التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة

عبد الرحمن السعدي

[مقدمة الناشر]

[مقدمة الناشر] التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا - قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا - مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا - وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا - مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 1 - 5] وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية والمستحق للعبودية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا. أما بعد. فإن علم التوحيد ومعرفة صفات الله من أشرف العلوم وأعظمها قدرًا؛ لأنه يتناول تعريف الخلق بأعظم موجود وهو الله جل وعلا، ويبصر العبد بحقيقة دينه، ويرشده إلى أقوم السبل لتحقيق عبوديته لله إذ هي الغاية من

وجوده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وفق المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه وأمر رسله بإبلاغه. وهو أساس الدين وأصله، ولا تقبل العبادة مهما عظمت أو جلّت ما لم يوحد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته توحيدًا يصدق فيه القول العمل، ويتواطأ على الإيمان به والإخبات له اللسان والجنان، وتستسلم له الجوارح والأركان، ويتفق فيه الإسرار والإعلان. ولأن هذا العلم بهذه المكانة من دين الإسلام فقد عُني به أئمة الإسلام تأليفًا وتصنيفًا في القديم والحديث، يوضحون منهج الله لمن أراد الهدى، ويدفعون عن دين الله كل انتحال وتحريف وزيف وغلو وجهل وضلال. ولا يزال أئمتنا- ولله الحمد- يقتفون أثر سلفهم في الاهتمام بهذا العلم تدريسًا وتأليفًا وشرحًا وتعليقًا، وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القارئ " التنبيهات

اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة " تظافر عليه ثلاثة من أئمتنا وهم: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رحمه الله- صاحب المتن، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله -مؤلف الشرح، وسماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله وأمد في عمره -الذي علق على الكتاب تعليقات نفيسة ترفع من قيمة الكتاب. وقد عرضت على سماحته في عام 1412هـ نسخة من الطبعة الأولى لهذا الكتاب، فراجعها، وصححها، وأضاف عليها تعليقات جيدة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ولأن هذا الكتاب يتناول هذا العلم الشريف المنيف، ولأنه من خير ما يستعان به- بعد الله- على معرفة ما يجب اعتقاده- فقد أعدنا طبعه للمرة الثانية طمعًا في الأجر، ورغبة في إرشاد القارئ المسلم إلى المنهج السوي والاعتقاد الصحيح والصراط المستقيم، جعلنا الله

هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. وكالة الطباعة والترجمة

[مقدمة الطبعة الأولى]

[مقدمة الطبعة الأولى] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على أشرف خلقه وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين. وبعد: فإن رسالة "العقيدة الواسطية" لمؤلفها شيخ الإسلام العلامة أحمد بن تيمية -قدس الله روحه -هي من أجل وأجمع وأوضح وأبسط ما كتب عن شرح أصول الإيمان على طريقة السلف الصالح، ومهما قيل عن سبب تأليفها وأنها كتبت في جلسة واحدة، أو لتلبية طلب بعض منتسبي أهل السنة، ورغبته في كتابة رسالة مختصرة مفيدة تكون نبراسا له ومحجة؛ لئلا يضل الطريق، ومهما قيل أيضًا بصدد إهماله أو اختصاره لشرح بعض الأصول دون بعض، فإن ذلك كله لا يقلل من قيمتها، بل إنه السر الأكبر والمميز

الوحيد لتفوق هذه الرسالة على ما عداها من رسائل كثيرة كتبت في أزمنة مختلفة، وبأقلام عدد من كبار أهل السنة والجماعة من بينهم المؤلف نفسه. فكتابتها لشخص واحد من أهل السنة معناه: كتابتها لجميع أهل السنة، واقتصاره في شرح بعض أصول الإيمان وبسطه لبعض الأصول يوحي بأهمية الفصل المبسوط على الفصل المختصر، أو لأن الكلام فيه والأخذ والرد كان قليلا لا يعدو الكلام المشار إليه، أو لوضوح معنى الأصل بحيث لا يحتمل المزيد في رسالة مختصرة. أما إهماله لشرح بعض أصول الإيمان وإن كان قد أشار إليه في المقدمة كالإيمان بالملائكة مثلا، فيرجع ذلك إلى أن الإيمان بالملائكة وما يدخل تحته يكاد لا يكون موضع خلاف بين أهل السنة وغيرهم، فالقول فيه متفق عليه تماما بين غالبية الفرق المنتسبة للإِسلام. ولا يغرب عن البال ما قد عرضه بعض فلاسفة المسلمين لموضوع الملائكة، وهل يوصفون بالعقل؟ أو أن ذلك غير

جائز في حقهم. وكاد هذا القول يموت في مهده لولا أن وجد له من أثاره في بعض المناسبات من المعاصرين، وكذلك وصفهم بالذكورية. أما وصفهم بالأنوثية فمعروف كفر من يقول به. وعندنا أن الشيخ لم يشأ أن يجري في بسط وشرح ما دار في هذا الموضوع من كلام في عقيدة مختصرة كهذه- وإن كان قد بسطه في مواضع كثيرة من مؤلفاته العديدة- حبًا منه في أن لا يشغل القارئ ذهنه بما لا يعود عليه بالنفع، وما لا يترتب عليه مزيد من الإيمان والعمل الصالح، وخوفًا من التوسع في خلاف لا طائل تحته، وتمشيا مع ما تقره أصول أهل السنة من الكراهية للتعرض لما لم يعرض له السلف والتابعون لهم بإحسان. ومع شهرة هذه العقيدة السلفية ومحبة علماء نجد وغيرهم من علماء السلف منذ زمن قيام المجدد المصلح الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - لهذه الرسالة، وعنايتهم بها، وتقريرها في دروسهم، وشرحها شفويا لطلبتهم العديدين-:

لم تحظ بتعليق ولو وجيز لبسط بعض فصولها وتفسير بعض غوامضها. وكان أن صدر في وقت واحد شرحان كبيران لأستاذين جليلين من أساتذة كلية الشريعة بالرياض هما: الشيخ عبد العزيز بن رشيد، والشيخ زيد بن فياض. فقاما وكأنهما على موعد بكتابة شرحين وافيين عمدَا فيه على بسط كل فصل من فصول الكتاب بكلام شيخ الإسلام نفسه في مواضع من كتبه العديدة، ومن كتب تلاميذه الأجلاء كابن القيم، وابن رجب، وغيرهما، إلا أن جهدهما المشكور كان لرفع مستوى الدارس والباحث أقرب منه لِإفهام الطالب والمستزيد. ولا ننسى أن نشير إلى شرح موجز للأستاذ السلفي محمد خليل الهراس خرج في الوقت نفسه وسد فراغًا كبيرا، غير أن إلمام الشيخ الهراس بعلم الكلام وتأثره به قد أضفى على الشرح شيئا مما قد يكرهه أهل السنة، بل ويكرهه المؤلف نفسه، ونعني بذلك بعض التعابير المستعملة عند المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم.

ولما كنا على علم بشرح موجز خرج قبل كل هذه الشروح، إلا أنه لم يخرج إلى النور، ولم يتيسر طبعه فيما سبق وذلك هو الكتاب المسمى: (بالتنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة) للعلامة: عبد الرحمن بن سعدي، رحمه الله. وكنا قد حصلنا على إذن سابق منه بطباعة هذا الكتاب ونشره، غير أن ظروفًا قسرية حالت بيننا وبين تحقيق ذلك، واليوم وقد واتت الظروف ولله الحمد قمنا بطباعة هذا الكتاب النفيس. وتكملة للفائدة وبإشارة بعض المخلصين قمنا بتعليق بعض الفوائد المقتبسة من تقارير شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز -أمد الله في حياته -وقد كان درَّس لنا هذه العقيدة في السنة الرابعة الثانوية (بمعهد الرياض العلمي) فجاء هذا الشرح مع هذا التعليق وافيًا بمقصود الطالب، ومفيدًا للمدرس. والله نسأل أن ينفع به إنه خير مأمول وأكرم مسئول. الناشران عبد الرحمن بن رويشد سليمان بن حماد

[مقدمة المحقق]

[مقدمة المحقق] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الموصوف بصفات العظمة والكبرياء والكمال، المنزه عن الشريك، والنقص، والشبه، والمثال، وأشهد أنه المنفرد بالوحدانية المستحق لِإفراده بالعبودية في كل الأحوال، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم في العقائد، والأخلاق، والأقوال، والأفعال. أما بعد: فهذا تعليق لطيف على عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية المسماة بـ (الواسطية) التي جمعت على اختصارها ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وعقائده الصحيحة، وهي وإن كانت واضحة المعاني محكمة المباني - تحتاج إلى تعليق يزيد في توضيح بعض ما فيها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتبين وجه

[معنى الحمد]

دلالتها على المقصود، وبيان وجه ارتباط بعض المسائل ببعض، وجمع ما يحتاج إلى جمعه في موضع واحد والإشارة إلى بعض آثارها وفوائدها في القلوب والأخلاق، والتنبيه لكل ما يحتاج إلى التنبيه عليه. وأرجو الله أن يكون هذا التَعليق على هذا الوصف، وأن يكون خالصا لوجهه الكريم مقربا إليه نافعا، سهلا في ألفاظه ومعانيه. [معنى الحمد] قال المصنف رحمه الله: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا إقرارًا به وتوحيدًا وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا [اعتقاد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات] ثم قال المصنف: أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية (¬1) المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة وهو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره ـــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله؛ أي أن جميع أوصاف الكمال ثابتة لله على أكمل الوجوه وأتمها، ومما يحمد عليه نعمه على العباد التي لا يحصي أحد من الخلق تعدادها، وأعظمها إرساله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، بالهدى الذي هو العلم النافع ودين الحق الذي هو العمل الصالح، ليظهره على جميع الأديان بالحجة والبرهان وبالعز والسلطان، وكفى بالله شهيدًا على صدق رسوله وحقيقة ما جاء به، وشهادته ¬

(¬1) قول الفرقة الناجية: (أهل السنة والجماعة) في الأسماء والصفات هو: إثبات ما جاء في القرآن العظيم والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بجلال الله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، عملًا بقول الله تعالى: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " فنفى عن نفسه المماثلة وأثبت السمع والبصر، فدل ذلك على أن مراده سمع وبصر لا يماثلان أسماع الخلق وأبصارهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى بقوله وفعله، وتأييده لرسوله بالنصر والمعجزات والبراهين المتنوعة الدال كل واحد منها - فكيف بجميعها- على رسالته وصدقه، وأن جميع ما جاء به هو الحق من عقائد وأخلاق وآداب وأعمال وغيرها أي: أقر وأعترف مصدقًا ومعتقدًا أنه لا يستحق الألوهية- وهي التفرد بكل كمال- إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له. ولهذا قال: أي: بالقلب واللسان، أي: إخلاصًا لله في كل عبادة قولية أو عملية أو اعتقادية، وأعظم ما يوحد به ويتقرب إليه به تحقيق العقيدة السلفية المحتوي عليها هذا الكتاب، وبتحقيق العقيدة تصلح الأعمال وتقبل وتستقيم الأمور الشهادة للرسول بالرسالة والعبودية مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد، لا تكفي إحداهما عن الأخرى، ولا بد فيها من اعتراف العبد بكمال عبودية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي صلى الله عليه وسلم لربه وكمال رسالته المتضمنة لكماله صلى الله عليه وسلم وأنه فاق جميع البشر في كل خصلة كمال، ولا تسمى شهادة حتى يصدقه العبد في كل ما أخبر، ويطيعه في كل ما أمر وينتهي عما نهى عنه، وبهذه الأمور تتحقق الشهادة لله بالتوحيد، وللرسول بالرسالة. يقول المصنف رحمه الله: إن ما احتوت عليه هذه الرسالة هو العقيدة المنجية من الهلاك والشرور، المحصلة لخيري الدنيا والآخرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الموروثة عن محمد صلى الله عليه وسلم، المأخوذة عن كتاب الله وسنة رسوله، وهي التي عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، الذين ضمن الله لهم على لسان رسوله النصر إلى قيام الساعة. والنصر إنما حصل لهم ببركة هذه العقيدة والعمل بها وتحقيقها بالقيام بجميع أمور الدين. وأصلها الذي تبنى عليه: هو الإيمان بهذه الأصول الستة التي صرح بها الكتاب والسنة في مواضع كثيرة جملة وتفصيلًا وتأصيلًا وتفريعًا، وهي المذكورة في حديث جبريل المشهور حين قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فأجابه بذلك. فهذه الرسالة من أولها إلى آخرها تفصيل لهذه الأصول الستة. ذكر المصنف رحمه الله هذا الأصل والضابط العظيم في الإيمان بالله إجمالا قبل أن يشرع في التفصيل؛ ليبنى العبد على هذا الأصل جميع ما يرد عليه من الكتاب والسنة، فيستقيم له إيمانه ويسلم من الانحراف. فذكر أنه يجب ويتعين الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا سالمًا من التحريف والتعطيل، وسالمًا من التكييف والتمثيل، بل يثبت ما أثبته الله ورسوله

[فصل في الإيمان بالله]

[فصل في الإيمان بالله] [الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم] فصل في الأصل الأول وهو أصل الأصول كلها وأعظمها وأهمهما وعليه تنبني جميع الأصول والعقائد وهو: الإيمان بالله. قال المصنف رحمه الله ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف (¬1) ولا تعطيل (¬2) . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) التحريف معناه تغيير ألفاظ الأسماء والصفات أو تغيير معانيها، كقول الجهمية في "استوى": استولى، وكقول بعض المبتدعة: إن معنى الغضب في حق الله إرادة الانتقام، وأن معنى "الرحمة" كذلك إرادة الإنعام، وكل هذا تحريف. فقولهم في "استوى" استولى من تحريف اللفظ. وقولهم: "الرحمة" إرادة الأنعام و"الغضب" إرادة الانتقام من تحريف المعنى. والقول الحق أن معنى الاستواء الارتفاع والعلو كما هو صريح لغة العرب، وجاء به القرآن ليدل على أن معناه الارتفاع والعلو على العرش على وجه يليق بجلال الله وعظمته، وكذا الغضب والرحمة صفتان حقيقيتان تليقان بجلال الله وعظمته كسائر الصفات الواردة في القرآن والسنة. (¬2) التعطيل معناه سلب الصفات ونفيها عن الله تعالى، وهو مأخوذ من قولهم (جيد معطل) أي خال من الحلي، فالجهمية وأشباههم قد عطلوا الله عن صفاته؛ فلذلك سموا بالمعطلة، وقولهم هذا من أبطل الباطل؛ إذ لا يعقل وجود ذات بدون صفات، والقرآن والسنة متظافران على إثبات هذه الصفات على وجه يليق بجلال الله وعظمته.

ولا تكييف (¬1) ولا تمثيل (¬2) بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كُفُؤَ له، ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) التكييف معناه: بيان الهيئة التي تكون عليها الصفات، فلا يقال: كيف استوى؟ كيف يده؟ كيف وجهه؟ ونحو ذلك؛ لأن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى حذوه ويقاس عليه، فكما أن له ذاتًا ولا نعلم كيفيتها، فكذلك له صفات ولا نعلم كيفيتها؛ إذ لا يعلم ذلك إلا هو مع إيماننا بحقيقة فعناها. (¬2) أما التمثيل فمعناه: التشبيه، فلا يقال: ذات الله مثل ذواتنا أو شبه ذواتنا، وهكذا فلا يقال في صفاته: إنها مثل صفاتنا أو شبه صفاتنا، بل على المؤمن أن يلتزم قوله تعالى: "ليس كمثله شيء "، و " هل تعلم له سميًا " والمعنى: لا أحد يساميه؛ أي يشابهه. فائدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال: إذا قال لك المؤول: معنى الغضب إرادة الانتقام، والرحمة إرادة الأنعام، فقل له: وهل هذه الإرادة تشبه إرادة المخلوق، أم أنها إرادة تليق بجلاله وعظمته، فإن قال الأول: فقد شبه، وإن قال الثاني فقل: ولم لا تقول: رحمة وغضب يليقان بجلاله وعظمته، وبذلك تحجه وتخصمه.

[الإثبات المفصل والنفي المجمل في أسماء الله وصفاته]

ولا يقاس بخلقه سبحانه. فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب [الإثبات المفصل والنفي المجمل في أسماء الله وصفاته] وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي (¬1) والإثبات، فلا عدول لأهل السنة عما جاء ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) طريقة الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته: الإثبات المفصل، والنفي المجمل، فقد جمع فيما وصف به وسمى به نفسه بين النفي المجمل مثل قوله تعالى: " ليس كمثله شيء"، " ولم يكن له كفوا أحد"، "هل تعلم له سميا"، وكذلك قوله عليه السلام في حديث أبي موسى: " إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا" في حكم النفي المجمل؛ لأن الصمم والغيبة تتضمنان نفي نقائص كثيرة تلزم من صفتي الصمم والغيبة؛ لأن الأصم هو الذي لا يسمع ولا يصلح أن يكون إلها؛ لهذا النقص العظيم الذي يلزم منه عدم سماع دعاء الداعين وأصوات المحتاجين وغير ذلك من النقائص. كما أن الغيبة يلزم منها عدم اطلاعه على أحوال عباده وعدم علمه بما ينبغي أن يعاملهم به ونحو ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يزيد على ذلك ولا ينقص، فإن الكلام على ذات الباري وصفاته واحد، فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فله تعالى صفات لا تشبه الصفات، فمن مال إلى نفي الصفات أو بعضها فهو نافٍ معطل محرف، ومن كيّفها أو مثّلها بصفات الخلق فهو ممثل مشبه. والفرق بين التحريف والتعطيل: أن التعطيل نفي للمعنى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. والتحريف: تفسير للنصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدل عليها بوجه من الوجوه. فالتحريف والتعطيل قد يكونان متلازمين إذا أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق، وقد يوجد التعطيل بلا تحريف كما هو قول النافين للصفات، الذين ينفون الصفات الواردة في الكتاب والسنة ويقولون: ظاهرها غير مراد. ولكنهم لا يعينون معنى آخر، ويسمون أنفسهم مفوضة، ويظنون أن هذا مذهب السلف، وهو غلط فاحش، فإن السلف يثبتون الصفات. وإنما يفوضون علم كيفيتها إلى الله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيقولون: الوصف المذكور معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وإثباته واجب، والسؤال عن كيفيته بدعة، كما قال الإمام مالك وغيره في الاستواء. وأما قوله: (من غير تكييف ولا تمثيل) فالفرق بينهما: أن التكييف هو تكييف صفات الله والبحث عن كنهها، والتمثيل: أن يقال فيها مثل صفات المخلوقين. ونفي الكُفُؤ والند والسمي ينفي ذلك التكييف والتمثيل. وقوله: السميع والبصير ونحوها من إثبات أسماء الله وصفاته تنفي التعطيل والتحريف. فالمؤمن الموحد يثبت الصفات كلها على الوجه اللائق بعظمة الله وكبريائه. والمعطل ينفيها أو ينفي بعضها، والمشبه الممثل يثبتها على وجه يليق بالمخلوق. ونصوص الكتاب والسنة التي يتعذر إحصاؤها كلها تشترك في دلالتها على هذا الأصل وهو: إثبات الصفات على وجه الكمال الذي لا يشبهه كمال أحد، وهي في غاية الوضوح والبيان وأعلى مراتب الصدق، فإن الكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما يقصر بيانه ودلالته لأمور ثلاثة: إما جهل المتكلم وعدم علمه وقصوره. وإما عدم فصاحته وبيانه. وإما كذبه وغشه. أما نصوص الكتاب والسنة فإنها بريئة من هذه الأمور الثلاثة من كل وجه، فكلام الله ورسوله في غاية الوضوح والبيان وفي غاية الصدق، كما قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ونظيره قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] والرسول صلى الله عليه وسلم في غاية النصح والشفقة العظيمة على الخلق، وهو من أعلم الخلق وأصدقهم وأفصحهم، وأنصح الخلق للخلق، وهل يمكن أن يكون في كلامه شيء من النقص أو القصور؟ بل كلامه هو الغاية التي ليس فوقها غاية في الوضوح والبيان للحقائق، وهذا برهان على أن كلام الله وكلام رسوله يوصل إلى أعلى درجات العلم واليقين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحق النافع هو ما اشتمل عليه كلام الله وكلام رسوله في جميع الأبواب، لا سيما في هذا الباب الذي هو أصل الأصول كلها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا معنى قول المصنف في إيراده للآية الكريمة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] فسبح نفسه عما قاله المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، ثم قال: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] لدلالة الحمد على الكمال المطلق من جميع الوجوه. هذا الذي ذكر المصنف ضابط نافع في كيفية الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأنه مبني على أصلين أحدهما النفي وثانيهما الإثبات؛ أما النفي فإنه ينفي عن الله ما يضاد الكمال من أنواع العيوب والنقائص، وينفي عنه أيضًا أن يكون له شريك أو نديد أو شبيه في شيء من صفاته أو في حق من حقوقه الخاصة، فكل ما ينافي صفات الكمال فإن الله منزه عنه مقدس، والنفي مقصود لغيره، والقصد منه إثبات ما لم يرد نفي شيء منه في الكتاب والسنة عن الله إلا بقصد إثبات ضده، فنفي الشريك والنديد عن الله لكمال عظمته وتفرده بالكمال؛ ونفي السِّنة والنوم والموت لكمال حياته ونفي عزوب شيء عن علمه وقدرته (¬1) . ولهذا كان التنزيه والنفي لأمور مجملة عامة. ¬

(¬1) لكمال علمه وقدرته.

به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن (¬1) حيث يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) وجه كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن: أن القرآن خبر وإنشاء. والخبر ينقسم في كلام الله إلى قسمين: خبر عن الله وعن أسمائه وصفاته، وخبر عن خلقه من الجنة والنار، وأشراط الساعة، وجميع ما تضمنه الكتاب من وعد ووعيد، ومما كان أو سيكون. وهذه السورة تمحضت للخبر عن الله سبحانه فكانت تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار. ولقد دلت هذه السورة على أصول عظيمة يستفاد منها إثبات جميع صفات الكمال لله، ونفي جميع صفات النقائص والعيوب. كما دلت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الذات والصفات وذلك على سبيل المطابقة، وعلى توحيد الربوبية وذلك على طريق التضمن، وتوحيد العبادة بالالتزام؛ إذ إن دلالة الشيء على كل معناه يسمى مطابقة، ودلالته على بعضه يسمى تضمنا، وعلى ما يلزم من جهة الخارج يسمى التزاما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما الإثبات فإنه يجمع الأمرين: إثبات المجملات كالحمد المطلق، والكمال المطلق، والمجد المطلق ونحوها. وإثبات المجملات: كتفصيل علم الله وقدرته وحكمته ورحمته، ونحو ذلك من صفاته، فأهل السنة والجماعة لزموا هذا الطريق الذي هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وبلزومهم لهذا الطريق النافع تمت لهم النعمة، وصحت عقائدهم، وكملت أخلاقهم، أما من سلك غير هذا السبيل فإنه منحرف في عقيدته وأخلاقه وآدابه. هذا شروع في تفصيل النصوص الواردة في الكتاب والسنة الداخلة في الإيمان بالله، وأنه يجب فيها إثباتها ونفي التعطيل والتحريف والتكييف والتمثيل عنها، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، وذلك كما قال أهل العلم: إن القرآن يحتوي على علوم عظيمة كثيرة وهي ترجع إلى ثلاثة علوم: أحدها: علوم الأحكام والشرائع الداخل فيها علوم الفقه، كلها عبادات ومعاملات وتوابعهما.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] ودخل في ذلك ما وصف به نفسه في أعظم آية من القرآن، حيث يقول:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثاني: علوم الجزاء على الأعمال، والأسباب التي يجازى بها العاملون على ما يستحقون من خير وشر، وبيان تفصيل الثواب والعقاب. الثالث: علوم التوحيد، وما يجب على العباد من معرفته والإيمان به، وهو أشرف العلوم الثلاثة، وسورة الإخلاص كفيلة باشتمالها على أصول هذا العلم وقواعده. فإن قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أي: الله متفرد بالعظمة والكمال، ومتوحد بالجلال والجمال والمجد والكبرياء، يحقق ذلك قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] أي: الله السيد العظيم الذي قد انتهى في سؤدده ومجده وكماله، فهو العظيم الكامل في عظمته، العليم الكامل في علمه، الحكيم الكامل في حكمه، فهو الكامل في جميع نعوته وأسمائه وصفاته، ومن معاني الصمد أنه الذي تصمد إليه الخلق كلها وتقصده في جميع حاجاتها ومهماتها، فهو المقصود، وهو الكامل المعبود. فإثبات الوحدانية لله ومعاني الصمدية كلها يتضمن إثبات تفاصيل جميع الأسماء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنى والصفات العلي، فهذا أحد نوعى التوحيد، وهو الإثبات وهو أعظم النوعين، والنوع الثاني: التنزيه لله عن الولادة والند والكفؤ والمثل، وهذا داخل في قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4] أي: ليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير، فمتى اجتمع للعبد هذه المقامات المذكورة في هذه السورة، بأن نزه الله وقدسه عن كل نقص وند وكفؤ ومثيل، وشهد بقلبه انفراد الرب بالوحدانية والعظمة والكبرياء وجميع صفات الكمال التي ترجع إلى هذين الاسمين الكريمين وهما الأحد، الصمد، ثم صمد إلى ربه وقصده في عبوديته وحاجته الباطنة والظاهرة، متى كان كذلك- تم له التوحيد العلمي الاعتقادي والتوحيد العملي، فحق لسورة تشتمل على هذه المعارف أن تعدل ثلث القرآن. (وذلك لاشتمالها على أجل المعارف وأكمل الصفات، فأخبر أنه المتوحد في الألوهية، المستحق لإخلاص العبودية، وأنه الحي الكامل، كامل الحياة، وذلك يقتضي كمال عزته وقدرته، وسعة علمه، وشمول حكمته، وعموم رحمته، وغيرها من صفات الكمال الذاتية، وأنه القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع المخلوقات وقام بالموجودات كلها، فخلقها وأحكمها ورزقها ودبرها وأمدها بكل ما تحتاج إليه، وهذا الاسم يتضمن جميع الصفات الفعلية، ولهذا ورد أن الحي القيوم هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى؛

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ولهذا من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح (وقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وهو العلي الحكيم، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدلالة الحي على الصفات الذاتية والقيوم على الصفات الفعلية، والصفات كلها ترجع إليهما. ومن كمال قيوميته وحياته أنه لا تأخذه سنة -وهي النعاس- ولا نوم، ثم ذكر عموم ملكه للعالم العلوي والسفلي، ومن تمام ملكه أن الشفاعة كلها له، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ففيها ذكر الشفاعة التي يجب إثباتها وهي التي تقع بإذنه لمن ارتضى. والشفاعة المنفية التي يعتقدها المشركون وهي ما كانت تطلب من غير الله وبغير إذنه، فمن كمال عظمة الله أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وبين أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ثم ذكر سعة علمه فقال: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، أي: علمه محيط بالأمور الماضية والمستقبلة، فلا يخفى عليه منها شيء، وأما الخلق فلا يحيطون بشيء من علم الله، لا قليل ولا كثير، إلا بما شاء أن يعلمهم الله على ألسنة رسله وبطرق وأسباب متنوعة. وسع كرسيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: إنه العرش، وقيل: إنه غيره، وإنه كرسي بلغ من علمته وسعته أنه وسع السماوات والأرض، ومع ذلك فلا يئوده أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظهما؛ أي: حفظ العالم العلوي والسفلي، وذلك لكمال قدرته وقوته. وفيها بيان لعظيم نعمة الله على الخلق، إذ خلق لهم السماوات والأرض وما فيهما، وحفظهما وأسكنهما عن الزوال والتزلزل، وجعلهما على نظام بديع جامع للأحكام والمنافع المتعددة التي لا تحصى، {وَهُوَ الْعَلِيُّ} [البقرة: 255] الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات بكونه فوق جميع المخلوقات على العرش استوى. وعلو القدر: إذ إن له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها. {الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] الذي له جميع أوصاف العظمة والكبرياء، وله العظمة والتعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه الذي لا أعظم منه ولا أجل ولا أكبر، فحقيق بآية تحتوي على هذه المعاني الجميلة أن تكون أعظم آيات القرآن، وأن يكون لها من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المنع وحفظ قارئها من الشرور والشياطين ما ليس لغيرها. قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء الأربعة بتفسير مختصر جامع واضح حيث قال: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» . وهذا يدل على كمال عظمته وأنه لا نهاية لها، وبيان إحاطته من كل وجه. ففي الأول والآخر إحاطته الزمانية، وفي الظاهر والباطن إحاطته المكانية. ثم صرح بإحاطة علمه بكل شيء من الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة، ومن العالم العلوي والسفلي، ومن الظواهر والبواطن والواجبات والجائزات والمستحيلات، فلا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ذكر المصنف رحمه الله في هذا الموضوع عدة آيات، وكلها داخلة في الإيمان بالله، ويتضح معناها عمومًا وخصوصًا بذكر أصول وضوابط نوضحها فيما يأتي، منها: أن هذه النصوص القرآنية تنطبق عليها القاعدة المتفق عليها بين السلف؛ وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى وما دلت عليه من الصفات، وما نشأ عنها من الأفعال، مثال ذلك: القدرة، يجب علينا الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والإيمان بكمال قدرة الله، والإيمان بأن قدرته شاملة لجميع الكائنات، وبأنه عليهم ذو علم محيط، وأنه يعلم الأشياء كلها. وهكذا بقية الأسماء الحسنى على هذا النمط، في هذه الآيات التي ذكر المصنف من الأسماء الحسنى، فإنها داخلة في الإيمان بالله، وما فيها من ذكر الصفات، مثل عزة الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وإرادته، ومشيئته، وكلامه، وأمره، وقوله، ونحوها، فإنها

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام: 59] {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21 - 22] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ - تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14] {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]

{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219] {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا - وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16] {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92] {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬1) وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) وجه سياق هذه الآية ضمن آيات الصفات للدلالة على أن القول على الله بلا علم من أعظم المحرمات، بل إنه يأتي في مرتبة أعلى من مرتبة الشرك، حيث رتب المحرمات في هذه الآية من الأدنى إلى الأعلى، والقول على الله بلا علم يشمل القول عليه في أحكامه وشرعه ودينه، كما يشمل القول عليه في أسمائه وصفاته، وهو أعظم من القول عليه في شرعه ودينه. فسياق الآية الكريمة هنا للتنبيه على هذا. والله أعلم.

في سبعة مواضع من القرآن، وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]

{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]

{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101 - 103] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] وهذا الباب في كتاب الله كثير،

من تدبر القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الحق) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داخلة في الإيمان بالله، وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيدة، مثل {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 52] ويعلم كذا وكذا، ويحكم، ويريد، وسمع، ويسمع، ويرى، وأسمع وأرى وقال ويقول، وكلم ويكلم، ونادى وناجى، ونحوها من الأفعال، فإنها داخلة في الإيمان بأفعاله تعالى، فعلى العبد الإيمان بكل ذلك إجمالًا وتفصيلًا وإطلاقًا وتقييدًا على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، وأن يعلم أن صفاته لا تشبهها صفات المخلوقين، كما أن ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين. ومن الأصول المتفق عليها بين السلف التي دلت عليها هذه النصوص أن صفات الباري قسمان: صفات ذاتية: لا تنفك عنها الذات كصفة الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء، ونحوها كالعلو المطلق. وصفات فعلية: تتعلق بها أفعاله في كل وقت وآن وزمان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولها آثارها في الخلق والأمر، فيؤمنون بأنه تعالى فعال لما يريد، وأنه لم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور، وأن أفعاله تقع شيئًا فشيئًا، تبعًا لحكمه وإرادته، فإن شرائعه وأوامره ونواهيه الشرعية لا تزال تقع شيئًا فشيئًا، وقد دل على هذا الأصل الكبير ما في هذه النصوص من ذكر قال ويقول، وسمع ويسمع، وكلم ويكلم، ونادى وناجى، وعلم، وكتب ويكتب، وجاء ويجيء، وأتى ويأتي، وأوحى ويوحي، ونحوها من الأفعال المتنوعة التي تقع مقيدة بأوقاتها، كما سمعت في هذه النصوص المذكورة آنفًا، وهذا من أكبر الأصول وأعظمها. لقد صنف فيه المؤلف مصنفًا مستقلًا وهو المسمى بـ" الأفعال الاختيارية ". فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته، كالاستواء على العرش، والمجيء، والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا، والقول، ونحوها، والمتعلقة بخلقه كالخلق والرزق وأنواع التدبير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن الأصول الثابتة في الكتاب والسنة المتفق عليها بين السلف: التفريق بين مشيئة الله وإرادته وبين محبته. فمشيئة الله وإرادته الكونية تتعلق بكل موجود محبوب لله وغير محبوب، كما ذكر في هذه الآيات أن الله يفعل ما يريد (¬1) . وما يشاء، وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون. ¬

(¬1) من أصول أهل السنة والجماعة إثبات مشيئة الرب العامة، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لا يكون، كما أن من أصولهم الثابتة إثبات صفة الإرادة، وهي قسمان: إرادة كونية قدرية كالمشيئة، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء كالمشيئة، فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء، فالطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كلها بمشيئة الرب وإرادته الكونية. وقد ذكر سبحانه هذه الإرادة في قوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا " الآية، وقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله: " إن ربك فعال لما يريد ". القسم الثاني من الإرادة: الإرادة الشرعية الدينية، وتتضمن محبة الرب للمراد ورضاه به. وهذه الإرادة لا يلزم وجود مرادها، بل قد يوجد وقد لا يوجد، فالله سبحانه قد أراد من عباده شرعًا أن يعبدوه ويطيعوه، فمنهم من عبده وأطاعه، ومنهم من لم يفعل ذلك. وبهذا يعلم أن الإرادتين تجتمعان في حق المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي؛ لأن الله لم يرد منه المعصية شرعًا، بل قد نهاه عنها، وقد ذكر الله هذه الإرادة بقوله: " يريد الله أن يتوب عليكم " وقوله: " يريد الله بكم اليسر " ومن عرف الفرق بين هاتين الإرادتين سلم من شبهات كثيرة زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما محبته فإنها تتعلق بما يحبه خاصة من الأشخاص والأعمال، كما ذكر في هذه الآيات تقييدها بأنه يحب الصابرين والمتقين والمؤمنين والمحسنين والمقسطين ونحوها، فمشيئته عامة للكائنات، ومحبته خاصة ومتعلقة بالمحبوبات. ويتفرع عن هذا أصل آخر، وهو التفريق بين الإرادة الكونية فإنها تطابق المشيئة، وبين الإرادة الدينية فإنها تطابق المحبة، فالأولى مثل: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج: 14]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ونحوها. والثانية نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] ونحوها. ومن أصول أهل السنة والجماعة الثابتة: إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه (¬1) فائدة نفيسة: ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته أقسام: منها: ما ورد بلفظ الاسم على وجه التسمي به، كالعزيز والحكيم والغفور وشبه ذلك. فهذا القسم يوصف به الرب، ويسمى به ويشتق له منه فعل، ويثبت له منه مصدر؛ كالعزة والحكمة والمغفرة. ومنها: ما ورد بلفظ الاسم على وجه الإضافة، فهذا يطلق على الله بلفظ الإضافة ولفظ الفعل، ولا يشتق له منه اسم، مثل قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " يجوز أن نقول: الله خادع المنافقين، ويخادع من خدعه، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نعد من أسمائه الخادع؛ لعدم وروده، ولأن إطلاق الخادع يحتمل الذم والمدح، فلا يجوز إطلاقه في حق الله. ومنها: ما ورد بلفظ الفعل فقط، كالكيد والمكر، فهذا لا يطلق على الله إلا بلفظ الفعل، كقوله سبحانه وتعالى: " إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا " وقوله: " ومكروا ومكر الله " ولا يجوز أن من أسمائه سبحانه الكائد والماكر، لما تقدم. وإنما جاز وصف الرب بالخداع والمكر والكيد في الآيات المشار؛ لأنه في مقابل خداع أعدائه ومكرهم وكيدهم، ومعاملتهم بمثل ما فعلوا مدح وعدل يستحق عليه المدح والثناء. * فائدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام وغيره: وهي أن صفات الرب القولية والفعلية قديمة النوع حادثة الآحاد، كالكلام، والخلق والرزق، والنزول، وأشباه ذلك ونحو ذلك، فجنس الكلام والخلق والرزق والنزول قديم، وأنواعه تحدث شيئا فشيئا على حسب حكمة الرب سبحانه، كما في قوله تعالى: " ما يأتهم من ذكر من ربهم محدث " الآية، وكخلق آدم بعد أن لم يكن مخلوقا، وغير ذلك، وهكذا الرزق والكلام. وأما صفات الذات كاليد والقدم والسمع والبصر فهي صفات قديمة كالذات (¬2) ¬

(¬1) إثبات علو الله على خلقه وإقرار العقول بذلك أمر فطري فطر الله عليه العباد. وأما الاستواء فأثبته السمع من كتاب الله وسنة رسوله، وليس في العقول ما يخالف ذلك، وحقيقته لغة: الارتفاع والعلو. وأما الكيفية فهي مما اختص الله بعلمه. وأما تفسير الاستواء بالاستيلاء فهو باطل من وجوه كثيرة؛ منها: أنه يتضمن أن الله جل وعلا كان مغلوبا على عرشه ثم غلب، وهذا باطل؛ لأنه تعالى لم يزل قاهرا لجميع خلقه مستوليا على العرش فما دونه. وأما بيت الًأخطل الذي يستدلون به على أن معنى استوى استولى، فلا حجة فيه، والبيت هو: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق لأن استعمال استوى بمعنى استولى غير معروف في لغة العرب؛ ولأن ذلك لو وجد في اللغة لم يجز استعماله في حق الله، وأما المخلوق فيكون غالبا ومغلوبًا، كبشر هذا، فإنه كان مغلوبا على أمر العراق ثم غلب. (¬2) وهي أهم الأصول التي باين بها أهل السنة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فما في هذه الآيات من ذكر علو الله واسمه العلي الأعلى، وصعود الأشياء إليه وعروجها ونزولها منه يدل على العلو، وما صرح به من استوائه على العرش برهان قاطع على ثبوت ذلك. وقد قيل للإِمام مالك: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه -أي عن الكيفية- بدعة) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن أصول أهل السنة والجماعة إثبات معية الله (¬1) . كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] وهذه المعية تدل على إحاطة علمه بالعباد ومجازاته لهم بأعمالهم. وفيها ذكر المعية الخاصة كقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وهذه الآيات تدل -مع العلم المحيط- على العناية بمن تعلقت الله تلك المعية وأن الله معهم بعونه وحفظه وكلاءته وتوفيقه. ¬

(¬1) المعية صفة من صفات الله وهي قسمان: معية خاصة لا يعلم كيفيتها إلا الله كسائر صفاته، وتتضمن الإحاطة، والنصرة، والتوفيق، والحماية من المهالك، ومعية عامة تتضمن علم الرب بأحوال عباده وإطلاعه على جميع أحوالهم وتصرفاتهم الظاهرة والباطنة، ولا يلزم منها الاختلاط والامتزاج؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، فعلوُّه على خلقه لا ينافي معيته لعباده بخلاف المخلوق، فإن وجوده في مكان وجهة يلزم منه عدم إطلاعه على المكان الآخر والجهة الأخرى، والرب ليس كمثله شيء لكمال علمه وقدرته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أردت أن تعرف هل المراد المعية العامة أو الخاصة، فانظر إلى سياق الآيات: فإن كان المقام مقام تخويف ومحاسبة للعباد على أعمالهم، وحث على المراقبة، فإن المعية عامة، مثل قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 7] الآية، وإن كان المقام مقام لطف وعناية من الله بأنبيائه وأصفيائه، وقد رتبت المعية على الاتصاف بالأوصاف الحميدة، فإن المعية معية خاصة، وهو أغلب إطلاقاتها في القرآن، مثل: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ونحوها. ومن الأصول العظيمة: إثبات تفرد الرب بكل صفة كمال، وأنه ليس لله شريك ولا مثيل في شيء منها، والنصوص المذكورة التي فيها نفي الند والمثل والكفؤ والسمي عن الله تدل على ذلك، وتدل على أنه منزه عن كل عيب ونقص وآفة. ومن أصول أهل السنة والجماعة الثابتة: إثبات رؤية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤمنين لربهم في دار القرار، والتنعم برؤيته وقربه ورضاه. ويدل على ذلك من الآيات التي ذكرها المصنف قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] أي جميلة ناعمة حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وهذا صريح في نظرهم إلى ربهم، وكذلك قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23] أي إلى ما أعطاهم من النعيم الذي أجله وأعظمه النظر إلى ربهم، وكذلك قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس: 26] أي: وفوا مقام الإحسان {الْحُسْنَى} [يونس: 26] التي هي الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وهي النظر إلى الله الكريم، وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] أي: إيمانًا خاليًا من التعطيل والتحريف ومن التكييف والتمثيل، بل إثبات لها على الوجه اللائق بعظمة الرب. وحكم السنة حكم القرآن- في ثبوت العلم واليقين والاعتقاد والعمل، فإن السنة توضح القرآن وتبين مجمله وتقيد مطلقه، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي السنة، وقال تعالى: 30 {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني أغفر له؟» (متفق عليه. فهذا الحديث قد استفاض في الصحاح والسنن والمسانيد، واتفق عليه تلقيه بالقبول والتصديق بين أهل السنةَ والجماعة، بل بين جميع المسلمين الذين لم تغيرهم البدع، وعرفوا به عظيم رحمة ربهم، وسعة جوده، واعتنائه بعباده، وترضه لحوائجهم الدينية والدنيوية، وأن نزوله حقيقة كيف يشاء، فيثبتون النزول كما يثبتون جميع الصفات التي تثبت في الكتاب والسنة، ويقفون عند ذلك فلا يكيفون ولا يمثلون ولا ينفون ولا يعطلون، ويقولون: إن الرسول أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل، وقد علمنا أنه فعال لما يريد، وعلى كل شيء قدير؛ ولهذا كان خواص المؤمنيِن يتعرضون في هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوقت الجليل لألطاف ربهم ومواهبه، فيقومون بعبوديته خاضعين خاشعين داعين متضرعين، يرجون منه حصول مطالبهم التي وعدهم إياها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعلمون أن وعده حق، ويخشون أن ترد أدعيتهم بذنوبهم ومعاصيهم، فيجمعون بين الخوف والرجاء، ويعترفون بكمال نعمة الله عليهم، فتمتلئ قلوبهم من التعظيم والإيمان لربهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته» الحديث. متفق عليه. وهذا فرح جود وإحسان؛ لأنه جل جلاله ينوع جوده وكرمه على عباده في جميع الوجوه، ويحب من عباده أن يسلكوا كل طريق يوصلهم إلى رحمة الله وإحسانه، ويكره لهم ضد ذلك، فإنه تعالى جعل لرحمته وكرمه أسبابا بينها لعباده وحثهم على سلوكها، وأعانهم عليها، ونهاهم عما ينافيها ويمنعها، فإذا عصوه وبارزوه بالذنوب فقد تعرضوا لعقوباته التي لا يحب منهم أن يتعرضوا لها، فإذا رجعوا إلى التوبة والإنابة فرح بذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعظم فرح يقدر، فإنه ليس في الدنيا نظير فرح هذا الذي في أرض فلاة مهلكة، وقد انفلتت منه راحلته التي عليها مادة حياته من طعام وشراب وركوب، فأيس منها، وجلس ينتظر الموت، فإذا هو بها واقفة على رأسه، فأخذ بحطامها وكاد الفرح أن يقضي عليه، وقال من الدهشة وشدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فتبارك الرب الكريم الجواد الذي لا يحصى العباد ثناءًا عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهذا الفرح تبع لغيره من الصفات، كما تقدم أن الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات، فهذا فرح لا يشبه فرح أحد من خلقه لا في ذاته ولا في أسبابه ولا في غاياته، فسببه الرحمة واللاحسان، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدها الآخر كلاها يدخل الجنة» (متفق عليه) . وهذا أيضًا من: كمال وجمال إحسانه وسعة رحمته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن المسلم يقاتل في سبيل الله ويقتله الكافر، فيكرم الله المسلم بالشهادة، ثم يمن الله على ذلك الكافر والقاتل فيهديِه للإِسلام، فيدخلان الجنة جميعا، وهذا من تفريع جوده المتتابع على عباده من كل وجه، والضحك يكون من الأمور المعجبة التي تخرج عن نظائرها، وهذه الحالة المذكورة كذلك، فإن تسليط الكافر على قتل المسلم في بادئ الأمر أمر غير محبوب، ثم هذا المتجرئ على القتل يتبادر لأذهان كثير من الناس أنه يبقى على ضلاله ويعاقب في الدنيا والآخرة، ولكن رحمة الله وإحسانه فوق ذلك كله، وفوق ما يظن الظانون ويتوهم المتوهمون. وكذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على أناس من رؤساء المشركين لعنادهم وأذيتهم بالطرد عن رحمة الله أنزل الله قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] الآية، فتاب عليهم بعد ذلك وحسن إسلام كثير منهم. وهذا العجب الذي وصف الرسول به ربه من آثار رحمة الله، وهو من كماله تعالى، والله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته. فإذا تأخر الغيث عن العباد مع فقرهم وشدة حاجتهم استولى عليهم اليأس والقنوط، وصار نظرهم قاصرًا على الأسباب الظاهرة، وحسبوا أن لا يكون وراءها فرج من القريب المجيب، فيعجب الله منهم، وهذا محل عجب، كيف يقنطون ورحمته وسعت كل شيء، والأسباب لحصولها قد توفرت، فإن حاجة العباد وضرورتهم من الأسباب لرحمته والدعاء لحصول الغيث، والرجاء لله من الأسباب، ووقوع الغيث بعد امتناعه مدة طويلة وحصول الضرورة يعجب أن يكون الفضل لله وإحسانه موقع كبير وأثر عجيب، كما قال تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 48 - 49] الآيات. والله تعالى قدر من

فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب» حديث حسن وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله» وفي رواية: «عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط» (متفق عليه. «فيقول الله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألطافه وعوائده الجميلة أن الفرج مع الكرب، وأن اليسر مع العسر، وأن الضرورة لا تدوم، فإن حصل مع ذلك قوة التجاء وشدة طمع بفضل الله ودعاء فتح الله عليهم من خزائن جوده ما لا يخطر بالبال، ولفظة: "قرب خيره" رويت في بعض الأحاديث بلفظة "غيره" أي: تغييره الشدة بالرخاء. وهذه الصفة تجري مجرى بقية الصفات وتثبت لله حقًا على الوجه اللائق بعظمته، وذلك أن الله وعد النار ملئها، كما قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] فلما كان من مقتضى رحمته أن لا يعذب أحدًا بغير جرم، وكانت النار في غاية الكبر والسعة، حقق وعده تعالى ووضع عليها قدمه، فتلاقى طرفاها ولم يبق فيها فضل عن أهلها. وأما الجنة فإنه يبقى فيها فضل عن أهلها مع كثرتهم ، ففي هذا الحديث إثبات القول من الله والنداء لآدم وأنه نداء حقيقة بصوت، وهذا من فضل الله لا يشكل على المؤمنين، فإن النداء والقول من أنواع الكلام، وكلام الله صفة من صفاته، والصفة تتبع الموصوف، وفيها أن القول والنداء يكون في يوم القيامة، وهذا من أدلة الأفعال الاختيارية، وكم لهذه المسألة من براهين من الكتاب والسنة. وهذا أيضا: إثبات لتكليمه لجميع العباد بلا واسطة. وتكليمه لعباده نوعان: نوع بلا واسطة: كما في الحديث، فالتكليم هنا تكليم محاسبة ويكون مع البر والفاجر، وأما قوله تعالى: لا يكلمهم الله فالمنفي كلام خاص، وهو الكلام الذي يسر المكلم. ونوع بواسطة: وهو: كلامه تعالى لرسله من الملائكة

تعالى: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: "إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» (متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان» وقوله: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» حديث حسن. وقوله: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأمره ونواهيه وإخباره لأنبيائه ورسله من البشر. وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: «ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ» . حديث حسن رواه أبو داود. وقوله: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» حديث صحيح. وقوله: «والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» حديث حسن رواه أبو داود وغيره. وقوله للجارية: «أين الله؟ " قالت: في السماء فقال: "من أنا" قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم. فهذه النصوص وغيرها المصرحة بأنه تعالى في السماء حق على حقيقتها، و "في" تكون بمعنى: (على) كما قاله كثير من أهل العلم واللغة، وقد وردت في مواضع كثيرة على هذا النحو، قال تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها، وقال طائفة من أهل العلم إن معنى "في السماء" أي: في جهة وعلى الوجهين، فهي نص في علو الله على خلقه، وفي حديث الرقية المذكور توسل إلى الله بالثناء عليه بربوبيته وألوهيته وقدسيته وعلوه وعموم أمره الشرعي أمره القدري. فإن الله له الأمر القدري الذي ينشأ عنه الموجودات والحوادث والتدابير القدرية، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] وله الأمر الشرعي المتضمن الشرائع التي شرعها لعباده على رسله. فتوسل إلى الله بذلك ثم توسل إليه برحمته التي شملت أهل السماوات كلهم أن يجعل لأهل الأرض نصيبا وافرًا منها، ثم توسل إليه بسؤال مغفرة الحوب وهو الذنب العظيم والخطايا وما دونها، ثم بربوبيته الخاصة للطيبين وهم الأنبياء وأتباعهم الذين غمرهم بنعم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين والدنيا الظاهرة والباطنة. فهذه الوسائل المتنوعة لا يكاد يرد دعاء من توسل بها؛ فلهذا دعا الله بعدها بالشفاء الذي لا يدع مرضا إلا أزاله. وفي شهادة الرسول بالإيمان للجارية التي اعترفت بعلو الله ورسالة رسوله دليل على أن من أعظم أوصاف الباري الاعتراف بعلوه على خلقه ومباينته لهم، وأنه على العرش استوى، وأن هذا أصل الإيمان، وأن من أنكر علو الله المطلق من كل وجه فقد حرم هذا الإيمان. وقوله: «والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» فيه الجمع بين الإيمان بعلوه على عرشه وفوق مخلوقاته، وبإحاطة علمه بالموجودات كلها، وقد جمع بين الأمرين في عدة مواضع من كتابه. هذان الحديثان دلا على أن أفضل الإيمان: مقام الإحسان والمراقبة، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتعلم أن الله معك، لا تتكلم ولا تفعل ولا تتصرف إلا والله يراك ويشاهدك ويعلم درك وجهرك، وأن تلزم الأدب مع الله، خصوصا إذا دخلت في الصلاة التي هي أعظم صلة ومناجاة بين العبد وربه، فتخضع وتخشع وتعلم أنك واقف بين يدي الله، فتقلل من الحركات، ولا تسيء الأدب معه بالبصاق أمامك أو عن يمينك، فهذه المعية متى حصل للعبد استحضارها في كل أحواله لا سيما عباداته فإنها أعظم عون على المراقبة التي هي أعلى مراتب الإيمان، فيجمع العبد بين الإيمان بعلو الله واستحضار قربه، ولا منافاة بين الأمرين، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله. وقد تواترت النصوص في رؤية الله لأهل الجنة، وأنهم يرون ربهم ويتمتعون بمشاهدته، وهي تدل على أمرين: على علوه على خلقه؛ لأنها صريحة في أنهم يرونه من فوقهم، وعلى أن أعظم النعيم نعيم النظر إلى وجهه الكريم. وحثه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على صلاة العصر وصلاة الفجر خصوصًا: فيه إشارة على أن من حافظ عليهما نال هذا النعيم الكامل الذي يصغر عنده كل نعيم، وهذا يدل على تأكدهما كما دل على ذلك الحديث الآخر: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» . الحديث متفق عليه. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فهذه الأمة وسط بين الأمم التي تميل إلى الغلو والإفراط، والأمم التي تميل إلى التفريط المهلك. فمن الأمم من غلا في المخلوقين وجعل لهم من صفات الخالق وحقوقه ما جعل، ومنهم من جفا الأنبياء وأتباعهم حتى قتلهم ورد دعوتهم، وهذه الأمة آمنت بكل رسول أرسله الله، واعتقدت رسالتهم، وعرفت مقاماتهم الرفيعة التي فضلهم الله بها، ولم يغلوا في أحد منهم، ومن الأمم من أحلت كل طيب خبيث، ومنهم من حرم الطيبات غلوًا ومجافاة. وهذه

لكن عن يساره أو تحت قدمه» (متفق عليه. وقوله: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة

البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل على طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا» (متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما أخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة

[فصل في استواء الرحمن على عرشه]

والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة وسط في جميع الأمم وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم وفي أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين الجهمية والمرجئة وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج [فصل في استواء الرحمن على عرشه] فصل فإن المصنف رحمه الله: وقد دخل فيما ذكرناه من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمة أحل الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، ونحو ذلك من الأمور التي منَّ الله على هذه الأمة بالتوسط فيها. وكذلك أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم فهم وسط (¬1) ¬

(¬1) يمتاز أهل السنة والجماعة على غيرهم من الفرق أهل الضلالة والبدع بأنهم وسط وموافقون للحق في جميع أبواب العلم والدين، فلم يغلوا ولم يفرطوا كفعل أهل البدع، فهم وسط في باب صفات الله بين الجهمية المعطلة والمشبهة، فالجهمية نفوا صفات الباري والمشبهة، أثبتوها وغلوا في إثباتها حتى شبهوا الله بخلقه. وأما أهل السنة فأثبتوها على الوجه اللائق بجلاله من غير تشبه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية؛ لأن الجبرية غلوا في إثبات القدر وزعموا أن العبد لا فعل له، بل هو بمثابة الشجرة التي تحركها الريح يمنة ويسرة. والقدرية فرطوا بجانب الله، وقالوا: إن العبد يخلق فعله بدون مشيئة الله وإرادته. وأهل السنة توسطوا وقالوا: للعبد اختيار ومشيئة، وليس يخلق فعله بل الله خالقه وخالق أفعاله، وقالوا: إن مشيئته وإرادته بعد مشيئة الله وإرادته، كما قال سبحانه: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين "، وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم؛ لأن المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، وزعموا أن العاصي لا يدخل النار، والوعيدية من القدرية وأشباههم أنفذوا الوعيد الوارد في حق العصاة، وقالوا: إن السارق والزاني ونحوهم من العصاة إذا لم يتوبوا مخلدون في النار. وأهل السنة توسطوا في ذلك فقالوا: إن المعاصي تنقص الإيمان، وصاحبها تحت المشيئة، وقد يدخل النار، ولكن لا يخلد فيها كما جاءت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية؛ لأن الحرورية والمعتزلة يقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، فمن أتى بكبيرة كالزنا ونحوه كفر عند الحرورية وصار فاسقًا عند المعتزلة خالدًا في النار، ويقولون: إنه في الدنيا ليس مؤمنًا ولا كافرًا، ولكن جعلوه في منزلة بين المنزلتين وهي الفسق. وأما المرجئة: وهم الذين يقولون إن الإيمان قول فقط أو قول وتصديق بالقلب - فهم يرون أن المعاصي لا تنقص الإيمان ولا يستحق صاحبها النار إذا لم يستحلها، والجهمية مثل المرجئة؛ لأنهم يقولون: إن الإيمان مجرد المعرفة. فأهل السنة توسطوا بين هذه الطوائف الأربع، فقالوا: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقالوا: إن العاصي لا يكون كافرًا لمجرد المعصية، ولا مخلدًا في النار خلافًا لقول الخوارج والمعتزلة. وقالوا أيضًا: إن المعاصي تنقص الإيمان، ويستحق صاحبها النار إلا أن يعفو الله عنه، خلافًا للجهمية والمرجئة. وهم وسط في أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج؛ لأن الرافضة غلو في على وأهل البيت، والخوارج كفروا بعض الصحابة وفسقوا بعضهم، وأهل السنة خالفوا الجميع، فوالوا جميع الصحابة، ولم يغلوا في أحد منهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في باب صفات الله تعالى بين الجهمية أهل التعطيل وبين المشبهة أهل التمثيل كما تقدم بيان ذلك، وأن أهل السنة يثبتون جميع ما ثبت في النصوص من صفات الله على حقيقتها اللائقة بعظمة الباري ، فإن الجبرية يزعمون أن العبد مجبور على أفعاله لا قدرة له عليها، وأن أفعاله بمنزلة حركات الأشجار، وكل هذا غلو منهم في إثبات القدر. والقدرية قابلوهم فنفوا متعلق قدرة الله بأفعال العباد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تنزيهًا لله بزعمهم. فأفعال العباد عندهم لا تدخل تحت مشيئة الله وإرادته، وكل من هاتين الطائفتين ردت طائفة كبيرة من نصوص الكتاب والسنة. وهدى الله أهل السنة والجماعة للتوسط بين الطائفتين المنحرفتين، فآمنوا بقضاء الله وقدره، وشمولهما للأعيان والأوصاف والأفعال التي من جملتها أفعال المكلفين وغيرهم، وآمنوا بأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وآمنوا مع ذلك بأن الله تعالى جعل للعباد قدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم على حسب اختيارهم وإرادتهم، فآمنوا بكل نص فيه تعميم قدرة ومشيئة، وبكل نص فيه إثبات أن العباد يعملون ويفعلون كل الأفعال الكبيرة والصغيرة بإرادتهم وقدرتهم، وعلموا أن الأمرين لا يتنافيان، كما سيأتي توضيح ذلك. وذلك أن المرجئة جعلت الإيمان تصديق القلب فقط، وأخرجت عنه جميع الأعمال الباطنة والظاهرة،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجوزوا على الله أن يعذب المطيعين وأن ينعم العاصين، وأما الوعيدية من القدرية فخلدوا في النار كل من مات مصرًا على الكبائر التي دون الشرك، فانحرفت كل واحدة وردت؛ لأجل ذلك من النصوص ما ردت، وهدى الله أهل السنة والجماعة، فتوسطوا، وقالوا: إن الإيمان اسم لجميع العقائد الدينية والأعمال القلبية والبدنية، وأنه يكون ناقصًا إذا تجرأ المؤمن على المعاصي بدون توبة، وأن الله لا يظلم من عباده أحدا، ولا يعذب الطائعين بغير جرم ولا ذنب، وأنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولو فعل الكبائر، كما تواترت بذلك النصوص في الكتاب والسنة. وقد تقدم ذلك، لكن الفرق بين الحروريه والمعتزلة: أن الحرورية -وهم الخوارج- يطلقون الكفر على العصاة من المؤمنين ويخلدونهم في النار، وأما المعتزلة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يطلقون عليهم الكفر، بل يقولون: إنهم لا مسلمون ولا كفار، ولكنهم يخلدون في النار، كما تقول الخوارج، والنصوص ترد قولهم جميعًا. فإن الرافضة تسبهم وتلعنهم، وربما كفرتهم أو كفرت بعضهم، وأما الرافضة الغالية فإنهم مع سبهم لطائفة من الصحابة وللخلفاء الثلاثة فإنهم يغلون في علي ويدعون فيه الألوهية، وهم الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار. وقابلهم الخوارج فقاتلوه وقاتلوا الصحابة وكفروهم واستحلوا دماءهم ودماء المسلمين. وهدى الله أهل السنة والجماعة، فاعترفوا بفضل الصحابة جميعا، وأنهم أعلى الأمة في كل خصلة، ومع ذلك فلم يغلوا ولم يعتقدوا عصمتهم، بل قاموا بحقوقهم وأحبوهم لما لهم من الحق الأكبر على جميع الأمة. كما سيأتي. شرح المصنف رحمه الله في هذا الفصل مسألة علو الله واستوائه على عرشه، وأن ذلك داخل في الإيمان بالله، وذلك لما حصل في هذه المسألة من الاختلاف والمخاصمات لله بين أهل السنة والجماعة وبين طوائف الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم في هذه المسألة من الأشعرية ونحوهم. فإن مسألة العلو صنفت فيها المصنفات المستقلة، وأورد أهل السنة من نصوص الكتاب والسنة ما لا يمكن أو دفع بعضه، وحققوا ذلك بالعقل الصحيح، وأن

الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة، من أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه، وهو تعالى معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين في ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] وليس معنى قوله وهو معكم أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موجود في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الذي ذكر الله من أنه فوق العرش

[فصل في الإيمان بأن الله تعالى قريب]

وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله: "في السماء" أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره [فصل في الإيمان بأن الله تعالى قريب] فصل قال المصنف رحمه الله: (وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا} [البقرة: 186] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو في دنوه قريب في علوه) . [فصل في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق] فصل قال المصنف: ومن الإيمان به وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعوده، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك أن يكون كلام الله حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفطر والعقول معترفة بل ومضطرة إلى الإيمان بعلو الله، إلا من غيرت فطرته العقائد الباطلة. وقد بين المصنف في هذا الموضوع الجمع بين الإيمان بعلو الله وإثبات معيته وعلمه المحيط، وحققه في كلام واضح، مبين بالأمثلة المقربة للمعاني بما لا مزيد عليه. خصص المصنف رحمه الله هذا البحث بهذين الأمرين؛ وذلك لشدة الحاجة إلى الإيمان بقربه وإجابته؛ ليكون العبد مراقبًا لله إذا آمن بقربه إيمانا تامًا، وكان منيبًا إليه على الدوام إذا آمن بإجابته للسائلين وإثابته للمطيعين. ثم ذكر رحمه الله الجمع بين الإيمان بعلو الله وقربه ومعيته؛ لئلا يظن الظان أن ذلك مثل صفات المخلوقين، وأنه إذا قيل إنه علي فوق خلقه كيف يكون معهم وقريبًا منهم؟ فأجاب بما تضمنه هذا الأصل الثابت في الكتاب السنة وإجماع الأمة، وهو أن اللهّ تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، ومن نعوته اللازمة العلو المطلق والقرب العام والخاص، وأن القرب والعلو في حقه يجتمعان لعظمته وكبريائه وإحاطته من كل وجه، فهو العلي في دنوه، القريب في علوه، وهذا الأصل ينفعك في كل ما ورد عليك من صفات اللهّ الثابتة، فأثبتها ولا تتوقف، فإن الذي أثبتها هو الله الذي هو أعلم بنفسه، ورسوله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي هو أعلم الخلق وأورعهم وأنصحهم للمخلوقين، فإن خطر ببالك تمثيل أو تشبيه فتفطن لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وكذلك أيضا فإن الكلام على الصفات مثل الكلام على الذات؛ فكما أنه لا نظير له ولا مثيل له في ذاته، فكذلك لا مثيل له ولا نظير له في صفاته. (ووجه ذلك وأنه داخل في الإيمان بالله وبكتبه- أن الإيمان بكلام الله على هذا الوصف الذي ذكره المصنف وأنه من الإيمان بالله؛ لأنه وصفه، والكلام صفة للمتكلم. فإن الله تعالى موصوف بأنه متكلم إذا شاء بما شاء، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلم، وكلامه تعالى لا ينفد ولا يبيد، ونوع الكلام أزلي أبدي ومفرداته لا تزال تقع شيئا فشيئا بحسب حكمة الله تعالى، والله تعالى أضافه إلى نفسه في قوله: " كلام الله " إضافة الصفة لموصوفها، فدل على أنه كلامه لفظه ومعناه ووصفه، وإذا كان كذلك كان غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق من المعتزلة فقد أعظم الفرية على الله، ونفى كلام الله عن الله وصفا وجعله وصفا للمخلوق، ومن زعم أن القرآن الموجود بيننا عبارة عن كلام الله أو حكاية

إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف فيؤمنون بفتنة القبر وبعذابه ونعيمه: فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: (من ربك؟ وما في دينك؟ وما نبيك) فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا، وتدنوا منهم الشمس، ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد، (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال، والعاملين، والصحائف- أنه لا منافاة بينها، فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه كما قاله الكلاّبية والأشعرية فقد قال بنصف قول المعتزلة. فالقرآن كلام الله حيث تصرف، سواء كان محفوظًا في الصدور أو متلوًا بالألسنة أو مكتوبًا في المصاحف، فلا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، كما قال المصنف. فإن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا. وقول السلف: (كلام الله منه بدأ) أي: هو الذي تكلم به لا غيره وقوله: (إليه يعود) أي يرجع، أي يوصف الله به. وقيل: إن المراد بذلك ما ورد من أن من أشراط الساعة أن يرفع القرآن من الصدور والمصاحف، والأول أولى. وهذه المسألة - مسألة الكلام- عظيمة تكلم فيها الناس على اختلاف طرائقهم. ولكن المصنف ذكر في هذا الفصل كلامًا في التكلم جامعًا نافعًا مأخوذًا من الأدلة الشرعية العقلية والنقلية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما كون هذا داخلا في الإيمان بكتبه فإن الإيمان بالكتب وخصوصا القرآن يقتضي أن يؤمن العبد بكل ألفاظها ومعانيها وما دلت عليه من العقائد والمعاني الجليلة، فمن لم يؤمن بجميع ذلك فلن يتم إيمانه. واعلم أن المؤمنين بالقرآن على قسمين: كاملين، وناقصين. أما الكاملون: فإنهم أقبلوا على القرآن فتفهموا معانيه، ثم آمنوا بها واعتقدوها كلها، وتخلقوا بأخَلاقها، وعملوا بما دل عليه امتثالًا لأوامره واجتنابًا لنواهيه، ولم يفرقوا بين نصوصه كحال أهل البدع الذين آمنوا ببعض دون بعض. وأما الناقصون: فهم قسمان: قسم مبتدعون، وقسم فاسقون ظالمون. أما المبتدعون: فكل من ابتدع بدعة ترك لها شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وهؤلاء على مراتبهم في البدعة بحسب ما خالفوا فيه. وأما الفاسقون فهم الذين عرفوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه يجب عليهم الإيمان بالكتاب والعمل به، فاعترفوا بذلك ولكن أعمالهم ناقضت أقوالهم فتجرءوا على مخالفة الكتاب بترك كثير من واجباته والاقتحام على كثير مما نهى عنه من غير أن يجحدوا، ولكن نفوسهم الأمارة بالسوء غلبتهم واستولت عليهم. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن آمن بكتابه إيمانًا صحيحًا حتى نكون لجميع نصوصه معتقدين، ولأوامره ونواهيه خاضعين، إنه جواد كريم.) (وهذا ضابط جامع يدخل فيه الإيمان بالنصوص الواردة في حالة الإحتضار وفي القبر والقيامة والجنة والنار وجميع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما احتوت عليه من التفاصيل التي صنفت فيها المصنفات المطولة والمختصرة، وكلها داخلة في الإيمان باليوم الآخر. ثم أشار المصنف إلى شيء منها فقال:) (وهذا الابتلاء والامتحان لكل عبد، فأما من كان مؤمنا إيمانًا صحيحًا ثبته الله ولقنه الجواب الصحيح للملكين، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] فذكر أن تثبيته لهم جزاء لهم على إيمانهم في الدنيا، فالمؤمن يجيب الجواب الصحيح وإن كان عاميا أو أعجميا، وأما الكافر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمنافق ممن كان في الدنيا غير مؤمن بما جاء به الرسول فإنه يستعجم عليه الجواب، ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم، كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] ومن حكمة الله أن نعيم البرزخ وعذابه لا يحس به الإنس والجن بمشاعرهم؛ لأن الله تعالى جعله من الغيب، ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة.) (ذكر المصنف رحمه الله هذا الكلام النفيس المتعلق باليوم الآخر المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة، وهو واضح جامع، وأحال على الكتاب والسنة في بقية اليوم الآخر. وقد كتب أهل الإسلام من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة فيما يتعلق باليوم الآخر وبالجنة والنار وتفاصيل ذلك كثير، وصنفوا المصنفات المطولة والمبسوطة. والمهم أن ذلك كله داخل في الإيمان باليوم الآخر. واعلم أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرها ثابت بالعقل وواقع بالسمع، فإن الله نبه العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من الكتاب، وذكر بما هو مستقر في العقول الصحيحة من أنه لا يليق بحكمة الله وحمده أن يترك الناس سدى، أو أن يكونوا خلقوا عبثًا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، وأن العقول الصحيحة تنكر ذلك أشد الإنكار، وهذا شيء مشاهد محسوس

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14] ويحاسب الله الخلق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها. وفي عرصات القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. والصراط منصوب على متن

[شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم]

جهنم؛ وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة أمته صلى الله عليه وسلم. [شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم] وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم

وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة، حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقيين وغيرهم (¬1) فيشفع فيمن ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) الشفاعات التي تقع يوم القيامة: ست شفاعات معروفة من الأدلة الشرعية. منها ثلاث شفاعات تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي: 1 - الشفاعة العظمى في أهل الموقف حتى يقضى بينهم. 2 - الشفاعة في أهل الجنة حتى يدخلوها. 3 - شفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب حتى جعل في ضحضاح من النار، وهذه الشفاعة خاصة بالنبي وبأبي طالب عمه. وأما سواه من الكفار فلا شفاعة فيهم؛ لقوله تعالى: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين ". 4، 5- شفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها. وهاتان عامتان له ولغيره من الأنبياء والصالحين، كما قال المؤلف. 6 - شفاعته في رفع درجات أهل الجنة. وهذه الشفاعة الأخيرة عامه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين والملائكة وصغار الموتى من أطفال المسلمين، وكلها خاصة بأهل التوحيد. وأما الكفار فيخلدون في نار جهنم ولا يذوقون فيها الموت، كما قال سبحانه وتعالى: " لا يقضى عليهم فيموتوا " ونحوها من الآيات، وأما من دخلها من العصاة الموحدين فإنه لا يخلد فيها بل يخرج منها بعد التطهير والتمحيص. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل".

[الإيمان بالقدر خيره وشره]

استحق النار أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها. ويخرج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته ويبقى في الجنة. فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة. وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكور في الكتب المنزلة من السماء. وفي الآثار من العلم الموروث عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يكفي ويشفي، فمن ابتغاه وجده [الإيمان بالقدر خيره وشره] وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره. والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين) (¬1) : ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) مراتب القدر أربع، وإن شئت سميتها أشياء بدلا من مراتب كما سماها المصنف رحمه الله الأولى: علم الله بجميع الأشياء وعلمه بجميع أفعال العباد من طاعة ومعصية وغير ذلك. فهو سبحانه موصوف بالعلم أزلا وأبدا لا يغيب عن علمه شيء، كما قال تعالى: " إن الله بكل شيء عليم ". الثانية: كتابته لجميع الأشياء، فجميع ما كان وما سيكون كله مكتوب لديه، كما قال تعالى: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ "، وقال: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ". الثالثة: مشيئة الله النافذة في كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال تعالى: " ولو شاء الله ما فعلوه "، " لمن شاء منكم أن يستقيم "، " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين "، وقال: " إن الله على كل شيء قدير ". الرابعة: الإيمان بأن الله خالق الأشياء وموجدها، فلا خالق غيره، ولا رب سواه كما قال: " الله خالق كل شيء "، وقال: " الحمد لله رب العالمين ". والمراد بالعالمين جميع المخلوقات، قال تعالى: " قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ متناقل بين الناس بالتواتر الذي لا يقبل الشك. ولا يزال الله يري عباده من آياته في الآفاق وفي أنفسهم ما يتبين به الحق لأولي العقول والألباب. وأما تفاصيل الجزاء ومقاديره فلا يدرك إلا بالسمع والنقول الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ومن الحكمة في محاسبة الخلق على أعمالهم ووزنها وظهورها مكتوبة في الصحف مع إحاطة علم الله بذلك ليري عباده كمال حمده وكمال عدله وسعة رحمته وعظمة ملكه؛ ولهذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] مع أن ملكه عام مطلق لهذا اليوم ولغيره. قال المصنف رحمه الله:) (اعلم أن الإيمان بالقدر أمره عظيم وشأنه مهم جدًا، وهو أحد أركان الإيمان الستة، وقد انحرف فيه طوائف من أهل البدع والضلال، فضلا عن المنكرين من الملحدين وغيرهم، وقد فصله الشيخ في هذا الفصل بهذا الكلام الجامع النفيس الذي لا يوجد له نظير في تحقيقه وتفصيله وجمعه وتوضيحه، وهو مجموع من نصوص الكتاب والسنة، ومن العقيدة السلفية الخالصة. فذكر أنه لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق هذه الأمور الأربعة التي يفتقر كل منها إلى البقية، وقد ارتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم إلا بالانحراف إلى الأقوال المنحرفة. وذلك أنه ثبت في نصوص الكتاب والسنة إحاطة علم الله بجميع الموجودات السابقة والحاضرة والمستقبلة من أعيان وأوصاف وأفعال للمكلفين وغيرهم. وتثبت النصوص أيضا أن الله أثبت علمه بالكائنات والموجودات دقيقها وجليلها باللوح المحفوظ في نصوص

فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله يعلم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، وعلم

جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] وهذا التقدير تابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات؛ فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ونحو ذلك. فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا ومنكره اليوم قليل.

وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات ولا في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق

[فصل في أن الإيمان قول وعمل]

قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] وهذه الدرجة. من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها) (¬1) [فصل في أن الإيمان قول وعمل] فصل قال المصنف رحمه الله ومن أصول أهل السنة أن ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) أقسام القدر أربعة: الأول: التقدير العام؛ وهو تقدير الرب لجميع الأشياء، بمعنى علمه بها وكتابته لها ومشيئته وخلقه لما كان منها، ويدل على هد النوع دلائل كثيرة، منها قوله تعالى: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ " الآية، وقوله: " لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا " وقوله: " ولو شاء الله ما اقتتلوا " الآية، وقوله: " إن الله يفعل ما يشاء " وقوله: " الله خالق كل شيء ". وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء". القسم الثاني: تقدير عمري؛ وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله وكتابة شقاوته وسعادته، وقد دل عليه حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين مرفوعًا: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل اللهّ الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" الحديث. الثالث: التقدير السنوي؛ وذلك يكون في ليلة القدر، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: " فيها يفرق كل أمر حكيم "، وقوله تعالى: " تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ " قيل: يكتب في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وعز وذل وغير ذلك، روي هذا عن ابن عمر، ومجاهد، وأبي مالك، والضحاك، وغير واحد من السلف. الرابع: التقدير اليومي؛ ويدل عليه قوله تعالى: " كل يوم هو في شأن ". ولأثر عن ابن عباس: (إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة، ويحي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء) أخرجه ابن جرير. وفي إسناده أبو حمزة التمامي، وهو ضعيف ورمي بالرفض، فلا يعتمد عليه. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن حنيف الأزدي، وابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير كل يوم هو في شأن، قال: (من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين) علقه البخاري عن أبي الدرداء موقوفًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يمكن إحصاؤها. وتثبت النصوص أيضًا أن مشيئة الله عامة، وإرادته القدرية شاملة، لا يخرج عنها حادث صغير ولا كبير ولا عين ولا فعل ولا وصف، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والنصوص على شمول قدرة الله ومشيئته لكل حادث لا تحصى. وتثبت النصوص أيضًا أن العباد مختارون غير مجبورين على أفعالهم، وأن أعمالهم خيرها وشرها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب. وبهذا ينحل عن العبد الإشكال، ويتسع قلبه لمجمع بين إثبات عموم مشيئته وقدرته وشمولهما لأفعال العباد مع وقوعها شرعًا وحسًا وعقلًا باختيارهم. فمتى جمع العبد هذه المراتب الأربع وآمن بها إيمانًا صحيحًا كان هو المؤمن بالقدر حقًا الذي يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلمه بالحوادث قد أودعه في اللوح المحفوظ، والحوادث كلها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تجري على ما علمه الله وكتبه وتقع بأسباب ربطها العزيز الحكيم بمسبباتها، والأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره. ولهذا لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار" فقالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] » متفق عليه. وتوضيح ذلك أن العبد إذا صلى وصام وعمل الخير أو عمل شيئًا من المعاصي كان هو الفاعل لذلك العمل الصاع وذلك العمل السيئ، وفعله المذكور بلا ريب واقع باختياره، وهو يحس ضرورة أنه غير مجبور على الفعل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل، وكما أن هذا هو الواقع، فهو الذي نص الله عليه في كتابه ونص عليه رسوله، حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد وأخبر أنهم الفاعلون لها، وأنهم محمودون عليها إن كانت صالحة ومثابون عليها، ومذمومون إن كانت سيئة ومعاقبون عليها. فقد تبين بهذا واتضح أنها واقعة منهم وباختيارهم وأنهم إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلًا وحسًا وشرعًا ومشاهدة، ومع ذلك فإذا أردت أن تعرف أنها كذلك واقعة منهم واعترض معترض وقال: كيف تكون داخلة في القدر وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال: بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها، فهي بقدرتهم وإرادتهم، وهذا يعترف به كل أحد، ويقال أيضا: إن الله خلق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم. والجواب كذلك يعترف به كل أحد، وأن الله هو الذي خلق قدرتهم وإرادتهم وهو الذي خلق ما به تقع الأفعال كما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه الخالق للأفعال، وهذا هو الذي يحل الإشكال ويتمكن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر والقضاء والاختيار. ومع ذلك فهو تعالى أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال صلى الله عليه وسلم: «أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة» وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم ولم يعنهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه فولاهم ما تولوه لأنفسهم. ولما ضاق تحقيق هذا المقام على قلوب كثير من الخلق انحرفت هنا طائفتان من الناس: طائفة يقال لهم الجبرية؛ غلو في إثبات القدر وتوهموا أن العبد ليس له فعل حقيقة، وأنه لا يمكن أن يثبت للعبد عموم المشيئة، ولا يثبت له أيضًا عموم الاختيار. والطائفة الأخرى: القدرية، قابلتهم فشهدت وقوع أفعالهم بقدرتهم واختيارهم، وتوهموا أنه لا يمكن مع ذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يدخل ذلك في قضاء الله وقدره. ولم تتسع قلوب الجبرية والقدرية للجمع بين الأمرين. فرد كل منهما قسمًا كبيرًا من نصوص الكتاب والسنة المؤيدة للقول الصحيح، وهدى الله أهل السنة والجماعة فآمنوا بجميع الكتاب والسنة، وآمنوا بقضائه وقدره وشمولهما لكل موجود وبشرعه وأمره، وأن العباد فاعلون حقيقة مختارون. فإيمانهم بعموم القدر يوجب لهم الاستعانة التامة بربهم؛ لعلمهم أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن له في عباده المؤمنين ألطافا وتيسيرا لا يناله أحد منهم إلا بقوة الإيمان والتوكل، وأوجب لهم إيمانهم بالشرع والأمر والنهي والأسباب وأنها مرتبطة بمسبباتها شرعًا قدرًا - الجد والاجتهاد في فعل الأسباب النافعة، وبذلك تعرف أن الإيمان الصحيح سبب لكل خير. ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يوجب للعبد سكون القلب وطمأنينته وقوته وشجاعته؛ لعلمه أن ما أصابه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. كما أنه يسلي العبد عن المصائب ويوجب له الصبر والتسليم والقناعة بما رزقه الله، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم. ومن فوائده: أنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه فيما يمن به عليه من فعل الخيرات وأنواع الطاعات، فلا يعجب بنفسه ولا يدلي بعمله؛ لعلمه أنه تعالى هو الذي تفضل عليه بالتوفيق والإعانة وصرف الموانع والعوائق، وأنه لو وكل إلى نفسه لضعف وعجز عن العمل. كما أنه سبب لشكر نعم الله بما ينعم عليه من نعم الدين والدنيا. فإنه يعلم أنه ما بالعبد من نعمة إلا من الله وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة.) قد دل الكتاب والسنة على ما قاله الشيخ، وأجمع على ذلك سلف الأمة، فكم من آية قرآنية وأحاديث نبوية أطلقت على كثير من الأقوال والأعمال اسم الإيمان، فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين، ظاهره وباطنه،

الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10] ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصوله وفروعه، ويدخل فيه العقائد التي يجب اعتقادها في كل ما احتوت عليه من هذا الكتاب، ويدخل أعمال القلوب كالحب لله ورسوله. والفرق بين أقوال القلب وبين أعماله: أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها القلب ويعتقدها، وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله، وضابطها محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشر والعزم على تركه، وهذه الأعمال القلبية تنشأ عنها أعمال الجوارح، فالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد- من الإيمان، وبر الوالدين وصلة الأرحام والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه المتنوعة- كلها من الإيمان. وكذلك الأقوال؛ فقراءة القرآن وذكر الله والثناء عليه والدعوة إلى الله والنصيحة لعباد الله وتعلم العلوم النافعة - كلها داخلة في الإيمان؛ ولهذا لما كان الإيمان اسمًا لهذه الأمور ترتب عليه أنه يزيد وينقص، كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر مشاهد في تفاوت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وجوارحهم. ومن زيادته ونقصه أن قَسّم المؤمنين إلى ثلاث طبقات: سابقون بالخيرات: وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فهؤلاء المقربون. ومقتصدون: وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات. وظالمون لأنفسهم: وهم الذين تجرءوا على بعض المحرمات، وقصروا فيِ بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم. فهذا من أكبر البراهين على زيادة الإيمان ونقصه. فما أعظم التفاوت بين هؤلاء الطبقات. ومن وجوه زيادته ونقصه: أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان وتفاصيله، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خير كثير، فازداد به إيمانه وتم به يقينه، ومنهم ما هو دون ذلك ودون ذلك، حتى تصل الحال إلى أن من المؤمنين من معه إيمان إجمالي ولم يتيسر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن. ومعلوم الفرق بين هذه المراتب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن وجوه زيادة الإيمان ونقصه: أن المؤمنين متفاوتون تفاوتًا كبيرًا في أعمال القلب والجوارح وكثرة الطاعات وقلتها، وهذا شيء محسوس. ومن وجوه زيادته ونقصه: أن من المؤمنين من لم تجرح المعاصي إيمانه وإن وقع منه شيء من ذلك بادر إلى التوبة والإنابة. ومنهم من هو متجرئ على كثير من المعاصي، ومعلوم الفرق بينهما. ومن وجوه زيادته ونقصه: أن من المؤمنين من هو واجد حلاوة الإيمان، وقد ذاق طعمه واستحلى الطاعات، وتأثر قلبه بالإيمان، ومنهم من لم يصل إلى ذلك؛ ولهذا قال المصنف رحمه الله: وهذا تحقيق مذهب السلف الذي باينوا فيه الخوارج المارقين الذين يسلبون العصاة اسم الإيمان ويخلدونهم في النار. وباينوا فيه المعتزلة الذين وافقوا الخوارج في المعنى وخالفوهم في اللفظ. أما الكتاب والسنة فإنهما دلا من وجوه كثيرة على أن العبد يكون فيه خير وشر، وإيمان، وخصال كفر، وخصال نفاق، لا تخرجه عن الإيمان بالكلية. وأن الإيمان

[فصل في سلامة قلوب أهل السنة والجماعة وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» . ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم [فصل في سلامة قلوب أهل السنة والجماعة وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] فصل ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والاجماع من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح- وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله، كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنه، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المطلق إنما يتناول الإيمان الممدوح الكامل في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 2 - 3] ونحو ذلك من النصوص. وأما مطلق الإيمان الذي يدخل فيه الإيمان الكامل والإيمان الناقص، فإنه قد ثبت في الكتاب والسنة إطلاقه على العصاة من المؤمنين وأجمع على ذلك سلف الأمة وأئمتها، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ومن المعلوم دخول أي مؤمن من الأرقاء في هذا النص، وكذلك قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فسماهم إخوة بعد وجود الاقتتال. ويقال أيضًا في توضيح ذلك: إن الإيمان الممدوح الذي يؤتى به في سياق الثناء على أهله إنما يتناول الإيمان الكامل، والإيمان الذي يقال لصاحبه إنه من المؤمنين يدخل فيه هذا وهذا. ويقال أيضًا الإيمان الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يمنع صاحبه من التجرئ على الزنا وشرب الخمر والسرقة ونحوها من الفواحش هو الإيمان الكامل. والإيمان الذي لا يمنع من ذلك هو الناقص. وهذا وجه الحديث الذي ذكره المنصف: (لا يزني الزاني. . .) إلخ. ويقال أيضًا: الإيمان الذي يمنع دخول النار هو الإيمان الكامل، والإيمان الذي يمنع من الخلود فيها يكون إيمانًا ناقصًا. وقد تواترت الأحاديث بخروج من في قلبه حبة خردل من إيمان. ويقال أيضًا: الأحكام الأصولية والفروعية تدور مع أسبابها وعللها، وإذا وجد في العبد أسباب متعارضة عمل كل سبب في مسببه، فالطاعات سبب لدخول الجنة والثواب، والمعاصي سبب لدخول النار والعقاب، فأعمل كل واحد في مقتضاه. ولكن لما كانت رحمة الله قد سبقت غضبه، وفضله على العباد قد غمرهم وتنوع عليهم من كل وجه، كان أقل القليل من الإيمان له الأثر المستقر الذي يضمحل ضده من كل وجه، وإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان معه شيء من الإيمان فإن مآله إلى الخلود في دار النعيم. وهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدعاء الصادر ممن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان يدل على كمال محبتهم لأصحاب رسول الله وثنائهم عليم؛ لأن من سعى في أمر من الأمور فهو ساع في تحقيقه، فاجتهد في طلبه متضرعًا لربه أن يتم ذلك له، وأولى من دخل في هذا الدعاء الصحابة الذين سبقوا إلى الإيمان، وحققوه وحصل لهم من براهينه وطرقه ما لم يحصل لغيرهم، ونفي الغل من جميع الوجوه يقتضي تمام المحبة لهم، فهم يحبون الصحابة لفضلهم وسبقهم واختصاصهم لصحبة الرسول ولإحسانهم إلى جميع الأمة؛ لأنهم هم المبلغون جميع ما جاء به نبيهم، فما وصل لأحد علم ولا خير إلا على أيديهم وبواسطتهم. فعلى الأمة أن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر، وخصوصًا في هذا الأمر الخاص، وأن يوقروا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابه ويحترموه، ويعتقدوا أن العمل القليل منهم يفضل العمل الكثير من غيرهم، كما في هذا الحديث، وهذا من أعظم براهين فضلهم على غيرهم. وقد ذكر الله ورسوله للصحابة فضائل كثيرة على الأمة، فيجب على الأمة الإيمان بها، وأن يحبوا الصحابة لأجلها. وقيل لصلح الحديبية فتح؛ لما ترتب عليه من المصالح والخير الكثير ودخول الكثير في الإسلام؛ ولهذا كان من أسلم قبل ذلك وأنفق وقاتل أفضل ممن فعل ذلك بعده؛ لما حصل لهم من السبق في الإسلام وقت ضعف المسلمين، وكثرة الأعداء، ووجود الموانع والمصاعب الكثيرة في طريق الإسلام . ثم قال المصنف وهذا لأن المهاجرين جمعوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصفين النصرة والهجرة، ولهذا كان الخلفاء الراشدون وبقية العشرة من المهاجرين. وقد قدم الله ذكر المهاجرين على الأنصار في سورة التوبة والحشر، وهذا التفضيل للجملة على الجملة لا لكل فرد من هؤلاء على كل فرد من الآخرين. أي رضي الله عنهم في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وكان عددهم يتراوح ما بين ألف وأربعمائة أو خمسمائة، فأهل بدر وأهل بيعة الرضوان يشهد لهم بالجنة والنجاة من النار على وجه أخص من الشهادة بذلك لجميع الصحابة في قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ؛ ولهذا قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف : وهذا من أعظم الفضائل؛ تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالشهادة بالجنة، وهو من جملة براهين رسالته صلى الله عليه وسلم؛ فإن جميع من عينه النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالجنة ولوازمها لم يزالوا مستقيمين على الإيمان حتى وصلوا إلى ما وعدوا به رضى الله عنهم. أي: والخلافة، وخلافة أحد الاثنين لم تكن إلا بعد مشاورة جميع المسلمين على اختلاف طبقاتهم، والقصة مشهورة في كتب التاريخ. يريد المؤلف رحمه الله أن الخلاف الكائن بين الأمة على وجهين: أحدهما: الخلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية التي إذا اجتهد فيها الحاكم من قاض ومفتٍ ومصنف ومعلم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. الوجه الثاني: الخلاف في المسائل الأصولية، كمسائل

وعلي رضي الله عنهم بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر رضى الله عنهما، أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، وقدم قوم عليا وتوقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة- مسألة عثمان وعلى - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي» وقال أيضا للعباس عمه، وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي» ويتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصًا خديجة أم أكثر أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة الطيبة. والصديقة بنت الصديق التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم-: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذرون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحوا السيئات ما ليس لمن بعدهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صفات الباري والقدر والإيمان ونحوها، وهذا يضلل فيها المخالفون؛ لما دل عليه الكتاب والسنة. وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فمسألة الخلافة وتقديم علي على عثمان فيها يعد من البدع التي من اعتقدها فهو في الغالب متشيع، وقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، كما قال ذلك غير واحد من السلف. وأما التفضيل بينهما: فإنها مسألة خفيفة من جنس مسائل الخلاف في المسائل الاجتهادية. فمحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة من وجوه: - منها: أولًا لإسلامهم وفضلهم وسوابقهم. ومنها: لما تميزوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به من قرب النبي صلى الله عليه وسلمّ واتصالهم بنسبه. ومنها: لما حث عليه ورغب فيه. ولما في ذلك من علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال: «إن اللهّ اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، وقد جمع الله له أنواع الشرف من كل وجه. فإن جميع أولاده الذكور والإناث منها إلا إبراهيم، فإنه من سريته مارية القبطية. وعائشة وخديجة هما أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء أيهما أفضل. والتحقيق أن لكل واحدة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهن من الفضائل والخصائص ما ليس للأخرى؛ فلخديجة من السبق ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم على أمره في أول الأمر وتثبيته، وكون أكثر أولاد النبي صلى الله عليه وسلم منها- ما ليس لعائشة. ولعائشة من العلم والتعليم ونفع الأمة ما ليس لخديجة، رضى الله عنهما. وأول من سمى الروافض بهذا اللقب زيد بن علي الذي خرج في أوائل (¬1) دولة بني العباس، وبايعه كثير من الشيعة، ولما ناظروه في أبي بكر وعمر وطلبوا منه أن يتبرأ منهما فأبى رحمه الله - تفرقوا عنه، فقال: (رفضتموني) فمن يومئذ قيل لهم: الرافضة، وكانوا فرقًا كثيرة؛ منهم الغالية، ومنهم من هم دون ذلك، وفرقهم معروفة. ¬

(¬1) صوابه في أواخر دولة بني أمية؛ لأنه قتل في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 122 هـ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما النواصب فهم الذين نصبوا العداوة والأذية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لهم وجود في صدر هذه الأمة؛ لأسباب وأمور سياسية معروفة، ومن زمن طويل ليس لهم وجود والحمد لله. ثم قال المصنف رحمه الله: أي: وهذه الأمور إذا قوبلت بالمساوئ - على فرض أن هناك مساوئ- اضمحلت تلك المساوئ معها، ولا يقاربهم أحد في شيء من ذلك رضى الله عنهم. وهذا كلام نفيس في غاية التحقيق والإبداع، ولا زيادة عليه في إقامة البرهان على كمال فضل الصحابة رضى الله عنهم، لا يحتاج إلى شرح أو بيان. تواترت نصوص الكتاب والسنة

وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة

[فصل في التصديق بكرامات الأولياء]

والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهما به من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله [فصل في التصديق بكرامات الأولياء] فصل قال المصنف رحمه الله: ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمة في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها

[فصل في اتباع آثار رسول الله ظاهرا وباطنا]

إلى يوم القيامة [فصل في اتباع آثار رسول الله ظاهرا وباطنا] فصل قال المصنف رحمه الله: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار (¬1) رسول الله ظاهرًا وباطنًا، واتباع ـــــــــــــــــــــــــــــ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) مراد المصنف بذلك: اتباع ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو تقرير، وذلك هو اتباع السنة والتمسك بها. وأوجه السنة ثلاثة: قول وعمل وتقرير. وأما آثاره الحسية كموضع جلوسه، وما هو عليه وما وطئه بقدمه الشريفة، أو استند إليه، أو اضطجع عليه، ونحو ذلك فلا يشرع اتباعه في ذلك. بل تتبع هذه الآثار من وسائل الغلو فيه، وقد أنكر بعض أعيان الصحابة على ابن عمر ذلك. وقطع عمر الشجرة التي بويع النبي تحتها لما علم أن الناس يقصدونها، خوفا من الفتنة. ولما بلغه أن ناسا يقصدون مسجدا صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق أنكر ذلك وقال ما معناه: (إنما أهلك من كان قبلكم مثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، فمن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يقصدها) . وأما ما صلى فيه صلوات التشريع، فالصلاة فيه مشروعة، كمسجده صلى الله عليه وسلم، والكعبة، ومسجد قباء، والموضع الذي صلى فيه في بيت عتبان كما طلب منه ذلك ليتخذه مصلى فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك. وهكذا التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وريقه، وعرقه، وما ماس جسده، فكله لا بأس به؛ لأن السنة قد صحت بذلك، وقد قسم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بين الناس شعر رأسه، لما قد جعل الله فيه من البركة، وليس هذا من الغلو الممنوع، وإنما الغلو الممنوع هو أن يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز، أو يصرف له شيئا من العبادة. وأما التبرك بغيره صلى الله عليه وسلم فالصحيح منعه لأمرين: أحدها: أن غيره لا يقاس به، لما جعل الله فيه من الخير والبركة، بخلاف غيره، فلا يتحقق فيه ذلك. الأمر الثاني: أن ذلك ربما يوقع في الغلو وأنواع الشرك، فوجب سد الذرائع بالمنع من ذلك، وإنما جاز في حق النبي لمجيء النص به. وهناك أمر ثالث أيضا: وهو أن الصحابة لم يفعلوا مثل ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، لا مع الصديق ولا مع عمر ولا مع غيرهما، ولو كان ذلك سائغًا أو قربة لسبقونا إليه، ولم يجمعوا على تركه، فلما تركوه علم أن الحق ترك ذلك وعدم إلحاق غير النبي به في ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والوقائع قديمًا وحديثًا على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه. وكرامتهم في الحقيقة تفيد ثلاث قضايا: أعظمها: الدلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وكما أن لله سننًا وأسبابًا تقتضي مسبباتها الموضوعة لها شرعًا وقدرًا، فإن لله أيضًا سننًا أخرى لا يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم. فمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة - كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله سننا لا يعلمها بشر ولا ملك. فمن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوقعه الله بهم تلك المدة العظيمة، وقيض أسبابا متنوعة لحفظ دينهم وأبدانهم، كما ذكر الله في قصتهم. ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران، وأنه {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] وكذلك حملها وولادتها بعيسى على ذلك الوصف الذي ذكر الله، وكلامه في المهد، هذا فيه كرامة لمريم، ومعجزة لعيسى عليه السلام، وكذلك هبته تعالى الولد لِإبراهيم من سارة وهي عجوز عقيم على كبره، كما وهب لزكريا يحيى على كبره وعقم زوجته، وهذه معجزة للنبي وكرامة لزوجته. وقد أطال المؤلف النفس، وبسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وذكر قصصًا كثيرة متوافرة تدل على هذه القضية. القضية الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معجزات للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعة نبيهم التي نالوا بها خيرًا كثيرًا، من جملته الكرامات. القضية الثانية: أن كرامات الأولياء هي من البشرى المعجلة في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] وهي على قول بعض المفسرين: كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم. ومن ذلك الكرامات. ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في أي وقت وفي أي زمن، وقد رأى الناس منها العجائب والأمور الكثيرة، ولم ينكرها إلا زنادقة الفلاسفة، وليس غريبًا عليهم، فإنه فرع عن جحودهم وإنكارهم لرب العالمين وقضائه وقدره. وقد أنكرها أيضًا طائفة من أهل الكلام ظنًّا منهم أن في إثباتها إبطال لمعجزات الأنبياء، وهذا وهم باطل، أبطله المؤلف في كتاب (النبوات) وغيره من كتبه. فأهل السنة والجماعة يعترفون بكرامات الله لأوليائه إجمالًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتفصيلًا، ويثبتون ذلك على وجه التفصيل، كما ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكما تحقق وقوعه. ولكن قد أدخل الناس في الكرامات أمورا كثيرة، اخترعوها، وافتروها، وخدعوا بها العوام والسذج من الناس، وأوهموهم بأنها من الكرامات وليست إلا قسمًا من الخرافات والشعوذات. وأهل السنة أبعد الناس عن التصديق بالخرافات والأكاذيب المفتراة، وأعرف بالطرق التي يتبين بها كذب الكاذبين وافتراء المفترين. لما ذكر طريقة أهل السنة في مسائل الأصول المعينة، ذكر طريقهم الكلي في أخذ دينهم أصوله وفروعه، وأنهم سلكوا في ذلك الصراط المستقيم، والعصمة النافعة للكتاب والسنة، واتبعوا أعظم الناس معرفة وعلما واتباعا للكتاب والسنة، وهم الصحابة رضي الله عنهم عمومًا، والخلفاء الراشدين خصوصًا، فسلكوا إلى الله ذلك الطريق مستصحبين هذه الأصول الجليلة، وما جاءهم مما قاله الناس أو ذهبوا إليه من المقالات وزنوه بمعيار الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضلة؛ فاستقامت طريقتهم، وسلموا من بدع الأقوال المخالفة لما عليه الرسول وأصحابه في الاعتقادات، كما سلموا من بدع الأعمال، فلم يتعبدوا ولم يشرعوا إلا ما شرعه الله ورسوله. أي: باليد ثم باللسان ثم بالقلب، تبع للقدرة والمصلحة، ويسلكون أقرب طريق يحصل به المقصود بالرفق والسهولة، متقربين بنصيحة الخلق إلى الله، قاصدين نفع الخلق وإيصالهم إلى كل خير وكفهم عن كل شر، ساعين في ذلك حسب وسعهم. وذلك لأن غرضهم الوحيد تحصيل المصالح وتكملتها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير وترغيبه فيه، قولًا وفعلًا، فيشاركون الولاة الظلمة في الخير، ويفارقونهم في الشر، ويحرصون على الاتفاق، وينهون عن الافتراق. وهذا كلام جامع واضح نادر، جمعه في موضع واحد، لا يحتاج إلى شرح ولا إلى مزيد من الإيضاح.

سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقدمون هديه على هدي كل أحد؛ ولهذا سموا (أهل الكتاب والسنة) وسموا: (أهل الجماعة) ؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين. والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه

الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين. والإجماع الذي ينضبط هو: ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة

[فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

[فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] فصل ثم قال المصنف رحمه الله: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة،

ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعده بعضًا» وشبك بين أصابعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها، وكلما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث

به محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» - صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» . فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم. قال ذلك وكتبه معلقه عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، غفر الله له، ولوالديه، ولجميع المسلمينِ. وتم الفراغ منه في 8 جمادى الأولى عام 1369 هجرية.

§1/1