التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

أبو عبيد البكري

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد سيدنا وآله وصحبه قال أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري - رحمه الله -: الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وخُتم؛ وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم. هذا كتاب نبهت فيه، على أوهام أبي عليّ - رحمه الله - في أماليه؛ تنبيه المنصف لا المتعسف ولا المعاند، محتجاًّ على جميع ذلك بالشاهد والدليل؛ فإني رأيت من تولى مثل هذا من الرد على العلماء والإصلاح لأغلاطهم، والتنبيه على أوهامهم؛ لم يعدل في كثير مما رده عليهم، ولا أنصف في جُمل مما نسبه إليهم. وأبو عليٍّ - رحمه الله - من الحفظ وسعة العلم والنُّبل، ومن الثقة في الضبط والنَّقل؛ بالمحل الذي لا يُجهل، وبحيث يقصر عنه من الثناء الأحفل؛ ولكن البشر غير معصومين من الزلل، ولا مُبرَّئين من الوهم والخطل؛ والعالم من عُدَّت هفواته، وأُحصيت سقطاته: كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدُّ معايبُه فلما أوريت من هذه الفوائد كابيها، وأبديت خافيتها، أعطيت بها القوس باريها؛ وأهديتها إلى المعتمد على الله، المؤيد بنصر الله؛ خلَّد الله دولته، وثبت وطأته: لألتماسه أسرار الحكم، وأقتباسه أنوار الكلم، وعنايته بأنواع العلم، وأخذه من جميعها بأوفر قسم؛ لا أعدمه الله نجماً من السعد مُليحاً، وطائراً من اليمن سنيحاً.

التنبيهات الواردة على الجزء الأول

التنبيهات الواردة على الجزء الأول في " ص6 س 3 و 7 " أنشد أبو عليٍّ - رحمه الله - أشعاراً منها قول بُرية بن النعمان ولم ينسبه أبو عليٍّ - رحمه الله -: لَقَد تَركتْ فُؤَادَك مُسْتَحِنًّا ... مُطَوَّقةٌ على فَنَنٍ تَغَنَّى يَمِيلُ بها وتَركَبُهُ بِلَحْنٍ ... إذا ما عَنَّ للمَحزُونِ أَنَّا ومنها قول الآخر: وهَاتِفَيْنِ بشَجْوٍ بعَد مَا سَجَعَتْ ... وُرْقُ الْحَمَامِ بتَرْجيعٍ وإرْنَانِ بَاتَا على غُصْنِ بانٍ في ذَرَى فَنَنٍ ... يُرَدِّدَانِ لُحُوناً ذاتَ ألوانِ

وفسر ما ورد في هذه الأشعار من ألحان الحمام أن المراد به اللغات. وإنما المراد به اللحن الذي هو ضرب من الأصوات المصوغة للتغني؛ ودليل ذلك قوله: مُطوَّقةٌ على فَنَنٍ تغَنَّى وقول الآخر: يُرَدِّدَانِ لُحُوناً ذاتَ ألوانِ إنما أراد ذات ألوان من الترجيع كما قال في البيت قبله: ....بِتَرجِيع وإرْنانِ * * * وفي " ص 6 س 16 " قال أبو علي - رحمه الله - وأصل اللحن أن تريد الشيء فتورِّى عنه، كقول رجل من بني العنبر كان أسيراً في بكر بن وائل. وذكر الخبر بطوله، وفسَّرَ ما فيه إلى قوله: يريد بقوله: إن العرفج قد أدبى: أن الرجال قد استلاموا، أي لبسوا الدروع ليس في قوله: " إن العرفج قد أدبى " دليل على ما ذكره أبو علي - رحمه الله - ولا من عادة العرب أن تلبس الدروع إلا في حال الحرب. وأما في بيوتها قبل الغزو فذلك غير معروف، وإنما أراد بذلك أن يؤذنهم وقت الغزو، وينبتهم على التيقظ والحذر. قال أبو نصر - رحمه الله -: إدباءُ العرفج: أن يتسق نبته ويتأزر، وإذا اتَّسق النبت وتأزر أمكن الغزو. وقال أبو زياد - رحمه الله -: العرفج: نبت طيب الريح أغبر إلى الخضرة، له زهرة صفراء ولا شوك له؛ ويقال له إذا اسودَّ عوده حتى يستبين فيه النبات: قد أقمل، فإذا زاد قليلا، قيل: قد ارقاطَّ، فإذا زاد قليلا، قيل: قد أدبى، وهو حينئذ قد صلح أن يؤكل، فإذا أعتم وطفحت خوصته وأكلأ، وقيل: قد أخوص، فإذا ظهرت عليها خُضرة الرِّيِّ، قيل: عرفجة خاضبة. ومنابت العرفج يقال لها: المشاقر، وهي أيضا: الحومان، وتكون في السهل والجبل.

* * * وفي " ص 7 س 10 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - في آخر هذا الخبر شعراً أوله: إنّ الذِّئابَ قد اخْضَرَّتْ بَراثِنهُا ... والناسُ كُلُّهُمُ بَكْرٌ إذا شَبِعُوا وقال: يريد الناس كلهم عدو لكم إذا شبعوا كبكر بن وائل. لم يرد الشاعر هذا المعنى، لأن الناس كلهم لم يكونوا عدوا لبني تميم ولا أقلهم، وإنما يريد أن الناس إذا شبعوا هاجت أضغانهم وطلبوا الطوائل والتراث في أعدائهم. فكانوا لهم كبكر بن وائل لبني تميم؛ كما قال الشاعر - أنشده ثعلب عن ابن الأعرابي -:

لَوْ وصَلَ الغَيْث ُلاَ بَنْينَ امرأَ ... كانتْ له قُبّةٌ سَحْقَ بِجَادْ يقول: لو اتصل الغيث وأخصبنا لا غرنا على الملك وأخذنا متاعه وقبته حتى تحوجه أن يتخذ قبة من قطعة كساء. قال أبو عمرو - رحمه الله -: وإنما يغيرون في الخصب لا في الجدب؛ وقال آخر: يا بن هشامٍ أهلك الناسَ اللّبَنْ ... فكلّهم يَسْعَى بقَوسٍ وقَرَنْ يقول: لما كثر الخصب سعى بعضهم إلى بعض بالسلاح؛ وقال آخر: قومٌ إذا نَبَتَ الربيعُ لهم ... نَبَتَتْ عَداوتُهم مع البَقلِ وقال: وفي البقل إن لم يدفع الله شَرَّهُ ... شياطينُ يَنْزُو بعضُهنّ إلى بعض وقال: قومٌ إذا اخضرَّت نعالُهم ... يتناهقون تناهُقَ الْحُمرِ يعني: يتناهقون من الأشر والبغي؛ وبعض الناس يتأول أن النعال هنا: نعال الأقدام، وإنما النعال: الأرضون الصلاب، واحدها نعلٌ؛ وإذا أخصبت النعال فما ظنك بالدِّماث. ومنه الحديث: " إذ ابتلت النعال فصلوا في الرحال " معناه: إذا انزلقت الأرض فصلوا في البيوت.

* * * وفي " ص 11 س 3 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - شاهداً على حجلت عينه: وأهْلَكَ مُهْرَ أبِيك الدَّوا ... ءُ لَيْسَ له من طعامٍ نَصِيبُ فَتُصْبِحُ حاجِلةً عينهُ ... لِحْنِو اسْتِهِ وصَلاَهُ غُيُوبُ هكذا أنشده: مهر أبيك بفتح الكاف، وإنما هو بكسرها. وأنشده: وصلاه، وإنما هو: في صلاه. والشعر لثعلبة بن عمرو الشيباني يخاطب أسماء أم حزنة - امرأة من بني سليمة بن عبد القيس - وهي قصيدة؛ والذي يتصل منها بالشاهد قوله: أأسماءُ لم تسألي عن أبيكِ والقومُ قد كان فيهمْ خُطوبُ وأهْلَكَ مُهْرَ أبِيك الدَّوا ... ءُ لَيْسَ له من طعامٍ نَصِيبُ خَلا أنّهم كلما أوردوا ... يُضَيِّع قَعْباً عليه ذَنُوبُ فَتُصْبِحُ حاجِلةً عينهُ ... لِحْنِو اسْتِهِ وصَلاَهُ غُيُوبُ لأَقَسمَ يَنذِرُ نَذراً دَمِى ... وأقسمتُ إنْ نِلتُه لا يَؤُوبُ فأَتْبْعُته طَعنةً ثَرَّةً ... يَسِيلُ على النحو منها صَبِيبُ فإِن قَتَلْته فلم أَرْقِهِ ... وإن يَنجُ منها فجُرْحٌ رَغِيبُ

هذا الشيباني طعن أبا أسماء هذه المذكورة واكتفى في قوله: أأسماء لم تسألي، بهمزة النداء عن همزة الاستفهام؛ كما قال امرؤ القيس: أصاحِ ترى بَرْقا أُرِيكَ وَمِضَهُ والدواء: الصنعة وحسن القيام على الدابة؛ قال يزيد بن خذَّاق: ودَاوَيْتُها حتى شَتَتْ حبشيّةً ... كأنّ عليها سُنْدُساً وسُدُوسا وقيل: أراد بالدواء: اللبن، وكان أحسن ما يقومون به على الدابة؛ وإنما أراد أهلكه فقد الدواء؛ كما قال النابغة: فإنِّي لا أُلامُ على دُخُولٍ ... ولكن ما وَرَاءَكَ يا عِصامُ أراد على ترك دخول؛ وكذلك قول أبي قيس بن رفاعة: أنا النذيرُ لكم منّي مُناصحَةً ... كي لا أُلامَ على نَهْيٍ وإنذارِ أراد على ترك نهي وإنذار؛ وكذلك قول الخنساء: يا صخرُ وَرَّادَ ماءٍ قد تناذَرَهُ ... أهلُ المياه وما في وِرْدِه عارُ تريد في ترك ورده: ثم قال الشاعر: لا نصيب للمهر من الطعام غير أنهم إذا أوردوا ضيَّحوا له قعباً بذنوب ماءٍ وسقوه. والحنو: كل ما فيه اعوجاج كحنو الضلع واللحي. والصَّلا: ما عن يمين الذنب وشماله؛ يقول: غاب حنوه في صلاه من الهزال. وهذا أبلغ ما وصف به الهزيل من الدواب؛ وإنشاد أبي علي - رحمه الله -: لحنوا استه وصلاه غيوب

لا معنى له ولا وجه، لأن الصَّلا لا يغيب ولا يخفى، وإنما يغيب الحنو فيه ويغمض. وقوله: فأتبعته طعنةً ثرَّةً، يريد كثيرة الدم، من قولهم: عين ثرة. وقوله: فإن قتلته فلم أرقه، كانوا يزعمون أن الطاعن إذا رقى المطعون برأ؛ كما قال زهير بن مسعود: عشِيّةَ غادرتُ الحُلَيسَ كأنّما ... على النحرِ منه لَونُ بُرْدٍ مُحَبَّرِ فلم أَرْقِهِ إن يَنْجُ منها وإن يَمُت ... فطعنةُ لا غُسٍّ ولا بمُغمَّرِ وهو معنى قول حاتم الطائي - أنشده ابن الأعرابي -: سِلاحُك مَرقِيٌّ ولا أنت ضائرٌ ... عَدُوًّا ولكنْ وَجْهَ مَوْلاك تَخمِشُ * * * وفي " ص 12 س 3 " وذكر أبو علي - رحمه الله - خطبة عبد الملك وإنشاده شعر قيس ابن رفاعة: مَنْ يَصَْ ناري بلا ذَنْبٍ ولا تِرَةٍ ... يَصْلَ بنارِ كريمٍ غيرِ غدّارِ إنما هو أبو قيس بن أبي رفاعة، واسمه: دثار. وقد ذكره أبو علي - رحمه الله - بعد هذا في كتابه على صحته. وذلك في الحديث الذي رواه التَّوَّزيّ عن أبي عبيدة قال: كان أبو قيس ابن أبي رفاعة يفد سنة إلى النعمان اللخمي وسنة إلى الحارث بن أبي شمر الغسانيّ، فقال له يوما وهو عنده: يا أبا قيس، بلغني أنك تفضِّل النعمان عليّ؛ وساق الحديث إلى آخرة. قال أبو عليّ - رحمه الله -: والوتر: الذَّحل بكسر الواو لا غير. هذا وهم منه، الواو تفتح وتكسر في الذحل؛ ذكر ذلك يعقوب وغيره.

* * * وفي " ص 14 س 11 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للعباس بن الوليد بن عبد الملك أبياتا قالها لمسلمة بن عبد الملك، أولها: ألاَ تَقْنَى الحياءَ أبا سَعِيدٍ ... وتُقْصِرُ عن مُلاَحَاتِي وعَذْلِي وهذا الشعر لعبد الرحمن بن الحكم يعاتب به مروان بن الحكم أخاه بلا اختلاف؛ ولم يكن العباس بن الوليد شاعراً، إنما كان رجلاً بئيسا، وهو فارس بني مروان؛ وإنما كتب العباس بهذا الشعر متمثلا لم يغير منه إلا الكنية. وعبد الرحمن بن الحكم شاعر متقدم، وهو الذي كان يُهاجي عبد الرحمن بن حسان - رضي الله عنهما - وفي هذه الأبيات: كقولِ المرء عَمْرٍو في القَواِفي ... لِقَيسٍ حين خالف كلَّ عَذلِ عذِيرَكَ مِن خليلكَ من مُرَاد ... أُريد حِباءهُ فيُريدُ قَتْلِي وهذا مما أهمله أبو علي ولم يُفسر معناه والمراد به؛ وكثيرا ما يشغله تفسير ظاهر اللغة عن تفسير غامض المعاني. وقد أفردت لشرح معاني " نوادره " كتابا غير هذا. وإنما يريد الشاعر قول عمرو ابن معد يكرب الزبيدي لقيس بن مكشوح المرادي وكان بينهما تنافس: تمنّاني ليلقاني قُيَيسٌ ... ودِدتُ وأينما منِّي ودادي تمّناني وسابغةٌ قميِصي ... خروس الحِسِّ محكمةُ السِّرادِ

مُضاعفة تخيَّرها سُلَيمٌ ... كأنّ قَتِيرها حَدقُ الجَرَادِ أريدُ حِباءَهُ ويريد قَتْلي ... عذِيرُكَ مِن خليلكَ مِن مُرَادِ يعني بسليم: سليمان النبي - صلى الله عليه وسلم - والقتير: رءوس مسامير الدروع وإذا دقت دلت على ضيق الأخرّات، ولذلك شبهها بحدق الجراد. وعذير الرجل: ما يحاول مما يعذر عليه، ومثل قوله: " أُريد حباءه ويريد قتلي " قول ابن الذئبة الثقفي: ما بالُ مَن أسعَى لأَجْبرَ عظمَهُ ... حِفاظا ويَنوِي من سَفَاهته كسرِى أَظُنُّ خُطوبَ الدهر مِنِّي ومنهم ... ستحملُهم مِنِّي على مَركبٍ وَعْرِ وقوله جميل: ألا قُم فاُنْظُرَنَّ أخاك رَهناً ... لِبَئْنَة في حبائلها الصِّحَاحِ أُريد صلاحَها وتُريد قَتْلى ... فَشَتَّى بين قَتلى والصَّلاِح * * * وفي " ص 19 س 19 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - شاهداً على أن الحنة الزوجة: ما أنتِ بالحَنّة الوَدُود ولا ... عِنْدَكِ خَيْرٌ يُرْجى لُمْلَتِمسِ إنما هو: ما أنت بالحنة الولود؛ قال أبو عبيدة: تزوج قتادة اليشكري أرنب الحنفية فلم تلد له ونشزت عليه فطلقها وقال: تجهَّزِي للطلاق واصطبري ... ذاك دواءُ الجوامسِ الشُّمُسِ ما أنتِ بالحَنَّةِ الوَلُودِ ولا ... عِندَكِ خيرٌ يُرجَى لمُلتَمِسِ للَيَلتِي حين بِتِّ طالقةً ... ألذُّ عندي من ليلة العُرُسِ

* * * وفي " ص 23 س 19 " أنشد أبو علي - رحمه الله - للأجدع الهمداني: وسألْتِني بركائبي ورِحالِها ... ونَسِيتِ قَتْلَ فَوارِس الأرباع إنما هو أسألتني بالهمزة، لا بالواو كما انشده؛ وهو أول الشعر بركائب منون لا بركائبي، لأنها إنما سألته عن إبل القوم وركائبهم، لا عن ركائب نفسه. وكان الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني قد غزا بني الحارث وكانت امرأته منهم، فأصاب فيهم وقتل من بني الحُصين أربعة نفر؛ فقالت له امرأته: أين الإبل والغنيمة؟ فقال: أسألتِني بركائبٍ ورِحالِها ... ونسيتِ قَتلَ فوارِسِ الأرباعِ وبني الحُصَين ألم يَرُعكِ نَعِيُّهم ... أهلُ اللِّواءِ وسادَةُ المِرباعِ تلك الرزيَّةُ لا قلائصَ أُسلِمتْ ... برحالها مَشْدُودةَ الأنساعِ خيلان من قومِي ومِنْ أعدائهم ... خَفَضُوا أَسِنَّتهم فكلٌّ ناعِ خَفَضُوا الأسِنَّةَ بينهم فتواسَقُوا ... يَمشونَ في حُلَلٍ من الأدراعِ قال ابن الكلبي في نسب بني الحارث بن كعب: ومنهم الحصين ذو الغصَّة بن يزيد بن شداد ابن قنان، رأس بني الحارث مائة سنة؛ وكان يقال لبنيه: فوارس الأرباع. والأرباع: أرض قتلتهم بها همدان؛ ولهم يقول الأجدع الهمداني: ونسيتِ قَتلَ فوارِسِ الأرباعِ

وقوله: خفضوا أسنتهم: يريد أمالوها للطعن؛ كما قال القتال الكلابي: نَشَدْتُ زِياداً والسفاهَةُ كاسْمِهَا ... وذكَّرْتُه أرحامَ سِعْرٍ وهَيْثَم فلمّا رأيت أنه غَيْرُ مُنْتَهٍ ... أَمَلتُ له كفِّي بِلَدْنٍ مُقَوَّمِ وقال النابغة الجعدي: فَلَمْ نُوَقِّف مُشِيلينَ الرِّماحَ ولم ... نُوجَدْ عَواويرَ يوم الروع عُزَّالا يقول: لم نُشل الرماح، أي لم نرفعها ولكنا خفضناها للطعن. * * * وفي " ص 30 س 16 " وأنشد أبو علي لأعرابي: إذا وجَدْتُ أُوَار الحُبِّ في كَبِدِي ... أَقْبَلتُ نَحْوَ سِقاءِ القومِ أبْتَرِدُ هذا بَرَدْت ببَرْدِ الماءِ ظاهِرَهُ ... فَمَنْ لنارٍ على الأحشاءِ تَتَّقِد لم يختلف أحد أن هذين البيتين لعروة بن أُذينة الفقيه المحدِّث، ووقفت عليه امرأة فقالت: أنت الذي يقال فيه الرجل الصالح! وأنت تقول: إذا وجَدْتُ أُوَارَ الحبِّ في كَبِدِي............. البيتين لا والله! ما خرجا من قلب سليم، وأُذينة: لقب لأبيه. واسمه: يحيى بن مالك بن الحارث الليثي. وكان عروة شاعراً غزلا من شعراء أهل المدينة وثقة ثبتاً؛ روى عنه مالك وغيره من الأئمة

- رضي الله عنهم - قال مالك: حدثني عروة بن أُذينة قال: خرجت مع جدة لي، عليها مشي إلى بيت الله، حتى إذا كنا ببعض الطريق عجزت، فأرسلت مولى لها تسأل عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فخرجت معه، فسأل عبد الله - رضي الله عنه - فقال له: مرها فلتركب ثم لتمش من حيث عجزت. وعروة هو القائل أيضا: قالت وأبثثْتُها وَجْدِي فبُحْتُ به ... قد كنتَ عندي تُحِبُّ الستر فاسْتَتِرِ ألستَ تُبْصِرُ مَن حَولي فقلتُ لها ... غَطَّي هَواكِ وما أَلقَى على بَصَرِي * * * وفي " ص 33 س و4 " وأبو علي - رحمه الله - إذا جهل قائل شعر نسبه إلى أعرابي كما أنشد بعد هذا: وإنِّي لأهْوَاها وأهوى لِقَاءَها ... كما يَشْتَهِي الصادي الشرابَ المُبَرَّدا عَلاقَةَ حُبٍّ لَجَّ في سَنَن الصِّبَا ... فأبلَى وما يَزْداد إلاّ تَجدُّدَا وهذا الشعر للأحوص بن محمد، شاعر إسلامي من شعراء المدينة، لم يدخل البادية قط. ولهذا الشعر خبر: وذلك أن يزيد بن عبد الملك لما استهتر بقينتيه وامتنع من الظهور إلى الناس وعن مشاهدة يوم الجمعة، لامه مسلمة أخوه وعذله، فارعوى، وأراد الخروج المراجعة فبعثت سلاَّمة إلى الأحوص أن يصنع شعراً تغني فيه؛ فقال: وما العَيْشُ إلاَّ ما تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وإن لامَ فيه ذو الشَّنَان وفَنَّدَا بكيتُ الصِّبا جُهدي فمَن شاء لامَنِي ... ومَن شاء آسَى في البُكاءِ وأَسْعَدَا

وأشرفتُ في نَشَزٍ من الأرض يافِعٍ ... وقد تَشَعف الأَيفاعُ مَن كان مُقصَدَا فقلت ألا ليتَ أسماءَ أصقَبَتْ ... وهل قول لَيتٍ جامعٌ ما تَبدَّدَا وإنِّي لأهْوَاها وأهوى لِقَاءَها ... كما يَشْتَهِي الصادي الشرابَ المُبَرَّدا عَلاقَةَ حُبٍّ لَجَّ في سَنَن الصِّبَا ... فأبلَى وما يَزْداد إلاّ تَجدُّدَا فلما غنَّت به عند يزيد ضرب الأرض بخيزرانته وقال: صدقت صدقت! فقبَّح الله مسلمة وقبَّح ما جاء به! وتمادى في غيِّهِ. ومثل قوله: وقد تَشعفُ الأيفاعُ مَن كان مُقصَدَا قول الآخر: لا تُشْرِفَنَّ يفَاعاً إنّه طربٌ ... ولا تغَنَّ إذا ما كُنتَ مُشتاقا والمقصد: المرمي بسهم الحب، يقال: رماه فأقصده إذا أصاب مقتله. ومثل قوله: فأبلى وما يزداد إلا تجدّدا قول حسان بن إسحاق بن قوهيً مولى بني مرة بن عوف: بقلبي سقامٌ لستُ أُحسِنُ وصفَهُ ... على أنه ما كانَ فهو شَدِيدُ تَمُرُّ به الأيامُ تَسحبُ ذَيلَها ... فتَبْلَى به الأيامُ وهوَ جَديِدُ

* * * وفي " ص 41 س 18 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: مُهْرَ أَبِي الْحَبْاحبِ لا تَشَلِّي ... بارَكَ فِيكِ اللهُ مِنْ ذي أَلِّ قال أصحاب أبي علي - رحمه الله -: وقفناه على قوله: بارك فيك الله من ذي أل فأبى إلا كسر الكاف، فقلنا: فهلاَّ قال: من ذات ألِّ، قال: أخرج التذكير على الشيء أو الأمر؛ ومثل هذا جائز، وهو كثير؛ قال الأسود بن يعفر: إنّ المنيَّةَ والحُتوف كلاهُما ... يُوفي المخارِمَ يرقُبَان سَوَادِي قال: ومنه قول رؤبة: فيها خُطُوطٌ مِن سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنّه في الجلد تَوليعُ البهَقْ قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن أردت الخطوط قلت: كأنها؛ وإن أردت البلق فقل: كأنه، قال: فضرب بيده على كتفي وقال: كأن ذلك توليع في الجلد. الصحيح أنه يُخاطب مهراً لا مهرة، لقوله: من ذي ألِّ. وقوله بعدهما: ومِن مُوصًّي لم يُضِع قولا لي فالصواب إنشاده: لا تشل بغير ياء. وبارك فيك الله بفتح الكاف؛ وذلك التكلف كله لا معنى له. والحجة المجانسة لما سُئل عنه أبو علي - رحمه الله - وذلك قوله: من ذي ألِّ، وهو يريد مؤنثا:

قامت تُبَكِّيه على قبره ... مَنْ لِيَ من بَعدك يا عامرُ تَركتَنِي في الدار ذا غُرَبةٍ ... قد ذَلَّ من ليسَ له ناصرُ قال: إنما قال: ذا غربة، لأن الياء التي في قوله: تركتني ونحوها تكون ضميراً للذكر والأنثى، وهذا لمراعاة اللفظ وإن كان المعنى مؤنثاً؛ كما راعوا اللفظ في نقيض هذا وإن كان المعنى مذكرا؛ قال معقل بن خويلد: ولا يَستسقِط الأقوامُ مِنِّي ... نَصِيبَهُم ويُترَكُ لي نَصِيبُ إذا ما البُوهَةُ الهوكاءُ أَعْيَا ... فلا يَدرِي أيَصْعَدُ أم يَصُوبُ فإنما قال: الهوكاء لتأنيث البوهة، ولا يجوز أن يقال: رجل هوكاء؛ وكذلك قول شريح بن مجير التغلبي: وعَنْتَرةُ الفَلْحَاء جاء مُلأَماً ... كأنك فِندٌ من عَمايَةَ أَسْوَدُ لو قال زيد أو عمرو مكان عنترة، لم يجز أن يقول الفلحاء. ومن تأنيث اللفظ دون المعنى قول بياض يعني القُراد: وما ذَكَرٌ فإن يَكْبُر فأُنْثَى ... شَدِيدُ الأَزْم ليس بذِي ضُرُوسِ

يعني أنه عظم قيل له: حلمة، والحلمة إنما هي مؤنثة اللفظ لا مؤنثة المعنى؛ ومثله قول بياض: إنّا وجدنا بني سَلمى بمنزلة ... مثل القُرَاد على حَالَيهِ في الناسِ وهذا من أخبث الهجاء. يقول: إنهم يولدون ذكراناً فإذا شبوا صاروا إلى حال الإناث. * * * وفي " ص 43 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: أيا عمرو كَمْ من مُهْرَةٍ عَرَبِيَّةٍمِنَ النّاسِ قد بُلْيَتْ بوَغْدٍ يَقُودُها الأبيات خلط أبو علي - رحمه الله - في هذا الشعر، فمنه أبيات من شعر ابن الدمينة الذي أوله: هل اللهُ عافٍ عن ذُنوبٍ تُسُلِّفَتْ ... أمِ اللهُ إن يَعْفُ عنها مُعِيُدها وأبيات من شعر الحسين بن مطير الذي أوله: خليليّ ما بالعيش عَتْبٌ لو أنَّنا ... وَجَدنا لأيّام الحِمَى مَنْ يُعِيدُها وأبيات مجهولة لا يعلم قائلها. ورواية أبي علي - رحمه الله -: من الناس قد بُليت. يريد بُليت فخفف. والرواية المشهورة السالمة من الضرورة قد بلَّت، من قولهم: بللت به أَبلُّ بلالة وبلولا، أي صليت به؛ ومعنى هذا البيت كمعنى قول بنت النعمان بن بشير الأنصاري في زوجها روح بن زنباع: وهل هِنْدُ إلاّ مُهْرَةٌ عَرَبيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أفراسٍ تَجَلَّلَها بَغْلُ فإن نُتِجَتْ مُهراً كريماً فبالْحَرَي ... وإن يكُ إقرافٌ فما أنجبَ الفَحْلُ وزعم الليثي أن أسمها حمدة. وروايته: وهل أنا إلاّ مُهرةٌ عَربيَّةٌ

قال الليثي: تقوله في زوجها روح بن زنباع الجذامي وهما يمانيان يجمعهما النسب والدار؛ ولو كانت نزارية وهو قحطاني قيل هذا لما بين نزار وقحطان، وروح سيد يمانية الشام يومئذٍ قائدها وخطيبها ومحربها وبئيسها!. وإنما قالت ذلك لأسرٍ مسه يوم المرج. وقيل مسَّه قبل ذلك في حرب غسان فافتدى؛ فقالت قول العربية الشريفة للمولى الهجين وعيَّرته الإقراف. وهذا ومثل قول عقيل بن علَّفة، وهو أحد بني غيظ بن مرة، لعثمان بن حيان المري وهو أحد بني مالك ابن مرة. فهما ابنا عمٍّ حين قال له عثمان، وهو أمير المدينة: زوجني أبنتك، قال: أناقتي أصلحك الله؟ فظن أنه لم يسمع؛ فرفع عثمان صوته: زوجني ابنتك! فرفع عقيل صوته فقال: أناقتي أصلحك الله؟ فقال عثمان: أنت عربي جاهل أحمق! وأمر بإخراجه. وكان عثمان قد مسَّه - أو أباه - أسرٌ فأنشأ عقيل يقول: كنَّا بني غَيْظٍ رجالا فأصبحَتْ ... بنو مالكٍ غَيظاً وصِرنا لمالكِ لحى اللهُ دهراً ذَعْذَع المالَ كلَّهُ ... وسَوَّدَ أَسْتَاهَ الإماءِ العوارك * * * وفي " ص 47 س 9 " وأنشدنا أبو علي لعبد الله بن سبرة الحرشي الذي قطع يده أُطربون الروم قصيدةً أولها: وَيْلُ أمِّ جارٍ غَداةَ الرَّوعِ فارَقَنِي ... أَهْوِنْ عليّ به إذ بَانَ فانقَطَعا وفيها يصف الأُطربون، وهو البطريق؛ وقيل هو اسم لهذا: كأَنَّ لِمَّتَه هُدَّابُ مُخْمَلَةٍ ... أَزْرَقُ أحمرُ لم يُمْشَطْ وقد صَلِعَا هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - لم يمشط، أي لم يسرح بالمشط لم يختلف في ذلك عنه، وهو تصحيف لا شك فيه؛ وإنما هو: " لم يشمط وقد صلعا ".

كذا رواه عامة العلماء، يريد حصَّتِ البيضة هامته فصلع، وليس ذلك من كبر، لأنه لم يشمط بعد، كما قال أبو قيس بن الأسلت: قد حصَّتِ البَيضَةُ رأْسِي فما ... أَطْعَمُ نوماً غَيرَ تَهجَاعِ وأحمر أزرق من نعت الرومي. وكان من خبر هذا الشعر: أن ابن سبرة كان في جمع من المسلمين اتّبعوا فلاًّ للروم هزموهم حتى انتهوا إلى جسر خلطاس، فحمى الروم قائد لهم - وهو هذا الاطربون المذكور - وراءهم، فجعل لا يبرز إليه أحد من المسلمين إلا قتله، فلما رأى ابن سبرة ذلك نزل إلى الروميّ وقد نكل الناس عنه، فمشى كلّ واحد منهما إلى صاحبه والناس ينظرون، فبدره الرومي الضربة فأصاب يد ابن سبرة، وعانقه ابن سبرة واعتقله فصرعه وقعد على صدره، وبادره المسلمون، فناشدهم أن يتوقفوا عنه حتى يقتله هو بيده، ففعل؛ فذلك قوله: فإن يكن أُطْرُبُونُ الرُّومِ قَطَّعَها ... فقد تركتُ بها أَوصالَه قِطَعَا وإن يكن أُطُرُبُونُ الروم قطّعها ... فإنّ فيها بحمد الله مُنْتَفَعَا بَنَانَتَينِ وجُذمَوراً أُقِيمُ بها ... صَدْر القَناةِ إذا ما آنَسُوا فَزَعَا أراد بالجذمور: أصل الإصبع. والجذمور والجذمار: قطعة تبقى من السعفة إذا قُطعت؛ وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي في الجذمور أصل الإصبع، وهو من أبيات المعاني: وكنت إذا أدْرَرْتَ منها حَلُوبةً ... بجُذمُورِ ما أَبقى لَك السَّيفُ تَغضَبُ قال: هذا رجل قُطعت أصابعه وبقيت أُصولها فأخذ ديتها إبلا؛ فقال له الشاعر: متى تدرر منها حلبا تذكر فاعل ذلك بك فتغضب.

* * * وفي " ص 53 س 20 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - شعراً أوله: أَشَاقَتْكَ البَوارِقُ والْجُنوبُ ... ومِن عُلْوِي الرِّياح لها هُبُوبُ وفيه: وشمِتُ البارِقاتِ فقُلتُ جِيدَتْ ... جِبالُ البُتْرِ أو مُطِر القليبُ هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - البتر بالباء المعجمة بواحدة المضمومة. والتاء المعجمة باثنتين، وهذا غير معروف. ورواه غيره: جبال البثر بالباء المفتوحة والثاء المثلثة. والبثر: ماء معروف بذات عرق؛ قال أبو جندب: إلي أنَّا نُسَاقُ وقد بلغنا ... ظِماءً عَن سُمَيحَةَ ماءَ بَثْرِ * * * وفي " ص 55 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لذي الرمة: إذا نُتِجَتْ منها المَهَارَى تَشَابَهَتْ ... على العُوذِ إلاّ بالأُنُوفِ سَلاَئِلُه الشعر في صفة فحل على ما يأتي ذكره؛ وصحة إنشاده: إذا نتجت منه المهارى، وأيضا فإنه لا يقال: نتج من الناقة كذا؛ إنما يقال في الفحل، لأن الناقة منه نتجت؛ وصلة هذا البيت: خِدَبُّ الشَّوَى لم يَعْد في آلِ مُخِلفٍ ... أَنِ احْضَرَّ أوْ زَمّ بالأنف بازُله ومضى في صفة هذا البعير ثم قال: سواءٌ على ربّ العشارِ الذي له ... أَجِنَّتُها سُقبانُه وحَوائِلُه إذا نُتِجَتْ منها المَهَارَى تَشَابَهَتْ ... على العُوذِ إلاّ بالأُنُوفِ سَلاَئِلُه

قوله: خدب الشوى: أي ضخم القوائم عظيمها. وأراد لم يعد أن طلع بازله، وهو في شخص مخلف. والآل: الشخص، فقدَّم وأخرَّ. والمخلف: الذي أَتى عليه حولٌ بعد البزول. وقوله: زمّ بالأنف، يريد حين ارتفع، وهذه استعارة؛ ولذلك يقال للمتكبر: زمَّ بأنفه كأنه طمح برأسه والناب إذا طلع يكون أخضر كأنه ورقة آسٍ؛ قال أبو النجم: ثم قال: هذا البعير كريم النسل، فسواء على ربه أأذكر أم آنث. والحائل: الأنثى من أولاد الإبل. * * * وفي " ص 64 س 7 " وانشد أبو علي - رحمه الله - لرؤبة: وطامِحِ النَّخْوةِ مُسْتَكِتِّ ... طَأطأَ من شَيْطانه التَّعَتِّي هكذا أنشده، ولا يستقيم ذلك ولا يصحّ؛ وإنما صحّة إنشاده: طَأطَأَ من شيطانه المُعَتِّي وبعده: صَكِّى عَرانِينَ العِدَى وصَتِّى ... حتَّى تَرَى البَيِّنَ كالأَرَتِّ المعتى: العاتي، يقال: عَتَى وعَتَّى فهو معت؛ وفاعل طأطأ قوله: صكى عرانين العدى. قال الأصمعي: الصَّتُّ: الصك، ولا يُصرف. وقال غيره: الصَّتُّ والصَّتيت: الجلبة والصياح؛ وقيل: الصت: الدفع؛ وقيل: هو الضرب باليد. وقال الأصمعي: المستكتُّ: العظيم في نفسه؛ وقيل هو الغضبان. ولرواية أبي علي - رحمه الله - وجيه مخرج عليه، وهو أنه أراد ذي التعتي فحذف. * * * وفي " ص 68 س 16 " وقال أبو علي - رحمه الله -: دخل الأحوص على يزيد بن عبد الملك، فقال له يزيد: لو لم تمت إلينا بحرمة، ولا جددت لنا مدحا، غير أنك مقتصر على بيتيك فينا لاستوجبت عندنا جزيل الصلة؛ ثم أنشد يزيد:

وإنِّي لأسْتَحْيِيكُمُ أن يَقُودَني ... إلى غَيركم من سائر الناس مَطمَعُ وأَن أَجْتَدِي للنفع غَيرَك منهُمُ ... وأنتَ إمامٌ للبرّية مَقنَعُ إنما قال الأحوص هذا الشعر في عمر بن عبد العزيز لا في يزيد بن عبد الملك. * * * وفي " ص 68 س 23 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: إنِّي رأيتُكَ كالوَرْقَاءِ يُوحِشُها ... قُرْبَ الألِيف وتَغشَاه إذا نُحِرَا قال: والورقاء: ذئبة تنفر من الذئب وهو حيٌّ، وتغشاه إذا رأت به الدم. لا أعلم أحدا أنشد هذا البيت إلا أبا علي. والتفسير الذي ذكره خلاف المعهود في ذكران الحيوان وإناثه. وكيف يُسمى أليفل من يوحش قربه! وإنما الأليف من يوحش بعده ويؤنس قربه؛ والمحفوظ في هذا ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي عن أبي المكارم - رحمهم الله -: أن الذئاب إذا رأت ذئباً قد عُقر وظهر دمه أكبّت عليه تقطعه وتمزقه؛ وأنثاه معها تصنع كصنيعها؛ وأنشد للعجاج: ولا تكُونِي يا بَنةَ الأَشمِّ ... ورقاءَ دَمَّي ذِئبَها المُدَمِّى يقول لامرأته: إذا رأيت الناس قد ظلموني فلا تكوني علي معهم كما تفعل هذه الذئبة بذكرها؛ وقال الفرزدق: وكنتَ كذئب السوءِ لمَّا رأى دماً ... بصاحبه يَوماً أحالَ على الدَّمِ وقال العجير السَّلولي: فَتًى ليس لابن العَمّ كالذئب إن رأى ... بصاحبه يَوماً دَماً فهو آكِلُه

* * * وفي " ص 75 س 21 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لسوّار: ونحنُ حَزَزنا الحَوْفَزَانَ بطعنةٍ ... سَقَتْه نَجِيعا من دم الجَوْف أَحمرَا هذا وهم من أبي علي؛ وإنما هو: سقته نجيعا من دم الجوف أَشكُلا وبعده: وحُمْرانَ قَيسٍ أنزلْتُه رِماحُنا ... فعالَج غُلاًّ في ذِراعَيْه مُقَفَلا قَضى اللهُ أنَّا يوم تُقْتَسمُ العُلا ... أحقُّ بها منكم فأعطى وأفضلا يقول هذا الشعر سوَّار بن حبان المنقري، وهو شاعر جاهلي إسلامي في يوم جدود. وحمران الذي ذكر هو حمران بن عبد عمرو بن بشر بن مرثد. * * * وفي " ص 77 س 6 " وأنشد أبو علي لأيمن بن خزيم شعراً أوله: وصَهباءَ جُرجَانّيةٍ لم يَطُفْ بها ... حَنِيفٌ ولم تَنْغَر بها ساعةً قِدْرُ هذا الشعر للأقيشر؛ كذلك ذكر ابن قتيبة والأصبهاني. وهو ثابت في ديوان الأُقيشر؛ والأُقيشر لقب غلب عليه، لأنه كان أحمر أقشر. واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض من بني أسد بن خزيمة

يُكنى أبا مُعرِّض شاعر إسلامي؛ فأما أيمن فهو أيمن بن خُزيم بن الأخرم ابن شداد بن عمرو بن فاتك الأسدي. وخريم له صحبة، وهو ممن اعتزل الجمل وصفين وما بعدهما من الأحداث. وكان أيمن فارساً شريفاً، وكان يتشيع وكان به وضح، وفي هذا الشعر: أتاني بها يحيى وقد نمتُ نَومةً ... وقد غابت الشِّعْرَى وقد جنح النَّسرُ هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - وهي رواية مختلة لا تصحُّ؛ وإنما صحَّةُ إنشاده: وقد غابت الشعرى وقد طلع النسرُ لأن الشعرى العبور إذا كانت في أُفق المغرب، كان النسر الواقع طالعاً من أفق المغرب؛ وكان النسر الواقع حينئذ غير مُكبِّد، فكيف يكون جانحا؛ وكان النسر الطائر حينئذ في أفق المشرق طالعاً على نحو سبع درجات أيضا؛ فكان النسر الواقع نظير الشعرى العبور؛ قال الشاعر: فإنِّي وعبدَ الله بَعدَ اجتماعنا ... لكالنَّسر والشِّعرَى بشَرْقٍ ومَغْرِبِ يلوحُ إذا غابَتْ من الشرق شَخصُه ... وإن تَلُحِ الشعرى له يَتَغَيَّبِ وقال أبو نؤاس: وخَمَّارَةٍ نبَّهتُها بعدَ هجعَةٍ ... وقد لاَحَتِ الشعرى وقد جَنَحَ النَّسرُ فقالت مَن الطُّرَّاقُ قلنا عصابَةٌ ... خِفَافُ الأدَاوَى تُبْتَغَي لهمُ الخَمرُ

ويروى: وخمارة نبهتها بعد هجعة ... وقد لاحت الجوزاء وانغمس النسر لأن الشعرى العبور تلو الجوزاء؛ ولذلك سُميِّت كلب الجبار؛ والجبار: اسم للجوزاء. * * * وفي " ص 80 س 19 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لسلمى بن ربيعة: حَلَّتْ تُماضِر غُرَبةً فاحْتَلَّتِ ... فَلْجاً وأهْلُك باللِّوَى فالحَلَّتِ فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحِلَت به فانْهَلتِ الأبيات هكذا روى عن أبي علي - رحمه الله - سلمي بفتح السين والميم، ولم تختلف الرواة أن اسم هذا الشاعر سُلمى بضم السين وكسر الميم وتشديد الياء. وهو سلمي بن ربيعة بن زبان بن عامر من بني ضبة، شاعر جاهلي. وابناه: أُني وعوية، شاعران. وفلج: وادٍ بطريق البصرة إلى مكة. والحلة بفتح الحاء: موضع حزن وصخور متصل رملٍ بجلدٍ في بلاد بني ضبّة. وروى أبو تمام البيت الثاني: فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... كُحِلت به أو سُنْبُلاً فانْهَلَّتِ وهي أحسن من رواية أبي علي - رحمه الله - لأنه يلزمه على روايته أن يقول: كُحلت بهما. فأما قوله: فكأن في العينين.. ثم قال: كُحلت ولم يقل: كُحلتا ولا انهلتا، فلأن الشيئين إذا اصطحبا وقام كلّ واحد منهما مقام صاحبه، جرى كثيراً عليهما ما يجري على الواحد؛ كما قال الراجز: لَمِنْ زُحلُوفةٌ زُلُّ ... بها العَيْنان تَنْهَلُّ

ولم يقل: تنهلان؛ وقال الفرزدق: ولو بَخِلَت يدايَ بها وضَنَّتْ ... لكان عَليَّ للقَدَر الخِيَارُ والتزم هذا الشاعر اللام قبل التاء في جميع هذه الأبيات وليست بواجبة، لأن حرف الروي إنما هو التاء؛ وقد يلتزم المدلُّ ما لا يجب عليه ثقةً بنفسه وشجاعة في لفظه وذلك موجود كثير. * * * وفي " ص 91 س 7 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لرجل من بني تميم: ولمّا رأينَ بني عاصِم ... دَعَوْن الذي كُنَّ أُنْسِينَهُ فَوارَيْنَ ما كنّ حَسَّرْنَهُ ... وأخْفَيْنَ ما كُنَّ يُبْدِينَهُ وقال أبو علي - رحمه الله -: يصف نساء سُبين فأُنسين الحياء فأبدين وجوههن وحسرن رءوسهن، فلما رأين بني عاصم أيقنّ أنهن قد استنقذن فراجعن حياءهن. إنما رواه العلماء: ولمّا رأينَ بني عاصِم ... ذكرنَ الذي كُنَّ أُنْسِينَهُ وهذه الرواية أشبه بتفسير أبي علي وقوله راجعن حياءهن؛ ولا مدخل للدعاء هاهنا، ولا هناك مدعوٌّ يدعى. وفي هذه الرواية مع صحَّة معناها الصناعة التي تُسمى المطابقة. وهذا التميمي الذي أنشد له الشعر، وهو ذو الخرق الطهوي؛ ومثله في المعنى قول رجل من بني عجل: ويومٍ يُبِيلُ النساءَ الدِّماء ... جَعَلْتَ رِداءك فيه خِمارا ففرَّجتَ عنهن ما يتَّقِين ... وكنت المحَامِيَ والمُستَجارا

الرداء هنا: السيف. يقول: استنقذهن بسيفه، فكأنه قد وضع به خمراً على رءوسهن، لأنهنّ كنَّ مكشفات الرءوس فاختمرن. ويبيل الدماء، أي يسقط الحبالى أجنتهن فيسيل دماءهن؛ وقال باعث بن صريم اليشكري في مثله: وخِمارِ غانِيَةٍ شَدَدْتُ برأسها ... أُصُلاً وكان مُنشّراً بشِمالها وعَقِيلةٍ يَسعَى عليها قَيِّمٌ ... مُتَغَطرِسٌ أَبْدَيْتُ عن خَلْخالها فقوله: " وخمار غانية شددت برأسها " كقول الأول: " فستَّرن ما كنّ حسَّرنه " وقوله: ".......وكان منشراً بشمالها " إن قيل: لِمَ خصَّ الشمال دون اليمين؟ فالجواب أن اليمين هي التي يستعان بها في العدو، وتُخلى للدفع والذبّ، وهي في ذلك كله أقوى من الشمال: فشمرة الساعي الناجي وحمله لشيء إن حمل إنما يكون بشماله. وهذه المرأة لما شمّرت للهرب حملت خمارها بشمالها. وقوله: أبديت عن خلخالها، أي أغرت على حيِّها فأحوجتها إلى رفع ذيلها. والتشمير: للهرب والفرار؛ وهذا كما قال الآخر: لعَمري لَنعمَ الحيُّ حَيُّ بني كَعبٍ ... إذا نَزَلَ الخلخالُ مَنْزِلةَ القُلْبِ أي إذا شمرن للسعي فبدت خلاخيلهن كما تبدو أسورتهن. وقيل: إنه أراد تخففت للنجاء فوضعت خلخالها في يدها كما فعلت تلك بخمارها. وقيل: إنه أشار إلى الدَّهش والحيرة فرقاً، فلم تتجه للبس خلخالها ولا علمت موضعه من موضع سوارها. * * * وفي " ص 102 س 13 " قال أبو علي - رحمه الله -: العرب تقول: " لا والذي أخرج قابية من قوبٍ " يعنون فرخا من بيضة.

قلب أبو علي - رحمه الله - مذهب العرب؛ وإنما يقولون: " لا والذي أخرج قوباً من قابية " أي فرخا من بيضة. فالقوب: الفرخ والقابية: البيضة؛ وإنما لبس على أبي علي - رحمه الله - قولهم: " تخلصت قابية من قوب " وهو مثل من أمثالهم، أي تخلصت بيضة من فرخ. وأصل هذا من قولهم: تقوَّب الشيء إذا تقلع وانفطر، وقوَّبته تقويباً. ومنه اشتقاق القوباء لتقلع الجلد عنها. * * * وفي " ص 103 س 7 " قال أبو علي - رحمه الله -: قال الله تبارك وتعالى: (وَإذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أي كثَّرنا. وقال أبو عبيدة - رحمه الله -: يقال: خير المال سكة مأبورة، ومهرة مأمورة؛ فالمأمورة: الكثيرة الولد من آمرها الله، أي كثّرها. وكان ينبغي أن يقال: مؤمرة؛ ولكنه أُتبع مأبورة. والسِّكَّة: السَّطر من النخل، وقال الأصمعي - رحمه الله -: السِّكَّة: الحديدة التي تُفلح بها الأرضون. والمأبورة: المصلحة، يقال: أبرت النخل آبره أبراً إذا لقَّحته وأصلحته. قال: وقد قرئ: (أَمَّرْنا مُتْرَفيها) على مثال فعَّلْنا. هذا كلام من يعتقد أن القراءة المشهورة آمرنا بالمدّ، وأنّ أمرنا بالقصر شاذَّة. ولا اختلاف بين الأئمة السبعة - رضوان الله عليهم - في قراءتها أمرنا بالقصر على مثال فعلنا. وهذه هي القراءة المقدمة والأصل. ويقال في غيرها من الشواذّ: وقد قرئ كذا. ومعنى قراءة الجماعة: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، كما تقول: أمرتك فعصيتني؛ وقد عُلم أن الله سبحانه لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، كما قال تعالى في مُحكم كتابه. وقيل: معنى أَمرنا وآمرنا واحد، أي كثرنا؛ وقد أورد ذلك أبو علي إثر هذا عن ابن كيسان - رحمهما الله - وهو مروي عن جلة اللغويين، والشاهد لصحته قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي نسبه أبو علي إلى أبو عبيدة - رحمهما الله - ولا ينبغي لعالم أن يجهل مثل هذا؛ وذلك قوله: " خير المال سكة مأبورة ومُهرة مأمورة " وحمل حديث النبي عليه أفضل السلام على هذه اللغة الفصيحة أولى من حمله على أنه أراد أن يتبعه ما قبله، لأنه لم يكن من المتكلفين - صلى الله عليه وسلم -. وقراءة الجماعة هي المروية عن الصحابة والتابعين - رضي الله

عنهم - إلا الحسن - رضي الله عنه - فإنه قرأ آمرنا بالمدّ. وكذلك قرأ الأعرج إلا أبا العالية الرياحي - رحمهما الله - فإنه قرأ أمرنا بالتشديد. ورويت عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وهذه القراءة تحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى: جعلنا لهم إمرة وسلطانا. والآخر: أن يكون المعنى كثرنا، فيكون بمعنى آمرنا وبمعنى أمّرنا على أحد الوجهين. قال الكسائي - رحمه الله -: ويحتمل أن يكون أمرنا بالتخفيف غير ممدودة بمعنى أمّرنا بالتشديد من الإمارة، فكانت هذه القراءة الاختيار لما اجتمعت فيها المعاني الثلاثة. ومترفوها: فُسَّاقها. وقيل: جبابرتها. * * * وفي " ص 106 س 4 " قال أبو علي - رحمه الله -: إن أصل المثل في قولهم: " سبق السيف العذل " للحارث بن ظالم. إنما أصل المثل لضبة بن أُدٍّ، والمقتول الحارث بن كعبٍ في خبر مشهور ذكره غير واحد؛ وذلك أن ضبة كان له ابنان: سعد وسعيد، خرجا في بغاء إبل، فكان ضبة كلما رأى شخصا قال: أسعد أم سعيد؟ فرجع سعد، ولم يرجع سعيد؛ فبينما ضبة يسير مع الحارث بن كعب في الشهر الحرام، قال له الحارث: إني قتلت في هذا المكان فتى من هيئته كذا، وهذا سيفه، فقال له ضبة: ناولني إياه، فناوله؛ فقال ضبة: " الحديث ذو شجون " فأرسلها مثلاً وضربه به حتى برد، وليم في قتله في الشهر الحرام فقال: " سبق السيف العذل ". وضبة كلها ترجع إلى سعد. وكان لضبة ابن ثالث يُسمَّى: باسلاً، وهو أبو الديلم. * * * وفي " ص 107 س 3 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للأضبط بن قريع: لِكُلِّ أمرٍ من الأُمور سَعَهْ ... والصُّبْحُ والمُسْيُ لا فَلاحَ مَعَهْ وهي أبيات منها: وصِلْ حِبالَ البعيدِ إن وَصَلَ الحَبْلَ وأَقْصِ القريبَ إن قَطَعَهْ

قال أبو علي: قال أبو العباس ثعلب: وكان الأصمعي - رحمهم الله - ينشده: فصِلَنّ البَعِيدَ إن وَصل الحَبْلَ هذا الإنشاد الذي نسبه إلى الأصمعي - رحمه الله - لا يجوز، لأن البيت يكون حينئذ من العروض الخفيف، والشعر من المنسرح، والأصمعي لا يجهل ذلك. * * * وفي " ص 110 س 8و9 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لرجل من خزاعة: قد كُنْتُ أَفْزَعُ للبيضاء أُبْصِرها ... من شَعر رَأسِي فقد أَيِقَنْت بالبَلَقِ ألآن حينَ خَضَبْتُ الرأسَ زَايَلَنِي ... ما كنتُ ألْتَذُّ من عَيْشي ومن خُلُقيِ وهي أبيات هذا الشعر لأبي الأسود الدؤلي. والدئل من كنانة لا من خزاعة. وكذلك أنشده محمد بن يزيد - رحمه الله - وغيره لأبي الأسود - رحمه الله - وهو ثابت في ديوان شعره. والرواية الجيدة في البيت الأول: قد كنتُ أرتاعُ للبيضاء في خَلَدٍ ... فالآنَ أرتاعُ للسوداء في يَقَقِ أخذ هذا المعنى أبو تمام - رحمه الله - فقال: شَابَ رأسِي وما رأيتُ مَشِيبَ الرأسِ ... إلاّ من فَضْل شَيْبِ الفؤادِ طَالَ إنكارِيَ البياضَ وإن عُمِّرتُ ... شيئا أنكرتُ لَونَ السَّوادِ وحسَّنه أبو الطيب - رحمه الله - فقال: رَاعَتْكِ راعيَةُ البياضِ بعارِضِي ... ولَوَ أنّها الأُولَى لَرَاعَ الأَسْحَمُ لو كان يُمكِنُني سَفَرتُ عن الصِّبا ... فالشِّيبُ من قَبل الأوانِ تَلَثَّمُ قال سيبويه - رحمه الله - الدئل في كنانة على وزن فُعل. وهو مثال عزيز. والدؤل في حنيفة. والدِّيل في عبد القيس.

* * * وفي " ص 114 س 6 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: قرِيبٌ ثَراهُ لا ينال عَدُوُّه ... له نَبَطاً عندَ الهَوَانِ قَطُوبُ هذا البيت لكعب بن سعد الغنوي. وقد أنشد أبو علي - رحمه الله - القصيدة بكمالها بعد هذا؛ وروايته في هذا محالة مردودة. والصحيح: " ... آبى الهوان قطوب " لأنه إذا قال عند الهوان قطوب قد أثبت أنه مهان مدال؛ وأنه يقطِّب عند نزول ذلك به. وهم يقولون في مديح الرجل: هو " آبي الضيم " و " آبى الهوان "، ولذلك قالوا: " رجل أبيٌّ "، وقال معبد بن علقمة: فَقُل لِزُهَيرٍ إن شَتَمْتَ سَرَاتنا ... فَلسْنا بشَتَّامِين للمُتَشَمتَّمِ ولكنّنا نأبىَ الظلامَ ونَعتَصِي ... بكُلِّ رقِيق الشَّفَرَتينِ مُصَمِّمِ وتَجهَلُ أَيدِينَا ويَحلمُ رأيُنا ... ونَشتِمُ بالأفعالِ لا بالتَّكلُّمِ * * * وفي " ص 116 س 11 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - غير منسوب في خبر ذكره عن الأصمعي - رحمه الله -: أحَقاًّ عبادَ الله أن لَسْتُ ناظِراً ... إلى قَرْقَرَي يَوْماً وأعلامِها الغُبْرِ كأنَّ فؤادِي كلما مرَّ راكبٌ ... جَنَاحُ غُرابٍ رام نَهْضاً إلى وَكْرِ إذا ارْتَحَلَتْ نحوَ اليمامة رُفْقَةٌ ... دعاك الهوى واهتاجَ قَلْبُك للذِّكْرِ فيا راكبَ الوَجْناء أُبْتَ مُسَلَّماً ... ولا زِلْتَ من رَيْب الحوادث في سِتْرِ

إذا ما أتَيْتَ العِرْض فاهْتِف بِجَوِّهِ ... سُقِيتَ على شَحْطِ النَّوَى سَبَلَ القَطْرِ فإنك من وادٍ إليَّ مُرَجَّبٌ ... وإن كنتَ لا تُزْدارُ إلاَّ على عُفْرِ خلَّط أبو علي - رحمه الله - في هذا الشعر، وهو من شعرين مختلفين لرجلين؛ فثلاثة الأبيات منه ليحيى بن طالب على ما أنا ذاكره. وثلاثة الأبيات منه لقيس بن معاذ. وكان يحيى بن طالب الحنفيُّ سخيًّا يقري الأضياف، فركبه الدَّين الفادح فجلا عن اليمامة إلى بغداد يسأل السلطان قضاء دينه، فأراد من أهل اليمامة الشخوص من بغداد إلى اليمامة فشيَّعه يحيى، فلما جلس الرجل في الزورق ذرفت عينا يحيى وأنشأ يقول: أحَقاًّ عبادَ الله أن لَسْتُ ناظِراً ... إلى قَرْقَرَي يَوْماً وأعلامِها الخُضْرِ هكذا صحة إنشاده، وأعلامها الخضر لا الغبر، كما أنشده أبو علي - رحمه الله - وكيف يحن إلى أوطان يصفها بالجدب والغبرار! إذا ارْتَحَلَتْ نحوَ اليمامة رُفْقَةٌ ... دعاك الهوى واهتاجَ قلبُك للذِّكرِ كأنّ فؤادِي كُلّما مرّ راكبٌ ... جَنَاحُ غُرَبٍ رام نَهْضاً إلى وَكْرِ فيا حَزَنا ماذا أجِنُّ من الهوى ... ومِن مُضمَرِ الشَّوق الدَّخِيلِ إلى حَجْرِ تَعَزَّيتُ عنها كارِهاً فتركتُها ... وكان فرَاقِيها أمرَّ من الصَّبْرِ أقولُ لموسى والدموعُ كأنّها ... جَدَاوِلُ ماءٍ في مَسَارِبها تَجْرِي ألا هل لشَيخٍ وابنِ ستِّين حِجَّةً ... بكى طرباً نحو اليمامة من عُذرِ وقد ذكر أبو علي - رحمه الله - خبر يحيى هذا وأنشد له هذا الشعر، ولكنه نسي، ولولا نسيانه لاعتذر. وهكذا صحة اتصال أبيات شعره لا كما وصلها أبو علي - رحمه الله -. وأما أبيات قيس بن معاذ فإنها: أيا راكبَ الوَجْناء أُبْتَ مُسَلَّماً ... ولا زِلْتَ من رَيْب الحوادث في سِتْرِ

إذا ما أتَيْتَ العِرْض فاهْتِف بِجَوِّهِ ... سُقِيتَ على شَحْطِ النَّوَى سَبَلَ القَطْرِ فإنك من وادٍ إليَّ مُرَجَّبٌ ... وإن كنتَ لا تُزْدارُ إلاَّ على عُفْرِ لَعَلَّ الذي يقضي الأمورَ بعلمه ... سَيَصِرِفُني يَوماً إليه على قَدْرِ فَتَرْقأَ عينٌ ما تَمَلَّ من البُكا ... ويَسكنَ قلبٌ ما يُنَهْنَهُ بالزَّجْرِ وقيس بن معاذ هذا: هو مجنون بني عامر؛ هذا قول أبي اليقظان. وقال غيره: هو قيس بن الملوح. وقيل: إنه معاذ، والملوح لقب له. وقال أبو عبيدة: اسم مجنون بني عامر البختري بن الجعد. وقال أبو العالية: اسمه الأقرع بن معاذ. وقال أبو الفرج: الصحيح أنه بن مُرّ بن قيس بن عدس أحد بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. * * * وفي " ص 119 س 11 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: حَمْراءُ من مُعَرِّضات الغِرْبانْ ... يَقْدُمُها كُلُّ عَلاةٍ عِلْيَان أخَّر أبو علي - رحمه الله - الشطر المتقدم فاستحال معناهما؛ لو كانت هذه الناقة التي هي من معرضات الغربان تقدمها كل علاة عليان لم تكن هي من معرضات الغربان، لأنها تكون حينئذ متأخرة. وهذا الرجز لرجل من غطفان؛ قال - وذكر رفقة -: يَقْدُمُها كلُّ عَلاَةٍ عِلْيان ... حَمْراءُ من مُعَرِّضات الغِرْبان يقدمها: يعني الرفقة. والعلاة: الشديدة الصلبة، مشبهة بالعلاة وهو السندان: والعليان: المشرفة. والحمر: أجلد الإبل. والمعرضات: التي تقدم الإبل فتقع الغربان عليها فتأكل مما تحمله،

إذ ليس هناك من يطردها لبُعد الحادي عنها، فكأنها قد أهدت إلى الغربان العراضة، وهي الهدية على ما ذكره أبو علي - رحمه الله - قد زاد في تخصيصها بعض اللغويين فقال: العراضة: هدية القادم خاصة. والحذيا: هدية المبشر خاصة؛ وأنشد أبو العباس - رحمه الله - في هذا المعنى: قَد قُلتُ قولا للغراب إذ حَجَلْ ... عليك بالقُودِ المسَانِيفِ الأُوَلْ تَغّذ ما شئتَ على غير عَجَلْ ... التمر في البئر وفي ظَهر الجَملْ قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي - رحمهما الله - أي شيء يقول؟ قال: يقول: يا غراب، إن أفنيت ما عليها من التمر، فإن الماء إذا استقى من البئر على ظهر الجمل خرج الرُّطب وجاء التمر. * * * في " ص 124 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: رَفَعْنا الخُمُوش عن وُجُوه نسائِنا ... إلى نِسْوةٍ منهم فأبْدَيْنَ مِجْلَدَا وقال: قال أحمد بن يحيى - رحمه الله -: هذا رجل قتل من قومه قتلى فكان نساؤه يخمشن وجوههن عليهم، فأصابوا بعد ذلك منهم قتلى، فصار نساء الآخرين يخمشن وجوههن عليهم. يقول: لما قتلنا منهم قتلى بعد القتلى الذين قتلوا منا حوَّلنا الخموش عن وجوه نسائنا إلى وجوه نسائهم. قال: وهذا مثل قول عمرو بن معد يكرب: عَجَّتْ نساءُ بني زُبَيُدٍ عَجَّةً ... كَعجِيجِ نِسْوَتِنا غَداةَ الأرْنَب قال: العجة: الصوت. والأرنب: موضع. انتهى ما ذكره أبو علي - رحمه الله -. البيت الذي أنشد لعمرو بن معد يكرب مغيَّر لا يصحّ، لأن عمراً زبيدي من بني زبيد بن الصعب بن سعد بن مذحج، فكيف يقول: عجَّت نساء بني زبيد عجَّة كعجيج نسوتنا. ونساء بني زبيد هنَّ نساؤه؛ وإنما هو: عجَّت نساءُ بني زياد. وبنو زياد: بطنٌ من بلحارث ابن كعب. وكان من خبر هذا الشعر أن جرما ونهداً كانتا في بني الحارث مجاورتين، فقتلت جرم رجلا من أشراف بني الحارث يقال له: معاذ بن يزيد، فارتحلوا فتحوالوا في بني زبيد رهط عمرو، فخرجت

بن الحارث يطلبون بدمهم ومعهم جيرانهم بنو نهد، فعبَّى عمرو جرما لبني نهد؛ وتعبَّى هو وقومه ابني الحارث؛ فزعموا أن جرما كرهت دماء بني نهد فانهزمت وفُلَّت يومئذ زبيد؛ ففي ذلك يقول عمرو يلوم جرماً: لَحَا الله جَرْماً كلّما ذَرَّ شارِقٌ ... وُجوهَ كلابٍ هارَشَتْ فازْبَأَرَّتِ فلم تُغْنِ جَرْمٌ نَهدَها إذ تلاقَتَا ... ولكنّ جَرْماً في اللِّقاء ابْذَعَرَّتِ فلو أَنّ قومي انطقَتْنِي رماحُهم ... نَطَقتُ ولكنّ الرِّماحَ أَجَرَّتِ ثم إن عمراً غزا بني الحارث فأصاب فيهم وانتصف منهم وقال: لمّا رَأَوْنِي في الكَتِيفَة مُقِبلا ... وسَطَ الكَتِيبة مثلَ ضَوء الكوكبِ واُستيقَنُوا منَّا بوَقع صادقٍ ... هَرَبُوا وليس أَوانَ ساعةِ مهربِ عَجّت نساءُ بني زيادٍ عَجَّةً ... كعَجِيج نِسْوَتنا غَداةَ الأرنبِ هكذا رواه الطوسي وغيره. وقد رأيت أبا جعفر محمد بن حبيب البصري أدرج هذا البيت في خبر ذكره فقال: لما جاء نعي الحسين - رضي الله عنه - ومن كان معه قال مروان: " يوم بيوم الحفض المجور " أي يوم بيوم عثمان - رضي الله عنه - ثم تمثل بقول الأسدي: عجَّت نساءُ بني زُبَيدٍ عَجَّةً ... كعَجِيج نِسْوَتنا غَداةَ الأرنَبِ قال: وهذا يوم كان بين بني أسد وبين بني الحارث بن كعب ونهد وجرم، فانتفجت لبني الحارث يومئذ أرنب، فتفاءلوا وقالوا: ظفرنا بهم: فظفروا؛ ثم انتصف منهم بنو أسد فقال الأسدي هذا

الشعر. وهذا هو التفسير الصحيح في قوله: " غداة الأرنب " لا ما ذكره أبو علي - رحمه الله - لأنه لا يعرف موضع يقال له أرنب ولا يحفظ البتة، وإنما هو يوم الأرنب، سمي بهذه الأرنب التي انتفجت لهم. ولا يصح إنشاده: عجت نساء بني زُبيد ... إذا نُسب إلى عمرو أصلاً؛ إلا أن يكون البيت للأسدي كما قال ابن حبيب، وعمرو أولى به، والأثبت أنه له؛ فلينشد: عجت نساء بني زياد.. كما ذكرناه بدءاً. * * * وفي " ص 126 س 12 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لمرضاوي بن سعرة المهري في خبر ذكره شعراً منه: فَسَمَتْ رجالُ بني أبِيهم بينهم ... جُرَعَ الرَّدَى بمَخَارِصٍ وقَوَاضِب قال أبو علي - رحمه الله - المخارص واحدها مخرص، وهو سكين كبير شبه المنجل يُقطع به الشجر. أيمدخل للمنجل مع القواضب وهي السيوف! وأي شجر هنا إلا قمم الرجال! وإنما المخارص هنا: الرماح، وهي الخرصان أيضا، واحد الخرصان خُرص وخِرص، وواحد المخارص مِخرض؛ قال حميد الأرقط: يَعَضُّ منها الظَّلِفُ الدَّئِيَّا ... عَضَّ الثِّقَافِ المِخْرَصَ الخطِّيَّا وقال امرؤ القيس في الخُرص: أَحْزَنَ لو أَسْهلَ أَخْزَيتُه ... بعامِلٍ في خُرص ذابِلِ يعني رمحا.

* * * وفي " ص 127 س 6 " قال أبو علي - رحمه الله -: العرب تقول: " طلب الأبلق العقوق فلما فاته أراد بيض الانوق " فأتى به كلاماً منثوراً؛ وإنما يُحفظ للعرب بيتا موزونا. روى المدائني والهيثم بن عدي: أن رجلا أتى معاوية - رضي الله عنه - وهو يخطب فقال: زوجني أُمك؛ فقال: الأمر لها وقد أبت أن تزوج؛ قال: فافرض لي ولقومي؛ فتمثل معاوية - رضي الله عنه -: طَلَبَ الأبلَقَ العَقُوقَ فلمَّا ... لم يَنَلْهُ أرادَ بَيضَ الأَنْوقِ ويُوضح لك أن المثل الذي أورده أبو علي - رحمه الله - مُغيَّر من الموزون، قوله فيه: " أراد بيض الأنوق " لأن ضرورة الوزن حملت الشاعر أن يضع " أراد " مكان " طلب " ولولا ذلك لكان رجوع آخر الكلام على أوله أعدل لقسمته؛ ومع ذلك فإن الإرادة قد تكون مضمرة غير ظاهرة، والطلب لا يكون إلا ظاهراً بفعال أو مقال. وفي " ص 127 س 12 " قال أبو علي - رحمه الله -: الدَّفر: يكون في النتن والطيب، وهو حدَّة الريح. والدَّفر بفتح الفاء: لا يكون إلا في النتن؛ الفتح والإسكان فيه لغتان، وأعلاهما الإسكان.

ومن ذلك قولهم للدنيا: " أم دفر " بالإسكان، لم يُسمع فيه الفتح؛ وكلام أبي علي - رحمه الله - كلام من يعتقد أنه لا يقال إلا بالفتح. * * * في " ص 130 س 21 " قال أبو علي - رحمه الله - قال الأصمعي - رحمه الله -: من أمثالهم: " أينما أذهب ألق سعدا " قال: كان غاضب الأضبط بن قريع سعداً فجاور في غيرهم فآذوه. ذا خلاف ما ذكره العلماء: ابن الكلبي وأبو عبيد القاسم بن سلام - رحمهما الله - وغيرهما. قالوا: معنى هذا المثل: " أن سادات كل قوم يلقون من قومهم الذي هم دونهم في المنزلة مثل ما ألقى أنا من قومي من الحسد والمكروه " فهذا هو التفسير الصحيح، لأنَّ الأضبط كان سيد قومه ولم يلق من غيرهم مكروها. * * * وفي " ص 135 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لقيس بن ذريح قصيدة منها: وما كادَ قَلْبِي بعدَ أيَّامَ جاوَزَتْ ... إليّ بأجراع الثُّدِيّ يَريِعُ هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - الثُّدي بكسر الدال على وزن جمع ثدى، وهذا غير محفوظ ولا معلوم؛ وإنما هو الثُّديّ بفتح الدال وهو وادٍ بتهامة. * * * وفي " ص 146 س 14 " أنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي صخر الهذلي قصيدة أولها: لِلَيْلَى بذاتِ الْجَيْش دارٌ عرَفتُها ... وأخرى بذاتِ البين آياتُها سَطْرُ كأنّهما مِ الآْنَ لم يتغيَّرا ... وقد مَرَّ للدارَين من بعدنا عَصْرُ وقفتُ بربعيها فَعَيَّ جوابُها ... فكِدتُ وعَيني دَمْعُها سَرِبٌ هَمْرُ ألا أيُّها الركبُ المُخِبُّونَ هل لكم ... بساكن أجْزَاعِ الحمَى بَعْدَنا خُبْرُ

هكذا رواه أبو علي - رحمه الله -: فكدت؛ وإنما صحة إنشاده وصوابه: فقُلتَ وعَيْنِي دمعُها سَرِبٌ هَمْرُ ألا أيها الركب........الخ. ولا وجه لرواية أبي علي - رحمه الله - إلا على بعد، وهو حذف الجواب؛ كأنه أراد فكدت أهلك أو نحو ذلك؛ ورواية الناس ما أنبأتك به. وفي الشعر المذكور: خَلِيليَّ هل يَسْتَخبِر الرِّمثُ والغَضَا ... وطَلْح الكَدَا من بطن مَرَّان والسِّدُْ قال أبو علي: كذا أنشدناه أبو بكر بن الأنباري - رحمهما الله - كذا بفتح الكاف وقال: هو اسم موضع. قال أبو علي - رحمه الله - وأحسبه أراد كداء فقصره للضرورة. قال: وأنشدناه أبو بكر بن دريد: كُدى بضم الكاف، قال: وهو جمع كُدية. سها أبو علي - رحمه الله - في متن البيت وسها في شرحه، لأنه أنشده: خليليّ هل يستخبر الرمث بفتح الياء لم يختلف عنه في ذلك، والرمث لا يستخبر؛ وإنما هو، هل يُستخبر الرِّمث بضم الياء وفتح الباء، وقال في شرحه: أظنه أراد كداء فقصره للضرورة، وهذا لا يجوز، لأن كداء معرفة لا تدخلها الألف واللام، وكداء هي عرفة بعينها. وكُديٌّ: جبل قريب من كداء؛ قال الشاعر: أَقْفَرَتْ بعدَ عَبدِ شمسٍ كَدَاءُ ... فكُدَيٌّ فالرُّكنُ فالبطحاءُ * * * وفي " ص 150 س 3 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: طِوَالُ الأيادِي والْحَوَادِي كأنّها ... سَمَاحِيجُ قُبٌّ طارَ عنها نُسَالُها قال أبو علي - رحمه الله - والحوادي: الأرجل التي تتلو الأيدي وتتلوها. لا أعلم أحداً رواه إلا طوال الأيادي والهوادي بالهاء، أي المقادم؛ ولولا أن أبا علي - رحمه الله - فسّر الحوادي لقيل إنه وهمٌ من الناقل، لأنَّ الأيدي إذا طالت طالتْ الأرجل لا محالة، إلا ما يذكر من خلق الزرافة،

فإن رجليها أقصر من يديها. وخلق الأرنب على خلاف ذلك، رجلاها أطول من يديهل. وأما الهوادي فقد تكون قصاراً مع طول القوائم. والهوادي هي التي توصف بالطول؛ قال طفيل: طِوَالُ الهَوادِي والمُتونُ صَلِيبَةٌ ... مَغَاوِيرُ فيها للأديب مُعَقَّبُ وهذا الشاعر يصف خيلا شبهها في طولها وارتفاعها بإبل سماحيج، أي طوال طار عنها نسالها لسمنها. وهذا البيت حجة في جمع اليد العضو على أيادٍ؛ وكذلك بيت القحيف: ومِن أَعجَبِ الدُّنيا إليَّ زُجاجَةٌ ... تَظَلُّ أيادِي المُنتَشِينَ بها فُتلاَ * * * وفي " ص 150 س 7 و 8 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: لو كنتَ من زَوْفَنَ أو بَنِيهَا ... قَبِيلةٍ قد عَظَّبَتْ أيدِيهَا مُعَوِّدِينَ الحفرَ حَفَّارِيهَا ... لقد حَفَرْتَ نُبْثَةً تُرْوِيهَا هكذا قرأه أبو علي - رحمه الله - زوفن بالزاي؛ وإنما هو دوفن بالدال المهملة، وهو مشتقٌّ من الدَّفن؛ ذكر ذلك ابن دريد وابن ولاَّد - رحمهما الله - وغيرهما. ودوفن من ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وهم رهط المتلمس الشاعر، ورهط الحارث بن عبد الله بن دوفن الأضجم سيد بني ضبيعة في الجاهلية، ولا نعرف في بطون العرب زوفن بالزاي، وهو تصحيف من ناقله لا شكّ فيه.

* * * وفي " ص 158 س 10 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لمالك بن الريب المزني: إذا مُتُّ فاعتامِي القبورَ فَسَلِّمي ... على الرَّيْم أُسقِيتِ السحابَ الغَوادِيَا هذا وهم من أبو علي - رحمه الله - ومالك مازني لا مزني. هو مالك بن الرَّيب بن حوط بن قرط من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة. ومزينة هو ابن أد بن طابخة؛ منهم: زهير الشاعر، والنعمان بن مقرن، ومعقل بن يسار. وهذا البيت لمالك من قصيدة يرثي بها نفسه؛ وكان سعيد بن عثمان بن عفان - رحمه الله - لما ولاه معاوية - رضي الله عنه - خراسان قد استصحب مالك بن الرَّيب، وكان من أجمل العرب جمالا، وأبينهم بياناً، فمات هناك، فقال هذه القصيدة وهو يجود بنفسه؛ وصلة البيت منها: فياليتَ شِعْرِي هل بَكتْ أُمُّ مالكٍ ... كما كنتُ لو عَالَوْا نَعِيَّكَ بِاكَيا إذا مِتُّ فاعتامِي القُبورَ فسَلِّمِى ... على الرَّيْم أُسقِيتِ السَّحابَ الغوادِيَا رَهِينَةَ أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمّتْ ... قَرَارَتُها منِّي العِظامَ البَوالِيَا ويروى: إذا مت فاعتادي القبور. ويروى: وسلمي على الرمس. والريم: القبر. * * * وفي " ص 158 س 23 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لكعب بن زهير: ثَنَتْ أربعاً منها على ظهر أربع ... فهنّ بمَثْنِيَّاتِهِنَّ ثَمانِ هذا البيت إنما هو لوداك بن ثميل لا لكعب بن زهير؛ من شعر ودّاك الذي يقول فيه: مَقَادِيمُ وصَّالُون في الرَّوْع خَطوَهُم ... بكلّ رَقيق الشَّفْرَتين يَمانِ إذا استُنجِدُوا لم يسألوا مَن دعاهم ... لأيَّةِ حرب أم بأيّ مكان

* * * وفي " ص 168 س 18 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - شعرا منه: إذا أنتَ لن تَترُك طعاما تُحبُّه ... ولا مَقعداً تدعو إليه الولائدُ تَجَلَّلْتَ عاراً لا يزال يَشُبُّه ... شبابُ الرجال نَقْرُهم والقصائدُ كان صاعد بن الحسن يردّ هذه الرواية ويقول إنها تصحيف؛ وإنما هو: تَجَلَّلْتَ عاراً لا يزال يَشُبُّه ... سبابُ الرجال نَثْرُه والقصائدُ سباب بسين مهملة، يريد نثر السباب ونظمه. قيل: ولا وجه لتخصيص شباب الرجال هنا، لأن مسانّهم أعلم بالمناقب والمثالب، وأروى للممادح والمذام؛ وإنما ذكر النظم والنثر فقد حصر جميع الكلام وطابق بين الألفاظ؛ وما بال ذكر النقر مع القصائد. قال المُحتجّ لأبي علي - رحمه الله -: معنى النقر هنا: الغناء، وهو لا يكون إلا في الشعر؛ وأكثر ما يكون الغناء أيضا للشباب دون الكهول، وقيل: إن معنى النقر هنا: السب والعيب؛ ومن ذلك قول امرأة من العرب لزوجها: " مرَّ بي على بني نظري ولا تمر بي على بنات نقَّري " تقول: مرَّ بي على الرجال الذين يقنعون بالنظر دون السبّ، ولا تمر بي على العيَّابات السبَّابات. وقيل: بنات نقري هنا من التنقير؛ وهو البحث والتجسس عن الأخبار. ورواية صاعدٍ حسنة جليلة، وعن هذا التكلُّف غنيَّةٌ. * * * وفي " ص 182 س 17 " قال أبو علي - رحمه الله - عقبت الخوق، وهي حلقة القرط، وذلك أن يشدَّ بالعقب إذا خشوا أن يزيغ؛ وأنشد: كأنّ خَوْقَ قُرْطِها المَعْقُوبِ ... على دَبَاةٍ أو على يَعْسُوب

إنما المعقوب هنا الذي فيه العقاب، وهو الخيط الذي يشد في طرف حلقة القرط ثم يُشد في حلقة الآخر لئلا يسقط أحدهما؛ هذا هو التفسير الصحيح لا ما ذكره أبو علي - رحمه الله - لأن قرطاً يُشدّ بعقب ينبغي أن يكون من خشب. وهذا الرجز لسيار الأناني يقوله في امرأته؛ وأوله: أعارَ عندَ السِّنِّ والمَشِيبِ ... ما شئتَ من شَمَرْدَلٍ نَجيبِ أعارَهُم من سَلْفعٍ صَخُوبِ ... يابِسَةَ الظُّنبُوب والكُعُوب كأنّ خَوْقَ قُرْطِها المَعْقُوبِ ... على دَبَاةٍ أو عَلَى يَعْسُوبِ تَشْتُمِني في أنْ أقولَ تُوبِي قوله: أعار، يعني الله - سبحانه وتعالى - رزقه عند كبره أولاداً جساما نجباء. والشمردل: الطويل الحسن الجسم؛ يقول: هؤلاء الأولاد من امرأة سلفع، وهي الصخّابة البذَّية. وقوله: على دباةٍ، يعني قصر عنقها، وصفها بالوقص. والدَّبى: صغار الجراد. * * * وفي " ص 185 س 2 و 3 " وأنشد أبو علي لمعدان بن مضرب الكندي: إن كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي فلامَني ... صَدِيقي وشَلَّتْ من يَدَيَّ الأناملُ وكَفَّنْتُ وَحْدِي مُنْذِراً بردائه ... وصادَفَ حَوْطاً من أَعَادِيَّ قاتِلُ وهذا الشعر لمعدان بن جواس بن فروة السكوني ثم الكندي بلا اختلاف، ولا يُعلم شاعر اسمه معدان بن مضرب، إنما هو حجية بن المضرب، وهو أيضا سكوني، وابن ابن أخيه شاعر أيضا:

جوَّاس بن سلمة بن المنذر بن المضرِّب، وهذا مما التبس حفظه على أبي علي - رحمه الله - وقوله: وكفَّنت وحدي، أي بكوني غريبا لا اجدُ معينا. ومنذر ابنه، وحوط أخوه. وقوله: بردائه، أي لا يجد سواه، وهذا يحقق الغربة. وشبيه بهذا قول امرئ القيس: فإمّا تَرَيْنِي في رِحالَةِ جَابرٍ ... على حَرَجٍ كالقَرِّ تَخفِقُ أكفانِي يريد ثيابه التي أيقن أنه سيُكفن فيها حين سُمَّ وليس يجد سواها؛ وإنما قال: من أعاديّ، ولم يقل: من أعاديه، لتكون الفجيعة أعظم، والمصيبة أكثر. * * * وفي " ص 185 س 5 و 6 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأعرابي: وفي الجِيرَة الغَادِينَ مِنْ بَطْن وَجْرَةٍ ... غَزَالٌ أَحَمُّ المُقْلتَيْن رَبِيبُ فلا تَحْسَبِي أنّ الغريبَ الذي نَأَى ... ولكنَّ مَنْ تَنْأَيْنَ عنه غَرِيبُ هذا مما قدمناه أن أبا علي - رحمه الله - إذا جهل قائل الشعر نسبه إلى أعرابي. وهذا الشعر لشاعر إسلامي حضريً مدنيً، غُذي بماء العقيق لم يدخل بادية قط، وهو الأحوص بن محمد الأنصاري - رضي الله عنه - وكذلك الشعر الذي أنشد بعده لأعرابي وهو: هَجرتُكِ أيَّاماً بذِي الغَمْرِ إنَّنِي ... على هَجْرِ أيَّام بذِي الغَمْرِ نادِمُ وإنّي وذاكِ الهَجْرَ لو تَعْلَمِيَنُه ... كعازِبَةٍ عن طِفلها وهْيَ رائمُ يروى للأحوص أيضا. * * * وفي " ص 185 س 17 " قال أبو علي - رحمه الله -: اجتمع خمس جوارٍ من العرب فقلن: هلممن فلننعت خيل آبائنا؛ وذكر حديثهنّ إلى قول إحداهنّ: جريها انثرار، وتقريبها انكدار؛ وفسره

فقال: انثرار كأنه انفعال من ينثره نثراً. وهذا وهم بيِّن! وأين علم أبي علي - رحمه الله - بالتصاريف ونون انفعال زائدة؛ وإنما انثرار من الثرّ، وهو الغزير الكثير؛ ومنه قولهم: " عين ثرة " ويحتمل أن يكون افعلالاً من نثر إن كان مسموعاً. * * * وفي " ص 193 س 17 و 18 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للبعيث: ألا طَرَقَتْ لَيْلَى الرِّفَاقَ بغَمْرَةٍ ... ومِنْ دُون لَيْلَى يَذْبُلٌ فالقَعَاقِعُ على حِينَ ضَمَّ الليلُ من كل جانبٍ ... جَنَاحَيْه وَانْصَبَّ النجومُ الخَوَاضِعُ في أبيات أنشدها. خلَّط أبو علي - رحمه الله - في البيت الأول فأتى به من بيتين؛ وصحَّة إنشاده وموضوعه: ألا طَرَقَتْ لَيْلَى الرِّفَاقَ بغَمْرَةٍ ... وقد بَهَرَ الليلَ النُّجُومُ الطوالعُ وأَنَّي اهْتَدَيتْ لَيْلَى لعُوجٍ مُنَاخَهٍ ... ومِنْ دُون لَيْلَى يَذْبُلٌ فالقَعَاقِعُ وقد وهم أيضا في البيت الثاني فأنشده: " وانصبَّ النجوم الخواضع " وإنما هو: "..وانصب النجوم الطوالع " ويروى: " وانقضَّ النجوم الطوالع " ولا يستقيم أن يكون: " ... وانصبّ النجوم الخواضع " لأن الخواضع هي المُنْصَبّةُ، فكيف يستقيم أن يقول: وانصب النجم المنصبُّ. والخاضع: المطأطئ رأسه الخافض له؛ وكذلك فُسِّر في التنزيل. وإنما يريد الشاعر أن الليل قد أدبر، وانقضَّ للغروب ما كان طالعاً في أوله؛ ألا ترى قوله: " عل حين ضمَّ الليل من كل جانب جناحيه..الخ، أي كف ظلمته وضم منتشرها مدبراً؛ وأيضاً فإن الذي يلي هذا البيت من القصيدة قوله: بَكَى صاحِبي من حاجةٍ عَرَضَتْ لَهُ ... وهُنَّ بأَعْلَى ذي سُدَيْر خَواضِعُ

فلو كان الذي قبله كما أنشده أبو علي - رحمه الله - لكان هذا من الإيطاء على أحد القولين. ومعنى خواضع في هذا البيت: ذُقن، والذَّقون: التي تهوى برأسها إلى الأرض تخفضه وتسرع في سيرها. وغمرة: فصل نجدٍ من تهامة من طريق الكوفة. ويذبل: جبل لباهلة؛ وكذلك القعاقع جبال لهم. * * * وفي " ص 194 س 2 " وأنشد أبو علي لابن الطثرية شعراً أوله: عُقَيْلِيَّةُ أمّا مَلاَثُ إزَارِهَا ... فَدِعْصٌ وأمّا خَصْرُها فَبَتِيلُ إنما هذا الشعر للعباس بن قطن الهلالي لا لابن الطثرية. كذلك قال دعبل وأبو بكر الصُّولي، ولم يقع هذا الشعر في ديوان ابن الطثرية؛ وقد جمعت منه كلَّ رواية: رواية أبي حاتم عن الأصمعي، ورواية الطوسي عن ابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني - رحمهم الله - وفيه: فما كلَّ يومٍ بأرضكِ حاجةٌ ... ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسول هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - وإنما هو: " ولا كل يوم لي إليك وصول " كذلك رواه الجماعة وهو الصحيح، لأن الذي يلي هذا البيت قوله: إذا لم يكُن بيني وبَيْنَكِ مُرْسَلٌ ... فرِيحُ الصَّبَا مِنِّي إليكِ رَسُولُ وهو آخر الشعر في رواية الرياشي؛ وزاد فيه ابن عبد الصمد الكوفي من سماعاته: أيا قُرَّةَ العَيْن التي ليتَ أنّها ... لنا بجميع الصالحاتِ بَدِيلُ سَلِي هل أَحلَّ اللهُ مِنْ قَتْلِ مُسلمٍ ... بغير دَمٍ هل عليّ قَتِيلُ فأُقِسمُ لو مُلَّكْتُكِ الدهرَ كلَّهُ ... لَمُتُّ ولمّا يُشفَ منكِ عَلِيلُ

* * * وفي " ص 195 س 20 " قال أبو علي: حدثنا أبو بكر أخبرنا أبو حاتم عن العتبي - رحمهم الله - قال: قال رجل لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، هززت ذوائب الرِّحال إليك، ولم أجد معولا إلا عليك؛ أمتطى الليل بالنهار، وأقطع المجاهل بالآثار؛ يقودني نحوك رجاء، ويسوءني إليك بلوى؛ والنفس راغبة، والاجتهاد عاذر؛ وإذا بلغتك فقدي. قال: أُحطط عن راحلتك، فقد بلغت. الصحيح أن المخاطب بهذا معاوية بن أبي سفيان، والمتكلم به عبد العزيز بن زرارة الكلابي. كذلك روى أبو حاتم في نوادره عن العتبي؛ ومن هذه الطريق رواه أبو علي؛ وزاد أبو حاتم بعد هذا الخبر: فقال عبد العزيز بن زرارة: دَخَلتُ على مُعاويةَ بنِ حَرْبٍ ... وذلك إذ يَئِستُ من الدُّخولِ وما نلتُ الدخولَ عليه حتّى ... حلَلتُ مَحلَّهَ الرجُلِ الذليلِ وأغضَيتُ الجُفونَ على قَذاها ... ولم أسمَعْ إلى قَالٍ وقِيلِ فأدركتُ الذي أمَّلتُ منه ... بمُكثٍ والْخَطاءُ مع العَجُولِ ولو أنِّي عَجِلتُ سَفِهتُ رأيِي ... فلم أكُ بالعَجُولِ ولا الْجَهُولِ هكذا انشده: " دخلت على معاوية بن حربٍ " نسبه إلى جده ولو قال: " دخلت على معاوية بن صخر " لكان أحسن، وهو اسم أبي سفيان. وقوله: وإذا بلغتك فقدي، أي حسبي؛ وقد تزاد فيه النون وقاية لآخر الحرف؛ قال حميد الأرقط: قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِى فاتى باللغتين. وتأتي قط بمعنى حسب وكفى؛ تقول: قطّ عبد الله درهم. وقطك درهم، وقطني درهم؛ قال الراجز:

اِمتلأَ الْحَوضُ وقال قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قد مَلأتَ بَطْنِي وقال الخليل - رحمه الله -: قال أهل البصرة: الصواب فيه الخفض، على معنى، حسب عبد الله، قط عبد الله درهم. وهي هنا مخففة لا تثقَّل، فأما في الزمان والعدد فلا تكون إلا مثقَّلةً. * * * وفي " ص 196 س 19 " قال أبو علي - رحمه الله -: قيل لابنة الخسِّ: ما أحدُّ شيء؟ قال: ضرس جائع، تقذف في معي جائع..الخ. المحفوظ عن اللحياني وغيره أنها قالت: ضرس قاطع، يقذف في معي جائع؛ هذا هو الصحيح. والذي رواه أبو علي مردود من وجوه: منها أن الجوع لا يُنسب إلى الضرس، وإن سومح في هذا على المجاز، فقد يكون جائعاً ولا يكون قاطعاً وأيضاً فإن صفة المعي بالجوع يغني عن صفة الضرس بالجوع، إذ لا يجوز أن يكون أحدهما شبعان والآخر غرثان. ومع هذا فإن تكرير اللفظ بمعنى واحدٍ من العيِّ الذي سمعت به لا سيما في سجع المسجوع. وكانت هند أفصح من ذلك، وهي هند بنت الخس بن حابس بن قريط الإيادية. يقال: الخُسُّ والخصُّ بالسين والصاد. والخُسف بالفاء بعد السين. * * * وفي " ص 199 س 13 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: على كُلِّ هَتَّافةِ المِذْرَوَيْنِ صَفْرَاءَ مُضْجَعَةٍ في الشِّمالِ البيت لأمية بن أبي عائذٍ يصف رامياً، وقبله: تُرَاحُ يداهُ بمَحْشُورَةٍ ... خَوَاظِي القِدَاحِ عِجَافِ النِّضَالِ

كَخشْرَمِ دَبْرٍ له أَزْمَلٌ ... أو الجَمْرِ حُشَّ بصُلْبٍ جُزَالِ على عَجْسِ هَتَّافَةِ المِذْرَوَيْنِ زَوْرَاءَ مُضجَعَةٍ في الشِّمَال هكذا رواه الأصمعي والسكري - رحمهما الله - وغيرهما: " على عجس هتافة المذروين " فأما إنشاد أبي علي - رحمه الله -: " على كل هتافة المذروين " فلا وجه له، لأن يديه إنما ترمي بهذه السهام الموصوفة على قوس واحدةٍ. لا على كل قوسٍ هتافة. قال الأصمعي - رحمه الله -: يقال: يداه تراحان إلى المعروف فجاء به على هذا. وخواظ: ممتلئة ليست بدقاق. والخشرم: جماعة النحل والدبر. وحُشّ: أُقد. والعرب تُشبه متابعة الرمي عند استشرائه واحتدامه بتسعر اللهب واضطرامه، فتقول: ضرب هبر، وطعن نتر، ورمى سعر؛ قال كعب بن مالك في تشبيه الضرب بذلك: من سَرَّهُ ضَرْبٌ يُرَعْبِل بعضُه ... بَعْضاً كَمعْمَعة الأباءِ المُحْرَق * * * وفي " ص 200 س 23 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لابن الدمينة شعراً أوله: ألا لا أَرَى وادِي المياه يُثِيبُ ... ولا النفْسُ عن وادي المياه تَطِيبُ هذا الشعر لمالك بن الصمصامة بن سعد بن مالك أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، وهو شاعر بدوي إسلامي مُقلٌّ، وكان فارساً جواداً جميل الوجه يهوى جنوب بنت

محصن الجعدية. وكان أخوها الإصبغ بن محصن من فرسان العرب وأهل النجدة فيهم، فنُمي إليه فبذٌ من خبر مالك، فآلى يميناً جزماً لئن بلغه أنه عرض لأخته أوزارها ليقتلنه، فبلغ ذلك مالكاً فقال هذا الشعر. هكذا روى المدائني وأبو عمرو الشيباني وغيرهما. * * * وفي " ص 203 س 24 " وأنشد أبو علي للعجاج في لذم إذا لزمه: يَقْتَسِر الأقوامَ بالتغَمُّم ... قَسْرَ عزِيزٍ بأَكاَل مِلْذَمِ هكذا روي عنه بالتغمم بالغين لم يختلف في ذلك عنه، وهو وهم؛ وإنما هو بالتقمم بالقاف، أي بالركوب والأعتلاء؛ كذلك رواه أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي - رحمهم الله - وفسراه بما ذكرته وهو لا يصح سواه؛ وصلة الشطرين: إذا بَذَخَتْ أركان عِزًّ فَدْغَمَ ... ذو شُرُفَاتٍ دَوْ سَرىًّ مِرْجَمِ يقْتَسِرُ الأقرانَ بالتقَمُّمِ ... قَسْرَ عَزِيزٍ بالا كاَلِ مِلْذَمِ إنْ أَحْجَمَتْ أقرانُهُ لم يُحْجِمِ ... ولم يَرُضْهُ رائضٌ بِمِخْطَمِ بذخت: ارتفعت. والباذخ: الجبل المرتفع. وفدعم: ضخم. ودو سرى: مثله. ومرجم: شديد الرجم، والأقران جمع قرن؛ وهذه أحسن من رواية أبي على - رحمة الله - يقتسر الأقوام، لأن الأقوام قد يقع على المسالم والمحارب والمخالف والمؤالف. والأقران إنما يكونون في الحرب وما أشبهها من المنافرات وطلب الطوائل، واحدهم قرن، فإذا قلت: فلان قرن فلان بفتح القاف، فإنما تريد أنه على سنة. وإلا كال: الحظ والنصيب، ويقال: فلان ذو أكل، أي ذو حظ من الدنيا. * * * وفي (ص 204 س 2) وأنشد أبو علي - رحمة الله - لأوس بن حجر: فما زَالَ حتّى نالَها وهو مُعْصِمٌ ... على مَوْطِنٍ لو زَال عنها تَفَصَّلا

هكذا أورده أبو على - رحمه الله - لو زال عنها؛ والصواب: لو زل عنه، أي عن الموطن وهو الموضع الذي صار إليه؛ لا يجوز غير ذلك. وهذا الشاعر ذكر رجلاً توصَّل إلى عود قوس في شاهق؛ وقبل البيت: ومَبضُوعَةٍ في رأس نِيقٍ شَظِيَّة ... بِطَوْدٍ تَرَاهُ بالسَّحاب مُكَلَّلاَ فُوَيْق جُبَيلٍ شامِخ الرأس لم تكن ... لتَبلُغَه حتى تَكِلّ وتُعْمِلاَ فأشرَطَ فيه نفسَهُ وهو مُعْصِمٌ ... وأَلقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلاَ وقد أَكلتْ أظفارَهُ الصَّخْرُ كُلّما ... تَعَايَا عليه طُولُ مَرْقىً تَوَصَّلاَ فما زَالَ حتَّى نالَها وهو مُعْصِمٌ ... على مَوطِنٍ أو زَلَّ عنه تَفَصَّلاَ قوله: فويق جبيل، صغره لأنه قلّ عرضه ودقَّ، فهو أشد لتوقله. وأشرط فيها نفسه: جعلها علماً للهلاك. وأشراط الساعات: علاماتها؛ وسمي الشُّرط شُرطاً لأن لهم علامات يعرفون بها. وقوله: وقد أكلت أظفاره الصخر أنَّث. والتذكير في الصخر أعرف. * * * وفي " ص 204 س 15 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: فَتىً لا يَعُدُّ الرِّسْل يَقْضِي مَذمَّةً ... إذا نَزَل الأضيافُ أو يَنْحَر الْجُزْرا هذا سهو منه؛ وإنما هو أن تنحر الجزر؛ والقوافي مرفوعة؛ وقبله: فَتًى إن هو استغنى تخرَّق في الغنى ... وإن قلَّ مالا لو يَؤُدْ مَتْنَهُ الفَقْرُ

فتى لا يعد المال ربا ولا ترى ... له جفوة إن نال مالا ولا كبر فَتىً لا يَعُدُّ الرِّسْل يَقْضِي ذِمَامَهُ ... إذا نَزَل الأضيافُ أو تُنْحَر الْجُزْرُ والشعر للأبيرد اليربوعي يرثي أخاه بريدا، وهو الأبيرد بن المعذر بن عمرو من بني رياح بن يربوع بن مالك بم حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، شاعر إسلامي في أول الدولة الأموية. * * * وفي " ص 207 س 3 و 4 " قال أبو علي: وكان ابن دريد يستحسن قول أبي نواس: لا جَزَى اللهُ دَمْعَ عَينيَّ خيراً ... وجَزَى اللهُ كلَّ خيرٍ لساني نَمَّ دمعي فليس يكتُم سِراًّ ... ووجدتُ اللسانَ ذا كتمان وهذا الشعر للعباس بن الأحنف بلا اختلاف، لا لأبي نواس، وهو ثابت في ديوان ابن الأحنف. * * * وفي " ص 214 س 16 و 17 " وأنشد أبو علي لجميل - رحمهما الله -: ولمّا بدا لي منكِ مَيْلٌ مع العِدَى ... سِوَايَ ولم يَحْدُثْ سواكِ بَدِيلُ صَدَدْتُ كما صَدَّ الرَّمِيُّ تطاولت ... به مُدَّةُ الأيامِ وَهْوَ قَتِيلُ هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله - وأنشده أبو تمام - رحمه الله - وغيره: ولمّا بدا لي منكِ مَيْلٌ مع العدى ... عَليَّ.............الخ وهو الصحيح، ولا وجه لإنشاد أبي علي إلا أن يكون قوله: سواي بمعنى قصدي، وهذا تكلُّفٌ وعبارة بعيدة. أنشد اللغويون في سوى بمعنى قصد:

فَلأَصْرِفَنَّ سِوَى حُذَيفةَ مِدْحَتِي ... لِفَتَى العَشِيِّ وفارِس الأَجرافِ وأنا أشهد أن قائل هذا البيت إنما قال: فلأَصرِفَنَّ إلى حُذيفةَ مِدْحَتِي و" سوى حذيفة " موضوع؛ وأنشدا أيضا: لو تَمَنَّتْ حَبِيبَتي ما عَدَتْنِي ... أو تمَّنيتُ ما عَدَوْتُ سِوَاهَا أي قصدها، وأنا أقول: إنَّ سوى في هذا البيت هي التي بمعنى غير ليس إلا. * * * وفي " ص 215 س 10 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي الشيص: وَقَفَ الهَوَى بِيَ حَيْثُ أَنْتِ فليس لي ... مُتَأَخَّر عنه ولا مُتَقَدَّمُ ليس هذا الشعر في ديوان أبي الشيص، ولا رواه أحد عنه كما روى عن غيره؛ قال أبو الفرج علي بن الحسين: حدثني اليزيدي قال حدثني محمد بن الحسن الزرقي قال حدثني عبد الله بن شبيب قال: أنشدني علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهم - لنفسه، وكان شاعراً غزِلا: وَقَفَ الهَوَى بي حَيْثُ أنتِ فليس لي ... مُتَأَخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمٌ الأبيات إلى آخرها.

* * * وفي " ص 215 س 23 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: ولو نظَرُوا بين الْجَوَانِح والْحَشَا ... رَأَوْا من كتاب الْحُبِّ في كَبدِي سَطْرَا ولو جَرَّبوا ما قد لَقِيتُ من الهوى ... إذاً عَذَرُوني أو جعلتُ لهم عُذْرَا صَدَدْتُ وما بي من صُدُودٍ ولا قِلًى ... أَزُورُكُمُ يوما وأَهْجُرُكمْ شَهْراً أسقط أبو علي - رحمه الله - من هذا الشعر البيت الذي يقوم به معنى البيت الأخير، لأنه جواب له ولا فائدة له إلا بذكره، وهو: ولمّا رأيتُ الكاشحين تَتَبَّعُوا ... هَوَانَا وأَبْدَوْا دُونَنا نظراً شَزْرَا جَعلتُ وما بِي من صُدُودٍ ولا قِلًى ... أَزُورُكُمُ يوماً وأَهْجُرُكُم شَهْراً ويروى: وأهجركم عشرا؛ ولولا هذا البيت المسقط لكان البيت الذي أنشده لغواً ومنقطعاً مما قبله كأنه ليس من الشعر. * * * وفي " ص 217 س 2 " وأنشد أبو علي لأوس بن حجر: وأَبْيَضَ صُولِيًّا كأنَّ غِرَارَه ... تأَكُّلُ بَرْقٍ في حَبِىًّ تَأَكَّلاَ خلط أبو علي - رحمه الله - في هذا البيت فمزجه من ثلاثة أبيات على ما أنا مورده؛ قال أوس: وإنّي امرؤ أَعْدَدتُ للحرب بعدما ... رأيتُ لها ناباً من الشرّ أَعْصَلاَ أَصَمَّ رُدَيْنِيًّا كأنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ عرَّاضاً مُزَجًّا مُنَصَّلاَ وأمْلَسَ صُولِيًّا كنهي قَرارَةٍ ... أَحَسَّ بقَاعٍ نَفْحَ رِيح فَأَجْفَلاَ

وأَبْيَصَ هندِياًّ كأنَّ غِرَارَةُ ... تَلأُلؤُ بَرْقٍ في حَبِيٍّ تَكَلَّلاَ إذا سُلَّ مِن جَفْنٍ تَأَكَّلَ أَثْرُهُ ... على مِثْلِ مِصْحَاةِ اللُّجَيْنِ تَأَكَّلاَ فوضع أبو علي - رحمه الله - مكان: وأبيض صولياًّ، وأبيض هنديًّا. والصولي من نعت الدرع، لا من نعت السيف، منسوبة إلى صول: رجل أعجمي يُحسن سردها، أو إلى صول: الموضع المعروف؛ ووضع مكان في حبي تكللا، تأكلا؛ فأتى به من قوله في البيت الآخر: ...........تَأَكَّلَ أَثْرُهُ ... على مِثل مِصْحَّاةِ اللُّجَيْن تَأَكَّلاَ والتأكل لا يكون في صفة البرق، إنما هو في صفة فرند السيف. والتكلل والانكلال في صفة البرق وهو كالابتسام. والمصحاة: إناء يُشرب به، مُشتق من الصحو تفاؤلا له بذلك. * * * وفي " ص 219 س 18 " قال أبو علي - رحمه الله -: دخل رجل من الأعراب على رجل من أهل الحضر، فقال له الحضري: هل لك أن أعلمك سورة من كتاب الله تعالى؟ فقال: إني أُحسن من كتاب الله ما إن ملت به كفائي؛ قال: وما تُحسن؟ قال: أُحسن سوراً؛ قال: اقرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وإنا إعطيناك الكوثر؛ فقال له الرجل: اقرأ السورتين، يريد المعوذتين، قال: قدم علي ابن عم لي فوهبتهما له، ولست براجع في هبتي حتى ألقى الله. هذا تصحيف، وإنما قال الأعرابي حين سأله الحضري فقال: وما تُحسن؟ قال: خمس سور " أُحسن سوراً " ولو لم يتقدم منه توقيت لما طالبه الحضري بقراءة السورتين، فإنه قد كان قرأ له سوراً. وهذا مما وقِّف عليه أبو علي فأبى إلا التزام روايته.

* * * وفي " ص 224 س4 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لابن الرومي: وفاحِمٍ وارِدٍ يُقَبِّل مَمْ ... شاه إذا اختال مُرْسِلاً عُذَرَهْ أَقْبَلَ كالليل من مَفَارقه ... مُنْحَدَراً لا يذُمُّ مُنْحَدِرَهْ حَتَّى تَنَاهَى إلى مَوَاطِئه ... يَلْثَمُ من كلّ مَوْطئٍ عَفَرَهْ كأنّه عاشقٌ دنا شَغَفاً ... حتّى قَضَى من حبيبه وَطَرَهْ هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله - مرسلاً عذره بالعين المهملة والذال المعجمة، وهي شعرات ما بين القفا إلى وسط العتق، واحدتها عذرة؛ وإنما هو: مرسلاً غدره بالغين المعجمة والدال المهملة جمع غدره، وهي الغديرة أيضا وجمعها غدائر، وهي القرون من الشعر وكل ما ضُفر منه؛ ألا تراه يقول: " أقبل كالليل من مفارقه " وأين شعرات القفا من المفارق؟ وأنشد أبو علي - رحمه الله - في البيت الثاني: " منحدراً لا يذمّ منحدره " يذم بالياء وهو لا يذمّ ولا يحمد؛ وإنما هو " لا ندم منحدره " بالنون، أي انحداره. والوارد من الشعر: الذي يرد الكفل وما تحته. وأخذ ابن مطران معنى هذا الشعر وزاد عليه فقال: ظِباءٌ أعارتَها المَهَا حُسْن مَشيِها ... كما قد أعارَتها العُيونَ الجَآذِرُ فمن حُسن ذاك المشي جاءت فقبَّلْت ... مواطِئَ من أقدامهنّ الغدائرُ

* * * وفي " ص 225 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لبشار أبياتا منها: مَنَّيْتِنَا زَوْرةً في النوم واحدةً ... ثَنِّى ولا تَجْعَلِيها بَيْضَهَ الدِّيك والمحفوظ في هذا البيت: قد زُرْتِنَا زَوْوَرَةً في النوم واحدةً ويروى: في الدهر واحدة؛ وعلى هذا يصح معنى البيت، لأنه أثبت زورة واحدة وسأل أن تُثنى. وعلى رواية أبي علي - رحمه الله - إنما منَّته في النوم زورة لم تف بها، فكيف يسألها أن تُثنِّي ما لم يتقدَّم له إفراد، إلا إن كان يريد أن تُمنيِّيه مره أخرى، وهذا لا يُتمعني. وفي " ص 230 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للمرار الفقعسي: لا يَشتَرُون بهجعةٍ هَجَعوا بها ... ودواءِ أَعْيُنِهم خُلُوَد الأَوجَسِ هذا وهم من أبي علي - رحمه الله - والشعر للمرار بن منقذ العدوي، لا للمرار بن سعيد الفقعسي؛ كما ذكر من قصيدة معلومة يتّصل بالبيت منها قوله: فَتَناوَمُوا شيئا وقالوا عَرِّسَوا ... في غير تَنْئِمة بغير مُعَرَّسِ فكأنَّ أَرحُلَنا بواد مُعشِبِ ... بلوَى عُنَيْزَةَ من مُغِيض التُّرْمُسِ في حَيثُ خالطت الخُزامَي عَرْفَجَا ... يأتيكَ قابِسُ أهلِهِ لم يَقْبِسِ لا يشترُون بهجعة هَجَعُوا بها ... ودواءِ أعينِهم خُلُودَ الاوْجَسِ فرَفعْتُ رأسي للرَّحِيلِ ولا أرى ... كاليوم مُصْبَحَ مَوْرِدٍ مُتَغَلِّسِ قوله: تنئمة، أي لم يرفعوا بذلك أصواتهم ولكن إشارة أشار بعضهم إلى بعض. بغير معرس، أي لم يكن موضع تعريس؛ ولكنا لما وجدنا لذة النوم فكأنا في روض هذه صفته. وقوله:

يأتيكَ قابسُ أهلِهِ لم يَقْبِسِ وصف خصب الوادي ولدونة العيدان ورطوبة الورق. وقوله: ولا أرى مصبح موردٍ، أي موضع ورود يصبحونه أثقل عليهم لشدة نعاسهم. * * * وفي " ص 233 س 3 " وأنشد أبو علي لنصيب: تُقِيُمهُ تارةً وتُقْعِدُه ... كما يُفَانِي الشَّمْوسَ قائدُها البيت للكميت بن زيد في أشهر قصائده لا لنصيب. وأولها: هل ذائدٌ للهُمُوم ذائدُها ... عن ساهرٍ لَيلةً يُسَاهِدُها بات لها راعياً تُقَارِطُه ... أَوْرَادُ هَمٍّ شتَّى مَوَارِدُها أَهْوَنُ منها ذِيادُ خامسةٍ ... في الوِرْدِ أو فَيْلَقٌ يُجَالِدُها تُقِيُمهُ تارةً وتُقْعِدُه ... كما يُفَانِي الشَّمُوسَ قائدُها يقول أهون على الذائد الذي استذاده لهمومه ذياد ناقة عن الماء قد وردته بعد خمس أو كتيبة يضاربها وهي الفيلق، يقال: كتيبة فيلق: إذا كانت كثيرة السلاح؛ قال الأعشى: في فَيْلَقٍ شَهْبَاء مَلْمُومَةٍ ... تَقْذِفُ بالدارِع والحاسِرِ وقوله: تقيمه تارة وتقعده، يعني الهموم المذكورة في أول الشعر. * * * وفي " ص237 س 5 " وأنشد أبو علي للعرندس الكلابي يمدح بني عمرو الغنويين - قال: وكان الأصمعي - رحمه الله - يقول: هذا المحال، كلابي يمدح غنويًّا! -: هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار إن يُسْأَلُوا الخيرَ يُعْطُوه وإن خُبِروا ... في الجَهْد أُدْرِك منهم طِيبُ أخبارِ الأبيات.

هذا الشعر لعبيد بن العرندس لا لأبيه؛ كذلك قال محمد بن يزيد وغيره. والذي قال: هذا المحال كلابي يمدح غنوياًّ، هو أبو عبيدة لا الأصمعي؛ كذلك قال أبو تمام - رحمهم الله - في الحماسة. وأبو عبيدة هو الذي روى الشعر؛ وكذلك رواه أبو علي عن ابن دريد عن أبي حاتم عنه - رحمهم الله - فالأولى على هذا أن يكون الأصمعي صاحب تلك المقالة منكراً على أبي عبيدة روايته؛ وإنما أنكر أن يكون كلابي يمذح غنوياً، لأن فزارة كانت قد أوقعت ببني بكر كلاب وجيرانهم من محارب وقعة عظيمة؛ ثم أدركتهم غنىٌّ فاستنقذتهم؛ ففي ذلك يقول طفيل الغنوي: وحَيَّ أبِي بكرٍ تداركنَ بعدَما ... أذَاعَتْ بسَرْبِ الحيّ عنقاءُ مُغْرِب تداركن، يعني خيلهم. وأذاعت: فرَّقت، فلما قتلت طي قيس الندامى الغنوي، وقتلت عبس هريم بن سنان الغنوي استغاثت غني ببني بكر وبني محارب ليكافئوهم بيدهم عندهم، فقعدوا عنهم ولم يجيبوهم؛ فلم يزالوا بعد ذلك متدابرين؛ وأدرك غني بثأر قيس الندامى من طي وقال في ذلك طفيل: فذوقوا كما ذُقْنا غَداةَ مُحَجَّرِ ... من الغَيظ في أكبادنا والتَّحَوُّبِ التحوب: الحزن، قال: ومنه " بات بحيبة سوءٍ ". * * * وفي " ص 239 س 1 " وذكر أبو علي - رحمه الله - خبر الزيادي عن المطلب بن المطلب ابن أبي وداعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله عنه - على باب بني شيبة فمرّ رجل وهو ينشد:

يأَيُّهَا الرجُلُ المحوِّلُ رَحْلَه ... هَلاَّ نَزَلتَ بآلِ عَبدِ الدار هَبِلَتْكَ أُمُّك لو نَزَلْتَ برَحْلهم ... مَنَعُوكَ من عُدْمٍ ومن إقتار قال: فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: " أهكذا قال الشاعر " قال أبو بكر رضي الله عنه: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: يأَيُّهَا الرجُلُ المحوِّلُ رَحْلَه ... هَلاَّ نَزَلتَ بآلِ عَبدِ الدار هَبِلَتْكَ أُمُّك لو نَزَلْتَ برَحْلهم ... مَنَعُوكَ من عُدْمٍ ومن إقراف الخالِطينَ فَقِيرَهم بغنيِّهم حتى يعودَ فَقِيرُهم كالكافي ويُكلِّلون جِفانَهم بسَدِيفهم ... حتَّى تَغِيبَ الشمسُ في الرَّجَّاف قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " هكذا سمعت الرواة ينشدونه ". قول أبي علي يأَيُّهَا الرجُلُ المحوِّلُ رَحْلَه هَلاَّ نَزَلتَ بآلِ عَبدِ الدار هَبِلَتْكَ أُمُّك لو نَزَلْتَ برَحْلهم ... مَنَعُوكَ من عُدْمٍ ومن إقتار عن المطلب بن أبي وداعة. هذا مما التبس على أبي علي يأَيُّهَا الرجُلُ المحوِّلُ رَحْلَه هَلاَّ نَزَلتَ بآلِ عَبدِ الدار هَبِلَتْكَ أُمُّك لو نَزَلْتَ برَحْلهم ... مَنَعُوكَ من عُدْمٍ ومن إقتار حفظه، وإنما أراد كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، ولا يعلم للمطلب بن أبي وداعة ابن يُسمى المطلب؛ إنما يروى عنه ابنه كثير وابن ابنه كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده. واسم أبي وداعة الحارث بن ضبيرة بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب ابن لؤي. وأُسر أبو وداعة يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له بمكة أبناً كيِّسا " فافتدى المطلب أباه بأربعة آلاف درهم. وهو أول من فودي من أسرى بدر. وأسلم هو وابنه يوم الفتح. وروى غير واحد عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حذو الركن الأسود والرجال والنساء يمرون بين يديه ما بينه وبينهم سترة. وقوله

في الشعر: الخالطين فقيرهم بغنيهم؛ هذا هو المدح الصحيح والمذهب المستحسن، كما قالت خرنق بنت هفان من بني قيس بن ثعلبة: لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذين هُمُ ... سُمُّ العُدَاة وآفَةُ الجُزْر النازلين بكلّ مُعْتَركٍ ... والطيِّبُون مَعَاقِدَ الأُزْرِ والخالِطين نَحِيَتهم بنُضَارهم ... وذوي الغَنِي منهم بذي الفَقْرِ وعيب على زهير قوله: على مُكْثِريهم رِزْقُ مَن يَعْتَرِيهم ... وعند المُقلِّين السماحةُ والبَذْلُ فأثبت فيهم مقلين. وفي بعض نسخ الأمالي بيت زائد في هذا الشعر الفائي؛ وهو: منهم عليٌّ والنبيُّ محمدٌ ... القائلين هَلُمَّ للأضياف وهذا بيت محدث، ذكر أبو نصر أن جده صالحاً أبا غالب ألحقه به، وروى أبو عمر المطرز قال: أخبرني أبو جعفر بن أنس الكرباسي - رحمهم الله - عن رجاله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ذات يوم في طريق من طرقات مكة فسمع جارية تنشد: كانت قُرَيشٌُ بَيْضةً قَتفَلَّقَتْ ... فالمُحُّ خالِصُهُ لعبد الدار فأقبل على أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: " أهكذا قال الشاعر " فقال: فداك أبي وأمي وإنما قال: كانت قُرَيشٌُ بَيْضةً قَتفَلَّقَتْ ... فالمُحُّ خالِصُهُ لعبد مَنافِ

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم وليس ميل الرجل إلى أهله بعصبية ". والعرب تقول للرجل: هو بيضة البلد، يمدحونه بذلك؛ وتقول للآخر: هو بيضة البلد، يذمونه بذلك. والممدوح يراد به البيضة التي يحضنها الظليم ويصونها ويوقيها، لأن فيها فرخة، والمذموم يراد به البيضة المنبوذة بالعراء المذرة التي لا حافظ لها ولا يدري لها أب، وهي تريكة الظليم، قال الرماني: إذا كانت النسبة إلى مثل المدينة ومكة والبصرة فبيضة البلد مدح، وإذا نسب إلى البلاد التي أهلها أهل ضعة فبيضة البلد ذمّ، وقال حسان - رضي الله عنه - في المدح: أَمسَى الجلابِيبُ قد عزُّوا وقد كثرُوا ... وابنُ الفُرَيعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ البَلَدِ أي واحد البلد، وكان المنافقون يسمون المهاجرين - رضي الله عنهم - الجلابيب، فلما قال حسان - رضي الله عنه - هذا الشعر اعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف، فأعلموا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان - رضي الله عنه -: " أحسن في الذي أصابك " فقال: هي لك، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضاً: بيرحاء - وهي قصر بني جديلة اليوم - وسيرين، فهي أم عبد الرحمن ابن حسان رضي الله عنهما. * * * وفي " ص 241 س 16 " وذكر أبو علي - رحمه الله - قولهم: هو " أجبن من صافر " قال: أراد مصافر ما يصفر من الطير؛ وإنما وصف بالجبن لأنه ليس من سباعها. المحفوظ في تفسير هذا المثل غير ما ذكره؛ ويسوغ على مذهبه أن تقول: هو " أجبن من حمام " و " أجبن من يمام " وكذلك

سائر ما يصاد وسائر الرُّهام الذي لا يُصاد، لأن ذلك كله ليس من سباع الطير؛ وإنما الصافر في هذا المثل: الصفرد، وهو طائر من خشاش الطير يعلق نفسه من الشجر ويصفر طول ليلته خوفاً من أن ينام فيسقط، فضرب به المثل في الجبن. وذكر ابن الأعرابي - رحمه الله - أنهم أرادوا بالصافر المصفور به فقلبوه، أي إذا صفر به هرب كما يقال: " جبان ما يلوى على الصفير ". وذكر أبو عبيدة رحمه الله: أن الصافر في المثل هو الذي يصفر بالمرأة للريبة، فهو وجل مخافة أن يُظهر عليه؛ واستشهد بقول الكميت: أَرجُو لكم أن تكونوا في مَوَدَّتكم ... كلباً كَوَرْهَاءَ تَقْلِي كلَّ صَفَّارِ لمّا أجابتْ صَفِيراً كان آتِيَها ... من قابِس ٍشَيَّط الوَجْعاء بالنّارِ وحديث ذلك: أن رجلا من العرب كان يعتاد امرأة وهي جالسة مع بنيها فيصفر بها، فعند ذلك تخرج عجيزتها من وراء البيت وهي تُحدِّث ولدها فيقضي منها وطره؛ ثم إن بعض بنيها أحسَّ منها بذلك فجاء ليلا وصفر بها ومعه مسمار محمي، فلما فعلت فعلها كوي صدعها؛ ثم أن الخل جاءها بعد ليالٍ فصفر بها، فقالت: قد قلينا صفيركم، فضرب به الكميت مثلا. * * * وفي " ص 244 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لبكر بن النَّطَّاح: ولو خَذَلَتْ أموالُه جُودَ كَفِّه ... لقاسَمَ مَنْ يَرجوه شطْرَ حياتِهِ ولو لم يَجِدْ في العُمْرِ قسْما لزائرٍ ... لجادَ لهُ بالشَّطْر من حَسناتِهِ أسقط أبو علي - رحمه الله - من هذا الشعر ما أخل بمعناه فصار فيه مطعن على الشاعر؛ وهو قد أحسن التخلص فقال: ولو لم يَجدْ في العُمْرِ قسْما لزائرٍ ... وجازَ لهُ الإعطاءُ من حَسَنَاتِهِ لجادَ بها من غير كُفرٍ بربِّه ... وشارَكَه في صَوْمه وصَلاتِهِ

وكان من خبر هذا الشعر أن بكراً قصد مالك بن طوق فمدحه فلم يرض ثوابه، فخرج من عنده وقال يهجوه: فَلَيْتَ جَدَا مالكٍ كُلَّهُ ... وما يُرْتَجَى منه من مَطْلَبِ أُصبْتُ بأضعافِ أضعافِهِ ... ولم أَنْتَجِعْهُ ولم أَرْغَبِ أَسأتُ اختِيَارِي فقَلَّ الثوا ... بُ لي الذنبُ جَهْلا ولمُ يذْنَبِ فلما بلغ ذلك مالكاً بعث في طلبه فلحقوه فردُّوه، فلما نظر إليه قام فتلقاه وقال: يا أخي عجلت علينا؛ وإنما بعثنا إليك بنفقة وعولنا بك على ما يتلوها، فاعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم أعطاه حتى أرضاه، فقال بكر يمدحه: أقولُ لمُرتادٍ نَدَى غَيْرِ مالكٍ ... كفَى بَذْلَ هذا الخَلْقِ بعضُ عِدَاتهِ فتًى جاد بالأموال في كلّ جانبٍ ... وأَنْهَبَها في عَودِهِ وبَدَاتِهِ ولو خَذَلَتْ أموالُه جُودَ كفِّهِ ... لقاسَمَ مَنْ يرجوه شَطْر حَياتهِ ولو لم يَجِدْ في العُمْر قِسْماً لزائرِ....................البيتين * * * وفي " ص 245 س 10 " وأنشد أبو علي عن ابن دريد - رحمهما الله - لليلى الأخيلية قال: وكان الأصمعي - رحمه الله - يرويها لحميد بن ثور: يأيُّها السَّدِمُ المُلَوِّي رأسَهُ ... لِيَقُودَ من أهل الحجازِ بَرِيما أَتُرِيدُ عَمْرو بنَ الخَلِيعِ ودُونَه ... كعبٌ؛ إذاً لَوَجدتَهُ مَرْءُوما

إنَّ الخلِيعَ ورَهْطَهُ في عامرٍ ... كالقَلب أُلْبِسَ جُؤْجُؤاً وحَزيما لا تَغْزُوَنَّ الدهرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما قزمٌ رِباطُ الخيلِ وَسْطَ بُيوتهم ... وأَسِنةٌ زُرْقٌ تُخَالُ نُجوما ومُخَرَّقٍ عنه القميصُ تَخالُهُ ... وَسْطَ البيوت من الحياء سَقِيما حتى إذا رُفِعَ اللواءُ رأيتَهُ ... تحتَ اللواءِ على الخَمِيس زَعِيما لن تَستِطيع بأن تُحوِّل عِزَّهُم ... حتى تُحَوِّل ذا الهِضاب يَسُوما إن سَالمُوك فَدَعْهُمُ من هذه ... وارقُدْ كَفَي لك بالرُّقاد نَعِيما قوله: " لا ظالما أبدا ولا مظلوما " هذه رواية محالة؛ وإنما الرواية الصحيحة التي بها يصح معنى البيت: " لا ظالما فيهم ولا مظلوما " لأنه قد يكون ظالما لغيرهم أو مظلوما من غيرهم فيستجير بهم لرد ظلامته، أو لاستدفاع مكروه عقوبته ولابد لهم من إجارته، وعلى رواية أبي علي - رحمه الله - قد نهى كل ظالم ومظلوم أن يقربهم على العموم؛ وهذا إلى الذم أدنى منه إلى المدح. وهذه الرواية على أختلال معناها فيها حشو من اللفظ لا فائدة له، وهو قوله: أبداً؛ لأن ما تقدم من قوله: " لا تقربن الدهر " يُغني عن إعادة " أبداً ". وقوله: " ومخرق عنه القميص " هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - بالخفض على معنى وربّ مخرَّقٍ، فهو على هذا كناية عن رجل مجهول، والكلام مستأنف منقطع مما قبله؛ وليس كذلك؛ وإنما هو: ومخرَّق عنه القميص، نسقاً على ما قبله، وتعني به الخليع الممدوح المتقدم الذكر؛ ألا ترى قوله: قوم رباط الخيل وسط بيوتهم وكذا وكذا ثم قال: ومخرق عنه القميص تخاله وسط البيوت، فالخيل والأسنة وسط البيوت، هي لهذا الكائن وسط البيوت؛ وفي صفته بخرق القميص قولان: أحدهما أن ذلك إشارة الة جذب العفاة له؛ والثاني أنه يؤثر بجيد ثيابه فيكسوها ويكتفي بمعاوزها؛ كما قال رجل من بني سعد:

ومُحْتَضَرِ المنافِع أَرْيَحِيٍّ ... نَبِيلٍ في مَعاوِزَهٍ طُوَال ورواه محمد بن يزيد: في معاوزه طوال، وهي رواية مردودة. وقوله: حتى تُحَوِّل ذا الهِضاب يَسُوما رواه أبو عمرو - رحمه الله - وغيره: ذا الضباب، وهو الصحيح، لأن يسوم: جبل منيف في أرض نخلة من الشأم يعرف بذي الضباب؛ وذلك أن الضباب لا يكاد يفارقه، وإلا فكلُّ جبل ذو هضاب. * * * وفي " ص 245 س 21 " وأنشد أبو علي للمتنخل الهذلي: عَقَّوْا بَسهْمٍ فلم يَشعُر به أحدٌ ... ثم استفاءوا وقالوا حَبَّذَا الوَضَحُ وقال: عقَّى بسهم إذا رمى به نحو السماء لا يريد به أحداً. وإذا اجتمع الفريقان للقتال بما بدا لأحد الفريقين وأرادوا الصلح رموا بسهم نحو السماء فعلم الفريق الثاني أنهم يريدون الصلح، فتراسلوا في ذلك. لم يعلم أبو علي - رحمه الله - معنى التعقية ومذهب العرب فيها. قال أبو العباس ثعلب - رحمه الله -: سألت ابن الأعرابي - رحمه الله - عن التعقية وهو سهم الاعتذار فقال: قالت الأعراب: إن أصل هذا أن يُقتل الرجل من القبيلة فيُطالب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بديةٍ مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوة أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: إن بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي؛ فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون: أن نأخذ سهما فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجاً دماً فقد نُهينا عن أخذ الدية؛ وإن رجع كما صعد فقد أُمرنا بأخذها. قال ابن الأعرابي قال أبو المكارم - رحمهما الله - وغيره: فما رجع هذا السهم قط إلا نقياًّ، ولكنهم لهم في هذا المقال عذر عند الجهال. هذا معنى عقَّوا بسهم،

لا ما أورده أبو علي - رحمه الله - والبيت الذي أنشده من شعر المتنخل يهجو بها ناساً من قومه كانوا مع ابنه حجَّاج يوم قُتل. وقبل البيت: لا يُنْسِئُ اللهُ مِنّا مَعشراً شهدوا ... يوم الأُمَيلِح لا غابوا ولا جَرَحُوا لا غيَّبُوا شِلْوَ حجَّاجٍ ولا شَهِدُوا ... حَمَّ القتالِ فلا تسألْ بما أفتضحوا لكن كبيرُ بن هندٍ يوم ذلكم ... فُتْخُ الشمائل في أيمانهم رَوَحُ عَقَّوْا بسَهم فلم يشعرُ به أحدٌ ... ثم أستفاءوا وقالوا حَبَّذَا الوَضَحُ قوله: لا يُنسئ الله، أي لا يؤخر الله موتهم. وشلو كل شيء: بقيته. وحمُّ القتال، وحمُّ كلِّ شيء: معظمه. وكبير بن هندٍ قبيلة من هذيل. واستفاءوا: رجعوا عما كانوا عليه. وقالوا: حبذا الوضح، أي حبذا الإبل والغنم نأخذها في الدية: ويعني بالوضح: اللبن لبياضه. * * * وفي " ص 255 س 12 " قال أبو علي - رحمه الله - حدثنا ابن الأنباري عن أبي حاتم عن أبي زيد عن المفضل الضبي - رحمهم الله - قال: كنت مع إبراهيم بن عبد الله بن عبد الله بن الحسن - رحمه الله - صاحب أبي جعفر في اليوم الذي قُتل فيه، فلما رأى البياض يقلُّ والسواد يكثر قال: يا مفضل، أنشدني شيئاً يهوِّن علي بعض ما أرى؛ فأنشدته: أَلا أَيُّها النّاهِي فَزَارةَ بَعْدَمَا ... أَجدَّتْ لغَزْوٍ إنّما أنت حَالِمُ أَبَى كلُّ ذي تَبْلٍ يَبِيتُ بِهَمِّه ... ويُمْنَعُ منه النومُ إذْ أنت نَائِمُ قَعُوا وَقْعَةً مَن يَحْيَى لم يَخْزَ بعدَهَاوإن يُخْتَرَمْ لَمْ تَتَّبِعْهُ الملاَوِمَ

قال: فرأيته يتطالل على سرجه ثم حمل حملة كانت آخر العهد به. هكذا صحَّت الرِّواية عن أبي علي - رحمه الله - يتطالل بإظهار التضعيف، وهذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر؛ وإنما هو يتطالُّ كما تقول: يتقاصُّ ويتراددُّ؛ وقال قعنب في الضرورة: مَهلاً أَعاذِلَ قد جرَّبتِ من خُلُقِي ... أَني أَجُودُ لأقوامٍ وإن ضَنِنُوا * * * وفي " ص 262 س 14 " قال أبو علي - رحمه الله -: حدثنا أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل الضبي - رحمهم الله أجمعين - قال: دخلت على المهدي - رحمه الله - فقال لي قبل أن أجلس: أنشدني أربعة أبيات لا تزد عليهن - وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي - فأنشدته: وأَشْعَثَ قد قَدَّ السِّفَارُ قمِيصَهُ ... يَجُرُّ شِوَاءً بالعَصَا غَيرَ مُنْضَجِ دَعوتُ إلى نا نَابنِي فأجَابَنِي ... كريمٌ من الفِتيَانِ غَيرُ مُزَلَّجِ فتىً يملأُ الشِّيزَى ويُرْوِي سِنانَه ... ويَضْرِب في رأسِ الكَمِيّ المُدَجَّجِ فتىً ليس بالرَّاضِي بأَدنَى مَعِيشَةٍ ... ولا في بُيوتِ الحَيِّ بالمُتَوَلِّجِ فقال المهدي: هو هذا! - وأشار إلى عبد الله بن مالك - فلما انصرفت بعث إليّ المهدي - رحمه الله - بألف دينار وبعث إليّ عبد الله - رحمه الله - بأربعة آلاف درهم. قوله: " يجر شواء " هذه رواية ساقطة، والجميع يخالفها فيروونه: وجر شواء، نسقا على قوله: " قدَّ السفار قميصه وجر شواء " كذلك رواه أبو حاتم عن الأصمعي وأبي عمرو الشيباني - رحمهم الله - وكذلك

رواه أبو محمد عن خالد بن كلثوم - رحمهما الله - وكذلك رواه إبراهيم بن محمد عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي - رحمهم الله - وكذلك رواه أبو العباس بن الفضل عن أبي تمام. قال أبو حاتم عن الأصمعي - رحمهم الله أجمعين - قوله: وجر شواء. كان هذا مما أعان على تخريق ثيابه غير منضج؛ إنما ذلك لسرعة السير وإعجاله لهم عن إنضاجه؛ كما قال امرؤ القيس: نمُشُّ بأَعْراف الجِيَادِ أَكُفَّنا ... إذا نَحْنُ قُمْنَا عن شِوَاءٍ مُضَهَّبِ وهذا إنما يكون في حال السِّفار لا في غيره. ورواية أبي علي - رحمه الله - تقتضي أن ذلك شأنه في جميع أحواله؛ وهذا بالذَّمّ أشبه، لأنه إذا فعل ذلك في حال الطمأنينة وحين لا يجد به سير، فإنما يفعله لفرط الجشع وشدة الحرص على الطعام، وهذا مذموم. وروى أبو عبد الله عن أبي العباس: " فتى يملأ الشيزى ويروي نديمه " وهذه رواية أفادت معنى ثالثاً في البيت يجانس ما قبله من إطعام وسقي. ومن روى: " فيروي سنانه " فذلك في معنى: " ويضرب في رأس الكمي المدجج " فلم يفد البيت أكثر من معنيين. والأبيات المذكورة من قصيدة للشمَّاخ. * * * وفي " ص 263 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لعبد الرحمن بن يزيد: يُؤَسِّى عن زِيادَةَ كلُّ حَيٍّ ... خَلِيٌّ ما تَأوَّبَهُ الهُمُومُ فلو كنتُ القَتِيلَ وكان حَيًّا ... لَطَالَبَ لا أَلَفُّ ولا سَؤُومُ ولا هَيَّابَةٌ بالليل نِكْسٌ ... ولا ضَرَعٌ إذا أَمسَى نَؤُومُ وكيف تَجَلُّدُ الأقوامِ عنه ... ولم يُقْتَلْ به الثَّأرُ المُنِيمُ غَشُومٌ حين يُبْصَرُ مُسْتَفَادٌ ... وخيرُ الطَّالِبي التِّرَةِ الغَشُومُ

هكذا ثبتت الرواية عن أبي علي - رحمه الله - في البيت الآخر: حين يبصر بفتح الصاد. مستفاد بالرفع ولا يتوجه لي معناه. ورواه أبو العباس الأحول - رحمه الله -: غشوم حين يبصر، بكسر الصاد، مستفاداً بالنصب؛ وهذا حسن بين المعنى، يريد أنه منتهز للفرصة إذا رأى أنه مستفيد من عدوه فائدة غشم فابتزها، أو مدرك فيه بغية وثب فنالها؛ ورواه أحمد بن عبيد - رحمه الله -: " حين يبصر مستقاداً " بالقاف، يريد مستقاداً منه ومن له عنده ثأرٌ؛ ويقوي هذه الرواية عجز البيت: " وخير الطالبي الترة الغشوم " ورواه الرياشي حين ينصر بالنون مستقاداً بالقاف، أي مطلوباً بقودٍ. وعبد الرحمن هذا هو أخو زيادة، ابني زيد بن مالك بن عامر بن قرة أحد بني سعد هذيم ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وكان هدبة بن خشرم قتل زيادة بن زيد، فلما سُجن هدبة في دمه جعل القرشيون بالمدينة يكلمون عبد الرحمن في أمر هدبة وأضعفوا له الدية حتى بلغت عشراً؛ منهم: سعيد بن العاص، وعبد الله بن عمرو، والحسين بن علي، وعمرو بن عثمان بن عفان - رضي الله عنهم أجمعين - وهو يردد الإباء، فلما أكثروا عليه أنشدهم هذا الشعر المذكور، فلما سمعه هدبة قال: إن فيه لمطعماً فعاودوه، ففعلوا؛ فقال عبد الرحمن حين عاودوه: باسْتِ امِرئٍ واسْتِ التي زَجَرَتْ به ... إذا نَالَ مالاً من أَخٍ وهو ثَائِرُهْ وإنِّي وإن ظَنَّ الرجالُ ظُنُونَهُمْ ... على صَيْرِ أَمْرٍ لم تشَعَّبْ مَصَادِرُهْ وهي أبيات فلما أنشدها هدبة قال: دعوه، فوالله لا يقبل عقلا أبداً، جزيتم خيراً؛ فأقام هدبة السجن ست سنين حتى أدرك المسور بن زيادة؛ ومات عبد الرحمن في خلال ذلك، فكان المسور هو الذي تولى قتل هدبة. وذكر المدائني أن المسور قد كان اختار العفو وأخذ الدية حتى قالت له أمه: والله لئن لم تقتل هدبة لأنكحته! فيكون قد قتل أباك ثم نكح أُمك فتسبك بذلك العرب يد المسند، فلفته ذلك عن مذهبه، ومضى على الاتئار من هدبة وقتله.

* * * وفي " ص 266 س 18 " وأنشد أبو علي عن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى للفرزدق - رحمهم الله -: يُفَلِّقْنَ ها مَنْ لم تَنَلْهُ سُيُوفُنَا ... بأَسْيافنا هَامَ المُلوكِ القَمَاقِمِ قال أبو العباس - رحمه الله -: ها: تنبيه، والتقدير: يفلقن بأسيافنا هام الملوك القماقم، ثم قال: ها للتنبيه، ثم استفهم فقال مستفهماً: من لم تنله سيوفنا؟ قال أبو بكر: سمعت شيخا منذ حين يعيب هذا الجواب ويقول: يُفلقن هاماً جمع هامة. وهام الملوك مردود على هاماً؛ كما قال جلّ ثناؤه: (إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ) . قال أبو علي - رحمه الله -: فاحتججت عليه بقوله: لم تنله وقلت: لو أراد الهام لقال لم تنلها، لأن الهام مؤنثة لم يؤثر عن العرب فيها تذكير، ولم يقل أحد منهم: الهام فلقته؛ كما قالوا: النخل قطعته، والتذكير والتأنيث لا يعمل فيه قياساً إنما يُبنى على السَّماع واتَّباع الأثر. ولم يُوفق أبو علي - رحمه الله - في هذا الاحتجاج لأنه أنكر المعروف وعرَّف المنكر. كيف ينكر تذكير الهام! وهو يروى في شعر النابغة ويروِّى: بِضَرْبٍ يُزيلُ الهَامَ عن سَكَنَاتِهِ ... وطَعْنٍ كإيزَاغِ المَخاضِ الضَّوَارِبِ وهو يروي في شعر عنترة ويروِّي: والهامُ يَنْدُرُ في الصَّعِيد كأنَما ... تَلْقَى السُّيُوفُ به رُءوسَ الحَنْظَل ويروى أيضا في شعر طفيل ويروى: بِضرْبٍ يُزيلُ الهامَ عَنْ سَكناته ... ويَنْقَعُ من هَامِ الرِّجالِ بِمَشْرَبِ فالتذكير هو المعروف في الهام، ولو أنكر أبو علي - رحمه الله - على هذا الشيخ فساد المعنى دون اللفظ كان أولى، لأن قوله: " يُفلقن هاماً لم تنله سيوفنا " ثم قال بأسيافنا، تناقض. فإن قال: إنه يريد لم تنله ثم نالته، فهذا من العيِّ الذي سمعت به؛ أو يشكُّ أحدٌ في أن ما نيل اليوم لم يكن أمس قتيلاً؟ وهذا الشعر يقوله الفرزدق في قتل وكيعٍ قتيبة بن مسلم. وقبل البيت:

فَدًى لسُيُوفٍ من تَميم وَفَى بها ... رِدَائِي وجَلَّتْ عن وُجُوه الأَهاتمِ شَفَيْنَ حَرَارَاتِ الصُّدُورِ ومَا تَدَعْ ... عليها مَقَالاً في وَفَاءٍ للاَئِمِ يُفَلِّقْنَ هَاماً لَم تَنَلْهُ سُيُوفُنا ... بأسيافِنَا هَامَ المُلوكِ القَمَاقِمِ الأهاتم: آل الأهتم بن سنان بن خالد بن منقر؛ ويروى: حزازات النفوس. * * * وفي " ص 274 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لحميد بن ثور: لَيْسَتْ إذا سَمِنَتْ بجَابِئةٍ ... عنها العُيُونُ كَرِيهةَ المسِّ استشهد به على قولهم للمرأة إذا كانت كريهة المنظر: إنها لتجبأ عنها العين. وقد أحال رواية البيت وأفسد معناه. وكيف تجبأ العيون عن الناعمة السمينة! وإنما تجبأ عن العجفاء الهزيلة، ألا تراه يقول: إنها ليست كريهة المسِّ، وحسبك بهذا نفياً للعجف وإنكاراً للقضف؛ وإنما الرواية في البيت: ليستْ إذا رُمِقَت بجابِئةٍ ... عنها العيونُ........الخ وبعد البيت: وكأَنما كُسِيت قلائِدُها وَحْشيَّة نَظَرَتْ إلى اْلإنْس

التنبيهات الواردة على الجزء الثاني

التنبيهات الواردة على الجزء الثاني وفي " ص 1 س 17 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لفاطمة بنت الأحجم بن دندنة الخزاعية: قد كُنْتَ لِي جَبَلاً أَلُوذُ بِظِلَه ... فتَرَ كْتَنيِ أمْشِي بأَجْرَدَ ضاَحِ قد كنتُ ذَاتَ حَمِيَّةٍ ما عِشِتَ ليِ ... أَمْشِي البَرَازَ وكنتَ أنتَ جَنَاحِي فاليومَ أَخْضَعُ للذَّلِيل وأَتَّقِى ... منه وأدْفَعُ ظَالِمِي بالرَّاحِ وإذا دَعَتْ قُمْريَّهٌ شَجَناً لها ... يَوْماً على فَنَن دَعوتُ صَباَحِي وأَغُضُّ من بَصَرِي وأَعْلَمُ أنَّه ... قد بَانَ حدُّ فَوَارِسي ورِمَاحِي هكذا أنشده أبو على - رحمة الله -: " وإذا دعت قمرية شجنا لها " وكذلك أنشده أبو تمام - رحمة الله - في اختياراته، وأخبرني غير واحد عن أبي العلاء المعري - رحمة الله - أنه كان يرد هذه الرواية ويقول إنها تصحيف، وكان ينشده " وإذا دعت قمرية شجناً لها " بكسر الجيم وبالباء بعدها، يعني فرخها الهالك، وهو الهديل، والشجب: الهلاك. والشجب: الهالك، وأخلق بهذا القول أن يكون صحيحاً؛ والحق أحق أن يتبع. وقال السكري - رحمة الله -: إن هذا الشعر لليلى بنت يزيد بن الصعق ترثى ابنها قيس بن زياد أبي سفيان بن عوف بن كعب. وقال الأخفش: إنه لا مرأة من كندة ترثى زوجها الجراح. وأوله: يا عينُ جُودِى عند كلَّ صَبَاحِ ... جُودِى بأربعةٍ على الجرَّاِح قد كنتَ لي جَبَلًا أَلوذُ بِظِّلهِ..............الأبيات وكان الأحجم بن دندنة أحد سادات العرب؛ ويقال الأحجم بتقديم الجيم. قال ابن دريد - رحمه الله -: جحم إذا فتح عينيه كالشاخص وبذلك سُميِّ الرجل. وقال الخليل - رحمه الله -: الأجحم: الشديد حمرة العينين مع سعة؛ وكانت زوج الأجحم أم فاطمة هذه خالدة بنت هاشم بن عبد مناف.

* * * وفي " ص 3 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأرطأة بن سهية يهجو شبيب ابن البرصاء: مَن مُبْلِغٌ فِتْيَانَ مُرَّةَ أَنَّهُ ... هَجَانَا ابنُ بَرْصَاءِ العِجَانِ شَبِيبُ فلو كُنتَ مُرِّيًّا عَمِيتَ فَأَسْهَلَتْ ... كُدَاكَ وَلَكِنَّ المُرِيبَ مُرِيبُ أبِي كانَ خيراً من أَبِيك وَلَمْ تَزَلْ ... جَنِيباً لآبائِي وأنتَ جَنِيبُ وَمَا زِلتُ خيراً منك مُذْ عضَّ كارِهاً ... برأسِك عَادِيُّ النِّجَادِ رَكُوبُ قال أبو علي: سألت ابن دريد - رحمهما الله - عن معنى هذا البيت: فلو كنت مرياً عميت ... الخ فقال: كان أبوه أعمى، وجده أعمى، وجدُّ أبيه أعمى. يقول: فلو لم تكن مدخول النسب كنت أعمى كآبائك. لأبي علي - رحمه الله - فيما أورده سهوان: أحدهما إنشاده: فلو كنت مرياًّ....... وإنما هو: فلو كنت عوفياًّ ... ، لأن أرطأة وشبيباً جميعاً مُرِّيَّان؛ وإنما العمى فاش في بني عوف منهم، وهم قوم شبيب إذا أسن الرجل فيهم عمى، قلَّ من يُفلت فيهم من ذلك. ولو قال: فلو كنت مريا ... لكان هو أيضا قد انتفى من نسبه، لأنه مريٌّ ولم يكن أعمى. وأما السهو الثاني، فإنشاده أربعة الأبيات لأرطأة؛ وإنما البيتان الآخران لشبيب يرد على أرطأة، ألا تراه يقول: أبي كان خيراً من أبيك ... ! ولم يختلف الرواة أن شبيباً كان أفضل من أرطأة بيتاً، وأكرم معشراً وأباً وأُماً؛ وأن أرطأة كان أفضل منه نفساً، وكلاهما شاعران إسلاميان غلبت عليهما أمهاتهما وهو أرطأة بن زفر ابن عبد الله بن مالك أُمه سُهية بنت زامل، وقيل إنها سبية من كلب كانت لضرار بن الأزور ثم صارت إلى زفر وهي حامل فجاءت بأرطأة. وأما شبيب فهو شبيب بن يزيد بن حمزة ويقال

ابن جمرة. وأُمه قرصافة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة وهو ابن خالة عقيل بن علفة أُمُّ عقيل عمرة بنت الحارث بن عوف. والحارث هذا هو صاحب الحمالة بين عبس وذبيان؛ لُقبت البرصاء لشدة بياضها ولم يكن بها برص؛ ولذلك قال شبيب: أنا ابنُ بَرْصَاءَ بها أُجِيبُ ... مَا في هِجَان اللَّوْنِ ما تَعِيبُ وقيل: إنما سميت بذلك لبرصٍ حدث بها؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها إلى أبيها فقال: إن بها وضحاً، فأصابها ذلك ولم يكن بها. * * * وفي " ص 6 س 22 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: إذا انْبَطَحَتْ جَافَى عن الأرْض بَطْنُها ... وخَوَّأهَا رَابٍ كَهَامَةِ جُنْبُلِ هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله -: وخوأها. وإنما هو وخوَّى بها، لأن خوَّى لا أصل له في الهمزة؛ وهو مع ذلك لا يتعدى إلا بالباء، يقال: خوَّى البعير تخوية إذا برك ثم مكَّن لثفناته في الأرض، لا يقال خوّيته أنا، ويقال خوَّى به، كما تقول ذهب؛ وذهب لا يتعدى؛ والبيت للأعشى وبعده: إذا مَا عَلاَها فارسٌ مُتَبَذِّلٌ ... فنِعْمَ فِرَاشُ الفارِس المُتَبذِّلِ ومن هذا البيت أخذ الفرزدق قوله: ما مَرْكبٌ ورُكُوبُ الخيلِ يُعْجِبُني ... كمَرْكبٍ بينَ دُملُوجٍ وخَلْخَالِ أَلَذَّ للفارِس المُجْرِي إذا انبهرتْ ... أنفاسُ أمثالها منْ تحت أمْثَالي

* * * وفي " ص 11 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: كأنّما وَجْهُكَ ظلٌّ من حَجَرْ ... خَضِلٌ في يوم ريح ومَطَرْ وأنت كالأَفْعَى التي لاَ تَحْتَفرْ ... ثم تَجِي سَادِرَةً فَتَنْجَحِرْ قوله: " خضل في يوم ريح ومطر " غير صحيح الوزن، وإنما هو: " ذو خضل في يوم ريح ومطر " كذلك أنشده الرواة؛ وأنشده ابن الأعرابي لأعرابي من بني فزارة قال: أَقْسِم لاَ تَأْخُذُ حَقِّي يَا وَزَرْ ... ظُلْماً وعند اللهِ في الظُّلْم الغِيَرْ كأنّما وجْهُكَ ظِلٌّ من حَجَرْ ... اِبْتَلَّ في يوم طِلالٍ ومَطَرْ قال ابن الأعرابي: ظل كل شيء شخصه. والحجر إذا ضربته الأمطار بان سواده. فيقول: كأن سواد وجهك سواد هذا الحجر. وقال القتيبي - وقد أنشد هذا الرجز - يصف رجلا بالسواد وشبهه بظل الحجر دون غيره لكثافة ظله؛ قال ومثله قول الآخر: سُوداً غَرابِيبَ كأظلال الحجَرْ وقال آخر في وصف شاة: كأن ظِلَّ حَجَرٍ صُغْرَاهُما وأنشد أبو عثمان الأشنانداني - رحمه الله -: وجاءتْ بنو ذُهْلٍ كأنّ وجوههم ... إذا حَسَرُوا عنها ظِلالُ صُخُورِ فهذا كله ذمٌّ وكناية عن سواد الوجه. وقد يأتي مدحاً على تأويل آخر< كما قالت الأعرابية تصف زوجها: هو ليث عرينةٍ، وجمل ظعينة؛ وجوار بحر، وظل صخر، فهذا مدح كما ترى وصفته بظل الصخر لبرده وكثافته؛ فكأن المُتفيئ ذراه لا يناله حر كريهة ولا أذى خطب.

* * * وفي " ص 15 س 10 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: مُتَّئِدَ المَشْيِ بَطيئاً نَقْرُهُ ... كأنَّ نَجْرَ الناجراتِ نَجْرُهُ هذا وهم من أبي علي - رحمه الله - وكلام لا معنى له؛ وإنما صوابه: أكرمُ نَجْرِ الناجراتِ نَجْرُه ذلك أنشده اللغويون، وهكذا يصح معناه. * * * وفي " ص 85 س 11 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لزينب بنت فروة: وذي حاجةٍ قلنا له لا تَبُحْ بها ... فليس إليها ما حَيِيتَ سَبِيلُ لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نَخُونَهُ ... وأنتَ لأُخْرى فارغٌ وخَلِيلُ وهذا الشعر لليلى الأخيلية بلا اختلاف؛ وقد تقدم إنشاد أبي علي - رحمه الله - له منسوباً إليها ولكنه نسي. * * * وفي " ص 34 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُحْرَقِ

هذا وهم وسهو من أبي علي - رحمه الله - والبيت لامرئ القيس؛ وإنما هو: كَمَعْمَعْةٍ السَّعَفِ المُوقَدِ وقبله: وأَعْدَدْتُ للحرب وَثَّابَةً ... جَوَادَ المَحَثَّةِ والمِرْوَدِ جَمُوحاً مَرُوحاً................................ وإنما لبس على أبي علي - رحمه الله - وأوهمه قول كعب بن مالك يوم الخندق: مَنْ سَرَّهُ ضَرْبٌ يُرَعْبِلُ بَعضُه ... بَعضاً كَمَعْمَعَةِ الأباءِ المُحْرَقِ فلْيأتِ مأسَدَةً تُسَنُّ سُيُوفُها ... بين المزَادِ وبينَ جَزْعِ الخَنْدَقِ نَصِلُ السيوفَ إذا قَصُرْنَ بخَطوِنَا ... قَدَماً ونُلْحِقُها إذا لم تَلْحَقِ والعرب تشبه حفيف عدو الفرس الجواد باضطرام النار؛ كما قال طفيل: كأنّ على أعطافِه ثوبَ مائحٍ ... وإن يُلْقَ كلبٌ بينَ لْحَيَيِه يَذهَبِ كأن على أعرافِه ولجامِه ... سَنا ضَرَمٍ من عَرْفَجٍ مُتَلَهِّبِ وقال أوس بن حجر: إذا اجتهدَا شداًّ حَسِبتَ عليهما ... عَرِيشاً عَلَتْه النارُ فهو يُحَرَّق العريش: ظلة من ثمام أو غيره. شبَّه حفيفها في عدوهما بحفيف ظلة قد اشتعلت فيها النار؛ وقال أُسامة الهذلي في مثله:

يُعَالِجُ بالعطفين شأواً كأنّه ... حَرِيقٌ أُشِيعَته الأباءةُ حاصِدَ أي يميل في أحد شقيه فيتكفا. حاصد، أي حصدها الحريق كما يحصد النبت؛ وقال العجاج: كأنّما يَستَضرِمان العَرْ فجاَ وقول امرئ القيس: جموحا مروحا. الجماح: جماحان، جماح مذموم وهو المعلوم، وجماح محمود وهو النشيط السريع؛ وإليه ذهب امرؤ القيس. * * * وفي (ص 51 س6) وأنشد أبو على - رحمة الله: يَصُورُ عُنُوقَها أحْوَى زَنِيمُ ... له ظَأْءبٌ كما صَخِبَ الغَرِيمُ هذا ما اتبع فيه أبو على - رحمة الله - غلط من تقدمه فأتى بيت من أعجاز ييتين أسقط صدورهما؛ وهما: وجاءتْ خُلِعَةٌ دُبْسٌ صَفَايا ... يَصُورُ عُنُوقَها أَحْوَى زَنِيمُ يُفَرَّقُ بينها صَدَعٌ رَباعٌ ... له ظَأبٌ كما صَخِب الغَرِيمُ والشعر للمعلى العبدي. وخلعة المال: خياره. وأحوى، يعني تيساً. والزنيم: الذي له زنمتان، وهما المعلقتان تحت حنكه تنوسان. والصدع: الذي بين السمين والمهزول. ويصوع: يفرق. ويصور: يعطف.

* * * وفي " ص 54 س15 " وأنشد أبو على - رحمة الله - لعمارة بن صفوان الضبي: أجارتَنَا مَن يَجْتَمِعْ يتفرَّقِ ... ومن يَكُ رَهْناً للحوادِثِ يَغْلَقِ الصحيح أن هذا الشعر لزميل بن أبرد الفزاري قاتل سالم بن دراة، لا لعمارة، وكلامها شاعر إسلامي، وكذلك سالم، وكان هجا زميلا فقتلته وقال: مَحا السيفُ ابنُ دراةَ أجمعاَ وقال: أنا زُمَيْلٌ قاتِلُ ابنِ دَارَهْ ... ثم جَعَلْتُ عَقْلَه البَكاَرهْ * * * وفي " ص 58 س 5 " وذكر أبو علي - رحمه الله - سؤال عمر لأبي حثمة أيهما أطيب: العنب أم الرُّطب. فقال: ليس كالصقر، في رءوس الرَّقل، الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل؛ تحفة الصائم، وتعلَّة الصبي، ونزل مريم ابنة عمران، وينضح ولا يعني طابخة، ويحترش به الضبُّ من الصلعاء. وقال أبو علي - رحمه الله - في تفسير الحديث: الصلعاء: أرض لا نبات بها. وهذا وهم، الأرض التي لا نبات بها لا يكون بها ضبٌّ ولا غيره. والصلعاء: أرض معروفة لبني عبد الله بن غطفان ولبي فزارة بين النقرة والحاجر، تطؤها طريق الحاج الجادَّة إلى مكة، وبها كان ينزل عيينة بن حصن؛ وكان عيينة قد نهى عمر عن دخول العلوج المدينة وقال له: كأني أرى علجاً قد عنك هنا - وأشار إلى الموضع الذي طُعن فيه تحت سرته - فلما طعنه أبو لؤلؤة قال: أيُّ حزم بين النقرة والحاجر!. وبالصلعاء قل دريد بن الصمة ذؤاب بن أسماء ابن قارب وقال:

قَتَلتُ بعبد الله خيرَ لِدَاتهِ ... ذُؤَابَ بنَ أسماءَ بنِ زَيدِ بن قَارِبِ ومُرَّة قد أَخْرَجْتُهُمْ فَتَرَكْتُهمْ ... يَرْغُونَ بالصَّلْعاء رَوْغَ الثعالبِ والصلعاء هذه: مضبة ولذلك خصَّها. ورواه صاعد بن الحسن: ويحترش به الضب من الصلفاء بالفاء على ما أنا مورده بعد هذا. والصلفاء: القطعة الصلبة من الارض، والضِّباب لا تتخذ حجرتها إلا في الغلظ. وأبو حثمة المذكور في الخبر هو عبد الله؛ ويقال: عامر بن ساعدة بن عامر من بني الحارث ابن الخزرج، وهو والد سهل بن أبي حثمة. شهد أبو حثمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد وبعثه خارصاً إلى خيبر، وكان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يبعثونه خارصاً؛ وكان - رحمه الله - أعلم الناس وأبصرهم بالنخل؛ ولذلك خصَّه عمر - رضي الله عنه - بالسؤال عن ذلك. فأما رواية صاعدٍ فإنه قال: سأل عمر - رضي الله عنه - رجلاً من أهل الطائف: الحبلة خير أم النخلة؟ فقال: الحبلة أتزببها وأترببها وأصلح بها برمتي - يعني الخل - وأنام في ظلها؛ فقال عمر - رضي الله عنه -: لو حضرك رجل من أهل يثرب ردَّ عليك قولك، فدخل عبد الرحمن بن محصن النَّجَّاري - رحمه الله - فأخبره عمر - رضي الله عنه - خبر الطائفي فقال: ليس كما قال؛ إني إن آكل الزبيب أضرس، وإن أتركه أغرث؛ ليس كالصقر في رءوس الرَّقل، الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل؛ تحفة الكبير، وصمتة الصغير؛ وزاد المسافر، وعصمة المقيم؛ وتخرسة مريم بنت عمران، وينضج ولا يعني طابخه، ويحترش به الضبُّ من الصلفاء.

* * * وفي " ص 63 س 15 " وأنشد أبو علي لطفيل: قَبَائلُ مِنْ فَرْعَيْ غَنِيٍّ تَوَاهَقَتْ ... بها الخَيْلُ لا عُزْلٌ ولا مُتَأَشِّبُ هكذا أنشده - رحمه الله - بالرفع؛ وإنما هو: ولا متأشب، بالخفض على البدل من الضمير في بها، والقوافي مخفوضة. وقبل البيت: وَعُوجٍ كأحناءِ السَّراءِ مَطَتْ بها ... مَطارِدُ تَهْدِيهَا أَسنَّةُ قَعْضَبِ إذا قيل نَهْنِهْها وقد جَدَّ جِدُّها ... تَرامت كخُذْرُوف الولِيدِ المُثَقَّبِ قبائلُ من فَرْعَي غَنِيٍّ تواهقَت ... بها الخَيلُ لا عُزْلٍ ولا مُتَأَشِّبِ قوله: وعوج يريد أن في يديها تحنيبا وفي أرجلها تجنيباً، كما يُحنى السَّراء، وهو من عيدان القسيِّ؛ ويقال: عوج: ضمَّر مهازيل من الغزو، مطت بها، أي مدت بها أعناق كالمطارد، أي رماح. تهديها، أي تقدمها. أسنة قعضب؛ وهو رجل من بني قشير كان يعمل الأسنة بأُضاخ، جاهلي. ونهنهها، أي كفّها؛ يقول: إذا ذهب يكفها ترامت، أي تتابعت. والخذروف: الخرَّارة. وقوله: ولا متأشب، أي لا خلط فيهم من غيرهم، يقال: أُشابات من الناس وأوباش وأوشاب، أي أخلاط؛ وهذا كما قال بشر: فَيلْتَفُّ جِذَمانَا ولا حَيَّ بيننا ... وبينكم إلا الصَّريحُ المهَذَّبُ * * * وفي " ص 71 س 15 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لسلمة بن يزيد يرثي أخاه لأمه قيس ابن سلمة: أقولُ لنفسِي في الخَلاء أَلُومُها ... لَك الوَيْلُ ما هذا التَّجَلُّدُ والصَّبْرُ

ألاَ تَفْهَمِينَ الخُبْر أن لَسْتُ لاقِياً ... أخِي إذا أتَى من دون أكفانِه القَبْرُ وكنتُ إذا يَنْأَى به بَيْنُ ليلةٍ ... يَظَلُّ على الأحشاء مِنْ بَيْنِه الْجَمْرُ فهذا لِبَيْنٍ قد عَلِمْنا إيابَه ... فكيف لِبَيْن كان مَوْعدَهُ الحَشْرُ وهَوَّن وَجْدِي أنَّنِي سوف أَغْتَدِى ... على إثْره يوما وإن نُفِّسَ العُمْرُ فلا يُبْعِدَنْك الُله إمَّا تَرَكْتَنا ... حَمِيداً وأَوْدَى بَعْدَك المَجْدُ والفَخْرُ فَتًى كان يُعْطِي السَّيْفَ في الرَّوْع حَقَّهإذا ثَوَّبَ الداعِي وتَشْقَى به الْجُزْرُ فَتًى كان يُدْيِنه الغِنَى من صديقه ... إذا ما هو اسْتَغْنَى ويُبْعِدُه الفَقْرُ فَتًى لا يَعُدُّ المالَ رَبًّا ولا تُرَى ... له جَفْوَةٌ إن نالَ مَالاً ولا كِبْرُ فَنِغْمَ مُناخُ الضَّيْف كان إذا سَرَتْ ... شَمالٌ وأَمْسَتْ لا يُعَرِّجُها سِتْرُ ومَأْوَى اليتامى الممحِلِين إذا اْنَتُهْوا ... إلى بابه سَغْبَى وقد قَحَّط القَطْرُ الصحيح أن أخا الشاعر لأمه المؤبن بهذا الشعر، هو مسلمة بن مغراء. وقد خلط أبو علي - رحمه الله - في هذا الشعر، فأدخل فيها أبياتاً من قصيدة الأبيرد المشهورة التي يرثي بها أخاه بريداً؛ وهي من قوله: فَتًى كان يُعْطِي السيفَ في الرَّوْعِ حَقَّهُ...................... إلى آخرها وروى بعض الرواة أن خنساء باتت ليلة تنشد بيتين من أول هذا الشعر ترددهما وتبكي أخاها صخراً وذلك بعد الإسلام؛ وهما:

أقولُ لنفسي في الخلاءِ أَلومُها ... لك الويلُ ما هذا التَّجلُّدُ والصَّبْرُ ألم تعلمِي أن لتُ ما عِشتُ لاقياً ... أخِي إذ أتَى من دون أكفانه القَبْرُ فناداها مؤمن من الجن: يا خنساء، قبضه خالقه، واستأثر به رازقه، وأنت تفعلين ظالمة، وفي البكاء عليه آثمة. ومثل قوله: فَتى كان يُدنِيِهِ الغِنَى من صديقه ... إذا ما هو اسْتَغْنَى ويُبِعدُه الفَقْرُ قول المقنع الكندي: لهم جُلُّ مالِي إن تَتَابَعَ لي غِنًى ... وإن قَلَّ مالِي لم أُكَلِّفْهُمُ رِفْدَا وقول إبراهيم بن العباس الصولي: رأيتُك إنْ أيسرتَ خَيَّمتَ عندنا ... لِزَاماً وإن أَعْسَرتَ زُرتَ لِمَامَا فما أنتَ إلا البدرُ إنْ قَلَّ ضَوْءُهُ ... أَغبَّ وإنْ زادَ الضِّياءُ أَقَامَا وقوله أيضا: ولكنَّ الجَوادَ أبا هشامٍ ... نَقىُّ الجَيب مامونُ المَغِيبِ بَطِئٌ عنك ما اسْتَغْنَيْتَ عنه ... وطلاَّعٌ عليك مع الخُطُوبِ * * * وفي " ص 83 س 12 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لزينب بنت الطثرية ترثي أخاها: أَرَى الأَثْلَ من بَطن العَقِيق مُجَاوِرِي ... مُقِيماً وقد غَالَتْ يَزِيدَ غَوائلُهُ

فَتًى قُدَّ قَدَّ السيف لا مُتَضائلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُهُ وبآدِلُهْ وهي أبيات؛ فيها: كَرِيمٌ إذا لاقيتَهُ مُتَبَسِّما ... وإمَّا تَوَلَّى أشعثُ الرأس جافلُهْ وفسره أبو علي - رحمه الله - فقال: الجافل: الذاهب؛ وهذا تفسير لا يسوغ في هذا البيت ولا يجوز. وأيُّ مدخل للذهاب هاهنا! وإنما الجافل هنا من الجفال وهو الشعر الكثير؛ وهكذا رواه أبو علي: كريم إذا لاقيته متبسما وغيره يرويه: كريم إذا استقبلته متبسم وهذه أحسن لفظاً وإعراباً، لأن قوله: " إذا استقبلته " أحسن مطابقة لقوله: " وإما تولى " وكذلك الرفع في قوله: " متبسم " أجود في المعنى؛ لأنك إذا نصبته أوجبت أنه لا يكون كريما إلا في حين تبسمه، وإذا رفعت فهو كريم متبسم متى ما استقبلته أو لاقيته. * * * وفي " ص 87 س 5 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي كبير: لقد وَرَدْتُ الماءَ لم يَشْرَبْ به ... بَيْنَ الرَّبيع إلى شُهُورِ الصَّيِّفِ إلاّ عَوَاسِرُ كالمِرَاط مُعِيدةٌ ... بالليل مَوْرِدَ أَيِّمٍ مُتَغَضِّفِ هكذا أنشده: " ولقد وردت " بضم التاء؛ وإنما هو: " لقد وردت " بفتحها يخاطب رجلا من قومه رثاه. وقبل البيت: أُزَهَيْرُ إنَّ أخاً لنا ذا مِرَّةِ ... جَلْدَ القُوَى في كلِّ ساعةِ مَحْرَفِ

فارَقتُه يوماً بجانب نخلةٍ ... سبق الحِمَامُ به زُهَيرُ تَلُّهفِي لقد وردتَ الماءَ...................................... البيت ومضى في تأبينه ورثائه، وذكر مناقبه وعلائه. قوله: " ذا مرة " أي ذا قوة. وقوله: " في كل ساعة محرف " يقول: يحترف فيتقلب. وقد فسر أبو علي - رحمه الله - معنى البيتين، ويروي: " إلا عواسل " باللام وهي أشهر الروايتين، يقال: مرَّ الذئب يعسل وينسل إذا مرَّ مرَّا سريعاً. * * * وفي " ص 88 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للفرزدق: فَقُلتُ ادْعِي وأَدْعُ فإن أنْدَى ... لِصَوْتٍ أن يُنادِيَ دَاعيَانِ هذا البيت ليس للفرزدق، وقد نُسب إلى الحطيئة ولم يروه أحد في شعره. والصحيح أنه لدثار بن شيبان، ودثار هو الذي حمله الزبرقان على هجاء بني بغيض. وقوله: " وأدع " هو على توَّهم اللام؛ ولو أظهرها كان خيراً، كما قال سبحانه وتعالى: (اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَاياكُمْ) ويروى: فقلت ادعى وأدعو إن أندى والواو في قوله: " وأدعو " واو الصرف. ويروى: " وأدعو أن أندى " أي لأن ذلك أندى. * * * وفي " ص 88 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: وَأَي لم يَزَلْ يَسْتَسْع العامَ حَوْلهُ ... نَدَى صَوْتِ مَقْرُوعٍ عن العَذْف عاذِبِ

هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله - " وأي " على مثال فعل، وهو الشديد الصلب. والبيت لذي الرمة، وكذلك قيَّده أبو علي - رحمه الله - ورواه في ديوان شعره؛ وإنما هو " وأن " الواو للعطف وأن الحرف الناصب، ويوضح لك صحة ذلك قوله قبل البيت: خدَبٍّ حَنَا من ظَهره بَعْدَ سَلْوَةٍ ... على قُصْبِ مُنْضَمِّ الثَّميلَةِ شازِبِ مَرَاسُ الأوابي عن نُفُوسٍ عزيزةٍ ... وإلْفُ المَتَالِي في قلوبِ السلائِبِ وأنْ لم يَزَل يَسْتَسْمِع العامَ حَوْلَهُ ... نَدَى صَوْتِ مَقْرُوعٍ عن العَذْفِ عاذِبِ يقول: حنى من ظهره مراس الأوابي واستماع صوت فحل ينادي بإزائه آخر يخاطره على طروقته ويصاوله، فبينهما هدر وإيعادٌ. وقوله: " بعد سلوة " أي بعد نعمةٍ. يقول: أضمره الهياج لأنه ترك العلف والمرعى. والثميلة: بقية العلف والماء في البطن. والسلائب: هي التي نُحرت أولادها أو ماتت. يقول: هذه السلائب تحب هذه المتالي كحبها أولادها فحيثما ذهبت المتالي تبعتها السلائب. وقد فسر أبو علي - رحمه الله - باقي الغريب. * * * وفي " ص 89 س 6 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: وعَيْرٌ لها من بَنَاتِ الكُدَادِ ... يُدَهْمِجُ بالقعْب والمِرْوَدِ هذه رواية محالة، وليس هكذا قاله الشاعر، وهو للفرزدق يهجو جريراً؛ وصحة إنشاده: فما حَاجِبٌ في بني دَارِمٍ ... ولا أُسْرَةُ الأقْرَعِ الأَمْجَدِ ولا آلُ قَيْسٍ بنو خالدٍ ... ولا الصِّيدُ صِيدُ بَنِي مَرْثَدِ بأَخيلَ منهمْ إذا زَيَّنُوا ... بِمَغْرَتهم حاجِبَي مُؤجَدِ حمارٍ لهم من بناتِ الكُدَادِ ... يُدَهْمِجُ بالوَطْبِ والمِرْوَدِ يَبِيعُون نَزْوَتَهُ بالوَصِيفِ ... وكرمَيْه بالناشئ الأَمْرَدِ

يعني الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع؛ وقيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين الشيباني؛ ومرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن ثعلبة، والمؤجد: الحمار الغليظ. والكداد: فحل من الحُمر معلوم. ويُدهمج: يُسرع في تقارب خطوٍ. * * * وفي " ص 87 س 23 " وأنشد أبو علي لابن أحمر: تُهْدَى إليه ذِراعُ الجَدْي تَكْرِمةً ... إمَّا ذَبِيحاً وإمَّا كان حُلاَّنا هكذا أنشده تهدى بضم التاء على لفظ ما لم يُسمَّ فاعله؛ وإنما هو تهدى إليه بكسر الدال، ويشهد لذلك ما قبله؛ وهو: فِدَاكَ كلُّ ضئيلِ الجسمِ مُخْتَشِعٌ ... وَسْطَ المقامة يَرْعَى الضَّأنَ أحيانا تُهْدِى إليه ذِراعَ الجَدْي تَكْرمَةً ... إمّا ذَبيحاً وإمّا كان حُلاَّنا عِيطٌ عَطَابِيل لُثْنَ الرَّيَّ وابْتَذَلَتْ ... معاطِفاً سَابِريَّاتٍ وكَتَّانا يقول: تُهدى إليه هذه المرأة ذراع الجدي تكرمة؛ يهزأ به. والذبيح: الذي يصلح للنسك. والحلاَّن والحلاَّم: الصغير الذي يصلح للنسك. وقوله: لُثن الرَّيَّ، يريد ثياب الرَّيَّ فحذف المضاف. * * * وفي " ص 112 س 2 " وذكر أبو علي - رحمه الله - قول المنصور لجرير بن عبد الله القسري: " إني لأُعدُّك لأمرٍ كبير " فقال: يا أمير المؤمنين، قد أعدَّ الله لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفاً مشحوذاً على أعدائك؛ فإذا شئت.. هذا غلط مركب، ووهم فاحش من جهتين: إحداهما: أنه خالد بن عبد الله القسري لا جرير، لأن جرير بن عبد الله هو البجلي أحد الصحابة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن عليه

مسحة ملك ". وكان أجمل الناس ولم يكن لخالد أخ يُسمى جريراً؛ إنما كان له أخوان: أسد وإسماعيل ابنا عبد الله القسري. أدرك إسماعيل منهم أبا العباس السفاح، وكان يسب عنده بني أمية. والجهة الأخرى، أن خالداً لم يدرك شيئاً من الدولة الهاشمية؛ وإنما قاله المنصور لمعن بن زائدة، لذلك قال المدائني - رحمهم الله - وجميع الأخباريين: وإنما مات خالد في سجن يوسف بن عمر وهو يعذبه، وفي عذابه مات بلال بن أبي بردة. وكان هشام بن عبد الملك قد استعمل خالد بن عبد الله على العراق سنة ست ومائة، ثم ولى يوسف بن عمر سنة عشرين ومائة، فسجن خالداً وعذبه حتى مات في سجنه، وبقي يوسف والياً على العراق إلى أن بويع يزيد بن الوليد سنة ست وعشرين ومائة، فاستعمل منصور بن جمهور على العراق؛ فلما سمع ذلك يوسف هرب إلى الشام، فظفر به هناك فسُجن؛ فلما مات يزيد بن الوليد واضطرب أمر المروانية بطش يزيد بن خالد بن عبد الله القسري بيوسف بن عمر فقتله في السجن وأدرك بثأر أبيه منه. * * * وفي " ص 117 س 5 " وأنشد أبو علي: وما كان ذَنْبُ بَنِي عامرٍ ... بأن سُبَّ منهم غُلاَمٌ فَسَبّ بأبْيضَ ذي شُطَبٍ باتِرٍ ... يَقُطُّ العِظامَ ويَبْرِي العَصَبْ وقال: يريد معاقرة غالب أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحي لما تعاقرا بصوءر، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له وعقر غالب مائة ... هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله -: وما كان ذنب بني عامر وإنما هو: وما كان ذنب بني مالك

وليس لغالب أبٌ يسمى عامراً؛ إنما هو من بني دارم بن مالك بن حنظلة. والشعر لذي الخرق الطهوي يتعصب لغالب، لأن مالكا يجمعهما؛ هو من بني أبي سود بن مالك بن حنظلة؛ وأم أبي سودٍ وعوفٍ ابني مالك، طهيه بنت عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم غلبت عليهم. واسم ذي الخرق قرط، سمي ذا الخرق بقوله: وما خَطَبْنَا إلى قَوْمٍ بناتهمُ ... إلاَّ بأَرْعَنَ في حَافَاته الخِرَقُ وكان الفرزدق عند هذه المعاقرة يحوش الإبل على أبيه ويقول: حشها عليَّ يا بني، وهو يقول: اعقر هيا أبه؛ ثم تركت لا يصد عنها بشرٌ ولا سبع ولا طائر، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فنهى عن أكل لحومها وقال: إنها مما أُهلَّ به لغير الله. * * * وفي " ص 118 س 15 " وأنشد أبو علي في أبيات المعاني: وخَلَّقْتُه حتَّى إذا تَمَّ واسْتَوَى ... كمُخَّةِ ساقٍ أو كمَتْين إمَامِ هذا وإن لم يكن فيه سهو فإن فيه إخلالاً، لأنه أفرده وأسقط فائدته وجوابه، فإذا تمَّ هذا السهم واستوى كان ماذا! وبعد البيت: قَرَنْتُ بِحَقْوَيْهِ ثلاثاً فلم يَزِغْ ... عن القَصْدِ حتَّى بُصِّرَت بِدِمَامِ يعني بالثلاث: ثلاث قذذ. فلم يزغ، أي لم يمل عن القصد حتى بُصِّرت هذه القذذ، أي أصابتها البصيرة، وهي الطريقة من الدم؛ وكل ما طليت به شيئاً فهو له دمام، يقال: دُمَّ قدرك، أي اطلها بالطحال حتى تقوى.

* * * وفي " ص 121 س 9 " ذكر أبو علي - رحمه الله - عن مجالد بن سعيد - رحمه الله - قال: كنا يوما عند الشعبي فتناشدنا الشعر، فلما فرغنا قال الشعبي - رحمه الله -: أيكم يُحسن أن يقول مثل هذا؟ وأنشدنا: أَعَيْنَيَّ مَهْلاً طالَمَا لم أَقُلْ مَهْلاً ... وما سَرَفا مِ الآنَ قُلْتُ ولا جَهْلاً وإنَّ صِبَا ابن الأربعين سَفَاهَةٌ ... فكيف مع اللائي مُثِلْتُ بها مَثْلاَ وهي أبيات. قال مجالد: فكتبنا الشعر ثم قلنا للشعبي - رحمه الله -: من يقوله؟ فسكت، فتُرى أنه قائله. ما أعجب أمر أبي علي - رحمه الله -! هذا الشعر أشهر بالنسبة إلى القحيف العقيليِّ من أن يرتاب به مرتاب. رواه له الأصمعي والمفضل - رحمهما الله - كلاهما، وهو ثابت في اختياراتهما وقد رواه أبو علي - رحمه الله - هناك؛ وهو ثابت أيضا في ديوان شعره وفيه زيادة تشهد أنه للقحيف لا للشعبي - رحمه الله - وهي: ومِنْ أعجَبِ الدنيا إليَّ زُجَاجَةٌ ... تَظَلُّ أَيادِي المُنْتَشِينَ بها فُتْلاَ يَصُبُّونَ فيها من كُرُومٍ سُلافةً ... يَرُوح الفتى عنها كأنّ به خَبْلاَ وهذا البيت شاهد على أن اليد العضو تجمع أيادي. * * * وفي " ص 126 س 15 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - قصيدة لمهلهل أولها: أَلَيْلَتَا بِذِي حُسُمٍ أَنِيرِي ... إذا أنتِ انْقَضَيْتِ فلا تُحُورِي

وفيها: فلا وَأَبِي جَلِيلَة ما أَفَأْنَا ... من النَّعَم المُؤَبَّل من بَعِير وفسره فقال: جليلة: أخت كليب، وكانت تحت جساس قاتل كليب. هذا غلط فاحش من أبي علي - رحمه الله - ويجب أن يقال له: اقلب تصب؛ إنما جليلة أخت جساس، وكانت تحت كليب قتيل جساس؛ وهي القائلة لما قُتل زوجها ورحلت، فقالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت؛ فبلغ ذلك جليلة فقالت: فكيف تشمت الحرَّة بهتك سترها، وترقُّب وترها! ثم أنشأت تقول: يابْنةَ الأقوامِ إنْ لُمْتِ فلا ... تَعْجَلي باللوم حتّى تَسأَلِي فإذا أنتِ تَبَيَّنتِ التي ... عندها اللومُ فلُومي واعْجَلِي يا قتيلاً قوَّض الدهرُ به ... سقفَ بَيتيَّ جميعا مِنْ عَلِ فِعلُ جسّاسٍ وإن كان أَخِي ... قاصِمٌ ظَهرِي ومُدْنٍ أَجَلِي يَشْتَفِي المُدْركُ بالثار وفي ... دَرَكِي ثارَيَّ ثُكْلُ المثكلِ * * * وفي " ص 132 س 5 " وذكر أبو علي - رحمه الله - للعتابي رسالة كتب بها إلى بعض إخوانه يستمنحه ووصل بها شعراً؛ وهو: ظِلُّ اليَسارِ على العَبَّاس ممدُودُ ... وقلبُه أبداً بالبُخل مَعقُودُ إن الكريم لَيُخْفِي عنك عُسْرَتَهُ ... حتّى تراه غَنِيًّا وهو مجهودُ وللبخيل على أمواله عِلَلٌ ... زُرْقُ العيون عليها أَوْجُهٌ سُودُ إذا تكرَّمْتَ عن بَذْل القليل ولم ... تَقْدِرْ على سَعَةٍ لم يَظهرَ الجُودُ

وهذا أيضا سهو بين، لأن هذا الشعر هجاء لا مديح، وليس للعتابي؛ إنما هو لبشار يهجو به العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهم - وإنما قال: وقلبُه أبداً بالبخل معقودُ فوصفه بالغني والبخل ثم ضرب له مثلا ممن هو على ضد حاله من كرمه وقلة ماله؛ فقال: إنّ الكريم لَيُخْفِي عنك عُسْرتَهُ ... حتّى تراه غَنِيًّا وهو مجهودُ وختم الشعر ببيت لم ينشده أبو علي - رحمه الله - يوضح لك ما ذكرته وهو: أورِق بخيرٍ تُرَجَّى للنَّوال فما ... تُرْجَى الثمارُ إذا لم يُورِق العُودُ وكان بشار منحرفا عن آل علي بن عبد الله؛ ووجد في كتبه بعد موته: هممت بهجاء آل سليمان ابن علي، فذكرت قرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوهبتهم له؛ فما قلت فيهم إلا بيتين وهما: دِينارُ آل سُلَيمانٍ ودِرهَمُهُمْ ... كالبا بِلَّيْين حُفَّا بالعَفَاريتِ لا يُوجَدان ولا تلقاهُما أبداً ... كما سَمِعتَ بهارُوتٍ ومارُوت * * * وفي " ص 134 س14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لتأبط شرا شعراً أوله: إنِّي لَمُهْدٍ من ثنائي فَقاصِدٌ ... به لابن عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بن مالكِ وفيه: إذا طَلَعَتْ أُولَى العَدِىِّ فَنَفْرُهُ ... إلى سَلَّةٍ من الصارِمِ الغَرِّ باتِكِ

إذا هَزَّهُ في عَظْمِ قِرْنٍ تَهَلَّلتْ ... نَواِجُذ أفواهِ المَنَايا الضَّوَاحِكِ هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله -: " من صارم الغر " والمحفوظ المعروف: " من صارم الغرب " وهو الحدُّ وهو الغرار. فأما الغرُّ فهو الكسر في الثوب والجلد، ولا أعلمه يقال في السيف. وقال أبو علي - رحمه الله - في تفسير العديّ: هم الذين يعدون في الحرب؛ وإنما العديُّ: أول من يحمل، واحدهم عادٍ، مثل غازٍ وغزي، هذا قول جماعة اللغويين؛ وقوله: إذا هزَّه في عَظم قَرْنٍ تهلَّلت ... نواجِذُ أفواهِ المنايا الضواحكِ هذا المعنى نقيض قوله في أخرى: شَدَدتُ لها صَدرِي فزلَّ عن الصَّفَا ... به جُؤجُؤٌ عَبْلٌ ومتنٌ مُخَصَّرُ فخالط سَهلَ الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحةً والمَوتُ خَزْبانُ يَنظُرُ * * * وفي " ص 141 س 16 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: فَقُلْصِي لكم ما عِشْتُمُ ذو دَغَاوِلِ ليس هكذا البيت؛ وإنما صحّة إنشاده: فَقُلْصِي ونُزْلِي ما عَلِمْتُم حَفِيلَةٌ ... وشَرِّي لكم ما عِشْتُمُ ذُو دَغاول قوله: قلصي، يريد انقباضي. ونزلي: استرسالي. وحفيلة: كثيرة. ودغاول، أي ذو غائلة؛ ولا يدري ما واحدها، ولكن نرى أنها دغولة. والبيت لعبد مناف بن ربع الهذلي من قصيدة يرثي بها ذبية السلميّ.

* * * وفي " ص 143 س 9 " وانشد أبو علي - رحمه الله -: يا دَارَ سَلْمَى بين ذاتِ العُوجْ ... جَرَّت عليها كلُّ رِيحٍ سَيْهُوجْ قد أخلّ أبو علي - رحمه الله - بالوزن واللفظ؛ أما الوزن فإن إقامته بأن تنشده: " بين دارات العوج " جمع دارة؛ وكذلك صحَّة لفظه، لأن ذات العوج لا يعرف موضعا؛ وإنما هو دارات العوج أو دارة العوج؛ قال الراجز: بدَارَةِ العُوجِ لسَلْمَى مَرْبَعُ ... يَكْنُفُه من جانِبَيْه لَعْلَعُ وبعد قوله: جَرَّتْ عليها كلُّ رِيح سَيْهُوجْ هَوْجَاءَ جاءتْ من بلاد يأجوجْ ... مِن عن يمين الخطّ أو سَمَاهِيجْ * * * وفي " ص 149 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: لها شَعَرٌ داجٍ وجِيدٌ مُقَلَّصٌ ... وجِسْمٌ خُدارِيٌّ وضَرْعٌ مُجَالِحُ هذه رواية محالة لا وجه لها؛ وإنما هو: " وجسم زخاري " وهو الكثير اللحم والشحم، من قولهم: زخر البحر إذا ارتفعت أمواجه وتكاثفت، ولا يقال: جسم خداري؛ وإنما الخداري من صفة الألوان؛ فلو قال: ولون خداري، لكان وجهاً؛ على أنه ليس مدحاً. وهذا الشعر لجبيهاء الأشجعي، يقوله في عنز كان منحها رجلاً من بني تميم من أشجع قومه. والعنز تسمى صعدةً؛ وهي أبيات كثيرة يمدح العنز المذكورة. وأولها:

أَمَوْلَى بَنِي تَيْمٍ ألَسْتَ مُؤَدِّياً مَنِيَحَتنَا فيما تُؤَدَّي المَنَائحُ فإنَّك لو أدَّيتَ صَعْدَةَ لم تَزَلْ ... بعَلياءَ عندِي ما بَغَى الرِّيحَ رائحُ لها شَعَرٌ ضافٍ وجيدٌ مُقَلَّصٌ ... وجِسمٌ زُخَارِيٌّ وضَرْعٌ مُجَالِحُ * * * وفي " ص 191 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لمالك بن أسماء في أخيه عيينة لما سجنه الحجاج: ذَهَبَ الرُّقادُ فما يُحَسُّ رُقَادُ ... مما شَجَاك وحَفَّتِ العُوَّادُ خَبَرٌ أتانِي عن عُيَيْنَةَ مُفْظِعٌ ... كادتْ تَقَطَّعُ عندَهُ الأكبادُ بَلَغَ النُّفوسَ بَلاؤُه فكأنّنا ... مَوْتَى وفِينَا الرُّوحُ والأَجْسادُ لمّا أتانِي عن عُيَينةَ أنّه ... أمْسَى عليه تَظَاهَرُ الأَقْيادُ نَخَلَتْ له نَفْسي النَّصِيحةَ إنّه ... عندَ الشدائدِ تَذْهَبُ الأَحْقادُ وعَلِمْتُ أنِّي إن فَقَدْتُ مكانَهُ ... ذهبَ البِعَادُ فصار فيه بِعَادُ ورأيتُ في وجه العَدُوِّ شكاسةً ... وتَغَيَّرتْ لي أَوْجُهٌ وبلادُ وذكرتُ أيُّ فَتًى يَسُدُّ مكانَه ... بالرِّفْدِ حين تَقَاصَر الأَرْفَادُ أم مَن يُهِينُ لنا كرائمَ مالِهِ ... وله إذا عُدْنا إليه مَعادُ هذا الشعر لعويف القوافي بلا اختلاف. وأيُّ حقدٍ كان بين مالك واخيه حتى يقول: نَخَلَتْ له نَفْسِي النَّصِيحةَ إنّه ... عندَ الشدائد تَذْهَبُ الأحْقادُ

وكيف يقول مالك في أخيه: أم من يُهِينُ لنا كرائمَ ماله ومالك أغنى من عيينة وأنبه، لأنه كان متصرفا في الرفيع من أعمال السلطان؛ وكان مع ذلك من أهل الفصاحة واللسن والشعر الفائق والبراعة. وعويف أحد الشعراء المنتجعين بالشعر المسترفدين للملوك؛ وإنما قال عويف: عندَ الشدائد تَذْهَبُ الأحقادُ لأن أخت عويف كانت تحت عيينة بن أسماء فطلقها، فغضب من ذلك عويف وقال: " الحرة لا تطلق إلا لريبة " وباعد عيينة وعاداه؛ فلما بلغه أن الحجاج سجن عيينة وقيَّده، عطفه ذلك عليه وأذهب حقده له فقال الشعر. وهو عويف بن معاوية بن حصن؛ وقيل: ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري؛ وهو شاعر مجيد، سمي عويف القوافي بقوله: سَأكذِبُ مَنْ قد كان يَزْعُمُ أنَّنِي ... إذا قُلْت قولاً لا أُجيِدُ القَوَافِيَا * * * وفي " ص 198 س 12 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي الأسود في أبيات: وإنَّ امرأً لا يُرْتَجَى الخيرُ عندَهُ ... يَكُنْ هَيِّناً ثِقْلاً على مَن يُصَاحِبُ هذا سهو من أبي علي - رحمه الله - لم يشعره؛ لانجزام قوله: " يكن هيناً " من غير جازم؛ وإنما صحَّة إنشاده: وأَيُّ امرئٍ لا يُرْتَجَى الخيرُ عندَهُ ... يَكُنْ هَيناً ثِقْلاً على مَنْ يُصَاحِبُ فوضع إنَّ مكان أيّ.

* * * وفي " ص 200 س 20 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لعروة بن الورد: لا تَشْتُمِنِّي يا بنَ وَرْدٍ فإنّه ... تَعُودُ على مالِي الحُقُوقُ العَوائدُ ومَنْ يُؤْثِر الحَقَّ النؤوبَ تكن به ... خَصَاصةُ جِسْمٍ وهو طَيّانُ ماجِدُ وإنِّي امْرُؤٌ عافِى إنائيَ شِرْكةٌ ... وأنتَ امْرُؤٌ عافِى إنائكَ واحِدُ أُقَسِّمُ جِسْمِي في جُسُومٍ كثيرةٍ ... وأَحْسُو قَراحَ الماء والماءُ باردُ هذا من أوهام أبي علي - رحمه الله - وغفلته؛ كيف يُنشد لابن الورد: " لا تشتمني يا بن ورد " وإنما البيت الأول من الأبيات التي أنشد لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي صاحب حرب داحس، يردُّ على عروة وكان بينهما تنافسٌ. وكان قيس أكولاً مبطانا، فكان عروة يعرِّض له بذلك في أشعاره؛ فمن ذلك قوله: وإني امْرُؤٌ عافِى إنائيَ شِرْكةٌ ... وأنتَ امرؤٌ عافِى إنائكَ واحِدُ فقال قيس يجيبه: لا تَشْتُمَنِّي يا بنَ وَرْدٍ فإنَّنِي ... تَعُودُ على مالِي الحُقُوقُ العَوائدُ أتهزأ مِنِّي أن سَمِنْتُ وقد تَرَى ... بجسمي مَسَّ الحِّق والحَقُّ جاهدُ وقال محمد بن يزيد - رحمه الله -: إن قوله: ومن يُؤثِر الحقَّ النؤوبَ.................البيت ليس لعروة؛ إنما هو لهذا العبسي الذي ردّ عليه. وله يقول قيس بن زهير أيضا: أَذَنْبٌ علينا شَتْمُ عُرْوَةَ خَالَهُ ... بقُرَّةِ أحساءٍ ويوماً بِبَدْ بَدِ هَلُمَّ إلينا نكفِك الأمَر كُلَّه ... فعَالاً وإحساناً وإن شئتَ فابعُد

وقيس هذا شاعر فارس جاهلي، يكنى أبا هند، وعروة بن الورد بن زيد بن عبد الله العبسي يكنى أبا نجدة، شاعر فاتك جاهلي أيضا. إلا أن أبا الفرج روى عن بعض رجاله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجلى عروة مع من أجلى من بني النضير، وكان نازلاً فيهم بامرأة سباها من مزينة. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم. قال: وكيف ذلك؟ قال: كان منا قيس بن زهير وكان حازما لا نعصيه، فكأنا ألف حازم؛ وكنا نأتم بشعر عروة ونقدم بإقدام عنترة. * * * وفي " ص 213 س 13 " قال أبو على - رحمة الله - في الإتباع: ويقولون: حسن بسن. قال أبو على - رحمة الله -: يجوز أن تكون النون في بسن زائدة كما زادوها في قولهم: امرأة خلبن، وهي الخلابة؛ وناقة علجن من التعلج وهو الغلط. فكان الأصل في بسن بساً. وبس مصدر بسست السويق أبسه بساً إذا لتته بسمن أو زيت ليكمل طيبه، فوضع الابس في موضع المبوس وهو المصدر، كما قيل: درهم ضرب الأمير، أي مضروب الأمير؛ ثم حذفت إحدى السنين وزيدت فيه النون وبنى على مثال حسن، فمعناه: حسن كامل الحسن. قال: وأحسن من هذا المذهب الذي ذكرناه أن تكون بدلا من حرف التضعيف، لأن حروف التضعيف تبدل منها الياء مثل تظنيت وتقضيت وأشباهها، فلما كانت النون من حروف الزيادة كما أن الياء من حروف الزيادة وكانت من حروف البدل أُبدلت من السين؛ إذ مذهبهم في الإتباع أن تكون أواخر الكلم على لفظ واحد، مثل القوافي والسَّجع، ولتكون مثل حسنٍ. قال: ويقولون: حسن قسن، فعمل بقسن ما عمل ببسن. والقسُّ: تتبع الشيء وطلبه؛ فكأنه حسن مقسوس، أي متبوع مطلوب. هذه هذرمة وحجاج مقحمة. أما قوله: إنَّ النون في بسن زائدة كزيادتها في خلبن وعلجن فشاذٌ لا نظير له؛ لأن بسناً من ذوات الثلاثة وهي لا تحتمل الزيادة لما كانت أقلَّ الأصول. وأما

قوله: وأحسن من هذا أن تكون النون بدلا من حرف التضعيف، لأن حروف التضعيف تبدل منها الياء مثل تظنيت وما أشبهه. فإن تظنيت أبدل لاجتماع ثلاثة أمثال، وإنما في بسن مثلان. فإن احتج محتج بقولهم: أمليت وأحسيت في أمللت وأحسست، وأيما في أما؛ فهذا قليل، وهو مع قلته أتى بالياء ولم يأت بالنون البتة، فكيف يقاس على ما لم يُسمع!. * * * وفي " ص 215 س 4 " قال أبو علي قال الأصمعي - رحمهما الله -: نعتت امرأة من العرب ابنتها فقالت: رِبَحْلَةٌ سِبَحْلَه ... تَنْمِى نَبَاتَ النَّخْلَه قال: وقال أبو زيد - رحمه الله -: الربحلة: العظيمة الجيدة الخلق في طول. والرِّبحل مثل السِّبحل؛ ومنه قول عبد المطلب لسيف: وملكاً ربحلا، يعطى عطاء جزلا. هذا وهم من أبي علي - رحمه الله - إنما هو قول سيف لعبد المطلب، لا قول عبد المطلب لسيف. وذلك أنه لما وفد عليه في رجالات قريش يهنئونه ظفره بالحبشة، فتكلم عبد المطلب، قال له سيفٌ: أيُّهم أنت؟ قال: عبد المطلب بن هاشم؛ قال: ابن أختنا؟ قال: نعم! فأدناه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقةً ورحلاً، وملكاً ربحلاً، يُعطى عطاءً جزلاً؛ قد سمعنا مقالتكم، وعرفنا قرابتكم؛ فلكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا رجعتم. في حديث طويل. * * * وفي " ص 166 س 7 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لسلمى بن غويَّة: لا يَبْعَدَنْ عَصْرُ الشباب ولا ... لذَّاتِهِ ونَبَاتِهِ النَّضْرِ والمرشقات من الخدور كإيماض الغمام صواحب العطر وهي أبيات

هكذا رواه أبو علي - رحمه الله - سلمى بفتح الميم. والصحيح فيه سلمى بكسر الميم وتشديد الياء. وهو سلمى بن سلمى بن غويَّة بن ربيعة الضبيّ. وقد ذكر بعض اللغويين أنه ليس في العرب سلمى بضم السين وفتح الميم كما روى أبو علي - رحمه الله - هنا إلا أبو سلمى أبو زهير الشاعر ابن أبي سلمى. * * * وفي " ص 174 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: فجاءت كأنّ القَسْوَرَ الجَوْنَ بَجَّها ... عَسَالِيجُه والثَّامِرُ المُتَنَاوِحُ إنما صوابه: لجاءت باللام لا بالفاء. والبيت لجبيهاء الأشجعي من شعره الذي يذكر فيه شاته الممنوحة، وقد تقدَّمت منه أبيات؛ وقبله: ولو أنّها طافتْ بُطْنبٍ مُعَجَّمٍ ... نَفى الرِّقَّ عنه جَذبُها فهو كالِحُ لجاءت كأنّ القَسْوَر الْجَوْنَ بَجَّهَا ... عَسَالِيجُه والثامرُ المُتَنَاوِحُ يقول: لو طافت هذه الشاة بطنب معجم. والطنب: أصل الشجرة وهو الجذل. ومعجم: معضض. والرقُّ ما قرب على الماشية من الأغصان. والكالح: الذي لا شيء عليه. وقد فسر أبو علي - رحمه الله - غريب البيت الثاني إلا أنه قال: القسور: نبت، وهذا غير مُقنع، وهو نبت له خوصة؛ والذي له خوصة من النبت لا يُعبل، أي لا يسقط ورقه، فلذلك خصّه.

* * * وفي " ص 18 س 3 " قال أبو علي - رحمه الله - كل ما في العرب ملكان بكسر الميم إلا ملكان في جرم بن ربان فإنه بفتحها. الذي في جرم بن ربان هو ملكان بفتح الميم واللام، وليس هو بإسكان اللام كما أورده. وكذلك ملكان بن عباد بن عياض بن عقبة بن السَّكون؛ وهذا باب واسع، والذي ذكر منه أبو علي برضٌ من عدٍّ، وغيض من فيض. * * * وفي " ص 187 س 14 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لموسى شهوات يهجو عمر بن موسى ابن عبيد الله بن معمر ويمدح عمر بن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تُبَارِي ابنَ مُوسَى يا بنَ مُوسى ولم تكنْ ... يَداك جميعاً تَعْدِلاَنِ له يَدَا تُبارِي امرأً يُسْرَى يَدَيْهِ مُفِيدَةٌ ... ويُمناها تَبْنِي بناءً مُشَيَّداً فإنك لم تُشْبه أباك ابنَ مَعْمَرٍ ... ولكنمَّا أشبهتَ عَمَّك مَعْبَدَا وفِيكَ وإن قيل ابنُ مُوسى بنِ مَعْمَرٍ ... عُروقٌ يَدَعْنَ المرءَ ذا المَجْدِ قُعْدُدَا قال: وكان معبد مولى وكان أخا أبيه لأمه. وله حديث قد ذكره أبو عبيدة في كتاب المثالب. قال أبو علي - رحمه الله -: والقُعْدُدُ والقُعْدَدُ لغتان: اللئيم الأصل. قال: والإقعاد: قلة الأجداد. والإطراف: كثرة الأجداد، وكلاهما مدح. قول أبو علي - رحمه الله -: وكلاهما مدح، نقله من كلام ابن الأعرابي، وقد ردَّ عليه وأُنكر من قوله. قال العلماء: رجل قعدد إذا كان قليل الآباء إلى الجدِّ الأكبر، وهو عند العرب مذموم. ورجل طريف إذا كان كثير الآباء إلى الجد الأكبر، وهو عند العرب محمود؛ قال شاعرهم:

أمِرُونَ وَلاَّدُونَ كلَّ مُبارَكٍ ... طَرِفُونَ لا يَرِثُونَ سَهْمَ القُعْدُدِ أي ليس فيهم مقعد سهم القعدد؛ وقال الفرزدق في هجاء جرير: أَليسَ كُلَيبٌ أَلأمَ الناسِ كلِّهم ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيب لَئِيُمها له مُقْعَد الأحساب مُنْقَطَعٌ به ... إذا القومُ رامُوا خُطَّةَ لا يرومُها ويقال: ورث فلان بني فلان بالقعدد إذا كان أقربهم نسباً إلى الجد الأكبر، كما كان عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - فإنه كان أقعد بني هاشم نسباً في زمانه، اجتمع في عصر واحد هو والفضل بن جعفر بن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - وعبد الصمد أخو جدِّ جدِّ الفضل؛ وهذا ما لم يقع في الدهر مثله. ومن ذلك أن عبد الصمد - رحمه الله - حج بالنس سنة مائة وخمسين. وحج يزيد بن معاية بالناس سنة خمسين؛ وقعددهما في النسب إلى عبد مناف واحدٌ؛ بين كل واحد منهما وبينه خمس آباء؛ وبين وقتي حجهما بالناس مائة سنة. والقعدد في غير هذا: الخامل في قومه، وهو القعدود أيضا. وقال ابن الأعرابي: هو اللئيم الأصل. * * * وفي " ص 190 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: كأنَّ العِيسَ حِينَ أُنْخِنَ هَجْراً ... مُفَتَّأةٌ نواظِرُها سَوَامِ

هكذا ثبتت الرواية عنه مفقأة بالرفع؛ وإنما هو مفقأةُ بالنصب على الحال. وسوام خبر كأنّ، أي ذواهب في الهواجر؛ ومنه السُّماة وهم الصيادون بالهاجرة. والمسماة: الجورب الذي يلبسه الصياد عند الهاجرة. * * * وفي " ص 226 س 5 " وأنشد أبو علي لكثير - رحمهما الله -: وأَدْنَيْتِني حتّى إذا ما سَبَيْتِنِي ... بقَوْلٍ يُحِلُّ العُصْمَ سَهْلَ الأَباطِحِ تَوَلَّيْتِ عنِّي حِينَ لا لِيَ مَْهَبٌ ... وغادَرْتِ ما غادَرْتِ بين الجَوانِح هذا شعر لمجنون بني عامر لا لكثير، ولا أعلم أحدا رواه له، ولا وقع له في ديوانه. وبعد البيتين: فما حُبُّ لَيلَى بالوَشيكِ انقِطاعُهُ ... ولا بالمُؤَدَّي يَوْمَ رَدِّ المنائِح * * * وفي " ص 228 س 20 " قال أبو علي: إنما سمي الأخطل لأن ابني جعال تحاكما إليه، أيهما أشعر؛ فقال في ذلك: لعَمْرُك إنَّني وابْنَيْ جِعَالٍ ... وأُمَّهُما لإستارٌ لئيمُ فقيل له: إن هذا لخطل من قولك، فسمي الأخطل. ليس في الشعراء من يقال له ابن جعالٍ البتة؛ وإنما أراد أبو علي - رحمه الله - ابني جعيل: كعباً وعميرة التغلبيين؛ فقال ابنا جعال. وذكر يعقوب - رحمه الله - أن كعب بن جعيل كان شاعر تغلب؛ فكان لا يأتي قوماً إلا أكرموه وضربوا له قبة، فأتى بني مالك بن جشم رهط الأعشى؛ ففعلوا له ذلك وملأوا له حظيرة غنماً، فجاء الأخطل وهو غلام فأخرجها وكعب ينظر؛ فقال: إن غلامكم هذا لأخطل، فلجَّت عليه؛ وقال الأخطل فيه:

وسُمِّيتَ كعباً بشرِّ العِظامِ ... وكان أبُوك يُسَمَّى الجُعَلْ وأنتَ مكانُك مِنْ وائلٍ ... مكانَ القُرَادِ مِنِ اسْتِ الجمَلْ فضربه أبوه وقال: أنت تريد أن تقاوم ابن جعيل! وجاء كعب على تفيئة ذلك فقال: من صاحب هذا الكلام؟ فقال أبوه: إنه غلام أخطل فلا تحفل به؛ فقال كعب: شاهِدُ هذا الوَجهِ عَثُّ الجُمّةْ فقال الأخطل: فناك كعبٌ بنُ جُعَيْلٍ أُمَّهْ فقال له كعب: ما اسم أمك؟ قال: ليلى - امرأة من إياد - قال: أردت أن تعيذها باسم أُمي! قال: لا أعاذها الله إذاً، وقال: هجا الناسُ لَيلَى أمَّ كعب فمُزِّقَت ... فلم يَبقَ إلا نَقْنَفٌ أنا رافعُه * * * وفي " ص 228 س 4 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للمغيرة بن حبناء: إذا أنتَ عاديتَ امرأً فاظَّفِرْ له ... على عَثْرَةٍ إن أَمْكَنَتْكَ عواثِرُه وقارِبْ إذا ما لم تَجِدْ لك حِيلةً ... وصَمِّمْ إذا أيقنتَ أنَّكَ عاقرِهُ فإنْ أنتَ لم تَقْدِرْ على أن تُهينَه ... فَذَرْه إلى اليوم الذي أنتَ قادِرُهْ وقد أَلْبَسُ المولى على ضِغْنِ صَدْرِه ... وأُدْرِكُ بالوَغْم الذي لا أُحَاضِرُهْ أسقط أبو علي - رحمه الله - قبل قوله: " فإن أنت لم تقدر على أن تهينه " بيتا به يتعلق الذي أنشده لفظاً ومعنىً؛ وهو:

إذا المرءُ أَولاك الهَوانَ فأَولهِ ... هَواناً وإن كانت قريباً أواصِرُهْ فإن أنتَ لم تقدِر على أن تُهينَهُ ... فذَرهُ إلى اليوم الذي أنت قادِرُهْ وأتى في البيت بعده: " وادرك بالوغم الذي لا أُحاضره " بالحاء المهملة؛ وإنما هو: " لا أخاضره " بالخاء معجمة، أي لا أبطله، من قولهم: ذهب دم فلان خضراً مضراً وخضِراً مضِراً، أي باطلا؛ وقد فسَّره أبو علي - رحمه الله - في باب الإتباع. * * * وفي " ص 233 س 23 " ذكر أبو علي - رحمه الله - عن أبي بكر بن دريد - رحمه الله - عن رجاله قال: قيل للفرزدق: إن هاهنا أعرابياً قريبا منك يُنشد الشعر، فقال: إن هذا لفائق أو حائن، فأتاه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من فقعس، قال: كيف تركت القنان؟ قال يساير لصاف: قال أبو علي - رحمه الله -: فقلت: ما أراد الفرزدق والفقعسي؟ قال: أراد الفرزدق قول الشاعر: ضَمِنَ القَنانُ لِفَقْعَسٍ سَوْءَاتها ... إنّ القَنانَ بَفْقَعسٍ لَمُعَمَّرُ قلت: فما أراد افقعسي بقوله: يساير لصاف؟ قال: أراد قول الشاعر: وإذا تَسُرُّك مِن تَميم خَصْلَةٌ ... فَلَما يَسُوءُكَ من تَميم أَكْثَرُ قد كنتُ أَحْسَبُهم أُسودَ خَفِيَّةٍ ... فإذا لَصَافِ تَبِيضُ فيها الحُمَّرُ أَكَلَتْ أُسَيْدٌ والهُجَيمُ ودَارِمٌ ... أَيْرَ الحِمارِ وخُصْيَتَيْهِ العَنْبَرُ ذَهَبَتْ فَشِيشَةُ بالأَبَاعِرِ حَوْلها ... سَرَقاً فَصُبَّ على فَشِيشةَ أَبْجَرُ قد أحال أبو علي - رحمه الله - الرواية في بعض الخبر وفي بيت من الشعر.

روى المدائني وغيره قال: مرَّ الفرزدق بمضرِّس بن ربعي الأسدي وهو يُنشد بالمربد قصيدته التي أولها: تحمَّل من وادي غَرِيرَةَ حاضِرُه وقد اجتمع الناس حوله؛ فقال: يا أخا بني فقعس، كيف تركت القنان؟ قال: تبيض فيه الحُمَّرُ؛ قال: أراد الفرزدق قول نهشل بن حرِّيّ: ضَمِن القَنانُ لفَقْعَسٍ سَوْءَاتِها.................البيت وأراد مضرِّس قول أبي المهوِّشِ الأسدي: وإذا تَسَرُّك من تَميم خَصَلةٌ..............الأبيات على ما انشدها أبو علي - رحمه الله - إلا قوله: " أكلت أُسيد " فإنه محال عن وجهه؛ وصحته: عَضَّتْ أُسَيِّدُ جِذْلَ أَيْرِ أَبِيهِمُ ... يومَ النِّسَار وخُصْيَتَيْه العَنْبَرُ هكذا قال الفقعسي للفرزدق حين عرَّض له بقوله: كيف تركت القنان؟: تبيض فيه الحمَّرُ، فهذا هو اللحن في المنطق والتعريض الحسن الذي يتوجه على وجهين ويكون بمعنيين، لأن قول أبي علي - رحمه الله - تركته يساير لصاف من المحال الذي لا يكون إلا إذا سُيِّرت الجبال فكانت سراباً؛ وكذلك رواية أبي علي - رحمه الله - في البيت الذي ذكرناه، لأن بني تميم لا تُعيَّر أكل جردان الحمار؛ إنما تعيَّره بنو فزارة لحديث. وذلك أن رجلا من بني فزارة كان في نفر من العرب، فعدل الفزاري عن طريفهم لبعض شأنه وصاد القوم عيراً فأكلوه وأبقوا جردانه للفزاري، فلما لحق بهم قالوا: قد خبانا لك من صيدنا خبيئاً وأقفيناك منه بقفى وضعوه بين يديه، فجعل يأكله ولا يكاد يسيغه ويقول: أكل لحم الحمار جوفان؟

فلما رأى تغامز القوم عليه اخترط سيفه وقال: والله لتأكلنه أو لأقتلنكم؛ فأمسكوا عن أكله فضرب رجلا منهم اسمه مرقمة فأطنَّ رأسه؛ فقال أحدهم: طاحَ لَعمرِي مَرْقَمَهْ! فقال الفزاري: وأنتَ إنْ لم تَلْقَمَهْ فأكلوا؛ وعُيِّرت فزارة أكل جردان الحمار. قال الشاعر: أتَفْخَرُ يا فزار وأنتَ شَيخٌ ... إذا فُوخِرْتَ تُخْطِيُ في الفَخَارِ أصَحْيَحانَّيةٌ أُدِمَتْ بزُبدٍ ... أحَبُّ إليك أم أَيْرُ الحِمارِ بَلَى أيرُ الحمارِ وخُصْيَتَاهُ ... أحَبُّ إلى فزارةَ من فَزَاِر فنسب أبو المهوش بني تميم إلى الجبن بقوله: فإذا لَصَاف تَبِيض فيها الحُمَّرُ بعد أن كان يسبهم أسود في نجدتهم؛ ثم أعضهم لفرارهم يوم النسار وجبنهم بقوله: عَضَّتْ أُسَيِّدُ جِذْلَ أيرِ أبيهمُ.............................. البيت ولصاف: ماء لبني العنبر، وقيل: لبني يربوع، وهو من الشاجنة. وقنان: جبل في ديار بني فقعس. وفشيشة التي ذكر: نبز لحي من بني تميم مأخوذ من خروج الريح، يقال: فشَّ الوطب إذا اخرج منه الريح ونسبهم إلى خرابة الإبل، وأبجر الذي ذكر، هو أبجر بن جابر العجلي أبو حجار ابن أبجر. وقيل: إن أبجر اسم من أسماء الدواهي، وكذلك بجري، يريد فصبَّت عليهم داهية. ومثل هذا من المعاريض ما روى أن رجلا من بني نمير كان يساير عمر بن هبيرة الفزاري والنميري على بغلة؛ فقال له عمر: غُضَّ من بغلتك! قال النميري: أيها الأمير، إنها مكتوبة. أراد عمر قول جرير: فغُضَّ الطرف إنك من نُمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا

وأراد النميري قول سالم بن دارة: لا تأمننَّ فزاريًّا خَلَوْتَ به ... على قَلُوصك واكتُبْها بأَسيارِ ولم تزل فزارة تُهجى بغشيان الإبل؛ قال راجز جاهلي: إن بني فزارةَ بن ذُبيانْ ... قد طرَّقَتْ ناقَتُهُم بإنسانْ وقال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة: أوَلَّيْتَ العِراقَ ورافِدَيهِ ... فَزَارِياًّ أحَذَّ يَدِ القَمِيص ولم يك قبلها رَاعِي مخاضٍ ... ليأمنَهُ على وَرِكَيْ قَلُوصِ واجتمع الشعراء يوما على باب أمير من امراء العراق ومرَّ عليهم إنسان يحمل بازياً، فقال رجل من بني تميم لرجل من بني نمير: انظر، ما أحسن هذا البازي! فقال له النميري: نعم! وهو يصيد القطا؛ أراد التميمي قول جرير: أنا البازي المطِلُّ على نُمَيرٍ ... أُتِيحَ من السماء له انْصِبَابَا وأراد النميري قل الطرماح: تَمِيمٌ بطُرْقِ اللُّؤمِ أهدَى من القَطا ... ولو سَلَكت سُبْلَ المكارِم ضَلَّتِ * * * وفي " ص 244 س 2 " قال أبو علي - رحمه الله -: قال أعرابي: والله ما أُحسن الرَّطانة، وإني لأرسب من رصاصةٍ؛ وما قرقمني إلا الكرم.

هذا وإن لم يكن فيه سهو، فإنه أورد كلاماً ناقصاً غير منسوب ولا مفسر، وهو أحوج كلام إلى التفسير؛ فيعلم مراده بقوله: إنه لا يحسن الرطانة، وبإنتفائه من السباحة، ومذهبه في قرقمة الكرم له. وهذا الكلام لأبي الذيال شويش الأعرابي العدوي؛ قال: أنا ابن التاريخ، أنا والله العربي المحض؛ لا أرقع الجربان، ولا ألبس التبان؛ ولا أحسن الرطانة؛ وإني لأرسب من رصاصة، وما قرقمني إلا الكرم. قوله: أنا ابن التاريخ: يعني أنه ولد سنة الهجرة، ويريد بجملة قوله إنه أعرابي بدوي محض، من أهل الوبر لا من أهل المدر ولا من أهل الأمصار التي تكون على الأرياف والأنهار، فهم يتعلمون فيها السباحة؛ وإنه لم يجاور العجم فيحسن رطانتهم، والأعرابي إذا قال: قدمت الريف، فإنما يريد الحضر، قال الأصمعي - رحمه الله -: قيل لذي الرمة: من أين عرفت الميم لولا صدق من نسبك إلى تعليم أولاد العرب في أكتاف الإبل؟ قال: والله ما عرفت الميم! إلا إني قدمت من البادية إلى الريف فرأيت الصبيان وهم يحوزون بالفجرم في الأوق؛ فقال غلام منهم: قد أزقتم هذه الأوقة فصيرتموها كالميم، فوضع منجمه في الأوقة فنجنجه فأفهقها، فعلمت أن الميم شيء ضيق، فشبهت به عين ناقتي وقد أسلهمت وأعيت. وأما قوله: وما قرقمني إلا الكرم، فإنه يعني أن أباه طلب المناكح الكريمة فلم يجدها إلا في أهله، فجاء ولده ضاوياً، ومنه الحديث: " اغتربوا لا تضووا " أي انكحوا في الغرائب؛ وقال الشاعر: فتىً لم تَلِدْه بنتُ عمٍّ قريبةٌ ... فَيْضَوى وقد يَضْوَى رَِدُيد الغرائب وقال آخر: إِنّ بِلالاً لم تَشنْهُ أُمُّه ... لم يَتَنَاسَبْ خَالُهُ وعَمُّه

وقال آخر: تَنَجَّبْتُها للنَّسل وهي غَريبَةٌ ... فجاءت به كالبَدْرِ خِرْقاً مُعَمَّمَا فلو شَاتَم الفِتيانَ في الحيِّ ظالماً ... لَمَا وَجَدُوا غَيْرَ التّكَذُّبِ مَشْتَما فذكر أنه نتجها غريبة لا قريبة. وقال الراجز: قَحَّمَهَا السَّيرَ غُطَارِفٌ أَشَمْ ... يَسُوقُها عَلَى الوَحَي سَوْقَ المُحِمْ شَمَرْدَلٌ ما بَيْنَ شَنْجَيْهِ رَحِمْ ... كان أَبُوهُ غائبًا حتّى فُطِمْ وقال الأصمعي - رحمه الله - في قول كعب بن زهير: حَرْفٌ أبوها أَخوها من مُهَجَّنةٍ ... وعمُّها خَالُها قَوداءُ شِمْلِيلُ هذه ناقة كريمة مداخلة النسب لشرفها؛ فهذا التفسير على معنى ما تقدم؛ وأنكره أبو المكارم وقال: ألم يعلم الأصمعي - رحمه الله - أن تداخل النسب ومقاربته مما يضعِّف الناقة! وذكر كلاما طويلا. * * * وفي " ص 244 س 4 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: أشْكُو إلى الله عِيالاً دَرْدَقا ... مُقَرْقَمِينَ وعَجُوزاً شَمْلَقَا هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله - شملقاً بالشين المعجمة كما أنشده أبو عبيد - رحمه الله - في " الغريب المصنّف " وهو تصحيف؛ إنما هو سملق بالسين المهملة، أي لا خير عندها، مأخوذ من الأرض السملق، وهي التي لا نبات بها؛ قيل: وهي التي لا تلد، مأخوذ من ذلك أيضا؛ وبعد الشطرين: إذا رأْتنِي أَخَذَتْ لِي مطْرَقَا ... تقولُ ضَرْبُ الشيخ أَدنَى للتُّقَى

* * * وفي " ص 248 س 4 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي داود: طَويلٌ طامِحُ الطّرْفِ ... إلى مُفْزَعةِ الكَلْبِ حَدِيدُ الطَّرْفِ والمَنْكِ ... بِ والعُرْقُوب والقَلْبِ ذا الشعر ليس لأبي داود ولا وقع في ديوانه؛ وإنما هو لعقبة بن سابق الهزَّاني، كذلك قال أهل الضبط من الرواة؛ وبعد البيتين: يَخُدُّ الأرضَ خَدًّا بِ ... صُمُلٍّ سَلِطٍ وَأْبِ صحيحُ النَّسرِ والأرسا ... غ مثلُ الغُمَر القَعْبِ مفزعة الكلب: أقصى موضع يُسمع منه الكلب إيساد صاحبه؛ وإنما يريد أنه مدرَّب حاذق بالصيد، فإذا فزع الكلب إلى جهة طمح ببصره إليها. * * * وفي " ص 250 س 14 " قال أبو علي - رحمه الله -: العصفور: العظم الذي ينبت عليه الناصية؛ قال حميد: ونَكَّلَ الناسَ عنَّا في مواطِننا ... ضَربُ الرءوس التي فيها العصافِيرُ لو أراد الشاعر بالعصافير هنا العظام لم يكن للكلام فائدة، لأن في كل رأس عصفور، فكأنه قال: ضرب الرءوس التي فيها الشعور؛ وإنما يريد الرءوس التي فيها الزَّهو والطِّماح إلى ما لا تناله. والعرب تكني بالعصافير عن الكبر والخيلاء وتقول: طارت عصافير رأسه: إذا ذهب كبره؛ قال الشاعر: كفِيلٌ لرأسِ أَخِي نَخْوَةٍ ... بضربٍ يُطِيرُ عصافِيرَه كما يقولون: في رأس فلان نعرة. وقبل البيت الذي أنشده: إذ لا حجازَ لنا إلاّ مُقَوَّمَةٌ ... زُرْقُ الأسِنَّةِ والجُرْدُ المحَاضِيرُ

يُعشِي الجبَانَ شُعَاعٌ في قَوانِسها ... إذا تجلَّلها الشُّعثُ المَغَاوِيرُ قد نكَّلَ الناسَ عنَّا في مواطِننا ... ضَرْبُ الرءوس التي فيها العصافيرُ * * * وفي " ص 266 س 6 " قال أبو علي - رحمه الله -: الأوقص: الذي يدنو رأسه من صدره؛ قال رؤبة: أَذَمُّةُ صِيَاَغَةً وأرْذَلُهْ ... أَوْقَصُ يُخْزِي الأَقْرَبِينَ عَيْطَلُهْ قال: والعيطل: طول العنق. هذا وهم بيِّن وتصحيف ظاهر، كيف يكون أوقص طويل العنق! وإنما هو: يخزي الأقربين عطله دون ياء، أي عنقه، يريد يُخزي الأقربين وقص عنقه. والعطل: العنق معروف؛ قال أبو النجم:............. * * * وفي " ص 258 س 8 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للجميح بن منقذ: لَمَّا رأتْ إبِلي قَلَّتْ حَلُوَبتُهَا ... وكلُّ عامٍ عليها عَامُ تَجْنِيبِ هذا غلط صريح. وهذا الشاعر هو الجميع لقب له وهو منقذ اسم له؛ واسم أبيه الطمَّاح ابن قيس الأسدي؛ وهو فارس شاعر جاهلي؛ قُتل يوم جبلة؛ وهذا البيت جواب لما قبله؛ وهو قوله: أَمْسَتْ أُمَامَةُ صَمْتاً ما تُكَلِّمُنَا ... مَجنونةً أن أحسَّتْ أهلَ خَرُّوب ومضى ذكر نشوزها ثم قال: لمّا رأتْ إبلِي قَلَّتْ حَلُوبَتُهَا ... وكلّ عامٍ عليها عامُ تَجْنيب

فاقْنَيْ لَعَلَّكِ أن تَحْظَىْ وتَحْتَلِبِي ... في سَحْبَلٍ من مُسُوكِ الضَّأْن مَنْجُوبِ أهل خروب: يريد قومها وأنها لقيتهم فأفسدوها عليه. والسحبل: السقاء العظيم. * * * وفي " ص 259 س 1 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - للقطامي: فَسَلّمْتُ والتسليمُ ليس يَضُرُّها ... ولكنَّهُ حَتْمٌ على كلِّ جانِب هكذا أنشده؛ وإنما هو: ليس يسرها، لكراعتها الضيف وبخلها بالضيافة؛ وأي مضرة في التسليم أو من يعتقد ذلك فيه حتى يكون الشاعر ينكره وينفيه! وهل هو إلا بركة ونفع! لكنها تكرهه من الضيف لمئونته؛ قال القطامي يذكر امرأة ضافها - وهي أبيات ذكرت منها المتصل بالشاهد -: تَعَمَّمْتُ في طَلٍّ وريح تَلُفُّنِي ... وفي طِرْمِسَاء غَيرِ ذاتِ كواكبِ إلى حَيْزَبُونٍ تُوقِدُ النارَ بَعْدَمَا ... تَلَفَّعَتِ الظلماءُ من كلّ جانِبِ فسلّمتُ والتسليمُ ليس يَسُرُّها ... ولكنَّه حتْمٌ على كلّ جانبِ فردتْ سلاما كارها ثم أعرَضَتْ ... كما انحازَتِ الأفعَى مَخافة ضاربِ الطرمساء والطلمساء: الظلمة. والحيزبون: العجوز القليلة الخير. * * * وفي " ص 264 س 5 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: ألا لا أَرَى ذا حِشْنَةٍ في فُؤَادِه ... يُجَمْجِمُهَا إلاّ سَيَبْدُو دَفِينُها

هذا البيت للأقبل وهو على خلاف ما أنشده؛ وقبله: إذا صَفْحَةُ المعروفِ وَلَّتْكَ جانِباً ... فَخُذْ صَفْوَها لا يَخْتَلِط بك طِينُها إذا كان في صدرِ ابنِ عَمِّكَ حِشْنَةٌ ... يُجَمْجِمُها يوماً سَيَبْدُو دَفِيُنها هكذا صواب إنشاده. يقول: عامله على ظاهره ولا تستثر ما في صدره، فإن الأيام ستبدي لك ذلك في بعض أحواله وأفعاله. * * * وفي " ص 268 س 19 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: أَبَرَّ على الخُصُوم فليس خَصْمٌ ... ولا خَصْمَانِ يَغْلِبُه جِدَالاَ ولَبَّس بين أَقْوامٍ فكُلٌّ ... أَعَدَّ له الشَّغَازِبَ والمِحَالاَ هكذا أنشده أبو علي - رحمه الله -: ولبس على فعل؛ وإنما هو ولبس وأتى ... * * * وفي " ص 312 س 5 " أنشد أبو علي - رحمه الله - لأبي ذؤيب: .........كأنه خُوطٌ مَرِيجُ

هذا وهم من أبي علي - رحمه الله - إنما هو للداخل زهير بن حرام أحد بني سهم بن مرة؛ قال: وبِيضٍ كالسلاجِم مُرْهَفاتٍ ... كأنّ ظُبَاتِها عُقُرٌ بَعِيجُ أطافَ الناجشات بها فجاءت ... مكاناً لا تَرُوغُ ولا تَعُوجُ فراغَتْ والْتَمَسْتُ بها حَشَاهَا ... فَخَرَّ كأنّه خُوطٌ مَرِيجُ عقر النار: موقدها. والبعيج: أن يبعجها الموقد بعود. والناجشات: الحائشان اللذان يحوشان الوحش. خوط مريج، غصن يقلق من مكانه. * * * وفي " ص 328 س 11 " وأنشد أبو علي - رحمه الله -: إذا ما جلَسْنا لا تَزالُ تَرُومُنا ... تَمِيمٌ لَدَى أبياتها وهَوازِنُ هذا وهم من أبي علي - رحمه الله - وإنما هو: ........لا تَزالُ تَرُومُنا ... سُلَيمٌ لَدَى أبياتنا وهَوازِنُ والبيت للمعطل الهذلي، وأي جوار بين هذيل وتميم؛ فأما بنو سليم وهوازن فجيران لهم. وقبل البيت: فأيُّ هُذَيل وهي ذاتُ طوائف ... يُوَازِنُ من أعدائها ما تُوَازِنُ

وفَهْمُ بنُ عَمْرٍو يَعْلُكون ضَرِيسَهُم ... كما صَرَفَتْ فَوْقَ الجُذاذِ المساحِنُ إذا ما جَلَسْنَا لا تَزال تَرُومُنا ... سُلَيْمٌ لَدَى أبياتنا وهوازِن قال أبو حاتم عن الأصمعي: ضريسهم: سوء أخلاقهم. وقال السكري - رحمهم الله -: الضريس: حك الضرس بالضرس، فهو على هذا منصوب على المصدر والمفعول محذوف كأنه قال: يعلكون أفواههم يضرسون ضريسا. وقال أبو علي الفارسي - رحمه الله - الضريس جمع ضرسٍ كقولهم: عبد وعبيد وطسٌّ وطسيس؛ وهذا كما يقال: هو يعلك عليه الأرم. والجذاذ: حجارة الذهب تُكسر ثم تسحل على حجارة تُسمى المساحن حتى تخرج ما فيها من الذهب. والرحى يقال لها: المسحنة، ويقال: المساحن والمساحل واحد وهي المبارد. وأنشد أبو علي - رحمه الله - هذا البيت على أن جلسنا بمعنى أنجدنا. والجلس: نجد. وقال عمر بن أبي ربيعة - رحمه الله - فبين أن الجالس هو المنجد: شِمَال مَن غَارَ بِهِ مُفْرِعاً ... وعن يَمِينِ الجالس المُنْجِدِ * * * وفي " ج 1 ص 16 س 3 " وأنشد أبو علي - رحمه الله - قبل هذا: ولقد مَرَرْتُ على قَطِيعٍ هالكٍ ... مِنْ مالِ أَشْعَث ذي عِيَالٍ مُصْرِم منْ بعد ما اعْتَلَّتْ عَلَيَّ مَطِيَّتِي ... فأَزَحْتُ عِلَّتَها فظَلَّتْ تَرْتَمِي

وقال: الهالك: الضائع. والمصرم: المقلّ. يقول: اعتلت ناقتي فأصبت السوط فضربتها به فظلَّت ترتمي، أي تترامى في سيرها. هذا تفسير مردود وقول منكر؛ قال ابن قتيبة - رحمه الله - من قال: إن القطيع: السَّوط فقد أخطأ، لأنه إن ضربها بالقطيع وقد أعيت قطعها عن السير؛ وإنما القطيع قطيع الإبل. وهالك: ضائع. وأزاح علتها بأن أرعاها معها وسقاها من ألبانها فأشبعها، فظلت ترتمي. وقال ابن السكيت - رحمه الله - إذا أعيت الناقة واعتلت ثم ضربها قطعها عن السير؛ وإنما عنى بالقطيع: الخبط. وقوله: هالك، أي ليس عنده ربه، يعني أنه علف مطيَّته من الخبط وأشبعها من بعد ما أعيت فنشطت للسير وجدَّت فيه اهـ. صورة ما جاء بخاتمة الكتاب آخر كتاب التنبيه، على أوهام أبي علي في أماليه. فرغ من تعليقه يوم الاثنين لعشر بقين من صفر سنة اثنتين وستين وستمائة؛ أحسن الله تقضِّيها بالقاهرة المحروسة. الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل * * *

§1/1