما ينبغي أن يعلل النهي عن عقص الشعر وكف الثوب بأنه منعهما من السجود. فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((مثل الذي يصلي وهو معقوص كمثل الذي يصلي وهو مكتوف)). فالمكتوف لما كانت يداه لا تسجدان معه كذلك من ضم ثوبه، أو عقص شعره لا يسجد ثوبه، ولا يسجد شعره لسجوده. وأما ضفر الشعر مع إرساله فليس بممنوع. ***

باب الوتر

باب الوتر قوله: (وقالا: سنة لظهور آثار السنن فيه، حيث لا يكفر جاحده، ولا يؤذن له). في تعليله نظر؛ فليس كل فرض يكفر جاحده كالقعدة الأخيرة قدر التشهد في آخر الصلاة، فإنها فرض ولا يكفر جاحدها؛ فإن الإمام مالكًا لا يقول بفرضها، وإنما يقول بفرضية القعود قدر إيقاع السلام. ونحو ذلك مما اختلف العلماء في فرضيته، بخلاف ما وقع الإجماع على القول بفرضيته. وإنما يكفر من جحد شيئًا معلومًا من الدين ضرورة. ولو ساغ الاستدلال بهذا لكان كل ما فيه خلاف يقول المخالف: هذا ليس بفرض لأنه لا يكفر جاحده، ولأن عدم تكفير جاحده لكونه متأولًا لا يمنع من كونه فرضًا، فلا يكفر جاحد فرض متأولًا، كما لا يكفر مثبت فرض متأولًا في محل يقبل التأويل. ويعكس عليه هذا الدليل فيقال: إنه فرض لأنه لا يكفر مثبته، وكونه لا يؤذن له لا يلزم أنه لا يكون فرضًا؛ لأنه من الممكن أن يقال: إنما لم يشرع فيه

الأذان لأنه لم يشرع فيه الاجتماع. والأذان لأجل الاجتماع، أو اكتفاء بأذان العشاء لاشتراكهما في الوقت كما يأتي في كلامه. والتعليل الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-أوتر على الراحلة، والفرض لا يؤدى على الراحلة لغير ضرورة. في حديث طلحة، وعبادة بن الصامت، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((خمس صلوات ...))، مع قول الله عز وجل: {والصلاة الوسطى} ما يغني

عن مثل هذا التعليل. وفيما أجاب به لأبي حنيفة عن قوله في الاحتجاج لهما: (حيث لا يكفر جاحده) من قوله: (لأن وجوبه ثبت بالسنة) نظر؛ لأنه لا يلزم من كونه ثبت بالسنة أن لا يكفر جاحده؛ فإن الثابت بالسنة المتواترة يكفر جاحده بالإجماع. قوله: (ولهذا وجب قضاؤه بالإجماع). فيه نظر، وكيف يدعي الإجماع في أمر جمهور العلماء على خلافه. قال السروجي: قال في ((الذخيرة)): يقضي في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول لا قضاء عليه. وعن محمد أنه قال: أحب إلي أن يقضيه. وأما عند الشافعي وغيره فلا يجب عليه القضاء. وقال ابن حنبل، وأبو مصعب، ..............................

واللخمي من المالكية: لا يقضي بعد الفجر، وبعد طلوع الشمس لا يقضي عند مالك، وللشافعي قولان فيه، وفي السنن المؤقتة. انتهى. فأين الإجماع والحالة هذه، مع أنه قد حكى جماعة من الأصحاب، القدوري وغيره أن أبا حنيفة رجع عن القول بفرضية الوتر، فلا فائدة في إتعاب الفكر في ترجيح قول مرجوع عنه بمثل هذا التعليل. قوله: (وحكى الحسن البصري إجماع المسلمين على الثلاث). هذا غير صحيح عن الحسن، وإن ثبت عنه فيحتمل أنه أراد الإجماع على

جواز الإيتار بثلاث بتسليمة، فإن الإيتار بثلاث بتسليمتين، أو الإيتار بواحدة من غير تقدم شفع فيه نزاع. قال ابن المنذر: وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعات الوتر، فكان ابن عمر يقول: ((الوتر ركعة)). وكان يقول: ((ذلك وتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر)). وممن روينا عنه أنه قال: ((الوتر ركعة))، عثمان بن عفان، وسعد بن مالك، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان،

وأبي موسى الأشعري، وابن الزبير، وعائشة، وفعل ذلك معاذ القاري ومعه رجال من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينكر منهم أحد. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. غير أن مالكًا، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق رأوا أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. وقالت طائفة: يوتر بثلاث. وممن روي عنه عمر بن الخطاب، وعلي بن

أبي طالب، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو إمامة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أصحاب الرأي.

وقال الثوري: أعجب إلي ثلاث. وأباحت طائفة الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وأحدى عشرة. قال أبو أيوب الأنصاري: "من شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بركعة". وقال ابن عباس: "إنما هي واحدة، أو خمس، أو سبع، أو أكثر من ذلك، يوتر بما شاء". وقال سعد بن أبي وقاص: "ثلاث أحب إليَّ من واحدة، وخمس أحب إلي من ثلاث، وسبع أحب إليَّ من خمس". وروينا عن عائشة أنها قالت: "الوتر سبع، وخمس، والثلاث بتراء". وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: ثلاث أعجب إليَّ من واحدة،

وخمس أحب إلي من ثلاث، وسبع أحب إلي من خمس" وروينا عن زيد بن ثابت أنه: "كان يوتر بخمس ركعات، لا ينصرف فيها". وكان سفيان الثوري يقول: "الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، واحدى عشرة". وكان إسحاق يقول: "إن شئت أن توتر بركعة، وإن شئت فثلاث، وإن شئت فخمس، وان شئت فسبع، وان شئت فتسع، لا تسلم إلا في آخرهن إذا فرغت. وان أوترت بإحدى عشرة فسلم في كل ركعتين، ثم أفرد الوتر بركعة". وقد اختلفَ أهل العلم في الرجل يوتر بركعة ليس قبلها شيء، كأنه صلى العشاء الآخرة، ثم أراد أن يوتر بركعة. فممن روي عنه أنه فعل ذلك عثمان ابن عفان، وسعد بن مالك، ومعاوية. وقال ابن عباس: أصاب، يعني معاوية. وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وابن الزبير. وبه قال سعيد بن المسيب، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة،

وأبو أيوب. وهذا هو مذهب الشافعي. وكان مالك يكره ذلك. قال أبو بكر: أحب إلي أن يصلي المرء ما قضي له من الليل ركعتين ركعتين، ثم يوتر بواحدة، فإن أوتر بواحدة ليس قبلها شيء فهو جائز. انتهى كلام ابن المنذر. ولا يظن بالحسن البصري أنه يخفى عنه مثل هذا الخلاف، والأحاديث الواردة في الإيتار بواحدة متفق على صحتها في "الصحيحين"، و "السنن"، و "المسانيد" لا مطعن فيها. وكذلك الإيتار بخس متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها

قالت: "كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرها". وكذلك الإيتار [بثلاث] متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، لكن ليس في "الصحيحين": "لا يفصل بينهن بسلام"، وإنما / هذه الزيادة ثابتة عنها في سنن النسائي، ومسند أحمد.

والإيتار بالسبع والتسع ثابت في صحيح مسلم وغيره. ولكن في الإيتار يسبع لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة. وفي الإيتار بتسع لم يجلس إلا في الثامنة والتاسعة. وفي رواية للنسائي: "سبع ركعات، لا يقعد إلا في آخرهن". ولولا قصا الاختصار لسقت الأحاديث الواردة في الوتر كلها هنا. ولا يظن بالحسن البصري خفاء هذه السنن عنه، إنما أراد - والله أعلم - إن صح هذا النقل عنه - الإجماع على جواز الإيتار بثلاث، لا على وجوبه. والذي يظهر أن الاختلاف في ترجيح الفصل بين الثلاث وعدمه بمنزلة الاختلاف في ترجيح القران، وترجيح التمتع، وترجيح الإفراد. ويكون الكل سائغاً. وإلا؛ إذا كان الكل ثابتاً، وليس شيء منه منسوخاً، فلا يجوز ترك شيء منه لمن بلغة. أما من لم يبلغه، أو بلغة وتأوله بتأويل سائغ فهو معذور. ورضي الله عن الأئمة كلهم.

قوله: (لما روي: "أنه عليه الصلاة والسلام قنت في آخر الوتر" وهو بعد الركوع. ولنا ما روي: "أنه عليه الصلاة والسلام قنت قبل الركوع". لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت في الوتر، وإنما ثبت عنه أنه قنت في الفجر في وقت يدعو على أحياء من المشركين. وسيأتي الكلام على كونه منسوخاً أم، إن شاء الله تعالى. قوله: (لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام: "قنت في صلاة الفجر شهراً ثم تركه").

أخرجه الطحاوي عن ابن مسعود، وتكلموا في سنده. وفي "الصحيحين" وغيرهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب ثم تركة". قوله: (ولهما أنه منسوخ، فلا متابعة فيه). قال السروجي: إن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر، وبه قال الثوري وأحمد.

قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: إنما لا يقنت عندنا ني صلاة الفجر من غير بلية، فإن وقعت فتنة وبلية فلا بأس به. فعله رسول الله صلي الله عليه وسلم. ذكره عنه السيد الشريف، صاحب النافع في مجموعه. انتهى. وجمهور أهل الحديث على أنه غير منسوخ، بل هو مشروع عد النوازل حتى في الصلوات كلها، فإنه ثبت في "الصحيحين" وغيرهما: "أنه قنت شهراً يدعو على رعل، وذكوان، وعصية ثم ترك هذا القنوت". ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر، وبعد إسلام أبي هريرة قنت، وكان يقول

في قنوته: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت له، فقال: "وما تراهم قد قدموا". ولو كان القنوت قد نسخ لما قنت هذه المرة الثانية. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان، وعصية، ويؤمن من خلفه". أخرجه الإمام أحمد وأبو داود. وروى مسلم "أنه صلي الله عليه وسلم قنت في الظهر والعشاء الأخيرة". وفي البخاري عن أنس قال: "كان القنوت في المغرب والفجر". انتهى.

وأكثر قنوته كان في الفجر، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر، ولا في غيرها، بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: "لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً". والحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما زال يقنت [في الفجر] حتى فارق الدنيا"، إنما في سياقه القنوت قبل الركوع. وهذا الحدث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه؛ فإن أبا جعفر الرازي متكلم فيه، فكيف وهو لم يعارضه، وإنما معناه: أنه كان يطيل القيام

في الفجر / قبل الركوع. وأما أنه كان يدعو في الفجر دائما قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه، أو لا يسمع، فهذا باطل قطعاً. وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة، وعلم أن لو كان واقعاً لنقلته الصحابة رضي الله عنهم، ولما أهملوا قنوته المشروع لنا. مع أنهم إنما نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وإنما يشرع نظيره؛ فإن دعاءه على أولئك المعينين، ولأولئك المعينين ليس بمشروع، وإنما المشروع نظيره، فيشرع أن يقنت عند النوازل، يدعو للمؤمنين وعلى الكافرين في الفجر وغيرها، وفي الفجر آكد، فإنه تعالى يقول: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وقد كان عمر رضي الله عنه يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه: "اللهم العن كفرة أهل الكتاب" إلى آخره. وكذلك علي رضي الله عنه لما حارب قوماً قنت يدعو عليهم. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة. وقول أبي يوسف في متابعة من يقنت في الفخر هو الصحيح. كذلك من

اقتدى بمن لا يقنت في الوتر، أو بمن يقنت فيه بعد الركوع، أو سلم بعد الركعتين منه يتابعه؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تختلفوا على أئمتكم". وقال عليه السلام: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وان أخطأوا فلكم وعليهم". والقنوت في الوتر مختلف فيه بين الصحابة، فحكى ابن المنذر عن ابن مسعود: "أنه كان يقنت في السنة كلها". وحكى عن علي، وأبي بن كعب القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان فقط. قال: وكان ابن عمر يفعله. وحكي عن ابن عمر ترك القنوت في الوتر أيضاً. وأخذ بكل قول من هذه الأقوال طائفة من العلماء بعدهم، وسبب اختلافهم فيه - والله أعلم - عدم ثبوته عن النبي صلي الله عليه وسلم نصاً.

فإن حديث الحسن رضي الله عنه، فيه: "علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قوت الوتر: اللهم اهدي فيمن هديت ... " إلى آخره. وحديث علي رضي الله عنه فيه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إي أعوذ برضاك من سخطك ... " إلى آخره. رواهما أهل السنن الأربعة، والإمام أحمد. وليس فيها قبل الركوع ولا بعده. ويحتمل أن يكون المراد من آخره بعد التشهد؛ فإنه محل الدعاء بالإجماع. وحديث أي بن كعب: "أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، ويقنت قبل الركوع". أخرجه النسائي، وأبو داود، وابن ماجه ..........

وفية كلام، بل عن أحمد أنه قال: "لم يصح عن النبي صلي الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء". واختار هو القنوت بعد الركوع. وقال عن حديث الحسن أنه لا يعرف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم شيء في القنوت أحسن منه. والذي رواه الحاكم: "أنه عليه السلام قنت قبل الركوع"، إنما كان في صلاة الفجر. وقد تقدم أن معناه أنه كان يطيل القيام. والقنوت له معنى آخر غير الدعاء في الصلاة وطول القيام وهو الطاعة مطلقاً. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين}: أي مطيعين. قاله الشعبي، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وطاوس. ويشهد لذلك قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ

قَانِتُون}، وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا}، وقوله تعالي: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ}، وقوله تعالي: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}، وقوله تعالي: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}. وهذه الصفة تكون في السجود أيضا كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}. وفي الحديث الصحيح: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت". ولم يرد به طول القيام فقط، بل طول القيام والركوع والسجود كما كانت صلاة النبي صلي الله عليه وسلم معتدلة، إذا أطال القيام أطال الركوع / والسجود. وسمي إطالة القيام في الصلاة قنوتاً لأنه يطيل فيه الطاعة. والقنوت الذي هو الدعاء في الوتر والفجر عرف خاص. وقد تقدم ما في فصل الثلاث بالتسليم من الخلاف. وقال السروجي: اقتدي حنفي المذهب بمن يرى الوتر سنة يجوز؛ لضعف

دليل وجوبه. ذكره في "مختصر البحر المحيط". انتهى. وقال أبو بكر الرازي: اقتدى الحنفي بمن يسلم على الركعتين، يجوز في الوتر، ويصلي معه بقية الوتر؛ لأن إمامة لم يخرج بسلامة عنده، لأنه مجتهد فيه، كما لو اقتدى بإمام قد رعف وهو يعتقد أن طهارته باقية؛ لأنه مجتهد فيه، فطهارته باقية في حقه. قوله: (وقيل يقعد تحقيقاً للمخالفة). فيه نظر، فقد نهينا عن مخالفة الأئمة. قال عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا على أئمتكم". وقال عليه الصلاة والسلام: "إ نما جعل الإمام ليؤتم به". واتفق المسلمون على أن المأموم يفعل لأجل الائتمام ما لا يسوغ له أن يفعله منفرداً، كالمسبوق إذا أدرك راكعاً كبر وركع معه، واعتد له بتلك الركعة. وان أدركه ساجداً كبر وسجد معه، ولم يعتد له بتلك الركعة، ثم

إنه يتشهد معه عقيب الأوتار. ولو فعل ذلك منفرداً عمداً لم يجز بالاتفاق. وكذلك المؤتم لا يسجد لسهوه، ويسجد لسهو الإمام. قوله: (وإذا علم المقتدي، منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا يجزئه الاقتداء به). حكي عن أبي يوسف رحمة الله: أنه صلى خلف الرشيد وقد رآه احتجم، وأفتاه مالك أنه لا يتوضأ. وقد تقدم قول أبي بكر الرازي أنه لو اقتدى بإمام قد رعف، وهو يعتقد أن طهارته باقية صح اقتداؤه، وقال: لأنه مجتهد فيه، فطهارته باقية في حقه. وهذا هو الحق، يشهد له ما وواه البخاري في صحيحة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وان أخطأوا فلكم وعليهم". فقد صرح بأن الإمام أذا أخطأ كان خطؤه عليه. وغاية هذه المسائل أن يكون الإمام فيها مخطئاً، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أن خطأه عليه دون المأموم.

وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، فإذا علم بطلان صلاته كانت الصلاة خلفه كالصلاة خلف المحدث المتعمد الصلاة مع حدثه. وهذا القياس فاسد، وذلك أن المأموم يعلم أن الإمام مجتهد، إن أصاب فله أجران، وان أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور. وإذا كان يعلم أنه لا إثم عليه فممتنع أن يعتقد بطلان صلاته، ولعله هو المخطئ. وان كانا مقلدين فالكلام في حق الإمامين اللذين قلداهما. إن أحدهما صاحب أجرين، والآخر صاحب أجر مغفور له. وما زال الصحابة رضي الله عنهم يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في مسائل الاجتهاد. ولو قيل لهذا المأموم: أنت تقول إن صلاة هذا الإمام باطلة بمنزلة من صلي بغير طهارة، وهو يعلم ذلك تجتنبه وتفسقه؟ لقال: لا. ولو قيل له: هل هو مأجور على هذه الصلاة، قد برئت ذمته من الطلب بها؟ لقال: نعم. وسر المسألة أن ما تركوه إن لم يكن واجباً في نفس الأمر، فلم يتركوا واجباً. وان كان واجبا فقد سقط عنهم باجتهاد هم الذي استفرغوا فيه وسعهم، وبلغوا فيه إلى حد يعجزون معه عن معرفة الوجوب، فسقط عنهم

ما عجزوا عن معرفته، كما يسقط الواجب بالعجز عن فعلة. ولازم هذا القول الذي ذكره المصنف، أن أهل المذهب الواحد لا يصلي بعضهم خلف بعض، حتى لا يصلي أبو يوسف خلف محمد، ولا محمد خلفه، ولا يصليان خلف أبي حنيفة، ولا يقلد بعضهم في مسألة خلف من يقلد الآخر في خلافها. فإن أبا يوسف يعتبر في انتقاض الطهارة بالقيء المتفرق المجلس، ومحمد السبب. وأبي يوسف يرى انتقاض الطهارة بقيء البلغم، وخالفه أبو حنيفة ومحمد. ومحمد لا يرى انتقاض الطهارة بقيء الدم السائل حتى يكون ملء الفم، وخالفه أبو حنيفة، وأبو يوسف. وزفر يرى نقض الطهارة بقليل الدم، وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد اعتبروا السيلان. وهذا يؤدي إلى الافتراق، وقد نهينا عنه. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}. وقال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. وقال تعالي: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}. وروى ابن ماجه عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعلية ولا عليهم". ومن تمسك في هذه المسألة وأشباهها بقوله: "الإمام ضامن" أجيب ببقية الحديث، وإن كان روي: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين" أخرجه أحمد، والترمذي، وأبي داود من حديث أبي هريرة، وليس فيه تلك الزيادة. فتلك الزيادة قد أخرجها أحمد،

والبخاري وحدها، وهي أصح وأصرح في الدلالة كما تقدم. وأما ما ذكره صاحب المحيط، وقاضي خان، وغيرهما أنه إنما يصح الاقتداء بالشافعية إذا كان الإمام يحتاط في مواضع الخلاف؛ بأن لا ينحرف عن القبلة، ولا يكون متعصباً، ولا شاكاً في .............................

إيمانه، بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فظاهره أنهم اعتقدوا أن في مذهب الشافعي من يعتقد الصلاة إلى غير القبلة، ومن يشك في إيمانه. وهذا غلط، فإن القبلة الشافعي وأصحابه هي القبلة عنا سائر المسلمين، ولكن كان قد حصل ببخارى نزع في قبلة بخارى خاصة، وذلك لا يتعلق بالمذاهب. وكذلك ليس للشافعي في الأيمان قول يخالف قول الأمة وأئمتها. وليس فيهم من كان يشك في إيمانه، واستثناء من كان يستثني من الملف في إيمانه إنما هو للتحقيق، بمنزلة قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ

الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}. وقو له عليه السلام: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، أو من الكاملين الأيمان، المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. قوله: (المختار في القنوت الإخفاء لأنه دعاء). نقل السغناقي والكاكي في شرحهما عن شيخ الإسلام أنه قال: لا إشكال في المنفرد أنه يخافت، وفي الإمام اختلف المشايخ. انتهى. والذي ينبغي: أن يفعل هذا تارة، وهدا تارة؛ فإن الدعاء وان كان الأصل فيه الإخفاء فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يجهر بالدعاء حين يقنت، حتى سمع أصحابه ما كان يقول في دعائه، ونقلوه كما تقام ذكره، خصوصا إذا كان وراءه جاهل يحتاج إلى التعليم.

باب النوافل

باب النوافل (فأما نافلة الليل، قال أبو حنيفة رحمة الله: إن صلى ثماني ركعات بتسليمة جاز، ويكوه الزيادة على ذلك. ثم قال: ودليل الكرامة أنه عليه الصلاة والسلام لم يزد على ذلك، مع حرصه على النوافل. ولولا الكرامة لزاد تعليماً للجواز). ظاهر كلامه أنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه تنقل في الليل بست ركعات بتسليمة، وثمان ركعات بتسليمة". وهو غير صحيح، ولم يرد عنه صلي الله عليه وسلم أنه زاد في الليل ولا في النهار على أربع ركعات بتسليمة. وإنما ورد عنه في الوتر أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها. ثبت عنه ذلك في "الصحيحين". وورد عه أيضا الإيتار بسبع بتسليمة، وتسع بتسليمة في "صحيح مسلم" وغيره. قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": فكان من حجة الذين جعلوا له أن يصلي بالليل ثمانياً لا يفصل بينهن بتسليم حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم "أنه كان

يصلي بالليل إحدى عشرة، منها الوتر بثلاث". فقيل لهم: فقد روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أنه كان يسلم بين كل اثنتين منهن". وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والإتباع لما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمر به، وفعلة أصحابه من بعده. فلم نجد عنه من فعلة ولا من قوله أنه أباح أن يصلي في الليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، وبذلك نأخذ، وهو أصح القولين في ذلك. انتهى كلام الطحاوي. وقوله: (مع حرصه على النوافل). لا حاصل له، لأنه لا يلزم من احرص على النوافل ترك الفصل بين الركعات. وقوله: ("وكان عليه الصلاة والسلام يواظب علي الأربع في الضحى". ولأنه أدوم تحريمة فيكون أكثر مشقة، وأزيد فضيلة. ولهذا لو نذر أن يصلي أربعاً بتسليمة لا يخرج عنه بتسليمتين، وعلى القلب يخرج).

في دعوى المواظبة من النبي صلي الله عليه وسلم على الأربع في صلاة الضحى نظر. بل في صلاة الضحى نفسها، هل كان يواظب عليها النبي صلي الله عليه وسلم أم لا). فإن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه: "كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله"، رواه مسلم وغيره، يدل على المواظبة. لكن روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى، وأني لأسبحها". وروى أيضا من حديث مورق العجلي: [قال]: قلت لابن عمر: أتصلي الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت فالنبي صلي الله عليه وسلم؟ قال: لا أخاله. وذكر أيضا عن ابن ليلى قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي

الضحى غير أم هانئ فإنها قالت: "إن النبي صلي الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثمان ركعات. فلم أر [صلاة] قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود". وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ فقالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبة". ولهذا اختلف الناس فيها: فذهب طائفة إلى استحبابها لما ورد من الأحاديث في فضلها. وذهب طائفة إلى أحاديث الترك، ورجحتها من جهة [صحة]

إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها. وذهبت طائفة إلى استحباب فعلها غباً عملاً بموجب الأحاديث كلها. وذهبت طائفة إلى أنها إنما تفعل لسبب؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم صلاها يوم الفتح لأجل الفتح. وكان الأمراء يصلونها عند الفتح، ويسمونها صلاة الفتح، كما روي عن خالد بن الوليد أنه صلاها لما فتح الحيرة ثمان ركعات لم يسلم فيهن. وصلاته صلي الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك لسبب، وهو أنه سأل من النبي صلي الله عليه وسلم أن يصلي في مكان في بيتة يتخذه مصلى، لأنه كان قد أنكر بصره فصلى في ذلك الوقت لأجل ذلك، كما حكى القصة البخاري وغيره. وقالت عائشة رضي الله عنها: "أنه ما كان يصليها إلا إذا قدم من مغيبة"، فكانت لأجل القدوم من السفر، وكذلك عند إتيانه مسجد قباء،

قالوا: وإنما ندب إلها ولم يواظب عليها لأنه كان يستغني عنها بقيام الليل، وهي كالبدل عنة. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. فالحاصل أن مواظبة النبي صلي الله عليه وسلم عليها لم يثبت. وقد عورض قول الأصحاب: أنها أدوم تحريمة، فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة، بأن في الفصل زيادة تسليم، وتحريمة، واستفتاح، وتعوذ. وقد أجاب السروجي عن هذا الاعتراض بجواب فيه نظر. وهو أنه قال: التسليم للخروج من العبادة فلا اعتبار به. وجوابه أنه عبادة، إن لم يكن فرضاً فهو واجب أجره عظيم، فكيف يقول: لا اعتبار به؟!. ثم قال: وتكبيرة الإحرام يقوم مقامها تكبيرة القيام إلى الثالثة. وجوابه: أن تكبيرة الإحرام شرط، أو ركن، فكيف يقوم مقامها غيرها من التكبيرات وهي سنة؟!. وما تقرب العبد إلى ربه بمثل أداء ما افترض عليه .. ثم قال: وفي الاستفتاح والتعوذ خلاف.

وجوابه أن ذلك حجة عليه لا له؛ لأنه لو كان حكمهما واحد لم يختلف فيه. كيف والأكثر على أنه لا يأتي به في الشفع الثاني إلا أن يكون مفصولاً. وقوله: ولهذا لو نذر أن يصلي أربعة بتسليمة لا يخرج عه بتسليمتين، وعلى القلب / يخرج. هذا الحكم من ثمرات هذا القول، وإلا فمن يقول الفصل أفضل يمنعه. وكأن المصنف ساقه للاستيضاح لا للإلزام.

فصل في القراءة

فصل في القراءة قوله: (والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار). قال السرخسي رحمه الله: هذا ضعيف؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة في شيء من الصلوات، ولو جاز ذلك لفعله مرة تعليمًا للجواز. قال السروجي: تضعيفه ضعيف؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل أيضًا عنه أنه اكتفى بالقراءة في الركعتين من ذوات الأربع والثلاث على وجه يصح، ومع هذا لا يجب فيما عدا الركعتين، وهو موافق للقياس والأصول. انتهى. وتضعيف السروجي تضعيف السرخسي إنما يتم إذا كان يقول بالاكتفاء بالقراءة في الركعتين، وإن التزم القراءة في كل ركعة يسلم قوله من تضعيف السروجي؛ فإن الله تعالى أمر بالركع والسجود ومع هذا يتكرر مع كل ركعة. وقد أجيب عن هذا الإشكال بجواب عجيب، وهو أنه عليه السلام بينها في الركعات كلها، وقال في القراءة: "القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين،

وخير بين أن يقرأ ويسبح أو يسكت في الأخريين". وهذا إنما هو من كلام بعض العلماء، لا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليعلم. وكما بين لنا أن الركوع والسجود يتكرر في كل ركعة، بين لنا أن القراءة تتكرر في كل ركعة؛ فإنه لم يرد عنه قط الاكتفاء بالقراءة في بعض الركعات دون البعض. وقد خرج فعله بيانًا لمجمل الكتاب وهو قوله: {وأقيموا الصلاة}. فالتحق به إلا ما خرج من فعله بدليل ثابت عنه. وكما أن الثانية تكرار للأولى، فالشفع الثاني تكرار للشفع الأول. يوضحه أن السجود يتكرر في كل ركعة مرتين، ولا يجوز الاكتفاء بسجود واحد، ويقال: الأمر لا يقتضي التكرار. فإن قيل: هذا بينه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قلنا: وكذلك القراءة بينها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكما أنه لم يرد عنه أنه اكتفى بسجود واحد في الركعة، كذلك لم يرد عنه أنه اكتفى بالقراءة في الشفع الأول، ولو مرة تعليمًا للجواز. بل قد قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد أن أمره بالقراءة وغيرها: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". متفق عليه. وفي رواية ذكرها البيهقي بإسناد صحيح: "ثم افعل ذلك في كل ركعة". وفي حديث أبي قتادة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانًا ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب" متفق عليه. وقولهم: إن الثانية تشابه الأولى من كل وجه، قد نمنع بما في الأولى من تكبيرة الإحرام، والتعوذ، والثناء، فإن لم نمنع ذلك من المشابهة لا يمنع

مخالفة الشفع الثاني للأول في السقوط بالسفر، وصفة القراءة وقدرها. وقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" يتناول الشفع الثاني. وقد اعترض على هذا بأن اللفظ عام ولا يمكن إجراؤه على عمومه؛ لأنه بفحواه، يدل على أن كل [ال] صلاة لا تخلو عن القراءة، وأن كل ركن من أركان الصلاة [يسمى صلاة]، فصار كالمجمل. وهذا فاسد؛ فإن كل ركن لا يسمى صلاة، فلم يبق إلا أن يكون المراد كل ما يطلق عليه أنه صلاة، وهو الركعة. أو صلاة كاملة، وهو الشفع. فإن كان الأول مرادًا فتجب القراءة في كل ركعة، وإن كان الثاني فتجب القراءة في كل شفع، ولم يقولوا به. ولا يقال: لا يكفر جاحده فلا يكون فرضًا؛ لأن عدم التكفير لأجل الاجتهاد والتأويل. [ولهذا لا يكفر الذي قال بالاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة، [والذي] قال إن القراءة في الصلاة سنة كما يحكى عن

[أبي بكر] الأصم، وغيره. فالمخالف بتأويل لا يكفر إن لم يبين له وجه الصواب، فإذا بين له وجه الصواب وخالف بعد ذلك يفسق، وإن قال: إنه لا يرجع إلى الحق وإن تبين له يكفر. قوله: (قال: وتفسير قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يصلي بعد صلاة مثلها" يعني ركعتين بقراءة، وركعتين بغير قراءة، فيكون بيان فرضية القراءة في ركعات النفل كلها). حكى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن إبراهيم قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا يصلي بعد صلاة مثلها". وحكى عن ابن مسعود مثله. وعن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون أن يصلوا بعد المكتوبة مثلها".

ولا يعرف هذا الحديث مرفوعًا في كتب الحديث. وذكر الخبازي في "حواشيه" أن هذا التفسير منقول عن عمر، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم-، قال: وقد رفعه بعضهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وأصل الحديث لم يثبت، ولو ثبت لكان في تفسيره بأن المراد أن لا يصلي ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة؛ فيكون بيان فرضية القراءة في ركعات النفل كلها نظر؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يحتمل هذا التفسير فهو خلاف الظاهر، فكيف ثبت بمثله الفرضية ولم يثبت؟. ولا تثبت الفرضية بمجرد الاحتمال مع وجود احتمال معنى آخر أكمل منه، بل هو احتمال ضعيف جدًا؛ لأن الصلاة في قوله: "لا يصلي بعد صلاة مثلها" نكرة في سياق النفي فتعم الثنائية، والثلاثية، والرباعية، فيدل على أنه لا يصلي بعد الفجر ركعتان، ولا بعد المغرب ثلاث، ولا بعد الرباعية أربع، على تقدير أن يكون المراد المماثلة في عدد الركعات. أو يدل على أن الفرض لا يصلى مرتين، لا أن يكون المراد النهي عن رباعية يكون منها ركعتان

بقراءة، وركعتان بغير قراءة. قوله: (وأكثر المشايخ على أن السنة فيها الختم مرة، فلا يترك لكسل القوم، بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات حيث يتركها لأنها ليست بسنة). فيه نظر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على التراوح، وإنما صلاها ليالي ثم ترك خشية أن تكتب علينا، فكيف يكون الختم فيها مرة سنة، وهو لم يصلها بالختمة ولا مرة. وإنما يستحب فيها الختم مرة في الشهر كله؛ لأن شهر رمضان شهر القرآن، فيه [أنزل]، وفيه كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرضه على جبريل في كل سنة مرة، وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فيستحب أن يسمع الناس القرآن

فيه، وأولى ما كان ذلك في الصلاة. وقوله: (بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات حيث يتركها لأنها ليست بسنة). غير مسلَّم. والمصنف قال في باب صفة الصلاة، بعد [أن] عد فرائضها: (وما سوى ذلك فهو سنة). بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف على أن الدعاء في آخرها واجب، وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الصلاة بقوله: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال" رواه مسلم وغيره. وكان طاوس يأمر من لم يدع به أن يعيد، وهو قول بعض أصحاب أحمد،

وفي حديثِ ابنِ مَسْعُود: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، فكيف يقال إن الدعاء في آخر الصلاة ليس بسنة؟!. قوله: (ولا يصلى الوتر بجماعة في غير شهر رمضان، وعليه إجماع المسلمين). ذكر في "الذخيرة" أن الاقتداء في الوتر خارج رمضان جائز. انتهى. ويجب أن يقال: لا يصلى الوتر بجماعة كما يصلى في رمضان، أما لو أن إنسانًا صلى الوتر فاقتدى به آخر صح. فإن الجماعة في الوتر مثلها في سائر السنن. والتطوعات لا يشرع فيها الاجتماع، ولو اجتمعوا فيها لكانوا مبتدعين ينهون عن ذلك. أما لو صلى إنسانًا تطوعًا في ليل أو نهار فاقتدى به رجل أو امرأة أو صبي على سبيل الاتفاق، لا على سبيل اتخاذ ذلك عادة وطريقة، ولم يخصَّ به مكانًا ولا زمانًا لجاز، كما اقتدى ابن عباس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الليل، وكذلك ابن مسعود وغيره.

وكذلك صلاته بأنس وأمه واليتيم في صلاة التطوع، وصلاته في بيت عتبان بن مالك وقت الضحى. فصلاة التطوع أو الوتر في جماعة عارضة لا راتبة جائز. فالذي عليه الإجماع ترك صلاة الوتر في جماعة راتبة في غير شهر رمضان، لا في جماعة عارضة. * * *

باب إدراك الفريضة

باب إدراك الفريضة قوله: (ون كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج، وإن أخذ في الإقامة لكراهة التنفل بعدها. فيه نظر؛ لحديث جابر بن زيد [بن] الأسود عن أبيه، قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجته، فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف وأنا غلام شاب، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: "علي بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا

معنا"؟ فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا. فقال: "لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة". رواه أبو داود، والترمذي. وحديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "إن خليلي -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- - أوصاني أن أصلي الصلاة لوقتها؛ فإذا أدركتها معهم فصل معهم، فإنها لك نافلة" رواه مسلم. فالحديث الثاني عام، والأول في الفجر، والعصر مثلها. ولكن ينبغي لمن صلى الفجر أو العصر ثم أتى إلى مسجد وهم في الصلاة أن لا يدخل إليهم. ولكن إذا أتى اتفاقا فأقيمت الصلاة وهو في المسجد صلى معهم. وعموم النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب قد خص منه قضاء الفوائت، وسجدة التلاوة، وصلاة الجنازة، فتخص المعادة مع الجماعة بالنص.

قوله: (وإن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد، ثم يدخل). في "الصحيحين": عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". وفي رواية: "فلا صلاة إلا التي أقيمت". وفي "الصحيحين" أيضًا، عن عبد الله بن مالك بن بحينة قال: "مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي رواية: "أنه رأى رجلًا قد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف لاث به الناس، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: آلصبح أربعًا، الصبح أربعًا!! ". وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: "دخل رجل المسجد

ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-] في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما سلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا فلان! بأي الصلاتين اعتددت؟ [أ] بصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟ ". وما ورد من السنة في فضل ركعتي الفجر لا يدل على جواز صلاتها بعد الإقامة. قوله: (وإذا فاتته ركعتا الفجر لا يقضيهما قبل طلوع الشمس). إلى أن قال: (وأما سائر السنن سواها فلا تقضى بعد الوقت وحدها). عن قيس بن قهد قال: "رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر، فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " قلت: يا رسول الله، لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان. فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

وفي رواية للترمذي: "فلا إذن". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [من] لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس" رواه الترمذي.

وثبت في "الصحيحين" وغيرهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر لما شغل عنهما، ثم إنه داوم عليهما". فأما مداومته عليها فلأنه كان إذا فعل شيئًا داوم عليه. وأما قضاؤه إياهما بعد العصر، ففيه دليل على أن السنن الرواتب تقضى، وأن قضاءها جائز بعد العصر، وبعد الفجر مثله، لا فرق بينهما. قوله: (ومن أدرك من الظهر ركعة ولم يدرك الثلاث فإنه لم يصل الظهر في جماعة، وقال محمد: قد أدرك فضل الجماعة). في تخصيص محمد وحده بالذكر نظر؛ فإنه يوهم أن أبا حنيفة وأبا يوسف يخالفانه، وليس كذلك.

وقد أجيب عن هذا بأنه لا شبهة في قولهما. وأما الشبهة في قول محمد، فإن من أدرك الإمام في الجمعة، في التشهد، كان مدركًا للجمعة حتى يصليها ركعتين عندهما، وعن محمد يصليها أربعًا احتياطًا. ولكن الإيهام موجود، فلو قال: اتفاقًا، أو عند الكل، أو نحو ذلك، لكان أولى. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "ومن ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي". صرح أهل السنن في فضل الأربع قبل الظهر أحاديث، وهذا اللفظ

الذي ذكره المصنف لم يذكره أهل الحديث. وفي ثبوته نظر؛ فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته؛ فكيف لا ينال شفاعته من ترك سنة غايتها أن تكون مؤكدة يثاب على فعلها ثوابًا جزيلًا، ولكنه لا يعاقب على تركها!. * * *

باب قضاء الفوائت

باب قضاء الفوائت قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها ولم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل التي هو فيها، ثم ليصل التي ذكرها، ثم ليعد التي صلى مع الإمام"). قال السروجي: أخرجه أبو حفص بن شاهين، والدارقطني، وقال: الصحيح أنه من قول ابن عمر. كذا رواه مالك عن ابن عمر من قوله. وقال عبد الحق. وقد رفعه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، ووثقه ابن

معين. انتهى. وقال ابن التركماني: رواه البيهقي، وقال: الصحيح من قول ابن عمر. انتهى. قوله: (لأن الترتيب سقط يضيق الوقت، وكذا بالنسيان وكثرة الفوائت، كيلا يؤدي إلى تفويت الوقتية). هذا التعليل إنما يصلح لسقوط الترتيب يضيق الوقت لا غير. وقد علل غيره لسقوط الترتيب بكثرة الفوائت بأن فيه حرجاً. وفي هذا التعليل أيضاً نظر، فإنه لا حرج في تقديم بعض الصلوات على بعض. قوله: (لأن النبي صلي الله عليه وسلم، شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتباً، ثم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"). أورد المصنف رحمة الله هذا الحديث هكذا، وهو يوهم أن الكل حديث واحد. وهو لا ينبغي أن يقال؛ فإن ما روي: "أنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتباً". وصوابه: أن العشاء الآخرة لم تفته، ففي الحديث: "حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن له، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى

العشاء". رواه الترمذي، وابن حنبل، وغيرهما، يرويه أبو عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبية، ولم يسمع منه فهو منقطع. والصحيح أن الصلاة التي شغل عنها الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه صلاة العصر وحدها، هكذا في "العارضة"، ثم قال بعد ذلك: وقال قاضي خان: احتجاج أصحابنا بأن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات يوم الخندق

فقضاهن مرتباً لا يصح؛ لأن أكثر ما فيه أن يكون إتباعه واجباً، وترك الواجب لا يفسد، كما إذا ضاق الوقت، فالواجب فرض الوقت، فلو تركة وصلى الفائتة جازت. قال السروجي: قلت: زادوا عليه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فجاز أن نثبت بأمره فرضية الترتيب. انتهى. وهنا أمر يجب التنبيه عليه، والتنبه له، وهو أن الذي قال لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" هم مالك بن الحويرث وأصحابه لما ودعهم ووصاهم، لا يوم الخندق؛ فإن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلي الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، وظن أن قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" أخرجه البخاري ومسلم. وللبخاري: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ولم يرد في حديث شغله [عن الصلوات يوم الخندق أنه قال لهم: "صلوا

كما رأيتموني أصلي"، وإنما أرادوا تكميل الاستدلال بحديث شغله عن الصلوات على فرضية الترتيب بضم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ولو قال: وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لكان أولى من قوله: ثم قال؛ لأن "ثم" تقتضي الترتيب، وليس الأمر كذلك. ولا ينبغي أن يقال: هذا على تقدير صحة شغله عن أربع صلوات، فكيف ولم يصح أنه شغل إلا عن صلاة العصر وحدها كما في "الصحيحين" وغيرهما عن جابر رضي الله عنه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه [جاء] يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، وقال يا رسول الله: ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة فتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب". ففي ثبوت فرضية الترتيب

بمثل هذا نظر. قوله: (إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات). فيه نظر لأنه قد فسره بعد ذلك/ بأن تصير الفوائت بخروج وقت السادسة. ومقتضى قوله: (إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات) أن تصير الفوائت سبعاً، وقد التزم بعض الأصحاب هذا، وشرط أن تصير الفوائت سبعاً لأجل هذا الإشكال. وهو التزام ضعيف، فإنه لا معنى لكونها سبعاً.

باب سجود السهو

باب سجود السهو قوله: (فتعارضت رواية فعلة، وبقي التمسك بقوله). في كلامه نظر من وجهين: أحدهما قوله: (فتعارضت روايتا فعلة)، وهذا غير مسلم؛ فإنه لا معارضة بحمد الله، لأن حديث ذي اليدين الذي فيه: "أنه سجد بعد السلام"، أيضاً فيه أنه: "كان قد سلم من اثنتين". وحديث ابن مسعود الذي فيه: "أنه سجد بعد السلام"،فيه أنه: "كان قد صلى خمساً". وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة الذي فيه أنه: "سجد قبل السلام"، فيه أنه: "كان قد قام من اثنتين". أخرج الثلاثة أهل الصحيح والسنن

والمسانيد. وحديث عمران بن حصين الذي في أنه: "سجد بعد السلام"، فيه أنه: "سلم من ثلاث" أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي. فلم يتوارد سجوده بعد السلام وقبله على محل واحد، بل في أفعال مختلفة. فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن سجوده قبل السلام للنقص كما قال مالك رحمه الله، فإن فيه ترك القعود الأول فانتفت المعارضة. والثاني: قوله: (وبقي التمسك بقوله)، يعني حديث ثوبان أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لكل سهو سجدتان بعد السلام" أخرجه أبو داود. فإنه هو الذي ذكره قبل ذلك.

ومنه حديث عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم" أخرجه أبو داود والنسائي. وأوضح منهما حديث ابن مسعود المتقدم. وفي لفظ: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحاكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين". وفي قوله أيضا: الأمر بالسجود قبل السلام كما في حديث ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إذا كنت [في] صلاة فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنك على أربع تشهدت، ثم سجدت سجدتين وأنت جالس

قبل أن تسلم، ثم تشهدت أيضاً ثم تسلم، أخرجه أبو داود. وحديث عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحاكم في صلاته ولم يدر واحدة صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة، فإذا لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على اثنتين، فإن لم يدر ثلاثاً أو أربعاً فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين، قبل أن يسلم" أخرجه الترمذي. وأصح منهما حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا

شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى، ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم؛ فإن كان قد صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان" أخرجه مسلم، وأحمد، ومالك في الموطأ، وأبي داود. فإن كان قد ورد السجود بعد السلام وقبلة في فعلة، فقد ورد أيضاً في قوله، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو يكون حديث ابن مسعود الصحيح فيما إذا كان له ظن، [وحديث أبي سعيد فيما إذا لم يكن له ظن، فإن في حديث ابن مسعود: فليتحر الصواب"، وهذا فيما إذا كان له ظن]، وحديث أبي سعيد: "فليطرح الشك وليبن على ما استيقن". فإنه يأتي في كلام المصنف أن من شك في صلاته إن كان أول ما عرض له الشك استقبل، وان كان يعرض له الشك كثيراً بني على أكثر رأيه، وان لم يكن له رأي بني على اليقين. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وما

عدا هذين الحديثين لا يصلح لمعارضتهما، ويأتي في كلامه أن الخلاف في الأولوية، وهو الصحيح. قوله: (ويأتي بالصلاة على النبي صلي الله عليه وسلم، والدعاء في قعدة السهو هو الصحيح). في تصحيحه نظر. قال السروجي: ومنهم من قال: في المسألة اختلاف؛ فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي في الأولى؛ وعند محمد في الأخيرة، وهي قعدة سجدة السهو بناء على أن سلام من عليه السهو يخرجه منها عندهما، فكانت الأولى هي القعدة للختم، فيصلي فيها ويدعو الله لحاجته، ليكون خروجه منها بعد الأركان والسنن والمستحبات والآداب. قال في "المفيد": هو الصحيح. وعند محمد لا يخرجه منها، فيؤخر الصلاة والدعاء إلى قعدة السهو، فإنها هي الأخيرة. انتهى. ويترجح قولهما بأن التشهد بعد سجدتي السهو لم يثبت، ومذهب الأوزاعي أنه ليس فيهما تشهد. ولم يرد إلا في حديث ابن مسعود المتقدم الذي فيه السجود قبل السلام.

وحديث عمران بن حصين: "أن النبي صلي الله عليه وسلم صلي بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" رواهما أبو داود، وفيهما كلام. وليس في الأحاديث الصحيحة ذكر التشهد بعد السجدتين.

قال النووي: ولم يثبت في التشهد حديث. انتهى. فكان الإتيان بالصلاة والدعاء بعد التشهد الصحيح الثابت أولى من الإتيان به بعد التشهد الذي بعد سجدتي السهو الذي لم يثبت. بل ينبغي أن يتعين الدعاء بعد التشهد الذي قبل سجود السهو لأن القعود الذي بعد سجود السهو لو ثبت، فليس فيه سوى التشهد وحده، فكيف يزاد فيه الدعاء وهو لم ينقل فضلاً عن ثبوته. قوله: (أو القنوت). أي يجب سجود السهو بترك قنوت الوتر. ثم قال بعد أن عدد واجبات الصلاة: (فإنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها من غير تركها مرة). وفية نظر؛ فإن القنوت في الوتر قد تقدم ما فيه من الخلاف. وأمثل ما فيه حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. وعن أحمد رحمة الله تعالى أنه قال: لم يصح عن النبي صلي الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء. واختار هو

القنوت بعد الركوع، وقال عن حديث الحسن: إنه لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في القنوت أحسن منه. قوله: (والأصح قدر ما تجوز به الصلاة في الفصلين). أي في الجهر والإخفاء. وفي تصحيحه نظر؛ فإن في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً ... " الحديث، متفق عليه. وهذا الإشكال إنما يتأتى على قول أبي حنيفة، لأن عنده أدنى ما تجوز به الصلاة آية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "كان يجهر بالآية في صلاة السرّ أحياناً" كما تقدم.

قوله: (وإن سها عن القعدة الأخيرة حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة). إلى أن قال: (وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه عندنا، خلافاً للشافعي). إلى أن قال: (وتحولت صلاته نفلاً). إلى أن قال: (ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة). إلى أن قال: (وإذ قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى وتم فرضه). في القول بفساد صلاته إذا قام إلى الخامسة وقيدها بسجدة، ولم يكن قعد قدر التشهد، وفي إلزامه بضم ركعة أخرى إلى الخامسة إن كان قد قام إليها بعد أن قعد قدر التشهد، نظر. وأكثر العلماء على عدم فساد الصلاة في الوجه الأول، وعدم لزوم ضم ركعة أخرى في الوجه الثاني، وعلية الأئمة الثلاثة

وغيرهم، لحديث ابن مسعود المتقدم المتفق على صحته، أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى خمساً، فقيل له: فسجد للسهو، ولم يعد الصلاة، ولا أضاف إلى الخامسة شيئاً". قوله: (لنهيه عليه الصلاة والسلام عن البتيراء). لم يثبت في النهي عن البتيراء حديث. وقد روي فيه عن محمد بن كعب القرظي حديث مرسل ضعفه النووي، وذكر أبو عمر بن عبد البر حديث النهي عن البتيراء``` عن الخدري وضعفه. قوله: (لقوله عليه السلام: "إذا شك أحاكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة".

قال السروجي: هكذا في "المبسوط"، و "المحيط"، و "الذخيرة" / انتهى. وإنما عزاه في هذه الكتب لأنه لا أصل له في كتب الحديث، ولكن ذكر ابن أبي شيبة في مصنفة آثاراً عن ابن عمر وغيره في الإعادة، وليس فيها أن ذلك فيما إذا كان أول ما عرض له الشك، فلعل ذلك كان على سبيل الاحتياط، لا على وجه اللزوم. وهذا هو الظاهر. وقد اختلف المشايخ في معنى: "أول ما عرض له الشك". وفي ثبوت هذا المعنى إشكال، فإن التفريق بين السهو الأول وغيره لا يدل عليه نص. والأمر بالاستقبال لم يثبت حتى يقال إنه يحمل على أنه أول ما عرض الشك. والله أعلم.

باب صلاة المريض

باب صلاة المريض قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن قدرت أن تسجد على الأرض؛ فاسجد وإلا فأومئ برأ سك"). قال السروجي: روى جابر بن عبد الله "أن النبي صلي الله عليه وسلم عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فأخذها فرمى بها، فأخذ عوداً ليصلي عليه؛ فأخذه فرمى به، وقال: صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك". ذكره البيهقي في سننه الكبير انتهى. وقال أبو حاتم: في رفعة هذا خطأ، إنما هو عن جابر قوله: "أنه دخل على مريض". وكأنه نقل بالمعنى، وزيد فيه "برأسك". قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "يصلي المريض قائما فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى قفاه، يومئ إيماءً فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه").

لا أصل لهذا في كتب الحديث. قال ابن التركماني: وللبيهقي عن نافع عن ابن عمر قال: "يصلي المريض مستلقياً على قفاه تلي قدماه القبلة". ولم أره مرفوعاً. قوله: (إلا أن الأول أولى) إلى آخره. يعني أن صلاته مستلقياً أولى من صلاته على جنبة لما ذكره من المعنى وفية نظر والعكس أولى، وهو رواية عن أبي حنيفة واختارها بعض أصحابه، لحديث عمران بن حصين: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك"، رواه البخاري وأبو داود، وابن ماجه. ورواه النسائي وزاد بعد: "فإن لم تستطع فعلى جنب فإن لم تستطع،

فمستلقياً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". وظاهره أنه لا يجوز صلاته على قفاه إلا إذا لم يستطع الصلاة على جنبة، وهو اختيار ابن المنذر. وما ذكره الشيخ من المعنى يعارضه أن مد الرجلين إلى الشيء فيه إهانة له، ولهذا يكره أن يمد رجليه إلى الكعبة في غير الصلاة حالة العذر والى المصحف، ومد الرجلين إلى الرجل الكبير المعظم يعد من قلة الأدب. قوله: (فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت الصلاة عنه ولا يومئ بعينه، ولا بقلبه، ولا بحاجبيه خلافاً لزفر لما رويناه من قبل). وفي قوله: (أخرت الصلاة عنه) نظر، لأن ظاهره أن الشارع أخرها عنه وليس كذلك، ويشير بقوله: لما روينا إلى قوله: فيما رواه في أوائل الباب: "وإلا فأومئ برأسك"، ولم يرد ذكر الرأس في حديث مرفوع ثابت، وإنما [في] حديث جابر: "وإلا فأومئ إيماء". وإنما جاء ذكر الرأس في الإيماء عن ابن عمر. قال البيهقي: وقد روي ذلك مرفوعا وليس بشيء. وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقال عليه السلام: {وما أمرتكم به فافعلوا

منه ما استطعتم"، أخرجاه في "الصحيحين". فيظهر قوة قول زفر في الإيماء بالعين والقلب، والحاجب، وهو مروي عن أبي يوسف أيضاً كما هو مذهب الأئمة الثلاثة؛ فإنه استطاعة مثله، وليس فيه نصب الأبدال بالرأي بل بإطلاق النص؛ فإن تقييد الإيماء بالرأس لم يثبت مرفوعاً كما تقدم، والمأمور به إقامة الصلاة في وقتها بحسب الاستطاعة لا خارج الوقت. قوله: (وإن قدر على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزمه القيام، ويصلي قاعداً يومئ إيماء، لأن ركنية القيام للتوصل به إلى السجدة لما فيه من نهاية التعظيم، وإذا كان / لا يتعقبه السجود لا يكون ركناً؛ فيتخير والأفضل هو الإيماء قاعداً لأنه أشبه بالسجود). فيه نظر في مواضع، أحدها: قوله: (ولم يلزمه القيام)؛ فإنه يرد عليه قوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"، أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي.

وزاد النسائي: "فإن لم تستطع فمستلقياً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". وهذا مستطيع للقيام فيجب عليه بالنص؛ فإن النص غير مقيد بالقدرة علي الركوع والسجود، وهو قول زفر والأئمة الثلاثة. الموضع الثاني: قوله: (لأن ركنية القيام يتوسل به إلى السجدة)؛ فإن ذلك غير مسلم، بل القيام ركن مستقل مراد لذاته، وترتيب الركوع عليه، وفي ترتيب السجود على الركوع رعاية حسن الترتيب، فلا يخرج بذلك عن أن يراد لنفسه، وإن كان السجود أبلغ منه في التعظيم لكن لا يلزم منه أنه لم يشرع إلا للتوسل به إلى السجود، بل هذا القول مجرد الدعوى. وقوله: (لما فيه من نهاية التعظيم) لا يدل على أن القيام وسيلة غير مقصود. الموضع الثالث: قوله: (وإذا كان لا يتعقبه السجود لا يكون ركناً)؛ فإن هذا القول مجرد دعوى يكفي في جوابها المنع، ويردها أن القيام مشروع في صلاة الجنازة وإن لم يتعقبه ركوع ولا سجود، بل قال: لو لم يرفع رأسه من الركوع لصحت صلاته على قول أبي حنيفة ومحمد. الموضع الرابع: قوله: (والأفضل هو الإيماء قاعداً لأنه أشبه بالسجود)؛ فإنه لا يلزم منه ترك القيام بل يقوم ثم إذا جاء أوان السجود قعد وأومأ بالسجود من تعود. وقوله: (وله أن الغالب فيها دوران الرأس وهو كالمتحقق).

فيه إشكال؛ وهو أن دوران الرأس بسبب ركوب السفينة يكون في بعض الناس دون البعض، فإن من الناس من لا يتأثر لركوب السفينة فلم يكن مظنة تصلح أن يدار الحكم إليها، كالنوم والسفر. وإذا لم يكن المس بشهوة ناقضاً للوضوء عنده مع كونه مظنة خروج المذي، فإذ كل فحل يمذي، وأدار الحكم هناك على خروج المذي حقيقة لا على مظنته فهاهنا أولى أن يدار الحكم على حقيقة دوران الرأس أو على غلبة الظن. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً ... " الحديث، أخرجه البخاري وغيره. وهذا مستطيع القيام فلا يجوز له أن يصلي قاعداً. وقد روى الدارقطني، والحاكم، أبو عبد الله النيسابوري "أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل كيف أصلي في السفينة؟ قال: صلِّ قائماً إلا أن تخاف الغرق". وقال الحاكم: علي شرط مسلم. وذكر الدارقطني أن السائل جعفر بن أبي طالب لما هاجر إلى الحبشة.

باب سجود التلاوة

باب سجود التلاوة قوله: (سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد). قد أكثر الفقهاء وغيرهم من قولهم: سواء كان كذا أو كذا. والصواب العطف بـ "أم". وقد أخذ على صاحب الصحاح في قوله: سواء علي قمت أو قعدت؟ وذلك لأن "أو" لأحد الأمرين، ولا يستقيم المعنى به هنا، وإنما يصح ذلك أن لو قلت: سواء عليّ أقمت أو قعدت أم نمت؟ فيكون المعنى سواء وجد أحدهما أم النوم، فتأمله. قوله: (لقوله [عليه] الصلاة والسلام: "السجدة على من سمعها وعلى من تلاها". هذا الحديث غير مذكور في كتب الحديث. ولكن روى ابن أبي شيبة

في "مصنفه" عن ابن عمر أنه قال: "إنما السجدة على من سمعها".

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها" عم الرخصة في الجنس ومن ضرورته عموم التقدير). في الاستدلال بهذا الحديث على تقدير مدة السفر بثلاثة أيام نظر؛ فإنه يمكن أن تقطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام، والبعيدة في أقل منها، فيكون الأول قد سافر ثلاثة أيام ولا يترخص، والثاني/: قد سافر في أقل منها ويترخص، فقد خرجا من عموم المسافرين، ولأنهم لم يعتبروا السير في الليل، ومدة المسح للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، مع أن القصر قد ورد في أقل من ثلاثة أيام، بل في أقل من يوم.

ولم يقولوا أن أقل ماد الإقامة يوم وليلة. وقل نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلاّ مع زوج أو ذي محرم. وتارة يُقدر، وتارة يطلق، وأقل ما روي في التقدير بريد.

وذلك يدل على أن البريد يكون سفراً كما يكون الثلاثة سفراً، والمسافر قد رخص له في أن يفطر في رمضان وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها الذاهب ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر والى القصر بخلاف ما دون ذلك، ولم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام قصر فيما دون ذلك، بل قد كان يذهب إلى مسجد قباء كل سبت راكباً وماشياً ولم يكن يقصر الصلاة لا هو ولا غيره ممن يأتيه؛ إذ لو قصر لنقل إلينا لشدة الحاجة إلى معونة ذلك؛ وقباء عن المدية أكثر من ميل.

وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، وهو في القوة كما ترى. قال في المغني: وروي عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم، قال الأوزاعي: "كان أنس يقصر فيما بينة وبين خمسة فراسخ" وكان قبيصة بن ذؤيب، وهانئ بن كلثوم، وابن محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت المقدس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه: "خرج من قصره بالكوفة حتى أتى

النخيلة" فصلى بها الظهر والعمر ركعتين ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم". وعن جبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن المسط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً أو ثمانية عشر ميلاً، فصلى ركعتين، فقلت له! فقال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي [بذي] الحليفة ركعتين، وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي صلي الله عليه وسلم يفعل". ورواه مسلم. وروي أن دحية الكلبي خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة

أميال في رمضان ثم أنه أفطر معه أناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: "والله رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أني أراه!! إن قومًا رغبوا عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول للذين صاموا" رواه أبو داود. وروى سعيد قال: حدثنا هشيم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر فرسخًا قصر الصلاة. وقال أنس: "كان رسول -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" شعبة الشاك، رواه مسلم وأبو داود، ثم

قال بعد ذلك: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف. وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا. ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله. وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي روينا. ولظاهر القرآن لأن

ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله سبحانه وتعالى:} وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة {. وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" جاء لبيان أكثر مدة المسح فلا يصح الاحتجاج به ها هنا، وعلى أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- سفرًا، فقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم". والثاني: أن التقدير بابه التوقف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. انتهى ما نقلته عن [ابن] قدامة من المغني. وقال السروجي بعد أن ذكر

بعض كلام ابن حزم في إبطال تقدير مدة السفر: قلت: لعمري إنه لم يبعد فيما قال من المقادير لكن يناقض كلامه، ثم ناقشه في كلامه. ولقد صدق السروجي في قوله أنه لم يبعد فيما قال في ذلك. والظاهرية يعتد بخلافهم على الصحيح، وما زال الأئمة من أصحاب المذاهب يناظرونهم وينصبون معهم الخلاف في كتبهم. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعرفة ومزدلفة ومنى بالمسلمين جميعهم قصرًا وفيهم أهل مكة وغيرهم ولم يأمرهم بالإتمام، ولكن لما صلى بمكة/ قال لهم: "يا أهل مكة أتمو صلاتكم فإنا قوم سفر". فهذا قاله في مكة عام الفتح، لا في منى وعرفات والمزدلفة، ولهذا جوز مالك وأحمد في رواية لأهل مكة

الجمع والقصر بعرفة. قال ابن عبد البر في "التمهيد": قال مالك: يصلي أهل مكة بعرفة ركعتين ركعتين ما أقاموا، يقصرون الصلاة حتى يرجعوا إلى أهليهم، وأمير الحاج أيضًا كذلك إذا كان من أهل مكة قصر الصلاة بعرفة وأيام منى، قال: وعلى ذلك الأمر عندنا، فإذا كان أحد ساكنًا بمنى مقيمًا أتم الصلاة إذا كان بمنى، وعرفة أيضًا كذلك. قال مالك: وأهل مكة يقصرون الصلاة بمنى، وأهل منى يقصرون الصلاة بعرفة، وأهل عرفة يقصرون بمنى، وهو قول الأوزاعي سواء. ومن حجتهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لم يصلوا في تلك المشاهد كلها إلا ركعتين، وسائر الأمراء لا يصلون هناك إلا ركعتين فعلم أن ذلك سنة الموضع لأن من الأمراء مكيًا وغير مكي. انتهى كلام ابن عبد البر. وقد ذكر الله السفر مطلقا في قوله تعالى:} ومن كان مريضًا أو على سفر {، وقوله:} وإن كنتم مرضى أو على سفر {. وقد اضطرب الذين فرقوا بين طول السفر وقصيره في تقديرهم.

قوله: (فقدرناها بمده الطهر لأنهما مدتان موجبتان وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- والأثر في مثله كالخبر). يعني مدة الإقامة، وأنها مقدرة بخمسة عشر يوما. قال السروجي: ولنا ما روى أبو حنيفة عن ابن ذر عن مجاهد عن ابن عباس، وابن عمر -رضي الله عنهما-، أنهما قالا: "إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا وليلة فأكمل صلاتك، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها"، ولم يرو عن غيرهما من السلف خلافه. انتهى. والعجب منه

كيف يقول: ولم يرو من غيرهما من السلف خلافه؟! وهو نفسه قد حكى قبل ذلك عن علي -رضي الله عنه- وغيره التقدير بعشرة أيام. وحكى أيضًا عن ابن عمر التقدير باثنى عشر يومًا. وحكى عن غيرهم من السلف ثمانية عشر قولاً. فكيف يقول ولم يرو عن غيرهم من السلف خلافه؟! لولا غفلة لحقته أو هوى حمله. وفي "المغني": وروي عن علي -رضي الله عنه- قال "يتم الصلاة الذي يقيم عشرًا، ويقصر الصلاة الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غدًا، شهرًا". وهذا قول محمد بن علي وأبيه، والحسن بن صالح. وعن ابن عباس قال: "إذا قدمت بلدة فلم تدر متى تخرج؟ فأتم الصلاة، وإن قلت: أخرج اليوم، أخرج غدًا فأقمت عشرًا فلا تتم الصلاة".

وعنه أنه قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين". قال ابن عباس: "فنحن إذا قمنا تسع عشرة نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا" رواه البخاري. وقال الحسن: "صل ركعتين إلا أن تقدم مصرًا فأتم الصلاة وصم". وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة". انتهى. وحكى ابن المنذر في "الإشراف" عن ابن عمر تقدير مدة الإقامة باثني عشر يومًا فقال: وهذا آخر أقاويله. فبطل قول السروجي: ولم يرو عن غيرهما من السلف خلافه. وأما اعتبار أقل مدة الإقامة بأقل مدة الطهر فالكلام في ثبوت أقل مدة

الطهر ولا يصح القياس عليه إلا بعد ثبوته مع أن القياس لا يدخل في المقادير. قوله: (ولو دخل مصرًا على عزم أن يخرج غدًا، أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي على ذلك سنين قصر؛ لأن ابن عمر -رضي الله عنه- الصحيح أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان بقصر، وعن جماعة من الصحابة مثل ذلك"). فيه نظر، فإن ابن عمر أقام بأريبجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول. قال بعضهم: والثلج الذي يبقى في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أيام قليلة، فلم يكن إقامته هناك على عزم أن يخرج غدًا أو بعد غد، وكذلك لما أقام النبي -صلى الله عليه وسلم-/ في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة. وأقام بتبوك

عشرين يومًا يقصر الصلاة ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعله بمكة وتبوك لم يكن ينقض في ثلاثة أيام أو أربعة حتى يقال: إنه كان يقول أسافر غدًا أو بعد غد. ولم يثبت في تقديره مدة [الإقامة] نص. وأقوال السلف فيه مضطربة كما في تقديره مدة السفر. وإنما النصوص مطلقة. وإقامة من عزمه الرجوع إلى بلده بعد انقضاء أربه ليست بإقامة مستوطن سواء كان تقديرها بخمسة عشر يومًا أو أقل أو أكثر، والله تعالى أعلم. قوله: (وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم وأتم المقيمون صلاتهم، لأن المقتدي التزم الموافقة في الركعتين فينفرد في الباقي فينفرد في الباقي كالمسبوق [إلا أنه لا يقرأ في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلاً، والفرض صار مؤدي فيتركها

احتياطاً بخلاف المسبوق] لأنه أدرك قراءة نافلة فلم يتأد بها الفرض فكان الإتيان أولى). في كلامه نظر موضعين، أحدهما: في قوله: (فيتركها احتياطيًا) فإنه ينبغي أن يكون فغل القراءة أحوط هنا وذلك لوجوه. أحدهما: أن القول بأن القراءة فرض في كل ركعة أقوى دليلًا كما تقدم. الثاني: أن القراءة خلف الإمام في حالة الإخفاء أقوى دليلًا أيضا تقدم، فكيف بمن قد فارق الإمام. الثالث: أن اللاحق الذي فاته شيء من صلاة إمامه فقام أتي به بعد فراغ إمامه في جعله وراء الإمام نظر، فكيف بمن صلى مع الإمام كل صلاته ثم قام هو يأتي بما بقي عليه من صلاته كما يفعل المسبوق.

والفرق بأن هذا أدرك تحريمة الإمام والمسبوق لم يدركها فرق غير مؤثر، فإن التحريمة لا تأثير لها في القراءة، وإنما قراءة الإمام قراءة المؤتم، إما في حالة الجهر أو مطلقًا فكان هذا المقيم قد قرأ في الأوليين، وقام يصلي الأخريين فيقرأ فيهما كالمنفرد. الرابع: أن ذلك مما اختلف فيه العلماء فكانت القراءة أحوط من الترك للخروج من الخلاف. الموضع الثاني: في قوله: (فكان الإتيان أولى) يعني في حق المسبوق، والمسبوق لو ترك القراءة فيما سبق به تفسد صلاته. فكيف يقول: الإتيان أولى؟ قال في ((الحواشي)): مراده أن جعله منفردًا أولى من جعله مقتديًا. وهذا التأويل غير سديد، فإن قوله: الإتيان أولى لا يكون معناه جعله منفردًا أولى. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد). فيه نظر، فأن النية عمل القلب وهو إذا دخل وطنه الذي قد استوطنه فالعزم على الإقامة حاصل، ولو كان من عزمه أن يخرج بعد ذلك إلى سفر آخر لا يخرجه ذلك عن أن يكون من عزمه الإقامة. فالحاصل أن العزم القديم على الإقامة في ذلك الوطن مستمر، فلا يتصور تجديده لأن تحصيل الحاصل

محال. ومن خرج من وطنه ومن عزمه العود إليه فعزمه على استيطانه لم ينقطع بذلك الخروج، فكيف يتصور إيجاد ما هو موجود. قوله: (وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون السفر، ووطن الإقامة يبطل بمثله وبالسفر وبالأصلي). هذا مبني على أن مدة الإقامة أقلها مقدر بخمسة عشر يومًا وقد تقدم ما فيه من الإشكال. وقد حكى السروجي فيها للعلماء ثمانية عشر قولًا. ***

باب الجمعة

باب الجمعة قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع))). هذا الحديث ضعيف. قال الإمام أحمد: ليس هذا بحديث، ورواه الأعمش عن سعيد المقبري، ولم يلقه، قال أحمد: الأعمش لم يسمع من

سعيد إنما هو عن علي، وقول عمر يخالفه. وفي ((صحيح البخاري)) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((إن أول جمعة جمعت بعد جمعة المدينة لجمعة في مسج عبد القيس بجواثا من البحرين)). وقال أبو داود: وجواثا قرية من قرى البحرين. قوله: (ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان) إلى آخره. فيه أشكال فيما إذا مات الإمام وحضرت/ الجمعة قبل أن يقام غيره أو نحو ذلك من الأعذار، فإنه روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يجوز لأهل المصر أن يقدموا رجلًا يصلي بهم الجمعة حتى يقوم عليهم والٍ آخر غيره.

ويشهد لهذا: أن عليًا -رضي الله عنه -صلى العيد وعثمان -رضي الله عنه-محصور رواه مالك في الموطأ. وروي أنه صلى بهم الجمعة أيضًا. وقد روي البخاري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: ((إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج. فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم)). وقال ابن عبد البر: إن صلاة على-رضي الله عنه -بالناس العيد، وعثمان محصور أصل في كل سبب تخلف الإمام عن حضوره أو خليفته أن على المسلمين إقامة رجل يقوم به. وهذا مذهب مالك، والشافعي، والأوزعي على اختلاف عنه.

ثم قال: ولا يختلف العلماء أن الذي يقيم الجمعة السلطان وأن ذلك سنه مسنونة، وإنما اختلفوا عند نزول ما ذكرنا من موت الإمام، أو قتله، أو عزله، والجمعة قد جاءت. فذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزعي: إلى أنهم يصلون ظهرا أربعًا. وقال مالك، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يصلي بهم بعضهم بخطبة ويجزيهم. قوله: (ولو خرج الوقت وهو فيها استقبل الظهر). ينبغي أن يتمها جمعة كما إذا غابت الشمس وهو في صلاة العصر أو طلعت وهو في صلاة الفجر لما تقدم، ولقوله عليه السلام في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)).

وفي رواية: ((من أدرك ركعة من صلاة مع الإمام)). وفي أخرى: ((فقد أدرك الصلاة كلها)). أخرجه البخاري ومسلم، ووافقهما الجماعة على الرواية الأولى. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي-صلى الله عليه وسلم -قال: ((من أدرك ركعة من صلاة من صلوات فقد أدركها، إلا أنه يقضي ما فاته)) أخرجه النسائي. قوله: (وله قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} على الاكتفاء

بالتسبيح ونحوها عن الخطبة نظر، لأن النبي-صلي الله عليه وسلم-فسر الذكر بفعله فيجب الرجوع إلى تفسيره. وأيضًا فليس المراد الخطبة وحدها بل المراد [الصلاة] وما يتعلق بها، فإن الخطبة تابعة للصلاة من مقدمتها وشرائطها، والمقصود الأعظم هو الصلاة بدليل من حضر الخطبة ولم يصل لم يكن متمثلا للأمر، ومن حضر الصلاة وفاته الخطبة كان ممتثلا للأمر إلا أنه مقصر. يؤيد ذلك أنه تعالى قال في أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} ولم يقل إذا نودي للخطبة، ثم قال: {فإذا قضيت الصلاة} وإذا كان النداء إنما هو للصلاة فالسعي إلى ما نودي إليه وهو الصلاة، والخطبة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -ما صلاها بدون الخبة في عمره، فلو أن التسبيحة ونحوها تكفي لفعله ولو مرة تعليمًا للجواز. وما ذكر عن عثمان -رضي الله عنه-أنه قال: الحمد لله فأرتج عليه فنزل وصلى) أنكره ابن العربي وغيره من أهل الأثر. قوله: (ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرة ولا مريض ولا أعمى ولا عبد، افر ولا المسافر يحرج في الحضور وكذا المريض والأعمى). مذهب

أبي يوسف ومحمد وجوب الجمعة على الأعمى إذا وجد قائدًا، وهو قول جمهور العلماء). وفي ((جوامع الفقه)) وغيره: ليس على الأعمى حضور الجمعة والجماعات وإن وجد ألف قائد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. انتهى. وقول أبي يوسف ومحمد أقوى لحديث أبي هريرة قال: ((أتى رسول الله-صلى الله عليه وسلم -رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -/ أن يرخص له فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب)) أخرجه مسلم والنسائي. والرجل الأعمى هو ابن أم مكتوم كما جاء مصرحًا به في رواية أبي داود والنسائي أيضًا.

ولفظه: ((أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني ضرير [البصر] شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: فإني لا أجد لك رخصة)). وفي رواية قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي رخصة؟ قال: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فحي هلا ولم يرخص له))، وقد استدل به على فرضية الجماعة كما تقدم في باب الإمامة، فالجمعة أولى. وعن طارق بن شهاب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة؛ عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض)) أخرجه أبو داود.

فدخل الأعمى في هموم المستثنى منه، ولأنه لا حرج عليه في حضور الجمعة بنفسه فكيف إذا وجد قائدًا فإنه لا يخشى عليه أن يتركه قائده فيضيع لأنه في البلد بخلاف الحج. ولم يعلل المصنف لنفي الوجوب عن الأعمى إلا بالحرج، وأي حرج بقى بعد وجود ألف قائد؟ بل قائد واحد كاف. وأكثر العميان يمشون في البلد بلا قائد، فإن الله يجعل ما يذهب من نور بصرهم في نور بصيرتهم، هكذا جرت عادة الله فيهم. قوله: ((ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته، وقال زفر رحمه الله: لا تجزئه؛ لأن عنده الجمعة هي الفريضة أصالة، والظهر كالبدل عنها، ولا مصير إلى البلد مع القدرة على الأصل. (ولنا أن أصل الفرض هو الظهر) في حق الكافة هذا هو الظاهر إلا أنه هو المأمور بإسقاطه بأداء الجمعة. وهذا لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده وعلى التمكن يدور التكليف). في قوله: (ولنا أن أصل الفرض هو الظهر ...) إلى آخره نظر. والذي يظهر رجحان قول زفر، وهو قول الشافعي الجديد وأحمد.

وقال مالك: إن صلى في وقت لو سعى إلى الجمعة لأدرك منها ركعة لم تجزه. والدليل على أن الجمعة هي الأصل إذا وجدت شرائطها قوله عليه -الصلاة والسلام-: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة؛ عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض)) رواه أبو داود والطبراني والحاكم وصححه. ولأنه إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع فالفرض هو الجمعة إجماعًا لتوجه الأمر إليه بأدائها. والقول بأن أصل الفرض الظهر وهو مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة فيه نظر؛ فإنه إذا كان المأمور به يوم الجمعة عند وجود الشرط وانتفاء الموانع هو الجمعة لا الظهر كانت الجمعة هي الفرض، وإلا كيف يقال الفرض شيء هو مأمور بخلافه؟!. وإذا كان الأمر كذلك فمن صلى الظهر في منزله وقد وجدت في حقه شروط الجمعة وانتفاء الموانع آت بخلاف ما أمر به، أما على قول من يقول أن أصل الفرض هو الجمعة فظاهر.

وأما على قول ما يقول إن الأصل الظهر فكذلك أيضًا؛ لأنه مأمور عنده بإسقاطه أداء الجمعة لا بأداء الظهر، فقد أتى بغير ما أمر به على كلا القولين فكانت نفلًا بل معصية لأنه معرض عن الأمر، فصار كمن صلى في وقت آخر غير فرض الوقت فإنه لا يقع عن فرض الوقت، وكمن تنفل في المسجد والصلاة قائمة فإنه يأثم بذلك. وقوله: (لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة) لا ينفعه، لأن فرض المسألة فيما إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع فصار متمكنًا من أداء الفرض بنفسه. وقوله: لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده. لا يمنع من توجه الأمر إليه إذا وجدت تلك الشرائط، وإذا كان مأمورًا بأداء الجمعة كانت من فرض الوقت وفرض وقت واحد لا اثنان، فإذا تعين عليه حضور الجمعة تنحى وجود الظهر. وأيضًا فإن الظهر لو صحت/ لم تبطل بالسعي إلى غيرها؛ لأنها قد

برئت الذمة بها فكيف تعود مشغولة بها؟!. قوله: (ويكره أن يصلي المعذور الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر، وكذا أهل السجن لما فيه [من] الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف السواد لأنه لا جمعة عليهم). فيه نظر وذلك أن صلاتهم جماعة لا يلزم منه الإخلال بالجمعة لأنها غير جامعة لجماعتهم، وكون المعذور قد يقتدي به غيره لا يلزمه منه الكراهة في حقه هو. وقوله: (وكذا أهل السجن). لا يحتاج إليه لأنهم من أهل الأعذار، وجمهور العلماء على عدم الكراهة. وهو مروي عن ابن مسعود، ذكر ابن المنذر. قوله: (وإن كان أدركه في التشهد وفي السجود السهو بنى عليها

الجمعة عندهما. وقال محمد: إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة، وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر). يظهر رجحان قول محمد -رحمه الله-. وهذه المسألة لها نظائر: أحدها: من أدرك مع الجماعة ما بعد الركوع الأخير. الثاني: أدرك من العصر أو الفجر أقل من ركعة قبل أن تغرب الشمس أو تطلع. الثالث: أدرك الكافر أو طهرت الحائض أوفاق المجنون وقد بقي من الوقت ما يسع أقل من ركعة. الرابع: أدرك المسافر مع المقيم ما بعد الركوع. الخامس: لو نفر الناس عن الإمام في الجمعة قبل الركوع. وينبغي في الكل ترجيح القول باعتبار الركعة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتبر إدراك الركعة كما في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) أخرجه الجماعة. وهذا نص عام في جميع إدراك ركعة من الصلاة سواء كان إدراك جماعة أو إدراك وقت. وفي رواية للبخاري ومسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام)) وفي أخرى لهما: ((فقد أدرك الصلاة كلها)).

وللدارقطني من حديثه: ((من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعًا)). وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: ((من أدرك من صلاة من الصلوات فقد أدركها إلا أنه يقضي ما فاته)) أخرجه النسائي. ولم يعلق الشارع بإدراك قدر التكبيرة شيئًا من الأحكام فهو وصف ملغي في نظر الشارع، وإنما علق الأحكام بإدراك الركعة كما تقدم. ولأن الأصحاب يقولون: ما دون الركعة بمحل الرفض، ويقولون: ما دون الركعة لا يسمى صلاة فلا ينبغي أن يعتبر، ولأن من أدرك الإمام بعد الركوع الأخير لا يحسب له ما يأتي بع معه، بل يأتي بالصلاة كلها فكأن وجود إدراكه وعدمه سواء، بخلاف ما إذا أدرك الركوع حيث يحسب له الركعة. واعتبار أدراك التحريمة لأن الوقت قد يمتد بوقف الشمس فيه بعد كثير، ويرده حديث الدجال فإن اليوم الذي كسنة من أيامه لا يجزي فيه صلاة اليوم

الواحد، بل قد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقدر ونصلي، فلو كان امتداد الوقت بوقف الشمس لا يمنع من خروج الوقت لكان يجزي في ذلك اليوم صلاة اليوم الواحد. ولئن كانت الشمس وقفت لسليمان بن داود حتى صلى العصر، فهذا في شريعتنا ناسخ له.

قوله: (لقوله عليه [-الصلاة والسلام-]: ((إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام))). قال البيهقي: رفعه خطأ فاحش، إنما هو كلام الزهري. وقول أبي يوسف ومحمد أرجح لقوله -عليه السلام-: ((إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت فقد لغوت)) متفق عليه. خص النهي بوقت الخطبة ولم يرد شيء يخالفه. والله أعلم. - * *

باب العيدين

باب العيدين قوله: (ويلبس أحسن ثيابه لأنه -عليه الصلاة والسلام-: ((كانت له جبة فنك أو صوف يلبسها في الأعياد))). ذكر السروجي -رحمه الله- عن ابن عبد البر وابن ماجه أنهما رويا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يلبس في العيدين برد حبرة)). ثم قال: وفي الكتاب ((كان له -عليه السلام- جبة فنك، أو صوف يلبسها في الأعياد)) ولم أقف عليه. انتهى. وقال ابن التركماني: لم أره، ولابن خزيمة، والبيهقي- وضعفه النووي- عن جابر: كان -عليه السلام- يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة)).

وللشافعي عن جعفر/ بن محمد عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم-: ((كان -عليه السلام- يلبس حبرة في كل عيد)) وضعفه أيضًا النووي، وغيره. انتهى. قوله: (ولا يكبر عند أبي حنيفة في طريق المصلى، وعندهما يكبر). قال السروجي: وهكذا في (خير مطلوب). وفي (التجريد)) وفي ((المنافع))، و ((البدائع)) و ((المفيد والمزيد)) و ((الحواشي)) و ((الينابيع)) و [في] عامة الكتب: الخلاف في الجهر به في طريق المصلى لا في نفس التكبير. والمراد بقوله: (لا يكبر) أي لا يكبر جاهرًا به عنده ويأتي به سرًا كما في

سائر الأيام. انتهى. وقال ابن المنذر: فقال أكثر أهل العلم: يكبرون إذا غدوا إلى المصلى. ثم حكاه عن ابن عمر وعلي، وأبي أمامة الباهلي وغيرهم وعن كثير من التابعين وعن الأئمة الثلاثة وغيرهم من الأئمة، فهو مأثور متوارث وقد أخذه كثير من العلماء من قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا والله على ما هداكم} فكان من الشعائر كما في الأضحى.

قوله: (لأن النبي -عليه الصلاة والسلام-: كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين). هذا لفظ غير محفوظ وكأنه نقل بالمعنى. قوله: (والشافعي -رحمه الله- أخذ بقول ابن عباس -رضي الله عنه- إلا أنه حمل المروي على الزوائد، فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة). قال السروجي: مذهب الشافعي من غير خلاف أنه يكبر سبعًا في الأولى سوى تكبيرة الافتتاح والركوع، وخمسًا في الثانية سوى تكبيرة النهوض وتكبيرة الركوع، ذكره في ((المهذب)) والنووي في شرحه، وابن المنذر في

((الإشراف)). انتهى وهذا هو مذهب فقهاء المدينة السبعة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأحمد، ويحيى الأنصاري، والزهري، وإسحاق، والأوزاعي، والليث، وهو مروي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن عمر -رضي الله عنهم-. حكاه عنهم ابن المنذر في الإشراف، وابن قدامة في المغني، يزيد أحدهما على الآخر، إلا أن مالكًا وأحمد قالا: سبعًا في الأولى بتكبرة الإحرام. والأحاديث الواردة في السبع في الأولى والخمس في الثانية أثبت من الأحاديث الوادرة في الثلاث في كل منهما. قال الترمذي: بعد أن روى حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبر في العيدين في الأولى سبعًا قبل القراءة،

وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة: سألت محمدًا- يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من هذا وبه أقول. انتهى. ولم ينقل أهل الحديث ما ذكره المصنف عن ابن عباس، وإنما ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه الرواية الثانية: ((خمسًا في الأولى، وأربعًا في الثانية)) بسند لم يثبت. وقوله: (فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة مع نقله عنه خمسًا خمسًا) مشكل؛ تمحل السغناقي لتصحيحه بكلام كثير فلينظر هناك.

فصل في تكبيرات في التشريق

فصل في تكبيرات في التشريق قوله: (وله ما روينا من قبل). يعني: ((لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع))، وقد تقدم أن هذا من كلام علي -رضي الله عنه- ولم يصح رفعه، ولو صح لم يكف في الاحتجاج لأبي حنيفة على صاحبيه في اشتراط الجماعة والذكورية، والإقامة. قوله: (والتشريق هو التكبير، كذا نقل عن الخليل بن أحمد -رحمه الله-).

في صحته عن الخليل بن أحمد -رحمه الله- نظر، فإنه يقال: تكبير التشريق [فلو كان التشريق] هو التكبير لكان المعنى تكبير التكبير ولا يصح هذا التركيب. ويقال أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر ولا تكبير فيها عنده فيلزم تقديم جميع المظروف على ظرفه ولا يصح ذلك. وقد أجاب السروجي عن الأول: بأن المراد تكبير زمان التشريق فحذف المضاف، وعن الثاني بأن المراد من التشريق تقديم اللحم وهو اسم مشترك بين معان فلا يرد. وفي جوابيه نظر: فإن الأول تأويل في غاية الضعف والركاكة يصان عنه/ الكلام الفصيح، فإنه يبقى كأنهم قالوا: تكبير زمانه وهو خلاف الظاهر. والثاني: فيه دعوى الاشتراك والأصل عدمه، والأظهر- بل هو الصحيح. أنه من تشويق اللحم فإنهم كانوا إذا شرقوا اللحم كبروا، وسمي تقديد اللحم تشريقًا لأنه ينشر في المشرقة لتشرق عليه الشمس وتجففه.

وقيل: إنه من قولهم: أشرق ثبير كيما نغير، وثبير: اسم جبل بمنى، وقيل: لأجل صلاة العيد يوم النحر وباقي الأيام تبع، وسميت صلاة العيد بذلك لأنها تصلى بعد شروق الشمس. وهذا لا يقوى لأن الاسم عندي جاهلي من قبل الإسلام، ولم يكن حينئذ للعيد صلاة، ولأن الصلاة في يوم النحر ولا يقال ليوم النحر يوم تشريق، وإنما يقال: أيام التشريق للأيام الثلاثة التي بعده، هذا الذي نقله أهل اللغة. ولم أر في كتب اللغة ما حكاه المصنف عن الخليل بن أحمد وهو بعيد، والله أعلم. * * *

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف قوله: (وفي كل ركعة ركوع واحد، وقال الشافعي: ركوعان، له رواية عائشة -رضي الله عنها-، ولنا رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-، والحال أكشف على الرجال لقربهم فكان الترجيح لروايته). هكذا وجدته فيما أطلعت عليه من نسخ الهداية، ابن عمر بغير واو, وصوابه ابن عمر. والحديث قال: ((انكسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، وفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي.

وعنه أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين، في كل ركعة ركوع) أخرجه أحمد والنسائي، وفي لفظ عنده (فصلى ركعتين كما تصلون). وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو أنها قالت: (كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى بالناس فأطال القراءة ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القراءة، وهي دون قراءته الأولى ثم ركع فأطال الركوع دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فسجد سجدتين، ثم قام فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك) الحديث أخرجه الجماعة. ومثل هذا الوصف لا يترجح فيه القريب من الإمام على البعيد منه، وإنما يأتي ذلك فيما يظهر للقريب منه أكثر مما يظهر للبعيد. أما إذا وصف البعيد مثل هذا الوصف ونقص القريب منه كان مع البعيد زيادة إثبات

وترجيح الأئمة الثلاثة والبخاري وغيرهم من أهل الحديث بالنظر في الأسانيد، وألفاظ الرواة أقوى. فكيف وأن الرواية عن الرجال قد اضطربت؛ فمنهم من روى ركوعين في كل ركعة مثل رواية عائشة كعبد الله بن عباس وحديثه في الصحيحين، أيضاً وغيرهما، ومنهم من روى ست ركعات في ركعتين كجابر وابن عباس أيضًا وحديثهما في صحيح مسلم لكن البخاري لم يخرجهما، ومنهم من روى ثمان ركعات في ركعتين كعلي وابن عباس أيضًا وحديثهما في (صحيح مسلم) ولم يخرجهما البخاري أيضًا.

وفي غير (الصحيحين) عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا "أربع ركعات في كل ركعة"، وعن أبي بن كعب (خمس ركعات في كل ركعة). وعن النعمان بن بشير يرفعه (فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها). وعنه أيضًا أنه عليه السلام: (جعل يصلي ركعتين ركعتين وسأل عنها حتى انجلت). فلا يقوى ترجيحه بأن الحال على الرجال أكشف والحالة هذه!.

وفي صحيح البخاري: عن الزهري أنه قال: قلت لعروة بن الزبير: (إن أخاك يوم كسفت الشمس بالدمينة لم يزد على ركعتين مثل الصبح! قال: أجل؛ لأنه أخطأ السنة) مع أن ابن عمر وثبت عنه في الصحيحين، وغيرهما أنه قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنودي: إن الصلاة جامعة، فركع النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركتين في سجدة ثم جلس حتى جلى عن الشمس) فهذا أصح من حديث: "كل ركعة بركوع/" قوله: (ويخفى عند أبي حنيفة، وقالا: يجهر) إلى أن قال: (ولأبي حنيفة رواية ابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، والترجيح قد

مر من قبل، كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء). أما الترجيح بأن الحال على الرجال أكشف فقد تقدم الكلام معه فيه، مع أنه يحتمل أنه عليه السلام جهر ولم يسمعه ابن عباس وسمرة، وسمعه غيرهما، مع أن قول ابن عباس رضي الله عنهما: (فقرأ نحوًا من سورة البقرة) يحتمل أنه قرأ مقدار سورة البقرة من مكان آخر لم يكن يحفظه هو ذلك الوقت. إنه إنما جمع القرآن بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وإن كان المراد ما روي عن ابن عباس أنه قال: (فلم يسمع صوتاً) فهذا أخرجه البيهقي عنه وفيه كلام، وحديث سمرة أنه قال: (صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كسوف ركعتين لا نسمع له صوتاً) أخرجه أحمد النسائي وأبو داود والترمذي.

وحديث عائشة في الجهر أخرجه الجماعة. وقال البخاري:] حديث [عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة، وأما قوله: (كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء؟) فإنه يشير به إلى ما رواه في باب صفة الصلاة، وقد تقدم حكاية قول النووي أنه لا أصله له واعتبار صلاة الكسوف في الجهر بصلاة الجمعة والعيدين أقوى وأولى من اعتبارها بالظهر والعصر؛ فإنها ورد فيها خطبة وهي أقل حضورًا من صلاة الظهر والعصر، وهي أولى بالجهر من الجمعة والعيدين فإنها أقل دورانًا منهما. والحكمة في الإخفاء في الظهر والعصر كثرة حضورهما وكثرة اشتغال الناس في وقتهما فلا تتفرغ قلوبهم لاستماع القرآن وتدبره، وثمرة الجهر الاستماع والتدبر. ولهذا كان الأفضل أن تؤدى صلاة الكسوف في المسجد الجامع الذي يصلى فيه الجمعة. وقد رجح الطحاوي أيضًا قول أبي يوسف

ومحمد هنا. قوله: (وليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل). في تعليله نظر؛ فإنه (نقل) أنه خطب في كسوف الشمس في حديث عائشة والمغيرة، رواة أهل الصحيح والسنن والمساند، لكن يبقى أن يقال: هل خطب للكسوف أو أنه -صلى الله عليه وسلم- لما مات ابنه إبراهيم وقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم خطب الناس ليعلمهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان

لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده؟. ويرجع أنها لم تكن للكسوف قوله في بعض الروايات في الصحيح: (فإذا ررأيتموها فافزعوا إلى الصلاة). أمر بالصلاة ولم يذكر الخطبة ***

باب الاستسقاء

باب الاستسقاء قوله: (قال أبو حنيفة ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحدانًا جاز، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار). إلى أن قال: (قلنا: فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة). يعنى الصلاة. وفيه نظر؛ فإن الذين قالوا بمشروعية صلاة الاستسقاء في جماعة وهم سائر الأئمة لم يقولوا بتعينها، بل قالوا: إن الاستسقاء على ثلاثة أوجه: تارة يدعون عقب الصلوات، وتارة يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة بجماعة، وتارة يصلون جماعة ويدعون.

وأبو حنيفة رحمه الله لم يبلغه الوجه الثالث فلم يقل به؛ وبلغ غيره فقال به، وكلام المصنف هنا فيه تناقض؛ فإنه قال أولاً: وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، فيكون مراده بقوله: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة أي ليس فيها صلاة مشروعة. ثم قال: قلنا: فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة ومراده بذلك أنه جائز ولكنه غير مسنونة، وهذا يناقض أول كلامه لأن فعله مرة يدل على مشروعيته قطعًا. وهذا الذي عناه سائر العلماء أنه مشروع، ولم يعنوا أنه لا يشرع غيره، بل عنوا به أنه فعل مسنون كالدعاء والاستغفار. وأيضاً فلا شك أنه يثاب فاعله ولا يأثم تاركه، وهذا وصف الفعل المسنون، وأما الجائز فهو الذي استوى طرفاه فلا يثاب فاعله/ ولا يعاقب تاركه. وقد رجح الطحاوي أيضًا قول أبي يوسف ومحمد هنا.

قوله: (ولا يحضر أهل الذمة الاستسقاء لأنه لا ستنزال الرحمة وإنما ينزل عليهم اللعنة). مذهب الأئمة الثلاثة أن أهل الذمة لا يؤمرون بالخروج للاستسقاء ولا يمنعون من الخروج مع المسلمين معتزلين، ولا يمكنون من الخروج في يوم وحدهم، وهذا هو الراجح لأنا لا نمنعهم من طلب الرزق فإن الله يرزق البر والفاجر. وقول المصنف: لأنه لاستنزال الرحمة؛ فيه نظر، فإن عنى استنزال الرحمة الخاصة فممنوع، وإنما هو استنزال الغيث الذي هو من رحمة الله العامة التي وسعت كل شيء والكافر من أهلها. ويجب التفصيل في مواطن الإجمال ولكن لا يمكنون أن يستسقوا في يوم وحدهم لاحتمال أن يسقوا فتحصل بإجابة دعائهم فتنة لمن هو ضعيف الإيمان، والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه. ***

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف قوله: (والأصل فيه رواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف على الصفة التي قلنا).

فيه نظر، فإنه ذكر في صفة صلاة الخوف أن الطائفة الأولى يقضون ركعتهم بغير قراءة وأن الطائفة الثانية يقضون ركعتهم بقراءة وليس ذلك في حديث ابن مسعود ولا غيره، وإنما ذلك خرجه الأصحاب على أصلهم في الفرق بين اللاحق والمسبوق وقالوا: المسبوق من أدرك آخر صلاة الإمام، واللاحق من أدرك أول صلاة الإمام، والمسبوق يقرأ في قضاء ما سبق به، واللاحق لا يقرأ في قضاء ما بقى عليه من الصلاة، وقالوا: لأنه خلف الإمام حكمًا، والمؤتم لا يقرأ خلف الإمام. فقوله: (على الصفة التي قلنا) يوهم أن ما ذكره من قراءة هؤلاء، وعدم قراءة هؤلاء في حديث ابن مسعود وليس الأمر كذلك. قوله: (وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا). الذي روى في حديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف على الصفة التي ذكرها، وذلك لا يكون حجة على أبي يوسف فإنه يقول: إنها كانت مشروعة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان هو الإمام. لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية، فلا يكون فعله -صلى الله عليه وسلم- على أي صفة كان حجة على أبي يوسف، وإنما الحجة عليه إقامة الصحابة لصلاة

الخوف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم أخبر بمعنى القرآن ممن بعدهم، فقد فهموا من قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} أن المراد هو أو من يقوم مقامه. كما في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}. قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين). قال السروجي: لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الظهر في الحضر بكل طائفة ركعتين ركعتين كما ذكره في الكتاب لكن في حديث جابر في

ذات الرقاع أنه عليه السلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع، وللقوم ركعتان، متفق عليه .. قوله: (ولا يقاتلون في حال الصلاة فإن فعلوا بطلت صلاتهم لأنه عليه الصلاة والسلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها). تقدم أن الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنما شغل يوم الخندق عن صلاة العصر وحدها، ولم يكن تركها لاشتغاله بالقتال وهو ذاكرها، وإنما لاشتغاله بالمحاربة نسي الصلاة. فإن في الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله ما صليتها"، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة فتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب".

فقوله: (والله ما صليتها) دليل على أن تركها كان نسياناً لأن الذاكر/ للشيء لا يقول: والله ما فعلته، وإنما يقول ذلك إذا ذكره بعد نسيان، وإن لم يثبت أن التأخير كان للنسيان فهو يحتمله فيسقط الاستدلال. فالصلاة في الوقت فرض بحسب الوسع والإمكان ولا يؤخى الصلاة ليصليها بعد الوقت كاملة كالمريض، والخائف، والعاري، وعادم المطهر للنجاسة، وكذلك عادم المطهر للحدث كما تقدم. وكما أن المشي والانصراف عن القبلة في حالة الخوف لا يمنع بقاء الصلاة فكذلك القتال. فالصلاة في الوقت وإن كانت ناقصة خير من تفويت الصلاة، والصلاة بعد الوقت وإن كانت كاملة. ***

باب الجنائز

باب الجنائز فصل في الكفن قوله: (والسنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، إزار، وقميص، ولفافة، لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية". فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الحديث الذي أشار إليه حجة عليه؛ فإن في آخره: "ليس فيها قميص ولا عمامة" وهو قد قال: (إزار وقميص ولفافة). والحديث في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث عائشة رضى الله عنها. الثاني: ان قوله: (إزار ولفافة) ظاهره المغايرة بينهما وفيه إيهام، ولو قال: لفافتان لكان أولى. وقال الشافعي: أحب الكفن إلى ثلاثة أثواب: لفائف بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، فإن ذلك الذى اختاره الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، واختاره له أصحابه رضي الله عنهم. انتهى، وهو في القوة كما ترى، ولم يثبت ما يعارضه.

قوله: (لقول أبي بكر -رضي الله عنه-: "اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما"). قال السروجي: هذا لا أصل له. وقد روي عن أبي بكر -رضي الله عنه- ما يخالف هذا. فعن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر -رضي الله عنه- نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه، به ردع من زعفران. فقال: "اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما. قلت: إن هذا خلق. قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة" أخرجه البخاري. قوله: (لحديث أم عطية: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب").

وقوله بعد ذلك: (ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها). وقوله بعد ذلك: (لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بإجمار أكفان بنته وترًا). أما حديث أم عطية فليس فيه: (أنه أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب) وإنما ذلك من حديث ليلى بنت قانف. أخرجه أحمد وأبو داود وفيه كلام.

وقال صاحب المغني: ولما روت أم عطية: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناولها إزارًا ودرعًا وخمارًا وثوبين". ولم يعزه إلى شيء من كتب الحديث، ولكن العمل عليه عند أهل العلم. حكاه ابن المنذر واختاره. وأما قوله: (ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها) في حديث أم عطية "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها" أخرجه بهذه الزيادة البخاري وغيره. وأما قوله: (لأن -عليه الصلاة والسلام- أمر بإجمار أكفان ابنته وترًا)، فليس في حديث تكفين ابنته -صلى الله عليه وسلم- ذلك. وإنما الأمر بإيتار أجمار الميت عام رواه

أحمد وغيره من حديث جابر -رضي الله عنه- ولفظه: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا". * * *

فصل في الصلاة على الميت

فصل في الصلاة على الميت قوله: (لأنه -عليه الصلاة والسلام- كبر أربعًا في آخر صلاة صلاها، فنسخت ما قبلها. ولو كبر خمسًا لم يتابعه المؤتم خلافًا لزفر لأنه منسوخ لما روينا). أما قوله: لأنه -عليه الصلاة والسلام- كبر أربعًا في آخر صلاة صلاها، فرواه الدارقطني وضعفه. وأما كون التكبير خمسًا منسوخ ففيه نظر، فإن ابن أبي ليلى قال: يكبر خمسًا وهو رواية عن أبي يوسف ذكرها في المبسوط والبدائع.

وقال ابن حزم في المحلي: يكبر الإمام والمأموم بتكبير الإمام خمسًا لا أكثر، فإن كبروا أربعًا فحسن ولا أقل، فإن كبروا سبعًا كرهنا، وتبعناه، وإن كبر أكثر لم نتبعه، وإن كبر ثلاثًا وأقل لم نسلم بسلامه. وروي عن ابن عباس: "أنه كان يكبر على الجنازة ثلاثًا" بإسناد في غاية الصحة، وكذا عن أنس. وقال ابن سيرين: وإنما كانت التكبيرات ثلاثًا فزادوا واحدة. وعن جابر بن زيد: "أنه أمر يزيد بن المهلب أن يكبر على الجنازة ثلاثًا"، قال: هي بأسانيد في غاية الصحة. وكبر زيد بن أرقم على الجنازة خمسًا بعد

عمر، وعن علي: أنه كبر على سهل بن حُنَيف ستًا، ثم التفت إلينا وقال: إنه بدري، وذكر ابن بطال عن علي -رضي الله عنه-: (أنه كان يكبر على البدريّ ستًا وعلى سائر الصحابة خمسًا، وعلى غيرهم أربعًا، وكبّر على [أبي] قتادة ..................................

سبعًا. انتهى. وروى البخاري (أن عليًا -رضي الله عنه- صلى على سهل بن حنيف وكبر ستًا وقال: إنه شهد بدرًا). وقال ابن المنذر: وقالت طائفة: يكبَّر خمسًا. هذا قول ابن مسعود وزيد بن أرقم. وفيه قول ثالث: وهو أن يكبر ثلاثًا. هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد. وقال ابن سيرين: (إنما كان التكبير ثلاثًا فزادوا واحدة). وفيه قول رابع: وهو أن لا يزيد على سبع ولا ينقص من ثلاث. هذا قول

بكر بن عبد الله المزني. وقال أحمد: لا ينقص من أربع ولا يزاد على سبع. ثم حكى أقوالًا أخر وكان قد حكى قبل هذا قول من قال: يكبر أربعًا وهم أكثر العلماء ثم اختاره. انتهى. وعن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبَّر خمسًا ثم التفت فقال: (ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى على جنازة فكبَّر خمسًا) رواه أحمد. فدعوى النسخ والحالة هذه لا تصح، ولو صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كبر أربعًا في آخر صلاة صلاها لا يدل على النسخ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- بعده منهم من زاد على الأربع، ومنهم من نقص، ومنهم من لازمها فحملوا فعله على بيان الجواز لا على النسخ فظهرت قوة قول زفر رحمه الله. قوله: (لقوله -[عليه] الصلاة والسلام-: "من صلى على ميت في

مسجد جماعة فلا أجر له". قال أبو عمر بن عبد البر: هذه الرواية خطأ لا إشكال فيه، وقال: والصحيح "فلا شيء له". انتهى. وأصل الحديث فيه كلام؛ فإنه من رواية صالح مولى التوءمة، وكان قد خرف في آخر عمره، ولكن قالوا: إن هذا الحديث رواه عنه ابن أبي ذئب قبل أن يخرِّف.

وقد ذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم في «الهدي» هذه المسألة فقال: ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد، وإنما كان يصلى على الجنائز خارج المسجد، وربما كان يصلي أحيانًا على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه ......................................

في المسجد. ويشهد لهذا المعنى أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعلي وعمر -رضي الله عنهم- في المسجد، فكلا الأمرين جائز. والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا استهل المولود صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه"). رواه الطحاوي عن جابر -رضي الله عنه-: "إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه"، وعنه رفعه: "إذا استهل السقط صلي عليه وورث". قال

الترمذي والنسائي: الأصح وقفه. * * *

فصل في حمل الجنازة

فصل في حمل الجنازة قوله: (وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك ثم مؤخرها على يمينك، ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك). فيه نظر، فإن هذا يتأتى لأحد الحاملين الأربعة لا كلهم فلو أراد الحمَّالون أن يحملوا جنازة على الوجه المسنون نقول لهم: لا يتأتى ذلك إلا لواحد منكم، وهذا لأنه إذا قيل: إنه يبتدئ بمقدم الجنازة على يمينه. فكيف يتأتى هذا لاثنين؟ فكيف لأربعة؟ وإن كان في حالة التناوب. مع أنه لم يثبت في الحمل عدد معين فإن حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "إذا اتبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة، ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة" رواه ابن ماجه. وهو منقطع/ لأن أبا عبيدة لم يلق أباه، وحديث حمل جنازة سعد بين العمودين

ضعفه البيهقي، والنووي. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: ليس في ذلك شيء مؤقت، يحمل من حيث شاء. هذا قول مالك -رحمه الله-. وقال الأوزاعي: ابدأ بأية شئت من جوانب السرير. انتهى. والمراد حملها وصونها عن الوقوع وذلك يختلف باختلاف نقلها وقوة الحمالين. * * *

فصل في الدفن

فصل في الدفن قوله: (واضطربت الروايات في إدخال النبي -صلى الله عليه وسلم-). يشير بذلك إلى ما رواه أبو داود عن ابن عباس وابن مسعود وبريدة: (أنهم أدخلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة القبلة). وحسن الترمذي رواية ابن عباس هذه، وأنكر عليه؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطأة. وقال الشافعي: القبر في أصل الحائط فلا يتصور إدخاله من القبلة.

انتهى. ويظهر قوة قول مالك في التخيير. قوله: (فإذا وضع في لحده يقول واضعه: "باسم الله وعلى ملة رسول الله" كذا قاله -عليه الصلاة والسلام- حين وضع أبا دجانة في القبر). عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا وضع ميتًا في قبره قال: باسم الله وعلى ملة رسول الله" رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. وقوله في الكتاب: كذا قاله النبي -عليه السلام- حين وضع أبا دجانة لا أصل له، لأن أبا دجانة الأنصاري استشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، بعد أن شارك في قتل مسيلمة الكذاب. ذكره

السهيلي في "الروض الأنف". وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ثم قال: وقد قيل: إنه عاش حتى شهد صفين، والله أعلم. انتهى. ولا يقال: إنه اشتبه [عليه] بذي البجادين، فإنه وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لحده هو وأبو بكر وعمر. ولكن ليس في حديثه أنه قال حين وضعه: "باسم الله وعلى ملة رسول الله" ذكره الخلال وغيره. قوله: (ويوجهه إلى القبلة، بذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-).

لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بتوجيه الميت في قبره إلى القبلة فيما أعلم بعد التتبع لذلك من مظانه، وإن كان العمل عليه. وقد استدل له النواوي لقوله -عليه السلام- للبراء بن عازب: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن" أخرجاه. قوله: (لأنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن تربيع القبور). قال السروجي: لا أصل له. * * *

باب الشهيد

باب الشهيد قوله: (والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة ويقول: السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة، ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته، والشهيد أولى بها. والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي -عليه الصلاة والسلام- والصبي). لم ينصف المصنف الشافعي في الاستدلال في هذه المسألة، فإنه استدل له بهذا الدليل الضعيف ثم رده، والشافعي لم يعتمد على هذا ولكنه اعتمد على حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" رواه البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه.

وعضده بحديث أنس -رضي الله عنه- "أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي، ولم يرد في إثبات الصلاة عليهم ما يقاوم حديث جابر، فإن ما رواه أبو داود في المراسيل عن أبي مالك الغفاري التابعي أنه -عليه السلام-: "صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة". وما رواه أبو جعفر الطحاوي عن ابن عباس، وابن الزبير أنه -عليه السلام-: "صلى على شهداء أحد مع حمزة فكان يؤتى بتسعة تسعة وحمزة

عاشرهم، وكبر يومئذ سبع تكبيرات" وما رواه الطحاوي والنسائي عن شداد أنه -عليه السلام-: "أعطى أعرابيًا أسلم نصيبه، وقال: قسمته لك. فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك لأرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، ثم أتي بالرجل وقد أصابه سهم حيث أشار فكفن في جبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى عليه. فكان من صلاته: إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا شهيد عليه". وما رواه الطحاوي عن أنس "أنه -عليه السلام- صلى على حمزة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" لم يخرج أهل (الصحيح) منها حديثًا. وقال

تثبت. انتهى. وقد تكلم أهل (الحديث) على سند كل من هذه الأحاديث وبينوا ضعفه. وأما حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أنه -عليه السلام-: "خرج يومًا فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت" متفق عليه. وما رواه البخاري في صحيحه أنه -عليه السلام-: "صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع للحياء والموات" فليست هذه الصلاة الصلاة المختلف فيها، فإنه لم يقل أحد أن الشهيد يدفن بلا صلاة ثم بعد سنين يصلى

عليه. وإنما المراد -والله أعلم- أنه دعا لهم بدعاء الصلاة على الميت، أو أنه واقعة عين وذلك أنه لما عرف انقضاء عمره فعل هذا كالمودع للأموات كما ودع الأحياء فكان هذا خاصًا به أو بهم. وقد ذكر السروجي في شرحه: ليرجح مذهب أبي حنيفة وجوهًا وفي كل منها نظر: الأول: أن رواية جابر [نا] فية وأحاديثنا مثبتة، والمثبت أولى من النافي. وجوابه أن المعارضة إنما تكون بين المتماثلين، وقد تقدم أن الأحاديث المثبتة للصلاة لم تثبت، فلا تصلح لمعارضة حديث جابر الصحيح الثابت. الثاني: أن جابرًا كان مشغولًا في ذلك الوقت لأنه استشهد أبوه وعمه، وخاله، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إليها. فلم يكن حاضرًا حين صلى عليهم. فروى ما عنده وفي ظنه. وجوابه بالمنع من غيبته ورجوعه إلى المدينة حتى يثبت ذلك ولا يثبت مثل هذا بمجرد الاحتمال ولا يجوز أن ينسب إلى جابر مثل هذا. الثالث: أن أحاديثنا أكثر فكانت أولى. وقد كفانا هو مؤنة الجواب

وقال: إن الترجيح عندنا لا يكون بالكثرة. الرابع: أن الصلاة أصل في الدين ومن فروض الكفاية فلا تسقط من غير فعل أحد بالتعارض بخلاف غسله، إذ النص في سقوطه لا معارض له. وجوابه: أن سقوط الصلاة عليه كسقوط غسله لأن ما ذكر لا يصلح لمعارضته كما تقدم. الخامس: أن الصلاة عليهم لو كانت غير مشروعة لنبه عليه -صلى الله عليه وسلم- كما نبه على علة سقوط الغسل. وجوابه: أن التنبيه على علة الحكم ليس بشرط، والترك قد ثبت بالدفن والرجوع منه عن غير صلاة. السادس: أنه يجوز أنه لم يصل عليهم وصلى على غيره. وجوابه: أن جابر قال: ولم يصل عليهم مبنيًا لما لم يسم فاعله، فنفي الصلاة عليهم نفيًا عامًا عنه وعن غيره. وأعجب منه أنه ذكر عن الطحاوي أنه روى عن أنس: "أنه -عليه السلام- صلى على حمزة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره". السابع: أنه لعله لم يصل عليهم في ذلك اليوم وصلى عليهم في يوم آخر لأنهم لا يعتريهم تغير بمر السنين. وجوابه: أنك تقول بهذا أن الشهيد

يدفن بلا صلاة ثم يصلى عليه بعد ذلك بزمان. الثامن: أنه إن لم يثبت أنه صلى على قتلى أحد للتعارض فقد صلى على غيرهم من الشهداء كما تقدم. يشير إلى حديث شداد بن الهاد. وجوابه: أنه لم يثبت أيضًا، ولئن ثبت فيحتمل أنه قد ارتث. التاسع: أنه ثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك فإما أن تكون سنتهم أن لا يصلى عليهم ثم نسخ، أو أنه صلى عليهم هو بعد أن صلى عليهم غيره لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وجوابه: أنه بقي احتمال آخر وهو أن ذلك واقعة عين فلا عموم له، أو أن المراد أنه دعا لهم بدعاء صلاة الجنازة كما تقدم. العاشر: أن مذهبنا أحوط. وجوابه: أن الاحتياط في اتباع الصحيح الثابت أولى. والقول بجواز الصلاة على الشهيد أو استحبابها كما هو رواية عن الإمام أحمد والحالة هذه أظهر.

قوله: (وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة، ولا ذنب للصبي فلم يكن في معناها). قول الصاحبين هو الراجح وهو قول أكثر العلماء. ولا يصح التعليل بأن السيف كفى عن الغسل فإن من أسلم ثم قتل قبل أن يذنب بمنزلة الصبي ولا يغسل. والتعليل الصحيح أن الدم أثر الظلم فيبقى ليشهد له على قاتله يوم القيامة. ومحو الذنب ليس فيه خصم فلا يحتاج إلى شهادة. قوله: (وشهداء أحد ماتوا عطاشًا والكأس تدار عليهم خوفًا عن نقصان الشهادة). في ثبوت هذا عن شهداء أحد نظر. وإنما حكي في فتوح الشام أن رجلًا قال: أخذت ماء لعلي أسقي ابن عمي إن وجدته، فوجدت الحارث بن

هشام فأردت أن أسقيه فإذا رجل ينظر فأومأ إلي: أن اسقه، فذهبت إليه لأسقيه فإذا آخر ينظر، فأومأ إلي: أن اسقه، فلم أصل إليه حتى ماتوا جميعًا. والظاهر -والله أعلم- أن هذا من باب الإيثار لا من باب الخوف من نقصان الشهادة. * * *

باب الصلاة في الكعبة

باب الصلاة في الكعبة قوله: (الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها خلافًا للشافعي فيهما). نقله عدم جواز الصلاة في الكعبة عن الشافعي غلط، بل عنده تجوز الصلاة في الكعبة فرضها ونفلها. هذا هو المذكور في كتب الشافعية، لكن عنده لو صلى إلى الباب وهو مفتوح، وليس له عتبة شاخصة لا تجوز صلاته. وقيل: يشترط أن يكون ارتفاعها قدر ثلثي ذراع. قال النووي: هذا هو الصحيح، وفي وجه: يقدر بذراع. قوله: (وقد ورد النهي عن النبي -عليه الصلاة والسلام-). يعني عن الصلاة على ظهر الكعبة ولم يثبت هذا النهي. وأصله عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يصلى في سبع مواطن" الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: ليس إسناده بذاك القوي.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قوله: (ولو أدى بعض النصاب سقط زكاة المؤدى عند محمد؛ لأن الواجب شائع في الكل). فيه نظر؛ لأن الوجوب في الذمة والمال محل، ولهذا جاز أن يخرج الزكاة من مال آخر؛ ولهذا قلنا: لا زكاة على الصبي والمجنون في مالهما. فإذا ملك نصابًا وتصدق ببعضه بعد الحول فالباقي محل للواجب بخلاف ما إذا تصدق بجميع النصاب لزوال المحل ووصول الحق إلى مستحقه. فظهرت قوة قول أبي يوسف. قوله: (ولنا قول علي: "لا زكاة في مال الضمار". قال السروجي:

هكذا روي موقوفًا [ومرفوعًا] إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، بنقل الأصحاب)، يعني أنه ليس في كتب الحديث. * * *

باب صدقة السوائم

باب صدقة السوائم فصل في الإبل قوله: (ولنا: "أنه -عليه الصلاة والسلام- كتب في آخر ذلك في كتاب عمرو بن حزم: فما كان أقل من ذلك ففي كل خمس ذود شاة" فيعمل بالزيادة). أحاديث الصدقات التي فيها ذكر الإبل إذا كثرت ثلاثة. أصحها حديث أنس أن أبا بكر -رضي الله عنه-: كتب لهم: إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين التي أمر الله بها رسوله .... " الحديث، وفيه: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين

حقة" رواه أحمد والنسائي وأبو داود، والبخاري وقطعه في عشرة مواضع. ورواه الدارقطني كذلك، وله فيه قي رواية "في صدقة الإبل: فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح ورواته كلهم ثقات. ثانيها: حديث الزهري، عن سالم عن أبيه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي. قال: فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها. قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته ... الحديث". وفيه: "إلى عشرين ومائة، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون" رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وقال: حديث

حسن. ولأبي داود فيه من رواية الزهري عن سالم مرسلًا: "فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتًا لبون وحقة، ثم يدار الحكم على الأربعينات والخمسينات". ثالثها: حديث حماد بن سلمة قال: "قلت لقيس بن سعد: اكتب إلي كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فكتب إلي في ورقة، ثم جاء يومًا وأخبر أنه أخذه من كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأخبرني:

"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتبه لجده عمرو بن حزم في ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فكان فيه: "فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى أن تبلغ عشرين ومائة فإذا كانت أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، فما فضل فإنه يعاد إلى أول فرائض الإبل، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة" رواه أبو داود والطحاوي. فذهب أبو حنيفة والثوري والنخعي إلى القول بالاستئناف بالغنم أخذًا بالزيادة التي في حديث عمرو بن حزم. وهو قول ابن مسعود -رصي الله عنه-. وذهب الأئمة الثلاثة، وهو قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين إلى عدم الاستئناف ترجيحًا للأصح من الأحاديث.

قالوا: وكتاب عمرو بن حزم قد تكلم فيه، وضعفه بعضهم. وقد اختلف في صفته فرواه الأثرم في سننه من غير استئناف فردوا المختلف إلى المتفق لموافقته القياس، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه كسائر بهيمة الأنعام. وإنما وجب الابتداء من غير جنسه لأنه لا يحتمل المواساة من الجنس، فعدل إلى غير الجنس ضرورة، وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته. ولأن في اعتبار الزيادة التي في حديث عمرو بن حزم إبطال اعتبار الأربعينات والخمسينات -وقد صح عنه وعن غيره اعتبارها- فكان ترجيح

الصحيح الموافق للقياس الصحيح أولى. وهذه المسألة تدل على جلالة قدر أبي حنيفة وديانته رحمه الله، فإنه لما بلغه هذا الحديث أخذ به ولم يلتفت معه إلى القياس لاحتمال أن يكون ذلك القياس فاسدًا. ولكن لما وجد نص آخر أصح من ذلك النص المختلف في تصحيحه وهو موافق لذلك القياس على أنه قياس صحيح فوجب العمل به. * * *

فصل في البقر

فصل في البقر قوله: (وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين، وهو رواية عن أبي حنيفة لقوله -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ -رضي الله عنه-: "لا تأخذ من أوقاص البقر شيئًا"، وفسروه بما بين الأربعين إلى الستين، قلنا: قد قيل أن المراد منها الصغار). الحديث المذكور غير صحيح، وعلى تقدير صحته لا يصح القول بأن المراد منها الصغار، وإنما هو ما بين الفريضتين من الإبل، والبقر، والغنم. وكذلك الشنق، وبعض العلماء يجعل الوقص في البقر خاصة والشنق في

الإبل خاصة كذا في "الصحاح" و"المحكم" و"المغرب". قال النووي: ثم المشهور أن الوقص ما بين الفريضتين كما بين خمس وعشر، وقد استعملوه أيضًا فيما لا زكاة فيه، وإن كان دون النصاب كأربع من الإبل. انتهى. والقول بأنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين هو الحق، فإن حديث معاذ -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارًا أو عدله معافر". قال في المنتقى: رواه الخمسة. وليس لابن ماجه فيه حكم الحالم.

انتهى. قد تلقته الأمة بالقبول، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وهو كاف في الاستدلال على عدم الوجوب فيما بين الأربعين والستين؛ لأن حكم زكاة البقر قد أدير فيه على اعتبار الثلاثينيات والأربعينيات. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن يحيى بن الحكم أن معاذًا -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين، وما بين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فقدمت فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك، وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها". وإن كان قد تكلم في هذا الحديث بأن معاذًا لم يدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد قدومه من اليمن فهو يصلح للاعتضاد لا للاعتماد، كيف وإن الأوقاص شأنها أن لا واجب فيها؟ وهو ما بين الفريضتين.

وأيضًا فإنه لا يعرف في الشرع في زكاة السوائم أخذ جزء من الحيوان، ولهذا عدل في أول نصاب الإبل إلى الشياه فرارًا من التشقيص. والقول بعدم الوجوب فيما بين الأربعين والستين قول الأئمة الثلاثة، وأكثر أهل العلم، ورواية عن أبي حنيفة كما ذكره المصنف، واختاره أكثر المشايخ فلا يعدل عنه. * * *

فصل في الغنم

فصل في الغنم قوله: (وعليه انعقد الإجماع). يعني على أنه ليس في أقل من الأربعين من الغنم صدقة. وفي الأربعين شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه. ثم في كل مائة شاة. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن [لا] صدقة فيما دون أربعين من الغنم، وأجمعوا أن في أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة شاة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين. انتهى. وقال في المغني: وعن أحمد رواية أخرى أنها إذا زادت على ثلاث مائة واحدة ففيها أربع شياه، ثم لا يتغير الفرض حتى يبلغ خمسمائة فيكون في كل مائة شاة، ويكون الوقص الكبير بين ثلاثمائة وواحدة إلى خمسمائة، وهو أيضًا مائة وتسعة وتسعون. وهذا اختيار أبي بكر، وحكي عن النخعي والحسن بن صالح، ثم ذكر ضعف دليل هذه الرواية. والغرض بيان أن دعوى الإجماع مطلقًا كما ذكر المصنف لا يصح.

قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما حقنا الجذعة والثني")، وقوله: (وجه الظاهر حديث علي -رضي الله عنه- موقوفًا ومرفوعًا: "لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فصاعدًا"). كلا الحديثين لم يصح، وإنما هو مذكور في كتب الفقه غير مذكور في كتب الحديث. * * *

فصل في الخيل

فصل في الخيل قوله: (وله قوله -عليه الصلاة والسلام-: "في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم"). روى الدارقطني وضعفه من حديث جابر: "في الخيل السائمة في كل فرس دينار [تؤديه]. والحديث الذي استدل به لهما وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" رواه الجماعة من حديث أبي هريرة. ولأبي داود: "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق". وعن عمر وجاءه ناس من أهل الشام فقالوا: "إنا قد أصبنا أموالًا خيلًا ورقيقًا نحب أن يكون لنا منها زكاة وطهور، قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله،

واستشار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفيهم علي -رضي الله عنه-، فقال علي: هو حسن إن لم يكن جزية راتبة يؤخذون بها من بعدك" رواه أحمد. وعن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: هو صحيح. فلا يصح الحمل حينئذ على أن المراد بما روياه فرس الغازي، مع أن النافي في مثله لا دليل عليه. والحديث المذكور لا يثبت بمثله حكم،

وإن ثبت أن عمر كان يأخذ زكاة الخيل فذلك لطيب نفوس أربابها وتطوعهم، لا أنه أمر لازم لهم. واختار الطحاوي قول الصاحبين. قوله: (ولا شيء في البغال والحمير لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لم ينزل علي فيهما شيء"). الذي في الصحيح من حديث أبي هريرة: وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحمر فقال: ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}، وليس فيه ذكر البغال. * * *

فصل

فصل قوله: (ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس في العوامل والحوامل والعلوفة ولا في البقرة المثيرة صدقة"). لم يوجد هذا الحديث هكذا في كتب الحديث، ولكن قال السروجي: وعن علي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في العوامل صدقة". قال أبو الحسن [ابن] القطان: إسناده صحيح. ذكره في

الإمام. وعن طاوس عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في البقر العوامل صدقة ولكن في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسن أو مسنة" رواه الدارقطني، وعن جابر -رصي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس في المثيرة صدقة" رواه الدارقطني. قوله: (ولهما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "في خمس من الإبل شاة، وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرًا" وهكذا قال في كل نصاب نفى الوجوب عن العفو؛ ولأن العفو تبع للنصاب، فيصرف الهلاك أولًا

إلى التبع كالربح في مال المضاربة) إلى آخر المسألة. ليس في حديث زكاة الإبل هذا اللفظ الذي ذكره المصنف وإنما هو في زكاة الغنم إذا زاد الغنم على ثلاثمائة "ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ مائة ... الحديث". وتقدم في حديث معاذ أنه لا فريضة في أوقاص البقر. وذلك كله لا يمنع مما قاله محمد وزفر من أن الزكاة تتعلق بالنصاب والعفو؛ فإن في كتاب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الذي ذكره البخاري وغيره عن أنس -رضي الله عنه-: "في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها ابنة مخاض". انتهى الحديث. وفي حديث سالم عن أبيه "في الإبل إذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة" نص على الوجوب في أربع وعشرين فما دونها في أول الحديث

الأول، ثم الوجوب إلى ما ذكر بعد ذلك فدل على أنه غير خال عنه. ولن الزكاة تتعلق بالمال النامي شكرًا لنعمة المال، والكل مال نام فيجب شكرًا للنعمة فيه. وقوله: "ففي كل مائة شاة شاة ثم ليس فيها شيء زائد على المقدار المعين فيحمل عليه ليتفق معناه ومعنى الغاية المذكورة في المقادير التي تقدم ذكرها في ذلك الحديث وفي غيره، وكذلك النفي المذكور في الأوقاص. وتنظير تبعية العفو للنصاب بالربح في مال المضاربة فيه نظر لثبوت المغايرة بين رأس المال والربح، وعدم ثبوتها بين النصاب والعفو، بل هذا نظير نصاب الشهادة، والسرقة، والقراءة في الصلاة، وجنايات العبد، والمدبر، وأم الولد، وأمثال ذلك، لكن ينبغي على قول محمد وزفر إذا هلك العفو وبقي النصاب، وقلنا بأنه يسقط من الواجب بقدر الهالك أن يقيد بأن ذلك إذا كان الهلاك قبل التمكن من الأداء لا بعده لما يأتي في مسألة الهلاك بعد التمكن من الأداء -إن شاء الله تعالى-. قوله: (وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة، وقال الشافعي -رحمه الله-: يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء؛ لأن الواجب في الذمة فصار كصدقة [الفطر] ولأنه منعه بعد الطلب فصار كالاستهلاك. ولنا أن

الواجب جزء من النصاب تحققًا للتيسير فيسقط بهلاك محله كدفع العبد بالجناية يسقط بهلاكه. والمستحق فقير يعينه المالك ولم يتحقق منه الطلب. فيه إشكال وهو أن أبا حنيفة -رحمه الله- أحق أن يقول بما قاله الشافعي -رحمه الله تعالى- من الضمان بعد التمكن من الأداء؛ لأن تعلق الزكاة عنده بالذمة أقوى من تعلقها بالمال؛ ولهذا لم يقل بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون. وقال: يجوز دفع القيمة. ولأن إخراج الزكاة إن قلنا إنه على الفور- كما هو أحد القولين في المذهب. اختاره كثير من الأصحاب منهم أبو منصور الماتريدي وغيره وقيل: هو قول أبي يوسف ومحمد ذكره الحاكم في "المنتقى"- فالأمر فيه

ظاهر. وإن قلنا إنه على التراخي بمعنى إنه مطلق عن الفور وأنه يباح التأخير لكن لا على وجه يؤدي إلى التفويت، ولهذا لو مات ولم يزك بعد التمكن أثم بلا خلاف. قال في "البدائع": يتضيق عليه الوجوب إذا لم يبق من عمره إلا مقدار ما يؤديها فيه حتى لو مات من غير أداء أثم. انتهى. وعن محمد لو أخرها من غير عذر لا يقبل شهادته، بخلاف الحج فإن بتأخيره لا يأثم لأن الأمر به مطلق، وفي الزكاة إنما يأثم بالتأخير لأن في تأخير حق الفقير ضررًا به؛ لأنها شرعت لدفع حاجة الفقير. وقوله: (فيسقط بهلاك محله كدفع العبد بالجناية فيسقط بهلاكه) فيه نظر؛ فإن جناية العبد لا تتعلق بذمته إلا أن في أخذه بالجناية تعرضًا إلى المالية التي هي حق المولى فيتخير بين الدفع والفداء بخلاف الزكاة، خصوصًا على قول أبي حنيفة -رحمه الله- أن الواجب في الزكاة أحد أمرين إما العين أو القيمة وباختيار المالك يتعين كالكفارة. وقوله: (والمستحق فقير يعينه المالك، ولم يتحقق منه الطالب) فيه

نظر؛ فإن الشافعي لم يرد الطلب الصوري وإنما أراد المعنوي؛ فإنه لما حال الحول على النصاب صار المالك مطلوبًا بأداء الزكاة إلى مستحقها. وهذا معنى اشتغال ذمته بأداء الزكاة. وأيضًا فمن أخرج ظبية من الحرم فهلكت بعد التمكن من إرسالها ضمنها. وكذا لو كانت قد ولدت أولادًا ثم هلكت الأولاد بعد التمكن من الإرسال ضمن الكل لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشارع. وسيأتي في كتاب الغصب في كلام المصنف هذا التعليل في الفرق بين زوائد المغصوب وولد الظبية المخرجة من الحرم. قوله: (ويجوز لنصب إذا كان في ملكه نصاب واحد خلافًا لزفر؛ لأن النصاب الأول هو الأصل في السببية والزائد عليه تابع له). فيه نظر، بل كل نصاب سبب لوجوب زكاته. وقوله: والزائد عليه تابع له، إنما يتبعه في الحول للتيسير. فأما في الإيجاب فإن الوجوب ثبت بالزيادة لا بالأصل، فظهر قوة قول زفر، وهو قول جمهور العلماء. * * *

باب زكاة المال

باب زكاة المال قوله: (لأنه -عليه الصلاة والسلام- كتب إلى معاذ رضي الله عنه: "أن خذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالًا من الذهب نصف مثقال"). هذا الحديث لا أصل له، ولكن روى الدارقطني وأبو داود عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كانت لك مائتا درهم حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك".

قال: لا أدري أعلي يقول: "فبحساب ذلك" أو رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيه كلام؛ ولهذا اختلف العلماء في نصاب الذهب ولم يختلفوا في أصل وجوب الزكاة في الذهب. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله -عليه الصلاة والسلام-، في حديث معاذ: "لا تأخذ من الكسور شيئًا"، وقوله في حديث عمرو بن حزم:

"ليس فيما دون الأربعين صدقة"، ولأن الحرج مدفوع وفي إيجاب الكسور ذلك لتعذر الوقوف). كلا الحديثين ضعيف. أخرج الأول البيهقي وضعفه. والثاني: الدارقطني. والتعليل أيضًا ضعيف؛ لأنه إذا قل الكسر بحيث يكون شحوطًا أو رجحانًا فمعفو عنه فلا كلام فيه للحرج، وما عدا ذلك لا حرج في اعتباره مع أن أبا حنيفة قد أوجب العشر في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره. ولم يقل هناك أن في الإيجاب في القليل حرجًا فدل على أن مثل هذا التعليل لا يرتضى. وجمهور العلماء على أنه لا وقص في الذهب والفضة، الأئمة الثلاثة

وغيرهم، وسلفهم في ذلك علي، وابن عمر -رضي الله عنهم-، قال في المغني: ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة فكان إجماعًا. قوله: (لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها لا تنطبع إلا به) ممنوع! لأن الفضة الخالصة تنطبع من غير شك، ولكن جرت العادة في بعض الممالك بخلط قليل من النحاس معها في مقابلة أجرة الصياغ، وثمن الوقود؛ ولهذا بعض أنواع الدراهم فضة خالصة. * * *

فصل في الذهب

فصل في الذهب قوله: (وليس دون أربعة مثاقيل صدقة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما بحساب ذلك وهي مسألة الكسور، وكل دينار عشرة دراهم في الشرع، فيكون أربعة مثاقيل في هذا كأربعين درهمًا). تقدم أن الحديثين المذكورين في مسألة الكسور ضعيفان، وعلى تقدير ثبوتهما فاعتبارهما في الذهب مشكل؛ لأن أحد القيراطين من أربعة مثاقيل كسور أو اعتبار قيمة الدينار الشرعي يلزم منه اعتبارهما في نصاب الذهب. فإن قيل: ثبت تقدير نصاب الذهب بالنص! فالجواب: أن النص الذي

فيه تقدير نصاب الذهب كما تقدم في آخره ((فمازاد فبحساب ذلك)) وقول أبي يوسف ومحمد في مسألة الكسور أقوى. قوله: (ولنا أن السبب مال نام ودليل النماء موجود وهو الإعداد للتجارة خلقة). فيه نظر فإن للشافعي رحمة الله أن يقابله بالمنع. وكذلك قولهم: إنها خلقت أثمانًا ممنوع أيضًا، فإنها إنما خلقت أثمانًا في الاصطلاح إذا كانت مضروبة. وأما ما ورد في مسألة الحلي من الجانبين من السنة فقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء.

فصل في العروض

فصل في العروض قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ((يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم). في زكاة عروض التجارة أحاديث في السنن خلاف هذا الحديث، أما هذا الحديث فقال السروجي: لا أصل له. قوله: (وإذا كان النصاب كاملًا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة؛ لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه). للمخالف أن يمنع من اعتبار مثل هذه المشقة. ويقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول). يقتضي اشتراط كمال النصاب في جميع الحول، وإذا نقص في أثناء الحول لم يكن الحول قد

حال عليه، وإنما حال على بعضه. وقد قال الأصحاب، فيمن حلف لا يبيع امته ولا يهبها: أن لو باع نصفها ووهب نصفها لم يحنث؛ لأنه لم يكن قد باعها ولا وهبها، وإنما باع نصفها ووهب نصفها. فهنا أولى. فإن هناك مقصوده باليمين أن لا يخرجها عن ملكه بعوض ولا بغيره وقد خرجت ولم يحنثوه، فكيف يقال هنا بوجوب الزكاة في مال لم يحل عليه الحول؟! ولا ينفع التعليل بالمشقة وبأن ما بين طرفي الحول حاله البقاء في مقابلة هذا النص.

باب فيمن يمر على العاشر

باب فيمن يمر على العاشر قوله: (لقول عمر رضي الله عنه: ((فإن اعياكم فالعشر)). لا يعرف هذا عن عمر في شيء من كتب الحديث المعروفة. قوله: (ووجه الفرق على الظاهر أن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين والخنزير منها). يرد على هذا ما لو اشترى ذمي من ذمي دارًا بخمر أو خنزير وشفيعها مسلم فإنه يأخذها بالشفعة بقيمة الخمر والخنزير، فلم يجعل قيمة الخنزير كعينة هناك. ولكن هنا مانع يمنع الأخذ عن الخمر والخنزير لأن الأخذ لأجل الحماية؛ ولا يحمي المسلم الخمر ولا الخنزير.

قوله: (والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل فكذا يحميها على غيره). للمخالف أن يمنع من أن يجوز للمسلم أن يحمي خمر نفسه للتخليل لحدث أنس -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الخمر، أتتخذ خلًا؟ قال: لا) أخرجه مسلم والترمذي. وسيأتي الكلام على ما في مسألة تخليل الخمر من الإشكال في كتاب الأشربة- إن شاء الله تعالى-. وإذا ثبت أن المسلم لا يحمي خمر نفسه ولا خنزيره ولا قيمة لهما بالنسبة إليه، فلا يعشرهما، وروى ابو عبيد أن عتبة ابن فرقد ((بعض إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأربعين ألف درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين وأخبر بذلك الناس وقال: والله لا أستعملك على شيء بعدها)) قال: فنزعه.

وروى/ بسنده أيضًا إلى المثنى بن سعيد قال: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أن ابعث إلى تفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت؟ فكتب إليه بذلك وصنفه، فكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم. قال: فلبثنا ما شاء الله ثم جاء جواب كتابه أنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف، وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها، ولا يبيعها)). وسيأتي في آخر البيوع إن شاء الله تعالى الكلام على ما روي أن عمر رضي الله عنه قال عن الخمور والخنازير: ((ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها)).

باب المعدن والركاز

باب المعدن والركاز قوله: (ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وفي الركاز الخمس) وهو من الركز فأطلق على المعدن). عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس) رواه الجماعة. العجماء: البهيمة، والجبار: الهدر، و (البئر جبار) يحتمل وجهين: أحدهما: أن من حفر بئرًا من غير تعد، إما في ملكة أو في فلاة السبيل فسقط فيها أحد فهو هدر. الثاني: أن من استأجر رجلاً ليحفر له بئراً فانهارت عليه فمات فهو هدر. (والمعدن جبار) يحتمل وجهين أيضاً.

أحدهما: أن من استأجر رجلًا ليحفر له معدنًا فانهار عليه فهو هدر. الثاني: من استخرج معدنًا فهو له ولا يخمس. وعلى الوجه الأول حمله أبو حنيفة ومن قال بقوله. وعلى الوجه الثاني حمله الشافعي وأحمد ومن قال بقولهما. ورجع الوجه الأول بقوله. وعلى الوجه الثاني حمله الشافعي وأحمد من قال بقولهما. ورجع الوجه الأول بقوله عليه السلام: (ما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه، وفي الركاز الخمس) رواه النسائي وغيره. وبقوله عليه السلام: (الركاز هو الذهب الذي نبت مع الأرض) رواه البيهقي وغيره. [وفي حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وفي الركاز الخمس) قيل: يا رسول الله، ما الركاز. قال: (هو الذهب والفضة)

المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السموات والأرض) رواه البيهقي وغيره. وفي حديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وفي السيوب الخمس). والسيوب: عروق الذهب والفضة التي تحت الأرض ذكره في (الإمام). ولأنه كان في أيدي الكفار وحوته أيدينا غلبة فكان غنيمة، وفي الغنائم الخمس. ورجع الوجه الثاني لحديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من

ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم" رواه أبو داود ومالك في الموطأ. ولأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد والكلأ والزمرد ونحوه، والقار ونحوه. أما الأحاديث من الجانبين فضعيفة تكلم كل فريق على تضعيف ما استدل به الفريق الآخر منها، فبقى النظر في كونه غنيمة فيخمس، أو ليس بغنيمة فلا يخمس. فإن كان المعدن في أرض قد أسلم أهلها عليها، أو فتحت صلحاً وأقر أهلها عليها فلا ينبغي أن يخمس قولاً واحداً؛ لأن هذه الأرض وما هو متصل بها اتصال قرار كالشجر ونحوه لا تخمس بالاتفاق، وكذلك ما فتحت عنوة

وأقر أهلها عليها أيضًا لأنها لا تخمس عندنا. فلم يبق إلا ما فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين وفي تخميسها نطر على ما يأتي في كتاب السير إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فينبغي على ما قلت أنه لا يخمس الركاز الموجود في أرض أسلم أهلها عليها أو فتحت صلحاً وأقر أهلها عليها أيضًا لأنه ليس بغنيمة! فالجواب: أن تخميسه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وفي الركاز الخمس) لا بالنظر في كونه من أجزاء الأرض المغنومة أو لا، ولا بالنظر في كونه غنيمة أو لا. وترجيح آخر للوجه الثاني وهو أن اعتبار الوجه الأول يلزم منه التكرار؛ لأنه قد فهم من قوله: "والبئر جبار" أن من استأجر أجيرًا ليحفر له حفيرًا فإنهار عليه فهو هدر، فحمله على الوجه الثاني أحثث وأولى لأن التأسيس أولى من التأكيد.

وأيضًا فإن من جعل اسم الركاز شاملاً للمعدن لم يطرده في كل معدن بل أخرجوا منه الزمرد ونحوه. والمعدن الذي يجده الإنسان في داره في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي أرضه في رواية عنه. وأيضًا فقد اختلف أهل اللغة في شمول لفظ الركاز للمعدن فإن صاحب الصحاح وغيره جعله أسمًا لدفين الجاهلية فقط، ولا يلزم من اشتقاقه من الركاز الذي هو القرار والإثبات شموله للمعدن، وما كل مركوز يسمى ركازًا، فلا يسمى الرمح المركوز ونحوه ركازًا، وإنما الشأن في الاستعمال. قال ابن الأثير في النهاية: الركاز أهل الجاهلية المدفونة في الأرض، وهي المطالب في العرف عند أهل الحجاز، وهو المعادن عند أهل العراق، والقولان يحتملهما اللغة. انتهى.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- خاطب أهل الحجاز بلغتهم لا بلغة أهل العراق، ولا ينبغي أن يحمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على عرف أهل بلاده لا على عرف غيرهم بل هذا هو الواجب. وبمثل هذا المعنى ظهر رجحان قول أبي يوسف في الصاع على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا خمس في الحجر"). لا أصل له في كتب الحديث. قوله: (والمروى عن عمر رضي الله عنه فيما دسره البحر وبه نقول). هذا سهو منه فإن أبا حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقولان إنه يخمس العنبر إذا دسره البحر ولا إذا أخذ من البحر. وقد حمله السغناقي على ما إذا دسره البحر إلى ساحله في بلاد الكفار ثم ظهرنا عليهم فوجدناه. وهذا فاسد فإنهم لو استخرجوه وظهرنا عليهم نخمسه فلم يكن العبرة لدسر البحر له بل لأخذنا له من أيدي الكفار، ونحن

لو أخذنا من أيديهم لؤلؤًا أو حيوانًا أو غيره من الأموال قهرًا لخمسناه. بل دسر البحر له يقتضى أن لا يخمس كما قال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس العنبر بركاز إنما هو شيء دسره البحر" أخرجه البخاري في ترجمة باب. وأخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي ولفظهما أنه قال: "ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر"، ولم يثبت عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ الخمس من العنبر كما ذكره المصنف، ولو ثبت يحمل على أنه كان في الغنيمة قد أخذ من أيدي الكفار. وإنما حكاه ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز. ***

باب زكاة الزروع والثمار

باب زكاة الزروع والثمار قوله: (ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أخرجته الأرض ففيه العشر"). ليس لهذا الحديث ذكر في كتب الحديث. وما احتج به لهما من قوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة" رواه الجماعة.

وعلى تقدير صحة قوله: "ما أخرجته الأرض ففيه العشر" يخص بقوله: "ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة"، كما يخص منه ما سقى بالنضح فإن فيه نصف العشر بالسنة والإجماع. وكما خص قوله عليه السلام: "وفي الرقة ربع العشر" بقوله: "ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة". وما هذا بأول عام خص، ولهذا عدل السروجي إلى الاستدلال لآبي حنيفة رحمه الله بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء والعيون وكان عثريًا العشر، وفيما سقي بالنضج نصف العشر" رواه الجماعة إلا مسلمًا، وحديث الأوساق يخصصه، مع

سيق للفصل بين ما فيه العشر ونصف العشر. قوله: (ولهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس في الخضروات صدقة"). عن معاذ رضي الله عنه "أنه كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الخضروات وهي البقول، فقال: ليس فيها شيء" رواه الترمذي، وقال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح. انتهى. وليس يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

شيء، ولكن مذهب أهل المدينة أنه لا شيء في الخضروات، وقولهم في مثله حجة لاستمرارهم على ما كانوا عليه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك. قوله: (وله ما روينا، ومرويهما محمول على صدقة يأخذها العاشر وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله). لو أجاب عن الحديث الذي استدلا به على نفي الزكاة عن الخضروات بأنه لم يثبت كان أولى من حمله على صدقة يأخذها العاشر، فإن في وجود العاشر الذي ينصب على الطرقات ليأخذ الصدقات من التجار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظرًا. ولهذا إنما يستدل في مسائل العشر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه/ فإن في زمنه فتحت البلاد، واحتاج المسلمون إلى أن ينصب في الطرقات من يأمن التجار بسببه في الطرقات، ولهذا إنما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر

العاشر الذم. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "في العسل العشر"). عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أخذ من العسل العشر" رواه ابن ماجه.

وعن البخاري والترمذي: "لا يصح في زكاة العسل شيء". وقال ابن المنذر: لا يثبت فيه حديث ولا إجماع. قوله: (وماء جيحون وسيحون ودجلة والفرات عشري عند محمد رحمه الله؛ لأنه لا يحميها أحد كالبحار، وخراجي عند أبي يوسف؛ لأنه يتخذ عليها القناطر من السفن وهذا يد عليها). في جعل اتخاذ القناطر من السفن يدًا على الأنهار العظام نظر؛ فإن أخذ

الخراج مما يسقى بها الأنهار إنما هو باعتبار الحاجة إلى حمايتها لتصل إلى تلك الأرض التي تسقى منها، وهذا إنما يكون في الأنهار المشتقة من الأنهار العظام، أما الأنهار العظام فاتخاذ القناطر عليها من السفن لا يؤثر فيها شيئًا، وإنما هو بمنزلة ركوب السفن فيها، والله أعلم. ***

باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز

باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز قوله: (فهذه ثمانية أصناف، وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم؛ لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم وعلى ذلك انعقد الإجماع). فيه نظر؛ فإن عند الحسن، والزهزي،، ومحمد بن علي، وأبي عبيد، والإمام أحمد، والظاهرية: أن سهم المؤلفة باق لم يسقط. قال الزهري: لا أعلم شيئًا نسخ حكم المؤلفة. على أن ما ذكرنا من المعنى لا ينافي القول ببقاء حكمهم إذا وجدوا، فإن الغني عنهم لا يوجب رفع حكمهم، وإنما بمنع اعطاءهم حال الغني عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، وكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمان خاصة، فإن وجد عاد حكمه، كذا هذا. قوله: (ثم هما صنفان أو صنف واحد سنذكر (5) في الوصايا إن

شاء الله تعالى). يعني الفقراء والمساكين. وهذه حوالة تاوية، فإنه ذكر في الوصايا أنهما جنسان. قال: وفسرناهما في الزكاة. انتهى. والصحيح أنهما صنفان إذا ذكرا معًا، وصنف واحد إذا ذكر أحد الأسمين كما في قوله تعالى: {إطعام عشرة مساكين}، {فإطعام ستين مسكينًا}، {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء}. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "تصدقوا على أهل الأديان كلها"). هذا الحديث لا أصل له، وهذا الإطلاق غير صحيح؛ فإنه لا يجوز التصدق على الكافر الحربي. قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم

يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} الآية. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "يا بني هاشم، إن الله حرم عليكم غسالة أيدي الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس"). هذا الحديث لا أصل له، وفي متنه شيء؛ فإن الزكاة غسالة المال لا غسالة الأيدي، وأخذهم من الخمس لا يصلح أن يكون علة لمنعهم من الزكاة؛ لأن اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحقون في الخمس ولا يحرم عليهم بذلك أخذ الزكاة. وفي قسمة الخمس أخماسًا كلام يأتي في كتاب السير إن شاء الله تعالى. وأيضًا فكيف يستدل لأبي حنيفة بهذا الحديث وهو لا يقول به؟! فإنه لا يرى أن ذوي القربي لهم سهم معين من الخمس، لا خمسه ولا ثلثه، وإنما يقول: إنهم يدخلون مع اليتامى والمساكين وابن السبيل ويصرف إليهم إذا

اتصفوا بواحدة من هذه الصفات من غير تقدير بسهم. وحرمة الزكاة على بني هاشم ثابتة بنصوص أخر صحيحة غير هذا الحديث المذكور. قوله: (لأن المال هاهنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض، أما التطوع بمنزلة التبرد بالماء). فيه نظر؛ فإن الوضوء على الوضوء يصير الماء به مستعملاً كما تقدم وإن كان تطوعًا. ولو قيل بالعكس لكان أظهر؛ لأن التقرب بالصدقة النفل مشروع بلا نظر، والتقرب/ بالوضوء على الوضوء فيه نظر. وما يروى أنه عليه السلام قال: "الوضوء على الوضوء نور" لا أصل له كما تقدم. وأيضًا فإن الماء المستعمل إنما قالوا إنه يتغير حكمه قياسًا على مال الصدقة، وإلا فليس فيه نص يدل على تغير حكمه، فكيف يصح أن يجعل

مقيسًا عليه ولم يثبت كما تقدم التنبيه عليه. وأيضًا فنية القربة موجودة في صدقة التطوع بخلاف التبرد بالماء. وأيضًا فالأحاديث الواردة في حرمة الصدقة على بني هاشم شاملة للفرض والنفل، والله أعلم. ***

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر قوله: (أما وجوبها فلقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته: "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير" رواه ثعلبة بن صير العدوي، أو] ابن أبي [صُعير العُذري). رواه أبو داود والدارقطني. وهو حديث مضطرب الإسناد والمتن، وقد تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وضعفوه. وفي بعض طرقه لم يذكر البر،

وفي بعضها ذكره مقدرًا بصاع. وفي بعضها بصاع بين كل اثنين. وفي بعضها: «غني أو فقير»، وفي بعضها زيادة على ذلك: «أما غنيكم، فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطى». ولولا خوف الإطالة لذكرت ما في إسناده من الاضطراب. ولا يصح الاحتجاج به لمن يشترط في الوجوب ملك مقدار النصاب؛ لأن

فيه «وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطى». ولا يجوز أخذ بعض الحديث وترك بعضه. ولكن أدلة وجوب صدقة الفطر، وتقدير البر بنصف صاع كثيرة غير هذا الحديث.

قوله: (لأن السبب رأس يلي عليه ويمونه). في زيادة شرط الولاية نظر؛ فإنه لم يرد فيه شيء من السنة. وورد في اعتبار المؤنة ما رواه الدارقطني «أنه عليه السلام أمر بصدقة الفطر عن الصغير، والكبير، والحر، والعبد ممن يمونون». وذكر في الإمام عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده عن آبائه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «فرض صدقة الفطر عن الكبير والصغير، والذكر والأنثى ممن يمونون».

قوله: (وعندنا وجوبها على المولى بسببه كالزكاة فيؤدى إلى الثنا). يعني صدقة الفطر عن عبده للتجارة. قال السروجي: يرد هنا على أبي حنيفة سؤال، فإنه لا يرى ضم ثمن السوائم التي زكيت إلى ما معه من الدراهم فيكتفي بحولها لأجل الثنا في الصدقة، وأوجب ضم ثمن العبد الذي أدى صدقة فطره إلى ما معه من الدراهم، وفرق بأن صدقة الفطر يجب عن عبد الخدمة من غير اعتبار المالية حتى وجبت بسبب الحر، والمدبر، وأم الولد من غير اعتبار الحول حتى لو ملك عبدًا قبل طلوع فجر يوم الفطر تجب فطرته. فإذا اختلف السبب كيف يؤدى إلى الثنا؟!. قال: والذي يمكن أن يقال في الجواب: أنا لو أخذنا صدقة الفطر عن عبيد التجارة لأخذنا عن عين واحدة في وقت واحد أو سنة واحدة بخلاف ضم ثمنه فإن الأخذ من بدله، وصدقة الفطر من عينه مع اختلاف السبب، وفي ثمن الإبل المزكاة البدل قائم مقام المبدل لاتحاد جهة الزكاة فافترقا. انتهى.

وفي جوابه نظر فإن البدل قائم مقام المبدل، والأخذ ليس من العين بل عنها، والثنا إنما يكون عند اتحاد الجهة، وهنا الجهة مختلفة فإن سبب زكاة العبد ملك النصاب النامي وذلك باعتبار ماليته، وسبب صدقة فطره مؤنته إياه، أو مؤنته والولاية عليه عند أبي حنيفة، واختلاف السبب بمنزلة اختلاف العين فانتفى الثنا. قوله: (ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي» ... الحديث). قال الدارقطني: تفرد به سلام الطويل وهو متروك. وإنما يروى من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى.

ولم يثبت عن ابن عمر أيضًا، وفي آخر حديث ابن عمر الثابت في «الصحيحين»: «على كل حر وعبد وذكر وأنثى/ من المسلمين». فإن قيل: ذكر الترمذي: أن مالكًا تفرد من بين الثقات بزيادة قوله: «من المسلمين». قيل: ليس كذلك بل وافقه الضحاك في رواية مسلم. وعمر بن نافع في رواية البخاري وقد وافقه ....................

غيرهما أيضًا. وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس ما يبعد صحة ما ذكره المصنف عنه، وهو أنه قال: «فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي مقبولة، ومن آداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات». قال في المغني: إسناده حسن. قوله: (وقال الشافعي: على من له الملك). يعني صدقة فطر العبد المبيع بشرط الخيار. وهذا الكلام مشكل فإنه لا خلاف أن صدقة فطر العبد على من له الملك، ولكن الملك في مدة الخيار لمن؟ فعنه أنه لمن له الخيار كقول زفر، وعنه أنه

موقوف كقول أصحابنا. هذا إذا كان الخيار لأحدهما، فإن كان الخيار لهما فالملك للبائع. فالحاصل أن نصب الخلاف مع الشافعي بهذه العبارة لا يفيد. قوله: (وقال أبو يوسف: خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام: «صاعنا أصغر الصيعان»). هذا الحديث منكر لا أصل له، وقول أبي يوسف قول أكثر العلماء منهم الأئمة الثلاثة.

ورجوع أبي يوسف إلى قول الإمام مالك رحمه الله لما اجتمع به في المدينة الشريفة مشهور، ذكره البيهقي من حديث الحسين بن الوليد القرشي قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج فقال: أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم أهمني، ففصحت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع؛ فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدًا. فلما أصبحت أتاني نحوٌ من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجلٍ منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنظرت فإذا هي سواء. قال: فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان يسير، فرأيت أمرًا قويًا. فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة. انتهى. ولم يثبت في تقدير الصاع بثمانية أرطال بالعراقي ما يقاوم ما ثبت فيه أنه

خمسة أرطال وثلث بالعراقي. والغلط في مثله إلى أهل العراق أقرب منه إلى أهل المدينة، فأهل المدينة أخبر من غيرهم بصاعهم، وأهل العراق أخبر من غيرهم بقفيزهم، وأهل الشام أخبر من غيرهم بمدهم، وأهل مصر أخبر من غيرهم بويبتهم وإردبهم، وأمثال ذلك كثيرة. قوله: (فإن قدموها على يوم الفطر جاز؛ لأنه أدى بعدما تقرر السبب، فأشبه التعجيل في الزكاة، ولا تفصيل بين مدة ومدة هو الصحيح). في تصحيح نظر. وقد اختلف المشايخ في مدة جواز التعجيل، فقال خلف بن أيوب: بعد دخول شهر رمضان لا قبله، وهو قول الشافعي.

وقال نوح بن [أبي] مريم: يجوز تعجيلها في النصف الأخير من رمضان. وقال بعضهم: في العشر الأخير. وقال: الكرخي: قبل الفطر بيوم أو يومين. وهو قول أحمد ومالك. ويظهر رجحان هذا القول لحديث ابن عباس المتقدم ((إنها طهرة للصائم من الرفث وااللغو وطعمة للمساكين، ومن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)). وما يقرب من الشيء يأخذ حكمه. وفي آخر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: ((وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين)) رواه البخاري. وهذا إشارة إلى جميعهم فيشبه الإجماع.

وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: ((أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم)) يعني السؤال يوم الفطر، والفطر وإن كان شرطًا لكنه في قوة السبب؛ لأنها تضاف إليه يقال: صدفة الفطر ويتكرر بتكرره وذلك أمارة السببية. والمعنى المقصود منها إغناء الفقير عن السؤال يوم العيد، وهذا لا يحصل بالصدقة قبله بزمان طويل، ولا بالصدقة بعده، وإن كانت القربة/ فيها معقولة المعنى وهي سد خلة المحتاج فالمراد إغناؤه عن السؤال في يوم العيد تكميلًا لسروره فيه. والله أعلم. * * *

كتاب الصوم

كتاب الصوم قوله: (وجه قوله في الخلافية قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل»). هذا الحديث رواه أهل السنن الخمسة ولفظه عن ابن عمر عن حفصة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له))، وعند النسائي: ((من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا يصوم))، وفي أخرى: ((من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)). وفي أخرى: ((من لم يبيت الصيام من الليل)).

وروى الدارقطني عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له)). واللفظ الذي ذكره المصنف: ((لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل)) غير معروف فانتفى تأويله أن معناه أنه صوم من الليل حتى لو نوى بالنهار أنه صام من حين نوى لا من أوَّل اليوم لا يصير صائمًا عندنا. وانتفى تأويله بأنه محمول على نفي الفضيلة والكمال برواية النسائي أنه ((من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا يصوم)) مع أن الأصل عدم التأويل ولم يعارضه ما يوجب تأويله على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قوله: (ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام- بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: ((ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم))). هذا الحديث لا يُعْرف، وإنما المروي عن عكرمة عن ابن عباس

-رضي الله عنهما- قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني رأيت الهلال- يعني هلال رمضان- فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذِّن في الناس فليصوموا غدًا)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. ولهذا عدل السروجي -رحمه الله- إلى الاستدلال بحديث سلمة بن الأكوع ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمر رجلًا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء)) متفق عليه. وكان صوم يوم عاشوراء فرضًا قبل أن يفرض صوم رمضان

لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكلن -عليه الساام- يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه ومن شاء تركه)) متفق عليه. ولا يعارضه حديث معاوية -رضي الله عنه- أنه قال على المنبر: ((يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((هذا يوم عاشوراء لم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وأنا صائم))؛ لأنا نقول: بعد النسخ لم يبق مكتوبًا علينا. لكن بقي نظر آخر وهو أن صوم عاشوراء إنما أمروا به من النهار، لم يكن صومه واجبًا عليهم من الليل وعلموا بصومه ثم تركوا التبييت الواجب. وأيضًا فكان منهم من أكل، ومنهم من لم يأكل وكلا الفريقين أمروا بالامتثال دون القضاء، فتبين بذلك أن ذلك لم يكن لأن التبييت لا يجب لكن لأنهم نووا من حين ثبت الوجوب في حقهم، فينبغي أن من علم أن غدًا من رمضان فترك النية عمدًا ثم نوى من النهار لا يجزئه، لأنه عاصٍ تارك للواجب غير ممتثل لما أمره الله. وأما من لم يعلم بالوجوب إلا أثناء النهار بأن شهد برؤية الهلال من

النهار، أو بالليل، ولم يبلغه إلا من النهار، فهذا يشبه الصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق، فإن هؤلاء لم يؤمروا بالصوم ذلك اليوم، إن أمروا به إلا من أثناء النهار. ولا شك أن الله لم يفرض على العبد الصوم ولا الإمساك قبل العلم بالهلال، وكذا من استمر به النوم من النهار إلى النهار الآخر أو الإغماء، أو كان مسافرًا فقدم نهارًا، أو حائضًا فطهرت، أعني في الاكتفاء بالنية من النهار. وقد اختلف العلماء في وجوب الإمساك على الصبي والمجنون والكافر، ووجوب القضاء، بخلاف/ الحائض والمسافر، إذا طهرت، أو قدم بعد الإفطار فإنهم اتفقوا على وجوب القضاء عليهما واختلفوا في وجوب الإمساك، واختلفوا فيمن نذر أن يصوم يوم يقدم زيد فقدم نهارًا، أو هو ممسك فنوى حين قدومه هل يجزيه أم لا؟ أو قدم وهو

مفطر، أو في يوم عيد أو في رمضان فقد تعذر عليه الصوم المنذور فهل عليه قضاء أم لا؟ وبقي نظر آخر، وهو أن حديث سلمة بن الأكوع المتقدم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أمر أن يؤذن في الناس أم من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن فليصم)). ليس فيه أن ذلك كان قبل الزوال ولا بعده،

فينبغي أن يكون الحكم فيه على الإطلاق ويكتفي بالنية بعد الزوال. قوله: (ولنا أن نفرض متعين فيه، فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه إذا نوى النفل أو واجبًا آخر فقد نوى أصل الصوم وزيادة جهة، وقد لغت الجهة فبقي الأصل وهو كافٍ). هذا المعنى ظاهر قوي في حق من لم يعلم أن غدًُا من رمضان فنوى صومًا مطلقًا أو عن واجب آخر، أما من علم أن غدًا من رمضان فنوى صوم تطوع أو صومًا آخر فهذا تارك لما وجب عليه من أن يقصد صوم رمضان، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ....) الحديث. فالقول بأن هذا مؤدٍّ للفرض يؤجر على صومه هذا أجر المؤدي للفرض مع كونه عاصٍ غير ممتثل للأمر فيه إشكال، ... بل قال بعض الأصحاب: إنه يخشى عليه الكفر إذا نوى صوم غير الفرض في غير اليوم الأول من رمضان. قوله: ((وقال الشافعي -رحمه الله-: يجوز بنية بعد الزوال ويصير صائمًا

من حين نوى، إذ متجزئ عنده) يعني النفل. قال السروجي: التجزي في النفل ليس قولًا للشافعي بل نسب ذلك إلى المروزي من أصحابه. قال النووي: اتفقوا على تضعيفه. وقال الماوردي، وأبو الطيب في ((المجرد)): هو غلط: لأن الصوم

لا يتبعض. انتهى. وهذا القول الذي نسبه المصنف إلى الشافعي هو قول احمد بن حنبل وهو الراجح لأن قوله -صلى الله عليه وسلم: ((إني إذًا صائم)) يقتضي إنشاء الصوم من حين نوى، ولأن الإمساك عن المفطرات نهارًا إنما يؤجر عليه بالنية، والإمساك في أول النهار قبل النية لم يقع مأجورًا عليه فلا ينقلب مأجورًا عليه لأن النية إنما يؤثر فيما يستقبل، لا فيما مضى، والاستصحاب الذكور باطل. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعًا))). قال السروجي وغيره: هذا الحديث لا أصل له.

قوله: (والثالث أن ينوي التطوع وهو غير مكروه لما روينا، وهو حجة على الشافعي في قوله: يكره على سبيل الابتداء). تقدم أن الحديث لا أصل له فلا يكون حجة. قوله: (والمراد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين)) الحديث. التقدم بصوم رمضان لأنه يؤدى قبل أوانه). قال السروجي: فيه بعد، فإن ابن عباس روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صومًا يصومه أحدكم)) رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي. فما كانوا يصومون في شعبان صوم رمضان. انتهى. والحديث المذكور في الصحيحين من رواية أبي هريرة.

قوله: (وقيل: الصوم أفضل اقتداء بعلي وعائشة -رضي الله عنهما؛ فإنهما كانا يصومانه). المنقول عن علي -رضي الله عنه- عدم جواز صوم يوم الشك، ذكره عنه ابن المنذر في الإشراف خلاف ما ذكره عنه المصنف. قوله: (والمختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذًا بالاحتياط، ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار). فيه نظر، فإنه ليس في الشريعة ما يختص به المفتي دون العامي. وأين شرع الله ما يختص به بعض المكلفين دون بعض مع استوائهم في التكليف وأسبابه؟ وإذا اختلف الأحكام باختلاف المكلفين فباختلاف أوصافها كوجوب الصوم على المقيم والمرأة الطاهرة، وإباحة الفطر للمسافر/ ووجوبه على الحائض، وتحريم دخول المسجد على الجنب، وإباحته للطاهر، ونحو

ذلك. وما ذكر من التعليل لا يصلح لتخصيص المفتي بالصوم؛ لأن العامي يفهم الصوم بنية الفل المجرد كما يفهمه المفتي. قوله: (دل عليه الحديث المعروف، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم))). قال السروجي: وهكذا في المبسوط. وقال سبط ابن الجوزي: متفق عليه. قال: قلت: لا أصل لهذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو قول عمار -رضي الله عنه-، هكذا رواه البخاري عنه ولم يرفعه أحد في

علمي. انتهى. قوله: (لأنه في حقيقة اللغة هو الإمساك) ثم قال: (واختص بالنهار لما تلونا). يعني أن الصوم في اللغة هو الإمساك فقط، وإنما اختص بالنهار بالشرع. وفي هذا نظر، بل لفظ الصوم كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه في هذا المعنى كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- ((أن يوم عاشوراء كان يومها يصومه قريش في الجاهلية)). وقد ثبت من غير وجه أنه قبل أن يفرض شهور رمضان أمر بصوم عاشوراء، وأرسل منديًا ينادي بصومه. فعلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفًا عندهم. * * *

باب ما يوجب القضاء والكفارة

باب ما يوجب القضاء والكفارة قوله: (ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب، لأن النسيان من قبل من له الحق، والإكراه من قبل غيره، فيفترقان كالمقيد والمريض في قضاء الصلاة). يعني أن عذر الخطأ لا يغلب وجوده كما يغلب عذر النسيان. وهذا ماش على أن الأصل في النسيان أن لا يكون عذرًا ولكن النص ورد به على خلاف القياس. وفيه نظر، ولو قيل أن الكف عن الأكل والشرب والجماع من باب التروك، وكذا اجتناب النجاسة في الصلاة والكلام فيها، والطيب في الإحرام، وما كان من باب التروك يعذر فيه بالخطأ والنسيان؛ لأن المراد قصد تركه وذلك موجود بخلاف الفعل، ولأن الفعل يمكن أن لا يعتبر شرعًا مع وجوده حسًا لعدم قصده، ولا يمكن أن يجعل الترك فعلًا لأنه عدم، فالطهارة من الحدث في الصلاة أمر وجودي فلا يعذر بنسيانها، والطهارة عن النجاسة

فيها من باب التروك فيعذر بنسيانها، فمن هذا الوجه يستوي الخطأ والنسيان ولا يفيد الفرق بغلبة الوجود. ولبسط ذلك موضع آخر، والغرض التنبيه على الإشكال. والتفريق بكون النسيان من قبل من له الحق والإكراه من قبل غيره فيه نظر، فإنه لم يستند إلى دليل، بل قد ورد في الشرع ما يدل على عدم اعتبار الفرق بينهما كقوله -عليه السلام-: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فغن لم تستطع فعلى جنبك))، وقال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}. ولا يدل على الفرق بين المقيد والمريض كتاب ولا سنة فلا يصح القياس عليه إلا بعد ثبوته، والمقيد قد اتقى الله ما استطاع وامتثل الأمر حسب وسعه، فكيف يقال إنه يقضي؟. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء،

والحجامة، والاحتلام)). ضعفه الترمذي وقال: غير محفوظ. قوله: (وكالمستمني بالكف على ما قالوا) ز يعني لا يفطر وفيه نظر. قال في ((الذخيرة)): هذا قول أبي بكر وأبي القاسم، وعامة المشايخ على خلافه، وهو قول الأئمة الثلاثة. قال في ((الينابيع)): وهو المختار.

قوله: (وكذا إذا احتجم، لهذا ولما روينا). يعني لا يفطر، ولا يشير بقوله: لهذا إلى قوله: لعدم المنافي، وبقوله: لما روينا إلى قوله: لقوله عليه السلام: "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام"، فأما الحديث فقد تقدم تضعيف الترمذي له وقوله: إنه حديث غير محفوظ" ولهذا عدل السروجي عن الاحتجاج به، واحتج بما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم". وأن ثابتاً البناني قال/ لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم

على عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم-؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف"، واحتج أيضاً بأحاديث آخر أخرجها بعض أهل السنن وهو قول أكثر العلماء، وذهب الإمام أحمد وإسحاق، ومحمد بن خزيمة، وعطاء، والأوزاعي، ومسروق، والحسن وابن سيرين، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن مهدي-ذكرهم السروجي وابن قدامة في المغني، إلى أن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم. واحتجوا بحديث رافع بن خديج أنه -صلي الله عليه وسلم- قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". رواه الترمذي وأحمد، وحديث ...

ثوبان، وشداد بن أوس مثله، قال أحمد: أصح حديث في هذا الباب حديث رافع بن خديج كذا قال السروجي، وقال ابن قدامة: قال أحمد: حديث شداد من أصح حديث يروي في هذا الباب، وإسناد حديث رافع إسناد جيد، وقال الترمذي، سالت البخاري قال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس وثوبان. وذكر الترمذي عن علي بن المديني أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد وصححه أحمد، وأخرجه من رواية أربعة عشر

صحابياً، وادعى كل من الفريقين أن أحاديثهم ناسخة، وإذا جهل التاريخ يكون جعل قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" ناسخاً أولى؛ لأنه إذا تعارض خبران أحدهما ناقل عن الأصل والآخر مبق على الأصل كان الناقل أولى بأن يجعل ناسخاً، لئلا يلزم تغيير الحكم مرتين، فإذا قدر احتجامه قبل نهيه عن الحجامة لم يغير الحكم إلا مرة، وإن قدر بعد ذلك لزم تغييره مرتين. ورجح السروجي المذهب من وجوه فقال: أحدها: إن أحاديثنا أصح، وجوابه: سلمنا أنه أصح لكنها غير محكمة في المعارضة، فإن حديث ابن عباس يحتمل أن النبي -صلي الله عليه وسلم- احتجم فأفطر كما روي عنه أنه:"قاء

فأفطر". فإنه كان في صوم النفل، فإن في بعض طرق الحديث "احتجم وهو محرم صائم"، وإنما كان إحرامه في أشهر الحج، فإن عمره التي اعتمرها كلها غير التي مع حجه كانت في ذي القعدة، أو هي يحتمل النفل، وأنه لما احتاج إلى الحجامة احتجم وأفطر كما كان يصبح صائماً ثم يدخل على أهله فإن وجد عندهم ما يأكل أكل بعدما يقول: "إني أصبحت صائماً"، وهل كان يقضي أم لا؟ أمر آخر، وكان ابن عباس رضي الله عنهما راوي الحديث" يعد الحجام والمحاجم فإذا غابت الشمس احتجم بالليل" كذا رواه الجوزجاني، وقد قال أحمد: إنه لم يصح عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه احتجم وهو صائم، وحديث

أنس نافي، والمثبت أولى. والثاني: أن حديثهم منسوخ، وقد تقدم أن دعوي النسخ من الجانبين لم تثبت، والثالث والرابع والخامس: ترجيح بأحاديث لم تثبت، ثم ذكر احتمالات لم تنشأ عن دليل، وهي أن إفطار الحاجم لابتلاعه الدم، والمحجوم لحصول الضعف بسبب الاحتجام، أو أنهما كانا يغتابان، أو مر بهما آخر النهار فكأنه عذرهما، أو دعا عليهما، وعزا هذه الاحتمالات إلى "الذخيرة القفافية"، وما أشار إليه المصنف من عدم المنافي ظاهر في الحاجم، أما في المحجوم ففيه نظر، فإن المنافي للصوم يكون مما يخرج كما يكون مما يدخل كدم الحيض والنفاس والاستمناء والاستقاء، فقد فرق فيما كان من قوام البدن كالمني والدم والغذاء بين خروجه وإخراجه؛ فمن احتلم لم يفطر ومن استمنى

بالمباشرة يفطر، وبغيرها فيه نزاع. والأظهر أنه يفطر كالمباشرة، ومن استقاء يفطر ومن ذرعه القيء لم يفطر فكذا من احتجم يفطر بخلاف من أخرج أو رعف وبخلاف المستحاضة، وأما الحائض والنفساء فلما كان عذرهما غير نادر وهو مضعف جعل منافياً للصوم، والحائض تجد وقتاً تصوم فيه من غير حيض،

وكذا النفساء، وأما المستحاضة فقد لا تجد، والقائلون بأن الحجامة/ [يفطر] اختلفوا في أفصد ونحوه، والأصح أن ذلك مثل الحجامة. قوله: (واختلفوا في المطر والثلج، والأصح أنه يفسد لإمكان الامتناع عنهما إذا أواه خيمة أو سقف). في تعليله نظر؛ فإنه قد لا يكون عنده خيمة ولا سقف، ولو علل بإمكان الاحتراز منه بضم فمه كان أظهر. قوله: (ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقة). في تعليلة بتبعية القليل لأسنانه نظر، وصوابه أن يقول: تابع لريقة لأنه لا يفطر بابتلاع ريقة وإذا ابتلع القليل مع ريقة لا يفطر لأنه تابع لريقة، ولا يستقيم التعليل بكونه تابعاً لأسنانه لأنه لا يبتلع أسنانه بكون القليل تابعاً لها، وإنما يبتلع ريقه. قوله: (ولا مضغها لا يفسد لأنها تتلاشى).

يعني لو مضغ سمسمه ثم ابتلعها مع ريقة لا يفطر وفيه نظر، قال السروجي: وفي "جوامع الفقه" قيل: يفسده وفي الكفارة خلاف. والمختار لا يجب. قوله: (ومن جامع عمداً في أحد السبلين فعليه القضاء استدراكاً للمصلحة الفائتة). في تعليله بقوله: استدراكاً للمصلحة الفائتة نظر، وقد اختلف العلماء في وجوب القضاء على من ترك الصوم أو الصلاة عمداً أو أفسدهما عمداً، فاتفقت الأئمة الأربعة على وجوب قضاء الصلاة، وكثير من الناس يظن الإجماع على ذلك، والخلاف فيها منقول عن جماعة من السلف والخلف، بل قال ابن حزم: وممن قال بقولنا - يعني في عدم القضاء على تارك الصلاة عمداً - عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص، وسلمان، وابن

مسعود، وعد جماعة من التابعين أيضاً، ثم قال بعد ذلك: ولا يعلم لمن ذكرنا من الصحابة مخالفاً، وأما قضاء الصوم فقال الشافعي يحتمل إن كفر أن يكون بدلاً من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، ولكل وجه، وأحب إلى أن يكفر ويصوم مع الكفارة، هذه رواية الربعي عنه. وقال الأوزاعي: إن كفر بالعتق أو بالطعام صام يوماً مكان ذلك اليوم الذي أفطر، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء يومه. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور: يقضي يوماً مكانه ويكفر، وقال ابن المنذر فيمن أفطر بالأكل والشرب: وروينا عن علي وعبد الله أنهما قالا: لا يقضيه أبداً وإن صام الدهر

كله، انتهى، وسيأتي هذا مرفوعاً إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-. ولا خلاف أنه لا يذهب القضاء عنه إثم التفويت، بل هو مستحق للعقوبة إلا أنه يعفو الله عنه، ولا خلاف أن التوبة النصوح تنفعه، ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمد تركها فلا تصح التوبة بدون قضائها أم لا تتوقف التوبة على القضاء فيحافظ على إقامة فرضه في المستقبل ويستكثر من النوافل وقد تعذر عليه استدراك ما مضي؟، وقالوا ذنب العامد أعظم من أن ينفعه القضاء كما ينفع المعذور كما قال أبو حنيفة رحمه الله عن اليمين المغموس. وقيل: العمد إنه لا تشرع فيهما الكفارة كما تشرع في اليمين المنعقدة، وقيل: الخطأ لعظم ذنبه لا للتخفيف عنه.

وقالوا: أوامر الله تعالي نوعان: مطلق ومؤقت، فالمؤقت فعله في وقته شرط في كونه عبادة مأموراً بها، لأنه إنما أمر به على هذه الصفة فلا يكون عبادة على غيرها، قالوا: فما أمر الله به في وقت إذا فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت شرعاً وإن أمكن حساً، بلا لا يمكن حساً أيضاً، فإن المأتي بعد الوقت غير المشروع؛ ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها، ولا الوقوف بعرفة بعد وقته، ولا الحج غير أشهره، وأما الصلوات فقد ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان والغلبة على العقل بالإماء يصليها إذا زال عذره. وإن كان حديث "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستقيظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق" يقتضي انتفاء الأداء والقضاء، لكن وقت القضاء على النائم بقوله: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ركها"، وبقي المجنون/ على الإطلاق كالصبي، وكذلك صوم رمضان شرع الله سبحانه قضائه بعذر المرض والسفر والحيض.

قالوا: وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أدرك ركعة في العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"، فلو كان فعلهما بعد غروب الشمس وطلوعها صحيحاً مطلقاً لكان مدركاً سواء أدرك ركعة أو أقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئاً، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم؛ إذ لا خلاف بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق الوقت عن كمال فعلها، وإنما أراد بالإدراك الصحة والاجزاء. قالوا: وهذه التي يأتي بها غير التي أمر بها قطعاً فلا يكون ممتثلاً للأمر؛ ولهذا عدل من عدل عن القول بأن القضاء يكون بالأمر الأول، وقالوا: بل بأمر جديد، ولم يرد أمر جديد بقضاء المتروك عمداً، قالوا: وقد دلَّ النص والإجماع على أن من أخر الصلاة عن وقتها عمداً أنها قد فاتته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله"، وما فات فلا سبيل إلى إدراكه، قالوا: وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-

في الحديث الذي رواه الإمام وغيره: "من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر كله وإن صامه". فإن قيل: قد ورد في حديث الإعرابي الذي جمع أهله في رمضان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له في آخر الحديث: "وصم يوماً واستغفر الله" وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض"

رواهما أهل السنن، قيل: الحديثان معلولان تكلم أهل الحديث على تضعيفهما، ولهذا لم يخرجهما أهل الصحيح، مع أن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوي بالتقيء، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهه كما تقيأ أبو بكر رضي الله عنه من كسب المتكن، وإذا كان المستقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً، وصار من جملة المرضي أن يقضون أو ملحقاً بهم، ولم يكن من

أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر. وقال أبو محمد بن حزم: فنسأل: من أوجب على العامد قضاء ما تعمد تركه من الصلاة؟ أخبرنا عن هذه الصلاة أهي [ال] صلاة التي أمر الله بها، أم هي غيرها؟ فإن قالوا: هي هي! قلنا لهم: فالعامد لتركها ليس عاصياً لله لأنه قد فعل ما أمره الله به ولا إثم عليه على قولكم! وهذا لا يقوله مسلمّ! وإن قوال: ليس هي التي أمر الله بها، قلنا: صدقتم، وفي هذا كفاية إذ أقروا أنهم أمروا بما لم يأمر به الله، وقد أطنب أبو عمر بن عبد البر في وجوب القضاء، ولولا خوف الإطالة لسقت كلامه وذكرت الجواب عنه، وإنما القصد في هذا المختصر الإشارة إلى ما فيه إشكال مما ذكره صاحب الهداية، ولما قال هنا: استدراكاً للمصلحة نبهت على أن هذه المصلحة في استدراكها نظر قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في رمضان فعليه ما

على المظاهر"، وكلمة "من" تنتظم الذكور والإناث). هذا الحديث منكر. قال السروجي رحمه الله: ذكر شمس الدين سبط ابن الجوزي في كتابه المسمي بنهاية الصنائع عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر" وقال: رواه البخاري ومسلم، قال السروجي: قلت: لا أصل له فضلاً عن أن يخرجه الشيخان.

فصل

فصل قوله: (في حديث الأعرابي "يجزئك ولا يجزئ أحداً بعدك"). ليس في حديث الأعرابي هذه الزيادة وكذا قوله فيه: "فأمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن يؤتي بفرق من تمر" ويروي: "بعرق فيه خمسة عشر صاعاً"، ليس فيه: "فأمر أن يؤتي". والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله! قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل/ تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين

مسكيناً؟ قال: لا، قال: أجلس قال: فمكث النبي -صلي الله عليه وسلم-، فبينا نحن على ذلك أتي النبي -صلي الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر- والعرق المكتل الضخم- قال: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلي أفقر مني يا رسول الله؟! فو الله ما بين لابتيها - يريد الحرتين، أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي-صلي الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك" رواه الجماعة. وكأن المصنف اشتبه عليه هذا الحديث بحديث البراء قال: ذبح أبو برده ابن نيار قبل الصلاة فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "أبدلها"، فقال: يا رسول الله، ليس

عندي إلا جذعة، فقال: "أذبحها ولن يجزئ عن أحد بعدك"، وفي رواية "جذعة من المعز" متفق عليه. قوله: (وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله يخير). يعني في خصال الكفارة، وقد وهم المصنف في ذلك، وإنما التخيير رواية عن أحمد ومالك، وظاهر مذهبهما الترتيب.

قوله: (وعلى مالك في نفي التتابع). قال السروجي: وكذا هذا ليس مذهب مالك، ويجزئ في الكفارة الخصال الثلاث مرتبة، والشهران متتابعان، ذكره ابن المنذر في "الإشراف" والقرطبي في "شرح الموطأ" وغيرهما، وفي "الذخيرة" المالكية: يجب صوم شهرين متتابعين عند مالك. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الفطر مما دخل"). حكاه البيهقي عن ابن عباس من قوله، وقال: وروي أيضاً عن علي بن أبي طالب من قوله، وروي عن النبي -صلي الله عليه وسلم- ولم يثبت، انتهي، ولم يرد نص

بالإفطار بالداخل من غير الحلق إلى موضع الطعام. ولهذا اختلف العلماء في الإفطار بالكحل الواصل إلى الحلق من العين لأنه وصل من غير منفذ، وبالواصل من دواء الجائفة والأمة، وبالواصل من الأذن، ومن القبل والدبر، وتظهر قوة عدم الإفطار بذلك

كله لعدم النص، ولعدم مساواته المنصوص عليه من كل وجه. قوله: (وقد ندب النبي-صلي الله عليه وسلم- إلى الاكتحال يوم عاشوراء). لم يصح عن النبي -صلي الله عليه وسلم- في يوم عاشوراء غير صومه، وإنما الرواض لما ابتدعوا إقامة المأتم وإظهار الحزن يوم عاشوراء لكون الحسين رضي الله عنه قتل فيه ابتدع جهله أهل السنة إظهار السرور واتخاذ الأطعمة والاكتحال ونحو ذلك، ورووا أحاديث موضوعة في الاكتحال، وفي التوسعة علي العيال فيه.

فصل

فصل قوله: (لهما أن النذر سبب، فيظهر الوجوب في حق الخلف، وفي هذه المسألة السبب إدراك العدة فيقدر بقدر ما أدرك). قول محمد رحمه الله هو الراجح؛ لأنه لا يلزم بالنذر إلا ما يقدر على أدائه، فكأنه قيده بقوله: إن عشت، ولا قدرة بدون إدراك العدة، والقول بأن سبب يظهر حكمه في حق الخلف، يكفي في جوابه المنع، وقوله: وفي هذه المسألة السبب إدراك العدة، حقه أن يزيد: إن اختار التأخير.

قوله: (والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً كما يطعم في الكفارات، والأصل فيه قوله تعالي: {وعلى الذين يطيقونه فدية} قيل: معناه لا يطيقونه). لا خلاف في إباحة الإفطار للشيخ والعجوز العاجزين عن الصوم، ولكن اختلف أهل العلم في وجوب الفدية عليهما بالإطعام عن كل يوم مسكيناً، فروي عن علي وابن عباس وغيرهما وجوب الفدية، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، ومذهب

مالك وغيره وهو أحد قولي الشافعي عدم وجود الفدية، واختاره ابن المنذر والطحاوي وغيرهما. قال السروجي: ودليله قوي، فإن أصحابنا أوجبوا الفدية على الشيخ الهرم الذي لا يستطيع الصوم أصلاً، فمن لا يجب عليه الصوم أصلاً كيف يكون له بدل؟ وأقوي من هذا أن المسافر أبيح له الفطر/ مع القدرة على الصوم للمشقة فلو مات على حالة لا يجب عليه الفدية، والذي لا قدرة له على الصوم أصلاً أولى بعدم وجوب الفدية فهذا واضح كما تري. انتهى

وقوله: (والأصل فيه قوله تعالي: {وعلى الذين يطيقونه} قيل: معناه لا يطيقونه). هذا التقدير على قوله من قال من النحاة بتقدير "لا" في مثل قوله تعالي: {يبين الله لكم أن تضلوا} والمبرد وغيره يأبون ذلك ويقدرون فيه: كراهة أن تضلوا، وقولهم أولى؛ لأن تقدير العامل المناسب ألوى من تقدير حرف النفي، مع أنه ليس قوله: {وعلي الذين يطيقون} نظير قوله: {يبين الله لكم أن تضلوا} لأن هنا قرينة تدل على المقدر وهي قوله: {يبين الله لكم} وليس في قوله: {وعلى الذين يطيقونه} ما يدل عليه ولا يجوز في مثله تقدير ما لا يدل عليه من اللفظ دليل، وإلا لم يثق أحد بنص مثبت لاحتمال أن تكون "لا" مقدرة فيه، وقيل: معناه كانوا يطيقونه - أي في حال الشباب - فعجزوا عنه بعد الكبر، والآخر ظاهر الضعف. وأقوي منه ما روي البخاري في صحيحة عن عطاء أنه سمع ابن عباس

يقرأ {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما بمنسوخة، هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً" مع أن هذه القراءة يمكن أن ترد إلى معني القراءة الأخرى، فإن معني {يطوقونه} يكلفونه، وأكثر السف على أن الآية منسوخة، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "لما نزلت هذه الآية" {وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} " متفق

عليه، وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عمر، وأخرج أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي ليل عن أصحاب محمد أنهم قالوا ذلك، وحكي البغوي عن قتادة أنها خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم لكنه يشق عليه، رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ، وحكي أيضاً عن الحسن أن هذا في المريض الذي به ما يقع اسم المرض وهو مستطع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفكر ويفدي ثم نسخ، وإذا عرف فالمسألة مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم.

ومن ادعى النسخ معه زيادة غثبات، كيف وهو قول جمهور الصحابة؟ ولعل قول ابن عباس رضي الله عنهما عن اجتهاد، وقول غيره عن نقل وهو الظاهر، فإن النسخ كان قبل ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصي به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكيناً) إلى قوله: (ولا يصوم عنه الولي لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد"). ورد في الإطعام حديث ابن عباس الذي رواه النسائي وأبو داود وحديث ابن عمر رواه ابن ماجه والنسائي، أيضاً وكلاهما

معلول، وقال النسائي عن حديث ابن عمر: الصحيح أنه موقوف علي ابن عمر، انتهي، وقد حكي البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء، فقال: صلي عنها"، وقال ابن عباس نحوه، وقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" في حديث ابن عباس المذكور، وفي "الموطأ" أن مالكاً بلغه ان ابن عمر كان يسأل: "هل يصوم أحد عن أحد، أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد"، وفي "الصحيحين" وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-

"من مات وعليه صوم، صام عنه وليه"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليه صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان علي أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي/ عن أمك" وفي رواية قال: "جاء رجل إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ قال: نعم: قال: فدين لاله أحق أن يقضي"، وفي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: "بينا أنا جالس عند رسول الله -صلي الله عليه وسلم- إذا أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها مات، فقالك وجب أجرك

وردها عليك الميراث، فقالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحجَّ قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها". وقد قال أحمد وغيره: يصوم الولي، لكن خصَّه بالمنذور، وقال طاوس، وقتادة والحسن، والزهري في رواية، وأبو ثور، وداود بن علي: يصوم عنه وليه ولم يخصوه بالنذر، وهو قول الشافعي القديم، قال النووي: وهو المختار، ويظهر قوة هذا القول لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" وهذا الحديث يخص عموم قوله: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" إن صحَّ، ولو ثبت أنه سببه السؤال عن صوم النذر فالعبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقوله: (فصار كالشيخ الفاني). في ثبوت الفدية في حق الشيخ الفاني نظر كما تقدم فلا يصح القياس عليه إلا بعد ثبوته. وقوله: (والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ) وفيه نظر؛ فإن حكم الفدية في الصوم تقدَّم الكلام عليه، وقوله عليه السلام: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" متفق عليه، يقتضي أن لا يقضى عنه ولا يطعم عنه لها لقوله: "لا كفارة لها إلا ذلك"، وقد تقدم ذكر ما حكاه البخاري عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم في أمر الصلاة، وحكى الطحاوي عن الأوزاعي: "إن مات وعليه صلاة يقضيها عنه وليه بعد موته في النذر" وهي رواية .....

حرب عن أحمد ورجحها بعض أصحابه، والذين قالوا: إن الولي يقضي عن الميت الصوم أو الصلاة اختلفوا، فذهب أهل الظاهر إلى وجوب القضاء على الولي، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يستحب له القضاء عنه، ويجوز أن يصوم عنده عن الميت غير وليه، لكن في اشتراط إذن الولي روايتان عنه، وبقيه التفريع على ذلك معروف في كتبهم. ويرد ما فهمه أهل الظاهر من الوجوب من قوله -صلي الله عليه وسلم-: "فدين الله أحق أن يقضي"، أن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه، ولكن يقضي من تركته وإن لم يكن له تركة وتبرع الوارث بقضائه قبل منه، فكذلك إذا تبرع بغير دين العباد يقبل منه ويكون أولى وأحق، والله أعلم. فتلخص مما تقدم أن في قضاء الصوم المنذور والمفروض والصلاة المنذورة

عن الميت خلافاً بين العلماء، ولا خلاف بينهم في مشروعية قضاء الحج والزكاة وإن كان أبو حنيفة يشترط الإيصاء بهما ويعتبرهما من الثلث لا في كل التركة، ولا خلاف بينهم في عدم مشروعية قضاء الصلاة الفائتة عنهم، وإنما اختلفوا في مشروعية الإطعام عنها، ووجه ذلك - والله أعلم- أن مشروعية القضاء رحمة من الله وإحسان خص به أصحاب الأعذار لأنهم يستأهلون بذلك بخلاف العاصي المتمرد، وذلك لا يتأتي في حق تارك الصلاة المفروضة فإنه إن تركها عمداً فلا شك في عصيانه ولهذا كان الراجح عدم شرع القضاء في حق حالة الحياة كما تقدم، وإن كان تركها لنوم أو نسيان فإنه يجب عليه الصلاة إذا ذكرها، فإن أخرها بعد الذكر من غير عذر

صار بمنزلة تارك الصلاة عن وقتها من غير عذر، وإن أخرها لعذر ثم مات قبل زوال العذر فهذا لم يجب عليه فعلها قبل موته فلا يجب بعد موته. أما الصوم، فالمريض والمسافر والحائض يشرع لهم القضاء على التراخي فإذا ماتوا قبل القضاء كان لهم عذر يستأهلون، ولأجله شرع القضاء عنهم، وكذلك الزكاة والحج لأنه متي أتي به كان إيتاء بالواجب فكان لهم عذر من / هذا الوجه، وإن كان التأخير في ذلك كله لا يجوز إلا علي وجه لا يؤدي إلى التفويت. قوله: (ألا تري أنه لو كان مقيماً في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحاً لجانب الإقامة). مذهب الإمام أحمد وإسحاق والشعبي أنه يفطر، وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقالوا: إن حدوث السفر كحدوث المرض. وترجيح جانب الإقامة ينبغي أن يفيد الأفضلية دون الوجوب، لئلا يلزم منه وجوب الصوم على من ثبت له حكم السفر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في رمضان إلى حنين، والناس مختلفون فصائم

ومفطر، فلما استوي على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته أو راحته، ثم نظر الناس، فقال المفطرون للصوام أو أفطروا" رواه البخاري. وعن محمد بن كعب قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، ودعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة ثم ركب" أخرجه الترمذي. وعن منصور الكلبي: "أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق إلي قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله

لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن إني أراه: إن قوماص رغبوا عن هدي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك" رواه أبو داود، ولم يرد ما يخالف هذا حتى يرجح جانب الإقامة. قوله: (ولنا أن السبب قد وجد وهو الشهر والأهلية بالذمة، وفي الوجوب فائدة وهو صيرورته مطلوباً على وجه لا يحرج في أدائه، بخلاف المستوعب لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة، وتمامه في "الخلافيات").

كل هذا يمكن أن يقال مثله في حق الكافر والصبي ولم يفرقوا في الخلافيات بينهم بفرق مسلم، بل المجنون أولى بعدم القضاء من الكافر والصبي، لأن الكافر يعاقب على تركه في الآخرة إن لم يسلم، والصبي يؤمر بالصوم تخلقاً فكانا من أهل الصوم في الجملة بخلاف المجنون. قوله: (وفي هبة النصاب - يعني من الفقير - وجدت به القرية على ما مر في الزكاة). لم يتقدم في الزكاة هبة النصاب من الفقير، وإنما تقدم قوله: ومن تصدق بالنصاب ولم ينوها سقطت، وهو مشكل على من يجعلها متعلقة بالذمة، ولكن أشكل منه إذا وهب النصاب من الفقير بغير نية التقرب إلى الله كيف يقال: إن وجدت نية القربة ولم توجد؟ والأعمال بالنيات. قوله: (ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت أصلاً لا خلفاً).

يعني الإمساك للمسافر إذا قدم، أو الحائض إذا طهرت في أثناء النهار، وهو مشكل لأنه لم يرد به نص، وقياسه على ما ورد به النص في يوم عاشوراء، وهو أنه عليه السلام: "أمر رجلاً من أسلم: أن أذن في الناس، من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء" متفق عليه، لا يقوي؛ لأنه لم يرد هناك أمر لمن كان أكل بالقضاء، فكان ذلك الإمساك هو الواجب، وهنا الواجب صوم يوم آخر بالنص والإجماع في حق من كان أكل، ومن لم يكن أكل ونوى الصوم قبل نصف النهار فيه خلاف معروف؛ فيقوي القول باستحباب الإمساك لا بوجوبه والحالة هذه. قوله: (وفيه قال عمر رضي الله عنه: "ما تجانفنا لإثم، وقضاء يوم علينا يسير").

يعني في الإفطار على ظن فاسد في غروب الشمس. [عن خالد بن] أسلم: "أن عمر رضي الله عنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم، ورأي أنه قد أمسي وغابت الشمس، فجاء رجل فقال: يأ أمير المؤمنين طلعت الشمس! فقال عرم: الخطب/ يسير وقد اجتهدنا" أخرجه مالك في "الموطأ" فإن قيل: قال مالك رحمه الله: يريد بقوله: "الخطب يسير" القضاء فيما نري، قيل: من مذهبه الفكر بالخطأ والنسيان، فحمل كلام عمر علي ذلك اجتهاداً منه، ولهذا قال: فيما نري، وذكر ابن أبي شيبة في مصنفة: "وقضاء يوم يسير"، ولم يثبت هذه الزيادة، وروي البيهقي عن

عمر رضي الله عنه:"لا نبالي والله ونقضي يوماً مكانه". وروي عنه: "والله لا نقضيه وما تجانفنا لإثم" وروي ابن المنذر عن عمر القضاء وعدمه أيضاً، وفي "صحيح البخاري" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا يوماً من رمضان في غيم في عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ثم طلعت الشمس" وهذا يدل على شيئين: أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتقين الغروب فإنهم لم يفعلوا ذلك، ولم يأمرهم به النبي-صلي الله عليه وسلم-، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم، وقد روي البيهقي بالإسناد الصحيح عن عمرو بن ميمون وهو من كبار التابعين قال: "كان أصحاب محمد رضي الله عنهم أعجل الناس إفطاراً وأبطؤهم

سحوراً". والثاني: أنه لا يجب القضاء فإن النبي -صلي الله عليه وسلم- لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك ولنقل كما نقل فطرهم، فإن قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء، قيل: هشام قال ذلك برأيه لم يرو ذلك في الحديث ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم أن معمراً روي عنه قال: سمعت هشاماً قال: لا أدري أقضوا أم لا، ذكر هذا وهذا عنه البخاري.

والنص قد ورد في حق الناسي، والفرق بينه وبين المخطئ محل نظر، وقد ذكر كثير من الأصحاب في تعليل عدم الإفطار بالأكل ناسياً أن الصوم عبارة عن الإمساك مقروناً بالنية وضده الأكل مع النية ولم يوجد، ولأنه لا يؤمن وقوع مثله في القضاء فيؤدي إلى الحرج المنفي بالكتاب والسنة، وهذا التعليل يشمل الخطأ والنسيان. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من أخلاق المرسلين؛ تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والسواك").

أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر ولم يذكر السواك وإنما ذكر بدله وضع اليمني على اليسري في الصلاة، ولفظه أنه عليه السلام قال: "إنا معاشر الأنبياء أمرنا بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ووضع اليمني على اليسري في الصلاة"، قال البيهقي: صحيح، عن عائشة قالت: "ثلاث من النبوة؛ تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمني على اليسرى في الصلاة"، وروي ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء موقوفاً عليه نحوه. والأدلة على تعجيل الفطر وتأخير السحور ثابتة في "الصحيحين" وغيرهما، وكون ذلك من السنة.

وأما كونه سنة الأنبياء ففيه نظر؛ فإن ثبت في "الصحيح" أنهم في ابتداء الإسلام كانوا لا يأكلون ولا يجامعون بعد النوم حتى نزل قوله تعالي: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، وقال -صلي الله عليه وسلم-: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكله السحر"، و"كان النبي -صلي الله عليه وسلم- يعجبه متابعة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء" فالظاهر أنه لم يكن السحور

مشروعاً قبل الإسلام، أو كان مشروعاً لبعض الأنبياء دون بعض. قوله: (إلا أنه إذا شك في الفجر، ومعناه، تساوي الظنين). في عبارته شيء وهو أن الظن رجحان الاعتقاد والراجح يقابله المرجوح، فلا يتصور أن يتساوي الرجحان، ويستعمل الظن في اليقين أيضاً، ولا يتصور تقابل اليقينيين. ومراده تساوي الاعتقادين أو الأمارتين ونحو ذلك. قوله: (ومن أكل في رمضان ناسياً فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك

متعمداً عليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الاشتباه استند إلى القياس فتحقق الشبهة)، إلى أن قال: (لو احتجم فظن أن ذلك يفطر ثم أكل بعد ذلك متعمدا ًعليه القضاء والكفارة، لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي في حقه). هذا مبني على أن الإفطار بالحجامة على خلاف القياس، وقد تقدم أنه على وفق القياس الصحيح/؛ لأن إخراج الدم بمنزله إخراج الطعام بالاستقاء، وبمنزلة إخراج المني بالمباشرة، وبغيرها على الصحيح، وبمنزلة دم الحيض والنفاس، فهذا القياس إن لم يكن أعلى من قياس الناس على العامد فلا يكون دونه، كيف وهو مؤيد بالنص الدال على صحته وفساد ذلك القياس. قوله: (ولو بلغه الحديث واعتمده (يعني حديث "أفطر الحاجم

والمحجوم) (فكذلك عند محمد رحمة الله). يعني أنه لا كفارة عليه إذا احتجم ثم أكل على ظن أن الحجامة فطرته معتمداً على الحديث. (لأن قول الرسول لا ينزل عن قول المفتي). في العبارة مسامحة، بل هي خطأ والأمر أعظم من ذلك! (وعن أبي يوسف خلاف ذلك) - يعني عليه الكفارة- (لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث). في تعليه نظر فإن المسألة إذا كانت مسألة نزاع بين العلماء، وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به الفريقين فأخذ به كيف يقال في هذا إنه غير معذور؟ فإن قيل: هو منسوخ، فقد تقدم أن المنسوخ ما يظن أنه يعارضه. ومن سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا تعمل به حتى تعرضه

على رأي فلان دون رأي فلان، وإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر، وإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما يسمعه من الحديث. قال أبو عمر بن عبد البر لما ذكر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا تستقبلوا القبلة بغائظ ولا بول ولا تستدبروها): قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله. وهكذا يجب على كل من بلغه شيء يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه، انتهى. وقال الشافعي رحمة الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها يقول أحد. وأيضاً فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة، وقد جمعه ابن الجوزي في ورقات وقال: إنه أفرد فيها قدر ما صح نسخة أو احتمل، وأعرض عما لا وجه لنسخه ولا احتمال، وقال: فمن سمع بخبر يدعى عليه النسخ وليس فيها فهاتيك دعوى. ثم قال: وقد

تدبرته فإذا هو أحد وعشرون حديثاً. وذكرها. وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي، كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ؟ ولو كانت سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطاً في العمل بها وهذا من أبطل الباطل. وقد أقام الله الحجة برسوله دون آحاد الأمة. ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه، ويجوز عليه التناقض والاختلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال. وهذا كله فيمن له نوع أهلية؛ أما إذا لم يكن له أهلية قط ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتب الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالجواز. وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث [فكما لو لم يفهم] فتوى المفتي فيسأل من يعرفه

معناه كما يسأل منم يعرفه جواب المفتي. قوله: ([وإذا عرف تأويله تجب الكفارة لانتفاء الشبهة، وقول الأوزاعي لا يورث الشبهة لمخالفته القياس]). [تقدم أن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم عند الإمام أحمد، وإسحاق ابن راهويه، ومحمد بن خزيمة، وعطاء، والأوزاعي، ومسروق، والحسن، وابن سيرين، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن مهدي. وتقدم ذكر ما استدلوا به من السنة، والقياس الصحيح، فكيف يكون قول هؤلاء] مع هذا الدليل لا يورث الشبهة وهو موافق للقياس غير مخالف له كما تقدم؟! قوله: (وإذا جومعت النائمة أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة، وقال/ زفر والشافعي: لا قضاء عليهما اعتباراً بالناسي، والعذر أبلغ لعدم القصد. ولنا أن النسيان يغلب وجوده وهذا نادر). قولهما رواية عن أبي حنيفة ذكرها في (خزانة الأكمل) وهو الظاهر لأن

الشارع لم يعتبر فوت الركن من غير قصد كما في الناسي، وهذا أولى منه. ورده بأن النسيان يغلب وجوده وهذا نادر فيه نظر؛ فإن النادر إذا وجد صار كالغالب فيأخذ حكمه.

فصل فيما يوجبه على نفسه

فصل فيما يوجبه على نفسه قوله: (إذا قال: لله علي صوم يوم النحر أفطر وقضى فهذا النذر صحيح عندنا خلافاً للشافعي وزفر رحمهما الله، هما يقولان: نذر بما هو معصية لورود النهي عن هذه الأيام. ولنا أنه صوم مشروع والنهي لغيره، وهو ترك إجابة دعوة الله فيصخ تذره لكنه يفطر احترازاً عن المعصية المجاورة ثم يقضي إسقاطاً للواجب، وإن صام فيه يخرج عن العهدة؛ لأنه أداه كما التزامـ[ــه]). عدم صحة النذر بصوم يومي العيدين مذهب مالك وأحمد أيضاً، وهو رواية أبي يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة، وروى الحسن عن أبي حنيفة انه إن نذر صوم يوم النحر لا يصح، وإن نذر صوم غد وهو يوم النحر صح، ذكره في المبسوط). والمسألة مشهورة في كتب الفرع والأصول، وهي

مبنية على أن النهي لا ينافي المشروعية عند الحنفية. والفرق بين النهي عن الشيء لمعنى في عينه والنهي عنه في غيره. وهنا النهي عن صوم يوم العيد لمعنى في غيره، وهو ترك إجابة دعوة الله فإنه يوم ضيافة. وهذا مقرر في موضوعه. ولكن لم منع من صومه ومنع صحة نذر صومه ترجيح من وجوه زائدة على النهي عن صومه؛ منها: أنه ورد النهي بصبغة النفي في بعض الطرق كما في راوية البخاري، وأحمد: (لا صوم في يومين)، ولمسلم: (لا يصلح الصيام في يومين)، وهذا أكد في إخراج هذين اليومين عن

محلية الصيام؛ فهذان اليومان لا يصلحان للصوم كما أن الليل لا يصلح له. ومنها: ما رواه البخاري وأحمد وأهل السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصيه فلا يف به) وفي رواية: (فليطعه ولا يعصه). ولا خلاف في أن صوم يوم العيد معصية، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- (لا يف به). والذي دل عليه النص: أن كل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر؛ كما أن كل ما جاز بذله بدون الاشتراط بلا كراهة لزم بالاشتراط، وكل

معصية لا يجوز فعلها قبل النذر لا يلزم بالنذر، وكذلك الشروط. والتفريق بين ما لله من جنس واجب وبين غيره، وبين ما هو معصية لمعنى في نفسه، وبين ما هو معصية لمعنى في غيره في نظر. ومنها: أن الأكل والشرب والجماع وإن كان من باب قضاء الشهوة فقد يكون عبادة كما قال -صلى الله عليه وسلم- لمن قال: أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟. (أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ فكذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر) أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، ولهذا كان النكاح واجباً عند التوقان، سنة بدونه، وهو أفضل من التخلي لنوافل العبادات على

الصحيح. والأكل مراتب؛ فرض وهو قدر ما يدفع به الهلاك، ومستحب وهو الزيادة للتقوى على العبادات. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقال عليه السلام لعبد الله بن عمرو: (صم وأفطر، ونم، وقم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وأن لزوجك عليك حفًا)، وأخبره في هذا الحديث (أن أفضل الصيام صيام داود؛ كان يصوم يماً ويفطر يوماً) قال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال -صلى الله عليه وسلم- (لا أفضل من ذلك). وإذا عرف ذلك كان صوم يوم العيد كفطر يوم من رمضان. فإن قيل: فقد توقف ابن عمر رضي الله عنهما في جواب من سأله عن صوم يوم النحر وقد نذره وقال/: (أمر الله بوفاء النذر، ونهينا أن نصوم يوم النحر) فلو كان صومه معصية لم يتوقف. قيل: إنما توقف لأن الناذر لم يعين

صوم يوم النحر، ولفظ الحديث (أنه سأله رجل فقال: نذرت أن أصوم كل ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فوافقت هذا اليوم يوم النحر. قال: أمر الله بوفاء النذر، ونهينا أن نصوم يوم النحر. فأعاد عليه، فقال مثله لا يزيد عليه) متفق عليه. وهذه الصورة قد تقدم أن الحسن روى عن أبي حنيفة أنه فرق بين نظيرها وبين النذر بصوم النحر. والفرق ظاهر مع أنه قد خرج البخاري عنه رضي الله عنه: (أنه أجاب في رجل نذر أن لا يأتي عليه يوم إلا صامه فوافق يوم الأضحى أو الفطر فقال:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ {لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ولا نرى صيامهما). قوله: (وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا في هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل وشرب وبعال).

أورد هذا الحديث مستدلاً به على النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق، وفيه نظر من وجوه: أحدها: أن هذا اللفظ لم يرد في كتب الحديث. الثاني: أنه ورد في أيام التشويق (أنها أيام أكل وشرب وذكر الله) أخرجه مسلم. وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)، وليس فيه نهي، ولهذا ذكر

فيه يوم عرفة مع أن الحديث فيه كلام، ولم يرد هذا اللفظ في يوم الفطر. الثالث: أن قوله: (وبعال) قال بن قدامة في المغني: إن ذكر البعال في راوية الواقدي وهو ضعيف. انتهى. والأحاديث الصحيحة إنما فيها أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله، والأحاديث الواردة في النهي عن صوم يومي العيدين تكاد تبلغ حد التواتر إلا أنه ليس فيها هذا اللفظ.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: (لا اعتكاف إلا بالصوم). هذا الحديث ضعفه الدارقطني وغيره، ولكن قد ورد موقوفًا على علي وعبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وذكر ذلك ابن أبي شيبة في مصنفة، وذكر في المغني ....................

ابن عمر مكان علي. ولم يعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وهو صائم. قوله: (ويصلي قبلها أربعاً، وفي رواية ستًا، والأربع سنة، وركعتان تحية المسجد). يعني قبل الجمعة. ولم يذكر سنة الجمعة في باب الجمعة، ولا في باب

النوافل، وإنما ذكرها هنا استطراداً. والقول بأن للجمعة سنة راتبه قبلها فيه نظر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس على المنبر إذا زالت الشمس يوم الجمعة، ويؤذن المؤذن بين يديه، فإذا فرغ المؤذن من الأذان قام النبي - صلى الله عليه وسلم- على المنبر وخطب، وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان بعده. فلما تولى عثمان رضي الله عنه، وكثر المسلمون أحدث الأذان الأول على ما هو اليوم، وهي سنة عثمان رضي الله عنه. وعمل بها علي رضي الله عنه، ثم الأئمة بعدهما. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ([عليكم] بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). والمراد أنه لم يكن يصلي قبل الجمعة سنة. وما ورد من الأمر بالركعتين فتلك تحية المسجد، وليس قبل الجمعة سنة مؤقتة مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله، وهو لم يسن في ذلك شيئاً لا بقوله ولا بفعله. ومن قال من العلماء أن قبلها سنة راتبة، منهم من جعلها ركعتين كما قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، ومنهم من جعلها أربعًا كما هو مذهب أبي حنيفة وقول طائفة من

من أصحاب أحمد قالوا: لأن الجمعة ظهر مقصورة فتكون سنتها سنة الظهر. وفيه نظر لوجهين. أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق العلماء. وإذا كانت الظهر تشارك الجمعة في حكم وتفارقها في حكم لم يكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل، فليس جعل سنة الجمعة من موارد الاشتراك/ بأولى من جعلها من موارد الافتراق. الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصلي في سفره سنة للظهر المقصورة لا قبلها ولا بعدها؛ لأن السبب المقتضي لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: (لو كنت مسبحًا لأتممت) أي لو استحب للمسافر أن يصلي أربعًا لكان

صلاة الظهر أربعًا أولى من أن يصلي ركعتين فرضًا، وركعتين سنة لأن التقرب إلى الله ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في السفر ركعتي الفجر والوتر. وبتوجه أن يقال: إن هذا الأذان لما سنه عثمان، واتفق المسلمون عليه صار أذانًا شرعيًا، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الآذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة كالصلاة قبل صلاة العصر والمغرب والعشاء لقوله عليه السلام: (بين كل آذانين صلاة، بين كل أذنين صلاة) قال بعد الثالثة: (لمن شاء)، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه. قوله: (وبعد أربعًا أو ستًا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة). فيه نظر، وهو أن الأفضل في النوافل كلها المنزل، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-

يصلي سنة الجمعة التي بعدها في منزله كما في حديث ابن عمر المتفق عليه. والمعتكف [في] المسجد الذي يعتكف فيه هو منزله في مدة اعتكافه، فيكون رجوعه وصلاته في مسجده أولى من وجهين: من وجه أنه معتكفه، ومن وجه أنه منزله. قوله: (فإن جامع ليلًا أو نهارًا عامدًا أو ناسيًا بطل اعتكافه). في بطلانه الاعتكاف بالجماع ناسيًا نظر؛ فإن عدم إبطال اعتكافه أولى من عدم إبطال الصوم، لأن الكف عنه ركن الصوم، ومحظور الاعتكاف، فإذا لم يؤثر في الركن؛ فالمحظور أولى. فإن قيل: حالة المعتكف مذكرة فلم يعذر لكونه في المسجد، قيل: خرج من المسجد فدخل منزله لحاجة الإنسان فنسي فواقع أهله، فليس معه وهو منزله حالة مذكرة.

قال السروجي: وعن ابن سماعة أنه ذكر عن بعض أصحابنا أن جماع الناسي لا يبطل الاعتكاف؛ لأنه فرع الصوم. انتهى. وعند الشافعي إن كان ناسياً لاعتكافه أو جاهلاً لتحريمه لم يبطل. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: (جنبوا مساجدكم صبيانكم) إلى أن قال: (وبيعكم وشراءكم). الحديث المشار إليه خرجه ابن ماجه، وضعفه النووي وغيره.

كتاب الحج

كتاب الحج قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما عبدٍ حجّ عشر حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام، وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام"). هذا الحديث منقول بالمعنى، وفيه زيادة تأكيد، وهي قوله: "ولو عشر حجج" ليست في الحديث. وأصله عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه قال: "أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحجّ حجة أخرى". وفي صحة رفعه كلام. وعن محمد بن كعب القرظي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما صبيّ

حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحجّ، وأيما رجل مملوك حجّ به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أعتق فعليه الحج" ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله هكذا مرسلاً. قوله: (والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادًا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة رحمه الله خلافًا لهما وقد مرّ في كتاب الصلاة). لم يمر في كتاب الصلاة سوى قوله: (ولا تجب الجمعة على مسافر، ولا امرأة، ولا مريض، ولا أعمى، ولا عبد، لأن المسافر يحرج في الحضور، وكذا المريض والأعمى). ولم يمرّ ذكر خلاف الصاحبين، ولا علّل بسوى

الحرج، وقد تقدم الكلام هناك على ما في كلامهم من الإشكال. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الأعمى والمقعد ومقطوع الرجلين عليهم الحج بأنفسهم. وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في وجوب الحج على الأعمى روايتان، فرقا على إحدى الروايتين بين الجمعة والحج، وقالا: وجود القائد إلى الجمعة ليس بنادر بل هو غالب، فيلزمه الجمعة، ولا كذلك القائد إلى الحجّ نقله السغناقيّ، وعزاه إلى "الذخيرة" و"فتاوى قاضي خان" والفرق قوي. وهو خلاف قول أبي حنيفة رحمه الله في الموضعين على رواية الحسن عنه. قوله: (وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره). فيه نظر؛ فإنه لا يعرف عن الشارع أنه أمر بتقديم حق العبد على حقه، بل تقدم قوله -------صلى الله عليه وسلم-------: "فدين الله أحق أن يقضيه". وإنما قالوا: إن حق العبد مقدم

على حق الله بالاستنباط من أحكام متفق عليها. ففي إطلاق قوله (بأمره) نظر. قوله: (ولابد من أمن الطريق لأن الاستطاعة لا تثبت دونه؛ ثم قيل: هو شرط الوجوب حتى لا يجب عليه الإيصاء، وهو مروي عن أبي حنيفة، وقيل: شرط الأداء دون الوجوب لأنه عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير).

التفريق بين الوجوب ووجوب الأداء لا يقوى. قال أبو المعين النسفي من الأصحاب: إن التفريق بين الوجوب ووجوب الأداء بطريقة بعض مشايخنا وهي واهية [بمرة] بل هي فاسدة، ثم قرر ذلك، ثم ذكر أن هذا الكلام بناء على مذهب أبي الهذيل العلاف من شياطين القدرية، وهو أن الصوم والحج ليست بحركات ولا سكون، وهي معان تقارن الحركات والسكنات. وحكى المذهب عنه أبو القاسم الكعبي. وهو مذهب [لم] يقدر أبو الهذيل على تقريره فضلاً عن تحقيقه. ثم بحث ثم قال: وقولهم:

إن في حق النائم والمغمى عليه أصل الوجوب ثابت، ووجوب الأداء منتف غير صحيح لما بينا أن الأداء هو نفس الصوم والصلاة. والقول بوجوب الشيء مع انتفاء وجوبه محال؛ فإذن لا ثم وجوب أصل الصوم ولا الصلاة عليه، بل الوجوب عليه عند زوال الإغماء بخطاب مبتدأ من قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر} الآية. والمغمى عليه المريض، ومن قوله -------صلى الله عليه وسلم-------: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها". والإغماء مثل النوم. وقولهم: هذا يسمى قضاءً، ولو كان ابتداء فرض لزمه، لكان أداء. قلنا: لا فرق بين الأداء والقضاء بل هما لفظان متواليان على معنى واحد. يقال: قضيت الدين وأديته، وقضيت الصلاة وأديتها، على أن المغايرة بينهما ثبتت باصطلاح الفقهاء دون اقتضاء اللغة، ولولا خوف الإطالة لذكرت كلامه كله؛ فإنه قرر إبطال الفرق بين الوجوب، ووجوب الأداء أحسن تقرير ذكر علاء الدين في شرح البزدوي.

ولم يرد عليه بما يساوي سماعه؛ فإذا ثبت ذلك فالراجح عدم وجوب الإيصاء. والله أعلم. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحجن امرأة إلا ومعها [ذو] محرم"). هذا الحديث ضعيف أخرجه الدارقطني. وهو حجية عليه؛ لأنه قال: (ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم يحج بها أو زوج، ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين مكة ثلاثة أيام). وليس في الحديث ذكر المدة ولا ذكر الزوج. فالحديث حجة عليه من وجهين. ولو استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم" لكان أحق وأولى.

قوله: (ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها). فيه نظر؛ فقد قال رسول الله ------صلى الله عليه وسلم------ في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان" رواه مسلم. وظاهره جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية. ولكن يحمل على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم وغير ذلك. وكذلك لو كان رجل وزوجته في بيت، ومعهما امرأة أجنبية، أو دخلت عليهما امرأة أجنبية لا يقال لمثل هذا أنه خلا بأجنبية، فلا تحرم على الرجل الخلوة بالأجنبية ومعه غيره أو معها غيرها من غير تفصيل؛ فإن وجود الثالث معهما يمنع من كونها خلوة إلا عند خوف الفتنة. ولكن إذا كانا وحدهما كان ثالثهما الشيطان مطلقًا. قوله: (بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام؛ أنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم). فيه نظر من وجهين؛ أحدهما: أن هذا يناقض قوله أولاً: (ولنا قوله عليه

الصلاة والسلام. "لا/ تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم". الثاني: إنه ورد التقدير بثلاثة أيام وبأقل منها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -----صلى الله عليه وسلم-----: "لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم"، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي -----صلى الله عليه وسلم-----: "نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين أو ليلتين إلا معها زوجها أو ذو محرم"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ----صلى الله عليه وسلم---- قال: "لا يحل لامرأة [تؤمن بالله واليوم الآخر] تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها" متفق على الثلاثة. وفي رواية: "مسيرة يوم" وفي رواية: "مسيرة ليلة". رواهما مسلم وأحمد. وفي رواية لأبي داود: "بريدًا". وأخرج الحارثي في مسند أبي حنيفة حديث أبي سعيد، ولذلك قال أحمد في رواية: لا فرق بين قصير السفر وطويله

ذلك. ولا شك أن هذا العموم مخصوص بأن لا يفوت بذلك مصلحة راجحة كالمهاجرة كما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بلا محرم، وزينب بنت رسول الله ----صلى الله عليه وسلم---- أرسل إليها رجالاً جاءوه بها، وكذا سفر عائشة رضي الله عنها مع صفوان بن المعطل لما كانت وحدها فإن سفرها معه كان

خيرًا من أن تبقى ضائعة. قوله: (وأما إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج عنه بالشروع في غيره). سيأتي الكلام على جواز فسخ الحج إلى العمرة إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل قوله: (ولأهل العراق ذات عرق) ثم قال: (هكذا وقت رسول الله ----صلى الله عليه وسلم---- هذه المواقيت لهؤلاء). لم يثبت توقيت رسول الله ----صلى الله عليه وسلم---- لأهل العراق ذات عرق، للعراق عمر رضي الله عنه، لما فتحت العراق. عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: "لما فتح [هذان] المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله ---صلى الله عليه وسلم--- حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا. وإنا إن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا. قال: فانظروا

حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق" رواه البخاري. وقال البخاري أيضًا بعد أن ذكر حديث ابن عمر في المواقيت: قال -يعني ابن عمر-: لم تكن عراق يومئذ. وما رواه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله ---صلى الله عليه وسلم--- وقت لأهل العراق ذات عرق" لم يثبت. وروي عن أنس رضي الله عنه: "أنه كان يحرم من العقيق". واستحسنه

الشافعي، وابن المنذر، وابن عبد البر. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- وقّت لأهل المشرق العقيق" رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. قال ابن عبد البر: العقيق أولى وأحوط من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم بإجماع. انتهى. ومعنى قول ابن عمر رضي الله عنه: "لم تكن عراق يومئذ" أنه لم يكن لهم طريق إلى الحجاز يومئذ، لأنها لم تكن فتحت العراق يومئذ، لأن الشام أيضًا لم تكن فتحت يومئذ، وإنما فتحت الشام والعراق في أيام عمر رضي الله عنه. ولهذا -والله أعلم- قال ابن عمر: "لما فتح المصران أتوا عمر فقالوا" الحديث كما تقدم.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجاوز أحد الميقات إلا محرمًا"). هذا الحديث لم يثبت، وفي الأحكام الكبرى، قال: وذكر أبو أحمد من حديث محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي مسندًا إلى ابن عباس قال: قال رسول الله --صلى الله عليه وسلم--: "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام؛ من أهلها أو من غير أهلها". ومحمد هذا تكلم فيه ابن معين. وفي آخر حديث المواقيت المتفق على صحته قال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج

والعمرة". وقد صح دخوله --صلى الله عليه وسلم-- مكة عام الفتح بغير إحرام وعليه عمامة سوداء". وفي رواية: "وعلى رأسه المغفر". ولكن قد قال من أوجب الإحرام مطلقًا أن ذلك كان خاصا به بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها أحلت له ساعة من نهار". وأجاب من قال باستحبابه: أن الذي أحل له

منها هو القتال فيها فقط دون دخولها بغير إحرام لقوله --صلى الله عليه وسلم--: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فيها فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة [من نهار]، ثم عادت/ حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" الحديث، هذا في حديث أبي شريح العدوي، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ... " الحديث، متفق عليهما.

قوله: "وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله كذا قاله علي وابن مسعود. والأفضل التقديم عليهما لأن إتمام الحج مفسر به). قيل: المراد من كان منزلة من [د] ون الميقات فهو الذي يحرم من دويرة أهله كما يحرم أهل مكة من مكة في الحج ذكره السهيلي. وقيل معناه: أن تنشئ لكل منهما سفرًا من بلدك. كان سفيان يفسره بذلك، وكذلك فسره أحمد وغيره. قالوا: لا يصح أن يفسر بنفس الإحرام، لأن النبي --صلى الله عليه وسلم-- وأصحابه ما أحرموا من بيوتهم

وقد أمرهم الله بالإتمام، فلو كان ذلك معنى الآية، لكانوا تاركين لأمر الله. وعمر وعلي رضي الله عنهما ما كانا يحرمان إلا من الميقات، فكيف يريان ذلك ولا يفعلانه؟! وقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من مصر [هـ]، واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به. أفتراه أنكر عليه أخذه بالأفضل؟!. وروى الحارثي في مسند أبي حنيفة رحمه الله عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: "من أراد منكم الحج فلا يحرمن إلا من ميقات ... " الحديث. وعن عثمان رضي الله عنه "أنه أنكر على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات". والإحرام قبل أشهر الحج

مكروه، فكذلك قبل الميقات المكاني، كما لا يستحب الإمساك قبل طلوع الفجر، ولا بعد غروب الشمس في الصوم. وإن كان ذلك أشق على البدن. والله أعلم.

باب الإحرام

باب الإحرام قوله: (وصلى ركعتين لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي --صلى الله عليه وسلم--، صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه). الذي في حديث جابر رضي الله عنه "فصلى رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- في المسجد، ثم ركب القصواء"، ولم يذكر ركعتين، وهو في صحيح مسلم. وفي حديث ابن عباس: "صلى ركعتين بذي الحليفة وأوجب في مجلسه" أخرجه أهل السنن. وعن أنس: "أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على

الجبل -البيداء- أهل" رواه أبو داود. وإحرامه --صلى الله عليه وسلم-- كان بعد أن صلى الظهر ركعتين بذي الحليفة، وهي الصلاة المطلقة في الحديث الآخر، ولهذا قال الأصحاب: أنه تجزيه المكتوبة. وقال الشافعي: وأحب إلى أن يهل خلف صلاة مكتوبة، أو نافلة. حكاه البيهقي عنه. وفي بعض نسخ الهداية بعد قوله: "إن النبي --صلى الله عليه وسلم--، صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه وقال: اللهم إن أريد الحج فيسره لي، وتقبله مني، ولأن أداءه في أزمنة متفرقة، وأماكن متباينة") بالواو. في قوله: "ولأن" وذلك يشعر أن مراده أن ما قبلها أيضًا من تمام حديث جابر، ولم يرد ذلك في حديث جابر، ولا غيره، والنية عمل القلب ولا عبرة للسان، حتى لو سمى بلسانه عمرة ونوى بقلبه حجًا، فالعبرة لنية القلب. قوله: (وقوله: إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداءً لا بناءً؛ إذ الفتحة صفة الأولى).

في قوله: إذ الفتحة صفة الأولى تجوز، ومراده أنها للتعليل فتكون متعلقة بما قبلها، وفي قوله: ليكون ابتداءً لا بناء نظر؛ فقد تكون "إن" المكسورة للتعليل أيضًا كالمفتوحة فتصلح للابتداء والبناء، فلا يصح نفي البناء عنها، كما في قوله تعالى {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}، ونحوه، ولكن المفتوحة خالصة للتعليل ولا يلزم من كونها للتعليل أن تكون المكسورة أولى منها، لأنه وإن كان الحمد والنعمة لك على كل حال فلا يمنع أن يكون هذا المعنى مع التعليل، وأن يكون المعنى لأن الحمد على كل حال، والنعمة لك، والملك [لك] وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك، ولو ادعى الأولوية لكان أظهر. قوله: (ولو زاد فيها -يعني التلبية- جاز خلافًا للشافعي في رواية الربيع عنه). قال أبو حامد الغزالي: ذكر أهل العراق عن الشافعي أنه كره الزيادة على ذلك، قال: وهو غلط، لا يكره ولا يستحب.

قوله: (لما روي أن النبي --صلى الله عليه وسلم--، نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء. وقال في آخره: ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل الكعبين). هذا الحديث أخرجه الجماعة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت النبي --صلى الله عليه وسلم--، يخطب بعرفات: "من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" متفق عليه. وأخرج مسلم وأحمد عن جابر مثله، ولكن ليس فيه بعرفات، ولكن القصة واحدة. فذهب الإمامان مالك وأبو حنيفة إلى قطعهما، وذهب الإمام الشافعي إلى قطع الخف دون

السراويل، وذهب الإمام أحمد إلى عدم لزوم قطعهما. فمن خص القطع بالخف اقتصر على المنصوص، ومن عمهما بالقطع قاس السراويل على الخف. ومأخذ الثلاثة حمل المطلق في حديث جابر، وابن عباس، على المقيد في حديث ابن عمر. ومأخذ الإمام أحمد أن ابن عباس روى أن رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- خطب بعرفات وأطلق كما تقدم، وابن عمر يقول: سمعت رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- يقول على هذا المنبر، هكذا رواه الإمام أحمد بهذه الزيادة، وفي رواية الدارقطني أن رجلاً نادى في المسجد: ماذا يترك المحرم من الثياب؟ فيمتنع حينئذ حمل المطلق على المقيد؛ لأن أهل الموقف لم يكونوا قد سمعوا تقييده الذي قاله بالمدينة. ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة اكتفاء بما قاله

بالمدينة، ولا يمكن أن يكون قد اشتهر إلى حد أنه بلغ من حضر الموقف من ذلك الخق العظيم؛ فلو كان هذا قيدًا لابد منه لوجب بيانه في وقت الحاجة، وحينئذ فإما أن يكون القطع مستحبًا أو منسوخًا. وروى أبو حفص عن عبد الرحمن بن عوف "أنه طاف وعليه خفان، فأنكر عليه عمر، فقال: لبستهما مع من هو خير منك" يعني رسول الله --صلى الله عليه وسلم--. وذكر جماعة من الحفاظ أن قوله: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" مدرج من كلام نافع، فتعين التثبت في إتلاف الخف أو السراويل، والترخص في لبس ذلك للضرورة المبيحة لما هو أعظم من هذا، وإلا فليس في لبس الخف المقطوع والسراويل، المقطوع رخصة عند من يجيز لبس النعل المحيط والقباء

المحيط وأذياله إلى فوق؛ فإن مثل هذا عنده يجوز مع وجود غير المحيط، ولو كان المراد الجواز للعذر مع لزوم الكفارة لبينه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما اختص الترخص بالخف والسراويل، بل كان القميص ونحوه كذلك، هذا ملخص بحث الحنبلة، وهو ظاهر كما ترى. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها"). قال السروجي: وليس ذلك حديثًا عنه --صلى الله عليه وسلم--، بل ذكره الدارقطني عن ابن عمر. والصحيح عنه خلافه، كما ذكره عنه مالك،

والبيهقي، وأبو ذر الهروي. قوله: (ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة فالرجل بطريق الأولى). فيه نظر؛ فإن النبي --صلى الله عليه وسلم-- لم يشرع للمرأة كشف الوجه للرجال في الإحرام ولا غيره خصوصًا عند خوف الفتنة، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصًا، كما جاء النهي عن القفازين، وزيد في حديث ابن عمر أن النبي --صلى الله عليه وسلم--، قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" رواه أحمد، والبخاري، والنسائي والترمذي وصححه. وقد تقدم أن القول بأن إحرام المرأة في وجهها إنما هو من كلام ابن عمر، قال ابن المنذر: "وكانت أسماء ابنة أبي بكر

تغطي وجهها، وهي محرمة. وروينا عن عائشة أنها قالت: "المحرمة تغطي وجهها إن شاءت"، انتهى. وعن عائشة قالت: "كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- محرمات، فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، فالذي دلت عليه السنة أن وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب، والبرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز، وأما سترها بالكم، وستر الوجه بالملحفة، والخمار

ونحوهما فلم تنه عنه المرأة: البتة. ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه نص. وإنما جعل النبي --صلى الله عليه وسلم-- وجهها كيدها؛ فلا تغطي وجهها بنقاب ونحوه، ولا يدها بقفاز ونحوه. وتغطيهما إذا شاءت بغير ذلك. هكذا فهمت عائشة، وأسماء وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وليس قول بعضهم حجة على بعض بغير نص، فلا يصح قول المصنف أن المرأة لا تغطي وجهها مع ما فيه من الفتنة. وقول من قال من الأصحاب وغيرهم أنها إذا سدلت على وجهها شيئًا تجافيه عنه لم يرد فيه نص، قال ابن القاسم: وما علمت أن مالكًا كان

يأمرها إذا سدلت رداءها أن تجافيه عن وجهها، ولا علمت كان ينهاها عن أن يصيب الرداء وجهها إذا سدلته. قوله: (لا تمس طيبًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحاج الشعث التفل"). رواه ابن ماجه، وهو حديث ضعيف. والدليل الصحيح على المنع من الطيب ما ثبت في "الصحيح" في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من قوله --صلى الله عليه وسلم--: "ولا ثوبصا مسه ورس، ولا زعفران". وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الحرم الذي مات: "لا تحنطوه"، وفي لفظ: "ولا تمسوه طيبًا".

قوله: (ولنا أن له رائحة طيبة). يعني العصفر. وفي جعله تلك من الطيب نظر؛ فإن رائحته ليست بذاك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي --صلى الله عليه وسلم--، أنه "نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب، معصفرًا أو خزًا" رواه أبو داود. فإذنه للمرأة في لبس المعصفر يدل على أن المعصفر ليس بطيب. قوله: (وقال مالك: يكره أن يستظل بالفسطاط، وما أشبه ذلك). قال في "الذخيرة" المالكية: لا خلاف في دخوله تحت السقف والخيمة،

وأجاز مالك تظلله بالمحمل، ومنعه سحنون، ومنع مالك أن يضع ثوبه على شجرة فيتظلل به، وجوزه الجمهور، ومنع مالك، وابن حنبل الراكب من ذلك. وقال مالك: في الرجل يعادل المرأة في المحمل: لا تجعل عليها ظلاً. وقال أشهب: تستظل به دونه، وقاله ابن القاسم: فليس ما ذكره صاحب الهداية عن مالك على إطلاقه. قوله: (لما روي أن النبي --صلى الله عليه وسلم--: "كما دخل مكة، دخل المسجد").

هذا اللفظ غير محفوظ، ولكن معناه مخرج في "الصحيحين"، وتركيبه غريب، ذكره ابن هشام في "المغني" من معاني الكاف: المبادرة، ومثل له بقولهم: سلم كما ترحل، صل كما يدخل الوقت، ثم قال: وهو غريب جدًا، انتهى. قوله: (وإذا عاين البيت كبر، وهلل. وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يقول إذا لقي البيت: "باسم الله والله أكبر"). هذا الأمر غير مذكور في كتب الحديث فيما أعلم. قوله: (لما روي أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- دخل المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله،

وكبر وهلل). هذا اللفظ غير محفوظ، ولكن ورد أنه سئل عمر عن استلام الحجر؛ فقال: "رأيت رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- يستلمه ويقبله" أخرجه البخاري والنسائي. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر، ويقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" رواه الجماعة. وعن عمر رضي الله عنه أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- قال: "يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر" رواه أحمد. قوله: (ويرفع يديه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع الأيدي إلا في

سبع مواطن". وذكر من جملتها استلام الحجر). تقدم أن هذا الحديث غير صحيح بهذا الفظ -أعني لفظ النفي والإثبات-، وإنما ورد ولم يثبت: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن" كما تقدم. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين"). قال السروجي: لا أصل لهذا في كتب الحديث، انتهى. وإنما عرفت ركعتا الطواف من فعله --صلى الله عليه وسلم--، لا من قوله. وقيل: أخذ الوجوب من قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فإن النبي --صلى الله عليه وسلم--، صلى ركعتين بعد طوافه وتلاها فنبه على أن الصلاة كانت امتثالاً لأمر الله. وفيه نظر؛ فإن الأمر إنما هو باتخاذه مصلى، لا بالصلاة عنده فتأمله.

قوله: (وقال مالك: إنه واجب). يعني طواف القدوم وتحرير مذهب مالك أنه واجب وجوب السنن، لا وجوب الفرائض، أي يجب بتركه الدم الأفقي إذا تركه. والوقت متسع، وإن تركه لضيق الوقت فلا شيء عليه. وحكى عنه أبو ثور أن طواف الزيارة يجزي عن طواف القدوم، والزيارة، والصدر. ذكر ذلك ابن المنذر بمعناه وغيره. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتى البيت فليحيه بالطواف"). وهذا الحديث أيضًا لا أصل له، وإنما عرف طواف القدوم من فعله --صلى الله عليه وسلم-- لا من قوله، والفرق بين حكم ركعتي الطواف وبين طواف القدوم فيه نظر؛

فإن كليهما عرف من فعله، وإما أن يقال بسنيتهما أو بوجوبهما. قوله: (والرفع سنة الدعاء). يعني: يرفع يديه في الدعاء على الصفا والمروة، لأن الرفع سنة الدعاء. وهذا يرد قوله: أن الرفع مختص بسبعة مواطن واستشهاده بالحديث الذي تقدم الكلام عليه، فإن الدعاء والرفع معه مشروع في كل مكان وزمان فانتفى حصره. قوله: (ولنا قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ومثله يستعمل للإباحة). في قوله: (ومثله يستعمل للإباحة) نظر، ولا يكون مثله يستعمل للإباحة إلا إذا قيل: {أن لا يطوف بهما}. ولهذا من قال بأن السعي سنة قال: إن "لا" مقدرة، وهو مذهب نحاة الكوفة. وتقدم التنبيه على أن التقدير في مثله لا يصح، وأنه ليس نظير قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} في الكلام على وجوب الفدية على الشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصوم وأفطر.

قوله: (ثم معنى ما روي كتب استحبابًا كما في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ...} الآية). فيه نظر؛ فإن معنى: {كتب عليكم} فرض عليكم وألزمكم، ولا يقال إن كتب عليكم بمنعى استحب لكم، فإن "على" للإلزام، والكتابة للتوثق، والعقد، والاحتفاظ. وذلك فوق الاستحباب. وأكد ذلك بقوله: {فاسعوا} كما أكد في الآية الكريمة بقوله: {حقًا على المتقين * فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم}. وهذه

إلزامات أخر، وهذا الذي دلت عليه الآية هو قول الجمهور؛ فإنهم قالوا: إنهم كانوا في أول الإسلام على عادتهم في الجاهلية لا يورثون الأولاد، فأمر الله بالوصية للوالدين والأقربين ولم يأمرهم بالوصية للأولاد لأنهم كانوا هم الورثة، فلما كتب الوصية للوالدين والأقربين لم يكونوا وارثين، فكتب على الناس أن يوصلوا لهم بالمعروف، ولم يقدر ما يوصى به، ثم فرض لهم ما يستحقونه، فأعطاهم الله ما يستحقونه فلم يجمع لهم بين الأصل والبدل، كما قال النبي --صلى الله عليه وسلم--: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"

فالوصية للوالدين وبقية الورثة من الأقربين لم تبق مشروعة فضلاً عن أن تكون مستحبة، فلا يصح قوله: "كتب استحبابًا". ولكن قد تكلموا في ضعف الحديث، ولا يضره التضعيف فإن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده، بل عضد به فعل النبي --صلى الله عليه وسلم-- الذي خرج بيانًا لمجمل الأمر بالحج، كما في الوقوف بعرفة فإن ثبوته كذلك. وقولهم: إن قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} تنفي الركنية والإيجاب قد أجابت عنه عائشة رضي الله عنها، فعن عروة قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟

قالت: بئسما قلت يا بن أختي! إن هذه لو كانت على ما أوليتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانواي يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي --صلى الله عليه وسلم-- عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله ...} الآية. قالت عائشة: "وقد سن رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما". قال الزهري: "فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته ... " الحديث، أخرجه الجماعة. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف بالبيت صلاة").

أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا. وقال المنذري في أحاديث المهذب: الصواب موقوف عليه، وكذلك نبه غيره من أهل الحديث على أن رفعه وهم. قوله: (وقال زفر رحمه الله: يخطب في ثلاثة أيام متوالية، أولها يوم التروية). الخطبة يوم التروية ليس لها أصل في السنة بالكلية، وإنما الخطبة الصحيحة

يوم عرفة في حديث جابر أخرجه مسلم. وفي حديث غيره. والخطبة الصحيحة أيضًا في يوم النحر في حديث أبي بكرة. أخرجه البخاري ومسلم وفي حديث غيره. ولا خلاف في الخطبة يوم عرفة. وقد صح الحديث في الخطبة يوم النحر؛ فقول من قال بالخطبة

فيه أقوى، والخطبة في اليوم السابع من ذي الحجة في حديث ابن عمر أخرجه البيهقي، والخطبة في أيام التشريق في حديث ابن عمر، أخرجه البيهقي، وفيه: "في أوسط أيام التشريق" ولكن قيل: إن الوسط هنا بمعنى

الخيار، وأنه ثاني يوم النحر. واحتج من قال ذلك بما رواه أبو داود من حديث سراء بنت نبهان فإنه قال فيه: "وهو اليوم الذي يدعون يوم الرؤوس"؛ ولهذا قال أهل الظاهر: إن الخطب خمس، ولكن لم يرد أنه --صلى الله عليه وسلم-- خطب بمنى إلا خطبتين، فتكون خطبه أربعًا. وبهذا قال الشافعي وأحمد رحمهما الله، ولكن الخطبة الرابعة عندهما يوم النفر الأول لا يوم النفر.

قوله: (يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة، هكذا فعل رسول الله --صلى الله عليه وسلم--). في حديث جابر الطويل: "أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- خطب على ناقته، فلما فرغ من خطبته، أذن المؤذن، وقا النبي --صلى الله عليه وسلم-- فصلى الظهر والعصر ... " الحديث.

ولا يتصور أن يكون قد خطب خطبتين فصل بينهما بجلسة، وهو على الناقة، ولم يكن في عرفات منبر حتى يقال: لعله خطب بها على منبر، هذا ما لا شك فيه، ولا يصح في خطب الحج كلها أنه خطب خطبتين فصل بينهما بجلسة، ولهذا نص كثير من الحنبلية أنه يخطب خطبة واحدة. قوله: (وقال مالك: يخطب بعد الصلاة). مذهب مالك موافق لمذهب بقية الأئمة أن الخطبة قبل الصلاة كما في الجمعة لا كما يدعيه المصنف. قوله: (والصحيح ما ذكرنا). يعني أن المؤذن يؤذن قبل الخطبة كما في الجمعة، ثم قال: (لأن النبي --صلى الله عليه وسلم-- لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذن بين يديه). هذا لا أصل له، وإنما في حديث جابر الصحيح أن الأذان والإقامة كانا بعد الخطبة؛ فالصحيح الرواية التي نقلها المصنف عن أبي يوسف لموافقة

الحديث الصحيح. قوله: (ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلاً لمقصد الوقوف؛ ولهذا قدم العصر على وقته). في التعليلين نظر؛ أما الأول فإن النبي --صلى الله عليه وسلم-- لم يكن يصلي من الرواتب في السفر إلا الوتر وسنة الفجر؛ فإنه كان لا يدعهما حضرًا ولا سفرًا. وعن حفص بن عاصم عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله وجلس، وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلينا، فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحًا لأتممت صلاتي، يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في

رسول الله أسوة حسنة}. أخرجه مسلم بطوله، واختصره البخاري فلم يكن يترك التطوع بين الصلاتين ليحصل مقصود الوقوف، وأيضًا فإن الوقوف بعرفة لا تنافيه الصلاة، بل المصلي بعرفة جامع بين عبادتين: الصلاة، وكونه بعرفة في هذا الوقت. وأما تعليله الثاني: وهو قوله: (ولهذا قدم العصر على وقته)؛ فإن الصلاة لا تنافي الوقوف بعرفة كما تقدم. وتعليل الجمع بعذر السفر أظهر كما هو مذهب جمهور العلماء؛ فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا جمع إلا بعرفة والمزدلفة، ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا، بل عند مالك إذا جد به السير، ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا، بل عند مالك إذا جد به السير، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أنه يجمع المسافر وإن

كان نازلاً. وسبب هذا الاختلاف ما بلغهم من أحاديث الجمع. فالجمع بعرفة والمزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه، وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال: "ما رأيت رسول الله --صلى الله عليه وسلم--، صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب ليلة جمع"، وأراد بقوله: "في الفجر لغير وقتها" الذي كانت عادته أن يصليها فيه، فإنه جاء في الصحيح عن جابر: "أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر". وهذا أمر متفق عليه أن الفجر لا يصلى حتى يطلع الفجر، لا بمزدلفة ولا غيرها، ولكن بمزدلفة غلس بها تغليسًا شديدًا. وأما أكثر الأئمة فبلغهم في الجمع أحاديث صحيحة كحديث أنس، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ. وكلها في الصحيح. وفي تأويل من تأول من الأصحاب ما ورد من الجمع أنه جمع فعلاً لا وقتًا نظر، وفي ثبوت هذا

التأويل عن أبي حنيفة نظر. والظاهر أن عمدته حديث ابن مسعود المتقدم، وكونه لم ير رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- صلى صلاةً لغير وقتها إلا صلاة الفجر والمغرب بالمزدلفة، مع ملازمته لرسول الله --صلى الله عليه وسلم-- دليل على عدم الجمع في غير ما ذكر. وهذا استدلال ضعيف؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه قد رآه صلى العصر بعرفة قبل وقتها، وإنما مراده -والله أعلم- الصلاة بالمزدلفة لا مطلقًا؛ لأنه هو رضي الله عنه قال: إن رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- قال بعد أن صلى الفجر بالمزدلفة: "إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان: المغرب فلا يقدم الناس جمعًا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة" رواه البخاري. وفي الصحيح: ما يرد تأويل من تأول بأنه جمع في الفعل، بمعنى أنه آخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر إلى أول وقتها، وصلاهما جميعًا، لكن كل واحدة في وقتها. وكذلك المغرب والعشاء. ففي حديث أنس أن النبي --صلى الله عليه وسلم--: "كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فصلاهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر ثم ركب"، وفي لفظ في الصحيح: "كان النبي --صلى الله عليه وسلم--، إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل [أول] وقت العصر ثم يجمع بينهما"، وفي لفظ في الصحيح أيضًا: "أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب

والعشاء بعد أن تغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء". وفي حديث ابن عباس بعد أن ذكر جمع النبي --صلى الله عليه وسلم-- في غزوة تبوك، أن سعيد بن جبير قال له: "وما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. وكذلك قال معاذ في حديثه. وعنه رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله --صلى الله عليه وسلم--، في غزوة تبوك فكان رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- يجمع بين الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعًا ... " الحديث رواه مالك في الموطأ. وهو نص في أن للمسافر أن يجمع وإن لم يجد به السير، وليس فيما يوري من الآثار عن النبي --صلى الله عليه وسلم-- أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارض حديث معاذ، وهو ظاهر في أنه أخر الظهر إلى وقت العصر، وقدم العشاء إلى وقت المغرب، مع أن

هذا التأخير والتقديم بالفعل جائز لكل أحد في كل وقت، ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة. فلابد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع عنهم الحرج دون غيرهم، وهذا ينبني على أصل كان عليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم، بل قد قيل: إنه لم ينقل عن الصحابة خلاف في ذلك، وهو أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة، ولغيرهم خمسة؛ فإن الله تعالى قال: {وأقم

الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل}، فذكر ثلاثة مواقيت، وكذلك قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر}. وبنوا على هذا مسألة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر أو قبل غروب الشمس أن عليها مع العشاء والعصر المغرب والظهر. بل قد ثبت عنه --صلى الله عليه وسلم-- أنه جمع في المدينة، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صلى لنا

رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- الظهر والعصر جميعًا، في غير خوف ولا سفر" وفي لفظ في "الصحيحين" عنه: "أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". قال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى. وقال في رواية: "أراد أن لا يحرج أمته". وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم عبد الله بن عمر وروي ذلك مرفوعًا. وقد ورد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المستحاضة بالجمع في

حديثين، ولذلك قال عطاء ومالك والليث وأحمد وإسحاق بالجمع للمرض. وقال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك

عليه. وقال أيضًا: إن جمع المريض بين الصلاتين وليس بمضطر إلى ذلك أعاد ما دام في الوقت، وإن خرج الوقت فلا شيء عليه. وثم أمر آخر وهو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى الظهر والعصر بعرفة ركعتين ركعتين، وكذلك صلى العشاء بالمزدلفة ركعتين وصلى معه أهل مكة وغيرهم من أهل الآفاق جمعًا وقصرًا ولم ينقل أنه قال لهم: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" كما توهمه من توهمه، وإنما قال ذلك لما صلى بأهل مكة في المسجد الحرام. فقال مالك: وأحمد في رواية عنه: إن أهل مكة يصلون

بعرفة والمزدلفة قصرًا وجمعًا، وطرده آخرون في كل سفر طال أو قصر، وقد تقدم الكلام في تقدير مدة السفر. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "خير المواقف ما استقبلت به القبلة"). لم يثبت هذا اللفظ مرفوعًا، والله أعلم. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم).

هذا الحديث الذي أشار إليه، ليس هو من رواية ابن عباس، وإنما هو من رواية العباس بن مرداس، رواه عنه ابن ماجه والحديث ضعيف. قوله: (ولنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة، ولأن التلبية فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام).

في تعليله نظر؛ فإن التلبية لا يؤتى بها إلى آخر جزء من الإحرام، وإنما يقطع التلبية إذا رمى جمرة العقبة، ولا التكبير يؤتى به إلى آخر جزء من الصلاة. وكأنه أراد إلى آخر فعل فقال: إلى آخر جزء. ويرد عليه أن المعتمر يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف، ولو كانت يؤتى بها إلى آخر فعل لكان المعتمر يلبي إلى أن يأخذ في السعي؛ فإنه من أفعال العمرة إما ركنًا أو واجبًا على ما عرف. قوله: (ولنا رواية جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة؛ ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إعلامًا، بخلاف العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته فأفرد بها لزيادة الإعلام). في حديث جابر رضي الله عنه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما" وهو في صحيح

مسلم، وكذا في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه "أنه أقام للعشاء الآخرة فصلى" وهو في صحيح مسلم أيضًا، وإنما ورد الجمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة في حديث ابن عمر رضي الله عنه، ولكن قال البخاري: عن ابن عمر "جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما" وبالأذان والإقامتين قال الشافعي، وأحمد وعطاء والظاهرية، وزفر وأبو ثور،

واختاره الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وابن الماجشون من المالكية. وقوله: ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إلى آخره تعليل فاسد؛ فإن كل الصلوات التي تؤدي في وقتها تشرع فيها الإقامة. قوله: (ولا يتطوع بينهما لأنه يخل بالجمع). في التعليل نظر؛ وإنما لا يتطوع بينهما لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يواظب على شيء من السنن الرواتب في السفر إلا على سنة الفجر وصلاة الوتر كما تقدم، ولا يرد على ذلك تسبيحه -صلى الله عليه وسلم- على راحلته حيث توجهت به. لأن ذلك تطوع مطلق غير السنن الرواتب، والجمع بين الصلاتين لا ينافيه التطوع إلا أن يراد أن الجمع إنما شرع للتخفيف فلا يناسبه الإتيان معه بالتطوع. فإن قيل: إن هذا مراد المصنف، قيل: يرده قوله: بإعادة الإقامة لأجله، وذلك ينافي التخفيف. قوله: (لما روي: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب بالمزدلفة ثم تعشى، ثم أفرد الإقامة للعشاء").

هذا الحديث لا أصل له، والأحاديث الصحيحة ترده، وهذا يناقض ما قاله أولاً، واستدل به من حديث جابر لأبي حنيفة وصاحبيه أنه -صلى الله عليه وسلم-، صلى المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة، وتقدم رده. قوله: (وقال الشافعي رحمه الله: إنه ركن). يعني الوقوف بالمزدلفة. وللشافعي رحمه الله قولان: أحدهما أنه واجب، والآخر أنه سنة. والوقوف به سنة عنده، وليس هو ركنًا عند الشافعي، ولكن خرجه بعض أصحابه وجهًا في مذهبه. وقد قال به جماعة

من العلماء. قال السروجي: وذهب علقمة بن قيس، والشعبي، والنخعي، والبصري، والأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان إلى أن الحج يفوت بفوات الوقوف بالمزدلفة، ويروى عن ابن الزبير. انتهى. وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وداود الظاهري، وابن جرير، وابن خزيمة، وقالوا إن تقديم أصحاب الأعذار إلى منى لا ينافيه لأنهم وجد منهم الوقوف بها، كما في المرور بعرفة وهو الركن، وامتداده واجب كعرفة. قوله: (وروى جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة).

هذا الحديث غير محفوظ من رواية جابر، وإنما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، رواه البيهقي، ولفظه: "رمقت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة"، وحديث الفضل ابن عباس رضي الله عنه: "فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة" رواه الجماعة لكن ليس فيه ذكر أول حصاة. قوله: (لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن أول نسكنا هذا أن يومي، ثم نذبح، ثم نحلق").

قال السروجي رحمه الله: لم يذكر هذا في كتب الحديث فيما علمت، ويغني عنه ما ذكرته، وكان قد ذكر حديث أنس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى الجمرة فرمى بها، ثم أتى منزله بمنى ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق فحلق رأسه ... الحديث" انتهى. كأن المصنف اشتبه عليه الحديث بحديث البراء: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء ... " الحديث متفق عليه. ولكن إنما قال ذلك يوم النحر بالمدينة.

قوله: (ويكتفى في الحلق بربع الرأس اعتبارًا بالمسح). قد تقدم الكلام في مقدار ما يمسح من الرأس في الوضوء، وأن الاكتفاء بمسح الربع من الرأس فيه ليس بقوي، فقياس حلق الربع عليه لا يصح مع أنه لو كان في مسح الرأس هو الربع فقياس الحلق عليه لا يقوى إذ لا جامع بينهما، وليس مسح الربع قائمًا مقام الكل، كما جرى في عبارة بعض الأصحاب؛ فإنهم قالوا: إن النص مجمل، وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج بيانًا للمجمل. فإن قيل: بل الفرض مسح الرأس كله، ولكن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن الربع يقوم مقام الكل. قيل: النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على ناصيته وكمل على العمامة، ولم يرد أنه مسح على الناصية فقط، وإن كان هذا مشهورًا في كتب الأصحاب، لكنه غير معروف في كتب الحديث. قوله: (وفي الحديث أفضلها أولها). يعني أيام النحر. ولا يعرف هذا اللفظ مرفوعًا، وكأنه من كلام بعض السلف ولا خلاف فيه.

قوله: (فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها، ثم يرمي التي تليها مثل ذلك، ويقف عندها، ثم يرمي جمرة العقبة كذلك، ولا يقف عندها، هكذا روى جابر رضي الله عنه، فيما نقل من نسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفسرًا). ليس هذا في حديث جابر، وإنما فيه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد، فإذا زالت الشمس" أخرجه الجماعة. وإنما ورد ذلك في حديث ابن عمر أخرجه البخاري، وأحمد. وفي حديث عائشة

أخرجه أحمد، وأبو داود. قوله: (ويرفع يديه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن"، وذكر من جملتها عند الجمرتين. والمراد رفع الأيدي بالدعاء). تقدم الكلام على هذا عند رفع اليدين في الدعاء على الصفا والمروة، وقبله أيضًا في باب صفة الصلاة في موضعين. قوله: (ومذهبه مروي عن ابن عباس، ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى). يعني أن مذهب أبي حنيفة في جواز الرمي في اليوم الرابع قبل الزوال مروي عن ابن عباس. قال ابن التركماني: عن ابن عباس قال: "إذا أصبح

النهار من يوم النفر الأخير فقد حل الرمي". في سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي. انتهى. وقول أبي يوسف ومحمد أظهر؛ فإن المناسك عرفت بالتوقيف. وقد اتفق الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي على أن أول وقت الوقوف بعرفة إذا زالت الشمس، وإنما عرف ذلك بفعله -صلى الله عليه وسلم-، فكذلك الرمي. لكن بقي أمر آخر، وهو أن هذا في حق من يمكنه الإقامة إلى بعد الزوال ولكن أراد أن ينفر من غير عذر، أما إذا رحل الركب قبل الزوال ولا يمكنه الإقامة إلى بعد الزوال خوفًا على نفسه أو ماله فهذا إذا قيل ليس عليه شيء بترك الرمي كما يسقط طواف الصدر عن الحائض من غير دم كان أظهر، وأما ما ذكره من التعليل ففيه نظر؛ فإن الرخصة وردت في الترك لأجل تعجيل

النفر دون التقديم، ولو جاز تقديمه على الزوال لجاز تقديمه على النهار؛ إذ الرمي في هذه الأيام أول وقته زوال الشمس، ورمي جمرة العقبة يوم النحر أول النهار. قوله: (ولنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين"، ويروى: "حتى تطلع الشمس". فيثبت أصل الوقت بالأول، والأفضلية بالثاني). إذا صح ما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله من "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص

للرعاة أن يرموا ليلاً". أمكن التوفيق بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم- لضعفة أهل [هـ] حين قدمهم إلى منى ليلة المزدلفة: "لا ترموا مصبحين"، وقوله: "حتى تطلع الشمس" أن الأول وقت الجواز؛ والثاني وقت الفضل؛ والثالث الأفضلية، كما في الوضوء مرة، ومرتين، وثلاثًا، وأن يقال: إن الذين قال لهم: "إلا مصبحين" أو "حتى تطلع الشمس" هم ضعفة أهله، والقصة واحدة، فلم يكن قال إلا أحد اللفظين. وقد ثبت في الصحيح قوله:

"حتى تطلع الشمس". واللفظ الآخر لم يثبت، بل فيه كلام، والرعاة غيرهم. فثبت أول الوقت بحديث الرعاة، والأفضلية بالآخر. قوله: (وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وإلا فيرميه راكبًا). ينبغي أن يكون الأفضل أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبقية الرمي في الأيام كلها ماشيًا كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ "فإنه رمى جمرة العقبة راكبًا" رواه مسلم، وأحمد والنسائي من حديث جابر، "ورمى الجمرات في بقية الأيام ماشيًا" رواه الترمذي وصححه من حديث ابن عمر. وروى الإمام

أحمد عنه "أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيًا ويخبرهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك". قوله: (لأن الأول بعده وقوف ودعاء على ما ذكرنا فيرمي ماشيًا ليكون أقرب إلى التضرع). فيه نظر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف بعرفة والمزدلفة للدعاء على ناقته القصواء. فإن قيل: ركوبه في الموقفين ليسمع الناس؛ فيؤمنوا على دعائه ويقتدوا به. فالجواب: أنه لو كان هذا هو المراد وحده لفعله في مواقفه التي [وقف]

فيها للدعاء كلها؛ فإنه وقف للدعاء على الصفا، وعلى المروة، وبعد رمي الجمرة الأولى، والثانية ماشيًا، فركب في موقفين، ووقف على قدميه في أربعة مواقف. فدل ذلك على جواز الأمرين في الكل. ودل تخصيصه كل موقف بصفة على فضل تلك الصفة في ذلك الموقف متابعة له، وامتثالاً لأمره بقوله: "خذوا عني مناسككم"، والله أعلم. قوله: (لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استقى دلوًا بنفسه فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر"). لم يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه استقى من زمزم بنفسه في حجته، وإنما رواه الواقدي، وهو لا يحتج بقوله، بل في حديث جابر الطويل ما ينفي

ذلك، وهو أنه قال: "فأتى بني عبد المطلب، وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه" أخرجه مسلم. وبمعناه في حديث ابن عباس أخرجه البخاري، ولنك هذا كان بعد طواف الإفاضة، لا بعد طواف الصدر. هكذا جاء مفسرًا في حديث جابر الطويل. قوله: (ويستحب أن يأتي الباب ويقبل العتبة). ليس لهذا أصل في السنة، ولم يرد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل من البيت غير الحجر الأسود، والاتباع أولى من الابتداع، بل هو الواجب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه حين قبل الحجر الأسود: "إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت

رسول الله صلى الله [عليه وسلم] يقبلك ما قبلتك". وكذا لم يرد في التشبث بالأستار من السنة شيء. وأما وضع الصدر والوجه على الملتزم فقد ورد فيه حديثان لكنهما ضعيفان.

قوله: (قالوا: وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه، ووجهه إلى البيت). هذا أيضًا ليس له أصل، وإنما قالوا: إن في هذا تعظيم البيت وهو واجب التعظيم. وهذا التعليل ليس بشيء؛ فإنه لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو بدعة. وقد ذم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشبه بفارس والروم في قيامهم على عظمائهم، ويشبه أن يكون الرجوع القهقري من هذا القبيل، والله أعلم.

فصل

[فصل] قوله: (ومالك رحمه الله، إن كان يقول بأن أول وقته بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس. فهو محجوج عليه بما روينا). مذهب مالك مثل مذهب أبي حنيفة والشافعي أن أول وقت الوقوف إذا زالت الشمس، وإنما دخول وقت الوقوف من أول النهار مذهب أحمد كذا نقل ابن قدامة في المغني وغيره. قوله: (ومن اجتاز بعرفات نائمًا أو مغمى عليه أو لا يعلم أنها عرفات جاز عن الوقوف). فيه نظر، وقياسه على الصوم مشكل؛ فإن الصوم قد وجدت فيه النية وهو ركن واحد، وأفعال الحج تؤدي في أماكن وأزمنة مختلفة متفرقة ففارقت الصلاة، والأعمال بالنيات فينبغي أن تشترط النية لكل فعلٍ كما تشترط

النية لكل يوم من رمضان، وللطواف؛ فإنه لو طاف بالبيت يطلب غريمًا لا يجزيه لعدم النية فكذا ينبغي أن يكون الوقوف بعرفة. وقد فرق بعض الأصحاب بين الوقوف والطواف بفروق كلها ضعيفة، أحدها أن المقصود من الوقوف الحصول بعرفة في هذا الوقت وقد حصل، بخلاف الطواف فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية. والجواب: أن المقصود من الوقوف العبادة أيضًا وكلاهما ركن، بل قد قال كثير من الأصحاب أن الوقوف أعظم من الطواف. وسيأتي الكلام على تضعيفه. الثاني: أن الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام فنية الحج مشتملة عليه فلا يفتقر إلى تجديد نية، وأما الطواف فيقع خارج العبادة؛ فلا تشتمل عليه نية الحج فافتقر إلى النية. وهذا الفرق أفسد من الأول؛ لأن الوقوف والطواف كلاهما من أجزاء العبادة فكيف تضمنت نية العبادة بهذا الركن دون هذا؟! وأيضًا فإنه محرم عن النساء حتى يطوف للزيارة؛ فالطواف يقع في الإحرام كالوقوف، وأيضًا فإن طواف العمرة يقع في الإحرام.

الثالث: أن الوقوف ليس بعبادة مقصودة؛ ولهذا لا يتنفل به، والطواف عبادة مقصودة؛ ولهذا ينتفل به، فوجود أصل نية الحج يكفي في الوقوف دون الطواف لذلك. وهذا فاسد أيضًا؛ لأن كليهما ركن، وإن كان الوقوف مقدمًا على الطواف كتقديم الوسيلة، فلا يستغنى عن النية كما في القيام مع الركوع والسجود في الصلاة. وقال أبو عمر بن عبد البر: الذي يدخل علينا في هذا أن الوقوف بعرفة فرض يستحيل أن يتأدى من غير قصد بالنية والعمل. هذا هو الصحيح في هذا الباب، والله الموفق للصواب. ووافق أبو حنيفة مالكًا فيمن شهد عرفة مغمى عليه ولم يفق حتى انصدع الفجر، وخالفهما الشافعي فلم يجز للمغمى عليه وقوفه بعرفة حتى يصح، ويقف عالمًا بذلك، قاصدًا إليه، وبقول الشافعي قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود وأكثر الناس. قوله: (ومن أغمى عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة، وقالا: لا يجوز).

وقولهما أظهر، وقول بقية الأئمة الثلاثة وغيرهم أظهر من قول الأصحاب في عدم جواز إهلال غيره عنه بإذنه أو بغير إذنه، لأنه عذر لا يمتد غالبًا فكان قاصرًا، والعبادة بدنية، ولم يرد نص بجواز الاستنابة فيه، وقياسه على الصبي لا يقوى. قوله: (وتكشف وجهها، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إحرام المرأة في وجهها"). تقدم أنه لم يرد هذا الكلام مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هذا روي من كلام ابن عمر، والصحيح عنه خلافه. قوله: (ولو سدلت على وجهها شيئًا وجافته جاز. هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها). ليس في حديث عائشة رضي الله عنها المجافاة عن وجهها وقد تقدم أنه

لم يرد أمر المرأة بكشف وجهها في الإحرام، وإنما ورد أنها لا تنتقب، ولا تلبس القفازين. قوله: (وتلبس من المخيط ما بدا لها). ينبغي أن يستثنى القفازان، لأنها قد نهيت عن لبسهما كما تقدم، وقد ذكر الأصحاب أنها تلبس القفازين. وكأنه لم يبلغهم النهي عن لبسهما، وهو أحد قولي الشافعي، والصحيح من مذهبه أنها لا تلبسهما ذكره النواوي. والقفاز شيء يلبس في اليد لتغطية الكف والأصابع. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قلد بدنه فقد أحرم"). هذا الحديث غير معروف. قال السروجي: وتمسك في الكتاب بقوله -صلى الله عليه وسلم-

في حديث جابر بن عبد الله أنه قال: "كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قميصه من جنبه حتى أخرجه من رجليه فنظر القوم إليه فقال: أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم، وتشعر على مكان كذا وكذا. فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. وقد كان بعث ببدنه وأقام بالمدينة". ثم قال: صاحب الكتاب ذكره بالمعنى، انتهى. وهذا كلام غير سديد؛ أعني قوله: وصاحب الكتاب نقله بالمعنى ويمشيه هكذا. وليس قوله: "من قلد بدنه فقد أحرم" معنى ما ذكر في حديث جابر، فإنه فيه الإشعار ولم يذكره المصنف، وهو على تقدير صحة الحديث يكون قيدًا في صيرورته

محرما؛ مع أن الحديث ضعيف. وهو حجة على المصنف لو صح؛ فإن مذهب أبي حنيفة لا يصير محرمًا بالتقليد وحده، ولا ببعثه مع غيره، وإنما يصير محرمًا بالسوق والتوجه معه، أو إدراكه بعد بعثه. قوله: (والإشعار مكروه عند أبي حنيفة فلا يكون من النسك في شيء). قد أنكر ذلك عليه قديمًا. وأجيب عنه بأن أبا حنيفة إنما كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية. وقيل: إنما كره إيثاره على التقليد؛ ففي كونه ليس من النسك في شيء نظر. قوله: (وتقليد الشاة غير معتاد. وليس بسنة أيضًا). عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أهدى مرة إلى البيت غنمًا

قلدها" رواه الجماعة. وقالت: "كنا نقلد الشاة فنرسل بها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلال لم يحرم عليه شيء". قال ابن المنذر: وقال عطاء بن أبي رباح، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعبد الله بن عبيد بن عمير، ومحمد بن علي: رأينا الغنم تقدم مقلدة.

وقال بعضهم: رأينا الكباش مقلدة. وكان الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، يرون تقليد الغنم. وأنكر مالك وأصحاب الرأي تقليد الغنم، قال أبو بكر بن المنذر: وبالقول الأول أقول للثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنت أفتل قلائد الغنم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيبعث بها ثم يمكث حلالاً". قوله: (والصحيح من الرواية في الحديث: كالمهدي جزورًا) يعني

المتعجل إلى الجمعة. قال السروجي: لم يذكر في كتب الحديث كالمهدي جزورًا فيما علمت، انتهى. في رواية لمسلم: "فالأول: مثل الجزور ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة"، ولكن في الصحيحين، ذكر البدنة، ثم البقرة، فلا يصح قوله: (والصحيح من الرواية كالمهدي جزورًا)؛ فإن مراده أن الرواية الأخرى التي فيها لفظ البدنة غير صحيحة، وليس الأمر كذلك، بل الرواية التي فيها لفظ البدنة أصح، وهي التي اتفق الشيخان على تصحيحها، وتلك من أفراد مسلم، ولكن لا يلم من ثبوت لفظ البدنة، وعطف البقرة عليها نفي اسم البدنة عن البقرة. وذلك من باب ذكر أحدهما بالاسم العام، والآخر بالاسم الخاص، وكأن إطلاق اسم البدنة على البعير أولى من العكس؛ لأنه أبدن من البقرة. وهذا نظير اسم الكافر [ين] والمنافقين؛ فقد عطف المنافقون على الكافرين في القرآن ولا يخرجهم ذلك عن شمول اسم الكافرين لهم،

وكذلك عطف القرآن على التمتع لا يخرجه عن شمول اسم التمتع له. ولهذا اتفق الأئمة على أن القارن عليه دم. وفي الآية: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}، ونظائره كثيرة.

باب القرآن

[باب القرآن] وقوله: (وقال مالك: التمتع أفضل من القرآن). ومذهب مالك كمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد. بل قد جاء عن الشافعي أنه اختار التمتع تارة والإفراد تارة بخلاف مالك. وتفضيل التمتع مذهب أحمد، وعنه أن القرآن مع سوق الهدي أفضل؛ فإن لم يكن معه سوق هدي فالتمتع أفضل ذكر [ذلك] صاحب المغني وغيره. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "القرآن رخصة").

لا ذكر لهذا اللفظ في كتب الحديث، ولكن روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في المتعة"، وهي في عرف الصحابة تشتمل القرآن والتمتع الخاص، ولكن جاء في رواية: "لا أدري متعة الحج أو متعة النساء". فهل يجوز أن يقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القرآن رخصة" والحالة هذه؟!. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معًا").

قال السروجي: ثم صحاب الكتاب ترك الأحاديث الصحيحة الثابتة. في أدلة القرآن، واستدل عليه بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معًا"، ولم يذكره أهل الحديث فيما علمت غير الطحاوي، انتهى. ولكن لفظه: "أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة"، وأخرج معناه الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه. قوله: (والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح بما ذكر). يشير بذلك إلى الرد على الشافعي في ترجيح الإفراد على القرآن، والتحقيق في المسألة أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة فهو أفضل كما قال محمد بن الحسن رحمه الله: حجة كوفية، وعمرة كوفية أفضل عندي من القرآن. وذكر الكرماني وغيره عن أبي حنيفة أن الإفراد في رواية أفضل من القرآن والتمتع، وقد نص على ذلك أحمد أيضًا مع مالك،

والشافعي وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكانا يختارانه للناس. ونقل عن عثمان وعلي، وغيرهم أيضًا. ويؤيده ما

تقدم من أن القرآن، والتمتع الخاص رخصة؛ فتكون العزيمة إفراد كل من النسكين بسفرة. وما نقل عن علي وغيره في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} أنهم قالوا: "إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك"، أو قال: "أن تهل من دويرة أهلك" إن [صح] يحتمل أن يكون المراد إفراد كل واحد منهما من دويرة أهلك بسفرة وإحرام. وكان سفيان بن عيينة يفسره: أن ينشئ لها سفرًا يقصد له ليس أن يحرم من أهله حتى يقدم الميقات. وهذا هو الأولى؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة رضي الله عنها في عمرتها: "أجرك على قدر نصبك" ويروى: "أفضل الأعمال أحمزها" أي ...................................

أشقها. ولا شك أن إفراد كل نسك بسفرة أشق، وكان إتمامهما على وجه الكمال أفضل من غيره، ومن حمل قوله على أنه يحرم بهما معًا من دويرة أهله، أو بأحدهما ففيه نظر؛ فإنه لم ينقل عنه، ولا عن غيره من الصحابة أنه أحرم بهما من دويرة أهله. وقد نقل عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة؛ ونقل عن ابن عمر أنه أحرم من أيلياء، ولهذا تنازع العلماء هل الإحرام قبل الميقات مكروه، أو مباح، أو مستحب؟.

وقول المصنف: (والسفر غير مقصود). جوابه أنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به فيكون مقصودًا بهذا الاعتبار. ويأتي في كلام المصنف في التعليل لأبي حنيفة في حلق موضع المعاجم أن عليه دمًا؛ لأن حلقه مقصود؛ لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به، وفي كلام الأصحاب أيضًا، ما لا يتوسل إلى الواجب إلا به يجب لوجوبه، كما قالوا ذلك في الخروج من الصلاة بفعل المصلى عند أبي حنيفة. ولو لم يكن فيه إلا أنه عبادة أجرها عظيم، وكذلك الحلق، كيف وهو نسك عندنا فكان في إفراد كل من الحج والعمرة بسفرة زيادة نسك وزيادة سفر، وزيادة إحرام، وزيادة نفقة، ليس في الجميع؛ فلا ينبغي أن يكون في إفراد العمرة بسفرة خلاف أنه أفضل. فإن قيل: في إفرادها بسفرة تعريضها للفوات لاحتمال موته قبل أن يعتمر فكان الإتيان بها مع الحج أولى صونًا لها عن الفوات. قيل: هذا غير مسلم؛ فإن من قدر على الاعتمار قبل أوان الحج بحيث يتمكن من الإتيان بالعمرة ثم بالحج في ذلك العام لا تفويت في حقه، ومن قدر عند أوان الحج وقصد إفراد العمرة لا يضره خوف الفوات؛ لأنه له نية، ولو قدر أنه عاش حتى أتى بالعمرة مفردة بسفر بعد حجته هل يقال إن من ضم العمرة إلى الحج في سفرة أفضل منه؟ هذا غير مسلم. وأما إذا [أتى] الميقات في أشهر الحج، وجمع النسكين في سفر واحد كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حجة الوداع فالذي

ثبت عند أئمة الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي. وأصحابه منهم من تمتع، ومنهم من أفرد، ومنهم من قرن، فلما طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع الناس أن يحلوا من إحرامهم ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج، إلا من ساق؛ فإن يبقى على إحرامه إلى أن ينحر هديه يوم النحر. فامتثلوا أمره، وحل من إحرامه كل من لم يسق الهدي، وأتوا النساء ولبسوا الثياب وهم الجمهور؛ فإن الذين كانوا قد ساقوا الهدي قليلون، ثم لما كان يوم التروية أحرموا بالحج وهم منطلقون إلى منى، ولم يعتمر أحد من مكة بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها وحدها؛ فإنها كانت قد حاضت وكانت متمتعة فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي فقال: مالك، أنفست؟ -أي حضت- قالت: نعم، فقال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. وأمرها أن تدع العمرة، وتهل بالحج. ووقفت بعرفة، وهي حائض. فلما قضت حجها سألته أن يعمرها فأرسلها مع أخيها إلى التنعيم؛ فأهلت بالعمرة، ثم بنيت هناك بعد ذلك مساجد، وسميت مساجد عائشة.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمرهم بالإحلال كبر عليهم ذلك. فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت"، وهذا كله متفق عليه عن غير واحد من الصحابة. وهذا حجة قاطعة لمن رجح التمتع الخاص، والقران الذي هو نوع من التمتع على إفراد الحج وعلى إفراده والاعتمار بعده من التنعيم، كما يفعله كثير من الناس في زماننا. ثم [من] قال: إن التمتع أفضل من القران مطلقًا، سواء ساق الهدي أو لم يسقه، استدل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت". وفي لفظ حديث آخر: "لما سقت الهدي، ولجعلتها متعة". ومن قال: إن القران أفضل مطلقًا سواء ساق

الهدي أو لم يسقه استدل بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن. ومن قال: إن ساق الهدي فالقران أفضل اتباعًا لفعله -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل اتباعًا لأمره كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وغيره، فهذا أعدل الأقوال؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن وساق الهدي، وأمر من لم يسق الهدي بالتحلل من إحرامه وأن يجعلها عمرة. فيكون [ال] أفضل ما فعله كما فعله، وما أمر به كما أمر به، فصار الإفراد أفضل في بعض الأحوال، والقران أفضل في بعض الأحوال، والتمتع أفضل في بعض الأحوال كما تقدم تفصيله. قوله: (ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط، ويسعى كما بينا في المفرد (.

في اعتبار القارن بالمفرد في حق طواف القدوم وإن قيل بعدم التداخل في الأفعال نظر؛ فإنَّ المفرد قادم فيشرع في حقه طواف القدوم، أمَّا القارن فقد طاف لعمرته، وسعى لها فلم يبق قادمًا في حق أفعال الحج فلا يشرع في حقه طواف القدوم كالمكي، ولم يرد ما يستدل به لهذا من السنة. ويأتي الكلام على تثنية الطواف والسعي للقارن إن شاء الله تعالى. قوله: (ولا يحلق بين العمرة والحج؛ لأنَّ ذلك جنايةً على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد). اختلف العلماء في جواز الفسخ في حق المفرد، والقارن الذي لا هدي معه، فذهب ابن عباس إلى وجوب الفسخ، وهو قول أهل الظاهر،

وذهب أحمد بن حنبل وأهل الحديث إلى جوازه، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى المنع منه، وقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلّوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي؛ فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محلّه. وللمانعين ثلاثة أعذار، أحدها: أنها منسوخة لما روى البزار عن عمر رضي الله عنه، أنه لما ولي قال: "يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا". وقد أجيب عنه بأن سنده لا يقوم به حجة، ومتنه كذلك؛

فإنَّ المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلَّها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم حرّمها، وذلك أن الأمة أجمعت على أن متعة الحج غير محرمة. الثاني: أنها مخصوصة بالصحابة رضي الله عنهم، لما روى الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت فسخ الحج إلى العمرة ألنا خاصةً أم للناس عامةً؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "بل لكم خاصةً" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، ولكنه لم يثبت. وقد رده الإمام أحمد وغيره. ولما نقل عن أبي ذر رضي الله عنه من اختصاص المتعة

بالصحابة في الصحيح والسنن في ألفاظٍ متعددة، وفي سنن أبي داود عن عثمان أيضًا كذلك. وقد أجيب عنه بأن ذلك رأي من [أبي] ذر وعثمان رضي الله عنهما، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري أن ذلك عام

للأمة؛ فرأي عثمان وأبي ذر معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة. بل دعوى النسخ والاختصاص يردها قوله- صلى الله عليه وسلم- لسراقة بن مالك لما سأله عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها، ألنا هذه خاصة؟ قال: "بل للأبد" وذلك في "الصحيحين" وغيرهما. وهذا أحد سندًا من المروي عن

أبي ذر وعثمان رضي الله عنهما، وأولى أن يؤخذ به منه لو قاومه في الصحة. على أن المروي عنهما يحتمل اختصاص جواز ذلك بالصحابة كما فهمه من حرف الفسخ، ويحتمل اختصاص وجوبه بالصحابة، وهذا اختاره طائفة من أهل الحديث؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمرهم به، وحتمه عليهم ففرض عليهم امتثال أمره، وأما الجواز أو الاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة، ويحتمل أنه ليس لأحدٍ بعد الصحابة أن يبتدئ حجة قارنًا أو مفردًا بلا هدي يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسبق الهدي، والقرآن لمن ساق، كما صح عنه ذلك. قال المانعون من الفسخ: قول أبي ذر وعثمان أن ذلك منسوخ أو خاص لا يقال مثله بالرأي، فمع قائله زيادة خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه. قال المجوزون للفسخ: قد ذكرنا ما ينفي النسخ، والاختصاص من قوله- صلى الله عليه وسلم-: "لا، بل للأبد"، ومثل هذا لا يقبل النسخ، ولا الاختصاص.

الثالث: معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها، وذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها من رواية الزهري عن عروة عنها "فمنا من أهل بعمرةٍ، ومنا من أهل بحجٍ حتى قدمنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من أهل بعمرةٍ ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرةٍ فأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحجٍ فليتم حجه". وقد أجيب عن ذلك بأن هذه رواية شاذة مخالفة لما روي عنها وعن غيرها من الصحابة من الأمر بالإحلال لكل من لم يسق الهدي؛ فإما أن تحمل على الغلط، أو على أن ذلك قبل الأمر بالإحلال وجعله عمرة، ويكون هذا أمرًا آخر قد طرى على الأمر بالإتمام

كما طرى على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران. ويتعين ذلك لئلا يلزم تغير الحكم مرتين. وكذلك ما رواه مسلم أيضًا من حديث مالك عن أبي الأسود عن عروة، عنها، وفيه "وأما من أهل بالحج، أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر" شاذة أيضًا، أنكره الحفاظ، وقال أحمد: هذا خطأ، وما رواه مسلم أيضًا في "صحيحه" عن أبي الأسود عن عروة وفيه "قد حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبرتني عائشة رضي الله عنها، أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ، وطاف بالبيت، ثم حج أبو بكر وكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر كذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيءٍ بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن

عمر، ثم حججت مع أبي: الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة ... الحديث". فقد أجيب عن ذلك بأنه لا ينافي جواز الفسخ، وإنما ينافي وجوبه فيكون حجة على من قال بوجوبه. قوله: (ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين قال له عمر: هديت لسنة نبيك). إنما روى هذا الأمر كما أشار إليه المصنف الحارثي في مصنف أبي حنيفة، وروى أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائي عنه قال: "أهللت

بهما جميعًا؛ [فقال عمر: هديت لسنة نبيك- صلى الله عليه وسلم-" وحديث طواف القارن طوافين، وسعيه سعيين رواه الدارقطني عن عبد الله بن عمر، وعلي،

وابن مسعود، وعمران بن حسين، وما أحسن الاستدلال بها لو كانت صحيحة، ولكن قد تكلم عليها، وضعفت، ولولا خوف الإطالة لسقت ما قالوه في ذلك. وأكثر العلماء على اكتفاء القارن بطوافٍ واحد وسعيٍ واحد، قالوا: عمل العمرة دخل في الحج كما يدخل الوضوء في الغسل من الجنابة إذا اغتسل ولم يتوضأ، وقالوا: لأن الأحاديث الصحيحة تبين أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يطف إلا طوافًا واحدًا، ولم يسع إلا سعيًا واحدًا وكان قارنًا. وهذا قبل

التعريف؛ أما بعد التعريف فإنه يطوف طواف الحج الذي هو طواف الإفاضة، وليس عليه سعي بعد ذلك، إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يسع بعد طواف الإفاضة. وهذا أمر متفق عليه عند أهل الحديث. ولم يرد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- طاف طوافين، وسعى سعيين في حديثٍ يعتد عليه حتى يصلح لمعارضة ما ورد في نفي تثنية الطواف والسعي،

أو الزيادة عليه. وقد نقل عن عطاء أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيًا واحدًا. جعل طواف القدوم فرضًا. واختلفوا في المتمتع الخاص هل يكتفي بسعيه لعمرته عن السعي لحجته على قولين وهما روايتان عن أحمد: وذلك لأجل ما روي من أن الصحابة رضي الله عنهم الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج لم يسعوا بين الصفا والمروة إلا مرةً واحدة، وهذا يدل على أن عمرة المتمتع بعض حجه، كما أن وضوء المغتسل من الجنابة بعض غسله فيقع السعي عن جملة النسك، كما قال عليه السلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، فهذا مما يؤيد الاكتفاء في القرآن بسعيٍ واحد؛ فإن التمتع أبعد عن التداخل من القرآن. قوله: (ولأنه لا تداخل في العبادات).

ممنوع، بل التداخل قد وجد في العبادات، كما في الوضوء والغسل، وسجدات التلاوة. والاكتفاء بركوع الصلاة عن سجدة التلاوة فيها في حق لب القياس. وقالوا: إن الفتوى عليه، والمسألة معروفة في أصول الفقه. وهذا بالمناسك أشبه؛ فإن مبناها على التوقيف، وقد صح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- اكتفى بسعيٍ واحدٍ عقيب طواف القدوم. ولولا ترخيصه لعائشة في ترك طواف القدوم للحيض من غير جابر لقلنا بفرضيته كما قال عطاء. بل رخص لها في تركه وقال لها بعد ذلك: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك".

قوله: (ومعنى ما راوه دخل وقت العمرة في وقت الحج). إنما يصار إلى التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره وحقيقته للضرورة، ولا ضرورة هنا، مع أنه قد صح أنه- صلى الله عليه وسلم-، إنما طاف طوافًا واحدًا، سعي سعيًا واحدًا وكان قارنًا، كما في حديث جابر، وعائشة وغيرهما، ولم يثبت عنه خلاف ذلك كما تقدم، فقد اعتضد قوله بفعله،

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين لهم دخول وقت العمرة في وقت الحج بفعله وقوله؛ فإنه كان قد اعتمر قبل ذلك ثلاث عُمَرٍ في ذي القعدة أوسط أشهر الحج، وكان قد قال لهم عند الميقات: "من شاء أن يهلّ بعمرةٍ فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجةٍ فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرةٍ وحجةٍ فليفعل". وكان قد أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة. فلم يكونوا محتاجين إلى بيان أن وقت العمرة دخل في وقت الحج، بل كان سبب هذا القول أمره الصحابة رضي الله عنهم بفسخ الحج إلى العمرة، وشق ذلك عليهم فأخبرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- أن العمرة تدخل في الحج ليبيّن لهم أن عمرة المتمتع بعض الحج؛

ولهذا قال أحمد في رواية: إن المتمتع يكتفي بسعي العمرة مع بيانه بالفعل أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج. قوله: (فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار/ رافضًا لعمرته بالوقوف) إلى آخر الباب. هذه المسألة مبنية على عدم دخول أفعال العمرة في أفعال الحج كما تقدم الكلام في ذلك، وقد استدل الأصحاب لهذه المسألة أيضًا بحديث عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لما حاضت بسَرِف قال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "دعي عمرتك وانقضي شعرك، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، ففعلت، فلما قضت الحج أرسل معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت؛ فقال: هذه مكان عمرتك" متفق عليه. وفي رواية: "وأهلي بالحج ودعي العمرة" مكان قوله: "وافعلي ما يفعل الحاج". وفي رواية: "وكنت فيمن أهل بعمرة

فحضتُ قبل أن أدخل مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"، وذكر نحو ما سبق. قل المخالفون: لا يلزم من ذلك أنها صارت رافضة لعمرتها، وأن عمرتها التي اعتمرت مع أخيها عبد الرحمن كانت قضاء عن تلك العمرة التي رفضتها، بدليل قولها: إنها لما طهرت وطافت بالكعبة، وبالصفا والمروة قال لها النبي- صلى الله عليه وسلم-: "قد حللت من حجتك وعمرتك جميعًا" متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم وأحمد: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وفي روايةٍ لمسلم: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". وهذا يدل على شيئين: أحدهما: أنها صارت قارنة؛ لقوله: "لحجك وعمرتك". والثاني: لأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة، ويكون معنى قوله: "دعي عمرتك" لا تطوفي لها، ولا تسعي؛ لأنها هي الطواف والسعي. وأما الإحرام فشرطها، وقد كانت محرمة بعمرةٍ فقط. وليس في الإذن لها بأن

تنقض رأسها وتمشط ما ينافي ذلك، وإن كان في ذلك خلاف بين العلماء فالدليل يفصل بين المتنازعين؛ فإنه لم يأت نص عن الشارع يمنع منه، وهذا نص يدل على جوازه، ويكون معنى قوله: "هذه مكان عمرتك"، مكان طوافك وسعيك الذي شق عليك تركه لما قدمت. قالوا: وإنا ألجأنا إلى هذا قوله- صلى الله عليه وسلم- لها: "حللت من حجتك وعمرتك" كما تقدم، وهذا محكم الدلالة على المدعى، وذلك اللفظ محتمل، فيرد المحتمل إلى المحكم توفيقًا بين النصين، ويكون إذنه لها في الاعتمار تطبيقًا لقلبها لما رآها قد شق عليها تخلفها عن الطواف والسعي أول ما قدمت ومكثت أيامًا لا تشارك الناس فيما هم فيه من العبادة، وتبكي على ما فاتها من الطاعة معهم؛ ولهذا كانت المرأة أنقص من الرجل دينًا لما يفوتها من الخير أيام حيضها. وهذا القول في القوة كما ترى. قوله: (وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، فأشبه المحصر). يعني العمرة، وفي تشبيهي بالمحصر نظر؛ لأن ظاهره أنه قياس مختلف فيه على متفق عليه، جمهور العلماء على أنه لا قضاء على المحصر، إلا أن يريد التوضيح، يعني كما قال الأصحاب أن المحصر بالعمرة يقضي، فكذلك هذا الذي ابتدأ بالوقوف ولكنه خلاف الظاهر.

باب التمتع

[باب التمتع] قوله: وكذلك إن أراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا). يعني أنه إذا دخل مكة طاف وسعى وحلق أو قصر. ثم قال: (هكذا فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضاء). ثم قال: (وقوله تعالى: {محلقين رؤوسكم} الآية نزلت في عمرة القضاء). ثم قال: (ولنا أنا النبي- صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر). تقييده ما ذكر في المواضع الثلاثة بعمرة القضاء؛ فيه نظر، ولو أطلق لكان أولى؛ فإن الوارد في ذلك في كتب الحديث غير مقيد، ولو أطلق لكان أولى؛ فإن الوارد في ذلك في كتب الحديث غير مقيد بعمرة القضاء؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الحديث: "أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر" أخرجه الترمذي،

وقال: حديث حسن صحيح. وعن حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "اعتمر النبي- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر" أخرجه البيهقي، وقال: الحجاج لا يحتج به. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر [ة] عن أبيه: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج في بعض عمره وخرجت معه، فما قطع التلبية حتى استلم الحجر" أخرجه البيهقي وقال: إسناده غير قوي. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر" أخرجه أبو داود،

وفي حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال للناس: "من كان منكم أهدى لا يحل من شيءٍ حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن [منكم] أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة. وليقصر وليحلل ثم يهل بالحج وليهد". والآية أيضًا مطلقة، والظاهر أن المصنف فهم أن المخاطب بالآية الذين صدوا عن البيت في عمرة الحديبية وحدهم؛ لأن المراد دخولهم لقضاء العمرة التي صدوا عنها، وفيه نظر؛ فإنه لم يحضر مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضاء كل من كان معه بالحديبية؛ فإنهم كانوا في عمرة الإحصار التي هي عمرة الحديبية ألفًا وأربعمائة، وكانوا في عمرة القضية دون ذلك

بكثير، ولم يرد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر من كان معه في عمرة الإحصار بالقضاء، وعمرة القضاء تسمى عمرة القضية، والمراد بالقضاء والقضية أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قاضى أهل مكة عليها فسميت عمرة القضاء والقضية لذلك. وهذا ظاهر في نفس الاستدلال من تسمية تلك العمرة عمرة القضاء على وجوب القضاء على المحصر، والخلاف في ذلك معروف، فانتفى أن تكون الآية نزلت في عمرة القصاء خاصة. قوله: (وقال مالك رحمه الله: لا حلق عليه، إنما العمرة الطواف والسعي). في نقله عن مالك نظر. قال السروجي: وفي "الذخيرة المالكية" التحلل في العمرة بالحلاق؛ لأن السعي ركن فيها كالوقوف في الحج ويقع التحلل منه برمي الجمرة.

قوله: (لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- طعن في الجانب الأيسر مقصودًا. وفي الجانب الأيمن اتفاقًا). لا ذكر لهذا في كتب الحديث، وإنما روى مالك عن ابن عمر: "أنه كان بشعرٍ من الجانب الأيسر إلا أن يكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينهما أشعر من الشق الأيمن" ولم يرفعه.

قوله: (ومن اتخذ مكة دارًا فليس عليه طواف الصدر، لأنه لم يصدر، إلا إذا اتخذها دارًا بعدما حل النفر الأول فيما يروى عن أبي حنيفة)، إلى آخر الباب. في القول بوجوب طواف الصدر على من اتخذ مكة دارًا بعدما حل النفر الأول نظر، فإن سبب وجوب طواف الصدر في حق الحاج إنما هو الصدر الذي هو الرجوع عن مكة؛ ولهذا يضاف إليه فيقال: طواف الصدر، وطواف الوداع، وطواف آخر عهدٍ بالبيت، ومعاني [ذلك] كله متقاربة، والإفاضة أمارة السببية، وأما الوقت فشرط؛ ولهذا لو حاضت بعدما حل النفر الأول لا يجب عليها طواف الصدر، فنية الإقامة كذلك.

باب الجنايات

باب الجنايات قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "الحناء طيب) ". أخرجه البيهقي من حديث خولة بنت حكيم عن أمها وضعفه. قال: وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خضاب الحناء فقالت: "كان خليلي- صلى الله عليه وسلم- لا يحب ريحه". وقد ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "كان يحب الطيب"؛ فيشبه أن يكون الحناء ليس بطيب. وفي مسند الإمام أحمد عن

عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان حبيبي- صلى الله عليه وسلم- يعجبه لونه، ويكره ريحه" يعني الحناء. وأخرجه أبو داود والنسائي بتغيير بعض ألفاظه، وقال ابن المنذر: وروينا عن عكرمة: أن عائشة وأزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهن "كن يختضبن بالحناء، وهن حرم"، وذلك بعد النبي- صلى الله عليه وسلم-. قال السروجي: وروى النسائي أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نهى المعتدة عن الكحل، والدهن، والخضاب بالحناء"، وقال: "الحناء طيب". وقد وهم السروجي في ذلك، والذي رواه النسائي عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: "دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرًا فقال: ما هذا؛ يا أم سلمة!

فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله! ليس فيه طيب، قال: إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا باليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء فإنه خضاب ... الحديث". فكأن السروجي توهم أن الخضاب طيب، أو اشتبه عليه اللفظ، والله أعلم. قوله: (ولأبي حنيفة أنه أصل الطيب ولا تخلو عن نوع الطيب). يعني الزيت والشيرج، وفي نظر؛ فإن كونه من أصل الطيب- معنى أنه إذا ألقي فيه شيء صار طيبًا- لا يلزم منه إلحاقه بالطيب، وقد نظر السغناقي الزيت ببيض الصيد، وهو تنظير فاسد؛ فإن البيض بفرضية أن يخرج منه الصيد، فهو أصل الصيد حقيقة، وأما الزيت فلا يصير طيبًا بنفسه.

وقوله: (ولا يخلو عن نوع طيب) ممنوع، وقوله هذا مجرد دعوى لم يقم عليها دليلًا، فيكفي في مقابلتها المنع، وكونه يقتل الهوام ويلين الشعر، ويزيل التفث أمر ورواء التطيب. قوله: (وقال مالك: لا يجب إلا بحلق الكل). ليس هذا مذهب مالك رحمه الله، وإنما مذهبه أن من حلق رأسه ما أماط به عنه الذى، وجب الدم ولم يقدره، كذا نقله عنه ابن المنذر، وابن قدامة، والنواوي. قوله: (ولنا أن حلق ربع الرأس ارتفاق كامل؛ لأنه معتاد) ثم قال: (وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب).

الارتفاق المعتاد الحلق بعض الرأس واللحية غير مقدر بالربع، وإن كان بعض الناس قد يفعله، فذلك على سبيل الاتفاق لا على سبيل التحديد والتقدير، وقد ذكر بعض الأصحاب أنه مقيس على مسح الرأس في الوضوء، وقد تقدم ما فيه من الكلام، وأنه لا يصح أن يكون الربع فيه قائمًا مقام الكل. قوله: (فإن أخذ من شاربه فعليه طعام؛ حكومة عدل، ومعناه أن ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية، فيجب عليه الطعام بحسب ذلك، حتى لو كان مثلًا: مثل ربع ربع اللحية يلزمه قيمة ربع الشاة). في اعتبار تقدير الصدقة بالتقدير من قيمة الشاة نظر؛ فإنه لم يرد به نص، وليس له نظير في الحج يلحق به، ويلزم منه اعتبار ذلك في تقليم الأظافر، وفي التطيب، وفي اللبس، والتغطية، وفي حلق بقية مواضع الشعر من البدن، لم يقل به أحد، وفي اعتباره من الحرج ما لا يخفى، والحرج مدفوع شرعًا.

قوله: (وعلى هذا الخلاف إذا حلق المحرم رأس حلال). يعني أنه لا شيء على الحالق عند الشافعي رحمه الله، وعليه صدقة عند أبي حنيفة، ثم علل لذلك فقال: (ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام، لاستحقاقه الأمان بمنزلة نبات الحرم فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره إلا أن كمال الجناية في شعره). فيه نظر؛ فإن اعتبار شعر الحلال بنبات الحرم في استحقاق الأمن لا يصح بخلاف المحرم فإن شعره في حالة الإحرام محترم بمنزلة نبات الحرم. أما الحلال فلا، ولا يقال: إن المحرم ممنوع من التعرض له؛ لأنه إذا لم يكن محترمًا كان تعرض المحرم إليه كتعرض الحلال، بمنزلة نبات الحل. والمخاطبون بالنهي في قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} هم المحرمون، والضمير في قوله: {رؤوسكم} عائد إليهم، أي لا يحلق بعضكم رؤوس بعض. كما في قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم ....} الآية، وفي قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}.

وفي قوله: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}. هذا هو الظاهر في الآيات كلها، وإن كانت تحتمل أن المحرم لا يحلق رأس نفسه، أو لا يمكن من يحلقه، وأن أحدًا منكم لا يقتل نفسه، وأن من تمام توبتكم يا بني إسرائل أن كل إنسان منكم يقتل نفسه، لكنه خلاف الظاهر، والقول بشمول كل من الآيات للمعنيين أحسن، فالحاصل أن المحرم ليس بمنهي عن حلق رأس الحلال. قوله: (فإن أخذ من شارب حلال، أو قلم أظافيره أطعم ما شاء، والوجه فيه ما بينا، ولا يعرى عن نوع ارتفاق؛ لأنه يتأذى بتفث غيره، وإن كان أقل من التأذي بتفث نفسه فيلزم الطعام). هذه المسألة من جنس ما قبلها، وزاد فيها تعليلًا آخر، وفيه نظر؛ فإن المحرم غير ممنوع من النظر إلى حلال غير به تفث، ولا إلى حلال يزيل تفث نفسه، أو تفث حلال آخر. وإزالته التفث عن الحلال بمنزلة إلباسه المخيط، وتغطية رأسه وليس هو بمنزلة إعانته على قتل الصيد؛ لأن في الإعانة على قتل الصيد تعرض إلى الصيد، وقد وجب على المحرم أن يأمن الصيد من جهته؛ فإذا أعان على قتله لم يكن قد أمن الصيد منه بخلاف تفث الحلال. قوله: (وإن قص تحج اأور رجلًا فعليه دم إقامة للربع مقام الكل كما في الحلف). تقدم ما في إقامة الربع مقام الكل من النظر والإشكال.

فصل

[فصل] قوله: (والأصل فيه ما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سئل: عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج، قال: "يريقان دمًا ويمضيان في حجهما وعليهما الحج من قابل"). قال السروجي: وعن يزيد بن نعيم الأسلمي التابعي، أن رجلًا جامع امرأته وهما محرمان فسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال لهما: "اقضيا نسككما، وأهديا هديًا. ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما افترقا، ولا يرى واحد منكما صاحبه، وعليكما حجة أخرى، فأحرما من ذلك المكان وأتما نسككما" رواه البيهقي، وقال: إنه منقطع انتهى. وما ذكره المصنف غير معروف.

قوله: (وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسده عندنا، خلافًا لمالك إذا خرجا من بيتهما). لا أصل لما ذكره عن مالك، ومذهب زفر أنه يفارقها إذا أحرما. كذا ذكره ابن المنذر وغيره. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه النطق"). تقدم ذكر هذا الحديث في باب الإحرام. وأن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (وإن كان جنبًا فعليه بدنة، كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما). ليس لهذا ذكر في كتب الحديث فيما أعلم. وما ذكره المصنف رحمه الله من التفريع في طواف الجنب، والمحدث ينبغي أن يفرق فيه بين المحدث والجنب، والحائض والنفساء التي تتمكن من طواف الإفاضة طاهرة قبل

رحيل الركب في زماننا، وبين الحائض والنفساء التي لا تتمكن من ذلك؛ فإن هذه معذورة. فلا ينبغي أن تمنع من الطواف الركني للضرورة. ولا ينافي ذلك وجوب الدم عند من يقول به؛ فإن الفدية تجب على المعذور كما في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسك}. ولو قيل بعدم وجوب الدم في حقّها لم يبعد، كما قال الأصحاب في القيام والمشي؛ فإنهما من واجبات الطواف كستر العورة فيه، والأخذ عن اليمين، والطواف من وراء الحطيم، وقد قالوا: لو طاف راكبًا أو محمولًا على إنسانٍ أو في مِحَفَّة، إن كان لعذرٍ لا شيء عليه. ذكره السروجي وغيره، بغير عذرٍ يلزمه إعادته ما دام بمكة، وإن لم يُعده فعليه دم. فيخرج

على هذا وجه في المذهب بعدم وجوب الدم في حقّ هذه المعذورة. ولم تكن هذه المسألة واقعة في زمن السلف فلذلك خلت كتبهم عن ذكرها، بل كانوا يتمكَّنون من الاحتباس لأجل الحيض؛ ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لما حاضت صفية رضي الله عنها: "أحابستنا هي؟ " فقالوا له: إنها قد أفاضت. قال: "فلا إذن". وروي عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنه قال: "أمير وليس بأمير: امرأة مع قومٍ حاضت قبل الإفاضة فيحتسبون لأجلها حتى تطهر وتطوف" أو كما قال. وأما هذا الزمان فكثير من النساء لا يمكنهن الاحتباس بعد الوفد/ للخوف على أنفسهن ومالهن، ولا يمكن الوفد الاحتباس لأجلهن لما فيه من الضرر بمكث الكل، أو تفرقهم؛ فلا يقال لهذه: لا تطوفي، ولكن إن طفت كان عليك ذبح بدنة، كما يقال ذلك لغيرها ممن لا عذر له. وقوله عليه السلام في حديث عائشة رضي الله عنها: "وافعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت" إنما قاله لها لأنها كانت تتمكن من الطواف بعد ذلك طاهرة، وقد قال عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم". وقد قال تعالى: {قاتقوا الله ما استطعتم}، وهو مبين لقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} ولا واجب في الشريعة مع

عجز. ولا حرام مع ضرورة. وأي ضرورة أعظم من أن تبقى محرمة لا يأتيها زوجها إلى السنة الأخرى، وقد تأتيها حيضها في السنة الأخرى في ذلك الأوان، بل هو الغالب. فإن التي تأتي عادةً في الحيض قبل أن تتغير عنها، بها يظهر الفرق بين هذا وبين الصوم والصلاة مع الحيض؛ فإن الصلاة أسقطها الشرع عنها للحرج في القضاء، وأوجب عليها قضاء الصوم لتيسره عليها بعد رمضان، وأما هذا فالحرج في حقها حاصل، فالقول قول بسقوط الواجب في حقها وهو الطهارة، أو الشرط عند من يجعلها شرطًا للحرج مثل سقوط طواف الصدر عنها. وسقوط الوقف بالمزدلفة بعد الفجر، بل المبيت بها أيضًا عن الضعفة والرعاة، وسقوط القيام والمشي في الطواف عمن طاف محمولًا لعذرٍ كما تقدم، وسقوط ستر العورة عمن لا يجد ثوبًا في الصلاة، وسقوط الطهارة عمن لا يجد إلا ثوبًا نجسًا فيها، وإن كان قد يجد ما يستر عورته، أو يزيل النجاسة بعد الوقت، والقضاء خلف عن الأداء وهذه أولى. قوله: (ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها فعليه شاة؛ لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فيلزمه شاة). جمهور العلماء على أن إكمال عدد السبط شرط، منهم الأئمة الثلاثة،

ولا يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك خلاف، وقالوا: إن تقدير الطواف بالعدد السبع ثابت بالنصوص المتواترة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قولًا وفعلًا. وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} مجمل بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- بفعله، كما في الصلاة والزكاة، وقوله: {وليطوفوا} يقتضي تكثير الطواف وتكريره، وذلك مجمل أيضًا في العدد، وبينه النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" وقد طاف سبعًا، والمقادير لا تعرف إلا بالسماع، لا بالرأي والاجتهاد، والأعداد المقدرة بالشرع لا يكون أكثرها قائمًا مقام كلها كعدد ركعات الصلاة، والحدود، والشهرين، والثلاثة الأيام في الكفارة، ونصب الزكاة، ولا يجوز في ذلك كله الاكتفاء بالأكثر. وقد اعتبر بعض الأصحاب الطواف والسعي في الاكتفاء بأكبر العدد فيه بإدراك الإمام في الركوع، وبالنية في الصوم قبل نصف النهار، وفي ذلك نظر؛ فإنه ليس ذلك من باب الأعداد بخلاف الطواف، مع أن في النية في الصوم قبل نصف النهار من النزاع. ومنهم من قال: [إن الطواف من أسباب

التحلل فيقوم الأكثر فيه مقام الكل كالحلق. وهذا فاسد؛ فإن طواف الإفاضة ركن مقصود لذاته لا للتحلل، وقد قالوا: إن المحلل في حق النساء هو الحلق السابق ولن يؤخر عمله إلى ما بعد الطواف في حق النساء خاصة، مع أن الحلق يكفي عنه التقصير فضلًا عن أن يقوم فيه الأكثر مقام الكل، فلم يكن نظير الطواف]. ومنهم من قال: إن قوله تعالى: {وليطوفوا} يقتضي المبالغة في تكثير الطواف، فلابد من الزيادة على أقل الجمع الذي هو ثلاثة وذلك أربعة. وهذا مسلك آخر غير إقامة الأكثر مقام الكل، وفيه نظر، فإن قولهم لابد من الزيادة على أقل الجمع ونحو ذلك من العبارات مجرد دعوى، وإلا؛ فلو فسره النبي- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشواط لصلح بيانًا. ومنهم من بالغ في اعتبار الأكثر فقال: إن المقدار المفروض منه هو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع كصاحب البدائع وغيره، وعلل لذلك بقوله تعالى: {وليطوافوا بالبيت العتيق}. والأمر لا يقتضي التكرار إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر الأشواط ثبت بدليلٍ آخر وهو الإجماع، ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط، انتهى. وفيه نظر؛ فإن قوله

تعالى: {وليطوفوا}، يفهم منه التكرير والتكثير لأنه صيغة مبالغة، وليس هو نظير ما لو قال "وليطوفوا" بالتخفيف. وكذلك قال في السعي: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} بالتشديد لا بالتخفيف، ولابد في ذلك من زيادة على المخفف، فإن الزيادة في اللفظ يؤذن بالزيادة في المعنى، وبين لنا النبي- صلى الله عليه وسلم- المقدار بفعله وقوله. ودعوى الإجماع التي ذكرها منتقضة بأشياء فلو ادعاها من قال: إن الخارج من السبيلين على غير وجه الاعتياد لا ينقض الوضوء، أو ادعاها من قال بالاكتفاء بالقراءة في ركعة، أو ادعاها من قال بأن حد السكر أربعون جلدة، أو ادعاها من قال بعدم جواز القيمة في الزكاة، وصدقة الفطر، أو ادعاها من قال إن البدن من الإبل دون البقر لكان ذلك نظير دعواه. وقد

ادعاها ابن المنذر غير الأب الصغير أو الصغيرة على النكاح فقال: وقد أجمع أهل العلم على أن اليتيمين الصغيرين فرجاهما محظوران محرمان إلا بالمعنى الذي أباحه الله به. وقد أجمعوا على أن عقد الأب عليهما يبيح الفرج المحظور، واختلفوا في عقد سائر الأولياء عليهما النكاح، فغير جائز أن يباح فرج قد أجمعوا على تحريمه إلا بإجماعٍ مثله، أو خبرٍ عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا معارض له، انتهى. ودعوى ابن المنذر الإجماع والاستدلال به هنا أظهر من استدلال صاحب البدائع، فإن كان حجة لزمة ما ادعاه ابن المنذر وهو لا يقول به. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "فادفعوا بعد غروب الشمس"). كأن المصنف نقل هذا بالمعنى من حديث محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: "يا أيها الناس، إن أهل الجاهلية كانوا

يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حتى تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. فهدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك"، أخرجه الشافعي في مسنده. ويكفي عن الاستدلال بهذا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يزل واقفًا بعرفة حتى غربت الشمس، ثم أفاض كما قال جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل. قوله: "وله حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من قدم نسكًا على نسك فعليه دم"). قال السروجي: لا أصل لهذا عن ابن مسعود، وإنما ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكرته عن الطحاوي وابن المنذر وابن

حزم، انتهى. وقال ابن التركماني: روى البيهقي من حديث ابن عباس: "من قدم من نسكه شيئًا أو أخره فلا شيء عليه". ثم روى البيهقي من قوله خلاف هذا أنه قال: "من نسي شيئًا من نسكه أو تركه فليهرق دمًا" انتهى. فقد اضطربت الرواية في فتوى ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "الصحيحين" عنه رضي الله عنهما: "أنه- صلى الله عليه وسلم- قيل له: في الذبح، والحلق، والرمي، والتقديم، والتأخير، فقال: لا حرج". وفي "الصحيحين" أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقف في حجة الوداع للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل الذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم، ولا حرج. فما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم- يومئذ عن شيءٍ قدم، ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج". وفي رواية: "أنه شهد النبي- صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر فقام رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر، فقال كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: افعل، ولا حرج لهن كلهن.

فما سئل يومئذٍ عن شيءٍ إلا قال: افعل ولا حرج". وفي يوم النحر أربعة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، فعند أبي حنيفة [رحمه الله] ترتيبها واجب يجب بتركه الدم، وقال أحمد وغيره: إن أخل بترتيبها ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها فلا شيء عليه؛ فإن قول السائل لم أشعر يحتمل النسيان والجهل وقوله في الرواية الأخرى: "كنت أحسب كذا قبل كذا" يدل على جهله بالحكم، وجاء هذا مصرحًا به في روايةٍ لمسلم: "فما سمعته يسأل يومئذٍ عن أمرٍ، مما ينسى المرء أو يجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: افعلوا [ذلك] ولا حرج". وللشافعي [رحمه الله] تفصيل في ذلك ليس هذا موضع بسطه. وإذا كانت فتوى ابن عباس رضي الله عنهما مختلفة في ذلك

ولم يرد نص يغير حكم الناسي والجاهل فالظاهر بقاؤه في حق هذه الأربعة التي تفعل في يوم النحر، والظاهر أن السؤال إنما كان عنها، وما ورد في حديث أسامة بن شريك: "سعيت قبل أن أطوف" أخرجه أبو داود ولم يثبت. قوله: (فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند أبي حنيفة، دم بالحلق قبل أوانه لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق، وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول. ولا يجب بسبب التأخير على ما قلنا). هذا يناقض ما ذكره قبل هذا بصفةٍ في مسألة تأخير الحلق وهو قوله: (وقالا: لا شيء عليه في الوجهين) إلى أن قال: (والحلق قبل الذبح). فقد أثبت أن هناك أن الحلق قبل الذبح غير موجب عندهما شيئًا، ثم أوجب هنا عندهما فيه دمًا.

وقد أجاب السنغاقي عن هذا الإشكال بأنهما يوجبان على القارن دم القران. ولا يوجبان شيئًا بسبب تقديم الحلق وتأخيره، ثم اعترف بأن تعليل صاحب الهداية وقع في غير محله، وقد قرر الشيخ حافظ الدين ما ذكره "صاحب الهداية" من إيجاء دمٍ آخر عندهما غير دم القران للذبح قبل أوانه. وعلى تقدير صحة هذا يشكل إشكالًا آخر وهو أن جناية القارن مضمونة بدمين، فينبغي على ما ذكره "صاحب الهداية" أن يجب خمسة دماء عن أبي حنيفة أو أربعة، وعندهما ثلاث، وهذا لم يقولوه. قوله: (واستثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخمس الفواسق، وهي الكلب العقور، والذئب والحدأة، والغراب، والحية، والعقرب). هذه غفلة من المصنف فإنه ذكر خمسًا وعد ستًا، والخمس التي استثناها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة وعبد الله بن عمر وغيرهما في "الصحيحين" وغيرهما، هي: الفأرة، والعقرب، والغراب، والحدأة، والكلب

العقور. وفي روايةٍ لمسلم: الحية بدل العقرب في حديث عائشة. وفي أخرى له: عن ابن عمر قال: حدثتني إحدى نسوة النبي- صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا والغراب، والحية" قال: "وفي الصلاة أيضًا". وليس فيه ذكر لفظ الخمس، وقد عد ستًا بزيادة الحية. وزاد أبو داود والترمذي وابن ماجه: "السبع العادي" من حديث أبي

سعيد الخدري. قال ابن التركماني: وذكر الذئب في رواية الطحاوي من حديث أبي هريرة، وفي سندهما كلام، انتهى. فظهر أن ذكر الخمس في الحديث لا مفهوم له والحالة ما ذكر. قوله: (ولا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وقال عطاء: أجمع الناس على أن على الدال الجزاء، ولأن الدلالة من محظورات الإحرام، وأنه يفوت الأمن من الصيد؛ إذ هو آمن بتوحشه، وتواريه، فصار كالإتلاف، ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما

التزمه كالمودع بخلاف الحلال لأنه لا التزام من جهته). فيه إشكال، فإن حديث أبي قتادة لا يدل على أن الكفارة على الدال، وإنما يدل على حرمة الصيد بإشارة المحرم للحلال إلى الصيد، وغاية ما فيه أنه أعان على قتل الصيد بالإشارة، وحرمة الصيد على المحرم كحرمة مال المسلم ونفسه بل دونهما، ولا يضمن الدال على مال المسلم وعلى نفسه شيئًا بسبب الدلالة فكذلك هنا. وقد أجابوا عن هذا بأنه لم يلتزم التعرض إلى ذلك لعقدٍ خاص هناك. وأما هنا فقد التزم بعقد الإحرام ترك التعرض إلى الصيد، وفيه نظر؛ فإن المسلم بإسلامه التزم ترك التعرض إلى مال اخيه المسلم، ونفسه، وعرضه، بغير حق. وما نسبه إلى عطاء لا يعرف من رواه عنه. فإن قيل: قال الطحاوي رحمه الله: وجوب الجزاء على الدال مروي عن عدةٍ من الصحابة ولم يرو عن غيرهم خلافه، فكان

إجماعًا. فجوابه أنه قد نقل عن عدةٍ من الصحابة ضمان الصيد بالمثل من حيث الصورة. ولم يرد عن غيرهم خلافه فهلا قال هناك كما قال هنا. ويظهر أن الأمر بالعكس في المسألتين؛ فإن هذه المسألة لم يثبت ما نقل فيها عن الصحابة وهو على تقدير ثبوته فهي من باب الرأي المحض، وتلك المسألة النقل فيها عن الصحابة ثابت، وهي من باب فهم معنى النص، وهم أحق به ممن بعدهم، ويأتي الكلام في تلك المسألة إن شاء الله تعالى، وقد قال مالك والشافعي وغيرهم إنه لا شيء على الدال.

وهو اختيار ابن المنذر. والفرق بينه وبين المودع أن المودع التزم حفظ الوديعة، والمحرم إنما التزم ترك التعرض إلى الصيد كمال التزم المسلم ترك التعرض إلى مال المسلم ونفسه؛ فالتزام المودع أخص من التزام المحرم. وقد فرقوا بين مال المسلم ونفسه وبين الصيد أن الواجب في مال الغير ونفسه ضمان المحل، والواجب على المحرم كفارة الجناية. وأجيب عن ذلك أن جناية الدال دون جناية القاتل فلا يلزم من شرع الكفارة في حق القاتل شرعها في حق الدال. قوله: (وسواء في ذلك العامد والناسي؛ لأنه ضمان يعتمد الإتلاف فأشبه غرمات الأموال). كأن المصنف رحمه الله أراد بالناسي المخطئ؛ ولهذا علل له بما ذكر من تشبيهه بغرامات الأموال، وإلا فالناسي لإحرامه عامد للقتل، وأكثر العلماء على وجوب الكفارة على المخطئ كالعامد، وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وأبو ثور، وابن المنذر، والقاسم، وعطاء، وسالم،

وداود: إنه لا شيء عليه، وهو رواية عن أحمد. وعن الحسن فيه روايتان. والمثبت للكفارة على المخطئ يحتاج إلى دليل؛ لأن الآية فيها ذكر المعتمد دون المخطئ. وعن الزهري أنه قال: على المعتمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة. ولم يذكر ما ورد من السنة في حقه. وقال في المغني: إن وجه الوجوب قول جابر: "جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الضبع يصيده المحرم كبشًا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه" ولم يفرق. رواها ابن ماجه. ولأنه ضمان إتلافٍ فاستوى

عمده وخطأه كمال الآدمي، انتهى. وكأن هذا الذي أراده الزهري بقوله بالسنة. وفي نظر؛ فإنه إن صح يمكن حمله على المقيد في الآية، والأصل براءة الذمة فلا تشغل بما فيه احتمال. وقول المصنف (إنه ضمان إتلاف) يمنع ويقال: بل هو كفارة جناية. كفارة محضة عند زفر، وعند الثلاثة كفارة فيها معنى الضمان، وقد سماه الله كفارة بقوله: {أو كفارة طعام مساكين} ولهذا شرع فيه الصيام، ولو كان ضمان إتلاف لم يشرع فيه الصيام، ولو اشترك محرمان في قتل صيد لوجب على كلٍ منهما جزاء كامل عند أبي حنيفة. وهو رواية عن أحمد، ولو كان من باب الضمان لوجب عليهما جزاء واحد كما لو اشتركا في إتلاف شاة الغير مثلًا؛ فإن على كل منهما نصف قيمتها. ويأتي في كلام المصنف في الكلام على صيد الحرم أو الواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله. وقال السروجي: ولأنه لما وجب الجزاء وهو كفارة في العمد ففي الخطأ أولى، ولو كان على العكس لما وجب في العمد، لأن الواجب كفارة كما ذكرنا، وهي في الخطأ دون العمد كما في قتل العمد، ويمين الغموس على

أصلنا وأصل مالك، وابن حنبل انتهى. وجوابه المنع من الأولية، فإن الكفارة لما وجبت في الفطر عمدًا في رمضان لم يقل بوجوبها في الأكل والشرب، والجماع ناسيًا فيه أو مخطئًا. وقال السروجي أيضًا: ولأن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغيره في وجوب الفدية، ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذىً في رأسه ولم يحلهما عن الكفارة!. وجوابه: أن من فعل محظورًا حرامه لعذر فقد باشر فعل المحظور عن قصدٍ للجناية بخلاف المخطئ؛ فإن هذا غير قاصد للجناية على إحرامه فذاك بمنزلة المريض إذا أكل في رمضان بسبب المرض، وهو بمنزلة الناسي لصومه إذا أكل في رمضان. واحتج السروجي أيضًا بما نقل عن عمرو بن دينار قال: "رأيت الناس يغرمون في الخطأ"، وعن عمر مثله، وعن ابن مسعود "أنه قضى في اليربوع في الخطأ بجفرة".

جوابه: أن قول هؤلاء معارض بقول أمثالهم من الصحابة والتابعين، والمسألة مسألة نزاع كما تقدم فليس قول بعضهم حجة على البعض. ولو كان الحكم يعم النوعين كان قوله: {ومن قتله منكم} يبين الحكم مع الإيجاز؛ فإذا قال: {ومن قتله منكم متعمدًا} كان قد زاد اللفظ ونقص المعنى، وهذا مما يصان عنه كلام رب العالمين المعجز الموجز. فإن قلتم: نسخ هذا التخصيص؛ فأين الناسخ؟ قوله: (والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا النظر من حيث الخلقة والمنظر) ثم قال بعد ذلك: ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى، ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل معنى لكونه معهودًا في الشرع كما في حقوق العباد) إلى آخر كلامه في المسألة.

لا يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة خلاف، وإنما حصل الخلاف من بعدهم، وهم أخبر بمعنى القرآن ممن جاء بعدهم، والأكثر على موافقتهم، وتأويل ما نقل عنهم وصرفه عن ظاهره لا يجوز لغير معارض، وفي ثبوت المعارض نظر. ومحمد رحمه الله إنما خالف الشيخين فيما لما تبين له من الرجحان، وكفى بالصحابة قدوةً في فهم معنى القرآن، فهم أول مخاطب به من الأمة، وبلسانهم نزل، وهم أخص من غيرهم من أهل اللسان. وقوله: (فحمل على المثل معنىً لكونه معهودًا في الشرع، كما في حقوق العباد) سيأتي إن شاء الله تعالى ما في الضمان بالمثل صورة في حقوق العباد في القيمي كما في ضمان القصعة بالقصعة، والحيوان بالحيوان من الكلام.

قوله: (وقال محمد والشافعي رحمهما الله: الخيار إلى الحكمين في ذلك). مذهب مالك والشافعي وأحمد أن الخيار إلى القاتل، كذا ذكره ابن قدامة في المغني، وابن المنذر في الإشراف، ونقله النووي عن الشافعي أيضًا وحكى الكرخي عن محمد أن الخيار إلى القاتل عنده أيضًا، غير أنه [إن] اختار الهدي، لا يجوز [له] إلا إخراج النظير. ذكره في البدائع. والدليل لهذا القول هو الظهار، والقول بتخيير الحكمين بعيد، ولا حاجة إلى نصب الخلاف لروايةٍ ضعيفة عن محمد بن الحسن رحمه الله. قوله: (ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته، وهذا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما). أخرجه عن ابن عباس سعيد بن منصور، وما ذكره عن علي رضي الله

عنه، قال السروجي: لا أصل له، بل مذهبه ما ذكرته. وكان قد ذكر عنه: جنين ناقة في كل بيضة انتهى. وحكاه ابن المنذر في "الإشراف" مفسرًا فقال: وفيه قول ثالث وهو أن تحمل الفحل على إبلك، فإذا تبين لك لقاحها سميت عدد ما أصبت من البيض فقلت: هذا هدي، فما صلح من ذلك كما صلح، وما فسد كما فسد، فليس عليك كل البيض منه ما يصلح ومنه ما يفسد. روينا ذلك عن علي رضي الله عنه انتهى.

قوله: (والقياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد). في تعليله هذا نظر، فإن أبا حنيفة قد زاد الذئب على العدد. وقد تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والحية" أخرجه مسلم وقد ذكرها المصنف أيضًا قبل هذا التعليل بسطور. وهذه ست، وبالذئب تصير سبعًا، فقد ثبتت الزيادة على العدد الذي هو الخمس. قوله: (واسم الكلب لا يقع على السبع عرفًا، والعرف أملك). تقدم في كلام المصنف (وقيل: المراد بالكلب العقور: الذئب، أو يقال: الذئب في معناه). فإذا كان قد استدل على إلحاق الذئب بالكلب العقور بما ذكر. كيف ينكر استدلال الشافعي على إلحاق سائر السباع بالكلب بنظير ما استدل به هو على إلحاق الذئب به؟ لا تنه عن خلق وتأتي مثله.

قوله: (ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعًا وأهدى كبشًا، وقال: إن ابتدأناه). لا يعرف هذا عن عمر رضي الله عنه. قوله: (بخلاف محرم آخر؛ لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه). في دعوى كون أكل المحرم ما صاده هو من محظور إحرامه دون محرم آخر إشكال؛ فإنه مجرد دعوى، ولو كان الأكل منه كقتله في كونه محظور إحرامه لكان إيجاب الجزاء- كما قال عطاء- أقرب من إيجاب القيمة، ولا يزيد الصيد بعد قتل المحرم له على كونه ميتة، فيستوي في حكم الأكل منه القاتل وغيره من المحرمين في وجوب التوبة دون الكفارة أو القيمة. وقولهم: إن الكفارة إذا وجبت بالوسيلة التي هي الذبح فبالأكل الذي هو المقصود أولى لا يصح، لأن أبا حنيفة لم يقل إن فيه الكفارة، وإنما قال: إن فيه

القيمة. ولو قيل: إن القيمة بمنزلة الكفارة؛ فإيجابها في الوسيلة لا يلزم منه إيجابها في المقصود، لأن الكفارة إنما وجبت في الصيد لاستحقاقه الأمن بدخول المحرم في الإحرام، كما يستحق الأمن بدخوله هو الحرم فبالقتل أزال أمنه فوجبت الكفارة، ولا كذلك بأكله خصوصًا على قول الإمام أبي حنيفة؛ فإن عنده وجب الكفارة بصيد ما لا يؤكل لحمه ولم يقل إنه لو اصطاد سبعًا لجلده ثم استعمل جلده أن عليه قيمة ما نقصه؛ لأن المقصود بصيده؛ فعلم أن الكفارة إنما وجبت لإزالته الأمن عن الصيد خصوصًا على قول من أوجبها على الدال. قوله: (ولنا ما روي أن الصحابة رضي الله عنهم تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا بأس به"). لا أصل لهذا الحديث، ويغني عن الاستدلال به حديث أبي قتادة؛ فإنه

نص فيه، ففي الصحيحين "أنه أكل منه"، وليس فيه وفيما ذكره المصنف حجة على مالك؛ لأنه مطلق وما رواه مقيد. قوله: (فإن أصاب حلال صيدًا ثم أحرم فأرسله من يده غيره يضمن

عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن). هذه المسألة نظير كسر المعازف، والخلاف فيها واحد. وسيأتي الكلام في بيان رجحان قولهما عند الكلام على تلك المسألة إن شاء الله تعالى. قوله: (فإن قطع حشيش الحرم أو شجره الذي ليس بمملوك وهو مما لا ينتبه الناس فعليه قيمته إلا فيما جف منه، لأن حرمتهما ثبتت بسبب الحرم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها"). ليس فيما ذكر دليل على وجوب ضمان القيمة. وقد قال مالك، وأبو ثور، وداود الظاهري: لا يجب عليه إلا الاستغفار. قال أبو بكر ابن المنذر: لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضًا من كتاب، ولا سنة،

ولا إجماع. وأقول كما قال مالك: يستغفر الله، انتهى. والحديث الذي أشار إليه المصنف متفق عليه، وفيه "ولا ينفر صيدها"، ولم يذكر في الحديث ضمانًا. وتنفير الصيد لا ضمان فيه؛ فكيف يستدل به على الضمان في قطع الحشيش والشجر، وفيه إشكال من حيث اللفظ وهو أن الخلا اسم للنبات الرطب، والحشيش اسمه إذا يبس. قال في الصحاح: ولا يقال له رطبًا الحشيش. قوله: (وكل شيء فعله القارن مما ذكرناه أن فيه على المفرد دمًا فعليه دمان؛ دم لحجته ودم لعمرته، وقال الشافعي رحمه الله: دم واحد بناءً على أنه محرم بإحرامٍ واحد عنده، وعندنا بإحرامين وقد مر من قبل). تقدم ذكر ما استدل به الشافعي رحمه الله من أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، لم يطف إلا طوافًا واحدًا، وسعى سعيًا واحدًا، وقال: "دخلت العمرة في الحج" فاعتضد قوله بفعله. وهنا إشكال آخر، وهو أنه على تقدير عدم

دخول أفعال العمرة، فالإحرام شرط غير ركن في النسكين عند أبي حنيفة، فينبغي أن لا يكون في تداخله خلاف؛ فإن الشروط تقبل التداخل بلا خلاف، وأيضًا فالمحرم لو قتل صيدًا في الحرم، دخل موجب قتل الصيد في الإحرام، ولم يجب عليه إلا جزاء واحد في جواب الاستحسان وهو المذهب، فهنا أولى؛ ووجه الأولوية أن موجب قتل الصيد في الحرم ضمان قيمته يتصدق بها بمنزلة ضمان المتلفات؛ ولهذا لا يجزي فيه الصوم عند أبي حنيفة وصاحبيه. وموجب قتل الصيد في الإحرام جزاء الجناية بمنزلة الكفارة إن لم يكن كفارة محضة، ولو أنه قتل صيدًا مملوكًا لحلالٍ لوجب عليه الجزاء والضمان، ومع هذا لا يجب على المحرم بقتل الصيد في الحرم إلا جزاء واحد، فلأن لا يجب على القارن بقتله الصيد إلا جزاء واحد أولى.

باب مجاوزة الوقت بغير إحرام

[باب مجاوزة الوقت بغير إحرام] قوله: (لأن العزيمة في الإحرام من دويرة أهله). فيه نظر؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عن أحدٍ منهم أنه أحرم من قبل الميقات، وإنما حصل الاختلاف في جواز ذلك بعده- صلى الله عليه وسلم-، وقد تقدم الكلام على ما نقل عن علي وغيره في تفسير قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك في "باب القران"، والله أعلم.

باب إضافة الإحرام إلى الإحرام

[باب إضافة الإحرام إلى الإحرام] هذا الباب مرتب على أصولٍ مختلف فيها يجب التنبيه عليها، والتنبه لها. أحدهما: أن من أحرم بحجتين أو بعمرتين لزمتاه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، لمن عند أبي حنيفة يصير محرمًا بإحرامين حتى يتوجه إلى مكة في رواية، وحتى يبدئ في الطواف في أخرى، فيلزمه قبل ذلك عنده بصيده وجنايته جزاءان ويبعث لو أحصر بدمين. وعند أبي يوسف يصير رافضًا لأحدهما في الحال، عند محمد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، يلزمه إحداهما، وتلغو

الأخرى. وقول محمد أظهر، لأنه أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعًا؛ فلا ينعقد لأنه التزام في الذمة فيمكنه فعل كل نسك في وقت كنذر صلاتين وصومين، بخلاف الإحرام بحجٍ وعمرة، لأن الأعلى وهو الحج، يتضمن الأدنى، وهو العمرة، سواء قيل بالتداخل في الأفعال أو لا، بخلاف الحجتين والعمرتين؛ لأن الشيء لا يتضمن مثله. ثانيهما: أن أهل مكة لا تمتع لهم ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة، خلافًا للأئمة الثلاثة، فلو فعل كره له ذلك، ولزمه الدم، لكنه دم جبر بخلاف الآفاقي فإن الدم الذي يلزمه دم شكر، وهذا عند أبي حنيفة، وعند الأئمة الثلاثة لا دم عليه، والمسألة معروفة. ثالثها، رفض النسك للمعذور، وفعل غيره ثم قضاء ذلك المرفوض،

قال به أبو حنيفة: كالقارن إذا ابتدأ بالوقوف بعرفة، وكمن أدخل حجًا على حج أو عمرة على عمرة، أو عمرة على حج بعد الوقوف، أما القارن فلا يتأتى الرفض على قول غيره؛ لأن أفعال العمرة عند غيره داخله في أفعال الحج، فلا يضره الابتداء بالوقوف، وتقدم الكلام في هذا في ((باب القرآن)). وأما من أدخل حجًا على حج قبل الوقوف، أو عمرة على عمرة قبل طواف الأكثر، فهو كمن أهل بالنسكين معًا، وقد تقدم حكمه، ولكن اختلفوا اختلافًا آخر فيمن أهل بحجة فجامع فيها ثم أهل بأخرى؛ فقال ابن المنذر: كان أبو ثور يقول: لا تلزمه التي أهل بها بعد، ولكنه يمضي في الحجة التي أهل بها أولًا حتى يفرغ منها، وعليه حج قابل والهدي. قابل أبو بكر: وهذا على مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أصحاب الرأي: يرفض الأخرى ويمضي في التي جامع فيها حتى يقضيها مع الناس، وعليه للجماع دم، وعليه حجة مكانها، وعليه عمرة وحجة مكان التي رفض ودم، قال أبو بكر: قول أبي ثور والشافعي وأحمد وإسحاق، والظاهر أن محمد بن الحسن معهم؛ فإن من صله أن من أهل بحجتين، أو عمرتين، أو أدخل حجة على عمرة، أو عمرة على عمرة قبل أن يفرغ من الأولى، لا يلزمه إلا واحدة؛ لأنه لا يمكنه المضي في النسكين، فكذا إذا

أفسد الأول، لأنه يمضي في فاسدها فلا يفرغ منها حتى يحل منها، وأما من أدخل عمرة على حجة بعد الوقوف، فمحمد مع أبي حنيفة، وأبي يوسف في لزوم الرفض والدم، وأما من أدخل حجة على حجة بعد الوقوف، أو عمرة على عمرة بعد طواف الأكثر قبل الحلق فيهما فعليه دم عند أبي حنيفة قصر أو لم يقصر، وعندهما أن [من] لم يقصر حتى أتى بالنسك لا شيء عليه، وإلا فعليه دم، والله أعلم. * * *

باب الإحصار

[باب الإحصار] قوله: (ولنا أن الآية الإحصار فسرت بالمرض بإجماع أهل اللغة، فإنهم قالوا: الإحصار بالمرض والحصر بالعدو)، وفي بعض نسخ الهداية (وردت في الإحصار بالمرض). فيه نظر، ولا يصح تفسير الآية بالمرض وحده، ولا أن يكون قد وردت في الإحصار بالمرض وحده، ولابد من التنبيه على أن الحصر بالعدو مراد بالآية؛ فإن سبب نزول الآية هو الحصر بالعدو في عمرة الحديبية، حين صد المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن المسجد الحرام، ولابد من دخول حكم ما كان سبب نزول الآية فيها، ولهذا لم يقل أحد أن حكم الإحصار يكون بالمرض ولا يكون بالعدو، وإنما اختلفوا: هل يكون الإحصار بالعدو ولا يكون

بالمرض، أو يكون بالعدو والمرض ونحوه من الأعذار على قولين. وهذا هو مردا المنصف. وقد صدر به الباب. والعبارة السديدة في ذلك أن الإحصار يكون أعم من الحصر، والحصر أخص منه، لا يكون إلا بعدو، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والقول بأن الإحصار يكون بهما، والحصر بالعدو وحده منقول عن ابن قتيبة والفراء وأشار إليه ابن فارس

والزمخشري. وقيل: حصر وأحصر بمعنى واحد، قاله أبو عمر الشيباني. وحكى ابن فارس أن ناسًا يقولون: حصره المرض، وأحصره العدو، ولا يصح ما ادعاه المصنف من إجماع أهل اللغة. قوله: (فإذا جاز له التحلل يقال له، ابعث شاة تذبح في الحرم) إلى آخره. اشتراط الذبح في الحرم أذا أمكن دخوله إلى الحرم، فإنه محله الأصلي؛ فإذا أمكن وجب، وإذا لم يمكن فحيث أمكن؛ إذ التكليف بحسب الوسع. قال المغني بعد أن ذكر المسألة وحكى الخلاف: وهذا والله أعلم، فيمن كان حصره خاصًا، وأما في الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد؛ لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدى إلى محله، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية، وهي من الحل. ومن قال: إن الذبح كان بالحرم فقوله مردود بقوله -تعالى-: {هم الذين كفروا وصدوكم عن

المسجد الحرام والهدى معكوفًا أن يبلغ محله}. قوله: (ولهما أن الحلق إنما عرف قربة بناء على أفعال الحج، فلا يكون نسكًا قبلها. وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- ليعرف استحكام عزيمتهم على الانصراف). قول أبي يوسف -رحمه الله- أن الحلق نسك في حق المحصر أيضًا أظهر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله وأمر بفعله؛ ففي قصة الحديبية أنه -صلى الله عليه وسلم- ((لما فرغ من قضية الكتاب قال: قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم ... أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله: أتحب ذلك؟ اخرج، ولا تكلم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. قال: فخرج فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا ....)) الحديث، أخرجه البخاري وغيره. واستحكام عزيمتهم على الانصراف يعرف بفعل الانصراف. والرجوع لا يحتاج إلى علامة.

قوله: (وإن كان قارنًا بعث بدمين لاحتياجه إلى التحلل عن إحرامين). تقدم ما كان قول القارن محرمًا بإحرامين من الكلام، وأن الإحرام لا مانع من التداخل فيه؛ فإنه شرط عند أبي حنيفة، والشروط تقبل التداخل؛ ففي إيجاب دمين عليه إذا أحصر أو جني إشكال. قوله: (بخلاف الحلق لأنه في أوانه؛ لأن معظم أفعال الحج وهو الوقوف ينتهي [به]). ظاهر كلام المصنف أن ركن الوقوف بعرفة أعظم من ركن الطواف بالبيت الحرام، وفيه نظر، بل الطواف أعظم من الوقوف، وإنما يفوت الحج بفوات الوقوف لكونه مؤقتً بوقت معين من السنة لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، وهو مقدمة للطواف بمنزلة القيام مع السجود في الصلاة، والمقصود الأعظم حج البيت، قال -الله تعالى-: {ولله على الناس حج البيت ...} الآية. و-قال تعالى-: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج} إلى أن قال: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. و-قال تعالى-: {وإذ

جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا} الآيات، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) متفق عليه. وأمثاله في السنة كثيرة، فكل المناسك بالنسبة إليه تبع؟ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الحج عرفة)) لم يروه أهل الصحيح، وإنما أخرجه أحمد وأهل السنن الأربعة. ولفظه: ((الحج عرفة))، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج))؛ فآخره يبين المراد بأوله، وهو أنه يفوت الحج بفواته؛ لأنه مؤقت بيوم معين. ولقد عجبت من قول ((صاحب البدائع)) في إقامة الليل على كون الوقوف بعرفة ركن، حيث يقول: الدليل عليه -قوله تعالى-: {ولله على الناس حج البيت} ثم فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج بقوله: ((الحج

عرفة)) أي الحج الوقوف بعرفة؛ إذ الحج فعل وعرفة مكان، فلا يكون حجًا، فكان الوقوف مضمرًا فيه، فكان تقديره: الحج الوقوف بعرفة، والمجمل إذا التحق به التفسير يصير مفسرًا من الأصل، كأنه تعالى قال: {ولله على الناس حج البيت} والحج الوقوف بعرفة، فظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير، إلا أنه زيد عليه طواف الزيارة بدليل. انتهى. وهذا أبلغ من كونه معظم أفعال الحج، بل قد جعل الوقوف بعرفة هو حج البيت، والطواف بالبيت ثبت بدليل آخر ولم يقل ذلك الدليل ما هو، والوقوف بعرفة وإن كان ركنً عظيمًا لكن الطواف بالبيت أعظم منه، كما أن الوقوف في الصلاة ركن عظيم، ولكن السجود أعظم منه، ولهذا شرع تكريره سبعًا، كما شرع تكرير السجود في الركعة مرتين؛ ولهذا تشترط النية، وتجب الطهارة في الطواف دون الوقوف، حتى لو وقف بعرفة ولم يعلن أنها عرفة أجزأه، ولو طاف بالبيت يطلب غريمًا لا يجزيه لعدم النية، والوقوف في الحل، والطواف بالبيت الحرام أول بيت وضع للناس، قبله أهل الأرض في المسجد الحرام، داخل الحرم، فكيف يكون الوقوف أفضل من الطواف؟ وقد صرح شمس الأئمة السرخسي في المبسوط

بأن الطواف عبادة مقصودة، وأن الوقوف عبادة غير مقصودة، وقال: ولهذا يتنفل بالطواف دون الوقوف. قوله: (والمحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة، وهكذا روي عن ابن عباس وابن -رضي الله عنهما-). لم يثبت ذلك عنهما، وإنما هو مذكور في كتب الأصحاب، والكلام في لزوم القضاء على المحصر؛ فإن الأئمة الثلاثة وكثير من العلماء على أن المحصر لا قضاء عليه إلا أن يكون أحصر عن حجة الإسلام، أو عن حجة منذورة؛ فإنها باقية في ذمته، وهذا أظهر؛ -لقوله تعالى-: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}، وجعل الهدى هو جميع ما على المحصر دل عل أنه يكتفي به منه، فإيجاب القضاء زيادة على النص يحتاج إلى دليل؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحرم بالعمرة سنة ست، ومعه ألف وأربعمائة. كذا في ((الصحيحين)) من حديث جابر فأحصر، ثم عاد في الأخرى ومعه جمع

يسير، فلو وجب عليهم القضاء لبينه لهم، وقال أحمد في رواية: يجب القضاء على المحصر في النفل، وهو قول جماعة من السلف، وقد اختلف في لزوم القضاء في حق فائت الحج، واللزوم إنما يكون بدليل لا معارض له، ولم يوجد. أما لزوم قضاء عمرة مع الحج في حق المفرد، وعمرة أخرى مع الحج والعمرة في حق القارن فهو من مفردات أبي حنيفة.

قوله: (ولأن الحجة تجب قضاء لصحة المشروع، والعمرة لما أنه في معنى فائت الحج). في اعتباره بفائت الحج نظر؛ لأن فائت الحج إنما يتحلل بأفعال العمرة من الطواف، والسعي، والحلق، أو التقصير؛ لأنه يقدر على ذلك و [هو] بعض الحج ألأكبر، وهذا يسمى الحج الأصغر، فإن الحج الأكبر هو الحج المشتمل على الوقوف، ورمي الجمار، ويسمى العمرة الحج الأصغر لخلوها عن ذلك. -قال تعالى-: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر}، والمراد الحج نفسه، لا أنه يجب عليه عمرة ابتداء، بل يأتي في ذلك الإحرام بالطواف والسعي. ويتحلل بالحلق والتقصير، أو ينقلب إحرامه إحرام عمرة عند من يقول بذلك، بخلاف المحصر بالحج؛ فإنه لا يقدر على إحرام عمرة عند من يقول بذلك، بخلاف المحصر بالحج؛ فإنه لا يقدر على الطواف فيأتي بالذبح بدل الطواف والسعي، ولا يجب في ذمته إنشاء عمرة بإحرام جديد بالقياس على فائت الحج القادر على الطواف والسعي. قوله: (وقال مالك: لا يتحقق لأنها لا تتوقت). يعني أن الإحصار في حق العمرة لا يتحقق عنده، وليس الأمر كذلك،

وإنما يروى عن أحمد، والصحيح من مذهبه خلافه، وهو ضعيف لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أحصر عن العمرة. قال السروجي: وفي ((الذخيرة المالكية)) المحصر بعدو غالب، أو فتنة في حج أو عمرة، يتحلل في موضعه إذا يئس. وقال ابن القاسم: ليس للعمرة حد بل يتحلل وإن لم يخش الفوت. قوله: (فإن بعث القارن هديًا وواعدهم أن يذبحوه في يوم بعينه ثم مازال الإحصار) إلى آخر المسألة. لا فائدة تخصيص القارن بالذكر، ولو قال: فإن بعث المحصر هديًا كان أولى ليشمل المفرد والقارن. قوله: (وإن كان الحج دون الهدي جاز له التحلل استحسانًا) ثم قال: (وجه الاستحسان أن لو ألزمناه التوجه لضاع ماله؛ لأن المبعوث على يديه الهدي يذبحه، ولا يحصل مقصوده، وحرمة المال كحرمة النفس). فيه نظر؛ فإن هذا المعنى إنما يتم إذا قلتم إنه لا يقضي، أما إذا قلتم إنه يقضي فقد حفظتم شاته، وضيعتم عليه أضعافها في نفقة قضاء الحج. ولا نسبه بين قيمة شاة وكلفة قضاء الحج والعمرة. قوله: (ومن وقف بعرفة ثم أحصر، ولا يكون محصرًا لوقوع الأمن

عن الفوات). فيه نظر؛ فإن طواف الزيارة هو الركن الأعظم في الحج على ما تقدم، ووقوع الأمن عن الفوات لا يمنع من جواز التحلل كما هو مذهب الشافعي، وأحمد، كما في العمرة فإنها لا تفوت، وقد شرع فيها جواز التحلل لما في تطويل الإحرام من الحرج، وقولهم إنه لم يبق عليه من الإحرام إلا الامتناع من النساء وهو يسير. جوابه: أن الحرج مدفوع شرعًا قليله وكثيره ل -قوله تعالى-: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.

باب الفوات

[باب الفوات] قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من فاته بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل))). رواه الدارقطني وضعفه. قوله: (والعمرة سنة، وقال الشافعي: فريضة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((العمرة فريضة كفريضة الحج))، ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الحج فريضة والعمرة تطوع))). الحديثان مذكوران ضعيفان؛ أم الحديث الأول فلم ينقل بهذا اللفظ في كتب الحديث، لكن روي من طريق ابن لهيعة عن عطاء عن جابر، أن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الحج والعمرة فريضتان واجبتان)) أخرجه ابن عدي في كامله، وابن لهيعة ضعيف. والحديث الثاني أخرجه ابن ماجه، ولفظ [ـه]: ((الحج جهاد، والعمرة تطوع))، وتكلم في سنده وضعف، والله أعلم. * * *

باب الحج عن الغير

[باب الحج عن الغير] قوله: (والعبادات أنواع، مالية محضة كالزكاة، وبدنية كالصلاة، ومركبة عنهما كالحج). الحج عبارة بدنية، وقد جعل في ((المبسوط)) المال في الحج شرط الوجوب، فلم يكن الحج مركبًا من البدن والمال. قال السروجي: وهو أقرب إلى الصواب، ولهذا لا يشترط المال في حق المكي إذا قدر على المشي إلى عرفات. وفي ((فتاوى قاضي خان)): الحج عبادة بدنية كالصوم والصلاة. قوله: (ولا يجزي في النوع الثاني بحال). يعني لا تجزي النيابة في العبادة البدنية كالصوم والصلاة في حال من الأحوال. وفيه نظر؛ فقد تقدم في كتاب الصوم حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)). أخرجاه

في ((الصحيحين)). وتقدم حديث ابن عباس وحديث بريدة في هذا المعنى، وتقدم ذكر ما في ذلك من الخلاف. قوله: (لحديث الخثعمية فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال فيه: ((حجي عن أبيك واعتمري))). حديث الخثعمية رواه الجماعة، وليس فيه: ((واعتمري))، وإنما ذكر الاعتمار في حديث أبي رزين العقيلي، ولفظه قال: يا رسول الله، إن أبي

شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن، قال له: ((حج عن أبيك، واعتمر)) أخرجه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. قوله: (وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من مات في طريق الحج كتب له حجة مبررة في كل سنة))). هذا الحديث لا أصل له. ويمكن أن يستدل لهما بحديث الذي وقصته راحلته وهو محرم، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)) متفق عليه. ولمسلم: ((ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)) إلى أخره. وقد قال ببقاء الإحرام بعد الموت، وأنه لا ينقطع: عثمان، وعلي،

وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب أحمد، والشافعي، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي: ينقطع بالموت، ويصنع بمن مات محرمًا ما يصنع بالحلال، لقوله -عليه السلام-: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ...)) الحديث قالوا: لا حجة في حديث الذي وقصته راحلته لأنه خاص به. وأجاب من خالفهم بأن دعوى الخصوص خلاف الأصل، وقد قال نظير هذا في شهداء أحد؛ فقال: ((زملوهم في ثيابهم بكلومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك)). وهذا غير مختص بهم.

وأيضًا فقد روى النسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اغسلوا المحرم في ثوبيه الذي أحرم فيهما، واغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة محرمًا)) وهذا اللفظ يعم كل محرم، وأيضًا فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع، والحكم التي رتب عليها المعاد؛ فإن العبد يبعث على ما مات عليه، ومن مات على حالة بعث عليها، ولا ينافيه قوله -عليه الصلاة السلام-: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء ...)) الحديث. فإن المراد أنه امتنع عليه أن يحدث له عمل بعد موته، لا أن ما عمله يبطل بموته حملًا للمصدر على معناه الذي هو الحدث، لا أن يكون المراد به خلاف معناه وهو المفعول فإن المصدر وإن كان قد يطلق ويراد به المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ونحوه، ولكن أصل معناه أنه اسم للحدث، فالمراد بالعمل في قوله: ((انقطع عمله)): أن يعمل، لا معموله. فإنه إن كان على عمل أهل الجنة عند الموت دخل الجنة، وإن كان على عمل أهل النار عند الموت دخل النار، والأعمال بالخواتيم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها))، وقال في عكسه كذلك. يؤيد هذا ما روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من خرج مجاهدًا فمات كتب له أجره إلى يوم القيامة، ومن خرج حاجًا فمات كتب الله له

أجره إلى يوم القيامة))، وقد -قال تعالى-: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}، وجاء في عكسه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تردى من جبل فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديديته في يده يتوجً بها في بطنه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا)). أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي. واستثناء الأشياء الثلاثة لوجودها بعد الموت؛ أم العلم المنتفع بع، والصدقة الجارية فظاهر، وأما الولد فلأنه من كسبه، وهو باق بعده؛ فلما كان هو الساعي في وجود الولد كان عمل الولد من كسبه بخلاف الأخ، والعم، والأب، ونحوهم؛ فإنه وإن كان تنتفع أيضًا بدعائهم بل بدعاء الأجانب، لكن ليس ذلك من عمله.

باب الهدي

باب الهدي قوله: (لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- سئل عن الهدي فقال: ((أدناه شاة))). لا أصل لهذا الحديث، وقد روى عبد الرازق، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: ((ما استيسر من الهدي: البدنة، والبقرة))، وقال أبو عمر ابن عبد البر: وروي عن عمر، وعلي، وابن عباس -رضي الله عنهم- في -قوله تعالى-: {فما استيسر من الهدي}: شاة. وعليه جمهور العلماء، وجماعة الفقهاء. قوله: (وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أحصر بالحديبية، وبعث الهدايا على

يد ناجية الأسلمي قال له: ((لا [تأكل] أنت ورفقتك منها شيئًا))). حديث ناجية الخزاعي الأسلمي، وكان صاحب بدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: ((انحره، واغمس نعله في دمه، واضرب به صفحته، وخل بين الناس وبينه فليأكلوه)). قال في ((المنتقى)): رواه الخمسة إلا النسائي. ولكن ليس هذا هدي الإحصار، ولا كان هذا بالحديبية. وإنما ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية بالحديبية لما أحصر بنفسه، كما ورد في قصة الحديبية في صحيح البخاري وغيره، وكان قد ساقه مع نفسه، فإن

النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى في مقامه، وفي عمرته، وفي حجته. وكان إذا بعث بهدية أمر رسوله إذا أشرف شيء منه على عطب أن ينحره، ثم يضع نعله في دمه، ثم يجعله على صفحته، ولا يأكل هو منه، ولا أحد من أهل رفقته. ومنعه من هذا الأكل سدًا للذريعة فإنه ربما قصر في حفظه

ليشارف العطب فينحره، ويأكل منه؛ فإذا علم أنه لا يأكل منه شيئًا اجتهد في حفظه، وسيأتي في كلام المصنف ما يشعر بأن الهدي الذي كان أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ناجية الخزاعي هدي تطوع؛ ففي كلام تناقض. فإن قيل: يمكن أن يكون إرساله مع ناجية مرة تطوعًا، ومرة للإحصار؛ فجوابه ما تقدم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما ذبح هدي الإحصار هو بنفسه، وكان قد ساق ذلك الهدي مع نفسه لم يرسله مع غيره. وقد اختلف العلماء في جواز الأكل من هدي الإحصار، فذهب مالك وغيره إلى جواز الأكل من كل هدي، إلا هدي فدية الأذى، أو جزاء الصيد، أو ما نذر للمساكين. ولا يدل على عدم جواز الأكل من هدي الإحصار إلا اعتباره بهدي فدية الأذى. قوله: (لأنه لا تقلد الشاة، ولا يسن تقليده عندنا). تقدم الكلام في تقليد الغنم قبل باب القرآن، والله أعلم.

مسائل منثورة

[مسائل منثورة] قوله: (بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية؛ لأن التدارك ممكن في الجملة، بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة). في اعتبار إمكان التدارك في الجملة نظر؛ فإنه إذا تبين في اليوم العاشر أو بعده، أنهم وقفوا في اليوم الثامن ماذا يغني عنهم اعتبار إمكان التدارك، وقد ورد في السنة ما يدل على إجزائهم، وهو ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون))، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى الترمذي أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قال: ((الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس)). قيل: معناه أن الصوم والفطر والأضحى مع الجماعة، وعظم الناس. وترجم أبو داود على هذا الحديث: ((باب إذا أخطأ القوم الهلال)). والاستدلال منه على ذلك بعابرته في الصوم، والفطر، والأضحى، وبدلالته في الوقوف بعرفة. وقد زاد بعضهم في الحديث ((وعرفتكم يوم تعرفون)) ولم يثبت هذه الزيادة، ولكن الثابت بالدلالة كالثابت بالعبارة، ولا يظهر التفاوت إلا عند المعارضة، وقد فات التدارك، والحرج مدفوع شرعًا. وقد قال الشافعي في

رواية عنه، وهو الأصح من مذهب أحمد: أنه يجزيهم إذا تبين أنهم وقفوا يوم التروية. قوله: (ولأن جواز المؤخر له نظير، ولا كذلك جواز المقدم). فيه نظر من وجهين؛ أحدهما: أنه تعليل في مقابلة النص المتقدم. الثاني: أنه لمجوز المقدم نظير أيضًا في الجملة، وهو صلاة العصر بعرفة بالإجماع، وللسفر، والمطر، والمرض، عند من يقول بذلك، وكذلك صلاة العشاء الآخرة أيضًا عندهم. وقد تقدم التنبيه على دليل من قال بذلك.

كتاب النكاح

[كتاب النكاح] قوله: (النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظين يعبر بهما عن الماضي، لأن الصيغة وإن كانت للأخبار وضعًا فقد جعلت للإنشاء شرعًا دفعًا للحاجة). في تعليله نظر؛ فإن صيغة "زوجت"، و"طلقت"، و"بعت" و"اشتريت"، تستعمل في اللغة أيضًا للإنشاء كما تستعمل للإخبار، وكان ذلك معروفًا في الجاهلية فقرره الشرع؛ فإن الحاجة متحققة في الجاهلية إلى ذلك؛ لأن لهم أنكحة، قال عله السلام: "ولدت من نكاح لا من سفاح"، وعن عروة أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته: "أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء؛ فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ... الحديث" رواه البخاري وأبو داود. وكذلك كانوا

يتبايعون ببياعات صحيحة، وبياعات فاسدة، فأقر الشرع منها الصحيح، وحظر الفاسد. وظاهر كلام المصنف أن معنى المضي ملازم لهذه الصيغة، وهذا فاسد. قال الشيخ جمال الدين ابن مالك في "التسهيل": وينصرف الماضي إلى الحال بالإنشاء، والاستقبال بالطلب، والوعد/، وبالعطف على ما علم استقباله، وبالنفي بـ "لا"، و"إن" بعد القسم، ويحتمل المضي والاستقبال بعد همزة التسوية، وحرف التحضيض، وكلما، وحيث، وبكونه صلة أو صفة لنكرة عامة. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا نكاح إلا بشهود" وهو حجة على مالك -رحمه الله- في اشتراط الإعلان دون الإشهاد). هذا اللفظ غير معروف في كتب الحديث ولكن روي معناه في أحاديث فيها كلام، منها حديث عمران بن حصين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" أخرجه أحمد، وأخرجه الدارقطني من رواية ابن

مسعود وعائشة -رضي الله عنهما- وهو حديث ضعيف، قال أحمد بن حنبل: لم يثبت في الشهادة شيء. وقال ابن المنذر: وليس يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إثبات الشاهدين في النكاح خبر. وقال الزهري، ومالك، وأهل المدينة: يجوز النكاح بغير شهود إذا أعلنوه، وقال ابن المنذر: زوج ابن عمر ولم يحضر النكاح شاهدين، وفعل ذلك الحسن بن علي: زوج ابن

الزبير وما معهما أحد ثم أعلنوه بعد، انتهى. ومما يستدل به على نفي اشتراط الإشهاد في النكاح ما ثبت في الصحيحين من حكاية تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية -رضي الله عنها-، وهو أنه عليه السلام لما بنى بها قال المسلمون: "إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطى لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس". ولا يقال: إن هذا خاص به؛ لأن الأصل عدم الخصوص، وقد قال الأصحاب: إن النكاح ينعقد بلفظ الهبة، ولا يختص انعقاده بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يختص به انعقاده بغير لزوم مهر على ما عرف. وقوله: (هو حجة على مالك -رحمه الله-) فيه نظر؛ فإنه إنما يكون حجة بعد ثبوته ولم يثبت، وأيضًا فالحديث الدال على اشتراط الشهادة على ضعفه دال على اشتراط الولي، وعدالة الشاهدين. ولا يجوز العمل ببعض الحديث دون بعض. قوله: (ولا بد من اعتبار الحرية فيها، لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية). سيأتي في كتاب الشهادات ما في شهادة العبد من الكلام والنظر في دليلها وذكر اختلاف العلماء إن شاء الله تعالى.

فصل في بيان المحرمات

[فصل في بيان المحرمات] قوله: (وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني، لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة). هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم. وأما من قال: إن لبن الفحل لا يتعلق به تحريم: وهم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان وعطاء بن يسار، والنخعي، والقاسم،

وأبو قلابة، ومذهب أهل الظاهر. وروي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وعائشة ذكر ذلك السروجي وغيره فلا يتأتى على قولهم تحريم حليلة الابن من الرضاع، لكن دليل من قال إن لبن الفحل يتعلق به التحريم أقوى للسنة الثابتة في ذلك، وأما تحريم حليلة الابن من الرضاع فيحتاج إلى

دليل؛ فإن الأصل حلها لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. وإنما ذكروا في الاستدلال على تحريمها قوله -عليه السلام-: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه. وفي الاستدلال بهذا الحديث على تحريم حليلة الابن من الرضاع نظر، وكذلك موطوءة الأب من الرضاعة؛ فإنه -عليه السلام- قال: "ما يحرم من النسب"، ولم يقل: ما يحرم بالمصاهرة، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع، والصهر قسيم النسب. قال تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وكان ربك قديرًا}. فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر، وهما سببا التحريم، والرضاع فرع على النسب، وتحريم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة، ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم. فإن قيل:/ القائلون بحل حليلة الابن من الرضاع، إنما بنوه على أن لبن الفحص لا يتعلق به تحريم؛ فإذا لم يثبت أن لبن الفحل لا يتعلق به تحريم لا يثبت ما بني عليه. فجوابه: أن المقصود في تحريم هذه نزاعًا، وبقي النظر في المأخذ، فإذا لم يثبت مأخذ نفى التحريم بلبن الفحل بقي المأخذ الآخر. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر

فلا يجمعن ماءه في رحم أختين"). هذا الحديث غير معروف في كتب الحديث. قوله: (ولنا أن الوطء سبب بواسطة الولد حتى يضاف إلى كل واحد منهما كملا، فتصير أصولها وفروعها كأصوله وفروعه، وكذلك على العكس، والاستمتاع بالجزء حرام إلا في الموطوءة، والوطء محرم من حيث إنه سبب الولد). إثبات حرمة المصاهرة بالزنا ضعيف؛ فإن الله إنما قال: {وحلائل أبنائكم}. والتي زنا بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعًا ولا عرفًا، وكذلك -قوله تعالى-: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} إنما المراد به

النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط ولا الوطء المجرد عن عقد، والتحريم لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع ولم يوجد، وقياس السفاح على النكاح غير صحيح. والقصد هاهنا التنبيه على ما في هذا التعليل من الإشكال، وذلك أن الجزئية الحاصلة بين المتناكحين إنما هو اختلاط جزئه بجزئها. لا أن جزءه اختلط بها حتى يقال: إن القياس يقتضي أن لا يطأ الرجل زوجته بعد الوطئية الأولى؛ لأنها صارت بمنزلة جزئه لشيوع جزئه فيها، فإن هذا لا يقوم عليه دليل، بل إذا وطئ الرجل وأنزل، وأنزلت المرأة اختلط الماء فكان منهما الولد، فإضافة الولد إلى كل من الأبوين باعتبار أنه مخلوق من جزئهما، لا أن جزءه شاع فيها، ولا يكون المستمتع بزوجته بعد وطئها مستمتعًا بجزئه، حتى يقال إن الاستمتاع بالجزء حرام إلا في الموطوءة. ولو أن المرأة صارت حاملًا لا يكون بوطئها في حالة الحبل واطئًا بجزئه؛ فإن جزءه وجزءها قد اختلطا واستقرا في قعر الرحم. قال تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في قرار مكين * إلى قدر معلوم}. ولا تصير أصولها وفروعها كأصله وفروعه إلا في حقهما خاصة، وتحل أصولها وفروعها لأصوله وفروعه، وبالعكس، حتى يجوز لابن الزوج من غيرها أن يتزوج ببنتها من غيره. قوله: (ولا يجوز تزوج المجوسيات لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم"). أول هذا الحديث رواه مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عمر -رضي الله عنه- ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال

عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وليس فيه هذه الزيادة التي ذكرها المصنف وهي قوله: "غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم" وإن كان الحكم كذلك. وأصل الحديث منقطع؛ لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن. كذا في التمهيد، وفي التمهيد: وذكر عبد الرزاق، أن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي قال: "كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام، فمن أسلم قبل منه، ومن أبى كتب عليه

الجزية، ولا يؤكل لهم ذبيحة، ولا ينكح لهم امرأة" انتهى، وهو مرسل. قوله: (ولنا ما روي "أنه -عليه الصلاة والسلام- تزوج ميمونة وهو محرم"، وما رواه محمول على الوطء). روى ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم" أخرجه الجماعة إلا الموطأ، وفي رواية للبخاري قال: "تزوج ميمونة في عمرة القضاء"، وفي أخرى له قال: "تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف". ولكن روى/ مسلم وابن ماجه عن يزيد ابن الأصم قال: حدثتني ميمونة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال"

قال: "وكانت خالتي وخالة ابن عباس. [و] رواه أحمد والترمذي، ولفظهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها حلالًا وبنى بها حلالًا، وماتت بسرف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها". وروى الترمذي عن أبي رافع قال: "تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما". وقال سعيد بن المسيب: "وهم ابن عباس، وإن كانت خالته، ما تزوجها رسول الله إلا بعدما حل". ذكره أبو داود. وعنه أبضًا: "هذا عبد الله بن عباس يزعم

أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم، وإنما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الحل والنكاح جميعًا، فشبه ذلك على الناس". ورجحوا ذلك أيضًا بحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح ولا يخطب". أخرجه مسلم والنسائي، والموطأ وابن ماجه. فقوله: "لا ينكح المحرم" بفتح الياء أي لا يزوج، وفي قوله: "ولا ينكح" بضم الياء وكسر الكاف أي لا يزوج غيره. كقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}. وقوله: "ولا يخطب" نهي عن الخطبة بكسر الخاء التي هي طلب زواج المرأة. وصاحبة القضية والسفير بينها وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو رافع أخبر من غيرهما. وابن عباس -رضي الله عنهما- لم يكن ممن حضر معهم في تلك العمرة، وإنما قاله سماعًا من غيره. وكان حينئذ ممن [لم] يبلغ

الحلم. ولو قد تعارض القول والفعل هنا لوجب تقديم القول لوجوه. أحدها: أن الفعل يحتمل الخصوص. الثاني: أن الفعل متعارض ولا معارض للقول. الثالث: أن الفعل موافق للبراءة الأصلية، والقول ناقل عنها، فيكون رافعًا لحكم البراءة الأصلية، وهو موافق لقاعدة الأحكام، ولو قدم القول لكان رافعًا لموجب البراءة الأصلية، والفعل رافع لموجب القول فيلزم تغيير الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام. ولا يصح قوله: (وما رواه محمول على الوطء)؛ لأن قوله: ولا ينكح أي [لا] يزوج غيره. وقوله: "يخطب" يرد هذا الاحتمال. قوله: (وعندنا الجواز مطلق لإطلاق المقتضى. وفيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر إلا إرقاقه، وله أن لا يحصل الأصل فيكون له أن لا

يحصل الوصف). المسألة مشهورة ومنشأ الخلاف فيها من مفهوم الشرط. هل هو حجة أم لا؟ والإشكال فهيا هضم الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات} إلى آخرها، من آيات الأحكام، فإذا أخليت من أن يستفاد منها حكم، أو حملت على الكراهة مع صحة ما دلت بمفهومها على حظره والمنع منه، وعدم صحته كان في ذلك هضم لفائدتها. وإنما أمرنا بتدبر القرآن لفهم معانيه، ويجب حمله على أعلى الفوائد وأكملها. وتقديم ما يُفْهَمُ منها على عموم قوله تعالى: {فانكحوا ما

طاب لكم من النساء}، وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وعلى قوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} أولى من العكس؛ فإنَّ ذلك العموم مخصوص غير محفوظ فتطرق الخصوص إليه أولى من إخلاء هذه الآية الكريمة مما دلت عليه بمفهومها دلالة واضحة، ولم يعارضها ما يدل على خلافها صريحًا، مع أنَّ الحكم الذي دلت عليه يناسب كمال الشريعة المطهرة. وهو أن لا يرق ولده وهو يقدر على حريته. وما قاله المصنف من أنَّه فيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر، لا إرقاقة ممنوع، فإنَّه إذا استولد أمة الغير بالنكاح وهو يقدر على نكاح الحرة، فقد أرق جزءه من غير ضرورة، وإن كان إرقاقه حكمًا شرعيًا ليس إليه، فهو الذي تسبَّب فيه، وهو إتلاف معنوي كما في القتل، فإن المقتول وإن كان قد مات بأجله فالقاتل هو الذي تسبَّب في إعدامه الحياة وذلك لا يحل له، فكذلك هذا/. وقوله: (وله أن لا يحصّل الأصل فيكون له أن لا يحصل الوصف) فيه نظر؛ فإنّ الإنسان يختار أن لا يكون له ولد على أن يكون ولده رقيقًا يباع ويشترى كالبهائم، كما يختار أن لا يكون له ولد على وجود ولد معطل المنافع؛ فإن كل منفعة تفوت ينزل منزلة الهلاك؛ ولهذا وجبت دية النفس كلها في إتلاف اليدين أو الرجلين، أو السمع، أو البصر، أو غير ذلك من الأعضاء

والأوصاف، فكذلك إرقاق الولد، وكما أنه ليس له أن يتسبب في إتلاف سمع ولده، أو بصره أو نحو ذلك من أوصافه، كذلك ليس له أن يتسبب في إرقاقه وهو يقدر على أن يفعل. ونفي الجواز مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وإحدى الروايتين عن مالك -رحمه الله-. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تنكح الأمة على الحرة"). وقوله بعد ذلك: (لقوله - عليه الصلاة والسلام: "وتنكح الحرة على الأمة"). هذا اللفظ غير معروف في كتب الحديث مرفوعًا، وإنما روى البيهقي عن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى أن تنكح الأمة على الحرة"، قال البيهقي: مرسل إلا أنه بمعنى الكتاب. ومعه قول جماعة من الصحابة.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: فيه رجل مجهول. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة" أخرجه البيهقي، وقال: هذا إسناد صحيح. قوله: (وقال مالك -رحمه الله-: يجوز؛ لأنه في حق النكاح بمنزلة الحر عنده، حتى ملكه بغير إذن المولى). قال السروجي: هذا لم يقله مالك، يعني أنه يملكه بغير إذن المولى. قال أبو بكر بن العربي في "العارضة": إنه لا خلاف لأحد في أن العبد لا يجوز له زواج بغير إذن سيده؛ فإن تزوج بغير إذنه كان للسيد إجازته أو رده، فإن أقدم عليه فلا حد عليه، وأوجب الظاهرية عليه الحد.

قوله: "وإن تزوج حبلى من الزنا جاز النكاح، ولا يطأ حتى تضع حملها، وهذا عند أبي حنيفة، ومحمد، وقال أبو يوسف: النكاح فاسد. ثم قال: لهما أنه من المحللات بالنص، وحرمة الوطء كيلا يسقي ماءه زرع غيره". قول أبي يوسف -رحمه الله- هو قول مالك، وأحمد، وزفر، وشرط أحمد وقتادة، وإسحاق، وأبو عبيد في جواز نكاح الزانية شرطًا آخر، وهو أن تتوب من الزنا واستدلوا بقوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين}. قالوا: فقد جعله الله إما زانيًا أو مشركًا؛ فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه ويعتقده فهو مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان. ثم صرح بتحريمه فقال: {وحرم ذلك على المؤمنين}. قالوا: ولا يعارضه قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وقوله: {وأنكحوا الأيامى

منكم}، لما تقدم أن عموم هذا النصوص مخصوص. وضعفوا حمل النكاح على الزنا؟ إذ يصير معناها: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وكلام الله يصان عن مثل هذا. قالوا: والله سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة فقال: {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان}، وقال تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات}، والخبيثات الزواني. وقال تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان}. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، وأيضًا فمن القبائح

أن يكون الرجل زوج بغي، وقبح هذا مستقر في الفطر. يقال: شتمه بالزاي والقاف، أي قال له: يا زوج القحبة، وأيضًا فإن البغي لا يؤمن أن تفسد على الرجل فراشه وتعلق عليه أولادًا من غيره، والتحريم يثبت بدون/هذا. وفي المسألة نظر آخر أخص من هذا: وهو أن الحبلى من الزنا ينبغي أن لا يجوز العقد عليها عند أبي حنيفة ومحمد أيضًا، لن النكاح بمنزلة الوطء؛ ولهذا قالوا: إن من تزوج أخت أمته التي كان قد وطئها لا يجوز أن يطأ الأمة؛ لأن المنكوحة موطوءة حكمًا، ولا المنكوحة للجمع إلا إذا حرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع، ويطأ المنطوحة إن لم يكن وطئ الموطوءة وطئًا؛ إذا المرقوقة ليست موطوءة حكمًا. هذه عبارة المصنف في أوائل هذا الفصل. وإذا كان عقد النكاح بمنزلة الوطء حكمًا لأنه سببه يجب أن يمنع منه في حق الحبلى من الزنا كما أقيم المس بشهوة مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة؛ لأن الموضع موضع الاحتياط فكذا هنا أولى. [والاحتياط هنا أولى]، لأنه لو تزوجها ثم جاءت بالولد لستة أشهر أو أكثر يلحق

به، ويكون من ماء الزنا، ولئلا يصير زوج القحبة، بخلاف ما بعد التوبة؛ لأنها تمحو الذنب. ولو كان أكبر الذنوب؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى من أسلم مشركًا باعتبار ما كان. قوله: (ومن وطئ أمته، ثم زوجها لرجل جاز النكاح؛ لأنها ليست لفراش لمولاها؛ فإنها لو جاءت بولد لا يثبت نسبه من غير دعواه إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائة، فإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاسبتراء عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد [رحمه الله]: لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه احتمل الشغل بماء المولى فوجب التنزه كما في الشراء، ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ، فلا يؤمر بالاستبراء لا وجوبًا ولا استحبابًا، بخلاف الشراء؛ لأنه يجوز مع الشغل، وكذلك إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما. وقال محمد: لا أحب أن يطأها ما لم يستبرئها. والمعنى ما ذكرنا). مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم أنه لا يصح نكاحها قبل الاستبراء

بحيضة. وفي التعليل المذكور نظر من وجوه: أحدها: قوله: (لأنها ليست بفراش لمولاها)، لحديث وليدة زمعة؛ فإن عائشة رضي الله عنها قالت: «اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله: ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد لي أنه ابنه، انظر إلى شبهه: وقال عبد بن زمعة: ها أخي يا رسول الله: ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجي منه يا سودة بنت زمعة، قال: فلم ير سودة قط» رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي

رواية أبي داود ورواية للبخاري: «هو أخوك يا عبد»، وفي رواية الموطأ عن عائشة أنها قالت: «كان عتبة بن أبي وقاص وعهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي كان قد عهد إلي فيه،، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجي منه، لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله». فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد لزمعة، وصرح بأنه صاحب الفراش، وجعل ذلك علة للحكم بالولد له. فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة فلا يجوز إخلاء الحديث منه، وحمله على الحرة وحدها. واللفظ إذا كان عامًا، فلا يقول أحد أن سبب القول لا يدخل في عمومه، ولم يرد أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا استفصل فيه. وقال المخالفون أيضًا: عجبًا لكم كيف تجعلون الزوجة فراشًا بمجرد العقد، وإن كان بينها وبين الزوج بعد المشرقين، ولا تجعلون سريته التي تكرر استفراشه ليلًا ونهارًا فراشًا؟! الثاني: قوله: (إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائه)؛ فإنه يناقض ما/ ادعاه من جواز النكاح؛ لأنه إذا لزمه الاستبراء صيانة لمائة فلازمه عدم جواز تزويجه، لأن ذلك ينافي صيانة مائة، بل يؤدي إلى اختلاط المياه،

واشتباه نسب الولد أن لو قدر منه حمل. الثالث: قوله: (وقال محمد: لا أحب أن يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه احتمال الشغل بماء المولى، فوجب التنزه كما في الشراء) فإنه تناقض لأنه قال: لا أحب له ثم قال: لأنه احتمل الشغل بماء المولى، فوجب التنزه كما في الشراء. والوجوب، والتشبيه بالمشتراة يزيد على الاستجاب، فدعوى الاستجاب والاستدلال عليه بما يدل على الوجوب تتناقض. الرابع: قوله: (ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ) فإذن هذا غير مسلم، بل الوطء دليل احتمال الشغل بلا ريب، والحكم بجواز النكاح فصل مجتهد فيه يستدل له لا يستدل به، فلا يصلح لمعارضة احتمال الشغل بالوطء بل المر بالعكس؛ فإن احتمال الشغل بوطء المولي يدل على عدم جواز تزويجه إياها، لا أن يكون حكم المجتهد بجواز النكاح برأيه دليلاً على فراغ رحمها بعد وطء المولى وإنزاله، مع أنه ذكر "صاحب الذخيرة" أن الصحيح وجوب الاستبراء على من أراد أن يزوج أمته التي كان يطأها، قال، وإليه مال شمس الأئمة السر خسي. الخامس: قوله: (وكذلك إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها ... إلى أخره)؛ فإن ماء الزاني إن لم يكن محترمًا، فماءه محترم، فكيف يحل له وطؤها مع احتمال شغلها بماء فيأتيها ولد لا يدري من أي الماءين هو، ونظير هذا: القول بجواز التحيل على إسقاط الاستبراء، وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قوله: (وقال مالك رحمه الله هو جائز - يعني نكاح متعة - لأنه كان مباحًا فيبقى إلا أن يظهر ناسخه، وقلنا: ثبت النسخ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وابن عباس رضي الله عنهما صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع). فيه نظر من وجهتين؛ أحدهما: نقله عن مالك جواز المتعة وهو غلط، بل قد اختلط أصحاب مالك في وجوب حد الزنا فيه. الثاني: قوله: (إن النسخ ثبت بإجماع الصحابة) فإن أراد أن نسخه ثبت بالسنة وأجمعت الصحابة على نقله إلينا أو على حكمه فمسلم، وإن أراد به أنه كان ثابتًا بالسنة وأن الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على نسخه فممنوع؛ فإن النسخ لا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من كلامه أنه أراد المعنى الثاني وهو سهو منه؛ فإنه قال: وابن عباس صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع، ومثل هذا الكلام لا يقال في المعنى الأول فإن نقل النسخ لا يحتاج فيه إلى إجماع، بل يحتاج على ثبوته بنقل العدل فقط، ومن خالفه

فهو مستمر على ما كان الأمر عليه، ومع الناقل زيادة علم خفي على من لم يبلغه الناسخ، وهكذا كان أمر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة، حتى قال له على رضي الله عنه: «إنك رجل تائه! إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء» رواه مسلم. واختلف في الوقت الذي نسخت فيه المتعة، فقيل: يوم خبير، وقيل: عام الفتح، وقيل: عام حنين وهذان القولان في الحقيقة واحد لاتصال غزاة حنين بالفتح، وقيل: عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وهذا كثير ما يعرض للحفاظ فمن دونهم. والصحيح أن المتعة حرمت عام الفتح لأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريم زمن خبير لزم النسخ مرتين، وهذا لم يقع مثله في الشريعة. وأيضاً فإن خيبر لم تكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نكاح نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد، وإنما أبحن بعد ذلك في «سورة المائدة» عام حجة الوداع لما نزل قوله

تعالى/ {اليوم أكملت لكم دينكم} إلى قوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ..} الآيات، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم، بل استرق من استرق منهن، وصرن إماء للمسلمين، وقد نبه ابن عبد البر في «التمهيد» على أن تحريم لحوم الحمر الأهلية كان زمن خيبر دون متعة النساء. والأحاديث التي في تحريم متعة النساء ثابتة في "الصحيحين وغيرهما، والغرض هنا التنبيه على إشكال يرد هنا، وهو أن يظن الصحابة أجمعوا على نسخ ما كان ثابتاً إلى حين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها، وأقامت بينة على ذلك فجعلها القاضي امرأته، ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه، وأن تدعه يجامعها) إلى آخر الباب. هذه المسألة من فروع القضاء بالشهادة الزور في العقود والفسوخ وأنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا عند أبي حنيفة رحمه الله، وخالفه فيها أصحابه الثلاثة أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وبقية الأئمة رحمهم الله. وقالوا: ينفذ ظاهرًا فقط، وكان الشيخ أبو الليث السمرقندي وغيره يأخذ بقولهما في الفتوى. ويرجع قولهم حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى (له علي) نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» رواه الجماعة، وهو يشمل العقود والفسوخ وغيرهما.

وقد أوردوا على ذلك أنه يلزم منه أن يجتمع على هذه المرأة رجلان يطأها أحدهما ظاهرًا الإيراد بالقضاء في الأملاك المرسلة: بأن ادعى رجل في جارية ملكًا مطلقًا وأقام شاهدي زور فقضى له بها القاضي؛ فإن القضاء هنا ينفذ ظاهرًا لا باطنًا بالإجماع، وما كان جوابهم عن هذه فهو جواب الآخرين عن تلك. مع أنا نقول: لا يحل لهذا المقضي له الوطء مطلقًا، لا ظاهرًا ولا باطنًا، وإنما يمكنه متنها باعتبار ما أبداه من الحجة، هي باقية على حرمتها عليه، وهو زان بها فيما بينه وبين الله تعالى. وإذا وطئها هذا لا يحل للآخر أن يطأها بعده، لاحتمال اشتغال رحمها بماء هذا، فلا يحل له أن يجمع ماءه مع مائه، وهي موطوءة بشبهة، أو بمنزلتها فلا تحل للأول بغير استبراء. وأورد أيضًا أنه يلزم منه تعطيل الفرج لأنها لا تحل للأول ولا للثاني، ولا تتمكن من الزواج بزوج، وفيه ضرر عليها. ويجاب عن هذا بأن حلها للزوج الأول باق، وعلى هذا الذي أقام شهود

الزور على دعواه الكاذبة التوبة من هذا الذنب العظيم، وكذلك الذين شهدوا بالزور، ومن تمام توبتهم رد هذه المرأة إلى زوجها، ومن قال: إن توبتهم تصح بدون ردها إلى زوجها مع ظلمهم إياه فقد أبعد، ويتسلط بذلك كثير من الجهال؛ فإنه إذا أعجبته امرأة إنسان يأتي معه بآخر فيشهدان على الزوج أنه طلقها، ثم يتزوجها ويقول: إني أتوب من شهادة الزور ثم أتمتع بهذه المرأة حلالًا، وهذا هو المحذور، لا ما قيل: إنه يجتمع عليها رجلان يطأها أحدهما سرًا والآخر علانية؛ فإنا نقول: إن ها الذي يطأها علانية زان، وإن كنا لا نقيم عليه الحد للشبهة وعدم الاطلاع على حقيقة أمره، ولا نقول: إنها حلال باعتبار تقدير عقد سابق على القضاء، أو على طلاق في حق الصورة الأخرى ولم يوجد، ولا ألجأن إلى هذا التقدير ملجأ. وقد استدل لأبي حنيفة بما روى: «أن رجلًا ادعى على امرأة نكاحًا بين يدي علي رضي الله عنه، وأقام شاهدين فقضى بالنكاح بينهما، فقالت المرأة: إن لم يكن بد يا أمير المؤمنين فزوجني منه، فقال رضي الله عنه: شاهداك زوجاك». وهذا الأثر لم يثبت فلا حاجة إلى الاشتغال برد الاستدلال به إلا بعد ثبوته، وعلى تقدير ثبوته لا حجة فيه فإنه أضاف التزويج إلى شهادة الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى/ التزويج لأن فيه طعنًا على الشهود وقول

المصنف: وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنًا بتقديم النكاح نفذ. قطعًا للمنازعة. جوابه: أن الحجة باطلة، وتنفيذ القضاء ممكن بتمكين المدعي من المرأة باعتبار ما أبداه من الحجة، فلا حاجة إلى القول بتقديم النكاح وقد انقطعت المنازعة بالتمكين، وحكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال. فإذا كان حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخصوم لا يحلل لهم ما حرم عليهم لقوله: «فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» كما تقدمك في الحديث. فكيف بحكم الحاكم بعده؟! * * *

باب الأولياء والأكفاء

باب الأولياء والأكفاء قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأمر في نفسها، فإن سكتت فقد رضيت»). وقوله بعد ذلك: (لقوله عليه الصلاة والسلام" «الثيب تشاور»). كلا الحديثين نقله المصنف بالمعنى، وأصلهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن (في نفسها)، وإذنها صمتها رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله! كيف إذنها؟ قال: أن تسكت» رواه الجماعة.

وعن عائشة نحوه متفق عليه، ولفظ «الثيب تشاور» لم يرد، وليس معناها معنى تستأمر، أو تستأذن، بل صاحب الأمر هو الذي يستشير غيره، وهو يأمر ويأذن، ويستنيب خصوصَا على قول أبي حنيفة رحمه الله أنها لو انفردت بالعقد عن الولي لصح العقد، وأيضاً فالحديث ورد بالنفي والإثبات «لا تنطح الأيم حتى تستأمر» وذلك يقتضي الحصر، فلا يؤدي معناه الإثبات وحده. قال السروجي: وروي عن علي رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا: «الإنكاح إلى العصبات»، ويروي «النكاح إلى العصبات» ذكر الحديث شمس الأئمة السرخسي، وسبط ابن الجوزي، والحديث لم يخرجه أحد من الجماعة،

ولا ثبت، مع أن الأئمة الأربعة على العمل به في حق البالغة انتهى. وقوله: (فيتطرق الخلل إلى المقاصد عسى). عسى من الأفعال الناقصة التي لا تتم بمرفوعها مثل كان وتختص عنها بأحكام معروفة في موضعها، ولا تستعمل تامة أبدًا كما استعملها المصنف. ولا يتقدم معمولها عليها حتى يقال: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا تقديره: فعسى يتطرق الخلل إلى المقاصد. في القول بخيار الإدراك ويسمى خيار البلوغ نظر، فإنه لم يرد عن الشارع، ولهذا قواه باشتراط حكم الحاكم، ولولا ما ورد عن الشارع من الدليل على جواز انكاح الصغير لغير الأب والجد لكان في قياس غيرهما نظر

لقصور شفقتهم عنهما. والدليل قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} الآية. وقوله تعالى: {ويستفتونك في النساء} الآية. وفي «الصحيحين» أن عُروة سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} إلى قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} قالت «يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حَجر وليّها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهنّ إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح عن سواهنّ». قال عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء} إلى: {وترغبون أن تنكحوهن} فبيّن لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال، ومال، رغبوا في نكاحها، ولم يلحقوها، بسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال: «وكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق». ولا يصحّ اعتبار خيار البلوغ بخيار العتق، لأن الأمة بالإعتاق ملكت بضعها فتختار، مع أن الذين قالوا بخيار البلوغ إنما عللوا خيار العتق بزيادة الملك في الطلاق، وبالبلوغ لا يزداد الملك، وإذا كان تزويج الصغيرة جائزاً لغير

الأب والجد يتعلق به جميع أحكام النكاح من حلّ الوطء، ووجوب النفقة وجريان الإرث وغير ذلك فرفعه بعد ذلك بالخيار من غير نص، ولا اعتبار صحيح فيه نظر. وحكم الحاكم يلزم بما يكون ثابتًا قبله، لا أنه مثبت لما لم يكن ثابتًا مشروعًا قبله، فإن الحاكم منفذ لأمر الشرع لا مشرِّع لحكم لم يشرع. وظهر بهذا وغيره رجحان قول أبي يوسف رحمه الله. قوله: (ولم يشترط العلم بالخيار لأنها تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع والدار دار العلم؛ فلم تعذر بالجهل). وسيأتي في «الهداية» في كتاب الإكراه أن من أكره بالقتل على أكل الميتة فلم يأكل حتى قتل أثم إن علم بالإباحة، وإن لم يعلم لا يأثم، وعلل له

بأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل كالجهل بالخطاب في أول الإسلام، أو في دار الحرب. هذه عبارته ولم يقل هناك إن الدار دار علم، فلم يعذر بالجهل فهلا قال ذلك هنا: وهو أولى، لأن المخدرة لا تتفرع للتعلم كما يتفرع الرجل، فإذا عذر الرجل المكره بالجهل فالبكر الصغير المخدرة أعذر. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: السلطان ولى من لا ولي له) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له وحسنة الترمذي قال السروجي: هذا الحديث من رواية سليمان بن موسى الأشدق

قال: وفي الكمال قال عبد الملك بن جريج والبخاري: عنده مناكير وقال ابن عدي: يروي أحاديث يتفرد بها لا يرويها غيرة. وقال علي بن المديني: هو مطعون عليه. كره البخاري في الضعفاء والمتروكين. قال السروجي: وكيف حسن الترمذي هذا الحديث؟ من أين ثبت له الحسن؟ وسليمان بن موسى بين ابن جريج وبين الزهري. قال ابن جريج

سألت الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه، هكذا رواه عنه إسماعيل بن إبراهيم بن سهم بن مقسم، يعرف بابن علية، نسب إلى أمة.

فصل في الكفاءة

فصل في الكفاءة قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء"). أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر رضي الله عنه وفيه: "ولا مهر دون عشرة دراهم" قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث ضعيف لا أصل له. ولا يحتج بمثله. والصحيح أنها ليست بشرط، بل هي معتبرة في الجملة. وقال البيهقي: ضعيف بمرة. وقال ابن التركماني: وفي اعتبار الكفاءة أحاديث آخر لا تقوم بأكثرها الحجة، وأمثلها حديث على قال عليه السلام له: "يا علي، ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أذنت، والجنازة إذا أحضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا" انتهى. وأجمعت الأمة على اعتبار

الكفاءة في الدين فلا يتزوج الكافر مسلمة. واختلفوا فيما عدا ذلك، وظاهر مذهب مالك أنه لا تشترط الكفاءة في النكاح في غير الدين، وهو اختيار الكرخي. قال في المبسوط: قال الكرخي: الأصح عندي أنه لا اعتبار بالكفاءة في النكاح انتهى. وحكاه ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز، وحماد بن أبي سليمان، وعبيد بن عمير، وابن سيرين، وابن عون انتهى. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقال تعالى:

{إنما المؤمنون إخوة} وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} وقال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} وقال عليه الصلاة والسلام: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا أبيض على أسود ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب" وقال عليه الصلاة والسلام: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن أوليائي إلا المتقون حيث كانوا ومن كانوا". وفي الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوا إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه! فقال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ثلاث مرات".

وقال لبني بياضة: "انكحوا أبا هند وانكحوا إليه، وكان حجامًا. وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، (وزوج)

فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه. وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال تعالى: {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} وقال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلًا وكمالًا، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة أمرًا وراء ذلك. وقال تعالى: {وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم}. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن أبا حذيفة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان

ممن شهد بدرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالمًا، وانكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة وهو مولى لامرأة من الأنصار" رواه البخاري والنسائي وأبو داود، وما ورد في اعتبار الكفاءة إن صح إنما يدل على الكمال والأولوية، لا على أنه شرط لصحة العقد. وقد اختلف العلماء في اشتراط الكفاءة، والشهادة، والولي والأمر فلي ذلك كما قال ابن رشد المالكي في "القواعد" في اشتراط الولي: وسبب اختلافهم أنه لم يأت آية ولا سنة ظاهرة في اشتراط الولي في

النكاح، فضلاً عن أن يكون في ذلك نص. هذا وما ورد في اشتراط الولي أقوى وأمثل، مما ورد في اشتراط الكفاءة، والشهادة، ولكن الأبضاع أمرها خطر؛ فلذلك لا ينبغي التساهل في هذه الأمور المختلف فيها، بل يجب الاحتياط فيها، والاهتمام بأمرها، ومهما أمكن أن يكون العقد متفقًا عليه فلا ينبغي أن يعدل عنه إلى ما فيه خلاف، وإن كان مرجوحًا إلا لمعارض راجح، خصوصاً وكثير من العقاد الغالب عليهم الجهل، والركون إلى التقليد المحض، هذا حكم الدين منهم، وأما القليل الديانة منهم فالأمر فيه أشد، وإنما أردت هنا التنبيه على مأخ من اشترط هذه الأمور الثلاثة كالشافعي، وأحمد، أو بعضها كغيرهما فإن أبا حنيفة يشترط الشهادة والكفاءة دون الولي، ومالكًا لا يشترط الكفاءة في غير الدين، ويشترط الإعلان دون الإشهاد. وعنه في اشتراط الولي روايتان، إحداهما: أن الدنية كالسوداء والتي أسلمت والفقيرة، والنبطية، والمولاة، إن زوجها الجار أو غيره ممن ليس

بولي فهو جائز. وأما التي لها موضع فإن زوجها غير وليها فرق بينهما، فإن أجازه الولي أو السلطان جاز. والثانية الابن رشد المالكي: ويخرج على رواية ابن القاسم/ عن مالك قول آخر وهو أن اشتراط الولي سنة، وليس بفرض كقول أبي حنيفة، وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، فكأنه عنده شروط الكمال لا الصحة. هكذا نقل السروجي في "شرحه". قوله: (والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "قريش بعضهم أكفاء لبعض، بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، راجل لرجل"). قال السروجي: لم أجد هذا في كتب الحديث، وإنما هو مذكور في كتب الفقه انتهى. وللبيهقي من حديث ابن عمر: "إن العرب بعضها أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضها أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام" وهو منقطع .......

وضعفه ابن عبد البر. قوله: (وهذا الوضع إنما يصح على قول محمد على اعتبار قوله المرجوع إليه في النكاح بغير الولي، وقد صح ذلك، وهذه شهادة صادقة عليه). يعني فيما إذا تزوجت المرأة ونقصت من مهرها، وفيه نظر؛ لأنه لا يمكن تصور هذا الفرع على القول بالتوقف أيضًا، وذلك فيما إذا أذن لها الولي في التزوج فزوجت نفسها ونقصت من مهرها.

فصل في الوكالة في النكاح وغيرها

(فصل في الوكالة في النكاح وغيرها) قوله: (ولهما أن الموجود شطر العقد؛ لأنه شطر حالة الحضرة فكذا عند الغيبة). يعني كلام الفضولي من الجانبين أو أحدهما ثم قال بعد ذلك: (وما جرى بين الفضوليين عقد تام).

فظاهر كلامه أن الفضولي من الجانبين أو إحداهما إذا وجد منه إيجاب وقبوله بأن قال: زوجت فلانًا بفلانة وقبلت عنها، أو زوجت نفسي بفلانة وقبلت عنها، أو قالت امرأة: زوجت نفسي بفلان وقبلت عنه، أن هذا الموجود شطر العقد، ولو أجابه فضولي آخر بقوله: قبلت عن فلان الغائب أو عن فلانة الغائبة أن هذا عقدتام، وفيه نظر، وأي فرق بين أن يقول رجل زوجت فلانًا بفلانة، ويقول آخر: قبلت عنها، وبين أن يقول رجل: زوجت فلانًا بفلانة ثم يقول هو: قبلت عنهما حتى يقال: إن الموجود هنا شطر العقد، وإنما وجد إيجاب وقبول كالموجود من اثنين، وإنما ينبغي أن يكون الخلاف فيما إذا قال رجل: زوجت فلانًا بفلانة ثم يبلغ فلانة الخبر فتجيز، فهنا يقال: الموجود شطر العقد فلا يتوقف، ويقول أبو يوسف: الموجود وإن كان شطر العقد صورة لكنه يتضمن الشطر الآخر فيتوقف على الإجازة، كما لو كان وكيلاً من الجانبين فقال: زوجت فلانًا بفلانة؛ فإنه ينعقد ولا يحتاج أن يقول: قبلت عنها أو عنه باتفاق الأصحاب. وكذلك الولي من الجانبين والولي من أحدهما، والوكيل من أحدهما والأصيل من أحدهما، وإلا فقولهم: إن الموجود شطر العقد فيما إذا أوجد الفضولي إيجاباً وقبولاً مشكل، وقد قال السغناقي في شرحه قبل هذا: إذا تكلم الفضولي بكلام واحد بأن قال الفضولي: زوجت فلانة من فلان انتهي، وعلى هذا فقول المصنف وغيره: "إن الواحد لا يصح فضوليًا من الجانبين أو فضوليًا من جانب أصيلاً من جانب عندهما خلافًا له" لا

ينبغي أن يطلق هذا الكلام هكذا، بل قد يصلح إذا تكلم بالإيجاب والقبول على مقتضي ما ذكر من التعليل، ثم في تسميته فضوليًا نظر من وجهين؛ أحدهما: أن الفضول جمع فضل، والقاعدة أنه إذا نسب إلى الجمع يفرد ثم ينسب إليه؛ فعلي هذا يقال: فضلي لا فضولي، والمسألة معروفة في باب النسب في علم النحو، الثاني: أنهذا الوصف في العرف مذموم، يقال: فلان فضولي إذا كان يتكلم فيما لا يعنيه بلا فائدة، فينبغي أن يسمي هذا متفضلاً؛ لأنه قد تفضل وحصل له زوجة، أو لها زوجًا فإن رآه مصلحة أجاز، وإلا رد وكذلك في البيع قد حصل لبضاعته زنونًا، أو حصل له بضاعة فيخير إن شاء أمضاه وإن شاء رده.

باب المهر

[باب المهر] قوله: (وفيه خلاف مالك رحمه الله). قال السروجي: قال في "الحواشي": يعني في جواز النكاح عند نفي المهر- واعتبر النكاح بالبيع، وفي "التمهيد": ذهب مالك إلى أن المفوضة لا مهر لها، وعليها العدة، ولها/ الميراث إذا مات عنها، ويأتي الكلام عليها من قريب فثبت أن نكاحها صحيح عنده، انتهي. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا مهر أقل من عشرة"). تقدم ذكره في فصل الكفاءة من حديث جابر رضي الله عنه، وقد قال فيه ابن عبد البر: هذا الحديث ضعيف لا أصل له، ولا يحتج بمثله، وقال

البيهقي: ضعيف بمرة. قوله: (استدلالاً بنصاب السرقة). لم يثبت في نصاب السرقة التقدير بعشرة دراهم وسيأتي الكلام في ذلك، وإذا لم يثبت في السرقة لا يصح قياس المهر عليه، ولم يصح في تقدير المهر حديث، بل صح ما يدل على جواز النكاح بما قل أو كثر من الصداق، عينًا كان، أودينًا، أو منفعة؛ فإن الله تعالي قال: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غي رمسافحين} الآية، وقال تعالي: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرًا فمن عندك} وما قصه الله علينا من شريعة من قبلنا فهو شريعة لنا ما لم تنسخ، وقد جاء في شريعتنا ما يقرر هذا، لا ما ينسخ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه عن المرأة التي وهبت نفسها للنبي -صلي الله عليه وسلم- ولم يردها،

فقام رجل [فقال]: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئًا، فقال: ما أجد شيئًا، فقال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال له النبي - صلي الله عليه وسلم-: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور يسميها، فقال له النبي -صلي الله عليه وسلم-: قد زوجتكما بما معك من القرآن" متفق عليه، وفي رواية متفق عليها: "فقد ملكتكها بما معك من القرآن" عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:أرضيت من نفسك بنعلين؟ قالت: نعم، قال: فأجازه" رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وصححه.

عن جابر أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-قال: "لو أن رجلاً أعظي امرأة صادقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالاً" رواه أحمد، وأبو داود بمعناه، وهذا الحديث عن جابر أمثل مما روي عنه في تقدير المهر بعشرة دراهم، وعنه عليه الصلاة والسلام قال: "أدوا العلائق"، قيل: يا رسول الله، ما العلائق؟ قال: ما تراض به الأهلون" رواه الدارقطني. ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وبين الحديث الذي ذكره المصنف "لا مهر أقل من عشرة دراهم" على تقدير صحته بأن يحمل على نفسي الكمال، فيستحب أن لا ينقص المهر عن عشرة دراهم، وهذا اختيار الحسن البصري، وجمهور أهل العلم على عدم التقدير، منهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، وبحيي بن سعيد الأنصاري، وربيعة،

وأبو الزناد، وابن أبي ذئب، وعمرو بن دينار وعثمان البتي، وابن أبي ليلي، وسفيان الثوري، والليث بن سعيد، والأوزاعي، والشافعي، والحسن ابن حي، وأحمد وإسحاق، وغيرهم من أهل الحديث. وقد استدل السروجي على تقدير المهر فقال: ولأنه لو لم يكن للصداق حد لكان الدانق والحبة، والفلس صداقًا لبضع فيكون دون مهر

البغي ومهر البغي منهي عنه في "الصحيح"، ويشتبه به، أنتهي، وهذا فاسد؛ فإن مهر البغي ما نهي عنه لقلته فإنه حرام منهي عنه وإن كان مالاً كثيرًا بلا خلاف بين العلماء، فهو محرم لكونه عوضًا من محرم، لا لكونه قليلاً، وبعض البغايا يعطي عشرة دراهم وأزيد ولا يشتبه المهر، لا لكونه قليلاً، وبعض البغايا يعطي عشرة دراهم وأزيد ولا يشتبه المهر المدفوع في النكاح الصحيح بالجعل الذي تأخذه البغي على بغائها أبدًا. قوله: (والأقيسة متعارضة، ففيه تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره، وفيه عود المعقود عليه سالمًا/ إليها، فكان المرجع فيه النص). في هذا التعليل إساءة أدب على النص؛ لأن ظاهره أنه إنما صرنا إلى النص

لتعارض الأقيسة، وإلا فالأصل القياس، وليس الأمر كذلك، وأيضًا فليس هنا إلا قياسا [ن] لا أقيسة، وأيضًا فالأفقيسة الصحيحة لا تتعارض، ولكن ثبوت أحد المعنيين المذكورين يوجب سقوط المهر، وثبوت الآخر يوجب تكميله، وقد ثبتا معًا فوجب النصف، هذا موجب القياس الصحيح الموافق للنص الصريح. قوله: (والمتعة ثلاثة أبواب من كسوة مثلها، وهي درع وخمار وملحقة، وهذا التقدير مروري عن عائشة وأبن عباس رضي الله عنهما). ذكره البيهقي عن ابن عباس، ولم أره منقولاً عن عائشة في كتب الحديث. قوله: (وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا لمطلقة واحدة، وهي التي طلقها

قبل الدخول بها وقد سمي لها مهرًا). هذا هو الصحيح من النسخ، وفي بعضها (ولم يسم لها مهرًا) بدل قوله: (وقد سمي مهرًا) وفي كل منهما نظر، أما المذكور في النسخ فلان ما ذكره بعده من التعليل، والنقل عن الشافعي ينافيه، وأما المذكور في النسخ الصحيحة ففيه نظر من وجهين أحدهما: أن الصورة المستثناة تستحب لها المتعة أيضًا كذا ذكره الكرخي، والرازي، وغيرهما؛ فإنهم ذكروا أن المتعة تجب لمن طلقت قبل الدخول ولم يسم لها مهرًا، وتستحب لغيرها من المطلقات، الثاني: أن قوله: وتستحب المتعة لكل مطلقة ... إلى آخره، يشمل التي طلقت قبل الدخول ولم يسم لها مهرًا والمتعة لها واجبة، والمستحب قسيم الواجب، وقد اعتذر الشراح عن المصنف بعذر

متعسف، ومنهم من قال إن المذكور في الكتاب غلط من الكاتب، والحاصل أن المطلقات أربع: مطلقة قبل الدخول لم يسم لها مهرًا، والمتعة لها واجبة، ومطلقة بعد الدخول وقد سمي لها مهرًا، ومطلقة بعد الدخول ولم يسم لها مهرًا والمتعة لهما مستحبة، ومطلقة قبل الدخول وقد سمي لها مهرًا واختلف الأصحاب في استحباب المتعة لها. قوله: (ولنا أن المشروع إنما هو الابتغاء بالمال، والتعليم ليس بمال، وكذا المنافع على أصلنا، وخدمة العبد ابتغاء المال لتضمنه تسليم رقبته، ولا كذلك الحر، ولان خدمة الزوج الحر لا يجوز استحقاقها بعد النكاح لما فيه من قلب الموضوع، بخلاف خدمة حر آخر برضاه لأنه لا مناقضة، وبخلاف خدمة العبد لأنه يخدم مولاه معني حيث يخدمها بأمره وإذنه، وبخلاف رعي الغنم لأنه من باب القيام بأمور الزوجية فلا مناقضة على

أنه ممنوع في رواية). جواز جعل خدمة العبد صداقًا، وخدمة حر آخر غير الزوج، ورعي غنم المرأة دليل على جواز جعل المنافع صداقًا، وهذا الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة كما تقدم التنبيه عليه في أوائل هذا الباب، ثم الفرق بين الزوج الحر، والزوج العبد، وبين رعي غنمها، وغيره محل نظر باعتبار أنه هل هو مناقض لمقاصد النكاح أم لا؟ لا باعتبار أنه منفعة وليس بمال؛ لأنه منفعة العبد ومنفعة حر آخر ومنفعة رعي الغنم صلحت مهرًا كما تقدم، وإذا لم يكن رعي غنمها مناقضًا لمقاصد النكاح فتعليم القرآن كلك، لو سلم أن في خدمة الزوج الحر قلب الموضوع فتعليم القرآن ليس كذلك. فإن قيل: إن تعليم القرآن مستحق عليه ديانة! فجورا به أنه يجوز الاستئجار عليه على ما يأتي الكلام عليه، وما فيه من التفصيل في كتاب الإجارات إن شاء الله تعالي. وقوله: على أنه ممنوع في رواية، تلك الرواية لا دليل عليها، بل هي مخالفة للدليل فلا تصلح للمعارضة، فإن ما قصه الله علينا من تزوج موسي عليه الصلاة والسلام على رعي الغنم لم ينسخ في شريعتنا فهو مستمر الحكم.

قوله: (وإذا تزوجها على ألف على أن لا يخرجها من البلدة، أو على أن لا يتزوج عليها، فإن وفي بالشرط فلها المسمي؛ لأنه صلح مهرًا، وقد تم رضاها به، وإن تزوج عليها أخرى أو أخرجها فلها مهر مثلها؛ لأنه سمي ما لها فيه نفع؛ فعند فواته ينعدم رضاها بالألف فيكمل مهر مثلها، كما في تسمية الكرامة، والهدية مع الألف). لا شك أنه إذا سمي مع الألف فيه نفع فعند فواته ينعدم رضاها بالألف، لكن من هذه الشروط ما لا تختار المرأة معه البقاء على ذلك، ولو أعطاها من المال أزيد من مهر مثلها بخلاف الكرامة والهدية؛ لأنه من جنس المال فترضي بتكميل مهرها عند فواته، وإذا ثبت الفارق بين شرطه الكرامة والهدية مع الألف وبين شرط أن لا تزوج عليها، أولاً يتسري، أو لا يخرجها من البلد امتنع القياس عليه. فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين ما إذا شرط أن يطلق أختها حيث يبطل الشرط، ولا يلزم الوفاء به اتفاقًا؟ قيل: في اشتراط طلاق الزوجة من الإضرار بها وكسر قلبها، وخراب بيتها، وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها أو نكاح غيرها، والدفع أسهل من الرفع؛ فقياس أحدهما على الآخر فاسد، وقد قال النبي -صلي الله عليه وسلم-:"أحق الشروط أن توفي به ما استحللتم به الفروج" رواه الجماعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ولا

تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها أو إنائها، فإنما رزقها على الله تعالي" متفق عليه، وعنه -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل أن يكح امرأة بطلاق أخرى" رواه أحمد، وقد أورد عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أو أحل حرامًا أو حرم حلالاً" وهذه الشروط تحرم حلالاً وهو التزويج عليها، والتسري، والمسافرة بها، وبغيرها، فكانت مردودة، وأجابوا أنا لم نحرم الحلال وإنما أثبتنا لهم به فسخ نكاحها عند فوت الشرط كما اعتبرتموه أنتم في تكميل مهر المثل عند فوته.

وقد اختلفوا في اشتراط البكارة، والنسب، والجمال، والسلامة من العيوب التي لا يفسخ بها النكاح، هل يؤثر عدمها في فسخه؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد ثالثها الفسخ عند عدم النسب خاصة. قوله: (وقالا الشرطان جميعًا جائزان حتى كان لها الألف إن أقام بها، والألفان إن أخرجها). قولهما في صحة الشرطين هنا وفي الإجارات أقوي الأقوال؛ فإنه لا مانع من اعتبارهما، ولا جهالة ولا منازعة. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله أن موتهما يدل على انقراض أقرانهما، فبمبهر من يقدر القاضي مهل المثل؟). أصل المسألة أن عند أبي حنيفة إذا مات الزوجان ثم اتفقت ورثتهما أن العقد خلا عن تسمية المهر، أو اختلفوا في تسميته فلا شيء لورثتها، وإن اختلفوا في مقدار المسمي فالقول لورثة الزوج، وإن قالوا أقل من درهم.

قال صاحب البدائع: وقوله في المسألة، مشكل، ولقد صدق رحمه الله؛ فإن التعليل بأن موتهما يدل على انقراض أقرانهما من أبعد ما يكون، فقد يموتان شابين أو صبيين، مع أنه لو مات أقرانهما لا يلزم منه عدم معرفة مهر مثلها؛ ولهذا حمل بعض الأصحاب على ما إذا كان الاختلاف بعد تقادم عهد موتهما، وظهور ضعف هذا التعليل لا يحتاج إلى تأمل، قالوا ولأنه لو سمع الدعوي في ذلك يسمع من وارث وارث من مات في العصر الأول. يرد هذا الإيراد أنهم لو اتفقوا على أن الزوج سمي لها مهرًا ولم يعطها شيئًا فإنه يقضي لورثتها بالمسمي فكذلك يجب أن يقضي بمهر المثل عند عدم التسمية، ولا يلزم من كونه لا يقضي لوارث وارث وارث من مات في العصر الأول- لعدم إمكان معرفة مهر المثل، ولبعد صحة الدعوي- أن لا يقضي لورثة الزوجة عند قرب العهد، وظهور صحة الدعوي، وإمكان معرفة مهر المثل. قوله: (ومن بعث إلى امرأته شيئًا، فقالت هو هدية، وقال الزوج هو من المهر فالقول قوله مع يمينه). إذا كان الصداق دراهم أو دنانير فأرسل إليها حنطة أو شعيرًا أو ما جرت عادة الناس اليوم بإرساله في بلادنا من ماء الورد، والثوب الحرير،

والسكر ونحو ذلك فإن في تصديقه في قوله أنه من المهر نظرًا لوجهين؛ أحدهما: أن الظاهر يكذبه، والثاني: أن الصداق دراهم أو دنانير، والمرسل من خلاف جنسهما، والمعارضة/ تحتاج إلى التراض من الجانبين ولم يوجد؛ فقوله: أنه بعث إليها صداقها أو من صداقها غير صحيح فلا يصدق إذا صداقها غير ما أرسله إليها، ولا ينفع التعليل بأن الظاهر أنه يسعي في إسقاط الواجب في ذمته؛ فإن الواجب في ذمته غير ما أرسله إليها، ولا يسقط ما في الذمة بغيره إلا بطريق المعاوضة التي يحتاج إلى التراض من الجانبين ولم يوجد.

فصل

[فصل] قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا من أربي فليس بيننا وبينه"). ليس لهذا الحديث ذكر في كتب الحديث، ولكن ورد معناه في حديث ضعيف أخرجه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صالح رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أهل نجران على ألفي حلة ... " الحديث، وفي آخره "ما لم يحدثوا حدثًا أو يأكلوا الربا".

باب نكاح الرقيق

[باب نكاح الرقيق] قوله: (لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما، وقال مالك يجوز للعبد). فيه نظر من وجهين، أحدهما: أن قوله: لا يجوز نكاح العبد صوابه أن يقول: لا ينفذ، لأن نكاحه صحيح موقوف على إجازة المولى، والثاني: قوله: وقال مالك: يجوز للعبد، وليس هذا مذهب مالك، وإنما مذهبه كمذهب أبي حنيفة أنه ينعقد موقوفًا على إجازة سيدة. قوله: (والمدبر والمكاتب يسعيان في المهر ولا يباعان فيه؛ لأنهما لا يحتملان النقل من ملك إلى ملك مع بقاء الكتابة والتدبير فيؤدي من كسبهما لا من أنفسهما). سيأتي الكلام في بيع المدبر في باب المدبر، والكلام في بيع المكاتب في باب البيع الفاسد إن شاء الله.

قوله: (وله أن اللفظ مطلق فيجري على إطلاقه كما في البيع، وبعض المقاصد في النكاح الفاسد حاصل، كالنسب، ووجوب المهر، والعدة على اعتبار وجود الوطء، ومسألة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة). الإذن المطلق ينبغي أن يكون مطلقًا فيما أذن الله فيه، ولا يظن بالمسلم أن يأذن فيما لم يأذن به الله، ولا شك أن المطلق تقيده القرينة العرفية والشرعية بحسب المقام؛ ولهذا خالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة في أجزائه المطلق على إطلاقه من تقييد بالعرف أو الشرع كما في هذه المسألة، وفي مسألة التوكيل بشراء الأمة حيث لا يملك الوكيل عندهما أن يشتري له أمة عمياء، أو شلاء، أو نحوهما. وكذلك ينبغي أن يتقيد إذنه لعبده بالبيع، بالصحيح منه دون الفاسد، فإن النكاح المعروف والبيع المعروف عند المسلمين هو الصحيح، والمعروف كالمشروط، وهو لو شرط لما تعدي الإذن إلى الفاسد، فكذلك إذا لم يشترطه وكان معروفًا، كما لو نذر أن يصلي ركعتين، أو يصوم يومًا، يلزمه أن

يؤدي ذلك صحيحًا ولا يخرج عن عهدة النذر بالفاسد منه إجماعًا. وكون بعض المقاصد حاصلاً في النكاح الفاسد كثبوت النسب، ووجوب المهر، لا يلزم أن ذلك القصد معتبر يدخل في الأذن المطلق؛ لأن في جعل النكاح الفاسد مقصودًا لذلك نظرًا، وإنما يقال: إنه لو وجد لترتب عليه ثبوت النسب، ووجوب المهر، لا أنه يقصد لذلك، وإن كان هذا من جملة ما يقصد بالنكاح الصحيح، وفي جعل المصنف العدة من جملة مقاصد النكاح نظر؛ فإن النكاح لا يقصد لأجلها. وقوله: (مسألة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة) مشكل؛ فإن الحكم إذا كان منقولاً فيها، كيف يقال إنه ممنوع بالتخريج على تقدير تعليل قد يكون ممنوعًا؟ فإن في حصول بعض المقاصد في النكاح الفاسد تقدم من النظر. قوله: (ولأنه يزداد الملك عليها عند العتق، فيملك الزوج بعده ثلاث تطليقات، فتملك رفع أصل العقد دفعًا للزيادة). في هذا التعليل نظر، وأقوي منه التعليل بأنها ملكت نفسها، وقد ورد في بعض روايات حديث بريرة "ملكت بضعك فاختاري".

وهذا وإن لم يثبت مرفوعًا، فالتعليل به أقوي من التعليل بكمالها تحت ناقص أو بزيادة ملك طلقه ثالثة مع أن هذا التعليل لا يستقيم؛ فإن الزوج له أن يمسكها فلا يطلقها إلى / الممات فلا يظهر حينئذ لزيادة العدد في الطلاق ثمرة، والنكاح عقد على مدة العمر، فهو يملك استدامة إمساكها، وعتقها لا يسلبه هذا الملك، مع أن في اعتبار الطلاق بالنساء نظر، فإن الحديث الذي فيه "طلاق الأمة ثنتان" ضعيف واعتباره بمن هو في يده، وإليه مشروع في جانبه أظهر. قوله: (ولنا أن العلة ازدياد الملك وقد وجدناه في المكاتبة؛ لأن عدتها قرآن، وطلاقها ثنتان). تقدم أن هذا التعليل فيه نظر، وأن التعليل بأنها ملكت نفسها أقوي منه فتختار ويمكن أن يوجد حكم خيار المكاتبة إذا تزوجت بإذن مولاها ثم عتقت من هذا التعليل أيضًا، هو أن يقال: إن المكاتبة أمة ما بقي عليها درهم،

ويحتمل أن تعجز فترد إلى الرق فلعلها تقول: إنها إنما رضيت لأن مولاها لا يوافقها على من تختاره، فوافقته على من يختاره وهو ضرورة، ولا كذلك بعد الإعتاق فإنه إن لم يوافقها على التزوج بمن تختاره، تزوجت بغير إذنه على قول من لم يشترط الولي، أو رفعت الأمر إلى الحاكم ليزوجها إياه بحكم عضل المولي. قوله: (ثم هذا الملك يثبت قيل الاستيلاء شرطًا له) إلى آخره. يعني فيما إذا وطئ أمة ولده ثم أتت بولد فادعاه القول بأن الأب إذا وطئ أمة ولده فالوطء محرم، ولكن إن علقت من ذلك الوطء ثم أتت بولد وادعاه الأب انقلب حلالاً قول بعيد؛ فإن وطء أمة الولد محرم قطعًا، إلا أن يقال: إن له أن يتملك أمة ولده كما يقوله الإمام أحمد، وإذا لم يكن متملكًا لها قبل الوطء ولا به، فالوطء محرم، فكيف ينقلب حلالاً بالعلوق الذي يتعقبه دعوة الولد بعد أو وقع حرامًا؟ فامتنع أن يثبت الملك شرطًا للاستيلاد والحالة هذه!

باب نكاح أهل الشرك

[باب نكاح أهل الشرك] قوله: (وإذا تزوج الكافر بغير شهود، أو في عدة كافر، وذلك في دينهم جائز، ثم أسلما أقرا عليه) إلى آخر المسألة. هذا الإطلاق غير صحيح، والخلاف إنما هو فيما إذا أسلما، أو ترافعا قبل انقضاء العدة، وأما إذا كان الإسلام أو المرافعة بعد انقضاء العدة فلا بفرق بينهما بالإجماع، كذا في "المبسوط" و"الأسرار". قوله: (وذا خرج أحد الزوجين إلينا من دار الحرب مسلمًا وقعت

البيونة بينهما، قال الشافعي رحمه الله: لا يقع، ولو سبي أحد الزوجين وقعت البينونة، إن سبيًا معًا لم يقع، وقال الشافعي: وقعت فالحاصل أن السبب هو التباين عندنا، دون السبي، وهو يعكسه). وذكر دليل الشافعي، ثم قال: (ولنا أن مع التباين حقيقة وحكمًا لا تنتظم المصالح فشابه المحرمية، والسبي يوجب ملك الرقبة، وهو لا ينافي النكاح ابتداءً، فكذا بقاءً، فصار كالشراء ثم هو يقتضي الصفاء في محل عمله وهو الما، لا في محل النكاح). فيه نظر، أما تباين الدار فإن أبا سفيان أسلم بمر الظهران في معكسر

رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وهو بمنزلة دار الإسلام، وزوجته هند بمكة وهي دار الحرب حينئذ، ولم يجدد بينهما عقد. وروي مالك في موطئه عن ابن شهاب قال "كان بين إسلام صفوان بن أمية، وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حنينًا والطائف وهو كافر، ثم أسلم ولم يفرق النبي -صلي الله عليه وسلم- بينهما، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح". قال ابن عبد البر: وشهره هذا الحديث أقوي من إسناده وقال ابن

شهاب: "أسلمت أم حكيم يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة حتى أتي اليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم فبايع النبي -صلي الله عليه وسلم- فبقيا على نكاحهما" وأسلم حكيم بن حزام قبل امرأته. ورد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- زينب ابنته إلى أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئًا بعد ست سنين، رواه أحمد وأبو داود، والترمذي/

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي لفظ: "بعد سنتين ولم يحدث صداقًا" رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة وصححه أحمد والحاكم وغيرهما. ولا يعارضه ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي -صلي الله عليه وسلم- رد ابتنه علي أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد"؛ فإن إسناده إلى عمرو ضعيف، قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرهما على

النكاح الأول. قال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، الصواب حديث ابن عباس وقال الترمذي في كتاب العلل له: سألت محمد بن إسماعيل، يعني البخاري عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمر بن شعيب ولا معارضة بين ذلك وبين قوله تعالي: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}. وقوله تعالي: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فإن أوله الآية فيها النهي عن رجعهن إلى الكفار، والإخبار بنفي الحل بينهن وبين الكفار، ورفع الجناح عمن أراد نكاحهن من المسلمين، وذلك كله لا يمنع من حلها إذا جاء مسلمًا بعد، وآخر الآية فيها النهي عن الاستمرار بنكاح الكافرات، وذلك لا يمنع من حلهن إذا جئن مسلمات بعد ذلك من غير شرط تجديد نكاح في الموضعين؛ فإذا الآية لا تنفي ذلك، وقد قام الدليل عليه من السنة، ولم يعلم أن النبي-صلي الله عليه وسلم- فرق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته ولا أمرهم بتحديد أنكحتهم، ولكن الذي دل عليه حكم النبي -صلي الله عليه وسلم- أن النكاح موقوف، فإن أسلما قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح، ولا نعلم أحدًا جدد في الإسلام نكاحه البته، بل كان واقع أحد أمرين

إما افتراقهما ونكاح غيره، وإما بقاؤهما عليه، إن تأخر إسلامها أو إسلامه، وأما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة فلم يثبت فيه شيء عن رسول الله-صلي الله عليه وسلم- مع كثرة من اسلم في عهده من الرجال والنساء، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه. وقوله المصنف: (إن مصالح النكاح لا تنتظم مع التباين حقيقة وحكمًا فشابه المحرمية"، إنما يلزم أن لو قيل إنه يلزمها انتظاره حتى يجيء مسلمًا، أما إذا قيل بالتخيير فلا، فالقول بأن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيل الفرقة قبل الدخول أو بعده مشكل، بل كان من أسلم أو أسلمت امرأته من بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاح، وكذلك من ارتد ثم أسلم، ولا شك أن بقاء النكاح جائزًا غير لازم من غير تمكين الوطء خير محض، ومصلحة بلا مفسدة. وأما السبي فالأصل فيه قوله تعالي: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}، والأكثر على أنها مختصة بالمسبيات؛ فإن المسبية إذا سبيت حل وطؤها لسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت مزوجة.

وقالت طائفة: إن الآية تشمل المزوجة إذا بيعت وأن بيعها يكون طلاقًا لها، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن خير رسول الله-صلي الله عليه وسلم- بريرة لم بيعت، وهي مزوجة ثم أعتقت، ولو كان بيعها طلاقًا لما خيرها، وهو حجة علي ابن عباس مع أنه هو راوي حديث بريرة. وقد أخذ الإمام أبو حنيفة وفيه هنا برواية ابن عباس دون رأيه وفتواه، ويشهد للأول ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن

رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعث جيشًا إلى أوطاس فلقي عدوًا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكأن ناسًا من أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- تحجروا من غشيانهن من أجل أزوادهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل ذلك: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}. والنص يشمل التي سبي معها زوجها/ وقال-صلي الله عليه وسلم- في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والرق وإن كان لا ينافي ابتداء النكاح برضي المالك فلا يلزم منه أن لا ينافيه بغير رضاه؛ ولهذا لا يجوز نكاح العبد والأمة بغير رضي المولي. ولو كان النكاح يبقي بغير رضي السابي لجاز للعبد والأمة التزوج بغير رضي المالك، وذلك لا يجوز، والمشتري إنما لا يجوز له فسخ نكاح المبيعة لأن النكاح قد وجد برضي البائع، والمشتري يقوم مقامه، وسيدها الذي باعها لا يملك

بضعها، فكيف يملكه من انتقلت إليه عنه ببيع، أو هبه، أو إرث وزوجها مسلم معصوم، وحقه في بضعها، فكيف يمكله من انتقتل إليه عنه ببيع، أو به، أو إرث وزوجها معصوم، وحقه في بضعها، وقد ملكه دون سيدها؟ وسيدها ليس له أن ينتزعها من الزوج، فنزع السيد الذي اتصل إليه الملك من جهته أبعد وأبعد، ولكن له ردها بذلك على بائعه بمنزلة العيب. وأيضًا فإن الملك القائم بها لم يتجدد بتجدد مالكها، وإنما بتجدد الملك القائم بالمالك، فصفة المملوكية باقية مستمرة، وصفة الملكية هي المنتقلة بخلاف المسبية؛ لأن صفة المملوكية حدثت بعد أن لم تكن، وهي أقوي من ملك النكاح فتبطله، فظهر منافاته لكمال الخلوص للسابي، ولم يرد عن الشارع نهي السابي عن وطء المسبية إذا سبي معها زوجها، وإنما نهي عنه حتى يوجد الاستبراء، ولو كان سبي الزوج معها مانعًا من الوطء لبينه الشارع، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة عموم المقال. وقول السروجي: إن سبايا أوطاس سبي وحدهن لأن رجالهن قتلوا فلم يحصل تباين بينهن وبين أزواجهن مجرد دعوي لم يقم عليها دليلاً.

باب القسم

[باب القسم] قوله: والقديمة والجديدة سواء لإطلاق ما روينا). مذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور العلماء سوي أبي حنيفة وأصحابه، وأهل الظاهر وجوب قسم الابتداء، وهو أنه إذا تزوج بكرًا على ثيب أقام عندها سبعًا، ثم سوي بينهما، ولا يحاسبهما بذلك، فإن اختارت الثيب أن يقيم عندها سبعًا، أقام عندها سبعًا ثم قضاها للبواقي، واستدل على ذلك بما ثبت في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاث ثم قسم". قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا الذي قاله أبو قلابة قد جاء مصرحًا به عن أنس: "أن النبي -صلي الله عليه وسلم-، جعل للبكر سبعًا، وللثيب ثلاثً"، روي الثوري وخالد الحذاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس:"أن النبي -صلي الله عليه وسلم- جعل للبكر سبعًا، وللثيب ثلاثًا". وروي الثوري وخالد الحذاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس: "أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، قال: إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". وفي صحيح مسلم، "أن أم سلمة لم تزوجها النبي-صلي الله عليه وسلم-، اقام عندها ثلاثًا، وقال: إنه ليس بك على أهلك هو أن، وإن شئت سبعت لك، وإأن سبعت لك سبعتى لنسائي". وله في لفظ: "لما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال: إن شئت زدتك وحسابتك به، للبكر سبع، وللثيب ثلاث"، وهذه النصوص تقيد ما ورد

مطلقًا والله أعلم.

كتاب الرضاع

[كتاب الرضاع] قوله: (وما رواه مردود بالكتاب، أو منسوخ به). يعني ما رواه الشافعي من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحرم المصة، ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان" مردود بالكتاب إن كان بعده، أو منسوخ به إن كان قبله. وفي هذا الحديث نظر، بل في أصل الحكم في المسألة، أما ما في هذا البحث من النظر فإن الحديث إذا صح واشتهر، وهو يقيد مطلق الكتاب أو يخص عمومه لا يقال إنه مردود بالكتاب أو منسوخ به، بل يقيد به مطلقة ويخص به عمومه كما قال أبو حنيفة/ في تقييد قوله تعالي: {فصيام ثلاثة أيام} بقراءة شاذة نقلت عن ابن مسعود رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وكذلك قيد قوله تعالي: {وعلى الوارث مثل ذلك} بما نقل

عن ابن مسعود أيضًا أن قرأ " وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك" وكذلك خص بالإجماع عموم قوله تعالي: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها}. وعموم قوله تعالي: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، وبقول عليه الصلاة

والسلام: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" على ضعف الحديث، ونظائر ذلك كثيرة، أيضًا فإن الذي استدل به الشافعي رحمه الله على التقدير بخمس رضعات غير ما استدل به المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحرم المصة، ولا المصتان ... الحديث"، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالي. وأما ما في أصل المسألة من النظر، فإن ما استدل به الشافعي رحمه الله، ومن وافقه على التقدير بخمس رضعات حديث عائشة رضي الله عنها،

قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وهن ما يقرأ من القرآن" أخرجه الجماعة إلا البخاري. وحديث سالم مولي أبي حذيفة "لما أمر النبي -صلي الله عليه وسلم- أمرأة أبي حذيفة بن عبتة ابن ربيعة أن ترضعه خمس رضعات" وهو في الصحيح أيضًا، وهو يدل على تقدير الرضعات المحرمة، سواء كان حكم رضاع الكبير مختصًا بسالم، أو

عامًا كما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقالت طائفة تحرم الثلاث فصاعدًا، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" أخرجه الجماعة إلا البخاري والموطأ، وحديث أم الفضل قالت: "دخل أعرابي على رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، وهو في بيتي فقال: يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثي رضعة أو رضعتين، فقال نبي الله -صلي الله عليه وسلم-: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان"،

وفي رواية: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" وهذان الحديثان يدلان بمنطوقهما على أن الرضعة والرضعتين لا يحرمان وبمفهومها على أن الزائد على ذلك يحرم، والحديثان الأولان يدلان بمنطقوهما على التحريم بخمس رضعات، وبمفهومها على أن الأقل من ذلك لا يحرم؛ فتعارض في الثالثة والرابعة مفهومان فسقط التحريم بهما، واتفقت دلالة الأحاديث على التحريم بخمس رضعات فصاعدًا. فإن قيل لم يثبت في الأول كونه قرآنا فلا يثبت كونه حجة. قيل: معنا حديثان صحيحان مثبتان، وأحدهما يتضمن شيئين: حكمًا، وكونه قرآنا، فما ثبت من الحكم ثبت بالأخبار الصحيحة، وكونه قرآنًا وإن لم يثبت لا يسقط الاستدلال به على تقييد مطلق النص الآخر كما في قراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات" ونحو ذلك، أو أن ذلك جاء نسخ رسمه وبقي حكمه كآيه الرجم.

ومن خالف هذه الأحاديث؛ منهم من لم يبلغه، ومنهم من اعتقد أنها ضعيفة، ومنه ممن ظن أنها تخالف ظاهر القرآن، واعتقد أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن، وتقييد مطلقة بأخبار الآحاد، وكلهم معذرون في تركها، فإن الله لا يكفل نفسًا إلا وسعها، ولا يوجب ذلك ترك العمل بها عند من بلغته وعلم صحتها، وظهر له صحة القول بجواز تقييد مطلق الكتاب، وتخصيص عمومه بالخبر الصحيح. والتقدير بالخمس يشهد له أصول كثيرة في الشريعة؛ فإن الإسلام بني على خمس، والصلوات المفروضات خمس، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما [دون] خمس أوراق من الورق، ولا فيما دون خمسة أوسق. وأصول الإيمان خمسة كما قال تعالي: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}، وقال تعالي: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر}، وأولو العزم خمسة، وهم المذكورن في

سورة "الأحزاب" و"الشوري": نوح وإبراهيم وموسي وعيسي/ ومحمد -صلي الله عليه وسلم- وأمثال ذلك. فتقدير الرضاع المحرم ليس بغريب في الشرع، فتبين الشارع لمقدار الرضعات المحرمة بمنزلة تبيينه نصاب السرقة، ونصاب الزكاة. قوله: (كالأجل المضروب للدينين إلا أنه قام الدليل المنقص في أحدهما فبقي في الثاني). يعني أن الآية تدل على أن مدة الحمل ثلاثة وثلاثون شهرًا، ومدة الفصال ثلاثون شهرًا، ولكن قام الدليل المنقض في الحمل، يشير به إلى ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لا يبقي الولد في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بفلك مغزل" أخرجه البيهقي، ولم يثبت وكيف يصح دعوى تنقيص

المقدار الذي دلت عليه الآية؟! ولو كان معني الآية وحمله ثلاثون شهرًا، وفصاله ثلاثون شهرًا لما صحت دعوة تنقيص مدة الحمل بحال لأنه يكون خبرًا محضًا، والخبر المحض لا يحتمل النسخ، فكيف يقال: إن قول عائشة رضي الله عنها الذي لم يثبت دليل على تنقيص ذلك المقدار الثابت بنص الكتاب. وفي التنظير بالأجر المضروب للمدينين نظر؛ فإن الأجل المضروب للمدينين غير الأجل المضروب لأمرين يكون أحدهما بعد الآخر، وإنما نظيره أن لو قيل: زمن الصبا والشبوبية ثلاثون سنة، ثم يدخل زمن الكهولة، ومثله يكون التقدير لهما لا لكل منهما، وقوله تعالي: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا}.

قد استدل به على أن أقل مدة الحمل ستة [أشهر] لأن الله تعالي قال: {وفصاله في عامين} فيبقي للحمل ستة أشهر؛ فلم يكن هذا نظير الأجل المضروب للدينين، وأبو حنيفة ممن يوافق على تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر، وأخذ التقدير من هاتين الآيتين فظهرت قوة قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. ولا يقاوم هذا المعني الضعيف قوله تعالي: {وفصاله في عامين}، وقوله تعالي: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} وماذا بعد التمام؟! يؤيده قوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا رضاع بعد حولين"

وهو نكرة في سياق النفي فتعم. وحمل الآيتين والحديث على مدة الاستحقاق تخصيص بغير مخصص. وقول المصنف: لا بد من تغيير الغذاء لينقطع الإنبات باللبن، وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيره لا يقوي؛ لأن الطفل يألف الطعام قبل العامين؛ فإن عامه الأطفال يطعمون مع الرضاع فما تنقضي السنتان إلا وقد ألف الطفل الطعام، وخلاف هذا نادر. قوله: (وهل يباح الإ {ضاع بعد المدة، قد قيل لا يباح لأن إباحته ضرورية لكونه جزء الآدمي). تقدم حديث سالم مولي أبي حذيفة وهو في صحيح مسلم، وفيه: "فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها، وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها- وإن كان كبيرًا- خمس

رضعات، ثم يدخل عليها"، وفي رواية: "إن امرأة أبي حذيفة لما قال لها النبي -صلي الله عليه وسلم-: أرضعية، قالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وقال: قد علمت أنه رجل كبير وكان قد شهد بدرًا". والخلاف في أن إرضاع الكبير هل يتعلق به تحريم أم لا؟ معروف، والكلام في ذلك قديمًا وحديثًا، والقائلون بأنه يتعلق به تحريم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومن وافقها، وممن وافقها علي، وعروة بن الزبير، وعطاء ابن أبي رباح، والليث بن سعد، وأبو محمد بن حزم.

وقد سلك من خالفهم في حديث سالم ثلاثة مسالك، أحدها: دعوي النسخ، الثاني: دعوي التخصيص بسالم، الثالث: أنه عام لكنه رخصة لحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشق احتجاب المرأة عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، ثمل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعة، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير. وهذا المسلك من أحسن المسالك لمن تأمله، ولولا خوف التطويل لبسطت الكلام في ذلك، والغرض هنا التنبيه على إباحة الإرضاع للكبير، لأن خلاف السلف إنما هو في تعليق التحريم برضاعة أم لا، لا في جواز رضاعة، وحديث سالم نص في جواز الرضاعة للكبير، وفي التعليل بكونه/ جزء الآدمي نظر، فإن تعليل في مقابلة النص فكان باطلاً، وليس اللبن نظير غيره من أجزاء الحيوان، بل هو بمنزلة الريق [وقد] طيبت عائشة رضي الله عنها السواك لرسول الله -صلي الله عليه وسلم- فاستاك به فاجتمع ريقها مع ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في

فيه، وقد ورد أنه كان يمص لسانها رضي الله عنها. قوله: (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ للحديث الذي روينا إلا أم أخيه من الرضاع ولا يجوز ذلك أن يتزوجها، ولا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب لأنها تكون أمه، أو موطوءة أبيه بخلاف الراضع، ويجوز تزوج أخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب؛ لأنها لما وطيء أمها حرمت عليه ولم يوجد هذا المعني في الرضاع). قال السروجي: وهو تخصيص للحديث بدليل عقلي قال: وفي "المحيط" أيضًا استثني امرأتين كما في الكتاب. قال: وفي الإسبيجابي كل من يحرم من جهة النسب يحرم من جهة

الرضاع ولم يستثن، والصواب الاستثناء، وجمع بعض الفقاء المسائل التي تفارق حكم الرضاع حكم النسب في النكاح فقال مرتجزًا: يفارق الإرضاع حكم النسب ..... في خمسة مسطورة في الكتب أم أخ وأم أخت سيدي .... وأم أم الابن فاحفظ سندي وهكذا وفقت أخت الولد .... فاقتبس العلم لكيما تهتدي وأم عم ثم أم عمة .... فافهم مقالي لا لقيت غمة وأم خال ثم أم خالة .... والحق لا يخفي من الجهالة نكاحهن في الرضاع واقع .... وما عداه فالدليل مانع انتهي كلام السروجي، ثم إني كنت تتبعت هذه المسألة فوجدت صورتين أخريين قد استثنيت فنظمت بيتين تجمع الصور المستثناة كلها وهما: يفارق النسب الرضاع في صور .... كأم نافلة وحدة الولد. وأم عم وأخت ابن وأم أخ .... وأم خال وعمة ابن اعتمد ثم إني تأملت فوجدت الاستثناء المذكور غير صحيح، ووجدت

فخر الدين الزيلعي في شرح الكنز قد نبه على أن الاستثناء غير صحيح، ونبه غيره على ذلك أيضًا والنص على عموم [ـه] بحمد الله تعالي والاستثناء تلبيس دخل علي من لم يتأمل المعني من المتأخرين: فنظمت بعد البيتين المذكورين ثالثًا فقلت: والحق أن أن [ال] حديث ما تناول هذه المسائل فافهم فهم منتقد وذلك أن الله تعالي لم يقل: "حرمت عليكم أمهاتكم وإخوانكم" وإنما قال: {حلمت عليكم أمهاتكم}، وقال تعالي: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} فحرم على الرجل أمه، ومنكوحة أبيه وإن لم تكن أمه،

فأما أمه من الرضاع فتحرم عليه إجماعًا. وأما منكوحة أبيه من الرضاع فالمشهور عن الأئمة أنها تحرم ولكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر لا بالنسب والولادة، وليس الكلام هنا في تحريمها فإنه إذا قيل تحرم منكوحة أبيه من الرضاعة وفينا بعموم الحديث، وأما أم الأخ التي ليست أمًا، ولا منكوحة أب فهذه لا توجد في النسب حتى يقال: إنها تحرم من النسب، ولا تحرم نظيرها من الرضاع. وكذلك أخت الابن التي ليست بنتًا، ولا بنت مدخول بها فإنها لم تحرم من النسب لكونها أخت الابن، وإنما حرمت على رجل لكونها بنته أو بنت امرأته التي دخل بها، ألا تري أنه لما تصور لها نظير من النسب، كما إذا كانت أمة لرجلين فوطائها فأتت بولد فادعياه، أو ألحقته القافة، بهما عند من يقول ذلك، وكان لكل من الرجلين بنت من غير تلك الأمة، فإنه يحل

لكل منهما أن يتزوج بنت الآخر وإن كانت أخت ابنه، وكذلك الصور الباقية فتأمله. قوله: (وامرأة أبيه وامرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك من النسب لما روينا، وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما بيناه). تقدم في فصل المحرمات التنبيه على أن هذه المسألة/ من مسائل الخلاف وأن في شمول قوله عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وفي رواية: "من الولادة"، لزوجة الابن، وزوجة الأب، نظرًا لأن المذكورتين ليست حرمتهما من جهة النسب، وإنما حرمتهما من جهة الصهرية، وقد قال تعالي: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وكان ربك قديرًا}.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم منا لنسب"، ولم يقل من النسب والصهر، وقوله من قال من الفقهاء أن ذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني لا لإحلال حليلة الابن من الرضاع يحتاج إلى دليل فإنه مجرد دعوي. قوله: (وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله: لبن الفحل لا يحرم). في نقله هذا عن الشافعي نظر؛ فإن المنقول عنه في كتب الشافعية أنه يتعلق به التحريم كقول الجمهور، وإنا قال بذلك سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والنخعي، والقاسم، وأبو قلابة والظاهرية، وحديث أفلح حجة عليهم، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".

قوله: "وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج). هذا قول أكثر أهل العلم، وتقدم التنبيه على أن هذا من باب الصهر لا من باب النسب، وفي دخوله في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" نظر. قوله: (وقال مالك رحمه الله: يثبت). يعني الرضاع بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة، قال السروجي: وإنما ذلك قول ابن حنبل، وحكي قبل ذلك أن مذهب مالك أن الرضاع يثبت بشهادة شاهدين، فإن شهدت امرأتان وفشا ذلك من قولهما كان كالأول.

قوله: (ولنا أن ثبوت الحرمة لا يقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين بخلاف اللحم لأن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك فاعتبر أمرًا دينيًا). عن عقبة بن الحارث: أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقال: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بالمدينة قال: فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:"كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة، ونكحت زوجًا غيره" رواه البخاري.

وفي رواية: "فجاءت امرأة سوداء فقال: قد أرضعتكما، فأتيت النبي -صلي الله عليه وسلم- فذكرت له ذلك فقال: وكيف وقد زعمت [أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك"] قال في "المغني": وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية، وبهذا قال طاوس، والزهري، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز، انتهي. والتعليل بأن ثبوت الحرمة بالرضاع لا يقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح بخلاف اللحم فيه نظر، فإن من اشتري لحمًا فأخبره إنسان أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي أو أنه ميتة حرم وزال ملكه عنه؛ لأن ذبيحة المجوسي ميتة، وهي غير مال فلا يقبل الملك، وقد اعتذروا لذلك وقالوا: إن المراد أن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك في الجملة كما في جلد الميتة والخمر. وهذا وإن كان مذهب أبي حنيفة وأصحابه ولكن حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي -صلي الله عليه وسلم- سئل عن الخمر تتخذ خلاً، قال: لا" رواه مسلم وأحمد

وأبو داود والترمذي وصححه حججه لمن خالفهم. وقد يكون إخبار المرأة بالرضاعة قبل عقد النكاح فلا يلزم منه زوال الملك بل المنع منه، وقد يكون في الأمة فينفك عن زوال الملك فيحرم على المولي وطء الأمة ولا يزول ملكه عنها، مع أن ملك الزوج في الزوجة إنما هو حل الاستمتاع، وذلك من باب الديانات/ فيقبل فيه قول العدل، كيف وإن الرضاعة مما لا يطلع عليه الرجال غالبًا، وما روي أنه أعرض عن سؤال عقبه أولاً في بعض طرق الحديث يحتمل أنه كان لعدم ظهور عدالة المخبر.

باب طلاق السنة

[كتاب الطلاق] [باب طلاق السنة] قوله: (وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طهر، وإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا). قال السروجي رحمه الله: ووقوع الثلاث جملة قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وكان طاوس وعطاء وسعيد بن جبير، وعمرو بن دينار، وأبو الشعثاء يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة ذكره في "المغني". وقال السروجي أيضًا في فصل الطلاق قبل الدخول: وفي "مصنف أبي بكر بن أبي شيبة" عن جابر بن زيد، وطاوس، وعطاء، أن الرجل إذا طلق امرأته [ثلاثًا] قبل أن يدخل بها فهي واحدة، ثم قال السروجي هنا: وقال

ابن رشد في القواعد، والصفاقسي في "شرح البخاري": ذهب أهل الظاهر وجماعة منهم الشيعة إلى أن حكمها حكم الواحدة ولا تأثير للفظ الثلاث. قال القاضي أبو يوسف: كان الحجاج بن أرطأة يقول: الطلاق الثلاث ليس بشيء، وقال محمد بن إسحاق: واحدة كقول الشيعة. وحجة هؤلاء قوله تعالى: {الطلاق مرتان} إلى قوله في الثالثة: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} والمطلق بالثلاث مطلق واحدة لعدم مشروعية الزائد عليها. واحتجوا أيضًا بما رواه مسلم عن ابن عباس قال: "كان الطلاق الثلاث

على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين في خلافة عمر واحدة فأمضاها عليهم عمر"، وفي رواية مسلم وغيره: "كان طلاق الثلاث واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر [فلما] تتايع الناس في الطلاق أجازه عمر عليهم] وتتابع بالياء والباء. واحتجوا أيضًا بما رواه ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبد يزيد زوجته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله -صلي الله عليه وسلم- كيف طلقها؟ قال: طلقها ثلاثًا في مجلس واحد، قال: إنما ذلك طلقة واحدة فارتجعها". ثم قال السروجي: قلت: حجتهم في ذلك قوية لصحة الحديث المتقدم،

وشغب من قال بإباحة إرسال الثلاث جملة بأحاديث منها: حديث عويمر العجلاني وفيه: "فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره النبي -صلي الله عليه وسلم- " متفق عليه، ولم ينقل إنكاره. ومنها: [حديث] عائشة أن امرأة رفاعة قالت: يا رسول الله: إن

رفاعة طلقني وبت طلاقي، متفق عليه، ولم ينكره. ومنها: حديث فاطمة بنت قيس " أن زوجها أرسل إليها ثلاث تطليقات"، ولأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به وقوع الثلاث جملة، والمشروعية تنافي الحظر، بخلاف الطلاق في الحيض فإن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاق، إذ هو بعيد عند البعض، وللجمهور في التحريم ما رواه ابن عباس عن محمود بن لبيد - قال البخاري: له صحبه - قال: "أخبر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام

غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" ذكره القرطبي في شرح الموطأ، ورواه النسائي وهو نص أو دال على التحريم، هذا كله كلام السروجي، ثم ذكر بعد ذلك حديث "ابن عباس في إمضائه الثلاث على الذي سأله أنه طلق زوجته ثلاثًا". وحديث الذي سأله "أنه طلق امرأته مائة طلقة" وحديث الذي "طلق

امرأته ثمان طلقات" وغير ذلك: ثم بحث ثم قال: والجواب عن حديث ابن عباس الذي رواه مسلم من وجهين: أحدهما: الإنكار على من تحرج على نفسه الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين كأنه قال: الطلاق الموقع الآن ثلاثًا كان في ذينك العصرين واحدة/ كما يقال: كان الشجاع الآن جبانًا في عصر الصحابة فيفيد تغير الحال بالناس. انتهي. وهذا الجواب يرده قوله: (فلما تتابع الناس في الطلاق أجازه عمر عليهم) والتتابع في الشيء، الإكثار منه. قال ابن الأثير: التتايع: الوقوع في الشر والتهافت من غير تماسك ولا توقف.

وأيضًا فإن في بعض طرق الحديث أن أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: "أما علمت [أنا الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة علي عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلي"، وفي لفظ آخر: "أن أبا بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم"، وهذا نص في جعل الثلاث واحدة.

ثم قال: الوجه الثاني أن قول الزوج: أنت طالق، طلقة واحدة عندهم محمولاً على التأكيد والخبر، وصار الناس بعدهم يحملونه على التجديد والإنشاء فألزمهم عمر ذلك لما ظهر قصدهم إليه، يدل عليه قول عمر: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" وهذا الجواب يرده ما تقدم. وأيضًا فمن أن هذا كان مرادهم؟ وليس له اطلاع على إرادتهم، ولا يدل عليها قول عمر كما أدعي! وإنما يدل قوله على أن الله تعالي شرع الطلاق مرة بعد أخرى للحاجة، فالذي يطلق ثلاثًا يقصد استعجال إيقاعها، وكان لهم عن ذلك غنية؛ فإن الغرض يحصل بالواحدة فزيادة الثانية والثالثة زيادة على المشروع من غير حاجة؛ ولهذا يحصل لهم الندم غالبًا فرأي عمر رضي الله عنه إلزامهم بتعجيل ما قصدوا تعجيله من إيقاع الثانية والثالثة ليرتدعوا عن الطلاق بمنزلة التعزيز لمن يفعل ذلك؛ فإن التعزيز إلى رأي الإمام، وعمر رضي الله عنه رأي أن التعزيز بإلزامهم بحكمها رادع لهم عن إيقاعها، لا أنه غير حكم الطلاق عما كان عليه فإن هذا لا يظن لمن هو دون عمر رضي الله عنه. ثم قال: وأما حديث عكرمة عن ابن عباس، وطاوس عنه أن

ركانة بن عبد يزيد طلق زوجته سهيمة ثلاثًا وهم، وقال الحافظ أبو جعفر: منكر، وقد خالفهما من هو أولى منهم وعد من خالفهما. وجوابه: أن حديث ركانة روي من طرق ضعف بعضها وصحح بعضها، ولا ريب أن ابن عباس عنه روايتان صحيحتان إحداهما توافق هذا الحديث، والأخرى تخالفه، فإن أسقطنا رواية برواية سلم الحديث، وليس هذا بأول حديث خالفه راوية، فمن قال: الأخذ بروايته فقد كفي مؤنة الجواب. ومن قال: الأخذ برأيه فقد تقدم التنبية على ما في كلامه من النظر في فصل الأسار، مع أن السنة مقررة لما دل عليه الكتاب، فإن قوله تعالي: {مرتان} لا يفهم منه إلا مرة بعد أخرى، فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا، هذا مرة، كمن رمي الجمرة بحصاتين أو أكثر رمية واحدة كانت له مرة، حتى لو رماها بالسبع جملة كانت له رمية، وبقي عليه رمي ست حصيات ست مرات، ولو قال عقيب الصلاة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، هكذا من غير

تكرير، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، وكذلك، والله أكبر أربعًا وثلاثين كذلك، لم يكن هذا كما لو كرر التسبيح، والتحميد، والتكبير، بهذا العدد، وكذا الإقرار الزنا، لو قال المقر بعد إقراره: أقر أربع مرات، أو قال في اللعان: أشهد بالله إني لمن الصادقين أربعًا، هكذا من غير تكرير لا يكفي حتى يكرر القول أربع مرات. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة كانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي" لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة. وقد صنف في هذه المسألة الشيخ تقي الدين ابن تيمية مصنفات، لكنه منفرد عن الجماع'ن والمسألة مهيبة لأن الأئمة الأربعة على وقوع الثلاث.

قوله: (ويجوز أن يطلقها ولا يفصل بين وطئها وبين طلاقها بزمان) - يعني الآيسة والصغير - (وقال زفر رحمه الله: يفصل بينهما بشهر). وفي "الذخيرة" قيل: إذا كانت/ صغيرة يرجي منها الحيض أو الحبل، فالأفضل أن يفصل بينهما بشهر انتهي، وهذا الذي ينبغي أن يكون لأن بالجماع تفتر الرغبة، واحتمال الحبل فيها موجود واشتباه وجه العدة أيضًا فيخاف لحوق الندم. قوله: (ولنا أنه محتمل لفظه لأنه سني وقوعًا من حيث إن وقوعه عرف بالسنة لا إيقاعًا). يعني غير مسنون، ووقوعه سني، وقد تقدم الكلام في وقوع الثلاث جملة.

فصل

[فصل] قوله: (ولا يقع طلاق الصبي، والمجنون، والنائم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون"). الأولى أن يستدل لذلك بقوله -صلي الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" أخرجه أحمد والنسائي من حديث عائشة، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حيث علي، وأخرجه أبو حاتم من حديث ابن عباس، والألفاظ مختلفة؛ فإن الحديث الذي ذكره المصنف لا ذكر له في كتب

الحديث، وإنما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله"، وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو ضعيف ذاهب الحديث، ولوثبت فهو حجة عليه في النائم؛ لأنه ذكر أن طلاق النائم لا يقع، ثم قال: لقوله عليه السلام:" كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون"، فكان ما استدل به لو صح دليلاً عليه لا له. قوله: (ولنا أنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته فلا يعري عن قضيته دفعًا لحاجته اعتبارًا بالطائع، وهذا لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما، وهذا آية القصد والاختيار إلا أنه غير راض بحكمه، وذلك غير مخل به كالهازل).

المخالف في طلاق المكره الأئمة الثلاثة، ويروي عن ابن عباس، وابن عمر وابن الزبير، واختلف الرواية فيه عن عمر،

وعلي، رضي الله عنهما، وفي قول المصنف: (أنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته) نظر؛ فإن المكره وإن قصد التكلم بالطلاق عن اضطرار فإنه لا يقصد إيقاعه، وكذلك في قوله: اعتبارًا بالطائع لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما، وهذا آية القصد) نظر أيضًا؛ فإن المكره ملجأ إلى الاختيار فكان في اختياره التكلم بالطلاق قصور يفارق الطائع به، فلا يصح قياسه عليه، وقياسه على المكره على الكفر على الكفر أقوي وأظهر من قياسه على الطائع، وما فرق به بينه وبين المكره على الكفر من أن الإيمان محله القلب دون اللسان ممنوع؛ ولهذا ليس له التلفظ بكلمة الكفر من غير إكراه، ولا حكاية إجماعًا مع أن قصد الطلاق قد اعتبر في مسائل. منها: ما ذكره في "القنية": كتبت له: أنت طالق، وقالت: أقرأه، لا

يقع ما لم يقصد خطابها به. ومنها أيضًا قالت: اقرأ هذا الدعاء: أنت طالق بائن، فقرأه؛ لا يقع إن كان معروفًا بالجهل. ومنها فيه أيضًا قالت: لقنته الطلاق بالعربية فطلقها وهي لا تعلم، وقد حكي عن أبي القاسم الصفار، وأبي الليث وقوع الطلاق بذلك قضاء لا ديانة، وكذلك الإعتاق. ومنها: لو أخذ زوجته الطلق، وقال لغيره إخبارًا عنها بذلك أنها طالق لم تطلق، ولم أر هذا الفرع في كتب الأصحاب بل رأيته في كتب غيرهم وما ينبغي أن يكون فيه خلاف. ومنها: لو أراد يتكلم بكلام، فسبق لسانه بالطلاق أو بالعتاق على أحد الأقوال فيهما أنه لا يقع فيما بينه وبين الله تعالي، وإن كان يقع فيهما في القضاء اتفاقًا لأن الظاهر يكذبه، ذكر معناه في "الذخيرة". ومنها: ما ذكره في البدائع، لو قال: يا مطلقة يقع عليها الطلاق، ولو كانت مطلقة من غيره أو منه، وقال: عنيت ذلك الطلاق صدق في.

القضاء. ومنها: أنه لو نوي الطلاق من وثاق يصدق فيما بينه وبين الله تعالي، وإن كان لا يصدق في القضاء/ لأنه خلاف الظاهر وكذلك في قوله: (إلا أنه غير راض بحكمه، وذلك غير مخل به كالهازل) نظر أيضًا؛ فإن الهازل متكلم بالطلاق عن قصد واختيار كامل للمتكلم به، وبذلك يقع طلاقه ويلزمه حكمه، ولا يلتفت إلى عدم رضاه بحكمه كالهازل بالتكلم بكلمة الكفر. فالحاصل أن المكره على الطلاق كالمكره على الكفر كلاهما من باب الأقوال، وكما يؤثر الإكراه في إباحة إجراء كلمة الكفر كذلك ينبغي أن يؤثر في أمر الطلاق، يرفع حكمه، فإن باب الأقوال يفارق باب الأفعال؛ لأن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها، بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال؛ فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والصبي والمجنون، ولهذا لو أتلف أحدهم شيئًا ضمنه، وإن كان قوله ساقط الاعتبار، وسيأتي في كلام صاحب الهداية في كتاب الحجر أن المعاني الثلاثة، يعني الصغر والرق والجنون توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال، لأنه لا مرد لها لوجودها حسًا ومشاهدة بخلاف الأقوال لأن اعتبارها موجودة بالشرع. قوله: (وطلاق السكران واقع، واختيار الكرخي والطحاوي أنه لا يقع، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، لأن صحة القصد بالعقل، وهو زائل العقل فصار كزواله بالبنج والدواء، ولنا أنه زال بسبب هو معصية فجعل باقيًا حكمًا

زاجرًا له حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع نقول إنه لا يقع طلاقه). في إيقاع طلاق السطران نظر؛ خصوصًا إذا علل بأن ذلك على وجه العقوبة له؛ فإنه زائل العقل عادم الاختيار ويكفيه الحد عقوبة، وقد حصل رضاء الله من هذه العقوبة بالحد. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء"). قال ابن الجوزي: إنما هذا من كلام ابن عباس، وهكذا ذكره ابن أبي شيبة في مصنفة من قوله ابن عباس. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان") رواه الترمذي، وقال: حديث غريب لا نعرفه [مرفوعًا] إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث، انتهي. وقال ابو عاصم النبيل: مظاهر بن أسلم ضعيف، وقال يحيي بن معين: ليس بشيء مع أنه لا يعرف، وقال أبو حاتم الرازي: منكر

الحديث، ورواه أبو داود وقال: هو حديث مجهول ورواه الدارقطني وقال: فيه "طلاق العبد اثنتان، وقرء الأمة حيضتان". وقال ابن تيمية في "المنتقي": الصحيح عن ابن عمر قوله: "عدة الحرة ثلاث حيض، وعدة الأمة حيضتان" انتهي، ولذلك؛ قال الأئمة الثلاثة: يطلق الحر الأمة ثلاثًا وتعتد بحيضتين، ويطلق العبد الحرة ثنتين، وتعتد بثلاثة قروء، كذا نقله السروجي رحمه الله، وعزاه إلى الرافعي، وصاحب الأنوار، وابن حزم، واعتبار عدد الطلاق بالمالك له أظهر، والله أعلم.

باب إيقاع الطلاق

[باب إيقاع الطلاق] قوله: (ولو قال: أنت طالق الطلاق وقال: أردت بقولي طالق واحدة، وبقولي الطلاق أخرى يصدق؛ لأن كل واحد منهما صالح للإيقاع، فكأنه قال: أنت طالق وطالق فتقع رجعيتان إذا كانت مدخولاً بها). هذا مشكل لأن الطلاق في قوله: أنت طالق الطلاق منصوب على أنه مفعول مطلق، ولا يصح أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي أنت الطلاق مع كونه منصوبًا أصلاً، وليس هذا التركيب من كلام العرب، ولا يصح التعليل بقوله: لأن كل واحد منهما صالح للإيقاع والحالة هذه؛ لأنه لا يصلح للإيقاع إلا إذا تركب في صيغة أخرى، وأما هذا التركيب فهو جملة واحدة لا تصلح أن تعرب جملتان أصلاً، وقوله: كأنه قال: أنت طالق وطالق ممنوع أيضًا من جهة أخرى، وهو أن تقدير حرف العطف غير صحيح/ وإن كان قد قال به بعضهم، والكلام على ذلك معروف في موضعه.

قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله الفروج على السروج") ليس لهذا الحديث أصل. قوله: (ويقال فلان رأس القوم، ويا وجه العرب، وهلك روحه بمعني نفسه). يعني أن هذا يدل على أن الرأس والوجه والروح يعبر بكل منها عن جميع البدن، وفي ذلك نظر؛ فإن قولهم فلان رأس القوم إنا معناه أن القوم الذين فلان منهم كالجسد الواحد، وفلان رأسه، لا أن فلانًا يعبر به عن القوم كلهم، وكذلك قوهم: يا وجه العرب إنما معناه أنك في العرب بمنزله الوجه في الجسد؛ فإن الوجه جامع بجملة المحاسن، وأنت بمنزلته ي جمعك للمحاسن، لا أن يكون معناه أنه عبر عن جملة العرب بالوجه وناداهم به فكأنه قال: يا أيها العرب! فإن هذا غير مراد، ولا يتم استدلال على أن الوجه يعبر به عن الجملة إلا إذا كان المراد من قولهم: يا وجه العرب: يا أيها العرب، وهذا فاسد. وأما قوله: هلك روحه فالمعروف في مثله أن يقال: خرجت روحه، ولو صح قوله: هلك روحه فالمراد مفارقتها للجسد، وفي إطلاق الروح على

الكل نظر، وإنما يعرف ذلك في النفس، والعين، يقال: جاءني زيد نفسه، وعينه، ولم يذكر المصنف العين. وقد حكي السغناقي في شرحه عن كتاب الأسرار للدبوسي: أن هذا باب بني على حسب عرف السان بكل بلد، فمتي جاء بلفظ كني به عن البدن كله في عر بلدهم كان طلاقًا صحيحًا، وإن امتنع ذلك في بلد آخر لا يكون طلاقًا في ذلك البلد كالنبطي يطلق امرأته بالفارسية فتطلق، والعربي إذا تكلم به وهو لا يدري ما هو لم تطلق، فهذا باب لا مناقشة فيه وإنما الخلاف في أن ما يملك تبعًا هل يصلح محلاً لإضافة الطلاق إليه على حقيقته دون صيرورته عبارة عن جملة البدن، فأما على مجازه وصيرورته عبارة عن البدن فلا إشكال أن يقع بذلك يدًا كان أو رجلاً بعدما يستقيم ذلك في اللغة، أو كانت لغة القوم يعرف لسانهم. قال شمس الأئمة الحلواني: إذا قال لها رأسك طالق وعني اقتصار الطلا على الرأس لا يبعد أن يقال بأنها لا تطلق، كذا في "المحيط" انتهي كلام السغناقي، ولو استدل لإطلاق الرأس على الجملة بقولهم: اشتريت رأسًا من الغنم، أو الرقيق، أو نحو ذلك، أو رأسين، أو ثلاثة رؤوس، أو

أكثر من ذلك لكان أظهر والله أعلم. قوله: (ولو قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثًا؛ لأن نصف التطليقتين تطليقه؛ فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات ضرورة). في جعل ذلك ثلاثًا نظر، وهو أن ثلاثة أنصاف تطليقتين يحتمل ما ذكر، ويحتمل أن تكون طلقة ونصفًا فيكمل النصف فيصير تطليقتين، ففي إيقاع الثالثة شك لا يقع، وكذلك في المسألة التي بعدها وهي ما لو قال: ثلاثة أنصاف تطليقه في إيقاع الثالثة شك فينبغي أن لا يع قولاً واحدًا.

فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان

[فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان] قوله: (ولو قال: أنت [طالق] إذا لم أطلقك، أو إذا لم أطلقك، أو إذا لم أطلقك لم تطلق حتى يموت عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: تطلق حين سكت؛ لأن كلمة إذا للوقت، قال الله تعالي: {إذا الشمس كورت}، وقال قائلهم: وإذا تكون كريهة ادعي لها .... وإذا يحاس الحيس يدعي جندب فصار بمنزلة متى ومتى، ولهذا لو قال لامرأته: أنت طالق إذا شئت لا يخرج الأمر من يدها بالقيام من المجلس كما في قوله: متى شئت، ولأبي حنيفة أنه يستعمل للشرط أيضًا، قال قائلهم: واستغن ما إنك ربك بالغني .... وإذا تصبك خصاصة فتجمل فإن أراد به الشرط لم تطلق في الحال، وإن أراد به الوقت تطلق، فلا تطلق بالشك والاحتمال) إلى آخر المسألة.

في كلامه نظر من وجوه: أحدها: استشهاده على أن كلمة إذا للوقت بقوله تعالي: {إذا الشمس كورت} وبالبيت المذكور/، ولا يصح استشهاده لمراده بهما، فإن كلا منهما فيه معني الشرط، وجواب الأول: {علمت نفس ما أحضرت} وجواب "إذا الأول في البيت "ادعي لها" وجواب الثانية "يدعي جندب"، وشواهد التي للوقت المحض كثيرة منها قوله تعالي: {والليل إذا يغشي * والنهار إذا تجلى}. والثاني: قوله: صار بمنزلة متى، ومتى ما؛ فإن في تنظيره بهما نظرًا، لأن "متى"، و"متى ما" لا يكونان للوقت المحض أبدًا، ولكن إذا لم يكونا للشرط يكونان للاستفهام ولا يتخلصان للوقت كـ "إذا". والثالث: استدلاله لأبي حنيفة "إذا" تستعمل للشرط، واستشهاده لذلك للبيت المذكور؛ فإن كون "إذا" للشرط لا ينافي معني الوقت فيها كـ "متى"؛ فإنها للشرط ويجزم بها مع كونها من ظروف الزمان، وتفارق "إن" المتمخضة للشرط، فالجزم به "إذا" لا يوجب إخراجها عن مشابهتها بـ "متى"

وإلحاقها بـ "إن"؛ فإن "متى" يجزم بها كما يجزم بـ "إن" ولم يوجب ذلك إخراجها عن دلالاتها على الزمان، ومفارقة "إذا" لـ "متى" في أنها تتمخض للوقت ي بعض أحوالها ويجزم بها، ولا يجزم بها في بعض أحوالها لا يوجب إلحاقها بـ "إن"؛ فإن "متى" يجزم بها في غالب أحوالها، وقد جاء أيضًا ترك الجزم بها شاهد، وشاهد الجزم بها قول بعضهم: "ولكن متى تسترفد القوم أرفد"، وشاهد ترك الجزم بها "إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس" ذكره ابن مالك.

ولكنه قليل جدًا، وإنما كان ترك الجزم بـ "إذا" هو الأصل لأن "إذا" الشرطية مختصة بالتعليق على الشرط المقطوع بوقوعه حقيقة أو حكمًا، أو كقولك: آتيك إذا أحمر البسر، وإذا قدم الحاج، ولو قلت: إن أحمر البسر كان قبيحًا، وإنما جاء الجزم في النظم قليلاً دون النثر عكس "متى". والرابع: قوله: (إن أراد به الشرط لم تطل في الحال، وإن أراد به الوقت تطلق)، يرد عليه أن "متى" لا تخرج بإرادة الشرط بها عن الظرفية فـ "إذا" أولى، وإنما يسلم له مدعاة أن لو كان معني الشرط ينافي معنى الظرف، وليس الأمر كذلك، فإن "متى" و "أيان" يجزم بهما الشرط والجزاء ولا تخرجان بذلك عن كونهما من ظروف الزمان، و"أين" و "حيثما" يجزم بهما كذلك ولا تخرجان بذلك عن كونهما من ظروف المكان، وإنما صحت نيته الشرط المحض، وأن لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته إذا نوي ذلك؛ لأنه نوي محتمل كلامه، ولكن الأول هو الأصل والحقيقة، وإذا عرف ذلك ظهرت قوة قول أبي يوسف ومحمد، وهو قول مالك، والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله.

قوله: (ومن قال لامرأة: يوم أتزوجك فأنت طالق، فتزوجها ليلاً طلقت). سيأتي الكلام على تعليق الطلاق بالنكاح في بابه إن شاء الله تعالى.

فصل

[فصل] قوله: (والعتق يقارن الإعتاق؛ لأنه علته أصله الاستطاعة مع الفعل). الصحيح في الاستطاعة التفصيل كما ذكره الشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته فقال: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يُوصف المخلوق به مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوُسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} انتهى. [والله أعلم].

فصل في تشبيه الطلاق ووصفه

[فصل في تشبيه الطلاق ووصفه] قوله: (إذا وصف الطلاق بضرب من الشدة والزيادة كان بائنًا مثل أن يقول: أنت طالق بائنًا أو ألبتة، وقال [الشافعي] يقع رجعيًا إذا كان بعد الدخول) ثم علل له، ثم قال: "ولنا أنه وصفه بما يحتمله، ألا ترى أن البينونة قبل الدخول وبعد العدة تحصل به، فيكون هذا الوصف لتعيين أحد الحكمين)، ثم قال بعد ذلك: (ولو عُنِي بقوله: أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن، أو ألبتة أخرى تقع تطليقتان؛ لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع). وقع في بعض النسخ مثل أن يقول: أنت طالق بائنًا أو ألبتة بنصبهما وفي بعض بائنٌ أو ألبتة برفعهما، وفي كلٍّ منهما نظر، أما على تقدير نصبهما

انتصاب المصدر فلا يصح قوله بعد ذلك: (ولو عُني بقوله/ أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن أو ألبتة أخرى تقع ثنتان)؛ لأنه إذا انتصب على المصدرية امتنع جعله خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت طالق أنت بائن؛ لأن الخبر يكون مرفوعًا وهذا منصوب، ولأن الخبر يكون خبرًا عنها، وهذا صفة للطلاق فامتنع لذلك أن تقع اثتنان إذا نواهما بهذا اللفظ وأما على تقدير رفعهما فلا يصح أن يكون صفة للطلاق؛ ففسد قوله: (وإذا وصف الطلاق بضرب من الشدة والزيادة كان بائنًا مثل أن يقول: أنت طالق بائن)؛ لأن قوله: "بائن" والحالة هذه يكون إما صفة لطالق أو خبرًا بعد خبر، وذلك ينافي كونه صفة للطلاق. وقوله: (ولنا أنه وصفه بما يحتمله): للشافعي رحمه الله أن يمنع صحة احتماله للبينونة، ويمنع تنظيره بثبوت البيونة قبل الدخول وبعد العدة؛ لأن الرجعة شرعت في الطلاق بعد الدخول قبل انقضاء العدة فإثبات البينونة بعد الدخول قبل انقضاء العدة تغيير للمشروع فلغو، فإن قيل: نوي ما فيه تغليظ عليه فيصدق، فجوابه: أنه لا بد أن ينوي ما هو مشروع، وإلا فنيته لا تعمل في تغيير المشروع، ولو وصف الطلاق بأي شيء وصفه، والتفريع إلى آخر وسيأتي تكميل هذا البحث في الكنايات إن شاء الله. قوله: (فلأنها تحتمل أن تكون نعتًا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة).

يعني قوله: أنت واحدة، ولا تحتاج إلى أن يكون قوله: واحدة نعتًا لمصدر محذوف، فإن فيه تكلفًا لا حاجة إليه، وإنما هو خبر عنها فيحتمل أن يريد أنها واحدة، أو منفردة لا زوج لها، لأن أن يكون المراد أنها تطليقه واحدة تجوزًا فتأمله! قوله: (وبقية الكنايات إذا نوي بها الطلاق كانت واحدة بائنة). أصل الخلاف في أن ما دون الثلاث من الطلاق هل يكون بائنًا أم لا؟ مترتب على أن الرجعة هل ي حق الله تعالي، أو حق الزوج، أو حق الزوجين؟ فيه ثلاث مذاهب:

الأول: مذهب الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد، فلو قال: أنت طالق بائنة وقعت رجعية، ولا يملك إسقاطه الرجعة. الثاني: مذهب أبي حنيفة رحمة الله والرواية الثانية أحمد فيملك

إسقاط الرجعة بأن تطلق الزوجة واحدة بائنة. الثالث: مذهب مالك، والرواية الثالثة عن أحمد، فلو تراضي الزوجان بالخلع بلا عوض وقع طلاقًا بائنًا، ولا رجعة فيه؛ لأنه يمتنع أن يخير الرجل بين أن يجعل الشيء حلالاً وأن يجعله حرامًا، ولكن إنما يخير بين أمرين مباحين له، وله أن يباشر أسباب التحليل وأسباب التحريم، وليس له إنشاء نفس التحليل والتحريم، والله سبحانه وتعالي إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة يملك ارتجاع زوجته في مرتين، ولا يملكه في المرة الثالثة بقوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} إلى أن قال: {فإن

طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} الآية. والله تعالي جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد المرأة رحمة منه وإحسانًا ومراعاة لمصلحة الزوجين، نعم له أن يملكها أمرها باختياره فيخيرها بين المقام معه والفراق، وأما أن يخرج الأمر من يده بالكلية إليها ولا بد من عقد جديد فمن أين؟ قالوا: وكما أنه لا يكون إطلاق بيدها لا تكون الرجعة بيدها، قالوا: وقد ملكه الطلاق على وجه معين، وهو أن يطلق واحدة، ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، ثم إن شاء طلق الثانية كذلك ويبقي له واحدة، وأخبر أنه إن أوقعها حرمت عليه، ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره ويصيبها ويفارقها، ولم يشرع الله الطلاق غير معقب للرجعة إلا طلاق غير المدخول بها، والطلقة الثالثة، فهذا هو الذي ملكه الله تعالي إياه، فمن قال: إن الله شرع/ له غير [ذلك] فليبين لنا أين شرع ذلك؟ قوله: (كقوله اعتدي، واختاري، أمرك بيدك، فإنه لا يصدق فيها؛ لأن الغضب يدل على إرادة الطلاق).

سوى المصنف بين هذه الألفاظ الثلاثة، وليست مستوية مطلقًا بل لا بد في "اختاري" و"أمرك بيدك" من جواب حتى لو قال: اختاري ينوي الطلاق، لم يقع ما لم تقل اخترت نفسي أو نحو، وكذلك الأمر باليد، والقول بأنه طلاق منجز، قول الحسن البصري، ورواية عن أحمد، وهو مروي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وقد ردته عائشة رضي الله عنها حيث قالت: "خيرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فاخترناه فلم يعدها [علينا] شيئًا". وفي

لفظ: "خيرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أفكان طلاقًا"، متفق عليها، وقد ذكر المصنف ذلك في فصل المشيئة أيضًا. قوله: (ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافًا إلى محله عن ولاية شرعية، ولا خفاء في الأهلية والمحلية، والدلالة على الولاية أن الحاجة ماسة إلى إثباتها كيلا ينسد عليه باب التدراك، ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد). في استدلاله على أن الشارع أثبت له ولاية الإبانة بما ذكره من المعنى

نظر، وتصوير ما ذكره من المعني: أن الزوج قد يحتاج إلى الإبانة لئلا يقع في الرجعة بغير قصد منه، بأن تأتي المرأة إليه فتقبله بشهوة فيصير بذلك مراجعًا وهو لا يريد الرجعة فيحتاج إلى طلاق ثان وثالث، فيسند عليه باب التدارك بالنكاح بعد ذلك، فهو لأجل ذلك يحتاج إلى أن يشرع له إثبات البينونة عند الطلاق لئلا ينسد عليه باب تدارك هذه المصلحة، ولقد ضعفت مسألة هذا دليلها، فإن هذه المصلحة التي يريدها يمكن تحصيلها من غير ارتكاب هذا المحذور الذي يلزم منه إذا ندم بعد ذلك يجد باب التدارك مسدودًا عليه بل هذا أغلب وأكثر وقوعًا؛ إن الرجل إنما يطلق زوجته لما يقوم في نفسه منها من النفرة، والإنسان محل التغير فربما يندم بعد ذلك وتتغير تلك النفرة برغبة ولا يتمكن من العود إليها إلا برضاها، وقد لا ترضي فيقع في حرج عظيم، فأين هذه المصلحة من تلك المصلحة التي يمكن تداركها بالتحرز عنها؟ وباب التحرز عنها واسع، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا. وكيف يقال فيما فيه مصلحة من وجه ومفسدته أعظم من مصلحته أنه يكون مشروعًا، فهذه الخمر وإن كان فيها منافع للناس، ولكن مضارها تربو على منافعها فكان من كمال هذه الشريعة تحريمها، وهذه سنة الله فيما شرعه، وفيما قدره، فما كانت مصلحة حصوله أعظم من مفسدة فواته شرعة وقدره، والعكس بالعكس، مع أن ثبوت الرجعة من جانب المرأة وإن كان اختلاسًا منها بغير اختيار من الزوج بأن قبلته بشهوة، أو لمسته بشهوة، أو نظرت إلى

فرجه بشهوة، قد خالف فيه أبو يوسف رحمه الله، وقوله أقوي دليلاً، فإن الله تعالي إنما شرع الرجعة لرجل لا للمرأة فقال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرداوا إصلاحًا} ولم يجعل الله الرجعة إلى المرأة، ولا رسوله، فإثبات الرجعة بفعل المرأة لا يقوي، فكيف يغير له حكم الطلاق عن وصفه المشروع؟!

فصل

[فصل] (وإن لم ينو بالباقي شيئًا، فهي ثلاث؛ لأنه لما نوي بالأولى طلاقًا صار الحال حال مذاكرة الطلاق، فتعين الباقيان للطلاق بهذه الدلالة فلا يصدق في نفي النية). يعني فيما إذا قال: اعتدي اعتدي، اعتدي وينبغي أن تقع واحدة فقط عد فقد النية، كما هو قول زفر رحمة الله؛ لأن الكلام متى أمكن حملة على الحقيقة لا يحمل على المجاز، وقد أجاب السغناقي في شرحه عن هذا فقال: الطلاق قد صار مرادًا بقوله: "اعتدي" فكان خاطرًا بالبال فيحمل الثاني والثالث عليه، وهذا لأن اللفظ إنما يحمل على الحقيقة لخطر أنها بالبال، وما كان أشد خطرًا بالبال كان أولى بالحمل عليه، أنتهي. وجوابه: أن الطلاق وإن صار خاطرًا بالبال لكن العدة تعقبه، فكان أمرها بالاعتداد بعد الطلاق أشد خطرًا بالبال من تطليق آخر لم يرده، ولم ينطق به، ولئن/ تساوي الاحتمالان فعدم وقوع الطلاق أولى للشك.

باب تفويض الطلاق

[باب تفويض الطلاق] فصل في الاختيار قوله: (لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأنه تمليك الفعل منها، والتمليكات تقتضي جوابًا في المجلس كما في البيع). في دعوي إجماع الصحابة ودعوي أنه تمليك نظر، أما الأول فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما أمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله عز وجل قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} الآية، {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة}، قالت: فقلت: في هذا أستأمر

أبوي! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله -صلي الله عليه وسلم- مثل ما فعلت" رواه الجماعة إلا أبا داود، قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يخير زوجته، فقالت طائفة: أمرها بيدها فإن قامت من المجلس فلا خيار لها، روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وفي أسانيدها مقال، وبه قال جابر بن عبد الله، وعطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، وسفيان

الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وفيه قول ثان وهو: أن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره حتى تنقضي منها، هذا قول الزهري، وقتادة، وبه قال أبو عبيد وابن نصر، وكلك نقول، ويدل على صحته قول النبي -صلي الله عليه وسلم- لعائشة: فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك"، انتهي وحكي "صاحب المغني" هذا القول عن علي رضي الله عنه، فكيف يثبت إجماع الصحابة والأمر كما تسمع؟! فأنظر إلى قول ابن المنذر روينا هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود وفي إسنادها

مقال، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" دليل على بقاء الأمر بيدها بعد المجلس. وأما الثاني: وهو أن التخيير تمليك الفعل منها، والتمليكات تقتضي جوابًا في المجلس كما في البيع. وفي "الذخيرة": إلا أن هذا التمليك بخلاف سائر التمليكات من حيث إنه يبقي إلى ما وراء المجلس إذا كانت غائبة ولا يتوقف على القبول لكن يرتد بالرد؛ لأن فيه معني الشرط، ولهذا لا يصح رجوعه عنه عندنا، وتقدم ما حكاه ابن المنذر عمن ذكرهم، اختاره هو أيضًا، وهو محكي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم، وسيأتي بقية الكلام في ذلك في "فصل الأمر باليد" إن شاء الله. قوله: (ثم الواقع بها بائن لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها، وذلك في البائن). اختلف الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم فيما يلزم من اختيارها

نفسها، فذهب علي وعبد الله رضي الله عنهما إلى أن الواقع به واحدة بائنة، كما قال أبو حنيفة، وعن زيد بن ثبات رضي الله عنه أنه ثلاث، وهو قول الليث، وقال مالك رحمه الله: إن كانت مدخولاً بها فثلاث، وإن كانت غير مدخول بها قبل منه دعوي الواحدة، وقال أحمد والشافعي: واحدة رجعية، وهو قول عمر، وابن مسعود أيضًا، وعبد الله بن

عباس واختاره أبو عبيد، وإسحاق، والثوري، وابن أبي ليلي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، وقد تقدم أن الذل دل عليه الكتاب أن الطلاق يعقب الرجعة إلا أن يكون قبل الدخول، أو تكن الطلقة ثالثة، واختيارها نفسها إذا قيل إنه طلاق ينقص به العدد، فحكم ثبوت الرجعة يترتب عليه ما لم يكن مكملاً للثلاث، وما ذكر من المعني لا يصلح أن يثبت به حكم شرعي، ويؤيد هذا ما ذكره المصنف في آخر الفصل أنه لو قال لها: (أمرك بيدك في تطليقه أو اختاري تطليقه؛ فاختارت نفسها فهي واحدة يملك الرجعة) وما ذكر من الفرق، وهو: أنه جعل لها الاختيار بتطليقه، وهو معقبة للرجعة، بخلاف ما إذا لم يذكرها لا يقوي؛ لأنه إذا لم يذكرها فقد نواها وأرادها فتكون معقبة للرجعة/ كما إذا ذكرها، والفرق بين ذكر الطلاق وعدمه يبطل

تعليله الذي ذكره للبينونة. قوله: (وله أن هذا الوصف لغو؛ لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه كالمجتمع في المكان، والكلام للترتيب، والإفراد من ضروراته، فإذا لغا في حق الأصل لغا في حق البناء). يعني فيما إذا قال لامرأته: اختاري، اختاري، اختاري فقالت: اخترت الأولى، أو الوسطي، أو الأخيرة فإنها تطلق ثلاثًا عند أبي حنيفة، وواحدة عند صاحبيه، وهذا التعليل له، وفيه نظر؛ فإن الترتيب ثابت في اللفظ وإن لم يكن ثابتًا في المعني، صدق وصفها بالأولى والوسطي والأخيرة باعتبار أن قوله: اختاري، اختاري، اختاري جملة بعد جملة بعد جملة بعد جملة مشتملة كل جملة على فعل وفاعل مضمر، ومفعول محذوف، سواء كان التكرار للتأسيس أو للتأكيد؛ ففي إيقاع طلقتين زائدتين عليها، والحالة هذه لا يقوي، واختار الطحاوي أيضًا قولهما.

قوله: (ولو قالت: قد طلقت نفسي، أو اخترت نفسي بتطليقه، فهي واحدة يملك الرجعة؛ لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق بعد انقضاء العدة، فكأنما اختارت نفسها بعد العدة). قال السروجي: في كلامه مسامحات، وقد ذكر المسألة في الجامع، والزيادات، وجوامع الفقه، وقال: "يقع واحدة بائنة، وفي بعض نسخ الجامع الصغير، قال: يملك الرجعة كما ذكره هنا وهو غلط من الكاتب، انتهي. وكذلك السغناقي أيضًا نسب الغلط إلى الكاتب، وهذه مشكل؛ لأنهما نفيًا الغلط عن المصنف ونسباه إلى الكاتب إلا أن يكون المراد الكاتب الأول وهو المصنف. وقول السروجي: إن في كلام المصنف مسامحات ولم ينبه عليها مما لا ينبغي فعله أيضًا، بل التنبيه عليها أولاً تكميلاً لفائدة الشرح، وتلك المسامحات في مواضع، أحدها: ما تقدم التنبيه عليه من غلطه في النقل، لثاني: غلطة في التعليل لما ظنه أنه الحكم، ومن هنا يظهر أن الغلط منه لا من

الكاتب؛ لأنه لو غلط الكاتب وترك "لا" من قوله "يملك الرجعة" وكان حقه أن يقول:"لا يملك الرجعة" فالتعليل يدل على أن الغلط من المعلل. الثالث: في قوله: (لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق)، فإن الانطلاق لا يستعمل في الطلا، إنما يستعمل في الانطلاق الحسي، الرابع: في قوله: (فكأنها اختارت نفسها بعد العدة)، بل اختيارها نفسها والحالة هذه سبب للعدة؛ فإن اختيارها نفسها بعد التفويض إليها بلفظ "اختاري" من غير ذكر الطلاق بمنزلة قوله: "اختاري تطليقه" فإذا اختارت نفسها وقع الطلاق الذي فوضه إليها الزوج، والطلاق يعقب الرجعة بالنص. وما ذكر من الفرق وهو أن الواقع هنا بلفظ الطلاق وهو صريح، وهناك بلفظ الاختيار وهو من الكنايات فرق مرتب على المذهب، والمذهب يستدل له لا يستدل به، ولو اختارت نفسها بعد أن قال لها: "اختاري تطليقه" لا يقال: كأنها اختارت نفسها بعد العدة فكذا هنا.

فصل في الأمر باليد

فصل في الأمر باليد قوله: (وإذا قال لها أمرك بيدك ينوي ثلاثًا فقالت: قد اخترت نفسي بواحدة فهي ثلاث) ينبغي أن يقع به طلقة واحدة؛ لأن قولها بواحدة يحتمل أن يكون صفة لطلقة، لا لاختياره فإنه لما جعل أمرها بيدها في التطليق؛ فقولها بعد ذلك: اخترت نفسي بواحدة، يحتمل أن يكون مرادها اخترت نفسي بطلقة واحدة، أو اخترت نفسي باختياره واحدة، فإذا نوت أنها صفة طلقة، أو لم يكن لها نية يقع واحدة. قوله: (وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يومًا لم تقم، فالأمر في يدها ما لم تأخذ في عمل آخر؛ لأن هذا تمليك التطليق منها لأن المالك من يتصرف برأي نفسه، وهي بهذه الصفة، والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه). قال ابن قدامه في "المغني": وإذا قال لها: أمرك بيدك فهو بيدها، وإن تطاول، ما لم يفسخ أو يطأها، ثم قال: روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الحكم وأبو ثور وابن المنذر. وقال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي: هو مقصور على المجلس،

ولا طلاق لها بعد مفارقته انتهي./ والخلاف في الاقتصار على المجلس وعدمه مرتب علي أن جعل أمرها بيدها هل هو تمليك أو توكيل؟ فمن قال: إنه تمليك قال بالاقتصار على المجلس، ومن قال: إنه توكيل قال: لا يقتصر على المجلس، واحتج من قال إنه تمليك بأن الوكيل هو الذي يتصرف لغيره، والمرأة تتصرف لنفسها، واحتج المخالف بأن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج، وإنما ينوب فيه غيره عنه؛ فإذا استناب غيره فيه كان توكيلاً لا غير، قالوا: ولو كان تمليكًا لكان متضاة انتقال الملك إليها، وحينئذ يحب أن لا يبقي الزوج مالكًا له لاستحالة كون الشيء الواحد بجميع أجزائه ملكًا لمالكين في زمن واحد .. والزوج مالك للطلاق بعد التخيير، وجعل أمرها بيدها وقوله لها طلقي نفسك؛ فوجب أن لا تكون هي مالكة له، بخلاف ما إذا قلنا هو توكيل، واستنابة، كان الزوج مالكًا، وهي نائبة ووكيله عنه. قالوا: وأيضًا فقولكم: إنه تمليك إما أن تريدوا به أنه ملكها نفسها، أو أنه ملكها أن تطلق نفسها، فإن أردتم الأول لزمكم أن يقع الطلاق بمجرد قولها "قبلت"؛ لأنه أتي بما يقتضي خروج بعض عن ملكه، واتصل به القبول، وإن

أردتم الثاني فهو معني التوكيل، وإن غيرت العبارة، والعبرة للمعاني. فالحاصل أن المرأة تقوم مقام الزوج في تطليق نفسها بتفويض الزوج ذلك إليها، كما تقوم مقامه في تطليق ضرتها، وكما تقوم مقام غير زوجها في تطليق امرأته بتوكيله إياها في ذلك، والتفريق بكونها عاملة لنفسها في تفويض أمرها إليها، ولغيرها في تفويض أمر ضرتها تفريق صوري، يرد عليه توكيل المدين بإبراء نفسه؛ فإنه يصح عندنا، وهو عامل لنفسه، ذكره السروجي.

فصل في المشيئة

[فصل في المشيئة] فروع الفصل مرتبة على إمكان جمع الطلقات الثلاث، وعلى أن تفويض الطلاق يكون تمليكًا يقتصر على المجلس، وعلى أن لفظ البائن يوجب البينونة في الحال، وفي كل ذلك خلاف تقدم التنبيه عليه. قوله: (ولأبي حنيفة رحمة الله أن كمله "من" حقيقة للتبعيض). يعني في قوله: طلقي نفسك من ثلاث ما شئت، وفيه نظر، وقولهما أظهر، وإنما تكون "من" للتعبيض إذا صلح في موضعها بعض، كما في قوله تعالي: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} فإنه يصح في

موضعها بعض، وقد قرئ شاذًا: {حتى تنفقوا بعض ما تحبون}، ونظائرهم كثيرة، وأما التي لبيان الجنس فكقوله تعالي: {ما ننسخ من آية} ووله تعالي: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، وقوله تعالي: {ومن يل منهم إني إله من دونه} الآية، وقوله تعالي: {ومن يزغ منهم}، ونحوه. و"من" في مسألة الكتاب ونظائرهم بيانيه لعدم صحة تقدير بعض مكانها فلا يقوي دعوي أن كلمة "من" حقيقة للتبعيض مطلقًا، أو في مثل هذا التركيب، بل هي كما تكون للتبعيض، تكون للتبيين، وتكون أيضًا لابتداء الغاية كما في قوله تعالي: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} ونظائره، وتكون للتعليل كما في قوله تعالي: {يجعلون أصابعهم آذانهم من الصواعق} ونظائره، ولها معان آخر معروفة في موضعها، ولا يدور معها معني التبعيض في جميع مواردها، ولا في حال كونها للتبيين، فكيف

يدعى أنها حقيقة فيه؟ بل قد أنكر المبرد والأخفش الصغير وغيرهما أن يكون "من" للتبعيض، وقالوا: وقالوا: إن المواضع التي قيل فيها إنها للتبعيض: إنها فيها لابتداء الغاية؛ لصلاحية معني ابتداء الغاية فيها وكأنهم فروا من الاشتراك، وإنما يكون للتبعيض في قوله: "طلقي نفسك من ثلاث"، أما إذا قال: "طلقي نفسك من ثلاث ما شئت" فلا، وكذلك نظائرها؛ لأن الجملة قد صارت شرطية، وما ذكر من الفرق من دليل إظهار السماحة في قوله: "كل من طعامي ما شئت" لا يقوي، بل لو قال: "كل من طعامي" ليس له أن يأكله كله إلا إذا زاد "ما شئت"؛ لأنه يكون المعني: ما شئت أن تأكله من طعامي فكله، أما اللفظ الأول فمعناه: كل بعض طعامي، وما ذكر من الفرق بأن العموم في قوله: "من شاء" لعموم الصفة لا يقوي؛ لأن "من" في قوله

"من شاء" شرطية لا موصولة لأنها لو/ كانت موصولة لما عتق من وجدت منه المشيئة بعد قوله "من شاء" بل قبله؛ إذا الموصولة لا تغير الفعل الماضي عن معناه من المضي، وإنما نقلت الماضي مستقبلاً "من" الشرطية كما في بقية أدوات الشرط، والله أعلم.

باب الأيمان في الطلاق

باب الأيمان في الطلاق قوله: (ولنا أن هذا تصرف يمين لوجود الشرط والجزاء فلا يشترط لصحته قيام الملك في الحال؛ لأن الواقع عند الشرط، والملك متين به عنده، وقبل ذلك اثره المنع، وهو قائم بالتصرف)، إلى آخر المسألة. هذه مسالة تعليق الطلا بالنكاح وقد اعترف جماعة من الأصحاب بضع دليلها، والنكاح لم يشرع للطلاق، فإذا علق الطلاق بالنكاح فقد رتب عليه ضد مقتضاه فإن الله تعالي إنما شرع النكاح للاتصال الذي يتحصل معه مقاصد النكاح، وإنما شرع الله الطلاق عند الحاجة إلى مفارقة الزوجة بخلاف الإعتاق فإن شراء العبد لصد إعتاقة مشروع مندوب إليه، والفرق بينهما أيضًا أن العتق له قوة وسراية، ولا يعتمد نفوذ الملك التام فإنه ينفذ في ملك الغير كما هو مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في العبد المشترك

إذا أعتقه أحد الشركات، ويصح أن يكون الملك لزواله بالعتق عقدًا وشرعًا، كما يزول ملكه بالعتق عن ذي الرحم المحرم بشرائه، وكما لو اشتري عبدًا ليعتقه عن كفارة، أو نذر، أو اشتراه بشرط العتق، وكل هذا يشرع فيه جعل الملك سببًا للعتق فإنه قربة محبوبة لله، فشر الله التوسل إليها بكل وسيلة مفضية إلى محبوبة، وليس كذلك الطلاق؛ فإنه بغيض إلى الله، وهو أبغض الحلال إليه، ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببًا لإزالته البتة، وفرق ثان وهو أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القرب والطاعات كقوله: لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وجد الشرط لزمه ما علقه به من الطاعات المقصودة، ولا كذلك تعلي الطلاق بالنكاح. وقد استدل من قال بعدم وقوع الطلاق المعلق بالملك بأحاديث في السنن منها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك" قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[عن رجل] قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثًا، فقال: "تزوجها فلا طلاق إلا بعد النكاح"، وسئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فقال: "طلق ما لا يملك"، رواهما الدارقطني. ولكن ضعف الإمام أحمد الأحاديث الواردة في هذا الباب، وضعفها لا يمنع العمل بها لعدم المعارض، واحتمال الصحة وموافقتها للمعني الصحيح. وذكر عبد الرازق عن ابن جريج قال: بلغ ابن عباس أن [ابن مسعود] يقول: "إن طلق ما لم ينكح فهو جائز"، قال ابن عباس: "أخطأ في هذا، إن الله عز وجل يقول: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن". وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا طلاق [إلا] من بعد نكاح

وإن سماها" وهو قول عائشة رضي الله عنها، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحابهم، وداود، وأصحابه، وجمهور أهل الحديث، وليس في مقابلة الأحاديث الوارة في نفي الطلاق بل النكاح ما يعارضها حتى نترك العمل بها لأجل المعارض، بل المعني يساعدها أو يتقوي بها، وقد وردت من طرق فقويت بذلك، قالوا: ولم يرد في الكتاب، ولا

في السنة ما يدل على وقوع الطلاق به ولا له نظير مساو يقاس به فلا يقع، وجميع ما ذكر من الأدلة على وقوعه محتملة فلا يقع بالاحتمال؛ فإن مقتضي القول بأنه تصرف يمين أن يشرع فيها الكفارة لعموم قوله تعالي: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان} الآية، ولهذا قال أبو حنيفة رحمة الله بالكفارة في قولة: إن فعل كذا فهو كافر، أو فلله عليه صوم كذا، ونحو ذلك. قوله: (بخلاف ما إذا قال: إذا صمت، لأنه لم يقدره بمعيار وقد وجد الصوم بركنه وشرطه) فيه نظر فإنه إذا صام ساعة ثم أطفر لم/ يوجد الصوم الشرعي فإنه لا يتجزأ، فإذا أبطلة بطل من أصله، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

فصل في الاستثناء

فصل في الاستثناء قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف بطلا أو عتاق وال: إن شاء الله تعالي متصلاً به فلا حنث عليه"). هذا الحديث منكر ليس له ذكر في كتب الحديث، وكأنه من كلام بعض الفقهاء، وقد اختلف الناس في الاستثناء على أوال سأذكرها إن شاء الله تعالي. وما ورد في ذلك ليس في شيء متصلاً به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه وقال: "فله ثنياه"، والنسائي وقال: "فقد استثني" وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: " من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه" أخرجه أحمد

والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وعن ابن عباس رض الله عنهما أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: "من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله أو لغلامه: أنت حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله إن شاء الله فلا شيء عليه"، أخرجه البيهقي وقال: هذا الحديث بإسناده منكر، ليس يرويه إلا إسحا الكعبي، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "من طلق واستثني فله ثنياه" أخرجه الدار طني، وقال عبد الحق: في إسناده حميد وهو ضعيف.

وقال مالك رحمه الله: إن الاستثناء لا يعمل إلا في اليمين بالله تعالي وحده، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وأوسع منه قول من قال فيها، وفي غيرها: يشترط النية من أول الكلام، وأوسع منه، قول من يشترطها قبل فراغه، وأوسع منه قول من يجوز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام، وأوسع منه قول من يجوزه بالقرب من الكلام، ولا يشترط اتصاله به كما هو رواية عن أحمد، وأوسع منه قول من قال: ينفعه الاستثناء ويصح ما دام في المجلس، نص عليه أحمد في إحدى الروايات عنه وهو قول الأوزاعي واستدل

لذلك بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله-صلي الله عليه وسلم-: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل"، فال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو قالها لقاتلوا سبيل الله الله فرسانًا أجمعون"، أخرجاه في "الصحيحين" وعنه -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "والله لاغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، ثم سكت قليلاً ثم قال: "إن شاء الله"، ثم لم يغزهم، رواه أبو داود، وفي جامع الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:"من حلف علي يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه" وقد تقدم ذكره وليس فيه ذكر الاتصال، وقد قال -صلي الله عليه وسلم- عن مكة: "إنه لا يختلي خلاها" فقال له العباس: "إلا الإذخر" فسكت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ثم قال: "إلا

الإذخر"، وقال في أسري بدر: "لا يفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق" فقال ابن مسعود "إلا سهيل بن بيضاء" قال: "إلا سهيل ابن بيضاء". وجواب من أجاب عن هذين الاستثناءين أن ذلك كان على النسخ لا يقوي لأنه بـ "إلا" وهي تؤذن باتصال ما بعدها بما قبلها، وأنه جملة واحدة، وقالوا: والمجلس جامع للمتفرقات يشهد لذلك أحكام كثيرة معروفة، أشبهها بمسألة الاستثناء قول الشاهد في مجلس الأداء: أوهمت بعض شهادتي، فإنه يقبل، ذكر في "الهداية" في "كتاب الشهادات)، وعلل له أن المجلس إذا اتخذ لحق الملحق بأصل الشهادة، فصار ككلام واحد ولا كذلك

إذا اختلف. قوله: (بخلاف ما إذا مات الزوج لأنه لم يتصل به الاستثناء). يعني إذا مات الزوج بعد قوله: أنت طالق، قبل قوله: إن شاء الله. وهذا مشكل، فمن أين لنا أنه كان يستثني لو عاش؟ وما / يعلم ما لم يكن أن لو كان كيف يكون إلا الله، وتصويرهم ذلك بأن يقول: إني أريد أن أطلق وأستثني، ثم يطلق ويموت فيه نظر؛ فإن قوله: أريد أن أطلق وأستثني إخبار عن أمر يريد أن يفعله في المستقبل، ويحتمل أن يكون في إخباره كاذبًا أو أن يبدو [له] فيترك الاستثناء.

باب طلاق المريض

باب طلاق المريض قوله: (فإن قال لها في مرضه: كنت طلقتك ثلاثًا في صحتي، وانقضت عدتك، فصدقته، ثم أقر لها بدين، أو أوصي لها بوصية فلها الأقل من ذلك، ومن الميراث عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز إقراره ووصيته) إلى آخر تعليل المسألة. قال السروجي رحمه الله: ينبغي أن ينظر، إن كان قد جري بينهما مشاجرة وخصومة وتركت خدمتها في مرضه، فذلك يدل على عدم المواضعة والإحسان إليها، فحينئذ لا تهمة في الإقرار لها، وإن كان ذلك في حال المطايبة ومبالغتها في خدمته، ينبغي أن لا يصح إقراره لها والوصية؛ لأن ذلك دليل على باب الإقرار والوصية لها. ثم قال: قال في "الذخيرة" قيل" الأولى فيها تحكيم الحال، إن كان قد جري بينهما مشاجرة وخصومة تدل على غضبه يقع الطلاق عليها أيضًا، وإن لم يكن كذلك لا يقع يعني فيما إذا قالت: لك امرأة غيري؟ أو قالت: تزوجت علي؟ فقال: كل امرأة لي طالق. قال: فمقتضي ما ذكره ي "الذخيرة" من تحكيم الحال هناك أن تحكم

الحال هنا انتهى. ويجب على والشهود قبله، والمفتي في مثل هذا النظر في قرائن الأحوال ما أمكن؛ فإنه أصل كبير، وكثيرًا ما يوقع في مثله شهود السوء فإنهم يعلمون جهال الناس الحيل الباطلة لنيل الأغراض الفاسدة وأكلهم السحت، فإنهم يدخلون على المريض فيقول لهم: أريد أن أعطي هذه زيادة على حقها كذا وكذا، فيقولون له الطريق في هذا أنك تقر بكذا، فيفعل، ويشهدون بذلك مع علمهم بباطن الأمر، وهذه شهادة الزور بعينها وهم في هذه الحال سماعون للكذب أكالون للسحت.

باب الرجعة

باب الرجعة قوله: (ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين وإن لم يشهد صحت الرجعة، وقال الشافعي في أحد قوليه، لا يصح، وهو قول مالك). قال السروجي: وفي "المقدمات" وهو من كتب المالكية والصحيح أنه مندوب إليه وليس بواجب، وليس شرطًا عند من أوجبه في صحة الرجعة، ولو وجب لما صحت الرجعة دونه، بل مراده أنه يأثم تاركه، وفي الجديد للشافعي أن الإشهاد مستحب فيها كقولنا، ذكره في البسيط، وفي الروضة: ليس بشرط على الأظهر انتهي كلام السروجي. قوله: (ولهما أنه ملوث غير مطهر). يعني التراب في حق من لا يجد الماء، وفيه نظر؛ فإن الصحيح أنه مطهر

حالة العجز عن استعمال الماء لقوله عليه الصلاة والسلام: "التراب ظهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه فالتعليل له ولأبي يوسف أنه غير مطهر لا يصح، فإن قيل: إن المراد أنه غير مطهر بنفسه فالجواب أن الأعضاء طاهرة عن النجاسة العينية، وإنما تع الطهارة من الآثام، والماء والتراب في هذا سواء كما تقدم التنبيه على ذلك في كتاب الطهارة. قوله: (والقياس في العضو الكامل أن لا تبقي الرجعة لأنها غسلت الأكثر).

يعني أن القياس يقتضي أن المعتدة عن طلا رجعي، إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، ونسيت عضوًا كاملاً أن الرجعة تنقطع؛ لأنها قد غسلت أكثر بدنها، والأكثر له حكم الكل، وفي ذلك نظر، فن كون الأكثر يقوم مقام الكل غير مطرد فلا يجري فيه القياس، وإن كان قد جاء في أحكام يسيره لقيام الدلالة فيها على الاكتفاء بالأكثر فيحفظ ولا يقس عليها. قوله: (فقلنا بأنه تنقطع الرجعة، ولا يحل لها التزويج أخذًا بالاحتياط فيهما). فيه نظر، وهو أن المرأة تبقي في هذه الحال غير أيم ولا ذات زوج، وهذا لا نظير له في الشرع/.

فصل فيما تحل به المطلقة

فصل فيما تحل به المطلقة قوله: (وإذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح مكروه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله المحلل والمحلل له" وهذا هو محمل الحديث) إلى آخر المسألة. يعني بقوله وهذا هو محمل الحديث) إلى آخر المسألة. يعني بقوله وهذا هو محمل الحديث أن يتزوجها بشرط التحليل، وينبغي أن يجري الخلاف فيما إذا تزوجها ليحلها للزوج الأول، وإن لم يشترط التحليل في لفظ العد بل شرط بل العقد، أو نوي التحليل من غير شرط؛ فإن المرعوف كالمشروط. وهذا أصل متفق عليه أعني أن المعروف كالمشروط، وقد علل الأصحاب

بذلك في جواز الرجوع في الهبة لأن المعروف أن من وهب غنيًا شيئًا إنما يريد العوض منه، حتى جاز له الرجوع ما لم يعوضه على ما سيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالي. "والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي" فإذا تزوجها لقصد التحليل كان ملعونًا، شرط في العقد أو لم يشرط، وإن كان المحلل له وافقه على ذلك شاركه في اللعنة، ولم يقم دليل على تخصيص اللعنة بهما بحالة اشتراط التحليل في العقد؛ فقوله: إن هذا هو محمل الحديث مجرد دعوي يردها الدليل، وقول أبي يوسف رحمه الله أن النكاح فاسد لأنه في معني المؤقت؛ فلا يحلها للأول لفساده في غاية القوة، وقول مالك وأحمد مع أهل المدينة الشريفة، وأهل الحديث في اعتبار المقاصد وإبطال الحيل معلوم.

ودليله أقوى من دليل من خالفهم، وقول المصنف في التعليل [لابي حنيفة] رحمه الله: أن النكاح لا يبطل بالشرط، فقوله: تزوجتها لأحلها ثم أطلق وإن لم يقل ذلك بلسانه، فهو مرعوف عند كل من أطلع على حالهم، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، ألا تري أن من اشتري شيئًا يساوي مائة درهم بمائة مطلقة، أنه يلزمه مائة درهم، لا مائة دينار وإن لم يشترط؛ لأنها هي المقصودة، ونظائر ذلك كثيرة، والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني؛ فإذا ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ؛ لأنها وسائل تحت غاياتها فترتب عليها أحكامها؛ ولهذا قلنا بجواز البيع بالتعاطي. فالمحلل إذا قال: تزوجت وهو لا يصد بلفظ التزوج المعني الذي جعل له في الشرع كان إخبارًا كاذبًا، وإنشاء باطلاً فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم توضع في الشرع ولا في العرف لمن قصد رد المطلقة إلى زوجها، وليس له قصد في

النكاح الذي وضعه الله بين عباده، وجعله سببًا للمودة والرحمة بين الزوجين وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكمًا، فمن ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة، ولا في المصاهرة ولا في الولد، بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره، فتزوج ليطل، فهو مناقض لشرع الله، ودينه، وحكمته، فهو كاذب في قوله: تزوجت بإظهار خلاف ما في قلبه، وصيغ العقود إخبارات عما في النفوس من المعاني ولا تصير كلامًا معتبرًا إلا إذا قرنت بمعانيها، فتصير إنشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم، وإخبارًا من حيث دلالاتها على المعاني التي في النفس، فهي تشبه في اللفظ: أحببت، وأبغضت، وكرهت، وتشبه في المعني: قم، واقعد، وإذا كان المقصود محرمًا فالوسيلة إليه كذلك، وفي اعتبارها تنفيذ للمحرم، وإسقاط للواجب، وإعانة على المعصية، ولا يبالي باختلاف الأسباب عند حصول المقصود، وهذا المعني هو الذي فهمته الصحابة رضي الله عنهم، ورد عنهم في ذلك ما رواه نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: "امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم قال: لا؛ إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، قال: وإن كنا لنعه على عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم-/ سفاحًا، وقال: لا يزالان زانيين، وإن مكثا على ذلك عشرين سنة، إذا علم أنه يريد أن يحلها" وهذا قول

عثمان رضي الله عنه، وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فال له: "إن مي طلق امرأته ثلاثًا أيحلها له رجل؟ قال: من يخادع الله يخدعه". وعن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر:"لا أوتي بمحلل، ولا محلل له إلا رجمتها". وله: (ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله، وقال محمد: لا يهدم ما دون الثلاث لأنه غاية للحرمة بالنص، فيكون منهيًا، ولا إنهاء للحرمة قبل الثبوت. ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله المحلل والمحلل له" سماه محللاً، وهو المثبت للحل). لو علل لهما بأن الزوج الثاني إذا هدمت إصابته الثلاث وأعادتها إلى الأول بطلاق جديد فما دونهما كذلك اعتبارًا للبعض بالكل لكان تعليلاً حسنًا، وأما ما ذكره من التعليل فإنه ضعيف، فإنه إن أراد به صاحب النكاح المتفق على صحته فذك غير المحلل المذكور، ولا يلحقه شيء من اللعن، وإلا كان يلزم أن كل من تزوج مطلقة غيره ثلاثًا يكون معلونًا، ويكون المطلق أيضًا

ملعونًا وليس الأمر كذلك، ولا يقوله أحد من الناس، وإنما يكون المحلل والمحلل له ملعونين، إذا قصدا التحليل، ولو صده أحدهما لكان معلونًا وحده، وإن أراد به المحلل الملعون المذكور في الحديث، فذاك لم يسم محللاً لكونه مثبتًا للحل، وإنما سمي محللاً تهكمًا به، وذمًا له لكونه قصد تحليل ما حرم الله، ولم يقصد النكاح الذي شرعه الله، كما قال تعالي: {إنما النسيء زيادة في الكفر يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله} الآية، سماهم محللين ومحرمين ذمًا لهم، وتقبيحًا لفعلهم لأنهم قصدوا تحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، وليس المراد إثباتهم للحل، ولا للحرمة، ولا صار الحلال حرامًا بتحريمهم، ولا الحرام حلالاً بتحليلهم، والله أعلم.

باب الإيلاء

باب الإيلاء قوله: (وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقه، وقال الشافعي: تبين بتفريق القاضي). لم يقل الشافعي رحمه الله، أنها تبين بل قال: إن طلق الزوج بنفسه يقع رجعيًا، وكذا إن طلق الحاكم، وبه قال مالك وأحمد، وإنما قال: يع بائنًا أبو ثور، وممن قال: إن الطلاق يقع بمضي المدة من قال إنه يكون رجعيًا، وهم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومحكول، والزهري هكذا في "الإشراف"، وقولهم في كونه رجعيًا أظهر؛ فإن الله تعالي شرع الطلاق معقبًا للرجعة إلا الثالثة وتقدم التنبيه على ذلك في الكنايات. قوله: (وقال الشافعي رحمه الله: لا فيء إلا بالجماع، وإليه ذهب

الطحاوي رحمه الله). لم يقل الشافعي رحمه الله ذلك، ومذهب الأئمة الأربعة أن العاجز عن الفيء بالجماع يفيء باللسان، وإنما قال: لا فيء إلا بالجماع سعيد بن جبير، ويروي عن أبي ثور، واختاره الطحاوي رحمه الله كذا حكى السروجي.

باب الخلع

باب الخلع قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام "الخلع تطليه بائنة"). هذا الحديث منكر، وإنما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي -صلي الله عليه وسلم- جعل الخلع تطليقه بائنة" أخرجه الدارقطني والبيهقي، وقال: تفرد به عباد بن كثير البصري، وقد ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيي بن معين، والبخاري انتهي. وإنما روي أن الخلع تطليقه بائنة عن عثمان، وعلي

وابن مسعود، موقوفًا عليهم، حكاه عنهم السروجي، ولكن لم يصح عنهم، أم أثر عثمان فطعن فيه الإمام أحمد، والبيهقي، وغيرهما، وكيف يصح عنه وهو لا يري فيه عدة؟ وإنما يري الاستبراء فيه بحيضة، فلو كان طلاقًا لأوجب فيه العدة، قالوا: وجمهان الراوي لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من مولي الأسلميين، وأما أثر علي رضي الله عنه فقال ابن حزم: رويناه من طريق لا يصح عن علي، وأمثلها: أثر ابن مسعود على سوء

حفظ/ ابن أبي ليلي، انتهي. وأما ابن عباس فصح عنه أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وأن عدتها حيضة، قال ابن عبد البر: بلا خلاف عنه، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور وهو أحد قولي الشافعي، والمشهور من قوليه إن عدتها ثلاث حيض، انتهي. ثم إن من نظر إلى حقائق العقود، ومقاصدها دون ألفاظها، منهم من يعد الخلع فسخًا بأي لفظ كان حتى بلفظ الطلاق، وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد الوا: و [هو] ظاهر كلامه، وكلام ابن عباس ....

وأصحابه، قالوا: ومما يدل على هذا: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليه، ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة، هكذا رواه النسائي وأبو داود من حديث ثابت بن قيس، وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وكما أن للنكاح المؤقت حكم

المتعة فكذلك للطلاق على مال حكم الخلع. قوله: (ولو قالت خالعني على ما في يدي من الدراهم، أو من دراهم ففعل فلم يكن في يدها شيء فعليها ثلاثة دراهم لأنها سمت بالجمع وأله ثلاثة، وكلمة "من" هاهنا للصلة دون التبعيض لأن الكلام يختل بدونه). قال السروجي: فإن كان في يدها ثلاثة دراهم، أو أكثر فهي له، وإن كان أل تكمل ثلاثة دراهم، انتهي، وهذا ظاهر فيما إذا قالت على ما في يدي من الدراهم بالتعريف ففيه نظر؛ فإن قوله تعالي: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} دل على اجتناب وثن فأكر لا ثلاثة فما فوها، ولو ال: أكرم من في الدار من الرجال، وفي الدار واحد يجب إكرامه، ولو قال: والله لا أتزوج النساء، أو لا اشتري العبيد، حنث بالواحدة والواحد، وأصله أن الجمع إذا دخلته الألف واللام أبطلت معني الجمع وصيرته للجنس، وقال السروج: وفي "الحواشي" فإن قيل: ينبغي أن يجب عليها درهم واحد؛ لأن الجمع إذا دخلته لازم التعريف يصير للجنس، كما لو حلف لا يتزوج النساء، ولا يشتري العبيد، فإنه يحنث

بالواحدة والواحد، ثم أجاب بجواب فاسد؛ فقال: إنما يصار إلى الجنس إذا لم يكن العمل بالجنس، وهنا لا يمكن العمل به بالإضافة إلى ما في يدها؛ لأن كل الجنس من الدراهم لا يكون في يدها فإذا لغا حرف التعريف هنا فلا بد من اعتبار صيغة الجمع، انتهي كلام صاحب الحواشي، قال السروجي: لام التعريف إذا دخلت على جمع وتعذر حملة على استغراق الجنس لا يلغي بالإجماع، بل يحمل على أقل الجنس وهو الواحد، والتعذر حقيقي كما في قوله: لا أتزوج النساء، ولا أشتري العبيد؛ فإن تزوج جميع النساء، أو شري جميع العبيد متعذر قطعًا، كما أن جميع الدراهم لا تكون في يدها، وشرعي: كما لو قال: أنت الطلاق، وأنت طالق الطلاق؛ فإنه يحمل على أل الجنس وهو الواحد، لأن إرسال الثلاث جملة حرام، وقد عرف هذا من الجامع، هذه عبارة السروجي، وهذا كلام صحيح، لكنه ذكر بعد ذلك ضابطًا لذكرته وبينت فساده، وكذلك ما ذكره السغناقي والكاكي، وقوله المصنف لأنها سمت الجمع وأقله ثلاثة، كأنه نسي ما قيل في تفسير قوله تعالي: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية، وما رد به على الشافعي رحمه الله تعالي في اعتبار الصرف إلى ثلاثة من كل صنف من أن المراد الجنس من كل صنف لا الجم لما فيه من الألف واللام، ولهذا كان

النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتحري ذلك، بل ربما صرف الزكاة التي يؤتي بها إلى واحد، وقوله: وكلمة "من" هاهنا للصلة دون التبعيض لأ الزائد ما يتم الكلام بدونه، وقوله: لأن الكلام يختل بدونه، يناقض ذلك، وإن كان مراده والأمر كذلك، ولا يدل على ما/ ادعاه؛ فإن من قال: ليس في يدي من الدراهم إلا هذا الدرهم، أو إلا درهم كان كلامًا مستقيمًا، أو قال بصيغة الإثبات: إلي في يدي من الدراهم درهم، كان هذا كلامًا مستقيمًا أيضًا، ولو قلت لغيرك: أصلح ما في هذا الثوب من العيوب أو قلت له: تب عما اقترفت من الذنوب وكان فيه عيب واحد، أو كان ذنبًا واحدًا لتناوله الأمر. قوله: (وله أنه جملة تامة فلا ترتبط بما قبله إلا بدلاله، إذا الأصل فيها الاستقلال، ولا دلالة؛ لأن الطلاق والعتاق ينفكان عن الملك بخلاف البيع والإجارة، لأنهما لا يوجدان دونه). يعني إذا قال لامرأته: أنت طالق وعليك ألف، أو قال لعبده: أنت حر وعليك ألف، فعند أبي حنيفة يقع الطلاق والعتق بلا مال، وعندهما يحتاج

إلى القبول، فإذا حصل وقع الطلاق، والعتق، ولزم المال، وقولهما أقوى؛ فإن قوله: (إنه جملة تامة فلا ترتبط بما قبله إلا بدلالة) كلام صحيح، والدلالة موجودة وهي القرينة الحالية، خصوصًا إذا لم يكن على المرأة، ولا على العبد ألف؛ فإنه حينئذ يتعين حمل الكلام على التعليق صونًا له عن الكذب وقوله: إذا الأصل فيها الاستقلال ممنوع، بل الأصل ارتباط الكلام بعضه ببعض، وانتظامه دون انتشاره، والفاصل في ذلك قرائن الأحوال. وقوله: (ولا دلالة لأن الطلاق والعتاق ينفكان عن المال) إلى آخره. لا يلزم من كونهما ينكان عن المال في الجملة أن يكون ذكر المال بهذه الصيغة دلالة على إرادة اشتراطه، فإن انتفاء القرينة من وجه، لا يلزم منه انتفاؤه من كل وجه. قوله: (والمباراة كالخلع كلاهما يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح عند أبي حنيفة، وقال محمد: لا يسقط فيهما إلا ما سمياه) إلى أن قال: (ولأبي حنيفة أن الخلع ينبئ عن الفصل، ومنه خلع النعل، وخلع العمل، وهو مطلق كالمباراة، فيعمل

بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه). قول محمد رحمه الله أظهر؛ لأن هذا عقد معاوضة فوجب أن يقتصر حكم المعاوضة على البدل المشروط، ولا يتعدي إلى استحقاق ما سواه من الحقوق الواجبة كسائر المعاوضات، وصار كما لو طلقها علمًا نصًا، والتراضي قد جري على هذا المقدار الذي سمياه، فسقوط غيره من غير تراض في غاية الإشكال، والفظ وإن كان ينبئ عن الفصل، فالفصل قد وجد علي مقدار سمياه ورضيا به، فكيف يسقط غيره؟! وقوله المصنف: (وهو مطلق كالمبارأة فيعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه)؛ ممنوع بل هو مقيد قد قيداه بما سميا، وكيف يقال: إنه إذا خالعها على عشر صداها مثلاً، إنه يسقط الباقي، ولا يتقيد بالمقدار الذي عيناه؟ ولو كان مقصودهما سقوط الكل لذكراه.

باب الظهار

باب الظهار [فصل في الكفارة] قوله: (ولا يجوز مقطوع إبهام اليد لأن قوة البطش بهما، فبفواتهما يفوت جنس المنفعة). فيه نظر؛ فإن الضابط إذا كان قد جعله فوت جنس المنفعة، وقال: إن اختلالها لا يمنع؛ فمقطوع إبهام الدين لم يفت في حقه جنس منفعة البطش، ولكن اختلت بدليل أنه يجب فيهما خمس الدية لا كلها، وغاية ما فيهما أن الانتفاع بالإبهام أقوي من غيرها فكأنها في مقابلة الأصابع الأربع الباقية بمنزلة النصف، هذا أعلى أحوالها، مع أن الشارع أسقط اعتبار التفاوت بين الأصابع وسوي بينها في وجوب الدية، وإذا كانت بمنزلة النصف ففوت الإبهامين

بمنزلة يد واحدة فيكون فوتهما من باب اختلال المنفعة لا فواتها، ألا تري أن الأصم يجزي إذا كان على حال لو صيح عليه يسمع، وعد ذلك من اختلال المنفعة، فهذا كذلك، وفي تعليل المصنف تناقض فإن قوله: (لأن قوة البطش بهما) يدل على أن البطش يضعف عند قوتهما، إذا ضد القوة الضعف، وقوله بعده: (فبفوتهما يفوت جنس المنفعة) / يناقضه مناقضة ظاهرة. قوله: (ولا يجزي المدبر). وقال الشافعي وأحمد وغيرهما بإجزائه، والخلاف فيه مرتب علي جواز بيعه عندهم، ويأتي الكلام على ذلك في باب التدبير إن شاء الله. قوله: (فإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باية، لم يجز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز) ثم استدل لأبي حنيفة (بأن نصيب صاحبة ينتقص على ملكه، ثم يتحول إليه بالضمان ومثله يمنع الكفارة).

وفي ذلك نظر؛ فإن البض الحاصل ي العبد بسبب الإعتاق ينبغي أن لا يمنع بمنزله ما لو أضجع شاه للذبح فانكسر رجلها بسبب الإضجاع؛ فإنه يجوز التضحية بها فكذا هذا؛ ولأنه بأداء الضمان ملك حصة شريكة مستندًا إلى وقت وجود السبب، فصار نصيب الساكت ملكًا للمعتق زمان الإعتاق، فكان النقصان في ملكه حكمًا، وما أجيب به عن الاعتبار بالأضحية من تعمد النقصان في العت دون الإضجاع للتضحية، يمكن أن يقال فيه: النقص بالإعتاق حكمي؛ فلا فرق بين إعتاق بكلام واحد، أو بكلامي، فيستوي عمده وخطؤه، وفي الأضحية حقي فيعذر في الخطأ دون العمد، وما أجيب به عن اعتبار استناد الضمان من أن الملك في الضمان يثبت بصفة الاستناد في ح الضامن، والمضمون له لاحق في غيرهما، والكفارة غيرهما، يمكن أن يقال فيه: لما كان البعض بالإعتاق حكميًا فسواء وجد في ملكه بين إعتاق نصفه وإعتاق باقية، أو في ملك غيره بين الإعتاقين؛ لأنه لو كان ينافي كمال الرقبة لمنع مطلقًا. قوله: (وإن أعتق المولي، أو أطعم عنه، لم يجزه: لأنه ليس من أهل الملك فلا يصير مالكًا بتمليكه). قال في "المغني": وعن أحمد رواية أخرى: إن أذن له سيده في التكفير بالمال جاز، وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور، وحكى ابن المنذر في

"الإشراف" عن مكحول أنه يعتق بإذن مولاه وحكي ابن المنذر أيضًا أن العبد يملك التسري بإذن مولاه عند ابن عمر، وابن عباس، والحسن البصري، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، والزهري، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وهو القديم من قولي الشافعي انتهي، وال ابن عبد البر في "التمهيد" بعد أن حكي الخلاف في أن العبد يملك بالتمليك: وحجتهم قول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "من باع عبدًا وله مال" فأضاف المال إليه، قال الله عز وجل في الإماء: {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف} فأضاف أجورهن إليهن إضافة تمليك، وهذا كله قول داود أيضًا وأصابه، إلا أن داود يجعله مالكًا ملكًا صحيحًا ويوجب عليه

زكاة الفطر، والزكاة من ماله، ومن الحجة لمالك أيضًا أن عبد الله بن عمر كان يأذن لعبيده في التسري يما بأيديهم ولا مخالف له من الصحابة، ومحال أن يتسري فيما لا يملك لأن الله تعالي لم يبح الوطء إلا في نكاح، أو ملك يمين، ثم قال بعد ذلك: وقال مالك: وابن شهاب، وأكثر أهل المدينة: إذا أعتق العبد تبعه ماله، وفي البيع لا يتبعه ماله وهو لبائعه انتهي، وقال الله تعالي: {وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} فأخبر تعالي أن العبيد والإماء يكونون فقراء، ويكونون أغنياء، وذلك دليل على ملكهم، وقد أجيب عن استدلال من استدل على أن العبد لا يملك، وليس له شهادة بقوله تعالي: {ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لأ يقدر على شيء} بأن العبد في الآية نكرة في سياق الإثبات فلا تعم، مع أنه لم يقل أحد بعموم هذا السلب فإنه يقدر على أنواع من التصرفات بإذن السيد، وأنواع بغير إذنه بالنص والإجماع. والمراد التنبيه على أن العبد لا مانع من أن يملك إذا ملك، وإضافة المال إليه فوق إضافة السرج إلى الدابة، فجعله داود، وأصحابه بمنزله الحر في الملك، وجعله أبو حنيفة والشافعي في قوله الجديد، ومن وافقها بمنزلة

الدابة لا تقبل التمليك/ وتوسط غيرهم وجعل لهم حالة أخرى في الملك فوق حال الدابة، ودون حال الحر، ولم يرد ما يمنع من ذلك وهو ظاهر، فإن تسوية العبد بالحر لا يصح لقصور قدرته، وتسويته بالبهيمة لا يصح لأن العبد يثبت له اختصاص يفيده تصرفًا شرعيًا بالنص والإجماع لا يكون مثله البهيمة، وقد اتقوا على أن العبد إذا أحرم بإذن المولي وأحصر فأراق المولي عنه الدم، أو أراق هو بإذن المولي يجو له التحلل بذلك. ولكن من قال إنه لا يملك بالتمليك، أجاب بأن هنا العبد مضطر إلي تملك؛ لعدم مشروعية الصوم في حالة الإحصار بخلاف الظهار، ويمكن أن يال: إن الصوم بدل عن الإعتاق لا يصار إليه إلا إذا لم يجد رقبة، وهذا واجد للرقبة بتمليك المولي وإذنه له في إعتاقها، وقد وافقتمونا على أنه أهل لأن يملك في الاحصار فوافقونا في الظهار، وقد أخبرناكم عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم بما سمعتم فأخبرونا من خالفهما من الصحابة وقد قال

صاحب "الكافي شرح الوافي" لقوله [عليه] الصلاة والسلام: "لا يملك العبد ولا يملكه مولاه" وكأنه من كلام بعض الفقهاء، وإلا فلا يعرف في شيء من كتب الحديث. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أوس بن الصامت، وسهل بن صخر "كل مسكين نصف صاع من بر"). الصواب سلمه بن صخر قال: "فأطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا" قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين، وما أملك لنا طعامًا،

قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بن زريق، فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها"، والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وفي حديث أوس بن الصامت عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشكو إليه، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- يجادلني فيه ويقول: "اتقي الله فإنه ابن عمك»: فما برح حتى نزل القرآن {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} إلى الفرض، فقال: "يعتق رقبة" فقالت: لا يجد، قال: "فيصوم شهرين متتابعين" قالت: يا رسول

الله: إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: "فليطعم ستين مسكينًا"، قالت: ما عنده من شيء يتصدَّق به، قال: "فإني سأعينه بعرق من تمر"، قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر، قال: "قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك، والعرق ستون صاعًا" رواه أبو داود، ولأحمد معناه لم يذكر قدر العرق وقال فيه: "فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر" ولأبي داود في رواية أخرى: "والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعًا. وقال: هذا أصح انتهى. وقد روي بروايات مختلفة وأكثرها مراسيل وليس في شيء منها ذكر البر.

باب اللعان

باب اللعان قوله: لقوله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} والاستثناء إنما يكون من الجنس)، الاستثناء يكون من الجنس ويسمى متصلاً، ومن غير الجنس ويسمى منقطعًا، ولو قال: والأولى أن يجعل الاستثناء هنا من الجنس لأنه الأصل، ولا يعدل عن الأصل إلا بدليل أو نحو هذا من العبارة لكان صوابًا مستقيمًا، وفي آخر حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة هلال بن أمية فقال رسولا لله -صلي الله عليه وسلم-: "لولا الإيمان لكان لي لها شأن" أخرجه أحمد وأبو داود ولم يقل: "لولا الشهادات".

قوله: (والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم، اليهودية، والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك"). معني هذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي وأبو عمر بن عبد البر، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن/ جده وضعفوا سنده. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به، وإذا كان الحديث المذكور ضعيفًا، وترجيح جانب الشهادة محتملاً، وحاجة الزوج الذي لا تصح منه الشهادة في اللعان ونفي الولد، كحاجة من تصح منه الشهادة سواءً، والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالآخر، والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجًا ومخرجًا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الإصرار والأغلال لا فرج له مما نزل به ولا مخرج، بل يستغيث لا يغاث، ويستجير فلا يجار، إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن

سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته، وفي ذلك ما فيه!، وكيف ينتفي عنه ولد الحرة المسلمة باللعان، ولا ينتفي عنه ولد الأمة الكتابية باللعان؟!. قوله: (وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات، يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا)، كذلك زاد فيما تقوله المرأة في كل مرة: فيما رماني به من الزنا، ثم قال: (والأصل فيه ما تلونا من النص). وليس في النص: (فيما رميتها به من الزنا، ولا فيما رماني به من الزنا)، ولهذا حصل الخلاف هل يقول الرجل فيما رميتها أو فيما رميتك؟ وكذلك زاد في اللعان بنفي الولد أن يقول الرجل: فيما رميتها به من نفي الولد، في كل مرة. وقال: ولو قذفها بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمرين، وليست

هذه الزيادة ولا شيء منها في آية اللعان، ولا فيما حكي من صفة لعان المتلاعنين بين يدي النبي -صلي الله عليه وسلم-. وقد ذكروا في توجيه ذلك، انه ربما نوى: إني لمن الصادقين في شهادة التوحيد، أو غيره من الخبر الصادق، ونوت: إنه لمن الكاذبين في شأن آخر، فإذا ذكرا ما رميت به من الزنا انتفي هذا التأويل. وقال الآخرون: هب أنهما نويا ذلك فإنهما لا ينتفعان بينتهما فإن الظالم لا ينفع تأويله، ويمينه على نية خصمه، ويمينه بما أمر الله به إذا كان مجاهرًا فيها بالباطل والكذب، عليه اللعنة والغضب نوي ما ذكرتم أو لم ينوه، فإنه لا يموه على من يعلم السر وأخفي بمثل هذا. قوله: (دل عليه قول ذلك الأعرابي عند النبي -صلي الله عليه وسلم-: "كذبت عليها إن مسكتها، فهي طالق ثلاثًا"). هكذا وقع في بعض نسخ الهداية أعني فهي طالق بالفاء وهو غلط، وفي بعضها هي طالق بغير فاء، ولفظ الحديث: "كذبت عليها يا رسول الله إن

أمسكتها فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمر النبي -صلي الله عليه وسلم-". قوله: (وهو خاطب إذا أكذب نفسه عندهما، وقال أبو يوسف هو تحريم مؤبد لقوله عليه الصلاة والسلام: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" نص على التأبيد). قول أبي يوسف هو قول الأئمة الثلاثة، والثوري وأبي عبيد، والحسن البصري، وعطاء، والزهري، والنخعي، والحكم، والأوزاعي، وإسحاق وأبي ثور، وهو مروي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، حكي ذلك ابن المنذر وغيره. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي؟ قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، ون كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها"متفق عليه.

وقد سهل: حضرت هذا عند النبي -صلي الله عليه وسلم-:"فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا" رواه أبو داود، وعن سهل بن سعد أيضًا في قصة المتلاعنين قال: ففرق رسول الله-صلي الله عليه وسلم- بينهما، وقال: "لا يجتمعان أبدًا". وعن ابن عباس أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:"المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا"، وعن علي قال: "مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعان أبدًا". وعن علي وابن مسعود قالا: "مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان"، رواهن الدارقطني. وفي مسند أبي حنيفة رحمه الله [عن ابن عمر رضي الله عنهما] قال:

قال رسول الله صلى [الله] عليه وسلم: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا". فاقتضت هذه الآثار- وإن كان في سند بعضها ضعف - أن الحرمة مؤبدة، وهو الذي يقتضيه حكمه اللعان، فإن لعنة الله أو غضبه قد حل بأحدهما لا محالة؛ ولهذا قال النبي -صلي الله عليه وسلم- عند الخامسة: "إنها هي الموجبة" أي الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم من حلت به يقينًا، فيرق بينهما خشية أن يكون هذا المعلون الذي وجبت عليه لعنه الله وباء بها فيعلق امرأة غير ملعونة، أو يمسك امرأة مغضوبًا عليها. فأما إذا تزوجت بغيره أو تزوج بغيرها لم تتحقق هذه المفسدة، وأيضًا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن

كان صادقًا عليها، فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي، وقطع نسب ولدها إن كان ثم ولد، وإن كان كاذبًا فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه القرية العظيمة، وأحرق قلبها. والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشة، وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة فحصل لكل من صاحبه من النفرة والوحشة ما لا يكاد يلتئم معه شملهما أبدًا، ولو زال حكم ذنب المذنب منهما بالتوبة فإن الضغينة التي تبقي في النفس تمنع حسن الصحبة، وأيضًا فإن الشهود ولو رجعوا عن شهادتهم بعد الحكم بها لم ينقض الحكم، وسيأتي ذلك في كتاب الرجوع عن الشهادات. وقد عللوا له بأن آخر كلامهم يناقض أوله، فلا ينقض الحكم بالمتناقض، ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الألو، وقد ترجع الأول لاتصال القضاء به، وليس مع المخالفين إلا مجرد الرأي المعارض بمثله وبالنصوص، وإذا ثبت أن الحرمة مؤبدة، فهي فسخ وليس بطلاق وهو ظاهر، ولو لم تكن مؤبدة لكان في جعل الفرقة باللعان طلاقًا نظر. قوله: (وكذلك إن قذف غيرها فحد به لما بينا، وكذا إذا زنت فحدث لانتفاء أهلية اللعان من جانبها).

يعني أنه يحل له أن يتزوجها في هذين الفصلين، وتبطل الحرمة الثابتة باللعان بذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وفيه شكال مع قطع النظر عن ثبوت الحرمة المؤبدة، فإن زوال الحرمة إذا أكذب نفسه، يمكن أن يقال فيه إنه بإكذاب نفسه يتبين أن اللعان كان غير صحيح لبنائه على قذف تبين أنه كذب بإقرار القاذف. أما زوال أهلية الشهادة عن الرجل بعد اللعان، وزوال أهلية المرأة عن أن يحد قاذفها كيف يرفع ما ثبت قبله؟ فإن في ثبوت كون ذلك شرطًا في جريان اللعان بينهما نظر، فكيف في ثبوت كونه شرطًا في بقاء الحرمة المترتبة علي اللعان الصحيح؟ ولا يقال: إن زوال الأهلية عن أحدهما يستند إلى ما قبل اللعان؛ فإن من كان عدلاً ثم فسق لا يبطل ما ترتب على شهادته التي حم بها قبل فسقة. وحكم الحرمة الثابتة باللعان الصحيح كحكم ما ثبت بشهادته في حال عدالته وحكم به الحاكم، مع أنه لو كانت غير صحيحة بأن اعترف أنه شهد بالزور لما تغير الحكم الذي ترتب عليها، خصوصًا عند أبي حنيفة فإن من أصله أن الحكم بشهادة الزور في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرًا وباطنًا. وله: (ولنا أن الأحكام لا يترتب عليها إلا بعد الولادة لتمكن

الاحتمال قبله والحديث محمول على أنه عرف قيام الحبل بطريق الوحي). لا يلزم من كون المل لا يترتب عليه حكم الإرث، والوصية، ونحو ذلك إلا بعد الولادة، أن لا يترتب عليه حكم اللعان، ولا فرق بين قوله: ليس حملك مني وبين قوله: زنيت، وهذا الحمل من الزنا إذ ليس في آية اللعان ولا في الأحاديث الواردة فيه ذكر الزنا بصريحة، وإنما في الآية: {والذين يرمون أزواجهم}. وفي الحديث: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء. وفي آخره قال: يا رسول الله: "أرأيت/ لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف ينصع؟ " الحديث ويه: "فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: "إن الذي سألتك عنه ابتليت به".

وقد ذكر الطحاوي عن أبي يوسف أنه يلاعن قبل الولادة، وهذا هو الظاهر لما روي الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لا عن على الحمل". وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلاً لا عن امرأته وانتفي من ولدها ففرق رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بينهما وألحق الولد بالمرأة" رواه الجماعة. ودلالة حديث هلال على ذلك في غاية الظهور، وأي ضرورة دعت

إلى حمل الحديث على أنه عرف قيام الحبل بطريق الوحي؟ وقد بني على ظهور الحبل كثير من الأحكام وأثبت للحامل أحكام تخالف فيها الحائف ولم يجعل بطريق الاحتمال مانعًا منها، قال ابن قدامة في "المغني": اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهي حامل ونفي حملها في لعانه، فقال الخرقي وجماعة: لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينفي الولد فيه. وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، ثم علل لذلك، ثم قال: وال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز: يصح نفي الحمل

وينتفي عنه، وذكر دليل ذلك ثم قال: وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنًا ما كان، فرحمه الله ما أحسن هذه الطريقة التي سلكها، وهي موافقة من وافق الحديث كائنًا من كان، بل لو لم يرد نص يدل عليه لكان المعني يقتضيه فإن الزوج محتاج إلى نفيه كما بعد الولادة؛ لاحتمال أن يموت قبل الولادة فيلحق به وليس منه، يمكن من نفيه باللعان ليدفع عنه ولد الغير، ولا يدخل في النسبة إليه من ليس منه. قوله: (وإذا نفي الرجل ولد امرأته عقيب الولادة أو في الحالة التي تقبل فيها التهنئة وتبتاع آلة الولادة صح نفيه ولا عن به). ذهب الشافعي، وأحمد، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أنه إن سكت عن نفيه وهو يقدر عليه، ثم أنكره بعد ذلك لزمه النسب ويلاعنها. وهذا القول أظهر لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- حكم بالولد للفراش، فإن نفي الزوج الولد أول ما يمكنه أن ينفيه فبالإجماع نفي عنه مع السنة الثابتة، وكل مختلف فيه من هذه المسائل فمردود إلى قول النبي -صلي الله عليه وسلم-: "الولد للفراش". والقول بأنه لا بد من مدة للتأمل والنظر لئلا يكون نفيه بغير حق لا يقوى؛

لأنه ليس مما يحتاج إلى تأمل ولا نظر مع أنه يبطل بالأخذ بالشفعة؛ لأنه من الأمور الماضية ليس من الأمور المستقبلة التي تحتاج إلى النظر فيما تقتضيه المصلحة فيه.

باب العنين وغيره

باب العنين وغيره قوله: (وقال الشافعي- رحمه الله- هو فسخ لكن النكاح لا يقبل الفسخ عندنا). يشكل على قوله: (لكن النكاح لا يقبل الفسخ عندنا)، الفسخ بخيار العتق المتفق عليه، والفسخ بخيار البلوغ عند من يقول به، والفسخ بعدم الكفاءة، وقولهم في خيار التق إنه امتناع من التزام زيادة الملك تقدم ذكر

ما فيه من الإشكال من جهة اعتبار عدد الطلاق بالنساء، ومن جهة تعليل خيار العتق؛ فإن حديث:"طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان" ضعيف. وقد نص الشارع على علة خيار العتق بقوله: "ملكت بُضعك فاختاري". وقولهم في خيار البلوغ: إنه فسخ قبل التمام لخلل في ولاية المحل فيكون في معنى الامتناع من تمامه، لا يقوى فإنه يحل فيه الدخول، ويجري في التوارث، فكيف يكون الفسخ بعد الدخول امتناع من العقد قبل التمام؟! وقد تقدم التنبيه على ما في خيار البلوغ من الإشكال. وقولهم في الفسخ بعدم الكفاءة، وإن كان مترتبًا على ما أصَّلُوه من أن الكفاءة شرط الجواز، لكن الشأن في ثبوت ذلك الأصل، وقد تقدم التنبيه على ذلك في فصل الكفاءة، وجعل الطلاق لغير الزوج من غير إنابة منه

مشكل، وقد جعل الله الطلاق معقبًا للرجعة في مرتين وفي الثالثة لا، ولم يرد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك، وقد تنازعت الأمّة في فرقة العنين، وفرقة اللعان، وفرقة الخُلع بالمال والطلاق به، وفرقة/ الردة، وفرقة الإباء عن الإسلام، والواجب رد المتنازع فيه إلى الله والرسول لا الأخذ بقول

فلان دون فلان. قوله: (فإن كان بالزوجة عيب فلا خيار للزوج، وقال الشافعي: ترد بالعيوب الخمسة) إلى آخر الباب. اختلف العلماء في الزوجين يجد أحدهما بصاحبه عيبًا، فقال داود وابن حزم ومن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يعتبر من العيوب في الزوج إلا الجَبّ والعنة والخصي، ويفرق الحاكم في ذلك بعد التأجيل سنة في حق العنين والخصي، وفي حق المجنون من غير تأجيل، ويكون التفريق طلقة بائنة وزاد عليهما محمد: الجنون والجذام، والبرص، ولا ترد الزوجة بعيب البتة، وقال الشافعي ومالك: يفسخ بالجنون والجذام، والبرص، والقرن، والجب، والعنة، وفي بعضها تفصيل

عندهما، وزاد أحمد عليهما أن تكون المرأة فتقاء، وهي التي تسميها الحنفية مفاضة، وهي المنخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه وجهان في نتن الفم، والفرج، وعيوب المخرجين، حسبما هو مفصل عندهم. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع، وهذا إذا أطلق الزوج، وأما إذا شرط السلامة، أو شرط الجمال، فبانت شوهاء، أو شرط الشبابة فبانت عجوزًا، أو بيضاء، أو بكرًا، فوجدها سوداء، أو ثيبًا فله الفسخ في ذلك كله في إحدى الروايتين عن أحمد فإن كان قبل الدخول فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غره، وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته، هذا إذا كان الزوج هو المشترط.

وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبانت بخلافها فلا خيار لها إلا في شرط الحرية إذا بان عبدًا، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان. قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثبات الخيار إذا فات ما اشترطته أولى، لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخ مع التمكن من الفراق بغيره، فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى. ولا شك أن الشروط المشترطة في النكاح أولى من شروط البيع، ومن تأمل هذا الول لم يخف عليه رجحانه، وقربه من قواعد الشرع. قوله: (ولنا أن فوت الاستيفاء أصلاً بالموت، لا يوجب الفسخ، فاختلاله بهذه العيوب أولى، وهذا لأن الاستيفاء من الثمرات، والمستحق هو التمكن وهو حاصل). فيه نظر من وجهين: أحدهما: في قوله: (إن فوت الاستيفاء بالموت لا يوجب الفسخ)؛ لأن الفسخ إنما يكون في النكاح القائم، وبالموت لا يبقي النكاح بل ينتهي به؛ لأن عقد النكاح مؤقت بالحياة.

الثاني: في قوله: (والمستحق التمكن وهو حاصل)؛ فإنه غير مسلم له أن التمكن من الوطء حاصل مع القرن والرتق فإن المانع موجود حسًا، ولئن كان الاستيفاء من الثمرات فهو أعلاها بل هو المقصود الأصلي، فكيف لا يكون فوته مجوز للفسخ؟! ولو علل بأن الزوج متمكن من الفراق بالطلاق ولا كذلك المرأة لكان أظهر.

باب العدة

باب العدة قوله: (والفرقة إذا كانت بغير طلاق فهي في معني الطلا؛ لأن العدة وجبت للتعرف عن براءة الرحم في الفرقة الطارئة على النكاح، وهذا يتحقق فيها). فيه إشكال، وهو أن عدة الطلا شرعت ليتمكن الزوج فيها من الرجعة، فيها حق للزوج، وحق لله، وحق للولد لئلا يضيع نسبه، وحق المرأة لما لها من النفقة زمن العدة لكونها زوجة ترث وتورث، وحق الناكح الثاني لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، ويشتبه نسب ولده، وإنما/ كانت العدة بعد الثالثة بثلاث حيض، وإن لم يكن ثم رجعة طردًا لباب عدة الطلاق، وذكر في حكمته أيضًا أن تطويل العدة لما جعل فيما دون الثلاث لأجل رجعة رفقًا به وحريمًا للنكاح، جعل فيما بعد الثلاثة حريمًا للنكاح وعقوبة للزوج بتطويل مدة تحريمها عليه. وقد قال تعالي: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء} وإلحاق غير المطلقات بهن إما أن يكون بنص آخر أو بدخولهن في معني هذا النص، ولم يوجد نص آخر، وحيث جعلت ثلاث حيض فلا بد من معني زائد على التعرف عن براءة الرحم.

وقد اختلف العلماء في عدة المختلعة، قال ابن المنذر في "الإشراف": واختلف أهل العلم في عدة المختلعة، فقال عثمان بن عفان وابن عمر: عدتها حيضة، وبه قال أبان بن عثمان، وإسحاق بن راهويه، وفيه قول ثان وهو أن عدتها عدة المطلقة، روينا هذا القول عن علي وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله، وأبو سلمه بن عبد الرحمن، وعروة ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وخلاس بن عمرو، وأبو عياض، ومالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحا، وأبو عبيد. قال أبو بكر ابن المنذر: وبالقول الأول أقول لحديث رويناه عن النبي -صلي الله عليه وسلم-: "أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي -صلي الله عليه وسلم- عدتها حيضة"، ولقول عثمان، وابن عمر ولا يثبت حديث علي، انتهى.

وقد حكاه ابن قدامة في "المغني" عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية عن أحمد، قال شمس الدين ابن القيم: هي اصح الروايتين عنه دليلاً، وحكي أيضًا عن أبي جعفر النحاس أنه قال في "ناسخة ومنسوخة": إجماع الصحابة على ذلك. ثم قال بعد ذلك: ومن جعل عدة المختلعة بحيضة فبطريق الأول تكون عدة الفسوخ كلها عنده حيضة؛ لأن الخلع الذي هو شي الطلا وأشبه به لا يجب فيه الاعتداد عنده بثلاثة قروء؛ فالفسخ أولى وأحرى من وجه: أحدها: أن كثيرًا من الفقهاء يجعل الخلع طلاقًا ينص به العدد، بخلاف الفسخ لرضاع ونحوه. الثاني: أن أبا ثور ومن وافقه يقولون: إن الزوج إذا رد العوض ورضيت

المرأة برده، وراجعها فله ذلك بخلاف الفسخ. الثالث: أن الخلع يمكن فيه رجوع المرأة إلى زوجها في عدتها بعقد جديد الفسخ لرضاع، أو تجدد مرحمية حيث لا يمكن عودها إليه، فهذه بطريق الأولى يكفيها استبراء بحيضة، ويكون المقصود مجرد العلم ببراءة رحمها كالمسبية، والمهاجرة، والمختلعة، والزانية على أصح القولين فيهما دليلاً، وهما روايتان عن أحمد، انتهي. قوله: (ون كانت آيسة فاعتدت بالشهور ثم رأت الدم انتقض ما مضي من عدتها، وعليها أن تستأنف العدة بالحيض) إلى أن قال: (هو الصحيح). في تصحيحه نظر، وقول من قال من المشايخ أنه لا ينتقض ما مضي من عدتها أقوى؛ لأن اليأس يشبه غالب الظن دون اليقين لقوله تعالى:

{حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا}، وقوله تعالي في قصة إخوة يوسف: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًا}، ثم قال لهم أبوهم: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، وقوله تعالي: {قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور}، وهم ما يتبعون إلا الظن، وأيضًا فقد قال تعالي: {وهو الذي ينزل الغيث نم بعد ما قنطوا}، والقنوط شبه اليأس. ويقال في العرف: يئست من المريض، إذا كان الأغلب عنده أنه لا يبرأ، وكذا يئست من غائبي، وقد يبرأ المريض، ويقدم الغائب، خصوصًا إن كان قد مضي لها من العمر ستون سنة، مع أن تقدير مدة الإياس لا يقوم عليه دليل، فإذا غلب على الظن أن حيضها قد انقطع فاعتدت بثلاثة أشهر، فهذه قد انقضت عدتا بنص القرآن فلا تعود بعد ذلك، بل أبلغ من هذا من ارتفع حيضها، ولا تدري ما رفعه، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنها تتربص

تسعة أشهر/، فإن استبان بها حمل، وإلا اعتدت بثلاثة أشهر، وقد وافقه الأكثرون على ذلك، مالك، والشافعي في القديم، وأحمد في المنصوص عنه، ولا يعرف لعمر مخالف من الصحابة في ذلك. وفي قوله من قال: إنها تمكث في العدة حتى تدخل في سن الإياس ضرر عظيم بالمرأة لا تأتي الشريعة بمثله، إذا تمنع من النكاح وت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاج إليه، مع أن ظاهر الآية يشهد لقول عمر رضي الله عنه على أحد القولين في تفسيرها، وهو أنها لما كانت لا تدري

ما الذي رفع حيضها كان موضع الارتياب، وقد قال تعالي: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}. وارتفاع الحيض ثلاثة أنواع؛ فإن ارتفع لعارض كالمرض والرضاع فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب، وإن ارتفع لإياس فإنها تعتد بثلاثة أشهر بنص القرآن، وإن ارتفع ولا تدري ما رفعه فهذه التي قضي فيها عمر بما تقدم ووافقه جمهور العلماء، ولا يعرف له في زمانه مخالف، ومسألة الكتاب أظهر منها والله أعلم. قوله: (وإذا مات مولي أم الولد عنها أو اعتقها فعدها ثلاث حيض، وقال الشافعي رحمه الله: حيضة واحدة؛ لأنها تجب بزوال ملك اليمين فشابهت الاستبراء، ولنا أنها وجبت بزوال الفراش فأشبه عدة النكاح، ثم إمامنا فيه عمر رضي الله عنه، فإنه قال: عدة أم الولد ثلاث حيض). قال ابن قدامة المقدسي: ليس لقول من قال: تعتد بثلاث حيض وجه، وإنما ذلك للمطلقة، قال السروجي: هذا إقدام عظيم من ابن قدامة على

تزييف قول عمر وعلي وابن مسعود وترك الأدب معهم، وقول باطل، ولا يختص ذلك بالمطلقة؛ فإن في النكاح الفاسد والوطء بشبهة تعتد بثلاث حيض بعد التفريق ولا طلاق. ثم وليس لقوله وجه لولا قول ابن عمر، وعائشة؛ لأن الحرة لا تستبرئ فكيف بحيضه؟ انتهي. وتوجيه المسائل لا يكون بالتهويل والتشنيع، وقد قال ابن قدامة: إن هذا القول لا وجه له، فبين أنت له وجهًا، ولو كانت المسألة مما اتفقت عليه الصحابة، لم يحتج إلى بيان الوجه فيها، ولما كانت مسألة نزاع احتجنا إلى

طلب الوجه لأحد القولين؛ إذ لا بد من المصير إلى أحدهما. وقوله: لا يختص ذلك بالمطلقة؛ فإن في النكاح الفاسد، والوطء مسألة تعتد بثلاث حيض قياس مختلف فيه على مختلف فيه، ولو كانت مسألة النكاح الفاسد والوطء بشبهة مما اتفق عليه العلماء لأمكن الفرش بينهما وبين مسألة أم الولد، خصوصًا على ول من يفرق بين الفرش، ويجعل فراش أم الولد دون فراش الزوجية، وفراش القنة دون فراش أو الولد. وقوله: "إن الحرة لا تستبرأ، فكيف بحيضة؟ " مجرد دعوي ولا مانع من تسمية الاستبراء عدة، وعكسه إلا مجرد الاصطلاح، وقد جاء في حديث [أبي] سعيد في سبايا أوطاس: "أنه فسر وله تعالي: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} بالسبايا ثم قال: فهن لكم حلال، إذا انقضت عدتهن".

فسمى الاستبراء عدة، وقد أمر النبي -صلي الله عليه وسلم- المختلعة أن تتربص حيضه واحدة، رواه النسائي، وأبو داود، وهو مذهب عثمان وابن عباس، وإسحاق بن راهويه، وإحدى الروايتين عن أحمد، ولم يرد عن الشارع ما يعارض ذلك فظهر رجحان قول ابن عمر، وعثمان، وعائشة، على قول عمر، وعلي، وابن مسعود، إن صح عنهم، وبقول ابن عمر، وعثمان وعائشة، قال الأئمة الثلاثة وغيرهم. قال ابن المنذر: وبقول ابن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل، وليس فيه سنة تتبع، ولا إجماع يعتمد عليه. وقول المصنف عن عمر أنه قال: عدة أم الولد ثلاث حيض، روى

ابن أبي شيبة: أن عمرو بن العاص أمر أم ولد أعتقت أن تعتد بثلاث حيض، وكتب إلى عمر، فكتب عمر يحسن رأيه". وعلى تقدير صحة هذا الأثر لا حجة فيه على أنها تعتد لوفاة مولاها بثلاث حيض؛ فإن الوارد في الإعتاق لا يدل على حكم الوفاة، وإنما نقل في حكم الوفاة عن علي رضي الله عنه فلا يتم الاستدلال بحكم عدة وفاة المولي بما/ ذكر والله أعلم. قوله: (وإذا طلق الذمي الذمية فلا عدة عليها وكذا إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة، فإن تزوجت جاز، إلا أن تكون حاملاً). حكي السروجي عن أبي حنيفة رحمة الله في الذمية رواية أخرى أنها لا تتزوج إلا بعد الاستبراء، يعني بالحيضة أو وضع حمل، وهذه الرواية هي التي يجب أن يكون العمل عليها، لأن الزوج إذا وطئ ثم طلق لا يعرف في الحال أن المرأة ير حامل، وكذا لو خرجت إلينا مراغمة، فلا ينبغي أن يكون في اشتراط الاستبراء بحيضة في حق الذمية المطلقة، والمتوفي عنها زوجها،

والمهاجرة خلاف، إذا كانت مدخولاً بها؛ لاحتمال وجود الحمل؛ لئلا يؤدي إلى تضييع نسب الولد. وإن لم يكن ماء الكافر محترمًا فماء المسلم محترم فلا يضيعه، وقد يكون الحمل من الكافر فيحمل المسلم نسبته على نفسه وليس منه، وهذه حكمة شرع الاستبراء، ولا فرق في هذا المعني بين الحرة والأمة، وقولهم في الأمة إن علة الاستبراء فيها تجدد الملك سيأتي الكلام على ما فيه من الإشكال إن شاء الله تعالي. قوله: (أما الذمية فالاختلاف فيها نظير الاختلاف في نكاحهم محارمهم، وقد بيناه في كتاب النكاح)، يعني أن الذمية هل عليها عدة من طلاق الذمي أم لا؟ وهذه حوالة تاوية؛ فإنه إنما قال هناك: (ولهما أن حرمة نكاح المعتدة مجتمع عليها). ولا يفيده ذلك التعليل هنا شيئًا، وإنما التعليل المفيد لها: أن في العدة حق الزوج، وإن كان فيا حق الشرع والكتابية مخاطبة بحقوق العباد.

فصل

فصل قوله: (ولنا ما روي: "أن النبي-صلي الله عليه وسلم- نهي المعتدة أن تختضب بالحناء، وقال: الحناء طيب"، وفي نسخة: "نهي المعتدة عن طلاق أن تختضب"). ومراده الاستدلال بهذا الحديث على أن المبتوتة عليها الحداد، والذي ورد في نهي المعتدة عن الخضاب إنما هو في عدة الوفاة، ولم يرد في حق المعتدة مطلقًا، ولا مقيدًا بالطلاق كما ذكر المصنف، ولا يصح الاستدلال به على مراده إلا أن يكون قد ورد النهي للمعتدة مطلقًا أو مقيدًا بالطلاق. وقد مر على هذا المكان السروجي، والكاكي في شرحهما وذكرا أن النسائي روي أن النبي -صلي الله عليه وسلم-: "نهي المعتدة" ولم يقيدا، والذي رواه النسائي لفظه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "دخل على رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على صبرًا، فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: [إنما هو] صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: "إنه يشب الوجه، فلا تجعليه

إلا بالليل، ولا تمشطي بالطيب، ولا بالحناء فإنه خضاب"، وليس في الحديث، وقال: "الحناء طيب". وقد جاء في حديث أم سلمة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا" أخرجان في "الصحيحين" وقد جاء في أكثر طرقة: "أن تحد على ميت"، فوجب العمل بهما على ما تقتضيه القاعدة من عدم حمل المطلق

على المقيد، فلا تحد المرأة على ميت ولا غيره، فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا، لئلا يلزم إلغاء المطلق، ولا يصح قياس المبتوتة على المتوفى عنها زوجها والحالة هذه. قوله: (والإبانة أقطع لها من الموت، حتى كان لها أن تغسله ميتًا قبل الإبانة لا بعدها). لا نسلم أن الإبانة أطع لنعمة النكاح من الموت، فإن الإبانة يمكن عود النكاح بعدها بطريقة، ولا يمكن ذلك بعد الموت، ولا يلزم من جواز تغسيلها إياه ميتًا قبل الإبانة لا بعدها، أن تكون الإبانة أقطع، لوجود القاطعين في

الموت بعد الإبانة، ولا كذلك قبلها، ولا شك أن عمل القاطعين أوى من عمل الواحد فانتفي الاستدلال بذلك على أن الإبانة أقطع من الموت. فإن قيل: إنه إذا مات بعد الإبانة مات عنها وهي غير زوجة، فلم يظهر للموت في القطع عمل لوجود القاطع قبله، فلم يوجد قاطعان، بل قاطع واحد، وهو الإبانة. قيل: بل وجد قاطعان، لكن القاطع الأول أبطل أصل النكاح، والقاطع الثاني أبطل اثره وهو النفقة والكسوة والسكني على أصلكم، ولو لم يبطل بوجوده شيء لا يخرج بذلك عن كونه قاطعًا. قوله: (والذهن المطيب وغير المطيب إلا من عذر). في المنع من غير المطيب إلا من عذر). في المنع من غير المطيب من الأذهان نظر؛ فإنه لم يرد نهي عن الدهن، وإنما ورد النهي عن الطيب والزينة، لا عن الدهن المطلق، والدهن غير المطيب ليس منهما، خصوصًا السمن والشحم ودهن الآلية والله أعلم. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "السر النكاح"). يعني السر المذكور في قوله تعالي: {ولكن لأ تواعدوهن سرًا} وهذا

حديث لا أصل له، وإنما يروي من كلام ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (ولا يجوز للمطلقة الرجعية، والمبتوتة الخروج من بيتها ليلاً ولا نهارًا) ثم قال بعد ذلك: (أما المطلقة فلقوله تعالي: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} ثم قال: (ولا كذلك المطلة؛ لأن النفقة داره عليها من مال زوجها) إلى آخر المسألة. في منع المبتوتة من الخروج لحاجاتها كما تخرج المتوفي عنها زوجها نظر؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها، فأتت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له؛ فقال لها: "أخرجي فجدي نخلك، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرًا" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

ولا يعارض هذا الحديث قوله تعالي: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} الآية، فإن المراد بالإخراج والخروج في الآية، النقلة من المنزل المضاف إليها بالسكني حال وجوب العدة، فلا مطلق الخروج للحاجة، أي لا تخرجوهن من بيوتهن مكرهات إخراج نقلة، ولا يخرجن عنها هن باختيارهن. وقد أجاب أبو جعفر الطحاوي عن حديث جابر المذكور بما رواه عنه [أنه] قال: "المطلقة والمتوفى عنها زوجها لا تخرجان من بيوتهما حتى توفيا أجلهما"، وأنه قد جابر بخلاف ما روي عن خالته في الخروج لجداد نخلها في عدتها، فدل على ثبوت نسخ ذلك عنده. قال السروجي: ما أنصف الحافظ أبو جعفر في هذا، كيف يعارض حديث الجداد الثابت في صحيح مسلم بما رواه لهيعة الضعيف بالاتفاق، عن

أبي الزبير المدلس عن جابر بن عبد الله؟ ولا يجوز نسخ الصحيح بغير صحيح، انتهي كلا السروجي. وليس بين حديث الجداد وبين ما رواه الطحاوي على تقدير صحته معارضه أصلاً، فإن الحديث الذي رواه الطحاوي إنما يدل على الخروج من المنزل على وجه النقلة؛ ولهذا جمع بين المطلقة والمتوفي عنها زوجها، وحديث الجداد يدل على الخروج للحاجة لا علي النقلة. وقد روي الطحاوي أيضًا عن عائشة رضي الله عنها في حق المطلقة: "أنها تخرج من غير أن تبيت عن بيت"، وروي هو أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثًا: "لا ينتلان ولا يبيتان إلا في بيوتهما"، ومفهومه أنها تخرج بالنهار وبعض الليل. وقول المصنف: (ولا كذلك المطلقة؛ لأن النفقة داره عليها من مال زوجها)، مشكل أيضًا في حق المبتوتة لما يأتي من الكلام على حديث فاطمة بنت يس في النفقات، إن شاء الله تعالي، والمطلة الرجعية في حكم

الزوجات، فيكون خروجها مقيدًا بإذن الزوج كالزوجة التي لم تطل. قوله: (وإذا خرجت المرأة مع زوجها إلى مكة فطلقها ثلاثًا، أو مات عنها، فإن كان بينها وبين مصرها أقل من ثلاثة أيام، رجعت إلى مصرها؛ لأنه ليس بابتداء الخروج معني، بل هو بناء). تقدم في أول كتاب الحج ما ورد من السنة في أقل مدة تمنع المرأة من السفر فيها، والتنبيه على ما في ذلك من المعنى.

باب ثبوت النسب

باب ثبوت النسب قوله: (ومن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها، فولدت لستة أشهر من يوم تزوجها فهو ابنه، وعليه المهر، أما النسب فلأنه فراشه؛ لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح، فقد جاءت به لأقل منها وقت الطلاق؛ فكان العلوق قبله في حالة النكاح، والتصور ثابت بأن تزوجها وهو يخالطها فواف الإنزال النكاح، والنسب يحتاط في إثبات، أما والمهر فلأنه/ لما ثبت النسب منه جعل واطئًا حكمًا فتأكد المهر به). من المشايخ من قال: لا يحتاج إلى هذا التكلف، وقيام الفراش كاف، ولا يعتبر إمكان الدخول كما لو كان بينهما مسيرة سنة فجاءت بولد لستة أشهر يثبت نسبة عندنا. قال السروجي: التصور فيه شرط ولهذا لو جاءت امرأة الصغير بولد لا يثبت نسبه منه، انتهي. والأصل في ذلك أن الزوجة تصير فراشًا بنفس العقد، وإن علم أنه لم

يجتمع بها عند أبي حنيفة، وخالفه من أصحابه زفر، وبقية العلماء، وشرطوا كان الوطء. وعن أحمد، أنه شرط مع العقد الدخول المحقق، لا إمكانه المشكوك فيه، حتى لا تصادقا على عدم الدخول لا يثبت نسب الولد كما في الأمة، ومن فرق بين الفراشين فالنص يرده؛ لأنه ورد في الأمة، وشموله للحرة باعتبار عموم لفظه. وقد اتفق العلماء في الأمة أنها لا تكون فراشًا بالشراء قبل الدخول المحقق، إلا ما يروي عن مالك رحمه الله أنه جعل الأمة السرية التي تشتري للوطء عادة فراشًا بمجرد الشراء مع إمكان الوطء، وإن لم يعترف بالوطء، وإنما خالف أبو حنيفة رحمه الله في اشتراطه مع الاعتراف بالوطء الاعتراف بالولد، والمسألة معروفة.

وقولهم: يكفي تصور قبول العقد مع المخالطة في الجملة، لا في حق هذا الزوج الخاص حالة العقد عند الشهود. جوابه: إنكم لم تجعلوا الفراش بانفراده كافيًا في ثبوت النسب كما في الصغير الذي لا يتصور منه علوق، وإمكان العلوق من الصبي حال صباه ممكن في الجملة غير محال لذاته، وإن كان محالاً عادة قد أجري الله العادة أنه لا يعلق حال صباه، ولازمها أنه لا يثبت النسب إلا ممن يتصور منه العلوق عادة. فكما أن الصبي لا يتصور منه الولد في العادة كذلك مسألة المشرقي، والمغربية، والتي علق الطلاق بنكاحها. وقولهم: إن المعلق بالشرط كالمرسل عند وجوده، فكأنه قال بعد القبول هي طالق، والطلاق يعقب التطليق. جوابه: أن هذا لا يمكن ضبطه فإن معرفة كم مقدار ذلك الوقت من الليل

أو النهار إلى ستة أشهر من ذلك الوقت وتحريره في غاية البعد، يكاد يكون من قبيل الممتنع، ولا يبنى على مثل ذلك حكم. وقوله: (إن النسب يحتاط فيه)، جوابه: نعم يحتاط، ولا يحمل عليه ولد غيره، أين الاحتياط فيمن اعترف أنه وطئ أمته فعلقت منه، وجاءت بولد، ولم يعترف أنه ولده؟! فهلا قلتم: إنه ولده لاعترافه بالوطء احتياطًا لنسب الولد؟ كيف وهذه القضية هي سبب قوله -صلى الله عليه وسلم- "الولد للفراش"؟. وكذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا جاءت بولد لتسعة أشهر من وقت الطلاق لم يثبت نسبة عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا ولدت المعتدة لم يثبت نسبه عند أبي حنيفة إلا أن يشهد بولادتها رجلان، أو رجل وامرأتان إلا أن يكون هناك حبل ظاهر، أو اعتراف من فبل الزوج، وستأتي المسألتان في هذا الباب، هلا قلتم: إن النسب يحتاط فيه، ورجحتم قول أبي يوسف في المسألتين؟! ورجحانه في غاية القوة.

ومن تزوج أمه فطلقها، ثم اشتراها فجاءت بولد لستة أشهر منذ يوم اشتراها سيأتي في هذا الباب أنه لا يلزمه. هلا قلتم: إن النسب يحتاط فيه؟ فالحاصل أن القول بثبوت الفراش في الزوجة بمجرد العقد من غير تصور الاستفراش في غاية الإشكال؛ فإن الفراش كناية عن الحال فيه، وهو الدخول بالزوجة؛ فإذا لم يتصور أن تكون مستفرشة كيف تسمى فراشًا؟ وإذا ظهر الإشكال في ثبوت النسب ترتب عليه حكم تكميل المهر. وقد تقدم التنبيه على الطلاق المعلق بالنكاح، فلا يقع الطلاق في مسألة الكتاب عند من يمنعه ويستريح من مؤونة التعب في تصويرها، إلا أن تصور على صفة أخرى فيمن قال: قبلت نكاحها وهي طالق. قوله: (وإن جاءت به -يعني المبتوتة- لتمام سنتين من وقت الفرقة لم يثبت؛ لأن الحمل حادث بعد الطلاق، فلا يكون منه؛ لأن وطأها حرام. قال: إلا أن يدعيه؛ لأنه التزمه، وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة). فيه نظر من وجهين، أحدهما: أن أكثر مدة الحمل /عند أبي حنيفة

وأصحابه سنتان، وسيأتي ذكر ذلك في هذا الباب، فعلى هذا يجب أن يقول: لأكثر من سنتين. وهكذا جاء في "الإيضاح" و"شرح الطحاوي" و"شرح الأقطع". الثاني: أن اسم المبتوتة يشمل المطلقة ثلاثًا وعلى مال، وسيأتي في كتاب الحدود أن النسب لا يثبت بوطئها في العدة ولو ادعاه الواطيء. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه"). هذا اللفظ لا يعرف وإن كان العمل على ذلك، ولكن روى

ابن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن الزهري: "مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن". وصح ذلك عن أميري المؤمنين عثمان وعلي وعن ابن عباس رضي الله عنه. قوله: (لقول عائشة رضي الله عنها: "الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو بظل مغزل"). أخرجه البيهقي بمعناه، وأنكره مالك رحمه الله، وليس في تقدير مدة

الحمل ما يعتمد عليه، ولذلك قال أبو عبيد: ليس لأقصاه وقت يوقف عليه. وقدره الشافعي بأربع سنين، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد. وقدرة الليث بثلاث سنين، وعباد بن العوام بخمس سنين. وعن الزهري قال: قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين، ومثله عن ربيعة بن عبد الرحمن. قوله: (لأن الحاجة إلى تعيين الولد، ويثبت ذلك بشهادة القابلة

بالإجماع). دعواه الإجماع غير صحيحة؛ فإن الشافعي يعتبر فيما لا يطلع عليه الرجال شهادة أربع نسوة عدول، ومالك شهادة امرأتين، ولا يصح أن يكون المراد من الإجماع اتفاق الأصحاب، كما قاله بعض الشراح لما فيه من الإيهام. * * *

باب الولد من أحق به

باب الولد من أحق به قوله: (وإليه أشار الصديق رضي الله عنه بقوله: "ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر"). أصل الحديث: عن القاسم بن محمد أنه قال: (كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر، ثم إن عمر فارقها، فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصمًا يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر، فقال عمر: ابني، وقالت: ابني، فقال أبو بكر: خل بينها وبينه. فما راجعه عمر الكلام" أخرجه مالك في الموطأ، والبيهقي وجاء في رواية: "ريحها وفراشها وحجرها خير له منك، حتى يشب، ويختار لنفسه". ويروي: "ومسحها".

وفي رواية: "هي أعطف، وألطف، وأرق، وأحنا، وأرحم" وليس في شيء من ألفاظ الحديث: "ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر"، كما قال المصنف، وهو لفظ مستبعد، وماذا يصنع بريقها، وليس هو من مأكوله حتى يكون خيرًا له من الشهد والعسل، والشهد هو العسل في شمعه، فعطف العسل عليه في مثل هذا التركيب مستبعد. قوله: (ولنا أنه لقصور عقله يختار من عنده الدعة لتخليته بينه وبين اللعب، فلا يتحقق النظر، وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم لم يخيروا). فيه نظر؛ فقد جاء تخيير الغلام بين أبويه عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي هريرة رضي الله عنهم، أما أبو بكر فقد تقدم في هذا الباب قوله لعمر: "ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب فيختار لنفسه". قال

ابن عبد البر: وهذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل انتهى. وأما عمر رضي الله عنه، فقد روى عنه الشافعي، وعبد الرازق، وسعيد ابن منصور تخيير الغلام من وجوه، وأما علي رضي الله عنه فقد روى ذلك عنه الشافعي أيضًا ويحيى القطان، وأما أبو هريرة رضي الله عنه، فروى عنه أبو خيثمة بسنده أنه خير غلامًا بين أبيه وأمه.

ذكر ذلك ابن القيم، وساق الأسانيد التي لهذه الآثار كلها في "الهدي" ورجح قول الإمام أحمد في تخيير الغلام، دون الجارية بما ذكره عن الأئمة الراشدين، وأبي هريرة وقال: ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ألبتة، ولا أنكره/ منكر. وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تخيير الغلام، ولم يصح عنه تخيير الأنثى، وإنما ورد في تخييرها حديث ضعيف. وقال: إنه لما كان التخيير هاهنا

تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة ناسب أن بكون للغلام دون الجارية لوجهين: أحدهما: أنه إذا اختار أحد الأبوين ثم اختار الآخر نقل إليه، والتنقل لا يليق بالأنثى، وإنما يناسبها ملازمة البيوت والخدور وعدم البروز بخلاف الغلام. الثاني: أن التنقل من عند هذا إلى عند الآخر يقلل رغبة كل منهما، وهذا المعنى يخاف من تأثيره في حق الأنثى، أما الغلام فيعارض هذا المعنى في حقه كون القلوب مجلوبة على حب البنين واختيارهم على البنات. وأما قوله: (إنه لقصور عقله يختار من عنده الدعة لتخليته بينه وبين اللعب) فنحن نقول: إنه إذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي ما أوجبه الله عليه فهو عاص، ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب. فهذا التعليل يصلح أن يكون حجة عليه؛ لأن الأم قد تكون أقوم بمصلحة الصغير من الأب، كما يحكى أنه تنازع أبوان عند بعض حكام البصرة-

غلامًا، فخيره بينهما فاختار أباه، فقالت له أمه: سله لأي شيء يختار أباه؟ فسأله: فقال: أمي تبعثني كل يوم إلى الكتاب ويضربني الفقيه، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان، فقضى به للأم، وقال: أنت أحق به. وذلك لأنه لما ترك الواجب عليه من حقه زالت ولايته، والمراد هنا التنبيه على ما في قوله: (وقد صح أن الصحابة لم يخيروا) من الإشكال، ولو قال: لم يصح أن الصحابة خيروا، لكان أهون من قوله: صح أنهم لم يخيروا، فأين صح ذلك أو ورد؟!. * * *

فصل

فصل قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "من تأهل ببلده فهو منهم"). هذا الحديث غير معروف في كتب الحديث. قوله: (ولهذا يصير الحربي به ذميًا). هكذا وقع في عامة نسخ الهداية وهو غلط؛ لأن المستأمن إذا تزوج ذمية

لا يصير ذميًا، هكذا الحكم وسيأتي ذكره في كتاب السير. قال السغناقي: وقد وجدت بخط شيخي: "ليس في النسخة التي قوبلت مع نسخة المصنف هذه الجملة، بل اتصل قوله: وإن أرادت الخروج بقوله: فهو منهم". والله أعلم. * * *

باب النفقة

[باب النفقة] قوله: (وجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: "خذي من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالمعروف" اعتبر حالها، وهذا الفقه فإن النفقة تجب بطريق الكفاية، والفقيرة لا تفتقر إلى كفاية الموسرات فلا معنى للزيادة، ونحن نقول بموجب النص: إنه يخاطب بحسب وسعه، والباقي دين في ذمته). هذا وجه قول الخصاف: إنه يعتبر في النفقة حال الزوجين، وقد قال

المصنف: إنه عليه الفتوى، والقول الآخر قول الكرخي: إنه يعتبر حال الزوج. قال صاحب البدائع: هو الصحيح. وقال [صاحب] المبسوط: المعتبر حاله في اليسار والإعسار في ظاهر الرواية. انتهى. وهذا هو الحق الذي يجب القول به لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرًا}. وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها} الآية. ولئن كانت موسرة فقد رضيت بحاله، وعسرته، فلا تستوجب عليه إلا بحسب حاله، ولا تعارض الآية قوله -صلى الله عليه وسلم- لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فإنه لم يقل لها: استديني عليه، ولا قال: خذي من ماله أقل من قدر حاله، وإنما قال: "خذي من ماله" فله مال أمرها أن تأخذ منه بالمعروف، وهذا صالح للموسرين والمعسرين والمختلفين.

وفي قوله: "بالمعروف" إشارة إلى أنها لا تسرف في الأخذ، فهذا يدل من غير تأمل زائد على أن له مالًا تأخذ منه ما يكفيها وولدها، وهذا آية اليسار، وليس في الحديث ما يدل على أنها كانت معسرة، والزوج موسرًا، ولا عكسه، وإنما قالت: "إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي/ ما يكفيك وولدك بالمعروف". وإنما يكون الحديث حجة لمن قال باعتبار حالهما أن لو كان الزوج معسرًا وهي موسرة، فأمرها أن تنفق موجودة، وتستدين لتكميل نفقتها المناسبة ليسارها على الزوج، أو كان موسرًا، وهي معسرة، وأمرها أن تنفق على حسب حالها وأعلى منه، ولا تبلغ قدر حاله، وليس في الحديث شيء من ذلك. وقوله: (إن هذا الفقه فإن النفقة تجب بطريق الكفاية والفقيرة لا تفتقر إلى كفاية الموسرات فلا معنى للزيادة)، فيه نظر، فإنه ليس في الحديث ما يدل على أنها كانت معسرة، والزوج موسرًا ولم يثبت ذلك من خارج، ولئن كان الأمر كذلك فلا يدل قوله: "ما يكفيك" على أنها لا تأخذ على قدر حاله؛ فإنه قال بعد ذلك: "بالمعروف" وليس من المعروف أن يأكل الموسر خبز الحنطة

المرقق، وأنواع الأطعمة والحلوى، والفواكه، ويطعم زوجته خبز الشعير بالزيت ونحوه، وإذا كنا مأمورين أن نطعم الرقيق مما نأكل، ونلبسهم مما نلبس-والحديث في "الصحيحين"- فالزوجة بطريق الأولى والأحرى. وعن معاوية القشيري رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ما تقول في نسائنا؟ فقال: أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تلبسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن" رواه أبو داود. ولو سلم له هذا المعنى في المعسرة تحت الموسر، ولا يسلم، لم يسلم له في الموسرة تحت المعسر، ومن ذا الذي يدينها على ذمة معسر؟ وهذه حوالة

تاوية! وهذا ممكن بالقول، فأما بالفعل فبعيد جدًا. قوله: (ولا تفرض لأكثر من خادم واحد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: تفرض لخادمين) إلى آخر المسألة. ينبغي أن لا يكون في المسألة خلاف، ويكون جوابهم إنما اختلف لاختلاف السؤال، وأن يكون ذلك معتبرًا بأحوال الأزواج، فإن من الناس من عاداته أن يشتري حاجته بنفسه، وأن زوجته تكفيه خدمة البيت، ومنهم من يحتاج إلى زيادة خادمين وأكثر، فمن كانت عادته جارية تخدم في البيت، وخادمًا يخدم خارج البيت تفرض عليه نفقة خادمين، ومن كانت عادته خادمًا واحدًا يفرض عليه لخادم واحد. قوله: (وإن كانت صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها) ثم قال: (وقال الشافعي: لها النفقة لأنها عوض عن الملك عنده كما في المملوكة بملك اليمين، ولنا أن المهر عوض عن الملك، ولا يجتمع العوضان عن معوض واحد فلها المهر دون النفقة). فيه نظر من وجهين أحدهما: نقله عن الشافعي أن الصغيرة التي لا يستمتع بها لها النفقة، وهذا قوله القديم، وقد رجع عنه، فلا ينبغي أن ينسب إليه،

وقد صارت المسألة بحمد الله وفاقية لا نزاع فيها فيما أعلم، وإنما قال: إن النفقة عوض عن التمكين. الثاني: رده تعليل الشافعي بأنه لا يجتمع عوضان عن معوض واحد؛ فإنه يصح أن يتزوج المرأة على ألف درهم وعبد ونحو ذلك، ولو علل بجهالة العوض لكان متجهًا فإن النفقة مجهولة المقدار فلا يصلح أن تكون عوضًا عن البضع في عقد النكاح بل تكون النفقة بإزاء الاحتباس، أو بإزاء التمكين على اختلاف المذهبين. والقول بأنها بإزاء التمكين أولى؛ فإنها لو كانت في بيته ولا تمكنه من نفسها لا ينفعه احتباسها. * * *

فصل

فصل قوله: (وقيل: لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين، ولا يمنعهما من الدخول عليها في كل جمعة، وفي غيرهما من المحارم التقدير بسنة هو الصحيح). في تصحيحه نظر فإن مبنى مثل هذا على العرف، والعرف فيه مختلف المقدار لا يمكن ضبطه بمدة، ومثل هذه الأمور قد فوضها الشارع إلى العرف وإن لم يكن في هذه المسألة نص خاص كقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف}، وقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف}، وقوله تعالى: {متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين}، وقوله تعالى: {متاع بالمعروف حقًا على المتقين}، وقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}. وكقوله عليه الصلاة والسلام/ لهند زوجة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في الموقف الأعظم في حجة

الوداع: "ولهن عليكن رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، فالتقدير بالجمعة، أو السنة أو نحو ذلك يختلف باختلاف الحال، والزمان، والمكان، والله أعلم. قوله: (ولا يقضي بنفقة في مال الغائب إلا لهؤلاء) يعني الزوجة والأولاد الصغار والوالدين (ووجه الفرق هو أن نفقة هؤلاء واجبه قبل قضاء القاضي، ولهذا كان لهم أن يأخذوا فكان قضاء القاضي إعانة لهم، أما غيرهم من المحارم نفقتهم إنما تجب بالقضاء؛ لأنه مجتهد فيه، والقضاء على الغائب لا يجوز). قال السروجي: وفي أدب القاضي للخصاف: قضاء القاضي، وأمره بالنفقة على الزوجات، والآباء، والأبناء، إعانة على استيفاء حقوقهم، لا إيجاب مبتدأ لأن سبب الوجوب سبق القضاء والأمر، وهو النكاح والولاد بخلاف نفقة الأقارب، فإن أمر القاضي بالإنفاق، وقضاؤه ابتداء إيجاب؛ لأنه مختلف فيه فلا يثبت إلا بالقضاء، والقضاء على الغائب لا يجوز. قال السروجي: هذا الكلام فيه نظر، وليس ابتداء إيجاب لنفقة لم يجب بالشرع؛ لأن القاضي ليس له إيجاب ما لا يكون قد أوجبه الشرع؛ لأنه قد يكون قد شرع وليس ذلك لغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى. وهذا ما قاله السروجي هو الصواب. وكذا قولهم: إن نفقة الولد والوالدين وذوي الأرحام تسقط بمضي

الزمان، إلا أن يأذن لهم القاضي في الاستدانة فيه نظر أيضًا، وذلك أن القاضي إما أن يعتقد وجوبها وسقوطها بمضي الزمان أو لا، فإن كان يعتقده لم يسع له الحكم بخلافه، والإلزام بما يعتقد أنه غير لازم، وإن كان لا يعتقد سقوطها- مع أنه لا يعرف له قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي، فإما أن يعني بالفرض الإيجاب، أو إثبات الواجب، أو تقديره، أو أمرًا رابعًا، فإن أريد الإيجاب فهو تحصيل الحاصل ولا أثر لفرضه، وكذلك إن أريد به إثبات الواجب ففرضه وعدمه سيان، وإن أريد به تقدير الواجب، فالتقدير إنما يؤثر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان، لا في سقوطه وثبوته فلا أثر لفرضه في الوجوب ألبتة، هذا مع ما في التقدير من مضاد الأدلة التي تقدمت على أن الواجب النفقة بالمعروف فيطعمهم مما يأكل ويلبسهم مما يلبس، وإن أريد أمر رابع فلابد من بيانه لينظر فيه. فإن قيل: إن نفقة غير الولد والوالدين من المحارم إنما تجب بالقضاء؛ لأنه مجتهد فيه كما قال المصنف. فجوابه أن قضاء القاضي في مسائل الخلاف لا يكون ابتداء إيجاب، وإنما هو إلزام بما يعتقد لزومه شرعًا، كما لو قضى بشفعة

الجوار، فإنه لا يقال: إن الشفعة وجبت بقضاء القاضي، ولكن القاضي اعتقد مشروعية شفعة الجوار فقضى بما يعتقد مشروعيته، وألزم بما يعتقد لزومه شرعًا، وكذا كل مختلف فيه من الأحكام، ونفقة سائر المحارم واجبة بالنص عند من يقول بوجوبها كنفقة الولد، والوالدين، وإذا ثبت كونها واجبة قضى بها في مال الغائب كنفقة الوالدين، والولد، والزوجة كما يقضي بها في مال الصبي، والمجنون بل أولى، فإن الصبي والمجنون ليسا من أهل الوجوب، بخلاف الغائب. وقد أجابوا الشافعي لما ألزمهم بها في وجوب الزكاة في مالهما بأن نفقة الأقارب مؤنة بخلاف الزكاة فإنها عبادة محضة، بل قد قالوا نعتق عليهما قريبهما إذا ملكاه، وتأتي المسألة في "الهداية" في كتاب الإعتاق، فالقول بإيجاب النفقة في مال الغائب أهون من القول بإيجابها في مال الصبي والمجنون بلا نزاع.

فإن قيل: إن المراد بالحكم عدم سقوط النفقة بمضي الزمان فهذا هو الذي أثر فيه حكم الحاكم وتعلق به؛ قيل: كيف يعتقد السقوط ثم يلزم ويقضي بخلافه، وإن اعتقد عدم السقوط فخلاف الإجماع، ومعلوم أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته، فإذا كان صفة هذا الواجب سقوطه بمضي الزمان شرعًا/ لم يزل حكم الحاكم عن صفته. فإن قيل: بقي قسم آخر، وهو أن يعتقد الحاكم السقوط بمضي الزمان ما لم تفرض، فإذا فرضت استقرت في حق الوالدين، والولد، وإذا زاد الإذن في الاستدانة استقرت في حق بقية الأقارب، فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفي مضي الزمان. قيل: هذا الجواب لا يجدي شيئًا، فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان وأن هذا هو الحق والشرع لم يجز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه، ويحتاج الحاكم إلى إقامة الدليل على أنه يجوز للقريب أن يستدين ما ينفقه على نفسه في غيبة قريبة ثم يرجع به عليه إذا حضر، حتى يجوز له الإقدام على الحكم له بذلك، وإلا فإذا كان الحكم أنه من استدان ما أنفقه في غيبة قريبة ليس له الرجوع بذلك عليه إذا حضر، ليس للحاكم أن يحكم بخلاف ذلك لأنه يكون قد حكم بخلاف حكم الله. قوله: (وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها فلم يذكرها). الأقاويل جمع أقوال، والأقوال جمع قول فهو جمع الجمع وأقل ذلك تسعة أقوال، وليس في المسألة ذلك كله.

فصل

[فصل] قوله: (وحديث فاطمة-يعني- بنت قيس رده عمر رضي الله عنه فإنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة" ورده أيضًا زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وجابر، وعائشة رضي الله عنها).

في كلام المصنف هنا نظر من وجوه: أحدها: قوله: عن عمر-رضي الله عنه- أنه قال: "لا ندري أصدقت أم كذبت" وهذا لم يثبت عن عمر -رضي الله عنه-، وإنما الثابت [في] الحديث: "حفظت أم نسيت" نسبها إلى السهو والنسيان ولم ينسبها لإلى الكذب وحاشاها منه. الثاني: قوله: "عن عمر-رضي الله عنه- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة" فإن هذه الزيادة لم

تصح مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد من كلام عمر نفسه أنه قال: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة"، وهذا معروف من مذهبه -رضي الله عنه-. وقال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر -رضي الله عنه- يعني رفعه ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك قال الدارقطني. ولو كان هذا عند عمر -رضي الله عنه- لخرست فاطمة بنت قيس ولا دعت إلى المناظرة، فإنها قالت لما بلغها إنكار مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} إلى قوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} قالت: هذا لمن كان له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟! وقد جاء في طرق حديثها،

في مسند أحمد: "يا بنت آل قيس: إنما السكنى والنفقة على من كانت له رجعة". الثالث: قوله: "ورده أيضًا زيد بن ثابت" فإنه لا يعرف فيه عن زيد نفي ولا إثبات. والرابع: نسبته الرد أيضًا إلى جابر فإن المنقول عن جابر موافقته فاطمة بنت قيس في ذلك. حكى ذلك أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" عنه، وعن علي، وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-.

وحاصل ما طعنوا به في حديث فاطمة بنت قيس أربعة أمور أحدها: أنها امرأة يمكن أن تكون قد نسيت، ولم تحفظ الحديث على وجهه. الثاني: أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن. الثالث: أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حق لها في السكنى، بل لأذاها أهل زوجها بلسانها. الرابع: معارضة روايتها برواية أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه. أما الأول ففاسد والعلماء قاطبة على خلافة، وكم من سنة تلقتها الأئمة عن امرأة واحدة من الصحابة؟! فكيف مثل هذه السنة التي هي فيها صاحبة القصة؟! وأما الثاني: وهو أن روايتها مخالفة للقرآن. فجوابه: أنها لو كانت مخالفة لعمومة لكانت مخصصة له كما خص من قوله تعالى: {يوصيكم/ الله في أولادكم} الكافر، والرقيق،

والقاتل، ومن قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ونظائره. فإن القرآن لم يخص البائن بأنها لا تخرج، ولا تخرج، بل إما أن يكون النص يعمها ويعم الرجعية، وإما أن يخص الرجعية، فإن عم النوعين فالحديث مخصص لعمومه، وإن خص الرجعيات فالحديث مثبت لحكم آخر غير مخالف لما في القرآن. وهذا الثاني: هو الذي يفهم بالتأمل من الآية من وجوه، وإليه أشارت فاطمة بنت قيس حيث قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث. وأما الثالث: وهو أن خروجها كان لفحش في لسانها، فقول لا دليل عليه، ولو كانت فاحشة اللسان -وقد أعاذها الله من ذلك- لقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولسمعت وأطاعت: كفي لسانك حتى تنفضي عدتك، فلو قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خالفته، ومن دونها كان يكفيه الكلام ويؤثر فيه. وأما الرابع: وهو معارضة روايتها رواية عمر -رضي الله عنه- فإن أريد أن عمر عنده من السنة ما يعارض به روايتها فهذا لم يثبت، وإن كان غير ذلك

وهو ظن أن أصول السنة تقتضي خلاف ما روت، فلا نترك ما نقل إلينا من السنة لاحتمال مخالفته لأصل السنة. وإذا كانت المسألة مسألة نزاع بين الصحابة فالسنة فاصلة بين المتنازعين، وقد ذكر السروجي في إبطال رواية فاطمة بنت قيس مسالك أخر، أحدهما: رد كبار الصحابة. وجوابه: إن كان البعض قد رده، فقد وافقه البعض كما تقدم، ولا تضر السنة مخالفة من خالفها بتأويل وإن كان مغفورًا له مأجورًا على اجتهاده. الثاني: الاضطراب في الرواية فجاء "طلقها" وجاء "طلقها ثلاثًا"، و"ألبته" و"رجعية" و"آخر ثلاث" وجاء "مات". وجوابه: أن الطلاق كان آخر ثلاث تطليقات فالرواية المطلقة تحمل على هذه المقيدة، والمطلقة آخر ثلاث، مطلقة ثلاثًا ويصدق عليها أنها مطلقة ألبته؛ لأن البت القطع وهو موجود في الطلقة الثالثة، وهذه الروايات في الصحيح ولم تثبت رواية الرجعية، ولا رواية الوفاة، وليس مثل هذا الاضطراب مما يقدح في الحديث.

الثالث: أن سقوط النفقة والسكنى لها لسبب خاص، ولم تذكر في ذلك ما يمنع من العمل بحديثها، ويرد ذلك ما في مسند الإمام أحمد رحمه الله عنها -رضي الله عنها- فقالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، وفي لفظ: "فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى". والمسألة مهيبة لما فيها من مخالفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولكن في مسائل الخلاف لا ينظر إلى ذلك، ويقال في هذه المسألة نظير ما كان يقول له عبد الله بن عمر في متعة الحج؛ فإنه كان إذا سئل عنها يأمر بها، فيقال له: إنك تخالف أباك، فيقول: إن عمر لم يقل الذي يقولون، فإذا أكثروا عليه يقول: كتاب الله أحق أن تتبعوه أم [كلام] عمر؟. * * *

فصل

فصل قوله: (وإن كان الصغير رضيعًا فليس على أمه أن ترضعه لما بينا أن الكفاية على الأب). هذا إذا كانت الأم مطلقة ظاهر لعدم النفقة من جهة الأم، وقد قال تعالى في سورة "الطلاق": {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} الآية. أما في حال قيام النكاح ففيه نظر لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} الآية، وهو الأمر بصيغة الخبر. وتعليل المصنف بأن الكفاية على الأب لا يلزم منه أن الأم لا يجب عليها الإرضاع، بل على الأم الإرضاع، وعلى الأب النفقة عليها، هذا مقتضى ظاهر الآية. والمصنف قد قال بعد ذلك أنه لو استأجرها وهي زوجته، أو معتدته لترضع ولدها لم يجز؛ لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة، وتلا الآية الكريمة. واعتذر عن عند الإلزام باحتمال/ عجزها. فينبغي أن تعتبر حقيقة

عجزها، بأن ادعت العجز عن الإرضاع وقامت قرينة تدل على صدقها، أما إذا لم تدع العجز، أو ادعت القدرة وطلبت مرضعة كيف تجاب إلى ذلك؟! فإن في ذلك مضارة بالأب والحالة هذه! ولو ألزمت بالإرضاع مع عجزها عنه كان فيه إضرار بها، وقد قال تعالى: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده}. وإجبار الأم على الإرضاع ما دامت الزوجية قائمة مذهب مالك، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبي ثور، وحكى عن مالك أنه فرق بين ذات اليسار والشرف، وبين غيرها، ذكر ذلك ابن المنذر في "الإشراف". قوله: (وفي قراءة ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك"). تقييد وجوب النفقة بالمحرمية مشكل لوجوه، أحدها: عدم ثبوت قراءة ابن مسعود. الثاني: أن سائر أدلة نفقات الأقارب مطلقة كما في قوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه}، وقوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا

وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى}. وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وابدأ بمن تعول: أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل شيء عن ذي قرابتك فهكذا" رواهما النسائي. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك، ثم أدناك أدناك". الثالث: ما ورد في ذلك من الآثار، منها: ما ذكر ابن أبي شيبة بسنده عن سعيد بن المسيب قال: "جاء ولي يتيم إلى عمر بن الخطاب -رضي الله

عنه- فقال: أنفق عليه، ثم قال: لو لم أجد إلا أقصى عشيرته لفرضت عليهم"، ولا يعرف له مخالف من الصحابة. الرابع: تفسير جمهور السلف للآية، كقتادة، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم. الخامس: شمول ما ذكر من المعنى في الإنفاق على المحارم لبقية الورثة، وهو أنه ليس من المعروف- بل من أعظم "الإساءة" أن يعيش في نعم الله ويترك قريبه يموت جوعًا وعريًا، وهو قادر على سد خلته و"الغرم بالغنم" فكما أنه يرثه إذا مات، ويخلفه في ماله إذا كان له مال. فكذلك يقوم بمؤنته إذا احتاج ولم يكن له مال، وهو قادر على مواساته.

السادس: ثبوت الفرق بين وجوب الصلة بالإنفاق، وبين الصلة بالإعتاق بالملك وحرمة النكاح، وهو أن الحاجة إلى النفقة والكسوة أعظم من زوال الرق وحرمة المناكحة، فلا يلزم من قصور الإعتاق وحرمة المناكحة على المحرمية قصور الإنفاق عليهم مع استوائهم مع بقية الأقارب في الحاجة الكبرى؛ فإن الحاجة إلى سبب الحياة الحقيقية فوق الحاجة إلى سبب الحياة الحكمية بزوال الرق وثبوت الحرية والإكرام بحرمة الاستفراش. السابع: أن الأمر بصلة الرحم غير مختص بالمحرم، فإن قيل: المراد بذلك البر والصلة دون الوجوب، وهذا السؤال يرد على الاستدلال من الآيات والأحاديث المتقدمة. وجوابه: أن الأمر يقتضي الوجوب، وقد سماه الله حقًا وأضافه إلى القريب بقوله: {وآت ذا القربى حقه}، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه حق وأنه واجب. فإن قيل: المراد بحقه ترك قطيعته. فالجواب: أي قطيعة فوق أن يتركه يموت جوعًا وعطشًا ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد، وهو يتقلب في نعم الله، ويفضل عنه منها ما يقدر على مواساة قريبه به، وهو لا يصله بشيء من ذلك. وإذا لم تكن هذه الصلة هي المأمور بها فهي السلام عليه إذا لقيه، وعيادته

إذا مرض،/ وتشميته إذا عطس، وإجابته إذا دعاه فقط؟! وهذا حق يجب لكل مسلم، ولابد من تمييز ذي الرحم على سائر المسلمين بأمر زائد على ما يجب للمسلم على المسلم. قوله: (فإن المعسر إذا كان له خال، وابن عم تكون نفقته على الخال، وميراثه يحرزه ابن عمه). هذه المسألة مرتبة على اشترط المحرمية، وقد تقدم الكلام في ذلك. قوله: (ثم اليسار مقدر بالنصاب فيما روي عن ابن يوسف، وعن محمد أنه قدره بما يفضل عن نفقة نفسه، وعياله شهرًا أو بما يفضل عن ذلك من كسبه الدائم كل يوم؛ لأن المعتبر في حقوق العباد إنما هو القدرة دون النصاب، فإنه للتيسير، والفتوى على الأول لكن النصاب نصاب حرمان الصدقة). في اختياره القول الأول للفتوى نظر، بل في اعتبار النصاب في حرمان الصدقة، ووجوب صدقة الفطر، والأضحية أيضًا، فإنه لم يرد به نص،

وإنما أخذ من نصاب الفضة في الزكاة، وفي ذلك من الخلاف ما هو معروف في موضعه. ولا مناسبة في اعتباره في النفقة التي هي مؤنة محضة، بل اعتبار الغني بما يفضل عن نفسه وعياله في كل يوم كما قال محمد ابن الحسن أولى؛ فإن هذا القدر فضل قد حصلت الكفاية بدونه، فصح كونه غنيًا عنه وبه، وليس على اشتراط قدر زائد عليه دليل؛ ولأن نفقة القريب من حقوق العباد فيعتبر حقيقة القدرة على أداء القدر الواجب له كالدين. قوله: (وإن كان للابن الغائب مال في يد أبويه فأنفقا منه لم يضمنا؛ لأنهما استوفيا حقهما؛ لأن نفقتهما واجبة قبل القضاء على ما مر وقد أخذا جنس الحق). قد تقدم الكلام على أن القاضي ليس إليه ولاية الإيجاب، وإنما إلية ولاية الإلزام بالواجب، وإذا ثبت أن نفقة الأقارب واجبة بالكتاب والسنة كما تقدم فهم كالأبوين في الإنفاق من مال الغائب، ولا يصح الفرق بالوجوب قبل القضاء وبعده، وفيما تقدم كفاية لمن قصد الإنصاف وترك العصبية بالهوى.

قوله: (قال: إلا أن يأذن القاضي في الاستدانة عليه؛ لأن القاضي له ولاية عامة فصار إذنه كأمر الغائب، فيصير دينًا في ذمته فلا تسقط بمضي المدة). قد تقدم الكلام في ذلك وأن القاضي ليس له ولاية الإيجاب وعدمه، وإذا كان حكم نفقة القريب السقوط بمضي الزمان، وأنه لسد الحاجة وقد استدت فلا تصير دينًا على الغائب بتصيير القاضي، ولا يلزم من عموم ولاية القاضي إيجاب ما لم يجب؛ ولهذا اضطربت أقوال المشايخ في صيرورة نفقة القريب دينًا بفرض القاضي، فمنهم من قال: إنما تصير دينًا إذا أذن القاضي لهم في الاستدانة، واستدانوا حتى احتاجوا إلى وفاء الدين، أما إذا لم يستدينوا بل أكلوا من الصدقة لا تصير النفقة دينًا. وإلى هذا مال السرخسي رحمه الله وحكم به كثير من المتأخرين ونصروه وقيدوا إطلاق "صاحب الهداية" به، ومنهم من قال: إنما تصير دينًا إذا كانت المدة قصيرة، أما إذا طالت المدة فلا تصير دينًا وفصلوا بين المدة القصيرة والطويلة بشهر، ولكن مدار هذا التفريغ كله على أن قضاء القاضي يؤثر في الإلزام بنفقة ما مضى من الزمان للقريب، فإذا تبين أنه لا تأثير له في ذلك بطل هذا التفريع كله والله أعلم.

كتاب العتاق

كتاب العتاق قوله: (والوضع وإن كان للإخبار فقد جعل إنشاء في التصرفات الشرعية للحاجة كما في الطلاق والبيع وغيرهما). تقدم في أول النكاح أن جعل هذه الألفاظ إنشاءً ليس بحادث، وأن استعمال هذه الألفاظ إخبارًا تارة وإنشاءً أخرى كان قبل الإسلام، وأقره الإسلام على ما كان من الإنشاء والإخبار. والله أعلم. قوله: (ولو قال هذا ابني وثبت/ على ذلك عتق). لا يحتاج إلى قوله: وثبت على ذلك، فإنه ليس بقيد، ولو رجع عن ذلك لا يرتفع الإعتاق، وقد اعتذر عن ذلك بأنه خرج اتفاقًا لا على سبيل التقييد، وهذا يقرر الإشكال، وقيل: إنه شرط حتى لا يعتق بدونه، وهذا مخالف

لظاهر المذهب ولما ذكره المصنف بعد ذلك، وقيل: إن المراد أنه لم يدع به الكرامة والشفقة، وهذا خلاف الظاهر أيضًا، وقيل: الثبات لثبوت النسب لا لثبوت الإعتاق، ولا يصح هذا التأويل لأن الكلام هنا لثبوت الإعتاق لا لثبوت النسب، وقيل: معناه وثبت النسب على ذلك أي لأجل إقراره، ولا يصح هذا التأويل أيضًا، لأنه يلزم منه أن يكون قيدًا لثبوت الإعتاق، وليس كذلك، فإن المصنف قال بعد ذلك: وإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه للتعذر ويعتق. قوله: (وإذا قال لغلام -لا يولد مثله لمثله - هذا ابني عتق عند أبي حنيفة إلى آخر المسألة). قال السروجي: عتق عليه عند أبي حنيفة بغير نية، ذكره في أصول

البزدوي والمنافع، وخرجه أبو الخطاب وجهًا للحنابلة، وعند الجمهور لا يعتق وإن نوى، وعند مالك يعتق بالنية. انتهى. وينبغي أن يكون قول أبي حنيفة -رحمه الله -كقول مالك -رحمه الله -في اشتراط النية؛ لأن ما علل له به لا يخرج اللفظ عن كونه كناية، وإذا لم يكن من ألفاظ الصريح فإنه يحتاج إلى النية، فإن قيل: بل هو صريح وإن كان مجازًا فالجواب أن الصريح ما ظهر المراد به ظهورًا بينًا، والكناية ما استتر المراد به ولا يفهم إلا بقرينة، حقيقة كان كل منهما أو مجازًا، وهذا أمر تابع للاستعمال، فرب لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين. ولا شك أن قوله لعبده هذا ابني غير ظاهر في إرادة الإعتاق به فدخوله في حد الكناية أولى وأظهر من دخوله في حد الصريح هذا على تقدير التسليم لصحة المجاز فيه

وإذا كان التمحل لتصحيح كلامه صونًا عن البطلان فصون كلامه يلزم منه تضييع ماله بغير فائدة دنيوية ولا أخروية، أما الدنيوية فظاهر، وأما الأخروية فلأنه لم ينو به الإعتاق فلا يؤخر عليه في الآخرة؛ لأن الأعمال بالنيات وصون ماله أولى من صون كلامه، فإنه لا إثم عليه بهذا اللغو من كلامه، فإن الله لا يؤاخذ باللغو في اليمين فهذا أولى، ويأثم بتضييع المال فإنه قد نهي عن إضاعة المال، وإذا دار الأمر بين منهي عنه ومعفو عنه كان ارتكاب المعفو عنه أولى من ارتكاب المنهي عنه، هذا على تقدير أن يكون لغوًا وأما لو أراد به الكرامة فلا لغو، وهلا صنتم كلامه عن البطلان فيما إذا قال لأمته أنت طالق ونوى به العتق، وستأتي المسألة في كلامه في هذا الباب. وأصل هذه المسألة على ما ادعاه أهل أصول الفقه مبني على أن المجاز عند أبي حنيفة -رحمه الله -خلف عن التكلم بالحقيقة سواء كان معناه الحقيقي متصورًا فيه أو لم يكن وعندهما: المجاز خلف عن حكم ذلك اللفظ بمعنى أن يكون اللفظ موجبًا حقيقته ثم تعذر العمل بحقيقته لمعنى فحينئذ يصار إلى المجاز وهو قول أبي حنيفة الأول وإذا كان المجاز عبارة عما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما كما ذكروا في حده فالإرادة إنما تعرف من المتكلم وهو معترف أنه لم تكن له نية فكيف يجعل مجازًا والمتكلم لم يرد به غير ما

وضع له؟! فإن قيل: مثل هذا اللفظ يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يحتاج إلى إرادة المتكلم به في جعله مجازًا. قيل: الشأن في سبق الاستعمال في مثل هذا الكلام، وغير مسلم ما ذكروا من التنظير بمن مات وترك مكاتبًا فأعتقه الوارث فإنه يكون مجازًا عن الإبراء عن بدل الكتابة لا إعتاقًا من قبله حتى إن الولاء يكون للميت وذلك لأن المكاتب/ غير قابل للنقل من ملك إلى ملك فكان مبقى على ملك المورث وإذا كان كذلك فالإعتاق متى صح أوجب الإبراء، فإذا لم يصح -لأن المحل لا يحتمله من قبله لما ذكر -صار الإعتاق مجازًا عن الإبراء الذي هو حكمه، وبمن تزوج بلفظ الشراء أو الهبة أنه ينعقد نكاحه وإن كان المحل لا يحتمل الشراء ولا الهبة، ولكن لما كان من حكم الشراء ملك المتعة في المحللات للمشتري صار كناية عن حكمه وهو ملك المتعة، فيصير قوله تزوجت وقوله اشتريت سواء. أما النظير الأول فالشأن في كون المكاتب لا يقبل النقل بوصف الكناية، وسيأتي الكلام في ذلك في باب البيع الفاسد إن شاء الله تعالى. وعلى تقدير التسليم، فالوارث لما أعتق المكاتب كان مريدًا لإبرائه فصح المجاز، بخلاف من قال لعبده وهو أكبر سنًا منه هذا ابني وهو لا يريد إعتاقه. وأما النظير الثاني فإنما ثبت ملك النكاح فيه لأن ملك الرقبة أعلى منه، وقد أراد المتكلم به ملك المتعة فصح المجاز، ولا كذلك مسألتنا، فإن المتكلم

فصل

فيها لم يرد الإعتاق ففات التنظير، مع أن الكلام له مجاز آخر مستعمل مشهور وهو إرادة الكرامة بهذا الكلام وهو صالح له فإن كثيرًا ما يقول السيد أو الرئيس لمن يريد إكرامه هذا ابني، هذا ولدي، أو هذا أبي، أو هذا جدي، كما يقول لمن يريد تعظيمه هذا أستاذي، هذا مخدومي، هذا مالكي، ونحو ذلك، وإذا كان للكلام مجازان، لا يتعين أحدهما بغير نية. فصل: قوله: (وعتق المكره والسكران واقع). تقدم الكلام في طلاق المكره والسكران، والعتق مثله، والخلاف فيهما واحد، والله أعلم. * * *

باب العبد يعتق بعضه

باب العبد يعتق بعضه قوله: (وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر، ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة -رحمه الله -، وقالا: يعتق كله إلى آخر المسألة). ظاهر كلامه أن العتق يتجزأ عند أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه بل هو نص فيه. وقد قالوا إن المتجزئ عنده إنما هو الإعتاق لا العتق وقالوا: إن معناه أنه يزول الملك عن ذلك البعض وأما الرق فهو باقٍ كله عنده. وعندهما زال الملك والرق عنه كله. وقولهما أصح وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله

عنهما-وبه قال جمهور العلماء الأئمة الثلاثة وغيرهم إلا أن مالكًا -رحمه الله -قال: إن مات قبل أن يحكم عليه لم يحكم لهم، لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد" متفق عليه. وإذا أعتق عليه نصيب شريكه كان ذلك بينهما على عتق جميعه إذا كان كله ملكًا له، ولأنه أزال ملكه عن بعض مملوكه الآدمي إلى غير أحد فزال عن جميعه كما في الطلاق، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم -إلى تكميل العتق وتعليله حين سئل عمن أعتق شقصًا له في مملوكه فجعل خلاصه عليه وقال: "ليس لله شريك" رواه أحمد وأبو داود. ويفارق البيع بأنه لا سراية فيه، وكذلك الهبة بخلف إزالة الملك بالإعتاق؛ لأن من لازمه ثبوت العتق وهو لا

يقبل التجزي. فإن قيل: قد جاء في بعض طرق الحديث المتقدم في الصحيحين "وإلا فقد عتق منه ما عتق" وذلك دليل على تجزي العتق. قيل: قد قال البخاري -بعد روايته هذا الحديث من طريق أيوب ويحيى -قال أيوب ويحيى عند قوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق": لا ندري أشيء قاله نافع أو هو شيء في الحديث. ولو ثبتت هذه الزيادة في الحديث لا يلزم منها عدم عتق بقيته عنده إذا أعتق بعضه؛ لأنه مالك لبقيته، فلم يكن كمن أعتق حصته في عبد مشترك وهو معسر لأن ذاك لا يقدر على إعتاق بقيته لعسرته، وهذا مالك لبقيته، وإنما هو نظير من أعتق حصته من عبد مشترك وهو موسر وستأتي مسألته.

فإن قيل قد روى أحمد وأبو داود عن إسماعيل/ بن أمية عن أبيه عن جده قال "كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان فأعتق جده نصفه فجاء العبد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: تعتق في عتق وترق في رقك، قال: فكان يخدم سيده حتى مات". فجوابه: أنه حديث ضعيف لم يثبت، فلا يعارض ما تقدم، وقد اضطرب كلام الأصحاب في تحرير قول أبي حنيفة في تجزي العتق، وأكثرهم على منعه، أن المتجزي عنده إنما هو الإعتاق لا العتق. قال صاحب البدائع: وهذا غير سديد لأن الإعتاق لما كان متجزئًا عند أبي

حنيفة كان العتق متجزئًا ضرورة، إذ العتق حكم الإعتاق، والحكم يثبت على وفق العلة، ثم قال: ولأن القول بهذا قول بتخصيص العلة لأنه يوجد الإعتاق في النصف ويتأخر العتق فيه إلى وقت الضمان أو السعاية، وأنه قول بوجود العلة والحكم وهو تفسير تخصيص العلة وأنه باطل. فصرح أن العتق على الخلاف في التجزيء كالإعتاق، ويلزم من تقرير صاحب البدائع أن العتق لا يتخلف عن الإعتاق أن لا يتجزأ، فإنه لا يقبل التجزؤ فظهرت قوة قول الصاحبين -رحمهما الله تعالى -. قوله: (وإذا كان عبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه عتق. إلى آخر المسألة). قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله -فيها أصح واختاره الطحاوي، وهو أن العبد يعتق كله ثم المعتق إن كان موسرًا ضمن لشريكه قيمة نصيبه، وإن كان معسرًا سعى العبد في قيمة نصيب الساكت له وهو في حال السعاية حر مديون، وهو قول ابن شبرمة ..................................................

وابن أبي ليلى والأوزاعي ورواية عن أحمد، وظاهر مذهبه، وهو قول الثوري وإسحاق وابن المنذر والشافعي في قول واختاره المزني،

أن المعتق إذا كان موسرًا عتق العبد كله حين تلفظ بالإعتاق، واستقرت عليه القيمة كما قال أبو يوسف ومحمد، وإن كان معسرًا لم يسر العتق إلى بقية العبد، بل عتق منه ما عتق. وقال مالك والشافعي في قول والزهري وعمرو بن دينار: لا يعتق باقية بإعتاق الموسر إلا بأداء الضمان، ويبقى باقيه رقيقًا بإعتاق المعسر، وفي مذاهبهم تفاصيل يطول ذكرها، ويترجح قول الصاحبين، لحديث أبي هريرة

- رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شقصًا من مملوك فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال، قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه" رواه الجماعة إلا النسائي. وحديث أبي المليح عن أبيه "أن رجلاً أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ليس لله شريك، فأجاز عتقه" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وزاد رزين: "في ماله". وفي لفظ "هو حر كله، ليس لله شريك". وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من أعتق نصيبًا له في مملوك أو شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل، فهو عتيق" رواه البخاري وأحمد.

وفي رواية "من أعتق شركًا له في عبد، عتق ما بقي في ماله إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد" رواه أبو داود. فإن قيل قد جاء في رواية: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق" رواه الجماعة والدارقطني وزاد "ورق ما بقي". وفي رواية متفق عليها: "من أعتق عبدًا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا". وفي رواية: "من أعتق عبدًا بين اثنين فإن كان موسرًا قوم عليه ثم يعتق" رواه البخاري وأحمد، كل ذلك من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما -. فقوله "وإلا فقد عتق عليه ما عتق" يدل على تجزي العتق،/ وكذا قوله

"ثم عتق في ماله إن كان موسرًا" وقوله "ثم يعتق" وأنه لا يعتق كله أو بقيته إلا بعد أداء القيمة، لأن كلمة "ثم" للتراخي. قيل: قد قال البخاري -في حديث أيوب ويحيى عند قوله "وإلا فقد عتق عليه ما عتق" -قال أيوب ويحيى: لا ندري أشيء قاله نافع أو شيء في الحديث، فقد وقع الشك في كونه مدرجًا من كلام نافع أو مرفوعًا، وما زاده الدارقطني من قوله "ورق ما بقي" قال أبو محمد بن حزم في المحلى: وهي موضوعة مكذوبة لا يجوز الاشتغال بها. وأما قوله: "ثم عتق" وقوله "ثم يعتق" بكلمة "ثم" المقتضية للتراخي، فجوابه: أن "ثم" كما تأتي للمهلة في الزمان، تأتي للمهلة في الأخبار كما في قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيمًا ذا مقربة * أو مسكينًا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا} وقوله تعالى: {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون * ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن}. وقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} ونظائره كثيرة، ومن ذلك قول الشاعر:

إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده ويحصل الفرق بين ذلك بالقرائن المعنوية، فتحمل المهلة في قوله "ثم عتق" على المهلة في الأخبار لا في الزمان جمعًا بينها وبين الرواية الأخرى، وهي قوله -عليه الصلاة والسلام -"فهو عتيق" في جواب قوله "من أعتق نصيبًا له في مملوك" والرواية الأخرى وهي قوله -صلى الله عليه وسلم -"من أعتق شركًا له في عبد عتق ما بقي" الحديث، وقد تقدم ذكر ذلك، فرتب عتق الكل على عتق البعض، ويؤيد ذلك أن الإعتاق علة العتق فلا يتخلف عنه، وهو لا يقبل التجزي فيسري إلى بقية العبد، وتقرير ذلك مبسوط في موضعه، ويؤيده أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم -"ليس لله شريك" كما تقدم في حديث أبي المليح، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة، وسبب اختلافهم في الاستسعاء ما حصل في حديث أبي هريرة من الكلام في زيادة ذكر الاستسعاء وكفى بتصحيح البخاري ومسلم لها حجة، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:

في العبد بين ثلاثة يدبره أحدهما

وقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما وحسبك بذلك، فقد قالوا إن ذلك أعلى درجة الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا بمتعللات لا تصبر على النقد. اهـ. ولم يخرج في الصحيحين غير حديث أبي هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم -المذكورين وهما أصل مسألة عتق العبد المشترك، والاستدلال بهما لقول الصاحبين ظاهر. قوله: (وإذا كان عبد بين ثلاثة دبره أحدهم ... إلى آخر المسألة). والكلام فيها مرتب على أن المدبر لا يقبل النقل من ملك إلى ملك، وسيأتي في باب التدبير ما في ذلك من الكلام -إن شاء الله تعالى -. قوله: (لأنه عند ذلك مكاتب أو حر على اختلاف الأصلين، ولابد من رضى المكاتب بفسخه حتى يقبل الانتقال فلهذا يضمن المدبر). قال هذا في التعليل لقول أبي حنيفة في عبد بين ثلاثة دبره أحدهم ثم أعتقه الآخر وهما موسران واختبر الضمان حيث يضمن الساكت المدبر لا المعتق عنده لن الإعتاق لا يمكن بعده نقل حصة المعتق من ملك إلى ملك بخلاف ما قبل الإعتاق حيث كانت حصته تقبل النقل إلى الذي دبر حصته قبله فعلل لكونه عند الإعتاق لا يقبل النقل من ملك إلى ملك بقوله: لأنه عند ذلك مكاتب أو حر على اختلاف الأصلين.

قال جلال الدين ابن المصنف: قوله: لأنه عند ذلك مكاتب أو حر على اختلاف الأصلين. غير مستقيم، وكذا قوله: ولابد من رضى المكاتب بفسخه، لأنه عند الإعتاق ليس بمكاتب ولا حر، وإنما يصير كذلك بعد الإعتاق، والمستسعى عند أبي حنيفة -وإن كان بمنزلة المكاتب -إلا أنه لا تنفسخ كتابته بالعجز ولا بالتفاسخ، وإنما الصحيح أن يقال: لأنه عند ذلك مدبر. نقل ذلك السروجي في شرحه وهي مؤاخذة صحيحة، وقد أصلحوا بعض نسخ الهداية وكتبوا -بدل قوله: لأنه عند ذلك مكاتب إلى آخره -لأنه عند ذلك مدبر. * * *

باب عتق أحد العبدين

باب عتق أحد العبدين قوله: (ومن قال لعبديه أحدكما حر ... إلى آخره). عتق أحد العبدين بغير عينه جائز وله البيان/ أي تعيين أحدهما للعتق عند أبي حنيفة والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنه، وعند أحمد يقرع بينهما، فمن خرجت القرعة باسمه فهو حر، ولا يصح بيانه إلا أن يقول: كنت نويته عند التلفظ به، لحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه -"أن رجلاً أعتق سنة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" رواه الجماعة إلا البخاري وأخرجه أحمد وأبو داود أيضًا من حديث أبي زيد

الأنصاري -رضي الله عنه -، وروي نحوه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، وقد اتفقت الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد على العمل بهذا الحديث في مثل ما ورد به، ولا عذر لمن خالف الحديث بعد أن يبلغه. وقول من قال إن هذا الحديث يخالف قياس الأصول ممنوع، بل هذا حق فيما في تفريقه ضرر فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار إذا طلبها أحد الشركاء ولو لم نعرف موافقته لقياس الأصول، فقول -عليه الصلاة والسلام -واجب الإتباع فهمنا معناه أو لم نفهم، وهذا الحديث يجب أن يكون أصلاً نفرع منه المسائل. ولو بلغ أبا حنيفة -رحمه الله -لما عدل عنه، فقد قرع على أحاديث ضعيفة لما بلغته ولم يقل إنها مخالفة لقياس الأصول، كحديث "القهقهة في

الصلاة"، وحديث "نبيذ التمر"، وحديث "أخروهن من حيث

حكم استعمال القرعة

أخرهن الله" وأمثال ذلك. واعتبر أحمد ومن وافقه مسألة من أعتق أحد عبديه بمسألة من أعتق عبيده في مرضه ولا مال له غيرهم، لأن مستحق العتق في كل من المسألتين مبهم غير معين فيكون تعينه بالقرعة كما في الحديث المذكور بل أولى، لأن تعيين المبهم أهون من جمع السهام المتفرقة في واحد، ولهذا جرى الخلاف في تعيين المعتق المبهم بغير قرعة دون جمع سهامه، وكان التعيين بالقرعة أولى من التعيين بدونها لأنه تعيين كوني قدري، فكان أحق من التعيين بالتشهي بغير مستند، وكأن المقرع يقول: اللهم قد ضاق الحق عن الجميع وهم عبيدك فخض من تشاء منهم به. ثم يلقي القرعة فيحكم الله بها على من يشاء، فهذا سر القرعة. وأيضًا فإن الحكم قد تعلق في المبهم بالمشترك فلابد من مميز، ولم يجعل الشارع التمييز إلى العبد لعجزه عنه، فكان التمييز بالقرعة تمييزًا من جهة الشارع، قالوا: والعمل بالقرعة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل

مريم}، وقوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين}، وما قص الله علينا من شريعة من قبلنا فهو شريعة لنا ما لم ينسخ. وأما السنة فمنها ما تقدم. منها أنه -عليه الصلاة والسلام -أقرع بين نسائه للسفر. وقال -صلى الله عليه وسلم -: "مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة" وغير ذلك.

وأجمع الناس على استعمال القرعة [في القسمة، والقرعة] بين النساء لمن أراد السفر بواحدة من نسائه لكن هذه القرعة مستحبة عند أبي حنيفة، ومستحقة عند غيره. وقول القائل إن القرعة بمنزلة الميسر باطل لوجوه: أحدها: أن الله حرم الميسر وشرع القرعة فكان هذا نظير قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}.

الثاني: أن الله تعالى حرم الميسر لما فيه من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وأكل المال بالباطل، وليس شيء من ذلك في هذه المسألة، وإنما هي نظير القرعة في قسمة الحيوان وغيره. الثالث: أن القرعة لازالت مشروعة والميسر لا زال محرمًا، ولم يحل الميسر في ملة من الملل فيما نقل إلينا. وقول القائل -إن العتق نازل في الكل فلا يجوز رفعه بالقرعة -فاسد لوجهين: أحدهما: أن التعليل في مقابلة النص وذلك لا يجوز. الثاني: أن العتق موقوف على تعيين القرعة عند من يقول بها، أو أن القرعة جمعت الثلث الشايع في الستة في اثنين منهم كما في قسمة الوقف من الملك عند من يقول بها لا أنها ترفع العتق بعد وقوعه. وقول القائل: لا حجة في الحديث لأنه واقعة عين فلا تعم. والله ما أظن أن أبا حنيفة -رحمه الله -يرضى بهذا/ بل لو بلغه الحديث لعمل به كما عمل بحديث القهقهة لما بلغه، ولم يقل إنه واقعة عين، مع أن فيه أنه -عليه الصلاة والسلام -قال: "ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة" خاطب الحاضرين بذلك بكاف الخطاب، ولم يقل من ضحك في

صلاته فليعد بلفظ العموم، ولم يقل أبو حنيفة فيه أنه واقعة عين لا تعم، ولا قال إنه خالف القياس وأصول الشرع وكذلك غيره وغيره. وقول القائل: يحتمل أن يكون المراد اثنين شائعين أي قدر اثنين لا بأعيانهما. جوابه: أن هذا فاسد فإنه لا يقال في مثل هذا فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولو كان قد عتق من كل ثلثه لما كان إلى القرعة حاجة ويصان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن مثل هذه المحامل الباردة. وقول القائل: إنه لا يتفق أن يكون للإنسان ستة أعبد ولا يملك غيرهم من درهم ولا قماش ولا ... ولا ... وإن هذا من قبيل المستحيل عادة. جوابه: أن هذا يقوله القائل على ما عنده، ومن كان على حال يظن الناس على مثلها، وإلا فمن الممكن بل من الواقع أن عادة كثير من الأعراب قلة الأثاث يتخلل أحدهم بعباة وعنده إبل أو غنم ينتفع بدرها ونسلها أو رقيق ينتفع بكسبهم ويعيش بذلك أو اتفق أن ذلك الرجل غنم رقيقًا وكان فقيرًا لم يفضل له من المال بعد كلفة دفنه سواهم. وقول القائل: إنه لا يتفق أن يكون ستة أعبد قيمتهم سواء، لا يزيد قيمة أحدهم على الآخر بدرهم. جوابه: أن هذا أيضًا مردود فإن الرقيق يكون متفاوتًا ومتقاربًا، ومثل هذا

لا ينكره إلا متعنت وإنما يفعل هذا من عنده هوى إذا أورد عليه نص بعد ما اعتقد الحكم في مسألة على خلافه، يحتال لدفعه بأنواع الحيل لئلا يرجع عما قاله أو قلد إمامًا معينًا، نسأل الله السلامة والعافية. ويحكى أن الحديث ذكر لحماد. فقال: هذا قول الشيخ. يعني الميسر، فقال له محمد بن ذكوان: "رفع القلم عن ثلاثة أحدهم المجنون حتى يفيق" يعني أنه مجنون، فقال له حماد: ما دعاك إلى هذا، فقال له محمد: وأنت فما دعاك إلى هذا. وهذا قليل في جواب هذا القائل.

قوله: (وأما الداخل فمحمد -رحمه الله -يقول لما دار الإيجاب الثاني بينه وبين الثابت -وقد أصاب الثابت منه الربع -فكذا نصيب الداخل). هذا تعليل قاصر فإنه لا يلزم من عتق ربع الثابت بالإيجاب الثاني أن يعتق ربع الخارج فقط، فقياسه عليه فاسد، وإنما الصحيح من التعليل له أن الكلام الثاني صحيح في حال دون حال، لأنه إن أراد بالإيجاب الأول الثابت، لا يصح الكلام الثاني إيجابًا بالجمع فيه بين الحر والعبد، وإن أراد بالأول الخارج صح الكلام الثاني إيجابًا، فإذا صح في حال دون حال، ثبت نصفه وهو عتق نصف رقبة بينهما لعدم الأولوية، فيكون لكل واحد ربع رقبة. قوله: (والهبة والتسليم والصدقة، والتسليم بمنزلة البيع لأنه تمليك). اشتراط التسليم في كل منهما فيه نظر، فإن العرض على البيع بمنزلة البيع، فالهبة والصدقة قبل القبول بطريق الأولى. قال الشيخ حافظ الدين في الكافي: وذكر التسليم في الهبة والصدقة

وقع اتفاقًا، نص عليه في المحيط، إذ التعيين دلالة، يقع بالإقدام على تصرف يختص بالملك فلا تتوقف على القبض، ولهذا سوي في البيع بين المطلق -وبشرط الخيار لأحدهما -وبين الصحيح والفاسد، وفي البيع الفاسد بين التسليم وعدمه لأن انتفاء العتق عنه ما كان لضرورة ثبوت الحكم، وإنما كان لدلالة الإقدام على تصرف يختص بالملك انتهى. قوله: (وله أن الملك قائم في الموطوءة لأن الإيقاع في المنكرة وهي معينة فكان وطؤها حلالاً، فلا يجعل بيانًا، ولهذا حل وطؤها على مذهبه إلا أنه لا يفتى به). يعني فيما إذا قال لأمتيه إحداكما حرة، ثم وطئ إحداهما، والقول بأن الإيقاع في المنكرة والموطوءة معينة يشمل عتق إحدى أمتيه وتطليق إحدى زوجتيه، وكما أن الإعتاق المبهم لا ينزل قبل البيان فكذلك الطلاق المبهم لا ينزل قبل البيان، والموطوءة في كلا المسألتين معينة في المنكرة، ولو عكس هذا

لكان له وجه، وهو/ أن أمته لا وجه لحل وطئها سوى ملك اليمين ولا يجوز له الوطء بعد عتقها بخلاف الزوجة، فإنه لو وطئها يكون بذلك مراجعًا، فمن الجائز أن تكون الموطوءة مطلقة، وأنه صار بوطئها مراجعًا. أما الأمة فليس له وطؤها بعد عتقها، فلم لا يكون وطؤها بيانًا، وفي القول بحل وطئها على مذهبه نظر، وإن كان يقول أن الإعتاق لا ينزل في إحداهما قبل البيان، لأن وطء المبيعة عنده إذا كانت ثيبًا يمنع من ردها بالعيب، لأن الرد بالعيب يوجب فسخ البيع من أصله، فيتبين أن الوطء وقع في غير ملكه، ولم يجعل الوطء هناك بمنزلة الاستخدام فكيف جعله هنا بمنزلته. ثم قوله: إلا أنه لا يفتى به في غاية الإشكال، فإنه إذا كان حلالاً كيف لا يفتى بحله، وعدم الإقدام على الإفتاء بحله دليل على أنه غير حلال، وليست هذه المسألة نظير المسألة التي تأتي في كلام المصنف في باب العشر والخراج، أن من انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر فعليه خراج الأعلى، لأنه هو الذي ضيع الزيادة وهذا يعرف ولا يفتى به، كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس، فإن تلك المسألة ونظائرها -مما يخاف منه مجاوزة الحد -الكف عن بثها لمصلحة راجحة أو متعينة كما قال أبو هريرة "حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وعاءين أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم".

قيل يعني الفتن بخلاف هذه المسألة فإن هنا ليس إلا الوطء قبل البيان، فإما أن يكون حلالاً فيفتى بحله أو حرامًا فيفتى بحرمته، وأي فساد يترتب على الإفتاء بحله إذا كان حلالاً. ولو قيل لا يحل الوطء قبل البيان ولكن لو وطئ لا يكون الوطء بيانًا لكان أقرب من قولهم إنه يحل ولكن لا يفتى به، وأيضًا فإن البيان ليس بإنشاء فكيف يحل الوطء قبله. قوله: (بخلاف الطلاق لأن المقصود الأصلي من النكاح الولد، وقصد الولد بالوطء يدل على استبقاء الملك في الموطوءة صيانة للولد، أما الأمة فالمقصود من وطئها قضاء الشهوة دون الولد فلا يدل على الاستبقاء). أجاب بهذا عن إلزام الصاحبين لأبي حنيفة بوطء إحدى زوجتيه بعد أن قال [لهما] إحداكما طالق، حيث يكون بيانًا، وفيه نظر، فإنه متى وطئ فقد قصد الولد بقصده الوطء، وإن كان لا يريد بالوطء الولد والتفريق بين الوطء المعلق وغير المعلق تناقض لأن العلوق ليس إليه وإنما إليه الوطء وهو موجود منه مع العلوق وعدمه، ولأن الوطء سبب وجود الولد ولو كان معه عزل كما في الصحيحين عن أبي سعيد قال "أصابنا سبيًا فكنا نعزل فسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -

فقال: أو أنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثًا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة". وفي صحيح مسلم "أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن ذلك لا يمنع شيئًا أراده الله. قال: فجاء الرجل فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -إن الجارية التي كانت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أنا عبد الله ورسوله". وليس ذلك لأن الولد قد يخلق من غير ماء الرجل، بل لأنه قد يسبق منه مع العزل قطرة يكون منها الولد فإن الولد ليس من جميع الماء بل من بعضه، ولهذا كان الصحيح قول من قال: إن المولى إذا اعترف بوطء الأمة لزمه الولد، وإن لم يدعه، وعلى تقدير التسليم أن المراد قضاء الشهوة بوطء الأمة، فإقدامه على قضاء شهوته منها بالوطء دليل على استبقائها، ولهذا لما فهم ذلك بعض الأصحاب زادوا في التعليل: أن حل الوطء يتصور بثبوته مع العتق بخلاف الطلاق ويرد هذا: أن حل الوطء هنا ليس له طريق إلا ملك الرقبة، وقد أجيب عن هذا الإيراد: أن ما طريقه طريق الضرورة يعتبر فيه الجملة لا الأحوال، أي أن المعتقة في الجملة يحل وطؤها/ للمطلق في الرجعي، ويصير مراجعًا، وبتجديد العقد في الجملة في غير الرجعى فاستويا، بل هنا أولى لأن العتق أقطع من الطلاق فإنه ليس له

حريم بخلاف الطلاق لأن حريمه العدة، وهذا كله على تقدير تسليم أن بيان المعتق المبهم إلى المعتق بدون قرعة، وقد تقدم ما في ذلك من الكلام في أول الباب. قوله: (ومن قال لأمته: إن كان أول ولد تلدينه غلامًا فأنت حرة فولدت غلامًا وجارية، ولا يدري أيهما أولاً عتق نصف الأم ونصف الجارية والغلام عبد). قال في المبسوط: وذكر محمد في الكيسانيات هذا الجواب الذي ذكر ليس جواي هذا الفصل، بل في هذا الفصل لا يحكم بعتق واحد منهم ولكن يحلف المولى بالله ما يعلم أنها ولدت الغلام أولاً، فإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره، فإن حلف فهم أرقاء، وأما جواب الكتاب ففي فصل آخر وهو ما إذا قال المولى لأمته: إن كان أول ولد تلدينه غلامًا فأنت حرة وإن كان جارية فهي حرة، فولدتهما جميعًا ولا يدري أيهما أولاً، فالغلام رقيق والأمة حرة ويعتق نصف الأم. انتهى.

ثم علل لذلك، وهذا الذي ذكره في الكيسانيات هو الصحيح كما لو قال إن لم تدخل هذه الدار اليوم فأنت حر، فمضى اليوم ولا يعلم أدخل أم لا، لا يعتق أصلاً ولا يوزع. وكذا لو قال: إن كان هذا الطائر غرابًا فأنت حر، فطار ولم يعلم أغراب هو أم لا، لا يوزع ولا يقال: إن كان غرابًا يعتق وإن لم يكن غرابًا لا يعتق فهو حر في حال دون حال فيتنصف بخلاف المسألة المذكورة في الكيسانيات لأنا تيقنا بحرية بعضهم ولا كذلك الصورة المذكورة في الهداية. * * *

باب العتق على الجعل

باب العتق على الجعل قوله: (ثم الأداء في قوله: إن أديت، يقتصر على المجلس لأنه تخيير، وفي قوله: إذا أديت، لا يقتصر، لأن: إذا، تستعمل للوقت بمنزلة متى). يعني فيمن قال لعبده إن أديت إلي ألفًا فأنت حر، أنه يقتصر الأداء على المجلس وفي كونه يقتصر على المجلس نظر من وجهين: أحدهما: أنه تعليق بشرط الأداء، والتعليق لا يقتصر على المجلس، ومعنى المعاوضة فيه إنما يثبت في الانتهاء لا في الابتداء على ما ذكره المصنف، والمعتبر في الابتداء حكم التعليق ولهذا لا يشترط القبول كسائر الشروط، وعن أبي يوسف أنه لا يتقيد بالمجلس وهو الذي يوافق ما قرره، وأي فرق بين قوله إن أديت إلي ألفًا فأنت حر وبين قوله إذا أديت أو متى أديت، والكل من أدوات الشرط، وإن كانت: إن حرفًا، و: إذا، و: متى اسمان وهما من ظروف الزمان فلا يلزم من ذلك الاقتصار على المجلس، بل القول بعدم الاقتصار في: إذا، و: متى، مما يقوى القول بعدم الاقتصار في: إن. وقول المصنف: لأنه تخيير، يعني يقتصر على المجلس، فيه نظر أيضًا فقد تقدم في أول باب تفويض الطلاق ما في الخيار من الخلاف، وأن الأقوى

عدم الاقتصار فيه على المجلس لقوله -عليه الصلاة والسلام -لعائشة -رضي الله عنها -لما خيرها: "فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" الحديث رواه الجماعة إلا أبا داود. والثاني: أنه قد قال قبل ذلك: ولو علق عتقه بأداء المال صح، وصار مأذونًا، وذلك مثل أن يقول: إن أديت إلي ألف درهم فأنت حر إلى أن قال: وإنما صار مأذونًا لأنه رغبه في الاكتساب لطلبه الأداء منه، ومراده التجارة دون التكدي، فكان إذنًا له في التجارة، فلابد من زمان يتجر فيه ليحصل ألف درهم ليؤديها بدل نفسه، ولا يتصور أن يحصل هذا المبلغ في ذلك المجلس بالتجارة، بل هذا من المحال عادة، فاشتراط أداء الألف في المجلس مع القول بأنه يصير مأذونًا له في التجارة تناقض. قوله: (ومن أعتق عبده على خدمته أربع سنين فقبل العبد عتق، ثم إن مات المولى من ساعته فعليه قيمة نفسه في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله تعالى -، وقال محمد -رحمه الله -: عليه قيمة خدمته أربع سنين، أما العتق فلأنه جعل الخدمة في مدة معلومة عوضًا، فيتعلق بالقبول وقد وجد، ويلزمه/ خدمة أربع سنين، لأنه يصلح عوضًا فصار كما إذا أعتقه

على ألف درهم. ثم إذا مات العبد فالخلاف فيه مبني على خلافية أخرى: وهو أن من باع نفس العبد منه بجارية بعينها ثم استحقت الجارية أو هلكت، يرجع المولى على العبد بقيمة نفسه عندهما وبقيمة الجارية عنده، وهي معروفة، ووجه البناء أنه كما يتعذر تسليم الجارية بالهلاك والاستحقاق بتعذر الوصول إلى الخدمة بموت العبد، وكذا يموت المولى فصار نظيرها). قال السروجي -عن قوله: وكذا بموت المولى فصار نظيرها -قال عيسى: هذا غلط بل يأخذونه بما بقي من الخدمة، لأن الخدمة دين عليه، فيخلفه وارثه فيه بعد موته، كما لو كان أعتقه على ألف درهم واستوفى بعضه ثم مات كان للورثة أن يأخذوه بما بقي من الألف. قال: ولكن في ظاهر الرواية يقول الناس يتفاوتون في الخدمة، وكان الشرط أن يخدم المولى وقد فات بموته كما يفوت بموت العبد قبل تمام المدة. انتهى كلام السروجي.

ويمكن أن يجاب عن هذا بأن العبد يخدم باختياره فلا يضر تفاوت الناس في الخدمة، فيخدم حسب طاقته باختياره، ولهذا قال السروجي: إلا أن هذا العذر ليس بقوي، فإن الخدمة عبارة عن خدمة البيت وهي معروفة عند الناس لا يتفاوتون فيها، فلا فوت بموت المولى، ولكن الأصح أن يقول: الخدمة عبارة عن المنفعة وهي لا تورث فلا يمكن إبقاء الخدمة بعد موت المولى. انتهى. ويمكن أن يقال: ما المانع من إرث المنافع، وقد ورد في السنة ما يشهد لصحة استحقاق المنافع لغير المعتق، وهو حديث سفينة أبي عبد الرحمن -رضي الله عنه -قال: "أعتقتني أم سلمة -رضي الله عنها -وشرطت علي أن أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم -ما عاش"رواه أحمد وابن ماجه، وفي لفظ "كنت مملوكًا لأم سلمة، فقالت: أعتقك وأشترط علي ما فارقت النبي -صلى الله عليه وسلم -ما عشت، فأعتقتني واشترطت علي" رواه أبو داود. والوصية بالمنافع جائزة، وهي أخت الميراث، وسيأتي الكلام على بقاء الإجارة بعد موت المستأجر -إن شاء الله تعالى -.

قوله: (لأن اشتراط البدل على الأجنبي في الطلاق جائز، وفي العتاق لا يجوز، وقد قررناه من قبل). يشير إلى ما ذكره في باب الخلع، ولم يذكر هناك سوى قوله: لأن اشتراط بدل الخلع على الأجنبي صحيح. وليس في ذلك تقرير بل مجرد دعوى، وقد قرر غيره الفرق بينهما بأن الأجنبي في الطلاق كالمرأة، فإن المرأة في الطلاق لا تملك شيئًا بل يسقط ملك الزوج عنها، فذلك الأجنبي، بخلاف الإعتاق فإن العبد بالإعتاق يملك نفسه، وتثبت فيه قوة حكمية لم تكن قبل ذلك والأجنبي ليس كذلك، وفيه نظر ليس هذا محل ذكره، وإنما المراد هنا التنبيه على أن صاحب الهداية ادعى هنا أنه قرر المسألة فيما تقدم وليس كذلك. * * *

باب التدبير

باب التدبير قوله: (ولنا قوله -عليه السلام -"المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث"). أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر، وقال: رواته ضعفاء والصحيح أنه موقوف على ابن عمر، ولكن لم يذكر فيه: ولا يورث. وضعفه أيضًا عبد الحق وغيره، وقد نقل السروجي عن ابن قدامة أنه نقل في المغني عن ابن عمر -رضي الله عنهما -: أن المدبر لا يجوز بيعه، ولا هبته، ولا إخراجه عن ملكه إلا إلى الحرية، وإنما نقل ابن قدامة في المغني وابن المنذر في الإشراف -عن ابن عمر -كراهة ذلك. ولكن الظاهر أن المراد من الكراهة عدم الجواز، بدليل الحديث المذكور، فإن الدارقطني صحح وقفه عليه كما تقدم، ونقله السروجي بالمعنى.

ومذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إنه يباع في الدين وغيره مع الحاجة وعدمها. استدل من قال بعدم لزوم التدبير بحديث جابر -رضي الله عنه -"أن رجلاً أعتق غلامًا له عن دبر فاحتاج، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه" متفق عليه. وفي/ لفظ قال: "أعتق رجل من الأنصار غلامًا عن دبر وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بثمانمائة درهم، فأعطاه فقال: اقض دينك وأنفق على عيالك" رواه النسائي، ورواه أبو حنيفة -رحمه الله -في مسنده مختصرًا عن جابر -رضي الله عنه -ولفظه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -باع المدبر"

وبيع المدبر مروي عن عائشة -رضي الله عنها -. وحديث ابن عمر لا يصلح لمعارضة حديث جابر، وقول من قال: إنه يحمل الحديث على المدبر المقيد، أو أن المراد أنه باع خدمة العبد من باب دفع الصائل، لأنه لما اعتقد أن التدبير عقد لازم سعى في تأويل ما يخالف اعتقاده من السنة على خلاف تأويله، والنص مطلق فيجب العمل بإطلاقه، إلا لمعارضة نص آخر يمنع من العمل بإطلاقه. قوله: (ولأنه سبب الحرية، لأن الحرية تثبت بعد الموت، ولا سبب غيره، ثم جعله سببًا في الحال أولى لوجوده في الحال، وعدمه بعد الموت، ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية المتصرف، فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية بخلاف سائر التعليقات لأن المانع من السببية قائم قبل الشرط، لأنه يمين، واليمين مانع، والمنع هو المقصود، وأنه يضاد وقوع الطلاق والعتاق فأمكن تأخير السببية إلى زمان الشرط لقيام الأهلية عنده فافترقا).

فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: لأنه سبب الحرية، لأن الحرية تثبت بعد الموت ولا سبب غيره. فإن هذا حكم كل معلق بشرط، فإنه قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإذا جاء غد فأننت حر، هو سبب العتق، وإن تأخر العتق إلى وجود الشرط المعلق به ومع هذا لا يمتنع إخراجه عن ملكه قبل وجود الشرط فكذا هذا. وقد أجابوا عن هذا -بالفرق بين التدبير وبين سائر التعليقات -بأن الموت كائن لا محالة، وأورد على هذا الجواب: أن مجيء الغد في قوله: إذا جاء غد فأنت حر كائن لا محالة، ومع هذا يجوز له إخراجه عن ملكه قبل مجيء الغد فكذا يجب أن يكون حكم التدبير، وأجيب عن هذا بأنه يحتمل أن تقوم الساعة قبل مجيء الغد، فلم يكن مجيء الغد كائنًا لا محالة. ولا يصح هذا الجواب، لأن أشراط الساعة لم تأت بعد، ولا يقال يحتمل أن يمتد ذلك اليوم حتى توجد فيه الأشراط، لأن مكث الدجال أربعين يومًا لا يتصور أن يكون ذلك في يوم، وكذلك مكث عيسى -عليه السلام -أربعين سنة وغير ذلك ومحال أن يتصور يومان في يوم فكيف بأربعين يومًا، فكيف بأربعين سنة، وإذا انتهى البحث إلى مثل هذه المحالات تحقق الانقطاع. الثاني: قوله: ثم جعله سببًا في الحال أولى، لوجوده في الحال وعدمه عند الموت. فإن هذا أيضًا حكم كل معلق بشرط، إذ التعليق موجود في الحال

معدوم عند وجود الشرط، فإن قيل: إن مراده عدم تصوره بعد الموت فلا يمكن تقديره منه، قيل فهو التعليل الذي علل به بعده، وهو قد عطفه عليه والعطف يقتضي المغايرة، وسيأتي التنبيه عليه في الوجه الثالث وهو قوله: ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية التصرف فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية. فإن التدبير له شبهان، شبه بالتعليق، وشبه بالوصية، وقد تقدم -في باب العتق على جعل -أنه تعليق، نظرًا إلى اللفظ، ومعاوضة نظرًا إلى المقصود، ثم قال -هناك فعلى هذا يدور الفقه، وتخرج المسائل. نظيره الهبة بشرط العوض. فيجب أن يقال -هنا كذلك -إنه بالنظر إلى كونه تعليقًا لا يملك الرجوع عنه، وبالنظر إلى كونه وصية يصح إضافته إلى ما بعد الموت، وكأنه أوصى له برقبته، ولهذا ينفذ من الثلث، وله أن يتصرف في ثلث ماله وإن تأخر نفاذ تصرفه إلى ما بعد الموت، وكل من التعليق والوصية لا يمنع من إخراجه عن ملكه قبل الموت. الثالث: قوله: بخلاف سائر التعليقات لأنه المانع من السببية قائم قبل الشرط لأنه يمين إلى آخره. فإنه قد فرق الأصحاب وغيرهم بين الإضافة إلى الزمان والتعليق بالشرط، فلو قال: أنت حر غدًا، لم يكن هذا من باب التعليق بالشرط، بل هو إعتاق مضاف إلى الغد، والتعليق بالشرط نوعان: ما أريد به الحض أو

المنع فهو يمين، وما لم يرد به ذلك فليس بيمين، بل هو تعليق محض كما لو قال: إن شفى الله مريضي فأنت حر،/ فإن هذا وأمثاله ليس فيه معنى اليمين، ففسد قوله: بخلاف سائر التعليقات إلى آخره. إذ قد عرف أن التعليق منه ما فيه معنى اليمين ومنه ما ليس فيه معنى اليمين، وليس كل تعليق يمينًا، والنوع الذي فيه معنى اليمين لا يشبه التدبير، ولا كلام فيه، وإن كان الصحيح فيه أن اليمين سبب للكفارة، والحنث شرط لما يأتي التنبيه عليه في كتاب الأيمان -إن شاء الله تعالى -. قوله: (ولأنه وصية، والوصية خلافة في الحال كالوراثة). فيه نظر، فإن للموصي أن يرجع عن وصيته ويبطلها، فاعتبارها بالوصية حجة للخصم لا عليه. وقد أجيب عن هذا الإلزام بأن الوصية هنا تبرع بالعتق، وغيرها من الوصايا تبرع بالمال، التبرع بالمال لا يقع لازمًا، فسببه أيضًا لا يكون لازمًا، فلم يمتنع إبطاله بالبيع ونحوه. وأما العتق فلا يثبت إلا لازمًا، فالسبب الذي يوجب لا ينعقد إلا لازمًا يمنع جواز البيع. ورد هذا الجواب: بأن التبرع بالمال يقع لازمًا للزوج والقريب غير الولد

اتفاقًا، ولغيرهما عند من يمنع من الرجوع في الهبة، وسيأتي الكلام في ذلك -إن شاء الله تعالى -، فساوى الإعتاق من هذا الوجه، ولئن كان الإعتاق لا يثبت إلا لازمًا، فلا يلزم أن كل لفظ يوجبه لا ينعقد إلا لازمًا كما في الوصية بالإعتاق والتدبير المقيد وتعليق العتق بالشرط. وقوله: والوصية خلافة في الحال كالوراثة. ممنوع، بل الوصية خلافة بعد الموت، ولهذا جاز للموصي التصرف في الموصي به، وإنما حصل الخلاف في التدبير، ولا يصح الاستدلال بمحل النزاع. * * *

باب الاستيلاد

باب الاستيلاد قوله: (ولنا أن وطء الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد، لوجود المانع عنه، فلابد من الدعوة). جمهور العلماء على أن الأمة تصير فراشًا بالوطء، الأئمة الثلاثة وغيرهم، إلا ما يروى عن مالك -رحمه الله -أنه جعل الأمة السرية -التي تشترى للوطء عادة -فراشًا بمجرد الشراء مع إمكان الوطء وإن لم يعترف بالوطء. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري -رحمهما الله -: إن الأمة لا يثبت نسب ولدها من سيدها ولو اعترف بوطئها حتى يدعيه، فإذا ادعاه صارت أم ولده، فإذا ولدت بعد ذلك ولدًا ثبت نسبه بغير دعوة، ولو نفاه انتفى وعند غيره لا

ينتفي ولد الأمة مطلقًا، أم ولد كانت أو لم تكن بمجرد النفي إلا أن يقول: استبرأتها بعد الوطء بحيضة قبل الولادة بستة أشهر، وحجتهم -على أن الأمة تصير فراشًا بمجرد الوطء -حديث عائشة -رضي الله عنها -قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة، قال: فلم ير سودة قط" رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي رواية أبي داود

ورواية للبخاري "هو أخوك يا عبد" فسبب الحكم بأن الولد للفراش إنما كان في الأمة، فلا يجوز إخلاء الحديث منه، وحمله على الحرة التي لم تذكر، وإنما كان في غيرها، والزوجة إنما سميت فراشًا بمعنى، هي والأمة الموطوءة فيه سواء، ولم يثبت قط أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك، ولا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -عن ذلك ولا استفصل، وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال. وقول من قال: إنما ألحقه بالأخ استحلقه، يرده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -صرح عقيب حكمه بإلحاق النسب بأن الولد للفراش معللاً بذلك، منبهًا على قضية كلية عامة تتناول هذه الواقعة غيرها. وقول من قال: "إن قوله هو لك" أي مملوك، يرده: قوله في الرواية الأخرى المذكورة "هو أخوك يا عبد"، وعند الإمام أحمد "أما الميراث فله، وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ". والعجب كيف لا يجعل المستفرشة فراشًا، ويجعل/ من لم تستفرش فراشًا وهي التي علق طلاقها بتزوجها ثم تزوجها ثم جاء بولد لستة أشهر، وقوله -صلى الله عليه وسلم -لسودة: "احتجبي منه" لا ينافي ثبوت نسبه، بل أعمل الفراش في ثبوت حكم النسب، وأعمل الشبه في ثبوت حكم الاحتجاب وجعله أخًا في الميراث، وقال: "ليس لك بأخ" للشبهة، كيف وإن حجاب أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -

منيع، وعن ابن عمر أن عمر قال: "ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعزلون، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها ألحقت به ولدها فاعتزلوها بعد أو اتركوا" رواه الشافعي. وقوله: إن وطء الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد لوجود المانع. فيه نظر، فإن المقاصد تختلف، ولو كان المقصود قضاء الشهوة دون الولد، فلا يمنع هذا القصد من وجود الولد بعد وجود الوطء الذي هو سبب وجود الولد ولو عزل، فإن الولد لا يكون من كل الماء وإنما يكون من بعضه، فقد يسبق منه نطفة يكون منها الولد، وهو يعزل، قال -صلى الله عليه وسلم -: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء" رواه أحمد وأبو داود، وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -قال: "أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: أو إنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثًا! ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" متفق عليه. وفي صحيح مسلم أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: عندي جارية وأنا أعزل عنها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -:

إن ذلك لا يمنع شيئًا أراده الله، قال: فجاء الرجل فقال يا رسول الله إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أنا عبد الله ورسوله". وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -قال "كنت أعزل عن جاريتي فولدت أحب الخلق إلي" يعني ابنه، والعجب أن المصنف علل لوجوب الغسل -في كتاب الطهارة -بالتقاء الختانين من غير إنزال بأنه سبب الإنزال، ونفسه تتغيب عن بصره، وقد يخفى [عليه] لعلته فتقام مقامه، ومقتضى هذا التعليل ثبوت النسب من الأمة بعد الوطء وإن لم يعلم بالإنزال، وعدم ثبوته تناقض بين. قوله: (لحديث سعيد بن المسيب "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أمر بعتق أمهات الأولاد، وأن لا يبعن في دين ولا يجعلن من الثلث"). قال السروجي: لا أصل له عن سعيد بن المسيب. انتهى، ولكن رواه عبد الملك بن حبيب في كتابه عن سعيد بن المسيب، عبد الملك بن حبيب

تكلم فيه جماعة من المالكية سحنون وغيره واتهموه في نقله، وقد ورد في النهي عن بيع أمهات الأولاد حديث ابن عمر -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -"أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع منها السيد ما دام حيًا فإذا مات فهي حرة" رواه الدارقطني، ورواه مالك في الموطأ، والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر من قوله، وهو أصح. وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه" رواه أحمد وابن ماجه. وعنه -رضي الله عنه -قال: "ذكرت أم إبراهيم عند النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: أعتقها ولدها" رواه ابن ماجه والدارقطني، والحديثان قد ضعفهما أهل

الحديث. وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر -رضي الله عنه -أنه قال في أم الولد: أعتقها ولدها وكذا رواه الدارقطني عن عمر [من] قوله. وقال البيهقي بعد أن تكلم على الحديث: فرجع الحديث إلى قول عمر -رضي الله عنه -فإن الثابت في المنع من بيع أمهات الأولاد إنما هو عن عمر نفسه، ولم يثبت في المنع من بيعهن حديث صريح مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنه لو حكم حاكم بصحة بيع أم الولد نفذ حكمه، ولكن يجب تقييد هذا الإطلاق، ويستثنى منه ما لو مات سيدها عن

ابنه منها، فإنه لا خلاف في عتقها والحالة هذه، وفي بيع أم الولد ثمانية أقوال. ثالثها/: لسيدها بيعها فإذا مات عتقت. رابعها: أنها تباع في الدين. خامسها: أنه يجوز بيعها بشرط العتق ولا يجوز بغيره. سادسها: أنها إن عفت واتقت لم يجز بيعها، وإن فجرت أو كفرت جاز بيعها. سابعها: الوقف في أمرها. ثامنها: أنها تباع ولكن إن مات سيدها وولدها منه حي عتقت من نصيبه ولا ينبغي أن ينفذ هذا القول، فإن من يجيز بيعها مطلقًا لابد أن

يستثني هذه الحالة، اللهم إلا أن يكون مع ولدها منه وارث آخر وولدها معسر ولا يكيفه نصيبه من التركة لغرامة بقية قيمتها فيمكن حينئذ أن يقال: إنه يباع منها ما خلا نصيب ولدها على قول من لا يرى السعاية مع الإعسار. قوله: (ولأن أمومية الولد باعتبار علوق الولد حرًا لأنه جزء للأم في تلك الحالة، والجزء لا يخالف الكل). فيه نظر فإن الجزء المنفصل ليس كالمتصل، والمخالفة في أم الولد بين الجزء والكل ثابتة لأن الولد علق حر الأصل ولم يمسه رق، وأم الولد رقها مستمر حتى يموت سيدها فقد خالف الجزء الكل. قوله: (ولنا كتاب عمر -رضي الله عنه -إلى شريح في هذه الحادثة "لبسًا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما، هو ابنهما يرثهما ويرثانه وهو للباقي منهما" وكان ذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم -وعن علي مثل ذلك). لا نعرف هذا كله عن عمر ولا عن علي -رضي الله عنهما -ولكن قال

سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عمر -رضي الله عنه -"في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعًا، فجعله بينهما". قال الشعبي: وعلي يقول: هو ابنهما وهما أبواه يرثانه. ذكره سعيد أيضًا. وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلامًا يشبهها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -فدعا القافة فنظروا فقالوا: نراه يشبههما، فألحقه بهما، وجعله يرثهما ويرثانه.

وروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير "أن رجلين ادعيا ولدًا، فدعا عمر القافة واقتدى في ذلك ببصر القافة وألحقه أحد الرجلين". ثم ذكر أيضًا عبد الرزاق بعد ذلك عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: "لما دعا عمر القافة فرأوا شبهه فيهما، ورأى عمر مثل ما رأت القافة قال: قد كنت أعلم أن الكلبة تلقح الأكلب فيكون كل جرو لأبيه، ما كنت أرى أن ماءين يجتمعان في ولد واحد". وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه -قال: "أتي علي -رضي الله عنه -وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين فقال: تقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم -فضحك حتى بدت نواجذه" رواه الخمسة إلا الترمذي، ورواه أبو داود والنسائي موقوفًا على

علي بإسناد أجود من إسناد المرفوع، وكذا رواه الحميدي في مسنده وقال فيه "فأغرمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه". وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم فذهب إليه إسحاق بن راهويه وكان الشافعي يقول به في القديم، ورجح أحمد عليه حديث القافة. وقيل: يعمل بهذا إذا فقدت القافة، والمسألة معروفة. والمراد هنا التنبيه على أن ما عزاه المصنف إلى عمر وعلي -رضي الله عنهما ليس كما قال، وجمهور العلماء على العمل بالقافة. قوله: (وإذا وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه، فإن صدقه المكاتب ثبت نسب الولد منه، وعن أبي يوسف أنه لا يعتبر تصديقه

اعتبارًا بالأب يدعي ولد جارية ابنه، ووجه الظاهر -وهو الفرق -أن المولى لا يملك التصرف في أكساب مكاتبه حتى لا يتملكه الابن، والأب يملك تملكه ولا يعتبر تصديق الابن). قول أبي يوسف -رحمه الله -أظهر، وهو قول سائر العلماء والفرق الذي فرق به فيه نظر، فإن للمولى في المكاتب ملك الرقبة، وليس للأب على الابن ملك الرقبة، ولا ملك اليد/ بل للأب في مال الابن حق التملك، وحق الملك أقوى من حق التملك، فلما ثبت للأب نسب الولد من جارية الابن بدون الملك على الولد وعلى جاريته بغير تصديق الابن فلأن يثبت للمولى نسب الولد من جارية المكاتب بغير تصديق المكاتب -مع حق الملك في المكاتب -أولى، ألا ترى أن المولى لو أعتق المكاتب يصح مع أنه لا عتق فيما لا يملك ابن آدم، ولئن كان المولى يعتقد الكتابة حجرًا على نفسه عن التصرف في كسب المكاتب -والدعوة تصرف -فمقتضاه أن لا يثبت النسب ولو صدق المكاتب، لأن التصديق لا يرفع الحجر ولا يستفيد به المولى ما لم يكن ثابتًا، فاستوى وجوده وعدمه، وغايته أنه اعترف له أنه صادق في دعواه أنه وطئها فكان ماذا؟ هل ملكه الأمة بذلك التصديق، وهب أنه كذبه، فأقام البينة على الوطء، هل تكون البينة بمنزلة التصديق مع أن الثابت بالبينة أقوى من الثابت بالتصديق، فظهر ضعف اشتراط التصديق. * * *

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان قوله: (فالغموس: الحلف على أمر يتعمد الكذب فيه). لكان أولى لأن تقييده بالماضي غير صحيح بل الحلف على أمر في الحال يتعمد الكذب فيه كذلك كما لو قال: والله ما لهذا علي دين وهو يعلم خلافه. قوله: (لقوله -عليه السلام -"من حلف كاذبًا أدخله الله النار"). هذا الحديث منكر وكأنه مأخوذ بالمعنى من حديث الأشعث بن قيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان" متفق عليه. أو من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين مصبورة كاذبًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه أبو داود.

قوله: (لقوله -عليه السلام -: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق واليمين"). المحفوظ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب والله أعلم. * * *

باب: ما يكون يمينا وما لا يكون

باب: ما يكون يمينا وما لا يكون قوله: (واليمين بالله تعالى أو باسم من أسمائه كالرحمن والرحيم، أو بصفة من صفاته التي يحلف بها عرفًا كعزة الله وجلاله وكبريائه لأن الحلف بها متعارف). في التعليل -بأن الحلف بها متعارف -نظر، سواء كان الضمير في قوله: لأن الحلف بها متعارف. يعود إلى الأسماء والصفات أو إلى الصفات وحدها، لأن الأسماء التي لا يسمى بها غير الله تعالى كالله، والرحمن، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، والذي لا إله إلا هو، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ورب السماوات والأرض، ونحو ذلك. يكون الحلف بها يمينا بكل حال، وكذلك الصفات التي لا يحتمل أن تكون غير صفاته كعزة الله وعظمته وجلاله وكبريائه وكلامه، فإنها تنعقد بها اليمين بكل حال، ولا يحتاج في شيء من ذلك إلى العرف، بخلاف ما قد سمي به غير الله كالحي والمؤمن والكريم فمثل هذا إذا قيل: يعتبر في اليمين به العرف أو نية الحالف ساغ التعليل، وكذلك ما يعبر به من صفات الله عن غيرها كعلم الله وقدرته فإنه قد يستعمل في المعلوم والمقدور اتساعًا كما يقال: اللهم اغفر علمك فينا، ويقال انظر إلى قدرة الله، وكذلك صفات الفعل كخلق الله ورزقه ففي مثل ذلك يجري التعليل بالتعارف وعدمه.

قوله: (إلا قوله: وعلم الله، فإنه لا يكون يمينًا، لأنه غير متعارف، ولأنه يذكر ويراد به المعلوم). يرد على تعليله -بأنه يذكر ويراد به المعلوم -أن القدرة تذكر ويراد بها المقدور، فإن سلم له أن العرف فرق بينهما، فاعتبر الحلف بالقدرة يمينًا دون العلم، لم يسلم له التعليل بأنه يذكر ويراد به المعلوم. قوله: (وكذا إذا حلف بالقرآن لأنه غير متعارف). ينبغي أن يكون الحلف بالقرآن يمينًا لأنه قد صار متعارفًا في هذا الزمان، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم، ولا يلتفت إلى من علل كونه ليس يمينًا بأنه غير الله على طريقة المعتزلة وقولهم بخلقه فإن

ذلك لازمه الكفر على ما عرف أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. قوله: (وكذا إذا قال: لله، في المختار، لأن الباء تبدل بها/ قال الله تعالى {آمنتم له} أي آمنتم به). فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن اللام في قولهم: لله. في القسم ليس بمنزلة الباء من كل وجه، قال ابن مالك في شرح الشافية الكافية: وجروا المحلوف به في التعجب باللام كقولهم: لله لا يؤخر الأجل. بمعنى تالله. ومنه قول الشاعر: لله يبقى على الأيام مبتقل ... جون السراة رباع سنه غرد

ويروى: تالله. انتهى. الثاني: أن معنى اللام في قوله تعالى {آمنتم له} ليس هو بمعنى الباء في قوله {آمنتم به}. بل معنى قوله {آمنتم له}: أي أصدقتموه؟ والضمير يعود إلى موسى قولاً واحدًا، وأما {آمنتم به} فالضمير في (به) يعود إلى رب العالمين، فإن السحرة لما قالوا {آمنا برب العالمين * رب موسى وهرون} قال فرعون {آمنتم به} أي آمنتم برب العالمين، وقيل إن الضمير في: به، يعود إلى موسى كما في قوله {آمنتم له}. ولكن ليس معناها واحدًا بل في الإيمان به معنى زائد على الإيمان له وهو الطاعة والانقياد والإقرار، وكلا المعنيين يصح هنا، لأن موسى -عليه السلام -ادعى الرسالة لنفسه وهو صادق في دعواه فصح أن يقال: أصدقتموه في قوله؟ وأن يقال: أصدقتموه وأطعتموه وأقررتم به؟ بخلاف من يدعي الرسالة لغيره، كمن قال: موسى رسول الله! صح أي يقال: آمنت لمن قال هذا، ولا يقال: آمنت بمن قال هذا من المؤمنين، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولهذا قال تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} وقال تعالى عن إخوة يوسف: {وما أنت بمؤمنٍ لنا} وفي هاتين الآيتين لا يصح دخول الباء عوضًا عن اللام، فلا يقال: ويؤمن

بالمؤمنين، ولا بمؤمن لنا، لأنه لا يصح أن يكون فيه معنى زائد على التصديق من الطاعة والانقياد والإقرار، والأصل أن مل حرف من حروف الجر يستعمل بمعنى يخصه. قوله: (ولهما أنه يراد به طاعة الله، إذ الطاعات حقوقه، فيكون حلفًا بغير الله). يعني قوله: حق الله، وقول أبي يوسف -رحمه الله -أنه يكون يمينًا أقوى فإن الضابط قد تقدم ذكره في أول الباب أن ما كان من صفات الله تعالى يعبر به عن غيرها، يعتبر فيه العرف، ولهذا حل الفرق بين علم الله وقدرة الله، وإذا كان الحلف بقدرة الله، يكون يمينًا للتعارف فكذلك الحلف بحق الله، ولا فرق بينهما إذ كل منهما قد يطلق على غير صفة الله، ولكن جرى العرف بالحلف بها فيكون يمينًا. قوله: (والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين).

يعني إذا حلف بملة غير الإسلام غموسًا أو منعقدة وفي تصحيحه في الغموس نظر الحديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال" أخرجاه في الصحيحين. قوله: (وكذا إذا قال: إن فعلت كذا فأنا زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا لأن حرمة هذه الأشياء تحتمل النسخ والتبديل، فلم يكن في معنى حرمة الاسم، ولأنه ليس بمتعارف). في تعليله الأول نظر فإن حرمة الزنا والسرقة لا تحتمل النسخ، وقد اعتذر السنغاقي عن هذا: بأن الفعل المقصود بالزنا والعين المقصودة بالسرقة جاز أن يكون حلالاً له بوجه النكاح وملك اليمين، فسمى احتمال انقلابها من الحرمة إلى الحل بالسبب الشرعي نسخًا وتبديلاً.

فصل في الكفارة

وهذا تأويل فاسد لأن مثل هذا لا يسمى زنا ولا سرقة لا حقيقة ولا مجازًا وأيضًا فلو كان مثل هذا الانقلاب يسمى نسخًا لكان الترخص بإجراء كلمة الكفر بعذر الإكراه نسخًا ولشابه حرمة الاسم بذلك. وقال الخبازي في حواشيه: إن المراد أنه يقبل النسخ والتبديل عقلاً. وهذا لا يتأتى على قول أبي حنيفة وإنما يتأتى على قول الأشعري وهو يقول بالجواز العقلي في الشرك أيضًا فلا يحصل له بهذا العذر غرضه من الفرق، ولو علل بأن مثل هذه الأسماء لا تقبل/ التعليق فلا يصح أن تكون يمينًا -لأنها لا يتصف بها إلا من فعلها بخلاف قوله: فهو يهودي أو نصراني ونحو ذلك -لكان أولى. فصل في الكفارة: قوله: (لكن مالا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الطعام باعتبار

القيمة). في ظاهر الرواية يجزئه عن الطعام بغير نية. وعن أبي يوسف -رحمه الله -: إذا نوى أن يكون بدلاً عن الطعام يجزئه عنه إلا فلا. وقال زفر: لا يجزئه عن الطعام نوى أو لم ينو، ذكره في الذخيرة، وعند الأئمة الثلاثة: لا تجزئه القيمة في الكفرة، وفي إجزاء مالا يجزي من الكسوة عن الإطعام من غير نية بعد زائد، وإن كان دفع القيمة في الكفارة جائزُا ولو دفع الكسوة بنية الإطعام لكان في الإجزاء عنه إشكال فكيف ولم ينوه والله تعالى خير المكفر بين خصال ثلاث، فإذا اختار المكفر أحدها وهو

الكسوة، صار كأنه هو الواجب عليه ابتداءً، وتنحى الإطعام والتحرير فعليه أن يؤدي الخصلة التي اختارها على وجه الكمال، وكيف يكون له غير ما أراده و"الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فيظهر رجحان قول أبي يوسف على الطرفين. قوله: (ولنا الكفارة لستر الجناية، واليمين ليست بسبب لأنه مانع غير مفض بخلاف لأنه مفض). فيه نظر فإن الله تعالى كما سماها كفارة سماها تحلة قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقال تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} فالعقد سبب الحل عن المعقود عنه ليمكنه فعله فيكون الحنث شرطًا لا سببًا فيجوز التكفير قبله، وأيضًا فإن الله تعالى قال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} فأضافها إلى اليمين، والإضافة أمارة السببية، وأوضح منه أنه أضافها إلى عقد اليمين فقال: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته} وكذلك أضافها إلى اليمين حين سماها تحلة فقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} ولم يضفها إلى الحنث، وأيضًا فقد قال

صاحب الهداية وغيره في كتاب الرجوع عن الشهادات: إذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا فالضمان على شهود اليمين خاصة، لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض وهذا تناقض بين، ولهذه المسألة نظائر: أحدها: تعجيل الزكاة قبل الحول. الثانية: التكفير قبل سراية الجرح. الثالثة: العفو عن القصاص قبل التلف. الرابعة: إسقاط الشفيع حقه من الشفعة قبل البيع. والخلاف في هذه المسائل والكلام عليها معروف، وسيأتي الكلام في مسألة الشفعة -إن شاء الله تعالى -. وقد قال ابن المنذر في الإشراف: واختلف أهل العلم في كفارة اليمين قبل الحنث وبعده فرخصت طائفة أن يكفر المرء عن يمينه قبل الحنث كان ابن عمر يكفر قبل الحنث أحيانًا وبعده أحيانًا وممن روينا عنه أنه رخص في الكفارة قبل الحنث ابن عباس وعائشة وابن سيرين والحسن وكان ربيعة ومالك والأوزاعي وابن المبارك والثوري يرون التكفير قبل الحنث جائزًا، غير أن مالكًا والثوري والأوزاعي استحبوا أن يكفر بعد الحنث وكان

أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وسليمان بن داود وأبو خيثمة يرون الكفارة قبل الحنث تجزئ، وقال أصحاب الرأي لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، وفيه قول ثالث قاله الشافعي قال: إن كفر قبل الحنث بالطعام تجزئ وإن كفر بصوم لم يجزه. قال أبو بكر: جاءت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بألفاظ شتى، ففي بعضها أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وفي بعضها أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "وكفر عن يمينك وائت الذي هو خير"

قال أبو بكر: أي ذلك فعل يجزئه انتهى. والأخبار التي أشار إليها ثابتة في الصحيحين والسنن والمسانيد، واللفظ الذي ذكره في حديث عبد الرحمن بن سمرة، وفي بعض ألفاظ الحديث "إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" رواه النسائي وأبو داود، وهو/ صريح في تقديم الكفارة، لأنه بـ "ثم" المقتضية للترتيب، وهذا يد قول من قال: إن ما رواه الشافعي محمول على التقديم والتأخير، وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفرها وليأت بالذي هو خير" رواه مسلم وفي لفظ له "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا

منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير" رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، وفي لفظ "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" رواه مسلم. وعن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير" وفي لفظ "إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" متفق عليه والله أعلم. قوله: (لقوله -عليه السلام -"من حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه"). الحديث قد روي بروايات مختلفة وليس فيها ما ذكره المصنف -رحمه الله -من قوله "ثم ليكفر يمينه" وكأنه انقلب عليه الحديث، وإنما روي بـ "ثم" كما تقدم "إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير". قوله: (ولأن فيما قلنا تفويت البر إلى جابر وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده). يعني أن الحنث معصية والكفارة جابرة لهذه المعصية، فإذا قدمت

الكفارة على الحنث يبقى بلا جابر، ولأن الجابر لا يتقدم على المجبور، فكأنه قال: ولا جابر للمعصية في ضد الذي قلناه، وهو تقديم الكفارة على الحنث، وفي ذلك نظر، فقد تقدم أن الله تعالى قد سماها تحلة أيضًا وهي تفعلة من الحل، أي يحل ما عقده على نفسه من اليمين، وأيضًا فالحنث قد يكون فرضًا كما إذا حلف لا يصلي الفرض أو لا يصوم رمضان ونحو ذلك، وقد يكون مستحبًا كما إذا كانت اليمين على أمر مستحب وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم -"فرأى غيرها خيرًا منها" وأيضًا فلو كان هذا المعنى صحيحًا لما جاز تقديم الكفارة على سراية الجرح، لأنها كفارة قتل لا كفارة جرح، وكذلك تقديم الزكاة على الحول وما أجيب به عن ذلك لا يلزم منه نفي جواز تقديم الكفارة على الحنث إذا عزم عليه وتكون الكفارة جابرة لعزمه على الحنث كما أن الكفارة في الظهار متعلقة بالعزم على الوطء الذي هو العود إلى ما نهي عنه، فإن المظاهر لا يجب عليه الكفارة بمجرد الظهار وإنما يجب بالعزم على جماع التي ظاهر منها واستمراره على ذلك حتى لو انفسخ عزمه، أو ماتت الزوجة بعد العزم أو مات الزوج انتفى الوجوب ولو وطئ من ظاهر منها لا يلزمه أكثر من الكفارة فكذلك إذا عزم على الحنث يشرع له التكفير وإن كان يجوز له تقديم الحنث على التكفير، لأن تقديم التكفير على المسيس

مشروط بالنص دون تقديم الحنث، فالحاصل أن العزم على الحنث له نظير في تعلق الكفارة به ولو لم يكن له نظير لكان ما دلت عليه السنة من جواز تقديم الكفارة على الحنث كافيًا، ويكون الشارع قد ألغى الفارق بين التكفير قبل سراية الجرح، والتكفير قبل الحنث لمانع منه من اعتباره وهو: أن هتك حرمة الاسم كما يكون بالحنث يكون بالعزم عليه ولكن يستقى اللزوم بالحزم وإن لم تكن اليمين مفضية إلى الحنث، فالعزم على الحنث مفض إلى الحنث غالبًا كالجرح في إفضائه إلى إزهاق الروح فسلم الجامع. قوله: (لقوله -عليه السلام -"من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى"). هذا حديث منكر وعمومه مخصوص فقد يكون المسمى معصية أو مباحًا وقد يكون غير مملوك للناذر، وقد يريد به اليمين أو لا يطيقه، وكل ذلك قد وردت السنة فيه بخلاف ما ذكره في هذا الإطلاق فعن عائشة -رضي الله عنها -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" وعن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "بينا النبي -صلى الله عليه وسلم -يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل/ نذر أن يقوم في الشمس

ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" رواه البخاري وابن ماجه وأبو داود. وعن ثابت بن الضحاك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "ليس على الرجل نذر فيما لا يملك" متفق لا يملك" متفق عليه. وعنه أيضًا أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: "إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود. وعن عائشة -رضي الله عنها -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لا نذر في معصية،

وكفارة كفارة يمين" رواه الجماعة، واحتج به أحمد وإسحاق. وعن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين" رواه أبو داود. وع عقبة بن عامر -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة يمين" رواه أحمد ومسلم. وعنه أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة

يمين" رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. وعن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من نذر نذرًا فلم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين" رواه أبو داود وابن ماجه وزاد "ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به". وعن أنس -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -"رأى شيخًا يهادى بين ابنيه، قال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب" رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وللنسائي في رواية "نذر أن يمشي إلى بيت الله". وعن عقبة بن عامر قال "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فاستفتيه؟ فقال: لتمش ولتركب" متفق عليه،

الاستثناء في اليمين

ولمسلم: "فيه حافية غير مختمرة" وفي رواية "نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن الله لغني عن مشيها، لتركب ولتهد بدنة" رواه أحمد، وفي رواية "أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرها فلتخمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" رواه الخمسة، وعن كريب عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -فقالت يا رسول الله أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا لتحج راكبة ولتكفر يمينها" رواه أحمد وأبو داود. قوله: (لقوله -عليه السلام -"من حلف على يمين وقال: إن شاء الله تعالى، فقد بر في يمينه").

لم يعرف -في كتب الحديث -قوله "فقد بر في يمينه" وقد روي الحديث بألفاظ منها "لم يحنث" ومنها "فله ثنياه" ومنها "فقد استثنى" ومنها "فلا حنث عليه" ومنها "فهو بالخيار، إن شاء مضى وإن شاء ترك". وفي كونه قوله: فقد بر في يمينه. بمعنى: لم يحنث. نظر، لأن البر بفعل المحلوف عليه، ولم يوجد في صورة الاستثناء، وإنما الاستثناء يمنع انعقاد اليمين، فلا يحنث بفعل المحلوف عليه، وأصل الحديث ثابت في السنن والمساند. قوله: (إلا أنه لابد من الاتصال، لأنه بعد الفراغ رجوع، ولا رجوع في اليمين).

قد تقدم في الطلاق ما في الاستثناء من الخلاف والدليل، ولا ينفع التعليل في مقابلة النص. * * *

باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك

باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك قوله: (ولو قال: إلا أن آذن لك فأذن لها، ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث لأن هذه كلمة غاية فينتهي اليمين به، كما إذا قال: حتى آذن لك). فرق بين قوله لزوجته: إن خرجت إلا بإذني وإن خرجت إلا أن آذن لك وقال: إن الإذن في كل مرة شرط في قوله إلا بإذني، دون قوله: إلا أن آذن لك فيه نظر، ويجب أن يكون -إلا أن آذن -كقوله: إلا بإذني، ويشترط الإذن في كل مرة فيهما، وهذا قول الفراء وهو مذهب أحمد -رحمه الله -. وذلك لأن تقدير: إلا أن آذن لك: إلا بإذني، لأن أن والفعل في تقدير المصدر، وحرف الجر وهو الباء مقدر فيه، كأنه قال: إلا بأن آذن لك، والمقدر في حكم الملفوظ فلا فرق بين قوله إلا بإذني وإلا أن آذن لك والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الاستثناء من الأحوال أي إلا خروجًا/

ملتبسًا بإذني، ومن هنا حصل العموم فإنه نهاها عن كل خروج إلا خروجًا ملصقًا بالإذن، ولهذا كان قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ..} الآية يشترط فيه الإذن في كل مرة كما في قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} وقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} وقوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرًا إلا أن تقولوا قولاً معروفًا} وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم} وإن كان الاستثناء هنا منقطعًا لكن لا يضر في الاستشهاد، ونظائره كثيرة، وتعليله -بأن هذه كلمة غاية فينتهي اليمين به كما إذا قال: حتى آذن لك -فيه نظر أيضًا، وقدمت بيان إعراب هذه الكلمة ولا شك أنها للاستثناء دون الغاية، ولكن الاستثناء هنا من الأحوال ومعناه أنه نهاها عن الخروج على كل حال إلا في حال ملتصقة بالإذن، وحتى آذن لك، وإن كان للغاية لكنه في معنى إلا أن آذن لك وفي معنى إلا بإذني فيحتاج إلى تكرير الإذن فيها، لا أن يكون إلا أن آذن بمعناها، ولا يحتاج إلى تكرير الإذن ولا يمنع كونها للغاية من تكرار الإذن كما في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} فإنه لابد

عند كل دخول من الاستئناس والسلام على أهلها، وكذا قوله تعالى في الآية التي بعدها {فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم} وقولهم إن الأصل أن دخول بيت الغير حرام فلهذا شرط تكرار الإذن. جوابه: أن التحريم ثبت بهذا النهي الذي قد استثنيت من أحواله حالة الإذن وكذلك هذه الزوجة قد صارت بنهي الزوج لها عن الخروج ممنوعة عن الخروج في جميع الأحوال إلا في حالة الإذن، وممنوعة عن كل خروج إلى غاية الإذن. وقولهم: إن اشتراط الإذن في كل مرة هناك إنما علم بآخر الآية وهو قوله تعالى {إن ذلكم كان يؤذي النبي} ومعنى الإيذاء موجود في كل ساعة. جوابه: إن نظير ذلك المعنى موجود هنا أيضًا وهو خروج المرأة بغير إذن زوجها من بيتها يؤذي زوجها فلذلك نهاها أن تخرج من بيته حتى يأذن لها في الخروج أو إلا أن يأذن لها فيه، فالحاصل أن كون حتى للغاية لا يمنع من اشتراط الإذن في كل مرة، فإنها لو خرجت مرة بغير إذن ثم خرجت مرة أخرى بغير إذن، لا يقال إن النهي انتهى بالخرجة الأولى، وتكون الخرجة الثانية غير منهي عنها، فدل أن نهيه عن الخروج إلى غاية الإذن بمنزلة نهيه عن الخروج على كل حال إلا في حال الإذن، إلا أن ينوي خلاف ذلك في الموضعين لأنه نوى محتمل كلامه، والشافعي عكس ذلك وقال: إنه يكتفي بالإذن مرة في الألفاظ كلها إلا أن ينوي خلاف ذلك.

وللمسألة لفظان آخران وهما: بغير إذني، وإلى أن آذن لك، واشتراط الإذن في كل مرة في الكل أظهر، بخلاف ما إذا قال: لا أكلم فلانًا إلا أن يقدم فلان أو حتى يقدم فلان أو إلا أن يأذن فلان أو حتى يأذن، أو قال لرجل قد دخل إليه: والله لا يخرج إلا بإذني حيث لا يتكرر اليمين في هذا كله لأن قدوم فلان مما يتكرر عادة، والإذن في الكلام يتناول كل ما وجد منه بعد الإذن وخروج الرجل الأجنبي مما لا يتكرر بخلاف الإذن للزوجة في الخروج فإنه مما يتكرر، والإذن لا يتناول إلا ذلك الخروج المأذون فيه عادة، والحاكم في ذلك كله العرف وهو على هذا التفصيل والله أعلم. * * *

باب اليمين في الأكل والشرب

باب اليمين في الأكل والشرب قوله: (بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخًا، لأن هجران المسلم بمنع الكلام منهي عنه فلم يعتبر الداعي في الشرع). ينبغي التفصيل في هذا فإن هجر المسلم على وجه التأديب له جائز في الشرع كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم -/ بالثلاثة الذين خلفوا، وكذلك قد يكون في الصبي أو الشاب صفة داعية إلى هجرانه، فقد يكون هجر الصبي لخوف الاتهام به فإذا التحى زال السبب الداعي إلى هجرانه، وقد يكون الشاب فاسقًا يخاف الاتهام بمخالطته فهجر كلامه للبعد عنه فإذا شاخ انكسرت حدته ورجع عما كان عليه، فالجواب بالتفصيل باعتبار الأحوال أحق وأولى. قوله: (ولو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكل بعد ما صار كبشًا حنث لأن صفة الصغر في هذا ليست بداعية إلى اليمين فإن الممتنع عنه أشد امتناعًا عن لحم الكبش).

ينبغي التفصيل أيضًا في ذلك فقد يهجر الحمل لكثرة رطوبته فإن الكبش أقل رطوبة منه فيكون الحمل أكثر ضررًا منه في حق من يضره كثرة الرطوبة فيهجر لذلك. قوله: (وجه الاستحسان -يعني في لحم السمك -أن التسمية مجازية لأن اللحم منشؤه من الدم، ولا دم فيه لسكونه الماء). لو علل بالعرف لكفى، فإن في كون التسمية مجازية نظرًا، كذا قوله: وكذا إذا أكل كبدًا أو كرشًا، لأنه لحم حقيقة فإن نموه من الدم وقوله: وله أنه لحم حقيقة، ألا ترى أن ينشأ من الدم يعني شحم الظهر، وليس بين كونه من الدم وبين تسميته باللحم مناسبة، وإنما سمي باللحم من الالتحام وهو الالتصاق والتداخل، يقال: التحم مناسبة، وإنما سمي باللحم من الالتحام وهو الالتصاق والتداخل، يقال: التحم الشيء بالشيء التصق وتداخل، هذا المعنى موجود في لحم السمك، وجعله حقيقة في القدر المشترك بينهما أولى من جعله مشتركًا أو مجازًا في أحدهما، لكنه لا يسمى في العرف لحمًا، يقال: ما أكلت لحمًا وإنما أكلت سمكًا ومن قال لغلامه: اشتر لي لحمًا فاشترى سمكًا عد مخالفًا، والألية وإن كان منشؤها من الدم لا تسمى لحمًا فانتقض التعليل بالمنشأ من الدم، وكذلك شحم البط.

قوله: (وقالا: إن أكل من خبزها حنث أيضًا لأنه مفهوم منه عرفًا). يعني فيما إذا حلف لا يأكل من هذه الحنطة، وقولهما أظفر تحكيمًا للعرف فإن الحالف لا ينظر إلا إلى العرف والمسألة معروفة. قوله: (وأما العنب والرمان والرطب فهما يقولان معنى التفكه موجود فيها فإنها أعز الفواكه والتنعم بها فوق التنعم بغيرها، وأبو حنيفة -رحمه الله - يقول إن هذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها فأوجب قصورًا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء ولهذا كان اليابس منها من التوابل أو من الأقوات). قولهما أظهر أيضًا، وكونها يتغذى بها ويتداوى بها في بعض الأحيان لا يخرجها ذلك عن كونها من الفواكه ولا يوجب قصورًا في معنى التفكه بل يدل على أنها أفضل الفواكه لكونها تستعمل استعمال الفاكهة، واستعمال الغذاء، واستعمال الدواء وهذا زيادة وصف يوجب الفضل لا القصور في التسمية فإن الوصف الزائد يوجب الفضل لا القصور، وعطفها على الفاكهة وعطف الفاكهة عليها في القرآن لزيادة فضلها، كما يعطف الخاص على

العام، والعام على الخاص لا للمغايرة المحضة كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ونحو ذلك، وكون اليابس منها من التوابل أو من الأقوات لا يوجب خروجها عن الفواكه، ولا قصورًا في معنى التفكه كما في يابس التوت والمشمش وغيرهما. قوله: (وقال محمد: ما يؤكل مع الخبز غالبًا فهو إدام، وهو رواية عن أبي يوسف لأن الإدام من الموادمة وهي الموافقة، وكل ما يؤكل مع الخبز موافق له كاللحم والبيض ونحوه). وهذا القول أيضًا أظهر من قول أبي حنيفة -رحمه الله -، لما ذكر من الدليل، وما عورض به من أن اللحم والبيض قد يؤكل كل منهما وحده لا يخرجه عن أن يكون إدامًا إذا أكل مع الخبز، والعرف مؤيد لذلك أيضًا. قوله: (ولأبي حنيفة أن كلمة من للتبعيض، وحقيقته في الكرع وهي مستعملة ولهذا يحنث بالكرع إجماعًا إلى آخر المسألة).

فيه نظر، فإن كلمة من في قوله: لا أشرب من دجلة -لابتداء الغاية دون التبعيض، واحتمال التبعيض فيها مجاز لأن قوله: لا أشرب/ من دجلة بمنزلة قوله: لا أشرب من البئر، ومن الكوز، ومن البركة، ونحو ذلك، ولا يتصور أن يشرب بعض هذه الأشياء إلا أن يراد بالتبعيض في حق الماء، وحينئذ يصير قوله: من دجلة، ومن ماء دجلة سواء فيحنث بالكرع وغيره، ولا ينفعه في التعليل إلا أن يقول: إن: من. لابتداء الغاية، والمراد أن يكون ابتداء غاية شربه من دجلة وذلك بالكرع، لأن الشارب من مائها بإناء ابتداء غاية شربه من الإناء لا من دجلة، وتقرير الاستدلال على هذا الوجه يتمشى، وإلا فعلى قوله: إن من للتبعيض إنما يتأتى ضد قصده، وقولهما أظهر على كل حال للعرف، فإن العرف لا يفصل بين قول الحالف: من دجلة أو من ماء دجلة. * * *

باب اليمين في الكلام

باب اليمين في الكلام قوله: (وكذا العبد لسقوط منزلته). يعني فيما إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه بعد ما باعه فلان لا يحنث بكلامه عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -ويحنث عند محمد وزفر -رحمهما الله -، وقولهما أظهر، فإن العبد وإن كان ساقط المنزلة فقد يقصد بالهجران، والحالف لو أراد هجرانه لأجل سيده لم يحتج إلى الإشارة إليه بقوله: عبد فلان هذا، فلما أشار إليه علم أن مراده قصده بالهجران وقد قالا به ذلك وكذلك الدار ولكن العبد أظهر باعتبار ظهور صحة قصده بالهجران كما في المرأة والصديق. فصل: قوله: (ومن حلف لا يكلمه حينًا أو زمانًا، أو الحين أو الزمان، فهو على ستة أشهر). في كون الزمان المعرف لستة أشهر نظر، وجميع ما علل به بعده إنما هو في المنكر، وأما المعرف فلم يعلل له، وقد علل له غير المصنف بأنه لما صارت ستة أشهر معهودة في الزمان والحين صار التعريف للعهد، وهذا إن سلم في

حين فهو في زمان مشكل فإن مجيء: زمان المنكر لستة أشهر فيه نظر ولا شك أن معرفة يستعمل استعمال الدهر والأبد عند الإطلاق، والألف واللام فيه للاستغراق وعموم الجنس وإن كان الاسم مفردًا كالألف واللام التي في الإنسان ولهذا يصح الاستثناء منه كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وكذلك الزمان فلو قال الحالف: لا أكلمه الزمان إلا سنة أو شهر لصح، ويقال: حين من الزمان: كما يقول: حين من الدهر وكذلك سنة من الزمان. قوله: (وله أنه جمع معرف، فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وذلك عشرة). فيه نظر وقول الصاحبين أقوى فإن صرف الأيام إلى أيام الأسبوع، وصرف الشهور إلى شهور السنة هو العرف، وليس قوله: إنه ينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع -بمسلم، وذلك لن مراده أن اسم العدد الذي يميز بالجمع أقصاه عشرة لأنه يقال: ثلاثة أشهر، أربعة شهور إلى عشرة شهور، وبعده يقال: أحد عشر شهرًا يميز بالمفرد، وهذا إنما يكون عند ذكر اسم العدد، وإذا لم يذكر اسم العدد يسمى الزائد عليه بالجمع بلا ريب، قال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} وقال تعالى: {إن عدة الشهور

عند الله اثنا عشر شهرًا} فقال تعالى: {إن عدة الشهور}. بالجمع لما لم يذكر اسم العدد، ثم قال تعالى: {اثنا عشر شهرًا} بلفظ المفرد لما ذكر اسم العدد، وليس في قول الحالف: لا أكلمه الشهور اسم العدد، فلا يصح أن يقال: إنه أقصى ما يذكر بلفظ الجمع، وكذلك الأيام ولكن لما كانت الأيام المعهودة هي أيام الأسبوع، والشهور المعهودة هي شهور السنة، صرفت اليمين إليها، ولما كانت الجمع والسنون ليس فيها معهود كانت الألف واللام فيها للجنس، وصرفت اليمين فيها إلى العمر. وقد أجاب الخبازي في الحواشي عن قولهما -إن الجمع يطلق على أكثر من العشرة إذا لم يذكر اسم العدد -بجوابين: فقال: اسم الجمع للعشرة وما دونها إلى الثلاثة حقيقة حالتي الإطلاق واقترانه بالعدد وهو اسم لما زاد على العشرة عند الإطلاق، لا عند الاقتران بالعدد والاسم متى كان للشيء في جميع الأحوال/ كان أثبت مما هو اسم له في حال دون حال، ولأن الزائد على العشرة أيام عند الإطلاق، ويوم عند اقترانه بالعدد، فلم يدخل تحت الأيام التي هي اسم جنس من كل وجه انتهى، وكلا الجوابين لا يصح، أما الأول: فكأنه لم يبلغه الفرق بين الجمع واسم الجمع، فلهذا قال إن للعشرة وما دونها حقيقة في حالتين، ولما فوقها في

حالة واحدة. وإنما قالوا نحو هذا في بعض أسماء الجموع أنه يطلق من الثلاثة إلى العشرة كما في رهط وذود ونفر وذلك لأن اسم الجمع لما كانت دلالته على مجموع آحاده دلالة المفرد على جملة أجزاء مسماه، خص منه بعض جمل الآحاد بأسماء معينة ولهذا كان على وزن الآحاد، وأما الجمع فليس هو اسمًا لما دون العشرة ولا لها ولا لما زاد عليها وإنما يدل على مجموع آحاده دلالة تكرار الواحد بالعطف، وليس له اختصاص بعدد معين وإذا استعمل مقترنًا باسم عدد فإنما يعرف مقدار المجموع من اسم العدد لا من الجمع، كما لو كان مميزه مفردًا فاقترانه بالعشرة فما دونها كاقتران المفرد بالزائد على العشرة، وأما الثاني: فكأنه لم يبلغه الفرق بين الجمع واسم الجنس حتى ادعى أن الأيام اسم جنس من كل وجه، ولم يقل أحد إن الأيام اسم جنس لا من وجه ولا من كل وجه، كذا لا يصح أن يقال: إن الزائد على العشرة يوم عند اقترانه بالعدد، وإنما يقال: إن اسم العدد الزائد على العشرة مميزه يوم وإذا كان الزايد على العشرة أيام عند الإطلاق فالحالف قد أطلق فوجب العمل بإطلاقه من غير تقييد بعشرة. * * *

باب اليمين في العتق والطلاق

باب اليمين في العتق والطلاق قوله: (وإن اشترى جارية فتسراها لم تعتق خلافًا لزفر -رحمه الله -). المسألة مطروقة، والإشكال فيها على قول أبي حنيفة -رحمه الله -، فإنه قال فيمن قال لامرأته: إن لبست من غزلك فهو هدي، فاشترى قطنًا فغزلته ونسجته فلبسه فهو هدي وعلله هناك لأن العرف لا يفرق بين أن يكون القطن في ملكه وقت اليمين وبين أن لا يكون في ملكه. وإذا اعتبر العرف في تلك المسألة ولم ينظر إلى الملك ظهرت قوة قول زفر في هذه المسألة. قوله: (ومن قال لنسوة له: هذه طالق أو هذه وهذه؛ طلقت الأخيرة، وله الخيار في الأوليين، لأن (أو) لإثبات أحد المذكورين، وقد أدخلها بين الأوليين ثم عطف الثالثة على المطلقة لأن العطف للمشاركة في الحكم فيختص بمحله فصار كما إذا قال: إحداكما طالق وهذه، وكذا إذا قال لعبيده هذا حر أو هذا وهذا عتق الأخير وله الخيار في الأوليين).

روى ابن سماعة عن محمد بن الحسن -رحمه الله -أن الثالثة تكون معطوفة على الثانية، ولا يتنجز الطلاق في حقها والذي ذكره المصنف ظاهر الرواية، والقول بتنجيز الطلاق في حق الثالثة من غير نية من المطلق والحالة ما ذكر مشكل، فإن اللفظ صالح لكلا الأمرين العطف على الثانية والاستئناف والعطف على الثانية أظهر، لأنه إذا دار الأمر بين أن يكون العطف على الثانية فلا يتنجز وبين أن يكون اللفظ مستأنفًا فيتنجز، فلا يتنجز بالشك. * * *

باب اليمين في الحج والصوم والصلاة

باب اليمين في الحج والصوم والصلاة قوله: (ومن قال: عبدي حر إن لم أحج العام فقال: قد حججت وشهد شاهدان أنه ضحى العام بالكوفة لم يعتق عبده وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: يعتق، لأن هذه شهادة قامت على أمر معلوم وهو التضحية، ومن ضرورته انتفاء الحج فيتحقق الشرط، ولهما أنها قامت على النفي لأن المقصود منها نفي الحج لا إثبات التضحية لأنه لا مطالب لها فصار كما إذا شهدوا أنه لم يحج، غاية الأمر أن هذا مما يحيط علم الشاهد به، ولكنه لا يميز بين نفي ونفي تيسيرًا). قول محمد -رحمه الله -في هذه المسألة أظهر فإنه ذكر في المبسوط أن الشهادة على النفي تسمع في الشروط، ولهذا لو قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فشهد شاهدان أنه لم يدخل الدار/ اليوم يقبل ويقضي بعتقه، وهذه المسألة من هذا الباب. وقد أجاب الشيخ حافظ الدين النسفي في الكافي عن هذا بأن هذا عبارة عن أمر ثابت معاين، وهو كونه خارج الدار. وهذا الجواب ضعيف، فإن الذين شهدوا أنه ضحى بالكوفة، شهدوا بأمر

ثابت معاين وهو كونه بالكوفة وليس بمكة، فهي وزان مسألة المبسوط، وأولى منها، فإن في مسألة المبسوط شهدوا على النفي مقصودًا وفي مسألة الكتاب شهدوا على النفي ضمنًا، فإذا قبلت الشهادة على النفس المقصود فقبولها على النفي الضمني أولى، وأيضًا فهي داخلة في الأصل المعروف أن المنفي إذا كان مما يحيط به علم الشاهد يكون بمنزلة المثبت. قوله: (ومن حلف لا يصوم فنوى الصوم وصام ساعة ثم أفطر من يومه حنث ... إلى آخر الباب). في الفرق بين قوله: لا أصوم وبين قوله: لا أصوم صومًا نظر، وكذا بين قوله: لا أصلي وبين قوله: لا أصلي صلاة، فإن قوله صومًا بعد قوله: لا أصوم للتأكيد، فإن الفعل يدل على المصدر وذكره بعده للتأكيد فقط، ولا شك أن مراده -بقوله: لا أصوم أو لا أصلي -الصوم الشرعي والصلاة الشرعية، وأقل الصوم الشرعي يوم وأقل الصلاة الشرعية ركعتان عند من لا يرى التنفل بركعة مشروعًا، فإذا صام أقل من يوم أو صلى أقل من ركعتين ثم قطع لم يكن قد صام ولا صلى، وصار كما قالوا: فيما إذا قال لزوجته: إن حضت فأنت طالق، فرأت الدم لا تطلق حتى يستمر بها الدم ثلاثة أيام ولو انقطع لأقل من ثلاثة أيام لم تطلق لأنه تبين أنه ليس بحيض، فكذا هنا لما قطع الصلاة ولم يكملها ركعتين، أو قطع الصوم ولم يكمله يومًا تبين أنه ليس بصلاة ولا صوم. وقد أجيب عن هذا بأنه إذا لم يذكر المصدر ينصرف إلى الصوم لغًة، وإذا ذكر المصدر ينصرف إلى الكامل وهو الصوم لغًة وشرعًا، وكذا في الصلاة،

وهذا الجواب هو عين المدعي، والمنع فيه. وأجاب في الكافي بأن الصوم هو الإمساك في وقته عن المفطرات الثلاث مع النية فإذا أصبح صائمًا فقد وجد ذلك وما زاد عليه تكرار، ولهذا يقال: صام فلان ساعة ثم أفطر، وتكرار المحلوف عليه ليس بشرط لتحقق الحنث وإلى هذا المعنى أشار صاحب الهداية أيضًا بقوله: بخلاف الصوم لأنه ركن واحد وهو الإمساك ويتكرر في الجزء الثاني، وفيه نظر: فإن من صام ساعة ثم أفطر لم يصم الصوم الشرعي وهو المحلوف عليه، وقوله: إن ما زاد عليه تكرار، ممنوع، بل هو ركن واحد غير مكرر، ولهذا يكتفي عند أبي حنيفة بالنية المقترنة بأكثره على ما هو معروف من مذهبه، ولو قيل، إنه يقع إذا صام يومًا أو صلى ركعتين مستندًا -كما قالوا: فيما إذا قال: إن حضت فأنت طالق إنه لا يقع حتى يستمر بها الدم ثلاثة أيام فإذا استمر بها الدم ثلاثة أيام، حكم بالطلاق من وقت الحيض -لكان أشبه، وهذا لأنهم قالوا: إن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام، والصوم لا يكون أقل من يوم، والصلاة لا تكون أقل من ركعتين، فإذا شرطوا في الحيض انقضاء مدته مع ما في تقديره من الخلاف فالصوم والصلاة أولى. * * *

باب اليمين في تقاضي الدراهم

باب اليمين في تقاضي الدراهم قوله: (ومن خلف ليقضين فلانًا دينه اليوم إلى أن قال: وإن وهبها له -يعني الدين -لم يبر لعدم المقاصة، لأن القضاء فعله، والهبة إسقاط من صاحب الدين). قال الخبازي في حواشيه: إن أريد به الحنث فمشكل فيما إذا كان اليمين مؤقتًا باليوم لأن الدين لما سقط قبل مضي اليوم لم يبق قضاء الدين متصورًا، فبطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد كما في مسألة الكوز، وإن أريد به أنه لا يحنث لبطلان اليمين بعدم الدين فهو صحيح، لأن اليمين إذا بطلت لم يكن بارًا ولا حانثًا فيحمل على هذا تصحيحًا لما ذكر في الكتاب. انتهى. وهذا التوجيه أيضًا مشكل، لأنه لا يفهم من عدم البر عدم الحنث والمحتاج إليه بيان حكم الحنث، ثم قال في الحواشي: وقيل ذكر اليوم في وضع المسألة وقع سهوًا من الكاتب. انتهى.

وهذا كلام صحيح، وككاتب المسألة حال/ وضعها هو المصنف أو من نقلها عنه لا الناسخ والله أعلم. * * *

كتاب الحدود

كتاب الحدود قوله: (أو زنى في دار الحرب). يشير إلى أنه لو زنى مسلم بمسلمة في دار الحرب ثم خرجا إلينا واعترفا، أو قامت عليهما بينة أنهما لا يحدان، وستأتي المسألة -إن شاء الله تعالى -. قوله: (قال -عليه السلام -: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم"). رواه الترمذي والبيهقي، قال الترمذي: ورواه وكيع ولم يرفعه وهو أصح وقال البيهقي: أقرب إلى الصواب، وقال أبو يوسف في رسالته إلى هارون الرشيد: حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال كانوا يقولون: ادرؤوا الحدود عن عباد الله ما استطعتم.

قوله: (لأنه -عليه السلام -طرد ماعزًا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة). ليس هذا في حديث ماعز في رواية من الروايات المشهورة في كتب الحديث، وإنما روى مسلم وأبو داود عن بريدة -رضي الله عنه -قال: "إن ماعز ابن مالك الأسلمي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال يا رسول الله: إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى قومه فقال: تعلمون بعقله بأسًا؟ تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه فأخروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم" ولكن ذكر في المغني عن الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن الزاني يردد أربع مرات؟ قال: نعم على حديث ماعز هو أحوط، قلت له: في مجلس واحد أو مجالس شتى؟ قال: أما الأحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد، إلا

ذاك الشيخ بشير بن مهاجر. عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وذاك عندي منكر الحديث انتهى. وفي رواية لأبي داود قال: "جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت على نفسك أربع مرات، اذهبوا به فارجموه". قوله: (فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه، قبل رجوعه سبيله، وقال الشفعي -رحمه الله -وهو قول ابن أبي ليلى -يقيم عليه الحد). قول الشافعي -رحمه الله -كقول أبي حنيفة -رحمه الله -في صحة رجوع المقر بالزنا عن إقراره واستحباب تلقينه الرجوع، لا كما ذكره المصنف، كذا ذكره النووي في شرح مسلم، وإنما قال بعدم رجوعه ابن أبي ليلى وعثمان البتي كذا وذكره ابن عبد البر [في التمهيد].

فصل في كيفية الحد وإقامته

فصل في كيفية الحد وإقامته: قوله: (ورمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت اعترفت بالزنا). ذكر أبو داود عن بريدة حديث الغامدية ثم قال: حدثت عن عبد الصمد ابن عبد الوارث فذكر بسنده نحوه، وزاد (ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال: ارموا واتقوا الوجه، فلما طفئت أخرجها فصلى عليها" وذكره النسائي أيضًا ولكن قال في سنده: عن زكريا أبي عمران البصري قال سمعت شيخًا يحدث عمرو بن عثمان القرشي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم -وساق الحديث، وهو حديث منقطع لأن أبا داود يقول: حدثت عن عبد الصمد، والنسائي يقول: عن أبي عمران البصري سمعت شيخًا يحدث.

قوله: (لقوله -عليه السلام -لماعز "اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم"). هذا حديث منكر، لا يعرف في قصة ماعز وإنما روى نحوه عن علي -رضي الله عنه -في حق المرأة التي رجمها ثم قال: افعلوا بها كما تفعلون بموتاكم. قوله: (لأن عليًا -رضي الله عنه -كان يأمر بالتجريد في الحدود). لا أصل لهذا عن علي -رضي الله عنه -ولا عن غيره، قال ابن المنذر: وليس في تجريد المجلود خبر يعتمد عليه فلا يجرد المجلود، والمجلود وعليه قميصه مجلود عند أهل العلم، ونزع ما يمنع من الألم يجب. انتهى. وترك

التجريد مذهب أحمد وهو منقول عن أبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وطاووس والشعبي والنخعي وقتادة وإسحاق وأبي ثور، وفي المغني قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد. وجلد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد، ولا تنزع عنه ثيابه بل/ يكون [عليه] الثوب والثوبان، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه، لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب، قال أحمد: لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وقال مالك: يجرد لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه، ولنا قول ابن مسعود ولم يعلم عن الصحابة خلافه، والله تعالى لم يأمر بتجريده وإنما بجلده، ومن جلد من فوق

الثوب فقد جلد. انتهى. وأيضًا فكما أمر بالجلد في الزنا أمر به في القذف فمن أين جاء التفريق بينهما. قوله: (لقوله -عليه السلام -للذي أمره بضرب الحد: "اتق الوجه والمذاكير"). هذا لا يعرف مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -وإنما يروى عن علي -رضي الله عنه -أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه" أخرجه مسلم، وهذا يشمل الضرب في الحدود وغيرها، ولكن ليس فيه ذكر المذاكير. قوله: (وإن ترك لا يضره لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -لم يأمر بذلك). يعني وإن ترك الحفر للمرأة في الرجم، وفيه نظر، لأنه قال قبل ذلك: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -حفر للغامدية، ولو قال: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -حفر لامرأة ثم رجمها ورجم أخرى ولم يحفر لها، فقد حفر تارة وترك الحفر تارة أخرى لكان أولى.

قوله: (ولنا قوله -عليه السلام -"أربع إلى الولاة، وذكر منها الحدود"). هذا حديث منكر، وإنما يروى من كلام الحسن البصري وغيره وعن أبي هريرة -رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنيت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر" متفق عليه. وذكر ابن المنذر أن إقامة الحد على العبد والأمة إلى سيدها دون السلطان عن ابن مسعود وابن عمر والحسن والزهري وأبي ميسرة وهبيرة

ابن يريم، قال: وبه قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور، وبه نقول لثبوت الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يعيرها" انتهى. وزاد في المغني: علي بن أبي طالب وأبا حميد وأبا أسيد الساعديين، وفاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم -، وعلقمة والأسود، قال: وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا

شروط إحصان الرجم

وصدر المسألة بأن هذا القول مذهب أحمد. انتهى. وروى أحمد وأبو داود عن علي -رضي الله عنه -رفعه "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" ورواه مسلم في صحيحه عن علي -رضي الله عنه -من كلامه ولفظه "أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن". قوله: (الشافعي يخالفنا في اشتراط الإسلام، وكذا أبو يوسف -رحمه الله -[في رواية] لهما ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم -"رجم يهوديين قد زنيا" قلنا: كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ، والذي يؤيده قوله -عليه الصلاة والسلام -"من أشرك بالله فليس بمحصن"). حديث رجم اليهوديين متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما -، وروى الدارقطني من حديثه -رضي الله عنهما -"من أشرك بالله فليس بمحصن" وقال: الصواب موقوف عليه. وقال في المغني: لم يصح ولا نعرفه في مسند، وقيل هو موقوف على ابن

عمر، ثم يتعين حمله على إحصان القذف جمعًا بين الحديثين فإن راويهما واحد، وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الإحصان الآخر، فإن قالوا: إنما رجم النبي -صلى الله عليه وسلم -اليهوديين بحكم التوراة بدليل أنه راجعهما فلما تبين له أذن له أن ذلك حكم الله عليهم أقامه فيهم، وفيها أنزل الله تعالى {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} قلنا: إنما حكم عليهم بما أنزل الله إليه بدليل قوله تعالى {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعًة ومنهاجًا}، ولأنه لا يسوغ للنبي -صلى الله عليه وسلم -الحكم بغير شريعته، ولو ساغ ذلك له ساغ لغيره، وإنما راجع التوراة ليعرفهم أن حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم، وأنهم تاركون لشريعتهم مخالفون لحكمها، ثم هذا حجة لنا فإن حكم الله تعالى في وجوب الرجم إن كان ثابتًا في حقهم يجب أن يحكم به عليهم فقد ثبت وجود الإحصان فيهم فإنه لا معنى له سوى وجوب الرجم على من/ زنى منهم بعد وجود شرط القياس على إحصان القذف، لأن من شرطه العفة، وليست شرطًا هاهنا. انتهى. وإنما ذكرت كلامه هنا ليسمع المنصف حجتهم كما سمع حجة غيرهم، ويتأمل القولين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وأما قول المصنف: قلنا كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ. فلم يذكر الناسخ له ما هو، ومثل هذه الدعوى لا تكفي في الاستدلال.

ولو كان مراده أنه نسخ بقوله -صلى الله عليه وسلم -: "من أشرك بالله فليس بمحصن" لقال ذلك وإنما قال: إن هذا الحديث يؤيد النسخ أو الناسخ، لا أنه هو الناسخ. قوله: (وأبو يوسف يخالفهما في الكافرة، والحجة عليه ما رويناه، وقوله -عليه السلام -"لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية، ولا الحر الأمة، ولا الحرة العبد"). يعني أن أبا يوسف -رحمه الله -يخالف أبا حنيفة ومحمدًا -رحمهما الله -في قولهما: إن الكافرة لا تحصن المسلم وقد تقدم التنبيه على قوة قول أبي يوسف في عدم اشتراط الإسلام في الإحصان، وأما الحديث الذي ذكره فهو حديث منكر، ولو استدل بما رواه أبو داود في المراسيل عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهودية فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: "لا

الجمع بين الجلد والنفي

تتزوجها فإنها لا تحصنك" لكان أشبه، وإن كان هذا الحديث ضعيفًا فهو أقرب إلى الثبوت من الحديث الذي ذكره والله أعلم. قوله: (ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي، وقال الشافعي: يجمع بينهما لقوله -عليه السلام -"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" ولأن فيه حسم مادة الزنا لقلة المعارف، ولنا قوله تعالى: {فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} جعل الجلد كل الواجب رجوعا إلى حرف الفاء، أو إلى كونه كل المذكور، ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة، ثم فيه قطع مواد البقاء، وربما تتخذ زناها مكسبة، وهو من أقبح الزنا، وهذه الحجة مرجحة لقول علي -رضي الله عنه -"كفى بالنفي فتنة"، والحديث منسوخ كشطره وهو قوله -عليه السلام -"الثيب جلد

مائة ورجم بالحجارة"، وقد عرف طريقه في موضعه، قال: إلا أن يرى الإمام ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى، وذلك تعزيز وسياسة لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه على الإمام، وعليه يحمل النفي المروري عن بعض الصحابة). أما الحديث الذي أشار إليه فهو حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -"قضي فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه" رواه أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما -قالا: "إن رجلاً من

الأعراب أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه -نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: قل، فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس -لرجل من أسلم -إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فرجمت" رواه الجماعة. والقول بالتغريب مع الجلد مأثور عن الخلفاء الراشدين -رضي الله

عنهم -، وبه قال أبي، وأبو ذر، وابن مسعود، وابن عمر -رضي الله عنهم -، وإليه ذهب عطاء، وطاووس، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال مالك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة، ذكر ذلك/ ابن قدامة في المغني وروى الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما -"أن النبي -صلى الله عليه وسلم -ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب". وقد استدل المصنف بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} جعل الجلد كل الواجب رجوعًا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور، وتكميل هذا الاستدلال: أن الأحاديث الواردة من السنة في التغريب أخبار آحاد لا يزاد بها على الكتاب لأن الزيادة على الكتاب

نسخ، والكتاب لا ينسخ بأخبار الآحاد. والجواب عن ذلك: أن الأحاديث الواردة في التغريب مشهورة تلقتها الأمة بالقبول وعملت بها الصحابة والخلفاء الراشدون وغيرهم ومن بعدهم، ولا خلاف أن الحديث المشهور تجوز به الزيادة على الكتاب كما في زيادة الإحداد في عدة المتوفى عنها زوجها على التربص المأمور به في القرآن. وأما زيادة الإحداد في عدة المبتوتة فقد تقدم التنبيه على ما فيها من الإشكال، ولم يقولوا هناك إنها زيادة على النص مع أن تسمية الزيادة على

النص نسخًا أمر اصطلاحي، وإلا فلا فرق بين إنشاء حكم لم يتعرض له النص وبين زيادة مغيرة لحكم÷ ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخًا له لبطلت أكثر سنين رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، كما في السنن من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شعبان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة مال معاهد" وفي لفظ "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" قال الترمذي: حديث حسن. وقال البيهقي: إسناده صحيح.

وأما قول المصنف ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه قطع مواد البقاء. فكل تعليل في مقابلة النص مردود وليس هذا الذي ذكره أمرًا لازمًا لكل أحد وإن كان هذا قد يقع لبعض الناس فالمصلحة التي تحصل بالتغريب في حق غالب الناس من مفارقة الوطن والأهل والإخوان وغير ذلك مما يكسر النفس ويقمع داعي الفساد تربو على هذه المفسدة. وقوله بعد ذلك: -إلا أن يرى الإمام ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى -يرد هذا المعنى الذي ذكره من المفسدة، فإنه إذا قال: إن ذلك مفوض إلى رأي الإمام دل على أن ذلك قد يكون مصلحة وقد يكون مفسدة، ولا شك أن الإمام لا يعلم الغيب فقد يقع عنده أن تغريب هذا مفسدة ويكون مصلحة، وبالعكس فتفويض ذلك إليه لا يحصل به ما يظن من المصلحة، وليس هذا مما يعرف بقرائن الأحوال فإن ابن آدم محل التغيير فقد ينقلب من صلاح إلى فساد وقد ينعكس ذلك، وأما قوله: وربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا. فهذا يخص المرأة وهو صحيح، وأيضًا فإن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة، ولا يحل تغريبها بغير محرم لأنها تحتاج إليه في السفر والإقامة، وإن غرب المحرم معها أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة عقوبة لم يرد بها الشرع، وحديث العسيف إنما فيه تغريب الرجل، وحديث البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، ليس نفيهما، فيصرف إلى نفي الرجل، وهذا قول الإمام مالك وهو أصح

الأقوال وأعدلها والله أعلم. وأما ما نسبه إلى علي -رضي الله عنه -من قوله: كفى بالنفي فتنة. فلم يثبت، قال في المغني: لضعف راويه وإرساله. انتهى. بل ثبت عنه أنه غرب، روى البيهقي عنه رضي الله عنه "أنه نفى من البصرة إلى الكوفة أو من الكوفة إلى البصرة"/ وقال المنذري: جمع بينهما علي وابن مسعود والحسن، وأما قوله: والحديث منسوخ كشطره وهو قوله -عليه السلام -"الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" وقد عرف طريقه في موضعه فيشير إلى تقديم الحديث على آية الزنا التي في سورة النور، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -رجم ماعزًا والغامدية والتي أرسل إليها أنيسًا فاعترفت بالزنا كما تقدم، ولم يجلد أحدًا منهم فدل على نسخ جمع الجلد مع الرجم وهو مذكور في الحديث الذي فيه ذكر التغريب، وإذا نسخ بعضه يتطرق النسخ بعضه يتطرق النسخ إلى بقيته لأنه من الأحكام المتقدمة في أوائل الإسلام. وهذا ليس بشيء فإن الحديث الذي فيه رجم المرأة التي اعترفت بالزنا لما أرسل إليها أنيسًا [فيه] "أنه -صلى الله عليه وسلم -قال: وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" فدل هذا الحديث على أنه جلد وغرب لغير المحصن، ورجم فقط للمحصن في زمان واحد، وعمل الصحابة بعده بالتغريب دليل على بقاء حكمه.

وقوله: لأنه قد يفيد في بعض الأحوال، فيكون الرأي فيه إلى الإمام، وعليه يحمل النفي المروري عن بعض الصحابة. قد تقدم ذكر من روي عنه التغريب من الصحابة، ولم يثبت عنهم ولا غيرهم ما يخالفه، فنزل منزلة الإجماع. * * *

باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه

باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه قوله: (ثم الشبهة عند أبي حنيفة -رحمه الله -تثبت بالعقد وإن كان متفقًا على تحريمه وهو عالم به، وعند الباقين لا تثبت إذا علم بتحريمه، ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى). واستدل لأبي حنيفة بعد ذلك في الكلام على المسألة بأن العقد صادق محله، لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود وكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام، إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة، ولأن الشبهة ما يشبه الثابت، لا نفس الثابت، إلا أنه ارتكب جريمة، وليس فيها حد مقدر فيعزر، وقول الصاحبين في هذه المسألة الموافق لقول جمهور العلماء هو الذي يتعين المصير إليه، ولا شك أن هذا الذي زنا بأمه وغيرها من المحرمات المجمع على تحريمهن بعد أن تزوج بها، قد ضم معصية إلى معصية فإن من عقد نكاحه على محرمه فقد تلاعب بالشريعة، واتخذ آيات الله هزوًا، فإن لم يوجب ذلك تغليظ العقوبة عليه لا يوجب التخفيف عنه، وقول المصنف: إن العقد صادق محله إلى آخر

تعليله، مردود بأن الشارع أخرجها عن محلية النكاح في حق محرمها، وليس المراد أن الشارع أخرجها عن محلية التوالد بل عن إضافة العقد إليها، ومن جهة الشارع عرف العقد وهو لم يجعل العقد مؤثرًا في المحارم شيئًا، فصار وجوده كعدمه بل وجوده أردى من عدمه، لأن فاعله عاصٍ يستحق عقوبة أخرى مع الحد. وقوله: إن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت. وجوابه: أنا لو أسقطنا الحد بكل شبهة وكل احتمال لم يجب حد أصلاً ولأن مطلق الشبهة غير كاف كما إذا وطئ جارية أخته أو عمه وقال: ظننت أنها تحل لي، وكما قالوا فيمن وطئ من طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة في عدتها، وكما قالوا فيمن وجد امرأة على فراشه فوطئها على ظن أنها امرأته أنه لا يعذر ولو كان أعمى، وكما قال أبو حنيفة [فيمن أكرهه غير السلطان] أنه يحد وسيأتي الكلام في ذلك -إن شاء الله تعالى-. فمن لا يرى ذلك شبهة كيف يرى أن عقد نكاحه على أمه أو أخته شبهة، وعن البراء بن عازب قال: "لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله" رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه والترمذي أخذ المال.

وقد أجاب الطحاوي عن هذا بأنه ليس فيه ذكر الرجم، وإنما فيه القتل فيحمل على أنه قتله لأنه فعل مستحلاً له فصار مرتدًا، فقتله لارتداده واستدل لذلك بأنه ليس فيه ذكر الدخول بها. وغاية ما قاله الطحاوي تعطيل الدلالة من الحديث على إيجاب/ الحد، والاعتماد في إيجاب الحد ليس على الحديث المذكور بل لدخول هذا الفعل في حد الزنا الموجب لحده، والاعتضاد بهذا الحديث، ووجه الاعتضاد به أن هذا القتل يحتمل أنه لاستحلاله الفعل، كما ذكر، ويحتمل أنه لاتخاذه آيات الله هزوًا وتلاعبه بالدين فاتفاق العلماء على ترك قتل غير المستحيل لما ذكر من الاحتمال، لا يمنع من إقامة الحد عليه وتعزيزه مع الحد بما يراه الإمام لتلاعبه بالدين فإن بالعقد على المحرم معصية أخرى ولو قيل بتغليظ العقوبة على من زنا بمحرمه بغير عقد لأنه أبلغ من الزنا بالأجنبية لكان ظاهرًا، فكيف إذا ضم إلى ذلك عقدًا باطلاً. قوله: (ومن طلق امرأته ثلاثًا ثم وطئها في العدة، وقال: علمت أنها علي حرام حد لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة منفية، وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل، وعلى ذلك انعقد إجماع الأمة ولا يعتبر قول المخالف فيه، لأنه خلاف لا اختلاف). إن أراد بقوله: وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل المطلقة طلقة ثالثة، فهذا لم يخالف فيه أحد من المسلمين فيكون قوله: ولا يعتبر قول المخالف فيه، كلامًا

لا حاجة إليه، وإن أراد به المطلقة ثلاثًا بكلمة واحدة فلم ينطق الكتاب بانتفاء حلها وقوله: وعلى ذلك انعقد الإجماع، لو قال: لا أعلم فيه خلافًا كان أولى من دعوى الإجماع، فإن ابن عباس كان يقول: إن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة تقع به واحدة رجعية وهو مذهب طاووس وعكرمة وتقدم حكايته عن أهل الظاهر وعن محمد بن إسحاق، وتقدم ذكر قول من فصل بين

اختلاف العلماء في حكم اللائط

كونه قبل الدخول وبعده، والمصنف قد حكى هنا أن في المسألة اختلافًا ولم يرد قول المخالف إلا بأن قوله خلاف لا اختلاف، ويريد بذلك أنه قول على خلاف الكتاب والسنة وليس هذا إنصافًا منه. قوله: (ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة، فلم يكن الظن مستندًا إلى دليل، وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها وكذا إذا كان أعمى يمكنه التمييز بالسؤال وغيره). مقتضى تعليله أنه يفرق بينهما إذا طالت الصحبة أو قصرت وليس كذلك، ولا شك أنه لا يأثم بذلك بل قد يثاب بنيته، كما أنه لو جامع من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام، وأيضًا فإن مثل هذا يكون من قبيل الخطأ، وهو مرفوع الإثم بالاتفاق وفي رفع الحكم اختلاف فكيف لا تكون شبهة يدرأ بها الحد، وقول المصنف: قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها، يعارض بمن ليس في بيته غير امرأته عادة، ولم يقل بالتفصيل، والأعمى أعذر من البصير في الكلام والقول بحده والحالة هذه في غاية البعد. قوله: (ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويعزر، وزاد في الجامع الصغير: ويودع السجن.

وقالا: هو كالزنا فيحد. وهو أحد قولي الشافعي، وقال في قول: يقتلان بكل حال لقوله -عليه الصلاة والسلام -"اقتلوا الفاعل والمفعول به" ويروى "ارجموا الأعلى والأسفل" ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حرامًا لقصد سفح الماء، وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة -رضي الله عنهم -في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار، والتنكيس من مكان مرتفع بإتباع الأحجار، وغير ذلك، ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب، وكذا هو أندر وقوعًا لانعدام الداعي في أحد الجانبين، والداعي إلى الزنا من الجانبين، وما رواه محمول على السياسة أو على المستحل إلا أنه يعزر عنده لما بيناه). اختلف العلماء في حكم اللائط فذهب مالك وإسحاق وربيعة والشعبي وجابر بن زيد، وعبيد الله بن معمر، والزهري، والشافعي في

أحد قوليه وأحمد في رواية إلى أنه يرجم بكل حال بكرًا كان أو ثيبًا، وهو قول علي وابن عباس -رضي الله عنهما -، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي في قوله الآخر وأحمد في رواية وأبو ثور إلى أنه يرجم إن كان محصنًا، ويجلد إن كان بكرًا، وكذا قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن/ وقتادة، وذهب أبو حنيفة والحكم إلى أنه يعزر، وروي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه -أنه أمر بتحريقه، وهو قول ابن الزبير ذكر ذلك ابن المنذر، وابن قدامة يزيد أحدهما على الآخر، ووجه قول من قال إنه يرجم بكل حال: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم -

"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: وكذا روي عن أبي هريرة، وقال صاحب المغني: وفي لفظ "فارجموا الأعلى والأسفل" قال: ولأنه إجماع الصحابة -رضي الله عنهم -فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته، قال: واحتج أحمد بعلي -رضي الله عنه -فإنه كان يرى رجمه، ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم. انتهى. ووجه قول من قال إن حكمه حكم الزاني ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" ذكره في المغني، ولأنه قضاء الشهوة على

وجه الكمال على أتم وجوه التحريم، فإنه لم يبح بحال، لقصد سفح الماء، وما استدل به المصنف لأبي حنيفة -وإن كان مراده أن اختلافهم في كيفية القتل ينفي أن يكون الفعل زنًا -فهو يرد عليه الاكتفاء بالتعزيز فيه، فإن اختلافهم على قولين أو ثلاثة يكون بمنزلة إجماعهم على أن ما عداها باطل، فإنه ليس لأحد بعدهم إحداث قول آخر. وكذلك في قوله: ولا هو في معنى الزنا، لأنه ليس في إضاعة الولد فإن في اللواط إضاعة الولد بسفح الماء في غير محل الحرث. وكذلك في قوله: واشتباه الأنساب فإنه لا يصلح أن يكون علة الشرع في الزنا فإن الزنا لا نسب فيه، ونسب الولد من الزاني منقطع ولو علم أنه ما وطئها غيره، وإن كان يحصل ذلك في وطء ذات الزوج، فلو كان ذلك هو علة وجوب الزنا لم يشرع في وطء غير المزوجات والمسافحات بل في ذوات

الأخدان فقط وهو مشروع في الكل. وكذلك في قوله: هو أندر وقوعًا لانعدام الداعي في أحد الجانبين، والداعي إلى الزنا من الجانبين. فإنه إن لم يكن في معنى الزنا من هذا الوجه ففيه خصال من القبح تربو على الزنا من وجوه: منها: أن بعض الفسقة يستغني به عن النساء بل يفضله على إتيان النساء مخافة من مجيء الولد، فيفوت بسبب ذلك التناسل المطلوب من التناكح ويفوت التحصين المطلوب منه أيضًا فيفضي إلى استغناء المرأة بالمرأة كما استغنى الرجل بالرجل. ومنها: أن الداعي لما لم يكن في اللواط من الجانبين، فقد يفضي إلى أن المفعول به يعمل على قتل الفاعل، وينشأ من قتله إياه التقاتل والعداوة والبغضاء الذي هو أردى وجوه الفساد، لأنه لما لم يكن له داع إلى الفعل فمطاوعته له إما لما يعطيه من السحت أو لخوفه منه أو نحو ذلك فكان هذا الفعل أولى بشرع الزاجر من الزنا. ومنها: أن النفوس الخبيثة -المتعدية حدود الله -أقوى الدواعي إلى ذلك، فالحد فيه أولى من الحد في الزنا وهذا يعلم من أشعارهم فإن فيها ما يدل على ما انطوت عليه ضمائرهم الفاسدة من تفضيلهم إياه على الوطء في القبل، ولهذا رأى كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن حده الرجم مطلقًا، بل أكثرهم على ذلك. ومنها: أن تلك النطفة الخبيثة إذا حصدت عند المفعول به فسدت وغيرت طباعه إن لم يتداركه الله برحمته، وإلا فسد فسادًا لا يرجى بعده له صلاح،

حكم من زنى في دار الحرب

ولهذا يقال: لا يشتري هذه البضاعة إلا من باعها، أي من فعل به في حال صغره فعل هو بغيره في حال كبره، ومال بطبعه إلى ذلك الفعل القبيح، وكذلك في قوله: وما رواه محمول على السياسة أو على المستحيل فإنه إنما يصح هذا التأويل إن لم يوجد من الصحابة مخالف لما رواه، أما إذا اتفقوا على العمل به وإنما اختلفوا في كيفية العمل به فلا يصح حمله على خلاف ما دل عليه بظاهره. قوله: (ومن زنا في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا، لا يقام عليه الحد وعند الشافعي يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أين ما كان مقامه، ولنا قوله -عليه الصلاة والسلام -"لا تقام الحدود في دار الحرب" ولأن المقصود هو الانزجار، وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة، ولا تقام بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة، ولو غزا من/ له ولاية الإقامة بنفسه كالخلفية وأمير المصر يقيم الحد على من زنا في معسكره لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية، لأنه لم يفوض إليها الإقامة). عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه -قال "لا تقام الحدود في أرض الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو" وعن عمر -رضي الله عنه -أن كتب إلى عماله "لا تقيموا الحدود على أحد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى

أرض المصالحة" أخرجهما الشافعي والبيهقي، وعن بسر بن أرطاة "أنه وجد سارقًا يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن القطع في الغزو" أخرجه أحمد وأبو داود والشافعي والبيهقي. وأخرج الترمذي المرفوع فقط، وعند النسائي عنه قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: لا تقطع الأيدي في السفر"، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه -"أنه نهى عن أن يقام على أحد حد في أرض العدو" أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور ولفظه عن أي الدرداء "أنه كان ينهى أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله -عز وجل -حتى يقفل مخافة أن تلحقه الحمية فيلحق بالكفار".

وفي المغني قال: أتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن: كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا علي وثاقيا فقال لابنه حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك الله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني، قال: فحلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك؛ لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضبر ضبر

البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو ورجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدًا بما كان أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأمما إذ بهر جتني فوالله لا أِربها أبدًا" وقد ذكر هذه القصة أيضًا عبد الرزاق في مصنفه نحوًا مما تقدم، وهذه الأحاديث والآثار لم يرد ما يعارضها ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافها فتنزل منزلة الإجماع، وإنما تدل على أن الحدود لا تقام في دار الحرب إذا كان الإمام في الغزو، ولا تدل على عدم إقامتها على من ارتكب ما يوجبها في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام، بل على إقامتها إذا خرج إلى دار الإسلام وهذا عكس ما ادعاه المصنف، وبما دلت عليه هذه السنن والآثار أخذ أحمد والأوزاعي

وإسحاق وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع لأن أمر الله بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام أو أمير المصر فليس له إقامة الحد ويؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود إليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به أخر، وكيف يستدل [بقوله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تقام الحدود في دار الحرب" على أنها لا تقام على من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام ولا يستدل به] على أنها لا تقام في دار الحرب إذا كان الإمام هناك لولا غفلة لحقت المصنف أو هوى. وقوله بعد ذلك: -إن الخليفة أو أمير المصر يقيم الحد في دار الحرب على من زنى في معسكره -يرده الحديث الذي ذكره هو، فضلاً عن غيره مما تقدم ذكره من السنن والآثار، والمعنى الذي ذكره أن ولاية الإمام منقطعة فيهما أي في دار الحرب، ودار البغي، لا يفيده في نفي إقامة الحد على من زنى في دار الحرب ثم خرج إلينا. وقوله بعد ذلك: -ولا يقام الحد بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة -

ممنوع، لأنه قد دخل في عموم قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ} وكونها لا تقام في دار الحرب لأنه غائب عنا لا يمنع من إقامة الحد عليه إذا حضر، وتأخير إقامة الحد لمصلحة راجحة -أعني في حق من زنى من عسكر المسلمين في دار الحرب إما لحاجة المسلمين إليه أو لخوف ارتداده ولحوقه بالكفار -أمر وردت به السنة كا يؤخر عن الحامل حتى تضع، وعن المرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض على التفصيل المعروف، فهذا تأخير لمصلحة المحدود أو لأجل الولد في حق الحامل والمرضع فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى وكذلك التأخير في حق من لم يمكن إقامة الحد عليه لغيبته كما لو كان غائبًا في بلد آخر من بلاد المسلمين، وفي جعل حكم الزنا في دار الحرب مغايرًا لحكم الزنا في دار الإسلام من البعد مالا يخفى،

ويرده قول عمر -رضي الله عنه -لعماله: لا تقيموا حدًا على أحد من المسلمين حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة، وكذلك نهى أبي الدرداء عن أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز حتى يقفل. أي: حتى يرجع، وقد تقدم ذلك، وفائدة الزجر تحصل بإقامة الحد عليه بعد خروجه إلينا كما تحصل في حق من يؤخر إقامة الحد عليه لمانعٍ كما تقدم. قوله: (ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه وإنما هي محل الفعل، ولهذا سمي واطئًا وزانيًا، والمرأة موطوءة ومزنيًا بها، إلا أنها سميت زانية مجازًا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية بمعنى المرضية، ولكونها متسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبح الزنا، وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه مؤثم على مباشرته، وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد). هذا تعليل لقول أبي حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وخالف في ذلك زفر، وأبو يوسف في رواية، والأئمة الثلاثة وغيرهم وحجتهم في ذلك أنها زانية فعليها الحد بالنص، وسقوط الحد عن أحدهما

لمعنى فيه، وهو انعدام الأهلية، فلا يمنع إقامة الحد على الآخر كما لو زنى بصبية ألا ترى أن الله تعالى سماها زانية، ومن نسب امرأة إلى الزنا يلزمه الحد، ولو كان لا يتصور منها مباشرة الزنا لم يحد قاذفها به كالمجنون لما أنها بالتمكين تقضي شهوتها كالرجل بالإيلاج، ولما اعترفت الغامدية بالزنا لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم -عن الذي زنا بها هل هو عاقل أو مجنون، ولو كان جنون الزاني شبهة يدرأ بها الحد عن الزانية لسأل عن ذلك كما سأل عن جنون ماعز لما اعترف بالزنا، وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قالوا: وأما قولكم: إنها محل الفعل، فلا يمنع ذلك من كونها زانية، وزناها تمكينها من نفسها، وزنا الرجل وطؤه، وليس ذلك من باب عيشة راضية من باب قضاء شهوة الفرج على الوجه المحظور، فكما أن الرجل

قاض شهوته بالمرأة على الوجه المحظور، فكذلك المرأة قاضية شهوتها بالرجل على الوجه المحظور فصح أن يقال زنت به فهي زانية كما في جانب الرجل، وأما قولكم: إنها متسببة بالتمكين فيتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا إلى آخره؛ فممنوع، فإنه لم يكن الحد في حقها لذلك فقط بل لقضاء شهوتها بالفعل القبيح المحرم على وجه الكمال وتعلق فعل الزنا بها أقوى من تعلقه بالرجل، ولذلك قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} قدم الزانية في الذكر لأنها هي المادة التي نشأت منها الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدئ بذكرها، وبدئ بذكر الزاني في قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانيًة أو مشركًة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} لأن هذه الآية مسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب غالبًا، وأما الآية الأولى فسيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة أصل فيها، فظهر قوة قول أبي يوسف وزفر ومن قال بقولهما في هذه المسألة. قوله: (وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة، وقالا: لا يحد لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان). قول الصاحبين هو الصحيح لقوله تعالى: {ولا تكرهوا/ فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}، وهذا النص في جواز إقدام الأمة المكرهة على

البغاء على فعل الزنا، إذ معلوم أن المكرهات من الإماء على البغاء -كما كان المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله يفعلون -ليس هو أن يفعل بها بلا فعل منها، بل هو أن تكره حتى تقصد ذلك وتفعله، ولهذا سماه بغاًء وذلك القسم ليس فيه بغاء ولهذا قال: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} فإذا جاز للأمة الترخص بالإقدام على الزنا بالإكراه، دل على أن الإكراه على الزنا يتحقق ولا يجب فيه حد ولا إثم على المكره وإن تحقق من غير السلطان إذ الخطاب عام غير مخصوص بالسلطان. * * *

باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها قوله: (ولأن الحكم يدار على كون الحد حقًا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد). يعني أنهم لو شهدوا بسرقة متقادمة لا تقبل شهادتهم، وإن كان التأخير بسبب دعوى المسروق منه، وإن التهمة -وإن انتفت -هنا لا تقبل شهادتهم لكون القطع حق الله تعالى وفيه نظر، لأن رد شهادتهم بالتقادم في حق حد الزنا وشرب الخمر للتهمة فيه نظر فرد شهادتهم في السرقة بالتقادم ولا تهمة من أبعد ما يكون وكيف يقال لما قلنا برد شهادتهم في حد الزنا وشرب الخمر للتهمة طردنا الباب ورددنا شهادتهم في السرقة وإن انتفت التهمة بجامع كون الكل حق الله تعالى. قوله: (وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعًا عند أبي حنيفة وهو قول زفر، وقالا: يحد الرجل خاصة لاتفاقهما على الزنا الموجب للحد في حق الرجل وتفرد أحدهما بزيادة جناية وهو الإكراه بخلاف جانبها، لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولا يثبت لاختلافهم، وله أنه اختلف المشهود عليه لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما، ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها، وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه، لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا

خصمين في ذلك). يشكل على قول أبي حنيفة -رحمه الله -أن زيادة جناية الإكراه إن لم يوجب تغليظ العقوبة لا يوجب إسقاطها، وقد تقدم في كلام المصنف في مسألة اختلاف الشهود على زاوية والانتهاء في زاوية أخرى، والتوفيق هنا أولى فإنه يمكن أن يكون ابتداء الفعل بالإكراه وانتهاؤه بالطواعية، وأما قوله ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها، ومراده أنهما صارا قاذفين لها قذفًا يمنع قبول شهادتهما فذلك غير مسلم فإنهما إنما يعدان قاذفين قذفًا يمنع قبول الشهادة إذا لم يأتيا بأربعة شهداء على زناها وقد أتيا بذلك لكن يسقط الحد عنها لشبهة الإكراه فخرجا بذلك عن كونهما خصمين في ذلك بتكميل نصاب الشهادة ولأصحاب الشافعي -رحمه الله -في المسألة وجهان، وعن أحمد فيها روايتان كالقولين المذكورين. قوله: (لأن شهادتهم قد ردت من وجه شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم بالأمر والتحميل).

فيه نظر، فإنه يلزم منه أن يصير الأصل تبعًا، وذلك قلب الموضوع، وأيضًا فرد شهادة الفروع لمعنى خاص بهم فكيف بعددهم، وأيضًا فإن أمرهم وتحميلهم لغو غير معتبر فكان وجوده كعدمه، فلم يكن الرد لشهادتهم على شهادة الأصول ردًا للشهادة نفسها، بل لأن قولهم هذا ليس بشهادة بل هو إخبار بأن هذا الفعل يشهد به أربعة غيرهم وهذا لا يبنى عليه مثل هذا الحكم فلم يثبت كونهم قائمين مقامهم حتى يلزم من ردهم رد الأصول والله أعلم. قوله: (بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط). فيه نظر، وقد ذكر في الأصول أن الإحصان ليس بشرط، لأن الشرط ما يوجد العلة بصورتها ويتوقف انعقادها علة على وجوده، كدخول الدار في تعليق الطلاق/ والعتاق به، فأما الزنا قبل الإحصان فلم يوجد بصورته، ويتوقف انعقاده علة لوجوب الرجم على الإحصان بعد ذلك ليكون شرطًا ولكن الإحصان عبارة عن حالة في الزاني تصير الزنا في تلك الحالة موجبًا للرجم والحكم غير مضاف إلى الحال ثبوتًا به ولا وجودًا عنده فيكون علامة محضة على وجوب الرجم عند وجود الزنا، ولكن يظهر رجحان قول زفر -رحمه الله -في تضمين شهود الإحصان إذا رجعوا، كما يضمن المزكون إذا رجعوا، ولو قلنا: إن الإحصان علامة فإنه لولا شهود الإحصان لما رجم لأن

بشهود الزنا بدون الإحصان يجب الجلد لا الرجم. قوله: (لأن الحكم بثبوت النسب منه حكم بالدخول عليه، ولهذا لو طلقها، يعقب الرجعة، والإحصان يثبت بمثله). يعني أنه إذا أنكر الإحصان، وله امرأة قد ولدت منه يرجم، وفيه نظر، لأن الولد يلحق بإمكان الوطء واحتماله والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء، فلا يلزم من ثبوت ما يكتفي فيه بالإمكان ثبوت ما يعتبر فيه الحقيقة، وعدم ثبوت الإحصان بذلك مذهب الشافعي وأحمد، وأبو حنيفة أولى منهما بذلك، فإنه يرى أن من علق طلاق امرأة بنكاحها ثم تزوجها ثم جاءت بولد لستة أشهر أنه يثبت نسبه وإن لم يكن ثم دخول أصلاً. * * *

باب حد الشرب

باب حد الشرب قوله: (فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد يحد). ثم قال بعد ذلك: وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد -رحمه الله -كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند [قيام] الرائحة لأن حد الشرب يثبت بإجماع الصحابة، ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود -رضي الله عنه -وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا. ويشير بقوله: على ما روينا. إلى قوله قبل ذلك. لقول ابن مسعود -رضي الله عنه -: ["تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه". ولا حجة له في ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه] على أنه مخالف لغيره من الصحابة -رضي الله عنهم -في اشتراط قيام الرائحة وكأن المصنف ظن أن ابن مسعود -رضي الله عنه -قال هذه العبارة في حق السكران مطلقًا المقر وغيره وليس الأمر كذلك، وأصل الحديث ما رواه البيهقي عنه "أن رجلاً جاء إليه بابن أخ له، فقال: إنه سكران، فقال: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن ثم دعا به من الغد ودعا بسوط ثم أمر بثمرته فدقت

بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه" ورواه عبد الرزاق في مصنف بمعناه. وليس في كلام عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -ما يدل على أنه لا يحد إذا أقر بشرب الخمر بعد ذهاب رائحتها، وليس فيه أنه حده بإقراره بالكلية، وإنما حده بوجود رائحتها فقط من غير شهادة ولا إقرار، وفي الصحيحين عن علقمة قال: "كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: والله لقرأتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال أحسنت، فبينا هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر، فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب، فضربه الحد". وليس في هذا الأثر أيضًا إقرار ولا شهود، قال ابن المنذر: ثبت عن عمر -رضي الله عنه -أنه جلد من وجد منه ريح الشراب الحد تامًا وبه قال ابن مسعود، ومالك والشافعي، انتهى.

وقال في المغني: إنه إحدى الروايتين عن أحمد، وقال: إنه لا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، انتهى. والمشهور عن الشافعي -رحمه الله -عدم الحد بالرائحة وحدها، كما قاله في المغني، والمقصود أن ابن مسعود -رضي الله عنه -لم ينقل عنه أنه لا يحد بالإقرار بعد ذهاب الرائحة، ولا عن غيره من الصحابة، فسلم الإجماع المذكور، وإنما الخلاف في الحد بوجود الرائحة من غير إقرار ولا شهود. وقوله: لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة يناقض قوله في أول الباب: والأصل فيه قوله -عليه أفضل الصلاة والسلام -: "من شرب الخمر فاجلده" لأن الحديث يدل على أن حد الشرب ثبت بالسنة، وقوله: لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة يفهم منه أنه لم يثبت إلا بإجماعهم فقط.

قوله: (ومن سكر من النبيذ حد لما روي "أن عمر -رضي الله عنه -أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ"). عن السائب بن يزيد "أن عمر -رضي الله عنه -خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلا، وإني سائل عما شرب فإن كان مسكرًا جلدته،/ فجلده عمر الحد تامًا" رواه النسائي والدارقطني والشافعي، وهذا الحديث حجة على المصنف لا له، فإنه ليس فيه ما يدل على السكر منه بل فيه ما يدل على أنه ليس بسكران فإنه فهم السؤال وأجاب عنه، ومثل هذا لا يكون سكرانًا، وقول عمر -رضي الله عنه -"وإني سائل عن ما شرب فإن كان مسكرًا جلدته" دليل أيضًا على أنه لم يكن قد سكر، فإنه لو كان قد سكر لعلم أن الشراب مسكر، ولما احتاج أن يسأل عن الشراب الذي شرب منه هل هو مسكر أم لا، وفيه دليل أيضًا على أنه اكتفى بالرائحة وحد بشرب القليل من غير عصير العنب، وذلك حجة على المصنف فإن الطلا -بكسر الطاء وبالمد -نوع من الأشربة، وقيل هو اسم لما طبخ حتى ذهب ثلثاه فإنه إذا بلغ هذه الغاية يبقى كأنه رب، ولهذا سمي طلاً لأنه يشبه الطلا الذي تطلى به الإبل، وقل أن يسكر مثل هذا، ولهذا قال ذلك الرجل لعمر -رضي

الله عنه -، إنه شرب الطلا، يعني: أن الطلا لا يسكر وإنه إنما شرب منه، فقال عمر -رضي الله عنه -: إن كان يسكر جلدته، وعدم اشتراط السكر -من غير عصير العنب من الأشربة المسكرة -مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم كما في العصير إذا أسكر كثيره بناءً على أن ما أسكر فهو خمر، وسيأتي لذلك زيادة بيان في كتاب الأشربة -إن شاء الله تعالى -. قوله: (لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك). في كلامه نظر من وجوه: أحدها: في إباحة تناول ما يغيب العقل، فإن تغييب العقل حرام سواء كان البنج أو بغيره، فلا ينبغي أن يقال بإباحة قدر ما يغيب معه العقل، وفي كلامه [ما يوهم ذلك وهذا كما أن الأكل إلى الشبع مباح والزيادة عليه حرام لما فيه من الضرر، ولأنه قد يغيب] العقل بسبب زيادة الأكل على الشبع فيحرم، فكذا تناول قدر ما يغيب به العقل من البنج ونحوه. قال السغناقي: فجعل السكر من البنج من المباح مخالف لرواية الجامع

الصغير للإمام المحبوبي فإنه ذكر فيه عن أبي حنيفة أنه قال: من زال عقله بالبنج إن علم أنه بنج حين أكله يقع طلاقه وعتاقه وإن لم يعلم لا يقع. الثاني: في تسمية غيبة العقل بسبب أكل البنج سكرًا، فإنه لا يحصل به نشوة ولا طرب ولا لذة ولذلك لا يحد آكلها لأنه ليس في الطبع ما يدعو إليها فلا يحتاج فيها إلى شرع الزاجر بخلاف الحشيشة فإنها يحصل بها ذلك، فكان في الطبع ما يدعو إليها، فلهذا كان القول الصحيح هو القول بحرمتها والحد

بأكل القليل منها كما في عصير العنب لدخولها في قوله -صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام" وسيأتي لذلك زيادة بيان في الأشربة إن شاء الله تعالى، بخلاف البنج، فإن غيبة العقل بسبب أكله بمنزلة الإغماء أو البرسام أو ما يحصل للمحموم من الهذيان والهوس وفساد الذهن ونحو ذلك، وكذلك بغير الحمى من الأمراض التي تتعلق بالدماغ فيحصل منها غيبة الدماغ أو سوء المزاج وليس ذلك بسكر. الثالث: في إطلاقه القول بإباحة لبن الرماك، جمع رمكة وهي الأنثى من الخيل البراذين، وهو إذا بلغ حد الإسكار كما يفعله الترك فإنهم يخمرونه على صفة يعرفونها حتى يصير مسكرًا، كيف يقال بحل تناول القدر المسكر منه، وكيف يقال إنه لا يحد بالسكر منه؟! بل القول الصحيح هو القول بتحريم القليل والكثير منه، والحد يشرب ذلك كما في عصير العنب، والأصل في ذلك قول عمر -رضي الله عنه -"نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر

والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل" متفق عليه، وسيأتي لذلك زيادة بيان -إن شاء الله تعالى -، وإن كان مراده شرب لبن الخيل قبل تخميره فذلك لا يحصل منه سكر، وهو بمنزلة العصير قبل تخمره. قوله: (وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطًا، لإجماع الصحابة -رضي الله عنهم -). أما التفريق بين شرب الخمر والسكر من غيرها فسيأتي الكلام عليه في كتاب الأشربة -إن شاء الله تعالى -، وأما ما ذكره من إجماع الصحابة فعن أنس -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -"أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر -رضي الله عنه -استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف نرى أن نجعله كأخف الحد فجلد فيه ثمانين" أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود/ والترمذي وصححه. وعن ثور بن زيد الديلي "أن عمر استشار في حد الخمر، فقال له علي: أرى أن تجلده ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى

افترى فجلد عمر في حد الخمر ثمانين" أخرجه مالك في الموطأ والدارقطني. وعن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وفي إمرة أبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا حتى كان صدرًا من إمارة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين" رواه أحمد والبخاري. ويشكل على دعوى الإجماع ما في صحيح مسلم عن حضين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد -يعني ابن عقبة -قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان -أحدهما حمران -أنه شرب

الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال أمسك؟ ثم قال: جلد النبي -صلى الله عليه وسلم -أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي" ولا شك أنه لا يمكن أن ينعقد الإجماع على ما خالف فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأبي بكر وعلي -رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر -رضي الله عنه -على أنها تعزير، يجوز فعلها وتركها إذا رآه الإمام، وإلى هذا أشار علي -رضي الله عنه -بقوله: وكل سنة، وهذا أحب إلي. كما تقدم، وكذلك قول السائب بن يزيد: حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين. كما تقدم أيضًا، يشير إلى أن الزيادة للتعزيز، وعمر -رضي الله عنه -ممن أمرنا أن نقتدي بسنته بقوله -صلى الله عليه وسلم -"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" الحديث، وهذا يرد على من

يقول إن الزيادة على النص نسخ فإن عمر -رضي الله عنه -ليس له أن ينسخ شيئًا من الشريعة، وإنما فعل ذلك تعزيزًا مع الحد، كما ألزم بالطلاق الثلاث بعد أن كان يحسب واحدة كما تقدم. وعن أنس -رضي الله عنه -"أن النبي -صلى الله عليه وسلم -جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين" متفق عليه. وعن علي -رضي الله عنه -قال: "ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت، وأجد في نفسي منه شيئًا إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لم يسنه" متفق عليه، ومعنى قوله: لم يسنه. أي لم يقدره بلفظه أو لم يبلغ به ثمانين، ولهذا قال الشافعي -رحمه الله -: إن حد الإمام في الشرب أربعين فمات المحدود، فلا ضمان ولا كفارة، وإن ضرب أكثر من أربعين فديته على عاقلة الإمام أو في بيت المال. على قولين للشافعي كما في سائر التعزيزات، وفي الكفارة عنه أيضًا قولان، هل هي في ماله أو في بيت المال.

قوله: (وجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيًا). يعني أنه يجرد في المشهور من الرواية، لأن الحد قد خفف عن عدد حد الزنا فجعل ثمانين، ولم يجعل مائة فلا يخفف بترك التجريد، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يكن الأصل أن يحد حد الزنا ثم خفف إلى حد القذف، فلا تصح دعوى التخفيف فيه من حيث العدد. والثاني: أن التجريد في الحدود لا أصل له كما تقدم. قوله: (والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقًا قليلاً ولا كثيرًا ولا يعقل الرجل من المرأة، وقالا: هو الذي يهذي ويختلط كلامه لأنه السكران في العرف، وإليه مال أكثر المشايخ ... إلى آخر المسألة). قول الصاحبين أقوى ولهذا مال إليه أكثر المشايخ، وذلك لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} نزلت في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حين قدموا رجلاً منهم في الصلاة، فصلى بهم وترك في قرآنه ما غير المعنى، وقد كانوا أقاموا الصلاة عالمين بها، وقد عرفوا إمامهم وقدموه ليؤمهم، وقصدوا إمامتهم والقراءة لهم، وقصدوا الائتمام به، وسماهم سكارى على ما هو معروف في سبب نزول الآية الكريمة

قبل تحريم الخمر والله أعلم. * * *

باب حد القذف

/باب حد القذف قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام -"من أشرك بالله فليس بمحصن"). تقدم في أوائل كتاب الحدود -أن الدارقطني رواه من حديث ابن عمر -رضي الله عنه، وقال: الصواب موقوف عليه، وتقدم قول ابن قدامة: أنه يتعين حمله على إحصان القذف. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام -: "الخال أب"). لا يعرف هذا في كتب الحديث. قوله: (ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت: لا، بل أنت، حدت المرأة ولا لعان). هذا مبني على أن اللعان من شرط أهلية الشهادة من الجانبين، وقد تقدم الكلام في ذلك في باب اللعان. قوله: (ومن قذف امرأة معها أولاد لا يعرف لهم أب، أو قذف الملاعنة بولد حي أو قذفها بعد موت الولد، فلا حد عليه، لقيام أمارة الزنا منها

وهي ولادة ولد لا أب له فقالت العفة نظرًا إليها، وهي شرط، ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد لانعدام أمارة الزنا). يرد -على القول بترك الحد عمن قذف من لاعنت بولد -حديث ابن عباس -رضي الله عنه -"أن النبي -صلى الله عليه وسلم -لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرقى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد" رواه أحمد وأبو داود. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه، وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين" رواه أحمد. وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة، وجعلوه بمنزلة من قذف الملاعنة بغير ولد والفرق بين وجود الولد وعدمه بكونه أمارة الزنا لا يقوى مع وجود النص، واحتمال كونه من الزوج.

فصل في التعزير

فصل في التعزير: قوله: (والأصل فيه قوله -عليه السلام -: "من بلغ حدًا في غير حد فهو من المعتدين"). هذا الحديث ضعفه أهل الحديث. قوله: (وهو مأثور عن علي -رضي الله عنه -فقلده). يعني تقدير نهاية التعزير بخمسة وسبعين، وليس لذلك ذكر في كتب الحديث. قوله: (وحد الشرب ثبت بقول الصحابة -رضي الله عنهم -). فيه نظر، وإنما ثبت حد الشرب بالسنة، وهو قد روى في أول باب حد الشرب قوله -صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه". * * *

كتاب السرقة

كتاب السرقة قوله: (وقد تأيد بقوله -عليه الصلاة والسلام - "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم"). يعني أنه قد ورد أن قيمة المجن الذي قطع فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - دينار أو عشرة دراهم، وتأيد ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام -: "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم"، وهذا اللفظ من كلام ابن مسعود، أخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي، والمرفوع بمعناه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم" أخرجه الدارقطني، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، والذي روى عن الحجاج ضعيف أيضًا، وللبيهقي وضعفه عن علي -رضي الله عنه -"لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم".

وأما ما ورد في تقويم المجن بعشرة دراهم فعن ابن عباس -رضي الله عنه -"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم" هذه رواية أبي داود، وفي رواية النسائي عن عطاء مرسلاً قال: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن، قال: وثمن المجن عشرة دراهم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان ثمن المجن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عشرة دراهم" أخرجه النسائي. قال ابن المنذر: واختلفوا فيما يجب فيه قطع يد السارق، فقالت طائفة: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا، روينا هذا القول عن عمر وعثمان وعلي وبه قالت عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي

والليث بن سعد والشافعي وأبو ثور. وفيه قولٌ ثان: وهو أن اليد تقطع في ربع دينار وفي ثلاثة دراهم، وإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانخفاض/ الصرف، لم تقطع يده، هذا قول مالك بن أنس، والسلع لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم، قل الصرف أو كثر، وقال أحمد وإسحاق في السلع: تقوم على حديث ابن عمر، وإن سرق ذهبًا فربع دينار، وإن سرق من غير الذهب والفضة، فكانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع. وفيه قول رابع: أن الخمس لا تقطع إلا في خمس، روي ذلك عن عمر، وبه قال سليمان بن يسار، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وقال

أنس بن مالك "قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم" وفيه قول خامس: وهو أن اليد لا تقطع إلا في عشرة دراهم، هذا قول عطاء والنعمان وصاحبيه، ثم حكى أقوالاً أخر، والثابت في الصحيحين والسنن والمساند حديث ابن عمر -رضي الله عنهما -"أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم" رواه الجماعة، وفي لفظ بعضهم "قيمته ثلاثة دراهم" وعنه -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -، قطع يد سارق سرق ترسًا من صفة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم. رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وحديث عائشة -رضي الله عنها -"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لا تقطع يد السارق

إلا في ربع دينار فصاعدًا"رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، وفي رواية قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار" رواه البخاري والنسائي وأبو داود وفي رواية قال: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" رواه البخاري. وفي رواية قال: "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما" رواه أحمد وفي رواية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق فيما دون المجن، قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار" رواه النسائي. وقد تقدم أن ذلك قول عمر وعثمان وعائشة، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف فكان إجماعًا، وهو مذهب فقهاء المدينة السبعة مع من

تقدم ذكرهم، ولم يثبت في التقدير بعشرة دراهم من السنة ما يصلح لمعارضة ما تقدم، وعلى تقدير الاختلاف في قيمة المجن، فحديث عائشة المذكور لم يثبت ما يعارضه، ولذلك اعتبر الشافعي ربع دينار كما تقدم. * * *

باب ما يقطع فيه وما لا يقطع

باب ما يقطع فيه وما لا يقطع قوله: (ولإطلاق قوله -عليه الصلاة والسلام -"لا قطع في الطير"). لا يعرف هذا مرفوعًا، ولكن ذكره البيهقي من كلام عثمان. قوله: (والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من التمر، وفيه القطع). يشير بذلك إلى الجواب عن قول الشافعي، وهو رواية عن أبي يوسف، وقول جمهور العلماء، وفي الجواب نظر، فإن الجرين هو المكان الذي يلقى فيه الرطب ليجف، كذا في المغرب وغيره، وأصله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن الثمر المعلق فقال: من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنًة فلا شيء عليه،

ومن خرج بشيء منه فعليه غرامه مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه النسائي وأبو داود، وفي رواية: قال: سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها، قال: فيها ثمنها مرتين، وضرب ونكال، وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن، قال: يا رسول الله فالثمار، وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة، فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه معناه، وزاد النسائي في آخره "وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامه مثليه وجلدات نكال". وعن عمرة بنت عبد الرحمن "أن سارقًا سرق أترجة/ في زمان عثمان ابن عفان فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر

درهمًا بدينار، فقطع عثمان يده" رواه مالك في الموطأ. وهذا يدل على أن عثمان -رضي الله عنه -فهم من السنة أن الثمار إذا قطعت، وأحرزت ففيها القطع، وهو ظاهر مما تقدم من الحديث، ولم يرد ما يخالف ذلك، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع في ثمر ولا كثر" يفيده هذا التفصيل، والذي يؤويه الجرين إنما هو قبل الجفاف أما بعد الجفاف فهو في القواصر في البيوت، هذا الذي جرت به عادة أصحاب الثمر، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم -له ثلاثة أحوال: حالة لا شيء فيها: وهو إذا أكل منه بفيه. وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع: وهو إذا سرقه من بيدره،

سواء كان قد انتهى جفافه أو لم ينته، فجعل العبرة للمكان والحرز، لا ليبسه ورطوبته، ويدل عليه أنه -صلى الله عليه وسلم -أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها، وفي الحديث المذكور دليل على مضاعفة الغرم على من سرق ما لا قطع فيه، وهو مذهب أحمد، وفيه دليل على اجتماع التعزير مع الغرم، وفي ذلك جمع بين عقوبتين مالية وبدنية، وهذا التفصيل لا يجري في الماء والكلأ والتراب فإنه وإن أحرز، فشبهة الاشتراك في الأصل باقية، فيدرأ بها الحد، أما الثمار فلم تكن في الأصل مشتركة، فلهذا فصل فيها الشارع الحكم، كما تقدم في الحديث وعلى هذا الخشب الذي يحرز فإنه بمنزلة الثمرة. قوله: (لقوله -عليه الصلاة والسلام -"من نبش قطعناه"). وقوله: (ولهما قوله -عليه الصلاة والسلام -"لا قطع على المختفي" وهو النباش بلغة أهل المدينة). الحديثان منكران، خرج الحديث الأول البيهقي وضعفه، قال ابن المنذر: واختلفوا في النباش يسرق الكفن، فروي عن ابن الزبير "أنه قطع نباشًا" وبه قال عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وقتادة والنخعي

وحماد، وهو قول مالك والشافعي، وعبد الملك الماجشون وإسحاق وأبي ثور وأبي يوسف، وقال أحمد: هو أهل أن يقطع، وكان الثوري والنعمان ومحمد يقولون: لا قطع عليه، وليس القبر عندهم بحرز، قال أبو بكر: يقطع. انتهى. ويشهد للقول بقطعه قول عائشة -رضي الله عنها -"سارق أمواتنا كسارق أحيائنا" ذكره في المغني، والكفن محرز بالقبر والميت فيه كالحافظ النائم، وانتهاك حرمته مع الواعظ الناهي بلسان حاله فوق انتهاك حرز الحي من هذا الوجه. قوله: (ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل على ما يعرف من بعد -إن شاء الله تعالى -). قول أبي يوسف في هذه المسألة أقوى، وسيأتي الكلام على قوله

فصل في الحرز والأخذ منه

بسقوط عصمة المحل في آخر الباب -إن شاء الله تعالى -. [فصل في الحرز والأخذ منه]: قوله: (وإذا نقب اللص البيت فدخل، وأخذ المال، وناوله آخر خارج البيت فلا قطع عليهما إلى آخر المسألة). يشكل على ذلك: ما إذا دخل جماعة وأخذ واحد فإنهم يقطعون كما ذكره المصنف بعد ذلك، وعلل لذلك بأن الإخراج من الكل معنى للمعاونة كما في السرقة الكبرى، وكذلك هاهنا الإخراج منهما معنىً، فإن عادة السراق كذلك أن يقف بعضهم خارج النقب ينظر للداخل من يشعر بهم من خارج فيعلمه به ليهربوا، فقد تعاونوا على هتك الحرز والإخراج منه، وقد قال مالك والشافعي يقطع الداخل وحده واختاره ابن المنذر، وقال أبو يوسف: إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج فالقطع على الداخل، وإن أدخل الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما، وهو قياس قول أحمد، وهو أظهر الأقوال.

قوله: (وإن طر صرة خارجة من الكم لم تقطع إلى أن قال: وعن أبي يوسف أنه يقطع على كل حال لأنه محرز إما بالكم أو بصاحبه). قول أبي يوسف أقوى، وما أجاب به عن دليل أبي يوسف من أن الحرز هو الكم كالجوالق جواب عجيب، والصحيح أنه يقطع في كل منهما لأنه محرز بالحافظ. قوله: (وإن سرق من القطار بعيرًا أو حملًا لم يقطع لأنه ليس بمحرز مقصودًا فتتمكن شبهة العدم، وهذا لأن السائق/ والقائد والراكب يقصدون قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ حتى لو كان مع الأحمال من يتبعها للحفظ قالوا: يقطع). في كونه غير محرز نظر، لأن المسافر إذا كان قصده المسافة ونقل الأمتعة ولا يتحقق ذلك بدون الحفظ فكان الحفظ هو المقصود الأصلي أو لازمه، وكيف يتصور نقل بغير حفظ، فإذا سرق من القطار بعيرًا ومعه سائق فحرزها نظره إليها، وكذلك لو لم تكن مقطرة وإن كان معها قائد فحرزها التفاته إليها ومراعاته [لها] في كل وقت، وتكون بحيث يراها إذا التفت وكذلك إذا كان

فصل في كيفية القطع وإثباته

راكبًا على بعضها إلا أن يسرق البعير براكبه لأنه في يد راكبه لم تزل يده عنه بإخراجه عن الطريق، وذلك لأن العادة جرت بالحفظ على هذا الوجه، وبذلك قال الشافعي وأحمد وغيرهما. وكذلك إذا سرق الجوالق بما فيه [وقولهم إن من يسرق الجوالق بما فيه] لا يقطع وكذلك الخيمة ونحوها لأنها هي الحرز لما فيها. جوابه: أنها وإن كانت حرزًا لما فيها لا يمتنع أن تكون هي محرزة بحافظها، كمن دخل دارًا وسرق صندوقًا مقفلًا لما فيه. فصل في كيفية القطع وإثباته: قوله: (وكذا إذا كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو أصبعان منها سوى الإبهام، لأن قوام البطش بالإبهام). يعني أنه لا تقطع يمينه والحالة هذه وفيه نظر فإن عدم قطع اليمنى إذا كانت اليسرى شلاء أو مقطوعة إنما كان بالرأي والاجتهاد، فإذا اختلت المنفعة كان أبعد، والأمر بقطع اليد مطلق فكيف يقيد بكونه يلزم من قطعها خلل ظاهر في منفعة البطش، والخطأ في العمل بإطلاق النص أسهل من الخطأ في

تقييده بمثل هذا القيد. قوله: (خلافًا للشافعي في الإقرار): يعني أن الشافعي يقطع السارق بإقراره من غير دعوى، وليس ذلك مذهب الشافعي، وإنما خالف في اشتراط الدعوى للإقرار والبينة، مالك وأبو ثور وابن المنذر ومذهب الشافعي وأحمد كمذهب أبي حنيفة في ذلك، وعن أبي أمية المخزومي "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي بلص قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما إخالك سرقت فقال: بلى، فأمر به فقطع" الحديث، رواه أبو داود والنسائي. قوله: (إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن قبل قضاء الدين أو بعده لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه).

حكم ما إذا وهبت السرقة للسارق

هكذا وقع في عامة النسخ -أعني قوله: قبل قضاء الدين أو بعده -وهو مشكل، لأن تعليله بعده يناقضه مناقضة ظاهرة، وهو قوله: لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه، أي: ليس له المطالبة بالعين المرهونة قبل قضاء الدين، ولأجل هذا الإشكال قال السغناقي في شرحه: إن الأصح من النسخ قوله: إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له ... إلى آخره. قوله: (وإن قطع سارق بسرقة، فسرقت منه لم يكن له ولا لرب السرقة أن يقطع السارق الثاني، لأن المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم ينعقد موجبه في نفسها). هذه المسألة تنبني على مسألة سقوط الضمان بالقطع، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. قوله: (وإذا قضي على الرجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع -معناه إذا سلمت إليه -وكذلك إذا باعها المالك إياه، وقال زفر والشافعي: يقطع، وهو رواية عن أبي يوسف).

وبه قال مالك وأحمد وإسحاق أيضًا، وحجتهم في ذلك حديث صفوان بن أمية -رضي الله عنه- قال: "كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا أنا أهبها له وأبيعها له، قال: فهلا كان قبل أن تأتيني به" رواه الخمسة إلا الترمذي. وفي رواية لأحمد والنسائي "فقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وليس لأحد مع السنة كلام، ولو بلغ أبا حنيفة ومحمدًا هذا الحديث على هذا الوجه لم يقولا بخلافه أبدًا. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: تعافوا

ادعاء السارق تملكه للعين المسروقة

الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" رواه النسائي وأبو داود. قوله: (وكذلك إذا انقضت قيمتها من النصاب -يعني قبل الاستيفاء بعد القضاء -عن محمد أنه يقطع، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى). وهو قول مالك وأحمد أيضًا، وإذا كان هبة المسروق من السارق أو بيعه منه بعد القضاء بقطعه لا يمنع للحديث المتقدم، فنقصان السعر أولى، لأن السرقة قد ظهرت من كل وجه ولم يعتبر الشارع الإمضاء من القضاء في حق درء القطع. قال في المغني: سواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده، لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ، فأما إن نقص النصاب قبل الإخراج لم يجب القطع، لعدم الشرط قبل تمام السبب. انتهى. قوله: (وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه، سقط القطع عنه

وإن لم يقم بينة، معناه بعد ما شهد الشاهدان بالسرقة، وقال الشافعي رحمه الله: لا يسقط بمجرد الدعوى). المخالف في هذه المسألة: مالك لا الشافعي، وسماه الشافعي السارق الظريف. وعن أحمد ثلاث روايات، الثالثة: يقبل منه إذا لم يكن معروفًا بالسرقة، ويسقط القطع عنه، وإن كان معروفًا بالسرقة قطع، وما أحسن هذا التفصيل، وإلا فلا يعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان، ويتخلص من القطع فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان. قوله: (وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما: هو مالي، لم يقطعا، لأن الرجوع عامل في حق الراجع، ومورث للشبهة في حق الآخر، لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة). ينبغي أن لا يورث هذا شبهة في حق الآخر، لأن تأثير دعوى الملك في حق مدعيه إنما هو باعتبار كونه شبهة، فتأثيره في حق الآخر ينزل عنه إلى شبهة الشبهة، وفي اعتبار الشبهة الأولى نظر، فالثانية أبعد، وأيضًا فإن كلًا

تضمين السارق بعد القطع

منهما مؤاخذ بسرقة نفسه ولهذا يحتاج إلى تكميل النصاب في حق كل منهما فكيف يصح تعليله بأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة في درء الحد عن من هو مقر بالسرقة ثابت على إقراره لا شبهة في سرقته. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه" ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ، فيتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشبهة وما يؤدي [إلى انتفائه فهو المنتفي، ولأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إذ لو بقى لكان مباحًا في نفسه فينتفي القطع] للشبهة فيصير محرمًا حقًا للشرع كالميتة، ولا ضمان فيه). أما الحديث فغير ثابت فإنه أخرجه النسائي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال عبد الحق: إسناده منقطع. وقد طعن فيه أيضًا ابن المنذر، وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة.

وأما قوله: ولأن وجوب الضمان ينافي القطع، لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ فيتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع، وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي. فهذا مبني على أن الملك يثبت مستندًا إلى وقت الأخذ، ولا يسلم ذلك المخالف، بل يقول: إن بدلها قد استقر في ذمته، وأن هذا الاستقرار في ذمته لا يمنع القطع، لأن هذه العين تعلق بها حقان، حق الله، وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر ويستوفيان معًا، لأن القطع حق الله، والضمان حق للمالك، ولهذا لو أسقط المسروق منه القطع بالهبة ونحوها بعد الرفع إلى الإمام لا يسقط كما ثبت في حديث صفوان المتقدم، ولو أسقط الضمان سقط، وهذا كما لو زنى بأمه ثم قتلها، فإنه يحد وعليه القيمة، فكذا إذا سرقها ثم قتلها، قالوا: وكذا إذا قتل في الإحرام صيدًا مملوكًا لمالكه فعليه الجزاء لحق الله، وقيمة الصيد لمالكه. قالوا: وكذلك لو غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقًا لله، ولزمه عندكم ضمانه للذمي. قالوا: وقولكم: إنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ كما قلتم في الغصب ممنوع وسيأتي لذلك بيان في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.

وأما قوله: ولأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إذ لو بقي كان مباحًا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرمًا حقًا للشرع/ كالميتة ولا ضمان فيه. خلاصة هذا البحث أن عدوان السارق إما أن يكون على حق الله أو على حق العبد، لا جائز أن يكون على حق العبد، لأنه يكون حرامًا لغيره لا لعينه وذلك شبهة يدرأ بها الحد، فتعين أن يكون على حق الله فخرج بذلك عن أن يكون معصومًا حقًا للعبد. وجوابه: أنه بقي قسم ثالث وهو أنه عدوان على حق الله وعلى حق العبد، فجزاء عدوانه على حق الله القطع، وجزاء عدوانه على حق العبد الضمان له، وبهذا يخرج الجواب عن قولهم: إن قوله تعالى: {جزاءً بما كسبا} يمنع التضمين لأنه جعل القطع كل الجزاء، فإنه تعالى جعل القطع الجزاء على كسبه الجريمة، فإن ارتكاب المعصية يسمى كسبًا، قال تعالى {والذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئة بمثلها} أما المال فهو لمالكه لم يخرج عن ملكه بسرقته، فإذا وجده بعينه أخذه، وإن لم يجده غرمه السارق جزاء على عدوانه عليه، وتفريقه بينه وبين مالكه. فالحاصل أن فعله لاقى عصمتين لله وعصمة للعبد، وليس في الآية ولا في المعنى الذي ذكروه ما يمنع من ذلك، وأورد الشيخ ظهير الدين

المرغيناني في فوائده على القول بأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إلى آخره، فقال: وفي هذه الطريقة نظر، لأن القطع في السرقة يجب صيانة لحقوق الناس فلو قلنا بذلك، يؤدي إلى أن يكون شرعية القطع لصيانة حق الله، وإبطال حقوق الناس فيجب ترك القول به. انتهى. وقد روى هشام عن محمد أن السارق لا يضمن في الحكم، فأما بينه وبين الله تعالى يفتى بالضمان لأن المسروق منه، قد لحقه الخسران والنقصان بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي القضاء لما ذكرنا فيفتي برفع النقصان الذي لحقه من جهة السارق فيما بينه وبين الله تعالى، كذا في المبسوط. وفي الإيضاح: فالأصل في هذه المسائل كلها أن كل فعل انعقد سببًا لوجوب الضمان، وتعذر إيجابه لعارض ظهر أثر ذلك العارض في حق

الحكم، وأما الفتوى فيما بينه وبين الله تعالى يعتبر، قضية السبب انتهى، وهذا تصريح بأن القطع جزاء العدوان على حق الله باعتبار مخالفة أمره، وأن حق العبد باق في ذمة السارق لم يبرأ منه بالقطع، وأن عليه أن يضمن للمالك ماله لكن يفتى بذلك ولا يحكم عليه به، وإذا آل الأمر إلى هذا ظهر قوة قول من قال بإلزامه بالضمان لأن منصب القضاء الإلزام من امتنع عن إيفاء ما عليه إيصالًا للحق إلى مستحقه، وإعانة للمظلوم على الظالم. ***

باب ما يحدثه السارق في السرقة

باب ما يحدثه السارق في السرقة قوله: (ولهما أن الأخذ وضع سببًا للضمان لا للملك إلى أن قال: ومثله لا يورث الشبهة كنفس الأخذ). صوابه: أن يقول: ولهما أن الشق وضع سببًا للضمان لا للملك، لأن مراده الرد على أبي يوسف حيث يقول إن الشق سبب للملك، ولا يصح رده عليه إلا أن يقول الشق أو الحرق أو نحو ذلك، وأيضًا فإنه قال بعد ذلك: كنفس الأخذ، ولا يصح أن يقال الأخذ كنفس الأخذ، ولا يقال إن هذا تغيير من الناسخ لأني وجدت ذلك في نسخ كثيرة، وقد ذكرها السغناقي كذلك ولم يتنبه لها. قوله: (ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى، حتى لو أراد أخذه مصبوغًا يضمن ما زاد الصبغ فيه وحق المالك في الثوب قائم صورة لا معنى، ألا ترى أنه غير مضمون على السارق بالهلاك، فرجحنا جانب السارق). يعني لأبي حنيفة وأبي يوسف على محمد، وقول محمد هنا أظهر وأقوى، فإن قولهما مبني على نفي الضمان عن السارق وقد تقدم الكلام على

ذلك، وهنا إشكال آخر: وهو أن الضمان وعدمه إنما يكون بعد هلاك المسروق والثوب هنا قائم غاية ما فيه أنه لو رد الثوب كان شريكًا فيه بالصبغ ولا يجوز أن يقطع فيما هو شريك فيه، وهذا لا يمنع الرد كما في الثوب المغصوب إذا صبغه الغاصب وترجيح جانب السارق على جانب المالك والحالة هذه في غاية الإشكال بل ترجيح جانب المظلوم/ أولى بكل طريق ممكن وهذه طريقة ممكنة. ***

باب قطع الطريق

باب قطع الطريق قوله: (وإن أخذ مالًا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات لأنه لما وجب الحد حقًا لله تعالى سقطت عصمة النفس حقًا للعبد كما تسقط عصمة المال). تقدم التنبيه على ما في القول بسقوط عصمة المال من الإشكال وأنه لا مزاحمة بين الحقين، بل يمكن أن يوصل إلى كل ذي حق حقه وهذه المسألة أشكل من تلك، فإن القطع من خلاف في مقابلة أخذ المال وبقية الجراحات، فكيف تهدر، وقد قال تعالى: {والجروح قصاص}. قوله: (ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبًا كان فعل الباقين بعض العلة، وبه لا يثبت الحكم، فصار كالخاطئ مع العاقد). أكثر أهل العلم على أن القطاع إذا كان فيهم صبي أو مجنون أنه لا يسقط الحد بذلك ع الباقين، وكذلك إن كان فيهم امرأة ولكن إن باشر الصبي أو المجنون القتل وأخذ المال فعليهما ضمان المال في أموالهما، ودية قتيلهما على

عاقلتهما، ولا يجري عليهم حد القطاع، وإن باشرت المرأة القتل والأخذ أجري عليها حد القطاع، وكذلك ذو الرحم المحرم من المقطوع عليهم، وقل أن يخلو قطاع الطريق عن صبي أو امرأة، إما للتبعية وإما لقصد الفجور بهما، ولو علموا أن ذلك يدرأ عنهم الحد صحبوه معهم حيلة على الدرء، ولا شك أن ذلك مما يكثر سوادهم ودرء الحد في حق الصبي والمجنون والمحرم والمرأة لشبهة تخصه، فلا يوجب ذلك سقوط الحد عن الباقين، وصار كما لو زنوا بامرأة وفيهم صبي أو مجنون وكل منهم مؤاخذ بفعل نفسه، ولهذا يشترط في أخذهم المال أن يصيب كلًا منهم نصاب، وإن كان منهم من لم يباشر الفعل بنفسه فهو ردء للمباشر، مع أنه فيه خلاف معروف. وقوله: إن فعل الباقين بعض العلة. إنما يسلم: إذا سلم أن فعل الكل شيء واحد، وإذا كان منهم مؤاخذ بفعله، فعلة حده ما قام به، لا ما قام به لغيره، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله أعلم. ***

كتاب السير

كتاب السير قوله: (ولقوله عليه الصلاة والسلام "الجهاد فرض ماض إلى يوم القيامة"). هذا اللفظ غير معروف، وإنما روى أبو داود عن أنس -رضي الله عنه- من حديث طويل "والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل" وهو حديث ضعيف. قوله: (ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء، لأنه لا يشبه الأجر، ولا ضرورة إليه، لأنه مال بيت معد للنوائب، قال فإن لم يكن، فلا بأس بأن يقوي المسلمون بعضهم بعضًا، لأن فيه دفع الضرر الأعلى بإلحاق الأدنى، يؤيده "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ دروعًا من صفوان" وعمر -رضي الله عنه- "كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس قاعد").

استدلاله بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ دروعًا [من صفوان استدلال ساقط "فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعار من صفوان بن أمية يوم حنين أدراعًا] وكان صفوان يومئذ مشركًا، فقال: أغصبًا يا محمد، قال: بل عارية مضمونة، قال: فضاع بعضها فعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم في صحيحه، ولا يصح استدلاله به إلا أن يكون مسلمًا حين استعار منه حتى يصدق عليه أن يقوي المسلمون بعضهم بعضًا، أما إذا كان مشركًا فلا يصح به الاستدلال على الجعل أصلًا، ويكون دليلًا على تقوية خاصة، وهي إعارة السلاح، لا على الجعل كما ادعى وكذلك ما استدل به من فعل عمر -رضي الله عنه- إن صح -لا يدل على ما ادعاه من الجعل، ولكن في الصحيحين عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" والله أعلم. ***

باب كيفية القتال

باب كيفية القتال قوله: (فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لقول علي -رضي الله عنه- "إنما بذلوها لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا"). يعني إذا بذلوا الجزية، رواه الدارقطني بمعناه وضعفه وإنما/ ورد في حديث أنس يرفعه "فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأحلوا حلالنا، وأكلوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم" أخرجه ابن حبان في صحيحه، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا". قوله: (والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول).

أصل الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم ناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله، أخرجه الجماعة، واختلف العلماء في معناه: فقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة، فهو منسوخ.

وقيل: ليس بمنسوخ، وفيهم نزلت آية المحاربة، وإنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم ما فعل، قصاصًا لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه، ورواه ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وأهل السير والترمذي. قال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه، كذا ذكره النووي في شرح مسلم، وقال ابن الجوزي وادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ، وقد قال العلماء إنما سمل أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة، فاقتص منهم مثل ما فعلوا والحكم ثابت.

قال ابن دقيق العيد -في شرحه العمدة -: هذا تقصير لأن الحديث وردت فيه المثلة من جهات عديدة، وبأشياء كثيرة، فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فما يصنع بباقي ما جرى من المثلة، فلابد من جواب غير هذا، وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين أنه ذكر أنهم قتلوا يسارًا مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم مثلوا به، فلو ذكر ابن الجوزي هذا كان أقرب إلى مقصوده مما ذكر من حديث سمل الأعين فقط على أنه يبقى نظر في بعض ما حكى في القصة. انتهى. ولم يذكر النظر ما هو، وكأنه أراد ما ورد في الحديث أنه تركهم في الحرة، يستسقون فلا يسقون. وقد أجاب النووي عن هذا: بأن هؤلاء كانوا قد قتلوا الرعاة، وارتدوا عن الإسلام، وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقي الماء ولا غيره، قال النووي: قد قال أصحابنا: لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش، ويتيمم، ولو كان ذميًا أو بهيمة وجب سقيه ولم يجز الوضوء به حينئذ انتهى. ولا يصار إلى النسخ مع إمكان العمل بالحديث، وهذا الحديث دليل على مقابلة الجاني بمثل ما فعل فإن هؤلاء قتلوا الراعي، وسلموا عينة كما تقدم، وعلى قتل الجماعة وأخذ أطرافهم بالواحد، وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معًا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قطع أيديهم وأرجلهم حدًا لله

تعالى على حرابهم، وقتلهم لقتلهم للراعي، وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وقتل قطعت يده ورجله، وقتل، وعلى أن الجنايات إذا تعددت تغلظت عقوباتها، فإن هؤلاء كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثلوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة، وعلى أن ردء المحاربين له حكم مباشرتهم، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. قوله: (وحين رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة مقتولة، قال: "هاه! ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت"). أصل الحديث ثابت ولكن ليس فيه (هاه) ولا (فلم قتلت) والله أعلم. ***

باب الموادعة ومن يجوز أمانه

باب الموادعة ومن يجوز أمانه قوله: (وإن صالحهم مدة ثم رأى أن نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة"). لم ينبذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العهد الذي كان بينه وبين أهل مكة، وإنما هم غدروا/ ونكثوا، ولما سار النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم، وذكر موسى بن عقبة نحو هذا، وأن أبا بكر قال: أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟ ولا يصح ما ذكر المصنف من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة، ولو استدل بقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة على المسألة التي بعد هذه -وهي ما إذا بدأ المشركون بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم -لكان استدلالًا صحيحًا، أما على النبذ فلا، وأصل الحديث "أنه كان في صلح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية بينه وبين قريش أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عقد قريش

وعهدهم فمكثوا على تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرًا، ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة -الذين دخلوا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهده -ليلًا بماء يقال له الوتير قريب من مكة، فقالت قريش: ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل، وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم للضغن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن عمرو بن سالم ركب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم المدينة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبره الخبر، وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنشده إياها وهي: يارب إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتموا ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرًا أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسموا صعدا

إن سيم خسفًا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا فقتلونا ركعًا وسجدا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نصرت يا عمرو بن سالم، فما برح حتى مرت غياية فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم، ثم كان من أمر الفتح ما كان، وهذا مشهور في السنن والسير.

حكم بيع السلاح في الفتنة

قوله: (وقد قال عليه الصلاة والسلام: "في العهود وفاء لا غدر"). هذا محفوظ من كلام عمرو بن عبسة -رضي الله عنه-، وهو ما رواه سليمان بن عامر قال: "كان معاوية يسير بأرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عقدة ولا يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء، فبلغ ذلك معاوية فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة" أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال حديث حسن صحيح. قوله: (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب، وحمله إليهم").

حكم أمان العبد

عن عمران بن حصين "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع السلاح في الفتنة". قال البيهقي: رفعه وهم، والموقوف أصح. قوله: (لمحمد رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام "أمان العبد أمان" رواه أبو موسى الأشعري). لا يعرف هذا من حديث أبي موسى الأشعري ولكن يروى عن علي -رضي الله عنه- حديث ضعيف، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس/ للعبد من الغنيمة شيء إلا خرثي المتاع، وأمانه جائز، وأمان المرأة جائز إذا أعطيت القوم الأمان" أخرجه البيهقي، ولو استدل -بعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل" رواه البخاري -لكان أولى، فإن العبد

رجل من المسلمين، وقد أجاز عمر -رضي الله عنه- أمان عبد ولم يسأل هل كان مأذونًا له في القتال أم لا؟ فالتعليل بكونه مأذونًا له في القتال وغير مأذون، فيه نظر، فإن علم المشركين بذلك في غاية الندرة، والنص مطلق. ***

باب الغنائم وقسمتها

باب الغنائم وقسمتها قوله: (فهو بالخيار إن شاء قسمه بين الغانمين كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، وإن شاء أقر أهله عليه، ووضع عليهم وعلى أراضيهم الخراج، كذلك فعل عمر -رضي الله عنه- بسواد العراق بموافقة من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يحمد من خالفه، وفي كل ذلك قدوة فيتخير). في كلامه نظر من وجوه: أحدها: قوله: فهو بالخيار. فإن ظاهره أنه اختيار تشه، وليس كذلك، وإنما على الإمام أن يجتهد ويفعل ما يراه أنه الأصلح. الثاني: دعواه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم خيبر بين الغانمين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين النصف من ذلك: ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين، قال البيهقي: وهذا لأن خيبر فتح شطرها عنوة، وشطرها صلحًا، فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحًا

لنوائبه وما يحتاج إليه في أمور المسلمين وهذا بناءً منه على أصل الشافعي -رحمه الله-: أنه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة كما تقسم سائر الغنائم، فلما لم يجده قسم الشطر من خيبر، قال: إنه فتح صلحًا، ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استولى على أراضيها كلها بالسيف غنوة ولو فتح شيء منها صلحًا لم يجلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها فإنه لما عزم على إخراجهم منها، قالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، دعونا نكون فيها، ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها، وهذا صريح جدًا في أنها فتحت عنوة. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا هو الصحيح في أرض خيبر أنها كانت عنوة كلها مغلوبًا عليها انتهى. وقال ابن إسحاق: وأما من قال إن خيبر كان بعضها عنوة فقد وهم وغلط انتهى.

وقد حصل بين المسلمين واليهود بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم ولكن لما ألجئوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه: أن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفراء والبيضاء، والحلقة والسلاح، ولهم رقابهم وذريتهم ويجلوا من الأرض، فهذا كان الصلح، ولم يقع بينهم صلح أن شيئًا من أرض خيبر لليهود، ولو كان كذلك، لم يقل: نقركم ما شئنا ولا كان عمر أجلاهم كلهم من الأرض، ولم يصالحهم أيضًا على أن الأرض للمسلمين وعليها خراج يؤخذ منهم فإنه لم يضرب على خيبر خراجًا البتة فالصواب الذي لا شك فيه أنها فتحت عنوة، والإمام مخير في أرض العنوة بين قسمها وتركها، وبين قسم بعضها وترك بعضها، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنواع الثلاثة فقسم أرض قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر وترك شطرها، وقد ذكر في معنى قسمة خيبر على ألف وثمانمائة سهم أنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم، ومن غاب عنها، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان، قالوا: ولم يغب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كسهم من حضرها، وقسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهمًا.

الثالث: ما ذكره من التخيير من الاقتداء بفعل عمر -رضي الله عنه، وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما فعله عمر -رضي الله عنه- بسواد العراق موافق لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفهم عمر -رضي الله عنه-/ ومن وافقه في ذلك أصح من فهم من خالفهم فيه كبلال وغيره -رضي الله عنهم-، كيف والأرض لا تدخل تحت حكم الغنيمة، وإنما تدخل تحت حكم الفيء فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي" مع أن الله أحل لهم ديار الكفرة وأراضيهم كما قال تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} وقال تعالى -في حق ديار فرعون وقومه وأرضهم-: {وأورثناها بني إسرائيل} وقال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض} وقال تعالى -حكاية عن موسى-: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} وأما المنقولات فكانت تأكلها النار، وقد

وقع في عبارة الشيخ حافظ الدين النسفي وغيره: أن الإمام إذا فتح بلدة عنوة بالخيار، إن شاء خمسها وقسم الباقي بين الغانمين، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر. وفي ذلك نظر، فإنه لم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خمس أرضًا، لا خيبر ولا غيرها، بل قد روى أحمد وأبو داود عن بشير بن يسار "عن رجال من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أدركهم يذكرون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فجعل نصف ذلك كله للمسلمين، فكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معها، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس" وفي رواية "فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهمًا، فجمع كل سهم مائة سهم، النبي -صلى الله عليه وسلم- له سهم كسهم أحدهم" الحديث، وعن أسلم -مولى عمر -رضي الله عنه- قال: عمر -رضي الله عنه-: "أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانًا ليس لهم من شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها" رواه البخاري ومعنى قوله: كما قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر، لا يلزم منه قسمها

كلها بين الغانمين كما ظنه كثير من الفقهاء، فإنه قد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقسمها كلها بين الغانمين ولو كان تخميسها واجبًا لما جاز تركه مع أنكم قد قلتم: إن شاء خمسها وقسمها بين الغانمين، وإن شاء تركها كلها في يد أهلها بالخراج عليها، ولا يشكل على هذا حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم" رواه أحمد ومسلم، فإنه وإن كان ظاهره يشمل الأرض وغيرها لكن فعله -صلى الله عليه وسلم- في خيبر يبين أن المراد غير الأرض، فإن قيل: يشكل على هذا قول ابن شهاب: "خمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر ثم قسم سائرها على من شهدها ومن غاب عنها من أهل الحديبية" أخرجه أبو داود، قيل: يحمل على ما غنمه منها من المنقولات لا على أراضيها، للتوفيق بين الأخبار، كيف وهو ظاهر، وذاك نص، والنص مقدم على الظاهر، أعني بالظاهر قول ابن شهاب، وبالنص حديث بشير بن يسار الذي فيه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم -أي مع الغانمين -له سهم كسهم أحدهم" وأيضًا فقول ابن شهاب: ثم قسم سائرها إلى آخره يدل على أن مراده غير الأرض، فإن الأرض لم يقسم سائرها بين من شهدها ومن غاب عنها من أهل الحديبية، وإنما قسم بينهم نصفها، وترك النصف الآخر لنوائب المسلمين كما تقدم، وأيضًا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فتح مكة عنوة -على الصحيح -وأقر أهلها عليها، ولم

يخمسها ولم يقسمها، فدعوى التخميس في الأراضي والحالة هذه لا تقوى، وعن أحمد في تخميس الأرض روايتان. قوله: (ولنا قوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولأنه بالأسر والقهر/ ثبت حق الاسترقاق فيه، فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض، وما رواه منسوخ بما تلونا). فيه نظر، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأسارى أنه كان يمن على بعضهم، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسارى

المسلمين فقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة، وقد تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها} وقوله: ولأنه بالأسر والقهر ثبت حق الاسترقاق فيه، فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة؛ منقوض بجواز قتلهم. وقوله: وما رواه منسوخ بما تلونا. وكذلك أيضًا ذكر الأصحاب أن آية القتال منسوخة بآية براءة، لا يقوي دعوى النسخ فإن عموم قوله تعالى {اقتلوا المشركين} مخصوص بجواز الاسترقاق، وجواز المن عليهم بالرقاب والأراضي كما تقدم، والإمام يفعل في ذلك ما يراه مصلحة، من القتل، والاسترقاق وضرب الجزية على من هو أهلها، فكذلك المن والفداء، فقد تكون مصلحة ذلك تربو على مصلحة القتل أو الاسترقاق بأضعاف مضاعفة. قوله: (ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب"). هذا حديث منكر لا يعرف. قوله: (ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة، والثاني منعدم،

لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرًا). للمخالف أن يمنع هذا، ويقول: بل قد ثبتت اليد بحيازة الغنيمة، وإزالة يد الكفار وثبتت يد المسلمين فقد تم الملك فاشتراط النقل إلى دار الإسلام لتمام الملك لا يقوى، فإن القدرة على التصرف -في هذه الحالة -للمسلمين دون الكفار، ولهذت لو أسلم عبد الحربي، ولحق بجيش المسلمين صار حرًا، وهذا يدل على زوال ملك الكافر بإحراز الجيش له، وإن لم ينقلوه إلى دار الإسلام مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يقسم الغنائم قبل أن ينقلها إلى دار الإسلام، فإنه قسم غنائم حنين بالجعرانة، وكانت يومئذ من دار الحرب، وكذلك قسم غنائم خيبر قبل أن ينقلها إلى المدينة، وذلك معروف في السنن والسير، ذكره ابن عبد البر وغيره. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام "الغنيمة لمن شهد الوقعة"). لا يعرف هذا الحديث مرفوعًا، ولم يحتج به الشافعي رحمه الله

مرفوعًا، وإنما أخرجه الشافعي من كلام أبي بكر وعمر واحتج به. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام "من أسلم على مال فهو له"). أخرجه البيهقي وضعفه، ولكن قد جاء معناه في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام" وروى أحمد وأبو داود عن صخر بن عيلة "أن قومًا من بني سليم فروا عن أرضهم حين جاء الإسلام فأخذتها، فأسلموا فخاصموني فيها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فردها عليهم، وقال: إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" وهو حجة لمحمد في الأراضي وفيما هو غصب من ماله في يد مسلم. قوله: (وله أنه مال مباح فملك بالاستيلاء، والنفس لم تصر معصومة

فصل في كيفية القسمة

بالإسلام، ألا ترى أنها ليست بمتقومة إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفًا وإباحة التعرض بعارض شره، وقد اندفع بالإسلام، بخلاف المال، لأنه خلق عرضةً للامتهان فكان محلًا للتملك، وليس في يده حكمًا فلم تثبت العصمة). هذا التعليل لأبي حنيفة على أن من أسلم وله مال في يد مسلم أو ذمي غصبًا، فهو عند أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه، ولبقية الأئمة، وقولهم أقوى فإن هذا مال معصوم تبعًا لمالكه، وهو في يد من يجب عليه رده إلى مالكه وقول المصنف إنه مال مباح ممنوع، وكذا قوله: والنفس لم تصر معصومة بالإسلام ممنوع أيضًا، واستشهاده بأنها ليست بمتقومة لا يلزم منه عدم العصمة، لأن انتفاء التقوم لمانع لا يخرجها عن كونها/ معصومة كما في قتل السيد عبده، والوالد ولده، وقوله: وليس في يده حكمًا ممنوع وسيأتي الكلام في مسألة الغصب في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. فصل في كيفية القسمة: قوله: (فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله، وقد قال عليه الصلاة والسلام

"للفارس سهمان، وللرجل سهم" كيف وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم للفارس سهمين" وإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره). يعني أنه قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أعطى للفارس ثلاثة أسهم وورد عنه أنه أعطاه سهمين، فتعارضت روايتا فعله، فيصار إلى قوله وقد قال: "للفارس سهمان" وقد ورد عن ابن عمر -راوي حديث الثلاثة الأسهم -أنه روى "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم للفارس سهمين" فقد تعارضت روايتاه فيصار إلى رواية غيره، وهي رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى الفارس سهمين" لسلامتها عن المعارض هذا خلاصة كلامه، وهذا البحث إنما يصح بعد صحة الأحاديث التي ادعى معارضتها، وإلا إذا لم يصح الحديث فلا يصلح لمعارضة الصحيح وكيف تصح المعارضة بين ما صح وما لم يصح، فأما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهمًا" فمتفق عليه، وفي رواية في الصحيحين أيضًا بإسقاط لفظة "النفل" وفي رواية "أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه" رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ: "أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة

أسهم، للفرس سهمان، وللرجل سهم". رواه ابن ماجه، وعن المنذر بن الزبير عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه أعطى الزبير سهمًا وأمه سهمًا، وفرسه سهمين" رواه أحمد، وفي لفظ قال: "ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر للزبير أربعة أسهم، سهم للزبير، وسهم لذي القربى، لصفية أم الزبير وسهمين للفرس" رواه النسائي، وعن أبي عمرة عن أبيه قال "أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهمًا، وأعطى الفرس سهمين" رواه أحمد وأبو داود، وعن أبي رهم قال: "غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأخي ومعنا

فرسان، فأعطانا ستة أسهم، أربعة أسهم لفرسينا، وسهمين لنا" رواه الدارقطني، وإن كان في بعض هذه الأحاديث المتأخرة كلام، فإنما ذكرتها بعد حديث ابن عمر للاعتضاد بها لا للاعتماد عليها، وإلا فحديث ابن عمر المتفق على صحته كاف في الاستدلال، وأما ما يظن أنه يعارضه من الرواية عن ابن عمر -رضي الله عنهما- فما روى عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر "أنه أعطى الفارس سهمين، والراجل سهمًا"، قال الشافعي: كأنه سمع نافعًا يقول: للفرس سهمين وللرجل سهمًا، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهمًا، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ، ثم ساق حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر الذي في الصحيحين، وقال ابن عبد البر في التمهيد -بعدما ذكر حديث عبيد الله عن نافع من طرق-: ورواه ابن المبارك عن عبيد الله بإسناده فقال فيه: للفارس سهمين وللراجل سهمًا ثم قال بعد ذلك: ولا حجة في ذلك لأن الأكثر من أصحاب عبيد الله خالفوه، وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أعطى الفارس سهمين، والراجل سهمًا" فهو حديث ضعيف

ذكره عبد الحق في أحكامه، وابن أبي شيبة، وقد عارضه ما نقل عنه الدارقطني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قسم لمائتي فرس بحنين، سهمين سهمين" فقد تعارضت روايتا ابن عباس أيضًا، على ضعف الحديث، وقد احتجوا أيضًا بحديث مجمع بن جارية الأنصاري قال: "قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا/ وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهمًا" رواه أحمد وأبو داود وذكر أن حديث ابن عمر أصح، قال: وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتي فارس. انتهى. وقد تقدم أن الذين قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم خيبر كانوا ألفًا وأربعمائة،

وأن الخيل كانت مائتي فرس هكذا ذكره أهل المغازي، وفي حديث ابن عباس وغيره أن الخيل كانت مائتي فرس كما تقدم، وأما قوله: فيرجع إلى قوله: وقد قال "للفارس سهمان وللراجل سهم" فلا أصل له، ولا يعرف في كتب الحديث، بل جاء من قوله -صلى الله عليه وسلم- ما يوافق حديث ابن عمر، وهو حديث أبي كبشة الأنماري قال: "لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة كان الزبير على المجنبة اليسرى، وكان المقداد على المجنبة اليمنى فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وهدأ الناس جاءا بفرسيهما فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح الغبار عنهما وقال: إني قد جعلت للفرس سهمين وللفارس سهمًا فمن نقصهما نقصه الله" وعن خالد الحذاء قال: لا يختلف فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم" رواهما الدارقطني، قال ابن المنذر: وجاء الحديث عن عمر

ابن الخطاب -رضي الله عنه- "أنه فرض للفرس سهمين وللراجل سهمًا" وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز وبه قال الحسن وابن سيرين ومكحول وحبيب بن أبي ثابت، وبه قال عوام علماء الأمصار في القديم والحديث، وممن قال ذلك: مالك ومن تبعه من أهل المدينة وكذلك قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق، وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر، وكذلك قال الشافعي وأصحابه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا النعمان. انتهى. قوله: (لما روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسهم لفرسين"). عن ابن عمر -رضي الله عنهما "أن الزبير -رضي الله عنه- غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأفراس، فلم يقسم إلا لفرسين" أخرجه الشافعي، قال البيهقي: في إسناده العمري ولا يحتج بحديثه.

قوله: "أن البراء بن أوس قاد فرسين، فلم يسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا لفرس واحد"). لا يعرف هذا في كتب الحديث، قال ابن التركماني: ولم أر هذا بل جاء عكسه، فذكر ابن منده في كتابه في الصحابة (و) البراء بن أوس ابن خالد ثم قال: روى علي بن قرين عن محمد بن عمر المدني عن

يعقوب بن محمد بن صعصعة عن عبد الله بن أبي صعصعة عن البراء بن أوس أنه قاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرسين فضرب عليه السلام له خمسة أسهم انتهى. وعلي بن قرين ضعيف، وشيخه الواقدي، وفي الباب أحاديث أصلح منه. قوله: (ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر، وكذا على شهود الوقعة، لأنه حال التقاء الصفين، فتقام المجاوزة مقامه، إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرًا). لا يلزم من كون الوقوف على حقيقة حالة القتال متعسرًا أن تعتبر حالة المجاوزة مطلقًا، فإن الأصل اعتبار حالة القتال فمتى أمكن اعتبارها لا يصار إلى غيرها، وإذا اشتبه الحال بأن ادعى موتها بعد القتال عليها ولا بينة له

فحينئذ تعتبر حالة المجاورة، أما إذا قامت له بينة بأنه قاتل فارسًا أو رجلًا، فلا مانع من سماعها، قال في المغني: قال أحمد رحمه الله: أنا أرى كل من شهد الواقعة على أي حال كان يعطي، إن كان فارسًا ففارس، وإن كان راجلًا فراجل، لأن عمر -رضي الله عنه- قال "الغنيمة لمن شهد الوقعة" وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور، ونحوه. قال ابن عمر، انتهى. قوله: (ولما استعان/ عليه السلام باليهود لم يعطهم شيئًا من الغنيمة، يعني أنه لم يسهم لهم). عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال "استعان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيهود قينقاع، فرضخ لهم، ولم يسهم لهم" أخرجه الشافعي والبيهقي من جهته وقال: تفرد به الحسن بن عمارة وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح انتهى. وقال ابن المنذر: ولا يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعان بهم، والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت. قوله: (ولنا أن الخلفاء الراشدين الأربعة قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلنا، وكفى بهم قدوة).

اختلف العلماء في قسمة خمس الغنيمة

اختلف العلماء في قسمة خمس الغنيمة على أقوال: فذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله إلى أن يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين. وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف. وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وذهب أبو العالية إلى أنه يقسم على ستة أسهم، زاد سهمًا لله يصرف للكعبة فيما يحتاج إليه من عمارة ونحوها. وذهبت طائفة إلى أن ولي الأمر بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف القربى إلى أقاربه، وممن قال ذلك الحسن وأبو ثور، ونقل عن عثمان رضي الله عنه.

وذهب مالك والثوري رحمهما الله إلى أن الخمس والفيء واحد يجعلان في بيت المال، ويعطى أقرباء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهما على ما يراه الإمام ويجتهد في ذلك، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وهو قول عمر بن عبد العزيز وأهل المدينة، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يقسم على ثلاثة أسهم كما ذكره المصنف، وأقوى هذه الأقوال قول مالك والثوري رحمهما الله، فإن الله تعالى جعل في كتابه العزيز مصارف الفيء هم مصارف الخمس وزاد عليهم لما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فقال في الفيء {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآيات، وقال في الخمس {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآية، واللام في قوله {لله والرسول} في الخمس والفيء كاللام في قوله {قل الأنفال لله والرسول} فالإضافة إلى الرسول لأنه هو الذي يقسم هذه الأموال بأمر الله ليست ملكًا لأحد، وذكر البخاري في صحيحه أن معنى قوله تعالى: {وللرسول} يعني

الرسول له ذلك انتهى. وتحقيق ذلك أن اللام في آية الفيء مذكورة في ثلاثة مواضع في قوله {لله} وفي قوله {وللرسول} وفي قوله {ولذي القربى}، وفي آية الصدقات لم تذكر إلا في أولها فقط، ولم تذكر مع بقية أنواع المصارف في الآيات الثلاث وليس ذلك لغير معنى بل لمعانٍ متغايرة وهي: أنها في قوله {لله} بمعنى أن أمرها إليه، لم يجعله إليكم، بل أخرتها عن حكمكم، وجعل لها مصارف، عينها لهم، وفي قوله {وللرسول} بمعنى أنه هو المنفذ لأمر مرسله وهو الذي يتولى أمر قسمها بإذنه وله فيها نصيب لاحتياجه إلى ما يحتاج إليه البشر، ولما كانت منزلته أعلى من منزلة بقية المصارف أعيدت اللام مع بقية المصارف تنبيهًا على أنهم مصارف محضة فمنزلته -صلى الله عليه وسلم- منزلة بين المنزلتين، ولهذا والله أعلم لم يكرر مع بقية المصارف، ولم يكرر في آية الصدقات، لأن زيادته معهم ليس لها فائدة، إذ كلهم يجمعهم معنى واحد، وهو كونهم مصارف، واللام في قوله {للفقراء المهاجرين} الآيات بدل من اللام في قوله {ولذي القربى} الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم- "إني والله لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"

يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله فيها، وذلك أن الله خيره بين أن يكون ملكًا نبيًا وبين أن يكون عبدًا رسولاً فاختار أن يكون عبدًا رسولاً وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال حيث أحب، ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أمر به فيكون ما يفعله عبادة لله وطاعة له ليس فيه قسمة ما هو من المباح الذي لا يثاب عليه، بل يثاب عليه كله، وقوله: ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم؛ يؤيد ذلك، فإن قوله: (لي) أي أمره إلي، ولهذا قال: والخمس مردود عليكم. وأما ما استدل به المصنف من أن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلنا، فروي عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن الخمس الذي كان يقسم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خمسة أسهم، لله ولرسوله سهم، ولذي القربى

سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم ولابن السبيل سهم، ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم لليتامى، والمساكين، وابن السبيل"، والكلبي ضعيف عند أهل الحديث، بل متروك كذاب، وقال ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث عن الحسن في هذه الآية {وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} قال: لم يعط أهل البيت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخمس أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما، وكانوا يرون أن ذلك إلى الإمام يضعه في سبيل الله وفي الفقراء حيث أراه الله، وهذا ينافي ما روي عنهما من القسم على ثلاثة أسهم، وكأن المراد من قوله لم يعط أهل البيت بعد رسول الله الخمس أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما. أي لم يقسما لهما سهمًا معينًا، بل يصرفان إليهم على ما يريانه من المصلحة مع غيرهم، وهذا يشهد لمذهب مالك، وتفريق الأصحاب بين مصارف الفيء والخمس والزكاة مشكل، فإن اللام في آية مصارف الزكاة وآية الفيء، وآية الخمس والقول بالانقسام في هذه الآية وحدها تحكم يؤيد هذا ما نقله ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه "أنه قرأ: {إنما الصدقات للفقراء .... حتى

بلغ- والله عليم حكيم} ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه ... -حتى بلغ- وابن السبيل} ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... -حتى بلغ- للفقراء، والذين جاءوا من بعدهم} ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو وحمير نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه" ولم يثبت في السنة ما يقتضي قسمة الخمس على خمسة أسهم، على ما سيأتي بعد هذا عن قريب إن شاء الله تعالى، وقد جعل الله تعالى أهل الخمس هم أخص أهل الفيء به، وعينهم اهتمامًا بشأنهم، وتقديمًا لهم، ولما كانت الغنائم خاصة بأهلها، لا يشاركهم فيها غيرهم، نص على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفيء لا يختص بأحد دون جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم فسوى بين الخمس وبين الفيء في المصرف، ولكن لم يقدر ما يصرف إليهم من الفيء بالخمس، وإنما بدأ بذكرهم للاهتمام بأمرهم ليبدأ بالصرف إليهم بقدر حاجتهم غير مقدر بالخمس، ويصرف الباقي في مصالح

المسلمين عامة، المهاجرين والأنصار وتابعيهم الذين يقولون: {بنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية فيخرج منهم الرافضة ونحوهم، فإنهم غير موصوفين بهذا الوصف. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام "يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وأوساخهم، وعوضكم منها بخمس الخمس" والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض، وهم الفقراء). تقدم في كتاب الزكاة أن هذا الحديث، لا أصل له، وهو حديث منكر، وأخذهم من الخمس لا يصح أن يكون علة لمنعهم من الزكاة، لأن اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحقون في الخمس، ولا يحرم عليهم بذلك أخذ الزكاة، وحرمة الزكاة عليهم ثابتة بنصوص أخر غير هذا، وأيضًا فإن

أبا حنيفة رحمه الله لا يرى استحقاقهم خمس الخمس ولا سهمًا معينًا، ولكن إن كان فيهم يتيم أو مسكين أو ابن السبيل يعطى لكونه يتيمًا أو مسكينًا أو ابن السبيل، والمصنف قد ذكر ذلك عنه، فكيف يستدل له بحديث وهو لا يقول به، ولم يثبت في قسمة الخمس على خمسة أسهم حديث صحيح، وقد روى أبو داود عن علي رضي الله عنه قال "ولاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس الخمس، فوضعته مواضعة حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحياة أبي بكر، وحياة عمر"، وفي ثبوت هذا الحديث نظر، فإنه يعارضه قوله -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذ وبرة من سنام بعير: "ليس لي من هذا الفيء شيء، ولا هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، والذي يدل عليه هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحكامه أنه كان يجعل مصارف الخمس كمصارف الزكاة، لا يخرج بها عن الأصناف المذكورة، لا أنه يقسمه بينهم كقسمة الميراث، ولم يقسم خمسًا قط خمسة أجزاء ولا خلفاؤه، ولا كانوا يعطون اليتامى مثل ما يعطون المساكين بل يعطون أهل الحاجة من هؤلاء وهؤلاء، ومن تأمل سيرته حق التأمل وسيرة خلفائه لم يشك في ذلك، والتنصيص على الأصناف

المذكورة في الآية يفيد أن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف مصارف الزكاة لا تعدوهم الزكاة إلى غيرهم، وكذلك الفيء في آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ومن تأمل النصوص وجدها تشهد لأهل المدينة. قوله: (دل على أن المراد قرب النصرة لا قرب القرابة). حقه أن يقول دل أن المراد قرب النصرة مع قرب القرابة، ولا يقول: لا قرب القرابة، فإن كل من كان ينصره من المهاجرين والأنصار له قرب النصرة لكن ليس له مع قرب النصرة، قرب القرابة، فلابد له من اجتماع قرب القرابة والنصرة. قوله: (فأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنه لافتتاح الكلام تبركًا باسمه). القول بأن ذكر اسمه تعالى واسم رسوله في آية الخمس وآية الفيء نظير ذكرهما في قوله تعالى {قل الأنفال لله والرسول} أقوى في المعنى ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما أنا قاسم" ومنصب الرسالة يقتضي ذلك وهو أنه منفذ لأمر مرسله، وهذا هو الذي اختاره البخاري وغيره من أهل الحديث، وفيما

قاله المصنف هضم لمعنى الآية. قوله: (لأنه كان مستحقه برسالته، ولا رسول بعده). يعني سهمه الذي كان يأخذه من الخمس، وفيه نظر، فإنه لا يأخذ شيئًا لأجل رسالته، قال تعالى: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} وقال تعالى {قل ما أسألكم عليه من أجر} وقال تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلى المودة في القربى} والاستثناء هنا منقطع، أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئًا ما، لكن أسألكم أن تودوا قرابتي التي هي قرابتكم، وقيل: يجوز أن يكون متصلاً؛ أي: إلا هذا القدر وهو مودتي للقرابة التي بيني وبينكم. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "ما من بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قرابة" وعن عمرو ابن عبسة -رضي الله عنه- قال "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم" أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه. وقد تقدم أنه لم يثبت أنه كان يقسم الخمس خمسة أسهم، وإنما كان يأخذ منه ما يحتاج إليه، ويصرف الباقي في جهاته من غير تقدير بالخمس، كما كان يصرف الزكاة في مصارفها من غير تقدير بالثمن، وكان يصرف الفيء في

فصل في التنفيل

مصارفه من غير تقدير سهم معين، ومن استقرأ سيرته تبين له هذا، وبهذا يتبين رجحان قول الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة كما تقدم التنبيه عليه. قوله: (والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء). يعني من ذوي القربى، وفي دعواه الإجماع نظر، فإنه مرتب على ما ذكره من أن الخلفاء الراشدين قسموا الخمس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أسهم، ولم يثبت ذلك، وقد قال الشافعي وأحمد ومكحول وأبو ثور أنه يصرف إلى الفقير والغني، لأنهم أعطوا باسم القرابة، وجعل مالك والثوري رحمهما الله الأمر فيه إلى رأي الإمام واجتهاده، ولم يقولا بحرمان الغني فأين الإجماع. فصل في التنفيل: قوله: (ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام، لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز، قال: إلا من الخمس، لأنه لا حق للغانمين في الخمس). فيه إشكال، فإنه إن لم يكن فيه حق للغانمين فهو لليتامى والمساكين وابن السبيل على قول أبي حنيفة وأصحابه يقسم عندهم بينهم أثلاثًا، فكيف يصرف إلى غيرهم، ولهذا لما ذكر هذا الإشكال السغناقي في شرحه لم يقدر على

الجواب عنه، ولكنه التزمه، وخرجه على رواية التحفة أنه يجوز صرف الخمس إلى أحد الأصناف الثلاثة، ونقل عن المبسوط والذخيرة ما يدل على اعتبار الحاجة في من ينفله الإمام بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام لحبيب بن أبي سلمة "ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك"). في معجم الطبراني عن جنادة بن أبي أمية قال: "نزلنا دابقًا وعلينا

أبو عبيدة بن الجراح، فبلغ حبيب بن مسلمة أن بيه صاحب قبرص خرج يريد طريق أذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرها، فقتله وجاء بما معه، فأراد أبو عبيدة أن يخمسه، فقال: لا تحرمني رزقًا رزقينه الله، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "السلب للقاتل" فقال معاذ: يا حبيب إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" وفي سنده عمرو بن واقد ضعيف، ففي كلام المصنف نظر من جوه: أحدها: قوله الحبيب بن أبي سلمة، وإنما هو حبيب بن مسلمة. الثاني: نسبته إليه أنه راوي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس لك من سلب قتيلك ... " الحديث، وإنما هو القائل: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "السلب للقاتل" عكس ما قال المصنف. الثالث: أن هذا اللفظ وهو "ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك" غير محفوظ، وإنما قال معاذ في الحديث المذكور -على ضعفه- "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" استدل معاذ بعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" ولم يقل "ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به

نفس إمامك" وإن كان عمومه شاملاً للسلب، ولكن حكم السلب قد خص منه على ما يأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: (وما رواه يحتمل نصب الشرع، ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما روينا). تقدم التنبيه على ضعف الحديث الذي رواه، وما فيه من الكلام فلا يصلح لمعارضة ما رواه الشافعي من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فإنه متفق على صحته، ويشهد لأنه نصب شرع ما رواه البخاري في صحيحه "أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين

-رضي الله عنهما- ضربا أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفيهما حتى قتلاه، فانصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر إلى السيفين فقال: كلاكما قتله، وسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" وهذا يدل على أن كون السلب للقاتل أمر معلوم من أول الأمر، وإنما تجدد يوم حنين الإعلام العام والمناداة به، وأنه محتاج إلى بينة، لا شرعيته يومئذ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى السلب للقاتل يوم بدر، ولم ينقل إنه كان قد قال قبل الوقعة ذلك اليوم "من قتل قتيلاً فله سلبه" وأيضًا فإنما قال "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" بعد انقضاء الحرب يوم حنين كذا في حديث أبي قتادة الذي في الصحيحين، وهذا ينافي أنه كان على سبيل التحريض، لأنه لو كان للتحريض لكان قبل القتال، وأيضًا فعن عوف بن مالك "أنه قال لخالد بن الوليد في وقعة مؤتة قبل حنين: أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى" رواه مسلم. وعن عوف وخالد أيضًا "أن النبي -صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب" رواه أحمد وأبو داود، وأيضًا فهذا على أصل أبي حنيفة ألزم فإن جعل الآبق عنده

يستحقه الراد من غير شرط، وروي في ذلك أخبار ضعيفه، فكان استحقاق القاتل للسلب أولى من استحقاق راد الآبق للجعل، وقد ثبت أن السلب للقاتل بفعله وقوله -صلى الله عليه وسلم-، وممن قال إن السلب للقاتل -قاله الإمام أو لم يقله- الشافعي وأحمد والليث والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وزفر.

باب استيلاء الكفار

باب استيلاء الكفار قوله: (لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع). يعني الدليل العقلي، وفيه نظر، فإنه ليس في الشرع ما هو على منافاة الدليل العقلي الصحيح، وإنما يرد على وفاقه، والمصنف قد أشار إلى الدليل الصحيح بقوله: ضرورةً تمكن المالك من الانتفاع. هذا مثل قولهم: على خلاف القياس. وقولهم: غير معقول. وفي كل ذلك إساءة أدب على الشرع، وكل ما جاءت به الرسل فهو على موافقة المعقول الصحيح علمه من علمه وجهله من جهله. قوله: (والمحظور لغيره، إذا صلح سببًا لكرامة تفوق الملك، وهو الثواب الآجل [كما] إذا صلى في أرض مغصوبة]، فما ظنك بالملك العاجل).

مشكل فإن المحظور لا يكون سببًا للكرامة قط، وفعل الصلاة في الأرض المغصوبة اشتمل على طاعة وهي الصلاة وعلى معصية وهي استعمال الأرض المغصوبة فيثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية، ويوزن العملان يوم القيامة، والمعصية خارجة عن ماهية الطاعة، فلهذا لم تؤثر في إفسادها عند من يرى صحتها، وهو الأظهر. قوله: (ولا يحط شيئًا من الثمن لأنها من الأوصاف، والأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن). يعني فيما إذا أسروا عبدًا لمسلم فاشتراه رجل فأخرجه إلى دار الإسلام

ففقئت عينه، وأخذ أرشها فإن مولاه يأخذه بالثمن، ولا يحط منه شيئًا، وهذا مشكل لأن الوصف لا يقابله شيء من الثمن إذا لم يصر مقصودرًا بالإتلاف، وهنا صار مقصودًا بالإتلاف، ألا ترى أنه ذكر في باب المرابحة إذا اشترى أمة، فأعورت يبيعها بلا بيان، وسيأتي ما فيها من الإشكال، ولو فقأ عينها بنفسه أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يرابح بلا بيان لأنه صار مقصودًا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن فهنا كذلك. قوله: (وإذا أبق عبد لمسلم فدخل إليهم فأخذوه، لم يملكوه عند أبي حنيفة، وقالا: يملكونه، لأن العصمة لحق المالك لقيام يده، وقد زالت، ولهذا لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه). فيه إشكال من وجهين: أحدهما: أنه يجب تقييد قوله وإذا أبق عبد لمسلم. بأن لا يكون العبد ارتد قبل دخوله إلى دارهم فإنه لو ارتد العبد ثم لحق بدار الحرب يملكه الكفار باتفاقهم. الثاني: أنه ينبغي أنهم إذا أسروا عبدًا مسلمًا في دارنا ثم أدخلوه دارهم أن

لا يملكوه عند أبي حنيفة، لأن من أصله أن المستأمن منهم إذا اشترى عبدًأ مسلمًا ثم أدخله دارهم أنه يعتق، فإذا كان الإحراز بدارهم لا يبقى معه ملكه على المسلم فكيف يثبت به الملك على المسلم، والبقاء أسهل من الابتداء. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام فيه "إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة"). إنما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما أحرز العدو فاستنفذه المسلمون منهم، إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن وجده قد قسم، فإن شاء أخذه بالثمن" أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو ضعيف.

باب المستأمن

باب المستأمن قوله: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيًا ثم خرجا مسلمين أمر برد الغصب ولم يقض عليه، أما عدم القضاء فلما بينا أنه ملكه، وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به فلأنه فسد الملك لما يقارنه من المحرم وهو نقض العهد). في التفريق بين الفتوى والقضاء في مثله نظر، وعلى تقدير ثبوت الملك الخبيث، فإنه إذا كان ذلك واجب الرد، وامتنع من رده يلزمه القاضي برده، لأن القاضي نصب لإلزام من امتنع عن أداء الواجب، وإنما يفرق بين القضاء والإفتاء قبل ثبوت الحق، وفي مثل ما إذا نوى ما فيه تخفيف عليه وهو خلاف الظاهر لكنه يحتمله لفظه كما إذا قال عن عبده: إنه حر، وقال عنيت حر الطباع ونحو ذلك. قوله: (وإنما لا يجب القصاص، لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة دون الإمام وجماعة المسلمين، ولم يوجد ذلك في دار الحرب). هذه المسألة من جملة المسائل المبنية على اختلاف الدارين، وليس فيها نص عن الشارع، ودخول هذه المسألة في عموم النصوص الموجبة للقصاص

من الكتاب والسنة ظاهر، والتعليل بأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة، ولا منعة دون الإمام إلى آخره -فيه نظر- بل هذا كما لو كان القتل في مفازة أو في البحر فإنه لا يمكن استيفاؤه، وإذا خرجوا إلى دار الإسلام أمكن استيفاء القصاص لزوال المانع فإن هذا قتل موجب للقصاص بالكتاب والسنة، ولكن منع من استيفائه مانع، وهو بعده عن الإمام وقد زال وهذا مذهب جمهور العلماء ووافق أبو يوسف ومحمد بقية العلماء في رواية فيما إذا قتل أحد المسلمين المستأمنين الآخر عمدًا في دار الحرب أن عليه القصاص. قوله: (لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين والوجوب عليهم على اعتبار تركها). يعني أن وجوب الدية على العاقلة لتركهم صيانة القاتل، وهذا معنى بعيد عن المعقول، وسيأتي في باب المعاقل ذكره إن شاء الله تعالى. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام "السلطان ولي من لا ولي له"). تقدم التنبيه على ضعف هذا الحديث في باب الأولياء والأكفاء.

باب العشر والخراج

باب العشر والخراج قوله: (وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها عليها على الكفر كما في سواد العراق، ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف). يريد بذلك أنه علة كون أرض العرب لم يوضع عليها خراج وفيه نظر، فإن خيبر كان سكانها يهودًا لم يكونوا من مشركي العرب، وكان فتحها عنوة، وقد قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- نصفها وترك نصفها لمصالح المسلمين، لم يقسمه بين الغانمين وأقر ألها فيها يعملونها بجزء مما يخرج منها، وشرط عليهم أنه

يقرهم فيها ما شاء ثم أمر بإجلائهم منها في آخر حياته -صلى الله عليه وسلم-، وأجلوا منها بعد موته، فلم يكن ترك وضع الخراج على أرض الحجاز لما ذكره المصنف من التعليل وسيأتي الكلام في جواز أخذ الجزية منهم، وليس إقرار أهلها عليها على الكفر مما يوجب الخراج عليها حتمًا، بل مما يسوغ ذلك، فقد فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر عنوة وقسم نصفها بين الغانمين، وترك نصفها لمصالح المسلمين، وأقر أهلها فيها عمالاً غير ملاك لها، بل على أن يجليهم منها متى شاء وأقر عمر أهل سواد العراق فيه وجعل عليهم الخراج، كذلك مصر والشام، وكلام المصنف هنا يناقض قوله في كتاب المزارعة: إن معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر كان خراج مقاسمة. قوله: (وقد صح أن الصحابة -رضي الله عنهم- اشتروا أراضي الخراج،

وكانوا يؤدون خراجها). فيه نظر، فإنه لم يثبت، وإنما ذكر بعض المؤرخين: أن ابن مسعود والحسين بن علي كانت لهم أرضون بالسواد يؤدون خراجها، وقد اختلف العلماء في جواز بيع أراضي السواد ونحوها، قال ابن المنذر: وممن أنكر بيع الأرض التي فتحت عنوة مالك بن أنس، وأنكر على الليث بن سعد دخوله فيما دخل فيه من أرض مصر، وقال أبو عبيد: وقد تتابعت الأخبار بالكراهة لشراء أرض الخراج، وقال الأوزاعي: لم تزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية، ويكرهه علماؤهم.

قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم"). روي من حديث ابن مسعود، وقال البيهقي وغيره: باطل موضوع، ورواه ابن حبان في الضعفاء وغيره من رواية يحيى بن عنبسة وهو كذاب، وإنما هذا من كلام إبراهيم النخعي [لأن الخراج إنما وضع في زمن عمر رضي الله عنه على أرض الذمة وهم ليسوا بأهل للعشر فلذلك قال إبراهيم النخعي]: إنهما لا يجتمان. والله أعلم. قوله: (ولأن أحدًا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما، وكفى بإجماعهم حجة).

ليست دعوى الإجماع سهلة، ومن أين له هذا النفي العام، وقد حكى ابن المنذر أخذ العشر مع الخراج عن عمر بن عبد العزيز والزهري ومغيرة ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك والثوري وابن أبي ليلى وابن المبارك ويحيى ابن آدم والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. انتهى. وعموم النصوص من الكتاب والسنة شامل للخارج من أرض الخراج. قوله: (وسبب الحقين واحد، وهو الأرض النامية إلا أنه يعتبر في

العشر تحقيقًا وفي الخراج تقديرًا، ولهذا يضافان إلى الأرض). فيه نظر، بل سبب الخراج ملك الأرض، وسبب العشر ملك الخارج، ولهذا يضاف إلى الخارج لفظًا ومعنى، فيقال: عشر الخارج، وزكاة الخارج وحقه، قال تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} ولم يقل حق أرضه، وإذا قيل: عشر الأرض فمعناه عشر الخارج من الأرض قطعًا لأن عشرها الحقيقي جزء منها وهو غير مراد، فالإضافة إلى الأرض مجازية، فلا تكون علامة السببية، وهنا أمر آخر يجب التنبيه عليه والتنبه له، وهو أن أرض الشام ومصر لا يؤخذ منها خراج على الوضع الذي قرره الخلفاء الراشدون، وأظن سواد العراق كذلك، وكان أبو جعفر المنصور نقل سواد العراق من خراج الوظيفة إلى المقاسمة وما يؤخذ اليوم من الملاك والفلاحين من الكلف السلطانية وإن كان منه ما يسمى خراجًا فليس هو كل الوضع الشرعي، بل هو بمنزلة المكوس التي تؤخذ اليوم على

المبيعات وفي الطرقات، وإن كان لها أصل شرعي وهو ما قدره الخلفاء الراشدون لما يأخذه العاشر من التجار لكن حصل فيه مجاوزة الحد ولترك الخراج أسباب وإن كان لا يتمشى على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، رأى ذلك ملوك المسلمين بموافقة علماء زمانهم، وقد صادف محل اجتهاد فنفذ، فليس لأحد اليوم أن يقول بجواز إعادة الخراج، فتعين وجوب العشر في الخارج والحالة هذه، لأنه إذا لم يخرج العشر يؤدي إلى أنه لا يجب على الأرض، لا عشر ولا خراج، وهذا لم يقله أحد من الأئمة، وإذا تقرر أن سبب العشر الخارج، ظهرت قوة قول أبي يوسف ومحمد الموافق لقول الأئمة الثلاثة وغيرهم أن العشر على المستأجر لا المؤجر، وليست الأجرة في مقابلة الخارج، بل في مقابلة المنفعة، ألا ترى أن الأرض لو لم تخرج شيئًا لوجبت الأجرة، ولا يصح بيع ما تخرجه الأرض قبل خروجه، ولو كانت الأجرة في مقابلته لكانت ثمنًا له، ولصح بيعه، وليس كذلك.

باب الجزية

باب الجزية قوله: (كما صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- بني نجران على ألف ومائتي حلة). فيه وهم في موضعين: أحدهما: أن نجران اسم بلد باليمن، والمصنف ظنها قبيلة، فقال: بني نجران وإنما يقال: نصارى نجران، وأهل نجران. الثاني: أن مقدار الحلل، ألفا حلة، وأصل الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم" الحديث رواه أبو داود.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه "خذ من كل حالم وحالمة دينارًا أو عدله معافر"). عن معاذ رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارًا أو عدله معافر" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي. وعن الحكم قال "كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى معاذ رضي الله عنه باليمن، على كل حالم أو حالمة دينار أو قيمته" قال يحيى: ولم نسمع أن على النساء جزية إلا في هذا الحديث. أخرجه البيهقي، وقال: منقطع، وليس في رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ (حالمة) ولا في رواية إبراهيم عن معاذ إلا

شيئًا روى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ، ومعمر إذا روى عن غير الزهري يغلط كثيرًا. قوله: (ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار). يمكن أن يقال: إنما لم ينكروا ذلك، لأنه مفوض إلى رأي الإمام على حسب ما يراه من المصلحة، وهذا هو الظاهر وإلا فحديث معاذ في التقدير بدينار يعارضه، وما أجاب به المصنف من أنه كان ذلك صلحًا من أهل اليمن مجرد ظن وتأويل من غير دليل فإنه لم ينقل عنهم أنهم صالحوا على ذلك، وإنما هو ابتداء توظيف، وقد تقدم أن ذكر الحالمة لم يثبت، ويشهد لهذا ما

أخذ الجزية من مشركي العرب

حكاه البخاري عن [ابن] أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار. وهذا هو الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أنهم فهموا أن ذلك موكول إلى اجتهاد أمير المؤمنين، وهذا إحدى الروايات عن أحمد وهو قول طائفة من السلف والخلف. قوله: (أما مشركو العرب، فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نشأن بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر). ذهب الأوزاعي ومالك وسعيد بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن يزيد

ابن جابر إلى أن الجزية تؤخذ من مشركي العرب أيضًا لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم [إلى أن قال] فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه. واستثنى مالك رحمه الله مشركي قريش لأنهم مرتدون، وقد تقدم في كلام المصنف في باب كيفية القتال: إن امتنعوا ادعوهم إلى أداء الجزية، به أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، آمرًا الجيوش. لكن ادعى هناك أن هذا يخص منه المرتدون

ومشركو العرب دعوى مجردة عن الدليل هناك، ثم ذكر هنا هذا الدليل، وقبول الجزية من المجوس يدل على قبول الجزية من مشركي العرب بطريق الأولى، فإن المجوس أكفر منهم، فإنهم يعتقدون خالقين: أحدهما خالق الخير، والآخر الشر، ويستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، ولم يدينوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم، والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع، وبطلت شريعتهم، لا يصح أصلاً، ولو صح فقد ارتفع، وليسوا على شيء منه، بخلاف مشركي العرب فإنهم على بقايا من دين إبراهيم، ويقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، فإنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه، ولا يستحلون الأمهات والبنات والأخوات، ولكن بقي هنا أمر آخر، وهو أن مشركي العرب لم يبق منهم أحد بعد نزول آية الجزية، لأنها إنما نزلت بعد أن أسلمت دارة العرب، فإنها

استرقاق مشركي العرب

نزلت بعد فتح مكة، ووقعة الطائف، ولهذا غزا بعد ذلك تبوك، وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانوا يلونه فكانوا أولى بالغزو من الأبعدين، ومن تأمل السيرة وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من تؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها. قوله: (وعند الشافعي يسترق مشركو العرب، وجوابه ما قلنا). يشير إلى ما تقدم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقهم أظهر، وفيه نظر، فإنه لا يقوى هذا المعنى في مقابلة قوله تعالى {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها} وقصة سبي هوازن معروفة وهم سبي أوطاس، وقصة السبي في وقعة بدر معروفة، وكانوا رجالاً وكان قد أشار أبو بكر رضي الله عنه في أمرهم بقبول الفدية، وأشار عمر رضي الله عنه بضرب أعناقهم، وقال: "تمكن عليًا من عقيل يضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس يضرب

فصل

عنقه، وتمكنني من فلان -قريب لعمر-" الحديث، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبى العرب، وتخصيص الأصحاب السبي بالنساء والذرية يحتاج إلى دليل. فصل: قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام "لا خصاء في الإسلام، ولا كنيسة"). أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وضعفه. قوله: (وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"). فيه نظر فإن المراد من قوله "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" إجلاؤهم منها كما ورد أمره بإجلائهم صريحًا، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته من أرض العرب، ولم يبق منهم بها أحد، ولهذا قال مالك

حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم

والشافعي وأحمد: إنه يمنع الذمي من استيطان الحجاز، فالحديث الذي استدل به المصنف حجة عليه في أصل المسألة لأنه يدل على أن الكفار يمنعون من سكنى جزيرة العرب لا على أنهم يمكنون من السكنى ويمنعون من إحداث الكنائس هنا. قوله: (ولنا أن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون كفرًا [منه]، والكفر المقارن لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه). للمخالف أن يمنع من [أن] هذا الكفر لا يمنع المقارن منه، فإن هذا الكفر لم يقر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من وقع منه، بل أمر بقتل كعب بن الأشرف لما بلغه أنه يسبه، وقصته مشهورة، وأمر بقتل ابن خطل، وابن أبي سرح وعكرمة ابن أبي جهل، ومقيس بن صبابة، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة"، وقتل كعبٍ مع كونه من المعاهدين من أقوى الأدلة على أن

الذمي يقتل بالسب، وهذا الكفر، لا يقر عليه أحد باسترقاق ولا بجزية، ولا بموادعة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله" تنبيه على العلة التي لأجلها أمر بقتله غيلة، وإنما كان آذاه بالقول، فإنه كان يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يؤذى بأمور من القول والفعل، ويعفو عن كثير من ذلك، وهذا كان له -صلى الله عليه وسلم-، أما بعده فلا يجوز العفو عمن سبه كما أن الإمام ليس له أن يعفو عن القاتل إذا لم يكن للمقتول ولي، لأن الحق للعامة، وولايته نظرية، وكذلك هذا، وذكر في أحكام القرآن لأبي بكر الرزاي "أن الساحر الذمي يقتل، لأن الكفر الذي أقررناه عليه هو ما أظهره لنا، وأما الكفر الذي صار إليه بسحره فإنه غير مقر عليه، ولم نعطه الذمة على إقراره، ألا ترى أنه لو سألنا على إقراره على السحر بالجزية لم نجبه إليه، ولم يجز إقراره عليه" انتهى. وكذلك من يظهر سب الرسول، لا يقر بالجزية على ذلك ولا كرامة.

باب أحكام المرتدين

باب أحكام المرتدين قوله: (ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن قتل النساء"، ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعًا لشر ناجز، وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء، لعدم صلاحية البنية، بخلاف الرجال، فصارت المرتدة كالأصلية). أصل النهي عن قتل النساء حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهى عن قتل النساء والصبيان" رواه الجماعة إلا النسائي، فالنهي قد ورد لسبب خاص، وعمومه قد خص منه المرأة إذا قاتلت في الحرب أو كانت ملكة فإنها تقتل، وكذلك الزانية المحصنة، والقاتلة عمدًا ................

بلا شبهة، وكما ورد النهي عن قتل النساء والصبيان، ورد عن قتل الشيخ الفاني، وأصحاب الصوامع، ولم يمتنع قتل الشيخ الفاني إذا ارتد للنهي عن قتله في الحرب، فكذا المرأة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل دم امرئ مسلم لا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه، وروى الدارقطني "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت" وقد دخلت في عمومه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه الجماعة إلا مسلمًا، ولا يقال إنه قد خص منه الكافر إذا أسلم فإنه لم يدخل

لأن مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بدل دينه الحق، فهو عام بعموم صفته المقدرة، والصفة يجوز تقديرها عند العلم بها، كما في قوله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} أي على القاعدين من أولي الضرر، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وكلاً وعد الله الحسنى}، وفي حديث أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" رواه الخمسة وصححه الترمذي، فقوله: ونحمل معنا القليل من الماء أي العذب، فحذف الصفة ونظائره كثيرة، ولم يرد -صلى الله عليه وسلم- من بدل دينه الباطل

بالحق البتة، والصبي والمجنون لا يتحقق منه تبديل، وكذلك المكره؛ لأن مبناه على الاعتقاد، ولو خرج من عمومه من ذكر فهو حجة فيما عداه على الصحيح، وقوله: ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة ... إلى آخره. فيه نظر لأن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، والأمر والنهي لا يتم إلا بالثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فلابد أن يكرم الأبرار أهل المعروف، وأن يعاقب الفجار أهل المكر ولم يخل الله ذنبًا من الذنوب عن عقوبة من العقوبات، وبهذا يصير الدين كله لله، وتزول الفتنة، ولهذا قال الفقهاء: إن التعزيز في كل معصية لا حدث فيها ولا كفارة، ولو كان تعجيل العقوبة يخل بمعنى الابتلاء لم يشرع حد ولا تعزير، وهو مشروع. وقوله: لا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية، فصارت المرتدة كالأصلية. منتقض بالشيخ العاجز، والأعمى والزمن ونحوهما إذا ارتدوا فإنهم لا يصلحون للحراب، ولهذا لا يقتلون في الحرب كما لا تقتل المرأة ومع هذا فإنه يقتل من ارتد منهم، ولا يصح التفريق بأن عدم صلاحية البنية في المرأة أصل، وفي الشيخ الفاني ونحوه عارض، فإن الشارع لم يعتبره، وأيضًا فإن نساء أهل الحرب وذراريهم يسترقون ويصيرون مالاً للمسلمين، فنهى عن قتلهن لما فيه من إضاعة المال، والمرتدة لا تسترق، ولئن كان الحربي إنما يقتل لمحاربته، فإنه لا يصح قياس الكفر الطارئ على الكفر الأصلي؛

لأنه أقبح وأكبر وأعظم ضررًا، ولهذا لا يقر عليه المرتد، والكفر الأصلي يقر عليه بالموادعة وبالجزية وبالرق، بل بغير شيء كالرهبان المعتزلين، ولهذا قالت طائفة من أهل الكتاب {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} وذلك لأن الجهال يقولون: ما رجع هؤلاء عن دينهم الذي صاروا إليه إلا بعد أن ظهر لهم بطلانه، بخلاف ما لو استمروا على كفرهم، فظهر أن كفر المرتد أضر من كفر المستمر على كفره، وإذا كان الشيخ الفاني يقر على كفره الأصلي، ولا يقر على ردته، بل يقتل وإن لم يصر محاربًا فكذلك المرأة، فالكفر الأصلي قتل صاحبه من باب دفع العدوان والبغي عن الإيمان ودفع فتنة الكفار، وكفر الردة قتل صاحبه لحفظ الإيمان على أهله، ومنعه من الفساد، وذاك لدفع الفساد وإزالته، وهذا لحفظ الصلاح، مثل [الطبيب] الذي يحفظ الصحة تارة، ويزيل المرض تارة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد والليث والحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن أبي بكر .........................................

وعلي رضي الله عنهما، وفيه قول ثان وهو أنها تسترق ولا تقتل، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه، ولم يصح عنه، وروي عنه في ذلك أثر ضعفه أحمد، وبه قال قتادة والحسن والبصري في رواية عنه، وقول أبي حنيفة أنه تجبر على الإسلام ولا تقتل يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس يصح عنه، نقل ذلك ابن المنذر وابن قدامة يزيد أحدهما على الآخر، واختار ابن المنذر القول الأول مع الجمهور.

قوله: (إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلابد من القضاء). فيه نظر، فإن قضاء القاضي لا يمنع احتمال عوده إلينا، وغاية حكم الحاكم ثبوت لحاقه بدار الحرب بالبينة، ومنصب القاضي لتنفيذ أوامر الله وتخليص المظالم، وإيصال الحق إلى مستحقه، ونحو ذلك، وليس إليه جعل هذا ميتًا حكمًا، فإن هذا بمنزلة التشريع، فإن كان لحاق المرتد بدار الحرب مما يوجب إجراء أحكام الموتى عليه، فلا حاجة إلى حكم الحاكم، وإن لم يكن مما يوجب ذلك فلا يمكن أن يجعله موجبًا، واشتراط حكم الحاكم بلحاقه لإجراء الأحكام على لحاقه دليل على ضعف القول بأن لحاقه بدار الحرب يجعله بمنزلة الميت، فإن قيل: هذه من مسائل الاجتهاد، فلابد من حكم الحاكم ليرتفع الخلاف كما في نظائرها من مسائل الخلاف. قيل: إنما يحتاج إلى الحكم في مسائل الخلاف لأجل المخالف في الحكم كما في شفعة الجوار مثلاً، فإنه إنما يحتاج فيها إلى الحكم حتى لا يسقطها من لا يراها،

فإن قيل: وهنا كذلك، قيل: ينبغي أن يحتاج بعد الحكم بلحاقه إلى الحكم بعتق مدبريه، وأمهات أولاده، وحلول ديونه، وتوريث ورثته تركته، حتى يرتفع الخلاف في ذلك، ولم يشترطوا ذلك بل قالوا: إذا حكم بلحاقه بدار الحرب حلت ديونه وكذا وكذا، وقالوا: إن قضاء القاضي إذا لم يتصل بلحاقه فهو بمنزلة الغيبة في بقاء أملاكه وحقوقه، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي مع أن جعل لحوقه بدار الحرب بمنزلة موته يحتاج إلى دليل شرعي وما ذكره أنه بلحاقه صار بمنزلة أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام، لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى فصار في حكم الموت ممنوع، بل هو بمنزلة المفقود الذي لا يقدر على إلزامه بالأحكام، وهذا أولى لأن المفقود لا يعرف مكانه أصلاً فهو أبعد عن الإلزام ممن يعرف مكانه ولكن ولاية الإلزام منقطعة عنه فإذا كان المفقود لا يحكم بموته مع عدم القدرة على إلزامه أصلاً، فاللاحق بدار الحرب أولى؛ لأنه يمكن التوصل إلى الإتيان به في الجملة بالتحيل والمكيدة للعلم بمكانه، والتحيل على تحصيل من لا يطلع على مكانه أبعد، وهذا قول جمهور العلماء أعني عدم جعله باللحاق بدار الحرب في

حكم الميت، وهذه المسألة من مسائل اختلاف الدارين وهي في الأصل مشكلة. قوله: (نافذ بالاتفاق: كالاستيلاد، والطلاق). يحتاج في الطلاق إلى قيد وهو أن تكون المرأة مرتدة أيضًا، فإنه لو ارتد الزوج وحده لا يقع طلاقه لوقوع الفرقة بردته.

باب البغاة

باب البغاة قوله: (وإذا تغلب مسلمون على بلد وخرجوا عن طاعة الإمام إلى آخره). لم يفرق المصنف رحمه الله بين الخوارج والبغاة بل جعل حكمهم واحدًا، ولهذا يستدل على أحكامهم تارة بما فعله علي رضي الله عنه مع أهل حروراء، وتارة بما فعله يوم الجمل، ولابد من التفريق بين الفريقين، فإن الخوارج قد استفاض عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بقتالهم، وقاتلهم علي رضي الله عنه، واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها لم يتنازعوا في قتالهم كما تنازعوا في القتال يوم الجمل ويوم صفين، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في قتال الفتنة ثلاثة أصناف: قوم مع علي، وقوم عليه، وقوم قاعدون عنه، أما الخوارج فلم يكن منهم أحد من الصحابة، ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة لأنه صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" وفي لفظ "أدنى الطائفتين إلى .......................................

الحق" فبهذا الحديث ثبت أن عليًا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه وأن تلك المارقة مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين، كما أمر بقتال هذه، بل قد ثبت في الصحيح أنه قال للحسن رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال، وقد بويع، واختار الإصلاح وحقن الدماء، مع نزوله عن الأمر، فلو كان القتال مأمورًا به لم يمدح الحسن ويثني عليه بترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، وفي الصحيح أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنها ستكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها" الحديث. وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا، فإنه فرح بقتال الخوارج، وظهر منه الكراهة والندم لأجل القتال يوم الجمل وصفين، وقال فيهم: "إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف" وصلى على قتلى الطائفتين دون قتلى الخوارج، وأيضًا فقد تنازع العلماء في تكفير الخوارج: فمن كفرهم نظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في

النصل فلا يرى شيئًا وينظر في القدح فلا يرى شيئًا وينظر في الريش فلا يرى شيئًا، وتتمارى في الفوق" يقول: وكما خرج هذا السهم نقيًا خاليًا من الدم والفرث لم يتعلق منهما بشيء، كذلك خروج هؤلاء يعني الخوارج. ومن لم يكفرهم قال: إن قوله: "وتتمارى في الفوق" يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشيء بحيث يشك في خروجهم منه، وقد سئل عنهم علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا، وبغوا علينا فقتلناهم. انتهى. والفرق بينهم من حيث المعنى أن البغاة يخرجون عن طاعة الإمام فقط بتأويل فاسد والخوارج ومانعو الزكاة ونحوهم خارجون بتأويل فاسد عن طاعة الإمام وعن بعض شرائع الإسلام. قوله: (وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز حتى يبدأوا بالقتال حقيقة). الصحيح من مذهب الشافعي أنه كمذهب أبي حنيفة، قال النووي في الروضة -بعد ما ذكر أن كيفية قتال البغاة طريقها طريق دفع الصائل-: وقد يتخيل من هذا أنا لا نسير إليهم ولا نفاتحهم بالقتال وأنهم إذا ساروا إلينا لا

نبدأ بقتالهم، بل نصطف قبالتهم، فإن قصدونا دفعناهم، قال: وقد رأيت هذا لطائفة من الأصحاب، وهو خطأ، بل إذا آذنهم الإمام بالحرب، ولم يرجعوا إلى الطاعة سار إليهم، ومنعهم من القطر الذي استولوا عليه، فإن انهزموا وكلمتهم واحدة اتبعناهم إلى أن يتوبوا ويطيعوا وليس قتال الفريقين كصيال الواحد ودفعه. قوله: (وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة، ألا ترى أنه يكره بيع المعازف، ولا يكره بيع الخشب، وعلى هذا الخمر مع مع العنب). في ذلك كله نظر، وينبغي أن يكره بيع ذلك ممن يعلم أنه يستعين به على المعصية؛ لأنه يكون قد أعانه على فعل المعصية، وقد قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالإعانة على المعصية معصية على أي وجه كانت. قوله: (ولا بأس أن يقاتل المسلمون بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، وقال الشافعي: لا يجوز والكراع على هذا الخلاف). مذهب الشافعي كمذهب أبي حنيفة، قال النووي -في المنهاج-: ويرد

سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب، وأمنت غائلتهم ولا يستعمل من قتال إلا لضرورة.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة قوله: (ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ للمالك، وفيه وقع الشك، فلا يبرأ، وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله؛ لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه). يعني لأبي حنيفة ومحمد على خلاف قول أبي يوسف فيما إذا أخذ اللقطة ولم يشهد على نفسه أنه أخذها ليردها، وقول أبي يوسف أقوى، واختاره الطحاوي وهو قول أكثر العلماء الأئمة الثلاثة وغيرهم، لحديثي زيد ابن خالد وأبي بن كعب رضي الله عنهما "وأنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهما بالتعريف دون

الإشهاد" متفق عليهما، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان واجبًا لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لا سيما وقد سئل عن حكم اللقطة فلم يكن ليخل بالواجب فيها، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه "من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء" رواه النسائي وأبو داود، يحمل على الندب صيانة لنفسه من الطمع فيها وكتمها، وحفظًا له من ورثته إن مات ومن غرمائه إن أفلس جمعًا بينه وبين الحديثين المشار إليهما. ولأن هذا من باب الوصية الواجبة التي أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولأنه أخذ أمانة فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة، ولأن الظاهر شاهد له وهو يصلح حجة للدفع فيندفع عنه الضمان وما ذكر من أن الأخذ

سبب للضمان، إطلاقه ممنوع فليس كل أخذ سببًا للضمان وهو لم يقر بالأخذ المطلق، بل بالأخذ على جهة الأمانة فصار كما لو قال: دفعه إلي فأخذته وديعة، ومعارضة ما ذكر لأبي يوسف من الظاهر بأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه لا يلزم منه الضمان، فإنه إذا أخذ اللقطة ليردها على مالكها ابتغاء وجه الله فقد قصد الثواب والأجر، فهو عامل لنفسه بذلك قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}، وهذا هو الظاهر من حال المسلم. قوله: (وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار). هذا استدلال مشكل، فإنه استدل قبل ذلك -لما قاله محمد- بقوله عليه الصلاة والسلام. "من التقط شيئًا فليعرفه سنة" وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اللقطة؟ فقال: لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئًا فليعرفه سنة، فإن جاء صاحبها فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق [به، فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له" قال عبد الحق: وفي إسناده يوسف بن خالد

السمتي، ولا يصح. انتهى. ولكن] جاء معناه في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه "أنه سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اللقطة الذهب أو الورق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر، فأدها إليه" الحديث متفق عليه. وليس في هذين الحديثين أنه سأل عن لقطة معينة حتى يقال: كان مقدارها مائة دينار، وإنما جاء ذكر مائة دينار في حديث أبي رضي الله عنه قال: "إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: عرفها حولاً" الحديث متفق عليه، فهذا الحديث غير ذاك الحديث، ولو قدر أن السؤال كان على لقطة مقدارها مائة دينار فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "من

التقط شيئًا فليعرفه سنة" هذا لفظ الحديث الذي رواه هو، واستدل هو به لمحمد ومالك والشافعي وهو قول أحمد أيضًا، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي ..................................

والحسن بن صالح، وقوله "شيئًا" نكرة في سياق الشرط فتعم فكيف يصح بعد ذلك قوله: إن التقدير ورد في لقطة كانت مائة دينار. وليس هذا بحث منصف، بل هذا من التطفيف المنهي عنه، فإنه لما احتج على الخصم في مسألة قتل المرتدة بنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء قال له الخصم: هذا ورد في قتل النساء في الحرب، رد على الخصم: بأن العبرة لعموم اللفظ، مع أن في تلك المسألة أدلة أخرى تعاضدت كما تقدم هناك فظهرت قوة قول محمد في عدم التقدير بعشرة دراهم، ولكن يستثنى ما ورد استثناؤه، وهو ما في حديث جابر رضي الله عنه قال: "رخص لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العصار والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به" رواه أبو داود، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بثمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" أخرجاه. قوله: (والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعليق القطيع بالسرقة

وتعلق استحلال الفرج به). قد تقدم ذكر ضعف التقدير بعشرة في الموضعين. قوله: (فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها). وبذلك قال مالك والحسن بن صالح والثوري لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله قال: له أن يتملكها إن كان فقيرًا من غير ذوي القربى لحديث عياض المتقدم، وذهب الأكثرون إلى أن تصير بعد التعريف ملكًا له، إن شاء تصدق بها وإن شاء انتفع بها، وهذا قول عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء [والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وروي أيضًا عن علي وابن عباس والشعبي والنخعي] وطاووس وعكرمة، ذكر ذلك في المغني، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد: "فإن لم

تعرف فاستنفقها" وفي لفظ: "فهي كالسبيل مالك"، وفي لفظ: "ثم كلها"، وفي لفظ: "فاستنفق بها"، وفي لفظ: "فشأنك بها"، وفي حديث أبي بن كعب: "فاستنفقها"، وفي لفظ: "فاستمتع بها" كل ذلك في الصحيح، وحديث أبي هريرة لم يثبت كما تقدم ذكره، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عياض بن حمار: "وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء" لا ينافي أن يتملكها الملتقط إذا كان غنيًا، لأن الأشياء كلها لله سبحانه يعطي ماله من يشاء من عباده الغني منهم والفقير، قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}. وقد نقل أن أبيًا كان من المياسير وكذا ذكره المصنف في آخر هذا الباب، وأجاب عنه بأن ذلك كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه، وهذا لا يقوى لأن الإمام لا يملك تمليك مال المسلم بغير إذنه، بل ذلك تشريع منه -صلى الله عليه وسلم-، وأيضًا

فهذا على أصل الأصحاب أولى كما ذكروه فيما إذا استولى الكفار على أموال المسلمين، وكما في الغصب خصوصًا على قول من قال منهم: إن الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص بناءً على أن الأصل في الأموال الإباحة، وتقدم في كلام المصنف في باب استيلاء الكفار: وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع، فإذا زالت المكنة عادت مباحًا كما كان. انتهى. فإذا صح الاستيلاء المحظور سببًا للملك فالاستيلاء المأذون فيه شرعًا أولى، بل الحق أن الاستيلاء المحظور لا يكون سببًا للملك كما سيأتي في الغصب إن شاء الله تعالى، وقول المصنف بعد هذا: إن الملك يثبت للفقير، قيل: الإجازة من المالك دليل على صحة القول بثبوت الملك للملتقط بعد التعريف إذ لا فرق بين الملتقط والفقير الذي تصدق عليه الملتقط، بل ثبوت الملك للملتقط أولى من ثبوته للفقير، لأن الفقير إنما استفاده من جهته، وهذا كله لا ينافي ردها، والضمان بعد استهلاكها أن لو حضر المالك وطلب به، كما لو قبضت الزوجة الصداق ثم طلقت قبل الدخول أو جاءت الفرقة من قبلها قبله.

قوله: (وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده). ينبغي أن لا يضمن الفقير بالهلاك لأنه لا صنع له فيما إذا هلكت بنفسها بمنزلة الأمانات، بل أولى، وقد تقدم ترجيح قول أبي يوسف في القول بعدم ضمان الملتقط بهلك اللقطة وإن لم يشهد أنه أخذها ليردها. قوله: (ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير، وقال مالك والشافعي رحمهما الله: إذا وجد البعير والبقرة في الصحراء فالترك أفضل، وعلى هذا الخلاف الفرس). وبقول الشافعي ومالك قال أحمد والليث والأوزاعي وأبو عبيد، ولم يقولوا الترك أفضل كما قال المصنف، بل لا يجوز عندهم التقاط الإبل [في الصحراء]، وحكي عن مالك أن البقرة بمنزلة الشاة، والحديث حجة

إقامة البينة ممن ادعى اللقطة

لهم في ضالة الإبل، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال- لما سئل عنها-: "مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" وقال في الشاة: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" متفق عليه من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. وقد قال بعض أصحاب الإمام أحمد: إن الشاة ونحوها مما يجوز التقاطه، يخير الملتقط بين أكله في الحال وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين تركه والإنفاق عليه من ماله، وهل يرجع؟ على وجهين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وهذا القول في غاية القوة، إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزمًا لتغريم مالكها أضعاف قيمتها إن قلنا: يرجع عليه بنفقتها، وإن قلنا: لا يرجع استلزم تغريم الملتقط ذلك، وإن قلنا: لا يلتقطها كانت للذئب وتلفت، وقد قال مالك: أبلغ من ذلك أنه يأكلها، ولا يعرفها إن كان قد وجدها في صحراء، والأول أظهر. قوله: (فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء، وقال مالك والشافعي: يجبر على .................

ذلك). مذهب الشافعي كمذهب أبي حنيفة في اشتراط إقامة البينة على وجوب الدفع، لا كما قال المصنف، وبقول مالك قال أحمد وأبو عبيد وداود وابن المنذر ذكر ذلك في المغني، وهو الموافق لما في الصحيحين من حديث زيد ابن خالد وأبي رضي الله عنهما، فإن حديث زيد في بعض طرقه "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك". وفي حديث أبي في بعض طرقه أيضًا "عرفها، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها، ووكائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها" أمره بإعطائها إياه والأمر للوجوب، ولا يعارضه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "البينة على المدعي" الحديث، فإن البينة تختلف، والظن المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد

بمجرد النكول، بل بالشاهدين، فوصفه بينة ظاهرة على صحة دعواه، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بينة مدعي اللقطة وصفها، فإذا وصفها فقد أقام البينة، وفي تكليف إقامة شاهدين حرج عظيم، ويكون الالتقاط حينئذ تضييعًا وإتعابًا لنفسه بالتعريف، ولو لم يجب دفعها بالوصف لم يجز التقاطها لما ذكر، وهذا المال قد ثبت كونه لقطة، وأن له صاحبًا غير من هو في يده، ولا مدعي له إلا الواصف، فإن الملتقط لا يدعيه، وقد ترجح صدقه فيجب الدفع إليه. قوله: (ولا يتصدق باللقطة على غني، لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة والسلام "فإن لم يأت صاحبها فليتصدق بها"). تقدم أن هذا الحديث غير ثابت وإنما أخرجه البزار بسند ضعيف، وتقدم ما في الصحيح مما يدل على أنها بعد التعريف تصير ملكًا للملتقط، وما ذكره المصنف بعد ذلك إلى آخر كتاب اللقطة تقدم التنبيه على ما فيه من الأشكال في أوائله والله أعلم.

كتاب الإباق

كتاب الإباق قوله: (ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على وجوب أصل الجعل). في دعوى اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على ذلك نظر، وإنما روي في ذلك آثار منها: عن أبي عمرو الشيباني قال: "أصبت غلمانًا أباقًا بالعين فأتيت عبد الله بن مسعود فذكرت ذلك له، فقال: الأجر والغنيمة، قلت: هذا الأجر فما الغنيمة؟ قال: أربعون درهمًا من كل رأس" أخرجه البيهقي وقال: هذا أمثل ما روي في هذا الباب. انتهى. والتقدير بمدة السفر فيه نظر، والقول بأن له أجرة مثله كما قال مالك رحمه الله أظهر والحالة هذه، ويحمل أثر ابن مسعود رضي الله عنه على أن

ذلك كان أجرة مثله، وعنده لا يستحق ذلك إلا أن يكون من عادته العمل بالأجر لأن الظاهر من حاله أنه لم يتبرع بالرد والله أعلم.

كتاب المفقود

كتاب المفقود قوله: (وكل من لا يستحقها -يعني نفقته- في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله في غيبته). قد تقدم التنبيه على ما في القول بأن نفقة القريب لا تجب إلا بقضاء القاضي، وأن القاضي ليس بمشرع حتى يكون قضاؤه موجبًا. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام في امرأة المفقود "إنها امرأته حتى يأتيها البيان"). هذا الحديث ضعيف أخرجه الدارقطني والبيهقي وضعفه، وضعفه أيضًا عبد الحق وابن قدامة. قوله: (وقول علي رضي الله عنه "هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين

موت أو طلاق"). اختلفت الرواية عنه، قال ابن المنذر في الإشراف: اختلف أهل العلم في امرأة المفقود، كم تتربض؟ فقالت طائفة: تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا ثم تتزوج، كذلك قال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وعمر بن عبد العزيز، وعطاء ابن أبي رباح ومالك بن أنس وأهل المدينة وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد، وفيه قول ثان: وهو أن امرأة المفقود لا تنكح أبدًا حتى يأتيها يقين وفاته، روينا ذلك عن علي رواية ثانية عنه، وبه قال ابن أبي ليلى وابن

شبرمة والثوري والشافعي والنعمان ويعقوب ومحمد، وقد احتج بعض من يقول بالقول الأول بأن اتباع خمسة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بنا، ودفع أحمد حديث علي وقال: لم يتابع أبو عوانة عليه وقال بعضهم من حيث وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، وجب كذك تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا تؤجل أكثر وفيهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" انتهى ما نقلته من كلام ابن المنذر.

وقال في المغني: وما رووه عن علي رضي الله عنه فيرويه الحكم وحماد مرسلاً والمسند عنه مثل قولنا، ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته السلامة جمعًا بينها وبين ما رويناه. انتهى. قوله: (وعمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه). قال ابن قدامة في المغني: قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: تذهب إلى حديث عمر؟ قال: هو أحسنها، يروى عن عمر من ثمانية وجوه، ثم قال: زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين، قلت: فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا؟ قال: لا إلا أن يكون إنسان يكذب. وقلت له مرة: إن إنسانًا قال لي: إن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك، فضحك ثم قال: من ترك هذا القول أي شيء يقول؟ وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير، قال أحمد خمسة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. قوله: (ولا معتبر بالإيلاء لأنه كان طلاقًا معجلاً فاعتبر في الشرع مؤجلاً فكان موجبًا للفرقة، ولا بالعنة لأن الغيبة تعقب الأوبة والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة). للمخالف أن يقول: كون الإيلاء كان طلاقًا معجلاً فاعتبر في الشرع

مؤجلاً لا يمنع من النظر في المعنى الذي جعل لأجله الإيلاء طلاقًا، وهو تفويت الوطء الذي شرع لأجل عقدة النكاح وكذلك المعنى في العنة، وكما أن الظاهر في العنين عدم إمكان الوصول إليها بعد السنة فكذلك المفقود الظاهر هلاكه بعد مضي أربع سنين، ولم يرد عنه خبر، والذي قال بتقدير السنة في العنين هو الذي قال بتقدير الأربع في المفقود، وهو عمر رضي الله عنه، فلم يصح رجوعه عنه، فكيف أخذتم بقوله في تأجيل العنين حولاً، ولم تأخذوا بقوله في تأجيل المفقود أربع سنين. ومن تأمل ما حكم به عمر رضي الله عنه في أمر المفقود وجده على وفاق القياس الصحيح، فإنه أجل امرأة المفقود أربع سنين، وأمرها أن تتزوج فقدم المفقود بعد ذلك فخيره عمر بين امرأته وبين مهرها أما تقديره الأجل بأربع سنين فإنه لما احتيج إلى انتظار المفقود مدة طويلة لاحتمال عوده، أخذ الأربع من مدة الإيلاء والسنين من أجل العنين لأن كلاً منهما أجل مضروب لانتظار عود الزوج إليها بالوطء، ولم يقم في مقابل هذا المعنى ما يمنعه أو يعارضه، وأما تخييره الزوج بعد حضوره بين امرأته وبين مهرها فلأن تصرفه في التفريق

كان عن حاجة وضرورة دعت إليه بمنزلة تصرف الملتقط في اللقطة بعد التعريف، ثم إن جاء صاحبها بعد ذلك كان مخيرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها. فالمفقود المنطقع خبره إن قيل إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره، بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت والشرع لا يأتي بمثل هذا، فلما أجلت أربع سنين ولم يكشف خبره حكم بموته ظاهرًا وحينئذ ساغ التفريق لكنه موقوف، فإن قدم الزوج وأجازه صار كالتفريق المأذون فيه، وإن لم يجزه، فإن لم تكن تزوجت بغيره فهي امرأته، وإن كانت قد تزوجت بغيره فإن كان الزوج الثاني لم يدخل بها فهي امرأة الأول أيضًا، وإن كان الزوج الثاني قد دخل بها خير الزوج الأول، إن شاء أجاز التفريق، وإن شاء رده. فإن أجازه جاز، ويكون الزوج الثاني صحيحًا، وإن لم يجزه كانت باقية على نكاحه، وبطل نكاح الثاني لكن له المهر عند الإجازة بناءً على أن البضع متقوم حالة الخروج، وهو قول الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والله أعلم.

كتاب الشركة

كتاب الشركة قوله: (وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام "فاوضوا فإنه أعظم للبركة" وقوله: ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين"). هذان الحديثان منكران لا أصل لهما. قوله: (وإذا أراد الشركة بالعروض باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر ثم عقدا الشركة، قال رضي الله عنه: وهذه شركة ملك ... إلى آخره). في قوله: وهذه شركة ملك. نظر؛ لأنه إذا باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر صارت شركة ملك، ثم إن شاءا عقدا بعد ذلك عقد الشركة مفاوضة، وإن شاءا عنانًا، فإذا فعلا ذلك فهي شركة عقد، وقد

استشكل ذلك الشيخ حافظ الدين، ثم قال: إلا أن يقال: أراد به هي شركة ملك وإن عقدا الشركة؛ لأن هذا العقد كـ لا عقد لكون رأس المال عرضًا، انتهى. وهذا الجواب لا يصح؛ لأنه قال: وإذا أراد الشركة بالعروض باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر ثم عقدا الشركة، ولو كان مراده التحيل على تصحيح شركة الملك لم يكن لقوله: ثم عقدا الشركة. فائدة؛ لأنه يكون عقد الشركة عبثًا. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مأمور بأداء الزكاة، والمؤدى لم يقع زكاة فكان مخالفًا).

لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن يجيبا عن هذا بأن الوكيل أتى بما أمر به، وكون المؤدى لم يقع زكاة لا ينافي امتثال الأمر، وليس في وسعه غير ذلك، فإن وقوع المؤدى زكاة ليس في وسعه لافتقاره إلى نية المالك، ولا اطلاع له على قلبه فلم تكن الوكالة انعقدت إلا على الأداء إلى الفقير فقط؛ لأن النية لا تجزئ فيها النيابة، وإذا ثبت أن الوكالة لم تنتظم النية، -وإنما انعقدت على الأداء إلى الفقير؛ لأنه هو الذي يتصور الاستنابة- انتفت المخالفة، وانتفى أن يكون أداء المالك قبله عزلاً حكميًا فانتفى الضمان.

كتاب الوقف

كتاب الوقف قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة ولاسلام "لا حبس عن فرائض الله تعالى"). أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي سنده ابن لهيعة وأخوه عيسى وهما ضعيفان، وأخرجه البيهقي من قول شريح. قوله: (وعن شريح القاضي رحمه الله: "جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس"). أخرجه البيهقي، وإن صح عن شريح فلا حجة فيه؛ لأنه قاله اجتهادًا

منه كأنه اعتبره بالسائبة وإلا فحديث ابن عمر رضي الله عنهما "أن عمر أصاب أرضًا بخيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً أحب إلي ولا أنفس عندي منها، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول"، وفي لفظ "غير متأثلٍ مالاً" أخرجه الجماعة. وحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له" رواه مسلم والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأكثر أهل

العلم من السلف والخلف على القول بصحة الوقف، قال جابر رضي الله عنه: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف" وقد استبعد محمد قول أبي حنيفة في الكتاب وسماه تحكمًا على الناس من غير حجة، وقال: "ما أخذ الناس بقول أصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس" هكذا حكاه السغناقي في شرحه. قوله: (بخلاف الإعتاق، لأنه إتلاف). لا ينبغي إطلاق لفظ الإتلاف على الإعتاق، بل هو إنهاء للملك وإحياء للعبد معنىً بإزالة الرق عنه، وإن كان فيه إتلاف ماليته ضمنًا، ففي الحقيقة قد تصدق على العبد بماليته، فلا إتلاف أصلاً، والعجب من المصنف كيف يقول هنا: إن الإعتاق إتلاف، وهو في كتاب أدب القاضي يقول: إن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه من العبد المشترك ثم مات أنه يسقط عنه ضمان نصيب شريكه عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه صلة عنده، وليس بضمان إتلاف، والعكس أولى، وهو أن ينظر هناك إلى معنى الإتلاف لأنه أفسد نصيب شريكه، وهنا إلى معنى الإحياء المعنوي وإزالة الرق، ولهذا يؤجر عليه عملاً بالشبهين على هذا الوجه لا العكس.

قوله: (منها: قوله: "فقد حبس أدراعًا وأفراسًا له في سبيل الله تعالى، وطلحة حبس دروعه في سبيل الله" ويروى "أكرعه"). الذي في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله" والأعتد والأعتاد جمع عتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة للحرب، وليس لطلحة ذكر في كتب الحديث، ولعل المصنف اشتبه عليه حديث أبي طلحة الأنصاري، ولكن أبو طلحة إنما وقف أرضًا له يقال لها بيرحاء، وحديثه في الصحيحين وغيرهما، ولم يقف منقولاً. قوله: (ولأبي يوسف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان يأكل من صدقته" والمراد منها صدقته الموقوفة).

ذكر في المغني عن أحمد قال: سمعت ابن عيينة عن ابن طاووس عن ابيه عن حجر المدري "أن في صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر"، وكأن هذا هو الذي أشار إليه المصنف، والله أعلم.

كتاب البيوع

كتاب البيوع قوله: (ولنا أن في الفسخ إبطال حق الآخر فلا يجوز، والحديث محمول على خيار القبول وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق تفرق الأقوال). هلا قال في خيار البلوغ في النكاح إن في الفسخ إبطال حق الآخر. ولا نص هناك، وللمخالف أن يقول: إن خيار المجلس لا يوجب إبطال حق الآخر بعد ثبوته، بل فيه امتناع من لزومه قبل ثبوته. فإن من قال بثبوت خيار المجلس، لا يقول بلزومه قبل التفرق بالأبدان، وله أن يقول: إن حمل الحديث على خيار القبول هضم لفائدته إذ قد علم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه.

وكلام الشارع يجب حمله على أكمل الفوائد، ولم يكن خيار القبول مما يحتاج إلى بيان من الشارع، فإنه بين معلوم، فلابد من حمل كلام الشارع على فائدة جليلة. فإن قيل: إن المراد إفادة أن للآخر القبول في المجلس لا مطلقًا في المجلس وبعده إلى ما لا نهاية، قيل: هذه الفائدة لا تخفى حتى تحتاج إلى بيان، وله أن يقول: إن تسميتهما متبايعين حالة المباشرة حقيقةً، لو سلم لا يمنع من إثبات حكم الخيار إلى أن يوجد التفرق، ولا يتم المراد إلا بأن يكون المراد من التفرق: تفرق الأقوال، وهو ممنوع، وقد استدل لوروده بقوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}، وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحدٍ من رسله}، وقوله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته}. وقوله عليه الصلاة والسلام: " ... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة". وفرق بينهما بأن هذه الشواهد كلها ليس فيها تفرق بالأقوال التي هي

تلفظ باللسان، وإنما هي تفرق في الاعتقاد، وذلك عمل القلب، وتفرق من عقده انحل بعد عقده أعني في قوله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} والمتبايعان في حال مباشرة العقد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف فيه، ولو كان المعنى أنهما بالخيار حال مباشرة العقد قبل أن يفرغا منه لكانت العبارة الصحيحة عن ذلك "ما لم يتفقا" لا "ما لم يتفرقا" لأنهما بعد العقد قد اتفقا عليه. قال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما اعتلوا به من أن الافتراق يكون بالكلام، فيقال لهم: أخبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع، وتم به البيع أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره؟ فإن قالوا: هو غيره، فقد أحالوا وبجاؤوا بما لا يعقل، لأنه ليس ثم كلام غير ذلك، وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه، قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما به افترقا وبه انفسخ بيعهما؟ هذا ما لا يفهم ولا يعقل. انتهى. والذين اختلفوا في الكتاب أو في الرسل أو في العقائد، قد افترقوا ولم يتفقوا فلا يصح حمل الحديث عليه، وأيضًا فإن الصحابة إنما فهموا تفرق الأبدان فإن ابن عمر رضي الله عنهما "كان إذا بايع رجلاً مشى خطوات"،

وفسره أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه بالتفرق بالأبدان، وروي ذلك أيضًا عن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ولم ينقل عن

أحد منهم خلاف ذلك وبه قال سعيد بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب والشافعي وأحمد، وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال مالك وأبو حنيفة بلزوم العقد بمجرد الأيجاب والقبول، ونقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لا أدري هل اتهم مالك نفسه أو نافعًا وأعظم أن أقول: عبد الله بن عمر، وقال ابن أبي ذئب: يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث بعد

روايته له، نقل ذلك صاحب «المغني»، وأيضًا رواه الدارقطني وفي لفظه: "حتى يتفرقا من مكانهما" ففي الحديث زيادة بيان لما في حديث ابن عمر المتفق عليه، مع أنه في كثير من رواياته "ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا". قوله: (إلا أن يبين ثمن كل واحد، لأنه صفقتان معنى). فيه نظر، فإنه لو تعدد الثمن، واتحد العاقد والعقد، فإن خاطب واحدًا

واحدًا وقال: بعت منك هذه الأثواب العشرة كل ثوب بعشرة كانت الصفقة متحدة، ذكره في المحيط وغيره، وكلام الشيخ في الرهن يدل على هذا، واعتذر عن الشيخ بأن مراده تكرار لفظ العقد بأن قال: بعت منك هذا الثوب بعشرة، وبعت منك هذا الثوب بعشرة، وهذا لا يفهم من كلام الشيخ.

فصل

فصل قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من اشترى أرضًا فيها نخل فالثمر للبائع إلا أن يشترط المبتاع". لفظ الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع" أخرجاه في الصحيحين، وأخرجه أهل السنن والمساند أيضًا، ومعنى قوله: "حتى تؤبر" حتى تلقح، والمراد ظهور الثمرة من أكمامها، وهو يدل بمفهومه على أنه قبل التأبير للمشتري، وهو قول الأئمة الثلاثة،

وغيرهم، وإلا يخلو قوله: "بعد أن تؤبر" عن فائدة؛ لأنه جعل التأبير حدًا، لملك البائع للثمرة، ويكون ما قبله للمشتري وإلا لم يكن حدًا وهي من فروع مسألة مفهوم الشرط؛ ولأنه نماء كامن، لظهوره غاية فكان تابعًا لأصله قبل ظهوره، وغير تابع له بعد ظهوره، كالحمل في الحيوان، والقول بأنه لا فرق بينهما - إذا كان الثمر بحال له قيمة أو لم يكن أنه يلزم البائع قطعه، وتسليم النخل إلى المشتري- فيه نظر لما فيه من تضييع المال، وقياسه على تفريغ البيت من المتاع لا يصح لوجود الفارق بينهما، وهو إفساد المال بغير منفعة. قوله: (وقال الشافعي: يترك حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع، لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد، وفي العادة أن لا يقطع كذلك، وصار كما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع، قلنا: هناك التسليم واجب أيضًا حتى يترك بأجر، وتسليم العوض كتسليم المعوض).

وبقول الشافعي قال مالك وأحمد، وفي القول بوجوب التسليم في الحال نظر لأنه إما أن يكون بإيجاب الشرع أو بإيجاب المتعاقدين أو بالعرف، ولم يوجد شيء من ذلك، والتسليم بعد صلاح الثمرة هو التسليم في مثله، كما لو كان في الدار المبيعة متاع لا يتمكن من تحويله إلا في أيام كثيرة لا يلزمه أن يجمع دواب البلد لنقله، بل ينقله نهارًا شيئًا بعد شيء، كما جرت العادة في ذلك فكذا هذا، يفرغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها، ولا شيء عليه، كما لو انقضت مدة المساقاة والخارج ليس أخضر، فإن العامل يقوم على الثمرة إلى أن تنتهي والخارج بينهما على ما شرطاه من غير زيادة ولا أجرة. قوله: (وأما إذا بيعت الأرض وقد بذر فيها صاحبها ولم ينبت بعد مل يدخل فيه لأنه مودع فيها كالمتاع). في عدم دخول البذر في البيع نظر، فإنه بمنزلة الجنين في البطن، والأرض بمنزلة الأم، والحمل يدخل في بيع الأم تبعًا، ولا يشبه المتاع في البيت؛ لأن المتاع يمكن الوصول إليه، وجمعه ونقله بخلاف البذر، فإنه مستهلك في الأرض كما أن ماء الفحل مستهلك في رحم الأنثى، ولهذا لا يكون في هذه الحالة متقومًا، ولا يصح إفراده بالبيع لعدم إمكان تسليمه ولهذا لم يجعل

الشارع الزرع لمن رزعه في أرض قوم بغير إذنهم، بل قال: "إنه لا شيء له من الزرع وله نفقته" كذا رواه أهل السنن من حديث رافع بن خديج، ويؤيد هذا قوله بعد ذلك: ولو نبت ولم تصر له قيمة، فقد قيل: لا تدخل فيه، وقد قيل: تدخل، وكأن هذا بناءً على الاختلاف في جواز بيعه قبل أن تناله المشافر والمناجل. انتهى. يعني أنه عند من قال: لا يجوز بيعه يدخل، وعند من قال: يجوز بيعه لا يدخل، كذا ذكره حافظ الدين النسفي في الكافي، فإذا كان علة دخوله في البيع بعد نباته -قبل أن يصير له قيمة- أنه لا يجوز بيعه أي إفراده بالبيع فما لم ينبت بعد أولى أن يدخل في البيع، فإنه لا يصح إفراده بالبيع رواية واحدة لعدم إمكان تسليمه.

قوله: (وعلى المشتري قطعها في الحال تفريغًا لملك البائع، وهذا إذا اشتراها مطلقًا أو بشرط القطع). القول بصحة البيع وإلزام المشتري القطع في الحال إذا شرط القطع ظاهر، وأما عند الإطلاق فظاهر النص يقتضي عدم جوازه، كما إذا شرط البقاء، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" متفق عليه، وبظاهره أخذ الأئمة الثلاثة، وقال صاحب الهداية: وقد قيل: لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها، والأول أصح. انتهى. والقول بعدم الجواز على ما قال جمهور العلماء وهو ظاهر النص أولى، وتأويل معنى النهي أن يبيعها مدركة قبل إدراكها، صرف للحديث عن مدلوله من غير ضرورة.

باب خيار الشرط

باب خيار الشرط قوله: (والأصل فيه ما روي "أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري كان يغبن في البياعات، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا بايعت فقل: لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام"). فيه نظر، والذي في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: ذكر رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يخدع في البيوع، فقال: "من بايعت فقل: لا خلابة". قال النووي في شرح مسلم: وقد جاء في رواية ليست بثابتة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل له مع هذا القول الخيار ثلاثة أيام في كل سلعة يبتاعها" انتهى.

وعن طلحة بن زيد بن ركانه "أنه كلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في البيوع، فقال: لا أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحبان بن منقذ، إنه كان ضرير البصر، فجعل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهده ثلاثة أيام، إن رضي أخذ وإن سخط ترك" أخرجه البيهقي. قال في المغني: ولا يثبت عندنا ما روي عن عمر رضي الله عنه، انتهى. وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: "هو جدي منقذ بن عمرو، وكان رجلاً قد أصابته آمة في رأسه، فكسرت لسانه، فكان لا يدع على ذلك التجارة فكان لا يزال يغبن، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فقال: إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها" رواه البخاري في تاريخه، وابن ماجه،

والدارقطني، وهذا الحديث يدل على أن الخيار يثبت له ثلاثة أيام، وإن لم يقل: ولي الخيار ثلاثة أيام؛ لأنه قال: "ثم أنت بالخيار ثلاثة ليال" الحديث. وفي هذا الحديث أن صاحب القصة منقذ والد حبان، وهنا نظر آخر وهو أن الصحيح من الحديث يدل على أن من كان يغبن في البياعات غبنًا يخرج عن العادة فله الخيار بين الفسخ والإمضاء، وبهذا قال مالك وأحمد، فكيف يعدل عما دل عليه الصحيح من غير نص معارض؟. وقال أحمد: إذا قال أحد المتعاقدين عند العقد: لا خلابة أن ذلك جائز وله الخيار إذا خلبه، وإن لم يكن خلبه فليس له خيار للحديث المذكور، وقد أجيب عن هذا: بأنه خاص به، ولم يثبت ما يدل على الخصوص، وقد ذكر السغناقي في باب المرابحة والتولية عن صاحب المحيط أنه قال: ثم في الأجل المشروط إذا باعه من غير بيان وعلم به المشتري فله الخيار، إن شاء رضي به وإن شاء رده.

ذكر المسألة في الأصل والجامع الصغير، وتصير هذه المسألة رواية فيمن اشترى شيئًا وصار مغبونًا فيه غبنًا فاحشًا، أن له أن يرده على البائع بحكم الغبن وإليه أشار محمد في كتاب الصلح في باب الصلح عن العيوب. وكان القاضي أبو علي النسفي يحكي عن أستاذه أنه كان يقول: في المسألة روايتان عن أصحابنا، وكان يفتي برواية الرد رفقًا بالناس ثم حكى عن طائفة من الأصحاب أنهم كانوا يفتون أن البائع إن كان قال للمشتري: قيمة متاعي كذا، أو قال: متاعي يساوي كذا فاشترى بناء على ذلك، ثم ظهر بخلافه -أن له الرد بحكم التغرير، أما إذا لم يقل ذلك فليس له الرد، وغيرهم كانوا يفتون بالرد على كل حال، انتهى. قوله: (لحديث ابن عمر رضي الله عنهما "أنه أجاز البيع إلى شهرين"). لم أره في كتب الحديث، وكذا قال ابن التركماني أيضًا.

باب خيار الرؤية

باب خيار الرؤية/ قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه"). هذا حديث ضعيف. قال في المغني: يرويه عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متروك الحديث، وقال البيهقي: قال أبو الحسن الحافظ: عمر بن إبراهيم يضع الحديث، وأخرجه من طريق أخرى وضعفها. * * *

باب خيار العيب

باب خيار العيب قوله: (ومن باع عبداً، فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار أو بينة أو بإباء يمين، له أن يرده على بائعه؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن). فيه نظر، فإن البيع لو كان عقاراً لا يبطل حق الشفيع في الشفعة، ولو كان أمة حبلي فولدت فادعاه أبو البائع بعد الرد بقضاء لا تصح الدعوة ولو كان البائع أحال غريماً له على المشتري لا تبطل الحوالة، ولو كان الرد بقضاء فسخاً للعقد من أصله لبطل حق الشفيع، ولصحت دعوة أبي البائع الولد ولبطلت ...................................

الحوالة، وقد أجاب السغناقي في شرحه عن هذا الإشكال بما معناه أن الفسخ من الأصل إنما يظهر فيما يستقبل لا فيما مضى، وهذا تقرير للإشكال. * * *

باب البيع الفاسد

باب البيع الفاسد قوله: (والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فإنه مال عند البعض ... إلى أن قال: وأما بيع الخمر والخنزير إن كان بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير، ووجه الفرق أن الخمر مال وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة إلا أنه غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته ... إلى آخر المسألة). فيه نظر، بل ينبغي أن يكون البيع باطلاً على كل حال، فإن في جعل الخمر ثمناً إعزازاً لها أيضاً؛ لأن الأثمان يجب أن تكون أموالاً، والخمر ليست

بمال في حق المسلم. وقوله: فإنه مال عند البعض. يوهم أن الخمر والخنزير مال عند بعض المسلمين، وهذا غير صحيح، وكونهما مالاً عند أهل الذمة لا ينبني عليه حكم عند المسلمين، فإن اعتقادهم ماليتهما اعتقاد باطل. وكوننا لا نتعرض إليهم إعراضاً عنهم كما لا نتعرض إليهم في كفرهم، والخمر وإن كانت مباحة في دينهم ومالاً عندهم فالخنزير حرام ليس بمال في دينهم، وليس لهم على تحليله دليل عن نبيهم، قيل: إن الخنزير لم يحل في ملة نبي من الأنبياء، وقيل: إنه نزل تحريمه على آدم. وكم قد بدلوا من شريعتهم، ونحن لا نتعرض إليهم في شئ من ذلك، ولو كان الخنزير مالاً عندهم في شريعتهم لم يلزم منه اعتبار جواز ذلك في ديننا لأن ذلك مما نسخ في شريعتنا، لا فرق بين الخمر والخنزير وبين الدم والميتة، وكما أنا إذا ضربنا الجزية على الجوسي أو الوثني من العجم وهم يبيعون الدم والميتة لا يتعرض لهم في ذلك ولا يلزم منه أن يكون الميتة والدم مالاً، ويكون البيع بها فاسداً لا باطلاً فكذلك الخمر والخنزير. وقول صاحب المبسوط: إن المالية بكون العين شرعاً منتفعاً بها، وقد أثبت الله تعالى ذلك في الخمر بقوله: {ومنافع للناس}؛ ولأنها كانت مالاً متقوماً قبل التحريم وإنما ثبت بالنص حرمة التناول ونجاسة العين.

وليس من ضرورته انعدام المالية كالسرقين إلا أنه فسد تقومها شرعاً لضرورة وجوب الاجتناب عنها بالنص، ولهذا بقيت مالاً متقوماً في حق أهل الذمة فانعقد العقد بوجود ركنه في محله بصفة الفساد. انتهى. جوابه مع ما تقدم أنا لا نسلم أن الخمر مما يجوز الانتفاع بها شرعاً، والآية التي ذكرها، قد نزل بعدها قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} الآيات، فأمر سبحانه باجتناب الخمر، ولهذا لا يجوز التداوي بها عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-/ "أنه سئل عن الخمر تصنع للدواء؟ فقال:

أنها داء وليست بدواء". وفي سنن أبي داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه نهى عن الدواء الخبيث" والخمر أم الخبائث، وذكر البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال: "إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها". ورواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه مرفوعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد سلبها الله سبحانه المنفعة وحرمها، وقياسه على السرقين ممنوع أيضاً بل هي بمنزلة البول، لأنا أمرنا باجتنابها كما أمرنا باجتناب البول، ولم نؤمر باجتناب السرقين، ولهذا جاز بيع السرقين

بيع أم الولد والمدبر والمكاتب

دون البول. وقوله: وإنما ثبت بالنص حرمة التنازل. ممنوع، فإن الذي في النص الأمر بالاجتناب وهو فرق حرمة التناول. وقوله: وليس من ضرورته انعدام المالية ممنوع أيضاً، لأن المالية من ميل الطباع إلى ذلك الشئ، والخمر والخنزير لا يميل إليهما بعد التحريم إلا طباع الكافر أو الفاسق. قوله: (وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد ومعناه باطل). تقدم التنبيه على ما في بيع المدبر من الإشكال، وأما بيع المكاتب، فقد قال عطاء بن أبي رباح والنخعي والليث وأحمد، وأبو ثور رحمهم الله بجوازه وإن لم يعجز وينتقل إلى المشتري مكاتباً، فإذا أدى بدل الكتابة إلى المشتري عتق وكان ولاؤه له، وقال مالك: المكاتب إذا بيع كان أحق باشتراء كتابته ممن اشتراه إذا قوي على أن يؤدي إلى سيده الثمن الذي باعه به، وكان الشافعي يقول بالعراق: بيعه جائز، ثم قال بمص: لا يجوز،

وقال الأوزاعي: يكره بيع المكاتب قبل عجزه للخدمة، ولا بأس أن يباع للعتق، نقل ذلك ابن المنذر واختار جواز بيعه مكاتباً على حاله، وقال: بيعت بريرة بعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي مكاتبة، ولو كان بيع المكاتب غير جائز لنهى عنه، ففي ذلك أبين البيان على أن بيعه جائز، ولا أعلم خبراً يعارضه، ولا أعلم في شئ من الأخبار دليلاً على عجزها كان. انتهى كلامه. وحديث بريرة متفق عليه فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أقر عائشة على شرائها وأهلها على بيعها، ولم يسأل أعجزت أم لا؟ وليس في بيع المكاتب محذور فإن بيعه لا يبطل كتابته فإن يبقى عند المشتري كما كان عند البائع، إن أدى إليه عتق، وإن عجز عن الأداء فله أن يعيده إلى الرق، فلو لم تأت السنة به، لكان القياس يقتضيه، بل قد ادعي الإجماع القديم على جواز بيع المكاتب،

قالوا: ولم يأت المنع عنه عن أحد من الصحابة إلا رواية شاذة عن ابن عباس لا يعرف لها إسناد، وقد اعتذر عن قصة بريرة بعذرين: أحدهما: أن بريرة كانت قد عجزت. والثاني: أن البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها. وأجيب عن الأول: بأن سياق القصة يأبى ثبوت العجز، ولم يرد ما

يدل عليه بوجه، ولكن فيه ما يدل على أنها رضيت ببيعها ولا يلزم منه تعجيزها. وعن الثاني: بأن عائشة رضي الله عنها اشترتها فأعتقتها، وكان ولاؤها لها، وهذا الذي دل عليه الحديث من جميع طرقه، ولم يرد أنها اشترت المال، ولا كان لعائشة رضي الله عنها غرض في مشترى الدراهم المؤجلة بعددها حالة، وينبغي ألا يكون بيع المدبر والمكاتب من قبيل الباطل على أصل أبي حنيفة أيضاً وذلك أن المدبر مال يجوز بيعه عند جمهور العلماء والمكاتب

عند أحمد وغيره كما تقدم، وقد صرح الأصحاب أن المدبر مال متقوم، وكذلك أم الولد عند الصحابين، وعند أبي حنيفة أنها مال غير متقوم، وكذلك المكاتب مال متقوم فكيف يكون بيع هؤلاء باطلاً، والبيع بالخمر والخنزير الذي ليس هو بمال عند أحد من المسلمين فاسداً، يفيد الملك بالقبض؟. فإن أجيب بأن المدبر وأم الولد والمكاتب لا يقبلون النقل من ملك إلى ملك، فالخمر والخنزير لا يقبلان النقل أيضاً من ملك إلى ملك. والقول ببقائه مملوكاً للمسلم بعد إسلامه وانتقاله إلى وارثه المسلم بعد موته ممنوع عند المخالف، وعلى ذلك يقوم الدليل، وفي قوله: ومعناه باطل نظر آخر، وهو أن هذا يناقض ما يأتي في كلامه في آخر الباب وهو قوله: أما البيع في هؤلاء موقوف، وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية ولهذا ينفذ في عبد الغير بإجارته، وفي المكاتب برضاه في الأصح، وفي المدبر بقضاء القاضي، وكذا في أم الولد عند أبي حنيفة/ وأبي يوسف. انتهى.

وقيام المالية فيهم ينافي البطلان لأن القاعدة أن ما كان مالاً في الجملة كان البيع فيه فاسداً، ومالية هؤلاء أظهر من مالية الخمر، بل اعتبار مالية الخمر في الجملة في غاية البعد كما تقدم. وقد اعتذر السغناقي عن تسميته هذا باطلاً: بأن معناه أنه لا يملك هؤلاء عند اتصال القبض بهم كما لا يملك المبيع فاسداً عند اتصال القبض به، وهذا الاعتذار لازمه تناقض آخر في أن البيع الفاسد يفيد الملك بالقبض وهذا بيع فاسد لا يفيد الملك بالقبض. فإما أن ينتقض قولهم أن الباطل ما انعدمت المالية في بدليه أو أحدهما، أو قولهم أن الفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به. قوله: (ولا بيع الحمل ولا النتاج لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- "عن بيع الحبل وحبل الحبلة". لفظ الحديث: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع حبل الحبلة" رواه أحمد ومسلم والترمذي، وفي لفظ: "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة".

بيع الصوف على ظهر الغنم

وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. متفق عليه. وليس في شئ من لفظ الحديث "عن الحبل وحبل الحبلة" وكأن الشيخ نقله بالمعنى، وفي كلامه نظر آخر، وهو أن الحمل هو النتاج في عرف الفقهاء، فلا يصح عطفه عليه، وقال السغناقي في قوله: ولا النتاج: يعني نتاج الحمل وفيه مسامحة. قوله: (والصوف على ظهر الغنم؛ لأنه من أوصاف الحيوان، ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم؛ لأنه يزيد من أعلاها وبخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه، والقطع في الصوف متعين

فيقع التنازع في موضع القطع، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم، وعن لبن في ضرع، وسمن في لبن" وهو حجة على أبي يوسف في هذا الصوف حيث جوز بيعه فيما يروى عنه). في كلامه هذا نظر من وجوه: أحدها: أنه قال: لأنه من أوصاف الحيوان، يعني أنه بمنزلة أعضائه، فلا يجوز إفراده بالبيع كما لا يجوز إفراد بعض أعضائه بالبيع، وهذا قياس لا يقوى؛ لأن الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان، وأيضاً فإنه إذا أبين من الحي كان ميتاً فلا يجوز بيعه بخلاف الصوف، وأيضاً فإنه إذا أبين منه كان فيه تعذيب الحيوان لغير فائدة، بخلاف الصوف لأن جزه في أوانه ينفع الحيوان وبقاؤه يضره. الثاني: أنه قال: ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره. وهذا لا يمنع؛ لأنه يقطع في الحال فلا ينبت في الآن اليسير من يختلط بالمبيع، ولو نبت فهو شئ يسير جداً جرت العادة بتركه، والعفو عنه، ولا يفضي إلى المنازعة ولا إلى الجهالة في المبيع كما في بيع الثمرة بشرط القطع، والقصيل بشرط القطع لا القلع، وكم في أغصان البان، ومثل هذه الجهالة مغتفرة شرعاً

وعرفاً كمسألة دخول الحمام وإجارة الظئر، بل وسائر الإجارات. الثالث: أنه قال: بخلاف القوائم لأنه يزيد من أعلاها. ومراده قوائم البان يعني أغصانه، وهذا فرق ساقط فإنها وإن زادت من أعلاها فهو بما تشربه من أسفلها، بل إذا قيل بجواز بيع أغصان البان، كان بيع الصوف على ظهر الغنم أولى بالجواز لأن موضع القطع في الصوف معلوم لا يقع فيه منازعة ولا جهالة. وأما أغصان البان فليس لها موضع معين تقطع منه بل يقع في قطعها تفاوت، وهو وإن كان قليلاً يعفى عنه فالصوف أقل وأولى بالعفو منه.

الرابع: أنه قال: فيقع التنازع في موضع القطع. وهذا ممنوع أيضاً بل موضع القطع على الصوف، يعرفه أرباب الخبرة أكثر مما يعرف أرباب الخبرة موضع القطع في أغصان البان. الخامس: أنه قال: وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم" الحديث. ولم يصح هذا ولا أخرجه أحد من أهل الصحيح، وإنما أخرجه الدارقطني/ والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: تفرد برفعه عمر بن فروخ، وليس بالقوي. انتهى. ولو صح هذا الحديث لوجب القول به ولم تجز مخالفته. السادس: أنه قال: وهو حجة على أبي يوسف. ولا يكون حجة على أبي يوسف إلا بعد صحته، وبقوله ..................................

قال مالك وأحمد في رواية عنه. قوله: (لأن في وجودهما احتمالاً). يعني أن في وجود النوى في التمر والبزر في البطيخ احتمالاً، وفي هذا التعليل نظر، بل العلم بوجودهما كالعلم بوجود قلب اللوز في قشره ونحوه، وأصح من هذا التعليل في الفرق بين نوى التمر وبزر القطن ونحو ذلك، وبين الجذع في السقف ونحوه أن النوى في التمر متصل بغير المبيع اتصال خلقه وهو تابع له، فكان العجز عن التسليم، فيه معنى أصلياً بخلاف الجذع فإنه غير مال في نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره بعارض فعل العباد إلا أنه عد عاجزاً عن التسليم حكماً لما فيه من إفساد غير المستحق بالعقد، فإذا قلع

اختلاف العلماء في معنى العرية

والتزم الضرر زال المانع فيجوز. قوله: (قلنا: العرية: العطية لغة، وتأويله أن يبيع المعرى ما على النخيل من المعري بتمر مجذوذ، وهو بيع مجازاً؛ لأنه لم يملكه فيكون براً مبتدءاً). اختلف الأئمة الأربعة في معنى العرية التي رخص فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فحملها أبو حنيفة على ما ذكره المصنف من المعنى، وجعل مالك رحمه الله الرخصة الواردة فيها موقوفة على المعري لا غير فلا يجوز بيع الرطب بالتمر بوجه إلا لمن أعري نخلاً يأكل ثمرها رطباً ثم بدا له أن يبيعها بالثمر فإنه أرخص للمعري أن يشتريها من المعري إذا كان ذلك خرص خمسة أوسق أو

دونها لما يدخل عليه من الضرر في دخول غيره عليه حائطة، لكن لا يجوز بخرصها تمراً بل إلى الجذاذ، قال: وتجوز العرية في كل ما ييبس ويدخر نحو العنب والتين والزيتون. وأجاز الشافعي رحمه الله بيع ما دون خمسة أو سق من الرطب بالتمر يداً بيد، وسواء كان ذلك فيمن وهب ثمرة نخلة أو نخلات، أو فيمن يريد أن يبيع ذلك المقدار من حائطه لعله أو لغير علة. والرخصة عنده إنما وردت في المقدار المذكور فخرج ذلك عنده من المزابنة، وما عدا ذلك فهو داخل في المزابنة، ولا يجوز عنده بوجه. ولا عرية عنده في غير النخل والعنب، وأما أحمد بن حنبل فحكي عنه الأثرم أن العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة والمسكن، فإذا أعراه إياها فللمعري أن يبيعها ممن شاء، إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة وأرخص في العرايا فرخص في شئ من شئ فنهى عن المزابنة أن تباع من كل أحد

ورخص في العرايا أن تباع من كل أحد فيبيعها ممن شاء. قال: وكذلك فسرها لي سفيان بن عيينة وغيره. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يقول: في العرية معنيان لا يجوزان في غيرها؛ فيها: أنها رطب بتمر، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وفيها أنها تمر بثمر يعلم كيل التمر ولا يعلم كيل الثمر، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذل. قلت لأبي عبد الله: فإذا باع المعري العرية، أله أن يأخذ الثمن الساعة أو عند الجذاذ؟ قال: بل يأخذ الساعة. هذا ملخص مما ذكره ابن عبد البر في التمهيد في حديث العرايا، وأحاديث العرايا مخرجة من غير واحد من الصحابة، منها حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن

المزابنة، بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أّن لهم" رواه أحمد والبخاري، والترمذي وزاد فيه: "وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل تمر بخرصه". وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن تشترى بخرصها يأكلها أهلها رطباً" متفق عليه. وفي لفظ: "نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة، إلا أنه رخص في بيع العربة النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلوها رطباً" متفق عليه، فالأئمة الثلاثة رحمهم الله متفقون على أن البيع في العرايا بيع مستثنى من النهي، مرخص فيه، مقدر بخمسة أو سق/ أو ما دونها، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، والتصريح في الأحاديث بالاستثناء والرخصة حجة عليه في تمسكه بعموم النهي،

والتقدير بالأوساق يرد عليه دعوى أنه بيع مجازاً وأن المعرى لم يملك العرية قبل قبضها إذ لو كان الجواز لعدم ملك المعري لما كان في التقدير فائدة، ولا في ذكر الرخصة ولا في الاستثناء والأصل فيه الاتصال، والأصل في ذكر البيع أن يكون حقيقة، وقرينة- التقدير بالأوساق واستثنائها- تقرر إرادة الحقيقة، وكذلك التنصيص على الرخصة إذ هي استباحة المحظور مع وجود السبب الحاظر. قوله: (ولو عقدت على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز).

حكم بيع النحل

وقد قال بعض العلماء بجواز استئجار البقرة مدة معلومة، كما في الظئر، وسيأتي ذكر ذلك في الإجارات إن شاء الله تعالى. قوله: (ولهما أنه من الهوام، فلا يجوز بيعه، كالزنابير، والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه، فلا يكون منتفعاً به قبل الخروج). يعني النحل، وقول محمد في جواز بيعه أقوى، فإنه حيوان منتفع به، وما ذكر من اعتباره بالزنابير لا يقوى، فالفارق بينهما في غاية الظهور، وكون الانتفاع بما يخرج منه، لا ينافي كونه منتفعاً به، فإن الذي يخرج منه لا يحصل إلا بواسطته فالانتفاع به باعتبار كونه هو الذي يأتي به، فصدق عليه أنه منتفع به كما في الانتفاع بالصقر والفهد ونحوهما، فإن الانتفاع بما يحصله بصيده لا بعينه لم يخرجه ذلك عن كونه منتفعاً به، وكذلك أيضاً القول في دود القز وبزره.

قوله: (ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بذلك كله لأنها طاهرة لا يحلها الموت لعدم الحياة، وقد قررناه من قبل). في تعليله نظر، وهو أن الموت لا يحلها لعدم الحياة، ولم يقرره فيما تقدم في كتاب الطهارة بأكثر من أنه لم يتألم بقطعها مع أنه لم يذكر هناك سوى الشعر والعظم ولم يذكر العصب. وإن سلم له أن العظم لا يتألم فالعصب يتألم بقطعه فلا يصح أن يقال: لا تحله الحياة، وأحسن من هذا، الاستدلال بقوله -صلى الله عليه وسلم- في شاة ميمونة لما ماتت فمر بها فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به. فقالوا: إنها ميتة، إنما حرم أكلها" رواه الجماعة، وليس للبخاري والنسائي ذكر الدباغ بحال. فإن قيل: لا يجوز بيع لحمها، ولا الانتفاع به اتفاقاً فلم يكن العموم مراداً، وإنما قال -صلى الله عليه وسلم-: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" فلا تتعدى الرخصة إلى غير الجلد.

فالجواب: أنه -صلى الله عليه وسلم- أجاب بعد ذلك بجواب عام خص منه محل الخبث وهو الرطوبات النجسة إذ هو المنجس، ولهذا يطهر الجلد بالدباغ لزوالها، بل رواية البخاري والنسائي تدل على أنه كان في الابتداء يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ ثم نسخ بعد ذلك وهو الراجح، ولهذا ما ليست له نفس سائلة لا ينجس بالموت وهو حيوان كامل لعدم سبب التنجيس منه فالعظم ونحوه أولى. قوله: ([في حديث عائشة رضي الله عنها] "أبلغني زيد بن أرقم أن الله

أبطل حجه وجهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب"). الحديث رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما، وليس فيه ذكر حجه وإنما فيه "أبطل جهاده". قوله: (ولأبي حنيفة أن العاقد هو الوكيل بأهليته وولايته، وانتقال الملك إلى الآمر حكمي فلا يمتنع سبب الإسلام كما إذا ورثهما).

حكم توكيل المسلم الذمي ببيع الخمر أو الخنزير

من مفردات أبي حنيفة رحمه الله جواز توكيل المسلم الذمي ببيع الخمر أو الخنزير ولكن يكره عنده هذا التوكيل أشد الكراهة، والخلاف مبني أيضاً على أن الملك يثبت عنده للوكيل أولاً ثم ينتقل إلى الموكل، والنزاع في ذلك معروف، ولا شك أن الوكيل يملك التصرف من وجهة الموكل، فلابد أن يكون الموكل مالكاً لذلك التصرف ليملكه من غيره. والمسلم لا يملك بيع الخمر والخنزير ولا شراءهما، فكيف يملك أن/ يوكل به، وبهذا يجاب عن قوله: إن الوكيل يتصرف بأهليته وولايته. ويقال: أما تصرفه بأهلية نفسه فمسلم وأما الولاية فممنوعة، بل بولاية يستفيدها من الموكل إذ لولا التوكيل لما نفذ ذلك التصرف على الموكل. وقوله: إن انتقال الملك إلى الآمر حكمي. مترتب على صحة الوكالة أولاً، وهي باطلة لما تقدم أن المسلم لا يملك هذا التصرف فلا يملك أن يقيم غيره فيه مقامه، مع أن الكلام في تصور ملكه للخمر والخنزير، فإن الخمر

والخنزير في حق المسلم بمنزلة الميتة والدم، وليس على القول بالفرق بين ذلك دليل صحيح شرعي، بل إذا استحال عصيره خمراً، صار بمنزلة شاته إذا ماتت، ولو كان ذمياً يملك خمراً وخنزيراً فأسلم فإنه يصير ممنوعاً شرعاً من حفظهما. والقول بأنه يجوز له حفظ الخمر ليخللها تقدم الكلام فيه، ورده "بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الخمر أتتخذ خلا؟ قال: لا" في باب العاشر. وقوله: كما إذا ورثهما. صحة القول بإرثهما مترتب على أن الذمي إذا أسلم وفي يده خمر وخنزير يستمر ملكه فيهما حتى إذا مات يخلفه وارثه في ذلك، وهو ممنوع كما تقدم.

بيع العبد بشرط العتق أو التدبير أو الكتابة

قوله: (ومن باع عبداً على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمه على أن يستولدها فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع وشرط، وقد "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع وشرط"- إلى أن قال: لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، ولأنه تقع بسببه المنازعة فيعري العقد عن مقصوده إلا أن يكون متعارفاً؛ لأن العرف قاضٍ على القياس). عن جابر رضي الله عنه "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: ولحقني النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا لي وضربه فسار سيراً لم يسر مثله قط، فقال: يعنيه، فقلت: لا، ثم قال: بعينه فبعته، واستثنيت حملانه إلى أهلي" متفق عليه، وفي لفظ لأحمد والبخاري: "وشرط ظهره إلى المدينة"، وعن عائشة رضي الله عنها "أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق" متفق عليه، ولم يذكر البخاري لفظ "وأعتقيها". وأما نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع وشرط فلم يثبت عند أهل الحديث، وقد أنكره أحمد، وإنما أخرجه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن عمرو بن شعيب عن

أبيه عن جده، وأخرجه أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم بإسنادهما من جهته، وعلى تقدير ثبوته لا يعارض حديث جابر وحديث عائشة، فإن عمومه مخصوص بالإجماع، فيحمل على شرط ينافي العقد أو اشتراط عقد في عقد نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، ونحو ذلك للنهي عن صفقتين في صفقة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عند" رواه الخمسة إلا ابن ماجة فإن له منه "ربح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عندك".

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولهذا قال أحمد: يبطل البيع إذا كان فيه شرطان ولا يبطله شرط واحد. وروى الخطابي في معالم السنن بسنده إلى عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعاً وشرط كذا؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلي وسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة. فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: ما أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع وشرط" البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: ما أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أشتري بريرة وأعتقها، وقال: اشتري بريرة واشترطي الولاء لأهلها" البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: ما أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: "بعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة/ أو

جملاً، وشرط لي حملانه إلى المدينة" البيع جائز والشرط جائز، انتهى. وروى هذه الحكاية أيضاً أبو محمد بن حزم في المحلي، وأبو عمر بن عبد البر في التمهيد، وقول المصنف- بعد ذلك-: (والشافعي وإن كان يخالفنا في العتق ويقيس على بيع العبد نسمة، فالحجة عليه ما ذكرناه) دليل الشافعي قوي، وهو حديث بريرة، فإن عائشة رضي الله عنها اشترتها بشرط العتق، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وصح البيع والشرط، وإنما بين بطلان شرط الولاء لغير المعتق، ولم يذكر بطلان شرط العتق. وقوله -بعد ذلك-: (وكذلك إذا باع عبداً على أن يستخدمه البائع شهراً أو داراً على أن يسكنها) حديث جابر يرده إلا إذا استثنى خدمة، أو

سكنى مدة مجهولة. وقوله: (ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شئ من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صفقتين في صفقة). يجب أن يحمل النهي عن صفقتين في صفقة على نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن أو غيره لا على استثناء خدمة العبد أو حملان البعير أو سكن الدار أو نحو ذلك مدة معلومة جمعاً بين هذا الحديث وبين حديث جابر؛ ولأن استثناء ذلك بمنزلة شئ معلوم من المبيع، لا يفضي إلى جهالة ولا منازعة ولا غرر. ولو لم يرد حديث جابر رضي الله عنه لكان مقتضي القياس جواز استثناء مثل هذا، فورود النص على مقتضى القياس لا على منافاته فلم يكن مثل هذا من باب صفقتين في صفقة بل من باب الاستثناء.

وقوله: لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا. فيه نظر لأن الفضل الخالي عن العوض لا يكون ربا مطلقاً حتى جاز بيع البيضة بالبيضتين، والحفنة بالحفنتين، ونحو ذلك، وجاز فيما تعارف الناس اشتراطه كحذو النعل ونحوه، ولو تعارف الناس الربا لا يحل، وأيضاً فإنه ليس هنا خالياً عن العوض بل في مقابلة المبيع لأنه يجوز أن يقابل المبيع بأعواض كثيرة. وقوله: أو لأنه يقع بسببه المنازعة. فيه نظر أيضاً؛ لأن الظاهر عدم المنازعة جرياً على موجب الشرط، أو لأن المنازع بعد الشرط لا يلتفت إليه لرضاه بالشرط المتعارف والملائم. وقوله: لأن العرف قاض على القياس. فيه نظر؛ لأن العرف هنا على خلاف النص الذي تقدم ذكره، والعرف الوارد على خلاف النص باطل.

قوله: (ومن باع عيناً على أن لا يسلمها إلى رأس الشهر فالبيع فاسد؛ لأن الأجل في المبيع المعين باطل فيكون شرطاً فاسداً وهذا لأن الأجل شرع ترفيهاً فيليق بالديون دون الأعيان). فيه نظر؛ لأن حديث جمل جابر يدل على جواز تأجيل قبض المبيع المعين وفيه تقدم. قوله: (لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيها). يعني ي الكفالة إلى النيروز والمهرجان ونحوه، ولم أر لذلك ذكراً في كتب الحديث.

قوله: (ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضاً). في قوله: فإن تراضيا بإسقاط الأجل. نظر، وصاحب الهداية تبع القدوري، والصحيح أن التراضي بإسقاط الأجل ليس بشرط بل رضا من له الأجل وهو المشتري كاف؛ لأنه خالص حقه، وحق الإنسان ما يتولى إسقاطه وإثباته، كذا في الكافي وغيره. * * *

فصل في أحكامه

فصل في أحكامه قوله: (ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى محله فوجب القول بانعقاده، ولا خفاء في الأهلية والمحلية وركن مبادلة المال، وفيه الكلام، والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور فنفس البيع مشروع وبه تنال نعمة الملك، إنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء). مسألة الفرق بين الفاسد والباطل في البيع من المسائل المشهورة، ونقل عن أبي يوسف أنه احتج لها بحديث عائشة رضي الله عنها "أنها اشترت بريرة وشرطت الولاء لأهلها ثم أعتقتها" وأن البيع كان فاسداً/ وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز العتق وأبطل الشرط مع فساد البيع بالشرط. وسياق القصة يأبى ذلك، ويدل على جواز البيع، وبطلان الشرط، وقد تقدم التنبيه على ما روي من النهي عن بيع وشرط، وخطبته -صلى الله عليه وسلم- ورده على

من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله، ليس مراده به الرد على عائشة رضي الله عنها، بل على أهل بريرة، فإنهم هم الذين شرطوا الشرطة الفاسد، وهو أن يكون الولاء لهم مع كون الإعتاق من غيرهم، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخروجهم عن مقتضى الشرع فإن ذلك قد بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلمه الخاص والعام أن الولاء لمن أعتق. وكانت عائشة رضي الله عنها قد ظنت أنها لو اشترطت ذلك- مع كونه على خلاف مقتضى الإعتاق- أنه يصح لوجود الشرط فنبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه اشتراطها وعدمه سواء وأن الشرط الباطل لا يعتبر، وأن وجوده وعدمه سواء، فلا يبطل به ما مقتضاه الصحة، ولا يصح به ما مقتضاه البطلان، وأخرج كلاماً عاماً ليتناول البيع وغيره فيدخل في عمومه النكاح والوقف وغيرهما. وقوله: والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور. إن أراد به التصور اللغوي فمسلم، وإن أراد به التصور الشرعي فممنوع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهو حديث مشهور تلقته الأمة

بالقبول والعمل. والإشكال الخاص هنا أنه قد ورد النهي عن أنواع من البيوع، وقلتم أنها من قسم الباطل فبطل التفريق بأن النهي يقتضي التصور شرعاً، وأن ما فيه ذلك يكون فاسداً، منها ما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" رواه الجماعة، فلو كان النهي يقرر المشروعية لاقتضائه التصور، للزم أن يكون بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام مقرراً في الشرع متصوراً، تنال به نعمة الملك، وقد فرقتم بين البيع الخمر والبيع بها. ومنها ما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل

الربا وموكله، ولعن المصورين" متفق عليه، فتحريم ثمن الدم، لا يدل على أن بيع الدم مقرر في الشرع، متصور، تنال به عمة الملك، وفي الحديث أيضاً دلالة على تحريم بيع الكلب وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وقوله: إنما المحظور فيما يجاوره كما في البيع وقت النداء. قد فرق المخالف بينه وبين مجاوزة المحظور في البيع وقت النداء بأن الفاسد في البيع الفاسد في صلب العقد. والكراهية في البيع وقت النداء للاشتغال عن السعي إلى الجمعة وذلك أمر خارج عن العقد، ولهذا كان في هذا الفساد عندكم، وفي الآخر الكراهة. واعتباركم المعنى الجامع بينهما وهو مجاورة المحظور مع إلغائكم المعنى الفارق وهو أن الفساد هنا في صلب العقد، وهناك باعتبار أمر خارج، وتنزيلكم لهذا البيع الفاسد منزلة بين منزلتين لا نظير له في الشرع وإذا تبين أن البيع الفاسد غير مشروع اصلاً لا يترتب عليه الملك الذي هو من أعظم نعم الله على عباده.

قوله: (إنما لا يثبت الملك قبل القبض كيلا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور إذ هو واجب الرفع بالاسترداد). ينبغي على مقتضي هذا التعليل أن لا يثبت الملك بعد القبض أيضاً لأن القبض عدوان ومعصية أخرى فإذا لم يثبت الملك قبله فأولى أن لا يثبت بعده. قوله: (فيشترط اعتضاده بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة). كيف يعتبر هذا القبض المحرم بالقبض في الهبة الشرعية في إفادة الحكم، واعتضاد المعصية بالمعصية لا ينتج إفادة الحكم الشرعي وجميع الفروع المذكورة إلى آخر الفصل مترتبة على هذا الأصل المزلزل. * * *

فصل في ما يكره

فصل في ما يكره قوله: (وعن بيع الحاضر البادي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يبيع الحاضر للبادي"/ وهذا إذا كان أهل البلدة في قحط وعوز وهو يبيع من أهل البدو طمعاً في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر). في تفسير الحديث بما ذكره المصنف نظر؛ فقد جاء تفسيره بخلاف ذلك، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد" فقيل لابن عباس: ما قوله: لا يبيع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسماراً" رواه الجماعة إلا الترمذي، وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" رواه الجماعة إلا البخاري، والمعنى فيه أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع

من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليله إلى هذا المعنى. * * *

باب المرابحة والتولية

باب المرابحة والتولية قوله: (وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ولّني أحدهما؟ فقال: هو لك بغير شيء، فقال: أما بغير ثمن فلا). هذا اللفظ منكر لا يعرف، وقد ذكر البخاري رحمه الله حديث الهجرة بطوله وفيه "أن أبا بكر رضي الله عنه قال: خذ بأبي أنت وأمي إحدى راحلتي هاتين، قال عليه الصلاة والسلام: بالثمن، وذكر ابن إسحاق في السيرة: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم له أفضلهما ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أركب بعيراً ليس لي، فقال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال:

هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا" الحديث، وعلى تقدير ثبوته، ليس فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ولني أحدهما، كما قال المصنف فإن غرضه أن التولية تثبت بقوله: ولني. قوله: (وبخلاف أجرة التعليم؛ لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه، وهو حذاقته). قصر ثبوت الزيادة على حذاقته فيه نظر، وإنما حصلت الزيادة بتعليم المعلم في محل قابل، فصار بمنزلة صبغ الثوب وقصارته، فلولا قابليته المحل لما أثر الصبغ فيه، ولأن حذاقته بانفرادها لا تفيد التعلم فدل على أن لعمله أثراً في المحل، فلا فرق حينئذٍ بين التعليم وبين الصبغ والقصارة ولهذا -والله أعلم- علل السغناقي في الشرح بأنه ليس فيه عرف ظاهر ثم قال: حتى لو كان في شئ من ذلك عرف ظاهر في موضع بإلحاقه برأس المال كان له أن يلحقه به. قوله: (وعن أبي يوسف وزفر في الفصل الأول لا يبيع من غير بيان

كما إذا احتبس بفعله وهو قول الشافعي). يعني إذا اشترى أمة سالمة فاعورت، وقول أبي يوسف وزفر رحمهما الله أقوى لما في عدم البيان من الغرر، وقد "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر" وذلك لأنه إذا قال: اشتريتها بكذا، يظن المشتري منه اشتراها على ما هي عليه من العيب، فصار كأنه ستر العيب، ولم يبينه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، وصار بهذا الاعتبار كما إذا فقأ هو عينها، أو فقأها آخر وأخذ أرشها، وكذلك لو أصاب الثوب قرض فأر أو حرق نار ينبغي أن لا يبيعه مرايحة حتى يبين كما

إذا كان ذلك بصنعه مع أن الصفات على نوعين: منها: ما هو جزء من الذات. ومنها: ما هو معنى قائم بالذات. وبذهاب العين من الأمة، والجزء من الثوب بقرض الفأر أو حرق النار، نقص جزء من ذات المبيع، فلا بد من البيان. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع ما لم يقبض"، ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك). الكلام على كلام المصنف هنا في موضعين: أحدهما: على ما أشار إليه من الحديث. والثاني: على ما أشار إليه من التعليل. أما الأول: فلم يرد هذا النهي العام في الصحيح، وإنما ورد في بعض السنن، كما في حديث حكيم بن حزام "قال: قلت/ يا رسول الله إني

لا يباع المنقول حتى يقبض

أشتري بيوعاً فما يحل لي منها، وما يحرم علي؟ قال: فإذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه" رواه أحمد، وعن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" رواه أبو داود والدارقطني، وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه قال: أما الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شئ إلا مثله" رواه الجماعة إلا الترمذي، والنهي عن بيع الطعام حتى يقبض ثابت في الصحيحين والسنن من حديث أبي هريرة وجابر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ومن ثم حصل الخلاف في تعميمه وتعليله.

وأما الموضع الثاني وهو تعليله بأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك، بعني العقد الثاني، وهذا مبني على أن هلاك المبيع قبل قبضه يوجب انفساخ العقد، فإذا انفسخ العقد بهلاك المبيع قبل قبضه وقد باعه من آخر تبين أنه باع ما لا يملك فتمكن فيه غرر، وقد اعترض على هذا الأصل أصحاب مالك وأحمد وغيرهم. وقالوا: لا نسلم أن كل مبيع قبل قبضه يكون مضموناً على البائع بل هذا خلاف السنة الثابتة فقد قال ابن عمر رضي الله عنه: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فضمانه على المشتري" رواه البخاري تعليقاً، وقول الصحابي: "مضت السنة" يقتضي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن المنذر: ولا يعلم لابن عمر مخالفاً يعني من الصحابة، وقد أجمعوا على أن المشتري لو أعتق العبد المشترى قبل القبض أن العتق يقع به لتمام ملكه عليه، وكذلك إذا تلفت السلعة فمن ماله لتمام ملكه عليها انتهى. ولا شك أن المشتري قد ملكه وزيادته له و "الخراج بالضمان" فإذا كان خراجه له كان ضمانه عليه، لكن هذا إذا ملكه البائع من قبضه ولم يقبضه فإذا لم يمكنه من قبض الثمن فيكون العقد لم يتم بعد، فيكون من ضمان البائع فهذا اعتراض على وصف العلة، ثم اعترضوا على تأثير هذا الوصف، فقالوا: هب أنه يهلك من ضمان البائع ويتوالى ضمانان، فأي محذور في هذا يكون موجباً للنهي ولو اشتراه مائة من واحد إلى واحد رجع إلى واحد على الآخر بما أقبضه إياه من الثمن ولو ظهر المبيع مستحقاً لرجعوا بذلك. وفي الشقص المشفوع لو تبايعه ثم أخذه الشفيع من المشتري الأول رجع كل واحد بما أعطاه، ومن علل بوصف فعليه أن يبين تأثيره إما لكون الشرع جعل مثله مقتضياً للحكم، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم على الوصف، وقد ذكر بعضهم علة مناسبة وهي أنه إنما نهى عن ذلك لأن المبيع قبل القبض فيه غرر؛ لأنه قد سلمه البائع، وقد لا يسلمه لاسيما إذا رأى

المشتري قد ربح فيه فيختار أن يكون الربح له وهذا واقع كثيراً بيع للرجل، فإذا رأى السعر ارتفع سعى في رد البيع إما بجحده، وإما باحتيال في الفسخ بأن يطلب فيه عيباً أو يدعي غبناً أو غرراً، ومن اعتبر أحوال الناس وجد كثيراً منهم يندم على البيع وكثيراً ما يكون الندم لارتفاع السعر، فيسعى في الفسخ إن لم يتمكن من المنع بيده، فإذا كان الأمر كذلك فيكون قد باع ما ليس عنده، ويحصل الضرر للمشتري الثاني بأن يشتري ما يظن أنه يتمكن من قبضه فيحال بينه وبينه، وهذا من بيع الغرر. وهذا بخلاف ما لو دفعه البائع، فإنه لا يطمع أن يكون الربح له، وكذلك الموروث لا حق فيه لغير الوارث، وعلى هذا فالأقوى أنه يجوز فيه التولية والشركة كما قال مالك وغيره. وقد استدلوا في ذلك بحديث زهرة بن معبد "أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له: أشركنا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب

الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل" أخرجه /البخاري، ولذلك تجوز الإقالة فيه وبيعه من بائعه؛ لأنه لا محذور فيه، وخرج كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- عاماً لأن غالب البياعات مرابحة، ولهذا الله أعلم قال -صلى الله عليه وسلم-: "حتى يؤويها النجار إلى رحالهم". وعادة التجار هو البيع مرابحة، وهذا المعنى يعم الطعام وغيره، وأيضاً فإن التاجر إذا اشترى سلعة فإنما اشتراها ليربح فيها، فلابد أن يعمل فيها عمل التاجر -من نقلها من مكان أو حبسها إلى حين يرتفع السعر أو أن يشتري جملة ويبيع مفرقاً ونحو ذلك- فأما إذا اشتراها وباعها في مكانها من غير أن يعمل فيها شيئاً فليس هذا بتاجر، وإن كانت قد صارت في ضمانه بتخليه البائع بينه وبينها فليس كل مضمون يباح ربحه. وروى ابن عمر: "أنهم كانوا يضربون إذا اشتروا الصبرة جزافاً أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها".

مسألة في تأجيل القرض

وقد قال ابن عباس: لا أحسب كل شئ إلا بمنزلة الطعام. قوله: (إلا القرض فإن تأجيله لا يصح لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصبح بلفظة الإعارة ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة إذ لا جبر في التبرع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئه، وهو ربا). أما قوله: فإن تأجيله لا يصح. فلا خلاف في صحته، وإنما بالخلاف في لزومه فالتجارة مدخولة، ذكر الأقطع في شرحه: ولو شرطا الأجل في

ابتداء القرض بطل الشرط وصح القرض فكذا ذلك إذا شرطاه في الثاني، انتهى. وأما قوله: ومعاوضة في الانتهاء. [ثم] قال: وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئه وهو ربا. فإن أراد بقوله أنه معاوضة في الانتهاء من حيث الصورة فمسلم، وإن أراد به من حيث المعنى والحكم فممنوع، بل لم يعتبر الشرع فيه معنى المعاوضة أصلاً، لأن المفترض لا يأخذ ما يقترضه إلا لينتفع به، ولا يتأتى ذلك إلا في زمان مستقبل ولا يستقرض أحد شيئاً ليرد عوضه في المجلس فكان التأجيل أصلاً فيه لكنه قد يطول زمانه وقد يقصر وليس له مدة معلومة لا يزاد عليها، فإذا قدر الأجل كان ذلك من مقتضيات القرض، ولهذا يكره له المطالبة قبل الأجل عند من لا يرى لزوم التأجيل لما فيه من خلف الوعد، ولو كان التأجيل ينافيه لاستوى اشتراطه وعدمه كما في جميع صور الربا ولما صح، وقد تقدم أن التأجيل يصح بالإجماع، وإنما الخلاف في لزومه، وليس القرض نوعاً من أنواع البيوع، وإنما نوع من أنواع العواري، فإن المقترض قصده المنفعة كالمستعير، لكن المستعير ينتفع بالعين مع بقائها، والمقترض مع ذهاب العين، ولهذا أشكل الجامع بينه وبين بقية أنواع العواري.

ولا شك أن أنواع العواري منها ما يستفاد منه منفعة محضة كما في الماعون والملبوس والمركوب والعقار ونحو ذلك، وهذا يطلق عليه اسم العارية، وقد يطلق على بعضه اسم آخر، كما قال: أفقره ظهر بعيره، وأطعمه أرضه وألبسه ثوبه، وأسكنه داره، ومنه قولهم: داري لك سكنى. ومنها ما يستفاد منه المنفعة بما يخرج من العين مع بقاء العين المستعارة كعارية البقرة أو الشاة ليشرب لبنها مدة ثم يعيدها، وعارية النخلة ليأخذ ثمرتها ثم يعيدها، ويسمى الأول: منحة والثاني: عرية. ومنها ما يستفاد منه المنفعة بنفس العين ويسمى قرضاً، ويجوز في المكيل والموزون بلا خلاف، ويجوز في الحيوان سوى بني آدم عند الشافعي وأحمد للسنة الواردة فيه، والمسألة معروفة، والفارق بينه وبين أنواع المعاوضات: أن كلا من المتعاقدين في عقود المعوضات يقصد بل ما يدفعه /لتحصيل ما يأخذه من العوض من صاحبه، بخلاف القرض فإن

المقرض لا يقصد أخذ العوض؛ لأنه نظير ما يبذله سواء مع تأخر قبضه، وإنما يقصد نفع المقترض فلم يكن العوض فيه مقصوداً أصلاً، فانتفى أن يعد من باب المعاوضات، بل من باب المنح والعواري، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "منحة الورق" ويقال فيه: أعرني دراهمك، وعين الدراهم غير مقصودة، وإنما المقصودة منفعتها والانتفاع بكل شئ بحسبه، ولم يبق إلا أنه عقد تبرع، والتبرع لا يلزم بالعقد، وعند مالك في أهل المدينة، وهو رواية عن أحمد أن التبرع يلزم بالعقد، وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة: منه: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}. وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً}. وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه} الآية.

والقرض من جملة الدين ولم يخصصه نص آخر، فوجب دخوله في عموم الآية. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً". لا خلاف في لزوم الوفاء بالنذر مع كونه من عقود التبرع، ومن يلزم المتطوع بالشروع، كيف لا يلزم المتبرع بالعقد مع أ، هـ أشبه بالنذر منه بالمشروع في النفل. والله أعلم. * * *

باب الربا

باب الربا قوله: (والأصل فيه الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل، يد بيد، والفضل ربا" وعدَّ الأشياء الستة الحنطة، والشعير، والتمر، والملح، والذهب، والفضة، على هذا المثال، ويروى بروايتين بالرفع مثلٌ، والنصب مثلاً، ومعنى الأول بيع التمر ومعنى الثاني بيعوا التمر). الحديث إنما يروى بالنصب، وأما الرفع فإنه لا يصح من حيث الإعراب، بل يجب نصب مثلاً بمثل يداً بيد على الحال، وإن سدت مسد الخير، ولا يجوز رفعها خبراً؛ لأنها لا تصلح لذلك؛ لأن المعنى لا يصح مع كونها خبراً، فإنه ليس التمر ولا بيعه مثلاً بمثل، ولا يداً بيد، وإنما تارة مثلاً بمثل ويداً بيد، وتارة غير ذلك، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- عنه أن بيعه مستقر أو كائن إذا كان مثلاً بمثل يداً

بيد، أي هو في هذه الحالة مشروع، والأحوال مشروط، وتقدير الكلام بيع التمر بالتمر مستقر حال كونه مثلاً بمثل يداً بيد، فحذف المضاف، وهو بيع، وأقيم المضاف إليه وهو التمر مقامه، وحذف الخبر وهو مستقر وأقيم الحال مقامه وهو مثلاً بمثل، يداً بيد، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سائغ مشهور، وكذلك حذف الخبر وسد الحال مسده، وهي مسألة ضربي العبد مسيئاً، وهي مما يجب حذف الخبر فيه لقيام غيره مقامه، وفهم المعنى، وذلك في أربعة مواضع هذه منها، وهو أن يكون المبتدأ مصدراً عاملاً في مفسر صاحب الحال واقع بعده. ولا يقال: إنه وجد في بعض نسخ البخاري "مثل بمثل" لأنه يحتمل أن يكون قد كتب المنصوب بغير ألف، وإلا فالرفع لا وجه له، ولو قدر أن يكون

علة ما سوى الأصناف الربوية الستة

مثل بمعنى متماثل فيد بيد خطأ قطعاً، وقوله: ومعنى الأول: بيع التمر، ومعنى الثاني: بيعوا التمر. ظن المصنف رحمه الله أن نصب مثلاً لا يتأتى مع تقدير المبتدأ فلهذا قدره لرفع مثل، وظن أن نصبه لا يكون إلا بفعل عامل في المبتدأ مقدر. فأما رفع مثل فقد تقدم رده، وأما تقديره: بيعوا التمر فلا يصح، لأن التمر مرفوع والعامل الذي قدره ناصب، ولا يصح حذف عامل النصب وإبقاء معموله مرفوعاً؛ لأن المقدر في حكم الملفوظ، ولو تلفظ به لنصب. قوله: (والحكم معلول بإجماع القائسين). رجح ابن عقيل -من الحنابلة- الاقتصار على الأعيان الستة المذكورة في الحديث مع كونه يقول بالقياس، قال: لأن علل /القائسين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس، والاقتصار على الأعيان الستة

مأثور عن قتادة وطاوس كما هو قول أهل الظاهر فانخرم قوله: "إجماع القائيسين"، والله أعلم. قوله: (أو لقوله عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء"). هذا اللفظ غير محفوظ، ولكن معناه في حديث بيع التمر الجمع بالجنيب. قوله: (والطعم والثمينة من أعظم وجوه المنافع، والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه فلا

معتبر بما ذكره). للمخالف أن يقول إنه لشدة الاحتياج إليها منع الاتجار فيها ببيع بعضها ببعض؛ لأنه متى أتجر فيها ضاق الحال فيها على الناس، أما الدراهم والدنانير فهي أثمان المبيعات وبها يعرف تقويم الأموال فيجب أن تكون محدودة لا ترتفع قيمتها ولا تنقض، وقد حرم فيهما ربا النساء لما فيه من الضرر بالمحاويج، وهو الأصل في تحريم الربا، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الربا في النسيئة" رواه البخاري ومسلم والنسائي، والمراد بالحصر حصر الكمال، وأما ربا الفضل فإنما نهى عنه لسد الذريعة كما في مسند أحمد مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما" والرما هو الربا، ولهذا قال ابن عباس بعدم الربا في غير النسيئة، وهو مروي عن ابن

مسعود ومعاوية، ولكن اتفق الناس بعد ذلك على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة، وتنازعوا فيما عداها على أقوال بحسب اختلافهم في تعليل النص، فكان نهي الشارع عن الاتجار بالأثمان نقداً غير متساوية لئلا يتذرعوا

إلى الاتجار بها نسيئة فحرم ربا الفضل؛ لأنه يفضي إلى ربا النسيئة لا ليبيعوها متساوية؛ لأن بيع الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار مضروباً كان ذلك أو مصوغاً أو مسكوراً لا يفعله عاقل لأنه اشتغال بما لا يفيد فلا يحمل كلام الشارع على ذلك، ولهذا اتفقوا على أنه لا يقاس على الدراهم والدنانير غيرهما من الموزونات في البيع نسيئة بل يجوز إسلام كل منهما في سائر الموزونات وذلك لانفرادهما بصفة الثمينة، لا لاختلاف الوزن لما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. وأما الأصناف الأربعة فالناس محتاجون إلى القوت كالأصناف الأربعة وما يشابهها، ومتى فتح باب بيع بعضها ببعض متفاضلاً إلى أجل، خزنها الناس ومنعوا المحتاج منها، فيفضي إلى أن يعز الطعام على الناس، وتشح النفوس ببيعها حالة لطمعها في الربح إذا بيعت بأزيد منها إلى أجل، بخلاف بيعها بالدراهم، فإن من عنده صنف منها هو محتاج إلى الصنف الآخر فيحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر أو يبيعه بذلك الصنف بلا ربح، وعلى التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما لو أمكنه التأخير، فإنه يمكنه أن يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل، لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره، فيتضرر هذا، ويتضرر هذا، فكذا في التجارة فيها ضرر عام فنهي عن بيع بعضها ببعض نساء، وهو أصل الربا، لكن هنا النسيئة في صنفين معللين بعلة واحدة وهو كبيع الدراهم

بالدنانير نساء، وهذا ما ثبت تحريمه بالنص والإجماع. فربا النساء يكون في الصنف الواحد وفي الصنفين الذين مقصودهما واحد كالدرهم والدنانير، وكالأصناف الأربعة التي هي قوت الناس، ولهذا جاز السلم في الموزونات فدل على أن العلة في الدراهم والدنانير الثمينة لا الوزن إذ لو كان الوزن هو العلة لما جاز إسلاف الدراهم والدنانير في الموزونات من النحاس وغيره ولو كان الربا جارياً في النحاس لم يبع موزون بموزون إلى أجل كما لا يباع تمر بحنطة /ودراهم بدنانير إلى أجل. وقد أجيب عن هذا: بأن الدراهم والدنانير الوزن فيهما بالصنجات وفي غيرهما بالأمناء والأرطال، وهذا لا يقوى؛ لأنه فرق صوري وهو غير مؤثر، وقد توزن الدراهم بالقبان عند الملوك، ويوزن الزعفران بالصنجات عند العطارين، وكذلك بعض الموزونات، ويوزن الذهب

بالمثاقيل، والفضة بالدراهم، وهذا يدل على ضعف التعليل به. وأما ربا الفضل في الأصناف الأربعة، فإذا باع حنطة بحنطة خير منها، مداً بمدين كان هذا تجارة فيها ومتى سوغ التجارة فيها نقداً طلبت النفوس التجارة فيها نساء كما تقدم في النقدين، وإلا فمعلوم أن مع استواء الصفات لا يبيع أحد مد حنطة أو تمر بمد يداً بيد، هذا لا يفعله أحد، وإنما يفعل هذا عند اختلاف الصفات، ولما خفيت علة تحريم ربا الفضل أباحه مثل ابن عباس حبر الأمة، فإن الحنطة الجيدة والتمر الجيد، كيف يقال لصاحبه: الغ صفات مالك الجيدة؟ لكن لما كان المقصود أنك لا تتجر فيها بجنسها بل إن بعتها بجنسها فليكن بلا ربح، ولا إلى أجل ظهرت الحكمة، فإن التجارة في بيعها بجنسها يفسد مقصود الأقوات على الناس. قوله: (ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين؛ لأن المساواة بالمعيار، ولم توجد فلا يتحقق الفضل، ولهذا كان مضموناً بالقيمة عند الإتلاف). نفي تحقق الفضل في غاية الإشكال، ولو قال: فلا يعتبر الفضل أو نحو

ذلك لكان أهون من قوله، فلا يتحقق الفضل لأن تحققه أمر حسي لا ينكر، وفي تضمينه بالقيمة نظر؛ لأن المثل أقرب إلى العدل من القيمة، وسيأتي الكلام في اعتبار المثل في القيمي في الغصب إن شاء الله تعالى. قوله: (ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "يداً بيد" عيناً بعين، كذا رواه عبادة بن الصامت). هذا ما قاله المصنف في الرد على الشافعي رحمه الله في استدلاله على اشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المعروف: "يداً بيد"، ولا يصح رد المصنف عليه ذلك بما قاله من حديث عبادة بن الصامت، فإن حديث عبادة بن الصامت: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهي عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء عيناً بعين، فمن زاد وازداد فقد أربى" رواه مسلم. وروى عنه مسلم أيضاً أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذهب بالذهب،

والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" فذكر الأعيان الستة في الحديثين، فإن كان معنى قوله: "يداً بيد" غير معنى قوله "عيناً بعين" فإن معنى قوله "يداً بيد" اشتراط التقابض، لأن ذكر اليد يشعر بذلك لأنها هي آلة القبض، ومعنى قوله "عيناً بعين" إفرازه والإشارة إليه لأنه حينئذٍ يشاهد بالعين فلهذا ذكرت فيه العين، فهذا غير ذاك، وكل منهما قد ذكر في الأعيان الستة فتقسيمهما عليها تحكم. قوله: (ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين، والجوزة بالجوزتين -ثم قال- ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما). تقدم التنبيه على ما فيه من الإشكال عند ذكر بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين.

قوله: (لأنه كالئ بالكالئ وقد نهي عنه). ضعف أهل الحديث حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وإن كان العمل عليه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، والحاكم معروف تساهله. قوله: (وله أن الرطب تمر لقوله عليه الصلاة والسلام -حين/ أهدي رطباً-: "أو كل تمر خبير هكذا؟ " سماه تمراً، وبيع التمر بمثله جائز لما

روينا، ولأنه لو كان تمراً جاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فبآخره وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" ومدار ما روياه على زيد بن عياش، وهو ضعيف عند النقلة). جمهور العلماء على خلاف قول أبي حنيفة في هذه المسألة المذكورة، والحديث الذي استدلوا به أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك"،

وأخرجه أبو حاتم، ولفظه: "أن سعداً سئل عن بيع البيضاء بالسلت فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: "أليس ينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن" فنهى -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الرطب بالتمر، ونبه على العلة فلا يصح معارضته بعد ذلك بأن الرطب تمر، فإنه وإن كان تمراً لكنه بنقص إذا جف، فانتفى التساوي الذي هو شرط صحة البيع، لنقصه بالجفاف، ولم لم يرد النص بذلك لكان هذا هو مقتضى القياس الصحيح، فإن المساواة في الحال دون المال غير صحيحة، فإن الرطوبة القائمة في الحال تزول بالجفاف فيمتنع التساوي بذلك بين الرطب واليابس، وإن كان التساوي موجوداً صورة فهو معدوم معنى، فقد ورد النص على مقتضى القياس الصحيح، وهكذا سائر الأحكام تجد القياس الصحيح موافقاً فيها النقل الثابت الصريح. وأما قوله: عليه السلام حين أهدى رطباً -أو كل تمر خيبر هكذا؟. فهذا حديث منكر باطل، وفيه إشكال من حيث اللفظ، وحقه أن يقول: حين

أهدي إليه رطب، وكأنه اشتبه عليه ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، قال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك" متفق عليه. وأما قوله: ولأنه لو كان تمراً جاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فآخره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان، فبيعوا كيف شئتم". فجوابه: أنه وإن كان تمراً لكنه ينقص إذا جف فيفوت التساوي كما تقدم من تنبيه الشارع -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأيضاً روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع التمر بالتمر كيلا، وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلاً" وهذا من المزابنة المنهي عنها في الحديث المتفق على صحته، فإنها جاءت مفسرة بأنها بيع الرطب بالتمر

كيلاً، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، وذكره أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد عن مالك عن نافع عن ابن عمر كذلك، وكذلك ذكره في المغني، واستدل أيضاً بقوله -صلى الله عليه وسلم- "لا تبيعوا الثمر بالتمر" وفي لفظ: "نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً" متفق عليهما، وقوله: ومدار ما روياه على زيد بن عياش، وهو ضعيف عند النقلة. قال الخطابي: وقد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص في بيع الرطب بالتمر، وقال: زيد أبو عياش راويه ضعيف، وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش مولى بني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروي عن متروك الحديث. انتهى. وقال ابن الجوزي: فإن قيل: زيد أبو عياش مجهول، قلنا: قد عرفه أهل النقل وذكر ورايته الترمذي وصححها، والحاكم وصححها، وذكره مسلم في الكنى، وذكره ابن خزيمة في رواية العدل عن العدل. وقال

الدارقطني: هو ثقة، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: زيد بن عياش هو /أبو عياش المخزومي، ويقال: الزرقي المديني عزيز الحديث، سمع سعد ابن أبي وقاص، وروى عنه عبد الله بن زيد، وعمران بن أنس، انتهى، فانتفى قول المصنف: وهو ضعيف عند النقلة. فإن قيل: قد أعل الطحاوي حديث زيد بن أبي عياش المذكور بأنه روي من طريق يحيي بن أبي كثير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة". قيل: فقد خالفه مالك وإسماعيل بن أمية، والضحاك بن عثمان، وأسامة بن زيد، ولم يقولوا فيه نسيئة وإجماع هؤلاء الأربعة

على خلاف ما رواه يحيي بن أبي كثير يدل على ضبطهم الحديث وفيهم إمام حافظ وهو مالك بن أنس، ثم إنا نقول به، فلا يجوز نقداً ولا نسيئة، وأين قولهم: لا يحمل المطلق على المقيد؟!. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب"). وفي المبسوط عن مكحول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ربا" الحديث، قال في المغني: إن هذا خبر مجهول لم يرد صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل، ويحتمل أن المراد بقوله: "لا رب" النهي عن الربا كقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وما ذكره من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا ما حظره الأمان. * * *

باب السلم

باب السلم قوله: (فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أشهد أن الله أحل السلف المضمون، وأنزل فيه أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} الآية"). أخرجه البيهقي، ولكن لم يذكر فيه "وأنزل فيه أطول آية في كتابه"، وإنما قرأ الآية الكريمة فقط، فكأنه رضي الله عنه يشير إلى دخول حكم السلم في عموم الآية الكريمة وأن الآية تشمل السلم والبيع بثمن مؤجل والقرض أيضاً وتأجيل ذلك بعد حلوله. قوله: (والسنة وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم").

ظاهره أن هذا اللفظ مروي عند أحد من الصحابة، ولم يرد هذا اللفظ هكذا مجموعاً عن أحد منهم في كتب الحديث، وإنما هذا من كلام أحد من الفقهاء، والأمر في السلم كما أخب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الجماعة، وقوله: ورخص في السلم. يوهم أنه محظور الأصل، وليس الأمر كذلك، وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: (والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما روينا، ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه). لا نسلم أن القياس الصحيح يأباه بل هو على وفق القياس الصحيح، فإنه كالابتياع بثمن مؤجل، وأي فرق بين كون أحدة العوضين مؤجلاً في الذمة وبين الآخر فهذا محض القياس، ومصلحة الناس، وهذا المعنى هو الذي

فهمه ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتلا الآية الكريمة كما تقدم، فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال تحقيقاً لاسمه لأنه سمي سلماً من إسلام رأس المال فيه، وسلفاً من إسلافه وهو تقديمه، ولو تأخر الثمن فيه دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه ولم يدخل تحت قوله -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" لما قال له: "يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال: لا تبع ما ليس عندك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولكنه يحتمل معنيين: أحدهما: أن يبيع عيناً معينة وهي ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري. والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسلمه وإن كان في الذمة فليس عنده /حساً ولا معنى فيكون قد باعه شيئاً لا يدري هل يحصل له أم لا؟ وهذا يتناول أموراً: أحدها: بيع عين معينة ليست عنده.

الثاني: السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه. الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته، وأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو وإن لم يكنه عنده حساً، فهو عنده معنى، باعتبار القدرة على تحصيله، ولهذا كثيراً ما يقال: وهذا عندي وفي ذمتي للدين أصالة أو كفالة، وهو معنى شائع بين الناس جاء على ألسنتهم مشهور بينهم. فالحاصل أن قياس السلم على الابتياع بثمن مؤجل أصح من قياسه على بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه عادة، فإن اعتبار المعنى الجامع بين السلم وبيع المعدوم عارضه المعنى الفارق، وهو أن المعدوم الذي لا يقدر على تحصيله عادة خطره متحقق، والمعدوم الذي يقدر على تحصيله عادة خطره محتمل، والسلم منه فلا يقاس ما يقدر على تحصيله عادة على ما لا يقدر على تحصيله عادة لظهور المعنى الفارق بينهما وقوته. ولا يقوى المعنى الفارق بين المبيع المؤجل وبين الثمين المؤجل بأن المبيع هو المقصود دون الثمن في مقابلة قوة المعنى الجامع بينهما، وهو أن كلاً منهما يثبت مثله في الذمة وتزول الجهالة المفضية إلى المنازعة فيه بالوصف، فإذا ظهرت قوة الجامع بين الثمن المؤجل والمبيع الذي يقدر على تحصيله عادة ويثبت مثله في الذمة، وضعف الفارق بينهما ظهرت قوة قياسه عليه، وإذا ظهرت قوة الفارق بين المعدوم الذي لا يقدر على تحصيله عادة وبين الذي يقدر على تحصيله عادة ويثبت مثله في الذمة وضعف الجامع بينهما ظهر ضعف قياسه عليه.

قوله: (وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن السلم في الحيوان"). هذا الحديث لم يصح ولم يخرجه أحد من أهل الكتب الستة وإنما رواه الدارقطني بمعناه والبيهقي، وقال: والصحيح عن معمر عن يحيي عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، كذلك رواه غير واحد عن معمر. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها"). هذا اللفظ غير محفوظ وإنما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رجلاً أسلف رجلاً في نخل فلم يخرج في تلك السنة شيئاً فاختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحها" رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي، ولا دليل فيه على

مراد المصنف فإنه استدل به على عدم جواز السلم في المنقطع واشتراط وجود المسلم فيه في جميع مدة السلم، والحديث إنما ورد في السلف في ثمرة نخل معين، وهذا لا يجوز سلماً. ألا ترى إلى قوله: أسلف رجلاً في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئاً، ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على العلة بقوله: "بم تستحل ماله؟ "، كما قال في حديث آخر: "إذا منع -صلى الله عليه وسلم- الثمرة فبم تستحل مال أخيك" وهذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها. وقد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة، وقد جاء الإذن في السلم من غير اشتراط وجود المسلم فيه في جميع المدة بل مع انقطاعه في المدة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهو يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الجماعة، فإقراره إياهم على السلم في

الثمار السنة والسنتين دليل على السلم في المنقطع، ولو كان وجود المسلم فيه في جميع المدة شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلف هذه المدة لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وحلول الدين بالموت فيه نزاع، وعلى تقدير التسليم فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود كيلا يفضي إلى جهالة الأجل في السلم وهي مانعة من صحته فيجب أن لا يحل حتى يأتي الأجل الذي شرطاه. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم"). قد أجاب /الشافعية عن هذا الحديث أنه إن كان المسلم فيه مكيلاً فليكن كيله معلوماً، وإن كان موزوناً فليكن وزنه معلوماً، وإن كان مؤجلاً فليكن أجله معلوماً، ولا يلزم من هذا اشتراط كون المسلم فيه مؤجلاً× لأنه إّا جاز مؤجلاً مع الغرر، فجواز الحال أولى لأنه أبعد عن الغرر، وكما أن ذكر الكيل

والوزن لا يمنع جواز المذروع والمعدود والمتقارب فكذلك ذكر الأجل، والقول الثالث أظهر، وهو أن السلم الحال إن كان المسلم فيه عنده جاز، وإن لم يكن عنده لم يجز لقوله عليه الصلاة والسلام::ولا تبع ما ليس عندك" والحديث إنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس مملوكاً له، ولا يقدر على تسليمه ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه؛ لأن السائل إنما سأله عن بيع شئ مطلق في الذمة، ولكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع، والمسألة مبسوطة في موضعها. قوله: (ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلابد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل). هذا تعليل فاسد فإن من اسلم في حنطة مثلاً إلى سنة يقدر على تحصيلها عند الحلول بالزرع في المدة وعملها إلى حلول الأجل، هذا الذي جرت به العادة في السلم، ولهذا سمي بيع المفاليس، فإنه لا يفعل في الغالب

إلا من له أرض أو شجر يستغلها من السنة إلى السنة فإذا احتاج في أثناء السنة استسلف على ما تخرج من ذلك وتحصيله بحصوله في وقت الحلول على ما أجرى الله به العادة في خلقه لا يجمعه في مدة أجل السلم مما هو موجود عند الناس مما أسلم إليه فيه. قوله: (ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفي به). في هذا الفرق نظر، وقول أبي يوسف ومحمد في جواز السلم في اللحم أقوى والإلزام بصحة اقتراضه وزناً في غاية القوة فإن الفرق الذي فرق به بينهما وهو ما ذكره المصنف لا يقوى لأن معرفته بالمعاينة لمثله، نظير معرفته بوصفه، سواء بسواء، فإن المعرفة إنما تكون فوق الإخبار في حق المعاين في حق مثله. قوله: (لإطلاق الحديث "ورخص في السلم").

الاستصناع

تقدم التنبيه على أن قوله: ورخص في السلم من كلام الفقهاء، ولم يثبت أنه من كلام أحد من الصحابة رضي الله عنهم. قوله: (وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم). يعني الاستصناع، وقد تقدم في أول الباب التنبيه على أن القياس الصحيح لا يأبى السلم، والاستصناع نحوه؛ لأنه معدوم يقدر على تحصيله عادة، فلا يصح قياسه على معدوم لا يقدر على تحصيله لوجود الفارق بينهما، وصار كالسلم والإجارة والثمن المؤجل، وإن كان يدعي في ذلك كله غير الثمن المؤجل أنه على خلاف القياس، فليس هو على خلاف القياس الصحيح، وسيأتي لذلك زيادة بيان في الإجارات إن شاء الله تعالى. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك"). أخرجه الدارقطني بمعناه، وهو حديث ضعيف، وقد ثبت أن ابن عباس

مسائل منثورة

رضي الله عنهما قال: "إذا استسلفت في شئ إلى أجل فحل الأجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضاً بأنقص منه، ولا تربح مرتين". ذكره ابن المنذر، وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، قالوا: ولم يعرف لابن عباس مخالف في ذلك. مسائل منثورة: قوله: (ولنا أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية").

لا يعرف استثناء كلب الماشية في كتب الحديث، وأما استثناء كلب الصيد ففي حديث جابر، رواه النسائي والترمذي ولفظه: "أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد"، قال الإمام أحمد: هذا من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف، وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر، وقال الترمذي: لا يصح إسناد هذا الحديث، انتهى. وقد روى أيضاً معناه من حديث أبي هريرة، وروى النهي عن ثمن الكلب العقور ووصفه بالعقور يدل على صحة استثناء كلب الصيد، قال

الترمذي- في حديث أبي هريرة-: هذا لا يصح، وأبو المهزوم ضعيف، يريد رواية عنه، قال البيهقي: روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن ثمن الكلب جماعة منهم ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة/ ورافع بن خديج وأبو جحيفة، اللفظ مختلف والمعنى واحد، والحديث الذي روي في استثنائه

كلب الصيد لا يصح وكأن من رواه أراد حديث النهي عن اقتنائه فشبه عليه، والله أعلم. وكذلك بقية الأحاديث التي فيها وصف الكلب بكونه عقوراً ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تقاوم ما ورد من السنة في النعي عن بيعه وتحريم ثمنه وكلها مطلقة، وحملها على الابتداء لا يقوي؛ لأنه مجرد دعوى من غير دليل، وعلى تقدير تسليم صحة أحاديث الاستثناء فذلك حجة لأبي يوسف على استثنائه، أما أن يستدل بها لجواز بيع الكلب مطلقاً فلا، بل الأحاديث حجة على من أطلق الجواز لا له، وقد أجاب السغناقي في شرحه عن هذا الاستدراك بأن مراد المصنف من إيراد الحديث إبطال مذهب الخصم، لا إثبات المدعى، وإثبات المدعى [ثابت] بحديث ذكره في

الأسرار برواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كلب بأربعين درهماً" فذكره مطلقاً من غير تخصيص في أنواع الكلاب [بالتضمين]، وفي تضمين المتلف دليل على تقوم المتلف، أو تقول: المدعى جواز الكلب المعلم وغير المعلم سوى العقور يثبت بهذا الحديث وذلك لأن جواز بيع الكلب المعلم استفيد بقوله: "إلا كلب الصيد"، وجواز بيع الكلب غير المعلم بقوله: "أو ماشية" لأن كل كلب يصلح لحراسة الماشية إذ من عادة الكلاب نباحها عند حس الذئب أو السارق فبقي العقور تحت المستثنى منه، انتهى كلام السغناقي. وجوابه: أن الحديث الذي ذكره صاحب الأسرار إنما هو من فعل ابن عمر غير مرفوع، ولا يصح ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستدلاله بقوله: "أو ماشية" على جواز بيع ما عدا كلب الصيد من الكلاب سوى العقور استدلال فاسد لوجهين: أحدهما: أن هذه الكلمة غير ثابتة وإنما ذكرها الأصحاب في كتب

حكم أهل الذمة في البياعات

الفقه بغير إسناد. الثاني: أنه يبقى الحديث حجة لأبي يوسف على استثناء العقور، ويخلو -قول أبي حنيفة ومحمد بتعميم العقور وغيره بالجواز- عن الدليل، وغرضه الاستدلال للمذهب على جواز بيع الكلب مطلقاً، ولم يأت بدليل على ذلك. قوله: (وأهل الذمة في البياعات كالمسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام في ذلك الحديث: "فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"). هذا الحديث منكر، وليس هذا العموم مسلماً، فكم من حكم قد خالفوا فيه المسلمين، وكأن المصنف اشتبه عليه هذا الحديث مما ذكره ابن حبان من حديث لأنس رضي الله عنه "فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله -صلى الله عليه وسلم- وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا، وأكلوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"، والمراد من هذا الحديث أنهم إذا أسلموا دخلوا في حكم المسلمين لا كما ادعى المصنف أن أهل الذمة إذا بذلوا الجزية يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وإنما ورد في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ... إلى أن قال: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم

وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن با-صلى الله عليه وسلم-عليهم وقاتلهم ... " الحديث، رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه، ولم يترتب في هذا الحديث على أداء الجزية سوى القبول منهم والكف عنهم لا غير. قوله: (دل عليه قول عمر رضي الله عنه: "ولو هم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها"). يعني الخمور والخنازير، وهذا الأثر لا يصح عن عمر رضي الله عنه، بل قد ورد عنه خلافه كما تقدم في الباب العاشر، وإنما ورد عن عمر رضي الله عنه الأمر بذلك في الجزية، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دخلت على عمر وهو يقلب يده، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: عويمل لنا بالعراق خلط في فئ المسلمين أثمان الخمر والخنازير، ألم يعلم أن رسول الله قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم أن

يأكلوها فجملوها فباعوها، وأكلوا أثمانها"، قال سفيان: يقول: لا تأخذوا في جزيتهم الخمر والخنازير، ولكن خلوا بينهم وبين بيعها، فإذا باعوها فخذوا أثمانها في جزيتهم. وكذلك نقل أبو عبيد عن عمر رضي الله عنه: أنه بلغه أن بعض عماله كانوا يأخذون -في الجزية والخراج- الخمر والخنازير ثم يبيعونها منهم فنهاهم عن /ذلك، وأمرهم أن يولوهم ببيعها ويأخذوا من أثمانها جزيتهم وخراجهم. * * *

كتاب الصرف

كتاب الصرف قوله: (لقول عمر رضي الله عنه: "وإن وثب من سطح فثب معه"). لا يعرف صحة هذا عن عمر رضي الله عنه، وإنما هو مذكور في كتب الفقه. قوله: (ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته، وإن شاء رد لأن الشركة عيب في الإناء). ينبغي أن لا يكون له الخيار؛ لأن إناء الذهب أو الفضة لا يجوز استعماله

ويجب كسره وإفساده، فإذا كان تعييه من حيث الصورة متعين فتعييبه من حث المعنى لا يضر فلا فرق بينه وبين قطعة نقرة، ولو اشترى قطعة نقرة ثم استحق بعضها أخذ الباقي بحصته ولا خيار له فكذلك الإناء، ولو صور المسألة في مصوغ مباح الاستعمال كحلي النساء وخاتم الفضة للرجال لكان أولى. قوله: (بخلاف المرابحة لأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلا الثوب، والطريق في المسألة الثانية غير متعين؛ لأنه [يمكن] صرف الزيادة على الألف إلى المشتري، وفي الثالثة أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع، والمعين ضده، وفي الأخيرة انعقد

العقد صحيحاً، والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء). هذه المسائل الأربع ألزم بها الشافعي في المسألة المعروفة بـ: مد عجوة. وأجاب عنها المصنف بما ذكره وفي كل من الأجوبة نظر، أما المسألة الأولى: وصورتها: اشترى قلب فضة بعشرة دراهم وثوباً بعشرة دراهم ثم باعهما مرابحة لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب وحده، وأجاب المصنف عن ذلك بأن البيع وقع مرابحة، وإذا صرف الربح إلى الثوب وحده يبقى البيع في القلب تولية وذلك خلاف ما عقداه. يمكن أن يقول المخالف: إن البيع لا يخرج بذلك عن أن يكون مرابحة؛ لأن المرابحة إذا كانت في احدهما صدق على البيع أنه مرابحة، ولو أضيفت المرابحة إليهما لصدق عليه أنه مرابحة فيهما.

وإن كانت المرابحة في أحدهما، كما تقدم له في مسألة بيع الجارية المحلاة والسيف المحلي إذا نقد بعض الثمن عنهما وهو بقدر الحلية حتى أنه لو قال: خذ هذا من ثمنهما جعل ثمناً للحلية وصح العقد، وقال المصنف هناك: لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد، قال الله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} والمراد أحدهما، فيحمل على أحدهما لظاهر حاله، فهنا بطريق الأولى، فإن البيع إذا كان فيه مرابحة صدق عليه أنه بيع مرابحة وإن كانت المرابحة في أحد المبيعين لوجود المرابحة فيه. وأما المسألة الثانية: وصورتها: اشترى عبداً بألف ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع من عبد آخر بألف وخمسمائة، لا يجوز في المشتري بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه، وأجاب المصنف عن ذلك بأن طريق التصحيح غير متعين لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري

ويمكن أن يقول المخالف: قد تعددت أيضاً طرق التصحيح في مسألة الخلاف فإنه يصح إذا قوبل ديناران بدرهمين، ودينار بدرهم على ما قلتم، ويصح أيضاً إذا قوبل درهم بدرهم، ودينار بدرهم، ودينار بدينار، وقد أجيب عن هذا: بأن التقدير الأول متعين لقلة وقوع التغيير فيه بخلاف مسألة العبدين فإنه يمكن أن يقال المشتري بألف، بألف ودرهم أو درهمين أو وثلاثة إلى أن يبقى من الثمن أقل ما يمكن تقديره، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن هذه التقديرات ليس بعضها أولى من بعض فسقطت وكان تقدير نظير الثمن الأول أولى، وهذا الترجيح نظير ذلك الترجيح الذي قلتم في مسألة الخلاف. وأما المسألة الثالثة، وصورتها: إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال: بعتك أحدهما، لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرف إلى عبده، وأجاب المصنف عن ذلك بأنه أضيف البيع إلى المنكر، وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده، ويمكن أن يقول المخالف: قد اعتبرتم صرف المنكر إلى محله فيما عللتم به لأبي حنيفة فيمن قال: عبدي أو حماري حر أنه يعتق العبد

لأن: أو، لأحد الشيئين أو الأشياء فلا فرق بين أن يفصل أو يقول: أحدهما حر لتساويهما في المعنى، ولو قال كذلك وجب صرفه إلى العبد لقبول المحل، ولذلك لو جمع بين حي وميت أو جماد فقال: أعتقت أحد هذين عتق العبد بخلاف: عبدي حر أو لا/ فإن قيل: عبد الغير يصح بيعه، ويتوقف على الإجازة، فكان كل من العبدين محلاً للبيع بهذا الاعتبار، قيل: الأصل أن الإنسان يتصرف لنفسه وأنتم قلتم مثل ذلك فيمن التقط شيئاً، ولم يُشهد أنه يأخذه ليرده إذا هلك ثم ادعى المالك أن الملتقط أخذه لنفسه أنه يضمن عند أبي حنيفة ومحمد لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه، ولم تجعلوا هناك ظاهر حال المسلم أن يكون أخذه أخذ أمانة لا أخذ ضمان مخالفاً لهذا الظاهر فكيف تخالفون ذلك هنا. وأما المسألة الرابعة، وصورتها: إذا باع درهماً وثوباً بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين، ولا يصرف الدرهم إلى الثوب. وأجاب المصنف عن ذلك بأن العقد انعقد صحيحاً والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء، ويمكن أن يقول المخالف: إن تحيلتم لتصحيح أصل العقد بصرف كل جنس إلى خلافه، فهلا تحيلتم بهذه الحيلة على بقائه على الصحة والبقاء أسهل من الابتداء، فإنه هذه الحيلة إذا كانت تقوى على

تصحيح أصل العقد فلأن تقوى على بقائه على الصحة أولى وأحرى، وقد استدل للشافعي في أصل مسألة مد عجوة بحديث فضالة بن عبيد قال: "اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تباع حتى تفصل" رواه مسلم، ولا شك في المنع في الصورة التي جاء فيها الحديث وما شابهها من الصور أعني فيما إذا كان فيها من الذهب أكثر من الذهب الذي هو الثمن أو من الفضة أكثر من الفضة التي هي الثمن، أما إذا كان الثمن أكثر فالفاضل في مقابلة الخرز ونحوه، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. قوله: (لأنها لا تنطبع إلا مع الغش).

يعني النقود -ممنوع، بل تنطبع خالصة أحسن منها مغشوشة بلا ريب، وبعض أنواع الدراهم فضة خالصة، وكذلك أكثر الدنانير. قوله: (وقول محمد أنظر، وقول أبي يوسف أيسر). يعني فيمن اقترض فلوساً ثم كسدت، فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: يرد مثلها، وأبا يوسف يقول: يرد قيمتها يوم القبض، ومحمداً يقول: يرد قيمتها يوم الكساد، وفي قول المصنف أن قول محمد أنظر نظر، بل قول أبي يوسف أنظر وأيسر، أما كونه أيسر فظاهر لأن حال رواجها لا يخفي معرفة قدر قيمتها على أحد، بل كل أحد يعرف العدد الذي تروج به خلاف يوم كسادها الذي هو آخر يوم التعامل بها، فإنها ذلك اليوم تباع بأسعار مختلفة قد يعسر ضبطها. وأما كونه أنظر وذلك من حيث النظر في الدليل، ومن حيث النظر للمقرض والمقترض -فلأن المراد من القرض الانتفاع بما يقترض بما ينتفع فيه عادة، والانتفاع بالفلوس الرائجة إنما هو بماليتها لأنه أعلى أنواع الانتفاع بها، وإذا كان الدرهم يوم القبض تعد به من تلك الفلوس ثمانية وأربعون فلساً مثلاً حتى أخذ منه أربعمائة وثمانين فلساً، فقد انتفع بها كما ينتفع بعشرة دراهم فإذا صارت قيمة ذلك المقدار يوم الكساد ستة دراهم كان في الإلزام بعشرة دراهم أعدل وأقرب إلى الدليل المعقول وأنظر للمقرض لوصوله إلى جميع

حقه، وأنظر للمقترض لتخليصه مما عساه يبقى في ذمته بل لو تركه لبقي في ذمته ولطالبه صاحبه يوم القيامة والله أعلم، وبهذا يظهر رجحان قول أبي يوسف فيما إذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت، وفيما إذا باع بدراهم مغشوشة نافقة ثم كسدت فإن المراد من هذه المواضع كلها المالية، وكذلك ترجح قوله فيما إذا اشترى بدرهم فلوس أو درهمين أنه يجوز وعليه [ما] يباع بذلك المقدار من الفلوس، وكذلك ينبغي أن يجوز بأكثر من ذلك لجريان التعامل بذلك من الفلوس، ولا مانع منه في الشرع، وينبغي أن لا يكون في المسألة خلاف، وإنما هو اختلاف عصر وزمان. * * *

كتاب الكفالة

كتاب الكفالة قوله: (فالكفالة بالنفس جائزة، والمضمون بها إحضار المكفول به، وقال الشافعي: لا تجوز). قال النووي في الروضة: وهي صحيحة/ على المشهور، وقيل: تصح قطعاً. قوله: (ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "لا كفالة في حد"). أخرجه البيهقي بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قوله: (والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة، إما العدد أو العدالة). يعني التهمة الموجبة للحبس في دعوى السرقة ونحوها، وفي اشتراط

حبس في التهمة

ذلك في التهمة نظر، والذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم، فإما أن يكون معروفاً بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال، فإن كان معروفاً بالبر لم تجز مطالبته ولا عقوبته، وهل يحلف؟ على قولين، ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة، وأما إن كان مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره، قيل يحبس حتى يكشف أمره، قيل يحبس شهراً. وقيل يحبس اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبس في تهمة" وتعويقه بالحبس إلى

الكفالة بالدرك

أن يتبين حاله، بمنزلة ما لو ادعى عليه مدغٍ فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله وإن طالب المدعي من ولي الأمر تقرير المتهم المجهول الحال بالضرب فقد روي أبو داود وغيره عن النعمان بن بشير أنه قال لقوم طلبوا منه أن يضرب رجلاً في تهمة: "إن شئتم ضربته لكم فإن ظهر ما لكم عنده وإلا ضربتكم مثلما ضربته، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله ورسوله". وإن كان الرجل معروفاً بالفجور المناسب للتهمة، فقالت طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي والقاضي، وقالت طائفة: يضربه الوالي دون القاضي، ومنهم من قال: لا يضرب، وقد ثبت في الصحيح "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الزبير ابن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب لما كتم إخباره بالمال الذي كان عاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، وقال له: أين كنز حيي بن أخطب؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات والحروب، فقال: المال كثير والعهد أقرب من هذا، وقال للزبير: دونك هذا؟ فمسه الزبير بشئ من العذاب، فدلهم على المال" وهذا

الذي يسع الناس وعليه العمل وإلا فالشهادة على السرقات من أندر الأمور ومن يسرق يحلف، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لو يعطى الناس بدعواهم، لا داعي قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه" هذا فيما [إذا] لم يكن مع المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطي بها شيئاً، ولكن يحلف المدعي عليه، وقد صح حكمه -صلى الله عليه وسلم- بالقسامة مع اللوث وحكمه بشاهد ويمين. قوله: (وعلى الكفالة بالدرك إجماع وكفى به حجة). للشافعي في صحة الكفالة بالدرك قولان: أصحهما الجواز، ففي دعوى الإجماع نظر، والأولى أن يقول في مثل هذا: لا أعلم فيه خلافاً.

قوله: (فأما [ما] لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله: إن هبت الريح أو جاء المطر، وكذا إذا جعل واحد منهما أجلاً، إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالاً، لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة كالطلاق والعتاق). ظاهر كلامه يوهم أن الكفالة تصح مع تعليقها بهبوب الريح ومجئ المطر ويجب المال حالاً، وليس الأمر كذلك، ففي فتاوي قاضي خان: "ولو علق الكفالة بما هو شرط محض نحو أن يقول: إذا هبت الريح، أو إذا جاء المطر، أو إذا قدم فلان الأجنبي، فأنا كفيل بنفس فلان، لا يصير كفيلاً، وكذا لو علق الكفالة بالمال بهذه الشروط انتهى.

وإنما مراده أنه لو جعل أجلاً بأن تكفل بالمال مؤجلاً إلى هبوب الريح ومجئ المطر صحت الكفالة له ووجب المال حالاً، ولا تتأخر المطالبة إلى هذه الآجال للجهالة الفاحشة، وقوله: إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالاً. يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، وهي قوله: وكذا إذا جعل واحد منهما أجلاً. وشيخنا قاضي القضاة نجم الطرسوسي، رحمه الله له على كلام المصنف هنا ورقات رجح فيها أن كلام المصنف على ظاهره وأن الكفالة الصحيحة حالة إذا علقها بهبوب الريح ونحوه، اعتمد فيها على كلام بعض الأصحاب، وهو مضطرب، وأطنب فيها إطناباً زائداً، وعدم صحتها كما ذكرناه قاضي خان وغيره أقوى؛ فإن الكفيل لم يلتزم الكفالة إلا مؤجلة، فإذا لم يصح التأجيل يبطل أصلاً ولا يلزم بها حالة، فإن فيه إلزام ما لم يلزمه، وبراءة الذمة أصل بخلاف تأجيل الكفالة إلى هبوب الريح ونحوه لأن الذمة اشتغلت بالتزامه عقد الكفالة، والجهالة في هذه/ الآجال فاحشة، فلا يصح التأجيل إليها، فبقي الالتزام بالعقد كأنه لم يذكر فيه أجل فيجب المكفول به حالاً. قوله: (والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله لكن بالأعيان المضمونة بنفسها كالمبيع بيعاً فاسداً

والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب). نقل النووي أن المذهب الذي عليه جمهور أصحابهم أن الضمان يرد على الأعيان المضمونة والمستعار والمستام والأمانات إذا خان فيها على قولي كفالة البدن، وقيل: يصح قطعاً، فلا ينبغي ذكر خلاف الشافعي في هذه المسألة، وذكر النووي المستعار بدل المبيع بيعاً فاسداً بناء على الخلاف في ذلك؛ فإن العارية مضمونة عندهم بخلاف المبيع بيعاً فاسداً؛ لأن حكم المبيع الفاسد عندهم كالباطل. قوله: (وله أنه كفل بدين ساقط عن ذمة الأصيل؛ لأن الدين هو الفعل حقيقة، ولهذا يوصف بالوجوب لكنه في الحكم مال لأنه يؤول

إليه في المآل، وقد عجز نفسه وبخلفه ففات عاقبة الاستيفاء فسقط ضرورة، والتبرع لا يعتمد قيام الدين). فيه نظر لوجهين: أحدهما: أنه تعليل في مقابلة نص، وهو ساقط. الثاني: أن التعليل نفسه ضعيف. أما النص فهو عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتى بجنازة، فقالوا: يا رسول الله! صل عليها؟ هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم! فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلى دينه، فصلي عليه" رواه أحمد والبخاري والنسائي. وروى الخمسة إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة، وصححه الترمذي وقال فيه النسائي وابن ماجه: "فقال أبو قتادة:

أنا أتكفل به"، وهذا صريح في الإنشاء لا يحتمل الأخبار بما مضى، وتأويل الحديث بصرفه عن ظاهره لا يصح، لعدم الحاجة إلى صرفه عن مدلوله، وهو معارضة نص آخر أقوى منه مع أن التأويلات التي ذكرت كلها فاسدة. وأما التعليل فلا نسلم أنه كفل بدين ساقط عن ذمة الأصيل، بل هو باق في ذمة الأصيل لا يسقطه الموت، ألا ترى أنه يطالب به في الآخرة، إذ وجوب الدين لا يسقطه إلا الوفاء أو الإبراء أو انفساخ سبب وجوبه، وبالموت لا يتحقق شئ من ذلك، ولو مات عن وفاء أو كان به كفيل لم يسقط، ولو تبرع أحد بوفائه يصح، ولو برئ المفلس عن الدين بالموت لما حل لصاحبه الأخذ من المتبرع. ولا نسلم أن الدين هو الفعل، بل الفعل-الذي هو الأداء- غيره لأنه يضاف إليه، يقال: أداء الدين، والمضاف غير المضاف إليه، وقد فرقتم بين الوجوب، ووجوب الأداء في العبادات، وهذا أولى فهو نظير الدين المؤجل، بل هو دين مؤجل، والكفالة بالدين المؤجل صحيحة، وكذا الكفالة عن العبد بما يلزمه بعد العتق وإن كان الأجل هنا بعيد، فبعده بالنسبة إلينا، قال الله تعالى: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} وإذا تقرر هذا المعنى، انتفى أن يكون الدين فعلاً بالمعنى الذي أراده، وانتفى ما رتبه عليه من السقوط،

وكيف وإنهم يقولون إن الدين وصف قائم بالذمة. وقوله: والتبرع لا يعتمد قيام الدين، ألا ترى أن من قال: لفلان على فلان كذا وأنا كفيل به، صحت الكفالة، وعليه أداؤه وإن لم يوجد الدين أصلاً. فهنا أولى، فظهرت قوة قول أبي يوسف ومحمد، وهو قول أكثر العلماء، والأئمة الثلاثة وغيرهم واختاره الطحاوي. قوله: (فصل في الضمان). فيه نظر فإنه توهم أن الكفالة غير الضمان، وليس كذلك، وهو قد سمى الكتاب بـ: كتاب الكفالة. فلا حاجة إلى قوله: فصل في الضمان. ولو اكتفى بقوله: فصل. أو لم يذكر الفصل لكان أولى. قوله: (ومن قال لآخر: لك علي مائة إلى شهر، وقال المقر له هي حالة، فالقول قول المدعي، وإن قال: ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر، وقال

المقر له: هي حالة، فالقول قول الضامن -ثم ذكر الفرق، ثم قال-/ والشافعي ألحق الثاني بالأول وأبو يوسف- فيما يروى عنه- ألحق الأول بالثاني). الخلاف بالعكس مما ذكر، وحكي النووي رحمه الله- الإقرار بالدين مؤجلاً- قولين. * * *

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة قوله: (ويكره السفاتج وهو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق وهذا نوع نفع استفيد به وقد "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قرضٍ جر نفعاً). قال في المغني: وروي عنه- يعني عن أحمد- جوازها، قال: لكونه مصلحة لهما جميعاً، وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس، فلم ير به بأساً، وروي عن عي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل

هذا فلم ير به بأساً، وممن لم ير به بأساً ابن سيرين والنخعي، رواه كله سعيد. انتهى. وزاد ابن المنذر: الحسن بن علي، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب السختياني، والثوري، وإسحاق، ولا شك أنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لم يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها؛ ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب بقاؤه على الإباحة وحديث "كل قرض جر منفعة فهو ربا" ضعيف، وإن كان العمل عليه، ومسألة السفتجة نظير مسألة تقوية فلاحي القرى؛ لأن صاحب الأرض بقرضهم ليزرعوا أرضه، والخلاف

فيهما واحد، وعمل الناس عليها من غير نكير، وفي كلام المصنف مؤاخذة لفظية، وهو أنه فسر السفاتج بأنه قرض جر نافعاً، والسفاتج جمع سفتجة، والسفتجة هي التي تفسر بأنها قرض جر نفعاً لا جمعها مع أن في تفسيرها- بأنها قرض استفاد بها المقرض سقوط خطر الطريق- نظراً، وإنما السفتجة- بفتح السين والتاء- كتاب صاحب المال إلى وكيله في بلد آخر ليدفع إليه بدله، وفائدته السلامة من خطر الطريق ومؤونة الحمل، كذا فسره النووي، وهو أظهر، والله أعلم. * * *

كتاب أدب القاضي

كتاب أدب القاضي قوله: (والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته ولو قبل جاز عندنا). ظاهر كلامه أنه يجوز للإمام الإقدام على تولية الفاسق القضاء، وأنه يجوز للقاضي الإقدام على قبول شهادة الفاسق ولكن الأولى خلاف ذلك، وعلى هذا تدل عبارة كثير من الأصحاب، وقالوا أنه مذهب أبي حنيفة وهو مشكل، والظاهر أن أبا حنيفة لا يقول بجواز الإقدام على تولية الفاسق ولكن لو أقدم صار قاضياً كما هو أصله في البيع الفاسد ونحوه، وكذلك قبول شهادة الفاسق ثم إني رأيت في كلام أبي بكر الرازي في أحكام القرآن: أنه لا فرق عند أبي حنيفة رحمه الله بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا حاكماً لا تقبل شهادته ولا خبره. واعتبار القضاء بالشهادة في غاية الإشكال لأن قبول شهادة الفاسق فيه نظر للأمر بالتثبيت في خبره، فتوليته القضاء أبعد من قبول شهادته؛ لأن قضاء

القاضي ألزم من شهادة الشاهد، وأقطع لأن الحاكم فيه ثلاث صفات؛ فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتي، ومن جهة الإلزام بذلك هو سلطان، وأيضاً فإذا شهد الفاسق عند القاضي تثبت القاضي وتبين الأمر- أي طلب ما بين له به صدقه من كذبه- ليتحقق الأمر على ما هو عليه فيقضي، فكيف يكون القاضي ممن يجب التثبت في قوله؟ وإذا كان الفاسق نفسه قاضياً فإن التثبت والتبين المأمور بهما فيما يخبر به فيقع الفساد الذي لا يرفع، والدفع أسهل من الرفع. فالقول بعدم جواز توليته أقوى في الدليل لكن إذا التبس الأمر على الإمام بعد الاجتهاد فولى فاسقاً، فإن خطأه مغفور، ولو أقدم على توليته من لا يجوز له توليته، فإن هذا ذنب من الإمام يجب عليه أن يتوب منه، وتمام توبته أن يعزله، ويولي المستحق، وأما نفاذ حكمه إذا وافق الشرع؛ فلأن المراد من نصب القاضي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلق بمسائل القضاء، وقد حصل فلا حاجة إلى نقضه ثم إبرامه، بخلاف ما إذا لم يوافق حكم الشرع؛ لأنه لا طاعة لمخلوف في معصية الخالق، وإن كان من مسائل الخلاف، ورفع إلى من يرى خلافه،/ فإن كانت مصلحة نقضه أعظم من مصحة إبقائه نقضه، وإلا فلا، (لأنه قد صار ولي أمر المسلمين فتجب طاعته فيما أمر به من طاعة الله كما في أمر الإمام الأعظم)، (وفي النوادر: أن

حكم تقليد الجاهل

العدالة شرط لصحة التقليد، وهو اختيار الخصاف والطحاوي). قوله: (فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا). هذا يناقض قوله: أولاً: ولاية القاضي حتى تجتمع في المولى شرائط الشهادة، ويكون من أهل الاجتهاد- مناقضة ظاهرة، وكم قد حصل بسبب هذه المسزلة من الفساد، وإذا انضمت إلى المسألة التي قبلها تكمل الفساد، وإذا انضمت إلى المسألة التي تأتي، وهي جواز تولية المرأة القضاء- في غير الحدود والقصاص- فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد روى بريدة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أنه قال: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو النار" رواه ابن ماجه وأبو داود.

فكيف يجوز أن يولي من يقتضي على جهل، ولكن إذا قلد فقضي بما يوافق الشرع نفذ وإلا بطل، كما تقدم في تولية الفاسق، فإن قيل: فالشروط التي شرطت للاجتهاد لا تجمع في أحد، فكيف يجوز اشتراطها؟ قيل: ليس من شرطه أن يكون محيطاً بها إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما خليفتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووزيراه، وخير الناس من بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة حتى يسألا الناس فيخبرا، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة، فقال: "مالك في كتاب الله شئ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجدة، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس"، وسأل عمر عن

إملاص المرأة "فأخبره المغيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة". ولا يشرط في معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد، فلا يكون شرطاً له وهو سابق عليها، وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهداً في كل المسائل، بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها، وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ونحو ذلك، وكذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل، وقيل: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله. وحكي عن مالك رحمه الله أنه سئل عن أربعين مسألة فقال- في ست وثلاثين منها:- لا أدري، ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهداً، وإنما المعتبر

أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهداً يجوز له الفتيا وولاية القضاء إذا وليه. قوله: (لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره). يعني أن الجاهل، تصح توليته لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ولا يلزم من هذا التعليل صحة تولية الجاهل؛ لأن إمكان القضاء بفتوى الغير لا يحصل المقصود بتولية القاضي، كيف وأنه قد قال بصحة تولية الفاسق، ففسقه يحمله على القضاء بجهل وترك الاستفتاء، ولو شرط من الجهل الديانة حتى تحمله ديانته على الحكم بالاستفتاء لكان اقرب، والله أعلم. قوله: (وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام "من قلد إنساناً عملاً وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين"). فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الحديث رواه البيهقي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استعمل عاملاً من المسلمين، وهو يعلم أن فيهم أولى منه بذلك وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين"، وأخرجه الحاكم أيضاً في المستدرك، وأما/ اللفظ الذي ذكره

المصنف فهو ناقص قيداً لابد من ذكره، وهو: أن يولي من يعلم أن غيره أولى منه حتى يكون خائناً، أما إذا ولى عاملاً، وهو يظن أنه ليس في رعيته من هو أولى منه فلا يأثم. والثاني: أن الحديث يدل على أنه يجب على المقلد أن يختار الأولى والأعلم بكتاب الله وسنة نبيه؛ فإن خيانة الله ورسوله وجميع المسلمين من أكبر الكبائر، وظاهر كلام المصنف عدم الوجوب، وهو خطأ، ومن أظن أبا حنيفة رحمه الله يقول بجواز الإقدام على تولية المفضول مع العلم بحاله، والقدرة على تولية الأفضل، فكيف بتولية الفاسق الجاهل مع وجود العالم العدل، بل يجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين وكل زمان بحسبه فيقدم الأدين العدل على الأعلم الفاجر، والسني على الجهمي والمبتدع، وإن كان الجهمي أو المبتدع أفقه. كما يولي في الجهاد من هو أنكى للعدو، وإن كان غيره أدين منه، وبهذا مضت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يولي الأنفع في كل ولاية بحسبها. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بنيت المساجد لذكر الله

والحكم"). لفظة "والحكم" غير معروفة، وإنما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد "إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. * * *

فصل في الحبس

فصل في الحبس قوله: (وكذا عند أبي حنيفة ضمان الإعتاق). يعني أنه يسقط عنده بموت المعتق لأنه من باب الصلة، وليس قول أبي حنيفة على ما ذكره المصنف من الإطلاق، بل إنما يسقط ضمان الإعتاق بموت المعتق إذا كان قد أعتق في مرض موته، أظهر؛ لأنه إذا مات وترك مالاً فهو موسر فيقضي ما عليه لشريكه من قيمة حصته مما تركه، كما لو كان الإعتاق في الصحة، والنص الوارد بتضمين الموسر لم

حكم تولية المرأة القضاء

يفصل فيه بين الإعتاق في الصحة وبين الإعتاق في المرض، ولا نسلم أن الضمان وجب بطريق الصلة والتحمل فقط، بل فيه معنى الضمان فقد حصل الإتلاف معنى في نصيب الشريك، وقد تقدم في كلام المصنف في كتاب الوقف أن الإعتاق إتلاف، ولو عكس لكان أولى كما تقدم، وأكمل من هذا المعنى أن ضمان الإعتاق من باب تملك مال الغير بقيمته للضرورة وكون العبد سعى في قيمته عند إعسار المعتق لا يخرجه عن كونه فيه معنى الضمان بل هذا من محاسن هذه الشريعة المطهرة وهو مراعاة المصلحة من الجانبين. قوله: (ويجوز قضاء المرأة في كل شئ إلا في الحدود والقصاص اعتباراً بشهادتهما وقد مر الوجه). جمهور العلماء على عدم جواز تولية المرأة القضاء، الأئمة الثلاثة

وغيرهم، واختاره الطحاوي وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها فيما يطلع عليه الرجال، ولو كان معها ألاف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل، وقد نبه الله على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} ولا تصلح للإمامة الكبرى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما نقل عنهم، ولو جاز ذلك لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحد من خلفائه الراشدين تبييناً للجواز. قوله: (وإذا فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائباً عن الأصيل حتى لا

يملك الأول عزله). يعني إذا فوض السلطان إلى القاضي الاستتابة. وإطلاق المصنف هنا يحتاج إلى تقييد، وهو أن يكون هذا في حق من فوض إليه بقضاء بلدة كذا بخلاف ما إذا جعله قاضي القضاة حسبما قد اصطلح على إطلاق هذه اللفظة مع كراهتها؛ لأنها في معنى الاسم الذي ذمه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ملك الملوك، فإن شاهان شاه، وملك الملوك، وسلطان السلاطين، وحاكم الحكام، وقاضي القضاة لا ينبغي أن تكون هذه الأسماء إلا لله تعالى، فإن معنى التسمية بقاضي/ القضاة في الاصطلاح: أن يولي من شاء نائباً عنه ويعزله إذا شاء فكان الإذن في ذلك دلالة، وهي بمنزلة الصريح، وقد أشار إلى هذا في فصول الاسترشني وهو ظاهر.

قوله: (وفيما اجتمع عليه الجمهور ولا يعتبر مخالفة البعض وذلك خلاف وليس باختلاف). في هذا مخالفة لما قرر في أصول الفقه أن الإجماع لا ينعقد بمخالفة البعض، وإن كان ذلك المخالف واحداً، وقد أجاب السنغاقي عن هذا الإيراد: أن ذلك فيما إذا سوغوا له الاجتهاد في ذلك الحكم، وأما إذا لم

يسوغوا له فلا اعتبار بمخالفته. والمراد والله أعلم أن الخلاف إنما يعتبر إذا كان عن اجتهاد، وذلك الحكم مما يسوغ فيه الاجتهاد بأن كان الدليل عليه مما يحتاج إلى النظر والتأمل وغير ذلك لا يعتبر قول المخالف فيه، وقد تنوعت عبارات الفقهاء في تقرقر هذا المعنى، ولا شك أن ظاهر كلام المنصف هنا مشكل والله أعلم. * * *

باب التحكيم

باب التحكيم قوله: (وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه لأنه لا فائدة في نقضه، ثم إبرامه على ذلك الوجه، وإن خالفه أبطله لأن حكمه يلزمه لعدم التحكيم منه). في قوله: وإن خالفه أبطله لأن حكمه لا يلزمه، لعدم التحكيم منه، نظراً لأن حكم المحكم بمنزلة حكم المولى في إلزامه الخصمين، والفرق بينهما- بأن ولاية هذا عامة وولاية المحكم خاصة- لا يخرجه عن كونه ملزماً للمحكمين وفائدة التحكيم قطع المنازعة بين الخصمين، وإيصال الحق إلى مستحقه منهما، ولهذا يشترط فيه أهلية القضاء فصار حكمه في هذه القضية الخاصة كحكم الحاكم المولى، ولا يضره كون ولايته قاصرة كالقاضي المولى في بلدة صغيرة أو طائفة قليلة أو واقعة خاصة، وإن لم يكن للمحكم ولاية على

الحاكم الذي وصل حكه إليه فهو لازم للمحكوم عليهما، فعدم جواز إبطاله للزومه للخصمين الذين حكماه ل لغيرهما، فإن القاضي المولى إنما يلزم حكمه لمن حكم عليهما، فكذا المحكم، وإذا كان حكمه صحيحاً لازماً في محل اجتهاد فلا يجوز إبطاله. وقد يكون حكم المحكم هو الصواب ورأي الحاكم المولى الذي خالفه خطأ؛ إذ الكلام في مثل هذا، فكيف يجوز له إبطاله والحالة هذه لجاز له إبطال حكم الحاكم المولى بمثل هذا، ولجاء الحاكم الآخر أبطل هذا الإبطال وهلم جرا، وخلا الحكم والتحكيم من الفائدة. وكون حكم الحاكم المولى لازماً لزوماً عاماً في محل الاجتهاد، إنما هو لصحته شرعاً لا لعموم ولايته، ألا ترى أنه لو خالف الدليل الشرعي لاستحق النقض ولا ينفعه عموم ولايته، فكذلك المحكم إذ لاقى حكمه محل اجتهاد نفذ ولا يضره قصور ولايته، فما خالف الدليل الشرعي لا حرمة له وإن حكم به من حكم، وما لم يخالفه نفذ إذا كان من حكم به له ولاية الحكم، وقد تقرر جواز التحكيم لولاية الخصمين المحكمين على أنفسهما فصار في حقهما بمنزلة المولى من الإمام، ولو لم يكن كذلك لخلا التحكيم من الفائدة، إذ لو كان نفاذه موقوفاً على حاكم مولى لكان المحكوم عليه يرفع قضيته إلى الحاكم المولى ليبطله، وتفوت فائدة الإلزام بمنزلة الذين قالوا: {إن أويتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}، ويكون التحكيم بمنزلة البعث، فالقول بجواز التحكيم وعدم لزومه في غاية البعد، والقول بلزومه وجوزا نقضه تناقض،

وقال مالك: إن رفع إلى قاض لم يبطله إلا أن يكون خطأ بيناً، واختاره الطحاوي. قوله: (قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات [كالطلاق والنكاح وغيرهما] وهو صحيح إلا أنه لا يفتي به، ويقال يحتاج إلى حكم المولى دفعاً لتجاسر العوام فيه). لو أنهم قالوا باشتراط العدالة والعلم والذكورة، وعدم جواز تولية القضاء والتحكيم للفاسق والجاهل والمرأة، لما احتاجوا أن يقولوا: إن هذا يعلم ولا يفتي به لئلا يتجاسر العوام فيه، وإذا كان مثل هذا يترتب عليه فساد كيف يجوز أن ينسب إلى الشريعة، ولو كان منها لأفتى به، وإن كان عدم الإفتاء بجواز التحكيم في سائر المجتهدات سداً للذريعة لئلا يتجاسر العوام فيه، فالقول بعدم جواز/ تحكيمهم أكمل في سد الذريعة، وهذا نظير القول بجواز

مسائل شتى من كتاب القضاء

الحيل على تصحيح الباطل أو إبطال الحق، وتحليل الحرام أو تحريم الحلال، مع القول بأنه يحجر على المفتي الذي يعلم الناس تلك الحيل سداً للذريعة إلى تلك الحيل، ولو قيل ببطلان تلك الحيل نفسها لكان أكمل في سد الذريعة. والله أعلم. مسائل شتى من كتاب القضاء: قوله: (لأن أحد المتعاقدين لا ينفرد بالفسخ كما لا ينفرد بالعقد لأنه حقهما فبقي العقد فيعمل التصديق). في الجمع بين هذا وبين قوله قبله: ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري فات رضا البائع فيستبد بفسخه. نظر، قال الشيخ حافظ الدين في الكافي: والتوفيق بين كلاميه صعب. * * *

باب في القضاء بالمواريث

باب في القضاء بالمواريث قوله: (ومن قال: مالي في المساكين صدقة، فهو على ما فيه الزكاة، إلى آخر المسألة). اختلف العلماء في حكم من نذر التصدق بماله على أقوال: فذهب ربيعة إلى أنه يتصدق منه بقدر الزكاة، وقال النخعي والبتي والشافعي وزفر: يتصدق بماله كله، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يتصدق بالمال الزكوي كما تقدم، وقال مالك وأحمد والزهري: يتصدق بثلث ماله، واستدلوا بحديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قال، فقلت: إني أمسك سهمي

الذي بخيبر" متفق عليه. وفي لفظ قال: قلت: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقة، قال: لا، قلت: [فنصفه؟ قال: لا، قلت] فثلثه؟ قال: نعم، قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر" رواه أبو داود، وعن الحسين بن السائب بن أبي لبابة أن أبا لبابة ابن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يجزي عنك الثلث" رواه أحمد، والاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكروه من الحكم ظاهر لكن في ثبوت التقدير بالثلث نظر، ولا شك في ثبوت قوله -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن مالك "أمسك عليك بعض مالك فهو

خير لك" فإنه متفق على صحته وهو أولى ما احتج به في هذه المسألة، فإن قيل: ليس هذا بنذر، وإنما أراد الصدقة بجميع ماله، فأمره بإمساك بعضه، قيل: منعه من التصدق بالكل دليل على أنه ليس بقربه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمنع أصحابه من القرب، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به، وصار هذا كمنعه سعداً من الوصية بأكثر من الثلث، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، والغرض هنا التنبيه عليه. ويبقى تقدير ذلك البعض وينبغي أن يكون ذلك بحسب الأشخاص فيمسك قدر ما يكفيه ويكفي عياله بحيث لا يبقى معه فقيراً يحتاج إلى سؤال الناس، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فأبو بكر لما تصدق بماله كله لم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقر عمر رضي الله عنه على التصدق بشطر ماله،

ومنع صاحب الصرة من التصدق بها، وقال لكعب: أمسك عليك بعض مالك، ويبعد جداً أن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ، وقال لأبي لبابة: يجزئك الثلث، فتبين من هذا أن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص، وأنه لا معارضة بين ما ورد في هذا الباب بهذا الاعتبار، وقد صحح المصنف وحافظ الدين النسفي وغيرهما من الأصحاب أن نذر التصدق بما يملكه مثل نذر التصدق بماله؛ لأنهما يستعملان استعمالاً واحداً عرفاً، وقالوا: لأن الظاهر أنه يلتزم الصدقة بالفاضل عن الحاجة سواء كان بلفظ الملك أو بلفظ المال، وهذا يشهد لما تقدم من أنه يمسك قدر ما يكفيه ويكفي عياله بحيث لا يبقى معه فقيراً يحتاج إلى سؤال الناس، وأن هذا القدر مشغول بالحاجة الأصلية، فلا بد من استثنائه كما يستثنى مما يجب فيه الزكاة، وقول المصنف: ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله، وهو مال الزكاة. فيه نظر، فإن مال الزكاة ليس هو فاضل ماله، وأيضاً فإن نذره أن يتصدق بماله

ليس هو نظير قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} حتى يكون إيجاب العبد معتبراً/ بإيجاب الرب، ولم يقل تعالى: خذ مالهم بل أوجب الله صدقة مجملة تؤخذ من أموالهم بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف نذره أن يتصدق بماله؛ لأنه يعم ماله كله، لكن بعضه مستثني لشغله بالحاجة الأصلية، وهو ما لا يحتاج إلى سؤال الناس، ولا يلزمه إخراج نظير ذلك بعد الاستغناء عنه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر كعباً أن يتصدق بعد ذلك بنظير ما أمسكه من ماله، ولو كان واجباً عليه لبينه له لأنه محتاج إلى معرفة ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ففي ذلك دليل على أنه إذا أمسك بعض ماله، وتصدق بالباقي أن ذلك يجزئه ولا يلزمه بعد ذلك التصدق بنظير ما أمسكه، ويمكن أن يقال في البعض الذي يمسكه لحاجته إليه أنه مستحق بالحاجة، فلا يجوز التبرع به بمنزلة المال المستحق للغير فيصير كالنذر بما لا يملك، أو لأن ذلك القدر مستحق الصرف إلى جهة معينة شرعاً، فهو بصرفه إلى غير تلك الجهة عاصٍ، ولا نذر في معصية، أو يقال: إنه لما وجب عليه التصدق بجميع ماله فقد بقي فقيراً فيبدأ بنفسه فيتصدق عليها بقدر حاجته لأنه أحق من سائر الناس لتحقق

حاجته، وإلى هذا المعنى أشار -صلى الله عليه وسلم- بقوله للذي قال: "يا رسول الله عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر" أخرجه أبو داود والنسائي، وفي الصحيح: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول" وبهذا التقرير يظهر التنبيه على ما في المباحث التي ذكرها المصنف في هذه المسألة من الكلام ومن دعوى الإجماع على نفي دخول أرض الخراج لما تقدم من خلاف زفر. * * *

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام للذي شهد عنده: "لو سترته بثوبك لكان خيراً لك"). هذا لم يقله النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن شهد عنده، وإنما قاله لمن أشار على ما عز أن يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعلمه بزناه، والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، ومالك في الموطأ عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه: "أن ماعزاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال: لو سترته بثوبك كان خيراً لك". وفي لفظ لأحمد وأبي داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن

حكم شهادة النساء

أبيه قال: "كان ما عز بن مالك يتيماً في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: أبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك" الحديث. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال إليه"، والجمع المحلي بالألف واللام يراد به الجنس، فيتناول الأقل وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط الأربع).

التلفظ بلفظ الشهادة عند الأداء

هذا حديث باطل لا أصل له، وإنما روى الدارقطني عن حذيفة رضي الله عنه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة" وضعفه، وقال ابن عبد الهادي: إنه حديث باطل لا أصل له. انتهى. وإنما ورد ما يدل على قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال عن الزهري قال: "مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن، وتجوز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وامرأتان فيما سوى ذلك، أخرجه ابن أبي شيبة. قوله: (ولابد في ذلك كله من العدالة، ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة الشهادة، وقال: أعلم أو أتقن لم تقبل شهادته -ثم قال-: وأما لفظة الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توكيد، فإن قوله: أشهد، من ألفاظ اليمين، فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد).

مذهب مالك وأهل المدينة، وظاهر كلام أحمد عدم اشتراط لفظة الشهادة، قالوا: ولا نعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين اشتراط ذلك، وقد قال ابن عباس: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس". ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، والعشرة الذين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة لم/ يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة، بل قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة ... " الحديث.

وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، دخل في الإسلام، وشهد شهادة الحق، وإن لم يتلفظ بلفظة الشهادة، وقد قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم}، وليس هناك لفظ الشهادة، وقال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفكم}، وشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه. وفي الحديث الصحيح في قضية ماعز: "فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقال تعالى: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}. وقول المصنف: (إن النصوص نطقت باشتراطها)، فيه نظر؛ فإن النصوص ليس فيها ذكر اشتراط لفظة الشهادة في قول الشاهد عند الأداء، وهو المدعى، وإنما فيها ذكر الإشهاد والاستشهاد والشهادة، ولا يلزم من ذلك

كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري

اشتراط ذكر لفظة الشهادة عند الأداء. وقوله: (ولأن فيها زيادة توكيد) إلى آخره، مسلم، لكن ما الدليل على اشتراط هذه الزيادة مع حصول الشهادة بدونها وهي المقصود، ولئن كانت الشهادة من ألفاظ اليمين فليس على الشاهد يمين. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف"، ومثل ذلك عن عمر رضي الله عنه). لم يرد هذا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتب الحديث، وإنما هو كلام عمر رضي الله عنه في كتاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ولفظه: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجرباً عليه شهادة زور، أو مجلوداً في حد، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة ... " إلى أخره. رواه البيهقي وغيره.

وروى البيهقي من حديث عائشة مرفوعاً: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود في حد" الحديث، وفي طريقه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من حديث حجاج بن أرطاة -وهو ضعيف- عن عمر رضي الله عنه. قوله: (واشترط العدد أمر حكمي في الشهادة). يعني ـأن اشتراط المثنى في باب الشهادات أمر تعبدي لا يعقل معناه، قد عقل غير معناه، وهو أن أحد الشاهدين يقاوم براءة الخصم المنكر فإن إنكاره

كشاهد، وتبقى شهادة [الشاهد] الآخر خبر عدل لا معارض له، فهو حجة شرعية لا معارض لها، وفي الرواية إنما يقبل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقوى منه فاطرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية. * * *

فصل

فصل قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع"). رواه البيهقي عن ابن عباس، ولفظه قال: "ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يشهد بشهادة فقال: أما أنت يا ابن عباس فلا تشهد إلا على ما يضئ لك كضياء هذه الشمس، وأومأ بيده إلى الشمس"، ثم قال البيهقي: ولم يرو من وجه يعتمد عليه. * * *

باب من تقبل شهادته ومن لا يتقبل

باب من تقبل شهادته ومن لا يتقبل قوله: (ولا المملوك؛ لأن الشهادة من باب الولاية، وهو لا يلي على نفسه فأولى ألا تثبت له الولاية على غيره). ذهب إلى قبول شهادة العبد؛ علي وأنس رضي الله عنهما. قال أنس: "ما علمت أحداً رد شهادة العبد"، وبه قال عرورة وشريح وإياس وابن سيرين وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، وظاهر مذهبه استثناء الحدود والقصاص. وقال الشعبي والنخعي: تجوز شهادته في الشئ اليسير. وقال عطاء ومجاهد والحسن ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة

والشافعي: لا تقبل شهادته. وقد استدل من قال بقبول شهادته بعموم آيات الشهادة، فإنه من رجالنا، وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره بالمدينة، وقد يكون منهم العلماء والصالحون والأمراء وقد حكي الأمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول شهادته معنى، فإنه قال: "ما علمت أحداً رد شهادته"، ولم يقل أحد عن صحابي خلاف ذلك. قالوا: وإذا قبلت شهادته على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حكم يلزم جميع الأمة، فلأن تقبل شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئي أولى وأحرى، وفي كتاب عمر رضي الله عنه/ إلى أبي موسى الأشعري: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" انتهى. وهو صادق فيجب العلم بخبره وأن لا يرد، فإن الشريعة لا ترد خبر الصادق، بل تعمل به، وليس بفاسق فلا يتثبت في خبره وشهادته، وكونه تحت ولاية سيده ولا يخرجه عن أهلية الشهادة على غيره كما لم يخرجه عن أهلية الرواية وهي شهادة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتضمن إلزام الأمة كلهم بذلك الحكم. وليس إلزام الشاهد المشهود عليه بشهادته من باب ولاية المولى على عبده.

فاعتبار شهادته بروايته أولى من اعتبارها بولاية المالك على مملوكه، فإن قيل: روايته من باب أخبار الديانات، وتلك يقبل فيها قول الواحد بخلاف باب الشهادة، قيل: لم نقل: إنه يقبل قوله وحده في باب الشهادات بل مع آخر، ففي باب الرواية يقبل قول الواحد العدل إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه. وفي باب الشهادة عارض إخبار العدلين إنكار المنكر بيمينه، وسلم إخبار العدل الآخر عن المعارض فوجب العمل به كما وجب العمل بخبر الواحد العدل في باب الديانات إذا سلم عن المعارض، وإذا ثبت كون العبد عدلاً كيف يجوز رد خبره السالم عن المعارض، والفرق بتسمية هذا إخباراً وهذا شهادة فرق صوري لفظي فير مؤثر. قوله: (ولا المحدود في قذف وإن تاب -إلى آخر المسألة). اختلف أهل العلم في اشتراط إقامة الحد على القاذف لرد شهادته؛ فعند الشافعي وأحمد رحمهما الله أنه تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه، وعن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات: إحداهما: إذا ضرب سوطاً من الحد. الثانية: إذا ضرب أكثر الحد.

الثالثة- وهي قول صاحبيه-: إذا أقيم عليه الحد بكماله. وقول الشافعي وأحمد رحمهما الله أظهر؛ لأن الله تعالى رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء؛ الجلد، ورد الشهادة، والفسق، فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد، ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق العقوبة والجلد كفارة وتطهير فلا يتعلق به رد الشهادة، وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان به، وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر. والقول بأن العجز عن الإتيان بأربعة شهداء إنما يتحقق بالجلد لا يقوى؛ لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه، فلا يستوفى قبل تحقيق القذف، وكيف يجوز أن يستوفى قبل تحقق سببه، ويصير متحققاً بعده، واختلف أهل العلم أيضاً في قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب: فذهب عطاء والشعبي وطامس ومجاهد والزهري وعبد الله بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت وأبو الزناد إلى قبول شهادته إذا تاب، وبه قال

مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وذهب شريح والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو حنيفة إلى عدم قبولها وإن تاب، ذكر ذلك ابن المنذر واختار القول الأول وقال: واختلف فيه عن ابن عباس فروينا عنه القولين جميعاً، ولا يصح ذلك عنه، وقال: قال عمر رضي الله عنه لأبي بكرة: "إن تبت قبلت شهادتك". وقال صاحب «المغني»: روي ذلك -يعني القول الأول- عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس، وقال: وذكره ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد

وربيعة. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: "توبوا تقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكان عمر لا يقبل شهادته". قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر وقتل النفس، وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقاً، فالتائب من القذف أولى بالقبول.

قالوا: ورد شهادته بعد توبته خلاف المعهود من الشرع، وخلاف قوله -صلى الله عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، فتوبته من القذف بمنزلة من لم يقذف؛ فيجب قبول شهادته. قالوا: والاستثناء المذكور في الآية يعود إلى ما تقدم كله، هذا هو الأصل، خصوصاً على قول أبي حنيفة/ في ذكر حق كتب في أسفله: ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى، حيث أبطل الصك كله، وقد تقدمت المسألة في الهداية في كتاب

شهادة الولد لوالده ونحوه

أدب القاضي، ولئن كان في إعادة الاستثناء إلى الجمل كلها أو إلى الجملة الأخيرة احتمال فيرجع عوده إلى كل ما تقدم بفهم عمر وأبي الدرداء وابن عباس، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، والمسألة مبسوطة في كتب الخلاف، ويكفي ما ذكر من التنبيه. قوله: (والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره"). لا أصل لهذا الحديث في كتب الحديث، بل قد روى عبد الرزاق بسنده عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده".

وقال ابن المنذر في الأشراف بعد ذكر القائلين برد شهادة الوالد والولد: وأجازت طائفة شهادة الوالد لولده، والوالد لوالده، لظاهر قوله: {ممن ترضون من الشهداء}. روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق والمزني وأبو ثور، وأجاز إياس ابن معاوية شهادة رجل لأبيه، وذكر الزهري قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}. قال: "لم يكن يتهم في سلف والد لولده، ولا ولد لوالده، ولا أخ لأخيه، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته إذا رضي هديهم، قال: ثم دخل الناس بعد ذلك، فتركت شهادتهم". قال أبو بكر بن المنذر: وبهذا أقول اتباعاً لظاهر الكتاب، ولإيجاب الله القيام بحقه في عباده، وفيما فرض لبعضهم على بعض، ولقوله: {وأقيموا الشهادة لله} ولا يجوز أن يتهم شاهد، ولا يجوز أن يظن المرء بأخيه إلا

خيراً، ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن فإنه أكذب الحديث" انتهى. وفي قول عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أو ظنينا في ولاء أو قرابة" تنبيه على أن الرد بالتهمة لا مطلقاً؛ لأن الظنين: المتهم، والشهادة ترد بالتهمة، وهذا مذهب أهل الظاهر أيضاً، ورواية عن أحمد.

وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال: "سمعت شريحاً أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها، فقال له الرجل: أبوها وزوجها؟ فقال شريح: من يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها". وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن سليمان قال: "شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقضي بشهادتي" انتهى. قالوا: وقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم ... ممن ترضون من الشهداء} يشمل الآباء والأقارب، ولم يخرجهم نص ولا إجماع. قالوا: ومدار حججكم على البعضية والتهمة، فأما التهمة فهي سبب في رد الشهادة مطلقاً، فمتى وجدت منعت قبول الشهادة للقريب والأجنبي ولا شك أن تهمة الإنسان في صديقه ومن يصفيه مودته ومحبته أعظم من

تهمته في أبيه وابنه. وأما البعضية فإنه لا يلزم منها أن يكون في معنى نفسه في أحكام الدنيا، ولا في أحكام الآخرة، ولا يقوم أحدهما مقام الآخر فيما يجب عليه وله، من حد واجب أو ثواب أو عقاب. قالوا: وما نظرتم به من عدم جواز الزكاة إليهم فذلك من مسائل النزاع، لا في مسائل الإجماع، ولو سلم ثبوت الحكم فيها لا يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة؛ لأن الشهادة خبر يعتمد الصدق والعدالة، فإذا كان المخبر به صادقاً مبرزاً في العدالة غير متهم في الإخبار به، فليس في قبول قوله قبح ولا فساد، ولا دل نص على رده بل دلت النصوص على قبوله كما تقدم، والحاصل أن الذين ردوا شهادتهم أداروا الحكم على اعتبار الثرابة لأنها مظنة التهمة ومخالفيهم أداروا الحكم على

شهادة اهل الذمة بعضهم على بعض

حقيقة التهمة، وكل منهما له وجه، ولكن لما كانت النصوص دالة على اعتبار التهمة، لا على اعتبار مظنتها ترجح جانب من اعتبرها. فإن قيل: لا يمكن الوقوف على حقيقة التهمة فلذلك قلنا: يدار الحكم على اعتبار مظنتها، قيل: يمكن ذلك/ بغالب الظن كالوقوف على العدالة، فإن العدالة التي هي الاستقامة إنما يوقف عليها بغالب الظن فكذلك التهمة، وكالإيمان فإن الله تعالى قال: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} والعلم بكونهن مؤمنات إنما هو بغالب الظن. قوله: (ولنا ما روينا). يضير إلى الحديث الذي ذكره قبل ذلك- وفيه-: "ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته"، وتقدم التنبيه على نفي ثبوت هذا الحديث والتنبيه على ضعف دليل القول برد شهادة القريب والزوج عند انتفاء التهمة. قوله: (وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم ...) إلى آخر المسألة. قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في شهادة أهل الملل بعضهم على بعض، فممن رأى أن شهادة أهل الكتاب جائزة بعضهم على بعض شريح،

وعمر بن عبد العزيز، والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان، والثوري والنعمان. وقال طائفة: لا تجوز شهادة أهل الشرك على مسلم ولا مشرك، هذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وبه قال الحسن البصري وأحمد والمزني. وفيه قول ثالث وهو: إن شهادة أهل كل ملة مقبولة على مثلها، ولا تقبل على الملة الأخرى، هذا قول قتادة، كأنه يرى أن شهادة اليهودي على اليهودي جائزة، ولا تقبل شهادة اليهودي على النصراني، وبه قال الزهري، وقال: لا تجوز شهادة أحدهما على الآخر للعداوة التي ذكر الله بينهما. انتهى. ثم رجح ابن المنذر أنه لا تجوز شهادة مشرك على مسلم، ولا مشرك، وهذا في غير شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر إذا لم يوجد غيرهم وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب إن شاء الله تعالى.

وحكى صاحب المغني عن الحكم وأبي عبيد وإسحاق مثل قول قتادة، وحكى عن الزهري والشعبي مثل قول هؤلاء والمنع مطلقاً. والقول بجواز شهادة بعض أهل الذمة على بعض مع اختلاف الملتين، فإن العداوة التي بينهم ليست نظير العداوة التي بين المسلم والمسلم، بل نظير العداوة التي بين المسلم والكافر، ولكن المسلم يمنعه إسلامه من الكذب على عدوه ولو كان كافراً، ولا كذلك الكافر، وإن كان الكفر يجمعهم بقلوبهم شتى. وما ورد في السنن من قبول شهادة بعضهم على بعض لا يدل إلا على قبولها عند اتحاد الملة، وهو حديث اليهوديين اللذين زنيا، "وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر -صلى الله عليه وسلم- برجمهما" رواه أبو داود، وهو الذي أشار إليه صاحب

الهداية في الاستدلال في هذه المسألة والله أعلم. ولكن في أكثر نسخ الهداية "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض" وفي بعض النسخ "اليهود"، وما رواه ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض" إن صح فالمراد هذه القضية والله أعلم. فإنه لم ينقل أنه تحاكم إليه -صلى الله عليه وسلم- خصمان ذميان، وأقام المدعي البينة على المدعى عليه من غير أهل [ملة] المدعى عليه.

وأما استدلال المصنف للشافعي ومالك رحمهما الله بقبوله: قال الله تعالى: والكافرون هم الفاسقون، فكأن المصنف رحمه الله ما كان يحفظ القرآن، أو لحقته غفلة، فإن هذا اللفظ ليس في القرآن وإنما هو: {والكافرون هم الظالمون}. ولا يجوز نقل القرآن بالمعنى، وفي نقل السنة بالمعنى خلاف، وكم قد

وقع من جهة نقل السنة بالمعنى من الغلط فإن الناس متفاوتون في فهم المعنى، وكثيراً ما يظن أنه ليس من جوامع الكلم فينقل بلفظ يدل على بعض مدلوله، فيقع التقصير والغلط بسبب ذلك. وقوله: (ولأنه -يعني الذمي- من أهل الولاية على نفسه وأولاده الصغار فيكون من أهل الشهادة على جنسه) ممنوع. وبسبب هذا القياس ردت شهادة العبد العدل، فإنهم لما أرادوا حكم الشهادة على هذه الولاية طرداً وعكساً قبلوا شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلف/ مللهم عملاً بطردها، وردوا شهادة العبد العدل عملاً بعكسها، وليس إلزام الشاهد المشهود عليه [بشهادته] من باب ولايته

عليه كما يلي على نفسه وأولاده الصغار حتى يصح قياس شهادته على جنسه عليه، بل من باب إخباره عنه بما يلزمه حكمه وقد ترجح جانب صدقه في خبره كما مر. وقوله: (لأنه يجتنب ما هو محرم دينه). ممنوع، فقد أخبر الله سبحانه عنهم أنهم كذبوا عليه أعلى أنواع الكذب، فقال تعالى عنهم: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}، وقال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله}. فمن يكذب مثل هذا الكذب لا يكذب [في] ما هو أهون منه بكثير، وقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تصديقهم فيما يحدثونا عن كتابهم تصديقاً جازماً، فقال الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصدقوا أهل الكتاب بما يحدثونكم عن الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}؛ لأن الله أخبر أنهم كتبوا بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله". أخرجه البخاري

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فإذا نهينا عن تصديقهم فيما يحدثوننا عن كتابهم، فما يحدثوننا به عن غيره أولى؛ لأنهم إذا كانوا قد كذبوا على ربهم فكذبهم على غيره أهون كما تقدم، وإذا كنا نرد شهادة من يدخل الحمام بلا مئزر؛ لأنه قد فعل فعلاً محظوراً، فلا يؤمن عليه أن يشهد بالزور، كيف تقبل شهادة من قد كذب على ربه، وفي دينه فزاد فيه ونقص، وباب الإخبار غير باب الولاية، والخبر تارة يقترن به ما يرجح صدقة، وتارة يقترن به ما يرجح كذبه. فإن صح قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة الأربعة من اليهود على زنا اليهوديين فلما اقترن به من دلالة الصدق، فإنهم لم يأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ليرجمهما؛ لأنهما كانا من أشرافهم، ولكن قالوا: إن حكم بالجلد قبلنا حكمه، وإن حكم بالرجم رجعنا إلى عادتنا، وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}. وكانت عادتهم الجلد والتحميم، والقصة معروفة في موضعها ولو

شهادة الذمي على المسلم

قيل: إن القضية واقعة عين لا عموم لها، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرف دق أولئك اليهود الذين شهدوا بالزنا عنده بطريق الوحي لكان أولى من كثير مما ادعى فيه أنه واقعة عين، كل ذلك على تقدير ثبوت قبول شهادتهم، ولم يثبت وكيف ترد شهادة الولد مع بروز عدالته لكونه مظنة التهمة، وتقبل شهادة اليهودي على النصراني أو عكسه مع وجود التهمة، وكيف يعلل لقبول شهادته بأنه يجتنب ما يعتقده محرماً، ولا يقال مثل هذا للمسلم إذا شهد لوالده ولولده، وهو أحق بأن يقال في حقه هذا التعليل، فإن تجنب المسلم العدل لما يعتقده محرماً أعظم من تجنب الكافر. قوله: (وبخلاف شهادة الذمي على المسلم). وقد استثنى شريح وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي، وعبيدة السلماني، وابن سيرين ومجاهد وأحمد والنخعي والأوزاعي ويحيي بن حمزة، من ذلك شهادتهم على وصية المسلم في السفر إذا لم يكن عنده أحد

من المسلمين وهو مروي عن أبي موسى الأشعري وابن مسعود رضي الله عنهما. قال ابن المنذر: والقائل بخلاف هذا القول تارك للقول بظاهر القرآن،

وبظاهر الأخبار، ومعنى اللغة، وقال: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} فأوقع الذكر بينهم باسم الإيمان الجامع لهم ثم قال: {أو آخران من غيركم} ولا يجوز في اللغة غير ذلك. انتهى. وعن جبير بن نفير قال: "دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقالت: هل تقرأ سورة المائدة، قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه" رواه أحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رجل من بني سهم من تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما

قدموا بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بذهب فأحلفهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدى بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} رواه البخاري وأبو داود. والمسألة والخلاف فيها مشهور، وليس مع من يدعي النسخ إلا مجرد الدعوى، وقد عملت بها الصحابة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما قول من/ قال: إن معنى قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} أي آخران من غير قبيلتكم فمشكل، فإن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} لم يخاطب أهل قبيلة معينة منهم حتى يصح أن يقال: من

غير قبيلتكم، وقبول شهادة أهل الذمة على المسلم في مثل هذه الحالة بمنزلة أكل الميتة عند الضرورة، ولا يمكن رد هذا الحكم الخاص لعمومات النصوص الدالة على عدم قبول شهادة الكافر على المسلم، بل يجب أن تخص تلك العمومات بهذا النص، كيف وأنه متأخر عنها. * * *

باب الاختلاف في الشهادة

باب الاختلاف في الشهادة قوله: (ولأبي حنيفة أنهما اختلفا لفظاً، وذلك يدل على اختلاف المعنى؛ لأنه يستفاد باللفظ، وهذا لأن الألف لا يعبر به الألفين، بل هما جملتان متباينتان -إلى آخره-). قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله -في قبول شهادتهما في الألف -أقوى كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم؛ وذلك لأن دلالة المثنى دلالة تكرار الواحد بالعطف. فقوله: له علي ألفان، كقوله: له علي ألف وألف، ولو قال كذلك لزمه ألف فكذا إذا قال ألفان، ولكن عند الأئمة الثلاثة لو حلف المدعي مع هذه الشهادة تثبت ألفان؛ لأنهم يرون القضاء بالشاهد واليمين كما وردت به السنة.

قوله: (بخلاف العشرة؛ والخمسة عشر؛ لأنه ليس بينهما حرف عطف فهو نظير الألف والألفين). يعني إذا شهد أحد الشاهدين بعشرة، والآخر بخمسة عشرة، والدعوى بعشرة، لا يثبت بهذه الشهادة شئ عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما تثبت عشرة، وقد مر التنبيه على ترجيح قولهما في الألف والألفين، وكذلك العشرة والخمسة عشر؛ لأن أصل خمسة عشر، خمسة وعشرة، حذف حرف العطف، وضمن الاسم الذي معناه، فبني لذلك، وهذا معنى تركيب المزج عند النحاة، ولو صرح بذلك، وقال: خمسة وعشرة لزمت العشرة فكذا مع التركيب. قوله: (وإذا شهد بألف وقال: أحدهما قضاه منها خمسمائة، قبلت شهادتهما بألف؛ لاتفاقهما عليه، ولم يسمع قوله: إنه قضاه؛ لأنه شهادة فرد إلا إن شهد معه آخر، وعن أبي يوسف أنه يقضي بخمسمائة؛ لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة، وجوابه ما قلنا). قول أبي يوسف أقوى، ولا يصلح ما علل به جواباً له؛ لأن قوله في مجلس الأداء: قضاه منها خمسمائة، بمنزلة ما إذا قال: أوهمت بعض شهادتي، وذلك يقبل منه فإنه إذا علم أنه قضاه منها خمسمائة لم يكن له أن

يشهد إلا بما بقي من الألف بالألف، فكان ذكر الألف مع ذكر القضاء منها بمنزلة الاستثناء والاستدراك ونحوه، وإن كان من حيث اللفظ شهادتين فالعبرة للمعنى. قوله: (وفي الجامع الصغير رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم فشهد أحدهما أنه قضاها، فالشهادة جائزة على القرض لاتفاقهما عليه وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا، وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا تقبل وهو قول زفر؛ لأن المدعي أكذب شاهد القضاء، قلنا: هذا هو إكذاب في غير المشهود به الأول، وهو القرض ومثله لا يمنع القبول). ما ذكره الطحاوي -وهو قول زفر- أقوى وأولى بالاعتبار، لا باعتبار ما علل له به المصنف بل باعتبار أنه رجوع معنى والعبرة للمعاني، والرجوع قبل الحكم يوجب سقوط الشهادة، وليس هذا من باب إكذاب المدعي شاهده، بل من باب رجوع الشاهد عن شهادته قبل الحكم فتأمله. * * *

باب الشهادة على الشهادة

باب الشهادة على الشهادة قوله: (ولنا قول علي رضي الله عنه "لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين"). لا أصل لهذا الأثر في كتب الحديث، وإنما روي البيهقي معناه عن الشعبي، وحكى صاحب المغني عن الشعبي خلاف ذلك، وهو أنه قال بجواز شهادة اثنين على كل واحد واحد، وحكاه عن شريح أيضا وابن شبرمة وابن ليلي والثوري وإسحاق والبتي والعنبري ونمير بن أوس وهو مذهب أحمد. قوله: (ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد لما روينا، وهو حجة

فصل

على مالك رحمه الله). مذهب مالك كمذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أحد قولي الشافعي ولكن لابد عندهما من أن يكونا رجلين، ولا تقبل شهادة النساء في الشهادة على الشهادة، وعند أبي حنيفة تجوز شهادة رجل وامرأتين على كل من رجلين، وإنما باعتبار شهادة اثنين على كل واحد/ واحد، أحمد مع من تقدم ذكرهم، وقال إسحاق وأحمد: إنه لم يزل أهل العلم على هذا، شريح فمن دنه. فصل: قوله: (لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه "أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطاً وسخم وجهه").

أخرجه البيهقي وضعفه، وينبغي أن يكون ذلك مفوضاً إلى رأي الحاكم، يعامل كل شخص بما يرى أنه يردعه من تشهير وضرب وحبس أو بعض ذلك، فإن الاختلاف الوارد عن السلف ينتظم بهذا كما هو مذهب الشافعي وغيره والله أعلم. * * *

كتاب الرجوع عن الشهادة

كتاب الرجوع عن الشهادة قوله: (ولأن الرجوع توبة). فيه نظر، فقد يقول الشاهد: كنت كاذباً في شهادتي عامداً، أو شهدت بالزور أو نحو ذلك من الألفاظ، ولا يذكر لفظ الرجوع، وحكم ذلك كله حكم للرجوع بلفظه، ولا يلزم في ذلك كله أن يكون قد تاب، وفي مثل هذا يعزر مع التضمين. قوله: (وقال الشافعي: لا يضمنان لأنه لا عبرة للتسيب عند وجود المباشرة). هذا القول الذي نسبه إلى الشافعي رحمه الله ضعيف، قال النووي رحمه الله في الروضة: والمذهب الغرم مطلقاً.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة قوله: (وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل حكيم بن حزام بالشراء، وبالتزويج عمر بن أم مسلمة). عجباً للمصنف كيف يستدل بهذين الحديثين، ويدعي فيهما الصحة الأول: ضعيف، والثاني: الاستدلال به غلط، أما الحديث الأول فأصله "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه يشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية فأربح فيها ديناراً، فاشترى أخرى مكانها فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ضح بالشاة وتصدق بالدينار" رواه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحسب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم. ولأبي داود نحوه من حديث أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم ولو استدل بحديث عروة بن أبي الجعد البارقي -رضي الله عنه "أن

النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه ديناراً ليشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه" رواه أحمد والبخاري وأبو داود -لكان أحق وأولى فإن هذا الحديث هو الذي صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا ما استدل به. وأما الحديث الثاني فأصله عن أم سلمة رضي الله عنها "أنها لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- يحطبها قالت: ليس أحد من أوليائي شاهداً فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك"، قال لابنها: يا عمر قم فزوج النبي، فزوجه" رواه أحمد والنسائي فلم يكن عمر بن أم سلمة وكيلاً عن النبي في تزويجه أمه، وإنما زوج هو أمه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذنها بطريق الولاية عليها أو الوكالة عنها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل لنفسه، ولو استدل بحديث أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكله في قبول نكاح ميمونة، أو بما

فصل في البيع

روي "أنه -صلى الله عليه وسلم- وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة" لكان أولى وقد دل على صحة الوكالة من الكتاب العزيز قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} الآية، وعلى مشروعيتها انعقد الإجماع. فصل في البيع: قوله: (والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز أن يعقد مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له إلى آخره). في هذا الإطلاق نظر، قال في الذخيرة: الوكيل بالعين إذا باع ممن لا تقبل شهادته له إن كان بأكثر من القيمة يجوز بلا خلاف، وإن كان من القيمة بغين فاحش لا يجوز بالإجماع، وإن كان بغبن يسير لا يجوز عند أبي حنيفة،

وعندهما يجوز، وإن كان بمثل القيمة فعن أبي حنيفة روايتان في رواية الوكالة والبيوع لا يجوز، وفي رواية المضاربة يجوز انتهى. وقولهما: أقوى، إذ الأملاك بينهم متباينة، والمحاباة منتفية، وقد تقدم ما في منع قبول الشهادة منهم من الكلام في كتاب الشهادات. قوله: (والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض -إلى آخره-). قول أبي أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أقوى فإن المعروف كالمشروط، وقد ألزما أبا حنيفة رحمه الله بما ذكره المصنف من أنه يتقيد التوكيل بشراء الفحم والجمد والأضحية بزمان الحاجة، وان البيع بغبن

فاحش من وجه، هبة من وجه وكذا المقايضة بيع من وجه، شراء من وجه، فلا يتناوله مطلق اسم البيع ولهذا لا يملكه الأب والوصي. وأجاب عن ذلك: بأن التوكيل مطلق/ فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة، والبيع بالعين أو بالغبن الفاحش متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن، والتبرم من العين والمسائل ممنوعة على قول أبي حنيفة على ما هو المروي عنه، وأنه بيع من كل وجه حتى إن من حلف لا يبيع يحنث به غير أن الأب والوصي لا يملكانه مع أنه بيع؛ لأن ولا يتهما نظرية،

ولا نظر فيه. والمقايضة شراء من كل وجه، وبيع من كل وجه لوجود حد واحد منهما، ويجاب عن قوله: إن التوكيل مطلق فيجري على إطلاقه بأن المعروف كالمشروط فيقيد العرف إطلاق التوكيل كما إذا شرط ذلك في العقد، فإن العرف يقيد التوكيل كما يقيد اليمين. وأما قوله: والبيع بالعين أو الغبن الفاحش متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من العبن، فليس مقتضاه الجواز مطلقاً، وإنما مقتضاه الجواز عند شدة الحاجة إلى الثمن بالمثن، لا بالعرض الذي قد لا يحتاج إليه الموكل ولا بأقل من القيمة عند القدرة على بيعه بها. فالدليل أخص من المدلول ففسد الاستدلال، وهذا مما يمكن الوكيل معرفته بالقرائن من حال الموكل فلا يعارض العرف العام إلا بالدليل. وأما قوله: والمسائل ممنوعة على قول أبي حنيفة رحمه الله على ما هو المروي عنه. فالإلزام قوي والتزامه على رواية ضعيفة، وكيف يقال بعدم تقيد شراء

الأضحية بأيام العيد ولزوم شرائها على الموكل بعد العيد أو في السنة الثانية، والعرف يأبى ذلك. وأما قوله: إنه بيع من كل وجه -يعني البيع بالغبن الفاحش- حتى إن من حلف لا يبيع يحنث به. فجوابه: أن العرف يفرق بين الحلف عليه والتوكل به، فإن من حلف أن لا يبيع عنده فمر اده أن لا يخرجه عن ملكه بعوض من غير تعرض لقلة العوض أو كثرته بخلاف التوكيل ببيعه فإن مراده بيعه بقيمته أو بدونها بما يتغابن في مثله لا أن يبيع ما يساوي مثلاً ألف درهم بدرهم. وهذا استعان على ذلك بالتوكيل وإلا فالبيع بالغبن الفاحش ما يعجز أحد عنه، ولا يحتاج فيه إلى الاستعانة بوكيل ولا غيره، فنفس الوكيل بالبيع قرينة دالة على إرادة الثمن قدر القيمة أو دونها بما يعسر الاحتراز عنه، هذا مقتضى التوكيل وإن تخلف بعض أفراد صوره بأن يكون الموكل متبرماً من المبيع بحيث لو عرض عنه أدنى العوض لرضي به، ولا يتمكن هو من فعل ذلك فاستعان بمن يفعله يلتزم في هذه الصورة، ولكن إطلاق البيع له بالثمن التافه الذي لا يرتضيه عاقل فيه نظر. وإن كان الموكل متبرماً مما وكل بيعه، كيف ولو باشر الموكل ذلك بنفيه لعد سفيهاً يجب استمرار الحجر عليه، وتجديد الحجر عليه لهذا السبب عند من يرى ذلك، وهو الصحيح لما يأتي الحجر إن شاء الله تعالى.

فصل

وأما قوله: (والمقايضة شراء من كل وجه، وبيع من كل وجه؛ لوجود حد واحد منهما). فجوابه: كيف يوصف بالشئ وضده في حالة واحدة، فإنه إذا كان بيعاً من كل وجه امتنع أن يكون شراء من وجه ما فضلاً عن كل وجه، وقد أجاب السغناقي في شرحه عن هذا الإيراد: بأن ذلك إنما يمتنع إذا كان وصفه بالضدين في حالة واحدة. أما إذا كان باعتبار حالين فلا منافاة، ولا يقوى هذا الجواب فإنه يلزم منه التسليم للمدعي من حيث لا يشعر لأنه إذا كان بيعاً من كل وجه في هذه الحالة وشراء من كل وجه في حالة أخرى صدق عليه أنه شراء من وجه لا محالة باعتبار تلك الحالة التي هو فيها شراء من كل وجه والله أعلم. فصل: قوله: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: المرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك). في تخصيص قولهما نظر، فإن هذا حكم مجمع عليه، وقد أجاب

السغناقي عن هذا: بأن الإشكال إنما يرد على قولهما؛ لأن تصرفات المرتد بالبيع والشراء نافذة، وإن قتل على درته عندهما بناءً على الملك ولكن تصرفاته على ولده موقوفة بالإجماع، والحربي أبعد من الذمي فتخصيصهما بالذكر وهم، والله أعلم. * * *

باب الوكالة بالخصومة والقبض

باب الوكالة بالخصومة والقبض قوله: (والوكيل بقبض الثمن يكون وكيلاً بالخصومة عند أبي حنيفة حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده إلى آخره). قولهما أظهر، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله. وقد ذكر المصنف/ من التعليل أن القبض غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات، فلم يكن الرضا بالقبض رضاً بها، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله بالتملك لأن الديون تقضي بأمثالها إذ قبض

الدين نفسه لا يتصور إلا أنه جعل استيفاء لعين حقه من وجه فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة إلى آخره. ويجاب عن هذا بما تقدم من تقييد العرف فكأنه وكله في القبض دون الخصومة، وهو لو صرح بذلك تقيدت به الوكالة، فكذا إذا أطلق، والقول بأن الديون تقضي بأمثالها بمعنى أن الدين يبقى في ذمة لا يقضي عنه ما دفعه إلى رب الدين للمديون ما دفعه إليه قضاء عن دينه، وإنما تسقط المطالبة مع شغل ذمة كل منهما لصاحبه بدينه، وظهور ثمرة ذلك فيما أبرأ أحدهما الآخر مما له عليه حيث يجوز للآخر مطالبته بماله عليه، فيما إذا كان بالدين رهن فهلك بعد قبض الدين حيث يرد

ما قبضه وفاء عن دينه، ويصير الرهن الهالك بالدين، وسيأتي الكلام على ذلك في الرهن إن شاء الله تعالى، قول مشكل. وإنما يدل الشرع على أن من وفى دينه برئت ذمته، وإذا قضى المديون ما عليه كان رب الدين قد قبض ما يستحقه عليه ولم يكن قد أخذ غير حقه بل قد قبض عين حقه فإن الواجب في ذمته دفع المقدار الذي اقترض نظيره أو اشترى به شيئاً أو نحو ذلك وقد أتى به. ولا يقال: إن المديون يجب عليه شئ لا يمكن الوصول إلى أدائه، وإنما يقدر على الإتيان بغيره وتسمية القدر الذي يصير متعيناً بالدفع قبل أدائه ديناً لا يلزم منه أن يكون بدلاً عنه؛ لأنه بدل عما اقترضه أو اشتراه [لا بدل بدله]، وقد تقدم في كلام المصنف في كتال الكفالة في استدلاله لأبي حنيفة على القول بعدم جواز الكفالة بالدين عن الميت المفلس أن الدين هو الفعل حقيقة. ولهذا يوصف بالوجوب لكنه في الحكم مال؛ لأنه يؤول إليه في المال، وتقدم الكلام معه في ذلك، فكيف يقال: إن الدين باق في ذمته، وهو الفعل حقيقة، وقد فعله، وإذا ثبت ذلك فلا يكون من استوفى دينه مستوفياً لعين حقه من وجه، بل من كل وجه، ولم يبق له عليه حق، ولهذا لو حلف بعد الوفاء أنه لم يبق مستحق عليه حقاً كان صادقاً، ولو كانت ذمة كل منهما مشغولة بدين الآخر كان كاذباً؛ لأن كلا منهما عندكم مستحق في ذمة الآخر

نظير ما يستحقه الآخر في ذمته لكن تمتنع المطالبة قصاصاً، وإذا كان ذلك عين حقه من كل وجه صار كالوكالة بقبض العين فلا يكون وكيلاً بالخصومة. وأيضاً فمن دفع الزكاة ماله كان لك عين ما وجب في ذمته، ولا يقال عن الخمسة التي دفعها عن المائتين مثلاً أن ذلك بدل عما في ذمته، ولا أن الصلاة التي صلاها بدل عما في ذمته، ولا الصوم ولا الحج، بل ذلك هو الواجب في ذمته بعينه، ولهذا قال بعض المشايخ: إن رب الدين إذا قبض دينه ثم أبرأ المديون منه بعد قبضه أنه لا يرجع عليه بشئ، وهذا هو الحق فإن الإبراء لم يفد شيئاً؛ لأنه لم يبق له عليه شئ يبرئه منه فكان لغواً. * * *

كتاب الدعوى

كتاب الدعوى قوله: (لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة، والترفع من الصادقة). في الترفع عن اليمين الصادقة نظر، فإنها عبادة فكيف يترفع عنها، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل بخلاف الأنفس، فإنه لو قال: اقطع يدي. فقطعها، لا يجب الضمان فهذا إعمال للبذل إلا أ، هـ لا يباح لعدم الفائدة، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة، وقلع الضرس للوجع).

اعتبار الأطراف بالأموال في جريان البذل فيها لقطع الخصومة وافتداء اليمين في غاية البعد، فإنها لا تخلف، والأموال تخلف، والألم الحاصل بقطع الطرف، وخوف سرايته إلى النفس فوق ضرر فوت المال، ولهذا كانت المصيبة في الأبدان، وليس له تصرف في لحك نفسه ودمه إلا لمصلحة المداواة لما نذكر عن قريب إن شاء الله تعالى. ولا يصح الاستشهاد له بما لو قال له: اقطع يدي. فقطعها، حيث لا يجب الضمان، فإن ذلك لم يكن لصحة البذل حتى يقال إنه بمنزلة بذل المال فإن التفاوت الذي بين الأطراف والأموال لا يخفى، بل لأن موجب القطع العمد القصاص، والإذن شبهة مانعة من القصاص؛ لأنه قد رضي بإسقاط حقه منه بإذنه له في/ القطع ولا ينقلب مالاً لأن الشبهة جاءت من قبل من له الحق، فمنعت من وجوب المال ولهذا لم يختص ذلك بالأطراف. بل من قال لغيره: اقتلني. ففعل، فلا قصاص ولا دية، وفي رواية، وفي أخرى تجب الدية، لتعلق حق الوارث بها، فلا يعمل إذنه في إسقاطها، وفي أخرى يجب القصاص وهو قول زفر -لتعلق حق الوارث به كما تقدم- ولا كذلك الأطراف، لأنه هو المستحق للقصاص أو الدية. وأيضاً فإن بذل الطرف بغير حق حرام، واليمين الصادقة عبادة، وبينهما من التفاوت كما بين السماء والأرض، ولا يجوز التعويض عن

الطاعة بالمعصية. وأما من يترك اليمين لئلا يتهم بأنه حلف كاذبًا فيترفع عن اليمين الصادقة خوفًا من ذلك فهذا قد يبيح بذل المال الذي يجوز بذله في المباح، وسيأتي ما فيه من النظر في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. ولا يجوز بذل الأطراف في تحصيل المباح، وقياس ذلك على قطع اليد للآكلة، وقطع الضرس للوجع لا يصح؛ لأن قطع اليد للآكلة يمنع السراية إلى النفس، وقلع الضرس للألم، للخوف من الزيادة المفضية إلى ما هو شر من قلعه، فكان ذلك من باب إفساد البعض لإصلاح الكل، وارتكاب الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وهذا معنى صحيح معتبر عقلاً وشرعًا، ودفع الخصومة ببذل الطرف، عكسه دفع أدنى الضررين بارتكاب أعلاها، بل هو ارتكاب ضرر مجرد عن دفع ضرر آخر، لأنه لا ضرر في اليمين كما تقدم، فيكف يقاس عليه دفع الخصومة الذي يمكن تحصيله باليمين الصادقة. قوله: (ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه والحقير من المال والخطير).

الفرق أظهر، فإن في الإلزام بالتكفيل بالنفس ضررًا به، ولهذا قال أبو حنيفة فيما إذا قسم ميراث بين غرماء أو ورثة بالبينة، ولم ينف غيرهم أنه لا يؤخذ منهم كفيل، وسمى ذلك جورًا، فلا ينبغي أن يلزم بالتكفيل إلا عند ظهور قرينة يغلب على الظن معها خوف الغيبة عن الحضور لأجل خصمه. قوله: (وقيل في زماننا إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك لقلة المبالات باليمين بالله تعالى). يعني بالطلاق والعتاق، ولا ينبغي أن يلتفت إلى هذا القول، فإنه قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن الحلف بغير الله، ولهذا كان السلف يعزرون من يحلف بالطلاق، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقًا".

وذلك أنه إذا حلف بالله كاذبًا فقد جمع سيئة الكذب مع حسنة التوحيد، وإذا حلف بغيره صادقًا فقد جمع مع الصدق سيئة الشرك، والتوحيد أعظم الصدق، والشرك أعظم الكذب. والله أعلم.

باب التحالف

باب التحالف قوله: (فأما بعد القبض فمخالف للقياس؛ لأن المشتري لا يدعي شيئًا لأن المبيع سالم له، فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن، والمشتري ينكر فيكتفي بحلفه، لكنا عرفناه بالنص، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا"). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: فأما بعد القبض فمخالف للقياس؛ لأنه ليس في الشرع ما هو على خلاف القياس الصحيح كما تقدم في السلم وغيره، وهنا لجريان التحالف وجه صحيح على تقدير صحة ورود التحالف؛ وهو أن الاختلاف في قدر الثمن أو قدر المبيع يكون اختلافًا في نفس العقد؛ لأن البائع إذا ادعى أن البيع كان بعشرين، وادعى المشتري أنه بعشرة مثلاً، فقد ادعى كل منهما عقدًا أنكره الآخر؛ إذ العقد بعشرين غير العقد بعشرة، فكان كل منهما منكرًا من وجه، فجرى التحالف لذلك فاستوى ما بعد القبض وما قبله وهذا هو قول محمد رحمه الله، والمصنف قد ذكر هذا فيما بعد، فقال: خلافًا لمحمد؛ لأنه يرى النص معلولاً بعد القبض أيضًا.

الثاني: قوله في الحديث: "تحالفا وترادا"، فإن هذا اللفظ غير ثابت، وإنما لفظه: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد فيه ابن ماجة "والمبيع قائم بعينه". وكذلك لأحمد في رواية: "والسلعة كما هي"، والحديث ضعيف، ولكن العمل عليه عند أهل العلم، هكذا قاله ابن عبد البر، وحكى ابن قدامة في المغني: أنه ورد في بعض طرقه: "أنهما يتحالفان" ولم يعزها إلى شيء من كتب الحديث.

باب ما يدعيه الرجلان

باب ما يدعيه الرجلان قوله: (وحديث القرعة كان في الابتداء ثم نسخ). زاد السغناقي في شرحه: أن استعمال القرعة كان في وقت كان القمار مباحًا، وفيه نظر؛ بل لا زال القمار محرمًا، ولا زالت القرعة مشروعة، قال عالى عن يونس عليه السلام: {فساهم فكان من المدحضين}، وقال تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}. وقال أحمد بن حنبل: في القرعة خمس سنن: أقرع بين نسائه، وأقرع في ستة مملوكين، وقال -صلى الله عليه وسلم- لرجلين: "استهما".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، وقال عليه الصلاة والسلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه" انتهى، وفي حديث الزبير "أن صفية جاءت بثوبين ليكفن فيهما حمزة رضي الله عنه فوجدنا إلى جنبه قتيلاً، فقلنا لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر، فأقرعنا عليهم، ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي طار له". وتشاح الناس يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد، وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة. وقال صاحب المغني: ولا أعلم بينهم خلافًا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بإحداهن، وإذا أراد البداءة بالقسم بينهن وبين الأولياء إذا تساووا وتشاحوا في من يتولى التزويج، أو من يتولى استيفاء القصاص

وأشباه هذا، وما أجيب به عن ذلك من أن القرعة لتطييب القلوب يرده الإقراع في الإعتاق، وقد أخرجه مسلم وأهل السنن كما تقدم ذكره في باب عتق أحد العبدين، ولم يرد ما ينسخه. قوله: (ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضي له، إلا أن يعديها ذو اليد؛ لأن الثالث لم يصر مقضيًا عليه بتلك القضية). فيه نظر، ولا ينبغي أن يقضي للثالث والحالة هذه؛ لأن هذا اليد قد أقام بينة على النتاج عنده، فإلزامه بإعادة بينته اشتغال بما لا يفيد، لأنها لا تفيد القاضي زيادة على ما عنده من العلم. وقد قال أبو حنيفة: إن من غسل إحدى رجليه في الوضوء، وأدخلها في الخف ثم غسل الأخرى، وأدخلها الخف أنه لا يحتاج أن ينزع الأولى ثم

يعيدها كما قال الشافعي رحمه الله، وقال: لأنه اشتغال بما لا يفيد وهنا أولى لأن الطهارة لا تتجزأ، وقبل التكميل لا يكون متطهرًا فلم يصدق عليه أنه أدخلها طاهرتين، ومع هذا لم يكلفه النزع، وهنا المراد من إقامة البينة إظهار الحجة، وقد ظهرت بعد دعوى صحيحة فلا فائدة في إعادتها.

باب دعوى النسب

باب دعوى النسب قوله: (وهذا يصلح مخرجًا على أصله فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوى بعد ذلك فيقطع دعواه إقراره بالنسب لغيره). يعني أن من باع ولد أمته وخاف المشتري أن يدعي البائع نسبه بعد إقراره بيعه، وهو ممن يمكن ثبوته نسبه منه، وأراد المشتري على أن لا يصح من البائع الدعوى لنسبه بعد ذلك، فالحيلة أن يقول البائع: إن هذا ابن عبدي فلان الغائب أو الميت أو فلان الأجنبي الغائب وهذه الحيلة من الحيل الفاسدة المحرمة، فإن الحيل ثلاثة أنواع.

جائزة وغير جائزة، ومختلف في جوازها، وهذه الحيلة يجب أن تكون من الحيل المتفق على تحريمها وأن يحجر على المفتي الذي يفتي بها فإن الكذب محرم في جميع الشرائع، فلا يجوز أن يقول: إن هذا فلان من غير دليل، ولا يجوز الإقدام على الكذب، ولا الإقدام على تعليمه، ولا على تعلمه. وليس هذا مما استثني بل هو من باب فتوى المرأة بأن ترتد لتحرم على زوجها أو بأن تقبل ابن زوجها لذلك كما قد وقع في ذلك من قل فهمه، وينبغي أن يحمل كلام المصنف هنا على أن ذلك لو وقع يصلح مخرجًا من هذا المحذور؛ لا أن يجوز الإقدام عليه، ولكن ظاهر كلامه مشكل مع أن المسألة من أصلها قول الصاحبين فيها أقوى. قوله: (وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل شهادة القابلة على الولادة). عن حذيفة رضي الله عنه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة" أخرجه الدارقطني والبيهقي، وقال الدارقطني: محمد بن عبد الملك لم يسمعه من الأعمش، بينهما رجل مجهول، وهو أبو عبد الرحمن

المدائني. انتهى. ولو قال المصنف: ورد. كان أولى من قوله: صح، فأين الدليل على صحته، وإن كان العمل على قبول شهادة القابلة عند أكثر العلماء لكن النقل أمانة.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار قوله: (وإذا قال له رجل: لي عليك ألف، فقال: أتزنها أو أنتقدها، أو أجلني بها، أو قد قضيتكها - فهو إقرار). هذا إذا قال له على سبيل الجد، أما إذا قال: أتزنها أو أنتقدها على سبيل الاستهزاء أو السخرية فلا يلزمه، ومثل هذا يجري بين الناس كثيرًا والقرائن/ تخلص الجد من غيره، ومثل هذا لا يعد في العر مقرًا، والتعكيس في كلام العرب للاستهزاء والتهكم أمر واسع، وقد جاء في كتاب الله العزيز في مواضع منها: {فبشرهم بعذابٍ أليمٍ} {ذق إنك أنت العزيز الكريم} {إنك لأنت الحليم الرشيد} {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وتفهم هذه المعاني بالقرائن. قوله: (بخلاف ما إذا قال: مائة وثلاثة أثواب؛ لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبهما تفسيرًا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكان كلها ثيابًا).

يعني أنه لو قال: مائة وثوب أو وثوبان يلزمه الثوب أو الثوبان، ويرجع في تفسير المائة إليه، وفي مائة وثلاثة أثواب الكل أثواب وفرّق بينهما بأن المفسر وهو لفظ الأثواب ذكر بعد عددين مبهمين، أحدهما: معطوف على الآخر فيصرف إليهما، وفي المائة والثوب أو الثوبين ذكر المفسر بعد حرف العطف فاحتاج اسم العدد السابق على حرف العطف إلى مفسر. وهذا الفرق فيه نظر فإن لفظ الأثواب مفسر لثلاثة، واحتاج لفظ مائة إلى مفسر في المواضع الثلاثة سواء، فإن عطف لفظ ثلاثة المفسّرة بأثواب كعطف لفظ ثوب أو ثوبين، وإن سلم العرف في الفرق بين مائة وثوب وبين مائة ودرهم لا يسلم في الفرق بين مائة وثوب وثلاثة أثواب، بل إما أن يكون ذكر الثوب والثلاثة الأثواب بعد المائة دالاً على مميز المائة، فلا يحتاج إلى تفسير أو لا يكون دالاً فيحتاج إلى تفسير. قوله: (ولو قال لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لأن الضرب لا يكثر المال، وعن الحسن يلزمه خمسة وعشرون وقد ذكرناه في الطلاق).

وهو قول زفر، رواية الحسن أقوى لأنه إذا قال: أردت الضرب والحساب فقد اعترف بعدد ما يحصل بالضرب والحساب من الدراهم وإن لم يكن الضرب والحساب يكثران المال فهو يكثر العدد، أي له علي هذا العدد من الدراهم، وإذا كان هو قد أراد ذلك وهو معنى شائع بين أرباب الحساب فيلزمه ما اعترف به ولا يمنع من اعتبار العدد كون الضرب لا يكثر المضروب، وإنما يكثر أجزاءه إذا كان المراد العدد، يوضحه أنه إذا أراد الضرب والحساب فقد أراد بالدراهم الجنس من حيث هو، وبالضرب والتكسير عدد الأفراد، ولكن الأفراد هنا دراهم وفي غيره سهام وحمل كلام البالغ العاقل على معنى صحيح مستعمل أولى من إلغائه، بل هذا هو الواجب فإن إلزامه بخمسة فقط إلغاء لقوله في خمسة، فلها معنى صحيح مستعمل وقد أراده فكيف لا يحمل عليه.

باب الاستثناء وما في معناه

باب الاستثناء وما في معناه قوله: (ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء؛ لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنىً لا لفظًا، والاستثناء تصرف في الملفوظ، والفص في الخاتم، والنخلة في البستان، نظير البناء في الدار؛ لأنه يدخل فيه تبعًا لا لفظًا بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها أو إلا بيتًا منها لأنه داخل فيه لفظًا). وقالت الأئمة الثلاثة: يصح استثناء البناء والفص والنخلة من الدار والخاتم والبستان، واختاره الطحاوي وهو أقوى، وإذا كان في آخر الكلام ما يغير أوله، توقف أوله على آخره، وقد ورد الاستثناء المنقطع في كلام الله تعالى وفي الكلام الفصيح، وهو مخرج تقديرًا كقوله تعالى: {لا يذوقون

فيها الموت إلا الموتة الأولى}، وقوله تعالى: {قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}، وقوله تعالى: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وأمثلة ذلك في كلام العرب كثيرة، والبعضية ثابتة بين المستثنى والمستثنى منه، وإن كان مما يسمى منقطعًا إلا أن المستثنى منه لا يتناول المستثنى في الاستثناء المنقطع وضعًا ولكن له حظ من البعضية مجازًا ولذلك قيل له مستثنى فإن لم يتناوله بوجه من الوجوه لم يصح استعماله لعدم الفائدة. فلا يقال: صهلت الخيل إلا البعير، ورغت الإبل إلا الفرس، ولو قيل: صوتت الخيل إلا البعير لجاز؛ لأن التصويت يستحضر بذكره الخيل وغيرها من المصوتات فكان ذلك بمنزلة الداخل فيما قبله، وبسط ذلك في كتب النحو وغيرها.

فإذا كان الاستثناء المتقطع سائغًا مستعملاً، وهو إخراج من حكم دلالة المفهوم، فاستثناء البناء والفص والنخلة من الدار والخاتم والبستان أحق وأولى بالصحة والجواز، وإذا صح استثناء دينار أو قفيز حنطة من مائة درهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف كيف لا يصح استثناء البناء من الدار ونحوه.

باب إقرار المريض

باب إقرار المريض قوله: (لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء وهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث). في تعليله الثاني نظر، وهو قوله: ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث، فإن منعه من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث ليس لتعلق حق الغرماء بماله، فإنه لو ضاقت التركة لم تنفذ الوصية إلا أن يبقى بعد وفاء الدين ما ينفذ من ثلثه، وإنما ينفذ من الثلث فقط لتعلق حق الوارث لا لتعلق حق الغرماء، ولهذا ينفذ من الثلث، وإن لم يكن عليه دين أصلاً. قوله: (وإن أقر لأجنبي جاز وإن أحاط بماله لما بيناه، والقياس أن

لا يجوز إلا في الثلث؛ لأن الشرع قصر تصرفه عليه إلا أنا نقول لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي لأنه الثلث بعد الدين ثم، وثم حتى يأتي على الكل). إنما يحتاج إلى هذا التكلف أن لو كان الإقرار إتلافًا، وليس كذلك، وإنما هو إخبار عن أمر ماضٍ، وحالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتحري الصدق، وهذا المعنى يقتضي أن يكون إقرار المريض للوارث والأجنبي سواء، وأن يكون أولى بالاعتبار من الإقرار في الصحة فيستويان في الصرف كما قاله الشافعي رحمه الله وغيره. إلا أن أبا حنيفة رحمه الله نظر إلى ما يعارضه من التهمة في حق الإقرار للوارث وإلى تعلق حق الغرماء بالمال بمرض الموت في حق الإقرار للأجنبي فقال بإبطال الإقرار للوارث وتقديم الإقرار في الصحة على الإقرار في المرض لذلك، وبذلك علل المصنف في أول الباب. فقال: ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلاً إذا كان فيه إبطال حق الغير وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال -إلى آخره- وليس

فصل

إقراره بالدين من باب التصرف في المال، وإن كان ذلك يثبت من ضرورته لكنه غير مقصود بالقصد الأول، بل الإقرار كاشف عن أمر كان ثابتًا قبله، وقول مالك رحمه الله أظهر الأقوال الثلاثة: وهو أنه إذا لم يتهم يقبل إقراره ذكره عنه الحبري. وقوله: (حتى يأتي على الكل) مشكل لأنه لابد أن يبقى شيء له ثلث. والله أعلم. فصل: قوله: (ومن مات وله ابنان، وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أباه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون؛ لأنه أقر على نفسه وعلى أخيه وعلى الميت فيصح في حق نفسه لولايته عليها ولا يصح عليهما، ولأن هذا إقرار بالدين على الميت لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون، فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا إلى آخره). ذهب الشافعي رحمه الله في أحد قوليه إلى أنه يسقط من الدين قدر حصته مما أقر بقبضه وهو قول أحمد وقياس مذهب

مالك، وبه قال النخعي والحسن والحكم وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور. والدليل الذي ذكره المصنف أولاً دليل لهؤلاء فإنه إذا صح إقراره على نفسه فقط، فهو إنما أقر على نفسه بقدر ما يخصه من القدر الذي ادعى أن مورثه قبضه من دينه لا جميعه. وقوله: إن هذا إقرار بالدين على الميت ... إلى آخره. قد تقدم في أول كتاب الوكالة الكلام في قول الأصحاب، فإن صاحب الدين إذا قبض دينه كان ذلك القدر الذي قبضه دينًا عليه للمديون ودينه الذي على المديون باقٍ لكن لا يطالب أحدهما الآخر لئلا يؤدي إلى الدور فتسقط المطالبة لا الدين، وهذه المسألة مبنية على ذلك الأصل المتزلزل. وقد خالف فيه بعض الأصحاب، وقول المخالف هو الصواب كما تقدم بل عند من يقضي بالشاهد واليمين إذا كان هذا الذي قال: إن مورثه قبض خمسين درهمًا من أهل الشهادة وحلف المديون معه سقطت الخمسون لتكامل بينته بالشاهد واليمين. والحاصل أن مضمون إقراره بقبض أبيه خمسين درهمًا أنه يسقط من نصيب أخي خمسة وعشرون درهمًا، ومن نصيبي خسمة وعشرون درهمًا فيصدق في حق نفسه وكلامه في حق أخيه شهادة لم يكمل نصابها فيلزم

المديون خمسة وسبعون درهمًا، خمسة وعشرون للذي اعترف أن أباه قبض خمسين درهمًا، وخمسون درهمًا لأخيه الساكت ويسقط من الدين خمسة وعشرون درهمًا، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلح

كتاب الصلح قوله: (ولنا ما تلونا، وأول ما روينا، وتأويل آخره: أحل حرامًا لعينه كالخمر أو حرم حلالاً لعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة). يشير إلى قوله تعالى: {والصلح خير}، وإلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا". وفي تأويله نظر، بل يجب إجراء الحديث على ظاهره وحقيقته، ومتى تضمن الصلح تحليل حرام أو تحريم حلال لعينه أو لغيره كان باطلاً، ودفع الخصومة باليمين الصادقة أولى من بذل المال، فيحلف ولا يجمع بين شيئين

أحدهما تضييع المال، وقد نهي عن ذلك. والآخر أن يطعم أخاه المسلم حرامًا، وليس ذلك من نصيحته، وقد حلف عمر رضي الله عنه لأبي رضي الله عنه على نخيل، ثم وهبه له وقال: خفت إن لم أحلف أن تمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فيصير سنة. ذكره في المغني. ولا شك أن بذل المال في مثله رشوة، فإن كانت الخصومة لا تندفع إلا ببذله حرم على الآخذ دون البازل، وإن كانت الخصومة تندفع باليمين حرم على الباذل والآخذ. قوله: (ولو كان له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم يجز لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حط عنه، وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: لأن المعجل خير من المؤجل، فإن هذا الإطلاق ممنوع، بل إنما يكون المعجل خيرًا من المؤجل عند المساواة، وإلا فالعقلاء دائمًا يؤثرون الكثير المؤجل على القليل المعجل، وهذا فيما يغلب فيه السلامة الظاهرة، وكثير من الناس يخاطر مع خوف العطب فلم يكن المعجل مطلقًا خيرًا من

المؤجل مطلقًا. والثاني: قوله: وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام، فإن هذه الدعوى مجردة فأين دليل التحريم، بل قد نقل جواز ذلك عن ابن عباس وغيره، وهو رواية عن أحمد. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أذن في ذلك لما أراد بإجلاء يهود فقالوا: لنا ديون على الناس، فقال: "ضعوا عنهم البعض وليعجلوا لكم". والفرق بين العوض الواجب في الذمة والعوض الساقط من الذمة ظاهر، فصاحب الدين لم يربح شيئًا بل نقص ماله، والمدين لم يربح شيئًا بل سقط عن ذمته، وأيضًا فإذا جازت الزيادة في الثمن المؤجل حتى قالوا: إن الأجل له قسط من الثمن فهذا مثله.

قوله: (وفيه أثر عثمان رضي الله عنه "فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار"). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: إن عثمان رضي الله عنه "فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار"). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: إن عثمان صالح تماضر، وإنما صالحها بقية الورثة. الثاني: قوله: ثمانين ألف دينار، والمذكور في كتب الآثار ثمانين ألفًا مطلقة، والظاهر أنها دراهم، وقد ذكر القصة سعيد بن منصور والبيهقي من جهته وابن عبد البر وغيرهم.

كتاب المضاربة

كتاب المضاربة قوله: (وإذا خالف كان غاصبًا). قول مالك وأحمد رحمهما الله -في أن رب المال بالخيار إن شاء أمضى ذلك التصرف، وإن شاء رده- أقوى؛ لأنه متفضل في هذا التصرف، فإن رأى رب المال المصلحة في إمضائه أمضاه، وإن رأى المصلحة في رده رده، بل لو كان غاصبًا محضًا فالمالك بالخيار في تصرفاته والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، وسيأتي لذلك زيادة بيان في الغصب إن شاء الله تعالى. قوله: (ولا يجاوز بالأجر القدر المشروط -يعني في المضاربة الفاسدة- عند أبي يوسف خلافًا لمحمد كما بينا في الشركة). لم يبين في الشركة شيئًا، وإنما قال في الشركة الفاسدة: فللمعين -يعني في الاحتطاب ونحوه- أجرة مثله بالغًا ما بلغ عند محمد رحمه الله، وعند أبي

يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك وقد عرف في موضعه، وأي بيان في هذا، ومن الأصحاب من رجح قول محمد لجريانه على الأصل الذي قرروه، والصحيح قول أبي يوسف لئلا يلزم أن تربو المضاربة الفاسدة على الصحيحة. قوله: (ويجب الأجر إن لم يربح في رواية الأصل لأن أجر الأجير يجب بتسليم المنافع أو العمل وقد وجد، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجب اعتبارًا بالمضاربة الصحيحة مع أنها فوقها). قول أبي يوسف أقوى، قال السغناقي رحمه الله: فإن قلت ما جواب ظاهر الرواية عن هذا التعليل الصحيح لأبي يوسف -وهو أن العقد الفاسد

يؤخذ حكمه أبدًا من العقد الصحيح من جنسه كما في البيع الفاسد. قلت: جوابه هو أن الفاسد إنما يعتبر بالجائز إذا كان انعقاد الفاسد مثل انعقاد الجائز كالبيع وهنا المضاربة الصحيحة تنعقد شركة لا إجارة، والمضاربة الفاسدة تنعقد إجارة، انتهى. وهذا الجواب مرتب على ما أصله الأصحاب من أن المضاربة إذا فسدت صارت إجارة والكلام في هذا الأصل، واعتبار فاسد المضاربة بصحيحها أولى من جعلها إجارة لأنهما قد تراضيا أن يكون للعامل جزء من الربح إن حصل ربح وبالحرمان إن لم يحصل ولم يرض رب المال أن يكون في ذمته شيء في مقابلة عمل العامل، فإذا أوجبتم في ذمته شيئًا كان إيجابًا بغير دليل، وهدم الأصل الضعيف أولى من إلغاء التعليل الصحيح والله أعلم.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان"). أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والبيهقي وضعفه، وقال: المحفوظ من قول شريح.

كتاب العارية

كتاب العارية قوله: (ومنحتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة، إذا لم يرد به الهبة لأنها لتمليك العين وعند عدم إرادته الهبة يحمل على تمليك المنافع تجوزًا). فيه نظر من وجهين. أحدهما: أنه جعل هذين اللفظين حقيقة لتمليك العين، ومجازًا لتمليك المنفعة، ثم ذكر في كتاب الهبة في بيان ألفاظها وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحملان الهبة، وعلل بأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية، لكنه يحتمل الهبة، وهذا تناقض ظاهر. والثاني: أنهما لما كانا لتمليك العين حقيقة، والحقيقة تراد باللفظ بلا نية عندهم، فعند إرادة الهبة لا يحمل على تمليك المنفعة بل على الهبة، إلا أن يريد العارية، وكأن الشيخ رحمه الله مال إلى أن النية لما فقدت يحمل اللفظ على أدنى الاحتمالين وهو تمليك المنفعة لكنه خلاف قاعدة الأصول.

قوله: (وإن كان وَقَّت العارية، ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرنا، ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد). قال مالك رحمه الله: ليس له الرجوع قبل الوقت، وقوله أظهر وأرجح لأن في إعادة الأرض للزرع ليس له الرجوع حتى يستحصد الزرع وقت أو لم يوقت اتفاقًا، وقالوا: لأن له نهاية معلومة، وفي الترك مراعاة الحقين بخلاف الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعًا للضرر عن المالك؛ هكذا علل صاحب الهداية نفسه. ومقتضى هذا التعليل أن لا يجوز الرجوع قبل الوقت في المؤقتة لأن له نهاية معلومة، ولأن الوقت منصوص عليه هنا وفي الإعارة للزرع الوقت ثابت دلالةً والنص أقوى من الدلالة.

كتاب الهبة

كتاب الهبة قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة"). هذا حديث منكر، لا أصل له والله أعلم. قوله: (ولا تجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة). فيه نظر، وكذا قوله بعد ذلك: ومن وهب شقصًا مشاعًا، فالهبة فاسدة، فإنه قد ذكر غير واحد من الأصحاب أن الشائع محل لحكم الهبة، فإن حكمها الملك والشائع يقبله كما في البيع والإرث، لكن الملك موقوف على القبض الكامل عند الأصحاب. قالوا: وذلك لا يتحقق في الشائع وإذا ظهر أثر الشيوع في حق القبض

دون العقد صح العقد، وتوقف تمامه على القبض، وصاحب الهداية قد قال بعد ذلك: فإن قسمه وسلمه جاز؛ لأن تمامه بالقبض وعنده لا شيوع. وكان الصواب أن يقول: لا يثبت الملك في هبة ما لا يقسم إلا مقسومًا محوزًا؛ لأن هبة المشاع فيما لا يقسم وقعت جائزة في نفسها ولكن توقف إثباتها الملك على الإحراز والتسليم، والله أعلم. قوله: (ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله، والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه، وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئًا لم يلتزمه وهو ضرر القسمة ولهذا امتنع جوازه قبل

القبض كيلا يلزمه التسليم -إلى آخره-). فيه نظر من وجوه: أحدها: في قوله: "إن القبض منصوص عليه في الهبة" فإنه يشير إلى ما رواه أولاً من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" وتقدم أن ذلك الحديث لا أصل له. والثاني: في قوله: "والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه"، فإن ذلك لم يمنع من صحة الهبة فيما لا يقسم، فكذا ينبغي أن لا يمنع صحتها فيما يقسم. والثالث: في قوله: "ولأن في تجويزه إلزامه شيئًا لم يتلزمه وهو ضرر القسمة"، فإن الهبة من الشريك قد قالوا لا تجوز، وليس ثم ضرر قسمة، وكذلك قال أبو حنيفة: إنه لا تجوز هبة واحد من اثنين، وليس فيه ضرر القسمة، فكلا العلتين غير مطردة، فلا يمنع من صحة الهبة، والأئمة الثلاثة على جواز هبة المشاع. ويشهد لذلك من السنة "أن وفد هوازن لما جاءوا يطلبون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرد عليهم ما غنمه منهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان لي ولبني عبد المطلب

فهو لكم" رواه البخاري. وهذا هبة مشاع، وروى عمير بن سلمة الضمري قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتينا الروحاء فرأينا حمار وحش معقورًا فأردنا أخذه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه، فإنه يوشك أن يجيء صاحبه" فجاء رجل من بهز وهو الذي عقره فقال: يا رسول الله شأنكم الحمار، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبابكر أن يقسمه بين الناس" رواه أحمد والنسائي. ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في اشتراط القبض في الهبة شيء، ولو ثبت

اشتراط القبض فقبض كل شيء بحسبه، وما ذكره كله مرتب على اشتراط كمال القبض، وفي اشتراط أصله نظر، فكيف باشتراط كماله. والصحيح جواز هبة المشاع ورهنه وإجارته ووقفه كما يجوز بيعه وقرضه والوصية به، ولا زال الناس على ذلك ولم يرد في رده كتاب ولا سنة ولا إجماع، فإن طلب الموهوب له القسمة وألزم بها الواهب فهو كما إذا ألزم بها البائع وقد باع حصته مما يملكه كله فكما أن ذلك لا يمنع من صحة البيع، وإن كان فيه إلزام بما لم يلتزمه فكذلك لا يمنع من صحة الهبة. قوله: (ولو وهب لشريكه لا يجوز؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع). فيه نظر؛ لأنه إنما علل له بعدم إمكان كمال القبض، وبضرر الإلزام بالقسمة، والهبة من الشريك قد تصور فيها القبض الكامل، وليس فيها قسمة، فما المانع من صحتها والحالة هذه.

باب الرجوع في الهبة

باب الرجوع في الهبة قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها"). أخرجه الدارقطني والبيهقي وهو ضعيف، ولو ثبت لوجب العمل به وبحديث: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يعطي ولده" فإن هذا الحديث أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي، فيكون الواهب

الذي لا يحل له الرجوع من وهب تبرعًا محضًا لا لأجل العوض. والواهب الذي له الرجوع من وهب ليتعوض من هبته ويثاب منها فلم يفعل المتهب، وتستعمل سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلها. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه" وزاد أحمد والبخاري "ليس لنا مثل السواء" والرجوع في القيء حرام، فالرجوع في الهبة حرام. قال ابن التركماني في كلامه على حديث الهداية: وعن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها" رواته

ثقات. وقال الدارقطني: وهم، والصواب: عن عمر قوله، ورواه أيضًا عن حديث أبي هريرة وابن عباس أيضًا وسندهما ضعيف، وله أيضًا عن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها" وفي الخلافيات للبيهقي: لا يقوم بإسناده حجة. انتهى. قوله: (ولأن المقصود بالهبة هو التعويض للعادة، فتثبت ولاية الفسخ عند فواته إذ العقد يقبله). المقاصد بالهبات مختلفة فقد يكون المقصود مكافأة الموهوب على إحسانه، وقد يكون الحامل على الهبة مجرد الهبة، وقد يكون المقصود نسج

المودة أو النفع بالبدن أو بالجاه وتسمى رشوة أو العوض المالي، وليس القصد منحصرًا في التعويض بالمال حتى يقال: إنه إذا لم يثبت الهبة بالمال والتعويض غير مشروط أنه يجوز الرجوع فيها. قوله: (والمراد بما روي نفي استبداد الرجوع). يعني أن الواهب لا يستبد بالرجوع في الهبة، بل لابد من رضى الموهوب له أو القضاء، وفي ذلك نظر/ فإن الرجوع برضى الموهوب له لا كلام فيه، ولا خلاف، ولا إشكال. وأما القضاء فإذا كان الرجوع في الهبة مكروهًا -كما قد ذكره المصنف بعد ذلك، واستدل عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" والحديث متفق عليه -فكيف يسوغ للقاضي الإعانة على مثل هذه المعصية، وكيف تكون إعانته على المعصية التي هي معصية أخرى منتجة للجواز، وإذا كان الرجوع قبل القضاء غير جائز فبعده كذلك؛ لأن قضاء القاضي لا يحلل

الحرام، ولا يحرم الحلال وإنما قضاء القاضي إعانة لصاحب الحق على وصوله إلى حقه، فإذا كان الرجوع في الهبة لا يحل، لا يصير بالقضاء حلالاً، والقاضي غير مشرع. وقد اعترف المصنف بعد ذلك بأن في أصل الرجوع في الهبة وهاء، فيكف يسوغ للقاضي الإقدام على أمرٍ واهٍ ضعيف مكروه، فليحذر الحاكم من مثل هذا، وليعلم أنه موقوف ومسؤول وليعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، ولا يقال: إن اشتراط القضاء ليرتفع الخلاف، لأن القضاء في مسائل الخلاف إما يشترطه المخالف في ثبوت الحكم لا القائل بثبوته. قوله: (وإثباته للوالد لأنه بتملكه للحاجة، وذلك يسمى رجوعًا). فيه نظر فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلق استثناء الوالد، ولم يقيد جواز رجوعه -فيما وهب لولده- بالحاجة، فيجب إجراؤه على إطلاقه، وليحصل الفرق بين أخذه من مال ولده ورجوعه فيما وهبه إياه.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم، لم يرجع فيها"). أخرجه الدارقطني من حديث سمرة رضي الله عنه، وتقدم تضعيف البيهقي له. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع وشرط"). تقدم التنبيه على ضعفه في البيوع. قوله: (ولهما أنه عليه الصلاة والسلام: "أجاز العمرى، ورد الرقبى").

لم يثبت رد الرقبى، ولأبي داود والنسائي وحسنه الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها" فظهرت قوة قول أبي يوسف رحمه الله، وهو مذهب أحمد والثوري. وقال ابن المنذر: روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: "الرقبى والعمرى سواء" انتهى والله أعلم.

كتاب الإجارات

كتاب الإجارات قوله: (والقياس يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة، [وهي معروفة] وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه وقد شهدت بصحتها الآثار). في كون القياس يأبى جوازه نظر، ولم يذكر على ذلك دليلاً إلا أن إضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح، وهذا الذي جعله دليلاً يحتاج إلى دليل، وما سيوجد نوعان: منافع وأعيان، وقياس أحدهما على الآخر فاسد، لوجود الفارق بينهما، فإن المعنى الجامع بينهما وهو كون كل منهما معدومًا يعارضه المعنى الفارق وهو أقوى منه وهو أن هذا معدوم يمكن تأخر بيعه إلى زمن وجوده بخلاف الآخر. وقد أجرى الله العادة بحدوث هذه المنافع فصارت متحققة الوجود فإلحاق المعدوم المتحقق الوجود بالموجود أظهر من إلحاقه بالمعدوم المظنون الوجود، أو ما لوجوده غاية يمكن تأخير العقد إلى أن يوجد، فإن ما

لوجوده حال وجود وعدم، في بيعه حال العدم مخاطره وقمار، وبذلك علل النبي -صلى الله عليه وسلم- المنع حيث قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق". وأما ما ليس له إلا حال واحدة والغالب فيه السلامة، فليس العقد عليه مخاطرةً ولا قمارًا، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه، فإن قيل: فهذا هو الذي أريد بقولهم على خلاف القياس. قيل: إن أريد أن الفرع اختص بوصف أوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد. وإن أريد أن الأصل والفرع استويا في المتقضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل ليس في الشريعة منه مسألة واحدة، والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفًا لاستوائهما باعتبار الجامع وهذا هو القياس الصحيح طردًا وعكسًا وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين. وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقضي الحكم أو يمنعه

فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع بإبطاله كما أبطل قياس الربا على اليع، وقياس الميتة على الذكية، وقياس المسيح عليه السلام على الأصنام، وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به بخلاف الأصنام، ومن سوى بين شيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود، وهذا من أعظم الغلط، بقي أن يقال أن موجب العقد التسليم في الحال. وجوابه: أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما متنفٍ في هذه الدعوى،

فلا الشارع أوجب أن يكون كل بيع يستحق به التسليم عقيب العقد ولا العقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخر إما في الثمن وإما في المثمن. وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير تسليم المبيع كما كان لجابر غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة، واتفق العلماء على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة، بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف، وكذلك من اشترى ثمرة قد بدا صلاحها ليس عليه أن يجمع القطافين في آن واحد ويقطعها جملة واحدة، وإنما يقطعها كما جرت العادة فكذلك المنافع التي جرى عليها عقد الإجارة بتسليمها المستأجر تسلم مثلها عند تجددها. قوله: (إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين وهو المختار).

في اختيار التقدير بثلاث سنين نظر، ولو جعل التقدير فيه مختلفًا بحسب الأشخاص والأحوال لكان أولى وليس على التقدير بثلاث سنين دليل. قوله: (وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه: فذهب فوجد فلانًا ميتًا فرده فلا أجر له وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: له الأجر في الذهاب -إلى آخر الباب-). ذكر صاحب المنظومة قول أبي يوسف مع محمد رحمهما

الله، والقول باستحقاقه جميع الأجرة أظهر كما هو مذهب أحمد وشرطه عليه أن يجيء بالجواب لا يمنع استحقاقه لجميع الأجرة إذا لم يجيء بالجواب لكونه وجده ميتًا لإتيانه بما يقدر عليه وهو قطع المسافة إليه وعدم الإتيان بالجواب لم يكن بتفريط منه، وعوده بالكتاب أولى من تركه في تلك البلدة لاحتمال أن يكون فيه سر لا يريد اطلاع غيره عليه، فهو في إعادته الكتاب محسن لا ينبغي أن ينقص من أجرته بسبب ذلك شيء فإذا استحق أجرة بالذهاب لو ترك الكتاب هناك فاستحقاقه بعوده به أولى لاحتمال وقوع كتابه في يد عدو وفيه ما يخشى عليه بسببه، أو أن إعادته مساوية لتركه لعدم الانتفاع به لغير المرسل إليه. وعلى كل تقدير؛ فالقول بأن هذا المسكين يضيع تعبه وسفره الذي هو قطعة من العذاب بغير شيء من غير تفريط منه في غاية الإشكال، وأشكل من هذا المسألة الثانية: وهي ما إذا استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب به فوجده ميتًا فرده أنه لا أجر له في قولهم جميعًا خلافًا لزفر رحمه الله.

وقول زفر أظهر فإن هذا المحمول قد يكون أوساقًا كثيرة فيحمله المسكين على جماله إلى تلك البلدة ثم يعود به من غير تفريط فيه كيف لا يستحق شيئًا من الأجرة؟ لكن قد نقل عن زفر رحمه الله أنه لو ذهب بالطعام إلى البصرة فوجده حيًا ولم يسلمه إياه وعاد به أنه يستحق الأجرة وهذا مشكل أيضًا فإنه فرط عن قصد فينبغي أن يعاقب بالحرمان بخلاف الأول فإنه لم يفرط.

باب الإجارة الفاسدة

باب الإجارة الفاسدة قوله: (ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها، بل بالعقد لحاجة الناس إليها فيكتفي بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد له تبع). هذا الكلام مرتب على ما تقدم من أن الإجارة على خلاف القياس وتقدم الكلام في ذلك وأنها على وفاق القياس الصحيح ولا فرق في التحقيق بين تقويم الأعيان بالنقدين وبين تقويم المنافع بها ومعرفة ثمن المثل بمنزلة معرفة أجرة المثل، وسواء قيل إن العوض لا يبقى زمانين أو يبقى فإن ذلك لا

يمنع من معرفة مقدارها وضبطه، وجمهور العلماء على أن تقوم المنافع لا يتوقف على العقد وسيأتي لذلك زيادة بيان في الغصب إن شاء الله تعالى. وقد أفتى متأخرو المشايخ بأن منافع الوقف تضمن بالغصب من غير عد لما رأوا من ضعف هذا الأصل وفساد لازمه، وإذا قيل بتقويم منافع الوقف فما الفرق بينهما وبين منافع مال اليتيم إذ الولاية عليهما نظرية؟ بل أي فرق بينهما وبين مال المسلم؟ بل ومال المعاهد فإن ذلك كله معصوم يجب صيانته تغريم المعتدى عليه. قوله: (وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة ونظيره العدة، وقد مر في الطلاق). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: وقد مر في الطلاق. فإنه لم يمر في الطلاق ذكر هذا الاختلاف وهو أن الأشهر كلها عند أبي حنيفة تعتبر بالأيام، وعندهما الباقي بعد الأول والآخر بالأهلة.

والثاني: كون ابتداء الثاني بالأيام ضرورة بعد تكميل الأول بالأيام فإنه إنما يتيم الاستدلال به على أن الأشهر كلها بالأيام ثلاثين ثلاثين أن لو كان تكميل الأول من الثاني بالأيام ضروريًا، وهو إنما قال: متى تم الأول ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وإذا لم يثبت أن تكميل الأول من الثاني بالأيام ضروري لم يثبت أن تكميل الثاني والثالث ضروري وهلم جرًا. ولا حاجة أن يقول بالعدد، بل ينظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر، فإن كان أول ليلة من الشهر الأول كانت النهاية في مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور، وهو أول ليلة بعد انسلاخ الشهور وإن كان في اليوم العاشر من المحرم كانت النهاية في اليوم العاشر من الحرم أو غيره على قدر عدد الشهود المحسوبة وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وعليه عمل الناس إلا من غير عن فطرته بتقليد أو شبهة. ويؤيده اتفاق أهل النقل على أن الأربعة الأشهر المذكورة في قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ}، كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفرًا وربيع الأول وعشرًا من ربيع الآخر. وهذا قول زفر حكاه عنه أبو بكر الرازي في أحكام القرآن ولا يلزم أن

تكون الشهور المحسوبة بالأيام ثلاثين ثلاثين وإن كنا قد أمرنا إذا غم علينا الهلال في شعبان أن نكمل العدة لأن الشهر كما يكون ثلاثين يومًا يكون تسعة وعشرين يومًا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا. وخنس إبهامه في الثالثة" ليبين أن الشهر الشرعي يكون تسعة وعشرين، كما يكون ثلاثين. فمن التزم كونه ثلاثين أو تسعة وعشرين فقد أخطأ، أو ليبين أن عدد الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون، فأما اليوم الزائد فأمر جائز يكون في بعض الشهور دون بعض، وهو -صلى الله عليه وسلم- "لما آلى من نسائه شهرًا دخل على عائشة في اليوم الثلاثين وأخبر أن الشهر تسعة وعشرون". وفي رواية متفق عليها "أن الشهر يكون تسعًا وعشرين" فيحتمل أن

ذلك الشهر الذي آلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أنه أخذ بالرخصة فحسب الشهر تسعة وعشرين؛ لأنه يكون تسعة وعشرين و"ما خير -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا". قوله: (وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"). إنما يعرف هذا من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أحمد وعثمان بن سعيد الدارمي وابن بطة.

قال ابن عبد الهادي في الكلام على أحاديث المختصر: وقد أخطأ بعضهم فرفعه ثم قال: وقد روي مرفوعًا من حديث أنس لكن إسناده ساقط. قوله: (وفي آخر ما عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي "وإن اتخذت مؤذنًا فلا يأخذ على الأذان أجرًا"). ليس لفظ الحديث هكذا، وإنما لفظه: عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "إن آخر ما عهد إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". أخرجه/ أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

وقال: حديث حسن. قوله: (وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن، وعليه الفتوى). في التعليل نظر فإن مقتضاه جواز دفع الأجرة لا جواز قبضها لأنه يكون بمنزلة الرشوة من صاحب الحق فإنه يجوز له الدفع إذا لم يمكنه الوصول إلى حقه إلا بذلك ويحرم على الآخذ ولا يصح أن يقال: إنه لما ظهر التواني في الأمور الدينية قلنا بجواز دفع الأجرة وجواز أخذها بعد أن لم يكن ذلك جائزًا فإن لازم هذا جواز تغيير المشروع لما يظن بالرأي أنه مصلحة وهذا فاسد ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ولكن قد اختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن: قال ابن المنذر: ثبت "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوج رجلاً امرأة بما معه من القرآن"، واختلف أهل العلم في أجور المعلمين وكسبهم فرخص فيه قوم

وكرهه آخرون، فمن رخص فيه عطاء وأبو قلابة ومالك والشافعي وأبو ثور. وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط، وكرهت الشرط، وممن كره الشرط الحسن وابن سيرين والشعبي، وكرهت طائفة تعليم القرآن بالأجرة؛ كره ذلك الزهري وإسحاق والنعمان، وقال النعمان: لا يحل ولا يصلح. وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت، قال أبو بكر: القول الأول أصح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أجاز أن يأخذ الرجل على تعليم القرآن عوضًا في باب النكاح، ويقوم مقام المهر، جاز أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن الأجر. انتهى. وعن أحمد في المسألة روايتان، وقد تأولت كل من الطائفتين ما

استدلت به الطائفة الأخرى من السنة فيحصل من مجموع ذلك أن الأولى ترك الأجرة والتورع عنها توفيرًا للأجر الأخروي، وصونًا له عن النقص أو الإبطال والاكتساب بغير التعليم كالعامل في مال اليتيم، فإنه إذا لم يكن محتاجًا كان في تعففه -عن أخذ أجرة عمله من مال اليتيم- توفير أجره، وإذا كان محتاجًا كان أخذه للأجر أولى من أخذه من الصدقات ونحوها. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: {ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} والخلاف في ذلك معروف، وكما في كسب الحجام فإنه وإن كان قد سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- خبيثًا، فقد احتجم وأعطى الحجام أجره. قال ابن عباس: ولو كان سحتًا لم يعطه، فتبين أنه لم يرد بتسميته خبيثًا تحريمه كما لم يرد بتسمية الثوم والبصل الشجرتين الخبيثتين تحريمهما ولكن

خبثهما باعتبار رائحتهما. وكذلك كسب الحجام لأنه عوض عن معالجة الدم ونحوه من النجاسات فكذلك كسب تعليم القرآن ردئ باعتبار كونه منع عن تحصيل أجر كثير بتعليم القرآن على جهة التبرع بمنزلة من اشتغل بالمباحات عن الطاعات ولو اشتغل العبد بالمفضول عن الفاضل لكان مضيعًا ناقصًا فكيف إذا اشتغل بالمباح عن الطاعة. وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة في المسألة، قال أحمد: أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان، وأصول الشريعة مبنية على هذا الأصل أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره، وأصل ذلك في ولي اليتيم. قال تعالى: {ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف}، وقد جعل الله تعالى للعاملين على الصدقات نصيبًا منها، وإن كان العمل على الصدقة عبادة، ولكن ينبغي لمن يعلم القرآن بالأجرة أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، ويقصد بأخذ الأجرة التقوي على التعليم فيكون أخذ الأجرة وسيلة، والتعليم مقصودًا أصليًا، ولا يجعل التعليم وسيلة

إلى تحصيل الأجرة. وكذلك الفقيه ينبغي له أن يأخذ المعلوم ليشتغل بالعلم، ولا يشتغل بالعلم لأجل المعلوم، وكذلك المدرس والإمام والمؤذن والقاضي والشاهد ونحوهم. وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" وهذا كما قال الأصحاب في الحاج عن الغير أنه يرد ما يفضل من النفقة بعد كلفة الحج إلى الآمر لا إلى ورثته؛ لأن المال المدفوع إليه وسيلة إلى تحصيل الحج الذي هو المقصود وقد حصل، وهو قول في غاية القوة لأن المراد من الجانبين بذل المال لتحصيل الحج، لا فعل الحج لتحصيل المال. أما من جانب المحجوج عنه فظاهر، وكذلك يجب أن يكون من جانب الحاج إنفاق المال في تحصيل عبادة الحج كما لو حج عن نفسه، وإلا فإذا حج ليأخذ المال كان المال عوضًا عن عبادة الحج فخلا عن الثواب لأن الأعمال بالنيات فماذا يحصل من الثواب للآمر والمأمور، وكم قد ضعينا من عبادة الإشتغال والإشغال بالعلم لخلوها عن النية الصالحة وبالله التوفيق.

إجارة المشاع

قوله: (ولا يجوز إجادة المشاع عند أبي حنيفة رحمه الله -إلى آخر المسألة-). قولهما أظهر، ولا زال عمل الناس على ذلك وأكثر العلماء على جوازه وتسليم كل شيء بحسبه ولم يرد ما يرد جوازها من كتاب ولا سنة. قوله: (ثم قيل: إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به واللبن مستحق عليهما على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب، وقيل: إن العقد يقع على اللبن، والخدمة تابعة، ولهذا لو

أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجرة، والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودًا كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها). في جعله الأول أقرب إلى الفقه نظر، بل الثاني أقرب منه وأحق فإن الأعيان التي تحدث شيئًا فشيئًا مع بقاء أصلها بمنزلة المنافع فتجوز إجارتها كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والعرية لمن يأكل ثمرة الشجرة ثم يردها، والمنحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها. وإجارة الظئر ثابتة بنص القرآن الموافق للقياس الصحيح فيجب أن يكون أصلاً يقاس عليها إجارة الشجر لثمرها، وإجارة البقرة للبنها، والشاة ونحوها، لا أن تجعل إجارة البقرة لشرب لبنها باطلة ويقاس عليها إجارة الظئر كما ذكره المصنف. وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدةً للبنه، ثم من أصحابه من جوز ذلك مطلقًا تبعًا لنصه، ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه: ضمن حديقة أسد بن حضير ثلاث

سنين وهذا بمشهد من الصحابة، ولم يرد أن أحدًا منهم أنكره عليه، وجوز ذلك بعض أصحاب أحمد رحمه الله، وهو اختيار تقي الدين السبكي.

وجوز مالك ذلك تبعًا للأرض في قدر الثلث، والذين منعوا ذلك توصلوا إلى جوازه بالحيلة الفاسدة فإنهم يؤجرونه للأرض وليست مقصودة، ويساقونه على الشجر بجزء من ألف جزء مثلاً مساقاة غير مقصودة فيجعلون غير المقصود مقصودًا، ويجعلون المقصود غير مقصود فحابوا في المساقاة أعظم محاباة وذلك غير جائز اتفاقًا في بستان اليتيم والوقف، وإن كانوا قد حصلوا ربحًا من جهة الأرض فلا تجوز لهم تلك المحاباة لأجل هذا الرحب بل يقدح ذلك في نظره ووصيته وهو نظير أن يبيع له سلعة يربح ثم يشتري له سلعة بخسارة يوازن ذلك الربح. وأيضًا فإن كل واحد من العقدين سفه، فإن استئجار أرض تساوي مائة بألف من أفعال السفهاء المستحقين للحجر، وكذلك المساقاة على الشجر بجزء

من ألف لصاحبها هو من أفعال السفهاء التي يستحق فاعلها الحجر عليه، فإن قيل محاباة هذا العقد لما يحصل من محاباة العقد الآخر. قيل: إن كان هذا مستحقًا لزم أن يكون أحد العقدين شرطًا في الآخر، وقد ورد النهي عن صفقتين في صفقة، وإن لم يكن مستحقًا كان هذا يشبه القمار، ولهذا لو فاتت الثمرة وطولب المستأجر بجميع الأجرة لاستغاث وتحيل على إبطال العقد بكل طريق فأين هذا من فعل أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-. والفرق بين بيع الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو صلاحها وبين ضمان الشجر، هو الفرق بين الحب حتى يشتد وبين إجارة الأرض للمزارعة، فإن المستأجر مقصوده الحب بعمله يحرث الأرض ويسقيها، ويقوم عليها، وكذلك مستأجر الشجرة يقوم عليها ويسقيها، والحب نظير الثمر، والشجر نظير الأرض، والعمل نظير العمل، بخلاف المشتري فإنه يشتري ثمرًا وعلى البائع مؤنة الخدمة والسقي والقيام على الشجر فهو نظير من يشتري الحب وعلى البائع مؤنة الزرع والقيام عليه، ولا شك أن المقصود من الظئر إنما هو اللبن. وأما الحمل والخدمة فتبع، وإذا قيل: إن الخدمة هي الأصل كان في ذلك قلب الموضوع، ونظير ذلك ما قيل في دخول الحمام، إن الأجرة في مقابلة العقود في الحمام، وأن استعمال الماء الحار فيه تبع، وهذا قلب الموضوع أيضًا، بل الحق أن استئجار الظئر إنما هو إرضاع الولد بلبنها على جاري العادة في

ذلك، وأن حمله وإلقامه الثدي ونحو ذلك تبع غير مقصود بالقصد الأول، ومن كابر في ذلك كان بمنزلة المكابر في الحسيات. وكذلك دخول الحمام إنما المقصود فيه بالقصد الأول استعمال مائه، وكذلك من استأجر بستانًا وساقى على شجره بجزء يسير من الخارج منه إنما المقصود بعقد الإجارة الثمر، وعقد المساقاة غير مقصود ولهذا إنما يطالب فيه بالأجرة لا بالجزء المسمى في المساقاة. قوله: (ومن دفع إلى حائك غزلاً لينسجه بالنصف فله أجر مثله، وكذا إذا استأجر حمارًا يحمل طعامًا بقفيز منه، والإجارة فاسدة لأنه جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان وقد نهى عنه عليه الصلاة والسلام، وهو أن يستأجر ثورًا ليطحن له كذا كذا حنطة بقفيز من دقيقه، وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات -إلى آخر المسألة-). نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قفيز الطحان أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه: "نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان". وهو ضعيف.

قال ابن قدامة في المغني: وهذا الحديث لا نعرفه ولا تثبت عندنا صحته، وقال شمس الدين ابن القيم: إن هذا الحديث لا يثبت بوجه. انتهى، مع أن قوله: نهي مبينًا لما لم يسم فاعله فلا يلزم أن يكون الناهي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأي فرق بين أن يستأجره ليطحن له حنطة بقفيز من طحينها أو قفيز من طحين غيرها، بل هذا فرق صوري لا تأثير له ولا يتعلق بذلك مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا غرر ولا منازعة ولا ضرر، وأي غرر أو مفسدة في أن يدفع إليه غزله لينسجه ثوبًا بذراع منه، أو زيتونة ليعصره زيتًا بجزء معلوم منه وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين فقد لا يكون معه أجرة سوى ذلك الغزل أو الحب ويكون الآجر محتاجًا إليه وقد تراضيا بذلك فجوازه على وفاق القياس، وحاجة الناس، وهو قول عطاء والزهري وأيوب ويعلى بن حكيم وقتادة وأحمد وإسحاق. واحتج أحمد بحديث جابر "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر على الشطر".

ولم يثبت عن الشارع ما يمنع منه، ولا يترتب عليه شيء من الفساد بل هو مصلحة محضة، ولم يقم المصنف دليلاً على ما ادعاه من الفساد سوى أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر، وهو بعض المنسوخ أو المحمول وحصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرًا بفعل غيره وهذا لا يقوى فإن المزارع يأخذ جزءًا من الخارج والمضارب جزءًا من الربح. والمعنى المذكور موجود في كل منهما، بل هذا أولى بالجواز من المزارعة والمضاربة فإن الذي وجد منه الجزء هنا محقق الوجود وهناك معدوم على خطر الوجود، ولم يكن هذا المعنى مانعًا من جواز المزارعة والمضاربة فهنا أحق وأولى أن لا يمنع. وأيضًا فإنه في معنى ما يأخذه العامل على الصدقة فإنه إذا أحضر الزكوات من أرباب المواشي أخذ جزءًا منها، وحكى السغناقي في شرحه عن جماعة من المشايخ أنهم كانوا يفتون بجواز هذه الإجارة في الثياب ويخصصون النص بالتعامل.

وقال أيضًا: إن الحيلة في ذلك لمن أراد الجواز أن يشترط صاحب الحنطة قفيزًا من الدقيق الجيد، ولا يقول من هذه الحنطة ثم يعطيه من هذه الحنطة إن شاء وهذا مما يبين ضعف القياس هنا مضافًا إلى ضعف النص، ويدل على ضعف النص المذكور أيضًا مكيال لأهل العراق يشهد لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم" شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه، أخرجه مسلم، ولا يتعامل أهل الحجاز بالقفزان فيبعد رفع مثل هذا اللفظ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قوله: (وهذا بخلاف ما إذا استأجره بحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب الأجر؛ لأن الأجير ملك الأجر في الحال بالتعجيل فصار مشتركًا بينهما).

في قوله: حيث لا يجب الأجر، نظر؛ لأن الأجر قد وجب، وقد قبض وهو نصف الطعام فكيف يقال: لا يجب الأجر بحمل نصفه الآخر، وقد جعل نصفه أجرة لحمل نصفه الآخر، والقول بأن النصف الباقي للمستأجر لا يجب بحمله أجرة -مع أن النصف الآخر أجرة حمله- قول عجيب وهو يشبه قول ابن سريج في مسألة الطلاق السريجية. قوله: (ومن استأجر رجلاً لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه). في قوله: (لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه) نظر، فإن هذا ممنوع؛ لأن صورة المسألة أن الطعام مشترك بينهما، فكيف يقال: إن كل جزء

منه يكون الشريك الحامل له عاملاً لنفسه وإن كان مراده أنه ما من جزء إلا وهو مشترك فيكون بهذا الاعتبار عاملاً لنفسه، يعكس عليه. ويقال: إنه إذا كان ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملاً لشريكه ولكن الحق أن الجزء الذي لشريكه ليس هو عاملاً لنفسه فيه بل لشريكه فهو في الحقيقة عامل لنفسه، وعامل لشريكه فأخذه الأجرة في مقابلة عمله لشريكه. ولو قال: ما من قفيز أو ما من حبة أو نحو ذلك لكان أقرب من قوله: ما من جزء؛ لأن الجزء ينطلق على الشائع، والتعميم فيه ممنوع، وقد ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك مسألة استئجار أحد الشريكين الآخر لحمل طعام مشترك بينهما، وذكر فيه خلاف الشافعي رحمه الله. وزاد هناك في تعليل المسألة أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع، وهذا أيضًا ممنوع، بل لعمله وجود، وإلا يلزم أن الحصة التي لشريكه لا وجود لها لكونها شائعة، ولو كان ذلك صحيحًا لكانت حصته أيضًا لا وجود لها لكونها شائعة وهذا من نوع السفسطة، وإنكار الحقائق وأي فرق بين ما إذا استأجر أجنبيًا لحمل طعام مشترك بينهما، وبين ما إذا استأجر أحدهما الآخر لحمل نصيبه. فالحامل لطعام مشترك بينه وبين آخر حامل لملكه وملك غيره، فلا يمنع حمله لنصيبه من استحقاقه الأجرة في مقابلة حمله لنصيب شريكه كما لو كان

مقسومًا في وعاءين وحملها ولا فرق بينهما إلا من حيث الصورة، وذلك غير موثر، والعبرة للمعاني، والفرق إذا لم يكن مؤثرًا من حيث المعنى فهو ساقط.

باب ضمان الأجير

باب ضمان الأجير قوله: (لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه "أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك"). ذكر ذلك عنهما البيهقي [وغيره] وضعفوه.

باب الاختلاف في الإجارة

باب الاختلاف في الإجارة قوله: (وإن قال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بأجر، فالقول قول صاحب الثوب عند أبي حنيفة رحمه الله -ثم قال-: وقال محمد رحمه الله: إن كان الصانع معروفًا بهذه الصنعة بالأجر فالقول قوله). قول محمد فيه أظهر؛ لأن العرف حاكم، وفتحه الحانوت لأجل ذلك العمل من أقوى البينات على صدقه، والبينة في الشرع أعم من الشاهدين، وجواب المصنف عن ذلك بقوله: إن الظاهر للدفع والحاجة إلى الاستحقاق. جوابه أن صاحب الثوب مصدق على العمل مدعٍ عليه التبرع به، فصار الصانع منكرًا من وجه لتصديق صاحب الثوب له على سبب الاستحقاق وهو العمل، ولا يقال: إن العمل لا يكون سببًا للاستحقاق إلا بالعقد؛ لأن هذا شرط لا دليل على صحته من كتاب ولا سنة ولا إجماع. وعلى هذا أجرة الدلال وهي من المسائل الواقعات، فإن الدلالين في

الأسواق جرت العادة بين أهل الأسواق أن الدلال يأخذ المتاع من صاحبه وينادي عليه بيع من يزيد فإذا انتهت الرغبات إلى درهم معين باع وأخذ الأجرة من غير شرط متقدم اكتفاءً بالعادة. ولو قال صاحب المتاع: إنما بعته لي بغير أجر لعد من الظالمين، وكذلك دخول الحمام ودفع الثوب إلى القصار والغسال واللحم إلى الطباخ ونظائره، كل ذلك من غير شرط متقدم اكتفاءً بالعادة وعلى ذلك عمل الناس قديمًا وحديثًا. وكذلك البيع بما ينقطع به السعر ومذهب أحمد جوازه للتعامل به من غير نكير، فإن الرجل يعامل اللحام والخباز والبقال وغيرهم ويأخذ كل يوم ما يحتاج إليه من أحدهم من غير تقدير ثمن بل بثمن المثل الذي ينقطع به السعر،

وكذلك جرايات الفقهاء وغيرها وحاجة الناس إلى هذه المسألة تجري مجرى الضرورة، وما كان هكذا لا يأتي الشرع بالمنع منه. وقد جاء الشرع بجوازه في عقد الإجارة قال تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} من غير اشتراط عقد، والبيع أولى من الإجارة للاختلاف في تقوم المنفعة من غير عقد دون العين.

باب فسخ الإجارة

باب فسخ الإجارة قوله: (ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها فصار العذ في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع). القول بفسخ الإجارة بالأعذار وبموت أحد المتعاقدين -من غير نص ولا إجماع ولا قول صحابي بل بمجرد الاعتبار بالفسخ بالعيب أو لأن المنافع معدومة -فيه نظر؛ فإنه عقد لازم، ولا زالت الأعذار تحدث في عقود الإجارة وقد يموت أحد المتعاقدين قبل انقضاء المدة، ولم ينقل عن الصحابة الفسخ بذلك. ولو كانت الإجارة تقبل الفسخ بذلك لنقل لتوفر الهمم على نقل مثله لاحتياج الناس إليه فقد نقل عنهم ما هو دون ذلك، وإذا لم يكن العذر سببًا للفسخ في بيع الأعيان لا يكون سببًا للفسخ في بيع المنافع، وجمهور العلماء على القول بعدم الفسخ للعذر، وإن كانوا قد اعتبروا العذر الكامل فيما لو اكترى من يقلع ضرسه فبرأ أو انقلع قبل قلعه أو اكترى كحالاً ليكحل عينه فبرأت أو ذهبت فلا يقاس عليه ما هو دونه. فإن من استأجر حانوتًا ليتجر فيه فافتقر يمكنه أن يؤجر ما هو جارٍ في عقد

مسائل منثورة

إيجاره لمن يتجر فيه، وكذلك لو مات يقوم وارثه مقامه لأنه مات، ومنافع هذا المأجور ملك له فانتقلت إلى وراثه ولو مات المؤجر فكذلك كما لو زوج أمته ثم مات فكما أن نكاح الأمة باقٍ بعد موته فكذلك ما أجره ثم مات إلا أن يكون ما أجره وقفًا عليه ثم انتقل بعد موته إلى غيره فإن المنافع تنتقل إلى من بعده من جهة الواقف لا من جته فيتبين أنه تصرف في ملكه وملك غيره، فصح في ملكه دون ملك غيره بخلاف الملك لأن الوارث يملكه من جهته. مسائل منثورة: قوله: (وإن استأجر بعيرًا ليحمل عليه مقدارًا من الزاد فأكل منه في الطريق جاز له أن يرد عوض ما أكل -إلى آخره-). فيه نظر، فإن تسميته زادًا دليل على أن المراد أكله في الطريق وأن يفرغ آخره عند الاستغناء عنه بالوصول إلى مقصده أو العود إلى وطنه ولا يحتاج في ذلك إلى جواب بغير العرف، فإنه يجب تحكميه عند التنازع والإطلاق، وقل أن يختلف العرف في ذلك.

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب قوله: (وقال زفر: لا يعتق إلا بأداء قيمة الخمر لأن البدل هو القيمة، وعن أبي يوسف أنه يعتق بأداء الخمر لأنه بدل صورة ويعتق بأداء القيمة أيضًا لأنه هو البدل معنى). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: وقال زفر: لا يعتق إلا بأداء قيمة الخمر، فإنه مشكل وإنما يعتق عنده بأداء قيمة نفسه لا قيمة الخمر، وقد وقع في بعض النسخ: القيمة محلاة بالألف واللام بدون إضافة، وفيه إجمال.

وفي المجمع: ويحكم به لأداء عينها أو قيمتها، وهو وهم وإنما يعتق بأداء قيمة نفسه لا قيمة الخمر. الثاني: قوله: وعن أبي يوسف أنه يعتق بأداء الخمر ويعتق بأداء القيمة، وهذا الحكم الذي ذكره هو ظاهر الرواية عند أبي حنيفة وصاحبيه على ما ذكره في المبسوط والذخيرة فعلى هذا [كان] من حقه أن لا يخص أبا يوسف وأن لا يذكر بكلمة عن.

قوله: (بخلاف التدبير لأنه يقبل الفسخ، وبخلاف بيع المكاتب لأن في تجويزه إبطال الكتابة إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبًا). تقدم الكلام في بيع المدبر في باب التدبير وبيع المكاتب في باب الفاسد، وفي تعليله نفي جواز بيع المكاتب بأن المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبًا دلالة على ضعف القول بنفي جوازه؛ لأن الكلام فيما إذا علم المشتري أنه مكاتب واشتراه كذلك. أما إذا لم يعلم المشتري بالكتابة ثم علم بها فله فسخ البيع بمنزلة اطلاعه على العيب، ولا يقال: لا يجوز بيع الأمة المزوجة أو المعيبة لأن المشتري لا يرضى بها كذلك، ومثل هذا التعليل لا يرضي. قوله: (فإن مات المكاتب وله ولد من حرة وترك دينًا وفاءً بمكاتبته، فجنى الولد فقضى به على عاقلة الأم -إلى آخره-). فيه نظر من وجهين: فإن قوله: (وترك دينًا)، ليس بقيد، فلو قال: وترك وفاءً لكان أولى.

وقوله: (وله ولد من حرة)، يحتاج إلى تقييد بأن تكون معتقة فإنها لو كانت حرة الأصل لم يكن لموالي أبيه عليه ولاء بل عاقلته عاقلة أمه. قوله: (فإن أعتقه أحد الورثة لم ينف عتقه لأنه لم يملكه وهذا لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذا بسبب الورثة). تقدم الكلام في جواز انتقال المكاتب من ملك إلى ملك، وانتقاله إلى ملك الوارث أظهر لأن الوراثة خلافة، فتقوم مقام المورث، وإذ قد تقرر أن المكاتب يقبل الانتقال بالبيع ونحوه كما تقدم في البيع الفاسد، فانتقاله إلى الوارث ونفوذ إعتقاه أولى وأحرى ولهذا نفذ إعتاقهم ولو كان إعتاقهم بمنزلة إبرائهم ولم يكن إعتاقًا لكان الإعتاق حاصلاً إما بعقد الكتابة أو بموت السيد، وكلاهما ممنوع فإنه لو عجز لرد للرق. فدل على أن الرق قائم فيه وأن العتق إنما حصل بإعتاقهم وإذا ثبت أن العتق حصل بإعتاقهم فالولاء لهم؛ لأن الولاء لمن أعتق بنص الحديث. بل لو قيل: إن المكاتب إذا أدى بقية كتابته إلى ورثة مولاه وعتق أنه يكون ولاؤه لهم كما هو قول طاووس والزهري وإحدى الروايتين عن أحمد لكان

أظهر؛ لأن مولاه مات عنه وهو عبد فورثه ورثته كذلك. ولو عجز لرد إلى رقهم فيكون عتقه على ملكهم وولاؤه لهم للرجال منهم وللنساء كما لو كانوا هم الذين كاتبوه، ولو كان المنتقل إليهم إنما هو بدل الكتابة وحده لكان حرًا مديونًا وليس الأمر كذلك، وإنما هو باقٍ على كتابته يؤدي على نجومه إلى الورثة، وقد قام الدليل على جواز نقله من ملك إلى ملك كما تقدم فالقول بأ، ولاءه للورثة والحالة هذه أظهر.

كتاب الولاء

كتاب الولاء قوله: (فقال عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم منهم، وحليفهم منهم"). الثابت: "مولى القوم منهم"، وأما قوله: "وحليفهم منهم" فلا يعرف في كتب الحديث هذه الزيادة. قوله: (وإذا تزوج عبد رجل أمةً لآخر، فأعتق مولى الأمة الأمة وهي حامل من العبد عتقت وعتق الحمل، وولاء الحمل لمولى الأم لا ينتقل عنه أبدًا -ثم قال: وكذا إذا ولدت ولدًا لأقل من ستة أشهر ... إلى آخره). صوابه أن يقول: هذا إذا ولدت من ستة أشهر -إلى آخره- فتأمله.

قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب ولا يورث"). قال في المغني: رواه الخلال، وقال صاحب الإلمام: رواه ابن حبان في صحيحه، وذكره البيهقي عن الحسن مرسلاً، قال: وروي موصولاً من أوجه عن ابن عمر وليس بصحيح، وروي عن عمر وعلي من قولهما انتهى.

ولكن لفظه: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وليس فيه: "ولا يورث". قوله: (وليس للنساء من الولاء إلا ما إعتقن أو أعتق من أعتقن، أو كاتبن أو كاتب من كاتبن، بهذا اللفظ ورد الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي آخره: "أو جر ولاء معتقهن"). هذا الحديث منكر لا أصل له، وجعله البيهقي قول عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

كتاب الإكراه

كتاب الإكراه قوله: (لأن خبيبًا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب، وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سيد الشهداء"، وقال في مثله: "هو رفيقي في الجنة"). ذكر سرية عاصم وقتل خبيب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود أيضًا، ولكن لم يكره على الرده، وإنما قتل بالحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد قتله يوم بدر فاشتراه بنوه فقتلوه به، وليس فيه "وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد الشهداء"، وإنما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك لحمزة عمه رضي الله عنه، ذكره أبو عمر، ولا أدري في حق من

قال: "هو رفيقي في الجنة". وقال الأصحاب في كتب الفقه أنه قال ذلك في حق خبيب. وقال السغناقي: إن المثل المذكور في الكتاب بقوله: وقال في مثله. صلة أو عبارة عن الذات. انتهى، وليس ذلك في كتب الحديث، ولكن لا شك أنه رفيقه في الجنة هو وجميع الصحابة رضي الله عنهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

كتاب الحجر

كتاب الحجر قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه"). تقدم التنبيه على ضعف هذا الحديث في كتاب الطلاق. قوله: (ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يملك العبد والمكاتب شيئًا إلا

الطلاق"). هذا الحديث منكر لا أصل له. قوله: (ولأبي حنيفة أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارًا بالرشيد ... إلى أخره). في اعتباره بالرشيد نظر، وقد فرق الله تعالى بينهما، ومنع من دفع المال إلى البالغ العاقل إذا بلغ غير رشيد فكذلك إذا ظهر السفه عليه بعد الرشد فاعتبار السفه الطارئ بعد الرشد بالسفه المستمر بعد البلوغ أولى من اعتباره بالرشد. وحكى صاحب المغني وغيره أن ذلك إجماع الصحابة، فظهرت قوة قول الصاحبين، وهو قول الأئمة الثلاثة وغيرهم.

وكذلك قولهما في استمرار الحجر أبدًا على السفيه حتى يؤنس منه الرشد أقوى من قول أبي حنيفة رحمه الله أنه يسلم إليه ماله إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأن سبب الحجر وهو السفه قائم يجب اعتباره. والتقدير بالرأي لا يقوى، كيف وإنه في مقابلة إجماع الصحابة، كيف وإنهم يقولون: إن المقادير لا تعرف إلا بالسماع، وقد أمر الله بحفظ الأموال ونهى عن إضاعتها وأنزل آية الدين لذلك، وهي أطول آية في القرآن. وقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفًا} وهذه الآية تشمل كل سفيه. قوله: (ويترك عليه دست من ثياب بدنه ويباع الباقي لأن به كفاية، وقيل: دستان لأنه إذا غسل ثيابه لابد له من ملبس). ينبغي أن يختلف الجواب في ذلك باختلاف أحوال الناس، وقد قال

النبي -صلى الله عليه وسلم- "لما قيل له: أتجزئ صلاة أحدنا في الثوب الواحد؟ أو كلكم له ثوبان؟ " فيترك عليه المديون ما يحتاج إليه أمثاله عادة وإلى مثل هذا وقعت إشارة الأصحاب في الفتاوى. قوله: (ومن أفلس وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة الغرماء فيه). قال أبو بكر بن المنذر: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل أفلس فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره" وبما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقول، وقد روينا عن عثمان وعلي وغيرهما هذا القول، ولا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالف عثمان وعليًا. وبه قال عروة بن الزبير ومالك والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن

والشافعي وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: هو أسوة الغرماء، روينا هذا القول عن الحسن البصري والنخعي، وبه قال النعمان وابن شبرمة، قال أبو بكر: والسنة مستغنى بها عن كل قول، وقد بلغني أن بعض من خالف السنة تأول قوله: فوجد/ رجل متاعه بعينه، أي أمانة أو وديعة ففي حديث أبي هريرة ما يبطل هذه الدعوى، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء» انتهى. والحديث الأول ذكره ابن المنذر رواه الجماعة، والثاني الذي فيه أنه

لصاحبه الذي باعه رواه أحمد ومسلم والنسائي ومالك في الموطأ وأبو داود بألفاظ مختلفة وكفى بالسنة مستغني بها عن كل تعليل، وقد ذكر بعض الأصحاب أنه ورد في رواية «فهو أسوة غرمائه» وهذا لم يرد مرفوعًا. وإنما ورد عن علي رضي الله عنه من طريق ضعيف لم يثبت ولا يصلح لمعارضة الحديث الصحيح المتفق على صحته.

قوله: (وإنما المستحق وصف في الذمة- أعني الدين- وبقبض العين بتحقق بينهما مبادلة، هذا هو الحقيقة فيجب اعتبارها إلا في موضع التعذر كالسلم لأن الاستبدال ممتنع فأعطى للعين حكم الدين). تقدم في باب الوكالة بالخصومة ما في هذا المعنى من الأشكال وأن من استوفى دينه فقد استوفى عين حقه لا أن هذا بدل حقه، وأن ذمة المديون اشتغلت بوصف لا يمكن تفريغها منه إلا بالإبراء بل قد أدى ما عليه كما إذا دفع زكاة ماله إلى الفقير فقد دفع ما عليه فإن الذي عليه فإن الذي عليه أن يدفع من ماله هذا المقدار وقد فعل. وكذلك المديون وكأن الشبهة حصلت والله أعلم من أن هذا الذي دفعه المديون هو بدل ما أخذوه من رب الدين مبيعًا كان أو قرضًا أو غير ذلك فحقه هو هذا البدل لا أن هذا بدل ذلك البدل، وإلا لزم أن يكون هذا الذي دفعه المديون بدل البدل فاشتبه بدل مال رب الدين ببدل حق رب الدين الذي هو بدل ماله والله أعلم. ومن طرح الهوى تبين له أن ذمة المديون لم تشتغل بغير ما أداه وإن خالف ذلك فهو تدقيق بغير تحقيق، وليس كل معنى دقيق حقًا، ولا عبرة للباطن لبطونه ولا للظاهر لظهوره، وإنما العبرة لقوة الدليل والله أعلم. * * *

كتاب المأذون

كتاب المأذون قوله: (وكذا بالغبن الفاحش عند أبي حنيفه رحمه الله خلافًا لهما). تقدم في كتاب الوكالة ما في ذلك من الإشكال وأن المعروف كالمشروط والعبد وإن كان يتصرف بأهلية نفسه لكنه يتصرف في ملك سيده لأنه وما يملكه لمولاه. قوله: (ولو حابى في مرض موته يعتبر من جميع المال إذا لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين فمن جميع ما بقى لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد). هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله، وتقدم أن قول أبي يوسف ومحمد أظهر.

وهنا إشكال آخر وهو أن المحاباة في مرض الموت قد منع منها لتعلق حق الوارث فلأن يمنع المأذون منها- لأن حقيقة الملك- أولى، وكون العبد لا وارث له- لأن ما في يده لمولاه فلا يرث المولى مال نفسه- مما يوجب المنع من المحاباة لا جوازها وإنما التزم هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المأذون لا فرق بين حال مرضه وحال صحته، ولكن ذلك مما يرجح عدم جواز محاباته في الحالين لا عكسه لما تقدم والله أعلم. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: «الزارع يتاجر ربه»). هذا حديث منكر لا أصل له. قوله: (ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه، وعند ذلك تظهر مالكية فلا يختص بنوع دون نوع). قول زفر والشافعي رحمهما الله أظهر فإن إسقاط الحق وفك الحجر مما يقبل التجزي بخلاف العتق والطلاق، فاعتبار الإذن في التجارة بالعتق لا يقوى مع أن تجزي العتق من مسائل النزاع لا من مسائل الإجماع.

ولا مانع من أن يكون العبد مأذونًا له في نوع من أنواع التجارة دون غيره وقد قصد سيده ذلك وإن كان يتصرف في ذلك النوع بأهلية نفسه لا بطريق النيابة عن سيده، فإنه لا يستفيد ولاية التصرف إلا من جهة سيدة فيتقيد بتقييده وهو قد نهاه عن هذا النوع من التصرف فكيف لا يعتبر نهيه، وصار كالوكالة والمضاربة، وهو اختيار الطحاوي. والمسألة مبسوطة في موضعها وإنما الغرض التنبيه على الأشكال ليتأمل المفتي والحاكم ولا يسرع في مثل هذا. * * *

كتاب الغصب

كتاب الغصب قوله: (وفي الشريعة أخذ مال متقوم محترم/ بغير إذن المالك على وجه يزيل يده حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبًا دون الجلوس على البساط). هذا الحد يحتاج في إثباته إلى دليل لا أن يكون هو دليلًا، وقد أورد السغناقي عليه نقضًا بفرع نقله عن فتاوي خان وعن الذخيرة، وهو أن من غصب عجلًا، فاستهلكه وانقطع لبن أمه أنه يضمن الغاصب قيمة العجل ونقصان الأم، وإن لم يفعل الغاصب في الأم فعلًا يزيل يد المالك. ولا يشترط عند جمهور العلماء إزالة يد المالك عن المغصوب بل إثبات يد العدوان كاف لتحقيق الغصب، وتظهر ثمرة الاختلاف في زوائد المغصوب مثل الولد والثمرة وفي غير ذلك، ومثل ذلك يسمى غصبًا لغة. والأصل في الألفاظ الشرعية أن تكون على وفاق اللغة إلا ما خرج

ضمان المغصوب من غير المكيل والموزون

بدليل، فزيادة اشتراط إزالة يد المالك حقيقة- حتى إنه لو غصب أتانًا فتبعها جحشها، ثم تلفا أنه لا يضمنه وإنما يضمن أمه فقط. وكذلك زوائد المغصوب كلها أمانة في يد الغاصب لو تلفت في يده لا يضمنها- تحتاج إلى دليل خاص نقلي، والمسألة معروفة والغرض التنبيه على إشكالها، وفي كلام المصنف هنا مؤاخذة لفظية، وهي في قوله: (وحمل الدابة) يعني والحمل عليها، وحقه أن يقول: وتحميل الدابة؛ لأن حمل لا يتعدى بنفسه إلى اثنين وإنما يتعدى بنفسه إلى واحد، وإلى آخر بحرف الجر تقول: حملت المتاع على الدابة، فيصح إضافة المصدر منه إلى المتاع لا إلى الدابة. فتقول: حمل المتاع، ولا تقول: حمل الدابة، إلا أن يضعف الفعل فيتعدى إلى اثنين بنفسه، تقول: حملت الدابة المتاع، فحينئذ تصح إضافة مصدره إلى الدابة فتقول: تحمل الدابة؛ لأن التحميل مصدر حمل المضعف للتعددية. قوله: (وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه، معناه العدديات المتفاوتة).

اختلف العلماء في غير المكيل والموزون على ثلاثة أقوال وهي روايات عن أحمد رحمه الله: أحدها: أنها تضمن بالقيمة، هذا هو المشهور من أقوالهم. الثاني: أنها تضمن بالمثل بحسب الإمكان، وهو قول طائفة من أهل الحديث. والثالث: أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة، واختلفوا في الجدار يهدم هل يضمن بقيمته أو يعاد مثله على قولين وهما للشافعي، والذي عليه ظاهر الكتاب والسنة وهو مقتضى القياس الصحيح أن الجميع يضمن بالمثل تقريبًا. أما الكتاب فقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقوله

تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}، وقوله تعالى: {والحرمات قصاص}، وقوله تعالى: {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا}، والمهر قد يكون حيوانًا وثوبًا وظاهره المثل الصوري. وأما السنة فعن أنس رضي الله عنه قال: أهدت بعض أزواج -النبي صلى الله عليه وسلم- إليه طعامًا في قصعة فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «طعام بطعام وإناء بإناء» رواه الترمذي وصححه وهو بمعناه لسائر الجماعة إلا مسلمًا. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت صانعة طعامًا مثل صفية، أهدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ فقال: إناء كإناء وطعام كطعام» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: استقرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنًا فأعطى سنًا خيرًا من سنه، وقال: «خياركم أحسنكم قضاء» رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي لفظ قال: كان لرجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سن، فلم يجدوا إلا سنًا فوقها، فقال: «اعطوه»، فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه. وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فصلانًا بفصلان مثلها، وبالمثل قضى شريح والعنبري وقال به قتادة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.

وأما القياس الصحيح فهو أن القصعة بالقصعة، والبعير بالبعير إذا اتفقا في الصفقة تقريبًا أشبه من القصعة بالدراهم أو البعير بالدراهم فإن/ القيمة إنما تعرف بالظن الغالب. وكذلك الشبه والتفاوت الذي يبقى بعد ذلك يغتفر كما يغتفر في المكيل والموزون فإن أرباب الخبرة إذا نظروا في الثوبين أو الشاتين ونحو ذلك فهموا ما بينهما من الشبه كما يفهمون التفاوت في المكيل والموزون، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إناء كإناء وطعام كطعام». فالأمر دائر بين شيئين إما أن يضمنه بالقيمة، وهي دراهم مخالفة للمتلف في الجنس والصفة لكنها تساويه في المالية، وإما أن يضمنه ثيابًا من جنس ثيابه أو آنية من جنس آنيته أو حيوانًا من جنس حيوانه مع مراعاة الصفة بحسب الإمكان ومع كون قيمة بقدر قيمته فهنا المالية مساوية كما في النقدين وامتاز هذا بالمشاركة في الجنس والمقاربة في الصفة. والنقد مخالف في الجنس والصفة، فكان ذلك أمثل من هذا، وما كان أمثل فهو أعدل فيجب الحكم به إذا تعذر المثل من كل وجه، ونظير هذا ما ثبت من الضربة واللطمة، سيأتي التنبيه عليه في الديات إن شاء الله تعالى،

وليس مع من أوجب القيمة نص ولا إجماع ولا قياس يصلح لمعارضة ذكر، وأكبر ما معهم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أعتق شركًا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ولا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد». قال الآخرون: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله، وهذا التضمين ليس من باب تضمين المتلفات بل هو من باب تملك مال الغير بقيمته للضرورة فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه فلابد من دخوله في ملكه ليعتق عليه. ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك وأن الولاء له، وإن تنازعوا هل يسري عقيب أو لا يعتق حتى يؤدي القيمة أو يكون موقوفًا فإذا أدى تبينًا أنه عتق من حين العتق فالتضمين هنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذنا بالشفعة، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف ولكن من باب التقويم بالدخول في الملك، لكن الشفيع أدخل الشارع الشقص في ملكه بالثمن باختياره

والشريك المعتق أدخل الشقص في ملكه بالقيمة بغير اختياره وكلاهما تملك، هذا بالثمن وهذا بالقيمة، فهذا شيء وضمان المتلف شيء، بل قد تقدم في كتاب أدب القاضي أن ضمان الإعتاق ليس بدين مطلق، بل هو صلة، حتى قال أبو حنيفة: إن الشرك إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك وهو موسر ثم مات أنه يسقط عنه الضمان، وتقدم ما فيه من الإشكال. قالوا: وأيضًا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة، والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما مالًا ينقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك، فحق كل منهما في نصف القيمة فإذا اتفقا على المهايأة جاز وإن تنازعا وتشاحا بيعت العين وقسم ثمنها بينهما على قدر ملكيهما كما ينقسم المثلى في عينه وفي المتقوم عند التشاجر والتنازع في قيمته فلولا أن حقه في القيمة وإلا لما أجيب إلى البيع

إذا طلبه، وإذا ثبت ذلك، فإذا أتلف له نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعًا عند طلب البيع. والشريك إنما حقه في نصف القيمة وهما لو تقاسماه بالقيمة، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة بخلاف المثلي فإنه لو تقاسماه تقاسما عينه، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل. قالوا: فهذا هو الميزان الصحيح طردًا وعكسًا الموافق للنصوص وآثار الصحابة وهو في القوة كما ترى. قوله: (وقيل الموجب الأصلي رد القيمة ورد العين مخلص ويظهر ذلك في بعض الأحكام). ما ينبغي أن يحكي هذا القول، فإنه قولٌ ظاهرُ الشرع يرده كما في الحديث الذي ذكره المصنف قبل ذلك، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وليس لعرق ظالم حق» رواه أبو داود والدارقطني ولا شك أن القيمة بدل عن العبن، وكيف يقال: إن البدل أصل بل هذا قلب الموضوع، وذلك البعض من الأحكام الذي أشار إليه بقوله: ويظهر ذلك في بعض الأحكام، وهو صحة الإبراء عن الضمان والكفالة بالمغضوب قبل تلفه. فأما صحة الإبراء عن/ ضمان قيمة المغصوب قبل تلفه فلا يلزم منها أن يكون الموجب الأصلي القيمة، بل إنما صح الإبراء؛ لأن الغضب سبب الضمان فصح الإبراء عنه بعد انعقاد سببه كالعفو عن القصاص بعد الجرح فهو بالإبراء رضي أن يبقى في يد الغاصب على جهة الأمانة كالمودع والمستعير. وأما صحة الكفالة بالمغصوب قبل تلفه فلا يلزم منها أن يكون الموجب الأصلي رد القيمة أيضًا، بل هذا من نحو الكفالة بالدرك وبما دأب لك على

تحقيق الغصب في العقار

فلان، ومبنى الكفالة على التوسع. وأما ما قيل: إن الزكاة لا تجب على الغاصب في قدر قيمة المغصوب من ماله فقول لا يستحق أن يحكي إلا على وجه الإنكار له، والله أعلم. قوله: (ولهما أن الغصب إثبات بإزالة يد المالك بفعل في العين وهذا لا يتصور في العقار إلى آخره). تقدم أن اشترط إزالة يد المالك حقيقة عن المغصوب يحتاج إلى دليل، وما ذكره من تفسير الغصب بأنه إثبات يد المالك في العين، مجرد دعوى يستدل لها لا يستدل بها، بل قد وردت السنة بأن العقار يتحقق فيه الغصب، من ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» متفق عليه. وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» متفق عليه.

وفي لفظ لأحمد: «من سرق»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» رواه أحمد. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبعين أرضين» رواه أحمد والبخاري. وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه «أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض باليمن فقال الحضرمي: يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه، فقال الكندي: يا رسول الله

ربح المغصوب

أرضي ورثتها من أبي، فقال الحضرمي: يا رسول الله استحلفه أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يقتطع عبد أو رجل بيمينه مالًا إلا لقى الله يوم يلقاه وهو أجذم»، فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده» رواه أحمد، ولا شك أن الاستيلاء على كل شيء بحبسه فمن سكن داره غيره ومنعه أن يدخلها صار كمن غصب متاعًا وحال بينه وبين مالكه بخلاف من أبعد رجلًا عن متاعه فإنه ما استولى على ماله فنظيره ها هنا أن يحبس المالك ولا يستولى على داره. قوله: (ومن غصب ألفًا فاشترى به جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف يتصدق بجميع الربح وهذا عندهما إلى آخره). يعني عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يطيب له الربح، وفي المسألة قول آخر، وهو أنهما شريكان في الربح؛ لأنه نماء المال، ونماء عمل الغاصب فصار بمنزلة المضاربة، وهذا أعدل الأقوال.

وهو رواية عن أحمد ودليله ما فعله عمر مع ولديه عبد الله وعبيد الله في المال الذي اتجر فيه من بيت المال «فإنهما خرجا في جبش إلى العراق فتسلفا من أبي موسى مالًا وابتاعا به ممتاعًا وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا؟ فقال: قد جعلته، وأخذ منهما نصف الربح» رواه مالك. زيد بن أسلم عن أبيه، وأيضًا فإن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، والغاصب في هذه التصرفات متفضل فإن رأى المالك المصلحة في جعله مضاربة جعله، وهذا المعنى هو الذي رآه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فصل فيما يتغير بعمل الغاصب

فصل فيما يتغير بعمل الغاصب: قوله: (و [و] جه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه ضررًا بالغاصب بنقص بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة فصار كما إذا خاط بخيط مغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في السفينة). للمخالف أن يجيب عن هذا بأن الضرر الذي يحصل للغاصب هو الذي جناه/ على نفسه وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس لعرق ظالم حق» ولا يصار إلى جبر ضرر المالك بالقيمة مع قيام عين ماله واعتباره بما إذا خاط بخيط بطن أمته أو عبده لا يقوى فإن في هذا إتلاف النفس ولا يمكن تدارك النفس بعد إتلافها بخلاف البناء خصوصًا نفس الآدمي حتى لو كان خاط بالخيط بطن شاة أو نحوها، فهو نظير البناء فيؤخذ الخيط وإن خيف تلف الشاة تذبح.

وكذلك اعتباره بإدخال اللوح المغصوب في السفينة لا يقوى فإن فيه تفصيلًا عند المخالفين فإن كان اللوح في أسفل السفينة وهم في لجة البحر يأخذ القيمة وله أن يعيد القيمة إذا وصلوا إلى الساحل ويأخذ لوحه. وإن كانت السفينة بالشط فله قلع اللوح من السفينة، وكذلك إن كان في أعلى السفينة بحيث لا يخشى من قلعة الغرق فله قلعه، وإن كانوا في لجة البحر، فبطل الإلزام بالخيط واللوح فإن المخالفة لم يعتبر مطلق الضرر، وإنما اعتبر الضرر الكامل الذي يلزم منه إتلاف الأنفس، فلا يقاس عليه ما هو دونه. وتفصيل الكرخي والفقيه أبي جعفر بين ما إذا بنى على الساحة أو

بنى حولها لا يقوى؛ لأنه في كلا الموضعين متعد على مال الغير ظالم مستول عليه بغير حق، فدخل تحت قوله -صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق» فليس لما بناه الغاصب وأعلاه حرمة، ولصاحب الحق اليد واللسان ويستحق الإعانة على ظالمه من كل قادر على إعانته. قوله: (فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعًا ويكون له؛ لأن فيه نظرًا لهما ودفع الضرر عنهما). وقوله: (قيمته مقلوعًا، معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه لأنه حقه فيه إذ لا قرار له [فيه]، فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء، وتقوم وبها شجر أو بناء لصاحب الأرض أن يأمر بقلعه فيضمن فضل ما بينهما). فيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه ينبغي أن لا يحتاج إلى ما ذكره أخيرًا من تقويم الأرض

بالبناء والغرس، وتقويمها بدونها، بل يقوم البناء أو الغرس مقلوعًا ويضمن له قيمته كما قال أولًا، فإن قيل: إنما يفعل ذلك فرارًا من تملك مال الغير بغير رضاه، قيل: هكذا قد قلتم هنا، وإنما اختلفت العبارة وطالت فقط. الثاني: أن قواعد المذهب تقتضي أن يكون الحكم الذي ذكره المؤلف فيما إذا كانت قيمة البناء أو الغرس أقل من قيمة الأرض، وأما إذا كانت أكثر فلا يقال للغاصب: اقلع، بل يضمن الغاصب قيمة الأرض. وكذا حكى أبو علي النسفي عن الكرخي، وحكى مثله في الساجة، وحكى مثله عن محمد في الدجاجة إذا ابتعلت لؤلؤة لغير مالكها ونحو ذلك من المسائل وإن كانت القاعدة ضعيفة من أصلها.

وجوب رد المغصوب إذا كانت عينه قائمة

قوله: (ولنا أنه ملك البدل بكماله، والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك، فملكه دفعًا للضرر عنه). للمخالف أن يقول: إنما أخذ البدل بناءً على تلف المغصوب، فإذا كان المغصوب قائمًا فوجوب رده باقٍ على الغاصب بمنزلة البيع الباطل وقبوله للناقل مشروط بالتراضي في الشرع، ولم يوجد من حيث الحقيقة وإن كان من حيث الصورة، والعبرة للحقائق. وقوله: (دفعًا للضرر) يعني عن الغاصب - فيه نظر، فإنه في حقيقة الأمر ظالم بدفعه القيمة ليملك العين بذلك، يستحق أن يعامل بضد قصده كما في قتل المورث وطلاق الفارّ، ولا يعامل بما يختاره مع عدوانه وظلمه، ولا يصلح أن يكون العدوان المحض سببًا للملك الشرعي. وقد قال بعض الأصحاب: إن الملك يثبت للغاصب شرطًا للقضاء بالقيمة

حكم منافع المغصوب

لا حكمًا ثابتًا للغصب مقصودًا، ولا يفيد هذا الكلام شيئًا أيضًا فإن القضاء لا يغير الوصف الشرعي عما هو عليه فلا يجعل الحرام حلالًا ولا الحلال حرامًا. قوله: (ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك لأنها أعراض [لا تبقى] فيملكها دفعًا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه، كيف وإنه لا يتحقق غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف، ولا نسلم أنها متقومة في

ذاتها بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد، ولم يوجد العقد). فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه، وهذا ممنوع، وإنما [حصلت على ملك المغصوب منه لحدوثها في ملكه إذ الأعراض قائمة بالأعيان لا قيام لها بأنفسها، والأعيان [حصلت] على ملك المغصوب منه فالأعراض كذلك، والغاصب ظالم معتد ليس له حق في الأعيان ولا في منافعها فكيف تكون حاصلة على ملكه. والثاني: قوله: إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك لأنها أعراض، فيملكها دفعًا لحاجته. وجوابه: أن حدوثها في ملكه كاف في ثبوت الملك له فيها إذ قيامها بالأعيان التي هي ملك له، والغاصب أجنبي عنها، ظالم باستيلائه عليها خصوصًا على قول من يقول بغضب العقار فإنه عنده في يد مالكه المغصوب منه لم تزل يده عنه فتكون منافعه حادثة على ملكه وفي يده فكيف يقال: إن الغاصب يملكها والحالة هذه والحاجة لا توجب له ملك مال غيره بغير ضمان،

هذا على تقدير تسليم ثبوت الحاجة. الثالث: قوله: كيف وإنه لا يتحقق غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها. وجوابه: أنه يتحقق غصبها وإتلافها كما يليق بها، ولهذا يقال: أتلف منافع الدار وعطل منافعها، غاية ما يقال: إنها ليست كالأعيان لقيامها بغيرها لا بأنفسها وهذا لا يخرجها عن كونها أموالًا عرفًا وشرعًا، ومالية الأعيان باعتبار منافعها لكن منها ما تنفع به مع بقاء عينه كالعقار ونحوه. ومنها ما ينتفع به مع اتلافه كالمأكول والمشروب والملبوس ونحوه. فإذا غصب ثوبًا ثم أعاده بعد سنة مثلًا على حاله لم يلبسه لم يعدم شيئًا من منافعه، بل عاد إليه بمنافعه، وإذا أعاد العقار بعد سنة مثلًا فقد فوت عليه من منافعه ما خلق له في تلك المدة التي استولى عليه فيها، فإن الثوب إذا لم ينتفع به في تلك السنة توفر إلى الأخرى، والعقار ما يفوت من منافعه يعدم، فظهر الفرق باعتبار توفر هذا وعدم هذا. الرابع: قوله: ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرف ما فيها من الأشكال مما تقدم وأن هذا فرق صوري غير مؤثر في كونها أموالًا متقومة مخلوقة لأجلنا لإقامة مصالحنا وحاجتنا إليها سواء، فلا يقوى الفرق بسرعة فنائها في مقابة الجامع بحاجتنا.

الخامس: قوله: ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد، ولم يوجد العقد. وجوابه: أن هذا مجرد دعوى لم يُقم عليها دليلًا بل تقومها بالعقد دليل على تقومها في أنفسها فإنه لا يُقوم بالعقد إلا ما هو متقوم في نفسه ولا يقوم بالعقد ما لا قيمة له، ولهذا تجب أجرة المثل إذا انقضت مدة الإجارة، والأرض مشغولة بزرع المستأجر لمدة الشغل من غير عقد. وقد ذكر السغناقي دليلًا على عدم تقومها بغير العقد فقال: وحجتنا في ذلك حديث علي وعمر رضي الله عنهما فإنهما حكما في ولد المغرور،

أنه حر بالقيمة وأوجبا على المغرور رد الجارية/ ولم يوجبا قيمة الخدمة، مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها ومع طلب المدعي لجميع حقه، فلو كان ذلك واجبًا لما حل لهما السكوت عن بيانه. ثم قال بعد ذلك: كذا في المبسوط، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الزوج كان مغرورًا لم يكن غاصبًا فلا يلزم من وجوب بدل الخدمة عليه عدم وجوب على الغاصب الظالم فاكتفى بإنفاق المغرور عليها في مقابلة خدمتها كسائر الزوجات بخلاف الغاصب. ثم قال: ولأنا نقول: إن إتلاف المنفعة لا يتصور فلا يجب الضمان وذلك لأنه لو تصور، إما أن يصور قبل وجود المنفعة أو مقارنًا للوجود أو بعد الوجود، لا وجه للأول لأنها معدومة، والمعدوم غير قابل للإتلاف، ولا وجه للثاني لأن الإتلاف إذا طرأ على الموجود يبطل الوجود وإذا قارن الوجود يمنع من الوجود، والإتلاف إنما يرد على الموجود، ولا وجه للثالث؛ لأنها إذا وجدت فنيت فكان بعد الوجود زمان الفناء، وزمان الفناء زمان العدم، وإتلاف الشيء في زمان عدمه لا يتصور لما قلنا: إن الإتلاف على المعدوم لا يرد. انتهى.

وهذا يشبه أن يكون من باب الجدل المذموم في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ثم تلا: {ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خصمون} رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وإنما قلت: إن هذا يشبه الجدل المنهي عنه؛ لأنه إذا كان إتلاف المنافع لا يتصور، فلا يتصور الانتفاع بالأشياء المنتفع بها، والانتفاع بها معلوم تصوره بالضرورة، والضرورة لا يقدح فيها بالنظر، فإن الضرورة إذا خالفت النظر دل على أن ذلك النظر مغلطة ليس بنظر صحيح، ولا شك أن من سكن دارًا سنةً مثلًا فقد استوفى منفعتها في تلك المدة واستهلكها. وكذلك من ركب دابة يومًا فقد استوفى منفعتها، وكذلك من استخدم عبدًا أو استغل مرنة، ونحو ذلك، ولا يصح أن يقال: متى استوفى منفعة ركوب الدابة لا جائز أن يكون قبل الركوب ولا معه ولا بعده، وكذلك منفعة السكنى لا جاًئز أن يقال إنه لم يستوف منفعة سكنى الدار؛ لأنه لا يجوز أن يكون مستوفيًا لها قبل السكنى أو معها أو بعدها، فإذا

صح أن يقال: إن المالك بالسكنى في داره قد استوفى منفعتها، فإذا أخرجه الغاصب منها وسكنها فقد استوفى منفعة الدار واستهلكها وأتلفها على مالكها، وإن لم يسكنها فقد فوتها على مالكها حتى تلفت وهلكت فصار بمنزلة من غصب عينًا فتلفت في يده، ولو تلفت العين في يد الغاصب لضمنها فكذلك المنفعة. وجواب ما ذكره من نفي الإتلاف قبل وجود المنفعة ومع وجودها وبعده أن قول من قال من أهل الكلام المذموم أن العرض لا يبقى زمانين قد رده طائفة من العقلاء، وقالوا: إن العرض يقبل الامتداد والاقتصار وتظهر قوة هذا القول في الألوان ونحوها، فإن سواد الأسود وبياض الأبيض لا يتغير بتغير اللحظات، والناظر إليه يعلم أن سواده وبياضه باق عليه ما دام متصفًا بصفة السواد والبياض. وكذلك من سكن دارًا سنة فما لم ينتقل عنها هو ساكن فيها، والقول بأنه يتجدد له الآنات التي لا تحصى- سكنى متغايرة يستحيل عليها الضبط، يأباه العقل السليم كما يأبى ما ادعوه من تركيب الأجسام/ من الجواهر المفردة وكل هذا من باب التدقيق الذي ليس معه تحقيق.

فصل في غصب ما لا يتقوم

فالمسألة مسألة نزاع بين العقلاء ليست من مسائل الإجماع، وسواء قيل بتعدد المنافع بتجدد أمثالها أو أنها تمتد وتقتصر، فالإتلاف غير ممتنع التصور فيها فإن الإتلاف عرض أيضًا فيتصور تقابلهما، فسكناه الدار بمنزلة أكله الطعام كلاهما قد فوت فيه على المالك منفعة ملكه إلا أن الدار ينتفع بها مع بقاء عينها. والمأكول ينتفع به مع ذهاب عينة فلا يقوى الفرق بين بقاءة العين وذهابها في مقابلة الجمع بفوات المنفعة فيهما، إذ المراد النفع في كل منهما؛ لأن الأعيان إنما تراد لمنافعها فحاجة الآدميين في الحقيقة إلى منافع الأعيان لا إلى ذواتها من حيث هي ذوات، ولولا ذلك لاستوى التراب والنار، والماء والذهب وسائر الذوات المخلوقة في حق الآدمي. فصل في غصب ما لا يتقوم: قوله: (فإن غصب من مسلم خمرًا فخلها أو جلد ميتة فدبغة، فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير ثمن، ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه ... إلى أخره). سيأتي الكلام على ما في تخليل الخمر في كتاب الأشربة- إن شاء الله تعالى- وأما جلد الميتة فينبغي أنه لا يجب عليه رده كما هو مذهب؛ لأنه ليس بغاصب لأن الغصب إنما يتحقق في مال متقوم محترم كما حده به

المصنف في أول كتاب الغصب، وجلد الميتة قبل الدباغ ليس كذلك وإنما صار مالًا بالدباغ، وكذلك ينبغي أنه إذا أخذ خمرًا فتخللت لا يجب ردها لأنها إنما صارت ماء بالتخلل فكل منهما مباح سبقت يده إليه فيملكه وليس لغيره أخذه منه بغير رضاه. قوله: (وقيل الفتوى على قولهما في الضمان). يعني أنه لا يضمن من كسر لمسلم بربطًا أو طبلًا أو مزمارًا أو دفًا أو أهرق له سكرًا أو مصنفًا، وهذا هو القول الحق الذي يجب اعتقاده فإن هذه الأشياء لا حرمة لها، وقد «أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكسر دنان الخمر، وكانت لأيتام في حجر أبي طلحة». رواه الترمذي والدارقطني، «وأمر بشق

زقاق الخمر في [حديث] ابن عمر» رواه أحمد. وكذلك لما حرمت لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر أمر بإراقتها وكسر القدور، فقال رجل: «يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها، فقال: أو ذاك» «وقد هم -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بيوت من لم يشهد الجماعة، ولكن تركه لما فيها من النساء والذرية»، «وأحرق عمر رضي الله عنه حانوت خمار». فإذا كانت الأواني والأماكن تزول حرمتها لمجاورتها المحرم، فآلات اللهو أولى، والمنصف والمسكر وكل مسكر خمر فلا يضمن بالإتلاف، وسيأتي في كتاب الأشربة التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى. * * *

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة قوله: (ولقوله عليه السلام: «الجار أحق بسبقه، قيل: يا رسول الله ما سقبه؟ قال: شفعته»). هذا اللفظ غير معروف، وإنما المروي «الجار أحق بصقبه» أخرجه البخاري والنسائي، وفي حديث جابر رضي الله عنه: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها إن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا» أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب.

قوله: (وأما الترتيب فلقوله عليه السلام: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع» فالشريك في نفس المبيع، / والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار). هذا الحديث منكر بهذا اللفظ، وقد روي بلفظ آخر، ولم يثبت فذكر ابن الجوزي عن الشعبي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الشفيع أولى من الجار، والجار أولى من الجنب». وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «الخليط أولى من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه» وروى أيوب عن محمد قال: «كان يقال: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق ممن سواه» ذكره ابن التركماني في كلامه على أحاديث الهداية. قوله: (والشفعة تجب بعقد البيع ومعناه بعده لا أنه هو السبب لأن

سببها الاتصال على ما بيناه. قد أخذ على المصنف في هذا التأويل الذي ذكره والتعليل الذي علل به، وقالوا: إنه مخالف لعامة روايات الكتب، وقالوا: لو كان سببها الاتصال لا غير، لبطلت شفعته بالتسليم قبل البيع، وهذه مؤاخذة ولكن لا يلزم من كون السبب هو عقد البيع أن لا تبطل الشفعة بالتسليم قبله، وليس ذلك من باب تقديم الحكم على السبب، بل هو إسقاط بحق كان بعرضية البيوت فصاحب الشفعة رضي أن لا يكون البيع سببًا لأخذه الشفعة، والحق له في ذلك، وقد أسقطه وله ذلك؛ لقوله عليه السلام: "ولا يحل أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به" أخرجه مسلم، والنسائي وأبو داود فمقتضى هذا الحديث أن الشفعة لا تجب للشفيع إلا إذا باع الشريك، ولم يؤذنه. أما إذا أعلمه بأنه يريد بيعها فلم يأخذها فلا تشرع له الشفعة لأنه رضي أن لا يأخذها بالشفعة إذا بيعت وهذا مذهب الحكم والثوري وأبي عبيد وأبي

هل الشفعة على الفور أم على التراخي؟

خيثمة، وطائفة من أهل الحديث وإحدى الروايتين عن أحمد وحقه أن يقول: البيع الصحيح وما في معناه إذا خلا عن الخيار للبائع وبسقوط الفسخ في البيع الفاسد؛ لأن الشفعة تجب بالصلح على مال وبالهبة بشرط العوض كما تجب بعقد البيع؛ ولأن البيع إذا كان فيه خيار البائع لا تجب الشفعة إلا بعد سقوطه ولأن الشفعة لا تجب في البيع الفاسد إلا بعد سقوط الفسخ. قوله: (ولقوله عليه السلام: "الشفعة لمن واثبها"). هذا الحديث قد روي معناه من حديث ابن عمر يرفعه "الشفعة كحل العقال" أخرجه البزار والبيهقي وابن ماجه ولم يثبت، ولفظه:

الإشهاد في الشفعة

"الشفعة كحل العقال، ولا شفعة لصغير ولا لغائب، ومن مثل به هو حر". ولا يجوز الأخذ ببعض الحديث دون بعض، وفي تقسيم الطلب إلى ثلاثة أوجه كما قال المصنف: طلب المواثبة وطلب التقرير والإشهاد وطلب الخصومة والتملك- نظر، وإنما يدل هذا الحديث بعد ثبوته على أن من أخر الطلب بعد علمه من غير عذر فلا شفعة له. قوله: (والمراد بقوله في الكتاب: أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم إنما هي لنفي التجاحد-

ثم قال بعد ذلك في باب ما تبطل به الشفعة- وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته لإعراضه عن الطلب). هذا تناقض ظاهر، فإنه جعل الإشهاد أولًا غير لازم ثم جعل تركه مبطلًا للشفعة وإذا لم يكن لازمًا كيف يكون تركه مبطلًا وقد أجاب السغناقي عن هذا الإشكال فقال: يحتمل أن يريد بهذا الإشهاد نفس الطلب ولكن لما كان طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي سمى هذا الطلب إشهادًا، والدليل على هذا ما ذكره من التعليل في حق ترك طلب المواثبة مثل ما ذكره من التعليل هاهنا انتهى. وفي هذا الجواب نظر، فإن كون طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي/ مشكل لأن الشاهد لا يمكنه أن يطلع على باطن الأمر، وأن هذا الشفيع حين علم بالبيع طلب الشفعة لأنه يحتمل أن يكون الشفيع قد علم بالبيع قبل مجلس الإشهاد فكيف يشهد أن الشفيع حين علم أشهد على نفسه بالطلب، وإن كان قد يتصور في بعض الصور فلا يتأتى في كل الأحوال فكان في اشتراط الإشهاد من الحرج ما لا يخفى، وينبغي أن يكون القول قول

الشفيع في أنه طلب حين علم مع يمينه لأن مثل هذا لا يعلم إلا من جهته فيكون القول قوله مع يمينه. قوله: (لقوله عليه السلام: "لا شفعة إلا في ربع أو حائط"). لا يعرف هذا اللفظ في كتب الحديث، وأخرج أبو حنيفة عن عطاء ابن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شفعة إلا في دار أو عقار" وأخرجه البيهقي من جهته. قوله: (وإن ابتاع منها سهمًا بثمن ثم ابتاع بقيتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني؛ لأن الشفيع جار فيهما إلا أن المشتري في الثاني شريك فيقدم عليه). قال الشيخ حافظ الدين النسفي- في المنافع شرح النافع-: وتأويل المسألة

الحيلة لأسقاط الشفعة

إذا بلغه بيع سهم منها فرده، أما إذا بلغه البيعان فله الشفعة فيهما. انتهى. وينبغي أن يكون الحكم كما ذكره الشيخ حافظ الدين من هذا التأويل، وإن كان عامة الأصحاب أطلقوا أن للجار الشفعة في السهم الأول دون الثاني، ولم يقيدوه بما إذا بلغه البيع الأول فرده، كما ذكره الشيخ حافظ الدين ولا شك أن حق الشفيع مقدم على حق المشتري، فإذا أخذ الجار السهم الأول بالشفعة خرج المشتري ولم يبق شريكًا، فلا يستحق شفعة في السهم الثاني فيأخذ الجار السهمين، إما بالجوار في السهمين باعتبار علمه بهما وأخذهما جملة، أو بالجوار في الأول وبالشركة في الثاني لأن البيع الأول تتحول فيه الصفقة من البائع ويخرج المشتري كأن لم يكن فيصير الشفيع في حق السهم الثاني شريكًا. قوله: (ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف، وتكره عند محمد لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه ولأبي يوسف أنه منع من إثبات الحق فلا يعد ضررًا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة).

قول محمد أقوى من قول أبي يوسف، والمكروه عنده حرام، فلا يجوز فعل مثل هذه الحيلة عنده، وهو الحق، ولا ينبغي للحاكم أن يعين على فعل هذا المحرم لأن قصد هذا المتحيل منع حق الشفيع، وحق الشفيع ثابت شرعًا، ومن الممتنع أن يشرع الله حق الشفعة ويشرع الحيلة على إسقاطه، ويجب صيانة الشريعة عن مثل هذا؛ لأنه يبقى من باب العبث، وذلك محال في الشريعة وقد قص الله تعالى علينا قصة أصحاب السبت، وما فعلوا وما فعل بهم لنعتبر وننزجر عن مثل ذلك الفعل. وكذلك قص الله علينا قصة أصحاب الجنة: {إذ أقسموا ليصر منها مصبحين {17} ولا يستثنون {18} فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون}، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلوا كما فعلت اليهود، تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها

فباعوها وأكلوا ثمنها"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث. فمن تحيل على إبطال شفعة الشفيع فقد نوى إبطال حق شرع الله، وقد ورد عن السلف في ذم الحيل/ وأهلها ما يضيق عنه هذا المختصر، فمنه: قول أيوب السختياني في أهل الحيل: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا فرق بين المجتمع تحيلًا على إسقاط الزكاة لا تسقط عنه بالفرار منها كما في طلاق الفار، وحرمان القاتل عن الميراث. وكذلك إذا تحيل على إسقاط الشفعة يجب أن يعامل بضد قصده، وهذا

مذهب مالك وأحمد وغيرهما في كل متحيل قصد إبطال حق أو تحقيق باطل، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال. وفي رسالة أبي يوسف إلى هارون الرشيد: ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه، ولا سبب، بلغنا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما مانع الزكاة بمسلم ومن لم يؤدها فلا صلاة له. هذا كلام أبي يوسف رحمه الله فالظاهر أنه رجع إلى هذا في آخر أمره والله أعلم، وأقوى ما استدل به من قال بالحيل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة وأبي سعيد: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". وليس فيه دليل على جواز الحيل الباطلة، فإنه إنما أمره بالبيع الصحيح،

فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في العقد الباطل فالعقد المتنازع فيه إن كان باطلًا لم يدخل تحت الإذن، وإن كان صحيحًا فلا حاجة إلى الاستدلال بهذا الحديث على صحته، فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع من ذلك الرجل الذي يقصد أخذ الصاع منه بالصاعين بما يظهره من العقد الذي ليس بمراد. ونكتة الجواب أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومن سلم لكم أن هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعل السلعة الدخيلة محللًا له غير مقصودة بالبيع بيع صحيح. وإذا كان لفظ الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق فلا يتناول كل بيع فلا يصح الاستدلال به على بيع متنازع فيه، والكلام على الحيل مبسوط في موضعه فلا ينبغي لمن نصح نفسه أن ينظر في كلام أحد الفريقين دون الآخر، وإذا نظر في كلاميهما ينجلي قلبه من الهوى وبالله التوفيق.

كتاب القسمة

كتاب القسمة قوله: (قال رضي الله عنه: جعل الدار والحانوت جنسين، وكذا ذكر الخصاف، وقال في إجارات الأصل: إن إجارة منافع الدار بالحانوت لا يجوز، وهذا يدل على أنهما جنس واحد فيجعل في المسألة روايتان أو تبنى حرمة الربا هنالك على شبهة المجانسة). فيه نظر، فإنه يؤدي إلى اعتبار شبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها؛ لأن المنع من إجارة المنافع بعضها ببعض إذا تجانست إنما

اعتبروه بشبهة الربا، فاعتبار شبهة المجانسة تؤدي إلى اعتبار شبهة الشبهة، ولهذا قال شمس الأئمة الحلواني، إما أن يكون في المسألة روايتان أو تكون من مشكلات هذا الكتاب.

كتاب المزارعة

كتاب المزارعة قوله: (وله "أنه عليه السلام نهى عن المخابرة" وهي المزارعة وأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان، ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز). فيه نظر من وجوه: أحدهما: قوله: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة وهي المزارعة. وجوابه: أنه جاء مفسرًا في الصحيح: أنهم/ كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة فلهذا نهى عنها، وذلك في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا أكثر الأنصار حقلًا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك، فأما الورق فلم ينهنا" أخرجاه.

وفي لفظ: "كنا أكثر أهل الأرض مزدرعًا، كنا نكري الأرض بالناحية تسمى لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري. وفي لفظ قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات وإقبال الجداول، وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس"، رواه مسلم وأبو داود والنسائي. ومعاملته - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر أو زرع ثابت صحيح، رواه الجماعة.

والمصنف قد ذكر الاستدلال لهما قبل هذا الكلام، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل؟ قال: لا، قالوا: تكفونا العمل، ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا" رواه البخاري. واستمر الناس على العمل بالمزارعة في زمن الخلفاء الراشدين فمن بعدهم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولا يظن بالخلفاء الراشدين أنهم فعلوا ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من أقوى الأدلة على اختصاص النهي بالمزارعة التي فيها استثناء ما يخرج من بقعة معينة من الأرض المزارع عليها، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتعارض. الثاني: قوله: وإنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان. وجوابه: أنه قد تقدم التنبيه على ضعف حديث قفيز الطحان، فلا يصلح لمعارضة ما ورد من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم أجمعين، وإنما المزارعة بمنزلة المضاربة، قال أبو يوسف: المزارعة عندي بمنزلة المضاربة. الثالث: قوله: ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد.

وجوابه أن المضاربة والمزارعة والمساقاة من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة، وإن كان فيها شوب المعاوضة، فإن رب المال أو الأرض ليس له قصد في نفس عمل العامل كما في الإجارة، ولهذا لو لم يربح ولم تخرج الأرض شيئًا لم يكن له شيء وإنما هذه مشاركة، هذا بنفع ماله، وهذا بنفع بدنه، وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر أو خارج مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المزارعة كما تقدم. وهذا من كمال العدل فإن حصل ربح أو خارج اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الغرم، وذهب نفع بدن هذا كما ذهب مال هذا ولهذا كانت الوضعية في المضاربة على المال لأن ذلك مقابل ذهاب نفع المال، ولهذا قيل: إنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل كما ذهب إليه أحمد في رواية، فعطى العامل ما جرت به العادة أن يعطاه مثله من الربح

إما نصفه أو ثلثه. فأما أن يعطى شيئًا مقدرًا مضمونًا في ذمة المالك فذلك ينافي العدل، فإنه قد يعمل سنين ولا يربح، فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف رأس المال، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءًا من الربح إن كان هنالك ربح، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف/ ما يستحقه في الصحيحة؟ ولا شك أن المزارعة أولى بالجواز من الإجارة بأجرة مضمونة في الذمة فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة، ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل، كان في هذا حصول أحد المتعاوضين على مقصوده من الآخر فأحدهما غانم ولابد، والآخر متردد بين المغنم والمغرم، وأما المضاربة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة وإذا عرف هذا تبين ضعف قوله: (ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد). الرابع: قوله: ومعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز، وسيأتي في كلامه أيضًا في باب القسامة. وأما أهل خيبر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى في مرض موته بإخراجهم من جزيرة العرب، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عزم على إخراجهم منها قالوا: نحن أعلم بالأرض منكم دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها، ولو

كانت الأرض ملكًا لهم وما يؤخذ منهم خراجًا على أراضيهم لما أجلاهم عمر رضي الله عنه كلهم من أرضهم وكل ذلك ثابت صحيح. ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استولى على أراضيهم كلها بالسيف قهرًا وغلبة وإنما اشتبه على من اشتبه عليه من الشافعية أن خيبر فتح شطرها عنوة وشطرها صلحًا لما رأوا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم شطرها، وأوقف شطرها، لم يقسمه، بل أعده لنوائب ومصالح المسلمين". وأما القول بأنها كلها فتحت صلحًا فإنما يقوله من لا خبرة له بما وقع في تلك الغزوة، وقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "سمعت عمر رضي الله عنه يقول: لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانًا كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر سهمانًا" ذكره أبو عمر ابن عبد البر، ثم قال بعد ذلك: وأما من قال إن خيبر كان بعضها صلحًا وبعضها عنوة فقد وهم وغلط، انتهى.

بيان المدة في المزارعة

وكلام المصنف هنا يناقض قوله في باب العشر والخراج أن أرض العرب كلها أرض عشر، فإن خيبر من أرض العرب، وقد تقدم التنبيه على هذا التناقض هناك. قوله: (ثم المزارعة لصحتها- على قول من يجيزها- شروط- إلى أن قال- والثالث: بيان المدة لأنه عقد على منافع الأرض أو على منافع العامل، والمدة هي المعيار لها لتعلم بها). الذي دل عليه أحاديث معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر جواز المزارعة من غير بيان المدة، ولكنها لا تكون لازمة إلا ببيان المدة، والفرق بين الصحة واللزوم ظاهر، وهذا مذهب أحمد، وعليه عمل الناس وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصارت كالمضاربة. وقوله: (عقد على منافع العمل)، فيه نظر فإنها عقد عليهما عقد شركة كالمضاربة. قوله: (وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر؛ لأنه نماء ملكه واستحقاق الأجر بالتسمية، وقد فسدت فبقي النماء كله لصاحب البذر).

تقدم في كتاب الغصب ذكر الرواية عن أحمد رحمه الله في المضاربة الفاسدة أن المضارب يستحق ربح المثل فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله، إما نصف الربح أو ثلثه أو نحو ذلك، وإذا ثبت ذلك في المضاربة ففي المزارعة أولى؛ لأن رأس المال في المزارعة هو الأرض، والبذر يجوز أن يكون من العامل، ويجوز أن يكون من جهة رب الأرض، وهو يستهلك في الأرض بمنزلة ماء الفحل في رحم الأنثى، ولهذا قال/ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" رواه الخمسة إلا النسائي. وقال البخاري: هو حديث حسن، وقد قال بموجب هذا الحديث شريك بن عبد الله وأحمد في رواية عنه، واختاره تقي [الدين] بن السبكي، ولهذا تفسد المزارعة إذا شرطا رفع البذر واقتسام الباقي، بل

الواجب في المزارعة الصحيحة أن يقسم الخارج على ما شرطها ولا يلتفت إلى البذر أصلاً. وإذا كان الواجب في الإجابة الفاسدة أجرة المثل من النقدين فالأعدل هنا تقدير ذلك من الخارج بجزء منه فإن الجزء المعين من الخارج في المزارعة بمنزلة القدر المسمى من النقدين في الإجازة، وقد تقدم أن التقدير بالجزء من الخارج في المزارعة الصحيحة أعدل من المقدار المعين في الإجارة، فينبغي إذا كانت المزارعة الفاسدة قد عقدت على أن لكل منهما الشطر. وعادة مثل تلك الأرض أن تزرع بالشطر على قياس قول من يقول أن الواجب في الإجارة الفاسدة أجرة المثل لا يزاد على المسمى، وهو الراجح ولا مانع من هذا، ولا نص مع مخالفه. وقوله: (لأنه نماء ملكه) يعني صاحب البذر، يمكن أن يقال له: أنه نما من الأرض والماء والبذر والعمل، والأرض والماء والبذر والعمل، والأرض بمنزلة الأم، والولد يتبع الأم فكذلك الزرع يتبع الأرض، ويشهد لهذا الحديث المتقدم: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته". ولكن الحديث نص فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم وفي المزارعة الفاسدة لم يكن الزارع متعديًا بل زارعًا بإذن فيستحق جزءًا من الخارج على الوجه الذي تقدم ذكره، والله أعلم. * * *

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة قوله: (ومن دفع أرضًا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرًا على أن يكون الأرض والشجر بين الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك- إلى أن قال- لأنه في معنى قفيز الطحان). تقدم التنبيه على ضعف حديث قفيز الطحان، والله أعلم. * * *

كتاب الذبائح

كتاب الذبائح قوله: (ومنه قوله عليه السلام: "ذكاة الأرض يبسها"). تقدم التنبيه على أن هذا الحديث غير معروف في كتب الحديث. قوله: (ولا تؤكل ذبيحة المجوس لقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم"). لم يثبت في هذا الحديث وإن كان الحكم كذلك، وقد وردت في حديث آخر.

اشتراط التسمية عند الذبح

قوله: (له قوله عليه السلام: "المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم"). هذا الحديث لم يثبت وهو مرسل ضعيف، ذكره أبو داود بمعناه. قوله: (ولكنا نقول في اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى لأن الإنسان كثير النسيان، والحرج مدفوع، والسمع غير مجرى على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول والإقامة في حق الناسي، وهو معذور لا يدل عليها في حق العامد، وما

رواه محمول على حالة النسيان). في كلامه نظر من وجوه: أحدها: قوله: إن في اعتبار ذلك، أي في اشتراط ذكر اسم الله من الحرج ما لا يخفى؛ لأن الإنسان كثير النسيان. وجوابه أنكم قلتم: إن حق النسيان لم يرتفع في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وإنما ارتفع إثمه. وقلتم: إن القياس يقتضي فساد صوم الآكل ناسيًا ولكن ترك بالنص، وقلتم بفساد صلاة المتكلم في صلاته ناسيًا مع أن النص قد ورد فيه في حديث ذي اليدين، ولم تعتبروا الحرج، بل قلتم: إن الحالة [فيه

مذكرة] فلا يعذر بالنسيان فهلا قلتم ذلك هنا، فإن إضجاع المذبوح للذبح وإرسال الكلب المعلم ونحوه ورمي السهم الحالة فيه مذكرة. ولا شك أن تسمية المذكي شرط الحل/ ولا يكون النسيان عذرًا في ترك الشرط، فلو نسي الطهارة أو استقبال القبلة أو ستر العورة في الصلاة أو الإحرام في الحج أو النية فيهما لم تصح صلاته ولا حجه، فكذلك ذكر اسم الله على الذبيحة، وقد فرق بعض الأصحاب بين ترك الطهارة للصلاة، وبين ترك التسمية على الذبيحة ناسيًا بأن الذي لزم المصلي بغير طهارة من إعادة الصلاة فرض مبتدأ وإلا فكلٌ منهما قد فعل ما كلف به. وهذا فرق فاسد بل الذي صلى بغير طهارة ناسيًا لم يفعل ما أمر به، فإذا أعادها بطهارة كانت صلاته الثانية هي المأمور بها دون الأولى، والقول بأن المصلي بغير طهارة ناسيًا فاعل لما أمر به، وأن الذي لزمه بعد الذكر فرض مبتدأ قول ظاهر الفساد، والله أعلم. وأيضًا فإن استخراج الخبث من الذبيحة إنما هو بذكر اسم الله لا باستخراج الدم المسفوح فقط، فإذا ذبح مع الغفلة عن ذكر اسم الله تعالى لم يكن اللحم من الطيبات بل من الخبائث فإن لم تحصل التذكية باسم الله كان للشيطان فيها نصيب فيكون كما لو أهل به لغير الله ولهذا لم تحل ذبيحة المجوسي لعدم الإخلاص في ذكر اسم الله، وحل المذكي بالذكاة

الاضطرارية مع ذكر اسم الله، وإن لم يستخرج كل الدم المسفوح. وأما صيد البر في حق المحرم والحرم فلاستحقاقه الأمن يخرج عن محلية الذكاة. فالحاصل أن التسمية شرط الحل، وما كان شرطًا للحل لا يسقط بالنسيان كما لو ذبح في غير المحل أو ذكى بغير المحدد ناسيًا، وهذا مما استدل به من لم يشترط التسمية بحال على من اشترطها مع الذكر فقط. الثاني: قوله: والسمع غير مجرى على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة، وظهر الانقياد، وارتفع الخلاف في الصدر الأول. وجوابه: أن مخالفة من خالف النصوص الواردة من الكتاب والسنة على اشتراط التسمية بالتأويل أو لنص ظن ثبوته لا يوجب أن تكون غير مجراة على ما ظهر من دلالتها ولو كان ذلك موجبًا لإخراجها عن ظاهرها لما صح الاستدلال بنص حصل النزاع فيما دل عليه من الحكم في مسألة من المسائل ولقال المخالف هذا النص غير مجرى على ظاهره لحصول النزاع في مدلوله إذ لو كان مجرى على ظاهره لارتفع الخلاف في الصدر الأول، وقد قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. والمراد بالرد إلى الله، الرد إلى كتابه، وبالرد إلى رسوله، الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، ولما كان حل متروك التسمية نسيانًا أو عمدًا من

مسائل النزاع، كان الواجب علينا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا نقول إن النصوص الدالة على حكم التسمية لا دلالة فيها لوجود الخلاف في حكم التسمية في الصدر الأول، بل القول الذي دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما هو القول الراجح، والقول الآخر مرجوح، وقائله مأجور على اجتهاده مغفور له خطؤه. فالنصوص الدالة على اشتراط التسمية من الكتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين}، وقوله تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الآيتان. وقوله تعالى في سورة الأنعام: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} الآية، فقد أمر الله سبحانه بالأكل مما ذكر اسم الله عليه وعلق لك بالإيمان وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله علي، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وقال: {وإنه لفسق} وأن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه/ لفسق كما قال فيما أهل به لغير الله في قوله تعالى: {أو فسقًا أهل لغير الله به}، وقال تعالى في سورة المائدة: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه}.

ومن السنة أحاديث عدي بن حاتم وأبي ثعلبة الخشني المخرجة في السنن والمساند فهاهنا عن عدي بن حاتم قال: "قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي، فقال: إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبًا آخر لا أدري أيهما أخذه؟ فقال: لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" فأمره بأكل ما سمى عليه ونهاه عن أكل ما شك في تذكيته، وعلل ذلك بأنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر، فجعل المانع من حل صيد الكلب الآخر ترك التسمية كما جعل فعل التسمية عليه لحل صيد كلبه وهذا من أصرح الأدلة وأثبتها في جعله وجود التسمية شرطًا في الحل، وعدم التسمية مانعًا من الحل، ولم يفرق بين تركها ناسيًا أو عامدًا وعن أبي ثعلبة الخشني قال: "قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس يعلم مما يصلح لي؟ فقال: ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل" فهذا أبو ثعلبة يسأله عما يحل له من ذلك وهذا سؤال من يطلب أن يبين له جميع ما يحل له من ذلك فلم يحل له إلا ما ذكر اسم الله عليه، فلو كان يحل له ما ترك التسمية عليه نسيانًا أو عمدًا لم يكن ما ذكره جوابًا له وأحاديث عدي وأبي ثعلبة وإن كانت في الصيد فإنه يؤخذ منها حكم الذبح بطرق الأولى، فإن حال الاصطياد حال قد يدهش الإنسان ويذهل عن التسمية فيها.

وإذا لم يعذره في هذه الحال بترك التسمية فألا يعذره في حال الذبح -وهو أحضر عقلاً- أولى وأحرى. الثالث: قوله وما رواه محمول عن حالة النسيان. وجوابه: ما تقدم أن ما رواه لم يثبت، فإن قيل: فقد روى ابن جرير عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين الذبح فليسم وليذكر اسم الله وليأكل". فالجواب أنه لا يصلح لمعارضة النصوص المتقدمة لأنه ضعيف، قال أهل الحديث: إن الصحيح وقفه على ابن عباس، والنزاع في ذلك معروف، وكذلك قد احتجوا أيضًا بحديث منكر ضعفه أهل الحديث وهو ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اسم الله على كل مسلم"، ولم يثبت ما يعارض النصوص المتقدمة، وأيضًا فليس في الكتاب والسنة نصوص صحيحة صريحة بتحريم ذبيحة المشركين والمرتدين والمجوس

موضع الذكاة من الذبيحة

كالنصوص التي فيها النهي عما لم يذكر اسم الله عليه، فكيف يشترط في الذابح أن يكون مسلمًا أو كتابيًا ولا يشترط أن يذكر اسم الله، واشتراط هذا أبين في الكتاب والسنة. قوله: (على ما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "جردوا التسمية"). قال ابن التركماني في كلامه على أحاديث الهداية: لم أره، يعني في كتب الحديث. قوله: (والأصل فيه قوله عليه السلام: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين"). هذا اللفظ غير محفوظ، وإنما أخرج الدارقطني: "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة"، ولكن في طريقه سعيد بن سلام قال الدارقطني: متروك الحديث [يحدث] بالبواطيل. قوله: (لقوله عليه السلام: "افر الأوداج ما شئت" وهو اسم جمع وأقله الثلاث).

الحديث غير معروف بهذا اللفظ وإنما المعروف/ حديث رافع بن خديج قال: "قلت: يا رسول الله إنا نلقي العدو غدًا وليس معنا مدى؟ فقال عليه السلام: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنًا ولا ظفرًا، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" رواه الجماعة، وللنسائي وأبي داود واللفظ له عن عدي بن حاتم "قلت: يا رسول الله أنذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله" ويروى: امر. وصوب الخطابي: امر -ساكنة الميم، خفيفة الراء- أي اسله وأجره، وللبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "كل ما أفرى

الأوداج غير مثرد". قال أبو عبيد: قال أبو زياد الكلابي: التثريد أن تذبح بشيء لا حد له، فلا ينهر الدم ولا يسيله. وقوله: وهو اسم جمع وأقله الثلاث، مشكل؛ لأنه معرف بأل، فبطل معنى الجمع، والمسألة معروفة، وفي كلام المصنف مؤاخذة أخرى لفظية، وهي قوله: إن الأوداج اسم جمع وليس كذلك في اصطلاح النحاة، وإنما هو جمع، واسم الجمع كقوم ورهط ونفر وذلك معروف في كتب النحو. قوله: (لقوله عليه السلام: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر، فإنها مدى الحبشة"). لم يرد الحديث بهذا اللفظ في كتب الحديث، وإنما ورد كما تقدم،

وليس في شيء من طرقه: وأفرى الأوداج، ولا تفسير السن والظفر بأنهما مدى الحبشة، وإنما فيه "وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة". قوله: (ولنا قوله عليه السلام: "أنهر الدم بما شئت" ويروى "أفر الأوداج بما شئت" وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك، ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود وهو إخراج الدم، وصار كالحجر والحديد بخلاف غير المنزوع لأنه يقتل بالثقل فيكون في معنى المنخنقة). المروي في كتب الحديث ما تقدم ذكره في حديث [عدي] بن حاتم وهو "أمرر الدم بما شئت" براءين، أو "امر الدم" بميم ساكنة وراء، وذكر "أفر الأوداج" إنما هو من كلام ابن عباس كما تقدم. وقوله: وما رواه محمول على غير المنزوع، لم يستدل على هذه الدعوى

إلا بأن الحبشة كانوا يفعلون ذلك وهذا يحتاج إلى نقل أنهم لم يكونوا يفعلون إلا ذلك لا أنهم كانوا يفعلون ذلك، ومن أين لنا أنهم لم يكونوا يذبحون بالظفر المنزوع وإنما كانوا يذبحون بغير المنزوع فقط، ولفظ الحديث يعم النوعين. وقوله: ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود، وهو إخراج الدم وصار كالحجر والحديد. جوابه: إن الشارع أخرجه عن صلاحيته للذكاة الشرعية وقد نبه على العلة، والشارع قد زاد على انهار الدم شروطًا أخر، منها التسمية ومنها تعيين المحل حالة الاختيار، ومنها شروط في الذابح، وشروط في الآلة، فكما لا تجوز ذبيحة المجوسي والمحرم لا يجوز الذبح بالسن والظفر. وقوله: بخلاف غير المنزوع؛ لأنه يقتل بالثقل، فيكون في معنى المنخنقة. جوابه: أن الثقل الذي يكون مع غير المنزوع يكون مثله مع المنزوع بل مع كل محدد، فإن كل محدد لا بد مع إمراره على الذبح من التثقيل بالكبش والآلة غير قاطعة بنفسها، بل لابد معها من شد الساعد، فشد الساعد مع الظفر المنزوع كشده مع غير المنزوع، بل قد يكون الظفر القائم أحد من الحجر المحدد ونحوه ومن بعض المدى فلم تكن العلة في المنع القتل بالثقل، بل ما

نحر ما يذبح وذبح ما ينحر

أشار إليه الشارع -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"/ ولم يجعل الشارع العلة القتل بالثقل ولا أشار إليه، فالتعليل بالعلة التي علل بها الشارع أولى من التعليل بغيرها. قوله: (والمستحب في البقر والغنم الذبح فإن نحرهما جاز ويكره -إلى أن قال- خلافًا لما يقوله مالك رحمه الله أنه لا يحل). لا يخالف مالك رحمه الله في حل ما نحر من البقر والغنم، وإنما حكى أنه لا يجوز في الإبل إلا النحر؛ لأن أعناقها طويلة، فإذا ذبح تعذب بخروج روحه، وقال ابن المنذر: إنما كرهه ولم يحرمه، وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر، ولا يباح غيرها إلا بالذبح، ذكر ذلك في المغني. قوله: (وله أنه أصل في الحياة حتى يتصور حياته بعد موتها وعند ذلك

يفرد بالذكاة ... إلى آخره). يعني الجنين، أي يجب إفراده بالذكاة عند أبي حنيفة رحمه الله لما ذكر، وما ذكره من التعليل لا يصلح في معارضة ما استدل به الصاحبان من الحديث، ولم يجب المصنف عن استدلالهما بالحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين: "ذكاته ذكاة أمه" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وقد أجاب بعض الأصحاب عن ذلك بأن المراد أن ذكاته كذكاة أمه، أي أنه يذكي كما تذكي أمه. كما في قول القائل: بنونا بنو أبنائنا، ويدفع هذا التأويل ما ورد في بعض طرقه "قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجين أنلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" رواه أحمد

تحريم ذي الناب والمخلب

وأبو داود، وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن. انتهى، ولا معارضة له، وهو قول عامة الصحابة والتابعين، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه إلى أن جاء النعمان. * * *

فصل

فصل قوله: (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع" وقوله: "من السباع" ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما فيتناول سباع الطير والبهائم لا كل ما له مخلب أو ناب، والسبع كل مختطف منتهب جارح فاتك عادٍ عادة). الأحاديث الواردة في تحريم ذي الناب والمخلب منها: حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع" رواه الجماعة، وحديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" رواه الجماعة إلا البخاري وأبا دواد، وحديث ابن عباس قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

وحديث جابر -رضي الله عنه- قال: "حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" رواه أحمد، والترمذي، ولم أر في شيء منها كما ذكره المصنف من تقديم ذي مخلب على ذي الناب. ولو ورد كما قال لا يدل على ما ادعاه من أن قوله: من السباع. ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما، فيتناول سباع الطير والبهائم لا كل ما له مخلب أو ناب، بل قوله: من الطير. صفة لذي مخلب، وقوله: من السباع. صفة لذي ناب، ولا يصح أن يكون قوله: من السباع. صفة لكل ذي مخلب وكل ذي ناب؛ لأنه وصف كل ذي [مخلب] بكونه من الطيور، ولا يحتاج أن ينصرف قوله: من السباع. إلى الطير والبهائم بل المراد ماله مخلب يعد به، فلم يتناول قوله: كل ذي مخلب من الطير، غير سباع الطير، وهذا من باب حذف الصفة لقيام قرينة تدل عليها، كما في قوله/ تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى} أي على القاعدين من أولي الضرر يدل على هذا قوله: {وكلا وعد الله

حكم الضبع والثعلب

الحسنى} والقاعدون من غير أولي الضرر ليسوا ممن وعدهم الله الحسنى والقرينة التي دلت هنا على أن المراد كل ذي مخلب من الطير يعدو به أنه لولا هذا التقدير المغا: هذا التركيب إذ كل طير له مخلب ولو أريد تحريم لحم الطيور كلها لم يكن ذي مخلب منها فكان ذكر المخلب للتنبيه على علة التحريم، وأفرد سباع البهائم بالذكر لأن لها آلة أخرى تكسر بها وهي الناب. وقوله: والسبع كل مختطف منتهب جارح فاتك عاد عادة. ما أدري ما قصده بهذا الإطناب والإسهاب الزائد في وصفه، ولا حاجة إلى ذكر هذه الصفات كلها، وذكر بعضها كافٍ في التعريف. قوله: (ويدخل فيه الضبع والثعلب فيكون الحديث حجة على الشافعي رحمه الله في إباحتهما). أما الضبع فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار قال: "قلت لجابر

-رضي الله عنه-: الضبع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: أكلها؟ قال: نعم، قلت: أقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم" رواه الخمسة وصححه الترمذي. قالوا: وهي تخلط فتشبه الدجاجة، قال ابن المنذر: وحكم عمر -رضي الله عنه- في الضبع يقتله المحرم كبشًا وبه قال ابن عباس، ورويناه عن علي -رضي الله عنه- "أنه كان يرى الضبع صيدًا" وقد روينا الرخصة فيه عن سعد ابن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة، وكان عطاء والشافعي يريان فيه الجزاء على المحرم، ورخص في أكله أحمد وإسحاق وأب ثور. انتها. وأما الثعلب فلم يرد فيه ما يعارض عموم تحريم كل ذي ناب من السباع، ولهذا لم يقل بحل أكله كل من قال بحل الضبع من العلماء، وإنما حكاه ابن المنذر عن طاووس وقتادة والشافعي وأبي ثور، قال: واختلف فيه عن

حكم الضب

عطاء وزاد في المغني: الليث وسفيان بن عيينة ورواية عن أحمد. قوله: (والفيل ذو ناب فيكره). لا خلاف في حرمة الفيل، وكان الأولى أن يقول: فيحرم لئلا يوهم بقوله: فيكره. أنه لم يبلغ درجة التحريم. قوله: (وأما الضب فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عائشة رضي الله عنها حين سألته عن أكله وهو حجة على الشافعي في إباحته). هذا حديث باطل لم يثبت وينسب إلى أبي حنيفة رواية، ولم يثبت وصوله إليه، وإنما احتج محمد بن الحسن بما روي عن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدي له ضب فلم يأكله فقام عليهم سائل فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [أتعطينه ما لا تأكلين؟ " قال محمد رحمه الله: فقد

دل ذلك على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-]: كره لنفسه ولغيره أكل الضب" قال: فبذلك نأخذ، هكذا ذكره عنه الطحاوي. ثم قال: قيل له: ما في ذلك دليل على ما ذكرت، قد يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه السائل [لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إياه، وكان ما تطعمه السائل] فإنما هو لله عز وجل، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يكون ما يتقرب إلى الله تعالى إلا من خير الطعام، كما قد نهى أن يتصدق بالبسر الرديء والتمر الرديء. ثم اختار الطحاوي إباحته، ذكره في شرح معاني الآثار، وهو الصحيح

ويشهد للمعنى الذي أشار إليه الطحاوي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} الآيتين، وقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ويدل على إباحته حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أخبره أنه دخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ميمونة وهي خالته، وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبًا محنوذًا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله فرفع رسول الله يده، فقال خالد بن الوليد: "أحرام الضب يا رسول الله، قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر فلم ينهني" رواه الجماعة إلا الترمذي.

وعن ابن عمر -رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه" متفق عليه، وفي رواية عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان معه ناس فيهم سعد، فأتوا بلحم ضب فنادت امرأة من نسائه: إنه لحم ضب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي" رواه أحمد ومسلم. وعن جابر -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال في الضب: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحرمه وإن عمر قال: إن الله لينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته" رواه مسلم وابن ماجه، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت". وعن أبي سعيد "أن أعرابيًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني في غائطٍ

مضبة، وإنه عامة طعام أهلي قال: فلم يجبه، فقلنا: عاوده، فعاوده، فلم يجبه، ثلاثًا، ثم ناداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الثالثة فقال: يا أعرابي إن الله لعن أوغضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، ولا أدري لعل هذا منها، ولست آكلها ولا أنهى عنها" رواه أحمد ومسلم. وقد صح عنه عليه السلام أن الممسوخ لا نسل له، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي، وأن تردده في الضب كان قبل الوحي بذلك، والحديث يرويه ابن مسعود -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت عنده القردة قال مسعر: وأراه قال: الخنازير مما مسخ فقال: إن الله لم يجعل للمسخ نسلاً ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك" وفي رواية: "أن رجلاً قال: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ الله؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لم يهلك قومًا، أو لم يعلم قومًا، أو لم يعذب فيجعل لهم نسلاً" روى ذلك أحمد ومسلم.

حكم الحشرات

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت" "أهدي لنا ضب فقدمته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يأكل منه، فقلت: يا رسول الله ألا تطعمه السؤال؟ فقال: إنا لا نطعم مما لا نأكله" أخرجه البيهقي، وكأن هذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف، ولا دليل فيه على الكراهة، بل هو من جنس ما تقدم، وهو أنه عافه فلم يأكل منه، وترك التصدق به لئلا يجعل لله ما يكره، وإنما ينبغي أن يجعل لله كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وذم من يجعل لله ما يكره، فقال تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} الآية. قوله: (وإنما تكره الحشرات كلها استدلالاً بالضب لأنه منها). تقدم التنبيه على ما في أكل الضب من السنة فلا يصح قياس الحشرات عليه. قوله: (لما روى خالد بن الوليد: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير").

أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والطحاوي والدارقطني والبيهقي ولكنه ضعيف لا يصلح لمعارضته حديث جابر المتفق على صحته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" رواه البخاري ومسلم والنسائي/ وأبو داود وفي لفظ: "أطعمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر" رواه الترمذي وصححه.

وقد ذكر المصنف بعد هذا حديث جابر المذكور وقال: إن حديث جابر معارض لحديث خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، ولكنه لا يعارض الحديث إلا بحديث مثله، وهذا لا يقع لأن الأدلة الصحيحة لا تتعارض إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر والله أعلم بالصواب. قوله: (وعن علي -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدر المتعة وحرم لحوم الحمير الأهلية يوم خيبر"). متفق عليه ولفظه: "نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية"، واتفق أهل الحديث على أن تحريم لحوم الحمر الأهلية كان يوم خيبر، وأما متعة النساء ففيها اضطراب. ففي الصحيحين من حديث علي -رضي الله عنه- "أن تحريم متعة النساء كان يوم خيبر" كما تقدم ذكره، ولكن قد صح "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أباحها عام الفتح ثم حرمها"، فقالت طائفة: حرمت مرتين، يروى عن الشافعي رحمه الله

أنه قال: "لا أعلم شيئًا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا متعة النساء -قال-: نسخت مرتين" وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لم تحرم إلا عام الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة. قالوا: وإنما جمع علي -رضي الله عنه- بين الأخبار بتحريمها وتحريم الحمر الأهلية، لأن ابن عباس كان يبيحهما، فروى له علي تحريمها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردًا عليه، وكان تحريم الحمر الأهلية يوم خيبر بغير شك فذكر يوم خيبر ظرفًا لتحريم الحمر الأهلية، وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بوقت، كما جاء ذلك في مسند أحمد بإسناد صحيح "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وحرم متعة النساء"، وفي لفظ "حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر" هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مبينًا، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن التحريم فقيدهما به. ثم جاء بعضهم فاقتصر على أحد المحرمين، وهو تحريم الحمر، وقيده

بالظرف، فمن هنا نشأ الوهم وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات، ولا ورد أنهم استأذنوا في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس للتمتع في غزوة خيبر ذكر البتة، وإنما وطؤهن بملك اليمين بعد الأمر بخلاف غزاة الفتح فإن قصة المتعة فيها -فعلاً وتحريمًا- مشهورة، قال الشيخ شمس الدين ابن القيم في الهدي: وهذه الطريقة أصح الطريقين. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} خرج مخرج الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها). فيه نظر فإن سورة النحل مكية، وكانت حينئذ الخيل والبغال والحمر حلالاً، فإن تحريم الحمر الأهلية إنما كان يوم خيبر بعد الهجرة بست سنين أو

حكم أكل الأرنب

سبع، وبهذا أجاب الواحدي في تفسيره، وهو في غاية القوة، ويمكن أن يقال في حكمة ترك الامتنان بالأكل في حق الخيل والحمير إن أعلى أنواع الانتفاع بها إنما هو الركوب والزينة، وإن كانت مع ذلك تؤكل ويحمل عليها ولكن الحمل على الإبل أكثر خصوصًا عند قطع المفاوز، فإنه لا يصبر غيرها على العطش مثلها، فلذلك ذكر الحمل في الإبل فقال تعالى: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكولوا بالغية إلا بشق الأنفس}، وكذلك الأكل منها لكثرتها وكبر أجسامها، ولو سلط الأكل على الخيل والبغال لقلت، وفات المعنى المختص بها فكذلك ترك الامتنان فيها بالأكل والحمل عليها، والله أعلم. قوله: (ولا بأس بأكل الأرنب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-/ أكل منه حين أهدى إليه مشويًا وأمر أصحابه بالأكل منه). هذا اللفظ غير محفوظ وإنما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأرنب قد شواها ومعها صنابها وأدمها

فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يأكل وأمر أصحابه فأكلوا" رواه أحمد والنسائي، وفي حديث أنس -رضي اله عنه- قال: "أنفجنا أرنبًا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله بوركها وفخذها فقبله" رواه الجماعة. قوله: (ولنا قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} وما سوى السمك خبيث). فيه نظر، فإن استخباث ما سوى السمك مجرد دعوى فيكفي في جوابها المنع، فإن الأثمة الثلاثة وغيرهم على إباحة غير السمك من حيوان

الماء، وإن كان قد حصل بينهم خلاف في استثناء بعضه. وقال الشعبي: لو أكل أهلي الضفادع لأطعمتهم. وروي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: "كل ما في البحر قد ذكاه الله لكم" وعموم قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} يدل على إباحة جميع صيده، وروى عطاء وعمرو بن دينار أنهما بلغهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم" فكيف يكتفي في الاستدلال على من يدعي أن هذا من الطيبات بمجرد دعوى أنه من الخبائث، والأصل الحل إلى أن يرد منع، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أعظم المسلمين من المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته" متفق عليه. والذين يعتبر استطابتهم واستخبائهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم الذين نزل القرآن عليهم وخوطبوا به وبالسنة، فيرجع في مطلق

ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم، ولا يعتبر أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجد ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون؟ فقال: ما دب ودرج إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية، وإذا كان أكثر العلماء على القول بجواز أكل غير السمك من حيوان الماء فكيف يصح الاستدلال بدعوى أن ما عدا السمك من حيوان الماء خبيث. قوله: (ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دواء يتخذ فيه الضفدع). يشير إلى حديث عبد الرحمن بن عثمان "أن طبيبًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها" أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي، ويجب أن يقال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل الضفدع، ولا يقال: نهى عن دواء يتخذ فيه الضفدع. قوله: (ونهى عن بيع السرطان). هذا الحديث لا أصل له في كتب الحديث.

قوله: (والصيد المذكور فيما تلاه، محمول على الاصطياد، وهو مباح فيما لا يحل). فيه نظر من وجهين: أحدهما: قوله: والصيد المذكور فيما تلاه محمول على الاصطياد، يعني قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} فإن الظاهر أن المراد من الصيد المصيد، وإن كان مجازًا وذلك لوجوه: أحدها: عطف طعامه على صيد وهو بمعنى المطعوم قطعًا. ثانيها: قوله تعالى: {وطعامه متاعًا لكم وللسيارة} وهو عائد إلى صيد البحر وطعامه، والمتاع إنما هو المصيد لا المصدر. ثالثها: أن البحر لا يصاد، وإنما يصاد حيوانه فيحتاج حينئذ إلى تقدير محذوف أي أحل لكم صيد حيوان البحر، والأصل عدم التقدير. الثاني: قوله: وهو مباح فيما لا يحل؛ لأن إتلاف الحيوان لغير أكله ولا دفع شره حرام، وإنما ورد الإذن/ بقتل الفواسق والوزغ ونحوها لدفع

شرها، وورد النهي عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك لعدم شرها وعدم جواز أكلها، ونهى عن أن تصبر البهائم أي تقتل صبرًا، وأن يتخذ ما فيه الروح غرضًا؛ لأنه لا يحل أكله بذلك فيكون مقتولاً لغير أكله، وإن سلم جواز صيد ما ينتفع بجلده من الحيوان

لأجل جلده فأكثر حيوان الماء ليس له جلد ينتفع به. وظاهر النص يدل على جواز أكل كل صيد البحر، سواء أريد بالصيد المصدر أو اسم المفعول، فلا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل لا بمجرد دعوى أن ما عدا السمك من الخبائث. قوله: (والميتة المذكورة فيما روى محمولة على السمك، وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"). يشير بقوله: والميتة المذكورة فيما روي، إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه أحمد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وقوله: أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو

حكم الطافي من حيوان البحر

ضعيف، ولكن أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم أخي عبد الرحمن، وقد وثقه أحمد وابن المديني وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن عمر، وقال: هذا قبله الإمام أحمد رحمه الله. قوله: (ما روى جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا" وعن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- مثل مذهبنا، وميتة البحر: ما لفظه البحر، ليكون موته مضافًا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة). هذا الحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث، وعن أبي بكر الصديق

-رضي الله عنه- قال: "الطافي حلال" وعن عمر -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} قال: "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- "طعامه ميتته إلا ما ما قذرت منها" ذكر ذلك البخاري في صحيحه. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "غزونا جيش الخبط وأمرنا أبو عبيدة فجعنا جوعًا شديدًا، فألقى البحر حوتًا ميتًا لم ير مثله يقال له: العنبر فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه فمر الراكب تحته قال: فلما قدمنا المدينة، ذكرنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كلو رزقًا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم بشيء منه فأكله" متفق عليه.

ولا يقال: إن الصحابة كانوا مضطرين فأكلوه للضرورة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل منه، ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون قد نضب عنه الماء أو لفظه، لأنه قال: فألقى البحر حوتًا ميتًا، فعلم أن الموج ألقاه إلى الساحل بعد أن مات في الماء، وقال ابن المنذر: وممن قال إن معنى قوله: وطعامه متاعًا لكم، أن طعامه ما قذف، ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-، وقال ابن عمر: طعامه ما ألقى، وقال ابن عباس: طعامه. ميتته، وقال مرة: ملحه. وقد رورينا عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر أخبارًا تدل على إباحة ذلك تختلف ألفاظها، وروينا عن أبي أيوب "أنه أكل سمكة طافية". وفي ما طفا من السمك على الماء قول ثان: وهو أن يؤكل ما يوجد في حافتي البحر، ويؤكل ما جزر عنه، ولا يؤكل ما كان/ طافيًا منه، هذا قول جابر بن عبد الله، وروينا عن ابن عباس، وممن كره أن يؤكل الطافي

من السمك طاووس وابن سيرين وجابر بن زيد وأصحاب الرأي، ثم ذكر الاختلاف في أكل الجري والطافي وغير ذلك. انتهى. وإذا كان الحكم بين الصحابة في الطافي هكذا مختلفًا فيه، تحمل كراهة من كرهه - إن ثبت عنه- على التنزه لا على التحري، كما كره النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل الضب، وأكله خالد بين يديه وهو ينظر إليه، ولا ينهاه، وأخبر أنه غير حرام ولكنه لم يكن بأرض قومه فعافته نفسه، وكذلك ما عدا السمك من حيوان الماء غير الضفدع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتلها، فدل على عدم جواز أكلها، فإنه لم يتفق العلماء على استخباثه، أعني ما عدا السمك من حيوان الماء، وفي مسائل النزاع لا يكون قول البعض حجة على البعض، فلا يصح استدلال المصنف بأنه نقل عن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا خصوصًا إذا كان القول مخالفًا لقول الأئمة الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع أنه في ثبوته نظر. قال أبو محمد بن [حزم]: أما الرواية عن جابر فلا تصح، لأن

أبا الزبير، لم يذكر فيه سماعًا من جابر، وهي عن علي لا تصح لأن ابن فضيل لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاطه، وهي عن ابن عباس من طريق أجلح وليس بالقوي. انتهى. وقوله: وميتة البحر: ما لفظه البحر، ليكون موته مضافًا إلى البحر، لا ما مات فيه من غير آفة، مجرد دعوى وإلا فالإضافة صادقة، ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، وأيضًا فالميتة إنما حرمت لاحتقان الدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك كانت سبب الحل، ولا دم في السمك فاستوى الطافي وغيره، بل وكل حيوان الماء، ولهذا [لا] ينجس بالموت، ولو لم يكن في المسألة نصوص لكان هذا القياس كافيًا ولهذا يؤكل ما يوجد من الجراد ميتًا، وقد أجاب المصنف عن هذا فيما بعد بأسطر: إنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي، وقد تقدم التنبيه على ضعفه.

حكم الجراد

قوله: (وسئل علي عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيه الميت وغيره، فقال: كله كله). روى البيهقي عنه رضي الله عنه قال: "الحيتان والجراد ذكي كله" وهو حجة في جواز أكل الميتة من الجراد قبل أخذه والطافي من السمك، فلا يجوز أن يؤخذ بقوله في ميت الجراد دون طافي السمك. * * *

كتاب الأضحية

كتاب الأضحية

كتاب الأضحية قوله: (ووجه الوجوب قوله عليه السلام: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا"). رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وقال: الصواب موقوف، ولو استدل على الوجوب -بقوله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" وبأنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع

حكم الأضحية

الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة في الأمر في قوله تعالى: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} وقد قال تعالى: {فصل لربك وانحر}، وقال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} الآيات لكان أظهر. قوله: (والأصح أن يضحي من ماله، ويأكل منه ما أمكنه ويبتاع بالباقي ما ينتفع بعينه). يعني من مال الصغير وفي تصحيحه نظر فإن أصل دليل الوجوب على كل إنسان ضعيف وعلى الصغير أضعف، فإن الصغير ليس من أهل الوجوب ولا وجه لما ذكره المصنف من معنى المؤنة بل فيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه فيه تضييع شيء من مال الصغير، فإن الذبح ينقصها ولا يستطيع أكلها، ولا يقال:/ يجبر النقص الأجر فإن الصغير يؤجر على الطاعات أجر متنفل، فإنه ليس من أهل الوجوب وإنهم يدعون الوجوب. الثاني: أن القول ببيعها لا يجوز لورود النهي عن بيع لحوم الأضاحي وجلودها، وأقل مراتبه الكراهة، فكيف يكون القول به صحيحًا فضلاً عن كونه أصح.

إجزاء الأضحية عن أهل البيت الواحد

قوله: (ويذبح عن كل واحد منهم شاة أو يذبح بقرة أو بدنة عن سبعة، والقياس أن لا يجوز إلا عن واحد، لأن الإراقة واحدة وهي البقرة، إلا أنا تركناه بالأثر، وهو ما روي عن جاب -رضي الله عنه أنه قال: "نحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة"، ولا نص في الشاة فبقي على القياس- إلى أن قال-: وقال مالك رحمه الله: تجوز عن أهل البيت الواحد، وإن كانوا أكثر من سبعة، ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل منها لقوله عليه السلام: "على كل أهل بيت في كل عام أضحاه وعتيرة"). حديث جابر المذكور رواه مسلم ولفظه قال: "كنا نتمتع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العمرة، فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها"، وفي رواية قال: "نحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية البدنة عن السبعة والبقرة عن السبعة" وفي أخرى قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحج والعمرة كل سبعة عن بدنة" وحضر جابر الحديبية قال: "نحرنا يومئذ سبعين

بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة" وحضر جابر الحديبية قال: "نحرنا يومئذ سبعين اشتركنا كل سبعة في بدنة" هذه الروايات كلها عن جابر -رضي الله عنه- في الهدي خاصة. أما الأضحية فعنه -رضي الله عنه- قال: ذبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الذبح كبشين أملحين أقرنين موجوءين، فلما وجهها قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر" ثم ذبح. رواه أبو دواد. وعنه -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه فقال: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي" رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

وعن عطاء بن يسار قال: "سألت أبا أيوب الأنصاري كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: كان الرجل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى" رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. وعن الشعبي عن أبي سريحة قال: حملني أهلي على الجفاء بعدما علمت من السنة كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين، والآن يبخلنا جيراننا. رواه ابن ماجه وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بكبش ليضحي به، فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد" رواه مسلم. وفي البخاري عن زهرة بن معبد "أنه كان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله" والحديث الذي ذكره المصنف للاستدلال لمالك على جواز

تعريف الفرع والعتيرة

البدنة عن أهل البيت وإن كثروا، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن غريب. ولكن نسخت العتيرة بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا فرع ولا عتيرة" والفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه، والعتيرة في رجب، متفق عليه. وقال ابن المنذر: "نبئت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-/ نحر عن آل محمد في حجة الوداع [بقرة] واحدة"، وجاء الحديث عنه "أنه دعا بكبش فذبحه، وقال: باسم اله والله أكبر عني وعن من لم يضح من أمتي".

واختلفوا في الرجل يضحي بشاة عنه وعن أهل بيته فكان مالك والليث ابن سعد والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يجيزون ذلك وقدروي هذا المعنى عن أبي هريرة وابن عمر واحتج أحمد بفعل أبي هريرة وابن عمر [و] بذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمته، قال أبو بكر: وكره ذلك الثوري والنعمان وبالقول الأول أقول الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال على ذلك. انتهى. والأحاديث المتقدمة في جواز الأضحية الواحدة عن أهل البيت لا تمنع جواز الاشتراك في الإبل والبقر عن سبعة، ولو ضحى رجل عنه وعن أهل بيته بشاة أو بقرة أو بدنة أجزأ عنهم، وإن كثروا عملاً بالأحادي الواردة في

حكم الأضحية للمسافر

ذلك كلها، وإجزاء البدنة عن سبعة مروي عن علي، وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم-، وبه قال عطاء وطاووس وسالم والحسن وعمر بن دينار والثوري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه، وعن ابن عمر: لا تجزئ نفس واحدة عن سبعة، ونحوه قول مالك، ذكر ذلك في المغني. قوله: (وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين وعن علي -رضي الله عنه- "ليس على المسافر جمعة ولا أضحية").

وقت الأضحية

لم أر ذلك في شيء من كتب الحديث، وإنما المنقول عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أنهما كانا لا يريان وجوب الأضحية مطلقًا سفرًا وحضرًا كما تقدم وهو من جملة ما استدل به من قال بعدم وجوبها. قوله: (ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر). جمهور العلماء الأئمة الثلاثة وغيرهم على أن غير أهل الأمصار

أيضًا لا يجوز أن يضحوا قبل طلوع الشمس، بل لا يدخل وقت التضحية في حقهم إلا بعد ارتفاع الشمس وقدر الصلاة، وفي قدر الخطبة خلاف بينهم، وأما جواز التضحية قبل ذلك بعد طلوع الفجر في حق غير أهل الأمصار، فهل قول عطاء وإسحاق مع أبي حنيفة وأصحابه. قالوا: لأن يوم النحر يوم كسائر الأيام وأوله بطلوع الفجر إلا أن أهل الأمصار لا يضحون قبل الصلاة لاحتمال التشاغل به عن الصلاة، وهذا يرد عليه من لم يحضر لصلاة العيد من أهل الأمصار لعذر أو لغير عذر، ولأن صلاة العيد غير فرض، فإنه لا يجوز له أن يضحي قبل فراغ المصلين من صلاة العيد فكذلك أهل السواد. قوله: (وما رويناه حجة على مالك والشافعي رحمهما الله في نفيهما الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام). ليس ما ذكره عن الشافعي مذهبه، قال ابن المنذر: فكان الشافعي يقول: إذا برزت الشمس ومضى من النهار قدر ما يدخل الإمام في الصلاة فيصلي

ركعتين ويخطب خطبتين خفيفتين حل الأضحى. كذا انتهى. وحكى الغزالي في البسيط وجهًا آخر، وهو أن يمضي بعد ارتفاع الشمس قدر صلاة طويلة وخطبتين طويلتين، ثم قال: هذا ما ذكره العراقيون، وأما المراوزة قالوا: تعتبر قدر خطبتين خفيفتين قطعًا، وإنما الخلاف في قدر الركعتين وطولهما قال عليه السلام: "قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل" ونقل ابن المنذر والغزالي لمذهب الشافعي أصح فليعلم. قوله: (وقوله عليه السلام: "من باع جلد أضحية فلا أضحية له"). أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة، ولم يثبت، وأولى من

حكم التضحية بالشاة المغصوبة

الاستدلال به، الاستدلال بحديث أبي سعيد أن قتادة بن النعمان أخبره "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام فقال: إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم، وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها، وإن أطعمتم من لحمها فكلوا إن شئتم" رواه أحمد. قوله: (ومن غضب شاة فضحى بها ضمن قيمتها وجاز عن الأضحية لأن ملكها بسابق الغصب بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها لأنه يضمنه بالذبح فلم يثبت إلا بعد الذبح). قال زفر مع بقية الأئمة رحمهم الله: إنه لا يجوز به عن الأضحية في الموضعين وهو رواية عن أبي يوسف وهذه أقوى إنه وإن ملك الشاة بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الغصب لكن كل مستند مقتصر من وجه فلا يتأدى به القربة مع قصور الملك بل مع عدمه فإنها بالذبح والسلخ لا تخرج عن ملك المالك بالاتفاق لما تقدم في كتاب الغصب أن اسم الشاة باقٍ عليها بعد الذبح والسلخ فلا تخرج عن ملك المالك إلا بأن شواها الغاصب بعد ذلك أو

طبخها، وكيف يقال بجواز التضحية بشاة الغير، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبل الله صدقة من غلول" والغصب أردى من الغلول [فالغلول] له فيه شبهة، ولا شبهة له في المغصوب وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يكسب العبد مالاً حرامًا فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلا النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" ذكره البغوي بسنده في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}.

كتاب الكراهية

كتاب الكراهية قوله: (وأتى أبو هريرة -رضي الله عنه- بشراب في إناء فضة فلم يقبله، وقال: نهانا عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-). الذي في الصحيحين "أن حذيفة استسقى فأتاه دهقان بإناء فضة فرماه به، وقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحرير والديباج وعن الشراب في آنية الذهب والفضة، وقال: هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، ولم أر ما ذكر المصنف عن أبي هريرة في كتب الحديث. قوله: (ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبلور والعقيق، وقال الشافعي رحمه الله: يكره لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به). الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله خلاف ذلك، ومن نسبه المصنف إلى الشافعي قول ضعيف لا يعول عليه في مذهبه فلا ينبغي نسبته إليه.

قوله: (وفي الجامع الصغير: إذا قالت جارية لرجل: بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها لما قلنا). لابد من تقييد ذلك بأن يغلب على الظن صدقها بأن تقوم قرينة على صدقها من جريان العادة بينهم بمثل ذلك، وإلا فاللذي جرت به العادة في مثل ذلك أن يرسلها على يد غيرها، وقول المصنف: لأنه لا فرق بين ما أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها، فيه نظر بل بينهما فرق، وهو أن هذا مما جرت العادة بمثله وهذا لم تجر العادة بمثله، ومن أخبر بما يكذبه فيه الظاهر يتهم في إخباره، وكيف يستباح فرجها بقولها مع تكذيب الظاهر لها، ويحتمل أن يكون حبها إياه حملها على ذلك. قوله: (وله ما روي "أنه عليه السلام جلس على مرفقة حرير وقد كان على بساط عبد الله بن عباس مرفقة حرير").

لا يعرف هذا في كتب الحديث، بل في صحيح البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشرب في آنية الذهب/ والفضلة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه". وفي صحيح مسلم عن علي -رضي الله عنه- قال: "نهاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس على المياثر"، والمثاثر شيء كانت تصنعه النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف من الأرجوان، وأيضًا فاسم اللبس ينطلق على الافتراش كما في حديث أنس: "فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس"، وأيضًا فقد ورد تحريمه على الرجال غير مقيد باللبس، فيشمل سائر أنواع

الانتفاع إلا ما استثناه الشارع. قوله: (ولأن الثوب إنما يصير ثوبًا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت المعتبرة دون السدى). فيه نظر، بل لا قيام للثوب إلا بالسدى واللحمة، ولولا السدى لما تصورت اللحمة، ولو اعتبر فيه الكثرة والقلة كما اعتبره الشافعي وأحمد رحمها الله لكان أقوى فإن الأكثر يقوم مقام الكل في مواضع، والقليل تابع

التختم بغير الفضة

للكثير والعبرة للغالب والمغلوب كالمعدوم. قوله: (وفي الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة، وهذا نص على أن التختم بالصفر والحديد، ثم قال: ومن الناس من أطلق في الحجر الذي يقال له يشب لأنه ليس بحجر إذ ليس له ثقل الحجر، وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه). في قوله: وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام، وقوله بعد ذلك: وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه، فيه نظر؛ لأن تنصيص محمد بن الحسن في الجامع الصغير على أنه لا يتختم إلا بالفضة، وإطلاقه الجواب في الكتاب يحتاج أن يستدل له، ولا يستدل به، فإن قول محمد وغيره من الأئمة الثلاثة لا يكون دليلاً على الحكم، وقد ورد النهي من الشارع عن التختم بالحديد والصفر والذهب، ولم يثبت عنه في النهي عن

ربط الرجل الخيط في يده يتذكر به الحاجة

التختم بالحجر لا العقيق ولا غيره شيء فيكون مما عفي عنه. وقوله: لأنه ليس بحجر يعني اليشب، فيه نظر، قال في المغرب: اليشب حجر [إلى] الصفرة يتخذ منه خاتم ويجعل في حمالة السيف فينفع المعدة. انتهى، وما أظن في كونه حجرًا خلافًا. قوله: (ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط لحاجة ويسمى ذلك الرتم والرتيمة، وكان ذلك عادة العرب قال قائلهم: لا ينفعك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بعض أصحابه بذلك). فيه نظر من وجوه: أحدها: في قوله: ويسمى ذلك الرتم والرتيمة. وقد روى ابن الجوزي ربطه -صلى الله عليه وسلم- الخيط في أصبعه لتذكر الحاجة في الموضوعات عن ابن عمر، وعن

واثلة ورافع بن خديج، فإن الرتم اسم جنس واحده رتمة كقصبة وقصب، وشجرة وشجر، وتجمع الرتيمة على رتائم، فصوابه أن يقول ويسمى ذلك رتمة ورتيمة. الثاني: في استشهاده بالبيت المذكور إذ ليس المراد منه خيط التذكرة، وإنما معناه أن الرجل من العرب كان إذا خرج في سفر عمد إلى شجر بالبادية يقال له: الرتم، الواحدة رتمة، فشد بعض أعضائه ببعض، فإذا رجع وأصابه على تلك الحال قال: لم تحني امرأتي، وإن أصابه وقد انحل، قال: خانتني، هكذا قاله غير واحد من أهل اللغة، ولو استشهد بقول الآخر: إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسكم ... فليس بمغنٍ عنك عقد الرتائم لكان استدلالاً صحيحًا. الثالث: في الحديث الذي أوردته فإنه لم يثبت.

المراد من الزينة في آية النور

قوله: (قال علي وابن عباس -رضي الله عنهم-: ما ظهر منها الكحل والخاتم، والمراد موضعهما وهو الوجه والكف). في الاستدلال نظر، فإن محل الكحل العينان ومحل الخاتم الأصبع ولو استدل -بما نقل عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وعطاء وسعيد بن جبير أن ما ظهر منها الوجه والكف، كذا ذكره ابن التركماني عن البيهقي -لكان أظهر، وروى أبو داود في سنته عن عائشة "أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهم- دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليها ثباب رقاق فأعرض عنها، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه" ولم أر النقل عن علي -رضي الله عنه- في ذلك. قوله: (لقوله عليه السلام: "من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة

صب في عينيه الآنك يوم القيامة"). ولم ار هذا في شيء من كتب الحديث/ والمعروف] "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة" وهو في الصحيح. قوله: (والمحرم قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل، وضع على كفه جمر يوم القيامة" -وقوله- وقد روي أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يدخل على بعض القبائل التي كان مسترضعًا فيهم، وكان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- استأجر عجوزًا لتمرضه وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه). لم أر هذا في شيء من كتب الحديث المشهورة.

قوله: (ويروى "ما دون سرته حتى يجاوز ركبته" -وقوله-: وقد روى أبو هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الركبة من العورة"). الحديث الأول لا يعرف في كتب الحديث، والثاني أخرجه الدارقطني من حديث علي -رضي الله عنه- وسنده ضعيف، ولا يعرف من حديث أبي هريرة كما ذكره المصنف، وتقدم الكلام في العورة في باب شروط الصلاة. قوله: (ووجه الفرق أن الشهوة عليهن غالبة وهي كالمتحقق اعتبارًا، وإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين ولا كذلك إذا اشتهت المرأة، لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارًا، فكانت من جانب واحد، والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق في جانب واحد).

فيه نظر من وجهين: أحدهما: دعواه أن شهوة النساء أغلب من شهوة الرجال. والثاني: وجود الشهوة من الجانبين حقيقة واعتبارًا إذا اشتهى الرجل، ووجودها من جانب واحد إذا اشتهت المرأة، أما الأول فالصحيح أن شهوة الرجل أغلب من شهوة المرأة لغلبة الحرارة على الرجال، وغلبة الرطوبة على النساء، وهذا من لطف الله وحكمته فإن الرجل يشرع له التسري بما لا عدد له والتزوج بأربعة من النساء، وقد كان التزوج أيضًا غير محصور بعدد في شريعة موسى وغيره، بخلاف المأة فلو ركب في المرأة الشهوة أكثر مما ركب في الرجال أو نظيره لكان في ذلك ضرر عظيم، والحكمة تأبى ذلك، ولهذا إذا عاود الرجل أهله لا يجد عندها من الانبعاث نظير ما عنده، ولهذا يقدر كثير من الرجال على إتيان عدة من النساء في الليلة الواحدة، وقد يكون في

أفراد النساء من هي أقوى شهوة من بعض الرجال ولكن الحكم للأغلب الأعم. ولو قال: إن النساء لنقص عقلهن لا يملكن أنفسهن عند الشهوة لكان أولى من دعواه أن شهوتهن أغلب من شهوة الرجال. وأما الثاني: فلو سلم أن شهوة المرأة أغلب م شهوة الرجل لا يلزم من نظره إليها بشهوة أن توجد الشهوة منها، خصوصًا إذا لم تنظر إليه أصلاً، فكيف يمكن اعتبار الشهوة منها وهي لم تنظر بالكلية، وإن كان المراد أنه نظر إليها بشهوة مع نظرها إليه بغير شهوة لا بدون نظرها فلم يفصل ذلك، ولو سلم فإذا كان النظر مظنة الشهوة لا ينظر إلى غلبتها في حق بعض الأفراد كما في السفر فإن المشقة وإن كانت في حق السوقة أغلب من الملوك لا يختلف حكمه في حقهم لذلك، وسبب شهوتها نظرها لا نظره كما في حقه فكيف يتغلظ الإثم بنظره دونها. قوله: (والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك"). هذا اللفظ غير محفوظ، وإنما المعروف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: "قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ

عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" الحديث رواه الخمسة، وقد استثنى الشيخ مجد الدين ابن تيمية في الأحكام النسائي وهو وهم، وقد رواه النسائي أيضًا في عشرة النساء. قوله: (ولأن ذلك يورث النسيان لورود الأثر، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: "الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة").

كلا الأثرين لا أعرف من ذكرهما، وروى الطرطوسي بإسناده عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ينظر أحدكم إلى فرج جاريته إذا جامعها فإن ذلك يورث العمى" ولم يثبت. قوله: (لقول عائشة -رضي الله عنها- "الخصاء مثله فلا يبيح ما كان حرامًا/ قبله"). لا أعرف من ذكر هذا الأثر أيضًا. قوله: (والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى تضع ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" أفاد وجوب

حكم استبراء المسيبة

الاستبراء على المولى، ودل على السبب في المسبية وهو استحدث اليد والملك؛ لأنه هو الموجود في مورد النص وهذا لأن الحكمة فيه التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط والأنساب عن الاشتباه، وذلك عند حقيقة الشغل أو توهم الشغل بماء محتوم وهو أن يكون الولد ثابت النسب). فيه نظر من وجوه: أحدها: لفظ الحديث المذكور "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" رواه أحمد وأبو داود والبيهقي بهذا اللفظ. الثاني: قوله: ودل على السبب في المسبية وهو استحداث اليد والملك؛ لأنه هو الموجود في مورد النص، فإنه لا دلالة فيه على أن السبب هو

استحداث اليد والملك، ولم يستدل على ذلك إلا بأنه هو الموجود في مورد النص، ثم جعل الحكمة فيه تعرف براءة الرحم، وفي ذلك نزاع بين العلماء. ومن تأمل النص حق التأمل ظهر له منه أن المراد بغير ذات الحمل من يجوز أن تكون حاملاً وأن لا تكون فيمسك عن وطئها مخافة الحمل لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها، وهذا قاله في المسبيات لعدم علم السابي بحالهن وعلى هذا فكل من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك هل اشتملت على حمل أم لا لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وهذا أمر معقول، وليس بتعبد محض فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرة التي لا تحمل مثلها، والتي اشتراها من امرأته وهي في بيته لا تخرج أصلاً ونحوها، ممن يعلم براءة رحمها، يؤيده ما في مسند أحمد مرفوعًا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثييبًا من السبايا حتى تحيض". وذكر البخاري في صحيحه: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة، ولا تستبرأ

العذراء". وذكره عنه عبد الرزاق أيضًا، ولفظه: "إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء"، ومذهب مالك رحمه الله إلى هذا المعنى يرجع، وكذا أبو يوسف وابن سريج من الشافعية. وكيف يقال: إنه يجب الاستبراء على من باع أمته من امرأته ثم تقايلا في المجلس ولا يجب إذا وطئها ثم زوجها من يومه ثم باعها ثم طلقها الزوج كل ذلك في يوم واحد، وأنه يجوز للمشتري أن يطأها من غير استبراء، والحالة هذه، قال أبو عبد الله المازري المالكي: والقول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء، وكل من غلب على الظن كونها

حاملاً أو شك في حملها أو تردد فيه فالاستبراء لازم فيها، وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه مع الظن الغالب يجوز حصوله فإن المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء أو سقوطه، ثم خرج على ذلك الفروع المختلف فيها ولا شك أن الاستبراء استفعال من البراءة فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها، فإذا علم ذلك لا حاجة إلى زيادة المدة وإذا لم يعلم ذلك كيف يسوغ له الإقدام على وطئها مع احتمال الشغل وماذا عسى أن تنفع الحيلة على إسقاطه الاستبراء أفبالحيلة استخرج ما في رحمها لو كان مشغولاً، فقول مالك ومن وافقه -أنه إذا تيقن بفراغ رحمها من ماء البيع فلا استبراء عليه فيها- أقوى. قال السغناقي في شرحه في تعليل قول أبي يوسف أن الاستبراء كاسمه ليتبين فراغ الرحم وقاسه بالمطلقة، قبل الدخول. انتهى. فالحق أن سبب وجود الاستبراء إرادة الوطء بشرط تجدد الملك مع توهم الشغل بهذا القيد، هذا الذي تشهد له أحاديث الاستبراء بخلاف العدة فإن في تلك تربصًا زائدًا على معرفة براءة الرحم بحق الزوج وغيره كما تقدم كما في انتقاض الطهارة بالنوم، فإنه وإن كان مظنة الحدث لكن لابد من توهم الحدث حتى لو نام قاعدًا لم تنتقض طهارته لأنه لا يتوهم الحدث في هذه الحالة فكذلك من اشترى جارية من زوجته مثلاً وقد حاضت عنه فهذه توهم الشغل فيها منتف، فلا حاجة إلى الاستبراء.

الثالث: قوله: أوتوهم الشغل بماء محترم، وهو أن يكون الولد ثابت النسب، فإنه لا معنى لتقييده بكونه ثابت النسب لأنه إن لم يكن ذلك الماء محترمًا فماؤه هو محترم فلا يخلطه به، ويحمل/ على نفسه ولد زنا والأحاديث الواردة في الاستبراء لا فصل فيها بين ثابت النسب وغيره. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره" رواه الترمذي، يعني الحبالي من السبي من غير فصل بين ثابت النسب وغيره، على أن تعليله بكون الولد ثابت النسب ينافي إيجابه الاستبراء على من اشترى جارية من امرأة، والجارية غير مزوجة. قوله: (وعن محمد رحمهما الله أنها لا تحرم). يعني دواعي النكاح في حق المسبية، وهذا القول أقوى لما روى حماد بن سلمة قال: حدثنا علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي عن

ابن عمر قال: "وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة، قال ابن عمر: فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون"، ولو استدل بهذا على جواز الدواعي في حق المستبرأة مطلقًا كما قال الحسن البصري لكان قويًا، لأن ما ذكر من الفرق وهو احتمال انفساخ البيع بظهور حبل من سيدها، لا يقوى، لأن هذا بناء على تحريم بيع أمهات الأولاد وفيه ما فيه، ولا يلزم القال به لأنه لمااستمتع بها كانت ملكه ظاهرا ًوذلك يكفي في جواز الاستمتاع كما يخلو بها ويحدثها وينظر منها ما لا يباح من الأجنبية. قوله: (والحيلة إذا لم تكن تحت المشتري حرة -إلى آخره-). تقدم في كتاب الشفعة التنبيه على بطلان مثل هذه الحيلة لأنها حيل على إبطال حق، والحكمة التي شرع لأجلها الاستبراء تفوت بالحيلة على

إسقاطها فتكون الحيلة باطلة، ويجب أن يعامل بضد قصده من بقاء الاستبراء كما في القاتل والفار. قوله: (ولهما ما روي أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن المكامعة -وهي المعانقة- وعن المكاعمة -وهي التقبيل" وما رواه محمول على ما قبل التحريم، وقوله: وقال عليه السلام: "من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه"). هذان الحديثان غير معروفين، وتفسير المكامعة بالمعانقة فيه نظر وإنما فسرت في كتب اللغة بالمضاجعة وهي أخص من المعانقة، وإنما أخرج أبو داود عن أبي ريحانة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن مكامعة الرجل الرجل

بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار"، وفسرت المكامعة بالمضاجعة، وقد ورد في المصافحة غير ما ذكره المصنف، وليس في شيء منه "وحرك يده" فيما أعلم. قوله: (وكذا إذا أخبره مخبر أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها وأربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان، لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته، وإنكار فساده". تقدم في الرضاع التنبيه على ما في ذلك من الإشكال، وهنا إشكال

آخر وهو قوله: والإقدام على العقد يدل على صحته، وحقه أن يقول: والإقدام على العقد يدل على دعوى صحته أو على صحته عنده، وإلا فالإقدام على العقد لا يكون دليلاً على نفس الصحة، وهذا هو مراد المصنف ولكن إطلاق الصحة هنا يوهم فلا ينبغي أن يجوز. قوله: (لقوله عليه السلام: "من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه"). رواه أحمد وهو ضعيف ولم يثبت في الاحتكار غير قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من احتكر فهو خاطئ" انفرد به مسلم، وروايه سعيد بن المسيب عن معمر، وكان كل منهما يحتكر فيحمل على أن النهي إذا كان يضر الاحتكار بأهل البلد، وأن احتكار سعيد ومعمر كان عند عدم الضرر، وذكر ذلك بمعناه

الحافظ ضياء الدين بن عمر الموصلي في كتابه: المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم لم يصح شيء في هذا الباب. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق"). هذا اللفظ غير معروف، والمحفوظ حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "قال الناس: يا رسول الله إلا السعر، سعر لنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال" أخرجه أبو دواد وابن ماجه/ والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

قوله: (ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا -إلى آخره). اتخاذ العصير خمرًا فعل محرم فالإعانة عليه محرمة، لأن حرمة الإعانة على المعصية مطلقة في قوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق بأن المعصية لا تقام بعين العصير بل بعد التغيير، فإن الإعانة على المعصية حاصلة سواء أقيمت المعصية بعين المبيع أو بعد تغيره، فإن اتخاذ العصير خمرًا معصية والبائع منه قد أعانه على ذلك فكان بذلك عاصيًا، وقد "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة، منهم: عاصرها". فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة فكان أولى بدخوله في اللعن، [والعصير وإن كان يقع على العنب لكن لما كان المعصور محرمًا حرمت الوسيلة إليه سدًا للذريعة لأن الدافع أسهل من الرفع].

حكم تأجير المكان لمن يستخدمه في معصية

قوله: (وله أن الإجارة ترد على منفعة البيت ولهذا يجب الأجر بمجرد التسليم ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه). لا يصلح هذا جوابًا عما استدل به أبو يوسف ومحمد رحمهما الله من أنه إعانة على المعصية، فإن اتخاذ بيت للنار أو اتخاذ الكنيسة والبيعة، واتخاذ بيت لبيع الخمر معصية، فالإعانة على ذلك معصية، وقد ورد في تعزيز الخمار إحراق حانوته الذي يبيع فيه الخمر، فإذا شرع إتلاف هذا البيت بالإحراق الذي هو أبلغ من الهدم لرفع هذه المعصية فالمنع منها والدفع عنها بعدم جواز إجارة البيت [لها] أولى. وقوله: ولهذا يجب الأجر بمجرد التسليم ولا معصية فيه، ممنوع، بل كما أن المعصية بفعل المستأجر في البيت فالإعانة على ذلك معصية لأن الإعانة على المعصية معصية. قوله: (وله أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به، والحديث محمول على الحمل المقرون

حكم بيع دور مكة ورباعها

بقصد المعصية). كون شربها معصية لا يمنع أن يكون حملها معصية، وإن لم يكن الشرب من ضرورات الحمل، فالحمل مفض إليه معين عليه، وحرمة عصر الخمر واعتصارها وحملها وتحميلها ونحو ذلك بمنزلة دواعي الزنا من اللمس والقبلة والنظر بشهوة، فكما تحرم الدواعي تحرم هذه الدواعي. وقوله: والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية: ممنوع بدليل "لعن عاصرها" ولا يتصور في العصر الاقتران بالشرب ولأن الأمر باجتنابها يقتضي النهي عن حملها أيضًا فيكون حملها مخالفًا للأمر باجتنابها فيكون أولى باللعن من عاصرها. قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه السلام: "مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث" -ثم قال-: ويكره إجارتها أيضًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أجر أرض مكة فكأنما أكل الربا"). هذا الحديثان لا يعرفان بهذا اللفظ وإنما ورد معناهما في حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله عز وجل حرم مكة، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها، ومن أكل من أجور بيوت مكة

شيئًا فإنما يأكل نارًا" أخرجه الحارثي في مسند الإمام أبي حنيفة، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من جهته، ولكن رواه أبو حنيفة عن عبيد الله بن أبي زياد، عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، وابن أبي زياد ضعيف، والصواب أنه موقوف على عبد الله بن عمر. قالوا: ورفعه وهم هكذا قاله الدارقطني وأبو عبد الرحمن السلمي والبيهقي. قوله: (ومن وضع درهمًا عند بقال يأخذ منه ما شاء، يكره ذلك لأنه ملكه قرضًا وجر به نفعًا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالاً فحالاً "ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قرض جر نفعًا").

في كون هذا من باب قرض جر نفعًا- نظر، بل كلما أخذ شيئًا من البقل ووجب ثمنه في ذمته وقعت المقاصة بنظيره من ذلك الدرهم فالنفع مشترك بينهما ليس مختصًا بالمقرض وحده، فلا يكون قد رجع إلى المقرض نظير رأس ماله وزيادة خالية عن العوض حتى يقال: إن تلك الزيادة في معنى الربا. قوله: (والآية محمولة على الحضور استيلاءً واستعلاءً أو طائفتين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية). في الحمل على ذلك وحده نظر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} / فإن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات، وكان المشركون يأتونهم بالطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقرة وضيق العيش، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: {وإِن خفتم عيلة} أي فقرًا وفاقة {فسوف يغنيكم الله من فضله} الآية، وإنزال وفد ثقيف في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يلزم منه جواز

دخولهم المسجد الحرام لأن الله تعالى خص المسجد الحرام بخصائص فاق بها سائر المساجد فلا يقاس على غيره فظهرت قوة قول الشافعي رحمه الله. قوله: (روي أنه كان من دعائه عليه السلام: "اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة"). وهذا لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكر في بعض الكتب التي يذكر فيها الغث والسمين.

حكم اللعب بالشطرنج

قوله: (وهو محكي عن الشافعي رحمه الله). يعني جواز اللعب بالشطرنج المحكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال عن الشطرنج لم يتبين لي تحريمه، ولم يصح عنه القول بجواز اللعب بالشطرنج. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم خنزير"). لم يرد لفظ الشطرنج في الحديث، وإنما ورد في حديث بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في دم خنزير" وفي رواية: "غمس يده في لحم خنزير ودمه" أخرجه مسلم، وأخرج أبو داود الثانية. وفي حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

"من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله" أخرجه مالك في الموطأ، قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي فيه حديث منكر عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله" وهذا إسناد عن مالك مظلم، وهو حديث موضوع باطل. انتهى. ولكن التحريم ثبت في الشطرنج بدلالة النص لأنه أشغل عن ذكر الله منه، فإن الشطرنج يحتاج إلى فكر زائد يستغرق الذهن أكثر من النرد فكان أحق بالمنع منه. قوله: (لقوله عليه السلام: "ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر"). إنما حكاه البيهقي من كلام القاسم بن محمد ولا يعرف مرفوعًا.

قوله: (وقبل هدية بريرة وكانت مكاتبة). الظاهر أن هدية بريرة إنما كانت بعد اعتاقها، يعرف ذلك بالتأمل في المحكي من قضيتها، فإن عائشة -رضي الله عنها- اشترت بريرة وأعتقتها، وخيرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المقام مع زوجها أو فسخ النكاح، فاختارت نفسها وفسخت النكاح، وهذا كان أول تعلقها بآل البيت وكانت الهدية بعد ذلك، وهذا هو الظاهر والله أعلم قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام: "بعث عتاب بن أسيد إلى مكة"). لم يبعثه إلى مكة، وإنما كان بمكة فأسلم عام الفتح فاستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكة حين خرج إلى حنين ولم يزل أميرًا عليها حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقره أبو بكر إلى أن مات هو وأبو بكر في يوم أحد.

حكم سفر غير الحرة بدون محرم

قوله: (ولا بأس أن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها وإن امتنع بيعها). فيه نظر، فإن نهي المرأة أن تسافر بغير زوج أو محرم عام في كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، فدخلت الأمة فيه، وخوف الفتنة شامل للأمة والحرة، بل قد يكون بعض الإماء أحسن من بعض الحرائر، فيكون خوف الفتنة فيها أغلب، وهذا مما لا شك فيه، وأما كون الأجانب في حق الإماء بمنزلة المحارم فيما يرجع إلى النظر والمس فللحاجة إلى ذلك لأجل الخدمة، وهذا يكون في حال قيامها بالخدمة، ولا حاجة إلى السفر بها فيمنع منه، وأيضًا فقد "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخلوة بالأجنبية"، وفي السفر بأمة الغير الخلوة بالأجنبية فكيف يقال إن ذلك يجوز وهو مما نهى عنه باعتبارين: /أحدهما: السفر بغير محرم. الثاني: الخلوة بها وهي أجنبية. * * *

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصبٌ لشرع). الحديث أخرجه الطبراني في معجمه وفي سنده عمرو بن واقد؛ ضعيف، وقد تقدم ذكره في باب الغنائم، وإن كان ضعيفًا لا يصلح لتقييد ما روياه من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" رواه أحمد،

حريم البئر وغيره

وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، ويؤيده حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمر أرضًا لأحد فهو أحق بها" رواه أحمد والبخاري، وعنها -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، ومن أحيا من موات الأرض شيئًا فهو له، وليس لعرق ظالم حق" أخرجه البيهقي، ولأبي داود عن عروة قال: "أشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتًا فهو أحق به، جاءنا بهذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين جاؤوا بالصلوات عنه" ومثل هذا لا يحتمل التأويل بل هو نصب شرع. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حفر بئرًا فله مما حولها أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته" -ثم قال- لهما قوله عليه الصلاة

والسلام: "حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعًا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعًا"). أخرج الحديث الأول ابن ماجه، وفي سنده إسماعيل المكي وهو ضعيف، والثاني لم أره. وروى الدارقطني والخلال بإسنادهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حريم البئر

البدي خمس وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا" وروى أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: "السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعًا والبدي خمس وعشرون ذراعًا" وبإسناده عن سعيد بن المسيب قال: "حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعًا من نواحيها كلها، وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها، وحريم البئر العادية خمسون ذرعًا من نواحيها"، وإلى هذا التقدير ذهب أحمد. وقال القاضي وأبو الخطاب من أصحابه: ليس هذا على طريق التحديد

بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها فإن كان بدولاب فقدر مدار الثور أو غيره، وإن كان بساقية فقدر طول البئر لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حريم البئر مد رشائها"، أخرجه ابن ماجه وإن كان المستخرج عينًا فحريمها القدر الذي يحتاج إليه [صاحبها للانتفاع بها، و [لا] يستضر بأخذه منها ولو على ألف ذراع، وحريم النهر من جانبيه] ما يحتاج إليه لطرح كرايته بحكم العرف في ذلك لأن هذا إنما ثبت للحاجة فينبغي أن يراعي فيه الحاجة دون غيرها" ذكر ذلك في المغني، وإذا كان التقدير الأول غير ثابت فالمصير إلى الثاني أو إلى ما قاله القاضي وأبو الخطاب أظهر، وهو قول الشافعي رحمه الله.

قوله: (والعام المتفق على قبوله والعمل به أولى عنده من الخاص المختلف في قبوله والعمل به). يعني بالعام قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفر بئرًا فله مما حولها أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته" وقد تقدم ذكر بعض ما فيه من الخلاف، فلم يكن العام المذكور متفقًا على قبوله. * * *

فصل في مسائل الشرب

فصل في مسائل الشرب قوله: (منها ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي حتى أن من أراد أن يكري منها نهرًا إلى أرضه لم يمنع من ذلك -ثم قال-: والثاني: ماء الأودية العظام كجيحون وسيحون ودجلة الفرات). عطفة جيحون وسيحون ودجلة والفرات على البحار دليل على أن مراده من البحار المالحة التي لا تجري كبحر القلزم والبحر الرومي وغيرهما وفي

ذلك نظر، فإن الماء الملح الأجاج لا ينتفع به لشرب الشفة أصلاً، لا للآدميين ولا للبهائم، ولا تسقي به الأراضي ولا يحكم عليها لتسقي به بل هو واقف لا يجري ولا يروي من العطش، قال الله تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} وقال تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون}، والأجاج هو الذي مع كونه ملحًا مر. قوله: (وفي مثله قال عمر -رضي الله عنه-: "لو تركتم لبعتم أولادكم"). يعني في مثل إلزام أهل النهر المشترك بكريه، لم أر هذا من كلام عمر ولا غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-.

قوله: (وفي الشرب بخلاف البيع والصدقة والهبة والوصية بذلك حيث لا تجوز العقود إما للجهالة أو للغرر أو لأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن إذا سقي من شرب غيره إلى آخره). كلام المصنف هنا يناقض كلامه في البيوع في باب البيع الفاسد فإنه قال هناك: إن الشرب يجوز بيعه مفردًا في رواية وهو اختيار مشايخ بلخ لأنه حظ من الماء، ولهذا يضمن بالإتلاف، وله قسط من الثمن على ما

ذكره في كتاب الشرب، فقوله: ولهذا يضمن بالإتلاف، يناقض قوله: حتى لا يضمن إذا سقي من شرب غيره مناقضة ظاهرة. * * *

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة قوله: (وهي النيئ من ماء العنب إذا صار مسكرًا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم، وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر). في تسمية -من كان ذلك معروفًا عندهم- أهل العلم، وتسميته- من قال: إن الخمر اسم لكل مسكر- بعض الناس، تحامل وعصبية فإن الذين قالوا: إن الخمر اسم لكل مسكر من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن

عمر وأبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأنس وعائشة -رضي الله عنهم-. ومن التابعين والأئمة عطاء وطاووس ومجاهد والقاسم وقتادة وعمر ابن عبد العزيز والحسن ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ذكر بعضهم ابن المنذر والباقين ابن قدامة في المغني، والمخالفون لهم أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري وابن أبي ليلى وغيرهم من علماء الكوفة والبصرة ونسبوا قولهم هذا إلى بعض الصحابة، ولم يثبت. وقال أبو عمر بن عبد البر: إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي وهذه زلة عالم، وقد حذرنا من زلة العالم. انتهى. وقد رجح جماعة من الأصحاب قول محمد بن الحسن الموافق لمن ذكر منهم أبو الليث السمرقندي فكيف يقال عن أولئك بعض الناس بعد أن يقال عن هؤلاء إنهم أهل العلم، وسيأتي عن قريب التنبيه على ما استدل به أولئك

شمولية اسم الخمر لما يصنع من العنب وغيره

إن شاء الله تعالى وإن كان مراده أن القائلين بتسمية المسكر خمرًا لا يقولون إنها خمر حقيقة بل مجازًا فهذا غير مسلم فإن التفريق بين الحقيقة والمجاز اصطلاح حادث ولا تحقيق يحبب هذا التفريق بعد الإتفاق على حكم التحريم والتسمية في الكل هنا عند من ذكروا اتفاقهم مؤيد بالكتاب والسنة. قوله: (ولنا أنه خاص فإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيرِه غيرُه، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها ظنية وإنما سمي خمرًا لتخمره لا لمخامرته العقل على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصًا فيه، فإن النجم مشتق من الظهور ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر، وهذا كثير النظير والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين والثاني أريد به بيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة). فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: إنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة.

وجوابه: أن صاحب المحكم حكى فيه عن أبي حنيفة الدينوري أنه قال: قد يكون الخمر من الحبوب هذا من ناقلي اللغة. وعن أنس -رضي الله عنه-: "إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر" متفق عليه، وفي لفظ قال: "حرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر" رواه البخاري، وفي لفظ: "لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر" رواه مسلم.

وعن أنس أيضًا -رضي الله عنه- قال: "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها" متفق عليه، وعن ابن عمر قال: "تنزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب" رواه البخاري. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر -رضي الله عنه- قال/ على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما بعد: أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل" متفق عليه. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، وفي لفظ: "كل

مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه مسلم والدارقطني، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" رواه الجماعة إلا البخاري، وعن عبد الله بن ابي الهذيل قال: "كان عبد الله يحلف بالله أن التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حرمت الخمر أن يكسر دنانه وأن يكفأ ثمره التمر والزبيب" روه الدارقطني. وهذه نصوص لا يجوز الاعتراض عليها تدل على أن اسم الخمر لا يختص بالمسكر من عصير العنب لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- هم أهل اللسان، ولو خالفهم غيرهم لا يلتفت إلى خلافه، لأن فهم من خوطب بالقرآن لمعانيه، أولى من فهم غيرهم، ولو لم يرد من السنة زيادة على ما في الكتاب من تحريم الخمر، وقلنا إنها حقيقة في عصير العنب إذا أسكر لكان غيره من المسكرات محرمًا بدلالة النص لأنه مثله

من كل وجه إذ المعنى الذي حرم لأجله قليل عصير العنب إذا أسكر كثيره -وهو سد الذريعة إلى الكثير- موجود في غيره وإن لم يكن بدلالة النص فبالقياس، فإنه إن لم يكن هذا قياسًا صحيحًا فليس في الدنيا قياس صحيح وكيف يقاس الجص على الحنطة في تحريم الربا بجامع الكيل والجنس ولا يقاس بقية الأنواع المسكرة على الخمر التي هي من عصير العنب بعلة الإسكار التي قد نبهنا الله عليها بقوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذا المعنى موجود في كل مسكر إن لم يكن داخلاً في اسم الخمر كما ذكرتم، كيف وقد ثبت بما تقدم أن اسم الخمر شامل لكل مسكر. الثاني: قوله: ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيره غيره. وجوابه: أن غلبة الاستعمال لا تدل على الاختصاص كما أن غلبة استعمال ذوي الأرحام على من لا فرض له ولا تعصيب لا يمنع من أنه يعم جميع الأقارب، وغلبة استعمال السعي على العدو لا يمنع من أنه يشمل كل شيء، وغلبة استعمال الجائز على المباح لا يمنع شموله الواجب والمستحب وشواهد ذلك من الكتاب والسنة والكلام الفصيح كثيرة. الثالث: قوله: ولأن حزمة الخمر قطيعة وهي في غيرها ظنية.

وجوابه: أن ذلك لو سلم لا يمنع من الاستدلال على تحريم قليل ما أسكر كثيرة إذ لو منع لانسد باب الاستدلال بالكتاب والسنة في مسائل النزاع، وقد قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} على أن القطع والظن أمر نسبي فقد يكون الحكم ظنيًا عند شخص وهو قطعي عند غيره، وإن كان لا يكفر جاحده لتأويله، بل يكون مأجورًا على اجتهاده مغفورًا له خطؤه، وهكذا الحكم في كل مسائل الخلاف. الرابع: قوله: وإنما سمي خمرًا لتخمره لا لمخامرته العقل. وجوابه: أن عبارات أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر اختلفت على ثلاثة معان متقاربة كلها موجودة لا يلزم من إثبات أحدها نفي ما عداه كما ادعاه المصنف: أحدها: أنه من التخمر أي تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين أي بلغ إدراكه، واختمر الرأي أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، والمعنى في ذلك كله: أنه قد غطى حتى أدرك غايته. ثانيها: أنه من المخامرة وهي المخالطة لأنها تخالط العقل، مأخوذ من قولهم: دخلت في خمار الناس أي اختلطت بهم. ثالثها: أنها سميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره وكل شيء غطيته فقد خمرته.

الخامس: قوله: على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصًا به، فإن النجم مشتق من الظهور ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير./ وجوابه: أن النجم وإن لم يسم به كل ما ظهر لا يختص به ما غلب عليه وهو الثريا، بل يسمى به سائر النجوم وكذلك الخمر وإن لم يسم بها كل ما غطى العقل من غير إسكار كالبنج والنوم ونحوهما لا يختص به ما غلب عليه وهو المسكر من عصير العنب بل يسمى به كل ما غطى العقل مسكرًا. السادس: قوله: والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين. يشير بذلك إلى ما رواه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي عن أبي عون الفرائضي، قال: سمعت عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: ثلاثة أحاديث لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل مسكر حرام"، "ولا نكاح إلا

بولي"، و "من مس ذكره فليتوضأ"، وقد قال ابن الجوزي: لا يثبت عن يحيى، وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء بمس الذكر، وكان يحتج بحديث بسرة كذلك رواه الدارقطني عنه. انتهى. مع أن الطعن المبهم لا يصح، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل مسكر خمر" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وقد خرجه أبو عمر بن عبد العزيز من طرق في التمهيد، وحكى تصحيح أحمد له، وكفى بتصحيح أحمد ومسلم له، مع أن الأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة غير هذا الحديث منها: الحديث الثاني الذي ذكره المصنف وهو

حكم قليل سائر المسكرات غير الخمر

قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" رواه الجماعة إلا البخاري، ولم يرده المصنف إلا بأنه أريد به بيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة، ويجب مقابلته بالسمع والطاعة ومقابلة بقية الأحاديث منها [بـ] ما تقدم ذكره ومنها عائشة رضي الله عنها، قالت: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البتع؟ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال: كل شراب أسكر فهو حرام". وعن أبي موسى قال: "قلت يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه- فقال: كل مسكر حرام" متفق عليهما. ويضيق هذا المختصر عن بسط ما في ذلك من الأحاديث، وقد ذكر في معارضتها أحاديث لم يثبت منها شيء بل كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تصلح لمعارضة ما ذكر. قوله: (وهو غير معلول عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر

المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليل لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء). الذي ادعى بعده هو القريب الذي تشهد له السنة بالصحة كما تقدم في الأحاديث المذكورة، وقد جاء في السنن عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر وصححه الدارقطني. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل ما أسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" رواه أحمد

وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وعن سعيد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قليل ما أسكر كثيره" رواه النسائي والدارقطني، وعن بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء، فانتبذوا فيكل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا" رواه مسلم. وقوله: وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، يشير إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- "حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب" وسيأتي التنبيه على ضعف هذا الحديث عن قريب إن شاء الله تعالى، وقال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها في كتاب الأوسط. انتهى.

هل تعد الخمر مالا

ولم يعدل محمد بن الحسن عن قول شيخه في هذا إلا لما تبين له من الحق. وقوله: وتعليل لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء. جوابه: أن هذا ليس من باب تعدية الاسم بل من باب شمول الاسم المشتق له كما في خبز الشعير وخبز الرز وخبز الذرة ونحو ذلك، فإن اسم الخبز يشمل الكل لمعنى الخبز وإن كان الاسم يغلب في كل بلد على ما يتعارفونه وليس ذلك من باب تعدية الاسم ولو لم يكن الاسم شاملاً لغير المسكر من عصير العنب، فعلة الإسكار شامل للكل، والقليل/ من الكل داع إلى الكثير للذة النشوة في كل مسكر، ولا تصح دعوى الاختصاص. قوله: (واختلفوا في سقوط ماليتها، والأصح أنه مال لأن الطباع تميل إليها وتضن بها). فيه نظر، فإن المسلم مأمور باجتنابها بنص القرآن، والقول بماليتها مضاد لذلك ولا يميل إليها ويضن بها إلا كافر أو فاسق، وإن مال الطبع إليها لما يسمع عنها من اللذة فالضنة بها لا تقع من مؤمن إلا أن يكون فاسقًا، بل يجتنبها ويتلفها امتثالاً لأمر ربه، بل صاحب الطبع السليم يبعد عنها لما فيه من المفاسد كما ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "لم أشربها في الجاهلية ولا

في الإسلام" وكذلك نقل عن غيره أيضًا، فلا يصح التعليل بميل الطبع إليها ولا الضنة بها. قوله: (إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر إلى آخره). فيه نظر، وقول محمد بن الحسن لمن تقدم ذكره، هو الحق يجب اعتقاده لما تقدم ذكره من السنة، وأيضًا فعن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" رواه أحمد وأبو داود وأخرج أحمد وابن ماجه معناه عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، وأخرج ابن ماجه أيضًا معناه من حديث أبي أمامة، وأخرج النسائي عن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

حكم الخليطين

قوله: (ولا بأس بالخليطين لما روي عن ابن زياد -رضي الله عنه- أنه قال: "سقاني ابن عمر شربة ما كدت أهتدي إلى أهلي فغدوت إليه من الغد، فأخبرته بذلك، فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب"). هذا الأثر لم يثبت عن ابن عمر -رضي الله عنه- كيف وهو راوي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل مسكر خمر" كما تقدم، وعلى تقدير صحته يمكن أن يكون ابن عمر لم يعلم أنه قد اشتد بعد فسقاه، ولو علم أنه قد بلغ حد الإسكار لأراقه، كما قال أبو داود: سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فقال: لا بأس به، قلت: إنهم يقولون: يسكر فقال: لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر -رضي الله عنه- وهكذا يقال عن بن عمر -رضي الله عنهما-: لو كان قد علم أنه يسكر ما أحله، يؤيده ما ذكر ابن عبد البر في التمهيد بسنده أن ابن عمر -رضي الله عنه- "نهى أن ينبذ الزهور والرطب جميعًا والبسر والتمر جميعًا".

قوله: (وما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن الجمع بين التمر والزبيب وبين الرطب والبسر" محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء). يعني بالشدة الجذب والغلاء، وفيه نظر، بل لأنه تسرع إليه قوة الإسكار لأن أحدهما يقوي الآخر فيسرع تخمره كما في النهي عن الانتباذ في النقير والمزفت والحنتم والدباء لأن هذه الأوعية تقوي إسراع التخمر إليه فيدب فيه الإسكار وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرًا وهو لا يدري فحماهم عن ذلك ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- بين أن المعنى الذي نهاهم عنه لأجله عن الانتباذ في هذه الأوعية ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، ولا يقوي ما ذكره

المصنف من المعنى وهو أنه نهى عن الخليطين لأجل ما أصاب أهل المدينة من الجدب والقحط لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال بعد نهيه عن الخلط: "انتبذوا كل واحد على حدته" متفق عليه، وقال في لفظ: "من شربه منكم فليشربه زبيبًا فردًا أو تمرًا أو بسرًا فردًا" رواه مسلم والنسائي. وانتباذ كل واحد على حدته بمفرده لا يكون فيه توفير شيء فلو انتبذ صاعًا من تمر مرة وصاعًا من زبيب مرة كان كما لو انتبذ نصف صاع تمر ونصف صاع زبيب مرة ثم انتبذ مثل ذلك مرة أخرى سواء بسواء، ويدل على أن هذا المعنى هو المراد وهو الخوف من أن يقوي أحدهما الآخر ما رواه المختار بن فلفل عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع بين شيئين مما ينتبذان مما يبغي أحدهما على صاحبه" الحديث رواه النسائي، وقد كان ينتبذ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخليطان ويشربه بسرعة كما في حديث عائشة -رضي الله عنها/ قالت: "كنا ننبذ لرسول الله في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنظرحهما فيه ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربة عشية، وننبذه عشية

فيشربه غدوة" رواه ابن ماجه. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة" خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم). فيه رد على من يخص الخمر بالكرمة وحدها، قد ورد في السنة الصحيحة الزيادة على ما في هذا الحديث وهو موافق للقياس الصحيح على ما تقدم، ومعنى الحديث المذكور والله أعلم: أن الأعم الأغلب أن تكون الخمر من هاتين الشجرتين، وقد ورد مثل هذا المعنى في صيغ الحصر كما في قوله تعالى: {إنما أنت نذير} وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الربا في النسيئة" متفق عليه والمراد حصر الكمال. قوله: (لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان).

يعني نبيذ العسل والتين والحنطة والشعير، وفيه نظر بل كل ما يسكر كثيره فقليله يدعو إلى كثيره، ودعوى الاختصاص إنما نشأت والله أعلم من اعتقاد الفرق بين المسكر من عصير العنب وبين غيره من المسكرات، وقد تقدم التنبيه على ضعف الفرق. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" ويروى "بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شرب"). أخرجه النسائي والبيهقي والطحاوي من كلام ابن عباس نفسه ولم يثبت مرفوعًا، وفي لفظ للنسائي "والمسكر من كل شراب" بالميم، وهذه الرواية موافقة، لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فيجب رد الرواية الأخرى إليها، وأن راويها بغير ميم واهم في روايته.

قوله: (ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا). فيه نظر، فإن القدح الأخير إنما يصير مسكرًا بما تقدمه لا بانفراده بنفسه، وقد أجاب السغناقي رحمه الله عن هذا الإشكال: بأنه لما وجد السكر بشرب القدح الأخير أضيف الحكم إليه لكونه علة معنى وحكمًا، وهذا لأن المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوي بدنه حلال، وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام، ثم المحرم منه هو المتخم وهو ما زاد على الشبع، وإن كان هذا لا يكون متخمًا إلا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب، إلى هذا أشار في المبسوط. انتها. وهذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه تعليل مقابلة النص فقد ثبت -بما تقدم ذكره من السنة الصحيحة المشهورة الموضحة لما دل عليه الكتاب- التسوية بين المسكر من عصير العنب وبين المسكر من غيره فلا يقبل. والثاني: أن الفرق بين المسكر والمتخم أن للمتخم حدً يمكن ضبطه به وهو الزيادة على الشبع، ولا حد للمسكر، ولا يدعو قليل الأكل النافع إلى الكثير المتخم بخلاف المسكر، ولما لم يكن ضبط القدر المسكر بضابط- وكان القليل

تخليل الخمر

منه داعيًا إلى كثيرة ولم يعارض المنع من القليل معارض أقوى منه ولا مساوٍ له من حاجة أو ضرورة -منع الشارع من المنع قليلة كما منع من كثيره، ولما أمكن ضبط القدر المتخم بضابط- وهو الزيادة على الشبع، وليس في الطبع ما يدعو إليه بل الطبع السليم ينفر من الأكل فوق الشبع- منع الشارع من الزيادة عليه إلا إذا عارض ذلك معنى آخر كمؤانسة الضيف أو التقوى على صوم الغد فيباح له الزيادة بقدر الحاجة، فلا يصح قياس المسكر على المتخم والحالة هذه، وأيضًا فإن التخمة لا تحصل إلا بالأكل الزائد على الشبع بخلاف السكر فإنه يحصل بتناول المسكر شيئًا فشيئًا فكان نظير القدح الأول اللقمة الأولى بعد الشبع، نظيره [أيضًا] إيقاد الحطب تحت قدر اللحم كلما أوقد عودًا ازداد اللحم نضجًا، فلا يحصل شيء من التخمة بالأكل دون الشبع ويحصل بعض السكر بتناول بعض المسكر كما يحصل بعض التخمة بتناول شيء بعد الشبع لكن لما لم يكن ضبط البعض -الذي يحصل به بعض السكر أو بعض التخمة- منع مطلقًا/ من الأكل فوق الشبع، ومن تناول شيء من المسكر سدًا للذريعة. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخل"). اختلف العلماء في جواز تخليل الخمر، فعن عمر بن الخطاب عدم

جواز تخليلها وبه قال الزهري وأحمد ونحوه قول مالك وابن المبارك. وقال الشافعي: إن ألقي فيها شيء يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها، وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تطهر بالتخيل، واتفق العلماء على أنها لو تخللت بنفسها طهرت وحلت، استدل من قال بجواز التخليل بما ذكره المصنف وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر، وبما ذكره البيهقي وغيره عن جابر -رضي الله

عنه- أيضًا "ما أفقر أهل بيت من أدم فيه خل، وخير خلكم خل خمركم"، وهو حديث ضعيف، وبما ذكره الدارقطني عن أم سلمة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدباغ يحل من الميتة كما يحل الخل من الخمر" وهو حديث ضعيف أيضًا واستدل من قال بعدم جواز التخليل بحديث أنس -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعنه "أن أبا طلحة سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أيتام ورثوا خمرًا؟ قال: أهرقها،

قال: أفلا نجعلها خلاً؟ قال: لا"، رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد قال: "قلنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حرمت الخمر: إن عندنا خمرًا ليتيم لنا؟ فأمرنا فأهرقناها" رواه أحمد. وهذه نصوص في المسألة لا تصح معارضتها بما ذكره المجوزون أصلاً، فإن حديث "إن الدباغ يحل من الميتة كما يحل الخل من الخمر" لا تقوم به حجة، والحديث الذي فيه مدح خل الخمر ضعيف أيضًا، ولو ثبت يحمل على خل خمر تخللت بنفسها، والحديث الذي ذكره المصنف وإن كان صحيحًا فلا معارضة بينه وبين نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تخليل الخمر بل يج حمله على خل لم يكن أصلها خمرًا، أو كان أصلها خمرًا وتخللت بنفسها للجمع بين الحديثين، والفرق بين تخليل الخمر ودباغ جلد الميتة أن جلد الميتة لا محذور في إمساكه للدبغ، فإن الطباع تنفر من الميتة فلا يخاف مقارفتها بخلاف الخمر فإن الطبع قد يميل إليها، والشيطان لم يمت بعد فيخاف مقارفتها فيجب مفارقتها بإراقتها، والأمر فيها بالاجتناب منصوص عليه ونهيه عن تخليلها دليل على أن ذلك لا يصلحها، ولو كان إلى إصلاحها سبيل لم يجز إراقتها، بل كان أرشدهم إليه لاسيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم، وقد تقدم نقله عن عمر -رضي الله عنه- ولا يعرف له مخالف من الصحابة فنزل منزلة الإجماع.

طبخ المسكر من العصير

قالوا: بل أمره -صلى الله عليه وسلم- كافٍ في عدم جواز تخليلها لأنه لو جاز لبين جوازه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما قال في حق الشاة الميتة: "هلا دبغتم جلدها فانتفعتم به" كيف والأصحاب يدعون مالية الخمر دون مالية الميتة، وقد "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال" فلو جاز تخليلها لما أمر بإراقتها. وقد أجيب عن هذا: بأن ذلك كان في الابتداء لينزجر الناس عنها وينتهوا عن شربها، وهذا الجواب فاسد، فإن الناس اليوم أحوج إلى شرع مثل هذا الزاجر من أهل ذلك الزمان، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا أقرب إلى الانتهاء بمجرد النهي ممن بعدهم، ألا ترى "أن عمر -رضي الله عنه- زاد في حد الشرب إلى ثمانين" للزجر، ورأى أن أقل من ذلك لا يزجرهم لما رأى من حالهم، وأيضًا فإن المحرم لما نهي عن قتل الصيد لم يكن قتله ولا ذبحه إياه مبيحًا له فكذلك تخليل الخمر. قوله: (فصل في طبخ العصير إلى آخره).

قد تقدم التنبيه على أن الشارع سوى بين المسكر من عصير العنب وبين غيره من المسكرات فطبخ العصير لا يفيد شيئًا بعد ثبوت ذلك، وأما ما روي عن عمر -رضي الله عنه- "أنه لما قدم الشام وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابًا لا يسكر كثيره، طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مثل الرب فأدخل فيه إصبعه فوجده غليظًا، فقال: كأنه الطلاء، يعني الطلاء الذي تطلى به الإبل، فسموا ذلك الطلاء. فهذا الذي أباحه عمر -رضي الله عنه- لم يكن يسكر ولكن نشأت شبهة/ من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر من جهة ما يضاف إليه من الأفاويه وغيرها مما يقويه ويشده حتى يصير مسكرًا أو من جهة أنه ربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم إذا أسكر فإن مناط التحريم هو السكر لما تقدم، ولم يثبت عن عمر -رضي الله عنه- ولا غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- أنه أباح قليل مسكر ولا كثيره، والله أعلم. * * *

كتاب الصيد

كتاب الصيد قوله: (وله أنه آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها فإذا أكل تبين أنه كان تركه الأكل للشبع لا للعلم، وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود، لأنه بالأكل، فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء). قول الصاحبين أقوى وعليه أكثر أهل العلم، وقول المصنف: أنه آية جهله من الابتداء. ممنوع، بل أكله من صيده بعد ثبوت تعلمه وحل صيده

يحتمل أن يكون لنسيان أو لفرط جوعه أو لنسيان تعليمه، فلا يترك ما ثبت يقينًا من تعلمه وحل صيده بالاحتمال. وقوله: لأن الحرفة لا ينسى أصلها، فإذا أكل تبين أنه كان تركه الأكل للشبع لا للعلم. جوابه: المنع أيضًا لما تقدم؛ ولأنه ترك الأكل من صيوده المتقدمة علم أنه كان قد أمسكها لمرسله ولما أكل من هذا الصيد الأخير احتمل أنه أمسكه لنفسه، وقد قال تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" متفق عليه. فقد نبه -صلى الله عليه وسلم- على العلة بقوله: فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. ولم يقل فإنه تبين أنه لم يكن متعلمًا، وأنه إنما كان قد ترك الأكل للشبع لا للعلم، وبهذا يحصل الجواب عن قوله: وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود إلى آخره، والله أعلم. قوله: (وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه، ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتًا أكل، وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتًا لم يؤكل لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال: لعل هوام الأرض قتلته"). فيه نظر، لحديث عدي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رميت

الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل" رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن غاب يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، فإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل" رواه مسلم والنسائي. وفي رواية: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا نرمي الصيد فتقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتًا وفيه سهمه؟ قال: يأكل إن شاء" رواه البخاري. وفي رواية قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصيد؟ قال: إذا رميت سهمك فاذكر الله، فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" متفق عليه. وعن أبي ثعلبه الخشني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة ايام وأدركته فكله ما لم ينتن" رواه أحمد ومسلم وأبو داود

والنسائي، وهذان الحديثان المخرجان في الصحيح لا يصلح لمعارضتهما ما أشار إليه المصنف من كراهية النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يثبت مسندًا، وإنما ذكره أبو داود في المراسيل والبيهقي ولو صح لأمكن الجمع بأن الكراهة للتنزه دون التحريم، وهذا هو المشهور عن أحمد وهو قول الحسن وقتادة قالوا: إذا لم يجد فيه إلا أثر سهمه ولم يقع في ماء يأكله إن شاء. قوله: (ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل). تقدم في كتاب الذبائح التنبيه على لفظ الحديث. قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "الصيد لمن أخذه"). هذا الحديث غير معروف في كتب الحديث. قوله: (والصيد لا يختص بمأكول اللحم، قال قائلهم: صيد الملوك أرانب وثعالب ... وإذا ركبت فصيدي الأبطال)

البيت لعنترة العبسي وهو جاهلي وهم كانوا الثعالب وما هو شر منها، وفي تحريم أكل الثعالب خلاف بين علماء المسلمين، فقد ذهب الشافعي وغيره إلى القول بحله، وإن كان استدلاله بصيد الأبطال فإن قتل الأبطال لا يسمى صيدًا إلا بقرينة فهو مجاز، وذلك بمنزلة تسمية الشجاع أسدًا فلا/ يصح الاستدلال به على أن الصيد لا يختص بمأكول اللحم. * * *

كتاب الرهن

كتاب الرهن قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يغلق الرهن. قالها ثلاثًا، لصاحبه غنمه وعليه غرمه"). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه" قال الدارقطني [هذا] إسناد حسن متصل. انتهى.

هل يد المرتهن يد ضمان أم لا؟

ولم أر في شيء من طرقه: قالها ثلاثًا كما قال المصنف. قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعد ما نفق فرس الرهن عنده: "ذهب حقك"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا عمي الرهن فهو بما فيه"). الحديث الأول رواه أبو داود مرسلاً عن عطاء "أن رجلاً رهن فرسًا فنفق في يده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن: ذهب حقك" قال عبد الحق في أحكامه: هذا مرسل وضعيف الإسناد. انتهى. ومذهب عطاء بخلافه، حكاه صاحب المغني، وقال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذابًا، وقيل: يرويه مصعب بن ثابت وكان

ضعيفًا. قالوا: ويحتمل أنه أراد: ذهب حقك من التوثق، أي لايلزم الراهن أن يرهن شيئًا آخر مكان الفرس، وكان حقه في الفرس التوثق بحبسه فذهب بموته، مع أن قوله: "فنفق في يده" ظاهره أنه نفق في يد الراهن قبل التسليم إلى المرتهن وحينئذ فقد ظهر أن معنى قوله للمرتهن: "ذهب حقك" في الارتهان، فلا يلزم الراهن أن يقيم بدل الفرس رهنًا آخر. والحديث الثاني: رواه الدارقطني وضعف سنده، ولفظه عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرهن بما فيه" ولو صح فلا يدل على ما ادعاه المصنف بل يحتمل أن معناه أن المرتهن أولى به من غيره من الغرماء، ويكون معنى قوله: الرهن بما فيه، أن يكون بما هو مرهون به يختص المرتهن بالاستيفاء منه دون سائر الغرماء عند ضيق التركة. قوله: (وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفيته والقول بالأمانة خرق له). في نقل الإجماع نظر، فقد نقل عن علي -رضي الله عنه- فيه روايات

مختلفة منها: أنه يهلك من مال الراهن، حكى هذه الرواية عنه صاحب المغني، ولا يعرف فيه نقل عن غير علي وعمر -رضي الله عنهما-، والنقل عن علي مضطرب فأين الإجماع، وقال بهذا القول سعيد بن المسيب وعطاء والزهري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وسائر أهل الحديث وأهل الظاهر. قال ابن المنذر في الإشراف: وبقول الشافعي أقول لأن ملك الراهن ثابت عليه ولم يملكه المرتهن، فإذا تلف فتلفه من مال مالكه، والزيادة والنقصان عليه وله. انتهى.

قوله: (ولأن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء ... إلى آخره). لا يلزم مما ذكره كله أن يكون المرتهن مستوفيًا دينه عند هلاك الرهن، فأما قوله: إن الرهن ينبئ عن الحبس الدائم، قال الله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة}. فجواب: أن الرهن إنما هو بالدين فيبقى ببقاء الدين، ولهذا يلزم المرتهن رده عند استيفاء الدين فلا يلزم منه أن يكون مضمونًا بالدين، بل محبوسًا به، وأما استدلاله بقول القائل: وفارقت برهن لا فكاك له .... البيت. فلا دليل فيه، فإنه ذكر رهنًا منكرًا في سياق إثبات، ووصفه بأنه لا فكاك له، فلا يلزم منه أن كل رهن لا فكاك له، وأما قوله: ليقع الأمر من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن -إلى أن قال- وإذا كان كذلك ثبت الاستيفاء من وجه، وقد تقرر بالهلاك، فلو استوفاه ثانيًا يؤدي إلى الربا إلى آخره.

فجوابه أنه إذا احتمل كلا المعنيين والدين ثابت بيقين فلا يسقط بالشك، والمرتهن لم يكن مستوفيًا حال قيام الرهن، فلا ينقلب بعد هلاكه فلا يكون باستيفائه مستوفيًا لحقه مرتين، وإذا لم يكن بالارتهان مستوفيًا لدينه حال قيام الرهن لا يصير مستوفيًا لحقه مرتين، وإذا لم يكن بالارتهان مستوفيًا لدينه حال قيام الرهن لا يصير مستوفيًا بعد هلاكه، لأنه في هذه الحالة معدوم والأصل بقاء ما كان على ما كان، والدين كان ثابتًا فيبقى على ما كان، والرهن كان أمانة في يده حتى لو أبرأه من الدين ثم هلك الرهن لم يضمن فيبقى على ما كان، وعلى كل تقدير فلا يلزم مما علل به كله أن يكون مستوفيًا، وإن كان محتملاً ففي ثبوته بالاحتمال نظر, قوله: (والاستيفاء يقع بالمالية، أما العين [فـ] أمانة حتى كانت نفقة المرهون على الراهن في حياته وكفنه بعد مماته/ وكذا قبض الرهن لا ينوب عن قبض الشراء إذا اشتراه المرتهن، لأن العين أمانة فلا تنوب عن قبض الضمان). كون العين أمانة على كل حال مما يؤيد قول الشافعي وأحمد ومن وافقهما فإن العين هي الأصل والمالية تبع، فيلزم من كون العين أمانة أن تكون المالية كذلك، والتفريق في المالية بين كونها أمانة في حال دون أخرى فيه نظر، فإن كون الرهن لو هلك بعد الإبراء من الدين هلك أمانة وبعد الاستيفاء لا مرتب على أن [بـ] الاستيفاء يثبت للمديون على رب الدين دين آخر، وتشتغل

ذمة كل منهما بدين صاحبه، وقد تقدم التنبيه على ما في ذلك من الإشكال في كتاب الوكالة، وكون أمانة قبل هلاكه لا بعده تقدم التنبيه عليه قريبًا. قوله: (ومذهبنا مروي عن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما-). أما النقل عن عمر -رضي الله عنه- فرواه الدارقطني والبيهقي، وأما النقل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- فلم أره. قوله: (وما أدى أحدهما مما وجب على صاحبه فهو متطوع وما أنفق أحدهما مما يجب على الآخر بأمر القاضي رجع عليه كأن صاحبه أمره به). في هذا الإطلاق نظر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه كان يقول: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا

والنسائي. وفي لفظ: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته" رواه أحمد، وبذلك قال أحمد في أصح الروايتين عنه: إن الرهن المحلوب والمركوب للمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك وهو قول الحق، وهو الموافق للنقل الصحيح والقياس الصحيح، فإن الراهن قد يغيب ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشق عليه أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن وإثبات غيبة الراهن، وفي جواز الإنفاق بالركوب وبشرب اللبن مصلحة محضة للراهن والمرتهن وهي بلا شك أولى من تعطيل ظهره وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان أو يفسده حيث يتعذر أو يتعسر الرفع إلى الحاكم، ولاسيما ورهن الشاة ونحوها إنما يقع غالبًا بين أهل البوادي حيث لا حاكم، وأيضًا فإن هذا إن كان مأذونًا فيه شرعًا فلا حاجة إلى إذن الحاكم، فأين قال الشارع ذلك بل الشارع قد أذن للمرتهن في الإنفاق على المرهون المركوب والمحلوب بركوبه وحلبه، فاستغنينا عن إذن القاضي، إلا أن يكون القاضي ملزمًا لمن امتنع عن موجب هذا الحديث الصحيح.

جواز رهن المشاع

فإن هذا الذي يقتضيه منصب القضاء، وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبًا بغير أمره كالدين، فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه: له الرجوع به عليه، وإذا أنفق نفقة تجب عليه، مثل أن ينفق على ولده الصغير أو عبده، فالمحققون من أصحاب أحمد سووا بين الدين والنفقة، والقرآن يدل لذلك، قال تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدًا ولا إذن الأب، وكذلك قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، بعد قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} ونفقة الحيوان واجبة على مالكه والمرتهن والمستأجر له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على مالكه كان أحق بالرجوع من النفقة على ولده. قوله: (ولا يجوز رهن المشاع). تقدم في كتاب الهبة، التنبيه على قوة قول من قال بجواز رهن المشاع وهبته وإجارته ووقفه، وأنه لم يرد بإبطاله كتاب ولا سنة وأكثر الأئمة على

جواز الأئمة الثلاثة وغيرهم. قوله: (فإن رهن إبريق فضة وزنه عشرة [بعشرة] فضاع فهو بما فيه، قال -رضي الله عنه-: معناه أن تكون قيمته مثل وزنه وأكثر). صور هذه المسألة جماعة من الأصحاب في قلب فضة وهو أولى من التصوير في إبريق فضة، فإن إبريق/ الفضة لا قيمة لصياغته، لأنه لا يجوز استعماله، فلا تجوز صياغته، وكذلك سائر الأواني من الذهب والفضة بخلاف سوار الفضة وسائر الحلي من الذهب والفضة للمرأة وخاتم الفضة للرجل، فإن هذا جائز الاستعمال جائز الصياغة فتكون صياغته متقومة. قوله: (ووجه الفرق أن بالإبراء يسقط الدين أصلاً كما ذكرناه وبالاستيفاء لا يسقط لقيام الموجب إلا أنه يتعذر الاستيفاء لعدم الفائدة، لأنه يعقب مطالبة مثله، فأما هو في نفسه قائم، فإذا هلك تقرر الاستيفاء الأول، فانتفض الاستيفاء الثاني). هذا مرتب على أصلين، في ثبوت كل منهما نظر: أحدهما: أن عقد الرهن عقد استيفاء، وقد تقدم التنبيه على ما في ذلك من الإشكال.

والثاني: أن من استوفى دينه يثبت للذي وفاه في ذمته ذلك القدر الذي وفاه إياه، وتبقى ذمة كل منهما مشغولة للآخر بقدر ذلك الدين، وإنما تمتنع المطالبة لعدم الفائدة؛ لأنه إذا طالب أحدهما الآخر بدينه طالبه الآخر بدينه، ولا تقع المقاصة بالدينين أبدًا. وكلما تأمل المنصف هذا القول تبين له ضعفه، وكيف يقال إن الواجب على المديون غير ما فعله من وفاء دينه، وإن ذمة المديون اشتغلت بما لا يمكنه تفريغ ذمته منه أبدًا إلا أن يبرئه رب الدين من دينه وأنه إذا لم يبرئه فذمته مشغولة، فلو امتنع من الإبراء لا يكون له طريق إلى تفريغ ذمته، وكيف يقدم على الإبرام وقد قلتم: إنه إذا أبرأه من دينه فللمبرأ أن يطالب المبرئ بنظير ما أبرأه منه؛ لأنه بالإبراء سقط دينه وبقي دين المبرأ عليه، فله أن يطالبه به، فعلى هذا لا يقدم أحدهما على أن يبرئ صاحبه خوفًا من أن يطالبه بنظير ما أبرأه منه فتأمل قبح هذا اللازم، ولو كان الإبراء من الدين شرطًا في تفريغ ذمة المديون لبينه لنا الشارع، ولما لم يأت عن الشارع اشتراط الإبراء مع الوفاء في تفريغ الذمة علمنا أنه شرط باطل، وأن المديون لم تشتغل ذمته بغير وفاء الدين، وقد تقدم التنبيه على هذا المعنى في كتاب الوكالة. قوله: (كذا لو تصادقا على أن لا دين ثم هلك الرهن يهلك بالدين لتوهم وجوب الدين بالتصادق على قيامه فتكون الجهة باقية بخلاف الإبراء). هذه الصورة أبعد مما تقدم فإنه على تقدير أن يثبت بالاستيفاء دين في ذمة

رب الدين للمديون، فهنا قد تصادقا [على] أن لا دين، ولازم ذلك أن ييكون الرهن أمانة وأن لا ضمان بهلاكه فكيف يقال بوجوب ضمان الرهن، وصاحب الرهن يبرئه عنه معنى بتصديقه على أن لا دين، وأن الرهن أمانة، مع أن صاحب المبسوط ذكر أنه يهلك أمانة خلاف ما نقله صاحب الهداية، وهذا هو الحق، وذكر الإسبيجابي فيه اختلاف المشايخ. -صلى الله عليه وسلم-. * * *

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات قوله: (ولنا ما تلونا من الكتاب وروينا من السنة، ولأن المال لا يصلح موجبًا لعدم المماثلة والقصاص يصلح للتماثل وفيه مصلحة الأحياء زجرًا أو جبرًا فيتعين، وفي الخطأ وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار ولا يتعين بعدم قص الولي بعد أخذ المال، فلا يتعين مدفعًا للهلاك). فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: ولنا ما تلونا، بعنى قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية. وجوابه: ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية {فمن عفى له من أخيه شيء}، قال: فالعفو أن

يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم" رواه البخاري والنسائي والدارقطني. والثاني: قوله: روينا من السنة، يعني قوله -صلى الله عليه وسلم-: "العمد قود". وجوابه: أن هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه بألفاظ متقاربة ولا ينافي التخيير الثابت في حديث أبي هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقتل" رواه الجماعة، لكن/ لفظ الترمذي: "إما أن يعفو، وإما أن يقتل".

وعن أبي شريح الخزاعي قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من أصيب بدم أو خبل- والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على يديه" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. والثالث: قوله: ولأن المال لا يصلح موجبًا لعدم المماثلة إلى آخره. وجوابه: أن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يقبل، وأيضًا فإن دخول المال قد يكون أصلح من القود للحاجة إليه وعدم المبالاة بفقد ذلك المقتول فيحصل به الزجر والجبر، وتمام التعليل معروف في موضعه. والتخيير مذهب سعيد بن المسيب وابن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، واختاره ابن المنذر، وقد أجاب الأصحاب عن الآية

ضابط شبه العمد

والحديث بأن المراد أخذ الدية برضى القاتل وهو خلاف الظاهر وسر المسألة أن القاتل هل يجبر على بذل الدية من ماله إذا طلبها ولي المقتول ليخلص دمه، الظاهر إجباره؛ لأنه إذا قال: لا أعطيكم شيئًا، بل اقتلوا إن شئتم، فقد تخلى عن إحياء نفسه بماله فيجبر على إحياء نفسه بماله، وهذا المعنى عاضد لظاهر الحديث، والعمدة ظاهر الحديث لأنه سالم عن المعارض والله أعلم، وهذا معنى قول من قال بالتخيير. قوله: (وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل" ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه إذ لا يمكن استعمالها في غرة من المقصود قتله، وبه يحصل القتل غالبًا فقصرت العمدية نظرًا إلى الآلة فكان شبه العمد كالقتل بالسوط والعصا الصغيرة).

قول أبي يوسف ومحمد قول جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة، وهو أقوى لحديث أنس رضي الله عنه "أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل هذا بك؟ فلان؟ أو فلان؟ حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فرض رأسه بحجرين" رآه الجماعة، وعن حمل بن مالك قال: "كنت بين بيتي امرأتي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنينها بغرة وأن تقتل بها" رواه الخمسة إلا الترمذي.

والحديث الذي استدل به المصنف لأبي حنيفة رحمه الله حجة عليه لا له، فإن العصا لا تطلق إلا على ما لا تقتل غالبًا، ففي معناها الضرب باليد والرجل والحجر الصغير ونحو ذلك مما لا يقتل غالبًا، وأما الحجر الكبير والخشبة الكبيرة ونحو ذلك ففوق السوط والعصا، فلا يلحق بهما ولا تسمى الخشبة الكبيرة عصا، وإن كانت العصا تكون صغيرة وكبيرة، ولكن الجذع ونحوه لا يسمى عصا، وعمله فوق عمل العصا فلا يلحق بها، وقوله: ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه إلى آخره. جوابه: أن المثقل إنما لم يكن آلة للقتل لثقله ولكنه يعمل عمل الآلة الموضوعة للقتل وأبلغ، ولا عبرة للصور وإنما العبرة للمعاني. حرمان الميراث بهذا الدليل الذي ذكره فيه نظر، فإن ميراث من ورثه الله في كتابه لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع، فمن أجمعوا على حرمانه فهو محروم، واعتبار المخطئ بالعامد مشكل، وإنما أجمعوا على أن القاتل لا يرث من دية من قتله شيئًا، واختلفوا في ميراثه من مال من قتله خطأ سوى ديته فذهب إلى أن القاتل يرث من ماله ولا يرث من ديته سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك، وإسحاق

وأبو ثور، واختاره ابن المنذر، ورواه ابن ماجه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. * * *

باب ما يوجب القصاص وما لا يوجب قوله: (ولنا ما روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل مسلمًا بذمي"). رواه أب داود في المراسيل وضعفه أهل الحديث، قال ابن المنذر: واختلفوا في قتل المؤمن بالكافر، فروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت أنهم كانوا لا يرون قتل المؤمن بالكافر، وبه قال عطاء والحسن وعمر بن

عبد العزيز وعكرمة/ ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقالت طائفة: إذا قتل المسلم اليهودي أو النصراني أو المجوسي قتل به المسلم، هذا قول أصحاب الرأي، وروي عن الشعبي والنخعي في اليهودي والنصراني خاصة، وثبت أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقتل مؤمن بكافر" وبه نقول، ولا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر يعارضه. انتهى. وزاد في المغني: معاوية والزهري وابن شبرمة والأوزاعي وأبا عبيد، ويشير ابن المنذر بقوله: ثبت أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقتل مؤمن بكافر" إلى ما رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ، وفي لفظ: "لا يقتل مسلم بكافر"

رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي، وابن ماجه. وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر" رواه أحمد وعنه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وعن عثمان -رضي الله عنه-: "أن مسلمًا قتل ذميًا عمدًا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية مثل دية المسلم" قال البيهقي: موصول، وقال:

ابن حزم: هو في غاية الصحة عن عثمان. وقد تأول الأصحاب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" على أن معناه لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا يقتل ذو عهد في عهد بكافر حربي، وفي هذا التأويل على تقدير صحة هذه الزيادة نظر، فإن فيه صرف الكلام عن ظاهره القوي إلى معنى ضعيف بل فاسد فإن الكافر الحربي مأمور بقتله، فلا يقال إنه لا يقتل قاتله، وإن حمل على أنه لا يقتل مسلم قتل حربيًا في دار الحرب وقد دخل دارهم بأمان أو من لا يحل قتلهم كالصبيان والنساء من أهل الحرب، فهذا هضم لمعنى الحديث ولفظه أعم من ذلك ولا يصح حمله على ما إذا قتل ذمي ذميًا ثم أسلم لأنه يقتل به قصاصًا. حكى السغناقي الإجماع على ذلك ولكن دعوى غير صحيحة، فإن الأوزاعي قد قال إنه لا يقتل به ولما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقتل مسلم بكافر" علم أنه قد يتوهم من نفي القتل عن قاتل الكافر مطلقًا، جواز الإقدام على قتل الذمي المعاهد لأنه لا يقتل قاتله، فلعله أهدر دمه، فقال: "ولا ذو عهد في

عهده" أي ولا قتل ذو عهد في زمن عهده، فلم يكن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" مغيرًا لما دل عليه قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" من العموم، بل فيه بيان واحتراز عن معنى لعله يفهم من الكلام الأول، ولو سلم أن الحديث يحتمل أن معناه: لا يقتل مسلم بكافر حربي، فلا يجوز قتل المسلم بالكافر بهذا الاحتمال الذي هو خلاف ظاهر النص، كيف وحديث علي -رضي الله عنه- الذي في صحيح البخاري جملة مستقلة قائمة الدلالة بنفسها لم يعطف عليها غيرها، وهو أصح ما في الباب وأصرح، وأيضًا فقوله: "تتكافأ دماؤهم" يدل على عدم القصاص لعدم المكافأة. وكذا قوله: "وهم يد على من سواهم" يفهم منه نفي يد غيرهم عنهم كما قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ولأن المستأمن لا يقتل المسلم بقتله وهو معاهد كالذمي، وهما في تحريم القتل سواء فكذلك الذمي، ولا يصح قياس من قاس قتل المسلم بالذمي على قطعه بسرقته مال الذمي؛ ولأن الأصحاب قالوا: الأطراف يجري فيها حذو الأموال بخلاف الدماء، ولأن القطع في السرقة حق الله تعالى ولهذا لا يشترط فيها الدعوى

في قول طائفة من أهل العلم، وهو رواية عن أحمد بخلاف القصاص، ولأن القياس لا يصح مع وجود النص، والقود يسقط للشبهة، وسيأتي ذلك في كلام المصنف نفسه فهلا سقط القود عن المسلم هنا للشبهة. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بوالده"). هذا الحديث ضعيف، ولا يكون حجة على مالك إلا بعد

ثبوته. قوله: "ولنا وله عليه الصلاة والسلام: "لا قود إلا بالسيف"). أخرجه البيهقي وابن ماجه، وضعفه أهل الحديث، وقد ثبت في السنة خلافه، فعن أنس رضي الله عنه "أن يهوديًا رض رأسه جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك؟ فلان أو فلان حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فرض رأسه بحجرين" رواه الجماعة. وفي حديث العرنيين الذين مثلوا بالراعي فمثل بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما مثلوا به.

متفق عليه، وقد قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية. وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية، ولا يعارض ذلك النهي عن المثلة، فإن المراد منها النكال، وهو الزيادة على القتل يقال: مثل به إذا قتله ثم قطع أطرافه، ونحو ذلك فليست المثلة من باب القصاص بالمثل بل من باب النكار والعبرة لينزجر المفسد عن مثل فعل ذلك المعاقب لئلا يفعل به مثل ما فعل به، ولهذا يقال: مثل بالقتيل في الحرب وغيرها إذا قطعت أطرافه وبقر بطنه أو نحو ذلك، وإن لم يكن ذلك القتيل فعل مثل ما فعل به، وهذه المثلة هي التي نهى الشارع عنها. قال عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة". قوله: (وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل

السوط والعصا" وفيه "وفي كل خطأ أرش"). هذا مركب من حديثين: الأول: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه أصحاب السنن. والثاني: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش" رواه البيهقي، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف، والاستدلال على نفي القصاص بالتغريق نظير الاستدلال به على القتل بالمثقل، وقد تقدم التنبيه على ما فيه من الإشكال. قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "من كثر سواد قوم فهو منهم").

هذا الحديث غير معروف، والمعروف: "من تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أبو داود. * * *

باب القصاص فيما دون النفس قوله: (ومن ضرب عين رجل فقلعها فلا قصاص عليه لامتناع المماثلة في القلع). أكثر أهل العلم على أن القصاص مشروع في قلع العين لقوله تعالى: {العين بالعين} وقال أبو يوسف في رسالته إلى هارون الرشيد: وكذلك العين إذا ضربها عمدًا فذهبت ففيها القصاص، وكذلك الجروح كلها تكون في البدن ففيها القصاص، وذلك إذا كان يستطاع فيها القصاص، فإن لم يستطع فيها القصاص ففيها الأرض. انتهى. والتعليل بامتناع القصاص لامتناع جريان المماثلة لا يقوى لأن التفاوت اليسير في مثل هذا ساقط الاعتبار، فإن قطع الأنف وقطع اليد من المفصل لابد أن يبقى فيه شيء يسير يتعذر أو يتعسر التحرز منه، بل قد ورد فيما هو أبلغ من ذلك وهو اللطمة والضربة وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: (ولا قصاص في عظم إلا في السن، وهذا اللفظ روي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال عليه السلام: "لا قصاص في عظم"). لا يعرف هذا النقل المذكور عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولا الحديث المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن حكى البيهقي "أن عمر -رضي الله عنه- قال: لا أقيد من العظام" وحكى ابن أبي شيبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "ليس في العظام قصاص". قوله: (ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة، وهو معلوم قطعًا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره بخلاف التفاوت في البطش؛ لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح ولا تفاوت فيه ويجب القصاص في الأطراف بين المسلم والكافر للتساوي بينهما في الأرش). فيه نظر، فإن اعتبار الأطراف بالأموال لا يقوى، بل هي أشرف منها

وأعظم، والأموال تخلف وهي لا تخلف، وكونها ينتفع بها والأموال ينتفع بها لا يلزم منه أن يأخذ حكمها، والفرق بين الانتفاعين ظاهر، واعتبار الأطراف بالنفوس أظهر وأقوى من اعتبارها بالأموال فإن البعض يأخذ حكم الكل، وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} دليل على أن حكم الأطراف حكم النفوس، ولم يعارض هذا المعنى الظاهر ما يوجب صرفه عما ظهر منه. ولما كانت النفوس متكافئة وهي أعظم خطرٌ كان ما دون النفس أولى، وكما أن التفاوت ثابت بين أطراف الرجال وبين أطراف النساء في أمر الدية فهو ثابت بين نفوسها والتفريق بأن المتلف في النفوس إزهاق الروح ولا تفاوت فيه بخلاف الأطراف لا يقوى إذ لو كان كذلك لم يكن بين دية المرأة وبين دية الرجل تفاوت، وليس الأمر كذلك، بل دية المرأة على النصف من دية الرجل، ودية اطراف كل منهما معتبرة بدية نفسه، ولما كانت اليد الشلاء من كل منهما لا تساوي الصحيحة منه في الدية لم تقطع بها فلا يلزم من تفاوتها في ذلك تفاوت أطراف الرجل والمرأة مع اتحاد صفة الصحة والسلامة.

القصاص في اللسان والذكر

قوله: (ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر .. إلى آخره). جريان القصاص في اللسان والذكر أقوى، وهو قول الأكثرين لدخوله في قوله تعالى: {والجروح قصاص} والتفاوت الذي يبقى بعد تحري العدل يسير لا يمكن الاحتراز عن مثله في الأذن والأنف وهو ساقط الاعتبار فيهما فكذلك هاهنا بل قد ورد القصاص في اللطمة والضربة والشجة. قال ابن المنذر: فممن روينا عنه أنه قال: في اللطمة القصاص، أبو بكر، وعثمان، وعلي، وخالد بن الوليد، وابن الزبير

وشريح والمغيرة بن عبد الله، وبه قال الشعبي والحكم وابن شبرمة وحماد ما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود. قال أبو بكر: وهذا قول جماعة من أهل الحديث. انتهى. وقد ذكر أبو داود وأبو خيثمة ابن أبي شيبة عمن ذكر من الصحابة

ما نسب إليهم من القصاص بأسانيدهم، ولولا خوف التطويل لسقت ما ذكروه مفصلاً ولكن الإشارة كافية هنا. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم قسمًا أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرجون كان معه فجرح وجهه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تعلى فاستقد؟ فقال: بل عفوت يا رسول الله" رواه أبو داود والنسائي. وعن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقًا فلاجه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: القود، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يزيدهم حتى رضوا". وقال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن سعيد بن إبراهيم عن سعيد بن السيب "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقاد

من نفسه وأن أبا بكر أقاد رجلاً من نفسه، وأن عمر أقاد سعدًا من نفسه. انتهى. فظاهر الكتاب والسنة يدل على القصاص وقد فهم ذلك من ذكر من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف، ونظر الصحابة واجتهادهم أكمل من اجتهاد من بعدهم. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج وعن عطاء قال: الجروح قصاص، وليس للإمام أن يضربه ولا يسجنه، إنما هو القصاص، وما كان الله نسيًا، لو شاء لأمر بالضرب والسجن. انتهى. ولا شك أن المماثلة من كل وجه متعذرة أو متعسرة فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عنها في اللطمة والضربة أو حكومة عدل في بعض الجراحات وإن كان قد ورد فيها آثار لم تثبت،

اصطلاح القاتل وأولياء القتيل على مال

فالآثار -المؤيدة بظاهر الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح- أولى أن يؤخذ بها، ويحمل ما ورد في حكومة العدل على الخطأ لأن موجبه المال مع أن ظاهر الرواية القصاص فيما دون الموضحة، وسيأتي ذلك في فصل الشجاج، وهو الصحيح. قوله: (لقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه} الآية على ما قيل نزلت في الصلح، وقوله عليه السلام: "من قتل له قتيل" الحديث، والمراد به والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصحيح بعينه). وقد تقدم التنبيه على ما قيل في معنى الآية والحديث، وأن ذلك المعنى أظهر من هذا، وكأن المصنف رحمه الله لمح هذا فتوقف في أن معنى الآية والحديث الصلح، فقال في الآية: (على ما قيل) وقال في الحديث (والمراد به والله أعلم) وما هذه عادته، بل يجزم في كثير من المعاني التي تستنبط من

الكتاب والسنة من غير تردد، وتردده هنا دليل على توقفه في ذلك. قوله: (وأصل هذا أن القصاص حق جميبع الورثة، وكذا الدية، خلافًا لمالك والشافعي رحمهما الله في الزوجين). أما الدية فلا خلاف بين الأئمة الأربعة رحمهم الله في أن كلاً من الزوجين يرث من دية الآخر وكذلك سائر العلماء، وإنما يروى عن علي -رضي الله عنه- "أنه لا يرث الدية إلا العصبات" وروي عنه الرجوع إلى قول الجماعة، "وكان عمر -رضي الله عنه- يذهب إلى أن الدية لا يرثها إلا العصبات ثم رجع عنه لما بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توريث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وإنما اختلفوا في أنه هل تقضي منها ديونه وتنفذ وصاياه أم لا؟

ومنشأ هذا الاختلاف من أن الدية هل يستحقها المقتول ثم يخلفه فيها الوارث أم يستحقها الوارث ابتداء، وهما روايتان عن أحمد، أصحهما كقول الأكثرين أنها تقضى منها ديونه، وتنفذ منها وصاياه كسائر أمواله. وأما استحقاق الزوجين القصاص فمذهب الشافعي وأحمد كمذهب أبي حنيفة في أن كلاً منهما يستحقه كسائر الورثة، والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة كما في النكاح، وليس للنساء عفو في الدم وهو قول الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة الليث والأوزاعي، وهو وجه لأصحاب الشافعي. ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين وهو قول ابن أبي ليلى حكى ذلك صاحب المغني بمعناه وغيره، ولكن مذهب الشافعي المعروف عنه استحقاق الزوجين للقصاص وقول مالك رحمه الله أقوى لأن

الله تعالى قال في القتل: {فقد جعلنا لوليه سلطانا}، والولي لا يتناول جميع الورثة كما في النكاح، فإن الولي في النكاح العصبة، وكذلك الولي على الصغير. وكذلك في قوله تعالى: {فليملل وليه بالعدل} فإن قيل: إن النكاح يحتاج إلى الرأي قيل: وكذلك في أمر الدم والمرأة ضعيفة الرأي قد يدخل عليها فتسقط الدم مجانًا، ويكون ذلك ذريعة إلى تمكن الظلمة من القتل إذ قد يكون القاتل من شياطين الإنس، وقد يكون أخذ المال أنفع إذا كانوا محاويج، وقد يكون العفو أنفع إذا كان القتل زلة من القتل فإذا عفي عنه حصل الأجر العظيم وكل ذلك يحتاج إلى الرأي والرجال أثبت وأعرف بذلك. والله تعالى قال في الدية: {ودية مسلمة إلى أهله} ولم يقل إلى وليه، وقال في القتل: {فقد جعلنا لوليه سلطانًا} ولم يقل لأهله، فيجب أن يعطي القرآن حقه من الدلالة والبيان، فإن الولي: الناصر، والرجل لا ينتصر بالنساء وإنما ينتصر بعصبته، وأما الأهل فيتناول المرأة والبنات ونحوهن، قال تعالى: {فأسر بأهلك} وقال: {وسار بأهله} وقال: {قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} ولا يعرف أن الزوجة تدخل

في لفظ الولي، وقال تعالى في قصة صالح عليه السلام: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله}. ففرق بين الولي الذي ينصره وكانوا يخافونه من انتصاره له إذا بيتوه، وبين الأهل الذي يبيتونهم معه، والقرآن قد جعل الدية للأهل، والقتل للولي، وليس بين إرث الدية وإثر القتل تلازم، والعصبة هم الذين ينصرونه والعقل مبناه على النصرة، وقتل قاتله من باب النصرة قال تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورًا}. والسلطان إنما يليق بالرجال دون النساء سواء كان سلطان القدرة أو سلطان الحجة، والنساء ضعيفات الحجة والقدرة، وأيضًا فإن الوارث بالفرض إنما جعل له ميراث فيما يقبل القسمة فيكون له ثلث وربع ونحوه، والدم لا يتبعض ولا ينقسم فلا يسوغ في مثله أن يقسم على فرائض المال ولكن يثبت للعاصي وحده إن كان واحدًا، وإن كانوا جماعة كانوا كرجل واحد ليس اشتراكهم بفرائض محدودة، بل كما يقتل الجماعة بالواحد لأنهم كقاتل

واحد فكذلك الولاية عليه، وأيضًا فحق العصبة ثابت في الدم بالكتاب والسنة والإجماع وحق النساء ليس كذلك فلا يجوز إثباته بغير دليل شرعي وإسقاط حق العصبة المعلوم بأمر غير معلوم، وما ذكره الأصحاب من قوله عليه السلام: "من ترك مالاً أو حقًا فلورثته" إنما ورد "من ترك مالاً فلورثته" الحديث وليس فيه "أو حقا" مع أن الأصحاب لم لعملوا به في خيار الشرط وخيار الرؤية والشفعة. قوله: (ثم يجب ما يجب من المال في ثلاث سنين -إلى آخره). يعني ما يجب من المال لمن لم يعف من الورثة على القاتل في ثلاث سنين وسيأتي في باب المعاقل ما فيه من الإشكال إن شاء الله تعالى.

قوله: (ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدًا قبل أن تبرأ يده، أو قطع يده عمدًا ثم قتله خطأ، أو قطع يده خطأ فبرأت يده ثم قتله خطأ، أو قطع يده عمدًا فبرأت ثم قتله عمدًا، فإنه يؤخذ بالأمرين جميعًا). فيه إشكال، فإن قوله: (قبل أن تبرأ يده) يوهم أنه قيد وليس كذلك فإن قيل: قال ذلك ليفهم أنه بعد البرء بطريق الأولى. فالجواب: أنه زيادة في اللفظ ونقص في المعنى، فكان تركه أولى، والمسألة على ثمانية أوجه في ستة منها يؤخذ بالأمرين جميعًا وهي التي أرادها المصنف بهذا الكلام قطع خطأ ثم قتل عمدًا أو عكس قبل البرء أو بعده أو كانا خطأين أو عمدين وتخلل البرء بينهما، وفهمها من كلام المصنف عسر، وفي وجه يجمع بالإجماع وهو إذا كان خطأين ليس بينهما برء، وفي وجه خلاف وهو إذا كانا عمدين ليس بينهما برء، فعند أبي حنيفة: إن شاء الإمام جمع بين القطع والقتل وإن شاء اكتفى بالقتل، وعند صاحبيه يقتل ولا يقطع، والله أعلم. * * *

كتاب الديات

كتاب الديات قوله: (ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وما روياه غير ثابت لاختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في صفة التغليظ، وابن مسعود -رضي الله عنه- قال بالتغليظ أرباعًا كما ذكرنا وهو كالمرفوع، فيعارض به). فيه نظر من وجوه: أحدها: معارضته من استدل به لمحمد والشافعي من الحديث الذي فيه ذكر أربعين خلفة، بقوله عليه السلام: "في نفس المؤمن مائة من الإبل". وجوابه: أنه لا معارضة بين الحديثين لأن المائة في هذا الحديث غير مبينة، بينها في الحديث الآخر، ولو احتج بما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: "كانت الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعًا، خمسًا وعشرين جذعة،

وخمسًا وعشرين حقه، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض" -لكان أقوى مع أن هذه الأحاديث كلها فيها كلام. الثاني: تعليله عدم ثبوته باختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في صفة التغليظ. وجوابه: أن المخالف قد يكون خلافه لأن النص لم يبلغه أو بلغه من وجه لم يثبت عنده منه أو تأويله باجتهاده، فلا يكون الاختلاف في الحكم دليلاً على أن الحديث الوارد فيه غير ثابت، والواجب أن يحكم بالنص بين المختلفين، لا أن يسقط النص للاختلاف فيما دل عليه من الحكم، ولا أن يعارض النص بقول من خالفه لاحتمال أن يكون عند المخالف نص خلافه لأجله فإن الله تعالى قال: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول} الآية. الثالث: معارضته الحديث المرفوع بقول ابن مسعود -رضي الله عنه-، وجعله قوله بمنزلة المرفوع. وجوابه: أن الحديث المرفوع إذا صح لا يجوز معاورضته بقول أحد من الناس كائنًا من كان، وقول الصحابي حجة عند فقد النص، وأما إذا وجد نص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثابت صحيح فلا يجوز العدول عنه، ولو اكتفى

المصنف بقوله: (وما رواه غير ثابت) لكفى. قوله: (ولنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم"). لا يعرف هذا الحديث في كتب الحديث، ولكن روى أبو حنيفة عن الهيثم عن الشعبي عن عمر -رضي الله عنه- "أنه فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم". قال أبو عمر بن عبد العزيز: ليس مع من جعل الدية عشرة آلاف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث مسند ولا مرسل، وحديث الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه -رضي الله عنه-.

قوله: (والأصل فيه ما روى سعيد بن المسيب "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: في النفس الدية وفي اللسان الدية وفي المارن الدية وهكذا هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم"). [أما المنقول عن سعيد بن المسيب فهو ما رواه البيهقي عنه أنه قال: "مضت السنة في العقل بأن في اللسان الدية" وعنه: "مضت السنة في العقل بأن في الذكر الدية وفي الأنثيين الدية". ولم أر ما نقله المصنف عن ابن المسيب كما قال عنه، وأما الكتاب الذي كتبه -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم] فليس فيه لفظ المارن، وإنما فيه: "وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية" وسيأتي ذكر الحديث بكماله إن شاء الله تعالى. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى: "وفي كل سن خمس من الإبل"). لا يعرف هذا الحديث عن أبي موسى، وإنما يعرف في كتاب عمرو بن

حديث عمرو بن حزم في الديات

حزم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظه: "في السن خمس من الإبل" رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في الأسنان خمس خمس" رواه أبو داود، ولعل المصنف اشتبه عليه حديث دية الأسنان بحديث أبي موسى في دية الأصابع: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الأصابع سواء عشر عشر من الإبل" رواه أبو داود والنسائي. قوله: (لما روي عن كتاب عمرو بن حزم: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: في الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة: عشر، وفي المنقلة: خمس عشرة، وفي الآمة -ويرى في المأمومة- ثلث الدية").

ليس للهاشمة ذكر في حديث عمرو بن حزم، وقال ابن المنذر: لم نجد في الهاشمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرضًا معلومًا، ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرًا من الإبل. انتهى. وحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابًا وكان في كتابه: أن من اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وإن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نفس الدية، وفي المأمومة ثلث

الدية، وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار" رواه النسائي، وقال: قد روى هذا الحديث عن يونس عن الزهري مرسلاً. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية"). هذا اللفظ غير معروف، وإنما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "وفي اليد نصف العقل" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه،

ما تعقله العاقلة

وفي بعض طرق حديث عمرو بن حزم: "وفي اليد الواحدة نصف الدية" رواه النسائي، وفي لفظ: "وفي اليد خمسون -يعني من الإبل-". وروي عن معاذ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية" ذكره في المغني، فالمصنف رحمه الله نقل الحديث بالمعنى من حديثين. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تعقل العواقل عمدًا ... الحديث"). هذا الحديث لم يصح رفعه، وإنما رواه الدارقطني والبيهقي عن عمر -رضي الله عنه- وهو منقطع أنه قال: "العمد والعبد واللصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة" وحكى أحمد عن ابن عباس مثله، وقال الزهري: "مضت

السنة أن العاقلة لا تحمل شيئًا من دية العمد إلا أن يشاؤوا" رواه عنه مالك في الموطأ وروى البيهقي عن الشعبي أنه قال: "لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا" قال البيهقي: هو المحفوظ في قوله. قوله: (ولنا ما روي عن علي -رضي الله عنه-: "أنه جعل عقل المجنون على عاقلته وقال: عمده وخطؤه سواء"). قال البيهقي: وروي عن علي بإسناد فيه ضعف، قال: "عمد الصبي والمجنون خطا"، وروي "أن مجنونًا سعى على رجل بسيف فضربه، فرفع ذلك إلى علي -رضي الله عنه- فجعل عقله على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء". قوله: (والغرة نصف عشر الدية، قال رحمه الله: معناه دية الرجل وهذا في الذكر، وفي الأنثى عشر دية المرأة، وفي كل واحد منهما خمسمائة درهم). في تفريقه بين الذكر والأنثى نظر، فإنه ليس فيه فائدة، لأن عشر دية المرأة

دية الجنين

نصف عشر دية الرجل، ودية الجنين لا تختلف باختلاف ذكورته وأنوثته فتسمية ما يجب في الذكر بنصف عشر دية الرجل، وتسمية ما يجب في الأنثى بعشر دية المرأة تطويل لا ثمرة له. فإن قيل: تظهر ثمرة ذلك في حق الجنين المملوك، فإنه يجب نصف عشر قيمته حيًا إن كان ذكرًا، وعشر قيمته لو كان أنثى. قيل: الكلام في الجنين الحر مع أن التفريق في الجنين المملوك بين الذكر والأنثى لا يقوى، والأئمة الثلاثة وغيرهم على أن الواجب فيهما سواء وهو عشر قيمة أمة كما أن غرة الجنين الحر يستوي فيها الذكر والأنثى ويكون الواجب فيهما عشر دية الأم، ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة. قوله: (وجه الاستحسان ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة، ويروى أن خمسمائة"). هذا اللفظ منكر، وحديث الغرة ثابت في الصحيحين من حديث

أبي هريرة ومن حديث المغيرة بن شعبة، وفي كل منهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة" وليس في شيء من طرقه: "قيمته خمسمائة" ولا "أو خمسمائة". ولكن روي البيهقي بسند منقطع [عن عمر] "أنه قوم الغرة خمسين دينارًا" وروي تقدير الغرة بنصف عشر الدية عن عمر وزيد -رضي الله عنهما- وبه قال النخعي والشعبي وربيعة وقتادة وإسحاق الأئمة الأربعة. وروي عن زيد مرفوعًا: "عبدًا، أو أمة، أو خمسمائة، أو عشرون ومائة شاة أو فرس"، وهو حديث ضعف. وقال ابن المنذر: وقد روينا عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: "قيمة الغرة

أربعمائة درهم". وقال طاووس ومجاهد وعروة بن الزبير: "الغرة عبد أو أمه أوفرس" وقال ابن سيرين: "الغرة عبد أو أمة أو مائة شاة"، وقال الشعبي: "مائة من الغنم". انتهى. قوله: (وهو حجة على من قدرهما بـ: ستمائة، نحو مالك والشافعي هما الله). لا يكون حجة عليهما إلا بعد ثبوته، ولم يثبت، بل لم يعرف ناقله. قوله: (وهي على العاقلة عندنا إذا كانت خمسمائة درهم). فيه نظر، فإن الغرة قد قدرها بخمسمائة درهم، فكيف يقول إذا كانت خمسمائة درهم، وإن كان مراده أنها على العاقلة لأنها مقدرة بخمسمائة درهم وهذا المقدار أقل ما يحمله العواقل عند أبي حنيفة، فحقه أ، يقول: إذا كانت خمسمائة درهم، بكلمة: إذ. لا بكلمة: إذا. وهي في نسخ الهداية

بـ: إذا. قوله: (ولنا ما روي عن محمد رحمه الله أنه قال: بلغنا: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعله على العاقلة في السنة"). يعني الغرة، ولم يثبت هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يذكره أهل الحديث. قوله: (وفي جنين الأمة إذا كان ذكرًا نصف عشر قيمته لو كان حيًا، وعشر قيمته لو كان أنثى). لو قال: وفي الجنين المملوك لكان أولى من قوله: (وفي جنين الأمة) لأن جنين الأمة لو كان من مولاها أو من زوجها المغرور كان حرًا، وكان الواجب فيه غرة كما في جنين الحرة، وإذ قد قال (وفي الجنين الأمة) فحقه أن يحترز عن جنين الأمة من مولاها ومن زوجها (المغرور) ويقيد ما أطلقه. * * *

باب جناية البهيمة الجناية عليها قوله: (والراكب ضامن لما أوطأت الدابة وما أصابت بيدها أو رجلها). هذا من لحن بعض الفقهاء أعني قوله: (أوطأت الدابة) قال في المغرب: وطئ الشيء برجله وطأ، ومنه وطئ المرأة: جامعها، وأوطأت فلانًا الدابة فوطئته أي ألقيته لها حتى وضعت عليها رجلها وعلى ذا قوله: ولو سقط فأوطأه رجل من المشركين بدابته؛ سهو، وإنما يقال: دابته، وكذا قوله: فأوطأت في القتال مسلمًا فقتله، الصواب: فوطئت. انتهى. ولا شك أن (وطئ) متعد إلى واحد، وبالهمزة يتعدى إلى آخر كما يتعدى إليه بالباء والجمع بين الهمزة والباء لحن ظاهر. قوله: (ويروى [ذلك] عن علي -رضي الله عنه-). يعني إذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر. وقوله: وروي عن علي -رضي الله عنه- "أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية". وقوله: "ولنا ما روي" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في عين الدابة بربع القيمة،

وكذا قضى عمر -رضي الله عنه-". لم أر من ذلك سوى ما روي عن عمر -رضي الله عنه- في عين الدابة "أنه قضى فيها بربع ثمنها" رواه عبد الرزاق في مصنفه عنه وعن علي -رضي الله عنه-، وروي عن علي -رضي الله عنه- أيضًا: "أنه قضى في الفرس تصاب عينه بنصف ثمنه"، وروي عن شريح أيضًا: "انه قضى في عين الدابة إذا تلفت بربع ثمنها". وقال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يجني على الدابة فتذهب عينها: فقالت طائفة: في عين الدابة ربع ثمنها، روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبه قال شريح والشعبي وعمر بن عبد العزيز، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: عليه ما نقص من ثمنها. قوله: (ولو انفلتت الدابة فأصابت مالاً أو آدميًا ليلاً أو نهارًا، لا ضمان

على صاحبها لقوله عليه الصلاة والسلام: "العجماء جبار"). مذهب مالك والشافعي وأحمد أن الدابة إذا انفلتت بالليل وأتلفت شيئًا أن على صاحبها الضمان، واحتجوا بقوله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} والنفش إنما يكون بالليل؛ ولأن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"أن على اهل المواشي ما أفسدت ماشيتهم بالليل وعلى أهل الحيطان حفظ حيطانهم بالنهار" رواه وأحمد وأبو داود وابن ماجه، ولأن صاحبها إذا أرسلها بالليل كان مفرطًا فهو كما

لو أرسلها قرب زرع الناس أو لو كان معها قائد أو راكب أو سائق فصح تقييدًا إطلاق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "العجماء جبار". قوله: (وفي عين بقرة الجزار وجزوره ربع القيمة ... إلى آخره). تقييد بالجزار مشكل؛ لأنه يوهم أنه قيد وليس كذلك، قال السغناقي: وإنما وضع المسألة على هذا الوجه ليبين أن البقر والإبل -وإن أعد للحم كما في الشاة- لا يختلف الجواب فيهما، بل سواء كانا معدين للحم أو للحرث والحمل والركوب ففيه ربع القيمة، كما في الذي لا يؤكل لحمه كالحمار والبغل، وإلى هذا أشار فخر الإسلام. انتهى. قوله: (وإذا كان صبيًا ففي ماله). يعني ناخس الدابة، وفيه نظر، وإنما حكم الناخس إذا كان صبيًا كحكم البالغ في أن ضمان الدية يكون على عاقلته، لأنه يؤاخذ بأفعاله كالبالغ وإنما يجب في ماله في الجناية على المال وما دون أرش الموضحة كما في البالغ. * * *

باب جناية المملوك والجناية عليه قوله: (وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنه). يعني أن تعيين نقص عشرة دراهم في حق من قتل عبدًا خطأ أن عليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف، إلا عشرة دراهم، ولا يعرف ذلك في كتب الحديث لا عن ابن عباس ولا عن غيره من الصحابة. قوله: (لما روي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه قضى بجناية المدبر على مولاه). لا يعرف هذا الأثر أيضًا في كتب الحديث، وقد تقدم في باب المدبر التنبيه على ما في حكم المدبر من الإشكال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله. * * *

باب القسامة قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"). يريد بذلك الرد على مالك والشافعي رحمهما الله، ومعارضة ما استدلا به على يمين الأولياء بهذا الحديث، وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه البيهقي وحسنه النووي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الترمذي من حديث عمر بن شعيب عن ابيه عن جده، ولم يخرجه أهل

الصحيح بهذا اللفظ. وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة"، والذي في الصحيحين من حديث ابن عباس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين على المدعى عليه". وفي رواية: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" رواه أحمد ومسلم. ولا معارضة بين هذا وبين حديث القسامة وهو حديث سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ

صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبر كبر -وهو أحدث القوم- فسكت فتكلما فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم -أو صاحبكم- فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر: قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، فعقله النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده" رواه الجماعة، وفي رواية متفق عليها: "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته". قالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف! قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله قوم كفار" وذكر الحديث بنحوه. فإن الجميع بين الحديثين والعمل بهما أولى من إبطال أحدهما، كيف وقد ورد استثناء القسامة من عموم الحديث في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه

عن جده، ولو لم يثبت الاستثناء نصًا لوجب المصير إليه لأن الأولياء في القسامة لم يستحقوا دم القاتل بمجرد دعواهم بل بأيمانهم بالمؤبدة بالظاهر الشاهد لصدقهم وهو اللوث أو العداوة، وحديث سهل المتقدم الذي لا ريب في صحته وثبوته وشهرته من أقوى الأدلة على ذلك، وكما أن اللعان مستثنى من عموما لحديث المذكور بنص الكتاب، وكذلك القسامة مستثناة بنص السنة، وقد قال بذلك أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبو ثور ويحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد والليث بن سعد وأحمد بن حنبل. فإن قيل: قد روى الكوفيون حديث القسامة من طريق سعيد بن عبيد الكوفي روي عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: تأتوني بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا ببينة، قال: فيحلفون،

قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود" لم يذكر فيه الأيمان من جهة المدعي بالكلية. فالجواب: "قال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع سعيد بن عبيد على لوايته عن بشير بن يسار، وذكر الإمام أحمد حديث سعيد بن عبدي فنفض يده، وقال: ليس ذلك بشيء رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذهب إلى حديث المدنيين حديث يحيى بن سعيد، وقال فيه غير ذلك، وأهل المدينة أعلم بذلك، والله أعلم. قوله: (وروى ابن المسيب رحمه الله: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ باليهود بالقسامة، وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم").

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لليهود -وبدأ بهم- يحلف منكم خمسون رجلاً، فأبوا، فقال للأنصار: استحقوا، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية علىليهود لأنه وجد بين أظهرهم" رواه أبو داود وحكى أبو عمر بن عبد العزيز بن المسيب مثل ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمنوسليمان بن يسار، ولا يصلح ذلك لمعارضة الحديث الصحيح المتفق على صحته. قوله: (ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق، وحاجة الولي إلى

الاستحقاق، ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل، فأولى ألا يستحق به النفس المحترمة). فيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه تعليل في مقابلة النص. الثاني: أن الاستحقاق لم يكن باليمن المجردة بل بما انضم إليها من اللوث والعداوة، فإنه إذا وجد قتيل يتشحط في دمه وعدوه هارب بسكين ملطخة بالدم، وكيف يقال: القول قوله فيستحلف بالله ما قتله، ويخلى سبيله، ونظير هذا إذا رأينا رجلاً من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة، وآخر أمامه يشتد عدوًا، وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى، فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى الحاسر الرأس، ولو اختصم رجلان في حائط، ولأحدهما عليها جذوع، أو بناؤه متصل ببنائه، فإنه يقضى له به، بل لو كان وجه الحائط أو قمط الخص إلى جهة أحدهما يقضى له به عند أبي يوسف

ومحمد وغيرهما، ويعارض قوله: فأولى ألا يستحق به النفس المحترمة، بأن صون الدماء فوق صون الأموال ولولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفكها، فيقتل الرجل عدوه خيفة ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين الفاجرة ولا يسع الناس في مثل هذا، الاكتفاء بيمين القاتل المتمرد الفاجر، ووجود العداوة واللوث بينة، وليس اسم البينة مقصورًا على الشهود، بل اسم البينة في الكتاب والسنة ولغة العرب أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين عند من يقول بذلك، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، والبينة في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق. قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر} وقال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد

ما جاءتهم البينة} وقال تعالى: {قل إني على بينة من ربي}. ونظائر ذلك في القرآن كثيرة، والمراد بالبينة: ما يبين الحق من شهود أو دلالة، فإن الشارع صلوات الله عليه يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره من البنات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يرد حقًا قد ظهر بدليله أبدًا، فتضيع بدليله أبدًا، فتضيع حقوق الله تعالى وحقوق عباده، بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير منه الحقوق لتوقف ثبوتها على طريق معين عندهم وصار الظالم الفاجر متمكنًا من ظلمه وفجوره ويقول: لا يقوم علي شاهدان عدلان، فضاعت حقوق كثيرة، وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العام عن أيديهم ودخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى، ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى، ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعداوة وسياسة من لا يعرف الشريعة من الأمراء. روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: "دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة، يأتي رجل من أرض كذا ورجل من أرض كذا فيحلفون قال: فقلت له: ليس ذلك لك قضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده، وإنك إن تتركها أوشك أن يقتل عند بابك قتيل فيطل دمه،

الجمع بين القسامة والدية

وإن للناس في القسامة حياة". انتهى. وقد حفظ الله أمر الشريعة على هذه الأمة، فإن هذا الحكم إن لم يقل به هذا الإمام، فقد قال به الإمام الآخر، فلا تجد الأمة قد اتفقت على قول باطل وتركوا الحق أبدًا، ولا تقوم مصالح الناس بالعمل بقول إمام معين لا يعدل عن قوله إلى قول غيره أبدًا، وهذا مما يبين لك فساد التقليد، ولهذا لما رأى الملوك وأهل الحل والعقد أن الناس قد أخلدوا إلىلتقليد المحض، وقد افترقوا، وأخذت كل طائفة بقول إمام معين لا تعدو قوله، أقاموا من كل فرقة قاضيًا لئلا تضيع بعض الحقوق باعتبار الوقوف عند قول بعض الأئمة دون بعض، وكان النهي عن الافتراق حين رأوهم افترقوا أولى من تقريرهم على الافتراق، وفعل ما يكون باعثًا لهم على الإصرار على الافتراق، ولم يكن هذا في صدر الإسلام، وإنما حدث هذا من نحو مائة سنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قوله: (ولنا أنه عليه الصلاة والسلام مع بين القسامة والدية في حديث ابن سهل وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر بينهما على وادعة).

فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: إنه عليه الصلاة والسلام جمع بين القسامة والدية في حديث ابن سهل. ليس كذلك، والحديث قد تقدم ذكره، ولم تجر بينهم قسامة بالكية، وإنما واده النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده، وفي رواية: "من إبل الصدقة" كذا في الصحيحين وغيرهما. الثاني: قوله: وفي حديث زياد بن أبي مريم، ولا يعرف هذا الحديث في كتب الحديث، وإنما رأيته في كتب الأصحاب. الثالث: قوله: وكذا جمع عمر بينهما على وادعة، ويشير بذلك إلى ما روي "أن عمر -رضي الله عنه- كتب في قتيل وجد بين خيوان، ووادعه أن

يقاس ما بين الفريقين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلاً حتى يوافوه مكة فأدخلهم في الحجر، فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا! قال عمر: كذلك الأمر" أخرجه البيهقي. وقد أجاب المخالفون في ذلك وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم عن ذلك: أن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى وأحق بالاتباع من قول عمر رضي الله عنه، وأن قضية عمر -رضي الله عنه- يحتمل أنهم أنكروا العمد فأحفلوا على ذلك وألزموا بالمال بحكم أن القتل خطأ. قالوا: وكيف أخذتم بهذا مع مخالفته للأصول، وهو إيجاب الأيمان على غير المدعى عليه، وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم وتغريمهم وحبسهم على الأيمان، وتركتم الأخذ بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكونه مخالفًا للأصول على زعمكم. قالوا: وقولكم: إن اليمين شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم عن اليمين الكاذبة لا لتجنب الدية إذا نكلوا، مجرد دعوى والقاتل غالبًا إنما يقتل خفية، ولا يمتنع عن الإقدام على اليمين الكاذبة بعد أن أقدم على قتل

النفس التي حرمها الله تعالى، إذ قتل النفس أعظم من اليمين الكاذبة وغيره من أهل المحلة يحلف صادقًا لأن القتل كان خفية لم يطلع عليه فحمل اليمين على هذه الفائدة والحالة هذه ضعيف. قوله: (لما روي "أن عمر -رضي الله عنه- لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلاً فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسون ثم قضى بالدية"). لم أر هذا في كتاب الحديث. قوله: (لما روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بقتيل وجد بين قريتين فأمر أن يذرع"). أخرجه البيهقي بمعناه وضعفه. قوله: (وأما أهل خيبر فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرهم على أملاكهم فكان يأخذ

منهم على وجه الخراج). قد تقدم في كتاب السير التنبيه على أن خيبر قسم رسول الله -صلى لله عليه وسلم- نصفها بين الغانمين وأبقى نصفها لنوائب المسلمين، وأقر أهلها عمالاً عليها على أن يجليهم عنها متى شاء، ولذلك أجلاهم عمر -رضي الله عنه- بعد ذلك عنها، ولو كانت ملكًا لهم لم يجلهم عنها والله أعلم. * * *

الأصل في وجوب الدية

[قوله]: كتاب المعاقل كان الأولى أن يقول: العواقل لأن المعاقل جمع معقلة وهي الدية كما قال هو فكأنه قال: كتاب الديات، وقد تقدم تسمية الكتاب الذي قبله كتاب الديات فصار تكرارًا، والعواقل جمع عاقلة وهي من يتحمل الدية، وهذا هو المناسب هنا، والله أعلم. قوله: (والأصل في وجوبها على العاقلة قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث حمل ابن مالك للأولياء: "قوموا فدوه"). هذا اللفظ غير معروف في حديث حمل بن مالك، ووجوب الدية على العاقلة ثابت مستفيض من قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث حمل بن مالك وغيره في الخطأ، وفي شبه العمد، قضى به الخلفاء الراشدون بعد

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وروى جابر رضي الله عنه قال: "كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كل بطن عقوله" رواه أحمد ومسلم والنسائي، ولا خلاف في الخطأ. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن العاقلة لا تحمل دية العمد، وأجمعوا على أنها تحمل دية الخطأ، واختلفوا في الحر يقتل العبد خطأ، ثم قال: واختلفوا في شبه العمد، فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وقتادة وابن شبرمة وأبو ثور: هو عليه في ماله، وقال الشعبي والنخعي والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة.

قال أبو بكر: قول الشعبي أصح لحديث أبي هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل دية الجنين على عاقلة الضارب". قوله: (وإنما خصوا بالضم لأنه إنما قصر لقوة فيه وتلك بأنصاره، وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا به). هذا تعليل قاصر، ويجب حمل إيجاب الشارع على أكمل المعاني وأقوى من هذا المعنى وأكمل: أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة أو ضم العاقلة إليه على سبيل المواساة له تخفيفًا عنه إذ كان معذورًا في فعله، وينفرد هو بالكفارة.

قوله: (والتقدير بثلاث سنين مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-). لم يثبت ذلك مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما ثبت عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-، ولا يعرف لهما مخالف، وروى البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: وجدنا عامًا في أهل العلم "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في جناية الحر المسلم على الحر خطأ بمائة من الإبل بأسنان معلومة على عاقلة الجاني وأنها في مضي ثلاث سنين، كل سنة ثلثها". قوله: (ولنا أن القياس يأباه، والشرع ورد به مؤجلاً، فلا يتعداه). يعني أ، ما وجب على القاتل في ماله، يؤديه في ثلاث سنين؛ لأن القياس يأبى وجوب المال بمقابلة النفس، والشرع ورد بإيجاب الدية في ثلاث سنين فيقتصر فيه على ما ورد به النص، وفيه نظر منوجهين: أحدهما: قوله: إن القياس يأباه. وقد تقدم التنبيه على أن الشرع لم يرد على خلاف القياس الصحيح أصلاً، وإذا كان المراد من شرع القصاص حسم مادة

الاختلاف في ابتداء مدة الدية

الفساد، فقد يحصل ذلك بالمال، وإذا كان القصاص قد سقط لشبهة كما في قتل الأب ابنه، فلو لم يجب المال لأدى ذلك إلى إهدار الدم، والتجري على الفساد، فكان إيجاب المال والحالة هذه على وفق القياس الصحيح. الثاني: قوله: والشرع ورد به مؤجلاً فلا يتعداه. إنما ورد الشرع به مؤجلاً في دية الخطأ ويشبه العمد لا غير على ما تقدم، مع أن ذلك لم يثبت مرفوعًا، وإنما ورد عن الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا يصح اعتبار العمد بالخطأ وشبه العمد؛ لأن القاتل ثم معذور لكونه لم يقصد القتل، وإنما أفضى إليه على غير اختيار منه، ولهذا تحمله العاقلة، والعاقلة لم تصدر منهم جناية، وحملوا أداء المال مواساة، فلاق بحالهم التخفيف عنهم، وأما العمد فإن ما يحمله الجاني بسببه في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقًا ببدل سائر المتلفات. قوله: (وإنما تعتبر مدة ثلاثة سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور). فيه نظر، وقد خالف في ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما، وقالوا:

إن أول المدة في حين وجوب الدية، وقولهم أقوى، فإنه مال وجب مؤجلاً فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم، وقوله: لأن الواجب الأصلي المثل. ممنوع، بل الواجب الأصلي المال لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله} الآية، فجعل جزاء القتل الخطأ الكفارة والدية، ولهذا وجبت على غير الجاني؛ لأنه معذور، وإنما يكون الواجب الأصلي المثل على خلاف فيه فيما إذا سقط القصاص لشبهة، وإن كان مراده أن الموجب الأصلي على مقتضى القياس المثل ممنوع أيضًا؛ لأنه ليس مقتضى القياس الصحيح وذلك لأن الموجود من القاتل خطأ جناية عن غير قصد، فلو قوبل بقتل مقصود لكان في ذلك زيادة على المثل، وما ورد به الشرع هو مقتضى الصحيح. وقوله: والتحول إلى القيمة بالقضاء؛ ممنوع أيضًا؛ لأن الدية إن لم تكن واجبة بالشرع لم يكن للقاضي الإلزام بها، وإن كان واجبة بالشرع فالقاضي يلزم بما وجب بالشرع، وهذا هو الحق؛ فإن القاضي ليس بمشرع، وقد تقدم التنبيه على مثل هذا في مواضع. وفي تسمية الدية قيمة نظر، ولو كانت قيمة لاختلف باختلاف الأشخاص، ودية الصحيح العالم العاقل كدية الأعمى الزمن المجنون

الجاهل الفاسق، وإنما تجب الدية صلة مبتدأة جبرًا لمصاب أولياء المقتول وكفًا لهم عن العدوان، ولهذا يحملها غير الجاني. وقوله: كما في ولد المغرور ليس من باب الإلزام للمخالف بل من باب التنظير للتوضيح. يعني أنا كما قلنا في ولد المغرور قلنا في الدية، أما المخالف فلا يقول إن الموجب الأصلي القصاص ولكن عدل عنه إلى الدية بحكم الحاكم، بل يقول الموجب الأصلي الدية في الخطأ وشبه العمد والحاكم يلزم بذلك، والقول بأن قيمة ولد المغرور إنما تجب عليه بقضاء القاضي فيه نظر؛ لأن رد عينه متعذر قبل القضاء فلم يكن بالقضاء بالقيمة قد عدل عن تسليم العين إلى تسليم القيمة، بل ولد المغرور جزء من أمه، وهي أمة، وحقه أن يكون رقيقًا تبعًا لأمه وإن كان أبوه حرًا لكن لما كان الأب مغرورًا كان تمام النظر للجانبين العدول إلى قيمته يوم ظهر استحقاقه له إذ قبل ذلك لا ضباط له حتى يقال: وجبت له القيمة من حين كذا، فلم يكن للقضاء تأثير في إيجاب القيمة، وإنما هو إلزام بما وجب شرعًا. قوله: (لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة، وينقص منها -إلى قوله- تحقيقًا لزيادة التخفيف). اختلف العلماء فيما يحمله كل واحد من العاقلة: فمذهب أبي حنيفة

والشافعي ما ذكره عنهما المصنف، وعن أحمد في رواية كالشافعي، وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه إلى أنهم يحملون ما يطيقون من غير تقدير، وإنما يفوض تقديره إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرًا يسهل عليه لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف، ولا يثبت بالرأي والتحكم، ولا نص في هذه المسألة، فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات، وتختلف بالغنا والفقر والتوسط ويعتبر ذلك عند رأس الحلول لأنه حال وجوب الأداء وهذا القول في القوة كما ترى. قوله: (لقول عمر -رضي الله عنه-: "لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة"). لا يعرف هذا عن عمر -رضي الله عنه-، ولكن العمل عليه عند أهل العلم، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ الحلم لا يعقلان مع العاقلة، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق أصحاب الرأي، وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه من ذلك شيء.

قوله: (والأصل فيه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تعقل العواقل عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما دون أرش الموضحة"). تقدم التنبيه على أن هذا لم يصح رفعه، وإنما ورد عن عمر وابن عباس وورد أيضًا عن الشعبي والزهري نحوه، ولكن ليس في شيء من ذلك "ولا ما دون أرش الموضحة" وقد اختلف العلماء في أقل ما تحمله العاقلة، فقال الزهري: الثلث فما دونه في مال الجاني، وقال سعيد بن المسيب: ما دون الثلث في مال الجانب، وبه قال عطاء ومالك وأحمد، وأبو حنيفة والثوري والشعبي: ما دون نصف العشر في مال الجاني، وقال الشافعي: تعقل العاقلة أرش الخطأ قل أو كثر، ولا يصح الاستدلال لأبي حنيفة بهذا الحديث الذي ذكره المصنف؛ لأن الصحيح أنه من كلام

الشعبي ولكن يستدل له بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل دية الجنين على عاقلة الضارب"، وفي الاستدلال به نظر. * * *

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا قوله: (والقياس يأبى جوازها لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته ... إلى آخره). تقدم التنبيه على أن هذه العبارة فيها إساءة أدب على الشرع لأن معناها أن القياس الصحيح يأباها وهذا لا يصح؛ لأن الشرع لا يأتي إلا على وفق القياس الصحيح علمه من علمه وجهله من جهله، وإن تراءى الجامع وخفي الفارق فالقصور فهمنا عن إدراكه، وعدم علمنا بالفارق لا يكون علمًا بعدم الفارق مع أنه قد ذكر الفارق وسماه استحسانًا وذلك هو القياس الصحيح، وذلك القياس الذي يأبى جوازها هو القياس الفاسد، وإذا جاء النص على خلافه، لا يقال: جاء النص على خلاف القياس؛ لأن القياس إذا أطلق ينصرف إلى القياس الصحيح، والنص لا يأتي على خلافه. قوله: (وفي شرع الوصية ذلك فشرعناه). في هذه العبارة إساءة أيضًا لأن الله تعالى هو الذي شرع الوصية ورسوله

بإذنه، فكيف يقول فشرعناه، وكأن المصنف جاء بهذه اللفظة لأجل القرينة، ولم يتأمل لازمها. قوله: (وفي آخر حديث الوصية-: " ... تضعونها حيث شئتم، أو قال حيث أحببتم"). هذه الزيادة لم أرها في الحديث المذكور، وفي ثبوتها نظر، فإن الموصي لو أراد أن يضعها فيما لا يجوز له شرعًا ليس له ذلك. قوله: (وقد جاء في الحديث "الحيف في الوصية من أكبر الكبائر"). هذا اللفظ لا يعرف، وإنما ورد "الحيف في الوصية والإضرار فيا من الكبائر" أخرجه البيهقي وغيره، وقالوا: إن رفعه لا يصح وإنما هو من

حكم الوصية للقاتل

كلام ابن عباس نفسه. قوله: (وكل ما جاز بإجازة الوارث يمتلكه المجاز له من قبل الموصى عندنا، وعند الشافعي من قبل الوارث). الصحيح من مذهب الشافعي خلاف ذلك، وإنه يتلقى الملك من الموصى. قوله: (ولا تجوز للقاتل عامدًا كان أو خاطئًا بعد أن كان مباشرًا لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية للقاتل"؛ ولأنه استعجل ما أخره الله فيحرم الوصية كما يحرم الميراث). فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: ولا تجوز للقاتل عامدًا كان أو خاطئًا بعد أن كان مباشرًا. فإنه يجب أن يستثنى الصبي والمجنون، كما ذكره قاضي خان في الفتاوى، والكاساني في البدائع وغيرهما؛ لأنهما لا يحرمان الميراث بالقتل مطلقًا

لفساد القصد منهما، فالوصية أولى. الثاني: قوله: لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لقاتل". فإنه حديث باطل، رواه الدارقطني، وفي سنده مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة قال الدارقطني: مبشر متروك يضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه، وقال أحمد بن حنبل: مبشر أحاديثه موضوعة كذب. الثالث: قوله: ولأنه استعجل ما أخره الله فيحرم الوصية كما يحرم الميراث. فإن هذا الاستدلال إنما يصح في المسألة التي بعد هذه، وهي ما إذا أوصى لرجل، ثم قتله ذلك الرجل، وقد اختلف العلماء في جواز الوصية للقاتل على ثلاثة أقوال: النفي مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والثوري وإحدى الروايات عن أحمد، والجواز مطلقًا وهو قول مالك وإحدى

الروايات عن أحمد، واختاره ابن المنذر، والتفصيل، إن كانت بعد الجرح تصح، وغن كانت قبله لا تصح، وإن كانت قبله لا تصح وهو أحدى الروايات الثلاث عن أحمد وهو قول الحسن بن صالح، ووجهه أن الوصية بعد الجرح صدرت من أهلها في محلها ولم يطرأ عليها ما يبطلها بخلاف ما إذا تقدمت لأن القتل طرأ عليها فأبطلها لأنه يبطل ما هو آكد منها وهو الإرث، يحققه أن القتل إنما منع الميراث لكونه بالقتل استعجل الميراث الذي انعقد سببه فعورض بنقيض قصده، وهو منع الإرث دفعًا لمفسدة قتل المورثين وهذا المعنى يتحقق في القتل الطارئ على الوصية. قوله: (والأثر محمول على أنه كان قريب العهد بالحلم مجازًا أو كانت وصية في تجهيزه وأمر دفنه).

لا يصح حمل الأثر على ما ذكره لأن فيه أنه كان يفاعًا لم يحتلم وأنه أوصى لبنت عمه بمال يقال لها: بئر جشم وأن ذلك المال بيع بثلاثين ألف درهم، وهذا الأثر ذكره مالك في الموطأ والبيهقي وغيرهما وقال بموجبه الأئمة الثلاثة وهو منقول عن عمر بن عبد العزيز وشريح وعطاء والزهري وإياس وعبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي وإسحاق، وعن ابن عباس: لا تصح وصيته حتى يبلغ، وبه قال الحسن ومجاهد، ويروى عن الشافعي أيضًا. قوله: ...................................................................................

(وله أن السهم هو السدس؛ هو المروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وقد رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروى). رفعه ضعيف، ضعفه البزار وغيره. * * *

باب الوصية بثلث المال قوله: (بخلاف ما إذا أقر بعين أو دين لوارثه وللأجنبي حيث لا يصح في حق الأجنبي ... إلى آخره). فيه نظر، فإن الإقرار إخبار عن أمر كائن، والشأن في إبطال الإقرار للوارث، وينبغي أن لا يبطل الإقرار للوارث إلا عند قيام قرينة تدل على تهمة، وإلا فإذا كانت ذمته مشغولة بدينه كيف يقال إن الطريق إلى تخليص ذمته من دينه مسدودة، وأنه لا سبيل لهذا المسكين إلى الوصول إلى دينه، وأنه لما فرط في الإشهاد على المديون في صحته انسد عليه باب الوصول إلى دينه، وانسد على الآخر الوصول إلى خلاص ذمته لاحتمال تهمة الإيثار. وهذا إنما يتأتى في حق الفاسق القليل الدين، أما العد المتقي فلا يتهم في إقراره بدين في ذمته هذا في حق الوارث، أما الأجنبي فكيف يكون ضمه إلى الوارث مبطلاً حقه لاستحقاقه المشاركة له في كل ما يقبضه، ومراعاة خلاص ذمة المقر أولى من اعتبار معنى يؤدي إلى إبطال حق الأجنبي والنظر إلى جانب تخليص الذمة وإيصال الحق إلى مستحقه، وحمل كلام المسلم

على الصدق خصوصًا من قد أشرف على الموت كيف يظن به الكذب، بلى إن كان معروفًا بالكذب قبل ذلك يتهم في هذا الإقرار خوفًا من جريه على عادته، وهذا معنى مذهب مالك رحمه الله، فإنه يقال: إن المريض إذا أقر لوارثه بدين -فإن لم يتهم- قبل. * * *

باب الوصية للأقارب وغيرهم قوله: (وقد تأيد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لجار المسجد إلى في المسجد"). أخرجه الدارقطني من حديث جابر، وهو حديث ضعيف، ضعفه البيهقي والنووي وغيرهما، وقال ابن حزم، هو صحيح من قول علي -رضي الله عنه-. قوله: (لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام لما تزوج صفية أعتق كل من

شمولية اسم الأهل للزوجة وغيرها

ملك من ذي رحم محرم منهما إكرامًا لها، وكانوا يسمون أصهار النبي -صلى الله عليه وسلم-"). صوابه جويرية فإنه ثبت "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أغار على بني المصطلق وهم غارون وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها فأدى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتزوجها فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" ولم يرو في حق صفية شيء من ذلك. قوله: (وله، أن اسم الأهل حقيقة في الزوجة، يشهد بذلك قوله تعالى {وسار بأهله} ومنه قولهم: تأهل ببلدة كذا. والمطلق ينصرف إلى الحقيقة). تخصيص الزوجة باسم الأهل مخالف لما قاله أهل اللغة، ولما عليه جمهور أهل العلم، قال في المغرب: أهل الرجل أخص الناس به، عن الغوري

والأزهري، وقيل: الأهل المختص بالشيء اختصاص القرابة، وقيل: خاصة الشيء الذي ينسب إليه، ويكنى به عن الزوجة، ومنه: {وسار بأهله} انتهى. فقد جعله كناية عن الزوجة لا كما ادعاه المصنف، وهذا هو المعروف في استعمال الشرع، قال تعالى: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} إلى أن قال: {فقال رب إن ابني من أهلي} إلى أن قال: {إنه ليس من أهلك} الآية، وقال تعالى: {فدية مسلمة إلى أهله} وقال تعالى: {وشهد شاهدٌ من أهلها} وقال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} وقال تعالى: {وأتوني بأهلكم أجمعين}، ولا دليل له في قوله تعالى: {وسار بأهله}

لأن ظاهر الآية يدل على أن مع زوجته غيرها من عياله، لقولها: {امكثوا} ثم قال: {آتيكم} ثم قال: {لعلكم تصطلون} ولم يقل: امكثي، اتيك، لعلك تصطلي، ولا يلزم من قولهم: تأهل ببلدة كذا. اختصاص الاسم بالزوجة، وإنما يدل على جواز استعماله في الزوجة، ولا كلام فيه، وقوله: والمطلق ينصرف في الحقيقة، إنما يتم استبدلاله به أن لو سلم له أن الأهل حقيقة في الزوجة مجاز في غيرها، وليس على هذه الدعوى دليل صحيح. قوله: (وفي الوصية للفقراء والمساكين يجب الصرف إلى اثنين منهم اعتبارًا لمعنى الجمع). فيه نظر، فإن ظاهره أنه يجب الصرف إلى اثنين من الفقراء أو اثنين من المساكين لقوله: اعتبارًا لمعنى الجمع. وقد تقدم في باب الوصية بثلث المال: أن الفقراء والمساكين جنسان، وأنه يعتبر من كل فريق واحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: منكل فريقٍ، اثنان، ومقتضى ذلك أنه يجب هنا الصرف إلى واحد فصاعدًا من كل صنف عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو الصحيح، وكأنه يريد أنه لو أوصى لفقراء بني فلان أو لمساكين بني فلان، ولا يريد أنه أوصى للفقراء والمساكين بهذا اللفظ، فإن كان أراد ذلك فالمعنى صحيح والعبارة فيها نظر. قوله: (ولا يدخل فيه موالٍ أعتقهم). قال السغناقي: هكذا وقع في النسخ ولكن الصواب في هذا أن يقال:

موال أعتقهم ابنه أو أبوه كما هو المذكور في الإيضاح والجامع الكبير؛ لأن التعليل الذي علل به إنما يصح في الذين أعتقهم ابنه أوه في موالٍ أعتقهم الموصي لأن أولئك مواليه حقيقة. قوله: (بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء). قال السغناقي: هكذا وقع في النسخ لكن هو ليس بصواب، بل [الصواب] أن يقول: بخلاف معتق المعتق كما هو المذكور في الإيضاح أنه يثبت بهذا الفرق بين موالي الموالي وبين موالٍ أعتقهم أبوه أو ابنه على ما ذكرنا من النسخة الصحيحة فيه أيضًا، وذلك إنما يستقيم فيما إذا قال بخلاف معتق المعتق، وأما معتق البعض فعند أبي حنيفة لم ينسب إليه بالولاء بعد لأنه بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يدخل تحت اسم المولى عند قيام الكتابة وعندهما لو نسب إليه إنما ينتسب بالولاء حقيقة فلا يحتاج إلى ذكره. والله أعلم. * * *

باب الوصية بالسكنى والخدمة الثمرة قوله: (ولنا أن الوصية تمليك بغير بدل مضاف إلى ما بعد الموت فلا يملك تمليكه ببدل -إلى قوله- أما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكًا أكثر مما تملكه معنى، وهذا لا يجوز). ما ذكره المصنف رحمه الله وإن كان ماشيًا على أصول المذهب لكن فيه نظر أنبه عليه إن شاء الله تعالى، أما قوله: اعتبارًا بالإعارة. فيمكن الفرق بينه وبين الإعارة بأن الإعارة يمكن الرجوع فيها ولا كذلك والوصية، وأما قوله: وتحقيقه أن التمليك ببدل لازم وبغير بدل غير لازم، ولا يملك الأقوى بالأضعف ولا أكثر بالأقل. فالمدعي في هذه الجملة ثلاثة أشياء وهي: أن التمليك بغير بدل غير لازم، والتمليك ببدل لازم، وأنه أضعف من التمليك ببدل وأنه أقل منه. أما دعوى أن التمليك بغير بدل غير لازم فهذا يشمل الأعيان والمنافع؛

فأما الأعيان فقد تقدم في كتاب الهبة التنبيه على ضعف القول بجواز الرجوع في الهبة. وأما المنافع: فذهب مالك رحمه الله إلى القول بلزوم التوقيت في العارية إذا وقتت وهو قول في غاية القوة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} وقال تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمنون عند شروطهم" وكونه عقد تبرع لا يمنع أن يلزم بالالتزام كالنذر بل بالشرع في الفعل على ما هو المعروف من المذهب مع أن التمليك بغير بدل والتمليك ببدل كل منهما يوجب الملك الكامل، وقد تقدم في كتاب الهبة، التنبيه على ما في جواز الرجوع في الهبة من الإشكال، والقول بضعف الملك بغير بدل مجرد دعوى، وكذلك القول بأنه أقل من التمليك بعوض، وذكر ذلك من باب التهويل. وأما قوله: والوصية تبرع غير لازم إلا أن الرجوع للمتربع لا لغيره، والمتبرع بعد الموت لا يمكنه الرجوع، فلهذا انقطع، أما هو في وضعه غير لازم.

فجوابه: أن هذا مبني على ما أصلتموه، وقد تقدم التنبيه على ضعفه مع أن اللزوم في الوصية آكد من اللزوم في الإجارة، فإن عقد الإجارة لا يجوز إلا مؤقتًا، وعقد الوصية يجوز مطلقًا ومؤقتًا، فإذا جازت إجارة المأجور فإجازة الموصي به أولى بالجواز، وقد أشار المصنف إلى الجواب عن هذا الإشكال بقوله: ولأن المنفعة ليست بمال على أصلنا وفي تمليكها بالمال إحداث صفة المالية فيها تحقيقًا للمساواة في عقد المعاوضة حتى يكون مملكًا لها بالصفة التي تملكها، أما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكًا أ: ثر مما تملكه معنى وهذا لا يجوز. وفي هذا الجواب نظر، فإنه يتضمن أن المنفعة ليست بمال، ولكنها إذا قوبلت بمال حدثت لها صفة المالية لأجل المساواة، وهذا لا يقوى لأن ميل النفوس إلى المنافع حاصل قبل مقابلتها بالمال وبعده، وإنما سمي المال مالاً لذلك، فضعف الفرق بين تسميتها مالاً بعد المقابلة بالمال لا قبله مع أن ميل النفوس إلى الأعيان إنما اهو لمنافعها فدل على أن المقصود الأصلي من جميع الأعيان المنافع، فكيف يقال: إن المنافع لا تكون مالاً إلا إذا قوبلت بمال وإن الأعيان أموال وإن لم تقابل بمال، مع أن المقصود إنما هو المنافع والأعيان قوالب لها، وإذا ثبت كونها مالاً، فلا فرق بين تملكها بعوض وبغير عوض، ولا يكون إذا ملكها بعوض -وقد ملكها بغير مال- مملكًا أكثر مما يملك معنى، بل مملكًا عين ما تملك والبدل يقوم مقام المبدل، وإذا كانت المنافع قد ملكها ملكًا تامًا لازمًا فما المانع من جواز الاعتياض عنها من كتاب أو سنة أو

إجماع. والحاصل أن الموصى له بالسكنى والخدمة يملك المنفعة عند الشافعي، وهو قول مالك وأحمد، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يملك الانتفاع ومالك المنفعة يملك الانتفاع والمعاوضة كالمستأجر ومالك المنفعة يملك الانتفاع والمعاوضة كالمستأجر ومالك الانتفاع لا يملك المعاوضة، كانتفاع الزوج بمنافع البضع، والانتفاع بالخان المسبل والسقاية والجلوس في الرحاب والانتفاع ببيوت المدارس والربط [ونحو ذلك. واختلف العلماء في المستعير: فذهب أبو حينفة والشافعي وأحمد إلى أنه لا يملك المنفعة، وإنما يملك الانتفاع، وذهب مالك ومن تبعه إلى أنه يملك المنفعة، ولهذا تلزم العارية عنده بالتوقيت، ولو أطلقها لزمت] عنده

في مدة ينتفع بمثلها عرفًا فليس له الرجوع قبلها ويملك عنده الإجارة كالمستأجر وقول مالك أظهر، للأمر بالوفاء بالعقود والعهود والشروط، ولأن المالك قد أقامه مقامه في الانتفاع بالمستعار فيملك تمليك منافعه بعوض وغيره كالمستأجر بخلاف الانتفاع بالزوجة والانتفاع بالخان ونظائره لأن الملك فيها مقصور على الانتفاع فلا يملك تمليكه بعوض ولا غيره فإن قيل: إنه يملك أن يقيم غيره مقامه في الخان وبيوت المدارس ونحوها، وذلك تمليك منه، قيل: بل النازل في ذلك المكان/ كان أحق به مدة مقامه فيه ليس لأحد انتزاعه منه فإذا رغب عنه شغر فنزل غيره فيه لشغوره وعوده إلى الإباحة الأصلية، فلو أخذ على ذلك عوضًا لكان ذلك إما رشوة محرمة وإما صلة مباحة. والله أعلم. قوله: (أما الولد المعدوم وأختاه -يعني الثمرة والغلة- لا يجوز

إيراد العقد عليها أصلاً، ولا يستحق بعقدٍ ما، فلا يدخل تحت الوصية). تقدم في الإجارات التنبيه على ما في إجارة الشجر لثمره والشاة -ونحوها- للبنها من الخلاف ودليل من قال بجوازها. * * *

باب وصية الذمي قوله: (ولو أوصى -يعني الذمي- بخلاف ملته جاز اعتبارًا بالإرث؛ إذ الكفر كله ملة واحدة، ولو أوصى لحربي في دار الحرب لا يجوز لأن الإرث ممتنع لتباين الدارين والوصية أخته). فيه نظر؛ فإنالذمي لو أوصى لمسلم جاز وكذا عكسه والإرث بينهما ممتنع، فكيف يقول: إنه لو أوصى الذمي لخلاف ملته جاز اعتبارًا بالإرث، ولو أوصى لحربي في دار الحرب لا يجوز لأن الإرث ممتنع، بل ينبغي جواز الوصية في الموضعين، فلا يصح التعليل لجريان الإرث وعدمه لصحة وصية الذمي للمسلم والمسلم للذمي ولا توارث بينهما. * * *

كتاب الخنثى

كتاب الخنثى قوله: (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عنه كيف يورث؟ فقال: من حيث يبول). أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس، وضعف سنده، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنه يورث من حيث يبول. قوله: (فإن قام في وصف النساء فأحب إلى أن يعيد ... إلى آخره). هذه المسألة من فروع مسألة المحاذاة، وقد تقدم التنبيه على ضعفها في باب الإمامة، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم. تم الكتاب والحمد لله رب العالمين.

جاء في آخره ما نصه: فرغ من تعليقه فقير رحمه ربه محمد بن عبد الله قرابق الحنفي، من نسخة بخط المصنف رحمه الله، كتب في آخرها ما صورته كذلك: علي بن علي بن محمد بن محمد بن العز الحنفي، عفا الله عنهم، وفرغ من نسخه وتأليفه في عاشر شهر رجب عام تسعة وسبعين وسبعمائة -قبيل الغروب من يوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وثمانمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. كاتبه: يا رائيًا إلى كتابي الذي ... خطيته وكله كشط أبسط لك العذر فإني امرء ... ليس له حظ ولا خط * * *

§1/1