التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

أبو الطاهر ابن بشير

التنبيه على مبادئ التوجيه قسم العبادات لأبي الطاهر إبرهيم بن عبد الصمد بن بشير تحقيق ودراسة الدكتور محمد بلحسان المجلد الأول مركز الإمام الثعالبي للدراسات ونشر التراث دار ابن حزم

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428هـ -2007مـ 2 - 490 - 81 - 9953 - 978 ISBN الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها مركز الإمام الثعالبي للدراسات ونشر التراث الجزائر -هاتف وفاكس:017029011 - جوال: 072745624 دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان -ص. ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

التنبيه على مبادئ التوجيه قِسْمُ العِبَادَاتْ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة التحقيق]

المقَدّمَة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإنه من نافلة القول وفضول الكلام، أن يقال بأن الفقه الإسلامي، هو زبدة العلوم الإسلامية، وقطب رحاها بل غايتها ومنتهاها، فذاك أمر أطبق عليه جمهور المسلمين، فمعظم العلوم الإسلامية تهدف إما إلى الوثوق من ثبوت النص الشرعي، أو استثمار الحكم منه وفق المراد الإلهي، ثم تنزيله على واقع الحياة، وهذا هو الفقه الضابط لأفعال المكلفين، الجالب للسعادة في الدارين، فاستقامته ونضجه ضروريان لاستقامة ورقي المجتمع المسلم، ولا يتأتى له ذلك إلا إذا خَلُصت موارده وقوّمت مناهجه. وقد أدرك السلف هذه الحقائق، فانكبوا على دراسة وتهذيب هذا العلم وتطوير موارده فآخوا فيه بين العقل والنقل، وخصوا منهجه بعلم هو علم أصول الفقه، فقوّم بذلك أوده وتحقق كماله ونضجه. فظهرت فيه المهارات الفكرية والقدرات العقلية الرفيعة تجلت في الأئمة الفقهاء، خاصة تلك الكوكبة الأولى من المجتهدين مؤسسي المذاهب. وفي طليعتهم مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة، الذي تجلت ريادته في عطائه الفقهي المبني على أصح الأصول وأحكم القواعد، وقد عبّر عن ذلك ابن تيمية بقوله: "ومن تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة، وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، قد ذكر ذلك الشافعي

وأحمد وغيرهما" (¬1) فذاع مذهبه وانتشر في كافة الأصقاع وأصبح التمسك بمذهبه رمزًا للتمسك بالسنة ومجانبة البدعة وأصحابها، ومحبة الإمام في زمانه دليلًا على محبة السنة. وقد كتب لهذا المذهب الانتشار والذيوع في الثغر الغربي للأمة الإسلامية فقام بدوره أحسن قيام، ولو لم يكن له من فضل ومنة على هذا الثغر وأهله إلا أن حماهم وحفظ بيضتهم من أن تكسر على أيد أهل التشيع والنصب والخوارج والمعتزلة لكان هذا وحده فضلاً عظيمًا ومنة لا تضاهيها منة. يدرك ذلك من اطلع على تلك الصراعات المذهبية المتأججة في الشرق. هذا فضلاً على ما لهذا المذهب من مميزات رجحته على غيره من المذاهب، أهمها مراعاته للمصلحة، وميله إلى التيسير المنسجم مع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حرامًا. وقد توالى أئمة المالكية على اختلاف مدارسهم وتنوع مشاربهم على خدمة هذا المذهب وصقله واستمراره حياً نابضاً مهيمناً على الحياة، ضابطًا لتطورها موجهاً لمسارها، فظهرت لهم في ذلك آثار طيبة وثمار يانعة سعدت بها البلاد والعباد. إلا أن هذه الآثار وتلك الثمار بدأت تذبل شيئاً فشيئًا وتتلاشى نضارتها ويناعتها خاصة في العصور المتأخرة جداً، عندما أصبح الفقه عاريًا من الدليل مجردًا من الأصول بعيدًا عن الاستدلال والبحث النظري، فسيطرت بذلك المؤلفات التي قصد بها تبيين ما به العمل والفتوى على الدرس الفقهي، مقابل هجر المؤلفات التي تعتني بذكر الخلاف، ومثاراته، والاتفاق ومظانه، وأصول المذاهب وقواعدها وأنواع الأدلة ومراتبها، والتي تعتبر ضرورية لتحصِل الملكة الفقهية والتمرس على استثمار الأحكام اللازمين لاستمرار الاجتهاد. وقد بلغت الانتكاسة أوجها بسيطرة شروح مختصر خليل بن إسحاق ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 20/ 328.

على الدرس الفقهي، حتى قال قائلهم: "فحن أناس خليليون، إن ضل ضللنا" (¬1). فأصبح كثير من المهتمين بتاريخ الفقه الإسلامي يرون المذهب المالكي من خلال بعض المختصرات وشروحها، فأصدروا في حقه أحكامًا لا تنسجم وواقع المذهب ولا تتسم بالدقة، لعدم اعتمادها على مقتضيات التأريخ العلمي، والذي من أهم أركانه الدراسة المتأنية والمسح الكامل لأهم ما كتبه الفقهاء، وهذا أمر منيع المطلب صعب المرام في هذا الوقت على الأقل وذلك لسبب واحد وهو أن كثيراً من المؤلفات الفقهية لا زالت مخطوطة أو مفقودة. فلكي نتمكن من التأريخ السوي لفقهنا لا بدّ لنا أولاً من إنقاذه من التلف والضياع، وذلك بإخراج الدرة إثر الدرة واللؤلؤة النادرة في عقب أختها، ثم تسليط أضواء النقد عليها في رحابة صدر ونقاوة منهج، فيتعاون الكل على صقل هذه الدرر وجلاء تلك اللآلئ. وقد يقول قائل ها نحن قمنا بتحقيق تلك الكتب وأخرجناها إلى الوجود، وتوصلنا إلى أحكام دقيقة وسوية على المنهجية الفقهية المالكية ... فما الثمرة التي نجنيها من ذلك؟ وبأي شيء تفيدنا في عصر الذرة والفضاء والعولمة الاقتصادية والفكرية؟ أليس في هذه الكتب الموجودة كفاية؟ أليس من الأجدى أن نبذل هذه الجهود في أمور تساعدنا على التخلص من ربقة التخلف والتبعية للغرب؟ تساؤلات كثيرة من هذا القبيل نسمعها من هنا وهناك. والإجابة عن هذه التساؤلات ليست من عزائم هذه المقدمة ولا من أهدافها، ورغم ذلك أقول وباختصار: إن هذه التساؤلات تدور حول نقطتين ¬

_ (¬1) نيل الابتهاج للتمبكتي ص: 171، والقائل هو: ناصر الدين اللقان المتوفى سنة 958هـ. نعم هناك بعض الإيجابيات للمختصرات، منها: تسهيل حفظ العلم وسرعة استحضار الأحكام ... ولكنها عيبت لما اقتصر العلماء عليها وحصروا أنفسهم في شروحها وحواشيها، ونسوا أصول العلم ومصادره.

رئيستين: الأولى: وهي وجوب الاهتمام والتركيز على الجوانب المادية والاقتصادية. والثانية: وهي إمكانية الاكتفاء بالكتب المطبوعة، ففيها التوضيح الكافي للعبادات التي كُلفنا بها. ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات بما يلي: فالنقطة الأولى يمكن أن يقال عنها: إن المعركة المستعرة الآن تدور حول الهوية والمفاهيم الثقافية والحضارية، ومحاولة تعميم القيم والمبادئ الغربية، وجعلها نموذجًا حضاريًا كاسحًا ومعيارًا ثقافيًا إلغائيًا. فمشكلتنا مشكلة فكرية وهزيمتنا هزيمة نفسية قبل أن تكون هزيمة مادية، وقد علمنا التاريخ كيف أن الواثق بنفسه المعتز بحضارته وقيمه ينتصر في النهاية وإن كان ضعيفًا ماديًا. فالبعث والنهوض بواقع الأمة الراكد والراكن إلى الجمود والاجترار والانزلاق نحو التغريب والانسلاخ من منظومته وقيمه المعرفية، لم ولن يكون إلا بالرجوع إلى ركائز الرسالة الخالدة؛ رجوعًا عقلانيًا بعيدًا عن العاطفة وتسطيح الأمور وتبسيطها مع مراعاة السنن الإلهية في هذا الكون، والأخذ بالأسباب المادية المشروعة، فإن عزمنا على ذلك فلا مناص لنا من استلهام الماضي والتوغل في العمق التاريخي لاكتناه حقيقة تراثنا والاطلاع على مواقع القوة والضعف وأسباب النهوض والسموط، وإخضاعه لعملية نقدية، بل تشريحية جريئة بعيدة عن كيل المدائح والاقتصار على الافتخار والتقديس. وهذا كله لا يحط من قدره أو ينزل من قيمته بل غاية ما يقصد منه الوقوف على تجارب الأسلاف لتجنب أخطائهم واستصحاب صوابهم. وبذلك نصل إلى التجديد والتجدد الذاتي. والتراث الفقهي يعد حلقة رئيسية وأساسية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها في فهمنا للتراث عمومًا والكتاب والسنَّة خصوصًا، وذلك لتضمنهما عصارة أفكار وجهود أئمة الإسلام. وبالنسبة للنقطة الثانية، فإنه لا يقول بها إلا من يرى الحياة جامدة

والأيام نسخًا لا تتبدل ولا تتغير. والواقع غير ذلك، فالأمة الإسلامية عرفت تغيرات جذرية عميقة، والعالم كله خضع لانقلابات اجتماعية مهولة. وهذا يفرض علينا إعادة النظر في ترجيحات واختيارات الأوائل, لأنّ ما كان راجحًا في زمانهم ليس هو بالضرورة الراجح في زماننا، وهذا ما يعبر عنه بالاجتهاد الانتقائي، الذي مارسه أسلافنا من قبل فيما يعرف "بالعمل"، ونحن في أمس الحاجة إليه الآن، ولا تتم هذه العملية إلا بإخراج الكتب التي اعتنت بالتشهير والترجيح وتضمنت الأقوال التي حكم عليها بالضعف أو الشذوذ لظروف زمانية أو مكانية متغيرة. فالقول إذاً بالاكتفاء بما هو موجود غير مسلم. والمتأمل في المسيرة العلمية المعاصرة يلاحظ أنها لا زالت في بداية طريقها رغم الجهود الخيرة المبذولة والتي لا يمكن أن تخطئها عين الملاحظ. إلا أنه رغم ذلك لا يمكننا أن نعتبر تلك الجهود كافية ومرضية، وخاصة بالنسبة للتراث الفقهي المالكي الذي لا زال كثير من عطاء أساطينه حقلًا غُفلًا لا نعرف عنه إلا القليل، ولا يعوزني الدليل على ذلك، فالنماذج كثيرة أكتفي بالإشارة إلى تراث الإمام الذي بين يدي الآن، أعني أبا الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي، المترفع عن درجة التقليد إلى رتبة الاجتهاد والترجيح. والذي يعد اجتهاده قولاً داخل المذهب ولا تكاد تجد كتابًا من كتب المالكية المعتبرة إلا وينقل عنه ويستشهد بأقواله. هذا الإمام على جلالته ومكانته الرفيعة لم يحقق له أي كتاب ولم تنجز عنه أية دراسة- حسب علمي- إلى هذه اللحظة. كل ما سبق ذكره أقنعني بمشروعية وأهمية البحث في التراث الفقهي وحقل المخطوطات. لكن كنت أتهيب اقتحام ذلك العالم لما للخوض فيه من مثبطات ومعوقات، سواء على مستوى الحصول على المخطوط أو قراءته أو تحقيقه وإخراجه. ولا يستطيع تجاوز ذلك إلا من أوتي صبراً طويلاً ونفسًا عميقًا، وأخذ بناصية أدوات التحقيق وانقادت له آلياته. وأنا لا أرى نفسي كذلك، فزادي قليل وبضاعتي مزجاة. لكني أقدمت على ارتياد

هذا الميدان، مساهمة مني في البعث الحضاري المنشود على قدر الطاقة والوسع، وما يبلغ إليه الجهد أو تناله الحيلة. ورغبة مني في المعرفة إذ العلم بالتعلم والخبرة بالإقدام والممارسة. لما تبلورت في ذهني فكرة البحث في التراث، رميت بطرفي نحو الخزانات أنقر فيها، وأمعن في الفحص وأتعمق في البحث لعلي أقف على نفيسة من نفائس مخطوطاتنا وعيون تراثنا. وشيئًا فشيئًا بدأت تظهر لي علامات اليمن وأمارات الخير، فاستقر أمري في النهاية على وعاء من أوعية الفقه المالكي بل غرة من غرره، وشهاب ساطع من شهبه. إنه كتاب "التنبيه على مبادئ التوجيه" لأبي الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي. وقد وقع اختياري على هذا الكتاب لاعتبارين رئيسين: الأول: راجع إلى المؤلف، والثاني: إلى المؤلِف. فبالنسبة للاعتبار الأول فيمكن حصره في النقط التالية: 1 - كون الكتاب من أجلّ كتب ابن بشير وأشهرها عند العلماء وأكثرها تداولًا بينهم، حتى إنه إذا قيل: قال ابن بشير فإنه ينصرف غالبًا إلى قوله في "التنبيه". 2 - تضمن الكتاب لخلاف المذهب وجمعه لأقواله، سواء منها الضعيفة أو الشاذة أو الراجحة أو المشهورة، وهذا كله يوسع دائرة الاجتهاد الانتقائي المنشود. 3 - حرصه على ذكر مثارات الخلاف وأسبابه ودواعيه، وغير خفي ما لذلك من أهمية في معرفة أصول المذاهب وقواعدها. 4 - ربطه للمسائل الفقهية بأدلتها، وتبيين عللها وأصولها، وتوضيح طريقة استثمار الأحكام منها. 5 - توظيفه لعدد هائل من القواعد الأصولية والفقهية، البعض منها نادر، وقليل الدوران على ألسنة الفقهاء.

خطة البحث

6 - اختصار عبارته مع وفائها بالمقصود، فهي ليست بالطويلة المملة، ولا بالموجزة المخلة. 7 - الكتاب عبارة عن دعوة للاجتهاد والترفع عن التقليد، وتنظير ذلك ورسم معالمه. وبالنسبة للاعتبار الثاني وهو الراجع إلى المؤلِف، فيمكن حصره في نقطتين رئيستين: الأولى: إذا نظرنا إلى تراث هذه الأمة فإننا نجد أن تراثها، أخصب تراث وأغزره وأغدقه، تعاقبت عليه أيادي الأجيال فأحكمت بنيانه ووطدت أركانه وصيرته سلس المطلب داني الملتمس، إلا أن هؤلاء الأئمة الذين ساهموا في بناء صرح هذا التراث العظيم، لا زال الكثير منهم في قوائم الإغفال وزوايا الإهمال، طويت ذكراهم وراحت مع أدراج النسيان. وهذا لا ينسجم مع أخلاق الحب والوفاء، والاعتراف بالجميل لأهله. فهؤلاء لهم دين علينا وفضل يطوّق أعناقنا، ومن الواجب علينا الوفاء بهذا الدين، والاعتراف بذلك الفضل، وإن أقل ما يفعل في حقهم بعد الدعاء لهم هو إخراج كتبهم والتعريف بأشخاصهم وتخليد ذكراهم، وإذاعة فضلهم ليكون لهم "لسان صدق في الآخرين". الثانية: إن ابن بشير لم يكن فقيهًا عاديًا بل يعد من أشهر الأعلام الذين أنجبتهم المدرسة المالكية. فقد آتاه الله عقلًا نقادًا وذهنًا وقادًا وقدرة على التحليل والتعليل، ولا غرو في ذلك فقد شب إمامنا في بيئة علمية رضع من ألبانها وتزود من ثمارها، أعني البيئة الإفريقية التي كانت إلى حدود زمن ابن بشير قيّمة على الحياة الفكرية والثقافية ببلاد المغرب، ولعل هذا ما أهله للانضمام إلى المدرسة النقدية التي أسسها أبو الحسن اللخمي فتعاطى للنقد وهو أعلى درجات الإمامة بل تصدى لانتقاد إمام المدرسة نفسه. خطة البحث: فيما يخص خطة البحث فقد اقتضى النظر أن تكون من شقين: شق يتعلق بالدراسة وشق يتعلق بالتحقيق.

فبالنسبة للشق الأول المتعلق بالدراسة، فقد جعلته في مقدمة وثلاثة فصول. الفصل الأول: خصصته للحديث عن عصر ابن بشير، وقد قسمته إلى مبحثين: المبحث الأول: تحدثت فيه عن الوضع السياسي، وقد جاء في خمسة مطالب ضمنتها الحديث عن الحالة السياسية في بغداد، ومصر، والمغرب، والأندلس، وختمت ذلك بالحديث عن إفريقية موطن ابن بشير. المبحث الثاني: عقدته للحديث عن الوضع الثقافي والفكري لعصر ابن بشير. وقد جاء في ثلاثة مطالب، تناولت فيها الحالة الثقافية للشرق الإسلامي، والمغرب والأندلس وإفريقية. الفصل الثاني: خصصته للحديث عن حياة ابن بشير وقد جاء في مبحثين. المبحث الأول: تناولت فيه حياته الشخصية، وقد قسمته إلى خمسة مطالب، تحدثت فيها عن اسمه ونسبه، وموطنه ومكان نشأته، وطلبه للعلم، وأخلاقه، وشيوخه. المبحث الثاني: أنشاته للحديث عن عطائه العلمي. وقد جاء في تسعة مطالب ضمنتها الحديث عن مؤلفاته، ومكانته العلمية، وتأثيره على من جاء بعده، وموقفه من البدعة وأصحابها، كما تعرضت فيه لأهم الانتقادات التي وجهت له، وحددت المراد [بابن بشير] عند الإطلاق لدى المالكية. ثم حاولت أن أجيب فيه عن سبب إهمال المترجمين له. وختمت المبحث بالحديث عن وفاته. أما الفصل الثالث: فقد عرفت فيه بالكتاب المحقق وقد جاء في خمسة مباحث. المبحث الأول: تحدثت فيه عن توثيق الكتاب وبيان منهجه. وقد جعلته في خمسة مطالب تحدثت من خلالها عن اسم الكتاب، ونسبته لابن

بشير، وأسلوبه، ولغته، وطريقة تنظيمه، ومنهج تناوله للمسائل الفقهية. المبحث الثاني: عقدته للحديث عن الخلاف الفقهي عند ابن بشير. وقد جاء في خمسة مطالب، أوضحت من خلالها اقتصار ابن بشير على الخلاف داخل المذهب، واعتنائه بذكر ثمرة الخلاف، والخلاف في الحال، وخلاف التنوع، ثم ختمته بالحديث عن أسباب الخلاف. المبحث الثالث: تحدثت فيه عن النقد عند ابن بشير، وقد جاء في خمسة مطالب تناولت فيها تعقبه للخمي وغيره من العلماء، كما أشرت إلى منهجه في الترجيح، وموقفه من المشهور والشاذ. المبحث الرابع: تحدثت فيه عن الاجتهاد عند ابن بشير، وقد جاء في سبعة مطالب. تناولت فيها الحديث عن أنواع الاجتهاد، ومنزلة ابن بشير الاجتهادية، وطريقة توظيفه للقواعد الفقهية والأصولية، وأخيرًا أبرزت القيمة العلمية للكتاب. المبحث الخامس: تحدثت فيه عن المنهج الذي سلكته في التحقيق. أما الشق الثاني المتعلق بالتحقيق فيتضمن الجزء المحقق، ويبتدئ من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الزكاة، وقد تتبعت في إخراجه الخطوات التالية: أولًا: حاولت قدر المستطاع أن أخرج النص بأفضل أسلوب وأشرق عبارة تتفق مع المعنى المراد وذلك وفق المنهج الانتقائي القائم على اختيار أصح العبارات ... كما قمت بكتابة النص وفق قواعد الإملاء، وضبطته بالنقط والفواصل. ثانيًا: قمت بوضع عناوين للفصول، والمسائل المتناولة داخل الفصول ووضعتها بين قوسين تمييزاً لها عن العناوين التي وضعها المؤلف. ثالثًا: ضبطت أرقام الآيات والسور التي وردت فيها. رابعًا: قمت بتخريج الأحاديث والآثار الواردة في النص وذكرت مصادرها وألفاظها، وأشرت في بعض الأحيان إلى درجة الأحاديث صحةً أو ضعفًا.

خامسًا: عرّفت بالأعلام التي تحتاج إلى تعريف عند أول ورودها في النص المحقق، أما الأعلام التي ورد ذكرها في قسم الدراسة فاكتفيت بذكر اسمها الكامل وتاريخ وفاتها. سادسًا: قمت ببعض التعليقات على النص من حين لآخر تجلية وتوضيحًا لبعض المسائل. سابعًا: وثقت النصوص التي رأيت أنها تحتاج إلى ذلك. ثامنًا: وضعت فهارس للآيات والأحاديث والأشعار والمصادر والمراجع والمواضع. هذه جهودي المتواضعة في هذا البحث، وإني على يقين أنها في أمس الحاجة إلى مزيد من التدقيق والتحقيق، رغم أني بذلت قصارى جهدي وطاقتي، وقد أبى الله ألا يكمل إلا كتابه. ولن أضع القلم من يدي وأنهي هذه الكلمة، قبل أن أسجل باعتزاز، شكري وامتناني لأستاذي الفاضل، أستاذ النبل والمروءة، الدكتور أحمد الريسوني الذي تكرم بقبول الإشراف على هذه الأطروحة رغم كثرة مشاغله وتعدد اهتماماته، ولم يبخل علي بتوجيهاته القيمة وآرائه السديدة وملاحظاته الدقيقة، فقدم لي ذلك كله بعطف ولطف. فجزاه الله عني خير الجزاء. وبارك له في علمه وعمره وعياله. كما أتقدم بخالص تشكراتي إلى كل من ساعدنى من قريب أو بعيد في إنجاز هذا البحث. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الفصل الأول: عصر ابن بشير المبحث الأول: الوضع السياسي. المبحث الثاني: الوضع الثقافي والفكري.

الفصل الأول: عصر ابن بشير

الفصل الأول: عصر ابن بشير مما لا شك فيه أن للبيئة وللظروف المحيطة بالإنسان تأثيرًا على حياته وسلوكه وثقافته، حتى قيل: إن الإنسان ابن بيئته، وكلما ازداد اطلاع الإنسان واتسعت ثقافته ومعارفه، دل ذلك على اتساع الرقعة المؤثرة فيه، فالعالم لا يتأثر ببيئته الضيقة فحسب، بل يتأثر بالمحيط الواسع الذي يتصل به. ومن هنا لم يكن ليقتصر تأثر ابن بشير بما وقع بالقيروان وتونس وما والاهما من حواضر إفريقية، بل إنه ابن البيئة الممتدة في العالم الإسلامي آنذاك. وهذا يحتم علينا توسيع دائرة الحديث عن عصر ابن بشير ليشمل الشرق والغرب الإسلاميين. وكل ذلك باقتضاب وبحسب ما تدعو الحاجة إليه. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العصر سبق وأن درس من قبل، لكن وإن تعددت الدراسات فإن لكل دراسة خصوصيتها تتميز بها عن غيرها، فالدراسات السابقة؛ إما دراسات عامة أو جزئية، أو دراسات تصب في التعريف بشخص في الشرق أو في الغرب، فتتحكم ظروف ذلك الشخص في الدراسة، ولذلك إن أحلنا عليها نكون قد أحلنا على شيء لا يمكننا من فهم الشخصية المراد التعريف بها. كما أن الكتاب المحقق قد يقع في يد شخص لا علم له بتلك الدراسات أو لا طاقة له إلى الوصول إليها، فيقرأه بدون أن يدرك الإطار

المبحث الأول: الوضع السياسي

الزماني والمكاني الذي ألف فيه الكتاب. من أجل هذا رأيت أنه لا بد من الحديث عن عصر ابن بشير، وأبدأ بالوضع السياسي. ... المبحث الأول: الوضع السياسي إن المصادر التاريخية التي تمكنت من الوقوف عليها ضنت علينا بضبط تاريخ ولادة ابن بشير وتاريخ وفاته، وغاية ما أفادتنا به هو أنه كان حيًا سنة 526 هـ. لكن من خلال تأملي في القضية- كما سأوضح من بعد- غلب على ظني أن ابن بشير عاش بين النصف الأخير من القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس الهجريين. وقد وُسمت هذه المرحلة بسمة الاضطراب وتتابع الفتن على إفريقية والشرق الإسلامي والمغرب والأندلس. وبصفة عامة كان الوضع السياسي في العالم الإسلامي مضطربًا ومتفككًا. * المطلب الأول: الوضع في بغداد ففي بغداد أصبح الخلفاء رمزًا واسمًا بدون سلطة. بل دمية يضعها ويحركها السلاجقة، ومن قبلهم البويهيون (¬1)، فكانت الأوامر تصدر باسمهم، وعلى الخليفة أن يوقع على ما قرروه. وكان أول خليفة قهر وحجر عليه؛ المعتمد على الله وقد صور حال نفسه فقال: "أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شئ في يديه إليه تحمل الأموال طرًا ... ويمنع بعض ما يأتي إليه" (¬2). ¬

_ (¬1) البويهيون: ينتسبون إلى بني بويه وهي: أسرة تتكون من ثلاثة رجال ظهر أمرهم وهم: علي، والحسن، وأحمد أبناء بويه، كان أبوهم من عامة الناس يعيش من صيد السمك فملك أبناؤه البلاد واستولوا على الخلافة. انظر وفيات الأعيان 1/ 176. (¬2) تاريخ الخلفاء ص 365.

وصور أحد الشعراء هؤلاء الخلفاء فقال: "خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا (¬1). يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا" (¬2). أما بالنسبة للخلفاء الذين عاصرهم ابن بشير فيظهر أن أولهم هو أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله الذي تولى الخلافة من 422 هـ إلى 467 هـ (¬3)، وبويع بعده حفيده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله الذي تولى الخلافة من 467 إلى 487 هـ ثم تولى بعده أبو العباس المستظهر بأمر الله من 487 إلى 512 هـ (¬4)، ثم بويع بعده أبو المنصور الفضل المسترشد بالله الذي تولى الخلافة من 512 إلى 529 هـ (¬5)، ثم أبو العباس المنصور الراشد بالله الذي تولى الخلافة من 529 إلى 530 هـ (¬6)، وأخيرًا أبو عبد الله محمَّد المقتفي بأمر الله الذي تولى الخلافة من 530 إلى 555 هـ (¬7). ولم يكن لهؤلاء الخلفاء من أمر الخلافة شيء، اللَّهم إلا ما كان من الدعاء لهم على المنابر، وضرب السكة باسمهم. وكل من ظهرت منه بوادر التحرر والتخلص من سلطة السلاجقة يكون مصيره التنحية أو القتل. فالخليفة القائم بأمر الله حبسه وزيره أرسلان التركي المعروف بالبساسيري وسيره إلى غابة سنة 450 هـ إلى أن فك أسره أبو طالب ¬

_ (¬1) وصيف وبغا من أسماء الحجّاب الأتراك الذين سيطروا على الخلفاء في العصر العباسي الثاني، ويعد بغا الصغير هو قاتل المتوكل سنة: 247هـ. انظر تاريخ الطبري أحداث سنة 247 هـ. (¬2) مقدمة ابن خلدون ص 33. (¬3) سير أعلام النبلاء 15/ 138. (¬4) السير 18/ 318. (¬5) السير 19/ 562. (¬6) السير 19/ 569. (¬7) السير 20/ 399.

محمد بن مكيال المعروف بطغرلبك سنة 451هـ (¬1). وقد حدث في عهد هذا الخليفة ما لم يكن معهودًا عند سابقيه من الخلفاء، وذلك أن العادة والعرف جريا على ألا يتزوج بنات الخلفاء إلا من كان من بني العباس. لكن القائم بأمر الله زوج ابنته لطغرلبك "بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى ثم لان لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم ... " (¬2). والمقتدي بأمر الله حاول التدخل في الحكم وتدبير شؤون الخلافة فما كان من السلطان السلجوقي ملك شاه إلا أن نفاه من بغداد. وأرغمه على خلع ولي عهده وأن يعهد لابنه الصغير جعفر، لكن ذلك لم يتم له بسبب موته قبل انتهاء المدة التي ضربت له لتنفيذ ما طلب منه (¬3). أما الخليفة المسترشد بالله فقد أسر هو وأعيان دولته بهمدان، ثم نقل إلى مراغة، وطلب منه إن أراد أن يرجع إلى بغداد ألا يجمع العساكر، ولا يخرج من داره فرضخ لذلك (¬4). وابنه الراشد بالله أبو العباس المنصور حاول أن يكون جيشًا ويخرج به من بغداد، فما كان من السلطان مسعود إلا أنه ادعى عليه أنه كتب في شروط عقد توليته "أني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر"؟؟. فحكم أهل الحل والعقد من العلماء والقضاة بخلعه وتولية أبي عبد الله محمد المقتفي بأمر الله على شروط وعهود وضعوها عليه فقبلها (¬5). هكذا كان حال الخلفاء العباسيين في هذه المرحلة وهو وضع لا يحسدون عليه، انعدمت فيه الثقة بينهم وبين السلاجقة، فحاول السلاجقة ¬

_ (¬1) تاريخ الخلفاء ص 417. (¬2) المصدر السابق ص 420. (¬3) المصدر السابق ص 425. (¬4) المصدر السابق ص 431 (¬5) الكامل 8/ 354.

وضع السلاجقة

تضييق الخناق على الخلفاء خوفًا منهم وحرصًا على بقائهم لاستمداد الشرعية منهم، فحيكت الدسائس والمؤامرات داخل أركان الدولة، وأصبح الجو مناسبًا ومواتيًا لكل معكر لصفوة الحياة وناشر للفتن. وضع السلاجقة: أما السلاجقة، فعلى الرغم من أنهم هم الحكام الفعليون في المشرق، إلا أن دولتهم لم تكن مستقرة، إذ سرعان ما تمزقت وتناثرت أشلاؤها بعد موت السلطان ملك شاه سنة 458 هـ الذي كان يحكم من حدود الصين شرقًا إلى جورجيا وفلسطين غربًا. فبموت هذا السلطان حصل تنافس وصراع على السلطة، ودارت في سبيل ذلك حروب طاحنة بين أبناء السلطان من جهة وأعمامهم من جهة أخرى، ثم بينهم وبين أبناء أعمامهم سلاجقة الروم بآسيا الصغرى، ثم بين أبنائه فيما بينهم. وقد دام هذا الصراع حوالي 77 سنة من موت ملك شاه سنة 485 إلى 552 هـ (¬1). وقد نتج عن هذا الصراع ضعف السلاجقة واضمحلال دولتهم واندثار هيبتهم. فكونوا ثلاث دويلات؛ واحدة بدمشق، والثانية بآسيا الصغرى، والثالثة بالعراق وفارس. وقد أدى هذا إلى ظهور إمارات عربية صغيرة متناحرة فيما بينها يتقلب ولاؤها بين العباسيين تارة، والعبيديين تارة أخرى. كما ظهرت دويلات مستقلة عرفت بالأتابكة أو الشاهات (¬2). في هذه الأجواء انتعشت الحركات الباطنية والإسماعيلية، فتحركوا في البلاد طولًا وعرضًا يبثون أفكارهم ويعيثون في الأرض فسادًا بزعزعة عقائد الأمة ونشر الرعب والفزع في أبنائها، والقضاء على كل من يقف في طريقهم من العلماء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الحروب الصليبية في المشرق والمغرب لمحمد العروسي ص: 16. (¬2) محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية 2/ 45. (¬3) انظر الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص: 437.

* المطلب الثاني: الوضع في مصر

* المطلب الثاني: الوضع في مصر: لم يكن وضع مصر بأحسن حالًا من وضع العراق؛ فقد كانت مصر في هذه الحقبة أسيرة حكم العبيديين الأدعياء، الذين لم يكن لهم هم إلا منازعة العباسيين أمر الخلافة وفرض عقيدة الرفض والتشيع وإقناع الناس بصحة نسبهم لآل البيت. وقد يكون ابن بشير عاصر من حكامهم المستنصر بالله أبا تميم معد بن الظاهر الذي حكم من سنة 427 هـ إلى سنة 487 هـ، ثم جاء بعده المستعلي بالله بن المستنصر الذي حكم من سنة 487 هـ إلى 495 هى، ثم بعده ابنه الآمر بأحكام الله الذي حكم من سنة 495 هـ إلى 524 هـ، ثم الحافظ لدين الله الذي حكم من سنة 524 هـ إلى 544 هـ، ثم الظافر بالله الذي حكم من سنة 544 هـ إلى 549 هـ، ثم الفائز الذي حكم من سنة 549 هـ إلى 555 هـ. وهؤلاء الحكام تولى أكثرهم الحكم وهم أطفال صغار؛ فالمستنصر بويع وعمره سبع سنين، وكان يسير الحكم الوزير الجرجري وبعد موت الجرجري استوزرت أم المستنصر أبا سعيد التستري اليهودي .. وتولى الآمر بأحكام الله، والفائز بالله (¬1) الأمر وعمر كل منهما خمس سنين. ويذكر عن الفائز بالله أنه لما حمله وزيره على كتفيه وأخذ له البيعة من القواد والأعيان، فقالوا كلهم: سمعًا وطاعةً بصوت مرتفع، فزع الطفل وبال على كتف الوزير (¬2). هذا فضلًا عن الظلم والطغيان الذي صدر منهم ومن آبائهم في حق الرعية، بل ادعاء الربوبية. فأبو علي الحاكم الزنديق الذي قتلته أخته ست الملك سنة 411 هـ. يقول الذهبي في حقه: " .. كان شيطانًا مريدًا، جبارًا ¬

_ (¬1) السير 15/ 197 - 205. (¬2) المصدر السابق 15/ 205، من المفيد هنا التنبيه على أن هذه الحكاية قد تكون صحيحة، أو مما يختلقه الناس تنفيسًا أو سخرية واحتقارًا، ولكن هذا الاختلاق نفسه وإيراد العلماء له في كتب محترمة هو تعبير له دلالته ومغزاه ... فقيمة الحكاية في دلالتها وليس في صحتها أو عدم صحتها.

* المطلب الثالث: الوضع في المغرب

عنيدًا، كثير التلون، سفاكًا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر، جوادًا ممدحًا، له شأن عجيب ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكامًا، يلزم الرعية بها، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع وأمر عماله بالسب ... " (¬1). واستمر حال المصريين هكذا مع العبيديين إلى أن قضى على دولتهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله سنة 564 هـ. هذه الأحداث، وهذا الضعف السياسي في الشرق الإسلامي، كان ينتظره العدو الخارجي المتربص ويراقب وقائعه من بعيد، فما إن تأكد لديه حتى انقض على الأمة وأصابها في قلبها. أعني بذلك الحملة التي دعا إليها البابا أوريان الثاني سنة 488 هـ واحتلال بيت المقدس سنة 492 هـ وتأسيس مملكة صليبية به، وإجراء السيف في رقاب المسلمين وإبادة آلاف منهم والتمثيل بهم ... ومحاولة الزحف على باقي بلاد الشام. وقد استمرت بلاد الشام على هذا الوضع المضطرب والحروب الطاحنة مع الفرنجة إلى أن قاموا بحملتهم الثانية سنة 543 هـ، التي قصدوا بها دمشق فصدهم المسلمون عنها وانقلبوا خاسرين، وكانت بداية النهاية لوجودهم بالشام ومقدمة لتحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي سنة 583 هـ. * المطلب الثالث: الوضع في المغرب أ: دولة المرابطين لقد مر المغرب بأطوار عديدة من الفتح الإسلامي إلى أن ظهر المرابطون في وقت كانت فيه إفريقية في صرل مع أعراب بني هلال وبني سليم من جهة، والنرمن الغازين لسواحلها من جهة أخرى، وكانت دولة الأمويين بالأندلس تتمزق بين أمراء الطوائف، في هذه الظروف بدأت تنبثق ¬

_ (¬1) المصدر السابق 15/ 174.

دولة جديدة جنوب المغرب، وضع بذرتها يحيي ابن إبراهيم أمير جدالة، والفقيه عبد الله بن ياسين. فقام هذا الأخير بتعليم الناس وحثهم على التمسك بأحكام الإسلام. ولقيت دعوته صعوبة في بداية الأمر، إذ نفر منها من لم يوطن نفسه على ذلك. وثابر عبد الله بن ياسين إلى أن صار له أتباع سماهم بالمرابطين. فخرجوا من قلب الصحراء سنة 445 هـ وانطلقوا إلى درعة، ومن بعدها إلى سجلماسة. واستمر أمرهم إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين سنة 454 هـ نائبًا عن ابن عمه أبي بكر بن عمر، الذي توجه إلى الصحراء ليصلح بين لمتونة ومسوفة. فواصل ابن تاشفين الفتوحات شمال المغرب، وأسس عاصمة جديدة للمرابطين بدلًا من أغمات لتكون مركزًا لقواتهم في جنوب المغرب هي مدينة مراكش. ولما توفي أبو بكر بن عمر استقل الأمر ليوسف ابن تاشفين الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة المرابطين (¬1). فكون دولة عظيمة، موطدة الأركان مهيبة الجانب. تمتد أطرافها من بجاية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن بلاد السنغال جنوبًا إلى سرقسطة والثغر الأعلى في الأندلس شمالًا. ولما توفي يوسف بن تاشفين سنة 500 هـ خلفه ابنه علي بن يوسف فصار على سيرة أبيه؛ جادًا، حازمًا، نزيه النفس، بعيدًا عن الظلم. فأحاط به العلماء والفقهاء، فلم يكن يقطع أمرًا إلا بمشورتهم (¬2). وهذا "من وضع الشيء في محله وإسناد الأمر إلى أهله، فالدولة إسلامية وأحق الناس بتولي مناصب الحكم والشورى فيها العلماء العارفون بأحكام الشرع المتفقهون في الدين" (¬3) وقد أنفق الجزء الأعظم من جهوده في متابعة شؤون الأندلس، فعبَر إليها أربع مرات ليتفقد بنفسه أحوالها. ولما توفي علي بن يوسف سنة 537، خلفه ابنه تاشفين فتوالت عليه الهزائم على يد عبد المؤمن بن علي الكومي. ولما توفي سنة 539 هـ ¬

_ (¬1) انظر: البيان المغرب 4/ 123. (¬2) المعجب ص 252. (¬3) جولات في الفكر الإسلامي لعبد الله كنون ص: 107.

ب: ظهور الموحدين

بوهران، بايعوا ابنه إبراهيم فوجدوه ضعيفًا عاجزًا، فخلعوه وبايعوا عمه إسحاق بن علي، الذي كان آخر المرابطين، إذ بموته سنة 541 هـ سقطت مراكش وحكمها الموحدون. ب: ظهور الموحدين: يعتبر ابن تومرت واضع بذرة دولة الموحدين، فقد بدأ دعوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتهى بادعاء العصمة. وكان ينتقل بين المدن، وحيثما حل يُطرد أو لا يَطيب له المقام. إلى أن وصل إلى مراكش، وشدد على أهلها في النكير، وأغلظ لهم في القول، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فجمع له الفقهاء لمناظراته، فأشار عليه البعض بقتله أو سجنه، فتوقف أمير المسلمين في ذلك وقرر إخراجه من مراكش (¬1). فانتقل إلى تنمل بالسوس واجتمع حوله الطلبة وبويع سنة 515 هـ وسمى أتباعه بالموحدين، ولم تزل طاعتهم له في ازدياد وفتنتهم به في اشتداد. فلما اطمأن إلى أتباعه واستشعر ولاءهم وقوتهم دخل في مناوشات مع المرابطين سنة 517 هـ وتوفي سنة 524 هـ وتولى بعده تلميذه عبد المؤمن بن علي الكومي الذي قضى على دولة المرابطين سنة 541 هـ (¬2). * المطلب الرابع: الوضع في الأندلس: لقد عرفت الأندلس نوعًا من الاستقرار والازدهار العلمي والعمراني أيام الخلفاء الأمويين بالأندلس. لكن لما وهن حكمهم في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، سادت البلاد حالة من الارتباك والحيرة تبينت خيوطها السوداء بقيام ما عرف بدويلات الطوائف التي صور حال أمرائها ابن رشيق القيروانى أحسن تصوير عندما قال: ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في المعجب ص: 271 - 274. (¬2) انظر تاريخ المغرب الكبير 3/ 778.

مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيب معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد (¬1). وقد حاول الإمام الباجي أن يجمع شمل هذه الدويلات ويوحد كلمتهم، فقام بجهود خيرة ومساع حميدة في هذا الشأن. فطاف على الأمراء داعيًا إلى توحيد الكلمة وجمع الشمل، ونبذ أسباب التفرق والفتن، ورغم أنهم كانوا يتلقونه بالترحيب والتعظيم في الظاهر، إلا أنه لم يجد آذانًا صاغية وبقي الوضع على ما هو عليه إلى أن منَّ الله على المغرب والأندلس بالملك العادل والمجاهد الصادق، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، فهب لإنقاذ الأندلس وعبر إليها أربع مرات، الأولى سنة 479 هـ التي وقعت فيها معركة الزلاقة الشهيرة، ورجع منها ظانًا أن أهل الأندلس قادرون على حماية بلادهم، لكن تبين أنهم ليسوا أهلًا لذلك فكثرت القلاقل والفتن وعادوا إلى سالف عهدهم، فترددت الكتب والفتاوى إلى أمير المسلمين لإنقاذ الأندلس هذه المرة من ملوك الطوائف. قال ابن خلدون: "وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم، وسارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي" (¬2). فما كان منه إلا أن عبر إلى الأندلس وبدأ في القضاء على أمراء الطوائف. فضم غرناطة بعد استسلام أميرها عبد الله بن بلقين سنة 483 هـ. ثم عاد أمير المسلمين وترك عددًا من قادته ليتموا خلع ملوك الطوائف. وخضعت قرطبة وكانت متابعة لبني عباد. واستسلمت إشبيلية في رجب من نفس السنَّة بعد مقاومة شديدة من المعتمد بن عباد، الذي استعان بالفونس السادس النصراني، فأسر ابن عباد ونفي إلى أغمات بالمغرب. ثم تتالت الفتوحات؛ ففتحوا مارية وشاطبة ومدنًا أخرى كما فتحت بلنسية مرة ثانية سنة 495 هـ بعد معركة أفليش بين المرابطين والقشتاليين، ثم بطليوس وأشبونة (لشبونة). ¬

_ (¬1) نفح الطيب 1/ 214. (¬2) تاريخ ابن خلدون 6/ 249.

* المطلب الخامس: الوضع في إفريقية

وبعد وفاة يوسف بن تاشفين سنة 500 هـ تولى ابنه علي الذي اقتفى سيرة والده وعبر في السنَّة الأولى من حكمه إلى الأندلس، وعين أخاه أبا الطاهر تميمًا على الجيوش في الأندلس، واستأنف المرابطون جهادهم هناك، ودخلوا معارك طاحنة مع النصارى كان النصر في أكثرها للمسلمين، واستمر حال الأندلس هكذا إلى أن ضعفت دولة المرابطين سنة 539 هـ، فهبت الوفود الأندلسية مستنجدة بالموحدين الذين قضوا على المرابطين. ولن أتحدث عن جهود الموحدين في الأندلس لأن ذلك خارج الفترة المدروسة. * المطلب الخامس: الوضع في إفريقية: تعتبر إفريقية (¬1) موطن ابن بشير الأصلي والبيئة المؤثرة والفاعلة مباشرة في حياته. ولهذا يتعين علينا تناولها بشيء من التفصيل، تجليةٌ للوضع وتقريبًا للصورة. فقد كانت هذه المنطقة هي المحطة الثانية للعبيديين، الذين انتقلوا إليها من سلجلماسة فكونوا بها دولتهم التي دامت زهاء قرن من الزمان. ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مصر، واستخلفوا يوسف بن بلكين الصنهاجي على إفريقية سنة 361 هـ. وبعد رحيل المعز العبيدي إلى القاهرة باشر يوسف بن بلكين أمور الحكم، وقام بغزو مناطق من المغرب ليضمها إليه ويقطعها عن الأمويين بالأندلس. وانتصر في كثير من معاركه. وتوفي أثناء عودته إلى إفريقية سنة 373 هـ. وبويع بعده ابنه المنصور الذي كان يوثر السلم على الحرب واللين على العنف، وكان رجلًا عاقلًا عفيفًا عن الدماء، فجبلت الناس على محبته وقد دام حكمه ثلاثة عشرة سنة. وبعد وفاته سنة 386 هـ تولى ابنه باديس الذي دخل في حروب طاحنة مع أعمامه الذين ولاهم على بعض المناطق ¬

_ (¬1) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان 1/ 228: إفريقية بكسر الهمزة اسم لبلد شمال إفريقية وكان يطلق على مدينة هناك قبل أن تندثر. وتمتد من طرابلس الغرب إلى بجاية وقيل: مليانة، وكان المغرب والأندلس تابعين لها في مرحلة من المراحل التاريخية.

تقريبًا لهم وطمعًا في مؤازرتهم ووقوفهم في جانبه، إلا أن ظنه خاب فيهم، إذ انفصلوا عنه وخذلوه فاضطر لمحاربتهم والقضاء عليهم. كما دخل في حروب طاحنة مع أمراء زناتة كزير بن عطية وفلفل بن سعيد الزناتي انتهت بانتصار ابن باديس. وقد بلغت أصداء هذه الحروب وشجاعة ابن باديس إلى العبيديين في مصر فلقبوه بنصير الدولة، وأرسلوا إليه هدية فاخرة تثبيتًا له على الولاء والتبعية لهم. ولما توفي باديس سنة ست وأربعمائة بايعوا ابنه المعز الذي كان سنه حوالي ثماني سنين. وفي عهد المعز هذا طرأت على الساحة الإفريقية أحداث بالغة الأهمية، أفرزت وضعًا جديدًا كان له تأثير واضح في تغيير المجرى السياسي والمذهبي والثقافي لإفريقية؛ فقد انفصلت الدولة الصنهاجية عن العبيديين، وانقسمت إلى دولتين، واكتسحها الأعراب وخربوها. فبالنسبة لانقسامها إلى دولتين: فإن الخلافات التي كانت بين باديس وأخيه حماد طفت على السطح بعد مبايعة المعز بن باديس الذي لم يكن تجاوز الثماني سنين، فاستغل حماد صغر سن المعز وأعلن استقلاله عن الدولة، وزحف على المدن المجاورة للقلعة. فلما بلغ الخبر للمعز جهز جيشًا للقائه وزحف نحوه فانهزم حماد، وفر إلى القلعة وقبض على أخيه إبراهيم، فأظهر الرغبة في الصلح، فأستجيب له وتوقفت الحروب ووقع الاتفاق على تقسيم الدولة الصنهاجية إلى دولتين، دولة آل المنصور بن بلكين، أصحاب القيروان، ودولة آل حماد بن بلكين أصحاب القلعة. وبالنسبة لانفصال الصنهاجيين عن العبيديين، فقد أدرك الصنهاجيون أنه لا فائدة ترجى من إكراه الناس على اعتناق مذهب يمجونه ولا يستسيغونه. وقد لاحظوا أن أولياء نعمتهم- العبيديين- قضوا زهاء قرن من الزمن وهم يحاولون فرض التشيع على المغاربة بحد السيف وقهر السلطان ولم يفلحوا في ذلك، إذ اصطدموا بأناس عاضين على مذهب أهل السنَّة بالنواجذ، مستعدين بذل مهجهم وأموالهم في سبيل ذلك.

اكتساح الأعراب لإفريقية

فرأى الصنهاجيون أن المصلحة تقتضي الرجوع إلى المذهب الأصيل والتخلي عن المذهب الدخيل ليحصل الاستقرار والتلاحم بين الحكام والرعية. فبدأوا يظهرون ميلهم ويعلنون توجهاتهم الجديدة شيئًا فشيئًا بدءًا من الترضي عن أبي بكر وعمر، وغض الطرف عن العامة الذين انقضوا على الشيعة وآذوهم. وكل هذا كان يراقبه العبيديون بقلق شديد، إلا أنهم فضلوا سلوك سياسة المهادنة والترغيب وإرسال الهدايا وإطلاق الألقاب، لكن بحلول سنة 433 هـ، ظهر كل شيء على حقيقته، وقطع الصنهاجيون علاقتهم كليا مع العبيديين، ودعوا على المنابر للعباسيين، وترضوا على الخلفاء الراشدين، وضربوا سكة خالية من أسماء العبيديين. فلما وصل الأمر إلى هذا الحد، يئس الفاطميون من رجوع الصنهاجيين لولائهم فعزموا على الانتقام منهم. اكتساح الأعراب لإفريقية: لما عزم المستنصر العبيدي على الانتقام من الصنهاجيين استشار وزيره الحسن بن علي البزوري، فأشار عليه بخطة بالغة في المكر والدهاء، وكفيلة بسحق الصنهاجيين والقضاء عليهم دون أن يتكبد العبيديون أية خسارة، والخطة عبارة عن إعطاء الإذن لأعراب بني هلال وبني سليم ليجتازوا النيل نحو المغرب ومنحهم الأراضي التي يستولون عليها. وقد كان هؤلاء الإعراب معروفين بجفائهم وهمجيتهم يعيشون على السلب والنهب ولا يخضعون لسلطان ولا نظام وقد حصرهم العبيديون في صعيد مصر، ومنعوهم من تجاوز النيل تسهيلاً لضبطهم وصونًا للحواضر المصرية من إفسادهم (¬1). وقد كانت الخطة ناجحة غاية النجاح، أعطت أكثر مما كان يرجى منها، فبمجرد أن وصل الإعراب إلى برقة بدأت معاول الهدم تنهش في ¬

_ (¬1) الكامل 8/ 295.

جسم الدولة الصنهاجية، ولعل ما ساعدهم على تخريبهم، اغترار المعز بن باديس بشدة بأسهم وبطشهم وطمعه في استمالتهم وتقريبهم منه، وذلك أن المعز لم يكن مرتاحًا لإخوانه وبني عمه، فأراد أن يقرب هؤلاء الإعراب ويكون منهم جيشًا بديلًا عن الجيش الذي نفذ فيه أقاربه، فدفعه هذا الطمع إلى عدم التصدي لهم في بداية الأمر. بيد أن ابن باديس لم يكن على دراية بطبائع هؤلاء الإعراب وما جبلوا عليه من التمرد والتخريب والسلب والنهب، جاء في كتاب تاريخ المغرب الكبير: "وكان أول من وصل من بني هلال مؤنس بن يحيي الرياحي أمير رياح، فقدم على المعز، وكان المعز قد سئم صنهاجة فأراد أن يستبدلهم بعنصر آخر، فاستلطف مؤنسًا وكان سيدًا في قومه، شجاعًا عاقلًا، فاستدناه المعز إليه، وزوجه من إحدى بناته. وفاوضه في استدعاء عرب بني هلال من طرابلس وحدود إفريقية ليستعين بهم علي بني عمه فنصحه مؤنس بعدم التفكير في ذلك وعرفه بقلة اجتماعهم على الكلمة، وعدم انقيادهم إلى الطاعة. ولكنه ألح عليه إلحاحًا متواصلًا، وعلل امتناعه من استقدامهم إلى إفريقية بحسده لقومه. فلم يسع مؤنسًا أمام هذا الإلحاح إلا أن يدعوهم ... " (¬1). فما كاد الأعراب يصلون إلى قرية من القرى الإفريقية حتى ظنوا أنها القيروان فتنادوا القيروان القيروان فهبوا إلى تخريبها ونهبها. فعظم الأمر على المعز فظن أن مؤنسًا دفعهم إلى ذلك ليظهر صدق نصحه للمعز. فأمر المعز بالقبض على أخي مؤنس، وبثقات أولاده، وختم على داره بالقيروان. وزاد ذلك من حنق مؤنس على المعز فقال: قدمت النصيحة فحاق الأمر بي ونسبت الخطيئة إلى فكان أشد إضرارًا من القوم (¬2). ولما وصل الأمر إلى هذا الحد في سنة 443 هـ، لم يجد المعز بدًّا من مواجهة الإعراب فخرج إليهم في جيش عرمرم يقدر بثلاثين ألف جندي، إلا أن هذه الأعداد لم تثبت معه. فالعرب البلديون الذين كانوا معه ¬

_ (¬1) 2/ 668. (¬2) البيان المغرب 1/ 289.

وهم من بقايا الفتح، انضموا إلى إخوانهم في الجنس، وانخذل عنه الصنهاجيون والزناتيون ففروا من المعركة، وبقي معه عبيده وخاصته يواجه الإعراب فثبت في وجههم وأبلى النبلاء الحسن، إلا أنه سرعان ما تكشف وهزم هزيمة نكراء وأعمل الإعراب السيف في عبيده، وقتل منهم عدد كبير، ففر المعز بنفسه وخاصته إلى القيروان، وبدأ يقاوم من داخلها إلى سنة 448 هـ. فاضطر للخروج منها إلى المهدية، فدخل الإعراب إلى القيروان وخربوها وتركوها قاعا يبابًا، بعد ما كانت مدينة في قمة الحضارة والتمدن، تعج بالعلماء والصناع والتجار. ولم يقتصر تخريب وفساد الإعراب على القيروان بل تعداها إلى كل إفريقية، فنتج عن هذا كله قيام فترة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، فخرب العمران وقضي على معالم الحضارة، وساد قطاع الطرق في المنطقة. ولعل ابن بشير صاحبنا واحد من ضحايا هذه الفتنة. وسيأتي ذلك. أما المعز بن باديس فقد قضى بقية عمره في المهدية حزينًا إلى أن توفي سنة 454 هـ. وتولى بعده ابنه أبو يحيي تميم بن المعز، فورث عن أبيه دولة ممزقة الأشلاء، توالت عليها الحركات الانفصالية، فاستقل كل قائد بمدينة أو قلعة حتى أصبحت أشبه بالأندلس في عهد ملوك الطوائف (¬1). ورغم هذه الظروف فقد بذل تميم بن المعز جهودًا لا يستهان بها في قمع الثوار وجمع شتات الدولة. ففي سنة 455 هـ تمكن من استرجاع مدينة سوسة، وحاصر تونس بعد ما تمرد حاكمها ابن حرصان، وأرغمه على النزول على شروطه. كما أن القيروان أعلنت تمردها كذلك بقيادة ابن ميمون الصنهاجي فأرسل لها جيشًا، تمكن من استرجاعها والتجأ ابن ميمون إلى الناصر ابن علناس حاكم القلعة. وفي سنة 456 هـ تجرأ حمو بن مليل البرغواطي حاكم سفاقص وهَمَّ ¬

_ (¬1) انظر خلاصة تاريخ تونس ص 114.

بالزحف على المهدية مركز الدولة الجديد. وجمع حوله جيشًا كبيرًا من الأعراب، إلا أن تميمًا بادره قبل أن يصل إلى المهدية، وتمكن من صد هجومه والقضاء على جيشه. ولقد كان العدو الخارجي متربصًا مستغلاًّ لفرط الضعف, ففي سنة 480 هـ استغل النصارى خروج تميم من المهدية لقمع بعض الثوار فهاجموها من البحر. وتمكنوا من السيطرة عليها. ولما بلغ الخبر تميمًا رجع إلى المهدية وبذل أموالًا طائلة للنصارى مقابل خروجهم منها. وفي سنة 484 استولى النصارى على صقلية بعدما بقيت في أيدي المسلمين مائتين ونيفا وسبعين سنة. وبقيت أحوال تميم بن المعز معتلة وأموره متدهورة إلى أن توفي سنة 501 هـ، وتولى بعده يحيي بن تميم. وفي عهد هذا دخل محمد بن تومرت المهدية، متظاهرًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم رحل إلى المنستر ثم إلى بجاية. ولما توفي يحيي سنة 509 هـ تولى بعده ابنه أبو الحسن علي بن يحيي باتفاق من الجند. ودخل في حروب مع الأعراب كأبيه وجده. واستمر حكمه إلى سنة 515 هـ حيث توفي وتولى بعده ابنه الحسن بن علي الذي كان عمره لا يتعدى اثني عشر عامًا. فقصده صاحب صقلية سنة 517 هـ بأسطول ضخم ولما وصل المهدية هاج البحر ودمر سفنهم، وتعقبهم المسلمون بالقتل وغنم المسلمون غنائم كثيرة. إلا أن هذا الطاغية عاود الكرة مرة ثانية، واستولى على جربة وسفاقص وطرابلس. وفي سنة 543 هـ باغت أهل المهدية، وأخذ أهلها على حين غفلة منهم. ففر منها الحسن بما خف حمله ودخلها النصارى من غير قتال. واستولوا على ذخائر الحسن. ثم انطلقوا نحو سوسة وسفاقص ودانت لهم سائر البلاد. أما الحسن فقد التجأ إلى عبد المؤمن بن علي الكومي مستنجدًا به ومستجيرًا، فأكرمه وأحسن وفادته، وهب لنصرته، فاتجه بنفسه سنة 554 هـ ومعه الحسن بن علي في جيش جرار لم تشهد المنطقة مثله، وحاصر المهدية ستة أشهر وفتحها بكرة عاشوراء سنة 555 هـ، وهي التي

* المبحث الثاني: الوضع الثقافي والفكري

تعرف بسنة الأخماس، ودانت له سائر إفريقية، وجمع شتاتها تحت حكمه. فانتشر الأمن, وشعر الناس بالطمأنينة والسلام. ثم رجع إلى مراكش بعد أن استخلف على إفريقية أبا عبد الله محمد الكومي وجعل معه الحسن وأقطعه أراضي مهمة. وبهذا انتهت دولة الصنهاجيين. ويبدوا أن ابن بشير عاصر من ملوكهم تميم بن المعز، ويحيى بن تميم وعلي بن يحيي، والحسن بن علي آخرهم. وقد تحدثت عن المعز ومن قبله رغم أن ابن بشير لم يعاصرهم لما لتلك المرحلة المتقدمة من تأثير على ما بعدها. وهكذا يظهر أن ابن بشير رحمه الله عاش في فترة زمنية متسمة بالاضطراب وعدم الاستقرار بل بانتشار السلب والنهب ولعل ابن بشير نفسه كان واحدًا من ضحايا هذه المرحلة، إذ قتله قطاع الطرق كما سيأتي بيانه. ويبقى السؤال الأهم وهو: كيف انعكست آثار هذا الوضع السياسي المضطرب على الحياة الفكرية والثقافية في المنطقة؟ هذا ما سنتحدث عنه في المبحث اللاحق. ... * المبحث الثاني: الوضع الثقافي والفكري توجد علاقة وطيدة بين الوضع السياسي والنشاط الفكري والأدبي الموازي له، وقد تنعكس الخطوب والفتن السياسية سلبًا على هذا النشاط فتميد العلوم ويهوي صرح الأدب. وقد تنعكس هذه الأحداث إيجابًا فيحيي الله بها العلوم والآداب والثقافة، وهذا ما حصل في المرحلة المدروسة حيث انعكس الوضع السياسي المتدهور إيجابًا على الوضع الثقافي، واستفادت الثقافة من الصراع السياسي، إذ تنافس الأمراء والوزراء في تقريب العلماء ورعايتهم والإغداق

* المطلب الأول: الوضع الثقافي في الشرق الإسلامي

عليهم، إما لرغبتهم في العلم، أو لتزيين مجالسهم واجتلاب محبة الشعب لهم بهم. فنتج عن هذا تنافس كبير في تحصيل العلم. كما كان الصراع الفكري والتصادم المذهبي بين الفرق والمذاهب الإسلامية حافزًا مهما لدفع العلماء نحو البحث والتنقيب، نصرة للمذهب ودحضًا لآراء مخالفيه. وقد تجلى هذا الصراع في شكل مناظرات كانت المساجد والقصور والمنتديات ساحة لها. فافرز هذا النشاط الموازي أجيالاً من الأئمة النحارير والعلماء الجهابيذ، دونوا من الكتب والمصنفات ما لا يقع تحت حصر. * المطلب الأول: الوضع الثقافي في الشرق الإسلامي: تعتبر منطقة الشرق الإسلامي؛ الشام والعراق ومصر، بحكم موقعها وظروفها التاريخية؛ موطنًا لكل المذاهب والفرق الإسلامية السنية وغير السنية؛ إذ امتزجت رواسب الديانات القديمة مع الفلسفة اليونانية المترجمة، فاصطدمت بالعقيدة الإسلامية الربانية. فأفرز هذا الاصطدام مذاهب فكرية وعقائدية مختلفة. كما كان لاختلاف مناهج الفقهاء في استنباط الأحكام دور أساس في نشوء المذاهب الفقهية. وحتى لا نحيد عما نحن بصدده نبقى في الفترة المدروسة، وهي النصف الأخير من القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس. ففي هذه الفترة كاد نجم المعتزلة يأفل، وذلك بفقدانهم لمناصرة العباسيين خاصة المأمون والمعتصم والواثق، الذين حملوا الناس على اعتناق آراء الاعتزال وأجبروهم على ذلك. وما فتنة القول بخلق القرآن إلا نموذج لذلك. وفي مقابل ذلك لمع نجم الأشاعرة وانتشر مذهبهم في الآفاق، لشهرة إمامهم وانسلاخه من الاعتزال بعد ما كان رأسًا فيه، ومحاولته التوسط بين المعتزلة وأهل الحديث. بالإضافة إلى جهود أتباعه في تثبيت وتوطيد أركان المذهب. وأذكر على سبيل المثال جهود الباقلاني (ت) 403 هـ والجويني (ت) 478 هـ والغزالي (ت) 505 هـ. كما أنه كان للأشاعرة دور مهم في صد الفكر الشيعي الباطني الذي تبناه البويهيون والقرامطة في بغداد والجزيرة، والعبيديون في مصر.

كما أن النزعة الصوفية عرفت تطورًا ملحوظًا وتقلبًا لم يكن يرضي كثيرًا من العلماء فقد انتقلت من زهد سني مقبول، إلى كشف (¬1) وتجل، ثم حلول واتحاد (¬2)، وأخيرًا وحدة وجود (¬3). وبالنسبة للفقه فإنه يتميز في هذه الفترة بانقراض الاجتهاد المطلق الذي يتسم أصحابه بالاستقلال التام في الأصول والفروع، واقتصر الناس على المذاهب الأربعة المعروفة التي كانت موجودة في المشرق الإسلامي على تفاوت بينها في الانتشار. فأخلدوا إلى تقليد هذه المذاهب. واهتموا بتهذيبها وتوثيقها وتحرير أقوال أئمتها وتوجيهها والاستدلال لها والتخريج عليها وتأصيل أصولها وبناء فروعها. وأحيانًا معاداة مخالفيها والذود عنها بالتأليف والمناظرة والتدريس، والتزام القضاة والمفتين بها وعدم الخروج عن قواعدها. وقد كان أكثر هذه المذاهب انتشارًا في الشرق في هذه الفترة المذهب الشافعي وذلك بسبب تبني بعض قادة السلاجقة له، وخاصة الوزير نظام الملك ت 485 (¬4)، الذي لم يأل جهدًا في خدمة العلم والعلماء عن طريق المذهب الشافعي. فبنى عدة مدارس فاخرة، وجلب كبار العلماء وأحاطهم بالرعاية والتكريم والتبجيل. فكثر خريجو هذه المدارس، وانتشروا في سائر الأقطار، وتولوا أهم المناصب الإدارية، مما جعل نفوس كثير من العلماء تهفو إلى الانتماء للمذهب الشافعي، وأذكر منهم على سبيل المثال أبا ¬

_ (¬1) الكشف عند المتصوفة؛ أن يبدو للقلب من أنوار الغيوب ما ينال به الصوفي من المعارف ما لا يناله العقل منها، ثم بعد الكشف يترقى إلى مرتبة التجلي، وهي أن تظهر له الذات الإلهية في عين المظاهر الوجودية، ولم يعد بعد ذلك في حاجة إلى واسطة في تلقي المعرفة فيقول حدثني قلبي عن ربي ... (¬2) حقيقة الحلول والاتحاد عندهم، أن المحب يفنى في المحبوب، ويحبه بكل قلبه، حتى لا يكون هناك فرق بين محب ومحبوب، فيختلط المحب بالمحبوب ويمتزجان، ويصيران شيئًا واحدًا. (¬3) يقصدون بوحدة الوجود، أن الله والعالم شيء واحد، فليس في العالم وجودان، فالله هو العالم والعالم هو الله ... (¬4) ترجمته في شذرات الذهب 3/ 273.

الفتح بن تركان (ت 518 هـ) المعروف بالجامعي الذي كان حنبليًا ثم انتقل إلى المذهب الشافعي (¬1). بل وجد من انتقل من المذهب الحنبلي إلى المذهب الحنفي ثم الشافعي كالمبارك بن المبارك الواسطي النحوي المعروف بالوجيه. الذي أثار تحركه هذا اشمئزاز كثير من العلماء حتى قال الشاعر أبو البركات ابن زيد التكريتي: تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل وما اخترت قول الشافعي تدينًا ... ولكنما تهوى الذي منه حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل (¬2). أما المذهب الحنفي فيأتي في الدرجة الثانية بعد المذهب الشافعي رغم تبني الخلفاء العباسيين له وكثير من سلاطين السلاجقة، فقد انحصر انتشاره في العراق وبلاد الأعاجم وخراسان وفارس، ولعل مرد هذا الانحصار إلى كون كثير من المعتزلة تمذهبوا في الفروع بالمذهب الحنفي، فأعرض الناس عنه، خشية أن يتسرب الاعتزال إليهم، أو يصنفوا مع المعتزلة. وبالنسبة للمذهب الحنبلي، فإنه أقل انتشارًا من سابقيه وقد كان مقتصرًا على بغداد، وذلك لأسباب عديدة منها عدم الدعم السياسي؛ إذ لم تتبنه أية سلطة سياسية، فاكتفى بطاقاته وقدراته الذاتية. أضف إلى هذا طبيعة المذهب، إذ لم ينطلق انطلاقة واضحة من بداية أمره. فقد اختلف في عده مذهبًا مستقلًا. ويعد أبو بكر الخلال هو الذي حسم هذا الخلاف وجعله مذهبًا مستقلًا. يقول الذهبي: "ولم يكن قبله للإمام مذهب مستقل حتى تتبع هو نصوص أحمد ودونها وبرهنها بعد الثلاثمائة" (¬3). ورغم هذا كله فإن صوت الحنابلة كان مسموعًا وتأثيره في الساحة ملموسًا. وذلك لجرأتهم ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 19/ 457. (¬2) وفيات الأعيان 4/ 153. (¬3) السير 14/ 298.

* المطلب الثاني: الوضع الثقافي في المغرب والأندلس

على الصدع بالحق وصراعهم المرير مع الأشاعرة ومن قبلهم المعتزلة وغيرهما من الفرق الكلامية. أما المذهب المالكي، فعلى الرغم من أن مصدره كان بالمدينة وكانت له مدرسة نشطة بالعراق، إلا أنه في الفترة المدروسة قل أتباعه، واضمحل تأثيره في المنطقة، ولم تكد تجد- بعد القاضي عبد الوهاب- مالكيًا لامعًا، اللَّهم إلا بعض الأفراد هنا وهناك، ربما كان أغلبهم نازحين من الغرب الإسلامي. * المطلب الثاني: الوضع الثقافي في المغرب والأندلس: إذا كان الشرق الإسلامي عرف بكثرة مذاهبه وفرقه وطوائفه وصراعاته العقائدية، والفكرية، فإن الغرب الإسلامي على خلاف ذلك عرف استقرارًا فكريًا وهدوءًا عقائديًا على العموم، وذلك بحكم بعده عن الشرق مصدر الخلاف وموطن تفريخ المذاهب والفرق. وبحكم طبيعة السكان وظروف المنطقة التاريخية فقد دخل الإسلام إلى المغرب والأندلس في إطار سني صاف من كل الشوائب والمعكرات، وصادف نفوسًا على الفطرة سرعان ما تخلصت من رواسب الوثنية والمسيحية، فتناغمت وانسجمت مع الإسلام الصحيح، ونفرت من باقي المذاهب المنحرفة وإن كان لبعض الفرق وجود في ظروف معينة كالخوارج والمعتزلة والشيعة، إلا أنه لم يكن لها جذور عميقة وممتدة في المجتمع المغربي، إذ سرعان ما تخلص المجتمع منها. كما أن المذهب المالكي كان له دور مهم في ترسيخ العقيدة السنية ومنافرة علم الكلام. فقد اعتنق المغاربة مذهب مالك في وقت مبكر جدًا، وجعلوه مصدرًا لعقيدتهم وسلوكهم ولم يحصروه أو يقصروه على الفروع كما هو الشأن عند المتأخرين. فقد جعلوا نصب أعينهم قولة مالك التي توارثها عنه العلماء جيلًا بعد جيل، وجعلوها قاعدة لهم في هذا الشأن، وذلك عندما سئل عن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يقول ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، أن

أهل الكلام أهل بدع وزيغ. ولا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه. ويتفاضلون في الإتقان والميز والفهم. وقال أيضًا: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام. فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع؛ أشعريًا كان أو غير أشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويفجر ويؤدب على بدعته. فإن تمادى عليها استتيب منها .. وليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء نصوصًا في كتاب الله أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو اجتمعت عليه الأمة" (¬1). على هذا المنهج سار أهل المغرب والأندلس، إلى أواخر القرن الخامس الهجري. فتبنى بعض كبار المالكية العقيدة الأشعرية، وفرضها الموحدون على الغرب الإسلامي، كما سيأتي توضيح هذا في الحديث عن إفريقية. وبالنسبة للتصوف فقد عرفته المنطقة، وعرفت بدايته السنية القائمة على الزهد في الدنياّ، والرباط في الثغور، والجهاد في سبيل الله ضد النصارى. إلا أنه ما فتئ يتأثر شيئًا فشيئًا بالتصوف الفلسفي القادم من الشرق، إلى أن وصل إلى حد الانحراف والتصادم مع العلماء المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها. بل تطور التصوف في الأندلس حتى صدرت هذه الأخيرة للمشرق بعض زعماء التصوف من أشهرهم ابن عربي صاحب وحدة الوجود. أما وضع الفقه، فإن المغرب والأندلس يعدان من البلدان القليلة التي عرفت وحدة المذهب الفقهي؛ فقد وصل إلى المغاربة في بداية أمرهم مذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان (¬2). لكن سرعان ما تخلصوا منهما وتمسكوا بالمذهب المالكي، وآثروه على غيره من المذاهب، وتكونت لهم في نفوسهم منزلة عظيمة حتى عدوا من خالفه ¬

_ (¬1) جذوة المقتبس 101، وبغية الملتمس 155. (¬2) وقد أشار إلى هذا الحميدي في جذوة المقتبس ص 203 والقاضي عياض في ترتيب المدارك 1/ 25.

* المطلب الثالث: الوضع الثقافي في إفريقية

جديرًا بالعقوبة. فقد جاء في بعض مكاتبات المستنصر ما نصه: "من خالف مذهب مالك بالفتوى وبلغنا خبره أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره. فقد اختبرت فوجدت أن مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد بمذهبه غير معتقد للسنة والجماعة. فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا أشد النهي عن تركه. ففي العمل بمذهبه جميع النجاة" (¬1). ولعل هذا التصرف ومثله أدى إلى التعصب الممقوت فاكتوى به كثير من العلماء الذين لم يجدوا بدًا من مواجهته، وأذكر هنا على سبيل المثال موقف ابن حزم الذي واجه هذا الموقف بصلابة وعناد. ومن بين أقواله في هذا الشأن، ما ذكره صاحب نيل الابتهاج حيث قال: "قد وصل أهل الأندلس في تقليد مالك حتى يعرضوا كلامه تعالى وكلام رسوله على مذهب إمامهم، فإن وافقاه قبلوهما وإلا طرحوهما وأخذوا بقول صاحبهم، مع أنه غير معصوم. ولا نعلم بعد الكفر بالله معصية أعظم من هذا" (¬2). بعد هذا أرى أنه قد آن الأوان للحديث عن الوضع الثقافي في إفريقية موطن ابن بشير. * المطلب الثالث: الوضع الثقافي في إفريقية قبل الحديث عن هذا الموضوع لا بد أن أشير إلى أنه لا يمكنني أن أبتر الفترة المدروسة عن سياقها الزمني وتأثير ما قبلها فيها. ولذلك سأكون مضطرًا للحديث عن المؤثرات السابقة التي تركت بصماتها ماثلة في الفترة الزمنية المعنية. وأستهل حديثي بعلم العقائد وعلم الكلام قبل الحديث عن وضع الفقه. ¬

_ (¬1) المعيار المعرب 12/ 26. (¬2) نيل الابتهاج ص 191.

أولا علم العقائد وعلم الكلام

أولًا علم العقائد وعلم الكلام: من المؤكد أن أئمة أهل السنَّة والجماعة مالكًا وأبا حنيفة وأحمد والشافعي متفقون في الأصول والعقائد، مختلفون في الفروع. والدليل على ذلك تطابق ما قرره ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته مع ما قرره الطحاوي الحنفي في عقيدته، ما عدا الخلاف في تعريف الإيمان الذي خالف فيه أبو حنيفة، واعتبر ابن أبي العز الحنفي الخلاف لفظيًا (¬1). فالخلاف- إذا- كان بين أهل السنَّة من جهة وبين باقي الفرق من جهة أخرى. ومن أهم الفرق التي كان لها وجود بالمنطقة وأثرت في ثقافتها الخوارج والمعتزلة والشيعة: أ -الخوارج: المعروف عن الخوارج أن تاريخهم تاريخ حروب وثورات وخروج عن الأئمة؛ فمن عهد الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - وهم يشكلون شوكة في خاصرة الدولة الإسلامية، ولم يستطع لا الأمويون ولا العباسيون القضاء عليهم، رغم أنهم تمكنوا من كسر شوكتهم وتمزيقهم وتشريدهم في البلاد. ولعلهم وجدوا في الغرب الإسلامي ملاذًا آمنًا ومستقرًا بعيدًا عن بطش الخلفاء الأمويين والعباسيين. وإن كان البعض يرجع سبب وجودهم في الغرب الإسلامي إلى عكرمة مولى ابن عباس. قال يحيي بن بكير: "قدم عكرمة مصر وقدم هذه الدار وخرج إلى المغرب. فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا" (¬2). ومهما يكن من أمر، فإن تأثيرهم في الساحة الفكرية كان خافتًا ومضمحلًا, لأنهم لم يسلكوا مسلك الإقناع والحجة والمناظرة والتأليف، بل سلكوا مسلك الخشونة والشدة والتهور وحمل الناس على آرائهم بالعنف ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية ص 374. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 15.

ب- المعتزلة

والقسوة. ولهذا لم يحتج علماء السنَّة كبير جهد لدحض آرائهم، بل كان صراعهم غالبًا مع الحكام. وقد حاولت الوقوف على بعض علمائهم ونظارهم في المنطقة فلم أقف إلا على قلة قليلة منهم، كمعاوية بن الصمادحي (ت) 199 (¬1) هـ، وأبي الخطاب الكندي (¬2)، وهود بن محكم الهواري عاش في النصف الثاني من القرن الثاني (¬3)، وسليمان بن يخلف أبي الربيع المزاتي (¬4)، وموسى بن زكريا المزاتي الدمري (¬5). ب- المعتزلة: لقد ظهرت البوادر الأولى للاعتزال في المنطقة، منذ زمن مؤسسه واصل بن عطاء. حيث يحكي القاضي عبد الجبار في كتابه فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة أن واصلاً أرسل بعثة إلى المغرب لنشر الاعتزال هناك (¬6). وقد كانت آثار هذه البعثة واضحة في المغرب الأقصى وبالأخص في طنجة والمغرب الأوسط خصوصًا بتهارت، إلا أن تلك الآثار امتدت إلى إفريقية (¬7)، حيث وجدت مناصرًا قويًا وداعمًا سياسيًا من طرف الأغالبة تقليدًا للعباسيين. وحتى عند اندثار دولة الأغالبة واستيلاء العبيديين على إفريقية، لم يجد المعتزلة حرجًا في التحالف معهم ضد أهل السنة. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: أن إبراهيم بن محمد الضبي أبا إسحاق المعروف بالبرذون ¬

_ (¬1) طبقات علماء إفريقية ص 161 (¬2) المصدر السابق. (¬3) كتاب العمر 2/ 957. (¬4) المصدر السابق 2/ 259. (¬5) كتاب العمر 2/ 261. (¬6) ص 237. (¬7) انظر فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص 18.

(ت 297 هـ) (¬1) كان كثير التحكك بالعراقيين والمجادلة لهم، فأوذي بسبب ذلك مرتين؛ مرة في آخر دولة الأغالبة، ضربه القاضي محمد بن أسود الصديني بالسياط، وكان هذا الأخير ممن يصرح بخلق القرآن. ثم مرة أخرى على يد الفاطميين في بداية أمرهم، فقد سعى به كل من ابن ظفر والكلاعي المعتزلين إلى داعي الشيعة أبي عبد الله الصنهاجي، فأمر الداعي بقتله (¬2) ... والتحالف بين المعتزلة والشيعة ليس بالأمر الغريب لأن "الشيعة تميل إلى العراقيين لموافقتهم لهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم" (¬3). بل إن بعض أئمة الشيعة تتلمذوا على يد واصل بن عطاء، كزيد بن علي بن الحسين إمام اليزيدية. ومهما يكن من أمر، فإن أهل السنَّة في إفريقية - بالرغم من فقدانهم للمناصر السياسي- استطاعوا أن يضيقوا الخناق على المعتزلة، ويحاصروا نحلتهم فكريًا. وقد حاول الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب إحصاء المتكلمين من المعتزلة خلال القرن الثالث وأوائل القرن الرابع فوجدهم حوالي العشرين رجلًا (¬4). وهذا كله نتيجة لجهود علماء أهل السنَّة ومواقفهم الصارمة مع أهل البدع. فهذا عبد الله بن فروخ "سأله حبوس بن طارق فقال له: ما تقول في المعتزلة؟ فقال له وما سؤالك عن المعتزلة؟ فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين وفي يوم الدين وبعد يوم الدين وفي طول دهر الداهرير، فقال له حبوس بن طارق: لا تفعل فإن فيهم رجالًا صالحين، فقال: ويحك؟ ... وهل فيهم رجل صالح؟ ولما قدمت جنازة ابن صخر المعتزلي قالوا لابن غانم: الجنازة، فقال ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 14/ 216. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) ورقات 1/ 216.

ت - الشيعة

كل حي ميت، قدموا دابتي، ولم يصل عليه. فقيل لابن فروخ: الجنازة، فقال مثل ذلك، وقام ولم يصل عليه. وقيل للبهلول: الجنازة، فقال مثل ذلك" (¬1). ت - الشيعة: لقد كان أثقل وجود للفرق بإفريقية هو وجود الشيعة التي استطاعت أن تكون لها دولة سنة 297 هـ، وقد ألقت هذه الفرقة بثقلها الفكري العقدي تعززه وتؤازره السلطة السياسية. فتغير أسلوب الصراع مع هؤلاء إذ انتقل من صراع فكري جدلي، وسيلته المناظرة والحجة والإقناع والتأليف والردود، إلى صراع حول الإيمان والكفر، وسيلته البطش والقتل والتمثيل من طرف الشيعة، والخروج والعصيان المدني من طرف المالكية وطبعًا علماء أهل السنَّة هم الضحية، تعرضوا لأبشع التعذيب وأصناف التنكيل، "فقد اعتبر المالكية التخلي عن المذهب المالكي ومتابعة بني عبيد، انسلاخًا من الدين وتبديلًا لنعمة الإسلام كفرًا. فما الإسلام إلا مذهب مالك، وما مذهب مالك إلا دين الإسلام" (¬2)، فامتحن أهل السنَّة في سبيل ذلك واستشهدوا في سبيل الثبات على العقيدة السنية. فهذا أبو إسحاق بن البرذون السالف الذكر وقد فرش له النطع وجيء به للقتل لطعنه على العبيديين، وطلب منه أن يرجع عن مذهبه، فقال: "أعن الإسلام تستتيبني؟ " (¬3). وهذا أبو محمد بن التبان وقد شدد عبد الله المعروف بالمختال- صاحب القيروان - في طلب أهل العلم ليشرقهم (¬4)، فطلب الشيخ أبا سعيد بن أخي هشام، وأبا محمد بن التبان، وأبا القاسم بن شبلون، وأبا ¬

_ (¬1) رياض النفوس: 1/ 186. (¬2) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص 111. (¬3) سير أعلام النبلاء 14/ 216. (¬4) أي ليحملهم على مذهب المشارقة، وهو: التشيع.

ث- انتشار الأشعرية بإفريقية

محمد بن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي. فاجتمعوا في المسجد .. وقيل إنهم أرادوا السير إلى عبد الله فقال لهم ابن التبان أنا أمضي إليه أبيع روحي من دونكم, لأنكم إن أتى عليكم، وقع على الإسلام وهن ... فذهب ابن التبان إلى عبد الله ودارت بينه وبين دعاة الشيعة مناظرة تفوق فيها ابن التبان. فقال له عبد الله في الأخير: يا أبا محمد أنت شيخ المدنيين، وممن يتزين به. أدخل العهد، وخذ البيعة. فعطف عليه أبو محمد، وقال له: شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنتين وسبعين فرقة، يقال له هذا؟ لو نشرت بين اثنتين ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه. فخرجوا ومعهم سيوف مصلتة، فمر بجماعة من الناس ممن أحضر لأخذ الدعوة، فوقف عليهم وقال لهم: تثبتوا، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام، فإن فارقتموه هلكتم. فترك عبد الله بقية الشيوخ بعد ذلك المجلس (¬1). بهذه العزيمة القوية والإرادة الصلبة واجه علماء أهل السنَّة دعاة العبيديين وثبتوا في وجههم زهاء قرن ونصف من الزمن. فهذا يجلد، وذلك يسجن، والآخر يصلب. فلم يزدهم كل هذا إلا ثباتًا وصمودًا. وبثباتهم هذا تحصنت العامة فاقتدت بعلمائها ولم تسقط في مهاوي التشيع والبدع. واستمر حال أهل إفريقية على هذا المنوال وهم صابرون محتسبون، غير مستكينين ولا خانعين، إلى أن فرج الله عليهم بانجلاء العبيديين إلى مصر، وإدراك خلفائهم أن المصلحة في الرجوع إلى مذهب أهل السنَّة ومفارقة أهل البدعة. ث- انتشار الأشعرية بإفريقية: كما سبقت الإشارة فإن أهل الغرب الإسلامي تمسكوا بمذهب مالك فأخذوا منه الأصول- العقائد- والفروع والسلوك. ولفظوا كل العقائد التي لم تأت عن طريقه، وخاضوا في سبيل ذلك صراعًا مريرًا مع الخوارج ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك: 6/ 255.

والشيعة والمعتزلة وغيرهم. إلا أن الأمر اختلف تمامًا مع العقيدة الأشعرية؛ إذ لم تلق تلك المعارضة الحادة التي ووجهت بها باقي الفرق، بل دخلت في بداية أمرها بهدوء، واعتنقها بعض الخاصة. ثم ما فتئت أن عممت بواسطة دولة الموحدين. والتساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا لم تلق العقيدة الأشعرية مصير سابقاتها من العقائد؟ وما السر في دخولها بهذا الهدوء، إذا استثنينا دور الدولة الموحدية التي حاربت التوجهات العقائدية والفقهية للمرابطين؟ السبب في ذلك يرجع إلى عدة أمور من بينها: 1 - أن أبا الحسن الأشعري عده كثير من المالكية ضمن المالكيين (¬1)، وعليه، يكون فكره منبثقًا من داخل المدرسة. 2 - ظهور القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) في النصف الثاني من القرن الرابع، الذي يعد المؤصل الحقيقي لهذا المذهب. فكان مالكية القيروان يشدون إليه الرحال، فيأخذون منه فقه مالك والعقيدة الأشعرية أيضًا. (ومن اشهرهم: أبو عبد الله الأذري، وأبو طاهر البغدادي، وأبو عمران الفاسي). 3 - التقارب الكبير بين العقيدة الأشعرية والعقيدة السلفية، إذ الخلاف بينهما محصور في أمور ليست من أركان العقيدة الإسلامية وأسسها (¬2). ¬

_ (¬1) منهم ابن فرحون في الديباج ص 193، والقاضي عياض الذي قال في ترتيب المدارك 5/ 24 ذكر محمد بن موسى بن عمران أنه كان مالكيًا، قال وذكر لي بعض الشافعية أنه شافعي حتى لقيت الشيخ الفاضل الفقيه رافعًا الحمال الشافعي فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن كان مالكيًا. وإن كان الشافعية هم أيضًا ينسبونه إلى مذهبهم قال أبو بكر بن قاضي شهبة في طبقات الشافعية 2/ 114 وقد صرح الأستاذ أبو بكر بن فروك في طبقات المتكلمين بأن الأشعري شافعي. (¬2) علمًا بأن أبا الحسن الأشعري ألف في آخر عمره كتاب الإبانة عن أصول الديانة وصرح فيه بأنه على عقيدة السلف.

4 - أضف إلى هذا ما أثاره انسلاخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال الذي تربى في أحضانه وصار إمامًا فيه ينافح ويناظر من أجله. فكان انسلاخه نصرًا لأهل السنة، أحدث هزة فكرية قوية بلغ صداها إلى كل الأقطار الإسلامية. 5 - ظهور الفكر الأشعري كان استجابة لضرورة حضارية في مجال الفكر العقدي؛ فالمعتزلة التي نشأت أوائل القرن الثاني تمثل صيغة جديدة في فهم العقيدة تقوم على الحجة العقلية، والتغالي في الاعتداد بالعقل، والزهادة في النص. وعلى الأخص الحديث الذي سلطوا عليه مقياسًا نقديًا قاسيًا أفضى إلى رفض كثير منه، وتأويل جانب آخر بما يناسب آراءهم. وفي القرن الثالث بدأت تظهر بوادر الحركة الفلسفية المتأثرة بالفلسفة اليونانية، وكانت نزعة تقوم على اعتبار العقل قبل اعتبار الشرع، وإخضاع النص للعقل، وبذلك كانت هذه النزعة تمثل تحديًا أشد من المعتزلة- رغم اتفاق المعتزلة معهم في تقديم النص على العقل- ثم يأتي التحدي الصارخ للعقيدة الإسلامية عمومًا ولأهل السلف خصوصًا، متمثلًا في الديانات المعادية للإسلام، التي اتخذت لها في الجدل أساليب وطرائق عقلية، استقتها من المنطق اليوناني لسبق اتصالها بالفلسفة اليونانية (¬1). أضف إلى هذة التحديات ما سقط فيه بعض جهلة النصيين من الوقوع في التشبيه والتجسيم (¬2). فهذا الوضع الفكري الذي أسفر عنه القرن الثالث الهجري جعل أهل السلف في موقع صعب في الميدان الفكري، فبانت بذلك الضرورة الحضارية في مجال العقيدة ملحة أشد الإلحاح على التكيف حسب هذه البيئة في إثبات حقائق العقيدة الإسلامية التي فهموها من النصوص وفي أساليب الرد على الشبهات الواردة عليها. فكان ظهور الأشعرية ببغداد استجابة لتلك الضرورة في مجال الفكر العقدي (¬3). ¬

_ (¬1) فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص 14 - 16 بتصرف. (¬2) انظر بيان تلبيس الجهمية 1/ 410، وتلبيس إبليس ص: 86. (¬3) إلا أن الشيخ عبد الله كنون فصّل: في المسألة وفرّق ما بين المشرق والمغرب فقال: وهو اجتهاد على كل حال أوجبته الضرورة، أملاه الموقف الذي كان عليه أمر الاعتقاد في المشرق الإسلامي. أما في المغرب فلم تدع لذلك ضرورة ولا جد موقف غير =

هذه هي هم الأسباب التي جعلت مالكية الغرب الإسلامي لا يواجهون العقيدة الأشعرية بمثل ما واجهوا به باقي العقائد. ورغم وجاهة هذه الأسباب، إلا أنها لم تشفع لها عند كثير من علماء الغرب الإسلامي الذين لا يبغون بديلًا عن عقيدة الإمام مالك السلفية، ولم يرضوا أن يحيدوا عنها قيد أنملة. فهذا شيخ المالكية بالقيروان ابن أبي زيد القيرواني رغم إجلاله واحترامه ودفاعه عن أبي الحسن الأشعري لم يتبعه في عقيدته. ومقدمة رسالته المشهورة دليل على ذلك. فهي من الناحية المنهجية ذات صبغة استعراضية لا أثر فيها للاستدلال العقلي (¬1)، كما أن الأفهام العقدية الواردة فيها لا تختلف عما كان مألوفًا عند أهل السلف سواء في مسألة الصفات- "فالله على العرش استوى وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى" (¬2) -، أو مسألة القرآن- فهو كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد-، أو مسألة علاقة الذات الإلهية بالمكان، وهي قوله: "وأنه -أي الله تعالى- فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه" (¬3). وهذا أبو الحسن اللخمي، فقد وصلنا عنه أنه كان يستثقل علم الكلام. جاء في المعيار ما يلي: "وسئل المارزي عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ما سمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا رطب ولا يابس، وفي لفظ ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة (¬4) "، فإنه يقتضي أن الجمادات تعقل ذلك. ¬

_ = الذي كان عليه الحال أيام السلف، فلم يكن ثم لزوم بل ولا مبرر لرواج هذه البدعة، ولذلك قاومها العلماء المغاربة بنصح وإخلاص: جولات في الفكر الإسلامي ص90، وقد أشار إلى هذه المسألة من قبل ابن رشد الجد في مسائله 2/ 860 - 862. (¬1) فصول في الفكر الإسلامي ص 24. (¬2) الرسالة ص 7. (¬3) المصدر السابق. (¬4) أخرج البخاري في بدء الخلِق 3296: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضيَ للهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.

ج - التصوف

فأجاب: الذي عند أهل الأصول أن الجماد لا يسمع، ويستحيل أن يكون الجماد شيئًا من ذلك. وقد ذكرت شيئًا من ذلك عند اللخمي، وقلت له: إن القاضي ابن الطيب يمنع من هذا. فقال لي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} يدل على أن الجمادات كلها تسبح. وأنكر قول القاضي غاية الإنكار. وقال لي: خلوا ما أنتم عليه من كلام الأصوليين. وكان رحمه الله يستثقل كلام الأصوليين. فقال له عبد الجليل: فهذه الحصاة تسبح. فقال نعم تسبح بالغيظ فسكت عبد الجليل لما رأينا من غيظه (¬1). وهذا عبد الله بن ياسين تلميذ أبي عمران الفاسي وقد بعثه هذا الأخير إلى الأمير يحيي بن إبراهيم الصنهاجي مرشدًا ومعلمًا وزعيمًا روحيًا، فأسسا معًا دولة المرابطين على غير نفس أشعري. بل قامت على روح فقهية واكتفت في العقيدة بما كان عليه أهل السلف. وهذا كله يدل على أن الأشعرية في بداية أمرها وإلى حدود القرن الخامس لم تلق معارضة قوية، وفي نفس الوقت لم تلق ترحيبًا واعتناقًا مطلقًا. فدخولها لم يحدث ضجيجًا. رغم ما بذله الإمام المازري (¬2) الذي يمثل ظهوره بداية نضج الأشعرية، وعطائها بإفريقية. إلا أن هذا السير الهادئ للأشعرية بإفريقية لم يكتب له الدوام، إذ بحلول القرن السادس دخلت الأشعرية دخولاً يختلف عن دخولها الأول، ففي الأول دخلت من الشرق محمولة في صدور وكتب العلماء، أما دخولها الثاني فجاء من الغرب على سيوف الموحدين. ج - التصوف: لم يرج هذا المصطلح وينتشر في الثقافة الإسلامية إلا في نهاية القرن الثاني الهجري (¬3). وقد كان يقوم مقامه مصطلح الزهد والورع أو ما شاكل ¬

_ (¬1) المعيار 12/ 354. (¬2) انظر المازري للشاذلي النيفر ص 149. (¬3) انظر الصوفية معتقدًا ومسلكًا ص 53.

ذلك. ولم يكن أحد من المسلمين يحاول التميز بسلوك ينفرد به دون غيره، يفسر شططًا بعض أمور العقيدة على ضوء ما بدر منه. فعامة المسلمين يؤدون شعائرهم على ضوء ما أمر به الله ورسوله ولم يكن بينهم من يريد أن يستقل بسلوك أو بنهج في التعبد يخرج به عن نطاق ما في كتاب الله والعمل بسنة رسوله. ويتعسر هنا الحديث عن ظروف وحيثيات نشوء التصوف بمدارسه وأشكاله المعروفة. لكن الذي يعنينا هو وضع هذه النزعة بإفريقية. فقد بدأ التصوف فيها زهداً سنيًا مرتبطًا بالجهاد والرباط في الثغور والانقطاع لتدريس العلوم الشرعية. وكان زعماؤه من فقهاء المالكية، فارتبط الفقه في هذه المرحلة بالزهد. فهذا أبو إسحاق الجبنياني الزاهد الورع (ت) 369 الذي أقبلت عليه الدنيا وأعرض عنها، وقد كان أبوه وجيهًا عند الأغالبة ووصل إلى منصب الوزارة. قال عنه عياض: "أحد أئمة المسلمين وأبدال أولياء الله الصالحين" (¬1). وقد أثنى عليه كثير من العلماء جمعهم القاضي عياض في النص التالي: "وكان أبو الحسن القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به، وكان أبو محمد بن أبي زيد يعظم من شأنه ويقول طريق أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في الوقت. ويقول: لئن لم يكن أمر أويس القرني صحيحًا فالجبنياني أويس هذه الأمة. ويقول: لو فاخرتنا بنو إسرائيل بعبادها لفاخرناهم بالجبنياني، ويقول من محبتي فيه وكثرة ذكري له أني أراه في المنام. ولقد قوي قلبي أن يدعو لي، وأنه رأى جامع مختصر المدونة الذي ألفته فأعجبه. وكان أبو محمد بن التبان يثني عليه. وكان مسرة بن مسلم إذا ذكره يبكي بكاءً عظيمًا ويقول: كان والله مقدمًا علينا في صغره وفي كبره ... قال أبو القاسم اللبيدي: ... قال لي أبو إسحاق: أتدرسون في ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 6/ 225.

هذا الوقت العلم؟ قالت: نعم، قال: فتجتمعون للمذاكرة؟ قال: لقد كنا نجتمع ولقد ألقينا المدونة في شهر ندرس النهار ونلقي الليل فما علمت أنا نمنا ذلك الشهر ... ثم قال لي: أي كتاب في أيديكم تدرسونه؟ فقلت العتق الأول، فألقى علي من أوله وسرد المسائل حتى كأن الكتاب في يده. قال: وكان ينزع بالقرآن والسنة، وكان العلماء الفصحاء بين يديه كالغلمان بين يدي المعلم من هيبته" (¬1). من خلال هذا النص يتبين لنا أن الفقهاء كان لهم تعاطف وإعجاب، بل وتنويه بهذا الزاهد السني. وهذا شأنهم مع كل من لم يحد عن النهج القويم. لكن صفاء هذه العلاقة الودية عكرها بعض من لم يلتزم بالضوابط والقواعد الشرعية. ولا شك أن رحلات الإفريقيين إلى الشرق كانت من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الأنماط السلوكية الخاصة بأهل التصوف. فبدأ المتصوفة بعد هذا يتميزون عن الفقهاء، وبدأت تلوح بوادر الصراع بين العلماء المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها وبين الصوفية المبتدعة. فهذا يحيي بن عمر بن يوسف الكندي (ت) 289 ألف كتابًا في النهي عن حضور مسجد السبت، وأفتى بهدمه، وكان يجتمع فيه بعض أهل الزهد والصلاح وتنشد فيه الأشعار (¬2). وهذا ابن أبي زيد- شيخ المالكية- يؤلف كتابين في الرد على أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد البكري (¬3)، الذي ألف كتابًا في الكرامات سماه "كرمات الأولياء المطيعين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان". ويبدو أن أبا القاسم هذا كان في طليعة من أدخلوا آراء الصوفية وقواعدهم المنحرفة إلى إفريقية. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 225. (¬2) ترتيب المدارك 4/ 361، والديباج المذهب ص: 107. (¬3) كتاب العمر 2/ 455.

وهذا أبو الحسن علي بن أبي طالب- المعروف بالعابر- أتى بمسألة غريبة لا تعرف ماهيتها، "لكن يبدو أنها من نوع الدعاوى الصوفية التي ينكرها علماء السنة" (¬1)، فدخل في صراع مع علماء البلد. ولم تكن إفريقية بمنأى عما أحدثه كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي في الغرب الإسلامي (¬2)، بل تفاعلت مع الحدث. ومن أبرز من تصدى للموضوع من أهل إفريقية؛ الإمام المازري الذي ألف كتابًا في الرد على "الإحياء" سماه "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء"، ومما جاء فيه: "ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكًا الإمام يهرب من التحديد ويجانب أن يرسم رسمًا وإن كان فيه أثر ما أو قياس ما، تورعًا وتحفظًا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي-صلى الله عليه وسلم- لفق فيه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله. وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها. وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين. ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ، مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل" (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب العمر 2/ 458. (¬2) لما دخل كتاب الإحياء إلى الغرب الإسلامي كان من بين الأوائل الذين اطلعوا عليه قاضي الجماعة محمد بن علي بن حمد (ت) 508 هـ، فأنكر ما فيه ولم يستصغه، فتدارسه مع العلماء والفقهاء، فاجتمعت كلمتهم على ضرورة إتلاف هذا الكتاب والتصدي لشبهاته والتحصن من ضلالاته، فرفعوا أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فوافقهم على ذلك وأصدر أمراً بمصادرة الكتاب وإحراقه وأمر بتفتيش المكتبات الخاصة والعامة وأن يحلف من يشك في أمره بالأيمان المغلظة بأنهم لا يملكون كتاب الإحياء. انظر البيان المغرب 4/ 59، والحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية 104. (¬3) السير 19/ 330.

ثانيا وضع الفقه

فكان المازري بهذا مسايرًا للتيار العام الرافض لمضمون كتاب "الإحياء". إلا أن هذا لا يعني أنه حصل الإجماع على ذلك، فقد وجد من أهل إفريقية من كان له رأي آخر في هذا الكتاب. ولعل أبرز من يمثل هذا الرأي هو أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي (¬1)، الذي تجاسر وكتب لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتابًا في ذلك، وأفتى بأن الأيمان التي فرضت في عملية التفتيش أيمان لا تلزم. وقال: وددت أنني لم انظر في عمري سوى كتاب الإحياء (¬2). بعد هذا أرى أنه قد آن الأوان للحديث عن الوضع الفقهي في إفريقية. ثانيًا وضع الفقه: لقد كان المذهب المالكي في إفريقية في عصر ابن بشير هو المهيمن على الساحة الفقهية، والمسيطر عليها، وصاحب السيادة المطلقة فيها. ولم يكن ينازعه في ذلك أي مذهب من المذاهب. لكن قبل أن يصل إلى هذه المكانة مر بمراحل مختلفة وعصفت به أزمات متنوعة، استطاع أن يصمد في وجهها. فما هي إذن هذه المراحل؟ وما هي هذه الأزمات التي مر بها؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذا المبحث. لقد كان المذهب الحنفي هو الأسبق إلى إفريقية من غيره، فكان هو السائد بها والغالب عليها. يقول القاضي عياض: "وأما إفريقية وما وراءها من المغرب فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد، وابن أشرس، والبهلول بن راشد، وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس .. " (¬3). ¬

_ (¬1) كان مولده يتوزر في حدود 433 هـ، ورحل إلى القيروان ثم سفاقس فأخذ عنه أبو الحسن اللخمي والمازري. رحل إلى المغرب ودخل سجلماسة فتصدى للتدريس فطرده أهلها بدعوى إدخاله علومًا لا يعرفونها. توفي سنة 513، نيل الابتهاج 383 والعمر 2/ 464. (¬2) كتاب العمر 2/ 465. (¬3) ترتيب المدارك: 1/ 25.

فقد دخل المذهب المالكي إلى إفريقية في حياة الإمام نفسه، إذ كان يرد عليه أبناء المنطقة ينهلون من علمه ويرجعون إلى بلدهم لبثه فيها. وقد ورد عليها أكثر من ثلاثين رجلًا, كل منهم سمع منه. يقول الخشني: "كانت إفريقية قبل رحلة سحنون قد غمرها مذهب مالك بن أنس لأنه رحل منها أكثر من ثلاثين رجلًا كلهم لقي مالكًا وسمع منه. وإن كان الفقه والفتيا في قليهل منهم" (¬1). ومن أشهر من وفد على الإمام مالك من أهل المنطقة أبو الحسن علي بن زياد الذي كشف له مالك عن أصول مذهبه (¬2). فلما رجع فسر لهم قول مالك، ولم يكونوا يعرفونه. ومن الوافدين على الإمام مالك كذلك: البهلول بن راشد القيرواني وعبد الله بن غانم الذي كان يجله الإمام مالك ويقعده إلى جنبه، بل عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقيم عنده، فامتنع من المقام، وقال له: إن أخرجتها إلى القيروان تزوجتها (¬3). وعبد الرحمن بن أشرس (¬4) وغيرهم. فدخل هؤلاء الصفوة بآراء مالك وفقهه إلى إفريقية، التي كانت تعج بآراء الأئمة الآخرين. فمذهب أبي حنيفة قد تبناه العباسيون والمنطقة تابعة لهم. كما عرفت المنطقة كذلك آراء كل من سفيان الثوري، والليث بن سعد (¬5)، وسفيان بن عينية (¬6)، والشافعي وغيرهم. ورغم هذا الحضور المكثف للمذاهب المختلفة بإفريقية إلا أن الغلبة كانت للمذهب المالكي والمذهب الحنفي الذي كان المذهب الرسمي للأغالبة، فالتقى المذهبان في مجالس الدرس يتنازعان الظهور والغلبة، وكان النقاش بينهم هادئًا نوعًا ما، بل كان من العلماء من ¬

_ (¬1) تراجم أغلبية ص:93. (¬2) ترتبب المدارك 3/ 81 (¬3) الترتيب 3/ 66. (¬4) الترتيب 4/ 86. (¬5) من الذين أدخلوا آراء سفيان الثوري والليث بن سعد البهلول بن راشد وعلي بن زياد. ترتيب المدارك 3/ 80. (¬6) وقد أدخل آراء سفيان بن عينية عبد الله بن حسان. ترتيب المدارك 3/ 310.

يدرس المذهبين معًا، فأسد بن الفرات كان يتكلم في كتب أبي حنيفة. وكان الطلاب يقولون له: أوقد القنديل الثاني يا أبا عبد الله فيتكلم في المذهب المالكي (¬1)، وابن غانم كان يدرس مذهب أبي حنيفة كل يوم جمعة (¬2). ثم جاء بعد هؤلاء إمام عظيم كان له دور بارز في تثبيت مذهب الإمام مالك ونصرته في إفريقية، أعني الإمام عبد السلام بن سعيد التنوخي المعروف بسحنون، الذي كان عهده فتحًا جديدًا للمذهب المالكي. فصار هو الظاهر والغالب بسبب هذا العالم الذي انتهت إليه رئاسة العلم بإفريقية في عهده. فكثر تلاميذه، حتى بلغ مشاهيرهم نحو سبعمائة (¬3) كلهم يحفظ ويلم بمدونته المشهورة. قال محمد بن حارث: "ثم قدم سحنون بذلك المذهب واجتمع له مع ذلك فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض، فبارك الله فيه للمسلمين فمالت إليه الوجوه وأحبته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدأ، قد أمحى ما قبله فكان أصحابه سرج أهل القيروان" (¬4). ولعل ما ساعده على ذلك توليه لمهمة القضاء التي نجح فيها. فكانت هذه الولاية مساعدة له في ترسيخ مذهب مالك. ولم تكن هي السبب الرئيس كما زعم ابن حزم حيث قال عند حديثه عن دور يحيى بن يحيى في نشر المذهب المالكي في الأندلس وجعل منصب القضاء حكرًا على المالكية بالأندلس فقال: "وكذلك جرى الأمر في إفريقية لما ولي القضاء سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر" (¬5). ثم جاء بعد سحنون تلاميذه الذين يتمز عصرهم بالصراع العلمي الحاد ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 3/ 302. (¬2) المصدر السابق 3/ 67. (¬3) تطور المذهب المالكي ص 48. (¬4) الترتيب 4/ 51. (¬5) المغرب 1/ 164.

وكثرة الجدل والمناظرات والردود، حتى أصبح الأمر يستدعي وضع قوانين وقواعد للحوار والمناظرة. فظهر كتاب ابن سحنون "أدب الجدل" (¬1)، استجابة لهذه الضرورة وملئًا لذلك الفراغ. وقد اختلفت نظرة العلماء لهذه الظاهرة؛ فالحجوي اعتبر ذلك بلاءً، وقال في حديثه عن ابن سحنون: "ألف في فنون كثيرة كالحديث والفقه والتاريخ وأدب المناظرة والخلافيات التي ابتلي بها ذلك العصر" (¬2). ومهما يكن من أمر فإن المسألة لها ارتباط بظروف المذاهب الناشئة التي تجادل وتناظر من أجل الحفاظ على نفسها، إذ السمة البارزة لهذا العصر هي احتدام الصراع بين المذاهب، فكان لا بد للمالكية من نظار ينافحون ويذبون عن مذهبهم في خضم هذا النزاع المذهبي. وكان من أشهر المناظرين محمد بن سحنون الذي يبدو أنه كان يهيأ من صغره لهذه المهمة، فقد أخذ مواد الخلاف العالي عن كبار العلماء، وكان يناظر أباه (¬3). فحرص هذا الأخير على تخريجه مناظرًا ألمعيًا. فلم يبخل عليه بالتوجيه والتسديد. ومن جملة ما وجه له في هذا الشأن قوله: "يا بني إنك ترد على أهل العراق، ولهم لطافة أذهان وألسنة حداد. فإياك أن يسبقك قلمك لما تعتذر منه" (¬4). وقد جر له هذا المسلك الذي سلكه خصومات وعداوات خاصة مع سليمان بن عمران الحنفي الذي ناصبه العداء بسبب كثرة ردوده على الأحناف (¬5). ¬

_ (¬1) لقد اعتبر الحجوي ابن سحنون أول من ألف في علم الجدل والمناظرة ثم بعده القفال الشاشي من الشافعية. الفكر السامي3/ 99 و 129. (¬2) الفكر السامي 3/ 99. (¬3) ترتيب المدارك 4/ 205. (¬4) رياض النفوس 1/ 443 وترتيب المدارك 4/ 208. (¬5) ترتيب المدارك 4/ 217.

ومن الفقهاء البارزين في هذه المرحلة كذلك تلميذ ابن سحنون عبد الله بن طالب الذي كان مولعًا بالمناظرة الفقهية، وجعلها تقليدًا راسخًا. قال ابن حارث: "كان ابن طالب لقنًا (¬1) فطنًا، جيد النظر، يتكلم في الفقه فيحسن. حريصًا على المناظرة. ويجمع في مجلسه بين المختلفين في الفقه، يغري بينهم لتظهر الفائدة، ويبيتهم عند نفسه، ويسامرهم، فإذا تكلم أجاد وأبان حتى يود السامع ألا يسكت" (¬2). ولعل هذا النمط من السلوك -أعني الولوع بالمناظرة-، لم يكن هو المسيطر على الساحة العلمية؛ فقد وجد من كان ينفر منه ويأبى الدخول فيه. فهذا يحيي بن عمر الكندي، لم يكن ينتحي الجدل والمناظرة على سعة علمه، قال القاضي عياض: "كان لا يفتح على نفسه باب المناظرة، وإذا ألحف عليه سائل أو أتاه بالمسائل العويصة، ربما طرده" (¬3). وكذلك ابن اللباد الذي كانت مناظرته تعسر كما يقول عياض (¬4). هكذا كانت هذه المرحلة غزيرة الإنتاج كثيرة الجدل والمناظرة. إلا أن هذا الجدل وإن اتسم بنوع من الحدة، فإنه لم يخرج في الغالب الأعم عن إطار الآداب والأخلاق العلمية، إذا استثنينا بعض التصرفات الطائشة من بعض الأحناف (¬5)، كما هو الشأن بالنسبة لابن عبدون القاضي الذي "ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح من أصحاب سحنون بالسياط وطيف بهم على الجمال بغضًا منه في مذهب مالك وفي أصحابه، منهم أحمد بن معتب وأبو إسحاق بن المضاء وأبو زيد المديني والحسن ابن مفرج مولى مهرية، فمات ¬

_ (¬1) لَقِنًا، أي: فَهِمًا. راجع لسان العرب مادة (لقن). (¬2) ترتيب المدارك 4/ 309 وأخبار علماء إفريقية ص 257. (¬3) ترتيب المدارك 4/ 358. (¬4) المصدر السابق. (¬5) لم يكن الشافعية بمنأى عن الصراع الذي كان يدور في المنطقة إلا أن موقف المالكية منهم كان أقل حدة على اعتبار أن المذهب الشافعي وليد المذهب المالكي وإن كان مخالفًا له وخارجًا عليه، وهذا ما حمل كثيرًا من المالكية على كتابة ردود كثيرة على الشافعية. انظر تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ص 286.

ابن المديني وأبو إسحاق بن المضاء على الحال وهما على الجمال، وكان ابن عبدون حنفيًا رجل سوء" (¬1). وإن كان بعض المالكية أيضًا يسلكون هذا النوع من التصرف، إلا أنه لم يصل إلى هذه الحدة. فهذا يحيي بن عمر السالف الذكر، وقد كان "شجا على العراقيين" (¬2) أقصى ما فعله قوله في إحدى مجالسه، وقد حضر رجل من أهل العراق: "من كان هنا من أهل العراق فليقم عنا" (¬3). هكذا كان وضع المالكية مع الأحناف وغيرهم من المذاهب السنية، لكن بعد قيام دولة للشيعة العبيديين في المنطقة سنة 297 هـ تغير وضع المذهب المالكي؛ إذ دخل في مواجهة شاملة مع العبيديين لا تقتصر على الفروع بل تتعداها إلى أركان الأصول، إذ كثير من المالكية كانوا يرون كفر بني عبيد (¬4). ومما زاد وضع المالكية تعقيدًا مع العبيديين كونهم لا يؤمنون بالحوار ولا بالنقاش ولا بالمناظرة، بل يؤمنون فقط بالبطش والقهر. فهذا المزدي قاضي العبيديين جمع الفقهاء للمناظرة فاستجابوا له فقال: "إني أمرت أن أناظركم في قيام رمضان، فإن وجبت لكم حجة رجعنا إليكم، وإن وجبت لنا رجعتم إلينا. قال ابن الحداد: فقلت له: ما تحتاج إلى المناظرة، فقال لي لا بدّ منها. فقلت له: شأنك وما تريد. فقال: ألستم تعلمون وتروون أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يقم إلا ليلة ثم قطع، وأن عمر بن الخطاب هو الذي استن القيام، وقد جاء في الحديث الذي تروونه ونرويه أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار؟ فقلت له: هذه البدعة من البدع التي يرضاها الله عز وجل، ويذم من تركها. فقال: وأين تجد ذلك في كتاب الله عز وجل؟ فقلت له: في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ¬

_ (¬1) معالم الإيمان: 116 وما بعدها. (¬2) ترتيب المدارك 4/ 363. (¬3) يقصد بأهل العراق الأحناف. (¬4) ترتيب المدارك 4/ 363.

قال: وأين؟ قلت له: قال الله عز وجل: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها. فنحن نثابر على هذه البدعة التي هي رهبانية، لئلا يذمنا الله عز وجل كما ذمهم. فقال: من صلى القيام ضربت عنقه، قال: فقلت له: قد قلت لك هذا أولًا، ما تحتاج إلى المناظرة، فلم تقبل" (¬1). فضرب علماء المالكية وهون بهم وقتل خيارهم كابن الهذيل (¬2) وإبراهيم بن البرذون (¬3)، قال عياض: وغلظ الأمر على المالكية من هذا الحيز ومنعوا من التحليق والفتيا، فكان من يأخذ منهم ويتذاكر معهم إنما يكون سرًا وعلى حال خوف ورقبة (¬4). فاعتبر المالكية أنفسهم مسجونين فقد كان جبلة بن حمود الصدفي لا يحضر الجمعة ويصليها ظهرًا أربعًا فسأله بعض المالكية كيف جاز لك أن تصلي أربعًا والجامع يجمع؟ فقال: ألم يمر بك قول مالك في المسجونين أنهم يجمعون في السجن لأنهم منعوا من الجمعة؟ ونحن منعنا من الجمعة فأقمنا أنفسنا مقام المسجونين (¬5). على أن المالكية لم يستكينوا ولم يخنعوا بل ثبتوا وصمدوا وواجهوا العبيديين بكل ما أوتوا من قوة. فخرجوا مع أبي يزيد بن مخلد بن كيداد الخارجي ضد العبيديين سنة: 383 هـ، وعبؤوا الرأي العام واستنهضوا الهمم والعزائم للجهاد. وكادوا يقضون على العبيديين الذين حوصروا في مدينة المهدية، إلا أن أبا يزيد هذا لما رأى "هزيمة الفاطميين وشيكة الوقوع وتأكد من نهايتهم، دعته نزعته الخارجية إلى التفكير في القضاء على فقهاء المالكية ومن اجتمع إليهم من أهل السنَّة فقال لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا ¬

_ (¬1) رياض النفوس 2/ 60 وما بعدها. (¬2) ترتيب المدارك 5/ 121. (¬3) ترتيب المدارك 5/ 117. (¬4) الترتيب 5/ 121. (¬5) رياض النفوس 2/ 36.

عن علماء القيروان حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فيكونوا هم الذين قتلوهم لا نحن فنستريح منهم، وظن أن قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين سيتيح له فرض مذهبه وبسط سلطانه. لكنه لم يكن يدري أنه وضع نهاية ثورته بخيانته تلك. فبعد أن قتل من صلحاء القيروان وفقهائها من أراد الله سعادته ورزقه الشهادة، غضب من بقي على قيد الحياة وفارقوا أبا يزيد" (¬1). بعد هزيمة أبي يزيد الخارجي ازدادت أحوال المالكية سوءًا مع الفاطميين، واستمروا على ذلك الوضع إلى أن خرج العبيديون إلى مصر سنة 361هـ، وجاء بعدهم خلفاؤهم الصنهاجيون، فخفت حدة التوتر. ولم تزل إلا سنة 433 هـ على يد ابن باديس. وخلال هذه الفترة -أعني النصف الثاني من القرن الرابع إلى النصف الثاني من القرن الخامس- امتاز الدرس الفقهي بالاتجاه نحو التخفيف من التأصيل (¬2) والتقليل من الأدلة والميل إلى جمع فروع المذهب المشتتة في الأمهات مع الاختصار في العبارة، وقد كان رائد هذا الاتجاه أبو محمد بن أبي زيد القيرواني، جامع المذهب وشارح أقواله. فاشتغل من جاء بعده بما كتبه ابن أبي زيد. وقد حاول البراذعي محاكاته في نهجه فألف مختصره، إلا أنه لم يلق قبولا لدى معاصريه. فقد كانوا ساخطين وناقمين عليه لموالاته بني عبيد، إذ كان يقبل هداياهم، وألف كتابًا في تصحيح نسبهم (¬3). وقد حاول البراذعي إقناع أهل القيروان بالانتفاع بعلمه، فجاء بكتابه المختصر إلى الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، فأمر بحرقه أو محوه، وعاوده وأتى به إليه وأنشده: خذ العلوم ولا تعبأ بناقلها ... واقصد بذلك وجه الخالق الباري أصل الرواية كالأشجار مثمرة ... اجن الثمار وخل العود للنار ¬

_ (¬1) الأثر السياسي والحضاري للمالكية في شمال إفريقية. محمد أبو العزم داود ص:204. (¬2) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص 407. (¬3) ترتيب المدارك 7/ 257.

فاضطر البراذعي بعد هذا للخروج إلى صقلية. أما كتابه فقد لقي قبولا لدى الأجيال اللاحقة. كما تأثر علماء هذه المرحلة ببعض كتب الحديث التي دخلت المنطقة؛ وأهمها صحيح البخاري، الذي دخل على يد أبي الحسن القابسي (ت) 403، فانتعش الدرس الحديثي، واشتغل الناس بشرح البخاري والموطأ. إلا أن العصر الذهبي للمذهب المالكي بإفريقية يبدأ عندما أدرك المعز بن باديس أن القضاء على المذهب المالكي أمر بعيد المنال ومتعذر الوقوع، ورأى أن مصلحة الدولة في جمع الشمل والقضاء على القلاقل. ولم يجد أفضل من التخلي عن العبيديين، وتبني المذهب المالكي ذي القاعدة الشعبية العريضة. فارتفع الضغط والتسلط والقهر الذي مورس على المالكية ولم يبق هناك داع ولا مبرر للاشتغال بالجدل والردود والمناظرات، إذ لم يعد هناك وجود معتبر للمذاهب المخالفة. فالأحناف لفظهم المجتمع بسبب تشرقهم ولم يعد لهم مساند سياسي، فخلت الساحة للمالكية فتفرغوا لخدمة فروع مذهبهم وأصوله، فركزوا على رواياته وأقواله وقارنوا بينها وميزوا صحيحها من سقيمها ومشهورها من شاذها. وبعبارة أخرى بدأت عملية الغربلة والتمحيص بعدما انتهت مرحلة الجمع. كما بدأت تظهر بوادر الرجوع إلى التأصيل مرة ثانية، ونشط تعليل الخلاف (¬1) وذكر أسبابه. فنشط بذلك الدرس الفقهي وظهرت طبقة من العلماء تحاول التحرر من التقليد، وتتعامل مع نصوص المذهب بعقلية نقدية وتحاكمه إلى قواعده وأصوله. فقامت ثلة من المالكية في هذه المرحلة بدور كبير وبحركة أحدثت صدى ظاهرًا. عملوا من خلالها على لفت الانتباه إلى منهج السلف، وإلى ضرورة العودة إلى المنهج العلمي الأمثل. فألفوا كتبًا ¬

_ (¬1) ممن اشتهر بذكر سبب الخلاف عبد الحميد الصائغ واللخمي والمازري وابن بشير.

انتهجوا فيها نهج التأصيل والرجوع مباشرة إلى المنابع الأولى: القرآن والحديث في إطار المذهب وفروعه، غير متخلين عن اجتهاداتهم الخاصة. ومن أبرزهم ابن يونس واللخمي والمازري (¬1). يقول الفاضل بن عاشور في نفس الصدد: "وتكون بالإمام اللخمي الإمام أبو عبد الله المازري، فكان مع الحلبة التي عاصرته من الفقهاء الذين نستطيع أن نذكر منهم على سبيل المثال الواضح أربعة: وهم المازري وابن بشير وابن رشد الكبير والقاضي عياض. فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم؛ هي الطريقة النقدية التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي. فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس، أو مشدد على الناس، إلى غير ذلك. وهي الطريقة التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب، ودرج عليها ابن بشير في شرحه عل المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه" (¬2). بعد هذا قد يقول قائل: إن ما قررته يتعارض تمامًا مع ما قاله المازري عندما تحدث عن اشتراط الاجتهاد في القاضي فقال: "وهذه المسائل تكلم عليها العلماء الماضون لما كان العلم في أعصارهم كثيرًا منتشرًا وشغل أكثر أهله بالاستنباط والمناظرة على المذاهب، وأما عصرنا هذا فإنه لا يوجد في الإقليم الواسع العظيم مفت نظار، قد حصل آلة الإجتهاد واستبحر في أصول الفقه ومعرفة اللسان والسنن والاطلاع على ما في القرآن من الأحكام، والاقتدار على تأويل ما يجب تأويله، وبناء ما تعارض بعضه على بعض، وترجيح ظاهر على ظاهر، ومعرفة الأقيسة وحدودها وأنواعها وطرق استخراجها، وترجيح العلل والأقيسة بعضها على ¬

_ (¬1) تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي ص: 435. (¬2) المحاضرات المغربيات للفاضل ابن عاشور ص: 81.

بعض. هذا الأمر زماننا عار منه في إقليم المغرب كله فضلًا عمن يكون قاضيًا على هذه الصفة" (¬1). فالنص صريح الدلالة على خلو إقليم المغرب كله ممن حصَّل آلة الاجتهاد زمن المازري المعاصر لابن بشير، فكيف إذا تصف هذا العصر بأنه عصر اجتهاد وتحرر؟ (¬2). ويمكنني أن أجيب عن هذا بما يلي: أولًا: كلام المازري جاء في سياق الرد على من يشترط الاجتهاد في القاضي، ولم يأت في إطار الحديث عن وجود المجتهدين أو عدم وجودهم. ومعلوم أن السياق قيد، فجاءت العبارات عرضية. وغير خاف أن الكلام الذي يأتي عرضيًا لا يكون دقيقًا في بعض الأحيان, لأنه يؤتى به ليخدم فكرة أخرى. ثانيًا: إذا كان المازري لم ينسب الاجتهاد لنفسه، ولم يدَّعِه -وهو إمام عصره بدون منازع، اتفق الفقهاء على أنه بلغ رتبة الاجتهاد (¬3). ولم يخالف في ذلك أحد، إلا ما روي من تحفظ ابن عرفة. وأنكر عليه العلماء تحفظه هذا أشد الإنكار؛ لأنه أثبت الاجتهاد لابن دقيق العيد وابن عبد السلام الهواري، وهما دون مرتبة المازري (¬4). بل إن ابن دقيق العيد استغرب من عدم ادعاء المازري للاجتهاد فقال: "ما رأيت أعجب من هذا- يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد" (¬5). وأكثر من هذا كون المازري لم يكن يتجرأ على الخروج حتى على المشهور. ولذلك تفسيرات وتأويلات ليس هذا محلها. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام 1/ 18. (¬2) نفس الرأي تبناه محمد بن الحسن الحجوي عندما اعتبر القرن الخاص بداية ظهور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم. الفكر السامي 3/ 163. (¬3) الغنية ص 123 والدبباج 2/ 251. (¬4) المازري الفقيه والمتكلم ص 31. (¬5) الوافي بالوفيات 4/ 151.

أقول: إذا كان المازري على هذه الجلالة والإمامة والمكانة، لم يدع الاجتهاد لنفسه ولم يخرج عن المشهور، فكيف ننتظر منه أن يدعيه لغيره؟ ولم يكن المازري وحيدًا في نسيجه أو حالة فريدة في شريحته، بل هذا شأن كبار العلماء أمثاله، وهم كثر. أذكر منهم الشاطبي؛ المنظر والراسم لمعالم الاجتهاد؛ فقد نفى هو أيضًا عن نفسه الاجتهاد فقال: "ومراعاة الدليل، أو عدم مراعاته ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتيا بالمشهور منها، وليتنا ننجو مع ذلك رأسًا برأس، لا لنا ولا علينا." (¬1). وبهذا يتبين أن كلام المازري جاء متأثرًا بطبيعته ونفسيته الميالة إلى إجلال العلماء المتقدمين والتهيب من اقتحام باب الاجتهاد، الذي من شروطه:- بالاضافة إلى العلم- الشجاعة. وهذا دأب العلماء الراسخين في العلم، المغلبين جانب الورع والتواضع على جانب العجب والغرور، ورغم هذا كله فإن المازري كان يمارس الاجتهاد عمليًا في الجانب التكويني التفقيهي (¬2)، والله أعلم. بقي أن أشير إلى أن علماء هذه المرحلة فرغوا جهودهم في المدونة المصدر الأول للمذهب. وكانوا يسمون الكتب التي تدور في ذلك المدونة شروحا أو تعاليق. قال ابن خلدون: "ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع؛ فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم" (¬3). بعد هذا، أرى أنه آن الأوان للحديث عن حياة ابن بشير، وأرى أن ما سبق ذكره فيه كفاية لفهم الظروف المؤثرة في حياة هذا الإمام. ¬

_ (¬1) المعيار:11/ 103. (¬2) انظر منهج الخلاف والنقد الفقهي عند المازري ص: 210. (¬3) المقدمة ص: 450.

الفصل الثاني: حياة ابن بشير المبحث الأول: حياته الشخصية. المبحث الثاني: عطاؤه العلمي.

الفصل الثاني: حياة ابن بشير

الفصل الثاني: حياة ابن بشير (¬1) قبل أن أتحدث عن حياة ابن بشير لا بد من الإشارة إلى أن هذا الإمام لم يلق من العناية والاهتمام ما يليق بمكانته العلمية ومنزلته الفقهية داخل المذهب، فقد ضن المؤرخون والمترجمون على أن يجودوا بترجمة وافية عنه، والمترجم الرئيس له هو: ابن فرحون (ت) 799 هـ الذي يفصل بينه وبين ابن بشير قرنان ونصف من الزمن، وكل من ترجموا له فمعولهم على ما ذكره ابن فرحون. باستثناء المخطوط المجهول المؤلف الموجود في الخزانة العامة رقم: 928 د، الذي أضاف شيئًا قليلًا جدًا عما ذكره ابن فرحون، وإن كان ينقل عنه أيضًا. وقد بحثت عن أخباره المنيعة المطلب والصعبة المرام في كل ما وصلت إليه يدي من كتب الطبقات والتراجم والفهارس والبرامج والإثبات والمشيخات والمعاجم، ولم أظفر إلا بالنزر اليسير. ولم يكن حظ ابن بشير مع المعاصرين بأسعد من حظه مع المتقدمين. فقد لقي منهم نفس الإهمال الذي لقيه من سابقيهم- في حدود علمي- إذ ¬

_ (¬1) ترجمته في الكتب التالية: الديباج المذهب: 1/ 265، تراجم مالكية لمؤلف مجهول ص 299، شجرة النور الزكية: 126، كتاب العمر: 2/ 693، الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/ 22، معجم المؤلفين: 1/ 48، تراجم المؤلفين التونسيين 1/ 143، موسوعة الفقهاء - طبقات الفقهاء 6/ 7.

المبحث الأول: حياته الشخصية

لم أقف إلى هذه اللحظة على أي كتاب طبع له، ولا على أية دراسة أنجزت حوله، ولا حتى على مقالة كتبت عنه. اللَّهم إلا ما بلغني من أن الدكتور محمد أبا الأجفان يحقق كتابه (المختصر). ولو كان ابن بشير فقيهًا مغمورًا أو ضعيف القول والإنتاج، لما استغربت ذلك. ولكن الرجل من فحول فقهاء المالكية، وقوله يعتد به داخل المذهب، وكل من جاء بعده من الفقهاء ينقل عنه بما يجعل موقف المترجمين منه لغزًا يحتاج إلى تفسير. هذه كلمة لا بد منها لكي يكون القارئ على بينة من الظروف المتحكمة في الترجمة. ... المبحث الأول: حياته الشخصية * المطلب الأول: اسمه ونسبه هو: أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي. هكذا سمته جميع المصادر التي وقفت عليها، باستثناء ما وجدته في أول كتاب الجامع (¬1) من أن كنيته أبو إسحاق وأنه أندلسي. حيث جاء فيه: كتاب الجامع من كتب أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير الأندلسي رضي الله عنه. ولم أقف على شخص بهذا الاسم، فظهر لي- والله أعلم- أن هذا خطأ من الناسخ. وإن جرت عادة كل من تسمى بإبراهيم أن يتكنى بأبي إسحاق. أما نسبته إلى الأندلس فخطأ بين. هذا كل ما نعرفه عن نسبه. وأبوه عبد الصمد غير معروف، وجده ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عنه.

* المطلب الثاني: موطنه

بشير كذلك. أما القبيلة التي انتسب إليها "تنوخ"؛ فهو اسم أطلق على عدة قبائل عربية، اجتمعت في البحرين وتحالفت على التناصر. فسميت تنوخا لتنوخها، أي: إقامتها (¬1). وقد ذكر ابن فرحون ومن تبعه أن ابن بشير كانت بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة. ولم يوضح نوع هذه القرابة. ويبدو أنها قرابة من جهة الأمهات، أو المصاهرة. لأن الأول تنوخي، والآخر لخمي. فامتنع بذلك أن تكون القرابة من جهة الآباء. وبالنسبة لإخوانه فإنا لا نعرف عنهم شيئًا، إلا ما استنتجه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب من احتمال أن يكون أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير (¬2) الشاعر أخًا لإبراهيم. فقال: "ويلوح لي أن الأديب أبا عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي أحد شعراء الأمير علي بن يحيي بن تميم الصنهاجي- هو أخو الفقيه المتقدم. إلا أني لم أقف على من أثبت هذه القرابة، التي حملتني على التفكير فيها وحدة اللقب والنسب" (¬3). * المطلب الثاني: موطنه: بالنسبة لموطنه، فقد جاء في الصفحة الأولى من نسخة (ص) ما يفيد أن ابن بشير من أهل المهدية (¬4). وقد نسبه إليها، كل من محمد مخلوف وحسن حسني عبد الوهاب، ولم ينسبه غيرهما إليها. ولم أقف على معتمدهما في ذلك. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 1/ 360، شذرات الذهب 1/ 286، أبجد العلوم 3/ 73. (¬2) هو أبو عبد الله بن عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي من شعراء علي بن يحيي بن تميم، كان من الفضلاء العلماء الأدباء جمع بين رقة المعنى ومتانة اللفظ وقرب المقصد، توفي في حدود سنة 520، شجرة النور 126، الخريدة 1/ 278 و 3/ 692. (¬3) كتاب العمر 2/ 693. (¬4) انظر وصف نسخة "ص" صفحة: 194 من هذا الكتاب.

كما أن محققي كتاب العمر نَقَلا عن صلة السمط لابن شباط، أن ابن بشير كان يقيم في بجاية (¬1)، وأن أصله من سفاقص- إن ثبتت أخوته لأبي عبد الله الشاعر السالف الذكر-، ولم يذكرا كيف توصلا لهذا الاستنتاج (¬2) .. وهذا كله غير مستبعدة فيمكن أن يكون أصل العائلة من سفاقص ثم انتقلت العائلة إلى المهدية. وانتقل ابن بشير بعد ذلك إلى بجاية. هذا إذا علمنا أن هاتين المدينتين تغري العلماء بالإقامة فيهما زمن ابن بشير. فالمهدية (¬3) التي بناها عبيد الله المهدي سنة 304 هـ ليحتمي بها العبيديون من غارة أعدائهم (¬4)، كانت هي الملاذ الآمن للصنهاجيين بعد اجتياح الأعراب لإفريقية سنة 444 هـ. فقد انتقل إليها المعز بن باديس وجعلها قاعدة لملكه، فنشطت فيها الحركة وازدهرت التجارة والعلوم. أما بجاية فقد اتخذها بنو حماد سنة 457 هـ مقرًا لهم لما عجزت قلعتهم عن حمايتهم من الزحفة الهلالية. وكانت عبارة عن ميناء صغير به دور قليلة وحقيرة، فأعاد بنو حماد بناءها وحصنوها وجعلوها قاعدة لملكهم. فازدهرت فيها الحياة العلمية "فكان القضاة وأهل الفتوى ومدرسو العلوم ينتقلون بحكم الارتباط السياسي والإداري بين تونس وبجاية، وذلك ما سمح لوشائج العلم وأوابد الفكر أن تروج مرددة الأصداء بين جامع ¬

_ (¬1) هامش 5 ص 674. (¬2) هامش 5 ص 2/ 674. (¬3) لقد كان علماء أهل السنَّة يسمون هذه المدينة بالمردية مناقضة لاسمها الذي سماها به بنو عبيد إذ كانت عش كفرهم ودار ضلالهم، قال عياض ووجدت أبا عمران الفقيه يحكي عنها بالمهدومة تطيراً لها ترتيب المدارك 5/ 300، قلت لقد أصبحت هذه المدينة من بعد النصف الثاني في القرن الخامس دار لأهل السنَّة ومثلها مثل الأزهر الذي بناه العبيديون لنشر التشيع فأصبح بفضل الله مركزًا لنشر الفكر السني. (¬4) تاريخ المغرب الكبير 2/ 604.

*المطلب الثالث: طلبه للعلم

الزيتونة بتونس، والجامع الأعظم ببجاية. فنفقت في بجاية زهرة العلم بسبب ذلك" (¬1). فما إن أطل عليها القرن السابع حتى أصبحت تعج بالعلماء. وفيهم من يحفظ كتاب التنبيه لابن بشير. وقد سجل كل هذا أبو العباس الغبريني في كتابه "عنوان الدراية في من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية". كما أني لا استبعد دخول ابن بشير الأندلس طلبًا للعلم فقد أخذ عن علماء أهل الأندلس كما سيأتي. * المطلب الثالث: طلبه للعلم لم يبلغنا شيء عن طريقة ابن بشير في طلبه للعلم، ولا متى بدأ ذلك. ولكنه في الغالب لن يخرج عن الطريقة المألوفة والمعهودة عند المالكية في إفريقية والأندلس. وقد تحدث عن هذه الطريقة بعض العلماء منهم ابن خلدون (¬2). وقد جرت العادة أن يتخذ المالكية الكتاتيب لتعليم الأطفال الصغار، ولا يدخلون إلى المساجد تنزيهًا لها عن عبث الأطفال، وتمشيًا مع رأي مالك الفقهي الذي لا يرى دخول الأطفال للمساجد؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة. ولم تنصب المسجد للتعليم (¬3). وقد صور ابن خلدون طريقة أهل إفريقية في تعليم الولدان فقال: "وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها. إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه. وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس؛ لأنّ سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس" (¬4). ¬

_ (¬1) ومضات فكر ص 347. (¬2) المقدمة 740. (¬3) تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شلمي ص 53. (¬4) المقدمة 741.

* المطلب الرابع: أخلاقه

فإذا ناهز الطفل الحلم، وتمكن من تلك العلوم الأولية، حق له بعد ذلك أن ينتظم في حلقات الشيوخ بالمساجد (¬1). وأظن أن ابن بشير قد يكون مر بهذه الطريقة التي مر بها غيره من العلماء. * المطلب الرابع: أخلاقه كذلك لم يبلغنا شيء عن صفاته وأخلاقه وسلوكه في الحياة وطريقة تعامله مع الناس ومكانته في المجتمع، باستثناء تلك العبارة الوجيزة التي قالها ابن فرحون من أنه كان "جليلًا فاضلًا". ورغم وجازة هذه العبارة، فإنها تدل على أنه كان نبيلًا ذا قدر عظيم ودرجة رفيعة. إلا أنني وقفت على ما يمكنني أن أستشف منه أنه كان حسن السمت، عليه وقار العلماء، حافظًا لمروءته. فقد جاء في باب الرد بالعيب من كتاب البيوع ما يلي: "مسألة جرت فيها المناظرة بين بعض الفقهاء ببلد إفريقية، وهي الدار إذا عرفت بنزول الأجناد فباعها البائع ولم يبين، فهل يكون للمشتري الرد بذلك؟ فذهب بعض من حضر إلى أنه لا يكون له عيب فإنه يزول وليس بالعيب الذي يوجب الرد وهو عند الناس مستقل، فإنهم يسكنون معهم حتى يمضي. ومازال الأمير ينزل بجنوده في دور البصرة وبغداد ومصر [وغيرهم من البلاد حتى يمضي، ولو كان ذلك عيبًا لما كان الأمراء الأولون يفعلون ذلك، ولو كان الدار المعتاد الضيوف في نزولها عيبًا أيضًا، وقال له من حضر الفرق بين ما نحن فيه مسألة الضيف]. وما ذهب إليه من سير الأولين أن مسألة الضيف ينزل برضى أصحاب المنزل على سبيل الشهرة، والرحمة التي أمر بها الشرع حيث قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما زاد فهو صدقة ولا يحل له أن يجلس عنده ¬

_ (¬1) انظر الأثر السياسي والحضاري للمالكية في شمال أفريقية لمحمد أبو العزم ص 422 وما يليها.

حتى يحرجه (¬1). وما نحن فيه من المسألة إنما ينزل الجند على وجه التعدي من غير أن يختار ذلك أهل المنزل، فهو أشبه بالذي يقال له عيب أو هو بعينه. وذلك عيب، لا يخفى أنه ينقص من ثمنها، وتقل الرغبة في طلبها. وما قلته من سيرة الأولين فلم يذكر عن ابن الخطاب رضي الله عنه مع كثرة دورانه في خطة الشام والعراق وغيرها، أنه كان يكثر الدوران وينزل الأجناد في دور الناس بغير إذنهم وهذا لا يليق به وبأمثاله فإن كنت تستدل بمثل فعل الحجاج بن يوسف أو غيره من الأمراء الظلمة فلا حجة في فعله. ولما وقع السؤال في نقل المسألة وطلبت في عينها، قلت لهم- عند سكوتهم واعترافهم- بأن النقل لم يقف عليه واحد منهم. قيل لي: عندك أنت النقل؟ قلت: نعم. قلت لهم المسألة عن مالك أنها إذا كانت ضيعة نقيلة (¬2) الخراج، وكانت معتادة في نزول الأجناد، فإن ذلك كله عيب ترد به" (¬3). والذي يعنينا في هذا النص هو قوله: "ولما وقع السؤال في نقل المسألة وطلبت في عينها قلت لهم- عند سكوتهم واعترافهم- بأن النقل لم يقف عليه واحد منهم". فمن خلال هذا النص يتبين أن ابن بشير كان حاضرا أثناء النقاش والمناظرة. ولم يتدخل رغم أنه كان عنده علم في عين المسألة لم يكن عند المتناظرين. ثم تدخل في الأخير بعدما طلب منه التدخل، وبعد سكوت المتناظرين. وهذه صفات أهل الوقار والمروءة والسمت الحسن، فهم لا يتكلمون ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الأدب (6135) واللفظ له، ومسلم في اللقطة (48) عَنْ أَبِي شُرَيْح الْكَعْبِيَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَليُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَته يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّام فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ". حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ مِثْلَهُ وَزَادَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". (¬2) هكذا في المخطوطة. وهي غير واضحة المعنى. (¬3) كتاب التنبيه، نسخة [ل] ص: 142.

* المطلب الخامس: شيوخه

إلا إذا سكت الآخرون واستمع لكلامهم. ولا يتكلمون إلا بعد الطلب ليكون لكلامهم قيمة ووقع في آذان المتلقين. ويتجنبون مواطن التشاغب ورفع الأصوات والمراء، الذي يقصد به الغلبة والإفحام. ولو لم يكن ابن بشير من هذا الصنف، لوجدناه تدخل من بداية الأمر، وخاض مع المتناظرين؛ إظهارا للفضل والشرف، واستمالة لوجوه الناس. * المطلب الخامس: شيوخه لقد عاش ابن بشير في زمن كانت إفريقية تعج فيه بالعلماء. ولا شك أنه أخذ عن عدد كبير منهم فأثروا في تكوين شخصيته العلمية، إلا أن كتب التراجم لم تحتفظ لنا إلا بعدد قليل منهم. بل إن مترجمه الرئيس ابن فرحون لم يذكر له أي شيخ ولا تلميذ. كما ساهم ابن بشير نفسه في ذلك. فقد كان ضنينا ومتكتما على شيوخه فكثيرًا ما يردد قال بعض أشياخي ولا يسميهم وهذان مثالان على ذلك. المثال الأول: "وقد استقرأه بعض أشياخي من المدونة." (¬1). المثال الثاني: "لكن هذه المسألة نزلت قديمًا فطال بحثنا عن روايات المذهب فيها، وخالفني بعض أشياخي، ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة." (¬2). ومما وصلنا ممن قيل إنهم شيوخه: السيوري واللخمي وابن رشد وابن عتاب والمازري. ولنتحدث عن كل واحد منهم، ولننظر هل ثبتت مشيخته لابن بشير أم لا؟ ¬

_ (¬1) انظر ص: 491 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 490 من هذا الكتاب.

1 - السيوري

1 - السيوري: هو: أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث السيوري. من تلاميذ أبي عمران الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وطبقتهم. قرأ الكلام والأصول على الأذري. قال عياض: "آخر طبقته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان، وذو الشأن البعيد في الحفظ والقيام بالمذهب، والمعرفة بخلاف العلماء، وكان زاهدًا فاضلًا دينًا نظارًا، وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ دواوين المذهب الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف، حتى إنه كان يذكر له القول لبعض العلماء، فيقول: أين وقع هذا؟ ليس هو في كتاب كذا ولا كتاب كذا. ويعدد الدواوين المستعملة من كتب المذهب والمخالفين والجامعين، فكان في ذلك آية، وكان نظارًا. ويقال إنه مال أخيرًا إلى مذهب الشافعي" (¬1). توفي رحمه الله سنة 460 هـ. وقد أثبت مشيخة السيوري لابن بشير محمد مخلوف فقال: "أخذ عن الإمام السيوري وغيره (¬2) ". وأثبتها كذلك حسن حسني عبد الوهاب فقال: "إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي أبو الطاهر من تلاميذ السيوري" (¬3). إلا أن محققي كتاب العمر شككا في ذلك. فقالا: شيخه الوحيد الذي أمكننا معرفته حسب رواية الديباج (¬4). ولكن وقائع التاريخ تستبعده- إذا كان المقصود أبا القاسم عبد الخالق السيوري-؛ لأن هذا الأخير توفي سنة 463 هـ بينما ابن بشير عاش إلى ما بعد 573 كما يتضح فيما يأتي بعد. ثم قالا في الهامش 4: جاء في صلة السمط 4/ 103 ظ أن أبا الطاهر ابن بشير كان يقيم في بجاية. وكان أبو الحسن علي بن أبي بكر عبد الله التقيوسي من ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 8/ 65. (¬2) شجرة النور 126. (¬3) كتاب العمر 2/ 693. (¬4) بل حسب رواية شجرة النور، أما الديباج فلم يذكر له أي شيخ.

المعدودين في أصحابه. فتوفي أبو الحسن التقيوسي فصلى عليه أبو الطاهر. ولم يذكر ابن الشباط تاريخ وفاته، ولكنه نقل ذلك عن كتاب أبي عمرو بن حجاج التوزري ولم يسمه. والذي نعلم- من جهة أخرى- أنه ألفه بعد رحلته إلى المشرق ولقاء السلفي سنة 573 هـ، وبهذا يتأكد أن أبا الطاهر بن بشير عاش بعد سنة 573 هـ" (¬1). فارتكز المحققان في تشكيكهما في ذلك على أن ابن الشباط نقل هذه المعلومة من كتاب التوزري الذي لم يؤلف إلا بعد لقاء التوزري مع السلفي في المشرق سنة 573 هـ. ولم يوضحا كيف توصلا لذلك. والحق أن ما ذكره المحققان لا يمكننا أن نقطع بصحته لأن ابن الشباط ما دام لم يصرح بمصدره، فمن المحتمل أن يكون أخذ المعلومة من مصدر آخر، أو سمعها من التوزري مشافهة قبل تأليف الكتاب. وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. كما أننا لا نجزم في نفس الوقت بثبوت مشيخة السيوري لابن بشير، لأننا لم نعثر في الكتاب على ما يوحي بذلك، بل نجد ما يدلّ على عكسه. وقد تتبعت المواطن التي ذكر فيها السيوري فوجدته يشير إليه مرة بقوله: قال "أبو القاسم السيوري"، أو "الشيخ أبو القاسم السيوري"، أو "الشيخ أبو القاسم السيوري رحمه الله" (¬2). ولو كان شيخه لقال: (قال شيخي) كما جرت العادة بذلك. بل إن هناك ما يدل بوضوح على أنه ليس شيخًا له، فقد ذكر مرة رأي السيوري، وذكر أن بعض أشياخ ابن بشير رد عليه. ولو كان السيوري شيخًا لابن بشير لصرح بذلك في هذا الموطن؛ لأن السياق يقتضيه. قال ابن بشير: "والمعروف من المذهب أن حكم المرأة الحامل بعد الستة أشهر حكم المريض. ويعرف فيها قول ثان؛ أن حكمها حكم الصحيح. ولا أذكر الآن موضعه، وهو مذهب الشافعي. وهذا الذي كان يعتمد عليه أبو القاسم ¬

_ (¬1) كتاب العمر 2/ 694. (¬2) انظر ص: 319 من هذا الكتاب.

2 - اللخمي

السيوري بناء على أن الغالب السلامة. وقد ألزمه بعض أشياخي أن يحكم لها بحكم الصحيح، وإن كانت في الطلاق" (¬1). وهكذا نرى أن المسألة لا زالت غامضة. 2 - اللخمي: هو: علي بن محمد الربعي أبو الحسن اللخمي. كان إمامًا فاضلًا دينًا متفننًا، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه جيد الفهم، كان فقيه وقته، وأبعد الناس صيتًا في بلده. بقي بعد أصحابه فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة. وتفقه به جماعة من السفاقسيين وغيرهم. "أخذ عنه أبو عبد الله المازري .. وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب، واستقراء الأقوال. وربما تبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب .. " (¬2). ويعد كتابه التبصرة من أوائل المصادر المالكية الموجودة التي تحدثت عن أسباب الخلاف، على الرغم من أنه اقتصر على الخلاف داخل المذهب. توفي رحمه الله سنة: 478 هـ وقد نص على مشيخة اللخمي لابن بشير محمد مخلوف فقال: "بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة، وتفقه عليه في كثير من المسائل ورد عليه اختياراته" (¬3). ويلوح لي أن هذا سبق قلم من المؤلف، فقد اعتمد على ابن فرحون وتحرفت عنده بعض ألفاظه. فعبارة ابن فرحون كالتالي: "وكان بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة وتعقبه في كثير من المسائل ورد عليه اختياراته" (¬4) فعبارة مخلوف هي نفس عبارة ابن فرحون إلا أن الأول استبدل كلمة "تعقبه" بعبارة "تفقه عليه". ومما يؤكد وهم محمد مخلوف أن عبارة ابن ¬

_ (¬1) التنبيه نسخة (ت) ص 266. (¬2) ترتيب المدارك 8/ 109. (¬3) شجرة النور 126. (¬4) الديباج 1/ 265.

3 - ابن عتاب

فرحون، وجدت منقولة دون تحريف في كتاب طبقات المالكية المجهول المؤلف. ومن حيث المعنى فإن رد الاختيارات، يكون بالتعقب وليس بالتفقه. فعبارة "ورد عليه اختياراته" تناسبها "وتعقبه". أضف إلى هذا أنه على كثرة تردد اسم اللخمي في كتاب التنبيه لم أجد فيه ما يدل على ثبوت مشيخة اللخمي لابن بشير، بل وجدت ما يمكن أن يستنتج منه عكس ذلك. فقد ذكر اللخمي في سياق يقتضي أن ينص على مشيخته له، ولكنه لم يفعل. والنص هو التالي: "لكن هذه المسألة نزلت قديمًا فطال بحثنا عن روايات المذهب فيها، وخالفني بعض أشياخي، ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة" (¬1). فنلاحظ أنه نص على أن المخالف شيخ له، ولم يفعل ذلك مع اللخمي. ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير متأثر بمنهج اللخمي النقدي وسيأتي الحديث عنه. 3 - ابن عتاب: هو: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب آخر الشيوخ الأجلة الأكابر في علو الإسناد وسعة الرواية بالأندلس، روى عن أبيه وتفقه عليه كان عالمًا بالقراءات والتفسير وغريبه. شوور في الأحكام بقية عمره. وكانت الرحلة في وقته إليه، ومدار أصحاب الحديث عليه (ت) سنة 520 هـ (¬2). وقد نص على مشيخة ابن عتاب لابن بشير المؤلف المجهول صاحب طبقات المالكية، فقال: "أخذ عن القاضي أبي الوليد بن رشد، وسمع من أبي محمد بن عتاب" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص: 490 من هذا الكتاب. (¬2) ترتيب المدارك ص 150. (¬3) تراجم مالكية لمؤلف مجهول 298.

4 - ابن رشد

وقد وجدت في التنبيه ما يدل على سماع ابن بشير من ابن عتاب، فقد جاء في كتاب البيوع ما يلي: "وكان بعض الشيوخ فيما أخبرنا به الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد" (¬1). فالعبارة صريحة الدلالة على سماع ابن بشير من ابن عتاب. 4 - ابن رشد: هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد. يعرف بابن رشد الفقيه أو الجد تمييزًا له عن ابن رشد الحفيد الفيلسوف. أحد كبار علماء المالكية. يعد شيخ مسائل المذهب وفروعه بعد ابن أبي زيد القيرواني. وصف بأنه؛ العالم المحقق، المعترف له بصحة النظر وجودة التأليف، زعيم الفقهاء، إليه المرجع في حل المشكلات، متفننًا في العلوم، بصيرًا بالأصول والفروع. وكان له دراية بالعقائد والأصول. وقد اشتغل ابن رشد في حياته بوظائف متعددة منها القضاء والإفتاء والتدريس والتأليف والخطابة والإمامة. توفي رحمه الله سنة: 520 هـ. والذي نص على مشيخته لابن بشير صاحب طبقات المالكية المجهول حيث قال: "أخذ عن القاضي أبي الوليد بن رشد". وهذه المشيخة غير مستبعدة لأن ابن بشير نص على أخذه عن ابن عتاب كما سبق وهو بلدي معاصر لابن رشد الجد فلا يبعد أيضًا أخذه عنه. 5 - المازري: هو: الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، المعروف بالإمام. خاتمة العلماء المحققين والأئمة الأعلام المجتهدين الحافظ النظار. كان واسع الباع في العلم والاطلاع، مع ذهن ثاقب ورسوخ تام. بلغ درجة الاجتهاد. وبلغ من العمر نيفًا وثمانين سنة. ولم يفت بغير مشهور مذهب مالك. أخذ عن أبي الحسن اللخمي وعبد الحميد الصائغ وغيرهما. وعنه من لا يعد كثرة. له تآليف تدل على فضله وتبحره في العلوم. كان الشيخ تقي ¬

_ (¬1) كتاب الصلح من كتاب التنبيه ص: 63 نسخة خاصة.

الدين بن دقيق العيد يقول: ما رأيت أعجب من هذا، يعني المازري، لأي شيء ما ادعى الاجتهاد؟ (¬1). وقد توفي رحمه الله سنة 536 هـ (¬2). لم أقف في كتب التراجم على من نص صراحة على مشيخة المازري لابن بشير لكني وجدت إشارات في بعض الكتب تدل على ذلك منها: أولًا: قول ابن شاس: "قال الشيخ أبو الطاهر: والكل مجمعون على مراعاة وجود اللذة وفقدها, لكن عدوًا في الروايات أن فقدها مع ما قيدوه نادر، فلا يراع. وراعاه العراقيون. وقال شيخه الإمام أبو عبد الله: من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد مسه بباطن الكف سهوًا وعمدًا ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه غير معلل" (¬3). ثانيًا: نفس النص الذي ذكره ابن شاس، ذكره تاج الدين الفكهاني في رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام وهو: (قال ابن بشير والكل مجمعون على مراعاة وجود اللذة ... وقال شيخ الإمام أو عبد الله المازري ...) (¬4) النص يدل بوضوح على أن المازري شيخ لابن بشير لأنه قال: "قال أبو الطاهر" ثم قال: "وقال شيخه" فالضمير يعود على أبي الطاهر، فيكون المعنى، وقال شيخ أبي الطاهر. ثالثًا: قول الدسوقي: "ما ذكره المصنف من عدم الإعذار هو قول القاضي ابن بشير أحد تلامذة الإمام وهو غير ابن بشير تلميذ المازري" (¬5). فالقاضي ابن بشير تلميذ الإمام هو: محمد بن سعيد بن بشير المعافري قاضي قرطبة تلميذ الإمام مالك المتوفى بقرطبة سنة 198 هـ (¬6). وابن بشير- ¬

_ (¬1) الرد على من أخلد إلى الأرض ص: 195. (¬2) الديباج 2/ 250. (¬3) عقد الجواهر 1/ 58. (¬4) رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام تحقيق شريفة العمري ص 221 والكتاب مرقون لم يطبع بعد. (¬5) حاشية الدسوقي 4/ 149. (¬6) ترجمته في: نفح الطيب 2/ 143 وشجرة النور الزكية: ص 63.

تلاميذه

تلميذ المازري- هو إمامنا أبو الطاهر. لأنه ليس هناك أحد من فقهاء المالكية ممن تنتهي أسماؤهم بابن بشير معاصر للمازري، ويمكن أن يكون تلميذًا له غير أبي الطاهر. وبهذا يتبين والله أعلم أن ابن بشير أخذ عن المازري. تلاميذه: هذا ما يتعلق بشيوخ ابن بشير. أما الحديث عن تلاميذه فهو أشد غموضًا من الحديث عن شيوخه، إذ لم أعثر له على أي تلميذ مباشر في كتب التراجم والفهارس. وكل ما وقفت عليه هو ما التقطه محققا كتاب العمر من صلة السمط لابن شباط، "من أن أبا الحسن علي بن أبي بكر عبد الله التقيوسي كان من المعدودين في أصحابه، فتوفي أبو الحسن التقيوسي فصلى عليه أبو الطاهر" (¬1). ولم أقف على ترجمة أبي الحسن التقيوسي هذا. ... المبحث الثاني: عطاؤه العلمي * المطلب الأول: مؤلفاته: إن خير ما يصور مكانة ابن بشير العلمية ويوضح بجلاء منزلته الفقهية، هو ما تركه من آثار ومؤلفات. وقبل أن أتحدث عن آثاره ومؤلفاته لابدّ أن أسجل هنا شيئًا مهما وهو أن ابن بشير اشتهر في الساحة الفقهية بمؤلفاته وكتبه ولم يشتهر بتلاميذه ومترجميه. فبكتبه ظهرت قدرته على التأصيل والتفريع وبراعته في المناقشة والاستدلال والتعليل والنقد مع غاية في التدقيق والتمحيص. ويلوح لي في الأفق أن الرجل كان كثير التأليف غزير الإنتاج، ولكن للأسف ضاعت كتبه ولم يصلنا منها إلا النزر اليسير. ومن الكتب التي وصلتنا أو ثبتت نسبتها لابن بشير ولم تصلنا: ¬

_ (¬1) 2/ 694.

1 - كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه،

1 - كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه، وهو أشهر وأعظم كتب المؤلف وسيأتي الحديث عنه. 2 - الأنوار البديعة في أسرار الشريعة: وقد نسبه المؤلف لنفسه في مقدمة كتاب التنبيه فقال: (وسميته "كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه"، وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة") (¬1). ونسبه له ابن فرحون، وصاحب طبقات المالكية المجهول، ومحمد مخلوف، وغيرهم من المترجمين. والكتاب كان متداولًا بين العلماء. فقد كان ينقل عنه الحطاب في مواهب الجليل؛ نقل عنه في مواطن منها قوله: "والكلام فيها طويل، فعليك بكلام ابن بشير في التنبيه، وقابله بنقل ابن يونس فإنهما مختلفان. ووافق ابن بشير في الأنوار (¬2) البديعة ما نقله ابن يونس، واستتبع الكلام في الأنوار" (¬3). وقال في نفس الكتاب ... فعلى الأول فقال ابن بشير وغيره المسألة على ثلاثة أقسام: إن كان الدين عينًا وجب القبول؛ قال في أنواره إلا أن يتفق أن للطالب فائدة في التأخير؛ كما لو حصل في الزمن خوف، أو فيما بين البلدين ... " (¬4). ويظهر أن الكتاب ذو قيمة عالية جدًا, لأن المؤلف صرح بأن من ترقى إلى هذا الكتاب وصل إلى درجة المبرز المجيد. كما أنه من خلال عنوانه يبدو أنه في أسرار ومقاصد الشريعة وعللها. وهذا باب من العلم نفيس جدًا؛ الخائضون فيه قليلون، خاصة زمن ابن بشير. ¬

_ (¬1) انظر ص: 212 من هذا الكتاب. (¬2) في الكتاب الأنواع ولا شك أنه تحريف. (¬3) مواهب الجيل 4/ 533. (¬4) المصدر السابق 4/ 545.

3 - التهذيب على التهذيب

3 - التهذيب على التهذيب: لقد نسب هذا الكتاب لابن بشير ابن فرحون، ومحمد مخلوف، وصاحب طبقات المالكية المجهول. والكتاب كان رائجًا بين العلماء متداولاً بينهم، قاموا بدراسته وتدريسه. أذكر منهم محمد بن عبد الرحمن بن سعيد التميمي التسولي الكرسوطي، من أهل فاس، نزيل مالقة. فقد قام هذا الإمام بتلخيصه (¬1). كما أني وجدت عدة نقول عنه في المعيار، تأكد لي من خلالها أن الجزء الموجود بخزانة القرويين تحت عدد 380، والذي نسبه محققا كتاب العمر لابن بشير. أقول تأكد لي بأنه هو التهذيب. وقبل ذلك كنت أشك في نسبة هذا الجزء لابن بشير, لأن الكتاب مبتور الأول، وليس فيه اسم المؤلف. ولم أظفر بأي شيء داخل الكتاب يدل على أنه لابن بشير. كما أن واضع فهارس خزانة القرويين لم ينسبه له. ومن بين النصوص التي أكدت لي هذه النسبة ما جاء في المعيار المعرب "فقال ابن بشير في كتابه الموسوم بالتهذيب ولا تقام الجمعة في مصر بجامعين، إلا أن يكون كبيرًا جدًا. والظاهر أن المذهب في هذا على ثلاثة أقوال" (¬2). ونفس العبارة موجودة في لوحة 176. والغريب أن محقق كتاب التهذيب للبراذعي لم يشر في دراسته عند حديثه عن الشروح والتعليقات على التهذيب، لم يشر إلى أن ابن بشير هو أيضًا ممن تناولوا هذا الكتاب بالشرح. 4 - التحرير ويسمى أيضًا المختصر: وقد نسبه إليه ابن فرحون، ومحمد مخلوف، والمؤلف المجهول، والنقراوي. قال هذا الأخير في الفواكه الدواني: "قال ابن بشير في ¬

_ (¬1) انظر الديباج ص 309، والدرر الكامنة 5/ 247 ونفح الطيب 6/ 94. (¬2) 1/ 234.

5 - كتاب الجامع

تحريره ... " (¬1). وهو كتاب مختصر في الأحكام الشرعية، يحفظه المبتدئون أتمه سنة 526 هـ، توجد منه نسخة بالمكتبة العاشورية تحت رقم (ق، أ) 190، ونسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم 2/ 37 مجاميع. وقد ذكر بدر الدين القرافي في ترجمة ابن عبد الوارث عبد الرحمن بن عبد الوارث أنه كان يحفظ مختصر ابن بشير في الحديث والفقه (¬2). وقد بلغني أن الأستاذ محمد أبو الأجفان يقوم بتحقيق هذا الكتاب. 5 - كتاب الجامع: وقد نسب هذا الكتاب لابن بشير محمد مخلوف، فقال: "ألف كتاب التنبيه، وذكر فيه أسرار الشريعة. وكتاب جامع الأمهات ... ". ويبدو أن ابن فرحون سبقه القلم فجمع بينه وبين الأنوار البديعة، فقال: "وله كتاب الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة كتاب جامع من الأمهات ... " وقد تبعه في هذا حسن حسني عبد الوهاب. وقد وقفت على قطعة منه تضم بضع ورقات في خزانة تمكروت ضمن مجموع تحت رقم: 2470. وجاء في الصفحة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم) كتاب الجامع من كتاب أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير الأندلسي (¬3) رضي الله عنه. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا ونبينا محمد المصطفى وآله وسلم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الملاعن الثلاث؛ البول في الموارد، وقارعة الطريق، والظل. عشرة من الفطرة؛ قص الأظفار، وغسل البراجيم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وإنتقاص الماء ... 6 - شرح الجلاب: لقد نسب هذا الكتاب لابن بشير المؤلف المجهول صاحب طبقات المالكية. ¬

_ (¬1) 1/ 176. (¬2) انظر توشيح الديباج وحلية الابتهاج ص 149. (¬3) سبق أن نبهت إلى أنه وقع خطأ في كنيته ونسبته إلى الأندلس.

7 - النظائر

ووقفت على ما يؤكد ذلك عند الحطاب في مواهب الجليل. فقد قال: (قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب: قيل له ما يختار من القولين؟ قال: الصوم، قيل له: بناء على استصحاب الحال؟ قال نعم. انتهى) (¬1). ونقل عنه الونشريسي في عدة البروق مرتين الأولى في ص 232 والثانية في ص: 644. 7 - النظائر: هذا الكتاب لم ينسبه لابن بشير إلا القرافي- حسب علمي- فقد نقل عنه نقولًا كثيرة في كتابه الّذخيرة، وبعبارات مختلفة (¬2)، فتارة يقول: "نظائر: قال ابن بشير" ومرة يقول: "قال ابن بشير في نظائره" ومرة يقول: "قال ابن بشير في كتاب النظائر" ومرة يقول: "قال ابن بشير في كتاب النظائر له". وهذه نماذج من ذلك: "نظائر قال ابن بشير: التي لا تتم إلا بالحيازة سبعة عشرة مسألة: الحبس والصدقة والهبة والعمرى والعطية والنحلة والعرية والمنحة والهدية والإسكان والعارية والإرفاق والعدية والإخدام والصلة والحبا والرهن" (¬3). "نظائر قال ابن بشير: الممحوات في الكتاب أربعة: لا يثبت نكاح المريض والمريضة بعد الصحة وولد الأضحية قال حسن أن يذبح معها، قال أبي: لم أره واجبًا، ثم قال: امحوها واترك ذبحه. قال ابن القاسم وأرى عدم الوجوب. والحالف لا يكسو امرأته، ثم افتك لها ثيابها من الرهن. قال: لا يحنث ومن سرق ولا يمين له أو له يمين شلاء، قال: يقطع رجله اليسرى ثم أمر بمحوها. وقال: بل يده اليسرى. وبالأول قال ابن القاسم ... " (¬4). ¬

_ (¬1) 1/ 267. (¬2) انظر 4/ 209، 2/ 135, 12/ 185 , 5/ 118، 5/ 492، 5/ 521، 6/ 8، 6/ 139، 6/ 267، 8/ 101. (¬3) 6/ 258. (¬4) 4/ 209 انظر كذلك 2/ 135، 12/ 185، 5/ 118، 5/ 492، 1/ 525، 6/ 8، 6/ 139، 6/ 267، 8/ 101.

8 - شرح اللمع الشيرازية

8 - شرح اللمع الشيرازية: هذا كتاب لم ينسبه أيضًا أي واحد من المترجمين لابن بشير. وهو في الأصول؛ شرح فيه ابن بشير كتاب اللمع لأبي إسحاق الشيرازي المتوفي سنة 476 هـ. وقد نسبه إليه الونشريسي في جواب له مطول حول الاجتهاد والتقليد فقال: "وبهذا احتج حجة الإسلام أبو حامد لمذهبه وهو مذهب كثير من شيوخ الأصولين في منع تقليد المفضول. ولأجل هذا التجويز الذي أشرنا إليه هنا عن حجة الإسلام لم يتجاسر الشيخ أبو الطاهر بن بشير رحمه الله في شرحه للمع الشيرازية على الجزم والقطع ببناء هذا الخلاف على الخلاف في تصويب كل مجتهد أو واحد كما تجاسر عليه عز الدين، وإنما عبر بلفظ "لعل" المقتضي عدم الجزم، والله تعالى أعلم وأحكم ... " (¬1). 9 - النوازل: وهذا أيضًا لم ينسبه له أي واحد من المترجمين. وقد وقفت عليه منسوبًا لابن بشير في كتاب التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب لأبي المودة خليل بن إسحاق. وفي مواهب الجليل للحطاب قال خليل: "قال ابن بشير في نوازله: والمذهب كله على خلافه ... " (¬2)، وقال كذلك: "قال ابن بشير وغيره المسألة على ثلاثة أقسام: إن كان الدين عينًا وجب قبوله، قال في نوازله إلا أن يتيقن أن للطالب فائدة ... " (¬3). وقال الحطاب: " ... فنص ابن بشير في مسائل الحبس من نوازله ... " (¬4). فهذه النصوص تدل على أن ابن بشير له كتاب يمسى النوازل. ¬

_ (¬1) المعيار 12/ 40. (¬2) التوضيح 1/ 179. (¬3) التوضيح 1/ 252. (¬4) مواهب الجليل 3/ 283.

10 - الأجوبة

10 - الأجوبة: هذا الكتاب نسبه الحطاب لابن بشير، فقال: " ... فعارضني بما قلت لكم وبما قاله الشيخ ابن بشير في ذاك في الأجوبة" (¬1). والحق أني غير متأكد هل هذا كتاب مستقل أم أنه هو النوازل السالف الذكر لأنّ النوازل قد يطلق عليها أجوبة. هذه هي الكتب التي أمكنني الوقوف عليها، وثبتت لدي نسبتها لابن بشير. ويلوح لي أن هناك كتبًا أخرى لم تصلنا ولم نعرف عنها أي شيء، ولعل مزيداً من البحث والتنقيب يكشف لنا ما اندثر من مصنفات هذا الإمام. بقي أن أشير إلى ملاحظة مهمة وهي أن مؤلفات ابن بشير يغلب عليها الطابع الفقهي الأصولي، فالرجل أخلص نفسه للفقه والأصول. وتصح هذه الملاحظة إذا لم تكن له كتب أخرى في فنون علمية لم تصلنا. * المطلب الثاني: مكانة ابن بشير العلمية إن مكانة الفقيه تتضح من خلال جهوده الفقهية ومناقشاته لآراء الآخرين، وعدم قبولها وكأنها من المسلمات. فإذا ترقى الإنسان إلى هذه الدرجة وصارت عنده هذه الملكة، أصبح فقيهًا حقًا وإمامًا صدقًا. وابن بشير رحمه الله لم يسر على هذه الطريقة فحسب، بل كان منظرا لها وراسمًا لمعالمها، ألف في ذلك كتابه هذا الذي بين أيدينا "التنبيه على مبادئ التوجيه"، و"الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة". وسار على هذا النهج الذي ارتضاه لنفسه حتى لفت انتباه العلماء بكثرة آرائه واختياراته وخروجه عن المذهب، هو وأبو الحسن اللخمي فبدؤوا يتدارسون هذه الظاهرة. وهل تعد اختياراتهم قولًا يحكى عن المذهب أم لا؟ وقد سأل أبو العباس الغبريني هذا السؤال الشيخ أبا العباس أحمد بن ¬

_ (¬1) مواهب الجليل 2/ 345.

عثمان القيسي والشيخ أبا القاسم بن زيتون فقال: "سألته رحمه الله (¬1) تعالى عن اختيارات أصحابنا المتأخرين من الفقهاء؛ كاللخمي، وابن بشير، وغيرهما. هل تحكى أقوالًا عن المذهب، فيقال مثلا: في المذهب ثلاثة أقوال، بما يقوله اللخمي أو لا؟ فقال لي: إنما تكون الحكاية بحسب الواقع، فيقال: في المذهب قولان. ويقال: وقال اللخمي كذا أو فلان، ويعزى إليه ما قال. وسألت عن هذه القضية شيخنا الفقيه أبا القاسم بن زيتون، فقال لي: نعم، يحكى قول اللخمي وغيره قولًا في المذهب، كما يحكى قول من تقدم من الفقهاء قولًا في المذهب. وهذان الجوابان جيدان، أما جواب الفقيه أبي العباس فإنه مبني على سبيل التوقف والورع، وأما جواب الفقيه أبي القاسم، فإنه مبني على سبيل النظر. لأنه رأى أن كل جواب بني على أصول مذهب مالك وطريقتة، فإنه من مذهبه. والمفتي به إنما أفتى على مذهبه، فيصح أن تضاف هذه الأقوال إلى المذهب وتعد منه" (¬2). هكذا نرى أن ابن بشير رحمه الله استطاع أن يصل إلى درجة تؤهله للانفراد بقول داخل المذهب، وأن يحكى قوله ضمن الأقوال المعتبرة في المذهب. ولعل هذا ما دفع بابا التمبكتي إلى أن يصنفه ضمن فحول المذهب وأئمته، وأن يرفعه عن الشراح. وقد جاء هذا التصنيف عرضا ذكره عند حديثه عن عمر بن محمد المعروف بالقلشاني، فقال: "ينقل كلام ابن عبد السلام ويذيله بكلام غيره من الشراح كابن راشد وابن هارون والناصر المشدالي وخليل وابن عرفة وابن فرحون وغيرهم، مع البحث معهم. ويطرزها بنقل كلام فحول (¬3) المذهب كالنوادر وابن يونس والباجي واللخمي وابن رشد والمازري وابن بشير وسند وابن العربي وغيرهم" (¬4). ففي هذا النص قسم باب التمكيني العلماء إلى قسمين: شراح ¬

_ (¬1) يعني أبا العباس القيسي. (¬2) عنوان الدراية ص: 100. (¬3) في كفاية المحتاج [أئمة]، بدل [الفحول] 1/ 327. (¬4) نيل الابتهاج ص:306.

وفحول، وجعل ابن بشير ضمن الفحول. وهي منزلة من أرقى المنازل وأعلاها، إذ الفحولة تطلق على الجيد والصفوة من كل شيء. وفي نفس السياق يقول الفاضل ابن عاشور مفسرًا لهذه الفحولة: "وتكون بالإمام اللخمي الإمام أبو عبد الله المازري، فكان مع الحلبة التي عاصرته من الفقهاء الذين نستطيع أن نذكر منهم على سبيل المثال الواضح أربعة: وهم المازري وابن بشير وابن رشد الكبير والقاضي عياض. فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم؛ هي الطريقة النقدية التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي، فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس أو مشدد على الناس، إلى غير ذلك. وهي الطريقة التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب ودرج عليها ابن بشير في شرحه على المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه ... " (¬1). ولما ذكر صاحب الاختلاف في المذهب المالكي طائفة من علماء المذهب الذين تبوؤوا منزلة الاجتهاد المذهبي وتسنموا غارب الترجيح واعتمدهم المصنفون في التشهير والتصحيح، لم يغب عن ذهنه ابن بشير، فذكره ضمن هذه الكوكبة من العلماء (¬2). وبعد هذا لا نستغرب توشيح ابن فرحون له بقوله: "كان رحمه الله إمامًا عالمًا مفتيًا جليلًا فاضلًا ضابطًا متقنًا حافظًا للمذهب إمامًا في أصول الفقه والعربية والحديث، من العلماء المبرزين في المذهب، المترفعين عن درجة التقليد إلى رتبة الاختيار والترجيح" (¬3). ¬

_ (¬1) المحاضرات المغربيات ص: 81. (¬2) الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي ص: 199، 200. (¬3) الديباج المذهب: 1/ 265.

* المطلب الثالث: تأثيره فيمن بعده

* المطلب الثالث: تأثيره فيمن بعده إن من وصل إلى هذه المرتبة العلمية المتميزة، لا بد أن يترك آثارًا فيمن بعده، وأن يعثر الدارس على بصماته في الفقه المالكي. وقد حاولت أن ألتمس آثار ابن بشير من خلال تصفح سريع لبعض الكتب، فلاحظت أن اسم الرجل كثير التردد على ألسنة الفقهاء، فهم يستشهدون بأقواله وينقلون عنه ويتعقبونه. وقد حاولت أن أحصي عدد المرات التي ذكر فيها اسم ابن بشير في بعض الكتب، مستعينًا بالحاسوب فوجدته ذكر في مواهب الجليل حوالي ثلاثمائة وسبعين مرة، وفي التاج والإكليل حوالي ثلاثمائة واثنتي عشرة مرة، وفي حاشية الدسوقي حوالي مائة وعشرين مرة. وهذه الأرقام إن دلت على شيء فإنما تدل على أن ابن بشير كان حضوره قويًا في الدرس الفقهي وتأثيره فيه واضح، بل لقد أصبح له أتباع وطريقة، يستشف ذلك من خلال قول الحطاب في عدة مواطن منها قوله: "وذكر ابن بشير وأتباعه" (¬1)، "وقول ابن بشير وتابعيه" (¬2)، "ولذا اعترض ابن عرفة قول ابن بشير ومن تبعه" (¬3)، "وجعل ابن بشير وتابعوه" (¬4)، "قال ابن عرفة: وقول ابن بشير ومن تابعه" (¬5). ومن ذلك قول ابن فرحون: "وأما قوله عند قوم ... فالإشارة بهؤلاء القوم إلى ابن بشير ومن وافقه" (¬6). ومن ذلك قول خليل ابن إسحاق: "وتبع في اليوم ابن بشير" (¬7)، يقصد ابن الحاجب تبع ابن بشير، "وبناء المصنف تبعًا لابن بشير" (¬8). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل 1/ 162. (¬2) مواهب الجليل 2/ 46. (¬3) مواهب الجليل 2/ 85. (¬4) مواهب الجليل 3/ 19. (¬5) مواهب الجليل 1/ 490. (¬6) كشف النقاب الحاجب ص: 173. (¬7) التوضيح 1/ 232. (¬8) التوضيح 1/ 150.

ومن ذلك قول الدسوقي: "صرح بذلك ابن بشير وتابعوه" (¬1). وأما ما يدل على أن له طريقة فأكتفي بما ورد في مواهب الجليل، من ذلك قوله: "وهذه طريقة ابن بشير" وقد رددها تسع مرات في الكتاب (¬2). بعد هذا لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن لابن بشير مدرسة وأتباعًا داخل المذهب، تأثروا به وساروا على نهجه. ومما يؤكد هذا ما ورد في نفح الطيب من أن ابن الحاجب لم يخرج عن ابن بشير وابن شاس إلا في الشيء اليسير. قال المقري: " ... ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر الجواهر فقال: ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال: بل ابن شاس اختصر كتابي. قال ابن قطرال وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس. والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير. فهما أصلاه ومعتمداه، ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه" (¬3). ولم ينحصر إشعاع ابن بشير داخل المذهب بل تعداه إلى خارجه؛ فهذا تقي الدين ابن تيمية الحنبلي يستدل بأقواله (¬4)، وابن الملقن أبو حفص عمر بن علي الشافعي (¬5)، وكذلك الألوسي الحنفي (¬6). ولكن رغم هذا فإن تأثيره خارج المذهب يبقى ضعيفًا إذا ما قورن بتأثيره داخله. ومرد هذا كون ابن بشير عاش في فترة انكب المالكية فيها على دراسة المذهب وخدمته بعدما خلت لهم الساحة ولم يعد هناك داع للخوض في المناظرات والخلاف العالي. وقد سبق الحديث عن هذا قريبًا. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي 3/ 76. (¬2) انظر مواهب الجليل: 1/ 87، 147. 150، 3/ 292، 376، 136، 421، 455، 4/ 533. (¬3) 5/ 221. (¬4) انظر الفتاوى 32/ 47. (¬5) انظر الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 1/ 605، 653، 2/ 93، 48، 541, 5/ 445. (¬6) انظر روح المعاني 7/ 231.

* المطلب الرابع: موقفه من البدعة وأصحابها

* المطلب الرابع: موقفه من البدعة وأصحابها لقد أشرت في الحديث عن عصر ابن بشير إلى أن سلطان المبتدعة اضمحل وتلاشى بإفريقية في العصر المذكور، وخلت الساحة بذلك لأهل السنة. فخفت حدة الصراع، وانكب المالكية على خدمة مذهبهم وتنقيحه. ورغم هذا فإن ابن بشير لم يأل جهدًا في التنبيه والتحذير من البدعة والمبتدعة كلما سنحت الفرصة بذلك. ويتجلى ذلك عبر واجهتين: الواجهة الأولى: التنبيه على المذاهب المتبنية للبدعة والقائمة عليها، كالشيعة والخوارج والمعتزلة والقدرية. الواجهة الثانية: التنبيه على الشعائر والعبادات الفرعية المخالفة للسنة. فبالنسبة للواجهة الأولى نجده يتحدث عن إمامة معتقد البدعة كالخوارج والمعتزلة والقدرية؛ فيقول في حق الخوارج والمعتزلة: "فقد اختلف الأصوليون في معتقد البدعة كالخوارج والمعتزلة؛ فللقاضي في تكفيرهم قولان. وكذلك اختلف قول الفقهاء؛ فعن مالك في ذلك روايتان، ومثلهما عن الشافعي. وقال أبو إسحاق التونسي وغيره من متأخري أهل المذهب: سبب الخلاف هل يكفرون بما آل القول إليه أم لا؟ ومعنى ذلك: أن المعتزلة والخوارج متفقون على نفي الصفات المعنوية في حق الباري؛ فينكرون كون الباري سبحانه عالمًا بعلم، وقادرًا بقدرة، إلى غير ذلك من الصفات. إلا أنهم لا ينكرون أنه عالم ولا قادر ولا حي ولا مريد". فمن رأى إنكارهم أن يكون عالمًا يؤدي إلى نفي العلم عنه جملة، [وقوَّلهم] [ما يؤدي إليه مبدأ أقوالهم كَفَّرهم. ومن لم يقوِّلهم] ما يؤدي إليه مبدأ قولهم، لم يحكم بتكفيرهم وحكم بتفسيقهم. وقد سئل أبو المعالي عن هذه المسألة، فحكى خلاف الأئمة فيها. ثم قال: وقد نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وقوع هذا الخلاف بقوله في الخوارج:

"يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ" (¬1)، وقال في آخر الحديث: "وَتَتَمَارَى في الْفُوقِ". وهذه إشارة إلى خلاف الناس في تكفيرهم والمناظرة فيه؛ فلا شك أن من حكم بكفرهم حكم ببطلان الاقتداء بهم، ومن حكم بأنهم غير كفار فلا يحكم ببطلان الصلاة وراءهم كالزنديق." (¬2). أما بالنسبة للقدري، فإنه حسم الخلاف فيه ورأى عدم جواز الصلاة وراءه، فقال: "وفي الكتاب: في الإمام القدري أنه لا يصلى خلفه. قال: ولا الجمعة إن استيقنت ذلك، وإن كنت تتقيه وتخافه على نفسك فصلها معه وتعيدها ظهرًا أربعًا" (¬3). وبالنسبة للشيعي فإنه يحكي أحد الأقوال التي ترى أن الإمام إذا زاد عن أربع تكبيرات في صلاة الجنازة لا ينتظر، ويسلم المأمومون كي لا يتشبهوا بأهل التشيع حيث صارت التكبيرات الخمس شعارًا لهم. كل ذلك حماية للذريعة في موافقتهم (¬4) .. أما واجهة التنبيه على الشعائر الفرعية المخالفة للسنة فهي كثيرة نذكر منها نموذجين اثنين: الأول: منعه للنافلة جماعة في غير رمضان بحجة أن ذلك بدعة فقال: "وأما الجمع فلا خلاف في جوازه في نافلة رمضان، لكن الانفراد عند مالك رحمه الله أفضل. وأما غير ذلك من النوافل فإن كان الجمع في الموضع الخفي والجماعة يسيرة جاز. وقد تنفل - صلى الله عليه وسلم - في بيته واقتدى به ابن عباس. وصلى عليه السلام في بيت من بيوت أصحابه واقتدى به الصبي والرجل والمرأة. وإن كان الموضع مشهورًا والجماعة كثيرة فكرهه عبد الملك بن حبيب، وهو مقتضى المذهب. ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة نصف شعبان وليلة عاشوراء. ولا يختلف المذهب في كراهيته. وينبغي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب (3610)، ومسلم في الزكاة (1064). (¬2) انظر ص: 443 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 444 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 671 من هذا الكتاب.

* المطلب الخامس: أهم الانتقادات التي وجهت إليه

للأئمة [والفقهاء] أن يتقدموا في النهي عنه ولا يرخصوا فيه لأحد من الناس، فإن فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في نافلة البيوت إنما كان ليتبرك به في صلاته ولا يعتقد المعتقد أنه يفعل ذلك في المساجد أو عند كثرة الجماعة في البيوت فإن ذلك بدعة" (¬1). الثاني: ذمه لتقديم الخطبة على الصلاة في العيد فقال: "وإن خطب قبل الصلاة استحب له الإعادة، فإن لم يعد أجزأ. وبئس ما صنع في تركه السنة ... " (¬2). * المطلب الخامس: أهم الانتقادات التي وجهت إليه: لا شك أن كل من لمع نجمه وسطع في الأفق ذكره أن يلتفت إليه العلماء ويهتموا بما يصدر عنه. وابن بشير واحد من أولئك الذي لقي تراثهم اهتمامًا من طرف الفقهاء. فتعرض للانتقاد كسائر العلماء ولعل أبرز من تعقبه وتتبعه أبو عبد الله محمد بن عرفة الذي أحيى الطريقة النقدية بعد أن كادت تندثر معالمها بانتشار مختصر ابن الحاجب وبروز مختصر خليل بن إسحاق. يقول الفاضل بن عاشور: "وسلك ابن عرفة في فقهه الطريقة التي عبر عنها أصحابه وعبر عنها هو بنفسه بالتفقه؛ وهي الرجوع إلى الأقوال المتروكة، أو المحكوم عليها بالضعف، أو المحكوم عليها بالمرجوحية للنظر فيها من النواحي النقدية التي سبق من قديم النظر في أمثالها على ذلك المنهج الإمام اللخمي في التبصرة فنشأ هذا المنهج الجديد الذي هو منهج التفقه" (¬3). وقد كانت الانتقادات التي وجهها ابن عرفة لابن بشير من النوع المعتاد بين العلماء. وهي كثيرة (¬4)، أذكر منها المثال التالي: "قال ابن بشير ¬

_ (¬1) انظر ص: 494 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 660 من هذا الكتاب. (¬3) المحاضرات المغربيات ص: 85. (¬4) انظر مواهب الجليل 1/ 71، 84، 410، 252, 310 ,450، 451، 482، 494، 2/ 40، 124، 316، 361، 387، 392، 312، 3/ 98، 99، 231, 479، 4/ 460، 348، 5/ 182.

وحقيقة ما يعاد من السنن المتروكة في الوضوء وما لا يعاد، أن كل سنة إذا تركت ولم يؤت في محلها بعوض فإنها تعاد. وهذا كالمضمضة والاستنشاق ومسح داخل الأذنين والترتيب وكل سنة عوضت في محلها؛ كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ومسح الرأس عائد من المقدم إلى المؤخر فلا تعاد، لأن محلها قد حصل فيه الغسل والمسح. انتهى. وذكر ابن عرفة كلام ابن بشير، وقال بعده: قلت يرد بعموم نقل الشيخ عن ابن حبيب إعادة ما ترك من مسنونه، وإن سلم في اليدين فلاستحالة تلافيه لتقييده بالقبلية وتلافيها مستحيل أو موجب إعادة الوضوء فتصير السنَّة واجبة، انتهى. قلت: قد سلم ما قاله ابن بشير إذا كان لا يعيد غسل اليدين فلم يبق إلا رد مسح الرأس والاستنثار وهما أولى بعدم الإعادة لأن إعادتهما تستلزم تكرار مسح الرأس بماء جديد، أو مسحه من غير بلل في اليد. ولا فائدة فيه كما تقدم في كلام اللخمي. وكذلك الاستنثار، لا يتصور فيه الإعادة إلا بإعادة الاستنشاق. فالصواب تقييد ما نقله الشيخ عن ابن حبيب بما عدا الثلاثة المذكورة. فتأمله، والله تعالى أعلم" (¬1). فمن هذا القبيل كانت غالب الانتقادات التي وجهت لابن بشير. لكن الانتقاد القاسي واللاذع هو الذي جاءه من قبل القباب وتبناه الشاطبي. جاء في المعيار (¬2) أن الشاطبي كتب لبعض أصحابه مكتوبًا جاء فيه: "وأما ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة فلم يكن ذلك مني بحمد الله محض رأي ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم. ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة". "والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها من شيخه أبي العباس أحمد القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن ¬

_ (¬1) مواهب الجليل 1/ 252. (¬2) 11/ 142.

الحاجب وابن ساش: أفسدوا الفقه"، وقال أيضًا: "وشأني أن لا أعتمد على هذه التقييدات المتأخرة البتة. تارة للجهل بمؤلفها، وتارة لتأخر زمان أهلها جدًا، أو للأمرين معا. فلذلك لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيه وإنما المعتمد عندي كتب الأقدمين المشاهير". هكذا نرى أنه انتقاد قاس وخشن، فالإنسان قد تصدر منه أخطاء سواء على مستوى المنهج أو الأفكار، فيحيد عن الصواب فهذا أمر عاد جدًا. لكن أن يصبح مفسدًا ومخربًا، فذاك أمر يصعب تقبله ويتعسر هضمه. وقبل أن أناقش حيثيات هذا الحكم وحججه، أسارع إلى التنبيه إلى نقطتين أساسيتن، قد تساعدنا كثيرًا في فهم مساق الانتقاد الذي تعرض له ابن بشير. النقطة الأولى: أن هذه الانتقادات اللاذعة والأحكام القاسية التي تصدر من بعض العلماء في حق آخرين، ليست غريبة على الساحة العلمية، فما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، بل هلك فيه هالكون. وهذه طائفة من ذلك: أولًا: روي عن أبي العباس القيرواني الفارسي (ت) سنة 213 هـ أنه كان شديد الانتقاد للمدونة حتى أنه قام بإحراقها بنفسه (¬1). ونفس الموقف اتخذه منها ابن الحداد، وكان يلقبها بالمدودة (¬2). ثانيًا: روي عن ابن أبي زيد القيروان أنه لما عرض عليه تهذيب البراذعي، قال يجب أن يمحى أو يحرق! (¬3). ثالثًا: روي عن أصبغ بن خليل القرطبي أنه كان يقول لأن يكون في تابوتي رأس خنزير أحب إلى من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة! (¬4). ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 3/ 300. (¬2) العبر 2/ 122. (¬3) معالم الإيمان 3/ 120. (¬4) تاريخ علماء الأندلس ترجمة رقم 347.

رابعًا: قيل عن اللخمي إنه مزق مذهب مالك! خامسًا: روي عن ابن العربي أنه كان يقول: إياكم والعتبية فإنها بلية! (¬1). ولم يقف الحد عند هؤلاء بل تعداه إلى الأئمة الكبار، فقد قيل الشيء الكثير عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم! ومن هنا تقرر عند المحققين، أن أقوال العلماء بعضهم في بعض لا يلتفت إليها ولا يؤخذ بها إلا بشروط، ومن لم يلتزم بتلك الشروط لم يبق عنده شيء غير منتقد. وقد أفاض علماء الجرح والتعديل في الحديث عن تلك الشروط، ولا يتسع المقام لتفصيل القول فيها. وأكتفي هنا بنص لابن عبد البر يعد أصلًا في هذا الباب، قال رحمه الله: "والصحيح في هذا الباب، أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يجب قبوله من جهة الفقه والنظر ... والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إمامًا في الدين قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير" (¬2). النقطة الثانية: وهي أن القباب، وإن كان إمامًا صالحًا زاهدًا محققًا فقيهًا نبيهًا من صدور عدول فاس، ذا دين وفضل (¬3) ... إلا أنه يبدو والله أعلم أنه كان رحمه الله حاد التعبير خشن التجريح. يدل على ذلك أن التنبكتي لما ترجم له نقل عنه انتقادين، كل منهما لا يخلو من حدة، فالأول في حق ابن بشير ومن معه وقد سبقت عبارة الشاطبي في وصفه بأنه خشن ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي 1/ 85. (¬2) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 152. (¬3) انظر هذه الصفات في كفاية المحتاج 1/ 98.

في السمع. والثاني لا يقل حدة ولا خشونة عن الأول، فقد واجه به صاحبه ووضعه في موضع حرج، حتى تغير وجهه. يقول التنبكتي: "ويذكر أنه لما اجتمع بابن عرفة في تونس، أراه ما كتب من مختصره الفقهي وقد شرع في تأليفه. وقال له القباب: ما صنعت شيئًا فقال له ابن عرفة: ولما؟ قال: لأنه لا يفهمه المبتدئ ولا يحتاجه المنتهي. فتغير وجه الشيخ ابن عرفة ... " (¬1). والنص لا يحتاج إلى تعليق فهو يطفح خشونة وحدة. ومما يؤكد ما سبق أن الشاطبي لاحظ هذه الحدة والخشونة في أسلوب القباب من خلال مراسلته معه في مسألة رعي الخلاف، فأظهر تبرمه واستثقاله من ذلك واضطر إلى أن ينبهه عليه. والمسألة كما حكاها صاحب المعيار؛ أن الشاطبي لما كتب إلى القباب يتدارس معه مسألة رعي الخلاف استهل القباب جوابه بقوله: "فاعلم أن مراعاة الخلاف من محاسين هذا المذهب. وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم" (¬2) فكان من جواب الشاطبي ما نصه: "وجرى في كلامكم عن هذه المسألة أنكم لما حكيتم عن العلماء استشكال القول بمراعاة الخلاف، نزعتم بالبيت إلى من استشكله فهو بعيد الفهم عن الصحة. وأنا يا سيدي أستثقل الحوم حول هذه المنازع التي تشير إلى استنقاص من تقدم من أهل العلم المستشكلين، إذ منهم أبو عمر بن عبد البر وسواه وإن كانت الإشارة على بعد. وأنتم أعرف بما فيها منا، وإنما حسن النظر معهم أن يكون على جهة الاستشكال وتوقف الفهم عما أرادوه فهو أليق بأدب العلماء، وأخلاق الفضلاء وأحرى بتنوير القلب وانشراح ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المعيار 6/ 688.

الصدر وأجلب فائدة في الدنيا والآخرة والمقصود بعد ذلك حاصل إذ تبين فيه الإشكال وظهر ما هو الصواب فإن ظهر الصواب خلاف ما قالوه التمس لهم أحسن المخارج واحمل كلامهم على أقرب ما يليق به من مناحي الصحة ... فهذا الذي يظهر لي وبالله التوفيق." (¬1). وبهذا يتبين والله أعلم أن الإمام القباب كان يسبقه القلم بعض الأحيان ويجره نحو المبالغة في التجريح. والوقوف على هذه القضية مفيد جدًا، فمعرفة شخصية الناقد وطبعه وأسلوبه واستحضار كل ذلك، يساعد على استخراج الحقيقة من مخابئها. ومن غابت عنه هذه المسألة اختلطت عليه الأمور، وسوى بين انتقاد ابن حزم وغيره من العلماء! وقد تنبه علماء الجرح والتعديل إلى هذه القضية فقسموا الخائضين في هذا العلم إلى ثلاثة أقسام؛ قسم المتشددين وقسم المعتدلين وقسم المتساهلين. ولكل قسم منهم نظر خاص به. بعد هذه التوطئة، أرجع لأقف بتأن وروية مع هذا الانتقاد اللاذع الذي صدر من القباب وتبناه الشاطبي، لنرى إلى أي حد هو صحيح أو مبالغ فيه. فأقول إنه بعد إمعان النظر وإجالة الفكر في حيثيات هذا الحكم القاسي وحججه وبراهينه، لم أظفر بشيء يقنعني وتطمئن إليه نفسي. فالقباب أرسل كلمته مجردة من أي تعليل. والشاطبى قال كلامًا مجملًا، وكل ما ذكروه هو: أن ذلك بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين. وأن بعض من لقيه من الفقهاء- ويقصد القباب- أوصاه بالتحامي عن كتب المتأخرين. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 392.

وأن ذلك راجع تارة للجهل بمؤلفيها وتارة لتأخر زمان أهلها جدًا أو للأمرين معا. أما بالنسبة للسبب الأول فهو كلام مجمل غير مبين، فكأنه يريد أن يقول بأنه قارن كتب المتقدمين وكتب المتأخرين وتوصل إلى أن كتب المتقدمين أفضل من كتب المتأخرين، ويا ليته وضح وجه الأفضلية وطريقة توصله إلى ذلك، وأماط اللثام عن هذا الكلام المجمل. وأما السبب الثاني فهو وصية ومحض نصيحة، ويبقى أيضًا كلامًا خاليًا من التعليل. وبالنسبة للسبب الثالث فهو البين الواضح الذي بني عليه الشاطبي دعواه، ولكنه للأسف الشديد سبب لا يليق بالشاطبي أن يعتمد عليه ويبني عليه حكمًا كهذا. فمتى كان التأخر أو التقدم مقياسًا لجودة الكتاب أو رداءته؟ ولو طبقنا هذه القاعدة على الشاطبي وشيخه القباب لكانا أشد إفسادًا من ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب لأن هؤلاء متقدمون عنهما. والشاطبي والقباب أكثر تأخرًا منهما. والواقع يدل على غير ذلك فما كتبه الشاطبي أفضل وأجود مما كتبه كثير من المتقدمين. ولكن يبدو أن الشاطبي وشيخه بنيا حكمهما على ما هو شائع عند الناس من أن كل متقدم جيد، وكل متأخر رديء. يقول الفخر الرازي: "من القضايا الغالبة على الأوهام، أن كل ما قدم فهو أكمل وأتم" (¬1). وهذه من أخطر القضايا المثبطة للهمم والعزائم. يقول الحافظ ابن عبد البر: وما كان أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئًا (¬2) .. وقد رد ابن خلدون على هذا الوهم عندما تحدث عن ابن هشام وما وصل إليه من منزلة عالية في علم النحو لم يصل إليها إلا سيبويه وابن جني ¬

_ (¬1) شجرة النور التتمة ص: 136. (¬2) التراتيب الإدارية عبد الحي الكتاني 1/ 78.

وطبقتهم، فقال بعد ذلك: "ودل على أن الفضل ليس منحصرًا في المتقدمين" (¬1). بل إن كثيرًا من النقاد يرون أن المتأخرين لهم ميزات على المتقدمين في تقنيات البحث ودقة الألفاظ وجدة الاكتشاف، قال ابن عبد ربه: "ثم إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أعذب ألفاظًا، وأسهل بنية، وأحكم مذهبًا، وأوضح طريقة من الأول, لأنه ناكص على متعقب والأول بادئ متقدم" (¬2). ويقول ابن عابدين: "كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل وتقويم الدلائل. فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه، وتبيين ما أجملوه، وتقييد ما أطلقوه، وجمع ما فرقوه، واختصار عباراتهم، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافهم". كل هذه النصوص تبين أن معيار سبر مستوى الأداء العلمي بين المتقدمين والمتأخرين، هو العمل نفسه. فالأعمال العلمية تكتسب قيمتها من مدى الصواب والجودة. وهي مقاييس مجردة غير مرتبطة بزمان ولا مكان. قال حاجي خليفة: "فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته، لا لقدمه وحدوثه" (¬3). نعم للأوائل شرف الفوز باستخراج الأصول وتمهيدها، ورسم معالم العلوم وإبداعها. والأواخر لهم شرف الفوز بتفريع الأصول وتشييدها، وتهذيب العلوم وتنقيحها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي أمة مباركة لا يدرى أولها خير أم آخرها (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) المقدمة 728. (¬2) قواعد التحديث ص: 39. (¬3) كشف الظنون 1/ 39. (¬4) قال العجلوني في كشف الخفاء 1/ 228: رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلًا. وله شاهد عند الترمذي وأبي يعلى والدارقطني، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" انظر كشف الخفاء 2/ 258. (¬5) كشف الظنون 1/ 39، أبجد العلوم 1/ 195.

بقيت نقطة أخرى أشار إليها الشاطبي، وهي أن هؤلاء المتأخرين مجهولون لديه. وشأنه ألا يعتمد إلا على كتب المتقدمين المشاهير. وأقول إن ابن بشير وأمثاله ليسوا مجهولين فهم أعلام على رؤوسهم نار كما يقال. وحتى لو فرضنا أنهم مجهولون فإن الحق يعرف بنفسه وليس بصاحبه وشهرته. هذه هي حيثيات الحكم التي بني عليها الشاطبي رأيه، وهي كما نلاحظ حجج داحضة (¬1). وكأني بالشيخ أحمد بابا التنبكتي لم يقتنع بهذه الأسباب وراح يلتمس أسبابًا أخرى فقال في ترجمة القباب: "وذكر عنه أبو إسحاق الشاطبي أنه كان يقول إن ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب أفسدوا الفقه، ويأمر أصحابه بتركهم. قلت: وكأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل وجيز الغزالي في المذهب مع مخالفتها له، كما نبه عليه الناس. والأول بني فروعًا فقهية على قواعد أصولية وأدخلها في المذهب كذلك. ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد الأصول، والله أعلم" (¬2). وقد نقل ابن فرحون عن ابن دقيق العيد كلامًا قريبًا من هذا فقال: "وكان رحمه الله يستنبط أحكام الفروع من قواعد أصول الفقه وعلى هذا مشى في التنبيه وهي طريقة نبه ابن دقيق العيد على أنها غير مخلصة إذ الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصولية" (¬3). وحتى ما علل به التنبكتي وابن دقيق العيد فإنه لا ينهض حجة لإدانة ¬

_ (¬1) لقد أكد الشاطبي كلامه هذا في الموافقات في المقدمة الثانية عشرة 1/ 61 وأتى بنفس الكلام وأضاف أحاديث من قبيل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم". وما شابه هذا الكلام. (¬2) كفاية المحتاج: 1/ 99. (¬3) الديباج: 1/ 265.

ابن بشير بالخصوص. أما ما ذكره عن ابن شاس وابن الحاجب (¬1) فلا شأن لنا به لأنه لا يتعلق بموضوعنا. ويمكن تلخيص كلام ابن دقيق العيد والتنبكتي في أن فروع ومسائل المذهب لا تجري جميعها على القواعد الأصولية، ولا يطرد تخريجها عليها، وابن بشير جعل القواعد مطردة، ولم يراع المستثنيات. ويمكن أن يقال عن هذا الكلام: إن القواعد الأصولية وضعت أساسًا ليتم بواسطتها استنباط الأحكام من الأدلة التفصيلية. وهي تمثل ميزانًا وضابطًا للاستنباط الصحيح وهي بمثابة قوانين عامة ومعايير سليمة يقيس بها المجتهد صحيح الأحكام من سقيمها. إلا أن هذه القواعد قد تخرج عنها جزئية أو جزئيتان، ولكن خروجها لا يخرمها وعدم انخرامها يعني عدم تأثرها بخروج ما خرج عنها، فإذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة لا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكاية الأحوال. وما خرج عن تلك القواعد يدخله العلماء ضمن قاعدة الاستحسان التي هي عبارة عن "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي." (¬2) وقد وضح هذا عبد الوهاب خلاف بقوله: "إذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص حكمًا فيها أو يقتضي القياس الظاهر المتبادر حكمًا فيها، أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي حكمًا فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفًا وملابسات خاصة تجعل تطبيق النص العام أو الحكم الكلي عليها أو اتباع القياس الظاهر فيها يفوت المصلحة أو يؤدي إلى مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها من العام أو استثناؤها من الكلي أو اقتضاء قياس خفي غير متبادر، فهذا العدول هو الاستحسان، وهو من طرق ¬

_ (¬1) استغرب كيف يحشر ابن بشير مع ابن الحاجب ويوضع معه في خانة واحدة مع اختلافهما الواضح في المنهج، فالأول يعد من أصحاب الموسوعات التي تهتم بالتأصيل والتعليل والنقد ... والثاني من أصحاب المختصرات. (¬2) المواففات 4/ 16.

* المطلب السادس: إذا أطلق ابن بشير فما المراد به عند المالكية؟

الاجتهاد بالرأي, لأن المجتهد يقدر الظروف الخاصة لهذه الواقعة باجتهاده برأيه، ويرجح دليلًا على دليل باجتهاده برأيه ... " (¬1). فإذا كان الأمر هكذا فهل يليق بابن بشير أن يذهل عن هذا؟؟ أم أن إدخاله ما أدخله من الفروع في المذهب كان باعتبار أن دلالة الأصول الكلية أقوى من أدلة المصالح الجزئية؟ لعل مزيدًا من البحث يوضح هذا أكثر. والذي أجزم به هنا هو أن هذا الانتقاد، لم يلتفت إليه جمهور العلماء بل تجاهلوه ... بدليل أن ابن بشير ظل قوله معتمدًا في المذهب وكتبه رائجة، بل محفوظة عن ظهر قلب كما سبق، وستظهر مكانته العلمية أكثر في الفصل الثاني عندما نتحدث عن الكتاب. وكم كنت أود أن أتجاهل أنا أيضًا هذا الانتقاد لاعتقادي أن ابن بشير أجل من أن يوضع في هذا الموضع. وأسمى من أن يرشق بما رشق به، وهذا لا يعني أنه مقدس أو معصوم من الخطأ. بل لاعتقادي أنه ليس من شرط العالم ألا يخطئ، ولكن إذا رأينا عالمًا عاملًا وقعت منه هنة أو هفوة، نبه عليها ووضح وجه خطئها، بألطف عبارة، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، والله أعلم. * المطلب السادس: إذا أطلق ابن بشير فما المراد به عند المالكية؟ دفعني لطرح هذا السؤال كثرة الأعلام المالكية المنتهية أسماؤهم بابن بشير وكثرة دوران هذا الاسم في كتب الفقه وحيرة الباحثين المعاصرين في تعيين العلم المراد به. ومن أشهر الأعلام التي تنتهي أسماؤهم بابن بشير نجد منهم: محمد بن سعيد بن بشير المعافري قاضي قرطبة روى عن مالك، (ت) 198هـ بقرطبة. أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير تلميذ سحنون، ولد سنة 202 هـ، (ت) 260 هـ. ¬

_ (¬1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه ص:68.

عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن بشير مولى بني فطيس، المعروف بابن الحصار أبو المطرف، (ت) 422 هـ (¬1). إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي. محمد بن عبد الصمد بن بشير (¬2). فهذه الأسماء أصحابها كلهم مالكية، فإذا وقف الباحث على ابن بشير منهم فإلى من يصرفه؟ وقد تصدى للإجابة على هذا السؤال إبراهيم المختار الجبرتي الزيعلي، محقق كتاب "مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب الإمام مالك". فقال عند حديثه عن كنى بعض علماء المذهب الذين يكثر ذكرهم في أثناء الكتب: إن ابن بشير المقصود به هو محمد بن بشير بن سرافيل. والحق أن الشيخ المذكور جانب الصواب، ومن باب الأمانة العلمية أشير إلى أن أحمد بن حميد محقق القسم الأول من كتاب القواعد للمقري نبه على عدم صحة هذا التفسير (¬3)، إلا أنه لم يأت بما يدحض به كلام الزيعلي، وإنما أتى بما يثبت أن ابن بشير المذكور في تلك الفقرة هو أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد. وبهذا أراني مضطرًا إلى الإتيان بما يثبت أنه إذا أطلق ابن بشير عند المالكية بعد القرن السادس، فالمراد به أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد التنوخي. ولن أجد في هذا الصدد أفضل من الإتيان بنصوص الفقهاء التي نسبوا فيها الكلام لابن بشير بدون تقييد والبحث عن ذلك الكلام هل يوجد عند أبي الطاهر أم لا؟ 1 - وأبدأ بالمقري فقد قال في قواعده: "قاعدة: الحكم المرسل على اسم أو المعلق بأمر هل يتعلق بأقل ما يصدق عليه حقيقة أو بأكثره؟ اختلف المالكية فيه ويسمونه الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ ومما يبني عليه المازري وابن بشير الخلاف في مغسول المذي أهو الذكر أم محل الأذى؟ " (¬4) فهذا الكلام موجود في التنبيه (¬5). ¬

_ (¬1) الديباج 1/ 149. (¬2) شجرة النور ص: 126 والخريدة للعماد الأصفهاني 1/ 278 - 3/ 692. (¬3) القواعد 1/ 224. (¬4) 1/ 317. (¬5) انظر ص: 259 من هذا الكتاب.

2 - وقال الونشريسي في المعيار: "وأيضًا فظواهر نصوص أصحابنا كالرسالة والجلاب والمدونة وغير واحد أن من لم تبق له قدرة على الصلاة إلا بالقلب أنه يصلي بقلبه. وإن كان ابن بشير ومن تبعه كابن الحاجب إنما حكى ذلك عن الشافعي وقال لا نص في المذهب .. " (¬1) ونفس الكلام موجود في التنبيه في كتاب الصلاة الأول. 3 - وقال صاحب كفاية الطالب الرباني. 1/ 252 وصاحب الثمر الداني 1/ 56: "ولا فضيلة فيما زاد على الثلاث بل حكى ابن بشير الإجماع على منع الرابعة" 1/ 252 ونفس الكلام موجود في كتاب الوضوء. 4 - وقال الدسوقي في حاشيته 1/ 42 "أن الماء إذا استعمل أولًا في غير رفع الحدث وإزالة حكم الخبث بأن استعمله فيما يتوقف على مطلق ويقصد معه الصلاة، كغسل الإحرام والجمعة والعيد وتجديد وضوء وغسلة ثانية وثالثة، هل يجوز أن يستعمل ثانيًا في رفع حدث وحكم خبث أو أوضية أو اغتسالات مندوبة أو يكره. تردد للمتأخرين، فالكراهة لابن بشير" ونفس الكلام موجود في حكم الماء المستعمل في الطهارة. 5 - وقال النفراوني في الفواكه الدواني "قال خليل تبعًا لابن الحاجب تبعًا لابن بشير من أن الذي يشف كالعدم" (¬2). ونفس الكلام موجود في كتاب الصلاة الأول. 7 - قال الحطاب في مواهب الجليل 1/ 56: "إذا ألقي الطحلب وما يتولد من الماء في ماء فغيره فالمشهور أنه لا يضر والماء باق على طهوريته, لأن ذلك مما لا ينفك الماء عن جنسه، قاله ابن بشير". ونفس الكلام موجود في التنبيه في كتاب الطهارة. ففي هذا القدر كفاية ودلالة على أنه إذا أطلق ابن بشير عند المالكية فالمراد به صاحبنا. ¬

_ (¬1) 1/ 55. (¬2) 1/ 215.

بعد هذا أرى، أنه من المفيد أن أذكر طائفة من الباحثين المعاصرين الذين وهموا في تحديد ابن بشير المراد عند الإطلاق. 1 - فأولهم كارل بروكلمان في تاريخ التراث العربي ملحق 2/ 960. حيث نسب كتاب التنبيه لابن عبدوس. ومعلوم أن كتاب التنبيه لأبي الطاهر صاحبنا. 2 - فؤاد سركين قال أثناء حديثه عن شروح المدونة: - التنبيه على مبادئ التوجيه لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير المالكي؟ المتوفي سنة 260 هـ" (¬1). وقال في حديثه عن ابن عبدوس: "شرح مسائل من المدونة". ولابدّ من بحث ما إذا كان هذا الشرح هو الكتاب المعروف باسم شرح ابن بشير، أو التنبيه على مبادئ التوجيه" (¬2). فخلط فؤاد سركين واضح وبين ولا يحتاج إلى كبير جهد لتبيينه لأن التنبيه على مبادئ التوجيه لأبي الطاهر باتفاق العلماء. 3 - أحمد أبو طاهر محقق كتاب إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، فقد حمل ابن بشير المذكور في الكتاب على أبي المطرف المعروف بالحصار. ولكي يتجلى الأمر أكثر أنقل كلام الونشريسي، فقد قال: "نوادر الصور هل يعطى لها حكم نفسها أو حكم غالبها؟ وعليها نفقة الزَمِن بعد بلوغه فعلى المراعاة لا تنقطع، وعلى؟؟ أن لا تنقطع، وعليه أيضًا إجراء ابن بشير الربا في الفلوس، ثالثها يكره. ورد إجراء اللخمي إياه على أن في العين غير معلل أو العلة الثمنية والقيمة" (¬3) وبغض النظر عن البتر الموجود في النص، فإن الذي يمكنه أن يرد كلام اللخمي هو: أبو الطاهر. لا أبا المطرف لأن هذا الأخير متقدم على اللخمي، فقد توفي سنة: 422 هـ، بينما اللخمي توفي سنة 478 هـ. ¬

_ (¬1) تاريخ الثرات العربي المجلد الأول ج 3 ص 150. (¬2) تاريخ الثرات العربي المجلد الأول ج 3 ص 158. (¬3) إيضاح المسالك ص: 256.

4 - عادل نويهض محقق كتاب عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية. فقد حمل ابن بشير المذكور في ص 101 على محمد بن سعيد المعافري قاضي قرطبة (ت) 198 هـ، ونص كلام صاحب الكتاب "وسألته رحمه الله تعالى عن اختيارات أصحابنا المتأخرين من الفقهاء كاللخمي وابن بشير وغيرهما". والنص واضح الدلالة على أن المقصود صاحبنا أبو الطاهر لأنه هو الذي له اختيارات وهو الذي ينطبق عليه كونه من المتأخرين ومحمد بن سعيد من المتقدمين إذ الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو ابن أبي زيد القيرواني، فمن كان قبله فهو من المتقدمين ومن كان بعده فهو من المتأخرين. 5 - واضعو فهارس المعيار المعرب، وهم محمد حجي وأحمد الشرقاوي ومحمد العرائشي: فإنهم لما جمعوا الصفحات التي ذكر فيها ابن بشير مطلقًا حملوه على ابن بشير محمد قاضي قرطبة (¬1)، وهذا غير سديد وقد ذكرت سابقًا أنه إذا أطلق ابن بشير فالمراد به أبو الطاهر. وأثبت نموذجًا من المعيار نفسه فلا داعي للتطويل في ذلك. 6 - الدكتور محمد الحبيب الهيلة، فقد وقع في نفس ما وقع فيه سابقوه، أثناء تحقيقه لفتاوى البرزلي، فحمل ابن بشير في الفهارس على ابن بشير محمد قاضي قرطبة (¬2)، وهذا أيضًا غير سديد، وقد سبق توضيحه فلا داعي للتطويل في ذلك. أكتفي بهذا القدر للدلالة على أن كثيرًا من الباحثين المعاصرين يتعسر عليهم تعيين الشخص المراد عند إطلاق ابن بشير، وهذا نتيجة للإهمال الذي تعرض له ابن بشير من قبل المترجمين. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو لماذا أهمل هذا العلم؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في المبحث الموالي. ¬

_ (¬1) المعيار الجزء الخاص بالفهارس 13/ 336. (¬2) المعيار الجزء الخاص بالفهارس 13/ 336.

* المطلب السابع: لماذا أهمل المترجمون ابن بشير؟

* المطلب السابع: لماذا أهمل المترجمون ابن بشير؟ سبق أن أشرث في بداية هذا الفصل إلى أن ابن بشير لم يلق عناية واهتمامًا من قبل المترجمين، والآن وبعد أن ظهرت مكانته في الفقه عمومًا وفي المذهب المالكي خصوصًا علينا أن نجيب على هذا السؤال اللغز. وبعد التأمل في المسألة تبين لي أن ذلك يرجع إلى ثلاثة أسباب: السبب الأول: هو طبيعة ابن بشير نفسه، فقد تبين من خلال كتابه أنه لم يكن يبحث عن الشهرة والظهور، بل كان يفضل الخمول ويميل إلى الإبهام والتنكير وعدم ذكر أخباره وشيوخه. على خلاف ما جرت به عادة كثير من العلماء من تسجيل بعض أخبارهم ومناظراتهم ومراسلاتهم وشيوخهم ... بطريقة عرضية ضمن كتبهم حتى إن الباحث يستطيع التعرف على معالم شخصية المصنف من خلال أخباره المبثوثة في كتبه. وهذا ما لا نلمسه في التنبيه. وإن اضطر ابن بشير إلى ذكر شيء من ذلك، فإنه يبهم الأحداث وينكرها. وأسوق أمثلة توضح ذلك. منها ما جاء في كتاب الوكالة: "ومن ذلك أخذ بعض المذاكرين مسألة وقعت في بعض البلاد بين يدي بعض القضاة ... " (¬1)، فالنص في غاية التعتيم والتكتم، فلم يبين من هم هؤلاء المذاكرين، ولا البلد ولا القضاة. فساق هذه الأشياء كلها مبهمة. وعلى هذا النهج جاء كلامه عن أشياخه فلم يسم لنا أي شيخ منهم. فإن كان السياق يقتضي ذكرهم يميل إلى التعميم كعادته كما في المثالين التاليين: " ... وقد ألزمه بعض أشياخي .. " (¬2) " ... وقد كان بعض أشياخي ينكر هذا الذي يعتمد عليه ... " (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب التنبيه ص: 50 نسخة خاصة. (¬2) كتاب الطلاق من كتاب التنبيه. (¬3) المصدر السابق.

فعلى هذا النهج كان يذكر الأحداث التي يضطر لذكرها، فتبين لي أن ابن بشير ساهم أيضًا بقسط وافر في التعتيم عن نفسه وعن أخباره. السبب الثاني: قلة المعتنين بالتاريخ في عصر ابن بشير. وقد أشار إلى هذا صاحب معالم الإيمان في ترجمة أبي عبد الله محمَّد بن أبي الفرج المازري المعروف بالذكي فقال: "ثم انقضت هذه الطبقة بعد الخمسمائة سنة ولم يبق بالقيروان من له اعتناء بتاريخ، لاستيلاء مفسدي الإعراب على إفريقية وتخريبها وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين وذهاب الشرائع بعدم من ينصرها من الملوك إلى أن من الله على الناس بظهور دولة الموحدين" (¬1). السبب الثالث: وهو احتمال أن يكون الموحدون ساهموا في طمس تاريخ هذا الرجل المهتم بالفروع الفقهية. وقد علمنا أن الموحدين كان من أهدافهم القضاء على المذهب المالكي؛ يقول عبد الواحد المراكشي عن أبي يوسف يعقوب الموحدي: "وكان قصده في الجملة هو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، إلا أنهما لم يظهراه، وأظهره يعقوب هذا" (¬2). ويقول أيضًا: "وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب ... فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبراذعى وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها" (¬3). ومن المعلوم أن بضاعة ابن بشير لا تخرج عن هذه الكتب. فلا بدّ إذًا أن يكون من الفقهاء الخائفين، أو الذين أحرقت كتبهم، أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) معالم الإيمان 3/ 252. (¬2) المعجب 401. (¬3) المعجب 400.

* المطلب الثامن: وفاته

بل إن الأمر وصل إلى أكثر من هذا، فعبد الحق الإشبيلي تعرض لمحنة بعد دخول الموحدين لبجاية. وقد أهدر المنصور دمه، لكن الله نجاه منهم (¬1). وابن العربي مات مسموما بعد أدائه البيعة لعبد المؤمن وانصرافه من مراكش، وطبعًا أصابع الاتهام موجهة نحو الموحدين الذين يعرفون ولاء هذا الفقيه للدعوة المرابطية (¬2). والقاضي عياض خنق بعد تشريده والتنكيل به (¬3). بعد هذا لا أستبعد أن يكون للموحدين تأثير في طمس أخبار هذا الرجل- والله أعلم-. * المطلب الثامن: وفاته لا نعرف شيئًا عن تاريخ وفاته، وكل ما نعرفه هو أنه كان حيا سنة 526 هـ أثبت ذلك في كتابه التحرير، فقال إنه انتهى من تأليفه في هذه السنة (¬4). وكذلك توصلت من خلال كلام الحطاب إلى أنه عاش بعد سنة 536 هـ. جاء ذلك عرضًا عندما قال أثناء حديثه عن بيع النجاسات، بأن المازري متقدم على ابن بشير. والنص كالتالي: "قال ابن عرفة: ويفهم من كلام المازري رده بأنه لو اعتبر فارقا ما صح تخريج ابن القاسم المنع في الزبل لمالك من منعه بيع العذرة. انتهى بالمعنى. وهو ظاهر. والضمير في رده عائد إلى التعقب. لا بقيد كونه لابن بشير، لتقدم المازري عليه. وكذلك قال في التوضيح." (¬5) ففي هذا النص يصرح الحطاب بأن، المازري متقدم على ابن بشير. ومعلوم أن المازري توفي سنة 536 هـ. فيستنتج من هذا أن ابن بشير عاش بعد هذا التاريخ. ¬

_ (¬1) الفكر السامي 3/ 227. (¬2) ممن ذهب إلى أنه مات مسمومًا النباهي في المرقبة العليا ص 106 وابن غازي في الروض الهتون ص 10. (¬3) المرقبة العليا ص: 95. (¬4) انظر الديباج: 1/ 256. (¬5) مواهب الجليل: 4/ 260.

أما ما ذكره محققا كتاب العمر، من أنه عاش بعد سنة 573 هـ فقد سبق لي أن قلت بأنهما لم يبينا طريقة التوصل لذلك. وبالنسبة لطريقة موته ومكانها، فقد ذكر ابن فرحون أنه مات شهيدًا قتله قطاع الطرق في طريقه إلى الحج بعقبة (¬1). فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن الكتاب المحقق. أختم هذا الفصل بتأكيد ما قلته سابقًا من أن ابن بشير اشتهر بكتبه وآرائه الفقهية، ولم يشتهر بتلاميذه ومترجميه. ¬

_ (¬1) لم أتمكن من تحديد الموقع المذكور.

الفصل الثالث: التعريف بالكتاب المبحث الأول: توثيق الكتاب وبيان منهجه. المبحث الثاني: الخلاف الفقهي عند ابن بشير. المبحث الثالث: النقد عند ابن بشير. المبحث الربع: الاجتهاد عند ابن بشير. المبحث الخامس: منهج التحقيق.

الفصل الثالث: التعريف بالكتاب

الفصل الثالث: التعريف بالكتاب المبحث الأول: توثيق الكتاب وبيان منهجه يعتبر كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه وعاء من أوعية الفقه المالكي، قصد به صاحبه بناء فروع المذهب على أصوله، وتوجيه الأقوال وتعليلها ودراستها دراسة فقهية ترفع قارئها عن التقليد. فجاء الكتاب محتويًا على مادة علمية غزيرة؛ شملت معظم جوانب العلوم الإسلامية، ولهذا لا أحيد عن الصواب إذا قلت؛ إن الكتاب يصلح أن يكون موضوعًا لعدة رسائل جامعية، بعضها يتناول منهجه العلمي في الاستدلال، والبعض الآخر منهجه في التعامل مع القواعد الأصولية أو الفقهية، أو منهجه في النقد أو التخريج ... إلخ. لأجل ذلك فإن هذا الفصل لا يمكنه أن يتناول كل تلك الجوانب بالدراسة والتحليل، وإنما سيحاول إعطاء صورة واضحة عن منهجية ابن بشير الفقهية، ليستعين بها القارئ على فهم الكتاب، ومعرفة قيمته العلمية، ومنزلته بين كتب الفقه المالكي. * المطلب الأول: اسم الكتاب ونسبته لابن بشير وتاريخ تأليفه نص ابن بشير في مقدمة الكتاب على أن اسمه: التنبيه على مبادئ التوجيه، وبذلك لم يدع مجالاً للاختلاف في اسمه. كما أنه يعرف عند

الفقهاء اختصارًا باسم: التنبيه أو تنبيه ابن بشير (¬1). ولم يختلف العلماء كذلك في نسبة هذا الكتاب لابن بشير، فالإجماع حاصل على ذلك، وتحققت صحة هذه النسبة بعدة أمور منها: 1 - نسبة الكتاب له من قبل المترجمين، فكل من ترجم له نسب له هذا الكتاب. 2 - نسبة الكتاب له من قبل الفقهاء الناقلين عنه فكثيرًا، ما يرددون قال ابن بشير في التنبيه. أو في تنبيهه، ولا أرى ضرورة لذكر النصوص الدالة على ذلك فهي كثيرة جدًا. 3 - وجود اسمه على جميع مخطوطات الكتاب التي لم يصبها البتر. ¬

_ (¬1) ومن المستملحات ما ورد في كتاب الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة ص 123 - 124 أن قاضي الجماعة بفاس أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي (ت) 1003 هـ ورد إلى تارودانت بسوس، فكأنه حقر شأن طلبتها فكتبوا إليه مسائل بنظم رائق فعجز عن الجواب، فذهب بها إلى أبي العباس المنجور فأجابه عنها. ومما جاء في السؤال: إلى علمك العالي مسائل ترتقي ... تفطن لهن ياحميدي واصدق فما الحكم في الأوزاع هل ساغ أكلها ... وما الحكم في موتى المجانين فانطق وجاء في الجواب: جوابك في الأولى إباحة أكلها ... بمذهبنا فاجزم بذاك واصدق كذا ابن حبيب في الخشاش أباحه ... لمحتاجه مع العقارب فاسبق وقد قيل في الأوزاغ يحرم أكلها ... وذاك في الكافي ليوسف فارتق ومستقذر يحكي المخالف صوغه ... وأنكره التنبيه فافهم ودقق والشاهد عندنا أنه ذكر التنبيه مطلقًا فانصرف إلى تنبيه ابن بشير لأن الكلام موجود بمعناه في كتاب الأطعمة من التنبيه من أن المستقدر لا يسوغ وإنما هو مكروه. ومن ذلك ما جاء في قصيدة أبي عبد الله محمد بن أحمد الضرير موريًا فيها بأسماء جملة من كتب العلم والأدب، قال في نفح الطيب 2/ 1144، 1145: قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهراوي من أهل المرية ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير موريًا بأسماء الكتب: عرائس مدحي كم أبين لغيره ... فلما رأته قلن هذا من الأكفا نوادر آدابي ذخيرة ماجد شمائل كم فيهن من نكت تلفى مطالعها هن المشارق للعلا ... قلائد قد راقت جوارها رصفا رسالة مدحي فيك واضحة ولي مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي ... لأنت امرؤ من حاصل المجد مستصفى =

تاريخ تأليفه

تاريخ تأليفه: أما بالنسبة لتاريخ تأليفه؛ فلا نعرف ذلك بالضبط إلا أنه يلوح لي أنه ألفه في مرحلة النضج لأنه كتبه بعد الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة الذي ألفه للمبرزين، وألف بعده التنبيه ليكون مدخلًا له، يترفع به قارئه عن التقليد. وقد صرح بهذا في نسخة [ل] فقال: "وسميته كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه ... وقد ألفت قبله كتابًا سميته "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة". * المطلب الثاني: هدفه من تأليف الكتاب: إن كل عمل جاد ناجح لا بدّ أن تكون له غاية يصبوا إليها، وهدف ينشد الوصول إليه، وبدونهما يكون العمل عبثًا، والكلام حشوًا، والجهد شقاء. وهذه الحقائق كانت حاضرة لدى شيخنا ابن بشير، إذ أفصح عنها في مقدمة الكتاب وفي تضاعف مسائله، فقال: ". وبعد، فإنه لما انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة الكتاب، ابتدأنا لهم موعدًا بقصد الإيجاز [والاختصار] دون التطويل والتكرار، وفيه من تحرير الدلائل وتقرير المسائل ¬

_ = قال المقري: وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابًا وهي: العرائس للثعالبي والنوادر للقالي وغيره، والذخيرة لابن بسام وغيره، والشمائل للترمذي والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره، والمطالع لابن قرقول وغيره، والمشارق للقاضي عياض وغيره، والقلائد لابن خاقان وغيره، ورصف المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله، والرسالة لابن أبي زيد وغيره، والواضحة لابن حبيب والمسالك للبكري وغيره، والجواهر لابن شاس وغيره والتهذيب في اختصار المدونة وغيره، والتنبيه لأبي إسحاق وغيره، ومنتهى السؤل لابن الحاجب والمحصول للإمام الرازي والغاية للنووي وغيره، والحاصل مختصر المحصول والمستصفى للغزالي. ولست أدري ماذا يقصد بقوله والتنبيه لأبي إسحاق فإن كان يقصد ابن بشير فلا إشكال وقد سبق أن أشرت إلى أنه كني بأبي إسحاق في أول كتابه الجامع على العرف الجاري من أن كل إبراهيم يلقب بأبي إسحاق. وإن كان يقصد أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن ملكون (ت) 581 هـ فهذا بعيد لأن كتابه التنبيه غير مشهور شهرة تنبيه ابن بشير. والله أعلم، (انظر ترجمة ابن ملكون في تكملة الصلة 1/ 135).

ما تشوقوا إلى نقله، وضعفوا عن حمله. فرأيت أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب ما يحصل به للجمهور الاستقلال، منبهاً على أوائل التوجيه والاستدلال ... وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة". وفي هذا الإملاء لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد، وفي ذلك لمن ترقى إليه ما يبلغه رتبة المبرز المُجيد .. ". وقال في آخر باب السهو "وقد استوفينا كثيراً من أحكام السهو ولا يشذ عنه إلا نوادر الصور، ومن حقق الأصول التي قدمنا، لم يشذ عنه شيء من هذا الباب" (¬1). وقال في آخر كتاب الصلاة الثاني: "وقد أتينا على الغرض من هذا الكتاب، ولا يشذ عما حصرنا إلا مسائل أتينا على أصولها" (¬2). وقال في أول كتاب الصيام: "وأما ما يجب بارتكاب الممنوعات؛ فنأتي فيه بكلام جلي يكتفي به الذكي ونحيل غيره على التفصيل" (¬3). وقال في باب زكاة الحبوب: " ... لأن القصد بيان المذهب والإشارة إلى مذهب المخالف" (¬4). من خلال هذه النصوص يتضح لنا أن ابن بشير رام تحقيق الأهداف التالية: 1 - إفادة طلبة العلم المتشوفين لمعرفة خلاف المذهب، وأدلته وتوجيهها. 2 - الإشارة إلى مذهب المخالف. 3 - إعطاء أصول ضابطة للمسائل، وقواعد جامعة للفروع، يستفيد منها الذكي، وإحالة غيره على التفصيل. ¬

_ (¬1) انظر ص: 598 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 695 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 701 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 915 من هذا الكتاب.

4 - إخراج من اقتصر على هذا الكتاب من زمرة أهل التقليد. 5 - جعل الكتاب مدخلاً إلى كتابه الآخر الأنوار البديعة إلى الأسرار الشريعة الذي من ترقى إليه بلغ مرتبة المبرز المجيد. هذه هي أهم الأهداف التي صرح بها ابن بشير وحاول تحقيقها من خلال هذا الكتاب. وهي أهداف جليلة، لا يحوم حولها إلا النظار، إذ جوهرها تعبيد الطريق للاجتهاد، والتمرس عليه وتحصيل رتبته. نعم لقد جاء في نسخة "ل"- التي لم أعتمدها لأسباب سيأتي ذكرها- ما نصه: "أما بعد فإنه لما انتهض خاطري إلى شرح كتاب المدونة، أردت أن أسلك فيه الإيجاز والاختصار ... ". ففي هذه النسخة ذكر سبباً آخر هو: رغبته في شرح كتاب المدونة. ولعل هذا ما جعل كثيراً من العلماء يذكرون ابن بشير ضمن شراح المدونة، ولكن من اطلع على الكتاب، لا يجده فيه سالكًا للشرح بالمعنى المعروف المتداول عند الشراح المتأخرين، وهو مباشرة المتن بالتوضيح والتبيين والتعليق. بل كل ما هناك أن ابن بشير حاول أن ينسج كتابه على منوال المدونة، وأن يحاذيه في الترتيب والتبويب والتراجم، وحرص على ذلك وأكده أكثر من مرة، فقال: "ولنجر على سنن الكتاب فنقول .. " (¬1) وقال: "وغرضنا محاكاة الكتاب" (¬2). وقال: "ونجري على ترتيب الكتاب" (¬3). وقال: "لكن شأننا في هذا الإملاء أن نبه على الترتيب الواجب ثم نحاذي رتبة الكتاب" (¬4) وهذا النمط من الشرح أو التعليق على المدونة لم يكن غريباً على المدرسة المالكية، فقد عرفت في هذا العصر- وخاصة بالقيروان - شروحًا وتعاليق على المدونة لا يلحظ فيها أي مسلك للشرح اللفظي ¬

_ (¬1) انظر ص: 214 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 216 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 247 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 698 من هذا الكتاب.

* المطلب الثالث: أسلوبه ولغته

للكتاب، وإنما تفصيل المذهب وتوجيه مسائله والتخريج عليها على نسق المدونة، دون العروج على ألفاظها بالبيان والشرح، وعلى هذا جرى اللخمي في تعليقته الشهيرة بالتبصرة. ولعله في ذلك مستفيد من القاضي عبد الوهاب في طريقته الفذة في شرحه على الرسالة وعلى مختصر ابن أبي زيد القيرواني، إذ أبان المذهب وبسط أدلته ورد على مخالفيه، دون التوقف عند ألفاظ الكتاب بالتعليق المباشر والبيان اللفظي. * المطلب الثالث: أسلوبه ولغته: الأسلوب السلس الفصيح من مجملات التأليف الفقهي. وقد أدرك العلماء قديماً هذه القضية، فعبر عنها ابن السيد البطليوسي بقوله: " ... إن الطريقة الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب مؤسسة على أصول كلام العرب" (¬1) ولقد توفرت هذه الحقيقة في جملة من كتب الخلاف، وكتب الفقه الشارحة لمتون الحديث كبعض شروح الموطأ والبخاري وغيرها، والعلة في ذلك كون هذه المؤلفات تتداخل فيها الأدلة والمناقشات والاعتراضات والاحتجاجات والافتراضات، مما يجعل الأسلوب الجاري على أساليب البلاغة ومقتضيات اللسان غالباً على هذا النمط. أما كتب التفريع المذهبي التي ينتمي إليها كتاب التنبيه، فإن طبيعة مادتها قد لا تسعف على الإتيان بذلك الأسلوب الذي يطمح إليه. وشيخنا ابن بشير واحد من جملة الفقهاء الذين سيطرت عليهم المادة الفقهية، فجاء أسلوبه علمياً عقلياً، تقريريًا قد تبدو عليه سمة الجفاف. رغم أن ألفاظه دقيقة ومركزة، وتراكيبه رصينة ومتأنية، وعباراته واضحة لا غموض فيها ولا التباس وليست في حاجة إلى شرح ولا تبيين، وبالجملة فأسلوبه أسلوب من يقرر الحقائق لا من يصف أو يستطرد أو يتخيل. ¬

_ (¬1) الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف ص 29، وانظر كذلك منهج البحث في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب أبو سليمان ص 214.

وقد اعتمد المؤلف في كتابه طريقة الإملاء (¬1)، متبعا النمط السائد بإفريقية في هذا الوقت في التعليق على المدونة حيث قال في المقدمة: "فرأيت أن أملي عليهم من خلاف المذهب" وقال أيضاً: "وفي هذا الإملاء لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد ... " والإملاء قد يكون من محفوظ أو مرتجلا .. بالإضافة إلى أن حرص المؤلف على محاذاة المدونة التي صيغت على شكل أسئلة وأجوبة أثرت على أسلوبه كذلك، وتركت بصمات واضحة فيه. فكثيراً ما يعالج المسائل الفقهية على شكل أجوبة يضع لها أسئلة. والأمثلة التي توضح ذلك كثيرة أختار منها ما جاء في باب زكاة العروض من كتاب الزكاة الأول: فمن ذلك قوله: "ولا يجوز عندنا أن يتطوع بالإخراج قبل البيع فإن فعل فهل يجزيه؟ " "هل تجب عليه الزكاة لعدم تحصيل حول يزكي فيه، أو لأنه لما أكثر الإدارة في العروض صارت في حقه كالعين؟ وعلى هذا اختلف المذهب فيمن كان يبيع العروض بالعروض ولا ينض له عين، هل يجب عليه التقويم أم لا؟ " "وإذا قلنا بوجوب الزكاة وإن لم ينض له شيء، فهل يخرج عرضا بقيمته أو يبيع ويخرج عينه؟ " "وإذا بارت عروض المدير فهل يخرج بذلك عن حكم الإدارة ويرجع إلى النوع الأول الذي تجب فيه الزكاة بالبيع؟ " "وهل يزكي المدير دينه؟ " "وهل يقوم المدير ما كان من الدين طعامًا من بيع؟ " "وهل يقوم المدير ما استغله من الثمار والحب؟ ". على هذا المنوال سار ابن بشير في معظم الكتاب يضع أسئلة ثم يجيب عنها. ¬

_ (¬1) قال ابن عابدين: (الأمالي جمع إملاء وهو: أن يقعد العالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتحه الله تعالى عليه من ظهر قلبه في العلم وتكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه فيصير كتابًا، فيسمونه الإملاء والأمالي، وكان ذلك عادة السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية وغيرها في علومهم فاندرست لذهاب العلم والعلماء وإلى الله المصير. وعلماء الشافعية يسمون مثله تعليقة. (مجموعة رسائل ابن عابدين. 1/ 17).

* المطلب الرابع: طريقة تنظيم الكتاب

ورغم هذا فقد أبى ابن بشير إلا أن يسير على النهج المألوف في وقته، المتسم بالحرص على اضفاء لمسة جمالية على اسم الكتاب ومقدمته. فصاغ عنوان الكتاب مسجعا، قصير الفواصل، شفاف المعنى، منمًا عن مضمون الكتاب. وسار على نفس النهج في المقدمة، فضمنها كثيراً من السجع، وأشار إلى دوافع تأليفه للكتاب ومنهجه الذي سار عليه، كل ذلك في أسلوب رشيق جميل، حرصًا منه على براعة الاستهلال التي تحسب في بلاغة الكتاب. * المطلب الرابع: طريقة تنظيم الكتاب: لقد حاولت أن أرصد المنهج الذي سار عليه ابن بشير في كتابه التنبيه على مبادئ التوجيه، فوجدته اتبع الخطوات التالية: قام بتقسيم الكتاب، إلى كتب وأبواب وفصول. فذكر لكل كتاب أو باب عنواناً، ولم يعنون الفصول غالباً. ثم إنه بعد ذكر عناوين الكتب والأبواب يأتي بمقدمة، يُعرف فيها ما يحتاج إلى تعريف في اللغة والاصطلاح. ثم يذكر حكم القضية الكلية المتناولة، معززا بالأدلة العامة التي تنبني عليها معظم فروع الكتاب أو الباب. وقد يستطرد أحياناً في هذه المقدمة، ويذكر بعض الحكم والعلل التشريعية كما جاء في كتاب الزكاة الأول وغيره. فإذا انتهى من ذلك؛ ذكر المحاور الرئيسية التي يريد طرحها في ذلك الكتاب أو الباب. وهذه نماذج توضح ذلك: 1 - قال في بداية كتاب الصيام: "والصوم في اللغة: الإمساك مطلقاً، وهو في الشرع: عبارة عن إمساك مخصوص في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وصوم رمضان من معالم الشريعة وأركان الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد الوجوب فهو كافر قطعًا؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافراً؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها. ويجبر على فعله عند القائلين بنفي التكفير، كما يجبر على فعل الصلاة.

والأصل في وجوبه الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وفيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وقد اختلف هل الإشارة بها إلى رمضان. وهو يسير بالنسبة إلى شهور السنة، فلهذا عبر عنه بأيام معدودات، أو إلى غيره. واختلف القائلون بذلك على ثلاثة طرق: أحدها أنها ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة، والثاني أنها أيام البيض، والثالث أنها يوم عاشوراء. وجمعت لأنها تتكرر في العدّ. فمن قال: الإشارة بها إلى رمضان، جعل ما بعدها من النص على أشهر بيانًا [للإجمال المتقدم]، ومن قال الإشارة بها إلى غيرها جعل ما بعدها من تعيين الشهر ناسخاً. واختلف في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هل هو منسوخ أم لا وهؤلاء يرون أنه كان في أول الإسلام المكلف يخير بين أن يصوم أو يفطر ويطعم، ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهو غير منسوخ، ومعنى يطيقونه أي يلزمون به [ويكلفون به، وإن كان عليهم في الأداء مشقة. وقد قرئ يطوقونه أي يلزمونه]. وسيأتي الخلاف في موضعه. والحامل والشيخ الكبير هل تلزمهما الفدية أم لا؟ وهو جار على هذا. وأما السنَّة فقد نقل وجوبه متواتراً، وتلقته الأمة بالقبول لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" فذكر فيها صوم رمضان. وأما الإجماع فهو ثابت قطعاً. قال أبو المعالي: المقصود بالصوم في الشريعة وجهان: أحدهما كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع. فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ". والوجه الثاني أن المقصود أيضاً كسر الشهوتين. لكن

ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع النفس عن شهواتها ومنعها من الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ". وإذا ثبتت هذه المقدمة، قلنا بعد هذا: المقصود من الكتاب ينحصر في خمسة فصول: أحدها شروط الصوم، والثاني أركانه، والثالث تفصيل ممنوعاته، والرابع حكم ما يجب بارتكاب الممنوعات، والخامس حكم مقتضيات الفطر". 2 - وقال في بداية قضاء المنسيات: "والأصل في قضائها الكتاب والسنَّة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} الآية، وإن احتملت فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى: يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. [وهذا يقتضي أن المراد بالآية إذا ذكرتك إياها، وقيل في تأويل الآية: إن معناها أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقيل: لنذكرك بها. وقراءة ابن شهاب: {أقم الصلاة للذكرى} يحتمل هذه الأوجه]. وأما السنَّة فمنها الحديث المتقدم آنفا. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن صلاة الصبح ثم قضاها بعد طلوع الشمس. وأما الإجماع فقد اجتمعت الأمة على وجوب قضاء المنسية من الصلوات إذا كانت خمسا فدون. ومذهب فقهاء الأمصار وجوب القضاء وإن زادت على الخمس قياسًا على المجمع عليه ووجوب قضاء ما تعمد تركه، لأنهم رأوا أن الآية تقتضي العموم [في العمد] وغيره إذا حملناها على موافقة ما ورد في الحديث من التأويل، ولأن القضاء إذا ثبت في المنسية والتي نام عنها - وإن كان الإثم ساقطا- فأحرى أن يجب في المتعمد تركها بثبوت الإثم في الترك [عامداً]. واقتصاره في الحديث على ذكر المنسيات والتي نام عنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وإذا ثبتت هذه المقدمة فإن النظر في هذا الباب ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها أوقات القضاء، والثاني لزوم الترتيب، والثالث حكم

* المطلب الخامس: طريقة تناوله للمسائل الفقهية

المنسيات في ترتيب بعضها على بعض. وإذا اعترى الشك في أيامها وأعيانها وأعدادها". على هذا النهج سار ابن بشر، في كتابه وقد أثبت هذين النموذجين على طولهما تجلية لذلك. أما بالنسبة للفصول، فإنه في الغالب الأعم يتركها بدون عناوين. وقد يتناول في الفصل الواحد عدة جزئيات وفروع متناثرة، وأحياناً يفرد بعض القضايا بفصول مستقلة. ثم إن ابن بشير آل على نفسه ألا يستطرد في ذكر الجزئيات والتفاصيل والأمور الواضحة، إلا أنه لم يتمكن من الوفاء بذلك أحياناً، وكثيراً ما يتنبه إلى أنه قد خرج عن المنهج الذي رسمه لنفسه. فيقول: "ولنقبض عنان البيان عن هذا المكان، وقد خرجنا في هذا الباب عن مقصود الكتاب." (¬1). ولكي يجعل الكتاب أكثر وضوحاً، وفي متناول طلبة العلم، قام بشرح الغريب الذي يستدعي شرحا، إذ نادراً ما يحتاج القارئ الرجوع إلى المعاجم اللغوية. فأصبح الكتاب بذلك تام الوضوح لا يحتاج إلى مزيد بيان. * المطلب الخامس: طريقة تناوله للمسائل الفقهية لقد اخترع ابن بشير طريقة جديدة، انفرد بها عن غيره، تقوم على الاختصار المبني على القواعد الأصولية (¬2). فقد حاول أن يجمع المادة الفقهية، وأن يذكر أقوال المذهب وفاقًا وخلافًا، وأن يذكر مبادئ الأدلة، مع الإشارة إلى أسباب الخلاف، وانتقاد الأقوال التي تخالف أصول المذهب، كل ذلك في حرص شديد على عدم الإطالة في الجزئيات والتفاصيل. فجاء الكتاب في شكل مختصر اختصارًا موسوعياً. ابتعد فيه عن ¬

_ (¬1) انظر ص: 555 من هذا الكتاب. (¬2) لقد أشار إلى هذا المنهج الأستاذ محمد شرحبيلي في كتابه تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ص: 553.

* المطلب السادس: منهجه في المسائل التي لا نص فيها في المذهب

الإطناب، واتسم بالوضوح والشمول. فقارئه لا يشعر بأنه أمام مختصر مغلق، لا يفهم إلا بواسطة الشروح أو الشروح والحواشي، كما أنه لا يشعر بأنه أمام كتاب مطول ممل، يغرق صاحبه في تتبع الجزئيات والفروع التي لا تنتهي. ومن أجل هذا نجد الباحثين المعاصرين اختلفوا في تصنيفه؛ هل هو ضمن الموسوعات (¬1) والمطولات؟ أو هو ضمن المختصرات؟ فالدكتور عمر الجيدي جعله ضمن الموسوعات المطولات (¬2) والدكتور محمد شرحبيلي جعله ضمن المختصرات (¬3). والحق أن الصفة التي تصدق عليه هو كونه مختصراً اختصارًا موسوعيًا. * المطلب السادس: منهجه في المسائل التي لا نص فيها في المذهب: يندر جداً أن نجد مسألة ليست من النوازل، لا نص فيها في المذهب ¬

_ (¬1) من لطائف ما يحضرني حول هذا المصطلح، قول بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه فقه النوازل 1/ 152: (وقد لهج المعاصرون بلفظ "موسوعة" وهو اصطلاح قريب العهد في صدر القرن الثالث عشر، وقد وقع ذلك في قصة لطيفة على لسان أحد الأعجميين، كما في مجلة الأزهر: "لواء الإسلام" 26/ 1158 بعنوان الآداب والعلوم. ومما جاء فيه ما نصه: "لطاش كبري زاده كتاب باسم: موضوعات العلوم، ولما كانت إحدى مكتبات القسطنطينية تدون فهرسًا لمحتوياتها. أملى أحد موظفيها اسم هذا الكتاب على أحد موظفي المكتبة بلفظ [موضوعات] لأن الأعاجم يلفظون الضاد بقريب من لفظ: الظاء، فسمع الكاتب الضاد: سينًا فكتب اسم الكتاب [موسوعة العلوم]، وسمع الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء باسم هذا الكتاب وموضوعه فخيل إليه أن كلمة موسوعات تؤدي معنى: دائرة معارف فأعلن ذلك في مجلته، وأخذ به أحمد زكي باشا وغيره، فشاعت كلمة موسوعة وموسوعات لهذا النوع من الكتب، وهي تسمية مبنية على الخطأ كما رأيت. وكان العلامة أحمد تيمور باشا وغيره يرون تسمية دائرة المعارف، باسم: معلمة، لأنه أصح وأرشق، وأدل على المراد منه"). (¬2) مباحث في المذهب المالكي 75، 80. (¬3) تطور المذهب المالكي ص 552، 553.

ولا تدخل في معنى المنصوص أو شيء من ضوابطه، يقول الجويني: "يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هي في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه." (¬1) وإن كان الجويني شافعياً فإن كلامه هذا ينطبق على سائر المذاهب. وعلى ندرة هذه المسألة، فقد حظيت بالاهتمام من طرف العلماء، وتناولوها بالدرس والنقاش. فالأحناف مثلاً يرون الرجوع والميل إلى المذهب المالكي عندما لا يجدون في مذهبهم قولاً في المسألة، على اعتبار أنه أقرب المذاهب إليهم (¬2). والمالكية اختلفوا، فبعضهم يرى وجوب العمل بالمذهب الشافعي، على اعتبار أن الشافعي تلميذ لمالك. والبعض يرى وجوب اتباع المذهب الحنفي، لقلة الخلاف بينهما. لكن الذي رجحه المحققون كالقرافي والأجهري هو الرجوع إلى المذهب الشافعي فيما لا نص فيه (¬3)، ولعل ابن بشير سار في هذا الاتجاه على الأقل في هذا الجزء الذي وقفت عليه، وقد لاحظت ذلك في مسألتين: الأولى: صرح فيها أنه عول على مذهب الشافعي وإن حكى في نفس الوقت مذهب أبي حنيفة. والثانية: لم يصرح فيها باعتماده على مذهب الشافعي، وإنما حكاه، ويستشف من حكايته هذه مع عدم حكاية المذاهب الأخرى، أنه مال إليه. والمسألتين هما كالتالي: ¬

_ (¬1) المسودة ص: 490. (¬2) انظر حاشية ابن عابدين 3/ 411. (¬3) نشر البنود 2/ 334 وحاشية العدوي 1/ 78.

الأولى: قوله فيمن عجز عن كل أفعال الصلاة ولم يبق له إلا النية

الأولى: قوله فيمن عجز عن كل أفعال الصلاة ولم يبق له إلا النية: " وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة. والذي عولنا عليه في المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب. فالمسألة في غاية الإشكال من [جهة أن التكليف لا يمكن إلا متمكناً ولا يقع التكليف إلا بممكن. ولكن] الاحتياط مذهب الشافعي، والرجوع إلى براءة الذمة هو مقتضى مذهب أبي حنيفة. ولا يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة [وإن وجد فيها نص] " (¬1). والثانية: قوله في المفاضلة بين الأفقه والأصلح في الإمامة: " وإن اجتمع الأصلح والأفقه، فلم أر في المذهب نصاً في هذه المسألة. وللشافعية قولان: أحدهما تقديم الأفقه مراعاة لقدرته على مراعاة إصلاح ما يعرض له في الصلاة من المفسدات الشواذ. والثاني تقديم الأصلح، إذا كان لَهُ من الفقه ما يمكن به أداء الصلاة وإصلاح ما يعرض له فيها من المفسدات المتكررة والتي ليست شاذة جداً" (¬2). * المطلب السابع: المنهج التأصيلي عند ابن بشير: لقد مر المذهب المالكي من حيث تأصيل المسائل الفقهية وربطها بأدلتها، قبل ابن بشير بعدة مراحل. المرحلة الأولى: مرحلة الانطلاق من النصوص مباشرة عند استثمار الأحكام، والاستئناس بآراء الصحابة والتابعين والتمسك بالتراث الفقهي لأهل المدينة، وهذه المرحلة يمثلها إمام المذهب نفسه. ¬

_ (¬1) انظر ص: 424 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 438 من هذا الكتاب.

المرحلة الثانية: مرحلة تدوين الأحكام مؤصلة ومرتبطة بأدلتها إقتداء بروح منهج الإمام. وقد تبلور هذا المنهج على يد كل من سحنون في المدونة وابن حبيب في الواضحة ونظرائهما. المرحلة الثالثة: مرحلة التخفيف من التأصيل والتقليل من الأدلة، وقد سُلك هذا الاتجاه تحت ضغط تنوع الأدلة وتضخم الكتب الفقهية. ويعد ابن أبي زيد القيرواني بكتابه مختصر المدونة، والنوادر والزيادات. والبراذعي، بكتابه التهذيب؛ رائدي هذه المرحلة. المرحلة الرابعة: مرحلة العودة إلى التأصيل مرة أخرى، والسير على المنهاج العلمي الأمثل والانطلاق من المنابع الأولى؛ القرآن والحديث في إطار قواعد المذهب وفروعه (¬1). وقد أحيى هذا المنهج كل من ابن يونس الصقلي (ت) 451 هـ، وأبو الحسن اللخمي 478 هـ والمازري 536 هـ وابن بشير. فابن بشير ينتمي إلى المرحلة الرابعة مرحلة العودة إلى التأصيل. وقد تجلت الصورة التأصيلية في كتابه التنبيه على مبادئ التوجيه، الذي اختار له هذا العنوان لينم عن مدى اهتمامه بتوجيه الأقوال وتأصيلها. إلا أن طبيعة الكتاب المتسم بالاختصار؛ جعلته لا يتوسع في ذكر الأدلة. بل يكتفي برؤوسها ومبادئها، حيث يقول مفصحاً عن منهجه في ذلك: "ولسنا لإكمال الحجاج وإنما نبهنا على أوائله" (¬2). ومن خلال نماذج من كتابه التنبيه أحاول تلمس معالم منهاجه، وأختار مثالين من كتاب الصلاة الثاني. ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه المرحلة في تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي من ص 375 إلى 452، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحقيب للمذهب هو اجتهاد مختلف فيه، فللفاضل بن عاشور تقسيم وللجيدي تقسيم، وهذا يدل على أن المسألة لا زالت في أمسّ الحاجة إلى مزيد من البحث. (¬2) انظر ص: 860 من هذا الكتاب.

المثال الأول قوله: "من كان إماماً فسلم من صلاته قبل كمالها، فقال له بعض المقتدين: إنك لم تكمل صلاتك، فقال: بل أكملت، وسأل غير المتكلم أولا، فأخبره أنه لم يكمل. فهل تصح هذه الصلاة أو تبطل؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور صحتها، والشاذ بطلانها. وقال سحنون: إن جرى ذلك في الصلاة الرباعية بعد ركعتين صحت الصلاة، وإن كان من غير الرباعية أو ليس بعد الركعتين بطلت. ووجه المشهور الاعتماد على الحديث في أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال: كل ذلك لم يكن، فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك. فسأل الناس فأخبروه بصحة ما قال ذو اليدين ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إكمال صلاته. ووجه الشاذ إما لأن الحديث لا يحكم بصحته. وقد تكلم عليه أصحاب أبي حنيفة [من جهة] أن الراوي أبو هريرة رضي الله عنه، ولهم في ذلك معان لسنا لها. وإما لأنه انفرد بنقله الآحاد. وإما لأن القياس مقدم عليه. وبين الأصوليين خلاف في تقديم القياس على خبر الآحاد. وإما لأن القصة جرت في زمن يجوز فيه النسخ ولم يتكلم ذو اليدين إلا وهو يجوز النسخ فعذر بذلك. بخلاف من يطرأ له ذلك بعد تقرر الشرائع واستحالة النسخ. وعلى هذا عول ابن كنانة القائل ببطلان الصلاة، وأجاب ابن القاسم عن هذا بأن غير ذي اليدين من الصحابة تكلموا بعدما علموا بأن الصلاة لم تقصر. وأما وجه قول سحنون، فهو أن القياس بطلان الصلاة، وقد وردت صحتها في صورة فيقتصر على ما وردت. ولا يجري القياس فيما عداها." (¬1). المثال الثاني قوله: "ولو نسي أن يسجد سجود السهو فلم يسجده حتى طال الأمر؛ فأما اللتان بعد السلام فيسجدهما متى ما ذكر، وأما اللتان قبله فهل تبطل الصلاة لتركها متى طال الأمر؟ في المذهب خمسة أقوال: ¬

_ (¬1) انظر ص: 577 من هذا الكتاب.

أحدها: أنها تبطل، وهو المشهور. والثاني: أنها لا تبطل، وهو الشاذ. والثالث: أنها تبطل إن كان السجود واجبًا عن نقص فعل، ولا تبطل إن كان عن نقص قول. والرابع: أنها تبطل لنقص الجلوس الأوسط وأم القرآن من ركعة واحدة، ولا تبطل إن كان من نقص غير ذلك. والخامس: أنها تبطل إن كان النقص في القول أو في الفعل، إلا أن تكون التكبيرتان وما في معناهما من قول "سمع الله لمن حمده". فأما القولان بالبطلان ونفيه فبناء على أن السجود واجب لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به فتبطل الصلاة لتركه، أو على أنه ليس بواجب لأنه بدل على غير واجب فلا تبطل الصلاة لتركه. وهذا الذي قلناه من كون المبدل غير واجب هو أصل المذهب وقاعدته. وانفرد أبو الوليد الباجي فرأى أن القول بالبطلان يقتضي أن المبدل عنه واجب، ورأى أن الصلاة على ثلاثة أضرب؛ منها إن كان لا يجزيه عنها إلا الإتيان بها ونفي ما قدمنا من الفروض. ومنها واجبات ينوب عنها السجود، وهذه التي عددناها آنفاً. ومنها فضائل هيئة لا تجبر. وهذا قياس على الحج فإنه على هذه الثلاثة الأقسام. وأما الأقوال الأخيرة فمبناها على تأكيد المتروك وعدم تأكده، فتأكد عند قوم لكونه فعلاً، وعند قوم لهذا أو بالخلاف في فرضيته كأم القرآن في ركعة، وعند قوم بهاذين، وبكثرة الأقوال". وبهذين المثالين تبرز النزعة التأصيلية الواضحة والمتمكنة في منهج ابن بشير، ورغم ميله إلى الاختصار والاكتفاء برؤوس الأدلة؛ يمكن أن تدفع به مع غيره ممن ساروا على نفس المنهج، التهمة التي حاول البعض إلصاقها بالمذهب المالكي. أعني دعوى عدم تأصيله واستناده إلى أقوال الرجال بدل الاستناد إلى النصوص من الكتاب والسنة (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر مباحث في المذهب المالكي في المغرب ص 271.

المبحث الثاني: الخلاف الفقهي عند ابن بشير

المبحث الثاني: الخلاف (¬1) الفقهي عند ابن بشير لقد ظهر الخلاف في المسائل الفقهية من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه عليه السلام، وأقرهم على ذلك (¬2). وقد ظهر الحديث عن الخلاف في وقت مبكر جداً. ومن بين أقدم المؤلفات في هذا الميدان: الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن الشيباني (ت) 189هـ. وقد كانت مناهج العلماء الخائضين في هذا المجال في بداية الأمر لا تخرج عن منهجين اثنين: الأول: منهج سرد الأقوال والآراء الفقهية مجردة من أدلتها وأصولها، أو مع ذكر بعض الأدلة والأصول من غير قصد إلى الترجيح والاختيار. ومن جملة من سلك هذا المنهج نجد: أبا عبد الله محمد بن نصر المروزي ت 294هـ في كتابه اختلاف العلماء. وأبا جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه اختلاف العلماء كذلك. ¬

_ (¬1) لقد حاول البعض التمييز بين الخلاف والاختلاف. والذي عليه المحققون؛ أنه لا فرق بينهما. انظر تفصيل ذلك في نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء ص: 179، وتهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك 1/ 103، والتصنيف الفقهي في المذهب المالكي الخلاف العالي نموذجًا 2/ 202. (¬2) فمن بين اختلافهم بين يديه عليه السلام ما أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 321 عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحداً منهم. ومن ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه 1/ 93 عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا. ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت السنَّة وأجزأتك صلاتك". وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين". انظر تفصيل ذلك في جامع بيان العلم وفضله 2/ 78.

وكأن أصحاب هذا المنهج يعتمدون على مشروعية الخلاف، أو يرون أن كل مجتهد مصيب ما دام الخلاف مشروعاً ومقصوداً. الثاني: منهج من يسرد الأقوال والآراء الفقهية، معززة بأدلتها وأصولها، مع قصد الترجيح والاختيار ونصرة مذهب من المذاهب أو رأي من الآراء. وقد شحنت مؤلفات أصحاب هذا المنهج بأساليب أهل الجدل والمناظرة. أو أساليب أهل الحديث والأثر الذين يركزون على دراسة الأسانيد وضبط المتون، كالتمهيد لابن عبد البر وغيره. وفي القرن الخامس وفي الغرب الإسلامي بالتحديد، حصل تقدم وتطور نوعي في تعامل الفقهاء مع الخلاف الفقهي، فقد نقلوا الدرس الفقهي من سرد للخلاف، أو الانتقاء منه، إلى تعليل الخلاف وتأصيله وتقعيده وذكر أسبابه ومبرراته. وقد تناول علماء الغرب الإسلامي هذه القضية من شقين: شق نظري مجرد قصد به، حصر أسباب الخلاف الرئيسية. وشق تطبيقي قصد به ربط الفروع بتلك الأسباب. ولعل أول من تحدث بوضوح عن الشق النظري هو: ابن حزم الظاهري في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، (¬1) وقد لخص أسباب الخلاف في عشرة نقاط، تعتبر أصولاً ترجع إليها كل الأسباب الفرعية (¬2). ثم تبعه بعد ذلك ابن السيد البطليوسي، فأفرد المسألة بكتاب مستقل (¬3)، وإن تحدث فيه عن أسباب الخلاف عمومًا في الفقه وأصول الدين وغيرهما، ثم جاء بعد هؤلاء الشاطبي (¬4) وابن ¬

_ (¬1) نعم إن الشافعي أشار إلى شيء من ذلك قبل ابن حزم إلا أنه لم يكن واضحاً مثل ابن حزم- انظر الرسالة ص: 213. (¬2) الإحكام: 2/ 248. (¬3) والكتاب هو: الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الخلاف بين المسلمين في آرائهم. (¬4) انظر الموافقات: 4/ 119.

* المطلب الأول: اقتصار ابن بشير على ذكر الخلاف داخل المذهب

جزي (¬1) وغيرهما، ولم يظهر التأليف في هذه القضية عند المشارقة- حسب علمي- إلا في القرن الثامن على يد ابن تيمية، في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام. أما الشق التطبيقي الذي يتتبع المسائل الخلافية، ويذكر سبب الخلاف في كل مسألة؛ فقد ظهر في القرن الخامس. ومن رواده الأوائل: اللخمي، وعبد الحميد الصائغ، والمازري، وابن بشير، وهؤلاء كلهم مالكية من الغرب الإسلامي، ولا أعلم للمشارقة كتاباً ألف على هذا المنوال الذي يتتبع المسائل الخلافية، ويعللها ويبين أسبابها ودواعيها. وما إن انتشر هذا المنهج الجديد، وتداوله المالكية في الخلاف الداخلي بالخصوص، حتى أنجب الغرب الإسلامي جهبيذًا التقط الخيط وخطى به خطوة إلى الأمام، أعني أبا الوليد محمد بن رشد الحفيد ت 595هـ الذي استفاد من جهود سابقيه، ووظف ما قالوه في الخلاف العالي، وخرج على الناس بكتاب غاية في السبك والإحكام فبهر أعينهم ونال إعجابهم، إلا أن هذا المنهج لم يكتب له الاستمرار إذ آخر من سار على هذا المنهج هو أبو الحسن علي بن سعيد الركراكي من علماء القرن السابع (¬2) في كتابه مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل. * المطلب الأول: اقتصار ابن بشير على ذكر الخلاف داخل المذهب: إن أهم ما يلاحظه المطلع على الكتاب؛ هو كثرة إيراده للأقوال والخلاف داخل المذهب. وقد استغرب البعض كثرة هذه الأقوال في المذهب وسأل عنها فقيل له: "ذلك لكثرة نظاره في زمان إمامه، وقد أخذ عنه مشافهة، نحو ألفين كلهم مجتهد، أو قارب الاجتهاد" (¬3). ومهما يكن ¬

_ (¬1) انظر تقريب الوصول إلى علم الأصول ص: 168. (¬2) ترجمته في كفاية المحتاج ولم يذكر تاريخ وفاته 1/ 336. (¬3) نيل الابتهاج 357، 358.

من أمر فإن المسألة ظاهرة صحية، تدل على مرونة المذهب، وإمكان استيعابه لأراء متعددة داخل دائرته. ولعله من هذا المنطلق حرص ابن بشير على إيراد هذه الأقوال، بل نص على أن من مقاصده في هذا الكتاب ذكر خلاف المذهب. فقال في المقدمة: "فرأيت أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب، ما يحصل به للجمهور الاستقلال، منبهًا على أوائل التوجيه والاستدلال". وقال كذلك في كتاب الصلاة الثاني: "هذا أصل الكلام في صلاة الخوف على المذهب وفاقًا وخلافاً." (¬1). والكتاب كله شاهد على هذا، فإن كانت المسألة متفقا عليها أشار إلى ذلك. وإن كانت مختلفا فيها داخل المذهب، ذكر ذلك الخلاف. وطريقته في ذلك؛ أن يبدأ بذكر المشهور، ثم يثني بالشاذ، وقد يخالف هذه الطريقة في بعض الأحيان كما هو الشأن في المثالين التاليين، حيث قدم الشاذ على المشهور: أ- "واختلف هل الأفضل في تشييع الجنازة المتقدم عليها، أو التأخير؟ على ثلاثة أقوال: أحدها أن الأولى المتقدم. والثاني بالعكس، وهما شاذان. والثالث هو المشهور، أن المشاة يتقدمون والركبان يتأخرون." (¬2). ب- "قال في الهارب بماشيته: ولا شك أنه متعد في الهروب، فالواجب عليه متعلق بذمته. فلا يختلف المذهب في ذلك، لكن اختلف إذا زادت نعمه بعد أن كانت ناقصة في أعوام، هل يؤخذ بما يوجد في يده من الزيادة على سائر الأعوام؟ وهو الشاذ من المذهب، أو يؤخذ عن كل عام بما في يده؟ وهو المشهور ... " (¬3). وفي كثير من الأحيان يذكر الأقوال بدون أن ينص على شهرتها أو ¬

_ (¬1) انظر ص: 644 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 690 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 907 من هذا الكتاب.

شذوذه، فيكتفي بقوله: القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، والثالث ... الخ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكتاب يعد مصدراً هاماً لمعرفة الأقوال التي حكم عليها تحت ضغط مؤثرات مختلفة بالشذوذ، فأغفلها كثير من الناس، والحاجة ماسة إليها في عصرنا هذا الذي لا بدّ لنا فيه من اللجوء إلى الاجتهاد الانتقائي في المسائل المبحوثة، والإنشائي في المسائل المستجدة. أما بالنسبة للمذاهب الأخرى؛ فإنه يكتفي بالإشارة إليها من حين لآخر، وهي إشارات قليلة، ولا ضير في ذلك إذ الكتاب في الخلاف داخل المذهب، وليس في الخلاف العالي، وقد ألمع إلى هذا ابن بشير فقال: "لأن القصد بيان المذهب والإشارة إلى مذهب المخالف ... " (¬1). وإشاراته مقصورة غالباً على المذهب الشافعي والحنفي. وقد يشير من حين لآخر لغير هؤلاء من المجتهدين كالليث بن سعد، وداود الظاهري، وغيرهما. أما الإمام أحمد فإني لم أقف له على أية إشارة، ولعل هذا راجع إلى ما كان رائجا آنذاك من عد الإمام أحمد من المحدثين لا من الفقهاء. ومن مصطلحاته في هذا الشأن؛ أنه يطلق على علماء غير المذهب لفظة الناس، كما في النماذج التالية حيث قال: "لكن اختلف الناس والمذهب." (¬2) "وقد اختلف الناس فيه وفي المذهب قولان" (¬3) "وأما أوقات النوافل فإنه يحرم أداؤها عند طلوع الشمس وعند الغروب بإجماع. واختلف الناس فيما عدا ذلك، ولسنا للاختلاف ... " (¬4) "واختلف في العشر الأواخر وسنذكر خلاف الناس فيها" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ص: 915 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 931 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 431 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 495 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 773 من هذا الكتاب.

* المطلب الثاني: ثمرة الخلاف

واستعماله لهذا المصطلح لا يشم فيه أية إشارة إلى التنقيص، أو اللمز كما هو مستعمل عند البعض (¬1). * المطلب الثاني: ثمرة الخلاف: ثم إن ابن بشير لم يقتصر على سرد الخلاف والتعرض للأقوال. بل تعدى ذلك إلى ذكر ثمرة الخلاف وفائدته، والتي بها يتضح للقارئ ما يترتب على كل قول عند تفعيله. وهذا كله يساعد على الترجيح والاختيار وينمي ملكة النظر عند المحصلين. ومن أمثلة ذلك قوله في باب زكاة الفطر: "فأما زمان الخطاب بها ففي المذهب اضطراب يؤخذ من مسائل مفردة في المذهب. ويتحصل من ذلك أربعة أقوال: أحدها أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، [والثاني من طلوع الفجر، والثالث من طلوع الشمس، والرابع أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر]، لكن وجوباً مُوَّسعاً آخره غروب الشمس من يوم الفطر ... وفائدة هذا الخلاف فيمن ولد أو أسلم أو مات أو بيع [من العبيد] في ما بين هذه الأزمان، هل تجب فطرته؟ أو لا تجب على المولود والداخل في الإسلام؟ وهل تسقط عن الميت؟ " (¬2). وقوله كذلك: "وإن كان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فهل يخرج عند غروب الشمس قياساً على الأول أو بعد طلوع الفجر؟ في المذهب قولان: البقاء إلى طلوع الفجر، لأنه المروي عن الرسول عليه السلام. وإذا قلنا إنه يبقى إلى الطلوع فهل على جهة الوجوب أو على جهة الندب؟ في المذهب قولان ... وثمرة الخلاف لو فعل بعد خروجه فعلاً يضاد الاعتكاف فهل يفسد ¬

_ (¬1) هناك من يقول بأن الإمام البخاري يطلق كلمة الناس على الأحناف تنقيصًا لهم. (¬2) انظر ص: 933 من هذا الكتاب.

* المطلب الثالث: الخلاف في الحال

اعتكافه ويبتدئه من الأول أم لا؟ فإن أوجبنا الإقامة فسد اعتكافه وابتدأه من الأول، وإن قلنا باستحبابه لم يفسد. وقيل إنه يفسد بنفس الخروج." (¬1). * المطلب الثالث: الخلاف في الحال: ومن منهجه أيضًا في تعامله مع المسائل الخلافية؛ التمييز بين الخلاف الذي يكون بتباين الأقوال، وهو المعروف بخلاف في فقه. والخلاف في الحال، أو الخلاف في شهادة، الذي يتفق فيه على أصله، ويختلف في حصوله في محل النزاع. فمن الفقهاء من يرى حصوله في محل النزاع، ومنهم من لا يرى ذلك فيقع الخلاف. وقد أكثر ابن بشير من التنبيه على هذا النوع من الخلاف. قال ابن راشد القفصي (ت) 736 هـ: " ... وقد يتفق على سببية السبب وشرطية الشرط، ويختلف هل وقع ذلك في محل النزاع أو لا؟ وعن هذا يعبر ابن بشير بأن الخلاف في شهادة، وإذا تأملت ذلك ظهر لك سبب الاتفاق والاختلاف، فاحتفظ بهذا الأصل فإنه جيد جدا" (¬2)، وقال الونشريسي: "ولأجل تغيير الفوائد في الأموال والسكك وغيرهما، جمع العلماء الأقوال المختلفة الصادرة عن أئمتهم المتقدمين على وقتهم، فقالوا في كثير من مسائل الخلاف هو خلاف في حال لا خلاف في مقال، وللشيخ أبي الطاهر بن بشير التنوخي عناية بالجميع في كثير من مسائل الخلاف، وردها إلى خلاف في حال." (¬3). فمن خلال هذين النصين، يتبين أن ابن بشير يتميز باعتنائه واهتمامه بهذا النوع من الخلاف. وهذه أمثلة توضح ذلك: - أولاً: قال في إزالة النجاسة من المخرجين بالأحجار: "وهل يكتفي للمخرجين بثلاثة أو يطلب لكل واحد ثلاثة؟ قولان. وهو خلاف في ¬

_ (¬1) انظر ص: 768 من هذا الكتاب. (¬2) لب اللباب ص: 5. (¬3) المعيار 8/ 467.

* المطلب الرابع: خلاف التنوع

شهادة، هل يتلطخ الحجر بأحدهما فلا يكفي في الآخر، أو يمكن أن يحصل الانتقاء في الموضعين بثلاثة." (¬1). - ثانياً: قال في تطهير الزيت من النجاسة: "وهل يطهر الزيت وسائر الأدهان بعد تنجيسها بماء يقع فيها؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يطهر، والشاذ أنه يطهر وهو خلاف في شهادة ترجع إلى الحس، وذلك أن الأدهان لا تمتزج بها النجاسة امتزاجاً لا يمكن انفصالها عنها، بخلاف امتزاج سائر الأطعمة. وإذا تقرر ذلك فهل يمكن أن يبلغ إذا غسل منها مبلغاً يذهب النجاسة ويبقى الدهن على أصله؟ هذا محل الخلاف وهو محال على شهادة." (¬2). - ثالثًا: قال في تنزيل التنحنح في الصلاة منزلة الكلام فيها: "وهل يتنزل التنحنح بمنزلة الكلام؟ أما إن كان بغلبة فلا خلاف في صحة الصلاة، وأما إن كان بغير غلبة، ففي المذهب قولان: أحدهما أنه بمنزلة الكلام، ينظر في السهو والعمد إلى ما قدمناه. والثاني أنه ليس بمنزلته، وهو خلاف في شهادة تصوره هل تتركب منه حروف كما تتركب من الكلام، أم لا يتركب ذلك؟ وهكذا اختلفوا في النفخ هل يتنزل منزلة الكلام، وهو على ما قدمناه" (¬3). * المطلب الرابع: خلاف التنوع كما أنه كثيرًا ما ينبه على نوع آخر من الخلاف يمكن الاصطلاح عليه بخلاف التنوع، أو خلاف الهيئات والصور، وهذا النوع من الخلاف تكون كل صوره وهيئاته جائزة، وتبرأ ذمة المكلف بفعل أيهما شاء. ومن أمثلته: قوله: "وهل يشير بالمسبحة أو يمدها غير محرك لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها أنه يشير بها. فقيل المراد بذلك طرد الشياطين وقمعها. وهذا ¬

_ (¬1) انظر ص: 246 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 294 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 499 من هذا الكتاب.

* المطلب الخامس: ما لا ينبغي أن يختلف فيه

أيضاً تحقيق معناه، أنه يقرر على نفسه ما يذكر من التشهد. ويذكرها بالتقصير عن معاني ما يذكره ويمنعها أيضاً من الغفلة عن ذلك. والقول الثاني أنه [يبسط مسبحته غير محرك لها. قيل المراد بذلك الإشارة إلى الوحدانية. والقول الثالث أنه] يبسطها موحداً إلى أن يبلغ قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" فيشير بأصبعه مقررا على نفسه جميع ما يلزمه الإيمان به. وهذا كله لا ينبغي أن يعد خلافاً، وإنما يعد هيئات" (¬1). * المطلب الخامس: ما لا ينبغي أن يختلف فيه: بقدر حرص المؤلف على ذكر الخلاف، فإنه لا يعزب عنه ذكره المسائل المتفق والمجمع عليها، إما داخل المذهب أو حتى خارجه، والمسألة واضحة نستغن عن تكلف الأمثلة والشواهد لها. لكن الذي ينبغي أن يشار إليه، هو أن ابن بشير لم يتوقف عند ذلك، بل تعداه إلى ذكر المسائل التي لا ينبغي أن يختلف فيها. وكأنه يريد بذلك سد الباب على من يريد أن ينشئ خلافاً بدون وجود أسبابه ودواعيه، وهو ما يمكن أن نسميه بالخلاف المرفوض، الذي لا مسوغ له ولا مبرر. ومن أمثلة ذلك قوله في الواجب بارتكاب الممنوعات: "ويتعلق بارتكاب الممنوعات ثلاثة أشياء: القضاء والكفارة وقطع التتابع، ولا يخلو المرتكب من أن يكون معذوراً أو غير معذور؛ فإن كان معذورا بالنسيان أو بالغلط في التقدير؛ وجب القضاء في جميع أقسام الصيام إلا في التطوع فلا يجب بلا خلاف على هذا. وهل يستحب؟ في المذهب قولان، وهكذا نقل. ولا ينبغي أن يختلف في استحبابه، لأنه فعل بر." (¬2). وقال في باب حكم التحريم بالمصاهرة: "وقد قدمنا أن مقدمات الوطء؛ كالوطء، وهذا إذا كانت اللذة. فإن كان لمس وما في معناه لغير لذة؛ فإنه لا تنتشر الحرمة، وإن كان للذة من غير بالغ ففيه قولان، وهذا ¬

_ (¬1) انظر ص: 418 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 701 من هذا الكتاب.

* المطلب السادس: أسباب الخلاف عند ابن بشير

إنما يصح في المميز. وأما من لا يميز اللذة من غيرها، فينبغي ألا يختلف فيه." (¬1). * المطلب السادس: أسباب الخلاف عند ابن بشير لقد سبقت الإشارة إلى أن ابن بشير ينتمي إلى مدرسة تعليل الخلاف التي ولدت وازدهرت في الغرب الإسلامي. والمتتبع للكتاب يلاحظ حرص ابن بشير على ذكر سبب الخلاف في معظم المسائل الخلافية التي أوردها في كتابه، ويعبر عن ذلك بأساليب متعددة فإما أن يقول: "وسبب الخلاف كذا" أو "الخلاف آيل إلى كذا" أو "منشأ الخلاف كذا" أو "مثار الخلاف كذا". وقد لا يصرح في بعض الأحيان بذلك وإنما يستشف من خلال كلامه. ولعل حرص ابن بشير على ذكر سبب الخلاف؛ راجع إلى أهمية هذا الأخير في معرفة أصول الآراء الفقهية وأسسها، ومناهج العلماء في استنباط الأحكام واستثمارها من مصادرها. وهذا كله يخدم مقصده من الكتاب، الذي يهدف منه إلى تمرين المتفقة على الاجتهاد، والارتفاع به عن التقليد. والمتأمل في أسباب الخلاف التي ذكرها ابن بشير، يرى أنها كثيرة جدًا ومتنوعة، والغالب عليها القواعد الخلافية التي وردت بصيغة الخلاف، وانبنى على الخلاف فيها خلاف في مسائل فرعية وهي؛ إما قواعد أصولية أو فقهية. فمن القواعد الأصولية قوله: "هل تحمل أوامره على الوجوب أو على الندب" (¬2) "هل يخصص العموم بالعادة أم لا؟ " (¬3) "هل الأمر يقتضي الفور، أم للمكلف التراخي؟ " (¬4). - ومن القواعد الفقهية قوله: "هل كل جزء من الصلاة عبادة قائمة ¬

_ (¬1) كتاب النكاح الثاني. (¬2) انظر ص: 240 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 241 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 267 من هذا الكتاب.

بنفسها أو يقال صحة أوائلها موقوف على صحة أواخرها؟ (¬1) " "من ملك أن يملك هل يعد مالكاً؟ " (¬2) "هل يعلق الحكم على الصور النادرة أم لا؟ " (¬3). - وقد يكون الخلاف راجعاً إلى النصوص. ومن ذلك قوله: "اختلاف آيتين" (¬4) أو "اختلاف الظواهر" (¬5) أو "تعارض آية وحديث" (¬6). - وقد يكون الخلاف راجعاً إلى مسائل لغوية، ومن ذلك قوله: "هل الأسماء تحمل على الأوائل أو الأواخر" (¬7)، "هل "إلى" لانتهاء الغاية أو للجمع" (¬8) "الاختلاف في اسم الوجه" (¬9). - وقد يكون الخلاف راجعاً إلى مسائل تتعلق بعلوم الحديث، ومن ذلك الاختلاف في ثبوت الحديث (¬10) - والاختلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ (¬11) أو قبول رواية الصحابي غير الفقيه (¬12) ... وقد يكون الخلاف راجع إلى غير ذلك كالاختلاف في رعي الخلاف (¬13) أو الاختلاف في التعليل (¬14) أو الاختلاف في التغليب (¬15) ... إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) انظر ص: 483 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 810 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 254 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 258 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 412 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 415 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص 259 من هذا الكتاب. (¬8) انظر ص: 284 من هذا الكتاب. (¬9) انظر ص: 218 من هذا الكتاب. (¬10) انظر ص: 455 من هذا الكتاب. (¬11) انظر ص: 389 من هذا الكتاب. (¬12) انظر ص: 489 من هذا الكتاب. (¬13) انظر ص: 250 من هذا الكتاب. (¬14) انظر ص: 267 من هذا الكتاب. (¬15) انظر ص: 324 من هذا الكتاب.

وحتى لا يبقى الكلام نظرياً أرى أنه من الضروري أن أورد أمثلة توضح منهج ابن بشير في تعرضه لسبب الخلاف. وأكتفي بذكر ثلاثة أمثلة: الأول: قال فيمن شك في طلوع الفجر هل يباح له الأكل في رمضان أم لا؟ "وأما إن شك فهاهنا قولان: كراهية الأكل، وتحريمه. ورأى ابن حبيب أن القياس الإباحة. وسبب الخلاف استصحاب حالين: أحدهما إباحة الأكل، والثاني وجوب الصوم؛ فمن نظر إلى استصحاب زمن الليل؛ أجاز الأكل أو كرهه مراعاة للخلاف، ومن نظر إلى وجوب استصحاب الصوم منع إلا أن يتيقن بالجواز" (¬1). الثاني: "وإذا وجبت الزكاة فأديت إلى فقراء الموضع الذي وجبت فيه، أجزت بلا خلاف. فإن أديت إلى غيرهم؛ فإن كان بأهل الموضع حاجة وغيرهم ليس بمنزلتهم، لم تجز، وإن تساوت الحالات فهل يجزي إخراجها إلى غير الموضع الذي وجبت فيه؟ فالمذهب على قولين. وسبب الخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "فأخبرهم -يعني أهل اليمن- أن الله أوجب عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"، فهل يحمل ذلك على فقراء المسلمين أو فقراء أهل الموضع؟ هذا سبب الخلاف ... " (¬2). الثالث: قال في باب الكفارة في الصيام "وأما الكبرى فقد اختلف المذهب في صفتها؛ فالمشهور: أنه ليس فيها إلا الإطعام. لكن اختلف المتأخرون هل ذلك من باب الأولى ويجزئ غيره، أو من باب الأوجب فلا يجزئ غيره. والشاذ أن يكون بالإطعام وغيره. وإذا قلنا بهذا فهل تتنوع بقدر أنواع الموجب، أو تكون على حدٍّ سواء؟ في المذهب قولان: والأشهر تساويهما وإن اختلف الموجب. والشاذ أنها بالإطعام إن كانت بغير ¬

_ (¬1) انظر ص: 703 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 839 من هذا الكتاب.

جماع، وعتق أو صيام إن كانت بالجماع. وإذا قلنا بالتساوي فهل هي على التخيير ككفارة الأيمان أو على الترتيب ككفارة الظهار؟ في ذلك قولان. وإذا قلنا بالتخيير هل يبتدأ بالطعام أولاً أو بالعتق؟ في ذلك قولان. وسبب الخلاف اختلاف ظواهر، فَعَوَّلَ في المشهور على قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وحمله على الكفارة الكبرى بتعمد الفطر. وقد قدمنا الخلاف في معنى الآية. ومن فرَّق بين الموجب رأى أن الآية محمولة على الفطر بغير الجماع، والأحاديث تقتضي الفطر بالجماع، ونظر أيضاً إلى أن الأشد والآثم [يجب على الأشد في الارتكاب] والجماع أشد والشهوة فيه أغلب، فكان الواجب عنه أكبر من الواجب عن غيره. ومن قال بالترتيب عوَّل على ما في بعض الطرق من أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل المستفتي له هل يستطيع إعتاق رقبة؟ فلما أخبره بعدم قدرته على ذلك سأله عن استطاعته الصوم، فلما أخبره بالعجز عنه سأله عن القدرة عن الإطعام. فهذا يقتضي الترتيب ككفارة الظهار، ولأنها أيضًا تنوعت بأنواع الظهار ومقدرة بقدرها فتجب المساواة بينهما. ومن خيَّر فلما في بعض الطرق من التخيير، وكأن من يرى أن الأولى الابتداء بالعتق يراعي مذهب المرتبين، ومن يرى الابتداء بالإطعام يراعي مذهب المقتصرين عليه. هذا مبادئ سبب الخلاف بحسب ما يليق بهذا المجموع ... " (¬1). نلاحظ من خلال هذه الأمثلة كيف أن ابن بشير يذكر الأقوال وسبب الخلاف باختصار وتركيز بل صرح في آخر المثال الثالث بأنه اكتفى بذكر مبادئ أسباب الخلاف. وهذا هو المنهج الذي سار عليه في الكتاب، فقد آثر عدم الإطالة والتوسع في هذا الباب، وإنما أتى بما فيه الكفاية. ... ¬

_ (¬1) انظر ص: 752 من هذا الكتاب.

المبحث الثالث: النقد عند ابن بشير

المبحث الثالث: النقد عند ابن بشير ينتمي ابن بشير إلى المدرسة النقدية التي أسسها أبو الحسن اللخمي في القرن الخامس، والتي كان من روادها بالإضافة إلى ابن بشير؛ المازري وابن رشد الجد والقاضي عياض وغيرهم. يقول الفاضل بن عاشور: "فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم، هي: الطريقة النقدية، التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي، فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس أو مشدد على الناس إلى غير ذلك. وهي الطريقة التي درج عليها الإمام المازري في شرحه على التلقين للقاضي عبد الوهاب، ودرج عليها ابن بشير في شرحه على المدونة الذي سماه التنبيه على مسائل التوجيه ... " (¬1). * المطلب الأول: مجانبة ابن بشير للتعصب وقبل الحديث عن منهجه النقدي لا بدّ لنا من التعرض لقضية تعتبر أساساً للنقد السليم ومعياراً للتقويم النزيه، أعني الإنصاف ومجانبة التعصب الذي ابتلي به بعض الفقهاء، فانساقوا وراء أهوائهم وتحاملوا على مخالفيهم. فجاءت معظم انتقاداتهم متابعة لأهوائهم. والشيخ ابن بشير رحمه الله معافى من ذلك في الجملة، فإنصافه لغير المالكية فضلاً عن المالكية واضح جلي، وربما امتدح رأي المخالف وتوجيهه مومئاً أو مصرحاً بضعف رأي المذهب وتوجيهه، ويستحسن أن أذكر أمثلة توضح ذلك: المثال الأول قال: "وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فلم يقرأ، ¬

_ (¬1) المحاضرات المغربيات ص: 81.

فقيل له في ذلك، فسأل عن الركوع والسجود هل أكملت؟ فقيل له أكملت، فقال: لا بأس إذاً. وقد تأول المالكية ذلك على أنه أعاد. وهذا بعيد؛ لأنه يبطل معنى سؤاله عن الركوع والسجود. وتأوله الشافعية على أنه ترك الجهر ولم يترك القراءة جملة. وهذا أقرب من التأويل الأول" (¬1). المثال الثاني: " ... وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ [وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ] وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ". وقد تعلق أصحابنا بهذا الحديث في أن المعدَن غير الركاز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهما باسمين مختلفين. والظاهر أنه لا دليل في ذلك بل [يكاد أن] يكون حجة لأبي حنيفة القائل بأن ما يوجد في المعدن فيه الخمس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم على حكمين مختلفين، فأخبر بأن ما سقط في المعدن أو يسقط عليه المعدن، فهو جبار لا دية فيه. ثم أخبر أن في الركاز الخمس، أي في الركاز الذي يكون في المعدن. وبهذا يحسن تأليف النظم في الحديث، ولسنا لإكمال الحجاج، وإنما نبهنا على أوائله." (¬2). فهذه النصوص معبرة بوضوح على إنصافه وعدم تعصبه لمذهبه وتعسفه على مخالفه، وهي ليست في حاجة إلى تعليق، فالنص الأول صرح فيه ببعد تأويل المالكية وقرب تأويل الشافعية. والنص الثاني صرح فيه كذلك بأن ما تعلق به المالكية لا دليل لهم فيه بل هو حجة للأحناف (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص: 407 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 860 من هذا الكتاب. (¬3) قارن موقفه هذا مع من يتعصب لرأي أصحابه وينتصر لهم رغم اعتقاده رجحان رأي المخالف. أذكر هنا مثالاً على ذلك أبا الخطاب الكلوذاني الحنبلي (ت510) الذي صرح في موضعين من كتابه التمهيد بضعف مذهب أصحابه وأصر على نصرته رغم ذلك، وقد صرح بذلك في موضعين من الكتاب. الأول: في مسألة دخول المؤنث في المذكر السالم عند الخطاب وذكر فيها قولين: أحدهما: أنه يدخل، والقول الثاني: أنه لا يدخل وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقال عنه: (وهو الأقوى ولكن ننتصر لرأي شيخنا). انظر التمهيد في أصول الفقه 1/ 291. =

ورغم هذا فإن ابن بشير رمي بالتحامل والتعسف في انتقاده للخمي. فقد ورد في طبقات المالكية لمجهول: "وكان بينه وبين أبي الحسن اللخمي قرابة وتعقبه في كثير من المسائل، ورد عليه اختياراته الواضحة في التبصرة وتحامل عليه في كثير منها، قال ابن ناجي: كان بعض من لقيته يقول: تعسف ابن بشير هنا كعادته معه في كثير من المسائل، وتعسفه عليه بين لمن وقف على كتابه التنبيه" (¬1) والحق أن المطلع على كتاب التنبيه يلاحظ أن ابن بشير انبرى للرد على تخريجات واختيارات اللخمي، ويلاحظ أنه خص أقواله واختياراته باهتمام زائد على غيره. ومرد ذلك في رأيي؛ جنوح اللخمي الواضح إلى كثرة التخريج، والترجيح، والنقد، والاستقراء، والاختيار على وجه اعتبره النقاد غير متقيد بالمسالك والتقريرات المذهبية في ذلك (¬2). فنتج عن منحاه هذا، تكون مادة فقهية غزيرة متميزة عن سابقاتها، جديرة بالاهتمام، والتتبع، والتمحيص والتدقيق. فكان الأليق أن يقوم بذلك واحد من أبناء مدرسة اللخمي النقدية. ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير لم يخرج في انتقاده للخمي عن إطار الأخلاق والآداب العلمية، وإن لوحظت صرامة، وشدة اقتضتهما المباحثة والاعتراض مما يدخل في مجال نقد النقد. وتأكيدًا لما سبق أذكر بعض الأمثلة التي انتصر فيها ابن بشير للخمي، وأشاد فيها برأيه ليتأكد بطلان ما قيل من تحامله وتعسفه عليه. المثال الأول: قال في باب حكم المسبوق وقضائه بعد إكمال إمامه: "لكن هذه المسألة نزلت قديما، فطال بحثنا عن روايات المذهب فيها، ¬

_ = الثاني: في مسألة جواز العليل بالحكم في إثبات حكم آخر، وذكر فيها قولين: الأول: جواز ذلك ونسبه إلى الحنابلة، والثاني: عدم جوازه ونسبه إلى بعض المتأخرين، وقال عنه: (وهو الصحيح ولكن ننصر قول أصحابنا) انظر المصدر السابق 4/ 44. (¬1) تراجم مالكية لمؤلف مجهول ص: 298. (¬2) يقول عياض: ... وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب، واستقراء الأقوال. وربما تبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب .. ترتيب المدارك 8/ 109.

وخالفني بعض أشياخي ودافع ما قاله أبو الحسن كل المدافعة. وإنما اعتمدت له على أن ما قاله القياس، إذاً لا بالروايات. فأخرجت من كتاب "الإملاء" لابن سحنون أن من أدرك ركعة من المغرب يقوم فيأتي بركعتين بأم القرآن وسورة في كل واحدة منهما بجهر بالقراءة ولا يجلس بينهما، وهذا نص في صحة طريقة أبي الحسن اللخمي، إذ جعل في هذه الرواية أن ما أدرك آخر صلاته في القراءة والجلوس جميعاً. ولم يكن عند من خالفني في هذه المسألة أكثر من قوله لبعض تلامذته: الكتب لا تقوم بأنفسها" (¬1). المثال الثاني: قال في كتاب الزكاة: "واستحسن أبو الحسن اللخمي أن يجعل في الجميع حولاً وسطًا لا ينبني على أول الاقتضاءات والفوائد ولا على آخرها. وهذا له وجه أن يحصل الوسط في ذلك، وهو جار على أصل المذهب في مال تنازعه اثنان أنه يقسم بينهما، لأن التعجيل والتأخير قد تنازعه المساكين ورب المال، ولا يمكن تغليب أحد الجانبيين مع الشك، فيقسم بينهما. وهذا بناء على [إسقاط] مراعاة الخلاف" (¬2). المثال الثالث: قال أثناء حديثه عن اضطراب المذهب في حكم إزالة النجاسة: "وأما أبو الحسن اللخمي فحكى أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: إزالة النجاسة فرض، وهو مذهب ابن وهب القائل إن من صلى بها يعيد في الوقت وبعده عامدًا كان أو ناسيًا. والقول الثاني: أن إزالتها سنة، وهو مذهب أشهب القائل إن من صلى بها لا يعيد إلا في الوقت وإن كان متعمدًا. والقول الثالث: أن إزالتها سنة مع النسيان فرض مع الذكر، وهو مذهب المدونة لأنه يقول: من صلى بها عامدًا أعاد وإن خرج الوقت، وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت، وهذا الذي قاله أبو الحسن اللخمي يشهد بصحته هذه الرواية" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص: 490 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 811 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 276 من هذا الكتاب.

* المطلب الثاني: انتقاد ابن بشير للخمي

فالأمثلة السابقة يظهر فيها بجلاء إنصافه للخمي وعدم التحامل عليه بل الانتصار لرأيه وإظهار وجاهته. ففي المثال الأول يظهر تبني ابن بشير لرأي اللخمي ودفاعه عنه ومناظرة شيوخه فيه. والمثال الثاني نرى ابن بشير يتحدث عن وجاهة رأي اللخمي وجريانه على أصل المذهب. والمثال الثالث نلاحظ كيف استدل للخمي بروايات المدونة. بعد هذا أرى أن المقام مناسب للحديث عن النقد عند ابن بشير وأبدأ بانتقاده للخمي للأسباب السالفة الذكر. * المطلب الثاني: انتقاد ابن بشير للخمي لقد تبين بالتتبع والاستقراء أن ابن بشير كان يتعقب اللخمي في عدة أمور لا يسمح المجال بذكرها كلها. وسأكتفي ببعض منها: أ- يؤاخذ ابن بشير اللخمي، على حكاية أقوال ونسبتها للمذهب وليست منه، ومن أمثلة ذلك: 1 - قال ابن بشير: "فإن كان الماء يسيرًا ولم يتغير. ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنه نجس وهو مقتضى مذهب المدونة. والثاني: إنه طاهر مطهر لكنه يكره للخلاف. والثالث: مشكوك في حكمه فيجمع بينه وبين التيمم. فوجه الحكم بنجاسته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً"، ليبين إذا كان الماء دون القلتين حمل الخبث. وأيضاً فإن النفوس تعاف الماء اليسير إذا حلته النجاسة اليسيرة ومبنى النجاسات على ما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. ووجه الحكم بطهارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله [تعالى] الماء طهوراً لا ينجسه شيء"، وهذا عموم في كل المياه. ومن رواية البغداديين في هذا الحديث: "إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه". وهذا نص [في] أنه باق على الطهارة والتطهير ما لم يتغير أحد هذه الصفات، فهذه مبادئ أدلة المذهب. ووجه الحكم بالشك فلتعارض الأدلة.

ب- يؤاخذه على تعويله على اختلاف الروايات والاستقراء من المحتملات ومن أمثلة ذلك

وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي مصعب أنه طاهر مطهر من غير كراهة. وهذا لا يوجد في المذهب بل مقول البغداديين على رواية أبي مصعب. وقد قالوا بالكراهة مراعاة للخلاف" (¬1). 2 - "أن يوقن بالوضوء ويشك في الحدث، فهذا فيه قولان: أحدهما: الإيجاب للوضوء، والثاني: استحبابه. [والقسم الثالث: أن يشك في الحدث والوضوء جميعاً، فهذا يطرح ما شك فيه ويبني على ما كان حاله قبل الشك؛ فإن كان محدثاً لزمه الوضوء، وإن كان متوضئاً كان كالقسم الثاني]. وحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب خمسة أقوال فيمن أيقن بالوضوء وشكَّ في الحدث: أحدها: وجوب الوضوء، والثاني: إسقاطه. والثالث: استحبابه، والرابع: وجوبه إلا أن يكون في صلاة، والخامس: التفرقة بين أن يستند شكه إلى سبب متقدم أو سبب في الحال؛ فإن استند شكه إلى سبب متقدم [كمن شك هل كان أحدث قبل وقته فيجب عليه الوضوء، وإن استند إلى سبب في الوقت] كمن شك هل خرج منه ريح أم لا فإنه يعتبر هل سمع صوتاً أو وجد ريحاً، فإن لم ير أثراً من ذلك فلا وضوء عليه. وهذا لا يوجد في المذهب على ما حكاه أبو الحسن اللخمي من الخمسة الأقوال. وإنما في المدونة القولان خاصة" (¬2). 3 - "وأما متى يجب عليه ستر العورة؟ فيجب عن أعين الإنسان بإجماع. وهل يجب في الخلوة لحرمة الملائكة؟ حكى أبو الحسن اللخمي استحبابه. والذي سمعناه في المذاكرات القولين؛ الوجوب والندب" (¬3). ب- يؤاخذه على تعويله على اختلاف الروايات والاستقراء من المحتملات ومن أمثلة ذلك: 1 - قال ابن بشير في حديثه عن السفر يوم الجمعة: " ... وأما إذا زالت الشمس فذلك ممنوع بلا خلاف في المذهب وذكر أبو الحسن قولاً ¬

_ (¬1) انظر ص: 225 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 262 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 479 من هذا الكتاب.

ج- يؤاخذه على جعل الخلاف في مسائل لا خلاف فيها ومن أمثلة ذلك

بالكراهة وعول فيه على اختلاف الرواية كشأنه في الاستقراء من المحتملات" (¬1). 2 - "إن استخلف قوم واحداً منهم، فأتم الباقون أو واحد من الجماعة وحدانا تصح صلاتهم على المشهور. وقال محمد بن عبد الحكم: من لزمه أن يتم صلاته في جماعة فأتم فذا بطلت صلاته]. وقد أخذ من هذا أبو الوليد الباجي وأبو الحسن اللخمي بطلان صلاتهم إذا لم يستخلفوا بإمام، وبطلان صلاة من أتم فذا. ويحتمل أن يريد من يخرج عن إمامة الإمام الأول والمستخلف بعد أن اقتدوا به. وإنما أراد التنبيه على قول الشافعية أن للمأموم الخروج عن الاقتداء. فإذا احتمل ذلك لم يلزم [منه] الاستقراء" (¬2). ج- يؤاخذه على جعل الخلاف في مسائل لا خلاف فيها ومن أمثلة ذلك: 1 - " وأما فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء، فيوجب الوضوء على أي حالة كان، لأنه يقتضي عدم العلم بخروج الحدث. وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل فيه خلافاً إذا لم يطل، وعول في ذلك على كلام القاضي أبي محمد أن ذلك سبب حدث. وهذا الذي قاله ليس بشيء، لأن القاضي لما قال إنه سبب للحدث [ساوى بين قليله وكثيره في نقض الوضوء، وفرق في النوم. وإنما أراد به] [أنه سبب حدث] لكنه سبب يقتضيه ولا بد، وذلك حقيقة السببية" (¬3). - قال في حكم غسل الجمعة "والمذهب كله على أنه سنة لا واجب. وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي جعفر أنه حكى اختلاف أصحابنا في غسل الجمعة فقال بعضهم: سنة مؤكدة لا يجوز تركها إلا ¬

_ (¬1) انظر ص: 618 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 602 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 253 من هذا الكتاب.

بعذر، وقال بعضهم: مستحب. وعوَّل على أن المذهب مختلف في وجوبه، أخذاً من حكاية أبي جعفر هذه. وليست صريحة في الوجوب كما ظنه، بل ظاهرها على غير الوجوب. وإنما يؤخذ من هذا أن المذهب على قولين: أحدهما: أن الغسل سنة، والثاني: مستحب. وهكذا قال أبو الحسن اللخمي في كتاب الطهارة. وقد يقال: إن ما حكاه أبو جعفر يقتضي الوجوب. وقوله: سنة، أي مما علم وجوبه بالسنة، كقول سحنون إن الوضوء من البول سنة، يريد: مما علم وجوبه بالسنة، وليس من قبل المندوبات. ولا شك أن ذلك محتمل، لكن الأظهر الأول" (¬1). 2 - وقال في كتاب الصيد: "حكى أبو الحسن اللخمي أربعة أقوال في شروط الجارح، أحدها إذا زجر انزجر وإذا أشلي أطاع. الثاني أن يضاف إلى ذلك إذا دعي أجاب، وهذا في الكلاب، وأما الطير فلا يشترط فيها الانزجار، حكى ذلك ابن حبيب. وقال قول ابن القاسم أن الطير والكلاب سواء، فأخذ أبو الحسن من هذا قولاً ثالثاً، أن ابن القاسم اشترط في الكلاب والطير ثلاثة أوصاف وهي: الانزجار والاشلاء والاجابة عند الدعاء. وأخذ القول الرابع من الكتاب إذ قال: فيمن أدرك كلابه تنهش الصيد ولم تنفذ مقاتله فمات بنفسه قبل أن يمكنه ذكاته أنه يؤكل فجعل الانزجار ليس بشرط. وهذا الذي حكاه أبو الحسن ليس بخلاف وإنما يقال في هذا أن كل ما فقه التعليم من سباع الطير وسباع الوحش فإنه يشترط فيهما، والمقصود من ذلك أن تنتقل عن خلقها الأصلي حتى يصير تصرفها بحكم الصائد. فحينئذ تكون آلة له، وإذا تصرفت على خلفها الأصلي كانت آلة لنفسها فلم تمسكه على الصائد بل على نفسها، وأما قوله في الكتاب: فيحتمل أن يكون مات الصيد بنفسه لما نهشته الجوارح ولو زجرها فانزجرت لم ينفعه ذلك فلا يؤخذ منه قوله إلا برفع احتماله" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ص: 624 من هذا الكتاب. (¬2) التنبيه ص: 223 نسخة خاصة.

د- يؤاخذه على استعماله للقياس في مسائل لا مجال للقياس فيها ومن ذلك قوله

د- يؤاخذه على استعماله للقياس في مسائل لا مجال للقياس فيها ومن ذلك قوله: 1 - " ولا يعيد عندنا من صلى في جماعة؛ لأن الإعادة لما قدمناه من التلافي لما فاته من الأجر بصلاته وحده. وإذا كانت الصلاة في جماعة فلا فائت يتلافى. قال ابن حبيب: إلا أن تكون الصلاة الأولى في غير المساجد الثلاثة: الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، ثم يدرك الجماعة في أحد هذه المساجد؛ فإنه يعيد لعظم الأجر في هذه بخلاف غيرها. وألزمه أبو الحسن اللخمي أن يعيد في هذه المساجد فذًا، وإن صلى أولاً في غيرها في جماعة لتفاوت فضل الجماعة والانفراد في غيرها. وألزمه ذلك من طريق القياس إلا أن يقال: إنما ورد الأمر بإعادة الفذ في جماعة، وهذا عكسه. والموضع موضع عبادة فلا يتعدى به ما ورد" (¬1). هكذا إذا تعامل ابن بشير مع اللخمي في نقاش علمي هادىء بعيد عن التحامل والتعسف، إلا أنه في بعض الحالات النادرة جداً يسبقه القلم فيستعمل ألفاظاً قاسية كما يتضح في المثال التالي: "واحتج محمد بن عبد الحكم لوجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}. وإذا حرمت الصلاة على غير المؤمنين وجب ضدها، وهو الصلاة على المؤمنين، لأن النهي عن الشيء أمر بضده. وتعقب هذا أبو الحسن اللخمي بأن النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد، وإلا متى كانت له أضداد فلا يكون النهي أمراً بالضد. قال: وترك الصلاة على غير المؤمنين لها أضداد. وعدَّ من أضدادها إباحة الصلاة على المؤمنين، والندب إلى ذلك، والوجوب. وإذا ثبت النهي في حق غير المؤمنين أمكن أن يكون محمولاً على أحد أضداده في حق المؤمنين. إما الندب أو الإباحة أو الوجوب. فهذه غلطة فاحشة؛ لأن الضد في الحقيقة ¬

_ (¬1) انظر ص: 412 من هذا الكتاب.

* المطلب الثالث: انتقاد ابن بشير لباقي العلماء

إنما هو الأمر، فإن كان النهي مقتضياً للتحريم كان الأمر مقتضيًا لضده، وضد التحريم الوجوب" (¬1). هذه إذاً نماذج من انتقادات ابن بشير للخمي نكتفي بذكر ما ذكرناه إذ ليس الغرض استقصاء كل انتقاداته. * المطلب الثالث: انتقاد ابن بشير لباقي العلماء لم يكن جهد ابن بشير النقدي مقصوراً على اللخمي بل انتقد كل من رأى أن قوله لا ينسجم مع أصول المذهب ورواياته وقواعده وهذه نماذج من ذلك: 1 - انتقاده للمدونة بسبب التناقض. وانتقاده للقاضي عبد الوهاب لبعد قوله عن مقتضى اللفظ. وانتقاده للبراذعي لزيادة عبارة في النص. وانتقاده للباجي لكون قوله غير سالم من الاعتراض. وكل هذا في نص واحد. قال في حكم سؤر الحيوان الذي يمكن الاحتراز منه: " ... والثالث التفرقة بين الماء والطعام، ينطرح الماء ليسارته ويستعمل الطعام لحرمته، وهذا مذهب المدونة. ولكن حكم الماء الذي شربت منه الدجاج المخلاة أن يترك وينتقل إلى التيمم. ثم جعل المصلي به يعيد في الوقت خاصة. وهذا كالمتناقض لأن الانتقال إلى التيمم يقتضي الحكم بنجاسته والإعادة في الوقت تقتضي طهارته على كراهية فيه. وقد أجيب عن هذا الاعتراض بثلاثة أوجه: أحدها: أن مراده بالتيمم لا يقتصر عليه دون أن يتوضأ، وإنما تجوز في الكتاب بقوله يتيمم ويتركه. ومراده يجمع بينه وبين التيمم، قاله القاضي أبو محمد عبد الوهاب. هذا وإن ساعده الفقه فهو بعيد عن مقتضى اللفظ. والجواب الثاني: أنه حكم بنجاسته على أصله فقال يتيمم ويتركه ثم إذا صلى به أحد وقعت صلاته جائزة عند من يقول بطهارته، وهو أحد قولي مالك .... وهذا جار على أصل المذهب ¬

_ (¬1) انظر ص: 664 من هذا الكتاب.

في مراعاة الخلاف، والجواب الثالث: أن الإعادة إنما هي لأنه صلى بنجاسة، ولذلك يترك الماء لأن فيه نجاسة لا يدري موضعها ...... وهكذا نقل البراذعي في تهذيبه في هذا الموضع، فقال: ومن صلى ولم يعلم أعاد في الوقت. واستدرك الأشياخ عليه زيادته: "ولم يعلم". وإنما عول في ذلك على ما في كتاب الصلاة الأول من المدونة ... وهذا الجواب أشار إليه الباجي وهو معترض، لأن النجاسة إذا حلت بالماء تختلط بأجزائه فلا تبقى في مكان واحد" (¬1). 2 - انتقاده لأشهب حيث رأى أن قوله، باطل لانخرامه وعدم شموله. فقال في حديثه عن وقت وجوب الزكاة: "وانفرد أشهب فقال: لا تجب على من لم يصم يوماً من رمضان. وهذا باطل بغير المكلَّف، فإنما تجب عليه وإن لم يلزمه صيام. فإن علَّل أشهب بأنها طُهرة للصائمين، ومن أسلم أو ولد ولم يمض له زمن يصح صومه فلا طهرة عليه، وغير المكلَّف أيضاً لا يفتقر إلى تطهير إلا أن يقول تلزم من كان موجودًا تجري عليه أحكام المسلمين ولو يوماً. فهذه مراعاة لحكم الإسلام لا لحكم الصوم" (¬2). 3 - انتقاده لأبي العباس الإبياني وابن بكير لكون قولهما يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة فقال: "وأما اللَّذة من غير لمس كمن يتذكر فيتلذذ أو ينظر فيتلذذ، فإن كان عن ذلك مذي وجب الوضوء، وإن لم يكن مذي ولا إنعاظ لم يجب الوضوء على المشهور والمعروف من المذهب. وأوجبه أبو العباس الإبياني وابن بكير. وهذا لا أصل له وهو يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة السمحة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص: 239 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 933 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 255 من هذا الكتاب.

4 - أ- انتقاده لابن الجلاب حيث رأى أن في قوله تناقضا (¬1) ومخالفة لأهل المذهب فقال: "ولا يكرر الممسوح لأن مبنى أمره على التخفيف، والتَّكرار تثقيل. وفي حديث عبد الله بن زيد أنه "مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ... " وهذا يظهر منه التَّكرار. ولمحاذرته رأى الشيخ عبيد الله بن الجلاب أنه إذا ذهب بهما إلى قفاه، رفع راحتيه عن فوديه - وهما جانبا رأسه- فإذا ردَّ يديه رفع أصابع يديه عن وسط رأسه ومسح جانبي رأسه حتى يسلم من التكرار بالمسح على موضع واحد. والذي قاله خلاف لجميع أهل المذهب. واتفاق أهل المذهب أن يمر بيديه على جميع رأسه ذاهبًا وعائدًا ... وفي تفسيره في هذا الحديث لصفة المسح مناقضة لما ابتدأ به لأنه قال أقبل وأدبر، ثم فسره بالإدبار والإقبال. وخير ما يُؤَوَّلُ لذلك بأن الواو لا توجب رتبة الترتيب. فقال: أقبل وأدبر، ومراده أدبر وأقبل، فابتدأ في اللفظ بذكر الإقبال تفاؤلاً" (¬2). ب - وفي النص الثاني رأى أن قوله لا أصل له. فقال أثناء حديثه عن انتقال المسافر إلى التيمم مع وجود الماء: "ومنها أن يجد الماء لكن بثمن خارج عن المعتاد بما يجحف به لقلة دراهمه أو لكثرة الزيادة في الثمن. وقد قرر ابن الجلاب التحديد المزيد بمقدار ثلث الثمن. ولا أصل لذلك. وقد يهون ثمن الماء فيكون زيادة ثلاثة أمثاله فأكثر ليس بمجحف". 5 - انتقاده لحمديس حيث رأى أن قوله مخالف لبعض طرق الحديث وللعلة. فقال: "ولا يجب الوضوء بمس شي من البدن ولا من الدبر على المشهور. وذكر حمديس أنه يلزم على قول من أوجب الوضوء على المرأة إن مست ¬

_ (¬1) انظر ص: 217 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 348 من هذا الكتاب.

فرجها أن يقول يلزم الوضوء من مس الدبر. وهذا الذي قاله غير صحيح، لأن الفرج ينطلق عليه تسميته. وقد ورد في بعض الطرق: "ومن مس فرجه توضأ"، وأيضاً فإنه مما يمكن اللذة بمسه بخلاف الدبر" (¬1). 6 - انتقاده لأبي مصعب لتطرق الاحتمال لدليله فقال: "أما إمامة غير البالغ في الفرائض؛ وهو ممن يؤمر بالصلاة في الفريضة فلا تجوز ابتداء. فإن وقعت ففي بطلان الصلاة قولان: المشهور بطلانها لسقوط الفرض عن الصبي ووجوبه على البالغ. وقال أبو مصعب: تصح الصلاة. واحتج له بما في البخاري عن عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو دون البلوغ. لكنه كان غائباً عن حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون لم يبلغه ذلك، وإنما يكون حجة لو بلغه فأقره. وقال أبو الوليد الباجي: ويحتمل هذا القول أن يكون بناء على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ويحتمل أن يكون بناء على المشهور لكون الصبي معتقدًا للوجوب، فلم يكن اقتداء مفترض بمتنفل" (¬2). 7 - انتقاده للباجي لاستقرائه شرطاً شرعيًا من غير صاحب الشرع فقال في شروط الخطبة: "وهل من شرطها حضور الجماعة لها؟ قال القاضي أبو محمد وغيره من البغداديين: مقتضى المذهب اشتراطه مع عدم النص عليه. واستقرأه أبو الوليد الباجي من المدونة من قول مالك رحمه الله: ولا تجزئ الجمعة إلا بالجماعة والإمام يخطب. ولا شك أن مقتضى هذا اللفظ في اللسان ما قاله، لأن قوله: والإمام يخطب، معناه: الحال. فيكون بجماعة في حال خطبة الإمام. وهذا لو عوَّل عليه من كلام صاحب الشرع لكان له وجه. ولا يخفى أن ألفاظ المدونة لا يعول فيها على مثل هذا ... " (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص: 249 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 445 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 622 من هذا الكتاب.

8 - انتقاده للأشياخ لتخريجهم أقوالاً على أقوال في المذهب دون جامع بينها فقال في حكم اللمس: "وتفصيل المذهب أن اللمس لا يخلو من أربع صور: إحداها: أن يقصد به اللذة وتوجد، فيجب الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن يجد ولا يقصد، فكذلك أيضاً يجب الوضوء. والثالثة: ألا يقصد ولا يجد، فلا يجب الوضوء. والرابعة: أن يقصد ولا يجد فيها، هنا مقتضى الروايات وجوب الوضوء. والأشياخ يحكون عن المذهب قولين: الإيجاب والإسقاط، وإنما يعولون في ذلك على الخلاف في الوضوء هل يرفض بالنية، وفي المذهب في ذلك قولان. وهذا الذي يعولون عليه ليس بشيء، لأن اللمس ها هنا قد وجد منه فعلاً بخلاف الرفض بمجرد النية من غير فعل" (¬1). 9 - انتقاده الأشياخ لتعلقهم بصور نادرة لا تعلق الشريعة على مثلها أحكاماً. فقال في حديثه عما يحرم أثناء وقت صلاة الجمعة: "ولكن اختلف في فسخ هذه العقود على القول بفسخ البيع على قولين: أحدهما أنه يفسخ قياساً على البيع، والثاني لا يفسخ لأنها مشبهة به، والمشبه بالشيء دونه في المرتبة. قال الأشياخ: هكذا يجري الأمر في الصلوات وغيرها من العبادات إذا تعيَّن وقتها واشتغل عنها ببيع أو غيره. وهذا فيه نظر، لأن الشريعة شأنها الالتفات إلى الكليات وحماية الذرائع ومنع المشغلات وهذا يظهر في الجمعة. وأما ما سواها فصوره نادرة. والصور النادرة لا يعلق عليها مثل هذه العقوبات كفسخ البيع وما في معناه" (¬2). 10 - انتقاده لبعض المتأخرين لبعد المعنى المعتمد في الاستقراء فقال: "واستقرأ بعض المتأخرين من المدونة أنه يغسل الذكر من المذي عند إرادة الوضوء، فإن غسله قبل ذلك لم يجزه وعوَّل في ذلك على قوله في المدونة: ولا يلزم غسل الأنثيين عند الوضوء، إلا أن يخشى أن يكون ¬

_ (¬1) انظر ص: 254 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 628 من هذا الكتاب.

* المطلب الرابع: ترجيحات ابن بشير واختياراته

أصابهما شئ، وإنما عليه غسل ذكره. فعوَّل على هذا الكلام ظاناً أن مراده إنما عليه غسل ذكره إذا أراد الوضوء. وهذا الاستقراء فيه بُعْدٌ، لأن مراده أنه لا يغسل الأنثيين وإنما يغسل الذكر خاصة" (¬1). * المطلب الرابع: ترجيحات ابن بشير واختياراته ومن أوجه النقد الفقهي عند ابن بشير نجده يحكم على الأقوال بالضعف والصحة ويختار ويرجح ... إلخ. أ - ومن أمثلة ذلك قوله في وقت أذان الصبح: "ومتى يجوز الأذان لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: إنما يؤذن لها في سدس الليل الآخر لأن المقصود التأهب لها، وذلك يحصل في هذا الوقت. والثاني: أن يؤذن لها بعد خروج الوقت المختار للعشاء الآخرة. والقول الثالث: أنه يؤذن لها بعد صلاة العشاء الآخرة، وإن صليت في أول وقتها. والصحيح هو الأول، ولا يحصل الغرض من التأهب على هذين القولين." (¬2). ب - قال في حديثه عن تأويل رفع اليدين في الصلاة: " وقد قدمنا أن الرفع من الفضائل، وسببه إما تأهب لما يقدم عليه من الصلاة ورهبة، وإما نبذ للدنيا على ما نذكره في صفة الرفع. فيمكن أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع بحسب ما يكون عليه من الأحوال من رغبة أو رهبة، أو ما يخطر بباله من نبذ الدنيا وطرحها. وهذا خير ما تأولت عليه هذه الأحاديث الواردة المختلفة في صفة الرفع". ج - قال في حكم مس الفرج: " فإن مسه ثم صلى قبل أن يتوضأ فأربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا إعادة عليه، والثاني: أنه يعيد في الوقت، والثالث: أنه يعيد وإن خرج الوقت، والرابع: أنه يعيد بعد اليومين والثلاثة، فإن طال لم يعد. ¬

_ (¬1) انظر ص: 260 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 390 من هذا الكتاب.

د- قال في باب الهارب بماشيته من السعاة

والإعادة على ترك مراعاة الخلاف، وإسقاط الإعادة على مراعاته، وكذلك الإعادة في الوقت. وأما من قال يعيد بعد اليومين والثلاثة دون أن يطول فهو أضعف الأقوال". د- قال في باب الهارب بماشيته من السعاة: " ولا شك أنه متعد في الهروب، فالواجب عليه متعلق بذمته. فلا يختلف المذهب في ذلك، لكن اختلف إذا زادت نعمه بعد أن كانت ناقصة في أعوام، هل يؤخذ بما يوجد في يده من الزيادة على سائر الأعوام؟ وهو الشاذ من المذهب، أو يؤخذ عن كل عام بما في يده؟ وهو المشهور. وكان المشهور هو القياس" (¬1). * المطلب الخامس: موقف ابن بشير من المشهور والشاذ ما دمنا تحدثنا عن النقد والترجيح والاختيار، يستحسن أن نتحدث عن مسألة لصيقة بهذا المحور؛ أعني بذلك موقفه من المشهور والشاذ، وقد سبقت الإشارة إلى أن منهجه في ذلك أن يذكر الأقوال داخل المذهب، وينص على شهرتها وشذوذها في بعض الأحيان، وفي البعض الآخر لا يتعرض لذلك، بل يذكرها مجردة. ولعل العصر الذي عاش فيه ابن بشير ساعده على ذلك. إذ كان عصره عصر تنقيح وتحقيق وتهذيب، جمعت فيه الأقوال والروايات، وميز صحيحها من سقيمها. وربما تأثر بشيخه المازري الذي كان له دور كبير في ذلك. قال أبو القاسم النويري: " ... إن مذهب مالك، كان قبل المازري مشكلاً لكثرة رواياته، واختلاف أقوال أصحابه، فيبقى فيه المقلد حائراً في الفتوى وفي القضاء وفي ما يتدين به، ولذلك اختار عنه المشارقة مذهب الشافعي وأبي حنيفة، حتى قام المازري فاعتنى بنخل المشهور عن الضعيف واختياراتهم وترجيحاتهم، ورجح هو كثيراً فتبعه من بعده فسهل المذهب حينئذ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ص: 907 من هذا الكتاب. (¬2) فتاوى ابن سراج قسم الدراسة ص: 62.

وعلى الرغم من عدم التسليم بكل ما جاء في هذا النص، فإن الذي يعنينا منه، هو أن هذا العصر كان عصر خدمة المذهب. ولنعد إلى شيخنا، لنشير إلى أنه اختصر الخلاف في تحديد المعنى المراد بالمشهور؛ فحصره في قولين بدلاً من ثلاثة، قال ابن فرحون: "وقد اختلف المتأخرون في رسمه فقيل: المشهور: ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، حكاهما ابن بشير ... " (¬1). وبهذا يكون قد أزاح القول الثالث الذي يرى أن المشهور هو: قول ابن القاسم. وبالاستقراء والتتبع تبيين لي أنه يقصد بالمشهور: ما كثر قائله، بغض النظر عن رجحانه أو عدم رجحانه، وقد تبين لي ذلك من خلال بعض الأمور منها: أنه ينص على رجحان المشهور في مقابل الشاذ، كما أنه ينص على رجحان الشاذ، أو يلمح إليه بدون تصريح. ولو كان يقصد بالمشهور الراجح؛ لما احتاج إلى الإشارة إلى رجحانه ولما احتاج إلى التنبيه على رجحان الشاذ، ويزكي هذا تنصيصه في بعض الأحيان على شهرة القولين معا، مما يدل على أنه يقصد انتشارهما واشتهارهما بين الناس. لا رجحانهما، إذ يستحيل ذلك، اللَّهم إلا على قول المصوبة، وابن بشير ليس منهم. وأجلي ما قلت بالأمثلة: فمن أمثلة تنصيصه على رجحان المشهور قوله في الزروع التي تسقى بالسيح: "فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأصول لا يملك الماء وإنما يشتريه بالثمن ففيه قولان: والمشهور - وهو الصحيح - أنه يزكي بالعشر، إذ فيه نص الحديث." (¬2). ¬

_ (¬1) كشف النقاب الحاجب ص 62، وتبصرة الحكام 1/ 50. (¬2) انظر ص: 919 من هذا الكتاب.

ومن أمثلة ترجيحه للشاذ ما جاء في حديثه عن تخلف السعاة: "وهل ينظر إلى ما يوجد عند أرباب الماشية فيقدر كأنه ملكوه [في] كل عام؟ أما إن كانت الماشية فيما تقدم أكمل، فلا خلاف أنهم لا يضمِّنون أرباب الأموال وإنما يأخذون عن الأنقص. وأما إن كانت أنقص فكملت فهاهنا قولان: المشهور من المذهب أنهم ينظرون إلى حالة الوجود فيزكون على مقدارها لما تقدم من السنين. والشاذ أنهم يزكون عن كل عام بقدر المملوك فيه، وهذا [هو] القياس، لأن من تخلف عنه السعاة غير متهم" (¬1). ومن أمثلة التنصيص على شهرة القولين معاً قوله: "وإن ركع في بيته للفجر ثم أتى المسجد فهاهنا قولان مشهوران: أحدهما: أنه يركع في المسجد ركعتين للأمر بالتحية. والثاني: أنه لا يركع للحديث المتقدم في نفي الركوع بعد الفجر" (¬2). بعد هذا بقي سؤال يطرح نفسه بإلحاح، وهو ما هو موقفه من العمل بالراجح في مقابل المشهور؟ الحق أنه لا يمكنني أن أحدد موقفه بدقة من خلال ما بيدي من كتاب التنبيه؛ إذ ربما يتجلى موقفه أكثر في كتابه النوازل المفقود، الذي يكون النظر الفقهي فيه عملياً؛ لأن الجواب فيها يتنزل على مقصود السائل وهو التطبيق في الواقع، أما كتاب التنبيه فقد يكون سلك فيه مسلك التفقه بالرجوع إلى الأقوال المرجوحة والشاذة للنظر فيها من الناحية النقدية والتوجيهية، وهي الطريقة التي يقصد بها تأسيس المذهب من جهة والتمرن على استثمار الأحكام من جهة أخرى. ولا نستغرب هذا إذا علمنا بأن الشيخ المازري كان لا يفتي إلا بالمشهور بالرغم من بلوغه درجة الاجتهاد. وعلى هذا النهج سار كثير من الفقهاء، حتى وصل التعصب للمشهور قمته عند إبراهيم بن هلال (ت 903هـ) الذي قال: "لا يجوز لأحد أن يفتي ¬

_ (¬1) انظر ص: 910 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 496 من هذا الكتاب.

المبحث الربع: الاجتهاد عند ابن بشير

إلا بالمشهور ولا يعمل إلا بالمشهور فمن أفتى بغير ذلك لم يعتد به" (¬1)، وقال: "لأن الحكم بغير المشهور لا يجوز. بل هو فسق وزندقة، قاله العلماء، لأنه من ناحية اتباع الهوى" (¬2)، ولا يتجه هذا الكلام إلا إذا حمل على أن المقصود به ردع من لا قدرة له على الترجيح من الهجوم على الاختيار بالهوى والتشهي، أما مطلقاً فما أبعده عن الصواب. ولن أجد أفضل من يرد على هذا الكلام، من أحمد بن عبد العزيز الهلالي حفيد الشيخ المذكور، الذي يرى أن ما عليه المحققون؛ هو وجوب العمل بالراجح في مقابل المشهور حيث قال: "إن الراجح نشأت قوته من الدليل نفسه، من غير نظر للقائل، والمشهور، نشأت قوته من القائل. فإن اجتمع في قول سبب الرجحان والشهرة ازداد قوة، وإلا كفى أحدهما. فإن تعارضا؛ بأن كان في المسألة قولان أحدهما: راجح والآخر مشهور، فمقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين؛ أن العمل بالراجح واجب." (¬3). ففي هذا القدر كفاية، ودلالة واضحة، على أن ابن بشير يعد من رواد المدرسة النقدية وحذاقها في المذهب المالكي. وبما أن الآليات التي وظفها في النقد والتعقيب، هي غالباً نفس الآليات التي وظفها في الاجتهاد. أرى أن ذلك يدعوني للحديث عن اجتهاده في هذا المكان. ... المبحث الربع: الاجتهاد عند ابن بشير: * المطلب الأول: أنواع الاجتهاد إن للاجتهاد مراتب ودرجات، أعلاها، الاجتهاد المطلق أو المستقل، والمقصود به أن يستقل الإنسان بأصوله وفروعه، وهذا النوع افتقد من أوائل ¬

_ (¬1) نوازل ابن هلال ص: 478. (¬2) المصدر السابق ص: 438. (¬3) نور البصر ملزمة 10 ص: 3.

القرن الرابع، ولعل آخر المجتهدين المستقلين ابن جرير الطبري ت 310هـ إذ لم نسمع بعده عمن استقل بالاجتهاد. إلا أن جذوة الاجتهاد من حيث العموم لم تتوقف ولن تتوقف إذ لا بدّ أن يوجد في الأرض من يقوم لله بالحجة. ولقد ظهر الاجتهاد بعد هذه المرحلة في أنماط وأشكال مختلفة، أهمها التخريج والاستقراء أو الإجراء، وهي مصطلحات ذات معان متقاربة، يستعملها المجتهد المقيد الذي التزم النظر في نصوص إمامه، يستنبط منها ويقيس عليها، ويلحق ما سكت عنه إمامه بما نص عليه. ولقد اختلف علماء المذهب في حكم التخريج ونسبة القول المخرج إلى الإمام؛ فأجازه عامتهم بشروط منها: مراعاة قواعد الإمام الخاصة به. وأجازه اللخمي مطلقاً، من غير مراعاة قواعد الإمام بل يخرج على قواعده وقواعد غيره. ومنعه مطلقاً ابن العربي، وابن عبد السلام، وميارة الفاسي، وهو ظاهر نقل الباجي (¬1). وكيف ما كان الحال، فقد تعاطى له كبار أئمة المذهب بعد مرحلة الاجتهاد المطلق، استجابة لما أفرزه المجتمع من قضايا ونوازل لا تجيب عنها أقوال إمام المذهب على كثرتها، فكان من الضروري الالتجاء إلى الاجتهاد لملئ ذلك الفراغ التشريعي، والإجابة على تلك النوازل والمسائل، فنشطت حركة التخريج والتفريع ... وقد كان هذا في المرحلة التي تلت مرحلة الأئمة الكبار، أعني القرن الثالث والرابع. والمرحلة التي جاءت بعد هذه ورث أصحابها عن سابقتها ثروة فقهية غزيرة، احتاجت إلى من يقوم بتنقيحها وغربلتها وتميز صحيحها من سقيمها ومشهورها من شاذها، فتفرغ علماء هذه المرحلة لهذا العمل. ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا نلاحظ قلة المخرجين في المرحلة التي تلت مرحلة الظهور والتأسيس، وإن كانت هناك استثناءات وحالات خرجت عن هذا النسق. كاللخمي والمازري ¬

_ (¬1) انظر مواهب الجليل 6/ 94، وكشف النقاب الحاجب 107، وفتح الودود شرح مراقي السعود 363، وأحكام القرآن لابن العربي 3/ 1212.

* المطلب الثاني: منزلة ابن بشير الاجتهادية

وابن بشير، الذين ضاهوا الأوائل في كثرة تخريجاتهم واستقراءاتهم، والتي جرت عليهم انتقادات ممن جاء بعدهم، وخاصة اللخمي وابن بشير. * المطلب الثاني: منزلة ابن بشير الاجتهادية بعد تدقيق النظر وإمعانه في الإجراءات والتخريجات التي وقفت عليها لهؤلاء الأئمة، خاصة منهم ابن بشير يمكنني أن أقول بأنه كان مجتهداً منتسباً؛ وهي منزلة بين الاجتهاد المطلق واجتهاد التخريج، فهو لم يستقل بأصوله بل تمسك بأصول المالكية في الاستنباط والتوجيه والتخريج، إلا أنه لم ينظر في نصوص إمام المذهب نظر المجتهد المستقل في نصوص الشارع، بل كان يرى عدم جواز ذلك، ويستشف هذا من اعتراضه على الباجي حين استقرأ من ألفاظ المدونة؛ اشتراط الجماعة لخطبة الجمعة وقد مر النص قريباً (¬1) وقد أوضح ذلك النص بجلاء موقفه من هذا النوع من التخريج. إلا أن هذا لا يعني أنه كان لا يرى جواز التخريج على نصوص الإمام بل إن موقفه هذا كان محصوراً في استنباط الأحكام واستثمارها من نص الإمام. وإنزال نصوصه منزلة ألفاظ المشرع، أما ما عدا ذلك فإننا نجده يخرج على نصوص الإمام، بمعنى أنه يقيس عليها ويلحق بها نظيرتها. كما أنه يخرج على نصوص الشارع، وعلى القواعد الأصولية والفقهية، فنتج عن هذا انفراده ببعض الأقوال وإنشاؤه للخلاف في بعض المسائل. وهذه أمثلة نصية توضح ذلك: أولاً: تعامله مع نصوص الشارع مباشرة: النموذج الأول: قال أثناء حديثه عن حكم المولاة في الوضوء: " ... وسبب الخلاف بين الوجوب والسقوط مبني على خلاف الأصوليين في الأمر هل يقتضي الفور أو للمكلف التراخي؛ فإن قلنا إنه يقتضي الفور وجبت ¬

_ (¬1) انظر ص: 157.

ثانيا: تعامله مع القواعد الأصولية والفقهية.

الموالاة، وإن قلنا إنه يقتضي التراخي لم تجب. وكذلك أيضًا وضوؤه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬1). يتضح في هذا النص أنه وظف القواعد الأصولية، وطبقها على الحديث مباشرة، وأجرى حكم ترتيب أفعال الوضوء على حكم موالاة الأفعال، ولم يعتمد على نصوص المذهب. النموذج الثاني: قال ابن بشير: "ولا خلاف أن الخطبة إذا اشتملت على حمد الله تعالى [والثناء عليه] والصلاة على نبيه عليه السلام وشيء من الوعظ ومن تلاوة القرآن أنها مجزية. ولا يوجد في المذهب نص على اشتراط خطبتين حتى لا يجوز دونهما. وحكى أبو الحسن اللخمي في ذلك قولين. وهذا لو ساعدته الروايات لكان له وجه، لأن الرسول عليه السلام خطب خطبتين، فيجري على ما قدمناه من الالتفات إلى أفعاله. وإن أتى منها بما لا بال له، مثل أن يقول الحمد لله وشبهَه. فهل يجزي؟ قولان. والرجوع في ذلك إلى لسان العرب، ولا شك أن مثل هذا المقدار لا يسمى خطبة ... " (¬2). يتضح من هذا النص أنه استدل على وجوب الخطبة من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من وجود النص في المذهب واحتكم إلى أهل اللسان ولم يحتكم إلى نصوص المذهب. ثانياً: تعامله مع القواعد الأصولية والفقهية. النموذج الأول: قوله: "وفروض الأعيان تجب بالعقل والبلوغ والإسلام ودخول الوقت. واشتراطنا البلوغ بعد ذكر العقل يجري على خلاف الأصوليين هل يوصف غير البالغ بالعقل أم لا؟ فإن قلنا إنه موصوف بذلك فيشترط البلوغ. وإن قلنا إنه غير موصوف بذلك فيكتفى باشتراط العقل. وأما اشتراط الإسلام فيجري على الخلاف في الكفار هل هم ¬

_ (¬1) انظر ص: 267 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 623 من هذا الكتاب.

ثالثا: إجراء المسكوت على المنطوق

مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وإن قلنا إنهم مخاطبون فلا يشترط الإسلام، وإن قلنا إنهم غير مخاطبين فيشترط ... " (¬1). نلاحظ أنه وظف هنا مسألتين أصوليتين وهما هل يوصف غير البالغ بالعقل أم لا؟ وهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟. النموذج الثاني قوله: "وإن رجع سهواً فلا تبطل صلاته بلا خلاف فإن رجع جهلاً يجري على الخلاف في حكم الجاهل هل هو كالناسي أو كالعامد؟ " (¬2). نلاحظ أنه وظف في هذه المسألة قاعدة فقهية وهي هل الجاهل كالناسي أو كالعامد. النموذج الثالث قوله: "ومنها لو طرأ الخوف ثم انكشف الغيب بعدمه فالمنصوص من المذهب صحة الصلاة وإسقاط الإعادة. واستحب ابن المواز الإعادة في الوقت؛ وقد يقال: يجري الخلاف في الإعادة في الوقت على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ ولعلٌّ هذا لم يقل به أحد من أهل المذهب" (¬3). نلاحظ أنه وظف قاعدة أصولية وهي هل الاجتهاد يرفع الخطأ أم لا؟ وانفرد بقول في المذهب. ثالثاً: إجراء المسكوت على المنطوق: النموذج الأول: قال ابن بشير: "وقد قدمنا أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس [بالموت] عندنا، والبرغوث من هذا القبيل. هذا إذا لم يجلب دماً فإن اجتلبه فقولان: فقيل هو طاهر نظراً إلى أصله، وقيل: نجس نظراً إلى الدم الحاصل معه. وعلى هذا يجري حكم قتل البرغوث في المسجد" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ص: 375 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 587 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 646 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 502 من هذا الكتاب.

رابعا: الأجراء على الخلاف.

نلاحظ هنا أنه أجرى حكم البرغوث إذا قتل في المسجد على حكم الميت الذي لا نفس له سائلة. النموذج الثاني: قال ابن بشير: "وصوم رمضان من معالم الشريعة وأركان الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد الوجوب فهو كافر قطعاً؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافرا؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها." (¬1). نلاحظ أنه أجرى حكم تارك الصيام المقر به على تارك الصلاة المقر بها. رابعاً: الأجراء على الخلاف. النموذج الأول: قال ابن بشير: "وفي المدونة في من صلى وذكر في الصلاة أنه نسي مسح رأسه فلا يجزيه أن يمسح رأسه بما في لحيته من بلل. وهذا لا شك أنه يقطع الصلاة لأنه صلى بوضوء ناقص، وإذا قطع فإن كان ليس في لحيته من الماء ما يكفي لمسح رأسه فلا شك أنه يطلب الماء لذلك، وإن كان فيها من البلل ما يكفي لمسحه فهل يمسح بذلك أم لا؟ أما إن كان بحضرة ماء فإن لا يمسح بذلك. وأما إن بعد عن الماء فيجري على الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل، وقد تقدم" (¬2). نلاحظ هنا أنه أجرى حكم من وجد في لحيته بللاً لا يكفي لمسح كامل رأسه على الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل. النموذج الثاني: قال ابن بشير: " ... وكذلك يجري الحكم في مسح الرأس في الوضوء. فإنه أجاز في المدونة أن تمسح على ضفرها. ¬

_ (¬1) انظر ص: 696 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 269 من هذا الكتاب.

خامسا: تخريج قول ثالث

وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع من وصول الماء إليه؛ فإن كان هناك حائل جرى نقضه وعدم نقضه على الخلاف في وجوب إيعاب جميع الرأس فقد تقدم". نلاحظ هنا أنه أجرى حكم مسح الضفائر في الوضوء إذا كان هناك حائل يمنع وصول الماء، على الخلاف في وجوب إيعاب جميع الرأس. خامساً: تخريج قول ثالث: الأمثلة السابقة قد لا يكون فيها نص لأهل المذهب، فيجتهد ابن بشير لإلحاقها بمثيلاتها، ويخرج لها حكماً، أما هذه فقد وجدت فيها أحكام ونصوص، لكنه رأى أنه من الممكن أن تجري فيها أحكام أخرى، غير التي نص عليها سابقوه، وهذه أمثلة توضح ذلك: النموذج الأول: قال في حديثه عن إمامة العاجز عن القيام إذا كان المقتدون به عاجزين كعجزه: "وإذا صححنا الإقتداء به فصح بعض المقتدين فما يفعل؟ قولان: قيل يقوم فيتم لنفسه فذًا؛ لأنه افتتح الصلاة بوجه جائز، ولا يصح إتمامه مقتديًا. والثاني أنهم يتمون معه الصلاة قائمين. وهذا تعويلاً على صحة الإقتداء به أولاً، ومراعاة لقول من يقول يجوز الإقتداء بالجالس وإن كان المقتدي به قائماً، ويجري فيه قول ثالث: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في الصلاة وليس عليها ما يستر عورة الحرة." (¬1). نلاحظ هنا أنه حكى قولين عن المذهب وزاد قولاً ثالثاً يمكن أن يجري في المسألة. النموذج الثاني: قال ابن بشير: "والستر هل هو من شرط صحة الصلاة، أو هو فرضٌ، من تركه أثم لكنه ليس بشرط في صحة الصلاة؟ وقد قدمنا القولين في الرجل يصلي بادي الفخذين هل يعيد في الوقت، أو لا إعادة عليه؟ فأما الإعادة في ¬

_ (¬1) انظر ص: 439 من هذا الكتاب.

سادسا: إنشاؤه للخلاف

الوقت فيحتمل أن يكون بناء على أن الفخذين ليسا بعورة ولكنه يعيد مراعاة للخلاف، أو على أنه عورة لكن يقتصر على الإعادة في الوقت مراعاة للخلاف. وأما ترك الإعادة فيحتمل أن يكون بناء على أن الفخذين ليسا بعورة وهو الظاهر أو على أنه عورة، لكنها عورة خفيفة. ولا شك أنه يجري فيه قول ثالث بوجوب الإعادة وإن خرج الوقت بناء على أنه عورة على ترك مراعاة الخلاف" (¬1). نلاحظ أيضًا أنه ذكر قولين في المسألة ونص على إمكان إجراء قول ثالث فيها. النموذج الثالث: قال في حديثه عن زكاة المغشوش من الدنانير: " ... فإن اختلفت الموازين وكانت في بعضها كاملة وفي بعضها ناقصة فالمنصوص للبغداديين وجوب الزكاة تعويلاً على الكمال. ولا يبعد أن يجري على قولين. وبين الأصوليين خلاف إذا اجتمع شيئان أحدهما موجب والثاني مسقط هل يغلب الموجب أو بالعكس؟ " (¬2). نلاحظ هنا أنه ذكر قولاً منصوصا للبغداديين ورأى أنه يمكن أن يجري فيه قول آخر. النموذج الرابع: قال في حديثه عن العطايا التي تقارن العقد ويقع عليها النكاح: "فإن انفسخ النكاح فهل تبقى على حكمها الأول من عدم افتقارها إلى الحوز أو لا تبقى على ذلك؟ فيه قولان للمتأخرين، ويجري فيه قول ثالث بأنها لا تلزم إذا ظهر أنها إنما أعطيت بقصد صحة النكاح." (¬3). نلاحظ أنه ذكر هنا قولين للأشياخ وزاد قولاً ثالثاً. سادساً: إنشاؤه للخلاف: ومما يلحق بالأمور السابقة؛ إنشاؤه للخلاف في مسائل لم يختلف ¬

_ (¬1) انظر ص: 482 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 779 من هذا الكتاب. (¬3) كتاب النكاح نسخة خاصة.

فيها أهل المذهب، وقد يعبر عن ذلك بأساليب متعددة، منها قوله: "ينبغي أن يختلف" أو "لا يبعد أن يختلف" أو "فقد يختلف" أو "فيختلف". أما إذا كان يحكي الخلاف عن علماء المذهب فإنه يستعمل الفعل الماضي المبني للمجهول اختلف، أو يبنيه للمعلوم وينسبه للمختلفين كقوله: اختلف الأشياخ أو المتأخرون أو غيرهم. وقد سبق الحديث عن الخلاف عند ابن بشير، وأنه محصور في الخلاف الصغير أو النازل. فنكتفي هنا بذكر أمثلة على إنشائه للخلاف. النموذج الأول: قال فيمن صلى إلى غير القبلة: "فأما من صلى وهو قادر على التحويل أو التحول فينبغي أن يعيد أبدًا. وأما من لم يقدر على ذلك لفقد من يحوله؛ فينبغي أن يختلف في إعادته كما اختلف في [إعادة] المريض يعدم من يناوله الماء، فيتيمم ويصلي ثم يجد من يناوله." (¬1). نلاحظ أنه أجرى المسألة على نظيرتها فرأى أنه يجب أن يختلف فيها كما اختلف في مثيلاتها. النموذج الثاني: قال في العاجز عن كل حركات الصلاة ولم يبق له إلا النية: " ... وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة. والذي عولنا عليه في المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب .... ولا يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة وإن وجد فيها نص] " (¬2). نلاحظ أنه وإن ركن للمذهب الشافعى فإنه لا يستبعد أن يختلف المذهب لوجود أسباب الاختلاف. ¬

_ (¬1) انظر ص: 427 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 424 من هذا الكتاب.

المطلب الثالث: التعليل عند ابن بشير

النموذج الثالث: قال ابن بشير: "ولا يجوز أن يصلي وهو يدافع خروج الحدث؛ فإن فعل ففي الكتاب يعيد بعد الوقت. قال الأشياخ: وهذا على ثلاثة أقسام: أحدها أن يمنع الحدث إتمام الفروض، وهذا يعيد في الوقت وبعده. والثاني أن يمنعه من إتمام السنن، فهذا يعيد في الوقت لا بعده. وينبغي أن يختلف في هذا على الخلاف في تارك السنن [متعمداً] هل يعيد بعد الوقت؟ ... " (¬1). نلاحظ هنا أنه ذكر قول الأشياخ، ورأى أن المسألة ينبغي أن يختلف فيها، طرداً للقواعد وإجراءً لها على مثيلاتها. بعد هذا أنتقل إلى قضية أخرى وثيقة الارتباط بالاجتهاد أعني التعليل. المطلب الثالث: التعليل عند ابن بشير: إن إدراك كنه الشريعة، مرتبط أشد الارتباط بمعرفة مقاصدها وأسرارها وعللها "فمن لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها" (¬2). "وزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشريعة" (¬3). لقد كان ابن بشير مدركاً لهذه الحقيقة أشد الإدراك. وبذل جهداً في إبراز علل الأحكام وأسرارها، وألف في ذلك كتاباً مستقلاً سماه: "الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة" وجعل كتاب التنبيه، مدخلاً لهذا الكتاب (¬4). فمزج فيه الأحكام بالعلل حتى أصبح الكتاب يتميز بهذه الميزة قال محمد مخلوف: "ألف كتاب التنبيه ذكر فيه أسرار الشريعة" (¬5) ولو أنه ركز على النصوص الشرعية، بدل الأقوال الفقهية؛ لكان من أوائل المؤسسين لعلم المقاصد لكن يبدو أنه تأثر بشيخه اللخمي الذي رسم معالم هذا المنهاج (¬6). ¬

_ (¬1) 296. (¬2) الاعتصام 2/ 175. (¬3) الموافقات: 4/ 170. (¬4) انظر مقدمة التنبيه. (¬5) شجرة النور ص: 126. (¬6) انظر أبو الحسن اللخمي وجهوده في تطوير الاتجاه النقدي ص: 155.

تجاذب الأحكام بين التعبد المحض ومعقولية المعنى

ويمكن تصنيف جهود ابن بشير في هذا المجال، ضمن المقاصد الجزئية التي تكتفي بذكر مقاصد الأحكام الفرعية، وإن كان من حين لآخر يتعرض للمقاصد الخاصة والعامة (¬1). تجاذب الأحكام بين التعبد المحض ومعقولية المعنى: لقد قسم الغزالي الأحكام الشرعية إلى ثلاث أقسام: قسم تعبدي محض لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه، وقسم المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد. وقسم مركب يقصد منه الأمران جميعاً وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد. وبغض النظر عن صحة هذا التقسيم أو عدم صحته (¬2)، فإن ابن بشير سار عليه. فنجده يتردد أحياناً في إلحاق بعض العبادات بأحد الأقسام، أو يجزم بأنها من قسم معين. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: الأحكام التي اختلف العلماء في كونها معللة أو غير معللة فمن ذلك: أ- اختلاف العلماء في غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب هل هو للتعبد المحض أو لما يمكن أن يكون ولغ فيه من النجاسة أو لأنه مما يستقدر (¬3). ب- اختلاف القائلين بغسل جميع الذكر من المذي هل يفتقر إلى نية ¬

_ (¬1) المراد بالمقاصد العامة هي المقاصد التي تمت مراعاتها وثبت إرادة تحقيقها على صعيد الشريعة كلها أو في الغالب الأعم، أما الخاصة فهي المتعلقة بمجال خاص من مجالات التشريع كمجال الإرث والمعاملات والصيام ... إلخ. انظر مدخل إلى مقاصد الشريعة ص: 11. (¬2) الذي عليه المحققون أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته، ولكن عند عجز الفقيه عن إدراك العلة يقول: إن الأمر تعبدي. انظر الفكر المقاصدي قواعده وفوائده ص 39. (¬3) 201.

أم لا؟ وسبب الخلاف هل غسل جميعه تعبد فيفتقر إلى النية أو غسله لتتقطع مادة المذي فلا يفتقر إلى نية؟ (¬1). ج- الاختلاف في طلاق غير المدخول بها. هل يجوز في الحيض إذ لا عدة يخاف تطويلها أو لا يجوز لأن ذلك غير معلل (¬2). د- وقال في أنصبة الزكاة: "وقد تصرفت الشريعة في هذه النصب تصرفاً مناسبًا يعقل معناه وإن كان فيه شوب التعبد على التفصيل" (¬3) ثم راح يذكر بعض الحكم والأسرار. فهذه نماذج من الأحكام تردد الفقهاء في إلحاقها بأحد الجانبين؛ جانب الأحكام المعللة أو جانب الأحكام التعبدية. وأما ما جزم بأنه تعبد محض فهو قليل، منه قوله: "وهل يفتقر النضح إلى نية؟ للمتأخرين قولان: أحدهما وجوب النية لأنه تعبد، والثاني إسقاطها. قال ابن محرز؛ لأنه لا يخلو أن يكون أصابه شيء أم لا؟ فإن أصابه فلا يفتقر إلى نية، وإن لم يصبه فلا شيء عليه. وهذا الذي قاله هو القياس، لولا أن النضح تعبد والتعبد يفتقر إلى نية" (¬4). أما ما عقل معناه فهو كثير منه ما حكاه عن غيره وأقره ومثاله: ما حكاه عن أبي المعالي في المقصد من الصوم فقال: " ... المقصود بالصوم في الشريعة وجهان: أحدهما: كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع. فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح ¬

_ (¬1) 218. (¬2) كتاب الطلاق نسخة خاصة. (¬3) انظر ص: 872 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 280 من هذا الكتاب.

ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ". والوجه الثاني: أن المقصود أيضًا كسر الشهوتين. لكن ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع النفس عن شهواتها ومنعها من الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ"" (¬1). ومنه ما حكاه عن المحققين في علة إدراك الصلاة بركعة واحدة قبل خروج الوقت. فقال: "قال المحققون في الانتصار للمشهور إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مُدْرَكَ الصلاة قبل الطلوع أو قبل الغروب بالركعة؛ لأن الركعة صلاة كاملة؛ فيها تكبير وقيام وقراءة وركوع وسجود، وهذه جملة أحكام الصلاة. ثم الركعات بعدها تكرير لهذه الأفعال من غير زيادة، وإنما تكررت لحصول تأثيرها في النفس وهي في معنى الأول قطعاً، فالمدرك للركعة حصلت له جملة الصلاة في الوقت" (¬2). ومنه ما نقله عن غيره وانتقده وله عدة أمثلة منها: أ- قال في الزرع الذي يسقى بالسيح، لكن رب الأصول لا يملك الماء وإنما يشتريه: "ومن أوجب هاهنا نصف العشر فإنما يعول على الالتفات إلى المعنى، وأن مقصود الحديث أن ما فيه كلفة ففيه نصف العشر، وما لا كلفة فيه ففيه العشر [كاملاً]، وهذا ظاهر [ما لم] يصادم النص؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل فيما يشرب بالعيون [أو بالبعل] العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر، فينبغي أن ينظر إلى المعنى لكن من غير أن يعود التعليل بمصادمة النص، وقد قال المحققون: إن كل علَّة تعود على النص بالإبطال فهي باطلة" (¬3). ب- قال في علة كراهية اتخاذ الأعرابي إماما: "وأبو الوليد الباجي ¬

_ (¬1) انظر ص: 698 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 468 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 920 من هذا الكتاب.

يرى أن العلة في الكراهية كالعلة في كراهة العبد، هو مداومته على ترك بعض الفروض كالجمعة، وإكمال الصلاة لكثرة أسفاره. وابن حبيب وغيره من أهل المذهب يعللون لجهله بالسنن. ولو صح ما قالوه لمنعت إمامته، لأنه إذا جهل أحكام الصلاة كان الإتمام به معرضًا للبطلان" (¬1). ج - قال في علة طهارة بول الصبي ونجاسة بول الصبية: "وقد علل هذا المذهب بأن الذكر خلق من تراب والأنثى من ضلع، فإذا لم يأكلا الطعام رُدَّا إلى أصلهما، فالتراب طاهر والضلع نجس. وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي الحكم بطهارة الرجيع وأجمعت الأمة على نجاسته. وإنما الخلاف في البول. وأيضاً فإن المخلوق من تراب ومن ضلع هما أصل الخلقة، آدم وحواء. وأما من بعدهما فهو مخلوق من نطفة" (¬2). أما ما لم ينسبه لغيره فهو كثير منه: أ- قال في وجوب جمع الذهب والفضة في تكميل النصاب، لاتحاد مقاصدهما: "ولما كان النقدان متفقين في حال المقاصد، وأنهما ثمن للمبيعات وقيم المتلفات، وهذا هو المقصد الأول [بهما]، ولا يختلفان إلا من باب كثرة القيمة وقلتها وجب عندنا أن يجمعا في الزكاة فيكمل النصاب من أحدهما بالآخر" (¬3). ب- قال في علة كراهية الصلاة بين الأساطين: "والصلاة بين الأساطين مكروهة، إلا أن يضيق المسجد. واختلف في علة الكراهية فقيل: أنها محل الشياطين والنجاسات، إذ كانوا يلقون هناك نعالهم، وقيل إنما كرهت لتقطيع الصفوف، ولا تفسد الصلاة على هذا التعليل. وإن عللنا بنجاسة الموضع تفسد الصلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ص: 447 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 288 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 781 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 507 من هذا الكتاب.

* المطلب الرابع: ابن بشير والأصول

ج- قال في العلة في امتناع أهل الفضل عن الصلاة، على مظهري الكبائر: "فينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على مظهري الكبائر ليرتدع بذلك أمثالهم" (¬1). د- قال في العلة من منع إعطاء آل البيت من الصدقة: "فالمنع لقوله - صلى الله عليه وسلم - للحسين رضي الله عنه وقد أخذ تمرة من تمر الصدقة: أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد. ومن حمل ذلك على عمومه؛ منع في التطوع والواجبة، ومن قصره على الغالب من كونه من الصدقة الواجبة، قصره على الواجب دون التطوع. ويدل عليه تعليله - صلى الله عليه وسلم - للمنع لأنها أوساخ الناس. وأما الجواز مطلقاً فمعلل بأنهم إنما منعوا منها لما كانت الأرزاق الواجبة لهم جارية عليهم، والآن انقطعت فحلت لهم الصدقة. وأما التفرقة في إجازة الواجبة دون التطوع فإن الواجبة لا مِنَّة فيها بخلاف التطوع، فجاز لهم أخذ ما لا منة فيه" (¬2). * المطلب الرابع: ابن بشير والأصول: إن كل من أراد أن يسلك مسلك الاجتهاد، لا مناص له من التحقق والتمكن من الأصول، وابن بشير حامل لواء الاستقلال بالاجتهاد والترفع عن أهل التقليد، كان واحداً ممن استجمعوا شرائط هذا العلم وسلكوا سبيله. بل عبدوه ومهدوه لغيرهم. فهو كثير الاعتماد على القواعد الأصولية في كتابه التنبيه، وقد وظفها توظيفًا رائعاً محكمًا، فمزج الفروع بالأصول وبين مناهج العلماء في استنباط الأحكام، وتوسع في ذلك توسعا بينا لا تخطئه العين. حتى أصبح ذلك سمة بارزة فيه. ولعل ما ساعده على ذلك اهتمامه بهذا العلم، وإفراده بالتأليف (¬3) في ¬

_ (¬1) انظر ص: 668 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 856 من هذا الكتاب. (¬3) فقد ألّف كتابًا سماه شرح اللمع الشيرازية. وقد سبق الحديث عنه.

وقت اتهم فيه المغاربة بالتقصير في علم الأصول والعزوف عنه وقلة بضاعتهم فيه (¬1). ومن كثرة استعماله للقواعد الأصولية واعتماده عليها، أصبح محط انتقاد بعض العلماء. قال ابن فرحون: "وكان رحمه الله يستنبط أحكام الفروع من قواعد أصول الفقه. وعلى هذا مشى في التنبيه. وهي طريقة نبه ابن دقيق العيد على أنها غير مخلصة، إذ الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصولية" (¬2). وقد سبق الحديث عن هذه القضية، فلا داعيًا لتكراره (¬3). ومهما يكن من أمر فإن الدارس أو المتفقه، يجد متعة في التعامل مع القواعد الأصولية وربطها بالفروع الفقهية. فهي الوسيلة المثلى لتنمية الملكة والمساعدة على استنباط الأحكام واستثمارها. ولتجلية الموضوع أكثر يستحسن ذكر بعض القواعد الأصولية التي احتج بها ابن بشير أو رد إليها اختلاف الفقهاء. فمن ذلك قوله: هل الأمر يدل على الوجوب أو الندب؟ (¬4) هل القضاء يفتقر إلى أمر ثان؟ (¬5) هل الأمر يقتضي الفور أم التراخي؟ (¬6). هل الأوامر تتعلق بوقت الكراهة؟ (¬7) هل يقتدى بأفعاله كلها؟ (¬8) هل الأمر بالشيء نهي عن ¬

_ (¬1) لقد أطلق هذه التهمة ابن رشد الحفيد في كتابه: فصل المقال ص 27 وتبعه المقري في نفح الطيب 1/ 22، وقد فند هذا الادعاء الدكتور محمد الجيدي في كتابه محاضرات في تاريخ المذهب المالكي ص 72. (¬2) الديباج 87. (¬3) انظر ص: 102 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 240 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 660 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 267 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص: 377 من هذا الكتاب. (¬8) انظر ص: 558 من هذا الكتاب.

ضده؟ (¬1) هل تحمل الأسماء على الأوائل أم الأواخر؟ (¬2) هل العطف يفيد التشريك؟ (¬3) هل الجمع يفيد التشريك؟ (¬4) هل إلى للانتهاء أم للغاية؟ (¬5) هل يخصص العام بالعادة؟ (¬6) هل العام الوارد على سبب يتعداه أم لا؟ (¬7) هل النفي يقتضي الإجمال؟ (¬8) هل يرد المطلق إلى المقيد؟ (¬9) هل يعمل بدليل الخطاب؟ (¬10) هل يعمل بلحن الخطاب؟ (¬11) ما المقدم إذا اجتمع موجب ومسقط؟ (¬12) إذا قال الصحابي شيئاً ولم ينكر عليه هل يعد إجماعا؟ (¬13) إذا قال الصحابي شيئاً من السنَّة كذا هل يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (¬14) زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ (¬15) هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ (¬16) هل يكلف غير المطبق؟ (¬17) ما العمل إذا تعارض استصحابان؟ (¬18) هل يقاس على الرخص؟ (¬19) هل يعول على قياس الشبه (¬20) ما حقيقة قياس العكس (¬21) هل ¬

_ (¬1) انظر ص: 663 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 259 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 251 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 651 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 284 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 241 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص: 317 من هذا الكتاب. (¬8) انظر ص:408 من هذا الكتاب. (¬9) انظر ص: 234 من هذا الكتاب. (¬10) انظر ص: 346 من هذا الكتاب. (¬11) انظر ص: 726 من هذا الكتاب. (¬12) انظر ص: 779 من هذا الكتاب. (¬13) انظر ص: 512 من هذا الكتاب. (¬14) انظر ص: 673 من هذا الكتاب. (¬15) انظر ص: 333 من هذا الكتاب. (¬16) انظر ص: 293 من هذا الكتاب. (¬17) انظر ص: 320 من هذا الكتاب. (¬18) انظر ص: 703 من هذا الكتاب. (¬19) انظر ص: 254 من هذا الكتاب. (¬20) انظر ص: 706 من هذا الكتاب. (¬21) انظر ص: 706 من هذا الكتاب.

* المطلب الخامس: ابن بشير والقواعد الفقهية

يقدم القياس على خبر الآحاد؟ (¬1) هل ترتفع العلة بارتفاع حكمها أم لا؟ (¬2) هل يجب النسخ بالبلوغ أو بالنزول؟ (¬3) هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ (¬4) إلى غير ذلك ... هذا العدد الكبير من القواعد الأصولية المنثورة في الكتاب، تضفي عليه قيمة علمية خاصة، وتحقق أهداف مؤلفه منه وهي التمرس على الاجتهاد والارتفاع عن التقليد. * المطلب الخامس: ابن بشير والقواعد الفقهية: إذا كان الفقه هو ثمرة العلوم الشرعية، فإن القواعد الفقهية هي ثمرة الفقه وزبدته، فيها تبلورت العقلية الفقهية الإسلامية الناضجة، القادرة على التجميع والتأصيل للمسائل الفقهية المتكاثرة (¬5). وقد ظهر علم القواعد الفقهية كمادة مستقلة في القرن الرابع الهجري، وذلك بعد اختمار ونضج المادة الفقهية، فانكب أصحاب كل مذهب على دراسة فروع مذهبهم، ووضع الضوابط والقواعد له وضم المسائل المتشابهة إلى نظائرها، وجمع كل قضية مع شبيهتها. وهذا كله من أجل تكوين الملكة الفقهية، واكتساب القدرة على التخريج والتفريع وتيسير ضبط الفقه واستحضار جزئياته. وقد ألف عدد من الفقهاء كتباً مستقلة في هذا الميدان. وبالنسبة لابن بشير فإننا لا نسنطيع أن نثبت له كتاباً مستقلاً في هذا الفن، ولا أن ننفيه عنه، نظراً للإهمال الشديد الذي تعرض له تراثه، نعم نستطيع أن نجزم له بكتاب في الأشباه والنظائر وقد سبقت الإشارة إلى ¬

_ (¬1) انظر ص: 577 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 503 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 483 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 355 من هذا الكتاب. (¬5) قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف ص:103.

ذلك، ومعلوم أن هناك فرقا بين القواعد الفقهية والأشباه والنظائر: إذ الأولى عبارة عن أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تضم أحكاماً تشريعية عامة، في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها، وتصاغ بعبارة موجزة ومحكمة (¬1)، وتلحق بها القواعد الفقهية التي تشمل جزئيات وفروع تندرج في باب واحد أو جزء من باب (¬2). أما الأشباه والنظائر، فليست كذلك. إذ يقصد بها المسائل التي يشبه بعضها بعضا مع اختلاف في الحكم لأمور خفية (¬3) ... ومهما يكن من أمر فإن ابن بشير ضمن كتابه التنبيه على مبادئ التوجيه مادة علمية غزيرة في مجال القواعد الفقهية لو استخرجت منه لكانت كتاباً ضخما (¬4). ومعظم القواعد التي وظفها ابن بشير في كتابه هي قواعد وأحكام كلية خلافية، كانت مثار نقاش وجدال بين الفقهاء ونتج عن الخلاف فيها خلاف في فروع أخص منها. ولعل لهذا ما يبرره، إذ الكتاب قصد به حكاية الخلاف داخل المذهب، فناسب هذا التعامل مع هذا النوع من القواعد الفقهية. وأرى من المفيد ذكر بعض القواعد التي تعامل معها ابن بشير في كتابه. فمنها على سبيل المثال: "من ملك أن يملك هل يعد مالكاً؟ " (¬5) "هل تراعى الطوارئ أم لا؟ " (¬6) "الأتباع هل تعطى حكم نفسها أو حكم متبوعاتها؟ " (¬7) "هل يكون ¬

_ (¬1) انظر المدخل الفقهي العام: 2/ 947. (¬2) انظر قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف. ص: 112. (¬3) انظر القواعد الفقهية للندوي ص: 63. (¬4) بل هناك قواعد يعز أن توجد في أمهات الكتب غيره، وقد أكد ذلك القرافي عندما قال: قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في أصول كتب الفقه أصلاً. الفروق 2/ 110. (¬5) انظر ص: 810 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 811 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص: 780 من هذا الكتاب.

* المطلب السادس: مصادر ابن بشير في الكتاب

النظر إلى الحال أو إلى المآل" (¬1) "هل المساكين كالشركاء بمضي الحول، أو ليس كالشركاء؟ " (¬2) "المترقبات هل تعد حاصلة من يوم ترقبها أو من يوم حصولها؟ " (¬3) "إمكان الأداء هل هو شرط في الوجوب أم لا؟ " (¬4) "هل يعطى الحكم للنية أو للموجود؟ " (¬5) "هل تتعين الأضحية بالشراء أو بالنية؟ " (¬6) "من ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ " (¬7) "مجيء السعاة هل هو شرط في الوجوب أو في الأداء" (¬8) "هل كل جزء من الصلاة عبادة قائمة بنفسها أو يقال صحة أوائلها موقوف على صحة أواخرها؟ " (¬9) "هل يعلق الحكم على الصور النادرة أم لا؟ " (¬10). هذه جملة من الأمثلة على القواعد الفقهية التي تعامل معها ابن بشير في كتابه، ووظفها فيه، ولعل الحديث عن طريقة استثماره لها ومنهج استدلاله بها في الخلاف يقتضي بحثاً مستقلاً فلنكتفي بما ذكرنا. * المطلب السادس: مصادر ابن بشير في الكتاب: إذا كان بعض العلماء يميلون إلى التكتم على مصادرهم، وعدم البوح بها، كابن رشد الحفيد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وابن خلدون في المقدمة وغيرهم، فإن ابن بشير كان واضحاً في هذه المسألة، كاشفاً عن مصادره ومبيناً لها في الغالب الأعم. ¬

_ (¬1) انظر ص: 853 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 783 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 791 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 795 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 805 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 837 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص: 859 من هذا الكتاب. (¬8) انظر ص: 912 من هذا الكتاب. (¬9) انظر ص: 483 من هذا الكتاب. (¬10) انظر ص: 628 من هذا الكتاب.

موقفه من المدونة

ويمكن تقسيم مصادره إلى ثلاثة أقسام: مصادر صرح بأسمائها، ومصادر لم يصرح بها وإنما صرح بمؤلفيها (¬1)، ومصادر أبهمها. فبالنسبة للمصادر التي صرح بها أو صرح بمؤلفيه، أول ما نذكر منها: 1 - المدونة؛ المصدر الذي يعتبر محور الكتاب وأساسه، وقد يعبر عنه أحياناً بالكتاب وأحيانًا أخرى بالمدونة؛ ولعل هذا من تصرف النساخ، وإن كان هناك احتمالاً بأن يقصد بالكتاب تهذيب البراذعي، لأنه بعد ظهوره أصبح البعض يطلق عليه مصطلح الكتاب، وعلى المدونة مصطلح الأم، ولكن هذا بعيد لسببين: أولهما: أن مصطلح الأم لم أقف عليه في كتاب التنبيه، ثانيهما: أنه من خلال تتبعي للنصوص التي نسبها للمدونة أو الكتاب وجدتها كلها في المدونة. فتبين لي أن المصطلحين لمسمى واحد. وبما أن المدونة كانت مصدراً رئيساً عند ابن بشير، بل هي محور كتاب التنبيه وقطب رحاه، حتى عد شرحاً لها، أرى أن ذلك يدعوني للحديث عن موقفه منها. موقفه من المدونة: من المعلوم أن ابن بشير ينتمي إلى المدرسة القيروانية، التي توسم بأنها أثرية تركز على نصوص المدونة، وتدارسها وتناقشها، وتخرج عليها، يقول أبو العباس المقري: "أما الاصطلاح القروي، فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب واختلاف المقالات مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع، وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها" (¬2). ¬

_ (¬1) بالنسبة للمصادرة التي صرح بمؤلفيها فإني سأذكر أهم كتب أولئك المؤلفين الفقهية على اعتبار أنها هي التي يمكن أن يعتمد عليها. (¬2) أزهار الرياض 3/ 22.

فإذا هو منهج أشد التصاقاً واحتكاكاً بالمدونة من غيره من المدارس المالكية (¬1). والكتاب الذي بين أيدينا ناطق بذلك، فبالإضافة إلى أنه حريص على محاذاتها في الشكل والترتيب والتخريج عليها والتنبيه على ما ليس فيها، فإنه كذلك حريص على تتبع ألفاظها، وضبط حروفها وتصحيح رواياتها. وأسوق مثالين يوضحان ذلك: الأول: قوله: "وفي المدونة في خشاش الأرض أنه لا ينجس ما مات فيه [من الماء]. وإن وقع في قدر فيها طعام أكل ما فيها. وذكر عن أبي عمران أنه قال سقط من المدونة: "لا"، وإنما الأصل أنه لا يؤكل ما فيها لأنه لا ينجس الماء في الاستعمال، ويُمنع شربه وأكل الطعام لعلة أنه لا يؤكل إلا بذكاة. وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب لكنه بعيد أن يقال سقطت لفظة "لا" من جميع الكتب وأغفلها الرواة" (¬2). والثاني: قوله: "وفي المدونة: لا بأس بالخبز من سؤر الفأرة. ويروى بضم الخاء وبفتحها، ومعنى الضم نفس الخبز إذا أكلت منه ... ومعنى الفتح في الخَبْز أنها إذا شربت من ماء فيجوز أن يعجن به، وصوب بعض الأشياخ هذه الرواية ... " (¬3). وعلى الرغم من هذا كله، فإنه لم يصل به اهتمامه بالمدونة واعتماده عليها وإعجابه بها إلى درجة التحفظ في انتقادها، والتهيب من التنبيه على أخطائها. بل بقدر ما هو معجب بها، ومتمسك بها، بقدر ما ينتقدها حيث ¬

_ (¬1) كمدرسة العراق مثلاً التي تأثرت بمحيطها العلمي فجاء منهجها قياسياً جدليًا على نحو واضح، يقول المقري: فأهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل المدونة كالأساس وبنوْا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير الدلائل على رسم الجدليين وأهل النظر من الأصوليين، انظر المصدر السابق. (¬2) انظر ص: 230 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 237 من هذا الكتاب.

تدعو الضرورة لذلك اتباعاً للصواب إذا ظهر واستمساكًا بقوانين النظر الفقهي الذي يدور مع الدليل حيث دار، وأثبت هنا نصا من التنبيه بالغاً في الدلالة على هذا المعنى. قال ابن بشير: "والذي سمعناه في المذاكرات؛ أن هذه المسائل كلها ضعاف، وقد خالفه كثير من أصحابه في مثل هذه المسائل، وإن كانوا رواتها لما يرون من ضعفها. فروى أشهب عن مالك أنه قال: أكره حفر بيوت الجاهلية، وقبورهم للطلب فيها. وقال: أشهب بل يجوز حفر قبورهم، وفتشهم وأخذ سلبهم، وليست حرمتهم موتى أعظم من حرمتهم أحياء. وقد قال مالك في الذي يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، إلى ثلاثين سنة، ثم يخاف العنت: يجوز له أن يتزوج. قال ابن نافع: إن تزوج طلقت عليه. وبه قال ابن الماجشون. وقال: لست آخذ فيها بقول مالك، فإن له أن يتسرى، وهو لو خص بلدا أو قبيلة لزمه. وكذلك إذا خص زمانًا يبلغه غيره. وقال مالك: من باع امرأته، طلقت عليه البتة. وقال ابن وهب: لا تطلق عليه، ولكنها إن طاوعته على البيع وهي رشيدة. وأقرت أن مشتريها وطئها طائعة رجمت، وإن ادعت الإكراه صدقت. وقال ابن القاسم وابن نافع: تطلق طلاق الخلع. وقال أصبغ بن الفرج: إن باعها من أهلها فهي طلقة خلع، وإن باعها من غيرهم، فهي ثلاث تطليقات. وقال مالك: من قال لرجل أو امرأة، دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا. فيدله فإنه يلزمه ما سمى له. وان قال دلني على امرأة اتزوجها ولك كذا وكذا بذلك. قال لا شيء له، لأن النكاح لا بيع فيه، ولا إكراه. وبه قال ابن القاسم. وقال سحنون: لا أقول به، بل يلزمه، لأن المؤمنون عند شروطهم. وقال مالك في رجل يكون له على رجل دينار قرضًا، فيأخذ منه سدس دينار، أو يأخذ منه عند الأجل به درهم؛ إن ذلك جائز. وكذلك إن

أخذ بنصفه أو ثلث غرضًا جاز. فإن أخذ بما بقي من الدينار درهما؛ فلا خير فيه. قال أرى أنه يصير ذهبا وورقًا بذهب وعرضًا بذهب. قال أشهب: بل يجوز أن يأخذ باقيه ذهباً، فإنه بعض ديناره، فإنه قد كان بقي له من الجزء، وأخذه إذا لم يكن ذلك بالشرط عند التبايع. وكذلك في أخذ العوض بالجزء، والدراهم بجزء أخر، فإن ذلك لم يكن في صفقة واحدة، ولكن في عقد الأول مشروط. قال مالك: أكره أن يكون ولد الزنا إمامًا راتبًا، وقال ابن نافع: لا أرى به بأسًا ولا أدري، فإن الله تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. قال مالك: من سرق من بيت مال المسلمين، تقطع يده، وإن كان له فيها سهم. وقال عبد الملك: لا تقطع عليه حتى يسرق فوق سهمه بربع دينار. وقال سحنون: الحق ما قال عبد الملك، إذا كان زيادة ربع دينار على حظه من ذلك المسروق منه. وقال مالك: من خلع امرأته على أنها متى ما طلبت الذي أعطته، فهي امرأته كما كانت، فطلبت ذلك فرده إليها، وراجعها ثم أصابها. قال: يفرق بينهما ولا يتناكحان أبدًا؛ لأنه نكحها في عدتها منه. رواه أشهب عن مالك. قال محمد بن المواز: سألت عنها غير واحد من أصحاب مالك، وكلهم يقول لا نأخذ به، ولا يحرم عليه التأبيد. وقال مالك: في الرجل يبتاع عشر نخلات، يختارها من حائط البائع، فذلك جائز. قال ابن القاسم: ما رأيت أحداً من أهل المعرفة يعجبه قول مالك ولا يعجبني. ولقد وافقته فيها نحوًا من أربعين ليلة. وقال مالك: أرى أن يقسم البيت الصغير وإن لم يقع لأحدهم ما ينتفع به. وكذلك الأرض القليلة. والدكان الصغيرة والحمام، وكل شيء. لقوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} قال بن القاسم: وأنا لا أرى ما لم ينقسم إلا بضرر من ارض، أو دار، أو حمام، لم ينقسم. إلا بحيث أن يظهر لكل واحد منهم ما ينتفع به على طريق الاستقلال، فيقسم، وإلا فلا.

ثم قال: وهذا قول جميع الرواة من أصحاب مالك إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه. فلا تعتقد أن كل ما في المدونة صحيح، وإن في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحيح وسقيم، وقد حان أن نرجع إلى الكتاب" (¬1). انتهى. وقد أثبت هذا النص على طوله، لأهميته ونفاسته. فهو يوضح بجلاء تحرر المالكية وتمسكهم بالآراء الراجحة ومخالفة الآراء المرجوحة، ولو كانت هي آراء الإمام نفسه. 2 - الموطأ؛ لقد اعتمد ابن بشير الموطأ، ولكن ليس كاعتماده المدونة، إذ إشاراته إليه ونقوله عنه قليلة جداً إذا ما قورنت بالمدونة، ورغم هذا فإنه كان ينظر إليه نظرة إجلال وإكبار ويرى أنه كتاب علم ألف للعلماء. قال في كتاب المرابحة: "هذه مسألة من مسائل الموطأ قد قرأها سحنون، وكان يقول ما في الموطأ هو أصل علم المدنيين وكثير من أهل العلم أصله في الموطأ، إلا أنه ليس بتفسير يعلمه الجاهل، وإنما هو كلام مجموع من اختيار العلماء ممن قد تبصر في العلم. قال سحنون سمعت ابن القاسم يقول ما قرأت الموطأ قط إلا ازددت فيه علما ومعرفة، وهو أول ما سبق من العلم إلى أهل إفريقية، وكانوا يقرؤونه ولا يعرفون معناه، فكان بعض من كان بها من العلماء، إذا قرأه، ولم يفهم ما فيه، من الفقه والضوابط التي فيه من أصول العلم، يقول: ما أدري ماذا فيه من العلم، حتى قدم علي بن زياد من تونس إلى القيروان، فرووه عنه، وسألوه عن معانيه، فأخذ يشرح لهم معانيه، ويفسر لهم وجوهه، حتى استبان لهم ذلك الذي فيه". هكذا كان ابن بشير ينظر إلى هذا الكتاب القيم، وقد خصصته مع المدونة بهذه الكلمة، لما يتمتعان به من مكانة متميزة في الفقه الإسلامي. أما باقي المصادر فإني سأكتفي بالإلماع إليها، إذ المقام لا يسمح بغير ذلك. ¬

_ (¬1) باب الحكرة وأحكامها وما يجب على الحاكر.

3 - كتب عبد الله بن وهب (ت) 197 هـ، وهي عبارة عن سماعاته من مالك والجامع الكبير. 4 - كتب عبد الملك بن الماجشون، ت 212هـ، وهي عبارة عن سماعاته وكتاب في الفقه يرويه عنه يحيى بن حماد السجلماسي. 5 - كتب أصبغ بن الفرج، ت 225هـ، وهي سماعه من ابن القاسم وكتاب آداب الصائم وكتاب المزارعة. 6 - الواضحة لعبد الملك بن حبيب، ت 238هـ، وهي كتاب في الفقه والسنن اقتفى فيه منهج الإمام مالك في الجمع بين الأصول والفروع. 7 - المستخرجة لمحمد بن عبد العزيز العتبي (ت) 254 هـ ويسميها البعض العتبية نسبة إليه ويسميها البعض الآخر المستخرجة لأنه استخرجها من الأسمعة التي رويت عن الإمام مالك بواسطة تلاميذه. 8 - كتب محمد بن سحنون، ت 256هـ، وأهمها كتابه الكبير المعروف بالجامع. 9 - المجموعة لمحمد بن عبدوس، ت 261هـ، وكتابه هذا يعد من أجل كتب المالكية لولا أن المنية عاجلته قبل إتمامه. 10 - كتب محمد بن عبد الحكم، ت 268هـ. 11 - الموازية أو كتاب محمد لمحمد بن إبراهيم بن المواز، ت 269هـ، يعد هذا الكتاب من أجل كتب المالكية قصد به صاحبه بناء فروع المذهب على أصوله. 12 - المبسوط في الفقه للقاضي أبي إسحاق إسماعيل، (ت) 282هـ. 13 - كتب ابن اللباد أبي بكر محمد بن وشاح، ت 333هـ وهي كتاب الطهارة والآثار والفوائد. 14 - كتب أبي إسحاق محمد بن شعبان القرطبي، (ت) 355هـ، وهي: كتاب الزاهي الشعباني في الفقه، ومختصر ما ليس في المختصر.

15 - كتب أبي بكر محمد عبد الله بن محمد صالح الأبهري الكبير، (ت) 375 هـ ومن أهمها شرحه على مختصر ابن عبد الحكم، وهو من الكتب المعتمدة عند المالكية. 16 - كتب ابن خويز منداد أبي عبد الله البصري، وهي أحكام القرآن، ومسائل الخلاف. 17 - التفريع لابن الجلاب عبيد الله بن الجلاب، ت 378 هـ، وهو معروف باسم الجلاب عند المتأخرين وهو معتمد عند علماء المذهب. 18 - كتب ابن أبي زيد القيرواني، ت 386 هـ، ومن أهمها: النوادر والزيادات، والمختصر والرسالة. 19 - المقصد لعبد الخالق بن خلف بن سعيد بن شبلون، ت 390 هـ. 20 - كتاب أبي الحسن علي بن عمر بن القصار، 398هـ، عيون المجالس في مسائل الخلاف. 21 - كتب أبي جعفر أحمد بن نصر الداودي، ت 402هـ، منها كتاب النامي شرح الموطأ، وكتاب النصيحة شرح البخاري. 22 - الممهد في الفقه وأحكام الديانة لأبي الحسن علي بن محمد المعافري المعروف بابن القابسي، ت 403هـ. 23 - كتب القاضي عبد الوهاب بن علي أبي محمد البغدادي، ت 422هـ، ومنها كتاب التلقين، والإشراف في مسائل الخلاف، والمعونة في درس مذهب عالم المدينة، والممهد في شرح مختصر ابن أبي زيد القيرواني، وشرح الرسالة، وشرح المدونة، والنصرة لمذهب إمام دار الهجرة، والأوائل في مسائل الخلاف، وغيرها من كتب الفروع والخلاف. 24 - تعليقة أبي عمران موسي بن عيسى الغفجومي الفاسي، ت 430هـ، على المدونة.

* المطلب السابع: القيمة العلمية للكتاب

25 - تعليق عبد المنعم بن محمد أبي الطيب الكندي، ت 435هـ، على المدونة. التهذيب لخلف ابن سعيد الأزدي المعروف بالبراذعي، ت 438 هـ. 26 - شرح الموازية لأبي إسحاق إبراهيم بن حبيب التونسي، ت 443هـ. تعليق أبي القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث السيوري القروي، ت 460هـ، على المدونة. 27 - التبصرة أو التعليق على المدونة والقصد والإيجاز لأبي القاسم عبد الرحمن بن محرز، ت450هـ. 28 - التبصرة أو التعليق على المدونة لأبي الحسن علي بن محمد اللخمي (ت) 478 هـ. 29 - كتب الباجي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، ت 478هـ، من أهمها المنتقى شرح الموطأ ومختصر المدونة. هذه أهم الكتب التي اعتمدها ابن بشير وذكرها بأسمائها أو ذكر مؤلفيها. أما القسم الثالث المتعلق بالمصادر التي أبهمها، والتي تتسم بشيء من الغموض، ولو صرح بها لأماط اللثام عن كثير من جوانب حياته الغامضة؛ هذه المصادر هي التي عبر عنها بمصطلح: الأشياخ أو الشيوخ وهو مصطلح راج كثيراً في الكتاب، وقد تبين لي من خلال استقراء الكتاب ومقارنته مع معاصريه الذين استعملوا نفس المصطلح كالمازري واللخمي، أنه يقصد به شيوخه وأساتذته، والفقهاء المعاصرين له. إلا أنه للأسف ضن علينا بذكر أسمائهم مما زاد حياته غموضًا. * المطلب السابع: القيمة العلمية للكتاب بعد أن تعرفنا على منهج ابن بشير الفقهي، ومكانته العلمية، وشخصيته المستقلة التي أهلته لأن ينافس وينتقد كبار الفقهاء ويزاحمهم

بآرائه، مسلحاً في ذلك بما يمتلكه من قواعد النقد والترجيح والاجتهاد. أرى أن نتحدث بعد هذا عن قيمة الكتاب العلمية، ومكانته بين الكتب الفقهية، وأسارع إلى القول بأن هذا الكتاب يعد من أهم كتب فقه المالكية وأنفسها، وأجودها، وذلك للأسباب التالية: أولاً: لم يؤلف الكتاب لمجرد التأليف أو رغبة في التأليف فحسب. وإنما جاء تلبية لمقصد وهدف حدده ابن بشير في مقدمة الكتاب. كما أنه ملأ فراغاً حاصلاً في الفقه المالكي. إذ لم يألف قبله- فيما أعلم- كتاب سلك فيه صاحبه مسلك الاختصار المبني على قواعد الأصول. ثانياً: جمع فيه مؤلفه مسائل الفقه المشتتة في كتاب واحد، متوسط الحجم، وضمنه ما تحتويه الدواوين الطويلة من العلم. ولكن بعد تلخيصها وتنقيح فصولها وحذف حشوها وفضولها. مع الإيجاز في العبارة والأسلوب الواضح، الذي لا يحتاج إلى شرح أو تبيين. ثالثاً: تضمن الكتاب نكتا عجيبة، وفوائد غريبة يتشوف لمعرفتها كبار العلماء وحذاقهم. فضلاً عن عامتهم، وأشير هنا إلى ما ذكره إبراهيم ابن هلال السجلماسي (ت): 903هـ عن القرافي في بحثه عن الفرق بين الشهادة والرواية حيث قال: "فقول القرافي: أقمت أطلب الفرق بين الشهادة والرواية نحو ثماني سنين. فلم أظفر به، وأسأل الفضلاء عنه. قال ولم أزل شديد القلق والتشوق إلى معرفته حتى طالعت شرح البرهان للمازري رضي الله عنه، فوجدته حققه وميزه ... إلى آخر كلامه؛ قصور إذ الفرق موجود في تنبيه ابن بشير، وتبصرة ابن محرز. وهما بين يدي صغار الطلبة ..... " (¬1). الذي يعنينا من هذا النص هو: أن الإمام القرافي مكث يبحث عن الفرق بين الشهادة والرواية، ثماني سنين مع شدة القلق والتشوف إلى ذلك، وسؤال الفضلاء. وهذه النفيسة التي يبحث عنها الإمام القرافي، هذا البحث ¬

_ (¬1) نوازل ابن هلال 3/ 766.

هي: واحدة من الكنوز والنفائس، التي احتوى عليها كتاب التنبيه. قال ابن بشير: " ... ولما كان القياس عند المتأخرين من أهل المذهب ردّ ثبوت الهلال إلى باب الأخبار. [رأوا أن] الفرق بين [باب] الأخبار وبين باب الشهادة؛ أن كل ما خصّ المشهود عليه فبابه باب الشهادة، وكل ما عمَّ ولزم القائل به ما يلزم المقول [له]، فبابه باب الأخبار" (¬1). رابعًا: مما يدل على قيمت الكتاب العلمية كذلك؛ انتشاره بين الناس وإقبالهم عليه وحفظهم له (¬2). وتأثيره فيمن بعد وقد سبق أن أشرت لذلك. ومما يزكي هذا قول ابن هلال في النص السابق: "إذ الفرق موجود في تنبيه ابن بشير وتبصرة ابن محرز وهما بين يدي صغار الطلبة". فنستنتج من هذا أن الكتاب كان ذائعاً في عصر ابن هلال حتى بين صغار الطلبة. وإن كانت العبارة فيها نوع من المبالغة، إذ صغار الطلبة والمبتدئون منهم خاصة، ألفت لهم رسالة ابن أبي زيد وأمثالها. لكن نستشف من هذا أن الكتاب كان ذائع الصيت ومنتشرًا وفي متناول حتى صغار الطلبة. خامسًا: ربط المؤلف فيه المسائل الفقهية بأدلتها المعتبرة؛ من الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس، وعلل ووجه ووضح طريقة استثمار الأحكام من الأدلة، وهذا كله يقوي الثقة بهذه الأحكام ويكون مدعاة للتمسك بها والامتثال لمقتضياتها. سادسًا: تضمن الكتاب لخلاف المذهب وأسبابه، ومبرراته ودواعيه. وهذا يعد ضروريًا لمن أراد الوصول لدرجة الاجتهاد لأنه يصير بذلك بصيراً بأصول المذهب وقواعده ومواطن الاتفاق والاختلاف ... سابعاً: اشتماله على كم هائل من القواعد الفقهية والأصولية، التي ¬

_ (¬1) انظر ص: 707 من هذا الكتاب. (¬2) من بين الذين كانوا يحفظون التنبيه أبو العباس علي الشهير بابن الزيات. انظر عنوان الدراية ص 4197.

المبحث الخامس: منهج التحقيق

يندر وجودها في كثير من أمهات الكتب. وغير خاف ما لهذه القواعد من أهمية في الفتاوى والأحكام. ... المبحث الخامس: منهج التحقيق بعدما تعرفنا على الكتاب ومؤلفه والبيئة المؤثرة فيه بقي أن نختم هذه الدراسة بالحديث عن منهج التحقيق. وقبل ذلك أبدأ بوصف النسخ المعتمدة. * المطلب الأول وصف النسخ: نسخة (ق): مكانها: القروين. رقمها: 1875 عدد أسطرها: 27 سطراً. عدد كلماتها: حوالي 28 كلمة في السطر. عدد صفحاتها: 206 صفحة من الحجم الكبير. الناسخ علي بن أحمد. تاريخ النسخ: جماد الأول 749 هـ. الخط: مغربي متوسط الجودة. يبتدئ من أول الكتاب، وينتهي بآخر كتاب الجهاد. الصفحة الأولى تختلف عن باقي صفحات الكتاب، خطها دقيق وفيه خروم كثيرة. أما باقي صفحات الكتاب فهي جيدة من حيث العموم، وقليلة الخروم والطمس. خالية من السماع والتمليك. يبدو أن ناسخها راجعها وأثبت بعض التصحيحات في الهامش. كتبت عناوين الكتب والأبواب والفصول بخط كبير متميز.

نسخة (ر)

نسخة (ر): مكانها: الخزانة العامة بالرباط. رقمها: 397 جلبت من الزاوية الناصرية بتمكروت، رقمها هناك: 127 ص. عدد أسطرها: 31 سطراً. عدد كلماتها: حوالي 19 كلمة في السطر. عدد صفحاتها: 258 صفحة في سفر من الحجم الكبير. خطها: أندلسي متوسط الجودة. خالية من السماع والتمليك. ليس فيه تاريخ النسخ، ولا اسم الناسخ. فيها تصحيحات على الهامش، مما يدل أنها مراجعة. قليلة الخروم والطمس، ولكنها كثيرة السقط. كتبت عناوين الكتب والأبواب بخط غليظ. مبتورة الأول تبتدئ بأحكام المياه. وتنتهي بكتاب الأطعمة والأشربة. جاء في أسفل الصفحة الأخيرة: (وبتمامه تم الجزء الأول من كتاب "التنبيه على مبادئ التوجيه" للفقيه الجليل الحافظ أبي الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي رحمة الله عليه ويتلوه في السفر الثاني كتاب الأيمان والنذور وصلى الله على آله وصحبه وسلم). نسخة (ص): مكانها: خزانة القرويين بفاس. غير مرقمة، وضعت في صناديق ضمن المبتورات. عدد أسطرها: 27 سطراً، في السطر حوالي: 26 كلمة. عدد أوراقها 50 ورقة من الحجم الكبير. خطبها مغربي واضح تبتدئ من أول الكتاب، إلى باب الصلاة على الدابة من كتاب الصلاة الأول. تاريخ التحبيس 801 هـ. غير مرقمة.

نسخة (ت)

كتب على الصفحة الأولى: (السفر الأول من كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه. تأليف الشيخ الإمام العلامة الزاهد الورع أبي الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي رحمه الله. فيه من الكتب: كتاب الطهارة. كتاب الصلاة الأول. كتاب الصلاة الثاني كتاب الجنائز كتاب الصيام كتاب الاعتكاف كتاب الزكاة الأول كتاب الزكاة الثاني كتاب الأيمان والنذور كتاب العقيقة كتاب الصيد كتاب الذبائح. الحمد لله حبس هذا الكتاب على خزانة جامع الأندلس شرفه الله، أحمد العبدري ... تحبيسها؟؟؟ دائم الأبد لا يبدل عن حاله ولا يغير بمزيد لأصله والله حسبه. بتاريخ يوم الجمعة من شهر ربيع الثاني عام واحد وثمانمائة. نسخة (ت): مكان وجودها: خزانة الجامع الأعظم بتازة. رقمها: 217. عدد أسطرها 30 سطراً. في السطر حوالي 29 كلمة. عدد الصفحات: 242 صفحة. في سفر ضخم. الخط: مغربي دقيق. الناسخ غير مذكور، ولا تاريخ النسخ. خال من السماع. محبس على الجامع الأعظم بتازة. مبتورة الأول كتب فوق الصفحة الأولى: إبراهيم بن بشير حبس على الجامع الأعظم بتازة رعاها الله. والنسخة جيدة من حيث الجملة، لولا بعض الخروم والطمس الذي أصاب أول صفحاتها وآخرها، تبتدئ من قوله في كتاب الطهارة: (فصل وأما الرجلان فالنظر فيهما ...). وتنتهي بقوله: (فصل وإذا ورث الخيار عن الميت).

نسخة (م)

نسخة (م): مكانها: القرويين. رقمها: 819. عدد أسطرها: 35 سطراً. في السطر حوالي 29 كاملة. وهي في سفر من الحجم الكبير. غير مرقمة الأوراق. خطها: مغربي رديء. فيه خروم كثيرة، وطمس تصعب الاستفادة منه. ليس فيها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ. ولا ما يدل على السماع ولا التمليك. * المطلب الثاني: النسخ المعتمدة لقد تعرفت على كتاب التنبيه، من خلال نسخته الموجودة بالخزانة العامة بالرباط. فوقر في خلدي أن هذا الكتاب يستحق، لا بل يجب أن يحقق، وأن يخرج للوجود، فبدأت أبحث عن نسخه في الفهارس المتوفرة، فوقفت على بعض أجزائه في خزانة القرويين بفاس تحت رقم: 1132 وهي التي أشرت إليها بـ: "ل". فاعتقدت أن الكتاب بإمكانه أن يحقق من خلال هاتين النسختين. فأقدمت على تسجيله، ثم شرعت في نسخ نسخة "ر" ريثما أحصل على صورة لنسخة "ل" والتي طال انتظاري لها أكثر من ثمانية أشهر!! فلما حصلت على تلك النسخة، وشرعت في المقابلة الأولية لاختيار النسخة الأم. فوجئت بأمر لم يكن يخطر في بالي، ولم يكن في حسباني، وذلك أني وجدت نفسي، كأني أمام كتابين مختلفين [رغم أنه كتب على كل واحد منهما: كتاب التنبيه على مبادئ التوجه لإبراهيم ...]. فوجدت النسختين تختلفان في بعض الأحيان تماماً في المضمون، وفي بعض الأحيان تختلفان في التعبير وتتفقان في المعنى. وفي بعض الأحيان الأخرى تكون "ل" كالشارحة للكتاب، أو "ر" مختصرة له. فذهلت لما رأيت، وكادت الآمال المعقودة على الكتاب تتبخر.

فمكثت قرابة سنة أو أكثر، أبحث في الفهارس عن نسخة أو نسخ أخرى علي أجد فيها ما أحل به هذه النازلة المعضلة، ولما لم اظفر بشيء عزمت على تغيير الموضوع. فبدأت من جديد أبحث عن كتاب يستحق التحقيق. وفي هذه المرحلة التقيت مع أحد الأساتذة الفضلاء، فأخبرني بأن له صورة لكتاب التنبيه جلبها من خزانة الجامع الأعظم بتازة فقلت له: إني بحثت في فهارسها ولم أجد الكتاب ضمنه، فقال لي: إنه فعلاً، لم يذكر في الفهرسة (¬1). فأمدني مشكورًا بصورة من الكتاب. فوجدت هذه النسخة تتقارب كثيراً مع نسخة "ر" فتنفست الصعداء وبدأ يلوح لي بصيص من الأمل. وعلمت حينئذ أن الاعتماد على الفهارس غير مجد، وأن الطريقة المثلى هي جرد المكتبات والتعامل معها مباشرة. وأنى لي ذلك؟ وقد أحيطت هذه الأخيرة بترسانة من القوانين الصارمة والمعقدة. ورغم هذا فإني قصدت خزانة القرويين، فوجدتها مغلقة في وجه الزوار استعداداً لنقلها إلى المبنى الجديد، فتوسلت للمسؤولين هناك وتلطفت معهم. فاستجابوا لي مشكورين، وقدموا لي المساعدات الممكنة. فعثرت، بل اكتشفت ثلاث نسخ كانت غير معروفة من قبل. الأولى وقد أشرت إليها بـ "م" كتب عليها في الفهارس: أنه كتاب الفقه لمؤلف مجهول. والثانية أشرت إليها بـ: "ق" عثرت عليها في جناح بكر غير مفهرس، وأعطي لها حينئذ الرقم التالي: 1875، والثالثة أشرت إليها بـ: (ص) وهي عبارة عن قطعة كانت في الصناديق ضمن المبتورات ولا رقم لها. فهذه النسخ ر، وت، وق، وم، وص. وجمتها متقاربة تصلح للمقابلة. والنسخة الشاذة هي التي أشرت إليها بـ: ل، ألغيتها وأنا مطمئن البال مرتاح النفس، لعدة أسباب أذكر منها ثلاثة فقط: أولاً: مخالفتها للنسخ الخمسة المذكورة. وحتى لا يبقى الكلام تجريدياً أجليه ببعض الأمثلة: 1 - جاء في مقدمة الكتاب في سبب تأليفه ما يلي: (وبعد، فإنه لما ¬

_ (¬1) أعني الفهرسة الأولى المرقونة أمَّا الفهرسة التي طبعتها وزارة الأوقاف مؤخرًا فقد ذكر فيها.

انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة الكتاب، ابتدأنا لهم موعداً ...). أما في "ل" ففيها ما يلي: (أما بعد فإنه لما انتهض خاطري إلى شرح كتاب المدونة أردت أن أسلك فيه الإيجاز والاختصار). لاحظ كيف أن الدافع لتأليف الكتاب في باقي النسخ هو محاولة نفع الطلاب الذين لم يتمرسوا على قراءة الكتاب، الذي هو المدونة بينما الدافع في "ل" هو: انتهاض خاطره لشرح المدونة. 2 - جاء في نفس المقدمة في النسخ المعتمدة: (أحكام الشريعة تنحصر في ثلاثة أقسام: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه. والمطلوب فعله ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف في تركه وهذا هو الفرض، ومطلوب طلباً للمكلف خيرة في تركه وهذا هو المندوب. والمطلوب تركه ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف فيه وهذا هو الحرام، ومطلوب طلباً للمكلف فيه خيرة وهذا هو المكروه. والمأذون في فعله وتركه وهو المباح. ولا تقسيم فيه. والفرض يسمى على الحقيقة واجباً ولازماً وحتماً، والحرام يسمى محظوراً وممنوعاً. والمندوب ينقسم ثلاثة أقسام.) وجاء في نسخة "ل": (أحكام الشريعة تنحصر في خمسة أقسام: الواجب والمحرم والمباح والمكروه والمندوب ... ؟؟ قارن بين هذين النصين، فالخلاف فيهما بين وواضح. ثانياً: وقفت على ما يدل على أن نسخة "ل" لم تكن معتمدة عند المتقدمين، فقد نقل محمد بن يوسف العبدري (ت) 897هـ نصاً من التنبيه في كتابه التاج والإكليل، وبعد مقارنته بالنسخ المتوفرة، تبين لي أنه لم يكن يعتمد على نسخة "ل" لأن النص مخالف لها ومطابق لباقي النسخ والنص هو التالي: (ولا شك أنه [إذا كان مطلقاً] فيبني على الرؤية أو العدد كما

* المطلب الثالث: مسلكي في التحقيق

قدمناه. فإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الروَّية بني على العدد وأكمل كل شهر ثلاثين. فإن التبست عليه المشهور اجتهد وبنى على غلبة ظنه). بينما في "ل" فيه: (لا شك أن الأسير الذي قبض في بلاد الروم إن أرسل فإنه يصوم لرؤية الهلال ويفطر لرؤيته، فإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الرؤية بني على العدد فأكمل كل شهر ثلاثين يوماً فإن إلتبست عليه الشهور، اجتهد وبنى على أغلبية ظنه). ثالثاً: ضياع أربع أسطر تقريباً من كل صفحة في "ل" اثنان في الأعلى واثنان في الأسفل، نتيجة لمحاولة إصلاح قديمة. بالإضافة إلى اختلاط أوراقها وضياع ترتيبها. لأجل هذا وغيره اضطرت مكرهاً، لعدم الاعتماد على هذه النسخة، والتي اشتملت في بعض الأحيان على زيادات نفيسة جداً، وتوسعاً في ذكر الأدلة وأسباب الخلاف. وهذا لا يعني أنني ألغيتها كلياً. بل كنت أستأنس بها وأستعين بها من حين لآخر كما هو مبين في هوامش الفروق. بعد هذا، هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح. وهو ما السر في اختلاف هذه النسخة عن غيرها؟ في الحقيقة إن اختلافها يعد لغزاً، ولعل مزيدًا من البحث يحل هذا اللغز. لكن الذي يمكن أن أجزم به هو: استبعاد تصرف النساخ فيها، لأنها تصرفات خارجة عن إطار النسخ، فبقي احتمال أن تكون هذه النسخة، إبرازة من إبرازات الكتاب. بمعنى أن الكتاب أخرجه المؤلف ثم أعاد فيه النظر من بعد. ويحتمل أن يكون أحد التلاميذ أو أحد العلماء تصرف في الكتاب. * المطلب الثالث: مسلكي في التحقيق حاولت في البداية أن أختار نسخة لتكون هي النسخة المعتمدة أثبتها في المتن، وأذكر الفروق بينها وبين باقي النسخ في الهامش. وهذا هو المنهج الأسلم والأحكم، ولكن للأسف الشديد لم أفلح في ذلك، ولم

أتمكن من ترجيح نسخة على أخرى، وبدأت أجيل النظر بين النسخ الأربع (ق) و (ر) و (ت) و (ص) بعدما استبعدت (م) فلم أجد في هذه النسخ ما يدل على أن آية واحدة منها نسخة المؤلف الأصلية، أو نسخة أحد تلامذته، أو مقابلته على النسخة الأصلية، أو متصلة بالسماع إلى المؤلف. فلما لم أظفر بأي شيء من ذلك. انتقلت إلى المفاضلة بين النسخ عن طريق ترشيح الأقل خرومًا وطمسًا، والأكثر صواباً. فابتعدت بهذه الطريقة نسخة "ت" لكثرة خرومها، ووجود طمس في أول وآخر كل صفحة منها. واستبعدت كذلك نسخة "ص" وإن كانت جيدة لأنها عبارة عن قطعة تحتوي على كتاب الطهارة وجزء يسير من كتاب الصلاة الأول فقط. فبقي الاختيار بين نسخة "ر" و"ق" والحق أن نسخة "ق" رجحت كفتها على نسخة "ر" لكثرة خروم وسقوط وأخطاء هذه الأخيرة وقلتها في الأولى. فراودتني فكرة اختيار نسخة "ق" وجعلها أصلاً، وبذلك أنأى بنفسي عن عهدة اختيار الكلمة الإنسب، عند اختلاف النسخ. ولكن لم أتمكن من ذلك، إذ وجدت هذه النسخة كثيرة الأخطاء كذلك. وكون ما في غيرها أولى بالإثبات مما فيها. فاضطررت مكرهاً بعد تقليب النظر والتهيب أن أسلك مسلك الانتقاء على خطورته ومشقته. فأقدمت عليه أقدّم رجلاً وأخّر أخرى، لعلمي بخطورة هذا المسلك وصعوبة اختيار اللفظة الصحيحة من بين ألفاظ النسخ. ورغم استحضاري لهذا كله فإني لما ترجمت الفكرة إلى عمل، تكشف لي أن الأمر أكثر مما كنت أتوقع. وأعظم مما كنت أتصور فقد واجهت أخطاء لا حصر لها، وتصرفًا من النساخ غريب يصل إلى حد العبث أحياناً. بل أكثر من هذا وجدت نفسي في بعض الأحيان أمام تعارض وتناقض بين النسخ لا يحتمل التأويل، ولا يدخل في التصحيف والأخطاء المعتادة عند النساخ. هذا فضلاً عن الأخطاء الإملائية والنحوية التي قد تتفق عليها كل النسخ في بعض الأحيان.

القسم الأول: تكون فيه النسخ متعارضة تماما

ولكي أجعل القارئ أمام وضعية هذه النسخ أسوق أمثلة توضح ذلك. ولن أتعرض للفروق العادية التي تكون بسبب التحريف والتصحيف، والتي لا تخل منها المخطوطات. ولكن أذكر الفروق الغريبة التي جعلتني أتعامل مع النسخ بحذر شديد. وقد قسمت هذه الفروق إلى قسمين: قسم تكون فيه النسخ متعارضة تماما. تدل كل واحدة منهما على نقيض ما تدل عليه الأخرى كأن تدل واحدة على الوجوب، والأخرى على التحريم. أو تدل واحدة على ارتباط الحكم بالليل والأخرى تدل على ارتباطه بالنهار وهكذا ... وقسم جاء نتيجة تصرف النساخ الواضح. وهذه أمثلة من القسم الأول: - إذا كان الماء دون القلتين حمل الخبث /// في (ر)، و (ق): فوق (¬1). - ولا يجزي من مسح رأسه على حائل /// في (ر) و (ص) و (ق): دون (¬2). - فيأتي بركعة بأم القرآن وحدها /// في (ق) و (ت): خاصة وفي (م): بأم القرآن وسورة (¬3). - في مقدار ثلاث ركعات بعد مغيب الشفق /// في (ق): قبل (¬4). يقطع بغير سلام وهذا جواب من لا يراعي الخلاف /// في (ق): يقطع بسلام وهذا جواب من يراعي الخلاف (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ص: 224 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 268 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 488 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 382 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 402 من هذا الكتاب.

فالمنصوص صحة الصلاة /// في (ق): بطلان (¬1). صحت صلاته على كراهية فيها/// في (ق): لا عن كراهة (¬2). لأنها حاضت بعد وقتها /// في (ق): قبل (¬3). أن المذهب على قولين في فرضيته /// في (ق): على قول واحد (¬4). والرداء مستحب في غير الأئمة /// في (ر): في حق (¬5). ما أدرك فهو آخر صلاته /// في (ق): أول (¬6). وكذلك لو سافر في البر بأهله /// في (ت): البحر (¬7). فهل يصلي التي في ذمته سفرية أو حضرية؟ /// في (ت): وقتها (¬8). يجري الخلاف في الإعادة بعد الوقت /// في (ر): في الوقت (¬9). - وهي عبارة عن ظلمة أحد المنيرين، الشمس والقمر، أو بعضهما /// في (ق): لا بعضهما (¬10). أن الفجر الأول المستطيل /// في (ت): الأول غير المستطيل (¬11). إمساك جزء من الليل /// في (ر): النهار (¬12). واستقرأ أبو الحسن اللخمي وجوب صومه /// في (ق): جواز (¬13). ¬

_ (¬1) انظر ص: 403 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 422 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 475 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 481 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 485 من هذا الكتاب. (¬6) انظر ص: 488 من هذا الكتاب. (¬7) انظر ص: 551 من هذا الكتاب. (¬8) انظر ص: 555 من هذا الكتاب. (¬9) انظر ص: 646 من هذا الكتاب. (¬10) انظر ص: 647 من هذا الكتاب. (¬11) انظر ص: 702 من هذا الكتاب. (¬12) انظر ص: 704 من هذا الكتاب. (¬13) انظر ص: 713 من هذا الكتاب.

القسم الثاني: تصرف النساخ

ويجوز أن يقوم من المصحف إذا استمر على القراءة فيه، لا أن ينظر فيه /// في (ق) و (ت) و (م): ولا يصح أن يقرأ في المصحف إذا استمر على القراءة فيه إلا أن ينظر (¬1). يستوي الإنفاق بعد الحول قبل الشراء أو بعده في إيجاب الزكاة /// في (ر): إسقاط (¬2). وعلى صاحب الثلاثين نصف /// في (ر): الثلث (¬3). هذه نماذج من الفروق بين النسخ، وهي فروق غير عادية، سببت لي كثيراً من القلق والتعب. القسم الثاني: تصرف النساخ كما هو معلوم فإن النسخ أمانة، ولا يحق للناسخ أن يتدخل في المنسوخ بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير. وهذا ما لم يلتزم به النساخ، فقد وصل بهم الأمر إلى حد انفراد كل نسخة بلفظة تخالف ما في غيرها. أما التقديم والتأخير، التعبير بأساليب مختلفة تؤدي نفس المعنى فهذا كثير جداً. فمن أمثلة انفراد كل نسخة بلفظة أذكر المثالين التاليين: - وقد قدمنا أن الرفع من الفضائل. وسببه إما تأهب /// في ص: تهيئاً وفي (ت): تهيب وفي ق: تنبيهاً (¬4). - وهذا ينبغي أن يختلف في حق الموتى /// في (ت): حكم الكفن. وفي (ر): حق الورثة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ص: 763 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 793 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 725 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 404 من هذا الكتاب. (¬5) انظر ص: 688 من هذا الكتاب.

* المطلب الرابع: عملي في التحقيق

أما التقديم والتأخير والتعبير بأساليب مختلفة تؤدي نفس المعنى فأذكر من أمثلته ما يلي: - باب في أحكام القصر في السفر/// في (ق) و (ر): الصلاة (¬1). - ثم ذكر أنه لم يصل الفريضة /// في (ق) و (ت): وقد علم أنه قد أخل بركعتين من الفريضة (¬2) أن السلام لا يكون عقيب السجود /// في (ر): إلا عقيب التشهد (¬3). والجواز للنساء خاصة /// في (ق): والمنع للرجال خاصة (¬4). - وعدم الإجزاء مع غير قصدها /// في (ت): مع عدمها وفي (ق): مع فقدها (¬5). لأن أرباب الماشية يقيمون /// في (ق) و (ت) و (م): يجتمعون (¬6). * المطلب الرابع: عملي في التحقيق لقد اختلفت مناهج المحققين وتضاربت أساليبهم في التحقيق، ولم يتمكنوا من الاتفاق على منهج موحد، فمنهم من يقصر التحقيق على إخراج النص، إخراجاً سليمًا، قريباً مما كتبه المؤلف على اختلاف بينهم في بعض الأمور كجواز التدخل في المتن أو عدم جوازه وغير ذلك. ومنهم من يتعدى ذلك إلى خدمة النص بحل إشكالاته والتعريف بأعلامه وتخريج أحاديثه وتوثيق أقواله وشرح غريبه ... إلخ. وقد وقع اختلاف كبير كذلك بين المحققين في تحديد ما يحتاج إلى تعريف أو تعليق، وقدر ذلك. ¬

_ (¬1) انظر ص: 536 من هذا الكتاب. (¬2) انظر ص: 584 من هذا الكتاب. (¬3) انظر ص: 588 من هذا الكتاب. (¬4) انظر ص: 687 من هذا الكتاب (¬5) انظر ص: 747 من هذا الكتابه (¬6) انظر ص: 912 من هذا الكتاب.

ومنهم من يتجاوز كل هذا إلى اغناء النص بالشروح والتعليقات المستفيضة والترجيح بين الآراء والتوسع فيما اختصره المؤلف وإضافة ما فاته. ولقد آثرت أن أسلك في تحقيق هذا الكتاب المنهج الثاني الذي يقوم على خدمة النص. لأسباب رجحت كفتها عندي. وبما أن هذا المنهج هو أيضاً مختلف في بعض تفاصيله وجزئياته، فلا مناص لي من توضيح ما اخترت منه: 1 - حاولت قدر المستطاع أن أخرج النص بأفضل أسلوب وأشرق عبارة تتفق مع المعنى المراد. وذلك وفق منهج الاتقاء القائم على اختيار أصح العبارات، وإثباتها في النص، والإشارة إلى العبارات المرجوحة، فإن لم يتيسر لي ذلك، أو تساوت عندي العبارات، أثبت ما جاء في نسخة "ر" أو "ق" غالباً. وللقارئ إذا ما لاحظ اضطراباً وقلقاً في العبارة أن يختار من الحواشي اللفظة التي يراها أنسب. كما قمت بكتابة النص وفق قواعد الإملاء المعاصرة وضبطه بالنقط والفواصل وعلامات الاستفهام والتعجب، ويعلم الله كم عانيت في سبيل ذلك. فالنسخ لا تميز بين ألف الممدودة والمقصورة والتاء المبسوطة والمربوطة والهمزة تحذف دائماً في آخر الكلمة ووسطها إذا لم تكن أصلية. أما وضع النقطة والفاصلة فإنه احتاج مني إلى تركيز ودقة متناهية، وتكرار القراءة مرات عدة لفهم المعنى المقصود. إذ المعنى مرتبط بوضع النقطة، فإن وضعت في غير محلها اختل المعنى. 2 - كما قمت بوضع عناوين للفصول والمسائل المتناولة داخل فصول الكتاب، ووضعتها بين قوسين تمييزاً لها عن العناوين التي وضعها المؤلف. 3 - ذكرت أرقام الآيات القرآنية والسور التي وردت فيها. 4 - قمت بتخريج الأحاديث والآثار الواردة في النص وذكرت مصادرها، وألفاظها الأصلية. وقد أشرت في بعض الأحيان إلى درجة الأحاديث في الصحة أو الضعف.

5 - كما عرّفت بالأعلام التي تحتاج إلى تعريف عند أول ورودها في النص المحقق أما الأعلام التي ورد ذكرها في قسم الدراسة فأكتفي بذكر اسمها الكامل وتاريخ وفاته. 6 - كما قمت ببعض التعليقات على النص المحقق من حين لآخر تجلية وتوضيحاً لبعض المسائل العلمية. 7 - أما بالنسبة لتوثيق النقول والأقوال فقد لاحظت أن الكتاب عبارة عن نقول وأقوال يحكي المؤلف من خلالها خلاف المذهب، فرأيت إن تتبعت تلك الأقوال في مظانها فسيتطلب مني ذلك وقتاً طويلاً جداً قد لا تجود به أنظمة البحث المعاصرة. بل رأيت إنه سيكون جهداً يبذل في عمل قليل الجدوى إذ تلك الأقوال مستفيضة ومنتشرة وناقلها عدل ضابط فلا داعي للتكلف في ذلك، وقد وجدت من العلماء من يستنكر إهدار الجهود في مثل هذا العمل، وإغفال ما هو أهم منه. أذكر منهم أبا زهرة الذي قال: (ولقد نهج ذلك المنهج المتكلف شبابنا الذين يكتبون، فظنوا أنه كلما عني أحدهم بالإكثار من المصادر كان ذلك دليلاً على أنه يفهم نظام البحث الحديث وأنه مجدد فيما يكتب، وأن كتابته قد بلغت الذروة وبلغت الغاية. بل وصلت إلى النهاية، حتى لقد وجدنا بعضهم يجتهد في أن يأتي للأمثال الفقهية بمصادرها فيأتي للمثل الواحد بعدة مصادر مخطوطة وغير مخطوطة. والمثل مذكور في الكتب المتداولة المشهورة التي هي أوثق أحياناً من المخطوط) (¬1). من أجل هذا رأيت أن أسلك مسلكًا وسطاً لا أتخل فيه عن توثيق الأقوال نهائياً ولا أقوم باستقصائها كلها بل أكتفي بما تدعو الضرورة إليه. وقد رأيت أنه لا بدّ من توثيق النصوص المنقولة عن المدونة على اعتبار أنها هي محور الكتاب وعليها معتمده، فعمدت إلى تلك النصوص، ¬

_ (¬1) مالك ص: 8.

فما وجدته بحرفه وضعته بين قوسين تمييزاً له عن النصوص التي نقلها بمعناها. كما أني رأيت أن كلام اللخمي هو أيضاً جدير بأن يوثق على اعتبار أن ابن بشير قصد تتبعه بالنقد والتعقيب. أما ما سوى هذين فإني لم أقصد إلى استقصاء توثيق أقوالهم وتتبعها بل قصدت إلى أخذ نماذج في كل الكتاب ليظهر من خلالها منهجه في النقل والاستشهاد. 8 - كما قمت بوضع فهارس للآيات والأحاديث والأشعار والمصادر والمواضيع.

كتاب الطهارة

[مقدمة المؤلف]

بسمِ الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا الحمد لله الذي أبدع الأنام (¬1)، وشرع الأحكام، وأسبغ الإنعام على المتفقهين في الحلال والحرام. فصَّيرهم قدوة الأنام، ومصابيح الظلام. والصلاة على المبعوث لبيان شرائع الإِسلام وعلى آله وصحبه [البررة الكرام] (¬2) المرافقين له في دار السلام (¬3). وبعد، فإنه لما انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة الكتاب (¬4)، ابتدأنا (¬5) لهم موعداً بقصد الإيجاز [والاختصار] (¬6) دون التطويل والتكرار (¬7)، وفيه من تحرير الدلائل وتقرير المسائل ما تشوكوا (¬8) إلى نقله، وضعفوا عن حمله. فرأيت أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب ما يحصل به ¬

_ (¬1) في (ص) الأحكام. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) في (ق) الإسلام. (¬4) إذا أطلق المالكية الكتاب فالمراد به المدونة لصيرورته علماً بالغلبة عليها ككتاب سيبويه عند النحويين وكتاب القدوري عند الأحناف. وبعد ظهور التهذيب للبراذعي أصبح البعض يطلق عليه مصطلح الكتاب، وعلى المدونة مصطلح الأم؛ أما ابن بشير فإنه يقصد بالكتاب المدونة. (¬5) غير واضحة في (ق). (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ص) والاكثرار. (¬8) في (ق) تشوقوا (بالقاف).

للجمهور الاستقلال، منبهاً على أوائل التوجيه والاستدلال. وسميته "كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه"، وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة" (¬1). وفي هذا الإملاء (¬2) لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد، وفي ذلك لمن ترقى إليه ما يبلغه رتبة المبرز المُجيد، ومن الله سبحانه أستمد (¬3) المعونة والتأييد وإياه أسال التوفيق والتسديد، إنه جل ذكره الجواد المجيد. ¬

_ (¬1) سبق الحديث عن هذا الكتاب. (¬2) خرم في (ق). (¬3) في (ص) أسأل.

أقسام الحكم

[كتاب الطهارة] (¬1) (أقسام الحكم) أحكام الشريعة تنحصر في ثلاثة أقسام: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه. والمطلوب فعله ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف في تركه وهذا هو الفرض، ومطلوب طلباً للمكلف خيرة في تركه وهذا هو المندوب. والمطلوب تركه ينقسم قسمين: مطلوب طلباً لا خيرة للمكلف فيه وهذا هو الحرام، ومطلوب طلباً للمكلف فيه خيرة وهذا هو المكروه. والمأذون في فعله وتركه وهو المباح. ولا تقسيم فيه. والفرض يسمى (¬2) على الحقيقة واجبًا ولازمًا وحتمًا، والحرام يسمى محظورًا وممنوعاً. والمندوب ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعظم أجوره، فيسمى سنة. والثاني: ما تقل أجوره فيسمى نافلة. والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين فيسمى فضيلة، ورغيبة، وقد قيل في الفرق بين هذه أن كل ما واظب ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) غير واضح في (ق).

عليه الرسول عليه السلام على فعله مظهراً له فهو سنة بلا خلاف. وما نبه عليه وأجمله في أفعال الخير فهذا نافلة، وما واظب على فعله (¬1) في أكثر الأوقات وتركه في بعضها فهو فضيلة، ويسمى رغيبة (¬2). وما واظب على فعله غير مظهر له ففيه قولان: أحدهما: تسميته سنة (¬3) التفاتاً إلى المواظبة، والثاني: تسميته فضيلة التفاتاً إلى ترك إظهاره وهذا كركعتي الفجر. وحدود الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح على التقريب؛ أن الواجب: ما أمرنا بذم تاركه ومدح فاعله. والحرام: عكسه. والمندوب: ما أمرنا بمدح فاعله من غير ذم تاركه. والمكروه: ما أمرنا بمدح تاركه من غير ذم فاعله. والمباح: ما أنبأنا مالك الأعيان (¬4) بأن فعله وتركه سيان. وواجبات الشريعة على قسمين؛ قسم مراد لنفسه كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وقسم مراد لغيره كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة. ولما كانت الصلاة من أشرف معالم الدين وجبت البداية بها لكنها لا تجزي إلا بالطهارة، ولا تجب الطهارة إلا بعد دخول وقت الصلاة. وقد اختلفت طرق المؤلفين في الفقه فجمهورهم على الابتداء بالطهارة لما كانت شرطا في صحة الصلاة. وابتدأ مالك في موطئه وابن المواز (¬5) في كتابه (¬6) بأوقات الصلاة. لما تعلق وجوب الطهارة بدخول الوقت، ولنجر على سنن الكتاب (¬7) فنقول: ¬

_ (¬1) في (ق) عليه. (¬2) في (ق) رغبة. (¬3) غير واضح في (ص). (¬4) هكذا في (ص). وخرم في (ق). (¬5) هو محمد بن إبراهيم بن زياد المعروف بابن المواز الإسكندري، من أشهر فقهاء المالكية، تفقه بابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ (ت 269هـ) بدمشق. ترتيب المدارك: 4/ 167. (¬6) يعرف هذا الكتاب بالموازية، وهو من أجلّ كتب الفقه المالكي؛ بل يعد من الأمهات. والظاهر أنه مفقود الآن. انظر مباحث في المذهب المالكي في المغرب ص: 72. (¬7) في (ص) المدونة.

(أقسام الطهارة)

(أقسام الطهارة) الطهارة على قسمين: طهارة حدث، وطهارة خبث، وطهارة الحدث على قسمين: صغرى وكبرى، وقد ابتدأ في المدونة بالصغرى وفاقاً للابتداء بها في آية الطهارة ولأنها تتكرر ما لا تتكرر الطهارة الكبرى. والصغرى تشتمل على ثلاثة أقسام: فروض وسنن وفضائل. (فروض الطهارة الصغرى) ففروضها على المشهور (¬1) سبعة وهي: النية، والماء الطاهر، وغسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وموالاة فعلها مع الذكر. (سننها) وسننها سبع وهي: غسل اليدين قبل إدخالها في الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، ومسح داخل الأذنين، وتجديد الماء لهما، ورد اليدين في مسح (¬2) الرأس من مؤخره إلى مقدمه، والترتيب. (فضائلها) وأكثر ما قيل في الفضائل (¬3) إنها سبع وهي: التسمية، والسواك، ووضع الإناء على اليمين، وألا يتوضأ في موضع نجس، والابتداء بالميامن، والابتداء بمقدم الرأس في المسح، وتَكرار (¬4) المغسول (¬5) ثلاثاً. ¬

_ (¬1) قال ابن فرحون: المشهور ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، حكاهما ابن بشير ... كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب ص: 62، وقد سبق الحديث عن هذا المصطلح في الكتاب. (¬2) في (ق) المسح. (¬3) في (ق) فضائلها. (¬4) في (ص) وتكرير. (¬5) في (ق) الغسل.

(نهاية تكرار المغسول)

وغرضنا محاكاة الكتاب وقد ابتدأ بحكم المغسول في القدر المُجزي والتَّكرار؛ فأما القدر المجزي فإنه الإسباغ بالإجماع، وهو عموم العضو بالماء والدلك (¬1). (نهاية تكرار المغسول) وأما الفضيلة فنهايتها الثلاثة، فمن عمَّ العضو مرة واحدة فقد أتى بالفرض. ووقع لمالك كراهية الاقتصار على الواحدة وعلل بوجهين: أحدهما: خيفة ألا يعم بها، أو خيفة أن يراه من لا يحسن فيقتدي به فلا يعم بواحدة. والثاني: أن المقتصر على الواحدة تارك للفضل جملة وتارك الفضل مقصر، فلا يجوز الاقتصار على الواحدة بإجماع كما لا تجوز الزيادة على الثلاث إذا عم بها بإجماع. وبأي نية يكرر؟ لا تخلو من ثلاثة أقسام: إما يتيقن أنه عمَّ بالأولى، أو يتيقن أنه لم يعم، أو يشك. فإن تيقن أنه عم [بالأولى] (¬2) نوى بالزيادة الفضيلة (¬3)، وإن تيقن أنه لم يعم نوى بالزيادة الفرض، وإن شك نوى بالزيادة الفرض (¬4). لأن الطهارة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها إلا بيقين الكمال، ومتى شك وجب عليه الإكمال فينوي الوجوب. فإن نوى الفضيلة في موضع تجب عليه نية الفرض فقولان؛ أحدهما: الإجزاء، والثاني: عدم الإجزاء. ومنه الخلاف (¬5) في من اغتسل لجمعته ناسياً لجنابته. ولا يكرر غسل الرجلين على المعروف من المذهب، لأن المطلوب منهما (¬6) الإنقاء وقد لا يحصل بالثلاث. ¬

_ (¬1) في (ق) التدلك. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) في (ق) الفضل. (¬4) من هنا تبتدئ نسخة (م). (¬5) في (ق) وسبب الخلاف. (¬6) في (م) منهم وفي (ص) منها.

(حكم تكرار الممسوح)

(حكم تكرار الممسوح) وكذلك لا يكرر الممسوح لأن مبنى أمره على التخفيف، والتَّكرار (¬1) تثقيل. وفي حديث عبد الله بن زيد (¬2) أنه "مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ... " (¬3). وهذا يظهر منه التَّكرار. ولمحاذرتهَ (¬4) رأى الشيخ عبيد الله بن الجلاب (¬5) أنه إذا ذهب بهما إلى قفاه، رفع راحتيه عن فوديه- وهما جانبا رأسه- فإذا ردَّ يديه رفع أصابع يديه عن وسط رأسه ومسح جانبى رأسه حتى يسلم من التكرار بالمسح على موضع واحد. والذي قاله خلاف لجميع أهل المذهب. واتفاق أهل المذهب أن يمر بيديه على جميع رأسه ذاهبًا وعائداً ليحصل المسح على جميع وجه الشعر، إذ الشعر منصب من وسط الرأس إلى جهة الوجه ومن الوسط أيضاً إلى جهة القفا. وفي تفسيره في هذا الحديث لصفة المسح مناقضة لما ابتدأ به لأنه قال أقبل وأدبر، ثم فسره بالإدبار والإقبال. وخير ما يُؤَوَّلُ لذلك بأن الواو لا توجب رتبة الترتيب. فقال: أقبل وأدبر، ومراده أدبر وأقبل، فابتدأ في اللفظ بذكر الإقبال تفاؤلاً. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص) التكرير. (¬2) هو عبد الله بن زيد بن عاصم، يعرف بابن أم عمارة، أحد بني مازن النجار، وهو الذي قتل مسيلمة بالسيف مع رمية وحشي (ت 63هـ)، يوم الحرة. الإصابة: 6/ 91، والسير: 2/ 277. (¬3) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في كتاب الوضوء (185) واللفظ له، ومسلم في كتاب الطهارة 235. وقد ورد عند ابن بشير بلفظ "الذي منه بدأ" عوض "الذي بدأ منه". (¬4) هكذا في (ص) و (م) وغير واضحة في (ق). (¬5) هو أبو القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب. شيخ المالكية بالعراق، صاحب كتاب التفريع (ت 378 هـ). ترتيب المدارك: 4/ 605، والسير 16/ 383.

فصل

فصل وقد قدمنا ذكر الفروض والسنن والفضائل جملة، ومنها ما فصِّل (¬1) في المدونة فيترك الكلام عليه إلى بابه، ومنها ما لم يقصد تفصيله (¬2) كالوجه. والنظر فيه في شيئين (¬3): أحدهما: حدّه، والثاني: حكم الشعور النابتة عليه. (حد الوجه) فأما حدُّه طولاً فمن منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذَّقَن. واحترزنا بالمعتاد من الأَغَمِّ -وهو من نبت الشعر على بعض وجهه- فيجب عليه غسل ما غطاه (¬4) الشعر من الوجه. ومن الأنزع -وهو من انحسر الشعر عن بعض رأسه- فلا يجب عليه غسل ما انحسر (¬5) عنه الشعر من رأسه. فأما حدُّه عرضاً ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الأذن إلى الأذن، والثاني: أنه من العذار إلى العذار (¬6)، فيخرج من ذلك ما بين العذار والأذن، والثالث: أنه كالقول الأول في حق النقي الخد من الشعر، وكالقول الثاني في حق الملتحي. وسبب الاختلاف اختلافهم في اسم الوجه على أي شيء يقع. وزاد القاضي أبو محمد (¬7) قولاً رابعاً، وهو أن غسل ما بين العذار ¬

_ (¬1) في (ص) فصله. (¬2) في (ق) يفصله. (¬3) في (ق) و (م) فصلين. (¬4) في (ق) و (م) ما ينكشف عنه. (¬5) في (ق) ما انكشف. (¬6) جاء في لسان العرب 4/ 550: عذار الرجل شعره النابت في موضع العذار، والعذار استواء شعر الغلام. يقال ما أحسن عذاره أي خط لحيته. (¬7) هو الإمام العلامة القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي العراقي، له كتاب "التلقين" وغيره. توفي بمصر سنة (422هـ). ترتيب المدارك: 4/ 691، والسير: 17/ 429.

(حكم الشعور النابتة على الوجه)

والأذن سنة. وهذا وجهه أمره - صلى الله عليه وسلم - بإطالة التحجيل والغرة (¬1)؛ وهو ما يبدو على أعضاء الوضوء من النور في الآخرة. فمن زاد على المقدار المفروض كثر نوره. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا غسل يديه شرع في العضد (¬2). (حكم الشعور النابتة على الوجه) فأما الشعور النابتة على الوجه إن كانت خفيفة بحيث تظهر منها البَشَرَةُ عند التخاطب وجب إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة بحيث لا تظهر منها البَشَرَةُ فقولان: المشهور أن الفرض انتقل إلى الظاهر من الشعر لأنه الذي تحصل به المواجهة الآن. والثاني: أنه يجب عليه إيصال الماء إلى البَشَرَة لأنها محل الوجوب قبل نبات الشعر. وهل يجب غسل ما طال من شعر اللحية؟ قولان: أحدهما: الوجوب اعتبارًا بحكم ما نبتت عليه، والثاني: أنه لا يجب عليه اعتبارًا بحكم ما يحاذيه من الصدر. وكذلك القولان فيما طال من شعر الرأس. وأما حكم الوجه واليدين والرجلين وحكم الموالاة فنؤخر الكلام عليها إلى موضعها في الكتاب. (غسل اليدين قبل إدخالهما في الأناء) والمشهور من المذهب أن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء سنة في حق من لم تكن في يديه نجاسة، فإن كان في يديه نجاسة أمرناه بإزالتها حذاراً من أن يلاقي بها الماء وتنظيفًا لليد من النجاسة. وهل يسن غسلهما للقريب العهد بغسلهما كمن توضأ ثم أحدث في أثناء وضوءه؟ قولان: ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْن يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرَاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". متفق عليه. فقد أخرجه البخاري في كتاب الوضوء 136، ومسلم في كتاب الطهارة 246. (¬2) أخرج مسلم في الطهارة (362) عَنْ نُعَيْم بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ في الْعَضُدِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ" الحديث.

(حكم السواك)

أحدهما: يسن له ذلك وهو (¬1) المشهور، كغسل الجمعة فإنه يسن لكل من تلزمه الجمعة وإن كان أنظف الناس بدنًا. والثاني: أنه لا يسن له ذلك لأن المقصود بالغسل نظافة اليدين عن الأوساخ التي يمكن أن يلاقيها من جولانها في البدن. وهل يغسلهما مجتمعتين أو كل واحدة بانفراد؟ قولان: أحدهما: الجمع لأنه أبلغ في النظافة، والثاني: الإفراد قياساً على سائر أعضاء الوضوء. وفي حديث عبد الله بن زيد في ذكر غسل اليدين روايتان: إحداهما: أنه قال: "فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ" (¬2)، فهذا يقتضي الإفراد. والثانية: "فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ" (¬3) - من غير تكرار- وهذا يقتضي جمعهما. وأما حكم المضمضة والاستنشاق وبقية سائر السنن فنؤخر الكلام عليها إلى موضعه من الكتاب. (حكم السواك) وأما السواك فهو من الفضائل في الوضوء، ولا يجب عند فقهاء الأمصار، لأنه ليس مذكوراً في الآية نصاً ولا تنبيهاً (¬4). وهذا عمدتهم (¬5) في إسقاط فريضة كل غير مذكور في الآية (¬6) وعمدتهم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى" (¬7) فأحال على الآية. (اختلاف المذهب في التسمية) وأما التسمية ففي المذهب فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: عدّها فضيلة- كما ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص): في. (¬2) أخرجه النسائي في الطهارة 96، ومالك في الطهارة 32. (¬3) أخرجه النسائي أيضًا في الطهارة 97، وابن ماجه في الطهارة 434. (¬4) في (م) ولا شبيهًا. (¬5) في (م) عادتهم. (¬6) يقصد الآية 6 من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وهو عند البخاري في الوضوء (135) بلفظ: "لاَ تُقبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ".

(وضع الإناء على اليمين)

قدمنا- لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ [عَلَيْهِ] " (¬1) (¬2)، والثاني: إنكارها، لأن الحديث لم يثبت. وأيضاً فهو محمول على الذكر بالقلب، وهو النية، والثالث: أنه مخير إن شاء سمى وإن شاء لم يسم. فيعد من نوافل [الخير] (¬3) ولا يلحق بالفضائل لأنه لم يثبت أمر به. (وضع الإناء على اليمين) وأما وضع الإناء على اليمين فالصحيح أنه لا يلحق بدرجة الفضائل لأنه لم يرد أمر بذلك، وقد لا يتيسر في كل الأواني. (الوضوء بموضع نجس) وكذلك محاذرة الوضوء بموضع نجس لا يعد من الفضائل، وإنما ينبغي أن يقال إن خاف أن تصيبه النجاسة فلا يتوضأ فيه بوجه، وإن أمن ذلك فالأولى تركه. ولا يلحق برتبة الفضائل. (مشروعية الابتداء بالميامين) وأما البداية بالميامن فهو من نوافل الخير، ولا يختص ذلك بالوضوء بل يستحب الابتداء باليمين في كل أفعال الخير. وأما الابتداء بمقدم الرأس فهو الوارد في حديث عبد الله بن زيد كما تقدم. ويمكن أن يبدأ به لأنه أول العضو (¬4)، فلا يلحق بالفضائل لهذا (¬5) الإمكان. ¬

_ (¬1) ساقط من (ص). (¬2) والحديث أخرجه الترمذي في الطهارة 25، وأبو داود في الطهارة 102، وابن ماجه في الطهارة 412، وأحمد في مسنده 3/ 41، والدارمي في الطهارة 691، ثم قال الترمذي: "قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد". (¬3) ساقط من (م). (¬4) في (ق) الوضوء وساقط من (م). (¬5) من هنا تبتدئ نسخة (ر).

فصل [في أحكام المياه].

وقد تقدم الكلام على تَكرار المغسول. وقد استحب مالك وعبد العزيز (¬1) ما ورد من صورة المسح في حديث عبد الله بن زيد، وقالا: هذا أحسن ما سمعنا في مسح الرأس وأعمه عندنا. وإنما قالا ذلك، لاشتمال تلك الصفة على جميع الرأس. و [أما] (¬2) الابتداء بالمقدم وهو فضيلة على ما قدمناه، والرد من المؤخر وهو سنة. ... فصل [في أحكام المياه] (¬3). والماء ما دام على أصله فله صفة (¬4) الطهارة والتطهير، واجتمعت على ذلك الأمة. فإن خالطه شيء فلا يخلو أن يكون المخالط [له] (¬5) قراره وما عادته أن يتولد فيه كالحمأة (¬6)، أو غير قراره. فإن كان [من] (¬7) غير قراره فلا يخلو أن ¬

_ (¬1) هو: الإمام أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ميمون وقيل: دينار التيمي، مولاهم المدني الفقيه والد المفتي عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك. من كبار الفقهاء، عن ابن وهب قال حججت سنة ثمان وأربعين ومئة وصائح يصيح لا يفتي الناس إلا مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة. (ت) سنة 164هـ وصلى عليه المهدي وقيل سنة 166هـ، الديباج ص: 153 والسير: 7/ 309. لعل المقصود هو هذا. وهناك فقيهان يعرفان بعبد العزيز، الأول هو: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، صحب مالكًا وكتب عليه الحديث توفي بالمدينة سنة 186 "شجرة ص: 55 (3). والثاني هو: عبد العزيز بن حازم بن دينار الفقيه الأعرج، كنيته أبو حاتم تفقه مع مالك على ابن هرمز وسمع أباه وزيد بن أسلم ومالكًا وكان من جملة أصحاب مالك، توفي سنة أربع وقيل خمس وقيل: ست وثمانين ومائة. الديباج المذهب ص: 58. (¬2) ساقط من (ق) و (ص). (¬3) ساقط من (ص). (¬4) في صفات. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: "الحمأة: الطين الأسود المنتن". ص: 48. (¬7) ساقط من (ر) و (ص).

(حكم الماء الذي خالطته النجاسة)

يكون طاهراً أو نجساً، ولا يخلو أن يتغير الماء به (¬1) أو لا يتغير. فإن كان المخالط قرار الماء وما عادته أن يتولد فيه، فإن كان حل فيه من غير نقل ناقل نقله إليه فالماء طاهر مطهر، تغير أو لم يتغير، وإن نقله ناقل إليه فإن لم يتغير (¬2) فلا حكم له، وإن تغير فقولان: المشهور أنه لا بأس (¬3) به والماء باق على أصله، لأنه لا ينفك الماء عن جنسه، ولأنه إنما يجاور الماء ولا يخالطه ولا يمازجه حتى لو ترك الماء لتميز عنه. والقول الثاني أنه يسلب للماء التطهير لأنه إنما غيره بفعل فاعل فأشبه ما ينقل إلى الماء من سائر المائعات. وإن كان المخالط غير قرار الماء وما يتولد فيه والمخالط طاهر كسائر الأطعمة والأدهان؛ فإن لم يتغير الماء فهو طاهر مطهر. فهذا هو المعروف من المذهب. وكرهه الشيخ أبو الحسن القابسي (¬4) إذا كان الماء يسيراً. وإن تغير فهو طاهر غير مطهر، لأنه قد يسلب الرقة والنظافة فأشبه سائر المائعات. (حكم الماء الذي خالطته النجاسة) وإن كان المخالط نجساً فإن غير لون الماء أو طعمه كان نجساً بإجماع. وإن غير رائحته فكذلك يكون نجساً على المعروف من المذهب. وحكى أبو الحسن اللخمي عن ابن الماجشون (¬5) أنه لا ينجس بتغيير [الريح] (¬6). وهذه الرواية محمولة على تغيير الريح بالمجاورة لا بحلول ¬

_ (¬1) في (ص) بالمخالط لة. (¬2) في (ص) فإن لم تضر الماء به. (¬3) في (ص) و (ق) لا مبالاة. (¬4) هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي، كان ضريرًا. وهو من أصح العلماء كتبًا كتب له ثقات أصحابه كرفيقه الأصيلي. تفقه على أبي عمران الفاسي وغيره، توفي باالقيروان سنة 324 هـ، انظر السير 17/ 159. (¬5) هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون تلميذ الإمام مالك ومفتي المدينة في زمانه توفي سنة 213، ترتيب المدارك 2/ 360، والسير 10/ 359. (¬6) ساقط من (م).

النجاسة في الماء. وإن لم يتغير والماء كثير بحيث إنه إذا حرك [أحد] (¬1) طرفيه لم يتحرك في الحال الطرف الثاني فهو باق على الطهارة والتطهير. فإن كان الماء يسيرًا ولم يتغير. ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنه نجس وهو مقتضى مذهب المدونة. والثاني: إنه طاهر مطهر لكنه يكره للخلاف. والثالث: مشكوك في حكمه فيجمع بينه وبين التيمم. فوجه الحكم بنجاسته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً" (¬2)، ليبين إذا كان الماء دون (¬3) القلتين حمل الخبث. وأيضاً فإن النفوس تعاف الماء اليسير إذا حلته النجاسة اليسيرة ومبنى النجاسات على ما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. ووجه الحكم بطهارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله [تعالى] (¬4) الماء طهوراً لا ينجسه شيء" (¬5)، وهذا عموم في كل المياه. ومن رواية البغداديين في هذا الحديث: إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب عن عبد الله بن عمر قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُسْأَلُ عَن الْمَاءِ يَكُونُ في الْفَلاَةِ مِنَ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يحْمِلِ الْخَبَثَ". الترمذي في الطهارة 67 واللفظله، وابن ماجه في الطهارة 517. (¬3) في (ر) و (ق): فوق. (¬4) ساقط من (ص) و (م) و (ق). (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ: "إِنَّ الْمَاءَ طهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" أخرجه الترمذي في الطهارة 66، وأبو داود في الطهارة 67 واللفظ له. (¬6) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ" أخرجه ابن ماجه في الطهارة 514. قال الشوكاني بعدما ذكر طرق الحديث وبيّن ضعفها: قال في البدر المنير: فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف، فتعين الاحتجاج بالإجماع كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما. يعني الإجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحاً أو لوناً أو طعمًا نجس. وكذا نقل الإجماع ابن المنذر فقال: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لونًا أو ريحاً فهو نجس. انتهى نيل الأوطار 1/ 35.

وهذا نص [في] (¬1) أنه باق على الطهارة والتطهير ما لم يتغير أحد هذه الصفات، فهذه مبادئ أدلة المذهب. ووجه الحكم بالشك (¬2) فلتعارض الأدلة. وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي مصعب (¬3) أنه طاهر مطهر من غير كراهة. وهذا لا يوجد في المذهب بل مقول البغداديين على رواية أبي مصعب. وقد قالوا بالكراهة مراعاة للخلاف. وكيف يفعل على مذهب القائلين بالشك إذا لم يجد غير هذا الماء المشكوك فيه؟ لهم طريقان: أحدهما: أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي [صلاة] (¬4) ثانية لئلا يلاقي الأعضاء، يريد بذلك الماء قبل الصلاة بالتيمم. [والطريقة] (¬5)، الثانية: أنه يتوضأ به حتى يتلفه في الأعضاء ثم يتيمم ويصلي صلاة واحدة. وسبب الخلاف بين الطريقتين، هل الماء طاهر وإنما يتيمم مراعاة (¬6) للخلاف؟ أو هو نجس وإنما يصلي مراعاة للخلاف؟ فإن جعلنا الأصل الطهارة كان الأولى الابتداء [به] (¬7) ثم يتيمم ويصلي واحدة، وإن جعلنا الأصل النجاسة كان الأولى [أن يصلي بتيمم] (¬8) ثم يعيد الصلاة بالوضوء به. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (م) و (ق). (¬2) في (ر) و (ق) وأما الشك. (¬3) هو: مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار اليساري الهلالي أبو مصعب .. ابن أخت مالك بن أنس الإمام، كان أصم روى عن مالك وغيره وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وخرّج عنه له في صحيحه، تفقه بمالك وصحبه سبع عشرة سنة. مات سنة عشرين ومائتين بالمدينة. الديباج المذهب ص: 345، 346، طبقات الفقهاء: 1/ 153. (¬4) ساقط من (م) و (ق). (¬5) ساقط من م. (¬6) في (ر) كراهة. (¬7) ساقط من (ر). (¬8) في (ر) الابتداء به.

فصل (هل الملح كالتراب؟ أو كالطعام)

فصل (هل الملح كالتراب؟ أو كالطعام) واختلف المتأخرون (¬1) في الملح هل هو كالتراب فلا ينقل حكم الماء على المشهور من المذهب؟ أو كالطعام فينقله إلى غيره؟ ولهم في ذلك ثلاثة طرق؛ أحدها: أنه كالتراب، والثانية: أنه كالطعام، والثالثة: أن المعدني منه كالتراب والمصنوع منه كالطعام. واختلف من بعدهم هل ترجع هذه الطرق إلى قول [واحد] (¬2)، فيكون من جعله كالتراب يريد المعدني ومن جعله كالطعام يريد المصنوع؟ أو يرجع في ذلك إلى ثلاثة طرق (¬3) كما تقدم تفصيله؟ ووجهها أن الالتفات إلى أصله يلحقه بالتراب، والالتفات إلى استعماله في الطعام وإلحاقه بالربويات (¬4) يلحقه بالطعام. والتفصيل لأن المعدني لم ينضف إليه زائد (¬5)، والمصنوع قد انضاف إليه زائد فأخرجه عن بابه. ... فصل (حكم الماء المستعمل في الطهارة) وأما الماء المستعمل في الطهارة، فإن كان الذي استعمله (¬6) نجس الأعضاء فيكون الذي (¬7) سقط عن أعضائه ماء حلته النجاسة فيعود إلى ما تقدم. وإن كان وسخ الأعضاء غير نجس (¬8) فهو ماء حلته أوساخ طاهرة، فيرجع إلى ¬

_ (¬1) يقصد بالمتأخرين من جاء بعد ابن أبي زيد القيرواني (ت 366هـ): والمتقدمين من كانوا قبله. انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 37. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) و (ص) أقوال. (¬4) الربويات أي الأمور التي يحرم فيها الربا. (¬5) في (ص) شيء. (¬6) في (ر) قد استعمله في الطهارة. (¬7) في (ص) و (ق) و (م) ما. (¬8) في (ص) نجسهما.

ما تقدم من حكم الماء يحله [شيء] (¬1) طاهر. وإن كان نقي الأعضاء من الأوساخ والنجاسة ففي المذهب ثلاثة أقوال: المشهور: أنه طاهر مطهر يكره استعماله مع وجود غيره للخلاف فيه، والثاني: أنه طاهر غير مطهر، وعُلل بثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه لا يسلم من الأوساخ تحل (¬2) فيه وإن قلت فتضيفه (¬3)، والوجه الثاني: أنه ماء أتلف (¬4) قواه في عبادة فلا تعاد به عبادة أخرى، كالعبد يعتق في عبادة فلا يصح عتقه (¬5) لأخرى. ولا يلزم على هذا في الثوب [ألا يصلي] (¬6) به، فإنا قد قلنا نفدت قواه في عبادة والثوب إنما المراد منه ستر [العورة] (¬7)، فحكمه في ذلك باق (¬8)، والوجه الثالث: أن الأولين لم يذكر عن واحد منهم أنه جمع ما سقط عن أعضائه من الماء ثم استعمله مع كونهم بالحجاز والماء يعوز (¬9) فيها. وافتقارهم إلى الوضوء والطهارة الكبرى، وتركهم ذلك يشعر بأن هذا الماء لا يجوز استعماله مرة أخرى. والقول الثالث بأنه مشكوك في حكمه وتطهيره (¬10)، فيجمع بينه وبين التيمم ويصلي صلاة واحدة، وهذا لتعارض الأدلة؛ إذ القياس الجلي يقتضي بقاءه على أصله، وما ذكرناه من الثلاثة الأوجه يقتضي كونه غير مطهر، فلما تعارض ذلك حكم بالشك في تطهيره. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ص) و (ق). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) هكذا في (ص) و (م)، وهي غير واضحة في (ر)، وخرم في (ق). والفصل: كله غير موجود في (ل). ولعلها "تعافه"، قال في القاموس: عاف الطعام أو الماء: كرهه ولم يشربه. القاموس المحيط 1086، وانظر مختار الصحاح 466. (¬4) في (ص) أذهبت. (¬5) في (ص) عتقه في عبادة أخرى. (¬6) ساقط من (ص) و (ر). (¬7) ساقط من (ص) وم وق. (¬8) في (ص) باقٍ على أصله. (¬9) في (ص) معوز. (¬10) في (ص) مشكوك في تطهيره وفي (ر) مشكوك في طهارته.

فصل في تمييز الطاهر عن النجس

فصل في تمييز الطاهر عن النجس وجميع الموجودات لا تخلو (¬1) من أن تكون جمادات؛ أعني بذلك (¬2) ما لم تحله حياة أو ينفصل عن ذي حياة، وحيوانات (¬3)، وأجزاء حيوانات، ومنفصلات عن الحيوانات (¬4). (حكم الجمادات) فأما الجمادات فجميعها طاهر إلا الخمر وما في معناه عند مالك رحمه الله، والشافعي كل مسكر. (حكم الحيوانات الحية) فأما الحيوانات فما دامت مستصحبة للحياة فهي طاهرة ونعني بذلك أعراقها وأسآرها وما ينفصل (¬5) عن أنوفها إذا لم تستعمل النجاسات، هذا هو المشهور من المذهب من غير استثناء شيء من الحيوانات. واستثنى سحنون (¬6) الكلب والخنزير تعويلاً على الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب. وألحق به الخنزير فحكم لهما بالنجاسة. ورأى في المشهور أن الأمر بالغسل سببه أنهم كانوا في العصر الأول يخالطون الكلاب استمرارًا منهم على عادة الأعراب (¬7)، فقال عليه السلام: "من ¬

_ (¬1) في (م) يخلو. (¬2) في (ص) و (ر) ونعني بها. (¬3) في (ق) أو يتفصل: عن ذي حياة كالحيوانات. (¬4) في (ص) الحيوان. (¬5) في (ص) وما يخرج. (¬6) هو سحنون بن سعيد التنوخي أبو سعيد، وسحنون لقب واسمه عبد السلام، تفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة إليه في العلم بالمغرب وولي القضاء بالقيروان .. وحصل له من أصحاب ما لا يحصل لأحد من أصحاب مالك. وعنه انتشر علم مالك في المغرب. وهو مؤلف المدونة عن ابن القاسم مات سنة أربعين ومائتين. السير 12/ 63، الديباج 1/ 160. (¬7) في (ر) العرب.

(حكم الحيوان فاقد الحياة)

اقتنى كلبًا لغير (¬1) زرع ولا ضرع نقص من أجره قيراط" (¬2)، فلم ينتهوا عن ذلك فكلفوا غسل الأواني (¬3) لينتهوا من اتخاذهم الكلاب؛ لأنهم متى اتخذوها ولغت في الأواني، وغسلها سبعاً شاق. ولهذا قدر الغسل [بالسبع] (¬4) بخلاف غسل سائر النجاسات (¬5). (حكم الحيوان فاقد الحياة) فإن فقد الحيوان الحياة فهو على قسمين؛ بري وبحري، فالبحري على قسمين (¬6): قسم تطول حياته في البر بعد مفارقته الماء، وقسم لا تطول حياته. والبري على قسمين: قسم لا دم فيه، ويعبر عنه بأنه لا نفس له سائلة، وقسم له نفس سائلة (¬7). (حكم الحيوان البحري) فأما البحري الذي لا تطول حياته في البر فهو طاهر بعد الموت كهو في الحياة. وأما ما (¬8) تطول حياته في البر كالسلحفاة والسرطان فالمشهور من المذهب إلحاقه بالأول، والقول الثاني إلحاقه بحيوان البر. واختلف في افتقاره إلى الذكاة، وسبب الخلاف أن الذكاة شرعت في الحيوان لإراقة الدم، أو لإزهاق الروح بسرعة. وما تطول حياته في البر من البحري لا دم ¬

_ (¬1) في (م) من غير. (¬2) في (ق) كل يوم قراط. ولم أقف على الحديث بهذا اللفظ. وقد أخرجه البخاري بلفظ قريب في المزارعة 2323 "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لاَ يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلاَ ضَرْعًا نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ". (¬3) في (ر) الإناء. (¬4) ساقط من (م). (¬5) في (ق) الأواني. (¬6) في (م) ضربين. (¬7) في (ص) و (ق) و (م): له دم سائل. (¬8) في (ق) و (م) الذي.

(حكم الحيوان البري)

فيه يطلب إخراجه، لكنه مفتقر إلى إزهاق روحه بسرعة. فمن رأى أن المطلوب الأول في الذكاة إراقة (¬1) الدم لم يفتقر عنده إلى ذكاة، ومن رأى أن المطلوب الأول (¬2) إزهاق الروح بسرعة افتقر عنده إلى الذكاة. (حكم الحيوان البري) وأما البري فما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت بلا خلاف في المذهب. وما له نفس سائلة فإن كان مأكول اللحم ومات بذكاة فهو طاهر، وإن كان غير مأكول اللحم فهو نجس بالموت، وكذلك ما لم يُذَكَّ من المأكول اللحم. وفي المدونة في خشاش الأرض أنه لا ينجس ما مات فيه [من الماء] (¬3). وإن وقع في قدر فيها طعام كل ما فيها (¬4). وذكر عن أبي عمران أنه قال سقط (¬5) من المدونة: "لا"، وإنما الأصل أنه لا يؤكل ما فيها لأنه لا ينجس الماء في الاستعمال، وُيمنع شربه وأكل الطعام لعلة أنه لا يؤكل إلا بذكاة. وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب (¬6) لكنه بعيد أن يقال سقطت لفظة "لا" من جميع الكتب وأغفلها الرواة، وإنما (¬7) معنى إجازة الأكل إذا لم يتحلل من الخشاش شيء، ولو تحلل لم يجز الأكل. وإنما سئل في [الكتاب] (¬8) عن مجرد الموت فجاوب بأنه لا يفسد بخلاف ما له ¬

_ (¬1) في (ص) إخراج. (¬2) في (ر) و (ق) و (م) الثاني. (¬3) ساقط من (م). (¬4) انظر المدونة 1/ 4. (¬5) في (م) يسقط. (¬6) في (م) المدونة. (¬7) في (م) إنما. (¬8) ساقط من (م).

فصل [في أجزاء الحيوان]

نفس سائلة. وفي الكتاب [أيضاً] (¬1) في حيتان ملحت (¬2) فأصيب (¬3) فيها ضفادع ميتة لابأس بأكلها (¬4). واختلف الأشياخ هل يعود الضمير في أكلها على الحيتان أو على الضفادع؛ فأما الحيتان فيجوز أكلها بلا خلاف، وأما الضفادع فإن كانت ميتة جاز أكلها عند مالك وإن لم تحصل لها ذكاة، وعلى الرواية الشاذة (¬5) المتقدم ذكرها فيما تطول حياته في البر (¬6) لا تؤكل هذه الضفادع إذا وجدت ميتة. ... فصل [في أجزاء الحيوان] (¬7) وأما أجزاء الحيوانات فلا شك أن حكم البعض حكم الجملة، إلا أن يكون (¬8) البعض يؤخذ (¬9) من حي فيكون نجساً إذا كان المأخوذ منه برياً ذا نفس سائلة. (حكم الشعور) وأما الشعور فهي طاهرة عند مالك، ولأن الحياة لا تحلها فأشبه النبات هذا في كل شعر. وفي معناه الأصواف والأوبار إلا شعر الخنزير ففيه قولان في المذهب؛ أحدهما: طهارته إلحاقاً له بسائر الشعور، والثاني: نجاسته أخذاً بعموم تحريم الخنزير. ¬

_ (¬1) ساقط من (م) و (ق). (¬2) في (م) إذا ملحت. (¬3) في (ص) فوجد. (¬4) المدونة 1/ 5. (¬5) تقدم الحديث عن الشاذ في الكتاب. (¬6) في (ص) في البري من البحري. (¬7) ساقط من (ق) و (ر). (¬8) في (ص) يوجد. (¬9) ساقط من (ص).

(حكم العظام)

(حكم العظام) وأما العظام فهي عند مالك بمنزلة اللحوم فمتى كان اللحم طاهراً حكمنا للعظام بذلك، ومتى كان اللحم نجساً حكمنا للعظام بها، لأنها مما تحلّه الحياة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (¬1) والظاهر إضافة الحياة [إلى نفس العظام] (¬2). لكن في الآية {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬3) فأضاف الحياة إلى الدار الآخرة والإنشاء إلى دار الدنيا. والإنشاء تركيب لا إحياء لكن اجتمعت الأمة على أن العودة في حلول الحياة كالبداية، فيكون معنى إنشائها هنا إحياءَها. والبلاغة تقتضي تغيير اللفظ وإن اتحد المعنى. وقال المتأخرون من أهل المذهب ينبغي أن تكون أطراف الأظلاف وأطراف القرون كالشعور؛ لأنها لا تحلها الحياة. (حكم الريش) وأما الريش فما اتصل من أصله بالجسم فهو كالعظم لأنه تحله الحياة. وما لم يتصل بذلك من أطرافه (¬4) فهو كالشعور. (حكم ناب الفيل) واختلف المذهب في استعمال ناب الفيل والتجر فيه على ثلاثة أقوال؛ مذهب: أنه لا يستعمل ولا يتجر به، وهو المشهور من المذهب، والثاني: أنه يتجر به ويستعمل، قاله عبد الملك (¬5)، والثالث: أنه إن سلق جاز استعماله، قاله مطرف (¬6)، وهذا خلافُ هل تحله الحياة أم لا؟ وكأن من اشترط سلقه بناء على أنه تحله الحياة لأن السلق عنده كالدباغ. وهذا حكم الحيوانات وأجزائها وما يتصل بها. ¬

_ (¬1) يس: 78. (¬2) ساقط من (م). (¬3) يس 79. (¬4) في (ص) من أصولها وفي (م) من أطرافها. (¬5) في (ق) قاله مطرف وعبد الملك. (¬6) هو: أبو مصعب وقد تقدمت ترجمته.

(هل ينجس الآدمي بالموت؟)

(هل ينجس الآدمي بالموت؟) واختلف في الآدمي هل ينجس بالموت قياساً على ما في معناه من الحيوان أو لا ينجس (¬1) تكرمة له؟ وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) على سهيل بن بيضاء (¬3) في المسجد، ولو كان نجساً لم يدخله المسجد (¬4). ... فصل (حكم الفضلات المنفصلات من الحيوان) وأما فضلات منفصلات (¬5) من الحيوان فهي على قسمين: قسم له مقر في الجسم يستحيل فيه ثم يخرج أو يبقى هناك، وقسم يخرج إلى سطح الجسم من غير أن يكون له مقر يستحيل فيه. فأما ما له مستقر (¬6) في الباطن يستحيل فيه فهو على قسمين: قسم يستحيل إلى فساد، كالدم والعذرة والبول، وقسم يستحيل إلى صلاح كاللبن. (حكم الدم المسفوح وغيره) فأما ما يستحيل إلى فساد كالدم؛ فالمسفوح منه نجس بإجماع الأمة. وأما غير المسفوح -وهو ما يبقى في العروق- ففيه قولان: أحدهما: أنه ¬

_ (¬1) في (م) بالموت. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) هو الصحابي الجليل أبو موسى سهيل بن بيضاء الفهري هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة شهد بدرًا وأحُدًا ومات بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك سنة تسع. الإصابة 4/ 283، والسير 1/ 384. والحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد 2/ 668. (¬4) أخرجه مسلم في الجنائز 1615، والترمذي في الجنائز 1033. (¬5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب "الفضلات المنفصلات" بالتعريف. (¬6) في (ق) و (م) مقر.

(حكم دم الحوت)

نجس أخذا بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬1) فَعَمَّ. والثاني: أنه غير نجس، لأنه تعالى قيد التحريم في موضع ثان فقال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬2). وبين الأصوليين خلاف في رد المطلق إلى المقيد هل يجب أم لا؟ (حكم دم الحوت) وكذلك اختلفوا في نجاسة دم الحوت على قولين: أحدهما- وهو المشهور- إلحاقه بسائر الدماء في النجاسة. وقال أبو الحسن القابسي: هو طاهر. وهذا يحتمل أن يبنيه على شهادة يتأكد منها أنه غير مسفوح، أو لأن الذكاة غير مشروعة فيه، والذكاة مشروعة لإخراج الدم، ولم يطلب إخراج دم هنا، وذلك دليل على أن دمه غير نجس. (حكم بول وروث الحيوان) وأما البول والعذرة عند (¬3) مالك فهي نجسة من كل حيوان محرم الأكل، طاهرة من كل حيوان غير محرم الأكل (¬4). فإذا كان الحيوان مكروه [الأكل] (¬5) ففي المذهب قولان: أحدهما الحكم بنجاسة بوله وروثه، والثاني الحكم بكراهية ذلك كاللحوم. والأصل في طهارة روث ما يؤكل لحمه وبوله أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل (¬6)، وطاف - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المائدة: 3. (¬2) الأنعام: 145. (¬3) في (ق) فهما عند. (¬4) في (ص) مباح اللحم. (¬5) "الأكل" ساقط من (ص). (¬6) يشير إلى الحديث الصحيح: "عِنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجِتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِن أَلْبَانِهَا وَأبْوَالِهَا" الحديث. أخرجه البخاري في الزكاة 1405 واللفظ له، ومسلم في القسامة 3162.

(طهارة المسك)

على بعير، وموضع الطواف من المسجد (¬1)، ولا يؤمن أن يكون من البعير في حين (¬2) الطواف بول أو روث. هذا إذا لم يستعمل [الحيوان] (¬3) المأكول اللحم نجاسة، فإن أكل نجساً أو شربه ففي بوله وروثه قولان: المشهور نجاستهما (¬4)، والشاذ طهارتهما. وهذا جار في كل نجاسة انقلبت أعراضها، كعرق السكران، ورماد الميتة، وما يستخفي (¬5) في أواني الخمر، في جميع ذلك قولان: التنجيس التفاتاً إلى الأصل، والحكم بالطهارة التفاتاً إلى ما انتقلت إليه. (طهارة المسك) ولا خلاف في المذهب في طهارة المسك. وكان يقتضي هذا الأصل أن يُختلف فيه لأنه خراج يتولد من (¬6) حيوان ثم يستحيل مسكاً، لكن حكموا بطهارته لأن أصل النجاسات ما يستقذر، والمسك يُذهب الاستقذار فلم يختلف فيه. (نجاسة المني) والمني حكموا بنجاسته وهذا لأحد وجهين؛ إما لأنه يسير (¬7) على نجاسة البول، وإما لأنه يستحيل إلى فساد. فإن عللنا بالأول كان مني ما ¬

_ (¬1) يشير إلى الحديث الصحيح: "عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: طَافَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرِ" الحديث. أخرجه البخاري في الحج 1504 واللفظ له، ومسلم في الحجَ 2233. (¬2) في (ص) في حال. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) نجاسته. (¬5) في (ص) وما يستحجر، وفي (ر) يستخمر. (¬6) في (ر) في. (¬7) في (ص) يمر.

(حكم الألبان)

يؤكل لحمه (¬1) طاهراً، وإن عللنا بالثاني كان مني ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل (¬2) نجساً. وهكذا قال المتأخرون من أهل المذهب. (حكم الألبان) وأما ما يستحيل إلى صلاح كالألبان فهو على ثلاثة أقسام؛ قسم منها طاهر بإجماع [الأمة] (¬3)، وهو لبن ما يؤكل لحمه، وما حرم لحمه لحرمته كبنات آدم، وقسم نجس بإجماع كلبن الخنزير، وقسم مختلف فيه وهو ما عدا ما ذكرناه. وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن لبنها طاهر لقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} (¬4)، فأخبر أنه خالص عن الدم والفرث، والدم نجس من كل الحيوان، وهذا طاهر مما (¬5) تقدم ذكر طهارته بإجماع، فدل على أنه لا يراعى (¬6) أصله، وقد قال تعالى فيه: {خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (¬7) فعمَّ كل لبن. والثاني أن لبنها تابع للحومها في التحريم والكراهة لأنها فضلة الغذاء فأشبه اللحم. والثالث أنه مكروه، وهذا مراعاة للخلاف. (حكم البيض) وأما البيض فلا شك في طهارته لأنه متولد من كل حيوان مأكول اللحم. ... ¬

_ (¬1) في (ص) و (ق) لحمه من الحيوان. (¬2) في (ص) كان مني كل حيوان. (¬3) ساقط من (ص). (¬4) النحل: 66. (¬5) في (ص) ممن تقدم وفي (م) فيها تقدم. (¬6) في (ص) و (ق) و (م) لا تراعى أصوله. (¬7) النحل: 66.

فصل (في أحكام أسآر الحيوان)

فصل (في أحكام أسآر الحيوان) وقد تقدم أن أسآر الحيوان طاهرة، وهذا إذا لم تستعمل النجاسة، فإن أكلت نجاسة، أو شربتها، أو كانت من عادتها تستعمل النجاسة، فلا تخلو من قسمين؛ أحدهما: أن تدعو الضرورة إلى غشيانها الأواني، كالهرة والفأرة، فهذه يحكم بطهارة سؤرها إلا أن تُعايَن (¬1) النجاسة فيه أو في أفواهها وقت الشرب، فإن أبصر ذلك فيه فاليُتوق ما (¬2) حلته النجاسة. ويكون حكمه ما تقدم في الماء إذا حلته نجاسة. وفي المدونة لا بأس بالخبز من سؤر الفأرة (¬3). ويروى بضم الخاء وبفتحها، ومعنى الضم نفس الخبز إذا أكلت منه فإنه يؤكل، وهذا ما لم ير فيه أثر النجاسة، فإن رأى ذلك طرح موضع النجاسة إن تميز، فإن لم يتميز كان طعاماً حلته النجاسة، فإن كان يسيراً طرح، وإن كان كثيرًا فقولان: أحدهما: أنه كالماء لا تفسده النجاسة اليسيرة، والثاني: أنه بخلاف الماء لأن الماء يُذهب النجاسة بخلاف الطعام. ومعنى الفتح في الخَبْز أنها إذا شربت من ماء فيجوز أن يعجن به، وصوب بعض الأشياخ هذه الرواية معولاً على أن الفأرة إذا شربت من الماء فإن ما يلتقي فمها من الماء يتنجس ثم تجتلبه بالشرب فيبقى ما بعده طاهرا، وإذا أكلت من خبز فلا يزول (¬4) أثر فمها. فيفارق حكم الماء حكم الطعام. وهذا مما لا يعول عليه، وإنما يلتفت إلى ما قدمناه والروايتان صحيحتان. ... ¬

_ (¬1) في (ق) تعاين آثار النجاسة. (¬2) في (ر) و (ق) فهو ما. (¬3) انظر المدونة 1/ 6. (¬4) في (ر) يزال.

[فصل] حكم ما يمكن الاحتراز منه)

[فصل] (¬1) حكم ما يمكن الاحتراز منه) والقسم الثاني: أن يكون الحيوان مما يمكن الاحتراز منه، فهذا لا يخلوا من ثلاثة أحوال (¬2): أحدها: أن يتيقن سلامة فمه من النجاسة فلا يفسد ما أكل منه أو شرب، والثاني: أن يتيقن نجاسة فمه فيكون ما أكل منه أو شرب على ما تقدم مما تحله النجاسة. والثالث: أن يشك (¬3) هل فيه نجاسة أم لا؟ فهذا في المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الحكم بطهارته لأن أصل الحيوان الطهارة، ومتى وقع الشك فيه رجع إلى الأصل، والثاني: الحكم بنجاسة فمه (¬4) نظراً إلى الغالب، والغالب استعماله النجاسة، والثالث: التفرقة بين الماء والطعام، ينطرح الماء ليسارته ويستعمل الطعام لحرمته، وهذا مذهب المدونة. ولكن حكم للماء الذي شربت منه الدجاج المخلاة (¬5) أن يترك وينتقل إلى التيمم. ثم جعل المصلي به يعيد في الوقت خاصة. وهذا كالمتنافض لأن الانتقال إلى التيمم يقتضي الحكم بنجاسته والإعادة في الوقت تقتضي طهارته (¬6) على كراهية فيه. وقد أجيب (¬7) عن هذا الاعتراض بثلاثة أوجه: أحدها: أن مراده بالتيمم لا يقتصر عليه دون أن يتوضأ، وإنما تجوز في الكتاب بقوله يتيمم ويتركه. ومراده يجمع بينه وبين التيمم، قاله القاضي أبو محمد عبد الوهاب. هذا وإن ساعده الفقه فهو بعيد عن مقتضى اللفظ. والجواب الثاني: أنه حكم بنجاسته على أصله فقال يتيمم ويتركه ثم إذا صلى به أحد وقعت صلاته جائزة عند من يقول بطهارته، وهو أحد قولي ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ص) و (م) و (ق) صور. (¬3) في (ق) ويشك. (¬4) في (م) محله. (¬5) الدجاج المخلاة هو الذي يأكل النجاسة. انظر تحفة الفقهاء 3/ 65. (¬6) في (م) الحكم بطهارته. (¬7) في (ر) أجبت.

مالك. وجعل (¬1) فعل المكلف كحكم الحاكم بصحته فيعيد في الوقت ليخرج من الخلاف. فإذا خرج الوقت فلا يعيد لنفوذ الحكم بذلك وهذا جار على أصل المذهب في مراعاة الخلاف، والجواب الثالث: أن الإعادة إنما هي (¬2) لأنه صلى بنجاسة، ولذلك (¬3) يترك الماء لأن فيه نجاسة لا يدري موضعها. فإذا استعملت فقد حصلت تلك النجاسة على بعض جسده، فيكون كالمصلي بنجاسة يعيد- إن لم يعلم- في الوقت. وهكذا (¬4) نقل البراذعي في تهذيبه في هذا الموضع (¬5)، فقال: ومن صلى (¬6) ولم يعلم أعاد في الوقت. واستدرك الأشياخ عليه زيادته (¬7): "ولم يعلم". وإنما عول في ذلك على ما في كتاب الصلاة الأول من المدونة، وقد اشترط هناك عدم العلم، وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وهذا الجواب أشار إليه الباجي (¬8) وهو معترض، لأن النجاسة إذا حلت بالماء تختلط بأجزائه فلا تبقى في مكان واحد، وأيضًا فإن القائلين بتنجيسه يجعلون الجميع في حكم النجاسة. ... ¬

_ (¬1) في (ص) قصد. (¬2) في (ر) ها هنا. (¬3) في (ق) ولكن لذلك، وفي (ر) كذلك. (¬4) في (م) و (ق) وهذا. (¬5) في (ص) في المسألة. (¬6) في (ص) ومن، و (ق) صلى به. (¬7) في (ر) زيادة. (¬8) هو: القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الأندلسي القرطبي الباجي صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس. ارتحل سنة ست وعشرين فحج وجاور ثلاثة أعوام ملازمًا للحافظ أبي ذر، ارتحل إلى دمشق، فسمع من أهلها وارتحل إلى بغداد. ثم رجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير حصله مع الفقر والتقنع باليسير. وتفقه به أئمة واشتهر اسمه وصنف التصانيف النفيسة .. ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه، فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك فدخل إلى ابن حزم وناظره، وله معه مجالس كثيرة. سير أعلام النبلاء 18/ 535، 540، والديباج المذهب ص: 120.

فصل (حكم سؤر الكلب)

فصل (حكم سؤر الكلب) وقد انفرد سؤر الكلب بحكم أوجبه أمره - صلى الله عليه وسلم - بغسل الإناء من ولوغه (¬1) سبعاً (¬2)، وقد اختلف المذهب هل الأمر بغسله على سبيل التوقي منه (¬3) وترك مخالطته- على (¬4) ما تقدم- أو لنجاسة فيه؟ قولان؛ المشهور: أن ذلك للتوقي لا للنجاسة، والشاذ: أنه للنجاسة، وهو قول سحنون. فإن قلنا إن ذلك (¬5) للتوقي فهل يعد واجبًا أو ندباً؟ قولان. والذي في المدونة أنه ندب، لقوله: "إن كان يغسل سبعاً ففي الماء وحده وكان يضعفه" (¬6). وقال بعض الأشياخ: ويحتمل قوله "وكان يضعفه" ثلاثة أوجه: أحدهما: ضعف الحديث لمعارضته ظاهر القرآن في إباحة أكل ما صاد ولم يشترط غسله، والثاني: ضعف وجوب الغسل لأنه بمنزلة غيره من الحيوان، والثالث: ضعف الغسل الوارد في الحديث لأنه مقدر، والتقدير خلاف الأصول. وسبب الخلاف أمره - صلى الله عليه وسلم - بالغسل من ولوغه. فاختلف الأصوليون هل تحمل [أوامره - صلى الله عليه وسلم -] (¬7) على الوجوب أو على الندب، وإذا أوجبنا أو قلنا بالندب فهل يختص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، أو يكون عاماً في سائر الكلاب؟ قولان. وسببهما: هل العلة ورود النهي في المخالطة، أو لأن سؤر الكلب مما يستقذر غالباً؟ وهو أيضاً مما لا يتوقَّ النجاسة غالباً، فيسري (¬8) ذلك في كل كلب. ¬

_ (¬1) في (ص) و (م) و (ق) من ولوغ الكلب. (¬2) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ" أخرجه البخاري في الوضوء 172، ومسلم في الطهارة 279 واللفظ له. (¬3) في (م) منهم. (¬4) في (ص) كما تقدم. (¬5) في (ر): بذلك. (¬6) الذي في المدونة 1/ 5 "إن كان يغسل ففي الماء وحده وكان يضعفه" دون قوله "سبعاً". (¬7) ساقط من (ر). (¬8) (ص) فيستوي.

(حكم سؤر الخنزير)

وهل يغسل الإناء إذا كان فيه طعام أو لا يغسل إلا إذا كان فيه ماء؟ قولان: المشهور أنه لا يغسل إلا من الماء، والقول الثاني أنه يغسل كان فيه ماء أو غيره. وسبب الخلاف: هل يخصص العموم بالعادة- لأن العادة أن الكلاب لا تجد من أواني العرب الذين ورد فيهم الحكم إلا ما فيها ماء، وأما أواني الطعام فإنهم يتحفظون عليها فلا يجدها الكلاب- أو لا يخص العموم بالعادة فيكون ذلك جار في كل الأواني؟ ولو ولغت كلاب كثيرة في إناء واحد، فهل يغسل لجميعها سبعاً، أو يغسل لكل واحد سبعاً؟ قولان. وسببهما هل الألف واللام في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ" للجنس؟ فيكون مراده - صلى الله عليه وسلم - إذا ولغ الكلاب غسل سبعاً، أو الألف واللام للعهد؟ فيكون المشار بها إلى كلب واحد مفرد. وعلى هذا اختلف هل يؤمر سامع الأذان بحكايته وإن تكرر الأذان أو لا يؤمر إلا بحكاية الأول خاصة؟ وكذلك الخلاف فيمن اشترى مصراة (¬1) فوجب له ردها، هل يرد لجميعها إذا كانت كثيرة صاعاً أو لكل واحدة منها صاعاً (¬2)؟ وهذا يتبين في موضعه إن شاء الله. واختلف المذهب أيضاً إن ولغ الكلب في الإناء هل يجوز غسله بذلك الماء الذي ولغ فيه أو يغسل بماء ثان؟ وسبب الخلاف هل الغسل للتعبد المحض، أو لما يمكن أن يكون ولغ فيه من النجاسة ولأنه مما يستقذر (¬3)؟ (حكم سؤر الخنزير) واختلف أيضاً في الخنزير هل يلحق بالكلب في هذا الحكم (¬4)، أم يكون حكمه حكم سائر الحيوانات على التفصيل المتقدم؟ ¬

_ (¬1) قال صاحب النهاية في غريب الحديث 3/ 27: المُصَرَّاة: الناقَةُ أو البقَرةُ أو الشَّاةُ يُصَرَّى اللَّبنُ في ضَرْعها، أي يُجْمع ويُحْبَس. (¬2) قال في مختار الصحاح 1/ 156: الصاعُ الذي يُكال به، وهو أربعة أمداد، والجمع أصْوُعٌ. (¬3) في (ر) مما يستقذر وانظر متى يؤمر بغسله هل عند إرادة استعماله أو عند ولوغه واختلف المذهب فيه أيضًا على قولين. (¬4) في (ق) و (م) في هذه الأواني.

فصل في آداب الأحداث

والخلاف على ما ذكرناه (¬1) من أنه إن جعل غسل الأواني للتعبد المحض، لم يلحق به الخنزير، وإن جعل للاستقذار والنهي عن مخالطته لحق بذلك الخنزير. ... فصل في آداب الأحداث وهي على ثلاثة أقسام: قسم سابق، وقسم مقارن، وقسم متأخر. (حكم استقبال القبلة للبول والغائط) ولنقصد إلى ما ذكره (¬2) في الكتاب دون غيره، وهو أن لا يستقبل القبلة لبول ولا لغائط. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك (¬3)، وثبت أن ابن عمر أشرف على بيت حفصة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلاً (¬4) لبيت المقدس ومستدبراً للكعبة (¬5). وقد بني مالك هذين الحديثين، فرأى أن المنع على صفة، والجواز على صفة ثانية. وما هي الصفة؟ لا يخلو إما أن يكون الموضع لا مراحيض ¬

_ (¬1) في (م) على ما قدمناه. (¬2) في (ق) و (م) ولنقصد ما ذكرناه. (¬3) في (ق) النهي عن ذلك ألا يستقبل القبلة وألا يستدبرها. ومنه ما أخرجه مسلم في الطهارة (388) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمْ الغَائِطَ فَلَا تَسْتَقبلُوا الْقِبلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلِ وَلاَ غَائِطِ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرَّبُوا"، قَال أَبوِ أَيُّوبَ: فَقَدِمنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ. الحديث. (¬4) في (ر): مستقبلاً القبلة. (¬5) أخرج البخاري في الوضوء (144) واللفظ له ومسلم في الطهارة (391) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حَاجَتَة مُسْتدْبِرَ الْقبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ.

(حكم استقبال القبلة أثناء المجامعة)

فيه ولا ساتر (¬1) [فلا يجوز الاستقبال فيه ولا الاستدبار، أو تكون المراحيض والساتر] (¬2) فيجلس بحسب ما تقتضيه المراحيض، أو يكون ذا مراحيض ولا ساتر، فيجلس أيضاً بحسب ما تقتضيه المراحيض للضرورة، أو يكون ذا ساتر ولا مراحيض فيه ففي المذهب قولان: أحدهما: جواز الاستقبال أو الاستدبار، والثاني: أنه لا يستقبل ولا يستدبر. وسبب الخلاف هل العلة في المنع لحرمة القبلة فلا يجوز على (¬3) هذا الاستقبال ولا الاستدبار، أو العلة (¬4) المصلون إلى القبلة، فإذا وجد الساتر بينه وبينهم جاز الاستقبال والاستدبار [على الإطلاق] (¬5). (حكم استقبال القبلة أثناء المجامعة) واختلف أيضاً في المجامعة (¬6) هل يجوز فيها الاستقبال والاستدبار على الإطلاق؟ أو يكون فيها من التفصيل ما قدمنا في الحدث؟ وسبب الخلاف هل العلة في الحدث نفس العورة فتكون المجامعة بمنزلته، أو العلة ما يخرج من الحدث فتكون المجامعة بخلاف ذلك؟ وفي المدونة ما يؤخذ منه الجواز في المجامعة على الإطلاق؛ لأنه لما سأله عن المجامعة قال لا بأس بذلك (¬7). لكنه عقيب (¬8) قوله، شبهه بالحدث. وقد تعلق باللفظ الأول بعض الأشياخ فأجازوه على الإطلاق، وتعلق آخرون بالتشبيه فألحقوه بالحدث. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) ستائر. (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) في (ص) ها هنا. (¬4) في (ص) حرمة المصلين. (¬5) ساقط في (ص) و (م) و (ق). (¬6) في (ص) الجماع. (¬7) المدونة 1/ 7. (¬8) في (ص) عقب.

فصل (في إزالة الأذى)

فصل (في إزالة الأذى) ومن آداب الإحداث المتأخرة إزالته. والأَوْلى في ذلك الجمع بين الحجارة (¬1) والماء، يبدأ بالحجارة لإزالة العين ثم بالماء لإزالة الأثر، وذلك أبلغ في سرعة الإزالة وأذهب للرائحة. فإن أراد [مريد] (¬2) الاقتصار، فالأَوْلى الاقتصار على الماء، لأنه يذهب العين والأثر. وإن أراد الاقتصار على الأحجار، فإن فقد الماء جاز له ذلك، وإن وجده فقولان: المشهور جواز الاقتصار، والشاذ منعه وهو مذهب ابن حبيب (¬3). وقد ثبت أنهم كانوا يقتصرون في العصر (¬4) الأول على الأحجار. وهل ذلك لأن الماء كان يعوز عليهم، أو لأنهم كانوا يُبعدون- بخلاف أهل الوقت- أو ذلك رخصة لأن هذه الأحداث (¬5) كثيرًا ما تطرأ على الإنسان في الطرقات وحيث لا ماء؟ فرخص في ذلك لإزالة عين هذه الأحداث بالأحجار. واستمر (¬6) العمل حيث يوجد الماء ويفقد، وهذا الذي يظهر من فعل الأولين. وإذا جاز له الاقتصار على الأحجار فهل يقوم في ذلك غيرها مقامها؟ قولان: المشهور أنه يقوم مقامها كل شيء (¬7) طاهر ليس بمطعوم ولا ذي حرمة [ولا يتعلق به حق الغير] (¬8)، والشاذ أنه لا يكفي إلا الأحجار. والوارد في الأحاديث [الأحجار] (¬9) لكنه رخصة. ¬

_ (¬1) في (ص) و (م) الأحجار. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) الذي في النوادر والزيادات عن ابن حبيب: أن من فعل ذالك قد أساء ولا شيء عليه. 1/ 24. (¬4) في (ق) الصدر. (¬5) في (م) الحاجات. (¬6) في (م) ويستمر العمل وفي (ص) واستمر ذلك. (¬7) في (ص) كل منق. (¬8) ساقط من (ص) و (م) و (ق). (¬9) ساقط من (ق).

وقد اختلف الأصوليون هل يقاس على الرخص أو يقتصر عليها وعلى ما وردت؛ فمن قال بالقياس ألحق بذلك غير الأحجار، ومن قصرها على ما ورد قال لا يكفي إلا الأحجار. وإذا قلنا بالقصر فهل يطلب في ذلك عدد؟ قولان: أحدهما: أنه لا يكفي دون الثلاث (¬1)، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاثة طلب الزائد وإن حصل بأقل من ذلك طلب الثلاثة، وقيل يجزي إن حصل الإنقاء بواحد. والمشهور في الأحاديث طلب الثلاث لكن في بعضها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر من معه أن يأتي بثلاثة أحجار فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة وقال إنها رجس (¬2) ولم يذكر في الحديث أنه طلب ثالثة (¬3). وخرج أبو داود (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن اسْتَجْمَرَ فَلْيُوترْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لاَ فَلَا حَرَجَ" (¬5). وهذا يقتضي إباحة الاقتصار، وما قدمناه يقتضي طلب الثلاثة وهو مقتضى (¬6) التعبد. وإذا أوجبنا الثلاثة فهل ينوب في دلك حجر ذو ثلاث شعب (¬7)؟ قولان: أحدهما: الاكتفاء به لأنه ¬

_ (¬1) في (م) و (ص) الثلاثة الأحجار. (¬2) في (ق) نجس. (¬3) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ فيما توفر عندي من مصادر لكن بألفاظ قريبة، منها ما أخرجه البخاري في الوضوء (156) عن عَبْدَ اللهِ بن مسعود قال: "أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارِ فَوَجَدْتُ حَجَرَينِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأتيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ". في (ر): الثلاثة. (¬4) هو: سليمان بن الأشعث .. الإمام أبو داود الأزدي السجستاني محدّث البصرة. صنّف كتابه السنن وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه .. وقال أبو بكر بن داسه: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئه ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعه آلاف حديث وثماني مئة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه .. سير أعلام النبلاء 13/ 203، 217. (¬5) أبو داود في الطهارة 32، وابن ماجه في الطهارة 332، وأحمد في مسنده 2/ 463، والدارمي في الطهارة 660 كلهم عن أبي هريرة، واللفظ لابن ماجه والدارمي. (¬6) في (م) يقتضي. (¬7) في (ص) و (ق) رؤوس.

يحصل به ما يحصل بالثلاثة (¬1)، والثاني: أنه لا يكتفى به جموداً على ما ورد من طلب الثلاثة. وهل يكتفي للمخرجين بثلاثة أو يطلب لكل واحد ثلاثة؟ قولان. وهو خلاف في شهادة، هل يتلطخ الحجر بأحدهما فلا يكفي في الآخر (¬2)، أو يمكن أن يحصل الانقاء في الموضعين بثلاثة. وكذلك اختلف في صورة الفعل؛ فقيل يمسح بكل حجر جميع الموضع (¬3)، وقيل بل يمسح بأحدهما وسط (¬4) الموضع، وبالاثنين الجانبين. وهذا ينبغي أن يحال فيه على ما هو الإنقاء والأذهب للعين فيفعل. ولا يجب الاستنجاء من الريح لأنه ليس بذي جسم تطلب إزالته. وإن تعدى الخارج المخرجين إلى وسط (¬5) الجسم وانتشر كثيراً فلا يزال إلا بالماء، [وإن قل انتشاره فقولان: قيل هو كالموضع فيزال بالأحجار، وقيل كالمنتشر كثيراً فلا يزال إلا بالماء (¬6). وهذا على الخلاف في ما قارب الشيء هل يعطى حكمه أم لا؟ وفي الكتاب في من استجمر بالحجارة ولم يغسل ما هنالك بالماء حتى صلى أن صلاته مجزية، ويغسل ما هنالك لما يستقبل (¬7). وهذا إنما يصح إذا كان يمكنه أن يغسل ولا يمس الذكر، والثاني: إن افتقر إلى مسه فإنه يعيد الوضوء على مذهب من أوجب الوضوء من مسه. ... ¬

_ (¬1) في (ص) و (ق) بالثلاثة الأحجار. (¬2) في (ق) فلا يكتفي في الإجزاء. (¬3) في (م) الموضعين. (¬4) في (ق) بأحدهما بكل حجر جميع. (¬5) في (ر) وإن تعدى المخرجين الخارج إلى سطح. (¬6) ساقط من (ق) و (م). (¬7) المدونة 1/ 8.

باب ما يجب منه الوضوء

باب ما يجب منه الوضوء (¬1) الوضوء يجب من شيئين: أحداث، وأسباب أحداث. فالأحداث ما يخرج من القبل والدبر. والخارج من القبل ثلاثة وهو: البول، والودي (¬2) والمذي (¬3). والخارج من الدبر ثلاثة: الغائط، والصوت، والريح. وأسباب الأحداث ثلاثة وهي: مس الذكر، ولمس النساء، والنوم، وفي معناه فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء. واختلف في الردة هل تقتضي نقض الوضوء إذا عاد إلى الإسلام؟ وكذلك اختلفوا في رفض الوضوء هل يؤثر أو لا؟ (حكم مس الذكر) ونؤخر الردة والرفض إلى استفاء أحكام الأحداث وأسبابها، ونجري على ترتيب الكتاب. وقد ابتدأ بأسباب الأحداث وقدم حكم مس الذكر، وقد ورد فيه حديثان: أحدهما: حديث بسرة (¬4)، وهو يقتضي نقض الوضوء بمسه. والثاني: حديث طلق بن علي (¬5)، وهو يقتضي عدم النقض بمسه، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ر) فصل:. (¬2) الوَدْيُ: البلل اللزج الذي يخرج من الذكر بعد البول. انظر لسان العرب 15/ 385. (¬3) في (ص) البول والمني والودي. والمَذْيُ: ما يخرج من ذكر الرجل عند النظر. انظر لسان العرب 15/ 275. (¬4) عن بُسْرَة بنْت صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضأ" أخَرجه النسائي في الطهارة 163 واللفظ له، وأبو داود في الطهارة 181، وابن ماجه في الطهارة 479، وأحمد في مسنده 2/ 223، ومالك في الموطأ الطهارة 91، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 22، وابن حبان في صحيحه 3/ 396، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/ 231. (¬5) هو طلق بن علي بن المنذر بن قيس الحنفي السحيمي اليماني. وَفَدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمل معه في بناء المسجد. تهذيب التهذيب 5/ 29.

لأنه ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مس الذكر هل يوجب الوضوء؟ فقال: "وهل هو إلا بَضعَةٌ منك" (¬1). وقد بني المالكية الحديثين فرأوا أنه ينقض بمسه الوضوء على صفة دون صفة. وما هي الصفة؟ فلهم أربعة أقوال؛ أحدهما: اعتبار اللذة، فإن وجد اللذة بمسه انتقض، وهو رأي البغداديين (¬2) من أهل المذهب. والثاني: مراعات العمد، فإن مسه عامداً انتقض وضوءه، وإن كان ناسياً (¬3) لم ينتقض، وهو مذهب مالك في أحد أقواله وسحنون (¬4). والثالث: مراعاة باطن الكف، فان مسه بغيره لم ينتقض وهو مذهب أشهب، والرابع: مراعاة باطن الكف وباطن الأصابع، فإن مسَّه بغيرهما لم ينتقض، وهو مذهب الكتاب (¬5). وكأن الجميع يراعون اللذة. فراعى البغداديون وجودها وعدمها. وراعى من فرق بين العمد والنسيان أن اللذة توجد غالباً مع العمد بخلاف النسيان. وراعى أشهب باطن الكف لأن فيه من لطافة الحس (¬6) ما ليس في سائر الأعضاء. والغالب وجود اللذة به بخلاف غيره من الأعضاء. وراعى (¬7) في الكتاب أن باطن الأصابع بمنزلة باطن الكف، إذ فيها من لطافة الحس ما فيها. وقد استدل هؤلاء بما ورد في بعض الطرق: "من ¬

_ (¬1) عن طلق بن علي قال: "قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيِّ اللهِ، مَا تَرَي في مَسِّ الرّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّاُ؟ فَقَالَ: "هَل هُوَ إلاَّ مُضغَةٌ مِنْهُ" أَوْ قَالَ: "بَضْعَةٌ مِنْهُ" أخرجه الترمذي في الطهارة 85، وأبو داود في الطهارة 182 واللفظ له، والنسائي في الطهارة 165، وابن ماجه في الطهارة 483، وابن حبان في صحيحه 3/ 402، قَالَ الترمذي: وَقَد رُوِيَ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمّ يَرَوُا الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَر، وَهُوَ قَوْلُ أَهْل اَلْكُوفَةِ وَابْن الْمُبَارَكِ. (¬2) يقصد بالبغداديين: أتباع الإمام مالك في العراق، وهم القاضي إسماعيل وابن القصار وابن الجلاب والقاضي عبدالوهاب وأبي الفرج والأبهري ونظائرهم. (¬3) في (ق) وإن مسه غير متعمد. (¬4) انظر النوادر والزيادات 1/ 54. (¬5) المدونة 1/ 8. (¬6) في (ق) الجسم. (¬7) في (ر) و (ص): ورأى.

(حكم مس الدبر وسائر البدن)

أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء" (¬1)، والإفضاء إنما يكون بباطن الكف، وفي معناه الأصابع. (حكم مس الدبر وسائر البدن) ولا يجب الوضوء بمس شئ من البدن ولا من الدبر على المشهور. وذكر حمديس (¬2) أنه يلزم على قول من أوجب الوضوء على المرأة إن مست فرجها أن يقول يلزم الوضوء من مس الدبر. وهذا الذي قاله غير صحيح لأن الفرج ينطلق (¬3) عليه تسميته. وقد ورد في بعض الطرق: "ومن مس فرجه توضأ" (¬4)، وأيضاً فإنه مما (¬5) يمكن اللذة بمسه بخلاف الدبر. وقد اختلف في مس المرأة فرجها، فقيل: يجب عليها الوضوء، وقيل: لا يجب عليها، وقيل: إن ألطفت وجب عليها وإن لم تلطف لم يجب عليها. واختلف المتأخرون هل (¬6) المذهب على ثلاثة أقوال كما ذكرناها أو يرجع الجميع إلى (¬7) قول واحد؟ فمعنى قول من منع (¬8) الوجوب: إذا لم تُلْطِفْ، ومن أثبته: إذا ألطفت. فكأن طريقه من بني الأمر في اللمس على وجود اللذة وعدمها؛ هذا إن مسه من غير حائل، فإن مسه ¬

_ (¬1) أخرج أحمد في مسنده 2/ 333 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَب عَلَيْهِ الْوُضُوءُ". (¬2) في (م) حمديس بن إبراهيم. وهو: حمديس بن إبراهيم بن أبي محرز اللخمي، من أهل قفصة، نزل مصر وبها توفي، فقيه ثقة سمع من ابن عبدوس ومحمد بن عبد الحكم ويونس الصدفي، وله في الفقه كتاب مشهور في اختصار المدونة. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين. الديباج المذهب ج: 1/ 108، وشجرة النور ص: 71 (86). (¬3) في (ق) و (ص) يطلق. (¬4) أخرج النسائي في الغسل والتيمم (444) واللفظ له، وابن ماجه في الطهارة (481) عَنْ بُسْرَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَسَّ فَرْجَة فَلْيَتَوَضَّأْ". (¬5) في (ق) ما. (¬6) في (ق) من أصل. (¬7) في (ق) على. (¬8) في (ص) و (ق) و (م) نفى.

فصل (في حكم النوم)

دون حائل؛ فإن وَجَدَ اللَّذة توضأ، وإن فقدها- والحائل يمنع وصول شيء من اليد إلى الذكر- لم يجب عليه الوضوء. فإن مسه ثم صلى قبل أن يتوضأ فأربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا إعادة عليه، والثاني: أنه يعيد في الوقت، والثالث: أنه يعيد وإن خرج الوقت، والرابع: أنه يعيد بعد اليومين والثلاثة، فإن طال لم يعد. والإعادة على ترك مراعاة الخلاف، وإسقاط الإعادة على مراعاته، وكذلك الإعادة في الوقت. وأما من قال يعيد بعد اليومين والثلاثة دون أن يطول فهو أضعف الأقوال، لكنه رأى مراعاة الخلاف إلا أن تطول الأيام، فيكون كحكم استقر ومرَّ عليه دهر فلا ينتقض. ... فصل (في حكم النوم) وأما النوم فالمشهور من المذهب أنه سبب للحديث وليس بحدث في نفسه، والشاذ أنه حدث، وهو قول ابن القاسم (¬1) في كتاب ابن القصار (¬2) ورواية (¬3) أبي الفرج عن مالك. ويعتمد قائل ذلك على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬4) أن المراد بذلك إذا قمتم من النوم. وعمومه يقتضي النوم الكثير واليسير، ووقع في بعض الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ¬

_ (¬1) هو: عبد الرحمن بن القاسم أبو عبد الله العتقي مولاهم المصري صاحب مالك الإمام عالم الديار المصرية ومفتيها. روى عن مالك وعبد الرحمن بن شريح ونافع بن أبي نعيم المقرئ وبكر بن مضر وطائفة قليلة وعنه أصبغ والحارث بن مسكين وسحنون وعيسى بن مثرود ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وآخرون .. وقيل إن مالكاً سئل عنه وعن ابن وهب فقال: "ابن وهب رجل عالم وابن القاسم فقيه" سير أعلام النبلاء 9/ 120 - 122 وطبقات الفقهاء ص: 155، وشجرة النور ص: 58 (24). (¬2) في (م) و (ق) رواية. (¬3) في (م) و (ق) رواية. (¬4) المائدة: 6.

موجبات الوضوء فعدَّ البول والغائط والنوم (¬1). وعطف النوم على هذين يقتضي على هذا كونه حدثاً بمنزلتهما. لكن اختلف الأصوليون في العطف هل يفيد التشريك في المعنى كما يفيده في الإعراب أم لا يفيده؟ وإنما تكون فيه حجة متى قلنا بأنه يفيده. على أن الحديث لم يثبت. ومعتمد (¬2) المشهور من المذهب على أن النوم يذهب التمييز، ويمكن معه خروج الريح من غير أن يعلم، فإذا أمكن ذلك وجب (¬3) الوضوء، وإليه الإشارة بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "العينان وكاء السَّهِ فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" (¬4). وهذا الحديث وإن لم يخرجه أهل الصحاح فقد اشتهر وهو منبّه على العلة، فإذا ثبت ذلك فيكون النوم ينقض على صفة دون صفة. وما هي الصفة؟ وقع التحديد في المذهب بطريقتين؛ إحداهما: [أنه] (¬5) لا يخلو من أن يكون طويلاً ثقيلاً فينقض الوضوء من غير خلاف، أو قصيراً خفيفاً فلا ينقضه، أو قصيراً ثقيلاً ففيه قولان، أو طويلاً خفيفاً ففيه قولان أيضاً. وحكى أبو الحسن اللخمي في هذه الصورة استحباب الوضوء، (¬6) والقولان فيهما كما ذكرناه (¬7). ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى حديث صفوان بن عسال قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأَمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَراً أَنْ لاَ نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّام وَلَيَاليهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ من غَائِطِ وَبَوْلِ وَنَوْم" أخرجه الترمذي في الطهارة (96) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (127) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثْ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬2) في (ر) و (ق) ويعتمد. (¬3) في (ص) وجب ذلك. (¬4) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ إلا عند الدارمي بلفظ أقرب عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّمَا الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإذَا نَامَتْ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". وأخرجه بألفاظ قريبة أبو داود في الطهارة 175، وابن ماجه في الطهارة 470، وأحمد في مسنده 4/ 96. (¬5) ساقط من (ر) و (ص). (¬6) التبصرة: 17. (¬7) في (ق) و (م) والقولان فيما ذكرنا.

(وجوب الوضوء بالجنون والسكر والإغماء)

وسبب الخلاف في الصورتين البناء على من أيقن بالوضوء وشك في الحدث، وفيه خلاف في المذهب؛ فمن أوجب الوضوء بالشك أوجبه في هاتين الصورتين لأن القصير (¬1) يقتضي عدم خروج الحدث إلا أن يشعر به والثقيل يقتضي خروجه، فقد اجتمع هاهنا [الأمران] (¬2)؛ موجب ومسقط. فكانا يتحرى إن شكا (¬3)، وكذلك في الصورة الثانية. ومن أسقط الوضوء عن الشاك أسقطه في الصورتين. والطريقة الثانية الالتفات إلى الهيئات فإن كانت هيئة النائم تقتضي خروج الحدث والطول- كالساجد- وجب (¬4) الوضوء، وإن كانت لا تقتضي ذلك كالقائم والمحتبي (¬5) غير مستند لم يجب [الوضوء] (¬6)، وإن كانت تقتضي (¬7) خروج الحدث ولا تقتضي (¬8) الطول كالراكع ففيه قولان: وإن كانت تقتضي الطول دون خروج الحدث كالجالس المستند (¬9) ففيه قولان، وهذا كالأول. ولكن (¬10) هذه الطريقة أوفق بمقتضى (¬11) الروايات. (وجوب الوضوء بالجنون والسكر والإغماء) وأما فقدان العقل بالجنون والسكر والإغماء فيوجب الوضوء على أي حالة كان، لأنه يقتضي عدم العلم بخروج (¬12) الحدث. وأراد أبو الحسن ¬

_ (¬1) في (ر) و (ص) القصر. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ر) فكان يتم إن شكا وفي (م) و (ص) غير مقروء. (¬4) في (م) وجوب. (¬5) في (ص) لم تجب كالقائم والمحتبي. (¬6) ساقط من (م) و (ق). (¬7) في (ق) يقتضي. (¬8) في (ق) يقتضي. (¬9) في (م) مستند. (¬10) في (م) لكن. (¬11) في (ر) لمقتضاء. (¬12) في (م) لأنه يقتضي خروج.

(هل تنقض الطهارة الكبرى بفقدان العقل؟)

اللخمي أن يجعل فيه خلافاً إذا لم يطل، وعول في ذلك على كلام القاضي أبي محمد (¬1) أن ذلك سبب حدث (¬2). وهذا الذي قاله ليس بشيء، لأن القاضي لما قال إنه سبب للحديث [ساوى بين قليله وكثيره في نقض الوضوء، وفرق في النوم. وإنما أراد به] (¬3) [أنه سبب حدث] (¬4) لكنه سبب يقتضيه ولا بد (¬5)، وذلك حقيقة السببية (¬6). (هل تنقض الطهارة الكبرى بفقدان العقل؟) وهل يقتضي فقدان العقل نقض الطهارة الكبرى؟ المشهور أنه لا يقتضيه. ورأى ابن حبيب أنه يقتضيه في حق المصروع، لأنه رأى أن الغالب خروج المني من أهل هذه العلة متى صرعوا. وهذا إنما يعول فيه (¬7) على وجدان المني بعد الإفاقة وعدم وجدانه. والمشهور أيضاً من المذهب أن المني متى عري (¬8) عن اللذة لم يوجب غسلاً على ما نفصله [بعد] (¬9). ... فصل (حكم لمس المرأة) ويلحق اللمس بسبب الأحداث، وإن أخره في الكتاب. وهو (¬10) يوجب عند مالك رحمه الله - إذا كان غير عار من اللذة- نقض الوضوء. ¬

_ (¬1) في (ص) القاضي أبي محمد عبد الرهاب. (¬2) التبصرة: 17. (¬3) ساقط من (م) و (ق) و (ص). (¬4) ساقط من (ص). (¬5) في (ق) و (ر) و (م) فلا بد. (¬6) في (ق) التشبيه (م) الشبيه. (¬7) في (ص) إنما يعدل فيه إلى وجدان. (¬8) في (ص) ما عرى. (¬9) ساقط من (م). (¬10) في (ر) وهل.

(حكم القبلة)

والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1). وتفصيل المذهب (¬2) أن اللمس لا يخلو من أربع صور؛ إحداها: أن يقصد به اللذة وتوجد، فيجب الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن يجد ولا يقصد، فكذلك أيضًا (¬3) يجب الوضوء. والثالثة: ألا يقصد ولا يجد، فلا يجب الوضوء. والرابعة: أن يقصد ولا يجد فيها، هنا مقتضى الروايات وجوب الوضوء. والأشياخ يحكون عن المذهب قولين: الإيجاب والإسقاط، وإنما يعولون في ذلك على الخلاف في الوضوء هل يرفض (¬4) بالنية، وفي المذهب في ذلك قولان. وهذا الذي يعولون عليه (¬5) ليس بشيء، لأن اللمس هاهنا قد وجد منه فعلاً (¬6) بخلاف الرفض بمجرد النية من غير فعل. وهذا التفصيل المتقدم في حق اللامس، وأما الملموس فلا تفصيل فيه، وإنما يقال إن وجد اللذة توضأ وإن لم يجد فلا وضوء عليه. (حكم القبلة) وكذلك أيضاً لا تفصيل أيضاً في القبلة على الفم على المشهور من المذهب، بل توجب الوضوء إذا كانت فيمن توجد اللذة بقبلته على الإطلاق. وهذا لأن الغالب وجود اللذة بها، فإن شذت نادرة فلا يلتفت إليها. وقيل: هي بمنزلة اللمس؛ فإن فقدت اللذة والقصد إليها لم ينتقض الوضوء، وهذا على الخلاف هل تراعى الصور النادرة أو يعطي الحكم للغالب. ومتى كان اللمس دون حائل فإنما يراعى فيه وجود اللذة [فيجب الوضوء] (¬7)، أو (¬8) فقدانها فلا يجب. ¬

_ (¬1) المائدة: 6. (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) في (م) فكذلك يوجب الوضوء أيضًا. (¬4) في (م) و (ق) هل يرتفض. (¬5) في (ق) و (م) عليه مطلوب لأن اللمس وفي (ص) عليه غير مطلوب. (¬6) في (ق) و (ر) فعل. (¬7) ساقط من (ق). (¬8) في (ق) و.

(حكم الإنعاظ)

(حكم الإنعاظ) وأما الإنعاظ (¬1) من غير مس ففيه قولان: أحدهما: إيجاب الوضوء، والثاني: إسقاطه. قال الأشياخ: وإنما ينبغي أن ينظر الإنسان إلى حاله، فإن اعتاد وجود المذي متى كان منه ذلك توضأ، وإن اعتاد فقده لم يتوضأ. (حكم اللذة من غير مس) وأما اللَّذة من غير لمس كمن يتذكر (¬2) فيتلذذ أو (¬3) ينظر فيتلذذ، فإن كان عن ذلك مذي وجب الوضوء، وإن لم يكن مذي ولا إنعاظ لم يجب الوضوء على المشهور والمعروف من المذهب. وأوجبه أبو العباس الإبياني (¬4) وابن بكير (¬5). وهذا لا أصل له وهو يؤدي إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة السمحة. ... ¬

_ (¬1) الإنعاظ من النعظ. يقال نَعَظَ الذكَرُ يَنْعَظُ نَعْظاً ونعَظاً ونُعُوظاً وأَنْعَظَ إذا قامَ وانْتَشَر، وأنعظ الرجل إذا اشتهى الجماع. والإنعاظ الشبق، وهو تشهي الجماع. انظر لسان العرب 7/ 464، والنهاية في غريب الحديث 5/ 81. (¬2) في (ر) تذكر. (¬3) في (ر): و. (¬4) هو: عبد الله أبو العباس بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق التونسي المعروف بالإبياني بكسر الهمزة وتشديد الباء ويقال صوابه تخفيفها التميمي، كان عالم إفريقية من غير مدافع من شيوخ أهل العلم وحفاظ مذهب مالك يميل إلى مذهب الشافعي كان أبو محمد بن أبي زيد إذا نزلت به نازلة مشكلة كتب بها إليه يبينها إليه وكان قليل الفتوى .. توفي سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة وقيل: سنة إحدى وستين وهو ابن مائة سنة غير أربعة أشهر الديباج المذهب: 136. (¬5) هو: محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي التميمي أبو بكير هو المشهور في اسمه ونسبه، وقيل: اسمه أحمد بن محمد بن بغدادي تفقه بإسماعيل القاضي كان فقيهاً جدلياً ولي القضاء. له كتاب في أحكام القرآن وكتاب الرضاع وكتاب مسائل الخلاف. توفي سنة خمس وثلاثمائة وسنه خمسون سنة، الديباج المذهب ص: 243، الشجرة: 78 (133).

فصل (في حكم من يعتريه المذي)

فصل (في حكم من يعتريه المذي) وأما الأحداث التي قدمنا تَعدادها فإن خرجت على وجه العادة أوجبت (¬1) الوضوء بإجماع، وإن خرجت على غير العادة كالمستنكح، فلا يخلو من كانت به تلك العلة من أن يقدر على رفعها كمن يعتريه المذي لطول عزبة (¬2) وهو قادر على إزالة العزبة بالتزويج أو التسري [أو لا يقدر على رفعها كمن لا يمكنه التزويج أو التسري] (¬3)، وكمن يعتريه ذلك لإبرَدة (¬4) أو يعتريه شيء من الأحداث ويلازمه، فإن قدر على إزالة (¬5) ذلك بالتداوي كما قلنا ففيه قولان: المشهور إيجاب الوضوء، لأن قدرته على الرفع تلحق ذلك بالمعتاد، والشاذ إسقاط الوضوء لأنه خارج على غير العادة فأشبه من لا يقدر. وقد يقال هاهنا أن هذا على الخلاف فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ وإن كان لا يقدر على الرفع فلا يخلو من أن يلازمه ذلك ولا يفارقه، أو يفارقه في بعض الأوقات (¬6) ويلازمه في بعضها؛ فإن لازم ولم يفارق فلا يجب الوضوء منه ولا يستحب، لأنه لا معنى للوضوء وهو يسيل (¬7) معه بعد (¬8) فراغه، وإن كان يلازم ويفارق فلا يخلو من ثلاث صور؛ إحداها: أن تكون ملازمته أكثر، فهذا يستحب منه الوضوء ولا يجب. والثانية: أن تكون مفارقته أكثر، فهذا فيه قولان: المشهور إيجاب الوضوء، والشاذ -وهو رأي جماعة من البغداديين- إسقاطه، وهو خلاف في حصول الحرج بذلك. فمن رآه حاصلا أسقطه، ومن رآه غير حاصل لم يسقط (¬9) بذلك الوجوب. ¬

_ (¬1) في (ق) أوجب و (م) وجب. (¬2) جاء في لسان العرب 1/ 595 امرأَة عَزَبةٌ وعَزَبٌ: لا زَوْجَ لها. (¬3) ساقط من (ق) و (م). (¬4) الإِبْرِدَةُ: بَرْدٌ في الجوف. انظر لسان العرب 3/ 83. (¬5) في (ص) رفع. (¬6) في (ص) و (ق) و (م) أحيان. (¬7) في (ق) و (ص) إذ هو يسيل، وفي (م) إذ هو يسير. (¬8) في (ر): وبعد. (¬9) في (ر) يسقطه.

والثالثة: أن تكون ملازمته ومفارقته سيان (¬1)، فهاهنا قولان؛ أحدهما: الإيجاب (¬2)، وهو (¬3) شهادة [بأن الحرج غير (¬4) حاصل، والثاني: الإسقاط وهو شهادة] (¬5) بحصول الحرج. والبغداديون يرون أن هذه الأحداث إنما توجب متى خرجت على العادة، فإن خرجت على غير العادة (¬6) وصارت علة فلا يتعلق عليها حكم على كل الأحوال. واختلف في إسقاط (¬7) الوضوء هل يكون ذلك رخصة للإنسان في نفسه لا يتعداه، أو سقوط (¬8) ذلك يجعل الخارج كالعدم؟ فيه قولان، وعليه يختلف هل يجوز له الإمامة لغيره وكذلك الحكم في من كانت تنفصل (¬9) عنه النجاسة لا يقدر على الاحتراز منها، كمن به قروح؛ ففيه قولان (¬10): هل تجوز له الإمامة أو لا؟ وقد أخبر عمر رضي الله عنه أنه يجد ذلك في الصلاة فلا ينصرف حتى يقضي صلاته، وهذا يشعر بكونه مستنكحاً. وقد كان إماماً، ولم يذكر أنه ترك الإمامة بسبب ذلك. وهذا يشهد لأحد القولين. وفي المدونة عنه هذا وعنه الأمر بغسله والوضوء منه (¬11) وتأول بعض الأشياخ على أن إخباره [عنه] (¬12) على حالتين مختلفتين، وهذا لا يفتقر إليه لأنه إنما أخبر في أحد الأثرين عن حالته (¬13)، وأمر في الأثر الثاني غيره. فتكلم على حكم نفسه في الاستنكاح وعلى حكم غيره إذا لم ¬

_ (¬1) في (م) سنين. (¬2) في (ق) الوجوب. (¬3) في (ق) وهي. (¬4) ساقط من (ص). (¬5) ساقط من (م) و (ق). (¬6) في (ص) و (م) فإن خالفت العادة. (¬7) في (ص) إذا سقط. (¬8) في (ص) أو بسقوط. (¬9) في (م) في من كانت عادته تنفصل:. (¬10) في (م) و (ق) أحدهما. (¬11) المدونة 1/ 11. (¬12) ساقط من (ص) و (م). (¬13) في (م) حاله.

يكن مستنكحًا. وقد تقدم القولان في الردة هل تنقض الوضوء أم لا؟ وسبب الخلاف اختلاف آيتين؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬1)، وهذا يقتضي الإحباط [بنفس الارتداد] (¬2)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (¬3)، فقد اشترط الوفاة على الارتداد. وهذا يقتضي أنه لا يكون الإحباط (¬4) بنفس الردة. ويعتذر هؤلاء عن الآية الأخرى (¬5) بأن المخاطب بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولما كانت معرفته أكثر طرقًا (¬6) كانت عقوبته لو تصورت الردة أشدّ. واعتذر الأولون عن هذا بأن المخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا تصح عليه الردة. وهكذا اختلف في حكم المرتد (¬7) إذا عاد إلى الإسلام هل يعود كأنه لم يزل مسلماً، أو يكون كمبتدئ الإسلام الآن؟ وأما الاختلاف في الرفض فسببه أن النية فرض في الوضوء على المشهور من المذهب، لكن هل المقصود بها تصحيح الفعل (¬8) وقد حصل (¬9) ذلك، أو تكون كجزء من أجزاء الوضوء يجب استصحاب حكمها ما دام وضوؤه (¬10) باقيًا؟ فإذا أتى بما يناقضها (¬11) كان ذلك كبطلان جزء من أجزاء الوضوء، وبطلان جزء منه كبطلان جميعه. ... ¬

_ (¬1) الزمر: 65. (¬2) ساقط من (ص) و (ق) و (م). (¬3) البقرة: 217. (¬4) في (ق) و (م) و (ص) الحبوط. (¬5) في (م) الآخرة. (¬6) كذا في (ر) و (ق) و (ص)، وفي (م) طرفاً. (¬7) في (ر) أحكام الردة. (¬8) في (م) و (ق) العقل. (¬9) في (ق) يحصل. (¬10) في (م) و (ق) فرضه. (¬11) في (ص) ينقضها.

([فصل] هل يكون المذي بمنزلة البول والودي؟)

([فصل] (¬1) هل يكون المذي بمنزلة البول والودي؟) وقد اختلف في المذي هل يكون بمنزلة البول والودي، أو يختص بأحكام ينفرد بها؟ وإذا قلنا إنه بمنزلتهما فلا تفريع، وإذا قلنا إنه يخالفهما ففي أي شيء تقع المخالفة؟ المشهور أنه لا يجوز (¬2) فيه الاستجمار بالحجارة، لأنه في الغالب إنما يأتي مستجلبًا بخلاف البول والغائط فإنهما (¬3) يخرجان بطبع (¬4) الغذاء. والمشهور أيضًا من مذهب المغاربة (¬5) من المالكية أنه يغسل منه جميع الذكر، ومذهب البغداديين أنه يجزي منه غسل موضع الأذى. وسبب الخلاف [ما ورد] (¬6) في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْ ذَكَرَكَ" (¬7)، والذكر له أول وآخر. وبين الأصوليين خلاف في الأسماء هل تحمل على الأوائل أو على الأواخر؟ فمن حملها على الأوائل قال يُقصر الغسل على مخرج الأذى، ومن حملها على الأواخر قال بغسل جميعه. (حكم من صلى وقد غسل ذكره بلا نية) واختلف القائلون بغسل جميعه هل يفتقر إلى نية أم لا؟ وسبب الخلاف هل غسل جميعه تعبد، أو هي عبادة تعدت محل سببها فأشبهت (¬8) ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) لا يجتزي. (¬3) في (ر) فإنما. (¬4) في (ص) بسبب. (¬5) يقصد بالمغاربة، علماء المدرسة المالكية بالغرب الإسلامي كابن أبي زيد القيرواني والقابسي وابن الباد والباجي واللخمي وابن محرز وابن عبد البر وابن رشد وغيرهم. انظر شرح الخرشي على خليل 1/ 48 ومواهب الجليل 1/ 40. (¬6) ساقط من (م). (¬7) أخرجه البخاري في الغسل (290)، ومسلم في الحيض (306). (¬8) في (ر) عبادة محضة تحل سببها فأشبهت. وفي (ق) عبادة محضة فأشبه.

الوضوء والغسل في افتقارهما إلى النية؟ أو غسله لتنقطع مادة المذي فلا يفتقر إلى نية؟ واختلف القائلون بالافتقار إلى النية لو صلى وقد غسله بلا نية؛ هل يعيد الصلاة أم لا؟ ومقتضى إيجاب النية أن يعيد الصلاة، وترك الإعادة مراعاة الخلاف. واستقرأ بعض المتأخرين من المدونة أنه يغسل الذكر من المذي عند إرادة الوضوء، فإن غسله قبل ذلك لم يجزه وعوَّل في ذلك على قوله في المدونة: ولا يلزم غسل الأنثيين عند الوضوء، إلا أن يخشى أن يكون أصابهما شيء، وإنما عليه غسل ذكره (¬1). فعوَّل على هذا الكلام ظانًا أن مراده إنما عليه غسل ذكره إذا أراد الوضوء. وهذا الاستقراء فيه بُعْدٌ، لأن مراده أنه لا يغسل الأنثيين وإنما يغسل الذكر خاصة. وقوله: إلا أن يخشى أن يكون أصابهما شيء، يقتضي أنهما مع الشك هل أصاب الجسد نجاسة (¬2) فيغسله، بخلاف الثوب فإن الثوب يجزي فيه النضح. وفي الجسد قولان: أحدهما: إجزاء النضح، والثاني: وجوب الغسل. ونقل بعض المتأخرين (¬3) ما في المدونة على تحقيق الإصابة فقال إلا أن يصيبهما (¬4) شيء. والمذي ماء إلى الصفرة أميل بين الدقة (¬5) والثخانة يخرج عند اللذة الصغرى كالقبلة والمباشرة. والودي ماء إلى البياض أميل وفيه ثخانة يخرج عقيب (¬6) البول، فقد يعتريه من كثرة البردة (¬7)، أو من حصار (¬8) عن النكاح. ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 12. (¬2) في (ق) نجاسة أم لا يغسله، وفي (ر) نجاسة أم لا فيغسله. (¬3) في (ر) المختصرين. (¬4) في (ق) و (م) يصيبها. (¬5) في (ق) الرقة. (¬6) في (ص) عقب. (¬7) في (ص) ويعتري من إبردة. (¬8) بياض في (ق) و (ر)، وفي (ص) حمام. ولعل الصواب "حصار" كما أثبته في المتن.

فصل (في حكم الشاك في الوضوء)

والمني الموجب للغسل ثخين أبيض في الغالب يخرج عند اللذة الكبرى ورائحته كرائحة الطلع وكرائحة العجين. ... فصل (في حكم الشاك في الوضوء) والشاك في الوضوء لا يخلو شكه من أن يكون في جملة الوضوء أو في بعضه، ولا يخلو من أن يكون سالم الخاطر أو مُوَسْوَسًا (¬1)؛ فإن شك في الجملة وهو سالم الخاطر فلا يخلو [شكه] (¬2) من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يوقن بالحدث ويشك هل توضأ بعده فيجب عليه الوضوء بإجماع. والثاني: أن يوقن بالوضوء ويشك في الحدث، فهذا فيه قولان: أحدهما: الإيجاب للوضوء، والثاني: استحبابه. [والقسم الثالث أن يشك في الحدث والوضوء جميعًا، فهذا يطرح ما شك فيه ويبني على ما كان حاله قبل الشك؛ فإن كان محدثًا لزمه الوضوء، وإن (¬3) كان متوضئًا كان كالقسم الثاني] (¬4). وحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب خمسة أقوال فيمن أيقن بالوضوء وشكَّ في الحدث: أحدها: وجوب الوضوء، والثاني: إسقاطه. والثالث: استحبابه، والرابع: وجوبه إلا أن يكون في صلاة، والخامس التفرقة بين أن يستند شكه إلى سبب متقدم أو سبب في الحال؛ فإن استند شكه إلى سبب متقدم [كمن شك هل كان أحدث قبل وقته فيجب عليه الوضوء، وإن استند إلى سبب في الوقت] (¬5) كمن شك هل خرج منه ريح أم لا فإنه يعتبر هل سمع صوتاً أو وجد ريحاً، فإن لم ير أثراً من ذلك فلا وضوء عليه. وهذا لا يوجد في المذهب على ما حكاه أبو الحسن اللخمي من ¬

_ (¬1) في (ق) مشوشًا. (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) التبصرة: 20. (¬4) ساقط من (ق) و (م). (¬5) ساقط من (ص).

فصل (في طهارة سؤر الحائض والجنب)

الخمسة الأقوال. وإنما في المدونة القولان (¬1) خاصة، ومن قال بإسقاط الوضوء لا شك أنه يستحبه، ومن يفرق بين الصلاة وغيرها فإنما يبني على أنه مستحب فلا يقطع الصلاة بسببه. وسبب القولين استصحاب حالتين: أحدهما: وجوب الصلاة في ذمته فلا يخرج عنها إلا بوضوء متيقن، والثاني: وجود الوضوء فلا ينتقض إلا بتيقن الزوال وإن شك في البعض. والأصل أنه لم يقع فلا يبرأ (¬2) إلا بكماله، فتجب عليه الإعادة، وهذا كله إذا لم يكن مُوَسْوَساً (¬3). فإن كان مُوَسْوَساً فانه يبني على أول خاطره، فإن سبق إلى نفسه أنه أكمل فلا يعيد، وإن سبق إلى نفسه أنه لم يكمل أعاد، لأنه في الخاطر الأول مشابه للعقلاء (¬4)، وفي الثاني مفارق لهم. ... فصل (في طهارة سؤر الحائض والجنب) وقد تقدم أن كل حي (¬5) طاهر، فسؤر الحائض والجنب طاهر. وقد تقدم حكم من عادته يستعمل النجاسة، والنصراني من ذلك القبيل. ... فصل (في حكم ترتيب الوضوء) وقد تقدم أن ترتيب الوضوء سنة وهو المشهور، وفي المذهب قولان آخران: أحدهما: أنه فرض، والثاني: أنه يجب مع الذكر ويسقط مع ¬

_ (¬1) في (ق) و (ر) في المذهب قولان. (¬2) في (ق) و (م) فلا يبرأ منه. (¬3) في (م) مشوشًا. (¬4) في (ص) مشابه العقلاء و (م) و (ر) مشابهًا للعقلاء. (¬5) في (ص) حيوان.

النسيان. فإن قلنا بالفرضية فمن نكس بطل وضوءه ولا تجزيه الصلاة بالوضوء المنكس، وإن فرقنا بين العمد والنسيان أجزأه مع النسيان دون العمد، وإن بنينا على المشهور من المذهب فإن صلى أجزأته صلاته. وهل (¬1) يعيد الوضوء؟ إن كان عامداً (¬2) أعاده من أوله ليأتي بالسنة على وجهها، وإن كان ناسياً فلا يخلو أن يكون بحضرة الماء أو بعد أن تباعد عنه؛ فإن كان بحضرة (¬3) الماء أعاد ما نكس وما يليه، وإن تباعد وكان مثلا (¬4) غسل يديه [قبل وجهه] (¬5) ثم مسح برأسه وغسل رجليه فمذهب ابن القاسم أنه يعيد غسل يديه خاصة، ومذهب ابن حبيب أنه يعيد اليدين وما بعدهما (¬6). وقد اعترض بعض الأشياخ قول ابن القاسم ورأوا أنه لا يحصل بذلك الترتيب بل يبقى على فساده (¬7)؛ لأنه إذا أعاد اليدين خاصة صارتا واقعتين بين الرأس والرجلين وذلك فساد للترتيب. وإنما أوتي على هؤلاء من قبل أنهم ظنوا إعادة اليدين للترتيب [الذي] (¬8) بينهما وبين سائر الأعضاء، وإعادتهما هاهنا إنما هي لتقع بعد الوجه، وإلا فقد حصل الترتيب بينهما وبين الرأس والرجلين بالغسل (¬9) الأول، وإنما فساد الترتيب بينهما وبين الوجه كما قلناه، فإذا أعادهما (¬10) ذهب ذلك الفساد. ... ¬

_ (¬1) في (ق) وهو. (¬2) في (ر) عمداً. (¬3) في (ص) و (ق) و (م) يقرب. (¬4) في (ق) تباعد كان مثل من غسل قبل وجهه. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) انظر النوادر والزيادات 1/ 32. (¬7) في (ر): فساد. (¬8) ساقط من (ص) و (م) و (ق). (¬9) في (ق) لا للغسل وفي (م) للغسل. (¬10) في (ق) و (م) أعدناه و (ص) أعيد.

فصل (في حكم المضمضة والاستنشاق)

فصل (في حكم المضمضة والاستنشاق) وقد قدمنا أن المضمضة والاستنشاق سنتان، فمن تركهما لم يبطل وضوؤه ولا صلاته؛ هذا إذا تركهما ناسيًا، فإن تركهما متعمدًا فينبغي أن يختلف في (¬1) ذلك على الخلاف فيمن ترك السنن متعمدا. ولا خلاف أنه لا يعيد (¬2) الصلاة بعد الوقت. وإنما وقع الخلاف في المذهب في الإعادة (¬3) في الوقت. ويمكن أن يقال ليس يلزم إذا قيل في سنة تجب الإعادة بعد الوقت أن يلزم (¬4) ذلك في كل سنة، لأن السنن متباينة الترتيب في التأكيد. وحقيقة ما يعاد من السنن المتروكة في الوضوء وما لا يعاد أن كل سنة متى تركت ولم يؤت [بها] (¬5) في محلها بعوض فإنها تعاد (¬6)؛ وهذا كالمضمضة (¬7) ومسح داخل الأذنين، والترتيب. وكل سنة عوضت (¬8) في محلها كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وكمسح الرأس عائدًا من المؤخر إلى المقدم فلا يعاد، لأن محله قد حصل فيه الغسل والمسح. وتَكرار (¬9) المضمضة والاستنشاق على ما قدمناه في تكرار المغسول. وله أن يجمعهما في غرفة واحدة أو يفرقهما فيأتي بكل واحد منهما بغرفة. (حكم ترك مسح داخل الأذنين) وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنتان؛ فمن ترك مسحهما لم تبطل طهارته (¬10) على ما قدمناه في المضمضة والاستنشاق، ويعيدهما لما ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) فيه. (¬2) في (ص) أنه يعيد. (¬3) في (ق) و (م) الاعاد. (¬4) في (ص) إذ يلزم، و (ق) و (م) يلزم. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) فإنها لا تعاد وفي (م) فإنه تعاد. (¬7) في (ص) كالمضمضة والاستنشاق. (¬8) في (ر): عرضت. (¬9) في (م) وتكون. (¬10) في (ص) صلاته.

فصل (في حكم ترك مسح بعض الرأس)

يستقبل. وأما خارج الأذنين ففيهما قولان: أحدهما: أن مسحهما فرض، والثاني: أنه سنة. وفي الحديث: "الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ" (¬1)، ويحتمل أن يريد بذلك أنهما تمسحان كمسحه أو هما مفروضتان كفرضيته (¬2). والمعول على كونهما سنة على قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬3). والأذنان لا تنطلق عليهما التسمية حقيقة، وأما هذا الحديث فلم يثبت. وإذا قلنا إنهما فرض؛ فإن تركا فالمشهور صحة الصلاة لأنهما ممسوحتان من الرأس، والممسوح مبني على التخفيف وليسارتهما، وقال ابن الجلاب: القياس يوجب الإعادة. وكأنه يوجب تعميم الرأس بالمسح، وإن تركهما كان كتارك [مسح] (¬4) بعض رأسه. ويجدد لهما الماء، فإن لم يجدِّد فلا يعيد كما قدمناه. وفي المذهب قول أنه لا يجدد. ... فصل (في حكم ترك مسح بعض الرأس) وفي تارك مسح بعض رأسه أربعة أقوال: المشهور: أنه لا يجزيه، والثاني: أنه يجزيه إن مسح الثلثين، قاله محمد ابن مسلمة (¬5)، والثالث: أنه ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الطهارة (37)، وأبو داود في الطهارة (134)، وابن ماجه في الطهارة (343) وقَالَ الترمذي: قَالَ قُتَيْبَةُ: قَالَ حَمَّادٌ: لاَ أَدْرِي هَذَا من قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وقال أبو داود: قَالَ حَمَّادٌ: لاَ أَدْرِي هُذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو مِنْ أبِي أُمَامَةَ يَعْني قِصةَ الأُذُنَيْنِ، وصححه الألباني في السلسلة 36. (¬2) في (ص) كفرضه وفي (ق) كفريضته. (¬3) المائدة: 6. (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) هو: محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل أبو هشام [وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام] روى محمد هذا عن مالك وتفقه عنده وكان أحد فقهاء المدينة ومن أفقه أصحاب مالك، له كتب فقه أخذت عنه. وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع. توفي سنة ست ومائتين. الديباج المذهب ص: 227 وشجرة النور ص: 56 (10) وفيها سلمة وهو خطأ.

فصل (حكم الموالاة)

يجزيه إن مسح الثلث، قاله أبو الفرج، والرابع: أنه يجزيه إن مسح مقدم رأسه خاصة، ولا يجزيه في غيره، رواه أشهب عن مالك. وكان وجوب مسح الجميع [يقتضي] (¬1) ألا يجزيه البعض، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2) إذا قلنا ليس المراد (¬3) بذلك البعض بل الجميع، وإن قلنا المراد البعض فينبغي أن تجزي الشعرة الواحدة كما قال الشافعي. لكن هذه (¬4) الأقوال التي في المذهب بناءً على أن مبنى المسح على التخفيف فأكثره يجزي عن أقله. وفي المذهب (¬5) قولان في الثلث هل هو في حد الكثير أو في حدِّ القليل (¬6). وأما رواية أشهب فلما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَسَحَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ" (¬7)، فقصره (¬8) على ما ورد. ... فصل (حكم الموالاة) وقد قدمنا أن الموالاة فرض مع الذكر. والموالاة أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق، وفي المذهب في ذلك خمسة أقوال: أحدها: وجوب الموالاة على الإطلاق، والثاني: إسقاطها على الإطلاق، ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ص). (¬2) المائدة: 6. (¬3) في (ق) أن المراد. (¬4) في (ق) و (م) لأن هذه وفي (ص) لكنه ذهب. (¬5) في (م) المدونة. (¬6) في (م) اليسير. (¬7) أخرجه أبو داود في الطهارة (147)، وابن ماجه في الطهارة (5649، والحاكم في المستدرك (1/ 275) كلهم بلفظ قريب. ولفظه عند أبي داود: "عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيهِ عِمَامَةْ قِطرِيَّةٌ فَأدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ"، وقال الحاكم: هذا الحديث وإن لم يكن إسناده من شرط الكتاب فإن فيه لفظة غريبة وهي أنه مسح على بعض الرأس ولم يمسح على عمامته. (¬8) في (ص) مسح على الناصية فقضى.

والثالث: التفرقة بين أن يتركها لعذر أو لغير عذر (¬1)، والرابع: أنها تؤثر (¬2) بين المغسولات دون الممسوحات من غير مراعاة الممسوح ما كان، والخامس: أنها تؤثر بين المغسولات والممسوحات إذا كانت الممسوحات بدلاً كمسح الخفين والمسح في التيمم، ولا تؤثر إذا كان الممسوح أصلاً كالرأس، وإنما يجري على قانون الأصول. وأما القول بوجوب الموالاة وبإسقاطها، بالتفرقة (¬3) بين العذر وغيره. وسبب الخلاف بين الوجوب والسقوط مبني على خلاف الأصوليين في الأمر هل يقتضي الفور أو للمكلف (¬4) التراخي؛ فإن قلنا إنه يقتضي الفور وجبت الموالاة، وإن قلنا إنه يقتضي التراخي لم تجب. وكذلك أيضًا وضوؤه (¬5) - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬6) وقد والى؛ فإن كانت الإشارة إلى الفعل وصفته وجبت الموالاة، وإن كانت الإشارة إلى مجرد الفعل لم تجب. وعلى هذا أيضاً يجري الخلاف في الترتيب لأنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". وأما الالتفات إلى جهة المعنى فإن غلبنا على الوضوء حكم النظافة لم تجب الموالاة، وإن غلبنا عليه حكم العبادات أوجبنا الموالاة كالصلاة. وأما ¬

_ (¬1) في (ق) لعمد أو لعذر. (¬2) في (ر) تؤثر التفرقة. (¬3) في (م) "أو إسقاطها أو بالتفرقة"، وفي (ص) "أو بإسقاطها وبالتفرقة". والمعنى لم يتضح لي من هذا. (¬4) في (م) فيه. (¬5) في (م) و (ق) وصفه. (¬6) أخرجه ابن ماجه في الطهارة (419) بلفظ قريب، ونصه عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: "تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَن لاَ يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَلَاة اِلاَّ بِهِ" ثُمَّ تَوَضَّأَ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ الْقَدْرِ مِن الْوُضُوءِ"، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلاَثاً وَقَالَ: "هَذَا أَسْبَغُ الْوُضُوءِ وَهُوَ وُضُوئِي وَوُضُوءُ خَلِيلِ اللهِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ قالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ أَشهَدُ أن لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشهَدُ أَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ فُتِحَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ من أَيِّهّا شَاءَ".

(حكم مسح الرأس وعليه حائل)

التفرقة بين العذر وغيره فلأنه يرى أن باب الموالاة [من] (¬1) باب المنهيات، والمنهيات يُتَفَرَّقُ (¬2) بين عمدها ونسيانها قياساً على الكلام في الصلاة فإنه يفرق بين عمده وسهوه. وأما التفرقة بين الممسوح والمغسول فلأن الممسوح مبناه على التخفيف وقياس هذا يقتضي أنه لا يفسد بترك الموالاة. ومن فرق بين أن يكون الممسوح أصلاً أو الممسوح بدلاً، فلأن الممسوح إذا كان بدلاً يعطى (¬3) حكم أصله وهو المغسول. وإذا فرقنا بين العذر وغيره فما هو العذر؟ لا يخلو أن يكون نسياناً أو عجز ماء؛ فأما النسيان فلا خلاف (¬4) في المذهب المشهور أنه يعذر به، وأما عجز الماء فإن ابتدأ بما ظن أنه كفايته فعجز عنه ففيه قولان: أحدهما: أنه يعذر بذلك، والآخر: أنه لا يعذر به. وهذا على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ فإن ابتدأ بماء كاف بلا شك فغصب (¬5) أو أهريق له، فالصحيح أن يعذر به. وفي المذهب قول لبعض المتأخرين أنه لا يعذر به. وهذا أولى بالعذر من الناسي لأن الناسي معه بعض تفريط وهذا غير مفرط. (حكم مسح الرأس وعليه حائل) ولا يجزي من مسح رأسه على (¬6) حائل كالمرأة تمسح على خمارها أو على حناء، أو رجل مسح على عمامته. فإن وقع ذلك ثم صلى بذلك الوضوء لم تصح الصلاة. وهل يُبطل الوضوء؟ إن (¬7) فعل ذلك عمداً [أبطل الوضوء] (¬8) على ¬

_ (¬1) في (م) وساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (م) و (ص) يفترق. (¬3) في (م) (ق) لا يعطي. (¬4) في (ص) فالخلاف. (¬5) في (ص) و (ر) فغصبه. (¬6) في (ر) و (ق) و (ص) دون. (¬7) في (ر) ذلك إن. (¬8) ساقط من (ر).

المشهور من المذهب (¬1)، [وإن فعل ذلك سهواً لم يبطل الوضوء] (¬2)، وإن فعل ذلك جهلاً ففي المذهب قولان في الجاهل؛ هل حكمه حكم المتعمد أو حكم الناسي؟ وقد قال مالك في الكتاب في الماسحة على خمارها أنها تعيد الوضوء والصلاة (¬3). قالوا وإنما أعادت الوضوء لأنها جاهلة، وهذا أحد القولين اللذين ذكرناهما. وفي المدونة في من صلى وذكر في الصلاة أنه نسي مسح رأسه فلا يجزيه أن يمسح رأسه بما في لحيته من بلل (¬4). وهذا لا شك (¬5) أنه يقطع الصلاة لأنه صلي بوضوء ناقص، وإذا قطع فإن كان ليس في لحيته من الماء (¬6) ما يكفي لمسح رأسه فلا شك أنه يطلب الماء لذلك، وإن كان فيها من البلل ما يكفي لمسحه فهل يمسح بذلك أم لا؟ أما إن كان بحضرة ماء فإنه لا يمسح بذلك. وأما إن بعد عن الماء فيجري على الخلاف في الوضوء بالماء المستعمل، وقد تقدم. وإن طال (¬7) طلب هذا الماء فهل تبطل طهارته (¬8) أم لا؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: الإبطال، والثاني: أنها لا تبطل. وهو على ما قدمناه من الخلاف فيمن غصب ماؤه أو أهريق (¬9). ... ¬

_ (¬1) في (ر) المذهب إن فعل ذلك عمداً بطل الوضوء. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) المدونة 1/ 16. (¬4) انظر المدونة 1/ 17. (¬5) في (م) لا إشكال. (¬6) في (ص) من البلل. (¬7) في (م) كان. (¬8) في (ص) صلاته. (¬9) في (م) أسرق.

[فصل]

[فصل] (¬1) وإذا قلنا إن من عجز ماؤه لا يبني، وإنه إن طال طلبه للماء ابتدء، وإن قرب بني. وما حد القرب؟ فيه قولان: قيل: هو أن لا يجف وضوؤه في زمان معتدل، وقيل: ما يعد طولاً، وهذا هو الأصل. والحد بعدم الجفاف رفع للنزاع. (حكم المسح بالمنديل بعد الوضوء) وقال في المدونة لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء (¬2). وإنما نبه على خلاف الشافعي، لأنه كره في أحد قوليه أن يمسح بالمنديل لأنه أثر عبادة فلا يزال كدم الشهيد. (حكم تقليم الأظافر وحلق الرأس بعد الوضوء) وفي المدونة في من قلم أظفاره أو حلق رأسه أنه ليس عليه أن يمسح (¬3) إذا كان قد توضأ أولاً (¬4). وقال عبد العزيز: هذا من لحن الفقه (¬5). ويروى بفتح الحاء، والمراد به الصواب (¬6)، ويحتمل أن يريد من صواب الفقه قول من قال بالإعادة، أو من صواب الفقه قول مالك لأنه قال لا يعيد. ويروى بإسكان الحاء وهو ينطلق على الصواب والخطإ؛ فإن حمل على الصواب كان كالأول، وإن حمل على خطإ ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) انظر المدونة 1/ 17. (¬3) في (م) يمسح عليه. (¬4) المدونة 1/ 17. (¬5) المصدر السابق. (¬6) قال في مواهب الجليل 1/ 215: اللحن بفتح الحاء المهملة معناه الصواب وأصله الفطنة وبسكونها معناه الخطأ.

(حد ما يجزي من الماء)

احتمل أن يريد من خطإ الفقه قول مالك أنه لا يعيد، أو من خطئه قول من قال يعيد. والذي يحكي أرباب مسائل الخلاف عن عبد العزيز أنه يقول بالإعادة، وفي المدونة في باب جامع الوضوء: وسمعت مالكاً يذكر قول الناسي في الوضوء حتى يقطر أو يسيل، قال: فسمعته يقول قطر قطر! استنكاراً لذلك (¬1). وتقدم [له] (¬2) نحو هذا الكلام في باب سلس البول والمذي. وقد اختلف الأشياخ هل كلامه في الناسي (¬3) بيّن محمول على أنه ليس من شرط وجوب الوضوء من المذي أن يقطر أو يسيل؟ [أو على أنه في الناسي محمول على أنه ليس من شرط كمال الوضوء أن يقطر أو يسيل بل من شرطه الإصباغ؟ ولهذا قال في باب المذي: هل حد لكم مالك في هذا أنه لا يجزي ما لم يقطر أو يسيل] (¬4). وقوله يجزي يدل على أن مراده ما يجزي من الماء في الوضوء. وقيل كل كلام محمول على ما يليق ببابه؛ فالأول: المراد به المذي، والثاني: المراد به ما يجزي من الماء. ولهذا عقبه بأن قال وقد كان بعض من مضى (¬5) يتوضأ بثلث المد. قالوا: يريد به مد هشام (¬6)، ولم يرد به مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (حد ما يجزي من الماء) ولا حدّ لكثير ما يجزي من الماء. وأما قليله ففيه قولان: أحدهما: ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 17. (¬2) ساقط في (ص). (¬3) في (ر): الماء وفي (ل) الباني. (¬4) ساقط من (ر) و (ص) و (ق). (¬5) في (ص) يقتدى. (¬6) هو: هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان عامل عبد الملك بن مروان على المدينة. وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب. وهو أول من أحدث دراسة القرآن بجامع دمشق. توفي بها سنة ثمان وثمانين هـ. البداية والنهاية 9/ 76.

فصل (حكم القلس والقيء)

أنه محدود بالمدّ (¬1) في الوضوء، والصاع (¬2) في الغسل. والثاني: وهو المشهور أنه غير محدود. ووجه الخلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ يَتَوَضَّاُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ" (¬3). ويحتمل أن يكون فعل ذلك تنبيهاً على أقل ما يجزي أو لأن أقل ما يجزي ذلك المقدار. وقد تقدم الكلام على حكم الشعور النابتة على الوجه. وفي الكتاب ها هنا تحريك اللحية من غير تخليل (¬4)، قالوا وإنما حركت لئلا ينبو (¬5) الماء عن الشعر. ... فصل (حكم القلس والقيء) والقلس هو ما يخرج عند الامتلاء إذا برد المزاج، وقد يكون فيه طعام غير متغير فهو ليس بنجس. لكنه إن خرج في الصلاة وكثر قطع. ليس لنجاسته بل لأنه مشغل (¬6) عن الصلاة، وإن قل لم يقطع. وأما القيء المتغير عن حال الطعام فهو نجس. وقال أبو الحسن ¬

_ (¬1) المد بالضم وجمعه أمداد ومداد ومدد؛ ضرب من المكاييل التي كانت شائعة في المدينة قبل الإسلام وبعده. وهو جزء من الصاع يشكل ربعه. وقُدّر بملئ كفي الإنسان المعتدل. انظر هامش الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 56. (¬2) الصاع والصواع مكيال لأهل المدينة قبل الإسلام وبعده يقدر بأربعة أمداد. (¬3) أخرجه البخاري في الوضوء 201، ومسلم في الحيض 325، والترمذي في الطهارة 56 واللفظ له. كلهم عن أنس إلا الترمذي فعن سفينة. وقال الترمذي: حَدِيثُ سَفِينَةَ حَدِيثٌ حَسَن صَحِيحُ. (¬4) المدونة 1/ 17. (¬5) في (م) يبقى. (¬6) في (م) و (ق) مشتغل.

(مشروعية غسل موضع المحاجم)

اللخمي: إذا شابه أحد أوصاف العذرة (¬1). وهذا غير صحيح لأنه إذا شابه ذلك عاد من جنس الرجيع. ولا يكون ذلك إلا لعلة ويخرج عن حدّ القيء. وقد اختلف المتأخرون هل يوجب إذا شابه الرجيع نقض الطهارة، وهو على خلاف في الصور النادرة هل تراعى أم لا؟ (مشروعية غسل موضع المحاجم) وقد قال مالك في موضع المحاجم (¬2) أنه يغسله، ولا يجزيه أن يمسحه. فإن مسحه وصلى أعاد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه. وهو دم يسير في مواضع كثيرة؛ فمن التفت إلى يسارته أسقط الإعادة، ومن التفت إلى كثرة مواضعه أوجبه. واختلف الأشياخ هل يعيد في الوقت وإن كان عامداً ليسارته، أو يكون بمنزلة من صلى بنجاسة؟ فإن كان متعمدًا أعاد أبدًا، وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت. ... فصل (في أحكام النجاسة) أحكام النجاسة في المذهب على أربعة أقسام: قسم يزال عينه دون أثره إن شاء المكلف وهو ما على المخرجين وقد تقدم حكمه. وقسم يزال الكثير منه واليسير، لكنه إن صلى بيسيره لم يعد كالدم. واختلف في المذهب في المقدار اليسير منه؛ فأما ما فوق الدرهم منه فهو ¬

_ (¬1) التبصرة: 22. (¬2) المحاجم: جمع محجم بالكسر، وهو: الآلة التي يجمع فيها دم الحِجامة عند المصّ، والمِحْجَمُ أَيضًا مِشْرَطُ الحَجَّام؛ ومنه الحديث: "لَعْقَةُ عَسلٍ أو شَرْطة مِحْجَمٍ"، وحِرفَتُه وفعلُه الحِجامةُ. والحَجْمُ: فعل الحاجم وهو الحَجَّامُ. واحْتَجَمَ: طلب الحِجامة، وهو مَحْجُومٌ، وقد احْتَجَمْتُ من الدم. انظر لسان العرب 12/ 117.

كثير بلا خلاف، وأما مقدار الخنصر فهو يسير، وما بين الخنصر إلى الدرهم ففيه قولان: قيل يسير قياساً على المخرجين، وقيل هو كثير لأن الضرورة إنما تدعو غالباً إلى مقدار الخنصر. وقسم لا يؤمر بإزالته إلا على طريق الاستحباب وهو كل ما تدعو الضرورة إليه، ولا يمكن الإنفكاك عنه، وهو الجرح يمصل (¬1) والدمل (¬2) يسيل وسلس الأحداث. وألحقوا بذلك المرأة ترضع ولدها. وقسم يزال قليله وكثيره وعينه وأثره، ومتى صلى باليسير منه أعاد الصلاة على ما نفصله. وهذا ككل نجاسة غير داخلة في الأقسام التي ذكرنا أولاً. واختلف المذهب في الخف يطأ به (¬3) على روث الدواب وأبوالها، هل يؤمر بغسله أم يكفي فيه المسح؟ فإن وطئ به على دم أو عذرة فالروايات متفقة على وجوب الغسل. واختلف في علة الفرق بين الدم والعذرة [(¬4) وبين ما تقدم فيه الخلاف؛ فقيل لأن الدم والعذرة نجاسة بإجماع، وأرواث الدواب وأبوالها مختلف فيها هل هو نجس أو مكروه؟ وقيل لأن الطرقات تخلو من الدم والعذرة ولا تخلو من أرواث الدواب وأبوالها. وعلى هذا التعليل لو اتفق أن يكون موضع كثير الدم والعذرة حتى لا ينفك عنه يجري على الخلاف في أرواث الدواب وأبوالها. واختلف على القول بجواز المسح هل يكون النعل في ذلك بمنزلة الخف لأنه تدعو الضرورة إلى المشي به، أو يجب غسله على كل حال وإزالته، لأن الخف يشق نزعه بخلاف النعل. وخرج المتأخرون على هذا الخلاف في الرجل هل يجزي مسحها أو يجب غسلها. وهذا في من تدعوه الضرورة إلى الخف (¬5). ¬

_ (¬1) في (م) يحصل. جاء في لسان العرب 11/ 624 مَصَل الشيءُ يَمْصُل مصْلاً ومُصولاً قطَر. (¬2) قال في مختار الصحاح (88): الدُّمَّلُ واحد دمَامِيلُ القروح. (¬3) في (ق): الخف الذي يطأ على. (¬4) بداية الساقط من (ص)، والساقط فصول كثيرة. (¬5) في (ر) الخفاف.

فصل (حكم إزالة النجاسة)

وفي المدونة لا بأس بطين المطر وإن كان فيه الدم أو العذرة (¬1). وقال أبو محمد ابن أبي زيد: ما لم تكن غالبة أو عينًا قائمة. وهذا يمكن أن يكون تفسيرًا ويمكن (¬2) أن يبقى ما في الكتاب على ظاهره وإن كان غالباً أو عينًا قائمة إذا تساوت الطرقات في وجود ذلك فيها، وكان لا يمكن الإنفكاك عنه. واختلف المذهب في المرأة تطيل ذيلها للستر في السير فتمر به على المكان القذر إذا كان رطبًا هل يطهره [ما بعده؟ ولا خلاف فيما إذا كان يابساً أنه يطهره ما بعده. وقد] (¬3) ثبت أن الرسول عليه السلام سئل عن درع المرأة (¬4) تمر به على الموضع القذر، فقال: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ" (¬5)؛ فمن حمله على عمومه ساوى بين الرطب واليابس، ومن لم يقل بالعموم فرق بين الرطب واليابس، لأن الرطب لا يزيله إلا الماء واليابس ينثر ما يتعلق به إذا مر به بعد ذلك على موضع جاف طاهر. ... فصل (حكم إزالة النجاسة) واضطرب المتأخرون في النقل عن المذهب في إزالة النجاسة هل هي سنة أو فرض؟ فحكى القاضي أبو محمد في إشرافه أنها فرض بلا خلاف في المذهب، وإنما الخلاف في الإعادة، على الخلاف هل هي شرط في صحة الصلاة أو ليس بشرط. وإلى هذا مال ابن القصار وحكى القاضي أبو ¬

_ (¬1) انظر المدونة 1/ 20. (¬2) في (ق) و (م) أو يحتمل. (¬3) ساقط من (م). (¬4) جاء في البحر الرائق 2/ 190: قال في المغرب درع المرأة ما تلبسه فوق القميص. (¬5) أخرجه الترمذي في الطهارة 143، وأبو داود في الطهارة 383، وابن ماجه في الطهارة 531، وأحمد في مسنده 1/ 50، ي. مالك في الطهارة 74، والدارمي في الطهارة 742.

محمد أيضاً في شرح الرسالة أن المذهب كله على أنها سنة، وإنما الخلاف في الإعادة فيمن ترك السنن متعمدًا. وأما أبو الحسن اللخمي فحكى أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: إزالة النجاسة فرض، وهو مذهب ابن وهب (¬1) القائل أن من صلى بها يعيد في الوقت وبعده عامدًا كان أو ناسيًا. والقول الثاني: أن إزالتها سنة، وهو مذهب أشهب القائل إن من صلى بها لا يعيد إلا في الوقت وإن كان متعمدًا. والقول الثالث: إن إزالتها سنة مع النسيان فرض مع الذكر (¬2)، وهو مذهب المدونة لأنه يقول: من صلى بها عامدًا أعاد وإن خرج الوقت، وإن كان ناسياً أعاد في الوقت، (¬3) وهذا الذي قاله أبو الحسن اللخمي يشهد بصحته (¬4) هذه الرواية. فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يرى النجاسة قبل الدخول في الصلاة أو بعد الدخول فيها أو بعد كمالها؛ فإن رأى ذلك قبل الدخول في الصلاة أمر بغسلها على ما قدمناه، وإن رأى ذلك بعد الدخول في الصلاة- فإن كان [دماً] (¬5) يسيراً- تمادى ولا يقطع ولا ينزع الثوب إن كانت فيه، إلا أن يشاء، ويخف (¬6) نزعه. وإن كان دماً كثيرًا أو يسيراً (¬7) أو غيره من النجاسات، أو كثيرها فهل يقطع الصلاة أو يتمادى؟ ¬

_ (¬1) هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم مولى يزيد بن ريحانة ويقال مولى بني فهر .. روى عن أربعمائة عالم منهم مالك والليث وابن أبي ذئب ونحو أربعمائة شيخ من المصريين والحجازيين والعراقيين. قال أحمد بن حنبل: ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم صحيح الحديث ثقة صدوق .. وقال محمد بن عبد الحكم: هو أثبت الناس في مالك وهو أفقه من ابن القاسم إلا أنه كان يمنعه الورع من الفتيا توفي سنة: سبع وتسعين ومائة. الديباج المذهب ص: 132 - 134، وشجرة النور ص:58 (25). (¬2) التبصرة: 23. (¬3) المدونة 1/ 34. (¬4) في (م) بصحة، وخرم في (ق). (¬5) ساقط من (م). (¬6) في (ق) لا ينزع الثوب إن كان فيها إلا أن يخف. (¬7) كذا في (ق) و (ر) وفي (م) أو يسيل من غيره من النجاسة.

في المذهب ثلاثة أقوال: أولها وجوب القطع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه يتمادى ويعيد. والثالث: أنه إن خف نزعه (¬1) نزعه، وإن لم يمكن ذلك أو كان في الجسد، قَطَعَ. وسبب الخلاف هل يقال إن كل جزء من الصلاة عبادة قائمة بنفسها، أو يقال صحة أوائلها موقوفة على صحة أواخرها؟ فإن قلنا إن كل جزء منها قائم بنفسه فها هنا لا يجب أن يقطع إذا أمكنه النزع، وإن قلنا إن الأوائل موقوفة على الأواخر قطع. ومن قال بالتمادي والإعادة فإنما راعى الخلاف لإشكال الأمر عليه. ومما اعترض به (¬2) مذهب ابن القاسم أنه يقول من صلى به ناسيًا فإنه يعيد في الوقت. وإذا ذكر في الصلاة قطع. وكيف يوجب القطع وهو فيما مر من الصلاة (¬3) ناسيًا؟ والجواب أنه في الحالة التي أبصر النجاسة صار مصليًا بها مع الذكر فبطل ذلك الجزء من الصلاة، وإذا بطل جزء منها بطلت كلها. وإن رأى النجاسة بعد كمال الصلاة؛ فأما الدم اليسير فلا يعيد منه كما قررناه، وهذا في سائر الدماء إلا دم الميتة والحيض فقيل إنهما كهذه الدماء (¬4)، وهو المشهور. وقيل بخلافه لعموم تحريم الميتة ولأن دم الحيض يلاقي مخرج البول، وأيضاً فهذان (¬5) لا تدعو الضرورة إليهما بخلاف غيرهما من الدماء التي تنفصل من الأجسام الحية. وأما غير ذلك من النجاسات فقد قدمنا الثلاثة الأقوال متى (¬6) تكون الإعادة. ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (ق) و (م) ربما اعترض بهذا مذهب ابن القاسم. (¬3) في (ق) و (م) فيما مر بالصلاة. (¬4) في (ق) إنه كعادة الدماء، وفي (ر) إنه غيره من الدماء [صعوبة التحقيق]. (¬5) في (ق) فهذا و (م) فهذه. (¬6) في (م) منها.

وإن بنينا على المشهور أن الناسي يعيد في الوقت والعامد يعيد وإن خرج الوقت فما الوقت؟ أما الظهر والعصر فيعيدهما ما لم تصفر الشمس، وإن اصفرت فقولان: مذهب المدونة أنه لا يعيدهما (¬1) بعد ذلك، ومذهب ابن وهب أنه يعيدها. وسبب الخلاف تقابل المكروهين لأن الصلاة بالنجاسة مكروهة والإعادة بعد الاصفرار مكروهة، فأيهما يغلب؟ فهذا محل الخلاف. وعلى القول بأن الصلاة [بعد الاصفرار يحرم تأخيرها إليه لا يعيدها. واختلف في المغرب والعشاء هل المذهب كله على أنهما تعادان ما لم يطلع الفجر، أو يختلف فيهما بعد مضي نصف الليل كما اختلف فيما بعد الاصفرار] (¬2) في الظهر والعصر؟ للمتأخرين في ذلك قولان. وكذلك اختلف في الصبح هل يعيد ما لم تطلع الشمس، أو يختلف فيما بعد الإسفار كما اختلف فيما بعد الاصفرار؟ والصحيح أن المغرب (¬3) والعشاء تعادان ما لم يطلع الفجر (¬4)، والصبح (¬5) ما لم تطلع الشمس لأنه لم يقل أحد من أهل المذهب إن التأخير إلى ذلك الوقت محرم. ولا خلاف أن الماء تحصل به إزالة النجاسة. ولا خلاف بين جمهور العلماء أنه متعين لطهارة الحدث ولا ينوب غيره منابه إلا نبيذ التمر عند أبي حنيفة. وهل تزال النجاسة بالمائعات القلاعة كالخل وما في معناه؟ قولان في المذهب: المشهور تعيين الماء قياسًا على طهارة الحدث، والشاذ صحة ¬

_ (¬1) في (م) و (ق) ألا يعيدهما. انظر المدونة 1/ 33. (¬2) ساقط من (م). (¬3) في (م) في المغرب. (¬4) في (م) ما لم يطلع الفجر محرم تأخيرهما إليه. (¬5) في (ق) والصبح الصحيح.

فصل (في مشروعية النضح في الثوب)

الإزالة بكل مائع قلاع، لأن المطلوب زوال النجاسة، فبأي شيء حصل الزوال (¬1) حصل المطلوب. ... فصل (في مشروعية النضح في الثوب) وإذا تحقق إزالة النجاسة فالمأمور به ما قلناه (¬2) من الغسل. فإن شك في الجسد (¬3) هل أصابته نجاسة أم لا فقد قدمنا القولين. وإن شك في الثوب فلا خلاف في إجزاء النضح. ولا يخلو الناضح من ثلاثة أقسام: إما أن يوقن بأن شيئًا أصابه ولا يدري هل هو نجس أم لا؟ فهذا فيه قولان: أحدهما: أنه يلزم النضح، والثاني: أنه لا يلزم. والقسم الثاني: أن يشك هل أصابه أم لا؟ ويشك هل الذي أصابه نجس أم لا؟ فهاهنا لا يلزمه النضح لضعف الشك. والثالث: أن يوقن بالنجاسة ويشك هل أصابته أم لا؟ فهذا يلزمه النضح فيه بلا خلاف في المذهب. والنضح كان على خلاف القياس لأن فيه تكثير النجاسة من غير إزالة لها، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بنضح الحصير الذي اسود من طول ما لبس (¬4). وقد رأى المالكية أن النضح خيفة (¬5) أن ¬

_ (¬1) في (م) الزوال من المغسول وغير مقروء في (ر). (¬2) في (ق) فالمأمور بما قلنا. (¬3) في (ر) من الغسل وإن شك فأما الجسد إذا شك. (¬4) أخرج البخاري في الصلاة (380) واللفظ له، ومسلم في المساجد (658) عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكِ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: "قومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ"، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاء فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكعَتَينِ ثُمَّ انصَرَفَ. (¬5) في (ق) حقيقة.

فصل: في المسح على الجبائر

يكون أصابته نجاسة من تصرف اليتيم الذي كان في الموضع عليه، وكأن مالكاً استند (¬1) في النضح فيما شك فيه إلى العمل فقال: هو الشأن وهو طهور لكل ما شك فيه (¬2). ولا خلاف في المذهب أن إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية. وهل يفتقر النضح إلى نية؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: وجوب النية لأنه تعبد، والثاني: إسقاطها. قال ابن محرز: (¬3) لأنه لا يخلو أن يكون أصابه شيء أم لا؟ فإن أصابه فلا يفتقر إلى نية، وإن لم يصبه فلا شيء عليه. وهذا الذي قاله هو القياس لولا أن النضح تعبد (¬4) والتعبد (¬5) يفتقر إلى نية. ... فصل: في المسح على الجبائر [وقد أجمعت الأمة على وجوب إمساس الماء بالأعضاء إلا أن يمنع من ذلك مانع] (¬6). ومن أصاب عضواً من أعضاء طهارته ما يمنعه أن يلاقيه بالماء فلا يخلو من أن يثبت (¬7) عليه ساتر يمكن ملاقاة الساتر بالماء، أو لا يثبت عليه ذلك؛ فإذا ثبت عليه مسح الساتر وناب ذلك عن غسله. ولا يفتقر في موضع (¬8) الساتر عليه أن يكون على طهارة كما يفتقر إلى ذلك في المسح على الخفين، لأن هذا قد يطرأ على الإنسان من غير اختياره. والخفان إنما يلبسهما مختارًا. وإن افتقر إلى شد العصائب على الساتر مسح ¬

_ (¬1) في (ق) اشتد وفي (م) استثنى وفي (ر) إستند أو اشتد. (¬2) المدونة 1/ 22. (¬3) هو: حمديس وقد تقدمت ترجمته. (¬4) في (ق) و (م) تعد. (¬5) في (ر) لتعبد. (¬6) ساقط من (ق) و (م). (¬7) في (ر) يلبث. (¬8) في (ر): وضع.

على العصائب. وإن وقع الرباط على غير الموضع المألوم. وهكذا حكم العضد إذا لم يمكنه مباشرة الموضع بالماء وافتقر إلى شده بعصائب فستر شيئاً من ذراعه، فإنه يمسح على تلك العصائب ويجزيه (¬1). وإن كان الموضع المألوم لا يمكن أن يجعل عليه ساترًا فإن جعل ذلك لم يمكنه مباشرة ذلك الساتر بالماء ولم يمكنه أن يعصب عليه، فهذا لا يخلو أن يكون في أعضاء (¬2) التيمم كالوجه واليدين، أو في غير أعضاء التيمم؛ فإن كان في أعضاء التيمم فيغسل ما صح ويترك ما لم يصح، لأنه لو انتقل إلى التيمم لصلى بطهارة ناقصة (¬3). وإذا كان لا بدّ من النقص فنقص طهارة الماء أولى من نقص طهارة التيمم (¬4). فإن كان الألم (¬5) في غير أعضاء التيمم كالرأس والرجلين فها هنا اختلف المتأخرون على ثلاثة طرق: أحدها: أن يتوضأ ويترك الموضع المألوم، والثاني: أنه ينتقل إلى التيمم، والثالث: أنه إن كان الموضع المألوم يسيرًا توضأ وتركه، وإن كان كثيراً انتقل إلى التيمم. وهذا لتقابل (¬6) المكروهين؛ أحدهما: الانتقال إلى التيمم مع (¬7) وجود الماء. وطهارة الماء أولى من طهارة التراب، والمكروه الثاني: ترك جزء من موضع الطهارة غير مغسول ولا ممسوح، وذلك غير مشروع. فاختلف طرق هؤلاء، أي المكروهين أخف يرتكب (¬8)؟ ومن فرق بين اليسير والكثير رأى أن الأقل تابع للأكثر، فإذا كان المتروك يسيراً كان في حكم العدم. ... ¬

_ (¬1) في (م) فيجزي به. (¬2) في (م) من أعضاء. (¬3) في (ر): ناقضة. (¬4) في (م) النقض، فنقض طهارة الماء أولى من التيمم. (¬5) في (م) المألوم. (¬6) في (م) وهذا تقابل. (¬7) في (ق) في وجود. (¬8) في (ق) يركب. كذا في جميع النسخ والعبارة لم تتضح لي.

فصل

فصل (حكم من سقطت جبيرته في الصلاة) وإذا مسح على الجبيرة ثم دخل في الصلاة فسقطت الجبيرة عن موضعها قطع الصلاة، لأنه صار كالمصلي بطهارة ناقصة، إذ يجب عليه إعادة الجبيرة ومسحها. وكذلك لو صح ما تحت الجبيرة لوجب (¬1) عليه إزالتها وغسل ما تحتها. ولو صح في الصلاة لقطع الصلاة كما قلناه. (حكم الشجة إذا صح صاحبها) و [فرق] (¬2) في الكتاب فيمن أصابته شجة وكان ينكب عنها الماء في غسله من الجنابة أنه إذا صح غَسَلَهَا. فإن لم يغسلها حتى صلى صلوات كثيرة ناسيًا لغسلها، فإن كانت تلك الشجة في مواضع الوضوء فإنه تجزيه الصلاة، وإن كانت في غير مواضع الوضوء كالظهر فإنه يغسل مواضع الشجة ويعيد ما صلى من يوم صح (¬3). قال الأشياخ: وهذا إذا كانت الشجة في الموضع المغسول من أعضاء الوضوء، وأما لو كانت في عضو ممسوح لم تجز فيه الطهارة الصغرى عن الكبرى، لأن الواجب فيه في الكبرى الغسل كالرأس، والواجب فيه في الصغرى المسح ولا يجزي المسح عن الغسل. ومما ألزم (¬4) الأشياخ على مذهب التناقض بين هذه المسألة وبين مسألة باب التيمم لأنه قال في هذه المسألة: يجزي الغسل للطهارة الصغرى عن الغسل للطهارة الكبرى، وقال [هناك] (¬5): من تيمم للصلاة ناسيًا الجنابة لا يجزيه. وقياس ما قال في ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) أوجب. (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) المدونة 1/ 23. (¬4) في (ر): إلتزم. (¬5) ساقط من (ق) و (م).

فصل (في حكم اليدين)

مسألة الجبيرة أن يجزيه، وقياس ما قال في مسألة التيمم ألا يجزي في الجبيرة. وقد فرق بين المسألتين بوجهين: أحدهما: أن الفعل وإن اتحد في مسألة (¬1) التيمم واتحد في مسألة الجبيرة فإن النية تختلف في التيمم لأن التيمم بدل عن الغسل. وإذا قصد به البدل عن الوضوء فلا يجزي لأن الوضوء في أربعة أعضاء والغسل في الجسد كله، وعليه في التيمم أن يقصد المبدل (¬2) منه. وأما مسألة الجبيرة فلا بدل منه يجب عليه (¬3) قصده، وإنما عليه غسل ذلك الموضع. فإذا غسله في الوضوء (¬4) أجزأه عن الطهارة الكبرى. والوجه الثاني: أن التيمم إنما يستبيح (¬5) به الصلاة فعليه أن ينوي ما ترتب [عليه] (¬6) من طهارة كبرى أو طهارة صغرى ليكون التيمم مؤثرا في الاستباحة مما (¬7) ترتب في ذمته. وهذان الفرقان إنما يفتقر إليهما لئلا يكون ما في المدونة اختلاف قول، وإلا ففي مسألة التيمم خلاف نذكره في موضعه إن شاء الله. ... فصل (في حكم اليدين) وقد تقدم أن غسل اليدين من الفروض والنظر في حكم اليدين في ثلاثة أوجه (¬8): ¬

_ (¬1) في (م) مسح. (¬2) في (م) المبذول. (¬3) في (ق) فلا بدل يجب عليه وفي (م) فلا بدل عليه يجب عليه. (¬4) في (م) للوضوء. (¬5) في (م) و (ق) تستباح. (¬6) ساقط من (ق) و (م). (¬7) في (م) وهل. (¬8) في (م) مواضع.

(حكم المرفقين)

(حكم المرفقين) أحدها: هل يجب إدخال المرفقين في الغسل أم لا؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب إدخالهما وهو المشهوو، لقوله في المدونة في قطع المرفقين: إنه لا يغسل ما بقي إلا أن تعرف (¬1) العرب والناس أنه بقي شيء من المرفق فيغسل (¬2)، والقول الثاني: أنه لا يجب غسل المرفقين، والقول الثالث: أنه يجب عليه غسلهما ليس لفرضيتهما بل لأنه لا يتوصل إلى غسل جميع الفرض إلا بغسلهما. وهذا هو القول بإسقاط فرضيتها لكن أوجبها لغيرها. وسبب الخلاف في فرضيتهما هل (إلى) في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3) لانتهاء (¬4) الغاية أو للجمع؟ قال سيبويه: (¬5) إن (إلى) إن تقدم قبلها (من) كانت لبيان الغاية وخرج ما بعدها عن (¬6) حكم ما قبلها، وإن لم يتقدم (من) احتملت الغاية واحتملت الجمع. ومن الجمع قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬7)، وقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬8) معناه مع أموالكم، ومع الله. (وإلى) في الآية لم يتقدمها ذكر (من) فهي تحتمل التحديد والجمع. وإذا احتملت أمكن أن يقال الذمم على ¬

_ (¬1) في (م) تعلم. (¬2) في (م) و (ق) فيغسل ذلك. انظر المدونة 1/ 24. (¬3) المائدة: 6. (¬4) في (ق) أنها للبيان. (¬5) هو: إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي ثم البصري، طلب الفقه والحديث مدة ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر وألف فيها كتابه الكبير، المعروف بالكتاب. توفي سنة ثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 351. (¬6) في (ر) و (ق) على. (¬7) النساء:2. وفي (ق) {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}. (¬8) الصف: 14.

(حكم تخليل الأصابع)

البراءة فلا تعمر إلا بدليل. أو يقال الموضع موضع عبادة فيؤخذ فيه بالأحوط حتى يقوم دليل على الإسقاط. واحتج المشهور من المذهب بقول المبرد أن ما بعد (إلى) إذا كان من جنس ما قبلها وجب دخولها في حكم ما قبلها، وإن كان من غير جنسه لم يجب ذلك. والمرفقان من الساعدين على أنه قد تردد بعض أهل اللغة في اسم المرفق على ما ينطلق؛ فقيل على طرف الساعد، وقيل على مجمع الساعد والعضد. فإن قلنا إنه على طرف الساعد كان في قول المبرد حجة. وأشار ابن القاسم بقوله: إلا أن تعرف الناس والعرب، إلى ما قلنا (¬1) من التردد. (حكم تخليل الأصابع) والوجه الثاني: من النظر في اليدين حكم (¬2) تخليل الأصابع، وفيه قولان: الوجوب، والإسقاط. وعلة الوجوب ليحصل (¬3) الدلك، وعلة الإسقاط إنما بناء على أن التدلك غير واجب، أو لأن الأصابع تضطرب في حين الغسل، فيحصل التدلك (¬4) وإن لم يقصد. (هل تجب إزالة الخاتم؟) والوجه الثالث: الخاتم يكون في الأصابع هل تجب إحالته؟ ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الإحالة، والثاني: إسقاطها، والثالث: التفرقة. فإن كان واسعًا لم تجب الإحالة، وإن كان ضيقاً وجبت، وإيجابها لطلب التدلك، وإسقاطها لأن الماء لطيف الجوهر فهو يحصل تحت الخاتم وإن لم يحل. وهذا لا يكفي في طلب التدلك وإنما ينبغي أن يقال هذا إما لأن ¬

_ (¬1) في (ق) من رواية التردد. (¬2) من هنا تبدأ نسخة "تازة" وقد أشرت إليها بـ "ت". (¬3) في (ق) لتحصيل. (¬4) في (م) فيحصل الغسل حين التدلك.

فصل (في حكم الرجلين)

المكان يسيرٌ فيعفى عن تدلكه مراعاة للخلاف، وإما لأنه ملبوس مستدام فأجزأ إصابة ظاهره بالماء قياساً على الخف. والقياس على الخف ينبني على اختلاف الأصوليين في الرخص هل يقاس عليها أم لا؟ ووقع لمحمد بن عبد الحكم (¬1) أنه يزيل الخاتم في وضوءه وهذا إما على طريق الاستحباب ليكون ذلك أبلغ في إصابة الموضع بالماء والتدلك، وإما لأنه يحتمل أن الإحالة لا تؤثر في ذلك. ... فصل (في حكم الرجلين) وأما الرجلان فالنظر فيهما من وجهين: (حكم الكعبين) أحدهما: حكم الكعبين في وجوب غسلهما، والنظر في ذلك كالنظر في المرفقين. لكن اختلفوا في الكعبين ما هما على قولين؟ المشهور أنهما الناتئان في الساقين، وحكى القاضي أبو محمد (¬2) عن مالك أنهما اللذان عند معقد الشراك. والكعب عند العرب كل ناتئ ومنه سميت الكعبة، والمرأة كاعباً وهي التي برز ثديها عند الإدراك. وكل موضع مما قيل ها هنا فيه ¬

_ (¬1) هو: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله سمع من أبيه وابن وهب وأشهب وابن القاسم وغيرهم من أصحاب مالك، وصحب الشافعي وأخذ عنه وكتب كتبه وإليه انتهت الرياسة بمصر، ورسخ في مذهب الشافعي وربما تخير قوله عند ظهور الحجة، وكان أفقه أهل زمانه .. وله تآليف كثيرة في فنون العلم والرد على المخالفين كالرد على الشافعي فيما خالف فيه الكتاب والسنَّة وكتاب الرد على أهل العراق. وذكر أنه ضرب في المحنة بالقرآن .. توفي سنة ثمان وستين ومائتين وقيل: سنة تسع. الديباج المذهب ص: 331 - 232 وطبقات الفقهاء 1/ 111. (¬2) في (م) القاضي أبو محمد عبد الوهاب.

(حكم تخليل أصابع الرجلين)

بروز، لكن بروز اللذين في الساق أكبر، فلهذا كان وقوع التسمية عليهما أشهر (¬1). وفي المدونة: يغسل أقطع الرجلين الكعبين وما بقي من القطع، لأن (¬2) القطع تحتهما (¬3). وهذا على أنهما اللذان في الساقين. وأما على القول الثاني فلا يغسل لأن القطع يأتي عليهما. (حكم تخليل أصابع الرجلين) والوجه الثاني: تخليل الأصابع وظاهر المذهب (¬4) على ثلاثة أقوال: أحدهما: استحبابه، والثاني: إنكاره، والثالث: وجوبه. فأما الوجوب فلطلب (¬5) التدلك، وأما الإنكار فلأنه رأى أن ما بين أصابع الرجلين في حكم الباطن، فغسله (¬6) من الغلو الذي تنهى عن مثله الشريعة. وأما الاستحباب فلكونه في حكم الباطن. وقد ورد في الحديث التخليل (¬7) فيحمل على الاستحباب لأنه أبلغ في النظافة. ... فصل (في حكم بول الصغير الذي لم يأكل الطعام) وقد تقدم أن بول الآدمي وروثه نجسان، وهذا في من لم يكن ¬

_ (¬1) في (م) أسهل. (¬2) في (ق) وإن كان. (¬3) انظر المدونة 1/ 23. (¬4) في (م) المدونة. (¬5) في (ق) فيطلب. (¬6) في (ق) فغسل، وفي (م) في غسلهما. (¬7) من ذلك ما أخرجه الترمذي في الطهارة (38) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (114) وأبو داود في الطهارة (142) وابن ماجه في الطهارة (448) والدارمي في الطهارة (705)، والحاكم في المستدرك 1/ 247 عَنْ عَاصِم بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأتَ فَخَلُلِ الأَصَابِعَ". وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الحاكم: حديث صحيح ولم يخرجاه.

صغيراً لم يأكل الطعام. وأما الصغير الذي على هذه الصفة، ففي نجاسة بوله ثلاثة أقوال: أحدها: الحكم بنجاسته قياساً على الكبير. والثاني: الحكم بطهارته، لما ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتي بصبي لم يأكل الطعام فبال على ثوبه فنضحه، وفي بعض الطرق: ولم يغسله (¬1). والثالث: التفرقة بين بول الصبي وبول الصبية فيحكم بطهارة بول الذكر (¬2) للحديث، ويقصره على ما ورد خاصة، ويحكم بنجاسة بول الأنثى طرداً (¬3) للأصل. ولم يرد فيها حديث (¬4). وقد علل هذا المذهب بأن الذكر خلق من تراب والأنثى من ضلع، فإذا لم يأكلا الطعام رُدَّا إلى أصلهما، فالتراب طاهر والضلع (¬5) نجس. وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي الحكم بطهارة الرجيع وأجمعت الأمة على نجاسته. وإنما الخلاف في البول. وأيضاً فإن المخلوق [من تراب ومن ضلع هما أصل الخلقة، آدم وحواء. وأما من بعدهما فهو مخلوق من نطفة وهو] (¬6) يتغذى (¬7) في الرحم بدم الحيض، فلا يقال فيه يرجع إلى الأصل. ... ¬

_ (¬1) بياض في (ت) و (ق). والحديث متفق عليه فقد أخرجه البخاري في الوضوء (223) واللفظ له، ومسلم في الطهارة (287) عَن أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنِ أَنَّهَا أَتَتْ بِابُنِ لَهَا صَغِيرِ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأجْلسَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فدَعَا بِمَاءِ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. (¬2) في (م) الصبي وفي (ق) الذكور. (¬3) في (ق) رداً على، وفي (م) كردها. (¬4) بل ورد حديث أخرجه الترمذي في الجمعة (610) واللفظ له وأبو داود في الطهارة (377)، وابن ماجه في الطهارة (525) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِي الله عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في بَوْلِ الْغُلاَمِ الرَّضِيع: "يُنْضَحُ بَوْلُ الغُلاَم وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ". قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا فَإِذا طَعِمَاَ غُسِلَا جَمِيعاً. وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬5) في (ر) العظم. (¬6) ساقط من (م). (¬7) بياض في (ت) وفي (ق) ومتغذي.

فصل (في النهي عن البول قائما)

فصل (في النهي عن البول قائمًا) ونذكر (¬1) هاهنا من آداب الأحداث البول قائما. وقال الأشياخ: لا يخلو الموضع المقصود بالبول من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون طاهراً رخواً، أو صلبًا نجساً، أو صلباً طاهراً، أو رخواً نجسًا؛ فإن كان طاهراً رخواً فالأولى أن يجلس للبول لأنه أقرب إلى الستر، ولا يحرم عليه القيام. وإن كان الموضع صلبًا نجساً فينبغي أن يُترك ويُقصد غيره، لأنه إن قام خاف أن يتطاير عليه وإن جلس خاف أن يتلطخ بنجاسة الموضع، فإن كان صلباً طاهراً فليس إلا الجلوس لأنه يأمن التلطخ بالنجاسة [إن جلس] (¬2) ولا يأمن منها (¬3) إن قام، لأنه يتطاير عليه. وإن كان الموضع رخواً نجساً فهاهنا ليس إلا القيام، لأنه يأمن التطاير وإن جلس خاف التلطخ. ومحصول هذا أنه يجتنب النجاسة ويفعل ما هو أقرب للستر. واجتناب النجاسات آكد من الستر إذا كان بموضع لا يرى فيه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بال قائماً (¬4). وقالت عائشة رضي الله عنها: "من حدثكم أن النبي عليه السلام بال قائماً فلا تصدقوه" (¬5). وإنما حكت عن أكثر أحواله أو ما لم تر غيره (¬6). وأما بوله قائماً ففي الحديث ما يدل على أن ذلك كان لعلة وهي كون الموضع نجساً لأنه قال: أتى سباطة (¬7) قوم فبال قائماً، والسباطة هي المزبلة والغالب كونها رخوة نجسة. ... ¬

_ (¬1) في (م) وقد ذكرنا وفي (ر) ذكر. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) في (ت) ولا يأمنها وفي (ق) ولا يأمن. (¬4) أخرج البخاري في الوضوء (224) واللفظ له، ومسلم في الطهارة (273) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ أتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سُبَاطَةَ قَوْم فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءِ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ. (¬5) أخرجه الترمذي في الطهارة (12) واللفظ له، والنسائي في الطهارة (29)، وابن ماجه في الطهارة (307) عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: "مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلاَّ قَاعِدًا" قَالَ الترمذي: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ. (¬6) في (ق) وما لم ترى غيره وفي (م) أو ما بعده من غيره. (¬7) في (ت) إننا بسباطة قوم.

فصل (في أحكام المياه الجارية والراكدة)

فصل (في أحكام المياه الجارية والراكدة) وقد مرَّ الكلام على حكم المياه ولم نفصل (¬1) هناك حكم الجاري والراكد، وهذا موضع تفصيله لنحاذي به الكتاب. وذلك أن الماء لا يخلو من أن يكون جاريًا أو راكداً؛ فإن كان راكداً فلا يخلو من أن تكون له مادة أو لا مادة له، فإن كان جاريًا (¬2) فإن حكمه فيما تحل فيه النجاسة حكم الماء الكثير، فيجتنب المتغير منه دون غير المتغير، لأن هذا الماء غير ثابت والنجاسة غير ثابتة فيه في موضع متعين (¬3)، فينظر إلى محل أثرها، فإن أثرت اجتنب موضع التأثير دون غيره. فإن كان راكداً ولا مادة له فهو راجع إلى الأصل الذي قدمناه (¬4)، فإذا حلته النجاسة وهو يسير كان فيه ما قدمناه من الخلاف إذا (¬5) لم يتغير. وإن كان كثيراً فإن تغير فهو نجس وإن لم يتغير (¬6) فهو طاهر. غير أنهم (¬7) قد فرقوا بين وقوع النجاسة فيه وبين موت الحيوان الذي له نفس سائلة؛ فرأوا أن لموت هذا الحيوان تأثير البلة [التي] (¬8) تنفصل منه عند خروج نفسه. ولهذا أمر بأن يراق منه مقدار من الماء لأن تلك البلة دهنية تصعد على وجه الماء فتزال بما يراق منه. وما وقع في بعض الروايات من تحديد القدر المراق بالأربعين لا أصل له، إلا لئلا يُكثر العامي الموسوس إراقة الماء ويُقله المتساهل. ولهذا نقل عن ابن الماجشون أنه كان متى استفتاه أحد في مثل هذا قال له أرق منه أربعين دلواً أو خمسين أو ستين [أو سبعين] (¬9). ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) ولم نقصد. (¬2) في (ف) و (م) فإن كان الماء جاريًا. (¬3) في (م) في الموضع المعين. (¬4) في (ت) إلى ما قدمناه. (¬5) في (ر) في إذا. (¬6) نهاية الساقط من (ص). (¬7) في (ر) و (ف) على أنهم. (¬8) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬9) ساقط من (ص)، وسقط من (ر) أو.

فصل (في حكم الطعام تحله النجاسة)

وإنما كان يقول ذلك لئلا يُفهم من التحديد أنه قانون شرعي لا يتعدى، وذلك يختلف بكثرة الماء وقلته وصغر الدابة الميتة وعظمها (¬1). فإن كان الماء له مادة كماء الآبار فإنه يرجع إلى ما قدمناه (¬2)، فإن كان كثيرًا ولم (¬3) يتغير حكمنا بالطهارة، وإن كان يسيراً فعلى الخلاف المتقدم. وإذا حكمنا بالنجاسة على أحد الأقوال أو تغير الماء فإنا نأمره (¬4) بإزالة جميع الماء المتغير النجس (¬5) حتى يخلفه غيره. ولو تغير الماء بنجاسة ثم زال التغيير ففيه قولان: قيل حكم النجاسة باق، وقيل إذا زال تغييره زال حكم النجاسة، إذ زوال التغيير يشعر بغلبة الماء وقهره للنجاسة. ... فصل (في حكم الطعام تحله النجاسة) وأما حكم الطعام تحله النجاسة، فإن كثرت النجاسة وقل الطعام وتخللت (¬6) جميع أجزائه فلا خلاف في الحكم بنجاسته. وإن قلت النجاسة وكثر الطعام ففي المذهب قولان: أحدهما: الحكم بنجاسته، لأنه لا يدفع عن نفسه ولا جزء منه إلا ويمكن أن تحله النجاسة. فلا يجوز الإقدام على استعمال شيء منه لإمكان أن تكون النجاسة حلته. والقول الثاني: الحكم بطهارته ليسارة النجاسة وكثرة الطعام، فهي كالمستهلكة (¬7)، وهي كما نقول فيمن اختلط ذات محرم له مع نساء العالم وجهل عينها (¬8) فإنه يسوغ له الزواج بلا خلاف. وإن أمكن أن يتزوج ذات محرم منه. ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) وكبرها. (¬2) في (ق) قدمناه بالنجاسة. (¬3) في (ص) لم يتغير. (¬4) في (ق) إن لم يتغير الماء فإنا نأمر. (¬5) في (ص) المتغير والنجس. (¬6) في (ص) و (ق) و (ت) تحللت. (¬7) في (ص) كالمشكوك. (¬8) في (ر) و (ت) العالم وحصل العلم عينها.

(حكم بيع واستعمال الطعام النجس)

وإذا راعينا حكم النجاسة في الطعام فإنه لا يخلو أن يكون مما تسري النجاسة في جملته كالذائبات من الأدهان وغيرها، أو لا تسري في جملته كالجامدات؛ فإن كان مما تسري في جملته حكمنا بنجاسته جميعه، وإن كان مما لا تسري في جملته حكمنا بنجاسة ما سرت فيه دون غيره، وهذا كالعسل يكون (¬1) جامداً فتقع فيه فيحكم بنجاسة ما سرت فيه دون غيره. ولو كان مما تسري فيه مع طول المكث نظرنا إلى طول المكث وقصره (¬2)، وهذا كالسمن الجامد. (حكم بيع واستعمال الطعام النجس) وإذا حكمنا بنجاسة الطعام فهل يباح استعماله وبيعه؟ أما استعماله ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أنه يستعمل ويتوقى من نجاسته كما قالوا في الزيت تموت فيه الفأرة، فإنه يستصبح به في غير المساجد. وقالوا في العسل تموت فيه الفأرة أيضاً تعلف به النحل. والثاني: أنه لا يستعمل أصلاً، وهذا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عام الفتح وهو بمكة إن الله [ورسوله] (¬3) حرم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام فقيل له: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها، فقال: "لا هو حرام"، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[عند ذلك] (¬4): "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم أجملوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها" (¬5). ¬

_ (¬1) في (ن) كالعسل الجامد. (¬2) في (ص) و (م) لفرقنا بين طول مكثها وقصره. (¬3) ساقط من (ر) و (ت). (¬4) ساقط من (ص) و (م). (¬5) أخرجه البخاري في البيوع (2236)، ومسلم في المساقات (1581) بلفظ قريب من هذا. ولفظ البخاري: "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّهُ سَمِع رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الْفَتحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إن اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لاَ هُوَ حَرَامٌ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ الله الْيَهُودَ إِنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".

وقد تعلق بهذا الحديث كل واحد من الفريقين وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم البيع أولاً ثم سئل عن الاستعمال فقال: لا. فيحتمل أن يريد بذلك تحريم الاستعمال وهو أقرب المذكورات، ويحتمل أن يريد تحريم البيع، وعنه جاوب بقوله: "لا" لأنه ذكر (¬1) فعل اليهود في إجمال الشحوم وبيعها وأكل ثمنها، فما ابتدأ به الحديث وختمه يقتضي تحريم البيع خاصة، وقوله "لا" لما سئل عن الاستعمال يقتضي تحريم الاستعمال وتحريم البيع. فإذا أجزنا الاستعمال فهل نجيزه للمكلفين كالاستصباح بالزيت [النجس] (¬2) وما في معنى ذلك؟ أو إنما نجيزه لغير المكلفين كإطعام الطعام النجس للدواب؟ في ذلك قولان. وفي كتاب مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بما عجن من الخبز من ماء آبار (¬3) ثمود أن يعلف به الإبل (¬4). وهذا يحتج به من يقول إن الاستعمال إنما يجوز لغير المكلفين. ويعتذر الآخرون عن هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بذلك عقوبة، لأنه نهى عن الاستقاء (¬5) من تلك الآبار ولم يكن ذلك لنجاستها. وفي تمكين اليهود والنصارى من ذلك قولان: أحدهما: جوازه، والثاني: منعه. وهذا على الخلاف هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ ... ¬

_ (¬1) في (ص) لأن المذكور. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) هكذا في (ص) وفي (ر) أمر بما عجن من آبار. (¬4) أخرج البخاري في أحاديث الأنبياء (3379) واللفظ له، ومسلم في الزهد (2981) عَنْ نَافِع أَنَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أخبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوِا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَاعْتَجَنوا بهِ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَن يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ. (¬5) في (ق) و (م) الاستعمال.

فصل (في حكم ما كانت نجاسته أصلية)

فصل (في حكم ما كانت نجاسته أصلية) فكل ما تقدم من الخلاف جار في كل نجس كانت نجاسته غير أصلية، بل كان طاهراً ثم تنجس بما حل (¬1) فيه كالزيت وسائر الأدهان والخبز يعجن بالماء النجس. وأما ما كانت نجاسته أصلية كالعذرة وشحم الميتة فالمعروف من المذهب أنه لا يستعمل بوجه. والكلام عليه (¬2) محال على كتاب البيوع الفاسدة. وهل يطهر الزيت وسائر الأدهان بعد تنجيسها بماء يقع فيها؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يطهر، والشاذ أنه يطهر وهو خلاف في شهادة ترجع إلى الحس، وذلك أن الأدهان لا تمتزج بها النجاسة امتزاجاً لا يمكن انفصالها عنها، بخلاف امتزاج سائر الأطعمة. وإذا تقرر ذلك فهل يمكن أن يبلغ إذا غسل منها مبلغا يذهب النجاسة (¬3) ويبقى الدهن على أصله؟ هذا محل الخلاف وهو محال على شهادة. وينخرط في هذا السلك قولان في اللحم (¬4) يطبخ بماء نجس هل يطهر بالغسل؟ وسبب الخلاف في هذا هل يبلغ الماء الطاهر منه مبلغاً يذهب بالنجاسة التي داخلته أم لا؟ ومنه أيضاً الزيتون يملح بماء نجس هل يطهر بعرضه على الماء الطاهر؟ ومنه أواني الفخار تستعمل في الأشياء النجسة الغواصة (¬5) كالخمر، هل تطهر بعرضها على الماء؟ في جملة ذلك قولان. وهذا كله خلاف في شهادة ترجع إلى الحس. ويلاحظ هذا المعنى (¬6) في البيض الطاهر يسلق مع النجس، هل ينجس بذلك الطاهر أم لا؟ وهو خلاف يرجع إلى الحس من وجه آخر هل يمكن أن ينفصل من ¬

_ (¬1) في (م) بما دخل. (¬2) في (ق) و (م) فيه. (¬3) في (م) يبلغ الماء مبلغاً يذهب بالنجاسة. (¬4) في (م) و (ن) ويجري في هذه المسألة اللحم. (¬5) في (ر) مواصة وفي (ق) و (م) العارضة. (¬6) في (ر) و (ق) المعنى خلاف.

فصل (في حكم المبيت في الثوب النجس)

النجس شيء يدخل في أجسام (¬1) الطاهر فينجسه أم لا؟ ... فصل (في حكم المبيت في الثوب النجس) والمبيت في الثوب النجس لا يمنع لنفسه وإنما يمنع خوفًا من تحلل النجاسة فتصيب الجسد فينجس. فإن كان الوقت مما يمكن أن يعرق (¬2) فيه فينبغي ألا يرقد فيه (¬3) لئلا يتعرض للتلطخ بالنجاسة. وإذا نام فيه مع نجاسته (¬4) وقطع على سلامته من التلطخ بذلك فلا شيء عليه، وإن قطع على تلطخه غسل النجاسة من موضعها إن كان معينا، فإن لم يكن معينا غسل سائر الجسد، فإن شك نضح. وكذلك حكم الثوب الذي تصاب فيه النجاسة (¬5) فإنه يغسل ما يتيقن من نجاسته وينضح ما ترك فيه. وقد قدمنا حكم النضح فإن صلى (¬6) قبل النضح فهل يعيد أم لا؟ فيه قولان: قيل لا إعادة عليه لأن النضح استحباب، وقيل يعيد لأنه مأمور به (¬7) كما هو مأمور بغسل النجاسة. ... باب في حكم الطهارة الكبرى (¬8) وهي ثلاثة أقسام: واجب وسنة وفضيلة؛ فتجب عند خمسة مواضع: أحدها: إنزال الماء الدافق للذة في يقظة أو منام، وهذا مجمع عليه. ¬

_ (¬1) في (ص) مسام. (¬2) في (م) يعرف. (¬3) في (م) و (ق) في الثوب. (¬4) في (ت) و (ص) نجاسة وفي (ق) النجاسة. (¬5) في (ر) الجنابة. (¬6) في (ص) فإن غسل. (¬7) في (ق) و (م) لأنه مؤمر بغسل النجاسة. (¬8) في (ر) و (ت) وما يتعلق بها.

فصل (في مشروعية الغسل للجمعة والعيدين والحج)

والثاني: مغيب الحشفة وإن لم يكن أنزل، وهذا يختص باليقظة دون المنام، فمن رأى أنه يجامع ثم لم (¬1) ينزل فلا غسل عليه [وأما إن جامع ولم ينزل] (¬2) فعلى وجوب الغسل فقهاء الأمصار. والثالث: انقطاع دم النفاس. والرابع: انقطاع دم الحيض. والغسل في هذين الموضعين مجمع على وجوبه. ولو خرج الولد ولم يصحبه دم ولا كان بعده ففي وجوب الغسل بخروجه قولان. والخامس: الإسلام، وهذا فيه قولان في المذهب: المشهور من المذهب إيجاب الغسل، والشاذ (¬3) استحبابه. ... فصل (في مشروعية الغسل للجمعة والعيدين والحج) ويسن الغسل للجمعة. واختلف في العيدين؛ فقيل الغسل فيهما سنة، وقيل فضيلة. والمشهور من المذهب أن ما بعد ذلك من الاغتسال لا يلحق مرتبة السنن؛ وهي على ثلاثة: الغسل للإحرام، والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفة. وعدها بعض أهل المذهب من السنن. ولا شك أن هذه الاغتسالات متفاوتة (¬4) المراتب في الشريعة؛ فآكدها غسل الجمعة، وقد أوجبه جماعة من أهل الظاهر (¬5)، ويلحق بذلك غسل العيدين. والظاهر أنه لم يوجبه أحد. ويلحق بذلك الغسل للإحرام وهو آكد (¬6) ما في الحج. وأما الغسل لدخول مكة والوقوف بعرفة فرتبتهما متساوية. وإذا عرضت هذه الاغتسالات (¬7) على ما قدمناه في الفرق بين السنَّة والفضيلة علمت (¬8) أن ¬

_ (¬1) في (ص) ثم فلم. (¬2) ساقط من (م) و (ص) و (ق). (¬3) في (ص) والثاني. (¬4) في (ق) متفارقة. (¬5) في (ص) المذهب. (¬6) في (ر) أكثر. (¬7) في (ر) الاغتسال. (¬8) في (ص) على.

فصل

غسل الجمعة والعيدين يمكن تسميتهما سنة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - داوم على فعلهما غير مستتر لذلك بل مظهر له. وأما غسل الحج فلم يتكرر منه تَكراراً (¬1) يقتضي له (¬2) أن يلحق برتبة السنن، بل لم يتكرر أصلاً. وإذا حقق الإنسان ما قدمناه علم معنى تسمية السنة (¬3) والفضيلة والنافلة، وأن اغتسال الحج يكاد (¬4) أن لا يلحق بالفضائل، بل هو في رتبة النوافل. وإنما اتفقوا على غسل الجمعة واختلفوا في العيدين لما ورد في غسل الجمعة من الألفاظ التي تقتضي تأكيده حتى ظن منها أهل الظاهر الوجوب (¬5). ... فصل والغسل الواجب يشتمل على ثلاثة أقسام: فروض وسنن وفضائل، كما اشتملت عليها الطهارة الصغرى. ويشارك [الغسل] (¬6) الطهارة الصغرى في النية والماء الطاهر والموالاة. وأما الطهارة الكبرى فتنفرد بفريضة عموم سائر الجسد بالماء. (حكم إمرار اليد على سائر الجسد) وهل يجب إمرار اليد على سائر الجسد بالماء؟ المشهور من المذهب وجوبه، والشاذ إسقاطه. ووقع لأبي الفرج أنه يجب لا لنفسه؛ بل ليوصل الماء إلى سائر الجسد، إذ يمكن أن ينبو الماء عن بعضه لولا إمرار اليد. ¬

_ (¬1) في (ص) فلم يتكرر تكرارًا و (م) و (ق) فلم يتكرر. (¬2) في (ق) و (ص) لها. (¬3) في (ر) السنن. (¬4) في (ص) تأكد. (¬5) أخرج البخاري في الأذان (858) واللفظ له، ومسلم في الجمعة (846) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ". (¬6) ساقط من (م) و (ق) و (ص).

وسبب هذا الخلاف التحاكم إلى اللغة (¬1) هل يسمى صب الماء من غير تدلك غسلاً أو لا يسمى بذلك إلا إذا قارنه التدلك؟ ويحتج من يسميه غسلاً بقولهم غسلت الأمطار ما تمر عليه، وهو صب الماء من غير زيادة. ويحتج الآخرون بتفريقهم بين الانغماس والاغتسال، ولا فرق إلا إمرار اليد وعدم إمرارها. ويعتذر آخرون عن هذا أن التفرقة ترجع إلى (¬2) غير إمرار اليد؛ وذلك أن المغتسل قد عم جميع جسده والمنغمس قد يعم جميع [جسده] (¬3)، وقد لا يعم. والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفيض الماء على جسده ولم يثبت عنه التدلك. وقد روي عنه أيضاً (¬4) - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتدلك وقد لا يثبت (¬5) ذلك. واحتج من أوجب التدلك [أيضاً] (¬6) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... أَنْقُوا الْبَشَرَ" (¬7). وهذا لا دليل فيه، والمطلوب منه إيصال الماء إلى جميع أجزاء الجسد. هذا (¬8) ما يتعلق بالمسألة من جهة اللغة، وأما الالتفات إلى المعنى فلا شك أن المطلوب من الغسل النظافة وإزالة الأوساخ وإنقاء البدن. وهل يحصل ذلك من غير تدلك أم لا؟ فمن أوجب التدلك رأى أنه لا يحصل [الإنقاء إلا به ومن لم يوجبه رأى أن ذلك يحصل] (¬9) بمجرد صب الماء. وأما التحاكم إلى اللغة في تسمية الغسل فلا شك في حصوله وإن لم ¬

_ (¬1) في (ق) إلى أهل اللغة. (¬2) في (م) على. (¬3) بياض في (ر) وساقط من (م) و (ص). (¬4) (ت) عن رسول الله. (¬5) في (م) ولا يثبت. (¬6) ساقط من (ت). (¬7) ولفظ الحديث كاملاً: "تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ" أخرجه الترمذي في الطهارة (106) واللفظ له، وأبو داود في الطهارة (248)، وابن ماجه في الطهارة (597)، وقال الترمذي في راوي الحديث الحارث بن وجيه: "حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ حَديثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاَّ مِنْ حَدِيثِهِ وهُوَ شَيْخٌ لَيْسَ بِذَاكَ"، وقال فيه أبو داود: "الْحَارِثُ ابْنُ وَجِيهٍ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ". (¬8) في (ر): وهذا. (¬9) ساقط من (ت).

يوجد التدلك (¬1). وهل يجزي التدلك على القول بايجابه (¬2) وإن لم يكن مقارنا لصب الماء بل كان عقيبه؟ للأشياخ قولان: أحدهما: أنه لا بدّ من مقارنة التدلك بصب الماء، فلو انغمس المتطهر في ماء ثم تدلك عقيب ذلك من غير تأخير (¬3) لم يجز عند هؤلاء. والثاني: أنه يجزيه إمرار اليد والتدلك إذا (¬4) كان عقيب صب الماء أو الانغماس. وهذا خلاف في التسمية هل يحصل التدلك عقيب صب الماء أو لا يحصل إلا بأن يقارن صب الماء. [والصحيح أنه يجزئ التدلك عقيب صب الماء وتكليف غير ذلك من الحرج الذي تسقطه الشريعة] (¬5). وإذا أوجبنا التدلك فكان (¬6) في الجسد موضع لا يصيبه ذلك لقصر في اليد أو لعلة مانعة منه، وإن لم يقدر الإنسان على أن يستنيب من يدلك له [ذلك] (¬7) الموضع، ولم يقدر على أن يمسح ذلك بحائط أو ما في معنى ذلك فلا خلاف في سقوط التدلك في الموضع الذي لا يقدر على تدلكه. وإن كان يقدر على الاستنابة (¬8) أو على مسحه كما قلناه فهاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستنيب، والثاني: أنه لا يلزمه (¬9) الاستنابة، والثالث: [أنه] (¬10) إن كان يسيراً لم يلزمه ذلك وإن كان كثيراً لزمه. والقولان الأولان مبنيان على شهادة هل يحصل بطلب الاستنابة الحرج [فيسقط ذلك أم لا يحصل به حرج فلا يسقط] (¬11). ¬

_ (¬1) في (ت): تدلك. (¬2) في (ت): بوجوبه. (¬3) في (ت) تراخ. (¬4) في (ت):إن. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ت): وكان. (¬7) ساقط من (ت). (¬8) في (ت): استنابة (¬9) في (م) لا يلزمه بسبب الحرج. (¬10) ساقط من (ت). (¬11) ساقط من (م).

فصل (في حكم الشعور الكثيفة)

وأما التفرقة بين اليسير والكثير فبناء على أن القليل معفو عنه لا سيما إذا قارنه ما قد يعد حرجاً. ... فصل (في حكم الشعور الكثيفة) واختلف في تخليل الشعور الكثيفة في الغسل، هل يجب ذلك؟ فالمشهور إيجابه في الغسل بخلاف الوضوء، والشاذ إسقاطه. ويستوي في هذا شعر اللحية وشعر الرأس- إن كانت وفرة- وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخلل في الغسل من الجنابة أصول شعر رأسه (¬1). وقد اختلف الأصوليون هل تحمل أفعاله التي قصد بها القربة على الوجوب أو على الندب؟ وأجاز في المدونة للمرأة أن تغتسل ولا تنقض ضفرها (¬2) ولكن تضغثه بيديها (¬3). ومعناه تخلله بأصابعها وتعركه (¬4) حتى يصل الماء إلى أصوله، وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع وصول الماء إلى أصوله؛ فإن كان هناك حائل أزيل وإن أدى إلى نقض الضفر. وكذلك يجري الحكم في مسح الرأس في الوضوء. فإنه أجاز في المدونة أن تمسح على ضفرها (¬5). وهذا إذا لم يكن عليه حائل يمنع من وصول الماء إليه؛ فإن كان هناك حائل جرى نقضه [وعدم نقضه على الخلاف في وجوب إيعاب جميع الرأس فقد تقدم. ... ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الغسل (248)، عن عائشة "أَنَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمّ يَتَوَضأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخَلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلاَثَ غُرَفِ بيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ". (¬2) في (ص) شعرها. (¬3) المدونة 1/ 28. (¬4) قال في مختار الصحاح 1/ 180: عَرَكَ الشيء: دلكه. (¬5) المدونة 1/ 16.

فصل (ما يفعل من بيده نجاسة وليس معه ما يغرف به الماء)

فصل (ما يفعل من بيده نجاسة وليس معه ما يغرف به الماء) وأما سنن الطهارة الكبرى؛ فمنها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وذلك مما تشترك فيه الطهارتان الصغرى والكبرى] (¬1) وقد قدمنا صفة الغسل. ولو أتى الجنب إلى بئر قليلة الماء [أو ما في معناها] (¬2) وبيده نجاسة وليس معه ما يغرف به [الماء] (¬3). قال في المدونة: [يحتال حتى يغتسل أو يغرف] (¬4) ولم يذكر كيف يحتال. وفي غير المدونة أنه يتوصل إلى غسل يديه بأن يرمي في الموضع ما يقبض به الماء إن أمكن ذلك؛ فإن لم يمكن أنزل [في] (¬5) الماء خرقة طاهرة إن كانت معه ويغسل يديه بما يعتصر (¬6) من الخرقة، فإن لم يمكنه ذلك وأمكنه أن يأخذ بفيه ماء ففيه قولان: [أحدهما:] (¬7) أن له ذلك (¬8) بفيه فيصب على يديه. والثاني: أنه لا يجزيه ذلك. فإذا أجزنا غسل النجاسة بغير الماء من المائعات (¬9) فلا شك في جواز ذلك. فإن اقتصرنا على الماء فيختلف في هذه المسألة. وسبب الخلاف [في] (¬10) شهادة بأن [الماء] (¬11) المنفصل عن الفم هل ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) ساقط من (ق). (¬3) ساقط من (ر) و (ت). (¬4) في (ق) حتى يغتسل أو يغرق. والذي في المدونة 1/ 27: (يحتال لذلك حتى يغسل يده ثم يغرف منها فيغتسل). (¬5) ساقط من (م). (¬6) في (ق) و (م) بما يفيض. (¬7) ساقط من (ق) و (م) (¬8) في (ق) أن له أن يأخذ بقيا. (¬9) ساقط من (ق) وفي (ص) بالماء من المائعات، وفي (م) بغير المائعات. (¬10) ساقط من (ص) و (ق). (¬11) ساقط من (م) وطمس في (ص).

فصل

يخالطه من الريق ما يضيف الماء (¬1) أو لا يخالطه قدر ذلك. فإن لم يقدر على تناول الماء بوجه من الوجوه إلا بأن يدخل يده فيه؛ فإن كان في يده من النجاسة مقدار ما يغير الماء فإنه يتيمم ويتركه، وإن كان الماء لا يتغير بذلك والماء يسير فيجري على الخلاف المتقدم في الماء اليسير تحله النجاسة ولا تغيره. وقد تقدم الثلاثة الأقوال: أحدها: أنه طاهر [مطهر] (¬2) فيستعمله هذا. والثاني: أنه نجس فيتركه هذا، وينتقل إلى التيمم. والثالث: أنه مشكوك في حكمه (¬3) فيختلف هل يتيمم ويصلي [صلاة واحدة على ما قدمناه] (¬4) ثم يغتسل به ويصلي صلاة ثانية؟ أو يغتسل به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة على ما قدمناه؟ وأما المضمضة والاستنشاق فهما عندنا (¬5) سنتان في الغسل كما هما في الوضوء. وكذلك مسح داخل الأذنين. وأما خارجهما فلا خلاف في فرضيتهما في الغسل. والداخل هاهنا الصماخ (¬6). ... فصل وأما فضائل الغسل فهي الابتداء بالوضوء قبله. (حكم الرجلين في الغسل) وهل يكمل أعضاء الوضوء أو يبقي الرجلين حتى يغسلهما في آخر غسله؟ في المذهب في ذلك قولان. وقد روت عائشة رضي الله عنها ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). كذا في سائر النسخ. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (م) و (ق) فيه. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) و (ت) عندي. (¬6) قال في مختار الصحاح 1/ 155: الصِّماخُ بالكسر: خرق الأذن.

عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكمل وضوءه (¬1). وروت عنه ميمونة (¬2) رضي الله عنها أنه كان يبقي غسل رجليه إلى آخر غسله (¬3). والحديثان ثابتان عنهما ولا تاريخ يوجب النسخ (¬4)؛ فيحمل فعله على جواز الأمرين. وقد قيل: إن ذلك يختلف فإن كان بموضع لا أوساخ فيه فيقدم غسل الرجلين، وإن كان في موضع فيه أوساخ فيؤخر ذلك؛ لأن تقديم غسلهما غير مفيد إذ يتلطخان بالأوساخ. وإنما ابتدأ بأعضاء الوضوء تشريفاً لها. فمن رأى أن حقيقة التشريف أن يكمل، رأى أن يكمل وضوءه. ومن رأى أن حقيقة التشريف أن يبدأ بها ويختم بها قال يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله. وهكذا قيل في هذا. وقد قدمنا أن الحديثين يقتضيان التخيير. وهل يعيد غسل أعضاء الوضوء إذا بدأ بها؟ أما إذا نوى به الفضيلة؛ فيعيد غسلها، وإن نوى الفرض فلا تلزمه الإعادة. وإن قلنا إنه يؤخر غسل رجليه [إلى آخر غسله،] (¬5) فإنه إذا غسل وجهه وغسل ذراعيه أفاض الماء على رأسه ولم يمسح. وإن قلنا يكمل وضوءه فإنه يمسحه، ولا شك أنه لا يجزيه المسح عن الغسل، فيعيد غسله على كل الأحوال (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الغسل (248) عن عائشة زَوْج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ في الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ". (¬2) هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت فراغه من عمرة القضاء، كان اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة توفيت سنة 61 وقيل: سنة 51. السير 4/ 514. (¬3) أخرج البخاري في الغِسل (274) واللفظ له، ومسلم في الحيض (317) "عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بالْأَرْضِ أَوِ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذرَاعَيهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأسِهِ الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ قَالَت: فَأَتيتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بيَدِهِ". (¬4) في (ت) ولا تراجع موجوب النسخ. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) الأقوال.

فصل (في أن الغسل يجزي عن الوضوء)

فصل (في أن الغسل يجزي عن الوضوء) والغسل يجزي عن الوضوء؛ فلو اغتسل ولم يبدأ بالوضوء ولا ختم به (¬1) أجزأه غسله عن الوضوء لاشتماله عليه. هذا إن لم يحدث بعد غسل شيء من أعضاء الوضوء. وأما إن أحدث فلا يخلو من ثلاث صور: أحدها: أن يحدث قبل غسل شيء من أعضاء الوضوء؛ فهذا الذي قلنا فيه يجزيه الغسل عن الوضوء. والثانية: أن يحدث بعد كمال غسله (¬2) فهو كالمحدث يلزمه أن يجدد وضوءه. والثالثة: أن يحدث في أثناء غسله، فهذا إن لم يرجع فيغسل ما غسله من أعضاء الوضوء قبل حدثه فإنه لا يجزيه. وهل يفتقر هذا في غسل ما تقدم من أعضاء الوضوء إلى نية أم تجزيه نية الغسل عن ذلك؟ فيه قولان للمتأخرين. وقال أبو محمد بن أبي زيد إنه يفتقر إلى نية. ورأى (¬3) أبو الحسن بن القابسي أنه لا يفتقر إلى ذلك. وهذا على الخلاف هل يرتفع الحدث عن كل عضو بإكماله؛ فيكون هذا إذا غسل بعض الأعضاء قبل حدثه (¬4) ثم أحدث فقد ارتفع الحدث عن الأعضاء المغسولة، وما طرأ من الحدث يوجب استئناف غسلها فيفتقر فيه إلى نية، أولاً يرتفع الحدث إلا بإكمال الطهارة فيكون هذا إذا أحدث بعد أن غسل بعض الأعضاء، عدَّ ذلك الغسل كالعدم، فإذا عاد انسحبت نية غسل الجنابة عليه. وهذا جار في كل الأحداث من مس الذكر وغيره (¬5). ... ¬

_ (¬1) في (ق) ولا يتم به. (¬2) في (ت) بعد كمال وضوئه غسله. (¬3) في (ق) و (ت) وروى. (¬4) خرم في (ت). (¬5) في (م) و (ق) ونحوه.

فصل (في فضيلة الابتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -)

فصل (في فضيلة الابتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -) ومن فضائل الغسل الابتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يغسل الأعلى من جسده فالأعلى والأيمن فالأيمن، وهذا لا أعلم خلافاً (¬1) في أنه لا يعد من الفروض. وقد قدمنا حكم الموالاة في الوضوء. وذلك بعينه جار (¬2) في الغسل. ... فصل (حكم النية في الطهارة الكبرى والصغرى) وقد قدمنا أن النية من فروض الوضوء، وأن الغسل يشاركه في ذلك. وهذا هو المشهور من المذهب. وحكى ابن المنذر (¬3) عن مالك في كتابه "الوسيط" (¬4) أن النية غير واجبة في الوضوء، وكذلك يكون [على هذا حكمها في الغسل] (¬5). وسبب الخلاف في هذا أن الطهارة الكبرى والصغرى (¬6) فيهما شوب (¬7) من العبادة والنظافة؛ فمن غلب عليهما شوب العبادة أوجب النية ¬

_ (¬1) في (ر) فيه خلافاً. (¬2) في (ق) و (م) جاز. (¬3) في (ص) أبو المنذر على هذا. وهو: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري الفقيه نزيل مكة، أحد الأئمة الأعلام، كان مجتهدًا لا يقلد أحداً، وإن كان معدودًا من أصحاب الشافعي. سمع محمد بن عبد الحكم والربيع بن سليمان .. قيل: توفي سنة: 309 أو 310 هـ، وقال الذهبي: إنه ليس شيء. وحدث ابن القطان نقل وفاته سنة 318 هـ، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 98 - 99 (44). وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 103. (¬4) في (ص) و (م) و (ق) الأوسط. (¬5) ساقط من (ص). (¬6) في (ق) و (م) أو الصغرى. (¬7) في (ر) شوائب.

كالصلاة، ومن غلب عليهما حكم (¬1) النظافة لم يوجب [النية] (¬2) كغسل النجاسة (¬3). وإذا أوجبنا النية فما محلها؟ أما محلها من المكلف القلب، والنية هي القصد، ومحل القصد (¬4) القلب. وأما محلها من العبادات فأولها هذا فيما يبدأ منه بالفروض كالصلوات، وهاهنا يبدأ بالسنة (¬5) كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق. واختلف هل يبدأ بالنية في مبادئ الوضوء لأنه فعل متصل؟ أو تكون البداية بها (¬6) عند الآخر في الفروض لأن النية إنما تفرض للفرض (¬7) فلا يبدأ بها عند النوافل؟ والجمع بين القولين أن يبدأ بها في أول الوضوء، ثم يداوم ذكرها إلى غسل الوجه. ولا يضر بعد الابتداء بها في محلها أن تختلس (¬8) بعد ذلك. هذا إذا قصد بنيته جملة الطهارة. وهل للمكلف أن يفرق النية على أعضاء الوضوء؟ في ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يجوز كالصلاة؛ فإنه لا يجوز أن يفرق النية على أجزائها، بل عليه أن ينوي جملتها. والثاني: أنه يجوز بخلاف الصلاة، لأن كل عضو قائم بنفسه. وهذا يلتفت إلى ما قدمناه من الخلاف في الأعضاء هل يرتفع عن كل عضو منها الحدث بكماله أو لا يرتفع إلا بكمال جميعها. وفي المدونة فيمن أبقى (¬9) غسل رجليه من طهارته فخاض بهما نهرا ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) شوب. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) في (ق) الجمعة. (¬4) في (ق) القصود. (¬5) في (ت) التسمية. (¬6) في (ص) هنا. (¬7) في (ر) في الفروض. (¬8) في (ر) تختلسه، وخرم في (ص) و (م). (¬9) في (ص) نسي، وفي (م) و (ق) بقي، وفي (ت) خرم.

فدلكهما فيه ولم ينو غسلهما للطهارة (¬1) أنه لا يجزيه حتى ينوي بهما الطهارة (¬2). وأخذ القاضي أبو محمد [عبد الوهاب] (¬3) من هذا جواز تفرقة النية على أعضاء الطهارة. ولولا (¬4) أن هذا الذي أبقى (¬5) غسل رجليه فرق نيته [على] (¬6) الأعضاء لانسحبت (¬7) النية الأولى على الرجلين لكان لا يفتقر في غسلهما إلى تجديد نية. وقد اعتذر عن هذا بأن النية إنما تنسحب (¬8) ما لم تحصل التفرقة. وأما إذا حصلت التفرقة بطل (¬9) حكم الانسحاب. وإذا قلنا بأن محل النية أول الطهارة؛ فإن قارنت فلا شك في الإجزاء، وإن تأخرت فلا شك في الإبطال، لأن ما تقدم من الوضوء خال عن النية، وإن تقدمت فلا يخلو من قسمين: أحدهما: أن تتقدم بالزمان الطويل أو بالزمان القصير. فإن طال الزمان لم تجز، وإن قصر فقولان: أحدهما: الإجزاء، وهذا بناء على أن ما قارب الشيء حكمه حكماً لشيء، أو مراعاة لقول من [لم] (¬10) يوجب النية. والثاني: عدم الإجزاء، لأن النية عَرَض لا تبقى وقتين (¬11). فإذا لم يستدم ذكرها حتى تقارن الفعل فهي في حكم العدم. ولا خلاف في صحة الصوم وإن لم تقارن النية أول جزء منه. والمنصوص في [الصلاة] (¬12) وجوب مقارنة النية لأولها. وكأن الوضوء فرع بين هذين؛ فمن رده إلى الصوم فلا خلاف في عدم لزوم مقارنة النية فيه (¬13) ¬

_ (¬1) في (ص) للجنابة. (¬2) المدونة 1/ 32. (¬3) ساقط من (ت) و (ص) و (م). (¬4) في (ت) الطهارة قال ولولا. (¬5) في (ص) نسي. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ت) ولا تسحب. (¬8) في (ص) تصحب. (¬9) في (ت) وإلا إذا حصلت التفرقة بطل، وفي (م) وإلا أبدًا حصلت التفرقة بطل. (¬10) ساقط من (ر) و (ص). (¬11) في (ت) و (ق) زمانين. (¬12) ساقط من (ص) وفي (م) و (ت) المدونة. (¬13) في (ت) و (ص) فمن رده إلى الصوم فلا خلاف في لزوم النية فيه.

فصل (في المطلوب من النية في الطهارة)

أو جاز أن تتقدم النية، ومن رده إلى الصلاة فلا. لأن الصوم يشق محاذاة أوله بالنية، والوضوء لا يشق فيه ذلك، ولذلك أوجبت المقارنة. ... فصل (في المطلوب من النية في الطهارة) والمطلوب من النية في الطهارة أن ينوي أحد ثلاثة أشياء: إما رفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو امتثال (¬1) الأمر. وهذه متى حضر (¬2) ذكر جميعها فلا يمكن أن يقصد (¬3) أحدها دون الآخر بل هي متلازمة، وإن حضر بباله بعضها أجزأ عن جميعها كما قدمناه. ولو خطر بباله جميعها وقصد بطهارته بعضها ناوياً عدم حصول الإجزاء فالطهارة أيضاً باطلة. لأن النية غير حاصلة، ومثاله أن يقول أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة، أو [أستبيح الصلاة] (¬4) ولا أرفع الحدث، أو أمتثل أمر الله في الإيجاب ولا أستبيح ولا أرفع، فهذا أتى بنية متضادة شرعاً [وحكماً] (¬5) فتتنافى (¬6) النية وتكون كالعدم. ولو توضأ أو اغتسل قاصداً بالاستباحة صلاة (¬7) دون غيرها فإن لم يحضر الغير (¬8) بباله استباح كل صلاة، ولو حضر بباله وقصد أنه لا يتطهر له ومثاله أن يقول: أتطهر للظهر دون العصر؛ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجزيه ويصلي به سائر الصلوات، والثاني: أنه لا يجزيه ولا ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) وامتثال. (¬2) في (ت) خطر. (¬3) في (ص) أن يقد أحدهما وفي (ت) و (ق) أن يقصد ذكر أحدهما. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ت) و (ق) و (ص). (¬6) غير مقروء في (ت). (¬7) في (ت) الصلاة. (¬8) في (م) فإن لم يخطر الغسل.

فصل (هل تجزي النية لغير الصلاة للصلاة؟)

يصلي به ظهراً (¬1) ولا غيره. والثالث: أنه يصلي به ما نوى دون غيره. وهذا بناه الأشياخ في الرفض للطهارة على الخلاف هل يؤثر أم لا؟ لأنه إذا قصد الظهر (¬2) مثلاً دون العصر فكأنه يقول (¬3) أستبيح الظهر فبعد (¬4) استباحتها أرفض وضوئي، ولكنه أتى بالاستباحة والرفض في حالة واحدة. فمن التفت إلى سبق الإباحة غلب حكمها وقال: تجزي لكل صلاة. وما قصده من الرفض مخالف لحكم الشرع فيبطل. ومن التفت إلى وقوع القصدين [المتضادين] (¬5) في حالة واحدة حكم بالتنافي كما قلناه فيمن نوى رفع الحدث دون استباحة الصلاة. ومن صحح الرفض ورأى أن للاستباحة رتبة السبق (¬6) حكم بإجزاء الصلاة الأولى دون الثانية (¬7). ... فصل (هل تجزي النية لغير الصلاة للصلاة؟) وإذا حكمنا بأن النية لصلاة (¬8) واحدة من غير خطور (¬9) غيرها بالبال تجزي عن سائر الصلوات، فهل يحل غير الصلاة (¬10) في محلها في ذلك (¬11)؟ ¬

_ (¬1) في (ص) صلاة. (¬2) في (ت) الطهارة الظهر. (¬3) في (ت) و (ق) يقول مثلا. (¬4) في (ق) بعد. (¬5) ساقط من (ص). (¬6) في (ق) السنن. (¬7) في (م) النية. (¬8) في (ت) و (ق) و (ص) للصلاة. (¬9) في (ق) و (ص) و (م) حضور. (¬10) في (ص) فهل غير الطهارة. (¬11) في (م) في ذلك أم لا.

(حكم ما تشترط له الطهارة)

(حكم ما تشترط له الطهارة) الأفعال على ثلاثة أقسام: قسم لا يصح إلا بالطهارة، كالصلاة على اختلاف أنواعها من فرض وسنة وفضيلة ونافلة وصلاة جنازة وسجود القرآن، وكذلك مس المصحف والطواف بالكعبة ودخول المسجد في حق الجنب والحائض. فهذا كله إن قصد إلى استباحة بعضه استباح بذلك سائر ما تشترط فيه الطهارة. (ما لا تشترط له الطهارة ولا تستحب) وقسم لا تشترط فيه الطهارة ولا تستحب (¬1) كالمشي إلى السوق والأكل والشرب، فهذا لا يجزي القصد إلى استباحته. ومتى قصد إلى ذلك بطهارته لم يستبح بذلك شيئًا من الأفعال التي تشترط فيها الطهارة. (ما تستحب له الطهارة) وقسم ثالث تستحب (¬2) فيه الطهارة؛ كمن توضأ مجدداً أو اغتسل للجمعة ناسياً للجنابة أو توضأ لقراءة القرآن طاهراً أو توضأ للدخول على السلطان، ولا يقصد (¬3) غير ما ذكرناه؛ ففيه قولان: أحدهما: أنه يستبيح كل ما الطهارة شرط فيه، والثاني: ألا يستبيح به شيئاً مما تفرض الطهارة له. وسبب الخلاف الالتفات إلى أن الطهارة غير واجبة لهذا القبيل ولا يجزي القصد إلى طهارة غير واجبة عن القصد إلى طهارة واجبة. والثاني: الالتفات إلى أنه قصد أن يكون على طهر، بل قصد إلى أن يكون على أكمل حال من الإجزاء. وقد تضمنت نيته الإجزاء زيادة فتجزي. ... ¬

_ (¬1) في (م) و (ت) تستباح. (¬2) في (ر) و (ق) لا تجب. (¬3) في (م) و (ق) ولا يقصد ما ذكرناه.

فصل (حكم تعدد المقاصد في رفع الحدث)

فصل (حكم تعدد المقاصد في رفع الحدث) ومتى قصد إلى رفع الحدث، فإن اتحد [الحدث] (¬1) فلا تفريع. وإن تعدد القصد فلا يخلو من أن يكون من جنس واحد أو من جنسين؛ فإن كان من جنس واحد فإن نوى رفع واحد منها ارتفع جميعها، هذا إذا لم يخطر بباله إلا ما نوى. فإن خطر غيره [بباله] (¬2) وقصد رفع البعض دون البعض جرى على ما قدمناه إذا قصد استباحة الصلاة دون رفع الحدث، وإن كان جنس الحدث مختلفاً. فأما ما يوجب الطهارة الصغرى؛ فالمختلف منه كالمتفق لأن حكم الواجب منه (¬3) متحد وهو الوضوء، وما يمنعه متحد وهو كل ما يشترط فيه الوضوء. وأما ما يوجب الطهارة الكبرى إذا اختلف جنسه كالحيض والجنابة فإن وقعت النية لهما أجزأت، وإن نويت إحداهما دون الأخرى فثلاثة أقوال: أحدها: الإجزاء لأن الواجب عنهما متحد وهو غسل جميع الجسد، والثاني: عدم الإجزاء لأن الحيض يختص بمنع الجماع والطلاق، والجنابة تختص بمنع قراءة القرآن ظاهرًا (¬4) على المشهور. والثالث: أن القصد إلى الحيض يجزي دون القصد إلى الجنابة، وهذا لأن الحيض يمنع مما قلناه بلا خلاف، والجنابة قد قيل إن الحيض يشاركها في المنع من قراءة القرآن ظاهرًا. ومن كان عليه غسل جنابة وجمعة؛ فإن قصد الاغتسال للجنابة (¬5) ناسيًا للجمعة ففي ذلك قولان: أحدهما: الإجزاء؛ لأنه قصد الآكد. والثاني: عدم الإجزاء، لأنه قصد واجباً. والغسل للجمعة سنة ولا يحصل إلا بحصول الواجب فهو أكمل ولا يحصل الأكمل إلا بالقصد إليه. وأما إن قصد الجمعة دون الجنابة فقد تقدم القولان. فإن قصدهما ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ق) و (ت) و (ص). (¬3) في (ق) عنده، وساقط من (ر) وخرم في (ت). (¬4) في (ق) و (ت) طاهرًا. (¬5) في (ص) قصد بالاغتسال إلى الجنابة.

فصل (حكم الغسل إذا فقدت اللذة المعتادة)

جميعاً ففي المذهب قولان: أحدهما: الأجزاء، وهو المشهور، لأنه قد نوى كل واحد منهما والغسل متحد ونية الأجزاء والكمال لا تتنافى. والثاني: أنه لا يجزي، وهذا يرى تنافي النية هاهنا لأن الفرض واجب تحصيله والسنة غير واجب تحصيلها. فكأنه يقول في الغسل أغتسل لواجب غير واجب (¬1) في حالة واحدة وذلك متناف (¬2). وما الذي يفعله على هذا القول؟ ينبغي أن يقصد الجنابة ويعتقد أنه نائب (¬3) عن الجمعة. ... فصل (حكم الغسل إذا فقدت اللذة المعتادة) وقد تقدم أن الغسل يجب بإنزال الماء الدافق للذة مقارنة، فإن فقدت اللذة المعتادة وغير المعتادة ولم تكن مقارنة ولا سابقة (¬4) فهاهنا قولان: المشهور أن الغسل غير واجب والشاذ إيجابه. وهذه صورة نادرة فهل يعلق الحكم عليها؟ بين الأصوليين خلاف في ذلك؛ فمن علق الحكم على الصورة النادرة رأى إسقاط الوجوب هاهنا، لأن اللذة متى فقدت جملة لحق بسلس الأحداث (¬5)، وأيضاً فإن هذا إذا خلا ما يخرج منه عن اللذة جملة فهو كالودي صورة ومعنى، فلا يوجب (¬6) غسلاً. ومن رأى إجراء الحكم على الغالب طرداً للقاعدة (¬7) الكلية أوجب الغسل، لأن الشريعة علقت وجوب الغسل على المني والغالب حصوله بلذة، فإن حصل بغيرها فذلك نادر. وقد تكون اللذة متقدمة لسبب فلم يَعْرَ من لذة. ¬

_ (¬1) في (ت) و (م) واجبة. (¬2) في (ق) استئناف. (¬3) في (ت) غائب. (¬4) في (ق) متابعة. (¬5) في (ص) البول. (¬6) في (ص) فلا يجب. (¬7) في (ر) لقاعدة.

فإن قارن مادة غير معتادة كمن يسابق فيمني أو ينزل حوض الحمام (¬1) أو تلدغه عقرب فيكون منه ذلك، فهذا فيه قولان: إيجاب الغسل بحصول (¬2) اللذة، وإسقاطه. لأن وجود المني عن ذلك نادر، فيلحق بالصور النادرة. فإن كانت اللذة معتادة لكنها سابقة، كمن يجامع فيجد اللذة (¬3) ولا يكون منه ماء، أو يتلذذ بغير الجماع ولا يكون منه ذلك، ثم بعد ذهاب تلك اللذة جملة يكون منه الماء؛ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الغسل التفاتاً (¬4) إلى اللذة المتقدمة، ولأنها (¬5) قد أثرت انفصال الماء عن موضعه، وإنما عجزت الطباع عن إبرازه (¬6) في الحال. والقول الثاني: إسقاط الغسل لأن الماء لا حكم له ما لم يبرز، فإذا برز عاريا من اللذة لحق بما (¬7) فقدت فيه اللذة جملة. والقول الثالث: أنه إن كان عن جماع ثم اغتسل له قبل بروز الماء ثم برز فلا يعيد الغسل، وإن كان عن غير جماع فلم يغتسل له فإنه (¬8) يغتسل عند بروزه وهذا لأنه (¬9) يوجب الغسل له لكنه لا يكون غسلان لحدث واحد. وإذا أسقطنا الغسل فهل بجب منه الوضوء؟ في المذهب قولان: أحدهما: إيجابه، لأن أدنى مراتبه أن يكون كالودي (¬10). والثاني: إسقاطه لأنه كسلس المذي (¬11). ¬

_ (¬1) في (م) لحوض. (¬2) في (ت) و (ق) و (ص) لحصول. (¬3) في (ق) اللذة جملة. (¬4) في (ت) اتفاقا. (¬5) في (م) أو. (¬6) في (ص) إنزاله. (¬7) في (ص) فيما. (¬8) في (م) و (ق) لأنه. (¬9) في (ق) وهذا لا لأنه. (¬10) في (ت) و (م) كالمدي. (¬11) في (ت) البول المدي.

فصل (مشروعية الوضوء للجنب قبل النوم)

وإذا صلى بعد وجود اللذة ثم برز (¬1) الماء، فهل يعيد تلك الصلاة؟ في المذهب قولان: أحدهما: الإعادة، وهو بناء على أن لانفصاله من موضعه حكما كما تقدم. والثاني: أنه لا يعيد تلك الصلاة وهو بناء على أن المراعى وقت بروزه. ... فصل (مشروعية الوضوء للجنب قبل النوم) ولا خلاف أن الجنب مأمور بالوضوء قبل النوم، وهل الأمر بذلك وجوب أو ندب؟ (¬2) المذهب قولان: وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الجنب بالوضوء قبل النوم (¬3). وبين الأصوليين خلاف في أمره هل يحمل على الوجوب أو على الندب؟ واختلف في علة أمره بالوضوء قبل النوم؛ فقيل: لينشط للغسل. وعلى هذا لو فقد الماء لم يؤمر بالتيمم. وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين لأن النوم موت أصغر فشرعت فيه الطهارة الصغرى كما شرعت في الموت الطهارة الكبرى. فعلى هذا فإن فقد الماء تيمم. ... فصل (هل يجبر المسلم زوجته الكتابية على الغسل؟) ولا يجبر المسلم زوجته الكتابية على الغسل من الجنابة. وهل يجبرها على الغسل من الحيضة؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يجبرها لأنها ¬

_ (¬1) في (م) ينزل. (¬2) في (ت) و (م) واجباً أو ندبًا. (¬3) أخرج البخاري في الغسل (290)، ومسلم في الحيض (306) عن عمر أنه ذكر لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ".

فصل (حكم من استيقظ فوجد ماء في ثوبه)

بتزويجه كالملتزمة للأحكام الواجبة (¬1) فيما بينها وبين زوجها. واعترض المتأخرون قول من (¬2) أوجب عليها الغسل بأن غسلها يفتقر إلى النية وهي ممن لا يصح منها القصد إلى الغسل. والجواب عن هذا أن كل غسل يتعلق بالمغتسل (¬3) يفتقر إلى نية، وما يتعلق بغيره فلا يفتقر إلى ذلك كغسل الإناء من ولوغ الكلب وغسل الميت. ... فصل (حكم من استيقظ فوجد ماء في ثوبه) ومن انتبه فوجد ماء فإن أيقن أنه مني اغتسل. وإن أيقن أنه مذي توضأ. وإن شك جرى على الخلاف فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث، فإن قلنا بإيجاب الوضوء هناك وجب الغسل على هذا، وإن قلنا باستحبابه هناك استحب الغسل لهذا (¬4). ولو وجد منياً في ثوبه الذي ينام فيه ولا يدري من أي نوم كان؟ ففيه قولان أيضاً: أحدهما: إيجاب إعادة ما صلى من أول زمن نام. والثاني: إيجاب إعادة ما صلى من آخر نومة (¬5) نام فيه. وهو على الخلاف فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث، لأن هذا على يقين من طهارته المتقدمة، وشك هل كان المني في أول نوم نامه في الثوب أو آخر نوم. ووقع (¬6) في بعض الروايات أنه إذا كان ينزع الثوب في النهار فإنه يعيد (¬7) من آخر نومه (¬8)، وإن كان لا ينزع فمن أول نوم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ر) الواجبة على الغسل من الحيضة. (¬2) في (ت) قول ابن القاسم. (¬3) في (ق) و (م) بالمغسول. (¬4) في (ر) الغسل المدي. (¬5) في (ص) و (م) و (ق) نوم. (¬6) في (م) و (ق) وقد وقع. (¬7) فإنه يعتبر. (¬8) في (ص) نوم نام فيه. (¬9) في (ق) يومه.

فصل (حكم وطء المسافر زوجته مع فقد الماء)

وهذا بناء على وجوب الغسل بالشك. وإنما رأى أنه متى كان ينزعه ولم ير فيه جنابة دل ذلك على أن الموجود فيه من آخر نوم. ... فصل (حكم وطء المسافر زوجته مع فقد الماء) ومنع في الكتاب المسافر من أن يطأ أهله إلا أن يكون معه من الماء ما يكفيه، ولم يجز له الوطء والانتقال إلى (¬1) التيمم، وأجاز ذلك لمن به شجة وهو ينتقل عن غسل موضعها إلى المسح، وكذلك لو كان ينتقل إلى التيمم. وفرق بطول أمر صاحب الشجة وحاجته إلى وطء أهله (¬2). قال الأشياخ: ولو علم أنه يطول سفره وفقد الماء (¬3) لكان بمنزلة صاحب الشجة. وفي الكتاب في المسألة الأولى أنه لا يطأ زوجته ولا جاريته كانا على وضوء أو على (¬4) غير وضوء (¬5). ثم قال: وكل ذلك سواء. وللأشياخ هاهنا قولان: هل تعود تسويته (¬6) على المتوضئ والمحدث، أو على الزوجة والجارية (¬7)، لأن الزوجة لها حق في الوطء والجارية لا حق لها في ذلك. ولا شك أن مراده (¬8) التسوية في الجميع. ... ¬

_ (¬1) في (ت) من التيمم. (¬2) المدونة 1/ 31. (¬3) في (ق) و (م) وفقده وفي (ت) وفقره. (¬4) في (ص) وعلى. (¬5) المدونة 1/ 31. (¬6) في (ص) أحدهما هل تعود تسميته. (¬7) في (ت) على الزوجة أو الجارية. (¬8) في (ر) مراد.

فصل (حكم قراءة القرآن ظاهرا للجنب والحائض)

فصل (حكم قراءة القرآن ظاهرًا للجنب والحائض) واختلف في الجنابة والحيض؛ هل يمنعان قراءة (¬1) القرآن ظاهرا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يمنعان من ذلك. والثاني: أنهما لا يمنعان. والثالث: أن الجنابة تمنع بخلاف الحيض. وقد تقرر أنهمِ كانوا في العصر الأول يمتنعون (¬2) من قراءة ما كثر من القرآن إذا كانوا جنبًا. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الجنب: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" (¬3)، وهذا يقتضي الإباحة. لكن ما ورد من فعلهم لا يتطرق إليه التأويل، وهذا إنما خرج على سبب وذلك أن أبا هريرة كان يماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) فانسل (¬5) عنه فسأله عن سبب ذلك فقال: كرهت أن أماشيك جنباً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "سُبحَانَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" (¬6). وهذا عموم ورد على سبب. وبين الأصوليين خلاف في تعديته أو قصره على سببه. وأما التفرقة فلأن الجنب يقدر على رفع جنابته والحائض لا تقدر على ذلك، فلو منعت القراءة (¬7) لأدى. إلى تضييع أجور تريد حصولها وقد يؤدي إلى نسيانها. (هل يباح للجنب دخول المسجد؟) وهل يباح للجنب دخول المسجد عابري سبيل؟ فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أحل المسجد لجنب ¬

_ (¬1) في (ت) و (ص) و (ق) من قراءة. (¬2) في (ر) و (ت) يمنعون. (¬3) البخاري في الغسل 285، ومسلم في الحيض واللفظ له 371. (¬4) في (ق) أن أبا هريرة أنه يباشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخدمة. (¬5) في (ص) انخلس. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في (ص) القرآن.

فصل (حكم من أم الناس جنبا)

ولا لحائض" (¬1)، وهذا نص. ولكن يعارضه ما قدمناه من قوله: "إِن الْمُؤمِنَ لاَ يَنْجُسُ"، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬2) الآية. واختلف المفسرون هل المراد نفس الصلاة، أي لا تقربوا الصلاة بجنابة إلا [أن تكونوا] (¬3) عابري سبيل، أي مسافرين فتيمموا وصلوا. وقيل: المراد موضع الصلاة فيكون على هذا دليلاً على جواز دخول الجنب للمسجد (¬4) عابري سبيل. ... فصل (حكم من أم الناس جنبا) والمعروف من المذهب أن صلاة المأموم متعلقة (¬5) بصلاة الإمام. والشاذ عدم الارتباط، وهو مذهب الشافعي. ولهذا لا يجوز عندنا أن يأتمّ المفترض بالمتنفل. واختلف في إمام صلى بالناس جنباً؛ فقيل: إن كان عامدًا بطلت الصلاة، وإن كان ناسيًا لم تبطل الصلاة، هذا في حقهم. وأما صلاته فباطلة بإجماع. وقيل صلاتهم صحيحة. وقيل باطلة. والقول بالصحة يقتضي أن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة (645) بلفظ: "إنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلاَ لِحَائِض"، وأبو داود في الطهارة (232)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 284) بلفظ: "لاً أُحِلُّ الْمَسْجَدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُب" وقال صاحب تهذيب التهذيب 1/ 320: قال الخطابي في شرح السنن: ضعّفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت- راوي حديث أبي داود- راوية مجهول، وقال ابن حزم أفلت غير مشهور ولا معروف بالثقة وحديثه هذا باطل، وقال البغوي في شرح السنَّة ضعف أحمد هذا الحديث لأن راويه أفلت وهو مجهول. قلت: قد أخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه وقد روى عنه ثقات ووثقه من تقدم وذكره ابن حبان في الثقات أيضًا وحسنه ابن القطان. (¬2) النساء: 43. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) في (ر) و (ق) و (م) و (ت) دخول المسجد. (¬5) في (م) و (ت) متصلة وفي (ق) مرتبطة.

كل مصل صلى (¬1) لنفسه كما يقول الشافعي. والقول بالإبطال يقتضي تعلق الصلاتين. والتفرقة بين العمد والنسيان لم يظهر للشيخ أبي القاسم السيوري وجهها فقال: هما قولان [جميعاً] (¬2) في التأليف، وإنما قال مالك بالإبطال (¬3) لما سئل عن صلاة العامد في وقت لو سئل فيه عن صلاة [الناسي لقال تبطل، وقال بالصحة لما سئل عن الناسي في وقت لو سئل فيه عن صلاة] (¬4) العامد لقال بالصحة. وهذا تأويل بعيد وتجهيل لمؤلف المدونة، فإنه فصل بين العامد والناسي وتفصيله فلا بدّ يقتضي اختلاف الحكم عنده. وقد اعتذر القاضي (¬5) أبو محمد عن الفرق بأن الناسي غير عاص والعامد فاسق (¬6) لعمده فتبطل الصلاة بناء على بطلان إقامة الفاسق. وهذا الاعتذار إذا أدير عليه التقسيم فإنه لا يخلو من أن يقال بتعلق الصلاتين أو بعدم تعلقهما؛ فإن تعلقتا وجب البطلان، وإن لم تتعلقا (¬7) وجبت الصحة، وإن كان فاسقا. وخير ما اعتذر به أن الناسي، قاصد (¬8) إلى الصلاة فتساوى القصدان، وإن كان باطلاً عند الله فلا يضر ذلك مع تساوي القصدين. فإذا كان عامداً (¬9) ولم يقصد الصلاة فاختلف القصدان. ومتى اختلفت بطلت الصلاة عندنا. ¬

_ (¬1) في (ص) يصلي وفي (ق) مصل. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ص) مالك في التأليف بالإبطال. (¬4) ساقط من (ص). (¬5) في (م) و (ت) القروي. (¬6) هكذا في (ر) وفي (ق) فاسق عاصٍ في يغذره. (¬7) في (ص) وإن لم يتعلقا لما وجبت أصحت. (¬8) في (ق) قصدًا وفي (ت) و (م) قصد. (¬9) في (ت) و (ق) و (م) العامد.

(حكم الإمام يذكر جنابه في الصلاة)

(حكم الإمام يذكر جنابه في الصلاة) ولو ذكر الإمام جنابة في أثناء الصلاة فعلى القول (¬1) ببطلان صلاة المأمومين مع النسيان يقطع. وعلى القول بصحتها يستخلف كما قال في الكتاب. فإن لم يفعل وتمادى بطلت الصلاة. ولو علم أحد ممن خلفه بجنابته لبطلت صلاة العالم بذلك. قالوا ولو طرأ لأحد من المأمومين العلم في الصلاة أوجب على من طرأ له ذلك أن يعلم الإمام حتى يستخلف. وتبطل صلاة هذا لأنه في وقت العلم صار مقتدياً بمن لا يصح الاقتداء به. ... فصل (حكم من صلى بثوب نجس أو حرير) وقد قدمنا حكم المصلي بنجاسة ومتى يعيد؛ فإن كان إنما صلى بذلك عجزاً عن القدرة على غسل النجاسة (¬2)، أو عجز عن ثوب طاهر يستر به فهاهنا قولان: أحدهما: أنه كالناسي يعيد في الوقت الذي يعيد فيه الناسي. والثاني: أن هذا يعيد الظهر والعصر أجمع (¬3) بخلاف الناسي، لأن هذا معه عقله الذي يتلقى به التكليف. وبين الأصوليين خلاف في تكليف غير المستطيع. من قيل إن الناسي غير مكلف. والصلاة بالحرير المحض لا تجوز للرجل ولا لباسه في كل الأحوال إلا أن تدعو لذلك الضرورة، كحكة تمنع ملاقاة الجسم بغير الحرير. ففي المذهب قولان: أحدهما: الإجازة (¬4) لأنها ضرورة. والثاني: المنع. وأصل مبنى هذا شهادة على (¬5) أن الضرورة لا تتصور حتى تمنع أن يلاقي الجسم ¬

_ (¬1) في (ق) القولين. (¬2) في (ص) و (م) الجنابة. (¬3) في (ر) والعصر النهار كله، وفي (ص) والعصر نهاره أجمع. (¬4) في (ق) و (م) الإجزاء. (¬5) في (ق) وعلى هذا الأصل مبني على، وفي (ص) وأن هذا مبني على، وفي (م) وعلى هذا شهادة أعلى، وخرم في (ت).

بغير الحرير. وكذلك القولان في لباسه في الجهاد؛ الجواز لأنه موضع ترهيب وإظهار قوة، والمنع أخذا بعموم ما ورد في الحديث من النهي (¬1). فمن لم يجد إلا ثوب حرير [طاهر] (¬2) وثوب نجس فبأيهما يصلي؟ قولان: أحدهما: أنه يصلي بالحرير من جهة أنه طاهر، ثم يعيد إذا قدر على غيره في الوقت. والثاني: أنه يصلي بالنجس، ثم يعيد إذا قدر على غيره أو على غسل النجاسة في الوقت أيضاً. وهذا خلاف (¬3) في المكروهين إذا تقابلا أيهما يرتكب. والنجاسة تختص بالمنع في الصلاة دون غيرها فلها تأكيد بالاختصاص (¬4). والحرير يحرم لباسه في كل الأوقات، فلهذا (¬5) تأكد بعموم (¬6) الأوقات. وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي الصلاة في الدار المغصوبة هل تصح أم لا؟ وذلك ينبني على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وإذا صلى بالحرير مع القدرة على غيره من الثياب الطاهرة فهل تبطل صلاته أم لا؟ ثلاثة أقوال: أحدها: البطلان، والثاني: الصحة مع العصيان، والثالث: إن كان عليه ما يستره من غير الحرير صحت الصلاة، وإن لم يكن عليه ما يستره بطلت. فالصحة والبطلان مبنيان على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وأما التفرقة بين أن يكون عليه ما يستره أم لا، فإنه متى صار (¬7) عريانا عن غيره صار كالمكشوف العورة شرعاً، ومتى كان مستور ¬

_ (¬1) من ذلك ما أخرجه الترمذي في اللباس (1720) واللفظ له، والنسائي في الزينة (5148) عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإنَاثِهِمْ" قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬2) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬3) في (ص) على خلاف. (¬4) في (ق) فلهذا أكد بالاختصاص، وفي (ر) كالتأكد في الاختصاص. (¬5) في (ر) فلها. (¬6) في (ق) و (م) عموم. (¬7) في (ق) و (م) و (ت) و (ص) كان.

فصل (حكم الصلاة أثناء مدافعة الخبث)

العورة بغيره كان (¬1) مرتكباً للنهي فاعلاً لما يلزمه في الصلاة من ستر العورة. ... فصل (حكم الصلاة أثناء مدافعة الخبث) ولا يجوز أن يصلي وهو يدافع خروج الحدث؛ فإن فعل ففي الكتاب يعيد بعد الوقت (¬2). قال الأشياخ: وهذا على ثلاثة أقسام (¬3): أحدها: (¬4) أن يمنع الحدث إتمام الفروض، وهذا يعيد في الوقت وبعده. والثاني: أن يمنعه من إتمام السنن، فهذا يعيد في الوقت لا بعده (¬5). وينبغي أن يختلف في هذا على الخلاف في تارك السنن [متعمداً] (¬6) هل يعيد بعد الوقت؟ والثالث: أن يمنعه من إتمام الفضائل، فهذا لا إعادة عليه. وسيأتي بيان الفروض والسنن والفضائل في أول كتاب الصلاة إن شاء الله. ... فصل (في مشروعية أداء صلوات متعددة بوضوء واحد) ولا قائل اليوم (¬7) بوجوب الوضوء لكل صلاة، وإنما يحكى ذلك عن علي رضي الله عنه، والعلماء غيره (¬8) متفقون على أن في الآية إضماراً. ¬

_ (¬1) في (ر) وكان. (¬2) في (ق) يعيد في الوقت. وجاء في المدونة 1/ 34 إذا شغله فأحب إلى أن يعيد. قلت له: في الوقت وبعد الوقت؟ قال إذا كان عليه الإعادة فهو كذلك. (¬3) في (ت) و (م) و (ق) أوجه. (¬4) في (ق) و (ت) و (م) أحدهما إما أن يمنعه. (¬5) في (ق) في الوقت وبعده. (¬6) ساقط من (ق) و (م). (¬7) في (ق) ولا قائل يقول اليوم. (¬8) في (ق) و (ص) بعده.

فصل (حكم ثياب أهل الذمة)

واختلفوا في المضمر (¬1) ما هو؟ فقيل: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين (¬2) ليكون ذلك إجمالاً لجميع الأحداث، ثم جاء التفصيل بعده. وقيل: إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع، أي من النوم، لأن الأحداث قد ذكرت في الآية ولم يذكر النوم. وإن قلنا إنه المحذوف اشتملت (¬3) على جميع الأحداث. وإنما اضطر العلماء إلى هذا لما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون بالوضوء الواحد صلوات، ما لم يحدثوا. وقد فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، وسأله عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال: "عَمْداً صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ" (¬4). وأراد أن يقتدى به في ذلك. وتجديد الوضوء مستحب بلا خلاف. ... فصل (حكم ثياب أهل الذمة) وقد قدمنا الخلاف في صور من عادته يستعمل النجاسة إذا شك هل معه نجاسة أم لا؟ فإن الخلاف في ذلك على الخلاف في الرجوع إلى الأصل والغالب. وقد حكموا (¬5) في ثياب أهل الذمة إذا أخذها المسلم أنه لا يصلي بها، هذا فيما لبسوه. وأما ما نسجوه فأجازوا الصلاة بها. وإن أمكن أن يلاقوه بالنجاسة ولا يوجد فرق إلا أحد (¬6) وجهين؛ إما لأن السلف كانوا يلبسون ما نسجه أهل الذمة من غير غسل، وهذا لمشقة غسل الجديد. وأما لأن الغالب فيما لبسوه التنجيس والغالب فيما نسجوه الطهارة، فإن شذت صورة فالحكم للأغلب. ... ¬

_ (¬1) في (ت) المضمور. (¬2) في (ق) محدثين له. (¬3) في (ر) واشتملت. (¬4) أخرجه مسلم في الطهارة 277، وأحمد في مسنده 5/ 31. (¬5) في (ص) حكوا. (¬6) في (ق) و (ت) و (ص) إلا أحد و (ر) لأحد.

فصل (حكم الغسل لمن أسلم من الكفار)

فصل (حكم الغسل لمن أسلم من الكفار) وقد قدمنا الخلاف في وجوب الغسل على من أسلم من الكفار، والمشهور وجوبه، واستحبه إسماعيل القاضي. ثم اختلف القائلون بالوجوب هل ذلك لنفس الإسلام أو لأن الكافر جنب لا يغتسل فإذا أسلم وجب عليه غسل جنابته؟ وعلى هذا اختلف فيمن أسلم وقد علم بأنه لم تصبه جنابة؛ فعلى (¬1) جعل التعليل بوجوب الغسل للإسلام لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2) والنجس لا يقرب الصلاة إلا بعد غسل نجاسته فيجب الغسل على الكافر وإن لم تتقدمه (¬3) جنابة. وعلى التعليل بالجنابة لا يجب على مثل هذا غسل. ويعتذر هؤلاء عن قوله جل ذكره: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، أي إنهم نجس لشركهم. فإذا زال الشرك طهروا بالإسلام. ومعول إسماعيل القاضي على أن الإسلام يجُبُّ ما قبله. وقد ألزمه الأشياخ أن يسقط الوضوء عن من أسلم حتى يحدث بعد إسلامه. واعتذر عن هذا بأن الوضوء يجب للصلاة، فعلى كل قائم إليها أن يتوضأ إلا أن يتقدم له وضوء، والغسل إنما يجب للجنابة، وهذا قد سقط عنه حكم الجنابة بالإسلام. وهذا الذي قيل في الوضوء يضمحل (¬4). وإذا قدرنا في الآية محذوفًا وهو إما محدثين (¬5) أو من المضاجع. ويقال هاهنا هذا غير محدث لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. وفي الكتاب فيمن أجمع على الإسلام ثم اغتسل أنه يجزيه ذلك الغسل لإسلامه (¬6). ومعنى أجمع هنا أي اعتقد الإسلام بقلبه. ولا شك أنه متى أوجبنا الغسل وفقد الماء فإنه يتيمم. [وما الذي ينوي بتيممه؟ فيه من ¬

_ (¬1) في (ر) فمن. (¬2) التو بة: 28. (¬3) في (ق) و (م) و (ت) وإن لم تتقدم له. (¬4) في (ر) يطمحل. (¬5) في (ق) إذا قمتم محدثين. (¬6) المدونة 1/ 36.

فصل (حكم من صلى على النجاسة)

الخلاف ما تقدم؛ منهم من يقول: ينوي الطهارة الكبرى فإن نوى الطهارة الصغرى لم يجزه، ومنهم من يقول: ينوي الوضوء بتيممه. والله أعلم بالمطلوب] (¬1). ... فصل (حكم من صلى على النجاسة) وقد تقدم حكم من صلى بالنجاسة. وهكذا يكون حكم من صلى عليها إذا كانت النجاسة في موضع يلاقيه بعضو من أعضائه عند القيام أو عند الجلوس أو عند السجود. اهذا إذا كان مصلياً على ما هو ثابت كالأرض. وأما لو صلى على حصير متصل بطرفه نجاسة؛ فبين الأشياخ خلاف، هل تكون أفعاله تقتضي أنه كالمصلي على نجاسة (¬2) أو لا يكون كذلك لسلامة موضعه. (حكم ثياب من يشرب الخمر أو لا يصلي) وعلى ذكر ثياب أهل الذمة فقد قال الأشياخ فيما معناه فيمن يشرب الخمر من المسلمين فيغسل جميع ما لبسه من الثياب. وأما من لا يشرب الخمر ولا يصلي فجميع ثيابه نجس إلا ما يكون برأسه. فالغالب عدم النجاسة فيه. فإن كان ممن يصلي فلا يغسل ما اشترى من ثيابه إلا ما يحاذي المخرجين (¬3) منه، لأن الغالب منه عدم المعرفة بالاستبراء من البول، وكذلك ما ينام فيه، لأن الغالب وجود النجاسة في مثل ذلك. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ص) و (ق) و (م). (¬2) في (ر) بنجاسة. (¬3) في (ص) إلا ما يحادي موضع الأذى منه.

باب في حكم الرعاف

باب في حكم الرُّعاف والرعاف لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يعلم أن الدم لا ينقطع عنه، والثاني: أن يعلم أنه ينقطع: (حكم من لا ينقطع عنه الدم) فإن علم أنه لا ينقطع فهذا لا يخرج من الصلاة لرعافه لأن خروجه لا يفيد، ويتم الصلاة على حاله. وهل يجوز له الإيماء أم يجب عليه الركوع والسجود؟ فإن كان ركوعه وسجوده يضر به في جسده جاز له بلا خلاف. وإن كان ذلك لا يضر به في جسده، فهاهنا قولان: قيل يجوز له ذلك لئلا يلطخ ثيابه، وقيل لا يجوز له الانتقال إلى الإيماء إلا لمضرة جسم لا لتلطخ ثياب. (حكم من ينقطع عنه الدم) وأما القسم الثاني وهو أن يعلم أن الدم ينقطع، وفي معناه إذا شك في ذلك، فإنه لا يخلو أن يقطر الدم أو يسيل، أو لا يقطر أو لا يسيل (¬1). فإن لم يقطر ولم يسل فإنه يفتل الدم (¬2) ويمضي على صلاته. وإن قطر أو سال؛ فإن تلطخ له الكثير من جسده أو ثيابه قطع الصلاة، وإن لم يتلطخ به ذلك فهاهنا الأولى أن يقطع، فإن أحب التمادي على صلاته بأن يخرج ويغسل الدم عنه ثم يعود إلى الصلاة فله ذلك عند مالك، ولكن بشروط نذكرها: وهو أن المصلي لا يخلو أن يكون منفردًا أو في جماعة؛ فإن كان في جماعة فلا يخلو من أن يعقد من صلاة الجماعة ركعة أو لا يعقد ركعة. فإن كان في جماعة وعقد ركعة فلا خلاف في المذهب في أن له التمادي. وإن كان فذا، أو لم يعقد ركعة فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يبني إن شاء، ¬

_ (¬1) في (ق) ولا يسيل وفي (م) ولا يقطر ولا يسيل. (¬2) يفتل الدم: يصرفه. انظر المعجم الوسيط 2/ 673.

وهو ظاهر الكتاب (¬1). والثاني: أنه لا يبني. وسبب الخلاف هل التمادي لحرمة الصلاة أو لحرمة الجماعة؟ فإن قلنا إن ذلك لحرمة الصلاة بني هذا، وإن قلنا إن ذلك لحرمة الجماعة لم يبن هذا. وإذا أجزنا البناء فإنه يخرج ممسكاً لأنفه غير متكلم ولا ماش على نجاسة، فيغسل الدم في أقرب المواضع. فإن (¬2) تكلم عمداً بطلت صلاته إجماعاً، وإن تكلم سهواً ففي بطلان صلاته ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمنزلة من تكلم في صلاته [سهوا] (¬3)، والثاني: أنه تبطل (¬4) صلاته، والثالث: أنه إن تكلم في مسيره لم تبطل (¬5) وإن تكلم في عودته بطلت (¬6). وإن مشى على نجاسة كان بمنزلة المتكلم على ما فصلناه في الصحة، لأن حكم الصلاة (¬7) مستدام. والبطلان (¬8) لأن الأثر ورد أنه يبني ما لم يتكلم. والتفرقة فلأن السائر لغسل الدم ذاهب (¬9) عن الصلاة، فضعفت استدامة حكمها. والعائد قد غسل الدم وتهيأ للصلاة، فقويت الاستدامة. وإن خرج (¬10) على أن يغسل الدم في موضع قريب فذهب إلى أبعد منه بطلت صلاته، لأنه زاد زيادة مستغنى عنها. فإذا غسل الدم فهل يرجع إلى المسجد أو إلى [الإمام] (¬11) أو يصلي ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 36. (¬2) في (ر) وإن. (¬3) في (ق) عمداً، وساقط من (ص) و (م) و (ت). (¬4) في (ق) لا تبطل. (¬5) في (ر) و (ص) بطلت. (¬6) في (ر) و (ص) لم تبطل. وما أثبته يتوافق مع ما ورد في مواهب الجليل للحطاب 1/ 483. (¬7) في (م) الحكم في الصلاة. (¬8) في (ص) والثالث البطلان وفي (م) علي البطلان. (¬9) في (م) و (ر) ذاهبًا، وخرم في (ق). (¬10) في (ق) فإن صدر، وفي (ر) و (ت) وإن تقرر. (¬11) ساقط من (ص).

في موضع يمكنه (¬1) الصلاة فيه؟ فلا يخلو أن يعلم أن الإمام باق في الصلاة أو قد أكملها؛ فإن كان [علم] (¬2) أن الإمام باق في الصلاة عاد إلى حيث فارق الإمام، لأنه لا يجوز له أن يتم الصلاة فذا وقد ابتدأ الصلاة في جماعة. وإن علم أن الإمام فرغ من الصلاة فلا يخلو أن تكون جمعة أو غيرها؛ فإن كانت جمعة فهاهنا ثلاثة أقوال: المشهور: أنه يعود (¬3) إلى الجامع، والثاني: أنه يتم بموضعه، والثالث: أنه إن حال بينه وبين العودة حائل أجزأته الصلاة (¬4) في موضعه، وإن لم يحل بينه وبين العودة حائل عاد إلى الجامع. وهذا على الخلاف في شروط الجمعة هل تلزم (¬5) في جملتها أو في أوائلها. وإن كانت غير جمعة فإنه لا يعود إلى الموضع الذي (¬6) فارق الإمام فيه، فإن عاد بطلت صلاته لأنها زيادة مستغنى عنها. وحكم الظن في إكمال الإمام أو عدم إكماله كحكم (¬7) العلم. [ولو اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن الإمام قد أكمل ثم تبين له خلاف ما ظنه لَعُذرَ بذلك. وكذلك] (¬8) لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن الإمام لم يكمل لَعُذرَ أيضاً. ولو اجتهد فخالف ما ظهر له بطلت (¬9) صلاته، لأنه يصير قد زاد في الصلاة عمداً إلا أن يتأول وجوب الرجوع فيختلف في ذلك على الخلاف في الجاهل هل هو كالعامد أو كالناسي؟ وما يصنعه إذا عاد إلى إصلاح الصلاة؟ أما (¬10) إن وجد الإمام لم ¬

_ (¬1) في (ص) يمكن وفي (م) و (ق) و (ت) تمكنه. (¬2) ساقط من (ت) و (ص). (¬3) في (ق) أنه يعيد في الجامع. (¬4) في (ت) صلاته. (¬5) في (ق) هل يلزمها. (¬6) في (ر) و (ق) موضع. (¬7) في (ق) و (ت) و (ص) حكم. (¬8) ساقط من (ق). (¬9) في (ت) و (ق) لبطلت. (¬10) في (ق) وأما.

فصل

يفرغ فإنه يساويه في الفعل ويكون كالمسبوق، وإن وجد الإمام قد أكمل فإنه يبتدئ الصلاة على حكم نفسه فيعود إلى حيث فارق الصلاة. فإن صلى بعض ركعة فهل يكملها أو يستأنفها؟ قولان. وسبب الخلاف تقابل المكروهين: أحدهما: الزيادة في الصلاة من غير ضرورة، والثاني: التفرقة بين أجزاء الركعة. فإن راعينا الزيادة أكمل الركعة، وإن راعينا التفرقة ابتدأ. وعلى هذا الخلاف فيمن ذكر في تشهده سجدة لا يدري من أي الركعات (¬1)؛ فقال ابن القاسم: يسجد (¬2) سجدة ثم يقوم (¬3) فيأتي بركعة لئلا تكون السجدة من آخر ركعة (¬4). فإذا لم يصلها فرَّق بين أجزاء الركعة. وقال أشهب: يأتي بركعة من غير سجود لأنه إذا أتى بركعة اكتفى بها والسجدة زيادة مستغنى عنها. ... فصل وإذا رجع إلى تلافي (¬5) ما فاقه، فكيف يلافي ذلك؟ أما إن لم يفته (¬6) من أول الصلاة شيء فيبني، ولا شك أن ما أدرك أول صلاته. (حكم من رعف في صلاة الجمعة) وإذا رعف في صلاة الجمعة فإن عقد مع الإمام ركعة بسجدتيها ولم يعقد الثانية حتى رعف؛ فإنه إذا غسل الدم عنه قضى الثانية على نحو ما ¬

_ (¬1) في (ق) من أي ركعة. (¬2) في (ر) فيسجد. (¬3) في (ق) يعود. (¬4) في (ت) الركعتين. (¬5) في (ت) و (م) يلاقي وفي (ق) و (ص) رجع تلافي. (¬6) في (ت) يفت له.

كان يصليها (¬1) مع الإمام فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، فإن نسي السورة سجد لسهوه قبل السلام، فإن نسي أم القرآن فقال في الكتاب يتمها (¬2) ويعيد ظهرًا أربعاً (¬3). والخلاف في هذه المسألة محال على كتاب الصلاة الأول. وإن لم (¬4) يعقد مع الإمام ركعة حتى رعف وأجزنا (¬5) له البناء فإنه يعود بعد غسل الدم. فإن وجد الإمام وأدرك معه ركعة بسجدتيها، قام بعد سلام الإمام فأتى (¬6) بركعة على نحو ما فاتته (¬7). ويستحب [له] (¬8) أن يقرأ فيها بسورة الجمعة بعد أم القرآن. وإن لم يدرك مع الإمام ركعة فهل يبني على ما يأتي به من الظهر على ذلك التكبير الذي كبره للجمعة؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يبني على التكبير [الذي كبره] (¬9)، والثاني: أنه يسلم ثم يبتدئ (¬10). وسبب الخلاف هل الجمعة بدل من (¬11) الظهر، وأعداد الركعات غير مراعاة (¬12)، فيبني على الإحرام (¬13) المتقدم. أو الجمعة فرض قائم بنفسه وأعداد الركعات مراعاة (¬14) فيقطع ويبتدئ. ... ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) يقضيها. (¬2) في (ر) يتمادى. (¬3) المدونة 1/ 37. (¬4) في (ص) ولو لم. (¬5) في (ص) و (م) أجزنا وفي (ق) فأجزنا. (¬6) في (ر) فإنه بعد سلام الإمام يقوم فيأتي. (¬7) في (ت) فإنه. (¬8) ساقط من (ت) و (ق) و (ص). (¬9) ساقط من (ق). (¬10) في (م) تم يبتدىء في التكبير. (¬11) في (ق) و (ص) عن. (¬12) في (ر) غير مراع. (¬13) في (ق) غير مراعات للإحرام المتقدم. (¬14) في (ر) مراعى.

فصل (في اجتماع البناء والقضاء)

فصل (في اجتماع البناء والقضاء) وإذا اجتمع البناء والقضاء فبأيهما يبدأ؟ في المذهب قولان: أحدهما: الابتداء بالقضاء لأنه أول الصلاة، وإنما يمنعه من الابتداء (¬1) به لئلا يخالف الإمام فإذا انقضى (¬2) حكم الإمام ابتدأ به. [والثاني] (¬3): الابتداء (¬4) بالبناء استصحابا لحكم الإمام وكأنه باق. ويتصور ذلك بأن يفوت الراعف (¬5) أول الصلاة ثم يرعف فيفوته آخرها. ولذلك ثلاث صور. أحدهما: أن يفوته من الصلاة الرباعية الركعة الأولى والركعة الآخرة ويدرك الوسطيين، فهاهنا قولان: أحدهما: أنه إذا غسل الدم صلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يقوم فيصلي ركعة بأم القرآن. خاصة. والثاني: أنه يبتدئ بالتي بأم (¬6) القرآن خاصة. والصورة الثانية: أن تفوته الأولى والآخرتان ويدرك التالية فيختلف هل يبتدئ إذا غسل الدم عنه بالركعة الأولى أم بالآخرتين على نحو ما تقدم (¬7). والصورة الثالثة: أن تفوته الأوليان والآخرة ويدرك الثالثة فيختلف هل يبتدئ بالأوليين أم بالآخرة؟ فإن قلنا إنه يبتدئ بالأوليين فإنه يصلي ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ثم يجلس ثم يقوم فيصلي ركعة بأم القرآن وسورة أيضاً. ثم يقوم فيصلي ركعة بأم القرآن خاصة، وكملت صلاته؛ فيكون قاضياً في القراءة بانياً في الجلوس، وإن قلنا إنه يبتدئ بالآخرة فإنه يصلي ركعة بأم القرآن خاصة ويجلس ثم يقوم فيأتي بركعتين بأم القرآن وسورة في كل واحدة منهما. ولا خلاف في الصورة الأولى والثالثة أن الحكم فيهما ما ذكرناه ¬

_ (¬1) في (ص) بالابتداء. (¬2) في (ق) فإذا ذهب. (¬3) ساقط من (ر) و (ق) و (ت). (¬4) في (ر) ويبتدئ. (¬5) في (ق) و (ت) و (ص) للراعف. (¬6) في (ص) بالتي تلي أم. (¬7) في (ص) على نحوها ما قلناه.

باب في حكم المسح على الخفين

[... في الصورة الأولى] (¬1). وأما الصورة الثانية (¬2) فعلى القول بالابتداء بالقضاء لا تفريع، وعلى القول بالابتداء بالبناء فهل تصير صلاته كلها جلوسا أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يقوم فيأتي بركعة بأم القرآن خاصة ثم يجلس لأنها ثانية صلاة نفسه (¬3)، ثم يقوم بعد ذلك فيأتي بركعة بأم القرآن وحدها (¬4)، ثم يجلس لأنها آخر صلاة الإمام، وقد كان الإمام يجلس في هذا الموضع، وأيضاً فإنه يقوم منها إلى القضاء ولا يقوم إليه إلا من الجلوس. والقول الثاني: إنه لا يجلس اعتباراً بحكم نفسه والإمام غير حاضر فيراعى حكمه. ويتصور هذا التنزيل في مسألتين: إحداهما: الحاضر يدرك من صلاة المسافر الركعة الثانية فيجتمع عليه القضاء والبناء فيختلف بأيهما يبدأ. وهل يبني في الجلوس على حكم نفسه أو لا يقوم للقضاء إلا من الجلوس؟ فيه قولان. والمسألة الثانية: الإمام يصلي صلاة الخوف في الحضر فيدرك إنسان الركعة الثانية، فإنه يجتمع قضاء وبناء فيختلف فيه على نحو ما قلناه. ... باب في حكم المسح على الخفين واجتمعت الأمة على وجوب ملاقاة العضو بالماء إلا أن تدعو الضرورة إلى ستره كالجبيرة. وهل يجوز أن يمسح على العمامة من لم يضطر إلى ذلك؟ فمذهب فقهاء الأمصار أنه لا يجوز. وأما الخفان ففي المذهب في مسحهما ثلاثة أقوال: أحدها: جواز المسح للحاضر والمسافر، والثاني: جوازه (¬5) للمسافر دون الحاضر، وهذان ¬

_ (¬1) هكذا في (ر) وهو ساقط من (ص) و (ق) و (ت) و (م). (¬2) في (ق) الثالثة. (¬3) في (ت) و (ق) في نفس وفي (ص) في نفسها. (¬4) في (ق) و (ت) خاصة وفي و (م) بأم القرآن (و). (¬5) في (ت) جواز مسحها.

في المدونة (¬1). والثالث: أنه لا يمسح في حضر ولا سفر، حكاه ابن وهب (¬2) وأشهب عن مالك، وهذه الرواية ينبغي أن تتناول على أن قصده: الغسل أولى. وقد قال ابن القصار: إنكار المسح فسق. وقال ابن حبيب: لا ينكره إلا مخذول (¬3). وقال أبو حامد الغزالي (¬4): أجمع فقهاء الأمة (¬5) عليه، وإنما يخالف فيه الروافض. وحكى ابن القصار أن رواته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعون نفساً رووه قولاً وفعلاً، ولهذا لم يختلف مذهب أبي حنيفة في جوازه مع أنه زيادة على النص والزيادة على النص نسخ عنده، لكنه رأى أن الحديث عنده في حيز التواتر، فذلك الذي أوجب أن قال به. وأكثر الأحاديث يقتضي المسح في السفر (¬6). وفي بعضها ما يدل على المسح في الحضر (¬7). وبين الأصوليين خلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ وإذا ثبت ذلك فالنظر في المسح في وجهين (¬8): أحدهما: صورته، والثاني: شروطه. ¬

_ (¬1) في (ت) و (م) في المذهب. المدونة: 1/ 41. (¬2) انظر النوادر والزيادات 1/ 93. (¬3) انظر النوادر والزيادات 1/ 94. (¬4) هو: محمد بن محمد بن محمد الإمام حجة الإسلام زين الدين أبو حامد الطوسي الغزالي ولد بطوس سنة خمسين وأربعمائة. صنف كتبًا انتشرت في الآفاق توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة. طبقات الشافعية 2/ 393 - 394 (261). (¬5) في (ق) و (م) الأمصار. (¬6) منها ما أخرجه البخاري في الوضوء (206) واللفظ له، ومسلم في الطهارة (274) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: "دَعْهمَا فَأِنَّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ عَلَيْهمَا. (¬7) منها ما أخرجه الترمذي في الطهارة (95) عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الخُفُّيْنِ فَقَالَ: "لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثَةٌ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ" وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثْ حَسَنٌ صَحِيحُ. (¬8) في (ق) و (ت) و (ص) من وجهين و (م) على وجهين.

(صورة المسح)

(صورة المسح) فأما صورته فالمذهب فيها (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن (¬2) يبتدئ من مقدم الرجلين حتى ينتهي إلى العقب ويجعل يده اليمنى من أعلى الخف، واليسرى من أسفله. والثاني (¬3): أنه يجعل الابتداء بالعقب فيجعل اليمنى من أعلى الخف واليسرى من أسفلها حتى ينتهي إلى مقدم الرجل. والثالث: أنه يجعل اليمنى من أعلى القدم (¬4). واليسرى من [أسفل] (¬5) العقب ويذهب بهما مخالفاً. واستحسن الأشياخ هذا لئلا يكون في أسفل الخف ما يلوث به ما يستر العقب. وإذا ابتدأ منه فإنه لا يلوثه شيء. وفي الكتاب في صفته (أن مالكاً أراهم المسح على الخفين فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدميه، ووضع اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفيه ومر بهما وبلغ باليسرى حتى بلغ بهما إلى عقبيه وأمرهما على عقبه إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق وحد الكعبين) (¬6). وظاهر هذا أنه يمسح (¬7) الرجلين في مرة واحدة. وهكذا تأوله أبو القاسم ابن شلبون (¬8)، وحمله أبو محمد بن أبي زيد وغيره من الأشياخ على كل رجل تفرد بالمسح (¬9)، وإنما جمعهما في اللفظ، ولا يتبع غضون الخف (¬10) -وهو ما ¬

_ (¬1) في (ق) فيه. (¬2) في (ق) و (م) و (ت) و (ص) أنه. (¬3) في (ق) من أسفله حتى ينتهي إلى مقدم الخف والثاني. (¬4) في (ق) المقدم. (¬5) ساقط من (ر) و (ق) و (ت). (¬6) المدونة 1/ 39. (¬7) في (ت) وطاهر أنه يمسح، وفي (ق) وظاهر كأنه يسمع، وفي (ص) وظاهر هاهنا أنه ينسح. (¬8) هو: عبد الخالق أبو القاسم بن شلبون بن أبي سعيد خلف، تفقه بابن أبي هشام، وكان الاعتماد عليه في القيروان في الفتوى والتدريس بعد أبي محمد بن أبي زيد. سمع من ابن مسرور الحجام، وألف كتاب القصد أربعين جزءاً. توفي سنة إحدى وتسعين وقيل سنة تسعين وثلاثمائة. الديباج المذهب ص: 158، وشجرة النور. ص: 97 (228). (¬9) في (ت) و (ص) على أن كل رجل تفرد بالمسح، وفي (ق) أن كل رجل ينفرد. (¬10) في (ص) و (ت) و (ق) الخفين.

فصل (في شروط المسح)

تكسر (¬1) منهما وانطوى بعضه على بعض- فإن اقتصر على الأعلى دون الأسفل أو اقتصر على الأسفل دون الأعلى ففي المذهب في جملة ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: الإجزاء، وهو رواية أشهب، وعدم الإجزاء [حتى يوعب الأعلى والأسفل وهو بناء من هذا القائل على المسح إنما هو عوض عن الغسل، والغسل يجب استيعابه فليكن المسح كذلك. والقول الثالث المقتصر على الأسفل لا يجزي، والمقتصر على الأعلى يجزيه، وهو المشهور من المذهب] (¬2). والخلاف في هذا كالخلاف في مسح الرأس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لو كان هذا الدين يؤخذ بالقياس لأجزأ مسح أسفل الخفين عن أعلاهما ولم يجز أعلاه عن أسفله" (¬3). وهذا إشارة إلى إجزاء الأعلى عن الأسفل. وعدم إجزاء الأسفل عن الأعلى توقيف، ولا يكون توقيفاً إلا ما علم من جهة [صاحب] (¬4) الشريعة. وإذا قلنا بإجزاء مسح الأعلى فهل يعيد المقتصر عليه في الوقت أم لا؟ قولان: أحدهما: إنه لا يعيد، والثاني: إنه يعيد مراعاة للخلاف. ... فصل (في شروط المسح) وأما شروط المسح فشرطان (¬5): أحدهما: يرجع إلى الماسح، والثاني: ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) و (ت) ينكسر. (¬2) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬3) أخرجه أبو داود في الطهارة (162)، والدارقطني في سننه 1/ 204، وقال ابن حجر في فتح الباري 4/ 192: "رجال إسناده ثقات". ولفظ أبي داود: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأيِ لَكَانَ أسْفَلُ الخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ، وَقَد رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَىَ ظَاهِرِ خُفَّيْهِ". (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) في غير (ت) فصفات.

إلى المسموح؛ فأما ما يرجع إلى الماسح فمنه كونه مسافراً، وقد تقدم. ومنه كونه كامل الطهارة. فإن غسل رجلاً فأدخلها في الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها، فالمشهور أنه لا يمسح، والشاذ أنه يمسح. وهو على الخلاف في ارتفاع الحدث عن كل عضو بإكماله أو بإكمال الطهارة. وكذلك يختلف فيمن نكس وضوءه فغسل رجليه ثم أدخلهما الخفين ثم [غسل] (¬1) بقية الأعضاء. ولو أدخلهما بعد التيمم ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يمسح، والشاذ أنه يمسح. وهو على الخلاف في التيمم هل يرفع الحدث أم لا (¬2)؟ ويشترط في جواز المسح أن يلبسهما لضرورة المشي فإن لبسهما بغير ضرورة ذلك، كالمرأة تلبس الخفين وقد خضبت بالحناء، وكذلك الرجل يريد أن ينام أو يحدث فيلبس خفيه ليمسح عليهما. فلا يجوز لهما ذلك ابتداء. فإن فعلاه فهل تصح صلاتهما بذلك المسح أم لا؟ ففيه قولان: أحدهما: الصحة لما ثبت من جواز المسح مطلقاً، والثاني: أنه لا تجزيه (¬3) الصلاة لأن المسح رخصة وردت في اللابس لضرورة المشي فلا يلحق به (¬4) غيره. وأما ما يرجع إلى الممسوح فأن يكون خفا من خفاف العرب (¬5)، صحيحاً أو مقطوعاً قطعاً يسيراً لا يظهر منه القدم، ويمكنه مداومة المشي فيه، ويكون ساترًا لمحل الغسل، ولا يكون عاصيًا بلبسه. فإن كان من غير أخفاف العرب (¬6) كالجوربين، فإن لم يكن على محل الفرض جلد فلا يجوز المسح، وإن كان عليه جلد ففيه قولان. واختلف قوله في المدونة في الجرموقين يكون عليها جلد مخروز هل يجوز المسح عليهما أم لا؟ (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) أم لا ففيه قولان. (¬3) في (ت) لا تجوز. (¬4) في (ص) فلا يجاريه. (¬5) في (ت) و (ص) الأعراب. (¬6) في (ص) و (ر) الأعراب. (¬7) المدونة 1/ 40.

واختلف في مراده بالجرموقين فقيل: هما الجوربان، وقيل: هما خف على خف، وقيل: هما خفان دون الساقين غليظان، لا ساق لهما يستعملهما المسافرون مشاتًا. وجميع هذه الصفات مختلف في المذهب في جواز المسح عليهما. وسبب الخلاف أن المسح رخصة. وبين الأصوليين خلاف في الرخص (¬1) هل تقتصر على ما وردت أو يقاس عليها؟ وأما صفة (¬2) الخف فلا يشترط فيها عندنا إلا ما قدمته. لكن اختلف المذهب هل يشترط في ذلك ألا يبدو (¬3) القدم -وهو الذي عول عليه في الكتاب (¬4) - أو يشترط إمكان مداومة المشي به، وهو الذي اعتمده البغداديون من أهل المذهب. وأما اشتراط كونه ساترًا لمحل فرض الغسل فهو المعروف من المذهب. وقد روى الوليد بن مسلم (¬5) عن مالك في المحرم يقطع الخفين أسفل من الكعبين، أنه يمسح على الموجود منهما ويغسل ما ظهر من موضع الغسل. وقد أنكر الباجي وغيره هذه الرواية. ورأوا أنها غلط عن مالك والوليد هذا أكثر صحبة (¬6) للأوزاعي فكثيراً ما ينقل مذهب الأوزاعي (¬7) ويغلط في نسبته (¬8) إلى مالك. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) الرخصة. (¬2) في (ر) و (ت) صحة. (¬3) في (ت) يبدو منه. (¬4) المدونة 1/ 40. (¬5) هو: الوليد بن مسلم بن السائب الدمشقي، مولى بني أمية، الفقيه الثقة الأمين، روى عن مالك الموطأ وكثيرًا من المسائل والحديث، وعن ابن جريج والليث والثوري وغيرهم وعنه إسحاق بن راهويه وجماعة خرج عنه البخاري ومسلم ولد سنة 119 وتوفي سنة 226 شجرة النور. ص: 58 (22). (¬6) في (ق) نقلاً. (¬7) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام أبو عمرو الأوزاعي، كان يسكن بدمشق ثم تحول إلى بيروت مرابطاً بها إلى أن مات .. حدث عن عطاء بن أبي رباح وأبي جعفر الباقر وعمرو بن شعيب ومكحول وقتادة، والزهري .. وخلق كثير من التابعين وغيرهم. كان ثقة خيرًا فاضلاً مأموناً كثير العلم والحديث والفقه حجة توفي سنة سبع وخمسين ومئة. سير أعلام النبلاء 5/ 107، 117. (¬8) في (ر) نسبتها.

فصل (حكم نزع الخف بعد غسلهما)

والجمع بين الغسل والمسح كأنه خلاف الإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه يغسل الرجل أو يمسحها (¬1) على مذهب من قال به، إلا أن يسترها الخف ففيه ما قدمناه من الخلاف. وأيضاً فإن مسح الخف إنما رخص فيه لمشقة النزع، وإذا قطع الخف دون الكعبين فلا مشقة في نزعه. وإن لبس خفين عاصياً بلبسهما كالمحرم يلبسهما من غير ضرورة؛ ففي جواز المسح له قولان: المشهور أنه لا يمسح، والشاذ أنه يمسح. وفي المذهب أصل مطرد في كل عاص هل تباح له الرخص بما يعود بالرفق له، كالمسافر سفراً محرماً يريد قصر الصلاة أو الإفطار في رمضان في [معصية] (¬2) ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يترخص بذلك. والشاذ أنه يترخص به. وسبب الخلاف هل شرعت هذه الرخص معونة على الأفعال فلا يستعين على ما هو فيه عاص، أو شرعت تخفيفاً على الإطلاق فيترخص بها جميع من وجدت فيه الصفات التي جعلت علامة على الترخيص؟ ... فصل (حكم نزع الخف بعد غسلهما) وإذا غسل رجليه فلبس (¬3) خفيه ثم نزعهما فلا يؤمر بإعادة الغسل. ولو أحدث بعد لبس الخفين ثم توضأ ومسح على الخفين ثم نزعهما فإنه يؤمر بغسل رجليه، فإن أخر غسلهما (¬4) جرى على الخلاف في ¬

_ (¬1) في (ق) ويمسح. (¬2) ساقط من (ص). (¬3) في (ر) ولبس. (¬4) في (ق) و (ت) غسل رجليه.

(مدة المسح)

الموالاة، وكذلك يجري في حكم ابتداء الوضوء بنزع الخفين على القول بأن التفرقة تفسد الطهارة لعذر كان أو لغير عذر. هكذا رواه بعض الأسكندرانيين (¬1) عن مالك أن نازع الخف يبتدئ الوضوء من أوله، فإن أخرج رجلاً وامتنع عليه نزع الرجل الأخرى حتى خاف إن اشتغل بذلك فوات الوقت؛ ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يغسل الرجل المنزوعة ويمسح الأخرى قياساً على الجبيرة، والثاني: أنه ينتقل إلى التيمم لأن الرجلين في حكم العضو الواحد، ولا يجتمع في العضو الواحد أصل وبدل (¬2)، والثالث أنه يمزق الخف ويغسل الرجل. وهذا كله على الخلاف في القياس على الرخص؛ فمن قاس على ذلك قال بالمسح على الخف فيكون كالجببرة، ومن لم يقس عليها ولم يلتفت إلى إضاعة المال في طلب فروض الصلاة قال يمزق الخف، ومن التفت إلى إضاعة المال ردها إلى أصل التيمم، فإن الإنسان له السفر في المفازات التي لا ماء فيها، يَطْلُبُ بذلك الربح في المال. فقال: هاهنا ينتقل إلى التيمم. (مدة المسح) والمشهور من المذهب أن المسح غير مؤقت بزمان، وله أن يستديمه ما لم يلزمه غسل الجنابة. لكن يستحب له إن كان حاضراً (¬3) - وجوزنا له المسح على القول بجواز المسح للحاضر- أن ينزعهما لكل جمعة لغسل الجمعة. وروي عن مالك أن المسح مؤقت للمسافر بثلاثة أيام وللحاضر يوم ¬

_ (¬1) يقصد بالأسكندرانيين؛ الطبقة الأولى من أهل الإسكندرية، الذين أخذوا عن مالك قبل ابن القاسم وأشهب وابن وهب وأضرابهم، كعبد الرحمن بن خالد بن يزيد وسعيد بن عبد الله المعافري وزين بن شعيب وعبد الحكم القرشي وغيرهم. (¬2) في (ر) مسح وغسل. (¬3) في (ص) قاصدًا.

باب في أحكام التيمم

وليلة. وأكثر الأحاديث تقتضي نفي التوقيت (¬1). وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - وقَّت للحاضر والمسافر بما ذكرناه (¬2). وبين الأصوليين خلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا. ... باب في أحكام التيمم التيمم طهارة ترابية تتوجه (¬3) مع الاضطرار دون الاختيار. والنظر فيها ينحصر في خمسة فصول: الأول: صفتها، والثاني: وقتها، ومن يباح له الانتقال إليها، وبأي شيء يكون، ولماذا تفعل؟ (صفة التيمم) فأما صفة التيمم فهي مسح الوجه (¬4) واليدين. واختلف المذهب هل ¬

_ (¬1) في (ت) التحديد. أخرج أبو داود في الطهارة (158)، وابن ماجه في الطهارة (557) واللفظ له، عَنْ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ صَلَّى في بَيْتِهِ القِبْلَتَينِ كِلْتَيهِمَا أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَينِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: "ويوْمَيْنِ" قَالَ: وَثَلَاثًا؟ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا قَالَ لَهُ: "وَمَا بَدَا لَكَ". قَالَ أَبُو دَاوُد وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 1/ 229: قال أبو داود وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي، وقال البخاري نحوه، وقال الإمام أحمد رجاله لا يعرفون، وأخرجه الدارقطني وقال هذا إسناد لا يثبت وفي إسناده ثلاثة مجاهيل (...) وقال ابن حبان لست أعتمد على إسناد خبره، وقال ابن عبد البر لا يثبت وليس له إسناد قائم، وبالغ الجوزقاني فذكره في الموضوعات. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي 1/ 270: ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه. (¬2) لم أقف على هذا الحديث عند مسلم وهو عند أبي داود في الطهارة عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّينِ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاَثَةُ أَيَّام وَلِلْمُقِيم يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ"، وعند ابن ماجه في الطهارة (555) عَنْ أَبي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الطُّهُورُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: "لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيلَةٌ". (¬3) في (ق) يتوجه. (¬4) في (ت) مسحة للوجه.

يكتفي لهما بضربة واحدة يجعل يديه على الأرض ثم يمسح وجهه ثم يديه أم يفتقر (¬1) إلى ضربة ثانية لمسح اليدين؟ والمشهور الافتقار إلى ذلك، والشاذ أنه لا يفتقر إلى ذلك. وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث؛ ففي أكثرها ضربة للوجه وضربة لليدين (¬2). وفي بعضها الاقتصار على ضربة واحدة (¬3). وبين الأصوليين خلاف في قبول زيادة العدل (¬4). وإذا قلنا فإنه لا يقتصر على واحدة فاقتصر؛ فثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يعيد في وقت (¬5) ولا غيره، والثاني: أن يعيد في الوقت، والثالث: أنه يعيد وإن خرج الوقت. وهذا طرد للقول بإيجاب الضربتين. وترك الإعادة اختصاصها بالوقت مراعاة للخلاف. ولا خلاف أيضاً في إيعاب (¬6) جميع الوجه بالمسح. وأما اليدان فاختلف في المقدار الواجب منهما في التيمم؛ فقيل: إلى المرفقين، وقيل: إلى الكوعين. وسبب الخلاف هل يرد المطلق إلى المقيد فيجب المسح إلى المرفقين، ¬

_ (¬1) في (ق) يتنقل إلى. (¬2) أخرج الحاكم في المستدرك (1/ 287) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 367)، والدارقطني في سننه (1/ 180) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين"، قال الدارقطني: كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا ووقفه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما وهو الصواب. وقال الصنعاني في سبل السلام 1/ 96: صحح الأئمة وقفه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 262: رواه الطبراني في الكبير وفيه علي بن ظبيان ضعفه يحيى بن معين فقال: كذاب خبيث وقال أبو علي النيسابوري: لا بأس به. (¬3) من ذلك ما خرجه البخاري في التيمم (347)، ومسلم في الحيض (368) واللفظ له أن عماراً قال: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ثُمَّ أتيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أن تَقُولَ بيَدَيْكَ هَكَذَا" ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ". (¬4) في (ق) و (ص) في قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً. (¬5) في (ت) الوقت. (¬6) في (ق) إيجاب إيعاب.

أو يؤخذ بأوائل الأسماء فيجب إلى الكوعين؟ وإذا أمرناه بالمسح إلى المرفقين واقتصر على الكوعين؛ فثلاثة أقوال: أحدها: الإعادة في الوقت، والثاني: لا إعادة في وقت ولا غيره، والثالث: الإعادة وإن ذهب (¬1) الوقت. وهذا طرد إيجاب المسح إلى المرفقين. والأول مراعاة للخلاف (¬2). وهيأة المسح في الوجه لا تختلف. وأما اليدان فقال محمد بن عبد الحكم: هيأتهما غير محصورة. وأراهم صفة التيمم فابتدأ بالكفين وعمَّ سائر اليدين. وفي الكتاب (¬3) أنه ابتدأ باليسرى على اليمنى فيُمِرُّهَا من فوق الكعبين إلى المرفقين ويُمِرُّهَا أيضاً من باطن المرفقين إلى الكوعين ويُمِرُّ أيضاً اليمنى على اليسرى كذلك. وقد اختلف الأشياخ هل مقتضى هذا أنه إذا وصل إلى الكوع اليمنى لم يكملها، بل يجعل أصابع يده اليمنى على اليسرى، فإذا وصل إلى الكوع (¬4) اليسرى مسح كفيه أحدهما: بالأخرى وخلل أصابعه؟ أو يمسح اليمنى حتى يكملها، ثم يمسح اليسرى كذلك؟ وقد احتج الأولون بقوله: ويمرها أيضًا من باطن المرفقين إلى الكوعين. ووقف (¬5) عند ذلك. واعتذر الآخرون عن هذا بأن مراده إلى آخر (¬6) الكوعين أنه جعل ذلك غاية يقف عندها. قالوا: ولو اتبعنا الظاهر من غير هذا التأويل لوجب أن يترك الكفين (¬7) من غير مسح؛ لأنه قال بعد قوله إلى الكوعين: ويمر أيضاً اليمنى على اليسرى كذلك. والجمود على ظاهر قوله يقتضي مسح اليدين جميعاً إلى الكوعين من غير أن يمسح ¬

_ (¬1) في (ص) وإن خرج. (¬2) في (م) والأولى مراعاة للخلاف. (¬3) المدونة 1/ 42. (¬4) في (ق) و (م) و (ت) و (ص) كوع. (¬5) في (ق) و (ت) ويوقف. (¬6) في (ت) و (ص) إلى ناحية. (¬7) في (ص) الكل وفي (ت) الكوعين.

[فصل (وقت التيمم)

الكفين، وهذا لم يقله أحد. وإنما يقول: إنه لا يكمل مسح الأولى، ابن حبيب (¬1). لأنه يشترط (¬2) المسح بالتراب. والمشهور أنه لا يشترط. وإذا مسح على إحدى هذه الصفات فإنه يخلل أصابع يديه. وقد اشترط الشافعية وضع اليدين على الأرض مضمومتي الأصابع في الضربة للوجه ومفتوحتِها (¬3) في الضربة لليدين. وإنما راعوا المسح بالتراب. وإذا فتح أصابعه في الضربة للوجه علق التراب ما بين الأصابع فيصير مسح ذلك الموضع بتراب قصد به الوجه. وهذا لا يشترط على المشهور. وقد يلزم من مراعاة التراب اشتراطه. وإن كان في الأصابع خاتم أزيل. هذا هو المنصوص من المذهب. وإن لم يزله لم يجزه التيمم. وقال محمد بن مسلمة: إن ترك شيئًا (¬4) من أعضاء التيمم أجزأه. واستقرأ (¬5) أبو الحسن اللخمي من هذا أنه إن لم ينزع الخاتم أجزأه (¬6). ... [فصل (وقت التيمم) أما وقت التيمم فالمشهور أنه لا يجوز قبل دخول وقت الصلاة؛ لأنه (¬7) لا يجوز إلا بعد الطلب وفقد الماء، وذلك لا يجب إلا بعد دخول الوقت. والشاذ جوازه بناء على أنه يرفع الحدث. ومتى يجوز؟ على المشهور من المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يتيمم قبل دخول (¬8) الوقت، والثاني: أنه يتيمم اليائس من الماء وسط ¬

_ (¬1) انظر النوادر والزيادات 1/ 105. (¬2) في (ق) وابن حبيب لا يشترط. (¬3) في (ت) ومفترقيهما. (¬4) في (ت) و (م) و (ق) يسيرا. (¬5) في (ت) واستقرأه. (¬6) التبصرة: 39. (¬7) في (ت) و (م) وأنه. (¬8) في (ر) آخر.

الوقت، وغيره آخره (¬1)، والثالث: هو المشهور فيه تفصيل (¬2)؛ وذلك أن فاقد (¬3) الماء أو فاقد القدرة على استعماله لا يخلو من أن يكون عالماً باستدامة الفقد إلى أن يخرج الوقت، أو ظانًا لاستدامته، أو عالماً بوجود القدرة في الوقت، أو ظاناً لذلك، أو متردداً؛ فإن كان عالماً للفقد (¬4)، أو ظاناً له تيمم أول الوقت. وإن كان عالماً بالوجود، أو ظاناً له تيمم آخره. وإن كان متردداً تيمم وسط الوقت. فإن وجد الماء من أمرناه بالتيمم أول الوقت فلا إعادة عليه، وإن وجده من أمرنا بالتيمم وسط [الوقت] (¬5)، [أو] (¬6) وجد القدرة على ذلك؛ فإن كان الأصل عنده الوجود والفقد متردد فيه، أعاد في الوقت. وهذا كالعالم بموضع الماء ويخاف أن لا يدركه في الوقت، وكالمريض يكون عنده الماء ولا يجد من يناوله إياه ويتردد هل يجد في الوقت من يناوله أم لا؟ وإن كان الأصل عنده الفقد والوجود متردد، كالمتردد هل بين يديه ماء يبلغه أم لا؟ فهذا لا إعادة عليه. وإن تيمم في أول الوقت من أمرناه بالتأخير إلى آخر الوقت؛ فأما العالم ففيه قولان: أحدهما: أنه يعيد وإن خرج الوقت، والثاني: أنه لا يعيد إلا في الوقت. ويمكن تخريج هذا على الخلاف في الوجوب هل يتعلق بأول الوقت أو هو وجوب موسع؟ وأما الظان فإنه يعيد في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه] (¬7). ... ¬

_ (¬1) في (ت) و (م) آخر الوقت. (¬2) في (ت) و (ر) التفصيل. (¬3) في (ص) أن فقد الماء وفي (ت) فقدان. (¬4) في (ت) بالقدرة. (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) ساقط من (ص). (¬7) الفصل: كله ساقط من (ق).

فصل (في حكم المتيمم يجد الماء)

فصل (في حكم المتيمم يجد الماء) والمتيمم يجد الماء لا يخلو من أن يكون الموجود منسيًا في رحله أو لم يتقدم له به علم؛ فإن كان منسياً في رحله فلوجوده ثلاث صور: إحداها: أن يجده قبل التلبس بالصلاة، والثاني: أن يجده في أثنانها، والثالث: أن يجده بعد إكمالها؛ فإن وجده قبل التلبس بها (¬1) فلا شك أنه يجب عليه استعماله، وإن وجده في أثنائها فقولان: أحدهما: أنه يقطع ثم يستعمله ويبدأ، لأنه مفرط بنسيانه. والثاني: أنه يتم صلاته، لأنه فاقد للماء [فيعذر] (¬2)، والناسي لا يلزمه التكليف. وإن وجده بعد إكمال الصلاة ففي الإعادة ثلاثة أقوال: أحدها: سقوطها قياساً على الناسي، والثاني: وجوبها وإن خرج الوقت بناء (¬3) على أنه غير معذور بالتفريط (¬4)، وقياسًا على المُظاهِر ينسى رقبة في ملكه فيصوم أو يطعم، ثم يعلم بها فإنه يجب عليه إعتاقها. والثالث: أنه يعيد في الوقت. والفرق بين هذا وبين الرقبة أن الإعتاق غير مؤقت بوقت والصلاة مؤقتة (¬5). فإذا ذهب الوقت فقد فات التلافي. وإن لم يتقدم له بالماء علم؛ فإن وجده قبل التلبس بالصلاة فكما قلنا في الناسي، وإن وجده في أثنائها لم يقطع على المنصوص في المذهب، لأنه غير مفرط، وإن وجده بعد إكمالها فالأصل ألا إعادة إلا على ما قلناه (¬6) في تفصيل المشهور. ... ¬

_ (¬1) في (ت) التلبس بالصلاة. (¬2) ساقط من (م) و (ق) وفي (ص) فيعيد. (¬3) في (ق) و (ت) و (م) و (ص) حملا. (¬4) في (ر) و (ت) للتفريط. (¬5) في (ص) مؤقتة بوقت. (¬6) في (ت) و (م) و (ص) فالأصل الإعادة إلا على ما قلناه، وفي (ق) فالأصل الإعادة على ما قلناه.

فصل (من يباح له التيمم)

فصل (من يباح له التيمم) وأما من يباح له التيمم فحصره على سبيل الإجمال أنه كل من لزمته الصلاة وتعذر عليه استعمال الماء بفقده، أو لفقده القدرة على استعماله. وأما التفصيل؛ فإن المسافر والمريض إذا فقدا الماء فأجمعت الأمة على أن لهما الانتقال إلى التيمم عوضاً عن الوضوء، وكذلك عند فقهاء الأمصار عوضاً عن الطهارة الكبرى. وأما الحاضر يفقد الماء ولا مرض به فهل يجوز له التيمم؟ لمالك قولان. وإذا أجزنا له التيمم ففعل وصلى ثم وجد الماء بعد الوقت فهل يعيد أم لا؟ قولان في المدونة. وسبب الخلاف في إجازة التيمم له خلاف الأصوليين في دليل الخطاب (¬1)؛ هل يقال به أم لا؟ إذ قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬2)؛ فإن قلنا بدليل الخطاب لم يجز التيمم للحاضر الصحيح، وإن لم نقل بدليل الخطاب أو قلنا به، ولكن (¬3) يحمل ما في الآية على أنه خرج على الغالب وفهمنا قطعاً أن المقصود إدراك الوقت بالتيمم، فالتيمم بدل عن الوضوء فأجزنا للحاضر أن يتيمم. وأما الإعادة وإن خرج (¬4) الوقت مع إجازة التيمم فجواب من أشكل عليه الأمر وأخذ بالاحتياط فأمر بأداء الصلاة في الوقت وقضائها بعده ليجمع بين القولين. (حكم من فقد الماء والتراب) وقد اختلف المذهب فيمن فقد الماء والتراب أو ما في معناه على ¬

_ (¬1) دليل الخطاب ويسمى مفهوم المخالفة وهو حيث يكون المسكوت عنه مخالفاً للمذكور في الحكم إثباتًا ونفيًا فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به. انظر إرشاد الفحول 303. (¬2) المائدة: 6. (¬3) في (ق) و (م) ولكنه. (¬4) في (م) و (ق) بعد.

(متى ينتقل المسافر إلى التيمم مع وجود الماء؟)

أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يصلي، ولا يعيد، والثاني: أنه يصلي ويعيد، والثالث: أنه يصلي ولا يعيد، والرابع: أنه لا يصلي ويعيد. وسبب الخلاف هل الطهارة شرط في الوجوب فيسقط الأمر بالصلاة ولا تجب إعادتها، أو شرط في الأداء فيسقط الأمر بها وتجب إعادتها، أو ليس بشرط إلا مع القدرة فيؤمر بها ولا يعيد؟ والإعادة مع الأمر بها جواب من (¬1) أشكل عليه الأمر فاحتاط بأدائها في الوقت وقضائها بعده. وقد أجرى أبو إسحاق التونسي (¬2) هذا الخلاف في الحاضر يفقد الماء إذا قلنا إنه ليس من أهل التيمم. (متى ينتقل المسافر إلى التيمم مع وجود الماء؟) وينتقل المسافر إلى التيمم وإن وجد الماء وذلك بشروط منها: أن يخاف إن استعمله من لصوص أو سباع، فهذا إذا خاف على نفسه. فإن خاف على ماله فقولان: أحدهما: إجازة الانتقال قياساً على السفر لطلب الأرباح مع تجويز فقد الماء. والثاني: أنه لا ينتقل. وهذا يرى أن ذهاب المال لا يقابل الصلاة بالتيمم، وهو مذهب بعيد. وأولى ما نزل على (¬3) عدم تيقن الخوف أو غلبة الظن؛ منها: أن يجد ويخاف- متى استعمله- العطش على نفسه أو على حيوان معه [أو] (¬4) آدمي أو غيره. وهذا يبيح التيمم بلا خلاف في المذهب. ¬

_ (¬1) في (ص) لمن. (¬2) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن إسحاق التونسي. تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران الفاسي، ودرس الأصول على الأذري. كان جليلاً فاضلاً عالماً إماماً. به تفقه جماعة من أهل إفريقية؛ عبد الحق وغيره، له شروح حسنة وتعاليق مستعملة متنافس فيها على كتاب ابن المواز والمدونة. توفي مبتدأ فتنة الأعراب بالقيروان التي وقعت سنة 441هـ. الديباج المذهب ص: 88، 89 والشجرة ص: 108 (285). (¬3) في (ت) و (ر) بالتيمم وهو مذهب بعيد وأولى ما يدل على، وفي (ق) بالتيمم وهذا ما يدل على. (¬4) ساقط من (ر) و (ص) و (ت).

(حكم المريض الذي يخاف استعمال الماء)

ومنها أن يجد الماء لكن بثمن خارج عن المعتاد بما يجحف به لقلة دراهمه أو لكثرة الزيادة في الثمن. وقد قرر ابن الجلاب التحديد المزيد بمقدار ثلث الثمن. ولا أصل لذلك. وقد يهون ثمن الماء فيكون زيادة ثلاثة (¬1) أمثاله فأكثر ليس بمجحف. ولو وجد المسافر أو الحاضر - إذا ألحقناه بالمسافر- الماء (¬2)، لكنه في موضع يفتقر إلى إخراجه. ومتى اشتغل بإخراجه فإنه يفوت وقت الصلاة؛ فإنه يتيمم لأنه معدم في وقت الصلاة. فإن كان بين يديه ولا يفتقر إلى إخراجه لكنه لو اشتغل باستعماله لفاته الوقت؛ ففيه قولان: مذهب المغاربة يستعمله لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3)، وهذا واجد. ومذهب البغداديين أنه يتيمم. إلا أن المقصود قطعا إدراك الصلاة في الوقت ولولا هذا المقصود لما أبيح التيمم، لأنه متى فقد الماء ولم يراعِ الوقت أُمهل حتى يجد الماء. (حكم المريض الذي يخاف استعمال الماء) وأما المريض فإن خاف من استعمال الماء تَلَفَ نفسِه فلا خلاف في المذهب أنه لا يستعمله وينتقل إلى التيمم. وإن خاف زيادة مرض، فالمشهور أنه ينتقل. والشاذ أنه لا ينتقل. وهذا لتقابل المكروهين. والصحيح انتقاله، لأن استعمال الماء على هذه الصفة من الحرج الذي تسقطه الشريعة. وإذا بنينا على المشهور فله استعمال التيمم متى خاف أحد أربعة أوجه: حدوث مرض، أو زيادته إن كان مريضا، أو تأخير برء، أو إتلاف نفس. ووجدان ما لا يقوم بجميع الطهارة كفقدان الجميع عند مالك. ... ¬

_ (¬1) في (ص) الزيادة في ثلاثة. (¬2) في (ق) بالمسافر يفقد الماء. (¬3) النساء: 43، والمائدة: 6.

فصل (في ما يتيمم به)

فصل (في ما يتيمم به) وأما ما يتيمم به. فإن تيمم بتراب طاهر منبت غير منقول عن وجه الأرض إلى الأواني فلا خلاف في الإجزاء. فإن لم يكن على الأرض تراب ففيه قولان: المشهور أنه غير مشترط، والشاذ اشتراطه. وقد اختلف أهل اللغة في الصعيد ما هو؟ فهل كل ما صعد على [وجه] (¬1) الأرض ترابًا كان أو غيره إذا كان من أجزائها؟ وقيل: وإن لم يكن من أجزائها إذا اتصل بها نباتاً أو سقوطاً معتاداً كالثلج (¬2) أو الجليد. وقيل: هو التراب. واختلف في معنى قوله تعالى: {طَيِّبًا} (¬3) فقيل: منبِتاً. وقيل: طاهراً، وهو الأظهر. لكن احتج من قال هو المنبت بقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (¬4). وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً" (¬5). وفي بعض الطرق "وتربتها طهوراً" (¬6). وبين الأصوليين خَلاف في قبول زيادة العدل. وإذا قلنا بأن التيمم على غير التراب جائز فهل يجوز مع وجود التراب ومع فقده؟ في المذهب قولان: أحدهما: جوازه، وهو الأصح (¬7) على هذا المذهب. والثاني: كراهيته، مراعاة للخلاف. وعلى ما قلناه في الآية والأحاديث اختلف المذهب هل يشترط التراب ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت) و (ص). (¬2) في (ت) و (م) كالملح. (¬3) النساء: 43، والمائدة: 6. (¬4) الأعراف: 58. (¬5) أخرجه البخاري في الصلاة 438، والترمذي في الصلاة 317 واللفظ له. (¬6) أخرجه مسلم في المساجد (522) عن حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"فُضِّلْنَا عَلَى النَّاس بثَلاَثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً إِذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ" وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى. (¬7) في (ر) و (ق) و (ص) الأصل.

(حكم التيمم بالملح)

كما قاله ابن شعبان؟ (¬1) أو يشترط وجه الأرض [و] (¬2) ما كان من أجزائها أو [من غير أجزائها؟ أو يكون] (¬3) يجوز التيمم بالخشب والحشيش والثلج والجليد (¬4) والحجر (¬5). وأما المعادن على القول بأنا لا نشترط التراب فإذا خلت منه جاز التيمم بها ما دامت مصاحبة لسطح الأرض. وكذلك الأحجار واليواقيت. فإن نقلت المعادن وصارت عقاقير أو معدة للاستعمال واللباس خرجت عن حكم الصعيد. (حكم التيمم بالملح) وفي الملح ثلاثة أقوال: قال أبو الحسن ابن القصار (¬6): يتيمم به، وحكى الباجي وغيره أنه لا يتيمم به، وفصل الباجي (¬7) بين المعدني فأجاز التيمم به وبين المصنوع فمنع التيمم به فجعله كالثلج أو الماء بل اشترط فيه من الصناعة. وهذا كما اختلف في حلوله في الماء هل يكون كقراره أو كالمائعات. وإن نقل التراب لمن يتيمم به ففي جواز التيمم قولان: أجازه ابن القاسم في كتاب محمد (¬8) لأنه من الصعيد، ومنعه ابن بكير. واحتج بقول ¬

_ (¬1) هو: أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان .. ويعرف بابن القرطبي كان أرأس فقهاء المالكية بمصر في وقته وأحفظهم لمذهب مالك كان يلحن ولم يكن له بصر بالعربية مع غزارة علمه، ألف عدة كتب في الفقه وغيره. توفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. الديباج المذهب ص: 248، 249، والشجرة ص: 80 (144). (¬2) ساقط من (ر) و (ص). (¬3) ساقط من (ر) و (ص) وفي (م) و (ت) غير أجزائها. (¬4) في (ص) الجمد. (¬5) في (ق) الحت وفي (م) الملح. (¬6) في (ر) و (ق) ابن القابسي. (¬7) في (ص) الشافعي. (¬8) يقصد بكتاب محمد: الموازية لمحمد بن المواز الإسكندراني (ت) 269، وقد اعتمد المالكية هذا الكتاب لزمن طويل. إلا أنه اختفى على أنظار الدارسين في هذا العصر، ولعل كتاب النوادر والزيادت لابن أبي زيد القيرواني احتفظ بجل الكتاب. انظر ترتيب المدارك 4/ 164 ومباحث في المذهب المالكي ص 72.

فصل (لأي شيء يكون التيمم؟)

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً". ولا يكون ذلك إلا بمباشرتها بالكف. ... فصل (لأي شيء يكون التيمم؟) وأما لأي شيء يكون؟ فإذا تعينت الصلاة جاز التيمم لها (¬1)، وهذا يختص بصلاة الفرض ويعم كل من ذكرنا أنه من أهل التيمم اتفاقًا. وعلى قول من أجازه وإن لم يتعين فلا يجوز التيمم لها إلا المسافر الفاقد للماء يصير من أهل التيمم فإنه يتيمم لكل ما يفتقر إلى طهارة. وهل يتيمم من فقد الماء لصلاة الجمعة حذراً من فواتها؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يتيمم، قاله أشهب. وهذا لأنه يراها بدلاً من الظهر فإن (¬2) لم يمكن أداؤها بشرطها انتقل إلى الأصل. والثاني: أنه يتيمم، حكاه ابن القصار وأبو جعفر الأبهري (¬3). وهذا لأنها صلاة قائمة بنفسها، وفي المذهب قولان في ذلك. وفي جوازه للسنن في حق الحاضر قولان: مذهب الكتاب أنه لا يجوز، على المشهور في المذهب. والشاذ أنه يجوز، قاله ابن سحنون (¬4). ولعل هذا لأنه مطلوب بالصلاة ومطالب بتحصيل (¬5) الأجر فيستوي أن يكون مطلوبًا بها جزماً أو ندباً. ¬

_ (¬1) في (م) و (ق) عليها. (¬2) في (ق) و (م) فإذا لم يكن. (¬3) هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري، سكن بغداد. وكان إمام أصحابه في وقته وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك. جمع بين القراءات وعلو الإسناد والفقه الجيد. شرح المختصرين الكبير والصغير لابن عبد الحكم وانتشر عنه مذهب مالك في البلاد. كان القيم برأي مالك في العراق في وقته معظّمًا عند سائر العلماء ... الديباج المذهب ص: 255 - 256، والشجية 91 (204). (¬4) في (ق) سحنون. (¬5) في (م) و (ت) و (ص) وطالب لتحصيل.

فصل (هل يصلى بالتيمم أكثر من فرض)

وأما صلاة الجنازة فإن لم يتعين الوجوب جرت على القولين، والمشهور (¬1) أنه لا يتيمم لها لأنها وإن قلنا بفرضيتها على الكفاية فإذا لم تتعين لحقت في عدم التعين بالسنن. وإن تعينت فحكى ابن القصار أن القياس يوجب جواز التيمم. قال: ويحتمل أن يقال لا يجوز (¬2) لأن من الناس من يجوز الصلاة على القبر، وقد روي ذلك عن مالك. فيدفن الميت، ثم إذا وجد الماء توضأ وصلى على القبر. ... فصل (هل يصلى بالتيمم أكثر من فرض) وقد تقدم الخلاف في التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ والاتفاق على توجه (¬3) الطلب؛ ولهذا يقول أهل المذهب إذا تيمم لاستباحة فرض فلا يصلي به فرضاً غيره، لأنه يتوجه عليه الطلب للثانية (¬4). فبعد الفقد يلزمه التيمم ثانية، وإن اتحد وقت الفرضين بأن يكونا مجموعين أو كانت فروضا فائتة؛ ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يجمع بينهما بناء على أن التيمم لا يرفع الحدث، والشاذ أنه يجمع بينهما، وهي قولة لمالك، وهو بناء على أنه يرفعه. فإن أمرناه بأن يجمع فجمع فهل يعيد الثانية؟ ثلاثة أقوال: أحدها: الإعادة في الوقت، قاله مالك في كتاب محمد. وقال ثانية (¬5): يعيد أبدًا. وقال أصبغ (¬6): إن كانتا مشتركتي الوقت كالظهر والعصر، وكالمغرب ¬

_ (¬1) في (ت) و (م) المشهور. (¬2) في (ق) ويحتمل أن لا يصلي. (¬3) في (ت) ثبوت وفي (ق) في موجب. (¬4) في (ص) الثاني. (¬5) في (ت) وله قول ثاني. (¬6) هو: أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع مولى عبد العزيز بن مروان يكنى أبا عبد الله. رحل إلى المدينة ليسمع من مالك فدخلها يوم مات. وصحب ابن القاسم وابن وهب =

فصل (هل تصلى السنن بتيمم الفرض؟)

والعشاء الآخرة أعاد الآخرة [في الوقت. وإن كانتا غير مشتركتي الوقت كالصبح والظهر أعاد الآخرة] (¬1). وإن خرج الوقت فالإعادة بعد الوقت على نفي مراعاة الخلاف، والتخصيص بالوقت مراعاة له، والتفرقة لأن الطلب يتوجب إذا افترق وقتهما. ولم يختلف المذهب أنهما لا يجتمعان. ومعلوم أنه لا يصلي الفريضة بتيمم النافلة، هذا على القول أنه لا يرفع الحدث. أما على القول بأنه يرفعه فيلزم أن يصلي بذلك الفرض إلا أن يقال يتوجه الطلب للفرض فلا نظر إذا لم يتوجه في حق العاجز. وكذلك (¬2) لو تيمم للفريضة فصلى قبلها نافلة للزمته الإعادة للفريضة لتوجه الطلب، فإن صلى بتيممه الفريضة فله أن يصلي به النافلة (¬3)، لأن النوافل في حكم التبع للفرائض (¬4) فينسحب عليها حكمها. ... فصل (هل تصلى السنن بتيمم الفرض؟) فإن تيمم لصلاة الصبح، فهل له أن يصلي بذلك التيمم ركعتي الفجر المشهور أنه لا يجوز له لما قدمناه من توجيه (¬5) الطلب. وروى يحيى بن يحيى (¬6) عن مالك إجازته استحبابا. وهذا لأنه رآها في حكم التبع، وهي ¬

_ = وأشهب وسمع منهم، كان كاتب ابن وهب وأخص الناس به روى عنه البخاري وغيره وعليه تفقه ابن المواز وابن حبيب له تآليف حسان. توفي سنة خمس وعشرين ومائتين وقيل سنة أربع ومولده بعد الخمسين ومائة. الديباج المذهب ص: 97 وطبقات الفقهاء ص: 158. (¬1) ساقط من (ق) و (م). (¬2) في (ت) ولذلك. (¬3) في (ق) النافلة بعد. (¬4) في (ص) و (ق) للفرائض والجبران. (¬5) في (ص) و (ق) توجه. (¬6) في (ت) و (ق) يحيى بن عمر، وفي (ص) يحيى بن محمد. وهو: يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس يكنى أبا محمد .. من مصمودة طنجة .. =

(هل توطأ الحائض إذا انقطع دمها وتيممت؟)

بدل من (¬1) الأخيرتين من الرباعية. وهل له أن يصلي السنن كالوتر بما صلى به الفرض؟ فالمشهور من المذهب جوازه، واستحب سحنون إعادة التيمم للوتر (¬2)، وهذا لتأكيده. (هل توطأ الحائض إذا انقطع دمها وتيممت؟) وعلى الخلاف في رفع التيمم للحديث اختلف هل يجوز وطئ الحائض إذا انقطع دمها وتيممت؟ فالمشهور منعه، والشاذ جوازه. (حكم إمامة المتيمم بالمتوضئين) وكذلك الخلاف في إمامة المتيمم بالمتوضئين؛ فالمشهور كراهيته، والشاذ جوازه. ... فصل (في مسائل متفرقة من أحكام التيمم) وحكم التيمم في وجوب النية حكم الوضوء لكنه، [لا]، (¬3) يقصد بالتيمم على المشهور إلا استباحة الصلاة دون رفع الحدث. وعلى الشاذ: له أن يقصد رفع الحدث. وقد قدمنا أن مذهب المدونة فيمن تيمم للحدث الأصغر ولم (¬4) يذكر أنه جنب لا يجزيه. وقيل: يجزيه، وهذا لاتحاد ¬

_ = سمع يحيى مالكاً والليث وجلة أصحاب مالك. وكانت له رحلتان من الأندلس، سمع في الأولى من مالك والليث وابن وهب واقتصر في الأخرى على ابن القاسم، وبه تفقه. قدم الأندلس بعلم كثير فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار إلى رأيه. وبيحيى وبعيسى انتشر مذهب مالك. وكان مالك يعجبه سمت يحيى وعقله وسماه العاقل. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. الديباج المذهب ص: 350، 351، والشجرة 63 (46). (¬1) في (ق) وهو يدل على أن. (¬2) انظر النوادر والزيادات 1/ 18. (¬3) ساقط من (م) و (ق). (¬4) فى (ص) و (م) ثم.

الفعل. وإذا نفينا الإجزاء فصلى، فمقتضى الكتاب الإعادة. وهكذا نص عليه في مختصر ابن عبد الحكم. وقيل: يعيد في الوقت مراعاة للخلاف. وكذلك حكم الموالاة والترتيب في التيمم كحكمها (¬1) في الوضوء. وفي المدونة فيمن نكَّس تيممه وصلى، تجزيه صلاته ويعيد التيمم لما يستقبل (¬2). وهذا مما يسأل عنه فيقال: أليس يعيد التيمم؛ لأنه يتيمم لكل صلاة فما معنى أمره بإعادته ها هنا؟ والجواب إن مراده استحباب الإعادة إذا أراد أن يصلي به نافلة. وفي المدونة في اليائس من الماء يتيمم في أول الوقت ثم يجد الماء قال: لا إعادة عليه (¬3). وقال الأشياخ: معناه أنه وجد ماء غير الذي أيس (¬4) منه، وإلا لو وجده بعينه لأعاد (¬5)؛ لأنه ظن فأخطأ. وفي المذهب قولان في رفع الخطأ بالاجتهاد، وهو على خلاف بين الأصوليين في تصويب المجتهدين. وقال في الكتاب في المريض والخائف والمسافر يتيممون في وسط الوقت (¬6). قال ابن عبدوس (¬7) وغيره: معناه وقت الاختيار (¬8). وقال فيمن غربت عليه (¬9) الشمس إن طمع أن يدرك الماء قبل مغيب الشفق مضى ¬

(¬1) في (ص) و (ت) و (م) و (ق) حكمها. (¬2) في (ص) يستيقن. المدونة 1/ 44. (¬3) المدونة 1/ 45. (¬4) في (ص) و (ت) يئس. (¬5) في (م) لا إعادة عليه (¬6) المدونة 1/ 42. (¬7) هو: محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير، من كبار أصحاب سحنون وأئمة وقته وهو رابع المحمديين الذين اجتمعوا في عصر واحد من أئمة مذهب مالك، لم يجتمع في زمان مثلهم؛ اثنان مصريان: ابن عبد الحكم، وابن المواز، واثنان قرويان: ابن عبدوس وابن سحنون. ولم يكن في أصحاب سحنون أفقه من ابنه وابن عبدوس. توفي سنة ستين ومائتين وقيل إحدى وستين الديباج المذهب ص: 237، 238، وشجرة النور ص: 70 (82). (¬8) انظر النوادر والزيادات 1/ 115. (¬9) في (ر) و (ص) غابت له.

إليه (¬1). وهذا يؤخذ منه أن وقت المغرب ممتد إلى مغيب الشفق. وفي المذهب في ذلك قولان. وقد يقال: إنه قال ذلك مراعاة للخلاف، إذ أحد القولين أن الحاضر لا يتيمم (¬2)، وهذا حاضر. على أن المذهب اختلف هل من شرط السفر المبيح للتيمم كونه مما تقصر فيه الصلاة، أو ليس من شرطه ذلك؟ وقوله في الكتاب: وقد كان ابن مسعود يقول غير هذا ثم رجع إلى أنه يغتسل. فاختلف الأشياخ ما مراده بذلك فقيل: كان ابن مسعود يقول: إنه إذا وجد الماء لا يغتسل لأن تيممه يرفع الحدث ثم رجع إلى أنه يغتسل. وقيل: إن مراده أن ابن مسعود يقول: يغتسل ويعيد الصلاة، ثم رجع إلى أنه يغتسل فقط، فلا إعادة عليه (¬3). وقوله في الكتاب: لا يعيد الجنب الصلاة إذا وجد الماء. قال أبو الحسن ابن القابسي: هذا إن لم يكن في بدنه نجاسة، وإلا لو كانت لأعاد في الوقت. وقال أبو بكر ابن اللباد (¬4): وإن لم تكن في بدنه نجاسة لكنه أجنب من وطئ في الفرج فإن فرجه ينجس من بلة فرج المرأة. وهذا عندنا فيه قولان: أحدهما: الحكم بنجاسته لأن النجاسة تمر عليه، والثاني: أنه غير نجس لأنه ولوج لا يتعلق به نجاسة. وقوله في المدونة: [ولا بأس]، (¬5) في الطين الخضخاض (¬6) يخفف ¬

_ (¬1) في (ق) و (م) و (ص) الشفق أخر حتى يدركه. (¬2) في (ت) و (ق) للحاضر أن يتيمم. (¬3) في (ص) والإعادة عليه. (¬4) هو: أبو بكر محمد بن اللباد بن محمد بن وشاح .. من أصحاب يحيى بن عمر وبه تفقه، وأخذ عن غيره. تفقه به أبو محمد بن أبي زيد وغيره. لم تكن له رحلة ولا حج كان عنده حفظ كثير وجمع للكتب وحظ وافر من الفقه. امتحن وسجن وضرب ثلاث عصي. توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. الديباج المذهب: 1/ 249، 250 وشجرة النور ص: 84 (163). (¬5) ساقط من (ر) و (ق) و (ت). (¬6) جاء في لسان العرب 7/ 144: مكانٌ خَضِيضٌ وخُضاخِضٌ: مَبْلولٌ بالماءِ، وقيل: هو =

باب في حكم الحيض والنفاس

وضع يديه عليه (¬1). قال ابن حبيب: ثم يرفع يديه ويخففهما لينثر (¬2) ما فيه من الأذى خيفة أن يتعلق (¬3) بوجهه، ويفعل في الضربة لليدين كذلك. ... باب في حكم الحيض والنفاس وينفصل من الفرج دمان: أحدهما: لا يوجب حكماً، وهو دم علة وفساد، ويعبر عنه بالاستحاضة. وإنما يستحب منه الوضوء عندنا لكل صلاة. والثاني: دم الحيض والنفاس، وهما يمنعان من ثمانية أشياء، واختلف في تاسع: يمنع من وجوب الصلاة وأدائها، وأداء الصوم، والطواف، والاعتكاف، ومس المصحف، ودخول المسجد، والجماع، والطلاق. واختلف هل للحائض أن تقرأ القرآن ظاهرا؟ والمشهور من المذهب جوازه لأنها مضطرة وتخاف النسيان. وهل يمنع الجماع في الفرج وغيره؟ أما الفرج فلا خلاف في منعه. وأما ما فوق الإزار فلا خلاف في جوازه، أما تحت الإزار مما دون الفرج ففي المذهب فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه. وسبب الخلاف قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4) الآية. واختلف هل المراد به موضع الحيض أو زمانه؟ فإن قلنا المراد به موضعه اختص الفرج بالتحريم، وإن قلنا المراد زمانه اقتضى تحريم الجملة، لكن خص ما فوق الإزار بالحديث. ¬

_ = الكثير الماء والشجر، خَضْخَضْتُ الأَرضَ إِذا قلَبْتَها حتى يصير موضعها مُثاراٌ رَخْواٌ إِذا وصل الماءُ إِليها أَنْبَتَتْ. والخَضِيضُ: المكانُ المُتَتَرِّبُ تَبُلُّه الأَمطارُ. والخَضْخَضَةُ: أَصلُها من خاضَ يَخُوضُ لا مِنْ خَضَّ يَخُضُّ. (¬1) المدونة 1/ 46. (¬2) في (ص) لتيسر. (¬3) في (ص) و (ت) يعلق. (¬4) البقرة: 222.

فصل (في حد الطهر والحيض)

فإن انقطع دم الحائض ولم تغتسل بالماء ففي تحريم وطئها قولان: المشهور تحريمه تعويلاٌ على قراءة من قرأ (يَطَّهَّرْنَ) بالتشديد، وعلى قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}. والشاذ أنه لا يحرم. قاله ابن بكير تعويلاٌ على قراءة من قرأ {يَطْهُرْنَ} بالتخفيف، لكنه كرهه مراعاة للخلاف. ... فصل (في حد الطهر والحيض) ولا حد لكثير الطهر بإجماع. وكذلك لا حد عندنا ليسير الحيض فيما يرجع إلى العبادات. وأما ما يرجع إلى العادة (¬1)؛ فيسيره محدود بما بيانه (¬2) محال على موضعه. وأما كثير الحيض فهو محدود. والمشهور حده إما بالرجوع إلى العادة وإما بخمسة عشر يوما. وقال ابن نافع (¬3): تستظهر (¬4) على الخمسة عشر يوماً بثلاثة أيام. وهذا يدل على أن أكثره ثمانية عشر يوماً. والصحيح هو المشهور. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن (¬5) النساء يتركن الصلاة شطر عمرهن (¬6) "، وقد ¬

_ (¬1) في (م) و (ت) العادات، وفي (ر) و (ص) العدد. وهو غير مستقيم. (¬2) في (ص) بيناه. (¬3) هو: عبد الله بن نافع ولي بني مخزوم المعروف بالصائغ، كنيته أبو محمد روى عن مالك ونظرائه، كان صاحب رأي مالك ومفتي المدينة بعده، ولم يكن صاحب حديث وكان أصماً أمياً لا يكتب، وإنما كان حافظاً. سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك. توفي بالمدينة سنة ست وثمانين ومائة. الديباج المذهب ص: 131، 132، وشجرة النور 55 (4). (¬4) أي تحتاط لنفسها. (¬5) في (ص) و (ت) و (ق) "في". (¬6) لم أقف عليه بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري في كتاب الصوم (298) حديثاً قريباً منه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن فأني أريتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين =

خرج مخرج الذم، فيكون منبئاً على أكثر الحيض وأقل الطهر. وفي أقل الطهر قولان: أحدهما: حده بما يثبت بالعادات، والثاني: حده (¬1) بالأيام. وإذا حددناه بالأيام فما عددها؟ أربعة أقوال: أحدها: خمسة أيام، قاله ابن الماجشون. والثاني: ثمانية أيام، قاله سحنون واستقرأه أبو محمد بن أبي زيد من المدونة. والثالث: عشرة أيام، قاله ابن حبيب. والرابع خمسة عشر يوما، قاله محمد بن مسلمة. وهذه الأقوال لا أصل لها إلا الرجوع إلى العادة، وكذلك جميع ما اتفق فيه من مسائل الحيض والاستحاضة، وجميع ما اختلف فيه. فإنما يرجع الاتفاق إلى اتفاقهم في العادة، والاختلاف إلى اختلافهم فيها؛ لأن دم الحيض فضلات الغذاء يجمع في الرحم ثم ينفصل بعد الاجتماع. وذلك على عادة أجراها الله تعالى في النساء. ومتى استمرت على العادة فهو دم الحيض، ومتى خرجت عن العادة فهو دم الاستحاضة. وإنما يعول في ذلك على العوائد نفيًا وإثباتًا؛ فمرة يرد مالك الأمر إلى العادة من غير جزم، ومرة يجزم هو أو أحد أصحابه بحسب ما ثبت عندهم. فإن ثبتت عادة فلا إشكال فيما (¬2) اتفقوا. وإن اختلفت شهد كل واحد بما ثبت عنده من العادة. وقد احتج لمذهب ابن مسلمة بأن الله سبحانه جعل عدة من تحيض ثلاثة قروء واليائسة ثلاثة أشهر، وهي بدل من (¬3) القرء. والتقسيم يؤدي (¬4) إلى أن الشهر يقوم مقام (¬5) أكثر الحيض وأقل الطهر. وأيضاً فالحديث المتقدم يشهد لذلك. ... ¬

_ = أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى قال: فذلك نقصان من عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " قلن: بلى قال: "فذلك من نقصان دينها". (¬1) في (ر) و (ت) حده. (¬2) في (ر) فيها. (¬3) في (ت) و (ق) عن. (¬4) في (ت) يومئ. (¬5) في (ص) أقيم.

فصل (في حكم الدم الخارج ممن لا تحيض أو ممن تحيض)

فصل (في حكم الدم الخارج ممن لا تحيض أو ممن تحيض) وإذا رأت المرأة دماً فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن تكون ممن لا تحيض لصغر، وإما أن تكون ممن لا تحيض لكبر، وإما أن يكون سنها من من تحيض (¬1)؛ فالأولى لا حكم لدمها لأنه دم علة [وفساد] (¬2)، والثانية فيها قولان فيما يرجع إلى العبادة (¬3) لا إلى العِدَدِ: أحدها: أنه كدم الحيض. رواه ابن المواز عن مالك (¬4) لأن ترك العبادة تنزيه عن (¬5) قربها مع وجود دم، والكبيرة (¬6) أولى بذلك. والثاني: أنه كدم العلة، قاله في كتاب العدة من المدونة، وبه قال ابن حبيب (¬7). وهذا قياس على الصغيرة وعلى حكم العدة (¬8). وهل تغتسل على هذا القول لانقطاعه؟ قال ابن القاسم: لا غسل عليها، وهذا هو الأصل. وقال ابن حبيب: عليها الغسل وهذا احتياط. وكم سن اليائسة؟ قال ابن شعبان (¬9): خمسون سنة. محتجاٌ بقول عمر: بنت خمسين عجوزاً في الغابرين. وقالت عائشة: قل من تُجَاوِزُ الخمسين فتحيض إلا أن تكون فارهة (¬10) والثالثة: هي التي في سن من تحيض، فيحمل (¬11) ما تراه من الدم على الحيض بإجماع، إلا أن يعرض ما ¬

_ (¬1) في (ق) من لا تحيض. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) في (ق) العادة. (¬4) انظر النوادر والزيادات 1/ 129. (¬5) في (ت) ترفه من. (¬6) في (ق) تنبيهاً على قوتها مع وجود دم الحيض والكثير. (¬7) انظر المصدر السابق. (¬8) في (ص) العلة. (¬9) في (ت) ابن حبيب شعبا. (¬10) في (ر) و (ت) و (ص) قرشية (¬11) في (ت) يحمل و (ص) تحمل.

ينقله عن ذلك على ما نفصله. وإن حكمنا بكونه حيضاً (¬1)،وانقطع اغتسلت وصلت وكانت طاهراً. وكيف يعلم انقطاعه؟ لانقطاعه علامتان: الجفوف وهو أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة. والقَصَّة البيضاء وهي أن الدم يكون في أول الحيض أسوداً غليظاً ثخيناً، لا يزال يدق ويصفر حتى يكون في آخره كالقصة (¬2) وهو الجير. وإن كانت المرأة معتادة لأحدهما فرأت عادتها حكمت بانقطاعه. وإن رأت غير عادتها فقولان: أحدهما: أن القصة أبلغ من الجفوف؛ فمن اعتادت بالجفوف طهرت بالقصة البيضاء، ومن اعتادت بالقصة لم تطهر بالجفوف، قاله ابن القاسم. والثاني: عكس هذا وهو أن الجفوف أبلغ، قاله ابن عبد الحكم. [وإن كانت غير معتادة فلا تطهر إلا بالجفوف، قاله ابن القاسم وابن الماجشون. وقال الباجي: وهو نزوع (¬3) إلى قول ابن عبد الحكم] (¬4). وكل هذا مبني على عوائد النساء كما قدمناه، ولكن إن رأت غير عادتها وقلنا لا تطهر بذلك فإنما معناه أن تنتظر الثاني، ما لم تخف فوات وقت الصلاة. وما هو الوقت؟ حكى أبو محمد عبد الحق عن أشياخه قولين: أحدهما: أنه الوقت المختار، والثاني: الضروري. وهذان وجههما (¬5) كون أحد الأمرين يسد مسد الآخر. لكن طلب المعتاد (¬6) من باب الأولى والأسَدِّ (¬7) وعند الضرورة وخوف الفوات الكلي. ... ¬

_ (¬1) في (ق) بكونها حائضاً. (¬2) في (ر) كماء القصة. (¬3) في (ت) الرجوع. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ص) حكمهما. (¬6) في (ص) العادة. (¬7) في (ق) الأشد.

فصل (حكم الدم المتمادي)

فصل (حكم الدم المتمادي) وإن تمادى الدم فلم ينقطع فلا يخلو من أن تكون مبتدئة أو معتادة؛ فإن كانت مبتدأة ففي الكتاب أنها تمكث خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة (¬1). وروى علي بن زياد وابن وهب عن مالك أنها تمكث أيام عادتها وهي أترابها (¬2). وإذا قلنا بهذا فهل تستظهر وإن كانت معتادة؟ في الكتاب قولان: أحدهما: أنها تقيم خمسة عشر يوماً، والثاني: أنها تمكث أكثر عادتها. وهل تستظهر على ذلك؟ روايتان كما قلنا في المبتدئة. وهل تكون فيما بين أيام العادة (¬3) وبين الخمسة عشر يوماً كالطاهر (¬4) على الإطلاق أم لا؟ روايتان عن مالك رحمه الله: أحداهما: أنها طاهر مطلقاً، وهو مقتضى المدونة على ما سنذكره. والثاني: أنها تحتاط، تصوم وتقضي، وتصلي ولا تقضي، وتُمنع من وطء الزوج (¬5). وإذا قلنا إنها تجلس أيام عادتها وتستظهر، فإن الاستظهار بثلاثة (¬6) أيام ما لم تزد على خمسة عشر يوماً على المعروف من المذهب. وقد قدمنا قول ابن نافع. فإن انقطع عنها الدم عند الخمسة عشر يوماً فهل تعيد الغسل؟ أما (¬7) على القول بأنها تحتاط فلا شك في وجوب الغسل، وأما على القول بأنها طاهر على الإطلاق فلا يلزم الغسل إلا مراعاة للخلاف. وقد اختلف (¬8) في دم الاستحاضة ينقطع. وفي الكتاب قولان (¬9): ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 49. (¬2) فى (ص) وهن ذوات أسنانها. (¬3) فى (ق) المعتدة وفي (م) العدة. (¬4) فى (ق) كالطهر. (¬5) فى (ص) وتمنع الزوج من الوطء وفي (ق) تمتنع من الوطء. (¬6) فى (ر) ثلاثة. (¬7) فى (ق) و (ص) أم لا. (¬8) فى (ر) للخلاف في الوجوب. (¬9) المدونة 1/ 52.

فصل (حكم الدم الذي ينقطع ثم يعود)

إسقاط الغسل وهو الأصل؛ لأنه دم علة وفساد لا يوجب (¬1) غسلاً. والثاني: استحباب الغسل مراعاة للخلاف. وكل هذا الخلاف راجع إلى عوائد كما قدمناه مع (¬2) الرجوع إلى أحد ثلاثة أصول (¬3): إما إلى الاحتياط في لزوم العبادة (¬4)، فلا تسقط مع الشك، وإما النظر إلى الأصل والأصل (¬5) فقد دم الحيض. فمتى وقع الشك رجعنا إلى أصل الحقيقة (¬6). وأما استصحاب وجود دم الحيض فلا يحكم بزواله إلا مع تيقن الزوال. فتصرف هذه الأقوال إلى هذه الأصول. ... فصل (حكم الدم الذي ينقطع ثم يعود) وإذا انقطع الدم ثم عاد نظرنا؛ فإن كان بين انقطاعه وعودته مقدار أقل الطهر على ما قدمناه من الخلاف حكمنا بأن الثاني حيض مستأنف. وإن كان ما بينهما أقل من ذلك (¬7) حكمنا بأن الثاني مضاف إلى الأول. لكن إن كمل من الأول أكثر من [مدة] (¬8) الحيض على ما قدمناه فالثاني استحاضة، وإن لم يكمل فالثاني تكميل للحيض الأول. فإن كانت المرأة ممن ترى الدم يوماً أو يومين والطهر يوماً أو يومين، فإن كانت أيام الدم أكثر من أيام الطهر فلا خلاف أنها مستحاضة لأن المرأة ¬

_ (¬1) في (ر) يوجب. (¬2) في (ر) مع الالتفات إلى الرجوع. (¬3) في (ق) أوجه. (¬4) في (ق) العادة. (¬5) في (ر) النظر إلى الماضي الأصل وفي (ت) وأما النظر إلى أصل. (¬6) في (ق) الحلقة. (¬7) في (ت) الثاني مضاف إلى حيض مستأنف وإن لم يكن بينهما أقل الطهر، وفي (ق) الثاني مضاف إلى حيض مستأنف وإن لم يكن بينهما الطهر. (¬8) ساقط من (ر) و (ق) و (ت).

فصل (مدة الاستحاضة)

لا تحيض أكثر من زمان طهرها. وإن كانت أيام الطهر كأيام الحيض أو أكثر، فهاهنا قولان: المشهور أنها مستحاضة، ومذهب محمد بن مسلمة أنها طاهرة حقيقة في أيام انقطاع الدم، وحائض حقيقية في أيام وجوده. وهذا راجع إلى عادة كما قدمناه. ... فصل (مدة الاستحاضة) وإذا حكمنا بالاستحاضة فإن حكمها مستصحب ما لم يتغير الدم. وإن تغير بعد زمن بينه وبين الحيض السابق أقل من الطهر لم يُلتفت إلى تغييره، وإن كان زمان مقدار الطهر فأكثر فالثاني حيض مبتدأ. وإذا حكمنا بأن الدم المتغير حيض وتمادى فعلى القول الأول بأن من تمادى بها الدم تجلس خمسة عشر يوماً فلا تستظهر (¬1) إلا على ما قاله ابن نافع. وعلى القول بأنها تجلس أيام عادتها فهل تستظهر؟ قولان: أحدهما: أنها لا تستظهر، قاله محمد بن مسلمة. والثاني: أنها تستظهر، قاله ابن عبد الحكم. وأشار الباجي إلى أن هذا الخلاف على القول بأن من لم يحكم [لها] (¬2) بالاستحاضة تستظهر. وهذا لأن تلك إنما تستظهر لعل الدم زاد زيادة يسيرة فتستظهر رجاء أن ينقطع الدم، وإذا حكمنا باستحاضتها فالرجاء في ذلك ضعيف. ... فصل (حكم الدم المنفصل من الحامل) والذي تقدم حكم الحائل. وأما الحامل فالدم المنفصل من فرجها عندنا على حكم الحيض، فإن انقطع فكما قلناه في الحائل، وإن تمادى فلا تخلو إما أن تتغير عادتها بالحمل أو لا تتغير؛ فإن لم تتغير فحكمها حكم ¬

_ (¬1) في (ق) فلا تستبري. (¬2) ساقط من (ق).

الحائل، وإن تغيرت فهاهنا قولان: مذهب أشهب أنها بحكم الحائل لكون الحمل عندنا (¬1) يذهب الدم. ولهذا شبهه بالرضاع والمرض. ورواية ابن حبيب عن مالك وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب أنه ليس كذلك، وإنما يجتمع الدم ثم يندفع وليس أول الحمل كآخره. وكم مقدار ما تجلس؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تجلس بعد الشهرين والثلاثة الأشهر خمسة عشر يوماً ونحوها. وإذا جاوزت الستة الأشهر فرأته فإنها تترك الصلاة ما بين العشرين أو نحو ذلك، قاله ابن القاسم. والثاني: إن رأته في أول شهور الحمل جلست قدر أيامها والاستظهار. وإن رأته في الثاني فمثلي ذلك ولا تستظهر. وإن رأته في الثالث فثلاثة أمثال ذلك. وفي الرابع أربعة (¬2) أمثاله حتى تبلغ ستين يوماً فلا يُزاد عليها. قاله مالك عند ابن حبيب. والثالث: أنها في آخر الحمل تضعف أيام حيضتها ثم تغتسل لأن دمها أكثر من [دم]، (¬3) الحيض. وكأن قول ابن القاسم وابن وهب مبنيان على أن الدم وإن اجتمع فهو ينقص باغتذاء الولد منه. وقول مالك عند ابن حبيب مبني على أن الدم يجتمع ثم يندفع. ولمالك قول رابع في المبسوط (¬4) ينفي التحديد، لكن تجلس ما لم تسترب من طوله، ويرى أنه سقم حدث، وليس مما يعرض للنساء في الحمل، فإذا رأت (¬5) ذلك حكمت بالاستحاضة. وهذا جواب من لم يثبت عنده عادة مستقرة (¬6) فأحال على حال من اعتادت ذلك وما يظهر من أمره. ¬

_ (¬1) فى (ت) لأن الحمل عنده. (¬2) فى (ص) ثلاثة. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) هو للقاضي إسماعيل، ويعد الكتاب ضمن الدواوين السبع؛ التي هي: المدونة، والمستخرجة، والموازية، والواضحة، والمختلطة، والمجموعة، والمبسوط. انظر مسائل لا يعذر فيها بالجهل ص 7. (¬5) في (ق) فإذا زاد ذلك. (¬6) فى (ق) مقدر وفي (ص) مقدورة وفي (ت) مقدرة.

فصل

فصل (حكم دم النفاس المنقطع والمتمادي) وقد تقدم أن دم النفاس كدم الحيض وهو متى انقطع كان حكمه كحكم انقطاع دم الحيض (¬1)، فإن تمادى ففي المذهب قولان: أحدهما: أن أقصاه ستون يوما، فإن زاد على ذلك كان دم علة وفساد. وهذا لتقرر العادة عنده بذلك. والثاني: الإحالة على الرجوع إلى أهل المعرفة بالعوائد من النساء وغيرهن. وهو جواب من لم يتقرر عنده عادة [يجري عليها الحكم] (¬2). وإذا عاد الدم بعد إنقطاع دم النفاس؛ فإن كان بين الانقطاع والعودة مقدار أقل الطهر على الأقوال المتقدمة عد الثاني حيضاً مؤقتاً، وإن كان بينهما أقل من ذلك [فإن] (¬3) كمل دم النفاس بما قدمناه من الأجل فالثاني استحاضة، وإن لم يكمل أكملته من الثاني (¬4). فإن انقطع عند الكمال فهو دم النفاس وإن زاد فهو دم استحاضة. وقد قدمنا القولين في خروج الولد نقياٌ عن دم. (حكم من ولدت وبقي في بطنها آخر) وما حكم من ولدت ولدا وبقي في بطنها آخر والدم ينبعث؟ في المدونة قولان: أحدهما: أن حكمها حكم الحامل تحيض لأن الحمل باق. والثاني: أن حكمها حكم النفساء (¬5) لانفصال الولد (¬6). ... ¬

_ (¬1) في (ت) حكم الحيض. (¬2) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬3) ساقط من (ق). (¬4) في (ق) استحالة وإن لم يكن أكملته من الثانية. (¬5) في (ر) النفاس. (¬6) المدونة 1/ 54.

تنبيهات

تنبيهات منها: اختلاف الأشياخ في مقتضى مذهب المدونة في حكم الأيام التي بين أيام الاستظهار والخمسة عشر؛ أما ابن وهب فلا شك أن مقتضى روايته الأخذ بالاحتياط، لقوله: تصلي (¬1) وليست عليها أحب إلى من أن تترك الصلاة وهي عليها. وأما رواية ابن القاسم في كتاب الطهارة فلا تدل تصريحاً على أحد أمرين (¬2)، لكن في كتاب الحج إذا حاضت المرأة قبل الطواف حبس عليها كَرْيُهَا (¬3) قدر أيامها والاستظهار. وأخذ أبو موسى ابن قناس من هذا كونها طاهراً مطلقاً؛ لأنها إذا طافت بعد أيام الاستظهار فأجزأها فهي لا شك طاهر مطلقاً. وذكر أبو محمد عبد الحق مخالفة غيره من الأشياخ لهذا التأويل. وقال: معنى حبس الكري (¬4) هذه المدة لعل الدم ينقطع فإذا لم ينقطع فسخ الكري لأنه ضرر بالكري. ومنها: قوله في الكتاب في امرأة رأت الدم خمسة عشر يوماً ثم رأت الطهر خمسة أيام ثم رأت الدم أيامها (¬5) ثم رأت الطهر (¬6) سبعة أيام. قال: هذه مستحاضة (¬7). فاستقرأ أبو محمد بن أبي زيد من هذا أنها لو رأت الطهر ثمانية أيام لم تكن مستحاضة. وإن أقل الطهر ثمانية أيام لاقتصاره على سبعة. وأنكر أبو عمران وغيره من الأشياخ هذا الاستقراء لأن ذكر السبعة [إنما] (¬8) جرى في السؤال ولم يقصد به التحديد. وإنما يؤخذ من ذلك أن السبعة الأيام لا تكون طهراً. ¬

_ (¬1) في (ص) لا تصلي وفي (ت) لقوله رأيت أن تصلي. (¬2) في (ص) الأمرين. (¬3) الكري الأجير والذي يكريك دابته. المعجم الوسيط 2/ 785. (¬4) في (ق) هذه المرأة. (¬5) في (ر) أياماً. (¬6) في (ق) الدم. (¬7) المدونة 1/ 52. (¬8) ساقط من (ق).

واختلف المتأخرون أيضاً في قوله: هذه مستحاضة هل في الأيام التي أتاها فيها الدم بعد الخمسة؟ أو فيما بعد السبعة؟ ولا شك أنها مستحاضة في الجميع. ومنها: حكمه في الكتاب فيمن اختلط عليها الطهر والحيض لأنها مستحاضة، واختلف الأشياخ لو طلقها الزوج في أيام انقطاع الدم هل يكون طلاقه مباحاً ولا يجبر على الرجعة قاله غير واحد من الشيوخ الصقليين، أو يكون طلاقه محرماً (¬1) فيجبر على الرجعة؟ قاله غير واحد من القرويين. وهذا على (¬2) الخلاف في تحريم الطلاق في الحيض هل ذلك خيفة تطويل العدة فيكون [على] (¬3) هذا محرماً، أو شرع غير معلل فيكون هذا مباحاً. وعلى هذا اختلف متقدموا أهل المذهب (¬4) في طلاق التي لم يدخل بها هل يجوز في الحيض إذ لا عدة يخاف تطويلها أو يحرم لأن ذلك غير (¬5) معلل؟ ومنها: قول أشهب في الحامل لا تستظهر إلا أن تكون استرابت. وروي بإسقاط "لا" (¬6). وأكثر الأشياخ على أن إثبات"لا" هو الصواب ولا معنى لإسقاطها. وحكى أبو محمد عبد الحق عن بعض القرويين أنه التمس لإسقاطها وجها فقال: معنى استرابتها أنها شكت في كون دمها دم حيض أو دم [نفاس] (¬7) سقط. ومتى استرابت هذه الريبة فإنها تقيم أيامها وتستظهر عليها ولا تجلس أكثر من ذلك وإن كانت قد شكت. وتبقى على جلوس الحائض دون جلوس النفساء. وهذا بعيد عن مقصد أشهب. والصحيح إثبات "لا" لأنها متى لم تسترب كانت كالحائل كما قدمناه فتستظهر بناء على أحد القولين. ¬

_ (¬1) في (ت) مباحاً. (¬2) في (ق) وهذا بناء على. (¬3) ساقط من (ص) و (ق) و (ت). (¬4) في (ت) و (ص) أصل المذهب. (¬5) في (ص) فرع غير. (¬6) في (ر) والأول أبين إلا أن يكون، وفي (ق) أن تكون، وفي (ص) من إلا يكون. (¬7) ساقط من (ق) و (ص) و (م).

ومنها: قوله في الكتاب (وإذا جاوزت الستة أشهر من حملها. ثم رأته تركت الصلاة ما بين العشرين يوماً أو نحو ذلك) (¬1) فاختلف الأشياخ في حكم الستة الأشهر هل تكون كحكم ما بعدها؛ لأن الوضع (¬2) قد يكون فيها، ولأن أفعال من بلغتها في الثلث كفعل من جاوزتها. وقيل: حكم الستة كحكم ما قبلها لأنه قيد في الكتاب مجاوزة (¬3) الستة. والأول: مذهب ابن التبان (¬4) وغيره من الصقليين. والثاني: مذهب ابن أبي زيد تم كتاب الطهارة بحمد الله وحسن عونه. ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 55. (¬2) في (ق) و (ص) الموضع. (¬3) في (ص) و (ت) و (ق) بمجاوزته. (¬4) هو: أبو محمد عبد الله بن إسحاق المعروف بابن التبان الفقيه الإمام كان من العلماء الراسخين والفقهاء المبرزين، مستجاب الدعوة، يميل إلى الرقة وحكايات الصالحين، عالماً باللغة والنحو والحساب والنجوم .. من أشد الناس عداوة لبني عبيد. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. الديباج المذهب ص: 138، وشجرة النور 95 (225).

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الأول

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصلاة الأول (تعريف الصلاة) وهي في اللغة عبارة عن الدعاء، وفي الشريعة عبارة عن دعاء على صفة (¬1) مخصوصة (¬2). ولهذا قال بعض أصحابنا: إن معنى لفظ الصلاة في الشرع كمعناه في اللغة. لكن تصرفت الشريعة فيه بالاستعارة والتخصيص، وهو تصرف لغوي. فسمت الدعاء ساجداً أو جالساً (¬3) صلاة، وسمت القيام والركوع وسائر الأركان صلاة لما كان المقصود منها الطلب والسؤال كالمقصود من الدعاء. وقيل: سميت صلاة أخذا من الصَّلَوَيْن وهما عظمان (¬4) ينحنيان عند الركوع. وقيل: سميت صلاة أخذاً من المصلي في الخيل، وهو ثاني (¬5) السابق، وكذلك الصلاة في الشريعة ثانية الشهادتين بالأْلوهية [والرسالة] (¬6). ¬

_ (¬1) في (ص) صفات. (¬2) في (ت) "عن دعاء مخصوص على صفة مخصوصة مما نحن في تحديدها"، وفي (ر) و (ص) "عن دعاء على صفة مخصوصة مما نحن في تحديدها". (¬3) في (ص) أو راكعاً أو جالساً. (¬4) في (ت) عظمات في الظهر. (¬5) في (ق) وهو يأتي المستأمن. (¬6) ساقط من (ق).

(أصناف الصلاة)

(أصناف الصلاة) والصلاة تنقسم إلى فروض وغير فروض. والفروض قسمان: فروض أعيان وفروض كفاية؛ ففروض الأعيان الخمسة الواجبة في اليوم والليلة. واختلف في عد صلاة الجمعة صلاة سادسة لأنها قائمة بنفسها أو ردّها إلى الخمس؛ لأنها ظهر مقصور. وسيأتي بيان ذلك، ونذكر فائدة هذا الخلاف إن شاء الله. وأما فرض الكفاية فصلاة الجنازة. وغير الفروض ثلاثة أصناف: سنن، وفضائل، ونوافل. فالسنن خمس وهي الوتر، وركعتا الفجر، وصلاة العيدين، وصلاة كسوف (¬1) الشمس، وصلاة الاستسقاء. ولا خلاف في عدّ أربعة من هذه [سنة] (¬2). وأما ركعتي الفجر ففيهما قولان: أحدهما: إلحاقهما بالسنن، والثاني: عدّهما فضيلة. وقد قدمنا سبب ذلك في أول كتاب الطهارة. والفضائل خمسة وهي: صلاة قيام رمضان، وركوع الضحى، وتحية المسجد، وصلاة خسوف القمر، وسجود القرآن. وفي السجود قولان: أحدهما: عدّه فضيلة كما ذكرنا. والثاني: عدّه سنة، وسيأتي في أول كتاب الصلاة الثاني إن شاء الله تعالى. فما عدا هذا نافلة إلا ركعتي الإحرام (¬3) بالحج، وركعتي الطواف فإنهما يلحقان بالسنن. (شروط الصلاة) وفروض الأعيان تجب بالعقل والبلوغ والإسلام ودخول الوقت. واشتراطنا البلوغ بعد ذكر العقل يجري على خلاف الأصوليين هل يوصف ¬

_ (¬1) في (ق) خسوف. (¬2) ساقط من (ت) و (ق). (¬3) في (ص) إلا الركعتين للإحرام.

فصل (حكم تارك الصلاة)

غير البالغ بالعقل أم لا؟ فإن قلنا إنه موصوف (¬1) بذلك فيشترط البلوغ. وإن قلنا: إنه غير موصوف بذلك فيكتفى باشتراط العقل. وأما اشتراط الإسلام فيجري على الخلاف في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وإن قلنا: إنهم مخاطبون فلا يشترط الإسلام، وإن قلنا: إنهم غير مخاطبين فيشترط. وأما الأوقات فلا يتوجه الخطاب قبل دخولها بالإجماع. ... فصل (حكم تارك الصلاة) ومن ترك الصلاة فإن كان ذلك جحوداً فهو كافر بإجماع يحكم فيه بحكم المرتد. وإن أقر وامتنع من الصلاة ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يعدّ كافراً لأنه لا يكفر بالذنوب. وعدّه ابن حبيب كافراً (¬2). وهذا لظواهر وردت بمقتضى تكفيره وجميعها لا يعوز (¬3) تأويلها والعمدة الملجئة (¬4) إلى التأويل قوله تعالى: ({إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬5). وإذا لم نحكم بتكفيره فإنا نأمره بالصلاة في الوقت. فإن لم يصل حتى خيف فوات الوقت قتل، لكنا نقتله حداً لا كفراً. وما هو الوقت؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور المعروف في المذهب أن يبقى للصلاة مقدار من ركعة من الوقت الضروري، ومثاله: أن يبقى للظهر والعصر مقدار خمس ركعات في حق الحاضر، أو ثلاث في ¬

_ (¬1) في (ر) يوصف. (¬2) النوادر والزيادات: 1/ 151. (¬3) في (ق) لا يجوز. (¬4) في (ت) المصلحية وفي (ص) الملجي. (¬5) النساء: 116

باب في أحكام الأوقات

حق المسافر قبل غروب الشمس. وحكى ابن خويز منداد (¬1) عن المذهب قولين آخرين: أحدهما: أن يبقى من الوقت الضروري مقدار الصلاة بجملتها، والثاني: أن يخاف فوات وقت الاختيار. وهذا بعيد عن الأصول جداً؛ لأن التأخير عن ذلك لا يحرم فكيف نريق دماً محقونا بارتكاب مكروه. ... باب في أحكام الأوقات (أوقات الصلاة من القرآن) وقد أجملها الله سبحانه في كتابه وبينها على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأجمل تعالى ذكر الأوقات في ثلاثة مواضع؛ منها قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} (¬2)، فقيل المراد به صلاة المغرب والعشاء (¬3)، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (¬4) المراد به صلاة الصبح {وَعَشِيًّا} (¬5) المراد به صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} المراد به صلاة الظهر. ومنها قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬6)، فقيل: تناولت (¬7) صلاة الصبح وهي طرف وصلاة المغرب ¬

_ (¬1) في (ت) ابن خويز منذاك. هو: محمد أبو بكر بن خويز منداد تفقه على الأبهري وعنده شواذ عن مالك وله اختيارات كقوله إن خبر الواحد يوجب العلم ... ولم يكن بالجيد النظر ولا قوي الفقه .. وكان يجانب الكلام وينافر أهله حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنَّة ويحكم على الكل منهم بأنهم من أهل الأهواء الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وتنافرهم ما قال. الديباج المذهب ص: 268. (¬2) الروم: 17. (¬3) في (ص) قيل: هي صلاة المغرب وقيل: هي صلاة المغرب والعشاء. (¬4) الروم: 17. (¬5) الروم: 18. (¬6) هود: 114. (¬7) في (ت) تأويل.

(أوقات الصلاة من السنة)

وهي طرف لأنها تؤدى عند الطرف. وصلاة العشاء وهي المراد بالزلف من الليل، وقيل: الطرف الثاني الظهر والعصر. فتتناول على هذا أربع صلوات. وقيل الزلف من الليل يتناول المغرب والعشاء فتتناول الآية على هذا خمس صلوات. وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (¬1) (¬2)، فقيل المراد بالدلوك الظهر والعصر والمراد بغسق الليل العشاء الآخرة، وقيل: المراد به المغرب، وقرآن الفجر المراد به صلاة الصبح. وهذا الخلاف على خلاف بين الأصوليين في الأوامر هل تتعلق بوقت الكراهة عند إطلاقه أم لا؟ (أوقات الصلاة من السنة) فهذا ما يتعلق بالأوقات من القرآن. وأما ما يتعلق بذلك من السنَّة فيخرج عن الحصر، لكن تلقت الأمة بالقبول الحديث المروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى به جبريل عليه السلام عند البيت يومين، فبيّن في اليوم الأول أوائل الأوقات، وفي اليوم الثاني أواخرها إلا المغرب فإنه صلاها في اليومين في وقت واحد وذلك عند مغيب الشمس (¬3). وكذلك بيَّن (¬4) - صلى الله عليه وسلم - للسائل فصلى ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) الإسراء: 78. (¬3) أخرج الترمذي في الصلاة (149) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة (393)، وأحمد (1/ 333) عن ابنِ عَبّاس أَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَمَّنِي جِبرِيلُ عَلَيهِ السلام عِنْدَ البَيتِ مَرَّتَينِ فَصَلي الظهرَ فِيِ الأُولَى مِنهُمَا حِينَ كَانَ الفَيءُ مِثلَ الشراكِ، ثُم صلى العَصرَ حِينَ كَانَ كُل شَئء مِثل ظِلِّهِ ثُمَّ صلى المَغرِبَ حِين وَجَبَت الشَّمْسُ وَأَفطَرَ الصَّائِمُ ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُم صَلَّى الفَجرَ حِينَ بَرقَ الفَجْرُ وَحَرُمَ الطعَامُ عَلى الصَّائِم، وصَلَّى المَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ لِوَقتِ العَصْرِ بالأَمْسِ، ثُم صَلى العَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيهِ ثُم صَلَّى المَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ حِينَ ذهَبَ ثلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الأَرْضُ ثُمَّ التَفَتَ إِلَيَّ جِبرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمدُ هذا وَقتُ الأَنبِيَاءِ من قَبلكَ وَالوَقْتُ فِيمَا بَينَ هَذَيْنِ الوَقتَينِ". قَالَ الترمذي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬4) فسر.

(تفصيل أحكام الأوقات)

في اليوم الأول في أول الوقت وفي الثاني في آخره (¬1). (تفصيل أحكام الأوقات) ولنرجع إلى تفصيل أحكام الأوقات فنقول هي على قسمين: وقت أداء ووقت قضاء؛ فوقت الأداء على قسمين: وقت اختيار ووقت اضطرار؛ فوقت الاختيار على أربعة أقسام: وقت فضيلة، ووقت إباحة، ووقت رخصة، ووقت سنة. (وقت القضاء) فأما وقت القضاء فهو بعد مضي الاختياري والضروري. وذلك في الظهر والعصر بعد مغيب الشمس (¬2). وفي المغرب والعشاء بعد طلوع الفجر. وفي الصبح بعد طلوع الشمس. (الوقت الضروري) وأما الوقت الضروري فهو في الظهر بعد مضي القامة الأولى في قول، وبعد مضيها ومضي مقدار أربع ركعات في قول ثان. وهو في العصر بعد مضي القامة الثانية في قول، وبعد اصفرار الشمس في قول ثان. وهو في المغرب بعد إكمال (¬3) أدائها في قول، وبعد مغيب الشفق في قول. وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمِ في المساجد (613) واللفظ له والترمذي في الصلاة (152) عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ بُرَيدةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ: "صَلِّ مَعَنَا هَذَينِ"- يَعْنِي اليَوْمَيْنِ- فَلَمَّا زَالَت الشَّمْسُ أَمَرَ بلاَلاً فَأذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظَّهْرَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ العَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ المَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبرَدَ بالظَّهْرِ فَأَبرَدَ بِهَا فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا وَصَلَّى العَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَة أَخَّرَهَا فَوْقَ الّذِي كَانَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: " أَينَ السائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَقْتُ صَلَاِتكُمْ بَينَ مَا رَأَيتُم". (¬2) في (ق) الشفق (¬3) في (ص) إمكان أدائها وفي (ت) إمكانها.

(وقت الرخصة)

في العشاء الآخرة بعد مضي ثلث الليل في قول، ونصفه في قول. وهو في الصبح بعد الإسفار (¬1) في قول، وفي قول لا وقت ضرورة (¬2) لها. (وقت الرخصة) وأما وقت الرخصة فهو وقت الجمع للمسافر وللمريض والأئمة في المساجد ليلة المطر. (وقت السنة) وأما وقت السنَّة فهو عند الزوال في حق الحاج بعرفة، فإنه يجمع حينئذ بين الظهر والعصر [وبعد مغيب الشفق بمزدلفة فإنه يجمع حينئذ بين المغرب والعشاء] (¬3). ولكل واحد من هذه الأوقات موضع من الكتاب يأتي بيانه فيه إن شاء الله تعالى. ... فصل (أوقات الاختيار والفضيلة) (الوقت الاختياري لصلاة الظهر) ولنبين وقت الاختيار ووقت الفضيلة منه. ولنبدأ بالظهر كما بدأ بها جبريل عليه السلام في صلاته بالنبي عليه السلام، ولهذا سميت الأولى. وأول وقتها زوال الشمس والزوال يعرف بأن يقيم الإنسان قائماً (¬4)، فإنه يكون ظله أول النهار مستطيلاً في جهة المغرب (¬5) ثم لا يزال ينقص ¬

_ (¬1) في (ت) الإسفرار. (¬2) في (ص) إلا وقت ضرورة. (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ت) و (ص) قائمًا ما كان. (¬5) في (ق) المشرق.

(الوقت الاختياري لصلاة العصر)

وينقبض (¬1) إلى أن يقف في جهة (¬2) دبر القبلة، مائلاً إلى المشرق وقوفاً تدركه الأبصار (¬3) فإذا وقف على مقدار لا ينقص (¬4) بعده كان ذلك وسط النهار واستوت الشمس في كبد السماء، فإذا زاد على مكان وقوفه زيادة تظهر للبصر (¬5) فحينئذ كان الزوال ودخل وقت الظهر. وفيه صلى جبريل عليه السلام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول. ثم لا يزال الظل يستطيل إلى جهة المشرق فيقاس من الموضع الذي وقف عليه فإذا كانت الزيادة على مقدار القائم فحينئذ خرج (¬6) وقت الظهر المختار ودخل وقت العصر. (الوقت الاختياري لصلاة العصر) فإذا صارت الزيادة مثلي القائم فهاهنا قولان: أحدهما: أن ذلك آخر وقت العصر المختار (¬7). والثاني: أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس على الجدران والأراضي. (الوقت الاختياري لصلاة المغرب) ووقت المغرب إذ غاب قرص (¬8) الشمس في موضع لا جبال فيه. وأما موضع تغرب فيه خلف جبال فينظر إلى جهة المشرق؛ فإذا طلعت الظلمة كان دليلاً على مغيب الشمس. ثم اختلف المذهب هل يمتد وقتها كامتداد أوقات الصلوات أم ليس لها إلا وقت واحد؟ فإذا قلنا بامتداده فإنه يمتد إلى مغيب الشفق. ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) ينقص وفي (ص) يتقلص. (¬2) في (ق) و (ت) يدركه الناظر في (ق) في جهة المغرب دبر. (¬3) في (ق) و (ت) يدركه الناظر. (¬4) في (ت) لا نقص. (¬5) في (ص) قد خرج وفي (ق) فإذا كان مكان وقوفه زيادة تظهر في النظر. (¬6) في (ص) قد خرج. (¬7) في (ت) أحدهما: أنه خرج وقت الظهر المختار ودخل وقت العصر أن ذلك آخر وقت العصر المختار. (¬8) في (ت) إذا غربت قرس وفي (ر) إذا غابت قرسة.

(الوقت الاختياري لصلاة الصبح)

وما الشفق؟ المشهور المعروف من المذهب أن الشفق الذي يدخل لغروبه وقت العشاء الآخرة هو الحمرة. وعند ابن شعبان عن مالك أن أكثر جوابه في الشفق أنه الحمرة. وعنه أيضاً في سماع ابن القاسم أنه أرجو أن تكون الحمرة والبياض الذي (¬1) لا شك فيه. وأخذ أبو الحسن اللخمي من هذا قولاً ثانياً أن الشفق هو البياض (¬2) كما يقوله أبو حنيفة. ويحتمل أن يكون كما قال، ويحتمل أيضاً أن يريد ابن شعبان عن مالك أن أكثر جوابه على التصميم من غير مراعاة الخلاف، ولا تردد أنه الحمرة. وقد يراعي الخلاف ويتردد كما في سماع ابن القاسم. واختلف في آخر وقت العشاء؛ فقيل إذا ذهب ثلث الليلِ الأولُ، وقيل إذا ذهب نصفه. (الوقت الاختياري لصلاة الصبح) ووقت الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق- والأول وهو (¬3) ذنب السرحان- وإنما سمي بذلك لأنه يظهر (¬4) مستطيلا تأنس الأبصار به ثم يظهر أنه قد غاب، وليس كذلك؛ بل هو أول ما يطلع من نور الشمس إذا قرب دنوها (¬5) من الأفق ثم إذا زاد الدنو كثر الضوء واستطال في الأفق، فسمي هذا المستطيل الفجر الصادق، وبه (¬6) يتعلق حكم الإمساك عن الطعام (¬7) وحكم الصلاة. والأول لا يتعلق عليه حكم. واختلف في آخر وقت الصبح؛ فقيل الإسفار الأعلى وهو قبل طلوع الشمس. وقيل آخر وقتها طلوعها (¬8). ¬

_ (¬1) في (ت) والذي. (¬2) التبصرة ص: 50. (¬3) في (ص) وهو الفجر أيضاً الصادق دون الأول وهو ذنب السرحان. (¬4) في (ق) لأنه لا يظهر. (¬5) في (ق) ذنوباً. (¬6) في (ق) و (ت) و (ص) وعليه. (¬7) في (ص) الصيام. (¬8) في (ص) و (ت) وقيل: آخره طلوع الشمس.

واختلف أيضاً في الظهر هل يشارك العصر بمقدار أربع ركعات من القامة الثانية أولاً يشاركها؟ ففي المذهب في ذلك قولان. كذلك اختلف في مشاركة المغرب للعشاء الآخرة في مقدار ثلاث ركعات بعد (¬1) مغيب الشفق. وهذا على القول بأن وقتها ممتد. فيتحصل من هذا أن أول الأوقات لا خلاف فيه إلا ما زاد (¬2) أبو الحسن اللخمي في العشاء الآخرة. ولا خلاف أيضاً أن أوقاتها (¬3) المختارة ممتدة إلا المغرب، ففي امتدادها (¬4) قولان. وآخر أوقات الصلاة كلها فيه قولان. وسبب الخلاف اختلاف في آثار واعتبار؛ وأما الآثار فمنها صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقتضي أن الظهر تشارك العصر لأنه قال: "وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله كوقت (¬5) العصر بالأمس" (¬6). ويقتضي أن آخر وقت العصر آخر القامة الثانية؛ لأنه قال: "فصلى بي العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه". ويقتضي أن المغرب لا يمتد وقتها؛ لأنه صلى به المغرب في اليومين حين غابت الشمس. ويقتضي أن آخر وقت العشاء ثلث الليل؛ لأنه حينئذ صلى به في اليوم الثاني. ويقتضي أن آخر وقت صلاة الصبح الإسفار؛ لأنه صلى به في اليوم الثاني حين أسفر. ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (¬7). وهو يقتضي عدم الاشتراك بين الظهر والعصر لأنه قال في وقت الظهر ما لم ¬

_ (¬1) في (ق) قبل. (¬2) في (ق) و (م) و (ت) و (ص) أراد. (¬3) في (ص) أن أول أوقاتها. (¬4) في (ص) و (ق) و (ت) امتداد وقتها. (¬5) في (ص) و (ت): لوقت. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) أخرج مسلم في المساجد (612)، والنسائي في المواقيت (522)، وأحمد في مسنده (2/ 223) واللفظ له عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَقْتُ صَلاَةِ الظهرِ مَا لَم يَحْضُرِ العَصْرُ وَوَقتُ صَلَاةِ العَصر مَا لَمْ تَصفَرَّ الشْمسُ ووَقتُ صَلاَةِ المغرِب مَا لم يَسقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَوَقْتُ صَلاَةِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَوَقْتُ صَلاَةِ الفَجْرِ مَا لَمْ تَطلُعِ الشَّمْسُ".

فصل (وقت الفضيلة لكل صلاة)

يحضر وقت العصر، وقال في العصر ما لم تصفر الشمس. ويقتضي امتداد وقت المغرب لأنه قال في وقتها ما لم يسقط نور الشفق. ويقتضي امتداد وقت العشاء الآخرة إلى نصف الليل لأنه بذلك حدّه. ويقتضي امتداد وقت الصبح إلى طلوع الشمس لأنه بذلك حدّه أيضاً. وأما الخلاف في الشفق ما هو؟ فإن الشفق ينطلق على الحمرة والبياض. وقد ورد في الشريعة تعليق صلاة العشاء الآخرة بمغيب الشفق. وبين الأصوليين خلاف؛ هل يؤخذ بأوائل الأسماء فيحمل الأمر هاهنا على الحمرة، أو بآخرها فيحمل على البياض؟ وأما الاعتبار فمن ينفي الاشتراك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء يقيس على نفيه ماعدا ذلك من الصلوات، ومن يثبته فلما ثبت من الجمع بين هذه الصلوات بعرفة والمزدلفة وفي الأعذار كالسفر والمرض. ولولا إشراك الأوقات لم يجمع بينهما كما لم يجمع بين الصبح والظهر و [لا] (¬1) العصر والمغرب و [لا] (¬2) العشاء والصبح. ... فصل (وقت الفضيلة لكل صلاة) وأما وقت (¬3) الفضيلة [فهو] (¬4) في الظهر بعد مضي ربع القامة هذا في حق الجماعة؛ لأن هذه الصلاة تدرك الناس في القائلة والاشتغال. فكان تأخيرها من المصلحة ليتأهب الناس لها ويدرك جماعتها الجمهور. وأما الفذ ففي وقت الفضيلة (¬5) له قولان: أحدهما: كالجماعة، طرداً ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) سافط من (ر). (¬3) في (ق) أوقات. (¬4) ساقط من (ر)، وفي (ق) وهي، وفي (ت) فهي. (¬5) في (ص) الصلاة.

(معنى الإسفار بالفجر)

لهذه القاعدة الكلية. والثاني: أنه يختص بأول الوقت، لفقدان العلة في التأخير. والمبادرة إلى أداء العبادات أفضل لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن أفضل الأعمال فقال: "الصلاة لِأَوَّلِ وَقْتِهَا" (¬2). وهو في العصر بعد تحقيق دخول الوقت. ولا خلاف فيه في المذهب (¬3) ويستوي في ذلك الفذ والجماعة؛ لأن هذه الصلاة تأتي على الناس وهم متأهبون لها. وهو في المغرب عند سقوط الشمس ومغيبها عن الأبصار. ولا خلاف بين أهل السنَّة في ذلك. واختلف في وقت الفضيلة في العشاء الآخرة؛ فقيل هو أول الوقت لما ذكرناه من الظواهر. وقيل آخره لما ورد (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَرْتُ [صَلاَةَ الْعِشَاءِ] (¬5) إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ" الحديث (¬6). (معنى الإسفار بالفجر) وهو في الصبح أول الوقت إذا تحقق دخوله ولم توجد ريبة. ولا شك في الامتناع من الأداء مع وجود الريبة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنهُ ¬

_ (¬1) آل عمران: 133. (¬2) أخرجه الترمذي في الصلاة (170)، وأبو داود في الصلاة (426)، وأحمد في مسنده (6/ 374) واللفظ للترمذي وأحمد. (¬3) في (ق) وقال أشهب يستحب تأخيرها لعصر الذراع من القامة الثانية. (¬4) في (ص) إلى آخر لما روى. (¬5) ساقط من جميع النسخ. (¬6) أخرجه الترمذي في الصلاة 167، وابن ماجه في الصلاة 691 واللفظ له، وأحمد في مسنده 2/ 250، كلهم عن أبي هريرة. وقَالَ الترمذي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ الذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعيِنَ وَغَيْرِهِمْ: رَأَوْا تَأخِيِرَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَبِهِ يَقُولُ أحْمَدُ وإِسْحاقُ.

فصل (معنى الإبراد بالظهر)

أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ" (¬1). وإنما أراد الإسفار بمعنى الكشف والوضوح. ومنه أسفرت المرأة أي أبدت عن وجهها (¬2) وكشفت عنه النقاب. وهي صلاة يؤذن لها قبل وقتها ليأتي أول الوقت والناس متأهبون لها. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصليها فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (¬3). ... فصل (معنى الإبراد بالظهر) وإذا اشتد الحر [كان] (¬4) الأولى الإبراد بالظهر؛ وهو أن يُؤَخَّرَ (¬5) ربع القامة. وهل ينتهي تأخيرها بذلك (¬6) إلى آخر الوقت أو إلى وسطه، في المذهب قولان. وهما خلاف في حال؛ فمن البلاد ما يُفتقر فيه إلى التأخير لآخر وقتها لشدة حرها، ومنها ما لا يفتقر فيه إلى ذلك، فكذلك اختلف في الإبراد بالعصر وهو خلاف في حال (¬7) أيضاً على حسب شدة (¬8) الحر وخفته. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الصلاة 154 واللفظ له، والنسائي في المواقيت 548، وأحمد في مسنده 4/ 142، وابن حبان في صحيحه 4/ 357 كلهم عن رافع بن خديج. وقَالَ الترمذي: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيج حَدِيث حَسَن صَحِيحٌ. (¬2) في (ر) المرأة عن وجهها أي أبدته، وفي (ت) المرأة إذا أبدت وجهها. (¬3) أخرج البخاري في الأذان (867) واللفظ له، ومسلم في المساجد (645) "عَنْ عَائشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الغَلَسِ". (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) و (ت) يؤخر عن، و (ق) تؤخر. (¬6) في (ر) و (ص) لذلك وفي (ق) بذلك الوقت أو إلى وسطه. (¬7) في (ت) و (ق) الحال. (¬8) في (ص) حر البلاد.

باب في أحكام الأذان

باب في أحكام الأذان (سبب ثبوت الأذان) ولنقدم مقدمة في سبب ثبوته ثم نعقد أركانه؛ أما المقدمة فإن المسلمين لما كثروا وافتقروا إلى علم [على (¬1) أوقات الصلاة والدعاء إليها وتشاوروا فذكروا النار والناقوس، فذكروا مشابهة النصارى والمجوس، فافترقوا عن غير رأي مبرم. فرأى عبد الله بن زيد وهو بين المستيقظ والنائم كأن ملكاً نزل من السماء وفي يده ناقوس فقال عبد الله: تبعني (¬2) هذا. فقال الملك: وما تصنعون به؟ فقال نجعله علماً على أوقات الصلاة. فقال ألا تؤذنون؟ فقال: ما صفة الأذان؟ ثم أذن واستأخر قليلاً فأقام. فأتى عبد الله بن زيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأمره أن يلقيه على بلال لأنه أندى (¬3) صوتاً. قال عبد الله: فاستأذنته أن أؤذن مرة واحدة، فأذنت بإذنه فجاء (¬4) عمر يجر رداءه فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى كتلك (¬5) الرؤيا، ثم تتابع بضعة عشر من الصحابة يخبرونه بذلك (¬6)، فاستمر الأذان في الشريعة. وهذا وإن ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ت) ألا تبعني وفي (ق) ألا تبغيني. (¬3) في (ق) اندأ منك. جاء في النهاية في غريب الحديث 5/ 36: أندَى صوتاً أي أرفع وأعلى وقيل: أحسنُ وأعذب وقيل: أْبْعَدُ. (¬4) في (ص) فخرج. (¬5) في (ق) و (ر) كذلك. (¬6) أخرجه أبو داود في الصلاة (499)، وابن ماجه في الأذان (706)، وأحمد في مسنده (4/ 43)، والدارمي في الصلاة (1187) بألفاظ تقاربة ولفظ أبي داود عن عَبْد اللهِ بْن زَيدِ قَالَ لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالنَاقُوسِ يُعمَلُ ليُضْرَبَ بهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصلاةِ طَافَ بِي وَأَنا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوساً في يَدهِ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ فَقُلْتُ نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُكَ عَلَى مَا هُوَ خَيرْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى قَالَ: فَقَالَ: تَقُولُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ أشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إلا الله أشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ =

(حكم الإقامة والأذان)

كان أصله رؤيا فإن إثبات الرسول - صلى الله عليه وسلم - له إما لأنه أوحي إليه بصحته، أو لأن اجتهاده أداه إلى ذلك (¬1) على خلاف الأصوليين هل له أن يحكم باجتهاده أم لا؟ (حكم الإقامة والأذان) ولا خلاف في المذهب أن الإقامة سنة في حق الرجال، وأما الأذان فهل هو من السنن أو من فروض الكفاية؟ ووقع لمالك في الموطأ فإنما يجب الأذان في مساجد الجماعة، فحمله أبو محمد بن أبي زيد وغيره من المتأخرين من أهل المذهب على ظاهره في الوجوب. وتأوله القاضي أبو محمد عبد الوهاب على أن مراده وجوب السنن لا وجوب الفرائض. قال أبو الوليد الباجي: الأولى حمله على ظاهره. ويجب الأذان على وجهين (¬2): أحدهما: [في مساجد الجماعات] (¬3) لأنه شعار الإسلام، ويجب إظهار الشعار. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستمع فإن سمع أذانًا (¬4) أمسك وإلا أغار (¬5). والوجه الثاني: أنه عَلَمٌ على الأوقات في ¬

_ = حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَح حَىَّ عَلَى الفَلاَح الله أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لاَ إِلهَ إلاَّ الله قالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: وَتَقُولُ إِذَا أقَمْتَ الصَّلاَةَ اللهُ أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ أشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَح قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلاَةُ اللهُ أكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لاَ إِلهَ إلا اللهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأيْتُ فَقَالَ: "إنّهَا لَرُؤيَا حَقّ إِن شَاءَ اللهُ فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيتَ فَليُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ" فَقُمْتُ مَعَ بِلَالِ فَجَعَلْتُ أُلقِيهِ عَلَيْهِ وُيؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقَّ يَا رَسُولَ الله لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأى فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلِلَّهِ الْحَمْدُ". (¬1) في (ق) اجتهاد إلى ذلك. (¬2) في (ق) بالوجهين وفي (ص) للوجهين. (¬3) ساقط من (ق) (و) (ت) (و) (ص). (¬4) في (ت) الأذان. (¬5) يدل عليه ما أخرجه البخاري في الجهاد 2944 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 382 عن أنس قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَوْماً لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أذَاناً أَمسَكَ وَإنْ لَمْ يَسْمَعُ أَذَاناً أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبحُ" الحديث.

(أركان الأذان)

مساجد الجماعات. ولا يجوز (¬1) إهمال الأوقات ولو تمادى أهل بلد على إهمالها لقوتلوا (¬2) عليها (¬3). (أركان الأذان) فإذا تقررت هذه المقدمة قلنا بعدها أحكامُ الأذان تنحصر في أربعة أركان: أحدها: صفته. والثاني: وقته. والثالث: من يؤمر به. والرابع: في صفة المؤذن. فأما صفة الأذان فهي معلومة. لكن اختلف (¬4) في ثلاث مسائل: أحدها: هل يبتدئ بالتكبير بصوت مرتفع ثم يخفض الصوت يسيراً في التشهدين (¬5)، أو يبتدئ مخفض الصوت؟ للمتأخرين في ذلك قولان. وسبب الخلاف الاعتماد على النقل. والصحيح الابتداء برفع الصوت وهو مقتضى النقل. لأن سبب الخفض في الشهادتين أن أبا محذورة كان في جاهليته كثير الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعض الروايات أنه كان في الجاهلية إذا سمع الأذان يستهزئ به. فلما أسلم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالأذان فخفض صوته بالشهادتين (¬6) حياء من قومه وما كانوا يعلمون منه في الوحدانية (¬7) والرسالة من الطعن قبل الإسلام (¬8). فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعود إلى الشهادتين رافعا صوته فعاد فرفع، فشرع ذلك في الأذان. وهذا يقتضي أنه كان الأذان في بدئه يُرفع الصوت به بالابتداء. وهذا لا يُنكِر أيضاً في الجاهلية (¬9) ¬

_ (¬1) فى (ق) ولا يجوز بلا الاتفاق. (¬2) فى (ر) ولو تمالوا ... لقتلوا. (¬3) فى (ر) عليه. (¬4) فى (ق) (و) (ت) اختلف المذهب. (¬5) فى (ص) الشهادين. (¬6) فى (ت) بالتشهدين. (¬7) فى (ر) الذين كان معهم يهزأ بالوحدانية. (¬8) في (ت) من قومه الذين كان معهم يهزأ بالوحدانية والرسالة قبل الإسلام. (¬9) فى (ق) (و) (ص) جاهليته.

فصل [وقت الأذان]

قول (¬1) "الله أكبر" وإنما يُنكر الوحدانية [والرسالة] (¬2). المسألة الثانية: هل يثني قوله في أذان الصبح "الصلاة خير من النوم" قياساً على سائر ألفاظ الأذان، أو يفرده قياساً على قوله:"قد قامت الصلاة" لأنه تنبيه على معنى زائد على ألفاظ الأذان فأشبه الإخبار بقيام الصلاة؟ والمشهور تثنيته، ولابن وهب إفراده. والمسألة الثالثه: هل يفرد قوله "قد قامت الصلاة" -وهو المشهور- أو يثني ذلك -وهو رواية المصريين عن مالك رحمه الله؟ وسبب الخلاف ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه "أَمَرَ بِلَالاً أَنْ يَشْفَعَ الأذان وَيُوتِرَ الإِقَامَة" (¬3). وفي بعض الطرق ويوتر الإقامة. وبين الأصوليين خلاف في زيادة الراوي العدل هل تقبل أم لا؟ ولو أراد أن يؤذن فأخطأ فأقام فإنه يعيد. وإن أراد الإقامة فأخطأ فأذن؛ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يعيد قياساً على الأول، والثاني: أنه لا يعيد. وهذا مراعاة لقول من يقول أن الإقامة مثناة. ... فصل [وقت الأذان] وأما (¬4) وقت الأذان فإنه عند دخول وقت (¬5) الصلاة. ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح. فعندنا يؤذن لها قبل وقتها لقوله - صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلَالاً يُنَادِي ¬

_ (¬1) في (ت) (و) (ص) كون. (¬2) ساقط من (ق) و (ر) و (ت). (¬3) البخاري في الأذان 606، ومسلم في الصلاة 378، والحاكم في مستدركه 1/ 313، وابن حبان في صحيحه 4/ 568 واللفظ لهما، وقال الحاكم: "والشيخان لم يخرجا بهذه السياقة وهو صحيح على شرطهما". (¬4) في (ر) فأما. (¬5) في (ق) الوقت للصلاة وفي (ت) أوقات الصلوات.

فصل (من يؤمر بالأذان)

بِلَيْلِ فَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ (¬1) ابْنُ أُمْ مَكتُومِ" (¬2). ومتى يجوز الأذان لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنما يؤذن لها في سدس الليل الآخر لأن المقصود التأهب لها، وذلك يحصل في هذا الوقت. والثاني: أن يؤذن لها بعد خروج الوقت (¬3) المختار للعشاء الآخرة. والقول الثالث: أنه يؤذن لها بعد صلاة العشاء الآخرة، وإن صليت في أول وقتها. والصحيح هو الأول، ولا يحصل الغرض من التأهب على هذين القولين. ولعلهما يتعلقان بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن بلاَلاً يُنَادِي بِلَيلٍ" ولم يعين، فكان الليل جميعه محلاً للأذان إلا أن تكون العشاء لم تصل فيمتنع لئلا يختلط أذان الصبح مع أذان العشاء، وهذا رأي الوقار (¬4). وألا يكون (¬5) وقت العشاء لم يخرج، إذ لا ينادى للصلاة في (¬6) وقت غيرها، وهذا رأي ابن حبيب (¬7). ... فصل (من يؤمر بالأذان) وأما من يؤمر بالأذان فكل من يؤمر بالدعاء إلى الصلاة. وذلك يختص بالأئمة حيث كانوا، أو بمساجد الجماعة. وأما الفذ والجماعة ¬

_ (¬1) في (ص) حتى يؤذن. (¬2) أخرجه البخاري في الأذان 620 عن عبد الله بن عمر. (¬3) في (ق) أنه لا يؤذن لها خروج الوقت. (¬4) هو: زكريا أبو يحي الوقار بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الله مصري روى عن ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم وكان مختصاً بابن وهب، قرأ القرآن على نافع المدني استوطن طرابلس كان فقيهاً صاحب عجائب، توفي سنة أربع وخمسين ومائتين بمصر وقيل سنة ثلاث وستين. الديباج المذهب ص: 118. (¬5) في (ص) و (ت) وإلا أن يكون وفي (ق) أن يكون. (¬6) في (ت) قبل وقتها وفي (ص) و (ق) في وقت آخر. (¬7) النوادر والزيادات: 1/ 160.

(استحباب الأذان للمسافر)

المجتمعون بموضع ولا يريدون دعاء غيرهم إلى الصلاة فوقع في المذهب لفظان: أحدهما: أنهم إن أذنوا فحسن. والثاني: أنهم لا يؤذنون. فأراد (¬1) أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين، (¬2) وليس كذلك. بل لا يؤمرون بالأذان كما يؤمر به الأئمة وفي مساجد الجماعات. فإن أذنوا فهو ذكر، والذكر لا ينهى عنه من أراده، لا سيما إذا كان (¬3) من جنس المشروع. (استحباب الأذان للمسافر) واستحب متأخرو أهل المذهب الأذان للمسافر وإن كان فذاً، لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أبا سعيد الخدري بالأذان إذا كان في غنمه أو باديته (¬4). ولما قاله سعيد بن المسيب (¬5) من أنه إذا أذن وأقام صلى خلفه أمثال الجبال من الملائكة (¬6). وهذا لا يمكن أن يقوله إلا على توقيف لأن القياس لا يتسلط على مثل هذا. وإذا صح ذلك صار الأذان في حق هذا دعاء إلى الجماعة وهم الملائكة. ... ¬

_ (¬1) في (ت) وأراد. (¬2) التبصرة: ص 54. (¬3) في (ر) كان بالأذان، وإذا كان. (¬4) أخرج البخاري في الأذان 609 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمّن بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِي ثُمَّ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنهُ أخْبَرَهُ أَن أَبا سعيد الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ: إِنَّي أَرَاكَ تُحبُّ الغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كنتَ في غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالندَاءِ فَإِنهُ لاَ يَسمَعُ مَدَى صَوتِ المُؤَذنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَومَ الْقِيَامَةِ. (¬5) هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب أبو محمد القرشي المخزومي عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل لأربع مضين منها بالمدينة. توفي سنة 94 هـ. سير أعلام النبلاء ج: 4 ص:217. (¬6) انظر مصنف عبد الرزاق 1/ 510.

فصل (يقام للفوائت ولا يؤذن لها)

فصل (يقام للفوائت ولا يؤذن لها) ولا يؤذن عندنا للفوائت لأن الجماعة غير مشروعة فيها، ولأن الأذان يزيدها فواتا. ولا يؤذن إلا للفرائض الوقتية. وأما الإقامة فإنها مشروعة لكل مصل صلاة فرض وقتية (¬1) أو فائتة، لكن حكمها في الجماعة آكد منها في الانفراد، وحكمها على الرجال آكد منه على النساء. وفي الكتاب في المرأة إن أقامت فحسن (¬2). والفرق بين الأذان والإقامة أن الأذان إعلام بحضور وقت الصلاة، والإقامة إعلام للنفس للتأهب للصلاة. فلهذا اختص الأذان بما ذكرناه وشرعت الإقامة للجميع. وإذا جمع الإمام الصلاتين فهل يؤذن لكل واحدة منهما؟ في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: الأذان والإقامة لكل واحدة (¬3). والثاني: أن يكتفي بالأذان الأول والإقامة لكل صلاة. والثالث: أنه يستغني عن الأذان وتكفيه الإقامة. وسببه اختلاف (¬4) الأحاديث في جمعه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، هل كان بأذانين وإقامتين؟ أو بأذان وإقامة؟ (¬5) [أو بإقامتين] (¬6). وروى ابن عمر (¬7) عنه أنه كان بإقامة واحدة للصلاتين جميعاً وبه أخذ (¬8). ... ¬

_ (¬1) في (ت) في وقتها. (¬2) المدونة 1/ 59. (¬3) في (ق) و (ص) لكل صلاة. (¬4) في (ق) و (ت) و (ص) وهو على اختلاف الأحاديث. (¬5) في (ص) و (ق) إقامتين. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) هكذا في (ق) وفي (ص) أبو عمر، وفي (ت) و (ر) فإنها غير واضحة. (¬8) مسلم في الحج 1288.

فصل (صفة المؤذن)

فصل (صفة المؤذن) وأما صفة المؤذن فالمقتدى به في الأوقات يجب أن يكون ذا دين (¬1)، عارفاً بالأوقات. ومن كماله أن يكون بالغ (¬2) الصوت، حسنه؛ لأن الأذان لغة وشرعاً للإعلام، ومنه قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬3)، أي أعلمهم. وإذا كان المقصود الإعلام فالبالغ (¬4) بالصوت أكمل في ذلك، والنفوس مجبولة على الميل إلى حسن الصوت. فلذلك قلنا من كماله أن يكون حسناً. (أمور ينبغي للمؤذن مراعاتها) ويستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة عند التكبير والتشهد (¬5). وأما دورانه ووضع أصبعيه في أذنيه فإن قصد بذلك المبالغة في الإبلاغ (¬6) فهو مشروع. ويكره التطريب المخرج عن باب الأذان إلى باب الأغاني. ولا يتكلم في أذانه إلا أن يضطر إلى الكلام بأن يخاف هلاكاً على نفسه (¬7) أو على غيره أو على ماله. فإن تكلم بنى إلا أن يطول الكلام (¬8) طولاً يخرج الأذان عن بابه. وهل يرد السلام إشارة؟ قولان: المشهور أنه لا يرده. والشاذ أنه يرده كالمصلي. والفرق بينه وبين المصلي على المشهور أن المصلي ممنوع من الكلام فجاز له الانتقال إلى الإشارة، والمؤذن غير ممنوع كالمصلي، فلا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص) آمنا ذا دين. (¬2) في (ر) بليغ. (¬3) الحج: 27. (¬4) في (ت) و (ص) البليغ وفي (ر) فالتبليغ. (¬5) في (ر) و (ق) والتشهيد. (¬6) في (ر) الاستماع. (¬7) في (ق) الهلاك على نفسه وفي (ر) هلاك نفسه. (¬8) في (ق) كلامه.

(هل يجوز أخذ الإجارة على الأذان)

يجوز ابتداء السلام عليه لأنه بين أن يترك الرد فيأثم أو يتكلم رداً فيفسد (¬1) نظم الأذان، فإذا تعدى المسلم فسلم عليه قوبل على عدوانه بترك الرد عليه. ولا يؤذن جالساً لأن المقصود الإبلاغ، وهو غير كامل من الجالس. ويؤذن راكبًا. ولا يقيم إلا نازلاً لئلا يفرق بين الإقامة والصلاة بالنزول، إلا أن يكون ممن يصلي على الراحلة للضرورة فيقيم على راحلته. وهل يجوز أذان الجنب والصبي؟ في المذهب قولان: الكراهية، والجواز؛ فأما الكراهية فلأن المؤذن داع إلى صلاة وهذان ليسا ممن يستحق الدعاء إليها. والجواز لأنه ذكر وهذان من أهله. وأعداد المؤذنين بحسب سعة الوقت وضيقه. ولهذا نأمر في المغرب بأن يجتمع جميعهم في أذان واحد. (هل يجوز أخذ الإجارة على الأذان) وهل يجوز أخذ الإجارة على الأذان؟ في المذهب قولان: المشهور جوازه، والشاذ كراهيته؛ فالجواز لما يتكلف من مراعاة الأوقات، والكراهية لأنه ذكر. وكذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يتخذ مؤذناً لا يتخذ (¬2) على أذانه الأجرة (¬3). ولا تجوز الإجارة على صلاة الفرض على المشهور من المذهب. ¬

_ (¬1) في (ق) فيسقط. (¬2) في (ق) و (ص) لا يبتغي. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي في الصلاة 209 واللفظ له، والنسائي في الأذان 672، وأبو داود في الصلاة 531، وابن ماجه في الأذان 714 عَن عُثْمانَ بْن أَبي العَاص قَالَ: "إنَ مِنْ آخرِ ما عَهِدَ إِلَيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ اتخَّذْ مُؤَذناً لاَ يَأخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجراً" قَالَ الترمذي: "حَدِيثُ عُثمَانَ حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهلِ العِلمِ كَرِهُوا أَنْ يَأخُذَ المُؤَذِّنُ عَلَى الأَذَانِ أَجْراً وَاستَحَبُّوا لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَحْتَسِبَ في أَذَانِهِ".

فصل (في حكاية الأذان)

لكن تجوز الإجارة على الأذان والصلاة جميعاً فتكون الصلاة بالأجرة على حكم التبع. واختلف المتأخرون لو طرأ عليه ما يمنعه الإمامة هل يسقط نصيبها من الأجرة أو لا يسقط؟ وهو على الخلاف في الأتباع هل لها قسط من الثمن أم لا؟ فصل (في حكاية الأذان) ويؤمر سامع الأذان بحكايته، لكن اختلف في منتهى ما يحكي السامع؛ فالمشهور أنه إلى آخر التشهدين (¬1). وهل يكرر التشهدين لتكرار المؤذن، أو يكرر إذا تكرر الأذان؟ في ذلك قولان: [أحدهما: التَّكرار في جميع ألفاظه، وبه تحصل الحكاية كما (¬2) يفعل المؤذنون، والقول الثاني: أنه يكفيه حكايته إلى التشهدين. وكذلك الخلاف في المذهب أيضاً هل يحكي جماعة من المؤذنين أو يكفيه واحد؟ فيه قولان في المذهب. ينشأ (¬3) على مسألة أصولية وهي أن الألف واللام هل للجنس أو للعهد؟ في ذلك قولان] (¬4)، وقد مر عليه الكلام في سؤر الكلاب. والشاذ أنه يحكيه إلى آخر الأذان لما روى عمر عن النبي (¬5) من وصفه لما يحكيه السامع إلى أن يبلغ "فقال السامع لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة"، ويعوض عن الحيعلتين بالحوقلتين (¬6). وإنما ذلك لأن سائر ألفاظ الأذان ذكر وهو يفيد ¬

_ (¬1) في (ص) و (ر) الشهادتين. (¬2) في (ت) وكما. (¬3) في (ر) ينني. (¬4) ساقط من (ق) و (ص). (¬5) في (ر) و (ت) لما روي عنه. (¬6) أخرج مسلم في الصلاة 385 واللفظ له، وأبو داود في الصلاة 527 عن عُمَرَ بْنِ الخَطابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَالَ المُؤَذنُ اللهُ أكَبَرُ اللهُ أكَبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمْ =

(هل يحكي الأذان من كان في الصلاة)

الحاكي، وأما قول المؤذن "حي على الصلاة حي على الفلاح" فمعنى ذلك هلموا إلى الصلاة هلموا إلى الفلاح فلا يفيد الحاكي قولها فيما بينه وبين نفسه، فيعوض عن ذلك بأن يقول كلاماً يناسب قول المؤذن ويكون جوابًا له بأن يبرأ من الحول والقوة على إتيان الصلاة والفلاح إلا بحول الله تعالى وقوته. (هل يحكي الأذان من كان في الصلاة) وهل يحكي الأذان من كان في صلاة؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحكيه (¬1) في الفرض ولا في النفل. والثاني: أنه يحكيه فيهما. والثالث: أنه يحكيه في النفل دون الفرض (¬2)، وهو المشهور. وهاهنا عبادتان: إحداهما ما هو فيه من الصلاة، والثانية [ما أمر به من حكاية قول] (¬3) المؤذن؛ فمن غلب حكم الصلاة، قال لا يحكي، ومن التفت إلى أنه ذكر- والصلاة محل الأذكار- قال يحكيه (¬4)، ومن فرق فلتأكيد الفرض وخفة الأمر في النفل. وإذا قلنا يحكيه في الصلاة فإنما يبلغ إلى آخر التشهدين. ولو قال في الصلاة حي على الفلاح (¬5) فإنها تبطل، وهذا إذا كان عامداً وأما الناسي فلا تبطل. والجاهل يجري على القولين (¬6) في الجهل هل حكمه هو حكم ¬

_ = الله أَكبَرُ الله أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ الله قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ الله ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَن مُحَمَّداً رَسُولُ الله قالَ أَشهَدُ أن مُحَمداً رَسُولُ اللهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الفَلاَح قَالَ لاَ حَوْلَ وَلا قُوّةَ إِلاَّ باللهِ ثُمَّ قَالَ الله أَكَبَرُ اللْهُ أَكَبَرُ قَالَ اللهُ أكَبَرُ الله أَكَبَرُ ثُمَّ قَالَ لاَ إِلَهَ إلاَّ الله قالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ من قَلْبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ". (¬1) في (ق) لا يحاكيه. (¬2) في (ر) الفرض دون النفل. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) فلا يحكيه. (¬5) في (ص) حي على الصلاة وفي و (ق) و (ت) حي على الفلاح حي على الصلاة. (¬6) في (ص) الخلاف.

باب في ذكر فروض الصلاة وسننها وفضائلها

العمد أم حكم النسيان؟ ولاشك أن من أمر بالأذان فتركه لا تبطل صلاته. وأما من أمر بالإقامة فتركها فإن كان سهواً لم تبطل صلاته. وأما العامد ففيه قولان: المشهور أنها لا تبطل، والشاذ أنها تبطل، وهو على الخلاف في تارك السنن متعمداً هل يعد عابثاً فتبطل عبادته أم لا يعد كذلك؛ لأنه غير مأثوم في الترك فلا تبطل؟ ... باب في ذكر فروض الصلاة وسننها وفضائلها (فروض الصلاة) ولنذكر ما قال الناس في ذلك جملة ثم نأخذ في تفصيله. وأما الفروض فهي قسمان: أحدهما: ما ليس من نفس الصلاة، والآخر: من نفسها؛ والذي ليس من نفس الصلاة قسمان: قسم سابق، وقسم مقارن؛ فالسابق ثلاثة: طهارة الحدث، وطهارة الخبث، وستر العورة. والمقارن ثلاثة: استقبال القبلة، والنية، وترتيب الأداء. والذي هو من نفس الصلاة عشرة أشياء وهي: تكبيرة الإحرام، والقيام لها، وقراءة أم القرآن، والقيام لها، والركوع، والرفع منه، والسجود، والرفع منه، وقدر ما يوقع فيه [السلام] (¬1) من الجلسة الآخرة، والسلام. (سنن الصلاة) وسننها عشرة: وهي ماعدا تكبيرة الإحرام من التكبيرات، وقول الإمام سمع الله لمن حمده، وقراءة السورة التي مع أم القرآن، والقيام لها، والجهر فيما يجهر فيه، والإسرار فيما يسر فيه، والتشهد الوسط، والجلوس له. والزائد على مقدار الفرض من الجلوس الآخر، والتشهد فيه. وفي ¬

_ (¬1) ساقط من (ر).

(فضائل الصلاة)

الطمأنينة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان: قيل هما من الفروض، وقيل: من السنن. (فضائل الصلاة) وفضائلها سبع: وهي رفع اليدين في الافتتاح، وترتيب القراءة بأن يطيل (¬1) في الصبح، ويقصر في المغرب (¬2)، والظهر تلي الصبح، والعشاء الآخرة تليها، والعصر تلي العشاء الآخرة، وقول المأموم آمين، وقوله ربنا ولك الحمد، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود، والقنوت. وهذه الفروض والسنن والفضائل منها مجمع عليه، ومنها مختلف فيه؛ فأما الطهارة من الحدث فقد تقدم أنها من المجمع عليه، وأما الطهارة من الخبث فقد تقدم الخلاف في فرْضيتها. وأما ما عدا هاتين (¬3) فنبين حكمه عند أبوابه على محاذاة (¬4) ترتيب الكتاب. ... باب في أحكام التكبير وقد قدمنا أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة وما عداها سنة (¬5) كما يحكي جميع أهل المذهب. وقال أبو الوليد الباجي: مقتضى مسائلهم وجوب التكبير جميعه. وإنما عول على أن السجود يجب عوضاً عن تركه (¬6). فمتى (¬7) ترك السجود بطلت الصلاة على قول. وهذا يأتي بيانه في باب السهو إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في (ص) بأن تطال وفي (ق) و (ت) يطال. (¬2) في (ق) المغرب والعصر. (¬3) في (ق) و (ص) و (ت) هاذين. (¬4) في (ر) عادة. (¬5) في (ص) مسنون. (¬6) في (ص) تاركه. (¬7) في (ر) فمن.

(حكم العاجز عن لفظ التكبير)

ولا خلاف في وجوب تكبيرة الإحرام في حق الفذ والإمام. وأما المأموم ففي حمل الإمام لها عنه قولان: المشهور أنه لا يحملها قياساً على الركوع والسجود. والشاذ أنه يحملها قياساً على القراءة. (حكم العاجز عن لفظ التكبير) وأما لفظ التكبير عندنا فمتعين لا يجزي غيره من الأذكار؛ لأنه الوارد به والموضع موضع عبادة فيقتصر على ما ورد. ولا يجزي أن يؤتى من التكبير بلفظ سوى اللفظ المعلوم ولا يعوض بـ "الأكبر" ولا بـ "الكبير" لما قلناه من وجوب التعيين، هذا في حق القادر. وأما العاجز عن التكبير لامتناع (¬1) الكلام عليه فلا شك أنه يدخل في الصلاة بالنية، وإن كان عجزه لأنه (¬2) لا يحسن العربية ففي المذهب قولان: أحدهما: يعوض بلسانه الذي يحسنه؛ لأن المعنى هو المطلوب في حقه. والثاني: أنه لا يعوض بلسانه الذي يحسنه جموداً على ما ورد. ولا خلاف أنه لا يعوض عن القراءة بلسان غير عربي؛ لأن الإعجاز في اللفظ العربي. لكن اختلفوا هل يعوض أذكاراً أم لا على قولين؟ وسبب (¬3) الخلاف ما ورد في بعض الطرق عنه - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الأعرابي الذي لم يحسن الصلاة فإنه أمره بالقراءة أو بذكر الله تعالى إن لم يحسنها (¬4) ولم يرد ذلك في أكثر الطرق. وبين الأصوليين خلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص) و (ت) وأما العاجز فإن كان عجزه لامتناع. (¬2) في (ر) و (ص) بأنه. (¬3) في (ص) ومدار. (¬4) يريد بذلك الحديث الذي أخرجه الترمذي في الصلاة 302 وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء صلاته: "إِذَا قُمتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأ كَمَا أَمَرَكَ الله ثُم تَشَهَّدْ وَأَقِمْ فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأ وَإلاَّ فَاحمَدِ اللهَ وَكَبّرهُ وَهَلُلْهُ" الحديث. وقال الترمذي: حَدِيثُ رِفَاعَةَ بنِ رَافِع حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فصل (تكبيرة الإحرام للمأموم)

فصل (تكبيرة الإحرام للمأموم) وإذا قلنا بوجوب تكبيرة الإحرام في حق المأموم، فإن كبر للركوع [ناوياً للإجزاء عن تكبيرة الإحرام] (¬1) صح له ذلك، وإن كبر ولم ينو فلا يخلو من أن يعلم أنه لو عاد (¬2) إلى القيام أمكنه تكبيرة الإحرام وإدراك الإمام، أو يعلم أنه لا يدركه؛ فإن علم أنه لا يدركه فهل يعود إليه؟ فيه قولان. وسببهما هل يراعى الخلاف فلا يعود- لأن أحد قولي مالك أنه يجزيه- أو لا يراعي فيعود. وإذا قلنا إنه يعود فهل يسلم أم لا؟ قولان: وجوب السلام - وهو مقتضى الأخذ بالمذهب- ومراعاة قول من اجتزى بالأول. وتركه هو بناء على ترك مراعاة الخلاف بالجملة. وإذا قلنا إنه يتمادى ولا يعود أو قلنا بالتمادي لأنه خاف فواتها مع الإمام فإنه يتم الصلاة ويعيد. وهل الإتمام هو الواجب والإعادة احتياطاً أو بالعكس؟ للمتأخرين قولان. وفائدة الخلاف لو بطلت الصلاة التي تمادى عليها وصحت الأخرى (¬3)، أو بطلت المعادة وصحت التي تمادى عليها ففي الإجزاء بالصحيحة قولان (¬4). وهو على ما قدمنا من كون الإعادة واجبة والتمادي أحتياط أو بالعكس. وإن لم يكبر للركوع فعلى المشهور يقطع متى علم، وعلى رواية ابن وهب تجزيه الصلاة. هذا في حق المأموم، وأما الإمام فلا يجزيه إلا تكبيرتان: أحدهما: للإحرام، والثانية: للركوع، وهذا هو المعروف (¬5) من ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) في (ت) أعاد وفي (ص) قام. (¬3) في (ق) الإعادة. (¬4) في (ق) خلاف. (¬5) في (ص) و (ق) و (ت) المعرفة.

(حكم القيام لتكبيرة الإحرام)

المذهب. وقال أبو الفرج: هذا على القول بأن القراءة فرض في كل ركعة يريد (¬1)، وعلى القول بأنها ليست بفرض (¬2) في كل ركعة (¬3) يكون الإمام والمأموم بمنزلة واحدة تجزيهما تكبيرة الركوع إذا قصد بها تكبيرة الإحرام. (حكم القيام لتكبيرة الإحرام) وهل يجب القيام لتكبيرة الإحرام؟ (¬4) أما الفذ والإمام فيجب ذلك في حقهما، وهذا يظهر على القول بأن قراءة أم القرآن عليهما فرض في كل ركعة. وأما المأموم؛ ففي المذهب فيه قولان: فمذهب المدونة أنه لا يجب القيام في حقه لتكبيرة الإحرام (¬5) لأن القيام يجب عنده للقراءة وهذا لا تجب القراءة في حقه. وفي كتاب ابن المواز وجوب القيام لها قياساً على الإمام والفذ. (ما يفعل من شك في تكبيرة الإحرام) وما يفعله من شك في تكبيرة الإحرام؟ أما الفذ فإن شك [قبل] (¬6) أن يركع كبر (¬7) من غير سلام وأجزى. وإن ركع ففي قطعه وابتدائه قولان كالإمام. وأما المأموم فلا يقطع. وقد تقدم حكمه إذا أيقن بترك [تكبيرة] (¬8) الإحرام. ولا شك مع شكه في الإتيان بها أنه يتمادى ويعيد. وأما الإمام ففيه قولان: أحدهما: أنه يتمادى ويعيد هو ومن خلفه إذا شكوا كشكه. والثاني: أنه يقطع ويقطعون ولا يصح استخلافه هاهنا؛ لأنه إذا لم يكبر لا تجزيهم الصلاة. وأيضاً فقد يمكن أن يكون كبر فيصير كالقاطع عمداً ¬

_ (¬1) في (ت) يزيد. (¬2) في (ق) بأن أم القرآن ليست فردا. (¬3) في (ق) في كل ركعة من الصلاة أو في جلها. (¬4) في (ت) الإحرام أم لا. (¬5) المدونة: 1/ 63. (¬6) ساقط من (ص). (¬7) في (ر) قطع. (¬8) ساقط من (ق).

فصل (حكم مسابقة الإمام ومساواته في تكبيرة الإحرام)

بخلاف استخلافه إذا ذكر أنه على غير طهارة (¬1). وأبو الحسن اللخمي يجعل حكمه (¬2) كحكم الطهارة (¬3). وقد فرقوا في الروايات بينهما، ولعل الفرق أن التكبيرة [ركن] (¬4) من نفس الصلاة والطهارة لست كذلك. فإذا ترك التكبير فقد أسقط ركنا من الصلاة وهو الموجب (¬5) لانعقادها. فإذا لم تنعقد في حقه فلا يصح الاقتداء به بخلاف إن سقط شرط لها وهو يظن أنه لم يسقطه. على أن قياس الشك في التكبير هو قياس الشك في الطهارة. وبالجملة فقد فرقوا بين الطهارة وبين التكبير، والفرق ما ذكرت. وإذا سلم الشاك ثم ذكر أنه كان كبر ففي إجزائه قولان: أحدهما: الحكم بالإجزاء. حكاه ابن المواز عن مالك وأصحابه. وهذا لأنه ابتدأ الصلاة بنية جزمًا والحكم للابتداء (¬6). والثاني: أنه لا يجزيه لأنه أتم الصلاة على تردد فتبطل ويجب عليه ابتداء صلاة لا شك فيها. ... فصل (حكم مسابقة الإمام ومساواته في تكبيرة الإحرام) ومن حكم الإمام أن يتقدم في تكبيرة الإحرام، فإن كبر المأموم من قبله فلا تجزيه الصلاة عندنا. ومتى علم بذلك قطع وابتدأ. وهل يقطع بسلام؟ قولان: مذهب الكتاب أنه يقطع بغير سلام (¬7) وهذا جواب من لا يراعي الخلاف (¬8). وقال سحنون: يقطع بسلام. وهو جواب من يراعي ¬

_ (¬1) في (ت) وضوء. (¬2) في (ق) و (ت) حكم هذا كحكم. (¬3) التبصرة ص: 59. (¬4) ساقط من كل النسخ. (¬5) في (ص) من الواجب. (¬6) في (ق) بنية إجزائها والحكم للابتداء. (¬7) المدونة: 1/ 64. (¬8) في (ق) يقطع بسلام وهذا جواب من يراعي الخلاف.

الخلاف. وألزمه أبو الحسن اللخمي أن يقول بصحة صلاته لنفسه لو (¬1) تمادى على (¬2) ذلك الإحرام. وحكي عنه أنه قال: لا تصح الصلاة. قال أبو الحسن: وهذا اختلاف قول، أو أنه بني على مذهب مالك؛ (¬3) يعني أنه يقطع بغير سلام. وهذا الذي قاله غير صحيح، وإنما مذهب سحنون أن ذلك التكبير لا يجزي كما قاله جميع أهل المذهب. لكنه يقطعه بسلام، ليس لأنه صحيح في نفسه ولكن مراعاة لمذهب الشافعي القائل بصحته. وإن تساوى الإمام والمأموم في تكبيرة الإحرام ففي صحة صلاته في المذهب قولان. والقول بالصحة قياساً على سائر أركان الصلاة، فإنه لو ساواه فيها لم يقل أحد من أهل المذهب ببطلان صلاته. والبطلان هو الصحيح؛ لأن حكم الإمامة يقتضي التقدم. فإذا كبرا معاً لم يحصل التميز الذي يوجبه حكم الإمامة. على أن المساواة في سائر الأركان إنما لم تفسد به الصلاة لأنهم سحبوا حكم السبق في التكبير على سائر (¬4) الأركان، وإلا فالقياس يقتضي نفي الصحة. ولو سبق المأموم الإمام في الأركان كالركوع والسجود، فإن المنصوص في المذهب أمر المأموم بالعودة إلى ما فعله قبل إمامه حتى يكون فاعلاً بعده. فإن لم يفعل (¬5) فالمنصوص صحة (¬6) الصلاة، وهذا مما ألزمت فيه بعض الأشياخ (¬7)، البطلان. لأنه لم يحصل الاقتداء به في الأركان، فالتزموه على القول بأن الحركة إلى الأركان مقصودة. قال: وعلى ¬

_ (¬1) في (ق) ولو. (¬2) في (ص) ولى ذلك. (¬3) التبصرة ص: 59. (¬4) في (ت) لأنهم في حكم المسبق على تكبيرة الإحرام فانبنى عليها سائر. (¬5) في (ص) و (ق) و (ت) يعد. (¬6) في (ق) بطلان وخرم في (ص) و (م). والصواب ما أثبته لأنه قال بعده وهو المنصوص في الروايات. (¬7) في (ت) أشياخي.

فصل (ما قيل في رفع اليدين في الصلاة)

القول بأن [الحركة إلى الأركان] (¬1) غير مقصودة تصح الصلاة. وهو معنى ما وقع في الروايات (¬2). ... فصل (ما قيل في رفع اليدين في الصلاة) واختلف في رفع اليدين في الصلاة على خمسة أقوال: فقيل: لا يرفع في تكبيرة الإحرام ولا في غيرها. وهذا في مختصر ابن شعبان. وتأوله بعض الأشياخ على المدونة لقوله: وكان رفع اليدين عند مالك ضعيف (¬3). لكنه قد نص على ضعفه في غير تكبيرة الإحرام. والقول الثاني: أنه يرفع في تكبيرة الإحرام خاصة. والقول الثالث: أنه يرفع فيها، وفي الرفع من الركوع. والرابع: أنه يرفع فيهما وفي القيام إلى الثالثة (¬4). والخامس: أنه يرفع في ذلك وفي الانحطاط إلى الركوع. وقد وردت أحاديث تقتضي هذه الأقوال. وقد قدمنا أن الرفع من الفضائل. وسببه إما تأهب (¬5) لما يقدم عليه من الصلاة ورهبة، وإما نبذ للدنيا على ما نذكره في صفة الرفع. فيمكن أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع بحسب ما يكون عليه من الأحوال من رغبة أو رهبة، أو ما يخطر بباله من نبذ الدنيا وطرحها. وهذا (¬6) خير ما تأولت عليه هذه الأحاديث الواردة المختلفة في صفة الرفع. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) الكتاب. (¬3) المدونة: 1/ 68. (¬4) في (ق) الثانية. (¬5) في (ص) تهيئاً وفي (ت) تهيب وفي (ق) تنبيهاً. (¬6) في (ق) "حين رهب أو خطر بباله طرح الدنيا ونبذها رفع وإلا اكتفى بالتكبير وهذا". وفي (ر) "وطرحها رفع وإلا اكتفى بالتكبيرة وهذا"، وفي (ص) "فإن رعب أو خطر بباله طرح الدنيا ونبذها رفع وإلا اكتفى بتكبيرة وهذا".

(ما ورد في صفه الرفع)

(ما ورد في صفه الرفع) وإذا قلنا بالرفع ففي صفته قولان: أحدهما: أنه يبسط يديه فيجعل ظهورهما مما يلي السماء وبطونهما مما يلي الأرض، وهذه صفة الراهب. والثاني: أنه يرفعهما منتصبتين فيجعل أصابعهما مما يلي السماء (¬1)، وهذه صفة النابذ للدنيا وراء ظهره. واستحسن هذه الصفة المتأخرون؛ لأنه يمكن بها الجمع بين الأحاديث الواردة على منتهى الرفع. وقد اختلف المذهب في منتهاه على قولين: أحدهما: إلى الصدر، والثاني: إلى المنكبين (¬2). فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يرفع يديه حذو صدره" (¬3). وروي "حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ" (¬4). وروي عنه "حذو أذنيه" (¬5). وقد جمع بين هذه الأحاديث مالك رحمه الله فقال: يكون الكوع حذو الصدر وطرف الكف حذو المنكبين والأصابع حذو الأذنين. وهذا إنما يعم على القول بأن الرفع صفته نصب الكفين كما تقدم. ... ¬

_ (¬1) في الأرض. (¬2) في (ص) و (ق) الكتفين. (¬3) لم أقف على هذا الحديث. وقد أورده صاحب التاج والإكليل 1/ 536 على أنه نص سماع أشهب، وذكره ابن جزي في القوانين الفقهية ص:43 قولاً، بصيغة التمريض. (¬4) أخرج البخاري في الأذان 735 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 390 عَنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنكِبَيهِ إذَا افْتَتَحَ الصلاَةَ وَإِذَا كبرَّ لِلرُّكُوع وإذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيضاً وَقَاَلَ: "سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَهُ رَبنا وَلَكَ الحمدُ" وَكَانَ لاَ يَفعَلُ ذلِكَ في السُّجُودِ (¬5) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 22/ 39، والبيهقي في سننه الكبرى 2/ 25 وقال عقبه: "يزيد بن أبي زياد غير قوي" (يعني الراوي). قال ابن عبد البر في التمهيد 9/ 229: "اختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة ومن بعدهم في كيفية رفع اليدين في الصلاة؛ فروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه مداً فوق أذنيه مع رأسه، وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو أذنيه، وروي عنه أنه كان يرفعهما إلى صدره. وكلها آثار محفوظة مشهورة وأثبت شيء في ذلك عند أهل العلم بالحديث حديث ابن عمر هذا وفيه الرفع حذو المنكبين وعليه جمهور الفقهاء بالأمصار وأهل الحديث".

فصل (ماذا يفعل بعد التكبير)

فصل (ماذا يفعل بعد التكبير) وإذا كبر فما يفعل؟ (¬1) المشهور من المذهب كراهية الدعاء وغير ذلك من الأذكار بين التكبير وأم القرآن، وكذلك لا يقرأ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬2)، ولا يقول: "سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلهَ غيرُك" (¬3)، ولا يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} في الفريضة سراً ولا جهراً. وقد رويت أحاديث تقتضي الفصل بين التكبير والقراءة ببعض هذه، فأنكرها مالك خيفة أن يُظن وجوب قراءتها (¬4) كما تجب قراءة الفاتحة (¬5). لما (¬6) روي عنه [من] (¬7) أنه كان يقول بعضها. وقوله (¬8) في المبسوط إن من جهر بالبسملة (¬9) لا شيء عليه، ليس بخلاف كما ظنه أبو الحسن اللخمي، بل نهى في المبسوط (¬10) حرصاً على النفوس من أن تعتقد ذلك ¬

_ (¬1) في (ق) يصنع. (¬2) آل عمران: 8. (¬3) الترمذي في الصلاة 242، والنسائي في الافتتاح 899 واللفظ له. (¬4) في (ص) قولها. (¬5) من ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة قال: أحسبه قال: هنية فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد". صحيح البخاري: 1/ 259. وقد قال البراذعي في سبب عدم أخذ مالك بهذه الأحاديث؛ إنه لم يكن يعرفها. التهذيب 1/ 232. بينما ابن رشد أرجع ذلك إلى الاختلاف في صحة الأحاديث، أو مخالفتها لعمل أهل المدينة بداية المجتهد 1/ 235. (¬6) في (ر) و (ت) وما. (¬7) ساقط من (ص). (¬8) في (ر) وله. (¬9) في (م) ظنه بالتسمية. (¬10) في (ر) المشهور.

باب في أحكام القراءة في الصلاة

فرضاً (¬1)، ولم ير بأساً على قائله لأنه (¬2) ذكر والصلاة محل الأذكار. ... باب في أحكام القراءة في الصلاة والمعروف من المذهب وجوب القراءة في الصلاة. وقد وقع لابن زياد (¬3) ما يؤخذ منه أنها لا تجب، لكن كلامه على صلاة من لم يقرأ. ويمكن (¬4) أن يحكم بالصحة مراعاة للخلاف. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فلم يقرأ، فقيل له في ذلك، فسأل عن الركوع والسجود هل أكملت؟ فقيل له أكملت، فقال: لا بأس إذاً. وقد تأول المالكية ذلك على أنه أعاد. وهذا بعيد؛ لأنه يبطل معنى سؤاله عن الركوع والسجود. وتأوله الشافعية على أنه ترك الجهر ولم يترك القراءة جملة. وهذا أقرب من التأويل الأول. وإذا قلنا بوجوب القراءة فهي (¬5) متعينة عندنا فلا يقوم مقام أم القرآن غيرها. (ذكر الخلاف في قراءة الفاتحة في الصلاة) وهل تجب في كل ركعة (¬6)؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تجب في كل ¬

_ (¬1) في (ص) فرض. (¬2) في (ص) لكنه. (¬3) في (ت) وقد وقع بلغة لابن زياد. هو: علي بن زياد أبو الحسن التونسي العبسي ثقة مأمون سمع من مالك والثوري والليث بن سعد وغيرهم لم يكن بعصره في أفريقية مثله، سمع منه البهلول بن راشد وشجرة وأسد بن الفرات وسحنون وغيرهم، روى عن مالك الموطأ وهو معلم سحنون الفقه وكان سحنون لا يقدم عليه أحد من أهل أفريقية وكان أهل العلم بالقيروان إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى علي بن زياد ليعلمهم بالصواب وكان خير أهل أفريقية في الضبط للعلم .. ومات علي بن زياد .. سنة ثلاث وثمانين ومائة. انظر الديباج المذهب: ص: 192 وطبقات الفقهاء ص: 156 وشجرة النور 60. (¬4) في (ص) أن ما أمكن. (¬5) في (ر) فصل. (¬6) في (ر) الصلاة.

ركعة. والثاني: أنها تجب في ركعة واحدة. والثالث: أنها تجب في الجل دون الكل؛ فأما تعينها على الجملة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقرَأ بِأُم القُرْآنِ" (¬2). وبين الأصوليين خلاف في النفي هل يقتضي [الإجمال] (¬3) ويقتضي نفي الصحة أو نفي الكمال (¬4) على أقوال بيِانها محال على موضعه. لكن قوله: "لاَ صَلَاة" يحتمل أن يريد به جملة الصلاة فتكون القراءة (¬5) في كل ركعة [واحدة] (¬6) لازمة (¬7). ويحتمل أن يريد الركعة الواحدة لأنها تسمى صلاة. وأما القول بالإجزاء إذا قرأ في الجل؛ فهو بناء على أن الأتباع تقتضي (¬8) حكم متبوعها لا حكم نفسها. وفي حديث جابر: "كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصليها إلا وراء الإمام" (¬9). فقد اختلف في رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح إيقافه على جابر. وبين الأصوليين خلاف في قول الصحابي هل هو حجة أم لا؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصلاة 395، والترمذي في التفسير2953 بلفظ قريب. ولم أقف على هذا اللفظ إلا عند ابن عبد البر في التمهيد 20/ 196 غير مسند، ونيل الأوطار 2/ 234 عزاه إلى البيهقي عن علي مرفوعاً، لكني لم أقف عليه عنده. ولفظ مسلم "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن صلى صلاَة لَمْ يَقرَأ فِيهَا بِأُمً القُرْاَنِ فَهِي خِداج ثَلَاثا غَير تَمَام". (¬2) أخرجه البخاري في الأذان 756، ومسلم في الصلاة واللفظ له 394 عن عبادة بن الصامت. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) في (ص) هل يقتضي الإجمال أو نفي الكمال أو نفي الصحة. (¬5) في (ت) الفاتحة. (¬6) ساقط من (ق) و (ص). (¬7) في (ق) لازمه و (ص) جازمه. (¬8) في (ق) و (ص) و (ت) تعطى. (¬9) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلقظ قريب عند الترمذي في الصلاة 313 ومالك في الموطأ 188 عن جَابِر بن عَبْدِ اللهِ قال: "مَن صَلَّى رَكعَة لَمْ يَقرَأ فِيهَا بِأُمَّ القُرْآنِ فَلَم يُصَلِّ إلاَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ". واللفظ للترمذي، وقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

(ثمرة الخلاف)

فإذا صلى وترك أم القرآن في جميع الصلاة فقد قدمنا ما في ذلك من الخلاف وبطلانها على المشهور. وإن تركها في ثلاث ركعات أيضاً من الرباعية فالمشهور أيضاً أنها لا تجزيه. وعلى القول بالإجزاء بالأقل (¬1) تجزيه، وقد نص عليه علي بن زياد. وإن تركها في ركعتين فلا شك على قول ابن زياد في الإجزاء. [وأما على] (¬2) المشهور، إن ذكر ذلك بعد الإكمال أعاد بعد أن يسجد لسهوه قبل السلام. والسجود مراعاة لقول (¬3) من يقول إنها تجزيه. وإن ذكر ذلك وهو في الصلاة فهل يلغي الركعتين اللتين تركهما فيهما ويبني على ما قرأ فيه أو يتمادى ويعيد. في المذهب قولان؛ فالإلغاء بناء على فرضيتها في الكل أو الجل (¬4) وترك مراعاة الخلاف، والتمادي والإعادة بناءً على مراعاة الخلاف. وإن تركها في ركعة من الصلاة الرباعية ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلغي تلك الركعة المتروكة فيها. والثاني: يسجد لسهوه ويكتفي بصلاته. والثالث: أنه يسجد لسهوه ويعيد. والسجود (¬5) نص عليه في كتاب ابن المواز. والإلغاء بناء على فرضيتها في كل ركعة من غير مراعاة للخلاف. والاجتزاء بها بناء على فرضيتها في الجل. والتمادي [والإعادة] (¬6) بناء على مراعاة الخلاف. لكن يحتمل أن يكون مذهبه في هذا القول أنها تجزيه، ولكن يراعى قول من يقول بعدم الإجزاء فيؤمر بالإعادة، أو يكون مذهبه أنها غير مجزية (¬7). لكن يتمادى مراعاة لقول من يقول إنها مجزية (¬8). (ثمرة الخلاف) ويكون ثمرة الخلاف لو تبين له بطلان إحدى الصلاتين هل يكتفي ¬

_ (¬1) في (ق) بالأول. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) في (ص) لخلاف. (¬4) في (ص) و (ت) في الجل والكل. (¬5) في (ت) ويعيد لسجود. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ق) مجزية عنه. (¬8) في (ق) لقول من يرى ما تجزي عنه.

بالأخرى (¬1) أو تكون الإعادة في الوقت أو فيه وبعده؟ وعلى القول بالإلغاء هل يكون سجوده قبل السلام أو بعده؟ ينظر؛ فإن جلس بعد ركعتين صحيحتين قرأ فيهما بأم القرآن [وسورة] (¬2) فسجوده (¬3) بعد السلام لأنه تمخضت له الزيادة بما ألقاه، وإن لم يحصل له الجلوس بعد ركعتين صحيحتين [قرأ فيهما بأم القرآن] (¬4) فقد اجتمعت له الزيادة- وهي الركعة الملغية والنقص وهو الجلوس- فيكون سجوده قبل السلام. فهذا أخصر ما قيل [فيه] (¬5) من التطويل. وكل (¬6) هذا إذا لم يذكر ما ترك من القراءة حتى ركع فرفع رأسه من الركوع. وإن لم يرفع رأسه فهل يعود إلى القيام ويقرأ؟ يجري على القولين في عقد الركعة [ما هو] (¬7)؟ هل هو وضع اليدين على الركبتين فلا يعود؟ أو رفع الرأس فيعود؟ وأما إن لم يركع وذكر ذلك بعد ما قرأ السورة فإنه يعود ويقرأ أم القرآن. وهل يعيد قراءة السورة [لوضعها في غير موضعها أو لا إعادة عليه لأنه قرأها؟ قولان. وإذا قلنا يعيد قراءتها هل يسجد أم لا؟ قولان أيضاً. قال سحنون: يسجد لطول القيام (¬8). فإذا قلنا لا يعيدها فهل يسجد] (¬9) ويعد كالتارك لقراءة السورة لوضعها في غير موضعها أو لا سجود عليه لأنه قد قرأها؟ قولان. فإن ترك أم القرآن في ركعة من الصلاة الثنائية كالصبح وصلاة المسافر وصلاة الجمعة، في المذهب قولان: أحدهما: أنه كالتارك لقراءتها في شطر ¬

_ (¬1) في (ق) و (ر) وبالإجزاء. (¬2) ساقط من (ق) و (ص). (¬3) في (ت) وسجد، وفي (ر) فسجود. (¬4) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬5) ساقط من (ت) و (ص) و (ق). (¬6) في (ص) على. (¬7) ساقط من (ص). (¬8) في (ر) القيام أم لفواته؟ قولان. (¬9) ساقط من (ر) و (ص).

فصل (فيمن ترك السورة في الركعتين الأوليين)

الصلاة الرباعية لأن نسبة الواحدة من الثانية كنسبة اثنتين إلى [اثنتين] (¬1) من الرباعية. والثاني: أنه كالتارك لقراءتها في ركعة من الرباعية. والاختلاف في هذا اختلاف في النظر إلى الركعة في نفسها، أو نسبتها إلى ما معها من الركعات؛ فإن نظر إليها في نفسها فهي يسيرة (¬2) وإن نظر إليها بالنسبة إلى ما معها فهي كثيرة (¬3). ... فصل (فيمن ترك السورة في الركعتين الأوليين) وأما السورة التي مع أم القرآن في الركعتين الأوليين فقد تقدم أنها من السنن. وحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب قولين آخرين: أحدهما: أنها واجبة. والثاني: أنها مستحبة (¬4). وهذا لا نجده في المذهب، وإنما عوَّل في الوجوب على ما نذكره من إعادة الصلاة لتركها عمداً، وإن كان بعد الوقت. والاستحباب على سقوط السجود في تركها. وتركها (¬5) لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون عمداً؛ ففي المذهب ثلاثة أقوال: المشهور: صحة صلاته ولا سجود عليه، بل يؤمر أن يستغفر لينوب (¬6) له ثواب الاستغفار على ما فاته من تركها. والقول الثاني: أنه يعيد وإن خرج الوقت. وهذا بناءً على أن من ترك السنن عامداً يجب عليه الإعادة أبداً. والقول الثالث: أنه يسجد قبل السلام كالتارك لها ناسياً (¬7). وهذا لأنه يرى أن السجود ورد في ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) كثيرة. (¬3) في (ق) يسيرة. (¬4) التبصرة ص: 62. (¬5) في (ت) وتاركها. (¬6) في (ق) ليست له ثواب، وفي (ر) ليتوب. (¬7) في (ق) لما نساها.

فصل (هل يؤمن الإمام)

الناسي تنبيهاً على أن العامد أحرى وأولى أن يتدارك الترك بالسجود. وإما أْن يكون سهواً فالمشهور الأمر بالسجود قبل السلام. وفي مختصر ابن شعبان: لا سجود عليه. ومنه أخذ أبو الحسن اللخمي الاستحباب. ويحتمل أن يكون بناء على ما قاله [أولاً] (¬1) أو لأن السجود لم يرد في ذلك، ولا يتعدى به ما ورد فيه. وهذا هو الظاهر، وهو قول [مالك] (¬2) والشافعي. وإما أن يكون جهلاً. وفي الجاهل قولان: هل هو كالعامد أو كالناسي؟ والمشهور أن قراءة غير أم القرآن في الركعتين الآخرتين لا تستحب. ومن قرأ بغير أم القرآن فيهما لم يكن عليه السجود ولا غيره. ووقع لمحمد بن عبد الحكم ما يقتضي استحباب القراءة. ولعله يرى أن الصلوات محل الأذكار، والقراءة من أفضل الأذكار. وتكثيرها في الصلاة مأمور به ما لم يؤد إلى التطويل المخرج للصلاة عن بابها. ... فصل (هل يؤمن الإمام) ويؤمر (¬3) الفذ والمأموم عند ختم أم القرآن بأن يقول: "آمين" بلا خلاف. وهل يؤمن الإمام؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يؤمن، والشاذ أنه يؤمن. وسبب الخلاف اختلاف ظواهر [الآثار] (¬4). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فإذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين" (¬5). وهذا يقتضي ظاهره أن الإمام ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) ساقط من (ص) و (ق) و (ت). (¬3) في (ت) ويؤمن. (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) أخرجه البخاري في الأذان 782 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 415 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا قَال الإِمَامُ: غيرِ المغضُوبِ علَيهِم وَلاَ الضَّالينَ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإنَّهُ مَن وَافَقَ قَولُهْ قَولَ المَلَاِئكَةِ غُفِرَ لَه مَا تَقَدمَ من ذَنْبِهِ".

(ما يقول المصلي عند الرفع من الركوع)

لا يؤمِّن. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذَا أَمَّنَ الأِمَامُ فَأمَّنُوا" (¬1). وظاهره أن الإمام يؤمَّن. وقد تؤول الأول على أن المقصود به بيان محل تأمين المأموم. وأنه بعد قول الإمام "ولا الضالين" لا بعد تأمين الإمام. فعلى هذا لا تكون فيه حجة على أن الإمام لا يؤمن. وتؤول الثاني على أن معناه إذا بلغ الإمام التأمين لا أنه يؤمن (¬2). والصحيح عند المتأخرين أن الإمام يؤمن لقول ابن شهاب: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: آمِينَ" (¬3). هذا وإن كان من المراسيل، فإن الصحيح عند الأصوليين القول بها لا سيما مراسيل مثل ابن شهاب. (ما يقول المصلي عند الرفع من الركوع) وينخرط في سلك هذا الخلاف في قول: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". ولمالك في ذلك قولان. وقد روي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك (¬4). وفي كتاب مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملئ السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬5). وما وقع لمالك من كراهية أن يقول المصلي: "حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه" (¬6). فإنما كرهه لئلا يعتقد أنه من فروض الصلاة أو من فضائلها. وما ورد لابن شعبان من أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان 780، ومسلم في الصلاة 410 عن أبي هريرة. (¬2) في (ت) لا أنه لا يؤمن. (¬3) البخاري في الأذان 780. (¬4) البخاري في الأذان 689. (¬5) لمِ أقف عليه بهذا اللفظ، ولفظ مسلم في الصلاة 471 حَدَّثَنَا شُعبَةُ عَنِ الْحَكم قَالَه غَلبَ عَلَى الكُوفَةِ رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ زَمَنَ ابْن الأَشْعَثِ فَأَمَرَ أَبا عُبَيد بن عبدِ اللهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَاسِ فَكَانَ يُصَلِّي فَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ قَدْرَ مَا أَقُولُ: اللهُمَّ رَّبَنا لَكَ الحَمْدُ مِلءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلءُ الأَرضِ وَمِلءُ مَا شِئتَ من شيء بعدُ أَهلَ الثناءِ وَالمَجدِ لاَ مَانِع لِمَا أَعطَيْتَ وَلاَ مُعطِي لِمَا مَنَعتَ وَلاَ ينْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ. (¬6) في (ق) مباركا ثبت.

باب في حكم من جاء والإمام راكع

قائل ذلك تبطل صلاته لا معنى له، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الثناء، على قائل ذلك. وهل يقول المأموم والفذ والإمام على أحد القولين: "ربنا لك الحمد"، أو "ربنا ولك الحمد" بزيادة الواو، أو هو مخيّر في ذلك؟ واختلفت الروايات عن مالك في ذلك أيهما المستحب؟ فاستحب في رواية ابن القاسم زيادة الواو، وفي رواية إسقاطها. وهو على الخلاف في معنى قول الإمام: سمع الله لمن حمده؛ هل هو دعاء فيكون المستحب إضافة الواو لأن معنى ذلك: اللهم استجيب لنا ولك الحمد على استجابتك، [أو كأنه خبر] (¬1) فكانه يقول الله سامع لمن حمده فلا يضاف الواو؛ لأن معنى ذلك مجرد التحميد من غير دعاء ولا حمد على الاستجابة (¬2). ... باب في حكم من جاء والإمام راكع والمطلوب في حق هذا إدراك الركعة والوصول إلى الصف. وقد اختلف المذهب إذا لم يمكنه الإتيان بهما أيهما الأوْلى؟ فقيل إدراك الركعة هو المقدم، فيركع حيث انتهى. وقيل: إدراك الصف هو المقدم، فلا يركع إلا أن يدرك الصف. وإذا أمرناه بالركوع فهل يدب إلى الصف؟ أما إن بعد فلا يدب إليه، وأما إن قرب دب إليه. ومتى يفعل ذلك هل في حالة الركوع أو بعد رفع رأسه منه؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يدب راكعاً كي (¬3) لا يرفع الإمام رأسه وهو غير مستو في الصف. والثاني: أنه يدب بعد رفع رأسه؛ لأن فعل ذلك راكعاً مما يشق، وقد يشوش المشي على حالة الركوع. وما حدّ القرب في المذهب روايتان (¬4): إحداهما: أنه الصفان. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق). (¬2) في (ق) الاستحباب. (¬3) في (ص) و (ق) و (ت) لئلا. (¬4) في (ق) قولان.

باب في أحكام الركوع والسجود والجلوس.

والثانية: أنه ثلاثة صفوف. وظنه أبو الحسن خلافاً، وليس كذلك؛ بل المقصود جواز الندب إذا كان قريباً، والاثنان (¬1) من الثلاثة قريب، ولا أصل للتحديد إلا ما يعد قريباً. ... باب في أحكام الركوع والسجود والجلوس. وقد قدمنا الخلاف في الطمأنينة في أركان الصلاة هل هي فرض أو سنة. وسبب الخلاف تعارض قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً واجلس حتى تطمئن جالساً فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك" (¬3). وبين الأصوليين خلاف في الألفاظ هل تطلق على أوائل الأسماء أو على أواخرها؛ فإن قلنا بانطلاقها على أواخر الأسماء كانت الآية والحديث متفقين. وإن قلنا بانطلاقها على الأوائل فيجزي أقل (¬4) ما يقع عليه اسم ركوع بظاهر الآية ويعارضها نص الخبر، وهو من أخبار الآحاد. وبين الأصوليين خلاف في المقدم منها. وكذلك الخلاف في الاعتدال في الرفع من الركوع والسجود هل يجب أم لا على هذا؟ وإذا قلنا بوجوب الطمأنينة فما مقدارها؟ هو أن تستقر الأعضاء في أماكنها وتسكن (¬5). وإذا حصل ذلك وزاد المكلف عليه فهل تعد الزيادة ¬

_ (¬1) في (ق) الإتيان. (¬2) الحج: 77. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي عند البخاري في الأذان 757 عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مرفوعاً وفيه: "ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارْفَعِ حَتى تَعْدِلَ قَائِماً ثُمَّ اسجُد حَتى تَطمئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطمَئِنْ جَالِساً وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاِتكَ كُلَّهَا". (¬4) في (ت) أول. (¬5) زيادة في (ر) غير واضحة.

فرضاً لأنها من جنس الفرض ولا فاصل أو تعد نفلاً لأن الفرض ما لا يسوغ تركه؟ وهذا مما لو تركه لم يأثم في ذلك، قولان. وهذا النظر في المقدار المجزي من الركوع والسجود والاعتدال منهما. ويسجد على الأنف والجبهة جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجزي إلا السجود عليهما جميعاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَن أَسجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ" (¬1). فذكر الجبهة، وأشار إلى الأنف. والثاني: إجزاء أحدهما عن الآخر. والثالث: إجزاء الجبهة عن الأنف دون الأنف عن الجبهة. والقولان مبنيان على أن الأمر هل ينطلق على المندوب؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ" يحتمل أن يريد [أمرت] (¬2) ندباً، والذمم على البراءة فلا تعمر إلا بيقين (¬3). لكن التفرقة لأن الوجه (¬4) على الجملة به تحصل حقيقة السجود. وفي الحديث: "عفر وجهك (¬5) في التراب" (¬6). وتخصيص الجبهة يدل على أن السجود على الأنف غير واجب. وأما مقدار الكمال في الركوع والسجود فهي (¬7) في الركوع انتصاب الظهر بعد انحنائه ومساواة الرأس حتى لو مُدَّ خيط مستقيم على الظهر والرأس لمُدَّ. ووضع اليدين على الركبتين. وهو في السجود أن يسجد على الرجلين والركبتين والكفين والأنف والجبهة، ويفرج بين بطنه وفخذيه، ويجافي بضبعيه وهما عضداه ومرفقاه عن جنبيه. ومن أهل المذهب من لا يستحب التفريج للمرأة لأن تركه لها (¬8) أستر بخلاف الرجال. وأين يضع يديه في سجوده؟ لم يحد مالك في ذلك حدّاً. وروي عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان 812، ومسلم في الصلاة 490عن ابن عباس. (¬2) ساقظ من (ر). (¬3) في (ق) و (ص) بالأقل. (¬4) في (ت) بين الأنف والجبهة، وفي (ر) بين الأنف والوجه لأن الوجه. (¬5) في (ت) و (ص) جبهتك. (¬6) لم أقف عليه ولو مع اعتبار الفرق بين النسخ المخطوطة. (¬7) في (ص) و (ق) فهو. (¬8) في (ق) تركه للمرأة.

فصل (في هيئة الجلوس)

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسجد بين كفيه، واستحب ذلك المتأخرون من أهل المذهب. ... فصل (في هيئة الجلوس) وهيئة الجلوس (¬1) عندنا على صفة واحدة في الجلسة الوسطى والآخرة وبين السجدتين. وهو التورك فيفضي بإليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويجعل باطن إبهامها (¬2) مما يلي الأرض، ويثني اليسرى، ويضع يديه على ركبتيه. أما في جلوسه بين السجدتين فيضعهما مبسوطتين. وأما في جلوسه للتشهدين فيبسط اليسرى ويقبض اليمنى. وصورة ما يفعل أن يقبض ثلاثة أصابع وهي الوسطى والخنصر وما بينهما، ويبسط المسبحة، ويجعل جانبها مما يلي السماء، ويمد الإبهام على الوسطى، وهذا كالعاقد (¬3) ثلاثة [وعشرين] (¬4). وهل يشير بالمسبحة أو يمدها غير محرك لها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه يشير بها. فقيل المراد بذلك طرد الشياطين وقمعها. وهذا أيضاً تحقيق معناه أنه يقرر (¬5) على نفسه ¬

_ (¬1) في (ر) السجود. (¬2) في (ر) بهمها. (¬3) يقصد حساب العقود وهو: عبارة عن إشارات بالأصابع تدل كل واحدة منها على عدد معين وقد وضعت لتسهيل التواصل بين الناس، خاصة التجار منهم، سيما عند استعجام كل من المتبايعين لسان الآخر. وكان هذا العلم يستعمله الصحابة رضي الله عنهم كما وقع في الحديث في كيفية وضع اليد على الفخذ في التشهد وفيه أنه عقد خمسا وخمسين وأراد بذلك هيئة وضع الاصابع لأن هيئة عقد خمس وخمسين في علم العقود هي عقد اصابع اليد غير السبابة والابهام وتحليق الابهام معها وهذا الشكل في العلم المذكور قال على العدد المرقوم. انظر أبجد العلوم 2/ 243 وكشف الظنون 1/ 664. (¬4) ساقط من (ص). (¬5) في (ر) يفرق.

باب في أحكام الناعس والغافل والزاحم

ما يذكر من التشهد (¬1). ويذكرها بالتقصير عن معاني ما يذكره ويمنعها أيضاً من الغفلة عن ذلك. والقول الثاني: أنه [يبسط (¬2) مسبحته (¬3) غير محرك (¬4) لها. قيل المراد بذلك الإشارة إلى الوحدانية. والقول الثالث: أنه] (¬5) يبسطها موحداً إلى أن يبلغ قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" فيشير بأصبعه مقرراً على نفسه جميع ما يلزمه الإيمان به. وهذا كله لا ينبغي أن يعد خلافاً، وإنما يعد هيئات (¬6). وهي عنوان على ما في الباطن فيعتقد (¬7) الإنسان منها بقدر ما يكون في باطنه في تلك الحالة من التقرير على النفس، والإشارة إلى التوحيد أو تنبيه النفس على الغفلة عن الذكر. ... باب في أحكام الناعس والغافل والزاحم (¬8) وقد قدمنا أن المشروع متابعة (¬9) الإمام لا مسابقته ولا مقارنته. وذكرنا حكم المسابقة والمساواة في تكبيرة الإحرام، وحكمها فيما عدا ذلك من الأركان. والمتابعة (¬10) أن يفعل المأموم الأركان عقيب فعل الإمام. فإن لم يمكنه ذلك لأنه نعس نعاساً لا ينقض وضوءه أو زوحم أو غفل، فلا يخلو أن يطرأ له ذلك بعد أن عقد الركوع وعند أخذ الإمام في السجود، أو قبل ¬

_ (¬1) في (ر) التشهدين. (¬2) في (ق) يسقط. (¬3) في (ر) مسبحة. (¬4) في (ر) محركة. (¬5) ساقط من (ص). (¬6) في (ت) وإنما هذه صفات وفي (ق) و (ص) وإنما هذه مهيئات. (¬7) في (ق) و (ص) فيفعل. (¬8) في (ص) المزاحم. (¬9) في (ت) و (ق) مساواة. (¬10) في (ق) و (ص) و (ت) والمساواة.

أن يعقد مع الإمام الركوع؛ فإن طرأ له بعد أن عقد الركوع فهاهنا يتبع الإمام في السجود ما لم يعقد الإمام الركعة الثانية. وفي عقدها قولان: أحدهما: أنه رفع الرأس منها. والثاني: أنه وضع اليدين على الركبتين. وإن طرأ له ذلك قبل أن يعقد معه الركوع؛ فأما الناعس والغافل ففي تلافي ما فاته من الركوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يتلافى بوجه، صحت له مع الإمام ركعة أو لم تصح. لأن المشروع أن يفعل عقيب الإمام، وهذا قد تأخر عنه. وانشغاله بتلافي ما مضى مخالفة عليه. وإنما يشتغل باتباعه فيما يأتي به. والقول الثاني: أنه يتبعه، صحت له مع الإمام ركعة أم لا. وهذا بناء على أن المتابعة (¬1) إنما تلزم مع القدرة عليها. فإن (¬2) لم يتبعه فيصير زائداً في صلاته زيادة مستغنى عنها. وكأن هذين القولين مبنيان على تقابل مكروهين: أحدهما: مخالفة الإمام، والثاني: محاذرة زيادة مستغنى عنها. والقول الثالث: أنه إن عقد مع الإمام ركعة بسجدتيها اتبعه لأنه بانعقادها تنسحب عليها حرمة الجماعة. وإن لم يعقد معه ركعة [بسجدتيها] (¬3) فلا يتبعه؛ لأن حرمة الجماعة غير حاصلة. وهذا مذهب الكتاب. وإذا قلنا إنه يتبعه فإلى أي مكان؟ في المذهب قولان: أحدهما: ما لم يرفع رأسه من السجود. والثاني: ما لم يعقد (¬4) الركعة الثانية. وسبب الخلاف هل القيام فرض في حق المأموم وإنما يسقط عنه إذا كان مسبوقاً للضرورة (¬5) فيتبعه هاهنا ما لم يرفع رأسه من السجود؟ أو القيام ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص) و (ت) المساواة. (¬2) في (ر) ولو. (¬3) ساقط من (ق) و (ص) و (ت). (¬4) في (ت) ما لم يرفع بعقد. (¬5) في (ر) للضرورة عليه.

(حكم الزاحم)

في حقه غير فرض للاتفاق على إدراك المسبوق فيتبعه هاهنا ما لم يعقد الركعة الثانية؟ وإذا قلنا إنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من السجود فهل المراد بذلك السجدتان جميعاً أو السجدة الأولى؟ الظاهر من المذهب أنهما جميعاً. وقال بعض المتأخرين من الأندلسيين المراد السجدة الأولى؛ لأنه إذا رفع رأسه منها حال بينه وبين الاتباع فرض كامل وهو أحد السجدتين. وإذا قلنا إنه يتبعه ما لم يعقد الركعة الثانية فهل عقدها وضع اليدين على الركبتين أو رفع الرأس منها؟ قولان متقدمان (¬1). (حكم الزاحم) وأما الزاحم ففيه قولان: أحدهما: أنه معذور كالغافل والناعس، بل عذره أظهر إذ لا مبدأ (¬2) تفريط عنده. والثاني: أنه غير معذور فلا يتبعه بوجه. وهذا بناء على ما قدمناه من أن الحاضر العقل المتلقي للخطاب لا يتعذر الفعل عليه وهذا إشارة إلى جواز تكليف ما لا يطاق. وقد قدمنا الخلاف فيمن أهريق ماؤه، هل يكون بمنزلة الناسي أو بمنزلة العامد؟ وكذلك المفرق ناسياً إذا ذكر فطال طلبه للماء. ... باب في صفة أداء الصلاة ويؤمر المصلي بالخشوعِ باطناً وظاهراً، وإكمالِ (¬3) الأركان، وتحسينِ السنن (¬4) والفضائل، وملازمةِ الهيئات. على أن مالكاً كثيراً ما كان يهرب من التحديدات التي لم يشتهر كونها فضيلة أو سنة (¬5). ويحاذر أيضاً من ظهور ¬

_ (¬1) في (ت) القولان فالمتقدمان وفي (ق) و (ر) فالقولان المتقدمان. (¬2) في (ق) و (ص) إذ لا مبادئ. (¬3) في ص: بإكمال. (¬4) في ص: الصلاة والفضائل. (¬5) في (ر) وهبة.

الخشوع على الظاهر دون الباطن. ولهذا لم يحد أين يضع [المصلي] (¬1) بصره. وأنكر وضع اليدين إحداهما على الأخرى في القيام في الفرائض، وأجازه فيما إذا طال القيام في النوافل. ولم يحد في البداية عند الانحطاط إلى السجود حدّاً. وحكي في كتاب ابن حبيب أن ابن عمر كان يبتدئ (¬2) بوضع ركبتيه على الأرض ثم يديه (¬3). وفي المبسوط استحباب الابتداء باليدين قبل الركبتين. قال الأشياخ: وهو أقرب إلى الخشوع. وقد وقع في المذهب أيضاً خلاف؛ هل يستحب الاعتماد على اليدين عند القيام إلى الثانية والرابعة لأنه أقرب إلى الخشوع، أو لا يستحب ذلك إذ لا تحديد ثابت فيه يقتضي كراهية غيره. ومن التواضع وضع أعز الأعضاء على الأرض وهي الجبهة والأنف. وفي معنى الأرض كل ما تنبته مما لا يقصد به الترفه. وقد اختلف في ثياب الكتان والقطن، هل يكره وضع الجبهة والكفين عليهما لأنهما خرجا بالصنعة عما تنبته الأرض، أو لا يكره ذلك التفاتاً إلى أصلهما؟ وقال المحققون من المتأخرين: إذا كان الأصل كراهية الرفاهية فكل ما فيه ترفه ولو كان مما تنبته الأرض كحصر السمان فإنه يكره، وكل ما لا ترفه فيه فإنه لا يكره. وإن كان مما لا تنبته الأرض كالصوف وما يصنع منه مما لا يخرج إلى ما يقصد به الترفه. وهذا إنما يكره في حق الوجه والكفين، وأما غيرهما من الأعضاء فيجوز أن يضعه على كل طاهر. والفرق أن الخشوع والتذلل يحصل بوضع الوجه واليدين على الأرض وما في معناها. وأما غير ذلك من الأعضاء فالرجلان مما لا خشوع (¬4) في وضعهما على الأرض. والركبتان مما شرع سترهما، وعلى هذه الأعضاء السجود. والأصل في هذا المعنى الذي قدمناه كون المسجد الحرام محصباً من غير حائل بين المصلي وبين الأرض. وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"عفر وجهك (¬5) في ¬

_ (¬1) ساقط من (ص) و (ر). (¬2) في (ر) يهتدي. (¬3) النوادر والزيادات: 1/ 183. (¬4) في (ر): لا خضوع. (¬5) في (ت) جبهتك.

فصل (حكم السجود على كور العمامة)

الأرض" (¬1). ويكره ستر اليدين بالكمين في السجود إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة من حر أو برد. ... فصل (حكم السجود على كور العمامة) ويكره السجود على كور العمامة؛ وهو طاقتها. فإن سجد عليها فلا تبطل صلاته إلا أن تكثر الطاقة جداً بحيث تكون كالحائل بين الوجه وبين الأرض، فيصير كأنه أومأ، وفرضه السجود فتبطل صلاته. ... فصل (في حكم من اعتمد على حائط أو عصا) ومن صفة الأداء أن لا يعتمد (¬2) على حائط أو عصا في قيامه وجلوسه، فإن اعتمد على ذلك فإن كان اعتماده بحيث لو أزيل المعتمد عليه لسقط بطلت صلاته. لأنه لم يأت بحقيقة القيام ولا الجلوس. وإن كان بحيث لو أزيل لم يسقط صحت صلاته على كراهية (¬3) فيها. وهذا في حق من يفرض عليه القيام؛ وهو القادر عليه في صلاة (¬4) الفرض. وأما من يعجز عن القيام أو الجلوس إلا معتمداً ففرضه الاعتماد، وله الجلوس مع الاختيار في النافلة (¬5)، فأحرى أن يجوز له القيام معتمداً. لكن في المذهب قولان: هل يجوز له الاضطجاع في النافلة مع القدرة على الجلوس؟ فعلى ¬

_ (¬1) لم أقف عليه ولو مع اعتبار الفرق بين النسختين المخطوطتين. (¬2) في (ق) يتكئ. (¬3) في (ق) لا عن كراهة. (¬4) في (ق) و (ص) والصلاة فرض. (¬5) في (ق) النافلة مع القدرة على الجلوس إلا أن يقال إن النافلة محل الرخص، وهذا منه.

باب في أحكام المريض

القول بجواز ذلك لا شك في جواز الاعتماد في الجلوس، وعلى القول بمنع الاضطجاع مع الاختيار قد يمنع الاعتماد في الجلوس. إلا أن يقال إن النافلة محل الرخص وهذا منه. وإنما الخلاف في جواز الاضطجاع، فيه (¬1) خلاف في وروده على ما سيأتي بيانه. ... باب في أحكام المريض وقد قدمنا تحديد الفروض جملةً وتفصيلاً، وذلك في حق القادر. وأما العاجز فقد ذكرنا حكمه في التكبير والقراءة، وأما غير ذلك من الأركان فإن عجز عن جميعها بالمرض أو ما في معناه، فلا يخلو من أن يقدر على حركة بعض أعضائه، كرأسه أو يديه أو حاجبه أو غير ذلك من الأعضاء، فهذا لا خلاف أنه يصلي، ويؤمر بما قدر على حركته. وإن عجز عن جميع الحركات ولم يبق له سوى النية بالقلب فهذه الصورة لا نص فيها في المذهب. وأوجب الشافعي عليه إيجاب القصد إلى الصلاة بقلبه لأن روح الصلاة القصد [وبه تتم] (¬2). فمقصودها حالة تحصل بالقلب. وأسقط أبو حنيفة الصلاة عن من وصل إلى هذه الحالة. لأن الصلاة أقوال وأفعال، والنية قصد إلى التقرب بالأقوال والأفعال. فإذا عجز عن التقرب بها فلا مقصود هاهنا يتميز بالنية. وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة. والذي عولنا عليه في المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب. فالمسالة في غاية الإشكال من [جهة أن التكليف لا يمكن إلا متمكناً ولا يقع التكليف إلا بممكن (¬3). ولكن] (¬4) الاحتياط مذهب الشافعي، ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) و (ت) فيهما. (¬2) ساقط من (ق) و (ص). (¬3) في (ر): متمعن. (¬4) ساقط من (ت) و (ص).

والرجوع إلى براءة الذمة هو مقتضى مذهب أبي حنيفة. ولا يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة [وإن وجد فيها نص] (¬1). وإن قدر على بعض الأركان دون بعض أتى بالمقدور عليه وسقط عنه المعجوز عنه. لكن اختلف الأشياخ في من قدر على القيام فإن ركع وسجد لم يقدر على النهوض إلى القيام في باقي الركعات، وإن أومأ استمر على القيام؛ فقال بعضهم: يركع ويسجد ويسقط عنه القيام في باقي الصلاة؛ لأن الركوع والسجود فرض وله حق السبق في الحال، فلا يسقطه (¬2) القيام. وفيه خلاف هل هو فرض لنفسه أو للقراءة. وفي القراءة خلاف هل هي فرض أم لا؟ وقال بعضهم: بل يكمل صلاته إيماء لأنه يأتي بالبدل عن الركوع والسجود وهو الإيماء، والقيام لا بدل عنه, لأن الجلوس حالة من أحوال الصلاة، وليس من جنس القيام بسبيل. وعلى هذا الرأي يركع ويسجد في الركعة الآخرة لأنه لا يجب عليه القيام فيعود إليه. ولو قدر على القيام والجلوس ولم يقدر على الركوع والسجود جملة؛ فإنه يومئ للركوع والسجود. وكيف صفة إيمائه؟ قال الأشياخ: يومئ للسجدة الأولى (¬3) من القيام وللسجدة الثانية من الجلوس إن أمكنه ذلك. وهذا لأنه يخر إلى السجدة الأولى من قيام، فيفعل في الإيماء ما كان يفعله في السجود. وهل عليه أن يبلغ في الإيماء منتهى وسعه؟ ظاهر المذهب على قولين: أحدهما: أنه ليس عليه ذلك. وأخذ من قوله في الكتاب: ويجعل إيماؤه للسجود أخفض منه للركوع (¬4) والثاني: عليه استيفاء ما في وسعه. وأجرى أبو الحسن اللخمي هذا الخلاف على الخلاف في الحركة إلى الأركان. وهل هي مقصودة أم لا؟ وفي ذلك نظر لأن المطلوب هاهنا ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق) و (ص). (¬2) في (ر) يسقط. (¬3) في (ر) بسجود الأول وفي (ق) بالسجد الأول. (¬4) المدونة 1/ 77.

فصل (في المريض يصلي حسب ما تيسر له)

إيماء يكون (¬1) عوضاً عما عجز عنه. وقد عجز عن كمال السجود فيطالب بكمال الإيماء. وكماله هو المعنى المفروض كنفس السجود، وليس هو في حق هذا كالحركة إلى الأركان، بل هو الركن في نفسه. والذي في الكتاب إنما ذكر فيه أن يفرق فيه بين الإيماء للركوع وبين الإيماء للسجود. فيمكن أن يريد أنه يبلغ وسعه في إيمائه إلى السجود ويقصر عن ذلك في الركوع للفرق بين الركعتين مما كان في المنزلة [لو كان صحيحاً] (¬2). ... فصل (في المريض يصلي حسب ما تيسر له) ويصلي المريض بحسب ما يمكنه ويتدرج في إسقاط الفروض والسنن والفضائل بحسب ما تدعو الضرورة إلى إسقاطها. فإن قدر على القيام لكن عجز عن تطويل القراءة (¬3) في الصبح والظهر مثلاً، فيصلي بأم القرآن وسورة [من] (¬4) القصار (¬5) أو بأم القرآن خاصة. فإن عجز عن كمال القيام بأم القرآن (¬6)، فهاهنا مقتضى الروايات أنه ينتقل إلى الجلوس. وهذا ظاهر على القول بأن قراءة أم القرآن فرض في كل ركعة. وأما على القول بأنها فرض في ركعة واحدة فإنه ينبغي أن يقوم بمقدار ما يمكنه إلا في ركعة (¬7) واحدة فإنه يجلس ليأتي بأم القرآن. لكن اختلف المذهب هل القيام مقصود لنفسه وعليه يتخرج ما قلناه، أو هو مقصود للقراءة فإذا لم يمكن (¬8) الإتيان بها سقط؟ وهكذا يجري الأمر ¬

_ (¬1) في (ق) و (ص) و (ت): إنما يكون. (¬2) ساقط من (ق) و (ص). (¬3) في (ت) القيام. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ص) والسور القصار. (¬6) في (ر) عن القيام لكمال أم القرآن. (¬7) في (ت) إلا في مقدار ركعة واحدة. (¬8) في (ق) لم يكن.

إن قلنا إن القراءة فرض في الجل فيختلف في الأقل على حسب ما بيناه (¬1). ولو عجز عن القيام إلا متوكئاً ففرضه (¬2) التوكؤ. فإن جلس أعاد أبداً ولو عجز عن الجلوس إلا مستنداً ففرضه الاستناد. فإن اضطجع أعاد أبداً (¬3). وفي الكتاب لا يستند بحائض ولا جنب (¬4)، فإن فعل أعاد في الوقت. واختلف في علة ذلك. فقال أبو محمد بن أبي زيد إنما هذا إذا (¬5) كان في ثيابهما وأبدانهما نجاسة. وعلى هذا لا فرق بين الحائض والجنب وغيرهما. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: إنما ذلك لأنهما معينات للمصلي. فيستحب أن يكون المعين على أكمل الأحوال، كما يؤمر حامل الجنازة بأن يتوضأ ليكون على (¬6) أكمل الأحوال. وألزم على هذا ألا يستند إلا إلى متوضئ. والظاهر أنه خص الجنب والحائض بالكراهية لمخالفتهم حالة (¬7) المصلي. فإن استند بهما فقد صار مرتكباً لنهي الكراهية. فيتلافى (¬8) ارتكابه لذلك بأن يعيد في الوقت استحباباً. وأجاز أشهب الاستناد إلى الحائض والجنب. وعلى طريقة (¬9) أبي محمد ابن أبي زيد لا يعد خلافاً لأن معنى الإجازة إذا لم تكن معهما نجاسة، وعلى الطريقة الأخرى يكون خلافاً. ¬

_ (¬1) في (ق) ولا على حساب ما قلناه. (¬2) في (ت) لكان فرصة. (¬3) في (ر) أبدا ولو عجز عن الجلوس. (¬4) المدونة: 1/ 77. (¬5) في (ت) إنما كره هذا إذا. (¬6) في (ق) كحامل الجنازة فإنه يلقي الوضوء وقد ألزم على. (¬7) في (ق) و (ص) و (ت) لبعدهما عن حال. (¬8) في (ر) فيبتلا في ارتكابه. (¬9) في (ت) والجنب على قول ابن مسلمة أن المؤمن لا يجلس وأما على طريقة، وفي (ر) والجنب فعلى طريقة.

(كيف يستلقي المريض في صلاته)

(كيف يستلقي المريض في صلاته) وإن لم يقدر إلا على الاستلقاء بالأرض فيصلي مستلقياً. وكيف صفته؟ فيه قولان: فقيل يبدأ بجنبه الأيمن تعويلاً على قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (¬1)، وحمل الذكر هاهنا على الصلاة، وقياساً على الدفن. وقيل يبدأ بالاستلقاء على الظهر ويجعل رجليه مما يلي القبلة حتى لو أقيم لكان مستقبلاً. وهذا لأنه يشير برأسه ويديه. وبهذه الصورة تحصل الإشارة إلى القبلة. ويحمل قائل هذا الذكر (¬2) [في الآية] (¬3) على أنه في غير الصلاة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (¬4)، وظاهره ذكر بعد انقضاء الصلاة. وإذا قلنا إنه يبتدئ بالجانب الأيمن فإن لم يستطع فهل يصلي مستلقياً على ظهره لما قلنا من حصول الإشارة إلى القبلة أو على الجانب الأيسر لاشتمال الآية في أحد التأويلين عليه؟ في ذلك قولان. ومتى افتتح الصلاة على صورة الكمال فطرأ له العجز أو بالعكس أتم على حسب ما عادت إليه حالته بلا خلاف عندنا. وإن عجز عن استقبال القبلة بنفسه حُوِّلَ إليها، فإن عجز عن تحويله سقط حكم الاستقبال في حقه كالمسايف. وفي الكتاب إذا صلى إلى غير القبلة أعاد ما دام في الوقت بمنزلة الصحيح (¬5). فأما من صلى (¬6) وهو قادر على التحويل أو التحول فينبغي أن يعيد أبداً. وأما من لم يقدر على ذلك لفقد من يحوله فينبغي أن يختلف في إعادته كما اختلف في [إعادة] (¬7) المريض يعدم من يناوله الماء فيتيمم ويصلي ثم يجد من يناوله. وقد مر الخلاف في ذلك. ¬

_ (¬1) النساء:103. (¬2) في (ص) المذهب. (¬3) ساقط من (م). (¬4) النساء:103. (¬5) المدونة: 1/ 76. (¬6) في (ت) صحا. (¬7) ساقط من (ر) و (ص) و (ت).

(صفة جلوس المريض)

(صفة جلوس المريض) وإذا قدر المريض على الجلوس ولم يقدر على التخيير (¬1) في صفته صلى بحسب ما يمكنه. فإن قدر على التخيير؛ فالمشهور من المذهب فيه وفي المتنفل جالساً أنه يتربع في موضع القيام. وعوَّل في ذلك على فعل ابن عمر. وقد كان يتربع، وهو كثير الاقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وحكى محمد بن عبد الحكم أن الأولى أن يجلس في موضع القيام كجلوسه في موضع الجلوس، واستحبه (¬2) المتأخرون؛ لأنه أقرب إلى التواضع والمتربع مخالف لصفة المتواضع. وقد قيل: إن ابن عمر إنما كان يجلس كذلك لعلة كانت برجله تمنعه من التربع. لكن هذا الذي حكاه محمد بن عبد الحكم لا يحصل به الفرق بين جلوس القيام وجلوس التشهد. وحكى الشافعي في الاختيار في الجلوس ثلاثة أوجه: أحدها: ما حكاه ابن عبد الحكم. والثاني: أنه يجلس ويضم ركبتيه إلى صدره كالمحتبي. والثالث: أنه يجلس ضاماً لركبته اليمنى إلى صدره وثانياً لركبته اليسرى، كالجالس بين يدي أستاذه. وبالجملة فالمقصود صفة تفرق بينهما وبين الجلوس للتشهد وتكون صفة تقتضي التواضع، ومتى خولفت لم تبطل الصلاة بلا خلاف (¬3). ... فصل (إذا تعذر عليه السجود) وإذا امتنع [السجود] (¬4) لعلة بالوجه، فإن المشروع (¬5) الإيماء كما ¬

_ (¬1) في (م) التخير. والمقصود بذلك أن يختار أحسن الصفات. (¬2) في (ق) واستحسنه. (¬3) في (ق) و (ت) بلا خلاف في المذهب وفي (ص) بخلاف. (¬4) ساقط من (م) و (ت). (¬5) في (ت) و (م) فالوجه المشروع.

فصل

قدمناه. فإن أبدل الإيماء بأن رفع إلى وجهه شيئاً، ففي الكتاب لا إعادة عليه (¬1). وقال أشهب: إنما ذلك إذا أومأ، فإن لم يومئ أعاد أبداً. وقد قدمنا هل يجب عليه كمال ما في وسعه من الإيماء أم لا؟ ... فصل وهذا حكمه إذا كان لم يدخل المرض على نفسه، فإن أدخله بأن قدح (¬2) الماء من عينه حتى صار يصلي مستلقياً؛ ففي المذهب قولان: أحدهما: صحة صلاته ولا إعادة عليه، قاله أشهب وغيره من أهل المذهب، كالمسافر يطلب الأرباح لأنه يسافر طلباً لنماء المال وشق المفازات فينتقل إلى التيمم، فأحرى أن يجوز له الانتقال إلى الإيماء لطلب الصحة للجسم. ومذهب المدونة يعيد (¬3) أبداً. ولعل هذا بناءً على أن الرخص لا يقاس عليها. وعلل بأن القادح لا يوقن (¬4) بالبرء، والعادة جارية بذلك غالباً. فكأنه انتقل عن الكمال إلى أمر متردد في نجحه وعدم نجحه، بخلاف الأسفار في طلب الأرباح فإن الغالب وجودها. وقائل هذا الأمر لم يقف على حقيقة الأمر في القدح. والغالب وجود المنفعة به. والدواء فيه أظهر نجحاً من غيره فأحرى أن يجوز له أن ينتقل إلى الإيماء ليطلب الصحة. ومذهب المدونة أنه يعيد أبداً. وهل هذا بناء منه على أن الرخص لا يقاس عليها أو بناء منه على أنه لا ينجح في طلب المقصود، وأن العادة عنده جارية بذلك فلا يجوز له أن ينتقل إلى الإيماء وكذلك التيمم؟ ... ¬

_ (¬1) المدونة: 1/ 78. (¬2) في (ص) قد. (¬3) في (ر) أن يعيد. (¬4) المدونة: 1/ 78.

باب في الصلاة على الدابة

باب في الصلاة على الدابة ومن اضطر إلى الصلاة على الدابة لعدم القدرة على النزول إما لمرض أو لخوفه، صلى الفريضة عليها. فإن قدر على التحول إلى القبلة تحوّل، وإلا سقطت في حقه. فإن أمن الخائف في الوقت فهل يعيد؟ قولان: أحدهما: أنه يعيد في الوقت. وهذا لظهور الأمن في الوقت. وحقه أن يؤخر إليه. والثاني: أنه لا يعيد قياساً على الخائف من العدو. وإن قدر المريض على النزول إلى الأرض وكانت صلاته بالأرض أكمل من صلاته على الدابة، فلا خلاف أنه يجب عليه النزول. فإن لم يفعل بطلت صلاته. وإن تساوت حالاته وكانت صلاته على الدابة كصلاته على الأرض لأنه لا يمكنه الإيماء، فهاهنا قولان: أحدهما: أنه ينزل لقوله عليه السلام: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ (¬1) مَسجداً وَطَهُوراً" (¬2). والثاني: أنه لا ينزل لتساوي حالته. والحديث محمول على بيان جواز الصلاة (¬3) بكل مكان من غير اختصاص بمكان مخصوص. وقد حمل أبو محمد بن أبي زيد على المدونة أنه متى تساوت حالته صلى على الدابة. وإنما تكلم في الكتاب على أنه مختلف الحالة، وحمل عليها غيره من الأشياخ أنه ينزل وإن تساوت حالته حتى يباشر الأرض ليظهر التواضع. وهذا الكلام في الفرض. وأما النافلة فلا يصلي عندنا على الدابة اختياراً في الحضر والسفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وقد ثبتت في رخص الشريعة. وهي على ثلاثة أقسام: قسم تقرر الإجماع أنه لا يختص بالسفر كأكل الميتة للمضطر ومسح الجبيرة، عند من أجازه. وقسم تقرر الإجماع على اختصاصه بالسفر كقصر الصلاة والفطر في رمضان. وقسم اختلف في اختصاصه وعدم اختصاصه كالمسح على الخفين. وقد تقدم الخلاف فيه. والتيمم تقدم الخلاف فيه ¬

_ (¬1) في (ر) الأرض كلها. (¬2) أخرجه البخاري في الصلاة 438، والترمذي في الصلاة 317 واللفظ له. (¬3) إلى هنا انتهت نسخة (ص).

أيضاً. وتبديل هيئة الصلاة للخوف، وقد اختلف الناس فيه، وفي المذهب قولان. والجمع في السفر لا اختلاف في تخصيصه من حيث الجملة، لكنه اختلف المذهب هل (¬1) يختص بسفر القصر أو يعم كل سفر. وأما الجمع للمريض فإنه مما يعم السفر والحضر. والجمع للمطر (¬2) اختلف الناس فيه (¬3)، والمذهب جوازه. وإذا أجزناه عم الحضر والسفر. وأما ما نحن بسبيله هو التنفل على الدابة؛ فيختص عندنا بالسفر كما تقدم إذ لم يثبت في غير سفر وإنما ورد في السفر. فإذا ثبت جوازه فلا يتعدى به ما ورد. ولهذا لا يؤمر المصلي على الدابة بالركوع والسجود، بل يجزيه الإيماء. وإن أمكنه التربع في موضع القيام والتهيئ للإيماء والتورك في موضع الجلوس فعل، وإلا سقط عنه ذلك. ويصلي حيث ما توجهت به دابته، ولا يلزمه التوجه للقبلة للإحرام ولا في غيره إذا كان توجهه إلى غير القبلة. لكن يجعل المكان الذي توجه إليه كالقبلة في حقه فلا يلتفت عنه. وقد حمل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬4)، على التنفل على الدابة. وله أن يضرب الدابة التي تحته أو غيرها إن احتاج إلى ذلك ويركض ما تحته، لكن يلزم ترك الكلام، وهذا لأنه يفعل ما هو من مصلحة سفره بحسب ما تدعو الضرورة إليه ويترك ما لا تدعو إليه الضرورة. ... ¬

_ (¬1) في (ق) والاختلاف في اختصاصه بالسفر لكنه اختلف هل، وفي (م) الجمع في السفر ولا اختلاف فيه في تخصيصه لكنه اختلف هل، وفي (ر) ولا خلاف في اختصاصه بالسفر في الجملة لكنه اختلف المذهب هل. (¬2) في (ر): للمرض. (¬3) في (م) وأما الجمع للمطر فإنه مما يعم السفر والحضر والجمع للمطر واختلف الناس فيه، وفي (ر) وأما الجمع للمريض فإنه مما يعم السفر والحضر والجمع للمرض اختلف الناس فيه، وفي (ت) وأما الجمع للمرض فإنه مما يعم السفر والحضر والجمع للمطر واختلف الناس فيه. (¬4) البقرة: 115.

فصل (هل تقاس السفينة على الدابة)

فصل (هل تقاس السفينة على الدابة) وقد (¬1) ثبت جواز صلاة النافلة إلى غير القبلة على الدابة. وهل يجوز ذلك في السفينة إذا دعت الضرورة إليه؟ فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه. ومبناه على الخلاف في القياس على الرخص هل يقاس عليها أم لا؟ فمن منع منه جاء منه (¬2) ما في المشهور، ومن أجازه جاء منه الشاذ. (جواز التنفل جلوساً) ولا خلاف (¬3) في جواز ترك القيام في النافلة. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصليها جالساً مع القدرة على القيام، وأخبر أن صلاة الجالس على النصف من صلاة القائم (¬4). لكن اختلف أهل المذهب هل انحطاط الأجر مختص بالقادر لأنه تارك (¬5) لحظه من القيام، أو يعم القادر والعاجز لعموم الحديث؟ فهذا إذا افتتح الصلاة جالساً. ولو افتتحها قائماً ثم شاء الجلوس؛ ففي المذهب قولان: أجازه في الكتاب (¬6)، ومنعه أشهب. وسبب الخلاف هل تمادي القيام كالعمل المتصل فيلزم تمامه على ما ابتدأ به قياساً على صلاة النافلة والصوم والحج، أو كل جزء من القيام ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) وإذا. (¬2) في (ق) و (ت) فيمن جاء منه. (¬3) في (ت) ولا خلاف نعلمه. (¬4) أخرج مسلم في صلاة المسافرين 735 واللفظ له، والنسائي في قيام الليل 1659 عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو قَالَ: حُدِّثتُ أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلاَةُ الرَّجُل قَاعِداً نِصْفُ الصَّلاَة" قَالَ: فَأَتيتُهُ فَوَجَدتُهُ يُصَلي جَالِساً فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ فَقَاَل: "مَا لَكَ يَا عَبدَ الله بنَ عَمرو؟ " قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ قلتَ: "صَلاَةُ الرّجُلِ قَاعِداً عَلَى نِصْفِ الصلاةِ" وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِداً؟ قَالَ: "أَجَلْ وَلَكِنَّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ". (¬5) في (ق) هل الخطاب الآخر مختص بالقادر لأنه لا تارك. (¬6) المدونة: 1/ 79.

(الخلاف في التنفل للمضطجع)

عبادة قائمة بنفسها فلا يلزمه تمامه على ما ابتدئ به إلا أن ينذره بلفظه؟ (¬1) ولا شك أن من افتتح الصلاة جالساً فله القيام، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله (¬2). (الخلاف في التنفل للمضطجع) وهل يجوز التنفل مضطجعاً؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز على الإطلاق؛ لأنها صفة لم ترد. والثاني: جوازه على الإطلاق، قياساً على ترك فرض القيام، وأيضاً فلما ورد في بعض الطرق من أن صلاة القائم على النصف من صلاة الجالس (¬3)، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة الجالس (¬4). لكن بين الأصوليين خلاف في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ والثالث: جوازه لمن لا يمكنه الجلوس دون القادر، قياساً على صلاة الفرض. وكذلك اختلف في جواز الإيماء في النافلة مع القدرة على الركوع والسجود؛ فقيل: يجوز قياساً على ترك القيام [في النافلة] (¬5)، وقيل: يُمنع إذ لم يرد إلا في السفر على الدابة. وفي الكتاب لا بأس بالاحتباء في النوافل للجالس بعقب تربعه (¬6). ¬

_ (¬1) في (ر) فلا يلزم إلا أن ينذر بلفظه. (¬2) أخرج البخاري في الجمعة 1118، ومسلم في المسافرين 731 واللفظ له عَنْ عَلْقَمَةَ ابْنِ وَقاصِ قالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: كَيفَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ؟ قَالَت: كَانَ يَقرَأُ فِيهِمَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكعَ. (¬3) في (ق) و (ت) صلاة القائم نصفها صلاة الجالس. (¬4) ورد الحديث بعدة ألفاظ منها ما أخرجه الترمذي في سننه من كتاب الصلاة 372 عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: "من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد" قال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأنس والسائب وابن عمر قال أبو عيسى: حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح. (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) المدونة: 1/ 79.

باب صلاة الإمام أرفع مما عليه أصحابه.

ومن صلى فرضه جالساً وهو يقدر على القيام أعاد أبداً. وقد روي بعقب تربعه بالباء، وقد روي تعقب تربعه بالتاء المعجمة باثنتين (¬1). فالرواية الأولى تقتضي أنه يحتبي بعد التربع. والثانية: تقتضي أنه يتنقل من التربع إلى الاحتباء ومن الاحتباء إلى التربع. على أن معنى الروايتين متقاربة في التحقيق. ... باب صلاة الإمام أرفع مما عليه أصحابه (¬2). وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الإمام على شيء أرفع (¬3) مما عليه أصحابه. وكأنه أشار بذلك إلى ما أحدثه بعده بنو أمية من التكبر عن مساواة الناس، وكانوا يتخذون موضعاً مرتفعاً عن محل من يقتدون (¬4) بهم تكبراً وعبثاً. ولا خلاف في المذهب أن القصد إلى ذلك محرم، وأنه متى قصد ذلك (¬5) بطلت الصلاة. وكذلك قالوا: لو صلى المقتدون على موضع مرتفع قصداً في التكبر عن المساواة فإن صلاة المقاصد إلى ذلك باطلة. فإن صلى الإمام غير قاصد إلى التكبر؛ فإن كان الارتفاع يسيراً صحت الصلاة بلا خلاف. وإن كان الارتفاع كثيراً فللمتأخرين قولان: صحة الصلاة أخذاً من قوله في تعليل البطلان "لأن هؤلاء يعبثون". وقيل بالبطلان لعموم النهي في الحديث المتقدم. ولو ساوى الإمام قوماً في الارتفاع وصلى غيرهم على موضع (¬6) ¬

_ (¬1) في (ق) بعقب تربعه بالباء تعقب تربعه بالتاء المعجمة باثنتين. (¬2) في (ص) من خلفه. (¬3) في (ر) و (ت) أنشر. (¬4) في (ق) و (ت) يقتدى. (¬5) في (ق) قصد إلى التكبر عن المساواة بطلت صلاته. (¬6) في (ر) موضع غير مرتفع.

مرتفع. فإن قصد المرتفعون التكبر بطلت الصلاة، وإن لم يقصدوا ذلك ففي إعادة الصلاة في الوقت قولان. وهكذا قال ابن حبيب في الإمام يصلي في السفينة يقوم قوم معه في مكان وقوم فوق السفينة أن المرتفعين يعيدون في الوقت. ويحتمل أن يريد بالإعادة أنهم لا يرون فعل الإمام. وقد اختلف قوله في المدونة في الإمام يصلي في المسجد ويصلي قوم فوق المسجد بصلاته فكرهه مرة وأجازه أخرى. وعلة الكراهية بالبعد عن الإمام وتفرقة الصفوف وعدم التحقيق لمشاهدة أفعال الإمام. فعلى هذا يكون الجواز إذا قرب أعلى (¬1) المسجد من أسفله، فيكون خلاف (¬2) في حال. وكذلك كره في [الكتاب] (¬3) الصلاة على أبي قبيس (¬4) وقعيقعان (¬5) بصلاة الإمام في المسجد الحرام (¬6). واختلف الأشياخ في صلاة من فعل ذلك؛ فمنهم من قال: بالصحة، ومنهم من قال: بالبطلان، وهو خلاف في حال. فإن أمكنهم مراعاة فعل الإمام صحت الصلاة، وإن تعذر عليهم ذلك بطلت الصلاة، وهذا يعلم بالمشاهدة. وكره في الكتاب الصلاة بين يدي الإمام في دور محجورة (¬7)، وأجازه إن كان في دور دبر القبلة إذا كانت هناك كوى ينظرون منها إلى أفعال الإمام. وفي هذا تفرقة الصفوف. وقد أجيزت إذا تقارب الموضعان (¬8) نحوه كالنهر والطريق الصغير. ¬

_ (¬1) في (ق) فوق. (¬2) في (ت) الخلاف. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) قال في معجم ما استعجم 3/ 1040: "أبو قبيس الجبل المعلوم بمكة". وهو جبل يطل على الحرم المكي من جهة الصفا والمروة. (¬5) قال في معجم ما استعجم 3/ 1086: "قعيقعان على لفظ تصغير قعقعان جبل بمكة". (¬6) المدونة: 1/ 82. (¬7) أي دور خاصة لا تفتح للعموم. (¬8) في (ت) الصفوف الموضعات.

فصل (حكم الصلاة بالمسمع)

وأجازوا لمن في السفن أن يجتمعوا على الإئتمام بإمام في إحداهما؛ فإن استصحبوا الدوام أتموا صلاتهم، وإن فرقهم الريح كانوا كمن طرأ على إمامهم ما يمنعه الائتمام (¬1) فيستخلفون لأنفسهم. وإن صلوا أفراداً صحت صلاتهم، وإن اجتمعوا بعد التفريق والإمام لم يكمل فلا يرجعون إلى إمامته، ويجزيهم التمادي على ما هم عليه. [قالوا] (¬2) بخلاف المأموم يظن أن إمامه أكمل فيقوم يقضي لنفسه، ثم تبين له أن الإمام لم يكمل فإن هذا لا يعتد بما فعله قبل إكمال الإمام ويرجع إلى اتباعه إن بقي له من الصلاة شيء. والفرق ظهور عذر من في السفن وتفريط الظان لإكمال الإمام. ... فصل (حكم الصلاة بالمسمع) وهل تجوز الصلاة بالمسمع؟ للمتأخرين ثلاثة أقوال: أحدها: صحة الصلاة لأنه نائب عن الإمام، فعله كفعله. وعمدتهم اقتداء أبي بكر رضي الله عنه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء الناس بأبي بكر وهو كالمسمع (¬3). وهذا يدل على أن أبا بكر خرج عن الإمامة، ولأن العمل استمر في سائر الأمصار على تكرر الإعصار على الصلاة بالمسمع. والثاني: بطلان الصلاة لأنه إنما شرع الإقتداء بالإمام لا بعوض منه. والثالث: صحة الصلاة إن أذن الإمام للمسمع، فحينئذ يكون كوكيله، وبطلانها إن لم يأذن له إذ لا تصح الوكالة من غير إذن. وكذلك اختلفوا على هذا في صحة صلاة المسمع نفسه لنفسه. ... ¬

_ (¬1) في (ت) ما يمنع الإكمال. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) انظر البخاري في الأذان 712.

باب في أحكام الإمامة

باب في أحكام الإمامة (من الأحق بالإمامة) ويفتقر الإمام إلى صفتين بعد حصول البراءة عن النقص الذي نذكره بعد. والصفتان: العلم والورع؛ فبالعلم يحصل الأداء، وبالورع تحصل الشفاعة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون به" (¬1). فإذا وجد من فيه هاتين الصفتين قدم، وإن شاركه غيره فيهما نظر إلى غير ذلك من الفضائل الشرعية والخلقية والمكانية؛ فالشرعية كالشرف في النسب والسن، والخلقية ككمال الصورة، ويلحق به حسن اللباس، والمكانية كمالك رقبة الدار ومنافعها. وإذا اجتمع الأقرأ والأعلم، فالأعلم هو المقدم عندنا على الأقرأ. وما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقرَؤُهُم" (¬2)، محمول عند العلماء على أن الأقرأ في ذلك الزمان هو الأعلم إذ كانوا يتعلمون مع التلاوة ما يتعلق بها من الأحكام والمعاني. فإن اجتمع فقيه وصالح فالفقيه أولى، إذا لم يكن فيه مانع يمنع الإجزاء على ما نذكره. وإن اجتمع الأصلح والأفقه فلم أر في المذهب نصاً في هذه المسألة. وللشافعية قولان: أحدهما: تقديم الأفقه مراعاة لقدرته على مراعاة إصلاح ما يعرض له (¬3) في الصلاة من المفسدات الشواذ. والثاني: تقديم الأصلح إذا كان قِبَلَهُ من الفقه (¬4) ما يمكن به أداء الصلاة وإصلاح ما يعرض له فيها ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه مسلم في المساجد 673 واللفظ له، والترمذي في الصلاة 235 كلاهما عن أبي مسعود الأنصاري. وقال الترمذي: "حدِيثُ أَبِي مَسْعُود حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ". (¬3) في (ت): ما يعرضه. (¬4) في (ر): التفقه.

فصل (النقص المانع من الإجزاء في الإمامة)

من المفسدات المتكررة والتي (¬1) ليست شاذة جداً. وكان هذا التفاتاً إلى مراعاة الطوارئ البعيدة، وفي المذهب في مراعاتها قولان. وظاهر ما قدمناه أن من كان فقيهاً صالحاً شريفاً في نسبه (¬2)، كبيراً في سنه، كامل الصورة، حسن اللباس، عارفاً بالقرآن، مالكاً للموضع إن كان الموضع مملوكاً؛ هو أولى بالإمامة. فإن نقص من هذه وكان أكمل من غيره قدم. ومتى اجتمع من تساوت صفاتهم فتشادوا على المتقدم أقرع بينهم إذا كان مطلوبهم حيازة فضل الإمامة لا طلب الرئاسة الدنيوية. ... فصل (النقص المانع من الإجزاء في الإمامة) وأما النقص المانع من الإمامة فهو على قسمين: نقص يمنع الإجزاء، ونقص يمنع (¬3) الكمال. فأما ما يمنع الإجزاء فهو نوعان: نوع يرجع إلى الخَلْقِ، ونوع يرجع إلى الخُلُقِ. فأما ما يرجع إلى الخَلق فهو صنفان: صنف يمنع إكمال الفرض، وصنف لفقد الذكورية. وما يمنع إكمال (¬4) [الفرض] (¬5) قسمان: قسم يمنع أحد الأركان كعلة تمنع القيام أو الركوع أو السجود أو جميع ذلك، وقسم يمنع النطق بالقراءة على حقيقتها. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) أو اللتي. (¬2) في (ق) نسبه. (¬3) في (ت) قسم يمنع الإجزاء وقسم يمنع. (¬4) في (ر) الكمال. (¬5) ساقط من (ق).

وأما ما يرجع (¬1) إلى الخُلُق صنفان: صنف يرجع إلى الاعتقاد، وصنف يرجع إلى الجوارح. وقد يحصل من هذا خمسة أقسام: أحدها: ما يمنع كمال أحد الأركان أو جميعها. فإن منع القيام فهل تصح الإمامة أم لا؟ أما إن كان (¬2) المقتدون به قادرون على القيام فالمشهور من المذهب أن الاقتداء به لا يصح. وهذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "لا يؤم أحد (¬3) بعدي جالساً" (¬4). والشاذ: صحة الاقتداء به. ويفعل المقتدون به من القيام ما يقدرون عليه. وهذا لما روي من صلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه بالناس وهو جالس وهم قيام. لكن اختلف فيمن كان إماماً هل أبو بكر أو النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدمت الإشارة إليه. وإن كان المقتدون به عاجزين كعجزه فقولان: أحدهما: صحة الاقتداء به لتساوي الحالات ولا مخالفة، والثاني: عدم الصحة لقوله: "لا يؤم أحد بعدي جالساً". وإذا صححنا الإقتداء به فصح (¬5) بعض المقتدين فما يفعل؟ قولان: قيل يقوم فيتم لنفسه فذا؛ لأنه افتتح الصلاة بوجه (¬6) جائز، ولا يصح إتمامه مقتدياً. والثاني: أنهم يتمون معه الصلاة قائمين. وهذا تعويلًا على صحة الإقتداء به أولاً، ومراعاة (¬7) لقول من يقول يجوز الاقتداء بالجالس وإن كان المقتدي به قائماً. ويجري فيه قول ثالث: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في الصلاة وليس عليها ما يستر عورة الحرة. وإن فقد الإمام عضواً من الأعضاء التي يسجد عليها كقطع اليد ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) وما يرجع. (¬2) في (ق) أو كان. (¬3) في (ت) أحدكم. (¬4) لم أقف عليه إلا عند ابن عبد البر 6/ 142، والشافعي في الأم 7/ 200 بلفظ قريب. (¬5) في (ق) فصح فرض بعض. (¬6) في (ر): بأمر. (¬7) في (ق) لتساوي مراعاة.

فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يمنع الإجزاء لأنه يكمل الفروض. وظاهر رواية ابن وهب أنه يمنع الإجزاء لأنه قال: لا يصلى وراءه، واحتج بالحديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" (¬1)، وذكر منها اليدين. فإن كان لا يقدر على الإيماء واضطجع (¬2) فلا تصح إمامته بوجه. والقسم الثاني: ما يمنع النطق بالقراءة على حقيقتها، وهذا إن كان للجهل بها فلا تصح إمامته بوجه. ومن ائتم به بطلت صلاته لأن القراءة فرض، وهذا ممن لا يمكنه الإتيان بذلك. وهل يجب عليه في نفسه أن يأتم بمن يحسن القراءة؟ قولان: قيل يجب عليه ذلك إن قدر عليه؛ لأن قراءة الإمام قراءة له فعليه تحصيل الفرض في نفسه، أو تحصيل ما فيه النيابة عن هذا الفرض وهو الاقتداء. وقيل لا يجب عليه؛ لأنه خوطب بما قدر عليه من الفرض. وإن كان للكنة في لسانه فالمنصوص صحة الصلاة. وحكي عن إسماعيل القاضي أنه قال: إذا لم تكن اللكنة في القراءة. وهذا إن صح فيكون في المسألة قولان: صحة (¬3) الإقتداء لأن اللكنة لا تغير المعنى [عندهم] (¬4)، وعدم الصحة لأن المطلوب النطق بالحروف، وهو عاجز عن ذلك. وأما اللّحان في القراءة ففي صحة الصلاة وراءه أربعة أقوال: أحدها: أنها لا تصح تنزيلاً للحسن منزلة التبديل، وكذلك قال أبو الحسن ابن القابسي وأبو محمد ابن أبي زيد فيمن لا يميز الظاء من الضاد. والثاني: صحتها لأن البدل حركات لا أصل الحروف. والثالث: التفرقة بين أن يكون لحنه في أم القرآن فلا تصح الصلاة لأنها فرض، وبين أن يكون في غيرها فتصح الصلاة لأنه [سنة] (¬5). وإن أخرجه اللحن إلى الكلام فهو كالذكر. والرابع: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق) إلا على الإماء والاضطجاع. (¬3) في (ر): صحته. (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) ساقط من (ت) و (ر).

الإبطال إن كان اللحن يغير المعنى لأنه حينئذ يصير كالكلام، والصحة إن كان لا يغير المعنى لأنه لم يخرج القرآن عن المعنى. والقسم الثالث: ما يفقد الذكورية. ولا تكون المرأة إماماً للرجال عندنا لنقصها، ولأن صوتها عورة، وقياساً على الخلافة فإن الأمة مجتمعة على أنها لا تكون خليفة، وقد قاس الصحابة الخلافة على الإمامة في الصلاة. وهل تصح إمامتها للنساء (¬1)؟ قولان: المشهور عدم الصحة طرداً للحكم الكلي، وروى ابن أيمن (¬2) عن مالك أنها تؤم النساء (¬3). وهذا لأنه عول على أن المنع من كون صوتها عورة، وهو مفقود هاهنا. وأما الخنثى فإن حكم له بحكم أحد الصنفين عول عليه؛ إما الذكورية وإما الأنوثية. فإن كان حكم عليه بالذكورية فللمتأخرين في إمامته قولان: المشهور صحتها قياساً على الميراث الذي بذلك الصفة يرث. والقول الثاني (¬4) بالمخ للرجال؛ إذ يحتمل أن يكون أنثى. وإن أشكل الأمر فلا يصح أن يؤم الرجال ولا النساء على المشهور ويؤمهن على الشاذ. والقسم الرابع: ما يرجع إلى الاعتقاد؛ فإن كان كفراً فلا شك أن إمامة الكافر لا تصح، لكنه (¬5) إن أم مستتراً بكفره فهل يجعل ذلك علماً على إسلامه؟ فإن تماد يُترك، وإن لم يتماد قتل بعد الاستتابة. أو لا يجعل علما على إسلامه؟ في ذلك قولان. ¬

_ (¬1) في (ت) للنساء في الصلاة. (¬2) هو: محمد بن عبد الملك بن أيمن القرطبي الحافظ أبو عبد الله، رحل إلى العراق وسمع من محمد بن إسماعيل الصائغ ومحمد بن الجهم السمري وطبقتهما وألف كتاباً على سنن أبي داود. كان بصيراً بمذهب مالك. توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة وله ثمان وتسعون سنة" الديباج المذهب ص: 320. وشجرة النور:88 (188). (¬3) في (ت) صحة إمامتها للنساء، وفي (ق) صحة صلاتها بالنساء. (¬4) في (ت) الشاذ. (¬5) في (ر) لأنه.

وسبب الخلاف اختلافهم هل أنزلت الشريعة الصلاة منزلة الشهادتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشْهَدُوا أن لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَن مُحَمدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصلاَةَ" الحديث (¬1)، فقد ساوى بين الشهادتين والصلاة. لكن بين الأصوليين خلاف في الواو هل يقتضي الاشتراك (¬2) في الحكم كما يقتضيه في الإعراب أم لا؟ وإذا حكمنا بإسلامه وتمادى عليه، فهل يعيد من صلى خلفه؟ قولان: الإعادة لأنه يمكن أن يبتدئ الإيمان في ساعته بعد أن يصلي عبثاً (¬3)، وترك الإعادة لأن الصلاة علم على الإيمان كالشهادتين وقد أقر بأنه مسلم. وإن كان بدعة، فقد اختلف الأصوليون في معتقد البدعة كالخوارج والمعتزلة؛ فللقاضي (¬4) في تكفيرهم قولان. وكذلك اختلف قول الفقهاء؛ فعن مالك في ذلك روايتان، ومثلهما عن الشافعي. وقال أبو إسحاق التونسي وغيره من متأخري أهل المذهب: سبب الخلاف هل يكفرون بما آل القول إليه أم لا؟ ومعنى ذلك: أن المعتزلة والخوارج متفقون على نفي الصفات المعنوية في حق الباري؛ فينكرون كون الباري سبحانه عالماً بعلم وقادراً بقدرة إلى غير ذلك من الصفات. إلا أنهم لا ينكرون أنه عالم ولا قادر ولا حي ولا مريد. فمن رأى إنكارهم أن يكون عالماً يؤدي إلى نفي العلم عنه جملة، [وقوَّلهم] (¬5) أما يؤدي إليه مبدأ أقوالهم كَفَّرهم. ومن لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الإيمان 25، ومسلم في الإيمان 22 عن عبد الله بن عمر. (¬2) في (ت) التشريك. (¬3) في (ق) لا يمكن أن يبتدئ الإيمان إلا بعد أن يصلي عبثاً، وفي (ت) لأنه ممن يمكن منه أن يبتدئ في الإيمان في ساعة الآن بعد أن يصلي والقول الثاني. (¬4) هو: الإمام العلامة أوحد المتكلمين مقدم الأصوليين القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري ثم البغدادي ابن الباقلاني صاحب التصانيف، كان يضرب المثل بفهمه وذكائه، ثقة إماماً بارعاً صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية فقال هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة المتكلم على لسان أهل الحديث، توفي سنة 403 هـ سير أعلام النبلاء: 17/ 190. (¬5) ساقط من (م).

يقوِّلهم] (¬1) ما يؤدي إليه مبدأ قولهم، لم يحكم بتكفيرهم وحكم بتفسيقهم (¬2). وقد سئل أبو المعالي (¬3) عن هذه المسألة فحكى خلاف الأئمة فيها، ثم قال: وقد نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وقوع هذا الخلاف بقوله في الخوارج "يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهمُ مِنْ الرّمِيَّةِ" (¬4)، وقال في آخر الحديث: "وَتَتَمَارَى في الفُوقِ" (¬5). وهذه إشارة إلى خلاف الناس في تكفيرهم والمناظرة فيه؛ فلا شك أن من حكم بكفرهم حكم ببطلان الإقتداء بهم، ومن حكم بأنهم غير كفار فلا يحكم ببطلان الصلاة وراءهم كالزنديق. وفي المذهب في صلاة من اقتدى بهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد أبداً، وهذا على القول بتكفيرهم. والثاني: أنه يعيد في الوقت، وهذا على القول بعدم كفرهم، لكن يعيد في الوقت لنقصهم بالفسق. والثالث: أنه لا يعيد في وقت ولا غيره، وهذا بناء على ما بني عليه في القول الثاني، لكن فسقهم لا يسري إلى نقص في الصلاة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ق) فيما يؤديهم إليه مبدأ قولهم لم يحكم بتكفيرهم وحكم بفسقهم. (¬3) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف العلامة إمام الحرمين ضياء الدين أبو المعالي الجويني رئيس الشافعية بنيسابور. جاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب ثم رجع إلى نيسابور وأقعد للتدريس بنظامية نيسابور واستقام أمور الطلبة وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع مُسلّم له المحراب والمنبر والتدريس ومجلس الوعظ وظهرت تصانيفه .. توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة طبقات الشافعية 2/ 255 - 256 (218). (¬4) أخرجه البخاري في المناقب 3610، ومسلم في الزكاة 1064 عن أبي سعيد الخدري. (¬5) أخرجه البخاري في فضائل القرآن 5058، وأحمد في مسنده 3/ 60، ومالك في النداء للصلاة 477 واللفظ له. ولفظ البخاري وأحمد "وَيَتَمَارَى في الفُوقِ" عن أبي سعيد الخدري. قال ابن منظور في لسان العرب 6/ 309 "الفُوق: موضع الوَتَرِ من السهم". قال ابن عبد البر في التمهيد 6/ 309: "تتمارى في الفوق أي تشك، والتماري الشك. وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف عنه دون القطع عليه".

وفي الكتاب: في الإمام القدري أنه لا يصلى خلفه. قال: ولا الجمعة إن استيقنت ذلك (¬1)، وإن كنت تتقيه وتخافه على نفسك فصلها معه (¬2) وتعيدها ظهراً أربعاً. وعقب المسألة قول ابن القاسم: ورأيت مالكاً إذا قيل له في إعادة الصلاة خلف أهل البدع يقف ولم يجب في ذلك (¬3). وهذا كأنه مناقض للأول لأنه أجاب أولاً بإعادته ظهراً، ووقف بعد ذلك. وقد قال الأشياخ: إنما أعاد الأولى لأنه دخل على الصلاة تقية (¬4) فهو كالمصلي بنية الإعادة، فتجب عليه. والثاني: صلى ولا علم عنده من حال الإمام فدخل على الإجزاء، فلهذا وقف مالك في إعادته لأنه أشكل عنده في تلك الحال الأمر في كفرهم أو فسقهم (¬5). والقسم الخامس: ما يرجع إلى الجوارح؛ وهو الفاسق بجوارحه، كشارب الخمر وما في معنى ذلك من الكبائر. وفي صحة الصلاة خلف من هذه حاله قولان: أحدهما: أنها لا تصح الصلاة؛ لأنه إذا ارتكب كبيرة أمكن أن يترك ما يؤتمن عليه من فروض الصلاة كالطهارة والنية. والثاني: صحة إمامته؛ لأن فسقه غير متعلق بأحكام الصلاة. وهو خلاف في حال، وإنما ينبغي أن يعتبر حاله؛ فإن كان من أهل التهاون والاستجراء (¬6) بحيث يمكن (¬7) أن يترك بعض الفروض كما تقدم فلا تصح إمامته، وإن كان ممن اضطهره هوى غالب (¬8) إلى ارتكاب كبيرة مع براءته من التهاون والجرأة صحت إمامته، وهذا يعلم بقرينة الحال. ¬

_ (¬1) في (ق) إلا إن اتقيته في ذلك. (¬2) في (ت) فصلي خلفه. (¬3) المدونة: 1/ 84. (¬4) في (ت) لأنها صلاة على تقية. (¬5) في (ق) في كفرهم وإيمانهم، وفي (ت) بكفرهم أو بفسقهم. (¬6) في (ر) والاستهزاء. (¬7) في (ق) يخشى. (¬8) تعذرت قراءة هذه العبارة من جميع النسخ. وما أثبته هو من منقولات صاحب التاج والإكليل عن ابن بشير 2/ 92.

وإمامة السكران في حال سكره ينظر فيها هذا النظر، وفيه زيادة إذ عرقه مختلف فيه هل هو نجس أم لا؟ وهذا إنما يصح في النشو (¬1). وأما السكران على الحقيقة فهو فاقد للتمييز (¬2) فلا تصح صلاته في نفسه ولا إمامته. ولا شك أننا نمنع صحة الصلاة وراء المجنون والصبي والفاقد للتمييز. وأما الصبي المميز الذي يؤمر بالصلاة؛ ففي جواز إمامته في النوافل قولان: المشهور منعه إلا أن يكون بالغاً؛ لأنه لو قطع النافلة لم يأثم. والبالغ يأثم بقطعها بعد الدخول فيها. وكأن هذا التفاتاً إلى ما بعد الدخول. والإتمام فرض في حق الداخل، فصار المؤتم به كالمفترض وراء المتنفل. والشاذ جواز إمامته نظراً إلى ما قبل الدخول، وهي نافلة في حقهما. أما إمامة غير البالغ في الفرائض؛ وهو ممن يؤمر بالصلاة في الفريضة فلا تجوز ابتداء. فإن وقعت ففي بطلان الصلاة قولان: المشهور بطلانها لسقوط الفرض عن الصبي ووجوبه على البالغ. وقال أبو مصعب: تصح الصلاة. واحتج له بما في البخاري عن عمرو بن سلمة (¬3) أنه كان يؤم قومه وهو دون البلوغ (¬4). لكنه كان غائباً عن حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون لم يبلغه ذلك، وإنما يكون حجة لو بلغه فأقره. وقال أبو الوليد الباجي: ويحتمل هذا القول أن يكون بناء على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ويحتمل أن يكون بناء على المشهور لكون (¬5) الصبي معتقداً للوجوب، فلم يكن اقتداء مفترض بمتنفل. ... ¬

_ (¬1) في (ق) المنتبي و (ت) المنشر وفي (ر) المشار. كذا عبارة غير مفهوم. (¬2) في (ق) و (ت) و (ر) التميز. (¬3) في (ت) مسلمة. (¬4) يشير إلى حديث البخاري في المغازي 4302 عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ والذي فيه: "فَإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَليُؤَذِّن أَحَدُكُم وَلْيَؤُمَّكُم أَكْثَرُكُم قُرآناً فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي لِمَا كُنْتُ أتلَقَّى مِنَ الرُّكبَانِ فَقَدَّمُونِي بَينَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ". (¬5) في (ت) و (ق) لكن.

فصل (النقص المانع من الكمال)

فصل (¬1) (النقص المانع من الكمال) وأما النقص المانع من الكمال على المشهور من المذهب فهو (¬2) أربعة أقسام: عدم الحرية، وقد اختلف في جواز كون العبد إماماً راتباً في غير الجمعة؛ فالمشهور من المذهب كراهية ذلك التفاتاً إلى كونه (¬3) لا يصلح للخلافة ولا تكمل في حقه الفروض، إذ (¬4) تسقط عنه الجمعة عندنا والحج. والشاذ: جوازه، لتساوي حكمه وحكم الأحرار في فرضية الصلاة. والقسم الثاني: ما يلحق من نقص الأعضاء (¬5) بالأنوثية كالخصي. وفي جواز اتخاذه إماماً راتباً قولان: المشهور كراهيته، التفاتاً إلى عدم الكمال في حقه. والشاذ جوازه، التفاتاً إلى حال الصلاة. والقسم الثالث: ما يحط المنزلة، ويسرع إلى صاحبه الألسنة كولد الزنا. وقد اختلف في جواز كونه إماماً راتباً؛ فالمشهور كراهيته، والشاذ جوازه، وهو كالخلاف المتقدم. وينخرط في هذا السلك كراهية الإتمام بالمأبون (¬6) والأغلف (¬7). والقسم الرابع: اختلف في تحديده (¬8) هل يرجع إلى نقص الفروض أو إلى الجهل بالسنن. وهو ما كرهه في المدونة (¬9) من اتخاذ الأعرابي إماماً ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) فصل وساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (ت) على. (¬3) في (ق) قوله. (¬4) في (ت) قد تسقط. (¬5) هكذا في (ق) و (ت) وهو غير واضح في (ر). (¬6) في (ت) المأفون؟. قال في التاج والإكليل 2/ 104 المأبون هو: أرذل الفاسقين. وقال في حاشية ابن عابدين 4/ 72: هو من يؤتى في دبره. (¬7) الأغلف: هو الذي لم يختن. (¬8) في (ت) تحذيره. (¬9) في (ق) المذهب.

فصل (في العبد يكون إماما راتبا في جمعة)

راتباً. وأبو الوليد الباجي يرى أن العلة في الكراهية كالعلة في كراهة العبد، هو مداومته على ترك بعض الفروض كالجمعة، وإكمال الصلاة (¬1) لكثرة أسفاره. وابن حبيب وغيره من أهل المذهب يعللون لجهله بالسنن (¬2). ولو صح ما قالوه لمنعت إمامته؛ لأنه إذا جهل أحكام الصلاة كان الإتمام به معرضاً للبطلان. ... فصل (في العبد يكون إماماً راتباً في جمعة) ولا يجوز اتخاذ العبد إمامًا راتبًا في جمعة بلا خلاف في المذهب، لأنه ليس من أهلها. فإن حضرها فهل يجوز ابتداء الإتمام به؟ وهل تجزي الصلاة وراءه إن وقعت أو لا تجزي؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور أنها لا تجزي. ووقع لأشهب قولان: أحدهما: إجزاؤها إن وقعت، والثاني: جوازها ابتداء. فأما عدم الصحة فلأنها ليست فرضاً عليه. والنية (¬3) وإن قارنت الافتتاح فلا بدّ من تقدمها عليه. ولا يصح أن ينوي الوجوب بحقيقته، فيصير العبد مخيراً بين أداء الجمعة بدلا عن الظهر الواجب في حقه وبين أداء الظهر. والحر تتعين عليه الجمعة من غير تخيير فلا يصح أن يأتم ملتزم بمتخير، وهو من باب اقتداء مفترض بالمتنفل. وأما الصحة إن وقعت فنظر إلى تعيين الوجوب بالدخول. وأما الجواز ابتداء فبناء على أن سقوط الفرض في حق العبد لتعلق حق السيد، فإذا حضر موضع الجمعة فلا حق للسيد في منعه من نفس الصلاة فتصير حينئذ واجبة عليه. ¬

_ (¬1) في (ر) الفروض. (¬2) النوادر والزيادات: 1/ 287. (¬3) في (ت) عليه كالنية والنية وإن.

فصل (في بيان موقف المأموم من الإمام)

وقد اختلف المذهب هل الجمعة واجبة في الأصل في حق العبد وإنما تسقط لحق السيد، أو هي ساقطة لكن العبد يأتي بها بدلاً عن الظهر. وهذا على الخلاف بين الأصوليين في تناول الألفاظ الواردة للعبد. ... فصل (في بيان موقف المأموم من الإمام) ومقامات المقتدين بالإمام تختلف؛ فإن كنَّ نساء فخلفه (¬1) أو خلف الرجال إن كان معه رجال، كانت امرأة (¬2) واحدة أو أكثر. وأما الرجال فإن انفرد الواحد مع الإمام فمقامه (¬3) عن يمينه، فإن قام عن يساره أداره عن يمينه، وتكون الإدارة من وراء الإمام، لان كانوا أكثر من واحد قاموا وراءه. ولا فرق بين البالغ وغيره إذا كان ممن يؤمر بالصلاة ويثبت فيها (¬4). ... فصل (متى تجب نية الإمامة؟) ولا يلزم الإمام عندنا القصد إلى اعتقاد الإمامة إلا في ثلاثة مواضع وهي: الجمعة؛ لأنها لا تجوز إلا بالجماعة، وصلاة الخوف لما يفعله الإمام من الانتظار للطائفة الثانية، ومخالفة الهيئة على ما نبينه في حكم صلاة الخوف، والموضع الثالث أن يكون مأموماً فيستخلف على الائتمام، فهذا يلزمه اعتقاد ما عاد إليه لتبدل حالته. وأما المأموم فيلزمه اعتقاداً الإقتداء لأنه مكلف بمراعاة فعل الإمام، بخلاف الفذ والإمام فإنهما لا يراعيان غير فعل أنفسهما. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) تختلف فالنساء خلفه. (¬2) في (ق) و (ت) إن كانوا معه كانت مرأة. (¬3) في (م) وأما الرجل الواحد فمقامه. (¬4) في (ق) و (ت) لها.

باب في إعادة الصلاة في جماعة

باب في إعادة الصلاة في جماعة مذهب فقهاء الأمصار أن صلاة الجماعة سنة، فتجزي الفرد صلاته بلا خلاف عندهم. والدليل القاطع على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين (¬1) درجة أو سبع وعشرين درجة" (¬2)، على ما وقع في الحديث. فقد ضاعف صلاة الجماعة بالنسبة لصلاة الفذ. ولو كانت صلاة الفذ غير مجزئة لما صح تضعيف الأجر بالنسبة إليها؛ لأن الباطل كلما نسب إليه وضوعف كان باطلًا مثله لكن ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر من صلى وحده بإعادة الصلاة في جماعة (¬3)، ليكمل ما فاته من الأجر. وكأن الإنسان أمر بأن يؤدي الصلاة على صفة يحصل له بها أجر صلاة واحدة، أو على صفة يحصل له بها أجر سبعة وعشرين صلاة؛ فإن حصل أجر الواحدة كانت له الإعادة لتحصيل سبعة وعشرين (¬4). وعلى هذا النظر اختلف في الإعادة بأي نية تكون على أربعة أقوال: قيل: بنية النافلة لأن الفرض قد حصل، ومحال أن يعتقد تحصيله (¬5) بعد أن ¬

_ (¬1) في (ق) بسبع وعشرين درجة وقيل بأربع وعشرين. (¬2) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ، والذي عند البخاري في الأذان 645 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذَّ بِسبَع وَعِشرِينَ دَرجة" وفي حديث آخر عنده في الأذان 646 عَنْ أَبِي سعيد الخُدْرِيَّ أنَّهُ سَمِعَ النَبِيَّ يَقُولُ: "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذّ بِخَمْسٍ وَعشْرِينَ درَجَةً". (¬3) لعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي في الصلاة 219 عن جَابِر بْن يَزِيدَ بْنِ الْأَسوَدِ الْعَامِرِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَهُ فَصَليتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبحِ في مَسْجِدِ الْخَيفِ قَالَ: فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَانْحَرَفَ إِنَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ في أُخْرَى القَوم لم يُصَليَا مَعَهُ فَقَالَ: "عَلَيَّ بهِمَا" فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ: "مَا مَنَعَكُمَا أن تُصليَا مَعَنَا" فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَا كُنَا قَدْ صَلَّينَا في رِحَالِنَا قَالَ: "فَلاَ تَفْعَلاَ إذا صَلَّيتمَا فِي رِحَالكُمَا ثُمَّ أَتَيتُمَا مَسجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَليا مَعَهُم فَإنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ". قَالَ الترمذي: حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬4) في (ق) لتحصل السبع وعشرين، وفي (ر) السبعة والعشرين. (¬5) في (ت) و (م) يفتقر إلى تحصيله.

(الصلوات التي تعاد في الجماعة)

حصل، فيكون كأنه ابتدأ الفرض من نفسه، وذلك ليس إليه. وقيل: بنية الفرض لأنه إنما يطلب تحصيل أجر فرض مضعف، وذلك لا يحصل بنية النافلة. وهذان القولان مبنيان على صحة الرفض (¬1)؛ فمن صححه قال: يعيد بنية الفرض، ومن أبطله قال: يعيد بنية النافلة. لكن مدار (¬2) الخلاف ومأخذه ما نبهنا عليه. والقول الثالث: أنه يفوض الأمر في ذلك إلى الله تعالى ليثبت له منهما ما شاء. وهذا مذهب المدونة. والقول الرابع: أنه يعيد بنية إكمال الفرض، قاله أبو الوليد الباجي. وهو جار على القانون الذي نبهنا عليه في وجه الإعادة. وفائدة هذا الخلاف لو أعاد ثم ذكر بطلان أحد الصلاتين لكونها عارية عن شرط كالطهارة (¬3)، أو ركن كركعة، أو جزء منهما تبطل الصلاة بتركه. فإن قلنا: يعيد بنية النافلة راعينا صحة الصلاة الأولى دون الثانية، وبالعكس إن قلنا يعيد بنية الفرض فتلزمه المحافظة على الصلاة الثانية دون الأولى. كان قلنا يفوض الأمر إلى الله تعالى فيراعي صحة الصلاتين؛ لأنه لا يدري أيتهما المكتوبة. ولا شك على ما قاله أبو الوليد أنه إن بطلت الأولى لزمته الإعادة (¬4)، وإن بطلت الثانية فهو مخير؛ إن شاء اكتفى بالأولى، وإن شاء طالب (¬5) تكميل الأجر فأعاد. (الصلوات التي تعاد في الجماعة) وقد اختلف المذهب هل يعيد كل الصلوات على الإطلاق أو بعض الصلاة دون بعض على قولين: فالمشهور أنه يعيد كل الصلوات إلا المغرب ¬

_ (¬1) في (ر) الفرد، وفي (ق) الفرض. (¬2) في (ت) و (ق) مثار. (¬3) في (ق) شرط الطهارة أو ركن ركعة. (¬4) في (ق) لزمه إعادة الثانية. (¬5) في (ت) بطل.

والعشاء إذا أوتر بعدها. وقال المغيرة (¬1): يعيد المغرب. وألزمه الأشياخ إعادة العشاء وإن أوتر. وكأن المغيرة التفت إلى عموم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، لكنه عموم خرج على سبب لم تكن الصلاة المأمور بها بالإعادة شبها (¬2) إلى صلاة المغرب. وبين الأصوليين خلاف في العموم الوارد على سبب هل يقصر عليه أو يتعدى إلى غيره، وأيضاً فوجه المشهور من حيث (¬3) القياس أن أحد الصلاتين نافلة فلا بدّ أن [يشفعها] (¬4). والنافلة لا تكون بثلاث ركعات ولا بركعة واحدة. على أنه قد اختلف لو أعاد العشاء الآخرة هل يعيد الوتر أم لا؟ وهو خلاف بالإعادة بأية نية تكون وإن قلنا بنية الفرض أعاد الوتر، وإن قلنا بنية النافلة لم يعده. واختلف أيضاً إذا أعاد المغرب على القول بأنها لا تعاد؛ فقيل: يعيدها ثالثة (¬5)، وهو مذهب ابن وهب. فبذلك تحصل وتراً. وقيل: إن كان بالقرب أضاف إليها ركعة وإن تباعد لم يضف إليها شيئاً ولم يعد، وهذا هو المشهور وكأنه يرى أن إعادتها ثالثة تكثير النافلة (¬6) بثلاث، ومن منع هرب من إعادتها (¬7). وهذا إذا كان لم يعلم بقبح ما صنع إلا بعد كمال الصلاة؛ فإن علم بذلك (¬8) وهو مع الإمام فهل يقطع بعد ركعة أو بعد ركعتين، أو يتمادى؟ قولان. وهما على تغليب أحد المكروهين لأن الإعادة عنده لا تجوز وقطع الصلاة فيه مخالفة للإمام وإبطال العمل. ¬

_ (¬1) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث .. المخزومي، سمع أباه ومالك وغيرهما. خرج عنه البخاري كان فقيه المدينة بعد مالك وله كتب فقه قليلة في أيدي الناس. توفي سنة ثمان وثمانين وقيل في صفر يوم الأربعاء لسبع خلون منه سنة ست وثمانين ومائة" الديباج المذهب ص: 347 وطبقات الفقهاء ص: 152. (¬2) في (ق) نسميها. (¬3) في (ق) و (ت) جهة. (¬4) ساقط من (ر) و (ت). (¬5) كذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: ثلاثة. (¬6) في (ق) للنافلة. (¬7) في (ق) ومنه منع من إعادتها، وفي (ر) ومنه هرب عن إعادتها. (¬8) في (ر) قبل ذلك.

فصل

فصل وقد قدمنا أن صلاته قد (¬1) تجزيه. ولا شك على هذا أن من صلى فذا فلا تلزمه الإعادة في جماعة. هذا ما لم يلزمه حكم الإمام بأن يدخل المسجد؛ فإن دخله لزمته الإعادة لأنها صلاة مأمور بها في حقه فأشبهت ما لم يصله من الصلوات؛ فإنه إذا أقيمت الصلاة التي لم يصلها حرم عليه الخروج من المسجد. (حكم من دخل في صلاة النفل وأقيمت الصلاة) فإن أقيمت الصلاة وهو في المسجد يصلي فذاً، فلا يخلو أن تكون الصلاة التي هو فيها نفلا أو فرضا؛ فإن كانت نفلا، فقال في الكتاب: إن لم يركع وكان ممن يخفف في (¬2) إتمامها (¬3) ويدرك الإمام أتمها، وإلا قطعها (¬4). وإن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى، أو سلم ودخل مع الإمام. وهذا كله إذا علم أنه يدرك الإمام في الركعة الأولى. (حكم ذلك إذا كان في صلاة المغرب) فإن علم أنه لا يدركه قطعها. وهكذا في كل ما نذكره بعد من التفصيل، إنما يتمادى إذا علم أنه يدرك الإمام في الركعة الأولى. فإن كان في فرض وهي التي أقيمت عليه فلا يخلو أن يكون المغرب أو غيرها من الصلوات؛ فإن كانت المغرب فلا شك- على قول المغيرة- أنها كغيرها. وأما على المشهور فإنه إن لم يركع قطع، وإن ركع فقولان: المشهور أنه يقطع. والشاذ: أنه يضيف إليها ركعة أخرى. وهذا لتقابل ¬

_ (¬1) في (ق) بدا مجزية. (¬2) في (ر) و (ق) يخفف عليه في. (¬3) في (ق) عليه تمامها. (¬4) المدونة: 1/ 98.

فصل (إذا أقيمت صلاة غير المغرب)

المكروهين: أحدهما: التنفل قبل المغرب. والثاني: الانصراف من ركعة واحدة. وإن صلى ركعتين فقولان: المشهور أنه يضيف إليهما ثالثة لينصرف. والشاذ أنه يسلم ويدخل مع الإمام. وهذا أيضاً لتقابل المكروهين: التنفل قبل المغرب، والمخالفة على الإمام بأن يصلي غيرها الإمام (¬1) ولا يتبعه. وإن قام إلى الثالثة فلا شك على المشهور أنه يتم (¬2)، وعلى القول الثاني أنه يرجع إلى الجلوس ثم يسلم ويدخل مع الإمام. وإن ركع ولم يرفع رأسه، اختلف (¬3) على القول بأنه يسلم من الاثنتين؛ هل يتم هاهنا (¬4) أم يرجع إلى الجلوس. وهو على الخلاف في عقد الركعة هل هو وضع (¬5) اليدين على الركبتين أو رفع الرأس منها. ... فصل (إذا أقيمت صلاة غير المغرب) وإن كانت غير المغرب، فإن لم (¬6) يركع فقولان: أحدهما: أنه يكمل اثنتين ثم يدخل مع الإمام، ومذهب الكتاب أنه يقطع. وفرق بين الفرض والنفل، فقيل في الفرق وجهان: أحدهما: أنه في الفرض يقطع ليأتي بها على صفة الكمال، وفي النافلة إذا قطع لا يعود إليها. والثاني: أن التأثير إنما يكون بين متجانسين (¬7) لا بين فرض ونفل، وأيضاً أنه في الفرض لا بدّ أن يقطع على أقل مما دخل (¬8) عليه. ¬

_ (¬1) في (ر) الإمام فيه ولا يتبعه، وفي (ق) غيرها الإمام يصلي. (¬2) في (ر) يتم الثلاثة. (¬3) (ق) اختلف. (¬4) في (ر) فاختلف. (¬5) في (ر) موضع. (¬6) في (ت) ولم. (¬7) في (ر) المتجانسين. (¬8) في (ق) ما يدخل.

فصل (لا إعادة لمن صلى في جماعة)

وفي النفل إذا أتمها اثنتين فقد أتى بما استفتح عليه. وإن ركع ركعة أتم اثنتين (¬1). وإن أتم الركعتين سلم ودخل مع الإمام. وإن قام إلى الثالثة رجع إلى الجلوس وسلم ودخل مع الإمام. وإن ركع في الثالثة ولم يرفع رأسه فيجري على القولين في عقد الركعة ما هو. وإن رفع رأسه أتم أربعاً ودخل مع الإمام. ويقطع في جميع ما ذكرناه بسلام. فإن لم يسلم بطلت صلاته لأنه أضاف صلاة إلى صلاة. ولو تكلم عامداً لكان بمنزلة السلام. وإن أقيمت (¬2) غير التي هو فيها فإنه (¬3) محال على [حكم] (¬4) قضاء الفوائت من كتاب الصلاة الثاني. ... فصل (لا إعادة لمن صلى في جماعة) ولا يعيد عندنا من صلى في جماعة؛ لأن الإعادة لما قدمناه من التلافي لما فاته من الأجر بصلاته وحده. وإذا كانت الصلاة في جماعة فلا فائت يتلافى. قال ابن حبيب: إلا أن تكون الصلاة الأولى في غير المساجد الثلاثة: الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، ثم يدرك الجماعة في أحد هذه المساجد؛ فإنه يعيد لعظم الأجر في هذه بخلاف غيرها (¬5). وألزمه أبو الحسن اللخمي أن يعيد في هذه المساجد فذاً، وإن صلى ¬

_ (¬1) في (ق) أتم. (¬2) في (ق) وأما إن أقيم. (¬3) في (ر) فبينا أنها. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) هذا القول نسبه ابن أبي زيد القيرواني لمالك في النوادر والزيادات: 1/ 328.

(حكم من صلى معه صبي أو صلى بأهله)

أولاً في غيرها في جماعة لتفاوت فضل الجماعة والانفراد في غيرها (¬1). وألزمه ذلك من طريق القياس (¬2) إلا أن يقال: إنما ورد الأمر بإعادة الفذ في جماعة، وهذا عكسه. والموضع موضع عبادة فلا يتعدى به ما ورد. ويتساوى الأمر في الصلاة الأولى بين أن تحصل فيها الجماعة وجوباً ويحصل ذلك بالواحد فأكثر، أو حكماً ويحصل ذلك بالإمام يصلي في الموضع الذي عادته الإمامة فيه، ولا يصلي معه غيره فله حكم الجماعة. (حكم من صلى معه صبي أو صلى بأهله) واختلف الأشياخ في صورتين حولهما؛ لو صلى إنسان (¬3) واقتدى به صبي صغير، هل يعيد البالغ في جماعة لأن المقتدي به غير مفترض عليه فهو في حكم العدم، أو لا يعيد لأن الجماعة حاصلة؟ وقد قدمنا تردد الباجي في صلاة الصبي هل ينظر فيها إلى مقصده وهو يقصد الفرض، أو إلى حكم العدم. أو لا يعيد لأن الجماعة حاصلة. والصورة الثانية (¬4): لو صلى في داره بأهله هل يعيد إذا أتى المسجد لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - "صل معنا وإن كنت قد صليت في أهلك" (¬5)، أو لا يعيد لأنه صلى في جماعة؟ ... ¬

_ (¬1) في (ق) فصل الانفراد فيها والجماعة في غيرها. (¬2) التصرة ص: 76. (¬3) في (ق) نسيانا. (¬4) في (ق) و (ت) أو إلى حكمه عند الله تعالى وهو غير مطلوب بالفرض والصورة الثانية. (¬5) أخرج النسائي في الإمامة 857 واللفظ له، وأحمد في مسنده 4/ 34 عَنْ مِحْجَن أَنَّهُ كَانَ فِي مَجلِس مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَذَّنَ بالصَّلَاةِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَن في مَجلِسِهِ فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مَنَعَكَ أن تُصَليَ أَلَسْتَ بِرِجُلٍ مُسْلِم؟ " قَالَ بَلَى وَلَكِنَّي كُنْتُ قَدْ صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ".

فصل (لا يقتدي مفترض بمتنفل)

فصل (لا يقتدي مفترض بمتنفل) وإذا صلى وحده فلا يؤم عندنا غيره في تلك الصلاة، لإمكان أن تكون الثانية نفلاً؛ [فيكون قد أتم بمن ينوي فرضاً وهو ينوي نفلاً]، (¬1). وقد يلزم من قال إنه يعيد بنية الفرض [أن تصح إمامته. وقد أشار أبو القاسم بن الجلاب وغيره إلى خلاف في المسألة. وهذا راجع] (¬2) إلى صحة الرفض أن يؤم فيها، هذا (¬3) إذا لم يراع الخلاف، فإن أم فيها على القول بأنه لا يجوز فيعيد من ائتم به. قال ابن حبيب: ويعيدون أفراداً؛ وهذا لأن الصلاة الأولى تجزيهم عند الشافعي وغيره، فإذا أعادوها في جماعة صاروا عند هؤلاء كمعيد في جماعة بعد أن صلى في جماعة، فراعى في الإعادة مذهب المخالف لا مذهب نفسه. ... باب في تكرار الجمع في المسجد الواحد ولا خلاف أن ذلك ممنوع إذا كان للمسجد إمام راتب، واختلف في علة منعه؛ هل حماية من تطرف أهل البدع للجمع بإمامهم والامتناع من الصلاة بأئمة العدل؟ أو حماية من الأذى للأئمة بأن يترك أهل البدع أو غيرهم الاقتداء بهم إظهاراً لبغضهم (¬4). وينتج من هذا الخلاف أن الأئمة متى أذنوا في الجمع هل يجوز أم لا؟ فعلى التعليل الأول لا يجوز إلا أن يعلم براءة من يرى الجمع من كونهم مبتدعين، وعلى التعليل الثاني يجوز مع إذن الأئمة. ويستوي في هذا ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م). (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) ما أثبته هو من (ل)، وفي (ر) وقال بصحة الفرض أن يؤم هذا فيها وهذا، وفي (ت) وقال بصحة الرفض أن يؤم فيها هذا. (¬4) في (ت) إظهار بغضهم.

فصل (للأئمة حرمة يلزم مراعاتها)

حكم وجود الجماعة الراتبة بالصورة أو بالحكم كما قدمنا، مثاله إذا صلى فيه الإمام ولم يقتد به أحد، فإن كان المسجد لا إمام له راتب فأجازوا الجمع في نصوص المذهب، وذلك بيِّن إذا عللنا بإذاية الإمام (¬1). وإذا عللنا بالجماعة من تطرف المبتدعين، فينبغي أن يمنع الجمع ثانياً، إلا مع العلم بالسلامة من الابتداع. ولو كان المسجد مما يجمع فيه بعض الصلوات دون بعض فهل يجوز [فيه] (¬2) تكرار الجمع فيما ليس العادة أن يجمع فيه؟ في المذهب قولان: أحدهما: الجواز؛ لأنه في تلك الصلاة كمسجد ليس له إمام راتب. والثاني: المنع؛ لأنه له إمام راتب في بعض الصلاة [دون بعض] (¬3)، فإذا جمع في غيرها فليس لمن أتى بعده الجمع. وكأنه مبتدئ الترتيب فيما جمع فيه. وللإمام الراتب أن يجمع إذا تعدى غيره فجمع قبله (¬4) إذ لا حرمة للمتعدي. ... فصل (للأئمة حرمة يلزم مراعاتها) وينخرط في هذا السلك النظر إلى مراعاة حرمة الأئمة في حكم لزوم الاقتداء بهم لمن أقيمت عليه الصلاة وهو في المسجد. وسواء كان لم يصل تلك الصلاة أو صلاها فذاً على ما قدمناه، فإن صلى في جماعة جاز له الخروج. ومنه أيضاً المخالفة على الإمام (¬5) بأن يجلس أو يصلي وهو غير مقتد ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) بإذاء قلب الإمام. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) ساقط من (ق). (¬4) في (ت) و (ق) مبتدأ فيه بالجمع فيما يجمع فيه الإمام، وذلك ممنوع، وللإمام الراتب إذا تعدى غيره لجمع قبله. (¬5) في (ر) على الإمام على.

باب في المواضع التي تكره فيها الصلاة

به. وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن ركعتي الفجر بعد الإقامة، فقال: "أَصَلَاَتانِ مَعاً" (¬1). ولهذا قال أهل المذهب إنه لا يركع الفجر (¬2) إذا كان الإمام يصلي الصبح في المسجد، ولا في رحابه وأفنيته المتصلة به. ومن هذا القبيل أيضاً تعدي المسجد المجاور إلى غيره، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان إمامه ممن لا يجوز الاقتداء به؛ فإن فعل فلا تبطل الصلاة عندنا وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ صَلَاةَ لِجَارِ المَسْجدِ إِلاَّ فِي المَسْجِدِ" (¬3)، محمول عند فقهاء الأمصار على نفي الكمال لا نفي الإجزاء. ... باب في المواضع التي تكره فيها الصلاة وفي الترمذي وكتاب ابن سحنون عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة في سبع مواضع: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام" (¬4). والأحكام في هذه تختلف. (حكم الصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق) فأما المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق النهي عن الصلاة فيها؛ لأن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الصلاة 422 عن قيس بن عمرو، ومالك في النداء للصلاة 287 عن أبي سلمة بن عبد الرحمان. (¬2) في (ق) للفجر. (¬3) أخرجه الحاكم في مستدركه 1/ 373، والدارقطني في سننه 1/ 420، والبيهقي في سننه 3/ 111 كلهم عن أبي هريرة مرفوعاً إلا البيهقي فقد أخرجه موقوفاً على علي بن أبي طالب. (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه الترمذي في الصلاة 346، وابن ماجه في المساجد 446 و 447. ولفظ الترمذي "عَنِ ابنِ عُمَرَ أّنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي الْحَمَّام وَفِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللهِ" وقال: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ القَوَيَّ.

(حكم الصلاة في المقبرة)

الغالب نجاستها. ومن صلى فيها؛ فإن تيقن بوجود النجاسة جرى على ما قدمناه من الخلاف فيمن صلى بنجاسة أو عليها، فإن لم يتيقن بوجود النجاسة فهل يكون كالمتيقن نظراً إلى الغالب؟ هذا مذهب عبد الملك بن حبيب (¬1). أو يرجع إلى الأصل، والأصل عدم النجاسة. ولا يعيد إلا في الوقت عامداً كان أو غيره. هذا هو المشهور. وهو على ما قدمناه من النظر إلى الأصل أو إلى الغالب. (حكم الصلاة في المقبرة) وأما المقبرة؛ فإن كانت غير منبوشة وأمن في موضع الصلاة من شيء من أجزاء المقبورين (¬2)؛ ففي المذهب قولان: الجواز، وهو المشهور. والكراهية، وهو الشاذ. وكأن الكراهية التفاتاً إلى عموم النهي، ولأن أصل عبادة الأصنام اتخاذ قبور الصالحين مساجد. والجواز للأمن من ذلك على هذه الأمة، وحمل الحديث على توقي النجاسة. فإن كان في موضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين، فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فإن قلنا بنجاسته كان المصلي فيها مصلياً على نجاسة، وإن قلنا بطهارته لم يكن كذلك. ولكنه تكره الصلاة هناك كراهية لوطء أعضاء الميت. هذا في مقابر المسلمين. وأما مقابر الكفار فكره عند عبد الملك بن حبيب الصلاة فيها (¬3). وعلل بأنه حفرة من حفر النار. ولكن من صلى فيها وأمن من النجاسة فلا تفسد صلاته وإن لم يأمن كان جارياً على ما قدمناه في المصلي على نجاسة. ¬

_ (¬1) النوادر والزيادات: 1/ 220. (¬2) في (ت) القبور. (¬3) قال ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات 1/ 220: (قال ابن حبيب في من صلى في مقبرة المشركين وهي عامرة أعاد أبداً في العمد والجهل، وإن كانت دارسة لم يعد وقد أخطأ).

(حكم الصلاة في الحمام)

(حكم الصلاة في الحمام) وأما الحمام فتكره الصلاة فيه ابتداء؛ لأنه محل الأوساخ. وفي المذهب خلاف في [البخار] (¬1) المتصعد إلى أعلاه هل يكون ما يقطر منه نجس أم لا؟ وهو على الخلاف في رماد الميتة وما في معناه. وقد قدمنا سبب الخلاف في ذلك. فإن التجأ إلى الصلاة فيه، وسلم موضعه من النجاسة، صحت الصلاة. وأما معاطن الإبل؛ فقد وقع في الحديث النهي عن الصلاة فيها ونهى عنها أهل المذهب. ولكن اختلفوا في علة النهي على أربعة طرق: أحدها: أن الناس يستترون بها عند البراز؛ فعلى هذا إن أمن من نجاسة الموضع جازت الصلاة، وإن تيقنت النجاسة لم تجز. وإن لم يتيقن فكان الغالب وجودها جرى على ما قدمنا من الخلاف التفاتاً إلى الأصل والغالب. والطريقة الثانية أن العلة كونها خلقت من جان، وهذا لا يؤدي إلى منع الصلاة بل إلى كراهيتها (¬2) إن صحت. والثالثة: لزفور (¬3) رائحتها. والمستحب في الصلاة النظافة والبعد عن الأقذار، وهذا أيضاً لا يؤدي إلى المنع. والرابعة: شدة نفورتها (¬4) فلا يأمن أن يثبت على جسمه (¬5)، وإن لم يثبت فسدت الصلاة. وهذا قد يؤدي إلى المنع. وقد اختلف المذهب هل يعيد من صلى في معاطنها عامداً وإن ذهب ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) وفي (ر) و (ت) الدخان. (¬2) في (ق) بل ولا إلى كراهيتها. (¬3) في (ق) ادبور. لم أقف على معنى للزفورة يتناسب مع السياق، ولعل المقصود؛ نتن رائحتها. (¬4) في (ت) نفوزها وفي (ق) نقورها. (¬5) في (ق) حبسه.

فصل (في الصلاة فوق الكعبة وفي جوفها)

الوقت، ومثله الجاهل، وهذا رأي ابن حبيب. ولا يعيد إلا في الوقت استحباباً. وهذا الخلاف يجري على التعليل الأول بالالتفات إلى النجاسة. وجمع القاضي أبو محمد في بعض كتبه هذا التعليل فقال: لا يصلي في معاطنها، وذكر العلل الأربعة فساقها مساقاً واحداً. ... فصل (في الصلاة فوق الكعبة وفي جوفها) وأما الصلاة فوق الكعبة فالنهي عنها لمعنى آخر، وهو أن المذهب اختلف هل المقصود سمت (¬1) الكعبة أو عينها؟ وقد اختلف المذهب في الصلاة على ظهر الكعبة هل هي منهي عنها على الإطلاق؟ أو يشترط ألا يجعل عليها [بين يديه] (¬2) قائماً يقصده المصلي، والأول: رأي الجماعة، والثاني: تأويل القاضي أبي محمد على المذهب، فكأنه يرى أنه متى أقيم عليها قائم يستقبله المصلي صار كالمصلي إلى فنائها (¬3) فتكون الصلاة هناك إلى الفناء (¬4) لا إلى السمت، فهذا وإن صح له حكم الاتصال فإنه يكون المصلي إليه قد ترك بعض سمت القبلة (¬5) وراء ظهره فأشبه المصلي في الكعبة. وفي المذهب خلاف في المصلي في الكعبة هل تبطل صلاته فيعيد وإن ذهب الوقت أو تصح صلاته فلا يعيد؟ أو يعيد في الوقت دون غيره؟ وقد رواه بلال عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى النافلة في الكعبة (¬6). ¬

_ (¬1) سمت الكعبة: جهتها. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ق) و (ت) كالمصلي بفنائها. (¬4) في (ق) القائم. (¬5) في (ق) الكعبة. (¬6) أخرج البخاري في الصلاة 397 عن ابن عمر قال: سَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ: أَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الكَعْبَةِ قَالَ: نَعَمْ رَكعَتَينِ بَيْنَ السَّارَيتَيْنِ اللَّتين عَلَى يَسَارِهِ إِذا دَخَلتَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى في وَجْهِ الكَعْبَةِ رَكْعَتَينِ".

وروى ابن عباس أنه لم يصل (¬1)، وهي دخلة واحدة. لكن بناء الحديثين على أن بلالاً حكى ما رأى وشهد، وقد دخل معه - صلى الله عليه وسلم -. وحكى ابن عباس ما ظنه, لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطل الجلوس، ولقرب خروجه ظنه لم يصل. وقيل: وفيه معنى قول بلال صلى يعني صلاة لغوية وهي الدعاء؛ فمن عول على رواية بلال تأول ما حكاه ابن عباس، ورأى أن الفريضة كالنافلة في وجوب الاستقبال في الحضر مع الاختيار لم (¬2) يؤمر بالإعادة. وتأول أبو الحسن اللخمي على [رواية] (¬3) أشهب جواز الصلاة ابتداء (¬4) وهو مقتضى [هذا] (¬5) الذي ذكرناه، ومن عول على رواية ابن عباس وتأول ما حكاه بلال قال بمنع الصلاة وأوجب الإعادة بعد الوقت لوجود (¬6) الاقتصار عن استقبال القبلة. ومن صلى في جوفها لم يستقبل حقيقة. ومن ترجح الأمر عنده أمر بالإعادة في الوقت. ويحتمل أن يبني على المنع لكن إذا صلى أوقع ما اختلف الناس فيه، ولا (¬7) تجب الإعادة إلا في الوقت، أو يبني على الصحة ولكن يؤمر بالإعادة ليخرج من الخلاف احتياطاً. هذا الالتفات إلى الآثار. وأما الاعتبار فقد سلك أهل المذهب في تعليل المنع طريقين: أحدهما: أن المصلي في الكعبة مستدبر لبعضها، وقد أمر باستقبال جميعها، وهذا تعليل متقدمي أهل المذهب. والثاني: أن المصلي في الكعبة يستحيل في حقه التكليف؛ لأنه حيثما أدار وجهه كان إلى جدار الكعبة، وإنما يصح ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الصلاة 398 عنِ ابْنَ عَبَّاس قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ دَعَا فِي نَواحِيهِ كُلَّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرّجَ مِنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكعَتَينِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ. (¬2) في (ر) ولم. (¬3) ساقط من (ر) و (ت). (¬4) التبصرة ص: 79. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) لوجوب. (¬7) في (ق) فلا.

التكليف متى كان المكلف قادراً على الامتثال وتركه، وهاهنا (¬1) لا يقدر على الترك. وهذا مذهب عبد المنعم ابن خلدون (¬2). وهذا الذي قاله لا يشترط على أصلنا في التكليف، وأيضاً فإن المصلي في الكعبة قادر على الخروج منها جملة إلا أن يمنع الخروج. فيتصور ما قاله ابن خلدون. وحكم الحِجر حكم البيت وهو ما في فناء الكعبة. أصله منها (¬3)، عجزت الجاهلية عن إدخاله فيها لما بنتها بعد أن هدمها السيل. وقد أعاده عبد الله بن الزبير (¬4) إلى ما كان عليه قديماً من اشتمال الكعبة عليه لما سمعه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم عليه السلام" (¬5). فلما استولى عليه الحجاج (¬6) هدم ما بناه وأخرج الحجر فأعاده على ما بنته الجاهلية. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ر) هاهنا، وفي (م) وترك هاهنا. (¬2) هو: أبو الطيب بن خلدون عبد المنعم بن إبراهيم الكندي المعروف بابن بنت خلدون أخذ عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران الفاسي وبه تفقه اللخمي وأبو إسحاق بن منظور القفصي وغيرهم، له على المدونة تعليق مفيد توفي 432 هـ" شجرة 107 (280). (¬3) في (ق) و (ت) بناء أصلها. (¬4) هو: عبد الله بن الزبير ابن العوام بن خويلد بن أسد القرشي مسنده نحو من ثلاثة وثلاثين حديثاً كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة ولد سنة اثنتين وقيل سنة إحدى عداده في صغار الصحابة إن كان كبيراً في العلم والشرف والجهاد والعبادة وقد روى أيضاً عن أبيه وجده لأمه الصديق وأمه أسماء وخالته عائشة ... قتل بمكة على يد الحجاج سنة 73 هـ. سير أعلام النبلاء 3/ 363. (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ وهو عند البخاري في الحج 1583 عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنها زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهِا: أَلَم تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكَعبَةَ اقتصَرُوا عن قوَاعِدِ إِبرَاهيمَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ تَرُدُّها عَلَى قَوَاعِدِ إِبراهِيمَ قالَ: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ لَفَعَلتُ" وقال العجلوني في كشف الخفاء 2/ 215 بعدما ساق حديث: "لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم": "هكذا اشتهر هذا اللفظ على ألسنة الفقهاء والمعربين". (¬6) هو الحجاج بن يوسف الثقفي، قال الذهبي: "أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سافكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن ... حاصر ابن الزبير بالكعبة ورماها =

فصل (حكم من صلى إلى غير قبلة)

ولا يصلى فيه ولا في الكعبة السنن، فإن صلى فيها أو صلى فيه ركعتي الطواف فهل يكتفي بهما أو يعيدهما؟ في المذهب قولان. وهو على ما قدمناه في المصلي في الكعبة هل يعيد أبداً أم لا؟ ... فصل (حكم من صلى إلى غير قبلة) وقد تقدم أن من فروض الصلاة استقبال القبلة، وذكرنا حكم المريض العاجز. ولا خلاف بين الأمة في وجوب استقبال القبلة مع القدرة والإمكان. فإن صلى مصل إلى غير القبلة فهل يعيد؟ لا يخلو أن يكون اجتهد فأخطأ، أو تعمد، أو نسي، أو جهل؛ فإن اجتهد فأخطأ فلا يخلو أن يعيد (¬1) بعد المعرفة بخطئه (¬2) إلى يقين أم لا يأمن الخطأ في الإعادة كما لو لم يأمنه في الأولى (¬3)؟ فإن رجع إلى [اليقين في الاستقبال فإنه يعيد في الوقت (5)، وهل يعيد] (¬4) بعد الوقت؟ قولان. فظاهر الكتاب أنه يعيد في الوقت (¬5)، ولأصبغ وغيره أنه يعيد وإن خرج الوقت، وهو على الخلاف في حصول العذر بالاجتهاد. وإن انتقل إلى الاجتهاد مع القدرة على طلب اليقين أعاد أبداً بلا خلاف. ¬

_ = بالمنجنيق وأذل أهل الحرمين تولى على العراق والمشرق كله عشرين سنة ... نسبه ولا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله وله توحيد في الجملة ... " سير أعلام النبلاء ج: 4 ص: 343. (¬1) في (ر): يعود. (¬2) في (ق) بخطابه. (¬3) في (ق) الأداء. (¬4) خرم في (ت) وفي (ر) و (ق) و (م) "يقين ويتصور فيمن كان في جبال مكة وشعابها أو بالقرب منها بحيث يرجع إلى يقين استقبال القبلة فإن كان ممن يباح له الاجتهاد وأخطأ في اجتهاده ففي إعادته". وما أثبته من (ل). (¬5) المدونة:1/ 93.

(كيفية الاجتهاد في معرفة القبلة)

قالوا: وهكذا يجري الحكم في مدينته - صلى الله عليه وسلم - إذ كون قبلتها صحيحة مقطوعاً بها؛ لأن جبريل عليه السلام أقامها (¬1) وألحق بهذا المتأخرون من أهل المذهب بيت المقدس. ولو اجتهد فتبين له أنه استدبر القبلة؛ فإنه يعود هاهنا إلى يقين كون القبلة في غير الجهة التي استقبلها. (كيفية الاجتهاد في معرفة القبلة) وكيف الطريق إلى الاجتهاد؟ أما العارف بأحكام الطوالع والمغارب وعروض البلاد ونسبتها إلى الكعبة فيحال إلى معرفته في حق هذا. والطريق إلى المعرفة في هذا أدق ويطول. ولكن يتوصل منها إلى اليقين، أو ما يقاربه. وأما غير هذا فقد قرب إليه بأن ينظر إلى نهاية الشمس في منتهى أرتفاعها في وسط النهار، فيقوم قائماً فينظر إلى ظله فيعلم أنه أخذ من القبلة إلى الدبور. وهذا لا يتحصل منه ما يقارب اليقين لاختلاف الظلال في البلاد وبالشتاء والصيف. وأوضح من هذا أن ينظر إلى القطب (¬2) الشمالي وهو: نجم خفي يدور عليه بنات نعش (¬3) وهو: وسط السمكة (¬4) فيجعلها على كتفه الأيسر ثم يستقبل الجنوب فيكون وجهه إلى القبلة. فهذا صحيح في قطر الشام والمغرب (¬5). فإن فقد هذا بوجود السحاب استدل بالجبال والرياح، فإن عميت عليه طرق الأدلة فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يصلي أربع صلوات إلى الجهات الأربع لأنه لا يأمن الخطأ في أحدهما: والثاني: أنه يختار جهته فيصلي إليها. وهذا لأن الواجب في ذمته صلاة واحدة، وهو ¬

_ (¬1) في (ت) إتمامها. (¬2) في (ر): القبض. (¬3) جاء في لسان العرب 6/ 355: بنات نعش: سبعة كواكب أربعة منها نعش لأنها مربعة وثلاثة بنات نعش؛ نيل شبهت بحملة النعش في تربيعه. (¬4) هي: كواكب كثيرة صغار على صورة السمكة يقال لها: بطن الحوت وفي سرتها كوكب نير ينزله القمر. انظر لسان العرب: 6/ 355. (¬5) قلت: لا يمكن أن يتفق الشام في اتجاه القبلة مع المغرب لأن أهل الشام يصلون إلى الجنوب وأهل المغرب إلى المشرق.

فصل (حكم من أعاد الصلاة ولم يتيقن بالجهة)

معذور لخفاء الأدلة (¬1). وقد حمل على هذه الصورة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬2). ... فصل (حكم من أعاد الصلاة ولم يتيقن بالجهة) وإن كان لا يأمن الخطأ في الإعادة بأن يكون اجتهد في غير مكة والمدينة فأخطأ بأن شرَّق أو غرَّب، فالمنصوص من المذهب أنه لا يعيد إلا في الوقت؛ لأنه يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد. وهذا أوضح في حق غير العارف. فأما العارف فكما قلناه. ويتصور في رجوعه إلى اليقين، لكن أحكام الشريعة لا تبنى على الالتفات إلى معرفة مثل هذا، وإنما تبنى على ما يذكره الجمهور. وفي المذهب (¬3) قولان في الالتفات إلى نوادر بعض الصور. وأشار بعض البغداديين إلى أن من أدرك العلم برؤية الأهلة بحسابه أنه (¬4) يصوم على حسابه. وهذا من ذلك القبيل. ومن استقبل غير القبلة ناسياً؛ فظاهر المذهب أنه يعيد وإن خرج الوقت، ولا شك في ذلك في العامد، وهكذا حكم الجاهل. وحكى أبو الحسن اللخمي قولين في الناسي (¬5)، فكذلك [في] (¬6) الجاهل هل يعيد كل واحد منهما في الوقت وبعده؟ ولا يوجد (¬7) خلاف في ذلك، وإن ما يقع في هذا الباب محمول على المجتهد، وهكذا حمله أبو الحسن اللخمي (¬8). ¬

_ (¬1) في (ق) لخفاء الأدلة عليه. (¬2) البقرة: 115. (¬3) في (ت) المدونة. (¬4) في (ت) له أن. (¬5) التبصرة ص: 78. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ق) ولا يوجد نص خلاف. (¬8) في (ق) و (ت) أبو الحسن القابسي.

باب فى حكم وقت الضرورة وما يتعلق به من النظر في صلاة أهل الأعذار

باب فى حكم وقت الضرورة وما يتعلق به من النظر في صلاة أهل (¬1) الأعذار وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ (¬2)، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ" (¬3)، ولا خلاف في تناول (¬4) الحديث لأصحاب الضرورة. وهل يتناول أهل الاختيار؟ في ذلك قولان يأتي بيانهما. واختلف أيضاً في الركعة المشار إليها هل هي كمال الركعة بسجدتيها، وهو المشهور؟ أو مجرد الركوع، وهو مذهب أشهب؟ وهذا على الخلاف في الألفاظ الواردة هل تحمل على العرف الشرعي أو على مقتضاها لغة؟ فمن حملها (¬5) على العرف الشرعي حصل (¬6) منه المشهور، ومن حملها على مقتضى اللغة حصل منه القول الشاذ. ويلتفت (¬7) هذا إلى الخلاف في حمل الألفاظ على الأقل أو على الأكثر. وقد قال المحققون في الانتصار (¬8) للمشهور إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مُدْرَكَ الصلاة قبل الطلوع أو قبل الغروب بالركعة لأن الركعة صلاة كاملة؛ فيها تكبير وقيام وقراءة وركوع وسجود، وهذه (¬9) جملة أحكام الصلاة. ثم الركعات بعدها تكرير لهذه الأفعال من غير زيادة، وإنما تكررت لحصول تأثيرها في النفس وهي في ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) أصحاب. (¬2) في (ر) "صلاة الصبح" بزيادة صلاة. ولم أقف على هذه الزيادة في أي من كتب الحديث التي وقفت عليها. (¬3) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 579، ومسلم في المساجد 608 واللفظ له. (¬4) في (ت) و (ق) تأويل. (¬5) في (ت) مقتضى اللغة ممن حملها. (¬6) في (ر) و (ت) جاء. (¬7) في (ق) ويلتف. (¬8) في (ق) الاختصار. (¬9) في (ر) وهذا.

[فصل] (أصحاب الأعذار الخمسة)

معنى الأول قطعاً، فالمدرك للركعة حصلت له جملة الصلاة في الوقت، وتحصيل المقصود من التأثير بالتكرير بعد الوقت، ولا يكون ذلك مفيتاً للصلاة. ... [فصل] (¬1) (أصحاب الأعذار الخمسة) وأصحاب الأعذار [هم] (¬2) خمسة: الحائض تطهر، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وفاقد عقله يفيق، والناسي يذكر. وهؤلاء إذا بقي لهم من الوقت الضروري الذي حددناه في أول الكتاب مقدار جملة الصلاة أو ركعة منها على ما حددناه من الاختلاف وجب عليهم القضاء (¬3). وهل يقدر لهم للإدراك بعد كمال تحصيل شروط الصلاة؟ أما الحائض فيقدر لها ذلك بلا خلاف، وأما ما عدا ذلك (¬4) ففي تقدير ذلك قولان. وقد اختلف المتأخرون هل يجري الخلاف في الحائض ويكون سببه في الجميع هل الطهارة شرط في الوجوب فلا يلزم هؤلاء الصلاة إلا لبقاء ركعة بعد كمال الطهارة، أو شرط في الأداء فيراعى زوال الأعذار دون أن تحصل الطهارة؟ أو لا يجري الخلاف فيها فيكون الفرق بين الحائض وبين من ذكر معها أن الكافر قادر على أن يشهد بالشهادة في أول النهار فلا يرخص له من جهة أنه متعذر. وهذا يجري على الخلاف فيه هل هو مخاطب بفروع الشريعة فلا يراعى إلا زوال عذره، أو هو غير مخاطب فيراعى كمال طهارته؟ والصبي كان ممن خوطب بالصلاة قبل البلوغ مخاطبة مثله إذ يؤدب على تركها. فمن التفت إلى هذا لم يراع إلا زوال عذره ووجود الاحتلام. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق) و (ت). (¬2) ساقط من (ق) و (ر) و (ت). (¬3) في (ق) القضاء بلا خلاف. (¬4) في (ت) وأما ما عداها.

ففي المذهب قولان في الصبي يبلغ بعد أن أدى الصلاة في أول الوقت ويكون بلوغه في الوقت. هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ وإسقاط الإعادة يقتضي أنه مخاطب بالصلاة في أول الوقت؛ فمن التفت إلى هذا قال بمراعاة زوال العذر كما قدمنا، ومن التفت إلى حقيقة الوجوب وأنه لا يحصل إلا بعد البلوغ راعى تحصيل الغسل. وللفاقد للعقل قد قال بعض المخالفين يجب عليه القضاء، فمن التفت إلى هذا الخلاف لم يراع إلا زوال عذره. ولا خلاف في الحائض أنها غير مخاطبة بالصلاة في حال الحيض ولا تقضيها، فلهذا اتفق على مراعاة تحصيل الغسل. وإذا راعينا (¬1) ذلك فيراعى فيه القدر المأمور به دون مراعاة حال المتطهر في وسوسته وتطويله. ولا خلاف في الناسي يذكر، أنه لا يراعي إلا زوال عذره دون تحصيل الشروط. وظاهر حكم الصلاة الواحدة كالصبح أنه يراعى بقاء ركعة لطلوع الشمس. فإن كان في الذمة صلاتان كالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء؛ فأما الظهر والعصر فاشترط أن يدرك جميع صلاة (¬2) الأول، وركعة من الآخر. وذلك مقدار خمس ركعات للحاضر وثلاث ركعات للمسافر. وأما المغرب والعشاء؛ فإن أدرك جميع الأولى وركعة من الآخرة كان مدركا للصلاتين. وهذا كأربع ركعات في حق المسافر (¬3). وأما الحاضر يدرك أربع ركعات والمسافر يدرك ثلاثاً ففي سقوط الأول من الذمة قولان. وسبب الخلاف هل يجعل الوقت الذي زال فيه العذر لأول الصلاتين أو لآخرتيهما؛ فإن جعلنا الوقت للآخرة سقط المغرب في حق الحاضر يدرك أربع ركعات ووجبت الصلاتان في حق المسافر يدرك ثلاثاً، وإن ¬

_ (¬1) في (ق) راعينا تحصيل. (¬2) في (ر): الصلاة. (¬3) في (ت) وهذا كما لو أدرك المسافر منها أربع ركعات.

فصل (متى يجب على الحائض قضاء الصلاة)

جعلنا (¬1) الوقت لأول الصلاتين وجبت الصلاتان في حق الحاضر يدرك أربع ركعات وسقطت الأولى في حق المسافر يدرك ثلاثاً. فهو على الخلاف في الاشتراك لأصحاب الضرورات هل يقدر من أول وقتي الصلاتين أو بعد مضي زمان مقدار الأول. وعلى هذا الخلاف لو صلت العصر أولاً ثم حاضت وقد بقي مقدار أربع ركعات هل يسقط الظهر لأن هذا الوقت مستحق لها، أو تكون مقررة (¬2) في ذمتها لأن هذا الوقت مختص بالعصر ووقوعها أولاً قبل الظهر كأنها وقعت في غير محلها؟ ... فصل (متى يجب على الحائض قضاء الصلاة) وقد قدمنا ما في المذهب من مراعاة تحصيل الشروط لأصحاب الأعذار. فلو حصل للحائض تطهير أو لغيرها التطهر ثم أحدثت، وكانت إذا أعادت الطهر فات وقت الصلاة، فالقضاء واجب عليها باتفاق. لأنها بعد التطهر مطلوبة بالصلاة. فإحداثها كإحداث من هو مطلوب بالصلاة، وقد تعينت عليها فيجب عليها العودة للتطهر (¬3) وقضاء الصلاة. ولو تطهرت بماء نجس ثم علمت به بعد أن أكملت طهرها وكانت لو أخذت في الظهر لانقضى الوقت، فهاهنا قولان: أحدهما: وجوب القضاء في ذمتها. والثاني: نفيه وهذا على الخلاف في المخطىء مجتهداً هل يعذر بخطئه؟ وذلك إنما يتصور إذا لم يكن الماء متغير أحد الأوصاف أو كان متغيراً بنجاسة فظن أنه متغير لقراره (¬4). ولو علمت بتغيره لم يكن إشكال في ¬

_ (¬1) في (ر) جعل. (¬2) في (ق) و (ر) مقدرة. (¬3) في (ق) التطهر. (¬4) في (ق) أنه تغير بقراره وفي (ت) متغير من قراره.

[فصل] (تعويل أصحاب الأعذار على التقدير)

وجوب القضاء عليها. ويجري على قول من حكم بطهارة الماء حلته النجاسة ولم تغير أحد أوصافه أن تصلي هذه (¬1) من غير إعادة. وعلى قول من جعله مشكوكا فيه أن تصلي به ثم تتطهر (¬2) بغيره وتصلي إن وجدت. وإن لم تجد فيجري على الخلاف هل تصلي به وبالتيمم صلاة واحدة، أو بكل واحد منهما صلاة على ما قدمنا؟ ويظهر هاهنا أنها إذا ذكرت ذلك بعد التطهر به أنها تتيمم وتصلي (¬3) صلاة واحدة لحصوله في الأعضاء. ... [فصل] (¬4) (تعويل أصحاب الأعذار على التقدير) وأصحاب الأعذار يعولون على (¬5) التقدير بغلبة الظن؛ فإن ثبت في ظنونهم أن الوقت بقي منه ما يدركون (¬6) به الصلاتين جميعاً كما قدمناه عولوا على ما ثبت في ظنونهم، فإن قدرت الحائض مثلاً أن الوقت بقي منه مقدار خمس ركعات فعولت على صلاة الظهر والعصر، فلما صلت ركعة (¬7) غربت الشمس، أنها تنصرف من صلاة الظهر وتصلي العصر. وهل الأولى انصرافها من شفع أو تقطع بعد وتر إن شاءت؟ في المذهب قولان. وهاهنا التمادي إلى الشفع مأمورة (¬8) به لحق الابتداء، والقطع مأمورة (¬9) به لحق الصلاة الواجبة حقيقة. وفي العصر فيمن تقابل ¬

_ (¬1) في (ت) أن تصلي عند من غير. (¬2) في (ر) وتتطهر. (¬3) في (ق) تصلي به. (¬4) هذا الفصل والفصلان المواليان له ساقطون من (ر). (¬5) في (ق) يقولون إن التقدير. (¬6) في (ت) يدرك. (¬7) في (ق) ركعتين من الظهر. (¬8) في (ت) مأمور. (¬9) في (ت) مأمور.

فصل (هل يبتدأ بالحاضرة أو المنسية عند ضيق الوقت)

عنده الأمران خُيِّرَ، ومن ترجح عنده حكم الابتداء (¬1) وكان الانصراف على وتر عنده ممنوعاً أمر بالتمادي. ولو قدرت بالعكس فظنت أن الباقي من الوقت يسع الصلاة الثانية دون الأولى فبدأت بالثانية ثم ظهر لها اتساع الوقت للصلاتين فلا يخلو أن يظهر لها ذلك في الصلاة أو بعد كمالها؟ فإن ظهر في الصلاة انصرفت عنها وأتت بالأولى ثم بالثانية. وهل تنصرف على شفع؟ يجري على الخلاف الذي قدمناه. وإن ظهر (¬2) ذلك بعد كمال العصر، أعادت الظهر. وهل تعيد العصر؟ قولان. وهذا على (¬3) ما قدمناه في الوقت. وهل يقال إن أوله مستحق للأولى لا تشاركها الثانية فيه فيجب عليها هاهنا قضاء الصلاتين جميعاً، لأن الزمان الذي طهرت فيه مقدر بالزوال في حق المختار. فإذا أدت فيه صلاة العصر فكأنها أوقعتها في وقت الظهر المختص بها، فلا تجزيها. ويقال: إن الوقت يقع فيه الاشتراك من بدايته إلى نهايته، فصارت موقعة للصلاة في وقتها حقيقة فتجزيها وتعيد الظهر. فتكون كأنها صلت صلاة العصر وأكملته، ثم ذكرت ظهراً من يوم ثان ولم يبق من الوقت إلا مقدار ما يسع الصلاة المنسية، فإنها لا تعيد العصر. وأما لو صلت العصر ناسية الظهر ولا حيض بها أو غيرها من سائر الناس ثم ذكرت الظهر، ولم يبق من الوقت إلا ما يسع الظهر خاصة فهل تعيد العصر؟ قولان وهما على ما قدمناه أيضاً. ... فصل (هل يُبْتَدَأ بالحاضرة أو المنسية عند ضيق الوقت) ولو بقي من الوقت مقدار صلاة واحدة ثم ذكر أصحاب الأعذار صلاة منسية. فهل يبتدؤون بالحاضرة أو بالمنسية؟ قولان توجيههما محال على ¬

_ (¬1) في (ق) الابتداء أو القطع. (¬2) في (ق) وإن ذكرت ذلك. (¬3) في (م) حاصل.

فصل (حكم المسافر يقدم والحاضر يسافر)

حكم قضاء الفوائت. وإذا قلنا بالابتداء بالحاضرة -وهو الشاذ- فلا شك أن هؤلاء يصلون الحاضرة ثم المنسية بعد الوقت. فإذا قلنا بالابتداء بالمنسية فضاق الوقت على قضائها فهل عليهم قضاء الحاضرة بعد الوقت؟ [قولان: أحدهما: وجوب القضاء لتوجبه الصلاة في] (¬1) الوقت، وإنما بدئ بالمنسية لحق الرتبة (¬2) في الصلاة المنسية. والثماني: سقوط القضاء؛ لأن الوقت [مستحق للمنسية ولم يبق للحاضرة بعده شيء. وكان الأعذار إنما ارتفعت بعد خروج الوقت (¬3). ... فصل (حكم المسافر يقدم والحاضر يسافر) وقد ألحق أهل المذهب بأصحاب الأعذار المسافرَ يقدُم وقد [بقي من النهار مقدار خمس ركعات فيؤدي الصلاتين حضريتين (¬4). والحاضر يسافر وقد بقي من النهار مقدار ثلاث ركعات فيؤديها سفريتين؛ فهذا يقتضي تنزيل قوله - صلى الله عليه وسلم -:"من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة" الحديث (¬5) كما تقدم على عمومه في أصحاب الأعذار. والاختيار يقتضي هذا من قولهم أن مؤخر الصلاة إلى أن يبقى من الوقت مقدار ركعة مؤد غير قاض. وحكى أبو الحسن اللخمي الاتفاق على تأثيم من فعل ذلك عمداً. وما قاله أهل المذهب في حكم الحاضر والمسافر يقتضي خلاف ¬

_ (¬1) غير واضح في (ت). (¬2) في (ق) الترتيب. (¬3) غير واضح في (ت). (¬4) غير واضح في (ت). (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 579، ومسلم في المساجد 608 بلفظ قريب ولفظ مسلم: "مَن أَدّرَكَ رَكعَة مِنَ الصُّبح قبلَ أَن تَطلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةَ مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ".

فصل (هل يحصل انعكاس الأمر بطرء الأعذار)

قوله. وما قاله أيضاً يشبه قول أبي إسحاق التونسي أن من أخر صلاة العصر إلى الاصفرار يكون آثماً مع كونه مؤدياً. ولا يتفق الأداء والتأثيم؛ لأن معنى الأداء موافقة الأمر، والتأثيم إنما يحصل لمخالفته. فكان بعض الأشياخ (¬1) يقول: لو قيل إن مؤخر الصلاة عن الأوقات التي حددها جبريل عليه السلام في صلاته بالنبي عليه السلام يكون آثما لكان صواباً. وما ورد من الجمع بعرفة والمزدلفة، والجمع في السفر والمرض والمطر، فذلك يقتضي اختصاص هذه الأوقات بهذه الضرورات ولا يلحق بها غيرها. وإلى هذا يميل أبو الحسن اللخمي (¬2). وهو مذهب الإصطخري (¬3) من أصحاب الشافعي. ولكن الجمهور على خلافه، معولين على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر الحديث"] (¬4). ... فصل (هل يحصل انعكاس الأمر بطرء الأعذار) وقد قدمنا حكم ارتفاع الأعذار. وهل يحصل (¬5) انعكاس الأمر بطرء (¬6) الأعذار؟ أما الحائض فظاهر انعكاس الأمر فيها بأن تكون طاهراً (¬7) فتحيض أو حائضاً فتطهر. وكذلك العاقل يجن، والمجنون يفيق، والحاضر ¬

_ (¬1) في (ق) وكان بعض أشياخي. (¬2) في (ق) سبيل أبي الحسن اللخمي رضي الله عنه. (¬3) هو: الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد الإصطخري شيخ الشافعية ببغداد ومحتسبها, له مصنفات مفيدة منها أدب القضاء توفي في ربيع الآخر وقيل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر طبقات الشافعية 2/ 109 وسير أعلام النبلاء 15/ 250. (¬4) آخر السقط من (ر). (¬5) في (ق) يصح. (¬6) في (ق) بطرق. (¬7) في (ر) طاهرة.

يسافر، والمسافر يحضر، والذاكر ينسى. ويتصور في هذا الطردُ والعكسُ دون غيره، ولا يصح بعد الوقت. ولا يصح ذلك في الصبي يحتلم ولا ينعكس الأمر في حقه، ولا الكافر يسلم. وأما الناسي يذكر فيتصور انعكاس الأمر في حقه. لكن إن نسي بعد ذكره فلا يسقط عنه قضاء الصلاة، بخلاف الطاهر تحيض، والعاقل يفقد عقله. وما قالوا أيضاً في الطاهر والعاقل يقتضي كونهما مؤديين وإن أخرا الصلاة حتى لو لم يبق إلا [مقدار] (¬1) ركعة واحدة. لذلك ما وجبت الصلاة في ذمتيهما متى ظهرت أعذارهما ولو لم يبق إلا مقدار ركعة في حق الصلاة الواحدة أو صلاة كاملة، وركعة في حق الصلاتين جميعاً. ثم يجري الخلاف في هذين وفي المسافر يقدم والحاضر يسافر إذا بقي لطلوع الفجر أربع ركعات، أو ثلاث ركعات على ما قدمنا من الخلاف في جعل (¬2) الوقت لآخر الصلاتين أو لأولهما. ولو أخرت الطاهر مثلاً العصر حتى لم يبق إلا مقدار ركعة واحدة فقامت تصليها، فلما أكملتها وغربت الشمس حاضت قبل إكمال الصلاة، فهل يجب عليها قضاء هذه الصلاة لأنها حاضت بعد (¬3) وقتها أو لا يجب عليها قضاؤها؟ في ذلك قولان. ومثار هذا الخلاف في مدرك ركعة من الوقت هل يكون مؤدياً لجميع الصلاة؟ وهو مقتضى سقوط القضاء عنها، أو مؤدياً للركعة وقاضياً للثلاث (¬4) الواقعة بعد الوقت، وهو مقتضى وجوب القضاء عليها. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) في (ق) في من جعل. (¬3) في (ق) قبل. (¬4) في (ق) لثلاثة و (ر) لثلاث.

باب في حكم ستر العورة وخصوصها بالصلاة

باب في حكم ستر العورة وخصوصها بالصلاة (تعريف العورة لغة) والعورة في اللغة (¬1) هو ما يحاذر الإنسان التطرق إليه منه، والنظر إليه والتطلع عليه. قال الله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} (¬2)، ومعنى ذلك ما يحاذر الاطلاع عليه، وهو مقصودنا (¬3)، وما يحاذر النظر إليه. والنظر في هذا الباب في ثلاثة أركان: أحدها: [ما هي] (¬4) العورة؟ والثاني: متى يجب عليه سترها؟ والثالث: في المقدار الساتر لها. (ما هي العووة؟ وذكر الخلاف في تحديدها) فأما العورة ما هي؟ فإن المكلفين صنفان: رجال ونساء، والنساء قسمان: أرقاء وحرائر (¬5). فأما الرجال فاجتمعت الأمة على أن السوأتين منهم عورة، واختلفوا في ما عدا ذلك. وفي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: لا عورة إلا ما ذكرناه. والثاني: العورة من السرة (¬6) إلى الركبة، والسرة والركبة داخلتان في ذلك. والثالث: هذا التحديد، ولكن السرة والركبتين غير داخلتين. ومثار هذا الخلاف اختلاف ظواهر [الآثار] (¬7) "فأجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في (ق) والعورة في الفقه ما يحاذر. (¬2) الأحزاب: 13. (¬3) في (ق) وهي في مقصودنا هذا. (¬4) ساقط من (ر) و (ت). (¬5) في (ر): أحرار. (¬6) في (ق) ما بين السرة. (¬7) ساقط من (ق).

فرساً (¬1) حتى بدا فخذه" (¬2)، وكان جالساً بين جماعة من أصحابه وركبته مكشوفة حتى دخل عثمان بن عفان فغطاها، فأعلم أنه استحيت منه ملائكة السماء رضي الله عنه (¬3)، وهذا يدل على أنها ليست بعورة ولكن تغطيتها من باب الأولى. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (¬4) لجرهد (¬5): "غط فخذك فإنه عورة" (¬6)، وهذا نص. ولكن ذكر البخاري رحمه الله أن سند الحديث الأول أقوى، وهو يحتمل أن يكون بدا منه فخذه - صلى الله عليه وسلم - وهو غير عالم بذلك، ويحتمل الحديث الآخر أن يكون غافلاً عن كشف ركبته حتى دخل عثمان رضي الله عنه فنبهه لذلك. لكن هذا الاحتمال فيه بعد. وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد التحفظ ومحفوظ من كشف ما لا يسوغ كشفه، ولما كشف عورته في حال الصبا يستعين بذلك على نقل الحجارة لبناء الكعبة سقط إلى الأرض وفتحت (¬7) عيناه إلى السماء فلم ير بعد ذلك مكشوف العورة. فهذا يدل على أنه كان محفوظاً مما ذكرناه في تأويل الحديثين المتقدمين. وبالجملة فمثار الخلاف الترجيح بالنص (¬8) الذي لا يحتمل التأويل أو ¬

_ (¬1) هكذا في سائر النسخ، وفي (ل) اختلاف في ظاهر ما جرى في ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجرى فرساً. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرج مسلم في فضائل الصحابة 2401 عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُضطجِعاً فِي بَيْتِي كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أبو بَكْر فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَثَ ثُمَّ استَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَوَّى ثِيَابَهُ قَالَ: مُحَمَّدٌ وَلاَ أَقُولُ ذَلِكَ في يَوْم وَاحِدٍ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَت عَائِشَةُ: دَخَلَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبُالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثمَانُ فَجَلَستَ وَسَوَيتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: "أَلاَ أَستَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الملَائِكَةُ". (¬4) في (ق) وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنحو هذا. (¬5) هو الصحابي الجليل جرهد بن رزاح بن عدي الأسلمي توفي سنة61. انظر الإصابة 1/ 548. (¬6) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وهو عند الترمذي في الأدب 2796 "غَطِّ فَخِذَكَ فَإنهَا مِنَ الْعَوْرَة" وقال الترمذي: "هَذَا حَدِيثْ حَسَنٌ". (¬7) في (ر): وطمحت. (¬8) في (ت) التنصيص و (ر) بالتنصيص.

فصل (متى يجب ستر العورة؟)

صحة (¬1) السند. وبين الأصوليين خلاف في أيهما يقدم. هذا النظر في الآثار, وأما الاعتبار فالرجوع فيه إلى العوائد؛ فما جرت العادة أنه يستر منه (¬2) ويحاذر من انكشافه فهو عورة. فلا شك في المحاذرة من انكشاف السوأتين. وتختلف العوائد فيما عداهما مما ذكرنا من الخلاف. ولهذا قال أبو حنيفة: إن العورة على قسمين: مثقلة وهي السوأتان، ومخففة وهي ما عداهما. مراده أن الإعادة (¬3) تجب في كشف السوأتين دون ما عداهما. وروى أبو الوليد الباجي أن المذهب يشير إلى ما قال أبو حنيفة. وقد قالوا في الرجل يصلي بادي الفخذ أنه يعيد في الوقت في قول، ولو كان بادي السوأتين أعاد أبداً. وفي الحرة تصلي بادية الشعر أو ظهور القدمين تعيد في الوقت، فإن بدا غير ذلك مما لا تبديه لذوي المحارم أعادت أبداً. وقالوا في الأمة تصلي بادية الفخذ إنما تعيد في الوقت، بخلاف الرجل فإنه لا يعيد. وهذا كله يقتضي انقسام العورة إلى ما قاله أبو حنيفة. وأما الأرقاء فحكمهم حكم الرجال الأحرار ذكوراً كانوا أو نساءً. وقد ذكرنا حكم الأمة. وأما ستر الحرائر؛ فيجب عليهن ستر سائر أجسادهن إذ كلهن عورة إلا الوجه والكفين؛ فلا يجب عليهن سترها في مقصودنا، وهو الصلاة. ... فصل (متى يجب ستر العورة؟) وأما متى يجب عليه ستر العورة؟ فيجب عن أعين الإنسان بإجماع (¬4). ¬

_ (¬1) في (ر) وحجة. (¬2) في (ق) العوائد فالمعتاد أن يستر ويحاذر. (¬3) يعني إعادة الصلاة. (¬4) في (ق) وأما الستر فيجب ستر العورة عن أعين الإنس بإجماع.

(حكم العاجز عن ستر العورة)

وهل يجب في الخلوة لحرمة الملائكة؟ حكى (¬1) أبو الحسن اللخمي استحبابه (¬2). والذي سمعناه في المذاكرات القولين؛ الوجوب والندب. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "إِياكم وَالتعَرَّيَ فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لاَ يُفَارِقُكُم"، (¬3)، يعني الملائكة. ثم قال في آخر الحديث: "فَاستَحْيُوهُمْ وَأَكَرِمُوهُمْ"، هذا أمر. وبين الأصوليين خلاف في مقتضاه هل الوجوب أو الندب. وأيضاً فمن أوجب قاس على الإنسان، ومن أسقط الإيجاب رأى أن التزامه من المشقة التي تسقطها الشريعة السمحة. وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين: هل يجب (¬4) ستر العورة في الصلاة أو ليس (¬5) كذلك، إذا كان المصلي في الخلوات حيث لا ناظر (¬6). وإنما عوَّل على قول من قال من أهل المذهب: من صلى بادي العورة أعاد في الوقت، وليس كما ظنه". وإنما المذهب على قول واحد في وجوب الستر. لكن الخلاف في وجوب الإعادة في الوقت، أو فيه وبعده على الخلاف في ستر العورة هل هو من شروط الصحة أم لا؟ فإذا تقرر هذا قلنا: لا يخلو مريد الصلاة من أن يكون عاجزاً عن الستر أو قادراً. (حكم العاجز عن ستر العورة) فإن كان عاجزاً فلا يخلو أن يكون بحيث لا آدمي ينظر إليه، أو بحيث ينظر إليه. وهذا لا يخلو إما أن يكون في ليل أو نهار. فإن كان ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) وحكى. (¬2) التبصرة ص: 82. (¬3) أخرجه الترمذي في الأدب 2800 عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وقال: "هَذَا حدِيثٌ غرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجهِ". (¬4) هكذا في سائر النسخ ولعل الصواب (في مسألة ستر العورة في الصلاة هل تجب أم لا؟). (¬5) في (ر) وليس. (¬6) التبصرة ص: 82.

عاجزاً أو لا ناظراً صلى على حالته باتفاق ولا يسقط عنه فرض من الفروض إلا ما عجز عنه من ستر العورة. وهذا (¬1) حكمه إذا كان في ليل مظلم يأمن النظر إليه. فإن كان هناك جماعة وأرادوا الجمع جمعوا وتقدمهم إمامهم إن علموا أن الظلام ساتر. وإن كان الأكمل في الستر أن يصلوا صفاً واحداً صلوا كذلك. وإن كان النهار أو الليل المقمر والناظر موجود، فإن أمكنهم التباعد حتى يصلوا بموضع لا ينظر بعضهم إلى بعض طلبوا ذلك الموضع، ولا يصلوا جماعة إن خافوا مع الجمع نظر بعضهم إلى عورة بعض. ولا فرق في هذا بين الرجال والنساء. وإن جمعهم موضع ولم يمكنهم التباعد، فهل ينتقلون إلى الجلوس والإيماء أو يصلون قياما ويؤمر كل واحد منهم أن يغض بصره؟ هاهنا للمتأخرين قولان. وسببهما تغليب أحد المكروهين؛ فالقيام والركوع والسجود فرض، والستر عن أعين المخلوقين فرض. فمن قال يصلون جلوساً إنما رأى ذلك أولى إذ ما انتقل (¬2) عنه من فروض الصلاة فقد أتى بأبدالها، وهي تقوم مقامها عند الضرورة. ومن قال يقومون، نظر إلى كثرة المتروك من الفروض. وأيضاً فيقدروا على الستر بأن يغض كل واحد منهم بصره، فإن لم يفعل أثم الناظر منهم. وإذا أمرنا العاجز بالصلاة على حاله وافتتح كذلك ثم وجد وهو في الصلاة ما يستر به فهل يتمادى ويعيد؟ أو يقطع ويستأنف؟ قولان في المذهب: التمادي قياساً على طرء الماء في الصلاة في التيمم، والإعادة هاهنا في الوقت. ويجري على قول (¬3) أنه لا يعيد قياساً على المتيمم. والقطع هاهنا إذ لا بدل- بخلاف المتيمم (¬4) [إذ هناك وجود البدل ¬

_ (¬1) في (ق) وهكذا. (¬2) في (ر) إذ لا انتقال. (¬3) في (ق): ويجيء على قوله. (¬4) في (ر): إذ هناك وجود البدل يقوم مقام الماء.

[فصل] (القادر يلزمه الستر على كل حال)

يقوم مقام الماء، وفي العورة لم يجزه ذلك إذ لا بدل لها بخلاف الماء] (¬1) فإنه يرجع فيه إلى البدل (¬2) وهو ما أتى به من التيمم. ... [فصل] (¬3) (القادر يلزمه الستر على كل حال) وأما القادر فيلزمه الستر، أما إذا كان بحيث لا يأمن النظر إليه فلا شك أنه فرض، وأما إن كان بحيث يأمن ذلك، فقد قدمنا أن المذهب على قولين (¬4) في فرضيته، وما قاله (¬5) أبو الحسن اللخمي في ذلك. وما حكيناه هو رأي أهل التحقيق من البغداديين ومن لقيناه من المشايخ. وذكر أبو القاسم بن محمد (¬6) أن المذهب على قولين في ستر العورة: هل هو من فروض الصلاة، أو من سننها. ومراده أنه إن كان فرضاً فليس يشترط في الصحة (¬7) على أحد القولين. وإن أراد ما قاله أبو الحسن فقد بينا ما فيه. لكن المذهب المشهور أنه لا يلزم إلا ستر العورة خاصة، وغير ذلك شرط في الكمال لا شرط في الإجزاء. وفي المذهب قول ثان أنه يلزم ستر سائر ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ر) و (م). (¬2) في والقطع هاهنا بخلاف المتيمم فإنه يرجع وهو ما أتى من التيمم. (¬3) ساقط من (ق) و (م) و (ت). (¬4) في (ق): على قول واحد. وما أثبته هو الصواب لأنه يتفق مع ما جاء في الفصل الذي قبله. (¬5) في (ر) وأما ما قاله. (¬6) هو: عبد الرحمن أبو القاسم بن محمد الحضرمي المعروف باللبيدي، من مشاهير علماء إفريقية ومؤلفيها وعبادها تفقه بأبي محمد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي ... الشيخ الفاضل أبا إسحاق الجبنياني وانتفع به وألف كتاباً بليغاً في المذهب كبيراً أزيد من مائتي جزء كبار في مسائل المدونة وبسطها والتفريع عليها وزيادات الأمهات ونوادر الروايات. توفي بالقيروان سنة أربعين وأربعمائة الديباج المذهب ص: 152. (¬7) في (ر): يفرض.

الجسد (¬1) لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). وقد اختلف ما المراد بالمساجد هاهنا؟ هل هو ظاهر ما يدل عليه، أو المراد به الصلاة؟ وهذا مقتضى القول الشاذ. وهذا أمر، وبين الأصوليين خلاف في حمله على الوجوب أو الندب؛ فإن حملناه على الوجوب جاء منه الشاذ. وإن حملناه على الندب جاء منه المشهور. وإذا أوجبنا ستر العورة فصلى باديها مع القدرة، هل يعيد أبداً أو في الوقت؟ قولان، وهما على ما حكيناه من الخلاف. والستر هل هو من شرط صحة الصلاة، أو هو فرضٌ، من تركه أثم لكنه ليس بشرط في صحة الصلاة؟ وقد قدمنا القولين في الرجل يصلي بادي الفخذين هل يعيد في الوقت، أو لا إعادة عليه؟ فأما الإعادة في الوقت فيحتمل أن يكون بناء على أن الفخذين ليسا بعورة ولكنه يعيد مراعاة للخلاف، أو على أنه عورة لكن يقتصر على الإعادة في الوقت مراعاة للخلاف. وأما ترك الإعادة فيحتمل أن يكون بناء على أن الفخذين ليسا بعورة وهو الظاهر أو على أنه عورة، لكنها عورة خفيفة. ولا شك أنه يجري فيه قول ثالث بوجوب الإعادة وإن خرج الوقت بناء على أنه عورة على ترك مراعاة الخلاف. وقد قدمنا أيضاً أن عورة الأمة كهي من الرجل. وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين: أحدهما: ما قدمناه. والثاني: وجوب ستر سائر الجسد في الصلاة (¬3). وعوَّل على ألفاظ وقعت في المدونة منها قوله: "لا تصلي الأمة إلا وعلى جسدها ثوب يستر جميع جسدها" (¬4)، وهذا يحتمل أن يريد به الكمال لا الإجزاء. ولا شك أن من قال في الرجل يلزمه ستر جميع جسده في الصلاة يكون لزوم ذلك في الأمة أولى وأحرى عنده. ¬

_ (¬1) في (ق) يلزم ستر الجسد في الصلاة لقوله. (¬2) الأعراف: 31. (¬3) التبصرة ص: 82. (¬4) المدونة 1/ 95.

فصل (حكم من انكشفت عورته في الصلاة)

فإن افتتحت الأمة الصلاة على حالها التي تؤمر بها ثم طرأ عليها العلم بالعتق في أثناء الصلاة؛ فلا يخلو العتق الطارئ من أن يكون سابقاً للدخول في الصلاة لكنها إنما علمت (¬1) في أثنائها، أو يكون غير سابق وإنما وقع حيث علمت به. فإن سبق لها افتتاح الصلاة فهاهنا قولان: قيل تقطع (¬2)، وقيل تتمادى. وسبب الخلاف هل يعد النسخ واجباً من حين البلوغ، فتكون هذه كالمعتقة في أثناء الصلاة؟ أو يعد من حين النزول والوجود، فتكون هذه كالحرة تدخل في الصلاة غير ساترة لما يجب عليها فيلزمها القطع؟ وإن كان العتق غير سابق، وإنما وقع في أثناء الصلاة؛ فإن قلنا تتمادى في الصلاة في المسألة الأولى (¬3) فأحرى أن تتمادى هاهنا؛ لأنها دخلت في الصلاة بوجه جائز وهي أمة حقيقة في الظاهر والباطن، وإن قلنا تقطع [في] (¬4) تلك، ففي هذه قولان: هل تقطع، أو تتمادى؟ وسبب الخلاف هل كل جزء من الصلاة قائم بنفسه، أو أولها موقوف على كمالها؟ وإذا قلنا في الصورتين: تتمادى، فذلك ظاهر إذا وجدت ما تستر به في الصلاة، فإن لم تجد فهاهنا قولان: أحدهما: أنها تتمادى لدخولها (¬5) بوجه جائز قياساً على المتيمم يطرأ عليه الماء في أثناء الصلاة، والثاني: أنها تقطع مراعاة للأجزاء الباقية، والمتيمم معه بدل فهاهنا لا بدل. ... فصل (حكم من انكشفت عورته في الصلاة) وينخرط في هذا السلك لو انكشفت عورة المصلي في الصلاة؛ فإن ترك الستر وهو قادر عليه كان كمفتتح الصلاة بادي العورة، وإن تستر في ¬

_ (¬1) في (ق) في ذلك، وفي (ت) علمت به. (¬2) في (ق) و (ر) تقطع فلابد. (¬3) في (ق) تتمادى في الصورة الأولى. (¬4) ساقط من (ت). (¬5) في (ق) تتمادى التفاتا إلى دخولها في الصلاة.

فصل (المقدار الساتر للعورة)

الحال فهاهنا قولان: أحدهما: [وجوب] (¬1) القطع نظراً إلى الحالة التي انكشفت فيها العورة. وهذا لما قدمناه في ذكر النجاسة في الصلاة. والثاني: التمادي، نظراً إلى كونه معذوراً (¬2) في حال كشف عورته. ووقع لسحنون في هذه المسألة بطلان صلاة من نظر إلى عورة المنكشف. فاعترضه الأشياخ فقالوا: يلزم على قياس قوله: أن تبطل (¬3) صلاة كل من عصى في حال صلاته. فلا يبعد أن يلزم ذلك سحنون متى تصورت المعصية في أثناء الصلاة. ... فصل (المقدار الساتر للعورة) وأما المقدار الساتر فله صفتان: صفة إجزاء وصفة كمال؛ فأما صفة الإجزاء فقد تقدم حكمها، وأن المذهب على قولين: أحدهما: وجوب ستر العورة لا غير، والثاني: وجوب ستر سائر الجسد في حق من جسده غير عورة. ومن (¬4) صفة الساتر أن يكون صفيقاً [كثيفاً] (¬5) بحيث لا يشف ولا يصف. وإن كان خفيفا يشف فإنه كالعدم مع الانفراد، وإن كان خفيفاً بحيث يصف ولا يشف فهو مكروه، ولا يؤدي إلى بطلان الصلاة. وقد كره مالك رحمه الله الصلاة بالسراويل منفرداً (¬6) وخصه بالكراهة دون الإزار. وقيل في وجه الكراهية إنه من لباس الأعاجم. والظاهر أن مراده بذلك أنه ¬

_ (¬1) في ساقط من (ر). (¬2) في (ت) و (ر): غير مقدور. (¬3) في (ق) قياسه أن تبطل. (¬4) في (ق) وأما. (¬5) ساقط من (ر). وثوب صفيق، أي جيد كثيف النسج. انظر لسان العرب: صفق. (¬6) كذا في (ت) وم، وفي (ر) في السراويل مفروكاً، وفي (ق) في السراويل مفرداً.

يصف، وإلا فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جبة شامية ضيقة الأكمام، وهي من لباس الأعاجم (¬1). وأما صفة الكمال فأن يأخذ الإنسان الهيئة المعتادة من كمال الزي. وكره مالك رحمه الله للأئمة الصلاة بغير رداء، والرداء مستحب في غير (¬2) الأئمة إذا كان ذلك زيهم المعتاد. ومن الكمال حل الشعر إن كان معقوصا (¬3)، وإرسال الثياب إن كانت مشمرة. ويكره كفت (¬4) الشعر والثوب لأجل الصلاة- والكفت هي التشمر (¬5) - لكن إن شُمَّرت الثياب وسُتِر (¬6) الشعر لأنه من الزي المعتاد عندهم، أو الحالة (¬7) التي أدركته الصلاة عليها، فلا يكره ذلك. والإكمال إرسال (¬8) الثياب والشعر كما قدمناه، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكفت (¬9) شعراً ولا ثوباً" (¬10). ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبةَ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فَقَالَ: "يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإِدَاوَةَ" فَأَخَذْتُهَا ثُمَّ خَرَجتُ مَعَهُ فَانْطَلَقَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيَّقَةٌ الكُمَّيْنِ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى". أخرجه مسلم في الطهارة 274 واللفظ له، والنسائي في الطهارة 82. (¬2) في (ر) في حق. (¬3) في (ت) و (ق) معفوصاً. (¬4) في (ت) كشف. (¬5) في (ق) الستر. والكفت لغة الضم والجمع. (¬6) في (ت) أو ستر. (¬7) في (ق) والحاله. (¬8) في (ق) وإلا كل إرسال. (¬9) في (ق) أكتف. (¬10) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وهو عند مسلم في الصلاة 490 عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاس أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ وَلاَ أَكْفِتَ الشَّعْرَ وَلاَ الثِّيَابَ: الجَبْهَةِ وَالأَنْفِ وَاليَدَينِ وَالرُّكبَتَينِ وَالقَدَمَينِ".

وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصلاة والشعر معقوص (¬1). وقيل في هذا: إن الشعر يسجد (¬2). والإشارة بذلك [إلى] (¬3) الاسترسال وملاقاة محل الصلاة بما يكره الإنسان من شعر وثوب؛ لأن في سترهما (¬4) رفاهية وكبرا عن ملاقاة محلَّ السجود بهما، وأيضاً ففعل ذلك خروج عن حالة المتذلل الخاضع. ومن صفات الكمال إبراز اليدين حتى يلاقي بهما محل السجود. وفي الحديث النهي عن اشتمال الصَّماء (¬5). وصورتها أن يشتمل بالثوب الواحد من غير أن يبرز يديه للسجود أو غيره، وهي مكروهة بالاتفاق لو (¬6) لم يكن عليه إزار يستر به عورته، فإن كان عليه إزار حتى يمكنه إبداء يديه من تحت ثوبه في حين السجود ففيه قولان: الكراهية والجواز. والكراهية لعموم النهي، والجواز لقدرته على إبراز اليدين. ولا يقدر على ذلك من ليس عليه إزار؛ لأنه إن فعل ذلك بدت عورته. وعلل النهي عن اشتمال الصماء بوجهين: أحدهما: ما أشرنا إليه من ستر اليدين عند السجود، والثاني: لأنه قد يعرض للإنسان ما يفتقر إلى مدافعته بيديه ولا يمكنه ذلك مع سترهما. وعلى هذا التعليل يكره اشتمال الصماء في الصلاة وفي غيرها. ولو بدت أحد اليدين لكان مكروهاً أيضاً، وهو من باب الاشتمال. فالأكمل (¬7) إذا لم يكن على المصلي سوى ثوب أن (¬8) يتوشح به ويعقده على صدره إن افتقر ¬

_ (¬1) أخرج مسلم في الصلاة 492 واللفظ له، والنسائي في التطبيق 1114، وأبو داود في الصلاة 647 عَنْ عَبْدِ اللهَ بْنِ عَبَّاس أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللهِ بنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ فَلمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسِ فَقَالَ مَا لَكَ وَرَأسِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكتُوفٌ". (¬2) في (ر) يسجد كما يسجد. (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) في (ق) كفتهما. (¬5) يشير إلى ما أخرجه البخاري في الصلاة 367 ومسلم في اللباس 2099. (¬6) في (ق) و (م) و (ر) وإن. (¬7) في (ق) الإكمال. (¬8) في (ق) أو.

باب في حكم المسبوق وقضائه بعد إكمال إمامه

إلى عقده. وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك بهذه الصفة التي تسمى في العرف حراثية (¬1) وبالله التوفيق. ... باب في حكم المسبوق وقضائه بعد إكمال إمامه وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (¬2) وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬3)، وفي طريق آخر: "وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" (¬4). وقوله: "فَأَتِمُّوا" يقتضي ظاهره أن ما أدرك أول صلاته وأن الذي يقضي هو آخرها، ويحتمل أن يريد بالتمام إكمال الصلاة فلا يكون فيه دليل على أن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها. وقوله: "فَاقضُوا" يقتضي ظاهره أن ما أدرك هو آخر الصلاة، وما يأتي به هو أولها. ويحتمل أن يعبر بالقضاء عن التمام والوفاء كما تقول: قضيت الحج وقضيت الدين إذا أديت ووفيت. (اختلاف المذهب في المدرَك هل هو أول الصلاة أم آخرها) وإذا تقرر هذا قلنا بعده؛ اختلف المتأخرون في مقتضى المذهب على ثلاثة طرق: أحدها: أن المذهب كله على قول واحد، وهو البناء في الأفعال والقضاء في الأقوال. وإذا أرادوا حكمه في القراءة قالوا: إن الذي أدرك هو آخر صلاته ويقضي ما فاته على نحو ما فاته. فإذا أرادوا حكمه في الجلوس قالوا: إن الذي أدرك هو أول صلاته فيكون مؤديا. وهذا معنى ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ق). (¬2) في (ت) ترعون. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولفظ البخاري في الجمعة 908 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتمُّوا". (¬4) أخرجه النسائي في الإمامة 861، وأحمد في مسنده 2/ 238.

ما وقع في المذهب من اختلاف الألفاظ وهي طريقة أبي محمد بن أبي زيد وجل المتأخرين. والثانية: أن المذهب على قولين في القراءة خاصة وعلى قول واحد في الجلوس. وعلى أحد القولين أن ما أدركه آخرُ صلاته، ويقضي ما فاته على نحو ما فاته في (¬1) القراءة. والقول الثاني: إن ما أدرك هو أول صلاته ويقرأ فيما يأتي بعد سلام الإمام على نحو ما كان يقرأ مع إمامه لو كان حاضرا. وهذه طريقة بعض القرويين. والطريقة الثالثة: أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بان في الأقوال والأفعال فيكون ما أدركه هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام وهو آخرها. والثاني: أنه قاض فيهما، فيكون ما أدرك فهو آخر (¬2) صلاته، وما يأتي به فهو [أولها] (¬3). والثالث: أنه قاض في القراءة بان في الأفعال كما قاله في المدونة وفي غيرها من الكتب المشهورة، فهذه طريقة أبي الحسن اللخمي (¬4). فأما الأولون فاعتمدوا على ما في المدونة والكتب المشهورة من أن المدرك لركعة (¬5) من الصلاة الرباعية إذا سلم الإمام قام وأتى بركعة بأم القرآن [وسورة ثم يجلس ثم يقوم ويأتي بركعة بأم القرآن وسورة] (¬6)، ولا يجلس. ثم يقوم ويأتي بركعة بأم القرآن وحدها خاصة ويجلس ويسلم. فقد جعله بان في حكم الجلوس، فجعل ما أدرك أول صلاته، وقاض في حكم القراءة، وجعل ما أدرك في ذلك آخر صلاته. وأما من جعل المذهب على قولين فيعتمد على نص الخلاف فيمن ¬

_ (¬1) في (ق) من. (¬2) في (ق) أول. (¬3) بياض في (ق). (¬4) التبصرة ص: 84. (¬5) في (ق) لركعتين. (¬6) ساقط من (ق).

فاتته سجدة مع الإمام حتى وجب عليه قضاء ركعة وكانت الأولى أو الثانية. فإن أصحاب مالك اختلفوا فيما يأتي به من تلك الركعة هل يقرأ فيها بأم القرآن خاصة. وهذا يقتضي أنه بان، أو بأم القرآن وسورة وهذا يقتضي أنه قاض. ولا فرق عند هؤلاء بين هذا وبين المسبوق لتساويهما في وجوب القضاء بعد سلام الإمام. وقد فرق (¬1) الأولون بين المسألتين بأن هذا التارك للسجدة (¬2) قرأ بأم القرآن وسورة مع الإمام أو حضر قراءتها، فلا يعيد إلا المقدار الواجب خاصة في قول (¬3)، وهي أم القرآن. والمسبوق لم يقرأ ولم يحضر [القراءة] (¬4). فأمر بتلافي ما فاته من القراءة. وأما أبو الحسن اللخمي فاعتمد على ألفاظ وقعت في المذهب؛ منها قول القاضي أبي محمد عبد الوهاب في تلقينه ما أدرك هو آخر صلاته وما يأتي به هو أولها، (¬5) وحكى في الإشراف قولين هذا أحدهما، والقول الثاني أن ما أدرك هو أول صلاته وما فاته هو آخرها. فأما ما احتج به مما (¬6) في التلقين فلا حجة فيه لأنه في المدونة قال: ما أدرك هو أول (¬7) صلاته، إلا أنه يقضي بمثل الذي فاته. وقد جعل ما أدرك أول الصلاة، وإنما يريد في حكم الجلوس، وجعل يقضي مثل الذي فاته، فإنه يريد (¬8) في القراءة. وأما ما احتج به من القولين اللذين في "الإشراف" فيحتمل أن يكون في القراءة خاصة، ويكون ذلك حجة من جعل المذهب على قولين. لكن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) يفرق. (¬2) في (ر) للسجود. (¬3) في (ر) قوله. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) انظر التلقين ص:38. (¬6) في (ت) منها. (¬7) في (ق) قال مالك ما أدرك مع الإمام فهو أول. (¬8) في (ر): مراده.

[فصل] (هل يقوم المسبوق بتكبيرة أو بغير تكبيرة)

هذه المسألة نزلت قديماً فطال بحثنا (¬1) عن روايات المذهب فيها، وخالفني بعض أشياخي ودافع ما قاله (¬2) أبو الحسن كل المدافعة. وإنما اعتمدت له على أن ما قاله القياس، إذا لا بالروايات (¬3). فأخرجت من كتاب "الإملاء" لابن سحنون أن من أدرك ركعة من المغرب يقوم فيأتي بركعتين بأم القرآن وسورة في كل واحدة منهما يجهر بالقراءة ولا يجلس بينهما، وهذا نص في صحة طريقة أبي الحسن اللخمي إذ جعل في هذه الرواية أن ما أدرك آخر صلاته في القراءة والجلوس جميعاً. ولم يكن عند من خالفني (¬4) في هذه المسألة أكثر من قوله لبعض تلامذته (¬5): الكتب لا تقوم بأنفسها. والمشكل في هذه المسألة مذهب المدونة في تفريقه بين الأقوال والأفعال، ولا يتخرج له معنى إلا أن يقال إن ما أدرك هو أول صلاته حقيقة، فلهذا يبني عليه [في] (¬6) الجلوس. لكنه يزيد فيما يأتي به بسورة مع أم القرآن، إذ لا تفسد الصلاة ولا ينقص كمالها بزيادة السورة، بل ينقص الكمال (¬7) نقصها. فيأتي بالسورة ليتلافى ما فاته من الكمال. وقد قدمنا في باب الرعاف حكم اجتماع القضاء والبناء وتفصيل ذلك مستوفى (¬8). ... [فصل] (¬9) (هل يقوم المسبوق بتكبيرة أو بغير تكبيرة) والنظر في هذا الباب هل يقوم المسبوق بتكبير أو بغير تكبير؟ أما ¬

_ (¬1) في (ق) بحثي وفي (ت) تحثي. (¬2) في (ق) كل ما قاله وفي (ت) قال. (¬3) في (ق) إذا لا بالرواية، وفي (ر) وإذ لا بالروايات. (¬4) في (ر) خالف. (¬5) في (ر) تلامذة. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ر) الإكمال. (¬8) في (ر) و (ق) مستوعباً. (¬9) ساقط من (ر) و (ت).

كل من حصل له ركعتان مع الإمام فإن جلوسه (¬1) في موضع الجلوس، فيقوم بتكبير. وإن حصل له أقل من ركعتين أو أكثر (¬2) فها هنا جلس (¬3) في غير موضع جلوسه. وفي قيامه بالتكبير قولان: المشهور أنه يقوم بغير تكبير؛ لأنه ليس موضع جلوسه (¬4) وإنما جلس لئلا يخالف الإمام. والشاذ أنه يقوم بتكبير؛ لأن التكبير (¬5) جعل متى وجب حركة من ركن إلى ركن فها هنا قد وجب (¬6). وقد استقرأه بعض أشياخي (¬7) من المدونة [في قوله] (¬8) فيمن أدرك الإمام في التشهد الآخر أنه يقوم بتكبير، وهو في جلوسه تابع للإمام وليس بجلوس [له] (¬9) كما قال حيث قال: موضع جلوس [له] (¬10). ... ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) الجلوس له. (¬2) في (ر) وأكثر. (¬3) في (ت) جلوس. (¬4) في (ر) و (ت) جلوس له. (¬5) في (ق) ووجهه أن التكبير. (¬6) في (ق) وجبت. (¬7) في (ر) الأشياخ وفي (ق) أشياخي. (¬8) ساقط من (ر). (¬9) في (ق) في الجلوس يتابع. (¬10) هكذا في (ق) وساقط من (ر). جاء في المدونة ما يلي: "قال مالك فيمن أدرك مع الإمام ركعة وقد فاتته ثلاث ركعات فسلم الإمام. قال ينهض بغير تكبيرة لأن الإمام هو الذي حبسه وقد كبر هو حين رفع رأسه من السجود ولولا الإمام لقام بتكبيرته التي كبر حين رفع رأسه من السجدة ولكن لم يستطع أن يخالف الإمام فيجلس معه وليس ذلك له بجلوس إلا أنه لم يستطع أن يخالف الإمام فإذا نهض نهض بغير تكبيرة قال فإذا كان ذلك له فإذا نهض نهض بتكبيرة وذلك إذا أدرك مع الإمام ركعتين وجلوسه مع الإمام في آخر صلاة الإمام ذلك وسط صلاته فإذا سلم الإمام نهض هو بتكبيرة". وقال كذالك: "في رجل يأتي والإمام جالس في آخر صلاته فيكبر للإحرام قال: يقوم إذا فرغ الإمام بتكبيرة وان قام بغير تكبيرة أجزأه" 1/ 96.

باب في أحكام النوافل

باب في أحكام النوافل (صفة النوافل) والنظر في هذا الباب في فصلين: أحدهما: في صفة النوافل، والثاني: أوقاتها. وأما صفاتها فمنها العدد. (عدد النوافل) والنوافل عندنا ركعتان ولا مزيد عليها في ليل ولا نهار، فإن زاد ثالثة في نهار فلا خلاف في المذهب نعرفه أنه يؤمر بإكمال الرابعة. وهذا إذا انعقدت له الثالثة على اختلاف في عقدها هل هو وضع اليدين على الركبتين أو رفع الرأس من الركوع؟ وإذا أكمل فإنه يسجد لسهوه إذا زاد سهواً. ومتى يكون السجود؟ ففيه قولان: أحدهما: أن يكون قبل السلام لنقصه التسليم بعد الاثنين. والثاني: أنه بعد السلام لزيادة ركعتين (¬1)، وسيأتي بيانه في باب السهو. وإن كانت الزيادة في ليل فهل يكمل الرابعة؟ قولان: المشهور (¬2) أنه يكملها مراعاة للخلاف، إذ من المخالفين من يقول إن النافلة أربع ركعات في الليل والنهار، وهو قول مشهور. والشاذ أنه لا يكملها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى" (¬3). وهذا القول يقتضي كون الشاذ في الدليل لا يراعي القول المشهور في نفسه وهو في مقابلة الحديث فالتفت هذا إلى الحديث لا إلى شهرة (¬4) القول. ولو زاد على أربع ركعات ركعة أخرى أو أكثر من ذلك؛ فإنه يرجع ¬

_ (¬1) في (ر) بزيادة الركعتين. (¬2) في (ق) أحدهما. (¬3) أخرجه البخاري في الجمعة 991، ومسلم في المسافرين 749. (¬4) في (ت) مشهور.

(حكم الجهر والإسرار بالنافلة)

متى ذكر ثم يجلس ثم يسلم ويسجد بعد السلام للزيادة. وهذا ترك مراعاة قول من يقول إن النافلة أكثر من أربع ركعات. (حكم الجهر والإسرار بالنافلة) ومن صفاتها الجهر بالقراءة والسر. والجهر غير مكروه فيها بالليل بلا خلاف. واختلف في كراهية الجهر بالنهار على قولين، والقول بالكراهة قياساً على الفريضة. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ النّهَارِ عَجْمَاء" (¬1). وهذا عموم يتناول النافلة والفرض. ومن قال بالجواز يقصر عنده الحديث على الفريضة، وقياساً على جوازه في الليل. وهذا ما لم تعرض له حالة تمنع من الجهر، وهي فساد النية معه. ولا خلاف في جواز السر ليلاً ونهاراً. وقد كان الصديق رضي الله عنه يسر في تنفله بالليل، وكان الفاروق يجهر فسألهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موجب فعلهما، فقال الصديق رضي الله عنه: أُسمع من أناجي، وقال الفاروق رضي الله عنه: أوقظ الوسنان (¬2) وأطرد الشيطان (¬3). فاستحسن رسول الله فعلهما. ومتى كان فعل المتنفل وقصده يناسب هذا المقصود جاز له السر والجهر بالليل والنهار. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 493 من قول الحسن ومجاهد وأبي عبيدة. قال الزيلعي في نصب الراية 2/ 1: "وقال النووي في الخلاصة حديث صلاة النهار عجماء باطل لا أصل له"، وقال أبو عبيد بن سلام في الغريب 1/ 282 "صلاة النهار عجماء، يقال: لا تُسمع فيها قراءةٌ". (¬2) الوسن: أول النوم، والوسنان النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. انظر النهاية في غريب الحديث: 5/ 185. (¬3) أخرجه بألفاظ متقاربة الترمذي في الصلاة 447، وأبو داود في الصلاة 1329، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/ 454. ولفظ الحديث كما أخرجه أبو داود عنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بأبِي بَكْر رَضِي الله عَنْه يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ قَالَ وَمَرَّ بعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعاً صَوْتَهُ قَالَ: فَلَمَّا اجتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَا أَبا بَكْر مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ" قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: وَقَالَ لِعُمَرَ: "مَرَرُتُ بِكَ وَأنْتَ تُصَلِّي رَافعًا صَوْتَكَ" قال فقال: يَا رَسُولَ الله، أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطرُدُ الشَّيْطَانَ" قال الترمذي:"هذا حديث غريب". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وقد ورد تحسين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلهما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود في الصلاة 1329.

(حكم الجماعة للنافلة)

(حكم الجماعة للنافلة) ومن صفاتها الانفراد والجماعة، ولا خلاف في جواز الانفراد مطلقاً. وأما الجمع فلا خلاف في جوازه في نافلة رمضان، لكن الانفراد عند مالك رحمه الله أفضل. وأما غير ذلك من النوافل فإن كان الجمع في الموضع الخفي والجماعة يسيرة جاز. وقد تنفل (¬1) - صلى الله عليه وسلم - في بيته واقتدى به ابن عباس (¬2). وصلى عليه السلام في بيت (¬3) من بيوت أصحابه واقتدى به الصبي والرجل والمرأة (¬4). وإن كان الموضع مشهوراً والجماعة كثيرة فكرهه عبد الملك بن حبيب وهو مقتضى المذهب. ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة نصف شعبان وليلة عاشوراء. ولا يختلف المذهب في كراهيته. وينبغي للأئمة [والفقهاء] (¬5) أن يتقدموا في النهي عنه ولا يرخصوا فيه لأحد من الناس فإن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في نافلة البيوت إنما كان ليتبرك به (¬6) في صلاته ولا يعتقد المعتقد أنه يفعل ذلك في المساجد أو عند كثرة الجماعة في البيوت فإن ذلك بدعة (¬7). ... ¬

_ (¬1) في (ت) وقام. (¬2) أخرج البخاري في الأذان 698واللفظ له، ومسلم في المسافرين 763 عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنهمَا قالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ (خالته) وَالنَبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهَا تِلْكَ الليْلَةَ فَتَوَضَأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فصلى ثَلاَثَ عَشرَةَ رَكعَةً" الحديث. (¬3) في (ق) في غير بيته. (¬4) لعله يقصد الحديث الذي أخرجه البخاري في الصلاة 380 واللفظ له، ومسلم في المساجد 658 عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكِ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَام صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَد مِنْ طُولِ مَا لُبسَ فنَضَحْتُهُ بِمَاءِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِن وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَينِ ثُمَّ انْصَرَفَ. (¬5) ساقط من (ق) و (ر). (¬6) في (ت) ليتبرك به وبصلاته. (¬7) في (ت) بدعة والله أعلم.

فصل (أوقات النوافل)

فصل (أوقات النوافل) وأما أوقات النوافل فإنه يحرم أداؤها عند طلوع الشمس وعند الغروب بإجماع. واختلف الناس فيما عدا ذلك، ولسنا للاختلاف، ولكن نذكر ما في المذهب فنقول: النافلة تمنع لثلاثة أشياء: أحدها: مخالفة (¬1) الإمام، فمتى كان الإمام في جماعة وأقيمت (¬2) الصلاة امتنعت النافلة حيث (¬3) الإمام. وقد قدمنا حكم من افتتح النافلة ثم أقيمت عليه الصلاة. والثاني: المحاذرة من ذوات وقت الفضيلة في المغرب والصبح، فلا يجوز عندنا التنفل قبل صلاة المغرب وإن غربت الشمس ولا بعد طلوع الفجر، لكن أجاز مالك رحمه الله أن يتلافى [من فاته] (¬4) حزبه من ليل فيصلي في هذا الوقت إن كان مغلوباً على الفوات. [حكم تحية المسجد بعد طلوع الفجر] واختلف المذهب في الداخل في المسجد قبل صلاة الصبح وبعد (¬5) طلوع الفجر هل يؤمر بالتحية للمسجد قبل ركعتي الفجر، أولاً (¬6) يفعل إلا ركعتي الفجر خاصة؟ وجمهور أهل المذهب أن لا يؤمر بذلك لما روي عن النبي عليه السلام من قوله: "إما طلع الفجر فلا ركوع إلا ركعتي الفجر" (¬7)، وانفرد القابسي رحمه الله بتحية المسجد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ ¬

_ (¬1) في (ت) لمخالفة. (¬2) في (ر): أو أقيمت. (¬3) في (ر) و (ت) بحيث وفي (م) بجنب. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) عند. (¬6) في (ق) أم لا يفعل وفي (ر) ولا يفعل. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(حكم النافلة عند الزوال)

المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَينِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ" (¬1). وإن ركع في بيته للفجر ثم أتى المسجد فهاهنا قولان مشهوران: أحدهما: أنه يركع في المسجد ركعتين للأمر بالتحية. والثاني: أنه لا يركع للحديث المتقدم في نفي الركوع بعد الفجر. وإذا قلنا بأنه يركع فهل ينوي بركوعه النافلة، أو إعادة ركعتي الفجر؟ فيه قولان للمتأخرين. ونية النافلة تعويلاً على الأمر بتحية المسجد، ولأن ركعتي الفجر قد أديتا فلا معنى لإعادتهما. ونية الإعادة بناء على القول بصحة الرفض، وقدمنا القول في صحته. والثالث: المحاذرة من تمادي الركوع حتى يقع في الوقت المنهي عنه بإجماع، ولهذا يمنع من النافلة بعد صلاة الصبح إلى الطلوع وبعد صلاة العصر إلى الغروب. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ذلك (¬2). (حكم النافلة عند الزوال) وهل تكره النافلة عند الزوال (¬3)؟ قولان: المشهور جوازها قياساً على اتصال العمل بالتنفل في هذا الوقت يوم الجمعة. وروي عن مالك كراهية ذلك لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الشمس تطلع على قرني الشيطان، وقال في الحديث: "فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا" (¬4)، ونهى عن الصلاة حينئذ. ولكن هذا ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الصلاة 444، ومسلم في المسافرين 714، والترمذي في الصلاة 316 واللفظ له عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مرفوعاً. وقال الترمذي؛ وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬2) أخرج البخاري في المواقيت 588عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صلاَتَينِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. (¬3) في (ت) زوال الشمس. (¬4) أخرج النسائي في المواقيت 559 واللفظ له وابن ماجه في إقامة الصلاة 1253 عَنْ عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِىِّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الشَّمْسُ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإذَا زَالَتْ فَارَقَهَا فَإذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا" وَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ.

(حكم النافلة عقب صلاة الجمعة)

الحديث في بعض (¬1) طرقه لم يذكر الاستواء وذكره في بعضها. وبين الأصوليين خلاف في انفراد العدل بزيادة هل تقبل أم لا؟ (حكم النافلة عقب صلاة الجمعة) ومما يلحق بهذا القسم كراهية التنفل عقيب صلاة الجمعة فهو للأئمة أشد كراهية. فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يتنفل بعدها. وعللت الكراهية بالمحاذرة من التطرق إلى إظهار صلاة الجمعة وقصد (¬2) صلاة الظهر، وهذا يقصده أهل البدع إذا صلوا مع أئمة الحق ويقصده (¬3) الإمام إن كان مبتدعاً. (حكم الصلاة عقب الوتر) ومنه أيضاً [كراهية] (¬4) الصلاة عقيب الوتر، والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى" (¬5). واختلف المذهب فيمن تنفل بالليل بعد أن أوتر؛ المشهور أنه لا يعيد الوتر؛ لأنه متى أعاده صار شفعاً. وقال ابن نافع: يعيده، وهو مقتضى ظاهر الحديث. وبالله التوفيق. ... باب في حكم الأفعال [والأقوال] (¬6) الواقعة في الصلاة من غير جنس أقوالها وأفعالها ومن فعل فعلاً في الصلاة- فإن كثر- أفسدها، عمداً كان أو سهواً أو ¬

_ (¬1) في (ق) أكثر. (¬2) في (ق) وقصر. (¬3) في (ق) ويقدمن أجل الإمام. (¬4) ساقط من (ت) و (ر). (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو عند البخاري في الجمعة 991 عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَ رَجلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ اللَيْلِ فَقَالَ رَسُولُ الله عَلَيهِ السلاَم: "صَلاَةُ اللَّيلِ مثنى مثنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَة تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى". (¬6) ساقط من (ق).

فصل (تفصيل في الكلام يقع في الصلاة)

جهلاً. وإن قل جداً ولم تدع إليه ضرورة وليس من مصلحتها كره، ولا يفسدها. وإن دعت إليه الضرورة كقتل ما يحاذر منه أو إنقاذ نفس أو مال فلا يكره، وتصح الصلاة. وإن لم يكن يسيراً جداً كالمشي اليسير إلى ذلك والمدافعة اليسيرة إن احتاج (¬1) إليها. وإن كان من مصلحة الصلاة كمشي المسبوق إلى ما يستتر به بعد سلام إمامه؛ فإنه لا يكره أيضاً إذا كان لا يفسد نظام الصلاة. ... فصل (تفصيل في الكلام يقع في الصلاة) (حكم الكلام إذا كان قرآناً أو ذكراً) وأما الكلام يقع في الصلاة؛ فإن كان قرآناً أو ذكراً ولم يقصد به إفهام مخلوق، بل قصد به الواجب أو المندوب إليه في الصلاة فهو مشروع فيها، وإن قصد به إفهام مخلوق كمن يسبح أو يتلو قرآناً ليفهم عنه الغير حاجته (¬2)، ففي جوازه قولان. ومنه فتح المصلي على من ليس معه في الصلاة. (حكم الكلام من غير القرآن والذكر) وإن كان الكلام غير القرآن والذكر فلا يخلو وقوعه في الصلاة من أربعة أقسام: إما أن يقع عمداً لغير إصلاح الصلاة، أو عمداً لإصلاحها، أو سهواً، أو جهلاً؛ فإن وقع عمداً لغير إصلاح الصلاة، فلا خلاف في بطلانها. وإن وقع عمداً لإصلاحها، ففي المذهب ثلاثة أقوال، وسيأتي بيانها في باب السهو إن شاء الله. فإن وقع سهواً فكثر جداً أبطل الصلاة، ¬

_ (¬1) في (ر) احتج. (¬2) في (ق) ليفهم غيره حاجته وفي (ر) عنه صاحبه.

(حكم الضحك في الصلاة)

وإن قل صحت الصلاة وأجزأ عنه سجود السهو [بعد السلام] (¬1)، وإن كان جهلاً أجزأ على القولين في الجاهل هل حكمه حكم العامد أو حكم الناسي. وهل يتنزل التنحنح بمنزلة الكلام. أما إن كان بغلبة فلا خلاف في صحة الصلاة، وأما إن كان بغير غلبة، ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه بمنزلة الكلام، ينظر (¬2) في السهو والعمد إلى ما قدمناه. والثاني: أنه ليس بمنزلته، وهو خلاف في شهادة تصوره (¬3) هل تتركب منه حروف كما تتركب (¬4) من الكلام، أم لا يتركب ذلك؟ وهكذا اختلفوا في النفخ هل يتنزل منزلة الكلام، وهو على ما قدمناه. (حكم الضحك في الصلاة) وأما الضحك فإن كان قهقهة فلا خلاف في بطلان الصلاة بعمده. واختلفوا في سهوه وغلبته؛ فقيل: هما بمنزلة الكلام، وقيل: تبطل الصلاة بالقهقهة على الإطلاق وردها إلى الكلام لأن أعلى مراتبها أن يتركب منها حروف تشبه (¬5) الكلام. والبطلان به مطلقاً؛ لأنها تناقض مقصود الصلاة وهو الخشوع. وإن كان تبسماً فلا يبطل الصلاة، وإن كان تعمداً فهل يسجد لسهوه؟ قولان: أحدهما: نفي السجود إذ ليس بزيادة قول ولا فعل. وقيل: بإثبات السجود. واختلف هؤلاء متى يكون محله؟ فقيل: قبل السلام لأنه نقص خشوع (¬6)، وقيل: بعد لأنه زيادة حركات وإن قلت. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ت). (¬2) في (ت) و (ر) يفصل وفي (م) ينفصل. (¬3) في (ق) وصورته. (¬4) في (ت) يتركب منه حرفاً كما يتركب، وفي (ر) يتركب منه الحروف كما يتركب. (¬5) في (ر) فأشبه. (¬6) في (ر) و (ت) خشوعاً.

(حكم الإشارة في الصلاة)

(حكم الإشارة في الصلاة) واختلف في الإشارة في الصلاة بالسلام وغيره؛ فالمشهور جوازها، والشاذ النهي عنها، إذ يحصل (¬1) بها ما يحصل بالكلام وهو الإفهام. ... فصل (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) وإذا اضطر المصلي إلى تنبيه الإمام أو غيره؛ فإن كان رجلاً يسبح، وإن كانت امرأة فقولان: أحدهما: أنها تسبح كالرجل، والثاني: أنها تنبه بالتصفيق. وفي الحديث لما صفق الرجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنما التَّصْفِيقُ لِلنسَاءِ" (¬2). وتؤول على وجهين، أحدهما: أن معناه إنما التصفيق من شأن النساء، أي في غير الصلاة. والثاني: أن معناه هو المشروع (¬3) للنساء في الصلاة، إذ أصواتهن عورة. وقد قدمنا الخلاف في القهقهة هل تتنزل منزلة الكلام أو تبطل الصلاة بكل حال، وإن قلنا بالإبطال؛ فإن كان المصلي فذاً قطع، وإن كان مأموماً فقولان: قيل يقطع، وقيل لا يقطع ويتمادى ويعيد مراعاة للخلاف. وإن كان إماماً فالقولان أيضاً في التمادي والقطع. وإذا أجزنا القطع فهل يستخلف أو يبطل ما تقدم من الصلاة؟ قولان: الاستخلاف لأنه مغلوب عند القائل به كغلبة الحدث، والبطلان لمناقضتها لمقصود الصلاة كما قدمناه. إذا قلنا بالتمادي فلا شك في إعادة من خلفه. وإذا تثاوب المصلي فقد قال في الكتاب: لا أدري ما فعله في الصلاة بعد أن كان حكى أنه رأى مالكاً رحمه الله يضع يده على فمه، وينفث في غير الصلاة (¬4). وفي غير المدونة أنه يضع يده على فيه في الصلاة أيضاً، وإن احتاج إلى النفث في الصلاة ففي طرف ثوبه. ¬

_ (¬1) في (ت) إذ لا يحصل. (¬2) أخرجه البخاري في الجمعة 1234 عن سهل بن سعد الساعدي. (¬3) في (ق) إنما التسفيق هو المشروع وفي (ر) وهو المشروع. (¬4) المدونة: 1/ 100.

فصل (حكم من اضطر للبصاق في المسجد)

فصل (حكم من اضطر للبصاق في المسجد) ويجب تنزيه المسجد عن كل ما يستقذر، ومنه البصاق. فإن اضطر الإنسان إلى البصاق وهو في المسجد؛ فإن كان في صلاة فالأولى أن يبصق في طرف ثوبه، فإن لم يفعل وكان المسجد محصباً بحيث يمكنه دفنه فلا يبصق أمامه، والأولى أن يبصق على يساره، وله أن يبصق على يمينه ثم يدفنه. وإن لم يكن المسجد محصباً فلا ينبغي أن يبصق فيه بحال وإن دلكه؛ لأن تدليكه لا يذهب أثره. ... فصل (أمر الصبيان بالصلاة لسبع) ويؤمر الصبيان بالصلاة لسبع سنين على جهة التمرين للصلاة؛ لأن الصلاة متكررة. فإن لم يعودوها في الصغر شق عليهم في الكبر ملازمتها. وهذا السن فيه مبادئ التميز (¬1) غالباً. وإذا بلغ عشر سنين تأكد أمرهم بها وعوقبوا على تركها معاقبة ناجزة بالضرب كما ورد في الحديث (¬2). ويؤمرون بالتزام شروطها من الطهارة وستر العورة كما يؤمر بها البالغون. فإن صلوا بغير ذلك أمروا بالإعادة. وهل يعيدون أبداً كالبالغين؟ أو ما لم تطل الأيام؟ قولان: الإعادة أبداً إلحاقاً لهم بحكم الكبار البالغين، والقول الثاني أن الأمر بالصلاة ليس عليهم لأنهم مكلفون، بل للتمرين (¬3). فإذا طالت الأيام فإنما يفتقرون إلى أداء صلاة الوقت لا قضاء ما فات. ¬

_ (¬1) في (ت) مبتدأ تمييزهم. (¬2) أخرج أبو داود في الصلاة 495 واللفظ له، وأحمد في مسنده 2/ 187 عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مرُوا أولاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبوهُمْ علَيْهَا وَهُم أَبنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ". (¬3) في (ر) متكلفين للتمرين.

فصل (حكم قتل البرغوث والقمل في المسجد)

وهل يؤمرون على التمرين بالصيام ويتعودونه قبل البلوغ؟ قولان: المشهور أنهم لا يؤمرون بذلك لأنه ليس بمتكرر، وإنما يأتي مرة في العام، بخلاف الصلاة. والشاذ أنهم يؤمرون بذلك قياساً على الصلاة. ومتى يفرق بينهم في المضاجع هل السبع أو العشر؟ قولان. وسبب الخلاف قوله- صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبيان بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع". وبين الأصوليين خلاف في المستثنى (¬1) والإحالة والضمائر. وهذه الجملة (¬2) التي هي: "وَفَرَّقُوا بَينَهُم فِي المَضَاجِعِ"، ولم يذكر حد ذلك. وقد تقدم حدان (¬3) وهل يعود على أقرب المذكورات أو على أبعدها (¬4)، وبالله التوفيق. ... فصل (حكم قتل البرغوث والقمل في المسجد) وقد قدمنا أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس [بالموت] (¬5) عندنا، والبرغوث من هذا القبيل. هذا إذا لم يجلب دماً فإن اجتلبه فقولان: فقيل هو طاهر نظراً إلى أصله، وقيل نجس نظراً إلى الدم الحاصل معه. وعلى هذا يجري حكم قتل البرغوث في المسجد. وأما طرحه فيه [حياً] (¬6) فجائز؛ لأنه مما يعيش في التراب، فليس في إلقائه تعذيب له، ولا هو يثبت في مكان واحد فيتأذى به الغير. ولا يخاف موته فيكون نجاسة ألقيت في المسجد. وهو غير نجس كما قلناه بخلاف القملة؛ فإنها لا تقتل في المسجد إذ هي ميتة وهي نجسة. ولا تلقى فيه إذ في إلقائها تعذيب لها. ¬

_ (¬1) خرم في (ت) وفي (ر) و (م) الاستثناءات. (¬2) في (ر) للجملة، وفي (م) جملة. (¬3) في (ر) جملتان. (¬4) في (ر) جميعها. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ر).

فصل (حكم القنوت في الصلاة)

وما وقع له في بعض الروايات من جواز طرحها في المسجد فقد يكون لظن دوام حياتها، أو يكون صاحب هذا القول حكم لها بأنها لا تنجس بالموت. وقد بقيت علة أخرى وهي تقذير المسجد، إذ لو جوزنا ذلك لأدى إلى أن كل من يأتي إلى المسجد يلقي قملة وذلك يضر بالناس. ... فصل (حكم القنوت في الصلاة) وقد قدمنا أن القنوت من فضائل الصلاة، هذا هو المعروف من المذهب. وقال يحيى بن يحيى: إنه ليس بمشروع كما قاله أبو حنيفة. وسبب الخلاف أنه شرع دعاء (¬1) على قبائل الكفار. وبين الأصوليين خلاف في العلة هل إذا ارتفعت هل يرتفع حكمها أم لا؟ فمن قال بالارتفاع جاء منه الشاذ، ومن قال بعدم الارتفاع جاء منه المشهور. وإذا قلنا إنه مشروع فليس فيه دعاء مؤقت (¬2)، لكن يستحب الابتداء بالدعاء المشهور فيه. فإن أبدله أو أضاف إليه غيره، فلا بأس. وإن تركه جملة هل يسجد أم لا؟ قولان: المشهور لا يسجد له بناء على أنه فضيلة. وقال سحنون: يسجد له، وهذا بناء على أنه سنة. وقال علي بن زياد: تبطل (¬3) صلاة من تركه متعمداً. وهذا بناء على أحد القولين في تارك السنن متعمداً. وقد قنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل الركوع وبعده (¬4)، والمصلي مخير في ¬

_ (¬1) في (م) شرع الدعاء. (¬2) في (ت) و (ر) مؤقتاً. (¬3) في (ق) تفسد. (¬4) من الأحاديث الدالة على قنوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع ما أخرجه البخاري في الجمعة 1001عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ "سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ أقَنَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الصُّبحِ قَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيراً". ومن الأحاديث الدالة على قنوته - صلى الله عليه وسلم - قبل الركوع ما أخرجه البخاري في الجمعة 1002 =

فصل (حكم من انصرف بسبب رعاف أو حدث)

ذلك. ولكن استحبه مالك رحمه الله قبل الركوع ليدرك المسبوق. وهل يقنت في الوتر في النصف الآخر من رمضان؟ قولان: المشهور أنه لا يقنت؛ لأنه لم يكن معمولاً به في زمن الرسول عليه السلام، والشاذ أنه يقنت، لما ورد عن السلف أنهم كانوا يلعنون الكفار في النصف الآخر من رمضان. ... فصل (حكم من انصرف بسبب رعاف أو حدث) ومن ظن بطلان تماديه برعاف (¬1) أو حدث فانصرف ثم تبين له بطلان ظنه؛ فأما في الرعاف إذا لم يتكلم ولم يمش على نجاسة فإنه ينظر، فإن كان بحيث يميز (¬2) صحة ما في ظنه أو بطلانه (¬3) قبل انصرافه فانصرف قبل التمييز بطلت صلاته بلا خلاف. وإن كان بحيث لا يمكنه التمييز؛ لأنه في ليل مظلم، واجتهد فأخطأ ففي بنائه قولان: أحدهما: أنه لا يبني، وهو المشهور. والثاني: أنه يبني، وهو الشاذ. وهما على ما قدمناه في المجتهد هل يعد (¬4) باجتهاده أم لا؟ وأما في الحدث فإن لم يطل فعله بعد الظن كان كالرعاف، وإن طال فعله أو تكلم عامداً بطلت صلاته؛ لأن هذا انصرف (¬5) على أن صلاته باطلة، والراعف انصرف على أنه يغسل الدم ثم يبني. ... ¬

_ = عن عاصم قَالَ: سَأَلْتُ أَنَس بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ القُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُرعِ أَوْ بَعدَهُ قَالَ: قَبلَه" الحديث. (¬1) في (ق) لرعاف. (¬2) في (ق) يتمكن تمييز، وفي (ت) يتميز. (¬3) في (ق) أو بطلان صلاته. (¬4) في (ر) يعده، وهو ساقط من (ق). (¬5) في (ق) و (ر) انصراف.

فصل (ما يلزم المصلي حين يعقد النية)

فصل (ما يلزم المصلي حين يعقد النية) واختلف المذهب هل يلزم المصلي في حين عقد النية التعرض (¬1) لعدد الركعات أم لا يلزمه ذلك؟ وعليه الخلاف فيمن افتتح ينوي القصر فأتم أو بالعكس، هل تجزيه الصلاة أم لا؟ وعليه أيضاً الخلاف فيمن أحرم للجمعة فلم تصح له شروط الجمعة، هل يتم عليها ظهراً أربعاً؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك. وذكرنا أن هذا يلتفت فيه إلى أصل ثان [وهو] (¬2) هل الجمعة صلاة قائمة بنفسها؟ أو هي ظهراً مقصورة؟ وعلى هذين الأصلين يجري الخلاف فيمن دخل مع الإمام والإمام يصلي الجمعة فظنها الداخل الظهر، أو كان الإمام في الظهر فظنه الداخل الجمعة. في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: إنها لا تجزيه فيهما. والثاني: إنها تجزيه فيهما. والثالث: إنها تجزيه إن كان الإمام في الظهر فظن الداخل الجمعة ولا تجزيه إذا كان الأمر بالعكس. والقولان الأولان على ما قدمناه من الخلاف والتفرقة، لأن الجمعة تفتقر إلى شروط لا يفتقر إليها الظهر. وتجزيه إذا قصد الأكمل عن الأنقص ولا تجزيه بالعكس. وأصل مذهب مالك رحمه الله تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام، ولهذا لا يجزي أن يقتدي المفترض بالمتنفل ولا من يصلي الظهر مثلاً بمن يصلي العصر. وقد قدمنا ما في تعليق صلاة المأموم بصلاة الإمام، وأن بعض الأشياخ كالباجي وأبي الحسن اللخمي يحكي الخلاف في ذلك في المذهب (¬3). فعلى هذا يختلف في صلاة المفترض بالمتنفل، وفي الاقتداء بمن هو في صلاة غير ما ينويه المأموم. وإذا بنينا على المشهور، فذكر اثنان صلاتي ظهر مثلاً من يومين مختلفين، فهل لأحدهما أن يقتدي بالآخر؟ ذكر البغداديون قولين: أحدهما: على الخلاف، ¬

_ (¬1) في (ت) التعريض. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) التبصرة ص: 76.

فصل (حكم المصلي يقرأ ما كتب بين يديه)

هل يلزم التعريض في النية [لتعيين] (¬1) اليوم الذي ترك (¬2) فيه الصلاة، فيقصد أحدهما: الأحد ويقصد الآخر مثلاً الخميس (¬3) أو غيره من الأيام (¬4). ... فصل (حكم المصلي يقرأ ما كتب بين يديه) وإذا نظر المصلي إلى مكتوب بين يديه [فقرأه] (¬5)؛ فإن كان المكتوب قرآناً لم تبطل صلاته، وسواء نطق بالقراءة أو قرأها في قلبه. وإن كان غير قرآن فقرأ في قلبه ولم ينطق به (¬6) لم تبطل صلاته، إلا أن (¬7) يطول جداً فتبطل صلاته لاشتغاله عن الصلاة بالقراءة (¬8). فإن نطق بلسانه كان كالمتكلم. فإن تعمد بطلت صلاته، وإن كان ناسياً لم تبطل إلا أن يطول ذلك كما قدمنا في الكلام. ويسجد بعد السلام. وحكم المنصرف من الركعتين يأتي في باب السهو مستوفياً (¬9). ... فصل (الأمر بتسوية الصفوف) والتراص في الصفوف والاستواء مأمور به، ولا يجوز التقدم في ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) تؤدي. (¬3) في (ر): فيصد الأحد مثلاً الخميس، وفي (ت) فيقصد أحدهما الآخر مثلاً ويقصد الآخر الخميس. (¬4) لم يرد القول الثاني للبغداديين في أي من النسخ التي بين يدي. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) و (ت) ولم ينطق بلسانه. (¬7) في (ر) ذلك إلا أن. (¬8) في (ر) لا للقراءة. (¬9) في (ت) مستوعباً.

(حكم الصلاة بين الأساطين)

الصف ولا التأخر عنه. وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم تتقايس (¬1) في الصفوف بالمناكب والأقدام. واختلف في معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} (¬2)؛ فقيل: المراد صفوف الصلاة. وقيل: المراد صفوف الجهاد. ويحتمل أن يتناولهم اللفظ؛ لأن الكل جهاد إما الكفار وإما للشياطين من الجن والإنس. لكن من صلى وحده وترك الصف أجزأته صلاته عندنا، لأن التسوي (¬3) في الصف مندوب إليه وليس بواجب. ولو لم يجد فرجة فإنه لا يجر إليه أحداً إذ الصلاة تجزيه وليس له التعدي بإخراج المستوي في الصف. (حكم الصلاة بين الأساطين) والصلاة بين الأساطين مكروهة إلا أن يضيق المسجد. واختلف في علة الكراهية فقيل: أنها محل الشياطين والنجاسات إذ كانوا يلقون هناك نعالهم، وقيل إنما كرهت لتقطيع الصفوف ولا تفسد الصلاة على هذا التعليل. وإن عللنا بنجاسة الموضع تفسد (¬4) الصلاة. (حكم تقدم الرجال أو النساء على الإمام) ولا تفسد الصلاة عندنا مخالفة الترتيب في مقامات الإمام مع المأمومين. وقد قدمنا ذلك. ولو خالفت امرأة بأن صلت أمام الإمام أو بين الصفوف لم تفسد صلاتها (¬5) عندنا، ولا صلاة من هي بين يديه إلا أن ثُمِرَ (¬6) صلاتها هناك تذكر من (¬7) هي بين يديه حتى يؤديه تذكره إلى نقض طهارته. وكذلك حكم الجماعة من النساء. ¬

_ (¬1) في (ت) يتناسق. (¬2) الصف:4. (¬3) في (ق) و (ت) لأن الصلاة. (¬4) في (ت) غالباً تفسد. (¬5) في (ر) صلاته. (¬6) في (ر) إلا أن يتضمن. (¬7) في (ر) تذكرا ممن، وفي (ت) تذكرا من.

فصل (لا يمنع النساء من حضور الجماعات إلا لسبب)

فصل (لا يمنع النساء من حضور الجماعات إلا لسبب) ولا يمنع النساء من حضور الجماعات إلا أن يغلب (¬1) عليهن الفساد فيجب منعهن. فأما السنن (¬2) كالعيدين والاستسقاء فلا تمنع منهما المتجالة (¬3) التي لا حظ فيها للرجال. (حكم الاستماع للمخبر في الصلاة) ومن استمع لمخبر في الصلاة فإن طال جداً بطلت صلاته لأنه كالمشتغل عن الصلاة بالكلية، وإن خف جداً فلا بأس به. وإن كان بين ذلك أمرناه بالسجود بعد السلام لأنه أطال لغير مصلحة الصلاة. (حكم زخرفة المساجد) وقد قدمنا أنه يجب تنزيه المساجد عن كل ما يستقذر. وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (¬4) الآية. فقيل: معناها يرفع مقدارها عن المستقذرات. وقيل: ترفع بالبنيان والتشييد. وليس من هذا تزويقها بما يلهي المصلي ولا منفعة فيه. وفي ذلك أيضاً تشبيه بالكنائس والبِيَع وهو منهي عنه. وتجب صيانة المسجد عن كل من لم يعرف حقه (¬5) وحرمته كالصغير والمجنون. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جَنَّبُوا مَسَاجِدَكُم صِبيَانَكُم" (¬6)، ولكنه يعارضه ما ثبت عنه مدوناً في الصحاح أنه حمل أمامة بنت ابنته وهو في الصلاة (¬7)، فقيل: كانت صلاة فرض، وقيل: كانت نافلة. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) يخاف. (¬2) في (ق) و (ت) وأما حضور السنن. (¬3) في (ر) منهن المتجالات. (¬4) النور: 36. (¬5) في (ر) منه. (¬6) ابن ماجه في المساجد 750. قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 549 وتعقب بأن الحديث ضعيف. (¬7) في (ت) الصلاة في المسجد. =

فصل (متى يفتح على الإمام؟)

وفي الكتاب في الصبي يأتي أباه وهو صغير في الصلاة المكتوبة إنه ينحيه عنه، ولا بأس بتركه في (¬1) النافلة. وهذا يقتضي تأويله للحديث على أن ذلك كان في النافلة. ولو اضطر الإنسان إلى حمل طفل وهو في الصلاة (¬2) لحمله. وعلى الاضطرار تأول ما ورد (¬3) في الحديث من حمل أمامة في الفريضة (¬4). ... فصل (متى يفتح على الإمام؟) وقد قدمنا أنه لا يفتح على من ليس معه في صلاة، وإن طلب منه الفتح، فإن فتح عليه فهل تبطل صلاة الفاتح؟ قولان. وهما على ما قدمناه في الخلاف في القرآن يقصد به إفهام الغير. وهل يفتح على من معه في صلاته؟ أما إن أخطأ الإمام في غير أم القرآن فإنه لا يفتح عليه إلا أن يغير المعنى أو يطلب منه الفتح. وإن أخطأ في أم القرآن فإنه يفتح عليه لأن الصلاة لا تجزي إلا بها. ولو ترك الإنسان آية من أم القرآن فحكى إسماعيل القاضي قولين: أحدهما: أنه يسجد لسهوه، والثاني: لا سجود عليه. وهذا لأنه رأى أن الأقل تبع للأكثر على مراعاة الإتباع في أنفسها أن تبطل صلاته. ... ¬

_ = والحديث أخرجه البخاري في الصلاة 516 واللفظ له، ومسلم في المساجد 543 عَنْ أَبِي قَتَادةَ الْأَنْصَارِي أَنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْس فَإذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا. (¬1) في (ر) ولا بأس به في. (¬2) في (ر) في الفريضة. (¬3) في (ر) أن يكون ما ورد. (¬4) في (ق) و (ت) من حمله على الفريضة.

فصل (حكم الالتفات في الصلاة)

فصل (حكم الالتفات في الصلاة) وقد قدمنا وجوب استقبال القبلة وحكم من صلى إلى غيرها. والنظر هاهنا في الالتفات في الصلاة، وهو (¬1) يفسد الصلاة إن خرج المصلي عن الاستقبال، ولا يفسدها إن لم يخرج عنه. ولو كان الالتفات بسائر الجسد لكان يكره جملة إذ هو كالتارك لأدب الوقوف بين يدي ملك الملوك. (حكم الصفد في الصلاة) وقد روي في بعض الأحاديث النهي عن الصفد (¬2) في الصلاة وهو أن يصلي قارنا قدميه معتمداً عليهما. وقد عابه مالك رحمه الله في المدونة واستحبه في غيرها. وعاب الوقوف على الرجل الواحدة (¬3) معتمداً عليها. ولعله قال: هذا لما لم يثبت عنده الحديث، فكره التحديد بالاعتماد على الرجل الواحدة كعادته في الكراهة. ... فصل (حكم تحبيس المساجد وغيرها) واجتمعت الأمة على جواز تحبيس السقايات والمساجد؛ فمن بني مسجداً فلا يخرج عن ملكه بنفس البناء إلا أن يظهر منه قول أو فعل يدل على أنه قصد إخراجه عن ملكه وتحبيسه. ومن الفعل أن يخلي بين الناس وبينه. وسقف المسجد لاَحِقٌ به (¬4) في تحبيسه. ولهذا لا يحل أن يملك ما فوقه، ويجوز ملك ما تحته إذ الأسفل لا يسري إليه حكم التحبيس. ¬

_ (¬1) في (ت) هل. (¬2) في (ق) الصفرد. (¬3) في (ر) الواحد. (¬4) في (ر) و (ت) لاحق له.

(حكم سجود الشكر)

(حكم سجود الشكر) وهل يجوز السجود عند البشرى بما يسر (¬1) به الإنسان. في المذهب قولان: المشهور كراهيتها، وهذا لأنه لم يثبت أن السجود مشروع (¬2). والشاذ جوازه. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (¬3). وروى ذلك عن جملة من الصحابة رضوان الله عليهم (¬4). ¬

_ (¬1) في (ت) بما يبشر به. (¬2) قال الشوكاني في نيل الأوطار3/ 129 بعدما ذكر الأدلة على شرعية سجود الشكر، وإنكار أبي حنيفة ومالك له قال: "وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب. ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم في سجود ص هي لنا شكر ولداود توبة". (¬3) أخرج أبو داود في الجهاد 2774 واللفظ له، وابن ماجه في إقامة الصلاة 1394 عَنْ أبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِداً شَاكِراً لِلهِ. (¬4) ابن ماجه في إقامة الصلاة 1393 عَنْ عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تَابَ اللَهُ عَلَيْهِ خَرَّ سَاجِداً.

كتاب الصلاة الثاني

كتاب الصلاة الثاني (حكم سجود التلاوة) وقد بدأ فيه بأحكام سجود التلاوة (¬1)، وأجمعت الأمة على أنها مشروعة (¬2). واختلفوا هل هي واجبة أو مندوب إليها؟ ومذهب مالك رحمه الله إسقاط الوجوب معولاً على قول عمر رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَكتُبهَا عَلَينَا إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ" (¬3). وقد ترك السجود بحضرة الصحابة، وقال ما حكيناه عنه وهو على المنبر، ولم ينكر عليه أحد. وقد اختلف الأصوليون هل يعد قوله هذا إجماعاً لترك الإنكار أم لا يعد؟ وإذا تقرر أن المذهب إسقاط وجوبها فهل تلحق بالسنن، أو تنزل عنها إلى الفضائل؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: عدها فضيلة، قاله القاضي أبو محمد. وهذا طريق أبي القاسم ابن الكاتب. واحتج بقول مالك رحمه الله تعالى في المدونة: يستحب له إن قرأها في أثناء الصلاة ألا (¬4) يدع سجودها (¬5) فأطلق عليها في الكتاب لفظة الاستحباب. وهذا يدل على أنها فضيلة. ¬

_ (¬1) لعل المؤلف يقصد صاحب المدونة. هذا إذا لم يكن من كلام الناسخ. (¬2) في (ت) مشروعة على الجملة. (¬3) أخرجه مالك في النداء 482، والبيهقي في سننه 3/ 213. (¬4) في (ر) أن يقرأها في إبان الصلاة ولا يدع. (¬5) المدونة: 1/ 111.

(أعداده)

والقول الثاني: أنها سنة، قاله أبو القاسم ابن محرز (¬1). واحتج بما في المدونة من أنه يسجد لها بعد الصبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفر الشمس. وشبهها بالجنائز. وهذا التشبيه يقتضي أنها سنة كالجنائز. ولا يسلم هذا الذي قاله من الاعتراض لأنه يمكن أن يحمل التشبيه على جواز السجدة (¬2). والأمر به في هذا الوقت، لا على أنها تشبه الجنائز في كل الأحكام. وقد قدمنا سبب الخلاف فيما يلحق بالسنن أو يعد من الفضائل، وهو ما يدوم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن في غير الجماعات. وسجود التلاوة (¬3) من هذا القبيل. وإذا تقرر هذا قلنا: أحكام السجود تنحصر في أربعة فصول: أحدها: أعداده. والثاني: مواضعه من الآي. والثالث: شروطه وصفاته ومن يؤمر به. والرابع: أوقاته. (أعداده) فأما أعداده فقد اختلف المتقدمون من أهل المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: فالمشهور: أن أعداده إحدى عشرة [سجدة] (¬4) ليس في المفصل منها شيء، أولها آخر الأعراف، وآخرها حم تنزيل (¬5). والقول الثاني: أن أعداده خمس عشرة يضاف إلى ما سميناه سجود آخر الحج، وثلاثة في المفصل: آخر النجم، وآخر العلق (¬6)، وسجدة في الانشقاق. ونذكر الخلاف في مواضعها بعده. ¬

_ (¬1) هو: أبو القاسم بن محرز المقري القيرواني تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران وأبي حفص تفقه به عبد الحميد الصائغ وأبو الحسن اللخمي كان فقيهاً نظاراً نبيلاً وابتلي بالجذام في آخر عمره وله تصانيف حسنة منها تعليق على المدونة سماه التبصرة وكتابه الكبير المسمى بالمقصد والإيجاز توفي في نحو الخمسين وأربعمائة رحمه الله تعالى ترجمته في شجرة ص: 110 والديباج المذهب ص: 226. (¬2) في (ت) و (ق) السجود. (¬3) في (ت) من فعل الرسول عليه السلام له ولم يظهره في الجماعة وسجود التلاوة، وفي (ر) لكن له في غير الجماعات وسجود التلاوة. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) أي سورة فصلت. (¬6) في سائر النسخ التي وقفت عليها القلم، ولعل الصواب ما أثبته لأن القلم ليست سجدة بالاتفاق.

والقول الثالث: أن أعداده أربعة عشر موضعاً فأسقط مما ذكرناه سجدة آخر الحج (¬1). وجمهور متأخري أهل المذهب يرون أن هذا خلاف، وأن المشهور ترك السجود فيما عدا الأحد عشر موضعاً. والقاضي (¬2) أبو محمد يرى أن السجود مأمور به في جميع الخمسة عشر، لكنه في الأحد عشر آكد منه في الباقي. وعليه يتأول المشهور. ويحتج بقول مالك في موطئه:"عَزَائِمُ سُجُودِ القُراَنِ إِحدَى عَشرَةَ سَجدة" (¬3). وهذا يدل على أن في القرآن سجودَ [غيرِها] (¬4)، لكنه ليس من العزائمِ. فيصير المذهب عنده على أن السجود مشروع في الأحد عشر موضعاً متأكداً، وفي غيره من الأربعة مواضع غير متأكد. وهو غير مشروع في غير هذه المواضع. وسبب الخلاف على ما قاله الجمهور اختلاف آثار؛ فحكى زيد بن ثابت وابن عباس وغيرهما أن الرسول عليه السلام لم يسجد بعد الهجرة في المفصل (¬5). وحكى أبو هريرة وغيره أنهم سجدوا في المفصل خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل هل في الحج سجدتان؟ فقال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأ (¬7). وهذا يقتضي تأكيد السجود وثبوته في ¬

_ (¬1) في (ق) آخر النجم. (¬2) في (ق) و (ت) وهي ما تقدم والقاضي. (¬3) مالك في النداء للصلاة. (¬4) ساقط من (ق) و (م). (¬5) أخرج البخاري في الجمعة 1073 عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ "قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّجْم فَلَمْ يَسْجُد فِيهَا"، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 377 عن ابن عباس وذكروا سجود الَقرآن فقال: "الأعراف والرعد والنحل وبنو إسرائيل ومريم والحج سجدة واحدة والنمل والفرقان وألم التنزيل وحم السجدة وص وليس في المفصل سجود". وأخرج البيهقي في سننه 2/ 313 قال ابن عباس: "ليس في المفصل سجدة"، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه 3/ 343 عمن سمع عكرمة يحدث قال: "سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المفصل إذ كان بمكة يقول ثم لم يسجد بعد". (¬6) أخرج مسلم في المساجد 578 واللفظ له، والترمذي في الجمعة 573 عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ "سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِذاَ السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ". (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب أخرجه أبو داود في الصلاة 1402، والترمذي في الجمعة 578 عن عُقْبَةَ بْن عَامِرِ قَالَ قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ "نَعَمْ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا". واللفظ لأبي داود.

فصل (مواضعه من الآي)

آخر الحج. لكن هذا الحديث لم تثبت فيه شروط الصحة. والذي صوبه المحققون من المتأخرين ومن لقيته من الأشياخ ثبوث السجود في المفصل. لأن من حكى نفي حكم السجود إنما ذكر ما رأى، ومن أثبت أولى ممن نفى، ولا سيما وقد يترك (¬1) السجود ليبين أنه ليس بواجب ويسجد (¬2) ليبين أنه مشروع. فإذا أمكن صرف الترك إلى هذا المعنى لم يكن فيه دليل على انحصار السجود في الأحد عشر موضعا. ... فصل (مواضعه من الآي) وأما مواضع السجود من الآي فاختلف فيه في ثلاثة مواضع: أحدها: سجدة ص، فقيل يسجد عند قوله جل ذكره {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} (¬3)، وقيل: يسجد عند قوله {وَحُسْنَ مَآبٍ (29)} (¬4). والثاني: سجدة {حم (1) [تَنزِيلُ]} (¬5)، فقيل: يسجد عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} (¬6)، وقيل: عند قوله عز وجل: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} (¬7). والثالث: سجدة الانشقاق، فقيل: يسجد في آخر السورة، وقيل: عند قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} (¬8). وسبب الخلاف هل النظر إلى سبب السجود فيسجد عند كمال الآية ¬

_ (¬1) في (ر) ترك. (¬2) في (ر) سجد. (¬3) ص: 24. (¬4) ص:25. (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) فصلت: 37. (¬7) فصلت: 38. (¬8) الانشقاق: 21.

بعد ذكر السجود، أو النظر إلى كمال الثناء على المطيع (¬1) والذم للعاصي، فيسجد عند كمال ذلك؟ ولم يختلف في محل السجود في غير ما ذكرناه، فيسجد في الأعراف عند ختمها. وإذا سجد وكان في الصلاة ثم قام فهو غير إن شاء أن يركع (¬2) من غير أن يقرأ شيئاً من غيرها، وإن شاء قرأ ثم ركع. والسجدة في الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬3)، وفي النحل: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬4)، وفي سبحان: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬5)، وفي مريم: {وَبُكِيًّا} (¬6)، وفي الحج: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬7). وإن أثبتنا السجدة في آخرها فعند قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬8). وفي الفرقان: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬9)، وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬10)، وفي ألم السجدة: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬11)، وفي النجم آخرها. وهو مخير بعد الرفع كما ذكرناه بين أن يركع أو يقرأ من غيرها. وكذلك في سورة القلم. وخيره ابن حبيب بين السجود والركوع فينوب له ذلك عن ركوع الصلاة وعن سجود التلاوة. وهذا كأنه ترك السجود. ... ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) للمطيع. (¬2) في (ت) يترك. (¬3) الرعد: 115. (¬4) النحل:50. (¬5) الاسراء: 109. (¬6) مريم: 58. (¬7) الحج: 18. (¬8) الحج: 77. (¬9) الفرقان: 60. (¬10) النمل: 26. (¬11) السجدة: 15.

فصل (شروط السجود)

فصل (شروط السجود) وأما شرط (¬1) السجود فهو جزء من الصلاة، فيشترط فيه عندنا جميع ما يشترط في الصلاة؛ من طهارة الحدث والخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة. وهل يُحرِم له ويسلم منه؟ أما الإحرام الزائد على التكبير للهَوْيِ (¬2) فلا يشترط عندنا. وكذلك لا يشترط السلام إذ لم يثبت، وإنما هو مجرد سجود. وهل يكبر له عند الإهواء والرفع منه؟ أما إن كان في صلاة فيكبر، وإن كان في غير صلاة ففيه ثلاثة أقوال: في الكتاب الأمر بالتكبير، وكراهيتها، (¬3) وخيره ابن القاسم. وسبب الخلاف القياس على سجود الصلاة وسجود التلاوة إذا كان في صلاة، فعلى هذا يكبر، والقياس (¬4) على الإحرام والتسليم، فلا يكبر. وأيضاً فإن التكبير مشروع في الصلاة الكاملة، وهذا ليس منها. والتخيير لتعارض ما قلناه. (من يؤمر بالسجود) ويؤمر به كل تال للقرآن في غير صلاة فريضة إذا مر بإحدى الآي التي قدمناها (¬5). وهذا إذا كان في وقت يجوز فعله فيه على ما نبينه، وهو على الصفات التي قدمناها في شروط الصلاة. وهل يؤمر به مستمع القراءة؟ أما إن لم يقصد الاستماع فلا يؤمر، وإن قصد وكان الثاني ممن لا تصح إمامته فلا يؤمر، وإن كان ممن تصح إمامته وسجد الثاني أمر به، وإن لم يسجد فقولان: المشهور أن يؤمر به ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) شروط. (¬2) في (ت) للإهواء للسجود. والهوى والإهواء كلاهما صحيحتان. انظر لسان العرب 15/ 372 - 374. (¬3) المدونة: 1/ 111. (¬4) في (ت) فعلى هذا يكبر والقول الثاني بالقياس. (¬5) في (ت) قدمناه، وفي (م) قدمنا.

(كراهيه قراءة آية السجدة وحدها لأجل السجود)

لأن الاستماع كالتلاوة، وأصلها اكتفاء المأموم بقراءة الإمام (¬1). والقول الثاني أنه لا يؤمر، لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - "أنه قرأ رجل عنده آية من القرآن فيها سجدة فسجد الرجل وسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - معه، ثم قرأ آية أخرى فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتظره النبي (¬2) أن يسجد فلم يسجد فقال له في ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كنت إمامنا ولو سجدت لسجدت معك" (¬3). وقال بعض الشافعية: إنما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجود لينبه القارئ أنه أخطأ بتركه إياه، وإنما كان القارئ هو المأمور به أولاً والمستمع في حكم التبع. وهو غير واجب فلا يبعد تركه لقصد البيان. (كراهيه قراءة آية السجدة وحدها لأجل السجود) وقد كره في المدونة أن يقرأ الرجل السجدة وحدها ليسجد لها (¬4). واختلف الأشياخ هل يريد لفظ السجدة خاصة وموضع السجود منها أو كل الآية؟ فلهم في ذلك قولان: أحدهما: أنه إذا قرأ الآية جميعها جاز، وجاز السجود لأنه حصل تالياً لذلك. والثاني: أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن حكم التلاوة لم يحصل له، وإنما حصل لمن استمر على قراءة السورة (¬5). (حكم قراءة السورة التي فيها السجدة في الصلاة) وهل تجوز قراءة السورة التي فيها السجدة في الصلاة؟ أما في صلاة النافلة فلم يختلف المذهب في جواز ذلك. وهذا إذا كان فرداً أو كان في ¬

_ (¬1) في (ق) قراءة الإمام القرآن. (¬2) في (ر) الرجل. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 379 عن زيد بن أسلم أن غلاما قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فانتظر الغلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس في هذه السورة سجدة قال: بلى ولكنك كنت أمامنا فيها فلو سجدت لسجدنا. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 556: رجاله ثقات إلا أنه مرسل. (¬4) في (ق) ليسجدها. (¬5) المدونة: 1/ 111.

(حكم من نسي سجود التلاوة في الصلاة)

جماعة يأمن التخليط فيها فظاهر، وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها، فالمنصوص أيضاً جوازه لما ثبت من فعل الأولين في صلاة النفل في رمضان وهم مجتمعون فيمرون بالسجدة فيسجدون. وأما في الفريضة فإن كانت صلاة سر أو جهر وخاف أن يخلط على من خلفه، فلا يجوز له ذلك. لأنه قد يؤدي إلى بطلان الصلاة، وكل ما أدى إلى بطلانها فممنوع. وأما إن أمن التخليط وكانت صلاة جهر، أو كان فرداً ففيه قولان: المشهور النهي عنه، والشاذ جوازه. وقد علل المشهور بأنه إذا قرأ السجدة وسجد بها، كان زائداً في أعداد الفريضة، وذلك لا يجوز. والصحيح جوازه (¬1) لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يداوم على قراءة ألم تنزيل السجدة في الركعة الأولى من صلاة الصبح (¬2). وعلى هذا كان يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم. وإذا منعناه أن يقرأ بالسجدة في صلاة السر فإنه إذا قرأ ووصل إلى السجدة فينبغي له أن يجهر إذا عول على السجود لها ليعلم من خلفه أنه إنما سجد للتلاوة. وإن لم يجهر وسجد فهل يتبع في السجود؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه يتبع فيه للزوم متابعة الإمام، والثاني: أنه لا يتبع لجواز أن يكون سجد ساهيا ولم يقرأ آية السجدة. (حكم من نسي سجود التلاوة في الصلاة) وإذا أبحنا له أن يقرأ في النافلة بما فيه السجدة فقرأ ثم نسي أن يسجد في موضع السجود فلا يخلو من أن يذكر ذلك قبل التطاول (¬3) أو بعده، وقبل أن ينحني للركوع أو بعد ما انحنى للركوع ولم يرفع رأسه، أو بعد ما رفع رأسه. فإن ذكر قبل أن يتطاول سجد عند ذكره ولم يؤمر بإعادة ¬

_ (¬1) في (ق) على تلاوة الآية الكثير. (¬2) في (ت) جوازه في الفريضة والنافلة. (¬3) أخرجه البخاري في الجمعة 891، ومسلم في الجمعة880 وهو مقيد بصلاة صبح يوم الجمعة.

فصل (أوقاته)

آية السجدة (¬1). وإن ذكره بعد التطاول أمر بإعادة قراءة الآية التي فيها ذكر السجود [وسجد] (¬2). وإن ذكر بعد أن خر للركوع فهل يتمادى على ركوعه ويترك السجدة، أو يخر إلى السجدة؟ فيه قولان. وهما على الخلاف في عقد الركعة ما هو؟ هل هو وضع اليدين على الركبتين؟ أو رفع الرأس منها؟ فإن قلنا عقد الركعة وضع اليدين على الركبتين، تمادى على ركوعه. وإن قلنا عقدها رفع الرأس منها، خر للسجود ساجدا. وعكس هذا أن يريد السجود فيركع فهل يجزيه هذا الانحطاط على الانحطاط إلى الركوع فيه قولان (¬3). وهما على الخلاف في الحركة إلى الأركان هل هي مقصودة فلا يجزيه، أو غير مقصودة فيجزيه. وإن ذكر السجدة وقد رفع رأسه من الركوع فلا يسجدها في الحال، لكن إن كانت هذه الركعة هي الأولى من النافلة قرأها في الركعة الثانية ويسجد لها. ومتى يقرأها هل قبل أم القرآن أو بعدها؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه يقرأها قبل أم القرآن؛ لأنها قضاء عن الركعة (¬4). وإنما يكره أن يقدم على أم القرآن غيرها إذ لم يكن له سبب مثل هذا، وإذا ظهر له السبب جاز له التقدم. والثاني: لا يقرأها إلا بعد أم القرآن، إذ أصل المذهب (¬5) أن المشروع أنه يأتي بها عقيب التكبير من غير فاصل. فإن كانت الركعة هي الثانية من النافلة، فإن كان يركع بعدها نافلة أخرى قرأ بها وسجد، وإلا فقد فات موضع السجود. ... فصل (أوقاته) وأما أوقات السجود؛ فإنه يجوز في كل وقت يجوز فيه أداء النوافل. ويجوز بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح، وبعد مغيب الشمس قبل ¬

_ (¬1) في (ق) التطويل. والمقصود طول زمان النسيان. (¬2) في (ر) التلاوة. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) انحطاطه للسجود قولان. (¬5) في (ق) الركعة الأولى.

فصل (وجوب الوضوء عند لمس القرآن)

صلاة المغرب. وهل يجوز بعد صلاة الصبح إذا لم يسفر، وبعد صلاة العصر إذا لم تصفر الشمس؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه لا يجوز، قاله في الموطأ. والثاني: جوازه، وهو مذهب الكتاب (¬1). والثالث: التفرقة، فيجوز بعد الصبح ولا يجوز بعد العصر، قاله ابن حبيب. وقد قدمنا ما قاله أبو القاسم ابن محرز من [أن] (¬2) السجود بعد الصبح وبعد العصر يقتضي كونه سنة، ولهذا شبهت بصلاة الجنائز. وعلى هذا يكون النهي في السجود في هاذين الوقتين يقتضي كونه فضيلة. وأما تفرقة ابن حبيب فلأن النهي عن الصلاة بعد العصر أشد من النهي عنها بعد الصبح. إذ (¬3) اختلف المذهب هل تأخير الفريضة إلى الاصفرار محرم أو مكروه. وتأخيرها إلى الإسفار لم يختلف أنه غير محرم. وإنما اختلف هل هو جائز أو مكروه. ... فصل (وجوب الوضوء عند لمس القرآن) ولا خلاف في الأمر بالوضوء لمن أراد مس القرآن. وهل ذلك الأمر واجب؟ المشهور من مذاهب العلماء وجوبه. وروى مالك رحمه الله في موطئه أن في الكتاب الذي كتبه الرسول عليه السلام لعمرو بن حزم (¬4) أن لا يلمس القرآن إلا طاهر (¬5). واختلف في معنى قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا ¬

_ (¬1) في (ر) إذا صلا به المذهب. المدونة: 1/ 111. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) و (ق) و (ت) إذا. (¬4) في (ق) و (ت) بن جزم. (¬5) أخرج مالك في النداء 468 واللفظ له، والدارمي في الطلاق 2266 عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرِ بنِ حَزْم أَن في الكِتَابِ الّذِي كَتبَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمرِو بنِ حَزْمٍ أَنْ لاَ يَمسَّ القُرآن إلا طَاهِرٌ.

باب في أحكام السترة في الصلاة

الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬1)؛ فقيل: هو على ظاهره من الخبر، والمراد بالمطهرين الملائكة، وهو رأي مالك رحمه الله في موطئه. وأكثر أهل المذهب على حمل الآية على الأمر، وإن كان ظاهرها الخبر. ويكون موافقاً للحديث المتقدم. فإذا أوجبنا الوضوء (¬2) لمس المصحف، فهل ذلك في حق كل مريد لمسه؟ أما غير المتعلم والمعلم فذلك واجب في حقه بلا خلاف، إلا أن يمسكه مع أشياء كثيرة ولم يقصد إلى حمله. وإنما قصد حمل ما معه كالرحل يكون فيه المصحف. فإن قصد إلى حمل المصحف منع إلا بطهارة. وأما المتعلم فلا خلاف في المذهب في جواز مسه للمصحف بغير طهارة، لأنه مضطر إلى مسه ويشق عليه تكرار الوضوء. وأما المعلم ففيه قولان: أحدهما: أنه كالمتعلم. والثاني: أنه لا ضرورة به إلى ذلك كسائر الناس. وهذا ينبغي أن يكون خلاف في حال. فإن كان حافظاً يستغني عن مطالعة المصحف فهو كغير (¬3) المتعلم. وإن كان مفتقراً إلى مطالعته لقلة حفظه وهو يحتاج إلى العلم لأَجَلٍ (¬4) معجل أو مؤجل، فهو كالمتعلم. وإذا منعنا غير المتوضئ من مس المصحف فأحرى أن يمنع من على غير الإسلام من مسّه. وقد قدمنا الكلام على قراءة [الجنب] (¬5) القرآن طاهراً، ومن يجوز له ومن لا يجوز له. ... باب في أحكام السترة في الصلاة وأجمعت الأمة على وجوب السترة في حق المصلي على الجملة. ¬

_ (¬1) الواقعة: 79. (¬2) في (ق) وإذا ثبت وجوب الوضوء. (¬3) في (ت) كسائر الناس. (¬4) في (ر) لأجر. (¬5) ساقط من (ق) و (م).

(من يؤمر بها؟)

وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه متى صلى في غير الجدار ركزت له الحربة [أو العنزة] (¬1) فيصلي إليها. وكان يصلي إلى بعيره (¬2). ونهى عن المرور بين يدي المصلي، وقال: "لَوْ يَعلَمُ المار بَينَ يَدَي المُصَلِّي مَاذَا عَلَيهِ لَكَانَ أن يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْراً لَه" (¬3). وشك الراوي هلَ أراد أربعين سنة، أو أربعين يوماً، أو أربعين شهراً. فأمر بدفع من يمر بين يدي المصلي، وقال: "فَإِنْ أَبَى فَليُقَاتِلهُ فَإنمَّا هُوَ شَيطَان" (¬4). واختلف في معنى المقاتلة هاهنا فقيل: هي على ظاهرها، والمراد أوائلها وهو الدفع بعنف ما لم يؤد إلى العمل الكثير في الصلاة. وقيل: معناه اللعنة، وهو المراد بقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬5). أي يلعنهم الله. فإذا ثبت ذلك فالنظر في السترة ينحصر في أربعة فصول: أحدها: من يؤمر بها؟ وما المقدار المجزي عنها؟ وكيف صورة الاستتار فيها؟ وحكم المصلي والمار في الإثم والدفع [عن المرور] (¬6). (من يُؤمر بها؟) وأما من يؤمر بها فكل مصل في موضع لا يأمن المرور بين يديه إذا كان فذاً أو إماماً، فإن أمن المرور ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يؤمر بالسترة إلا أن يشاء، والشاذ أمره بها. وسبب الخلاف هل جعلت السترة حريما للمصلي حتى يقف عندها ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). والعَنَزَةُ- بفتحتين- أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيها زُجٌّ كزج الرمح. انظر مختار الصحاح 192. (¬2) أخرج البخاري في الصلاة 430 عَنْ نَافِع قَالَ؛ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ وَقالَ: رَأَيْتُ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلُهُ. (¬3) أخرجه البخاري في الصلاة 510، ومسلم في الصلاة 507. (¬4) أخرجه البخاري في بدء الخلق 3275، ومسلم في الصلاة 505. (¬5) المنافقون: 4. (¬6) ساقط من (ر).

فصل (ما المقدار المجزئ فيها؟)

البصر فلا يتعداها؟ أو جداراً من مرور مار، فيشتغل به عن صلاته. فإن قلنا إنها جعلت حريماً للصلاة وجبت السترة وإن أمن المرور، وإن قلنا إنها جعلت جدارا من الانشغال بالمار لم يجب مع الأمن. فإن صلى في موضع مرتفع- على القول بأنها [لا] (¬1) تجب مع الأمن - فإن كان من يمر لا يظهر من أشخاصهم شيء للمصلي لم تجب السترة، وإن كان يظهر منها شيء وجبت السترة. ولا يؤمر بها المأموم بلا خلاف. وقد ثبت عن ابن عباس أنه مر بين يدي الصفوف راكباً حماره أتاناً، فلم ينكر عليه أحد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً والمقتدون الصحابة (¬2). واختلفت ألفاظ أهل المذهب في علة سقوط السترة عن المقتدين؛ فقال بعضهم: لأن سترة الإمام سترة لهم، وقال بعضهم: لأن الإمام سترة لهم. واختلف المتأخرون هل العبارتان بمعنى واحد، أو يختلف معناهما. فيكون معنى أولى أن السترة التي جعلها الإمام بين يديه هي سترة للمأموم، وإذا سقطت صار حينئذٍ مصلياً إلى غير سترة. ومعنى الثانية أن الإمام هو الساتر للمأموم. فإذا سقطت سترته كان المأموم باقياً على حكم الاستتار، وإن ذهبت سترة الإمام. ... فصل (ما المقدار المجزئ فيها؟) وأما المقدار المجزي من السترة فأقله مقدار عظم الذراع في غلظ الرمح إذا كان يثبت ولا يقع. وكره مالك رحمه الله السوط؛ لأنه لا يثبت. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) أخرج البخاري في الصلاة 493 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 504 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ أَنهُ قالَ: "أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى حِمَارِ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذِ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحتِلاَمَ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلي بِالنَاسِ بِمِنَى إِلَى غَيرِ جِدَارِ فَمَرَرتُ بَينَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفَّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلتُ فِي الصَّفَّ فَلَم يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ".

ولا تنفع السترة بالخط. وفي الحديث الخط باطل (¬1). وتجوز السترة بكل ظاهر ثابت غير متنقل لا يخاف منه مضرة ولا يؤدي إلى بطلان الصلاة. وهذه التحرزات من الاستتار بالنجاسة كقصبة (¬2) المرحاض وما في معناها، أو الصلاة إلى حلقة المتحدثين المستقبل وجوهَهم، أو المرأة غير ذات المحرم. وهل تجوز الصلاة إلى الحلقة الدائرة؟ في المذهب قولان: الجواز، لأنه يستقبل ظهر الجالس. والكراهة؛ لأنه يستقبل وجه المقابل (¬3) للجالس. ومن ذلك الصلاة للنائم والمجنون. وبالجملة غير المميز لأنه لا يُؤمَن ما يحدُث من هؤلاء من ريح ونحوه. [وكذلك الصبي الجميل الصورة والمخنث، فإنهما يلحقان بالمرأة] (¬4). وبالجملة كل من لا يؤمن معه التذكر فيما يفسد الصلاة، فإنه لا يجوز الاستتار به. وقد أجازوا الصلاة إلى الطائفين (¬5) لأنهم في حكم المصلين. ... ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الحديث، بل هو من كلام الإمام مالك في المدونة 1/ 113 والحديث المشهور في هذه المسألة هو ما أخرج أبو داود في الصلاة 689 واللفظ له، وأحمد في مسنده 2/ 187 وابن حبان 2/ 13، وابن حبان 6/ 138عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُم فَلْيَجعَلْ تِلقَاءَ وَجهِهِ شَيْئاً فَإِن لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصاً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصاً فَلْيَخْطُطْ خَطّاً ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ". قال صاحب عون المعبود 2/ 271: "واعلم أن حديث الخط المذكور أخرجه أيضاً ابن حبان وصححه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار. قاله الشوكاني: وأخذ به أحمد وغيره فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة، وأما الأئمة الثلاثة والجمهور فلم يعملوا به، وقالوا: هذا الحديث في سنده اضطراب فاحش كما ذكره العراقي في ألفيته. وقال الحافظ ابن حجر: وأورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب ونوزع في ذلك". (¬2) في (ق) كقضية. (¬3) في (ت) المحادي. (¬4) في (ق) ومن المرأة وألحقوا بها المأبون في دبره. (¬5) في (ق) و (ت) الطائفتين.

فصل (صورة الاستتار بالسترة)

فصل (صورة الاستتار بالسترة) وأما صورة الاستتار فإن كانت السترة شيئاً منفردًا كحجر أو عود، فينبغي أن يجعل على اليمين. ولا يصلي منتصباً إليه، محاذرة من التشبه بالأصنام. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى إلى شيء من هذا النحو جعله عن يمينه أو عن يساره ولا يصمد له صمداً (¬1)، ويؤمر المصلي بالدنو من (¬2) سترته. وقد اختلفت الأحاديث في المقدار الذي كان بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فروى بلال ثلاثة أذرع (¬3)، وروى سهل بن سعد ممر الشاة (¬4). واختلف في الجمع بين الحديثين؛ فقال أكثر الأشياخ: معنى الحديث الأول أنه كان بينه وبين سترته مقدار ثلاثة أذرع عند القيام. فإذا سجد كان بين رأسه وبين سترته قدر ممر الشاة. وروى أبو الطيب بن خلدون أن معنى الحديثين أنه كان عليه السلام إذا قام دنا من سترته حتى يكون بينه وبينها ممر الشاة. فإذا أراد الركوع بعد عنها حتى يكون بينه وبينها مقدار ثلاثة أذرع. وكان أبو الطيب هذا المذكور يفعل ذلك ويرى أنه عمل يسير من مصلحة الصلاة، لأن الدنو من السترة أحفظ للبصر (¬5) وأجمع للقلب. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود فيِ الصلاة 693 واللفظ له، وأحمد في مسنده 6/ 4 عَن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ مَا رَأَيْتُ رَسُوِلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إِلَى عُودٍ وَلاَ عَمُودٍ وَلاَ شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ وَلاَ يَصْمُدُ لَهُ صَمْداً. قال الشوكاني في نيل الأوطار3/ 5 "في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي. قال المنذري وفيه مقال. وقال في التقريب لين الحديث". (¬2) أخرج النسائي في القبلة 748، وأبو داود في الصلاة 695 عَنْ سَهْلِ ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَة فَلْيَدْنُ مِنْهَا لاَ يَقْطَعَ الشَيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. (¬3) أخرج البخاري في الصلاة 506، وأحمد في مسنده 2/ 138 واللفظ له عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ بِلَالاً أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ دَخَلَ الْكَعبَةَ قَالَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَدْرُعٍ. (¬4) أخرج البخاري في الصلاة 496، ومسلم في الصلاة 508 عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ مصلَّى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَبَينَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ (¬5) في (ق) للصلاة.

فصل (حكم من ترك السترة ومن مر بين يديه)

فصل (حكم من ترك السترة ومن مر بين يديه) فأما حكم تعلق الإثم بمن صلى إلى غير السترة، وبالمار بين يدي المصلي؛ فإن صلى إلى غير سترة بحيث لا يؤمن المرور، وللمار مندوحة عن مروره، فقد أثما جميعا. وإن كان بحيث يأمن المرور وليس للمار مندوحة عن مروره فمر لم يأثما (¬1). وإن كان بحيث لا يأمن المرور وليس للمار مندوحة أثم المصلي. وإن كان بالعكس أثم المار. ومن المرور بين يدي المصلي مناولة الشيء من بين يديه وأخذ ما هو هناك. ومنه تحدُّث من على (¬2) جانبه. وينبغي للمصلي أن يمنع المار بين يديه بالإشارة، فإن فعل وإلا دفعه إن كان قريباً، دفعاً لطيفاً. وإن كان بعيداً اكتفى بالإشارة، ولا يفرط في دفعه. وقد روي أنه رفع إلى عثمان رضي الله عنه إنسان دفع ماراً وهو في الصلاة فكسر أنفه. فقال: لو تركته لكان أهون من هذا (¬3)، ولم يذكر في الآثار أنه ألزمه الدية. وقال أهل المذهب: لو دفعه فسقط فمات لكان كقتل الخطأ، وتكون ديته على العاقلة. وأجراه أبو محمد عبد الحق على الخلاف في من عض إنساناً، فأخرج المعضوض يده فكسر سن العاض؛ ففيه قولان: هل يكون على الكاسر ديته أم لا؟ وهذا أصل مختلف فيه في المذهب. وهو في كل من أُذِنَ له إذن خاص في فعل يفعله فأدى إلى الإتلاف؛ ففيه قولان: هل يرفع الإذن ما كان عنه من الإتلاف (¬4). ... ¬

_ (¬1) في (ق) لم يأثم واحد منهما. (¬2) في (ر) من هو. (¬3) أخرْج عبد الرزاق في مصنفه 2/ 34 عن مالك قال: "بلغني أن رجلاً أتى عثمان ابن عفان برجل كسر أنفه فقال له مَرَّ بين يدي في الصلاة وأنا أصلي وقد بلغني ما سمعته في المار بين يدي الصلي، فقال له عثمان: فما صنعت شر يا ابن أخي ضيعت الصلاة وكسرت أنفه". وانظره في المحلى لابن حزم عن مالك 3/ 88. وقال ابن عبد البر في التمهيد: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز في أكثر ظني ضمن رجلاً دفع آخر من بين يديه وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه 4/ 189. (¬4) كذا في (ر) و (ق) و (م) وخرم في (ت). والكلام غير تام.

باب الجمع للأعذار

باب الجمع للأعذار وهي أربعة: المطر والمرض والسفر والخوف. وقد قدمنا أحكام الأوقات وأوقات الفضيلة منها، وإلى أي زمن يمتد وقت الاختيار. فمن شاء الجمع بأن (¬1) يؤخر أحد الصلاتين المشتركتي الوقت كالظهر والعصر، والمغرب والعشاء. فيؤدي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها جاز ذلك له. وإن كان تاركا للفضيلة في أداء الظهر في أول الوقت المستحب. وأما المغرب فهل له أن يؤخرها؟ يجري على الخلاف هل يمتد وقتها فيجوز التأخير، أو لا يمتد فلا يجوز؟ وأما الجمع بتقديم الصلاة الثانية إلى وقت الأولى، وتأخير الأولى إلى وقت الثانية، فهذا لا يجوز إلا مع الأعذار على ما نبينه. واجتمعت الأمة أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين المتباينتين؛ كالصبح والظهر، والعصر والمغرب، والعشاء والصبح. ... فصل (الجمع للمطر) وإذا تقرر ما قلناه، فهل يجمع للمطر أم لا؟ المشهور جواز الجمع على الجملة، والشاذ أنه لا يجمع إلا في مسجد الرسول عليه السلام حيث ورد الجمع. والتفت في المشهور إلى علة الجمع وهو المطر، وذلك مما تتساوى فيه البقاع والأوقات. والتفت في الشاذ إلى أن الجمع لتحصيل فضيلة الجماعة في بقعة مخصوصة يختص بمزيد فضيلة لا توجد في غيرها، فقصر الجمع عليها. (هل يجمع بين الظهر والعصر أم لا؟) وإذا قلنا بالجمع فهل يجمع بين الظهر والعصر كما يجمع بين المغرب ¬

_ (¬1) في (ق) أن، وفي (ر) أو، وخرم في (ت).

فصل (في وقت الجمع)

والعشاء؟ المنصوص في المذهب أنه لا يجمع بين الظهر والعصر. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر (¬1). قال مالك رحمه الله: أراه كان في المطر. وقد أخذ من هذا أبو القاسم (¬2) ابن الكاتب وأبو الوليد الباجي جواز الجمع بين الظهر والعصر لعلة المطر. وهو مقتضى تأويل مالك رحمه الله. وفرق في نصوص المذهب لأن المغرب والعشاء يختص بوقت يقل التصرف فيه إلا لإدراك الجماعة فجاز مع وجود العذر تحصيلها في وقت يخف التصرف فيه ولا تدرك به مشقة. والظهر والعصر [لا تختص بذلك] (¬3). وأيضاً فإن تقديم العشاء فيه فائدة الانصراف في الضوء. وهذا حاصل في وقتي الظهر والعصر، إذا لم يقدم أحدهما إلى الآخر. أو راعى في القول المُخَرَّج مشقة التصرف إلى المسجد، وهي تحصل بالتكرار إلى محل الصلاة. ... فصل (في وقت الجمع) وإذا تقرر حكم الجمع فالنظر فيه في ثلاثة فصول: أحدها: وقته، والثاني: صفته، والثالث: سببه. فأما وقته في المغرب والعشاء فاختلف المذهب فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أداء المغرب في أول وقتها ثم العشاء بعدها من غير تأخير. والثاني: تأخير المغرب يسيراً ثم أداء العشاء بعدها. والثالث: تأخير المغرب إلى آخر وقتها وأداء العشاء حينئذ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في المسافرين 705 واللفظ له، والنسائي في المواقيت 601 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً وَالْمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعاً فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ. (¬2) في (ر) وقد أخر أبو القاسم. (¬3) ساقط من (ق).

فصل: في صفة الجمع

وقال المتأخرون: الصواب القول الأول، ولا معنى لتأخير المغرب يسيراً [ثم أداء العشاء بعدها] (¬1)؛ إذ في ذلك خروج الصلاتين عن وقتهما. أما (¬2) المغرب ففي (¬3) وقتها المستحب، وأما العشاء ففي وقتها الواجب [لولا الضرورة المجيزة للجمع حيث ينصرف الناس بعد الفراغ من غير حرج ولا ظلام يشق عليهم] (¬4)، ولا معنى لتأخيرها إلى آخر وقتها أيضاً؛ لأن في ذلك تركاً لوقتها المستحب مع عدم الفائدة في الجمع؛ لأنهم متى فعلوا ذلك أدى إلى انصرافهم في الظلمة من غير أداء المغرب في وقتها المستحب. ... فصل: في صفة الجمع وأما صفة الجمع فقد قدمنا الخلاف في الأذان لصلاتين جميعاً، فإن المذهب فيه على ثلاثة أقوال. فإذا قلنا بالآذان في العشاء فأين محله؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه داخل المسجد إذ لا يقصد به الإعلام في خارجه. والثاني: أنه خارجه مع خفض الصوت يسيراً لأن المشروع في الأذان أن لا يكون داخل المسجد. وهل يجوز التنفل فيما بين المغرب والعشاء إذا اتسع ما بينهما لذلك؟ في المذهب قولان: المشهور ترك التنفل إذ كذلك ورد، وأيضاً فقد يؤدي التنفل إلى مخالفة الإمام بأن يتنفل وهو يصلي العشاء. وأجازه ابن حبيب لأنه وقت النافلة إذا اتسع ولم يؤد إلى مخالفة الإمام، فلا معنى لمنع النفل. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) و (ت) وأما. (¬3) في (ر) فعن. (¬4) ساقط من (ق).

فصل (سبب الجمع)

وهل يجوز الجمع وإن [لم] (¬1) يقصد قبل أداء المغرب؟ في المذهب قولان: أحدهما: جوازه؛ لأنه جائز لعلة الضرورة، فإذا وجدت جاز. والضرورة هاهنا إنما هي في تقديم العشاء، وإلا فالمغرب على حالها. والثاني: منعه؛ لأن الجمع يشعر بجمع الصلاتين وإلحاق أحدهما بالآخر. فإذا لم يقصد من الأول فلا يجوز، فتظهر ثمرة الخلاف في فرعين: أحدهما: لو صليت المغرب ثم وجد سبباً يقتضي الجمع، فعلى القول الأول يجوز تقديم العشاء. وعلى القول الثاني لا يجوز. والثاني: لو دخل المسجد من صلى في بيته المغرب فوجدهم في صلاة العشاء، هل له أن يجمع أم لا؟ يجري على القولين. ويجمع كل من لزمه حكم المسجد، ولهذا يجمع المعتكف. وهل يجوز للمرأة والشيخ الكبير أن يصليا في بيوتهما الجمْعَ بالمسمع (¬2)؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: جوازه لإدراك الصلاة في جماعة. والثاني: منعه لأن الجمع ورد لمشقة الخروج إلى المسجد فهاهنا منتفية. ... فصل (سبب الجمع) وأما سبب الجمع ففي (¬3) ثلاثة أشياء: مطر، وطين، وظلمة. فإذا اجتمعت أو اثنان منها جاز الجمع بلا خلاف على رأي من حكم بالجمع. وأن انفرد واحد منهما؛ فأما المطر بانفراده [فيبيح الجمع بلا خلاف، وأما الظلمة بانفرادها فلا تبيح الجمع بإجماع، وأما الطين بانفراده] (¬4)؛ فإن كان ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ت) بالمستمع. (¬3) في (ق) فهي. (¬4) ساقط من (ق) و (ت).

فصل (هل يتنفل في المسجد بعد الجمع)

معه وحل جاز الجمع، وإن لم يكن فقولان. وهما على خلاف في شهادة هل يكون مع انفراد الطين مشقة التصرف في وقت العشاء الآخرة أو لا؟ وذلك يختلف باختلاف الأماكن والبقاع. ... فصل (هل يتنفل في المسجد بعد الجمع) ولا يتنفل في المسجد بعد أداء الصلاتين من جمع (¬1) بينهما ولا يوتر، بل يؤخر التنفل والوتر (¬2) إلى محله في غير الجامع (¬3). ولو (¬4) جاز الجمع لعذر المطر فلما صليت المغرب ارتفع. وقال المتأخرون: يجوز (¬5) التمادي على الجمع؛ لأنه لا يؤمن عودته. وهذا إحالة على شهادة. فينبغي أن ينظر هل تؤمن عودته أم لا؟ ... فصل (جواز الجمع للمريض) ويجوز الجمع للمريض باتفاق أهل المذهب؛ لأن المشقة تلحقه (¬6) بأداء الصلاتين في وقتهما، وهي أشد من مشقة المطر والسفر. ومتى وقع (¬7) الجمع لا يخلو أن يكون الجمع أرفق به، ولا يخاف أن يغلب على عقله، أو يخاف أن يغلب على عقله. فإن كان الجمع أرفق به خاصة فقولان: ¬

_ (¬1) في (ت) في جمع. (¬2) في (ق) أو الوتر. (¬3) في (ق) الجمع. (¬4) في (ت) فلو. (¬5) في (ق) و (ر) ويجوز. (¬6) في (ق) و (ت) تلحقه فيه. (¬7) في (ر) و (ت) وقت.

المشهور أنه يجمع بينهما بتأخير الظهر وتقديم العصر على وقتها. والشاذ أنه يجمع بينهما أول الوقت كالمغلوب على عقله. وهذا قياس على جمع الصلاتين بعرفة، وهو مما شرع للرفق. والأول مبني على أن صلاة عرفة مختصة بما ورد فيه إلا أن تدرك (¬1) الضرورة التي يخاف معها من الغلبة على الصلاة الثانية، أو على وقتها. وإذا قلنا بتأخير الظهر، فإلى أي وقت تؤخر؟ في المذهب قولان: في المدونة أنها تؤخر إلى وسط وقتها، وأمر سحنون بطرحه [من المدونة] (¬2) وأثبت في موضعه أنها تؤخر إلى آخر وقتها (¬3). وكذلك عند ابن حبيب (¬4). واختلف المتأخرون في مراده في المدونة ب "وسط الوقت" فقيل ربع القامة، وقيل نصفها. وهذا على ما قدمناه من الخلاف في تقدير ظهور الظل. وقد تقدم في أول كتاب الصلاة الأول. والظاهر قول سحنون وابن حبيب لأنه يكون (¬5) حينئذ قد أدى (¬6) كل صلاة في وقتها المختار. ويمكن أن يكون وجه ما في المدونة أنه أبقى الصلاة الأولى على وقت الفضيلة منه، وأمر بتقديم العصر إلى ذلك الوقت لا سيما على قول من قال: وسط الوقت ربع القامة، ولكنه لم يقل في المغرب والعشاء ذلك، بل قال تؤخر المغرب إلى مغيب الشفق، فيجمع حينئذ. وهذا يشهد بصحة قول سحنون وابن حبيب. إلا أن يقال إنما جاز تقديم العصر قياساً على ما ورد من تقديم العصر يوم عرفة، ولم ير ذلك في العشاء بوجه. ¬

_ (¬1) في (م) ترد. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) المدونة: 1/ 117. (¬4) النوادر والزيادات 1/ 260. (¬5) في (ق) لا يكون. (¬6) في (ر) ودى.

فصل (متي يجوز الجمع للسفر)

وإن كان المريض يخاف أن يغلب على عقله فقولان: أحدهما: تقديم العصر، فيؤدي الصلاتين وقت الزوال، وتقديم العشاء ويؤدي الصلاتين عند مغيب الشمس. والثاني: أنه يؤخر فيجمع في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية. وفي المذهب قول ثالث أنه يؤدي كل صلاة لوقتها، فإن فقد عقله عند وقت الثانية سقطت عنه. فرأى في القول الأول أن أداء الصلاتين في أول الوقت أولى حِذَاراً من تعذر أداء الثانية. ورأى في القول الثاني أنه يجوز له التأخير مع الصحة، فأحرى مع المرض. ورأى في القول الثالث أن الأولى أداء كل صلاة في وقتها، فإن غُلب على الثانية فهو غير مكلف بها. ... فصل (متي يجوز الجمع للسفر) ويجوز الجمع للسفر. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع لذلك (¬1). وعند ابن شعبان من أهل المذهب جوازه للنساء وكراهيته للرجال. والصحيح جوازه لما قدمناه من ثبوته في الآثار. ومتى يجوز؟ لا يخلو المسافر من أن يكون له وقت يرتحل فيه لا ينزل بعده إلى وقت ثان وينزل فيه نزولا كلياً، أو تتساوى أوقاته. فإن كان له وقت يرتحل فيه ووقت ينزل فيه؛ فإن ارتحل قبل الزوال وكان ينزل قبل الاصفرار، أخر الظهر وجمع بينها وبين العصر في وقت نزوله. فإن كان ارتحاله في وقت الزوال وهو لا ينزل إلا بعد الاصفرار أدى الصلاتين عند ارتحاله. هذا هو المشهور من المذهب. وقيل بل يؤدي كل صلاة في وقتها، فإن كان ارتحاله بعد الزوال ونزوله قبل الاصفرار أدى كل صلاة في وقتها. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ارتحل بعد الزوال جمع بين الصلاتين، ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الجمعة 1092 واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين 703 عن عَبْدِ اللهِ بن عمر قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخَّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ.

وإذا ارتحل قبله أخر الأولى إلى وقت الثانية (¬1). وهذا حجة المشهور (¬2). وما روي عنه أنه كان يؤدي كل صلاة لوقتها (¬3)، فلعله كان يخف عليه النزول بعد الارتحال، إذ لا ضرورة في تلك السفرة تُلجيء إلى دوام السير. وهل يجري حكم المغرب والعشاء على حكم الظهر والعصر؟ قال ابن القاسم في المدونة: "لم يذكر في المغرب والعشاء مثل ما ذكر في الظهر والعصر عند الرحيل من المنهل" (¬4). وقال سحنون: الحكم متساو. واختلف الأشياخ هل قول سحنون رحمه الله تفسير أو خلاف (¬5). والفرق أن العادة الارتحال عند الزوال لا عند مغيب الشمس، وهذا محال على شهادة بعادة. فإن تساوت أوقات المسافر فإنه يجمع بين الصلاتين بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وتعجيل الثانية في أول وقتها، فيدرك (¬6) الوقت المختار للصلاتين. وبأي عذر يجوز له الجمع؟ أما إن جَد به السير وخاف فوات حاجته جاز له أن يجمع [بلا خلاف في المذهب] (¬7)، وإن جدبه السير ولم يخف ذوات حاجته في المذهب قولان: أحدهما: جواز الجمع، والثاني: منعه. وهذا قد يرجع إلى خلاف في شهادة هل يجد [به] (¬8) السير لعذر، ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الجمعة 1111 واللفظ له، ومسلم في المسافرين 704 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي الله عَنْه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَينَهُمَا وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظَّهْرَ ثُمُّ رَكِبَ. (¬2) في (ت) للمشهور. (¬3) أخرج عبد الرزاق في مصنفه 2/ 547، عن نافع أن ابن عمر كان يصلي في السفر كل صلاة لوقتها، إلا صلاة أخبر بوجع امرأته فإنه جمع بين المغرب والعشاء فقيل له فقال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا جد به المسير جمع بين المغرب والعشاء. (¬4) انظر المدونة 1/ 117."والمَنْهَلُ المَوْرِد، وهو عين ماء ترِده الإبل في المراعي. وتُسمى المنازِل التي في المفاوِز على طُرُق السُّفار مَنَاهِلَ لأن فيها ماء." انظر مختار الصحاح 284. (¬5) في (ق) و (ر) تفسيراً أو خلافاً. (¬6) في (ق) فيترك. (¬7) ساقط من (ق) و (ت). (¬8) ساقط من (ر).

فصل (جواز الجمع للخوف)

فيكون مبيحاً للجمع. أو يتفق من غير عذر، فلا يكون مبيحاً. ... فصل (جواز الجمع للخوف) ويجوز الجمع للخوف. قال ابن القاسم: لو أخذ (¬1) به أحد لكان مذهباً. وهو جواب متردد؛ لأنه لم يرد. وقد اختلف في القياس على الرخص. وإذا قلنا يجوز الجمع، فمتى يكون وقته؟ وقد يجري على حكم المريض والمسافر، فينظر هل يتصل به الخوف أو لا يتصل فيتفرع على ما قدمناه في حكم الجمع في العذر بين المتقدمين. ... باب في أحكام القصر في السفر (¬2). والأصل فيه الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬3). وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في القصر المشار إليه هاهنا، هل القصر في العدد للسفر (¬4) وإن لم يكن خوف، أو القصر في الهيئة مع الخوف؟ والجمهور على أن المراد به قصر العدد. وقيده تعالى بالخوف. وقد قال بعضهم: إن الآية نزلت أولاً من غير ذكر الخوف، ثم بعد حين نزلت فقيدت بالخوف. وهذا إن (¬5) صح، فإنه لا يفيد إطراح الشرط، بل قد يقتضي تأكيده. لكن بين الأصوليين خلاف في دليل الخطاب؛ هل يعول عليه أم لا؟ فإن قلنا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) لو أحدثه. (¬2) في (ق) و (ر) الصلاة. (¬3) النساء:101. (¬4) في (ق) في السفر. (¬5) في (ر) و (ت) وإن.

بالتعويل (¬1) عليه، فرأى هاهنا أن المقصود قصر الهيئة للخوف. وإن قلنا بعدم التعويل (¬2) عليه فرأى هاهنا قصر العدد. وقد يترك القول بدليل الخطاب إذا كان خارجاً عن المعتاد غالباً. والغالب في زمن الرسول عليه السلام خوفهم في الأسفار من فتنة المشركين. فيكون اللفظ وارداً على الموجود غالباً. فلا يكون فيه دليل على أن ما عداه يخالفه. وأما السنَّة فمنها ما أخرجه أهل الحديث الصحيح (¬3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت الصلاة في السفر وزيد في الحضر (¬4) "، وهذا نص. لكن أنكره أبو المعالي رحمه الله، وقال: لو ثبت هذا لنقل متواتراً؛ لأن الصلاة من أشرف معالم الدين، وأعدادها من أهم ما يعتنى به. وقد نقل الناس نقلاً متواتراً ما نسخ من الأحكام التي ليست لها مقدار الصلاة. وكيف ينفرد الآحاد بنقل ما نسخ من أعداد الصلاة بالزيادة والاقتصار؟ ويمكن أن يعتذر عن هذا بأن الأعداد نقلت بالفعل لا بالقول، فاكتفوا بنقلها بالفعل عن نقلها [بالقول] (¬5) كيف كانت في الأصل، وانتقالها إلى الزيادة. ومما ردّ (¬6) به حديث عائشة رضي الله عنها هذا أنها كانت تتم في السفر (¬7). وكيف تفعل ذلك مع روايتها أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر. والظاهر من هذا الحديث كون القصر فرضاً، واعتذر عن هذا بأن قولها: أقرت صلاة السفر، ¬

_ (¬1) في (ق) التعليل. (¬2) في (ت) التعول و (ق) التعليل. (¬3) في (ق) الصحيحة. (¬4) أخرج البخاري في الصلاة 350 واللفظ له، ومسلم في المسافرين 685 عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَرَضَ اللهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَينِ رَكْعَتَينِ في الْحَضَر وَالسَّفَر فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ق) وما ورد به. (¬7) مسلم في المسافرين 685 عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّلاَةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكعَتَين فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ قَالَ الزُّهرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُروَةَ: مَا بَالُ عَائشة تُتُمُّ في السَّفَرِ؟ قَالَ: إِنَهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.

أي: أقرت على جواز الاقتصار على ركعتين للمسافر، بخلاف الحاضر فإنه لا يجوز له الاقتصار. وقد اعتذر عن إتمامها باعتذارات: فمنها أنها كانت تعتقد كونها أم المؤمنين، فلا تحل إلا بوطن لها. ومن لم يحل إلا في وطنه فلا يقصر. وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر وهو أمير كل بلد حلَّ فيه ومالكه. هكذا قيل في الاعتراض على هذا التأويل. ولا يلزم؛ لأن الوطنية بالأمومية آكد منها بالإمارة. فيمكن أن تتناول عائشة رضي الله عنها ما قلناه وترى أنها مخالفة في ذلك للرسول عليه السلام في حكم الوطنية. ومنها أنها كانت تعتقد التخيير بين القصر والإتمام فالتزمت أحدهما، وهو جائز في حق من يعتقد التخيير، وسنبين الخلاف في ذلك. ومنها: أنها كانت تخاف أن يراها الجاهل فيعتقد أن الصلاة في كل موطن ركعتان، إذ (¬1) كان ذلك الزمن فيه الأعاجم وأجلاف الأعراب وهم قريبوا العهد بالإسلام، ولم تستقر الشرائع عندهم، فأتمت خيفة أن يقتدي الجاهل بها. ومثل هذه التأويلات تأول على عثمان (¬2) رضي الله عنه في إتمامه بمنى وعرفة، فزيد إلى ما تقدم أنه كان متما متى كان له أهل بمنى. وكان يعتقد أن السفر من مكة إلى عرفة لا تقصر فيه الصلاة لقصره. وسيأتي [سبب جواز القصر في] (¬3) مثل هذا في المسافة التي بين مكة وعرفة أو منى في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قصر الصلاة في السفر ثبوتا لا ريب فيه ولا إشكال، بل هو متواتر في المعنى. ¬

_ (¬1) في (ق) إذا. (¬2) في (ت) ومثل هذا التأويلات على عثمان، وفي (ق) ومثل هذا التأولات تأول عثمان، وفي (م) ومثل ذلك التأويلات على عثمان. (¬3) ساقط من (ر).

(حكم القصر في الصلاة)

وأما الإجماع، فقد اجتمعت الأمة على قصر الصلاة في السفر على الجملة وإن اختلفوا في التفاضل (¬1). (حكم القصر في الصلاة) وإذا تقرر ما قلناه فقد اختلف المذهب في حكم القصر في السفر، هل هو سنة أو فرض أو مستحب أو مباح؛ في المذهب أربعة أقوال. وسبب الخلاف [اختلاف] (¬2) الآثار. واحتج من قال بالفرضية (¬3) بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. وقد قدمنا ما فيه. واحتج من قال بأنه سنة بما ثبت من دوام (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظهراً له في الجماعة. وبهذا تتبين السنن. واحتج من قال بالاستحباب بما قاله عمر وابنه رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم من أن القصر رخصة. والرخص لا تلحق بالسنن. واحتج من قال بالتخيير بقول أنس بن مالك رضي الله عنه أنهم كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم المقصرون، ومنهم المتممون ولا يعيب بعضهم على بعض (¬5). وهذا يقتضي التخيير. وقد قدمنا ما يعترض به على هذا القول في حكم السجودة هل الطمأنينة (¬6) فيه فرض أو مندوب إليه. وذكرنا الانفصال. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) التفاصل. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) بالفريضة. (¬4) في (ر) سنة بدوام. (¬5) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 3/ 145عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ولا المقصر على المتم ولا المتم على المقصر. (¬6) في (ق) في حكم السجود هل السجود على الطمأنينة.

(حكم من أتم في السفر)

(حكم من أتم في السفر) وإذا تقررت هذه الأقوال فما حكم من أتم؟ أما على القول بالتخيير وعلى القول بأن القصر مستحب فلا إعادة عليه، وأما على القول بأن القصر فرض فتجب الإعادة وإن ذهب الوقت إلا أن يراعى الخلاف، وأما على القول بأن القصر سنة فلا تجب الإعادة إلا في الوقت. لكن يتخرج على الخلاف فيمن ترك السنن متعمداً إذا أتم (¬1) [هذا] (¬2) متعمداً. (هل يقتد المقصر بإمام متم؟) وهل لمن حكمه القصر أن يقتدي (¬3) بإمام حكمه الإتمام؟ أما على القول بالتخيير فجائز، بل (¬4) الأولى إذا لم يجد غير الاقتداء به؛ لأنه تساوى على هذا القول القصر والإتمام، فيقتدي به متطلباً فضل الجماعة. وأما على القول بأن القصر مستحب فيقتدي به أيضاً؛ لأن الجماعة سنة وهي آكد من استحباب القصر على هذا القول. وأما على القول بأن القصر سنة ففي جواز الإقتداء به (¬5) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقتدي به، والثاني: أنه لا يقتدي به، والثالث: إن كانت الجماعة كثيرة والإمام فاضل جاز الإقتداء وإلا فلا. وهذا الخلاف ترجيح بين مزيد (¬6) الفضل. ورجح في القول الثالث بمزيد (¬7) الجماعة، وفضل الإمام. وهو رأي ابن حبيب أن الجماعة يختلف حكمها بالفضل في القلة ¬

_ (¬1) في (م) ثم، وفي (ت) أثم. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (م) يبتدي. (¬4) في (ر) وهل. (¬5) في (ق) الافتداء بالمتمم. (¬6) في (ق) مرتبتي. (¬7) في (ق) بمزية.

فصل (إذا اقتدى مقصر بمتم هل يلزمه الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء صلاته أم لا؟)

والكثرة. وأما على القول بأن القصر واجب فلا ينبغي أن يقتدي بالإمام، وإن اقتدى به فهل يقتصر على الركعتين ويجلس حتى يسلم الإمام (¬1) ويسلم معه أو يتم معه؟ فقولان. وسببهما ترجيح واجبين: إما الإتمام لئلا يخالف الإمام، وإما الجلوس لأنه كمن زاد في صلاته ركعتين. ... فصل (إذا اقتدى مقصر بمتم هل يلزمه الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء صلاته أم لا؟) وقد قدمنا حكم الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء الصلاة هل يلزم أم لا؟ ويجري على ذلك ما نحن بسبيله أن المسافر إذا قلنا إنه مخير بين القصر والإتمام، أو يستحب له القصر، فابتدأ بنية القصر فأتم، أو بنية الإتمام فقصر؛ فلا يخلو أن يكون فعل هذا عمداً، أو سهواً، أو جهلاً. فإن فعل عمداً ففيه قولان: أحدهما: أن صلاته باطلة؛ وهذا على القول بأن عليه القصد إلى عدد الركعات. والثاني: أن صلاته صحيحة؛ وهذا على القول بأنه لا يلزمه القصد إلى عدد الركعات، وإن قصد عدداً فله أن (¬2) ينتقل عنه. وإن فعله سهواً فعلى القول بأنه تجزي العامدة فإنه يجزي هذا (¬3) بلا شك. وعلى القول بأن العامد لا يجزيه؛ فإن كان هذا افتتح على الإتمام فقصر صار كأنه نقص من صلاته ركعتين، فإن كان قريبًا أتى بما نقص وسجد لسهوه، وإن بعد فإن لم يراع الخلاف ابتدأ الصلاة وإن ذكر في الوقت أو بعد الوقت، وإن راعى الخلاف فلا يعيد إلا في الوقت. وإن كان ¬

_ (¬1) في (ق) الإمام أيتم مع هؤلاء قولان. (¬2) في (ق) وإن قصر إلى عدد فله أن، وفي (ت) وإن قصر عدد قله أن. (¬3) في (ق): يجزي في العامد فإنه لا يلزمه فيجزيه هذا.

ابتدأ على القصر فأتم فيصير هاهنا كأنه زاد في صلاته مثلها. وفي المذهب قولان فيمن زاد في صلاته؛ هل تبطل إذا كانت الزيادة مثل نصف الصلاة وكانت سهواً؟ أحدهما: تبطل، والثاني: أنها تجبر بالسجود، لكن هناك خلاف في الزيادة المتفق على منعها، وهذه زيادة مختلف فيها. وهكذا وقع في بعض الأقوال في هذه المسألة أن الصلاة تصح، وعلل بأنها زيادة غير مجمع عليها. فيكون الخلاف في مسألة المسافر أشهر منه في مسألة من زاد في صلاته مثلها. وإن كان فعل ذلك جهلاً فقد يظن هاهنا أنه يجري على الخلاف في الجاهل هل حكمه حكم العامد أم حكم الناسي؟ وليس كذلك؛ لأن الجاهل هاهنا يعذر فلا يختلف أن حكمه حكم الناسي. فإن كان فاعل ذلك إماماً وخلفه المسافرون فزاد على الركعتين فهاهنا قولان: أحدهما: أنهم يتبعونه، وهذا بناء على أن زيادته لا تبطل الصلاة. والثاني: أنهم لا يتبعونه، وهذا بناء على أن زيادته تبطل الصلاة. وإذا قلنا إنهم لا يتبعونه فإنهم يسبحون له ليرجع إليهم، فإن لم يرجع سلموا وتركوه. وعلى القول بأنهم يتبعونه هل يعيدون الصلاة في الوقت؟ في المذهب قولان: أحدهما: نفي الإعادة، وهو بناء على ما قدمناه من أن [تلك] (¬1) الزيادة لا تبطل الصلاة. والثاني: الأمر بالإعادة في الوقت، هذا إما مراعاة للخلاف، وإما على قول من أمر بالإعادة في الوقت. وفي المذهب [قولان] (¬2) فيمن أتم الصلاة من المسافرين هل يعيد في الوقت؟ وهو على القول بأن القصر سنة، أو لا يعيد؟ وهو على القول بأن القصر مخير فيه أو مستحب. وقد تقدم ذلك. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ت). (¬2) ساقط من (ر).

فصل (تفصيل الكلام في أحكام القصر)

فصل (تفصيل الكلام في أحكام القصر) وجميع ما ذكرناه في حكم توطئة الباب والمقدمة (¬1)، وها نحن نأخذ في تفصيله، فنقول: النظر في القصر في ثلاثة أركان؛ أحدها: سببه، والثاني: محله، والثالث: شرطه. (سبب القصر) أما سبب القصر فهو السفر، وينظر في السفر في ثلاثة فصول: أحدها: في صفته. والثاني: في مبدئه. والثالث: في منتهاه. (صفة القصر) فأما صفة السفر من الجواز وغيره، فإنه ينقسم إلى انقسام أحكام الشريعة من الوجوب والندب والتحريم والكراهية والإباحة. ويقصر عندنا في ثلاثة أقسام من هذه بلا خلاف؛ وهي السفر الواجب كحج الفريضة والغزو المتعين، والمندوب إليه كالجهاد إذا لم يتعين وغير الفريضة من الحج والعمرة، والمباح كالسفر لطلب الأرباح. وأما السفر المحرم كالسفر لإيذاء المسلمين أو ما في معناه، فهل يباح فيه القصر أو لا؟ المشهور أنه لا يقصر فيه. وكذلك الحكم في جميع الرخص التي تتعلق بالسفر كالفطر [وأكل الميتة] (¬2) وما في معناه مما تقدم تنبيهنا عليه. وهذا لأن هذه الرخص جعلت معونة على السفر، فلا يستعين بها العاصي في سفره. والشاذ أنه يقصر كالمطيع، وهذا بناء على أن السفر لا يكتسب صفة من الطاعة والعصيان، وإنما يكفي في جواز الرخص وجود السفر فقد وجد. ¬

_ (¬1) في (ق) وقد تقدم جميع ما وردناه في حكم التوطئة للباب في المقدمة، وفي (م) وجميع ما قدمنا في حكم التوطئة للباب والمقدمة. (¬2) ساقط من (ق).

فصل (مسافة القصر)

وأما السفر المكروه كالصيد للهو، ففي جواز القصر فيه قولان أيضاً. وفي المدونة أنه لا يقصر (¬1). ولم يجب في المدونة على حكم السعاة في أخذ (¬2) الزكاة وصرفها (¬3)، فرآه سفرا منهيا عنه (¬4). ولعل سكوته عن الجواب (¬5) محاذرة من ولاة وقته. ولو ابتدأ السفر غير عاص به ثم عرضت له نية المعصية به لامتنع عن الرخص على المشهور من وقت قَصَدَ (¬6) بسفره المعصية. ... فصل (مسافة القصر) وأما صفة السفر من الطول أو القِصر؛ فالمشهور من مذهب العلماء أنه لا يقصر في كل سفر بل في سفر يختص بالطول. وما حده؟ في المذهب خمس روايات: أحدها: أنه يقصر في مسيرة اليومين، والثانية (¬7): [في] (¬8) مسيرة اليوم والليلة، والثالثة (¬9) [في] (¬10) مسيرة أربعة برد (¬11) وهي ¬

_ (¬1) المدونة: 1/ 119. (¬2) في (ق) أن حكم السعاة في القمر أنهم يبعثون في أخذ. (¬3) في (ر) و (ت) وسوقها. (¬4) المصدر السابق. (¬5) في (ت) الجواز. (¬6) في (ر) كمن قصد، وفي (ت) في من قصد. (¬7) في (ر) والثاني. (¬8) ساقط من (ق) و (ر). (¬9) في (ق) و (ر) والثالث. (¬10) ساقط من (ق) و (ر). (¬11) البريد لغة بمعنى الرسول، يقال برد بريداً أي أرسل رسولاً، وإبراده إرساله، وهو المسافة المعلومة بين المنزلتين، والبريد كمقياس طول ثابت المقدار في الشريعة حدد باثني عشر ميلاً أي بما يعادل بحساب الذراع الشرعية 22176 متراً. انظر كتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص: 77.

ثمانية وأربعون ميلا (¬1)، [والرابعة رواية أشهب يقصر في خمس] (¬2) وأربعين ميلاً، [والخامسةً رواية أبي قرة (¬3) عن مالك يقصر في اثنين وأربعين] (¬4) ميلاً. فأما الروايات الثلاث الأولى فجمهور العلماء أنها ترجع إلى قول واحد. وأنه إنما قدر السير للقوافل بالمعتاد، وهو في اليوم أربعة وعشرون ميلاً. ثم رأى أن تحديد سيره باليوم والليلة أقرب إلى الحصر؛ لأن اليومين قد يطولان وقد يقصران. وإذا حد باليوم والليلة كان طول أحدهما في قصر الآخر، ثم رأى أن الحصر بالأميال أولى لاختلاف مسير الرفاق، فحد بالثمانية والأربعين ميلاً. وأما الروايتان الباقيتان فلا شك أنهما خلاف للثمانية والأربعين. ولعل وجهها التفاتاً للعوائد في مسير (¬5) الرفاق في اليوم والليلة فرآه مرة ثمانية وأربعين ميلاً، ومرة خمسة وأربعين ميلاً، ومرة أربعين. واختلف قوله لما اختلفت العوائد [عنده] (¬6) في مشي الرفاق. فليس ¬

_ (¬1) الميل: هو مسافة مد البصر، وسميت الأعلام التي توضع في الطريق أميالاً لأنها ترضع على مقادير مد البصر وهو في الشريعة يعادل ألف باع والباع أربعة أظرع شرعية والظراع يعادل 46.2 سنتيماً فتكون مسافته 4 × 1000 × 46.2 = 184800 سنتيماً = 1,848 كيلو متر انظر المصدر السابق بتصرف. (¬2) في (ت) والرابعة في مسيرة خمسة، وفي (ر) والرابع في مسيرة خمسة. (¬3) هو: موسى ابن طارق السكسكي أبو محمد، وأبو قرة لقب له الجندي منسوب إلى الجند ناحية باليمن، وقيل هو من أهل زبيد من أهل الحصيب قاض لهم، روي عن مالك ما لا يحصى حديثاً ومسائل وروي عنه الموطأ وله كتابه الكبير وكتابه المبسوط وسماع معروف في الفقه عن مالك، وذكره أبو عمرو المقرئ في القراء، روي عنه علي بن زياد الحجبي وابن حنبل وابن راهوية وأثنى عليه ابن حنبل خيراً ولم يذكر وفاته. انظر الديباج المذهب ص: 342 وسير أعلام النبلاء 90346. (¬4) في (ر) والخامسة في مسيرة أربعين، وفي (ت) والرواية الخامسة يقصر إذا عزم على مسافة أربعين. (¬5) في (ق) و (ت) في مشي. (¬6) ساقط من (ر) و (ت).

هذا التحديد راجعاً (¬1) إلى دليل ظاهر، وإنما عول فيه مالك رحمه الله على آثار ابن عمر وغيره. واحتج أهل المذهب لهذا التحديد بقوله (¬2) - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن باللهِ واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة مع غير ذي محرم منها" (¬3). قالوا فتحديده باليوم والليلة يدل على أن ما دون ذلك في حكم الحضر، لا في حكم السفر. وهذا إذا كان السفر في البر. فإن كان في البحر؛ ففي أكثر الروايات أن حكمه حكم البر. وفي المبسوط لمالك رحمه الله أنه يقصر في مسيرة اليوم والليلة لأن الأميال (¬4) لا تعرف فيه. وهذا عند الأشياخ ليس بخلاف. وأنما ينظر؛ فإن [كان مع السواحل بحيث يميز مقداره بالأميال فهو كالبر، وإن] (¬5) كان في وسط البحر بحيث لا يميز الأميال فكما قال في المبسوط. فإن جمع السفر بين المسير في البر والبحر لفقهما. وكيف صورة التلفيق؟ فأما إن كانت البداية لسفر البحر فيقدر منه المقدار الذي قدمنا تحديده، وأما إن كانت البداية في البر؛ فإن كان إذا وصل إلى البحر سار بالريح وبغيره، فإنه يقصر في الأول، وإن كان ليس في سفر البر مقدار سفر القصر؛ فإن كان لا يسير إلا بالريح فقال ابن المواز: لا يقصر حتى يكون في سفر البر مقدار سفر القصر؛ لأنه رأى أن سفره بالريح قد (¬6) يتعذر ولا يجد سبيلاً (¬7) إليه، أو لا تطول إقامته فيكون غير عازم على سفر تقصر فيه الصلاة. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "راجع". (¬2) في (ق) و (ر) و (ت) لقوله. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 1088 بلفظ قريب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم ولَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ". (¬4) في (ق) اليوم التام لأن الأميال. (¬5) ساقط من (ت). (¬6) في (ر) فقد. (¬7) في (ق) ولا يحد عليه وفي (ت) ولا يجد الريح.

فصل (بعض أحكام مسافة القصر)

وإذا سافر أقل مما حددناه فقصر، هل تبطل صلاته أم لا؟ أما أن قصر في دون ستة وثلاثين ميلاً؛ فإنه يعيد وإن ذهب الوقت. قال في الراويات لأنه لم يختلف فيما دون ذلك، وإنما يعني (¬1) في أقوال أهل العلم المشهورين. وقال أبو الحسن اللخمي: يعني لم يختلف المذهب (¬2). وليس كما قال، بل ما من أحد من أهل (¬3) العلم يقول إنه يقصر فيما دون الأربعين ميلًا (¬4). فإن قصر في الستة والثلاثين ميلاً، ففي وجوب الإعادة وإن خرج الوقت قولان: أحدهما أنه لا يعيد، والثاني؛ أنه يعيد. وهذا على الخلاف في مراعاة الخلاف. ... فصل (بعض أحكام مسافة القصر) ويشترط فيما قدمناه من المقدار أن يتعلق القصد بنهاية ويكون قصده ¬

_ (¬1) في (ق) فإنما ينبغي. (¬2) التبصرة ص: 104. (¬3) في (ق) كما قال بل آخرون من أهل، وفي (م) كما قال بل لا أحد من أهل. (¬4) هذا سبق قلم من الشيخ رحمه الله، فالصواب ما قاله أبو الحسن اللخمي؛ فقد روى عن جماعة من السلف رحمة الله عليهم ما يدل على جواز القصر في أقل من ستة وثلاثين ميلاً فالأوزاعي يرى جواز القصر في مسيرة يوم، وهي حوالي أربعة وعشرين ميلاً. وكان أنس يقصر فيما بينه وبين خممسة فراسخ؛ وهي حوالي خمسة عشر ميلاً. وروى عن علي رضي الله عنه أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهرّ والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير قال خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً، أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين فقلت له فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالخليفة ركعتين، وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا -أي ثلاثة أميال- قصر الصلاة وقال أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. شعبة الشاك رواه مسلم وأبو داود. فهذه النصوص وغيرها كثير يدل على أن هناك من يرى جواز القصر في أقل من ستة وثلاثين ميلاً. انظر تفصيل ذلك في المغني لابن قدامة: 2/ 48.

جزماً (¬1) لا تردد فيه، ولا يحتسب بالرجوع من ذلك السفر وإن لم يُقِم بعد وصوله إلا دون ما تحصل به الإقامة. بل يحسب تماديه على مسيرة واحدة إلى نهاية يقصدها. وإن كان في ذلك ما حددناه من الطول قصر وإلا فلا. فإن تخلل سفره إقامة؛ فلا يخلو أن يكون (¬2) دون ما يوجب الإتمام، أو مقدار ما يوجب الإتمام. فإن كان دون ما يوجب الإتمام كاليوم واليومين والثلاثة، فلا خلاف أنه يحاسب بالمسير ويطرح الإقامة، فإن كان في جملة مسيره مقدار ما تقصر الصلاة فيه قصر وإلا فلا. وإن كانت الإقامة مما يوجب الإتمام كالأربعة الأيام وما فوق، فهل يطرح تلفيق المسير؟ في المذهب قولان: أحدهما: إطراحه وتلفيق المسير، لأنه يحصل منه مقدار يقصر فيه الصلاة وإن لم يتم إلا بنية العزيمة على السفر. والثاني: نفي التلفيق، لأن السفر الأول تعلق بنهاية لا تقصر فيه الصلاة، والعزيمة على السفر بعد الإقامة عزيمة ثانية، فيعطى لكل سفر حكمه. وهذا إذا لم تكن الإقامة في وطن، فإن كانت في وطن فلا يختلف في اطراح التلفيق ومراعاة الإقامة. ولو كان الأمر بالعكس؛ وهو أن يخلل إقامته سفر فهل يلفق الإقامتين (¬3) أم لا؟ في المذهب قولان. ومثاله مسألة المدونة في الذي أوطن مكة ثم بدا له أن يتنقل عنها فيذهب إلى الجحفة (¬4) ويعتمر منها ويعود إلى مكة ثم يخرج منها. فإنه لا شك بأنه يقصر في خروجه إلى الجحفة ورجوعه منها إذ ذلك مقدار تقصر فيه الصلاة. ¬

_ (¬1) في (ق) حتما. (¬2) في (ق) وأن ارتحاله في سفر فلا يخلو أن يكون، وفي (ر) كان ارتحاله سفره إقامة فلا يخلو أن يكون. (¬3) في (ق) الأميال. (¬4) قال ياقوت الحموي: "الجحفة بالضم ثم السكون كانت قرية كبيرة ذات منبار على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة وكان اسمها مهيعة وإنما سميت الجحفة لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام".

فصل [في مبدأ السفر].

وهل يتم في الأيام التي يقيم فيها بمكة بعد العودة إليها معتمراً؟ (¬1) في المدونة قولان (¬2). وهما على ما قدمنا من الخلاف في تلفيق الإقامة. ومنه أيضاً من سافر في البحر من موضع، ثم ردته الريح [إلى الموضع الذي سافر منه] (¬3) فهل يقصر فيه أو يتم؟ أما إن كان وطنه فلا خلاف أنه يتم، وإن كان غير وطنه ولم ينو فيه دوام الإقامة فهل يقصر؟ قولان، هما على ما قدمناه من الخلاف في تلفيق الإقامة. ولو خرج المسافر بنية أن يبلغ موضعاً لا تقصر في مثله الصلاة ينتظر أصحابه فيه. فلا يخلو من أن يكون عازماً على السفر من ذلك الموضع، سافر أصحابه أم لا؟ فهذا لا خلاف بأنه يقصر وإن لم ينو الإقامة في ذلك الموضع مدة توجب الإتمام، أو يكون لا يسير إلا يسير أصحابه. فإن لم يسر ورجع، فلا خلاف أنه لا يقصر إلا بعد انفصاله من موضعهم (¬4)، ويكون مقدار سفره من ذلك الموضع مدة تقصر فيه الصلاة. أو يكون متردداً هل يسافر أم لا؟ فهذا يحكي الأشياخ فيه قولين: أحدهما: الالتفات إلى العزيمة الأولى، وهو عليها حتى يتيقن بالعودة. والثاني: الالتفات إلى أن الأصل الإقامة، فلا ينتقل عن حكمها إلا بيقين التمادي على السفر. ... فصل [في مبدأ السفر] (¬5). وإذا بدأ (¬6) السفر بحضرة الصلاة فمن أين يقصر؟ فلا يخلو إما أن ¬

_ (¬1) في (ق) متعمداً. (¬2) المدونة 1/ 120. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) موضعه. (¬5) ساقط من (ق) و (ر). (¬6) في (ت) أبدى وفي (ق) ابتدأ.

يكون سفره من مصر من الأمصار، أو من قرية، أو من بيوت العمود (¬1). فإن كان سفره من مصر من الأمصار ولا بناء حول المصر ولا بساتين، فهل يقصر الصلاة لمفارقته [السور] (¬2)، أم لا حتى يجاوز ثلاثة أميال وهو المقدار الذي يجب منه إتيان الجمعة؟ في المطب قولان: المشهور أنه يقصر بالمفارقة (¬3) لأنه قد خرج عن حكم الحضر، وقال ابن الماجشون: "لا يقصر حتى يجاوز البلد بثلاثة أميال". ورأى أن هذا المقدار لما وجبت الجمعة على من فيه كان في حكم البلد. ولم يلتفت إلى ذلك في المشهور؛ لأن الجمعة إنما وجبت علي من (¬4) كان في مثل هذا المقدار، لأن النداء أبلغ إليه. وإن كان حول المصر بناء معمورة وبساتين؛ فإن اتصلت به وكان في حكمه فلا يقصر حتى يجاوزها [بثلاثة أميال] (¬5)، وإن لم تتصل به وكانت قائمة بأنفسها قصر وإن لم يجاوزها. فإن كان الموضع [الذي سافر منه] (¬6) قرية لا تقام فيها الجمعة ولا بناء متصل بها ولا بساتين، [قصر إذا فارق بيوت القرية بلا خلاف، وإن كان متصلاً بها بنيان (¬7) أو بساتين] (¬8) فكما قدمناه في المصر. وإن كان السفر من بيوت العمود، فإذا فارق البيوت التي سافر عنها قصر بلا خلاف في المذهب. ... ¬

_ (¬1) يقصد بيوت الرحل التي تكون غالباً عبارة عن خيام. (¬2) ساقط من (ق) و (ر). (¬3) في (ق) و (ت) بالمفازة. (¬4) في (ر) في من. (¬5) ساقط من (ر) و (ت). (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ت) و (ر) بنياناً. (¬8) ساقط من (ق).

فصل (في منتهى السفر)

فصل (في منتهى السفر) وأما منتهى السفر فهو العودة منه. ففي كل موضع يجوز له القصر بمفارقته فيجوز له القصر إذا عاد إليه. ويختلف إذا كان بينه وبين المصر ثلاثة أميال على الخلاف الذي قدمناه. ... فصل (في محل القصر) وأما الركن الثاني: فهو محل القصر. [ومحل القصر] (¬1) في الصلاة الرباعية، فلا تقصر المغرب ولا الصبح بإجماع الأمة. (شروط القصر) وأما الركن الثالث: وهو شرط القصر، فإن السفر إذا حصل على الصفات التي قدمناها جاز القصر، كان متكلِّفاً للمشقة بسفره أو مترفِّهاً. وقد قال مالك رحمه الله في النواتية (¬2) يسافرون [في البحر] (¬3) معهم الأهل والولد أنهم يقصرون (¬4). وكذلك لو سافر في البر (¬5) بأهله وولده فكان على غاية الرفاهية والتنعم لجاز له القصر. فإن وصل إلى موضع إقامة؛ فإن كان وطناً له أتم به ولو لم يقم فيه إلا مقدار صلاة واحدة. وبأي شيء يحصل الوطن؟ أما إن كان بموضع فيه زوجته أو سريته فهو وطنه. وإن كان ولده وخدمه وما في معناهم فلا يكون وطناً بمجرد ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) هم الملاحون. (¬3) ساقط من (ر) و (ت). (¬4) انظر المدونة 1/ 119. (¬5) في (ت) البحر.

ذلك حتى يتخذه موضع الاستيطان. وكذلك لو لم يكن له بالموضع أحد واستوطنه لكان حكمه حكم الوطن. وإن كان الموضع ليس بوطن له فلا يزال يقصر (¬1) وإن طالت إقامته به إذا لم يعول على إقامة أربعة أيام، وإن عول على إقامتها فلا خلاف عندنا أنه يتم. وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المهاجرين عن الإقامة بمكة واستبدالها بالمدينة، فأجاز لهم إقامة ثلاثة أيام (¬2). فأخذ أصحابنا من هذا أن ثلاثة أيام في حكم السفر، ولا يحصل به الاستيطان. وأن ما زاد على ذلك في حكم الإقامة الموجبة للإتمام. وهل (¬3) يراعى مقدار صلاة الأربعة أيام، أو يراعى كمالها؟ في المذهب قولان: أحدهما: مراعاة الصلاة وهو المعول عليه، والحكم متعلق بها. والثاني: أن المراعى كمال الأيام لأنها المنصوص عليها في الحديث الذي جعلناه أصلاً. ومثال هذا أن يدخل في يوم وقد صلى الصبح والظهر مثلاً وينوي الخروج في اليوم الرابع بعد أن يصلي الصبح والظهر فهاهنا قولان: أحدهما: الإتمام، والثاني: القصر. وتحصل الإقامة بالنية لأنه الأصل، بخلاف السفر فإنه لا يحصل إلا بالنية والفعل؛ لأن الأصل الإقامة والسفر طارئ، فلا يكفي فيه مجرد النية. وهذا كما قالوا في السلع (¬4) إنما تعود إلى القنية بمجرد النية ولا تعود (¬5) إلى التجارة بمجرد النية. لأن الأصل في السلع (¬6) القنية لا التجارة (¬7). ¬

_ (¬1) في (ق) فلا يزول تقصيره حتى وإن طالت إقامته. (¬2) أخرج البخاري في المناقب 3933، ومسلم في الحج 1352 عن الْعَلَاء بن الحَضرَمِيَّ قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لِلمُهَاجِرِ إقَامَةُ ثَلاَث بَعْدَ الصَّدَرِ بِمَكةَ". (¬3) في (ق) و (ت) و (ر) فهل. (¬4) في (م) السلم. (¬5) في (م) وهل تعود. (¬6) في (م) السلم. (¬7) في (ق) القنية للتجارة.

فصل (علة قصر الحاج إذا خرج من مكة للوقوف بعرفة)

فإذا نوى المسافر الإقامة فإن كان في غير صلاة أتم من وقت نيته، وإن كان في صلاة افتتحها على اثنتين. فهل له إتمامها أربعاً؟ في المذهب قولان. وهما جاريان على ما قدمناه من الالتفات إلى عدد الركعات في ابتداء الصلوات. فإذا قلنا لا يتمها، فهل تجزي الركعتان لأنه افتتحها بوجه جائز؟ في ذلك قولان. وإذا قلنا لا تجزيه، فهل يقطع ويبتدئ الصلاة أو يتمها بنية النافلة؟ فيه قولان. وسبب الخلاف أنه هاهنا لا بدّ من القطع. إما في الفعل أو في النية، فأيهما يغلب؟ هذا موضع الخلاف [للمتقدمين من الأصحاب] (¬1). فإذا قلنا إنه يقطع ويبتدئ؛ فإن كان إماماً استخلف من يتم بالقوم. قال في الرواية: "ويرجع هو وراء المستخلف فيقتدي به بعد أن يقطع الأول، وإذا قلنا بأنه يتمها أربعاً فهل يجتزي بها أو يعيد؟ في ذلك قولان. والإعادة لمراعاة الخلاف. ... فصل (علة قصر الحاج إذا خرج من مكة للوقوف بعرفة) وقد قدمنا من كان في نهاية سفره دون ما تقصر فيه الصلاة، فإنه لا يقصر. وإن عول على العودة من غير إقامة فلا يضيف إلى ذلك مسافة العودة. والمذهب بلا خلاف أن المكي إذا خرج للوقوف بعرفة وأفعال الحج قصر، وليس بينه وبين عرفة من المسافة ما تقصر فيه الصلاة. وقد قيل في علة قصر هذا (¬2) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يتردد في أفعال الحج تردداً لازماً لا يجوز له قطعه. ومسافة تردده أكثر مما تقصر فيه الصلاة. وهذا يحسب تردده [من مكة إلى عرفة، ومن عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، ومن منى إلى مكة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م) وخرم في (ت). (¬2) في (م) قصره هذا، وفي (ر) قصر هذه.

فصل (في المسافر يحضر وفي ذمته الظهر والعصر وقد ضاق الوقت)

وهذا تردد] (¬1) لازم (¬2) له شرعاً، بخلاف غيره من الأسفار التي يجوز قطعها متى شاء. والثاني: لا يصل إلى عرفة إلا بعد اليوم والليلة، واليوم والليلة مما تقصر فيه الصلاة، وإقامته أيضاً في السفر هذه المدة إقامة لازمة في هذا السفر، فكان كالقطع للطريق (¬3) في ذلك. والثالث: أن العودة هاهنا لازمة شرعاً فاحتسب بها، بخلاف ما لا يلزمه فيه (¬4) العودة. والفرق بين هذا وبين الوجه الأول، أن الأول راعى فيه تصرفاته في المسير، وهذا راعى فيه المسير والعودة. على أن الأوجه الثلاثة تتداخل على الحقيقة. وقد اختلف المذهب في المدني والمكي يصليان في المحصب (¬5)، هل يقصران هناك أم لا؟ وخرج أبو الوليد الباجي هذا على الخلاف في التحصيب؛ وهو النزول بالمحصب، هل هو مشروع فيقصران للزوم الصلاة فيه، أو غير مشروع فلا يقصران؟ ... فصل (في المسافر يحضر وفي ذمته الظهر والعصر وقد ضاق الوقت) وقد قدمنا أن المراعى في الخطاب بالصلاة بقاء الوقتين الاختياري والضروري. وعلى هذا من حضر من المسافرين وقد بقي في الوقت للظهر ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ق) للزوم. (¬3) في (ق) في الطريق. (¬4) في (ق) فيها. (¬5) المحصب موضع بين مكة ومنى. ويطلق كذلك على موضع رمي الجمار. انظر لسان العرب 1/ 319.

والعصر مقدار خمس ركعات، فإنه يصليهما حضريتين. وإن كان مقدار أربع [ركعات] (¬1) فأقل صلى الأولى سفرية وإذا وقتها فات فيقضيها على نحو ما وجبت. والثانية حضرية. فلو بقي للثانية مقدار الركوع خاصة فهل يكون مدركاً لها؟ يجري على القولين اللذين قدمناهما في الحائض تطهر. ولو خرج لراعى في وقتي الصلاتين كما يراعيه إذا دخل، لكن الخارج يحسب كل (¬2) صلاة ركعتين. وأما المغرب والعشاء فقد قدمنا الخلاف هل يجعل الوقت لآخر الصلاتين أو لأولهما، فيفرع على ما هناك. ولو صلى المسافر مثلاً العصر ناسياً للظهر ودخل، وقد بقي من الوقت مقدار صلاة واحدة، فهل يصلي (¬3) التي في ذمته (¬4) سفرية أو حضرية؟ فيه قولان. وهما على الخلاف في الاشتراك، هل هو من الزوال، أو من بعد مضي مقدار الصلاة الأولى؟ وقد استوفينا هذا في حكم أصحاب الضرورات. وهكذا لو دخل ولم يبق إلا مقدار إحدى الصلاتين، فإنه يختلف هل يبتدئ بالأولى لحق الترتيب -وهو المشهرر- أو بالثانية لحق الوقت. ويلحق أيضاً هذا الخلاف في الاشتراك متى يقع. ويختلف عليه هل يصلي الأولى إذا بدأ بها سفرية أو حضرية؟ فإن بدأ بالثانية صلى الأولى سفرية بلا خلاف؛ لأنها قد استقرت في ذمته. ولنقبض (¬5) عنان البيان عن هذا المكان، وقد خرجنا في هذا الباب عن مقصود الكتاب. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق). (¬2) في (ق) و (ت) لكل. (¬3) في (ق) فهل يصلي الظهر. (¬4) في (ت) وقتها. (¬5) في (ق) لنقتصر.

فصل (جواز ركوب البحر)

فصل (جواز ركوب البحر) وركوب البحر للأسفار مباح على الجملة، ما لم يعرض عارض ما، يمنع من الركوب. ومن الأعراض الإخلال بالصلاة بالميد (¬1)، فمن يعلم من حاله أنه يميد حتى تفوته الصلاة في أوقاتها، أو لا يقدر على أدائها جملة، فإن المنصوص من المذهب أنه لا ينبغي له ركوبه إلا إلى حج أو جهاد. وهذا لأنه يطلب فرضاً فيعطل فروضاً آكد منه. وإن كان لا يقدر على الأداء إلا بإخلال فرض من الفروض والانتقال منه إلى بدل، كمن يعلم أنه لا يصلي قائما، فهذا إن وجد عنه مندوحة لم يركب، وإن لم يجد فقد يختلف فيه على الخلاف في القياس على الرخص؛ فمن قال بالقياس أجاز الركوب، كما له أن ينتقل عن طهارة الماء إلى طهارة التراب في السفر في المفازات والقفار، وإن حمله على ذلك طلب الدنيا. ومن لم يقل بالقياس عليها منع الركوب إذا كان يؤدي إلى إخلال ببعض الفرائض (¬2). وإن شك في أمره هل يسلم من الميد أم لا؟ فقد قالوا: يكره له الركوب ولا يمنع؛ لأن الأصل السلامة والقدرة على الأداء. وقد قدمنا حكم الصلاة في السفينة الواحدة والسفن في الجمع. وإذا فرقت الريح السفن فهاهنا في الكتاب في قوم يكونون في السفينة إن صلوا جمعوا وحنوا (¬3) رؤوسهم، وإن صلوا على ظهرها لم يمكنهم الجمع، إن الصلاة على ظهرها أفذاذاً أولى (¬4). وهذا محمول على أن الانحناء كثير، وأما لو كان يسيراً لكان الجمع أولى. وإن أمكن من مكان في السفينة الخروج إلى الشاطئ خرج إليه وإن أدى الصلاة في السفينة على الكمال؛ لأن الصلاة على الشاطئ أقرب إلى الخشوع والأمن من طريان المفسدات. فإن صلى ¬

_ (¬1) يقال ماد به البحر يميد به ميداً، والمائد الذي يركب البحر فتغثى نفسه من نتن ماء البحر حتى يدار به ويكاد يغشى عليه. انظر لسان العرب 3/ 412. (¬2) في (ت) إلى الخلال ببعض الفروض، وفي (ق) و (ر) خلال بنص الفروض. (¬3) في (ر) حطوا. (¬4) انظر المدونة 1/ 123.

فصل (في حكم ركعتي الفجر)

في السفينة [وكمل] (¬1) أجزته صلاته. وإن أخل بفروض مع قدرته على الخروج بطلت صلاته، وإن لم يقدر صحت. وقد قدمنا حكم صلاة النافلة في السفينة هل يلزم فيه التوجه إلى القبلة أم لا؟ ... فصل (في حكم ركعتي الفجر) وقد قدمنا كثيراً من أحكام ركعتي الفجر منها؛ هل هي سنة أم لا؟ وحكم من صلاها أو لم يصلها ثم أتى المسجد. ولا خلاف أن وقت ركعتي الفجر بعد طلوع الفجر وإن صلاهما قبله عامداً (¬2) أو ناسياً لأعادهما، وإن تحرى فأخطأ الوقت هل يعيد؟ قولان: المشهور: أنه يعيدهما، والثاني: الاجتزاء بهما. فقاسهما في الأول على الفرائض، وعده في الثاني بالخطأ في الاجتهاد؛ لأنه مأذون له في التحري. وبأي شيء يقرأ فيهما؟ استحب مالك رحمه الله في المشهور الاقتصار على أم القرآن في كل ركعة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخففهما حتى أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ (¬3) وفي مختصر ابن شعبان: يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة في كل ركعة من قصار المفصل. وهذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قرأ في الأولى بقل يا أيها الكافرون (¬4)، والثانية بقل هو الله أحد (¬5). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في الأولى: ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) قاصداً. (¬3) أخرج البخاري في الجمعة 1165، ومسلم في المسافرين 724 واللفظ له عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلَّي رَكعَتَيِ الْفَجرِ فَيُخَفِّفُ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ. (¬4) في (ق) بأم القرآن وقيل يا أيها. (¬5) أخرج مسلم في المسافرين 726 واللفظ له، والنسائي في الافتتاح 945 عَنْ أَبي هُريرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ.

باب في أحكام الوتر

{آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية (¬1)، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية (¬2)، وهذا يدل على أن جميع هذا جائز. ولا شك أن القراءة إذا لم تتعين في الفرائض فلا تتعين في النوافل، يعني القراءة الزائدة على أم القرآن. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يضطجع ضجعة خفيفة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح (¬3). واختلف هل هي مشروعة أم لا؟ المشهور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما فعلها على جهة الراحة لا للتقرب فتكون [غير] (¬4) مشروعة. وبين الأصوليين خلاف في أفعاله كلها هل يقتدى به فيها أو يختص الأمر بالاقتداء بما يظهر منه قصد القربة؟ فهذا مذهب جمهورهم وهو موافق للمشهور في هذه المسألة. ... باب في أحكام الوتر (حكم الوتر) والمنصوص من المذهب أنه غير واجب، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة" (¬5) ¬

_ (¬1) البقرة آية 136. ومطلع الآية: (قولُواءَامَنَّا بِاللهِ). (¬2) آل عمران: 64. لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا بلفظ قريب عند الحاكم في المستدرك على الصحيحين 1/ 450، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 163. ولفظ الحاكم "عن ابن عباس قال: أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلى آخر الآية، وفي الركعة الثانية: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلى قوله واشهد بأنا مسلمون". وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". (¬3) أخرج البخاري في الجمعة 994 واللفظ له، ومسلم في المسافرين 736 عن عُرْوَة أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي إِحدَى عَشرَةَ رَكْعَةَ كَانَتْ تِلكَ صَلَاتَهُ تَعْنِي بِاللَيلِ فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأ أَحَدُكُمُ خَمْسِينَ آية قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأسَهُ وَيَرْكَعُ رَكعَتَينِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجرِ ثم يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأتيِهُ المُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ. (¬4) ساقط من (ر) و (ت). (¬5) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسنده 23/ 291.

(وقت الوتر)

الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي وقد ذكر له فرض الخمس صلوات، فقال: "هَلْ عَلَيَّ غيرُهُنَّ؟ فقَال: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطوَّعَ" (¬1) الحديث. وأيضاً فإن من خصائص الفرائض الواجبات ألا تؤدى على الراحلة. ومن يخالفنا في هذه المسألة يجيز أداء الوتر على الراحلة، فدل ذلك على إلحاقه بغير الفرائض. وفي المذهب لسحنون أنه يجرم تاركه، ولأصبغ أنه يؤدب. فاستقرأ أبو الحسن اللخمي من هذا الوجوب (¬2). فيحتمل ما قال، ويحتمل أن يريد أن من تركه متهاونا بعد معرفته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب عليه دل تركه إياه على تهاونه وعلى فساد حاله. وقد قال ابن خويز منداد في تارك السنن: إنه يفسق. ولا يظهر له وجه إلا ما قلناه. واختلف الأصوليون أيضًا هل يجب الأمر بالمعروف فيما طريقه الندب، أو يكون الأمر بذلك مندوبا إليه ككون (¬3) الشيء في نفسه. ولعل أصبغ بني التأديب على أحد القولين في وجوب الأمر بالمعروف، وإن كان المأمور به من قبل المندوبات. (وقت الوتر) وإذا تقررت هذه المقدمة قلنا: النظر في الوتر ينحصر في فصلين؛ أحدهما: في أوقاته، والثاني: في صفاته. فأما وقته فأوله لا خلاف فيه، وهو إذا صليت العشاء الآخرة في وقتها المشروع، احترازا من الجمع قبل الشفق. وأما آخر وقته، فالاختيار منه ما لم يطلع الفجر. وهل يكون له وقت ضرورة وهو ما بعد الطلوع إلى أن يصلي الصبح؟ في المذهب قولان؛ المشهور أنه يصلي الوتر ما لم يصلي الصبح. والشاذ أنه لا يصليه بعد طلوع الفجر، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الإيمان 46، ومسلم في الإيمان 11 واللفظ له. (¬2) التبصرة ص: 107. (¬3) في (ق) مندوبا ككوت، وفي (ق) مندوبا لكون.

صلى" (¬1). فظاهر الحديث حصر وقته على ما قبل طلوع الفجر، لكن ثبت عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قضوه بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح. وبين الأصوليين خلاف في قول الصحابي هل هو مما يعتمد عليه؟ وإذا قلنا بالاعتماد حملنا الحديث على ما هو الأولى، ولا شك أن الأولى أن يؤدى قبل الفجر. وقد قال ابن الجهم (¬2): إن قضاء الوتر بعد طلوع الفجر إنما هو على الخلاف في الزمان الذي هو بين طلوع الفجر وبين طلوع الشمس؛ هل هو من الليل، أو من النهار، أو زمان (¬3) قائم بنفسه؟ وهذا إشارة إلى أن قضاءه بعد طلوع الفجر يجري على (¬4) الخلاف الذي ذكرناه. وإذا قلنا: إنه يصلي بعد الفجر ما لم يصل الصبح، فإن لم يصله حتى افتتح الصبح (¬5)، فهل يتمادى أو يقطع؟ في كل واحد من الفذ، والإمام، والمأموم، قولان: أحدهما: أنه يقطع، والثاني: أنه يتمادى على صلاته، وقد فات الوتر. وإن جمعت الثلاثة قلت: أربعة أقوال: أحدها: أنهم يقطعون، والثاني: أنهم لا يقطعون، وقد فات الوتر، والثالث: أن الفذ والإمام يقطع والمأموم يتمادى، والرابع: أن الفذ يقطع خاصة والإمام والمأموم لا يقطعون. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو عند البخاري في الجمعة 991 بلفظ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيهِ السَّلاَم: "صَلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى". (¬2) هو: محمد أبو بكر بن أحمد بن محمد بن الجهم بن حبيش ويعرف بابن الوراق المروزي، له أُنس بالحديث وألف كتباً جلة على مذهب مالك منها كتاب الرد على محمد بن الحسن وكتاب بيان السنة خمسون كتاباً كتاب مسائل الخلاف والحجة لمذهب مالك وشرح مختصر ابن عبد الحكم الصغير. توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وقيل سنة ثلاث وثلاثين. الديباج المذهب: (ص) 243. (¬3) في (ق) أو من زمان. (¬4) في (ت) يجزي على هذا الخلاف. (¬5) في (ر) الصلاة.

وسبب الخلاف ترجيح الأمر [بالوتر] (¬1)، وهو إذا تمادى فاته. والأمر بالتمادي على العمل الذي هو فيه، وهو منهي عن قطعه. ومن فرق بين الفذ ومن هو في جماعة فلِتَأَكُّدِ ما دخله من العمل بمزيد (¬2) فضل الجماعة. ومن قصر التمادي على المأموم فلأنه تابع لغيره والإمام ليس بتابع وهو في حكم الفذ. وأيضاً فإن الإمام إذا قطع أمكنه أن يصلي في جماعة والمأموم لا يمكنه ذلك. وهذا الذي حكيناه من الخلاف فيما إذا عقد ركعة من الصلاة أو لم يعقدها، في بعض الروايات التفرقة بين أن يعقد ركعة أم لا؟ وقد قدمنا الخلاف في تكبيرة الإحرام هل هي من الأركان التي يحافظ على التمادى بسببها أم لا؟ وإن أكمل الصلاة فلا خلاف عندنا أن وقته فات ولا يصليه بعد الصبح، إذ لا يؤدى شيء هناك من النوافل، وهو وتر لنافلة الليل، وقد انقطع حكمها فلا يقضيه بعد ذلك؛ لأن القضاء- على الصحيح من مذاهب الأصوليين- بأمر ثان، ولم يرد القضاء فيه. وإن اعترض هذا بما في المدونة من جواز قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس (¬3). فقد قال الأبهري: إن القضاء هاهنا يجوز وإنما يصلي ركعتين، ولعل أجرهما ينوب عما فاته من أجر ركعتي (¬4) الفجر. والوتر ركعة واحدة فلا يجوز أن يتنفل بركعة تنوب له عن ذلك. ولو صلى الوتر ثم تنفل بعده قبل طلوع الفجر لكان في الأمر بإعادته قولان. وسبب الخلاف حديثان: أحدهما: لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ" (¬5)، وهذا يقتضي نفي الإعادة. والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) يريد. (¬3) المدونة: 1/ 124. (¬4) في (ق) ولعلهما ينوبان عما فاته من أجر ركعتي الفجر، وفي (ر) ولعل إحداهما تنوب عما فاته من إحدى ركعتي. (¬5) أخرجه الترمذي في الصلاة 470، والنسائي في قيام الليل 1679، وأبو داود في الصلاة 1439. وقال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ".

صلى" (¬1)، وهذا يقتضي أن الوتر ينبغي أن يكون آخر صلاته، فإذا صلى ثم تنفل أوتر ثانية ليكون آخر صلاته. ولو صلى العشاء الآخرة ثم أوتر فذكر بعد وتره أنه صلى العشاء على غير وضوء فأعادها لوجب عليه إعادة الوتر وإن صلاه على وضوء؛ لأن وقت الوتر بعد (¬2) العشاء الآخرة، وهي إذا وقعت على غير وضوء كالعدم. وإذا قلنا بجواز الوتر بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح، فإن ذكر الوتر- وقد ضاق وقت صلاة الصبح- فإن أمكن أن يؤدي ركعتي الفجر والوتر بشفعه وصلاة الصبح جميعاً قبل طلوع الشمس فعل جميع ذلك، فإن لم يمكنه إلا ركعة من صلاة [الصبح] (¬3) خاصة ترك الوتر وركعتي الفجر وصلى الفرض، وإن أمكنه أن يؤدي ركعتي الفجر وركعة الوتر (¬4) من غير شفع وجميع صلاة [الصبح] (¬5) قبل طلوع الشمس، فهل يركع بدل ركعتي الفجر ركعتي الشفع أم لا؟ لا يخلو أن يكون تنفل بعد العشاء الآخرة أو لم (¬6) يتنفل؟ فإن كان لم يتنفل أسقط ركعتي الفجر وصلى ركعتي الشفع وأوتر وصلى الصبح، فإن تنفل فهاهنا قولان: قيل يجزيه الشفع وإن لم يكن متصلاً بالوتر فيركع ركعتي الفجر، وقيل: لا يجزيه إلا متصلاً به فيركع بدلهما ركعتي الشفع. وإن كان لو اشتغل بركعتي الشفع لم يمكنه أن يصلي من الصبح قبل طلوع الشمس إلا ركعة واحدة، فهل يوتر بواحدة ويصل جميع صلاة الصبح ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو عند البخاري في الجمعة 991 بلفظ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ السَّلاَم: "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى". (¬2) في (ق) لأن الوتر مقدم بعد. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) الوتر خاصة. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) ولم.

فصل (صفة الوتر)

[قبل طلوع الشمس] (¬1)، أو يشفع ويوتر وإن أدى الركعة الثانية بعد طلوع الشمس؟ في ذلك قولان. ويلتفت فيه إلى حكم من أدرك ركعة من الصلاة قبل الطلوع أو قبل الغروب، هل يكون قاضياً أو مؤدياً؟ وقد قدمنا ما في ذلك. لكن أحد القولين هاهنا بأنه يشفع يدل على أن مؤخر الصلاة إلى أن لا يبقى من الوقت إلا مقدار ركعة ليس بآثم، كما حكى أبو الحسن اللخمي الاتفاق على ذلك. لأنه لو كان آثماً لما قدم عليه ركعتي الشفع. وأعلى أمرهما أن يكونا سنة. وإن لم يمكنه إلا ركعة الوتر وركعة من صلاة الصبح فهل يركع للوتر وإن أدى الركعة الثانية من الصبح بعد طلوع الشمس؟ المنصوص أنه يركع الوتر. ويجري على القول (¬2) بتأثيم مؤخر الصلاة إلى هذا الوقت أنه يسقط الوتر إذ لا يلزمه أن يشتغل بسنة فيقع في ممنوع (¬3). ... فصل (صفة الوتر) وأما صفة الوتر؛ فمنه عدده. والمذهب كله على أنه ركعة واحدة قائمة بنفسها. وأبو الحسن اللخمي حكى عن المذهب قولين: أحدهما: هذا، والثاني: أنه ثلاث ركعات لا يفصل بينهما (¬4). ويعوِّل في ذلك على ألفاظ وقعت في المذهب مطلقة؛ أنه يوتر بثلاث ركعات. والمراد (¬5) أن الوتر لا يؤتى (¬6) به وحده، بل يشفع قبله. ولو سئل عن الفصل بينه وبين الشفع لأمكن أن يجيب يالفصل كما وقع له صريحاً. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) و (ر) على القولين فعل القول. (¬3) في (ق) في ممنوع في الفريضة. (¬4) التبصرة ص:108. (¬5) في (ق) و (م) ومراده. (¬6) في (ق) لا يوتر.

وإذا ثبت أنه ركعة واحدة، فهل يكتفي به المعذور (¬1) من غير تقديم نافلة بعد العشاء الآخرة؟ في ذلك قولان. ومثار الخلاف، هل هي وتر للنفل المختص بالليل فيتقدم قبلها شفع ولا يجزي الاقتصار عليها؟ وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن البتر" (¬2)، وهي الركعة الواحدة من غير شفع قبلها. أو هي وتر لصلاة العشاء الآخرة، فيكتفي بها؟ وإنما يؤمر بالتنفل قبلها مع الاختيار. وإذا قلنا بتقديم شفع فلا بد. فهل يلزم اتصاله بالوتر؟ أو يجوز وإن فرق بينهما بالزمان الطويل؟ في المذهب قولان: أحدهما: لزوم الاتصال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثْنَى مَثْنَى" الحديث (¬3)، فظاهر هذا، الأمرُ بالاتصال. والقول الثاني جواز الانفصال؛ لأنها ركعة مستقلة بنفسها فأشبهت صلاة المغرب التي هي وتر الفرائض. فلا يفتقر إلى تقدم شيء متصل بها. وإذا كان من حكمها الشفع فهل يلزم أن يوتر بشفع يختص (¬4) بها، أو ينوب منابه (¬5) كل نافلة؟ في المذهب قولان. والصحيح أنه مخير إن شاء ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ر). (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقريب منه ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 13/ 254 عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء؛ أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها. ثم قال ابن عبد البر في أحد الرواة: "هو عثمان بن محمد بن أبي ربيعة بن عبد الرحمان، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم"، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 5/ 68: "قال ابن القطان: هذا حديث شاذ لا يعرج على رواته"، وقال العجلوني في كشف الخفاء 1/ 330: "رواه عبد الحق في الأحكام بسند فيه عثمان بن محمد بن ربيعة الغالب عليه الوهم ... وقال النووي في الخلاصة: حديث محمد بن كعب في النهي عن البتيراء مرسل ضعيف"، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار3/ 39 عن محمد بن كعب القرظي، وقال: "قال العراقي: وهذا مرسل ضعيف"، وقال ابن حزم في المحلى3/ 48 "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهي عن البتيراء". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ت) بالشفع مختصاً. (¬5) في (ق) مناب.

أتى بشفع مختص (¬1) بها إذ كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. وإن شاء أتى بها بعد نافلة غير مختصة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى" الحديث. وهل يجوز له أن يوتر بركعة افتتحها بنية الشفع أو يشفع ركعة (¬2) افتتحها بنية الوتر؟ في المذهب قولان. وهما على ما قدمناه من الخلاف في أعداد الركعات هل تراعى في ابتداء الصلاة. ومن شك هل هو في الركعة الأولى من الشفع أو في الثانية، فإن كان سالم الخاطر بني على يقينه وأتى بركعة ثانية وسجد بعد السلام، وقام وأتى بركعة الوتر. وإن كان موسوَساً بني على أول خاطره كما قدمناه في كتاب الطهارة. ويأتي في باب السهو. وإن شك هل هو في ثانية الشفع أو في الوتر سجد بعد السلام وبنى على أنها ثانية الشفع. واختلف في علة سجوده على ثلاثة أقوال: أحدها: أن السجود (¬3) لإمكان الزيادة، وأنه لم يسلم بين الشفع والوتر. والثاني: أن السجود أتى به ليكون شافعاً لركعة الوتر، إن كانت هي التي هو فيها، لئلا يؤتى بالوتر بعدها مكرراً فيكون شفعاً. والثالث: أن السجود على أحد الأقوال في الشاك أنه يسجد بعد السلام. وسيأتي تمامه. ومن صفات الوتر القراءة، واختلف المذهب هل يقتصر بمعين زائد عن أم القرآن؟ فقيل يختص بالإخلاص والمعوذتين. وقيل لا يختص. والصحيح اختصاصه بثلاث سور. ويحمل (¬4) القول الثاني على كراهية التحديد، من غير أن يثبت في الشريعة كونه فرضاً أو سنة. وهذا شأن مالك رحمه الله في مثل هذا. وهل يختص الشفع بقراءة أم لا؟ إن قلنا إن الوتر لا يختص بشفع ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) خصوص مختص. (¬2) في (ت) بركعة. (¬3) في (ر) سجوده. (¬4) في (ر) ومحل.

باب في قضاء [الصلاة المنسية].

معين، فلا شك أنه لا يختص. وإن قلنا إنه يختص بشفع معين فالأولى أن يقرأ في الشفع بعد أم القرآن بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}. وإن اقتصر في الوتر على أم القرآن؛ فإن فعله ساهياً سجد لسهوه قبل السلام، وإن فعله عامداً فعلى القولين فيمن ترك السنن متعمداً هل تبطل صلاته أم لا؟ ولو زاد في الوتر ركعة ناسياً لكان في بطلان وتره قولان، بمنزلة من قرأ في صلاته مثلها. لكن الركعة يسيرة إن أعتبرت في نفسها، وكثيرة (¬1) إن إعتبرت بالنسبة إلى ركعة الوتر، إذ هي مثلها. وقد قدمنا ذلك في تارك أم القرآن في ركعة من الصبح. وحكم الوتر الجهر بالقراءة إن كان منفرداً، فإن كان مع جماعة، فإنه يصلي سراً لئلا يخلط عليهم. وإن أسرَّ ناسياً سجد لسهوه قبل السلام، وإن كان عامداً فقولان: أحدهما: صحة الوتر، والثاني: بطلانه، قاله الإبياني. وهو بناء على بطلان صلاة من ترك السنَّة متعمداً. ... باب في قضاء [الصلاة المنسية] (¬2). والأصل في قضائها الكتاب والسنَّة؛ والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) الآية، وإن احتملت فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (¬4)، فإن الله تعالى: يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". [وهذا يقتضي ¬

_ (¬1) في (ر) ويسيرة. (¬2) في (ر) المنسيات، وفي (م) فصل في قضاء الصلاة المنسية. (¬3) طه:14. (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ, وقد أخرجه مسلم في المساجد 684، والدارمي في الصلاة 1229. ولفظ مسلم "عن أنس بن مَالِك قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا".

أن المراد بالآية إذا ذكرتك إياها، وقيل في تأويل الآية: إن معناها أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقيل؛ لنذكرك بها. وقراءة ابن شهاب: {أقم الصلاة للذكرى} (¬1) يحتمل هذه الأوجه] (¬2). وأما السنَّة فمنها الحديث المتقدم آنفاً. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن صلاة الصبح ثم قضاها بعد طلوع الشمس (¬3). وأما الإجماع فقد اجتمعت الأمة على وجوب قضاء المنسية من الصلوات إذا كانت خمساً فدون. ومذهب فقهاء الأمصار وجوب القضاء وإن زادت على الخمس قياساً على المجمع عليه ووجوب قضاء ما تعمد تركه؛ لأنهم رأوا أن الآية تقتضي العموم [في العمد] (¬4) وغيره إذا حملناها على موافقة ما ورد في الحديث من التأويل، ولأن القضاء إذا ثبت في ¬

_ (¬1) في (ق) إن الصلاة لذكري. وقد ورد ذكر قراءة ابن شهاب عقب الحديث الذي أخرجه أبو داود في الصلاة 435 عَنْ أَبي هُرَيرَة وفيه أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من نَسِي صلاة فَليُصَلهَا إذَا ذَكَرَهَا فإنَّ الله تَعَالى قال أَقِم الصلاة لِلذِّكْرَى". وهو قوله: قَالَ يُونُسُ وَكَانَ ابْنُ شِهَاب يَقرَؤُهَا كَذَلِكَ. (¬2) في (ر) و (ت) فبين دفع الاحتمال بحديثه إذا ذكرتك إياها. وفي تأويل الآية إن معناها أقم الصلاة لذكري فيها، وقيل لتذكرك بها، وقراعة ابن شهاب أقم الصلاة للذكرى تحتمل. (¬3) أخرج مسلم في المساجد. 680 عَنْ أبَي هُرَيرَةَ أن رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّس وَقَالَ لِبِلاَل اكْلأَ لَنَا اللَّيْلَ فَصَلَّى بِلاَلْ مَا قُدَّرَ لَهُ وَنَامَ رَسُول للهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ فَلَمَّا تَقَارَبَ الفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالْ إِلى رَاحِلَتِهِ مُوّاجِهَ الْفَجْرِ فَغَلَبَتْ بِلَالاً عَينَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ بلاَلْ ولاَ أَحَدْ مَنْ أَصْحَابهِ حَتَّى ضَرَبَتهُمُ الشَّمْسُ فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظاً فَفَزعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَيْ بِلَالُ فَقْالَ بِلاَلٌ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ- بأَبِي أَنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ- بِنَفْسِكَ قَالَ اقْتَادُوا فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئاْ ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ للهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَقَامَ الصَّلاَة فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ: "مَنْ نَسِي الصَّلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإنَّ اللهَ قالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". (¬4) ساقط من (ر).

(أوقات قضاء المنسيات)

المنسية والتي نام عنها - وإن كان الإثم ساقطاً- فأحرى أن يجب في المتعمد تركها بثبوت الإثم في الترك [عامداً] (¬1). واقتصاره في الحديث على ذكر المنسيات والتي نام عنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وإذا ثبتت هذه المقدمة فإن النظر في هذا الباب ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها: أوقات القضاء، والثاني: لزوم الترتيب، والثالث: حكم المنسيات في ترتيب بعضها على بعض. وإذا اعترى الشك في أيامها وأعيانها وأعدادها (¬2). (أوقات قضاء المنسيات) فأما أوقات المنسيات فهي متى ذكرت من ليل أو نهار، وإن بدا حاجب الشمس أو غرب بعضها. وهذا لقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" (¬3)، فإن ذلك الوقت وقتها، وهو يقتضي عموم سائر الأوقات. ... فصل (حكم الترتيب في القضاء بين المنسية والوقتية) وأما لزوم الترتيب الذي يحكيه البغداديون من أهل المذهب ففيه قولان: أحدهما: أن الترتيب بين المنسية وبين الوقتية واجب، والثاني: أنه مستحب. وتحقيق المذهب في هذا يؤخذ مما نقوله في التفصيل. وهو أن الذاكر للصلاة المنسية لا يخلو أن يذكرها قبل التلبس بالوقتية أو بعده؛ فإن ذكرها قبل التلبس بالوقتية فلا يخلو أن تكون كثيرة جداً أو يسيرة جداً أو متوسطة بين ذلك، فإن كانت كثيرة جداً بدأ بالوقتية، ولا يلزمه (¬4) الاشتغال بقضاء هذه الكثيرة في فور واحد. وهذا كالخمسة عشرة صلاة فصاعداً. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ر) و (م). (¬2) كذا في جميع النسخ. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) لأنه لا يلزمه.

(حكم من ذكر صلاة بعد التلبس بأخرى)

وقال محمد بن مسلمة: يبدأ بالمنسية وإن كانت كثيرة مثل (¬1) صلاة شهرين. فهذا يقتضي وجوب الترتيب، ويلزم عنده أداء هذا المقدار في فور واحد. وإن كانت يسيرة جداً بدأها ما لم يخف فوات وقت الحاضرة الاختياري [والضروري] (¬2). وإن خاف فواته فهاهنا قولان: المشهور الابتداء بالفائتة وإن فات وقت الحاضرة. وهذا يشعر بوجوب الترتيب في هذا المقدار. والشاذ الابتداء بالحاضرة. وهذا يشعر بأن الترتيب مستحب فيؤمر به ما لم يخف ذوات الحاضرة. ولأشهب قول ثالث أنه مخير بين الابتداء بالمنسية أو بالوقتية. وهذا لتقابل حق (¬3) الترتيب وحق الوقت. وكم عدد اليسير؟ أما الأربعة فدون فلا خلاف في كونها يسيرة، وأما الستة فلا خلاف في كونها كثيرة، وأما الخمس ففيها قولان: أحدهما: إلحاقها بالكثيرة؛ لأنها صلاة يوم كامل. والثاني: إلحاقها باليسيرة، إذ لا تكرر فيها. وأما المتوسطة مقدار عشر صلوات، فإنه يبدأ بها ما لم يخف فوات وقت الحاضرة. وهل يراعي فوات وقتها الاختياري أو الضروري؟ في المذهب قولان. وهذا يشعر باستحباب الترتيب لكن قدمنا الخلاف في مؤخر الصلاة إلى الوقت الضروري، هل يتعلق به الإثم أم لا؟ وهذا في التأخير إلى الاصفرار. فمن علق الإثم راعى فوات الوقت الاختياري. ومن لم يعلقه (¬4) راعى فوات الوقت الضروري. (حكم من ذكر صلاة بعد التلبس بأخرى) وإذا ذكرها بعد التلبس بالصلاة فلا يخلو إما أن يكون مما لا يجب تقديمها على الوقتية أو مما يجب؟ فإن لم يجب تقديمها فلا تأثير للمذكورة ¬

_ (¬1) في (ر) وإن كان مثل، وفي (ق) وإن كانت مثلاً. (¬2) ساقط من (ر) و (ت). (¬3) في (ت) وجوب. (¬4) في (ق) يعلق الإثم.

في الصلاة التي هو فيها، فإن كانت مما يجب تقديمها فلا يخلو الذاكر لذلك من أن يكون مأموماً، أو فذاً، [أو إماماً] (¬1). فإن كان مأموماً تمادى على أتباع إمامه ولم يقطع، وهل تبطل عليه هذه الصلاة التي تمادى فيها؟ في المذهب قولان جاريان على الخلاف في الترتيب هل يجب أو يستحب؟ وإن كان فذاً فلا يخلو أن يكون قبل الركوع أو بعده (¬2)، فإن كان قبل الركوع (¬3) فقولان: أحدهما: أنه يقطع، والثاني: أنه يتم ركعتين نافلة. وهذا على الخلاف في تكبيرة الإحرام، هل هي ركن يحافظ على ثبوته أم لا؟ وإن لم يرفع رأسه كان على الخلاف في عقد الركعة ما هو؟ فإن قلنا وضع اليدين على الركبتين أتم ركعتين نافلة، وأن قلنا رفع الرأس كان بمنزلة من لم يركع، وإن صلى ركعتين جعلهما نافلة وقطع، وإن صلى ثالثة فقولان: أحدهما: أنه يتمادى إلى أربع ثم يصلي المنسية ويعيد التي كان فيها، والثاني: أنه يقطع من الثلاث. وهذا الخلاف في وجوب الترتيب؛ فمن أوجبه ورأى أن تحقيق أثره ألا يتم الصلاة المذكورة فيها أمر بالقطع، ومن لم يوجبه أو راعى الخلاف أمر بالتمادي. وأذا أمرنا بالتمادي هل يجب عليه إعادة الصلاة التي كان فيها أو يستحب؟ قولان. وهما على وجوب الترتيب واستحبابه. وإن كان إماماً فهل يقطع أو يتمادى؟ قولان. وهما على ما قدمناه من وجوب الترتيب. وإذا قلنا بالقطع فهل يلزم ذلك من خلفه أو له أن يستخلف من يتم بهم وتصح لهم؟ قولان. فمن التفت إلى وجوب القطع ولم يراع الخلاف قال بالاستخلاف قياساً على الحدث، ومن راعى الخلاف أمرهم بالقطع لأنه يصير كالمتعمد في الإبطال عند من (¬4) أوجب التمادي. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) و (ت) أن يركع أو بعد أن ركع. (¬3) في (ر) و (ت) أن يركع. (¬4) في (ر) عن من.

وإذا قلنا بالتمادي فهل يعيد واجباً أو استحباباً؟ قولان. وهما على ما قدمنا في حكم الترتيب. وإذا أعاد فهل يلزم المقتدين (¬1) الإعادة؟ قولان. وهما على الخلاف في تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام. وهذا الذي قلنا جار فيما كان [من] (¬2) صلاة اليوم أو مما فاته وقته. قال ابن حبيب: أما لو كانت صلاة اليوم كمن يذكر الظهر مثلاً في يومه وهو في العصر فإنه يقطع ولو كان وراء الإمام فينصرف وأن كان على وتر. وعلل ذلك بأن التمادي يفوت صلاة يومه وهي مستحقة الترتيب. والوقتية (¬3) بخلاف المنسية فإنها وأن استحقت الترتيب فإنها لا تستحق الوقت. ورأى في المشهور أن التمادي يلزم لمتابعة الإمام ولأنه دخل بوجه جائز. فإن كانت الصلاة التي هو فيها نافلة وذكر صلاة لا يخلو من أن يكون عقد [ركعة] (¬4) من التي هو فيها أم لا. وإن عقد ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، وإن لم يعقد ركعة فقولان: أحدهما: القطع، والثاني: أنه يضيف إليها ثانية. وهما على الخلاف المتقدم في المحافظة على الإحرام (¬5). وقد أحلنا في باب إعادة الصلاة في جماعة بيان حكم من أقيمت عليه الصلاة وهو في صلاة أخرى على هذا الباب. واختلف المذهب في ذلك على قولين: أحدهما: أنه يتمادى على التي هو فيها ولا يقطعها، فإذا أكملها مخففا نظر؛ فإن بقي من صلاة الإمام شيئاً دخل معه وإلا صلى لنفسه، وهذا هو الشاذ. والثاني: أن الصلاة التي أقيمت (¬6) تؤثر في التي هو فيها. ويختلف في صفة التأثير على قولين: أحدهما: أنه يريد من أقيمت ¬

_ (¬1) في (ق) المقتدين به. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) و (ت) والوقت. (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) في (ق) تكبيرة الإحرام. (¬6) في (ت) أقيمت عليه.

(حكم من ذكر صلاة منسية وهو في الجمعة)

عليه الصلاة التي هو فيها، وقد تقدم بيانه. والثاني: أنه يتمادى على التي هو فيها ما لم يخف فوات جملة الصلاة مع الإمام. فأما الخلاف في التأثير وعدمه فلتقابل مخالفة الإمام بأن يكون في صلاة وهو في صلاة أخرى لوجوب التمادي- على ما افتتحه- واستحقاق الترتيب، وكونه يدخل مع الإمام فيما لا يعتد به. والثاني: بالتمادي (¬1) ما لم يخف فوات صلاة الإمام مراعاة لقول من يقول يتمادى جملة. والقطع إذا خاف ذوات ركعة مع الإمام بتقديم وجوب اتباع الإمام وقد قدّمنا أن ذكر صلوات كثيرة لا يؤثر ذكرها في الصلاة التي هو فيها، فلو ذكر صلوات كثيرة فقضاها حتى لم يبق منها إلا اليسير فنسي فدخل في صلاة وقتية لكان بمنزلة من ذكر صلوات يسيرة، لأن ما قضاه كأنه أوقعه في وقته، وكأنه ليس في ذمته إلا ما بقي. وهكذا يكون حكمه لو ذكر هذا الباقي اليسير وهو في ضيق من وقت الصلاة الحاضرة لابتدأ بالمنسية على المشهور. (حكم من ذكر صلاة منسية وهو في الجمعة) ولو ذكر صلاة منسية وهو في الجمعة فالمنصوص أنه إن طمع بإدراك ركعة من الجمعة بعد قضاء المنسية قطع وقضى ثم عاد إلى الجمعة، فإن لم يطمع تمادى، فإذا أكمل الجمعة صلَّى المنسيَّة خاصة. وهذا يجري فيه الخلاف على ما قدَّمنا التنبيه عليه (¬2). فإن قلنا بأن الترتيب واجب فينبغي أن يتمادى لحق الإمام ثم يعيد الجمعة بعد قضاء المنسية، ويعيدها ظهراً أربعاً. ويلتفت في الإعادة أيضاً إلى الخلاف في الجمعة؛ هل هي صلاة قائمة بنفسها أو بدل عن الظهر؟ فإن قلنا إنها صلاة قائمة بنفسها فيقوى نفي الإعادة، وإن قلنا هي بدل عن الظهر فيقوى وجوب الإعادة. وقد تقدم الخلاف فيمن صلى الجمعة [بنجاسة] (¬3) ناسياً ثم علم ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) لا يعتد به والتأثير والتمادي. (¬2) في (ر) وهذا يجري فيه خلاف ما قدمناه، وفي (ق) وهذا يجري فيه من الخلاف ما قدمنا من التنبيه. (¬3) ساقط من (ر).

فصل (بأي صلاة يبدأ في قضاء المنسيات)

في الوقت هل يعيد ظهراً أربعاً أم لا؟ وإذا صلَّى الوقتية ثم ذكر المنسيَّة فصلاَّها فإنه يعيد الوقتية ما بقي من وقتها شيء. وهل يُراعي في ذلك وقت الاختيار أو وقت الضرورة؟ في المذهب قولان. [وهما] (¬1) على الالتفات إلى وجوب الترتيب، فيعيد ما لم تفت جملة الوقت، واستحبابه فيعيد ما لم يفت الوقت الاختياري. ... فصل (بأي صلاة يبدأ في قضاء المنسيات) وإذا ذكر صلوات منسية فلا خلاف أنه مأمور بترتيبها (¬2) الأولى فالأولى، لكن اختلف في الأمر هل هو واجب أو ندب، وبأي صلاة يبدأ؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يبدأ بصلاة الظهر؛ لأنها التي ابتدأ بها جبريل عليه السلام بالرسول عليه السلام، وبهذا سميت الأولى. والثاني: أنه يبدأ بالصبح؛ لأنها صلاة أول اليوم. وهذا على الخلاف في الزمن الذي بين طلوع الفجر وبين طلوع الشمس هل هو من الليل أو من النهار؟ فإن قلنا إنه من الليل بدأ بالظهر، وإن قلنا إنه من النهار بدأ بالصبح. ثم يرتب الأولى فالأولى. فإن شك في عدد الصلوات أو في أيامها أو في أعيانها. فقد أطال الناس الأنفاس في هذا الباب وصوَّروا من شوَّاذ النوازل ما يفتقر إلى ذكر دقيق الحساب. ونحن نذكر مبادئه بحسب ما يليق بهذا المجموع فنقول: اختلف المذهب هل يلزم تعيين الأيام في الصلوات أو لا يلزم ذلك، وإنما يلزم القصد إلى صلاة الوقت من غير التفات إلى اليوم. وقد قدمنا أيضاً الخلاف في القصد هل هو مُباح أو مأمور به؟ وهل الأمر واجب أو ندب؟ فإذا تقرر ذلك قلنا: من نسي صلاتين من يومين ظهراً أو عصراً ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) بترتيبها في القضاء.

(حكم من ذكر صلاة لا يدري يومها)

مثلاً، وشك أيتهما قبل صاحبتها؟ فلا يخلو أن يذكر يومين بأعيانها، أو لا يذكر اليومين. وإن ذكر اليومين فشك مثلاً هل الظهر من السبت والعصر من الأحد، أو بالعكس؟ فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يصلي أربع صلوات: الظهر للسبت ثم العصر للأحد، ثم الظهر للأحد ثم العصر للسبت. وهذا بناء على مراعاة الأيام. والقول الثاني: أنه يصلي ظهراً بين عصرين، أو عصراً بين ظهرين. وهذا على القول بأن الأيام لا تُراعى. وإن لم يذكر الأيام بأعيانها فهذا لا خلاف فيه أنه يصلي ظهراً بين عصرين أو عصراً بين ظهرين، فيحصل (¬1) بذلك الترتيب، لأن العصر إن كانت (¬2) هي السابقة فقد صلَّى بعدها الظهر، وإن كانت هي المتأخرة فقد صلَّى قبلها الظهر. (حكم من ذكر صلاة لا يدري يومها) ولو ذكر صلاة لا يدري يومها بعينه (¬3) لاكتفى بصلاة واحدة بلا خلاف. كان شك هل هي من السبت مثلاً أو من الخميس؟ فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يصلي ظهرين ينوي بكل واحدة [منهما يوماً من المشكوك فيهما، ويبدأ بالأولى من اليومين. والثاني] (¬4) أنه يصلي ظهراً واحداً يوماً ولا يضيفها إلى يوم معيّن. (حكم من ذكر صلاة لا يدري أهي حضرية أم سفرية) ولو ذكر صلاة يوم ونسي هل هي من حضر أو سفر؛ فعلى القول بأنه مُخيَّر بين القصر والإتمام له أن يُصلي صلاة يوم حضرية ويكتفي بها، وكذلك على القول بأن القصر مستحب. لكن الأولى هاهنا أن يُصلي كل يوم صلاة. وأما على القول بأن القصر فرض أو سنة، فيصلي صلاة يوم ¬

_ (¬1) في (ت) فيحصل له. (¬2) في (ت) وإن كانت. (¬3) في (ت) لا يدري يوماً بعينه، وفي (ر) لا يدري ما هو معينة. (¬4) ساقط من (ر).

حضرية وصلاة يوم سفرية، ولا يعيد الصبح ولا المغرب لتساوي أمرهما في الحضر والسفر. ولو ذكر ظهراً أو عصراً ولم يذكر كونهما حضريتين أو سفريتين لجرى حكم إعادتهما على ما قدمناه. فإن شك في يومهما وشك في تقدم إحداهما على الأخرى، أو شك هل هما حضريتان أو سفريتان (¬1) أو إحداهما حضرية أو سفرية؟ فإنه يُصلي ست صلوات. لكن اختلفوا في صورة ترتيبها؛ هل يصلي ظهراً أربعاً حضرية ثم هي سفرية، ثم عصراً حضرية ثم هي سفرية، ثم ظهراً حضرية وسفرية. وإن بدأ بالعصر فعل فيها ما فعل بالظهر، أو تكون صورة ترتيبها أن يصلي ظهراً حضرية ثم عصراً سفرية ثم ظهراً سفرية ثم عصراً حضرية ثم ظهراً حضرية ثم عصراً سفرية. فتقع له صلاة سفر بين صلاتي حضر وبالعكس. وهذا كلّه طلباً لتحصيل الترتيب، وهو لازم على القول بوجوبها. وأما على القول باستحبابها فإن تكثير الصلوات إنما هو من باب الأولى فيكتفي على القول بالتخيير بصلاتين ظهراً وعصراً حضريتين. وعلى القول بأن القصر فرض أو سنة فأربع صلوات؛ ظهراً حضرية وسفرية وعصراً كذلك. ولو ذكر صلاة يوم وليلة ويعلم أن أحدهما قبل الأخرى، ولا يدري اليوم قبل الليلة أو بالعكس؛ فإنه يصلي صلاة زمان منهما بين صلاة زمانين لتحصيل الترتيب. وهل يبدأ بصلاة الصبح في اليوم أو بصلاة الظهر؟ في المذهب قولان. وقد قدّمناهما. ولنقتصر على هذا المقدار من ترديد (¬2) هذه المسائل، فإن الخروج عنه اشتغال بعلم الحساب ولسنا له. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ر) و (م) حضريتين أو سفريتين، وخرم في (ت). (¬2) في (ر) تزييل.

باب في أحكام السهو

باب في أحكام السهو وهو وإن كثرت فروعه ودقت بعض مسائله فإنه يهون مع الالتفات إلى أصوله وقوانينه. وهو لا يخلو من أن يكون بزيادة أو نقصان. فإن كان بزيادة فلا يخلو أن تكون الزيادة كلاماً أو فعلاً، وإن كانت كلاماً فقد قدمنا أنها إن كثرت جداً أبطلت الصلاة، وإن كان ما دون ذلك أجزأ (¬1) عنه [عندنا] (¬2) السجود. وكنا قدمنا في الكتاب الأول حكم الكلام عمداً، وأنه يكون لغير [إصلاح] (¬3) الصلاة أو لإصلاحها (¬4)، وأحلنا حكم الذي يكون لاصلاحها على هذا الباب فلنبدأ به فنقول: (حكم الإمام يسلم سهواً من الصلاة قبل كمالها) من كان إماماً فسلم من صلاته قبل كمالها، فقال له بعض المقتدين: إنك لم تكمل صلاتك، فقال: بل أكملت، وسأل غير المتكلم أولاً، فأخبره أنه لم يكمل. فهل تصح هذه الصلاة أو تبطل؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور صحتها، والشاذ بطلانها. وقال سحنون: إن جرى ذلك في الصلاة الرباعية (¬5) بعد ركعتين صحت الصلاة، وإن كان من غير الرباعية أو ليس بعد الركعتين بطلت. ووجه المشهور الاعتماد على الحديث في أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم من اثنتين فقال له ذو اليدين (¬6): أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ¬

_ (¬1) في (ر) ذلك مراد أجزأ. (¬2) ساقط من (ر) و (ت). (¬3) ساقط في (ت). (¬4) في (ر) ولإصلاحها. (¬5) في (ت) في أول الصلاة الرباعية. (¬6) اختلف في المراد بذي اليدين فقيل: هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة الخزرجي، الذي استشهد ببدر. وقيل: هو الخرباق بن عمرو أبو العربان عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدث عنه. والراجح الثاني لأن الأول يعرف بذي الشمالين، وقد توفي في بدر، وأبو هريرة راوي الحديث لم يسلم إلا في خيبر. انظر فتح الباري 3/ 100، ونيل الأوطار 3/ 131.

فقال: "كل ذلك لم يكن"، فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك. فسأل (¬1) الناس فأخبروه بصحة ما قال ذو اليدين ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إكمال صلاته (¬2). ووجه الشاذ إما لأن الحديث لا يحكم بصحته. وقد تكلم عليه أصحاب أبي حنيفة [من جهة] (¬3) أن الراوي أبو هريرة رضي الله عنه، ولهم في ذلك معان لسنا لها. وإما لأنه انفرد بنقله الآحاد. وإما لأن القياس مقدم عليه. وبين الأصوليين خلاف في تقديم القياس على خبر الآحاد. وإما لأن القصة جرت في (¬4) زمن يجوز فيه النسخ ولم يتكلم ذو اليدين إلا وهو يجوز النسخ فعذر بذلك. بخلاف من يطرأ له ذلك بعد تقرر الشرائع واستحالة النسخ. وعلى هذا عول (¬5) ابن كنانة (¬6) القائل ببطلان الصلاة، وأجاب ابن القاسم عن هذا بأن غير ذي اليدين من الصحابة تكلموا بعدما علموا بأن الصلاة لم تقصر. وأما وجه قول سحنون، فهو أن القياس بطلان الصلاة، وقد وردت صحتها في صورة فيقتصر على ما وردت. ولا يجري (¬7) القياس فيما عداها. ¬

_ (¬1) في (ت) فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرج مسلم في المساجد 573 واللفظ له، والنسائي في السهو 1226 "عن أبي هُرَيْرَةَ قال صلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ العَصرِ فَسَلَّمَ فِي رَكعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو اليَدَينِ فَقَالَ أَقُصرَتِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "كُل ذلِكَ لَمْ يَكُن" فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْبلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النَاسِ فَقَالَ:"أَصَدَقَ ذو اليَدَينِ؟ " فَقَالُوا: نَعَم يَا رَسُولَ اللهِ، فَأتَمَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا بَقِيَ مِنَ الصلاةِ ثُمّ سَجَدَ سَجدَتَينِ وَهُوَ جَالِس بَعْدَ التَّسليِمِ". (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) على. (¬5) في (ر) قول. (¬6) هو أبو عمرو عثمان بن كنانة من فقهاء المدينة أخذ عن مالك، وغلب عليه الرأي، وهو الذي قعد في مجلس مالك بعد وفاته. توفي بمكة سنة 186 هـ وقيل سنة 185 هـ ترتيب المدارك 3/ 21. (¬7) في (ر) ويجري.

وإذا تكلمنا على حديث ذي اليدين فنستوفي ما يتعلق به بحسب هذا المجموع، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى قول المخبرين فأتم. والمصلي إذا أخبره غيره أنه لم يتم فلا يخلو أن يخبره من معه في صلاة (¬1)، أو من ليس معه في صلاة؛ فإن أخبره من معه في صلاة فلا يخلو من أن يكون موقنا بخلاف ما قاله، أو موقناً بصحة ما قاله، أو شاكاً. فإن أيقن بخلاف ما قاله المخبر فإنه يرجع إلى يقينه ولا يلتفت إلى يقين المخبر، إلا أن يكثر (¬2) المخبرون جداً حتى يكونوا ممن يقع بهم العلم الضروري (¬3). فيعلم حينئذ أن يقينه ليس بصحيح، وإنما ظن أنه أيقن وليس كذلك. وإن كان موقناً بصحة ما قاله رجع إليه، وكذلك إن شك. [وهذا إذا] (¬4) طرأ له الشك واليقين بصحة ما قالوه بعد أن سلم، وإلا فلو سلم على الشك هل أكمل أم لا، أو على اليقين بأنه لم يكمل، بطلت صلاته. ويحمل رجوع الرسول عليه السلام إلى المخبرين في قصة ذي اليدين على أنه شك بعد أن أخبروه، أو أيقن بصحة ما قالوه ولذلك سلم وقال: كل ذلك لم يكن. وإن كان المخبرون ليسوا معه في صلاة فإن أيقن ببطلان ما قالوه لم يرجع إليه، فإن شك أو أيقن بصحة ما قالوه رجع إلى يقينه لا إلى خبر المخبر. [وهل يرجع إلى الخبر] (¬5) فيكون من باب الشهادة، وذلك (¬6) إذا لم يتصور له يقين ولا شك؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يرجع إليه لأنه ليس معه في صلاة وإنما يرجع إلى من معه في صلاة لأنهم في حكم المصلي الواحد. والشاذ أنه يرجع إليه لأنه من باب الشهادة. وإذا حكمنا بالرجوع بعد أن سلم من اثنتين، فإن طال الأمر وكثر الفعل بطلت الصلاة ¬

_ (¬1) في (ت) و (ر) الصلاة. (¬2) في (ر) يكون، وفي (م) يكثر قول. (¬3) في (ت) العلم المتواتر والضروري. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ت) و (ق) و (م). (¬6) في (ر) وكذلك.

(هل يفتقر في البناء إلى تكبيرة الأحرام)

واستأنفها على المشهور. وقيل: لا تبطل وإن طال (¬1). وإن قرب بني كما ما قدمناه. (هل يفتقر في البناء إلى تكبيرة الأحرام) وإذا حكمنا بأنه يبني فهل يفتقر إلى تكبيرة أم لا؟ أما إن كان قريباً جداً فلا يفتقر إلى تكبيرة بلا خلاف؛ لأن حكم التكبير الأول منسحب عليه. وإن بعد بعداً لا يقتضي بطلان الصلاة ففي أفتقاره إلى إحرام جديد قولان: أحدهما: أنه لا يفتقر إليه، لانسحاب حكم الإحرام للصلاة (¬2) عليه. والثاني: افتقاره إليه؛ لأن الصلاة تخللها فعل من غير جنسها فضعف حكم انسحاب الإحرام الأول، وصارت كالمستأنفة. وإذا قلنا إنه يحرم فهل يأتي به قائماً أو جالساً؟ في المذهب قولان. والقيام قياس على الإحرام الأول، والجلوس لأنه على تلك الحالة فارق الصلاة فيرجع إليها. فإذا قلنا إنه يحرم قائماً فهل يجلس بعد (¬3) القيام؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى الجلوس ثم ينهض منه إلى إكمال الصلاة. والثاني: أنه لا يرجع إلى الجلوس، بل يتمادى على القيام. وهذا على الخلاف في الحركات إلى الأركان هل هي مقصودة فيرجع إلى الجلوس حتى ينهض في صلاة، أو غير مقصودة فيتمادى على القيام؟ وما ذكرنا من التقسيم في اليقين (¬4) والشك وأصل المذهب والمعول عليه وما يذكر (¬5) من القولين في رجوعه إلى العدد اليسير ممن خلفه، فإنما يتصور ذلك مع غلبة الظن. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) لا تبطل ويبنى وإن طال. (¬2) في (ر) نفي للصلاة (¬3) في (ق) و (ت) بعد ذلك القيام. (¬4) في (ر) واليقين. (¬5) في (ر) نذكره، وفي (ت) وما يذكره.

(حكم الزيادة من جنس الصلاة)

وإذا التفت إلى أصل المذهب في أن المصلي لا يرجع إلى غلبة الظن وإنما يبني على يقينه، فهذا يرجع مع غلبة الظن إلى يقينه، واليقين أنه لم يكمل، فلا يختلف في ذلك. فالحق أن يقال إن أيقن بالإكمال لم يرجع (¬1) على التفصيل المتقدم، وإن شك أو غلب (¬2) على ظنه الإكمال بني على يقينه ورجع إلى قول المخبر هاهنا. وهو إنما يبني على أن الأصل عنده عدم الإكمال فيكمل. وإذا طرأ (¬3) له الشك بعد أن سلم فهل يسأل من خلفه أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يسأل بل يبني على طرح ما شك فيه والاعتماد على ما يتيقن. والثاني: أنه يسألهم فيستفيد منهم علماً. وهذا تعويل على سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة ذي اليدين وحمل السؤال على حالة الشك. وإذا قلنا إنه يرجع إلى المخبرين وإن كانوا ليسوا معه في صلاة فهل يكتفي في ذلك بخبر الواحد؟ فيكون بابه باب الإخبار، أولاً بد من مخبرَيْن فأكثر فيكون بابه باب الشهادة؟ في المذهب قولان. (حكم الزيادة من جنس الصلاة) ولنرجع (¬4) إلى أصل التقسيم ونقول: إن كانت الزيادة فعلاً فلا يخلو من أن تكون من جنس الصلاة أو من غير جنسها؛ فإن كانت من جنس الصلاة-[فإن قَلَّت] (¬5) - فلا تبطلها، وهذا كزيادة الركعة في الصلاة الرباعية. وإن كثرت فلا تخلو أن تكون صلاة رباعية أو ثنائية أو ثلاثية. فإن كانت رباعية فزاد فيها مثلها؛ فالمشهور من المذهب بطلان الصلاة بكثرة ¬

_ (¬1) في (ق) لم يكمل. (¬2) في (ر) وغلب. (¬3) في (ق) ظهر. (¬4) في (ت) وترجع. (¬5) ساقط من (ق).

الأفعال (¬1) وإلحاقها بأفعال غير مجانسة للصلاة، والشاذ صحة الصلاة. وهذا لأن المحاذرة فعل يشوش نظم الصلاة، وهذا ليس من ذلك القبيل. وإن كانت الزيادة مثل نصفها كمن يصلي الظهر مثلاً ست ركعات، فهاهنا قولان: أحدهما: بطلان الصلاة نظراً إلى كثرة الزيادة، والثاني: الصحة نظراً إلى أنه ليس بمشوش، وإنما المزيد يسيراً بالنسبة إلى عدد الركعات. وإن كانت الصلاة ثنائية فزاد مثلها كمن يصلي الصبح أربع ركعات؛ فإن قلنا إنه إذا زاد في الرباعية مثلها لا تبطل، فأحرى هاهنا ألا تبطل [فإن قلنا إن تلك تبطل فهاهنا قولان: قيل تبطل كتلك، والثاني: أنها لا تبطل] (¬2). وهذا نظراً إلى قدر المزيد في نفسه، أو بالنسبة (¬3) إلى ما زاد عليه. ولو زاد في هذه ركعة ففيها أيضاً قولان: البطلان؛ لأنه زاد مثل نصف الصلاة. والثاني: أنها لا تبطل؛ لأن الزيادة يسيرة في نفسها. وهل تكون الثلاثية كالرباعية أو كالثنائية؟ في المذهب قولان. فإن حكمنا في جميع هذه المسائل بصحة الصلاة فيكون عليه السجود بعد السلام؛ لأنها زيادة، وكل هذا إذا زاد سهواً، أما لو كانت الزيادة عمداً بطلت الصلاة ولو زاد مثلاً سجدة واحدة. وإن كانت جهلاً جرى على الخلاف في حكم الجاهل هل يلحق بالعامد أو بالناسي؟ وإن كانت من غير جنس الصلاة وفعلت عمداً، فقد قدمنا حكم الفعل في الصلاة إذا قصد إليه. وإن فعلت سهواً فقد قدمنا أيضاً أنها إن كثرت بطلت، وإن قلَّت أجزى عنها سجود السهو، وفي كتاب الصلاة الأول أنه إذا سلم من اثنتين فأكل أو شرب بطلت صلاته (¬4)، وفي هذا الكتاب إذا أكل في الصلاة أو شرب أن صلاته صحيحة ويجزيه سجود السهو (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق) الزيادة. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ت) في نفسه لا قدره بالنسبة. (¬4) المدونة: 1/ 105. (¬5) المدونة: 1/ 135.

فصل (السهو بالنقصان)

وقد اختلف الأشياخ هل هذا اختلاف قول أو بين المسألتين فرق؟ وإذا قلنا بالفرق فهاهنا طريقان: أحدهما: أن ما في الكتاب الأول حصل بعد السلام من الصلاة وكثر الفعل، وما في هذا الكتاب انفرد الأكل أو الشرب فقل (¬1)، والثاني (¬2): أن ما في [الكتاب] (¬3) الأول فعل كثير لأنه جمع بين الأكل والشرب [والسلام، وفي الكتاب الثاني إنما فعل أحدهما: فصار يسيراً، وبالجملة إن المسألة محل الإشكال] (¬4). ... فصل (السهو بالنقصان) وإن كان السهو بنقصان فلا يخلو من أن يكون نقص فريضة، أو سنة، أو فضيلة، أو هيئة. فإن نقص فريضة لم ينسب عنها إلا الإتيان بها، فإن فاته محلها من الركعة بطلت الركعة. وقد قدمنا حكم من نقص تكبيرة الأحرام أو أخل بأم القرآن. وإن أخل بالركوع أو السجود فإنه يتلافى ما أخل به، فإن لم يفعل بطلت الركعة التي أخل بذاك فيها. ومتى يتلافى؟ [فإنه يلافي] (¬5) ما لم يعقد الركعة (¬6) التي بعد هذه التي أسقط منها. وما (¬7) عقدها؟ فيه قولان: أحدهما: وضع اليدين على الركبتين. والثاني: رفع الرأس منها. وقد تقدم. وإن أخل بالركوع مثلاً من ركعة، والسجود من الركعة التي بعدها، ¬

_ (¬1) ساقط من (ت)، وفي (ر) فعل يسير. (¬2) في (ت) والثاني من الطرق ما في الكتاب الأول فعل كثير. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من ر، وفي (ق) و (م): وما في الثاني فعل يسير لأنه فعل أحدهما. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ق) و (ت) الركعة الثانية التي. (¬7) في (ر) ومتى.

[فصل].

فهل يجزيه ركوعه للثانية عن الركوع للأولى (¬1)؟ لا شك أنه لا يجزيه؛ لأنه أخلَّ بالترتيب. وإن أخل بالسجود من الأولى والركوع من الثانية فهل يجزيه سجود الثانية عن سجود [الاولى]؟ (¬2) المنصوص أنه لا يجزيه. ووقع لمحمد بن مسلمة فيمن نسي السجود من الرابعة (¬3) وسجد للسهو أن ذلك [السجود] (¬4) يجزيه عما أخل به من سجود الركعة. فأخذ من هذا أبو الحسن اللخمي أن السجود للركعة الثانية ينوب عن السجود للركعة الأولى (¬5). ورأيت من فرَّق بينهما [من الأشياخ] (¬6) وقال إن سجود السهو لم يقصد به (¬7) ركعة بعينها فيجزيه وإن كان ليس بفرض، بخلاف ما قصد به ركعة بعينها. [[وهذا القول غير صحيح. ... [فصل] (¬8). وفي المذهب قولان في الإمام والفذ يخلان بركن من الأولى أو من الثانية حتى يفوتهما (¬9) تلافيه فحجب عليهما قضاء تلك الركعة، هل يقضونها (¬10) بأم القرآن وسورة أو بأم القرآن خاصة؟ فقد قصدوا إلى أن تكون الركعة أولى [أو] (¬11) ثانية فعادت على قول أخيرة فكذلك يكون حكم ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) الأول. (¬2) ساقط من (ر) وفي (ق) و (ت) الأول. (¬3) في (ت) الرباعية. (¬4) ساقط من (ق) وفي (ر) سجود. (¬5) التبصرة ص: 112. (¬6) ساقط من (ق) و (ر). (¬7) في (ر) و (ت) بها. (¬8) ساقط من (ر) و (م). (¬9) في (ر) و (ت) يفوتهم. (¬10) في (ر) يقرؤون فيها. (¬11) ساقط من (م) و (ت).

فصل (الشك في النقصان حكمه كحكم تيقن وقوعه)

السجود. [وإن قصد به ركعة بعينها]] (¬1) ينوب مناب ما أخل به] (¬2) من الفروض في الركعة التي قبلها (¬3). وفي المذهب أيضاً قولان فيمن ظن أنه قد أكمل صلاته فأتى بركعتين نافلة، [ثم ذكر أنه لم يصل الفريضة] (¬4) إلا ركعتين، فقيل: تجزيه هاتان الركعتان عما بقي عليه من صلاته، وقيل: لا تجزيه. وكذلك لو تعمد أن يأتي بركعتين نافلتين، وقد علم أنه قد أخل بركعتين من الفريضة، فقيل: حكم النية منسحب (¬5) في جميع هذا، فيجزيه عن الفريضة. وقيل: لا يجزيه؛ لأن النية إنما تنسحب ما لم يأت بنقيضها، [وإلا إذا أتى بنقيضها] (¬6) بطل حكم الانسحاب (¬7). ... فصل (الشك في النقصان حكمه كحكم تيقن وقوعه) وحكم الشك في النقصان كحكم تيقن وقوعه. فإذا شك هل أخل بركن وجب عليه الإتيان به، كما يجب على من تيقن أنه أخل به. وهذا إذا لم يكن موسوساً. وأما الموسوس فإنه يبني على أول خاطر به، كما سبق في الشك في الحدث وغيره. ولو ذكر في الركعة الرابعة أنه أخل بسجدة، أو شك هل أخل بها، ولم يدر محلها. هاهنا قولان: أحدهما: أنه يأتي بسجدة لئلا تكون من هذه الركعة، ثم يأتي بركعة لئلا تكون من ركعة غيرها. والثاني: أنه يأتي بركعة خاصة تجزيه عما أخل به كيف تقدر أمره. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) خرم في (ت). (¬3) كذا في جميع النسخ. (¬4) في (ق) و (ت) وقد علم أنه قد أخل بركعتين من الفريضة. (¬5) في (ر) مستحب. (¬6) ساقط من (ر) و (ت). (¬7) في (ر) الاستحباب.

فصل (حكم من أخل بالسنن)

وسبب الخلاف تقابل المكروهين: أحدهما: التفرقة بين أجزاء الركعة، والثاني: الزيادة في الصلاة. فمن راعى حكم التفرقة قال: يأتي بسجدة، ومن راعى حكم الزيادة قال تسقط السجدة ويأتي بركعة خاصة. ولو سلم من الصلاة ثم ذكر سجدة من الركعة الآخرة فهل يكون السلام حائلاً بينه وبين التلاقي؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه حائل (¬1) فيقوم فيأتي بركعة، والثاني: أنه لا يكون حائلاً فيأتي بسجدة وتجزيه. فمن التفت إلى كونه ركنا قائماً بنفسه عدَّه حائلاً، ومن التفت إلى كونه قصيراً لم يعده حائلاً. هذا حكم الإخلال بالأركان على الجملة، وبقي منها حكم الإخلال بالسلام. ومتى أخلَّ به ولم يطل الأمر سلم وأجزأه، وإن طال فقد قدمنا القولين هل تبطل الصلاة؟ وهو المشهور، أو لا تبطل؟ وهو الشاذ. ... فصل (حكم من أخل بالسنن) وإن أخلَّ بالسنن فإن كان عامداً ففي بطلان صلاته قولان، وقد تقدما. وإن قلنا بالصحة فهل يسجد؟ قولان: المشهور أنه لا يسجد؛ لأن السجود إنما ورد في السهو. والشاذ أنه يسجد؛ لأنه إذا سجد للسهو ولا أثر له فيه فأحرى أن يتلافى في العمد بالسجود. وإن أخلَّ بها سهواً فإن كانت فعلاً فلا خلاف في أنه مأمور بالسجود، وإن كانت قولاً فقولان: المشهور أنه مأمور بالسجود كالفعل، والشاذ أنه لا سجود عليه. فمن استعمل القياس أمر بالسجود، ومن لم يستعمله رأى أن السجود إنما ورد في نقص الفعل دون القول (¬2). فإن قلنا بالسجود فأين ¬

_ (¬1) في (ق) أنه يكون حائلاً. (¬2) في (ق) إنما هو في الفعل دون القول.

محله؟ قولان: أنه قبل السلام كنقص (¬1) الأفعال. والشاذ أنه بعده لضعف الأمر به فأخَّر لئلا تكون الزيادة في الصلاة. وهذا ما لم تقل الأقوال، فإن قلت كالتكبير ونحوها ففي الأمر بالسجود قولان: المشهور نفيه ليسارة المتروك، والشاذ إثباته حكماً له بإلحاقه بالسنن في الحكم. ولا شك على ما قدمناه أن من سها عن الجلسة الوسطى سجد قبل السلام لاشتماله على أقوال وأفعال. ومتى يحصل تاركاً له؟ أَما إن نسي فنهض، فإن لم يفارق الأرض فإنه يعود إليه ولا سجود على المشهور، وقيل يسجد. وهذا بناء على الأمر بالسجود وإن قلَّ الفعل. وإن استقلى قائماً فلا خلاف في المذهب أنه لا يعود إلى الجلوس. وقد تقرر السجود في ذمته. وإن كان بين الجلوس والقيام فهل يرجع إلى الجلوس أو يتمادى [على القيام] (¬2)؟ قولان: أحدهما: أنه يرجع لسبق (¬3) الجلوس ولم يحصَّل رتبة الفريضة وهي القيام (¬4) والثاني: أنه يتمادى إلى القيام؛ لأنه فرض وقد (¬5) أخذ في الحركة إليه. فإن رجع بعد القيام فلا يخلو رجوعه من ثلاثة أقسام: إما أن يكون عامداً ففي بطلان صلاته قولان: أحدهما: [أنها] (¬6) لا تبطل صلاته، وهذا مراعاة لقوله من يقول إنه يرجع. والثاني: الحكم بالبطلان؛ لأنه وجب عليه التمادي على (¬7) القيام ورجع إلى الجلوس وقد فات محله، [فكأنه زاد في ¬

_ (¬1) في (ر) كبعض. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ت) سنة، وفي (ر) لسبب. (¬4) في (ر) إذا لم يحصل في رتبة. (¬5) في (ر) وهو. (¬6) في (ر) أنه يرجع. (¬7) في (ر) إلى.

(قاعدة المذهب في الزيادة والنقصان)

صلاته متعمداً. وإن رجع سهواً فلا تبطل صلاته بلا خلاف] (¬1). فإن رجع جهلاً، يجري (¬2) على الخلاف في حكم الجاهل هل هو كالناسي أو كالعامد؟ (¬3). ويتصور السهو هاهنا بأن يذهل عن حقيقة الأمر أو يظن أنه قام من الجلسة الآخرة. [فإذا رجع] (¬4) وحكمنا بصحة صلاته فمتى يكون سجوده؟ قولان: أحدهما: يسجد قبل السلام؛ لأن الجلوس فات محله ورجوعه لا يتلافاه، فهي زيادة محضة. والثاني (¬5) أنه بعد السلام، وهذا بناء على أن الجلوس الذي عاد إليه يسد مسد الأولى (¬6). وإن أخل بالفضائل أو الهيأة فلا سجود عليه، وتجزيه الصلاة لضعف أمر المتروك. (قاعدة المذهب في الزيادة والنقصان) هذا حكم السهو في الزيادة والنقصان، وقاعدة المذهب أن السجود للزيادة بعد السلام والنقصان قبله، إلا ما قدمناه في ترك الأقوال. وفي المجموعة (¬7) لمالك رحمه الله ما يشير إلى أن هذه التراتيب ليست بمتعينة، بل يجوز أن تخالف فيؤتي بالجميع قبل السلام أو بعد السلام. والأصل المعول عليه في المشهور أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين سجد بعد السلام، وقد زاد خامسة فسجد أيضاً بعد السلام (¬8). وقد قام أيضاً من اثنتين ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) فيتخرج. (¬3) ساقط من (ر) أو كالعامد فإن رجع سهواً صحت صلاته. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) زيادة ونقصان والثاني. (¬6) في (ق) الأول وهي زيادة محضة. (¬7) سبق الحديث عن هذا الكتاب في الدراسة. (¬8) أخرجه البخاري في الصلاة 404 واللفظ له، ومسلم في المساجد 572 عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ:"صَلِّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ خَمساً فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: "وَماَ ذَاكَ؟ " قَالُوا صَلَّيْتَ خَمساً فَثَنَى رجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ".

(حكم اجتماع النقص والزيادة)

فسجد قبل السلام. وهذا كالنقص بمقتضى المشهور. وأيضاً فإن النقص ينبغي أن يؤتى بعوضه في نفس الصلاة ليسد مسده، والزيادة لم تؤثر في الصلاة تأثيراً يجب (¬1) تلافيه إلا بالاستغفار أو ما يرغم الشيطان، فكان السجود لذلك (¬2) بعد السلام. (حكم اجتماع النقص والزيادة) فإن اجتمع النقص والزيادة غُلِّب المتأكَّد منهما، وهو النقص، فيسجد قبل السلام. وإنما أخر سجود السهو ولم يؤت به عقيب سببه لإمكان أن يتكرر السهو، فيكفي عن جميعه سجدتان. وهذا في سجود النقص، وأما في سجود الزيادة فمحله بعد الصلاة، فمن ضرورته التأخير. ... فصل (هل يتشهد ويحرم لسجود السهو) وهل يتشهد لسجود السهو؟ أما اللتان بعد السلام فلا خلاف أنه يتشهد لهما لأنهما مستقلتان بنفسهما، وأما اللتان قبل السلام ففي التشهد لهما قولان: أحدهما: الأمر به، إذ المشروع أن السلام لا يكون عقيب السجود (¬3). والثاني: نفيه، إذ لا يكون تشهدان في جلوس واحد. وهل يحرم لهما؟ أما اللتان قبل السلام فحكم الصلاة منسحب عليهما فلا يحرم لهما وإنما يكبر للخفض وللرفع. لكن إذا نسي إيقاعهما قبل السلام فذكر بعد السلام من غير طول فلا يحرم لهما. وإن طال طولا لا يفسد الصلاة جرى على حكم الإحرام على ما قدمناه في الرجوع إلى إكمال الصلاة. وأما اللتان بعد السلام ففي الإحرام لهما قولان: أحدهما: أنه لا ¬

_ (¬1) في (ت) بحيث. (¬2) في (ر) له. (¬3) في (ق) عقيب سجود، وفي (ر) إلا عقيب التشهد.

(حكم من نسي أن يسجد لسجود السهو)

يحرم قياساً على سجود التلاوة، والثاني: أنه يحرم لأن السلام فيهما مشروع عنده. وإذا ثبت الأمر بالسلام منهما وجب أن يؤمر بالإحرام. وكيف صورة السلام؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كالسلام من الصلاة في السر والجهر، والثاني: أن المشروع في ذلك السر. فمن قاسها على الصلاة قال بالأول، ومن قاسها على صلاة الجنازة أيضاً قال بالثاني. والجامع [بينهما] (¬1) أن كل واحد منهما جزء من الصلاة [قال ينبني] (¬2) على أنه [قد] (¬3) اختلف في صلاة الجنازة أيضاً هل المشروع الإسرار بالسلام (¬4)، أو يكون كالسلام من الصلاة؟ والرجوع في ذلك إلى الإتباع. فإن قدم اللتين بعد السلام فسجدهما قبل السلام فهل تبطل صلاته؟ أما إن كان ناسياً فلا تبطل (¬5)، وإن كان عامداً ففي ذلك قولان. وهما على مراعاة الخلاف. فمن راعى الخلاف نفى البطلان، ومن لم يراع أثبته. وإن أخر اللتين قبل السلام فسجدهما بعد السلام؛ فإن كان ناسياً صحت صلاته، وإن كان عامداً أجري على القولين في الإبطال والصحة. وهذا الموضع أولى بالصحة. (حكم من نسي أن يسجد لسجود السهو) ولو نسي أن يسجد سجود السهو فلم يسجده حتى طال الأمر؛ فأما اللتان بعد السلام فيسجدهما متى ما ذكر، وأما اللتان قبله فهل تبطل الصلاة ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) كذا في (ر)، وفي (ق) و (م) و (ت) قال يسر. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) بالصلاة. (¬5) قارن كلام الفقهاء مع ما يروى عن الفراء اللغوي ت:207. لما سأله محمد بن الحسن عن رجل سها في سجدتي السهو، فقال: لا شيء عليه، قال: ولم قال: لأن أصحابنا قالوا: المصغر لا يصغر، فقال: ما رأيت أن امرأة تلد مثلك. البداية والنهاية 10/ 261.

(حكم من ذكر سجود السهو من صلاة وهو في صلاة ثانية)

لتركها متى طال (¬1) الأمر؟ في المذهب خمسة أقوال: أحدها: أنها تبطل، وهو المشهور. والثاني: أنها لا تبطل، وهو الشاذ. والثالث: أنها تبطل إن كان السجود واجبًا عن نقص فعل، ولا تبطل إن كان عن نقص قول. والرابع: أنها تبطل لنقص الجلوس الأوسط وأم القرآن من ركعة واحدة، ولا تبطل إن كان من نقص غير ذلك. والخامس: أنها تبطل إن كان النقص في القول أو في الفعل، إلا أن تكون التكبيرتان وما في معناهما من قول: "سمع الله لمن حمده". فأما القولان بالبطلان ونفيه فبناء على أن السجود واجب لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به فتبطل الصلاة لتركه. أو على أنه ليس بواجب لأنه بدل على غير واجب فلا تبطل الصلاة لتركه. وهذاالذي قلناه من كون المبدل (¬2) غير واجب هو أصل المذهب وقاعدته. وانفرد أبو الوليد الباجي فرأى أن القول بالبطلان يقتضي أن المبدل عنه واجب، ورأى أن الصلاة على ثلاثة أضرب؛ منها إن كان لا يجزيه عنها إلا الإتيان بها ونفي ما قدمنا من الفروض. ومنها واجبات ينوب عنها السجود، وهذه التي عددناها آنفاً. ومنها فضائل هيئة لا تجبر. وهذا قياس على الحج فإنه على هذه الثلاثة الأقسام. وأما الأقوال الأخيرة فمبناها على تأكيد المتروك وعدم تأكده، فتأكد عند قوم لكونه فعلاً، وعند قوم لهذا أو بالخلاف في فرضيته كأم القرآن (¬3) في ركعة، وعند قوم بهاذين (¬4)، وبكثرة الأقوال. (حكم من ذكر سجود السهو من صلاة وهو في صلاة ثانية) ومن (¬5) ذكر سجود السهو من صلاة وهو في صلاة ثانية؛ فإن كان من ¬

_ (¬1) في (ق) حتى يطول الأمر. (¬2) في (ق) البدل. (¬3) في (ت) أو بالخلاف في فريضة أم القرآن. (¬4) في (ق) بهذا. (¬5) في (ق) و (ت) ومتى.

فصل (فيمن شك في صلاته ولم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا)

زيادة تمادى على صلاته فإذا انتهى سجدهما. فإن كانتا من نقص يجري حكم بطلان هذه الصلاة التي هو فيها والرجوع إلى الأول على ما قدمناه من الخلاف في بطلان الصلاة بترك السجدتين اللتين من النقص. وقد استوفينا حكم السهو في الزيادة والنقصان على قدر هذا المجموع. وقد شذَّت مسائل ونحن نستوفيها فنتبع مسائل الكتاب. ... فصل (فيمن شك في صلاته ولم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً) ومن شك في صلاته فلم يدر أثلاثًا أم أربعًا، فلا يخلو من أن يكون شكه موسوساً أو سالم الخاطر؛ فإن كان موسوساً بني على أول خاطريه، فإن سبق إلى نفسه أنه أكمل بني على ذلك، فإن سبق إلى نفسه أنه لم يكمل أتى بما شك فيه، وهذا لأنه في الخاطر الأول مساو (¬1) للعقلاء وفيما بعد ذلك مخالف لهم. والتزامه البناء على اليقين مع كثرة وساوسه، قد يؤدي إلى الحرج وقد لا يحصل له يقين. فإذا سبق إلى نفسه الإكمال فبنى عليه فهل يسجد أم لا؟ قولان: قيل لا سجود عليه, لأنه سقط عند البناء على اليقين للحرج فسقوط السجود بالحرج أولى. وقيل عليه السجود إذ لا مشقة عليه في سجدتين. ومتى يسجد إن أمرناه [بالسجود؟] (¬2) قولان: أحدهما: أنه يسجد قبل السلام لأنه سجود (¬3) للنقص. والثاني: بعد لأن هذا النقص (¬4) مطرح، وإنما السجدتان ترغيماً للشيطان. وإن كان سالم الخاطر فلا خلاف عندنا أنه يطرح المشكوك فيه ويبني على حصول المتيقن. فإذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فاليقين إنما حصل ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) متساوياً. (¬2) ساقط من (ر) و (ق). (¬3) في (ت) مجوز. (¬4) في (ق) السجود.

(عدم وجوب اتباع الإمام إذا قام للركعة الخامسة)

بالثلاث والرابعة لا يقين بها، فعليه أن يأتي بها. ومتى يكون سجوده؟ المشهور أنه بعد السلام لأنه بين أمرين، إما عدم الزيادة، وإما وجودها. ولا نقص بوجه. والشاذ أنه قبل السلام، وهذا لما روي في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مثل هذا:"أن يسجد سجدتين قبل أن يسلم" (¬1)، وقد تأول ذلك على أنه أشار إلى سجود الصلاة، أو على أنه أشار إلى السلام من السجدتين. والتأويلان بعيدان، ولا معنى لتخصيص الأمر بسجود الصلاة، لأن ذلك معلوم من الشريعة (¬2).والسجود لا يكون إلا قبل السلام منه فلا معنى لهذا التأويل إلا على بعد ولسنا له. ويحتمل أن يقال هذا نقص معنوي في حال المصلي فقدر كنقص للفعل أو القول، فكان السجود فيه قبل السلام. (عدم وجوب اتباع الإمام إذا قام للركعة الخامسة) وإذا قام إلى الخامسة (¬3) فإنه يرجع متى ذكر بلا خلاف ويسجد بعد السلام عندنا. وإن كان إماماً فاختلف حال المقتدين به، فجلس قوم ولم يتبعوه، واتبعه آخرون لكن منهم من اتبعه سهواً، ومنهم من اتبعه عمداً. أما من جلس فصلاته صحيحة وكذلك من اتبعه سهواً وأما من اتبعه عمداً فإن علم أنه لا يجوز له اتباعه بطلت صلاته. فإن جهل فظن أنه يلزمه اتباعه ففي بطلان صلاته قولان. وهما على الخلاف في الجاهل هل هو كالعامد أو كالناسي؟ ولو قال الإمام إنما قمت لأني نسيت من إحدى الركعات الأولى سجدة مثلاً؛ فأما من جلس فلا يخلو من أن يوقن بصحة صلاتهم وصلاة إمامهم، وما قال من (¬4) إسقاط السجدة باطل، أو يوقنوا بصحة صلاتهم دون صلاة إمامهم، أو يشكوا؛ فإن أيقنوا بصحة صلاتهم وصلاة إمامهم لم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الصلاة 1028،والبيهقي في سننه الكبرى واللفظ له 2/ 339. (¬2) في (ر) من الشريعة في السجدتين، وأما التأويلان بعيدان. (¬3) في (ت) و (ق) قام الإنسان إلى خامسة. (¬4) في (ت) وإن من قال وفي (م) وإن ما قال من إسقاط.

يلزمهم اتباعه وكانت صلاتهم صحيحة. فإن (¬1) كانوا ممن يقع بخبرهم العلم الضروري وجب على الإمام اتباعهم، ويرجع إليهم ولا يعول على يقينه. وإن كان عنده أنه أيقن بإسقاط السجدة، فإن يقينه هاهنا محال. وإن كان من لايقع العلم بخبرهم بني على ما تيقنه على ما قدمناه. وإن أيقنوا بصحة صلاتهم دون صلاة إمامهم فهل يلزمهم اتباعه فيما يقضيه ويكون ما أتوا به من السعير مغن عنهم؟ في المذهب قولان: أحدهما: اكتفاؤهم بصحة صلاتهم لأنهم إنما يلزمهم الاقتداء ما دام مكملاً لصلاتهم، فإن أخلَّ وأكملوا اقتدوا (¬2) بأنفسهم. والثاني: أن جميعهم في حكم المصلي الواحد وهم تبع لإمامهم؛ فإذا أخلَّ تعدى الإخلال إليهم. وإن شكوا في صلاتهم وصلاة إمامهم لزمهم اتباعه ثم النظر في بطلان صلاتهم وصحتها فكل موضع لا يلزم فيه اتباع الإمام تصح فيه صلاتهم، وكل موضع يلزمهم فيه اتباعه فالمنصوص أنه لا تصح صلاتهم. وقال أبو الحسن اللخمي: تصح صلاتهم لأنهم معذورون في ترك الإتباع (¬3). وقد يجري الخلاف في هذه المسألة على ما قدمناه (¬4) في حكم المتبعين (¬5) في الخامسة على جهة التأويل هل تصح [صلاتهم] (¬6) أم لا؟ وأما من اتبعه عمداً، فإن علم بإسقاطه واتبعه على ذلك فلا شك في صحة صلاته. ومتى لم يعلم بإسقاطه [واتبعه على ذلك، فإن شك] (¬7) أو قصد إلى العمد في الاتباع فيجري على الخلاف فيمن تعمد زيادة في صلاته فانكشف وجوب تلك الزيادة عليه لإخلاله بشيء مما تقدم، وفي ذلك قولان. ¬

_ (¬1) في (ر) إن. (¬2) في (ت) اعتدوا. (¬3) التبصرة ص:113. (¬4) في (ت) على ثلاثة أوجه في حكم المتبعين في الخامسة. (¬5) في (ق) وحكم المقتدين. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) ساقط من (ق) و (ت).

فصل (صفة العود إلى تلافي الركوع والسجود إذا نسيهما)

أما من اتبعه سهواً فتصح صلاته، وهل يلزمه قضاء ركعة متى لزمه حكم ما أسقطه الإمام من السجود؟ في ذلك قولان: أحدهما: أن هذه الركعة التى اتبع فيها الإمام سهواً تنوب له عما يلزمه من القضاء. والثاني: أنه لا تنوب له. وهو على الخلاف فيمن ظن أنه أكمل فأتى بركعتين نافلتين، فذكر أيضًا أنه إنما صلى ركعتين في نيابة هذه النافلة عما وجب عليه، قولان وقد تقدما. وإذا وجب على الإمام الإتيان بهذه الخامسة لأنه أسقط سجودها (¬1) كما قال، وكان من المقتدين مسبوق فاتبعه، هل تنوب له عن ركعة مما سبق به؟ قولان: أحدهما: أنه لا تنوب، فهذا بناء على أن الإمام في هذه (¬2) الركعة قاض. والثاني: أنه تنوب له، وهذا بناء على أنه يكون بانياً فهي آخر صلاته، فتجزي المسبوق لأنه واجب عليه الاقتداء به فيها. ... فصل (صفة العود إلى تلافي الركوع والسجود إذا نسيهما) وقد قدمنا حكم من نسي الركوع والسجود، ومتى يعود إلى تلافيهما، ومتى لا يعود. نذكر هاهنا صفة عوده. فإن نسي الركوع فهل يعود إلى القيام، أو يعود إلى حال الركوع؟ في المذهب قولان. وهما على الخلاف في الحركات إلى الأركان هل هي مقصودة فيعود إلى القيام حتى يركع منه، أو غير مقصودة فيعود إلى حال الركوع؟ ولو نسي السجود فأين يعود؟ في المذهب قولان: قيل إلى القيام حتى ينحط منه إلى السجود كما كان يفعل لو لم ينسه، وقيل إلى حالة السجود. وهما على ما قدمناه من الخلاف في الحركة إلى الأركان هل هي مقصودة ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) سجدة. (¬2) في (ق) إلا ما يكون في هذه المسألة قاضياً.

فصل (فيمن نسي التشهد الآخر)

أم لا؟ ومن هذا القبيل أن ينسى السجدة الثانية فهل يعود إلى الجلوس حتى ينحط (¬1) منه إلى السجود؟ قولان. وهما على ما تقدم. وإذا قلنا في ناسي الركوع إنه يرجع إلى القيام، فهل يؤمر بالقراءة؟ لا خلاف أنه لا يؤمر بها على جهة الوجوب لأنه قد أكملها. وهل يستحب له؟ في المذهب قولان: الاستحباب، وهذا يتخرج من الخلاف بأن يأتي بالركعة من أولها. ونفي الاستحباب لما قلناه من تقدم القراءة. ... فصل (فيمن نسي التشهد الآخر) وقد تقدم أن التشهد الآخر سنة، وهذا هو المعروف من المذهب. وفي المبسوط: من تركه حتى انتقض وضوءه بطلت صلاته. ولم يفصل هل تركه ساهيًا أو عامدًا. فإن كان مراده العامد، فهو على أحد القولين فيمن ترك السنن عامداً هل تبطل صلاته أم لا؟ فإن حملناه (¬2) على إطلاقه فهو قول ثان في أن التشهد الآخر فرض، وإذا قلنا إنه سنة فهل يسجد تاركه؟ قولان. وهما على ما قدمناه في ترك الأقوال. لكن هذا إنما يؤمر بالسجود إذا أسقطه جملة، وأما لو أتى باليسير من الذكر لم يلزمه السجود. وإذا قلنا إنه فرض فإنه يعود إليه. وهل يعود بتكبير؟ (¬3) يجري على ما تقدم في العودة إلى إصلاح الفرض (¬4). وهل تبطل صلاته مع الطول؟ يجري على ما قدمناه من القولين. ولو نسي السلام لكان الحكم في الرجوع إليه على ما قدمناه في الرجوع إلى إصلاح الصلاة من لزوم الإحرام وعدمه. ¬

_ (¬1) في (ق) حتى ينهض. (¬2) في (ت) من ترك السنن متعمداً أنها تبطل صلاته وإن حملنا على إطلاقه. (¬3) في (ر) فهل يكبر. (¬4) في (ق) الفروض.

فصل (حمل الإمام لسهو المأموم)

وهل يحرم (¬1) قائماً أم لا؟ وهل يعود (¬2) مع الطول أم لا؟ ... فصل (حمل الإمام لسهو المأموم) ولا خلاف أن الإمام يحمل سهو المأموم، ولهذا يلزمه (¬3) حكم سهو الإمام ولو لم يسه معه أو لم يحضر سهوه بأن يكون مسبوقاً. والمسبوق يسجد سجود إمامه إن كان قبل السلام، وأما إن كان بعد السلام فلا يسجد معه. وخيَّره مالك في المدونة أن يجلس حتى يسلم إمامه من سجدتي السهو، أو يقوم عند سلامه من الصلاة. واستحب ابن القاسم أن يقوم, لأن الصلاة قد انقضت بسلامه منها (¬4). وإذا سجد معه [لأن السجود] (¬5) قبل السلام، ثم سها المأموم فيما يقضيه فهل يلزمه السجود لسهوه أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه فيما يقضيه لأنه تنسحب عليه أحكام الإمام، والثاني: أن يسجد لأنه منفرد. ولعلَّ هذا يجري على الخلاف فيما يأتي به هل يكون فيه قاضيًا فيكون حكم الإمام منسحبا عليه، أو بانيا فيكون كالمنفرد؟ وإذا كانت سجدتا الإمام بعد السلام ولم يسجدهما معه ثم سها المأموم سهواً بزيادة، فإن سجدتين تجزيان عنه. وإن سها بنقص فالمنصوص من المذهب أنه يسجد بعد السلام تغليبا لحكم الإمام. وإذا قلنا إن له حكم المنفرد فيما يقضيه وجب عليه أن يسجد قبل, لأنه قد اجتمع عليه زيادة وهي ما لزمه من حكم الإمام، ونقص وهو ما طرأ له في نفسه. ... ¬

_ (¬1) في (ت) وهل يرجع. (¬2) في (ر) وهل تبطل. (¬3) في (ق) ولهذا يلزم المأموم حكم، وفي (م) ولهذا يلزم المأموم في حكم. (¬4) المدونة:1/ 139. (¬5) ساقط من (م).

فصل (حكم من لم يذكر السجود القبلي حتى دخل في صلاة أخرى)

فصل (حكم من لم يذكر السجود القبلي حتى دخل في صلاة أخرى) وقد تقدم حكم من ترك السجود قبل السلام فلم يذكر حتى دخل في صلاة [أخرى] (¬1)، فإن ذلك يجري على الخلاف فيمن ترك السجود [قبل] (¬2) هل تبطل صلاته أم لا؟ وإذا قلنا الإبطال كان بمنزلة من ذكر [صلاة في صلاة. وإذا قلنا بعدم الإبطال كان بمنزلة من ذكر] (¬3) بعض الصلاة وهو متلبس بصلاة أخرى. وإذا كان كذلك فلا يخلو أن تكون الصلاتان فرضاً أو نفلاً، أو إحداهما نفلاً والأخرى فرضاً. فإن كانتا جميعًا فرضاً، فإن لم يطل في الثانية رجع إلى إصلاح الأولى. ومأخذ الطول في ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يعتبر بما يعد طولاً، فإن أطال القراءة بطلت الأولى. والثاني: أنه معتبر بعقد الركعة من الصلاة الثانية. وأما عقد الركعة يجري على القولين المتقدمين. والثالث: أنه يرجع وإن عقد ركعة وأتمها إذا اختصرها، وهذا كله يرجع إلى القول الأول. والرابع (¬4): أنه يعود إلى إصلاح الصلاة الأولى ولو عقد ثلاث ركعات مثلاً. وهذا القول الآخر- بناء على ما قدمناه من الطول- لا يمنع من إصلاح الصلاة التي أخلَّ منها بشيء. والثلاثة المتقدمة متقاربة المعنى، وإنما مقصودها أنه إذا طال لم يرجع إلى الأولى لبطلانها. فهل (¬5) يبتدئ بها [أم لا؟ يجري على ما تقدم في ذاكر صلاة في صلاة] (¬6). وإن لم يطل بني على ما تقدم له منها. واختلفوا في مقدار الطول كما قدمنا. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ق) و (ت). (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) في (ت) كأنه يرجع إلى القول الأول والرابع، وفي (ق) كأنه يرجع إلى القولين الأولين والقول الرابع. (¬5) في (ت) و (ق) بل يبتدىء. (¬6) ساقط من (ق) و (ت).

باب في أحكام الاستخلاف

وإن ذكر ذلك من نافلة وهو في نافلة؟ فإن طال تمادى على نافلته، وإن لم يطل فهل يرجع إلى الأولى أو يتمادى على هذه؟ قولان: أحدهما: أنه يرجع لوجوب الأولى بالدخول فيها وهي كالفرض. والثاني: أنه لا يرجع لأن هذه الثانية تنوب عنها. وإن ذكر ذلك من فرض وهو في نافلة؟ فقولان منصوصان: أحدهما: أنه بالإحرام للنافلة بطلت الأولى. والثاني: عكسه، وأنه يرجع إلى إصلاح الأولى ولو صلى ست ركعات مثلاً، فرأى في الأول أن النافلة مضادة للفريضة، وأذا أحرم فيها بطلت الفريضة. ورأى في القول الثاني أنه يرجع إلى إصلاح الفريضة وإن طال وبنى على القول الشاذ. وإن ذكر ذلك من نافلة وهو في فريضة؛ فإن كان بعد أن طال تمادى على فريضته وقد بطلت النافلة، وإن كان لم يطل فهل يرجع إلى النافلة؟ قولان: أحدهما: أنه يرجع للزومها بالدخول فيها، والثاني: أنه يتمادى على فريضته لتأكيدها بالفرضية. وقد قدمنا فيمن صلى النافلة أربعاً هل يكون سجوده قبل السلام أو بعده؟ وكذلك الخلاف أيضًا فيمن صلاها خامسة. فمن نظر إلى أنه نقص السلام من الركعتين أو الجلوس إذا لم يأت به جعله قبل. ومن عوَّل على مذهب نفسه ورأى أن كل ما أتى به بعد الركعتين زيادة قال: يسجد بعد السلام. وقد استوفينا كثيرًا من أحكام السهو ولا يشذ عنه إلا نوادر الصور. ومن حقق الأصول التي قدمنا لم يشذ عنه شيء من هذا الباب. ... باب في أحكام الاستخلاف وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه "ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فتقدم أبو بكر رضي الله عنه وصلى بالناس، فوصل النبي-صلى الله عليه وسلم-وهو في الصلاة، وتأخر أبو بكر، وأشار إليه النبي-صلى الله عليه وسلم- أن أثبت مكانك، فلم يثبت"

الحديث كما ورد (¬1). وجعل هذا أصلاً في أن الإمام له أن يستخلف إذا طرأ عليه ما يمنعه الإتمام. وهذا من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ له من الفضل ما لا نسبة بينه وبين أبي بكر رضي الله عنه. فكان التقدم (¬2) بين يديه لا يصح، فصار أبو بكر مضطرًا إلى التأخر كالإمام إذا طرأ عليه ما يمنعه من إتمام الصلاة. وهذا إما أن يكون أبو بكر اعتقده، وإما أن يكون لأن الأولى ذلك لا الأوجب، إذ ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى مقتدياً بعبد الرحمن بن عوف (¬3) وقد اختلف الناس في صلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه هل كان أبو بكر رضي الله عنه هو الإمام؟ أو خرج عن الإمامة فصار النبي-صلى الله عليه وسلم- هو الإمام (¬4)؟ فتكون هذه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان 684 واللفظ له، ومسلم في الصلاة 421 عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْن عَوْفٍ ليُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ المُؤَذِّن إلَى أَبِىِ بَكْرِ فَقَالَ: أتُصَلِّي للنَّاسِ فَأقِيمَ قَالَ: نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْر فَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ حَتَّى وَقَفَ في الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَّانَ أَبو بَكْرِ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنِ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أبو بَكْرِ رَضِي الله عَنْه يَديْهِ فَحَمِدَ اللهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُوِلُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأخَرَ أَبُو بَكْرِحَتَّى اسْتَوَى في الصف وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللِه - صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أنْ تَثبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبو بَكْر مَا كَانَ لاِبْنِ أَبي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بّيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لِي رَأَيتُكمْ أكْثرْتُمُ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فلْيُسَبِّحْ فَإنَّهُ إذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إلَيْهِ وإِنَمَّا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. (¬2) في (ت) التقديم. (¬3) في حديث المغيرة بن شعبة الطويل الذي أخرجه مسلم في الصلاة 274 واللفظ له، والنسائي في الطهارة 82 قوله: "فَأقْبَلْتُ مَعَهُ أي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حَتَّى نَجِدُ النَّاسَ قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ فصلَّى لَهُمْ فَأدْرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-إِحْدَى الرَّكعَتَين فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الآخِرَةَ فَلمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-يُتِمُّ صَلاَتَهُ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسلِمِينَ فأَكَثَرُوا التَّسبْيِحَ فَلمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-صَلاتَهُ أَقْبَلَ عَليهِمْ ثُمَّ قَالَ أحْسَنتُمْ أَوْ قَالَ قَدْ أَصَبْتُمْ يَغْبِطهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا". (¬4) أخرج البخاري في الأذان 664 واللفظ له، ومسلم في الصلاه 418 عن عائشة قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -مّرَضَهُ الّذِي مَاتَ فِيهِ فحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأذِّنَ فَقَالَ مُرُوا أبَا بَكْر فلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيل لَهُ إنَّ أَبا بَكْر رَجُلٌ أَسِيفٌ إذاَ قَاَمَ في مَقَامِكَ لَمْ يَسْتطِعْ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأعَادُوا لَهُ فَأعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَاَلَ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ =

فصل (من يجوز استخلافه؟)

القصة والقصة (¬1) الأولى سواء. ومن جهة المعنى إن الإمام استحق رتبة المتقدم، فإذا طرأ عليه ما يمنعه التمادي (¬2) كان له أن يستخلف من ينوب عنه. والمقتدون قد دخلوا على الصلاة (¬3) في جماعة، وإن لم تحصل لهم بالإمام الأول صح تحصيلها بإمام غيره. فإذا تقرر هذا قلنا (¬4) أحكام هذا الباب تنحصر في ثلاثة فصول: أحدها: من يجوز استخلافه؛ والثاني: ما يفعله المستخلف؛ والثالث: حكم قضاء المستخلف إذا كان مسبوقاً [ببعض الصلاة] (¬5) من المقتدين. ... فصل (من يجوز استخلافه؟) فأما من يجوز استخلافه؟ فكل من صحت إمامته ابتداء جاز أن يستخلف، وذلك (¬6) إن انسحب عليه حكم الإمام قبل أن يطرأ على الإمام ما يمنعه التمادي (¬7). [وهذا احتراز من أن يكون إنسانًا مسبوقاً فيُحرِم بعد أن طرأ على الإمام ما يمنعه التمادي] (¬8)، فهذا لا يجوز استخلافه لأنه لم ¬

_ = يُوسُفَ مُرُوا أَبا بَكرِ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاس فَخَرَجَ أَبُو بَكْر فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَفسِهِ خِفَّةَ فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كأَنَّي أنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَع فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتأَخَّرَ فَأوْمَأَ إِلَيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِه". (¬1) في (ت) و (ق) القضية والقضية. (¬2) في (ق) الإتمام. (¬3) في (ق) على إكمال الصلاة. (¬4) في (ق) و (ت) قلنا بعده. (¬5) ساقط من (ر)، وفي (ق) إن كان مسبوقاً ببعض الصلاة وقضى من كان من المقتدين. (¬6) في (ر) وكذلك. (¬7) في (ق) ما يقتضي الاستخلاف وفي (ت) ما يمنعه الإمامة. (¬8) ساقط من (ر).

(كيف يتم الاستخلاف؟)

ينسحب عليه حكم الإمام. فإذا استخلفه صار المقتدون به كأنهم أحرموا قبل إمامهم. وينخرط في سلكه أن يسبقه الإمام بالركوع ثم يدخل معه فيطرأ على الإمام ما يمنعه التمادي، فلا يجوز استخلافه لأن هذا السجود الذي يأتي به في ابتداء أمره لا يعتد به. والمقتدون يعتدون به فيصير كالمتنفل بالمفترض. والمشهور من المذهب لا يجزيهم، وقيل يجزيهم. وقد قدمنا ما فيه من الخلاف المستقرى، ويمكن تخريج هذا عليه. (كيف يتم الاستخلاف؟) والطارئ على الإمام إما أن يمنعه الإمامة خاصة، أو يمنعه التمادي على الصلاة جملة. والمانع من الإمامة هو تقصيره عن فرض من الفروض، كمن عجز عن القيام مثلاً. والمانع من التمادي جملة هو غلبة الحدث، أو الرعاف. فيؤمر حينئذ بأن يستخلف. والأولى أن يستخلف بالإشارة، وإن تكلم لم تصح صلاته وصح استخلافه, لأنه بالطارئ قد خرج عن أن يكون إمامًا. والأولى أن يستخلف من يقرب من موضعه منه، لئلا يكون المستخلف إن حل في (¬1) محل الإمام يعمل عملاً كثيراً في الصلاة. فإن استخلف من بَعُدَ، أتم الصلاة في موضعه. ولو طرأ على الإمام ما يقتضي الاستخلاف وهو في حالة الركوع أو حالة السجود، فهل يستخلف على تلك الحالة أو بعد أن يرفع رأسه؟ في المذهب قولان. وإذا قلنا إنه يستخلف بعد الرفع فإنه يرفع غير مكبر لئلا يرفعوا برفعه فيكونون مقتدين به (¬2)، وهو ممن لا يصح الاقتداء به في هذه الحالة. ولو فعل (¬3) فاقتدوا به لجرى على الخلاف في الحركة إلى الأركان، هل هي مقصودة فتبطل صلاتهم، أو غير مقصودة فلا تبطل؟ ¬

_ (¬1) في (ت) قبل أن يحل محل، وفي (ر) أن يحل محل. (¬2) في (م) فيكونوا مقتدين به، وفي (ت) فيكونون مقتدون به. (¬3) في (ت) و (ق) رفع.

(ما الحكم إذا لم يستخلف الإمام؟)

(ما الحكم إذا لم يستخلف الإمام؟) فإن خرج الإمام ولم يستخلف، أمروا بأن يستخلفوا من يُتِم بهم، فإن لم يفعلوا وأتموا وحداناً فلا يخلو أن تكون الجمعة أو غيرها؛ فإن كانت جمعة بطلت الصلاة على المشهور سواء عقدوا مع الإمام ركعة أم لا، ولا تبطل على الشاذ وأن عقدوا ركعة. وهذا على الخلاف في أحكام الجمعة وشروطها؛ هل يلزم في جميع أجزاء الصلاة، أو يجزي حصولها في ركعة منها؟ وسيأتي هنا مستوعباً (¬1) إن شاء الله. [وإن كانت غير الجمعة فالمنصوص صحة صلاتهم، وقد أساءوا. وكذلك إن استخلف قوم واحداً منهم، فأتم الباقون أو واحد من الجماعة وحداناً تصح صلاتهم على المشهور. وقال محمد بن عبد الحكم: من لزمه أن يتم صلاته في جماعة فأتم فذا بطلت صلاته] (¬2).وقد أخذ من هذا أبو الوليد الباجي وأبو الحسن اللخمي بطلان صلاتهم إذا لم يستخلفوا بإمام، وبطلان صلاة من أتم فذاً (¬3). ويحتمل أن يريد من يخرج عن إمامة الإمام الأول والمستخلف بعد أن أقتدوا به. وأنما أراد التشبيه على قول الشافعية أن للمأموم الخروج عن الاقتداء. فإذا احتمل ذلك لم يلزم [منه] (¬4) الاستقراء. (ما الحكم إذا استخلف الإمام إنساناً فتقدم غيره؟) ولو استخلف الإمام إنساناً فتقدم غيره فأم فاقتدى به من استخلف الإمام لصحت الصلاة على المنصوص في المذهب. وهذا يدل على أن المستخلف لا تصح له رتبة الإمام بنفس الاستخلاف حتى يقبله ويفعل بعض الفعل. وقد سئل ابن القاسم عن هذه المسألة في المدونة فأخبر أنه لم ¬

_ (¬1) في (ر) و (م) مستوفياً، وفي (ق) مستوفي. (¬2) ساقط من (م). (¬3) التبصرة ص: 122. (¬4) ساقط من (ر).

فصل (ما يفعله المستخلف؟)

يسمع من مالك فيها شيئاً ولم يُجِب. والحكم ظاهر إذا لم يقبل المستخلف ما أسند إليه. والظاهر أنه إذا قبل (¬1) استحق رتبة الإمام وإن لم يفعل شيئاً. ولعلَّ [مجمل] (¬2) ما قدمناه من الرواية على أنه لم يفعل فاستدل على عدم قبوله بكونه اقتدى بالمتقدم من ذات نفسه. ... فصل (ما يفعله المستخلف؟) وأما حكم المستخلف فيما يفعل، فإنه متم لصلاة الإمام، فعليه أن يصليها من حيث انقطعت (¬3). فإن كان الإمام لم يقرأ افتتح القراءة، وإن قرأ أتم من حيث وصل إن كانت صلاة جهر. وإن كانت صلاة سر ففي العتبية أنه يبتدئ القراءة، وعللَّ بإمكان سهوه عنها. ولعل التعليل [المحقق] (¬4) كونه لا يعلم مكانا انقطعت القراءة منه، ولو علم لكانت كالجهرية. وإن ركع ولم يرفع تقدم راكعا (¬5) وكذلك السجود والجلوس. وإن كان مسبوقاً أتم صلاته على حكم إمامه، فقرأ بما كان يقرأ الإمام وجلس حيث كان يجلس، ولم يبن علي حكم نفسه حتى يتم ما بقي من صلاة الإمام على ما كان يتمها الإمام. وبالجملة فهو وكيل على فعل الإمام [فيحاذي فعله ولا يخرج عنه بوجه] (¬6). ... ¬

_ (¬1) في (ر) أقبل، (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) انقطع. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) ثم رفع. (¬6) ساقط من (ر).

فصل (حكم قضاء المستخلف إذا كان مسبوقا ببعض صلاة المقتدين)

فصل (حكم قضاء المستخلف إذا كان مسبوقاً ببعض صلاة المقتدين) وأما حكم [المسبوق من] (¬1) المقتدين والمستخلف إن كان مسبوقا، فإن المسبوق يقضي بعد إتمام (¬2) هذا المستخلف. وهل يقضي بعد سلامه من جملة صلاته وإن كان مسبوقا؟ أو بعد إكمال صلاة الإمام؟ في المذهب قولان: أحدهما: أن المستخلف إذا أكمل صلاة الإمام أشار إلى المقتدين أن اجلسوا، فإذا أكمل صلاته قاموا (¬3) لأنفسهم. والثاني: أنهم يقومون إذا أكمل صلاة الإمام. وسبب الخلاف أنهم لا يقضون إلا بعد تمام صلاة إمامهم، وقد حصل لهذا الثاني رتبة الإمامة، فهل يكون حكمه في كل الأحوال كحكم الإمام الأول فكأنه هو، فإذا أتم صلاته صار كالمقتدين فيقضون عند قضائه؟ أو تراعى حالته في نفسه لحصول الرتبة فلا يقضون إلا بعد تمام صلاته؟ فهذا مثار الخلاف. وإذا قلنا إنهم يقضون معه ولا يقتدون به لأنه إنما يقضي ما فاته من صلاة الإمام فحكمه أن يكون فيما يقضيه فذاً، فإذا اقتدوا به فهل يجزيه أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: نفي الإجزاء، وهذا لما قدمناه من وجوب كونه فيما يقضيه فذاً (¬4). والثاني: الإجزاء، وهذا بناء على أنه فيما يأتي به بَانٍ ,ومراعاة لحصول الرتبة له ومساواتهم له بما يأتي به في النية. وإن كان المستخلف مسبوقاً دون المقتدين أو دون بعضهم، فإنه إذا أكمل صلاة الإمام وقام للقضاء سلموا وانصرفوا. وهذا تغليب لحكم الإمام، وكأنه هو الموجود إلى آخر صلاته. وهذا قياس على أحد القولين ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) سلام وفي (ت) بعد إكماله صلاة الإمام سلام. (¬3) في (ق) و (ت) قاموا فاقضوا. (¬4) في (ت) كما قدمناه في وجوبه فيما يقضي حكم الفرد.

(هل يجوز لإمام أن، يرجع للإمامة بعد زوال العذر؟)

في صلاة الخوف. والمشهور في هذه أنهم لا يسلمون إلا بعد قضائه، وهذا مراعاة لحكم نفسه. (هل يجوز لإمام أن، يرجع للإمامة بعد زوال العذر؟) ولو ناب الإمام ما أوجب الاستخلاف واستخلف ثم ذهب. فإن زال عذره ثم تمادى فأخرج المستخلف وأتم هو الصلاة. فقد اختلف المذهب في هذه الصورة هل تبطل الصلاة لأنّ الإمام قد يعزل باستخلافه، فإذا عاد صار كأن الإمام استخلفه بغير موجب فتبطل الصلاة. أو تصح لأن المستخلف وكيل الإمام فإذا عاد انعزل الوكيل ورجع الأمر إلى موكله؟ وقد احتج لهذا القول بما قدمناه من خروج أبي بكر وتقدم النبي-صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف هل ذلك من خصائصه أو متعد إلى غيره؟ وعليه يتخرج هذا الخلاف. ... فصل (إذا ذكر الإمام الأول أنه أسقط من الصلاة ما يوجب بطلانها) وإذا استخلف مسبوقاً فأكمل الصلاة التي استخلفه عليها فلما أكملها أتى الإمام الأول فذكر أنه أسقط من الأولى أو من الثانية ما يوجب بطلانها كالركوع والسجود، فأما المستخلف فلا علم عنده من صحة قوله، وأما غيره من المأمومين فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أما إن تيقنوا سلامة صلاتهم وصلاة إمامهم فلا يلزمهم إتباعه فيما يقوله، وإما أن يشكو في سلامة صلاتهم وصلاته، ومثله أن يتيقنوا الآن بصحة قوله فيلزمهم التدارك، وإما إن تيقنوا سلامة صلاتهم دون صلاة إمامهم فقد قدمنا القولين في لزوم التدارك له. وإذا لزمهم التدارك فإنهم يتبعون المستخلف فيما يأتي به من إصلاح صلاة الإمام. وهل يكون فيما يأتي به من ذلك قاضياً فيقرأ بأم القرآن وسورة، أو

فصل (في المسبوق يقوم للقضاء ظانا أن إمامه أكمل)

بانياً فيقرأ بأم القرآن خاصة؟ وقد قدمنا القولين في ذلك وهما منصوصان هاهنا. ومتى يكون سجوده؟ لا شك أنه يسجد قبل السلام لأنه أتى بالجلوس في غير موضعه، فكأنه لم يجلس فقد حصل نقص الجلوس. ومتى يكون سجوده هل بعد إكمال صلاة الإمام، أو بعد إكمال صلاة نفسه؟ في ذلك قولان. وهما على ما قدمناه من تغليب حكم الإمام، أو النظر إلى حصول الإمامة له. ... فصل (في المسبوق يقوم للقضاء ظاناً أن إمامه أكمل) وإذا قام المسبوق إلى القضاء ظاناً أن إمامه أكمل وسلم وانكشف الغيب (¬1) أنه لم يكمل. فإن كان إمامه لم يسلم رجع إلى صلاته (¬2) وطرح ما فعله، وإن لم يشعر حتى سلم فلا خلاف أنه يطرح ما فعله ويبتدئ الآن في القضاء. وهل يلزمه سجود أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يلزمه لما فعله من القضاء قبل سلام إمامه. والثاني: أنه لا يلزمه سجود. وهذا تغليب لانسحاب حكم الإمام عليه. وإذا قلنا إنه يلزمه السجود فأين محله؟ قولان: أحدهما: أنه قبل السلام، وعلَّل بأنه نقص النهضة التي حقه أن يأتي بها بعد سلام الإمام. والثاني: أنه بعد السلام إذا (¬3) زاد في صلاته زيادة قد ألغاها. وإذا تقرر هذا رجعنا إلى ما نحن بسبيله من مسائل الاستخلاف فقلنا: لو استخلف الإمام مسبوقاً فقام للقضاء، ثم أتى الإمام فأخبره أنه أسقط من صلاته شيئاً يلزمه تلافيه، فإن كان موجب استخلافه [طريان ما أفسد صلاته اعتد هذا المستخلف بما فعله وقضى ما أسقط الإمام على نحو ما قدمناه، ¬

_ (¬1) في (ت) الغيب له. (¬2) في (ق) الجلوس. (¬3) في (ق) لأنه، وفي (ت) إن.

باب في أحكام التشهد والسلام

وإن كان موجب استخلافه رعافاً] (¬1) فإن قطع الإمام صلاته فتعمد الكلام أو ما في معناه فهو بمنزلة ما قدمناه من اعتداد المسبوق بما فعله، وإن كان لم يقطع صلاته فإن أتى بعد أن طال المستخلف طولا يفوت الإمام به التلافي فإنه يقتدي بما فعله، وإن كان لم يطل لم يعتد بما فعله ورجع إلى تلافي ما يقضيه الإمام، فإذا أتى به رجع إلى قضاء ما سبق به. ... باب في أحكام التشهد والسلام (بعض أحكام التشهد) وقد قدمنا أن التشهد الأوسط سنة بلا خلاف عندنا. وذكرنا أن الآخر كذلك على المشهور، وما فيه من استقراء (¬2) الوجوب. ولا شك أنه لا يتعين فيه لفظ، لكن الأولى التعويل على ما ثبت به النقل من تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو معلوم فلا نطول بنقله. وقد أضاف إليه العلماء من الشهادة ما يعتقده أهل السنة. والمروي في الصلاة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- ما حكاه ابن أبي زيد وغيره. وقد قدمنا أيضًا الخلاف في الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم- هل هي من فروض الصلاة أو من سننها، وقد قدمنا أيضًا حكم من ترك التشهد وذلك في حق الإمام والفذ. فأما المأموم فإذا لم يتشهد حتى سلم إمامه [فمقتضى أهل المذهب أنه يسلم ويجزيه تشهد الإمام. وفي العتبية رواية ابن القاسم عن مالك رحمه الله أنه يتشهد بعد سلام إمامه ولا يدعو بعده ثم يسلم] (¬3) وهذا تدارك التشهد بعد سلام الإمام. وظاهره يقتضي وجوب التشهد عليه. وقد قدمنا متى يتدارك المأموم ما فاته به الإمام من الفروض. وعندنا في السلام قولان: هل يمنع من التدارك كعقد الركعة ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (م) الاستقراء المشهور. (¬3) في (ق) إمامه تشهد بعده ثم يسلم.

(معنى التحية)

الثانية لأنه ركن أو لا يمنع لأن المانع في عقد الركعة الثانية مخالفة الإمام وهاهنا لا يخالف؟ وإذا وجد الخلاف في منع سلام الإمام من التدارك للفروض فأحرى أن يمنع التدارك في التشهد. وقد قدمنا كراهية الدعاء قبل التشهد، وكذلك البسملة مكروهة عندنا أيضًا قبل التشهد. وإذا أكمل تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجلسة الوسطى فهل يجوز الدعاء بعده كما يجوز في الجلسة الآخرة؟ في المذهب قولان: الكراهية، والجواز. فالكراهية إذ فيه تطويل لا سيما إن كان إماماً, والجواز لأن الصلاة مظنة الدعاء وقياساً على الجلوس الآخر. (معنى التحية) ويفتقر إلى تفسير لفظ التحية، والتحية تطلق على ثلاثة معان: السلام، والملك، والبقاء. وقد اختلف في معنى السلام فقيل هو: اسم من أسماء الله تعالى، وقيل: هو بمعنى السلامة. وإن قلنا بمعنى السلامة؛ فإن التحيات في التشهد قد يراد فيها الثلاثة معان التي ذكرناها، وإن قلنا اسم من أسماء الله تعالى كان المقصود بالتحية الملك والبقاء. ... فصل (حكم السلام في الصلاة وصفته) والسلام عندنا من فروض الصلاة وقد تقدم ذلك. والأصل في فرضيته قوله - صلى الله عليه وسلم -:وَتَحْليلُهَا التَّسْليمُ" (¬1) واستمرار العمل [به] (¬2). ولفظه متعين عندنا. وهل يجوز أن يؤتى به على جهة التنكير؟ المشهور من المذهب أنه لا يؤتى به إلا معرَّفا. والشاذ جواز تنكيره. وإذا نكره على المشهور فهل ¬

_ (¬1) الترمذي في الطهارة 3، وأبو داود في الطهارة 61، وابن ماجه في الطهارة 275، وأحمد في مسنده 1/ 123، والدارمي في الطهارة 687. وقال الترمذي: هذا حديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. (¬2) ساقط من (ر).

يجزي من التحليل؟ قال ابن أبي زيد: لا يجزي. وقال ابن شبلون: يجزي. وفي المدونة: لا يجزي من السلام إلا السلام عليكم (¬1). وهذا يقتضي ما قاله ابن أبي زيد وقد تأول على أن القصد به تعيين السلام على الجملة تنبيها على خلاف أبي حنيفة القائل: إن كل فعل مضاد للصلاة ينوب مناب التسليم. ومقتضى المذهب تعيين لفظ السلام بالتعريف قياسًا على الإحرام. وهل يسلم الإمام والفذ واحدة أو اثنتين؟ في المذهب قولان: المشهور من المذهب الاقتصار على واحدة. واحتج مالك رحمه الله بأن ذلك الذي اتصل به العمل من زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: وإنما أحدثت التسليمة الثانية في زمن بني هاشم. والشاذ أن الثانية مشروعة. وفي صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه "كان يسلم تسليمتين" (¬2). وهذا الأولى على مقتضى النظر لأن من حكى (¬3) الثانية زاد، ومن زاد أولى ممن نقص (¬4). ¬

_ (¬1) المدونة: 1/ 62. (¬2) أخرجه مسلم في المساجد 581 ولفظه عَنْ أَبِي مَعْمَرِ أَنَّ أَمِيراً كَانَ بمَكَّةَ يُسَلَّمُ تَسْلِيمَتْينِ فَقَالَ عَبدُ الله أَنَّى عَلِقَها قَالَ الحَكَمُ في حَدِيثِهِ إِنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -كَانَ يَفْعَلُهُ. (¬3) في (ر) حكم. (¬4) هذا الخلاف يدخل في إطار اختلاف التنوع والهيآت التي تكون كل صوره جائزة وللمكلف فعل ما شاء منها. وقد أشار إلى هذا ابن عبد البر فقال: والقول عندي في التسليمة الواحدة وفي التسليمتين أن ذلك كله صحيح بنقل من لا يجوز عليهم السهو ولا الغلط في مثل ذلك، معمول به عملاً مستفيضاً بالحجاز التسليمة الواحدة. وبالعراق التسليمتان. وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لتواتر النقل كافة عن كافة في ذلك ومثله لا ينسى ولا مدخل فيه للوهم لأنه مما يتكرر به العمل في كل يوم مرات. فصح أن ذلك من المباح والسعة والتخيير، كالأذان وكالوضوء ثلاثًا واثنين وواحدة وكالاستجمار بحجرين وبثلاثة أحجار، من فعل شيئًا من ذلك فقد أحسن وحاد بوجه مباح من السنن. فسبق إلى أهل المدينة من ذلك التسليمة الواحدة فتوارثوها وغلبت عليهم وسبق إلى أهل العراق وما وراءها التسليمتان فجروا عليها. وكل جائز حسن لا يجوز أن يكون إلا توقيفاً ممن يجب التسليم له في شرع الدين وبالله التوفيق وأما رواية من روى عن مالك أن التسليمتين لم تكن إلا من زمن بني هاشم فإنما أراد ظهور ذلك بالمدينة، والله أعلم. التمهيد لابن عبد البر: 16/ 190.

فإذا قلنا بالاقتصار على الواحدة فهيئة الإشارة بها أن يسلم قبالة وجهه ويتيامن قليلاً. ويقصد الإمام الخروج بها من الصلاة والسلام على الملائكة ومن معه من المقتدين. ويقصد الفذ الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة. وأما المأموم فيسلم أولاً تسليمة يسير بها إلى يمينه. ثم اختلف (¬1) هل يبتدئ بعدها بالرد على الإمام أو السلام على من على يساره من الملائكة والمصلين. وإذا قلنا إنه يبتدىء بالرَّد على الإمام فلا يسلم عن يساره إلا أن يكون هناك أحد من المقتدين فيردّ عليه، وهذا راجع إلى النقل. ولا حرج في تخيير أحد الأمرين. وإذا كان المأموم مسبوقاً فهل يرد على الإمام ومن على يساره بعد قضائه. قولان (¬2). وهما على النظر إلى مقصود السلام هل هو مجرد الرد، أو هو مشروع للصلاة؟ ولو ابتدأ المأموم (¬3) بالسلام مشيراً به إلى جهة يساره ثم تكلم (¬4) فهل تبطل صلاته أم لا؟ [في المذهب] (¬5) قولان، [وهما على النظر إلى قصده] (¬6)؛ فإن قصد بذلك التسليم (¬7) التحليل من الصلاة صحت لأنه إنما (¬8) خالف الهيئة، وإن قصد بها مجرد الرد لم تصح الصلاة لأنه تكلم قبل أن يتحلل. وهل ينسحب حكم النية على السلام أو يفتقر إلى نية مجددة؟ (¬9) في المذهب قولان؛ فمن (¬10) سحبها رأى أن ركن النية متعلق (¬11) بسائر ¬

_ (¬1) في (ر) يختلف. (¬2) في (ر) بعد ذهابهم في المذهب قولان، في (ت) بعد قضائه قولان. (¬3) في (ر) الإمام. (¬4) في (ق) كلم. (¬5) ساقط من (ق) و (ر). (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ق) بتلك التسمية. (¬8) (ق) صلاته وإنما. (¬9) في (ر) مجردة. (¬10) في (ر) ومن. (¬11) في (ت) رأى أن السلام ركن والنية متعلقة، وفي (ق) أنه ركن والنية منعقدة.

باب في صلاة الجمعة وأحكامها

الأركان، ومن لم يسحبها نظر إلى كونه قطع للصلاة. والنية إنما تنسحب على ما هو من الصلاة دون ما يقطعها (¬1). والمشروع (¬2) للإمام التنحية عن موضعه عقيب السلام. وقد اختلف في عله ذلك فقيل: إنه موضع فضيلة، وإنما استحقها برتبة الإمامة فإذا انقطعت صار كالمعزول عنها، فعلى هذا يزول عن موضعه فلا بد. وقيل: ليراه من لا يسمع تسليمه فيعلم انقطاع الصلاة. فعلى هذا لو قام أو تزحزح عن موضعه بحيث ما ينظر أجزأه. ... باب في صلاة الجمعة وأحكامها (حكم صلاة الجمعة) وهي واجبة بالكتاب والسنَّة وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3)، فأمر بالسعي ونهى عن البيع، وفي معناه كل شغل (¬4). وإذا قلنا إن الأمر على الوجوب فلا يفتقر إلى غير الآية. وإن لم نقل بذلك فقرينة الوجوب هاهنا الإجماع. وهذا إذا قلنا إن صلاة الجمعة صلاة قائمة بنفسها. وإن قلنا إنها عوض عن الظهر كان الدليل أيضًا على وجوبها ما ورد في وجوب الصلاة من الآي. وقد قال بعض العلماء إنها المراد (¬5) بالصلاة الوسطى. وأما السنَّة فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -الأمر بها والمواظبة عليها، وفعله لها ¬

_ (¬1) في (ق) للصلاة والنية إنما تنسحب على ما هو من الصلاة ما لا يقطعها، وفي (ر) للصلاة وإنما انسحب على ما هو في الصلاة لا ما يقطعها. (¬2) في (ر) أو المشروع. (¬3) الجمعة 9. (¬4) في (ت) مشغل، وفي (ق) مشتغل. (¬5) في (ق) المرادة.

فصل (شروط الوجوب)

متواتر النقل. ويكاد قوله أن يكون متواتر المعنى. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم -توعد على تركها ثلاثًا بالطبع على القلب (¬1). وهذا مبالغة في تقرير الوجوب. واجتمعت الأمة على وجوبها في الجماعة، والجمهور أنها واجبة على الأعيان لا على الكفاية، إذ ما ورد من الآي [والاخبار] (¬2) يقتضي ذلك، وهو مما شرع لإقامة أبهة (¬3) الإسلام وتمكينه في النفوس وتفخيم أمره. ولهذا شرع فيها البناء المخصوص والخطبة والجهر بالقراءة وإن كانت صلاتها نهارية. وإذا تقرر ما قلناه فالنظر في هذا الباب ينحصر في ثلاثة أركان (¬4): أحدها: شروط وجوبها، والثاني: شروط أدائها، والثالث: صفة الأداء وحكم الأعذار المبيحة للتخلف عنها. ... فصل (شروط الوجوب) فأما الفصل الأول في شروط الوجوب فإن عددها ستة وهي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورية، والحرية، والإقامة. فأما الإسلام فنعده شرطًا في الوجوب إن قلنا إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة. وإن قلنا إنهم مخاطبون، عددناه في شروط الأداء. وهكذا ¬

_ (¬1) أخرج الترمذي في الجمعة 500 واللفظ له، وابن ماجه في إقامة الصلاة 1125، وأحمد في مسنده 3/ 332 عَنْ أَبِي الْجَعْدِ يَعْنِي الضَمْريَّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ فِيمَا زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مَن تَرَكَ الْجُمعَةَ ثَلاَثَ مرات تَهَاوُناً بِهَا طَبَعَ الله عَلَى قْلِبِه". قالَ أَبو عِيسَى: حَدِيثُ أَبِي الْجَعْدِ حَدِيثْ حَسَنٌ. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في سائر النسخ "أهبة" ولعل الصواب ما أثبته، بدليل أن صاحب التاج والإكليل نقل عن ابن بشير أثناء حديثه عن المصر الذي تقام فيه الجمعة العبارة التالية: "حصلت بجماعتهم إقامة أبهة الإسلام" انظر التاج والإكليل 2/ 159. وقد غيرت هذه اللفظة حيثما وجدت في الكتاب بهذا المعنى. (¬4) في (ر) و (ت) فصول.

عدَّه القاضي أبو محمد [عبد الوهاب] (¬1). ولا خلاف في عدّ البلوغ شرطا في الوجوب. وأما العقل فإن قلنا: إن من ليس ببالغ غير عاقل، فيكتفى بلفظ العقل عن ذكر البلوغ. وإن قلنا: إنه قد يكون عاقلاً، فلا بدّ من ذكرهما. وبين الأصوليين خلاف في ذلك. وأما الذكورية فلا خلاف عندنا في عدها شرطاً في الوجوب. وأما الحرية فالمعروف من المذهب عدَّها شرطاً ولا تجب الجمعة عندنا على العبد. وقد قدمنا الخلاف في سقوطها عنهم في الأصل ووجوبها. وإنما سقطت لحق السيد. وذكرنا ما في المذهب من إمامة العبد في الجمعة. وفي مختصر ابن شعبان: أن المشهور من مذهب مالك رحمه الله سقوط الجمعة عن العبد. قال أبو الحسن اللخمي رحمه الله: يريد أنه اختلف قوله في ذلك (¬2). وفي مختصر ابن شعبان أنه قال: يؤمرون بها ويقامون إليها. ويحتمل أن يكون ذلك في وجوبها عليهم، [أو] (¬3) على جهة الندب. وقد قدمنا أن هذا الخلاف في دخول العبيد في خطاب الأحرار. وأما الإقامة فهي مشروطة في وجوب الجمعة، ولا نعلم في ذلك خلافاً. واستدل على سقوطها عن المسافر بأن الرسول عليه السلام وقف يوم الجمعة بعرفة فصلى صلاة المسافر ولم يصلِّ صلاة الجمعة (¬4). فإذا ثبت ذلك فهل يجزي المسافر إذا شهدها وتنوب له عن صلاة الظهر؟ في المذهب قولان: المشهور أنها تنوب عن ذلك قياسًا على نيابتها للعبد والمرأة، والشاذ أنها لا تنوب. وهذا على الخلاف هل دخل المسافر في ثبوت الوجوب ثم سقطت عنه لعذر السفر فإذا شهدها نابت له، أو لم يتوجه عليه الخطاب بها أصلاً؟ فينظر هاهنا هل هي صلاة قائمة بنفسها فلا تنوب، أو هي ظهر مقصورة؟ فيختلف في إجزائها عنه على الخلاف فيمن ترك السنن تعمدًا لأنه صلى ركعتين جهرية (¬5) والواجب عليه في الأصل أن يُسِرَّ. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) التبصرة ص: 124. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) انظر تفصيل ذلك في زاد المعاد 2/ 234. (¬5) في (ق) حضرية.

(حكم إمامة المسافر في صلاة الجمعة)

(حكم إمامة المسافر في صلاة الجمعة) وإذا قلنا بصحة النيابة فهل تصح إمامته فيها إذا حضرها؟ ثلاثة أقوال: أحدها: لا تصح بوجه ابتداء ولا استخلافاً. وهذا بناء على سقوطها أصلاً لكن نابت لأنها ظهر مقصورة. أو بناء على أنه لما خير في التزامها عدمه صار كالمتنفل مثلاً يؤم المفترض. والثاني: تصح ابتداء واستخلافاً، وهذا بناء على أنه مخاطب بها، لكن سقطت لعذر السفر. فإذا شهدها والتزمها صار كالمقيم. والثالث: أنها تصح إن استخلف بعد أن عقدها مع الإمام، ولا تصح قبل أن يعقدها, لأنه بعد الدخول وجب عليه إتمامها، وقبل الدخول مخير. (حكم الوالي الأعظم يمر بقريه يوم الجمعة) ولو مرَّ الوالي الأعظم بقرية تجب عليهم الجمعة وهو مسافر لكان له أن يجمع بهم لأن المولى على الصلاة في تلك القرية خليفته والنائب عنه فإذا حضر المستخلف فهو بالإمامة أولى. وإن كانت ممن لا تجب (¬1) فيها الجمعة لم يجمع بهم لأنه مسافر والقوم حاضرون والجمعة ساقطة عنهم. وإن جمع بهم فقولان: أحدهما: أنها لا تصح له ولا لهم، والثاني: أنها تصح له دونهم. قال الأشياخ: وهذا على الخلاف فيمن جهر في صلاته متعمداً هل تصح أم لا؟ لأن هذا الإمام مسافر، فصلاته ركعتان لكنها سرية وقد جهر. ويغلب على ظني أني رأيت في المنتخبة ليحيى بن عمر (¬2) قولاً ¬

_ (¬1) في (ق) لا تجب عليهم. (¬2) هو يحيي بن عمر بن يوسف بن عامر .. أندلسي من أهل جيان وعداده في الافريقيين سكن القيروان واستوطن سوسة أخيرًا وبها قبره كنيته أبو زكرياء طلب العلم عند ابن حبيب وسمع من سحنون وغيره، إليه كانت الرحلة في وقته كان فقيهاً حافظًا للرأي ثقةً ضابطاً لكتبه له من المصنفات نحو أربعين جزأ، منها اختصار المستخرجة المسمى بالمنتخبة. توفي بسوسة في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين وسنّه ست وسبعون سنة. الديباج المذهب ص: 351 وشجرة النور ص73 (97).

فصل (الركن الثاني شروط الأداء)

ثالثاً أنها تجزيه وتجزيهم. فهذا مما ينظر فيه. فإن صح وظهرت صحته فهو إما بناء على أن الإمام وطنه حيث ما حل، وإما بناء على وجوب الجمعة في الأصل وإنما سقطت تخفيفاً عن المسافرين ومن في معناهم من القاطنين (¬1) بمكان (¬2) [لا يمكنهم مداومة إلزامه (¬3)، والاستغناء] (¬4) عن غيره. ... فصل (الركن الثاني شروط الأداء) وأما شروط الأداء فهي خمسة: إمام، وجماعة، وموضع الاستيطان، وجامع، وخطبة. (الشرط الأول: الإمام) فأما الإمام فقد قدمنا في الركن الأول حكم من تجب عليه الجمعة عندنا في الأصل، ومن لا تجب عليه، والخلاف في صحة إمامته، ويشترط فيها ما يشترط في الإمامة لسائر الصلوات. وليس من شروطه عندنا أعلى المشهور] (¬5) أن يكون إماماً تؤدى إليه الطاعة، أو مولىّ من قبل إمام. وقد قال مالك:"لله فروض في أرضه لا يسقطها، وليَهَا إمام، أو لم يَلِهَا، منها الجمعة" (¬6). ومذهب محمد بن مسلمة ويحيى بن عمر اشتراط الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة. قال يحيي بن عمر (¬7): ويخاف جانبه. وقال محمد بن مسلمة: أو مولى من قبل الإمام. ¬

_ (¬1) في (ت) و (م) و (ق) القاطنون. (¬2) في (ق) و (م) (ت) بمكة. (¬3) في (ق) الثواب وفي (م) ابثوابة. (¬4) خرم في (ت). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) التاج والإكليل 2/ 173. (¬7) في (ق) محمد بن عمر.

(الشرط الثاني: الجماعة)

والأصل في هذا الخلاف فيها أو في ما يأتي بعدها أن الجمعة وقعت في ابتداء الإسلام في مصر بإمام تؤدى إليه الطاعة وخطبة وجامع. وهذا يحتمل أن يكون اتفاقًا، ويحتمل أن يكون مقصودا إليه. وقد اختلف في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - هل تحمل على الوجوب إلا ما قام الدليل أنه ندب، أو تحمل على الندب إلا ما قام الدليل أنه واجب. (الشرط الثاني: الجماعة) وأما الجماعة فلا خلاف في اشتراطها على الجملة. وهل هي محدودة أم لا؟ في المذهب قولان: المشهور أنها غير محدودة بعدد، لكن لا يجزي منها اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة وما في معنى ذلك. والشاذ أنها محدودة بعدد. وما هو؟ قولان: أحدهما: ثلاثون، وقد روي حديث في هذا التحديد (¬1) وإن لم تكن فيه شروط الصحة. والثاني: أنها خمسون (¬2)، وهذا تحديد على مقدار تتقرى بهم القرية ويمكنهم فيها مداومة الثوى (¬3)، ويستغنون عن غيرهم ويحصل بجماعتهم إقامة أبهة الإسلام في موضعهم. وهل يشترط في الجماعة المشار إليها كونهم فيمن تلزمهم الجمعة وتنعقد بهم وإن كانوا لا تلزمهم ابتداء لكن تنوب لهم كالصبيان والعبيد ومن في معناهم من المسافرين؟ في المذهب قولان. وهما على ما قدمناه من ¬

_ (¬1) لم أقف على حديث يحدد العدد في الثلاثين، وهناك حديث ضعيف أيضًا يحدده في أربعين. انظر نور اللمعة في خصائص الجمعة ص:47. (¬2) قال الشوكاني في نيل الأوطار 3/ 286: "من قال باشتراط الخمسين فمستنده ما أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: "الجمعة على الخمسين رجلاً وليس على ما دون الخمسين جمعة" قال السيوطي: لكنه ضعيف ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة فلا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم". ثم قال:"قال عبد الحق إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص". (¬3) الثوى: الإقامة. انظر النهاية في غريب الحديث 1/ 230.

(الشرط الثالث: موضع الاستيطان)

سقوطها عنهم في الأصل ولا تنعقد بهم، أو تجب عليهم (¬1) لكن سقطت للأعذار، وهذا في غير الصبيان. ولعلَّ الخلاف في الصبيان على ما قدمناه في تعلق (¬2) الوجوب عليهم بحسب حالهم، أو لأن المراعى وجود الجماعة في الجملة (¬3). وهل يشترط بقاء الجماعة إلى إكمال الصلاة، أو يشترط انعقاد ركعة بهم؟ في المذهب قولان: المشهور اشتراط ذلك إلى الكمال, لأن شروط الصلاة إذا وجبت في الابتداء وجبت في الانتهاء كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة. والشاذ الاكتفاء بذلك في ركعة قياساً على المسبوق. (الشرط الثالث: موضع الاستيطان) وأما موضع الاستيطان فإنه شرط في الجمعة، وهل شرط ذلك الموضع أن يكون مصراً؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يشترط ذلك، بل يجمع في القرى إذا كانت على الصفة المتقدمة من إمكان الثوى والاستغناء لمراعاة العدد كما تقدم آنفًا. وهذا الخلاف على ما قدمنا في الالتفات إلى إقامة الرسول عليه السلام. وهل يحصل ذلك بالإقامة وإن لم يكن الاستيطان؟ حكى أبو الوليد الباجي قولين، ومثاله قرية خالية مرَّ بها جماعة تنعقد بهم الجمعة ونووا الإقامة شهرًا فهل يجمعون أم لا؟ قولان (¬4). وحكى عن ابن القاسم أنهم يجمعون. ولا شك أن المعروف من المذهب أنهم لا يجمعون. وإذا صحَّ كون الموضع ممن تلزم أهله الجمعة، فهل يلزم ما قاربهم من القاطنين شهودها؟ أما من قرب حتى يكون ممن يسمع النداء غالبًا فيلزمه ذلك. وحَدَّه أهل المذهب بثلاثة أميال وما قاربها. ولا يلزم من بَعُد إلا أن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) أو ثبوتها. (¬2) في (ق) تعيين. (¬3) في (ق) على الإطلاق. (¬4) في (ر) على القولين.

(حكم السفر يوم الجمعة)

يشاء شهودها فتجزيه عن ظهره. وهل يشترط هذا المقدار من المنار أو من سور المصر؟ وقع في المذهب قولان. وإذا كان المعول على سماع الأذان فينبغي أن يحال على الوجوب (¬1) ويراعى موضع المنار. ويظهر أن المقصود شهود من يشتمل عليه (¬2) حكم المصر، ويتكرر في حاجته حتى يكون كالساكن فيه. وهذا يحصل لمن كان على المقدار المذكور. ويراعى في ذلك بعده من السور لا من المنار. (حكم السفر يوم الجمعة) وهل يجوز للمخاطب بالجمعة أن ينشئ السفر قبل شهودها؟ أما ما لم يطلع الفجر من يوم الجمعة فذلك جائز له بلا خلاف. وأما إذا زالت الشمس فذلك ممنوع بلا خلاف في المذهب. وذكر أبو الحسن قولاً بالكراهية وعوَّل فيه على اختلاف الرواية كشأنه في الاستقراء من المحتملات. ويمكن تنزيل الرواية على ما قبل الزوال. وأما ما بين طلوع الفجر إلى الزوال فالمذهب على قولين: الكراهية، لما يفوته من فضيلة الجمعة، والجواز, لأنه حينئذ غير مخاطب. ولو أنشا السفر فحضر الوقت قبل أن يجاوز ثلاثة أميال فقال الباجي: مقتضى المذهب لزوم الجمعة؛ وفيه نظر لأنه رفض الإقامة وحصل له حكم السفر فعلاً ونية. وعكس هذا أن يكون مسافراً فيقدم إلى وطنه فهل يلزمه شهود الجمعة؟ أما من لم يصل الظهر فإنه يؤمر بشهودها بلا خلاف [إذا أدرك منها ركعة] (¬3)، وأما من صلاَّها [ظهراً ثم دخل من سفره قبل صلاة الجمعة، فاختلف فيه على] (¬4) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه شهود الجمعة إذا أدرك منها ركعة. والثاني: أنه لا يلزمه، وقد أدَّى فرضه. والثالث: قول سحنون: ¬

_ (¬1) في (ت) الوجود. (¬2) في (ق) أن المقصود حضور من ينتقل عليه. (¬3) ساقط من (ر) و (ت). (¬4) ساقط من (ر).

(الشرط الرابع: الجامع)

إنه إن صلاها وقد بقي بينه وبين موضعه ثلاثة أميال فأقل فإنه يلزمه شهود الجمعة، وإن كان فوق ذلك فلا يلزمه. فنظر في الأول إلى كونه مخاطباً بالإدراكة للجمعة، وفي الثاني إلى وقوع الصلاة في السفر وقد أدَّى فرضه. ويلتفت في هذين إلى تعلق الوجوب بأول الوقت أو بآخره. ونظر في الثالث إلى قدر المسافة؛ فإن كانت مما لا يسقط شهود الجمعة لم يكتف بالصلاة الأولى، وبالعكس فيكتفي. (الشرط الرابع: الجامع) وأما الجامع فهو من شروط الأداء. وحكى أبو الوليد الباجي نفي الخلاف في ذلك إلا ما ذكره القزويني (¬1) عن أبي بكر الصالحين (¬2) من ذكر الخلاف في اشتراطه وأنكر هذه الحكاية، وذكر أن الصالحي هذا غير معروف. قال: وإنما عوَّل على ما في المدونة من حكايته ابن القاسم أن مالكًا رحمه الله قال مرة في صفة القرية التي يجمع فيها, إنها المتصلة البنيان التي فيها الأسواق، ومرة لم يذكر الأسواق (¬3). ولم يذكر في القولين المسجد، وذلك دليل على أنه غير مشروط وعول أبو الوليد الباجي على أن مقصده في هذه الرواية صفة القرية التي يجمع فيها، وهي من شروط الأداء. إلا أنه ذكر جميع الشروط، والجامع شرط [غير] (¬4) متعلق بصفة القرية. وإذا ثبت اشتراط الجامع فمن شرطه (¬5) البناء المخصوص. ويضاف ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن زيد القزويني أبو سعيد تفقه بالأبهري وهو من كبار أصحابه، صنف في المذهب والخلاف وكان زاهدًا عالمًا بالحديث وقد سمع من أبي زيد المروزي .. وله كتاب المعتمد في الخلاف نحو مائة جزء وهو من أعذب كتب المالكية وله كتاب الالحاف في مسائل الخلاف الديباج المذهب ص: 35 والشجرة ص: 103 (264). (¬2) قال ابن بشير عقبه: الصالحين هذا غير معروف. (¬3) المدونة 1/ 152. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) فهل من شرطه.

إلى ذلك كونه مما يجمع فيه. وأما المساجد التي لا تؤدى فيها الجمعة فلا تكون شرطا في الأداء ولا تقام الجمعة فيها. ولو طرأ على الناس ما يمنعهم إقامة الجمعة في المسجد المعتاد فلا تجزيهم إقامتها في غيره من المساجد إلا أن يعولوا على إدامة الإقامة فيه فحينئذ يحصل له حكم الجامع المشروط في الجمعة. ولا تؤدى في جامعين [في بلد واحد] (¬1) إلا أن يكون المصر كبيرًا [جداً بحيث يكون الجامع الواحد لا يسع الناس للصلاة، ويكون بينهم ثلاثة أميال] (¬2). فظاهر المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كمصر صغير، والثاني: إجازة الإقامة في الجامعين، والثالث أنه إن كان ذا جانبين أو جوانب وبينهما نهر وما في معناه مما يتكلف فيه المشقة إذا قطع، جاز إقامتها في موضعين أو في مواضع بحسب الحاجة. وإن لم يكن كذلك فليس إلا كونه كالصغير. وهذا كله تجويز على غير احتياج إلى إقامتها في موضعين. فإن ظهرت ضرورة إلى ذلك جاز، وإلا منع. وإلى هذا ترجع الأقوال. وإذا اشترطنا إقامتها في موضع واحد وكان بالقرب من المصر موضع فيه قوم مستوطنون، لهم حكم الاستقلال بأنفسهم، وأرادوا أن يجمعوا في موضعهم؛ فإن كان بين الموضعين ثلاثة أميال فأقل رجع إلى ما حكيناه في المصر الكبير، فإن قلنا باتحاد موضع الجمع لم (¬3) يجمعوا، وإن أجزنا الجمع في موضعين جمع هؤلاء. وإن كانت المسافة أكثر من ذلك كان لهم أن يجمعوا في جامعهم. وكم مقدار هذه المسافة؟ ثلاثة أقوال: أحدها: ما فوق الثلاثة أميال، وهذا نظر إلى كون الجمعة (¬4) لا تلزمهم. والثاني: ستة أميال، وهذا نظر إلى أن ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق). (¬2) ساقط من (ق) و (ر). (¬3) في (ر) و (ت) فلا يجمعوا. (¬4) في (ر) الجمعة الأولى.

(الشرط الخامس: الخطبة)

لكل مسجد مقداراً وهو كالحريم، فيلزم منه إتيان الجمعة وهو (¬1) ثلاثة أميال. فيحصل من تقدير ذلك للمسجدين (¬2) ستة أميال. والثالث: أنه البريد، وهو (¬3) التفات إلى حصول ما يشعر بانقطاع أحد المسجدين عن الآخر. وتحديد البريد تقريب [لذلك لا مسافة التحقيق. وهل تجزئ الجمعة على ظهر المسجد؟ في المذهب قولان: المشهور عدم الإجزاء، إذ ذلك] (¬4) الموضع لا يحصل له البناء المخصوص. والشاذ الصحة، إذ حرمة أعلى المسجد كحرمة أسفله. ولا شك في عدم الإجزاء في المواضع المنقطعة من المسجد إذا لم تتصل الصفوف. فإن اتصلت وضاق المسجد بأهله ولم تكن تلك المواضع محجورة بالملك صحت صلاة من صلى بها. وإذا لم يضق المسجد واتصلت الصفوف وكان الموضع قريبًا كالأفنية، ففي المذهب قولان: المشهور صحة الصلاة، والشاذ عدم صحتها. وهذا على الخلاف فيما قرب الشيء هل له حكمه أم لا؟ وإن كانت المواضع محجورة ففي المذهب قولان أيضًا: نفي الصحة، وهو المشهور, لأنها بالحجر منقطعة عن المسجد. والشاذ الحكم بالصحة، للقرب والاتصال. واحتج قائل ذلك بما ثبت من صلاة الجمعة في حجر أزواج النبي-صلى الله عليه وسلم-كعمرو وهي محجورة بالملك، ورأى في المشهور أن حكمها حكم المسجد، وعلى هذا بنيت. (الشرط الخامس: الخطبة) وأما الخطبة ففي كونها فرضاً قولان. فإن قلنا بفرضيتها كانت شرطاً في الأداء، وإن قلنا بنفي الفرضية كانت سنة وليست فرضاً. والخلاف في هذا على ما قدمناه من النظر إلى فعل الرسول عليه السلام. فإن قلنا بأنها ¬

_ (¬1) في (ق) وهذا. (¬2) في (ق) المسجدين. (¬3) في (ق) وهذا. (¬4) ساقط من (ق).

شرط فهل تشترط فيها الطهارة الصغرى؟ قولان. وهما على ما قدمناه؛ فمن نفى الاشتراط عوَّل على أنها ذكر وقراءة فلا يشترط الوضوء لذلك، ومن أثبته عول (¬1) على أنها بدل عن الركعتين في الظهر، وقد احتج لفرضيتها بقوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). قال الناقلون: إنه قائم في الخطبة فذمهم على الهروب عنه - صلى الله عليه وسلم-في حال الخطبة. وذلك يدل على وجوبها ولا يستقل [من] (¬3) هذا دليل، إلا على أن (¬4) الهروب حينئذ غير جائز. وأما وجوب الخطبة فلا يظهر منه. وهل من شرطها حضور الجماعة لها؟ قال القاضي أبو محمد وغيره من البغداديين: مقتضى المذهب اشتراطه مع عدم النص عليه. واستقرأه أبو الوليد الباجي من المدونة من قول مالك رحمه الله: ولا تجزئ الجمعة إلا بالجماعة والإمام يخطب (¬5). ولا شك أن مقتضى هذا اللفظ في اللسان ما قاله, لأن قوله: والإمام يخطب، معناه: الحال. فيكون بجماعة في حال خطبة الإمام. وهذا لو عوَّل عليه من كلام صاحب الشرع لكان له وجه. ولا يخفى أن ألفاظ المدونة لا يعول فيها على مثل هذا. على أن ظاهر المسألة من أولها يشهد بخلاف ما قال، ولأنه قال في الإمام يخطب فيهرب الناس عنه ولا يبقى معه إلا الواحد أو الاثنان وما لا عدد له من الجماعة وهو في خطبته أو بعد ما فرغ منها: أنهم إن لم يرجعوا إليه [فيصلي بهم (¬6) الجمعة، صلى ظهراً أربعاً. قال: لأن الجمعة لا تكون إلا بالجماعة والإمام يخطب. فظاهر هذا أنهم إن لم يرجعوا إليه] لم يصل بهم الجمعة. فهذا يشهد بأن الجماعة مشروطة في الصلاة لا في الخطبة، على أننا لا ننازعه في أن اللفظ محتمل لما قال. ¬

_ (¬1) في (ر) بناء. (¬2) الجمعة 11. (¬3) ساقط من (ق) و (ر) و (ت). (¬4) في (ر) دليل لأن. (¬5) في (ر) بخطبة. (¬6) انظر المدونة 1/ 157.

فصل (الركن الثالث: صفة الأداء، والأعذار المبيحة للتخلف عنها)

ولا خلاف أن الخطبة إذا اشتملت على حمد الله تعالى [والثناء عليه] (¬1) والصلاة على نبيه عليه السلام وشيء من الوعظ ومن تلاوة القرآن أنها مجزية. ولا يوجد في المذهب نص على اشتراط خطبتين حتى لا يجوز دونهما. وحكى أبو الحسن اللخمي في ذلك قولين (¬2). وهذا لو ساعدته الروايات لكان له وجه, لأن الرسول عليه السلام خطب خطبتين، فيجري على ما قدمناه من الالتفات إلى أفعاله. وإن أتى منها بما لا بال له، مثل أن يقول الحمد لله وشبهَه فهل يجزي؟ قولان. والرجوع في ذلك إلى لسان العرب، ولا شك أن مثل هذا المقدار لا يسمى خطبة. فصل (الركن الثالث: صفة الأداء، والأعذار المبيحة للتخلف عنها) وأما الركن الثالث وهو صفة (¬3) الأداء وحكم الأعذار، فنذكر ما يفعل في الجمعة (¬4) من فاتحة أمرها إلى خاتمته. (حكم الغسل يوم الجمعة) أجمعت الأمة على أن الغسل والطيب مشروعان لها. وأن الغسل آكد من الطيب. وقد ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"غُسْلُ الجمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلمِ" (¬5)، وفي بعض الطرق: "عَلَى كُلِّ مُسلِم" (¬6). وهذه الألفاظ صريحة في الوجوب. والمذهب كله على أنه سنة لا واجب. وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي جعفر (¬7) ¬

_ (¬1) في (ق) أنهم يرجعوا إليه ثم يصلي بهم. (¬2) ساقط من (ر). التبصرة ص:131 (¬3) في (ر) من. (¬4) في (ت) ما يتعلق بالجمعة. (¬5) البخاري في الجمعة 879، ومسلم في الجمعة 846، وأحمد في مسنده 3/ 60واللفظ له. (¬6) البخاري في الجمعة 898، ومسلم في الجمعة 849. (¬7) هو: أحمد بن نصر الداودي الأسدي أبو جعفر من أئمة المالكية بالمغرب كان بطرابلس وبها أملى كتابه في شرح الموطأ ثم انتقل إلى تلمسان وكان فقيهاً فاضلاً =

أنه حكى (¬1) اختلاف أصحابنا في غسل الجمعة فقال بعضهم: سنة مؤكدة لا يجوز تركها إلا بعذر، وقال بعضهم: مستحب. وعوَّل على أن المذهب مختلف في وجوبه، أخذا من حكاية أبي جعفر هذه (¬2). وليست صريحة في الوجوب كما ظنه، بل ظاهرها على غير الوجوب. وإنما يؤخذ من هذا أن المذهب على قولين: أحدهما: أن الغسل سنة، والثاني: مستحب. وهكذا قال أبو الحسن اللخمي في كتاب الطهارة. وقد يقال: إن ما حكاه أبو جعفر يقتضي الوجوب. وقوله: سنة، أي مما علم (¬3) وجوبه بالسنة، كقول سحنون (¬4) إن الوضوء من البول سنة، يريد: مما علم وجوبه بالسنة، وليس من قبل المندوبات. ولا شك أن ذلك محتمل، لكن الأظهر الأول. وإنما خرج فقهاء الأمصار عن ظواهر تلك (¬5) الألفاظ المتقدمة المقتضية للوجوب بما ثبت من قوله عليه السلام في الجمعة:"لَوِ اغْتَسَلْتُمْ" (¬6). وهذا لفظ يشعر بنفي الوجوب، إذ لا يقال في الواجب لو فعلت. ولقوله عليه السلام:"مَنْ تَوَضأَ لِلْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ" (¬7). وهذا نص صريح في إسقاط الوجوب، وهو أيضاً يقصده القائل بالاستحباب. وبما ثبت من قول عمر رضي الله عنه للداخل وهو يخطب "أي ساعة هذه؟ فقال ما زدت على أن توضأت، فقال عمر رضي الله عنه: ¬

_ = متقناً مؤلفاً مجيداً، له حظ من اللسان والحديث والنظر، ألف كتابه النامي في شرح الموطأ والواعي في الفقه والنصحية في شرح البخاري والإيضاح في الرد على القدرية وغير ذلك، وكان درسه وحده لم يتفقه في أكثر علمه على إمام مشهور وإنما وصل بادراكه، حمل عنه أبو عبد الملك البوني وأبو بكر بن محمد بن أبي زيد توفى بتلمسان سنة ثنتين وأربعمائة. الديباج المذهب ص: 35 والشجرة ص: 110 (293). (¬1) في (ق) ذكر. (¬2) التبصرة ص: 123. (¬3) في (ق) أي ما يعلم. (¬4) في (ر) ابن سحنون. (¬5) في (ر) عن ظواهر ألفاظ، وفي (ت) على ظواهر. (¬6) البخاري في الجمعة 903 واللفظ له، ومسلم في الجمعة 847. (¬7) أخرجه الدارمي في الصلاة 1540، وابن عبد البر في التمهيد 10/ 79 واللفظ له.

الوضوء أيضًا، وقد علمت أن الرسول عليه السلام أمر بالغسل" (¬1) ثم لم يأمره بالخروج ليغتسل. وكان ذلك والصحابة متوافرون ولم ينكر منهم أحد. وهذا عند بعض الأصوليين كالإجماع. واختلفوا في الداخل من هو؟ فقيل عثمان، وقيل غيره. وإذا قلنا إن الغسل سنة فمتى يُفعل؟ لم يختلف المذهب أنه إذا اغتسل قبل الفجر أنه لا يجزيه، وإذا اغتسل [بعد الفجر] (¬2) ثم راح إلى الصلاة فلا خلاف أيضًا أنه يجزيه. وإن اغتسل بعد الفجر وأخر رواحه إلى الزوال فهل يجزيه أم لا؟ في المذهب قولان: نفي الإجزاء وهو المشهور، والشاذ إثباته. وهو خلاف في حال هل يزول الغسل في هذا المقدار من الزمان أم لا؟ وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على ثلاثة أقوال: [القولان اللذان تقدما] (¬3)،والثالث: أن الغسل لا يجزي إلا أن يتصل بالرواح إذا راح بعد الزوال لا في أول النهار (¬4).وهذا الذي قاله في الرواح لا يجزيه، وإنما أخذه من قول مالك: إن المشي إلى الجمعة لا ينبغي أن يكون أول النهار. وهذا الذي قلناه في الرواح إذا كانت مسافته إلى الجامع قريبة، فإن بعدت حتى يزول أثر الغسل فعلى المشهور من المذهب أنه يؤمر بإعادته، وعلى مذهب ابن وهب القائل بالإجزاء أنه بعد الفجر يجزيه. واختلف هل يغلب على غسل الجمعة حكم النظافة فلا يفتقر إلى نية ويجزئ بالماء المضاف إلى الرياحين والطيب، وهذا هو الشاذ. أو يغلب ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 882، والترمذي في الجمعة 494 واللفظ له عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ بَيْنَما عُمَرُ بن الْخَطَاب يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَبيِّ - صلى الله عليه وسلم -فَقَالَ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ فَقَاَل مَا هُوَ إِلاَّ أنْ سَمِعتُ النِّدَاءَ وَمَا زِدْتُ عَلَى أَن تَوَضأْتُ قَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضاً وَقَدْ عَلِمْتَ أَنًّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -أَمَرَ بِالْغُسْلِ". (¬2) ساقط من (ر) و (ت). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) التبصرة ص: 124.

(استحباب التبكير للجمعة)

عليه حكم العبادة ويفتقر إلى النية ولا يجزي إلا بالماء المطهر (¬1)، وهذا هو المشهور. ولا شك أن المقصود الأول من هذا الغسل النظافة، لكنه مشروع وإن كان المكلف أنظف الناس بدناً وأطيبهم ريحاً. فالالتفات إلى أصله يقتضي تغليب النظافة وإلى استرساله إلى سائر المكلفين يقتضي [تغليب] (¬2) العبادة. (استحباب التبكير للجمعة) وقد ثبت عنه عليه السلام أنه قال: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه" الحديث كما ورد (¬3). واختلف المذهب هل أراد الساعة السادسة (¬4) فيكون الرواح من أول النهار؟ أو هي ساعة قدرها الشرع عقيب الزوال؟ وهذا هو المشهور من المذهب. والأول قول ابن حبيب. ولفظ الرواح يقتضي القول المشهور لأن المشي (¬5) قبل الزوال لا يسمى رواحاً. وقوله:"الساعة الأولى" يقتضي قول ابن حبيب. ولا بد من التجويز في أحد اللفظين. وقد احتج فيها للمشهور بأن قول ابن حبيب يقتضي أن تكون الصلاة قبل الزوال لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -جعل آخر الرواح الساعة السادسة؛ قال:"إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" والساعة السادسة هي قبل الزوال لا بعده. وهذا الذي قلناه في الرواح بعد الزوال جاز في ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) و (م) الطاهر. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 881، ومسلم في الجمعة 850 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِى الله عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأنَمَا قَرَّبَ بَدَنَةَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعةِ الثَّانِيَة فَكَأَنَمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاَحَ فِي السَّاعِةِ الثَّالِثَةِ فَكَأنَمَا قَرَّبَ كَبْشاً وَمَنْ رَاَحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابعةِ فَكَأَنَّمَا قّرَّب دَجَاجَةً وَمَنْ رَاَحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَمَا قَرَّبَ بَيضْةً فإِذَا خَرَجَ الإِمامُ حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتِمُعونَ الذكْرَ". (¬4) في (ق) الساعات المعلومات، وفي (ت) الساعة المعلومة، وفي (م) الساعة المعلومات. (¬5) في (ر) المصلي.

(تحريم البيع وقت تعين السعي للجمعة)

حق من يمكنه إدراك الجمعة إذا راح حينئذ. وأما من لا يمكنه إلا بالرواح قبل ذلك، فيجب عليه الرواح متى علم أنه لو أخر لفاتته الجمعة. ولا تفوت عندنا إلا بأن يرفع الإمام رأسه من الركعة الثانية، ولكن لا يجوز لكل الناس التراخي إلى هذا المقدار. ولا بدّ من افتتاح الصلاة بجماعة تنعقد بهم الجمعة وقد قدمنا حكم اشتراط الجماعة في حضور الخطبة. (تحريم البيع وقت تعين السعي للجمعة) وإذا تعين السعي حرم البيع وما في معناه من الاشتغال على كل من تجب عليه الجمعة. فإن وقع البيع حينئذ هل يقضي أو يفسخ؟ في المذهب قولان، وهما على الخلاف في النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وإذا قلنا يفسخ [فإن فات] (¬1) فهل يمضي بالثمن أو تكون فيه القيمة؟ في المذهب قولان. ومضيه بالثمن إذ لا فساد في ثمنه ولا مثمونه، وإنما يرجع إلى القيمة لأنها عوض من عينه، فالرجوع إلى ما تراضوا به من الثمن أولى من مضيه بالقيمة, لأنه متى أمضيناه بالثمن [كانا متممين العقد] (¬2) الفاسد. والقيمة جعلتها الشريعة عوضا من ردّ العين. وإذا قلنا: إن فيه القيمة فمتى تكون؟ قولان: أحدهما: وقت القبض، وإن وقع في وقت يحرم فيه البيع ويقدر جواز البيع حينئذ. والثاني: أنه بعد انقضاء الصلاة، إذ لا قيمة شرعية في وقت النداء إلى انقضاء الصلاة. وثمرة هذا الخلاف لو اختلفت الأسواق فيما بين الوقتين. وهل تنزل سائر العقود كالنكاح والصلح والخلع وما في معنى ذلك منزلة البيع في التحريم؟ لا شك في نزولها منزلته لأنها مشغلة، والمفهوم من الآية قطعًا تحريم المشغلات، وذكر البيع لأنه السبب الذي نزلت فيه الآية وهو الشغل في الأكثر. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ر) وفي (ق) متممين على العقد.

(النداء للجمعة)

ولكن اختلف في فسخ هذه العقود على القول بفسخ البيع على قولين: أحدهما: أنه يفسخ قياساً على البيع، والثاني: لا يفسخ لأنها مشبهة به، والمشبه بالشيء دونه في المرتبة. قال الأشياخ: هكذا يجري الأمر في الصلوات وغيرها من العبادات إذا تعيَّن وقتها واشتغل عنها ببيع أو غيره. وهذا فيه نظر, لأن الشريعة شأنها الالتفات إلى الكليات وحماية الذرائع ومنع المشغلات وهذا يظهر في الجمعة. وأما ما سواها فصوره نادرة. والصور النادرة لا يعلق (¬1) عليها مثل هذه العقوبات كفسخ البيع وما في معناه. قال الأشياخ أيضًا: ومما ينخرط في مثل البيع الشرب من السقاء بعد النداء إذا كان بثمن، وإن لم يدفع إليه الثمن في الحال. وهذا الذي قالوه ظاهر ما لم تدع إلى الشرب ضرورة. (النداء للجمعة) وللجمعة نداء وهو المشروع في زمان الرسول عليه السلام، وهو عند جلوس الإمام على المنبر. ولما كثرت العمارة في أحوال المدينة أمر عثمان رضي الله عنه بالنداء عند الزوال ليأخذ الناس في الأهبة إلى الصلاة والسعي إليها. والأحكام تتعلق بالنداء الثاني لا بالأول. وإذا خرج الإمام فلا خلاف أن [المشروع له] (¬2) يسلم على الناس عند خروجه من المقصورة. وإذا صعد على المنبر فهل يسوغ له أن يسلم على الناس؟ في المذهب قولان: المشهور: أنه لا يسلم لاشتغاله بما هو أهم مما صرف إليه. والثاني: أنه يسلم لأنه بموضع يبصره من لا يبصره أولاً، ويسلم على الجميع ثم يجلس. ولا خلاف في الجلوس الأول في خطبة الجمعة، وأما غير ذلك من الخطب كالاستسقاء والعيدين ففيها قولان: أحدهما: الأمر بالجلوس قياساً على الجمعة. والثاني: نفيه؛ لأن الجمعة إنما جلس في أول الخطبة انتظاراً للفراغ من الأذان، وهاهنا لا أذان ينتظره. لكن الجلوس أولى إذ به تسكن ¬

_ (¬1) في (ر) يعلق. (¬2) ساقط من (ر).

(حكم النافلة وتحية المسجد بعد صعود الخطيب المنبر)

حواس الخطيب (¬1) ويمكنه المقصود من الوقار (¬2). (حكم النافلة وتحية المسجد بعد صعود الخطيب المنبر) ولا خلاف عندنا أن النافلة تمنع بصعود الخطيب على المنبر، وفي المذهب قولان: هل تمنع بخروجه من موضعه قاصد إلى الصعود، فلا شك أن امتناعها قبل أخذه في الخطبة حماية للذريعة. والظاهر أن (¬3) الحماية للذريعة لا تتعدى إلى خروجه، وإنما يمكن أن يتعلق على صعود المنبر. فإذا صلى فصل النافلة في الوقت الذي ذكرنا أنه ممنوع فهل يقطع أو يتمادى؟ في المذهب قولان، وهما على مراعاة الخلاف؛ فمن لم يراعه أمر بالقطع، ومن راعاه أمر بالتمادي. وقد كان الشيخ أبو القاسم السيوري [رحمه الله] (¬4) يقول (¬5) إن الأولى جواز الركوع لداخل المسجد (¬6) وإن كان الإمام في الخطبة، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -أنه [أمر] (¬7) الداخل وهو يخطب بالركوع (¬8)،وما ذكره أصحابنا من أن الداخل [كان صعلوكاً وهو رجل] (¬9) فقير رث الهيئة فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن يبصر (¬10) حاله فيتصدق عليه [يرده ما وقع في بعض الطرق من قوله عليه السلام: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس وإن كان الإمام يخطب", لكن هذا لم [يقطع ¬

_ (¬1) هكذا في (ت) وهو غير واضح في (ر). (¬2) في (ق) من القرار، وفي (ت) منه من الوقار. (¬3) في (ت) من. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) و (ر) يرى. (¬6) في (ر) في داخل المسجد، وفي (ت) بداخل المسجد. (¬7) ساقط من (ر). (¬8) أخرج البخاري في الجمعة 930 واللفظ له، ومسلم في الجمعة 875 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: جَاءَ رَجُل وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "أَصَلَّيتَ يَا فُلاَنُ؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ:"قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيِن". (¬9) ساقط من (ق). (¬10) في (ق) ينظر.

(حكم الكلام بعد افتتاح الخطبة)

به] (¬1) في بعض الطرق (¬2) وبين الأصوليين خلاف في انفراد العدل بالزيادة هل تقبل أم لا؟ (حكم الكلام بعد افتتاح الخطبة) ولا يمنع الكلام بصعود الإمام على المنبر حتى يفتح الخطبة، فإذا افتتحها حرم الكلام إلا أن يكون مجاوبة للإمام. والأصل في ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم -:" إذا قال أحدكم لصاحبه أنصت والإمام يخطب فقد لغا" (¬3).وهذه مبالغة في منع الكلام, لأن المراد بالإنصات أمر بالمعروف، فإذا عُدَّ لغواً فأحرى أن يعد غيره من الكلام لغواً. وإذا تقرر ذلك قلنا بعده: لا يخلو أن يتكلم الإنسان في حال الخطبة بالقرآن والذكر أو بغيرهما؛ فإن كان كلامه قرآناً أو ذكرًا وطال فإنه ممنوع لأن فيه اشتغال عن الإنصات للخطبة، وإن لم يطل فإنه جائز، والأولى تركه [خوفاً من أن يستدرجه إلى ما هو أكثر ويشغله ذلك عن الخطبة. وهذا إذا أسر به] (¬4) ,وإن جهر فقولان: الكراهية, لأن فيه اشتغالاً عن السماع واشتغالاً بغيره. والجواز، ليسارته وهو من جنس المسموع. وإن كان كلامه بغير هذين فإنه ممنوع على كل الأحوال. وينسحب حكم المنع على حالة جلوس الإمام بين الخطبتين، إذ لو أبحنا (¬5) الكلام حينئذ لأمكن تماديه إلى قيام حال الإمام إلى الخطبة الثانية. فإذا لغا الإمام بسب (¬6) أحد وذكر ما لا يجوز ذكره له، فهل يحرم الكلام ¬

_ (¬1) في (ق) يقع. (¬2) في (ق) في كل الطرق. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 934، ومسلم في الجمعة 851، والنسائي في الجمعة 1401 واللفظ له عَنْ أَبِي هريرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ يَومَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخطُبُ أنصِتْ فَقَد لَغَا". (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) في (ر) أجزنا. (¬6) في (ق) و (ر) و (ت): بسبب.

حماية للذريعة، أو يجوز لأنه أخذ فيما لا يلزم (¬1) استماعه؟ في المذهب قولان. ويلزم من لا يسمع الخطبة من الصمت ما يلزم سامعها لانسحاب حكم السماع عليه. فإن تكلم أحد فلا يأمره من سمعه بالصمت نطقاً. وفيه ورد الحديث. وله أن يشير إليه بذلك. ويستحب للإمام في حال خطبته أن يتوكأ على قوس أو عصا وما في معنا ذلك. وبه استمر العمل. وفيه شغل عن العبث باليدين. ويخطب قائمًا وإن جلس عصى (¬2). وقد قدمنا ما يجزئ من الخطبة. ولا تقع الخطبة قبل الزوال، فإن فعل كان كمن لم يخطب. وقد قدمنا القولين هل هي فرض أو سنة فيجري إجزاء الصلاة بعد الخطبة قبل الزوال على ما تقدم من ذلك؟ ولا تقدم الصلاة عن الخطبة، فإن فعل كان أيضاً كمن لم يخطب. ولو أكمل الخطبة ثم وصله كتاب عزله قبل الصلاة فهل يعيد المولى الخطبة؟ أو يجتزي بما تقدم؟ في المذهب قولان. خرجه (¬3) أصحابنا على الخلاف في النسخ متى يكون؛ هل وقت النزول والحصول، أو وقت البلاغ (¬4)؟ فإن قلنا: إن النسخ وقت النزول أعاد الخطبة، وإن قلنا: إنه وقت البلوغ لم يعد. وإذا حققنا هذا التعليل وقلنا بطرده لزم إعادة الصلاة وإن أكملها على القول بأن النسخ من وقت النزول. وإنما حقيقة الأمر في هذه المسألة أن يجري على كون الخطبة كالجزء من الصلاة فلا يصح أن يخطب إمامًا ويصلي غيره إلا عند الضرورة التي توجب الاستخلاف، أو يقال إن الخطبة ذكر منفصل عن الصلاة فكيفما حصل أجزى. وإذا قلنا بإعادة الخطبة فلم يعدها حتى صلى؛ فإن لم يراع الخلاف كان بمنزلة من صلى بغير خطبة، ولو راعينا الخلاف صحت الصلاة. ¬

_ (¬1) في (ر) يجوز. (¬2) في (ت) فماض، وفي (م) فكما مر، وغير واضحة في (ق). (¬3) في (ق) ويخرجه، وفي (ت) وخرجه. (¬4) في (ر) البلوغ.

(عدد ركعات الجمعة)

وإذا أكمل الإمام الخطبة وأقيمت الصلاة لم يحرم الكلام حينئذ عندنا، لأن منعه من حين الخطبة لاشتغاله عن الاستماع. (عدد ركعات الجمعة) ومعلوم أن صلاة الجمعة ركعتان، فإن صليت أربعاً فإن كان عمداً فلا شك في بطلانها، وإن كان سهواً جرى على القولين فيمن زاد على الصلاة الثنائية مثلها. وإن تصور أن يكون جاهلاً جرى على القولين في الجاهل؛ هل حكمه حكم الناسي، أو حكم العامد؟ (ما يقرأ في الجمعة وحكم الإسرار به) والقراءة فيها جهراً، فإن أسر جرى على ما قدمناه في حكم من أسر في الصلاة الجهرية. واستحب أن يقرأ فيها في الركعة الأولى (سورة الجمعة) بعد (فاتحة الكتاب) لما فيها من أحكام الجمعة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وأما الركعة الثانية فاستحب مالك رحمه الله مرة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}، ومرة (سورة الأعلى). وحكي أن قوما يقرأون (سورة المنافقين). وقد روي ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وبالجملة لا تحديد (¬2) في ذلك. ¬

_ (¬1) أخرج مسلم في الجمعة 878 واللفظ له، وأبو داود في الجمعة 1123، وابن ماجه في الجمعة كَتَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْس إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيِر أَيَّ شَيْءٍ قَرَأَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ سِوَى سُورَةِ الجْمُعَةِ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ هَل أَتَاكَ. وأخرج مسلم في الجمعة 878 واللفظ له، والترمذي في الجمعة 533 عَنِ النُّعَمَانِ بْنِ بَشِير قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ في الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَهَلْ آَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ قَالَ وإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرأُ بِهِما أَيْضاً فِي الصَّلاَتَيْنِ. وأخرج مسلم في الجمعة 877 واللفظ له، والترمذي في الجمعة 519 عَنِ ابْن أَبِي رَافِع قَالَ اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الجُمُعَة فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ في الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ إِذا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالَ فَأدْرَكْتُ أبَا هُرَيْرَةَ حِيِنَ انْصَرَفَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّكَ قَرَأتَ بسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالكُوفَةِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -يَقْرَأُ بِهِما يَومَ الْجُمُعَةِ. (¬2) في (ر) لا تحذير.

(وقت الجمعة)

(وقت الجمعة) وأول وقت الجمعة عند فقهاء الأمصار إذا زالت الشمس. وما روي أن الصحابة كانوا يقيلون قائلة الضحى بعد صلاة الجمعة (¬1) لا يقتضي أنها تؤدى قبل الزوال. بل معناه أنهم كانوا يؤخرون القائلة المعتادة في سائر الأيام حتى يأتون بها بعد صلاة الجمعة. والمستحب أن تصلى بعد الزوال من غير تأخير اقتداء بالرسول عليه السلام. فإذا اشتد الحرّ فهل يبرد بها كسائر الأيام؟ في المذهب قولان. وسبب الخلاف النظر إلى فعله عليه السلام، ولم يرو أنه كان يبرد. والنظر إلى عموم قوله-صلى الله عليه وسلم -: "إِذا اشتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْردُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ من فَيْح جَهَنَّم" (¬2). واختلف في آخر وقتها التي تفوت لفواتها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوقت المختار للظهر، والثاني: آخر وقت الضرورة للظهر, والثالث: أنه ما لم يبق بعد كمالها أربع ركعات للعصر. ومرَّ بنا على ما قدمناه من الالتفات إلى فعل الرسول عليه السلام. ولا شك أنه لم يأت بها بعد القامة [أو] (¬3) قياساً على الظهر في سائر الأيام. وهو يرجع أيضًا إلى الخلاف؛ هل هي صلاة مستقلة بنفسها، أو بدل عن الظهر. وأما النظر إلى بقاء أربع ركعات للعصر، فيكاد أن (¬4) يكون لا وجه له إلا أن يقال هي صلاة تفتقر إلى خطبة وجماعة (¬5)، وفي ذلك بعض التطويل. وإذا أخرت عن هذا المقدار لم يكن أداؤها على هيأتها المشروعة. والمستحب إيجاز الخطبة واختصارها وإكمال الصلاة، وفي الحديث ¬

_ (¬1) أخرج مالك في وقوت الصلاة 13 عَنْ مَالِك عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكِ عَنْ أَبِيهِ أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْن أبِي طَالِب يَومَ الْجُمُعَةِ تُطِرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ فَإِذَا غَشِيَ الطِّنفِسَةَ كُلَّهَا ظِلَّ الْجِدَارِ خرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ قَالَ مَالِكٌ ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضحَاءِ. (¬2) البخاري في مواقيت الصلاة 537، ومسلم في المساجد 615. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) أن لا. (¬5) في (ر) خطبته وجماعة، وفي (ت) الخطبة والجماعة.

(الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة)

أن ذلك [من فقه الإمام] (¬1). (الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة) وقد قدمنا حكم شروط الوجوب والأداء ولا شك أنها متى تعذرت (¬2) أو أحدها: سقطت الجمعة. وقد تسقط لغير ذلك من الأعذار. ويجمعها الخوف (¬3) على النفس أو على المال أو الاشتغال بما يتوجه (¬4) الاشتغال به. ومثال الخوف على النفس أن يخاف في سعيه أو حضوره من غاصب ولصوص وما في معناهم. ومتى تحقق الخوف على نفسه بذلك سقطت الجمعة عنه بإجماع. وكذلك إن خاف منهم على ماله أو مال غيره. وإما الاشتغال بما يتوجه عليه كاشتغاله بالقيام على مريض يقرب منه ويحاذر أن يموت في غيبته. وقد اختلف في مسائل هل [تنتهض] (¬5) عذرا أم لا؟ منها مسألة العروس، تأتي الجمعةُ وهو في أسبوعه؛ فالمشهور من المذهب أنه يخرج إليها، والشاذ إسقاطها عنه. وأراد أبو الحسمن اللخمي أن يجعل القول بالسقوط على القول بأن الجمعة فرض على الكفاية لا على الأعيان (¬6). وهذا لا يقوله أحد من أهل المذهب، وإنما يقوله أهل الظاهر وبعض ¬

_ (¬1) في (ر) من فقهاء الأمصار. وقد أخرج مسلم في الجمعه 869 قَالَ أبُو وَائِل: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أبَا اليَقظْانِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلوْ كُنْتَ تنفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:"إِنَّ طُولَ صَلاةَ الرّجُلِ وَقِصَرَ خُطبَتِهِ مَئنَّة مِنْ فِقْهِهِ فَأطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطبَةَ وَإنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً". والمئنة العلامة والدليل، قال أبو عبيد: يعني أن هذا مما يُعرف به فقه الرجل ويستدل به عليه، وكذلك كل شيء دلّك على شيء فهو مئنة له. انظر الغريب لابن سلام 4/ 61. (¬2) في (ق) فقدت. (¬3) في (ق) مثل الخوف. (¬4) في (ت) يتوجه عليه. (¬5) بياض في (ر). (¬6) التبصره ص:125.

أصحاب الشافعي، وجمهور الأمة على خلافه. والخلاف في التخلف على مقابلة لزوم حق المرأة ولزوم فرض الجمعة. ومنها: إذا اشتدّ المطر وكثر الوحل هل تسقط الجمعة لذلك أم لا؟ قولان. وهما على خلاف في حال؛ فإن أكثر ذلك وبعدت الطريق حتى يكون السعي إليها حرجاً سقطت، وإن كان الأمر بالعكس لم تسقط. ومنها: اتفاق العيد والجمعة. واختلف هل للإمام أن يأذن لمن شهد العيد ممن بعدت داره عن محل الجمعة وإن كانت تلزمه فيكتفي بشهود العيد. والمشهور أنه لا يأذن في ذلك ولا ينتفع بإذنه [إن فعل. والشاذ] (¬1) صحة إذنه. وقد أذن عثمان بن عفان رضي الله عنه لأهل العوالى في التخلف (¬2). وهو أيضًا خلاف في حال هل يؤدي رجوعهم إلى أمكنتهم ثم عودتهم إلى الجمعة إلى مشقة أم لا؟ ومنها: أن يقيم الحاج بمكة مدة يحصل بها حكم إتمام الصلاة فتأتي الجمعة يوم التروية؛ ففيه قولان: المشهور وجوب شهود الجمعة، والشاذ أنه يخرج فيصلي ظهراً. وهو خلاف في مقابلة الجمعة بما أمروا به من المناسك. فإن لم يقم (¬3) ما يوجب إتمام الصلاة، فلا خلاف أنه لا يلزمه شهود الجمعة. ووقع لسحنون فيمن خاف إن شهد الجمعة أن يحبس في دين عليه إنه لا يسقط عنه شهود الجمعة، وسواء كان مليئاً بالدين أو فقيراً (¬4). واعترض أبو الحسن اللخمي قوله في الفقير (¬5). ولعلَّ سحنون [إنما] (¬6) تكلم على ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) أخرجه البخاري في الأضاحي 5573 وفيه: قَاَلَ أَبُو عُبَيْدٍ ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدّ مَعَ عُثمَانَ بْنِ عَفَّانَ فكَانَ ذَلِكَ يّوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَلَّى قّبْلَ الْخُطبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَقَالّ: يّا أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكمْ فِيِهِ عِيدّانِ فَمَنْ أحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوّالِي فَلْيَنْتَظِرْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فقَدْ أذِنْتُ لَهُ. (¬3) في (ق) لم يحصل. (¬4) في (ق) و (ت) أو معسرًا. (¬5) التبصرة ص: 125. (¬6) ساقط من (ر).

(حكم من فاتتهم الجمعة)

صورة ولم يظهر (¬1) فقره فيها، وإذا ظهر ترك. أو على صورة يتوجه عليه الحبس لأنه مظهر للفقر. وأما لو تحقق فقره وعلم أنه لو ظهر تحققه لم يترك فلا شك في سقوط الجمعة عنه, لأن هذا من الضرر البيَّن. وألحقوا بالأعذار أن يفقد الأعمى قائداً ولا شك أنه إن لم يمكنه السعي إلا بمن يقوده أو كان عليه في الانفراد مشقة كبيرة فتسقط عنه الجمعة. (حكم من فاتتهم الجمعة) وأما إذا فاتت صلاة الجمعة فهل لمن فاتتهم أن يجمعوا ظهراً؟ إن شئت قلت المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يجمعون مطلقًا لإدراك فضل الجماعة. والثاني: أنهم لا يجمعون حماية للذريعة لئلا يتخلف أهل البدع فيظهرون أعذارًا ثم يجمعون لأنفسهم. والثالث: أنهم يجمعون إن ظهر العذر، ولا يجمعون إن لم يظهر العذر. لأنهم متى ظهر لم يكن في ذلك تطرقاً لأهل البدع. وإن شئت قلت إن لم يظهر العذر فقولان: [المشهور أنهم لا يجمعون، والشاذ أنهم (¬2) يجمعون. وإن ظهر العذر فقولان] (¬3): المشهور هاهنا عكس المشهور الأول. (حكم من صلى الجمعة ظهرًا قبل إقامتها) وإذا صلَّى الظهر من تجب عليهم الجمعة قبل إقامتها فقولان: المشهور من المذهب بطلان صلاته ووجوب الإعادة، والشاذ الاكتفاء بها. ويمكن إجراء هذا على الخلاف في النهي؛ هل يدل على (¬4) فساد المنهي ¬

_ (¬1) في (ق) إنما في صورة يظهر. (¬2) في (ت) إن ظهر العذر فقولان المشهور أنهم يجمعون والشاذ أنهم لا يجمعون. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) هذا على.

باب في أحكام صلاة الخوف

عنه، أو على الخلاف في صلاة الجمعة هل هي عوض عن الظهر. فإذا رجع إلى الأصل أجزأه؟ أو هي صلاة قائمة بنفسها فإذا أدَّى الظهر قبل فوات الجمعة كان مصليًا لغير ما وجب عليه؟ وقد نجز (¬1) غرضنا من أحكام الجمعة بقدر هذا المجموع، ولعل ما قدمنا يأتي على مسائلها تصريحًا وتلويحًا. وبالله التوفيق. ... باب في أحكام صلاة الخوف ولا خلاف أن للخوف تأثيراً في الصلاة على الجملة، وعندنا أنه يؤثر في الهيئة لا في العدد. والمسافر يصلي ركعتين، والحاضر على ما نبيّنه يصلي أربعاً. والخوف على قسمين: (الخوف الذي يمنع من الجمع وأداء الصلاة على هيئتها) قسم يمنع الجمع، ويعجز (¬2) عن إكمال الصلاة على هيئتها المعهودة. وذلك بأن يكون من وجب عليه إكمال الصلاة في حال المطاعنة والمضاربة وما في معناه، فهذا يمهل المكلف عندنا حتى إذا خاف فوات الوقت صلى بحسب ما أمكنه، ولا يشترط استقبال القبلة إن لم يمكنه الاستقبال للركوع والسجود، ولا القيام، ولا لزوم موضع واحد، ولا ترك فعل يحتاج إليه من الطعن والضرب والكر والفر، أو قول يفتقر إليه من التنبيه لغيره والتحذير لعدوه إن افتقر إلى ذلك بالجملة بقولِ أو فعلِ كل ما يضطر إليه. ويترك من أحكام الصلاة كل ما هو مضطر إلى تركه، وتجزيه صلاته. والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3) ,وما ¬

_ (¬1) في (ق) ثم. (¬2) في (ق) يحصر وفي (م) و (ت) و (ر) يعجل، ولعل الصواب ما أثبته وهي في (ل). (¬3) البقرة: 239.

(الخوف الذي يتوقع فيه مضرة العدو)

روي عنه -صلى الله عليه وسلم -أنه أخَّر الصلاة في يوم الخندق حتى غربت الشمس (¬1)، فإنما ذلك قبل نزول حكم صلاة الخوف. ويستوي في هذا حكم الحاضر والمسافر. [ولا أعلم بين المتأخرين] (¬2) خلافاً في حكم هذه الصلاة على الجملة، وأن الخوف الذي هو صفته مؤثر في الصلاة، وإن اختلفوا في التفاصيل. فإذا افتتحت الصلاة على هذه الصفة لوجود الخوف، ثم ارتفع في أثنائها ولم يبق ما يخاف ولا ما يطلب، فإنهم يتمونها على حالة الكمال وتجزي. ويكون ذلك بمنزلة من افتتح صلاته جالساً (¬3) أو مضطجعاً ثم صحَّ في أثنائها. وإن انهزم العدو في أثناء الصلاة فهل يباح إكمالها مع الاشتغال والطلب، أو يشتغل بإكمال الصلاة على هيئتها من غير خوف؟ في المذهب قولان. والظاهر أنها خلاف في حال لا في فقه؛ فإن علم انهزام العدو وأمنت عودته وكان إن ترك لا يخشى [مضرته (¬4) في أثناء حال الاشتغال بإكمال الصلاة (¬5) وإن لم تؤمن] (¬6) عودته أو خيف إن لم يستأصل عودته ومضرته جاز طلبه مع مخالفة هيئة الصلاة. (الخوف الذي يتوقع فيه مضرة العدو) والقسم الثاني خوف يتوقع فيه مضرة (¬7) العدو إن اشتغل (¬8) الكل ¬________ (¬1) أخرج البخاري في الجهاد 2931 واللفظ له، ومسلم في المساجد 627 عَنْ عَلِيِّ رَضِي الله عَنْه قَالَ لَمَّا كَانَ يَومُ الأَحْزَاب قَالَ رَسُولُ اللهِ:"مَلأ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُوَرَهُمْ نَاراً شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ". (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) بالإيماء جالساً. (¬4) في (ق) عودته. (¬5) لم أقف على جواب الشرط في كل النسخ. (¬6) ساقط من (م) و (ق). (¬7) في (ت) يتوقع فيه مع معرفة، وفي (ق) يتوقع فيسمعون. (¬8) في (ت) و (ر) و (ق) وإن اشتغال.

بالصلاة، فإن أرادوا أن يصلوا أفذاذاً فذلك (¬1) لهم إذا كان الموضع مما [لا] (¬2) يشتمل عليه حكم الإمام. وهكذا لو أرادوا أن تصلي طائفة [بإمام وأخرى بإمام] (¬3) جاز كما قدمناه. وإن أراد الإمام أن يصلي بالكل جماعة يفرقهم لطائفتين؛ فإن كانوا في سفر، فجمهور العلماء على جواز ذلك على الجملة، والأصل في ذلك فعل الرسول عليه السلام وإقتداء الصحابة في بعده. وقد صلاَّها علي وغيره من الصحابة بطائفتين على ما سنذكره. وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬4) الآية لا يقتضي عند الجمهور اختصاص الوصول عليه السلام بذلك، بل خوطب بهذه الآية الإمام, وكل من كان إمامًا بعده فإنه حالٌّ محله في هذا المعنى. قال ابن القصار: المروي عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها في عشرة مواضع (¬5) والذي عوَّل ¬

_ (¬1) في (ر) أفذاذاً أو جماعة وينفرد البعض فيصلون وحدهم أفذاذاً بعدهم فذلك. (¬2) ساقط من (ق) و (م). (¬3) في (ر) بإمام واحد. (¬4) النساء: 102. (¬5) قال الشوكاني:"وقد اختلف في عدد الأنواع الواردة في صلاة الخوف فقال ابن القصار المالكي: أن النبي-صلى الله عليه وسلم-صلاها في عشرة مواطن. وقال النووي: أن يبلغ مجموع أنواع صلاة الخوف ستة عشر وجهاً كلها جائزة وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ. في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقه المعنى. وسرد ابن المنذر في صفتها ثمانية أوجه وكذا ابن حبان وزاد تاسعاً وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها، وقد بينها العراقي في شرح الترمذي وزاد وجهًا آخر فصارت سبعة عشر وجهاً وقال في الهدى أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر وهؤلاء كما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهًا فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وقال ابن العربي إيضاً صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً وعشرين مرة. وقال أحمد ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز". نيل الأوطار: 4/ 3.

عليه العلماء وثبت عندهم ثلاثة مواضع: ذات الرقاع (¬1) وعسفان (¬2) وذات النخيل. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في المغازي 4130، ومسلم في المسافرين 842 واللفظ له عن يحيي بن يحيي قال: قرأت على مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. وسبب تسميتها بذات الرقاع كما في صحيح مسلم في كتاب المغازي 1816 عن أبي موسى قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه قال فنقبت أقدامنا فنقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. (¬2) قال ابن كثير:"لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله طالباً بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال فقال رسول الله: لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا فذكر أبو عياش الزرقي أن رسول الله صلى بعسفان صلاة الخوف وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عياش قال: كنا مع رسول الله بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله صلاة الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة قال فحضرت فأمرهم رسول الله فأخذوا السلاح فصففنا خلفه صفين ثم ركع فركعنا جميعًا ثم رفع فرفعنا جميعًا ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال: ثم ركع فركعوا جميعًا ثم رفع فرفعوا جميعًا ثم سجد الصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف قال فصلاها رسول الله مرتين مرة بأرض عسفان ومرة بأرض بني سليم ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه وقد رواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد والنسائي عن الفلاس عن عبد العزيز بن عبد الصمد عن التعليق". البداية والنهاية: 4/ 81.

(كيفية الجمع في الخوف)

وهل يصليها إمام واحد بطائفتين في الحضر؟ في المذهب قولان: المشهور جوازه، والشاذ منعه. وسبب الخلاف ما قدمناه من الخلاف في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1)؛ هل هو قصد عدد، أو قصد هيئة؟ فإن قلنا إنه قصد عدد جاء منه المشهور، وإن قلنا إنه قصد هيئة جاء منه اختصاص السفر بالصلاة والخوف كما في الشاذ. ويحتج هؤلاء بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصليها كذلك يوم الخندق مع حاجته إلى صلاتها بطائفتين. وقد قدمنا ما قيل بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف. (كيفية الجمع في الخوف) وإذا تقرر ما قلناه وأوجب [الخوف] (¬2) منع الجمع إلا أن تكون طائفة مواجهة العدو، فكيف صورة أدائها؟ لا خلاف عندنا أن الإمام يقسم الجيش إلى قسمين فيصلي بالقسم الأول شطر الصلاة إن كانت ثنائية أو رباعية، وبالقسم الثاني شطرها. وإن كانت صلاة ثلاثية كصلاة المغرب صلىَّ الأول ركعتين وبالثاني (¬3) ركعة. وإذا صلى بالأول كما قلنا فهل يتمون لأنفسهم أم ينصرفون قبل الإتمام؟ (¬4) في المذهب قولان: المشهور أنهم يتمون لأنفسهم ثم ينصرفون وقد كملوا الصلاة. والقول الثاني أنهم ينصرفون قبل أن يكملوا فيكونوا مواجهة العدو وهم في حكم الصلاة. وسبب الخلاف اختلاف الرواية في الحديث عن صلاته - صلى الله عليه وسلم -في ذات الرقاع، فروى ابن عمر أن الطائفة الأولى لم تكمل إلا بعد صلاة الإمام، ¬

_ (¬1) النساء:101. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) و (ت) الثانية. (¬4) في (ق) و (ت) الإتمام.

كالقول (¬1) الشاذ. وروى القاسم بن محمد (¬2) ويزيد بن رومان (¬3) أنهم أكملوا. والآية محتملة للقولين، فقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا} (¬4) يحتمل أن يريد: سجدوا مع الإمام، ويحتمل أن يريد: سجدوا لأنفسهم. والعبارة بالسجود هاهنا عن إكمال الركعة، وآخر ما يفعل منها السجود. ومن جهة المعنى لأنه لا بدّ من الوقوع في أحد المكروهين؛ إما السلام قبل الإمام وأصول الشريعة تقتضي منعه، وإما العمل من المشي والحراسة والانتظار وأصول الشريعة تقتضي منعه، والنظر إلى التغليب هو مثار الخلاف. وإذا قلنا إنهم يكملون لأنفسهم فإن كانت صلاة [حضر] (¬5) أو صلاة المغرب فهل يجلس الإمام حتى تأتي الطائفة الثانية بعد كمال هذه، أو يقوم فينتظرهم قائمًا؟ في المذهب قولان. وسببهما أيضًا تقابل مكروهين. ومنها زيادة جلوس مستغنى عنه أو وقوف كذلك. وإذا قلنا إنه يقوم، فهل يقرأ أو يسبح أو يذكر الله تعالى؟ في المذهب قولان. وهما على ذلك الأصل أيضاً, لأن المشروع افتتاح الصلاة بالقراءة، ومتى فعل (¬6) ذلك، فاتت الطائفة الثانية القراءة، ولا بد من الوقوع في أحد ¬

_ (¬1) في (ر) الإمام انظر كالقول. (¬2) هو: القاسم بن محمد أبو خليفة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق .. الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة مع سالم وعكرمة أبو محمد وأبو عبد الرحمن القرشي التيمي البكري المدني ولد في خلافة الإمام علي، فروايته عن أبيه عن جده انقطاع على انقطاع فكل منهما لم يلحق أباه، وربي القاسم في حجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها وأكثر عنها، حدث عنه خلق كثير قال ابن المديني: له مئتا حديث .. وكان ثقة عالماً رفيعاً فقيها إماماً ورعًا كثير الحديث. سير أعلام النبلاء 5/ 53 - 60. (¬3) هو: أبو روح يزيد بن رومان القارئ مولى آل الزبير بن العوام المدني سمع ابن عباس وعروة بن الزبير رضي الله عنهم وروى القراءة عنه عرضًا نافع ابن أبي نعيم. توفي يزيد في سنة ثلائين ومائة. وفيات الأعيان: 6/ 277. (¬4) النساء:102. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) فتح.

المكروهين. وإن كانت صلاة سفر (¬1) أو الصبح قام بلا خلاف. ويختلف هل يقرأ أو يسبح (¬2) كما قدمنا؟ قال بعض الأشياخ: أما حيث لا تكون القراءة إلا بفاتحة الكتاب فينبغي أن يسبح، لأنه إن لم يفعل ذلك فاتت القراءة جملة. وأما حيث تكون القراءة بأم القرآن وسورة فيفتح بالقراءة, لأنهم يدركون بعضها. وإذا قلنا إنهم لا يكملون، فمتى يكون قضاؤهم اختلف في التأويل عن (¬3) أشهب وهو القائل بأنهم لا يكملون فقيل: تقضي الطائفتين إذا أكمل الإمام بالطائفة الثانية ويكون الإمام وحده [مواجهة العدو] (¬4)، وقيل تقضي الطائفة الثانية ثم ينصرف فتأتي الأولى فتقضي. وهذا هو الصحيح، ولو لم يفعل ذلك واشتغلت الطائفتان بالقضاء، لخيف معرفة العدو ولم يكن للتفريق فائدة. واختلف على القول بأن الطائفة الأولى تكمل الصلاة ثم تأتي الثانية فيصلي بهم هل يسلم عند انقضاء صلاته، أو ينتظرهم حتى إذا أكملوا سلم بهم؟ وسبب الخلاف اختلاف الروايتين رواية القاسم ورواية يزيد؛ ففي رواية القاسم أنه صلى الله عليه وسلم عند إكمال صلاته (¬5)، وفي رواية يزيد أنه ¬

_ (¬1) في (ر) ظهر. (¬2) في (ق) أو يذكر. (¬3) في (ق) على. (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) في (ق) الصلاة. والحديث هو ما رواه مالك عن يحيي بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري "أن سهل بن أبي خيثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة للعدو فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم فإذا استوى قائماً وثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم سلموا وانصرفوا والإمام قائم وكانوا وجاه العدو ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام يركع بهم ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ويسلمون".التمهيد لابن عبد البر.

(كيف يسجد للسهو في صلاة الخوف)

انتظرهم (¬1). والأصل السلام (¬2) عند الإكمال، وأما الانتظار فلِيَحْصُلَ لهم من الفضل بسلام الإمام ما حصل للأولين بالإحرام. (كيف يسجد للسهو في صلاة الخوف) ولو طرأ في هذه الصلاة سهو؛ فأما على القول إنهم لا يكملون فيكون سجود الجميع بعد السلام (¬3) إن كان السجود بعد السلام، فإن كان قبله فتتابعه الطائفة الثانية فيه، وتسجد الأولى إذا كملت لنفسها. وأما على القول بأنهم يكملون فتسجد الطائفة الأولى عند انقضاء صلاتها إن كان قبل، أو بعد السلام إن كان بعد. وأما الطائفة الثانية فعلى رواية القاسم يسجدون مع الإمام إن كان قبل [السلام] (¬4) عند انقضاء صلاته، وإن كان بعد، كان حكمهم حكم المسبوق، ويسجد الإمام ولا يسجدون معه إلا بعد أن يكملوا ويسلموا. وأما على رواية يزيد فإن كان السجود بعد السلام فإذا سلم بهم سجدوا، وإن كان قبل فالمنصوص أنه يسجد (¬5) بهم عند إكماله. وأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في المسبوق المستخلف هل يسجد بهم عند انقضاء صلاة الإمام أو عند انقضاء صلاته؟ وهذا ليس من هذا الباب لأن الخلاف في مسألة المستخلف على تغليب حكم الإمام الأول وحكم الإمام الثاني، وهاهنا لا حكم إلا لإمام واحد، وإنما أخر السلام لتنال الطائفة الثانية فضل السلام معه، فكأنه إنما سلم بعد صلاته. (بعض فروع هذا الباب) هذا أصل الكلام في صلاة الخوف على المذهب وفاقاً وخلافاً. وينظر ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) في (ق) و (ت) سلامه. (¬3) في (ر) الإمام. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) أنهم يسجدون عند إكمالهم.

بعده في فروع منها: لو خولفت (¬1) هذه الرواية (¬2) فصلى المغرب بثلاث طوائف، صلت معه كل طائفة بركعة. أو صلى في الحضر الصلاة الرباعية بأربع طوائف بكل طائفة ركعة. فأما الطائفة الأولى في المغرب (¬3) والطائفة الثانية في الرباعية فصلاتهم باطلة باتفاق أهل المذهب. وهذا لأنهم وجب عليهم أن يأتوا بالركعة الأخرى مقتدين فأتوا بها أفذاذاً من غير عذر يطرأ على إمامهم، وذلك مما يبطل الصلاة. وأما الإمام والطائفة الثانية في المغرب وفي الصلاة الرباعية والرابعة في الصلاة الرباعية ففي صحة صلاتهم قولان: أحدهما: أنها صحيحة, لأنهم كالمسبوقين في صلاة الخوف. والثاني: أنها باطلة، لمخالفتهم سنة الصلاة. ومنها: لو اجتمع على بعض القضاء والبناء، بأيهما يبدأ؟ وقد قدمنا ذلك مستوفياً في باب الرعاف، وذكرنا ما فيه من الخلاف. لكن اختلف في مدرك الركعة الثانية من المغرب أو من (¬4) الصلاة الرباعية في الحضر هل يقوم للقضاء أو البناء (¬5) إذا تمت الطائفة الأولى؟ أو يمهل بالقضاء حتى يفرغ الإمام من سائر صلاته، إذ لا يمكن القضاء إلا بعد سلام الإمام؟ في ذلك قولان. ومنها: لو صلى بالطائفة الأولى فأحدث (¬6) حتى افتقر إلى الاستخلاف، فإن كان قد كمل صلاة الطائفة الأولى فإنه لا يستخلف لأن حكم إمامته على (¬7) المقتدين به قد انقضى، وإنما [يجدد] (¬8) الإمام بالطائفة الثانية فلا ¬

_ (¬1) في (ر) اختلفت. (¬2) في (ر) و (ق) الرتبة. (¬3) في (ت) في المغرب والرباعية والطائفة الثالثة. (¬4) في (ر) في المغرب عن الصلاة أو من. (¬5) في (ر) و (ت) والبناء. (¬6) في (ر) بالطائفة واحدة حتى. (¬7) في (ر) إمامة المقتدين. (¬8) ساقط من (ر).

يستخلف قبل حصول كونه إمامًا. وإن كان لم يكملا صلاته بالطائفة الأولى فإنه يستخلف لبقاء حكم الإمامة. ومنها: لو صلى بالطائفه الأولى مع وجود الخوف فذهب الخوف؛ فهل للطائفة الثانية أن يدخلوا معه لو بقي الخوف؟ في المذهب قولان: أحدهما: صحة دخولهم معه، ويكونون كالمسبوقين. والثاني: [أنهم لا] (¬1) يدخلون معه, لأنهم إنما عوَّلوا على الاقتداء به ما دام الخوف باقياً، فإذا ذهب الخوف فهو خلاف ما عوَّلوا عليه أولاً، ويتم بالطائفة الأولى إن كانت لم تفعل لأنفسها شيئًا, فإن فعلت أمهلت حتى يصلي الإمام لنفسه ما عليه (¬2) ثم يقتدوا به إن كان بقي عليها (¬3) من صلاتها شيء. ومنها: لو طرأ (¬4) الخوف ثم انكشف الغيب بعدمه فالمنصوص من المذهب صحة الصلاة وإسقاط الإعادة. واستحب ابن المواز الإعادة في الوقت؛ وقد يقال: يجري الخلاف في الإعادة بعد (¬5) الوقت على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ ولعلَّ هذا لم يقل به أحد من أهل المذهب, لأنهم ما صلوا الخوف إلا وهم مجوزون بالخوف فلا يأمنون عودته وإن انكشف خلافه. وعكس هذا لو صلى بهم صلاة أمن فطرأ الخوف وهم في الصلاة، فالحكم أن تنقطع طائفة فتكون بوجهة العدو ويصلي الإمام بالذين معه، ثم يصلي على ترتيب صلاة الخوف. وهذا إذا كان لم يشرع في النصف الثاني من الصلاة, وأما إن شرع فيه حتى ركع أو سجد فلا بد من قطع طائفة، ويتم بالأولى وتصلي الطائفة الثانية لنفسها إما أفذاذاً وإما بإمام آخر. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (ت) ما فعلته. (¬3) في (ق) عليه. (¬4) في (ر) ظهر. (¬5) في (ر) في الوقت.

باب في صلاة الكسوف

باب في صلاة الكسوف (تعريف الكسوف) وهي عبارة عن ظلمة أحد المنيرين (¬1)، الشمس والقمر، أو بعضهما (¬2). وقد اختلف في لفظ الكسوف والخسوف، فقيل: هما مترادفان على معنى واحد، وقيل: هما مختلفان. وأختلف على القول بالاختلاف فقيل: الخسوف يختص بالقمر والكسوف بالشمس، وقيل: الخسوف ظلمة جميع الشمس والقمر. والكسوف ظلمة البعض. والتحاكم في هذا إلى [أهل] (¬3) اللغة. (حكم صلاة الكسوف) ومقصودنا أحكام الصلاة المتعلقة بهذا الحادث. وقد ثبت عن رسول-صلى الله عليه وسلم-أنه صلى عند الكسوف فقال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك بهما فافزعوا إلى الصلاة" (¬4)، وفي حديث آخر:"فصلوا وادعوا وتصدقوا" (¬5)، إلى ما في هذا المعنى. وقد قدمنا أن الصلاة عند كسوف الشمس سنة وعند خسوف القمر فضيلة. ولا خلاف في كسوف الشمس، وأما خسوف (¬6) القمر فأكثر ¬

_ (¬1) في (ر) البدرين، وفي (م) النيرين. (¬2) في (ق) لا بعضهما. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الجمعة 1044، ومسلم في الكسوف واللفظ له 901 عَنْ عَائِشَةَ وفيه:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانْ مِنْ آيَاتِ اللهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدِ وَلاَ لِحيَاتِهِ فَإذَا رَأَيتُمُوهَا فَافزَعُوا لِلصَّلاةِ". (¬5) فقد ورد عند ابن خزيمهّ عن ابن عمر أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظن الناس أنها كسفت لموته فقام النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال:"أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فأفزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله وأدعوا وتصدقوا". صحيح ابن خزيمة: 2/ 328. (¬6) في (ر) كسوف.

(صفة صلاة الكسوف)

أهل المذهب على ما قلناه. وقال أبو الحسن اللخمي إنه سنة (¬1). وقد قدمنا ما يؤخذ (¬2) منه سبب الخلاف إن ثبت هذا الخلاف. وقد قال بعض أهل العلم: إن الشريعة أرادت إلحاق صلاة الكسوف وصلاة العيدين بالصلاة الرباعية. لكن قد يؤدي كونها في صفة الرباعية إلى أن يعتقد فرضيتها، فأتت بما يشعر بإلحاقها إلى الرباعية ومخالفتها لها ليعلم أنها مقصرة عن الفروض. ولهذا شرعت صلاة الكسوف ركعتين وجعلت في كل ركعة ركوعين. وشرعت في صلاة العيدين من التكبير عدد ما يستوفي عدد تكبيرات الصلاة الرباعية. وهذا الذي قاله وإن كان يروق فهو حكاية عن مقصود صاحب الشريعة بما لم ينص عليه، وقد يكون غير مقصود وإنما من محكاة الشريعة حتى تنقاد القلوب إلى العبودية بفعل [ما] (¬3) لم يعلم سببه [في صفة صلاة الكسوف] (¬4). (صفة صلاة الكسوف) وصفة صلاة الكسوف عندنا أن يجمع الإمام الناس. واختلف في موضع الجمع؛ فقيل المسجد، وقيل يبرز لها كالعيدين والاستسقاء. فالأول: التفات إلى الاحترام بالمسجد, لأنها آية كبيرة ولا يؤمن ما يكون عقيبها. والثاني: قياسًا لها على العيدين والاستسقاء، فيفتتح (¬5) بهم الصلاة. واختلف هل يسر القراءة وهو المشهور، أو يجهر بها وهو الشاذ؟ وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث؛ فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جهر في أكثر الطرق، وأنه أسر. واستدلَّ على ذلك بكون الرواة يقدرون مقدار قراءته. ولو جهر لصرحوا بما قرأ به. ولا خلاف في المذهب عندنا أن القراءة ¬

_ (¬1) التبصرة ص: 137. (¬2) في (ق) متى يوجد منه. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ق). (¬5) كذا في (ق) و (ر)، وفي (ت) فيفتح.

تكون أطول (¬1) منها في سائر الصلوات (¬2). والذي نص في المشهور أنه يقرأ في القيام الأول بسورة البقرة أو نحوها، ثم يرتب [قراءته] (¬3) على نحو ترتيب السور. والذي قاله القاضي أبو محمد يطيل طولا لا يضر بمن خلفه. وعدَّ هذا أبو الحسن اللخمي خلافا، (¬4) والظاهر أنه ليس بخلاف. ولا ينبغي، أن يطيل إذا أضر (¬5)، ولا يقصر إذا لم يضر (¬6). وعلى أي حال كانت القراءة فإنه يركع الركوع الأول ويكبر به ثم يطيل ويجعل طوله [دون] (¬7) طول قراءته ولا يقرأ في الركوع بل يسبح. وهل يدعو؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في جواز الدعاء في الركوع. ثم يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، كما يفعل في سائر الصلوات. ويقول المقتدون: ربنا ولك الحمد. ثم اختلف هل يفتح القيام الثاني بقراءة الفاتحة، أو يتركها ويقرأ السورة؟ فالمشهور أنه يقرأ الفاتحة لأنه قيام بعد ركوع فأشبه القيام إلى الركعة الثانية، والشاذ أنه يقتصر على السورة. وهذا لأن هذا القيام متصل بالقيام الأول، وهو في حكم القيام الواحد. والدليل على ذلك اتفاق أهل المذهب على أن من أدرك القيام الثاني تصح له الركعة ولا قضاء عليه للركوع الأول. ويجعل قراءته في القيام الثاني دون قراءته في القيام الأول. وهكذا يرتب في سائر الصلوات، ويطيل الركوع الثاني، [وهو] (¬8) دون الركوع الأول. ثم إذا رفع من الركوع الثاني اعتدل كسائر الصلوات ولم يزد على ذلك ثم يخر للسجود. واختلف هل يطيله كطول الركوع أو يسجد كسائر سجود النوافل؟ في ¬

_ (¬1) في (ر) أكثر بشيء منها. (¬2) في (ق) النوافل. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) التبصرة ص: 137. (¬5) في (ق) أضر بمن خلفه. (¬6) في (ر) يضر خلفه. (¬7) ساقط من (ت). (¬8) ساقط من (ر).

المذهب قولان: مذهب الكتاب أنه يطيل، (¬1) وفي مختصر ابن عبد الحكم لا يطيله. وسبب الخلاف أن أكثر الأحاديث تقتضي عدم الطول في السجود، وفي بعضها أنه أطال. وقد ذكرنا الاختلاف في زيادة العدل هل يلزم العمل بها أم لا؟ ويفعل في الثانية كما فعله في الأولى، ولا يطيل الجلوس بين السجدتين بلا خلاف أعلمه. وهذا (¬2) الذي قلناه من أنه يفعل في الركعة الثانية ما فعله في الأولى إن بقي الكسوف لم ينجل. فإن انجلى بعد أن كمل الركعة [الأولى] (¬3)، فهل يتم الثانية على سنة صلاة الكسوف، أم على سنة صلاة النوافل؟ [في المذهب قولان: أحدهما: أنه يتمها على سنة صلاة الخسوف [وفاقا لما دخل] (¬4) عليه، والثاني: أنه يتمها على سنة صلاة النوافل] (¬5)،لزوال سبب تغيرها عن حكم النوافل. وهل يؤمر بهذه الصلاة كل مكلف لقوله-صلى الله عليه وسلم-"فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ" (¬6)، فعم. أولاً يؤمر بها إلا من تلزمه الجمعة, لأن المقصود بها الاجتماع هكذا ورد في الشريعة الجمع لها في المذهب قولان (¬7). ومتى يجوز فعلها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: ما لم تزل الشمس، قياساً على الاستسقاء والعيدين. والثاني: ما لم تصل العصر, كسائر النوافل. والثالث: ما لم تصفر الشمس. وقد قدمنا الخلاف في السنن هل تفعل بعد العصر أم لا؟ ... ¬

_ (¬1) المدونة: 1/ 163. (¬2) في (ق) وهو. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) لعلها كذلك وهي غير واضحة في سائر النسخ. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) أخرجه البخاري في الجمعة 1046,وأبو داود في الصلاة 1177. (¬7) كذا في سائر النسخ.

فصل (في صلاة الخسوف)

فصل (في صلاة الخسوف) وأما خسوف القمر فالمذهب على أن الصلاة له كسائر النوافل من غير تغيير. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة تغير على حسب صلاة كسوف الشمس. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم التغيير من طريق صحيح، لكن جمَعهما في اللفظ، وقال: "فافزعوا إلى الصلاة" كما تقدم. وبين الأصوليين خلاف في الجمع هل يقتضي التشريك في الحكم أم لا. واختلف هل يجمع لخسوف القمر أو ينهى عن الجمع؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يجمع لاستمرار العمل عليه. والشاذ أنه يجمع قياساً على صلاة كسوف الشمس. ... باب في صلاة الاستسقاء ولا خلاف بين الأمة في جواز الاستسقاء بالدعاء إذا احتيج إليه، بل هو مشروع مأمور به. ويؤمر به في كل الأحوال إذا احتيج إليه. وقد استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في خطبة الجمعة، واستصحى (¬1) في خطبة ثانية. وأما الاستسقاء بصلاة وخطبة فيختص به مذهبنا. ومذهب الشافعي أنه مشروع. وهو سنة على الجمله (¬2). ويكون عند الحاجة إلى الماء للمشقة (¬3)، أو يستسقى للثمار والزرع، ويطلب نزول الغيث [لملء العيون والأنهار] (¬4)، ويجوز تكراره إن احتيج إلى التكرار. ¬

_ (¬1) أي طلب الصحو وتوقف المطر. (¬2) قال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب وبه قال عوام أهل العلم إلا أبا حنيفة وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فوافقا سائر العلماء والسنة يستغنى بها عن كل قول. المغني:2/ 149. (¬3) في (ت) و (ق) لشقة. (¬4) ساقط من (ر).

(صفة الاستسقاء)

(صفة الاستسقاء) ونحن نذكر صفة الاستسقاء من مبتدئه إلى مختتمه [خلافاً ووفاقاً] (¬1)، وذلك أن الناس إذا افتقروا إلى الماء بما قدمناه فيستحب للإمام أو لمن إليه الأمر أن يأمرهم بالتوبة والنزوع (¬2) عن الآثام. وهل يقدم قبله صيام ثلاثة أيام؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يقدم. واستحبه ابن حبيب. ولا شك أن الصوم من أجلِّ القرب، وإنما كرهه في المشهور على عادته في كراهية التحديد في المواضع التي لم يثبت التحديد بها لئلا يظن أنها فرض أو سنة. فإذا فعل الناس ما أمروا به برز من إليه الصلاة بالناس إلى موضع يجتمعون فيه فيكون في غير المسجد، وهي السنة. ويبرز الناس والإمام على حالة التورع (¬3) والسكينة والتضرع، لا مظهرين للزينة، بل بعكسها. وهل يكبر الإمام في طريقه إلى الموضع الذي يصلي فيه؟ في المذهب قولان المشهور: أنه لا يكبر, لأن التكبير مشروع لإظهار شعار الإسلام، وذلك لائق بالعيدين لا بالاستسقاء. والشاذ أنه يكبر قياسًا على العيدين. ولا خلاف في خروج من يكلف بالصلاة من الرجال. وأما الأطفال والنساء والبهائم فهل يؤمر بإخراجهم؟ قولان: المشهور أنهم لا يخرجون، إذ من سنتها الصلاة [وخروج غير المتجالة (¬4) من النساء عورة] (¬5) والشاذ الأمر بخروجهم توسلاً إلى الله تعالى بمن لا ذنب له، وهذا في غير النساء. وأما النساء فلا يختلف في منع خروج من يخاف الفتنة بخروجها. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) التورع. (¬3) في (ق) الخضوع. (¬4) المتجالة هي: المرأة العجوز التي انقطع أرب الرجال منها. (¬5) ساقط من (ت).

(حكم استسقاء أهل الكتاب)

(حكم استسقاء أهل الكتاب) وهل يباح الاستسقاء لأهل الكتاب؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يباح، لافتقارهم إلى ما يفتقر إليه المسلمون، ولأن الله تعالى يدر (¬1) رزقه على المسلم والكافر. والثاني: أنه لا يباح خروجهم, لأنهم أعداء الله، ولا يتوسل إلى الله بهم. وإذا أجزنا خروجهم فهل ينفردون بيوم أو يخرجون مع الناس فيكونوا في ناحية؟ في المذهب قولان. وانفرادهم لما قدمناه من وجه خروجهم، ومنع انفرادهم لئلا يتفق [القدر بسقيهم فيفتتن ضعفاء المسلمين] (¬2). (حكم التنفل بموضع الاستسقاء) وإذا وصل الناس إلى موضع الاستسقاء فهل يتنفلون قبل الصلاة وبعدها؟ في المذهب قولان: المشهور جواز التنفل، إذ لا مانع منه لا بمحل ولا بوقت. والشاذ كراهيته قياسًا على العيدين. (صفه هذه العبادة) وهل يبتدئ الإمام بالصلاة قبل الخطبة أو بالعكس؟ في المذهب قولان: المشهور أنه يبتدئ بالصلاة توسلا إلى الله تعالى بها، وقد روي ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم- (¬3). والشاذ الابتداء بالخطبة، وقد روي ذلك عن الرسول عليه السلام أيضًا (¬4)، وقياساً على صلاة الجمعة. ومن صفة الخطبة؛ القيام والجلوس بين أثنائها كصفة الجمعة. وقد ¬

_ (¬1) في (ر) نزل. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ابن ماجه في الصلاة 1268، وأحمد في مسنده 2/ 326 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَاَلَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِنَا ركعْتَينِ بِلاَ أَذَانِ وَلا إقَامَةٍ ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللهَ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ رَافِعاً يَدَيْهِ ثُمَّ قَلَبَ رِدَاَءَهُ فَجَعَلَ الأيَمَنَ عَلَى الأيْسَرِ والأيْسّرَ عَلَى الأيْمَنِ. (¬4) أخرج البخاري الجمعة 1025 عَنْ عبد الله بن زيد قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -يَوْمَ خَرَجَ يَستْسقِى قَاَلَ: فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظّهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو ثُمَّ حَوَّل رِدَاءهُ ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيِهِمَا بِاْلِقَراءِة.

قدمنا الخلاف في الجلوس في ابتدائها. لكن يكثر في هذه الخطبة من الاستغفار والتضرع. والأصل في الاستغفار قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (¬1)، وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬2)، فجعل السقي جزءًا من الاستغفار. ولا يدعو في هذه الخطبة إلا بكشف ما نزل بهم، لا لأحد من المخلوقين. ويحول رداءه بعد أن يستقبل القبلة بوجهه. ومتى يفعل ذلك؟ في المذهب ثلاثة أقوال (¬3): أحدها: أنه بين الخطبتين لئلا يزيد خطبة ثالثة (¬4)، [والثاني: أنه في أثناء الخطبة الثانية لا بعد تمام الخطبة، والثالث] (¬5): أنه بعد إكمال الخطبتين لئلا يقطع خطبته بعمل ليس من جنسها. ومن يحول رداءه؟ لا خلاف أن الإمام يفعل ذلك، والمشهور أن من وراءه من الرجال يفعلون ذلك. وقال الليث بن سعد (¬6): يكتفي بذلك الإمام، لما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في تحويل ردائه (¬7). ولا يحول النساء أرديتهن، إذ فيه كشف (¬8) لهن. وهذا التحويل تفاؤلاً ¬

_ (¬1) نوح:10. (¬2) هود:52. (¬3) في (ر) قولان. (¬4) في (ت) ثانية. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي .. مولده .. سنة أربع وتسعين .. سمع عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة ونافعاً العمري وسعيد بن أبي سعيد المقبري وابن شهاب الزهري .. وخلقاً كثيرًا حتى إنه يروي عن تلامذته .. روى عنه خلق كثير. كان الليث رحمه الله فقيه مصر ومحدثها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره ويرجعون إلى رأيه ومشورته ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم فاستعفى من ذلك". سير أعلام النبلاء 8/ 136 - 143. (¬7) سبق تخريجه. (¬8) في (ق) و (ت) كشفة.

(ماالعمل إذا اجتمع الخسوف والاستسقاء والعيد والجمعة)

بالانتقال من الجدب إلى الخصب. وصفة التحويل؛ يخفض (¬1) الحاشية التي على رأسه أو على كتفه ويود ما يلي جسده من ردائه إلى جهة السماء، وبالعكس ما يلي السماء. فإذا فعل ذلك فقد أكمل الاستسقاء. (ماالعمل إذا اجتمع الخسوف والاستسقاء والعيد والجمعة) وإن افتقر إلى إعادته أعيد لما تقدم. وقد نزل (¬2) أبو محمد عبد الحق حكم اجتماع الخسوف والاستسقاء والعيد وصلاة الجمعة. وهذا الذي ذكره في الخسوف تأباه العادة عند من تعلق بحساب المنجمين، لأن خسوف الشمس لا يكون على استمرار العادة إلا في يوم تسعة وعشرين من الشهر، وهذا واضح عند أهل الحساب العارفين بهذا الشأن وهذا الذي قاله نزل مثله الشافعي، واعتذر عنه أبو حامد الغزالي بوجهين: أحدهما: أنه تكلم على ما يقتضيه الشرع والعقل غير ملتفت إلى ما يقتضيه حساب المنجمين. والثاني: أنه عرف العادة في ذلك، لأنه تكلم على ما يقتضيه الفقه لو كان يتأتى الوقوع (¬3). وذكر أبو محمد عبد الحق في حكم الاجتماع الابتداء بصلاة الخسوف (¬4) لئلا تتجلى الشمس، ثم بالعيدين، ثم بالجمعة، ويترك الاستسقاء إلى الغد. لأن حكم العيدين والجمعة إظهار الزينة والمباهاة، وحكم الاستسقاء بالعكس، ولا يجمع بينهم. (وقت الاستسقاء) واختلف هل يجوز الاستسقاء بعد الزوال وبعد الغروب؟ والمشهور (¬5) من المذهب أنه لا يجوز قياساً على العيدين، والشاذ جوازه في كل وقت ¬

_ (¬1) في (ر) ألا يخفض. (¬2) فىٍ (ق) ترك. (¬3) في (ر) به إلى الوقوع. (¬4) في (ق) الكسوف. (¬5) في (ق) فالمشهور.

باب في صلاة العيدين وما يتعلق بهما

[تجوز فيه الصلاة؛ لأنه صلاة] (¬1) ودعاء فيجوز في كل وقت على ما ذكرناه ... باب في صلاة العيدين وما يتعلق بهما (حكمها) وهي سنة عندنا لا فرض كفاية. وقد قيل: إنها المراد بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} (¬2)، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} (¬3). ولا يبعد أن يقال إنها فرض على الكفاية، لأنها إظهار لشعائر الإسلام وإقامة أبهته. وإذا قيل إن الأذان فرض لإظهار شعائر الإسلام، فكذلك تكون هذه, لأن المذهب كما قدمناه. وإذا ثبت ذلك فمن يؤمر بها؟ أما من تلزمه الجمعة فلا خلاف أنهم مأمورون بها. وأما من لا تلزمهم؛ ففي المذهب قولان: أحدهما: أنهم مأمورون بها لأنها نافلة اليوم، والثاني: أنهم غير مأمورين بها لأن معناها لا يحصل إلا بالجمع كالجمعة. وإذا قلنا بأنهم غير مأمورين بها فهل يستحب لهم فعلها أم يكره؟ في المذهب قولان: أحدهما: استحبابه, لأن أقل أمورها أن تكون كالنافلة. وإنما فيها زيادة تكبير. والثاني: أنه مكروه, لأنها صلاة معتبرة تحصل فائدتها مع الجماعة لا للفذ، فيكره فعلها كما تمنع صلاة الجمعة إلا مع الجماعة. والكراهية في هذه لأنها سنة، والمنع في ذلك لأنها فرض. (مكان إقامتها) وإذا توجه الأمر بها فهل تقام في المسجد أو في خارج البلد؟ أما ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) الكوثر: 2. (¬3) الأعلى: 14 و15.

(بعض أحكام سنة صلاة العيدين)

سائر أهل الآفاق فسنتهم أن يقيموها (¬1) خارج البلد إلا من ضرورة, لأنها أبهة [الإسلام ومحاسن الشريعة] (¬2). وأما أهل مكة فيقيمونها في المسجد لئلا يخرجوا عن الحرم. والحرم أفضل من خارجه. وسنتها أن تقام في موضع واحد من المصر، ولا تقام في موضعين ولا أكثر, لأن المطلوب بها المباهاة وإظهار شرف الإسلام وقوة شوكته كالجمعة. وإذا خرج الناس إليها فالمستحب لمن يدرك الصلاة بخروجه بعد طلوع الشمس ألا يخرج قبلها. والمستحب للإمام أن يخرج لها بقدر ما إذا بلغ موضعها حلَّت الصلاة. وإذا صليت خارج البلد فلا يتنفل قبلها ولا بعدها. وإن صليت في المسجد فثلاثة أقوال: أحدها: منع التنفل، قياساً على المصلى. والثاني: جوازه, لأنه محل النافلة. والثالث: جوازه بعد لا قبل، محاذرة من تطويل النافلة حتى يفوت وقت الصلاة المستحب. (بعض أحكام سنة صلاة العيدين) ومن خرج بعد طلوع الشمس أكثر في طريقه تكبيراً يسمع نفسه ومن يليه، ليقتدى به، فإن خرج قبل الطلوع فهل يكبر؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكبر إن خرج قبل صلاة الفجر, لأن المشروع التكبير في الطريق إليها. والثاني: أنه يكبر إذا أسفر بعد لا قبله، اقتداء بأهل المشعر الحرام. والثالث: أنه لا يكبر إلا بعد طلوع الشمس, لأنه الوارد عن السلف. ويخرج الإمام من طريق ويرجع في ثان، وهكذا يستحب لغيره من الناس. وقد كان الرسول-صلى الله عليه وسلم- يفعله (¬3)، وقيل في تأويل ذلك معان كثيرة: ¬

_ (¬1) غير واضح في (ر). (¬2) بياض في (ر)، وساقط من (ق). (¬3) أخرجه الترمذي في الجمعة 541، وأبو داود في الصلاة 1156 واللفظ له، وابن ماجه في إقامة الصلاة 1299 عَنِ ابن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم -أَخَذَ يَوْمَ الْعِيدِ في طَرِيقٍ ثُمَّ رَجَعَ في طَرِيقٍ آخَرَ.

منها أنه يقصد التهيب للكفار، ومنها أنه يقصد مساواة الطريقين فلا فضل سيره فيهما، ومنها أنه يقصد التصدق على أهل الموضعين، ومنها أنه كان -صلى الله عليه وسلم - يسأل في طريقه عن الشرائع فأراد حصول العلم إلى أهل الطريقين، إلى غير ذلك من التأويلات التي في معنى هذا. ويحتمل أن يقصد أحدها أو جميعها. والمستحب في هذه والاستسقاء والجمعة أن يمضي ماشياً، لأنه قاصد إلى الله تعالى. فإذا عاد، فله أن يركب. وإذا وصل وحلَّت الصلاه بدأ بها قبل الخطبة، وهي السنة. وإنما بدأ بالخطبة بنو أمية لمعان قصدوها لسنا لذكرها. وقد أنكرها أبو سعيد الخدري (¬1) على مروان (¬2) والقصة مشهورة (¬3). والمستحب أن يأتي الصلاة (¬4) إذا طلعت الشمس وابيضت، ولا ينبغي ¬

_ (¬1) هو: الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري الإمام المجاهد مفتي المدينة سعد بن مالك بن سنان .. استشهد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق وبيعة الرضوان، حدث عنه ابن عمر وجابر وأنس وجماعة من أقرانه .. وخلق كثير وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال عرضت يوم أحد على النبي-صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاث عشرة فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله إنه عبل العظام وجعل نبي الله يصعد في النظر ويصوبه ثم قال: رده فردني .. توفي بعد سنة سبعين" سير أعلام النبلاء 3/ 168 - 173. (¬2) هو: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أتخذه سيدنا عثمان كاتباً له، واتخذه معاوية والياً على المدينة، وعزله عبد الله بن الزبير ولما اعتزل معاوية بن يزيد الحكم دعا لنفسه، وأسس الدولة المروانية توفي سنة 56 هـ الأعلام 7/ 207. (¬3) أخرج البخاري في الجمعة 956 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخْدرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يَخْرُجُ يَومَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إلَى المُصَلَّى فَأَوَّلُ شَىْءٍ يَبدَأ بِهِ الصلاَة ثم يَصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلوسٌ عَلَى صُفوفِهمْ فَيَعِظُهُمْ وُيوصِيهم وَيَأمُرُهُمْ فَإنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثاً قَطَعَهُ أَوْ يَأمُرَ بِشَىْء أَمَرَ بهِ ثُمَّ يَنصَرِفُ، قالَ أَبو سعيد فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَروَانَ وَهُوَ أمِيرُ المَدِينَةِ في أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ فَلمَّا أَتَيْنَا المُصَلَّى أذَا مِنْبَرْ بَنَاهُ كَثِيرُ بن الصَّلتِ فَإذا مروَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتقِيَهُ قَبْلَ أن يُصَليَ فَجَبذْتُ بثَوبِهِ فَجَبَذَنِي فَارتَفَعَ فَخَطَبَ قبِلَ الصَّلاةِ فَقلت لَهُ غيرتُم وَاللهِ فَقالَ أبا سَعِيدٍ: قَدْ ذَهَبَ مَا تَعَلْمُ فَقلت: مَا أَعلَمُ وَاللهِ خَيْرٌ مِمَّا لاَ أَعلم، فَقَالَ: إِن الناسَ لَمْ يَكُونُوا يَجلِسُون لَنا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاة. (¬4) في (ق) يؤتي بالصلاة.

تأخيرها عن ذلك. ويقطع الناس التكبير بخروج الإمام. واختلف المتأخرون هل بخروجه في محل العبد ماضياً إلى الصلاة، أو بعد حلوله في محل صلاته؟ وقد قدمنا الخلاف في قطع النافلة يوم الجمعة، وهذا نحوه. وإذا استوى الإمام في محله الذي يصلي فيه افتتح الصلاة كما يفتتح سائر الصلوات, فيكبر (¬1) في الأولى سبعاً بتكبيرة الإحرام، والثانية ستاً بتكبيرة القيام، ويوالي بين التكبير بحسب ما يكبر المقتدون به، ثم يقرأ في الأولى بـ (سبح) ونحوها، وفي الثانية بـ (الشمس وضحاها)، بعد قراءة أم الكتاب (¬2) فيهما. وقد روي عن الرسول عليه السلام أنه كان يقرأ بذلك (¬3) وروي عنه أنه كان يقرأ في الأولى بعد أم القرآن بـ (ق)، وفي الثانية بـ (اقتربت الساعة) (¬4). ولا بأس [بذلك إن لم يخش] (¬5) التطويل. فإن لم يكبر حتى قرأ، فإن ذكر [قبل أن يركع] (¬6) أعاد التكبير. وهل يعيد القراءة؟ في المذهب قولان. وقد تقدما، وإذا أعاد التكبير، فهل يسجد أم لا؟ قولان. فإن لم يذكر حتى ركع ولم يرفع رأسه، جرى على الخلاف في عقد الركعة ما هو؟ وإن رفع رأسه تمادى، وجرى سجوده على الخلاف في ترك الأقوال قبل السلام، ويكبر المقتدون به. فإن أتى المسبوق (¬7) بعد أن أكمل التكبير، فهل التكبير في حال قراءة ¬

_ (¬1) في (ق) ثم يكبر. (¬2) في (ق) بعد فراغ أم القرآن. (¬3) لم أقف على أي حديث إلا ما أخرجه مسلم في الجمعة 878 وغيره أنه كان يقرأ بـ (سبح) و (هل أتاك) فعَنِ النُّعَمَانِ بْنِ بَشِير قَاَلَ كَاَنَ رَسْولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْعِيديْنِ وَفِي الجمُعة بسِّبحِ اسْمَ رَبِّكّ الأعْلَى وهَلْ أَتَاكَ حَديِثُ الغَاشِيةِ. (¬4) أخرج مسلم في صلاة العيدين 891 واللفظ له، والترمذي في الجمعة 534 عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بن عَبْدِ اللهِ أُن عمَر بنَ الخطاب سَألُ أبا واقِدِ اللَّيْثيِّ مَا كَاَنَ يَقْرأُ بِه رَسَولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الأضْحَى وَالفِطر فَقَال كان يقرأُ فِيهما بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ر) و (ق). (¬7) في (ت) آت.

الإمام؟ قولان: أحدهما: أنه يكبر في حال قراءة الإمام، إذ لا (¬1) مخالفة للإمام في ذلك، وإن لم يفعل فاته التكبير. والثاني: أنه لا يكبر بل يشتغل بالسماع، قياسًا على ما يفوته من أفعال الإمام وأقواله، فإنه لا يشتغل بتلافيها. وإن أدركه في التشهد كبر وجلس (¬2). فإذا قام بعد سلام الإمام، فهل يكبر ستًا لأنه كبّر للإحرام، أو سبعًا لأنّ المشروع في [غير] (¬3) صلاة العيد أن يقوم بتكبير؟ في المذهب قولان. فإذا أكمل الصلاة صعد الإمام على المنبر إن كان هناك منبر. والأولى في الاستسقاء أن يخطب على الأرض لقصد الذلة والخضوع. ولا بأس في العيدين باتخاذ المنابر كما فعله عثمان رضي الله عنه (¬4) , لأن المقصود فيها إقامة أبهة الإسلام. ويفتتح الخطبة بالتكبير. وهل هو محصور؟ لا خلاف أنه لا يلزم حصره، لكن في المستحب منه قولان: قيل لا عدد له، وقيل بل عدده سبع. ثم يكبر في أثناء خطبته. وهل يكبر الناس بتكبيره أم لا؟ قولان: أحدهما: أنهم يكبرون كما يفعلون في دبر الصلوات في أيام التشريق. والثاني: أنهم لا يكبرون، بل يشتغلون بالسماع كخطبة الجمعة. وتكون الخطبة بعد حمد الله والصلاة على نبيه مشتملة على تعليم أحكام العيد، وما يشرع فيه من واجب ومستحب. وإن خطب قبل الصلاة استحب له الإعادة. فإن لم يعد أجزأ وبئس ما صنع في تركه السنة. وإن زالت الشمس ولم يصل العيد فلا تقضى غدًا, لأن القضاء يفتقر إلى أمر ثان على الصحيح عند الأصوليين، ولم يرد. وأيضاً قياسًا على صلاة الجمعة إذا ذهب وقتها. ... ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) يكبر إذ لا كبير مخالفة، وفي (ر): يكبر إذ لا مخالفة. (¬2) في (ق) التشهد جلس. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) انظر فتح الباري 2/ 449.

فصل (مشروعية التكبير في أيام التشريق)

فصل (مشروعية التكبير في أيام التشريق) والتكبير مشروع في أيام التشريق، وهي أيام النحر. أما لأهل منى ففي سائر الأوقات. وأما لغيرهم فمشروع دبر الصلوات. وفي جوازه في سائر الأوقات قولان: المشهور: أنه غير مشروع، لاستمرار العمل في ذلك. والثاني: أنه مشروع، اقتداء بأهل منى. ولا خلاف عندنا أن أوله صلاة الظهر [يوم النحر] (¬1). واختلف في آخره؛ فقيل: صلاة الصبح من اليوم الرابع من يوم النحر. وقيل: صلاة الظهر. وهذا راجع إلى النقل، وقد استمر العمل في المدينة [بالأول] (¬2). وإذا نسي صلاة من أيام التشريق فذكرها، فهل يكبر بعدها أم لا؟ قولان: أحدهما: أنه يكبر على حسب ما كان (¬3) يؤديها. والثاني: أنه لا يكبر، إذ أوان التكبير فات. وصفة التكبير إن شاء أن يقول الله أكبر، ثلاثًا. وإن شاء أضاف إلى ذلك التهليل والتحميد، فكل ذلك لا يمنع (¬4)، ولم ترد سنة بتحديده. ولنحل الصلاة بعرفة على كتاب الحج. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) ما يكون. (¬4) في (ر) واسع فيه.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز قال الإمام الفقيه الجليل أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير مؤلفه رحمة الله عليه (¬1): وقد كانت الرتبة أن يبتدأ بما يفعل في حق الميت من حين احتضاره إلى حين إكمال مواراته، لكن نترك ذلك لمحاذاة مسائل الكتاب ما أمكن. (حكم توجيه الميت إلى القبلة وتلقينه الشهادة والقراءة عليه) وقد اختلف المذهب في توجيه الميت إلى القبله عند الاحتضار؛ فأستحب، وكره. ولا معنى لكراهية ذلك إلا خوف (¬2) التحديد خوفاً أن يظن أنه من الفروض أو من السنن. وإذا قلنا بالتوجيه فهل يوجه على ظهره أو على جنبه الأيمن؟ قولان كما قدمناه [فى صلاة المضطجع المريض. ويستحب تلقينه الشهادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -:لقنوا موتاكم شهادة ألا إله إلا الله" (¬3)، ولقوله: "مَن كَانَ آخِرُ كلاَمِهِ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ دَخَل الْجَنَّةَ" (¬4). وهل يستحب ¬

_ (¬1) في (ر) الجليل الحافظ مؤلفه، وفي (ق) الجليل أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير مؤلفه رضي الله عنه. (¬2) في (ق) لكراهيته إلا إنكار التحديد. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولفظ مسلم في الجنائز 916 عن أبي سَعِيدِ الْخدرِيَّ قال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلا اللهُ". (¬4) اخرجه أبو داود في الجنائز 3116 واللفظ له، وأحمد في مسنده 5/ 233.

(حكم الصلاة على الميت)

أن يقرأ عند (¬1) المحتضر شيئاً من القرآن كسورة (يس)، أو ما في معناها؟ قولان أيضًا: الجواز، والكراهة لما قدمناه من] (¬2) كراهية التحديد. وإنما بدأنا بهذا لما كان غير مذكور في الكتاب. ولنأخذ في أحكام الصلاة على الميت، وهي تنحصر في مقدمة وثلاثة فصول. (حكم الصلاة على الميت) أما المقدمة؛ فقد اختلف المذهب في الصلاة على الميت هل هي فرض كفاية أو سنة؟ وسبب الخلاف أمره -صلى الله عليه وسلم - بالصلاة وفعله (¬3). وقد اختلف الأصوليون هل يحملان على الوجوب أو على الندب. واحتج محمد بن عبد الحكم لوجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬4). وإذا حرمت الصلاة على غير المؤمنين وجب ضدها، وهو الصلاة على المؤمنين, لأن النهي عن الشيء أمر بضده. وتعقب هذا أبو الحسن اللخمي بأن النهي عن الشيء أمر بضده (¬5) إذا كان له ضد واحد، وإلا متى كانت له أضداد فلا يكون النهي أمر بالضد. قال: وترك الصلاة على غير المؤمنين لها أضداد. وعدَّ من أضدادها إباحة الصلاة على المؤمنين، والندب إلى ذلك، والوجوب. وإذا ثبت النهي في حق غير المؤمنين أمكن أن يكون محمولاً على أحد أضداده في حق المؤمنين. إما الندب أو الإباحة أو الوجوب (¬6). فهذه غلطة فاحشة لأن الضد في (¬7) ¬

_ (¬1) في (ق) على. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) أخرج البخاري في الجنائز 1320 واللفظ له، ومسلم في الجنائز 952 عن جابر بن عبدالله قال: قَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم-:"قد تُوُفيَ اليَوَم رَجل صَالح مِنَ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ" قَالَ فصففنا فَصَلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيهِ وَنَحْنُ مَعَه صُفُوفٌ. (¬4) التوبة: 84. (¬5) في (ق) و (ت): إنما يكون أمر بضده. (¬6) التبصرة ص: 145. (¬7) في (ق) و (ت) على.

فصل (من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه)

الحقيقة إنما هو الأمر، فإن كان النهي مقتضيًا للتحريمِ كان الأمر مقتضياً لضده، وضد التحريم الوجوب (¬1). وإن كان النهي مقتضياً للكراهة كان الأمر مقتضيًا للندب. ولو قال إن النهي [عن الصلاة] (¬2) على غير المؤمنين ضدها الأمر في حقهم لكان مصيباً. على أن الصحيح عند أبي المعالي رحمه الله ومن حقق تحقيقه، أن الأمر بالشيء لا يكون نهيًا عن ضده، ولا بالعكس. وتحقيق هذا محال على [فن الأصول] (¬3). واحتج من قال بإسقاط الوجوب يكون الصلاة على الجنازة جزءًا من أجزاء الصلاة، فلم يكن واجبًا قياسًا على سجود السهو والتلاوة. وهذا قياس شبه، وبين الأصوليين في قبوله خلاف. وإذا تقررت هذه المقدمة قلنا بعدها: النظر في الصلاة على الموتى ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها: من يصلى عليه، والثاني: صفة الصلاة، والثالث: من أحق بها. فصل (من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه) فأما من يصلى عليه؟ فإن الآدمي على الجملة تشرع الصلاة عليه، إلا أن يمنع منها مانع. والمانع قسمان: كمال، ونقص. (تفصيل في الصلاة على الشهداء) فأما الكمال فهو الشهادة في حرب الكفار. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل على شهداء أحد (¬4). وقيل في علة ذلك: إن الله تعالى أخبر أن ¬

_ (¬1) في (ق) وهو الوجوب. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) هكذا في (ق) وفي (ت) فنه في كتب أبنية الأصول، أما (ر) ففيها بياض. (¬4) أخرج البخاري في المغازي 4080 عن جابر أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُليْنِ من قَتْلَى أحُدِ في ثوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيهُمْ أكْثَرُ أَخذاً للِقُرآَنِ فإذا أشِيرَ لَهُ إِلَى أَحدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ" وَقَال: أنا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَومَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفنهم بِدِمَائِهم ولم يُصَلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا.

الشهيد حي يرزق. فترك الصلاة عليه تحقيق لكونه حيًا، إذ لا يصلى على الحي. هذا إذا كان المسلمون هم الفائزون. وأما إن غزا المشركون بلاد (¬1) المسلمين واستشهد بعض المسلمين، فهل يصلى عليهم؟ في المذهب قولان: المشهور (¬2) أنهم كالأولين لا يصلى عليهم لتساويهم في معنى الشهادة. والشاذ أنه يصلى عليهم. ووجهه أن هؤلاء يدافعون عن أنفسهم، فلم يلحقوا في الفضيلة بمن غزا الكفار مختاراً. فإن احتج على هذا القول بأن غزوة أحد كان المشركون هم الغازون لهم، فالجواب أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين لم يقيموا في أوطانهم، بل خرجوا منها إلى ملاقاة العدو. وقيل: إن قاتلوا فقتلوا حكم لهم (¬3) بالشهادة، وإن وجدهم الكفار نياماً فقتلوهم لم يحكم لهم بالشهادة. وهذا إذا مات القتيل في المعترك فلم تكن له حياة بعده، فإن حيي بعده حياة متيقنة ولم تنفذ مقاتله كان كحكم من يصلى عليه من غير الشهداء، وإن أنفذت مقاتله فلم يحي حياة متيقنة كان كالشهداء في المعترك، وإن أشكل أمره ففيه قولان: أحدهما: أنه يصلى عليه, لأن الأصل الأمر بالصلاة، إلا أن يثبت الموت من الشهادة، وهذا مشكوك في حكمه. والثاني: أنه لا يصلى عليه, لأن الظاهر موته من الطارئ عليه في المعترك حتى يثبت خلافه. وفي المذهب قول ثالث أنه لا تترك الصلاة عليه، إلا أن يموت في المعترك. وأما إن بقيت به حياة بعده فإنه يلحق بسائر الموتى. ويمكن أن يرى هذا أن الحديث إنما جاء فيمن مات في المعترك خاصة، أو يرى أنه لا يقطع بالموت من الشهادة إلا لمن مات في المعترك دون غيره. فيرجع إلى التقسيم الأول، وهذا إذا لم يكن جنبا. فإن كان جنباً فهل يغسل؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا ¬

_ (¬1) في (ر) في بلاد. (¬2) في (ر) أحدها. (¬3) في (ر) إن قاتلوا حكم بالشهادة.

(تحريم الصلاة على الكفار وتفصيل القول في أبنائهم)

يغسل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"زَمّلُوهُمْ فِي ثيَابِهِمْ" (¬1)، والثاني: أنه يغسل لإخباره - صلى الله عليه وسلم - عن حنظله بن أسيد (¬2) أن الملائكة غسلته، وكان يعرف بنوه ببني غسيل (¬3) الملائكة. وسئل عن علة غسله فقيل: إنه كان جنبًا (¬4). (تحريم الصلاة على الكفار وتفصيل القول في أبنائهم) وأما النقص المانع من الصلاة فهو على أربعة أقسام أحدها: ما يرجع إلى الاعتقاد. ولا يصلي على الكفار بالإجماع. وأما أولاد الكفار، فإن كان معهم أباؤهم ألحقوا بهم، [فإن لم يكن معهم الآباء حكم لولدهم الذين لم يعقلوا دينهم (¬5) بالإسلام] (¬6).وإن أسلم الأب حكم لولده الذي لم يعقل دينه بالإسلام. وأما إن أسلمت الأم فهل يحكم لهم بالإسلام؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يحكم لهم بذلك لأن الدين معناه التعصيب، ولا تعصيب للأم. والشاذ أنه يحكم لهم بالإسلام، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب, وقياساً على الحرية والرق. فإن لم يكن معهم آباؤهم وولدوا في ملك أهل الإسلام، فهل يحكم بإسلامهم؟ قولان: أحدهما: أنه يحكم بإسلامهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ مَوْلُودِ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ, وقد أخرجه أحمد في مسنده 5/ 431 بلفظ"زَمَّلُوهُمْ في ثِيَابِهِمْ" (¬2) هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك الأنصاري الأوسي المعروف بغسيل الملائكة وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية فلما بعث النبي عانده وحسده وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم فمات بها، وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه واستشهد بأحد، فقال النبي إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صحابته فقالت خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- لذلك تغسله الملائكة. الإصابة/ 137. (¬3) في (ق) يعرف قبره بغسيل. (¬4) أخرج البيهقي في سننه 4/ 15 عن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: إن صاحبكم تغسله الملائكة يعني حنظلة فاسألوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهائعة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لذلك غسلته الملائكة. (¬5) في (ر) دينه ولعل الصواب دينهم. (¬6) ساقط من (ق) و (ت).

يُولَدُ عَلَى الْفِطرَةِ فأَبوَاهُ يهَودانِهِ أَوْ يُنَصَّرَانِه" (¬1)، وقيل: لا يحكم بإسلامهم. والفطرة في الحديث معناها السلامة (¬2) من دين من الأديان [الرديئة] (¬3). ويكون معنى الحديث على هذا أن كل مولود فهو مهيأ لقبول كل دين. وعلى القول الأول المراد بالفطرة الملة الحنيفية. فإن ولد بين أبويه فاشتراه مسلم، فهل يحكم له بالإسلام بملك المسلم له؟ في المذهب قولان: المشهور: أنه لا يحكم له بذلك حتى تظهر منه علامة تدل على قبوله الإسلام، والشاذ رواية معن (¬4) بن عيسى (¬5) في بعض رواية المدونة: يحكم له بالإسلام. فالأول نظر إلى أنه [غير] (¬6) متدين بدين، فلم يحكم بإسلامه (¬7)، وهو غير مسلم قطعًا. والثاني: نظر إلى مالكه (¬8) , لأنه إذا لم يعقل دينه فمعلوم بالعادة تدينه بالإسلام. وهكذا يحكم في كبار المجوس من الأعاجم الذين يعلم بالعادة تدينهم بدين ملاكهم. وعكس هذا لو ارتد أحد من أولاد المسلمين قبل البلوغ، ففي الحكم له بما ارتد إليه قولان: أحدهما: أنه لا يحكم له بذلك, لأنه يجبر على الرجوع إلى الإسلام بمآله إليه، والثاني: أنه يحكم له بذلك نظرًا إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الجنائز 1385 واللفظ له، ومسلم في القدر 2658. (¬2) (ر) الإسلام. (¬3) ساقط من (ر) و (ق). (¬4) في (ر) معمر. (¬5) هو: معن بن عيسى القزاز .. أشجع أبو يحيي روي عن مالك وجماعة وروى عنه ابن المديني وابن معين والحميدي وسحنون وكان ربيب وهو الذي قرأ عليه الموطأ للرشيد وابنيه الأمين والمأمون وخلف مالكًا في الفقه بالمدينة وله سماع من مالك معروف وهو من كبار أصحاب مالك وكان أشد الناس ملازمة له .. خرّج عنه البخاري ومسلم. مات معن سنة ثمان وتسعين ومائة في شوال منها بالمدينة" الديباج المذهب ص:374 - 348 ترجمته في طبقات الفقهاء ج:1 ص: 154. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ق) فلا يحكم له بالإسلام. (¬8) في (ت) و (ر) مآله.

(الصلاة على العصاة ومن قتل حدا)

الحال. وقد يلتفت إلى هذا على خلاف الأصوليين في الصبي قبل البلوغ فهل يحكم له بالعقل أم لا؟ ولو أسلم بعض أولاد الكفار قبل بلوغهم وهم بين أبويهم، ففي قبول إسلامهم قولان، وهما عكس ما قدمناه. وكل من حكمنا بإسلامه أجريناه على حكم المسلمين في الصلاة عليه، وأكل ذبيحته [ووطء الأمة] (¬1) إلى غير ذلك من أحكام الإسلام. وأما الخوارج، فقد قدمنا خلاف المذهب في كفرهم أو فسقهم. فإن حكمنا لهم بالكفر لم يصل عليهم وجروا على حكم الكفار، وإن حكمنا بفسقهم أمرنا بالامتناع من الصلاة عليهم تأديباً لهم. فإن خيف أن يضيعوا صلي عليهم وفعل بهم ما يفعل بالمسلم. (الصلاة على العصاة ومن قتل حدّاً) والقسم الثاني ما يرجع من النقص إلى الجوارح وهي المعاصي، فينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على مظهري الكبائر ليرتدع بذلك أمثالهم. وأما من قتله الإمام في حدّ فإن كان حده دون القتل لكنه مات منه جازت الصلاة عليه، ولا يجتنب إلا أن يكون مظهراً للكبائر فيرجع إلى ما قدمناه. وإن كان حده القتل فهل يجوز للإمام المتولي حده الصلاة عليه؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يصلي عليه. وقال محمد بن عبد الحكم يصلي عليه. واحتج بأن الرسول عليه السلام صلى على ماعز والغامدية وقد قتلهما في حد الزنا (¬2). وعلل المشهور بأن الصلاة عليهم للإمام مناقضة للحكم بقتله [ويشفع فيه] (¬3). (حكم الصلاة على السقط) والقسم الثالث ما يرجع إلى عدم الحياة وهو السقط، فلا يصلى عليه ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) انظر مسلم في الحدود 1695. (¬3) ساقط من (ق) و (ت).

(حكم الصلاة على بعض أجزاء الميت)

إذا لم تعلم حياته بعد خروجه، فإن علمت صلي عليه. وهذا لأنه إذا لم تعلم حياته [لا يحكم له بالموت، ونحن إنما نصلي على الموتى. وبأي شيء تعلم حياته؟] (¬1) أما الصراخ فيحكم بحياة من وجد منه. وأما الحركة؛ فإن قلت فكانت كالاختلاج فلا يحكم بالحياة لمن وجدت منه، وإن كثرت فظاهر المذهب على قولين. وكذلك اختلف في العطاس والرضاع. وأصل هذا أن كل حالة يقطع بها أنها لا تكون إلا من حي، فلا يختلف فيها. وكذلك كل حالة قد تكون من غير الحي، فلا يحكم بحياة من وجدت منه. ومع الإشكال فالأصل عدم الحياة. والخلاف فيما قدمناه خلاف في حال؛ هل يوجد بعضه من غير حي، أو لا يوجد إلا من حي؟ (حكم الصلاة على بعض أجزاء الميت) القسم الرابع نقص الجسد بأن يوجد بعضه؟ فإن وجد جله صلي عليه بلا خلاف، إلا عند ابن حبيب أنه قال لو كان مقطعاً فإنه لا يصلي عليه. وعلَّل بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله. وإن كان أقله [أو بعضه] (¬2). ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه يصلى عليه وينوى بها الجميع. والثاني: لا يصلى عليه, لأنه قد يوجد الباقي فيؤدي إلى تكرار الصلاة عليه. وقد اعترض بعض الأشياخ ترك الصلاة على الشطر, لأنه يؤدي إلى ترك الصلاة جملة. وينخرط في هذا السلك الصلاة على الغريق ومن أكلته السباع ومن في معناه. وفي المذهب قولان: أحدهما: لا يصلى عليهم, لأن الصلاة إنما شرعت في حق الحاضرين الأبدان (¬3). والثاني: يصلى عليهم، لئلا يتركوا بلا صلاة. وإنما يصلى على الحاضر مع القدرة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (ت) أو نصفه مثلاً. (¬3) في (ق) بين الأيدي.

(حكم الصلاة على الغائب)

(حكم الصلاة على الغائب) وإذا فقد (¬1) جازت الصلاة وإن كان غائبا، كما فعله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته على النجاشي (¬2). وفي المذهب في الصلاة على الغائب قولان أيضًا. واعتذر القائلون بنفي الصلاة بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- زويت له الأرض حتى كان مشاهداً له وإن كان غائباً عن موضعه. ومن هذا المعنى [تكرار] (¬3) الصلاة على القبر (¬4). والمشهور من المذهب أنه لا يصلى عليه، إذ لو جاز ذلك لكررت (¬5) الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم- والشاذ أنه يصلى عليه قياسًا على صلاة النبي-صلى الله عليه وسلم-على قبر السوداء (¬6). هذا إذا صلي عليه قبل الدفن. فإن دفن بغير صلاة أو بصلاة ناقصة فهل يصلى عليه؟ قولان. وإذا قلنا لا يصلى عليه فهل يخرج؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يخرج إلا أن يخاف تغيره. والثاني: أنه لا يخرج. والثالث: أنه إن طال لم يخرج، وإن لم يطل أخرج. ويلحق بهذا حكم من دفن معه ما يعز ثمنه أو تمس الحاجة إليه. وقد اختلف فيه هذا الاختلاف؛ فإجازة الصلاة ابتداء مراعاة للخلاف، ولأنه أهون من إخراجه. ومنعها لئلا يتطرق بها إلى الصلاة على القبر. وأما ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) فقدت. (¬2) أخرج البخاري في الجنائز 1320 واللفظ له، ومسلم في الجنائز 952 عن جابر بن عبد الله قال: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم- قَدْ تُوُفِّيَ الْيوْمَ رَجُل صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ:" فَهَلُم فَصلُّوا علَيْةِ" قَالَ: فَصَفَفْنا فَصَلَّى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ. (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) في (ر) و (ت) القبور. (¬5) في (ر) تكررت. (¬6) أخرج البخاري في الصلاة 460، ومسلم في الجنائز 956، وابن ماجه في الجنائز 1527 واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَن امْرَأَة سَوْدَاَءَ كَاَنَتْ تَقُمُّ المسجدِ فَفَقَدَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْها بَعْد أيام فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ قَال:"فَهَلا آذنتموني فآتى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا".

فصل (صفة الصلاة على الميت)

الخلاف في إخراجه؛ فمن منع فللخوف أن يطلع من حاله على أمر يسوء من يخلفه فيغتمون (¬1) به. وقد حكي ذلك عن جماعة أنهم أُخرِجوا فوجدوا على حالات من أنواع العذاب. ومن لم يصحح هذا ورأى أن الغالب عدمه نظر إلى تغيره وعدم تغيره. وكأن القول بالنظر إلى الطول (¬2) يرجع إلى مراعاة التغيير. ... فصل (صفة الصلاة على الميت) وأما صفة الصلاة فتبتدئ بالتكبير. وهن عندنا أربع، لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم - من أنه صلى على النجاشي وكبر عليه أربعاً (¬3). فإذا زاد الإمام تكبيرة فهل ينتظر حتى يسلم أو يسلم المأموم؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه ينتظر، لأنه زاد ما اختلف الناس في ثبوت زيادته. والتكبير لا يبطل الصلاة على الجملة. والثاني: أنه لا ينتظر, لأن هذه التكبيرات صارت شعاراً لأهل الشيعة، فيجب أن تحمى الذرائع في موافقتهم. وإن سلم من ثلاثة؛ فإن لم يَطل كبر الرابعة وسلم، وإن طال أعاد الصلاة ما لم يدفن. فإن دفن جرى على الخلاف؛ هل يصلى عليه، أو يخرج، أو يترك. وأحرى هاهنا [بالاتفاق] (¬4) أن تترك الصلاة لقول من قال بالاكتفاء بالثلاث. وهل يرفع يديه في تكبيره في الصلاة على الجنازة؟ ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) في (ر) فينتقصون به. (¬2) في (ت) وكان القول بالطول، وفي (ق) وكان النظر إلى الطول. (¬3) أخرج البخاري في المناقب 3879، ومسلم في الجنائز 952 عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهما أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم-صَلَّى عَلَى أَصحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً. (¬4) ساقط من (ر).

أحدها: ترك الرفع في الجميع، وهو شاذ، ذكره ابن شعبان في مختصره. والرفع في الجميع. والرفع في الأول خاصة. هذان القولان في المدونة (¬1). وقد قدمنا الخلاف في رفع اليدين في تكبيرة الصلاة. وينخرط في هذا السلك إذا أتى المسبوق في جنازة فوجد الإمام يكبر دخل معه بلا خلاف. وإن وجده في الدعاء بين التكبيرتين؛ فهل يدخل حينئذ، أو ينتظر حتى يكبر؟ يجري على الخلاف في التكبيرة هل هو كالركعات فلا يدخل، أو كتكبير الصلاة فيدخل؟ وهذا فيه نظر, لأن المشروع دخوله مع الإمام وإن كان في أثناء الركعة. فلعل من قال لا يدخل هاهنا رأى أن الدعاء لا يستقل الاقتداء به (¬2) إلا بعد انعقاد التكبير مع الإمام، أو عقيبه. ولا خلاف أن المقصود الأول من صلاة الجنازة الدعاء. وهل يستحب أن يفتتح بتحميد ثم بالصلاة على الرسول عليه السلام؟ في المذهب قولان: أحدهما: استحبابه، لما ورد في بعض الطرق من إثباته، ولأنه أمر ذو بال. وفي الحديث أن كل أمر ذي بال لم يفتتح بحمد الله فهو أبتر (¬3). والثاني: الاقتصار على الدعاء خاصة, لأنه الثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهل يدعو بعد التكبيرة الرابعة أو يسلم عقبها من غير دعاء؟ في المذهب قولان. والدعاء قياسًا على سائر التكبيرات، ونفيه لأن التكبيرات جعلت في هذه الصلاة كالركعات [من غيرها] (¬4). فلو دعا بعد الرابعة لافتقر إلى تكبيرة يختم بها بعد الدعاء. ولا خلاف أنه لا يستحب دعاء معين. وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬

_ (¬1) المدونة:1/ 176. (¬2) في (ق) و (ت) فيه. (¬3) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين 8495، بلفظ "كُل كَلاَم أَوْ أمْرِ ذِي بَال لاَ يُفْتَحُ بِذِكرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبتَرُ أَوْ قَالَ: أقْطَعُ". وأخرجه بلفظ قريب منه النسائي في عمل اليوم والليلة 346. (¬4) ساقط من (ق) و (ت).

صلى على جنازة فدعا بدعاء مخصوص، فجمعه أهل العلم، واستوفاه أبو محمد بن أبي زيد في رسالته، ورتبة (¬1) فلا نطول بذكره. وهل يقرأ قبل الدعاء بأم القرآن؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا يقرأ, لأن المقصود الدعاء، ولأن هذا جزء من الصلاة المفروضة، فلا يقرأ فيها بأم القرآن قياسًا على سجود التلاوة. وقال أشهب: يقرأ فيها بأم القرآن، وهذا لعموم قوله-صلى الله عليه وسلم-: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" (¬2)، ولأن ابن عباس رضي الله عنه صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن فقال: "إنما فعلته لتعلموا أنها سنة" (¬3). وبين الأصوليين خلاف في الصحابي إذا قال: من السنَّة كذا، هل يضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكون سنته؟ أو يكون كقول الصحابي يختلف فيه هل يكون حجة أم لا؟ وقد قدمنا الخلاف في صفة السلام من الصلاة على الجنازة هل يجهر به أو يسر؟ [وإذا قلنا إنه يسر] (¬4)، فيعلم المقتدون كمال الصلاة بانصراف الإمام. ومن صفة الصلاة حكم وضع الجنائز. والفضل عندنا في القرب إلى الإمام. فإن كانت الجنائز من جنس واحد كالرجال أو النساء (¬5) فالإمام بالخيار بأن يجعل صفا واحدا ويلي الإمام أفضلهم، أو يقوم وسط الصف ويجعل قيامه عند أفضلهم، ويجعل الذي يلي الإمام من يليه في الأفضل، ¬

_ (¬1) في (ق) وأثبته. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد أخرجه مسلم في الصلاة 395 بلفظ "مَنْ صَلْى صَلاَة لَمْ يَقرَأ فِيهَا بِأمِّ القُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ" الحديث. (¬3) أخرجه البَيهقي في سننه 4/ 39، والشافعي في مسنده 359 عن سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت ابن عباس يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة ويقول: إنما فعلت لتعلموا أنها سنة. وأخرجه الحاكم بلفظ آخر في المستدرك 1/ 510 عن سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله ثم قال: "إنما جهرت لتعلموا أنها سنة" هذا حديث صحيح على شرط مسلم. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) والنساء.

فصل (من أحق بالصلاة على الميت؟)

ويرتبهم ويجعل الأفضل يليه ومن بعده قدامه إلى القبلة، هكذا ترتيب الفضل. فإن كانوا ذكوراً وإناثاً وأحراراً وعبيداً بالغين وغير بالغين، قدم الذكور الأحرار البالغين، ثم الصغار [الأحرار] (¬1)، ثم الأرقاء، ثم أحرار النساء، ثم الصغار من النساء الأحرار من بعده على الترتيب الأول. والأصل تقريب الأفضل إلى الإمام، والأفضل في هؤلاء على ما رتبناه. فإن كان فيهم خنثى مشكل جعل بين الذكور والإناث. وإن أفردت جنازة واحدة فإن كان ذكرًا قام عند وسط الجنازة، وإن كانت أنثى فقولان: قيل كالرجال، وفيه ستر لها ممن يليه. وقيل عند منكبيها، هذا حذار من تذكر ما يقدح في الصلاة. وقد تقدم الخلاف في الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر. ... فصل (من أحق بالصلاة على الميت؟) ولا خلاف عندنا أن وصي الميت أولى بالصلاة عليه إذا قصد الميت الترغيب في الصلاح والخير، فإن قصد مراغمة (¬2) الولي لم يلتفت إلى وصيته. والولي أولى في الأصل، وإنما تنفذ وصية الميت متى قصد ما ينتفع به من جهة الآخرة، فإن قصد غير ذلك رجع إلى الأصل. وإذا اجتمع الولي والوالي، فالوالي أولى إذا كان الذي تؤدى إليه الطاعة، فإن كان ممن دونه كالمولى على الصلاة والقاضي ومن في معناهم فثلاثة أقوال: أحدها: أن الولي أولى [وغيره من الولاة، من حيث إنه يعصبه، وقد يجتهد له بالدعاء أكثر من غيره] (¬3). والثاني: أن صاحب الصلاة [والقاضي أولى، من ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) عمة. (¬3) ساقط من (ر) و (ق).

جهة أنه جعله الحاكم لمثل هذه.] (¬1) والثالث: أن الولي أولى، إلا أن يكون صاحب الصلاة هو القاضي. وهو على الخلاف فيمن استحق أمراً من [باب] (¬2) الولاية فنقله إلى غيره؛ هل ملكه ذلك كملك المال يتصرف فيه بالنقل، أو لا يكون له التصرف فيه بالنقل لأنه إنما ملك لمعنى فيه، فإذا نقله إلى من ليس فيه ذلك المعنى بطل نقله؟ ومن تؤدى إليه الطاعة هو المالك للصلاة لحق الولاية. وقد نقلها هنا إلى من جعل إليه الصلاة. وأما التفرقة بين القاضي وغيره، فلأن القاضي مستحق النظر في الشريعه، فهو كالوالي الذي تؤدى إليه الطاعة. وعلى هذا الخلاف اختلف في الوالي إذا قدم غيره ممن له ولاية، لكن في الحضور (¬3) من هو أولى من المقدم؛ هل يكون الأقرب أولى أو المقدم؟ وعلى هذا الأسلوب الخلاف في التي تستحق الحضانة إذا سلمتها لغيرها، وثم من هو أقرب من المسلم إليه. وعليه الخلاف أيضًا في الوصي (¬4) هل يكون أولى بالنكاح من الولي لأوليائه (¬5)، أو يكون هو والولي سيان؟ في المذهب ثلاثة أقوال. وإذا اجتمع الأولياء فأولاهم أقعدهم (¬6) بالتعصيب. فالابن وابنه أولى من الأب، والأب أولى من الأخ، [والأخ أولى من ابن الأخ] (¬7) وابن الأخ أولى من الجد، والجد أولى من العم، والأقرب من كل هؤلاء أولى ممن بعده. فإن تساووا في القعدد فأولاهم أهل الفضل. ومعرفة الفضل مما قدمنا، لا في استحقاق الإمامة. هذا نص في المذهب. وولاية النكاح ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) حضور. (¬4) في (ر) الموضع. (¬5) في (ت): من الوالي أوليائه. وفي (ق) من الولي أو لا ولاية له. (¬6) أقعدهم: أي أقربهم. قال في لسان العرب 3/ 362: فلان أَقْعَد من فلان أَي أَقرب منه إِلى جده الأَكبر ... ورجل قُعْدُدٌ: قريب من الجَدِّ الأكبر. والقُعْدَد كذلكُ: أَملك القرابة في النسب. والقُعْدُدُ: القُرْبَى. والمِيراث القُعدُدُ: هو أقربُ القَرابَةِ إِلى الميت ... (¬7) ساقط من (ر)، وفي (ق) والأخ.

باب في أحكام الغسل

تستحق عندنا بالتعصيب. وقد اختلف في المذهب هل ابن الابن مقدم على الأب، أو بالعكس؟ وهل الجد مقدم على الأخ أو بالعكس؟ المشهور هناك تقدمة الابن والأخ. والشاذ تقدمة الأب والجد. ولا يبعد أن يجري الخلاف هاهنا على الخلاف في ولاية النكاح. وإذا اجتمعت جنائز ولها أولياء؛ فإن كانت الجنائز جنسا واحدا قدم الأفضل، فإن تساووا في الفضل فلهم الاقتراع. وكذلك إن كان للميت الواحد أولياء يتساوون في القعدد والفضل. فإن كان أحد الجنازتين ذكرا والآخر أنثى؛ فهل ينظر إلى الفضل في الأولياء ويقدم ولي الذكر وإن كان ولي الأنثى أفضل منه؟ في المذهب قولان. وتقدمة ولي الرجل نظرًا إلى الفضل من جهة الميت, لأنه بسببه يستحق الصلاة. وتقدمة الأفضل نظراً إلى جهة الأولياء ولهم الولاية، فينظر (¬1) إلى الأفضل منهم. وقد قدمنا الخلاف في نجاسة الميت وطهارته، وعليه ينبني القولان في الصلاة عليه في المسجد. ... باب في أحكام الغسل (حكم غسل الميت) والخلاف في وجوبه أو كونه سنة كالخلاف في الصلاة. وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وبين الأصوليين خلاف في أمره كما تقدم. والنظر فيه ¬

_ (¬1) في (ر) نظر. (¬2) ومنه حديث أُم عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيةِ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَت: دَخَلَ عَلَينا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنتُهُ فَقَالَ:"اغسِلنها ثَلَاثاً أو خَمساً أَو أكَثَرَ من ذلِكَ إن رَأَيتُن ذَلِكَ بمَاء وَسِدْرِ وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُوراً أَو شَيئاً من كَافُور فَإِذَا فَرَغتنَّ فآذِنَّني" فَلَمَّا فَرَغنا آذناهُ فَأَعْطَانا حِقْوَهُ فَقَالَ: "أَشعِرْنَها إِيَّاهُ -تَعْني إِزَارَةُ-". أخرجه البخاري في الجنائز 1253 واللفظ له، ومسلم في الجنائز 939.

(موانع تغسيل الميت)

أيضًا ينحصر في ثلاثة فصول: أحدها: من يغسل، والثاني: صفة الغسل، والثالث: من يستحقه. فأما من يغسَّل؛ فإن كان ممن يصلى عليه يستحق الغسل على الجملة، ومن لا يصلى عليه فإنه لا يغسل، سواء كان المانع للصلاة نقص أو كمال. (موانع تغسيل الميت) وقد تعرض معان تمنع من الغسل فينتقل إلى بدله إن أمكن. ومن المعاني أن يكون الجسد مقطوعًا. وقد قدمنا الخلاف، هل يمنع ذلك من الصلاة كما يمنع من الغسل، أو (¬1) يكون ذا علة تمنع من الغسل. ومنها أن يكون الميت ذكرًا وهو مع نساء من ذوات محارمه [أو غيرهن؛ فإن كن من ذوات محارمه] (¬2) فهل يغسلنه أو يقتصرن على التيمم؟ قولان. [وهما] (¬3) على الالتفات إلى تقابل مكروهين؛ إما ترك الغسل، وإما الاطلاع على ما لا يحل النظر إليه. فإن قلنا بالغسل غسلنه من فوق الثوب، وقيل من تحته، وتستر عورته [وإن كن (¬4) غير ذوي محارمه يممنه، مخافة أن يطلعن علي ما لا يحل النظر لهن إليه. هذا إن كان بالغاً. وأما الصغير الذي لا حظ للنساء في مثله فيغسلنه. وما حده؟ قيل: إذا كان ممن لا يمكنه الوطء. وقيل: إذا كان ممن لا يؤمر بستر عورته] (¬5). وكأن هذين يرجعان إلى معنى واحد، وهو النظر إلى عدم الشهوة من النساء في رؤية جسده. ومنها أن تكون المرأة مع رجال ليس معهم نساء من ذي محارمها ولا ¬

_ (¬1) في (ت) أو لا يمنع من الصلاة ومنها أن. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) و (ر) كان. (¬5) ساقط من (ت).

فصل (صفة الغسل)

من غيرهن؛ فإن كانت مع ذوي محارمها [من الرجال] (¬1) فهل يغسلونها أو ييممونها؟ ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الغسل، والثاني: الانتقال إلى التيمم، والثالث: التفرقة بين أن تكون الحرمة من النسب فيغسلونها، أو من الصهر فلا يغسلونها. والقولان على ما قدمنا أولاً. وأما التفرقة فلأن النفس مجبولة على احترام ذوي الأنساب، والصهر مشبه بهم. وإنما شبهته الشريعة لضرورة الاختلاط، فهو في هذا كالأجنبي. وأما إن كانوا غير ذي محارمها ييممونها إلى الكوعين (¬2) في اليدين، لأن ما عدا ذلك عورة. وأما النساء فيممن الرجل [الأجنبي] (¬3) إلى المرافق، إذ ليس بعورة ولا موضع يشتهى منه. فإن كانت صغيرة جدًا فهل تكون كالكبيرة؟ في المذهب قولان: أحدهما: إنها كالطفل الصغير في حق النساء يغسلها الرجال، والثاني: أنها تيمم كالكبيرة. وهذا خلاف في شهادة؛ هل تتحرك دعاوى الشهوة [إلى من كان في هذا الحد؟] (¬4). ولا يختلف فيمن كانت (¬5) في المهد مثلاً، إذ دواعي الشهوة لا تتحرك إليها. وكذلك لو كانت فوق هذا المقدار باليسير. ولا يختلف فيمن كانت تطيق الوطء أنها كالكبيرة. ... فصل (صفة الغسل) وأما صفة الغسل؛ فإنها صب الماء والتدلك على حكم غسل الجنابة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ر). (¬2) في (ت) الكعبين. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) إلى مثل هذا. (¬5) في جميع النسخ: كان.

وهل يجرد [للغسل أو تستر العورة؟ وأما النساء مع النساء والرجال مع الرجال ففي الاقتصار على ستر العورة، أو التجريد قولان. وأما العكس] (¬1) إذا قلنا بالغسل كما تقدم، فلا يجرد. ويغسل الرجل في الثوب، وكذلك المرأة. ويجافي الثوب عن أجسادهما، ويصب الماء لئلا يلتصق بأجسادهما. وهذا فيما (¬2) قدمناه. ولو كانت الزوجة تولت غسل زوجها، أو بالعكس لكشفت عن جسده. وهل تستر عورته؟ في المذهب قولان: أحدهما: الأمر بالستر, لأن النظر إنما كان مباحًا أولاً، تبعًا (¬3) للوطء. والثاني: لا تؤمر به لأنه أبلغ في الإنقاء. ولو حرم النظر لما جاز لواحد منهما غسل الآخر. وأما غسل الرجال لأمثالهم والنساء لأمثالهن، فذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أن التجريد من الثياب مشروع في حق الرجال. وقد روي مثله عن الرسول عليه السلام؛ وما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل في ثوبه فذلك من خصائصه. ولأنه أبلغ في الإنقاء، وبه تحصل حقيقة الغسل. وتستر عورة المغسول. وقد قدمنا الخلاف في العورة ما هي؟ ويجرد ما عدا ذلك. وهل تجعل خرقة على صدره؟ وقع في قول استحبابها، وهذا لئلا يطلع منه على ما يسوءه النظر إليه لو كان حيا. واستحسنه بعض المتأخرين فيمن طال مرضه وانتهكته العلة. ويفضي الغاسل بيده إلى عورته إن افتقر إلى ذلك، وإلا فيُمِرُّ على الموضع خرقة. وقال ابن حبيب: لا يباشر عورته وإن احتاج إلى ذلك (¬4). وهذا لتقابل مكروهين. ولا ينبغي أن يكثر حاضروا الغسل [لحرمة المغسول] (¬5). وهل يستحب أن يتوضأ قبل الغسل؟ في المذهب قولان: المشهور ¬

_ (¬1) في (ت) للغسل وتستر العورة وأما النساء مع الرجال ففي الاقتصار على ستر العورة والتجريد قولان وأما بالعكس. (¬2) في (ر) في من. (¬3) في (ق) أولا لابتغاء الوطء. (¬4) النوادر والزيادات: 1/ 543. (¬5) ساقط من (ر).

استحبابه، قياساً على غسل الجنابة. والشاذ نفي استحبابه؛ لأن المقصود منه النظافة لسائر الجسد. وإذا قلنا باستحبابه فهل يكرر بتكرار الغسلات؟ (¬1) قولان: أحدهما: أنه يكرر لأن الوضوء مستحب في ابتداء الغسل، والتكرار مستحب، فيكرر الوضوء بتكرار الغسل. والثاني: أنه لا يستحب, لأن المطلوب افتتاح الغسل به، وذلك يحصل بكونه في الأول. قال بعض المتأخرين: وإذا قلنا إنه لا يكرر بتكرار الغسل (¬2) فيستحب تكراره في الأول ثلاثا، وإذا قلنا بتكراره فإنه لا يكرر أولا، بل يتوضأ مرة واحدة في ابتداء كل غسلة. ولا تقلم أظفار الميت، ولا يزال شيء من شعره، إذ فيه تغيير لخلقته، ولا حاجة إليه بعد الموت، [إلا أن يفعل هذا] (¬3) قبل موته لحاجته إليه، ليس للموت على هذا. واختلف المذهب في الغسل هل المقصود منه النظافة المحضة أو العبادة كغسل الجنابة؟ وعلى هذا اختلف هل يغسل أولاً [بالماء القَراح (¬4) ثم فيما بعد يزاد إلى الماء السدر والكافور، أم يجعل ذلك من الأول؟ وهل يغسل، (¬5) بماء الورد أو الريحان، أم لا؟ واختلف في كراهية غسله بماء زمزم. وسبب الخلاف ما قدمناه من الحكم بنجاسته؛ فإن حكمنا بها كرهنا غسله لكراهية استعمال الماء في النجاسة. وأهل مكة يحكون أن من استنجى به حدث به البأس. وإن حكمنا بطهارته أجزنا غسله به. وعلى هذا القولان في نجاسة الثوب الذي يجف (¬6) فيه ¬

_ (¬1) في (ر) فهل تكرر تلك المواضع مع المغسولات. (¬2) في (ت) وإذا قلنا إنه لا يجب تكرار مع الغسل. (¬3) في (ر) ولا بأس بفعله. (¬4) الماء القَرَاحُ- بالفتح- الذي لا يشوبه شيء. انظر مختار الصحاح ص: 220. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) كذا في (ر) وفي (ق) يشف، وخرم في (ت)، وبتر في (م).

فصل (من الأحق بتغسيل الميت)

ولا خلاف أن الغسلة الواحدة تجزي، لكن يستحب التَّكَرار لقوله- صلى الله عليه وسلم - في ابنته "اغْسِلْنَهِا ثَلاَثاً أَو خَمْساً أَوْ أَكثرَ مِنْ ذَلِكَ إِن رَأَيتُنَّ" الحديث (¬1)، وكره مجاوزة السبع (¬2) والاقتصار على الواحدة. والأوتار مستحب (¬3). قال ابن حبيب: يغسل أولاً بالماء القَراح، ثم يخلط في الثاني السدر إن وجد، فإن لم يوجد فالغاسول، وفي الثلاثة الكافور. وهذا على رواية في الابتداء بالماء القراح (¬4). وإن كرر غسل الميت فلم يحصل الإنقاء بالتكرار لأوساخه أو ما يخرج منه، أعيد التكرار حتى يحصل الإنقاء. ... فصل (من الأحق بتغسيل الميت) والمقدم في غسل الميت الزوج والزوجة (¬5). وهل يقضى لهما بذلك؟ ثلاثة أقوال: القضاء مطلقاً, لأنه حق لازم فيقضى به [له] (¬6). ونفي القضاء، ولعل هذا لعدم فائدته الدنيوية. والقضاء به للزوج دون الزوجة، ولعل هذا لما روي من بقاء الزوجية بينهما. قال هذا سحنون، وعلل بأن الزوج يحفظ زوجته حية وميتة، بخلاف الزوجة في حق الزوج. وهذا إذا كانا حرين، فإن كانا عبدين أو أحدهما فإن لم يأذن السيد له بالغسل لم يقض به, لأن منافع المملوك لا يتصرف فيها إلا بإذن السيد. فإن أذن، فعلى القول بنفي القضاء في حق الحرين لا شك في نفيه هاهنا، وعلى القول بثبوته هناك [فيكون هاهنا] (¬7) قولان: أحدهما: إثباته قياساً على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الجنائز 1257، ومسلم في الجنائز 939. (¬2) في (ر) الشفع. (¬3) في (ق) والاثنان عندنا مستحب. (¬4) النوادر والزيادات1/ 544. (¬5) في (ر) ويقدم الزوج والزوجة. (¬6) ساقط من (ق) و (ت). (¬7) ساقط من (ق).

الحرمين، والثاني: نفيه لعدم ثبوته في الأصل. وهذا إذا كان النكاح صحيحاً ولم تقع فرقة، وإن كان فاسداً وهو مما يجب فسخه من غير تخيير أحد الزوجين فلا يغسل أحدهما الآخر إلا أن يثبت قبل الموت ما يرفع فسخه. وإن كان الخيار لأحدهما؛ فالمنصوص وجوب الغسل. وخرجه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في فوات الخيار بالموت. فإن قلنا باستقرار النكاح وفوات الاختيار بالموت غسل كل واحد منهما الآخر، فإن قلنا ببقاء الخيار وصحت الزوجية نظر إلى ما يختاره الباقي منهما إن كان الخيار له، وإن كان الخيار للميت فلا يغسله الباقي منهما. وإن وقع الفسخ أو الطلاق البائن قبل الموت انتفى الغسل، وإن كان الطلاق رجعياً فقولان: أحدهما: وجوب الغسل لبقاء حكم الزوجية. والثاني: نفيه لوقوع التحريم بالواحدة ما لم تقع الرجعة. وعندنا قولان في [الخلوة] (¬1) بالمطلقة طلاقاً رجعياً هل يجوز أم لا؟ وهذا ينخرط في سلكه. وإذا لم يكن الزوج أو الزوجة موجودين أو امتنعا من الغسل فالغسل إلى الأولياء إن أحبوه، وهو على الترتيب في الولاية. لكن المشروع أن يغسل الرجال أمثالهم والنساء أمثالهن، فتكون الابنة وابنة الابن في حق المرأة كالابن في حق الرجل. ويجري ذلك على ترتيب الأولياء كما قلنا في الصلاة. وإذا كان الرجل مع النساء أو بالعكس [كما قدمناه] (¬2)، ومعهم ذمي من جنس الميت؛ فهل يباح للذمي الغسل ويفعل بالميت ما قدمناه؟ في المذهب قولان. وهما على الخلاف؛ هل المقصود العبادة فلا يغسله الذمي، أو النظافة فيغسله. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ر).

باب في أحكام الكفن والحنوط وما يتعلق به

باب في أحكام الكفن والحنوط وما يتعلق به ولا خلاف في وجوب ستر الميت. ولا يختص الوجوب بعورته كما يختص بالحي. وهذا معلوم من دين الأمة [ضرورة] (¬1)، فقد نقل قولاً وفعلا. (اختصاص الشهيد بالدفن في ثيابه) ويختص الشهيد بمواراته في الثياب التي مات فيها من غير زيادة عليها ولا نقص منها، وهذا إذا كانت ساترة له جميع جسده، جارية على اللباس المعتاد. وإن قصرت عن ستر الجسد زيد فيها ما يستره، وهذا لما ثبت من أن مصعب (¬2) بن عمير استشهد يوم أحد وليس له إلا بردة (¬3) إن غطي بها رأسه بدت رجلاه (¬4)، فأمر رسول-صلى الله عليه وسلم- أن يغطى رأسه ويجعل على ماعدا ذلك الإذخر (¬5).واختلف هل يزال عنه الدرع والخفاف والقلنسوة والمنطقة (¬6)، في المذهب قولان: أحدهما: إزالتها، والثاني: تركها. وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم -"زملوهم بثيابهم (¬7) " فلهذا لم يختلف في اللباس المعتاد. والدرع؛ وإن سمي ثوبا لغة فلا يسمى عرفا. وبين الأصوليين خلاف في تخصيص الألفاظ (¬8) وتنزيلها على العرف. ومن يقول لا ينتزع عنه شيء يفهم من اللفظ دفنهم على هيئتهم من غير نقص لزيهم، حتى يجيء يوم الحشر على الحالة التي استشهد عليها، وهذا مفهوم من الحديث قطعا. ومن عول على اللفظ قال لا يدفن إلا في الثياب خاصة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) سعيد. (¬3) في (ق) نمرة. (¬4) في (ر) عورته. (¬5) الإذخرُ بكسر الهمزة حشيشة طيبة الرائحةِ تُسَقَفُ بها البُيُوت فوق الخشبِ. انظر النهاية في غريب الحديث 1/ 33. (¬6) المنطقة: الحزام. (¬7) انظر المسند 5/ 431. (¬8) في (ق) الأفعال.

(ما يفعل بمن مات محرما في الحج)

وأما الخاتم فخرجه أبو الحسن اللخمي (¬1) على الخلاف فيما قدمناه. والمنصوص أنه إن كان ذا فص ثمين نزع ولا يترك. وقد يكون هذا بناء على أحد القولين في نزع ما عدا المعتاد. لكنه إذا كان ذا فص ثمين نزع، ولا يختلف فيه للحاجة إلى ثمنه. وهذا الحكم يختص بالشهيد في قتال العدو، ويجري حكمه على ما قدمناه في غسله والصلاة عليه، فينظر إلى موضع موته وحالة موته كما تقدم من الخلاف والاتفاق. (ما يفعل بمن مات محرمًا في الحج) ولا يجري هذا الحكم (¬2) عندنا في المحرم بالحج، وإن كان ورد فيه حديث يقتضي اختصاصه به، وقال-صلى الله عليه وسلم- في الذي وقصته ناقته فاندق عنقه: إنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (¬3) وأمر بدفنه على حاله. فإن أصحابنا قالوا هذه من العلل المعينة، فيقتصر بها على ما وردت، ولا يتعدى بها (¬4). وأُلزِمُوا هذا المعنى في الشهيد، فإن النبي-صلى الله عليه وسلم- علل أيضًا بعلة معينة، فكان ينبغي أن يختص بقتلى أحد، وقال:"أنا شهيد (¬5) على هؤلاء" (¬6). وجاوب أصحابنا ¬

_ (¬1) في (ر) رحمه الله. (¬2) في (ق) الخلاف. (¬3) خرج البخاري في الجنائز 1265 واللفظ له، ومسلم في الحج 1206 عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُما قَالَ: بَينَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتهُ قَالَ النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-"اغْسِلُوهُ بمَاء وَسِدْرِ وَكَفُنُوهُ. في ثوبين وَلاَ تُحَنطُوهُ وَلاَ تُخَمرُوا رَأسَهُ فإنهُ يُبعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلبِّياً". (¬4) قال الشوكان في هذه المسألة: وخالف في ذلك المالكية والحنفية وقالوا إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها فتختص به وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة هي كونه في النسك وهي عامة في كل محرم. والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت لغيره حتى يثبت التخصيص. وما أحسن ما اعتذر به الداودي عن مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث. نيل الأوطار: 4/ 76. (¬5) في (ق) و (ت) الشهيد. (¬6) أخرج البخاري في الجنائز 1343 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنهُما قَالَ: كَانَ النبيُّ-صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ الرَجُلَينِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبِ وَاحِدٍ ثُمّ يَقُولُ:"أَيهُمْ أَكَثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ فإذا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدهماِ قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ" وَقَالَ: أنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَومَ الْقِيَامَةِ وَأَمرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.

فصل (في كفن غير الشهيد)

عن ذلك بأن الأصل كان قصر الحكم عليهم لولا اتصال عمل أهل المدينة وغيرهم، فأجري هذا الحكم في كل شهيد قتله العدو. ... فصل (في كفن غير الشهيد) وغير الشهيد يفتقر إلى كفن مخصوص، والنظر فيه من أين يكون ثمنه أو عينه. وفي جنسه، وعدده وصفته. (من أين يكون ثمن الكفن أو عينه؟) فأما ثمنه أو عينه (¬1) ففي (¬2) حق الواحد من رأس ماله. هذا في المقدار الواجب، وأما الزائد على الواجب فلا يقضى به مع مشاحة الورثة أو الغرماء، إلا أن يوصي الميت مع فقد الدين المستغرق للتركة؛ فإن [فقد الدين المستغرق للتركة] (¬3) وأوصى، كان الزائد على الواجب في ثلثه إلا أن يكون سرفاً، ففي إنفاذه من الثلث قولان: أحدهما: أنه ينفذ، لملكه الثلث. والثاني: أنه لا ينفذ، للنهي عن السرف. فإن كفن ثم سرق كفنه بعد دفنه، فهل يعاد من رأس ماله كفن ثان مع التشاح؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعاد. والثاني: أنه لا يعاد. والثالث: أنه يعاد إن لم يقسموا التركة، ولا يعاد إن قسموا التركة. فالأول نظر إلى وجوب الستر بالكفن، ولا تحصل الفائدة به إلا بعد وصوله إلى محله [وبقاء ستره] (¬4). والثاني: نظر إلى أن الواجب قد أخرج أولاً، وهي جائحة طرأت على الميت بعد أن استحق ما عدا الكفن (¬5). والثالث: ¬

_ (¬1) في (ق) وعينة. (¬2) في (ق) فهي في حق. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) غير واضح في (ت) و (ر). (¬5) كذا في (ق) و (ت) و (ر)، وبتر في (م).

(على من يكون كفن الزوجة؟)

نظر إلى أن حقيقة الاستحقاق إنما تحصل بالقسمة، فإن وجدت فلا ينزع الملك من أربابه. وإذا أعيد ثم وجد بعد الدفن فهو موروث. وإن لم يعد فلا شك أنه يكفن به. (على من يكون كفن الزوجة؟) وهذا الذي قدمناه في حق جميع الموتى غير الزوجة، فإنه اختلف من أين تكفن (¬1) على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من مال الزوج، والثاني: أنه من مالها، والثالث: كالأول إن كانت فقيرة، وكالثاني إن كانت مليئة. وسبب الخلاف عده من اللباس المفتقر إليه، فيجب كوجوبه في الحياة. أو النظر إلى انقطاع العصمة بالموت وانقطاع توابعها، فلا يجب. ورجح في القول الثالث الوجوب بالفقر. ولعل الأصوب (¬2) في التعليل الالتفات إلى ما دخل عليه من أول العقد. وقد علل بأن النفقة إنما وجبت معاوضة عن الاستمتاع، وكذلك الكسوة، وقد انقطعت بانقطاع الاستمتاع. وهذا يروق لولا وجود القولين فيمن وجبت نفقته من القرابة كالأب والابن ومن في معناهما هل يجب تكفينهم أم لا؟ وهذا نظر إلى حكم الكفن هل هو من بقايا الحياة فيكون كالكسوة الواجبة للحي، أو ينقطع حكم الحياة لانقطاعها (¬3) فيسقط الكفن. (على من يكون كفن الفقير؟) فإن كان الميت لا مال له لم يجب كفنه على غيره كما قدمناه، ووجب أن يكون (¬4) من بيت المال إن كان، أو على سائر المسلمين إن لم يكن. ويكون هذا من فروض الكفاية. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) يكون. (¬2) في (ق) الأصل. (¬3) في (ق) بانقطاعها. (¬4) في (ق) ووجوب كفنه.

فصل (في جنس الكفن)

ولو كانت له ثياب يكفن فيها لكنها مرهونة؛ فمن هي بيده أولى بها لتعلق دينه بعينها. وإن كانت غير مرهونة وعليه من الدين ما يستغرقها، فالكفن أولى بها. كما لا تباع كسوته [للغرماء] (¬1). ... فصل (في جنس الكفن) وأما جنس الكفن، فكل ملبوس جائز لباسه في حالة الحياة. وهل يجوز الكفن في الحرير؟ ثلاثة أقوال: الجواز للرجال والنساء، والمنع لهم، والجواز للنساء خاصة (¬2). فالأول: نظر إلى انقطاع التكليف بالموت. والثاني: نظر إلى أنه زينة، وهو ممنوع في [حق] (¬3) الرجال وجائز في [حق] (¬4) النساء للزينة، وقد انقطعت. والثالث: حكم الكفن كحكم لباس الحياة, لأنه من توابعها. ... فصل (عدد الكفن) وأما عدده فله أقل وأكثر؛ فأقله ثوب ساتر لسائر الجسد، وأكثره سبعة أثواب، والزيادة سرف. لكن لا (¬5) يظهر من المذهب أنه ممنوع بل مكروه. ولا يقتصر على الأقل إلا مع الفقر، أو مع (¬6) وصية الميت بالاقتصار. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ق) والمنع للرجال خاصة. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) لكن يظهر. (¬6) في (ق) منع.

فصل (صفة الكفن)

ووقع لسحنون أنه إذا أوصى بثوب فزاد بعض الورثة ثيابا فلا ضمان عليه إن كان في المال محمل. وهذا يشعر بأن الاقتصار [على ثوب واحد] (¬1) منهي عنه. فإن أوصى به؛ فإن لم ينعت (¬2) وصيته، وكان له أكثر من ثوب، لم يقتصر عليه وإن استغرق الدين ماله. قال (¬3) في شرح ابن مزين: ويكفن مع الوجود في ثلاثة أثواب وإن نازع الغرماء. وقاس ذلك على كسوته التي لا تباع (¬4). وينبغي أن يختلف في ذلك حال الناس كما يختلف حالهم في حال (¬5) الحياة. وإذا لم ينقص من الثلاثة [للغرماء] (¬6) فأحرى ألا ينقص لحق الورثة. وكذلك قال في الرواية: إن طلب الغرماء تكفينه في خشن الثياب لم يمكنوا من ذلك. وهذا ينبغي أن يختلف في [حق الموتى] (¬7) كما أشرنا إليه في العدد. ... فصل (صفة الكفن) فأما [صفة] (¬8) الكفن؛ فأفضله البياض من الكتان والقطن، وبذلك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحياة والموت، وذكر أن البياض [من الكتان والقطن] (¬9) أحب اللباس إلى الله سبحانه. وإن كفن في غير البياض فجائز، إلا المعصفر (¬10) ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) يغير. (¬3) في (ت) قاله. (¬4) في (ق) لا تباع للغرماء. (¬5) في (ق) حكم. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ت) حكم الكفن، وفي (ر) حق الورثة. (¬8) ساقط من (ت). (¬9) ساقط من (ر). (¬10) عصفر: العُصْفُر نبات سُلافَتُه الجرْيالُ، وهي معربة. قال ابن سيده: العُصْفُر هذا الذي يصبغ به، منه رِيفِيٌّ، ومنه بَرِّيٌّ وكلاهما نبتٌ بأَرض العرب. وقد عَصْفَرْت الثوب فتَعَصْفَر. والمعصفر المسبوغ. انظر لسان العرب: 4/ 581.

فصل (الحنوط وما يتعلق به)

[ففي المذهب النهي عنه بخلاف المصبوغ بالورس (¬1) والزعفران. قال: والفرق أن المعصفر] (¬2) زينة، وليس محلها. وأجازه في قول ثان قياسًا على سائر الألوان. وكره السواد لجهة التفاؤل. وهل يجعل في كفن الميت القميص والعمامة؟ لا خلاف أنه لا يحرم ولا يجب. واختلف في الأول على قولين. وسببهما ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثلاثة أثواب بيض سحولية (¬3) ليس فيها قميص ولا عمامة. قيل: معناه ليس فيها معدود، بل كان القميص والعمامة زائدين على هذا العدد. وقيل: ليس فيها موجود. وعلى ذكر الثلاث (¬4) فالإيتار عندنا مستحب. ولكن إن لم يوجد إلا اثنان فهما أفضل من الواحد, لأنهما أكمل ستراً. والثلاثة أفضل من الأربعة، لكونهما وتراً. وعلى هذا الترتيب يكون الحكم فيما بعد ذلك. ... فصل (الحنوط وما يتعلق به) والحنوط مأمور به، ولا ينتهي إلى رتبة الوجوب. ويجوز بكل طيب طاهر؛ كالكافور. وهو المقدم, لأنه أحنط (¬5) من العنبر والمسك وإن كان خارجاً من حيوان، فقد انقلبت (¬6) أعراضه. ولا خلاف عندنا في طهارته، ¬

_ (¬1) قال أبو بكر الرازي: "ورس الوَرْس بوزن الفلس نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغُمرة للوجه تقول منه أَوْرَسَ المكان فهو وَارِسٌ ولا يقال مُوْرِسٌ وهو من النوادر ووَرَّسَ الثوب تَوْرِيساً صبغه بالورس" مختار الصحاح:298. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) سحولية من السحل وهو الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب اليمن. ويقال سحول موضع باليمن، وهي تنسب إليه. انظر المصدر السابق: ص: 289. (¬4) في (ق): وعلى هذا الثلاثة الأثواب عندنا مستحب، وفي (ر) وعلى ذكر الثلاثة والإثنان مستحب. (¬5) في (ق) أحفض. (¬6) في (ت) انتقلت.

فصل (حمل الميت وتشييعه)

وإن اختلف فيما أصله النجاسة إن انقلبت أعراضه، كما قدمنا في كتاب الطهارة. ولعل هذا الالتفات (¬1) إلى أن الأصل في النجاسة ما يستقذر. وبهذا تزال (¬2) المستقذرات. والعنبر وإن كان روث الدابة البحرية كما يقال فهو طاهر عندنا. ومحل الحنوط مواضع السجود وهي المقدمة، (¬3) ومغابن البدن، ومرافقه كالآباط والأفخاذ وفي ما معنى ذلك مما يدق جلده ويكون محلاً للأوساخ، والحواس كالعين والأنف والفم والأذنين، وسائر الفخذين (¬4). ويجعل بينه وبين الأكفان، ولا يجعل على ظاهر الكفن, لأنها زينة، ولا معنى لها هاهنا. ... فصل (حمل الميت وتشييعه) واختلف المذهب هل في حمل الميت رتبة (¬5) تستحب؟ المشهور لا رتبة (¬6) في ذلك. والشاذ استحباب الحمل من الجوانب الأربع، وقد نقل (¬7) عن بعض السلف. واختلف هل الأفضل في تشييع الجنازة المتقدم عليها، أو التأخير؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأولى المتقدم. والثاني: بالعكس، وهما شاذان. والثالث: هو المشهور، أن المشاة يتقدمون والركبان يتأخرون. وعلل ¬

_ (¬1) في (ق) الاتفاق. (¬2) في (ر) وهكذا مما يزال. (¬3) في (ت) السجود وسائر الجسد. (¬4) في (ت) وما بين الفخذين، وفي (ق) وسائر الجسدين. (¬5) في (ر) زينة. (¬6) في (ر) لا زينة. (¬7) في (ق) قيل.

فصل (حكم بقر بطن الأم الميتة إذا رجيت حياة الولد)

استحباب التقدم بأنهم كالشفعاء، والتأخير لتحصيل الاعتبار. والتفرقة بين الراكب وغيره؛ بأن الراكب مخطئ في ركوبه، ولم يستحق رتبة الشفاعة، فأمر (¬1) بالتأخير، هذا حكام الرجال. وأما النساء فمأمورات بالتأخير على الإطلاق. ومتى خيف من خروجهن الفتنة منعن، وإن لم يخف من ذلك وكانت من القواعد جاز خروجهن مطلقًا، فإن يكنَّ كذلك كره خروجهن إلا على القريب جدًا كالأب والزوج والابن ومن في معناهم. وإذا لم يحضر الجنازة إلا النساء صلين عليها. وهل أفراداً أو تؤمهن واحدة منهن؟ [جرى] (¬2) على القول (¬3) في جواز إمامة المرأة للنساء. وإذا قلنا بصلاتهن أفراداً؛ فهل يصلين واحدة واحدة ولا (¬4) يصلين في وقت واحد؟ قولان للمتأخرين. وظاهر المدونة [يقتضي] (¬5) أنهن يصلين واحدة بعد واحدة في غير (¬6) اجتماعهن (¬7). ... فصل (حكم بقر بطن الأم الميتة إذا رجيت حياة الولد) وإذا رجيت حياة الولد بإخراجه من بطن أمه الميتة، فهل يبقر بطنها أم لا؟ ففي المذهب قولان. وسبهما تقابل مكروهين: أحدهما: انتهاك حرمة الميت، والثاني: إماتة من ترجى حياته. وهكذا الخلاف في الإنسان يحصل في جوفه ¬

_ (¬1) في (ت) وأمرناه، وفي (ر) وأمر. (¬2) ساقط من (ر) و (ق). (¬3) في (ر) القولين. (¬4) في (ق) أو لا يصلين، وفي (ر) ويصلين. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ق) في غير ما. (¬7) انظر المدونة 1/ 189.

فصل (صفة حفر القبر)

شيء من الدنانير أو جوهر له ثمن، هل يستخرج أم لا؟ وهذا إذا كان له من أين يؤديه، وإلا فلا ينبغي أن يختلف في وجوب استخراجه. وفي المبسوط: إن قدر أن يستخرج الولد من حيث يخرج في الحياة بقر (¬1) عليه. قال أبو الحسن اللخمي: وهذا لا يمكن. وما قلناه في البقر على المال إذا علمت يقيناً أو ببينة. فإن شهد به شاهد واحد، فإن أبا عمران أجراه على الخلاف في وجوب القصاص من الجراح بالشاهد الواحد. ووقع لابن القصار أن المضطر إلى أكل الميتة لا يجد إلا لحم الآدمي لا يأكله (¬2) وإن خاف التلف. فاعترضه بعض الأشياخ. وهو يجري على الخلاف [في البقر على الجنين والشق. ... فصل (صفة حفر القبر) ويجوز في صفة حفر القبر اللحد والشق] (¬3)؛ وهو مساواة اتساع أعلاه لأسفله (¬4). واللحد هو الحفر في أحد الجانبين للقبر من أسفله. واللحد أفضل, لأنه صفة قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-. وقد كان صاحبان (¬5)؛ أحدهما: يلحد، وآخر: يشق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتفق الصحابة على أن يحفر له السابق منهما، فسبق الذي يلحد. ففعل كل واحد منهما ما (¬6) يختص به يدل على الجواز, لأنه لا يكاد يخفى هذا من حالهما على الرسول-صلى الله عليه وسلم-. وما اختار الله له لا شك أنه الأفضل. لكن قد لا يتفق اللحد في كل تربة (¬7)، فإن اتفق فهو أفضل. ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) فعل. (¬2) في (ر) يأكله. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) أسفله لأعلاه. (¬5) هكذا في (ق) و (ت) و (ر). (¬6) في (ق) منهما شيئًا يختص به. (¬7) في (ر) قرية.

(حكم البناء على القبور)

(حكم البناء على القبور) وليست القبور موضع زينة ولا مباهاة [ولهذا] (¬1) ينهى عن بنيانها على وجه يقتضي المباهاة. والظاهر أنه يحرم مع هذا القصد. ووقع لمحمد بن عبد الحكم فيمن أوصى أن يبنى على قبره (¬2) أنه تبطل وصيته. [وقال لا تجوز وصيته. وظاهر هذا التحريم، (¬3)، وإلا لو كان مكروهاً لنفذت وصيته. ونهي عنها [ابتداء] (¬4). وأما البناء الذي لا يخرج إلى حد المباهاة؛ فإن كان قصد به تمييز الموضع حتى ينفرد بحيازته، فجائز. وإن كان القصد به تمييز القبر عن غيره، فحكى أبو الحسن اللخمي عن المذهب قولين: الكراهية، وأخذها من إطلاقه (¬5) في المدونة (¬6). والثاني: الجواز، وهو في غير المدونة. والظاهر (¬7) أنه متى قصد ذلك لا يكره، وإنما كره في المدونة البناء الذي لا يقصد به العلامة، وإلا فكيف يكره ما يعرف الإنسان به قبر وليه ويميز به القبر حتى يحترم ولا يحفر عليه إن احتيج إلى قبر ثان. (حكم الدفن في الموضع المملوك) وموضع القبر إن كان مملوكاً لغير الدفن فلا يجوز دفن غير المالك فيه، إلا بإذنه كسائر أملاكه. وإن ملكه مالكه للدفن فهو حبس (¬8). فإن حفر قبر في الموضع المملوك ملكًا أصلياً فدفن فيه غير من حفر [له] (¬9) وأراد ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ت) على قبره بيتا. (¬3) ساقط من (ق). (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) قوله. (¬6) المدونة: 1/ 189. (¬7) في (ر) وظاهره. (¬8) في (ر) أحسن. (¬9) ساقط من (ر).

(حكم دفن السقط)

ذلك المالك إخراجه فله ذلك؛ لأنه لا يستحق الدفن إلا بإذنه. وعليه أشد ضررا في بقاء (¬1) ذلك المدفون في ذلك الموضع. وإن كان فيها (¬2) ملك للدفن؛ فللمتأخرين في ذلك ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أنه لا يخرج: أحدها: أنه على من يستحق القيام على المدفون حفر قبر ثان. والثاني: أن عليه قيمة الحفر. والثالث: أن عليه الأقل (¬3) منها؛ والقيمة هي أصل المذهب، والحفر كأنه قضاء بالمثل، ولكن لما كان القصد تحصيل موضع الدفن وتقاربت القيمة والحفر قضي فيها بالمثل كما قضي في المذهب بالمثل في الجلد (¬4) المستثنى (¬5) في البوادي وحيث لأكثره ثمن له (¬6). والحكم بالأقل (¬7) نظراً إلى المقصود لمن أتلف عليه (¬8) حفر قبر ثان، ويحصل ذلك بغرامة الأقل (¬9). ورأى أبو الحسن اللخمي أن يكون عليه الأكثر لتعديه، والظالم أحق أن يحمل عليه. (حكم دفن السقط) واختلف المذهب في جواز دفن السقط (¬10) في الدور؛ وفي الكتاب المنع، وأجيز (¬11) في غيره. فالمنع لأنه ليس بميت يحترم، ولا يساقط الحرمة جملة. وقد ¬

_ (¬1) كذا في (ر)، وفي (ت) أشد ضرراً في دفنه في أرض الغير على وجه الغضب، وفي (ق) أشد ضرراً في بقاء. (¬2) (ت) كان فيما. (¬3) في (ر) الأولى. (¬4) في (ق) اللحد. (¬5) في (ت) المشترى. (¬6) كذا في النسخ التي وقفت عليها. (¬7) في (ر) الأول. (¬8) (ر) أتلفت إليه. (¬9) في (ر) الأول. (¬10) في (ر) السقوط. (¬11) المدونة:1/ 179.

يؤدي (¬1) دفنه إلى انتهاك حرمته (¬2)،وبيع الدار، وتصرف الأملاك فيتمادى به المالك بعد، وليس ممن تجب مراعاته (¬3) حتى يكون موضعه حبسا كسائر الموتى. والجواز، قياساً على الميت؛ فإن دفن الميت في دار ثم بيعت ولم يعلم المشتري بموضع القبر، فالذي نص عليه في الرواية أن المشتري بالخيار في القبول والرد، كالعيوب الكثيرة. واعترضه أبو محمد عبد الحق، ورأى أن العيب يسير، ومقتضاه في الدور الرجوع بقيمته. والذي في الرواية صحيح لأنه (¬4) عيب لازم لا يمكن إزالته، فهو لهذا المعنى كثير. فإن كان المدفون سقط فهل يكون عيباً فيه؟ قولان. وهما منزولان على الخلاف في جواز دفنه في الدور. وقد أتينا على الغرض من [هذا] (¬5) الكتاب، ولا يشذ عما حصرنا (¬6) إلا مسائل أتينا على أصولها ونبهنا على محصولها. ¬

_ (¬1) في (ت) ولا يؤدي. (¬2) في (ر) حرمتها. (¬3) في (ت) نزاعاته. (¬4) في (ر) أنه. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) عرضا، وغير واضحة في (ر).

كتاب الصيام

كتاب الصيام (تعريف الصوم وحكمه والدليل على ذلك) والصوم في اللغة: الإمساك مطلقاً، وهو في الشرع: عبارة عن إمساك مخصوص في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وصوم رمضان من معالم الشريعة وأركان الإسلام. ووجوبه معلوم من دين الأمة ضرورة، ومن يجحد الوجوب فهو كافر قطعًا (¬1)؛ فإن أقر بالوجوب وامتنع من الصوم فهل يكون كافراً؟ يجري على ما قدمناه من الخلاف في المُقر بوجوب الصلاة التارك لها. ويجبر على فعله عند القائلين بنفي التكفير، كما يجبر على فعل الصلاة. والأصل في وجوبه الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2)، وفيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬3)، وقد اختلف هل الإشارة بها إلى رمضان. وهو يسير بالنسبة إلى شهور السنة، فلهذا عبر عنه بأيام معدودات، أو إلى غيره. واختلف القائلون بذلك على ثلاث طرق: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة (¬4)، والثاني: أنها أيام ¬

_ (¬1) في (ر) مطلقاً. (¬2) البقرة: 183. (¬3) البقرة: 184. (¬4) في (ر) من غير وخرم في (ت).

البيض (¬1)، والثالث: أنها يوم عاشوراء. وجمعت لأنها تتكرر في العدّ (¬2). فمن قال: الإشارة بها إلى رمضان (¬3)، جعل ما بعدها من النص على أشهر بيانا [للإجمال (¬4) المتقدم] (¬5)، ومن قال الإشارة بها إلى غيره (¬6) جعل ما بعدها من تعيين الشهر ناسخاً. واختلف في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬7) هل هو منسوخ أم لا؟ وهؤلاء يرون أنه كان في أول الإسلام المكلف يُخيَّر بين أن يصوم أو يفطر ويطعم، ثم نسخ (¬8) بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬9). وهو غير منسوخ، ومعنى يطيقونه أي يلزمون به [ويكلفون به، وإن كان عليهم في الأداء مشقة. وقد قرئ يطوقونه (¬10) أي يلزمونه] (¬11). وسيأتي الخلاف في موضعه. والحامل والشيخ الكبير هل تلزمهما (¬12) الفدية أم لا؟ وهو جار على هذا. وأما السنَّة فقد نقل وجوبه متوتراً، وتلقته الأمة بالقبول لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" (¬13) فذكر فيها صوم رمضان. ¬

_ (¬1) وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهر. (¬2) في (ت) في العدد، وفي (ق) لجمعه لأنها. (¬3) في (ت) إلى غير رمضان. (¬4) في (ق) للاحتمال. (¬5) ساقط من (ت)، وفي (م) جعل ما بعدها من النقص على المشهور فيها للاحتمال المتقدم. (¬6) في (ق) وجعل. (¬7) البقرة: 184. (¬8) في (ت) نسخ التخيير. (¬9) البقرة: 185. (¬10) في (ق) و (ر) يطيقونه. قرأ بذلك ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وعطاء. انظر تفسير الطبري 2/ 137 - 138. (¬11) ساقط من (م). (¬12) في (م) و (ر) تلزمهم. (¬13) أخرجه البخاري في الإيمان 8، ومسلم في الإيمان 16.

أما الفصل الأول: (شروط الصوم)

وأما الإجماع فهو ثابت قطعا. قال أبو المعالي: المقصود بالصوم في الشريعة وجهان: أحدهما: كسر الشهوتين؛ شهوة البطن والفرج، فإنهما إذا أرسلا على شهواتهما ولم تعود النفوس كسرها دعتا إلى الوقوع في المحظور. وإذا تعوَّد الإنسان إمساكهما عن المباح وأخذ نفسه بذلك قدر على إمساكهما عن الممنوع. فكأن الصوم في الشريعة إمساك عن مباح ليكون حمى للممنوع، وعليه نبه -صلى الله عليه وسلم-:"أَلاَ وَإِنَّ لِكُلَّ مَلِكِ حِمَى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارمُهُ" (¬1). والوجه الثاني: أن المقصود أيضًا كسر الشهوتين. لكن ليس للاعتياد، بل يحصل من نفس الكسر قمع النفس عن شهواتها ومنعها من الاسترسال على لذاتها. وإليه الإشارة بقوله-صلى الله عليه وسلم- "الصَّوْمُ جُنَّةٌ" (¬2). وإذا ثبتت هذه المقدمة، قلنا بعد هذا: المقصود من الكتاب ينحصر في خمسة فصول: أحدها: شروط الصوم، والثاني: أركانه، والثالث: تفصيل ممنوعاته، والرابع: حكم ما يجب بارتكاب الممنوعات، والخامس: حكم مقتضيات الفطر. لكن شأننا في هذا الإملاء أن ننبه على الترتيب الواجب ثم نحاذي رتبة الكتاب فنقول [ما أمكن. ولنذكر هذه الفصول جملة فنأخذ على تفصيلها في ترتيب الكتاب فنقول:] (¬3). ... أما (¬4) الفصل الأول: (شروط الصوم) فإن للصوم شرطين: شرط وجوب، وشرط أداء؛ فأما شرط الوجوب فالبلوغ (¬5)، فلا يجب الصوم على غير البالغ. وهل يؤمر به المطيق قبل ¬

_ (¬1) البخاري في الإيمان 52، ومسلم في المساقاة 1699 واللفظ له. (¬2) البخاري في التوحيد 7492، والترمذي في الصوم 764 واللفظ له. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (م) في. (¬5) في (ر) و (م) البلوغ.

البلوغ للتمرين (¬1)؟ في المذهب قولان (¬2)، وقد تقدما. وهل العقل من شروط الوجوب أو الأداء؟ في المذهب قولان. وذلك أن من لم يبلغ مطبقاً (¬3) وقلت سنون جنونه وجب عليه القضاء بلا خلاف في المذهب، فإن بلغ مطبقاً أو كثرت (¬4) السنون ففي المذهب ثلاثة أقوال: القضاء مطلقاً وهو المشهور ونفيه مطلقاً مع كثرة السنين ومثَّلوها بالعشرة ونحوها، وإثباتها مع قلتها ومثلوها بالخمسة ونحوها. وكان من يوجب القضاء مطلقاً يرى أن القضاء واجب بالأمر الأول، والعقل شرط في الأداء لا في الوجوب. ومن يفرق بين أن يبلغ مطبقاً ويرى (¬5) أن المطبق لا يتعلق به الوجوب بوجه. وهذا يرى أن الوجوب إذا تعلق يوماً ما استرسل تعلقه، فيكون عنده العقل شرطاً في الوجوب. لكن إن وجد، تعلق الوجوب مطلقاً. وأما من يفرق بين كثرة السنين وقلتها يرى [رأي] (¬6) الأول لكنه أسقط القضاء مع التكرار للمشقة. وهل الإسلام شرط في الوجوب أو في الأداء؟ يجري على اختلاف الأصوليين في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فيكون شرطاً في الأداء؟ أو غير مخاطبين بها فيكون شرطاً في الوجوب؟ وأما الصحة والإقامة والنقاء عن دم الحيض فقد اتفق الكل على وجوب القضاء في حق المفطر من هؤلاء. واختلف الأصوليون هل يقال إن ¬

_ (¬1) في (ت) للمتأخرين وغير واضح في (ق). (¬2) في (ت) و (ق) تفصيل. (¬3) الطبَقُ: غطاء كل شىء، وقد أَطْبَقَه وطَبَّقَه فانْطَبَقَ. وتَطَّبقَ: غَطَّاه وجعله مُطَبَّقاً .... قال الأصمعي: الطبقاء: الأحمق الفدم، وقال ابن الأعرابي: هو المطبق عليه حمقا. انظر لسان العرب 10/ 209 و214. (¬4) في (ر) وكثرت. (¬5) في (ق) و (ت) أو يرى. (¬6) ساقط من (ر).

فصل (أركان الصوم)

الواجب متعلق بهؤلاء أو غير متعلق، أو يتعلق بالمسافر خاصة، أو به وبالمريض المستطيع للصوم بكلفة، وتحقيق هذا محال على [فنه] (¬1). ... فصل (أركان الصوم) وأما أركان الصوم، فالنية (¬2). وهل يشترط تكرارها (¬3) على عدد الأيام أو يكتفى إن نوى في مبتدأ الصوم؟ في المذهب تفصيل وبيانه (¬4) في موضعه من (¬5) الكتاب. والإمساك عن الإيلاج، ونعني به إدخال الطعام والشراب من الحلق إلى المعدة (¬6)، وإيلاج الحشفة في قبل أو دبر. وتفصيل ذلك يأتي في موضعه أيضًا. والإمساك عن الإخراج، ونعني به إخراج المني أو القيء. وتفصيله يأتي أيضًا. ... فصل (ما يجب بارتكاب الممنوعات) وأما التفصيل في ممنوعات الصوم، فنؤخر الكلام عليها. وهي على الجملة الإخلال بركن من أركان الصوم. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) والنية عندنا واجبة وهل. (¬3) في (ق) تكررها. (¬4) في (ق) نحيل بيانه. (¬5) في (ق) على. (¬6) في (ر) إلى الحلق والمعدة.

[فصل]

[فصل] (¬1) وأما ما يجب بارتكاب الممنوعات، فنأتي فيه بكلام جلي يكتفي به الذكي. ونحيل غيره على التفصيل. وذلك أن الصوم لا يخل من أن يكون واجبًا أو غير واجب، والواجب لا يخلو أن يكون واجبًا بإيجاب الله تعالى أو واجبًا بإيجاب المكلف على نفسه، والواجب بإيجاب الله تعالى لا يخلوا من أن يكون معينا وهو رمضان أو غير معيّن وهو ما يجب في الكفارة والواجب بإيجاب المكلف على نفسه لا يخلو أيضًا من أن يكون معيناً وهو أن ينذر أيامًا بأعيانها أو غير معيّن وهو أن ينذر أيامًا بغير أعيانها والواجب بإيجاب الله تعالى أو بإيجاب المكلف على نفسه لا يخلو من أن يكون متتابعاً أو غير متتابع. ويتعلق بارتكاب الممنوعات ثلاثة أشياء: القضاء والكفارة وقطع التتابع، ولا يخلو المرتكب من أن يكون معذورا أو غير معذور؛ فإن كان معذورا بالنسيان أو بالغلط في التقدير وجب القضاء في جميع أقسام الصيام إلا في التطوع فلا يجب بلا خلاف على هذا. وهل يستحب؟ في المذهب قولان، وهكذا نقل. ولا ينبغي أن يختلف في استحبابه, لأنه فعل بر. لكن النظر هل هو قضاء أو ابتداء فعل خير (¬2)؟ وهل ينقطع التتابع؟ في المذهب قولان. وهل تجب الكفارة؟ أما غير رمضان فلا تتعلق به الكفارة، وأما رمضان فإن كان فطره ناسياً بأكل أو شرب فلا كفارة بلا خلاف. وإن كان بجماع فقولان: المشهور نفيها، والشاذ وجوبها. فإن كان غير معذور كالمتعمد، فالقضاء في الجميع، وقطع (¬3) التتابع فيما يجب تتابعه. ولا كفارة في الجميع إلا في رمضان فتجب الكفارة فيه على الإطلاق. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) مخبر. (¬3) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب وعدم قطع التتابع.

فصل (مقتضيات الفطرة)

فصل (مقتضيات الفطرة) وأما مقتضيات الفطر فهي على الجملة ثلاثة: المرض وينخرط في سلكه الحامل والمرضع، والسفر، ووجود دم الحيض. وتفصيل ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله. ... باب في النظر في زمن الصوم وهو قسمان: عام وخاص. (اليوم زمن الصوم العام) فأما العام، فهو في اليوم، ولا يصام الليل بالإجماع. والنهار على الجملة محل للصوم. وأما مبدؤه فاجتمعت الأمة على أن الفجر الأول المستطيل (¬1) الذي سمته العرب ذنب السرحان لا يتعلق به الصوم ولا الصلاة. وعلى أن الفجر الثاني المعترض (¬2) في الأفق هو الموجب للإمساك ولصلاة الصبح. لكن حكي عن بعض السلف خلاف في الفجر الثاني، وقد انعقد الإجماع بعده (¬3). ولا يخلو مريد الصوم أن يكون بحيث ينظر الدلائل على الفجر، أو بحيث لا يبصر؛ فإن كان بحيث يبصر فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: إما أن يتيقن بطلوع الفجر [فيجب عليه الإمساك، وإما أن يتيقن بعدم الطلوع فيباح له الأكل] (¬4). ¬

_ (¬1) في (ت) الأول غير المستطيل، وفي (ق) الأول المستطيل في الأفق، وخرم في (م). (¬2) في (ت) المستطيل. (¬3) في (ت) بعده على ما قلناه. (¬4) ساقط من (ر).

(حكم الشك في طلوع الفجر)

(حكم الشك في طلوع الفجر) وأما إن شك فهاهنا قولان: كراهية الأكل، وتحريمه. ورأى ابن حبيب أن القياس الإباحة. وسبب الخلاف استصحاب حالين: أحدهما: إباحة الأكل، والثاني: وجوب الصوم؛ فمن نظر إلى استصحاب زمن الليل أجاز الأكل أو كرهه (¬1) مراعاة للخلاف، ومن نظر إلى وجوب استصحاب الصوم منع إلا أن يتيقن بالجواز. فإن أكل ثم علم أن الفجر لم يطلع فلا شك في نفي القضاء، وإن علم بطلوعه فلا شك في إثباته، وإن أشكل عليه جرى وجوب القضاء واستحبابه على الخلاف المتقدم. (حكم من طلع له الفجر وهو يأكل) فإن طلع له الفجر وهو آكل أو شارب فالمنصوص أنه يلقي ما في فيه ولا قضاء عليه. وفي المذهب قولان: هل يجب إمساك جزء من الليل؛ لأنه لا يتوصل إلى إمساك جميع أجزاء النهار إلا به، أو لا يجب. فإن نفينا الوجوب فلا شك في نفي القضاء، وإن أثبتناه فيمكن أن يقال إنه واجب لغيره. فإذا لم يحصل تعلق الإثم ولا قضاء. ويمكن أن يقال وجب القضاء لانسحاب الوجوب عليه. وقد تعلق من أباح الأكل أو كرهه مع الشك بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (¬2)، ومع البيان لا شك. وظاهر الآية جواز الأكل إلى أن يستيقن (¬3). واعتذر عن (¬4) هذا بأن المقصود في الآية جواز الأكل وما ذكر معه في جميع أجزاء الليل, لأنها ناسخة لما كان في ¬

_ (¬1) في (ر) كرهه. (¬2) البقرة: 187. (¬3) في (م) و (ق) و (ت) يتبين. (¬4) في (م) غير.

أول الإسلام من أن الإنسان إذا نام وجب عليه الإمساك وإن قام في آخر الليل، وتعلق أيضًا بقوله-صلى الله عليه وسلم -"كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُم مَكْتُوم", وفي الحديث:"كَانَ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُنادى حَتَّى يُقَالَ أَصْبَحْتَ" (¬1). فهذا دليل على جواز الأكل مع الشك والإشكال حتى يصبح (¬2) الصباح. واعتذر عن هذا بأن معناه قاربت الصبح (¬3). ونحن مضطرون إلى هذا التأويل؛ إذ لو بقي على ظاهره لكان مقتضياً بجواز الأكل بعد اليقين بوجود الصباح، وهذا لا يختلف فيه. وإذا منعنا الأكل وما في معناه مع الشك، فإذا تعدى المكلف هذا المنع فهل تلزمه الكفارة أم لا؟ وأما إن تأول فلا، وإن قصد إلى انتهاك حرمة الصوم (¬4) مع تعويله على التحريم فقد يختلف فيه على الخلاف في مراعاة الخلاف. ولا يختلف في طرف النهار الآخر، وهو آخره إذا شك [هل غابت الشمس أو لا]؟ (¬5) إذ المستصحب هاهنا بكل وجه منع الأكل. لكن اختلفوا هل يلزم إمساك جزء من الليل (¬6) كما اختلفوا في الطرف الثاني؟ وعلى هذا الذي قلناه لو أكل في آخر النهار [مجتهدا] (¬7) ثم تبين له الخطأ أو الصواب بني على ما تبين له من الخطأ أو الصواب؛ فإن أشكل وجب القضاء. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان 617، ومالك في النداء164كلاهما بلفظ قريب. (¬2) في (ت) يتضح. (¬3) في (ق) الصباح. (¬4) في (ق) و (ت) اليوم. (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) في (ر) النهار. (¬7) ساقط من (ر) و (ق).

فصل (حكم من لا دليل له على الفجر)

فصل (حكم من لا دليل له على الفجر) وإذا كان بحيث لا دليل له على الفجر فله أن يقتدي بالمستدِل (¬1). وفيه ورد الحديث:"إنَّ بلالاً يُنَادِي بلَيْل" الحديث كما ورد (¬2). فإن لم يكن له من يسمعه الأذان] (¬3) فَله التحريَ ويأخذ بالأحوط. ومتى شك أو أشكل عليه، فإن كان بحيث يمكنه التوصل إلى المعرفة وجب عليه إذا أراد أن يستبيح الأكل وما في معناه، وإن كان بحيث لا يمكنه التوصل إلى المعرفة فقد يقال إن هذا مثل الأسير إذا وقع في مهواة، وسيأتي بيان حكمه. (حكم من طلع عليه الفجر وهو يجامع) وقد بيَّنا حكم من طلع عليه الفجر وهو آكل أو شارب، فإن طلع عليه وهو يجامع؛ فإن استدام كان كالمتعمد في أجزاء النهار، وإن نزع فلا كفارة على المشهور. وهل عليه القضاء؟ قولان: أحدهما: نفيه لأنه معذور وقد فعل أقصى ما في وسعه (¬4)، وأيضاً فإن النزع ليس بوطء. والثاني: وجوب القضاء، وهذا لأنه يعدّ النزع وطئاً. وهل تجب على هذا الثاني الكفارة؟ يجري على الخلاف في المعذور، وسنبّين ذلك مفصلاً وإن أجملنا أولاً. ... فصل (حكم البياض الذي قبل الفجر والذي بعد العمرة بالليل) وفي الكتاب: قال مالك رحمه الله: "وإنه ليقع في قلبي وما هو إلا شيء فكرت فيه منذ قريب، أن الفجر يكون قبله (¬5) بياض ساطع، فذلك لا يمنع الصائم من الأكل. [فكما لا يمنع الصائم ذلك البياض من الأكل ¬

_ (¬1) في (ت) بالعدل. (¬2) أخرجه البخاري في الأذان 620 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1093. (¬3) ساقط من (ر) و (ق). (¬4) في (ق) أقصى ما يقدر عليه، وفي (ر) أيضًا بما بموسوعه، وفي (م) أيضًا ما في وسعه. (¬5) في (ر) قبل.

[فصل] (رمضان زمن الصوم الخاص)

حتى] (¬1) يتبيَّن الفجر المعترض في الأفق، فكذلك البياض الذي يبقى بعد الحمرة لا يمنع مصل أن يصلي العشاء" (¬2). وغرضه بهذا، الرد على أهل العراق في قولهم: إن الشفق هو البياض. وقد قدمنا ذلك في كتاب الصلاة الأول وذكرنا ما في المذهب (¬3). ولم يسلم أبو الحسن اللخمي هذا القياس، بل رأى أن الطوالع أربعة: البياض الأول وهو ذنب السرحان والفجر الصادق، والحمرة [لا يتعلق بها حكم] (¬4) والشمس. والغوارب كذلك [أربعة] (¬5):الشمس، والحمرة، والبياض الباقي بعدها، والبياض المشرق وراء (¬6) ذنب السرحان. وبالجملة، فإن الذي استعمله مالك رحمه الله قياس الشبه. وبين الأصوليين خلاف في التعويل عليه. وقد ظن من لا تحقيق عنده أنه قياس عكس، وسبب ظنهم (¬7) أن الطوالع ضد الغوارب، وإنما [شبه] (¬8) طالعاً بالغوارب. وإنما قياس العكس ما قاله المغيرة في المدونة في كتاب الزكاة في مسألة من له عشرة دنانير أنفق خمسة واشترى سلعة بخمسة فباعها بخمسة عشرة، وبيانها يأتي في موضعه. ... [فصل] (¬9) (رمضان زمن الصوم الخاص) وأما الزمان الخاص فهو رمضان. والنظر أيضًا في أوله وآخره. والطريق إلى معرفة الأول بالرؤية والعدد. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) المدونة 1/ 172. (¬3) في (ر) وذكرنا حكمه. (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) ساقط من (ت). (¬6) في (ت) المستدق وهو وزان ذنب، وفي (ق): التشارق وهو: وزان الذنب السرحان. (¬7) في (ر) خلافهم. (¬8) ساقط من (م). (¬9) ساقط من (ر) و (ت).

(ما تثبت به رؤية الهلال)

(ما تثبت به رؤية الهلال) أما الرؤّية، فتحصل بالخبر المشتهر (¬1) وهو الكمال فيها ولا يفتقر في ذلك إلى شهادة، وأما الشهادة فلا يخلو أن يكون الموضع به من يلتفت إلى أحكام الشريعة ومواقيت العبادة، أو ليس به ذلك. فإن كان به من يلتفت إلى ذلك فلا خلاف منصوص في المذهب أن حكم ثبوت الأهلَّة راجع إلى حكم الشهادة لا إلى حكم الإخبار، وإن لم يكن به من يلتفت إلى هذا فظاهر المذهب [على] (¬2) قولين: أحدهما: أن الحكم كالأول، والثاني: التعويل على الشهادة إن أمكنت، وإن لم تمكن عوّل على الخبر، هذا في حكم ما يثبت به حكم (¬3) الهلال. فإن ثبت عند الحاكم أو في بلد من البلدان فنُقِل، فظاهر المذهب أيضًا على قولين: أحدهما: أنه يفتقر نقله إلى ما تفتقر إليه الشهادة، والثاني: أنه لا يفتقر إلى ذلك، هذا تحقيق نقل المذهب. ولما كان القياس عند المتأخرين من أهل المذهب ردّ ثبوت الهلال إلى باب الأخبار [رأوا أن] (¬4) الفرق بين [باب] (¬5) الأخبار وبين باب الشهادة أن كل ما خصّ المشهود عليه فبابه باب الشهادة، وكل ما عمَّ ولزم القائل به (¬6) ما يلزم (¬7) المقول [له] (¬8) فبابه باب الأخبار، فأرادوا (¬9) أن يجعلوا في المذهب قولة بقبول [خبر] (¬10) الواحد في الهلال ولا يجدوه إلا في النقل ¬

_ (¬1) في (ر) المنتشر. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ت) حق من يثبت له حكم ... (¬4) في (ت) وليس من باب الأخبار الشهادة ولأن. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (م) و (ت) و (ق) منه. (¬7) في (م) ما لزم. (¬8) ساقط من (م). (¬9) في (م) وأرادوا. (¬10) ساقط من (ر).

(إذا ثبتت الرؤية في بلد هل تلزم سائر البلاد؟)

عمًّا (¬1) ثبت (¬2) عند الإمام فينقل (¬3) إلى أهله أو إلى (¬4) غيرهم. ولعل هذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"إذا شهد شاهدان فافطروا وصوموا" (¬5) الحديث. ولا يستقل الحكم إلا بثبوته بالشهادة. ثم ما بعد ذلك من فروع الباب يختلف فيها هل تعطى حكم (¬6) أصولها فيكون بابها (¬7) باب الشهادة، أو تنقل إلى باب الأخبار للاضطرار. إذ لو كلف كل أحد أن يسمع من الإمام أو من شاهدين لأدَّى ذلك إلى الحرج، أو لم يمكن (¬8). فنقل ذلك الخبر عن الواحد. (إذا ثبتت الرؤية في بلد هل تلزم سائر البلاد؟) وإذا ثبتت رؤية الهلال في بلد، فهل يلزم سائر البلاد إذا بلغهم؟ أما إن كان ذلك برؤية مشهورة فلا خلاف عندنا أنه يلزم [سائر] (¬9) البلاد. أما إن كان بشهادة وحكم؛ فإن ثبت عند الخليفة الذي يلزم [سائر الناس طاعته، أو عند قاضيه، أو حاكمه، لزم الكل بلا خلاف عندنا. وإن ثبت عند من لا يلزم] (¬10) الكل طاعته ففيه قولان: المشهور اللزوم؛ إذ هذا حكم [ثابت بالشهود فيلزم تعميمه قياسًا على سائر الأحكام] (¬11)، وليس مما ¬

_ (¬1) في (ق) لما. (¬2) في (م) يثبت. (¬3) في (ت) و (م) و (ق) فنقل. (¬4) في (ق) وإلى. (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج النسائي في الصيام 2116، وأحمد في مسنده. ولفظ النسائي: "صُوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا". (¬6) في (ت) يعطى حكم فيكون. (¬7) في (ت) و (ر) و (م) بابه. (¬8) في (ت) يكن. (¬9) في (ق) لنقل ذلك فقيل الخبر. (¬10) ساقط من (ر). (¬11) ساقط من (ر).

(حكم الشاهدين في المصر الكبير)

يفتقر فيه إلى كون المحكوم عليه في عمالة الحاكم. والشاذ إلحاقه بسائر الأحكام، ولا يلزم إلا المُوَّلى عليه خاصة. وإذا ثبت أن ثبوت الهلال لا يحصل إلا بالشهادة فيشترط في الشهود ما يشترط في سائر الشهادات. وتفصيل ذلك محال (¬1) على موضعه. (حكم الشاهدين في المصر الكبير) لكن اختلف المذهب في قبول الشاهدين في المصر (¬2) [الكبير والسماء مصحيَّة؛ فالمشهور قبولهما، وقيل لا يقبلان. وهذا خلاف في حال (¬3). فإن نظروا إلى صوب واحد وانفرد برؤيته اثنان فذلك ريبة تردّ شهادتهما، وإن انفردا بالنظر إلى موضع قبلت شهادتهما. (حكم الشاهد الواحد) وإذا رآه الإنسان المنفرد، وجب عليه أن يرفع [شهادته] (¬4) إن كان عدلاً، وكذلك إن كان مستوراً يرجو قبول شهادته، ولا يكتم لانفراده، لأنه قد يكون غيره يراه وهو منفرد أيضًا. فإن كان مكشوف الحال في عدم العدالة فهل يؤمر بالرفع؟ قولان: أحدهما: أنه لا يرفع خوفًا من كشف نفسه، والثاني: يرفع رجاء أن يقتدى به [مع] (¬5) غيره، ولعل ذلك يكثر فيؤدي إلى الانتشار الذي لا تطلب فيه (¬6) العدالة. وإذا انفرد ولم يقبل قوله لانفراده، أو لأنه غير عدل، يجب عليه الإمساك. فإن لم يمسك، فلا يخلو أن يكون عامدًا غير متأول أو متأولاً. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) يأتي. (¬2) بداية السقط من (م). (¬3) في (ر) في ذلك. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ق) و (ت). (¬6) في (ق) معه.

(رؤيه الهلال على غير عادته في الطلوع)

فإن لم يتأول كان عليه القضاء والكفارة، وإن تأول فقولان: أحدهما: وجوب الكفارة، والثاني: نفيها. وهو على الخلاف في الجاهل هل حكمه حكم العامد أم لا؟ وإن انفرد بهلال شوَّال ولم يثبت به فإن لم يَخْفَ له الفطر فلا يفطر بلا خلاف، وإن كان مسافراً أو له عذر في الإفطار فمقتضى المذهب أنه يفطر، وإن لم يكن له عذر وخفي له الفطر وأمن من الاطلاع عليه، فالمشهور [من المذهب] (¬1) أنه لا يفطر، وهذا حماية للذريعة لئلا يطلع عليه غيره فيفطر على التهاون فيدعي الرؤية. والشاذ أنه يفطر لوجوب الفطر عليه. (رؤيه الهلال على غير عادته في الطلوع) وإذا رؤي الهلال مخالفًا لعادته في الطلوع؛ فإن كان بعد الزوال فلا يختلف المذهب بأنه من الليلة القابلة، وإن كان قبل الزوال ففي المذهب قولان: المشهور: أنه كالأول، والثاني: أنه لليلة الماضية. وكأن هذا ركون إلى أن السماء [كروية] (¬2) وهذا [على] (¬3) التعويل على رأي المنجمين، والأول نظراً إلى تجويز خلقته (¬4) كبيراً أو صغيراً من غير أن يلتفت إلى العادة في وقت طلوعه؛ لأنّ هذه العادة قد لا تثبت. ولو شهد اثنان بالهلال فقبلا، ثم عدَّ الناس ثلاثين يوماً فلم يبصروا، والسماء مصحية، فذلك دليل على ريبة الشهادة. وفيها قال (¬5) مالك رحمه الله: هما شاهدا سوء. ولو شهد شاهد على الهلال أول الشهر وشهد [آخر] (¬6) على هلال ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ت). (¬3) ساقط من (ر) و (ق). (¬4) في (ق) خلقه. (¬5) في (ق) قول. (¬6) ساقط من (ق) و (ت).

فصل (في عدم الالتفات إلى كلام المنجمين)

آخره، فإن كانت شهادة الثاني بعد تسعة وعشرين يومًا من شهادة الأول لم تلفق لأنهما لم يجتمعا على شيء واحد، وإن كانت بعد ثلاثين يومًا جرى تلفيقهما على الخلاف في تلفيق الشهادة على الأفعال. ... فصل (في عدم الالتفات إلى كلام المنجمين) وأما العدد فهو إكمال الشهر ثلاثين يومًا، وذلك يرجع إليه عند تعذر الرؤية. وإن اتفقت شهور كثيرة [في عدم الرؤية] (¬1) والسماء مصحيَّة [أو متغيّمة] (¬2) استمر الناس على إكمال العدد ثلاثين. ولا يلتفت [عند تعذر الرؤية] (¬3) في ذلك إلى أحكام المنجمين بالمفارقة وشهادتهم بإمكان الرؤية وتعددها، فإن أحكام المنجمين مذمومة [على تبيين الشرع] (¬4). وإلى نفي التعويل على أقوالهم أشار- صلى الله عليه وسلم -بقوله: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا" (¬5). وأشار بيده منشورة (¬6) الأصابع ثم قال هكذا وهكذا [وهكذا] (¬7) وقبض في الآخرة أصبعاً من الأصابع، ليعلم أن التعويل على ما يشترك الكل في معرفته لا ما ينفرد به بعض الناس (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ر). (¬2) ساقط من (ت) و (ق). (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) ساقط من (ق) و (ر). (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري في الصوم 1913، ومسلم في الصيام 1080 ولفظ البخاري عن ابن عُمَرَ رَضِي الله عنهمًا عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ "أنا أُمة أُمية لاَ نَكتُبُ وَلاَ نَحسُبُ الشهرُ هَكَذا وَهَكَذا يَعنِي مرة تسعَة وَعشرِينَ وَمَرة ثَلَاِثينَ". (¬6) في (ق) مشيرة. (¬7) ساقط من (ر) و (ق). (¬8) الأمية ليست صفة لازمة للأمة، والرسول - صلى الله عليه وسلم -إنما تحدث عن الأمة في زمانه. ولعل=

(نفي التعويل على الحساب)

(نفي التعويل على الحساب) ونفي (¬1) التعويل على الحساب إما لأنه مما ينفرد به الآحاد، وإما لأنه مسامحة لقبول أحكام المنجمين في مبادئ قد ينصرفون (¬2) منها إلى أواخر تصادم الشرع، وجمهور الأمة إلى منع الالتفات إلى حسابهم في هذا الشأن فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَإن غُم عَلَيكُم فأكمِلُوا العِدةَ ثَلاَثِينَ" (¬3)، وما وقع في بعض الطرق: "فَإن غم عَليكُم فَاقدُرُوا لَهُ" (¬4) معناه إكمال العدة كما ورد في هذا الحديث، خَلافاً لمن فسره بالرجوع إلى التقدير والحساب (¬5). والدليل على بطلان [هذا] (¬6) ما قدمناه. وهذا دليل قطعي في هذا الشأن. وما ذكرناه من إكمال ثلاثين فهو معبر للحديث الآخر. وقد ركن بعض أصحابنا البغداديين إلى أن الإنسان إذا تحقق عنده بالحساب رجع إليه مع الغيم. وهذا باطل بما قدمناه (¬7). (تبييت نية الصوم في يوم الشك) وإذا التمس الناس فلم يروا الهلال والسماء مصحيَّة فلا شك، وإن كانت متغيمة فالشك (¬8) حاصل. وينبغي تبييت الإمساك ليستبين ما يأتي به النهار من أخبار السُّفَّار، فإن ثبت نفي الرؤية عول عليه، وإن ثبت إثباتها استديم الإمساك ولا يجزي ذلك اليوم. والفرق بين ما يجب فيه الإمساك ¬

_ = علم التنجيم الذي رفض الفقهاء الاستدلال به هو علم النجوم المرتبط بالكهانة والسحر والخرافة والشعوذة، أما علم التنجيم القائم على المسائل العلمية فلا مانع من الاستدلال به. (¬1) في (ق) بقي. (¬2) في (ت) و (ق) يتطرقون. (¬3) أخرجه البخاري في الصوم 1907 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1081 (¬4) أخرجه البخاري في الصوم 1900، ومسلم في الصيام 1080. (¬5) في (ق) بالحساب. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) من الذين قالوا بجواز الاعتماد على الحساب ابن سريج من الشافعية وقد نقل عنه ذلك النوويّ في المجموع 6/ 279 وقال بجواز ذلك أيضًا السبكي في فتاويه 1/ 219. (¬8) في (ر) والشك.

فصل (حكم صوم يوم الشك)

وما يجوز فيه استدامة الفطر أن كل من عول على الفطر بإباحة الشرع مع العلم بأن اليوم من رمضان، فإنه يستديم الفطر، كالحائض تطهر والصبي يحتلم والمجنون يفيق والمسافر يقدم. وفي الكافر يسلم قولان: قيل يجب عليه الإمساك بقية النهار إن أسلم فيه، وقيل لا يجب عليه. وهما على الخلاف في مخاطبتهم بفروع الشريعة. ومن عول على الفطر جهلًا بأن اليوم ليس من رمضان، ثم ثبت أنه منه وجب عليه الإمساك. فإن أفطر وقد علم بوجوب الإمساك عليه؛ فإن تأول فلا كفارة عليه، وإن لم يتأول فقولان: أحدهما: وجوب الكفارة لوجوب الإمساك، والثاني: نفيها لأنّ اليوم لم تنعقد حرمته في حقه. ... فصل (حكم صوم يوم الشك) ويصوم يوم الشك مَن نَذره، أو من (¬1) استدام الصوم. وهل يصومه للتطوع (¬2) أم لا؟ قولان: الكراهية (¬3) محاذرة من موافقة أهل البدع في صومهم، والجواز لأنه محل الصوم على الجملة. وإنما يصومه أهل البدع لاعتقادهم أنه من رمضان. ونصوص المذهب على النهي عن (¬4) صومه على التحري. واستقرأ أبو الحسن اللخمي وجوب (¬5) صومه من أحد الأقوال في وجوب الإمساك على من شك في طلوع الفجر وعدم طلوعه. وهذا الاستقراء غير صحيح، لأنّ إمساك هذا الجزء لا محاذرة فيه من موافقة بدعي بخلاف يوم الشك. واستقرأه أيضًا من مسألة هي أشبه (¬6) من الأولى، ¬

_ (¬1) في (ق) ومن. (¬2) في (ق) و (ت) المتطوع. (¬3) في (ق) و (ت) الكراهة. (¬4) في (ر) من. (¬5) في (ق) جواز. (¬6) في (ق) أشد.

وهي إحدى الأقوال في الحائض يتمادى بها الدم حتى يتجاوز عادتها ولا تبلغ الخمسة عشرة يوماً أنها تصوم وتصلي. والجامع (¬1) أن (¬2) صوم الحائض محرّم وصوم يوم الشك منهي عنه محاذرة (¬3) من موافقة المعولين على التنجيم (¬4). وقد أمر مالك رحمه الله الحائض بالاستظهار [وبالصوم] (¬5) خوفاً من أن يكون واجباً عليها، ثم أمرها بالقضاء لئلا تكون حائضاً. وكذلك نأمره (¬6) بأن يصوم يوم الشك خوفاً من أن يكون من رمضان، ويمكن أن يفرق بينهما بأن محاذرة الموافقة لأهل الحساب (¬7) أشد من محاذرة الوقوع في الإمساك مع الحيض، لأنّ موافقة أولئك تعم [ضرورة] (¬8)، وضرورة الحائض لا تعم. وأيضاً فنحن متعبدون بأن لا نصوم إلا مع (¬9) كمال العدة أو الرؤية، وهاهنا لا واحد من هاذين. والحائض إذا تمادى [بها] (¬10) الدم وقد تيقنت أن الزمان يجب صومه على الجملة وهي تشك (¬11) هل وجب عليها في نفسها أم لا؟ فتأخذ بالاحتياط (¬12)، فإن صام المكلف يوم الشك احتياطًا فالمنصوص لا يجزيه (¬13). قال (¬14) أشهب: بمنزلة من بادر فصلى ¬

_ (¬1) في (ت) تصوم وتقضي وتجامع وفي (ق) تصوم وتصلي وتجامع، وفي (ر) تصوم وتجامع. (¬2) في (ت) و (ر) وإن كان. (¬3) في (ر) من محاذرة، وفي (ق) للمحاذرة. (¬4) في (ت) التحريم. (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) في (ر) يأمره. (¬7) في (ر) محاذرة الموافقة في الحساب، وفي (ق) المحاذرة من موافقة الحساب، وفي (ت) محاذرة الموافقة لأهل البدع. (¬8) ساقط من (ق) و (ت). (¬9) في (ق) بعد. (¬10) ساقط من (ق). (¬11) في (ق) ومتى شكت. (¬12) في (ر) الاحتياط. (¬13) في (ق) و (ت) ألا يجزيه. (¬14) في (ت) و (ر) وقال.

الظهر مع الشك هل دخل الوقت [أم لا] (¬1) فإنها لا تجزيه، وإن تبيّن أنه صلى في الوقت. وأنكر أبو الحسن اللخمي هذا التشبيه لأنّ المأمور بالصلاة عنده لا ينبغي له المبادرة مع الشك، وصائم يوم الشك مأمور (¬2) بالمبادرة. ورأى (¬3) أن المشبه ليوم الشك مسألة من تطهير أو توضأ لما شك هل وجب عليه، أو صلى لما (¬4) ظن أنه وجب عليه. وفي المذهب قولان: إن تيقن بالوجوب فهل (¬5) يكتفي بما قدمه (¬6) مع الشك أم لا؟ وهذا الذي قاله غير صحيح. وتشبيه أشهب واقع؛ لأنّ صوم يوم الشك منهي عنه، وهو أبلغ في النهي من الشاك هل دخل وقت الصلاة (¬7) أم لا؟ وما ذكره من المسائل لا خلاف أنه مأمور بتحصيل ما شك فيه. وإنما الخلاف في وجوب أمره أو ندبه، وعليه يبنى الإجزاء. وقد ألحقنا حكم يوم الشك بهذا الباب لما استوفينا فيه النظر في زمان الصوم العام والخاص. وقد احتج مالك رحمه الله على الشافعي المجيز لشهادة الواحد في الصوم دون الفطر، بأنه إذا قبل في الصوم ثم عدَّ الناس ثلاثين يومًا فلم يروه، فهل يفطرون فيصير الإفطار بواحد والمخالف ينكره، أم (¬8) يصومون فيصير الصوم إحدى وثلاثين يومًا؟ وذلك مما تنكره الشريعة. وللشافعية في هذه المسألة (¬9) قولان: أحدهما: الفطر بعد الثلاثين بشهادة الأول؛ لأنه حكم قد استقل بالواحد فيمضي على ما هو به. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) مأمور به وفي (ت) مأمور له. (¬3) في (ق) فرأي. (¬4) في (ق) بما. (¬5) في (ر) و (ت) هل. (¬6) في (ر) قدمناه، وفي (ت) قدم. (¬7) في (ر) و (ت) الظهر. (¬8) في (ق) ثم. (¬9) في (ر) الصورة.

باب في تفصيل ما يجب الإمساك عنه من الجماع وحكم مبادئه

والثاني: يصومون إحدى وثلاثين يوماً لئلا يفطروا بشهادة الواحد. ويكون المعوَّل على أن الحكم في تفصيل كل (¬1) نازلة بما يوجبه الشرع. وعندنا ما يشير إلى هذا الخلاف، وهو قبول الشاهد واليمين وشهادة النساء في كل موضع تقع الشهادة على غير مال، والحاصل عنها مال أو بالعكس. وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله. ... باب في تفصيل ما يجب الإمساك عنه من الجماع وحكم مبادئه ولا خلاف أن الجماع وما في معناه من استدعاء المني محرم في الصوم. وأما مبادئه وهي: الفكر والنظر والقبلة والملاعبة والمباشرة؛ فإن استدامه حتى استجلب به المني رجعت إلى ما قدمنا من تحريم استدعائه. فإن لم يستدم؛ فأما الفكر والنظر فلا يختلف أنهما لا يحرمان في الصوم (¬2). وأما القبلة وما بعدها ففي المذهب اضطراب هل تحرم أو تكره أو يختلف حال الشيخ والشاب. وتحقيق المذهب في ذلك: أن من علم سلامته من الإنعاظ (¬3) وما بعده لم تحرم في حقه، ومن علم أنه لا يسلم حرمت في حقه، ومن شك ففيه قولان: التحريم، نظراً إلى تقرر الصوم (¬4) في الذمة (¬5)، فيجب عليه محاذرة كل ما يفسده. والكراهية، نظراً إلى أن ¬

_ (¬1) في (ت) و (ق) أن يحكم في كل. (¬2) في (ق) للصائم. (¬3) سبق أن قلت في كتاب الطهارة: الإنعاظ من النعظ. يقال: نَعَظَ الذكَرُ يَنعَظُ نَعظًا ونعَظاً ونُعُوظاً وأَنعَظَ إذا قامَ وانتشَر، وأنعظ الرجل إذا اشتهى الجماع. والإنعاظ الشبق، وهو تشهي الجماع. انظر لسان العرب 7/ 464، والنهاية في غريب الحديث 5/ 81. (¬4) في (ر) الاسم. (¬5) في (ق) ذمته.

(حكم التفكر في الجماع وما في معناه)

الفساد غير متيقن، ولا يحرم إلا مع تيقن الفساد. على أنه [قد] (¬1) اختلف في توجه القضاء مع الإمذاء (¬2)، هل يجب، أو يندب إليه على ما يأتي. ونبدأ بأوائل الجماع ومقتضيات الشهوة على الترتيب، ونذكر ما يكون عنها، الأول فالأول فنقول: (حكم التفكر في الجماع وما في معناه) إن فكر فالتذ بقلبه فلا حكم للذة، وهذا مما تسقطه الشريعة لأنّ تكليفه من الحرج. وإن أنعظ فكذلك أيضًا. وإن أمذى (¬3) نظر هل استدام أو لم يستدم، فإن استدام كان بمنزلة من أمذى قصدًا، فيؤمر بالقضاء. وهل يجب [القضاء] (¬4) أم لا؟ قولان: الوجوب؛ لأنّ المذي علامة [على تحرك] (¬5) المني عن موضعه، ونفي الوجوب لأنّ الحكم يتعلق بالمني لا بالمذي. والدليل عليه سقوط الكفارة فيه. وإن لم يستدم فلا شيء عليه، لأنه لو كلف القضاء لأدى إلى الحرج الذي تسقطه الشريعة السمحة، وإن أمنى [فإن استدام] (¬6) قضى وكفر عندنا، وإن لم يستدم فالقضاء بلا كفارة إلا أن يكثر ذلك عليه فيسقطُ القضاء للمشقة. (حكم النظر) فإن نظر فالتذ بقلبه فلا حكم لما قلناه (¬7) من الحرج، وإن أنعظ فكذلك أيضًا، وإن أمذى فاستدام النظر فالقضاء مأمور به. وهل هو (¬8) ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) في (ر) و (ت) الأمر. (¬3) في (ت) مني. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ق) تحريك. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ت) فلا حكم لها لما قدمناه. (¬8) في (ر) ذلك.

(حكم القبلة)

واجب؟ يجري على الخلاف المتقدم. وإن لم يستدم [النظر] (¬1)، استحب له القضاء ولا يجب. وإن أمنى؛ فإن استدام فالقضاء والكفارة، وإن لم يستدم فالقضاء. وهل يكفر؟ جمهور المذهب على أنه لا يكفر، وألزمه الكفارة أبو الحسن القابسي رحمه الله، وتأوله على ابن القاسم إذا قصد إلى النظر. ورأى أن قوله بالسقوط (¬2) إنما هو مع عدم القصد. وسبب الخلاف تعليق الحكم على النوادر، فتجب الكفارة. أو عدم تعليقه على ذلك، فتسقط. (حكم القبلة) وإن قبَّل فالتذ بقلبه فلا شيء عليه؛ إذ لا حكم للذَّة بانفرادها، فإن أنعظ فقولان: وجوب القضاء وإسقاطه. وهذا خلاف في حال؛ هل يمكن (¬3) الإنعاظ من غير مذي؟ وهاهنا قارن الإنعاظ [قبلة] (¬4)، فهل يقتضي تعلق الحكم عليه، بخلاف إذا فكر ونظر (¬5). وإن أمذي أمر بالقضاء. وهل يجب؟ قولان كما تقدم. فإن أمنى وجب القضاء، وهل تجب الكفارة؟ أما إن استدام فهي واجبة؛ لأنه [قاصد لفعل] (¬6) يوجد معه المني غالباً. وإن لم يستدم فقولان: وجوب الكفارة، وإسقاطها. وهما خلاف في حال، هل يوجد المني من القبلة غالباً أم لا؟ وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس. (حكم المباشرة والملاعبة) وأما إن باشر أو لاعب ولم يمذ فلا قضاء إلا أن ينعظ ففيه قولان كما تقدم في القبلة. وإن أمذى أمر بالقضاء. وهل يجب؟ قولان كما تقدم. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ق) بالإسقاط. (¬3) في (ق) و (ت) ينكسر. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ت) أو نظر. (¬6) في (ق) فعلًا.

(حكم الجماع فيما دون الفرج)

وإن أمنى وجبت الكفارة على الإطلاق، إذ الغالب مع هذا الفعل وجود المني. أو يكون ذلك موجوداً كثيراً وإن لم يكن غالباً. وقال أشهب: لا كفارة، كالقبلة عنده. (حكم الجماع فيما دون الفرج) وإن جامع فيما دون الفرج فلا كفارة إلا أن ينزل، فإن أنزل كفر بلا خلاف عندنا. وهل يجب القضاء مع [عدم] (¬1) الإنزال؟ [ظاهر مذهب البغداديين الخلاف في وجوب القضاء إذا لم يكن إلا المذي. أما إذا كان المني فلا خلاف في هذا] (¬2). (حكم الجماع في الفرج) وإن جامع في الفرج وجبت الكفارة بمغيب الحشفة؛ أنزل أو لم ينزل. ولا خلاف عند جمهور الأمة في وجوبها مع العمد. أما الإكراه والنسيان ففي المذهب قولان: المشهور عدم الوجوب، والشاذ إثباته. وسبب الخلاف قول النبي-صلى الله عليه وسلم- للقائل جامعت أهلي في رمضان "كفر" (¬3). ولم يسأله هل جامع عمداً أو نسياناً. وبين الأصوليون خلاف في ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) ما أثبته من (ل)، وفي (ر) و (ق) "ظاهر ما يطلقه البغداديون من الخلاف في وجوب القضاء إذا لم يكن إلا المذي يقتضي الخلاف في هذا"، وفي (ت) "ظاهر ما يطلقه البغداديون من الخلاف وجوب القضاء إذا لم ينزل إلا المذي يقتضي الخلاف في هذا". (¬3) لعل الحديث المقصود هو ما أخرجه البخاري في الهبة 2600 عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ: "جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُولِ اللُهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: هَلَكْتُ فَقَالَ: "ومَا ذَاكَ؟ " قَالَ وَقَعْتُ بأهلِي في رَمَضَانَ قَالَ: "تَجدُ رقَبَة؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ: "فَهَل تَستَطِيعُ أن تَصُومَ شَهرَينِ مُتَتَابعَين" قَالَ: لاَ، قَالَ: "فَتستَطِيعُ أن تُطعِمَ ستينَ مِسكِيناً؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ فَجَاءَ رَجُلْ مِنَ الأَنصَارِ بِعَرق وَالْعَرَقُ المِكتَلُ فِيهِ تَمرٌ فَقَالَ: "اذهب بهذا فَتصدق بِه" قَالَ: عَلَى أَحوَجَ منا يا رَسُولَ الله وَالَذِي بَعَثَكَ بِالحَق مَا بَينَ لاَبَتَيها أَهلُ بَيت أَحوَجُ منَّا قَالَ: "اذهَب فَأَطعمهُ أَهلَك".

باب في أحكام الطعام وغيره مما يصل إلي المعده والحلق

ترك [الاستفصال] (¬1) هل يتنزل منزلة العموم في المقال أم لا (¬2)؟ فإن قلنا إنه يتنزل منزلته جاء منه الشاذ، وإن لم نقل بذلك وحملناه على العمد لما في بعض الطرق من قول السائل احترقت (¬3) (¬4) جاء منه المشهور، إذ لا يقول في الظاهر احترقت إلا إذا كان عامداً. فإن جامع أهله مكرِهاً لها كفَّر عن نفسه، وهل يكفر عنها؟ أما إن قلنا بأن المكره يكفر فلا شك في وجوب الكفارة عليه عنها، وأما إن قلنا إن المكره لا يكفر فهاهنا قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه عنها (¬5) كفارة لأنها مكرهة (¬6). والثاني: لزومها له لأنه قاصد إلى انتهاك حرمة اليوم في حقه وحقها فتلزمه كفارتان (¬7). ... باب في أحكام الطعام وغيره مما يصل إلي المعده والحلق ولا خلاف أن الفطر يحصل بإيصال الطعام إلى المعدة أو إلى الحلق من منفذ واسع مع القصد والعمد. وفي معنى الطعام كل مغذٍّ. وهل يلحق ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) هذه قاعدة أصولية من كلام الشافعي. وقد جزم فيها بترك الاستفصال حيث قال: "ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الإحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال". انظر البرهان في أصول الفقه 1/ 237. (¬3) أخِرج البخاري في الحدود 6822، ومسلم في الصيام واللفظ له 1112 عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْها أنَها قَالَت: جَاءَ رَجُلٌ اِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -فَقَالَ: احتَرقْتُ، قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "لِمَ؟ " قَالَ: وَطِئتُ امرَأَتِي في رَمَضَانَ نَهَاراَ قَالَ: "تَصَدقْ تَصدقْ" قَالَ ما عِندِي شَيءْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَجلِسَ فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فيهِما طَعَامْ فأَمَرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَصَدَقَ بِهِ". (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ق) أنه تلزمه الكفارة. (¬6) في (ر) مكرهة لا يلزمها. (¬7) في (ر) كفارة ثانية.

به غير المغذي، كالتراب والحصى والدراهم وما في معنى ذلك؟ في المذهب قولان: الإلحاق، حماية للذريعة وحسماً لباب التناول (¬1). وعدم الإلحاق، لأنّ هذا النوع مما لا تتشوف النفوس إلى جنسه، ولا معنى لحماية الباب [فيه] (¬2). وقولنا: "من منفذ واسع"، احترازاً مما يصل [إلى المعدة] (¬3) من المنافذ الضيقة كالعين والإحليل، والمنافذ الواسعة: الفم والأنف والأذن. وهل تلحق بذلك الحقنة؟ في المذهب قولان: أحدهما: الإلحاق بذلك لأنه في معنى المنافذ المتقدمة. والثاني: عدم الإلحاق لأنه (¬4) لا يصل إلى المعدة. وإنما يصل إلى مستقر الأثفال (¬5). وقولنا: "مع القصد والعمد"، لما ذكرناه من (¬6) عدم الخلاف. ومذهبنا إلحاق النسيان بالعمد في حصول الفطر المقتضي للقضاء. وأما الكفارة فتحصل (¬7) في هذا الباب عندنا بالعمد، وما يدخل من (¬8) الفم. هذا النظر في هذا الباب على الجملة. وأما تفصيله فإنا نقول: أما ما يصل إلى الفم؛ فلا يخلو أن يكون متناولاً من خارج الفم أو مبتلعاً من الفم، [ولا يخلو من أن يكون مستخرجاً من الحلق أو متناولاً من خارج، ولا يخلو من أن يكون من جنس ما يغذي أو من جنس ما لا يغذي] (¬9)، ولا يخلو أن يكون مقدوراً على الاحتراز منه أو غير مقدور. ¬

_ (¬1) في (ت) المتناول. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) في (ق) إذا. (¬5) في النسخ التي وقفت عليها الأنفال. والأثفال كناية عن محل البراز. (¬6) في (ق): في عدم. (¬7) في (ت) و (ق) فتختص. (¬8) في (ق): في. (¬9) ساقط من (ق).

(حكم المتناول من خارج الفم أو المبتلع منه)

(حكم المتناول من خارج الفم أو المبتلع منه) فإن كان متناولاً من خارج، وهو من جنس ما يغذي، ففي عمده القضاء والكفارة عندنا، وفي سهوه القضاء. وإن كان مبتلعاً من الفم كالفلقة (¬1) من الطعام تكون بين أسنانه، ففيه قولان: أحدهما: أنه كالمتناول من خارج [الفم لأنّ (¬2) الفم له حكم الظاهر في الصوم، وإذا ابتلع منه شيئًا صار كالمتناول من خارج] (¬3)، وأيضًا فإن أصلها من خارج الفم. والثاني: أنها ليست كالمتناول من خارج؛ لأنها لما استقرت في الفم صارت في حكم الريق. فإذا (¬4) قلنا إنها ليست كالمتناول من خارج، فهل تسقط الكفارة ويجب القضاء أو يسقطان جميعًا؟ في المذهب قولان: سقوطها، لما عللنا به من أنها كالريق. ووجوب القضاء، لأنها في حكم ما يمكن الاحتراز منه، فأشبه (¬5) المتناول ناسياً (¬6). (حكم تناول غير المغذي) وأما غير المغذي فقد قدمنا ما فيه من الخلاف. وإذا قلنا إنه ليس كالمغذي، فهل يكون فيه [القضاء] (¬7) خاصة أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: وجوب القضاء، [إذ ليس كالمغذي] (¬8) في عمده دون الكفارة. [والثاني: وجوب القضاء والكفارة] (¬9)، وهذا مراعاة للخلاف، ولأن الكفارة ¬

_ (¬1) في (ر) كالفاقة. الفلقة هي: الكسرة من الخبز أو غيره. انظر لسان العرب 10/ 309. (¬2) في (ق) من خارج لأنّ. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) فإنما. (¬5) في (ق) فأشبهت. (¬6) غير واضح في (ر). (¬7) ساقط من (ر) وغير واضح في (ت). (¬8) ساقط من (ق)، وخرم في (ت). (¬9) ساقط من (ر) و (ق).

(حكم ما لا يمكن الاحتراز منه)

إنما جعلت في الشريعة] (¬1) زجراً عن تناول ما تدعو النفوس إليه، وهذا مما لا تدعو النفوس إليه. وأما ما استخرج من الحلق كالبَلْغَمِ (¬2)؛ فإن لم يقدر على طرحه فلا حكم له إن استرده، وإن أمكن طرحه ففيه من الخلاف ما في غير المغذي، كالفلقة بين الأسنان. (حكم ما لا يمكن الاحتراز منه) وإن كان مما لا يمكن الاحتراز منه، فإن عمَّ وكان من جنس ما لا يغذي كغبار الطريق، فلا خلاف في سقوط حكمه (¬3). وإن كان من جنس ما يغذي كغبار الدقيق فيه قولان في المذهب: أحدهما: وجوب القضاء، لأنّ [أقصى] (¬4) أمره أن يكون كالنسيان. والثاني: نفيه، لأنه لا يمكن الاحتراز منه كغبار الطريق. وأما غبار [الجير والدباغ] (¬5) وما في معناه من كل ما لا يغذي وينفرد بالاضطرار إليه بعض الناس، فهل يكون كغبار [الدقيق فيكون فيه الحكم كما قدمته أو يكون كغبار الطريق فلا حرج فيه ولا حكم؛ فإنه] (¬6) إن عللنا غبار الطريق بأنه من جنس ما لا يغذي فهذا مثله، وإن عللنا بعموم الاضطراب إليه فهذا بخلافه. ... فصل (حكم الواصل إلى المعدة أو الحلق من غير الفم) ولا خلاف في سقوط الكفارة في الواصل إلى المعدة أو الحلق من غير الفم، إلَّا ما قاله أبو مصعب فيما دخل من منفذ واسع. وهو بعيد ¬

_ (¬1) نهاية الساقط من (م). (¬2) البلغم: النخامة انظر لسان العرب 6/ 294. (¬3) في (ر) الحكم. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ق) و (ت) الجباسين. (¬6) ساقط من (ر) وفي (ق) الطريق أو كغبار الدقيق.

فصل (حكم القيء)

جدًا، لأنّ هذا مما لا تتشوف النفوس إليه، فتتعلق الكفارة به. وإنما ظن أن الشريعة علقت الكفارة بوصول الشيء إلى المعدة مع القصد والعمد. وفي إثبات القضاء فيما استدخل من منفذ واسع كالأنف والأذن قولان. وقد قدمنا القولين في الحقنة، وذلك إذا كانت مما يماع (¬1) [ويحصل الاغتذاء به] (¬2). وأما إذا كانت مما لا يماع فلا يختلف في سقوط حكمه. وكذلك الاكتحال بما لا يتحلل ولا يصل، وأما ما يتحلل ويصل فهل يجب عند الاكتحال به القضاء؟ في المذهب قولان. وهما خلاف في شهادة، هل يمكن أن يصل من العين إلى الحلق شيء بتوصيل العقاقير الغواصة، أو لا يمكن ذلك لضيق المنفذ؟ وإذا قلنا بإسقاط القضاء، فهل يجوز ذلك ابتداء أم لا؟ في المذهب قولان: فمن أجاز شهد (¬3) بعدم الوصول، ومن منع فلعله راعى الخلاف ورأى أنَّ الواصل يسير لا حكم له في إيجاب القضاء، لكنه ينهى عنه ابتداء. وإنما سقطت الكفارة في الواصل من غير الفم؛ لأنّ الكفارة إنما جعلت في الشريعة زجراً وردعاً عن تناول ما تدعو النفوس إلى تناوله، وهذا القبيل مما لا تدعو النفوس إليه إلا عند الحاجة، فيكون الإنسان كالمضطر إليه. والفطر إنما يقع بوصول جرم المتناول إلى الحلق لا بوصول ريحه. ولهذا نقول: إن ذوق (¬4) ما له طعم مكروه، لكن لا يحصل الفطر بذوقه إلا أن يصل منه شيء إلى الحلق والمعدة. ... فصل (حكم القيء) وأما [القيء] (¬5) الضروري فحكمه (¬6) ساقط إلا أن يُسترجع (¬7) شيء ¬

_ (¬1) ماع يميع ميعاً ذاب وقال، انظر لسان العرب 8/ 344. (¬2) ساقط من (ر) و (ق). (¬3) في (ق) استشهد. (¬4) في (ر) يقال لمن يذوق. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) في حكمه. (¬7) في (ت) و (ق) يسترد، وفي (م) يستعد.

فصل (حكم المضمضة والسواك)

بعد إمكان طرحه ففيه من الخلاف ما قدمناه في الخارج من الحلق يُسترد. وأما المستدعي ففيه القضاء في الصوم الواجب لإمكان أن يرجع منه شيء. واختلف البغداديون هل الأمر بالقضاء على الوجوب أو على الاستحباب. ولعل هذا التردد في رجوع شيء منه فيكون (¬1) بمنزلة من شك هل وجب عليه شيء أم لا؟ وهل (¬2) فيه الكفارة [أم لا؟] (¬3) أما إن كان استدعى لعذر أوجبه فلا كفارة عليه، وأما إن كان لغير عذر ففي الكفارة قولان: المشهور إسقاطها، والشاذ وجوبها. قال [أبو الفرج] (¬4) البغدادي: هو القياس. وتأوله على مذهب مالك رحمه الله. ولعلَّ هذا خلاف في شهادة هل يمكن أن يسلم مستدعي القيء من أن يرجع إلى حلقه شيء أم لا، أو نقول: وإن رجع يجري الخلاف في هذا القبيل هل في عمد رده بعد إمكان طرحه كفارة أم لا؟ وإثباتها حماية للذريعة، ونظرًا إلى القاعدة الكلية لوجوب الكفارة في العمد، وإسقاطها لأنّ النفوس تأباه بطبعها. ... فصل (حكم المضمضة والسواك) ولا خلاف في إباحة المضمضة للصائم. ولو تمضمض في وضوء أو غيره فسبقه الماء وجب عليه القضاء عندنا، لأنا نوجب (¬5) القضاء مع النسيان والغلبة، وهذا منه. ولا كفارة إلا أن يتعمد وصول الماء من غير غلبة. والسواك مباح عندنا قبل الزوال وبعده، إذا كان مما لا يتحلل منه ما ¬

_ (¬1) في (ر) ليكون. (¬2) في (ر) و (ت) و (م) فهل. (¬3) ساقط من (ر) و (ق). (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) في (ق) نقول بوجوب.

باب الصيام في السفر

يصل إلى الحلق أو طعمه، فإن كان [بما] (¬1) يتحلل فإن سلم منه كره ولا قضاء، وإن وصل إلى الحلق شيء كان على التفصيل الذي ذكرناه في المضمضة. ... باب الصيام في السفر ولا خلاف بين الأمة أن السفر من مقتضيات الفطر [على الجملة] (¬2)، وجمهورهم على إباحة الصوم فيه. وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) معناه: فأفطر. وهذا يسميه الأصوليون لحن الخطاب، وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} معناه: فلحق (¬4)، وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬5) معناه: فحنثتم. وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصوم في السفر كالفطر في الحضر" لم (¬6) يثبت (¬7)، ولو ثبت لحُمل (¬8) على من يشق عليه الصوم حتى يؤديه إلى مضرة كبيرة. وما ثبت (¬9) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) البقرة: 184. (¬4) في (ق) فحلق. (¬5) المائدة: 89. (¬6) في (ر) و (ت) فلم. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن ماجه في الصيام 1666 عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبدِ الرّحمَنِ عَنْ عبدِ الرحمَنِ بن عَوفِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "صَائِمُ رَمَضَانَ في السفَرِ كَالمُفطِر في الحَضَرِ". قال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/ 283: "وأخرَجه البزار ورجح وقفه وكذلك جزم ابن عديّ يوقفه وبين علته". (¬8) في (ت) كمل وفي (ر) لحكم. (¬9) في (ق) روي.

(أيهما أفضل للمسافر الإفطار أم الصيام؟)

"لَيسَ مِنَ البِر (¬1) الصَّومُ (¬2) في السفَر" (¬3) خارج على سبب، وهو أنه رأى رجلًا قد جهده الصوم فقال هذا القول. فهو عموم خرج على سبب. وبين الأصوليين خلاف هل يقصر على سببه، أو يتعدى؟ فإن قصرناه على سببه كان حجة للمشهور (¬4)، وإن عديناه إلى (¬5) غير هذا الموضع فنقصره هاهنا إما لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6) وسنذكر ما في هذه الآية وإما لما ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت تسافر (¬7) معه - صلى الله عليه وسلم - فمنهم الصائم والمفطر ولم يعب بعضهم على بعض (¬8). وإما لما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصيام في السفر فقال له: "إن شِئتَ فَصُم وإِنْ شِئتَ فَأفطِر" (¬9). (أيهما أفضل للمسافر الإفطار أم الصيام؟) وإذا [تقرر] (¬10) جواز الصوم في السفر على الجملة فهل هو أفضل، أو الفطر، أو يتساويان؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصوم أفضل، وهو المشهور. والثاني: عكسه. والثالث: أنهما سيان. وسبب الخلاف الآثار والاعتبار: أما الآثار فإنه - صلى الله عليه وسلم - صام في رمضان ¬

_ (¬1) في (ر) الصبر. (¬2) في (ت) و (ر) الصيام. (¬3) أخرجه البخاري في الصوم 1946، والدارمي في الصوم 1709. (¬4) في (ق) و (ر) (م) للجمهور. (¬5) في (ر) و (ق) و (ت): في. (¬6) البقرة: 184. (¬7) في (ق) يسافرون. (¬8) أخرج البخاري في الصوم 1947 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1118 عَنْ أنس بْنِ مالك قَالَ: "كُنا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَم يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَائِمِ". (¬9) أخرجه البخاري في الصوم 1943، ومسلم في الصيام 1121. (¬10) ساقط من (ر).

فلما بلغ الكَدِيدَ أفطر، فقال الراوي: "كان الناس يأخذون بالأحدث فالأحدث من فعله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) [فتعلق من رأى أن الصوم أفضل بأنه ابتدأ [به] (¬2)، ومن عكس فلأنه يرجع (¬3) إليه، وقال الراوي ما قال. وهو دليل على أنهم فهموا ترك الصوم والانتقال إلى أن الأولى الفطر. لكن في بعض الطرق أنه - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) إنما أمرهم بذلك فأفطر ليقتدوا به وقصد التقوي على لقاء العدو (¬5). وهذا يشعر بأن الصوم أفضل، لكنه تركه (¬6) لهذه العلة، والحديث متنازع فيه على أي المذهبين يدلّ كما بيَّناه. ومن قال بالتخيير احتج بما قال - صلى الله عليه وسلم - من تخيير السائل وقد تقدم وبما حكى أنس عن الصحابة رضي الله عنهم من انقسامهم إلى الصائم والمفطر كما تقدم، ولم يعب بعضهم بعضاً. ومثل هذا لا يكاد يخفى عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعلهم، وإقرارُه دليل على الجواز. ويحتج للمشهور أيضًا بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬7). لكن قد قدمنا الخلاف، هل كان صوم رمضان أولاً لازمًا فلا بد، أو يجوز للقادر عليه أن يفطر ويفتدي؟ فعلى القول بلزوم الصوم يكون في الآية حجة، وعلى القول بالتخيير بينه وبين الفدية ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الصوم 1944، ومالك في الصيام 653 واللفظ له عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الفتح في رَمَضَانَ فَصَامَ حَتي بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أفطَرَ فَأَفْطَرَ الناسُ وَكَانُوا يأخُذونَ بِالْأَحدَثِ فَالأحدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ق) راجع. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) أخرج مسلم في الصيام 1120 واللفظ له، وأبو داود في الصوم 2406 عن أبي سعيد الخدري قَالَ: سَافرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكةَ وَنَحنُ صِيَام قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "أنكُم قد دنَوتُم من عدوكُم وَالفِطرُ أَقوَى لَكم فَكَانَت رُخصَة فَمِنا مَن صَامَ وَمنا مَنْ أفطَرَ". ثُم نَزَلْنًا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: "أنكُم مُصَبحُو عدوكم وَالفِطرُ أَقوَى لَكم فأفطِرُوا" وَكَانَتْ عَزْمَة فأَفْطَرنا ثُمَّ قَالَ: لَقَد رَأَيتُنا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ في السَّفَرِ. (¬6) في (ر) لا يتركه، وفي (م) ترك. (¬7) البقرة: 184.

(نية السفر لا تبيح الإفطار)

يكون (¬1) محمل الآية على القادر ويكون ذلك منسوخاً كما تقدم. وأما الاعتبار؛ فمن رأى الفطر أفضل قاسه على القصر في السفر والمشهور أنه أفضل كما تقدم والفرق بينهما على المشهور أن القاصر يؤدي فريضة الوقت ويخرج عن عهدة (¬2) التكليف، والمفطر لا يؤدي فريضة الوقت بل (¬3) تبقى ذمته معمورة (¬4) به، ولا يجد أيامًا توازي رمضان في الفضل. (نية السفر لا تبيح الإفطار) وإذا تقرر ذلك فقد قدمنا أن مجرد النية لا تكفي في السفر حتى بصحبه الفعل. فمن عزم على السفر فأفطر قبل أن يشرع فيه فهل عليه الكفارة؟ في المذهب أربعة أقوال: أحدهما: وجوب الكفارة مطلقاً. والثاني: إسقاطها (¬5) مطلقاً. والثالث: إيجابها إن لم يتم [على] (¬6) السفر وإسقاطها إن تم. والرابع: إيجابها إن لم يأخذ في أهبة السفر وإسقاطها إن أفطر بعد أن أخذ في أهبة السفر. هذه الأقوال ترجع إلى الانتفاع بالتأويل وعدم الانتفاع به. وإذا (¬7) قلنا إن مجرد النية من غير شروع في السفر لا يقتضي الفطر؛ فمن (¬8) أوجب الكفارة مطلقًا فبناء (¬9) على الأصل ولم يعذره (¬10) بالتأويل، ومن أسقطها مطلقاً عذره بالتأويل، ومن فرَق بين أن يتم على السفر أو يبدو له أعطى ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) و (م) فيكون. (¬2) في (ق) مجهدة. (¬3) في (ق) ثم. (¬4) في (ق) مشغولة. (¬5) في (ق) سقوطها. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) فس (ق) و (ت) إذا. (¬8) في (ر) لمن. (¬9) في (ق) بناء. (¬10) في (ق) و (ت) يعدده.

(هل يباح الفطر لمن أصبح صائما في السفر)

أول النهار حكم آخره، فإذا تم على السفر صار اليوم لا حرمة له في حق هذا، إذ الكفارة إنما تجب لانتهاك الحرمة، ومن فرَّق بين أن يأخذ في أهبة السفر، أو لا يَعُدّ الأخذ في الأهبة ضرباً في (¬1) الشروع في زمان السفر، فتسقط به الكفارة. فإن سافر فلا يخلو أن يكون سافر قبل طلوع الفجر (¬2) أو بعده. فإن سافر قبل الطلوع فهو مخيَّر بين أن يعقد الصوم أو الفطر. وإن سافر بعد الطلوع فعليه أن يعقد الصوم قبل الطلوع. فإن أفطر قبل سفره فقد تقدم الخلاف فيه. وإن أفطر بعده؛ فإن تأوَّل فظاهر المذهب ألا كفارة عليه، وإن لم يتأول فقولان: أحدهما: إيجاب الكفارة. والثاني: إسقاطها. وهو خلاف في كون الصوم كالجزء الواحد والحكم فيه الأول (¬3)، فتجب الكفارة لانعقاده في الحضر. أو كل جزء منه عبادة قائمة بنفسها، فلا تجب الكفارة، لأنه صام أولاً حاضرًا وأفطر لما خرج للسفر (¬4)، والسفر يبيح الفطر. (هل يباح الفطر لمن أصبح صائمًا في السفر) وإن (¬5) أصبح صائمًا في السفر فهل يباح له الفطر في أثناء النهار؛ أما إن طرأ عليه عذر يقتضي الفطر ومنه التقوي للقاء العدو كما فعله - صلى الله عليه وسلم - فيباح الفطر، وأما إن لم يكن له عذر فقولان: المشهور منع الفطر، والشاذ جوازه. وهو على الخلاف في كون الصوم، هل هو كالجزء الواحد أو كل جزء منه قائم بنفسه، فيكون السفر مبيحاً للفطر في كل وقت وإن عقد الصوم. ويحتج من أباح الفطر أن النبي-صلى الله عليه وسلم- أفطر (¬6) بعد أن عقد الصوم، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) من. (¬2) في (ر) الشمس. (¬3) في (ق) للأول. (¬4) في (ر) في السفر. (¬5) في (ق) فإن. (¬6) في (ق) بفطر النبي-صلى الله عليه وسلم-.

(حكم المسافر يفتتح صوما في غير رمضان)

ويرى الفطر (¬1) من باب الأولى، لأنه بلغ إلى حالة تقتضي الفطر فلا بد. وإذا قلنا بمنع الفطر فأفطر هل تجب الكفارة؟ ثلاثة أقوال: أحدها: الوجوب، والثاني: نفيه، والثالث: إن أفطر بالجماع وجبت وإن أفطر بالأكل لا تجب. فأما الوجوب، فلما قدمنا من المنع. وأما نفيه، فلعله بناء على أن الفطر مكروه لا يحرم وقد قيل بذلك أو مراعاة الخلاف. وأما التفرقة، فهي لابن الماجشون وهو القائل بوجوب الكفارة مع النسيان والعذر، فلعله بناء على ذلك. أو لأنّ (¬2) الفطر بالأكل والشرب يتأول على التقوي على السفر، والجماع ليس كذلك. وإذا جاز إنشاء الصوم في السفر في رمضان جاز أيضًا لسائر أنواع الصوم. (حكم المسافر يفتتح صومًا في غير رمضان) وإن افتتح صوماً في غير رمضان فلا يخلو أن يكون واجبًا أو غير واجب. [فإن كان واجباً] (¬3) كالنذر أو صوم الكفارة؛ فالمنصوص أنه لا يجوز له الإفطار بعد افتتاحه، ويلزم على قول مطرف أنه يجوز فطره كما قال في الصيام في السفر في رمضان. وإذا أفطره فلا شك في وجوب القضاء إلا أن يفطره لمرض؛ [فإن أفطره لمرض] (¬4) ففي [قضاء] (¬5) المعيَّن منه قولان: أحدهما: الأمر بالقضاء خوفاً أن يكون السفر أهاج (¬6) عليه المرض. والثاني: نفي القضاء، نظرًا إلى المرض. وينبغي أن يكون هذا (¬7) خلافًا (¬8) في حال. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) و (م) العذر. (¬2) في (ر) ولأن. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ق). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ت) و (ر) هاج. (¬7) في (ت) هذا الخلاف خلاف في حال. (¬8) في جميع النسخ خلاف.

فصل (حكم المريض)

فإن تبيَّن أن السفر أهاجه (¬1) أمر بالقضاء، وإلا فلا قضاء عليه. وسيأتي الخلاف في قضاء اليوم المعيَّن في حق الناسي والمريض والحائض. فإن كان الصوم المفتتح تطوعاً، فالمنصوص أيضًا أنه لا يجوز إفطاره، ويجري على قول مطرّف أنه يفطره. وإذا افتتح الصوم ثم أفطر في الحضر ثم سافر؛ فأما التطوع ففي جواز الفطر فيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز فطره، فإن أفطر قضى. والثاني: أنه يجوز ولا قضاء عليه إن أفطر، وهو (¬2) على ما قدمناه من النظر إلى حالة الانعقاد، فلا يجوز له الفطر. ويلزم القضاء أو الحكم بأن (¬3) كل جزء قائم بنفسه، فيجوز الفطر وينتفي (¬4) القضاء. وأما الصوم الواجب؛ فقد قدمنا الخلاف في لزوم الإمساك في رمضان، هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فاحرى أن يجري الخلاف هاهنا. لكنه متى أفطر وكان الصوم مما يجب متابعته بطل جميعه وابتدأه (¬5). وهكذا يجري الأمر في القسم الأول (¬6)، وهو (¬7) إذا افتتح الصوم في السفر. ... فصل (حكم المريض) و [من] (¬8) مقتضيات الفطر المرض. ويحرم الصوم معه إذا أدَّى إلى ¬

_ (¬1) في (ت) هاج المرض، وفي (ر) هاج للمرض. (¬2) في (ق) وهما. (¬3) في (ر) بالحكم فإن. (¬4) في (ر) وينبغي. (¬5) في (ق) الصوم يجب تتابعه بطل جميع الصوم وابتدأه. (¬6) في (ر) وهذا لا يجري إلا من القسم الأول، وفي (م) وهذا لا يجري الأمر في القسم الأول. (¬7) في (ت) وهذا. (¬8) ساقط من (ر).

باب في أحكام صوم الأسير

التلف والإيذاء الشديد. وأما إن كان فيه مشقة ولا يؤدي إلى ذلك فلا يحرم تكلفه. وللإنسان الفطر متى خاف الموت، أو تمادي المرض، أو زيادته، أو حدوث مرض. ونؤخر الكلام على حكم الحائض إلى موضعه من الكتاب إن شاء الله. ... باب في أحكام صوم الأسير ولا شك أنه [إذا كان مطلقاً] (¬1) فيبني على الرؤية أو (¬2) العدد كما قدمناه. فإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الرؤية بني على العدد وأكمل كل شهر ثلاثين. فإن التبست عليه المشهور اجتهد وبنى على غلبة ظنه، وإن لم يغلب على ظنه شيء فأجراه اللخمي (¬3) على قولين: أحدهما: أنه يصوم سائر الشهور. والثاني: أنه يتحرى شهراً ليصومه (¬4). وهذا كما قدمناه فيمن التبست عليه دلائل القبلة. وكما اختلف في من نذر يوماً من الجمعة (¬5) ثم نسي عينه؛ فقيل: يتحرى يوماً فيصومه، وقيل: يصوم آخر يوم من الجمعة (¬6) حتى يكون قضى إن لم يكن هذا اليوم (¬7). وقيل يلزمه صوم الدهر (¬8) إن نذر يوماً (¬9) مؤبداً. فعلى هذا فلا بدّ أن يلزمه سائر الشهور. فان تحرى شهراً، أو صام باجتهاده؛ فلا يخلو أن يتبين له أنه أخطأ ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) والعدد. (¬3) في (ق) و (ت) المتأخرون. (¬4) في (ق) فيصومه. (¬5) يقصد يومًا من أيام الأسبوع. (¬6) في (ر) يصوم يوماً من الأيام للجمعة، وفي (ت) يصوم آخر يوم الجمعة. (¬7) انظر مواهب الجليل 2/ 453. (¬8) بياض في (ر). (¬9) في (ق) اليوم.

أو أصاب، أو يخفى عليه ذلك بعد خروجه إلى حيث يمكنه النظر. فإن تبين له الخطأ فإن أخطأ وصام (¬1) ما بعد رمضان أجزأه، وكان قضاء. وإن أخطأ بصوم ما كان قبله فلا يجزيه إلا أن تكون شهوراً عدَّة صام منها مثلًا عن ثلاثة شهور شعبان، وأما الشهر الآخر فلا خلاف في المذهب أنه يقضيه لأنه صام قبله. وأما الأول والثاني: ففي وجوب قضائهما قولان: المشهور وجوب القضاء. وقال (¬2) ابن الماجشون: لا يجب (¬3) ويكون الصوم الثاني والثالث قضاء عن الأول [والثاني] (¬4). وهذا خلاف في وجوب تعيين الشهر بالنية. وقد قدمنا الخلاف في وجوب تعيين اليوم بعينه (¬5) في الصلاة. وذكرنا (¬6) أن ثمرة ذلك لو نسي صلاة لا يدري هل هي من السبت أو من الأحد مثلًا. فلا (¬7) شك أنه إذا تبيّن له أنه أصاب فلا شيء عليه، وإن أشكل عليه؛ فإن بقي على ما كان عليه في حال صومه من غير أن تظهر أمارة ريبة، فلا شيء عليه ويستصحب الإجزاء، هكذا قاله أبو الحسن. وإن بدت (¬8) له أمارة ريبة فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القضاء حتى يستيقن ببراءة (¬9) ذمته فإن أصاب الشهر أو صام بعده قضى عنه. والثاني: نفي القضاء حتى يستيقن أنه صام قبله. وهذا على ما قدمناه من الخلاف في حكم من أيقن بالوضوء وشك في الحدث. وقد وقعت الروايتان مطلقاً، ولم يفصل قائلها بين ظهور ريبة وعدم ظهورها. وفصَّل أبو الحسن اللخمي كما قلناه. ولا شك أن وجهه ¬

_ (¬1) في (ق) يصوم. (¬2) في (ت) و (ر) قال. (¬3) في (ق) ولا يجب. (¬4) ساقط من (ق) و (م). (¬5) في (ق) بنيته. (¬6) في (ق) ذكرنا. (¬7) في (ت) و (ر) السبت مثلًا أو من الأحد ولا شك. (¬8) في (ر) وإن أشكل عليه فإن بقي على ما كان عليه في حال صومه، وفي (ق) فلا شيء عليه ويستحب الإجزاء. هكذا قاله أبو الحسن اللخمي. (¬9) في (ر) تبيّن له براءة.

فصل (من اضطر للفطر هل يتمادى في الفطر أم لا؟)

بيّن؛ لأنه إذا لم يسترب فلا شك، وإنما الشك مع تعارض خاطرين: أحدهما: أنه يقتضي أمراً، والآخر: يقتضي ضده، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. ... فصل (من اضطر للفطر هل يتمادى في الفطر أم لا؟) وقد قدمنا حكم من أصبح مفطراً في رمضان لجهله باليوم أو لعذر أوجب الفطر. وهل [على المفطر] (¬1) إمساك بقيمة اليوم أوْ لا يلزمه؟ وأعطينا في ذلك قولًا كليًا. لكن اختلف المذهب فيمن اضطر إلى الفطر لغلبة عطش أو أمر بيِّن الضرر فأفطر (¬2) حتى ذهبت ضرورته، هل يجوز له التمادي على الفطر لأنه إنما أفطر للضرورة فأشبه (¬3) الحائض والمسافر؟ أو لا يجوز له، لأنه إنما أفطر لعذر وقد انصرف بعد فتنعقد (¬4) عليه حرمة اليوم. وهكذا يلاحظ الخلاف فيمن اضطر إلى أكل الميتة؛ هل يجوز له الشبع منها [والتزود] (¬5)، أو إنما يجوز له تناول [ما يمسك] (¬6) القوت؟ ... فصل (حكم الجنابة والحيض) وجمهور الأمة على أن حدث الجنابة لا يناقض الصوم، وكذلك غيره من الأحداث. والدليل عليه قول عائشة رضي الله عنها فيما حكته عن ¬

_ (¬1) في (ت) يجب، وفي (ق) يلزم. (¬2) في (ق) و (ت) أو أمر من الأمور فأفطر. (¬3) في (ق) و (ت) لأنه لما أفطر للضرورة أشبه. (¬4) في (ق) و (ر) فينعقد. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) ساقط من (ر).

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يصبح جنبًا في رمضان من جماع من غير احتلام" (¬1). وأما حدث الحيض بعد ارتفاع الدم فهل يناقض الصوم؟ لا يخلو من أن ينقطع الدم قبل الفجر بزمان يمكن فيه الغسل، أو بزمن لا يمكن فيه الغسل، فإن أمكن ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يناقضه، وهو المشهور قياساً على حدث الجنابة. والثاني: هو الشاذ، أنه يناقضه، ولا ينعقد الصوم إلا بعد الاغتسال قياسًا على الصلاة. وإن لم يمكن الاغتسال فقولان: المشهور صحة الصوم. والشاذ عدم الصحة. وهذا نظرًا إلى أن الصوم لا ينعقد إلا بعد المخاطبة [بالصلاة] (¬2)، وإذا لم يمكن الغسل فلا تخاطب (¬3) على نصوص المذهب. فإن اجتمعت (¬4) قلت: [المذهب على] (¬5) ثلاثة أقوال: أحدها: صحة الصوم وإن بقي حدث الحيض. والثاني: عدم الصحة. والثالث: التفرقة بين إمكان الغسل وعدم إمكانه. وفي الكتاب فيمن أصبحت فشكَّت أَطَهُرت قبل الفجر أو بعده، فلتصم يومها ذلك وتقضيه. واستقرىء من (¬6) هذه المسألة فرعان: أحدهما: وجوب صوم يوم الشك للاحتياط ثم يقضي. وهذا كما قدمناه من استقراء أبي الحسن اللخمي وجوب الصوم (¬7) من أحد الأقوال في التي لا ينقطع ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الصوم 1932، ومسلم في الصيام 1109 واللفظ للبخاري عن أبي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَحمَنِ قال: كُنْتُ أنا وَأبِي فَذهبتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنا عَلَى عَائشةَ رَضِي الله عنها قَالَت: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِن كَانَ لَيُصبِحُ جُنُباً مِنْ جِمَاع غَيْرِ احتِلاَم ثم يَصُومُهُ ثُمَّ دَخَلْنا عَلَى أُم سَلَمَةَ فَقَالَت مِثلَ ذَلِكَ. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) ولا يخاطب. (¬4) في (ر) فإذا جمعت. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ت) في. (¬7) في (ق) القضاء.

فصل (حكم الجنون والنوم والإغماء)

عنها الدم بعد عادتها هل تصوم وتقضي فيما بينها وبين (¬1) الخمسة عشر يوماً. وقد قدمنا في ذلك. والاستقراء من مسألة الشاكة هل طهرت قبل الفجر أضعف (¬2)، لأنها لا دم معها. والظاهر براءتها لعدم (¬3) الدم. والفرع الثاني: أن الحائض لا يجب عليها تجديد النية للصوم؛ بل تكتفي بما تقدم في أول الشهر. وفي ذلك خلاف يأتي في باب النية [في الصوم] (¬4). ... فصل (¬5) (حكم الجنون والنوم والإغماء) ولا خلاف أن الجنون مناقض لانعقاد الصوم، لكن حكم القضاء قد قدمنا ما في المذهب فيه (¬6). ولا خلاف أن النوم لا يناقض الصوم. وأما الإغماء فإن كان بمرض استغرق جميع أجزاء النهار فلا خلاف في المذهب أنه يناقض الصوم، ولا ينعقد معه، قياسًا على الجنون. وإن كان بغير مرض فالمشهور أنه كالأول، والشاذ أنه كالنوم. وهو خلاف في شهادة؛ هل يستغرق الإغماء بغير مرض حتى يذهب العقل [جملة ويخرج] (¬7) عن حالة النوم بالكلية، أم لا؟ فإن كان الإغماء في اليسير من النهار؛ فإن سلم طرفه الأول فلا خلاف في المذهب أنه كالنوم وهذه (¬8) شهادة بأنه مع هذه الحالة لا يستغرق العقل، فإن كان في طرفه الأول حتى كان الإغماء [من] (¬9) قبل ¬

_ (¬1) في (ر): فيما بينهما قولان الخمسة. (¬2) في (ق) أضعفت وفي (ت) لضعف. (¬3) في (ر) وعدم. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) باب النية للصوم. (¬6) في (ر) المذهب فيه ثلاثة أقوال ولا خلاف، وفي (ق) المذهب ثلاثة أقوال ولا خلاف، وخرم في (ت). (¬7) في (ر) بغير مرض. (¬8) في (ر) وهو. (¬9) ساقط من (ق).

فصل (حكم من أفطر متأولا)

طلوع [الفجر] (¬1) ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يناقض، والثاني: أنه يناقض. فمن قال إنه لا يناقض قاسه على الكائن في آخر النهار (¬2). ومن قال إنه يناقض نظر إلى حالة الانعقاد، فمتى سلمت عد ما يطرأ بعدها كالنوم. وإن أتى الإغماء على شطر (¬3) النهار ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يناقض [كالنوم] (¬4). والثاني: أنه يناقض [كالجنون] (¬5). وهو خلاف في شهادة هل يعم هذا المقدار أجزاء العقل حتى يكون كالجنون أو لا يعمّ، إلا أن يكون مستغرقاً لكل النهار. وفي الجل قولان أيضًا (¬6): وجوب القضاء، واستحبابه. وهما على ما قدمناه. ... فصل (حكم من أفطر متأولاً) ولا خلاف في وجوب الكفارة عندنا مع القصد إلى انتهاك حرمة الصوم. فإن أفطر متأولاً فإن قرب تأويله واستند إلى أمر موجود فلا كفارة عليه. وهذا كما مثله في الكتاب فيمن أفطر ناسياً فظن بطلان صومه فأفطر متعمداً، أو المرأة ترى الطهر ليلًا في رمضان فلم تغتسل فتظن أن من لم تغتسل ليلًا (¬7) فلا صوم لها فتأكل، والرجل يدخل من سفره ليلًا فيظن أنه لا صوم له إلا أن يدخل نهارا فيفطر. والعبد يخرج راعياً على مسيرة أميال فيظن أنه سفر يبيح له الفطر، فلا كفارة على جميع هؤلاء. وقال ابن القاسم: "وكلما رأيت مالكاً رحمه الله يُسأل عنه من هذا الوجه على التأويل ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) في (ر) فأشبهه بالكائن في أجزاء النهار. (¬3) في (ت) شرط. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) أيضًا قولان. (¬7) في (ت) قبل الفجر.

فلم أره يجعل فيه الكفارة" (¬1). وإن بعد تأويله ففي المذهب قولان: إيجاب الكفارة، والثاني: إسقاطها. وهذا كما قدمناه في من رأى الهلال وحده فردَّ الإمام شهادته فأفطر، ظانا أن الصوم لا يجب عليه. فإن إستند تأويله إلى سبب معقول (¬2) ففيه قولان: أحدهما: إيجاب الكفارة، وهو المشهور نظراً إلى الحال. والشاذ إسقاطها، نظراً إلى المآل. وهذا كمسألة المفطرة تعويلاً على أنه يوم حيضتها، وكالمفطر تعويلاً على أن اليوم تنوبه (¬3) فيه الحمى. وهو يلاحظ مسألة من الكلام وهو من بلغ فأهمل النظر والاستدلال به (¬4) عند بلوغه فاحتلم قبل إكمال أجزاء (¬5) النظر [لو أفتتحه] (¬6). واختلف القائلون بإيجاب النظر هل يحكم بعصيانه نظراً إلى حالة التفريط أو ينتفي العصيان نظراً إلى أنه لو بادر لما أغنى عنه ولم يصل إلى المقصود (¬7). ¬

_ (¬1) المدونة 1/ 209، والتاج والإكليل 2/ 433. (¬2) في (ق) مفقود. (¬3) في (ق) تأتيه. (¬4) في (ق) و (ت) للاستدلال. (¬5) في (ت) آخر النظر لو افتتحه. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) كذا في (ق)، وفي (ت): "وهو يلاحظ مسألة من الكلام وهو من بلغ فأهمل النظر والاستدلال به عند بلوغه فاحترم قبل إكمال آخر النظر لو افتتحه. فاختلف القائلون بإيجاب النظر هل يحكمون بعصيانه نظراً إلى حالة التفريط أو بنفي العصيان نظرًا إلى أنه قد بادر وما أغنى عنه ولم يصل إلى المقصود". وفي (ر) "وهو يلاحظ مسألة من علم الكلام وهو من بلغ فأهمل النظر والاستدلال عند بلوغه فاحترم قبل إكمال أجزاء النظر وافتتحه. واختلف القائلون بإيجاب النظر هل يكون بعصيانه نظرًا إلى حالة التفريط أو بنفى العصيان نظرًا إلى حالة التفريط إلى أنه إن بادر لما أغنى عنه لم يصل إليه المقصود". وفي (م): "وهو يلاحظ مسألة من الكلام وهو من بلغ ... النظر والاستدلال عند بلوغه فأحرم قبل إكمال آخر النهار أو افتتاحه فاختلف القائلون بإيجاب النظر هل يحكمون بعصيانه نظرًا إلى حالة التفريط أو نفي العصيان نظرًا إلى أنه لو بارد لما أغنى عنه ولم يصل إلى المقصود". وفي (ل): "وهذا يبنى على مسألة من الكلام وهي من بلغ فأهل للنظر والاستدلال عند بلوغه واحتلم قبل كمال شرع النظر واستبعاده من الفكرة فاختلف القائلون بإيجاب

فصل (حكم الحامل والمرضع)

فصل (حكم الحامل والمرضع) وينخرط حكم الحامل والمرضع في سلك (¬1) المريض؛ فأما الحامل فمتى أدَّى صومها إلى الخوف على نفسها أو على ما في بطنها أفطرت، ويجب عليها الإفطار في كل حالة يجب على المريض، وقد قدمناه. وهل تكون عليها الفدية الصغرى؛ وهي مدّ لكل يوم؟ في المذهب أربعة أقوال: أحدها: نفي الوجوب، قياساً على المريض. والثاني: إيجابه، لأنّ النص ورد في المريض، وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الفدية على الحامل. والثالث: التفرقة بين أن تخاف على نفسها فتسقط الفدية لأنها مريضة، أو تخاف على ما في بطنها فتجب لأنها في هذه الحالة كالمرضع والمرضع لا يتعلق عليها (¬2). والرابع: تطعم إن احتاجت إلى الفطر قبل ستة أشهر، ولا تطعم إن احتاجت إليه بعد ستة أشهر، لتحقق حالة المرض بعد [ستة أشهر] (¬3). فأما المرضع فإن شق عيها الصوم وأدَّى إلى حالة المرض؛ فإن قدرت، أو قدر من يلزمه إرضاع الصبي المولود على أن يستأجر له من تقوى (¬4) على الإرضاع والصيام، أو مرضعاً (¬5) حائضًا أو كتابية، وكان المولود يقبل غير أمه، وجب الاستئجار ولم يجز الفطر. وإن لم يوجد من يستأجر [أو بما يستأجره] (¬6) أو لم يقبل غير أمه أفطرت الأم وأرضعته. وفي وجوب الفدية عليها قولان. وهي مطيقة في نفسها غير ¬

_ = النظر هل يحكمون بعصيانه نظراً إلى حالة التطويل في العمد وكثرة التفريط أو ينتفى العصيان نظرًا إلى أنه لو بادر ما أغنى عنه ولم يصل إلى المقصود". (¬1) في (ر) مسألة. (¬2) في (م) و (ر) كالمرض والمرض لا يتعلق بها، وفي (ق) كالمرضع والمرض لا يتعلق بها. (¬3) في (ق) الستة. (¬4) في (ر) تقوم. (¬5) في (ر) ترضعها. (¬6) ساقط من (ر).

فصل (لا تصوم الزوجة تطوعا إلا بإذن زوجها)

مطيقة لضرورة (¬1) الولد؛ فمن نظر إلى حالتها أوجب الفدية، ومن نظر إلى حالة الولد أسقطها. وقد قدمنا الخلاف في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬2) هل هو محمول على القادر على الصوم، أو أنه كان يخير بين الصيام (¬3) والإطعام ثم نسخ، أو معناه يلزمونه وإن عجزوا عنه (¬4). وعليه أيضًا القولان في المتعطش والشيخ الكبير. وبالجملة، كل من لا مرض به، ويُعلم من حالته أنه لا يمكنه إكمال صوم اليوم، هل تلزمه الفدية أم لا تلزمه؟ ... فصل (لا تصوم الزوجة تطوعاً إلا بإذن زوجها) والنكاح معاوضة بين الزوجين، ملك به الزوج الانتفاع بالزوجة والاستمتاع، فليس لها أن تفعل ما يؤدي (¬5) إلى تعطيل ملكه إلا بإذنه. فلهذا لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، أو تعلم من حاله أنه لا يحتاج إليها في النهار. فإن صامت من غير إذنه فمقتضى المذهب أنه يجبرها على الفطر. وهكذا يكون العبد ليس له أن يصوم تطوعاً إلا بإذن سيده، وهذا إذا كان صومه يضر بسيده في عمله، وأما إن كان غير مضر فقد قالوا لا يمنعه. وينبغي أن ينظر هل يضر ذلك في المال أو يضر في الحال؛ فإن كان يضر في المآل فله أن يمنعه، وليس للزوج ولا للسيد المنع من الصوم الواجب لتقديم حق [الله تعالى] (¬6) لأنه (¬7) على ذلك دخل. ¬

_ (¬1) في (ق) بضرورة. (¬2) البقرة: 184. (¬3) في (ت) وأنه كان مخير بين الصوم، وفي (ق) وإن كان مخير بين الصوم. (¬4) في (ر) عن أدائها. (¬5) في (ر) يؤتي. (¬6) في الواجب. (¬7) في (ق) و (ت) ولأنه.

باب في أحكام القضاء

وهل له المنع في تعجيل القضاء؟ وهذا مما تردد فيه المتأخرون هل له ذلك لما كان تعجيل القضاء لا يجب، أو ليس له ذلك للمحاذرة من أن يحرم (¬1) أو يعجز عن القضاء حتى يدخل عليه شهر آخر فيكون مفرطاً (¬2). وسنذكر الخلاف في من صح من الأيام ما يمكن له فيه القضاء، ثم توالى عليه المرض حتى دخل عليه شهر آخر، هل يكون مفرطاً أم لا؟ ... باب في أحكام القضاء ولا خلاف أنه لا يجب على الفور. والأصل في ذلك ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها عن نفسها أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إذا أفطرت فيه فما تقضيه إلا في شعبان لشغلها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فإن بادر المكلف فقد سلمت ذمته وبرئ، وإن أخر ثم أمكنه القضاء قبل دخول رمضان الثاني فقضى فلا فدية عليه، وإذا كان معذوراً بالمرض أو السفر جميع السنَّة فلا فدية عليه، وإن صحَّ عند تعين (¬4) القضاء فلم يقضه وهو في شعبان فعليه الفدية بلا خلاف عندنا، وإن زال عذره في أثناء السنَّة ومرض أو سافر عند تعين القضاء فلم يقضه ففي وجوب الفدية عليه قولان للمتأخرين. وهما على الخلاف فيما وجب وجوباً مُوسعاً هل يتعلق الإثم بفواته إذا أمكن الإتيان به قبل تعيين (¬5) فعله للأصوليين (¬6) في ذلك قولان. ¬

_ (¬1) في (ق) للمخالفة أن يحترم. (¬2) في (ر) مفروضاً وفي (ت) مفطراً. (¬3) أخرج البخاري في الصوم 1950، ومسلم في الصيام 1146 واللفظ له عنِ عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَما أَستَطِيعُ أَن أقضِيَهُ إِلا في شَعْبَانَ الشُغْلُ من رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -أَو بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) في (ق) و (ت) تعيين. (¬5) في (ر) تغير. (¬6) في (ر) و (ت) وللأصوليين.

فصل (زمن القضاء)

وإذا وجبت الفدية فمتى يؤمر بإخراجها؟ قولان في المذهب: أحدهما: عند تقرر (¬1) القضاء واستقراره في الذمة (¬2) لأنه سبب الوجوب. الثاني: عند الأخذ في القضاء بعد رمضان الثاني، [إذ] (¬3) حينئذ وجب القضاء فتجب الفدية متابعة له. وإذا وجبت (¬4) الفدية فأوصى بها كانت مبداة. لكن (¬5) النظر في حكم التبدية محال يأتي في كتاب الوصايا. وإذا لم [تجب فأوصى بها لم تكن] (¬6) مبداة. لكن اختلف إذا اجتمع على المكلَّف صوم عن تمتع وما في معناه وقضاء رمضان ولم يتعين زمن القضاء؛ هل يبدأ بالصوم عن التمتع، أو بالصوم للقضاء، فالتبدية بالتمتع (¬7) لأنه مأمور بتعجيله في أيام الحج. فإذا فاته، أمِرَ بالمبادرة إليه وتبدية قضاء رمضان؛ لأنه بدل عما هو أكبر من صوم المتمتع. ... فصل (زمن القضاء) وكل زمن يخير الإنسان في صومه أو فطره؛ فإنه يصح أن يكون محلاً للقضاء. واحترزنا بقولنا "يُخيَّر" من صوم [يوم] (¬8) العيدين، فإن الفطر فيهما واجب. وأما الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر ففيها خلاف نذكره؛ وذلك أن اليومين يصح صومهما للمتمتع. وهل يصومهما من نذرهما [لا يخلو أن ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) تعذر. (¬2) في (ر) واستقراؤها في المدونة. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) أوجب. (¬5) في (ر) لأن. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) ما أثبته من (ل)، وفي (ت) وتبدية المتمتع، وفي (ق) ولفدية التمتع، وفي (ر) أو بالتبدية المتمتع. (¬8) ساقط من (ر).

(حكم تتابع القضاء)

ينذرهما بعينهما أو تبعاً (¬1) للشهر أو تبعاً للسنة؛ فإن نذرهما بعينهما ففي المذهب قولان: المشهور أنه لا يصومهما قياسًا على يوم العيد. والشاذ يصومهما قياسًا على المتمتع. وكذلك القولان أيضًا في ناذر ذي الحجة وناذر السنة. والقول أنه يصومهما [هاهنا شاذ جدًا] (¬2)، وأما اليوم الرابع من يوم النحر؛ ففي صيامه على النذر قولان: المشهور [جواز] (¬3) صومه، لأنه ليس محلاً للنحر عندنا. ولا يتناوله قوله - صلى الله عليه وسلم -: في أيام [النحر] أنها أيام أكل وشرب [وتبعل] (¬4). والشاذ أنه لا يصومه، لأنه ملحق باللذين قبله في حكم الرمي بالجمار. وكذلك الخلاف في هذه الثلاثة الأيام هل يصومها من وجبت عليه الكفارة فافتتح الصيام قبل العيد وكان معذوراً حتى لا يبطل تتابعه؟ وهل يصح القضاء في هذه الثلاثة أيام؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يصح، والثاني: أنه يصح، والثالث: التفرقة فيصح في اليوم الرابع، ولا يصح في اليومين اللذين قبله. ومعرفة سبب الخلاف يؤخذ مما تقدم. (حكم تتابع القضاء) ولا يجب تتابع القضاء عندنا بل يستحب. والأصل في هذا أن القضاء إنما ثبت من غير شرط التتابع فيه، فلا تعمر الذمة بتتابعه إلا أن يثبت ما ¬

_ (¬1) في (ر) تتابعا، وفي (ت) تابعا. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ساقط من (ق). (¬4) ساقط من (ق) و (ت). لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه مسلم في الصيام 1141 عن نبيشة الهذلي، والدارقطني في سننه 2/ 212 عن عبد الله بن حذافة السهمي، وابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 394 واللفظ له عن عمر بن خلدة الأنصاري عن أمه قالت: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًا أيام التشريق ينادي أنها أيام أكل وشرب وبعال". قال أبو عبيد في الغريب 1/ 182: "البعال النكاح وملاعبةُ الرجلِ أهلَه".

يقتضيه. وما يقوله أهل المذهب من أن كل صوم في القرآن ينقص (¬1) عن الشهر فلا يجب تتابعه، وما أكمل فيه الشهر وجب تتابعه، فإنما هو على التقريب وليس ذلك علة في وجوب التتابع وعدم وجوبه. وإنما وجب التتابع في ما كان شهرًا أو شهرين للنص على وجوب التتابع. ويرجع إلى الاحتراز [بالتخيير] (¬2) بين الصوم والفطر فيما يجب صومه ولا يصح (¬3) فيه القضاء، وهذا كَرَمَضان ثانٍ. ولو نوى به القضاء عن الأول [فالمذهب على ثلاثة أقوال: الإجزاء عن هذا، ويكون أداء. والإجزاء عن الأول] (¬4)، ويكون قضاء. وقد تؤولا جميعًا على المدونة؛ لأنه قال: ويكون عليه قضاء رمضان الآخر، ويروى بكسر الخاء، فيكون معناه: الإجزاء عن القضاء. ويُروى بفتحها، ويكون معناه (¬5): الإجزاء عن الأداء. وقيل لا يجزي عن واحد منهما. وخرَّج الباجي قولين بالإجزاء عن الأول والثاني، على خلاف في المذهب؛ هل تجزي نية القضاء عن نية الأداء، أو عكسه [عدم الخلاف هل يجزيه نية الأداء عن نية القضاء] (¬6). ومثله الأسير يصوم شهرًا، ثم يتبيَّن له أنه صام شعبان. وقد قدمنا الخلاف في ذلك. والذي يعول عليه في هذا. أما في مسألة الأسير فما قدمناه. وأما مسألة القضاء؛ فإن هذا قاصداً إلى الصوم مع العلم بوجوب صوم هذا الشهر عليه؛ فمن قال بالإجزاء على الأداء رأى أن حقيقة النية قد حصلت (¬7)، وحكم بأن الصوم للقضاء حكم بخلاف الشريعة وهو مردود. ومن قال بالإجزاء عن القضاء أعطاه حكم قصده وراعى حكم النية، ¬

_ (¬1) في (ق) مقصور. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) ولا يجب. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) معه. (¬6) ساقط من (ق) و (ت). (¬7) في (ت) حبطت.

فصل (كيف يقضي الشهر كاملا من عول على التتابع)

ولا صوم إلا بها عندنا فيجزيه عن القضاء، وإن أخطأ (¬1) بتأخير الأداء. وأما من نفى الإجزاء فلأنه رأى تعيين الشهر يقتضي صومه عن الأداء. والقصد [وقع] (¬2) بخلاف ذلك وحصل التنافي بين العلم بوجوب (¬3) الأداء والقصد إلى القضاء. ومتى حصل التنافي [بين العلم بوجوب الأداء والقصد إلى القضاء] (¬4) بطل. وخرَّج أبو الحسن اللخمي على هذا الخلاف فيما لو قصد أن يصوم رمضان عن نذر أو عن كفارة ظهار أو غيرهما. والمنصوص في هذا عدم الإجزاء على الجميع. ولعل هذا لا يجري فيه الخلاف لبعد ما بين الوجوب هاهنا، بخلاف ما إذا قصد ما هو من جنس واحد. ... فصل (كيف يقضي الشهر كاملا من عوّل على التتابع) ولا خلاف أن من أفطر في رمضان أيامًا لا يجب عليه إلَّا عدتها، فإن أفطر جميع الشهر وابتدأ القضاء متفرقاً أو في أثناء شهر ثان؛ فلا يجب عليه إلا عدد الأيام. فإن ابتدأ القضاء في شهر شوال وعوَّل على المتابعة من أوله، فإن كان كعدد الأول فلا شك في الإجزاء، وإن كان هذا الثاني أكمل فهل يجب عليه صيام جميعه؟ [وهل يكتفي به إذا نقص؟] (¬5) في المذهب قولان: أحدهما: أنه يراعي عدد الأيام ولا حكم للشهر، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬6). والثاني: أنه يراعي حكم الشهر؛ لأنه ليس في ¬

_ (¬1) في (ق) عصى. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ت) التنافي بحصول العلم بوجوب، وفي (ق) التنافي بحصول العلم بين وجوب. (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) في (ر) و (ق) أو أنقص فإن كان نقص فهل يكتفي به. (¬6) البقرة: 185.

باب في أحكام النية في الصوم.

ذمته إلا شهر. ويلتفت هذا الخلاف (¬1) في القضاء، هل يجب بالأمر الأول فيكون عليه عدد الأيام، أو بأمر ثانٍ فيراعي الشهر. ... باب في أحكام النية في الصوم (¬2). ولا خلاف [عندنا] (¬3) في وجوب النية للصائم وعدم الإجزاء مع غير قصدها (¬4) إلا ما ذكره ابن الماجشون وأحمد بن المعذّل (¬5) في الصوم المتعيّن. وهذا لأنّ الصوم عبادة محضة، وهو يقع عبادة وعادة. والنية للتمييز بين العبادات والعادات. ثم لا خلاف أنه لا تجزي عندنا إلا أن تتقدم النية على سائر أجزائه، فإن طلع الفجر ولم ينوِ لم يجزه في سائر أنواع الصيام إلا يوم عاشوراء ففيه قولان: المشهور من المذهب أنه كالأول، وهذا لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صيام لمن لم يبيَّت الصيام من الليل" (¬6) على أنه قد اختُلف في مقتضى هذا النفي. وتحقيقه مُحال على فنه من ¬

_ (¬1) في (ق) الخلاف على. (¬2) في (ت) باب في حكم النية في الصيام، وفي (ق) باب في أحكام النية في الصيام. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ت) مع عدمها وفي (ق) مع فقدها. (¬5) هو: أحمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم العبدي يكنى أبا الفضل بصري وأصلهم من الكوفة فقيه متكلم من أصحاب عبد الملك بن الماجشون ومحمد بن مسلمة كان ورعاً متبعاً للسنة، عليه تفقه جماعة من كبار المالكية كإسماعيل القاضي ... توفي وقد قارب الأربعين سنة. الديباج المذهب ص: 30 شجرة النور ص: 64 (50). (¬6) أخرجه النسائي في الصيام 2334 واللفظ له، والدارمي في الصوم 1698عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصيَامَ مِنَ اللَّيلِ فَلا صِيامَ لَهُ". وقال ابن حجر في فتح الباري 4/ 142: "واختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقة وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور منهم ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم وابن حزم وروى له الدارقطني طريقاً آخر وقال: رجالها ثقات".

(محل النية)

الأصول. والشاذ اختصاص يوم عاشوراء بصحة الصوم وإن وقعت النية في النهار، لقوله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء: "أنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر" (¬1). وظاهره يقتضي إباحة الصيام لمن لم يبيِّته، ولعلَّه يحتمل هذا في المشهور (¬2) على بيان الحكم في عدم الوجوب، ويكون معناه: فمن شاء أن يصم في عام ثان لا في هذا اليوم. (محل النية) وإذا ثبت اشتراط تقدّم النيّة. فلا خلاف عندنا أن محلّها الليل، ومتى عقدت فيه أجزأت ولا يشترط مقارنتها للفجر بخلاف الصلاة والطهارة والحج، فإنا (¬3) نشترط المقارنة والتقدم بالزمان اليسير على ما تقدّم تفصيله. والفرق بين الصوم وبين سائر [هذه] (¬4) العبادات أن الغالب [مجيء] (¬5) أول زمن (¬6) الصيام والناس (¬7) نيام. وفي تكليفهم المقارنة كبير مشقة عليهم، تُسقط مثلها الشريعة. (هل يجزي تبييت النية في أول رمضان علي سائره أم لا؟) لكن اختلف المذهب هل يجزي التبييت في أول رمضان على سائره، أو لا بدّ لكل ليلة من التبييت؛ فالمشهور: الإجزاء. والشاذ اشتراط التبييت في كل (¬8) ليلة، [لأن الليل زمان لا يصح صومه، فهو كالتابع للنهار] (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصوم 203 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1129. (¬2) في (ر) يحمل هذا على المشهور. (¬3) في (ر) وإنما. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) و (ت) زمن أول. (¬7) في (ق) والمكلفون. (¬8) في (ر) التبييت لكل، وفي (ت) التبييت كل. (¬9) ساقط من (ت) و (ق).

(هل يفتقر سارد الصوم إلى تبييت النية كل ليلة؟)

وسبب الخلاف النظر إلى تخلل الفطر، وهو يقتضي منع اتصال العبادة، فيفتقر إلى التبييت كل ليلة. أو النظر إلى أن الليل زمن لا يصح صومه، فهو كالتابع للنهار، أو في حكم العدم معه. أو النظر إلى اتصال الصيام، أو التعويل على صوم جميع تلك الأيام. (هل يفتقر سارد الصوم إلى تبييت النية كل ليلة؟) وعلى هذا التعليل اختلف في من شأنه سرد الصوم، أو من نذر صوم يوم بعينه، هل يفتقر إلى التبييت كل ليلة أو يكفيه التعويل من أوله؟ ولا شك على الشاذ من المذهب أنه يفتقر إلى التبييت. وإنما هذا الخلاف على المشهور، فمن علَّل في رمضان بوجوب اتصال الصيام أوجب التبييت في حق من شأنه سرد الصوم وفي حق ناذر يوم بعينه، ومن علَّل بالتعويل على إدامة الصيام لم يوجبها في حق من يسرد الصوم وأوجبها في حق الناذر ليوم بعينه، ومن عوَّل على التعويل (¬1) على صوم الأيام أسقط التبييت عن جميع هؤلاء. وفي المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: إيجاب التبييت إلا في رمضان كما تقدم. والثاني: نفي إيجابها عن سارد الصوم وعن الناذر يومًا بعينه. والثالث: إسقاطه عن الناذر (¬2) دون غيره. ولو طرأ في رمضان ما أباح الفطر فهل يفتقر إلى [إعادة] (¬3) التبييت؟ في المذهب قولان. وقد قدمنا مسألة الحائض تشك هل طهرت قبل الفجر أو بعده؟ وأن الأشياخ أخذوا منها أن إعادة التبييت لا يلزم، لأنه إنما علَّل في المدونة وجوب القضاء بأنها لا تدري أطهرت قبل الفجر أو بعده، ولم يلتفت إلى النيَّة. وهذا الاستقراء ظاهر على أنه قد يُعلِّل [بعلَّة] (¬4) ثم يعوِّل ¬

_ (¬1) في (ق) ومن علل بالتعويل. (¬2) في (ق) الصارد. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ر).

على غيرها. وهذا كما قدمناه في الإمام أن يقرأ الإمام سورة فيها سجدة (¬1) في صلاة الفرض خيفة التخليط. ثم سئل عن الفذ فكرهه أيضًا. والتخليط مأمون في حقه. وسبب الخلاف في وجوب إعادة النية (¬2) النظر إلى التعويل على إدامة الصوم في الأول ووجوبه. وما طرأ من الفطر غير مؤثر في النية الأولى، ولا يفتقر إلى تبييت. أو النظر إلى تخلل زمان يصح (¬3) صومه [وفطره] (¬4)، فصار قاطعًا للنية الأولى. وقد فرق بعض المتأخرين بين الحائض وغيرها بوجهين: أحدهما: أنها معولة في الغالب على وجود الحيض فتفطر فيه، ثم تعود إلى الصيام وكأنها قاصدة في الأول إلى التبييت بعد انقطاع الحيض، بخلاف المريض والمسافر وهذا ظاهر في المريض وأما المسافر فإن عوَّل من (¬5) أول رمضان في أول صومه على أنه يسافر، فهو كالحائض. والثاني: أنَّ زمن الحيض لا يصح صومه فأشبه الليل، بخلاف المسافر والمريض. وإذا قلنا بصحة التبييت من الأول فإنما يجتزي بذلك ما لم يأت بما يناقض نيته (¬6). وإن أتى بما يناقض، وقصد إلى الفطر؛ فإن كان بعد انعقاد الصوم في أثناء النهار فقولان: أحدهما: أن ذلك لا يضره، والثاني: أنه يبطل صومه. وهما على الخلاف في الصوم، هل كل جزء منه قائم بنفسه أو أواخره مبنية على أوائله. فإن قلنا إن كل جزء يعطى حكم نفسه أبطلنا الصوم. وإن قلنا إن أواخره مبنية على أوائله اختلف في هذا على الخلاف في رفض العبادة ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت): سورة السجدة. (¬2) في (ر) النية التبييت وعدم وجوبه، وفي (ت): النية التبيت. (¬3) في (ق) تخلل زمن لا يصح، وفي (ر) تحلل ما يصح. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ر) على. (¬6) في (ر) تبييته.

باب في أحكام الكفارة

هل يؤثر أم لا؟ وإن كان قصده إلى رفض النية قبل الفجر فلا يصح صومه. وفي هذا نظر إذا قلنا إن جميع الشهر في حكم اليوم [الواحد] (¬1)، فعلى هذا يختلف فيه وإن قصد إلى الرفض قبل الانعقاد وقبل طلوع الفجر. ... باب في أحكام الكفارة (¬2) والنظر فيها ينحصر في فصلين: أحدهما: على من تجب، والثاني: في صفتها. فأما الأول فقد تقدَّم [الكلام] (¬3) عليه، وأما الثاني فهي صغرى وكبرى. فالصغرى مدٌّ عن كل يوم بمدِّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الكبرى فقد اختلف المذهب في صفتها؛ فالمشهور: أنه ليس فيها إلا الإطعام. لكن اختلف المتأخرون هل ذلك من باب الأولى ويجزئ غيره، أو من باب الأوجب فلا يجزئ غيره. والشاذ أن يكون بالإطعام وغيره. وإذا قلنا بهذا فهل تتنوع بقدر (¬4) أنواع الموجب، أو تكون على حدٍّ سواء. في المذهب قولان: والأشهر تساويهما وإن اختلف الموجب. والشاذ أنها بالإطعام إن كانت بغير جماع، وعتق أو صيام (¬5) إن كانت بالجماع. وإذا قلنا بالتساوي فهل هي على التخيير ككفارة الأيمان أو على الترتيب ككفارة الظهار؟ في ذلك قولان. وإذا قلنا بالتخيير هل يبتدأ بالطعام أولًا أو بالعتق؟ في ذلك قولان. وسبب الخلاف اختلاف ظواهر، [فَعُول في] (¬6) المشهور على قوله {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} تعالى: (¬7)، وحمله على الكفارة ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) و (م) الكفارات. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) بعد. (¬5) في (ر) وصيام. (¬6) في (م) فالقول. (¬7) البقرة: 184.

الكبرى بتعمد الفطر. وقد قدمنا الخلاف في معنى الآية. ومن فرَّق بين الموجب (¬1) رأى أن الآية محمولة على الفطر بغير الجماع، والأحاديث تقتضي الفطر بالجماع، ونظر أيضًا إلى أن الأشد والآثم [يجب على الأشد في الارتكاب] (¬2) والجماع أشد والشهوة فيه أغلب، فكان الواجب عنه أكبر (¬3) من الواجب عن غيره. ومن قال بالترتيب عوَّل على ما في بعض الطرق من أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل المستفتي له هل يستطيع إعتاق رقبة؟ فلما أخبره بعدم قدرته على ذلك سأله عن استطاعته الصوم، فلما أخبره بالعجز عنه سأله عن القدرة عن الإطعام. فهذا يقتضي الترتيب ككفارة الظهار، ولأنها أيضًا تنوعت بأنواع الظهار ومقدرة (¬4) بقدرها فتجب المساواة بينهما. ومن خيَّر فلما في بعض الطرق من التخيير، وكأن من يرى أن الأولى الابتداء بالعتق يراعي مذهب المرتبين، ومن يرى الابتداء بالإطعام يراعي مذهب المقتصرين عليه. هذا مبادئ سبب الخلاف بحسب ما يليق بهذا المجموع. والإطعام [ستون مدًّا] (¬5) لستين مسكينًا كما في الظهار، وكذلك في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وهل تكون من عيش المكفِّر أو من غالب عيش الناس ¬

_ (¬1) في (ر) الواجب. (¬2) في (ر) يوجب الأشد في ارتكاب، وفي (م) عن الارتكاب. (¬3) في (ق) أكثر. (¬4) في (ر) وقدرة. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) أخرج البخاري في الصوم 1936 واللفظ له، ومسلم في الصيام 1111 عن أبي هُرَيْرَةَ رَضَي اللهُ عَنْهُ قالَ: بَينَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - إِذ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، هَلَكت، قالَ: "ما لَكَ؟ " قالَ: وَقَعْتُ عَلَى امرَأَتِي وَأَنا صائم فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَل تَجدُ رَقَبَةً تُعتِقُهَا؟ " قالَ: لاَ، قالَ: "فَهَل تَستَطِيعُ أَن تَصُومَ شَهرَينِ متَتَابِعَيْنِ" قالَ: لاَ، فَقالَ: "فَهَل تَجدُ إِطعامَ سِتينَ مِسكِينًا؟ " قالَ: لاَ، قالَ فَمَكَثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنا نَحنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِىَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيها تَمْرٌ والعَرَقُ المِكتلُ قالَ: "أَينَ السَّائلُ؟ " فَقالَ "أنا قالَ خُذها فَتَصدَّق بِه" فَقالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يا رَسُولَ اللهِ، فَوالله ما بَينَ لاَبَتَيها يُرِيدُ الحَرَّتَينَ أَهلُ بيتٍ أَفْقَرُ من أَهلِ بَيتِي، فَضَحِكَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ ثُمَّ قالَ "أطْعِمهُ أهلَكَ".

فصل (تعدد الكفارة)

إن اختلف ذلك. قال أبو الحسن اللخمي: "يجري على الخلاف في الكفارة في زكاة الفطر". وأما الرقبة فيشترط فيها السلامة [والإيمان] (¬1) كما يشترط في سائر الكفارات. وبيان ذلك يأتي في كتاب الإيمان والظهار. ... فصل (تعدد الكفارة) وعندنا أن الكفارة تتعدد بتعدد الأيام. وهل تتعدد بتعداد الانتهاك في اليوم الواحد؟ أما إن انتهك قبل أن يكفِّر فلا خلاف أنها لا تتعدَّد، وأما إن كفَّرَ ثم انتهك، فإن أكل أو شرب أو جامع فللمتأخرين قولان: أحدهما: إيجاب كفارة ثانية وثالثة وإن أكثر الانتهاك تكررت (¬2) الكفارة. والثاني: الاقتصار على كفارة واحدة وهو خلاف في عودة حرمة اليوم بإخراج الكفارة أو نفي عودتها. (عقوبة من ظهر عليه الأفطار متعمداً) وتجب العقوبة على من ظهر عليه الإفطار في رمضان متعمدًا. وإن جاء مستفتياً [تائباً] (¬3) فأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في شاهد الزور إذا جاء مستفتيًا. وفي عقوبته قولان. والظاهر هاهنا نفي العقوبة لأنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعاقب المستفتي له في ذلك (¬4). وأيضاً، فإن شهادة الزور أكبر من انتهاك حرمة الصوم لتعلقها بالغير (¬5)، ولأن الرسول عليه السلام ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) كثرت. (¬3) ساقط من (م) و (ق) و (ر). (¬4) يدلّ عليه الحديث السابق. (¬5) في (ر) بالعين.

(وجوب الكفارة على السفيه)

عدَّها من أكبر الكبائر ثم ردَّدَّ قوله: "ألا وقول الزور" حتى تمنىَّ الحاضرون سكوته" (¬1). وإذا وجبت العقوبة كان مصروفة إلى الاجتهاد بقدر جرأة الفاعل وعدم جرأته. (وجوب الكفارة على السفيه) وتجب الكفارة على كل مكلف وإن كان سفيهاً. ويكفر عنه وليُّه بالإطعام إن قلنا إنه متعيِّن، أو يأمره بالصيام إن قلنا بأن الكفارة على التخيير. وأما إن قلنا إنها على الترتيب فتجري على حكم كفارة الظهار. وفيها خلاف هل يجزي على السفيه الصيام عنه وإن كان واجداً للرقبة، أو لا تجزيه إلا الرقبة؟ وبيانه يأتي في موضعه. ... باب في أحكام نذر الصيام والتطوع والأصل في النذر أنه إلزام من المكلَّف، فيحاذي فيه قصده وما نصَّ عليه. وإن لم يقصد شيئًا (¬2)، وكان اللفظ محتملاً الأقل والأكثر فبأيهما يلزم؛ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يلزمه (¬3) الأكثر حتى ينصَّ على الأقل أو يقصد؛ لأنه عمَّر ذمته، ولا تبرأ إلا بالأكثر. والثاني: أنها تبرأ بالأقلِّ حتى ينصَّ على الأكثر أو يقصده (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في الاستئذان 6273 واللفظ له، ومسلم في الإيمان 87 عَنْ عَبدِ الرَّحمَنِ بن أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ أُخبرُكُم بِأكبَرِ الكَبائِرِ؟ " قالُوا: بَلَى يا رَسُولَ الله، قالَ: "الإشراكُ بالله وَعُقُوقُ الوالدين" حدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدّثَنا بِشْرٌ مِثْلَهُ وَكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقال: "أَلاَ وَقَولُ الزورِ" فَما زال يُكَرِّرُها حَتَّى قُلْنا: لَيتهُ سَكَتَ. (¬2) في (ت) يقصده، وفي (ق) يقصد، وفي (ر) يقصد شيء. (¬3) في (ت) و (ر) يلزم. (¬4) في (ر) يقصد.

هذا القانون في هذا الباب وإليه ترجع أكثر مسائله، ومنها أنه لو نذر (¬1) صياماً ونصَّ على لزوم التتابع فيه أو قصده فلا يختلف في لزوم ذلك، فإن نصَّ على عدم التتابع أو قصده فلا يختلف فيه أنه لا يلزم. وإن أتى بلفظ محتمل ولم يقصد شيئًا ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه التتابع، ذكر أعواماً أو شهورًا جملة أو واحدًا [أو أيامًا. والثاني: أنه لا يلزمه التتابع في الثلاث صور. والثالث: أنه إن ذكر أعوامًا أو شهورًا جملة أو آحاداً] (¬2) لزمه التتابع. وبالعكس إن ذكر أيامًا فقولان في اللزوم ونفيه، راجعان إلى الأصل المتقدم. وأما (¬3) التفرقة فلأن الأيام عند هذا القائل يصح تواليها وعدم تواليها. والشهور والأعوام تقتضي ألفاظها الموالاة. وهذا شهادة وحكم على اللغة والتحاكم إليها، [وكأن هذا القائل] (¬4) يرى أنه كالنص على التتابع إذا ذكر شهرًا أو شهوراً أو أعواماً، أو كالآتي بلفظ يقتضي ظاهره ذلك. فخرج عنده اللفظ عن أن يكون مستجملاً (¬5) لا يقتضي شيئًا. وينخرط في هذا السلك أن ينذر شهرًا ويبدأه (¬6) في أثناء الشهر لا في أوله، ففيه قولان: أحدهما: أنه يجزيه تسعة وعشرين يوماً لأنها الأقل. والثاني: أنه يلزمه (¬7) إكمال ثلاثين يوماً لأنه الأكمل. ومنه أيضًا أن ينذر نصف شهر ففيه قولان (¬8): أحدهما: هل يبرأ بأربعة عشر يومًا، أو لا يبرأ إلا بخمسة عشر يومًا. ¬

_ (¬1) في (ر) نوى. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) ولأن. (¬4) في (ر) بل. (¬5) في (ت) مسجلاً وفي (ق) سجلاً وفي (م) مستحيلًا. (¬6) في (ر) شهوراً وينذره، وفي (ت) و (م) شهرًا ومبداه. (¬7) في (ق) لا يجزيه إلا. (¬8) في (ق) القولان.

وكذلك [اختلف] (¬1) لو حلف ألا يفعل فعلاً إلى (¬2) نصف شهر؛ ففيه القولان كما تقدم. ومن هذا الأسلوب أيضًا أن ينذر سنة بعينها، فهل يلزمه أن يقضي الأيام التي لا يصح صومها؟ في ذلك قولان. ولو نصَّ على القضاء أو قصده لم يختلف فيه، [ولو نصَّ على [نفي] (¬3) القضاء أو قصده لم يختلف فيه أيضًا] (¬4)، وإنما الكلام على نفي النص والقصد إليه، وكلامنا (¬5) على قضاء يومي العيدين. وأما اليومان اللذان بعد يوم النحر فحكمهما الفطر على المشهور من المذهب. وقد قدمنا ما فيهما من الخلاف. وأما اليوم الرابع من يوم النحر فيصومه هذا، على المشهور من المذهب، فقد قدَّمنا ما فيها من الخلاف أيضًا. فإذا (¬6) قلنا إنه يقضي من الأيام التي يفطر فيها، فهل يلزمه قضاء شهر رمضان أيضًا لأنه يصومه لغير النذر؟ للمتأخرين فيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه نذر أن يصوم وقد صام. والثاني: لزومه (¬7). وكل ما رأيت من الخلاف بين الأقل والأكثر فهو جار على هذا الأسلوب الذي ذكرناه، وعليه يجري حكم (¬8) الأيمان [في ذلك] (¬9) هل يبدأ فيها بالإقل أو بالأكثر؟ في المذهب في ذلك قولان. وسيأتي بيانه في [كتاب] (¬10) النذور إن شاء الله. ... ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م) و (ت). (¬2) هكذا في (ت) وفي (ر) ألا يحلف فعلًا إلا نصف. (¬3) ساقط من (م). (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ت) والقصد وكلامنا وفي (ر) والقصد في كلامنا. (¬6) في (ق) وإذا. (¬7) في (ق) "أنه يلزمه القضاء؛ لأنه صامه لغير نذر فأشبه ما أفطره من النذر". وقد حصل في (ق) تقديم وتأخير بين القولين. (¬8) في (ق) تجري أحكام. (¬9) ساقط من (ق). (¬10) ساقط من (م) وفي (ر) و (ت) باب.

فصل (كراهية النذر)

فصل (كراهية النذر) وكرِه مالك رحمه الله توقيت منذور من صيام أو غيره، وهذا إن كان لأمر يرجوه المكلَّف أو يخافه، ففي الحديث النهي عن ذلك. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يستخرج ذلك من البخيل" (¬1) معناه: أن هذه الأشياء تكون كالمعاوضة، وأن المكلَّف إذا فعل منها فعلًا استحق أن يعاوض (¬2) عنها بمطلوبه. والله تعالى يجلُّ عن الأعواض والانتفاع بالعبادات. وإن كان النذر لغير ذلك فكراهيته لئلا يأتي وقت العبادة في زمان يشق على الإنسان أداؤها فيه، فيأتيها مسخطًا أو مكرهًا، فيكون حينئذ إلى العقوبة أقرب منها إلى المثوبة (¬3). لكن من نذر [من ذلك] (¬4) شيئًا فعليه الوفاء بنذره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" (¬5). وهذا إذا نذر ما يكون طاعة ويصح انعقاده. ومثاله في الصوم أن ينذر صيام يوم قدوم فلان فيقدم ليلًا، فإنه [يصح صيامه] (¬6) صبيحة تلك الليلة. وإن قدم نهارًا فلا يصح انعقاد الصوم لذلك اليوم عندنا. وهل عليه قضاؤه؟ في المذهب قولان، وهما على الخلاف في القصد هل يتعلق باليوم بعينه فلا يكون عليه القضاء، أو يتعلق بوجوب صوم يوم شكرًا لله تعالى؟ فإن صحَّ صوم يوم القدوم صامه، وإلا صام يومًا مكانه. ولو قدم في الأيام الممنوع صومها كيومي العيدين؛ فالمنصوص نفي القضاء. وخرَّجه أبو الحسن اللخمي على الخلاف، وهو بيِّن على ما علَّلناه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الأيمان والنذور 6694، ومسلم في النذر 1640 واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن النَّذْرَ لاَ يُقَرّبُ من ابن آدم شَيئًا لَمْ يَكُن الله قَدَّرَهُ لَهُ وَلَكِنْ النَّذرُ يُوافِقُ القَدَر فَيُخرَجُ بذَلِكَ من البَخِيلِ ما لَمْ يَكُن البَخِيلُ يُرِيدُ أن يُخرِجَ". (¬2) في (ق) يعرض. (¬3) في (ر) و (ق) التوبة. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور 6696. (¬6) في (ر) يصوم.

(من نذر يوما بعينه فنسيه)

(من نذر يوماً بعينه فنسيه) ومن مواقع (¬1) الخلاف في النذور أن ينذر يومًا بعينه ثم ينساه؛ ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يصوم يومًا من أيام الجمعة كائن ما كان، وهذا نظراً إلى أن المقصود يومًا (¬2) وهي متساوية. والثاني: أنه يصوم سائر الأيام؛ لأنه عيَّن يوماً وجهله، فلا يتحصل له إلا بصوم جميع الأيام. وكان هذين القولين جاريان على ما تقدم في براءة الذمة بالأقل أو بالأكثر. والثالث: أنه يصوم آخر يوم [من الجمعة] (¬3)، فيجعله قضاء إن لم يكن هو. وهذا نظرًا إلى المقصود (¬4)، لكنه راعى التعيين. ... فصل (ما يقطع التتابع) وقد قدمنا الخلاف في صيام أيام التشريق لمن نذرها أو قضى فيها رمضان، وذلك الخلاف جار في صومها عن الكفارات. وإذا كانت الكفارة مما يلزم تتابعها فلا تبتدئ في أول ذي الحجة ولا في أول ذي القعدة، للعلم بأن التتابع سينقطع. فإن (¬5) ابتدأت قصدًا، فلا شك في قطع التتابع ووجوب الابتداء. وإن ابتدأ قبل ذلك فطرأ مرض أو عذر اقتضى الإفطار حتى [رجع إلى الصيام] (¬6) في ذي الحجة وتخلل يوم النحر (¬7) فهل ينقطع بذلك التتابع؟ في المذهب [قولان، وهما على ¬

_ (¬1) في (ق) مواضع. (¬2) كذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: "يوم". (¬3) ساقط من (م) و (ق). (¬4) في (ق) إلى أن المقصود يوم. (¬5) في (ق) و (ت) وإن. (¬6) في (ر) وقع الصيام. (¬7) في (ق) و (ت) تخلل يوم الفطر.

[فصل] (حكم من أفطر في صوم نذر)

الخلاف في الإفطار لعذر النسيان أو غيره هل ينقطع به التتابع أم لا؟ في المذهب] (¬1) ثلاثة أقوال: انقطاعه، وعدم انقطاعه، والتفرقة بين أن يقع (¬2) الإفطار [مع القصد، ظاناً] (¬3) أن الزمان ليس بزمان الصوم، فينقطع (¬4) التتابع. [أو يقع النسيان مع العلم بأن الزمان زمان الصوم، فلا ينقطع التتابع] (¬5). ويمكن تخريج هذا على الخلاف في الصيام والنذر، هل بابه من أبواب المأمورات فلا يفترق عمده من نسيانه، أو من باب المنهيات فيفترق كما قدمناه في كتاب الطهارة؛ وأما التفرقة فلأن ناسي العدد أو جاهل الزمن معه ضرب من التفريط، فلا يصح عذره. ... [فصل] (¬6) (حكم من أفطر في صوم نذر) ومن أفطر في صوم نذرة فإن كان عمدًا (¬7) [عصى ووجب] (¬8) عليه القضاء، وإن كان نسيانًا أو لعذر؛ فإن كان النذر غير معيَّن وجب القضاء، وإن كان معيَّنا فأربعة أقوال: أحدها: وجوب القضاء مطلقًا قياسًا على رمضان، ولأن في ذمَّته صومًا لم يوف به. والثاني: نفي القضاء، وهو بناءٌ على أن بابه باب المنهيات. والثالث: إيجاب القضاء في النسيان ونفيه في الحيض والمرض؛ لأنّ الناسي معه ضرب من التفريط. والرابع: النظر إلى ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ق). (¬2) في (ق) يقطع. (¬3) في (ت) ظنًا مع القصد. (¬4) في (م) و (ق) الصوم فيقطع، وفي (ر) صوم فقطع، وفي (ت) فلا يقطع. (¬5) ساقط من (ت). (¬6) ساقط من (ت). (¬7) في (ر) من غير عذر. (¬8) في (ق) وجب.

فصل (إجازة مالك صوم الأبد)

أن المقصود هل هذا اليوم لمعنى فيه فلا يجب القضاء، أو إنما المقصود [صوم] (¬1) يوم فيجب القضاء. ... فصل (إجازة مالك صوم الأبد) والتطوع بالصوم لا شك أنه مشروع. وأجاز مالك رحمه الله وأصحابه صوم الأبد. وحكى أبو الحسن اللخمي عن غير واحد منعه، وليس كما قال، [بل مذهب] (¬2) فقهاء الأمصار جوازه. وإنما حكى البغداديون الخلاف عن أهل الظاهر (¬3). وما ورد في الحديث من النهي عن صيام الأبد (¬4) محمول عند المجيزين على أشخاص مُعيَّنين عَلِم - صلى الله عليه وسلم - من أحوالهم العجز عنه، أو لحوق المضرة بهم. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) ومذهب. (¬3) في (ت) البغداديون عن أهل الظاهر منعه. (¬4) من ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أني أسرد الصوم وأصلي الليل. فإما أرسل إلي وإما لقيته، فقال: "ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي ولا تنام؟ فصم وأفطر وقم ونم، فإن لعينك عليك حظًا وإن لنفسك وأهلك عليك حظًا". قال إني لأقوى لذلك. قال: "فصم صيام داود عليه السلام" قال: وكيف؟ قال: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى". قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال: عطاء لا أدري كيف ذكر صيام الأبد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا صيام من صام الأبد مرتين". "صحيح البخاري ج: 2 ص: 698). وما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". (صحيح البخاري ج: 5 ص: 1949).

(ما يستحب صيامه)

(ما يستحب صيامه) ومما ورد في الشريعة التحضيض (¬1) على صيام يوم عرفة. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيه: "يُكَفِّرُ السنَتَينِ (¬2) الماضِية والمستقبَلَة" (¬3). ويليه في الفضل يوم عاشوراء، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كصوم سنة (¬4). ويلحق به صوم يوم التروية. ومن المرغب فيه صوم الأشهر الحرم (¬5) وشعبان؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصيام فيه (¬6)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الترغيب في صوم ستة أيام من شوال (¬7) وهي ما بعد يوم الفطر وأنه كصيام الدهر، وهذا لأنّ الحسنة بعشر (¬8) أمثالها. فيحصل بصيام رمضان وبصيام هذه الستة الأيام ثلاث مائة وستون يوما. وقد كره مالك صيامها، وهذا على رأيه في كراهية التحديد، لا سيما فيما يلحقه الجاهل بالفرائض. وأجاز مطرِّف صيامها. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) تحضيض. (¬2) في (ت) سنتين. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 150 واللفظ له، وأحمد في مسنده 5/ 296. (¬4) وهو الحديث السابق تخريجه. (¬5) أخرج ابن ماجه في الصيام 1741، والطبراني في الكبير 22/ 358 عَنْ أَبي مُجِيبة الباهِلِي عَنْ أَبِيهِ أَو عَنْ عَمّهِ قالَ: أتيتُ النَبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يا نَبِيَّ الله أنا الرَّجُلُ الّذِي أتيتُكَ عامَ الأوَّلِ قالَ: "فَما لِي أَرَى جِسمَكَ ناحِلاً" قالَ: يا رَسُولَ الله ما أَكَلْتُ طَعاماً بالنَهارِ ما أَكلتُهُ إلا بالليلِ، قالَ: "مَن أَمَرَكَ أن تُعَذبَ نَفسَك" قُلتُ: يا رَسُولَ الله، إِني أَقْوَى قالَ: "صُم شهرَ الصَّبرِ وَيومًا بَعده" قُلتُ: إِنِّي أَقوَى، قالَ: "صُم شَهْرَ الصبر وَيَومَينِ بَعدَهُ" قُلْتُ: إِنِّي أَقوَى قالَ: "صُم شَهْرَ الصَّبر وَثَلاَثةَ أَيام بَعْدَهُ وَصُم أشهُرَ الحُرُم". والأشهر الحرم أربعة هي ذو القعدَة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد. انظر مختار الصحاح 56. (¬6) أخرج البخاري في الصوم 1970 عن عائِشَةَ رَضِيَ الله عَنها قالَتْ: "لَمْ يَكُن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - يَصومُ شَهرًا أَكثَرَ مِنْ شَعبانَ فَإنَهُ كانَ يَصومُ شَعبانَ كُلّهُ" الحديث. (¬7) أخرج مسلم في الصيام 1164 واللفظ له، والترمذي في الصوم 759 عَنْ أَبِي أيوب الأَنصارِي رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًا من شَوَّالٍ كانَ كَصِيامِ الدَّهرِ". (¬8) في (ت) و (ر) بعشرة.

(كراهية إفراد الجمعة بالصوم)

(كراهية إفراد الجمعة بالصوم) ومما وقع النهي عنه في الحديث إفراد يوم الجمعة بالصوم، لئلا يعظم كتعظيم (¬1) اليهود للسبت، وأجازه مالك. قال الداودي (¬2) وإنما أجاز إفراده بالصوم لأنه لم يبلغه الحديث. يريد أنه لو بلغه لنهى عنه. ومما ثبت الترغيب فيه صوم ثلاثة أيام من كل شهر. وقد قدمنا أن بعض المفسرين يقول هي المراد بقوله تعالى: {أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬3). وإنما رغب في صيامها لما قلنا من الحسنة بعشر (¬4) أمثالها. فيحصل من ذلك صيام الأبد. لكن اختلف في أي الأيام يتعيَّن (¬5) الصوم؛ فروت عائشة رضي الله عنها عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان لا يعيِّن من الشهر يومًا بعينه" (¬6)، وروى عنه أبو الدرداء أنه حضَّه (¬7) على الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر (¬8). وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يصوم الأول والحادي عشر والواحد والعشرين. واستحب أبو الحسن القابسي أن يصوم من أول الشهر للمبادرة (¬9) إلى الأعمال خشية القواطع (¬10). وهذه الآثار تقتضي نفي التعين. ¬

_ (¬1) في (ر) يوم تعظيم، وفي (ت) يومًا كتعظيم. (¬2) في (ر) الراوي. والداودي هو: أبو جعفر وقد سبقت ترجمته. (¬3) البقرة: 184. (¬4) في (ت) و (ر) بعشرة. (¬5) في (ق) يتعلق. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام 1160 عن معاذة العدوية "أنها سألت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت: نعم، فقلت: لها من أي أيام الشهر كان يصوم قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم". (¬7) في (ق) خصه. (¬8) أخرجه مسلم في المسافرين 722 واللفظ له، وأبو داود في الصلاة 1433 عَن أَبِي الدرداءِ قالَ: أَوصانِي حبيبي - صلى الله عليه وسلم - بثَلاثٍ لَن أَدَعَهُنَّ ما عِشتُ بِصِيامِ ثَلاثَةِ أيام من كُل شَهرِ وَصَلاةِ الضُحَى وَبأَنْ لاَ أَنامَ حتَى أُوتِرَ. (¬9) في (ق) لمن صام فيَ أول الشهر المبادرة. (¬10) في (ق) الموانع.

فصل (في قيام رمضان)

فصل (في قيام رمضان) وقد تقدم أن قيام رمضان من الفضائل. والانفراد به في البيوت أفضل لأنه أسلم للنية، إلا لمن صحَّت نيَّته، أو إذا كان الانفراد يؤدي إلى تعطيل القيام في المساجد. ولا يلزم القيام بجميع القرآن، لكنه الأولى مع القدرة عليه. ولا يترك من يستكمله ويصلي وراء غيره إلا أن يكون في ذلك الغير معنى من الصلاح، أو ما في معناه ليس في المستكمل. ويجوز أن يقوم من المصحف إذا استمر على القراءة فيه، لا أن ينظر فيه (¬1) عندما يشكل عليه لأنّ في هذا شغلًا كثيراً. وليس في أعداد الركعات شيء (¬2) مؤقت لا يجوز غيره. [وقد روي: إحدى عشر ركعة كقيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروي ثلاثة وعشرون، وروي تسعة وثلاثون. وهذا الذي استحب مالك] (¬3). وبالجملة ليس فيها (¬4) توقيت كما قدمناه. وإذا كثرت الركعات قلَّت القراءة، وبالعكس. وما يتعلق بالقنوت وغير ذلك من الأحكام قد تقدم في كتاب الصلاة. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) و (م) ولا يصح أن يقرأ في المصحف إذا استمر على القراءة فيه إلا أن ينظر. وفي (ر) و (ل) ويجوز ... ولعل الصواب ما أثبته لتطابقه مع ما هو موجود في المدونة وغيرها من كتب المالكية. جاء في المدونة 1/ 224: "قال مالك: لا بأس أن يؤم الإمام بالناس في المصحف في رمضان في النافلة. قال ابن القاسم: وكره ذلك في الفريضة ابن وهب عن ابن شهاب قال: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف في رمضان، وإن ذكوان غلام عائشة كان يؤمها في المصحف في رمضان. وقال مالك والليث مثله."، وقال أبو عبد الله العبدري في التاج والإكليل 2/ 73:"أجاز مالك أن يؤم الإمام بالناس في المصحف في قيام رمضان وكره ذلك في صلاة الفرض". ومن المدونة أيضًا إن ابتدأ النافلة بغير مصحف منشور فلا ينبغي إذا شك في حرف أن ينظر فيه ولكن يتم صلاته ثم ينظر". (¬2) في جميع النسخ "شيئًا". (¬3) في (ر) وهذا الذي ذكره رحمه الله. (¬4) في (ق) فيه.

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف (تعريف الاعتكاف ومشروعيته) وهو في اللغة: اللزوم مطلقاً، وفي الشرع: لزوم العبادات المختصة (¬1) بالإنسان في الأماكن المختصة بالعبادات. وهو ثابت في شرعنا بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2). وقد كان في شرع من قبلنا، دليله قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬3). وقد وقع لمالك رحمه الله ما ظاهره الكراهة له، وعلل بأحد الوجهين: إما لأنه من الرهبانية التي نهت عنها الشريعة، والظاهر بطلان هذا التعليل لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف واعتكف جماعة من السلف. وإما لأنه عبادة شاقة قد يعجز عنها الداخل فيها فيؤدي إلى قطعها وإبطالها بعد التزامها، فيلحقه الذم كما لحق مبتدع الرهبانية، لقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (¬4). فإذا تقررت هذه المقدمة قلنا بعدها: النظر في هذا الكتاب ينحصر في فصلين: أحدهما: أركان الاعتكاف وشروطه. والثاني: مفسداته. ... ¬

_ (¬1) في (ر) العبادات المختص، وفي (ق) و (م) العبادة المختصة. (¬2) البقرة: 187. (¬3) الحج: 26. (¬4) الحديد: 27.

فصل (في أركانه وشروطه)

فصل (في أركانه وشروطه) فأما أركانه وشروطه فنذكرها جملة، ثم نأخذ في تفصيلها. وهي بالقول الجلي لزوم المعتكف (¬1) المسجد صائمًا مدمناً على العبادة ليله ونهاره، مشتغلاً بكل عبادة، لا يتعلق (¬2) بغير نفسه. وأما تفصيل هذا؛ فإن المعتكف يدخل المسجد وقد هيأ (¬3) أسباب معيشته وما يفتقر إليه من اللباس إن كان قادرًا على ذلك. وإن كان عاجزًا فهل يجوز له الاعتكاف ثم ينظر النظر اليسير في أسباب المعيشة وغسل ثيابه؟ في المذهب قولان: أحدهما: إجازته للضرورة، والثاني: المنع لأنّ اشتغاله بما قلنا خروج عن حقيقة الاعتكاف. (مدة الاعتكاف) وأكمل الاعتكاف في عشرة أيام والزيادة عليها خروج إلى حد الرهبانية وزيادة على فعل الرسول عليه السلام. وقد يؤدي ذلك إلى العجز فيبطل الجميع. فإن فعل ووفَّى به فلا حرج. وهل يجوز اعتكاف يوم واحد؟ في المذهب قولان: الإجازة، لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك عمر رضي الله عنه (¬4). والكراهية، اقتداءً بفعل الرسول عليه السلام، ولم يعتكف أقل من عشرة أيام. فإن نذر اعتكاف ليلة فهل يبطل نذره لأنه نذر ما لا يجوز (¬5) في ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) المكلف. (¬2) في (ت) لا تتعلّق وفي (ر) لا تعلق. (¬3) في (ر) وأحضر. (¬4) أخرج البخاري في فرض الخمس 3144 واللفظ له، ومسلم في الأيمان 1656 "عَنْ نافِع أن عُمَرَ بْنَ الْخَطاب رَضِيَ الله عَنْهُ قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّه كانَ عَلَيَّ اعْتِكافُ يَوْمٍ في الْجاهِليَّةِ فأَمَرَهُ أَن يَفِيَ بِهِ" الحديث. (¬5) في (ت) ما لا يجزي، وفي (ق) لا يجزي.

(مكان الاعتكاف)

الاعتكاف، إذ من شرطه الصوم، أو يصح ويلزمه اعتكاف يوم وليلة لارتباط أحدهما بالآخر؟ في ذلك قولان. (مكان الاعتكاف) فإن اعتكف دون العشرة وكان لا يتخلل اعتكافه جمعة جاز أن يعتكف في سائر المساجد. فإن اعتكف عشرة أو دونها وكان يتخلل اعتكافه يوم جمعة فهل يجوز له أن يعتكف في غير مسجد يجمع فيه؟ (¬1) في المذهب قولان: المشهور أنه لا يجوز، والشاذ جوازه. وهو خلاف في الخروج إلى الجمعة هل هو مباح لأنه من العبادة المتعلقة بنفس الإنسان، أو لا يجوز لأنه تصرف مستغنًى عنه بأن يعتكف في موضع تجمع فيه الجمعة؟ فإن (¬2) اعتكف في غير الجامع ثم أتت الجمعة، أو ابتدأ الاعتكاف في غيره ثم ظن أن الجمعة لا تأتيه فمرض أو حاضت المرأة ثم أتتهم الجمعة أُمروا بالخروج إليها. وهل يبطل بذلك اعتكافهم أم لا؟ قولان: أحدهما: البطلان لأنه مخالف [لحقيقة] (¬3) الاعتكاف، والثاني: الصحة لأنه أمر ضروري كحاجة الإنسان. وإذا قلنا بصحة الاعتكاف فهل يعود إلى موضع اعتكافه أو يتم في الجامع؟ قولان: أحدهما: العودة لأنه تعيَّن بالقصد والإتمام في الجامع [مخالفة لحقيقة الاعتكاف. والثاني: الصحة والإتمام في الجامع] (¬4) لأنه مساوٍ للأول، والرجوع عمل مستغنى عنه. (حكم ابتداء الاعتكاف ونهايته) ولا خلاف عندنا أن من دخل موضع اعتكافه بعد طلوع الفجر لا يعتد بذلك اليوم؛ لأنّ الاعتكاف لا يكون إلا بصوم، والصوم يفتقر إلى نية قبل الفجر. وإن دخل قبل غروب الشمس اعتد باليوم. وإن دخل بعد الغروب ¬

_ (¬1) في (ق) تجمع فيه الجمعة. (¬2) في (ق) وإن. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ر).

وقبل الفجر، فهل يعتد به أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: الاعتداد لأنّ المقصود (¬1) [دخوله في زمن يصح فيه عقد] (¬2) الصوم وهو حاصل بذلك. والثاني: نفي الاعتداد به لأنّ المشروع فيها أن يجمع بين الليل والنهار، ولا يصح استيفاء جميع أجزاء الليل (¬3) إلا أن يدخل قبل الغروب. هذا حكم ابتداء الاعتكاف، وأما نهايته؛ فإن اعتكف غير العشر الأواخر من رمضان؛ فإن المذهب أجاز خروجه إذا غربت الشمس من آخر اعتكافه. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه لا يخرج إلا بعد طلوع الفجر. وعوّل على قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: فلما كانت (¬4) ليلة إحدى وعشرين وهي التي يخرج الرسول عليه السلام في (¬5) صبيحتها من اعتكافه (¬6). ولعل أهل المذهب لم يعوّلوا على هذا؛ لأنه ليس بإخبار عن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولعله إنما قام تلك الليلة لالتماس (¬7) ليلة القدر. وقد قالوا إنه (¬8) المقصود بالاعتكاف لأنّ (¬9) المعتكف مواظب على العبادة ولا ¬

_ (¬1) في (ق) الاعتداد به لأنّ المطلوب. (¬2) ساقط من (ق) و (ر) و (ت). (¬3) في (ر) النهار. (¬4) في (ر) و (ت) كان. (¬5) في (ر) و (ت) من. (¬6) أخرجِ البخاري في الاعتكاف 2027 عَنْ أَبِي سعيد الْخُدرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَعتَكِفُ في الْعَشْرِ الْأوْسَطِ منْ رَمَضانَ فاعْتَكَفَ عامًا حَتَّى إِذا كانَ لَيلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ الليْلَةُ التِي يخرُجُ مِنْ صَبِيحَتِها مِنْ اعتِكافِهِ قالَ: "مَن كانَ اعتَكَفَ مَعي فَليَعْتَكِف العَشرَ الأَوَاخِرَ" وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُها وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ في ماءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِها فالْتَمِسُوها في الْعَشْرِ الأَواخِرِ والتَمِسُوها في كُلِّ وِترٍ فَمَطَرَت السَّماءُ تِلكَ اللَّيْلَةَ وَكانَ الْمَسجِدُ عَلَى عَرِيش فَوكَفَ الْمسجِدُ فَبَصُرَتْ عَيْنايَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْماءِ والطِّينِ مِن صُبْحِ إِحدَى وَعِشرِينَ. (¬7) في (ق) لإتمام. (¬8) في (ق) إنما. (¬9) في (ر) ولأن.

(اشتراط الصوم للاعتكاف)

يتركها إلا مغلوباً (¬1). وإذا اعتكف في زمان (¬2) يظن أن ليلة القدر فيه حصل له (¬3) التماسها بالعمل. وإن كان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فهل يخرج عند غروب الشمس قياسًا على الأول أو بعد طلوع الفجر؛ في المذهب قولان: البقاء إلى طلوع الفجر؛ لأنه المروي عن الرسول عليه السلام. وإذا قلنا إنه يبقى إلى الطلوع فهل على جهة الوجوب أو على جهة الندب؟ في المذهب قولان. وهما على الخلاف في أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، هل تحمل على الوجوب أو على الندب. وثمرة الخلاف لو فعل بعد خروجه فعلاً يضاد الاعتكاف فهل يفسد اعتكافه ويبتدئه من الأول أم لا؟ فإن أوجبنا الإقامة فسد اعتكافه وابتدأه من الأول، وإن قلنا باستحبابه لم يفسد. وقيل إنه يفسد بنفس الخروج. ومعنى قولنا: "إنه يخرج بعد طلوع الفجر"، أن يخرج إلى شهود العيد، فإذا شهده رجع منه إلى أصله (¬4). (اشتراط الصوم للاعتكاف) ومن شروط الاعتكاف ألا يكون إلا بصوم، لكنه لا يختص الصوم به لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف في رمضان. وقد استدل أصحابنا على اشتراط كونه في صوم بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬5). وهذا يقتضي تعلق الاعتكاف بالصوم لأنّ النهي عن المباشرة إنما المقصود بها (¬6) في الآية منع الصيام. وهذا الاستدلال يفتقر إلى مزيد نظر لسنا له الآن، لكن المعوَّل ¬

_ (¬1) في (ر) مطاوعة. (¬2) في (ر) رمضان. (¬3) في (ر) أو بحصل حصل التماسها. (¬4) في (ت) أهله. (¬5) البقرة: 187. (¬6) في (ق) منها.

في ذلك على فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعل السلف. وهذا إذا كان الاعتكاف تطوعا، فإن نذره فلا يخلو أن ينذره معلقاً بزمن [الصوم] (¬1) كمن نذر اعتكاف أيام من رمضان، أو أيام من صيام واجب عليه لكفارة أو لنذر، فهذا كالأول. أو ينذره مطلقا. فهل يختص بصيام (¬2) يكون له خصوصاً؟ في المذهب قولان: أحدهما: كالأول. وإنما يتعلق النذر بالاعتكاف خاصة لا بصوم (¬3). لكنه لا يوقع إلا في الصوم. والثاني: اشتراط صوم يختص به. ويرى هذا أن نذر الاعتكاف يتضمن نذر الصوم، فيلزمه صوم (¬4). وهذا الذي قلناه من اشتراط الصوم إنما يلزم في الاعتكاف الذي لا يقصد به الجوار. كالجوار في مكة، يلتزم البيت للنظر إليه (¬5) وذلك عبادة، ثم ينقلب ليلًا إلى أهله، فهذا لا يلزمه (¬6) صوم. وكذلك إن لزم غير البيت من المساجد فقصد التحرم (¬7) ببيت الله تعالى ولم يقصد الاعتكاف الشرعي. فهذا أيضًا لا يلزمه فيه الصوم. وإذا لزم الصوم كما قلنا فطرأ ما يمنع منه كالحيض والمرض؛ فأما الحائض فلا شك أنها تفارق المسجد في زمان الحيض. فإن انقطع عنها الدم فاغتسلت في أثناء النهار فهل يلزمها الرجوع إلى المسجد عند انقطاع الدم والاغتسال، وإن كانت لا تصوم ذلك اليوم؟ وكذلك المريض يقدر على لزوم المسجد ولا (¬8) يمكنه الصوم، أو يصح في بعض اليوم (¬9). ¬

_ (¬1) ساقط من (ق)، وفي (ت) صوم. (¬2) في (ر) بصيام أو يكون. (¬3) في (ر) ولا بصوم. (¬4) في (ق) و (ت) فيشترط له صوم يختص به. (¬5) في (ق): كالمجاورة في مكة يلتزم البيت للنظر إليها، وفي (ت) والجوار في مكة يلزم البيت للنظر إليه، وفي (م) كالمجاورة في مكة إلزام للنذر إليها. (¬6) في (ر) فهؤلاء يلزمه. (¬7) في (ق) و (ر) يقصد التحريم. (¬8) في (ر) فلا. (¬9) في (ق) يصح بعض النهار.

(هل يخرج المعتكف لصلاة العيد وغيره من العبادات أم لا؟)

وكذلك المعتكف في آخر رمضان يبقى عليه شيء من اعتكافه حتى يجب عليه إتمامه في شوال، هل يجلس يوم العيد في المسجد؟ في ذلك كله قولان: أحدهما: وجوب الجلوس في المسجد لأنه عبادة، فلا تسقط بسقوط عبادة أخرى وهي الصوم. والثاني: أنه لا يلزمه ملازمة المسجد لأنّ ذلك الزمن غير معتد به في (¬1) الاعتكاف، والإعتكاف (¬2) لا يكون إلا بصوم فتسقط الملازمة في ذلك الزمن. (هل يخرج المعتكف لصلاة العيد وغيره من العبادات أم لا؟) وإذا أوجبنا الملازمة يوم العيد هل يخرج إلى صلاة العيد أم لا؟ قولان. والخروج مراعاة لقول من يقول لا يلزمه [اللزوم وإلا فصلاة] (¬3) العيد سنة. فلا (¬4) ينبغي أن يخرج إليها مع وجود اللزوم والاعتكاف متصل. فيلزم المنوي منه بالدخول فيه كما تلزم العبادة المتصلة بالدخول فيها. ولو [نوى] (¬5) اعتكاف عشرة أيام مثلًا فدخل فيها لزمه إتمامها كما يلزم إتمام الحج والركعتين من النافلة واليوم في صوم التطوع إذا دخل فيه. ولو نوى صوم عشرة أيام لم يلزمه تمامها بالدخول في أولها لأنها غير متصلة بقطع الليل. وقد قدمنا أن الاعتكاف عبارة عن لزوم العبادات التي تختص بالنفس، ولا ينقطع عنها إلا مضطراً، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان أو لأخذ المعيشة عن قرب إن افتقر إلى ذلك، ولا يترك ما هو فيه لعبادة تختص بالغير كتشييع الجنازة أو عيادة المريض والحكومة بين الناس وأداء الشهادة إذا افتقر أداؤها إلى الخروج واشتغال. فإن كان لا يفتقر إلى خروج وقلّ الاشتغال جاز. واختلف المذهب في صلاة المعتكف على الجنازة في موضع اعتكافه، ¬

_ (¬1) في (ق) من. (¬2) في (ر) غير معتد بالاعتكاف ولا يكون. (¬3) في (ر) أو لأنّ صلاة. (¬4) في (ر) و (ت) ولا. (¬5) ساقط من (ر).

فصل (مفسدات الاعتكاف)

فأجيز لأنه من جنس الصلاة، وكره لأنها فرض على الكفاية تتعلّق بالغير. واختلف أيضًا في صعود المؤذن المنارة إذا كان معتكفاً. فأجيز لأنه ذكر، ومنع لأنه غير متعلق بالنفس وله محل مخصوص يؤدى فيه. ... فصل (مفسدات الاعتكاف) وأما (¬1) مفسدات الاعتكاف، فكل ما يوجب الكفارة في الصيام يفسد الاعتكاف بلا خلاف. وأما ما يقتضي القضاء فهو على قسمين: أكل وشرب وما في معناهما. فلا يُفسد (¬2) الاعتكافَ نسيانُهما (¬3) وإن أوجب القضاء عندنا. وقبلة ومباشرة وما في معناهما تبطل الاعتكاف عندنا على أيّ حال وقعت؛ في ليل أو نهار، لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬4). والمقصود بهذه الآية عند أصحابنا مقدمات النكاح. ولا شك أنَّ النهي عن أواخره تضمنته الآية من باب أولى. ويناقض الاعتكاف زوال العقل بأي وجه كان، لكنه إن كان سببه مكتسب كالسكر، أفسده جملة وبدأ من أوله. وإن كان سببه من الله تعالى كالإغماء والجنون، كان كالمرض يجب قضاء الزمن الذي فقد فيه عقله على ما نفصلّه فيما بعد. وأما المعاصي التي لا تفسد الصيام ولا تفقد العقل؛ فالصغائر منها لا تبطل الاعتكاف، وفي الكبائر منها قولان: رأي المغاربة أنها لا تبطله، قياسًا على الصوم. ورأي البغداديين أنها تبطله؛ لأنها مناقضة لمعنى الاعتكاف. [وتنازعًا] (¬5) قوله في الكتاب: "وإن سكر ليلًا فصحَّ عقله قبل الفجر فسد ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) فأما. (¬2) في (ت) معناهما يبطل. (¬3) في (ر) و (ت) و (ق) نسيانه. (¬4) البقرة: 187. (¬5) ساقط من (ر).

(جواز عقد النكاح للمعتكف)

اعتكافه"، هل ذلك لأنه أتى بسبب يفقد به عقله فعطل زمنًا من الاعتكاف، أو لأنه أتى بكبيرة؟ وقول ابن شهاب وعطاء أو يحدث (¬1) ذنبًا مما نهي عنه. وهذا يساعد (¬2) رأي البغداديين. واختلف في خروجه مضطراً لما يتعيَّن عليه من حق الله تعالى كالجهاد، أو في حق آدمي كالسجن في دين، هل يبطل اعتكافه لأنه قاطع لاتصاله كقطع الصلاة بفعل يضادها (¬3)، أو لا يبطل لأنه لضرورة كالمرض والحيض؟ وهذا إذا لم يقصد بالاعتكاف هروبا من حق وجب عليه، وإن قصد ذلك بطل اعتكافه، ولا يختلف فيه. وإذا بطل الاعتكاف وجب القضاء على الإطلاق، وإن طرأ ما يقطع الاتصال ولا يفسده (¬4) كالمرض والحيض. فكل موضع يجب فيه قضاء الصيام [يجب فيه قضاء الاعتكاف، [وكل موضع لا يجب فيه قضاء الصيام] (¬5)، أو يختلف فيه كالنذر المعيَّن يمرض فيه أو تحيض المرأة فيختلف في قضاء الاعتكاف] (¬6) كما اختُلف في قضاء الصوم. (جواز عقد النكاح للمعتكف) و [أجازوا] (¬7) للمعتكف أن يعقد النكاح ويتطيب بخلاف المحرم. والفرق أن المعتكف في موضع لا يخالط فيه النساء ولا يرى من يفتنه، ¬

_ (¬1) في (ر) ابن شهاب وعصى أو حدث، وفي (ت) ابن شهاب: وإن عصى أو أحدث. (¬2) في (ق) و (ت) يساعده. (¬3) في (ر) لفعل يضادها، وفي (ت) بفعل ما يضادها. (¬4) في (ق): فلا يفسده. (¬5) [يجب فيه ... قضاء الصيام] ساقط من (ت). (¬6) ساقط من (ر). (¬7) ساقط من (ر).

فصل (المقصود بالاعتكاف إحياء ليلة القدر)

فيكفيه الاحتراز بموضعه. والمحرم في موضع متعرض لمخالطة (¬1) النساء، فنهي عن عقد النكاح ودواعيه من الطيب وما في معناه. ... فصل (المقصود بالاعتكاف إحياء ليلة القدر) والمقصود بالاعتكاف إحياء ليلة القدر وإصابتها بالعمل. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواسط من رمضان، ثم أُعلم أن مطلوبه في الأواخر فاعتكف (¬2) في العشر الأواخر (¬3). واختُلف في العشر الأواخر، وسنذكر خلاف الناس فيها. وشذ بعضهم فقال إنها كانت في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم رفعت. وهذا غير صحيح؛ لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالتماسها، وأخبر أن أمته أنها اعطيتها لما [تقلص من] (¬4) أعمارها حتى تنوب لها منابة طول أعمار الأمم الماضية. وهذا يدلّ على بقائها لأمته. ودونه في الشذوذ من قال إنها في جميع السنة. ويردّه قوله ¬

_ (¬1) في (ر) لمخاطبة. (¬2) في (ق) فاعتكفها. (¬3) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الصيام 1167 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه قال وإني أريتها ليلة وتر وأني أسجد صبيحتها في طين وماء فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر. (¬4) في (ر) قصر.

تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (¬1)، والقرآن أنزل جميعه إلى السماء الدنيا في رمضان. وهذا يقتضي أن ليلة القدر فيه (¬2). ودونه في الشذوذ من قال إنها في جميع الشهر، ويردّه أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتماسها في العشر الأواخر. ودونه في الشذوذ من قال إنها في جميع العشر الأواخر ويردّه أيضًا أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتماسها في الأوتار. [واختلفا القائلون بأنها في الأوتار] (¬3) هل تتعينّ لها ليلة أم لا؟ فقيل تتعين. واختلف القائلون بذلك على أعداد [أوتار] (¬4) العشر الأواخر؛ فقيل لا تتعين، وهو مذهب جمهور المتأخرين. واختلف هؤلاء؛ هل تنتقل في المشهور أو لا تنتقل، بل تكون في ليلة معيَّنة لكنها مجهولة عندنا. وفي الجهل بها فائدة كبرى (¬5) لئلا يتكل المكلف عليها فيترك العمل، فإذا طلبت في زمن يظن كونها فيه حصّلها وحصّل غيرها. وقد روي في الحديث الأمر بالتماسها في التاسعة والسابعة والخامسة (¬6). فاختلف هل المقصود ظاهر هذا اللفظ، أو لتسع بقين، أو لسبع بقين، أو لخمس بقين. فيكون المقصود ليلة إحدى وعشرين، أو ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة خمس وعشرين، وهو قول مالك في الكتاب. والصحيح فيها، وفي الصلاة الوسطى، وفي الساعة التي في يوم الجمعة أنها مجهولة عند المكلفين لفائدة كبرى، وهي كثرة الأعمال كما قدمناه. وقد نجز عرضنا من الاعتكاف. ¬

_ (¬1) القدر: 1. (¬2) في (ق) و (ت) منه. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ر) كثيرة. (¬6) أخرج البخاري في التراويح 2021 عَنْ ابن عَبَّاس رَضيَ الله عَنهُما أَنَّ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - قالَ "التَمِسُوها في العَشرِ الأواخِرِ من رَمَضانَ لَيلةَ القَدْرِ في تاسِعَةٍ تَبقَى في سَابِعَةٍ تَبقَى في خامِسَةٍ تَبقى".

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة (تعريف الزكاة) [قال الفقيه الجليل الإمام مؤلفه رضي الله عنه] (¬1): الزكاة في اللغة: عبارة عن الزيادة والنماء. وفي الشريعة: عبارة عن [نقص] (¬2) مخصوص (¬3) بإخراج جزء من المال، لكن سمّتها الشريعة زكاة؛ إما لأنها تعود بنماء المال، وتركها يعود بنقصانه كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما خالطت الزكاة مالاً إلا فجعته" (¬4)، وإما لأنها منمية للأجور، وإما لأنها مكملة (¬5) للأخلاق بالتطهير عن رذيلة (¬6) البخل. (حكمتها) وشرعت إرفاقاً (¬7) للمساكين وشكراً لله تعالى. وإليه الإشارة بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) وفي (ر) بدون: الجليل الإمام. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) محسوس. (¬4) في (ق) و (ت) محقته. لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ وقريباً منه ما أخرجه البيهقي في سننه 4/ 159 والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 180 عن عائشة مرفوعًا: "ما خالطت الزكاة مالًا، إلا أهلكته" قال ابن مفلح في الفروع 2/ 480: فيه محمَّد بن عثمان بن صفوان ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبّان. (¬5) في (ر) مكرمة. (¬6) في (ر) ردات. (¬7) في (ت) إرقاً.

(حكمها)

{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (¬1). وتطهرًا من رذيلة (¬2) البخل، وهو المراد بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬3) الآية. (حُكمها) وكل ما دلّ على وجوب الصلاة دلّ على وجوب الزكاة، وهما قرينان في الكتاب (¬4) والسنَّة وإجماع الأمة، وباقترانها استدل الصديق رضي الله عنه على وجوب مقاتلة مانعي الزكاة. (بعض حِكمها وأسرارها) وقد عدلت الشريعة فيها بين أرباب المال والمساكين فلم تعلقها بغير النامي من المال. ولهذا تعلقت بثلاثة أنواع: النماء المحض، وهو النبات والمعدن. وما ينمو بطبعه، وهي الماشية. وما هو معد (¬5) للنماء، وهو العين؛ الذهب والفضة. وأسقطتها من العروض إلا أن يقصد بها التجارة فتكون راجعة إلى حكم العين (¬6)؛ لأنّ نماء هذا النوع (¬7) يصرفه في العروض، ولا شك أن ما هو نماء في نفسه لا يفتقر إلى ضرب الحول بل تجب الزكاة عند حصوله. وما ينمو بطبعه أو بالتحريك لا يحصل فيه كمال النماء المقصود إلا بعد أن يحول عليه الحوْل، ولهذا ضربت الشريعة الأحوال للعين والماشية، وأوجبت زكاة المعدن والنبات عند حصولها. ثم لو أوجبت الزكاة في اليسير والكثير لم يتميز الآخذ عن المعطي، وأدى إلى الإجحاف بمالك اليسير، فقدّرت النصاب. ولا خلاف أنها مقدرة ¬

_ (¬1) الحديد: 7. (¬2) في (ر) ردات. (¬3) التوبة: 103. (¬4) في (ت) فريضتان بالكتاب. (¬5) في (ر) مستعد. (¬6) في (ر) و (ت): حكم تصرفه العين. (¬7) في (ر) العين.

فصل (زكاة العين)

في النبات والماشية، وكذلك عندنا هي مقدرة في سائر الأموال التي تتعلّق بها الزكاة. ولا خلاف أن نصاب الورق مائتا درهم، وهذا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَيسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أَواقٍ مِنَ الوَرِق (¬1) صدَقةٌ" (¬2)، والأوقية مقدرة بأربعين درهماً. وأما الذهب فنصابه عند جمهور الأمة عشرون دينارًا، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - حديث موافق لهذا التقدير لكن لم يثبت سنده، والمعوّل على تقدير (¬3) صرف الدينار بعشرة دراهم خالصة (¬4). ... فصل (زكاة العين) وإذا تقرر [ما قدمنا] (¬5) قلنا بعده النظر في هذا الكتاب وهو زكاة العين، ينحصر في ركنين: أحدهما: أحكام النصاب والأحوال، والثاني: أحكام الفوائد والديون والتجارات وتميزها مع الاختلاط. وهذا الركن كأنه فرع للأول. (نصاب العين) ونبدأ بالنظر في نصاب العين وتفصيل أحكامه ثم نحاذي ترتيب الكتاب. وقد قدمنا مقدار نصاب العين وهو إن كان كاملًا لا نقص فيه وزناً ولا صفة وجبت الزكاة كما قدمناه ثم الزائد عليه يؤخذ منه بحسابه. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ق) و (م) الفضة. (¬2) أخرجه البخاري في الزكاة 1459، ومسلم في الزكاة 980 واللفظ له. (¬3) في (ت) تقرر. (¬4) في (ر) خاصة، وغير واضحة في (ت). (¬5) ساقط من (ر).

(نصاب العين الناقصة إذا كان التعامل بالوزن)

(نصاب العين الناقصة إذا كان التعامل بالوزن) ولا خلاف أن المأخوذ ربع العشر، وهو من العشرين دينار نصف دينار، ومن المائتي درهم خمسة دراهم، وما زاد على ذلك أخذ بحسابه. وإن نقصت الدنانير والدراهم عن هذا المقدار فلا يخلو [من] (¬1) أن يكون التعامل بها بالوزن أو بالعدد؛ فإن كان التعامل بها بالوزن وكان النقص يؤثر في انحطاطها عن الحاصل بالكامل (¬2) لم يختلف في أن الزكاة غير واجبة. وإن كان لا يؤثر فإن كان النقص كثيرًا فلا خلاف أن الزكاة غير واجبة. وهذا القسم كأنه لا يتصور إذ لا يتعامل بالوزن ويكثر النقص ثم يتوصل بالناقصة إلى ما يتوصل إليه بالوازنة إلا أن ينظر إلى القيمة. ولا خلاف عندنا أنه لا تراعى القيمة في التقدير. وحكى الغزالي عن مالك رحمه الله مراعاتها، وأن الشافعي أطنب في الرد عليه، ولا يوجد ما قاله في المذهب وإنما رأى ما في الموطأ من أنها إذا نقصت وكانت تجوز بجواز الوازنة وجبت الزكاة، فظن أن النقص في المقدار والجودة (¬3) في الصفة، لأنها بارتفاع قيمتها تلحق بالوازنة. وهذا الذي ظنوه باطل قطعًا وليس هو مراد أهل المذهب، وإنما مرادهم (¬4) ما نفصله. وإن قل النقص فلا يخلو من أن تتفق الموازين عليه (¬5) أو تختلف، فإن اتفقت عليه وهو يسير ففي المذهب قولان: أحدهما: وجوب الزكاة التفاتاً إلى حصول الأغراض بها كما تحصل بالكاملة، والثانى: سقوطها التفاتًا إلى النصاب المقدر (¬6) في الحديث. وهذا ناقص عنه. فكأنه في القول الأول لاحظ المعنى وفي القول الثاني لاحظ اللفظ وحمله على اتباع ما ورد. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م). (¬2) في (ق) الكاملة. (¬3) في (ق) و (م) الجواز. (¬4) في (ر) وهو مرادهم. (¬5) في (ق) عليه الموازين. (¬6) في (ر) و (ت) النص على المقدر.

(نصاب العين الناقصه إذا كان التعامل بالعمد)

فإن اختلفت الموازين وكانت في بعضها كاملة (¬1) وفي بعضها ناقصة فالمنصوص للبغداديين وجوب الزكاة تعويلًا على الكمال. ولا يبعد أن يجري، على قولين. وبين الأصوليين خلاف إذا اجتمع شيئان: أحدهما: موجب، والثاني: مسقط، هل يغلب الموجب أو بالعكس؟ (نصاب العين الناقصه إذا كان التعامل بالعمد) فإن كان التعامل بالعدد فلا يخلو من أن ينقص في العدد أو ينقص في الوزن؛ فإن نقصت في العدد فلا خلاف في سقوط الزكاة، وإن نقصت في الوزن ولم تجز بجواز الوازنة فلا خلاف في سقوط الزكاة، وإن جازت بجواز الوازنة فثلاثة أقوال: أحدهما: وجوب الزكاة مراعاة للمعنى (¬2) كما قدمناه. والثاني: سقوطها نظرًا إلى ما ورد. والثالث: وجوبها مع النقص اليسير لا بالعكس (¬3). وهذا نظراً إلى أن اليسير في حكم المعفو عنه. (نصاب العين الناقصة إذا كان النقص في الصفة) وإن كان النقص في الصفة فلا يخلو من أن يكون أصلًا في المعدن (¬4) بأن يكون رديئًا أو فيه من الغش [يسير] (¬5). فإن كان (¬6) من أصل الخلقة وقد اصطلح الناس على التعامل به من غير التفات إلى ذلك النقص، أو يكون بإضافة غش إليه؛ فإن كان في أصل المعدن كما قدمنا فمقتضى المذهب إلحاقه بالكامل في الصفة، فإن كان مضافًا إليه فإن كان يسيرًا جدًا وقد مر الناس على ترك مراعاته كما يقال في الدنانير المرابطية فهو كالأول لا يلتفت إليه. فإن كان كثيرًا فالمذهب على قولين: أحدهما: الاحتساب بما فيه من الخالص وإطراح الغش، فإن كمل ¬

_ (¬1) في (ق) وازنة. (¬2) في (ر) للعدد. (¬3) في (ق) و (ت) وبالعكس. (¬4) في (ق) في أصل المعدن. (¬5) ساقط من (ر)، وفي (ت) يسيرًا. (¬6) في (ت) و (ق) باق فيه.

فصل (هل يكمل بالقيمة النصاب)

من (¬1) الخالص مقدار النصاب وجبت الزكاة، وبالعكس إن لم يكمل. وهذا هو المشهور. والثاني: النظر إلى الأكثر فيجعل [الأقل] (¬2) تبعاً له؛ فإن كان الأكثر هو الخالص فيجعل الجميع في حكمه وبالعكس. وهذا على الخلاف في الأتباع هل تعطى حكم أنفسها أو حكم متبوعاتها. على أن هذا القول بعيد هاهنا لأنّ المقصود بالنصاب حصول الغنى به، وقد قدرته الشريعة. فإذا وجد الغش فلا شك أن الغنى (¬3) المطلوب شرعاً غير حاصل فكيف يقال إن الزكاة واجبة. ومقتضى المذهب أيضًا أن المراعى في الوزن ما كان في الزمان الأول، ولو قيل إن الإجماع عليه لَمَا بَعُدَ (¬4). ووقع لابن حبيب ما يقتضي مراعاة أوزان كل بلد. وتعقبه أبو الوليد الباجي، وألزم عليه وجوب الزكاة متى اجتمع للإنسان عشرون رباعياً في قطر صقلية ومن كان مثلهم؛ لأنهم يعتدون هناك بالرباعي وبه يتعاملون. وهذا الذي ألزمه غير صحيح لأنّ أهل صقلية لا يعتدون بالرباعي بدل الدنانير، وإنما يجعلونه جزءًا من الدينار، لكنهم يتعاملون به على أنه جزء كما قلنا، ولا يقتضي أن يعتدوا به كاملًا. ... فصل (هل يكمل بالقيمة النصاب) وهل تراعى قيمة الذهب والفضة فيكمل بالقيمة النصاب وإن قصرت في الوزن؟ أما المكسور (¬5) فلا خلاف في المذهب أنه لا يُلتفت إلى قيمته بل إلى وزنه، وكذلك التبر (¬6) ........................... ¬

_ (¬1) في (ر) كان. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ت) و (ر) المعنى. (¬4) في (ت) لما أبعد وفي (ر) لما يعد. (¬5) في (ق) و (ر) المسكوك. (¬6) في (ر) التبر والمسكوك. "التبرُ ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين ولا يقال تبر إلا للذهب وبعضهم يقوله للفضة أيضًا والتَّبَارُ بالفتح" مختار الصحاح 31.

فصل (جمع الذهب والفضة في تكميل النصاب)

والمسكوك (¬1) إن تصور فيهما زيادة قيمة. وأما المصوغ فإن كانت الصياغة غير مباحة فلا تعتبر قيمتها أيضًا بلا خلاف. وإن كانت مباحة فظاهر المذهب على قولين: أحدهما: ترك اعتبار قيمتها إلحاقًا لذلك بالمسكوك، والثاني: اعتبارها لأنها كالسلعة المملوكة ويقدر على بيعها وتحصيل العوض عنها. وإذا قلنا باعتبار القيمة فكيف صورة ذلك؟ المنصوص أنها كالعروض فإذا بيعت وجبت الزكاة حينئذ، ولا يكمل بها الأنصاب. ويتخرج في المذهب قول ثان أنه يكمل به النصاب قياسًا على ما قيل في الحلي تكون فيه الأحجار التي لا يقدر على تخليصها أنها تزكى زكاة العين على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. ... فصل (جمع الذهب والفضة في تكميل النصاب) ولما (¬2) كان النقدان متفقين في حال (¬3) المقاصد وأنهما ثمن للمبيعات وقيم المتلفات، وهذا هو المقصد الأول [بهما] (¬4)، ولا يختلفان إلا من باب كثرة القيمة وقلتها وجب عندنا أن يجمعا في الزكاة فيكمل النصاب من أحدهما بالآخر. لكن المراعى في ذلك الوزن دون القيمة، ويقدر الدينار بعشرة دراهم. ووقع لأشهب أن (¬5) أوقية الدنانير أربعة (¬6) [دنانير] (¬7)، وإنما عوّل على أن صرف الدينار في حكم الزكاة بعشرة دراهم. وأوقية الدراهم ¬

_ (¬1) في (ق) والمكسور والمراد بالمسكوك هي الدراهم والدنانير المضروبة. (¬2) في (ر) وإن. (¬3) في (ر) جل. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) أن المراعات جمعه نظرًا إلى أن. (¬6) في (م) أربعين. (¬7) ساقط من (ق) و (م) و (ر).

(حكم إخراج القيمة في الزكاة أو أحد النقدين عن الآخر)

على ما ورد في الحديث [في حكم الزكاة] (¬1) أربعون درهمًا، لكن قد قدمنا حكم مراعاة [قيمة] (¬2) الصياغة. (حكم إخراج القيمة في الزكاة أو أحد النقدين عن الآخر) وإذا وجب إكمال النصاب منهما فهل يخرج أحدهما عن الآخر في الزكاة؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: الجواز في إخراج الورق عن الذهب لا بالعكس (¬3). والمعلوم من مذهبنا منع إخراج القيمة في الزكاة؛ فمن منع مطلقًا رأى أن إخراج أحدهما عن الآخر كإخراج القيمة في الزكاة، ومن أجاز مطلقًا رأى أنهما لو تساويا في إكمال النصاب كانا كالشيء الواحد لأنّ المطلوب منهما متفق كما تقدم. ومن فرق فلأن الورق أيسر على الأخذ في التصرف (¬4) بخلاف الذهب. وإذا قلنا بجواز الإخراج فهل يراعى الصرف الأول؛ الدينار بعشرة دراهم، أو صرف وقت الإخراج؟ ثلاثة أقوال: أحدها: مراعاة الصرف الأول نظرًا إلى أنه كالشرع الثابت في الزكاة. والثاني: التعويل على صرف الوقت لأنّ النظر إلى تحصيل المقصود من المقدار الواجب، وهذا لا يحصل إلا بصرف الوقت. والثالث: النظر إلى صرف الوقت إلا أن يكون المخرج دون الصرف الأول، فيلزمه أن يخرج الصرف الأول، ومثاله أن يلزمه مثلًا نصف دينار فيريد أن يخرج عنه ورقًا. فإن (¬5) كان صرفه أكثر من خمسة دراهم أخرج مقدار الصرف، وإن كان أقل خُيّر بين أن يخرج خمسة أو [يخرج] (¬6) نصف دينار. وهذا أحتياط للزكاة فيعطى للمساكين الأكثر. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ر) أو بالعكس. (¬4) في (ق) الصرف. (¬5) في (ق) و (ت) فإن. (¬6) ساقط من (ر).

وإذا أراد أن يخرج من الجنس فإن كان المزكى مسكوكًا ووجب فيه مقدار دينار (¬1) كامل أخرجه من [الجنس] (¬2) فإن وجب بعض الدينار فهاهنا [لا يمكن من] (¬3) كسره إن كان التعامل بالدينار الكامل. وأما إن كان التعامل ببعض الدينار كما يتعامل في بعض البلاد بالرباعية، فإن وجد منها مقدار كامل أخرجه. وإن لم يكن إلا بفضة فهل يجوز كسره؟ في المذهب قولان، مع الاتفاق أنه لا يجوز كسر الدينار الكامل. والإجازة في حق البعض؛ لأنه لما كان غير كامل فهي قطع فلا يفعل فيها (¬4) أكثر مما هي عليه، والمنع لأنّ تلك الأبعاض مسكوكة فأشبهت الدينار الكامل. وإن كان التعامل بالكامل كما قلنا ووجب البعض هل يلزم إخراج قيمة السكة إن أخرج ذهباً؟ في المذهب قولان. والذي عند ابن حبيب أنه لا يلزمه ذلك لأنّ السكة غير مراعاة في إكمال النصاب بهذا، وكذلك لا تراعى هاهنا. ورأى أبو الحسن القابسي مراعاة السكة، فلا يجوز أن يعطى عنده للمساكين قطعة ذهب غير مسكوكة؛ لأنهم كالشركاء للمزكي. والمذهب مختلف في هذا الأصل؛ هل المساكين كالشركاء بمضي الحول، أو ليس كالشركاء؛ وإنما يجب على المكلف في ذمته مقدارٌ، متى أوصله إليهم سقط من ذمته. لكنه إنما يتعلق بالذمة يحوال (¬5) العين الذي في يده. وإن أخرج ورقاً أخرج قيمته مسكوكاً بلا خلاف عندنا. وإن كان المزكى مصوغاً فله أن يخرج عنه قطعة ذهب، لكن كسر المصوغ جائز. وإن أراد أن يخرج قيمته ورقاً فإن كانت الصياغة آنية فهي ¬

_ (¬1) في (ت) كامل. (¬2) ساقط من (ق) و (ت). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ق) بها. (¬5) في (ت) لحول وهي غير واضحة في (ر).

على قسمين كما نبينه فيما بعد (¬1) محرمة ومختلف فيهاة فالمحرمة في حكم المكسورة (¬2)، ولا تراعى قيمة صياغتها. وإن كانت حلياً فللمتأخرين قولان: أحدهما: أن الصياغة كالعروض يقومها المدير (¬3) ويتركها غيره إلى أوان البيع فيزكيها إذا باع، والثاني: أن الصياغة متابعة للعين، وهذا على ما قلناه في إعطاء الأتباع حكم متبوعاتها أو حكم أنفسها. وإذا قلنا إنها تتبع العين فهل يزكي قيمة الصياغة إن أخرج ورقاً أو يزكي قيمة الذهب مكسورًا؟ قال أبو القاسم بن الكاتب وغيره: يزكي قيمة الواجب عليه مصوغًا. وقال أبو عمران وغيره: يزكي قيمة الواجب مكسورًا. وقد كثرت مناظرتهم في هذه المسألة حتى ألف بعضهم على بعض. ونكتة ما عول عليه كل واحد منهم نذكره؛ وذلك أن ابن الكاتب ومن قال بقوله قاسوا المسألة على حكم جزاء الصيد، إذ المكلف مخير فيه بين أن يُخرج المثل من النَّعم أو عَدل الصيد طعاماً، فإن اختار المثل أخرجه، وإن اختار إخراج الطعام فإنما يقدر الأصل لا المثل، فكذلك هاهنا هو مخير بين أن يخرج قطعة ذهب [أو قيمتها دراهم، فإن أخرج قطعة الذهب ¬

_ (¬1) في (ر) تعد وفي (ق) يعد. (¬2) في (ر) المسكوكة. (¬3) في المذهب المالكي التجار على قسمين: متربص ويعرف كذلك بالمحتكر، ومدير، فالمتربص هو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق، فربما أقامت السلع عنده سنين؛ فهذا عنده لا زكاة عليه، إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد. وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية، فإذا زكى السلعة كل عام- وقد تكون كاسدة- نقصت عن ثمن شرائها. وأما المدير وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا تستقر بيده سلعة فهذا يزكى في السنة الجميع يجعل لنفسه شهرًا معلومًا يحسب ما بيده من السلع والعين والدين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع، هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ولو درهم فان لم يكن يبيع بعين أصلًا فلا زكاة عليه.

(حكم اختلاف السكك)

أجزأه، وإن أخرج القيمة رجع إلى الأصل وأخرج، (¬1) قيمة المصوغ. وأبو عمران ومن قال بقوله التفتوا إلى المسألة في نفسها فقالوا: لا يخلو أن يكون للمساكين حق في الصياغة، فلا يجوز للمكلف أن يعطي مما وجب عليه ذهباً غير مصوغ، أو يكون لا حق لهم فيها فيجوز، وإذا اتفقا على جواز إعطاء الذهب غير المصوغ فكذلك يلزم أن يعطي القيمة إذا تبيّن بما قلناه أن لا حق للمساكين في الصياغة وهذا هو الأصل (¬2) في المسألة. ولا مناسبة بين جزاء الصيد وبين هذه المسألة؛ لأنّ الواجب هناك أحد شيئين؛ يعني إذا اختار المثل أو الطعام وكل (¬3) واحد منهما أصل فيقدر كل واحد منهما بالأصل، وهاهنا القيمة إنما تجب عن الواجب في الذمة، والواجب إخراجه. فإذا جاز إخراج غير مصوغ فكذلك ينبغي أن تجزي قيمته. (حكم اختلاف السكك) وإذا اختلفت السكك فكان يملك نوعاً منها فأراد أن يخرج من نوع آخر؛ فإذا اتفقت في السلامة من الغش أو في مقدار الغش إن (¬4) كانت غير سالمة فلا شك في الجواز. فإن اختلفت (¬5) فأراد إخراج الأدنى عن الأجود؛ فإن أخرج من الأدنى عن وزن (¬6) الواجب عليه فلا شك في المنع، [لأنه أخرج دون ما يجب عليه. وإذا أخرج قيمة الواجب فللمتأخرين قولان: أحدهما: الجواز، والثاني: المنع] (¬7). وهذا على ما قدمناه من الخلاف هل ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) الأخير وفي (ت) الأول. (¬3) في (ر) ولكل. (¬4) في (ر) أو. (¬5) في (ر) اختلفت أو يكون لا حق لهم فيها فيجوز وإذا اتفق على جواز إعطاء الذهب غير المصوغ. (¬6) في (ق) دون وزن. (¬7) ساقط من (ر).

باب زكاة الحلي وما يتعلق به

المساكين شركاء في المقدار الواجب فلا يخرج القيمة (¬1) لأنه يكون ربًا (¬2). وإنما يجب لهم في ذمته مقدار معلوم، فله أن يعطيهم من أي الأنواع شاء. ولا شك أنه إن أراد أن يعطي الأجود عن الأدنى وأخرج مقدار الوزن فيجزيه، لأنه سلم من الربا وأعطى الأفضل، وإن أراد أن يخرج بالقيمة فيجزي على القولين. ... باب زكاة الحلي وما يتعلق به (عدم وجوب الزكاة في الحلي المتخذ للباس ووجوبها في المتخذ للتجارة والكراء) وقد قدمنا وجوب الزكاة في العين: الذهب والفضة وأن ذلك لكونهما متهيئين للنماء. وإذا صيغا فجوهرهما يقتضي وجوب الزكاة، وصورتهما تقتضي إسقاطها؛ لأنهما بالصياغة لحقا بالعروض. وقد غلب مالك رحمه الله في الحلي المباح اتخاذه حكم الصورة فأسقط الزكاة، وهذا إذا اتخذ للباس ناجزًا أو متاخرًا؛ فإن اتخذ للتجارة فالإجماع على وجوب الزكاة؛ لأنها إذا وجبت في عروض التجارة وأصلها عدم الوجوب فأحرى أن تجب في الحلي المتخذ للتجارة، إذ أصله وجوب الزكاة. فإن اتخذ للكراء ليصرف في معنى مقتضاه المعاوضة والحاصل فيه غير مربوح فيه، كمن يتخذ ليصدقه امرأته، أو اتخذ لحاجة إن عرضت [فيباع فيها] (¬3)، ففي ذلك قولان: أحدهما: وجوب الزكاة نظرًا إلى أصله، ولأنه لم يتخذ للقنية والثاني: إسقاطها نظراً إلى أنه لم يتخذ للتجارة. هذا في غير المكري. ¬

_ (¬1) في (ق) بالقيمة. (¬2) في (ر) لأنه قد زاد. (¬3) ساقط من (ر) و (ق).

فصل (تمييز المصوغ المباح من غيره)

وأما ما اتخذه للكراء ففيه النماء وهو يلحقه بما اتخذ للتجارة، وبقاء العين وهو يلحق بالمقتنى للباس، ففيه شبهة من موجب ومسقط، وقد تقدم خلاف الأصوليين أيهما يغلب؟ ولا خلاف أن العروض لا تنتقل من القنية إلى التجارة بالنية. وأما الحلي المباح ففيه قولان: أحدهما: أنه كالعروض، ولا تنتقل إلى التجارة إن كان أصله القنية بمجرد النية. والثاني: أنه ينتقل، لأنّ النية فيه تعيده إلى أصله. والأصل (¬1) في هذه وجوب الزكاة. ... فصل (تمييز المصوغ المباح من غيره) ولما كان المصوغ يتنوع فتجب الزكاة فيما لا يباح منه وتسقط فيما يباح، وجب أن يبين المباح من غيره، وهو على قسمين: آنية وحلي. فالآنية إن اتخذت للاستعمال فجمهور الأمة على تحريمها، وإنما يخالف داود (¬2) في الأكل دون الشرب. وقوله باطل قطعًا. وإن اتخذت للزينة فالمذهب على قولين: الجواز لأنّ الحديث وارد في الاستعمال، وعموم قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} (¬3) يقتضي الجواز، والمنع قياسًا على الاستعمال. وأما الحلي فهو مباح للنساء بلا خلاف وذلك فيما يلبسنه ويتعلق ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) فاصل جوهره. (¬2) هو: داود بن علي بن خلف بن سليمان الأصبهاني ثم البغدادي أبو سليمان، إمام أهل الظاهر ولد سنة مائتين وقيل سنة اثنتين ومائتين أخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور وكان زاهدًا متقللاً قال الشيخ أبو إسحاق في طبقاته: وكان من المتعصبين للشافعي وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه. قال: وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد توفي في شهر رمضان سنة سبعين ومائتين". طبقات الشافعية 2/ 77 - 78 (22). (¬3) الأعراف: 32.

(حكم تحلية السيف والخاتم والمصحف)

بلباسهن كالأزرار أو ما في معناها. وأما ما يتخذ لغير اللباس فهو في حكم الأواني المتقدم بيانها. (حكم تحلية السيف والخاتم والمصحف) وأجمعت الأمة على إباحة تحلية السيوف والخاتم والمصحف. فأما السيف فلا خلاف في جواز تحليته بالفضة، وهل يجوز بالذهب؟ قولان: أحدهما: الجواز قياسًا على الفضة؛ لأنه استقني للترهيب على العدو، وهو بالذهب أشد إرهاباً. والثاني: المنع لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الذهب والحرير: "هذان حرام على ذكور أمتي، حلال لإناثها" (¬1). وأما الخاتم فلا يجوز للرجال اتخاذه ولا جزء منه (¬2) بالذهب لعموم الحديث المتقدم. وأما المصحف فيجوز تحليته بالذهب والفضة. وهل يلحق بالسيف جميع ما يتخذ (¬3) آلة للحرب؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: اختصاص السيف بالجواز دون غيره. والثاني: إلحاق آلة الحرب به. والثالث: قصر الجواز على ما يطاعن به ويضرب به، دون ما يتقى به ويتخذ للتحزم. والقولان بالإلحاق والقصر على الخلاف في الرخص، هل يقاس عليها؟ والقول الثالث فلأن حقيقة القياس رد الشيء إلى مثله، ومثل السيف ما يطعن به ويضرب دون غيره. وإذا تقرر هذا فكل ما يباح تسقط منه الزكاة، وكل ما يحرم تجب فيه ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه الترمذي في اللباس 1720، وابن ماجه في اللباس 3595 ولفظ الترمذي: "عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِي أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ حُرِّمَ لِباسُ الْحَرِيرِ والذهَبِ عَلَى ذُكُورِ أمتي وَأُحِل لِإناثِهِمْ" وقالَ هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (¬2) في (ت) وأما الخاتم فيجوز اتخاذه من الفضة ولا خير منه، وفي (ق) و (م) وأما الخاتم فلا يجوز للرجال اتخاذه ولا خير منه. (¬3) في (ر) يتخول.

فصل (حكم زكاة الحلي المربوط بالجواهر)

الزكاة لأنه مكسور شرعًا، وكلما اختلف فيه فيجري على الخلاف، هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ ... فصل (حكم زكاة الحلي المربوط بالجواهر) وإن كان الحلي مربوطًا بشيء من الجواهر؛ فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد، وكان مما تجب فيه الزكاة زكّي ما فيه من الذهب والفضة زكاة العين، وما فيه من الحجارة زكاة العروض. فإن لم يمكن نزعه إلا بفساد فهاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: تغليب حكم الجواهر التي فيه، فيزكى زكاة العروض. والثاني: مراعاة الأكثر، فيعطى الحكم. والثالث: إعطاء كل نوع حكم نفسه فيتحرى ما فيه من العين فيزكى، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض. وهذان القولان على الخلاف في الأتباع هل تعطى حكم نفسها أو حكم متبوعاتها؟ وأما القول الأول فغلب فيه أحكام الحجارة إلحاقًا لها بالعروض لمشابهته لها بالصورة والاختلاط بالحجارة. وفي الكتاب: روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع: إذا اشترى [رجل] (¬1) حلياً للتجارة أو ورثه فَحَبَسَهُ للبيع، كلما احتاج إليه باع، أو للتجارة (¬2). وأكثر الروايات (¬3) على أن عقيب هذا الكلام: وروى أشهب معهم فيمن اشترى حليًا للتجارة وهو مربوط (¬4) بالحجارة ولا يستطاع نزعه فلا زكاة عليه [فيه] (¬5) حتى يبيعه (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ق) و (م) للتجارة وفي الكتاب زكاه. المدونة 2/ 246. (¬3) في (ت) الرواة. (¬4) في (ر) مربوطة. (¬5) ساقط من (ق) و (ت). (¬6) المدونة 2/ 246 و 247.

فيفهم من هذا الكلام أن الحلي إذا كان للقنية ولم يكن للتجارة فإنه يزكيه حين يبيعه، ولا خلاف أن سلع القنية ليست كذلك. وفي رواية ابن وضاح (¬1) زيادة "زكاة" بين قوله "أو للتجارة" وبين "وروى أشهب" (¬2). وعلى هذه الرواية يكون الحكم بيّنًا؛ فتحمل رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع على حلي غير مربوط بحجارة، وهو للتجارة فيزكى. ورواية أشهب (¬3) على الحلي المربوط بالحجارة (¬4). وتكلم فيها على الشراء خاصة، ولا زكاة فيه حينئذ إلا أن يبيعه على القول أنه كالعروض، إذا لم يستطع نزعه إلا بفساد. ورواية الجماعة محمولة على الحلي غير المربوط. والجواب في رواية أشهب أنه يزكيه كالعين. وهذا حكم الحلي [المربوط] (¬5) نظراً إلى أصله. وقد قدمنا الخلاف في الحلي إذا كان للقنية هل ينتقل إلى التجارة بالنية بخلاف العروض أو لا ينتقل؟ ... ¬

_ (¬1) الإمام الحافظ محدث الأندلس أبو عبد الله محمَّد بن وضاح المرواني مولى عبد الرحمن بن معاوية الداخل ولد سنة تسع وتسعين ومئة ارتحل إلى العراق والشام ومصر وجمع فأوعى. كان عالماً بالحديث بصيرًا بطرقه وعلله كثير الحكاية عن العباد ورعاً زاهدًا صبوراً على نشر العلم متعففاً نفع الله أهل الأندلس به، ولا علم له بالعربية ولا بالفقه، توفي ابن وضاح في المحرم سنة سبع وثمانين ومئتين" سير أعلام النبلاء 13/ 445 - 446 وشجرة النور 76 (116). (¬2) هذا يبين أن النسخة التي اعتمدتها دار صادر في طبع المدونة هي من رواية ابن وضاح، لأنّ اللفظة التي أشار إليها ابن بشير موجودة فيها، وهي قوله: "للتجارة زكاة. وروى أشهب". (¬3) في (ق) و (ت) أشهب معهم على. (¬4) في (ق) و (م): بالحجارة ولا يظهر لإسقاط ما أثبته ابن وضاح معنى، إلّا أن يقال رواية أشهب في الحلي المربوط بالحجارة. (¬5) ساقط من (ق).

باب في أحكام نماء المال والفوائد

باب في أحكام نماء المال والفوائد ولا خلاف [عندنا] (¬1) أن الأولاد تزكى (¬2) على حول الأمهات، وسيأتي حكمها في زكاة الماشية. وأما الأرباح فالمعروف من المذهب أنها كالأولاد تزكى على حول الأصل، والشاذ أنها كالفوائد يستقبل بها حولاً من يوم الحصول. وهذا على ما يقوله الأشياخ على الخلاف في المترقبات هل تعد حاصلة من يوم ترقبها أو من يوم حصولها؟ والصحيح أن الأرباح مضافة إلى أصولها لأنّ العين إنما تعلقت بها الزكاة لكونها معدة للنماء، ولا تنمى إلا بالأرباح، والأرباح أولى بأن تجري فيها الزكاة لأنها في حكم ما يستخرج من المعدن وما يحصل من النبات. وإنما تخيل من قال بالاستقبال إن صح على أنه لا يكاد [يوجد] (¬3) نماء أن الأرباح حاصلة يوم نضوضها (¬4) وهي ليست جزءًا من المال، فأشبهت الفوائد. وإذا تقرر أن الأرباح مزكاة على حول الأصول (¬5) فهل تضاف إلى يوم ملك المال وتُعدّ كأنها موجودة في ذلك الوقت، أو إلى يوم تحريك المال والشراء به، أو إلى يوم الحصول فيعتبر هل جميع النصاب باق في يده؟ في المذهب ثلاثة أقوال: مذهب المغيرة وهو غير المذكور في المدونة أنها ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) و (ت) مزكاة. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) الشراء. النضوض: من نض ينض نضوضًا، والنَّضُّ: الدّرهم الصامِتُ. والناضُّ من المَتاع: ما تحوَّل ورِقًا أَو عينًا. قال الأَصمعي: اسم الدراهم والدنانير عند أَهل الحجاز وإِنما يسمونه ناضًّا إِذا تحوَّلَ عينًا بعد ما كان مَتاعًا لأَنه يقال: ما نَضَّ بيدي منه شيء. وهو ما ظهر وحصل من ماله. ومنه الخبر: خذ صدقة ما نَضَّ من أَمْوالهم أَي: ما ظهر وحَصَل من أَثمان أَمْتِعَتهم وغيرها. وفي حديث عمرِ رضي الله عنه: كان يأخذ الزَّكاة من ناضٍّ المالِ وهو ما كان ذهبًا أَو فِضَّة، عينًا أَو ورِقاً. انظر لسان العرب 7/ 237. (¬5) في (ق) الأصل.

كالموجودة يوم ملك الأصل، ومذهب ابن القاسم أنها كالموجودة يوم الشراء، ومذهب أشهب أنها يعتبر وجودها عند الحصول. وعلى هذا اختلف في مسألة من حال عليه الحول وعنده عشرة دنانير فأنفق منها خمسة ثم اشترى بخمسة سلعة فباعها بخمسة عشر، واشتراها قبل الإنفاق. فمذهب المغيرة وجوب الزكاة إن تقدم الشراء أو بالعكس (¬1)، ومذهب ابن القاسم وجوب الزكاة إن تقدم الشراء لا بالعكس (¬2)، وهو على ما قلناه. ومذهب أشهب يعتبر الوجود عند الحصول (¬3). وهذه المسألة فيها قياس العكس للمغيرة؛ لأنه قال في الكتاب: فكما لا يحسب ما أنفق قبل الحول فكذلك لا يترك أن يحسب ما أنفق بعد الحول قبل الشراء أو بعده. فاستعمل الشيء وعكسه قبل الحول وقاس عليه مثله بعد الحول (¬4)، وهذا هو حقيقة قياس العكس (¬5) عند الأصوليين. وبينهم خلاف في قبوله. وقد ذكرنا ما قيل في مسألة كتاب الصيام هناك أنها قياس عكس، وبيَّنا أن ذلك ليس بصحيح، وإنما هناك قياس طرْد. وإنما قاس فيها الغوارب على الطوالع، فظن من لا تحقيق عنده أنه قياس عكس لما كان الغارب ضد الطالع وعكسه، وليس كذلك. وإنما حقيقة قياس العكس هذا (¬6) الذي ذكره المغيرة، وهو كما قال أصحابنا في الرد على أبي حنيفة في قوله: إن القيء لا ينقض الوضوء، بأن يقولوا: كل ما لا ينقض الطهارة قليله، فلا ينقض كثيره، أصله الدم وعكسه البول. وإنما هذا لأنّ أبا حنيفة ¬

_ (¬1) في (ر) إن تقدم الإنفاق على الشراء. (¬2) في (ت) وبالعكس. (¬3) ساقط من (ر) و (ق). (¬4) المدونة: 1/ 243. (¬5) في (ر) للمغيرة؛ لأنه قال قبل الشراء أو بعده واستعمل الشيء من حققة قياس عكس قبل الحلول، وقاس عليه مثله فيما بعد الحول وهذا من حقيقة قياس العكس. (¬6) في (ق) هو.

فصل (حكم من تسلف مالا فتاجر به فربح)

يقول: إن اليسير من القيء لا ينقض الطهارة ولا ينقضها (¬1) الكثير منه. وهو متفق معنا على أن البول يستوي قليله وكثيره في النقض، والدم يستوي قليله وكثيره في عدم النقض، فألزمه أصحابنا استواء قليل القيء وكثيره في عدم النقض (¬2). فكذلك ألزم المغيرة أن يستوي الإنفاق بعد (¬3) الحول قبل الشراء أو بعده في إيجاب (¬4) الزكاة، كما يستوي الإنفاق قبل الحول قبل الشراء أو بعده في إسقاط الزكاة. ... فصل (حكم من تسلّف مالًا فتاجر به فربح) وإذا تقرر أن حكم الأرباح حكم الأصول فإنما ذلك إذا اشترى بمال يملكه ونقده (¬5). فإن تسلف مالاً وليس عنده عوضه (¬6) فنقده في سلعة ثم باعها فربح فهل يستقبل به حولاً أو يعد كالمالك له من يوم الشراء؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستقبل به حولاً؛ [كان الذهب كله مسلوفاً] (¬7)، أو كان يملك بعضه وتسلف البعض. لكنه إنما يستقبل الحول بما يقابل الذي تسلف، وأما ما يقابل ملكه فيزكيه على حول أصله إن كمل به النصاب. والقول الثاني: أنه يضيف ربح السلف إلى يوم الشراء. والقول الثالث: أنه إن نقد شيئاً من عنده زكى جميع الربح على حول يوم الشراء، وإن لم ينقد ¬

_ (¬1) في (ر) ولا ينقضه. (¬2) في (ر) النقض كاستواء في ذلك واستواء البول في نقضه. (¬3) في (ر) قبل. (¬4) في (ر) إسقاط. (¬5) في (ر) ونقد. (¬6) في (ت) عروضه. (¬7) في (ق) كان الذهب كله مستوفاً وفي (ر) ويعد كالمالك له من يوم الشراء.

من عنده شيئًا استقبل بالربح حولًا. وهذا يقتضي خلافًا في الأرباح هل تعد حاصلة يوم (¬1) الشراء أو يوم الحصول إذا كانت مسندة إلى ذمة لا إلى [مال الزكاة] (¬2)، [وكأن من أسقط الزكاة رأى] (¬3) أن الربح لا يزكى إلا أن يستند إلى ملك فيعد كأنه نما عنه ويشبه الولادة، ومن أوجبها رأى أن الذمة كالملك الحقيقي فأسند الربح إليها، ومن فرق بين أن ينقد شيئًا من عنده أو لا ينقد راعى الإسناد إلى مال على الجملة (¬4)، فمتى وجد أضيف إليه الربح فإذا فقد لم يوجد ما يضاف إليه فاستقبل به حولاً. ومن (¬5) اشترى على مال يملكه لكنه لم ينقد وإنما اشترى بدين فثلاثة أقوال: أحدها: أن الربح مضاف إلى يوم ملك الأصل وإن لم ينقده. والثاني: أنه يضاف إلى يوم الشراء. والثالث: أنه يستقبل به حولًا. ولا شك أن من قال في المسألة الأولى بوجوب الزكاة فالوجوب عنده في هذه [المسألة] (¬6) أوْلى، وأما من قال هناك بالاستقبال فتختلف أقواله في هذه المسألة الثانية، لأنه إنما اشترى على مال وإن لم ينقده، فمن عد استعداده للنقد كالنقد أوجب (¬7) الزكاة، ومن نظر إلى أنه مشترٍ بديْن ولم يعدّ الاستعداد للنقد كالمنقود، فيختلف قوله هاهنا هل يضاف إلى يوم الشراء أو إلى يوم الحصول. وعلى هذا اختلف على قولين فيمن اشترى بديْن ولا يملك ما ينقد فباع بربح هل يضاف الربح إلى يوم الحصول أو إلى يوم الشراء؟ وبقيت مسائل تلحق بهذا الباب لكن تعلقها بباب الفوائد أشبه فنؤخر الكلام عليها إلى باب الفوائد. ... ¬

_ (¬1) في (ق) من يوم. (¬2) في (ق) ملك. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) بالجملة. (¬5) في (ر) و (ق) فإن. (¬6) ساقط من (ق) و (ر). (¬7) في (ر) فمن راعى استعداده للنقد كنقده أوجب.

فصل (حكم من ضاع ماله أو بعضه بعد الحول)

فصل (حكم من ضاع ماله أو بعضه بعد الحول) ولا خلاف أن الزكاة لا تجب قبل حلول الحول، فمن ضاع ماله أو بعضه حتى قصر عن النصاب قبل حلول الحول لم يتعلق بذمته شيء. فإن ضاع بعد حلول الحول وبعد إمكان الأداء تعلقت الزكاة بذمته، وإن ضاع بعد حلول الحول وقبل إمكان الأداء ففي تعلقها بالذمة قولان: المشهور أنها (¬1) لا تتعلّق، والشاذ أنها تتعلّق. وهو على الخلاف في إمكان الأداء هل هو شرط في الوجوب أم لا؟ وإذا قلنا إنها تتعلّق فإنما تتعلّق هاهنا بالقدر الباقي فيجب ربع عشره خاصة، ويلتفت في هذا إلى الخلاف في كون المساكين كالشركاء في المال بقدر الزكاة أو ليس بالشركاء، وقد تقدم ذلك. ولو حال الحول على نصاب فلم يؤدِّ زكاته حتى اشترى به سلعة فربح فيها فإنه يؤدي على العام الأول (¬2) على مقدار النصاب، فيؤدي مثلًا عن عشرين دينارًا نصف دينار وكان اشترى [بها] (¬3) سلعة فباعها مثلًا بأربعين ديناراً (¬4)، فإن كان عنده من العروض ما يقابل النصف الدينار الذي وجب عليه في الزكاة زكى على العام (¬5) الثاني وعن أربعين، فإن لم يكن عنده فالمنصوص أنه لا يزكي للعام الثاني إلا عن تسعة وثلاثين ونصف، ويجري على الخلاف في الدين الواجب في الزكاة، هل يسقط الزكاة أم لا؟ وسيأتي بيانه في موضعه [إن شاء الله] (¬6). قال ابن عبد الحكم يستقبل بالربح حولًا (¬7) ¬

_ (¬1) في (ر) أنه. (¬2) في (ق) عن المال. (¬3) ساقط من (ت) وفي (ر) به. (¬4) في (ق) و (ت) فيندر. (¬5) في (ر) للعام. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ق) حولًا كاملًا.

فصل (حكم زكاة العبد)

من يوم حصوله، ومنها (¬1) أخذ القول بأن الربح كالفائدة (¬2) ... فصل (حكم زكاة العبد) والعبد لا يملك ملكًا حقيقياً لأنّ للسيد انتزاع ما بيده، فلهذا نقول لا زكاة عليه فيما بيديه ولا على السيد؛ لأنه لم يملك ملكًا أيضًا وإنما ملك أن يملك. وهكذا نقول في المديان لا يزكي لأنه يُملك عليه انتزاع ما في يده وهذا يختص في حق المديان (¬3) بزكاة العين. ولا يسقط الدين زكاة الحرث والماشية على ما سيأتي بيانه في حكم الدين. ولا خلاف عندنا أن العبد لا تجب عليه زكاة في كل ما في يده [وهذا لأنّ الانتزاع يتوجه في كل ما في يده] (¬4)، ويجري مجراه كل من كان فيه بقية رق. وإن أعتق استقبل بما في يديه من الناض حولًا، وكذلك الماشية على ما سيأتي بيانه. وأما زكاة الثمار فالخلاف [فيها] (¬5) عندنا هل تجب بالطيب، أو باليبس، أو بالجذاذ؛ فإن أعتق قبل الطيب وجبت عليه الزكاة، وإن أعتق قبل الجذاذ لم تجب عليه، وإن أعتق فيما بين ذلك فعلى الخلاف، وسيأتي بيان هذه. الأقوال وتوجيهها في كتاب الزكاة الثاني. ... ¬

_ (¬1) في (ق) منه. (¬2) في (ق) كالفوائد. الذي في حاشية الدسوقي 1/ 461: "قال ابن عبد الحكم إنه يستقبل بالربح حولًا كالفائدة سواء كان يملك أصله أو لا بأن تسلفه فإن كان الأصل أقل من نصاب استأنف بالجميع حولًا وإن كان نصاباً زكاه ولا يزكي ربحه إلا إذا تم له حول". (¬3) في (ر) يده زكاة العين وهذا يختص ما في يديه. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ت) و (ر).

فصل (حكم زكاة مال الصبي والمفقود والأسير)

فصل (حكم زكاة مال الصبي والمفقود والأسير) ومذهبنا تغليب إرفاق المساكين في الزكاة، فلهذا نقول بوجوبها على [كل] (¬1) من ملك ملكًا حقيقيًا كان مكلفاً أو غير مكلف كالصبيان والمجانين، وهذا لا خلاف فيه عندنا (¬2) في سائر أنواع الزكاة. وقال أبو الحسن اللخمي: أما الحرث والماشية فلا يختلف في وجوب الزكاة فيهما عليهم؛ لأنهما ناميان بأنفسهما. وأما العين فإن كان ممن يتولاه ويتجر به وجبت الزكاة بلا خلاف أيضًا، وإن كان لا يتجر به جرى على الخلاف في المال المعجوز عن تنميته (¬3). وهذا الذي قاله غير صحيح لأنّ المال هاهنا مهيأ للنماء، وإنما العجز من قبل المالك. ولا خلاف أن من كان من المكلفين عاجزاً عن التنمية أنه تجب عليه الزكاة، وهذا الإجماع عليه. وإنما الخلاف إذا لم يقدر على المال حتى يعدم فيه التهيؤ للنماء على ما سيأتي بيانه. وقد قالوا في مال المفقود والأسير أن الناض منه لا يزكى لإمكان سقوط الزكاة منه بدين أو غيره، ويزكى الحرث والماشية. وعلل أبو الحسن اللخمي سقوطه لإمكان موت المالك، (¬4) وهذه العلة يجب طردها في الجميع لأنه لا يعلم الوارث بعينه ولا مقدار ما يرث حتى تجب فيه الزكاة أو تسقط. وإنما علل في الرواية [بما ذكرناه من إمكان] (¬5) سقوط الزكاة في العين. وقد قال الأشياخ إن الوصي يحترز في إخراج الزكاة من خلاف أبي حنيفة فإن خفي [له] (¬6) وأمن من المطالبة أخرج من غير مطالبة الحاكم (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) عندنا فيه. (¬3) التبصرة لوحة: 56. (¬4) التبصرة لوحة: 56. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ر) و (ت) و (م). (¬7) (ق) حاكم.

باب في زكاة العروض

وإن حاذر المطالبة فمذهب المخالف يرجع إلى الحاكم وعولوا على قوله في المدونة في الوصي يجد في التركة خمرًا أنه يرفع أمرها إلى الحاكم حتى يتولى كسرها وهذا محاذرة من مذهب المجيز تخليلها (¬1). ... باب في زكاة العروض (وجوب الزكاة في عروض التجارة وعدم وجوبها في عروض القنية ودَوْر النية في ذلك) ولا خلاف [بين الأمة] (¬2) أن عروض القنية غير مزكاة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ عَلَى المسلم في عَبدِهِ وَلاَ في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬3)، وقد فهمت الأمة من هذا سقوط الزكاة في عروض القنية، وهذا لِمَا قدمناه من اختصاص الزكاة بالأموال النامية لئلا يؤدي إخراجها من غير النامي إلى فنائه بالزكاة. وأما عروض التجارة فتتعلق بها الزكاة على الجملة عند جمهور الأمة، ولنُبين (¬4) ما يحصل به العروض ووصف التجارة [حتى تتعلّق بها الزكاة] (¬5) فنقول: من ملك عرضاً فلا يخلو أن يملكه بغير معاوضة [كالميراث والهبة والصدقة وما في معنى ذلك، أو بمعاوضة. فإن ملكه بغير معاوضة] (¬6) لم يتعلق به حكم الزكاة وإن قصد به التجارة، كما قدمنا في غير هذا الباب من أن النية بمجردها لا تنقل ¬

_ (¬1) انظر مواهب الجليل 2/ 293. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) أخرجه النسائي في الزكاة 2469، وأبو داود في الزكاة 1595، وابن ماجه في الزكاة 1812. (¬4) في (ق) ويتميز. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) ساقط من (ر).

العروض عن الأصل، والأصل في العروض سقوط الزكاة وكونها معدة للقنية. وإن ملَكه بمعاوضة فلا يخلو المدفوع عنه من أن يكون عوضًا أو عينًا؛ فإن كان عيناً انصرف بالنية إلى ما تصرفه إليه من التجارة أو القنية، لأنّ النية هاهنا ترده إلى أصل ما دفع فيه، فإن كان عرضاً فإن كان للتجارة فهو كالعين، وإن كان للقنية بنوْا بالمأخوذ عند القنية فلا شك في انصرافه إليها. وإن نوى به التجارة فهل ينصرف إليها؟ قولان: أحدهما: أنه لا ينصرف لأنه مأخوذ عن عرض قنية، فحكمه حكمه. والثاني: أنه ينصرف إلى التجارة بحصول المعاوضة على الجملة. ثم ما ينصرف بالنية لا يخلو من أن ينوي به التجارة أو القنية أو الغلة، أو لا ينوي شيئًا؛ فإن نوى به القنية فلا شك في انصرافه إليها كما قدمنا، وإن نوى به التجارة تعلقت به الزكاة، وإن نوى به الغلة (¬1) ففي تعلق الزكاة به إن بيع قولان: أحدهما: أنها تتعلّق به لأنه معدُّ للتنمية فأشبه عروض التجارة، والثاني: أنها لا تتعلّق به لأنه باق العين فأشبه عروض القنية. فإن فقدت النية منه لم تتعلّق الزكاة به لأنه يرجع إلى الأصل، والأصل عدم الزكاة في العروض. وإن نوى به اثنين مما قدمناه القنية والتجارة، [أو القنية والغلة، أو الغلة والتجارة] (¬2)؛ فإن جمع بين القنية والتجارة ففي تعلق الزكاة به إن بيع قولان: أحدهما: أنها لا تتعلّق، والثاني: أنها تتعلّق، وهما على الخلاف في اجتماع موجب ومسقط أيهما يغلب؟ وإن نوى القنية والغلة؛ فعلى مذهب ¬

_ (¬1) في (ر) القنية. (¬2) ساقط من (ر).

(حكم غلة ما اشتري أو كري للتجارة أو غيرها)

من يسقط الزكاة من المغتل تسقط هاهنا، وعلى مذهب من يوجبها يجتمع هاهنا موجب ومسقط، فقد يختلف فيه (¬1) قوله إلا أن يراعي الخلاف فيوجب. [وإن نوى الغلة والتجارة فعلى مذهب من يزكي المغتل تجب الزكاة هاهنا بلا شك، وعلى مذهب من لا يزكيه يجتمع موجب ومسقط فقد يختلف (¬2) قوله إلا أن يراعي الخلاف فيوجب] (¬3). وتنتقل العروض التي للتجارة إلى القنية بالنية على ما قدمناه من أن النية ترد إلى الأصل، ولا تنتقل عروض القنية إلى التجارة بالنية لكن إن نوى بعرض التجارة القنية ثم عاد فنوى بها التجارة ففي رجوعها إلى ذلك قولان: أحدهما: أنها لا ترجع إذ لا تنتقل بالنية عن الأصل كما قدمنا. والثاني: أنها تنتقل (¬4) لأنّ أصلها هاهنا التجارة فتعود إليها. (حكم غلة ما اشتُري أو كري للتجارة أو غيرها) واختلف في غلة ما اشتري للتجارة هل يكون فائدة يستقبل بها حولًا لأنّ التجارة إنما تتعلّق بعينه لا بغلته، أو يزكيه على حول الأصل [كما يزكي ثمنه لو بيع] (¬5)، [وإذا تقرر هذا قلنا بعده:] (¬6) وأما غلة ما اشتري للتجارة فلا خلاف أنها مزكاة على حول (¬7) الأصل. وإذا تقرر هذا قلنا بعده من اكترى أرضًا أو كانت له، فزرعها؛ فلا يخلو من أن يكون الكراء للتجارة والزرع للتجارة، أو يكون الكراء (¬8) للاستعمال والغلة للأكل، أو يكون أحدهما للتجارة والآخر لغير التجارة. ¬

_ (¬1) في (ت) اختلف، وفي (م) يختلف. (¬2) في (ت) اختلف. (¬3) ساقط من (م). (¬4) في (ق) ترجع. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ت). (¬7) في (ق) حكم. (¬8) في (ت) الكل للاستغلال.

فإن كانا جميعاً للتجارة نُظِر، فإن حصل من الزرع [دون ما] (¬1) تجب فيه الزكاة أزكى ثمنه إذا بيع على حول أصله (¬2)، وإن كان مقدار ما تجب فيه الزكاة زكاه عند حصاده وبنى [على] (¬3) حول ثمنه إذا باعه] (¬4) على أصل زكاة عينه. وإن كانا جميعاً للقنية استقبل بالثمن حولًا، كان الحاصل منه مقدار ما تجب الزكاة في عينه أو لا تجب. وإن كان أحدهما للتجارة والآخر لغير التجارة فقد اختلف؛ هل يعطى حكم الزرع للبذر والعمل، أو للأرض. فإن أعطينا الحكم للأرض نظر؛ فإن كانت للتجارة زكى، وإن كانت للقنية استقبل بالثمن حولاً. وإن أعطينا الحكم للبذر والعمل راعاهما على ما قدمناه في الأرض. والمحكي عن أبي محمد عبد الحميد رحمه الله (¬5) أنه كان يسقط الزرع على البذر والعمل والأرض، ويعطي لكل واحد منهما حظاً من الزرع، فعلى هذا المذهب ينبغي أن ينظر إلى مقدار ما يقابل الشيء الذي للتجارة فيزكي ثمنه عند بيعه والذي للقنية يستقبل به حولاً. وقد يقال هاهنا إنه قد اجتمع موجب ومسقط فيختلف هل يغلب الموجب أو المسقط على ما قدمناه ثم ينظر؛ فإن وافق حكم الأرض حكم البذر فذلك بيّن، وإن خالفه فأجراه على ما تقدم. ¬

_ (¬1) في (ر) و (ت) ما لا. (¬2) في (ت) حول أصله. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) كان ثمنه إذا بيع. (¬5) هو: أبو محمد عبد الحميد بن محمد القيرواني المعروف بالصائغ الإمام المحقق تفقه بأبي حفص العطار وابن محرز وأبي إسحاق التونسي والسيوري وغيرهما، وبه تفقه الإمام المازري، له تعليق مهم على المدونة معروف كمل فيه الكتب التي بقيت على التونسي، وأصحابه يفضلونه على اللخمي توفي سنة 486. شجرة 117 (327).

فصل (حكم زكاة من اشترى أصول التجارة فأثمرت)

فصل (حكم زكاة من اشترى أصول التجارة فأثمرت) ولو اشترى أصولاً للتجارة فأثمرت فعلى مذهب من يجعل القنية (¬1) كفوائد يستقبل بالثمن حولًا، كانت مما تجب الزكاة في عينها أو لا تجب. وعلى مذهب من يوجب الزكاة على حكم الأصول ينظر، فإن لم تجب الزكاة في العين لأنها دون النصاب أو لأنها مما لا تجب الزكاة في عينه زكى ثمنها إذا باعها على حول الأصول، فإن وجبت الزكاة في عين الثمن (¬2) بني حولها إذا باعها على يوم زكاها. وقد كانت هذه المسائل بباب الفوائد أشبه، لكن ألحقناها بهذا الباب لما تعلق بها من حكم القنية والتجارة. ... فصل (حكم زكاة العروض التي يترصد بها الأسواق دون إدارتها) فإذا تقرر الفرق بين ما تتعلّق به الزكاة من العروض أو لا تتعلّق، واستوفينا ذلك خلافاً ووفاقًا، قلنا بعده: الزكاة تتعلّق عندنا بعروض التجارة على صفتين راجعتين (¬3) إلى اختلاف حكم المتجر؛ فإن كانت العروض يترصد بها الأسواق وزيادتها دون إدارتها فلا تجب الزكاة حتى تباع، فتجب حينئذ إن تم حول أصلها، أو ينتظر تمامه إن لم يتم. ولو أقامت أحوالاً لم تبع لم تجب إلا زكاة واحدة. وهذا لأنّ الزكاة قد فهم من الشريعة أنها متعلقة بالنماء وبالعين لا بالعروض، فإذا قامت أحوالًا لم تبع فإنه لم يحصل فيها النماء إلا مرة واحدة، فلا تجب إلا زكاة واحدة. وهي قبل البيع عرض، والزكاة لا تتعلّق بالعروض، فإذا باع وجبت الزكاة. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) الغلات. (¬2) (ق) الثمرة. (¬3) في (ر) صنفين راجعين.

(عدم جواز إخراج الزكاة قبل البيع وزكاة الدين قبل حلوله)

(عدم جواز إخراج الزكاة قبل البيع وزكاة الدين قبل حلوله) ولا يجوز عندنا أن يتطوع بالإخراج قبل البيع، فإن فعل فهل يجزيه؟ قولان: المشهور عدم الإجزاء، [وهذا لأنّ الزكاة لم تجب بعد. وأما الإجزاء] (¬1) فيمكن أن يكون مراعاة للخلاف أو بناء على جواز الإخراج قبل الحول. وكذلك القولان عندنا في إخراج زكاة الدين قبل حلوله؛ المشهور (¬2) المنع، لما قلنا من أن الزكاة لم تجب بعد. والإجزاء، إما مراعاة للخلاف وإما لأنها إنما تمنع من الإخراج لئلا يتلف (¬3) الدين، أو يمنع مانع من اقتضائه. فإذا أخرج وسلم الديْن واقتضى، تبيّن صحة الإخراج وأنه واقعٌ موقعه. ... فصل (حكم زكاة المال المدار) وإن اكتسب العروض لإدارتها بالبيع والخلف، ويبيع بسعر الوقت ولا يرتصد الأسواق فهذا يجب عليه عندنا زكاة القيمة في العروض. لكن اختلف المذهب؛ هل تجب عليه الزكاة لعدم تحصيل حولٍ يزكي فيه، أو لأنه لما أكثر الإدارة في العروض صارت في حقه كالعين؟ وعلى هذا اختلف المذهب فيمن كان يبيع العروض بالعروض ولا ينض له عين، هل يجب عليه التقويم أم لا؟ المشهور أنه لا يجب. فمن جعل الزكاة لاختلاط الأحوال قال لا تجب، ومن قال إنها صارت في حكم العين أوجب التقويم. وإذا قلنا إن التقويم لا يجب فهل ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) في (ت) حصوله والمشهور، وفي (ر) حلوله والمشهور. (¬3) في (ت) يلتف.

(ما الحكم إذا بارت عروض المدير؟)

ينتقل بذلك عن حكم الإدارة؟ في المذهب قولان: المشهور أنه لا ينتقل بل يكون على حكم الإدارة، [باقيًا عليه] (¬1)، فإذا نض له [درهم] (¬2) واحد أو أقل منه وجب عليه التقويم. والشاذ أنه لا يجب عليه حتى ينض له مقدار النصاب فيزكي حينئذ ما نص [له] (¬3)، ثم كلما باع زكى. وهذا حكم بأنه خرج عن حكم الإدارة. وسبب الخلاف هل كونه لا ينض له عين فيجعل العروض كالبائرة (¬4) القيمة فيخرجها عن حكم الإدارة ويجعلها كأنها باقية لم تزل، أولاً يلحقها بذلك لأنها قد تبدلت أعيانها فهي على الحقيقة متجر بها، لكن لا يقومها حتى يحصل عيناً فيجعلها تابعة له. وإذا راعينا حصول العين جعلناها باقية على حكم الإدارة، فهل يراعى حصول العين في إبان وجوب (¬5) الزكاة أو حصولها على الجملة متى حصل؟ في المذهب قولان: المشهور أنه متى حصل وجب التقويم، إذ بحصوله خرجت عن حكم البوار، وقد حصل ما يزكى عينه في الحول. والشاذ مراعاة آخر الحول إذ به يتحصل الخطاب بالإخراج. وإذا قلنا بوجوب الزكاة وإن لم ينض له شيء، فهل يخرج عرضاً بقيمته أو يبيع ويخرج عينه (¬6)؟ في المذهب قولان. والجاري على أصل هؤلاء أنه يخرج من العروض، إذ جعلوه في حكم العين. ومن قال بالبيع وإخراج العين، فإنما راعى الخلاف. (ما الحكم إذا بارت عروض المدير؟) وإذا بارت عروض المدير فهل يخرج بذلك عن حكم الإدارة ويرجع ¬

_ (¬1) ساقط من (ت) وهو غير واضح في (ر) و (ق). (¬2) في (ق) و (م) ولو دينار. (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ر) كالمدارة. (¬5) في (ر) وجوب إبان. (¬6) في (ق) أو بيعه ويخرج عينًا وفي (ت): أو بيع ليخرج ثثمنه.

(حكم المال الذي بعضه مدار وبعضه غير مدار)

إلى النوع الأول الذي تجب فيه الزكاة بالبيع؟ في المذهب قولان. وسبب الخلاف هل يعطى الحكم للنية والنية (¬1) فيها الإدارة ولا ينتقل عنها إلا بنية الادخار، أو يعطى الحكم للموجود، وقد وجد (¬2) فيه الادخار. وقال أبو الحسن اللخمي: إنما هذا (¬3) إذا بار الأقل، فيختلف فيه هل يجعل تبعًا للأكثر أم لا؟ وعنده أنه إذا بار الجميع أو الأكثر لا يختلف في خروجها عن حكم الإدارة (¬4). والمذهب يختلف على الإطلاق كما قلناه. وإذا (¬5) قلنا بخروجها عن حكم الإدارة فهل مدة البوار الذي يحصل له بذلك محدوده [أم لا] (¬6)؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنها غير محدودة، وهذا رجوع إلى العادة. والثاني: أنها محدودة بالعامين، وهذا تقريب، والأول هو الأصل. (حكم المال الذي بعضه مدار وبعضه غير مدار) وإذا كان المال على أسلوب واحد؛ إما إدارة، وإما ادخارًا للتجارة فحكمه ما تقدم. فإن اختلف لكون بعضه مدارًا وبعضه غير مدار، فإن تساويا أعطي كل نوع حكمه من غير خلاف، وإن اختلفا فثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالأول يعطي كل واحد حكم نفسه. والثاني: أن الأقل [تبع للأكثر، وهذا على الخلاف في الأتباع هل تعطى حكم أنفسها أو حكم متبوعاتها. والثالث: أنه ينظر فإن كان الأقل هو المدار] (¬7) زكى (¬8) القيمة، وإن كان الأقل غير المدار جعل تبعًا للمدار، وهذا تغليب لإيجاب الزكاة، ¬

_ (¬1) في (ر) أو. (¬2) في (ر) الموجوب وقد وجب. (¬3) في (ر) وهذا. (¬4) التبصرة لوحة: 60. (¬5) في (ر) ولذا. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) ساقط من (ر). (¬8) في (ت) راعى وفي (ق) زكاه.

(حكم زكاة دين المدير)

إذ المخالف يوجب الزكاة في العروض التي للتجارة سواء كانت مدارة أو غير مدارة، وإن كان الأقل غير مدار (¬1) أعطي حكم التبع تغليباً لإيجاب الزكاة، وإن كان المدار الأقل بقي الأكثر على حكمه فلم يزكيه زكاة القيمة وزكى المدار على حكم نفسه. (حكم زكاة دين المدير) وهل يزكي المدير دينه؟ لا يخلو الدين من أن يكون مقصوداً به النماء كالبيع، أو غير النماء بالسلف (¬2)؛ فإن قصد به النماء فالمشهور من المذهب أنه يزكيه إن كان يرجو (¬3) اقتضاءه، والشاذ أنه لا يزكيه. وسبب الخلاف هل يلحق الدين بالسلع وهو أقل منازله فيزكى، أو يلحق بما بار منها، أو يجعل (¬4) في حكم العدم ما لم يقبضه فلا يزكيه. وإذا قلنا إنه يزكيه فهل بالقيمة أو بالعدد وإن كان ناضاً. أما الحال فيزكى عدده، وأما المؤجل ففيه قولان: المشهور أنه تزكى قيمته لا عدده، والشاذ أنه يزكى عدده، وهو على الخلاف فيما في الذمم، هل يعد كالحال أم لا؟ وفي المذهب [في ذلك] (¬5) قولان وبيانهما يأتي في البيوع إن شاء الله. وإن كان الدين لم يقصد به النماء كالسلف؛ فللمتأخرين قولان: أحدهما: أنه لا خلاف في المذهب أنه لا يزكى؛ لأنه خارج عن حكم قصد التجارة. والثاني: أن المذهب على قولين. وقد أطلق في المدونة زكاة الدين ولم يفصّل، وفصّل في غير المدونة فقال: يقوَّم ما كان من بيع دون ما كان من سلف. ولعل هذا الخلاف في غير المدار (¬6) إذا كان يسيرًا، هل ¬

_ (¬1) في (ر) فإن كان المدار الأقل، وفي (ت) فإن غير المدار الأقل. (¬2) في (ر) بالسلف. (¬3) في (ر) يرتجي. (¬4) في (ق) و (ت) ويجعل. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) المدونة.

(حكم آلات المدير)

يعطى حكم نفسه أو حكم الأكثر؟ فيشترط في السلف على هذا أن يكون يسيرًا، فإن كان كثيرًا لم تجب الزكاة فيه قبل قبضه بلا خلاف. وهل يقوم المدير ما كان من الدين (¬1) طعامًا من بيع؟ للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه لا يقومه، لأنّ تقويمه بيع الطعام قبل قبضه. والثاني: أنه يقومه؛ لأنّ تقويمه هاهنا إنما هو يتميز حق المساكين. ولعل هذا على الخلاف في القسمة هل هي بيع أم لا؟ وفي ذلك قولان في المذهب. وهل يقوم المدير ما استغله من الثمار والحَب؟ أما ما (¬2) فيه زكاة العين فلا يقومه إن بلغ النصاب، وأما ما ليس فيه زكاة العين أو لم (¬3) يبلغ النصاب فإن كان أكثر التجارة قوم الغلة كما تقدم، وإن كانت غلة المشترى للتجارة جرى على ما قدمناه من القولين (¬4) هل غلتها فائدة يستقبل بها حولًا أم لا؟ (حكم آلات المدير) واختلف المتأخرون في آلات المدير كأنوال (¬5) الحائك وآلة العطار وما أشبه ذلك، فقال بعضهم لا يقومها لدوام بقاء أعيانها وأنه غير متجر بها، وقال بعضهم يقومها لأنها معينة على السلع المدارة. وهذا يجري على الخلاف فيما (¬6) اشتُري من السلع للكراء، وقد تقدم في ذلك القولان. ... ¬

_ (¬1) في (م) من الديون. (¬2) في (ر) وما. (¬3) في (ر) إن لم. (¬4) في (ر) القول. (¬5) في (ر) كنوال. (¬6) في (ر) فيمن.

باب في زكاة الدين وزكاة الفوئد

باب في زكاة الدين وزكاة الفوئد (تعريف الدين وحكم زكاته) ونحن نفرد كل واحد منهما بالكلام على أحكامه، ثم نذكر حكم اختلاطها؛ فأما الدين فهو عبارة عن كل ما يخرج (¬1) عن يد المالك إلى ذمة، فلا يزكيه (¬2) ما دام في تلك الذمة حتى يقبضه بعد عام فأكثر، فإن قبضه وكان نصابًا أو مضافًا إلى مال عنده قد جمعه وأتاه (¬3) الحول فكمل به النصاب فيزكيه زكاة واحدة. وقد قدمنا الخلاف إذا زكاه قبل قبضه [وقد مر عليه الحول. وقد ذكرنا أن سبب الخلاف هل وجبت الزكاة فيه قبل قبضه] (¬4)، وإنما لم يخاطب بتعجيلها خيفة أن لا يقبضه أو يكون كعروض التجارة لا تجب الزكاة فيه إلا بعد القبض. وعلى هذا الأسلوب اختلف لو قبض منه عشرة لا يملك غيرها، ثم قبض عشرة أخرى هل يكون حول الجميع من يوم قبض الآخرة أو يكون حول كل واحدة منها من يوم قبضها؟ والمشهور أن حول الجميع من يوم قبض الآخرة، وهذا بناءً على أن الزكاة غير واجبة إلا بعد القبض. والشاذ أن حول كل واحدة [من] (¬5) يوم قبضها، وهذا (¬6) بناء على أن الزكاة واجبة. لكن لا يؤمر بتعجيلها خيفة [ألا يقتضي، فإذا اقتضى تبيين أنه كان مخاطبًا بها، فيبقى كل مال على [حول أصله] (¬7). وعليه أيضًا الخلاف لو اقتضى عشرة فضاعت، ثم اقتضى عشرة ¬

_ (¬1) في (ق) كل مال خرج. (¬2) في (ر) فيزكيه. (¬3) في (ر) و (ت) وإياه. (¬4) ساقط من (ت). (¬5) ساقط من (ت). (¬6) في (ر) وهي. (¬7) في (م) حوله.

(قاعدة المذهب في حكم الدين)

أخرى هل تجب الزكاة أم لا؟ فمن رأى أنه مخاطب في الأول لكن لا يؤمر بالإخراج خيفة] (¬1) ألا يقتضي أوجب الزكاة وإن (¬2) ضاعت، ومن رأى أنه غير مخاطب لم يوجبها إلا أن يبقى المال في يده حتى يكمل فيه النصاب. وأما لو أنفق العشرة فالمذهب أنه (¬3) على إيجاب الزكاة لأنه نصاب قد جمعه ملك وحول، وقد أنفق بعضه مختارًا. فيصير كالمفرط في إخراج الزكاة بعد الحول، فتجب في ذمته. ورأى بعض المتأخرين جريان الخلاف وإن أنفق، وهو القياس على ما قدمناه من سبب الخلاف في الضياع. لكن فرقوا بينهما في الروايات كما قدمناه من أن الضياع قد يكون بغير سبب ولم ينتفع به، والإنفاق بسببه وقد انتفع به. ويكون كالمفرط في الإخراج بعد مضي الحول. لكن قال سحنون بالمساواة بين الضياع بسببه أو بغير سببه. وينبغي أن يكون الضياع بسببه (¬4) كالإنفاق. (قاعدة المذهب في حكم الدين) ونرجع إلى قاعدة المذهب في حكم الدين فنقول إن ما ذكرناه أنه عبارة عن كل مال خرج من يد المالك، احترازًا من دين وجب في ذمته قبل أن يحصل في يد المالك. وهذا القسم يكون حَوْله من يوم قبضه ولا يزكيه عند قبضه، لأنه فائدة. ولو كان الدين حاصلا عن سلعة كانت للقنية فبيعت؛ فإن بيعت بنقد فحَوْل ثمنها من يوم قبضه، وإن بيعت بدين فمتى حول ثمنها؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يكون من يوم قبضه كالأول. والثاني: أنه يكون من يوم البيع. وهو على الخلاف في بيع النسيئة (¬5)، هل ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) إن. (¬3) في (ت) كله. (¬4) في (ت) بغير سببه. (¬5) في (ر) القسيمة.

فصل (زكاة بعض الدين المقبوض)

هو نوع من أنواع التجارة أم لا؟ وهو خلاف في حال. وينبغي أن ينظر هل زاد في الثمن للتأخير فيكون مال أصرفه في شيء وجبت تنميته فتجب الزكاة، أو لم يزد في الثمن فلم تحصل التنمية فلا تجب الزكاة. هكذا يقوله بعض الأشياخ. وينبغي أن يكون هذا جاريًا على أصل آخر، وهو من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ فإن عددناه مالكًا كان هذا كالقابض لثمن النقد ثم صرفه في دين، فيكون حوله من يوم البيع. وإن لم نعده مالكاً لم يحصل له الثمن إلا بعد قبضه، ولا أصل له مزكى (¬1) يبني عليه وليستقبل به الحول من يوم قبضه. ... فصل (زكاة بعض الدين المقبوض) وإذا استحق الدين أن يزكى بعد (¬2) قبضه لأنه من الصنف المملوك أصله، [أو ثمن سلعة للتجارة، أو غير سلعة القنية] (¬3) بيعت بالدين على أحد القولين (¬4). فإنه إن قبض منه عشرين دينارًا زكاها بلا شك، كان عنده مال يضيفه إليه أم لا. فإن قبض دون ذلك، فإن كان عنده مال قد جمعه وأتاه الحول فكمل به النصاب زكى، وإلا لم يزك حتى يكمل ما يقبضه عشرين دينارًا. وأما إن أضافه إلى مال عنده كمل النصاب على ما قدمناه، وإذا كمل له من المقبوض، أو منه ومما في يديه النصاب فيزكى حينئذ. فإن ما يقتضيه من دينه إن بقي منه شيء يكون حوله يوم قبضه ولو كان دينارًا واحدًا مثلًا. وإذا زكى النصاب الأول فهل يبقيه على حوله ويكون حوله من يوم ¬

_ (¬1) في (ت) وفي (ر) من كان. (¬2) في (ر) عند. (¬3) في (ر) وثمن سلعة مقنية، وفي (ق) أو من سلعة القنية. (¬4) في (ر) القولين في المذهب.

زكاه، أو يضيفه إلى ما بعده لأنه نقص عن النصاب بالزكاة؟ في المذهب قولان: والمشهور أنه يبقيه على حوله، والشاذ أنه يضيفه إلى ما بعده. وسبب الخلاف هل تراعى الطوارئ أم لا؟ فمن لم يراعها أبقاه على حوله فزكاه إذا حل، ومن راعاها أضافه إلى ما بعده؛ لأنه لا يأمن على ما بعده التلف. وان تلف لم تجب في الأول زكاة لأنه دون النصاب. وإذا اختلطت عليه أحوال الاقتضاءات أضاف الآخر منها إلى الأول، لأنّ أكثر العلماء يوجبون الزكاة في الدين وإن لم يُقبض. وإذا اختلطت أحوال الفوائد ففيها قولان: المشهور عكس هذا وأن الأول [منها] (¬1) يضاف إلى الآخر، والشاذ أنها كالديون. وإنما فارقت الديون على المشهور لأن جمهور الأمة لا يوجبون زكاتها حتى يمضي الحول بخلاف الديون. وأما القول الآخر فيمكن أن يكون مبناه على مراعاة الخلاف الشاذ. وفي المذهب قولان في مراعاته. أو يكون (¬2) سبب الخلاف اجتماع موجب ومسقط وفي المذهب قولان أيهما يغلب؟ وقد تقدم ذلك. واستحسن أبو الحسن اللخمي أن يجعل في الجميع حولًا وسطًا لا ينبني على أول الاقتضاءات والفوائد ولا على آخرها (¬3). وهذا له وجه أن يحصل الوسط (¬4) في ذلك وهو جارٍ على أصل المذهب في مال تنازعه اثنان أنه يقسم بينهما, لأنّ التعجيل والتأخير قد تنازعه (¬5) المساكين ورب المال، ولا يمكن تغليب (¬6) أحد الجانبين مع ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ر) ويكون. (¬3) التبصرة لوحة: 62. (¬4) في (ق) الأصل. (¬5) في (ر) تنازعها. (¬6) في (ق) تحصيل.

الشك، فيقسم بينهما. وهذا بناء على [إسقاط] (¬1) مراعاة الخلاف. ولو لم يكن لرب الديْن (¬2) غيره، فاقتضى منه دينارًا ثم آخر فاشترى بالأول سلعة ثم بالثاني كذلك، فباع السلعة الأولى بعشرين دينار والثانية كذلك مثلًا. فإن كان شراؤه بالدينار الثاني بعد أن باع السلعة الأولى لم يترك (¬3) إلا إحدى وعشرين دينارًا لأنّ التجر في الثاني وقع بعد أن وجبت الزكاة [في الأول] (¬4)، ويستقبل بالربح الثاني حولًا من يوم وجبت الزكاة. وإن كان شراؤه بالثاني قبل أن يبيع فإنه يزكي أربعين, لأنّ الربح وسببه حاصل قبل وجوب الزكاة في الأصل. وهذا على أن الأرباح مضافة إلى أصول (¬5) الأموال. وأما على القول بأنها فوائد، يستقبل بالأرباح حولًا. وهكذا روى ابن نافع وأشهب عن مالك (¬6) رحمه الله في هذه المسألة. ولو كان الشراء بالثاني (¬7) أولًا، ثم بالأول؛ فإن اشترى بالأول قبل أن يبيع المشترى بالثاني، فلا شك أنه يزكي الأربعين كما قدمناه على المشهور. وأما على قول أشهب الذي يرى أن النصاب إذا أَكمل بالثاني، يبقى الأول على حوله. وإن كان دون النصاب فينبغي أن لا يزكي إلا إحدى وعشرين [ديناراً]، (¬8)؛ لأنّ الغيب كشف أنه إنما اشترى بالأول بعد أن وجبت فيه الزكاة. وأما إن كان شراؤه بالأول بعد أن باع المشترى بالثاني فلا شك أنه لا ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (ت) المال. (¬3) في (ق) و (ت) لم يزد. (¬4) ساقط من (ق) و (ر). (¬5) في (ق) رؤوس. (¬6) في (ت) هكذا روى ابن نافع وأشهب عن ابن وهب، وفي (م) روى ابن وهب وأشهب عن مالك. (¬7) في (ت) الشراء أولًا بالثاني ثم. (¬8) ساقط من (ت).

فصل (زكاة الفوائد)

يزكي على القولين إلا إحدى وعشرين. هذا حكم الاقتضاءات على الجملة إذا انفردت. ... فصل (زكاة الفوائد) وجمهور الأمة على أن الفوائد يُستقبل بها حولًا ولا يُزكى عند ملكها، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من إسقاط الزكاة قبل مضي الحول (¬1) لأنّ الشريعة سامحت أرباب الأموال فلم توجب عليهم إخراج الزكاة قبل انتفاعهم بالأموال. فإذا انتفعوا وكمل النماء المقصود وجبت الزكاة. والفوائد عبارة عن كل ما لم يتقدم (¬2) عليه ملك ولا على أصله، كالغلات (¬3) مثلًا. وقد قدمنا أن غلات السلع المقتناة فوائد، والقولان في غلات التجارة. وهذا الذي أجملناه يتضمن جميع أنواع الفوائد من العطايا والمواريث وما يجب في الدم من أروش الجنايات وأثمان السلع المقتناة وأنول الغلات. وفي كتابة المكاتب خلاف، هل هي ثمن لرقبته أو حكمها حكم الغلة؛ فإن قلنا إنها ثمن لرقبته فيكون حكمها حكم أثمان الرقاب، فينظر هل المكاتب للتجارة أو للقنية، ويجري على حكم ما تقدم. وإن قلنا إنها كالغلات فيجري على حكم الغلات، وقد تقدّمت. (حكم من أفاد نصابًا) وإذا ثبت هذا قلنا [بعده] (¬4) من أفاد مالًا فلا يخلو من أن يكون نصاباً أو دون النصاب، فإن كان النصاب أو عنده ما يكمل به النصاب جعل حوله ¬

_ (¬1) أخرج الترمذي في سننه في كتاب الزكاة 631 عن ابن عمر قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استفاد مالًا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول عند ربه". (¬2) في (ت) عبارة غلات عن كل لم يتقدم. (¬3) في (ق) ولا على أصله ولو تقدم على أصله كالغلات. (¬4) ساقط من (ت) و (ر).

من يوم أفاده، وإن كان دون النصاب فإن أفاد بعده ما يكمل به النصاب أضاف الأول إلى الثاني على مذهب ابن القاسم، وزكى الأول على حوله (¬1) على مذهب أشهب على ما قدمناه في مقتضي عشرة من ديْنه ثم عشرة، هل تعود العشرة (¬2) الأولى إلى حولها؟ فإذا أكمل النصاب من غير زيادة عليه ثم أفاد بعده فائدة وزكى النصاب الأول بربع عشرة، فهل يعود (¬3) لنقصه بجزء الزكاة إلى حول ما بعده؟ فيه قولان كما قدمناهما في من اقتضى عشرين ثم عشرة. والمشهور من المذهب أن الأول يبقى (¬4) على حوله. والشاذ أنه ينتقل إلى حول ما بعده. وإذا بنينا على المشهور فإنه يزكي كل فائدة على حولها إلا أن يصيرا جميعًا إلى ما ليس فيه الزكاة. ومثاله (¬5) أن يستفيد عشرين في المحرم مثلًا ثم عشرة في رجب، فإذا حل حول المحرمية زكّاها [ثم إذا حل حول الرجبية زكّاها، فإن حل حول المحرمية مرة أخرى نظر ما إن لو أضافه إلى الرجبية كمل النصاب بها، زكّاها] (¬6) حينئذ على المشهور من المذهب، ولم يزكها على القول الثاني حتى يحل حول الرجبية. ثم إذا حال حول الرجيبة نظر أيضًا؛ فإن كان فيها وفي المحرمية نصاب زكّاها حينئذ، وإن لم يكن فيهما النصاب لم يترك. وإذا مر الحول بالأولى (¬7) فاعتبرهما (¬8) فقصر عن النصاب حتى أتى ¬

_ (¬1) في (ر) على حاله. (¬2) في (ر) من مقتضى عشرة هل تعود العشرة، وفي (ت) في من اقتضى عشرة ثم عشرة. (¬3) في (ر) تعود. (¬4) في (ق) أن الأولى تبقى. (¬5) في (ت) ومثال. (¬6) ساقط من (ر) وغير واضح في (ت). (¬7) في (ق) فالأولى. (¬8) في (م) هذا.

حول الثانية وهما على نقصهما (¬1) عادا إلى حول واحد إن كان فيهما بعد ذلك النصاب بتجر، فإن وقع التجر قبل ذلك أضاف الحول إلى يوم وقع الربح. ولا يخلو من أن يحصل قبل حلول حول الثانية أو بعده أو معه؛ فإن حصل قبل حلول الثانية انتقل حول الأولى إليه وبقيت الثانية على حولها، وإن حصل بعد حول (¬2) الثانية صار حولهما جميعاً واحداً، وإن حصل مع حول الثانية فكذلك أيضًا يصير حولهما جميعاً واحداً. والتمثيل (¬3) بما قدمناه في العشرين المحرمية والعشرة (¬4) الرجبية فإذا جاء المحرم فاعتبرهما فوجدهما ناقصين عن النصاب فإنه لا يزكي، وإن اتجر فيهما أو في أحدهما فكمل النصاب [في ربيع] (¬5) انتقل حول المحرمية إليه، وبقي حول الرجبية على حاله، فإن بقي على نقصهما (¬6) حتى أتى حول الرجبية وهما كذلك، ثم اتجر بهما أو بأحدهما فكمل النصاب في شعبان مثلًا، صار حولهما جميعاً شعبان. وإن كمل النصاب في رجب صارتا جميعاً رجبتين. ولو (¬7) زكى الأول [في المحرم] (¬8) لأنّ معه منها ما فيه النصاب، ثم نقصا (¬9) بعد ذلك حتى أتى رجب، فاعتبرهما فلم يكن فيهما النصاب، ثم اتجر بهما أو بأحدهما فكمل نصابه قبل المحرم، فإنه ينتقل حول الثانية إلى يوم كمال نصابه، [ويبقى حول الأول على حاله. وأصل هذا أنهما يبقيان على حولهما ما لم يمر حول الأولى] (¬10) وحول الثانية، وليس فيهما مقدار ¬

_ (¬1) في (ق) تقصيرهما. (¬2) في (ر) و (ت) حلول. (¬3) في (ق) والممثل وفي (ت) ويمثل. (¬4) في (ر) والعشرين. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) تصغيرهما. (¬7) في (ر) ولو كان. (¬8) ساقط من (ت). (¬9) في (ق) نقصت. (¬10) في (م) ويلغى حول الأولى، وفي (ت) ويلغى الحول الأول، وفي (ق) ويبقى حول الأول وأصل هذا أنهما يبقيان على حولهما ما لم يمر حول الأول.

فصل (حكم زكاة فائدتين جمعتا في ملك وحول)

النصاب. وأن الأرباح مزكاة على حول الأول (¬1) فإذا حصل الإكمال (¬2) بالربح عُدَّ (¬3) كأنه لم يزل حاصلاً. لكن لا تجب الزكاة إلا يوم الحصول فجعل الحول من يوم حصل الإكمال وتفصيل هذا الإجمال (¬4) ما قدمناه. ... فصل (حكم زكاة فائدتين جمعتا في ملك وحول) وإذا جمع الفائدتين في ملك وحول زكيت إحداهما بالأخرى من غير خلاف. لكن هل يكون حولهما واحدًا أو يعود حول الأول إلى يوم استفادهما؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك؛ ومثاله مسألة العشرتين (¬5). فإن لم يجمعهما حول واحد واجتمعا في ملك، ومثاله أن يستفيد عشرة فتقيم عنده في يده ستة (¬6) أشهر، ثم يستفيد عشرة فتقيم الثانية ستة أشهر، فبعدها ينفق الأولى أو تضيع، ثم تبقى الثانية إلى تمام الحول. فابن القاسم يسقط الزكاة لأنه لم يكمل عنده نصاب حال عليه الحول، وأشهب يوجبها. وهو بناءً على ما قدمناه من أصله أن الزكاة الأولى قد وجبت، وإنما لم يؤمر بالإخراج خوفًا من ضياع الثانية. ... فصل (حكم اجتماع اقتضاءات وفوائد) وإذا اجتمعت اقتضاءات وفوائد، وقد اجتمعت الفوائد وأصل الديون ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) الأصول، في (م) الأصل. (¬2) في (م) و (ق) النصاب. (¬3) في (م) صار. (¬4) في (ق) و (ت) على ما قدمناه. (¬5) في (ر) العشرين. (¬6) في (ر) و (ت) تسعة.

في ملك وحول فإنه ينظر فإن كان في كل صنف من الاقتضاءات والفوائد مقدار النصاب لم يضف حول شيء منها إلى الأخرى، إلا أن يتفق حول الفوائد (¬1) ووقت الاقتضاءات. وإن قصرت عن النصاب متفرقة وأكملته مجموعة، فإنه يضيف الفوائد إلى ما بعدما (¬2) والاقتضاءات إلى ما قبلها من صنفها، وهذا لأنّ الديْن حال الحول على أصله. وإنما لم يزد (¬3) ما يقتضي منه وإن (¬4) كان دون النصاب؛ إما خوفاً ألا يقتضي، وإما لأنه لا يعد مستقرًا في ذمته إلا بعد اقتضائه. فإذا اقتضاه تبيّن وجوب الزكاة فيرده إلى ما قبله. والفوائد لم يحل (¬5) على أصلها حول فيضيفها إلى ما بعدها مما حال عليه الحول؛ ومثال هذا أن يقبض (¬6) عشرة ثم عشرة فإنه يزكي العشرة الثانية، أنفق الأولى أو أبقاها على ما قدمناه. لأنّ الثانية مضافة إليها. وإن استفاد عشرة ثم اقتضى عشرة فلا يضيف الفائدة إلى الدين إلا أن تبقى في يده حتى يحول عليه الحول عند ابن القاسم (¬7)، وحتى يقضي عند أشهب على ما قدمناه (¬8) في المال إذا جمعه ملك ولم يجمعه حول. ولو اجتمعت فوائد وديون ولو أضاف الفوائد مفردة إلى ما بعدها (¬9) لم يكمل منهما النصاب ولو أضاف الدين إلى ما قبله، لكنه إن أضاف بعضه إلى بعض كمل به النصاب. وقد اختلف المتأخرون على قولين: فمنهم من أوجب الزكاة لما كان ¬

_ (¬1) في (ق) حلول حول الفائدة. (¬2) في (ر) ما بعدها من الاقتضاءات والاقتضاءات. (¬3) في (ت) لم يترك وفي (ق) لم يزك. (¬4) في (ت) إن. (¬5) في (ر) يصحل. (¬6) في (ق) و (ت) أن يقتضي. (¬7) في (ق) و (ت) أشهب وحتى يقبض عند ابن القاسم. (¬8) في (ق) و (ت) على ما قدمناه عنهما. (¬9) في (ر) وديون أضاف الفوائد إلى ما بعدها.

الدين يقتضي الإضافة إلى ما قبله، والفوائد تقتضى الإضافة إلى ما يضاف بعضه إلى بعض من الدين. وأسقط بعضهم اعتبارا بكل صنف منفردًا إلى ما يضاف إليه، ومثال هذا أن يقتضي عشرة ثم بعدها يستفيد عشرة ثم يقضي خمسة، وقد أنفق العشرة التي اقتضى أولًا. فهذه الخمسة إذا أضفناها إلى العشرة الأولى المقتضاة لم تكن فيها زكاة. وإن أضيفت العشرة (¬1) إليها فكذلك أيضًا. فمن اعتبرهما أسقط، وإن أضيفت العشرة الفائدة إليها صارت خمسة عشرة؛ فالخمسة مضافة (¬2) إلى ما قبلها فكأنها واسطة بين الفائدة والاقتضاء الأول، فتجب إضافتها إلى كل واحد منهما، فيقتضي ذلك إضافة الجميع. فمن اعتبر هذا أوجب الزكاة، لكن إنما اختلفوا هل تجب الزكاة في الخمسة المقتضاة خاصة، لأنها تزكى بالملكيين. وسمعنا في المذاكرات وجوب الزكاة في الجميع عند بعض الأشياخ، وهو مقتضى ما عللنا به بعد. وكذلك لو اقتضى عشرة ثم استفاد عشرة ثم بعدها اقتضى دينارًا فيجري هذا الخلاف في الدينار أو في (¬3) الجميع حسب ما ذكرناه. ولو كان الاقتضاء عشرة لم يختلف في وجوب الزكاة في الجميع لأنها كيفما أضيفت على الانفراد وعلى (¬4) الاجتماع وجبت الزكاة. وعلى هذا القانون (¬5) تجري مسائل خلافية في زكاة خليط الخليط هل توجب الواسطة اجتماع (¬6) الجميع أم لا؟ وسيأتي بيانه في حكم زكاة الخليط. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) الفائدة. (¬2) في (ق) والعشرة والخمسة مضافة ... (¬3) في (ق) و (ت) وفي. (¬4) في (ق) أو. (¬5) في (ت) القياس وفي (ر) الخلاف. (¬6) في (ر) إجماع.

فصل (مسائل خلافية من الفوائد)

فصل (مسائل خلافية من الفوائد) ولنذكر (¬1) من الفوائد مسائل خلافية وهي: (حكم المال الموروث) المال الموروث، وقد قدمنا أنه فائدة يستقبل به حولًا وذلك إذا قبضه من وجب له عند استحقاقه، أو قبضه وَكِيلُه بإذنه وأتاه به من غير حبس عنه. فإن حبسه فقولان: أحدهما: أنه كالأول يزكيه من يوم قبضه وكيله لأنّ يده كيده، والثاني: أنه يزكيه للسنة الواحدة وإن أقام في يد الوكيل أعوامًا تشبيهًا بالدين. وإن تأخر قبضه أو قبض وكيله عن يوم الاستحقاق حتى قام عاماً أو أعواماً، فلا يخلو من أن يكون علم به أو لم يعلم. فإن لم يعلم به ولم يوقفه السلطان له فلا خلاف أنه يستقبل به حولًا من يوم قبضه. هذه نصوص الروايات. وأبو الحسن اللخمي يحكي قولاً ثانياً: أنه يزكيه من يوم وجب له (¬2). وهذا إن صح فإنما يكون وجهه أنه مال يملكه، وهو مهيأ للتنمية. وعجز مالكه عن تنميته لا يوجب إسقاط الزكاة كالعاجز عن تنمية ما في يده. وإن علم فقولان: أحدهما: أنه يكون كالمقبوض، وهذا يظهر إذا قدر على أخذه فلم يفعل. والثاني: أنه لا يكون كالمقبوض لأنه لم يحصل فيه النماء المقصود أو القدرة عليه إلا يوم يقبضه. وإن أوقفه السلطان، فهل يكون قبض الموقوف عنده كقبضه؟ قولان: أحدهما: أنه لا يكون كذلك لأنه بكل حال عاجز عن التنمية. والثاني: أنه يكون كقبضه لأنه عمل فيه أقصى المقدور عليه، وقبض السلطان للغائب كقبضه. ¬

_ (¬1) في (ق) ونذكره. (¬2) التبصرة لوحة: 64.

(حكم المال يضيع ثم يعود إلى صاحبه)

وإذا قلنا إنه يكون كقبضه فأقام أعوامًا، فهل يزكيه لسنة (¬1) واحدة كالديون أو لجميع الأعوام؟ فيه قولان. وتزكيته لجميع الأعوام تحقيق لأنّ المُقام قبض (¬2) كقبضه. وهذا حكم من يقبض لنفسه من الرشداء. وأما الصغار والسفهاء فهل يكون قبض الأوصياء ومن أقيم لهم قبضاً؟ لا خلاف في ذلك إذا قبض الوصي أو المقام لهم نصيبهم خاصة. وأما إن قبض نصيبهم ونصيب الأكابر مختلطًا ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يكون قبضًا لهم. والثاني: أنه لا يكون كذلك. وهو على الخلاف في قسمته على الجميع هل تصح وإن لم يحضر الأكابر. ومما يلاحظ هذا الأصل المال المغصوب يقيم (¬3) عن صاحبه. فأما حكم الحرث والماشية فنحيل الكلام عليها على الكتاب الثاني، وأما العين فلا خلاف في المذهب أنه لا يزكيه لكل عام. وهل يزكيه لعام واحد أو يستقبل به حولًا؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يزكيه لعام واحد, لأنه ملكه في طرفي الحول (¬4) كالدين، وهو المشهور. والثاني: أنه يستقبل به حولًا, لأنه مال معجوز عن تنميته من غير اختيار لمالكه. (حكم المال يضيع ثم يعود إلى صاحبه) ويلحق به المال يضيع عن صاحبه فيلتقط ثم يعود إليه، هل يستقبل به حولًا أو يزكيه (¬5) لعام واحد أو لكل عام؟ فيه ثلاثة أقوال هي جارية على ما تقدم. وهل يزكيه ملتقطه إذا كان له عروض يجعل ما في ذمته فيها؟ أما إن لم ينو (¬6) تملكه فلا شك أنه لا يزكيه. وأما إن نوى تملكه أو تسلفه أو ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) كقبضه فهل يزكيه سنة. (¬2) في (ر) لأنه قبض. (¬3) في (ر) ويقوم. (¬4) في (ر) على الدين. (¬5) في (ر) ويزكيه. (¬6) في (ر) يبق.

(حكم المال المهيأ للتنمية)

تصرفه فيه فلا إشكال أنه يزكيه، وأما إن نوى ولم يتصرف فقولان: أحدهما: أنه يزكيه. والثاني: أنه لا يزكيه. وهما على الخلاف في مجرد النية هل تؤثر، وينتقل [حكم] (¬1) الحيازة أم لا؟ لأنه كان أولاً يحفظه لصاحبه ثم قصد انتقال اليد (¬2) ففي هذا الأصل في المذهب قولان. ومن هذا القبيل المال يدفنه صاحبه ثم يجده بعد أعوام؛ ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه يزكيه لما مضى من السنين لأنه مفرط. والثاني: أنه يزكيه لسنة واحدة تشبيهًا بالدين. والثالث: أنه إن دفنه في موضع صحراء زكاه لما مضى من السنين لأنه عرضه للتلف، وإن دفنه في بيت أو ما في معناه لم يزكه لما مضى من السنين, لأنه لم يفرط. والرابع: عكس هذا، ويرى أنه إذا دفنه في موضع يحاط به فكأنه مقصر (¬3) في وجوده، فهذا كالمقدور عليه، وإذا دفنه في صحراء أو ما في معناها فهو كالتالف. (حكم المال المهيأ للتنمية) وقد يحصل من جميع ما تقدم أن المال [إذا تهيأ للتنمية وكان مالكه قادرًا على تنميته] (¬4) غير عاجز لا لتقصير (¬5) في المالك إن وجد فلا خلاف في المذهب أنه يزكيه لكل عام. وهذا كالمال يكون في يد المالك وتحت قدرته. وسواء كان صغيرًا أو كبيراً، سفيها أو رشيداً. وقد قدمنا ما قال أبو الحسن اللخمي في الصغير والسفيه، وتخريج الخلاف فيهما ضعيف. (حكم المال المعجوز عن تنميته) وإن كان المال في نفسه مهيئا للتنمية لكن عجز مالكه عن تنميته لأنه غير قادر على التصرف فيه للمنع أو لعدم العلم أو لبعد مكانه عنه؟ فثلاثة ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) في (ر) ثم فصل انتقاله النية. (¬3) في (ق) مقر. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ت) إلا.

فصل (حكم زكاة المنافع)

أقوال على الجملة: وجوب الزكاة لكل عام، ووجوبها لعام واحد، وسقوطها. وهل يعتد (¬1) عليه من غير علمه وتفريطه من غير تفريطه فيه التفصيل المتقدم. ولم (¬2) يختلف في المذهب في العين المغصوب أنه لا يزكيه لكل عام (¬3) وإنما يختلف (¬4) هل يستقبل به حولًا أم لا؟ ولم يختلف في الدين أنه يزكيه لعام واحد كما قدمناه. واختلف فيمن عليه دين فوهب له عند حلول الحول هل يستقبل به حولًا (¬5) أم لا؟ وهذا لأنّ المديان لا يزكي لأنه غير كامل الملك لقدرة من له عليه دين على أن ينتزع (¬6) ماله من يديه. فإذا وهب له (¬7) فهل يكون كأن لم يزل مالكًا لما وهب له لظهور الأمن من الانتزل أو كأنه إنما ملكه الآن؟ وهذا على الخلاف في المترقبات متى يعد حصولها حقيقة. وأما الخلاف في المال المحال [به] (¬8) فنؤخر الكلام عليه إلى زكاة المديان. ... فصل (حكم زكاة المنافع) واختلف المذهب في الواجب في (¬9) المنافع هل يقدر استقرار ملكه يوم قبضه أو يوم استفاء العوض عنه؟ وعلى هذا اختلف المذهب فيمن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) وهل يفتقر. (¬2) في (ت) ولكن لم وفي (ق) لكن لم. (¬3) في (ق) إلا لعام واحد. (¬4) في (ق) اختلف. (¬5) في (ق) أو يزكيه الآن وهذا لأن. (¬6) في (ر) ينزع. (¬7) في (ر) وهبه. (¬8) ساقط من (ر). (¬9) في (ر) عن.

استأجر (¬1) نفسه ثلاث سنين مثلًا بستين دينارًا فقبض (¬2) جميعها ثم مر حول، هل يزكي العشرين خاصة إذا كانت الأحوال (¬3) متساوية إذ لم تجب حقيقة غيرها؟ أو عن الجميع لأنّ الأصل السلامة وهي على الأصل الذي قدمناه؟ وذلك الأصل أيضًا مبني على حكم المترقبات متى يعد حصولهما، أو يلتفت إلى حكم الطوارئ هل تراعى أم لا؟ وينخرط في هذا السلك لو استأجر دارًا لسنين (¬4) وقبض جميع الكراء في أول الحول هل يزكي الجميع أو لسنة واحدة فيبقى ما قابل غيرها لأنه دين عليه؟ أو يجعل دينه في مقابلة الدار؟ وهل هي صحيحة أم مهدومة لتعرضها للانهدام؟ في المذهب في ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يزكي الجميع، وهذا بناءً على أن الإجارة وجبت يوم القبض، ولا يلتفت إلى الطوارئ. وبتخرج هذا أيضًا على القول بأن من له عين مختلفة الأحوال وعليه دين، أنه يزكي ما حل حوله ثم يجعل دينه فيه، ثم يزكي المال الآخر فكذلك هذا. وفي مسألة المستأجر نفسه يزكي عن (¬5) سنة واحدة إذا كان في الواجب عنها مقدار النصاب أو كان (¬6) يملك ما يتم به النصاب، ثم يجعل دينه فيما زكاه، [ويزكي الباقي إن كان ما زكاه يوفي دينه. والقول الثاني: في مسألة المستأجر (¬7) للدار أنه لا يزكي غير ما حلَّ حوله من السنَّة الأولى وهذا بناء على أنه لم يجب غيرها، والباقي لم يجب، ويلتفت (¬8) على الشاذ من المذهب أن الدين] (¬9) يجعل في العين لا في العروض. ¬

_ (¬1) في (ق) أجر. (¬2) في (ر) و (ت) وقبض. (¬3) في في (ر) الأولى. (¬4) في (ت) و (ق) سنين. (¬5) في (ر) على. (¬6) في (ر) وكان. (¬7) في (ت) المستأخر. (¬8) في (ر) وليلتفت. (¬9) ساقط من (ر).

باب في أحكام الزكاة في الدين

والثالث: أنه يزكي ما قابل (¬1) السنَّة ويجعل الدين الذي عليه في قيمة الدار صحيحة, لأنّ الأصل صحتها وانهدامها طارئ، وهو بناء على ترك مراعاة الطوارئ. والقول الرابع: أنه يجعل ديْنه في قيمة الدار مهدومة لجواز انهدامها. وهذا مبني على مراعاة الطوارئ وإن بعدت. وقد أتينا بأحكام الفوائد مستوفًا (¬2) تصريحًا وتلويحًا، ولا يكاد يشذ من أحكامها شيء عما أتينا به. ... باب في أحكام الزكاة في الدين (¬3) وقد قدمنا أنه يراعى في المالك كمال الملك، فإن كان كاملًا وجبت الزكاة، وان كان ناقصا لم تجب. وقد قدمنا أن النقص يكون بالتعرض لانتزاع ما في يد المالك، وهذا كالعبد والمديان. ولا تجب الزكاة عندنا على العبد في [كل] (¬4) أمواله. فأما المديان فتسقط عنه زكاة العين الحولي إذا استغرقه (¬5) الدين، أو لم (¬6) يبق منه نصاب، واحترزنا بالحولي عما يخرج من المعدن فإنه لا يسقط الدين زكاته. وقد رويت أحاديث تقتضي سقوط الزكاة بالدين (¬7). ¬

_ (¬1) في (ق) ما قبل. (¬2) في (م) و (ت) مستوفيا. (¬3) في (ق) المديان. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ر) استغرقها. (¬6) في (ر) وإن لم. (¬7) من ذلك ما رواه مالك في الموطأ "عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤدي دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة" فهذا الأثر روي عن عثمان وله حكم الرفع.

فصل (الدين المسقط للزكاة)

والفرق المحقق بين العين الحولي وما عداه أن الدين خفي ولو كان معلوما بالبينة، فإن خلو الذمة عما يقابله لا يكاد يقطع به. فلما كان هذا مما يخفى سقط (¬1) زكاة ما يخفى من الأموال. وأما ما لا يخفى فلا تسقط زكاته لئلا يتطرق المتساهلون في إخراج الزكاة إلى إظهار الدين، فيمتنع من إخراج زكاة ما ظهر من أموالهم. يعضد (¬2) هذا بأن السلف كانوا يبعثون أرباب الزكاة لأخذ الزكاة ولا يراعون ديون أرباب الأموال. وقد قدمنا [أن] (¬3) الإشارة إلى ما روي من الأحاديث في أن الدين يسقط الزكاة. وكان عثمان رضي الله عنه وغيره يأمر بأداء الدين عند حلول الأحوال حتى تجب الزكاة. فيؤخذ من مجموع هذا وجوب الزكاة في غير المال الحولي، وإسقاطها فيه على مقتضى المذهب. وإذا تقرر ما قدمناه (¬4) فإن المقصود من الباب ينحصر في فصلين: أحدهما: في حكم الدين المسقط للزكاة، والثاني: في حكم العروض التي يجعل فيه الدين. وهل يحصل في العين؟ ... فصل (الدين المسقط للزكاة) فأما الدين المسقط للزكاة، فهو كل دين وجب في معاوضة. ويخرج عن هذا، الدين الواجب للمساكين في الزكاة. وفي المذهب فيه قولان: أحدهما: أنه كدين المعاوضة يسقط الزكاة، لأنا قد عللنا إسقاط الزكاة بقدرة من له الدين على انتزاع ما في يد المالك، وهذا من ذلك القبيل. ¬

_ (¬1) في (ر) سقوط. (¬2) في (ت) يوحي. (¬3) ساقط من (ق) و (ت). (¬4) في (ق) قلناه.

والثاني: أنه لا يسقط (¬1)، وهذا لضعف أمر هذا الدين. إذ لا يلزم بعد الموت من رأس المال، بل من الثلث (¬2) لإمكان إخراجه. ولا يخرج عن (¬3) الديون الواجبة من قيم المتلفات وأروش الجنايات، لأن هذه وإن لم يؤخذ عنها معاوضة فقد أتلف (¬4) عنها عوضاً. ولا يخرج عنها (¬5) أيضًا نفقة الزوجات، لأن النفقة في حقهن في مقابلة الاستمتاع، فهي كالمعاوضة. وهل يلحق بذلك نفقة من تجب نفقته من الأقارب؟ أما نفقة الولد فإن قضي بها واستقر الطلب (¬6) فلا خلاف في المذهب أنها تسقط الزكاة، لأنها واجبة في الأصل، وقد تقررت بالطلب. وأما نفقة (¬7) الأبوين فإن لم يقضِ بها لم تسقط، لأنها غير واجبة في الأصل. وأنما تجب بعد المطالبة بها والقضاء. فإذا قضي بها فقولان: أحدهما: أنها تسقط لتقررها بالقضاء، والثاني: أنها لا تسقط نظراً إلى أنها غير واجبة في الأصل. فإن لم يقض بنفقة الولد فهل تسقط الزكاة؟ قولان: أحدهما: أنها لا تسقط نظراً إلى أنها لم تجب عن معاوضة، فلا تقرر إلا بقضاء. والثاني: تسقط لوجوبها في الأصل. وهل يسقط [الدين] (¬8) الزكاة ما العادة أنه لا يبادر لأخذه بل يبقى في الذمم إلى الأجل البعيد، كمهور النساء؟ فيه قولان: أحدهما: (¬9) أنه يسقط، لقدرة مالكه على المطالبة به. والثاني: أنه لا يسقط نظراً إلى أن العادة ترك المطالبة به إلى موت أو فراق. ... ¬

_ (¬1) في (ر) يسقط. (¬2) في (ق) ولا من الثلث. (¬3) في (ق) و (ت) عنه. (¬4) في (ق) تلف. (¬5) في (ق) و (ر) عنه. (¬6) في (ر) بالطلب. (¬7) في (ر) ولا نفقة. (¬8) ساقط من (ر). (¬9) في (ق) المشهور.

فصل (ما يجعل الدين فيه)

فصل (ما يجعل الدين فيه) وأما ما يجعل (¬1) الدين فيه، فالمشهور في المذهب أنه [يجعل] (¬2) في العروض دون العين. وهذا لأن العروض تباع عليه في الدين، وهو مليء بها ويبقى العين لا دين عليه فيه فيخرج زكاته. والشاذ أنه يجعل دينه في العين إذ للغرماء جعل ديونهم [في العين ولا يؤخرونها لبيع العروض. وإذا قلنا إنه يجعل دينه] (¬3) في عروضه فهل يشترط فيها أن يملكها من أول الحول أو يجعل (¬4) دينه فيهما؟. وإن ملكها عند توجه (¬5) الزكاة، في المذهب قولان: أحدهما: مراعاة ملكها من أول الحول, لأنها إن لم تكن كذلك لم يقدر استقرار ملكه على العين إلا يوم ملك العروض. فقد حال الحول [على] (¬6) ما لم يستقر ملكه عليه. والثاني: أنه يترك مراعاة ذلك، وهذا بناء على أن المترقبات تعد كأنها لم تزل. وقد قدمنا الخلاف لو وهب له الدين هل تجب عليه زكاته؟ فهذا من ذلك القبيل. والعروض التي يجعل فيها دينه كل ما يباع عليه في الدين، ويترك عليه من كسوته ما لا يعد سرفًا لمثله وثوبي جمعته (¬7) إن لم يكن سرفًا (¬8) فيتركان. ¬

_ (¬1) في (ق) يجمع. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ت) و (ر) ويجعل. (¬5) في (ق) توجب. (¬6) ساقط من (ت). (¬7) في (ق) وثوبًا جمعته وفي (ر) وثوبًا لجمعته. (¬8) في (ر) قاس.

وهل يترك له خاتمه؟ في المذهب قولان. وهما خلاف في حال، فمن الأشخاص من يكون الخاتم في حقه سرفًا، ومنهم من عكسه. ولو كان له عين مختلف (¬1) الأحوال كما تبيّن، مثلًا حَوْل أحدهما المُحَرَّم والآخر رجب وعليه مائة، فهل (¬2) يزكي (¬3) الأولى ثم يجعل دينه فيها، ثم يزكي الثانية إلا ما نقصه (¬4) مقدار الزكاة؟ في المذهب قولان: وجوب الزكاة فيهما احتياطًا لها. والقياس على أصل المذهب أنه لا يزكي إلا مائة، وهو أحد القولين. فإن كان له دين وعليه دين وبيده عين جعل دينه في الدين (¬5) الذي له على المشهور من المذهب، وعلى الشاذ الذي قدمناه يجعل دينه فيما بيده [من العين كما قدمناه] (¬6). وإذا قلنا إنه يجعل دينه في ما له (¬7) فهل قيمته أو عدده؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يراعي قيمة دينه، والثاني: عدده، والثالث: أنه إن كان حالًا وكان على مليء روعي عدده، وإن كان مؤجلًا أو على غير مليء روعيت قيمته، وهذا هو الأصل. ويمكن أن يكون تفسيرًا للقولين. ولو كان له مال لا تسقط الزكاة منه للدين لجعل دينه فيه، وهذا إذا كان مالًا معدنيًا لم يختلف فيه، وأما إن كان حرثًا أو ماشية فالحكم كالأول على مشهور المذهب، وعلى الشاذ: لا يجعل فيه الدين بل في العين. ولو كان له مكاتب لجعل فيه دينه على المشهور من المذهب. وفي أي شيء يجعل دينه؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجعل في قيمته عند إمكان ¬

_ (¬1) في (ر) يختلف. (¬2) في جمغ النسخ "وهل"، وما أثبته من (ل). (¬3) في (ر) يترك. (¬4) في (ت) نقص وفي (ر) ينقص في. (¬5) في (ر) العرض. (¬6) ساقط من (ر) و (ق). (¬7) في (ر) فيما عليه.

رجوعه إلى الرق بالعجز، وهذا احتياطًا للزكاة. والثاني: أنه يجعله في قيمة كتابته لأنها هي التي يملك (¬1) بيعها. والثالث: أنه يجعله في قيمته مكاتبًا لأنه (¬2) يملك بيعها [كذلك] (¬3). وأما المدبر (¬4) ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجعله في رقبته بوجه (¬5)، وهذانظرًا إلى أن بيعه [لا] (¬6) يمكن من غير التفات إلى إمكان رجوعه إلى الرق. والثاني: أنه يجعل فيه (¬7). وإذا قلنا بذلك [ففي أي شيء يجعله؟] (¬8) قولان: أحدهما: أنه يجعله في رقبته لضعف عقد الحرية [التي فيه] (¬9)، إذ قد يرده الدين بعد الموت. والثاني: أنه يجعله في قيمة خدمته, لأنها المملوك (¬10) بيعها الآن. وهذا كله إذا تقدم التدبير على الدين. وأما إن تأخر عنه فلا يختلف فيه أنه يجعل دينه في قيمة رقبته، إذ تباع للدين السابق على التدبير. وأما المخدم (¬11) فإن كان له عبد فأخدمه، فالمنصوص أنه يجعل دينه في مرجع رقبته. وقد يختلف في ذلك لترقب (¬12) موته قبل الرجوع. وإن كانت الرقبة لغيره وإنما أعطي الخدمة، فيجعل دينه في الخدمة. ¬

_ (¬1) في (ت) لا يملك. (¬2) في (ت) يجعل في قيمة كتابته لأنه. (¬3) ساقط من (ت). (¬4) المدبر: هو العبد الذي أنعم عليه سيده بالحرية بعد موته، فيقول له أنتحر بعدي. (¬5) في (ت) و (ق) أنه لا يجعل فيه بوجه. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (ر) يجعل الدين فيه. (¬8) ساقط من (ر). (¬9) ساقط من (ر). (¬10) في (ر) و (ت) المملوكة. (¬11) في (ق) الخدم. والمقصود بالمخدم، العبد الذي يجعله سيده أجيرًا عند الغير. (¬12) في (ر) لقرب.

وأما المعتق (¬1) إلى أجل فإن قلنا في المدبر إنه لا يجعل فيه دينه فأحرى ألا يجعل دينه في هذا. وإن قلنا إنه يجعل دينه فيه فيجعله (¬2) هاهنا في قيمة خدمته. فإن كان له آبق (¬3) فإن كان غير مرجو، فلا يجعل دينه فيه. وإن رجيت عودته أو القدرة عليه فظاهر المذهب على قولين: أحدهما: أنه يجعل دينه فيه. والثاني: أنه لا يجعله. وهما على النظر إلى أصل الملك، ورجاء العودة أو النظر إلى عدم القدرة الآن. وقد قدمنا الخلاف فيمن كان عليه دين فوهب له بعد حلول الحول، هل يزكيه؟ ويختلف أيضًا في الواهب هل يلزمه زكاته, لأنه يعد (¬4) كأنه قبضه ثم وهبه. وهو على الخلاف فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟ وعلى هذا نزلوا حكم مال يزكيه ثلاثة، وهو أن يكون على إنسان ديون وهو مليء وله (¬5) عروض يجعل فيها دينه، وعلى (¬6) الطالب له بالدين دين أيضًا وله عروض يجعل ما عليه فيها، فأحال الوسط منهم طالبه على مديانه الأول فقبضه بعد حلول الحول (¬7). فأما من عليه الدين وهو المقبوض منه، ومن له وهو القابض، فيزكيان بلا خلاف. وأما المحيل فهل يزكي أم لا؟ ففيه قولان، وهما على الخلاف فيمن ¬

_ (¬1) في (ر) العتق. والمقصود بالمعتق إلى أجل، العبد الذي حدد له سيده زمنًا معينًا يحرره فيه. (¬2) في (ر) فيجعلها. (¬3) الآبق هو العابد الفار من سيده. (¬4) في (ق) لأنه يقدر، وفي (ر) لا يعد. (¬5) في (ق) مليء به وله. (¬6) في (ت) وله على غير الطالب له. (¬7) في (ق) فيقضيه بعد حلول الأول.

باب في [أحكام] زكاة القراض

ملك أن يملك، فإن عددناه مالكًا تصور أنه قبض ثم دفع لمن يطلبه فتجب عليه الزكاة، وإن قلنا لا يعد مالكاً لم يعد قدرته على القبض كالقبض (¬1) فلا يزكي (¬2). ... باب في [أحكام] (¬3) زكاة القراض والنظر فيه في شيئين: أحدهما: هل تجب الزكاة أو تسقط؟ والثاني: متى يؤمر بإخراجها؟ أما الأول، فلا خلاف أن رب المال متى كان مخاطبًا بالزكاة على انفراده، والعامل كذلك أيضًا أن الزكاة واجبة في الجميع. فإن سقط عنهم الخطاب لدين عليهما أو لكونهما عبدين، فلا خلاف أيضًا في سقوط الزكاة. وإن خوطب أحدهما دون الثاني فهاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: مراعاة رب المال، فمتى [توجه عليه الخطاب توجهت الزكاة عليه، وفي ربح المال. وإن كان ممن لا يخاطب بها ولم يتوجه] (¬4) خطابه، سقطت الزكاة عن العامل أيضًا. والثاني: مراعاة حكم العامل في نفسه، فإن كمل له النصاب وكان ممن يخاطب بالزكاة وجبت عليه، وإلا لم تجب. والثالث: مراعاتهما جميعًا، فمتى توجب سقوطها عن أحدها سقطت عن العامل في الربح. ¬

_ (¬1) في (ر) كالمقبض. (¬2) في (ر) فلا يزكي بلا خلاف وبالله التوفيق. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) توجب خطابه وجبت الزكاة عليه في ربح العامل، وإن كان ممن لا يخاطب بها وإن لم يتوجه.

وسبب الخلاف النظر إلى المترقبات متى يعد حصولها، هل يوم ترقبها أو يوم تقررت؟ فإن عددنا حصولها يوم تقررت جعلنا (¬1) المال على ملك ربه، وكأن العامل لم يملك منه شيئًا إلا يوم قبضه. وقد وجبت الزكاة قبل ذلك وعلى هذا يراعى حلول الحول على رب المال، ولا يراعى أن يعمل العامل حولًا. فإن عددنا الحصول يوم ترقبت كان العامل كالمالك لما وجب له من الربح يوم ابتدأ عمله. فيراعى حكم نفسه، فإن عمل حولًا وكمل له (¬2) النصاب زكى. ولا يراعى على هذا سقوط الزكاة عن رب المال. وأما طريق القول الثالث وعليه حمل الأشياخ مذهب ابن قاسم فإنه متوسط بين المذهبين. فلا يجعل العامل مالكًا حقيقة إلا إذا توجهت الزكاة على رب المال، وكأنه راعى مجموعها. لأن وجود الملك للعامل إنما هو على تقدير كونهما كالمالك الواحد، وإذا صار كالمالك الواحد فمتى أمكن سقوط الزكاة من أحد الجانبين سقط حكمها عن العامل. وحكى أبو القاسم بن محرز أن المذهب لم يختلف في سقوطها متى كان رب المال مديانًا أو عبدًا أو نصرانيًا. وهذا إن أراد به [أنهم] (¬3) لم ينصوا (¬4) على الخلاف (¬5) فكما قال، وإن أراد أنه لا يلزمه (¬6) ذلك ففيه نظر. والقياس جريان الخلاف إلا أن يقال إن الربح مضاف حقيقة إلى المال على المشهور من المذهب. وإذا استحق أصل المال [ألا] (¬7) يزكى فأحرى ألا يزكى ما هو مسند إليه. وملك العامل للربح وإن عددناه من يوم التحريك فإنما يصح إذا أسندناه (¬8) إلى أصل المال، وأصل المال هاهنا غير ¬

_ (¬1) في (ر) جمعنا. (¬2) في (ق) وكان له. (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ق) ينص، وفي (م) ينبهوا. (¬5) في (ت) و (ر) و (ق) خلاف. (¬6) في (ر) فإن قال لا يلزمه، وفي (ت) وإن أراد أنه يلزمه. (¬7) ساقط من (ر). (¬8) في (ر) أسند.

(حكم اشتراط الزكاة على أحدهما)

مزكى. ولا شك أن هذا الاختلاف جارٍ على أن الأرباح مضافة إلى أصول الأموال، وإلا فعلى القول بأنها فائدة لا يزكي العامل إلا بعد أن يمر له حول (¬1) من يوم يقبض ربحه. (حكم اشتراط الزكاة على أحدهما) وإذا اشترطت الزكاة [إن وجبت] (¬2) على أحدهما، فإن كان الشرط على رب المال أن يزكي ربح العامل فقولان: الجواز, لأنه يرجع إلى جزء مسمى (¬3). والمنع, لأن [الحال يختلف، فقد تتوجه] (¬4) الزكاة على العامل، وقد لا تتوجه. لا سيما والخلاف في المسألة كما تقدم. ولا يدرى ما يكون مذهب المعول على قوله عند توجه الزكاة. وأما إن اشترط على العامل ما يخص رب المال فلا يجوز قولًا واحدًا, لأنه قد يستغرق ذلك مقدار ربحه، أو لا يجد ربحًا فيزكي من عنده وهذا أكثر غررًا. ... فصل (متى يؤمر بالإخراج) وأما متى يؤمر بالإخراج؟ فلا يخلو من أن يكون مديرًا أو غير مدير؛ فإذا (¬5) كان مديرًا فلا يخلو من أن يكون موافقًا لحال رب المال أو مخالفًا، وكذلك إذا كان غير مدير. فإن كان غير مدير وهو مخالف (¬6) لحال رب المال فبلا خلاف في المذهب أنه لا يزكي قبل الانفصال ولو أقام أعوامًا، ¬

_ (¬1) في (ت) إلا أنه يحول عليه الحول. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) معلوم. (¬4) في (ر) الحول يتوجب الزكاة. (¬5) في (ق) وإذا، وفي (ت) و (ر): وإن. (¬6) في (ر) و (ت) موافق.

ولو كان المال الذي في يد العامل عينًا عند حلول الحول. ورأى أبو الحسن اللحمي أنه يلزم من قال يزكي المدير عند حلول الحول أن يزكي غير المدير إذا كان ما بيده عينًا، قال: لأن نهاية الأمر في عروض المدير أن تكون كالعين (¬1). وهذا لا يلزم لأنهم في المذهب حكموا لما في يد العامل بحكم الدين الذي لا يزكى قبل أن يقبضه، وإذا حكموا له بذلك، فالمدير يقوم دينه، وغير المدير لا يقومه. فقد صار حكم المدير في هذا المعنى أقوى من حكم غيره. وإذا اختلف في العامل إذا كان مديرًا فلا يلزم عليه الاختلاف إذا كان في يده عينًا, لأنه بمنزلة الدين كما قلنا. وإن كان العامل مديرًا (¬2) وهو موافق [لحال] (¬3) رب المال فهل يقوم ما في يديه عند حلول الحول؟ قولان كما ذكرناهما. والتقويم لأنّ نهاية هذا أن يكون كالدين، والدين يُقَوْمُ على المشهور من المذهب. ونفي التقويم لأنه لا يدري ما يحصل فيه من النماء والنقص فيرجئه إلى المفاصلة. وإن قلنا بأنه يقوم فمن أين يخرج الزكاة؟ هل منه أو من مال رب المال؟ أجراه أبو الحسن اللخمي على قولين. وسنتكلم على هذا في حكم زكاة الماشية وزكاة الفطر إذا كان العبيد والماشية قراضًا. وإذا كان حال العامل في الإدارة وغيرها مخالفًا لحال رب المال (¬4) فأشار أبو المقاسم بن محرز إلى إجرائه على ما تقدم من الخلاف إذا كان لرجل مالان، أحدهما مدار والآخر غير مدار. وقد قدمنا تفصيل المذهب وما فيه من الخلاف. وهذا الذي قاله بَيِّن إن قلنا إن الحكم في الزكاة مراعاة حكم رب المال. وأما إن راعينا حال العامل في نفسه فنعطيه فيما يختص بربحه وفي (¬5) جميع ما في يديه حكم نفسه في الإدارة وعدمها. ¬

_ (¬1) التبصرة لوحة: 68. (¬2) في (ر) مدينا. (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ر) العامل. (¬5) في (ر) أو في.

وإذا لم يزكِّ حتى مرت أحوال لأنه غير مدير، وقلنا إن المدير لا يقوم، فهل يزكي لسنة واحدة أو لما تقدم من السنين؟ في المذهب قولان. والحكم بزكاة واحدة قياسًا على الدين، والحكم بزكاة ما تقدم من السنين، لأنّ الدين لا نماء فيه، وهذا مال ينمى لربه. وإذا قلنا إن فيه زكاة واحدة فإنه (¬1) يراعى ما يحصل حالة الانفصال. وإذا قلنا إنه يزكى لكل عام، فإن تساوى مقداره في سائر الأعوام (¬2) زكى كذلك، وحكمه بَيّن. وإن اختلف مقداره فإن كان أولًا أكمل متن حاله يوم الانفصال لم يُراعَ ذلك الكمال لأنه لم يحصل، وإن كان الأمر بالعكس، وكان في السنين الماضية ناقصًا ثم كمل، زكى عن كل سنة عما كان فيها. لأنه إنما يخاطب الآن عما تقدم من السنين. ومثل هذا أن يكون له مال قارض (¬3) به، وهو مائة فمر به عام ثم صار مائتين (¬4) ثم عام فصار ثلاثمائة. فإنه يزكي عن العام الأول عن المائة، وعن الثاني عن المائتين إلا ما نقص منها مقدار الزكاة، وعن الثالث عن الثلاثمائة [إلا ما نقص منها مقدار الزكاة] (¬5) بحسب ما قلناه. ولو كانت ثلاثمائة في العام الأول ثم مائتين ثم مائة، لم يزك إلا عن المائة. ولو كانت في العام الأول مائتين وفي الثاني مائة وفي الثالث ثلاثمائة، زكى عن العامين الأولين عن مائة، وعن العام الثالث عن ثلاثمائة. وأصل هذا أن يراعى في النقص حالة خوطب بالأخراج، وكذلك يراعى في الزيادة. ولكنه مع الزيادة لا يجب عليه، لما (¬6) تقدم من الأعوام مراعاتها لأنه غير مالك [لها] (¬7). ... ¬

_ (¬1) في (ت) فإنما. (¬2) في (ر) الأغراض. (¬3) في (ر) قراضًا. (¬4) في (ق) و (ت) عام وهو كذلك ثم عام فصار مائتين. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) و (ق) فيما. (¬7) ساقط من (ت) و (ر) و (م)، وفي (ر) وبالله التوفيق والصلاة على نبيه الكريم.

باب في "أحكام النية في الزكاة [وحكم مانعها] وأين تفرق؟

باب في "أحكام النية في الزكاة [وحكم مانعها] (¬1) وأين تفرق؟ (حكم النية في الزكاة) والأصل في النية أنها تختص بما لا تظهر فيه الأغراض، وإنما تمحض (¬2) فيه العبادة. ولهذا اجتمعت الأمة على وجوب النية في الصلاة والصوم، واجتمعت على نفي الوجوب في قضاء الديون ورد الودائع، واختلفوا فيما سوى ذلك نظرًا إلى كونه مشوبًا بين (¬3) حكم العبادة والأغراض المعجلة. فمن غلب عليه حكم العبادة أوجب النية، ومن غلب عليه حكم الأغراض الدنيوية أسقطها. وهذا كما قدمناه في الطهارة، وكما نحن نسرده في الزكاة، وقد حكى أبو الحسن ابن القصار عن المذهب افتقارها إلى النية. وعن بعض أصحابنا أنها لا تفتقر إليها وعابه وتأول عليه (¬4) أنه إنما أخذ ذلك من قول مالك رحمه الله أن الإمام يأخذ من مال مانع الزكاة وتجزيه. ورأى أن هذا لا يؤخذ منه إسقاط النية, لأنه إذا أخذ الإمام ذلك مع علم من وجبت عليه بالوجوب فذلك المقصود بالنية. واستقرأ الوجوب من قول مالك رحمه الله فيمن وجبت عليه كفارتان، فأعتق عن واحدة بعينها، ثم غلط فأعتق عنها. أنها (¬5) لا تجزيه للأخرى. قال وإذا افتقر إلى النية في تمييز أحد الفرضين عن الآخر، فأحرى أن يفتقر إليها في تمييز الفرض عن النفل. وقد قدمنا الخلاف في كون المساكين شركاء بمقدار الزكاة. فإذا راعينا هذا وغلبنا [عليها] (¬6) رفق المساكين وأنها تكون كرد الوديعة وقضاء الدين فلا تفتقر إلى نية، وإن غلبنا عليها حكم العبادة ¬

_ (¬1) ساقط من (ت) و (ر). (¬2) في (ق) الأغراض الدنيوية وإنما تتمخض. (¬3) في (ر) من. (¬4) في (م) وعابها وتأول عليه، وفي (ق) وعليه وتأول عليه، وفي (ر) وعابه وقالوا عليه. (¬5) في (ر) لأنها. (¬6) ساقط من (ت).

فصل (ما يفعل مع من امتنع عن الزكاة)

بما قدمناه في أول الكتاب من [أن] (¬1) القصد بها التقرب إلى المساكين فافتقرت إلى النية. فلا خلاف في المذهب أن الإمام يأخذها ممن وجبت عليه وتجزيه. وهذا إن بنيناه على أنها لا تفتقر إلى النية فوجهه ظاهر، وإن بنيناه على افتقارها إلى النية فوجهه ما قاله أبو الحسن بن القصار. وهذا صحيح إذا أخذها وهو عالم، وأما إن لم يعلم فأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف فيمن أعتق عن إنسان في كفارة من غير إذنه، وفيمن ذبح أضحية إنسان بغير إذنه. والأولى في هذا أن يجري على الخلاف في افتقارها إلى النية، وعلى الخلاف فيمن أعتق عن إنسان بغير إذنه. وأما الأضحية (¬2)، فسبب الخلاف في هذا هل تتعين الأضحية بالشراء أو بالنية؟ فتكون كالهدي لا يفتقر إلى النية عند الذبح، أو لا تتعين إلا بالذبح فتفتقر إلى النية. ... فصل (ما يفعل مع من امتنع عن الزكاة) ومن امتنع من أداء الزكاة، فإن كان بحيث يمتنع فلا يقدر عليه إلا بالمقاتلة والمحاربة لجماعته أو لمنعة موضعه، وجب قتاله كما فعل الصديق رضي الله عنه، ووافقه عليه الصحابة (¬3). وإن كان مقدورًا عليه أخذت من ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ت) وأما من ذبح أضحية إنسان بغير إذنه فسبب. (¬3) أخرج البخارىِ في الاعتصام 1400، ومسلم في الإيمان 20 واللفظ للبخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ لَمَّا تُوُفيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرِ رَضِي الله عَنْه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَب فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْه كَيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَد قالَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرُتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقُولوا لاَ إلَهَ إلاَّ الله فَمَن قالَها فقد عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بحَقهِ وَحِسَابُهُ عَلَى الله" فَقَالَ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فرق بَينَ الصَّلاةِ وَالزكَاةِ فَإِنَ الزَكَاةَ حَق المْالِ وَالله لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقاً كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلتُهُم عَلَى مَنعِهَا قَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْه: فَوَاللَّه مَا هُوَ إِلا أَنْ قَدْ شَرَحَ الله صَدْرَ أبِي بَكْرٍ رَضِى الله عَنْه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ.

فصل (من يتولى توزيع الزكاة؟)

ماله كرهًا كما قدمنا. هذا فيما يظهر من الأموال، وأما ما يخفى فإن علم به وأنه ممن لا يؤدي أخذت منه كالأول، وإن أظهر الفقر واطلع منه على خلاف ذلك، ولم يعلم مقدار الواجب عليه أو لم يوجد ماله، عوقب وحُبس حتى يؤدي ما عليه. وهذا لأنه دين الله تعالى، فيُحبس فيه كما يحبس في دَيْن الآدميين. فإن ظهر له مال فادعى أنه مديان أو عبد، فإن ظهر ما قاله عوّل عليه، وإن ظهر ضده أخذت منه الزكاة، وإن أشكل أمره لم تؤخذ منه. وهل يحلف؟ قولان، وهما على الخلاف في أيمان المتهم. وفي المذهب على ما ينقله كثير من الأشياخ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحلف المتهم وغيره. والثاني: أنه لا يحلف واحد منهما. والثالث: يحلف المتهم دون غيره. ... فصل (من يتولى توزيع الزكاة؟) وهل للإنسان تفرقة زكاته بيده أو يؤديها إلى الإمام؟ أما إن كان الإمام جائرًا فلا يؤديها إليه، وإن خفي له إخراجها أخرجها. وإن لم يخف له وأخذها منه جبرًا فإن كان يعدل في إخراجها (¬1) أجزأته. وأما إن لم يعدل فهل تجزيه؟ قولان. وهما على الخلاف في قسمة الغاصب هل تصح؟ فمن صححها حكم بالإجزاء, لأنّ هذا أخذ نصيب المساكين، وميزه من نصيب رب المال، ثم جار فيه. ومن لم يصححها حكم بعدم الإجزاء. وإن أداها إليه طوعًا لم تجزه إذا كان يجور في تفريقها. وأما إن كان الإمام عدلًا فلا شك في إجزائها إذا أديت إليه. وهل للإنسان أن يتولى إخراجها؟ أما المال الظاهر كالحرث والماشية فهو إلى الإمام، وأما العين ففيه قولان: أحدهما: أنه كالأول لقوله ¬

_ (¬1) في (ق) إصرافها.

فصل (حكم نقل الزكاة إلى مكان آخر)

تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬1)، وولاة أئمة العدل بمنزلة الإمام في هذا. والثاني: أنها إلى أرباب الأموال لأنّ الإمام كالوكيل، فإذا أخرجها الإنسان وأصاب مواضع الزكاة أجزأته. وإذا أخرجها من وجبت عليه واجتهد في إعطائها فظهر صحة اجتهاده أجزأته. وإن ظهر عكس ذلك فقولان: أحدهما: أنها لا تجزيه، والثاني: أنها تجزيه. وكذلك في الكفارة إذا دفعها مجتهد، ثم تبيّن أن آخذها غير مستحق لها ففيه قولان: أحدهما: أنها تجزيه، والثاني: عكسه. وهو على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وهذا إذا فاتت في يد آخذها ولم يقدر على استرجاعها، وأما إن قدر على ذلك أخذها منه وأديت إلى مستحقها. ... فصل (حكم نقل الزكاة إلى مكان آخر) وإذا وجبت الزكاة فأديت إلى فقراء الموضع الذي وجبت فيه أجزت بلا خلاف. فإن أديت إلى غيرهم؛ فإن كان بأهل الموضع حاجة وغيرهم ليس بمنزلتهم لم تجز، وإن تساوت الحالات فهل يجزي إخراجها إلى غير الموضع الذي وجبت فيه؟ فالمذهب على قولين. وسبب الخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ "فأخبرهم -يعني أهل اليمن- أن الله أوجب عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (¬2)، فهل يحمل ذلك على فقراء المسلمين أو فقراء أهل الموضع؟ هذا سبب الخلاف. وإن نزلت بقوم حاجة فقد أمر مالك أن ينقل إليهم من الزكاة. وظاهر ¬

_ (¬1) التوبة: 103. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري في الزكاة 1458، ومسلم في الإيمان 19. ولفظ مسلم عن ابنِ ابْنِ عَبَّاس أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْم أَهلِ كِتَاب فليَكُن أَوْلَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ عِبَادةُ الله عَز وَجَل فَإذا عَرَفُوا الله فَأَخبِرْهُمْ أَن اللهَ فَرَض عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَات في يَوْمِهِم وَلَيلَتِهِم فإذا فعَلوا فَأخبِرْهُمْ أَن اللهَ قَدْ فرَضَ عَلَيْهِم زَكَاة تُؤْخَذُ من أَغنِيَائِهِم فَترَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم فَإذا أطَاعوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُم وْتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهم".

فصل (حكم إخراج الزكاة قبل حلول الحول)

قول سحنون أنها لا تجزي إذا كان حيث وجبت فقراء. وقال ابن الماجشون: تفرق في موضع (¬1) يصيب الفقراء والمساكين. وأما ما يجب لبقية الأصناف فذلك إلى الأئمة يفرقونه إلى [أمهات] (¬2) البلاد التي فيها ذلك، وهذا إن أراد به أن الزكاة يجب تفريقها على كل من سمي في الآية حتى يجب لكل صنف ثمن الواجب فليس هو مذهبنا وإنما هو مذهب الشافعي، وإن أراد أنه يفرق على هؤلاء الأصناف متى أدى الاجتهاد إلى التفرقة عليهم فقد لا يخالف في ذلك، وإنما كلام الآخرين على نصيب الفقراء والمساكين. وهل يعتبر في وجوبها بالمال أو بالمالك (¬3)؟ في المذهب قولان. ومثاله أن تجب الصدقة على إنسان غائب عن موضع وجوبها، فإن كان يخرج عنه حيث وجبت فلا يخرج، وإن كان لا يجد من أين يخرج حيث هو ولو تسلف لم يجد من يسلفه، أو يخشى أن يضطر إلى ما في يديه لم يخرجها. وإذا كان يقدر على إخراجها من غير ضرورة فقولان. وهما على ما قدمناه من اعتبار موضع المال لأنه سبب الوجوب، أو اعتبار موضع المالك لأنه مخاطب بها. ... فصل (حكم إخراج الزكاة قبل حلول الحول) وغلب أهل المذهب حكم العبادات على الزكاة وأنها لا تجزي قبل أن يحل الحول بالزمن الكثير، لأنهم رأوا أن الحول ضُرِب رفقاً بأرباب الأموال وتعبدًا وطهورًا لتعبد فيه، لكن اختلفوا إن أخرجها قبل الحول بالزمان اليسير ¬

_ (¬1) في (ت) موضع الزكاة. (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (م) بالحال أو .. وفي (ر) أولى بالمال.

باب في عشور أهل الذمة والحربيين

هل تجزيه أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنها لا تجزيه، وهذا محض (¬1) العبادات. وقاسها [في هذه الرواية] (¬2) على صلاة الظهر في أنها لا تجزيه قبل الزوال. والقول الثاني: أنها تجزي، وهذا إما مراعاة للخلاف وإما تغليب لشوب العبادة مع الالتفات إلى رفق أرباب الأموال، ولأن ما قارب الشيء، حكمه حكم الشيء. وقد اختلف في هذا الأصل على قولين. وكم مقدار [الزمان] (¬3) اليسير؟ حُدَّ باليومين والثلاثة وهو أقل ما قيل وبالشهر وبالخمسة أيام ونحوها، وبنصف شهر. فهذا كله على جهة التقريب، ولا يقتضيه أصل محقق، وإنما هو خلاف في حد المقاربة. ... باب في عشور أهل الذمة والحربيين (أحكام عشور أهل الذمة) والكفار على ضربين (¬4) معاهدين وغير معاهدين؛ فالمعاهدون صنفان: أهل ذمة وغيرهم، فأما أهل الذمة إذا سافروا نظر، فإن سافروا في قطرهم الذي فيه (¬5) ذمتهم لم يكن عليهم غرم، فإن خرجوا إلى غيره لزمهم الغرم. لكن اختلف المذهب هل يلزمهم لحق الوصول (¬6) إلى القطر الثاني، أو لحق (¬7) الانتفاع فيه. وفي ذلك قولان: والمشهور أنه لحق الانتفاع فيه (¬8). وتظهر ثمرة الخلاف إذا وصلوا ولم يبيعوا ما معهم أو لم يشتروا بما قدموا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) تمحيض. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ق) و (م) قسمين. (¬5) في (م) و (ق) و (ت): في. (¬6) في (م) بحق الوصول وفي (ق) لحق الأصول. (¬7) في (ق) بحق. (¬8) في (ر) به.

به من العين هل يلزمهم العشر؟ والمشهور أنه لا يلزمهم حتى يبيعوا أو يشتروا، والشاذ أنه يلزمهم. وإذا قلنا بالمشهور فوصلوا (¬1) بمتاع كف عنهم (¬2)، فإن باعوا أخذ منهم عشر الثمن، وإن لم يبيعوا ورجعوا إلى قطرهم لم يؤخذ منهم شيء. وعلى القول الثاني يؤخذ منهم وإن رجعوا به على حالهم (¬3)، وإن كان معهم رقيق فعلى المشهور لا يحال بينهم وبين ما يحدثونه فيه من استخدام أو وطء، وعلى القول الثاني يحال بينهم وبين ذلك. وإن وصلوا بعين غير مسكوك فأرادوا أن يضربوه في بلد الإسلام؛ فعلى المشهور إن ضربوه أخذ منهم مقدار إجارة عشر، ومثاله أن يصل (¬4) واحد منهم بمائة دينار تبرا (¬5) فيضربها، فلمن يلي أمر المسلمين أن يأتي بعشرة (¬6) فيضرب للمسلمين (¬7)، أو يأخذ من الذمي أجرة عشرة (¬8). وعلى القول الثاني يأخذ منه عشرة كاملة. وإن أتى بمسكوك فعلى المشهور إن اشترى سلعًا فوقع في الرواية يأخذ عشرها. وفي نقل أبي محمد بن أبي زيد يأخذ [قيمة] (¬9) عشرها. وقال بعض المتأخرين: أما إن كانت تنقسم فيأخذ عشرها، وإن كانت لا تنقسم فيأخذ تسعها قيمة. وهذا بناء على التقريب؛ لأنه رأى أن تقويم العشر بيع للسلعة، فوجب أن يؤخذ [منه قيمة] (¬10) العشر المقوم ثم يؤخذ ¬

_ (¬1) في (ر) فإذا وصلوا. (¬2) في (ق) و (م) و (ت) تركوا. (¬3) في (ق) و (ت) حاله. (¬4) في (ر) فعل. (¬5) في (ق) و (ت) أو تيرا. (¬6) في (ق) بعشره. (¬7) في (م) فيضربه المسلمون. (¬8) في (ق) و (م) عشره. (¬9) ساقط من (ر). (¬10) في (ت) عن، وفي (ق) منه عن.

[عشر ما] (¬1) بعده، هكذا حتى يدور. فقصاره (¬2) أن يرجع إلى قيمة التسع من الأول. فهذا خيال بعيد, لأن الواجب عليه عشر واحد، ومتى تصرف بعده لم يلزمه شيء مادام في ذلك القطر إلا أن يسافر لقطر ثانٍ. وتقديم العشر نهايته أن يكون كشراء سلعة بما ودّى عشره إلا أن يكون ودّى العشر (¬3) من مال آخر معه، فلِمَا قاله هذا وجه. ولو كان انتفاع الذمي بغلة كمن له ظهر [بهائم] (¬4) يكريه فهل يلزمه عشر الكراء أم لا؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يلزمه، وهو المشهور. والثاني: أنه لا يلزمه. وقد قدمنا الخلاف فيما يقتنيه من الغلات، هل حكمها حكم الرقاب أم لا؟ وإذا قلنا باللزوم فكيف صفته؟ ثلاثة أقوال: أحدها: إن عقد الكراء في قطره لم يلزمه، وإن عقده في القطر الثاني لزمه. والقول الثاني: بالعكس. والثالث: أنه ينظر فيما سار في قطره الأول لم يلزمه عشر، وما سار في القطر الثاني الذي سافر إليه لزمه عشر ما أخذ فيه من الكراء. والخلاف في هذا على الخلاف في الكراء (¬5) متى يستقر وجوبها، هل بالعقد؟ فلا يلزمه على المشهور إلا إن عقد في غير قطره. أو باستفاء (¬6) المنافع؟ فيكون الحكم بالعكس. أو ينظر فكل ما وفي به لزمه مقداره لاستحقاقه له فيفض (¬7) الكراء على ما سار (¬8) في القطرين. ولو ترددوا في أقطار المسلمين لوجب أن يؤخذ منهم العشر في كل قطر على ما قدمنا. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) و (م) عما. (¬2) في (ر) فقضاؤه. (¬3) في (م) العشرين. (¬4) ساقط من (ر) و (ق). (¬5) في (ت) الكراء. (¬6) في (ر) باستئناف. (¬7) في (ر) فيغض، وفي (م) فببعض. (¬8) في (ق) سافر.

فصل (حكم المعاهدين)

والأصل في هذا فعل عمر رضي الله عنه (¬1). ولم يخالفه عليه مخالف. وبين الأصوليين خلاف هل يعد هذا إجماعًا أو لا؟ والمأخوذ العشر كما قدمناه. هذا في كل الأشياء، وفي كل قطر إلا الطعام إذا وصلوا به إلى المدينة ففيه قولان: أحدهما: أنه كالأول، والثاني: أنه يؤخذ منهم نصف العشر. وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه ليكثر جلبه (¬2) إلى المدينة للحاجة إليه (¬3). وأما القول الثاني فوجهه شهادة بالاستغناء عنهم في هذا الزمان. ... فصل (حكم المعاهدين) وأما المعاهدون فإن قدّر لهم مقدار فليس عليهم إلا هو، وإن لم يقدر لهم فهم كالحربيين، وقد اختلف المذهب هل حكم هؤلاء حكم أهل الذمة في العشر أو يصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام؟ والأصل في هذا المأخوذ، فعل عمر رضي الله عنه، لكنه إنما فعله مع ذميين؛ فمن التفت إلى المشاركة في الكفر ساوى بينهم، ومن التفت إلى أن أموال أهل الحرب مباحة إلا بالعقد (¬4) صرف ذلك إلى اجتهاد الإمام. والمشهور من المذهب أنه يؤخذ منهم، باعوا أو لم يبيعوا، بخلاف أهل الذمة. وهو بناء على أنهم يوقفون (¬5) على العشر. والشاذ أنهم كأهل الذمة إنما يؤخذ منهم إن باعوا وانتفعوا، كما تقدم في أهل الذمة. وإن قدموا بما لا يجوز لأهل الإسلام تملكه ولا التصرف فيه مثل ¬

_ (¬1) انظر سنن البيهقي 9/ 209، والأموال لأبي عبيد 473. (¬2) في (ر) حمله. (¬3) انظر سنن البيهقي 9/ 210، وتفسر القرطبي 8/ 113. (¬4) في (ق) و (ت) العمد. (¬5) في (ق) لا يوقفون، وهي غير واضحة في (ت).

باب في أحكام مصارف الزكاة

الخمر والخنزير؛ فإن أرادوا بيعه [من أهل الإِسلام لم يمكنوا من ذلك بلا خلاف. ومن أراد بيعها] (¬1) من كفار أهل الذمة فهل يمكنون من ذلك ويؤخذ منهم من أثمانه؟ في المذهب قولان: المشهور تمكينهم منه، وهذا لأنهم كفار يعامِلون أمثالهم. والشاذ أنهم لا يمكنون منه. ويمكن تخريج هذا على الخلاف هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يمكنهم منه، أو غير مخاطبين فيمكنهم. ... باب في أحكام مصارف الزكاة (الأصناف المستحقين للزكاة) وقد بين الله تعالى صفة المستحقين، وأنهم ثمانية أصناف، فقال (¬2) تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬3) الآية، وهذه اللام عندنا لام الصرف (¬4) لا لام التمليك، ولهذا نقول: لا يجب أن تقسم الصدقات على ثمانية أصناف فيعطى لكل صنف قسم، بل لو أعطيت لصنف واحد أجزأ، وإنما تصرف بحسب الاجتهاد. فالتعبد هاهنا إخراجها إلى من يستحقها من هذه الأصناف بخلاف ما نقوله في الكفارات؛ فإن الأعداد المذكورة في القرآن مستحقة، ولهذا لو أعطى كفارة الظهار لأقل من ستين مسكينًا لم تجزه، وإن كان مقدار ما يعطيه هو الواجب لستين. وسيأتي بيانه ولنتكلم على أحكام الأصناف الثمانية على الترتيب الوارد في القرآن. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م) وخروم في (ت). (¬2) في (ت) و (م) في قوله. (¬3) التوبة: 60. (¬4) في (ق) التصريف.

(هل الفقراء والمساكين اسمان لمسمى واحد أم لا؟)

(هل الفقراء والمساكين اسمان لمسمى واحد أم لا؟) وقد سمى الله تعالى في كتابه الفقراء والمساكين، وقد اختلف في المذهب هل هما اسمان لمسمى واحد أو لمسميين مفترقين (¬1) في المعنى، في المذهب في ذلك قولان. والجمهور على أنهما مختلفان في المعنى. ويشهد لهذا أن الله تعالى ذكرهما بواو العطف. فلولا اختلاف معناهما لم يكن للتكرار معنى. وإذا قلنا إنهما مختلفان فإلى أي شيء يرجع الخلاف؟ هاهنا طريقان: أحدهما: أنه يرجع إلى شدة الحاجة وضعفها. لكن اختلف هؤلاء أيهم أشد حاجة؟ هل المسكين لأنه مأخوذ من سكون الحركة، وهذه الحالة (¬2) إنما تكون مع الموت، [أو الفقير (¬3) الذي لا وجدان معه حتى يكون مشبهًا بالميت] (¬4)، ويحتج هؤلاء بقول القائل: أما الفقير الذي (¬5) كانت حلوبته ... وفق العيال ولم يترك له سبد (¬6) وقد أخبر بكونه فقيرًا وأن له حلوبة. أو الفقير مأخوذ من فقار الظهر ومعناه أنه انكسر فقاره. ومن وصل إلى تلك الحال فلا يحيى. ويحتج هؤلاء بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬7) فسماهم مساكين وأخبر أن لهم سفينة. واعتذر الأولون عن قول الشاعر بأن الفقر مختلف فله بداية ونهاية ولذلك لم يذكر مطلقًا، وإنما ذكره مضافًا إلى المعنى (¬8) الذي وصفه به. واعتذر الآخرون ¬

_ (¬1) في (ر) اسمان مفترقان. (¬2) في (م) الحاجة. (¬3) في (ت) و (ر) و (م) والفقير. (¬4) ساقط من (ق). (¬5) في (ر) التى. (¬6) انظر الزاهر 290، والمحلى 6/ 149، ومختصر اختلاف العلماه 5/ 30، والتمهيد لابن عبد البر 18/ 50، وبدائع الصنائع 2/ 43، وتفسير القرطبي 8/ 169. وقد نسب هذا البيت الشعري إلى الراعي. (¬7) الكهف: 79. (¬8) في (ق) الغنى.

(بعض شروط الفقراء والمساكين)

عن قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬1) بأنهم كانوا أُجراء لا مالكين. والطريق الثانية: أنه يرجع إلى صفة الحال (¬2) فالفقير الذي يسأل، والمسكين الذي لا يسأل، وقد قيل الفقير الذي يعلم به فيتصدق عليه والمسكين الذي لا يعلم به واحتج هؤلاء بما ورد في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة ولا اللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يعلم به، فيتصدق عليه ولا يسأل"، الحديث كما ورد. (بعض شروط الفقراء والمساكين) وإذا تقرر كونهما بمعنى أو بمعنيين فلا خلاف أنه يشترط فيهما الإسلام، والحرية، وهل يشترط فيهما عدم القدرة على الكسب، في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يشترط. والثاني: أنه يشترط، وهو يجري على الخلاف في من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟ فمن لم يَعُدّه مالكًا لم يشترط عدم القدرة. ومن عده مالكًا اشترطها. ويحتج من يشترطها بما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة ... " وهذا الحديث لو صح لكان كالنص لأحد القولين في اشتراط عدم القدرة على الكسب. ولا خلاف أنها تشترط الحاجة ولا شك أن ذلك يوجب اسم الفقر أو المسكنة. وهل من شروط المحتاج أن يكون غير مالك للنصاب؟ في المذهب قولان: أحدهما: أن ذلك من شروطه لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "وأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" وهذا يقتضي تمييز من تؤخذ منه الزكاة ممن ترد عليه، وكونهما صنفين. ولا يحصل ذلك إلا إذا لم تعط لمن يملك نصابًا. والقول الثاني: أن ذلك ليس ¬

_ (¬1) الكهف: 79. (¬2) في (ر) المالك.

(حكم إعطاء أحد الزوجين للآخر من الزكاة)

من شرطه لأنّ المقصود بالزكاة إغناء المحتاج، وهذا إذا لم يكفه ما بيديه فهو محتاج حقيقة. ولا شك على القول بأن من له نصاب لا يعطى، أنه لا يدفع إلى الفقير الواحد نصابًا كاملًا. وأما على القول الثاني فإنه يدفع إليه نصاب إذا كان في القدر المخرج سعة، وكان الآخذ محتاجًا إلى النصاب. ولا شك أن من كان في عيال غيره، والنفقة تلزم من هو في عياله لا يعطى من الزكاة, لأنه وإن كان فقيرًا فإنه مليء بلزوم نفقته لغيره (¬1). فإن كان لا تلزم نفقته غيره، فإن عول على الاستدامة فلا يستحق أخذ الزكاة، وإن عول على الانقطاع عن نفقة من هو في عياله أو صرفه المنفق، فإنه يستحق أخذ الزكاة. (حكم إعطاء أحد الزوجين للآخر من الزكاة) ولا شك أن الزوج لا يعطي زوجته لأنها مليئة بماله. وأما المرأة فهل تعطي زوجها؟ منعه في الكتاب، (¬2) وحمله ابن القصار على الكراهية، وفرق أشهب (¬3) بين أن تعطيه فيعيده في النفقة عليها، أو يصرفه في منافع غير ذلك. فمنع في الأول، وأجاز في الثاني. والمنع؛ لأنّ منفعته (¬4) عائدة عليها. وأما الكراهة فإنه مطالب بالنفقة، فهي تأخذ بغير الوجه الذي تدفعه إليه به. وأما التفرقة فراعى فيها ما راعى في القول الأول، لكن لم يلتفت إلى المعونة على ما يصرف إليها، بل إلى نفس المصروف. وبيّن من هذا أنه لا يعطي لقرابته الذين تلزمه نفقتهم. (حكم من لا تلزمه نفقته) وأما من لا تلزمه نفقته؛ فإن كانوا في عياله فلا يعطيهم النفقة ولا الكسوة إن كان يكسوهم، فإن كان لا يكسوهم أعطاهم الكسوة. فإن كانوا ¬

_ (¬1) في (ر) نفقة غيره. (¬2) المدونة: 1/ 298. (¬3) في (ق) ابن حبيب. (¬4) في (ت) و (ر) منفتها.

فصل (العاملون على جمع الزكاة)

ليسوا في عياله فهل يعطيهم؟ لا يختلف أنه لا يمنع من ذلك. وهل يجوز أم لا (¬1)؟ في المذهب ثلاثة أقوال: الكراهية في الكتاب، وعلل بخشية المدح (¬2). وفي غيره قولان: الجواز لمساواتهم لغيرهم في الاستحقاق، والاستحباب لانفرادهم بحق القرابة. وفي الحديث أنهم أفضل من صرفت إليهم الصدقة (¬3). وقد يكون هذا خلاف في حال، فإن قصد المن أو فضلهم وهم ليسوا في الحاجة كغيرهم كره، وإن أمن المن وأعطاهم لسد الحاجة (¬4) ولمساواتهم لغيرهم في الحاجة فالأولى هاهنا الاستحباب لما لهم من حق القرابة. ... فصل (العاملون على جمع الزكاة) والصنف الثالث: العاملون على الزكاة وهم جُباتها وموصّلوها إلى الإمام ليفرقها أو يتولون تفريقها. ولا خلاف أن الصدقة تحل لهذا الصنف وإن كانوا أملياء. وهم أحد الخمسة الذين استثناهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ الزكاة وإن كانوا أملياء. لكن اختلف في العبد والنصراني؛ هل يجوز استعمالهما عليها أم لا؟ فأما العبد فالخلاف فيه مبني على أخذ (¬5) المستعمل؛ هل يغلب عليه حكم الإجارة المحضة [أو يضاف إلى ذلك] (¬6) كونه ممن يستحق على الجملة؟ فإن قلنا بتغليب حكم الإجارة أعطي منها، وإن قلنا بتغليب ¬

_ (¬1) كذا في (ر) و (ق) و (م)، وخرم في (ت) و (ل). (¬2) المدونة 1/ 297. (¬3) من ذلك ما أخرجه أحمد مسند: 4/ 18 عن سلمان بن عامر ان النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الصدقة على المسكين صدقة وإنها على ذي الرحم اثنتان انها صدقة وصلة". (¬4) في (ق) الخلة. (¬5) في (م) أجر. (¬6) ساقط من (ر).

فصل (المؤلفة قلوبهم وهل حكمهم باق أو منسوخ)

ذلك وإضافة كونه ممن يستحق على الجملة فإنه لا يستعمل عليها. وأما الذمي ففي استعماله ولاية له، ولا تحل ولايته. لكن إن كان خادمًا بحيث لا يكون له سلطان على أحد من المسلمين فيختلف فيه على الخلاف في العبد. وإن استعمل عليها فقيرًا أعطي لحق الفقر والاستعمال. وإن كان غنيًا أعطي أجره (¬1) بحسب الاجتهاد، ولا يزاد على قدر ما يستحقه بالعمل. ... فصل (المؤلفة قلوبهم وهل حكمهم باق أو منسوخ) والصنف الرابع: هم المؤلفة قلوبهم. وقد اختلف هل حكمهم باق أو منسوخ لاستغناء المسلمين عنهم. وإنما كان ذلك في زمن حاجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم. والصحيح بقاء حكمهم، لكن إنما يعطون وقت الحاجة إليهم، قاله القاضي أبو محمد. واختلف في صفتهم فقيل هم قوم من الكفار يعطون ليستألفوا (¬2) على الإسلام. وكانوا لا يسلمون بالسيف والقهر، لكن يسلمون بالعطايا والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يَسْتَقْرِ الإسلام في قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في قلوبهم. وقيل هم قوم من عظماء المشركين أسلموا ولهم أتباع يعطون ليستألفوا أتباعهم على الإسلام. وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، والقصد بها الإعطاء لمن لا يتمكن الإسلام عنده حقيقة (¬3) إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد. وقد علمت الشريعة أن المشركين ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة الدليل وإظهار ¬

_ (¬1) في (ر) حقه. (¬2) في (ق) ليستألفوا أتباعهم. (¬3) في (ل) لا يمكن إسلامه حقيقة.

فصل (عتق الرقاب)

البرهان، وصنف بالقهر والسيف، وصنف بالعطاء والإحسان. فيستعمل الإمام بالنظر (¬1) ما يكون للمسلمين مع كل صنف ما يكون لسبب نجاته من الكفر وتخليصه. ... فصل (عتق الرقاب) والصنف الخامس: الرقاب. ولا خلاف عندنا في الإجزاء إذا اشتروا رقبة سليمة من العيوب، مؤمنة، ليس فيها عقد حرية. فأعتقها عن المسلمين حتى يكون ولاؤها لهم. فإن كانت معيبة فهل تجزي؟ في المذهب قولان: أحدهما: الإجزاء لتناول العموم لها، والمنع (¬2) قياسًا على الكفارات (¬3)، وكذلك إن كانت كافرة (¬4). فإن كان فيها عقد حرية كالكتابة، أو عتق البعض، أو التدبير فهل يجزى الإعطاء في ثمن حريتها؟ في المذهب ثلاثة أقوال: الجواز، لتناول العموم له. ومنع الإجزاء, لأنّ الولاء ليس للمسلمين لكن لمن ابتدأ الحرية. والتفرقة بين أن يعطي لإكمال العتق (¬5) فيجزي، أو لغير إكماله (¬6) فلا يجزي. وهذا نظرًا إلى أن المقصود تحرير الرقبة لا الولاء. فإن حصلت الحرية بالعطية أجزأ وإلا لم يجزي. وإن أعتق عن نفسه فهل يمضي عتقه مجزيًا عن الزكاة ويكون ولاؤه للمسلمين، أو يمضي العتق عنه ويكون [الولاء] (¬7) له ولا يجزى عن المسلمين ويعيد الزكاة؟ في المذهب قولان: أحدهما: مضيها عن الزكاة، ¬

_ (¬1) في (ت) الناظر وهي غير واضحة في (ق). (¬2) في (ت) ومنعها وفي (ر) ومنعه. (¬3) في (ر) الكفارة. (¬4) في (ت) كفارة. (¬5) في (ق) الحرية، (¬6) في (ق) إكمالها. (¬7) ساقط من (ت).

(هل يعطى الأسير لفك رقبة)

ويكون ولاؤه للمسلمين, لأن المال لهم فيغلب حكمه لأنه المخطئ في اشتراط الولاء له. والثاني: نفي الإجزاء عن الزكاة تغليبًا للقصد. (هل يعطى الأسير لفك رقبة) وهل يعطى منها الأسير لفك (¬1) رقبته؟ قولان: المشهور: أنه لا يعطى، وهو نظرًا إلى اشتراط الولاء للمسلمين ولا ولاء هاهنا. والثاني: أنه يعطى لأنه فك لرقبته (¬2)، وقال ابن عبد الحكم: إنه إذا أخرج زكاته ثم افتقر، فإنه لا يأخذ (¬3) منها. وإن أسر افتكت منها رقبته. وهذا لأنّ المال غير عائد إلى الأسير في الفك وعائد إليه في الفقر. ... فصل (الغارمون) والصنف السادس: الغارمون. ولا خلاف (¬4) أن من عرف بالدين (¬5) وكثر عليه، واستدانه من الآدميين في غير فساد أنه يستحق [أخذ] (¬6) الزكاة لأداء دينه، وإن كان عنده مال يؤدي (¬7) منه دينه لكنه إذا أداه كان فقيرًا؛ فإن استدانه في فساد، فإن كان على حالته لم يعط، وإن نزع عنها فهل يعطى؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يعطى لأن استدانته غير مباحة بل محرمة، والثانى: أنه يعطى. وهذا نظرًا إلى حالته التي فيها الآن. والأول نظرًا إلى ابتداء أمره (¬8). وإن كان الدين لله تعالى كالكفارة والزكاة التي فرط فيها فهل يعطى ¬

_ (¬1) في (ق) لفداء. (¬2) في (ر) لفك رقبته. (¬3) في (ر) يأخذ. (¬4) في (ق) ولا شك. (¬5) في (ق) و (ت) فدحه الدين. (¬6) ساقط من (ق) و (ت). (¬7) في (ق) ما يؤدي. (¬8) في (ق) حالته.

لذلك؟ في المذهب قولان. وقد قدمنا الخلاف في هذا الدين هل يسقط الزكاة أم لا؟ وهذا جار عليه. وإن مات مستدينًا فهل يؤدى دينه من الزكاة، في المذهب قولان: أحدهما: أنه لا يؤدى، وهذا حمل الآية على الحي لا على الميت، والثاني: أنه يؤدى، وهذا نظر إلى كونه غارمًا في حين الاستدانة (¬1). وهل من صفات الغارم أن يكون محتاجًا؟ ذكر الداودي عن مالك قولين: أحدهما: مراعاة ذلك. والثاني: أنه يشير إلى أنه لا يراعى، بل إن (¬2) كان مديانًا وله من المال ما يؤدي منه دينه وفوق (¬3) ذلك أنه يعطى، قال ولا يفصح (¬4) به، وفي الكتاب فيمن بيده ألف أدينار، (¬5) وعليه ألفان وله دار وخادم يساويان (¬6) ألفان، أنه لا يعطى من الزكاة إلا أن (¬7) يؤدي الألف في دينه فتبقى عليه ألف فحينئذ يعطى ويكون من الغارمين (¬8). وقال أشهب يعطى وإن لم يؤد. وهذا يشير إلى الخلاف الذي ذكره (¬9) الداودي. وسبب الخلاف النظر (¬10) إلى الحال أو إلى المآل. ولا شك في مراعاة كونه لا يستدين لأخذ الزكاة لأنه إن استدان لذلك صار قاصدًا لأخذ الزكاة بالدين، فلا يمكن من ذلك. ومراعاة الحاجة كما قدمناه قد يلحق (¬11) الغارم بالفقير والمسكين، ولهذا قال في القول الثاني لا يراعى ذلك. ... ¬

_ (¬1) في (ت) لاستدانته. (¬2) في (ق) و (ت) إذا. (¬3) في (ق) فرق، وغير واضحة في (م). (¬4) في (م) لا يفضح، وفي (ت) لا يصح. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ت) لا فضل فيهما يساويان. (¬7) في (ر) أنه. (¬8) المدونة: 1/ 295. (¬9) في (ق) حكاه. (¬10) في (ق) و (ت) وسببه النظر. (¬11) في (ر) و (م) ويلحق. وخرم في (ت).

فصل (المراد بسبيل الله)

فصل (المراد بسبيل الله) والصنف السابع: سبيل الله [تعالى] (¬1). وهو محمول على الجهاد عند الجمهور من العلماء، فيصرف إلى المجاهدين وآلة الحرب. ولا خلاف في ذلك أن المغازي يعطى من ذلك، وإن كان غنيًا ببلده [إذا كان فقيرًا بموضعه. وإن كان غنيًا بموضعه] (¬2) فهل يعطى؟ قولان: أحدهما: أنه لا يعطى، لعدم حاجته. والثاني: أنه يعطى، إذ لو لم يعط مع ملائه لكان هذا الصنف راجعًا (¬3) إلى صنف ابن السبيل. وأيضا فإنه يعطى على سبيل الإجارة على الغزو فيأخذها وإن كان غنيًا. وهل تصرف في بناء الأسوار التي يتقى بها مضرة (¬4) العدو، وإنشاء الأساطيل التي المقصود بها مجرد الغزو وما في معنى ذلك من مجرد الآلات (¬5)؟ ظاهر المذهب على قولين: والمشهور: أنها لا تعطى لذلك، وهذا لأنهم فهموا من هذا الصنف نفس الجهاد دون ما يستعان به عليه. والثاني: أنها تعطى لذلك، وهذا لأنّ الأساطيل مما يستعان بها على الجهاد، وفي الأسوار تحصن من العدو، وهذا (¬6) داخل في عموم قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. ... فصل (ابن السبيل) والصنف الثامن: ابن السبيل. والمراد به من كان بغير بلده، يعطى ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) و (ر) و (ت) و (م) راجع. (¬4) في (ق) معرة وفي (ت) عورة (¬5) في (ت) الأثاث. (¬6) في (ت) وهو.

فصل (هل يعطى لآل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الزكاة)

ليستعين بذلك على الوصول إلى بلده، أو على (¬1) استدامة سفره. فإن كان فقيرًا بموضعه ولا يجد من يسلفه، فإنه لا خلاف أنه يعطى. وإن وجد من يسلفه وهو مليء بموضعه فهل يعطى؟ قولان: أحدهما: أنه لا يعطى، والثاني: أنه يعطى. وهو خلاف يرجع إلى أحد وجهين: إما إلى الشهادة بمشقة السلف (¬2) وعدم مشقته، أو إلى رده إلى الفقير. لكنه ذكر صنفًا مفردًا (¬3) لكونه فقيرًا في موضعه الذي هو به دون بلده، أو لا يرجع (¬4) إلى ذلك لأنه لو روعي فقره لم يكن لعده (¬5) صنفًا معنى. وإن كان غنيًا بمكانه الذي هو به فهل يعطى؟ في المذهب قولان: المشهور: أنه لا يعطى إذ لا حاجة تدعوه إلى ذلك، والثاني: أنه يعطى، وهذا نظراً إلى العطاء بمجرد (¬6) السفر إذ يتناوله قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ}. ... فصل (هل يُعطى لآل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الزكاة) وهل يعطى من ذلك لآل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المذهب أربعة أقوال: أحدها: أنهم لا يعطون من سائر الصدقات الواجبة والتطوع. والثاني: أنهم يعطون من الجميع. والثالث: أنهم يعطون من صدقة التطوع دون الواجبة. والرابع: بالعكس فالمنع لقوله - صلى الله عليه وسلم - للحسين رضي الله عنه وقد أخذ تمرة من تمر الصدقة "أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد" (¬7). ¬

_ (¬1) في (ق) وعلى. (¬2) في (ق) التسلف. (¬3) في (ت) صنف مفرد. (¬4) في (ق) ويرجع. (¬5) في (ر) أخذه. (¬6) في (ق) المجرد. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ وقد أخرج مسلم حديثين بهذا المعنى الأول عن محمد وهو ابن زياد أنه سمع أبا هريرة يقول أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة =

فصل (من هم آل الرسول - صلى الله عليه وسلم -)

ومن حمل ذلك على عمومه منع في التطوع والواجبة، ومن قصره على الغالب من كونه من الصدقة الواجبة قصره على الواجب دون التطوع. ويدل عليه تعليله - صلى الله عليه وسلم - للمنع لأنها أوساخ الناس. وأما الجواز مطلقًا فمعلل بأنهم إنما منعوا منها لما كانت الأرزاق الواجبة لهم جارية عليهم، والآن انقطعت فحلت لهم الصدقة. وأما التفرقة في إجازة الواجبة دون التطوع فإن الواجبة لا مِنَّة فيها بخلاف التطوع، فجاز لهم أخذ ما لا منة فيه. ... فصل (من هم آل الرسول - صلى الله عليه وسلم -) وإذا قلنا بمنعهم، فمن الممنوع منهم؟ لا خلاف في المذهب أن بني هاشم ممنوعون، وأن ما فوق غالب (¬1) غير ممنوعين، وما بين ذلك فيه (¬2) قولان: أحدهما: المنع، والثاني: الإجازة. وسبب الخلاف، هل تتناولهم لفظة "الآل" لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تحل الصدقة لآل محمد". وهل يمنع الموالي كما يمنع الأحرار؟ في المذهب قولان: أحدهما: المنع، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مولى القوم منهم" (¬3). والثاني: الجواز. وقد أجازه ابن القاسم فاحتج [عليه] (¬4) بما ذكرناه من الحديث فقال: فقد جاء في حديث ¬

_ = فجعلها في فيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" كتاب الزكاة 1069. والثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" كتاب الزكاة 1072. (¬1) هو: غالب بن فهر بن مالك، الجد التاسع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) في (ق) فيهم. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض 6380 وأحمد في مسنده 4/ 340 واللفظ له عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مولى القوم منهم وابن أختهم منهم وحليفهم منهم". (¬4) ساقط من (ق).

فصل (كيفية توزيع الزكاة)

آخر: "ابن أخت القوم منهم" (¬1)، وإنما يريد في المعونة والقرب. ... فصل (كيفية توزيع الزكاة) وإذا تقرر أن هذه الأصناف تستحق أخذ الزكاة، فإن الوالي والمزكي لنفسه يجتهد فينظر إلى مواضع الحاجة بحسب الوقت فيصرف فيه الزكاة، ويختلف ذلك باختلاف الأعصار والأمصار. ولا يجوز للإنسان أن يمسك صدقته حتى يخرجها عن مستحقها، بل الواجب عليه أن يبادر إلى إخراجها إذا وجد مستحقها. والأفضل لمن وجبت عليه أن يوليها غيره، وهذا لخوف المحمدة والثناء. وقد يجب ذلك إذا كان ممن يجهل مواضعها، أو لا يسلم من قصد الرياء (¬2). (حكم من دفعت له الزكاة فزال السبب الذي من أجله دفعت له) وقد قدمنا الخلاف إذا اجتهد فأخطأ، فإن دفعها إلى من يستحقها لمعنى، فلم يصرفها فيه حتى زال المعنى الذي أخذها لسببه، فإنها تؤخذ منه. وهذا كابن السبيل، يأخذها فلا ينفق منها حتى يصل موضعه، أو يصله ماله على القول بأنه لا يأخذها إن كان غنيًا في موضعه. والغازي يأخذها للغزو ثم يقعد عنه. وتردد أبو الحسن اللخمي في الغارم يسقط دينه أو يؤديه من غيرها، هل تسترد منه إذا كان غير محتاج على أحد القولين (¬3). وإنما أخذها بمجرد الدين فينبغي أن تؤخذ (¬4) منه إذا سقط دينه أو أداه من غيرها كالغازي. ... ¬

_ (¬1) اخرج البخاري في كتاب الفرائض من صحيحه 6381 عن أنس عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم". (¬2) في (ت) الثناء. (¬3) التبصرة لوحة: 79. (¬4) في (ق) ترد.

باب في أحكام المعدن والركاز

باب في أحكام (¬1) المعدن والركاز (تعريف المعدن والركاز) وأصل لفظة المعدن في اللغة الإقامة، يقال عدن بالمكان، أي: أقام به، ومنه {جَنَّاتِ عَدْنٍ} (¬2)، أي: جنات إقامة. وأما الركاز فقال الخليل (¬3) إنه كل مال مدفون في الأرض إما بفعل آدمي، أو قطع الذهب والفضة تجمع في الأرض. وحكى أن المعدن غير هذا. وليس أحد من أهل اللغة سمى المعدن ركازًا، وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يسمى المعدن ركازًا (¬4). لكن اختلف المذهب في الركاز ما هو؟ [فقيل كقول الخليل المتقدم و] (¬5) قيل إنه كل مال مدفون دفنه آدمي، وليس ما يجمع في الأرض بفعل الله تعالى من ذلك. وقيل إنه مختص بالذهب والفضة دون غيرهما من الأموال، وعليه يجري الخلاف [في المذهب] في الندرة (¬6) توجد في المعدن، وفي الركاز يكون فيه غير الذهب والفضة، وسيأتي بيانه. ... ¬

_ (¬1) في (ق) حكم. (¬2) التوبة آية 72. (¬3) هو: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمده الفراهيدي البصري، الإمام صاحب العربية ومنشىء علم العروض أخذ عنه سيبويه النحو، كان رأسًا في لسان العرب دينًا ورعًا قانعًا له كتاب العين في اللغة وثقه ابن حبّان ... كان رحمه الله مفرط الذكاء ولد سنة مئة ومات سنة بضع وستين ومئة وقيل بقي إلى سنة سبعين ومائة. ومات ولم يتمم كتاب العين ولا هذبه ولكن العلماء يغرفون من بحره. سير أعلام النبلاء 7/ 429 - 431. (¬4) خلافًا لأبي حنيفة. (¬5) ساقط من (ت). (¬6) المقصود بالندرة المعدن الذي لا عين فيه.

فصل (من الذي يملك المعدن)

فصل (من الذي يملك المعدن) والنظر في المعدن في وجهين: أحدهما: لمن يكون؟ والثاني: في حكم ما يؤخذ منه؟ فأما الوجه الأول فإنه لا يخلو من أن يوجد في أرض مملوكة أو في أرض لا ملك فيها (¬1) لأحد؛ فإن كانت الأرض مملوكة فلا يخلو من أن يكون ملكًا لمعين أو لغير معين كأرض العنوة. فأما غير المملوكة فحكم المعدن الموجود فيها للإمام بلا خلاف في المذهب، وهذا لأنها من مصالح المسلمين، والإمام موكل على النظر في ذلك، فيقطعها (¬2) لمن يراه نظرا (¬3) ويكلف من يعملها للمسلمين. فإن كانت مملوكة لغير معين ففيها قولان: أحدهما: أنها كالأول لأنها لا يملكها أحد معين، فعادت كغير المملوكة، والثاني: أنها لمن افتتح تلك الأرض أو لورثتهم، وهذا بناء على أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها. وإن وجد في أرض مملوكة (¬4) لمالك معين ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للإمام كالأول. والثاني: أنها لمالك الأرض. والثالث: أنه إن كان ذهبًا وفضة فهو للإمام، وإن كان غير ذلك من الجواهر فهو لمالك الأرض. والقولان الأولان بناء على الخلاف فيمن ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ فإن قلنا إنه لا يملكه، وكان هذا لا ملك عليه لأحد فرجع إلى الأول. وإن قلنا إنه يملك الباطن كملكه للظاهر فهو لمالك الأرض. وأما التفرقة فلأنه رأى أن العين تؤخذ منه الزكاة والأخذ للإمام، فقد دخل فيه نظر الإمام على (¬5) الجملة فيدخل على التفصيل. ... ¬

_ (¬1) في (ق) عليها. (¬2) في (ق) و (ت) يعطيها. (¬3) أي لمن يكون إعطاؤه لها صوابًا. (¬4) في (ر) غير مملوكة. (¬5) في (ر) وعلى.

فصل (ماذا يجب في المعدن)

فصل (ماذا يجب في المعدن) وأما الوجه الثاني فإن المستحق عندنا فيما يوجد في المعدن ويتكلف فيه عمل وتصفية، الزكاة (¬1). وروى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن (¬2) غير واحد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع لبلال ابن الحارث المعادن القبلية" (¬3) فتلك لا يؤخذ منه [إلا] (¬4) الزكاة إلى الآن، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العَجْمَاءُ جُبَارٌ [وَالمعَدِنُ جُبَارٌ وَالبِئرُ جُبَارٌ] (¬5) وَفِي الرَّكَازِ الخُمُسُ" (¬6). وقد تعلق أصحابنا بهذا الحديث في أن المعدن غير الركاز, لأنّ النبي- صلى الله عليه وسلم - سماهما باسمين مختلفين. والظاهر أنه لا دليل في ذلك بل [يكاد أن] (¬7) يكون حجة لأبي حنيفة القائل بأن ما يوجد في المعدن فيه الخمس, لأنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم على حكمين مختلفين فأخبر بأن ما سقط في المعدن أو يسقط عليه المعدن، فهو جُبار لا دية فيه. ثم أخبر أن في الركاز الخُمس، أي في الركاز الذي يكون في المعدن. وبهذا يحسن تأليف النظم في الحديث، ولسنا لإكمال الحجاج، وإنما نبهنا على أوائله. واختلف المذهب في الندرة توجد في المعدن على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه فيه الزكاة، والثاني: أن فيه الخمس، والثالث: أنها إن كثرت ففيها الخمس، وإن قلت ففيها الزكاة. والقولان على ما قدمنا من الخلاف في الركاز. ¬

_ (¬1) في (ر) عندنا فيما يوجد من المعدن من العين ويتكلف المشقة فيه عمل وتصفية الزكاة، وفي (م) عندنا فيما يوخذ من المعدن من العين ويتكلف فيه المشقة فيه عمل وتصفية الزكاة، وفي (ت) عندنا فيما يوخذ من المعدن من العين ويتكلف المشقة فيه عمل وتصفية الزكاة. (¬2) في (ت) وغير. (¬3) أخرجه البيهقي في سننه 4/ 152 بلفظ قريب. (¬4) ساقط من (ر) و (ت). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) أخرجه البخارى في الزكاة 1499، وأحمد في مسنده واللفظ له. (¬7) ساقط من (ر).

(هل يكمل نصاب معدن بمعدن آخر؟)

وما هو؟ هل هو دفن الآدميين فيكون في هذه الزكاة؟ أو كل مال مجتمع فيكون في هذه الخمس؟ والركاز مأخوذ من ركزت الشيء في الأرض؛ فمن حمله على ما دفنه دافن لم بسم الندرة ركازًا، ومن حمله على كل مال مركوز سماها ركازًا. فأما التفرقة فلأن اليسيرة في حكم التبع للموجود في المعادن. (هل يكمل نصاب معدن بمعدن آخر؟) وقد قدمنا أنه لا يعتبر فيه الحول، لكن اختلف المذهب هل يجمع [ما يوجد] (¬1) في معادن مختلفة فيكمل به (¬2) النصاب إذ (¬3) يعتبر فيه النصاب عندنا؟ أو لا يجمع؟ في المذهب قولان. ولا خلاف أنه لا يجمع ما أخذ من معدن واحد ثم انقطع ثم أدرك نيلاً آخر، فهذا لأنه إذا انقطع صار الموجود منه كمعدن ثان (¬4)، ولم يجتمعا في حين الأخذ. والنظر هاهنا في المال الحولي (¬5). فمن نفى الجمع في المعدنين قاسه على نفيه في المعدن ينقطع نيله ثم يوجد نيل آخر، ومن أتبعه نظر إلى حصول النيلين (¬6) في وقت واحد، والالتفات (¬7) إلى ملك ما يكون به غنيًا (¬8) من هذا المال. وإن أخذ من معدن واحد ذهبًا وفضة واتفق ذلك، فذكر ابن الجلاب أنه يضاف أحدهما إلى الآخر فيكمل به النصاب. وأجراه أبو الوليد الباجي على الخلاف في ضم ما يوجد في أحد المعدنين إلى الآخر. ولا شك في صحة تخريجه إذا كان الأخذ في وقت واحد، وأما إن كان في وقتين فيكون بمنزلة المعدن إذا انقطع نيله. ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) فى (ق) و (م) منه. (¬3) فى (ر) و (ت) و (م) أو. (¬4) في (ق) يعد كمعدن ثان. (¬5) فى (ق) والوقت هاهنا مثل المال المولى. (¬6) فى (ت) السبك وفي (ر) النيل. (¬7) فى (ر) والإتلاف. (¬8) فى (ق) عيبًا.

فصل (لمن يكون الكنز؟)

وإذا كان المعدن لنظر الإمام (¬1) أو لمالك معين فعمل فيه جماعة فهل يكونون كالشركاء في الزرع لا تجب فيه الزكاة إلا على من [في حصّته نصاب كامل؟ أو تجب إذا كان في الجميع نصاب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يعتبر نصاب (¬2) كل إنسان في نفسه، والثاني] (¬3): وجوب الزكاة مطلقًا إذا كان في الجميع نصاب. وعلى هذا أيضًا يختلف لو كان العامل عبدًا أو ذميًا، هل تجب عليه الزكاة؟ وسبب الخلاف هل يعطى الحكم لمالك المعدن ويكون هؤلاء كالأجراء فيه فيراعى حكم المالك الواحد، أو يكونون كالمالكين فيراعى حكمهم في أنفسهم. وهذا ينبني على الخلاف هل يجوز أن يدفع المعدن لمن يعمله بالجزء كالقراض وبأجرة معلومة، في المذهب في ذلك قولان. ... فصل (لمن يكون الكنز؟) والنظر أيضًا في الكنز (¬4) من وجهين: أحدهما: لمن يكون؟ والثاني: حكم (¬5) المستحق منه؛ فأما الوجه الأول فإنه لا يخلو على الجملة من أن يجده مالك الأرض التي وجد فيها أو غيره؛ فإن وجده المالك فلا خلاف أنه لواجده، وإن وجده غيره فقولان: أحدهما: أنه للواجد، والثاني: أنه لمالك الأرض. وهما على الخلاف المتقدم في من ملك ظاهر الأرض، هل يملك باطنها أم لا؟ وأما على التفصيل فإنه لا يخلو من أن تظهر عليه علامة [تدل على أنه لأهل الكفر وهو من دفنهم، أو علامة تدل على أنه ¬

_ (¬1) في (ت) نظر فيه الإمام. (¬2) في (ت) نصيب. (¬3) من وجد نصابا في المذهب قولان أحدهما كالشركاء في الزرع والثاني. (¬4) في (ر) الركاز. (¬5) في (ق) في حق.

للمسلمين، وهو من دفنهم، أو يشكل الأمر. ولا يخلو من أن يكون (¬1) في فيافي الأرض، أو في ملك معين لمسلم، أو في أرض عنوة، أو في أرض صلح] (¬2). فإن كان عليه علامة من أهل الكفار (¬3) ووجد في فيافي الأرض فهو لواجده بلا خلاف، إذ لا ملك عليه لأحد فهو كالصيد والحشيش يستحقه من سبق إليه وأخذه. وإن كان في ملك إنسان معين ووجده غير المالك فيختلف فيه كما تقدم، وفيه القولان، فإن وجده المالك فهو له بلا خلاف. وإن كان في أرض عنوة فيختلف فيه، هل يكون لواجده أو للجيش الذين فتحوا الأرض أو لورثتهم إن وجدوا، وإن لم يوجدوا وعرف به، فإن فقدوا جملة رجع إلى جملة المسلمين (¬4). وفيه القولان وهما على ما تقدم. وإن وجد في أرض الصلح فإن وجده المالك للأرض وهو من أهل الصلح [عليها] (¬5) ففيه قولان: أحدهما: أنه يكون لجميع أهل الصلح، والثاني: أنه يكون لمالك الأرض، وهما على الخلاف المتقدم. وينظر في هذا أيضاً هل صالحوا على الأرض (¬6) جملة؟ أو كل إنسان صالح عن موضعه؟ فإن صالحوا عن الجميع فيتفق هاهنا أنه لجميع أهل الصلح، وإن صالح كل إنسان على ما يستحقه فاتفق القول هاهنا أنه لواجده. وإن وجده غير المصالح (¬7) وهو يملك تلك الأرض (¬8) فيختلف فيه ¬

_ (¬1) في (ق) يوجد. (¬2) ساقط من (ر) و (ت). (¬3) في (ق) دفن الكفار. (¬4) في (ق) إلى الإسلام. (¬5) ساقط من (ت) و (ر). (¬6) في (ر) الجميع. (¬7) في (ق) و (ت) صلحي. (¬8) في (ق) و (م) الأرض بشراء.

فصل (الواجب في الكنز)

هل يكون لواجده لأنه ملك الأرض وقد ملك باطنها، أو لجميع أهل الصلح لأنهم صالحوا عليه. وإن كان لا يملك وإنما وجد في ملك غيره فيختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه لواجده، بناء على أن من ملك ظاهر الأرض لا يملك الباطن، والثاني: أنه لرب الأرض أو لجملة أهل الصلح على ما بيناه من التفصيل على أية صفة وقع صلحهم. وهذا إذا لم يكن من أموال هؤلاء المصالحين. فإن كان من أموالهم فاتفق أنه يكون لهم أو لمالكه المعين (¬1) إن علم. وإن علم أنه من دفن (¬2) أهل الإسلام، فليس بكنز (¬3) يكون لواجده بل يرد لربه إن عرف، فإن لم يعرف كان كاللقطة يعرف به. وإن أشكل أمره بحيث لا يكشف عن حقيقته (¬4)، فإن لم يظهر له ما يدلّ على شيء كان حكمه حكم الركاز، ويحمل على أنه من دفن الجاهلية. ... فصل (الواجب في الكنز) وأما المأخوذ منه فهو الخمس إن كان ذهبًا أو فضة، فإن كان غير ذلك من الأموال ففيه قولان في الكتاب (¬5)، وهما على ما قدمناه من الخلاف في اسم الركاز على ماذا يطلق. هذا حكم الركاز. (حكم ما لَفَظَه البحر وما لم يتقدم عليه ملك لأحد) وأما ما لفظه البحر وما لم يتقدم عليه ملك لأحد، فهو لواجده ولا ¬

_ (¬1) في (ر) لمالك معين. (¬2) في (ت) كنوز. (¬3) في (ق) ركاز. (¬4) في (ق) و (ت) فإن أشكل أمره بحث عن حقيقته. (¬5) المدونة: 1/ 292.

فصل (أقسام الأموال التي ينظر فيها الإمام وكيفية تقسيمها)

خمس فيه. وإن تقدم عليه ملك لمسلم ففيه قولان، هل يكون لواجده لأنه في حكم المستهلك أو لمالكه؟ وهذا حكم كل ما ترك بموضعه في البحر والبر وعجز عنه ربه وهو تارك له (¬1)، وسيأتي بيانه في حكم أكرية السفن في كتاب الأقضية. وإن كان الملك المتقدم لذمي فحكمه حكم المسلم، وإن كان لحربي فإن وجد معه أربابه؛ فإن أخذه واجده بقتال، ولولا قتاله لم يقدر عليه، وجابه (¬2) أربابه فهو كالفيء يخمّس. وإن أخذه بغير قتال ولو ترك لم يقدر أربابه على أن يتخلصوا من قبضة أهل الإسلام (¬3)، فالنظر فيه للإمام. وهو كأموالهم التي انجلوا (¬4) عنها ولم يوجف (¬5) عليهم بخيل ولا ركاب. وإن لم يكن معه أربابه فهو لواجده ولا شيء عليه فيه. ... فصل (أقسام الأموال التي ينظر فيها الإمام وكيفية تقسيمها) وقد تقدم أنه لا زكاة في غير الأموال النامية وأن كل ما استفيد وهو عين استقبل به حولًا، فإن كان عرضًا (¬6) فلا زكاة عليه حتى يباع ويستقبل به حولًا وقد تقدم ذلك. والأموال التي ينظر فيها الإمام على ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) في (ق) هل يكون لواجده لأنه في حكم المستهلك أو لمالكه وهذا حكم في كل ما تركه بمضيعة في البر أو البحر وعجز عنه ربه وهو تارك له. وفي (ت) هل يكون لواجده لأنه في حكم المستهلك أو لمالكه وهذا حكم ما ترك بمضيعة البر والبحر وعجز عنه ومر تاركا له ربه. (¬2) في (ت) ونجا به. (¬3) في (ر) أو لم يرده لم يقدر عليه أربابه على تخلصه من نظر أهل الإسلام. (¬4) في (ر) خلوا. (¬5) في (م) يزحف. (¬6) في (ق) عروضا.

قسم: يحل للأغنياء والفقراء بلا خلاف؛ وهو المال المأخوذ من الكفار الحربيين والمعاهدين، كالخمس من الغنيمة، وما انجلى عنه أهله، وخمس الركاز، والجزية، وما يؤخذ من تجارتهم (¬1)، وما يؤخذ من أرض العنوة وأرض الصلح. وقسم: لا يحل إلا للفقراء بلا خلاف، إلا من ذكر معهم في آية الزكاة، وهذا كالزكاة. وقسم: اختلف المذهب فيه على قولين: هل هو كالثاني, لأنه مال أصله للمسلمين فأشبه الزكاة؟ أو هو كالأول, لأنه لم يؤخذ من مالكه بالطوع ولا يعرف مالكه بعينه، فأشبه الفيء وهو كأموال مستغرقي الذمة، واللقطة إذا لم يعرف ربها وعرفت؟ وإذا ثبت أن الفيء وما ذكر معه يستحقه الأغنياء والفقراء فهل يقسمها الإمام على التفضيل أو المساواة, في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقسمه على المساواة، وهكذا كان فعل الصديق رضي الله عنه (¬2)، والثاني: أنه يقسمه على التفضيل بقدر الفضائل ويفضل بقدر الفضائل الشرعية والغنى عن المسلمين، ويسبق الفاضل عن الأدنى، وهذا فعل عمر رضي الله عنه (¬3). والثالث: أن الإمام مخير بين المساواة والتفضيل، وهذا لأنه راعى أن فعل كل واحد منهما حجة. وإنما قدم من قدم أو ساوى من ساوى على جهة النظر والاجتهاد، فيجتهد الإمام في ذلك بحسب ما يراه. ولهذا أخبر عمر أنه [إن بقي] (¬4) ساوى بين الناس كما فعله أبو بكر. وقد تأولوا المساواة على الابتداء بالفقير كما يساوى بينه وبين الغني ليس أن يعطى كما يعطى الآخر. وبالجملة إن هذا مال يحل للأغنياء فينبغي أن ينظر الإمام فيما هو ¬

_ (¬1) في (م) و (ق) تجارهم. (¬2) انظر كتاب الأموال ص: 276. (¬3) المصدر السابق ص:277. (¬4) ساقط من (ر).

الأصلح للمسلمين فيفعله، فيبدأ في خراج الأرض بالموضع الذي جبي فيه فيسد حاجته، وإن فضلت فضلة نقله إلى غيره، وإن نزل بقوم حاجة صرف إليهم ما يدفع (¬1) حاجتهم كما فعل عمر رضي الله عنه في أهل الحجاز زمان الرمادة (¬2)، فإنه نقل إليهم أموال مصر. وسيأتي الكلام على الجزية مفصلًا في كتاب الجهاد. [تم كتاب الزكاة الأول بحمد الله وحسن عونه] (¬3). **** ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) يزيح. (¬2) قال أبو عبيد القاسم بن سلام "إنما سمي الرَّمادة لأنّ الزرع والشجر والنخل وكلُّ شيء من النبات احترق مما أصابته السنة فشبه سواده بالرماد؛ ويقال: بل الرمادة الهلكة، يقال: قد رَمَدَ القوم وارمَدّوا إذا هلكوا؛ وهذا كلام العرب والأول تفسير الفقهاء ولكل وجه". الغريب لابن سلام: 3/ 212. (¬3) ساقط من (ر).

كتاب الزكاة الثاني

كتاب الزكاة الثاني (اختصاص وجوب الزكاة بالنعم) وقد تقدم أن الشريعة علقت الزكاة بالأموال النامية، وإن منها النعم (¬1) فلا تجب الزكاة عندنا إلا فيها. وهذا لاختصاص النص بها، ولأنها المعدة للنماء غالباً، وفيها الدر والنسل والأصواف والأشعار والأوبار. وغير ذلك من الحيوان، لا يوجد فيها كمال النماء على هذه الصفة. لكن إن [ضرب] (¬2) نوع من الوحش في نوع من هذه حتى كان عنه النتاج، فهل تجب في المتولد عنها زكاة أم لا؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الزكاة، والثاني: إسقاطها، والثالث: وجوبها إذا كانت الأمهات من النعم، وسقوطها إن كانت من الوحش. وقد استقرئ هذا القول من المدونة لقوله: كل ذات رحم فولدها بمنزلتها (¬3). وسبب الخلاف ما قدمناه من اجتماع موجب ومسقط أيهما يغلب؟ وأما القول الثالث فإن الأصول تقتضي أن الولد تبع للأم في الحرية والرق، وأيضًا فإن النطفة كالمستهلك (¬4) والولد جزء (¬5) من الأم. ولعل وجه الإسقاط أيضًا أن النسل لا يكون [إلا] (¬6) من هذا المتولد، والنسل هو معظم النماء. ¬

_ (¬1) في (م): الغنم. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) المدونة: 1/ 323. (¬4) في (م) و (ق) كالمستهلكة. (¬5) في (ق) كالجزء. (¬6) ساقط من (ق) و (ت).

فصل (نصاب الإبل والواجب فيها)

فصل (نصاب الإبل والواجب فيها) وإذا تقرر اختصاص الزكاة بالنعم (¬1)، فالنظر فيها أولًا في ركنين: أحدهما: النصاب الذي تعلق به الزكاة (¬2)، والثاني: في قدر المخرج (¬3). وأما النصاب فاجتمعت الأحاديث على بيانها، وتعلق بها أيضًا حكم المخرج على الجملة. ولنبينها ثم نذكر مواضع الخلاف؛ فأما الإبل فلا شيء فيما دون الخمس منها، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة إلى تسع، فإذا بلغت عشرة ففيها شاتان إلى أربعة عشر، فإذا زادت واحدة (¬4) ففيها [ثلاث شياه إلى تسع عشرة، وإذا زادت واحدة ففيها (¬5) أربع شياه إلى أربع وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها] (¬6) بنت مخاض (¬7)، فإن لم توجد فابن لبون ذكر إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فهاهنا وقع في الحديث في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون (¬8). ¬

_ (¬1) في (م) الغنم. (¬2) في (ق) النصاب التي تتعلّق الزكاة بها، وفي (م) النصاب الذي يتعلق الزكاة بها، وفي (ر) النصاب الذي يتعلق بها المخرج. (¬3) في (ر) الزكاة. (¬4) في (م) وق فإذا بلغت خمسة عشر. (¬5) في (ق) فإذا بلغت عشرين. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) سيورد المؤلف معاني كل من بنت المخاض وابن اللبون والحقة والجذعة في الفصل الموالي. (¬8) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في الزكاة 1454، والترمذي في الزكاة 621 واللفظ له عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ كِتَابَ الصدقَةِ فَلَمْ يُخْرِجهُ إِلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ فَقرَنَهُ بِسَيفِهِ فَلَمَّا قُبِضَ عَمِلَ بِهِ أَبو بَكْر حَتَّى قُبِضَ وَعُمَرُ حَتَّى قُبِضَ وَكَانَ فِيهِ في خَمّسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ: وَفِي عَشْرِ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلَاثُ شِيَاه وَفِي عِشرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهِ وَفِي خَمّسٍ وَعِشْرِينَ بِنتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمّسٍ وَثَلَاثِينَ فَإِذَا زَادَتْ =

واختلف المذهب في الزيادة المعتبرة على العشرين ومائة، هل تكون بالعشرات أو بالواحدة؟ في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار الزيادة بالعشرة، فلا تنتقل عن الحقتين إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة، والثاني: أنها تنتقل فيكون فيها ثلاث بنات لبون، والثالث: أنها صورة (¬1) يخير فيها الساعي بين أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون. وسبب الخلاف أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا زَادَتْ"، ومقتضى اللفظ اعتبار زيادة الواحدة فأكثر، لكنه قال: "في كُل خَمْسِينَ حِقَّة وَفِي كُل أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُون"، فراعى زيادة العشرات (¬2)؛ فمن التفت إلى اللفظ الأول غير بزيادة (¬3) الواحدة، ومن التفت إلى اللفظ الثاني راعى زيادة العشرة (¬4)، وقد اختلف المتأخرون في توجيه القول الثالث؛ فمنهم من يراه مبنيًا على الشك والتردد وإجمال (¬5) الحديث، ومنهم من يراه مبنيًا على أنه مقتضى الحديث، ويكون الساعي مخيرًا في هذا المقدار كتخيره إذا بلغت مائتين (¬6) على ما سنذكره. ومبنى هذا الاختلاف نذكره فيما بعد. فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وابنتا لبون. ولا خلاف في المذهب في هذا المقدار. ثم لا تتغير (¬7) الزيادة بعد ذلك إلا بالعشرات. وتقريب النظر في ذلك أن الثلاثين ومائة فيها حقة وابنتا لبون كما ذكرنا، فكلما ¬

_ = فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونِ إِلَى خَمْسِ وَأَرْبَعِينَ فَإذَا زَادَت فَفِيها حِقَّةْ إِلَى سِتَّينَ فَإِذا زَادَت فَجَذَعَةٌ إِلَى خَمسِ وَسَبعِينَ فَإذا زَادَتْ فَفِيها ابنَتا لَبُون إِلَى تِسْعِينَ فَإِذا زَادَت فَفِيها حِقَّتَانِ إِلَى عشرِينَ وَمِائَة فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عشرِينَ وَمِائَةِ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةْ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونِ" الحديث. (¬1) في (ر) ضورة. (¬2) في (ر) وإنما زيادة العشرة (¬3) في (ر) اعتبر زيادة. (¬4) في (ق) العشرات. (¬5) في (ق) و (ت) احتمال. (¬6) في (ر) مائة. (¬7) في (ق) لا تعتبر.

فصل (أسنان الإبل وحكمها)

زادت عشرة أزيلت (¬1) بنت لبون وجعل مكانها حقة. فإذا صار الجميع حقاقًا (¬2) وزادت عشرة، رد الكل بنات لبون وزيد في العدد واحدة. ثم إن زادت عشرة أزيلت بنت لبون ورد في مكانها حقة. هكذا أبدًا. ومثال ذلك إذا زادت على الثلاثين ومائة عشرة، وجبت فيها حقتان وبنت لبون. فقد أزلنا بنت لبون ورددنا مكانها حقة، فإذا زادت عشرة وجبت ثلاث حقاق، فإذا زادت عشرة صار المأخوذ أربع (¬3) بنات لبون، فإذا زادت عشرة وجبت حقة وثلاث (¬4) بنات لبون. هكذا أبدًا. وأصله على التقريب ما قلناه. والمعوّل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كُل خَمسِينَ حِقَّة وَفِي كُل أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُون". وإذا بلغت مائتين فهاهنا إن عددت بالأربعينات كان فيها خمس بنات لبون، فإن عددت بالخمسينات كان فيها أربع حقاق، فيكون الساعي مخيرًا. وفي المذهب تفصيل نذكره بعد. ... فصل (أسنان الإبل وحكمها) ويفتقر إلى معرفة الأسنان المذكورة في الحديث، وولد الناقة في أول السنَّة يسمى حُوَارًا، وهذا هو المحتاج إليه على ما ذكره الفقهاء في كتبهم، وإن كان له تفصيل أسماء يفتقر إليها في علم اللغة (¬5). فإذا دخل في السنَّة الثانية سمي ابن مَخَاضِ والأنثى بنت مخاض، ومعنى ذلك أن الأم صارت في حد المخاض لأنها تحمل سنة وتغب (¬6) أخرى. فإذا دخل في السنَّة الثالثة سمي ابن لَبُونِ، بمعنى أن أمه صارت في حد مَن لها لبن ترضع به. ¬

_ (¬1) في (ر) أوجبت. (¬2) في (ر) حقتان. (¬3) في (م) خمس. (¬4) في (م) أربع. (¬5) في (ق) تفصيل إنما يحتاج إليها في علم اللغة. (¬6) في (ر) تعب.

(بعض حكم ذلك)

فإذا دخل في السنَّة الرابعة سميت الأنثى منه حِقَّة، بمعنى أنها استحقت الحمل للحمولة، والفحل تلقح (¬1) حينئذ. وإن كان الذكر لا يلقح إلا في السنَّة السادسة. فإذا دخلت في الخامسة سميت جَذَعَة، وهي آخر ما تؤخذ في الزكاة. وفي السنَّة السادسة ثَنِيَّة (¬2)، ولا حاجة لنا إلى ذلك ولا ما بعده، إذ لا يتعلق به حكم الزكاة. (بعض حِكَمِ ذلك) وقد تصرفت الشريعة في هذه النصب (¬3) تصرفًا مناسبًا يعقل معناه على الجملة وإن كان فيه شوب (¬4) التعبد على التفصيل. فَعُدَّ مالكِ الأربعة فدون فقيرًا، كما عُدَّ مالك دون العشرين [دينارا] (¬5) فقيرًا، ومالك الخمس (¬6) غنيًا فيستحق أن يؤخذ منه. لكن إن أخذ من عين المال أجحف به. والشركة أيضًا في الحيوان مضرة فيعوض عن القدر الواجب بشاة، ثم لا يجب في الزيادة القليلة شيء بخلاف العين لأنّ إخراج الجزء من العين ممكن، وهاهنا لا يمكن إلا بالشركة، ففيها مضرة. فراعت الشريعة زيادة الخمسة إلى أن تبلغ خمسًا وعشرين فحينئذ يستحق الإخراج من الإبل، فيؤخذ من الخمسة وعشرين بنت مخاض، إذ ما قبلها لا يستغني عن أمه ولا يقدر الساعي على حمله (¬7). ثم يراعى الزيادة بالعشرة كرتين، ثم بالخمسة عشرة كرتين، ولا يؤخذ ما فوق الجذعة لأنها من كرائم (¬8) الأموال. وإنما تكررت بنت لبون وحقة فتؤخذان مرتين مرتين إذا أثنى العدة (¬9) التي وجبت فيه أولًا. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على أن الشرف ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) تلحق. (¬2) في (ر) مسنة. (¬3) في (ر) هذا النصيب، وفي (ت) هذا النصب، وفي (م) هذا النصاب. (¬4) في (ر) شرف. (¬5) ساقط من (م). (¬6) في (ر) الخمسين. (¬7) في (ق) جلبه وفي (م) حلبه. (¬8) في (م) كريم. (¬9) في (م) ثبت العدد، وفي (ق) إذا ... العدد.

فصل (المأخوذ من الإبل عند فقد بعض الأصناف أو وجودها)

يحصل في المأخوذ بالأنوثية أو بزيادة السن, فقال: "في الخمسة والعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر" (¬1). ونبّه بالذكورية هاهنا لأنه إنما انتقل (¬2) إلى السنن الأعلى مع فقد السنن الأدنى لكون الأنوثية فضلًا والذكورية نقصًا. وهذا التعليل أهم (¬3) مما قيل من أنه إنما ذكر الذكوربة احترازًا من الخنثى، وهذا يعلم بطلانه قطعًا، وأن صاحب الشريعة لا يتعرض لمثل هذه الصورة إذ هي نادرة تكاد ألا توجد، نعم ولو وجدت لم يكن للاحتراز منها فائدة. ... فصل (المأخوذ من الإبل عند فقد بعض الأصناف أو وجودها) وإذا وصلت (¬4) الإبل خمس وعشرين، فلا يخلو من أن يوجد فيها بنت مخاض وابن لبون جميعًا، أو يفقدا جميعًا، أو يوجد أحدهما ويفقد الآخر. فإن وجدًا جميعًا فلبس إلا بنت مخاض، إلا أن يرضى الساعي بابن اللبون ويراه نظرًا للمساكين، ففيه قولان: أحدهما: أنه يجزي، والثاني: أنه لا يجزي. وهذا بناء على أن القيم لا تجزي بدلًا عن الأعيان الواجبة في الزكاة. وأما القول الأول فهو بناء على أن القيم تجزي، أو على أن هذا قد يجب يومًا [ما] (¬5). ولم يخرج بالكلية عن النوع الواجب مخالف (¬6) القيم. فإن فقدا جميعًا، فالمنصوص من المذهب أن على رب المال أن يأتي بابنة مخاض، طاع أو كره. وتأول ابن المواز على أن ابن القاسم أنه قال: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو عند النسائي في الزكاة 2447 بلفظ: "فإذَا بَلَغَتْ خَمسًا وَعِشرِينَ فَفِيها بنْتُ مَخَاض إلَى خَمس وَثَلَاِثينَ فَإن لَمْ تَكُن بنتُ مَخَاض فَابنُ لَبُون ذَكرٌ". (¬2) في (ق) آل. (¬3) في (ق) و (م) أوضح. (¬4) في (ق) و (م) و (ر) حصلت. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ت) فخالف، وفي (ر) فيخالف.

فصل (مسألة التخيير فيما زاد من الإبل على المائة والعشرين إلى المائة والثلاثين)

إن أتى بابن لبون قبل منه. وأنكره بعض المتأخرين ورأوا أن المذهب كله على ما ذكرناه من المنصوص. ويحتمل أن يكون المذهب على قولين، ويكون سبب الخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن لم توجد فابن لبون" هل معناه: فابن لبون إذا وجد فيها، أو ابن لبون مطلقًا سواء كان فيها أو لم يكن. وإن وجد أحدهما دون الثاني، فليس إلا ما وجد، وهذا لا خلاف فيه لتناول الحديث له نصًا ومفهومًا. ... فصل (مسألة التخيير فيما زاد من الإبل على المائة والعشرين إلى المائة والثلاثين) وقد قدمنا الخلاف في ما بين العشرين ومائة (¬1) إلى الثلاثين ومائة، وذكرنا أن أحد الأقوال (¬2) التخيير. واختلف المتأخرون: هل القول بالتخيير شك في المقدار الواجب فيكون للساعي أن يبتدئ النظر عند نزول المسألة، أو هو (¬3) قول يقتضيه لفظ الحديث والنظر. وعلى هذا اختلف (¬4)؛ هل يكون التخيير ثابتًا وإن لم يكن في الإبل إلا أحد السنَّين، أو إنما (¬5) يكون التخيير مع وجودهما جميعاً. وفي المذهب في ذلك قولان. فإن قلنا إن التخيير شك في المقدار، وإنما يبتدئ الساعي النظر عند وقوع النازلة، فإذا قوي في نفسه أحد الأمرين، كلف رب الإبل (¬6) أن يأتي بحقتين (¬7) أو ثلاث بنات لبون على قدر ما يؤديه إليه اجتهاده. ¬

_ (¬1) في (ر) مائتين. (¬2) في (م) الأقاويل. (¬3) في (م) وهو. (¬4) في (ت) والنظر وعلى هذا الاختلاف، وفي (ر) والنظر على هذا الاختلاف. (¬5) في (ر) وإنما. (¬6) في (ق) و (ت) المال. (¬7) في (ر) و (ت) بحقتين إن شاء، وفي (ق) بحقتين إن شاء الله.

فصل (من المخير في الواجب في المائتين؟)

وإن قلنا إن التخيير من مقتضى الحديث والنظر، فأيهما دفع رب المال أجزأه، وإن لم يوجد فيها إلا أحد السنين لم يكلف الآخر. ... فصل (من المخير في الواجب في المائتين؟) وقد قدمنا أن الواجب في المائتين؛ إما أربع حقاق، أو خمس بنات لبون. وهل يكون الساعي في ذلك مخيراً أو رب المال؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: تخيير الساعي (¬1)، والثاني: تخيير رب المال، والثالث: تخيير الساعي إذا وجدا جميعًا. وأما إن فقدا جميعًا أو فقد أحدهما، فالتخيير لرب المال. والأول نظرًا إلى أن الواجب أحد السنين، فيختار وكيل المسلمين (¬2). والثاني: نظرًا إلى أن اختياره (¬3) قد يضر بصاحب الإبل وكل صنف منها واجب حقيقة (¬4). وهذا المعنى راعاه في القول الثالث فرأى أنه لا مضرة عليه إذا كانا جميعاً موجودين في الإبل. ... فصل (المأخوذ في الإبل المزكاة بالغنم) وإذا كانت الإبل مزكاة بالغنم، وهي المسماة شنقًا (¬5)، فهل يؤخذ ¬

_ (¬1) في (ر) أن الخيار للساعي. (¬2) في (ق) المساكين. (¬3) في (م) اجتهاده. (¬4) في (ت) على الحقيقة. (¬5) في (ق) بالشنف. والشنق وهو ما بين الفريضتين من كل ما تجب فيه الزكاة. انظر مواهب الجليل 2/ 268. قال أبو عبيد: يجعل الأوقاص في البقر خاصة والأشناق في الإبل. الغريب 4/ 142.

فصل (حكم إعطاء أفضل من الواجب)

من المعز أو من الضأن؟ أما إن تطوع (¬1) المزكي بالأفضل أخذ منه، وإن طلب الأدنى (¬2) فأراد إخراج المعز، فإن كانت هي كسبه وكسب أهل البلد أخذت منه. وإن كان كسبه مخالفًا لكسب أهل البلد فقولان: أحدهما: مراعاة كسبه لأنه المأخوذ به، وفي تكليفه إخراج ما ليس في ملكه مشقة عليه، والثاني: مراعاة كسب أهل البلد, لأنّ كسبه نادر والنادر لا يراعى. ... فصل (حكم إعطاء أفضل من الواجب) وإذا وجبت على إنسان سن فبدل أفضل منها ورضي به المصدق، فلا شك في الإجزاء. وإن أخذ على الفضل (¬3) ثمنًا، أو أعطى النقص وأكمل النقص بالثمن، فهل يجزي؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجزي وجائز ابتداء. والثاني: أنه مكروه، وإن وقع أجزأه. والثالث: أنه لا يجزي إلا أن يعطي أفضل ويأخذ ثمنًا فيرد الثمن المأخوذ. وهذا مع فوات المأخوذ. وأما إن كان قائمًا، فيسترده على هذا القول ويخرج مقدار هذا الواجب. ونفي الإجزاء مبني على منع إخراج القيم. وأما الإجزاء فمبني على أحد الأمرين: إما لجواز إخراج القيم، وإما لأنه قد أخرج النوع على الجملة. وأما الكراهية فهي مراعاة الخلاف مع [كون] (¬4) القول بالإجزاء. ... ¬

_ (¬1) في (ق) طاع. (¬2) في (ق) الادون. (¬3) في (ر) الأفضل. (¬4) ساقط من (ق).

باب في زكاة البقر

باب في زكاة البقر وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أسقط [عنها] (¬1) الزكاة قبل بلوغها ثلاثين (¬2)، فإذا بلغتها ففيها جذع (¬3)، ثم لا زيادة (¬4) حتى تبلغ أربعين ففيها مسنة (¬5)، ثم لا زيادة (¬6) [فيها] (¬7) حتى تبلغ ستين ففيها جذعان (¬8)، ثم لا زيادة (¬9) فيها حتى تبلغ سبعين ثم يكون (¬10) الحساب في كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع (¬11) ويكون الحكم على ما قدمناه في الإبل، سواء كما (¬12) قدمنا في الحساب. وإذا بلغت عشرين ومائة، فهاهنا يتفق العددان، فإن عددت بالأربعينيات كان فيها ثلاث مسنات، وإن عددت بالثلاثينيات كان فيها أربع توابع. فيكون الحكم كما قدمناه في المائتين من (¬13) الإبل. ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) هذا رأي الجمهور وعمدتهم في ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده 5/ 230 عن معاذ بن جبل قال بعثه النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فأمره ان يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارًا أو عدله معافر "وللعلماء كلام في الحديث وليس مقطوعًا بثبوته كما قال المصنف. انظر فتح الباري 4/ 65 وقيل الأوطار 4/ 132 ونصب الراية 2/ 346. (¬3) في (م) جذعة. والجذع يسمى تبيعا وهو ما له سنة. (¬4) في (ق) لا زائد. (¬5) المسنة: ما لها سنتان. (¬6) في (ق) لا زائد. (¬7) ساقط من (ق) و (م). (¬8) في (م) جذعتان. (¬9) في (ق) و (م) لا زائد. (¬10) في (ق) و (ت) فيستتم الحساب. (¬11) في (ق) جدع تبيع. (¬12) في (ق) و (م) وقد قدمناه. (¬13) في (ق) و (ت) في.

باب في زكاة الغنم

واختلف في سن الجذع [منها] (¬1)، وهو التبيع؛ فقيل ابن سنتين، وقيل ما أوفاهما ودخل في الثالثة. وكذلك اختلف في المسنة؛ فقيل بنت ثلاث سنين، وقيل ما أوفتهما ودخلت في الرابعة. والتحاكم في هذا إلى أهل اللغة. و [أصل] (¬2) القول الثاني هو الصحيح عندهم. ولا يجزي في الأربعين إلا مسنة أنثى، ويجزي في الجذع في الثلاثين ذكر. وهل تؤخذ الأنثى؟ أما إن طاع بها ربها فلا يختلف في جواز أخذها، وأما إن امتنع فهل ذلك من حق الساعي إذا كانت في البقر؟ في ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يكلف ذلك إذ في الحديث النص على الذكر، والثاني: أنه يكلف قياسًا على المأخوذ من (¬3) الإبل [فإنها الإناث] (¬4). ... باب في زكاة الغنم (نصاب الغنم والواجب فيها) وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أسقط عنها الزكاة قبل أن تبلغ أربعين؛ فإذا بلغتها ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت (¬5) واحدة ففيها شاتان إلى مائتي شاة، وإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، ثم ما زاد ففي كل مائة، شاة. ويكاد [ألا] (¬6) يظهر في هذا التقدير إلا حقيقة التعبد. واختلف في صفة المأخوذ منها على ثلاثة أقوال: فقيل: يجزي الجذع والثني من المعز والضأن ذكراً كان أو أنثى، وقيل لا يجزي إلا أنثى، لكن ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (م). (¬2) ساقط من (ر) و (ت). (¬3) في (ق) في. (¬4) ساقط من (م)، وفي (ت) فإنها أنثى. (¬5) في (ق) و (م) فإذا بلغتها وزادت. (¬6) ساقط من (م).

(صفة المأخوذ)

تجزي جذعة كانت أو ثنية من المعز أو الضأن. وقيل: حكمها حكم الأضحية لا يجزي إلا الجذع من الضأن ذكرًا كان أو أنثى، والثني من المعز ذكرًا كان أو أنثى [إلا أن يكون تيسًا] (¬1) فالقول الأول بناء على أن النظر إلى الجذع، والثني هو العدل بين خيار المال وشراره. ولم يثبت ما يقتضي أخذ شيء بعينه، فرجع في ذلك إلى العدل بين الشرار والخيار. والثاني، التفاتًا إلى أن هذا عدل لكن المنصوص في الإبل أنها لا تؤخذ إلا إناثًا، فيرد هذا الحكم إليها. وأيضاً فقد روي مثله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -, وفي سنده ضعف. وأما القول الثالث فوجهه القياس على الأضاحي. وإنما فرق فيها بين المعز والضأن, لأنّ المعز لا يلقح منها الجذع، ويلقح من الضأن. فكأن كمال المنفعة لا يحصل في المعز إلا إذا صارت إلى سن الثني. والمطلوب في العبادات ما هو كامل المنفعة. (صفة المأخوذ) ولا تؤخذ كرائم الأموال كالأكولة والفحولة والربا (¬2) وهي التي لها ولد وذات (¬3) اللبن، ولا يؤخذ شراره كالسخال والتيوس والعجفاء وذات العوار (¬4). وهذا إذا كان في المال رديئًا وجيدًا. فإن كان من جنس واحد رديئة كلها أو جيدة كلها، فهل يؤخذ منها إن جمعت؟ قلت أربعة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ منها على الإطلاق حتى لو كانت سخالًا، قاله ابن عبد الحكم، لكنه ذكر أنه يراعى في قوله ترك الإيجاب (¬5) والثاني: أنه لا يؤخذ منها بل يكلف رب المال شراء الوسط ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) بالربا. (¬3) في (ر) و (ت): ولا ذات. (¬4) في (ر) والعجفوات العوار. (¬5) في (ق) قول الأصحاب وفي (ر) في تركه قول الإيجاب.

(هل تؤخذ الزكاة سنة الجدب)

على ما تقدم. والثالث: يؤخذ منها إلا أن تكون عجافاً فلا يؤخذ منها، بل يكلف أن يشتري غيرها. والرابع: أنه يأخذ من الجميع إلا أن تكون كلها سخالاً. وسبب الخلاف هل يقاس ذلك على الحبوب فيؤخذ من كل نوع منها (¬1)، أو يرجع ذلك إلى عموم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه يؤخذ من الوسط. وأما التفرقة بين العجاف وغيرها؛ فإن العجاف لا منفعة فيها فهي كالعدم، وأما التفرقة بين السخال وغيرها فلأن السخال لا تجلب (¬2) ولا تقوم بأنفسها. وقد نص عمر رضي الله عنه على أنها لا تؤخذ. (هل تؤخذ الزكاة سنة الجدب) وقد اختلف المذهب هل يبعث السعاة إلى أخذ الزكاة في سنة الجدب على قولين: أحدهما: أنهم لا يبعثون تخفيفًا عن أرباب الأموال، إذ أنها معدومة في مثل هذه السنة، [ولأن المأخوذ يكاد لا تكون فيها منفعة] (¬3)، والثاني: أنهم يبعثون لوجود أعيان الماشية التي تجب فيها الزكاة. ... فصل (سن الجذع والثنية من الضأن) وسن الجذع من الضأن (¬4) فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ابن ستة أشهر. والثاني: أنه ابن ثمانية أشهر والثالث ابن عشرة أشهر والرابع ابن سنة كاملة. والرجوع في ذلك إلى اللغة فيعول على قول أربابها. وأما الثنية فهي التي طرحت ثناياها. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) فيؤخذ منها على أي حالة كانت. (¬2) في (ت) تتجلب وفي (ق) تنجلب. (¬3) ساقط من (ت) و (ق) و (ر). (¬4) في (ق) و (ت) الغنم.

باب في أجتماع الأصناف

باب في أجتماع الأصناف وأصناف النوع يضاف بعضها إلى بعض فيكمل به النصاب، وتكون كالصنف الواحد كالبخت (¬1) والعراب (¬2) والبقر والجواميس والضأن والمعز. لكن النظر في اجتماعها من أيها يؤخذ؟ ولنبدأ بالغنم؛ فإذا كانت في أول فرضها وهي أربعين (¬3) وكانت مختلطة، فهاهنا يراعى الأكثر بلا خلاف، فيؤخذ منه إن كان الضأن أو المعز. فإن كانت متساوية فالمنصوص أن الخيار للساعي يأخذ أيها شاء. ورأى أبو الحسن اللخمي أن القياس أن يؤخذ من كل واحدة نصفها، إذ لا ترجيح لأحد الصنفين على الآخر، وفي تخيير الساعي مضرة على رب الغنم (¬4). وهذا الذي قاله صحيح لولا أنه وقع (¬5) في مخالفة الأصول من مشاركة الفقراء لرب الغنم. وقد قدمنا أن الأوقاص (¬6) إنما ضربت في الغنم حتى تجب العين الكاملة، فإن زادت الغنم على ذلك، وهي إذا انفرد كل صنف لا يجب فيه شيء أو تجب في صنف دون آخر، فالحكم كما قدمناه ينظر إلى الأكثر. ويخير الساعي عند التساوي، وهذا (¬7) كالتسع والسبعين، ¬

_ (¬1) قال ابن منظور: "البُخْت والبُخْتِيَّة: دَخِيل في العربية، أَعجمي مُعَرَّبٌ، وهي الإِبل الخُراسانِيَّة، تُنْتَج من بين عربيةِ وفالِج؛ وبعضهم يقول: إِن البُختَ عَرَبي ... الواحد: بُخْتي؛ جَمَل بُختي، وناقة بُختِيَّة. فيَ الحديث: فأُتيَ بسارقِ قد سَرَقَ بُختَّة. البُخْتِيَّةُ: الأُنثى من الجمال البُختِ، وهي جمالٌ طوالُ الأَعْناق، ويُجْمَع على بُختٍ وبَخَاتٍ؛ وقيل: الجمع بَخاتيُّ، غير مصروف .. ". لسان العرب: 2/ 9. (¬2) في (ر): الأعراب. الإبل العراب والخيل العراب خلاف البختي والبراذين. المصدر السابق 1/ 590. (¬3) في (ق) و (ت) الأربعون. (¬4) التبصرة لوحة: 87. (¬5) في (ق) و (ت) يرقع. (¬6) قال ابن منظور: "الوقص، ما بين الفريضتين من الإبل والغنم، واحد الأوقاص في الصدقة والجمع أوقاص وبعضهم يجعل الأوقاص في البقر خاصة، والأشناق في الإبل خاصة، وهما جميعاً ما بين الفريضتين" المصدر السابق 7/ 107. (¬7) في (م) وهكذا.

فإن الأربعين يجب فيها لو انفردت، والتسع والثلاثين [إذا انفردت] (¬1) لا يجب فيها شيء، أو السبعين مثلًا، فإن كل واحدة لو انفردت لم يجب فيها شيء، أو يكون أحد الصنفين أكثر فتجب فيه دون غيره، فإن كملت ثمانين وأحد الصنفين أكثر أخذ من الأكثر أيضًا بلا خلاف. وإذا كانت متساوية كان الساعي مخيرًا كما قدمناه. وإن زادت على ذلك فهل يبقى حكم التخيير أو يؤخذ من الأكثر، هاهنا قولان: المشهور أنه يؤخذ من الأكثر، والشاذ تخيير الساعي. وهذا مثلًا في أربعين معزة وثمانين ضائنة (¬2) فينظر في المشهور إلى أن الشاة واجبة في الجميع، والضأن أكثر فيؤخذ منه. وكذلك إن قلنا إن الشاة واجبة في الأربعين خاصة وما زاد عليها وقص لا يجب فيه شيء، فإن القسمة تقتضي كثرة الضأن إذا قسمنا المأخوذ منها كما يقسم الزائد. ورأى في الشاذ أن كل واحد من الصنفين مستقل في الإيجاب، والزائد عليه غير مؤثر. فإن زادت على ذلك فلا يخلو من أن يكون الصنفان (¬3) مستقلين في الإيجاب وهما (¬4) متساويان، أو يكون أحدهما أكثر لكنهما مستقلان أيضًا، أو يكون أحدهما مستقلاً والآخر غير مستقل؛ فإن استقلا وتساويا كمن له خمس وستون ضائنة (¬5) ومن المعز مثلها (¬6)، فهاهنا تؤخذ واحدة من كل صنف بلا خلاف. وإن استقلا وأحدهما أكثر من الآخر، فهاهنا قولان: مذهب الكتاب أنه تؤخذ شاة من الأكثر، وينظر إلى الباقي فإن كان الصنف الثاني مستقلاً بنفسه والباقي [من] (¬7) المأخوذ منه دونه أخذت شاة من الصنف الثاني، فإن كانا متساويين خُير الساعي، وإن كان المأخوذ منه أولًا أكثر (¬8) أخذ ¬

_ (¬1) ساقط من (ر) و (ت). (¬2) في (ر) ضانية. (¬3) في (ق) و (م) الصنفين. (¬4) في (م) أو هما. (¬5) في (ر) ضانية. (¬6) في (ر) ومثلها معزة (¬7) ساقط من (ق). (¬8) في (ت) وإن كان المأخوذ منه أكثر من غير المأخوذ منه أولًا.

منه (¬1). ومذهب سحنون أنه يؤخذ من المأخوذ منه على الإطلاق فيؤخذ من الأكثر شاتان. ومثال هذه أن يكون للإنسان عشرون ومائة ضائنة وأربعون معزة فإنه يؤِخذ منه على المشهور ضائنة ومعزة، وعلى مذهب سحنون ضائنتان، أو يكون له مائة وثلاثون (¬2) ضائنة وأربعون معزة فيكون الخلاف كما قدمناه وإن كان له ثلاث مائة وأربعون ضائنة وأربعون معزة فيكون الخلاف كما قدمناه، وإن كان له ثلاثمائة وأربعون ضائنة وستون معزة فيؤخذ منه بلا خلاف ثلاث ضوائن على أصليهما, لأنه إذا أفرد الباقي عن ما وجبت (¬3) فيه الشاتان من (¬4) الضأن كان أكثر من المعز. وعلى ما قدمناه عن ابن مسلمة (¬5) تكون عليه ضائنتان، وخير الساعي في المعزة. ومثار (¬6) الخلاف بين ابن القاسم وسحنون أن ابن القاسم يقدر الأخذ من الأكثر حتى يكمل به تمام النصاب، ثم يلتفت إلى التقدير في الباقي فينظر إلى الكثرة والتساوي. وسحنون يقدر الوجوب في حالة واحدة فيفض (¬7) الأكثر على الأقل. وإذا فض ذلك أخذ من الأكثر على الإطلاق. وقد ألزم أبو الوليد الباجي ابن القاسم مذهب سحنون في قوله في الكتاب فيمن له أربعون جاموسًا وعشرون بقرة: إنه يأخذ تبيعًا من كل واحد منهما (¬8). وهذا الإلزام ليس بشيء لأنّ ابن القاسم استمر على أصله, لأنه ¬

_ (¬1) المدونة: 1/ 316. (¬2) في (ت) مائة وثلاثون معزة وأربعون ضانية وأربعون معزة. وفي (ق) مائة وثلاثون معزة وأربعون ضانية وأربعون معزة. (¬3) في (م) وجب. (¬4) في (ر) الثلاث ضوائن من. (¬5) هو: محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل أبو هشام [وهشام هذا هو أمير المدينة الذى نسب إليه مد هشام والذي يذكر عنه ذكر عهدة الرقيق في خطبته] روى محمد هذا عن مالك وتفقه عنده وكان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك وكان أفقههم وهو ثقة وله كتب فقه أخذت عنه، وتوفي سنة ست ومائتين" الديباج المذهب ص: 227 وشجرة النور ص: 56 (10) وفيها سلمة وهو خطأ. (¬6) في (ت) ومدار. (¬7) في (م) فيفيض. (¬8) المدونة: 1/ 317.

أخذ تبيعًا من ثلاثين، وبقي عشرون وعشرة من الأربعين. والواجب فيها تبيع فيؤخذ من الأكثر منهما، والعشرون بلا شك أنه أكثر، وإنما يجب أخذ تبيعين من الأكثر على مذهب سحنون القائل بالفض (¬1) كما تقدم. وألزم ابنَ القاسم أيضًا أبو الحسن اللخمي أن يقول فيمن له اثنان وثمانون ضائنة وتسع وثلاثون معزة أن يأخذ من ذلك ضائنة ومعزة، واستقرأه من مسألة الجواميس والبقر, لأنه يأخذ عن مائة وعشرين شاة واحدة، ويبقى الزائد مع المعز فيؤخذ منه شاة أو يأخذ من الثمانين ضائنة وتبقى الاثنان والتسع والثلاثين فيأخذ منها معزة لأنه الأكثر (¬2). وهذا الذي قاله صحيح إن قلنا إن الأوقاص مزكاة، وإن قلنا إنها غير مزكاة فإنه يقع الأخذ هاهنا عن الأربعين ثم يبقى من الضأن اثنان وأربعون فيؤخذ منها. وإن أضيف إليها المعز فهو يسير بالنسبة إليها، وإن ظن أن الأربعين إذا أخذ منها بقي ما بعدها وقصًا، فليس تقدير الباقي وقصًا بأولى من تقدير المعز وقصًا. وبالجملة فالتسع والثلاثون (¬3) غير قائمة بنفسها والاثنان والثمانون أكثر فيؤخذ منها الشاتان (¬4) جميعًا. ويختلف لو كان يملك عشرين ومائة ضائنة وأربعين معزة هل تؤخذ الشاتان من الضأن، وهذا بناء على أن الأوقاص غير مزكاة. لكن يجعل المعز هاهنا وقصًا، أو يؤخذ من كل واحد شاة لأنّ الواحدة (¬5) مأخوذة عن مائة وعشرين ضائنة والأخرى عن الأربعين معزة. وقد قدمنا أن ابن القاسم يقول في هذه الصورة: تؤخذ شاة من كل واحدة منهما. وأن سحنون يقول: تؤخذ شاتان من الأكثر. وبينا وجه قوله وهو ينبني (¬6) أيضاً في هذه الصورة على القول بأن الأوقاص غير مزكاة، وهكذا ¬

_ (¬1) في (ت) الفضل. (¬2) التبصرة لوحة: 87. (¬3) في (ت) و (ر): والثلاثون. (¬4) في (ق) و (ت) و (ر): الشاتين. (¬5) في (ق) و (ت) واحدة. (¬6) في (ق) يبين.

يجري الأمر في البقر والجواميس ويسهل الحساب فيها لقرب النصاب (¬1) وكذلك في الإبل [والبخت] (¬2). ولو كان للإنسان أربعون من نوع البقر وعشرة من نوع آخر لأخذ من الأكثر، وإن تساويا خُيّر الساعي. وإن كان له عشرون من نوع وعشرة من آخر فلا شك أنه يؤخذ من الأكثر. وقد قدمنا ما يجري من الخلاف إذا كان له أربعون من نوع وعشرون من نوع ولو كان بدل العشرين ثلاثون لم يختلف المذهب هاهنا أنه يؤخذ عن الأربعين منها وعن الثلاثين منها. وهكذا يجري الأمر كلما كثرت. وإن كانت الإبل مما تجب فيه الزكاة (¬3) من سن واحد كحقتين أو بنتيْ لبون، يجري الأمر أيضًا على ما تقدم في الغنم. ولو كان له أربعون بختًا ومثلها عراب وجبت بنتا لبون، واحدة من كل صنف. وكذلك لو كانت خمسة وأربعين من صنف ومثلها من صنف آخر، لكان الحكم كالأول. ولو كانت له خمسون بختًا وثلاثون عرابًا لكان الحكم أيضًا كما تقدم, لأنّ كل واحدة لو انفردت وجبت فيها بنت لبون. وهذا بيَّن على مذهب ابن قاسم. وأما على رأي سحنون الذي يقدر الفض (¬4) [فيها ويفض هاهنا الأكثر على الأقل] (¬5) ويوجب بنتا (¬6) لبون من الأكثر، ولو كانت أربعًا وخمسين بختًا وستًا وثلاثين عرابًا يجري على القولين. وهكذا يجري الأمر في الحقاق. وفيما قدمناه كفاية بحسب هذا المجموع. ... ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) النصب. (¬2) ساقط من (ر) و (ق). (¬3) في (ت) فيه إثنان. (¬4) في (ت) القرض وفي (ق) النقص. (¬5) ساقط من (ق) و (ت) و (م). (¬6) في (ق) و (ت) ويوجب هاهنا بنتا، وفي (م) فيجب هاهنا بنتا.

فصل (حكم زكاة القراض إن كانت ماشية)

فصل (حكم زكاة القراض إن كانت ماشية) وقد قدمنا حكم زكاة القراض إذا كان عينًا أو عرضًا، فإن كان ماشية ومر به الحول فلا يختلف هاهنا أنها تؤخذ منها الزكاة معجلة، وتؤخذ من الماشية إن كان القدر المأخوذ موجودًا فيها، فإن لم يوجد كلف ربها بأن يأتي بما يجب عليه، وإذا أخذ فهل تلغى كأنها خسارة وقعت في المال، أو يحسب على رب المال في رأس مالها، أو يحسب عليه وعلى العامل بحسب ربحه؟ في المذهب ثلاثة أقوال، وهي على ما تقدم. فمن (¬1) رأى أن الزكاة واجبة في النماء وهو موجود في المال ألغاها جملة وقدرها [كالذاهب] (¬2) من جملة المال. ومن اعتد بها (¬3) رأى أن المساكين كالشركاء وقد أخذوا جزءًا من المال. لكن هل يقدر ملك العامل للربح من يوم التحريك أو عند حصوله؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك، فإن قدرناه مالكًا من يوم التحريك حوسب بجزء الزكاة في نصيبه، وإن لم يقدره مالكًا إلا (¬4) يوم الحصول كان ذلك على رب المال خاصة. ... فصل (زكاة الماشية إذا كانت للتجارة) زكاة الماشية مأخوذة من (¬5) عينها، ولهذا نقول (¬6) إنها إذا كانت نصابًا فأكثر أخذت منها زكاة العين لا زكاة القيمة, لأنّ زكاة العين هي الأصل وزكاة ¬

_ (¬1) في (ر) فيمن. (¬2) ساقط من (ق) و (ت). (¬3) في (ق) ومن عدها على ربها. (¬4) في (ق) و (ت) إلى. (¬5) في (ر) و (ق) عن. (¬6) في (ر) و (ق) يقول.

باب في حكم بدل الماشية

القيمة إنما تؤخذ على تقدير كون العروض كالعين على ما تقدم. فمن ملك ماشية؛ فإن كانت دون النصاب جرت على حكم العروض، وإن كانت للقنية فلا زكاة فيها، وإن كانت للتجارة قوّمها المدير وزكى غيرَها (¬1) إذا باع. وإن كانت للقنية. جرت على القولين فيما اتخذ من العروض للقنية (¬2)، هل تكون فيه الزكاة إذا بيعت أم لا (¬3)؟ وإن كانت نصابًا وهي للقنية (¬4) لا للتجارة زكّاها زكاة العين [إذا مر بها الحول. وإن كانت للتجارة فكذلك أيضًا. ولا تقوم (¬5) وإن كان مديرًا لما قلناه من تقويم زكاة العين] (¬6). لكن إن باع التي للتجارة قبل أن يحول الحْول أو قبل إتيان الساعي رجعت إلى حكم أصلها في التجارة، وإن باع التي للقنية فهل يستقبل بها حولًا أو يبني حول ثمنها على حول عينها؟ في المذهب خلاف نذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله. ... باب في حكم (¬7) بدل الماشية ومن ملك ماشية فأبدلها بعين أو بماشية فرارًا من الزكاة، فإنه يؤمر (¬8) بزكاة الأول، ولا يمكن من قصده إلى سقوط الزكاة، وهذا بلا خلاف. فإن لم يكن فرارًا فلا يخلو من أن يبدلها بعين أو ماشية، فان أبدلها بماشية فلا يخلو من أن تكون من نوعها أو من غير نوعها، ولا يخلوا أن يتخلل ذلك عين أو لا يتخلله. ¬

_ (¬1) في (ر) وزكاها. (¬2) في (ق) للغلة. (¬3) في (م) هل تكون فيها الزكاة إذا بيع أو لا، وفي (ق) هل يكون فيها الزكاة إذا بيعت أم لا، وخرم في (ت). (¬4) في (ر) للغلة. (¬5) في (ت) فلا تقوم. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (م) أحكام. (¬8) في (ر) يؤخذ.

فإن أبدل ماشية بعين والماشية للتجارة فقد قدمنا أنه يبني على حكم حولِ الأصل، ولا يختلف في ذلك. وإن كانت لغير التجارة وهي دون النصاب يستقبل بالثمن حولًا، وإن كان فيه نصاب أو (¬1) أضافه إلى ما يكمل به النصاب, لأنّ هذه لا زكاة في أصلها المبيع فيضاف الثمن إليه. فإن كانت نصابًا فباعها بعين فهل يستقبل به حولًا أو يبني على حول الماشية؟ في الكتاب قولان، (¬2) فمن التفت [إلى أن] (¬3) الأولى مزكاة والثانية كذلك حكم بالإضافة، ومن التفت إلى اختلاف أحكام الزكاة وأنها غيرها (¬4) حقيقة وإنما زكيت الأولى وإن كانت في معنى العروض لوجود النماء فيها عدها كالعروض للقنية. وهكذا القولان أيضًا لو كانت الأولى عينًا فاشترى بها ماشية فهل تزكى أم لا؟ وهما على ما قدمناه. وإن كانت الأولى ماشية وأبدلها بماشية من غير صنفها كإبل وغنم أو بالعكس، فلا يخلو من أن يكون كل واحد منهما نصابًا، أو غير نصاب، أو أحدهما [نصابًا] (¬5) دون الآخر؛ فإن كانت كل واحدة نصابًا فقولان: المشهور الاستقبال بالثانية حولًا، والشاذ بناؤها على حول الأولى. وهما على ما قدمناه من الالتفات إلى جريان الزكاة [فيهما] (¬6). [والثاني بناء على الالتفات إلى اختلاف [معناهما في] (¬7) الزكاة. فإن (¬8) كانتا جميعًاً دون النصاب فلا شك في الأحكام (¬9) للزكاة] (¬10) ¬

_ (¬1) في (ر) إذا. (¬2) المدونة 1/ 322 (¬3) ساقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ر) غير. (¬5) ساقط من (م). (¬6) ساقط من (ق) و (ت). (¬7) في (ق) معنى. (¬8) في (ق) وإن. (¬9) كذا في (ق)، وفي (ت) الأحكم. (¬10) ساقط من (م).

وكذلك إذا كانت الثانية دون النصاب ولم يقصد الفرار. وقد قدمنا الحكم (¬1) إذا قصده. وإن كانت الأولى دون النصاب والثانية نصابا فقولان على القول بجريان الزكاة: أحدهما: سقوط بناء الثانية على [حول] (¬2) الأولى لما كانت الأولى [لا] (¬3) تجب فيها الزكاة، والثاني: وجوب البناء على أصل ملكه الأول (¬4)، ويعد (¬5) هذا إكمال النصاب (¬6) كالربح. وإن كانت الماشية الثانية من نوع الأولى (¬7)؛ فالمشهور من المذهب بناء حول الثانية على حول الأولى لأنهما لما تجانسا فكان الثانية هي الأولى بعينها (¬8). والشاذ الاستقبال بالثانية حولًا]] (¬9). وهذا اشتراط أن يمضي على العين الواحدة حولًا دون أن تبدل، وهذا إذا كانت الأولى نصابًا، فإن كانت دونه فلا شك على القول بالاستقبال بالثانية حولًا، وإن كانت الأولى نصابًا فإنه يستقبل هاهنا. وأما على القول الثاني ففي البناء والاستقبال قولان. وسببهما ما قدمناه من عد الزيادة كالربح والالتفات (¬10) إلى سقوط الزكاة في الأولى. فإن تخلل ذلك عين كمن باع ماشية بعين ثم يشتري بالذهب (¬11) ماشية، فهل يبني على حول الأولى أو يستقبل؟ قولان: المشهور أنه يستقبل إلا أن يكون الأول للتجارة، وهما ¬

_ (¬1) في (ق) الخلاف. (¬2) ساقط من (ر) و (ق). (¬3) ساقط من (م). (¬4) في (م) للأولى. (¬5) في (ق) يعد. (¬6) في (م) للنصاب. (¬7) في (ق) و (ت) الأول. (¬8) في (ت) الثانية على الأول لأنهما لما تجانسا كانت الثانية هي الأولى بعينها، وفي (ق) حول الأول على حول الماشية لأنهما لو تجانسا وكانت الثانية هي الأولى بعينها. (¬9) ساقط من (ر). (¬10) في (ت) أو الالتفات. (¬11) في (ت) الثمن.

باب في زكاة فوائد الماشية

[على] (¬1) ما قدمناه [من الخلاف إذا اشترى بالعين ماشية] (¬2)، فهاهنا أحرى (¬3) بالبناء إذا التفت إلى الأصل [الأول] (¬4) والذي بعده وألغى (¬5) الوسط. فإن استهلكت لإنسان ماشية وأخذ عنها ماشية بدلًا عن قيمتها، فهل يكون ذلك كبدل ماشية بماشية، أو كبيع الأول بالعين ثم يشتري بالعين ماشية (¬6)؟ في الكتاب قولان وهما على الخلاف فيمن خُيِّر بين شيئين هل يعد كأنه لم يأخذ إلا ما وجب له فيكون هو (¬7) كالبدل أو يعد كالتارك للقيمة والآخذ عنها ماشية فيكون كالمتنقل من شيء إلى شيء وفي هذا الأصل في المذهب قولان. ... باب في زكاة فوائد الماشية ولا تخلو الماشية من أن تصادف عند مستفيدها شيئًا (¬8) من نوعها أو لا تصادف؛ فإن لم تصادف فبيَّن أنه يستقبل بما أفاده حولًا، وإن صادفت عنده شيئًا من نوعها فإن كانت الأولى دون النصاب أضافها إلى الثانية بلا خلاف واستقبل بها حولًا، ويستوي (¬9) في هذا حكم العين والماشية. وإن كانت الأولى نصابًا فهل يضيف الثانية إليها فيزكيها لحول الأولى أو يستقبل بها حولًا؟ في المذهب قولان: المشهور أنه يزكيها لحول الأولى ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (ر) من عد الزيادة كالربح ماشية. (¬3) في (م) و (ت) أجرى. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ر) و (ت) والغنى. (¬6) في (ق) ثانية، وفي (ت) نانية. (¬7) في (ق) هذا. (¬8) في (م) مقيدها شيء. (¬9) في (م) ولا يستوي.

بخلاف العين. ومذهب ابن عبد الحكم أنه يستقبل بها حولًا بمنزلة العين. وقد اختلف في وجه الفرق بينهما على طريقين: أحدهما: أن العين لا سعاة له، فإذًا تبقى كل فائدة (¬1) على حولها, لأنه يخرج الزكاة متى حل حول كل واحدة (¬2). والماشية لها سعاة فإذا أبقى كل واحدة (¬3) على حولها أمكن أن تحل الأحوال في وقت لا سعاة فيه فيتأخر إخراج الزكاة عن وقتها، فكان عدلًا بين أرباب الأموال والمساكين أن تضاف الثانية إلى الأولى. وأْيضًا فقد يدعي المالك أنه استفاد البعض بَعْدُ لتسقط الزكاة عنه وقت (¬4) مجيء الساعي، ثم يستمر السقوط إلى العام الثاني فلم يمكن من ذلك [بحمية] (¬5) الذرائع. والطريقة الثانية أن الماشية لها أوقاص، فلو بقي كل منها على حوله لأدى ذلك إلى مخالفة النصاب الذي قدره النبي- صلى الله عليه وسلم - مثال ذلك أن يكون للإنسان أربعون شاة ثم بعد مضي نصف الحول مثلًا يستفيد أربعين فلو أبقى كل فائدة (¬6) على حولها لأدى إلى أن يُخرِج من ثمانين شاتين، وهذا خلاف حكم الشريعة. [وقد يستفيد أربعين أخرى، فيخرج شاة أخرى عنها لو قدر بقاء كل فائدة على حولها، فيصير في عشرين ومائة ثلاث شياه، وهذا خلاف حكم الشريعة] (¬7). فكان على هذا إضافة الثانية إلى النصاب الأول عدلًا بين أرباب الأموال والمساكين. وعلى اختلاف حكم الطريقتين يختلف الحكم بين من لهم سعاة وبين من لا سعاة لهم؛ فإن عللنا بالأول وجب على من لا سعاة لهم أن يزكوا كل مال على حوله، وعلى التعليل الثاني يستوي الأمر فيهما فيضيف الثانية إلى الأولى. [ووجب على من لا سعاة لهم أن يزكوا كل مال على حوله] (¬8)، وقد نص عليه في ¬

_ (¬1) في (ت) فيمكن بناء كل فائدة. (¬2) في (ت) قائدة. (¬3) في (ر) فائدة. (¬4) في (م) ووقت. (¬5) بياض في (ر)، وفي (م) محمية، وفي (ت) فحميت. (¬6) في (م) مال. (¬7) ساقط من (ق) و (ت) و (م). (¬8) ساقط من (ر) و (ق) و (م).

فصل (هل يشترط لوجوب الزكاة إتيان الساعي)

المستخرجة (¬1). ولا يمكن أن يختلف في أن الأوقاص تزكى على الروايتين جميعًا، وإنما تزكى الثانية على حولها إذا كانت زائدة على الوقص أو كمل بالأول النصاب. ومثال هذا أن يكون للإنسان أربعون ثم يستفيد أربعين فلا يختلف أنه لا يزكي إلا واحدة, لأنّ الفائدة الثانية لا تؤثر. وكذلك أيضًا لو كانت الفائدة الثانية ثمانين. وإن كانت أكثر من ذلك فهاهنا ينظر إلى اختلاف التعليلين على ما قدمناه؛ فإن كان في موضع فيه سعاة فلا يختلف أنه يضيف الثانية إلى الأولى على المشهور من المذهب. فإن لم يكن له سعاة فهل يزكي عن الأولى شاة فإذا حل حول الثانية زكاها أيضًا، هاهنا يتصور الخلاف على اختلاف التعليلين؛ فمن علل بمجيء السعاة زكى كل مال على حاله (¬2)، ومن علل بالأوقاص أجرى (¬3) الحكم على المنصوص في المذهب [وإن لم يكن سعاة] (¬4). ... فصل (هل يشترط لوجوب الزكاة إتيان الساعي) وإن لم يكن للماشية سعاة كان حولها كَحَول العين، وهو مرور الزمان. فإذا حل عليه الحول وجبت الزكاة، فإن كان لها سعاة فهل يشترط في وجوب الزكاة إتيان الساعي؟ في المذهب قولان: المشهور اشتراط ذلك، وإنما لا تجب إلا بوجهين: أحدهما: حلول الحول، والثاني: مجيء الساعي. والشاذ مراعاة الحول خاصة. وهذا قياس على سائر الأموال، والأول نظراً إلى ما استقر في الزمان واستمر عليه العمل. وأيضًا فلما كان رب المال ممنوعًا من إخراج الزكاة قبل إتيان السعاة، صار الوجوب إنما يتقرر بعد إتيانهم. وعلى هذا اختُلف لو مات من حال الحول على ما عنده ¬

_ (¬1) سبق الحديث عن هذا الكتاب في الدراسة ضمن مصادر ابن بشير. (¬2) في (ق) و (ت) حوله. (¬3) في (ر) وجرى. (¬4) ساقط من (ت).

(مسائل تنخرط في هذا السلك)

من الماشية قبل (¬1) إتيان الساعي فعلى المشهور من المذهب لا يجب عليه شيء، وهكذا قال في الكتاب (¬2). ولو أوصى بها لكانت في الثلث غير مبدأة (¬3) على الوصايا لأنها لم تجب، بخلاف أن يوصي بزكاة فرط فيها فإنما تكون مبدأة على الوصايا. القول الثاني أنه يجب إخراجها وإن لم يوص بها، وهذا على ما قدمناه. وعلى هذا أيضًا اختُلف إذا تخلف السعاة لعذر هل تجزي المخرج أم لا؟ والمشهور أنه لا يجزيه، والشاذ أنه يجزيه. (مسائل تنخرط في هذا السلك) ومما ينخرط في هذا السلك أن يمر الساعي بإنسان فيجد عنده دون النصاب ثم يعود في رجوعه فيجدها قد كملت بولادة. والمشهور أنه لا يزكي إذ ليس له أن يعود إليه. وقد استقر (¬4) الأمر أنه لا زكاة (¬5) عليه في هذا الحول، والشاذ أنه يؤخذ منه, لأنّ مروره الأول (¬6) لا يوجب حكمًا إذ ليس من أهل الزكاة، وإنما يوجبها المرور الثاني. وينخرط (¬7) في هذا أيضًا أن يمر به الساعي فيسأله عما عنده فيخبره ثم يصبح فيعد عليه فيجد بعضها قد مات أو زادت بولادة؛ فأما إن مات بعضها فالمنصوص أنه يحتسب بما يجد لا بما أخبره. قال بعض الأشياخ: وهذا إذا كان في أعيانها المأخوذ [منها] (¬8). وأما إن كانت إبلًا تزكى بالغنم فإنه يأخذ عما أخبره به لا (¬9) عما وجد بعد أن أصبح. وفي المذهب قول ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) حل حول الماشية قبل. (¬2) المدونة: 1/ 326. (¬3) في (ق) مبدات وفي (ر) مبتدأة. (¬4) في (ر) استقل. (¬5) في (ر) لا إعادة. (¬6) في (ت) الآن. (¬7) في (ق) ويلحق وفي (ر) يخلص. (¬8) ساقط من (ق) و (ت) و (م). (¬9) في (ق) و (ت) أخبره بدلًا.

أنه إن صدقه (¬1) فيما أخبره به فيأخذ به ولا يلتفت إلى الزيادة والنقصان، وإن لم يصدقه ولم يثق بقوله فإنه يأخذ بما وجد لا بما أخبره. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا ويحتمل أن يكون خلافًا، وكذلك عده أبو عمران. وبالجملة هذه المسألة تجري على ما قدمناه في زكاة العين إذا ضاعت بعد الحول وقبل إمكان الأداء. وقد تقدم أن المشهور من المذهب أنه لو بقي دون النصاب لم يأخذ منه شيئًا، و [أن] (¬2) الشاذ أنه يأخذ مما بقي بحسابه. وكذلك يختلف إذا ماتت وبقي منها دون النصاب، هل يأخذ مما بقي معولًا على خبر رب المال أو لا يأخذ وهو المشهور من المذهب؟ وإنما يكون ذلك إَذا عول على خبره، وأما إن لم يعول عليه وعول على أنه يعد فيأخذ بما وجد، فإنه [لا] (¬3) يختلف أنه لا يلتفت إلى ما كان قبل العدد. وأما لو زادت. بالولادة، فإن لم يعول على خبره إخذ بما يجد عند العدد، وإن عول عليه ووفق به فهاهنا للمتأخرين قولان: أحدهما: أن المذهب على قول واحد، أنه ينظر إلى ما عول عليه. والثاني: أن المذهب على قولين: أحدهما: أنه لا يلتفت إلى خبره, لأنّ هذا من الأموال الظاهرة، فلا يلتفت فيها إلا إلى الموجود لا إلى خبر المالك. والثاني: أنه إن كان موثوقًا بقوله وصدقه فقد صار حكمًا بأن الواجب عليه مقدار ما أخبره به، لا سيما أن الأمر (¬4) على ما أخبره، وإنما زادت بالولادة [أو نقصت بإتلاف] (¬5). ولو أخذ الساعى في العدد بعد النظر وبقي الشطر الآخر لم يعده حتى (¬6) تلف بعض المعدود أو زاد بالولادة، فهل يكون عدها كالحكم بأن الواجب فيه ما استقر عنده من عدد؟ فيه للمتأخرين قولان: أحدهما: أنه ¬

_ (¬1) في (ر) يصدقه. (¬2) ساقط من (ق) (¬3) ساقط من (ت). (¬4) في (ر) إن ظهر الأمر. (¬5) ساقط من (ت). (¬6) في (ر) و (م) الشطر وبقي الشطر الآخر بعده حتى.

باب في أحكام الخلطة في الماشية

كحكم استقر عنده فلا يلتفت إلى زيادته ولا نقصانه بمنزلة ما لو عد الجميع. والثاني: أنه يعول على الزيادة والنقصان؛ لأنه لا يستقر الوجوب إلا بعد عد الجميع. إذا قلنا باستقرار الوجوب في المعدود فتلف منه البعض حتى لم يبق من الجميع إلا مقدار دون النصاب، أو تلف طير المعدود فكان المعدود دون النصاب، فهل يزكي ما بقي؟ هذا يجري على الخلاف الذي قدمناه في العين يتلف منه شيء بعد حلول الحول، وقبل إمكان الأداء. وكذلك أجراه الأشياخ على هذا المعنى، وتقدم في ذلك القولان. ... باب في أحكام الخلطة في الماشية (معنى النهي عن الجمع بين المفترق) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (¬1). وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. ولا خلاف أن للخلطة تأثيرًا في زكاة الماشية على الجملة وإن اختلف في التفاصيل. ومعنى نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الجمع بين المفترق عند مالك وأصحابه أن يكون اثنان لهما غنم يجب في افتراقهما أكثر مما يجب في اجتماعهما، فإذا أطلهما (¬2) الساعي جمعا ليخففا عن أنفسهما، كاثنين، لكل واحد منهم أربعون أو ستون فتجب عليهما في الافتراق شاتان ومع الاجتماع واحدة. فنهيا عن الجمع ليُسقطا بعض ما وجب عليهما. (معنى النهي عن التفريق بين المجتمع) ومعنى النهي عن التفريق أن يكونا خليطين لواحد مثلًا مائة وعشرون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل 6555. (¬2) في (ق) أطلبهما.

(بما يعرف القصد إلى الفرار)

وللآخر إحدى وثمانون، فإذا أطلهما الساعي فرّقا ليؤدي كل واحد منهما شاة، وفي الاجتماع يجب عليهما ثلاث شياه. فإذا فعلا ما نهيا عنه من التفريق أو من الجمع فالمذهب أن يأخذا بزكاة ما كانا عليه في الأول. واستقرأ أبو الحسن اللخمي من مسألة البائع ماشيته فرارًا، أنهما يؤخذان هاهنا بزكاة ما رجعا إليه، كما قاله في مختصر ابن شعبان في مسألة البائع فرارًا، أنه يؤخذ بزكاة العين (¬1). وهذا الاستقراء لا يلزم لأنّ تلك الماشية قد أخذت فيها الزكاة، وقد لا يختلف الحال بين زكاة الماشية وزكاة العين، وربما كانت زكاة العين أنفع للمساكين. وفي مسألة الخلط يختلف اختلافًا بينًا كما مثلنا به. (بما يعرف القصد إلى الفرار) وبأي معنى يحصل ظهور القصد إلى الفرار بالتفريق أو الجمع؟ أما إن قامت (¬2) قرينة حال تدل على القصد بذلك فينبغي أن يعول عليها ولا يلتفت إلى الزمان، وأما إن لم تقم قرينة حال فهل يرجع إلى الزمان أم لا؟ في المذهب قولان: المشهور أنه يستدل على ذلك بقرب الزمان، والشاذ أنه لا يستدل عليه بزمان أصلًا بل ينظر إلى ما يظهر من قرينة الحال، ولا شك أن هذا هو الأصل. وإنما مراعاة الزمان [طلبًا للاستدلال على قصد الفرار من الزكاة بقرب الزمان. وإذا قلنا بمراعاة الزمان] (¬3)، فما مقداره؟ ثلاث روايات: أحدها: أنه الشهران ونحوهما، والثاني: أنه الشهر، والثالث: أنه دون الشهر. ولا يظهر لهذا التحديد معنى يؤدي إليه حتى يكون غيره في حد الطرح (¬4)، بل تحريم الجمع (¬5) على قرب الزمان. فكل منهم شهد بنوع، والأصل كما قلناه مراعاة ظهور القصد. ¬

_ (¬1) التبصرة لوحة: 93. (¬2) في (م) كانت. (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) الصرح. (¬5) في (ت) الجميع.

فصل (أقسام الخلطة)

وإذا وقع الإشكال في هذا القصد، هل تجب اليمين أم لا؟ يجري على الخلاف في أيمان التهم، وقد تقدم أن فيها ثلاثة أقوال. ... فصل (أقسام الخلطة) وإذا تقرر ما قدمناه، قلنا بعده: الخلطة على قسمين: أحدهما: الاشتراك في أعيان الماشية، فهؤلاء يسمون خلطاء وشركاء، والثاني: الاشتراك في الانتفاع، فهؤلاء يسمون خلطاء ولا يسمون شركاء. ومحمل (¬1) الحديث المتقدم في التراجع إلى القسم الثاني لا إلى الأول. وفيه يصح التراجع إذا أخذ من ماشية أحدهما. وأما مع (¬2) الاشتراك، فلا يأخذ إلا مما هما (¬3) مشتركين فيه، ولا معنى للتراجع. وقال أبو الحسن اللخمي: يصح التراجع بين الشريكين على أحد قولي مالك رحمه الله أن الأوقاص غير مزكاة، (¬4) (¬5) إذا كان لأحد الشريكين ثلث وللآخر الثلثان، والجملة عشرون ومائة من الغنم، فإنه هاهنا إذا أخذ شاة يجب أن يكون نصفها على صاحب [الثلث والنصف على صاحب] (¬6) الثلثين. فإذا أخذها من الجملة فقد فضل صاحب الأربعين بسدس شاة (¬7) يرجع عليه بها, لأنّ الواجب على صاحب الأربعين (¬8) نصف وهو إنما أدى على الحقيقة الثلثين. ... ¬

_ (¬1) في (ت) ويحتمل. (¬2) في (ر) منع. (¬3) في (ق) و (م) بما هو. (¬4) التبصرة لوحة: 94. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ق). (¬7) في (ت) فضل صاحب الثلثين على الآخر بسدس شاة، وفي (ر) قيل على صاحب الأربعين على الآخر بسدس شاة. (¬8) في (ت) الثلثين.

فصل (أحكام الخلطة)

فصل (أحكام الخلطة) وإذا تقرر ما قلناه، قلنا ما بعده من أحكام الخلطة تحصر (¬1) في ثلاثة فصول: أحدها: ما يوجب الخلطة، والثاني: [في] (¬2) حكم المأخوذ من الخليطين (¬3). والثالث: في حكم الخليط يكون له خليط آخر وماشيته منفردة عن الاختلاط (¬4). (موجبات الخلطة) فأما الفصل الأول؛ فإن موجبات الخلطة خمسة وهي: الراعي والفحل والدلو والمراح والمبيت. ومعنى هذه: أما الراعي فأن (¬5) يكون راعي الغنم واحدًا أو جماعة مشتركين بإذن أرباب الأموال. واشترط أبو الوليد الباجي الافتقار (¬6) إلى جميعهم، فإذا حصل هذا المعنى عد هذا شرطًا من شروط الخلطة. فأما الفحل فأن يكون فعل جميع الغنم واحدًا أو جماعة يشتركون في أعيانها (¬7)، أو يكون كل واحد منها (¬8) يضرب [في] (¬9) الجميع، واشترط أيضًا أن يفتقر إلى الجميع. وأما الدلو فمعناه السقي، ومقتضى اللفظ أن يسقى الجميع بدلو واحد، لكن ألحق بذلك الاشتراك في الماء، إما أن يكون موضعه مملوكًا أو تكون المنفعة فيه مشتركة. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) ينحصر. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) المأخوذ منفردة منها من الخليطين، وفي (م) حكم المأخوذ من الخليطين، وفي (ق) حكم المأخوذ منها من الخليطين، وفي (ت) حكم المأخوذ فيها من الخليطين. (¬4) في (ر) الانخلاط. (¬5) في (ت) و (ر) فإنه. (¬6) في (ق) و (م) الافتصار على. (¬7) في (ر) يشترك في أعيانها، وفي (م) فيشترك في أعيانهم. (¬8) في (ر) و (ق) كل واحد منهما وفي (م) كل منهم. (¬9) ساقط من (ر) و (ق).

وأما المراح فاختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه الموقع (¬1) الذي تقيل فيه الغنم، والثاني: أنه الذي تجمع فيه ثم تنصرف منه إلى المبيت. ويشترط فيه أيضًا أن يكون مملوك الرقبة لجميعهم أو مملوك المنفعة. فإن كانت مواضع كثيرة، فيفتقر أن يكونوا محتاجين إلى جميعها، وكذلك الحكم في المبيت. وقد (¬2) أضيف إلى هذه الشروط، [المسرح (¬3) وهو الموضع الذي ترعى فيه. وهذا يكفي فيه اتحاد (¬4) الراعي أو تعاون الرعاة. وإذا تقررت هذه الشروط] (¬5)، فلا خلاف أنه لا يشترط في ثبوت الخلطة وجود جميعها. واختلف المذهب بعد ذلك في المعول عليه منها على أربعة أقوال: أحدها: أنه جلها، والثاني: أنه اثنان ما كان منهما، والثالث: أنه الراعي، والرابع: أنه الراعي والمرعى. وهذا كله تحريض (¬6) على حصول الاشتراك في المنفعة التي تجعل المالكين كالمالك الواحد. فمن التفت إلى كثرة الاشتراك اشترط الجل حتىّ يكون ما يفترقان (¬7) فيه تابعًا، ومن التفت إلى حصول الاشتراك جملة اشترط أثنين لأنّ الواحد لا يحصل به المقصود، ومن التفت إلى الراعي فلأنه يرى أنه إذا اجتمعت فيه حصل [به] (¬8) الاجتماع في غيره، وكان إضافة المرعى (¬9) إليها إنما ما هو تَتْميم، وإلا فإذا اجتمعت في الراعي لا بدّ أن يجمعها في المرعى. ويمكن أن ترجع هذه الأقوال إلى معنى واحد، وهو اجتماع الجل. ويكون المذهب على قولين: أحدهما: اشتراط الجل، والثاني: اشتراط اثنين، والتفات الجميع ¬

_ (¬1) في (ت) الموضع. (¬2) في (ر) ومن. (¬3) في (ق) المصرح. (¬4) في (ق) اتخاذ. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) بياض في (ر) وفي (ت) و (م) تحويج. (¬7) في (ر) و (ق) يفتقران. (¬8) ساقط من (ت). (¬9) في (ر) الراعي.

فصل (شروط زكاة الخلطة)

إلى حصول الاختلاط فيما يجعل المالكين في المرافق كالمالك الواحد. ... فصل (شروط زكاة الخلطة) وأما أحكام (¬1) زكاة الخلطاء فقد قدمنا أن شروط الخلطة إذا حصلت عد الملك كالمتحد، وذلك عندنا بشروط: أن يكون كل واحد من الخلطاء مخاطبًا بالزكاة, لأنه ملك النصاب، وقد حل على [غنمه] (¬2) حول. فإن لم يكن كذلك فلا تأثير لخلطته. (حكم من كان خليطه يهوديًا أو ذميًا) واختلف المذهب لو كان يهوديًا أو ذميًا أو عبداً هل يزكي خليط المسلم زكاة الانفراد أو زكاة من له خليط؟ والمشهور من المذهب أنه يزكي زكاة المنفرد. والشاذ أنه يزكي زكاة من له خليط. واستقرأ أبو الحسن اللخمي من هذا مراعاة الخلطة (¬3) إذا نقص نصيب أحدهما عن النصاب، أو لم يحل على غنمه الحول. والجامع عنده أن كل واحد من الذمي والعبد والمالك دون النصاب والذي لم يحل (¬4) على غنمه الحول غير مخاطب بالزكاة. فإذا اختلف في أحد هؤلاء وجب إجراء الخلاف في الباقي (¬5). وليس كما قاله لأنّ الذمي قد اختلف فيه الأصوليون والمذهب هل هو مخاطب بفروع الشريعة أم لا؟ والخلاف [في مراعاة] (¬6) خلطته على هذا الأصل؛ فمن قال إنه غير مخاطب [جعل خلطته غير مؤثرة ومن قال إنه ¬

_ (¬1) في (ر) حكم. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) الخليط الخلاف. (¬4) في (ق) يكمل. (¬5) التبصرة لوحة: 95. (¬6) ساقط من (ت).

(حكم زكاة ما بيد العبد)

مخاطب] (¬1) حكم بتأثيرها. لكن يوجب على من خالطه من المسلمين ما يلزمه ويكون الذمي كالظالم للمساكين بإمساك ما يلزمه. (حكم زكاة ما بِيَدِ العبد) والعبد قد اختلف الناس في زكاة ما بيده، فقيل: تجب على سيده لأنه غير مالك أصلًا، وقيل: عليه في نفسه لأنه مالك حقيقة، وقيل وهو المذهب لا يجب عليه شيء. والقول بمراعاة خلطته مبني على مراعاة الخلاف، والإجماع على أن من قصرت غنمه عن النصاب أو لم يحل عليها الحول لا يجب في نفسه شيء، فكيف يقاس بعضهم على بعض؟ ومقتضى حكمها (¬2) بأن الخلطاء كمتحدي الملك, لأنّ أحدهما لو كان معه معز وللآخر ضأن لكانا كالمالك الواحد وجرى في حكم ما تقدم على حكم المالك (¬3) تكون غنمه مختلطة. وهذا نص في كتاب ابن سحنون. (حكم زكاة الأوقاص) واختلف المذهب في الأوقاص هل هي مزكاة أم لا؟ وعلى هذين القولين سيأتي ما في الكتاب في خليطين؛ لأحدهما تسع (¬4) من الإبل وللآخر خمس (¬5) هل يقتسمان المأخوذ منهما على أربعة عشر جزءًا أو على التساوي؟ (¬6) فإن حكمنا بزكاة الأوقاص فعلى التفاضل، وإن حكمنا أنها غير مزكاة فعلى التساوي. وسبب الخلاف إلغاؤها قبل كمال النصاب الثاني والاعتداد (¬7) بها بعد كماله، فمن نظر إلى الإلغاء قال لا شيء فيها، ومن نظر إلى الاعتداد ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) جملتها. (¬3) في (ق) و (ت) وجرى على ما تقدم في حكم المالك. (¬4) في (ر) تسعة. (¬5) في (ر) خمسة. (¬6) المدونة: 1/ 331. (¬7) في (ت): النصاب أو الاعتداد.

فصل (حكم أخذ الساعي من الخليطين ما لا يجب عليهم)

أوجب. ولا خلاف في الاعتداد بما لو كان لأحدها تسعة والآخر ستة, لأنّ الأوقاص هاهنا أثرت زيادة الشاة فلولا الواحدة والأربعة الزائدة على خمسة كل واحد لم يجب إلا شاتين، وإنما لفقت الأوقاص [هاهنا] (¬1) لما قدمناه من عد الخليطين كالمالك الواحد. وهكذا تنقلهم الخلطة إلى أن يخرجا من الإبل , وإن كان الانفراد يقتضي إخراج الغنم أو يخرج أحدهما، وقد ينقلها من فرض إلى فرض وهذا بيّن إذا اعتبر. ... فصل (¬2) (حكم أخذ الساعي من الخليطين ما لا يجب عليهم) وإذا تقرر أن أصلنا اشتراط النصاب في حق كل واحد منهما، فإذا اجتمعا (¬3) وليس لكل واحد منهما نصاب فلا زكاة عليهما، وإن كان لأحدهما نصاب والآخر دونه فالزكاة على من في حظه نصاب. فإن خالف الساعي هذا الحكم فأخذ ولا يجب الأخذ (¬4) فلا يخلو من أن يكونْ المجتمع عنهما غير نصاب أو نصاباً، فإن قصّرا (¬5) عن النصاب فهو غاصب، تكون (¬6) مصيبتها من أخذت من غنمه. وإن أكمل باجتماعهما نصاب فإن قصد إلى الغصب فالحكم كالأول, وإن أخذ بتأويل فالمذهب أنهما يتراجعان في المأخوذ، وهذا على مراعاة الخلاف، أو لأنّ (¬7) الساعي كالحاكم في مضي حكمه (¬8) بلا خلاف. ¬

_ (¬1) ساقط من (م) و (ت) وفي (ق) هاهنا الزيادة لما. (¬2) ساقط من (ق) و (ت). (¬3) في (ق) و (ر) اجتمعت. (¬4) في (ر) على الأخذ. (¬5) في (ر) و (م) قصر وفي (ق) انقصر. (¬6) في (ث) غصب محض تكون. (¬7) في (ت) لأن وفي (ر) ولأن. (¬8) في (ت) فيمضى فعله.

وإن كان لأحدهما نصاب وللآخر دونه، فلا يخلو من أن يضر الذي له النصاب بالآخر حتى يوجب بالتأويل زائد أو لا يضره؛ فإن ضره كمن له مائة وعشرون من الغنم وللآخر إحدى عشر، [فجاء الساعي فأخذ شاتين فإن أخذهما بغير تأويل فواحدة على رب النصاب، والثانية مصيبة ممن أخذت] (¬1) منه، وإن أخذها بتأويل ففي المذهب قولان: أحدهما: أنهما يتراجعان في الشاتين، إذ كذلك قصد الآخذ فيمضي حكمه (¬2) يكون كحكم (¬3) بما اختلف النَّاس فيه. والثاني: أن واحدة تكون ممن له النصاب لأنّ ذلك هو الواجب عندنا، والثانية يتراجعان فيها لأنها [من] (¬4) التي وقع فيه التأويل. وأجرى الأشياخ المتأخرون على هذا ما لو كان لأحدهما اثنان وثلاثون من الإبل وللآخر أربعة فجاء الساعي وأخذ بنت لبون؛ فعلى القول الأول يتراجعان فيها، وعلى القول الثاني يكون على صاحب الأكثر بنت مخاض، وينظر إلى قيمة ما زادت بنت لبون عليها فيتراجعان فيها. قال أبو الحسن اللخمي: ويجري فيها قول ثالث: - يعني في مسألة الغنم - أْن الشاة الزائدة (¬5) يكون على كل واحد منهما نصفها، قال: بمنزلة ما لو شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان ثم رجعوا ففي الدية قولان: أحدهما: أنها تكون على [عدد] (¬6) الرؤوس، والثاني: أنها تكون نصفين: نصف علي الشهود بالزنا, ونصف على الشهود بالإحصان (¬7) والجامع عنده أن كل واحد في الخليطين مؤثر في أخذ الزائد، كما أن كل فريق من هؤلاء الشهود مؤثر في وجوب الرجم. ولا يلزم ما قاله لأنّ القول [بكون] (¬8) الدية (¬9) شطرين نظرًا إلى أن ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) في (ق) و (ت) فعله. (¬3) في (ر) حكم. (¬4) ساقط من (ق) و (ت). (¬5) في (ق) الواحدة. (¬6) ساقط من (ر) و (ق). (¬7) التبصرة لوحة: 96. (¬8) ساقط من (ق). (¬9) في (ق) لأنّ القول بالدية شطرين لأنّ التوصل يكون الدية شطرين نظر إلى أن الإحصان.

فصل (حكم الخليط يكون له خليط آخر)

الإحصان يستقل بالإثنين كاستقلال (¬1) الزنا بالأربعة فهم في المعنى كالمتشاطرين (¬2). ومسألة الخليطين، لا شك أن لزيادة العدد تاثيرًا في وجوب الزكاة، وفي (¬3) تأويل المصدق فتقسمت (¬4) على الأعداد. وإن كان صاحب دون النصاب غير مضر بالآخر، فإن أخذ الساعي مقدار الواجب فلا شك في اختصاص من له النصاب [به] (¬5)، وإن (¬6) زاد عليه فهو ظلم محض يكون ممن أخذ منه. وقد تقدم أن من وجبت له غنم بأعيانها فالزكاة فيها من يوم الوجوب. وحكم المرأة تتزوج على غنم بأعيانها جارية على هذا الأسلوب. فإذا ما طلقها الزوج فصار إليها نصف صداقها لأنّ الطلاق قبل الدخول فهل يستقبل حولًا من يوم عادت إليه أو يبني على ما تقدم له؟ في المذهب قولان. وهو على الخلاف في المرأة هل تملك الكل بالعقد أو نصفه؟ فإن قلنا إنها تملك الكل استقبل الزوج حولًا، وإن قلنا إنها تملك النصف خاصة يبني على الحول الأول. وإذا قلنا إنه يبني على الحول الأول فمن أين يجعله، هل من وقت ملك أو زكى أو من يوم أصدق؟ للمتأخرين قولان: والأكثر وهو الصحيح أنه من يوم ملك أو زكى. وقال بعض المشايخ من وقت عقد. ويكاد أن لا يكون له وجه إلا أنه يحتمل أنه بالعقد صار كأنه مِلْكٌ مفتتح فيبنى على ذلك الوقت. ... فصل (حكم الخليط يكون له خليط آخر) أما حكم الخليط تكون له ماشية منفردة أو يكون له خليط آخر فيها؛ ¬

_ (¬1) في (ر) كما استقل. (¬2) في (ق) و (ت) كالشاهدين. (¬3) في (ق) في. (¬4) في (ق) بقسمته وفي (ت) وقسمت. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ق) بأن.

فإن كان له خليط آخر ففي المذهب أربعة أقوال: أحدها: أنهم يعدون كلهم خلطاء، ومثاله أن يكون لواحد أربعون وللآخر ثمانون. أربعون منها خالط بها صاحب الأربعين، وأربعون خالط بها الآخر. وإذا عد الجميع [خلطاء] (¬1) زكوا شاتين على كل واحد من صاحبي الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين شاة. والقول الثاني: أن كل واحد من صاحبي الأربعين لا يحتسب بالآخر، وإنما يحتسب بغنم صاحبه الخالط له خاصة. فيكون على كل واحد من صاحبي الأربعين ثلث شاة وعلى صاحب الثمانين [ثلثا] (¬2) شاة لأنه لا يحسبها مع (¬3) كل واحد من صاحبي الأربعين. القول الثالث: أن كل واحد من صاحبي الأربعين لا يحتسب إلا بما معه خاصة، فيكون عليه نصف شاة وعلى صاحب الثمانين شاة (¬4) , لأنه يجمع (¬5) جميع ملكه فيضيف بعضه إلى بعض. والقول الرابع: أن صاحب الثمانين لا يجمع ملكه بعضه إلى بعض، لكن يزكى كل ملك خالط به الآخر كأنه لا يملك غيره. ولكن هذا القول يوافق القول الأول في هذه الصورة، فيكون عليهما (¬6) شاتان، على كل واحد من صاحبي الأربعين نصف (¬7)، وعليه نصفان. والطريق إلى الموافقة في هذه الصورة مختلف (¬8) , لأنه في القول ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ت) و (م). (¬3) في (ق) و (ت) لأنه يحتسب بها مع. (¬4) في (ر) و (ق) و (ت) ثلثا شاة. (¬5) في (ر) لا يجتمع. (¬6) في (ت) عليهم. (¬7) في (م) نصفًا وفي (ر) نصفان. (¬8) في (ر) و (ت) والطريق الموافق في هذه الصورة تختلف.

(مآخذ هذه الأقوال)

الأول يجعل الجميع مختلطين (¬1)، وفي الرابع يجعلهم كالمنفردين بالاختلاط ولا يجمع (¬2) مالك الثمانين بعضه إلى بعض. وتتصور المخالفة لو كان لواحد خمسة عشر من الإبل خالط (¬3) بخمسة منها صاحب خمسة، وبعشرة صاحب خمسة أخرى. فعلى القول الأول يكون على الجميع بنت مخاض، وعلى القول الرابع تكون زكاتهم بالغنم فيزكي كل واحد من صاحبي [الخمسة] (¬4) شاة واحدة، ويزكي صاحب الخمسة عشر ثلاثة شياه. وأما إذا كان إنسانًا مخالطًا ببعض غنمه, ونمثله بالصورة الأولى فيكون له ثمانون، خالط بالأربعين [منها من له أربعون] (¬5)، ولم يخالط بالأربعين الأخرى. فيجري هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكون عليهما شاة، على صاحب الثمانين ثلثاها وعلى صاحب الأربعين ثلثها، والثاني: أن يكون عليهما شاة وسدس، على صاحب الثمانين ثلثان وعلى صاحب الأربعين نصف (¬6)، والثالث: أنهما يخرجان شاة ونصفًا (¬7)، على صاحب الثمانين شاة وعلى صاحب الأربعين نصف. (مآخذ هذه الأقوال) وقد تقدم مآخذ (¬8) هذه الأقوال في أحكام الاقتضاءات، لكنا ننبه عليه هاهنا، وذلك أنه اجتمع في هذه أمران كالمتناقضين: أحدهما: أن الخليط الأوسط يجب ضم ملك بعضه إلى بعض [مع عدم الخلطة، والطرفان ليس ¬

_ (¬1) في (ر) مخاطبين. (¬2) في (ق) يجعل. (¬3) في (ق) خالطه. (¬4) ساقط من (ت). (¬5) ساقط من (ق) و (ت) (¬6) في (ر) ثلث. (¬7) في كل النسخ نصف. (¬8) في (ر) أحد.

باب في الهارب بماشيته من السعاة

بينهما خلطة، فلا يجب ضم ملكيهما بعضه إلى بعض] (¬1). فمن غلب حكم الوسط ورأى أن كل واحد منهما يجب ضم ملكه (¬2)، وهو يجب ضم ملكه (¬3) بعضه إلى بعض، قال (¬4) يكون الجميع كالخلطاء. ومن غلب حكم الطرفين المنفردين أفرد ملك الوسط فجعله كالمالكين أربعين [أربعين] (¬5) ولم يضم ملكه [بعضه] (¬6) إلى بعض (¬7)، وهذا هو القول الرابع. ومن رأى أن الوسط قد حصل لكل واحد من صاحب الأربعين خلطة (¬8). والخليط يجب أن يضاف جميع ما يملكه إلى ما خالط به، جاء منه القول الثاني. ومن وجب عنده ضم ملك الواحد بعضه إلى بعض وأفرد حكم الخليط لما خالط به، جاء منه القول الثالث. ... باب في الهارب بماشيته من السعاة ولا شك أنه متعد في الهروب، فالواجب عليه متعلق بذمته. فلا يختلف المذهب في ذلك، لكن اختلف إذا زادت نعمه بعد أن كانت ناقصة في أعوام، هل يؤخذ بما يوجد في يده من الزيادة على سائر الأعوام؟ وهو الشاذ من المذهب، أو يؤخذ عن كل عام بما في يده؟ وهو المشهور. وكان المشهور هو القياس لأنه إنما يؤخذ بما تعدى عليه، فإذا ظلم فلا ينبغي أن يظلم فيزاد عليه ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ت). (¬2) في (ق) و (ت) ضمه إليه. (¬3) في (ق) ملك. (¬4) في (ق) وقال. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) ساقط من (ر)، (¬7) في (ر) كالمالكين أربعين ولم يضم ملكه إلى بعض. (¬8) في (ق) خليط.

فوق الواجب. لكن أشهب القائل بالمذهب الثاني قد يرى أنه غير مصدق في دعواه النقص في السنين الماضية، أو يقيسِ (¬1) ذلك على المشهور من المذهب في من (¬2) تخلف عنه السعاة، أنه يؤخذ بما تقدم من السنين بما في يديه الآن. وسيأتي بيانه في الباب الذي يلي هذا. وإذا قلنا إنه لا يؤخذ عن كل سنة إلا بما يملك فيها، فإن كان الأخذ ينقص ما في يديه إما لما أنقص، وإما لأنّ تسقط (¬3) عنه بعض السنين لتقصيرها عن النصاب، فهل يبتدئ بالحساب من أول سنة فيؤخذ منه عنها ثم يكون نعمه بعد ذلك لا يجب فيها شيء؟ أو يجب [فيها دون أن يبتدئ بالسنة الآخرة.] (¬4) ولم يؤخذ عما تقدم لتقرره في ذمته؟ في المذهب قولان. ومثاله أن يكون لرجل إحدى وأربعون شاة فيفر بها أربع سنين ولا تزيد، فيأتي المصدق ويقوم (¬5) عليه، فالمشهور أنه يبتدئ بالسنة الأولى فيأخذ شاة، ثم شاة عن الثانية فينقص (¬6) غنمه عن الصدقة، فلا يلزمه غير ذلك. والشاذ أنه يبتدئ بالسنة الآخرة ويأخذ عن جميع ما تقدم لتقرره في ذمته. وكأن سبب الخلاف في هذا أن الدَّيْن يُسقط زكاة العين ولا يسقط زكاة الماشية. وقد قدمنا الخلاف أيضًا في الدين إذا كان من زكاة هل يسقط الزكاة أم لا؟ وهاهنا الدين من زكاة (¬7) لكنه متعلق بأعيان الماشية، بخلاف الدين الثابث في الذمة؛ فمن (¬8) رأى أن الدين لا يسقط زكاة الماشية (¬9) ¬

_ (¬1) في (ر) يقاس. (¬2) في (ر) ومن. (¬3) في (ر) إما لما نقص أو إلى أن يسقط، وفي (م) إما لما انتقص وإلى أن تسقط. وفي (ق) إما لما أنقص أو إلى أن يسقط. (¬4) في (ت): أو يجب أن يبتدئ بالسنة الآخرة في (م): ويجب فيها دون أن يبتدئ، وفي (ر) دون أو يبتدئ بالسنة الأخرى. (¬5) (ق) و (ت) و (ر) ويقدم. (¬6) في (ت) فينتقص. (¬7) في (م) الدين زكاة، وفي (ق) دين زكاة. (¬8) في (ق) أسقط فمن. (¬9) في (ر) بخلاف الدين الثالث فمن رأى أن الرهن يسقط زكاة الماشية، وخرم في (ت).

باب في أحكام من تخلف عنه السعاة

جعل هذا كالمتقرر في الذمة لم تسقط به الزكاة، ومن رآه] (¬1) متعلقًا بأعيان الماشية بخلاف الدين الثابت في الذمة أسقط به. وقد قدمنا الخلاف في جزء الزكاة هل يتعلق بعين المال حتى يكون المساكين كالشركاء، أو يتعلق بالذمة. وهذا جارٍ على ذلك [الأسلوب] (¬2). وإذا بنينا على المشهور من المذهب أنه لا يؤخذ من الهارب إلا عما يملك في كل عام فانصرف هاربًا بألف شاة، ثم قُدِرَ عليه وبيده أربعون، فقال نقصت من وقت الانصراف، فالمذهب أنه لا يصدق، وأنه يؤخذ عن جميع الأعوام على كمال الأنعام [إلا العام الآخر] (¬3)، وهذا لأنه متعد في الهروب (¬4)، وقوله غير موثوق به. والأصل الكمال إلا في الوقت الذي نقصت فيه. ولو انصرف مثلًا بأربعين ثم أتى بالألف، وقال إنما استفدتها قريبًا فهل يصدق تعويلاً على ما تقدم، أو لا يصدق تعويلاً على ما وجد في يده الآن؟ في المذهب قولان. ... باب في أحكام من تخلف عنه السعاة (حكم من تخلف عنه السعاة فزادت الماشية أو نقصت) وقد قدمنا الخلاف في السعاة، هل مجيؤهم (¬5) شرط في الوجوب أو في الأداء؟ والمشهور من المذهب عدهم شرطًا في الوجوب، وهذا في بلد فيه سعاة. وأما بلد لا سعاة فيه فلا يختلف أنهم غير معدودين شرطًا أصلًا. ¬

_ (¬1) في (ر) ومن لم يسقط به فمن رأى، وفي (ق) ولم يسقط به فمن رآه، وخرم في (ت) (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) إلا أكثر. (¬4) في (ر) المذهب. (¬5) في (ق) و (ت) هل هي شرط.

وإذا بنينا (¬1) على المشهور أن عدهم شرطًا [في الأداء] (¬2)، فإذا تعذر إرسالهم في بعض السنين حتى أقام (¬3) أرباب الماشية أعوامًا لم يؤدوا ثم أتى السعاة فإنهم يأخذون (¬4) عن جميع ما تقدم من الأعوام. وهل ينظر إلى ما يوجد (¬5) عند أرباب الماشية فيقدر كأنه ملكوه [في] (¬6) كل عام؟ أما إن كانت الماشية فيما تقدم أكمل، فلا خلاف أنهم لا يضمّنون أرباب الأموال وإنما يأخذون عن الأنقص. وأما إن كانت أنقص فكملت فهاهنا قولان: المشهور متن المذهب أنهم ينظرون إلى حالة الموجود (¬7) فيزكون على مقدارها لما تقدم من السنين. والشاذ أنهم يزكون عن كل عام بقدر المملوك فيه، وهذا [هو] (¬8) القياس، لأنّ من تخلف عنه السعاة غير متهم (¬9).وإذا كان كذلك فلا يؤخذ عنه عن أعوام كانت ناقصة بالإكمال. ومثال هذا أن يتخلف السعاة عن من يملك ألفًا من الغنم مثلًا، فيقيم عشرة أعوام ثم يأتي وليس في يده إلا أربعون، فلا خلاف هاهنا أنه لا يزكي إلا شاة، وإن كان بالعكس فكانت أولًا أربعين ثم كملت في العام الأخير فالقولان كما قدمناه: هل يؤخذ منه بالألف (¬10) عن (¬11) الأعوام كلها، أو إنما يزكي شاة واحدة عن الأعوام المتقدمة وفي العام الأخير تسع شياه، وهذا هو الشاذ, وهو القياس. وأما المشهور فوجهه (¬12) العدل بين ¬

_ (¬1) في (م) بينا. (¬2) ساقط من (ق) و (ر). (¬3) في (ق) و (ر) قام. (¬4) في (ت) يوخذون. (¬5) في (ت) يؤخذ. (¬6) ساقط من (ت) و (ق). (¬7) في (ق) الوجود. (¬8) ساقط من (ر) (¬9) في (ق) و (ت) و (ر) ملوم. (¬10) في (ق) و (ت) و (ر) الألف. (¬11) في (ت) على. (¬12) في (ر) فوجه.

أرباب المواشي (¬1) والمساكين، فكما لا يضمن أرباب الماشية النقص فكذلك يحاسبون بالزكاة عما تقدم. وبالجملة تجعل الأعوام كالعام الواحد، وأيضًا فقد تخلفت السعاة [للفتنة (¬2) ثم بعثوا فأخذوا من الناس على ما في أيديهم. فيعد هذا كالإجماع المستقر. وهذا إن (¬3) تخلفت عنه السعاة] (¬4) وعنده نصاب , فإن كان عنده دونه ثم أتت السعاة وقد كمل نصابه أو زاد, فإن كان الكمال بفوائد (¬5) فلا خلاف أنه لا يحسب عليه إلا من يوم الكمال، وإن (¬6) كان بولادة فهل يكون كالفائدة أو يجعل جميع الأعوام كالعام الواحد؟ في المذهب قولان. وهكذا إن تخلف عنه وفي يده نصاب ثم نقص في بعض الأعوام ثم كمل بعد نقصه (¬7)، فيجري على ما قدمناه في هذا من التفصيل؛ فمن عد جميع الأعوام كالعام الواحد أوجب الزكاة ولم يلتفت إلى النقص، ومن علل بالعمل أو التعديل بين أرباب الأموال والمساكين لم يوجب شيئًا إلا بعد الكمال. ولو غاب أعوامًا عدة مثلًا عمن (¬8) له خمسة وعشرون من الإبل ثم جاء، فإن وجد فيها بنت مخاض أو بنت (¬9) لبون أخذ ما وجد وزكى ما بقي بالغنم، وإن لم يجد ذلك كلف رب المال الشراء من غيرها. وهل يزكي لجميع الأعوام بالإبل أو يكون الحكم كالأول؟ في المذهب قولان، وهما على الخلاف في تعلق الزكاة بعين المال أو بالذمة؛ فمن علقها بعين المال أوجب عن عام واحد زكاة الإبل ويكون الشراء من غيرها هاهنا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) و (م) الأموال. (¬2) في (ر) تختلف، وفي (ت) تخلف السعاة الفتنة، وفي (م) يتخلف السعاة بفتنة. (¬3) في (ق) إذا. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (ت) و (ق) و (م) فائدة. (¬6) في (ق) و (ت) و (ر) فإن. (¬7) في (ر) بعضه. (¬8) في (ر) كمن. (¬9) في (ت) ابن.

فصل (متى يبعث السعاة)

كالتعويض (¬1)، ومن علقها بالذمة أوجب عن الأعوام كلها زكاة الإبل. فصل (متى يبعث السعاة) وقد تقدم أن أرباب الماشية ينقسم حالهم إلى من لهم سعاة، وإلى من لا سعاة لهم. وذكرنا أن من لا سعاة لهم يكون حالهم في الإخراج كالمالك للعين، وتحل الزكاة عليهم بمضي الحول. وقد ذكرنا الخلاف في مجيء السعاة هل هو شرط في الوجوب أو في الأداء. فمن لا سعاة لهم يزكون بلا خلاف وقت حلول الحول، وأما من له سعاة فمذهبنا أنهم يبعثون في [استقبال] (¬2) الصيف حين تطلع الثريا بالغداة. وهذا تخفيف عن أرباب الأموال وعن السعاة؛ لأنّ أرباب الماشية يقيمون (¬3) في هذا الزمان على مياههم [بالغدو] (¬4) ويجمعون ماشيتهم، فيهون على السعاة تحصيل مقاديرها وعلى أرباب الأموال إخراج ما يجب عليهم. (وجوب إخراج العين الواجبة لا قيمتها) وأصل المذهب أن الزكاة لا تخرج بالقيمة وإنما يخرج [الإنسان] (¬5) العين الواجبة عليه، فإن أخرج قيمتها؛ فأما في الدنانير إذا أخرج عنها دراهم أو بالعكس فقد تقدم الخلاف فيه، فأما الماشية والحرث فالمشهور من المذهب أنه إذا أخرج طوعًا القيمة فلا تجزيه، والشاذ أنها تجزيه. وهذا يحتمل طريقين: أحدهما: أنه جائز ابتداء، فيكون وجهه تغليب إرفاق المساكين، ويكون وجه المنع تغليب حكم العبادة. ويحتمل أن يكون غير جائز ابتداء لكن إذا وقع فقد نزل ما اختلف فيه الناس، فيمضي مراعاة للخلاف. ¬

_ (¬1) في (ر) كالتفويض. (¬2) ساقط من (ق) و (ت). (¬3) في (ق) و (ت) و (م) يجتمعون. (¬4) ساقط من (م) وفي (ر) بالغرة. (¬5) ساقط من (ق).

فصل (حكم زكاة الماشية تغصب وترد لصاحبها)

وإن أخرج القيمة كرهًا فلا يخلو أن يكون آخذوها يعدلون في الإصراف أو لا؛ فإن كانوا يعدلون فالمذهب على الإجزاء (¬1) لأنه [حكم بما] (¬2) اختلف الناس فيه، وإن كانوا لا يعدلون فهاهنا قولان: أحدهما: الإجزاء، والثاني: عدمه. وهما نظرًا إلى أن التعدي على الإخراج يعود بالعداء (¬3) في الأخذ. وقد قدمنا الخلاف في ولاة الجور يأخذون الزكاة هل يجزي أم لا؟ وإذا أخذوا القيمة فالإجزاء هاهنا يجري على كل أصل ثان وهو حكم الجائر (¬4) من الولاة إذا قصد إلى الحكم وحكم فأصاب هل يمضي حكمه لأنه وافق الحق، أو يرد لأنه معزول شرعًا؟ فصل (حكم زكاة الماشية تغصب وترد لصاحبها) وقد تقدم الخلاف في المال العين يغصب أو يضيع، ثم يرجع إلى ربه، هل يزكيه لكل عام أم لا؟ أما الماشية تغصب ثم ترد إلى ربها فهل يزكيها لعام واحد أو لما تقدم من الأعوام؟ قولان. وأجراهما الأشياخ على الخلاف في رد الغلات إلى المغصوب منه، وإنما (¬5) لم يقل واحد من أهل المذهب أن الزكاة ساقطة جملة لأنه [لا] (¬6) خلاف في رد الأولاد، وهو من أعظم النماء إلا على ما يقوله أبو القاسم السيوري ويستقرئه من مسألة كتاب العيوب في المدونة، وبيانه يأتي في موضعه. (حكم الشجر المغصوب) وإن كان المغصوب شجرًا فهل (¬7) المذهب متفق (¬8) على وجوب الزكاة ¬

_ (¬1) في (ق) على قولين الإجزاء. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) بالعدات. (¬4) في (ق) و (ت) الجائرين. (¬5) في (م) وإنه. (¬6) ساقط من (ر). (¬7) في (م) و (ر) فأهل. (¬8) في (ر) متفقون.

فصل (زكاة الماشية المردودة بالعيب)

فيها؟ للمتأخرين قولان (¬1)، وجمهورهم على أنها عارية عن الخلاف, لأن الغلات إن كانت مردودة على ربها فالنماء حاصل له فتجب عليه الزكاة، وقال بعضهم يجري على الخلاف. فإن كان مراده أن الخلاف هل يزكيها المغصوب منه أو الغاصب؟ فيكون هذا بناء على الخلاف في رد الغلات، فله وجه. وأن أراد أن المغصوب منه لا يزكيه (¬2) وإن ردت عليه الغلات فبعيد، يكاد أن لا يكون له وجه. ... فصل (زكاة الماشية المردودة بالعيب) وقد اختلف المذهب في الرد بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله أو نقض له الآن؟ وكذلك في البيع الفاسد إذا نقض هل يكون كالمنتقض من الأصل أو يوم الحكم؟ وكذلك المردودة (¬3) بالفلس. وعلى هذا اختلف المذهب في الماشية ترد بعيب أو ينقض البيع الفاسد فيها أو يأخذها ربها لفلس المشتري بعد أن قامت في يد المشتري عامًا أو أعوامًا، هل تزكيه على ملك المشتري أو على ملك ربها؟ وهل ببني ربها على ما تقدم له فيها أو يستقبل فيها حولًا؟ وفي كل ذلك قولان. ... فصل (على من يكون كراء نقل الزكاة) وقد تقدم الخلاف في سنة الجدب، هل يؤخذ فيها من الماشية أم لا؟ وإذا قلنا بالأخذ بعثت السعاة، وإذا قلنا بنفيه فلا تبعث. وإذا كان من له ¬

_ (¬1) في (م) طريقان. (¬2) في (ق) و (ت) لا يزكيها. (¬3) في (ر) المردود.

باب في زكاة الحبوب والثمار

ماشية بموضع لا تبلغه السعاة؛ فإن كان هناك مساكين أدى إليهم، فإن لم يكونوا وافتقروا إلى النقل فهل يكون كراء النقل عليه لأنّ الزكاة في ذمته، فعليه أن يوصلها إلى مستحقها؟ أو لا يكون عليه ذلك، بل يكون الكراء من بيت المال إن كان، أو من الزكاة إن لم يكن لأنّ الزكاة متعلقة بالعين والمساكين كالشركاء [فيها (¬1)؟ في المذهب في ذلك قولان. وقد قدمنا الخلاف في هذا الأصل (¬2). ... باب في زكاة الحبوب والثمار وقد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في النبات على الجملة، وإن اختلفت في التفاصيل. وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} (¬3) الآية، لكن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬4)، ظاهر في تعلق الحق، ومجمل في جنسه ومقداره. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - "فيما سقت السماء العشر" (¬5) أن الزكاة واجبة في جميع النبات إلا الحشيش والقصب الهندي، إلى ما قاله من التفصييل الذي لسنا نذكره لأنّ القصد بيان المذهب والإشارة إلى مذهب المخالف. وساعده ابن الماجشون [على الإيجاب] (¬6) في كل ذي أصل كالرمان والسفرجل والتفاح وسائر الثمار، وخالفه في البقول. وعوّل في هذا على الآية. وألزم أن يقول ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) نهاية النسخة (م). (¬3) الأنعام: 141. (¬4) الأنعام: 141. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة 1412 عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون لو كان عثرياً العشر وما سقط بالنضح نصف العشر". (¬6) ساقط من (ر)، وفي (ت) في إيجاب الزكاة.

فصل (أركان هذا الباب)

بما قاله أبو حنيفة في البقول، لقوله تعالى: {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} (¬1) الآية، لكن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). وقد اعتذر المشهور من المذهب عما تقتضيه الآية، بأنه تعالى علق الحق بيوم الحصاد؛ فإنما يكون ذلك فيما يكون فيه الحصاد، وأيضًا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد روي عنه أنه استثنى البقول والفواكه فأسقط منها الزكاة (¬3). ومن جهة المعنى (¬4) أن الزكاة تتعلّق بالأموال الشريفة (¬5) التي هي قوام الحيوان (¬6)، أو قوام معيشته كافية [كالعين] (¬7) والنعم، ويجب أن يختص من النبات بما فيه هذا المعنى وليس إلا الأقوات. ... فصل (أركان هذا الباب) وإذا تقررت هذه المقدمة (¬8) قلنا بعدها النظر في هذا الباب ينحصر في ثلاثة أركان (¬9): أحدها: ما تجب فيه الزكاة، والثاني: ما المقدار الواجب، والثالث: في صفة الإخراج. ¬

_ (¬1) (¬2) الأنعام: 141. (¬3) لعله يقصد ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 129 عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) في (ق) اللغة. (¬5) في (ت) الشرعية. (¬6) في (ر) قوام الأموال الحيوان. (¬7) ساقط من (ر). أما في (ق) فالكلمة غير واضحة ولعلها "كالثمر"، أو "كالشهر". (¬8) في (ق) المقدمات. (¬9) في (ت) فصول.

(ما الذي تجب فيه الزكاة)

(ما الذي تجب فيه الزكاة) فأما الركن الأول، فقد تقدم آنفًا قول ابن الماجشون في الفواكه ومخالفة المشهور له. وإذا قلنا بالمشهور فقد اختلفت طرق المتأخرين في الحكاية عن المذهب؛ فالجمهور متفقون على أن المذهب على إيجاب المزكاة في كل مقتات متخذ للعيش غالباً، وأما أبو الحسن اللخمي فحكى على المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: ما قدمناه، والثاني: تعلق ذلك (¬1) بما يخبز من الحبوب دون ما لا يخبز، فيرى أن القطاني (¬2) مختلف في وجوب الزكاة فيها لأنها لا تخبز إلا في النادر، والثالث: التعلق بكل مقتات وإن لم يكن للعيش غالبًا (¬3). ويضيف هذا القول إلى القاضي أبي محمد [عبد الو هاب] (¬4). وهذا الذي عول عليه إنما يقع في إطلاق روايات يظهر في تفصيلها أن المذهب على قول واحد، لكن اختلف في مسائل [على] (¬5) الخلاف في ردها إلى قبيل المقتات نادرأ أو (¬6) المقتات غالبًا. وقد قدمنا الخلاف في النادر هل تتعلق به الأحكام أو لا؟ وتفصيل هذا الإجمال أنه لا خلاف في المذهب في إيجاب الزكاة في القمح والشعير والسلت (¬7) والعلس (¬8) والقطاني. لكن اختلف في البسيلة وهي: الكرسنة (¬9)، هل تعد من القطاني أم لا؟ وهو خلاف في شهادة. ولا ¬

_ (¬1) في (ت) الزكاة. (¬2) يقصد بها الحبوب التي تدخر كالحمص والعدس. (¬3) التبصرة لوحة: 101. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ر) و (ق). (¬6) في (ر) أو أن. (¬7) السلت: ضرب من الشعير ليس له قشر كأنه الحنطة. انظر مختار الصحاح: 130. (¬8) العلس: ضرب من الحنطة، تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صنعاء. المصدر السابق ص: 189. (¬9) لعله يقصد اللوبيا. استفدت هذا من اعتراض ابن عرفة على ابن بشير حث قال: =

خلاف أيضًا في التمر والزبيب. واختلف في التين؛ وقد ترجح قول مالك فيه، فقال ابن القصار وغيره: إنما تكلم مالك على بلده، والتين غير ثابت فيه، وإنما تجلب إليه وهو في بلاد الشام وغيرها من الأقطار مقتاتًا غالبًا. وقد نزل أبو الوليد الباجي هذا على (¬1) النظر إلى المقتات (¬2) في زمن نزول الأحكام وقوت (¬3) أهلها، والنظر إلى (¬4) كل قطر وعادته. وهذا (¬5) ينتقض عليه بالزيتون فإنه لا خلاف عندنا في وجوب الزكاة فيه، وإن لم يكن بالمدينة وأحوازها. وتجب الزكاة في كل ما فيه زيت، كالزيتون والجلجلان (¬6). وأما حب الفجل الأحمر (¬7) وزريعة الكتان، والقرطم وهو زريعة العصفر، ففي المذهب فيها ثلاثة أقوال: أحدها: إيجاب الزكاة, وإسقاطها، والتفرقة بين أن يكثر زيتها أو يقلّ. هذا خلاف في حال هل يكون في هذا من الزيت ما يلحق في الكثرة والمنفعة بالزيتون والجلجلان (¬8) أم لا؟ وكذلك يختلف أيضًا فيما لا يتزبب من العنب, وما لا يخرج زيتًا من الزيتون، وما لا يثمر من النخل تتعلق الزكاة به نظرًا إلى الغالب أو لا تتعلّق نظرًا إلى الشيء في نفسه؟ وهو على الخلاف في تعليق الأحكام على النوادر، وهذا حقيقة المذهب إجمالًا وتفصيلًا. ... ¬

_ = وقول ابن بشير الكرسانة هي: اللوبيا، خلاف سماع القريتين تفسير مالك القطنية.". مواهب الجليل 4/ 348. (¬1) في (ر) إلى. (¬2) في (ر) الالتفات. (¬3) في (ر) وقلة. (¬4) في (ق) و (ت) على. (¬5) في (ق) وهل. (¬6) في (ر) الزنجلان. (¬7) ويعرف بالسمسم يعرف أيضًا بالماش وهو حب يستخرج منه الزيت انظر التاج والإكليل ص 2/ 280. (¬8) في (ر) والزنجلان.

فصل (المقدار الواجب)

فصل (المقدار الواجب) وأما المقدار الواجب فهو العشر فيما يُسقى من غير تكلف مشقة، ونصف العشر فيما يسقى بمشقة. وما كان يشرب سيحًا (¬1)، أو من السماء، أو بعروقه ففيه العشر، وما كان يشرِب بالغرب وهو الدلو (¬2) والدواليب (¬3) وغيرِ ذلك من أنواع نزع المياة، ففيه نصف العشر. فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأصول لا يملك الماء وإنما يشتريه بالثمن ففيه قولان: والمشهور وهو الصحيح أنه يزكي بالعشر، إذ فيه نص الحديث. وذكر أبو الحسن اللخمي أنه سئل عما يُتكلف في إجرائه نفقة, فأجاب أنه يزكي للستة الأول (¬4) نصف العشر، وفي ما بعدها العشر. ومَن أوجب هاهنا نصف العشر فإنما يعول (¬5) على الالتفات إلى المعنى, وأن مقصود الحديث أن ما فيه كلفة ففيه نصف العشر، وما لا كلفة (¬6) فيه ففيه العشر [كاملًا] (¬7). وهذا ظاهر [ما لم] (¬8) يصادم النص؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل (¬9) فيما يشرب بالعيون [أو بالبعل] (¬10) العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر (¬11)، فينيغي أن ينظرُ إلى المعنى لكن من غير أن يعود التعليل ¬

_ (¬1) جاء في لسان العرب 2/ 492 "السَّيْحُ الماءُ الظاهر البخاري على وجه الأَرض. وفي التهذيب: الماء الظاهر على وجه الأرض. وجمعُه سُيُوح, وقد ساح يَسيح سَيْحاً سَيَحاناً إِذا جرى على وجه الأَرض". (¬2) في (ت) الدلو الكبير. (¬3) في (ق) الدوالي. (¬4) في (ق) و (ت) يزكي للسنة الأول. (¬5) وفي (ق) يقول. (¬6) في (ت) مشقة كلفة. (¬7) ساقط من (ر). (¬8) ساقط من (ت). (¬9) في (ق) إنما يحمل فيما يسقى. (¬10) ساقط من (ر). (¬11) أخرج مالك في الموطأ في كتاب الزكاة بَاب زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ =

(اعتبار النصاب)

بمصادمة النص. وقد قال المحققون إن كل علَّة تعود على النص بالإبطال فهي باطلة، وأيضًا قد يكون الخلاف في النوادر، هل تعطى حكم الغالب أو تعلق عليها الأحكام في أنفسها؟ وإن سقى شيئًا من النبات بالوجهين جميعًا: العين والنضح أو ما في معنى ذلك. فلا يخلو من أن يتساوى الأمران، أو يكون أحدهما تبعا؛ فإن تساويا فقولان: أحدهما: أنه ينظر إلى ما حيي به النبات فيعلق الحكم عليه، والثاني: أنه يزكى بثلاثة (¬1) أرباع العشر فيعطى لكل سقي حكمه. وهذا هو القياس، إلا أن يكون الذي حيي به النبات هو المقصود، والثاني: في حكم اللغو. وإن كان أحدهما تبعًا للآخر فثلاثة أقوال: أحدها: أن الأقلَّ لا يلتفت إليه وينظر إلى الأكثر. والثاني: ينظر إلى ما حيي به النبات. والثالث: إعطاء كل شيء (¬2) حكم نفسه. والقولان مبنيان على الخلاف في الأتباع هل تعطى حكم متبوعاتها أم لا؟ وأما النظر إلى ما حيي به النبات فعلى ما قدمناه. (اعتبار النصاب) ولا خلاف عندنا في اعتبار النصاب فلا يزكى من وُجد دونه، وهو خمسة أوسق (¬3). وقدَّر الأشياخ الوسق قفيزًا، وبالقروي أربعًا. فتكون الزكاة ¬

_ = وَالْأَعنَاب "عَنْ سُلَيمَانَ بْن يَسَار وَعَن بُسْرِ بن سعيد أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ وَالَبَعلَ العُشرُ وَفِيما سُقيَ بِالنْضحِ نِصفُ العُشرِ". (¬1) في (ق) ثلاثة. (¬2) في (ق) سقي. (¬3) جاء في لسان العرب 10/ 378: الوَسقُ والوِسْقُ: مِكْيَلَة معلومة، وقيل: هو حمل بعير وهو ستُون صاعًا بصاع النبي- صلى الله عليه وسلم -, وهو خمسة أَرطال وثلث، فالوسْقُ على هذا الحساب مائة وستون مَنًا؛ قال الزجاج: خمسة أَوسق هي خمسة عشر قَفِيزًا، قال: وهو قَفِيزُنا الذي يسمى المعدّل، وكل وَسْق بالمُلَجَّم ثلاثة أَقْفِزَةٍ، قال: وستون صاعًا أَربعة وعشرون مَكوكًا بالمُلَجَّم وذلك ثلاثة أَقْفِزَةٍ. التهذيب: الوَسْقُ، بالفتح، ستون =

في ست أقفزة وربع بالقروي، فإن نقص عن ذلك لم تجب وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬1)، وما زاد على ذلك أُخذ بقدره كما يفعل في العين. وكل ما العادة فيه الكيل حكمه ما قدّمناه. وأما ما العادة فيه الوزن فإنه ينسب من الكيل، فإذا بلغ المقدار الذي ذكرناه وجبت فيه الزكاة. ويعتبر ما العادة فيه التجفيف حال جفافه، وذلك جارِ في العنب والبسر (¬2) والتين إذا قلنا بإيجاب الزكاة في التين. وأما الزيتون فإنما يعتبر (¬3) فيه حالة كماله، والكمال فيه الطيب، والجفاف نقص عن الكمال، فلا (¬4) يعتبر [فيه] (¬5). والذي قلناه في البُسر والعنب والتين إذا كان الجفاف فيه متأتيًا، و [العنب] (¬6) إذا (¬7) كان لا يتأتى فيه ذلك فهل يحسب حالة كماله التي لا يزيد عليها، أو يعتبر جفافه لو كان الجفاف فيه متأتيًا؟ في المذهب قولان. وهما على الخلاف في مراعاة النادر في نفسه، فيعتبر [حالة كماله التي لا يزيد عليها] (¬8)، أو يعتبر الأكثر من غير نظر إلى النادر فيعد (¬9) تأتي الجفوف (¬10) فيه. ¬

_ = صاعًا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلاً عند أَهل الحجاز، وأَربعمائة وثمانون رطلًا عند أَهل العِراق على اختلافهم في مقدار الصالح والمُدِّ، والأَصل في الوَسْق الحَمل؛ وكل شيء وَسَقته، فقد حملته. قال عطاء في قوله خمسة أَوسُقِ: هي ثلاثمائة صاع، وكذلك قال الحسن وابن المسيّب. (¬1) متفق عليه فقد أخرجه البخاري في كتاب الزكاة 1378 ومسلم في كتاب الزكاة 979. (¬2) جاء في لسان العرب: 4/ 58 "البُسْرُ: التمر قبل أَن يُرْطِبَ لِغَضاضَتِهِ، واحدته بُسْرَةٌ". (¬3) في (ر) و (ق) تعرف. (¬4) في (ر) و (ق) ولا. (¬5) ساقط من (ت) و (ق). (¬6) ساقط من (ق) و (ت). (¬7) في (ق) وأما وفي (ت) وإذا. (¬8) في (ق) فيعتبر حالة الكمال الذي لا يزيد في أحدهما أنه ينظر إلى ما حيي به النبات فيتعلق الحكم عليه. (¬9) في (ت) فيعتبر وفي (ق) فيقدر. (¬10) في (ر) و (ق) الجفاف.

(ما لا يضاف بعضه إلى بعض لتكملة النصاب)

وإذا اجتمع النصاب من صنف واحد وجبت الزكاة، وإن اجتمع من أصناف فهاهنا ينقسم [النبات] (¬1) الذي يجب فيه الزكاة إلى ثلاثة أقسام: قسم لا خلاف فيه أنه لا يضاف بعضه إلى بعض، [وقسم لا خلاف أنه يضاف بعضه إلى بعض، وقسم فيه قولان. (ما لا يضاف بعضه إلى بعض لتكملة النصاب) وأما ما لا يضاف بعضه إلى بعض، (¬2)؛ فالزبيب لا يضاف إلى التين، [ولا هما إلى الزيتون] (¬3) ولا جميعها إلى التمر، ولا الزيتون إلى الجلجلان، ولا جميع ذلك إلى زريعة الكتان، إن قلنا إنَّ فيه الزكاة. وبالجملة أنَّ كل صنف من هذه الأصناف منفرد بنفسه. وأصله أن (¬4) ما تباين في الجنس والمنفعة فلا يضاف بعضه إلى بعض. وكذلك لا يضاف جميع ما ذكرناه إلى الحبوب. (ما يضاف بعضه إلى بعض) وأما ما يُضاف بعضه إلى بعض فالقمح والشعير والسلت يُضاف بعضه إلى بعض عندنا. على نصوص المذهب، [وأصله أن ما استوت المنفعة فيه أو تقاربت] (¬5). ولا خلاف أن أنواع التمر والزبيب والزيتون يُضاف كل صنف منها بعضه إلى بعض. (الأنواع المختلف فيها) وأما المختلفة فيه فمنه العلس وهو الأشقلية، وقد اختلف المذهب فيه هل يُضاف إلى القمح وما ذُكر معه أو يكون صنفًا قائماً بنفسه؟ ومنه الأرز ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ق). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ت) كل. (¬5) ساقط من (ر).

(حكم ما يثمر بطنين)

والدخن والذرة؛ في المذهب قولان في إضافة بعضها إلى بعض في [أحكام الربا. وخرَّج [منه] (¬1) أبو الوليد الباجي في إضافة بعضه إلى بعض في] (¬2) الزكاة. ولا شك في صحة هذا التخريج. وأما القطاني فهل يُضاف بعضها إلى بعض؟ قد اختلف قول مالك رحمه الله في الإضافة في أحكام الربا، واختلف متأخرو أصحابه هل يجري مثل ذلك في الزكاة؟ فحكى أبو الوليد الباجي قولين، وروى القاضي أبو محمد جريانه في الزكاة. قال أبو الوليد الباجي: الصواب أنه لا يجري (¬3)، وعوَّل على ما ذكره في الموطأ [من أن الدنانير والدراهم] (¬4) جنسان في الربا، ويُضاف بعضها إلى بعض في الزكاة بلا خلاف. وهذا يدلّ على أن الربا يُشترط فيه من تقارب المنفعة ما لا يشترط في الزكاة. وهذا الذي قاله واضح. هذا النظر في إضافة [الأصناف. وأما إضافة الملك بعضه إلى بعض فإن اتفق الشرع في النبات والحصاد فلا شك في إضافة] (¬5) بعضه إلى بعض. وينبني (¬6) على هذا أن ما يوجد (¬7) من الأشجار يُضاف بعضه إلى بعض إذا اتفقا في ظهور الثمرة. (حكم ما يثمر بَطْنَيْنِ) وإن كان المزروع بطنين [أو بطوناّ] (¬8) فهل يعتبر فيه الفصول، فيضاف الشتوي منه إلى النابت في زمانه، وكذلك الصيفي والربيعي والخريفي؟ أو يُنظر إلى ما اتفق في زمن النبات ويُضاف إليه؟ فإن زرع ونبت قبل حصاد ما ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ق). (¬3) في (ق) لا يجزي. (¬4) ساقط من (ر). (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) و (ت) وبين. (¬7) في (ت) ما يؤخذ وفي (ق) ما يتحد. (¬8) ساقط من (ر).

فصل (صفة الإخراج)

قبل (¬1)، في المذهب في ذلك قولان. والنظر إلى الفصول بناء على ما زُرع في كل فصل، حكمه في السقي والمنفعة منفرد عن حكم ما زُرع في فصل غيره. والنظر إلى [الاجتماع في النبات كالنظر إلى الاجتماع في الحول والملك كما تقدم في أحكام الفوائد. وإذا اعتبرنا الاجتماع] (¬2) في النبات فكان الزرع في ثلاثة أزمنة؛ أول وثان وثالث. فلا شك أنه إذا زرع الثالث قبل حصاد الأول أن الكل (¬3) يُضاف بعضه إلى بعض، وأما (¬4) إذا زُرع الثالث بعد حصاد الأول وقبل الثاني، فإذا كان أضيف كل واحد من الطرفين منفردًا إلى الوسط وجبت الزكاة [لكمال النصاب] (¬5) لم يختلف على هذا في الوجوب. فإن كان لم يجتمع من إضافة أحد الطرفين إلى الوسط ما تجب فيه الزكاة، ولا يجتمع من الكل أيضًا، فلا شك في السقوط. وإن كان يجتمع من إضافة الكُل ولا يجتمع (¬6) من إضافة أحد الطرفين منفردًا إلى الوسط، ويجري (¬7) على ما قدَّمنا في زكاة الخلط إذا كان إنسان له خليطان فهل يُعد الجميع خلطاء (¬8) أم لا؟ وقد تقدم ذلك وما فيه من الأقوال، وكذلك حكم الاقتضاءات والفوائد. ... فصل (صفة الإخراج) وأما صفة الإخراج، فإن النبات كله إذا كان على ساق كالحنطة وما ذُكر معها فتؤخذ الزكاة من حَبّه. وتجب فيه بالطيب على [قول، وبالحصاد ¬

_ (¬1) في (ت) ويضاف منه ما زرع ونبت قبل حصادها قبله إلى ما قبله. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ر) العمل. (¬4) في (ق): وإذا، وفي (ت) فإن. (¬5) ساقط من (ق). (¬6) في (ر) لا يجتمع. (¬7) في (ت) فيجري. (¬8) في (ر) الجمع ذلك.

(زكاة الحب المبيع)

على قول، على] (¬1) ما سنُبيِّنه إلا أن يكون الحَبُّ يُعصر زيته كالجلجلان أو زريعة الكتان وما ذُكر معهما (¬2) على قول من أوجب الزكاة فيها، فإن المذهب في هذه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تؤخذ من الندب، والثاني: أنه يؤخذ من الزيت إذا كمل (¬3) الحبّ النصاب، والثالث: أنه كيفما أخذ أجزأ، إما من الحب وإما من الزيت. وكذلك الخلاف في الزيتون. وأما الأشجار كالتمر والزبيب والتين فإنهما على قسمين: أحدهما: أن تكون ثمرتها تبلغ الكمال، والثاني: أن تكون لا تبلغه، كما لا يثمر من النخل ولا يزبب من العنب ولا يجف من التين. فإن كانت تبلغ النهاية أخذ منها إذا بلغت النهاية، وإن كانت لا تبلغه فيها هاهنا قولان: أحدهما: أنه تؤخذ من التمر، والثاني: أنه تؤخذ من الكامل (¬4) عنها. وسبب الخلاف فيما يعتصر زيته أنه له (¬5) كمالين: أحدهما: كونه حبًا مما يصح ادخاره، والثاني: كونه زيتًا، وهو المقصود والغاية التي يراد لها. فمن نظر إلى حالته التي يدخر عليها وعده كمالًا أوجب منه، ومن نظر إلى نهايته أوجب من زيته، ومن رأى أن كل واحد منها [كمال] (¬6) خُيِّر، ويعتمد القول بإخراجه حبًّا لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬7)، وأما القول الثاني بناءً على ما لا يعتصر. وأما الخلاف فيما لا يجف فهو على ما قدَّمناه من النظر إلى كل صورة في نفسها أو النظر إلى الأكثر، والنوادر لا تُراعى. (زكاة الحب المبيع) وإذا أوجبنا الزكاة من الحبَّ فباعه ربه؛ فإن باعه ربُّه قبل الطيب ¬

_ (¬1) ساقط من (ق). (¬2) في (ر) معه وفي (ق) معها. (¬3) في (ت) بلغ. (¬4) في (ر) الكمال. (¬5) في (ت) لأنه له وفي (ر) لأنه رآه. (¬6) ساقط من (ق). (¬7) الأنعام: 141.

(ما يخرص وما لا يخرص)

وجبت الزكاة على المشتري لا على البائع لأنه خرج عن ملكه قبل وجوب الزكاة عليه، فإن باعه بعد الطيب فالزكاة على البائع، وهل يجزيه أن يخرج من ثمنه، أو يكلف بأن يأتي بحب مثله؟ في المذهب قولان. والتكليف بأن يأتي بحب هو (¬1) الأصل؛ لأنه باع نصيب المساكين، فعليه أن يعوض ما أتلف. وأما القول بأنه يخرج من الثمن فقد رآه (¬2) بعض المتأخرين على طريقين: إما على القول بإجزاء (¬3) القيم، وإما على أن البيع جائز. فصار كالوكيل للمساكين فيمضي بيعه (¬4) ويؤخذ من الثمن (¬5). فإن أفلس البائع ولم يوجد عنده ما يؤخذ منه فهل يؤخذ من المشتري مقدار الزكاة؟ في المذهب قولان: أحدهما: أنه يؤخذ منه، والثاني: أنه لا يؤخذ منه. وهما على الخلاف هل يعد المساكين كالشركاء في العين فإذا أفلس البائع رجعوا إلى عين ما لهم فأخذوا منه؟ أو ليس كالشركاء فيتبع بذلك البائع متى أيسر؟ وذوات الأصول على قسمين: أحدهما: ما يخرص كالتمر والعنب، والثاني: ما لا يخرص كالزيتون. واختلف في وجه الفرق فقيل: إن التمر والعنب ظاهر النبات متميِّز عن الأوراق، فيحصل مقداره بالخرص (¬6)، وقيل: بأن حاجة (¬7) أهله إلى أكله من حيث يبتدي الطيب. وأما ما كان على ساق فإنه بمنزلة الزيتون. (ما يخرص وما لا يخرص) ولو احتاج أصحاب ما ذكرناه أنه لا يخرص إلى الأخذ منه قبل ¬

_ (¬1) في (ق): هل. (¬2) في (ت) نزله. (¬3) في (ت) بإخراج. (¬4) فيما يبعه. (¬5) في (ر) الثمر. (¬6) في (ق) و (ر) على الخرص. (¬7) في (ت) لحاجة، وفي (ق) لأنّ حاجة.

(متى يستقر وجوب زكاة الحبوب)

كماله، فهل يخرص لذلك؟ قولان: أحدهما: أنه يخرص، والثاني: أنه لا يخرص. وهما على الخلاف في علَة الخرص ما هي؟ هل هي حاجة أهله (¬1) إلى التصرّف فيه قبل الكمال؟ أو تمييزه عن الأوراق؟ فإن قلنا الحاجة (¬2) إلى الأكل قبل الكمال خرّص سائر الأشياء إذا افتقر أهلها إلى الأكل، وإن قلنا إنه للتمييز فلا يخرص. ويكفي في الخرص عندنا الواحد لأنه كالحاكم، بخلاف حَكَمَيْ (¬3) الصيد. فإنهما كمقوّمي العيب. وإن خرصه خارصون (¬4) فاختلفوا، ففي الرواية إذا خرص ثلاثة (¬5) فاختلفوا أخذ منه ثلث ما يقوله كل واحد. وهذا إذا تساووا كلهم في المعرفة، فأما إن اختلفوا فيؤخذ بقول الأعرف منهم. وإذا خرص الخارص ثم تبيَّن له أنه أخطأ؛ فإن كان غير عارف رجع إلى ما تبيّن له بلا خلاف، وإن كان عارفًا فهل يؤخذ بقوله أو يرجع إلى ما تبيّن؟ في المذهب قولان. وهما على الخلاف في المجتهد يخطئ هل ينقض اجتهاده أو يعذر به. (متى يستقر وجوب زكاة الحبوب) واختلف المذهب متى يستقر وجوب الزكاة هل بالخرص أو بالطيب أو بالجذاذ؟ ومن نظر إلى مبتدأ (¬6) الانتفاع وأوائل الكمال أوجب بالطيب، ومن قال الخارص كالساعي أوجب بالخرص. والذي سمعناه في المذاكرات يدلّ على القول بالإيجاب باليبس لأنها نهاية الكمال. ومن عوَّل على قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬7) ورأى أن الجذاذ بمنزلة الحصاد، ¬

_ (¬1) في (ت) هل هي لحاجة أهله، وفي (ق) هل هي حاجة أهل. (¬2) في (ت) لحاجة وفي (ق) أنه لحاجته. (¬3) في (ر) حاكم. (¬4) في (ق) و (ر) خراصان. (¬5) في (ق) و (ر) ثلثه. (¬6) في (ق) هذا. (¬7) الأنعام:141.

فصل (حكم النبات يضيع بعد وجوب الزكاة)

أوجب بالجذاذ. وفائدة هذا لو مات ربّ الثمرة أو باع في أثناء ذلك؛ فإن كانت لم تطب فلا شيء عليه، فإن جذت فعليه [الزكاة] (¬1) باتفاق. وإن كانت بين ذلك فعلى الخلاف. وقد قدّمنا حكم العبد يعتق، وأنه يجري حكم ثمرته بعد العتق على هذا المعنى. ولا خلاف عندنا أن الحبَّ يؤخذ من عينه كيف كانت حالته. وأما التمر والزبيب فإن كان وسطًا أخذ منه، وإن كان مختلطًا، أو جيدًا كله، أو رديئًا كله، فثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤخذ منه قياسًا على الحب، والثاني: أنه يؤخذ من الوسط عدلًا بين أرباب الأموال والمساكين، وقياسًا على الماشية تؤخذ (¬2) من الوسط، والثالث: أنه إن كان مختلطًا أخذ من الوسط، وإن كان صنفًا واحدًا أخذ منه, لأنّ الوسط يمكنه إخراجه من المختلط، ولا يمكن ذلك في الجيِّد والرديء إلا بأن يشتري من غيره، وفي ذلك مشقة على أرباب الأموال. ... فصل (حكم النبات يضيع بعد وجوب الزكاة) وقد تقدم في الكتاب الأول حكم الأموال يضيع منه شيء بعد الحول من غير تفريط أو بتفريط. وعلى هذا الأسلوب يجري حكم النبات، لكن وقع في الروايات اضطراب إذا حصد أو جذ ثم عزل نصيب المساكين، أو أدخله إلى موضع خزينه، ففي بعضها يضمن المفرط دون غيره، وفي بعضها إن كان القسم والإخراج إليه فلا ضمان عليه، وإن كان إلى المصّدّق يضمن. وتحقيق هذا إن عمل ما في وسعه من غير تفريط أو تأخير عن وقت إمكان الخروج فلا ضمان عليه إن ضاع المال (¬3) أو نصيب المساكين ¬

_ (¬1) ساقط من (ق) و (ر). (¬2) في (ق) فيؤخذ وفي (ت) يوخذ. (¬3) في (ق) و (ر) الكل.

باب في أحكام الأموال المحبسة

إن عزله، وكان عزله نظرًا. لكن يختلف هل تتعلّق الزكاة بالباقي وإن قصر عن النصاب؟ وهو على الخلاف الذي قدمناه في إمكان الإخراج هل هو شرط في الوجوب أو شرط في الأداء؟ وإن فرط تعلَّق بذمته بلا خلاف. ... باب في أحكام الأموال المحبَّسة (حكم النبات المحبَس) وهي إما أن تكون نباتًا (¬1) أو [نعمًا] (¬2) أو عينًا؛ فإن كانت نباتًا (¬3) فلا يخلو أن يكون ربها يتولى التفرقة على المُحبَّس عليهم أو غيره؛ فإن تولاَّه بنفسه وجبت الزكاة عليه على أصل ملكه، ولا يراعى مقدار ما يصير لكل إنسان، فإن كان غيره فهل تجب الزكاة؟ لا يخلو من أن يكون المحبس عليهم ممن يستحق أخذ الزكاة أم لا؟ فإن كانوا ممن يستحق الأخذ فهل تجري فيها الزكاة أم لا؟ قولان: المشهور جريان الزكاة، والشاذ أنها لا تجري. فنظر (¬4) في المشهور إلى [أن] (¬5) أخذ الزكاة بطريق غير طريق التحبيس، فلم يسقطها وإن استحقوا الأخذ. ورأى في الشاذ أنه لا فائدة في أن تؤخذ منهم وهم ممن يستحق أن ترد عليهم. وإن كانوا ممن لا يستحق الأخذ، أو كانوا ممن استحقه على المشهور؛ فلا يخلو من أن يكونوا مُعيّنين أو غيرَ مُعيّنين؛ فإن كانوا معيّنين فهل يراعى جزء كل إنسان في (¬6) نفسه، فإن بلغ حظه نصابًا وجبت الزكاة وإلا سقطت، أو لا يراعى ذلك وتجب الزكاة إذا كان في الجملة نصابًا، في المذهب قولان. ¬

_ (¬1) في (ق) تيابًا. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) في (ق) تيابًا. (¬4) في (ق) فينظر. (¬5) ساقط من (ت). (¬6) في (ر) في.

(حكم الأنعام المحبسة)

وسبب الخلاف هل ملك المعين ذلك بظهور (¬1) الثمرة، أو لا يملك إلا بالوصول إليه وإن قلنا بالظهور؟ وبالجملة قبل الوصول إليه روعي حظ كل إنسان في نفسه. وإن قلنا لا يملك إلا عندما يعطى نصيبه روعيت الجملة. وهذا ينظر فيه إلى قصد المُحبس أو المُعطي. وإن كانوا غير مُعَيَّنين روعيت الجملة بلا خلاف, لأنهم لا يملكون إلا بالوصول إليه. (حكم الأنعام المحبسة) وأما الإبل المُحبَّسة فلا تخلو من قسمين: إما أن تكون حبست لتُفرَّق فمرَّ بها الحول قبل التفريق، أو لتُفرَّق (¬2) منافعها وأولادها. فإن حُبست لتُفرَّق فمرَّ بها الحول؛ فإن كانت على مُعَيَّنين ففيها قولان كما ذكرناه في الثمار، وإن كانت على غير مُعيَّنين زُكيت إذا كان في الجميع نصابا. وإن كان المُعطى أولادها ومنافعها زُكيت الأصول بلا خلاف إذا كان فيها النصاب، وجرى حكم أولادها على الخلاف في الأصول. والتفصيل إذا كانت تُفرَّق (¬3). (حكم العين المحبسة) وأما العين الموقوف (¬4) فإن كان ليُفرَّق فلا زكاة فيه, لأنه قد خرج عن ملك ربه ولم يقبضه من هو له ولا تنمية فيه، وإنما تجب الزكاة إذا أمكن النماء. فإن أوقف ليسلفه من احتاج إليه زكي إذا كان فيه النصاب. ... ¬

_ (¬1) في (ر) يملك المعطين من ذلك بظهور. (¬2) في (ت) لتفريق. (¬3) في (ت) لتفرق. (¬4) في (ر) الموقوفة.

باب في أحكام زكاة الفطر

باب في أحكام زكاة الفطر (حكم زكاة الفطر) ولا خلاف في الأمر بها, لكن اختلف الناس والمذهب هل هي فرض أو سنة؟ في المذهب قولان. وقد اختلف هل يتناوله قوله تعالى: [{وَءَاتُواْ الزَكَوةَ} (¬1)، ولا شك إن قلنا بتناولها أنها تكون فريضة، وقيل هي المراد بقوله تعالى] (¬2): {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} (¬3)، والمُشار بالذكر والصلاة [إلى] (¬4) تكبير العيد وصلاته، وعلى هذا يُحتمل الوجوب والندب, لأنّ الفلاح يحصل بما فيه أجر، والأجر يكون بالفرض والنفل. ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالنداء أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم (¬5) وهذا كالنَّص في الفريضة. وقال ابن عمر رضي الله عنه: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر من رمضان (¬6). وقد اختلف هل قوله فرض؛ محمول على ظاهره، أو معناه قدر. والتقدير يحتمل الوجوب والندب. لكن الظاهر حمله على ظاهره. وقد تأوَّل بعضهم ما وقع لمالك من أنها سُنة [على أنها مما] (¬7) عُلم كونه فرضًا بالسنة لا بالقرآن، كما وقع لابن سحنون أن الوضوء من البول سُنة معناه: أنه علم ثبوته بالسنة (¬8). وفي الحديث أنها إرفاق للمساكين، وطهارة للصائمين. ¬

_ (¬1) التوبة: 11. (¬2) ساقط من (ر). (¬3) الأعلى: 14 و15. (¬4) ساقط من (ت). (¬5) لعله يقصد ما أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الزكاة 674 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعث مناديًا في فجاج "مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير". (¬6) متفق عليه فقد أخرجه البخاري في كتاب الزكاة 1433 ومسلم 984 بلفظ قريب مما ذكره المصنف. (¬7) ساقط من (ر). (¬8) ساقط من (ر).

فصل (المقصود من هذا الباب)

والمقصود الأول هاهنا (¬1) مشاركة الفقراء للأغنياء في عدم الحاجة زمن (¬2) العيد. ونبَّه عليه السلام بقوله: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" (¬3) فإنها من باب المواساة. ولا شك أن المواساة تجب متى تعيَّنت، وإن كان المقصود بها الزيادة (¬4) على مقدار القوت ليشاركوا الأغنياء في التوسع، فيكون بابها الندب قياسًا على الصدقة من لحم الأضاحي. ... فصل (المقصود من هذا الباب) وإذا تقررت هذه المقدمة قلنا بعدها: ينحصر المقصود من هذا الباب في ثلاثة أركان: أحدها: متى يقع [بها] (¬5) الخطاب، والثاني: من يؤمر بها، والثالث: في حكم القدر (¬6) الواجب منها صفة ومقدارًا. (زمان الخطاب بها) فأما زمان الخطاب بها ففي المذهب اضطراب يؤخذ من مسائل مفردة في المذهب. ويتحصل من ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، [والثاني: من طلوع الفجر، والثالث: من طلوع الشمس، والرابع: أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر] (¬7)، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ت) منها. (¬2) في (ت) يوم. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ. قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/ 258: أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر وقال أغنوهم في هذا اليوم وفي رواية للبيهقي أغنوهم عن طواف هذا اليوم وأخرجه أيضًا ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد. (¬4) في (ر) الزكاة. (¬5) ساقط من (ر). (¬6) في (ر) الغداء. (¬7) ساقط من (ر).

لكن وجوبًا مُوسَّعا آخره غروب الشمس من يوم الفطر. وسبب الخلاف النظر إلى كونها طهرة من الرفث في الصوم يجب عند خاتمته، أو إلى كونها مضافة إلى اليوم. والقصد بها إرفاق المساكين فيه. فيختلف على هذا هل تجب بطلوع الفجر [من النهار أو بطلوع الشمس] (¬1) على القول بأن ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس من الليل. وأما القول الرابع فنظر إلى جميع المعاني. وفائدة هذا الخلاف فيمن ولد أو أسلم أو مات أو بيع [من العبيد] (¬2) في ما بين هذه الأزمان، هل تجب (¬3) فطرته؟ أو لا (¬4) تجب على المولود والداخل في الإسلام؟ وهل (¬5) تسقط عن الميت؟ والحكم فيمن هلك (¬6) يجري على هذه الأقوال التي قدمناها. وانفرد أشهب فقال: لا تجب على من لم يصم يومًا (¬7) من رمضان. وهذا باطل بغير المكلَّف، فإنما تجب عليه وإن لم يلزمه صيام. فإن علَّل أشهب بأنها طُهرة للصائمين، ومن أسلم أو ولد ولم يمض له زمن يصح صومه فلا طهرة عليه، وغير المكلَّف أيضًا لا يفتقر إلى تطهير إلا أن يقول تلزم من كان موجوداً تجري عليه أحكام المسلمين ولو يومًا. فهذه مراعاة لحكم الإسلام لا لحكم الصوم. واختلف القول في العبد يباع بيعًا فاسداً فيمضي عليه يوم الفطر وهو عند المشتري ثم ينقض البيع فيه، هل تكون صدقة الفطر على البائع أو على ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) في (ر) و (ق) العبد. (¬3) في (ق) و (ت) على من تجب. (¬4) في (ق) و (ت) هل. (¬5) في (ت) ومتى. (¬6) في (ق) و (ت) في ذلك. (¬7) في (ت) ولو يوما.

(وقت الإخراج)

المشتري؟ وهذا على الخلاف في البيع الفاسد إذا نقض هل هو نقض له الآن أو نقض من الأصل؟ (وقت الإخراج) ومتى تخرج صدقة الفطر؟ لا خلاف أن المستحب إخراجها قبل الغدو إلى المُصلى وبعد الفجر. قال مالك وأصبغ: له أن يخرجها قبل الصلاة أو بعدها. وظن أبو الحسن اللخمي أن هذا خلاف (¬1). وليس كما ظنه، وإنما تكلم على المستحب فذكر ما قدمناه وإجزاء إخراجها قبل الصلاة أو بعدها على وجه التوسعة. وهل يجوز إخراجها قبل يوم الفطر باليومين والثلاثة وتجزي من أخرجها كذلك؟ قولان. والخلاف في هذا (¬2) على ما قدمناه من الخلاف في إخراج الزكاة المالية قبل حلول الحول. وقد قدمنا أن ذلك على النظر إلى تغليب إرفاق المساكين أو تغليب العبادة. ... فصل (من يؤمر بالإخراج) وأما من يؤمر بالإخراج بها؟ فقد تقدم في زمان الوجوب متى يتوجه عليه الخطاب. وهل تجب على الفقير أم لا؟ لا خلاف في المذهب أنا لا نشترط في الخطاب بها ملك النصاب لأنها طهرة للأبدان وإرفاق بجزء يسير لا يشترط في وجوب الإرفاق به ملك النصاب. وهل تجب على الفقير إذا وجد زائداً على قوت يومه؟ قولان: المشهور: وجوبها، وأنه إن قدر على السلف تسلَّف أيضًا، وهذا لأنّ المفهوم ¬

_ (¬1) التبصرة لوحة: 102. (¬2) في (ق) و (ت) فيها.

(من يحل له أخذها)

من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" اشتراك (¬1) الكل في مقدار القوت. والثاني: أنها لا تجب على من هذه حالته, لأنه لا يحتمل حال (¬2) المواساة. ومن كان فقيرًا إلى هذا المقدار فابتداؤه بإغناء نفسه آكد عليه. وإذا قلنا بهذا القول فما المُراعى في حاله؟ قولان: أحدهما: أن كل من تحلُّ له صدقة الفطر لا يجب عليه إخراجها، إذ لا فائدة في أن يأخذها ثم يخرجها. والثاني: أن من يجحف به في معيشته وحاله فلا يجب عليه إخراجها. ولعلَّ هذين القولين يرجعان إلى معنى واحد. (من يحل له أخذها) وقد اختلف في صفة من يحلُّ له أخذها على قولين: أحدهما: أنه من يحلُّ له أخذ الزكاة، والثاني: أنه الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك. وعلى القول الأول يجوز أن يعطى أكثر من صدقة إنسان واحد، وعلى القول الثاني لا يجوز أن يأخذ أكثر من ذلك. ولا شك في وجوبها على الإنسان في نفسه. وأما من تلزمه نفقته، فإن كان اللزوم لِحَقِّ القرابة كالأبوين والبنين لزمه ذلك. (ما يلزم الإنسان الإنفاق عليه وما لا يلزمه) وهل يلزمه الإنفاق على زوجة أبيه، فيه قولان: وعلى هذا يجري حكم إخراج الفطرة عنها على المشهور من المذهب. وهل يلزمه الإنفاق على عبيد بنيه؟ أما من لا يحتاجون إلى خدمتهم فلا تلزمه. وأما من يحتاجون إليه ففيه قولان: أحدهما: إلزام الفطرة لأنّ الإخدام لابنه واجب عليه، وإن كان لهم من يخدمهم وجب عليه نفقة العبيد. والثاني: أنه لا يجب عليه لأنهم أملياء بالعبيد. ¬

_ (¬1) في (ر) اشتراط. (¬2) في (ر) حالة.

وأما من تجب عليه النفقة لغير حق القرابة؛ فإن كانت النفقة للمعاوضة [المحضة] (¬1) كنفقة الأجير فلا يلزمه إخراج الفطرة عنه. وأما الزوجة ففيها قولان: المشهور: أنه يجب عليه إخراج الفطرة عنها, لأنّ النفقة لها عليه واجبة على الدوام فأشبه القرابة. والثاني: أنه لا تجب الفطرة عليه عنها لأنّ نفقتها غير واجبة في الأصل، وإنما وجبت [طوعًا] (¬2) عوضًا عن الاستمتاع، فأشبهت نفقة الأجير. ويجب عليه إخدامها والنفقة على خادمها إذا تعيَّن عليه الإخدام. وهل تجب [عليه] (¬3) النفقة والفطرة ونفقة الخادم قبل الدخول؟ أما إن كان ممنوعًا من الدخول فلا يجب ذلك عليه. وأما إن كان دُعي إليه وامتنع فيجب ذلك عليه إذا طلبته الزوجة. وأما مع المساكنة ففيه قولان: أحدهما: أنه كالمُدْعى للدخول فتجب عليه النفقة والفطرة. والثاني: أنه كالممنوع، فلا تجب عليه، وهو على النظر إلى الظاهر هل وجود العقد كالتمكين من الدخول أم لا؟ وذلك راجع إلى اختلاف العوائد. ولا خلاف في لزومها عن المملوك الرقبة والخدمة إن كان مسلمًا، فإن كانت خدمته مملوكة فلا يخلو من أن يكون مرجع رقبته إلى حرية أو إلى رق؛ فإن كانت إلى حرية وجبت الزكاة على مالك الخدمة (¬4) لأنه محبوس بها، وإن كان مرجعها إلى الرق فهل تكون الفطرة والنفقة على من يملك الرقبة؟ (¬5) ثلاثة أقوال: أحدها: أنها على من يملك الرقبة، لأنها المقصود. والثاني: أنها على من يملك الخدمة, لأنه المنتفع بها فأجزأ. والثالث: أن زمن الخدمة إن طال كانت النفقة والفطرة على مالك الخدمة, لأنّ رجوع الرقبة مُترقب، وإن قصُر فهو كالعدم فيكون ذلك على مالك الرقبة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ر). (¬2) ساقط من (ر). (¬3) ساقط من (ر). (¬4) في (ر) الرقبة. (¬5) في (ر) الخدمة.

فصل (قدر الفطرة وجنسها)

فإن كان العبد بين الشركاء ففطرته على مالكيه. وهل (¬1) على التساوي أو على مقدار الإملاك؟ في المذهب قولان. والحكم بالتساوي لأنه محبوس على كل واحد منهم. والحكم بالنظر إلى الإملاك لأنّ الفطرة واجبة لحق الملك، فيُنظر إلى قدر ما يملكُ كل إنسان. فإن كان مملوك البعض والباقي حرّ فثلاثة أقوال: أحدها: أن الفطرة على المالك كاملة لأنه محبوس بسببه، والثاني: أنها على العبد والمالك كالخارج (¬2)، والثالث: أن على المالك نصيبه ولا شيء على العبد لأنه غير كامل (¬3) الحرية. فإن كان في العبد عقدُ حريَّة وجبت على من هو محبوس لسببه إلا المُكاتب ففيه قولان: أحدهما: أن الفطرة عليه كالنفقة، والثاني: أنها على سيّده لأنّ مرجع الرقبة إليه. ... فصل (قدر الفطرة وجنسها) فأما قدر الفطرة وجنسها فإنه صاع من غير البُر. وأما البُر ففيه قولان: أحدهما: أنَّه كغيره وهو المشهور. وهذا لِمَا ورد في الحديث صاعًا من طعام (¬4). والعُرف أن الطعام محمول على البُر. والشاذ أن الواجب منه مُدان لأنه قيمة (¬5) الصالح من غيره، وهذا حمل لما ورد في الحديث على أن المقصود به ذكر الطعام على الجملة. ثم فسره بما بعده من الشعير والتمر والإقط (¬6). إلى غير ذلك مما ذُكر في الحديث. ¬

_ (¬1) في (ت) وهو. (¬2) في (ر) و (ق) كالخراج. (¬3) في (ت) مالك. (¬4) لعله يشير إلى ما أخرجه البخاري 1435 وغيره من أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه كان يقول: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب". (¬5) في (ر) لأنه نصفه بقيمة، وفي (ت) لأنه بقيمة. (¬6) جاء في لسان العرب 7/ 257: "الأَقِطُ والإقْطُ والأَقْطُ والأقطُ: شيء يتخذ من اللبن =

وأما جنسها فتجزي من المقتات غالباً. وإن كان اقتياته نادرً؛ فإن كان مقتاتًا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجزأ بلا خلاف، وإن لم يكن مقتاتا في زمانه ففي إجزائه قولان. وعلى هذا اختلفوا في القطانى إذا اقتيتت والتين. وسبب الخلاف مراعاة الصُور النادرة. وهل يجزي الدقيق؟ أما إن أخرجه ناقصًا (¬1) عما يخرجه من القمح وما في معناه فلا يجزي، وأما إن أخرجه كاملًا ففيه قولان: الإجزاء لأنه نفع المساكين بالطحين، وعدم الإجزاء نظرًا إلى الاقتصار على ما في الحديث. ويخرج كل إنسان من قوته إذا وافق قوت أهل البلد، أو كان أفضل ورضي بإخراج ذلك. فإن كان قوت أهل البلد أفضل من قوته؛ فإن تقوَّت بالأقل شُحّاً لم يُلتفت إلى قوته، فإن كان لغير ذلك فقولان: أحدهما: مراعاته في نفسه، والثاني: مُراعاة الأكثر. وهما على الخلاف في مُراعاة الصُور النادرة أو النظر إلى الجمهور. ... ¬

_ = المَخَيض يطبخ ثم يترك ثم يَمْصُل، والقِطعة منه أَقِطةْ؛ قال ابن الأَعرابي: هو من ألبان الإِبل خاصة". (¬1) في (ق) صاعا.

وبعد

وبعد ها أنا ذا آتي على نهاية هذا العمل، وقد كان من أهم نتائجه ما يلي: أولًا: إخراج نص فقهي مالكي نفيس، تضمن أقوال المذهب، وتوجيهها وأسباب الخلاف داخل المذهب. ثانيًا: التعريف بالكتاب المحقق، وإبراز قيمته العلمية، والمنهجية التي سلكها صاحبه فيه. ثالثًا: التعريف بإمام من أئمة المالكية لم يلق عناية من السابقين ويجهله الكثير من اللاحقين، وإزالة كثير من الغموض عن جوانب من حياته وإظهار مكانته العلمية ومنزلته داخل المذهب. رابعًا: إعطاء فكرة عن عصر ابن بشير، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي. هذه باختصار شديد أهم ما جاء في هذا العمل. وهي مساهمة متواضعة ولبنة في مشروع ضخم يهدف إلى إخراج مصادر الفقه وربطه بأصوله وقواعده، لإعادة الحياة له مرة ثانية، ونفض غبار الجمود الذي أَصابه بسبب قصر المتأخرين له على الشروح والحواشي. والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه وأن ينفع به، آمين. ***

فهرس المصادر

فهرس المصادر 1 - أبجدية البحث في العلوم الشرعية، لفريد الأنصاري، ط. مطبعة النجاح الجديدة. 2 - أبو الحسن اللخمي وجهوده في تطوير الاجتهاد النقدي، لمحمد المصلح رسالة دكتوراه مرقونة. 3 - أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، (ت) علي محمد البجاوي، ط. دار المعرفة. 4 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإِسلامي سنة 1985م. 5 - أزهار الرياض في أخبار عياض، لشهاب الدين أحمد المقري، ط. اللجنة المشرفة لنشر التراث عن الطبعة المصرية سنة 1355هـ. 6 - إعلام الوقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية (ت) طه عبد الرؤوف سعد، ط. دار الكتب العلمية. 7 - إيضاح المسالك إلى قواعد الأمام مالك، لأبي العباس أحمد الونشريسي، (ت) أحمد أبو طاهر الخطابي، ط. مطابع فضالة سنة 1400 هـ. 8 - الأثر السياسي والحضاري للمالكية في شمال إفريقيا حتى قيام دولة المرابطين، للدكتور محمد أبو العزم داود، ط. المكتبة الفيصلية سنة 1985م 9 - الإجماع، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر، (ت) عبد الله عمر البارودي، ط. مؤسسة الكتب الثقافية 1406 هـ. 10 - الأحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن حزم، ط. الجيل سنة 1407هـ 11 - الإشراف على مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب البغدادي مطبعة الإرادة.

12 - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، ط. دار الكتب العلمية. 13 - الإعلام بقواعد عمدة الأحكام، لابن الملقن عمر الشافعي، (ت) عبد العزيز بن أحمد الشيقح، ط. دار العاصمة سنة 1997 م. 14 - الأنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف، لابن السيد البطليوسي، (ت) محمد رضوان البداية، ط. دار الفكر سنة 1407هـ. 15 - الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، لابن الرفعة الأنصاري، (ت) محمد أحمد الخاروف، ط. دار الفكر سنة 1400 هـ. 16 - الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي مصطلحاته وأسبابه، لعبد العزيز بن صالح الخليفي، ط. المطبعة الأصلية سنة 1414 هـ. 17 - الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، ط. مكتبة الرياض الحديثة. 18 - البداية والنهاية، لابن كثير، ط. دار الفكر سنة 1402 هـ. 19 - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذري المراكشي، (ت) كولا وليقي، ط. دار الثقافة. 20 - البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة، لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، (ت) الدكتور محمد حجي، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1988م. 21 - التاج والإكليل شرح مخنصر خليل، لأبي عبد الله محمد العبدري المعروف بالمواق، ط. دار الفكر 22 - التاريخ الأندلسي، للدكتور عبد الرحمن علي الحجي، ط. دار القلم دمشق سنة 1402 هـ. 23 - التبصرة، لأبي الحسن اللخمي مخطوطة خاصة. 24 - التراتيب الإدارية، لعبد الحى الكتاني، ط. الرباط سنة 1346هـ. 25 - التراث المالكي في الغرب الإِسلامي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق. 26 - التصنيف الفقهي في المذهب المالكي تاريخه وقضاياه المنهجية، الخلاف العالي نموذجًا إلى حدود القرن السادس الهجري، لمحمد العلمي، أطروحة دكتوراه مرقونة. 27 - التمهيد في أصول الفقه، لمحفوظ عن أحمد أبي الخطاب الكلوذاتي، (ت) محمد مفيد أبو عمشة، ط. جامعة أم القرى سنة 1406 هـ.

28 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر بن عبد البر، ط. مطبعة فضالة المغرب. 29 - التهذيب في اختصار المدونة، لأبي سعيد البراذعي، (ت) محمد الأمين ولد محمد بن الشيخ. ط. دار البحوث في دبي سنة 1420 هـ. 30 - الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، لحسن بن محمد المشاط، (ت) عبد الوهاب أبو سلمان، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1406 هـ. 31 - الحركات الباطنية في العالم الإِسلامي، لمحمد أحمد الخطيب، ط. مكتبة الأقصى سنة 1406. 32 - الحروب الصليببة في المشرق والغرب، لمحمد العروسي المطوي، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1982 م. 33 - الحلل السندسية في الأخبار التونسية، لمحمد الأندلسي الوزير السراج (ت) محمد الحبيب المهيلة، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1985 م. 34 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني، ط. دار الجيل. 35 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لإبراهيم بن فرحون، (ت) محمد الأحمدي أبو النور، ط. دار التراث وط دار الكتب العلمية. 36 - الذخيرة، لشهاب الدين القرافي، (ت) محمد حجي، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1994 م. 37 - الرد على من أخد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، لجلال الدين السيوطي (ت)، خليل الميس، ط. دار الكتب العلمية سنة 1403هـ. 38 - الرسالة، لابن أبي زيد القيرواني، ط. دار إحياء الكتب العربية سنة 1346 هـ. 39 - الرسالة، لمحمد بن إدريس الشافعي، (ت) أحمد شاكر، ط. دار الكتب العلمية. 40 - الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون، لمحمد العثماني بن كازي، ط. المطبعة الملكية الرباط. 41 - الصلة، لابن بشكوال أبي القاسم خلف بن عبد الملك، ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة. 42 - الصوفية معتقداً ومسلكًا، لصابر طعيمة، ط. شركة العبكان سنة 1405 هـ. 43 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لشمس الدين محمد السخاوي، ط. دار مكتبة الحياة.

44 - العبر في خبر من غبر، لشمس الدين الذهبي، (ت) أبو هاجر محمد بسيوني زغلول، ط. دار الكتب العلمية. 45 - الغنية فهرسة شيوخ القاضي عياض، (ت) ماهر زهير جرار، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1402. 46 - الفتح المبين في طبقات الأصوليين، لعبد الله مصطفى المراغي، ط. الثانية بيروت. 47 - الفروق، لشهاب الدين القرافي، ط. دار المعرفة بيروت. 48 - الفقه الأسلامي وأدلته، لوهية الزحيلي، ط. دار الفكر سنة 1404 هـ. 49 - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، ط. المكتبة العلمية بالمدينة المنورة سنة 1972 م. 50 - الفكر المقاصدي قواعده وفوائده، لأحمد الريسوني، ط. مطبعة النجاح الجديدة سنة 1999 م. 51 - الفوائد الجمة في استناد علوم الأمة، لأبي زيد عبد الرحمن التمحارتي، (ت) اليزيد الراضي، مطبوعات السنتسيي الدار البيضاء سنة 1420 هـ. 52 - الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأحمد النفراوي، ط. مكتبة مصطفى البابي الحلبي سنة 1314 هـ. 53 - القاموس المحيط، لمجيد الدين محمد الفيروز آبادي، ط. مؤسسة الرسالة 54 - القواعد الفقهية، لعلي أحمد الندوي ط. دار القلم سنة 1406 هـ. 55 - القواعد، لأبي عبد الله محمد المقري، (ت) أحمد بن عبد الله بن حميد، ط. شركة مكة للطباعة والنشر. 56 - القوانين الفقهية، لابن جزي طبعة جديدة ومنقحة. 57 - الكامل في التاريخ، لعز الدين علي بن الأثير ط. دار صادر سنة 1399 هـ. 58 - المازري الفقيه المتكلم وكتابه المعلم، لمحمد الشاذلي النيفر منثورات اللجنة الثقافية للنشر. 59 - المحاضرات المغربيات، للفاضل ابن عاشور ط. الدار التونسية للنشر. 60 - المحلى، لابن حرّم ط. دار الآفاق الجديدة. 61 - المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء، ط. دار الفكر. 62 - المدونة الكبرى، للإمام مالك برواية سحنون ط. دار صادر. 63 - المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا وهو المعروف بتاريخ قضاة الأندلس، لأبي الحسن عبد الله المالقي ط. المكتب التجاري للطباعة.

64 - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية (ت) محمد محيي الدين عبد الحميد ط. دار الكتاب العربي بيروت. 65 - المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، (ت) محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي ط. دار الكتاب الدار البيضاء سنة 1985 م. 66 - المعجم الوسيط، أشرف على إنجازه مجمع اللغة العربية ط. دار إحياء التراث سنة 1973 م. 67 - المعيار المغرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد الونشريسي أشرف على إخراجه. محمد حجي ط. دار الغرب الإِسلامي ووزارة الأوقاف المغربية. 68 - المغني، لأحمد بن قدامة، الناشر مكتبة الجمهورية العربية. 69 - المقدمات الممهدات، لأبي الوليد محمد بن رشد، (ت) محمد حجي ط. دار الغرب 1408 هـ. 70 - الموافقات في صول الأحكام، لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، (ت) عبد الله دراز ط. دار المعرفة وط. دار الفكر. 71 - النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيراوني (ت) الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1999م. 72 - اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة، لمحمد بن بشير ظافر الأزهري، ط. الآفاق العربية سنة 1420 هـ. 73 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد ابن رشد الحفيد (ت)، طه عبد الرؤوف سعد، ط. دار الجيل 1409 هـ. 74 - بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، لأبي عمير الضبي ط. القاهرة سنة 1967م. 75 - بوطلحية، لحمد النابغة الغلوي، (ت) يحيي بن البراء، ط. المكتبة المكية سنة 1422هـ. 76 - بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية (ت) محمد عبد الرحمن بن القاسم، مطبعة الحكومة بمكة سنة 1392 هـ. 77 - تاريخ ابن خلدون، لعبد الرحمن بن خلدون، ط. خليل، ط. دار الفكر 1401هـ. 78 - تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري، ط. المطبعة الحسنية سنة 1323 هـ.

79 - تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، ترجمة الدكتور محمد عرفة مصطفى، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية سنة 1403 هـ. 80 - تاريخ التراث العربي، لكارل بروكلمان، ط. دار المعارف. 81 - تاريخ الخلفاء، للسيوطي، (ت) محمد محيي الدين عبد الحميد ط. مطبعة السعادة مصر سنة 1952 م. 82 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لأبي عبد الله محمد بن فرحون، ط. دار الكتب العلمية سنة 1301هـ. 83 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لأبي العلى محمد المباركفوري. 84 - تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، لعبد الله بن عبد الرحيم، ط. مكتبة الملك فهد الوطنية. 85 - تراجم أغلبية مستخرجة ص مدارك القاضي عياض، لمحمد الطالبي، ط. تونس سنة 1996 م. 86 - تراجم المؤلفين التونسيين، لمحمد محفوظ، ط. دار الغرب الإِسلامي. 87 - تراجم مالكية، لمؤلف مجهول. مخطوط رقم 3928 د. الخزانة العامة الرباط. 88 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض البيتي (ت) مجموعة من المحققين ط. مطابع فضالة سنة 1401 هـ. 89 - تطور المذهب المالكي في الغرب الأسلامي حتى نهاية العصر المرابطي، لمحمد بن حسن شرحبيلي، ط. مطبعة فضالة سنة 1421 هـ. 90 - تقريب الوصول إلى علم الأصول، لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلي (ت) محمد علي فركوس، ط. دار التراث الإِسلامي سنة 1410 هـ. 91 - تلبيس إبليس، لعبد الرحمن بن الجوزي ط. دار الكتب العلمية. 92 - توشيح الديباج وحلية الابتهاج، لبدر الدين القرافي، (ت) أحمد الشتيوي، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1403 هـ. 93 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر بن عبد البر، ط. دار الكتب العلمية. 94 - جذوة المقتبس، لمحمد بن نصر الحميدي، ط. دار الكتاب سنة 1403 هـ. 95 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، لصالح عبد السميع الآبي ط. دار إحياء الكتب العربية. 96 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، ط. دار الفكر. 97 - خلاصة تاريخ تونس، لحسن حسني عبد الوهاب، ط. تونس 1372 هـ.

98 - دليل مخطوطات دار الكتب الناصرية بتمكروت، للأستاذ محمد النوني، ط. مطبعة فضالة سنة 1405 هـ. 99 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين الألوسي، ط. دار إحياء التراث العربي. 100 - رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهادهم ونسائهم وسير من أخبارهم، لأبي بكر عبد الله المالكي (ت) بشير البكوش ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1403 هـ. 101 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم الجوزية (ت) شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ط. مؤسسة الرسالة سنة 1402 هـ. 102 - سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني (ت) محمد عبد العزيز الخولي، ط. دار الجيل. 103 - سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإِسلامي ومكتبة المعارف. 104 - سنن أبي داود، لأبي داود السجستاني، ط. دار إحياء التراث العربي وط. دار الكتب العلمية. 105 - سنن ابن ماجه، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، (ت) محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الفكر. 106 - سنن الترمذي، لأبي عيسى الترمذي، ط. دار إحياء التراث العربي وط. دار إحياء الفكر. 107 - سنن الدارقطني، لعلي بن عمر الدارقطني، ط. دار المعرفة. 108 - سنن الدارمي، لأبي محمد الدارمي، ط. دار الكتاب العربي. 109 - سنن النسائي، لأحمد بن علي النسائي، ط. دار البشائر الإِسلامية. 110 - سير أعلام النبلاء، لشمس الدين الذهبي، (ت) مجموعة من الباحثين تحت إشراف شعيب الأرنؤوط ط. مؤسسة الرسالة سنة 1402 هـ. 111 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد مخلوف، ط. دار الفكر. 112 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي، ط. دار المسيرة سنة 1972 م. 113 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي ط. المكتب الإِسلامي سنة 1391 هـ.

114 - شرح صحيح مسلم، لأبي زكريا يحيى بن شرف النوويّ، ط. دار الفكر. 115 - شرح فتح القدير، لابن الهمام، ط. دار إحياء التراث. 116 - صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، ط. دار القلم وط. دار الكتب العلمية. 117 - صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج القشيري، ط. دار إحياء التراث ودار الفكر. 118 - طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين عبد الوهاب السبكي، (ت) محمد الطنجي وعبد الفتاح الحلو. 119 - عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، لمصطفى محمد حميداتو، منشورات كتاب الأمة سنة 1418 هـ. 120 - عقد الجواهر الثمنية، لابن شاس، (ت) محمد أبو الأجفان وعبد الحفيظ منصور، ط. دار الغرب الإِسلامي. 121 - علماء إفريقية، لمحمد الحارث الخشي ط. مكتب جامعة نشر الثقافة الإِسلامية سنة 1372 هـ. 122 - عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية، لأبي العباس الغبرني , (ت) عادل نويهض، منشورات لجنة التأليف والترجمة والشر بيروت سنة1969م. 123 - فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، (ت) المختار التليلي، ط. دار الغرب الإِسلامي. 124 - فتاوى البرزلي، (ت) محمد الحبيب الهيلة، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 2002م. 125 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ط. دار المعرفة. 126 - فتح الودود شرح مراقي السعود، لمحمد يحيي الولاتي، المطبعة المولوية فاس سنة 1345 ص. 127 - فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب، لعبد المجيد عمر النجار، ط. الغرب الإِسلامي سنة 1992 م. 128 - فقه الزكاة، ليوسف القرضاوي، ط. مؤسسة الرسالة سنة 1401 هـ. 129 - فقه النوازل، لبكر بن عبد الله أبو زيد ط. مكتبة الرشد سنة 1407 هـ. 130 - فهرسة خزانة القرويين، لمحمد العابد الفاسي ط. دار الكتاب سنة 1399 هـ. 131 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المنوي، ط. دار المعرفة بيروت.

132 - قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث الدين، للقاسمي، (ت) محمد بهجة البيطار، ط. دار إحياء الكتب العربية سنة 1380هـ. 133 - قواعد الفقه الإسلامي، لمحمد الروكي، ط. دار القلم دمشق سنة 1414 هـ. 134 - كتاب البيوع من كتاب شرح مختصر ابن الحاجب، لخليل بن إسحاق الجندي، (ت) محمد المدني السافري رسالة مرقونة. 135 - كتاب التعريفات، للجرجاني، ط. دار الكتب العلمية سنة 1403 هـ. 136 - كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين، لحسن حسني عبد الوهاب، مراجعة واكمال محمد العروسي المطوي وبشير البكوش، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1990هـ. 137 - كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك محلى منهج العدل والإنصاف، للفندلاوي (ت) أحمد البوشيخي، ط. مطابع فضالة سنة 1419 هـ. 138 - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس، لإسماعيل العجلوني، (ت) أحمد القلاش، ط. مؤسسة الرسالة سنة 1405 هـ. 139 - كشف الظنون عن أَسامى الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله حاجي خليفة، ط. دار العلوم الحديثة. 140 - كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب، لإبراهيم بن علي بن فرحون، (ت) حمزة أبو فارس وعبد السلام الشريف ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1990. 141 - كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأبي الحسن المالكي ومعه حاشية العدوي، ط. إحياء الكتب العربية. 142 - كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في المنهاج، لأحمد بابا التنبوكتي، (ت) محمد مطيع، ط. مطبعة فضالة سنة 1421هـ. 143 - لب اللباب، لمحمد بن راشد القفصي، ط. المطبعة التونسية سنة 1346 هـ. 144 - لسان العرب، لابن منظور الإفريقي، ط. دار صادر. 145 - مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه، لأبي زهرة، ط. دار الفكر. 146 - مباحث في المذهب المالكي في المغرب، لعمر الجيدي، ط. مطبعة المعارف سنة 1993 م. 147 - مباحث في منهجية الفكر الإِسلامي، لعبد المجيد عمر النجار، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1992 م. 148 - مجموعة رسائل ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي.

149 - مغني المحتاج، للخطيب الشريني، ط. دار الفكر. 150 - مجموعة فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد قاسم، ط. مكتبة المعارف. 151 - محاضرات في تاريخ الأمم الإِسلامية، لمحمد الخضري بك، ط. المكتبة التجارية سنة 1970 م. 152 - مختار الصحاح، لمحمد بن عبد القادر الرازي، ط، دار الكتاب العربي سنة 1401هـ. 153 - مدخل إلى مقاصد الشريعة، لأحمد الريسوني نشر المكتبة السلفية سنة 1417 هـ. 154 - مسائل لا يعذر فيها بالجهل على مذهب الإمام مالك، (ت) إبراهيم المختار الزيلعي، ط. دار الغرب، 1406 هـ. 155 - معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، لأبي زيد عبد الرحمن الدباغ (ت) محمد الأحمدي أبو النور ط. المكتبة العتيقة. 156 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط. صادر. 157 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي. 158 - معلمة الفقه المالكي، لعبد العزيز بن عبد الله، ط. دار الغرب الإِسلامي سنة 1403 هـ. 159 - مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن خلدون، ضبط خليل شحادة ط. دار الفكر سنة 1401 هـ وطبعة. 160 - منهج البحث في الفقه الإِسلامي خصائصه ونقائصه، لعبد الوهاب أبو سلمان، ط. المكتبة المكية ودار ابن حزم سنة 1416 هـ. 161 - منهج الخلاف والنقد الفقهي عند إلامام المازرية، رسالة دكتوراه مرقونة لعبد الحميد عشاق. 162 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لأبي عبد الله بن عبد الرحمن الحطاب ط. الفكر سنة 1398 هـ. 163 - نبيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأبي العباس أحمد باب التنبكتي، ط. دار الكتب العلمية. 164 - نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، ط. مطبعة فضالة. 165 - نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، لمحمد الروكي، ط. مطبعة النجاح الجديدة سنة 1414 هـ.

166 - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، لأحمد الريسوني نشر المعهد العالمي للفكر الإِسلامي 1401 هـ. 167 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطب، لأحمد بن محمد المقري، (ت) إحسان عباس، ط. دار صادر 1388هـ. 168 - نوازل ابن هلال السجلماسي، (ت) سلام أبريش رسالة دكتوراه مرقونة. 169 - نور البصر في شرح المختصر، لأحمد بن عبد العزيز الملالي طبعة حجرية. 170 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، لمحمد بن علي الشوكاني، ط. دار التراث. 171 - ورقات في الحضارة العربية بإفريقية التونسية، لحسن حسني عبد الوهاب، ط. مكتبة المنار سنة 1965 م. 172 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس أحمد بن خلكان، (ت) إحسان عباس - دار صادر. 173 - ومضات فكر، للفاضل بن عاشور، ط. الدار التونسية للنشر. ***

§1/1