التنبيهات المختصرة شرح الواجبات المتحتمات المعرفة

إبراهيم الخريصي

تقديم

تقديم الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد؛ فإنه لا صلاح للعباد، ولا فلاح، ولا نجاح، ولا حياة طيبة، ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ إلاّ بمعرفة أول مفروض عليهم، والعمل به، وهو الأمر الذي خلقهم الله عزَّ وجل له، وأخذ عليهم الميثاق به، وبه حقَّت الحاقَّة، ووقعت الواقعة، وفي شأنه تُنصب الموازين، وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسب ذلك تقسم الأنوار، ومَنْ لم يجعل الله نورًا؛ فما له مِنْ نور، وذلك الأمر هو معرفة الله عزَّ وجلَّ بإلهيَّته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وتوحيده بذلك، ومعرفة ما يناقضه أو بعضه، من الشرك الأكبر والأصغر، والكفر الأكبر والأصغر، والنفاق الاعتقادي والعملي، ومعرفة الطاغوت والكفر به والإيمان بالله تعالى. وقد كان الناس من أهل نجد وغيرهم قبل دعوة الإِمام المجدد شيخ

الإسلام محمد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله تعالى- في جهل بهذا الركن الأعظم والأساس الأكبر، وأصل الأصول ورأس العلوم؛ أعني: علم توحيد الألوهيَّة. وقد تفاقم هذا الخطب وعظم، وتلاطم موج الكفر والشرك في هذه الأمة وجسم، وطمست الآثار السلفية، وأقيمت البدع الرفضية والأمور الشركية. إلى أن أراد الله تعالى إزالة تلك الظلمات، وكشف البدع والضلالات ونفي الشبهات والجهالات، وتصديق بشارة رسول رب الأرض والسماوات في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" 1، على يدي من أقامه هذا المقام، ومنحه جزيل الفضل والإنعام؛ أعني به الشيخ الإمام، خلف السلف الكرام، المتبع لهدي سيد الأنام، المنافح عن دين الله في كل مقام، شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب. فدعا إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، وقام بأمر الله في الدعوة إليه وما حابى أحدًا فيه ولا دارى، فعظم على الأكثرين وأنفوا استكبارًا، ولم يثنه ذلك عن أمر الله حتى قيض الله له أعوانًا وأنصارًا، فرفعوا ألويته وأعلامه حتى انتشرت في الخافقين انتشارًا. وصنف رحمه الله تعالى التصانيف في توحيد الأنبياء والمرسلين، والرد على من خالفه من المشركين، ومن جملتها: كتاب التوحيد، وهو فرد في معناه؛ لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، ومن ذلك: الأصول الثلاثة، وكشف الشبهات ... وغير ذلك من المصنفات النافعة. ولأهمية التوحيد وعظم شأنه؛ طلب مني بعض إخواني في الله تعالى أن

_ 1 رواه أبوداود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وإسناده صحيح.

أجمع متنًا مختصرًا فيما يجب أن يعتقد، وبه يعمل، ومنه يتعلم، يسهل على الطالب المبتدي حفظه، ولا يستغني الراغب المنتهي عن فهمه، فيسر لي ربي تبارك وتعالى ذلك، ووفق سبحانه وألهم أن جمعت من تقرير هذا الإمام وأحفاده وفيه عن غيرهم؛ فلله الحمد على ذلك وغيره من المنن لا أحصي ثناء عليه، وأسميته: الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة. أسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في الحياة وبعد الممات، وكل من قرأه أو سمعه أو نظر فيه؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. ولما كثر في الطلَّاب حفظه، وتعدد في الآفاق والأقطار نشره؛ عرض عليَّ أحد من كان يحفظه من طلاب العلم -وهو الأخ إبراهيم بن الشيخ صالح بن أحمد الخريصي- أن يضع لهذا المتن شرحًا مختصرًا؛ يساعد الطالب على فهمه، والراغب على العمل به وتعليمه، فأيَّدته على ما هم له وأراد، ورغَّبته في ذلك، وعلى الله تحقيق المراد، فكتب في ذلك هذه الرسالة المباركة، التي سماها: التنبيهات المختصرة شرح الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة. وقد اطلعت عليها، فألفيتها رسالة قيِّمة، غزيزة الفائدة، قد اشتملت على إيضاح الحق بدليله، وكشف الشبه، وإيضاح كثير من الحكم، أسأل الله تعالى أن ينفع بها. وإني أنصح كل من وقعت في يده هذه الرسالة أن يقرأها من أولها إلى آخرها، وأن يتدبر ما فيها من كلام الله عز وجل وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء المحققين، لعله بذلك يتضح له الحق، ويطمئن قلبه إلى ما دلت عليه النصوص؛ من تقرير هذا التوحيد الذي هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى لا إله إلا الله، ولعله أن يقوم بما

أوجب الله عليه من الدعوة إلى الحق، والتحذير من خلافه. فقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير؛ فله مثل أجر فاعله" 2. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. قاله الفقير إلى ربه ومولاه: عبد الله بن إبراهيم بن عثمان القرعاوي ملحوظة: قال جامع الشرح: جزى الله شيخنا خيرًا وغفر له، حيث تفضل بهذا التقديم المبارك المفيد، ومرادي بالمؤلف في هذا الشرح هو شيخنا جامع المتن عفا الله عنه، وما عداه؛ فهو مبيَّن، والله المستعان.

_ 1 متفق عليه. 2 رواه مسلم وغيره.

المقدمة

المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛ فلا يخفي أن أعظم العلوم وأشرفها علم التوحيد وأصول الدين؛ لأن ذلك هو الذي خلق الله الثقلين لأجله، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الجنة والنار من أجله، فمن تعلَّم ذلك وعمل به؛ فهو التقيُّ السعيد، ومن أهمله وأعرض عنه؛ فهو الشقيُّ العنيد. وقد امتن الله علينا بدعوة شيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب؛ فأنقذنا بسببه من ظلمات الشرك والارتياب إلى نور التوحيد والصواب1؛ فرحمه الله وأجزل له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب، آمين. وقد جمع الشيخ الفاضل، شيخنا عبد الله بن إبراهيم القرعاوي، في هذا العلم العظيم كتابًا مختصرًا مفيدًا، انتقاه من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده رحمهم الله تعالى، ولما كثر حفظ الطلاب له ودراسته في داخل

_ 1 فهذه النعمة الكبرى نحن عنها وعن شكرها ومعرفة قدرها غافلون.

المملكة وخارجها، عنَّ لي أن أضع له شرحًا لطيفًا، يعين بإذن الله تعالى على فهمه ومعرفة بعض ألفاظه وجمله، خصوصًا وأنه لم يشرح شرحًا مفردًا. ولكن؛ لما لم أكن من أهل الشأن، ولست حقيقاً أن ألج في هذا الميدان؛ توقفت مدَّة عن الشروع في الكتابة، حتى أخبرت شيخنا المؤلف بما قصدت، فحثني على البداءة بذلك، وشجعني جزاه الله خيرًا. فاستعنت بالله الكريم، وشرعت في المقصود بالجمع من كلام الله تعالى، ومن سنَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كتب أهل العلم، وسمَّيته: التنبيهات المختصرة شرح الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة. وأسأل اللهَ بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، وأن يعينني ويسدِّدني ويتقبل مني، وأسأله أن ينفعني بما كتبته وجميع من قرأه أو سمعه من المسلمين والمسلمات؛ إنه تعالى وليُّ ذلك القادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تنبيه: لا يخفى على العاقل أن الكمال لله تعالى ولكتابه العزيز، والعصمة لمن عصمه الله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما سائر الناس؛ فيخطئون ويصيبون، وليسوا بمعصومين، وخير الخطائين التوابون. وجزى الله خيرًا من ينبهنا على أخطائنا؛ فإن الإنسان محل للخطأ والنسيان. وقال بعضهم: وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلَا ... فَجَلَّ مَنْ لَا عَيْبَ فِيْهِ وَعَلَا

تنبيه آخر: قد أردت أن أجعل هذا الكتاب حاشية، ولكن لصعوبتها على الكاتب والقارئ جعلتها شرحًا، لسهولته ووضوحه، وجعلت المتن بين قوسين، وبخط يخالف الشرح وأمامه دائرة سوداء. والله الموفق والمعين. بقلم إبراهيم بن الشيخ صالح بن أحمد الخريصي عفا الله عنه 1412/11/26 هـ

الكلام على البسملة

الكلام على البسملة ... بين يدي الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم ابتدأ المؤلف كتابه بالبسملة؛ اقتداءً بالكتاب العزيز، وتأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ومراسلاته، فيستحبُّ البداءة بها في كل أمر يهتم به شرعًا. والباء في بسم الله للاستعانة. والاسم: لغة: ما دلَّ على مسمَّى، واصطلاحًا: كلمة دلت على معنى في نفسها، ولم تقترن بزمان، وهو مشتق من السمو، وهو العلو، وقيل غير ذلك. والله: علم على الذات المقدسة، وهو أعرف المعارف على الإطلاق، ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. والرحمن: رحمة عامة لجميع المخلوقات. والرحيم: رحمة خاصة بالمؤمنين. وهما اسمان كريمان من أسمائه الحسنى، دالَّان على اتصافه تعالى بالرحمة على ما يليق بجلاله وعظمته، والبداءة بالبسملة للتبرك والاستعانة، واقتصر المؤلف عليها لأنها من أبلغ الثناء والذكر.

قال الحافظ في أول فتح الباري: وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة، وكذا معظم الرسائل اهـ.

الكلام على الصول الثلاثة ووجوبها

الكلام على الصول الثلاثة ووجوبها ... الأصول الثلاثة الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها. الأصول: جمع أصل، وهو لغة: أسفل الشيء وأساسه، واصطلاحًا: ما بني عليه غيره. وهذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين التي يرجع الدين كله إليها، ويتفرع منها. وتقرير هذه الأصول الثلاثة ليست من رأي الإمام المجدد1 رحمه الله تعالى بدون دليل، بل استنبطها من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم: كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن البراء بن عازب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من سؤال الميِّت في قبره عن هذه الأصول الثلاثة: "فأما المؤمن؛ فيثبته الله بالقول الثابت، وأما المنافق أو المرتاب؛ فيقول: هاه! هاه! لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته! فيضرب بمرزبة من حديد يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها؛ لصُعِق. والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا، لا تخفى على من عنده أدنى علم

_ 1 أي شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رفع الله درجاته. وهكذا ما يأتيك في هذا الكتاب من إطلاق الشيخ الإمام أو المجدد فهو المراد بذلك.

وإيمان؛ فالله المستعان1. فلذلك يجب وجوبًا عينيًّا لا كفائيًّا، بل لا يعذر أحد بتركه؛ فإن الواجب والفرض قسمان: فرض عين، وفرض كفاية، وما ذكر رحمه الله؛ فهو فرض عين على كل مكلف، لا يعذر أحد بالجهل به، وعند الأصوليين: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه. والمراد بالمسلم والمسلمة؛ أي: من المكلفين، حرًا كان أو عبدًا؛ لأن من ترك الأصول؛ حرم الوصول، ومن ترك الدليل؛ ضل السبيل. فيجب على كل مكلف تعلمها؛ أي: هذه الأصول الثلاثة، ومعرفتها، واعتقادها، والعمل بما دلَّت عليه ظاهرًا وباطنًا. والعلم: معرفة الهدي بدليله، وإذا أطلق العلم؛ فالمراد به العلم الشرعي الذي تفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه. قال الإمام المجدد رحمه الله تعالى: اعلم أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار أعاذنا الله منها اهـ. فمن تعلم هذه الأصول وعمل بها ظاهرًا وباطنًا؛ فهو حري أن يثبِّته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن تهاون بها وتساهل ولم يرفع بها رأسًا؛ فلا يلومن إلا نفسه. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]

_ 1 راجع "تفسير الحافظ ابن كثير" رحمه الله تعالى على هذه الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... } .

وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم. أي: الأصول الثلاثة هي: معرفة العبد ربه تبارك وتعالى بما تعرف إليه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وحدانيته وأسمائه وأفعاله؛ فهو رب كل شيء ومليكه، لا إله غيره ولا رب سواه. وهذا أصل الأصول؛ فيجب علينا معرفته؛ لنعبده على حقيقة وبصيرة، ولا يكون الإنسان على حقيقة من دينه إلا بعد العلم بالله سبحانه، وما يجب له من التعظيم والإجلال. ومعرفة دينه؛ أي: دين الإسلام الذي تعبدنا به بأدلته من الكتاب والسنة. والدين: لغة: الذل والانقياد؛ يقال: دنته فدان؛ أي: أذللته فذل. وشرعًا: ما أمر الله به على ألسنة رسله. ومعرفة نبيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الواسطة بيننا وبين الله تعالى في تبليغ الرسالة، وهو أفضل الخلق على الإطلاق، والآيات والأحاديث في فضله وشرفه كثيرة جدًا، ومعرفته فرض على كل مكلف؛ لأنه لا طريق لنا إلى عبادة الله إلا بما جاء به صلى الله عليه وسلم. والنبي: رجل أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فإن أمر به؛ فرسول. وذكر المؤلف رحمه الله هذه الأصول مجملة، ثم يذكرها مفصلة أصلًا أصلًا؛ تتميمًا للفائدة، وتنشيطًا للقارئ؛ فإنه إذا عرفها مجملة وعرف ألفاظها بقي متشوقًا إلى معرفة معانيها وتفاصيلها، والله الموفِّق. "فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربَّى جميع العالمين بنعمته، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه". هذا شروع في تفصيل ما تقدم من الأصول الثلاثة، وأخرج الكلام بصيغة السؤال؛ ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في الفهم، وأقرب إلى الانتباه.

فإذا قيل لك: من ربك؟ 1؛ أي: من إلهك الذي خلقك ورباك ورزقك النعم لتستعين بها على عبادته وحده لا شريك له؟ والرب: هو المعبود المالك المتصرف، وله معان أخر، ولا يطلق معرفًا بالألف واللام إلَّا على الله تعالى. فقل أيها العبد: ربي هو الذي أوجدني من العدم وربَّاني بالنعم وحده لا شريك له، وربى كذلك جميع العالمين بنعمه الظاهرة والباطنة، هو الذي أوجد العالم العلوي والسفلي من العدم، وهو مالكهم ورازقهم والمتصرف فيهم بما شاء. ونعم الله كثيرة لا تحصى؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] . والخلق مفطورون على معرفة خالقهم سبحانه، لا ينازع في ربوبيته ووجوده إلَّا مجنون أو مكابر معاند، وكل مخلوقاته وآياته -وإن دقت- دالة أعظم دلالة على وجود الخالق وعظمته وتفرده بالربوبية وحده لا شريك له ولا إله سواه. والعالمون: جمع عالم، وهم كل ما سوى الله؛ فالوجود قسمان: رب ومربوب. فالرب: هو الله العظيم سبحانه، والمربوب: هو العالم. والمراد بهم جميع المخلوقات. وسمي العالم عالمًا؛ لأنه علامة واضحة دالة على صانعه وموجده جلَّ وعلا. وهو -أي: الله تعالى - معبودي- أي: مألوهي - وحده، ليس لي معبود سواه؛ فكما أنه سبحانه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؛ فهو وحده المتفرد والمستحق بأن يعبد وحده دون من سواه، وهذا هو مدلول كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله.

_ 1 راجع على هذه المسألة والتفصيل فيها كلام الإمام المجدد رحمه الله في الدرر السنية ج1 ص73 الطبعة الجديدة المزيدة

والتعبد: هو التألة ذلًا وحبًّا وتعظيمًا للإله الحق الكبير؛ فأعظم دليل على توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية؛ كما يستدل بذلك تعالى على المشركين في آيات كثيرة من كتابه: كما في أول آية في القرآن فيها الأمر بالتوحيد، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية: [البقرة:21] . "واذا قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله". شرع المؤلف رحمه الله في بيان الأصل الثاني من أصول الدين: فإذا قال لك قائل: ما دينك الذي تدين الله به وتنال به السعادة في الدنيا والآخرة؟ ولابد في هذا من معرفة الأدلة من الكتاب والسنة؛ ليكون العبد على نور وبرهان وبصيرة من دينه؛ فإنه لا يأمن في حياته من الشك والزيغ والانقلاب؛ عياذًا بالله من ذلك، وكذلك بعد مماته عند سؤال الملكين منكر ونكير؛ بأن يقول: هاه! ها! لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وما ذكره المؤلف عن الشيخ وأحفاده رحمهم الله في هذه النبذة العظيمة المفيدة مع العمل ظاهرًا وباطنًا بما دلَّت عليه كفيل بإذن الله تعالى بمعرفة أصول الدين والثبات عليه حتى الممات؛ فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرًا، ونفعنا والمسلمين بعلومهم. فقل: ديني الإسلام؛ أي: جاوبه بقولك: ديني هو الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، وهو دين جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبيِّنا

الصلاة والسلام؛ فالدين واحد وهو الإسلام، أما الشرائع؛ فقد تختلف1. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . والدين له ثلاث مراتب وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة لها أركان؛ كما لا يخفى على ذوي الإيمان. وعرَّف رحمه الله الإسلام بأنه هو الاستسلام؛ أي الذلُّ والخضوع لله تعالى بالتوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، من قولهم: استسلم فلان للقتل إذا أسلم نفسه وذل وانقاد وخضع؛ فالمسلم ذليل خاضع منقاد لله وحده، مستسلم طوعًا لعبادته دون من سواه. والانقياد له بالطاعة؛ أي: فلا يكفي مجرد الاستسلام والخضوع فقط، بل لابدَّ مع ذلك من الانقياد لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك المنهيات؛ طاعة لله، ابتغاء وجه، ورغبة فيما عنده، وخوفًا من عقابه. والبراءة من الشرك وأهله؛ أي: فالمسلم إذا انقاد لأوامر الله تعالى باطنًا وظاهرًا؛ وجب عليه شيء آخر، وهو البراءة والتبري من الشرك كبيره وصغيره، ومن أهل الشرك؛ بإظهار عداوتهم وبغضهم وتكفيرهم، وعدم مساكنتهم ومؤاكلتهم، وعدم التشبه بهم في الأقوال والأعمال، بل لابدَّ من التبري من كل خصلة من خصالهم. وهذا هو أوثق عرى الإيمان، وهو الولاء والبراء، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة. وهذا الأمر العظيم الذي أوجبه الله تعالى في غير ما آية من كتابه العزيز،

_ 1 كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلَّات أمهماتهم شتى ودينهم واحد".

وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، في عدة أحاديث قد تساهل فيه كثير من الناس في هذا الزمان؛ فمستقل ومستكثر، بل قد يكاد الولاء والبراء أن يكون معدومًا؛ إلَّا ما شاء الله، وهذا خطر شديد، يخشى على المتساهل فيه من الزيغ وهو لا يشعر والعياذ بالله؛ لأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تعالى، وليس للزيغ علامة على صاحبه، بل ربما عوفي ووسِّع عليه استدارجًا وإملاءً، وهو لا يدري أنه قد مُكِر به؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله. فالسعيد من تنبه لهذا وتعلم دينه وخاف من ذهابه أعظم من خوفه على بدنه ودنياه وماله، ونستغفر الله لما نعلم ولما لا نعلم، ونسأله بمنه وكرمه وإحسانه أن يهدينا والمسلمين والمسلمات إلى صراطه المستقيم، وأن يتوفانا عليه، آمين. تنبيه: وقع في بعض نسخ الأصول الثلاثة ونحوها عبارة: والخلوص من الشرك؛ بدل: والبراءة من الشرك وأهله، وكلام الشيخ الإمام المجدد قدس الله روحه كما في النسخ المعتمدة بهذه العبارة التي شرحناها، وهي: والبراءة من الشرك وأهله؛ لأن الخلوص من الشرك لا يكفي وحده، بل لابدَّ معه من البراءة من أهله وتكفيرهم؛ كما قال تعالى عن إمام الحنفاء عليه السلام: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآية [الممتحنة:4] ، فتبرءوا من أهل الشرك قبل الشرك. وقال الشيخ الإمام رحمه الله في الأصول على قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ

فَاهْجُر} ؛ قال: الرجز: الأصنام، وهجرها: تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها. فتأمل، وهذا واضح جدًّا، والله المستعان. "وإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم". هذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة، وهو معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله للعالمين بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأفضل الخلق أجمعين. وهو عبد لا يعبد ورسول لا يكذَّب، بل يطاع ويتبع، شرَّفه الله بالعبوديَّة. فيجب على المكلف معرفته، والإيمان به، ومحبته، وطاعته، وتعظيمه، وتبجيله، وتوقيره، ويستحب - وقيل: يجب -على المسلم أن يصليَّ ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم عندما يذكر اسمه، وفي الأمر بذلك وفضل الصلاة والسلام عليه نصوص من الكتاب والسنة1. ومعرفته صلى الله عليه وسلم تشتمل على معرفة نسبه الشريف وعمره وبقائه في الدنيا ووفاته وما نبئ به وما أرسل به وبلده ومهاجره، وأعظم ذلك معرفة ما بعث به.... إلى غير ذلك؛ كما ذكره الإمام في الأصول وغيره. وكيف لا يعرف المسلم والمسلمة من لا يدخل الجنة وينجو من النار إلَّا بسلوك طريقه وهديه صلوات الله وسلامه عليه؟! فهو الرحمة المهداة لمن أراد الله هدايته وسعادته عاجلًا وآجلًا؛ فلا يعرف الأصل الأول وهو معرفة الله، ولا

_ 1 وللإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كتاب حافل سماه "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" فراجعه إن أردت الفوائد

الأصل الثاني وهو معرفة الدين؛ إلا بمعرفة الأصل الثالث وهو معرفة الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ الرسالة، فتحتمت معرفته، وصارت من الضروريات اللازمة. فبهذا يظهر ويتبين أن معرفته أحد الأصول الثلاثة؛ فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين1. إذا تبَّين هذا؛ فاعلم أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء، أشهرها محمد، وهو الذي جاء في القرآن والسنة أكثر من غيره، ومن أسمائه أحمد؛ كما في سورة الصف، وله غيرها صلى الله عليه وسلم، وسمي محمدًا لكثرة خصاله الحميدة، وأنه يحمد أكثر مما يحمد غيره، وكنيته أبو القاسم. وأبوه عبد الله، وهو الذبيح الثاني المفدَّى بمئة من الإبل، والقصة مذكورة في التاريخ. وجدُّه عبد المطلب، واسمه شيبة، ويقال له: شيبة الحمد؛ لجوده وجماع أمر قريش عليه، وإنما سمي بعبد المطلب؛ لأن عمه المطلب قدم به مكة وهو رديفه، وقد تغير لونه بالسفر، فحسبوه عبدًا له -أي: مملوكًا- فقالوا: هذا عبد المطلب! فعلق به هذا الاسم. وأبوه: هاشم، واسمه عمرو، وإنما سمي هاشمًا لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المَحْل، وهو من قريش وقريش هو النضر الذي جماع قريش إليه. ولا خلاف بين العلماء أن هاشمًا ابن لعبد مناف، واسمه: المغيرة بن

_ 1 وفي أوائل "زاد المعاد" للعلامة ابن القيم رحمه الله فصل مهم جدًا في تحتم وضرورة معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به لا يستغني عنه المسلم.

قصي بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. إلى ها هنا معلوم الصحة، متفق عليه بين النسابين، ولا خلاف فيه ألبتة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام. والمراد بالعرب هنا المستعربة؛ فإن العرب قسمان: عاربة ومستعربة؛ فالعاربة قحطان، والمستعربة عدنان، وهم أفضل من العرب العاربة؛ لأن منهم أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: "إن الله اصطفى بني إسماعيل من العرب، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار". رواه مسلم وغيره. ولما سأل هرقل أبا سفيان رضي الله عنه عن نسب النبي صلي الله عليه وسلم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: وهكذا الرسل تبعث في أنساب قومها؛ يعني: في أكرمها أحسابًا. خرَّجه البخاري. فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه؛ فصلوات الله وسلامه عليه. والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف أن الخليل عليه السلام من ذرية سام بن نوح عليه السلام. وقد ذكر المؤرخون نسب الخليل إلى نوح عليهما السلام في مصنفاتهم، كما ذكروا قصة الخليل وذريته مفصلة، وأن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح، وهو الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. أما ذكر سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومولده ونشأته وغير ذلك؛ فهي مذكورة في مؤلفات أهل العلم؛ خصوصًا المحققين منهم؛ كابن القيِّم في زاد المعاد، وابن كثير في البداية والنهاية، ونحوهما، وكـ مختصر السيرة لشيخ الإسلام

محمد بن عبد الوهاب؛ رحمهم الله تعالى أجمعين. أما تعريف صلاة الله وسلامه على من يُصلِّي عليه؛ فالصلاة لغةً: الدعاء، وأصحُّ ما قيل في معنى الصلاة من الله على الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية رحمه الله؛ قال: صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملإ الأعلى1، والسلام بمعنى التحية أو السلامة من النقائض والرذائل، ومن أسماء الله سبحانه: السلام؛ لسلامته من النقائص والعيوب جلَّ وعلا.

_ 1 انظر صحيح البخاري مع الفتح 532/8 باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .

الكلام على أصل الدين وبيان الأمر الأول

الكلام على أصل الدين وبيان الأمر الأول ... أصل الدين وقاعدته أصل الدين وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الأصل: تقدم بيانه. والقاعدة: بمعنى الأصل؛ أي: أن أصل الدين وأساسه وقاعدته الذي ينبني عليه غيره، ويتفرع منه سواه، ولا يصحُّ عمل ولا قول إلا به: أمران عظيمان، وهما: معنى كلمة الإخلاص: لا إلا الله، التي خلق الله الثقلين لأجلها. الأول: الأمر بعبادة الله؛ أي: إفراده بالعبادة كلها له وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّك} ؛ أي: أمر ووصى {أَلاَّ تَعْبُدُوا} ، وهذا معنى: لا إله، {إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، وهذا معنى: إلا الله. وكل رسول أرسله الله إلى قومه أول ما يأمرهم به هو إفراد الله بالعبادة دون من سواه: كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .

والنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة عشر سنين يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له قبل فرض الصلاة وغيرها من الشرائع؛ لأن التوحيد أساس الْمِلَّة وأصلها، وبقية الفرائض فرع منه، فإذا زال الأصل؛ زال الفرع. والعبادة لغةً: التذلُّل والخضوع والانقياد، وشرعًا: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة؛ كالدعاء، والصلاة، والخوف، والرجاء، والمحبة، وغير ذلك من العبادات؛ فيجب إخلاصها وإفرادها لله وحده لا شريك له، فمن صرف منها شيئًا لغير الله؛ فهو مشرك كافر. والتحريض على ذلك؛ أي: على عبادة الله وحده لا شريك له، والحث على ذلك، والصبر والمصابرة على الدعوة إلى التوحيد؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده، والترغيب فيما أعد الله لعباده المخلصين من النعيم المقيم، والترهيب عما أعد الله للمشركين من العذاب الأليم والخلود في الجحيم، وبذل الوسع في ذلك. والموالاة فيه؛ أي: في التوحيد. والموالاة: الموادة والمصادقة والنصرة، ضد المعاداة فمن أحب الله؛ أحب فيه، ووالى أولياءه، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه؛ قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، وبضعفها يضعف. فيجب على المسلم موالاة أولياء الله تعالى ومحبتهم؛ لأن ذلك من لوازم: لا إله إلَّا الله. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56]

والآيات والأحاديث في وجوب موالاة المؤمنين كثيرة جدًا. وهذا على سبيل العموم، أما على سبيل التفصيل وذكر الفرق بين موالاة كامل الإيمان من ناقص الإيمان ونحو ذلك؛ فهو مبسوط في موضعه. وتكفير من تركه؛ أي: التوحيد، فمن لم ينفرد الله بالعبادة؛ فهو كافر، كائنًا من كان، ولو كان يقوم الليل ويصوم النهار، ومن لم يكفره أو شك في كفره بعد قيام الحجة؛ فهو كافر مثله؛ كما سيأتي الكلام عليه في نواقض الإسلام إن شاء الله تعالى.

الكلام على الأمر الثاني

الكلام على الأمر الثاني ... الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. أي: الأمر الثاني الذي يبنى عليه الدين هو الإنذار؛ أي: والتحذير الشديد، والنهي الأكيد، والوعيد الشديد. عن الشرك في عبادة الله تعالى؛ لأن الشرك أعظم ذنب عصي الله به. والشرك: النصيب، ومنه الحديث المتفق عليه: "من أعتق شركًا له في عبد"؛ أي: نصيبًا، وشاركته: إذا صرت شريكه، وقد أشرك بالله فهو مشرك: إذا جعل له شريكًا والعياذ بالله. وتعريف الشرك الشامل: هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. وله أقسام وأنواع يأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وأول آية أرسل بها النبي صلي الله عليه وسلم، وأول أمر طرق سمعه بالإنذار عن الشرك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2] ؛ أي: عن الشرك بالله تعالى، فدَّل على أن النهي عن الشرك أعظم شيء نهي عنه، وأول ذنب

حذر منه؛ لأنه بدأ به، ولا يبدأ إلا بالأهم فلأهم. والنذارة عن الشرك مقدم على الدعوة إلى التوحيد؛ لأنه مدلول كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ولأن هذه الآية تقتضي ذلك؛ فإنها بدأت بجانب الشرك؛ لكون العبادة لا تصح مع وجوده؛ لأنه ينافيها، فلو وجدت والمنافي موجود؛ لم تصح، ولم تنفع. ثم ثنى بالتوحيد بقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] ؛ أي: عظمه بالتوحيد؛ لأنه أوجب الواجبات، وهو المقصود، ولا يرفع عمل إلا به. وفي البداءة بالنهي عن الشرك والإنذار عنه آيات كثيرة وأحاديث شهيرة لا تخفى على من له أدنى علم وبصيرة، والله المستعان. والتغليظ في ذلك؛ أي: في الشرك، والتشديد في النهي عنه وعن أسبابه وذرائعه الموصلة إليه؛ لأنه أظلم الظلم وأبطل الباطل، ومع ذلك؛ فهو هضم للربوبية، وتنقُّص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين جلَّ وعلا وتقدَّس. والشرك أقبح المعاصي وأشنعها على الإطلاق؛ لأنه يقتضي تسوية المخلوق الناقص من كل وجه بالخالق العظيم الكامل من جميع الوجوه؛ فسبحان الله وتعالى عما يشركون. ولذلك كانت جميع الذنوب تحت المشيئة؛ إلا الشرك: كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] . وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72] .

وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه؛ قال: قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ... " الحديث. والآيات والأحاديث في التغليظ والتشديد في الشرك وأهله كثيرة جدًا. والمعاداة فيه؛ أي: في الشرك وأهله. كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . فيجب على المسلم أن يبغض أهل الشرك ويعاديهم ويصارمهم ويقاطعهم، سواء كانوا قريبين أم بعيدين؛ فإن القرب إنما هو في الحقيقة قرب الدين لا قرب النسب؛ فالمسلم، ولو كان بعيد الدار؛ فهو أخوك في الدين، والكافر، ولو كان أخاك في النسب؛ فهو عدوك في الدين، وحرام على كل مسلم ومسلمة موالاة الكفار، بل يجب اتخاذهم أعداءً وبغضاء. وقد نفى الله الإيمان عمن يواد الكفار ويحبهم؛ كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] . فلا يجتمع الإيمان ومحبة أعداء الله، بل لا تجد المؤمنين إلا محادِّين من حادَّ الله ورسوله، معادين من عادى الله ورسوله. وتكفير من فعله؛ أي: الشرك؛ كما تقدم، ومن لم يكفر المشركين أو شكَّ أو توقف في كفرهم؛ فهو كافر مثلهم؛ كما تقدم. وجميع ما قرَّره الإمام رحمه الله تعالى في الأمر الثاني؛ فهو يقابل ما في

الأمر الأول؛ فالأمر بالتوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له يقابله النهي عن الشرك والإنذار عنه، والتحريض على التوحيد يقابله التغليظ في الشرك ... وهكذا، فجزاه الله خيرًا، ونفعنا والمسلمين بعلمه. وفي أوائل مجموعة التوحيد شرح نفيس جدًا لهذا الأصل، لا يستغني عنه طالب العلم، والله الموفق

شروط لا إله إلا الله

شروط لا إله إلا الله الشروط: جميع شرط، وهو لغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] ، واصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود؛ فإذا عدمت الشروط أو بعضها؛ عدم المشروط، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، والشرط مقدم على المشروط. وهذه الشروط السبعة نقلها المؤلف رحمه الله من كلام العلامة المجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله؛ كما في فتح المجيد. وقد يقول قائل: من أين هذه الشروط السبعة؟ فيقال له: هي مستنبطة من الكتاب والسنة بالاستقراء والتتبع؛ كما أجمع العلماء على أن للصلاة شروطًا وأركانًا وغير ذلك مما قرره أهل العلم ممالم يرد به نص؛ فإنما ذلك بالاستقراء والتتبع للآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فجزي الله أهل العلم العاملين عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرًا. إذا تبين هذا؛ فالشيخ رحمه الله وجزاه خيرًا اختصرها في هذه الأسطر اليسيرة لمن أراد الله هدايته نصحًا للمسلمين، وطلبًا لمرضاة الله تعالى. إذا فهمت هذا؛ فاعلم أن لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا باجتماع هذه الشروط كلها، والعلم بها، والعمل بمقتضاها؛ ظاهرًا وباطنًا، والله الموفق.

ثم أعلم أن هذه الشروط السبعة كان الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه لابد لمن قال كلمة التوحيد أن يكون آتيًا بشروطها قبل النطق بها؛ لأنهم أهل لغة ومعرفة بالكلام العربي حقيقة؛ فلا يقدمون على التلفظ بها؛ لمعرفتهم لمعناها ولما تقتضيه وتستلزمه: ولذلك لما قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله الله؛ تفلحوا" 1؛ قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم2 لعمه أبي طالب: "يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله". فقال له جلساء السوء: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم ينطق بها؛ لعلمه وعلم جلساء السوء: أنه إذا قالها؛ فقد خلع من قلبه وقالبه الأنداد والأوثان، وأفرد العبادة كلها لله الواحد الرحمن. فالله المستعان. ولما جهلت اللغة العربية الفصحى، وترك تعلم معناها3؛ صار أكثر الناس يقولها وهو لا يعلم معناها فيقع فيما يناقضها- فضلًا عما ينقصها- وهو لا يدري. فلذلك قرر الشيخ رحمه الله هذه الشروط؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. وقال الشيخ المجدد رحمه الله في كشف الشبهات: فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك4؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من

_ 1 حديث صحيح، رواه أحمد وغيره 2 متفق عليه 3 أي: معنى لا إله إلا الله. 4 الإشارة إلى ما سبق بيانه من كون الكفار يعلمون معنى كلمة التوحيد حقيقة.

تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله؛ فلا خير في رجل جهال، الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، اهـ المقصود منه.

الكلم على الشرط الأول: العلم بمعناها نفيا وإثباتا

الكلم على الشرط الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا ... الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا هذا هو الشرط الأول من الشروط السبعة، وهو العلم المنافي للجهل، والعلم: معرفة الهدى بدليله. فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله؛ أي: لا مألوه يستحق العبادة كلها وحده دون من سواه إلا سبحانه وكل مألوه سوى الله عز وجل؛ فإلهيته أبطل الباطل وأضل الضلال. هذا هو معنى هذه الكلمة العظيمة، لا كما يقوله بعض الجهلة: إن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله! فإنها وإن دلت عليه بطريق التضمن؛ فهي موضوعة لتوحيد الإلهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة، وهو الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب في تقريره وإيضاحه والأمر به والنهي عن ضده، أما توحيد الربوبية؛ فقد أقر به المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستحل دماءهم وأموالهم؛ لأنه يريد منهم إفراد العبادة لله وحده لا شريك له. فبهذا يتبين أن مدلول لا إلا الله مطابقة هو إفراد الله بالعبادة. وهذه الكلمة العظيمة لها ركنان، وهما: النفي والإثبات: لا إله: تنفي جميع ما يعبد من دون الله، وإلا الله: تثبت جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له. والنفي المحض ليس بتوحيد، والإثبات المحض ليس بتوحيد، بل لا بد من الجمع بين النفي والإثبات.

أما إعراب هذه الكلمة؛ فـ: لا: نافية للجنس تعمل عمل إن. وإله: اسمها مبني معها على الفتح، وخبرها محذوف تقديره: حق وإلا: أداة استثناء ملغاة. ولفظ الجلالة مرفوع على البدلية. وضد العلم: الجهل، وهو نوعان: جهل مركب، وجهل بسيط: فالجهل المركب: هو تصور الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع. والجهل البسيط: عدم العلم بالشيء، والله علم.

الكلام على الشرط الثاني: اليقين: وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب

الكلام على الشرط الثاني: اليقين: وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب ... الثاني: اليقين: وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب. أي: الشرط الثاني: اليقين، وهو إزاحة الشك، وذلك من قوة العلم وكماله؛ فلا بد أن يكون قائلها مستيقنًا بمدلول هذه الكلمة يقينًا جازمًا لا تردد فيه ولا توقف؛ فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن؛ فكيف إذا دخله الشك والعياذ بالله. فاليقين شرط، فإذا انتفى؛ انتفى المشروط. والشك والريب مترادفان، والشك في علم الأصول: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

الكلام على الشرط الثالث: الإخلاص المنافي للشرك

الكلام على الشرط الثالث: الإخلاص المنافي للشرك ... الثالث: الإخلاص المنافي للشرك. أي: الشرط الثالث: الإخلاص، وهو لغة: التصفية، وشرعًا: محبة الله وإرادة وجهه وتصفية العبادة كلها له وحده من الشرك كله؛ لأنه هو المستحق لها دون من سواه. فلا تنفع هذه الكلمة بدون الإخلاص المنافي للشرك المتقدم تعريفه،

وأنه هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.

الكلام على الشرط الرابع: الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق

الكلام على الشرط الرابع: الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق ... الرابع: الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق أي: الشرط الرابع: الصدق المنافي للكذب؛ فلابد أن يقولها صدقًا من قلبه، يواطئ قلبه لسانه، أما إذا قالها بلسانه في الظاهر وهو كاذب في الباطن؛ فهذا منافق، والنفاق: هو إظهار الخير وإبطان الشر عياذًا بالله من النفاق. وقد فضخ الله المنافقين الذين يقولونها كذبًا في آيات من كتابه العزيز، بل أنزل فيهم سورة كاملة- وهي سورة المنافقين- لعظم خطرهم، وكذا معظم سورة التوبة فيهم، وتسمى الفاضحة؛ لأن الله كشف فيها أستارهم، وأبدى فضائحهم، وحذر منهم ومن صفاتهم، وما ذاك إلا لشدة شرهم والتباسهم بالمسلمين؛ فهم أعداء الإسلام وأهله الباطنون، أما الكفار؛ فهم أعداء ظاهرون. ويأتي مزيد كلام على المنافقين في أنواع النفاق إن شاء الله تعالى. فالصدق شرط، فإذا انتفى، انتفى المشروط. والصدق لغة: مطابقة الشيء للواقع والاعتقاد، وضده الكذب.

الكلام على الشرط الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك

الكلام على الشرط الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك ... الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك أي: الشرط الخامس: المحبة لهذه الكلمة، وضدها الكراهية. والمحبة أمرها عظيم وخطبها جسيم، بل إن العبادة مبنية على ثلاثة أصول: الخوف، والرجاء، والمحبة. والمحبة الواجبة: هي التي لا يحكم لأحد بأنه مسلم إلا بالإتيان بها،

وهي محبة الله محبة توجب فعل ما أوجبه عليه وألزمه به، وترك ما حرمه عليه، فإن أخل بذلك كله، أو بما لا يدخل الإسلام إلا به؛ فليس بمسلم، وإن تهاون ببعض الواجبات؛ فينقص من إيمانه على حسب ذلك. والمحبة المستحبة: هي التي تقتضي الإتيان بما ندب إلى فعله وحث عليه؛ فلا بد من المحبة لكلمة التوحيد، ولما دلت عليه من الأوامر ونحوها، والسرور والفرح بذلك. ومدار المحبة على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . وهذه الآية تسمى آية المحنة؛ لأن الله امتحن بها من ادعى محبته. وقد قال بعض المتقدمين رحمه الله تعالى: تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع والمقصود أن المحبة شرط، فإذا انتفت؛ انتفى المشروط.

الكلام على الشرط السادس: الانقياد بحقوقها

الكلام على الشرط السادس: الانقياد بحقوقها ... السادس: الانقياد بحقوقها وهي الأعمال الواجبة- إخلاصًا لله وطلبًا لمرضاته أي: الشرط السادس: الانقياد، وضده الترك. والانقياد بحقوقها هو المحك؛ لأن كثيرًا ممن يدعي أنه يعلم معنى هذه الكلمة، وأنه مخلص ومصدق ومستيقن، إذا أمر بأمر أو نهي عن شيء؛ لم ينقد، وبان بطلان دعواه؛ لأنه لو كان صادقًا ومستيقنًا ومحبًا حقيقة؛ لانقاد بحقوق هذه الكلمة ظاهرًا وباطنًا؛ إخلاصًا لله، وطلبًا لمرضاته، وخوفًا من

غضبه وعقابه. وتأمل قصة أبي طالب لعنه الله؛ فإنه قد صدق بالنبي صلي الله عليه وسلم، وعلم وتيقن صدق ما جاء به، ولكنه لم ينقد لأوامر الله تعالى فلم ينفعه ذلك ومحبته له، بل هو كافر مشرك خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله؛ إلا أنه يخفف عنه العذاب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة لأبي طالب في تخفيف العذاب فقط؛ حيث إنه حماه وذاد عنه بنفسه وأهله، وكان يحوطه وينصره، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه1. نسأل الله العافية. فلانقياد شرط، فإذا انتفى الشرط؛ انتفى المشروط.

_ 1 كما رواه البخاري ومسلم مرفوعًا

الكلام على الشرط السابع: القبول المنافي للرد

الكلام على الشرط السابع: القبول المنافي للرد ... السابع: القبول المنافي للرد أي: الشرط السابع: القبول المنافي للرد. فلا بد من قبول هذه الكلمة بالقلب واللسان، فمن لم يقبلها وردها واستكبر عنها؛ فهو كافر؛ كما ردها كفار قريش عنادًا واستكبارًا ولم يقبلوها. وقد قص الله علينا في كتابه من أنباء ما قد سبق من إنجائه لمن قبل هذه الكلمة، وانتقامه ممن ردها وأباها، وكذلك أخبرنا بما وعد به القابلين لها من الثواب، وما أعده لمن ردها من العذاب، والآيات في ذلك كثيرة معلومة خصوصًا عند ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما حصل لأممهم عندما يقبلونها أو يردونها، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد. فالمقصود: أن القبول شرط من الشروط السبعة التي لا تصح هذه الكلمة والشهادة إلا باجتماعها كلها.

وبهذا الشرط تمت الشروط مجملة، ثم تأتي مفصلة بأدلتها من الكتاب والسنة إن شاء الله تعالى.

أدلة هذه الشروط

أدلة هذه الشروط من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شروع من المؤلف رحمه الله في بيان أدلة الشروط المتقدمة من الكتاب والسنة. والأدلة: جمع دليل، والدليل: هو ما يوصل إلى المطلوب. فبمعرفة هذه الأدلة يصير المسلم على حقيقة ونور من دينه؛ فلا يتلعثم، ولا يتردد، ولا يتزعزع، ولا يكون إمعة. واعلم أنه ليس المقصود حفظ هذه الشروط بأدلتها فقط بدون العمل والتطبيق؛ فكم من عامي اجتمعت فيه هذه الشروط والتزمها وعمل بها، ولو قيل له: اعددها؛ لم يحسن ذلك. وكم من حافظ لألفاظها، يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيرًا فيما يناقضها وينقصها وهو لا يشعر، وعلى هذا فقس، والتوفيق بيد الله، والله المستعان. أفاده العلامة حافظ حكمي رحمه الله تعالى مع التصرف قليلًا1. وقد جمع بعضهم هذه الشروط بقوله:

_ 1 في كتابة المفيد "معارج القبول".

علمٌ يَقِيْنٌ وَإِخْلَاصٌ وَصِدْقُكَ مَعَ ... مَحَبَّةٍ وَانقيادٍ والقَبول لهَا وَزِيدَ ثَامِنُهَا الْكُفْرَانُ مِنْكَ بِمَا ... دونَ الإلهِ مِنَ الْأَوْثَانِ قَدْ أَلِهَا وهذا الأخير جعله بعضهم شرطًا ثامنًا، وهو كذلك، لكن أشار بعض العلماء إلى أنه داخل في السبعة المتقدمة عند التأمل، وهو أيضًا له أدلة1، فإذا انتفى؛ انتفى المشروط.

_ 1 وانظر بعض الأدلة في ص 140و 153 ونحوهما.

§1/1