التمهيد في أصول الفقه

أبو الخطاب الكلوذاني

التمهيد في أصول الفقه

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن (يا كريم) 1 - قال الشيخ الإمام العالم (العلامة)، أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد الكلوذاني رحمه الله (ورضي عنه): ينبغي أن يعلم ما الفقه، وما أصوله حتى يتكلم فيه، فإن الإنسان لا يتكلم في شيء حتى يعرفه. 2 - أما الفقه فله معنيان، معنى في الشرع، ومعنى في اللغة. فأما معناه في اللغة: فهو الفهم والمعرفة، يقال: ((فقهت)) كلامك إذا عرفته وفهمته، ويقال: فقهت الكلام أي عرفته وفهمته وعلمته، كل ذلك بمثابة واحدة، وكذلك قوله تعالى: " وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ". أي لا تعرفون ولا تفهمون، فهذا معناه في اللغة.

3 - وأما معناه في الشرع: فهو العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية دون العقلية. مثل الحلال، والحرام، والحظر، والإباحة، وصحة العقد، وفساده، وما أشبه ذلك. فأما قولنا: "العلم بأحكام أفعال"، فنريد به ما علمناه بالشرع إما بيقين، أو غالب ظن. وأما قولنا: "بأحكام أفعال"، فنريد به الأحكام دون الأفعال لأنه لو كانت الأفعال هي الأحكام لما أضيفت لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه.

وأما قولنا: "الشرعية"، فنريد به: ما استفدناه بالشرع إما بإقراره على ما كان عليه قبل الشرع، أو بنقله عن ذلك الأصل إلى غيره، مثل الدية كانت قبل الشرع مائة منا لإبل، فلما جاء الشرع أقرها على ذلك، ومثل الظهار والإيلاء كانا طلاقاً في الجاهلية فنقلهما إلى غيره، أما الظهار فجعله تحريماً، والإيلاء جعله يميناً. وأما الحلال والحرام والحظر والإباحة وصحة العقد وفساده وما أشبه ذلك فيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. 4 - وأما أصول الفقه فله معنيان: معنى في العرف، ومعنى في اللغة. فأما معناه في اللغة: فهو ما يبنى عليه الفقه وما يتفرع منه.

وأما معناه في العرف بين الفقهاء فهو: الأدلة والطرق ومراتبها وكيفية الاستدلال بها. 5 - فصل: أما الأدلة فهي أصل ومعقول أصل واستصحاب حال. فأما الأصل: فهو الكتاب والسنة والإجماع وقول واحد من الصحابة (في) إحدى الروايتين عن أحمد. وأما (معقول) أصل فهو: لحن الخطاب وفحوى الخطاب ومعنى الخطاب ودليل الخطاب. وأما استصحاب حال، فاستصحاب حال العقل واستصحاب حال الإجماع.

6 - فصل: فأما الكتاب فدلالته من أربعة أوجه: نص، وظاهر، وعموم، ومجمل. وأما السنة فدلالتها من ثلاثة أوجه: قول، وفعل، وإقرار عليهما. وأما الإجماع فعلى ضربين: عام، وخاص. وأما قول واحد من الصحابة، فإن قلنا إنه حجة، فدلالته دلالة السنة، وإن قلنا إنه ليس بحجة فيسقط. 7 - فصل: فأما النص فصفته أن يكون صريحاً فيما ورد فيه مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} فهذا نص في أن الزاني يجب عليه الحد، وليس بنص في صفة الزاني هل يكون بكراً أو ثيباً، ومثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ 1 ب/ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وهذا نص في إيجاب العدة وليس بنص في صفة الأقراء هل هي الحيض أو الأطهار. وحكم هذا أن يجب المصير إليه ولا يجوز العدول عنه إلا أن يرد ما ينسخه. 8 - فصل: وأما الظاهر فهو: ما احتمل أمرين هو في أحدهما أظهر من الآخر.

وهو على ضربين: ظاهر بالوضع، وظاهر بالدليل. أما الظاهر بالوضع فهو على ضربين: وضع بالشرع ووضع باللغة. فأما الظاهر بوضع الشرع فهو: مثل الصلاة والصيام فإن الصيام هو إمساك مخصوص في زمان مخصوص، وكذلك الصلاة. وأما وضع اللغة فهو: يمثل مثل الأمر يحتمل الإيجاب ويحتمل الندب والاستحباب إلا أنه في الإيجاب أظهر، ومثل النهي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، إلا أنه في التحريم أظهر. وحكم هذا أن يجب المصير إليه، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل. وأما الظاهر بالدليل: فمثل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ومثل قوله عز اسمه {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فإن هذا ظاهره ظاهر الخبر، غير أنا حملناه على الأمر بدليل أنا لو حملناه على ظاهره لأدى أن يكون خبر الله خلاف مُخبره. لأنا نجد الوالدات يرضعن أولادهن أكثر من حولين وأقل من حولين، ونرى المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر فحملنا قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أي يجب على الوالدة أن ترضع الولد. وحملنا قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي لا يجوز أن يمسه إلا المطهرون.

9 - فصل: وأما العموم فهو: كل ما عم اثنين فصاعداً، وكان الأمر به لكل واحد منهما (أمراً) على الآخر. وألفاظه أربعة: لفظ الجموع كقولك: المسلمين والمجرمين والمشركين وما أشبه ذلك. ولفظ الجنس كقولك: الرجال والنساء والبقر والدواب وما أشبه ذلك. واللفظ الثالث: "من" لمن يعقل، و"ما" لما لا يعقل، و"أين" في المكان، و"متى" في الزمان، و"أي" فيهما. والرابع: لفظ منفرد إذا دخله الألف واللام كقولك: الزاني والسارق، فإن هذا يستغرق الجميع. وحكم هذا أن يجب المصير إليه، ويحمل على عمومه إلا أن يرد دليل يخصه. 10 - فصل: وأما المجمل فهو: كل لفظ لا يعرف معناه منه، وقيل: لا يعرف معناه من (لفظه)، والأول أصلح، لأنه يرجع إلى لفظه.

وهو على ضربين: لا عرف له في الشرع، ولا في اللغة. وهو مثل قوله عز اسمه: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإن هذا الحق ليس له عرف في الشرع ولا في اللغة. وحكم هذا أن لا يجوز المصير إليه حتى يرد ما يفسره. ومجمل له عرف في اللغة هو مثل الصلاة والزكاة والحج، فإن الصلاة لها معنى في اللغة وهو الدعاء، والدليل عليه قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}. أي ادع لهم. وكذلك قال الشاعر وهو الأعشى 2/أ: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصال والوجعا عليك مثل الذي صليت (فاغتمضي) ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

وأما الزكاة فمعناها في اللغة: الزيادة والنماء، يقال زكا المال: إذا نما، وكذلك الحج معناه في اللغة: القصد، يقال: أحج إليكم كل عام: أي أقصد. فحكم هذا أن لا يصار إليه حتى يرد دليل يفسره. وقد اختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال: هو عام في جميع الأشياء، وقال أحمد رحمه الله في كتاب طاعة الرسول: لا يجوز العدول إلى هذا حتى يرد ما يفسره. 11 - باب السنة: قد بينا أن دلالتها من ثلاثة أوجه: قول وفعل وإقرار عليهما. فأما القول فعلى ضربين: قول خرج منه ابتداء، وقول خرج منه على سبب. فأما القول الذي خرج منه ابتداء فدلالته كدلالة الكتاب من أربعة أوجه: نص وظاهر وعموم ومجمل.

فأما النص: فصفته أن يكون صريحاً فيما ورد فيه كقوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة"، وكقوله: "في كل خمس ذود شاة". فإن هذا صريح فيما ورد فيه، ولا يجوز العدول عنه إلا بما ينسخه. وأما الظاهر: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "صبّوا على بول الأعرابي دلواً من ماء". فإن الظاهر منها الإيجاب ولا يحمل على غيره إلا بدليل. وأما العموم: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فهذا عام في كل من بدل دينه، وحكمه أنه لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يخصه. وأما المجمل: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى

يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وحقها لا يعلم ما هو. وحكم هذا أن لا يجوز المصير إليه حتى يرد ما يفسره. وأما القول الخارج على سبب فهو على ضربين: منه ما السبب شرط فيه (كالعلة) يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، ومنه ما ليس السبب شرطاً فيه. فأما ما السبب شرط فيه: فمثل ما روي: "أن أعرابياً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال: ما صنعت؟ قال: وقعت على أهلي في شهر رمضان، فقال: أعتق رقبة". فإن هذا سبب لا بد منه. وأما الذي ليس السبب شرطاً فيه: فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سئل هل يجوز التوضئ بماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". فإن هذا ليس بشرط لأنه لو كان ابتداء كان كلاماً مفيداً، وكذلك روي عنه عليه السلام: "أنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة

رابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم"، فصار كأنه قال ذلك. وأما الإقرار على الفعل، فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رأى بلالاً يؤذن في منارة ويتبع وجهه هكذا وهكذا فلم ينكر عليه ذلك"، فصار هذا كأنه فعل من النبي صلى الله عليه وسلم. 14 - فصل: وأما الإجماع: فهو إجماع علماء العصر على حكم حادثة، وهو على ضربين، إجماع عام، وإجماع خاص. فأما الإجماع العام: فهو مثل إجماعهم على الصلاة والزكاة وسائر العبادات والعقود جميعها من البيوع والإجارات والنكاح والمضاربات، فهذا إجماع عام. وحكم هذا أن يجب المصير إليه، ولا يجوز العدول عنه، فمن خالفه بعد العلم به فقد كفر بذلك.

وأما الإجماع الخاص: فهو قول الصحابي إذا انتشر بين الصحابة وأقروه على ذلك، ولم ينكر عليه واحد منهم. وهو مثل ما روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة" فأقروه على ذلك ولم ينكر عليه أحد منهم. ومثل ما روي عنه أيضاً أنه قتل الثلاثة الذين قتلوا الصنعانية، وقد قيل خمسة، وقيل سبعة فقيل له: (يقتل) جماعة بواحد؟ فقال: والله لو تمالأ عليها أهل صنعاء (لأقدتهم) بها فأقروه،

ومثل ما روي أن عثمان دخل على عمر وهو يخطب على المنبر فقال: أي ساعة هذه؟ 2 أ/ فقال: سمعت الأذان فما لبثت أن توضأت وجئت. فقال: والوضوء أيضاً؟ وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل، ثم أقره على ترك الغسل، ولم ينكر عليه واحد من الصحابة ذلك، وهذا الإجماع الخاص. وقد اختلفوا هل يكون سكوتهم عن ذلك، وترك إنكارهم (الإجماع) حجة أم لا؟ وسنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى. 15 - فصل: فأما قول واحد من الصحابة، فإن قلنا إنه حجة. فدلالته كدلالة السنة، يخص به العموم ويقدم على القياس، وإن قلنا إنه ليس بحجة، فلا يخص به عموم، ولا يقدم على القياس، غير أنه يرجح به الأدلة، وسنبين أي الروايتين أصح فيما بعد إن شاء الله تعالى. 16 - فصل: وأما معقول أصل، فقد بينا أنه أربعة أشياء: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ومعنى الخطاب، ودليل الخطاب.

فأما لحن الخطاب: فهو على أضرب: منه ضمير في اللفظ لا يتم اللفظ إلا به مثل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، تقديره: فأفطر فعدة من أيام أُخر، وكذلك قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ}، تقديره: فضرب فانفجرت، فهذا ضمير لا يتم اللفظ إلا به. ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو على ضربين: منه ما لا يحتاج إلى دليل ومنه ما يحتاج إلى دليل. فأما ما لا يحتاج إلى دليل فمثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} ((تقدير)) هذا وضميره واسأل أهل القرية، وكذلك عيسى ابن مريم قول الحق، صاحب قول الحق، فهذا لا يحتاج إلى دليل. وأما ما يحتاج إلى دليل فمثل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معناه أفعال الحج في أشهر معلومات، فانتقلنا إلى

الأفعال بدليل وهو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وكذلك قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، فإن من حمله على أرباب العظام يحتاج إلى دليل. وقد قيل إن لحن الخطاب هو معرفة الضمير من نفس الكلام بالذكاء ((والفطنة))، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يعني بالذكاء، وكذلك قول الشاعر: منطقٌ صائبٌ وتلحن أحياناً ... وخير الكلام ما كان لحنا 17 - فصل: وأما فحوى الخطاب: فهو أنه ينص على شيء ينبه به على غيره، وهو يسمى مفهوم الخطاب، فأما ما ينص على شيء تنبيهاً به على غيره، فمثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا

أُفٍّ} فنص على التأفيف (تنبيهاً) بذلك على ما هو أعلى منه، وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فنص على القنطار ونبه به (على) ما هو دونه، ونص على الدينار ونبه (على) ما هو أكثر منه، وقد قيل: إن فحوى الخطاب مأخوذ من الفيح والإظهار يقال: "فاحت القدر" إذا ظهرت رائحتها ويقال: "أَفحَّ قدرك". وتقول العرب للأبزار "فُحاً" لأن به يفيح القدر. 18 - فصل: وأما دليل الخطاب فهو أن يعلق الحكم على أحد وصفي الشيء، ويستدل على أن ذلك الحكم منفيٌ من غير تلك الصفة وهو على أضرب: منه ما علق على الشرط، ومنه ما علق على الصفة، ومنه ما علق على الاسم، ومنه ما علق على العدد، ومنه ما كان للحصر، ومنه ما دخله الألف واللام فيستغرق الجنس.

فأما ما علق بشرط فمثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، فمن دليل الخطاب أن غير ذات الحمل لا تجب نفقتها. وأما ما علق بصفة فمثل قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة"، فمن دليل الخطاب أن غير السائمة لا يجب فيها الزكاة. وأما المعلق بالعدد فمثل قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة"، فمن دليل الخطاب أن غير السائمة لا يجب فيها الزكاة. وأما المعلق بالعدد فمثل قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاة شاة" "وفي كل خمس ذود شاة" فمن دليل الخطاب أن ما دون أربعين من الغنم لا يجب فيها شاة. فأما ما علق على الاسم فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خذ البر من البر" "وفي ثلاثين من البقر تبيع"، فمن دليل الخطاب أن البر لا يؤخذ من غيره، وأن التبيع لا يؤخذ إلا من البقر.

وأما ما كان للحصر فهو مثل قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق"، معناه: لا ولاء إلا لمن أعتق، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} معناه: أن لا إله إلا الله، وكما يقال: "إنما في الدار زيد" ومعناه: لا أحد في الدار إلا زيد. وأما ما دخله الألف واللام كقوله: "الخلافة في قريش" يعني لا خلافة إلا في قريش، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" معناه جميع البينة على المدعي، فهذا يستغرق الجنس، وفي هذا كله خلاف وسنبينه إن شاء الله تعالى.

19 - فصل: فأما "معنى الخطاب فهو القياس، والقياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما. فإن قلنا بمعنى جامع بينهما فإنه يعم قياس العلة، وقياس الشبه، وقياس الدلالة، وإن قلنا بعلة فإنه يختص بقياس العلة حسب. والقياس هو أربعة أشياء: أصل وفرع وعلة وحكم. فأما الأصل فهو: ما ثبت بنفسه، أو ما ثبت حكم غيره به. وأما الفرع فهو: ما ثبت حكمه بغيره. وأما العلة فهي: ما ثبت الحكم لأجلها. وأما الحكم فهو: ما جلبته العلة. فمجموع هذا أن يقال: شراب فيه شدة مطربة فكان حراماً كالخمر، فأما الشراب فهو الفرع المختلف فيه، وأما الشدة المطربة فهي العلة، وأما قولنا حراماً فهو 4 أ/ الحكم، وأما الخمر فهو الأصل. 20 - فصل: وأما القياس فهو ضربان: قياس العلة وقياس الدليل.

فأما قياس العلة فهو: رد فرع إلى أصل بعلة مؤثرة في الحكم، وهو على ثلاثة أضرب: قياس جلي، وقياس واضح، وقياس خفي. فأما القياس الجلي فهو: أن ينص الشرع على العلة، أو تثبت بالإجماع، فأما (ما) نص الشرع على علته فمثل: قوله تبارك وتعالى: " كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةٌ بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ "، فإن هذه علة نص عليها الشرع، ومثل قوله عليه السلام: "إنما كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة والحاجة والفقر ألا فادخروها"، فإن هذه علة نص عليها الشرع، وأما إجماع

المسلمين على العلة فمثل قياسهم الضرب على التأفيف، ومثل منعهم من وطء الحائض لأجل الأذى، فهذا القياس الجلي. وأما القياس الواضح: فهو أن يأخذ العلة من ظاهر قول صاحب الشرع، مثل ما منعناه من بيع الرطب بالتمر، لأنه ينقص في حال الكمال والادخار، وأخذنا هذه العلة من ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم. قال: لا إذا". فالظاهر من قوله إنما منعه لأجل أنه ينقص في حال الكمال والادخار، ومثل ما نقول في أن علة الربا هي كونه مكيل جنس أو موزون جنس فأخذنا هذه العلة من ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لما قال: "ما كيل مثل بمثل وكذلك الميزان" فالظاهر من

قوله لأنه مكيل، ومثل ما قلنا في منع الخيار في حق الأمة إذا (أعتقت) تحت حر لأنها كملت تحت كامل، واستفدنا هذه العلة بظاهر قول عائشة وذلك أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خيّر بريرة لما أعتقت لأنها تحت عبد ولو كانت تحت حر لما خيرها". فأخذنا هذه العلة من ظاهر قولها. فهذا القياس الواضح. فأما القياس الخفي ((فهو)): ما أخذت علته بالتأثير والاستنباط، مثل ما قلنا في علة تحريم الخمر لأن فيه شدة مطربة، فهذه العلة مؤثرة لأنها إذا وجدت وجد الحكم، وإذا زالت زال الحكم، ولو قدرنا أنها تعود لعاد الحكم. 21 - فصل: وأما قياس الدلالة فهو: على أربعة أضرب: منه ما يستدل (على) تخصيصه من خصائص الحكم عليه، ومنه قياس النظير على النظير، ومنه قياس الاسم الخاص على الاسم الخاص، ومنه قياس ((الشبه)).

فأما ما يستدل (على) تخصيصه 4 ب/ من خصائص الحكم عليه فهو مثل قولنا في سجود التلاوة إنه ليس بواجب فقسناه على النافلة، وذلك أنا قلنا سجود يجوز على الراحلة لغير عذر فلم يكن واجباً كصلاة النافلة، وهذا صحيح. وهو أن كل صلاة واجبة لا تجوز على الراحلة، فلما رأينا أن هذه تجوز على الراحلة علمنا أنها ليست واجبة. وأما قياس النظير على النظير: فهو مثل قولنا: إن الزكاة تجب في مال الصبي، وقسنا ذلك على العشر فقلنا: من وجب العشر في زرعه وجبت الزكاة في ماله. وهذا صحيح لأن العشر زكاة، فإذا وجبت الزكاة في بعض المال، وجب أن تجب في البعض الآخر، ومثل قولنا في تصحيح ظهار الذمي وذلك أنّا قلنا: من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم، وهذا صحيح، وهو أن الطلاق والظهار هما واحد ومعناهما واحد، لأن كل واحد منهما يتعلق بالزوجة وفيه نوع تحريم. ويتعلق بالقول، فإذا صح منه أحدهما صح منه الآخر (ومثل) قولنا إن المسلم لا يقتل بالذمي، وذلك أنّا قلنا من لا ((يحد بقذفه)) مع العفة لا يقتل به كالأب وهذا صحيح، لأن هتك العرض وهتك الدم وهتك المال على حد سواء وهما واحد والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

أنه قال: "إنما دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا". فسوى بينهما ووجدنا أن أحدهما لا يجب في حقه فكذلك الآخر. وأما قياس الاسم الخاص على الاسم الخاص فمثل قياسنا ((على)) رفع الحدث إزالة النجاسة وذلك أنّا قلنا طهارة شرعية فلم تجز بالخل كرفع الحدث، فسوينا بينهما لأنهما قد اشتركا في الاسم الخاص. وأما قياس الشبه فهو: أن يقاس الفرع على الأصل بنوع شبه، وهو مثل قياسنا الطهارة على الصلاة، وذلك أنّا قلنا: عبادة تبطل بالحدث فكان فيها ذكر واجب كالصلاة. فقسنا إحداهما على الأخرى لما كان بينهما ضرب شبه وإن كانا قد اختلفا في معان كثيرة من طريق الحكم ومن طريق المشاهدة. وقد اختلف أصحابنا في قياس الشبه فمنهم من قال ليس بحجة وذهب إلى أنه ليس بمستند إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسوله ولا

إلى الإجماع، ومثل ذلك لا يحتج به، ولأنه ما من شيء شابه شيئاً إلا وقد فارقه في غير ذلك، وليس إلحاقه بالجمع أولى من إلحاقه بالتفرقة، فاتفقا على حد سواء (أو) يقدم الفرق لأنه أولى بالتقدمة 5 أ/. ومن ذهب إلى أنه حجة استدل بما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وكان بالبصرة: "الفهم الفهم فيما تَلَجْلَجَ في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله فاعرف الأشباه والأمثال والأقيسة، وقس بأشبهها إلى الحق". فأمره بقياس الشبه، ولأن الشيء إذا شابه الشيء فالظاهر أنه مثله. وقد (أجيب) عن ذلك بأن قيل: أما قول عمر: "وقس بأشبهها إلى الحق" يريد به أن يستنبط المعنى، والحق في كتاب الله وسنة رسول الله ثم يقيس بعد ذلك عليه. وأما قولهم: إن الشيء إذا شابه الشيء فالظاهر أنه يكون مثله. قد (أجيب) عنه بأن قيل: الشيء إذا فارق الشيء

فالظاهر أنه لا يكون مثله، وقد بين فيما تقدم أيما شيء شابه شيئاً إلا وقد فارقه في غير ذلك، وليس الجمع بأولى من التفرقة بل التفرقة أولى. 22 - فصل: وأما استصحاب الحال فقد بينا أنه على ضربين: استصحاب حال العقل واستصحاب حال الإجماع. فأما استصحاب حال العقل فهو: أن الأصل في العقل براءة الذمة من جميع الأشياء، فمن ادعى اشتغالها فعليه الدليل، ومثاله مما نقول: إن صلاة الوتر لست بواجبة فنقول: إن الأصل براءة الذمة من جميع الصلوات، وأجمعنا على اشتغالها بخمس صلوات. فمن ادعى سادسة فعليه الدليل، وكما نقول: إن الحر إذا قذف العبد لا يجب عليه الحد. واستدللنا بأن الأصل براءة ذمة هذا الشخص من الحد، فمن ادعى إيجاب الحد فعليه الدليل. وأما استصحاب حال الإجماع فهو: أن تجمع الأمة على حكم ثم يحدث بعد ذلك فيه شيء فيختلف فيه. فهل يستدام الإجماع إلى ذلك الوقت أم لا؟ فيه خلاف. ومثاله: ما نقول في المتيمم إذا رأى الماء وهو في صلاة، فمن قال لا تبطل، قال: اجتمعنا على أنه دخل الصلاة ((بطهارة)) مثله. فمن ادعى أن رؤية الماء لا تجزئه فعليه الدليل. وضد هذا يقول الخصم: اجتمعنا على إيجاب هذه الصلاة عليه فمن ادعى إسقاطها عنه بهذا التيمم مع القدرة على الماء فعليه الدليل. وفي هذا كله خلاف، سنبينه إن شاء الله تعالى.

باب الحدود

باب الحدود 23 - (الحد): سبب يتوصل به إلى معرفة الأشياء.

قال الشيخ رحمه الله (تعالى): ينبغي أن يعرف ما الحد، ولأن ما يتوصل به إلى معرفة الأشياء لابد أن يعرف ما هو وما حده وما صفته. 24 - وقد عبر عنه بعبارات أحدها أنه قيل: "هو قول 5 ب/ ((وجيز)) يدل على جنس الشيء يحيط به إحاطة لا يمكن أن يدخل إليه من غيره ولا يخرج عنه ما هو منه". ومن هذا سمي حدود الضيعة لأنها لا يخرج منها إلى غيرها ولا يدخل إليه من غيرها، ولذلك سمي البواب حداداً لأنه لا يمكن أن يدخل الدار أحد من غير أهلها، ولذلك سمي الحديد حديداً لأنه يغطي ما تحته ويمنع أن يصل إليه ما ليس منه وأن يخرج عنه شيء منه. وسميت الحدود حدوداً لأنها تمنع من إيقاع فعل محظور. 25 - وقد قيل: "هو قول يدل على طبيعة الشيء مميزاً له عما سواه". مثل أن يقول: "حيوان منتصب القامة ضحاك"، فإن هذا صفة الآدمي فلو قلنا: "حيوان" دخل فيه سائر

الحيوانات، ولو قلنا: "حيوان ضحاك" دخل فيه الدب لأنه حيوان ضحاك مثل الآدمي ولو قلنا: "حيوان منتصب القامة" دخل فيه الملائكة. 26 - وقد قيل: "هو قول كلما زدت فيه نقصت من المحدود وكلما نقصت منه زاد في المحدود". مثل أن تقول: "الناس" فإنه يدخل فيه كل أحد، فلو زدت في هذا القول بأن تقول: "الناس العلماء" نقص من المحدود لأنه يخرج منه الجهال، فلو زدت فيه فقلت: "الأشراف" نقص أيضاً لأنه يخرج منه العامة، وعكس هذا إذا نقصت منه زاد في المحدود وهو أن يقول: "العلماء الأشراف البيض" فلو نقصت منه (فقلت): "العلماء الأشراف" دخل فيه السودان، فلو قلت: "العلماء" دخل فيه العامة والخاصة.

27 - فصل: وحد العلم: "معرفة المعلوم على ما هو به". فقولنا على ما هو به تأكيد أو تبيان، لأن قولنا: معرفة المعلوم لا يكون إلا على ما هو به، إذ لو لم يعرفه على ما هو به، لما كان عارفاً به ولكان جاهلاً به. هذا مذهبنا، وكذا قال بعض الأشعرية. 28 - واختلف بقية الأشعرية: فمنهم من قال: "هو تبين المعلوم على ما هو به" (ومنهم من قال: هو إثبات المعلوم على ما هو به)، ومنهم من قال: "هو إدراك المعلوم على ما هو به"، ومنهم من قال: "هو الثقة بالمعلوم على ما هو به"، ومنهم من قال: هو ما اشتق (للعالم منه اسم عالم) ". 29 - وخلافاً للمعتزلة فمنهم من قال: "هو اعتقاد الشيء على ما هو به" ومنهم من قال: "هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه".

30 - والدليل على ما قلنا، وأن العلم يقوم مقام المعرفة قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فأقام العلم مقام المعرفة، والمعرفة مقام العلم. ومن الدليل عليه أيضاً أنه حد صحيح كسائر الحدود يمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وأن يخرج عنه ما هو منه. ومن الدليل عليه أيضاً أنّا نبطل هذه الثمانية الأقسام ونبقى ما ذكرنا. 31 - فصل: فأما من قال حد العلم 6 أ/: "هو تبين المعلوم على ما هو به" فهو غير صحيح. لأنه حد قاصر، والدليل عليه أنه لا يحسن أن يقول الإنسان فيما علمه ضرورة أني (تبينته)، ومثاله أنه لا يحسن أن يقول: "تبينت أن السماء فوقي وأني قائم". الثاني: أن التبين هو الظهور بعد الخفاء واليقين بعد الشك، والدليل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. معناه: فلما أن ظهر له بعد أن كان خفياً وتيقنه بعد أن كان مشكوكاً فيه، أنه عدو لله تبرأ منه. ولأنه يخرج منه علم

الله، وأنه لا يجوز أن يقال إن الله تعالى كانت المعلومات عليه خفية ثم تبينها، فإذا خرج منه علم الله تعالى كان حداً قاصراً. الثالث: أن التبين على وزن تفعل يقال: تحمل وتحلم وتلزم أي طلب ذلك. 32 - فصل: أما من قال حد العلم: "هو إدراك المعلوم على ما هو به" فهو غير صحيح. لأن هذا لفظ مجمل وهو يستعمل في الأفعال أكثر مما يستعمل في الأقوال، ولهذا يقال: أدرك الزرع، إذا حان حصاده، وأدرك الغلام، إذا بلغ حد التكليف، وأدرك الرجل، (إذا) لحقه، وهذه كلها أفعال، وتستعمل أيضاً في الأقوال قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي يحيط بها، وإذا كان لفظاً مشتركاً كان اللفظ (الخالص) أولى. 33 - فصل: وأما من قال: إن حد العلم "إثبات المعلوم على ما هو به" فهو أيضاً باطل لأنه لفظ مجمل، فهو مثل ما ذكرنا في الإدراك، ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس، وأثبت الحساب في الزراميج، فهو لفظ مشترك وما قلناه أولى لأنه (خالص).

34 - فصل: وأما من قال: "هو الثقة بالمعلوم على ما هو به"، فهو غير صحيح، لأنه قد تقع الثقة على خيانة، وهو أن يثق الإنسان بقوته فتخونه أو يثق بصديقه فيخونه، فيقع باطلاً. 35 - وأما من قال: "وهو ما اشتق للعالم منه اسم عالم". فهو غير صحيح لأن هذا اسم مشتق من اللغة، ونحن كلامنا في المعنى فمتى وجدناه لا يتعدى إلى غيره، الثاني أن خلافنا في ذلك. لم ينتف في العلم وكيف ينتقل إلى ما يسمى به، فينبغي أن نعلم العلم أولاً ما هو (ثم) بعد ذلك يُنْتَقَلُ إلى ما يسمى به. 36 - فصل: وأما من قال: "هو اعتقاد الشيء على ما هو به" فهو غير صحيح لأنه حد قاصر لأنه قد يحصل الاعتقاد على ظن وتخمين (ولذا) ((يجوز للمعتقد لذلك الشيء أن يكون مُعتقده)) بخلاف العلم والمعرفة، فإنه لا يجوز أن يقف على ظن ولا تخمين ولا على غير ما هو به، ولا يجوز أن يعرف إلا بيقين وتحقيق. والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 6 ب/ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. فنهى أن يقول الإنسان ما لا يعرف حقيقة أو ما يعرفه من طريق الظن. فإن قيل: فقد سمي علماً وإن كان من طريق الظن، والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ} وقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} ((وهذا)) لا يتوصل إليه إلا من طريق الظن. قيل: إن علمنا هناك من طريق الظاهر ولهذا تعلق عليه أحكام الظاهر ولا تعلق عليه من أحكام الباطن، والثاني: أنهم لما أظهروا الإيمان منعوا من الكفر فلا بد أن يحكم لهم بواحد منهما فحكمنا لهم بالإيمان لأنه قد صار في حقهم كأنه متحقق. 37 - فصل: والدلالة على إبطال القسمين الآخرين وأنه لا يجوز أن يكون حد العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه. ولا يجوز أن يكون اعتقاد الشيء على ما هو به من غير ظن ولا تقليد. فإنه حد قاصر لا يدخل فيه علم الله تعالى لأنه لا يجوز أن تقول إن الله اعتقد الأشياء مع سكون ((نفسه إليها))، ولا يجوز أن يقال في حقه حصل له العلم بها ضرورة

ولا اكتساباً وإذا كان حداً قاصراً قدم عليه الحد الخاص، والعام وهو ما ذكرنا. الثاني: أن "اعتقد" هو على وزن "افتعل" وهو يؤدي أن لا يعلم إنسان حتى يوجد منه فعل من جهته، ونحن نرى علوماً من غير أن يصدر من الإنسان فعل، والدليل عليه أن الإنسان يحس بالمرض في بدنه وفي عضو من أعضائه ويحس بالفرح والغم ومثل هذا كثير وإن كان ما وجد منه فعل وإنما جاء من قبل الله تعالى، فلهذا كان باطلاً لا يدخل فيه هذا العلم. 38 - فإن قيل: لِمَ (لَمْ) يقولوا إن العلم: "معرفة الشيء على ما هو به" لأن الشيء هو أعم من المعلوم؟ قيل: إن الشيء على قولهم هو اسم الموجود والمعدوم، وعندنا هو اسم الموجود حسب، والمعلوم هو اسم الموجود والمعدوم، فكان استعمالنا له أولى وأحرى. 39 - فصل: وأما العلم فهو على ضربين: علم قديم وعلم محدث. فالعلم القديم: هو علم الله تعالى، وهو يتعلق بجميع المعلومات على ما هي به من غير تناهٍ.

ولا يوصف بأنه ضروري ولا مكتسب، لأنه تعالى لا يجوز أن يوصف باستدعاء الحاجات واكتساب الضرورات. وأما العلم المحدث: فهو علم جميع المخلوقين 7 أ/ من الملائكة والإنس والجن وغير ذلك. وهو على ضربين ضروري ومكتسب. 40 - فالضروري هو: ما علم الإنسان من غير نظر ولا استدلال، وقد قيل: ما لا يدخل عليه الشك والارتياب. وهو يحصل من أربعة أشياء. الأول: ما يعلمه الإنسان من حال نفسه، مثل الغم والسرور والصحة والسقم والقيام والقعود والهبوط والصعود. ومنه: ما يعلمه بطريق العقل، وهو مثل علمه باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين. ومنه: ما علمه بالحواس الخمس وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. ومنه: ما (يعلمه)، بأخبار التواتر فيقع له به العلم "ضرورة". وهو مثل: إخباره بالبلاد النائية والقرون الخالية والرسل الماضية.

وقولنا: ضرورة هو ما يلزمه العلم به ضرورة لا يمكنه دفعه من نفسه بحال ولا يمكنه إدخال الشك عليه. 41 - فصل: وأما العلم المكتسب فهو: "ما حصل من طريق النظر والاستدلال"، وقد قيل: "ما جاز ورود الشك عليه" وهو على ضربين: علم من طريق العقل وعلم من طريق الشرع، فأما العلم الذي يحصل من طريق العقل فهو مثل علمه (بحدوث) العالم، وإثبات محدثه وتصديق الرسل عند ثبوت المعجزة، فأما الذي يحصل من طريق الشرع فهو ما علمناه بالكتاب والسنة والإجماع وقول واحد من الصحابة في إحدى الروايتين. 42 - فصل: واختلف العلماء في العقل: فمنهم من قال: "هو قوة يفرق بها بين حقائق المعلومات". ومنهم من قال: "هو مادة وطبيعة". ومنهم من قال: "هو جوهر بسيط". ومنهم من قال: "هو عرض يخالف سائر العلوم والأعراض". ومنهم من قال: "هو جملة العلوم الضروريات". ومنهم من قال: "هو ما حسن معه التكليف".

ونقل إبراهيم الحربي عن أحمد رحمه الله (تعالى) أنه قال: "العقل غريزة وحكمة وفطنة". وقال أبو الحسن التميمي: "ليس بجسم ولا عرض، وإنما هو نور في القلب". وقال البربهاري: "ليس بجوهر ولا عرض، وإنما هو فضل من الله يؤتيه من يشاء".

وهذه الأقاويل متقاربة المعنى. 43 - فصل: قال شيخنا وفقه الله تعالى: والذي اختار أصحابنا أن قالوا: العقل "هو بعض العلوم الضروريات" خلافاً لمن قال: هو جوهر. وخلافاً لمن قال: عرض يخالف سائر العلوم والأعراض، وخلافاً لمن قال: "هو جملة العلوم الضروريات".

44 - (والدليل) على إبطال قول من قال إنه جوهر: أن الجوهر جنس واحد، والدليل عليه أن حد الجوهر: أن يستبد الحيز ولا يخلو إما أن يكون ساكناً أو متحركاً، فأيهما كان سد مسد الآخر، فإذا ثبت أن الجوهر جنس واحد، فالآدمي جوهر وكان ينبغي أن يكون عاقلاً بنفسه. لأنه إذا كان عاقلاً بجنسه فأولى 7 ب/ أن يكون عاقلاً بنفسه، وقد نرى إنساناً ليس بعاقل مثل الصبي والمجنون، وغير ذلك. وجواب آخر: أن سائر الجوهر يجوز أن (يرد) عليه بأنه عاقل مكلف، ومعلوم أن العقل لا يجوز أن يرد عليه هذا، فإذا بطل أنه جوهر لم يبق إلا أنه عرض. 45 - فيدل على بطلان قول من قال: إنه يخالف سائر العلوم والأعراض بأن (نقول): ما ذكرتم يفضي إلى أن يكون الإنسان إما عاقلاً، ولا يعرف من جميع العلوم شيئاً، ولا يعرف من أحوال نفسه من المرض

والصحة والسقم لأنه يخالفها، ((أو)) يكون عالماً بدقائق العلوم ومحاسنها ولا يكون عاقلاً. وهذا المعنى لا نراه في أحد. وإذا بطل أنه يخالف سائر العلوم بقي أنه يكون من جنس العلوم. 46 - وبعد ذلك يدل على أنه ليس بجميع العلوم بأن يقول: العلم يشتمل على ضروري ومكتسب، ومعلوم أن الإنسان لو لم يكتسب العلم ولم يفكر في الدلائل يسمى عاقلاً، فإذا خرج منه العلم المكتسب، لم يبق إلا أنه علم ضروري. فنحن نبطل أنه جميع العلوم الضروريات بأن نقول: لو عدم الحواس الخمس مثل: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فإن هذه لا شك يحصل بها علم ضروري، ولو عدمت يسمى عاقلاً ويكون عاقلاً، ولهذا لو قيل له ما يضره وما ينفعه اختار ما ينفعه. وعكس هذا الصبي والبهيمة فإنه يحصل لهم علم ضروري، مثل حسهم بالألم وغير ذلك، مع هذا لا يكونون عقلاء، فيثبت أيضاً أنه ليس بجميع العلوم الضروريات وإنما هو بعضها، مثل: أن يعلم الإنسان استحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين، وعلمه بوجود العالم، وهل كان له ابتداء، أو لم يكن له ابتداء، ومثل علمه بأخبار التواتر، مثل أن يخبر بالبلاد النائية، والرسل الماضية، فهذا يحصل له العلم (الضروري) ومثل أن يرد عقله خرق العادات فهذا يكون عاقلاً.

47 - فصل: قال أصحابنا إن العقل عندنا في القلب وهو اختيار أبي الحسن التميمي وابن الفراء وشيخنا. وبه قال جماعة من الفلاسفة. وروي ابن شاهين عن أحمد أنه قال محله الرأس وبه قال جماعة من الأطباء.

48 - ووجه ما اختاره شيخنا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. أي عقل، فعبّر بالقلب عن العقل لأنه محله، وقد يعبر بالشيء عن الشيء لأجل مجاورته. والدليل عليه أنّا نسمي النجو غائطاً، وإن كان هذا اسم لمحل الغائط وهي الأرض المنخفضة، وإنما لأجل المجاورة سمي به. وكذلك تسمى المزادة راوية وإن كان هذا اسم الجمل وإنما سمي لأجل المجاورة. وأيضاً قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}. فجعل العقل في القلب. وأيضاً قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى 8 أ/ الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي يتغطى على العقل الذي في الصدر. وأيضاً قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}. والفقه هو العلم والفهم والمعرفة، وهذه الأشياء هي العقل.

49 - وأيضاً ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرحمة في الكبد، والقلب ملك، ومسكن العقل القلب". 50 - وأيضاً ما روي عن عمر أنه كان يقول إذا دخل عليه ابن عباس: "جاءكم ((فتى الكهول)) ذو اللسان السؤول والقلب العقول". وأيضاً ما روى عياض بن خليفة عن علي رضي الله عنه:

أنه خطب يوم صفين فقال: "الرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة، والعقل في القلب". وأيضاً ما روي عن أُبي بن كعب وأبي هريرة أنهما قالا: "العقل في القلب". وأيضاً فإنا قد دللنا أن العقل هو بعض العلوم الضروريات، والعلوم الضروريات لا تكون إلا في القلب. 51 - واحتجوا: بأن العقلاء تراهم يضيفون العقل إلى الرأس: فيقولون: هذا ثقيل الرأس، وهذا في دماغه عقل، وعكس هذا يقولون: هذا فارغ الدماغ، وهذا ليس في رأسه عقل.

والجواب: أن قولهم هذا ثقيل الرأس، وهذا في دماغه عقل، صحيح لأن أبا الحسن التميمي قال: هو نور في القلب يفيض إلى الرأس وإلى سائر الحواس (فيضيفونه) إلى الرأس، لأنه يفيض العقل إلى الرأس. وأما من قال: هذا فارغ الرأس، وهذا ما في دماغه عقل، فإنما قيل ذلك لأنه يقيس الإنسان عليه فيكون مثل جفاف الرأس والسودة. وغير ذلك، فيمنع من النور الذي يصعد إلى الرأس. واحتج بأن قال: (إن) الإنسان إذا ضرب على رأسه يزول عقله، ولو ضرب على جميع بدنه لم يزل عقله. الجواب: إن هذا ليس دليلاً على أن العقل في الرأس، ألا ترى أن الإنسان يؤخذ (انثياه) فيزول عقله، ولا أحد قال إن العقل هناك. 52 - فصل: قال أصحابنا إن العقل يختلف، فمن الناس من يكون عقله كثيراً، ومنهم من يكون عقله قليلاً، ويزيد

وينقص خلافاً للأشعرية، والمعتزلة في قولهم هو شيء واحد في جميع الناس لا يزيد ولا ينقص. 53 - دليلنا: ما روى أبو الحسن التميمي بإسناده في كتاب العقل عن طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما أصلح بين المهاجرين والأنصار، خطب إلى أن قال: تبارك الذي خلق العقل وقسمه بين عباده واستأثر، وإن الرجلين يستويان في عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما، وإن عقل أحدهما مع عقل الآخر كذرة في جنب أحد".

وروي أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله عبد الله بن سلام المسائل فقال: يقول الله تبارك وتعالى: "إني خلقت العقل أصنافاً وأشتاتاً أخر بعدد الرمل 8 ب/ فمن الناس من أعطيته الحبة والحبتين والثلاث والأربع، ومن الناس من أعطيته الفرق والوسق والوسقين، وأقل وأكثر وأضاعف لمن أشاء". وروي أيضاً بإسناده عن ابن عباس أنه قال: "خلق الله العقل عشرة أجزاء فجعل (تسعة) في الأنبياء وجزءاً في جميع الخلق".

وروي أيضاً بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم". وأيضاً ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أقدر على سلب ذوي العقول عقولهم منكن يا معشر النسوان. فقيل: يا رسول الله ما علامة نقصان عقولهن وأديانهن؟ فقال: جعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، والمرأة تمكث شطراً من عمرها لا تصلي ويمضي عليها اليوم والخمسة لا تصلي سجدة واحدة". 54 - وأيضاً الإجماع وهو أن كل الناس يقولون عقل فلان قليل، وعقل فلان (أكثر) من عقل فلان، وفلان غير عاقل.

قيل: هذا كله يراد به أكثر استعمالاً وتدابراً وتفكراً من الآخر. قيل: فذلك التدبر والتفكر علامة على كثرة العقل، إذ لو كان مثل الآخر لما تفكر أكثر ولا تدبر. 55 - واحتج المخالف بأن قال: ((أجمعنا)) أن العقل هو بعض العلوم الضرورية من استحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، والعقلاء في هذا متساوون. الجواب: لعمري إن العقلاء في هذا متساوون، لكن من عقله كثير يتدبر دقائق العلوم ويتفكر في الأشياء، وليس كل الأجسام تظهر ولا كل ضدين يعرف، وإنما الكثير العقل يتدبر ذلك بقوة عقله. واحتج بأن قال: هذا يفضي إلى أن يكون بعض العقلاء (لا يستتب) له أمر، ولا يصلح له شأن لأنه لا يفتكر في غوامض الأمور.

الجواب: أنه يستتب له أمر، لكن من عقله أكثر شأنه أصح لأنه يتفكر فيما يؤول أمره إليه وفيما يصلحه وما يفسده فتراه أبداً أصلح شأناً من القليل العقل. 56 - فصل: وحد الجهل: تبين المعلوم على خلاف ما هو به. وقيل: تخيل العلوم على ((خلاف)) ما هو به. وقيل: انعقاد المعلوم على خلاف ما هو به. وهذه عبارات متقاربة. 57 - فصل: وهو الشك: هو تجويز شيئين لا مزية لأحدهما على الآخر. فصل: وحد غلبة الظن: قوة أحد التجويزين على الآخر. فصل: وحد السهو: ذهول القلب عن النظر في المعلوم.

58 - فصل: والنظر على ضربين: نظر بالعين ونظر بالقلب. فحد نظر العين: هو إدراك المنظور بالبصر. وحد نظر القلب: هو التفكر في حال المنظور فيه. وحد المنظور فيه: هو الأدلة 9 أ/ والإمارات، (الموصلة) إلى المطلوب. وأما المنظور له: فهو الحكم المطلوب. وأما ((الناظر)): فهو الفاعل للنظر. 59 - فصل: وحد الجدل هو تردد الكلام بين الخصمين، بطلب كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول خصمه. وقيل: هو إحكام كلامه ليرد به كلام خصمه. وهو مأخوذ من الإجدال، ولهذا يقال: درع مجدولة أي محكمة العمل. ترد ما يصل إليها من حديد وغيره. ولذلك يقال: حبل مجدول، أي كثير الفتل. 60 - فصل: (وحد) البيان: هو إظهار المعلوم للمخاطب منفصلاً عما يشكل به أو يلبس لأجله. والبيان مأخوذ من الانفصال والقطع، والدليل عليه قول

النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بان من حي فهو ميت" وقول الشاعر: بان الخليطُ ولو طوّعت ما بان ... وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا أي: انفصل عنهم، كذلك يقال: أبان عضواً إذا فصله، (وأبان) الرجل زوجته إذا قطع نكاحها. وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو بكر الصيرفي، في حد البيان: إخراج المعنى من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، وقال

شيخنا: هذا حد قاصر، لأنه لا يدخل فيه إلا ما كان مشكلاً ثم أظهره الشرع بعد ذلك، وأما ما بينه ابتداء من القول: هذا حلال، فهذا ما كان مشكلاً. وقال أبو الحسن التميمي: هو الدليل المظهر للحكم. قال ابن الفراء: هذا غير صحيح؛ لأن من الأدلة ما يظهر الشيء وهو مجمل. قال شيخنا لأبي الحسن: أن تقول ما كان مجملاً ليس عندي دليل، وإنما ما أظهر الشيء فهو دليل. وقال بعض العلماء: هو العلم الذي يظهر المعلوم على ما هو به. 61 - فصل: والبيان يحصل من أوجه: منها: بيان الحكم المبتدأ وقد تقدم ذكره.

ومنها: ما يختص بالعموم. ومنها: تفسير المجمل. ومنها: ما يراد به ((صرف الأمر إلى الندب والإباحة)). ومنها: صرف الخبر إلى الأمر. ومنها: صرف الحقيقة إلى المجاز. ومنها: نسخ ما كنا نعتقد بقاءه على الأبد. 62 - فصل: والذي يحصل به البيان أدلة الشرع وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقول واحد من الصحابة في إحدى الروايتين. 63 - فصل: والدليل هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود، ولا فرق بين أن يحصل العلم أو غلبة الظن. وقال بعض المتكلمين: والدليل ما أوجب العلم، وأما الذي يوجب غلبة الظن فهو أمارة. وهذا باطل لأن أهل العربية لا يفرقون بين الذي يوجب العلم. وبين الذي يغلب عليه الظن لأنهم سموا كل واحد منهما دليلاً، ولأنه يوجب العمل فكان دليلاً كالذي يوجب العلم. فصل: والدلالة هي فعل الدليل لأنها مصدر له يقال: دلّ، يدل، دلالة.

فصل: والدّال: هو سُمِّيَ الناصب للدليل، وهو صاحب الشرع 9 ب/ لأن كل من نصب دليلاً/ سمي دالاً، وقيل: إنه هو الدليل على وزن فاعل وفعيل وعالم وعليم وسامع وسميع. والمستدل: هو الطالب للدليل، وقد يقع للسائل والمسؤول، لأن السائل يتطلب الدليل من المسؤول، والمسؤول يطلب الدليل من الأصول. فصل: وأما المُسْتَدَلُّ عليه فهو: الحكم. وأما المُستدلُّ له فهو: الخصم، وقيل: إنه الحكم أيضاً. 64 - فصل: وأما الحجة فهي: المبينة للحكم، يقال لبينة الرجل: حجة. 65 - فصل: وأما السائل فهو: المستخبر الطالب. وأما المسؤول فهو: المخبر. وجوابه: الخبر. 66 - والخبر: ما جاز أن يدخله الصدق والكذب. والصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به وهو مأخوذ من الثبوت. قال تعالى: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي قدم ثابت، وسمي المهر صداقاً، لأنه يثبت في النكاح، سمي أو لم يسم،

وسميت الزكاة صدقة، لأنها تثبت المال وتنقيه، ويقال: صدق الجريب. إذا بلت فيه، وسميت الصداقة صداقة لأنها تثبت المودة. وأما الكذب: فهو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به. 67 - وأما المحال: فهو ما لم يكن ولا يمكن كونه، وكل محال كذب، وليس كل كذب محالاً، لأنه إذا قال: زيد قائم ولم يكن يراه قائماً فغن هذا كذب ويجوز أن يكون قائماً. ولو قال: رأيت جسماً متحركاً ساكناً فإن هذا كذب ومحال لأنه لا يجوز. كذلك ها هنا. 68 - فصل: وأما الصواب فهو: ما وافق سبيل الحق. وأما الطاعة. (فهي): موافقة الأمر. وأما المعصية: فهي مخالفة الأمر. وأما الإصرار: فهو الدوام على الشيء: يقال: صرَّ القرطاس إذا أمسكه وأدام مسكه. 69 - وأما الفرض: فهو ما ثبت بأعلى منازل الثبوت.

وأما الواجب: فهو ما أثيب على فعله وعوقب على تركه. وأما المندوب: فهو ما ندب الشرع إلى فعله لأجل الثواب. وأما النافلة: فهي ما فعلها الإنسان لأجل الثواب. 70 - وأما الرأي: فهو غاية الفكر. وقيل: استخراج صواب العاقبة. وأما الترتيب: فهو وضع الشيء في موضعه. وقيل: وضع الشيء في موضع هو أحق به. 71 - فصل: وأما الباطل: فهو الحكم على الشيء على خلاف المأمور. وقيل: هو انعقاد الشيء على خلاف الأمر. وأما اليقين: فهو وضوح حقيقة الشيء في النفس. فأما الاعتقاد: فهو القطع على ما خطر بالبال. 72 - وأما العبادة: فهي التعبد والتقرب إلى الله، وهي مأخوذة من التذلل.

يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً بالمشي، وسمي العبد 10 أ/ عبداً لأنه يتذلل لسيده، وهو يحصل بثلاثة أشياء: بالأقوال والأفعال والتروك. فأما الذي يحصل بالقول فمثل: القرآن والتسبيح وغير ذلك. وأما الذي يحصل بالفعل فمثل: الصلاة والصيام وغير ذلك. وأما ما يحصل بالترك فهو مثل: ترك المعاصي وترك (النجاسة) وغير ذلك. وقال أصحاب أبي حنيفة: ما وجد فيها النية. وقد بينا حدها في اللغة ((و)) من قبل الشرع. 73 - وأما السنة: فهي الشريعة والطريقة، وضعت لتحتذى ويقتدى بها.

قال الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي شريعة الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ" يعني فاتبعوها. 74 - وأما الأمر فهو: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وإن شئت قلت هو: استدعاء الفعل بالقول من (الأعلى). وإنما قلنا بالقول لأنه قد يكون استدعاء الفعل بفعل مثل الإشارة ولكن لا يكون ذلك أمراً. وإنما قلنا على وجه الاستعلاء (لأنه قد يحصل استدعاء فعل من النظير للنظير ومن الأدنى للأعلى، لكن لا يسمى ذلك أمراً) وإنما يسمى سؤالاً. وأما النهي: فهو استدعاء الترك بالقول. وقيل: هو استدعاء المنع بالقول. وإنما قلنا بالقول لأنه يحصل الترك والمنع بالفعل مثل أن يقيد عبده ويمنعه عما يريد، لكن لا يسمى ذلك نهياً.

75 - وأما الإباحة: فهي مجرد الإذن، يقال لمن أذن للإنسان في دخول داره أو بستانه أو أكل طعامه أباحه ذلك. وأما المباح: فهو كل فعل مأذون فيه، لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. ولا يلزمنا أفعال الصبي والمجنون فإنها لا شك لا يثابون على فعلها ولا يعاقبون على تركها. لكن احترزنا من هذا بأن قلنا كل فعل مأذون فيه. 76 - وأما المستحب: فهو الذي للإنسان فعله. وأما القبيح: فهو ما ليس للإنسان فعله. فعلى هذا يكون المباح مستحباً. وقيل: (المستحب ما) مدح الإنسان على فعله. والقبيح: ما ذم على فعله. وعلى هذا لا يدخل المباح في المستحب. 77 - وأما الجائز: فهو: ما وافق الشرع، يقال صلاة جائزة، وصوم جائز، وما أشبه هذا، وهذا يختص بالأفعال، ويستعمل في العقود الجائزة، كعقود المضاربات والشركات والوكالات وغير ذلك.

وأما التجوز فهو: العدول عن الحق. وأما العدول فهو: الميل إلى الحق، وهو وضع الشيء في موضعه. وأما الظلم فهو: مجاوزة الحد. 78 - وأما الصحيح فهو: ما اعتد به. وأما الفاسد: فما لم يعتد به. وأما الإجزاء فهو: ما حصل به الكفاية. 79 - وأما الشرط فهو: ما وجد الحكم بوجوده وانعدم بانعدامه مع قيام سببه، مثل: ما نقول في الرجم فإن الإحصان شرطه والزنا سببه فلو عدم الإحصان عدم الرجم. 80 - وأما السبب فهو: ما توصل به إلى الشيء. وهو يقع في أشياء:

أولها: (هو عبارة عن الطريق والدليل عليه قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي طريقاً). (وهو) عبارة عن الباب، والدليل عليه قوله تعالى في قصة فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ}. أي أبواب السموات والأرض. وكذلك قول الشاعر 10 ب/: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم وهو عبارة عن الحبل لأنه يتوصل به إلى الماء، والدليل عليه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أي بحبل إلى السماء وهو عبارة عن الشفيع. والدليل عليه قول الشاعر: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نُجْحُ الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يُرجى الطبيب لقوة الأوصاب

81 - فصل: والكلام: مجموع أصوات وحروف تنبئ عن مقصود المتكلم. وهي ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف. فالاسم: مأخوذ من السمة وهي العلامة، وحده: كل لفظ أفاد معنى غير مقترن بزمان معين، وقيل: كل معنى أمكن تصوره. والفعل: ما دل على حدث وزمان معين. والحرف: ما دل على معنى في غيره لا في نفسه وهو في المعنى جانب الشيء. يقال حرف الوادي أي: جانبه، وحرف الرغيف أي جانبه. 82 - فصل: والأسماء على أضرب: منها: ما وضع أعلاماً وألقاباً ليحصل بها التمييز، فهي كالإشارة كقولك زيد وبكر وعمرو. ومنها: ما وضع ليسمي به صورة فأي (وقت) وجدت تلك الصورة سمي بها كقولك قوس، وكقولك إنسان.

ومنها: ما وضعت للجنس، كقولك العلم فإنه يدخل فيه جميع العلوم، ومثل قولك حيوان، فإنه يدخل فيه كل حيوان. ومنها: ما وضع لمعنى في المسمى كقولك ابن، وأب، وفوق، وتحت، فإن الأب لا يكون أباً حتى يكون له ولد، ولا يكون ولد إلا وله والد. ومنها ما اشتق من فعله كقولك: ضارب وآكل وشارب. 83 - فصل: وقد يتفق الاسم ويختلف المعنى كالقرء فإنه اسم للحيض واسم للطهر، وكالشفق فإنه اسم للحمرة والبياض. وقد يتفق المعنى ويختلف الاسم مثل الزكاة والصدقة فإن معناهما واحد واسمهما مختلف. 84 - والأسماء على ضربين: منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص. فأما ما هو عام فهو على ضربين: منه عام ليس هناك شيء أعم منه، وهو مثل قولك: شيء ومعلوم وموجود وذات أو ما شابه هذا. ومنه ما هو عام بإضافته إلى ما هو أخص منه، وهو مثل قولك: عرض، فإن هذا عام بإضافته إلى لون، لأن العرض يعم اللون والطعم والرائحة، وهو خاص بإضافته إلى ما هو أعم منه وهو شيء لأن الشيء يعم العرض وغيره. وأما الخاص فعلى ضربين: خاص ليس هناك شيء أخص منه، وهو مثل تسمية الأعيان كقولك: يد، رجل، عين، وما أشبه هذا.

ومنه ما هو خاص إلا أن هناك ما هو أخص منه، وهو مثل قولك حيوان: فإن هذا اسم خاص لما فيه روح، لكن هناك ما هو أخص منه وهو آدمي أو فرس. 85 - فصل: وقد يكون اسم واحد لشيئين متضادين مختلفي المعنى وهو حقيقة فيهما، مثل القرء فإنه اسم للطهر حقيقة، واسم للحيض حقيقة. وإن كان معناهما مختلفاً، ومثل سليم فإن هذا اسم للصحيح واسم للملسوع وهو حقيقة فيهما، وإن كان معناهما 11 أ/ مختلفاً، ومثل قولك عالم فإن هذا اسم للمحدث والقديم حقيقة، وإن كان معناهما مختلفاً لأن علم المحدث هو إما علم ضروري أو اكتساب والقديم لا يوصف بهذا. 86 - فصل: والأسماء على ضربين: منها ما هو مشتق ومنها ما هو وضع. فأما ما هو مشتق فمثل أحمد ومحمد وعلي، فإن أحمد مشتق من حامد، وعلى من عال وغير ذلك. وما هو وضع فهو: مثل قولك: يد، عين، رجل وغير ذلك. 87 - مسألة: اختلف الناس في اللغات والأسماء،

فمنهم من قال (هي) وضع، ومنهم من قال (هي) توقيف، ومنهم من قال يجوز أن يكون وضعاً ويجوز أن يكون توقيفاً، ((ومنهم من قال)) ويجوز أن يكون بعضها توقيفاً وبعضها وضعاً. (وبهذا) قال ابن الفراء قال شيخنا: الذي يقوى عندي أنها وضع بإلهام من الله تعالى وقوة جعلت في المخلوقين حتى وضعوها، ثم عاد شيخنا فقال: الصحيح ما قال ابن الفراء.

88 - والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}. أي بلغه قومه، فجعل اللغة لهم والوضع إليهم. وأيضاً فإنه لا يجوز أن يكون توقيفاً لأن المخاطب لا يخاطب من لا يفهم بما لا يفهم فيكون ذلك لغواً، ألا ترى أنه لو خوطب أعرابي بالزنجية فإنه لا يفهم ويكون ذلك لغواً، وكذلك الزنجي بالعربية. وأيضاً فإنه لو كانت توقيفاً لما اختلفت اللغات، لأنه لم نعلم لآدم جميع اللغات، فلما اختلفت اللغات دلّ على أن هذا وضع، والذي يؤكد هذا أنا نرى أهل الصنائع المحدثة قد وضعوا أسماء لآلة صنائعهم، ولهذا تختلف أسماء الأشياء في البلدان. وأيضاً فإن الله لما خلق الخلق دعتهم الحاجة إلى التمييز بين الأشخاص والأشياء، فأشاروا إلى كل شيء باسم وميزوا بذلك الاسم بينه وبين غيره، فصار ذلك علماً له.

89 - احتج المخالف بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا يدل على أنها توقيف. الجواب: أنه قيل إن علم آدم أسماء ذريته حسب. وقيل: إنه علمه أسماء ملائكة معينين، فلهذا قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وهذا خطاب لمن يعقل. ولو أراد به جميع الأشياء لقال ثم عرضها على الملائكة. الثالث: أراد به أسماء ما كان مخلوقاً في ذلك الوقت ونحن لا نمنع أن يكون بعض الأسماء توقيفاً. الرابع: أن هذه الآية محتملة لأنه يحتمل أنه علمه يعني: ألهمه، أو علمه البعض، أو جعل له قوة حتى وضع هذه الأسماء، ويحتمل ما قلتم، وإذا احتمل هذا وهذا وقف، وهو أنا نحمله على ما ذكرنا بأدلتنا. والذي يؤيد هذا أنه كان قبل آدم لغة وهو قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} فثبت بهذا أنه ما علمه جميع الأسماء. احتج بأنه يبعد مع كثرة الناس، واختلاف آرائهم، وبعد مقاصدهم أن يجتمعوا على وضع شيء.

والجواب 11 ب/ أن في بدء الخلق كانوا قليلين فيمكنهم الوضع، ولهذا قيل: إن الذين خرجوا من السفينة كانوا ثمانين نفراً، وهؤلاء يمكنهم الاجتماع على وضع. الثاني: أنه لا يجوز أن يكون توقيفاً لما ((اختلفت)) اللغات، ونحن نعلم أنها مختلفة. والثالث: أنه يحتمل أن الله جعل لهم همة أن وضعوا هذه الأسماء، كما جعل لهم همة في أكلهم لما ينفعهم واجتنابهم ما يضرهم.

90 - فصل: والكلام على ضربين: مهمل ومستعمل. فالمهمل: ما لم يفد معنى ولا حاجة إليه. وأما المستعمل: فما أفاد معنى. وهو على ضربين: (ضرب) يدخله الحقيقة والمجاز، وضرب لا يدخله الحقيقة ولا المجاز. فأما ما لا يدخله الحقيقة ولا المجاز فمثل الألقاب، كقولك زيد وبكر وخالد، فهذه أعلام لا يدخلها الحقيقة ولا المجاز. وأما الذي يدخله الحقيقة والمجاز، فهو كل اسم مشتق كقولك: قاتل، وضارب، وشارب، وشاتم، وشجاع، وغير ذلك. 91 - إذا ثبت هذا، فحد الحقيقة: كل اسم أفاد معنى على ما وضع له. وحد المجاز: كل اسم أفاد معنى على غير ما وضع له. وقيل حد الحقيقة: كل اسم وقع عليه الاصطلاح على ما وضع له حين التخاطب. وحد المجاز: كل اسم غير ما وقع عليه الاصطلاح على ما وضع له حين التخاطب.

وهذا حد قاصر لأن قائل هذا عنده (لو) وضع واضع اسم محدث يفيد معنى، فإنه لا يكون حقيقة ولا مجازاً وكل اسم لا يدخله الحقيقة ولا المجاز فهو مهمل، فهذا حد قاصر من هذا الوجه. فقيل: أنتم تقولون مثله لأن عندكم لو سميت السماء بالأرض لا يجوز ذلك، وإن كان هذا المعنى موجوداً. قيل: لا نسلم ونقول عندنا (يجوز)، ومن سلم قال: إذا سميت السماء بالأرض لا يفيد معنى ولا يستدل بها على السماء، وليس كذلك إذا سمى الرجل أسداً، فإن المراد به أنه في الجرأة والقوة والوقاحة. 92 - فصل: اختلف الناس في اللغة، فقال الأكثرون: يدخلها الحقيقة والمجاز، وقال البعض: لا يدخلها المجاز بل هي حقيقة. 93 - وقائل هذا لا يخلو إما أن يقول إنهم سموا الرجل البليد حماراً، والشجاع أسداً: والرجل السخي بحراً، أو ما سموه بهذه الأسماء، فإن قال ما سموه فلا يتكلم معه لأنه مكابرة (للمشاهدة)، وإن قال سموه بهذه الأسماء لكن هي حقيقة فيه.

قيل: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه لو كان حقيقة فيه، لكان إذا قال: رأيت حماراً، أن لا يسبق إلى فهمه الحمار المعهود، بل ينزل هو والرجل البليد لأنه على قوله حقيقة فيهما، فلما سبق فهمه دل على أنه مجاز في الرجل البليد. والثاني: أنه يحصل نفيه، فإن قال: أردت أنه في البلادة وقلة الذكاء مثله. قيل: فهذا التشبيه يدل على أنه مجاز. فإن قيل فنحن نقول: هو حقيقة إذا انضمت إليه ((مثل)) هذه القرائن. قيل: هذه التشبيهات في كتب أصحاب اللغة وأشعارهم مجاز. والثاني: أنه لما احتاج إلى قرينة دل على أنه مجاز لأن الحقيقة لا تحتاج إلى قرائن 12 أ/. 94 - احتج المخالف بأن الحقيقة قد عمت جميع الأشياء، فما بنا حاجة إلى المجاز، لأنه لا يفيد ويكون ذلك عبثاً. والجواب: أنه يفيد (الغاية) لأنه لو قال: هذا رجل سخي كريم سمح ما بلغ بمثل قوله: هذا بحر، والثاني: أنه يفيد الاختصار في الكلام وحذفه وعدم تطويله لأنه إذا أراد أن يصف نفسه

لا يحتاج أن يقول: سل عني خالداً، أو سل عني حفصاً، وكيف قتلت فلاناً وفعلت، بل يقول: سل عني اليوم الفلاني وسل عني سيفي، ولهذا قال الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} معناه أهل القرية. 95 - فصل: اختلف الناس في القرآن هل فيه مجاز أ/ كله حقيقة؟ فقال (الأكثرون): فيه مجاز، ونص على هذا أحمد (رحمه الله). وقال بعض أهل الظاهر وبعض أصحابنا: ليس فيه مجاز بل كله حقيقة. 96 - والدليل على الأول: أن القرآن عربي بلغة العرب أنزله الله تعالى فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا}، وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}،

وقال: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}، ومثل هذا كثير، ثم وجدنا أن لغة العرب يدخلها المجاز فكذلك ((هنا لأنه)) بلغة العرب. فإن قيل: لا نسلم أن لغة العرب يدخلها المجاز. قيل: قد أجبنا عن هذا الفصل قبله. وأيضاً فإن حد المجاز: هو ما يجوز أن يعرب عن الشيء بخلاف ما وضع له، وهو أحد زيادة أو نقصان أو استعارة أو تقديم أو تأخير، وهذه الأشياء موجودة في القرآن. فأما الزيادة، فمثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهذه كاف زائدة لا يحتاج إليها. وأما النقصان فمثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وإن كان معناها أهل القرية، وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} معناه صاحب قول الحق. فأما الاستعارة فمثل قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ((وإن)) كان الجدار ليس له إرادة، فاستعار

الإرادة، وإنما معناه يكاد، وكذلك قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}. وإن كانت الصلاة لا تهدم، وإنما استعارها بدل قوله مكان الصلوات. وأما المقدم والمؤخر فمثل قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى* فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}. معناه خلق المرعى أحوى فجعله غثاء، ومثل هذه الأشياء كثيرة في القرآن. فإن قيل: هذا ليس بمجاز وإنما هو زيادة ونقصان (واستعارة) وتقديم وتأخير. قيل: هذا هو المجاز على ما بيناه، وإلا بينوا المجاز ما هو حتى ننظر فيه هل هو في القرآن أم لا؟

فإن قيل: يجوز أن يأذن الله للقرية حتى تجيبهم، ويجوز أن يجعل للجدار إرادة. قيل: إن الله تعالى لم يخرجه مخرج المعجز وإنما أخرجه مخرج الخبر، وكل موضع في القرآن ذكر قرية فهو أهل قرية، والدليل عليه قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} إلى قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}. وإن كانت القرية ما عتت عن أمر ربها، ولا تحاسب حساباً شديداً ولا تعذب وإنما أهل القرية. 97 - واحتج المخالف بأن قال: المجاز لا ينبئ 12 ب/ (عن) المراد، فإذا لم ينبئ عن المراد كان ذلك إلباساً وإشكالاً، والقرآن لا يجوز أن يكون فيه تلبيس لأنه بيان، والدليل عليه قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. الجواب: أنه يكون إلباساً لو لم تكن قرينة تدل على المراد، فلما كانت هناك قرينة تدل على المراد دل على أنه ليس فيه إلباس. والثاني: أن القرآن ليس كله بياناً، وإنما فيه ما يحتاج إلى بيان، والدليل عليه قوله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.

ومعلوم أن المتشابه يحتاج إلى بيان، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ولو كان جميعه تبياناً لما احتاج إلى مبين. واحتج بأن قال: العدول عن الحقيقة مع القدرة عليها يكون ذلك عجزاً، والله تعالى لا يوصف بالعجز. الجواب: إن هذا صحيح لو لم يستعمل مع القدرة على الحقيقة لفائدة ومعنى، ونحن نعلم أن فيه فائدة ومعنى، وهو الاختصار والفصاحة والإيجاز والتأكيد والاستعارة والمبالغة، على أنه لو لم يعلم له معنى لجاز أن يكون معناه عند الله تعالى لا نعلمه. الثاني: أن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلغة العرب وعجزهم أن يأتوا بمثله، ولو كان جميعه حقيقة لما حسن أن يعجزهم لأنهم يقولون فلو كان بلغتنا لكنا نقول مثله لأن لغتنا فيها حقيقة ومجاز واستعارة. وتقديم وتأخير وغير ذلك، فلما جاء به على لغة العرب وجدوها، ولهذا كرره في مواضع كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كما تكرر العرب أشعارها من قولهم: (قرّبا مربط النعامة مني) عجزهم بعد ذلك مع فصاحتهم.

والثالث: أنه لو حسن أن يقال العدول عن الحقيقة مع القدرة عليها عجز، حسن أيضاً أن يقال العدول عن المجاز مع القدرة عليه عجز. فإن قيل: الحقيقة فيها منفعة للعباد لأنهم يعرفون بها سائر الأشياء من الأحكام وغير ذلك صورة، والمجاز ما بهم حاجة إليه. قيل: بل فيه منفعة، وهو ما بيناه من الإيجاز والاختصار والمبالغة وهذا هو فصاحة فلا فرق بينهما. احتج المخالف بأن قال: لو كان في القرآن مجاز، لجاز أن يسمى الله تعالى متجوزاً أو مستعيراً لأن القرآن صفة من صفاته، فلما لم يجز أن يسمى به دلّ على أن ليس في القرآن مجاز. الجواب: أنه ليس كل صفات الله تعالى يسمى بها. نحن نعلم أن في القرآن حقيقة ولا يسمى الله متحققاً. والثاني: أن أسماء الله تعالى تثبت توقيفاً ولم تثبت قياساً ولا اشتقاقاً، فلو كان سمى الله نفسه متجوزاً لسميناه كذلك. الثالث: (أنه) إنما لم يسم الله متجوزاً ولا مستعيراً لأنها أسماء نقص، لأن المتجوز: من يفعل ما ليس له فعله، والمستعير: هو ما لا يكتفي بنفسه فيستعير ملك الغير، وتبارك الله وتعالى عن ذلك. احتج بأن: القرآن حق، والحق لا يكون إلا حقيقة.

الجواب 13 أ/: أنه قد يكون حقاً ولا يكون حقيقة، ويكون باطلاً ويكون حقيقة، والدليل عليه أن فرعون أخبر الله تعالى عنه في القرآن فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}، فمعلوم أن هذا باطل وإن كان حقيقة، وعكس هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشه رفقاً بالقوارير" ومعلوم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم حق، (لكن ليس هو) حقيقة لأن القوارير هي غير النساء. 98 - فصل: والذي يفرق (به) بين الحقيقة والمجاز شيئان أحدهما: نص أهل اللغة، والثاني: الاستدلال. فأما نص أهل اللغة فهو ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقولوا هذا حقيقة وهذا مجاز. الثاني: أن يحدوا حداً للحقيقة وحداً للمجاز. الثالث: أن يضعوا كلمة فيقولوا هذه حقيقة فما زاد عليها ونقص منها أو تغيرت صفتها صارت مجازاً. وأما الاستدلال فيحصل من وجهين:

أحدهما: أن يقال كلمة فيسبق إلى الفهم معنى (تلك) الكلمة من غير قرينة. فهذه الكلمة حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره. الثاني: أن يكون الاسم مطرداً على المعنى على ما وضع له، مثل أن يقول رجل فهذا اسم للذكر، وهو مطرد في كل موضع لأنك أي وقت قلت رجل لا يكون إلا ذكراً فهذا حقيقة فيه، وما لا يطرد يكون مجازاً مثل قولك للرجل الطويل نخلة. فإن هذا (الاسم) لا يطرد لأنك لا تسمي كل شيء (رأيته طويلاً) نخلة مثل الرمح والشجرة والناقة وغير ذلك. فهذا مجاز في الرجل. 99 - فصل: وكل مجاز في شيء لا بد أن يكون حقيقة في غيره، وليس كل حقيقة ينبغي أن تكون مجازاً، وإنما كان كذلك لأن المجاز هو ما تجوز به عن أصل الحقيقة والموضوع له، بخلاف الحقيقة فإن أصله الموضوع له هو الحقيقة، فلا يفتقر إلى أصل آخر وليس له أصل آخر. 100 - فصل: اختلف الناس في الأسماء المشتركة في الأشياء المتضادة، كالقرء فإنه اسم للحيض واسم للطهر، فقال الأكثرون: هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر. ((ومنع منه قوم)).

واستدلوا عليه بأن قالوا: الأسماء إنما وضعت ليفهم بها المعنى ويميز بها بين الأشياء، فإذا ورد خطاب من المخاطب لا يفهم معناه بطل حينئذٍ بغير (الوضع) فلا يكون حقيقة فيهما. الجواب عن هذا وهو الدليل لنا: أنه لا يمتنع أن يكون قبيلة من العرب قد وضعوا القرء اسماً للحيض وشاع ذلك بينهم، وقبيلة أخرى من العرب قد وضعوا القرء اسماً للطهر ثم انقرضت القبيلتان وبقتي تلك الأسماء بين الناس حقيقة في كل واحد من المعاني، وعلى أنه قد يخاطب المخاطب بالشيء مفسراً فيعرفه بنفس الكلام، مثل أن يقول: رأيت سواداً، ويخاطب أيضاً بالشيء مجملاً مع ما يضاده فيعرف مقصوده إما بقرينة أو بتفسير منه، مثل أن يقول: رأيت لوناً، فإن هذا يقع على أشياء مختلفة وهو حقيقة في أشياء مختلفة، مثل قولهم: عين، فإن هذا يقع على عين الإنسان، وعين الماء، وعين الذهب، وعين الرقية، وهو حقيقة 13 ب/ فيهما، وكذلك قولهم لون ((وجون)) وغير ذلك، فكذلك لا يمنع أن يكون هذا مثله. 101 - فصل: عندنا أن الأسماء منقولة من اللغة إلى الشرع وهي حقيقة فيه، وبهذا قال أبو حنيفة والمعتزلة وهو اختيار شيخنا.

وقالت الأشعرية: لم تنقل الأسماء من اللغة إلى الشرع، وإنما أضيف إليها أشياء أخر، وهذا مثل الصلاة، فإنها عندهم هي الدعاء حسب وإنما أضاف إليها الشرع شيئاً وكذلك الحج هو القصد عندهم وأضيف إليه شيء آخر، وكذلك الصيف هو الإمساك في اللغة وأضاف الشرع إليه أشياء أُخر. وهذا اختيار ابن الفراء وللشافعي قولان كالمذهبين. وفائدة الخلاف أن يخاطبنا الشرع بشيء مثل الصلاة، فإن عندنا هو محمول على الصلاة الشرعية لا يجوز العدول عن ذلك إلا بدليل وقرينة، وعندهم المراد به الصلاة اللغوية ولا يجوز العدول عنها إلى هذه الشرعية إلا بقرينة. والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما أنه يجوز نقل الأسماء (ويحسن) ذلك، والثاني أن الأسماء (منقولة). 102 - (والدليل على أنه يجوز نقل الأسماء: أن الواضع لما وضع هذه الأسماء) كان يمكنه أن يضعها على غير هذه المعاني،

بأن يسمى الأسود أبيض، والأبيض أسود، وهذا صحيح لأن المعاني كانت موجودة قبل الأسماء ومنفكة عنها، فإذا كان يمكنه ذلك أمكنه لأن ينقلها. فإن قيل: لا يجوز أن ينقلها، لأن نقلها عما وضعت له يكون قلباً للحقيقة، وقلب الحقائق مستحيل. قيل: المستحيل هو المعدوم، وقد بينا أنه كان موجوداً وكان أيضاً المعنى منفكاً عن الأسماء، وإنما قد يكون قلب الحقيقة في الاسم الذي لم ينفك عن مسماه. وأيضاً فإن الله تعالى أمر بالعبادة وذلك المصلحة، وقد يجوز أن يكون نقل الأسماء للمصلحة، والمصلحة وجه حسن. وأيضاً: فإن (الشارع) قد سمي في الشرع أسماء لم تكن في اللغة، مثل: الإسلام والإيمان والكفارة والعدة، وقد يكون مثل هذا، ألا ترى أن الإنسان يولد له ولد فيسميه باسم ليتميز به من غيره، ويكون ذلك الاسم حقيقة فيه، وغن كان في اللغة موجوداً، وكذلك الصناع يصنعون لآلاتهم أسماء ويكون ذلك حقيقة فيها، فإذا كان كذلك جاز للشارع أن يسمى في الشرع أسماء تكون حقيقة فيما سماه وإن كانت موجودة في اللغة. 103 - واحتج من خالف بأن قال: الأسماء موضوعة على معانٍ وأحكام، فإذا نقلها من ذلك كان تعطيلاً للمعاني والأحكام، ومثل هذا قبيح.

الجواب: أنا لا نسلم أن تعطيل الأحكام يكون قبيحاً، ولهذا ينسخ الأحكام ولا يكون ذلك قبيحاً. وعلى أنه يمكنه نقل الأسماء من غير أن يبطل الأحكام فيقول قد نقلت هذا الاسم من غير أن أبطل حكمه ومعناه. 104 - فصل: والدليل على أن الأسماء قد نقلت من اللغة إلى الشرع وكل حقيقة أنا نقول ((معلوم)) أن الصلاة هي في الشرع: اسم لهذه الأفعال، وفي اللغة: اسم للدعاء حسب، ولو قال لنا قائل: صلوا، فإنه لا يسبق إلى فهمنا إلا هذه الأفعال، فدل على أنها اسم في الشرع اسم حقيقة، وإن كانت في اللغة ((غير ذلك)). فإن قيل: الصلاة في اللغة: هي الاتباع، ولهذا يقال: فرس مصل إذا جاء بعد الأول، وطير مصل. وفي الشرع أيضاً إنما سميت لأنها اتباع الإمام. قيل: فعلى قولكم يكون كل تابع مصلياً، ونحن نعلم أنه بخلاف ذلك، وعلى أنه لو كان هذا صحيحا 14 أ/ لكان ينبغي أن نقول والإمام والمنفرد لا يكونان مصليين لأنهما ليسا متبعين. ومن وجه آخر وهو أنه لو قال لنا قائل: رأيت رجلاً مصلياً، كان ينبغي أن نقول الأسبق إلى فهمنا الإمام، ونح نعلم أنه بخلاف ذلك.

فإن قيل: فإنما سميت (الصلاة) صلاة لأن فيها دعاء وهو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، والدعاء هو الصلاة في اللغة. قيل: لا يخلو (إما أن) تقولوا سميت هذه الأفعال صلاة لأن فيها دعاء أو سمي الدعاء منها صلاة، وما عداه لا يسمى صلاة. فإن قلتم: إنها سميت صلاة لأن فيها دعاء، فقد سلمتم أن الصلاة في اللغة اسم لغير هذه المعاني. وإن قلتم: سمي الدعاء منها صلاة، وما عداه لا يسمى صلاة، فهو غير صحيح لأنا نعلم أن من هو قائم أو راكع أو ساجد يسمى مصلياً وإن كان ((لا)) يدعو. وعكس هذا إذا فرغ من الصلاة وقعد يدعو، فإنا نسميه فارغاً من صلاته. ثم يبطل بالأخرس والأعمى، فإنهما لا يدعوان ويسمى كل واحد منهما مصلياً. وعلى أنه لو كان هذا صحيحاً لكان ينبغي أن يقولوا إذا دعا من غير ركوع وسجود، يكون قد فعل المأمور به. وأيضاً فإنا نعلم أن الصوم في اللغة هو الإمساك في أي زمان كان.

وفي الشرع: هو الإمساك في زمان مخصوص، فدل على أنه اسم لمعنى ليس ذلك المعنى (اسماً للصوم) في اللغة، لأنا نعلم أن من أمسك في زمان الليل أو زمان (الحيض) لا يسمى صائماً. وكذلك الحج هو في اللغة: القصد، ومعلوم أنه لو كان نائماً بعرفة من غير أن يقصدها فإنا نسميه حاجاً فدل على أنه اسم لمعنى في الشرع حقيقة فيه وإن كان في اللغة اسم لمعنى آخر. وكذلك الزكاة هي في اللغة: الزيادة والنماء، ولهذا تقول العرب إذا كثرت (المرتعيات): زكا الزرع إذا زاد ونما، وإن كان في الشرع أخذ جزء من المال وهو في الحقيقة تنقيص فهي في الشرع اسم لمعنى ضد المعنى الذي هو اسمه في اللغة. وأيضاً فإن الشرع قد وضع أسماء لمعانٍ لم تكون في اللغة مثل الإيمان والكفر والإسلام والفسق، ولهذا روي: "أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل أعرابي، فقال: يا محمد، ما الإسلام؟، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتصلي وتصوم وتخرج الزكاة وتحج البيت إن استطعت وتجاهد في سبيل الله. فقال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقال: صدقت. وانصرف. فقال الصحابة: من هذا يا رسول الله الذي سألك ثم صدقك، ثم انصرف؟

قال: أخوكم جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" فوجه الدليل أنهم لو كانوا يعلمون ذلك لما احتاجوا إلى من يعلمهم. فإن قيل: جبريل لم يعلمهم الأسماء وإنما علمهم المعاني. قيل: لعمري لكن علمهم معاني ووضع لها أسماء، وإن كانت تلك الأسماء في اللغة تدل على أنها حقيقة فيها. 105 - احتج المخالف بأن قال: النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب، وخاطبهم بلغتهم وأنزل القرآن على لغتهم. ولهذا 14 ب/ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}، وقال تعالى: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} وهذا مما يدل على أن اللغة إليهم والرجوع في ذلك إليهم. الجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفصح العرب، لأنه أُعطي الفصاحة والعربية والحكمة الإلهية، فإذا جاز أن يضع أسماء لمعانٍ لا تعرفها العرب، لأنه إذا وضع وضعاً جاز وضع لغة شرعي، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل اللغة ولم يغيرها، وإنما تارة يسمي أسماء لمعانٍ لا تعرفها العرب، وتارةً يسمي أسماء لمعانٍ فيها شبه من معاني ذلك الاسم في اللغة. احتج بأن قال: لو كان قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، لكان قد بينه بياناً عاماً، أو عرفناه نحن كما عرفتموه أنتم.

الجواب: أنه قد بينه بياناً عاماً لأنه سماه صلاة وزكاة لمعانٍ ليست في اللغة، فإذا خاطبنا مخاطب فقال: صلوا، أو زكوا، فإنه لا يسبق إلى أفهامنا إلا هذه الأفعال، وعلى أنه لا يمنع أن يبينه بياناً عاماً وينقل نقل الخاص كما بين الحج وقال: "خذوا عني مناسك الحج" ثم نَقَلَ نقلْ خاص واختلفوا في ذلك، وكذلك الأذان يتكرر في اليوم خمس مرات، ثم نأخذ طريق نقله حتى اختلفوا فيه. احتج بأن قال: لو كانت هذه الأسماء قد نقلت لكانت محصلة، وإن قلتم إنها محصلة لهذه الأفعال من الركوع والسجود وغير ذلك، وكان ينبغي أن يقولوا إذا خلت عن بعض الأشياء لا تسمى صلاة، ونحن نعلم أن المومئ تخلو صلاته عن أكثر هذا، وكذلك صلاة الجنازة فلو كانت قد تحصلت لما سميت تلك صلاة. الجواب: أن هذا هو الحجة عليكم إذ لو كان ما ذكرتم إنها على مقتضى اللغة لكان لا تسمى صلاة المومئ وصلاة الأمي صلاة، وعلى أن هذا غير صحيح لأن الصلاة تارة تضاف إلى الزمان وتارة تضاف إلى الشخص، فيقال: صلاة مومئ، صلاة مسافر، صلاة قادر، وكذلك يقال: صلاة جمعة، وصلاة ظهر، وصلاة عيد، وصلاة جنازة، فهي محصلة لهذا الذي قد بيناه. احتج بأنه لو كان هذا صحيحاً لكان ينبغي أن يقولوا إذا خاطبنا الشرع بعبادة ولا نعلم ما المراد بها في الشرع أن يقف حتى يتبين ما المراد بها.

الجواب: أنه متى خاطبنا الشرع بعبادة ولم نعلم ما المراد بها في الشرع، فإنا نقف مع اللغة إلى أن يقوم دليل يصرفنا عن ذلك وصار هذا بمثابة ما ذكرناه من العموم، فإنه إذا لم يعلم تخصيصه في الشرع وقفنا مع عمومه على مقتضى اللغة، وكذلك الأسماء إذا لم نعلم أنها مجاز وقفنا على ((حقيقتها)) في اللغة إلا أن يقوم دليل يصرفنا عن ذلك. وهذا المعنى وهو أن الأصل هو اللغة فلا يعدل عنه إلا بدليل. 106 - فصل: عندنا أن الأسماء العرفية منقولة من اللغة، حقيقة في العرف، وهذا مثل النجو فإنه في اللغة الغائط، ومثل المزادة فإنها سميت راوية في العرف وهي في اللغة اسم للجمل، وإنما سميت بهذا لمقارنتها الجمل. والدليل على أنه يحسن ذلك أن بعض العرب قد ينفر طبعها من اسم أو تستثقله، فتسميه بما يقاربه أو بما يشابهه، مثل ما استوحشوا أن يسموا الوطء وطئاً فعبروا عنه بالمسيس وباللمس، وقد عبر الله تعالى عنه بذلك فنسميه بهذا الاسم ويشيع ذلك ثم ينقرضون هم، والواضعون للأسماء بعدهم قوم لا يعرفون إلا ذلك الاسم فيكون حقيقة عندهم. فإذا ثبت أن يحسن كان وجهاً صحيحاً: وإن كان يستعمله

في اللغة كما يستعمله في العرف ((كان)) حقيقة فيهما مثل القرء والشفق. وإذا خاطبنا الشرع باسم وكان يستعمل في اللغة كما يستعمل في العرف فأيهما يسبق إلى فهم المخاطب، قدم، وإن استويا عنده في العلم وقف حتى ينظر ما المراد به ويستعملها جميعاً 15 أ/.

باب الحروف

باب الحروف 107 - باب الحروف التي تجرى بين المتناظرين وتدخل على الخطاب فتغيره، وإنما ذكرناها لأنا ذكرنا الخطاب، وقد بدأنا منها بالواو. وقد ترد ويراد بها الاستئناف كما قال تعالى: " وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ " فاستأنف "والراسخون في العلم" إذ لو لم يرد الاستئناف كان قوله تعالى: "يقولون آمنا به" كلاماً منقطعاً. 108 - وقد ترد ويراد بها بدل عن رُبّ كقول الشاعر: وليلةٍ ذات ندىً سريت ... ولم يعقني عن سراها ليت وسائلٍ عن خبرٍ لويت ... فقلت: لا أدري، وقد دريت معناه: ورب ليلة، ورب سائل.

109 - وقد ترد بدلاً عن باء القسم لأن الأصل في القسم أحلف بالله وأقسم بالله فاستثقلوا أحلف وأقسم، قالوا بالله، ثم أبدلوا الباء بالواو فقالوا: والله لأفعلن والله لا فعلت. 110 - وقد ترد ويراد بها العطف فتقول رأيت عمراً وزيداً، وأكلت خبزاً وتمراً، وقد أجمع الناس أن واو العطف هي للجمع، واختلف الناس هل تكون للترتيب أم لا؟ فقال الأكثرون من النحويين والمتكلمين. لا (ترد للترتيب) بل للجمع حسب، وإلى هذا ذهب أصحابنا. وقال أبو عمر غلام ثعلب وعلي بن عيسى الربعي

وبعض أصحاب الشافعي: إنها تكون للترتيب أيضاً. 111 - وجه ما قال الأكثرون: أنا نقول إنها لو كانت للترتيب لأفضى إلى التناقض في كلام الله تعالى، من حيث إن الله تعالى قال: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}. ثم قال: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} فلو كانت تكون للترتيب كان هذا تناقضاً. 112 - وجه آخر وهو أن الله تعالى قال: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} و {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ولو كانت للترتيب كان معناه رب المشرقين ثم رب المغربين ورب موسى ثم رب هارون.

113 - ومن وجه آخر وهو: أن الله تعالى قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}. فقدم عيسى على أيوب ويونس، ومعلوم أنهم كانوا قبله، وكذلك قدم سليمان على داود وقد أوحي إليه قبله. 114 - وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سمع رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: أمثلان أنتما؟ ألا قلت ما شاء الله ثم شئت". ولو كانت للترتيب لما نهاه عن الترتيب وأمره به. 115 - وأيضاً ما احتج به المبرد من شعر حسان بن ثابت:

وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا ترام ومفخر بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير قال: ولو كانت الواو للترتيب لما قدم جعفراً وعلياً على النبي صلى الله عليه وسلم. 116 - وأيضاً دليل من قول الشاعر: ومنهل فيه الغراب ميت ... كأنه من الأجون زيت سقيت منه القوم واستقيت ولو كان للترتيب لما قدم السقي على الاستقاء لأنه يحتاج إلى أن يستقي ثم يسقى. 117 - وأيضاً (يقال) اجتمع فلان وفلان، واشترك فلان وفلان، ولو كانت الواو للترتيب لما حسن ذلك، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال اشترك فلان (ثم) فلان. 118 - وأيضاً أنه يقال: رأيت زيداً وعمراً فإنه لا يسبق إلى فهم السامع أنه رأى أحدهما قبل الآخر، فلو قال 15 ب/ رأيت زيداً ثم عمراً أفاد معنى لم يفده الأول لأن ثم للترتيب.

119 - وأيضاً أنه لو قال: رأيت زيداً وعمراً معاً كان كلاماً صحيحاً فلو قال: رأيت زيداً ثم عمراً معاً لم يصح ذلك (فدل على أن الواو ليست للترتيب). 120 - (وأيضاً فإنه أجمع أهل اللغة على أن واو العطف) في الأسماء المختلفة كواو الجمع في الأسماء المتفقة ((وكياء التثنية)) في الأسماء المتفقة. وبيانه وهو أنه لا فرق بين أن يقول: رأيت زيداً وبكراً وخالداً، أو يقول: هؤلاء الزيدون، ورأيت الزيدين فإن الواو عندهم على حدٍ سواء، ثم قد ثبت أن واو الجمع في الأسماء المتفقة لا تكون للترتيب فكذلك واو العطف. فإن قيل: فيبطل بثم وبالفاء، فإنهما يجريان في الأسماء المختلفة إذا عطف بهما كما يجريان في الأسماء المتفقة ومع هذا فإنهما للترتيب، وبيانه أن يقول رأيت زيداً فبكراً فخالداً، ورأيت زيداً ثم بكراً ثم خالداً، وإذا قال: رأيت الزيدين وهؤلاء الزيدون "كان مثله". قيل: إن هذا لا يصح لأنه لو كان كما ذكرتم لكان أهل اللغة يقولون: إن الواو والفاء وثم في الأسماء المختلفة مثل واو الجمع في الأسماء المتفقة. ولم يقل أحد هذا.

وعلى أن الفاء تكون للتعقيب، وثم تكون للترتيب، فلم يبق إلا أن الواو تكون للجمع من غير هذين المعنيين. 121 - وأيضاً: فإن الجمع هو معنى معقول، ولا بد أن تضع العرب له لفظه يعرف بها ليس هو إلا واواً. فإن قيل: فهنالك لفظة تدل عليه وهي قولهم مع قيل: لعمري إن مع للجمع إلا أنها في موضع واحد وهو في حال الاشتراك ونحن نريد لفظة تكون في حال الاشتراك وغير حال الاشتراك. فإن قيل: هناك لفظة تدل على الاشتراك في الجمع وغيره وهو أن يقول ((رأيت زيداً، رأيت بكراً، رأيت خالداً)). قيل لعمري إنه كما ذكرتم إلا أن يكون عياً من الكلام لأنه تكرار لفظة واحدة بمعنى واحد، والعرب لم تستعمل هذا. 122 - وأيضاً فإنه لو كانت واو الجمع تكون للترتيب، لدخلت في جزاء الشرط، ومعلوم أنه إذا قال: إن دخل زيد داري فأعطه درهماً حسن ذلك، ولو قال إن دخل زيد داري وأعطه درهماً لم يحسن ذلك. ثم الجواب يبطل (بوجهين): أحدهما: أنه يبطل بثم فإنها لا تدخل في جزاء الشرط وتكون للترتيب، والوجه الآخر: أنهم يقولون إن كلامنا في واو العطف وها هنا ليس واو العطف.

123 - وأيضاً فإن أهل اللغة لم ينقل عنهم إلا كمذهبنا. وهو أنهم يقولون: نحن من أهل اللغة وقد خالفنا، ويقولون أيضاً: أهو عن أهل اللغة جميعهم؟ إنهم إن قالوا ذلك فلا يمكنه هذا. 124 - واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عدي بن حاتم الطائي، أنه سمع خطيباً يقول: "من يطع الله ورسوله، فقد فاز، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس الخطيب أنت. ألا قلت: من يطع الله ورسوله فقد فاز ومن يعص الله ورسوله فقد غوى". فوجه الدليل أنه لو كانت الواو لا تراد للترتيب لما نهاه عن الجمع ووافقه في الجمع. الجواب: إنما نهاه عن ذلك لأنه جمع الخالق والمخلوق في كتابة واحدة وذلك مكروه، ألا ترى أن الله تعالى قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} جمع في الاسم وفرق في الكتابة 16 أ/.

125 - واحتج بما روي أن عبد بني (الحسحاس) مدح عمر رضي الله عنه فقال: عُميرة ودِّع إن تجهزت غادياً ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً فقال عمر رضي الله عنه: ((لو)) قدمت الإسلام لأجزتك" فلو لم تكن الواو للترتيب لم يكن لتقديم (الإسلام) فائدة. الجواب: أن هذا فيه ضعف لأنه قيل إن عبد بني الحسحاس قتل قبل إسلام عمر، ولو صح لمعناه كيف لم (يقدم) الأشرف والأهم؟ ومن عادة العرب أن تقدم الأشرف. 126 - احتج بأن معاوية رضي الله عنه لما عمل

المقصورة في الجامع قال: "إن هذا المسجد قد قتل (قرشياً وقرشياً) وإني أخاف أن يقتلني" ولو لم تكن الواو للترتيب، لكان يقول قتل (قرشيين). الجواب: أنه يحتمل أنه أراد ((ذكر)) قرشي واحد، ثم عنّ له أن يذكر الآخر فقال هكذا. وجواب آخر (وهو): أنه يحتمل أنه أراد به تطويل الخطبة لأن العرب تفعل مثل ذلك فتقول: قتل رجلاً وقتل آخر. 127 - واحتج بأن قال: معلوم أنه إذا كتب كتاباً وأنفذه على يد زيد وعمرو قال: قد أنفذت زيداً وعمراً، فإنه يسبق إلى فهم الإنسان أن المقدم زيد وأنه السابق وأن عمراً مرتب بعده. قيل: هذا في لغة المتأولة، وأما العرب فخلاف ذلك، على أن المقدم ها هنا ((المرتب التقديم لأن الواو لا ترتب))، ثم يبطل في لغة العرب إذا قال أنفذت زيداً أنفذت عمراً، فإن هذا المعنى موجود ولا يكون ترتيباً، وعلى أنه إنما قدمه لأنه أشرف منه وأسبق.

128 - احتج بأنه: لو قال: رأيت زيداً وعمراً فإنه يسبق إلى فهم السامع أنه رأى زيداً قبل عمرو. الجواب: أنا لا نسلم هذا، ولو سلمناه فإنه يحتمل أنه أراد أن يذكر عمراً بعد ذلك، فقال عمراً وإن كان قد رأى عمراً الأول، وعلى أن هذا التقديم يرتبه لا الواو. الثالث: إنما سبق إلى الفهم بتقديمه بمعنى أنه أشرف منه وأجل، ومن عادة العرب أنها تقدم الأشرف فقدمه وإن كان قد رأى عمراً قبله. 129 - واحتج بأن قال: لو كانت الواو للجمع، لكان ينبغي أن يقولوا إذا قال لغير مدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق، يقع الثلاث. والجواب: (أنا كذا) نقول وقد نص عليه أحمد (رحمه الله).

130 - فصل: فأما "أو" فإنها تدخل في ثلاث مواضع. أحدها: في الخبر والاستخبار، فتكون فيهما للشك نقول: رأيت زيداً أو عمراً فهذا إخبار مشكوك فيما أخبر، وأما الاستخبار فتقول أعندك زيد أو عمرو؟ والثاني: يدخل في الأمر والإباحة للتخيير: فأما في الأمر فكقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. وأما الإباحة: فكقولك: اجلس مع أحمد أو الشافعي. والثالث: يدخل في النهي تارة للجمع، وتارة للتخيير كقول الرجل: لا تدخل إلا هذه الدار ((أو)) هذه الدار. وأما الجمع: فكقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} معناه آثماً وكفوراً. 131 - فصل: 16 ب/ وأما الفاء فإنها تكون للتعقيب، قال

سيبويه: إذا قال الرجل رأيت زيداً فعمراً، فإنه يقتضي أنه رأى عمراً عقيب زيد. والدليل على هذا أنه يقال من دخل داري فأعطه درهماً، فإنه يكون الإعطاء عقيب الدخول، وكذلك يقول الرجل لعبده: إذا رأيت الأمير فترجل، فإنه يكون الترجل بعد الرؤية. 132 - فصل: وأما ثم فإنها تكون للترتيب (و) التراخي، وترد في بعض المواضع للجمع. فأما موضع تكون فيه للترتيب والتراخي فكقول الرجل لعبده: ادخل هذه الدار ثم هذه الدار، واركب هذه الفرس ثم هذه الفرس، واشتر الخبز ثم التمر. فإن هذا كله ما أمره به أولاً، ثم الثاني على التراخي والانفصال. والدليل على أنها تكون في موضع للجمع قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ}، معناه: والله شهيد.

133 - وأما الباء فإنها تراد للإلصاق والامتزاج. فأما الإلصاق فكقولك: ألصقت ظهري بالحائط ومسحت برأس اليتيم وأخذت بزمام الناقة. وأما الامتزاج فتقول: مزجت الماء باللبن والخل بالدهن. وذهب أصحاب الشافعي إلى أنها تكون للتبعيض ((واستدلوا بأنه إذا قال)) مسحت برأس اليتيم، وأخذت بزمام الناقة لا يكون أخذ إلا ببعض الزمام، ومسح ببعض الرأس. الجواب عنه: أنها لو كانت للتبعيض لما دخلت فيما لا يتبعض، ومعلوم أنه يقال تزوجت بامرأة وطفت بالبيت ومعلوم أن هذا لا يتبعض. وأما ما استدلوا به فإن هناك استدللنا على التبعيض بقرينة لا بالباء، ولأن هناك ليس المقصود منه التبعيض وإنما كان مقصوده من مسح رأس اليتيم الحنو والشفقة، ومن أخذ زمام الناقة انقيادها لا أنه يريد التبعيض. 134 - ومن الحروف من وإلى، فمن لابتداء الغاية، وإلى لانتهاء الغاية، يقال: سرت من الكوفة إلى البصرة، وينبني على

هذا مسائل منها: إذا قال بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط، ومن هذه النخلة إلى هذه النخلة، وله عليّ من درهم إلى عشرة هل يدخل الحد في المحدود أم لا؟ فيه خلاف. وإلى: قد تدخل في مواضع بمعنى مع قال الله تعالى: {وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} يعني مع أموالكم. ومن: قد تدخل في بعض المواضع للتبعيض يقول: خذ من الدراهم، وكل من الطعام يعني البعض. وكذلك قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يعني ببعضه. 135 - فصل: ومن الحروف على وهي: للإيجاب، تقول له عليَّ كذا وكذا، وله على فلان كذا وكذا. 136 - فصل: ومن الحروف "في" وهي: للظرف تقول (له): عندي تمر في جراب، ودابة في اصطبل، يكون ذلك إقراراً بالمظروف دون الظرف وفي هذا خلاف. 137 - فصل: ومن الحروف اللام وهي: للتمليك، يقال دار لزيد وغلام لعمرو.

وقد تدخل في بعض المواضع للتعليل كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً}. معناه: لئلا، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة"، والدافة هي الفاقة. وقد يكون في مواضع (للتجزئة) كقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}. وقد تكون في موضع للعاقبة: كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}. وكذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} وأصلها أنها للتمليك فلا يجوز العدول عنه إلى هذه الأشياء إلا بدليل، وكذلك جميع ما ذكرنا.

ونذكر من الحروف، الأصل فيها من اللغة ما يقتدى به، ولا 17 أ/ يجوز العدول عن ذلك الشيء إلا بدليل، وعلى أن اللام قد قيل: إنما تدخل في ثمانية وعشرين موضعاً، وقيل نيف وأربعين، وإنما ذكرنا ذلك لأنه يتكرر في الفقه. 138 - فصل: ومن الحروف "إنما" وهي للحصر، وقد عبر عنها بأنها لإثبات المشار إليه ونفي ما عداه كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} معناه لا إله إلا الله. 139 - فصل: ومنها أيضاً (لا) للنفي في نكرة، فإن كان في النهي استغرق الجنس مثاله أن يقول: لا تأكل الطعام، فإنه لا يجوز ان يأكل شيئاً من الأطعمة. وكذلك إذا قال: لا تصل شيئاً (فإنه لا يجوز أن يصلي شيئاً) من الصلوات والنفي في النكرة إذا كان في الخبر فالظاهر أنه كذلك، ومثاله أن يقول: لا آكل خبزاً ولا آكل طعاماً. 140 - فصل: وأما الإثبات في النكرة فإنه إذا كان في الأمر لم يستغرق الجنس وإنما (يمتثل) الأمر بما يقع عليه الاسم

مثاله أن يقول: "صل" فإنه يصلي ما يقع عليه اسم الصلاة، وكذلك إذا قال: "كل طعاماً فإنه يأكل أي شيء أراد من الأطعمة وأي قدر أراد (مما) يقع عليه اسم الطعام.

باب حروف الصفات التي (يقوم بعضها مقام) بعض

باب حروف الصفات التي (يقوم بعضها مقام) بعض 141 - فمن ذلك "على": وينوب عنه ثلاثة أحرف. أحدها: "في"، كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} معناه على جذوع النخل. وكقول الشاعر: هم صلبوا العبدىَّ في جذع نخلةٍ أي على جذع نخلة. الثاني: "اللام" كقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} أي عليه، وقول الشاعر:

فخر صريعاً لليدين وللفم أي: على اليدين وعلى الفم. والثالث: "من"، كقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أي على القوم. 142 - وتنوب على عن حرفين: أحدهما: "من" كقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي من الناس. والثاني: "عند"، كقوله تعالى في قصة موسى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي عندي ذنب. 143 - فصل: ومن ذلك "الباء": وينوب عنها حرفان: أحدهما: "من" كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي بأمر الله، وكذلك قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ} أي بكل أمر.

والثاني: "عن" كقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} معناه بالهوى. 144 - وتنوب عن ثلاثة أحرف: أحدها: "من" كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي يشرب منها، وكقول الشاعر: شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم أي شربت من ماء الدحرضين، والديلم هم الأعداء. والثاني: "عن" كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي اسأل عنه خبيراً، وكقول الشاعر: وإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليمٌ بأدواء النساء طبيب ويقولون ما بالقوس أي عن القوس. الثالث: "اللام" كقول الله تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي للحق.

145 - وينوب إلى عن "مع" كقول الله تعالى: {وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، وكقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي مع الله، ويقال: (ذود إلى ذود أي مع ذود). 146 - وينوب ((اللام عن إلى))، كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي أوحى إليها.

باب ترتيب أصول الفقه

باب ترتيب أصول الفقه 147 - وأصول الفقه: طريق توصل إلى معرفة الفقه، ينبغي أن يعرف مراتبها وطرقها وكيفية الاستدلال بها. وإنما ذكرنا ذلك لأنها متعلقة بالخطاب، فأول ما ينبغي أن يعلم حدود الخطاب (وحقيقته) ومجازه والحروف الداخلة عليه والمغيرة له. ولهذا المعنى بدأنا بذكرها وسنذكر الخطاب. وأول 17 ب/ ما ينبغي أن نبدأ به من الخطاب الأمر والنهي لأنه أعلى حالات الخطاب، لأن به يثبت الإيجاب (ويتحتم) الإلزام، وإنما قدمنا الأمر والنهي على الخاص والعام، لأن الخاص والعام من فوائد الأمر والنهي، والأولى أن يعرف الشيء في نفسه ثم يعرف بعد ذلك فوائده. وإنما يقدم الأمر على النهي، لأن الأمر مثبت والنهي منفي، والإثبات مقدم على النفي. ونذكر بعد ذلك الخاص والعام، وإنما نقدمه على المجمل والمفسر لأنه خطاب مفهوم جلي، والمجمل والمفسر خطاب خفي، والجلي مقدم على الخفي.

ونذكر بعد ذلك المجمل والمفسر ونقدمه على الأفعال، وإنما كان كذلك لأنه وإن كان مجملاً فهو من الخطاب، والخطاب مقدم على الأفعال. ونذكر بعد ذلك الأفعال ونقدمها على الناسخ والمنسوخ، وإنما كان كذلك لأن الأفعال موجبة ومثبتة ويدخل عليها النسخ، فلهذا المعنى ألحقناها بالخطاب. ونذكر بعد ذلك الناسخ والمنسوخ ونقدمه على الإجماع لأجل أنه يدخل على الخطاب والأفعال، (ويغير) الأحكام فيها فلا يدخل على الإجماع، فلهذا قدمناه. ونذكر بعد ذلك الإجماع ونقدمه على القياس، وإنما كان كذلك لأنه دليل مقطوع وبه نستدل على جواز الاستدلال بالقياس، لأن الصحابة اجتمعت على الاستدلال بالقياس فكأنه أصل للقياس، والأصل مقدم على الفرع. ونذكر بعد ذلك القياس ونقدمه على الحظر والإباحة وعلى المفتى، وإنما كان كذلك لأنه دليل من أدلة الشرع مثبت، وإنما يكون الحظر والإباحة بينهما، والمفتي إنما يفتي إذا عرف ما القياس وما الدليل، ولا يجوز له أن يفتي حتى توجد في حقه، والمستفتي لا يجوز أن يستفتي حتى يعدم في حقه، فلهذا قدمناه.

ونذكر بعد ذلك المجتهد وهل كل مجتهد مصيب؟ والحظر والإباحة، وما نبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

مسائل الأمر

مسائل الأمر 148 - مسألة: الأمر: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، من غير اشتراط إرادة الآمر المأمور به. وقالت المعتزلة: هو ما ذكرتم إلا أن الاستدعاء لا يكون إلا بإرادة، والإرادة مشروطة فيه. وقال بعضهم: هو إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. 149 - لنا أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح

(ابنه) ولم يرده، لأنه لو أراد ذلك لوقع منه على أصلنا، ولم يجز أن يمنعه منه عندكم لأن الأمر بالشيء يدل على حسن ذلك الشيء، ولا يجوز نهيه تعالى عن الحسن. فإن قيل: من أين يثبت أن إبراهيم رأى في المنام صيغة الأمر؟ قيل: من حيث إنه لو لم يؤمر لم يجز له أن ((يأخذ)) ابنه ويضجعه للذبح، لأن ذلك محظور، فثبت أنه أمر بذلك وحياً في المنام، ومنامات الأنبياء وحي. وجواب آخر: أنه قال تعالى في الحكاية عن ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فإن قيل: يحتمل قوله: "افعل ما تؤمر" في المستقبل، ولو أراد ذلك في الماضي لكان يقول: افعل ما أمرت من الذبح وغيره. قيل: لا يجوز ذلك لأن فيه جواباً عن إخباره إياه بأنه رأى أنه يذبحه في الماضي، فثبت أن قوله "افعل ما تؤمر" المراد به ما أمرت به من الذبح، فلما أضجعه دل على أن الأمر كان به، على أنه لو أراد به

في المستقبل لم يقل: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. لأنه لا يعلم بما يؤمر به في المستقبل فيصف نفسه بالصبر عنه. فإن قيل: ما أمر به هو مقدمات الذبح من الإضجاع والأخذ بالمدية وتَلِّه للجبين وقد فعله. قيل: حقيقة الذبح قطع مكان 18 أ/ مخصوص معه تبطل الحياة. وجواب آخر: لو كان المأمور به المقدمات لم يكن في ذلك بلاء مبين، ولا يحتاج فيه إلى الصبر، وقد قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}. وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. ثم هذا خلاف الظاهر لأنه قال في القرآن: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، دل على (أن) الأمر تناول الذبح. فإن قيل: فقد فعل (الذبح) ولكن الله تعالى كان يلحم ما يفريه إبراهيم شيئاً فشيئاً، ودل على ذلك قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}.

قيل: لو كان كذلك لما افتقر إلى فداء لأنه فعل المأمور به، ثم لو صح هذا لذكره سبحانه لأن هذا من (الآيات) الباهرة وذكره وإعجازه أعظم وقوله: "قد صدقت الرؤيا" معناه قد امتثلت الأمر إذ اعتقدت جوبه وحقيقة العزم (على) فعله فكنت بذلك مصدقاً للأمر. 150 - وأيضاً قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فمنها دليلان: أحدهما: أنه أخبر أن كن بمجردها أمر. والثاني: أنه قد يكون أمر بإرادة وبغير إرادة وعندهم لا معنى لذكر الإرادة لأنه لا يكون أمراً إلا بإرادة. 151 - وأيضاً فإنه سبحانه أمر برد الأمانات وقضاء الدين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(ثم) يثبت أنه لو قال: والله لأؤدين إليك أمانتك اليوم. والله لأقضينك دينك اليوم إن شاء الله، فلم ((يصدق)) أنه لا يحنث، وكان من الواجب على أصلهم أنه يحنث لأن الله تعالى قد شاء ما أمر به من قضاء الدين وتأدية الأمانة. 152 - وأيضاً فإنه لو كان من شرط الأمر الإرادة لم يجز للعرب أن يسموا من قال لعبده: افعل كذا، آمراً من قبل أن يعلموا إرادته، فلما أطلقوا عليه هذا الاسم قبل علمهم بها دل على أن هذه الصيغة أمر من غير إرادة. فإن قيل: إنما قلنا إذا قال السيد لعبده: افعل أمراً لقرينة ((عادات)) الناس، فإن العادة جارية بأن يقول السيد لعبده: افعل الأمر، هو يريده. قيل: عادات الناس منقسمة، منهم من يأمره بأمر ويريده، ومنهم من يأمره (بأمر) ولا يريده، ولهذا يأمر عبده ويكرهه إذا كان قصده أن يعرف أصدقاءه عصيان العبد له، ليسقط لومهم له في ضربه، فدل على بطلان ما ذكرتم.

153 - وأيضاً فإن أهل اللغة حدوا الأمر بقول القائل "افعل" مع الرتبة ولم يشترطوا الإرادة، مع أنهم اشترطوا الرتبة، فلو كانت شرطاً لم يخلوا بذكرها، فدل على أن الصيغة تكون أمراً من غير إرادة. 154 - وأيضاً: فإنه قد يحسن أن يقول الرجل لعبده: أمرتك بكذا ولم أرده، ولو كان من شرط الأمر الإرادة لما حسن ذلك، كمنا لا يحسن أن يقول الرجل لعبده: أردت منك كذا وكذا ولم أرده، بل عدوه تناقضاً. وأيضاً فإنا نجد أمراً من غير مريد وهو المكره فدل على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة. 155 - احتجوا بأشياء منها: أن صيغة الأمر ترد والمراد بها الأمر كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ}. وترد والمراد بها التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}. وترد والمراد بها التعجيز كقوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.

وترد والمراد بها التكوين كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. وترد والمراد بها الهوان كقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}. وترد والمراد بها الإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. وإنما ينفصل الأمر منها مما ليس بأمر 18 ب/ بالإرادة فدل على كونها شرطاً. الجواب: (أنا) لا نسلم أن الأمر تميز عما ليس بأمر بالإرادة، وإنما ينفصل الأمر عما ليس بأمر بالاستدعاء كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أمر. فأما بقية الصيغ فليس باستدعاء فلم يكن أمراً، وإذا تميز الأمر بما ذكرنا بطل احتجاجهم. وعلى أن الصيغة في تلك المواضع عدلنا عنها لقرينة كما عدلنا عن أسماء الحقائق في الأسد والحمار إلى المجاز في الرجل الشجاع والبليد لقرينة، والخلاف في الصيغة المتجردة عن القرائن لأمر.

156 - احتجوا بأن العرب لا يفرقون بين قولهم افعل كذا، وبين قولهم أريد منك كذا. الجواب: أنا لا نسلم فإن قوله "أريد" إخبار عن إرادته. وليس باستدعاء ولهذا يدخله التصديق والتكذيب، وقولهم "افعل كذا" استدعاء. ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب فافترقا. ولأنهم لو لم يفرقوا لما أنكروا قول القائل لعبده: أريد منك كذا ولست أريده، وعدوه تناقضاً وقبحاً، ولم ينكروا قول القائل لعبده: افعل كذا ولست أريده. 157 - احتج بأن النهي إنما يكون نهياً لعلمنا أن الناهي يكرهه. وكذا يقتضي إنما يكون الأمر أمراً لكون الآمر يريد. الجواب: أنا لا نسلم، ونقول النهي إنما كان نهياً للزجر عن الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، ولا فرق بينه وبين الأمر. 158 - احتجوا بأنه لا يخلو إما أن تجعلوا لفظة "افعل" أمراً لصيغة فيبطل ذلك بلفظ التهديد وغيره (أو) تجعلوها أمراً لقيام الدليل على أنه ((لا)) يراد بها التهديد والتعجيز وما أشبه ذلك فيبطل بكلام الساهي والغائب: (و) قد قام الدليل على أنه لم يرد هذه الأشياء وليس هذه الصيغة في حقه أمراً، فإذا بطل هذا ثبت أن المتكلم بهذه الصيغة على غير وجه السهو/ غرضه بإيرادها إيقاع المأمور به، وهذا هو نفس الإرادة. فقد تم ما ذكرناه.

الجواب: أنا نجعلها أمراً لكونها استدعاء (لفعل متجردة) على وجه الاستعلاء لا للإرادة (ثم نقول) إذا جاءت متجردة اكتفينا في الحكم عليها بأنها أمر وإنما يحتاج من استعملها في غير الأمر إلى دليل (ويخرج على هذا الساهي والغائب وإن وجدت منه هذه الصيغة إلا أنه ليس على وجه الاستعلاء فلهذا لا يكون أمراً). وجواب آخر يجوز أن يقول إنها تكون أمراً (لإرادة) المتلفظ بها (أن تكون أمراً) كما قالت المعتزلة أن الخبر إنما يكون خبراً لإرادة المتكلم به أن يكون خبراً، فما أنكرتم أن يكون في الأمر مثله. فإن قيل: فيجب أن تكون الصيغة أمراً إن كره المأمور به وذلك باطل بالتهديد. قلنا: إنما لم يكن التهديد أمراً لأنها غير متجردة (عن القرائن). وجواب ثالث: لو كان الأمر إنما يكون أمراً إذا أراد الآمر الفعل لما جاز أن يستدل بالأمر على الإرادة لأنه لا (يُعْلَمُ أمر) قبل العلم بالإرادة.

جواب رابع: أنا لا نسلم أن الآمر يريد إيقاع المأمور (به) فقط (بل) قد يريده وقد لا (يريد ذلك، وقد) بينا ذلك في أدلتنا. فإن قيل: لو لم يكن من شرطه الإرادة لصح الأمر من البهيمة. قيل: إنما لم يصح منها لعدم النطق (والتمييز) لأن الأمر استدعاء (الفعل) بالقول وقد عدم (في حقها) ولهذا المجنون (يريد ولا يصح منه الأمر لعدم ذلك). 159 - مسألة: (للأمر صيغة موضوعة في اللغة

مسألة: (للأمر صيغة موضوعة في اللغة وهي قول القائل افعل

وهي قول القائل افعل)، وقالت الأشعرية: ليس للأمر صيغة في اللغة وإنما صيغة "افعل" (معنى قائم في الذات) مشتركة بين الأمر وغيره يحمل على أحدهما بقرينة. 160 - دليلنا 19 أ/ أن السيد إذا قال لعبده: اسقني ماء فلم يسقه استحق التوبيخ (والعقوبة) عند أهل اللغة. ولو لم تكن هذه الصيغة موضوعة للاستدعاء لما استحق (التوبيخ). فإن قيل: إنما استحق العبد ذلك لقرينة وهي علمنا بشاهد الحال أن السيد أراد الشرب. قلنا: هذا دعوى، لأنَّا لا نعلم مراده، وإنما تعلقت العقوبة بمخالفة هذه الصيغة لا غير. 161 - وأيضاً فإن أهل اللسان قسموا الكلام فسموا (قوله/) "افعل" أمراً، "ولا تفعل نهياً، "وزيد في الدار" خبراً، "وهل خرج عبد الله"؟ استخباراً. ولم يشترطوا (في الأمر) قرينة تدل على أنه أمر. فدل على أن مجرد الصيغة أمر.

فإن قيل: هل يعلم بذلك نقل متواتر عن العرب. قلنا: إجماع أهل اللسان على ذلك دليل على كونه مستفيضاً عندهم متواتراً (كاستفاضة سخاء حاتم) وشجاعة عنترة وحلم الأحنف)، ثم لو اشترطنا التواتر في اللغة لم يمكن إثبات غريب القرآن وشواذ العربية، (وفي) علمنا أن السلف كانوا يستشهدون على إثبات ذلك بالبيت (من الشعر والبيتين) لا يعرف قائله دليل على أنه لا يشترط التواتر.

فإن قيل: (فالعرب) لم تشترط المرتبة في الصيغة وعندكم (هي شرط فكذلك) عندنا في القرينة. قيل: لا نسلم ذلك، بل يسمون هذه الصيغة من الأدنى مسألة وطلباً، (ومن الأعلى إلى الأدنى رتبة واستعلاء، فدلّ على أن العرب قد شرطوا في الصيغة رتبة). 162 - وأيضاً فإن (قولهم) "افعل" مصرف من قوله فعلت، والمصرف (من كل فعل يدل على ما يدل عليه الفعل، فلما كان قوله فعلت) يقتضي وجود الفعل، يجب أن يكون قوله افعل يقتضي إيجاد الفعل. 163 - وأيضاً فإنا لا نجد (في العقل) من (لم) توجد منه هذه الصيغة يسمى آمراً بوجه، ولو كان الأمر أمراً لقيامه في النفس لسمي من لم يوجد (منه) ذلك أمراً. 164 - (وأيضاً فإن الحاجة داعية إلى معرفة الأمر والنهي، لأن أكثر مخاطبات الناس به، فمن المحال أن لا يضع واضعو اللغة

لذلك صيغة تدل عليه، مع كونهم قد وضعوا للخمر عدة أسماء، وكذلك للسيف والأسد والهر، فدل على أنهم وضعوا له صيغة وهي هذه اللفظة). 165 - واحتج الخصم بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} وقوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}. (قد أخبر للنفس قولاً، ومع هذا لا نحكم به حتى نجد قرينة نحمله عليه، كذلك ههنا). الجواب: أن هذا يدل على أنه قد يوجد في القلب ترتيب (الكلام)، غير أنه لا يسمى أمراً ولا نهياً ثم (إن) هذا مجاز واتساع والحقيقة ما (ذكرنا). 166 - احتج بأن قال: إثبات الصيغة (في اللغة) لا يخلو إما أن يكون بالعقل ولا مجال له في ذلك، أو بالنقل فلا يخلو إما أن يكون (آحاداً فلا) يثبت به أصل، أو تواتراً ولو كان

لعلمناه كما علمتموه، فلما بطل هذا دلّ على أنه (لا) أصل لإثبات الصيغة. الجواب: (ينقلب عليكم هذا المعنى) في إثبات الاشتراك في قوله افعل (فلا) يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل وهو باطل على ما قسموه. وعلى أنا أثبتنا ذلك من طريقين: أحدهما: إجماع (عقلاء) العرب وأهل اللسان على تقريع العبد ولومه إذا خالف هذه الصيغة. والثاني: اتفاقهم على التفريق بين الأمر والنهي في أقسام الكلام. 167 - احتج بما تقدم في المسألة الأولى من أن هذه الصيغة قد ترد والمراد بها تارة أمراً، وتارة تهديداً، وتارة تعجيزاً، وليس حملها على أحد هذه الوجوه بأولى من حملها على الآخر، فوجب التوقف فيها حتى تقترن قرينة كما توقفنا في الأسماء المشتركة مثل اللون والعين. والجواب: أن هذه الصيغة بمجردها موضوعة للاستدعاء وإنما تصرف عن الاستدعاء بقرينة، (وفارق) اللون والعين فإن تلك الأسماء (لم توضع) لشيء معين، ولهذا لو أمر عبده بتلوين

مسألة: الأمر ليس بحقيقة في الفعل

الثوب بالصبغ لم يستحق الذم بأي صبغ صبغه. ولو قال لعبده أسقني ماء فلم يسقه (إلا الماء الصالح للشرب) ((لم يستحق الذم)) على ذلك. وعلى أن هذا يبطل بالأسد والحمار والبحر، فإنه يعبر بها عن أشياء ثم بإطلاقها لا توجب التوقف. 168 - (ودليل لنا وهو أن لفظة افعل لو كانت مشتركة بين الأمر وغيره لما سبق إلى فهمنا أن السيد إذا قال لعبده افعل أن ذلك أمر، فلما سبق ذلك إلى فهمنا دل على أنه حقيقة في الأمر مجاز في غيره، ألا ترى أنه لو قال لعبده اصبغ الثوب، أو ائت العين لم يسبق إلى فهمنا عين دون عين). (ويتوجه للمخالف أن هذا الدليل احتجاجهم الذي قبله وهو أن الأمر قد يرد والمراد فيه كذا وكذا) والله أعلم بالصواب. 169 - مسألة: الأمر ليس بحقيقة في الفعل، نص

عليه أحمد في رواية "إسحق بن إبراهيم" فقال: ((الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم سوى الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل الشيء على جهة الفضل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل الشيء وهو له خاصة، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين عامة وأمره توكيد)). وقال بعض الشافعية: الأمر حقيقة في الفعل كما هو حقيقة في القول. 170 - لنا أنه لو كان (الفعل) حقيقة في الأمر لا طرد فيه فكان يسمى: الأكل والشرب والنوم أمراً.

فإن قيل: أليس قد يقال في الأكل الكثير هذا أمر عظيم؟ قلنا: إنما يقال فيه ذلك من حيث هو شيء لا من حيث هو فعل، ولهذا لا يقال في الأكل القليل إنه أمر قليل، وإنما يقال في ذلك هذا أمر من الأمور كما يقال فيما ليس بفعل، وكما يقال ذلك في (كل) ما لا يعقل من الحيوان وإن لم يتصور منه الأمر وإنما يراد به (أنه) شيء من الأشياء وأمر من الأمور. فإن (قيل: اسم الأمر إنما يقع على جملة ما وجد من الأفعال فلا يلزم أن يطرد في آحادها لأنا لم نجعله عبارة عن آحادها). قلنا: مذهبكم أن اسم الأمر عبارة عن آحاد الأفعال، ولهذا تستدلون بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} والمراد به كل فعل من أفعاله. ثم قوله هو عبارة عن جملة الأفعال غلط، لأنه لا طريق لنا إلى العلم بأن جملة الأفعال وحدها يقع عليها هذا الاسم إلا قول القائل أمر فلان مستقيم، وهذا يدخل فيه جميع شأنه وطرائقه من (أقواله وأفعاله ولهذا سمي) أمراً.

171 - وأيضاً فإن أهل اللغة حدوا الأمر بأنه الاستدعاء بالقول على وجه الاستعلاء، فإذا نقل إلى الفعل احتاج دليل، ولأنه كان يجب أن يقال في فاعل الفعل إنه (أمر بذلك الفعل وأنه) يلزم الفعل الطاعة والمعصية كالقول. 172 - وأيضاً فإنه لو تناول (الأمر الفعل) حقيقة لَوَجَب أن يشتق منه لفاعله اسم آمر، وأن يتصرف في الفعل كما يتصرف في القول، فيقال أمر يأمر أمراً، (ولا يقال لمن صلى وصام أنه أمر). وأيضاً: فإنه كان 20 أ/ يجب أن يقال لفاعل الفعل إنه آمر فلما لم يشتق له اسم آمر بل صح نفيه دلّ على أنه (ليس بأمر حقيقة). 173 - احتجوا بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}، (والمراد به فعله). (قلنا): المراد به قوله ولهذا قال: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} والاتباع إنما يكون في القول.

174 - احتج بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}. الجواب: أنه لم يرد بذلك (أن) فعله كلمح بالبصر، وإنما المراد بذلك أن من صفته وشأنه (أنه) إذا أراد شيئاً قال له كن (فيقع منه كلمح البصر) في السرعة. 175 - احتج بأن قال: الأمر قد استعمل في الفعل كما استعمل في القول بدليل قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ}. وقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا} وقال الشاعر: فقلت لها أمري إلى الله كله ... وإني إليه في الإياب لراغب والمراد بذلك كله الفعل. (الجواب أنا لا نسلم بل المراد بهذه الألفاظ قوله ولهذا قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

وأما فعله فكلا). (لا على أن) هذه الألفاظ جميعها (المراد) بها شأنه وحاله من القول والفعل وغيره (فعبر عنها بالأمور) لأجل القول، والفعل تبعاً، ثم إنه استعمل في هذه المواضع كلها مجازاً كما استعمل اسم الحمار في الرجل البليد، واسم الأسد في الرجل الشجاع، وكما يقال جاء المطر والحر والبرد، قال تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}. وقال الشاعر: وقالت له العينان سمعاً وطاعةً (والدليل على أنه مجاز أنه يحسن نفيه، فمن فعل يقال لم يأمر وإنما فعل. 176 - احتج بأن أهل اللغة فرقوا بين جمع أمر الأقوال، وبين جمع أمر الأفعال، فجعلوا أمر الأقوال أوامر، وجمع أمر الأفعال أموراً، والجمع أحد أدلة الحقائق فلم أسقطتم؟

مسألة: إذا تجردت صيغة الأمر (عن القرائن) اقتضت الوجوب

الجواب: أنا لا نسلم أن كلا القسمين يجمعهما لفظة واحدة وهو قوله أمور فلان مستقيمة، وأما لفظة أوامر فهي جمع ((آمرة))، على أنه لو استعمل لكل واحد منهما لفظة إنما هو مجاز، كما يقال: كل أمور فلان وكل أمره، أوامره مستقيمة). 177 - مسألة: إذا تجردت صيغة الأمر (عن القرائن) اقتضت الوجوب، نص عليه أحمد في مواضع، فقال في رواية

صالح: إذا صلى خلف الصف ((وحده أرى أن)) يعيد الصلاة، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً صلى خلف الصف فأمره بإعادة الصلاة). (وقد قال) في رواية مهنا وقد ذكر له قول مالك (في) الكلب يلغ في الإناء: "لا بأس به". فقال:

ما أقبح هذا من قولةٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يغسل سؤر الكلب سبع مرات". وقالت الأشعرية: إذا ثبت كون الصيغة للاستدعاء، وجب التوقف حتى يدل الدليل على ما أريد بها. وقال جماعة من المعتزلة وبعض الشافعية: حقيقة الأمر تقتضي الندب وقد أومأ إليه أحمد رحمة الله عليه فقال في رواية علي بن سعيد: ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عندي أسهل مما نهى (عنه). وهذا يدل على أن إطلاق الأمر يقتضي الندب وإطلاق النهي يقتضي التحريم. وقال قوم: هي حقيقة في 20 ب/ الإباحة.

178 - لنا أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ} فسارعوا إلى ذلك وامتنع إبليس، فوبخه وعاقبه وأهبطه من الجنة فدل على أن مقتضى الأمر الوجوب. فإن قيل: يحتمل أن يكون اقترن بذلك قرينة دلت على الوجوب مثل أن أمره بلغة أخرى الأمر فيها يقتضي الوجوب، أو عاقبه لأجل استكباره. قلنا: الظاهر يقتضي تعلق التوبيخ بمجرد (المخالفة لأمر) من غير قرينة، ألا (تراه قال: إذ) أمرتك ولم يذكر قرينة (أخرى) وقال: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ" وهذا أمر مطلق لا قرينة معه فدل على أن التوبيخ (تعلق بالمخالفة). وأما استكباره فهو لأجل إخلاله بالسجود وتركه للأمر. فإن قيل: إبليس لم يكن من الملائكة فلا يدخل تحت الأمر بالسجود، فدل على أن توبيخه لمعنى آخر.

قيل: إن ابن عباس قال: "كان إبليس من أشراف الملائكة، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من خزان الجنة". فسمي جنياً كما يقال للمكي والمدني مكي ومدني. ثم إن هذا خطأ لأن الله تبارك وتعالى وبخه على ترك السجود فقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وغير ذلك من القرآن، فدل على أن (الذم تعلق بتركه) السجود. 179 - وأيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} فذمهم على تركهم فعل ما قيل لهم افعلوا، ولو كان الأمر يفيد الندب لم يذمهم، كما لا يذم من رخص له في الترك. 180 - وأيضاً قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ

أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والمراد بالآية أمر نبيه (لأنه) قال في أول الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فحث بذلك على الرجوع إلى أقواله ثم عقب بقوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) فدل على أن (هاء) الكناية راجعة إليه، وقيل إن هاء الكناية في أمره، (راجعة إلى الله تعالى). وأيهما كان فقد حذر من مخالفته وتوعد عليه، وهذا يدل على وجوب فعل ما أمر به. فإن قيل: مخالفة (أمره) هو الإقدام على ما يحظره أمره ويمنع منه فيجب أن تثبتوا أن الإخلال بالمأمور به يحظره أمره حتى يدخل في الآية ويدل على أن الأمر يقتضي الوجوب. قلنا: لا نسلم أن مخالفة أمره هو الإقدام على ما يحظره، بل مخالفة أمره هو الإخلال بمأموره لأن المخالفة ضد الموافقة، وموافقة القول هو فعل ما يطابقه، ألا ترى أن موافقة قول القائل افعل هو أن يفعل، فيجب أن تكون مخالفته هو أن لا يفعل. فإن قيل: لو كان الإخلال بالمأمور (به) مخالفة لأمر الله

تعالى، لكنا إذا لم نفعل النوافل المأمور بها، مخالفين لأمر الله سبحانه وتعالى وهذا غلط. قلنا: إنما لم نكن مخالفين (بترك) النافلة لقرينة وهي أن في تقدير أمره بالنافلة الأولى أن يفعلوا، ويجوز أن لا يفعلوا، وهذه زيادة لا ينبئ عنها صريح الأمر، وهو قوله "افعل" ولهذا لم نكن بتركها مخالفين. فإن قيل: قد علمنا أن من قال (إن) ظاهر الأمر الندب لا يلزمه الوعيد، فعلمنا أن المراد بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} معناه الذين يردون أمره ويتهمونه. قلنا: لا نسلم، بل يلحقه الوعيد إذ لم يعتقد أنه واجب أو ندب، (فقد) توجه الوعيد في الجملة، وعلى أن عندنا (أن) من قال الأمر على الندب مخطئ، وكل ما كان خطأ فإنه يجوز أن يكون من الكبائر، وكل ما جاز أن يكون من الكبائر لا يؤمن لحوق العذاب بفاعله، فإذاً قد توجه الوعيد إليه. ثم (إنا نقول إنما) يلحق الوعيد من قال بالندب لأن هذه

المسألة من مسائل الاجتهاد التي يسوغ الخلاف فيها، والوعيد فيها دليل على إثبات حكمها وإن لم يلحق مخالفة كقوله عليه السلام: "والزانية هي التي تنكح نفسها بغير إذن وليها". وكقول عائشة رضي الله عنها في زيد بن أرقم: "أخبريه

أنه قد أبطل جهاده 21 أ/ ونحوه من المسائل. فأما الرد عليه فليس هو مخالفة لأمره، لأن الأمر لا يدل على أنه غير متهم في أقواله، بل العلم بذلك سابق للاستدلال بأمره، فثبت أن (مخالفة أمره) هو ترك (فعل) ما أمر به، والرد عليه وترك الثقة به هو المخالفة للدليل الموجب لاعتقاده الثقة (به). 181 - وأيضاً قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (فأخبر أنه إذا قضى أمراً لم يكن لأحد أن يتخير فيه وجعل عصيانه ضلالاً)، وفي ذلك وجوب المصير إليه. فإن قيل: إنما ورد هذا في القضاء والقضاء هو الإلزام وذلك واجب.

قلنا: سبب نزول هذه الآية فيما (ذكر أن) النبي صلى الله عليه وسلم أمر قوماً أن يزوجوا زيد بن حارثة فأبوا فنزلت هذه الآية، وهذا يدل على أنه أراد صريح الأمر، ثم لو كان القضاء بمعنى الإلزام لما قيل إن الله تعالى قد قضى بالطاعات كلها لأن النوافل ما ألزمها، ولأن القضاء دون مرتبة الأمر لأنه لا صيغة له، فإذا كان لازماً، فأولى أن يكون الأمر لازماً. 182 - وأيضاً قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. فأوجب التسليم لما قضاه، والقضاء هو الأمر. 183 - وأيضاً (ما) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه) دعا أبا سعيد الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه فقال

(له) ما منعك أن تجيب وقد سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} فلامه على تركه الإجابة بعد أمر الله تعالى بها، فدل على أن الأمر على الوجوب. فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلمه ولكنه أراد أن يبين له (أنه) لا تقبح الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم وأن دعاءه يخالف دعاء غيره. قيل: الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم يقتضي لزوم الإجابة، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر وذلك يدل على أن الأمر على الوجوب. 184 - وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ولو كان الأمر بالشيء

لا يقتضي إلا كونه ندباً لم يكن (لهذا) الكلام فائدة لأن السواك قد كان ندباً (قبل هذا الكلام). فإن قيل: المراد بهذا الكلام لأمرتهم (بقرينة) على وجه يقتضي الوجوب، وليس يمنع أن يقتضي الوجوب بدلالة. قلنا: الظاهر من قوله لأمرتهم أنه (يأمرهم) أمراً متجرداً عن القرائن. 185 - وأيضاً قوله عليه السلام لبريرة: "لو راجعته فإنه أبو ولدك. فقالت: أبأمرك؟ فقال: لا. إنما أنا شافع" ومعلوم أن مقتضى شفاعته مستحب. فلما تبرأ من الأمر وفرق بينه وبين الشفاعة دلّ على أنه لو أمر اقتضى الوجوب. فإن قيل: هذا يدل على أوامر الله ورسوله وكلامنا في مقتضى اللفظ في اللغة.

قلنا: القصد بهذه المسألة أوامر الله سبحانه، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا ثبت أن أمرهما يقتضي الوجوب حصل المقصود، ثم (هذا رجوع عن) مسألة الخلاف لأن عندكم أن صيغة الأمر لا تقتضي الوجوب بوجه. 186 - وأيضاً فإن الأمة (اجتمعت) على وجوب طاعة الله ورسوله وامتثال أوامرهما وذلك (إنما) .. يحصل بالفعل. 187 - وأيضاً فإن الصحابة رضي الله عنهم (كانوا يسمعون) الأمر من الكتاب (والسنة فيحملونه) على الوجوب، ولهذا لم يكونوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الأوامر (ما) الذي عني بها، فدل على أنها (كانت) تحمل الأوامر على

الوجوب. كما دل رجوعها إلى أخبار الآحاد في الأحكام على أنها اعتقدت كونها حجة، ألا ترى (أن إيجاب أخذ) الجزية من المجوس برواية عبد الرحمن بن عوف: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وإيجابهم غسل الإناء من ولوغ الكلب برواية أبي هريرة وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها بقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" إلى غير ذلك. وأيضاً فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله تعالى: {وَآَتَوُا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد هذا الاستدلال مع مخالفة أكثرهم (له) في الرأي 21 ب/ (فدل) على أن الإجماع انعقد أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: يحتمل أن يكونوا رجعوا في هذه المواضع إلى قرينة دلت على الوجوب، ولم يرجعوا إلى مجرد الصيغة. قلنا: الظاهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ والرجوع إلى

صيغتها (لا) إلى قرينة، (ثم) إن صح هذا التأويل (لكم) لصح لقائل أن يقول: (إن أسماء) الأشخاص لا (تفيد) مسمياتها بأنفسها، وكذلك سائر (ألفاظ) اللغة مثل أوجبت وألزمت وفرضت لا تدل على الوجوب إلا بقرينة. وهذا خطأ من قائله، لأن القرينة لا يجوز أن تكون ملازمة لكل أمر ورد من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله لأنه يفضي إلى أنه لم يحصل أمر متجرد بحال. وإذا بطل هذا قلنا لو لم يفد الأمر الوجوب لحصل من الصحابة سؤال عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال، فلما لم ينقل عنهم (ذلك) دل على أنهم عقلوا من أمره الوجوب. ثم لو صح ما (قلتم) لكان نقل القرينة أولى من نقل لفظ الأمر، لأن في تركها تضييع الشريعة. وغير جائز أن يطلق على الصحابة (مثل) هذا.

188 - وأيضاً فإن حقيقة (لفظة) افعل تقتضي أن يفعل المأمور الفعل (لا محالة وهذا هو معنى الوجوب). (فإن قيل: لم إذا كانت لفظة "افعل" تقتضي الوجوب أو أن تفعل المأمور)، اقتضت وجوب فعله لا محالة؟ قلنا: لأن لا يفعل المأمور الفعل هو نقبض أن يفعل واللفظة إذا وضعت لشيء فإنها تمنع من نقيضه، ألا ترى أن قول القائل: "زيد في الدار" لما أفاد حصوله فيها منع من نقيضه وهو أن لا يكون فيها، ولم يجز أن يكون قوله "زيد في الدار" معناه الأولى أن يكون فيها، كذلك لفظة "افعل". وهذا هو الوجوب. 189 - وأيضاً فإن لفظة "افعل" تمنع من الإخلال بالفعل بدليل أن أهل اللغة يقولون "أمرتك فعصيتني" وقلت لك افعل فعصيتني قال تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}. وقال الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً

فعقبوا المعصية على الأمر بلفظ الفاء، فدل على أن المعصية إنما لزمت المأمور لأجل إخلاله بما أمر به، وهذا يدل على أن لفظة الأمر على الوجوب، وإلا لم نكن بمخالفته عاصين. (فإن قيل: فَلَعَلَّهُ أمر أمراً اقترنت به قرينة تدل على الوجوب). (قيل: هذا سواء لكم، وعلى أنه لو كانت قرينة لنقلت). 190 - وأيضاً فإن العبد إذا لم يفعل ما أمر به سيده، (اتفق العقلاء) من أهل اللغة (في تعليل حسن ذمه) على أن يقولوا أمره سيده بكذا (وكذا فلم يفعل، فدل على أنه بترك أمره (ترك) الواجب.

(فإن قيل: إنما ذموه لأنهم علموا من سيده أنه كان منه ترك ما أمر به). (قلنا: اقتصارهم على ما حكيناه من التعليل دليل على أنه استحق الذم لما ذكرنا من العلة لا غير). فإن قيل: إنما ذموه لأجل إخلاله بما أمره به سيده، لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده وامتثال أمره (وأنه لا يأمره إلا بما فيه منفعته ودفع مضرة عنه، والعبد يلزمه إيصال المنافع إلى سيده ودفع المضار عنه). قلنا: الشريعة إنما ألزمت (العبد) طاعة سيده وإيصال المنافع إليه (إذا أوجبه عليه لأنه لا يأمره إلا بما فيه منفعة ودفع مضرة عنه والعبد يلزمه إيصال المنافع إلى سيده) ودفع المضار عنه. ((وإذا)) أوجب السيد عليه ذلك (بلفظ يقتضي الوجوب) (ولم يلزمه، لأن السيد لم يلزمه إياه)، ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل كذا (وكذا ولك) أن لا تفعله لما ألزمته

الشريعة فعله، والأمر عند (المخالف) يجري مجرى هذا القول فيجب أن لا يجب به على العبد شيء. 191 - وأيضاً فإن قول القائل "افعل" (لا يخلو) إما أن يقتضي افعل لا محالة، وإما أن يقتضي المنع من الفعل، وإما أن يقتضي التوقف، وإما أن يقتضي (الأمر) (التخيير بينه وبين الإخلال، ومن المحال أن يكون قله "افعل" معناه لا تفعل لأنه) نقيض فائدة (اللفظ)، أو يكون معناه التوقف 22 أ/ لأن قوله "افعل" بعث على الفعل فهو نقيض التوقف، ولا يجوز أن يقتضي التخيير لأنه ليس للتخيير ذكر في اللفظ، وإنما اللفظ يتعلق بالفعل دون تركه، فثبت أن قوله "افعل" يقتضي أن يفعل لا محالة. 192 - وأيضاً فإن الإيجاب معقول لأن أهل اللغة تمسهم الحاجة إلى العبارة عنه، فلو لم يفده الأمر لم يكن له لفظ. فإن قيل: قد أفاده قوله (قد) ألزمت وأوجبت وفرضت. قلنا: هذا إخبار ولهذا يدخله الصدق والكذب، والإيجاب ينبغي أن يعبر عنه بلفظ لا يدخله ذلك.

193 - وأيضاً فإن النهي يقتضي ترك المنهي عنه على سبيل الوجوب، فكذلك الأمر يجب أن يقتضي فعل المأمور به على سبيل الوجوب لأن كل واحد منهما أمر إلا أن أحدهما أمر بالفعل والآخر أمر بالترك. فإن قيل: النهي عندنا لا يقتضي (وجوب) ترك (المنهي عنه) بنفسه، وإنما يقتضي (النهي) (الترك) لكراهة (الناهي) (المنهي) عنه وكراهة الحكم تقتضي (قبح) ما ذكره فوجب تركه، فأما الأمر فإنه يقتضي) الإرادة، (وإرادة الحكم) تقتضي حسن المأمور به، والحسن قد يكون واجباً وقد يكون ندباً فلم يجب فعله، (بل يحمل على أول مرتبة الأمر وهي الإباحة). قلنا: لا نسلم (هذا) لأن الحكيم قد يكره الشيء وينهى عنه كراهة تنزيه، وهو أن يكون تركه أولى من فعله ولا يكون قبيحاً كنهيه عن الفرقعة والالتفات (ولف الشعر والثوب) في الصلاة، (والقرآن بين التمرتين) وغير ذلك.

(والمراد به التنزيه، وقد ينهى عما هو قبيح كنهيه عن الزنا والسرقة وغير ذلك، فصار) بمنزلة ما ذكروه من صيغة الأمر، فلما عدلوا في النهي عن التنزيه إلى التحريم يجب أن يعدلوا في الأمر من الندب إلى (الوجوب) ولأنه إن اقتضى النهي التحريم كما ذكروه وجب أن يقتضي الأمر الوجوب لأنه ما من أمر إلا وهو يتضمن نهياً عن ضده، والنهي عن ضده يقتضي قبحه عندهم لأن الحكيم لا ينهى إلا عن القبيح: ولا يمكن تركه إلا بفعل المأمور به فوجب أن يكون مقتضى الأمر الوجوب. 194 - وأيضاً فإن الأمر إذا حمل على الوجوب كان أحوط، لأنه لا يخلو (أن يكون المأمور به) واجباً أو ندباً، فإن كان ندباً لم يضرنا فعله بل ينفعنا، وإن كان واجباً أمنا الضرر بفعله، وإذا حملنا على الندب لم نأمن أن يكون واجباً فنستضر بتركه، فدل على أن (فعل) الأحوط واجب. فإن قيل: إذا حملتم المأمور (به) على الوجوب وكان ندباً كان ذلك جهلاً وتكون نية الوجوب قبيحة. قلنا: هذا غير صحيح، لأن الواجب إذا أشكل وجب

الاحتياط، كما نقول فيمن نسي صلاة لا يعرف عينها فإنه يصلي خمس صلوات، ومعلوم أنه يعتقد في كل واحدة منها الوجوب، وليس جميعها واجبة ولكن للاحتياط. (ولهذا المعنى وهو إذا حملناه على الوجوب فنيته تشتمل على الاستحباب والإباحة، وإذا حمل على الندب لم تشتمل نيته على الوجوب) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" فأمر بالاحتياط. وأيضاً فإن الوجوب أعم فوائد الأمر لأنه يدخل تحته الحسن (وهو) يتضمن الوجوب والندب فوجب حمله (على) أتم فوائده قياساً على العموم والظاهر. 195 - واحتج من قال بالوقف بأشياء منها: (أن) هذه الصيغة ترد والمراد بها الإيجاب. (وترد المراد بها الاستحباب، وترد والمراد بها التهديد، وترد والمراد بها الإباحة).

وليس حملها على أحد هذه الوجوه بأولى من حملها على (الوجه) الآخر، فوجب التوقف فيها كاللون والعين. والجواب: (أنا نقول لا نسلم أنها إذا وردت مجردة) تحتمل غير الوجوب (بحال)، وإنما تتحمل على غير (وجه) الوجوب بقرينة (أو دليل). ثم هذا يبطل بقوله 22 ب/ أوجب وفرضت، فإنه قد استعمل في غير الوجوب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، وقوله: "المضمضة والاستنشاق فريضتان في الجنابة ثلاثاً". ثم إطلاقه يحمل على الوجوب، ويبطل بأسماء الحقائق أيضاً (بالأسد والجواد والحمار) فإنها تقع على البهيمة وعلى الرجل، ثم هو حقيقة في البهيمة بإطلاقه.

196 - ومنها أن استعمال هذا اللفظ في الندب والإباحة أكثر من استعماله في الوجوب، ولا يجوز أن يكون موضوعاً للوجوب ويستعمل في غيره أكثر. قلنا: لا نسلم هذا، بل استعماله في الوجوب أكثر، ثم إن صح هذا فقولوا إنه في الندب والإباحة حقيقة ولا تقفوا، وعلى أنه لا يمتنع أن يكون حقيقة في شيء ويستعمل في غيره أكثر، ألا ترى أن الوطء حقيقة في الدرس واستعماله في الجماع أكثر، والرواية حقيقة في الجمل الذي يحمل المزادة واستعماله في المزادة أكثر، والغائط (حقيقة) في المطمئن من الأرض واستعماله في النجو أكثر. 197 - ومنها أن قالوا: لو كانت حقيقة في الوجوب لم يختلف باختلاف المخاطبين من الأعلى والأدنى (ولم يحسن) فيها الاستفهام بأن يقول: أمرتني إلزاماً أو ندباً؟ قلنا: إنما اختلف لقرينة، لأن أهل اللغة أجمعوا على أن قول (العبد لربه) افعل مسألة وطلب. وقول السيد لعبده (فعل) أمر. وأما الاستفهام فإنه لا يحسن إذا تعرى (اللفظ) عن

قرينة، ثم يبطل بقوله: رأيت بحراً وأسداً فإنه يحسن استفهامه بأن يقول: رأيت آدمياً بهذه الصفة أم تريد به البهيمة. واجتماع المياه؟ (وهو) حقيقة في غير الآدمي. 198 - ومنها ما ذكروه في (مسألة) الأمر هل لها صيغة في اللغة أم لا من التقسيم؟ (قلنا: سبق جوابه) هناك. 199 - ومنها أن اللفظة الواحدة لا يجوز أن تحتمل شيئين مختلفين وقد أوجبتم بهذه الصيغة الفعل والعقاب على الترك. قلنا: يبطل بلفظة أوجبت وألزمت، ثم اللفظة لم توجب إلا الفعل (وترك) الفعل) هو الذي أوجب العقاب. 200 - احتج من قال: (إن) الأمر حقيقة في الندب بأشياء منها: أن الأمر من الحكيم يقتضي حسن المأمور به، وحسنه لا يقتضي وجوبه، بدليل النوافل والمباحات فإنها حسنة وليست واجبة، فصار الوجوب صفة زائدة على حسن الشيء، فحملناه على أقل ما يقتضيه الأمر ولم نحمله على الزيادة. قلنا: ما ادعينا أن حسنه يدل على الإيجاب لكن الأمر يقتضي الوجوب، والحسن تبع الإيجاب، لأن كل واجب حسن، فلو كان

شيء (حسن ليس بواجب لم ينقض ما قلناه)، وما هذا إلا بمنزلة من ادعى أن قوله أوجبت وألزمت أنه يقتضي حسن الفعل ولا يقتضي الوجوب. ثم يبطل هذا بالنهي فإنه يدل من الحكيم على كراهة المنهي عنه، وقد يكره كراهة تنزيه، ثم لم يحمل على كراهة التنزيه لأنها أقل ما يقتضيها النهي بل حملها على التحريم وهي صفة زائدة على (زعمه). وعلى أن الأمر إن كان يقتضي حسن المأمور (به) (فإنه) يقتضي قبح ضده ولا يمكنه ترك ضده إلا بفعل المأمور به فاقتضى أن يكون واجباً. 201 - ومنها أنه لو كان هذا اللفظ يقتضي الوجوب لما حسن من العبد مع سيده، والولد مع والده كلفظ ألزمت وأوجبت، فلما رأينا الجميع يتخاطبون بينهم بذلك دلّ على أنه لا يقتضي الوجوب. (قلنا إنما يلزم) ذلك أن لو كان لا يستعمل هذا اللفظ في غير الوجوب (كأوجبت وألزمت، وأما) وقد تستعمل في غيره فمتى ورد من العبد أو الابن صرفته (العرب) عن الوجوب إلى محمله، وهذا غير ممتنع كالأسماء المشتركة.

ثم إن هذا يبطل بلفظ النهي فإن الجميع يتخاطبون به ثم هو على الوجوب وعلى أن 23 أ/ تجويز الخطاب لا يخرج اللفظ عن حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للسخي: يا جواد، وللبليد: يا حمار، فلا يخرج (ذلك) عن الحقيقة. 202 - ومنها أن قالوا ليس في الأمر لفظة الوجوب فلم (تقتضه). (قلنا: ليس كل ما ليس) فيه لفظ معنى لا يقتضيه، كالندب والوعيد والتهديد، ليس هو في لفظة افعل وهي مقتضية له بقرينة تدل عليه ثم يقال (إنه) ليس في الأمر لفظة الاستحباب فلم تقتضيه أيضاً، ثم لا يمتنع أن لا يكون فيه صريح لفظة أوجبت ويكون لفظ آخر يقتضي الوجوب كقوله: ألزمتك وفرضت عليك، ولأنا قد بينا أن لفظة افعل تقتضي إيجاد الفعل لا محالة وذلك هو الوجوب. 203 - ومنها أن قالوا: لا فرق بين قول القائل "افعل" وبين قوله "أريد أن تفعل" عند أهل اللغة بدليل أنهم يستعملون أحدهما في موضع الآخر (ويقيمونه مقامه) فلما لم يفد قوله "أريد" الوجوب، كذا قوله "افعل".

قلنا: لا نسلم هذا لأن قوله "افعل" يفيد أن يفعل لا محالة، وقوله: "أريد أن تفعل" خبر، والخبر غير الأمر بالاتفاق، ثم ليس إقامة أحدهما مقام الآخر في حال مما 38 أ/ يدل على اشتراكهم (كالاشتراك في الحقيقة) كاستعمال) الاسم الحقيقي في المجاز كالحمار ((والأسد)) (والجواد) لا يدل على الاشتراك في الحقيقة، وأما قوله "أريد" فهو صريح في الإخبار عن كونه مريداً، وليس بصريح في استدعاء الفعل فضلاً عن أن يكون (مريداً) إيجاده لا محالة. ولهذا يدخل التصديق والتكذيب في قوله "أريد" ولا يدخل في قوله "افعل". 204 - ومنها أن (يقال بأن) السلطان قد يأمر بالقبيح والحسن، ويوصفان بأنهما مأمور بهما على الحقيقة فلو اقتضى الأمر الوجوب لكان إذا تناول القبيح جعله واجباً. قلنا: أمره بالقبيح يجب لولا أن فوقه آمر وامتثال أمره ألزم، وقد نهى الأعلى عن ذلك فغلب نهيه على أمر هذا الأدون فسقط لزوم أمر هذا.

(والثاني) أنا نغلب فنقول ينبغي إذا تناول القبيح أن نجعله ندباً أيضاً، ثم هذا يلزم لو قلنا إنما نجعل الفعل واجباً ولسنا نقول ذلك وإنما نقول إنها موضوعة لاقتضاء الفعل لا محالة والمتكلم بها قد طلب الفعل لا محالة فإذا كان حكيماً يستحيل عليه المنافع والمضار. علمنا أن الفعل ما يجب أن يفعل لا محالة. 205 - ومنها أن قالوا: قد ترد هذه اللفظة دالة على الوجوب بقرينة، فإذا عريت عن القرينة يجب أن لا تقتضي الوجوب. قلنا: نحن نستفيد كونها على الوجوب (بمجردها) والقرينة دالة على التأكيد كما لو وردت في قوله أوجبت وفرضت وألزمت. ثم يبطل (هذا) بالنهي يقتضي التحريم بقرينة، ويدل بمجرده على التحريم. 206 - ومنها أنه لو كان على الوجوب لم يجز حمله على الندب لأنه (يحتمل) نسخاً له. قلنا: حمله على الندب حمل على بعض ما تناولته الصيغة، لأن المندوب يدخل في الواجب، فإذا ارتفع بعض الواجب بقي بعضه وهو الندب ولا يكون ذلك نسخاً كالعموم إذا خص بعضه. والله أعلم بالصواب.

مسألة: إذا قام دليل يمنع من حمل الأمر على الوجوب فإنه حقيقة في المندوب

174 - مسألة: إذا قام دليل يمنع من حمل الأمر على الوجوب فإنه حقيقة في المندوب، نص عليه أحمد فقال: "إذا أمَّن القارئ فأمِّنوا، (فإنه) أمر من النبي صلى الله عليه وسلم". وقال الكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة لا يكون المندوب أمراً بحال.

(وعن أصحاب الشافعي كالقولين). وفائدة هذه المسألة: (أنه) إذا قام الدليل بأن أمراً ما (لم يرد به الوجوب جاز) (أن) 23 ب/ يحتج بذلك الأمر في الاستحباب عندنا، وعند مخالفينا لا يجوز الاحتجاج بظاهره في الاستحباب، وقولنا هو قول الفقهاء. 208 - ((لنا أن)) أقل (أحوال) الأمر

الاستحباب إذا قال السيد لعبده "افعل" يقتضي إيجاد الفعل إما وجوباً أو استحباباً، فإذا قام دليل أنه لم يرد به الوجوب يبقى ما يبقى يقتضي إيجاد الفعل. فكان حقيقة في الندب، كالعموم إذا دخله التخصيص، ما يبقى ويكون حقيقة فيما بقي. 209 - لنا أن المندوب طاعة فكان مأموراً بها كالواجب. فإن قيل: الواجب لم يصر مأموراً به لكونه طاعة، وإنما صار مأموراً به لأنه يثاب على فعل، ويعصى بتركه، وهذا معدوم في الندب. قيل: ((إنما كان)) الواجب مأموراً لأنه استدعى الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وهو موجود في المندوب، وقد دللنا على هذا الأصل فيما تقدم بما فيه كفاية. ثم إن هذا خطأ لأنا نعلم أن صيغة الأمر لو وردت - لم يقتض عليها الثواب، وعلى مخالفتها العقاب- لعقلنا أنها أمر، ولأنها تقتضي إيجاد الفعل. ولأنه إذا كان الواجب ما يثاب على فعله وما يعاقب على تركه فالندب هو ما يثاب على فعله، فصيغة الأمر قد تضمنته لأنه شطر ما يقتضيه وكانت حقيقة فيه كما نقول في العموم المخصوص يحمل على بعض ما يقتضيه ويكون حقيقة في ذلك. فإن قيل: بل إنما تطلق الحقيقة على البعض إذا لم يكن تنافياً كالعموم، فإنه لا تنافي بين أبعاضه وكله، وأما المستحب والواجب فإن بينهما تنافياً من جواز الترك، فلا يكون أحدهما داخلاً في حقيقة الآخر.

قيل: لا فرق بينهما، فإن قوله "اقتل كل من في الدار" يقتضي استغراقهم، فإذا خصص واحداً تناقض من حيث سقط الاستغراق وحرم فعله. 210 - احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك". فلو كان المستحب مأموراً به لكان السواك مأموراً به، وقد أخبر أنه لم يأمر به، ولهذا امتنع لأجل المشقة، والمشقة لا تلحق إلا فيما يجب فعله. وقوله لأمرتهم أمر إيجاب. 211 - ولو راجعتيه، فإنه أبو ولدك، فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ فقال: "لا إنما أنا شافع" ومعلوم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيما شفع فيه مستحب وقد بيّن أنه لم يأمر. والجواب: أن المراد بهذا أمر إيجاب وإلزام أن تبقى معه وكانت مبغضة له. 212 - احتجوا بأن أسماء الحقائق لا يجوز نفيها عن مسمياتها، وقد علمنا أنه يحسن أن ينفي عن الندب اسم الأمر وهذا ((كما)) لو قال القائل أنا غير مأمور بصلاة النافلة.

((الجواب)): أنّا لا نسلم أنه يحسن نفيه على الإطلاق وإنما يحسن نفيه مقيداً، وهو أن يقول أنا غير مأمور بذلك على وجه الإيجاب والإلزام. فإن قيل: فيجب أن يقال لمن ترك السنن خالف أمر الله وعصاه. قيل: نحن نقول خالف أمر الله المستحب وسنته المندوب إليها. قال أحمد رحمه الله فيمن ترك الوتر "هو رجل سوء" فذمه مع قوله إن الوتر سنة، ولا يقول قد عصى على الإطلاق لأنه يلتبس ذلك بالواجب. 213 - واحتجوا بأن صيغة الأمر تقتضي الوجوب عندنا وعندكم ومتى ((قلنا)) إنها حقيقة في الندب خرجت عن أن تكون مقتضية الوجوب. والجواب: إنه غير ممتنع أن تقتضي الوجوب وتستعمل في الندب حقيقة، كصيغة العموم تقتضي الاستغراق وتستعمل فيما ليست للاستغراق حقيقة أيضاً. فصيغة النهي تستعمل في التحريم وتستعمل في التنزيه حقيقة، كذا في مسألتنا مثله. فإن قيل: فيجب أن تجروا في المندوب جميع أحوال الأمر من كونه على الفور ويقتضي التكرار 24 أ/. قيل: كذا نقول.

مسألة: إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة

214 - مسألة: إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة، وهو ظاهر قول الشافعي، وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: إنها تفيد ما كانت تفيد لو لم يتقدمها حظر من وجوب أو ندب. 215 - لنا أن الشرع لم يرد بأمر بعد الحظر إلا والمراد به الإباحة، بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ

فأتُوهُنَّ}، وقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها"، فدلّ أن هذا مقتضاه. فإن قيل: قد ورد أيضاً والمراد به الوجوب، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. قيل: لا نسلم أن قتل المشركين استفيد بهذه الآية، وإنما استفيد بآيات أخر نحو قوله: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وقوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} (وغير) ذلك من الآيات والأخبار. فإن قيل: هذه المواضع حملت على الإباحة (بدليل). قلنا: ما نعلم ها هنا دليلاً (إلا) وردوها بعد الحظر.

فإن قيل: ها هنا دليل وهو الإجماع. قلنا: الإجماع (حادث) بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والإباحة مستفادة بهذه الألفاظ في وقته. 216 - وأيضاً فإن عرف الناس وعاداتهم أن السيد لو قال لعبده: لا تدخل دار فلان، ولا تكلم فلاناً، ولا تغسل ثوبك، ثم قال (له): افعل جميع ذلك، أو قال لرجل: ادخل بستاني، وكل ثماري، واركب دابتي، اقتضى جميع هذه الإباحة ورفع الحظر دون الإيجاب، فدل على ما ذكرناه. فإن قيل: لا نسلم هذا ونقول (إن) ذلك يقتضي الإيجاب. قلنا: هذا مكابرة في العادات، لأنه لو اقتضى ذلك الوجوب لحسن توبيخه وعقوبته على تركه، وأحد لا يرتكب هذا. والذي يوضح هذا أن الإنسان إنما ينهى عما تميل إليه نفسه وتشتهيه، فإذا قيل له بعد ذلك افعل لم يكن إيجاباً، لأن الإيجاب هو تكليف ما ينافي الطباع ولا تميل إليه (الأنفس)، فثبت أنه إباحة. فإن قيل: (فالعرف ينقسم) في هذا بدليل أنه لو قال لعبده لا تقتل زيداً. ثم قال له اقتله، فإنه يقتضي الإيجاب.

قلنا: قتل زيد محظور في الشرع، فنهيه للعبد عن قتله لم يفد شيئاً فمتى أمره (بقتله) حصل أمراً متجرداً عن نهيه فأفاد الوجوب من جهته، فنظيره قولنا: أن يأذن صاحب الشرع الذي (حظر) قتل زيد (في قتله) فيفيد حينئذٍ ذلك الإذن الإباحة، أو يقول السيد لعبده لا تأكل هذا الطعام فيستأذنه في أكله فيقول له السيد كله، فإنه يفيد ذلك رفع الحظر لا غير. 217 - احتج الخصم بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. والجواب عنه أنا نقول: أمره الوارد من غير أن يتقدمه حظر بدليلنا. 218 - احتج بأن قال: صيغة الأمر (قد) وردت متجردة فأفادت الوجوب، كما لو لم يتقدمها حظر. الجواب: لا نسلم أنها متجردة، بل تقدم الحظر قرينة دالة على أن المتكلم استعمل هذه الصيغة في الإباحة، كما أن العجز دلالة على أن المتكلم لم يعن بالأمر العجز. فإن قيل: القرينة تبين (ما) معنى اللفظ ((وما

يماثله))، فأما ما يخالفه ويضاده فلا، ونحن نعلم أن الحظر ضد الأمر فلا يكون بياناً له. قلنا: (لا) يلزم في (القرينة) أن تكون مماثلة للمعنى، فإن الاستثناء مضاد للإثبات، ثم هو مبين له، وكذلك 24 ب/ التخصيص في العموم يضاده لأنه إخراج ما استغرقه اللفظ، ثم لم نقل أن مجرد النهي هو القرية، وإنما انضمامه مع صيغة الأمر هو القرينة، وذلك غير مضاد للأمر ولا مخالف (له ولأن) القرينة هي بيان لما أريد باللفظ في عرف الشرع والعادة، وقد بينا أن هذه الصيغة بعد الحظر في الشرع والعادة تقتضي الإباحة فثبت ما قلنا. 219 - واحتج بأن النهي إذا ورد بعد الأمر اقتضى التحريم كما لو انفرد، (فكذلك) الأمر بعد النهي يجب أن يقتضي الإيجاب كما لو انفرد. قلنا: لا نسلم ونقول إن النهي (إنما) إذا ورد بعد الأمر اقتضى الكراهة والتنزيه كالأمر سواء.

وإن سلمنا فالفرق بينهما أن النهي آكد لأنه يقتضي قبح المنهي عنه (لا غير وذلك محرم، والأمر استدعاء الفعل، وقد يستدعي ما يوجبه وما يستحبه وما يبيحه)، والذي يوضح (هذا) أنهم يقولون (إن) النهي يقتضي التكرار وترك النهي عنه على الفور، ولا يقولون في الأمر إنه يقتضي ذلك. ثم لا يجوز اعتبار الأمر المنفرد بما ورد بعد حظر، لأن وروده بعد الحظر قرينة، كما لا يجوز ذلك في أسماء الحقائق فإنه لو قال (فلان بحر أو حمار) لم يفد ما أفاد مطلق قوله رأيت بحراً أو حماراً بدليل أن ((الأول))، يحمل على صفات الرجل لأجل القرينة، والثاني (يحمل على) اجتماع المياه والبهيمة لأنه خلا عن قرينة. فإن قالوا: يجب أن تكون جميع الأوامر عندكم على الإباحة لأن الأشياء في الأصل على قولكم (محظورة) فأي شيء ورد منها فإنما يرد بعد حظر. قلنا: بل الأشياء في الأصل مباحة على أحد الوجهين.

فإذا ورد الأمر بعد الحظر ارتفع الحظر وعاد إلى الأصل وهو الإباحة. (ولو سلمنا أنه على الحظر (فمتى وردت) صيغة الأمر على ما هو باق على حكم الأصل، فمقتضاه الإباحة وهو مسألة الخلاف). فإن قيل: ورود صيغة الأمر تقتضي نسخ الحظر، وقد ينسخ الحظر بإيجاب وينسخ بإباحة، وليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر فتعارضا وبقي الأمر على مقتضاه في الإيجاب كما لو ورد الأمر بعد حظر عقلي. (قلنا: الحظر لا ينسخ إلا بإباحة)، فأما الإيجاب فيتضمن إباحة بها ينسخ الحظر لا من حيث هو إيجاب فإذا وردت صيغة (افعل) على الحظر، فالظاهر أن مقتضاها نسخ الحظر، ونسخ الحظر لا يكون إلا بالإباحة كما قدمنا، فمقتضاها حينئذٍ إباحة الشيء المحظور، فالنهي لا ينتقل إلى الوجوب بمجرد ورود صيغة الأمر

مسألة: الأمر المطلق يقتضي التكرار

بعده وإنما يقتضي الإباحة لا غير، ولا نسلم أن (العقل يحرم شيئاً أيضاً). 220 - احتج بأن كل واحد من اللفظين قائم بنفسه، فلا يتعين مقتضى الثاني بالأول (ولا الأول بالثاني)، كما لو قال: حرمت (عليك كذا وكذا)، ثم قال: أوجبت ذلك عليك. الجواب: أنا لا نسلم أن الثاني مستقل بنفسه لأنه مع 25 أ/ وجود الأول يعتمد على الأول، بمعنى أنه يرفعه وينسخه لأن من شأن هذه اللفظة أعني لفظة "افعل" أن ينصرف مقتضاها بحسب القرينة لها، وقد تقدم القول بأن تقدم الحظر قرينة تدل على أن المراد بها الإباحة على ما بينا، فصار ذلك بمنزلة قول القائل: رأيت فلاناً، ثم يقول وجدته، مجراهما كلامان، ثم الثاني يتغير مقتضاه بالأول. فأما قوله: أوجبت (فهو صريح في إيجاب الفعل) (لا يحتمل تغييراً بالقرينة) فلم يكن تقدم الحظر عليه مغيراً لمقتضاه، والله أعلم بالصواب. 221 - مسألة: الأمر المطلق يقتضي التكرار على قول شيخنا، وبه قال بعض الشافعية وقال أكثر الفقهاء

والمتكلمين لا يقتضي إلا فعل مرة واحدة وهو الأقوى عندي. 222 - والدليل عليه أن (السيد إذا قال) لعبده: ادخل الدار، واشتر (تمراً). لم يعقل منه التكرار، ولو لامه على ترك التكرار لحسن من العقلاء ذمه، بل لو كرر العبد (ذلك) لحسن (لومه) فيقول: إني لم آمرك بتكرار (دخول الدار) ولا بتكرار الشراء فدل على ما (قلناه). (قيل: إنما يقتضي التكرار لأجل العرف، فإن السيد إذا

قال: اشتر لي، اقتضى مرة واحدة بخلاف أمر الله تعالى، فإنا لا نعلم ما عنده فقلنا يقتضي التكرار. قيل: العبد لا يعلم ما في قلب السيد، فإذا قال: افعل، اكتفينا بمرة واحدة إذا فعلها، لم يكن ذلك إلا أن الأمر لم يقتض التكرار، وقولكم لا يعلم ما عند الله ((لا يصح فإنه)) لو أراد التكرار ((لكان)) بلفظ العموم كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}). 223 - دليل ثاني: قوله "صل" أمر (بما هو صلاة) (كما أن قوله صلى خبر عنه). ثم يثبت أن قول القائل: "صلى فلان" لا يقتضي التكرار، (فكذلك) قوله صلّ. 224 - دليل ثالث: قول القائل لغيره: ادخل الدار، معناه: كن داخلاً (وبدخلة واحدة) يوصف بأنه داخل، فكان ممتثلاً، وكان الأمر عنه ساقطاً.

فإن قيل: هو بالدخلة الثانية يوصف بأنه داخل أيضاً فهلا (يجب إلا مرة). قلنا: بالدخلة الأولى يكون داخلاً على الكمال (لأن بها) يسمى داخلاً على الإطلاق فكمل بها فائدة الأمر، فأما الدخلة الثانية فتكرار لفائدة الأمر بعد استكمالها، وإن وقع عليه اسم دخول فلا يدخل تحت الأمر إلا بلفظ تكرار أو عموم، كما أنه إذا قال (له): اضرب رجلاً، فإنه بضرب واحد يكون مستكملاً لفائدة الأمر، وإنما ضرب رجل آخر تكرار لفائدة الأمر بعد استكمالها، فلا يلزم بالأمر المطلق وإنما يلزم بلفظ عموم. فإن قيل: يجوز (أن يكون) قوله "ادخل" أي افعل الدخول، فيعم جنس الدخول لأن (لام) الجنس تقتضي استغراق الجنس. قلنا: قوله "ادخل" تصريف من دخل لا من الدخول لأنه ليس (فيه) الألف واللام: ألا ترى أن قوله: "زيد دخل" لا يكون معناه فعل الدخول فيفهم منه التكرار للدخول، بل يفهم منه دخول مرة واحدة، ولا نعلم ما زاد على ذلك إلا بدليل.

225 - دليل رابع: أنه (لو) حلف ليفعلن كذا، فإنه يبر بفعل مرة واحدة، ولو كان مقتضاه التكرار لما (بر بفعل مرة) كما لو حلف ليفعلن كذا على الدوام. 226 - دليل خامس: لو قال لوكيله طلق زوجتي لم يجز (له) أن يطلق أكثر من مرة (واحدة) فلو اقتضى (الأمر) التكرار ملك أن يطلق ثلاثاً (ولما اقتصر على الواحدة)، كما لو قال (طلقها) ما شئت. فإن قيل: الأمر في اللغة يقتضي التكرار 25 ب/ في اليمين والتوكيل، وإنما (تركنا) مقتضى اللغة بالشرع وليس يمتنع أن يكون (اللفظ) في اللغة يقتضي أمراً، ثم يقرر الشرع (فيه) غير مقتضاه في اللغة، كما لو حلف لا يأكل الرؤوس فإنه يعم في اللغة كل رأس، وفي الشرع يحمل على رؤوس الغنم.

قلنا: الشرع لا يغير مقتضى اللغة، وإنما يقررها ويضيف إليها حكماً زائداً، ألا ترى أنه لو قال: افعل ذلك أبداً، وطلق زوجتي ما أملكه لم يقطعه الشرع عن مقتضاه في اللغة ((فلا يقطعه)) عن التكرار، وأما مسألة الرؤوس فغير مسلمة ويحمل على مقتضاه في اللغة. 227 - دليل سادس: لو اقتضى التكرار (لأفضى) إلى المناقضة (لأنه يأمر بشيئين مختلفين، فلا يمكنه مواصلة الثاني إلا بترك الأول، ولا مواصلة الأول إلا بترك الثاني. ويجاب عنه بأنه يقتضي التكرار على الإمكان فلا يفضي إلى المناقضة). 228 - دليل سابع: لو اقتضى التكرار لما حسن (فيه) الاستفهام (ولم يحسن تأكيده بمرة واحدة) (وتأكيده بالأبد).

(ويجاب عنه بأنه لو لم يقتض التكرار لما حسن الاستفهام وكان يعقل منه مرة ولم يحسن تأكيده بمرة واحدة). (ويجاب عن سؤالهم بأن يقال غير مسلم أن يحسن الاستفهام بل أمره يقتضي إيجاد الفعل، فإذا فعل مرة فقد امتثل المأمور به وأسقط عنه الخطاب). 229 - احتج الخصم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه) قال (في شارب الخمر): "اضربوه"، فكرر الضرب. قلنا: إنما كرروا بقرينة وهي شاهد الحال أنهم علموا أنه يقصد ردعه وزجره وذلك لا يحصل بمرة (واحدة)، وخلافنا في المتجرد عن القرائن، ألا ترى أنهم لم يضربوه أبداً. 230 - احتج بأن قال: "روي أن الأقرع بن حابس،

وقيل سراقة بن مالك بن جعشم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "حجتنا هذه كل عام أم للأبد". فلو لم يقتض (الأمر) التكرار لم يكن للسؤال معنى. قلنا: ليس في الخبر دليل على أنه اشتبه عليه ذلك. جواب آخر: أنه مقابل بأنه لو اقتضى التكرار لم يكن لهذا السؤال معنى، فكل جواب لكم عن سؤاله (عن) التكرار (هو) جوابنا عن سؤاله عن المرة الواحدة، ثم لا يمتنع أن يكون سأل لأنه ظن أن الحج مقيس على الصلاة والصيام والزكاة (لا لأن الأمر مشتبه في اقتضائه) التكرار كما يقتضي المرة الواحدة. 231 - احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا".

قلنا: الدفعة الثانية ليست من (الأمر)، وإنما يتناول الأمر الدفعة الأولى (فيجب) أن تأتوا منها بالمستطاع، ولهذا فرق بينه وبين النهي، وعندكم أنه كالنهي في اقتضاء التكرار. 232 - واحتج بأن قال: في الشرع أوامر كثيرة (على التكرار). قلنا: ليس معكم أنه عقل التكرار من ظاهرها، ثم إن في الشرع ألفاظاً كثيرة صيغتها صيغة العموم، والمراد بها الخصوص، ولا يدل على أن مقتضاها وموضوعها الخصوص، ثم في تلك المواضع حملت لقرينة (وخلافنا) في الأمر المتجرد عن القرائن، على أن فيه الأمر بالحج والعمرة ولا يقتضي التكرار. 233 - احتج بأن قال: الصحابة عقلوا التكرار من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ 26 أ/ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم) جمع عام الفتح بين صلوات (بوضوء واحد). فقال له عمر رضي الله عنه: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم.

قلنا: ليس معكم أن الصحابة عقلوا من الآية ذلك، ويحتمل أنهم رأوا النبي صلى الله عليه ويسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح خالف عليهم وجمع، ويحتمل أن يكون عمر حمل الآية على (أن) الأمر إذا علق على وجود شرطه تكرر بتكرار الشرط. 234 - واحتج بأن قال: الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان، فاقتضى إيقاع الفعل في جميع الأزمان. قلنا: لا نقول كذلك، بل الأمر عندنا يقتضي الفور فيختص إيقاع الفعل بأقرب الأوقات (إليه). فإن لم يفعله لم يلزمه الفعل إلا بدليل آخر، وأصحابنا يقولون: (إن) القضاء يجب بالأمر الأول، فيكون مقتضاه افعله في أول الأوقات، فإن فات فافعله في الثاني، فإن لم تفعله في الثاني فافعله في الثالث، فلا يكون الأمر عاماً في جميع الأزمان. 235 - واحتج بأن قال: قول الرجل لعبده: أكرم فلاناً وأحسن عشرته، يقتضي الدوام والتكرار. قلنا: المعقول من قوله أحسن عشرته أي لا (تسيء) عشرته، ولهذا يقال (لمن لا يسيء) عشرته، قد أحسن عشرته، فالنهي (استفيد منه التكرار).

وجواب آخر: (وهو) أن أمره بذلك يقتضي الإكرام والتعظيم، ومعلوم أنه لم يأمر بالإكرام إلا لعلة إما (لأنه يستحق) ذلك أو غيره، فمتى لم يعلم زوال العلة الموجبة لإكرامه وجب دوام إكرامه. فبهذه القرينة نعلم (وجوب دوام الإكرام) لا بمجرد الأمر، ولأن العشرة تفيد جملة من الأفعال لا فعلاً واحداً، ألا ترى أن من رأيناه يعامل غيره بعمل واحد جميل لا يقال هو حسن العشرة، وإذا أفاد العشرة جملة من الأفعال وجب تكرار الأفعال لتصيب فائدة الأمر. 236 - واحتج بأنه لو قال لعبده: احفظ فرسي، فحفظه ساعة وتركه (ساعة) (يستحق) العقوبة، ولو لم يقتض الدوام لما حسن عقوبته. قلنا: معنى (الحفظ أن لا يضيع)، وإذا حفظه ساعة ثم تركه (ساعة صار) مضيعاً، فلم يحصل به ممتثلاً للأمر، بخلاف قوله: صلّ. لأن ذلك يقتضي تحصيل ما يسمى صلاة وذلك يحصل (بصلاة) واحدة فافترقا، يوضح هذا أنه لو حفظ ساعة ثم ترك

لم يحسن أن يسمى حافظاً، ولو صلى صلاة واحدة لحسن أن يسمى مصلياً، ولأن البر في اليمين على الحفظ لا يحصل إلا بالمداومة وهو إذا قال: والله لأحفظن مالك فحفظه وقتاً وتركه (ساعة لم يبر في يمينه) والبر في اليمين على الصلاة يحصل بمرة واحدة وهو إذا قال والله لأصلين وكذلك سائر الأفعال (يحصل البر بأدنى ما يتناوله) الاسم فافترقا. 237 - واحتج بأن قوله: صلّ، يحتمل صلاة وأكثر على طريق الحقيقة، ألا ترى أنه يجوز أن يفسر بالجميع، فوجب أن يحمل اللفظ على الكل. الجواب 26 ب/ أنه يبطل بقوله صليت، فإنه يحتمل صلاة وأكثر، ويحسن تفسير قوله بذلك والإخبار عنه، ثم لا يحمل إطلاقه إلا على ما يتناوله الاسم. 238 - واحتج بأن الأمر يقتضي وجوب الفعل ووجوب الاعتقاد، (والعزم) ثم الاعتقاد (والعزم) يجب استدامتها كذلك الفعل. قلنا: (الاعتقاد لا تجب استدامته، فإنه لو اعتقد ثم غفل جاز، كالإيمان والعزم يجب مرة، فلو غفل بعد ذلك لم يضر.

وجواب آخر: وهو أن الاعتقاد لا يجب بالأمر، وإنما يستند إلى قيام الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبر بالوجوب وجب اعتقاده). فإذا عرف المكلف الأمر فلم يعتقد وجوبه صار مكذباً له في خبره فيصير (كافراً) بذلك، بخلاف (الفعل) فإنه يجب بالأمر، فإذا فعل ما يصح (أن يعلم الآمر أنه ممتثل كفاه)، مثل أن يقول صل فيصلي ركعتين فيحسن أن يقول: قد صليت. جواب آخر: لا يمتنع أن يجب دوام الاعتقاد دون الفعل كما لو قال: صل مرة، فإن الاعتقاد يجب (استدامته ولا يجب) استدامة الفعل. 239 - واحتج بأن الاحتياط يقتضي (تكرار المأمور به فلا) ضرر على المكلف فيه، وفي ترك التكرار ضرر لأنا لا نأمن أن يكون (الأمر أريد به) التكرار. الجواب: أن المكلف إذا علم أن الأمر ليس على التكرار أمن الضرر بفقد التكرار، ومتى أهمل النظر في ذلك لم يأمن الضرر في

اعتقاد وجوب التكرار، وإيقاع التكرار بنية الوجوب (ولم يثبت عنده أن الله تعالى أوجب ذلك). 240 - احتج بأن قال: لو أفاد الأمر فعله مرة لم يحسن استفهام الآمر، فيقال له أردت بأمرك فعل مرة أو أكثر لأن الأمر قد دل على المرة. الجواب عنه: أنّا نقول: ولو أفاد (التكرار لما حسن أن يستفهم فيقول: افعل ذلك دائماً أم افعله مرة، ولأنه إنما حسن طلباً لتأكيد العلم أو الظن أو لأن) المأمور به عارضه شبهة يجوز (لأجلها) أن يراد به التكرار (فيسأل) ولأن اللفظ يحتمل أن يفسر به ولهذا حسن الاستفهام. 241 - واحتج بأنه لو لم يفد التكرار لما صح ورود النسخ والاستثناء عليه لأن ورود النسخ على المرة الواحدة (بداء وورود الاستثناء على المرة الواحدة) تناقض. الجواب: أنه لا يجوز ورود (النسخ) على الأمر إلا إذا قام دليل أنه أريد به التكرار، وقد قيل ورود النسخ والاستثناء يدلان على

أنه (قد) أريد به التكرار (ولأنه إذا قال صل إلا يوم الاثنين فإنا قد علمنا بقرينة أنه أراد به على الدوام، وخلافنا في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار). 242 - (واحتج بأن الأمر ضد النهي كالنقيض له)، ثم النهي يفيد (التكرار لأنه يفيد) الانتهاء عن الفعل أبداً، (وكذلك الأمر يفيد إيقاع الأمر أبداً). وربما قيل النهي (عن الفعل) أمر بالترك، كما أن الأمر أمر بالفعل، ثم النهي يفيد الاستدامة فكذلك الأمر (يفيد الاستدامة) (يوضح هذا) أن قوله كن فاعلاً (كقوله) لا تكن (تاركاً) وإنما زاد عليه لفظ النهي (وهو لا).

(قلنا: نحن نتبع قول أبي بكر الباقلاني لأنه قال) النهي يفيد مرة (واحدة) كالأمر سواء. وليس بجيد (لأنه مخالف الإجماع) ويعترض عليه بما نذكره فيما بعد. (وجواب آخر: وهو أن) هذا إثبات لغة بالقياس. (فإن قيل: ليس كذلك لأنا) بينا أن النهي أمر في الحقيقة، لأنه أمر بالترك فليس ذلك بقياس. (قلنا: هذا لا يصح لأن أهل اللغة قسموا الكلام أمراً ونهياً ولم يجعلوه شيئاً واحداً).

جواب آخر: فرق بين النهي (والأمر)، لأن النهي نفي والأمر إثبات، ولو قال والله لا فعلت كذا حمل على الدوام، ولو قال والله لأفعلن كذا أجزأه مرة واحدة فافترقا، وكذلك لو أخبر فقال ما فعلت كذا اقتضى أنه ما فعله على الدوام، ولو قال قد فعلت كذا اقتضى (أنه) فعله مرة واحدة. جواب آخر: أن النهي لو قيده بمرة فقال: لا تفعل كذا مرة اقتضى دوامه. ولو قال: افعله (مرة) لم يقتض دوامه. وجواب آخر: وهو أنه إذا كان النهي يقتضي (نقيض) الأمر، وجب أن يفيد (نقيض) فائدته، وهذا يوجد بمرة، لأنه إذا قال لا تفعل كذا (فكأنه قال) لا تفعل في شيء من الزمان، فإذا قال افعل اقتضى 27 أ/ أن يفعل في زمان ما (يقتضي) عموم الزمان تخصيص بعضه، ألا ترى أن قوله: في الدار رجل نقيض قوله: لا رجل في الدار، لأن النفي ينفي جميع الرجال، والإثبات أثبت رجلاً واحداً فكان نقيضه.

(وجواب آخر وهو جيد وذاك أن) النهي يقتضي ترك الفعل أبداً، حجتنا لأن النهي إذا أفاد الانتهاء على العموم (فكان نقيضه) من الإثبات يقتضي مرة واحدة كما أن قولنا: ليس في الدار رجل ينفي كل الرجال، فنقيضه قوله في الدار رجل، كذلك قوله لا تدخل الدار (يفيد) لا تدخلها أبداً. فنقيض (ذلك) أن يدخلها (أبداً) ولو مرة، لأنه بذلك يخرج عن أن يكون غير داخل إليها (أبداً). جواب آخر: الأمر بالضرب يفيد أن يكون المأمور صادقاً، وبمرة واحدة يحصل ذلك والنهي عن الضرب يفيد أن لا يكون (المأمور) ضارباً، ولا يتم ذلك إلا مع التأييد. (فأما قولهم: الأمر بالشيء نهي عن ضده فلا نسلم لأنه لو غفل عن الأضداد كلها في حال الأمر لا يجوز أن يقال إنه نهي مع غفلته ثم الأمر المطلق كالمقيد بفعلة واحدة، فالنهي الذي هو ضده يكون بحسبه كما لو صرح بالتقييد بخلاف النهي الصريح المطلق).

243 - فصل: فإن علق الأمر بشرط فمن قال مطلقه يقتضي التكرار فمعلقه أولى أن يقتضي التكرار. واختلف من قال مطلقه لا يقتضي التكرار في المعلق بشرط فقال أكثرهم: لا يقتضي التكرار (أيضاً)، وقال الباقون يقتضي التكرار. 244 - (دليلنا أنه لو اقتضى التكرار لم يخل إما أن يقتضيه بنفس الأمر أو بالشرط، ولا يجوز أن يقتضيه بنفس الأمر لأنا قد بيّنا في المسألة الأولى أنه لا يقتضي التكرار). ولا يجوز أن يقتضيه بالشرط لأنه لا يخلو إما أن يقتضيه بلفظه أو بمعناه، (فإن قيل: بهما جميعاً). (قيل: قد بيّنا أن كل واحد لو انفرد لم يقتض التكرار، فإذا اجتمعنا من أين حدث التكرار)؟ ومعلوم أنه ليس في لفظ "إن

وإذا" (ولا في معناهما) ما يدل على ذلك فمن ادعاه يجب أن يظهره. 245 - دليل آخر: الخبر المعلق بشرط لا يقتضي تكرار المخبر عنه بتكرار الشرط، فكذلك الأمر المعلق بشرط، وقد بينا الجمع بينهما في المسألة الأولى. وبيان ذلك: (أنه) لو قال الإنسان زيد يدخل الدار إن دخلها عمرو، فتكرر دخول عمرو، ودخلها زيد مرة (واحدة) فإنه يكون صادقاً. 246 - (ودليل آخر وهو أن) المعقول في الشاهد من تعلق الأمر بالشرط فعل مرة وإن تكرر الشرط بدليل أن الإنسان (إذا) قال لعبده إن دخلت السوق فاشتر تمراً، لم يعقل منه تكرار شراء التمر وإن تكرر دخوله السوق، وكذلك قول الرجل (لزوجته): إن دخلت الدار فأنت طالق، لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرر دخولها، وكذلك قوله لوكيله طلق زوجتي إذا دخلت الدار لم (يملك) طلاقها كلما دخلت (الدار) وإنما

يطلقها (مرة) واحدة، ولأن كل أمر اقتضى المرة الواحدة إذا كان مطلقاً اقتضاها، وإن كان معلقاً بشرط، أصله إذا قال صل صلاة، ولأن أهل اللغة فرقوا بين قوله: "افعل إذا طلعت الشمس". (وبين قوله "افعل كذا كلما طلعت الشمس")، ولهذا (لو) قال: "إذا طلعت الشمس فأعط زيداً درهماً لم يتكرر إعطاؤه بتكرر طلوعها ولو قال كلما طلعت (الشمس) فأعطه، تكرر الإعطاء بطلوعها فدل على (ما قلنا) ولأن تعليق الأمر بالشرط يقتضي تخصيصه إذا كان مطلقه في الأحوال كلها لا يقتضي التكرار، فالمخصوص ببعض الأحوال أولى (أن لا) يفيد التكرار (ولأن المأمور يستفاد) بالأمر، والشرط يفيد منع فعل المأمور به قبله أو بعده، فأما أن يفيد الشرط تكرار فلا. 247 - واحتج بأنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر معلقة بشروط وصفات تتكرر بتكرر الصفات، منها قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وقوله:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ/27 ب فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}. والجواب أن التكرار لم يعقل من ظاهر (هذه الآيات)، وإنما عقل بدليل آخر من الإجماع والقياس وغيره. جواب آخر: إنما تكرر الحد بتكرر السرقة والزنا لأنهما علتان والعلة يتبعها حكمها كلما وجدت، ثم في المعلق بشرط مالا يقتضي التكرار وهو الحج (والعمرة). (فإن الاستطاعة توجد ولا يجب الحج الثاني). (وجواب آخر: وهو أن ليس في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} شرط وإنما ذكر السبب الموجب للحد، وأما {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فلا يقتضي تكرار الوضوء بتكرار الصلاة. 248 - احتج بأن تعليق الحكم بالشرط كتعليقه بالعلة إذ كل واحد (منهما) سبب فيه، ثم الحكم يتكرر ولا ينتفي بتكرر

العلة، كذلك (يتكرر) بتكرر الشرط، بل الشرط (آكد) من العلة لأن الحكم ينتفي بانتفاء الشرط ولا ينتفي معلول العلة بانتفائها. قلنا: العلة مفارقة للشرط، لأن العلة تقتضي الحكم وتدل عليه، والشرط ليس بدلالة عليه، ولا يقتضيه فلم يتكرر بتكرره، ألا ترى أن من طلق امرأته بشرط دخول الدار لم يكن (دخولها في المرة الثانية شرطاً) في الطلاق. 249 - احتج بأن الأمر المعلق بالشرط لا اختصاص له بالشرط الأول دون أمثاله من الشروط، فلزم الفعل عندها كلها (لفقد الاختصاص وفي ذلك) تكرار المأمور به بتكرار الشرط. قلنا: لا نسلم ونقول إن الأمر المعلق بالشرط الأول له من الاختصاص ما ليس لغيره وهو (أنه) يجب إيجاده على الفور عقيبه دون وجود الشرط الثاني، (ثم الأمر المطلق عندكم لا يختص بزمان دون زمان ولا يقتضي تكرره بتكرر الأزمنة كذلك المعلق به). 250 - احتج بأنه لو لم يفد (الأمر) المعلق بالشرط

التكرار، لما أفاد النهي المعلق بالشرط ذلك لأن النهي كالنقيض للأمر فاقتضى نقيض ما اقتضاه في الحال الذي اقتضاه. (الجواب عنه أنا نقول: ليس يقتضي ما أثبته الأمر في جميع الأحوال كما ذكرنا في الأمر المطلق). جواب آخر: أن نجعل الأمر المعلق بشرط يفيد إيقاع المأمور به مع الشرط الأول لأن (الأمر على) الفور عندنا، والنهي يقتضي المنع مع إيقاعه مع الشرط الأول (على) التأييد سواء تجدد شرط آخر أو لم يتجدد، ألا ترى أنه إذا قال: لا تعط زيداً درهماً إذا دخل الدار فإنه يفيد نفي العطية على الأبد، لأن من نهي غيره أن يعطي درهماً عند الدخول فليس غرضه المنع من العطية عقيب الدخول وإنما غرضه استدامة نفي العطية إلا أن يبدو له في ذلك، وقد قيل (إن) النهي المقيد بشرط يفيد مرة واحدة كالأمر سواء، وفرقوا بينه وبين النهي المطلق بالعادة، ولأن الإنسان إذا قال لعبده: لا تخرج من بغداد إذا دخل زيد أفاد مرة واحدة، وإذا قال: لا تخرج من بغداد أفاد التكرار، وهذا ليس بشيء لأن المخالف يمنعه (ولا يوافق على العادة).

251 - فصل: إذا كرر الأمر بشيء واحد مثل أن يقول: صل غداً ركعتين صل غداً ركعتين، أو أعط زيداً درهماً، أعط زيداً درهماً (فإنه) لا يقتضي تكرار المأمور به. وقال أصحاب أبي حنيفة يقتضي تكرار المأمور به وهو قول

الجبائي: وعن أصحاب الشافعي كالقولين: 252 - لنا أن أوامر الله تعالى في القرآن قد تكررت ولم يفد الثاني غير (ما أفاد) الأول كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوه. فإن قيل: إنما لم يفد التكرار لدليل. قيل: بينوا لنا ما الدليل. 253 - وأيضاً فإن الأمر الثاني يحتمل الاستئناف ويحتمل التأكيد فلا يوجب فعلاً ثانياً (بالشك). (فإن قيل: الاحتياط في إيجاب الفعل الثاني).

(قيل: الأصل براءة الذمة ولأن من اعتقد إيجاب ما لم يجب عليه كاعتقاد ترك ما وجب عليه). 254 - وأيضاً فإن السيد (إذا) قال لعبده/28 أ "اسقني ماء، اسقني ماء" (أو) "اشتر لحماً، اشتر لحماً" لم (يفد) التكرار، كذلك إذا قال "صل ركعتين، صل ركعتين". (فإن قيل: إنما لم يقتض التكرار لقرينة أنه يرويه الماء مرة واحدة). (قلنا: ولعله لا يرويه. ثم يجب إذا قال اسقني ماء واسقني ماء أن لا يتكرر كما ذكرتم"). 255 - واحتج بأن الأمر يفيد الوجوب أو الندب، فيجب أن يفيده (وإن تقدم أمر آخر لأنه ليس تتغير صيغته) بتقدم أمر آخر.

قلنا: نقول يفيد وجوب الفعل وخلافنا هل يفيد وجوب (فعل آخر) أم لا؟ ليس في ظاهره أنه يفيد وجوب (فعل آخر) أم لا؟ ليس في ظاهره أنه يفيد (غير ما) أفاده الأول، ولأنه إذا لم يتقدمه أمر آخر فلا يحمل الثاني (على) التأكيد، فإذا تقدمه أمر آخر احتمل الثاني التأكيد، والأصل عدم وجوب الفعل الثاني فلم يجب بالشك. 256 - واحتج بأن الظاهر من تغاير الألفاظ تغاير المعاني، كما لو كان الأمر الثاني بفعل من غير الجنس. قيل: لا نسلم أن تغاير الألفاظ يفيد تغاير المعاني، وإن سلم فقد حملنا الثاني على فائدة وهي التأكيد، والمعنى في الأصل أنه يمكن اجتماعهما حالة واحدة مثل قوله: صل وصُم، أو يقول ذلك لا يحتمل التأكيد بخلاف مسألتنا. 257 - واحتج بأن الغرض بالأمر هو استدعاء الفعل لأنه هو المطابق لصيغته، ولا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون (افعل) استدعاء للفعل الأول أو لغيره). فإن فعل لاستدعاء الأول فقد حصل الغرض بالأول والثاني عبث فوجب حمله على فعل آخر.

والجواب: أن الغرض (بالتأكيد الحث) على الفعل واستدعائه، (والتأكيد)، (لغة العرب كقوله عز وجل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وقال الشاعر: فألقى قولها كذباً وميناً جائع نائع، عطشان بطشان). فإن قيل: ليس في ظاهره التأكيد، وإنما ظاهره الفعل كالأول. قلنا: لا نسلم (أن في) ظاهره الفعل كما ليس في ظاهره التأكيد.

مسألة: الأمر المطلق يقتضي تعجيل فعل المأمور به في ظاهر المذهب

فإن قيل: (بل) صيغته تقتضي الفعل. قلنا: بل صيغته بعد الأول تقتضي التأكيد وهو فعل أيضاً، وليس الفعل ولا التأكيد في ظاهر اللفظ، وكل منا يدعيه في المعنى. (فإن قيل: إذا وجب الفعل لأجل الثاني لم يكن ذلك الفعل الذي تناول الأمر لأنه لو تناوله الأمر لوجب لأجل الأول). (قلنا: إذا ورد ثانياً كان دليلاً على وجوب الأول وقد يجب الشيء بدليلين فأما إيجاد فعل آخر فكلا ولما). 258 - مسألة: الأمر المطلق يقتضي تعجيل فعل المأمور به في ظاهر المذهب، وبه قال أًحاب أبي حنيفة وقال أكثر

أصحاب الشافعي وأبو علي الجبائي، وأبو هاشم أنه لا يقتضي التعجيل. وقد أومأ (إليه) أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وكان ابن الباقلاني ينصره، وقال أصحاب

الأشعري هو على الوقف. 259 - (لنا أن لفظ الأمر) يقتضي ذلك، والوجوب المستفاد من الأمر يقتضي ذلك ودليل (السمع) يقتضي ذلك. أما ما يدل على (أن) لفظ الأمر يقتضي ذلك أن من ضرورة (قوله افعل إيقاع)، الفعل المأمور به (في وقت، فوجب) أن يقع في أقرب الأوقات (إليه) (كعقد البيع) (لما كان الملك فيه ينتقل في وقت انتقل في أقرب الأوقات إلى عقد البيع)، وكذلك الإيقاعات يقع الحكم عقيبها لأنه أقرب الأوقات إليها، كذلك الأمر (يجب أن يقع الفعل في أقرب

الأوقات إليه وهو عقيب الأمر)، (وهذا لأن كل لفظ اقتضى معنى يجب أن يقع ذلك عقيبه). فإن قيل: حمل الأمر على البيع والإيقاع قياس، فلو صح لكان الدال على التعجيل غير الأمر. قلنا: نحن نبين بهذا أن (لفظ الأمر) موضوع للتعجيل، كما أ، لفظ البيع موضوع للملك، ولفظ العتق موضوع للوقوع، فإذا وجد هناك تعقبه الحكم كذلك ههنا. (وهذا) كما قاس أصحاب التراخي الأمر على الخبر في المستقبل. فإن قيل: الأمر يقتضي الفعل، والفعل لا يقع إلا في وقت فيجب أن يطلب وقته ما هو؟ فأما الطلاق والعتاق فيفيدان أحكاماً. قلنا: لا فرق بينهما، فإن الطلاق يفيد تحريماً وذلك يحتاج إلى وقت، فيجب/28 ب أن ينظر في وقته ما هو، وكذلك العتاق. فإن قيل: لو لم يفد البيع والإيقاعات أحكامها عقيب وجودها لكان وجودها كعدمها بخلاف الأمر إذا جعل على التراخي. قلنا: والأمر لو لم يفد الفور لكان وجوده كعدمه.

فإن قيل: لا يكون لأنه إذا (كان) فعله متراخياً فقد أفاد ما لم يفد عدمه. قلنا: كذلك البيع يفيد نقل الملك في وقت ما، فأي وقت اختار نقله كان وجود البيع قد أفاد ما لم يفد عدمه. فإن قيل: فبم ينقلانه؟ قلنا: بالتسليم، أو بأن يقول كل واحد قد انتقل ملكي إليك. فإن قيل: (هذا خلاف الإجماع). قلنا: ثبوت هذا الإجماع يقتضي صحة الأصل الذي قسنا عليه ويؤكده. فإن قيل: البيع والإيقاع تقتضي أحكامهما على التأبيد، فجرى مجرى النهي. في اقتضاء المنع من الفعل على التأبيد، والأمر يقتضي فعلاً واحداً فافترقا. قلنا: كون الحكم فيما إذا وقع دام لا يمنع من أن ينظر في ابتداء وقوعه هل هو معجل أو متأخر، وكون الفعل المستفاد بالأمر واحداً لا يمنع أن ينظر في وقت لزومه وأن يكون وقت لزومه (في) أول الأوقات.

260 - دليل آخر: أن السيد إذا أمر عبده أن يسقيه الماء فهم منه تعجيل سقيه الماء، واستحسن العقلاء ذمه على تأخير ذلك (وأن يعتذر السيد فيقول: إنما ضربته وذممته لأني أمرته فتوانى) من غير عذر، فعلما أن الأمر يفيد ذلك. فإن قيل: إنما استفيد ذلك (بقرينة وهو أن) السيد لا يستدعي ماء إلا وهو عطشان فتأخره يضر به، فلذلك اقتضى التعجيل. قلنا: هذا غلط لأن السيد لا يعلل ضربه وتوبيخه (بذلك) ولا يقول كنت عطشان: وإنما يعلله بأن يقول أمرته بشيء فأخره عني فدل على أن لفظ الأمر يقتضي التعجيل، فلهذا علل به، وأما ما يدل على المستفاد من الأمر فإن الأمر بالشيء نهى عن ضده (والانتهاء عن ضده يقع عقيب الأمر فكذا المأمور به يجب أن يقع عقيب الأمر ولأنه) لا يصير منتهياً عن ضده إلا بفعل المأمور به على الفور. فإن قيل: يبطل (بما) إذا قال (افعل) أي وقت شئت فإنه يجوز له التأخير وإن أدى إلى ما ذكرتم.

قلنا: إذا قال له أي وقت شئت لا يكون نهياً عن ضده إلا في وقت تقع مشيئته لفعله، فأما الأمر المطلق بالشيء فإنه يقتضي أن (ينتهي عن) ضده عقيب الأمر (وإلا) (لم يكن ممتثلاً للأمر). 261 - دليل آخر: الأمر يتضمن الفعل والعزم والاعتقاد، ثم العزم والاعتقاد على الفور، كذلك الفعل. فإن قيل: إنما كان العزم على (الفور) لا بموجب اللفظ، وإنما كان على الفور، لأن المكلف لا ينفك عن العوم على الفعل أو الترك، والعزم على الترك معصية فبقى العزم على الفعل، فأما الفعل فهو من موجب اللفظ وليس في اللفظ ما يقتضي التعجيل وكذلك الاعتقاد. قلنا: لا نسلم فإن في (لفظ الأمر) ما يقتضي ذلك (وسنبينه إن شاء الله ولأن الأمر) في معناه ما يوجب التعجيل كما يوجب العزم ولا فرق بينهما، فإن الأمر يقتضي وجوب الفعل، والإيجاب يقتضي الإيجاد فإذا لم يفعل فقد أخل بمقتضى الوجوب.

جواب آخر: أن في معنى الأمر ما يدل على أنه يجب إيقاع الفعل في أول أوقات الإمكان، بدليل أنه لو أوقعه المكلف (في الوقت الذي يلي الأمر وهو الوقت الأول أجزأه بالإجماع) (وأسقط الفرض عن نفسه بذلك) (فدل على أنه هو المراد، ولأن الفعل مراد من المأمور في الحال بدليل أن فاعله مؤد للواجب بالأمر، فصار كقوله افعله في أول أوقات الإمكان) (فجواز تأخيره نقض لوجوبه وإيجاب لحقوه بالنوافل). 262 - دليل آخر: أن الأمر قد اقتضى الوجوب فحمله على وجوب الفعل عقيبه أحوط لأنه تبرأ ذمته مما وجب ولا (يخاطر فيه). 264 - (دليل/29 أآخر: أن الأمة اجتمعت على أنه إذا فعل عقيب الأمر سقط عنه الفرض، ولم تجمع على أنه إذا فعله بعد ذلك سقط عنه الفرض فلم (يجز) تأخيره).

264 - دليل آخر: اجتمعنا على أن الفعل (في) أول الوقت قربة فمن (أثبت قربة في آخر الوقت) فعليه الدليل. 265 - دليل آخر: لو قال افعل عاجلاً صح وكان حقيقة، فلو لم يكن التعجيل مقتضى الأمر لكان مجازاً. 266 - دليل آخر: أنه استدعاء فعل بقول مطلق فاقتضى التعجيل كالإيجاب يقتضي القبول على الفور. فإن قيل: ذلك يقتضيه بالشرع لا باللغة. 267 - دليل آخر: لو لم يتعلق الأمر بالوقت الأول لتعلق بوقت مجهول، وهذا لا يجوز لأن الحكيم لا يترك الذي يكلفه في حيرة. 268 - إذا لم يفعل المأمور به حتى مات لم يخل إما أن لا يعصي بذلك فيخرج الفعل عن أن يكون واجباً ويلحق بالنوافل أو (أن) يعصي، فلا يخلو إما أن يعصي بعد الموت وهذا لا يجوز قوله لأنه (لا) طريق لنا إلى معرفة المأمور (به) بعد الموت،

فلا يجوز تعليق العصيان عليه، أو يعصي إذا غلب على ظنه أنه إذا أخره فاته المأمور به وهذا لا يجوز لأنه (لا) طريق إلى ذلك، ولأنه قد يموت بغتة ويخترم فجأة فلا يجوز أن يكون عاصياً بذلك، وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه عصى حيث أخره عن أول (وقت الإمكان). فإن قيل: يبطل بقضاء رمضان وتأخير الصلاة إلى آخر الوقت فإن التقسيم موجود ووجوبها على التراخي. قلنا: كل العبادات وجبت على الفور. بمقتضى الأمر، وإنما الشرع رخص في تأخيرها لأن جبريل عليه السلام فعل الصلاة في أول الوقت وآخره، وقال "الوقت ما بين هذين"، ورمضان قالت عائشة: كنا نؤخره فنقضيه في شعبان لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، (ثم التأخير هناك إلى وقت معين محدود وههنا تجوزون التأخير لا إلى وقت معلوم وهذا لا يجوز لأنه يوقع المكلف في حيرة). 269 - دليل آخر: أن الأمر أحد نوعي خطاب التكليف فكان على الفور، دليله النهي.

فإن قيل: النهي يتناول الانتهاء في جميع الأوقات على الدوام، وليس كذلك الأمر فإنه لا يقتضي أكثر من وقت واحد، فليس الوقت الأول بأول من الوقت الثاني فكان جميعها سواء. قلنا: كونه مما يقع على الدوام لا يمنع من أن ينظر في ابتداء وقوعه هل هو معجل أو متأخر، ألا ترى أن البيع بشرط الخيار يقتضي حصول الملك على الدوام، ثم لا يمنع أن ينظر في ابتداء حصول الملك هل هو عقيب العقد أو يتأخر إلى انقضاء الخيار، وأما قولهم إن الأمر لا يقتضي أكثر من وقت واحد فكونه في وقت واحد لا يمنع أن ننظر في وقت لزومه هل هو أول الأوقات أو ثانيها؟ 270 - دليل آخر: إن المكلف إذا فعل المأمور به عقيب الأمر سقط عنه الفرض وفعل ما وجب عليه، فعلمنا أن الأمر قد تناول ذلك وهذا يمنع من الإخلال به (لأنه بالإخلال) به يفوت إذا كان ما يقع فيما بعد ليس هو ذلك المأمور به (بعينه) وإنما هو مثله لأن أفعال العباد تختص بالأوقات فما يصح أن يوجدوه في وقت لا يصح إيجاده في غيره، فلم يجز أن يفوت/29 ب المكلف ما (علم) أن التكليف قد تناوله. 271 - دليل آخر: الأمر يتناول الفعل فيقتضي (وجوبه)

ولا يتناول اعتقاد وجوب المأمور به (وأجمعنا أنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب المأمور به)، فإذا وجب تعجيل (وجوب) اعتقاد وجوب المأمور به مع أن الأمر ما تناوله، فبأن يقتضي وجوب تعجيل المأمور به (أولى وأحرى). فإن قيل: (لم) زعمتم أنه لما وجب تعجيل اعتقاد وجوب المأمور (به) وجب تعجيل (فعل) المأمور به، وما أنكرتم أن يكون تعجيل وجوب الاعتقاد إنما وجب لدليل آخر. قلنا: الاعتقاد تابع للمعتقد فإذا (وجب تعجيل) الاعتقاد (وجب تعجيل) المعتقد من طريق الأولى، ألا ترى أن الصفة لما تبعت الموصوف متى ثبتت الصفة لابد أن يثبت الموصوف ضرورة. 272 - دليل آخر: (أنه) لو جاز تأخير المأمور به عن الوقت الثاني أدى إلى أقسام كلها باطلة، وما أدى إلى

الباطل فهو باطل، بيان ذلك أنه لا يخلو إما أن يجوز تأخيره إلى غاية أو لا إلى غاية، فإن جاز تأخيره إلى غاية لم يخل إما أن يكون غاية معينة بوقت بعينه، لا يؤخره عنه، أو موصوفة بصفة وهو أن يغلب على ظنه أنه إن لم يفعل. فاته (فعله) بغير أمارة (أو بأمرة) من مرض أو علو سن، فإن قال: الغاية معينة بوقت مضيق، فلم يقل به أحد، ولا دليل يدل عليه وليس بعض الأوقات بالتعين أولى من (بعض). فإن قال: يتصف بصفة وهو إذا غلب على ظنه فواته بغير أمارة فهو يختل (ولا) ينفصل من (ظن السوء). وإن قال: يتضيق بأمارة (من مرض) أو عُلو سن فباطل لأن كثيراً من الناس يموت فجأة فبطل هذا القسم. وأما القول بجواز تأخيره لا إلى غاية (فلا يخلو إما أن يجوز ذلك لا إلى بدل أو إلى بدل، فإن قال لا إلى بدل فهو باطل لأن ما يجوز تأخيره لا إلى بدل نافلة وأجمعنا على وجوبه وإن قال يجوز تأخيره إلى بدل فلا يخلو أن يكون (البدل وصية) كالحج أو العزم

على أدائه في المستقبل، فإن قال: إلى الوصية فباطل لأن ذلك ليس يقام في جميع (العبادات) لأن أكثرها لا يثبت بالوصية كالصلاة والصيام ولأن القول بأن البدل يكون وصية يفضي إلى باطل لأنا نوصي غيرنا فتكون وصيتنا له (أمراً بمنزلة) أمر الشارع فيكون للموصى أن يوصي إلى ثالث والثالث (يوصي) إلى رابع إلى ما لا نهاية له. وإن قال أخره إلى بدل هو العزم فلا يصح لوجوه: منها أنه لا دليل على كونه بدلاً (ولا) يجوز إثبات بدل لا دليل عليه. فإن قيل: أجمعت الأمة على أن العزم واجب. قلنا: إجماعها على وجوبه لا يقتضي كونه بدلاً عن غيره. فإن قيل: فلم زعمتم (على) أنه لا دليل على كونه العزم بدلاً. (قلنا: (لا) ذكر لكون العزم بدلاً في الأمر بحال. فإن قيل: (ولا) ذكر (للوقت الثاني) في الأمر

فلستم بأن تعينوا الوقت الثاني (للمأمور به) وليس بمذكور في الأمر فأولى أن نجعل العزم بدلاً وإن لم يكن مذكوراً. قلنا: قد بينا أن لفظ الأمر ومقتضاه يدلان على تعيين الوقت الثاني فيما تقدم ن الأدلة. ومنها: (أنه لو/30 أكان العزم) بدلاً عن العبادة لم يتقدم وجوبه على وجوب العبادة لأن بدل الشيء لا يتقدم وجوبه عليه لأنه مرتب عليه وقد (ثبت) أن العزم على تأدية العبادة واجب على المكلف (بعد) دخول وقت العبادة، وقبل (دخول وقت) العبادة ما وجبت بالاتفاق، فبطل أن يكون العزم بدلاً وقد ارتكب بعضهم المنع فقال لا يجب العزم على فعلها (قبل أن تجب) فيقال له: فيجوز العزم على تركها. فإن قال نعم: خرق الشرع، لأنه (يقول إنه) يجوز له العزم على رد الشرع (وترك) ما أوجبه. وإن قال: لا يجوز العزم على تركها ولا العزم على فعلها.

(قيل فبماذا) يتلقى المكلف أمر الشريعة؟ لا يتلقاه باعتقاد فعله ولا برده فيكون وجوده في حقه كعدمه، وهذا غير جائز. وقد أجاب بعضهم عن الدليل بأن العبادة تجب قبل دخول وقتها فلا يتقدم العزم على الوجوب. وهذا غلط لأن من شرط العبادة الوقت، فكما لا يتقدم فعلها على الشرط لا يتقدم وجوبها عليه، ثم الشارع قال له: إذا جاء الوقت (الثاني فافعل) معناه التزم الفعل، ولا يقول له إنه يلزمه قبل ذلك الوقت. ومنها: أنه لو كان العزم في الوقت الثاني بدلاً من العبادة لم يخل إما أن يجب في الوقت (الثاني ويجوز تأخيره وتأخير) العبادة عنه، فإن جاز تأخيرهما كان القول في العزم كالقول في العبادة ولم يقف ذلك على غاية ولحقاً جميعاً بالنوافل. وإن لم يجز تأخير العزم على الوقت الثاني بل وجب إيقاعه فيه فذلك باطل لأن بدل العبادة يجب على حد وجوبها ليكون فعله جارياً مجرى فعلها، والأمر عندهم إنما أوجب العبادة في وقت غير معين (فثبت أنها تقع) في وقت غير معين فبطل تعينه بالوقت الثاني. فإن قيل: نحن تقول إن الأمر اقتضى وجوب الفعل في الوقت الثاني.

قلنا: إن أردتم أنه اقتضى وجوبه بحيث لا يجوز تأخيره عنه فهو القول بالفور واسترحنا. وإن قلتم: إنه وجب في الثاني كوجوبه في الثالث والرابع من غير تعيين وقت. قلنا: فيجب أن يكون بدله الذي هو العزم كذلك (ولأنه) لو كان وجوبه في الثاني كوجوبه في الثالث والرابع صار كان المكلف قال: هذه العبادة واجبة في الوقت الأول، (واجبة في الوقت) الثاني والثالث، بمعنى أن الفرض يسقط بالفعل في كل واحد من هذه الأوقات، ومتى قال هذا لم يحتج إلى بدل هو العزم بل لنا أن نقدم ونؤخر من غير عزم. وهذا ترك لما شرعتم في نصرته. ومنها: أنه لو كان العزم بدلاً من فعل العبادة لم يخل إما أن يقوم (مقامها) في ثبوت المصلحة فيه، أو لا يقوم (مقامها)، فإن قام مقامها (فيه) فقد استوفيت المصلحة بفعله فلا وجه لوجوب (فعل) العبادة بعد ذلك، ألا ترى أنه لو فعلها في الوقت لا يجب عليها فعلها بعد ذلك/30 ب لأن مصلحة الوقت استوفيت وإن (كان) لم يقم مقامها فيه لم يكن بدلاً منها ولم يجز العدول عنها إليه إذ في ذلك تفويت بعض المصلحة فبطل القول بالعزم.

فإن قيل: نقول إنه يقوم مقام العبادة في ذلك الوقت ويبقى فعلها واجباً في (الأوقات الأخر). قلنا: الأمر لم يفد وجوب العبادة في الأوقات مكررة حتى يجب فعلها في كل وقت. وإنما أوجبت فعلاً واحداً، ولهذا إذا فعلها في الوقت الثاني لم يجب عليه فعلها في الثالث والرابع، ومن قال بالتكرار في الأمر فلا يتصور معه الكلام في (هذه) المسألة ولأنه إن كان يقام مقامها في ذلك الوقت الثاني فلا يخلو أن نقول يقوم مقامها في الوقت الثالث أو الرابع أو لا يقوم. فإن قلت: يقوم، أفضى إلى أن يقوم مقامها في جميع الأوقات إلى الموت فيخرج عن حد التكليف ولم يفعل العبادات. وهذا لم يقله أحد. وإن قلت: لا يقوم مقامها في الثالث والرابع، فيجب أن لا يقوم في الوقت الثاني وما الفرق بين الوقتين. 273 - وأما ما يدل من جهة السمع فقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وفي فعل الطاعة مغفرة فيجب المسارعة إليها. فإن قيل: المراد بالآية التوبة من الذنوب.

قلنا: هو عام، ثم إن (قلنا) (المسارعة) في التوبة تجب فهي عبادة قد وجبت على الفور بمطلق الأمر. فبقية العبادات كذلك. 274 - (وكذا قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وهذا أمر وامتثال الأمر من الخيرات فتجب المسابقة إليه). 275 - (وكذا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} فمدحهم على ذلك فبتركه يستحقون الذم). 276 - احتجوا بأن الأمر لو اقتضى التعجيل لكان يقتضيه بلفظه أو بفائدته ومعناه وليس يقتضيه بلفظه ولا بمعناه، فلم يكن على الفور. والدليل على أنه لا يقتضيه بلفظه أن قول القائل لغيره "افعل كذا" ليس فيه ذكر وقت متقدم ولا متأخر، وإنما يفيد إيقاع الفعل فقط، والفعل إذا وجد في الوقت الأول أو الثاني أو الثالث كان واقعاً وذلك (يقتضي) كون المأمور ممتثلاً للأمر.

والدليل على أنه لا يقتضيه بفائدته أنه لا يمكن أن يقال يقتضيه بفائدته إلا أن يقال: "إن الأمر يقتضي الوجوب ولا يتم الوجوب مع جواز التأخير" وهذا باطل لأن المكلف قد يجب عليه الشيء ويخير في فعله في أول الوقت أو فيما بعده ما لم يغلب على ظنه فواته. الجواب: أنا قد بينا أنه يقتضيه بلفظه ومعناه في أدلتنا فأغنى عن الإعادة، ثم نتكلم على ما دل به فنقول إن قوله: "فعل" ليس فيه ذكر الوقت وليس فيه ذكر الاعتقاد ولا (ذكر) العزم، ثم يجب على الفور، ثم يلزم عليه النهي ليس فيه ذكر وقت متقدم ولا متأخر ثم يجب على الفور، وكذلك الجزاء في الشرط ليس فيه ذكر الوقت، وكذلك الثمن في البيع ليس فيه ذكر الوقت ثم يجب على الفور (كذا) في مسألتنا مثله. وأما ما دل به على أنه لا يقتضيه بفائدته فهو حجتنا لأن الوجوب لا يتم مع جواز التأخير لأنه لا يخلو إما أن يؤخره إلى غاية أو (لا إلى) غاية، وقد أبطلنا ذلك، وقولهم إن المكلف مخير فيما يجب عليه أن يفعله في أول وقته أو فيما (بعد ذلك لا نسلمه) وهو دعوى مسألة الخلاف.

277 - احتجوا بأن الامتثال في الأمر كالبر في اليمين ثم لو قال والله لأفعلن كذا كان باراً أي وقت فعله، فكذلك إذا فعل المأمور به يكون ممتثلاً أي وقت فعله. الجواب/31 أ: أنا لا نسلم أن البر في اليمين يشبه مسألتنا، ثم اليمين خير فيها بين أن يفعل (أو لا يفعل) ويكفر، وفي الأمر لم يخير المأمور بين الفعل وتركه رأساً فافترقا (وصار نظير) مسألتنا النذر (لما لم يكن مخيراً فيه وجب على الفور. 278 - (احتجوا بأن قوله "افعل" هو طلب الفعل) في المستقبل، كما أن قوله زيد (سيفعل) إخبار عن إيقاع الفعل في المستقبل، فكما لا يمتنع الخبر من الدخول بعد مدة (من الخبر) فكذلك الأمر ولهذا قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فقال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما وقد صدهم المشركون عام الحديبية: أليس قد وعدنا الله تعالى (بالدخول) فكيف صدونا؟ " فقال: "إن الله تعالى وعدنا

بذلك ولم يقل في أي وقت" فدل على أن الخبر لا يقتضي الوقت الأول. الجواب: أن الخبر لا يشبه الأمر، وليس إذا وافقه في أن الفعل فيهما يكون في المستقبل مما يدل على استوائهما بدليل أن موضوع الخبر على التردد بين الصدق والكذب، وموضوع الأمر على (الوجوب والحث والاستدعاء). جواب آخر: أن مقصود الخبر أن يكون صدقاً، وأي وقت أخبر به وجد الصدق المقصود، ومقصود الأمر الإيجاب، والإيجاب لا يتم إلا بالإيجاد، (والتأخير إلى غير) غاية يلحق بالنوافل. جواب آخر: أن الخبر من الحكيم لا يوجد إلا بعد (أن قد تيقن الحكيم أنه يكون المخبر على) ما أخبر فيه فلا غرر عليه في التأخير والأمر يلزم المأمور فعلا (لا) يعلم أي وقت يوقعه فكان إيقاعه في الوقت الأول أحوط من وجهين:

أحدهما: أنه لو أراد التأخير لأخر الأمر به، ولأنه بالإجماع يكون قد امتثل الأمر (وإذا أخر لا يكون قد امتثل الأمر) بالإجماع. والثاني: أن في التأخير غرراً لأنه ربما فاجأه الموت قبل الفعل فيأثم. جواب آخر: أن عمر رضي الله عنه فهم التعجيل وكذلك بقية الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا امتنعوا من نحر الهدى، وإنما أبو بكر رحمة الله عليه حمله على التراخي تأويلاً للرسول صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنده من صدقه ومعجزته. ونحن نجوز أن يراد بالأمر التأخير ولكن (إن تجرد عن القرائن) يقتضي الفور. 279 - احتجوا بأن الأمر لا يقتضي زماناً ولا مكانا، وإنما يحتاج إلى زمان ومكان لأن أفعال المخلوقين لا تقع إلا في زمان ومكان، ثم ثبت أنه أي مكان فعل (فيه) صار ممتثلاً فكذلك في أي زمان فعل صار ممتثلاً. الجواب: أنه يحتمل أن يقال أنه يختص بالمكان الذي خوطب بالفعل فيه (لأنه لا ينتقل إلى مكان آخر إلا في زمان يلزمه الفعل

فيه) (ثم يبطل بالنهي لا يختص بمكان ويختص بزمان وهو عقيب النهي). 280 - احتجوا بأنه لو خصه بوقت متأخر وجب تأخيره وكذلك إذا قال افعله في الحال وجب تعجيله، فيجب إذا أطلق (أن) لا يكون بالتعجيل أولى من التأخير. الجواب: أنه (ليس) إذا شرط تأخيره (وجب تأخيره) مما يدل على أن إطلاقه يقتضي التأخير، ألا ترى أن (خيار) الشرط والثمن في البيع إذا شرط تأخيره تأخر وإذا أطلق اقتضى التعجيل، وكذلك في النهي لو شرط وقتاً متأخراً تأخر وإذا أطلق النهي اقتضى الفور. 281 - واحتجوا بأن قوله "افعل" مطلق في الأزمان كما (أنه مطلق في الأعيان)، ثم لو قال اقتل رجلاً صار ممتثلاً بقتل (أي رجل) كان، كذا يجب أن يصير ممتثلاً للأمر في أ] وقت كان (فاعلاً له).

(الجواب عنه أنا نقول: إن الأشخاص إن كانوا في القرب إليه سواء فلا مزية لأحدهم على الآخر وهذا لا يوجد في الأزمان، وإن كان الرجال بعضهم أقرب إليه من بعض لزمه قتل الأقرب إليه فإن تركه ومضى إلى غيره في زمان كان يقتضي امتثال الأمر فيه عصى) (على) أن الأشخاص (في الجملة) لا مزية (لأحدهم على الآخر فتساووا) في القتل وفي الأزمان/31 ب (في الوقت الأول والثاني بخلاف الأفعال على ما بينا) في الأمر بالعبادة، وللوقت الأول مزية على الآخر بدليل ما بينا من الاحتياط أو من تحقيق الإيجاب وغير ذلك). 282 - احتجوا بأن السيد إذا أمر غلامه بشيء ولم يعلم الغلام حاجته (إليه فإنه لا) يفهم (الغلام) التعجيل. الجواب: أنا لا نسلم بل تقول (إن) الغلام إذا لم يعلم (من قصد السيد) أنه يبيحه التأخير فلم يفهم غير الأمر فقط،

مسألة: إذا قلنا صيغة الأمر تقتضي الوجوب فورود الأمر بعبادة معلقة بوقت أوسع من فعل العبادة كالصلاة، فإن (وجوبها) يتعلق بجميع الوقت فيكون أول الوقت ووسطه وآخره وقتا للوجوب، ويكون فعلها في أوله ووسطه وآخره سواء في سقوط الفرض وحصول المصلحة

فهم التعجيل منه واستحق الذم (إذا) لم يعجل، والله أعلم بالصواب. 283 - مسألة: إذا قلنا صيغة الأمر تقتضي الوجوب فورود الأمر بعبادة معلقة بوقت أوسع من فعل العبادة كالصلاة، فإن (وجوبها) يتعلق بجميع الوقت فيكون أول الوقت ووسطه وآخره وقتاً للوجوب، ويكون فعلها في أوله ووسطه وآخره سواء في سقوط الفرض وحصول المصلحة وبه قال الشافعي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأبو علي، وأبو هاشم. واختلفوا فقال بعضهم يجوز التأخير إلى آخره من غير بدل يكون في أوله ووسطه، وقال بعضهم لابد من بدل، فقال أبو علي، وأبو هاشم: البدل هو العزم على فعلها في المستقبل وإليه ذهب

شيخنا أبو يعلى، وقال بعضهم لها بدل يفعله الله تعالى، وحكى عن بعضهم أن الوجوب يتعلق بأول الوقت. وقال (أكثر) أصحاب أبي حنيفة إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت، واختلف هؤلاء فيما يفعله في أول الوقت، فقال بعضهم: هو نفل (يتأدى) به الفرض، وقال الكرخي: يكون مراعي فإن أدرك آخر الوقت وهو من أهل التكليف كان ما فعله (عن) فرضه، وإن أدركه وليس من أهل التكليف (كان ما) فعله نفلاً وحكى عنه أنه قال: يتعلق الوجوب بوقت غير معين ويتعين بالفعل.

فالكلام يقع في فصول: منها الكلام على من خص الوجوب بأول الوقت، ومنها الكلام على من خصه بآخره، ومنها كلام على من جعله مراعي وعينه بالفعل. 284 - والدليل على أنه لا يختص بأول الوقت أنه لو اختص بأوله لكان ما بعده قضاء، والأمة مجمعة على أنه إذا فعل الصلاة (في) وسط الوقت أو (في) آخره لم تكن قضاء، ولم يفعلها بنية القضاء، ثم لو كان كذا لم يكن (لضرب) الوقت فائدة لأنه يستوي ما بعده وما فعله فيه في نية القضاء. 285 - دليل آخر: أن الوجوب مستفاد من الأمر، والأمر متعلق بأوله وآخره ووسطه فوجب أن يفيد الوجوب في الكل ويتضيق بآخره لأنه جعل غاية وقت الوجوب. 286 - دليل آخر: يقال (له) أتزعم أن تأخير الصلاة عن أول الوقت لا يجوز كما لا يجوز تأخيرها عن آخره ويستحق الذم على ذلك كما يستحقه على تأخيره (عن آخره) فإن قال: نعم رد قوله الإجماع، (وإن قال: لا، قيل له: قد نقضت قولك باختصاص الوجوب بأوله).

فإن قيل: إنما ينتقض قولنا بالاختصاص لو جوزنا التأخير لغير عذر (فأما ونحن) نجوزه لعذر وهو أن الناس تلحقهم مشقة شديدة بمراعاة أول الوقت وهو وقت معايشهم وأشغالهم (لأنهم ينقطعون عنها). قيل: فيجوز تأخيره عن آخر الوقت لهذا العذر أيضاً كما جوزت في حال الجمع للمشقة، ثم يلزم: المغرب لم يجز تأخيرها عن (أول) الوقت، وإن كان في مراعاة ذلك وفعله مشقة لأنه وقت اشتغال الناس أيضاً/32 أ (كما ذكرت). 287 - دليل آخر: أنه يجوز فعلها في آخر الوقت بحكم الأمر فدل على أنه وقت للوجوب كأوله ولا يلزم الزكاة قبل الحول فإنه يجوز فعلها بحكم الرخصة لا بحكم الأمر المقتضى لوجوبها. فإن قيل: فها هنا (يجوز بحكم) الرخصة أيضاً. قيل: هذا غلط لأن جوازها فيه بحكم الأمر المقتضى للوجوب وهو قوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وبخبر جبريل.

فإن قيل: فدلوك الشمس أول وقتها فدل على أن الوجوب يتعلق بأوله. قلنا: يتعلق بأوله ووسطه وآخره لقوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (كل) الوقت. 288 - فصل ثان: والدليل على أنه لا يختص بآخره أن الصلاة في أول الوقت كهي في آخره ووسطه في سقوط الفرض وحصول المصلحة المقتضية للوجوب. فإن سلم بطل قوله إنها تختص بآخر الوقت، وإن منع من ذلك قيل (له إن) لم يكن فعلها في أوله قائماً مقام فعلها في آخره فيلزمه فعلها في آخره، وهذا قول يرده الإجماع، وأما أن تكون المصلحة قد فاتت فيجب أن تكون الصلاة في أول الوقت مفسدة (لأن المكلف إذا كانت مصلحته في آخر الوقت، فإذا صلى في أوله فوت تلك المصلحة وتفويت المصلحة مفسدة) وفي ذلك قبحها، والإجماع منع من قبحها، بل الإجماع أن بعض الصلوات في أو لوقتها، أفضل وهي المغرب وإذا بطل هذا ثبت ما قلنا. فإن قيل: أليس تقديم الزكاة على الحول يسقط الفرض في آخره وليس ذلك بمفسدة.

قلنا: إنما يسقط الفرض لأنه يقوم مقامه في المصلحة، ولهذا لم يقل أحد من (الأمة بأنها) نافلة وتطوع مع كونها مسقطة للفرض بخلاف الصلاة. فإن قيل: إذا قامت مقام الزكاة بعد الحول في المصلحة فما معنى قوله: تعليق الوجوب بحؤول الحول. قيل: الفائدة في ذلك أن يكون للإمام إلزام رب المال الزكاة بعد الحول، ولا يكون له إلزامه قبل لأن الوجوب موسع عليه ويدل عليه أن الوجوب مستفاد من الأمر، (والأمر) يتناول أول الوقت وآخره وما بينهما، فشمل الوجوب جميع ذلك. فإن قيل: لا يمتنع أن يتناول الأمر الجميع ويختلف الحكم فيه، ألا ترى أن الأمر قد تناول الجميع ثم يجوز التأخير عن الأول والأوسط ولا يجوز عن الأخير. قلنا: تناول الأمر للجميع يقتضي التوسعة في الإيجاب لأن مقتضى الأمر الوجوب، فأما التقديم والتأخير فمن صفات الوجوب، وقد تختلف صفات الوجوب ولا يختلف الوجوب، ثم التأخير عن الأول ليس يخرج عن الوقت والتأخر عن الأخير يخرج عن الوقت المحدود بالشرع، فلهذا لم يجز التأخير عنه.

289 - فصل: والدلالة على أنه لا يكون نفلاً في أول الوقت بأنها لو كانت الصلاة في أول الوقت نافلة لصحت بنية النفل لمطابقتها لما عليه الصلاة في نفسها. فإن قيل: يجوز إيقاعها بنية كونها ظهراً نفلاً. قيل: كونها ظهراً نفلاً تناقض، فإن الظهر لا تكون نفلاً، وهم يمنعون هذا ويناقضون بالزكاة قبل الحول فإنها نافلة ولا يجوز إيقاعها بنية النفل. (الجواب): أن أحداً لم يقل تعجيل الزكاة نافلة. 290 - دليل آخر: لو كان فعلها في /32 ب أول الأوقات نفلاً، لكان فاعلها في أول الوقت لم يؤد الفرض قط ولا قام بالواجب منها، ولهم أن يقولوا: هذا يوهم أن الصلاة وجبت (عليه) فلم يقم بها وليس الأمر كذلك، ولهذا من قدم زكاته قبل الحول لا يقال ما قام بواجب الزكاة قط. ونجيب بأن الزكاة بد وجود النصاب واجبة، وإنما وسع الشرع وقت وجوبها فصارت كالدين المؤجل. 291 - دليل آخر: أن تقديم المغرب أفضل من تأخيرها بالإجماع، ولا يجوز أن يكون النفل أفضل من الواجب، ولهم أن يقولوا: يجوز (أن يكون) إذا كان مسقطاً للفرض كتعجيل الزكاة مع شدة حاجة الفقراء أفضل من تأخيرها.

ونجيب عنه بأن الزكاة ليست نافلة بل هي فريضة في ذلك الوقت، (ولأنه) يراعي في أول الوقت أذان وإقامة وعدد مخصوص وليس هذا حال النوافل. فإن قيل: هذا حال النوافل التي تسقط الفريضة. قيل: نحن لا نعرف نوافل تسقط فرضاً فمن زعم ذلك (فعليه البيان). 292 - احتج الخصم بأنها لو كانت واجبة في أول الوقت لم يجز تأخيرها عنه إلا إلى بدل فيه، وقد جاز تأخيرها عنه (بغير) بدل فثبت أنها فيه نافلة. الجواب: أن على قول شيخنا لا يجوز التأخير إلا ببدل هو العزم على فعلها في آخر الوقت، فلا يلزم الدليل ثم يبطل بقضاء رمضان، والكفارة يجوز تأخيرها لا إلى بدل وهما واجبان، ثم المراد بقولنا إنها واجبة، في أول الوقت أنه إذا فعلها قامت مقام غيرها من الواجبات (على) وجه الوجوب، وليس يلزم على هذا جواز تأخيرها لا إلى بدل، لأن الصلاة إذا كانت في الوقت الأخير تسد مسد وقوعها في الوقت الأول في الفرض والمصلحة لم يجز أن يلزم في الوقت الأول (إتيان) ببدل لأنه قد تركها إلا ما يجري مجراها فأي

فائدة في إلزام البدل، ولأن جواز التأخير يدل على نفي الوجوب (إذا قلنا: إنه يجزيء التأخير عن جميع الوقت كالنفل الذي ذكروه، فأما إذا جوزنا عن أول الوقت إلى ثانيه لم يدل على نفي الوجوب). 293 - احتج بأنها لو وجبت في أول الوقت لأثم بتأخيهرا كما لو أخر الصوم والحج والزكاة. قلنا: يلزم (عليه) قضاء رمضان والكفارة والدين لا يأثم بالتأخير وهو واجب (وأما تلك العبادات) فوقت وجوبها مضيق بخلاف الصلاة فإن وقت وجوبها موسع عن فعلها، ثم هذا لا يصح (فإنه إذا) بقى من الوقت مقدار فعل الصلاة يأثم بتأخيرها (عنه) وليس بوقت للوجوب عندهم أيضاً فدل على أن الإثم بالتأخير ليس بعلامة على الوجوب. 294 - فصل: (ويدل على أنها لا تتعين) بالفعل فنقول: إن أريد بقوله يتعين وقت الوجوب بإيقاع الفعل فيه. أنه إذا فعل يجب أن يفعل ثانياً وجوباً معيناً مضيقاً فباطل، لأن فعل المفعول غير ممكن فإيجابه قبيح، وفعله ثانياً لا يجب بالإجماع، وإن أريد (به) (أنه) يلزم بالشروع فيه إتمامه فهذه حالة النافلة عند

أصحاب أبي حنيفة، قد تكلمنا على من قال الفعل نافلة في أول الوقت. وإن أريد أنه إذا فعل الفعل (للوقت) علمنا أنه قد تعين سقوط الفرض به وأنه لا فرض بعده في ذلك الوقت، فذلك صحيح، وقد كنا نحكم قبل الفعل بأنه إذا وجد الفعل فهذه سبيله ولا معنى/33 ألإيجاب الوقت بالفعل. 295 - فصل: ويدل على أنه لا يقع مراعي، فإن جاء آخر الوقت وهو من (المكلفين). علمنا أن ما فعله واجب لأنه إن أريد بذلك أنه تبين لنا أنه (كان قد ألزمه) الفعل في أول الوقت ومنع من تأخيره عنه، فذلك يؤدي إلى أنه قد حظر عليه تأخير الصلاة عن أول الوقت، لكن لم يعرف أنه قد منع من التأخير وذلك تكليف ما لا يطاق، وعندهم لا يجوز لأن الإجماع يرد ذلك، فإنه يجوز التأخير عن أول الوقت، وإن أريد (بذلك) أنه تبين لنا أن ذلك الفعل قد أسقط عن المكلف أن يفعل مثله في آخر الوقت وأنه قائم مقامه في المصلحة فصحيح وزال الخلاف. 296 - فصل: ويدل على أن العزم ليس ببدل عن الصلاة في أول الوقت: أنه) لا يخلو إما أن يريد أن العزم قائم مقام الصلاة

في أول الوقت وجار مجراها (من) كل وجه فيلزمه أن يكون العزم مسقطاً لفرض الصلاة كما أ، هـ لو صلى في أول الوقت أٍقط فرض الصلاة لأن البدل يسد مسد المبدل، أو يريد أن العزم يقوم مقامها من وجه دون وجه، فلا يصح، لأن البدل يجب أن يثبت على حد ثبوت المبدل، ومعلوم أن الأمر اقتضى وجوب الفعل من أول الوقت إلى آخره على أن يفعل المكلف الصلاة في وقت من هذه الأوقات، أي وقت كان منه هكذا ظاهر الأمر، فيجب أن يكون بدل ذلك فعله في وقت غير معين من هذه الأوقات ولا يتعين بالوقت الأول، كمال ايتعين المبدل، ويجب إذا فعل البدل في وقت من هذه الأوقات أن يسقط الفرض كالمبدل. 297 - دليل آخر: لو لزم المكلف في أول الوقت أن يصلي أوي زعم لكان قد أخذ عليه أن يتحفظ من السهو ويجب أن نوقظه من نومه في هذا الوقت لأنه قد أخذ عليه في هذا الوقت فعل يمنع منه النوم كما يلزم أن نوقظه من نومه في آخر الوقت. 298 - دليل آخر: أن الأمر اقتضى إيجاب الصلاة علينا في الأوقات كلها، ولا دليل يدل على إثبات البدل ولا يجوز إثبات ما لا دليل عليه. 299 - احتج على إثبات العزم بأن الصلاة واجبة في أول

مسألة: إذا ورد الأمر بعبادة مؤقتة ففات وقتها لم تسقط ووجب فعلها بحكم ذلك الأمر

الوقت فلو جاز تأخيرها عنه من غير بدل صارت نافلة فلم يكن بد من إثبات بدل وهو العزم. الجواب: أن يقال إن أردتم بقولكم أنه حظر عليه تأخيرها عن (أول) الوقت لا نسلم ذلك بل الأول، والثاني والثالث في جواز فعلها فيها سواء ولأن حظر تأخيرها مع جواز تأخيرها متناقض فلم يصح ثبوته، وإذا لم يثبت حظر التأخير لم يحتج إلى بدل (نثبته). فإن قيل: نريد بوجوبها في أول الوقت أنها على صفة المصلحة الحاصلة بفعلها في آخر الوقت. قلنا لهم: ولم إذا أخرت إلى ما يساويها ويجري مجراها لا يجوز التأخير إلا ببدل (بل هذا بالدليل) على إسقاط البدل أولى. 300 - مسألة: إذا ورد الأمر بعبادة مؤقتة ففات وقتها لم تسقط ووجب فعلها بحكم ذلك الأمر، اختاره شيخنا، وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين تسقط ولا يجب قضاؤها إلا بأمر

مستأنف وهو الأقوى عندي، وعن الشافعية/33 ب كالمذهبين. 301 - والدليل لأصحابنا أن بالأمر ثبت وجوب العبادة في ذمة المكلف) وكل ما (ثبت في الذمة وثبت وجوبه في ذمة المكلف) لا يسقط عنه إلا بالأداء أو الإبراء أو النسخ، وبخروج الوقت لم يحصل الأداء ولا الإبراء فلم يسقط الوجوب. فإن قيل: الوجوب إنما يثبت بشرط الوقت، فإذا خرج الوقت سقط الوجوب لأن شرطه (قد) زال. قيل: الوجوب من مقتضى الأمر، والوقت ظرف (لإيقاع الفعل فيه) وبعدم الظرف لا يسقط الوجوب. جواب آخر: أنه سبحانه وتعالى قال: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (فعلق عليه الوجوب عند دلوك الشمس ورخص له في التأخير إلى غسق الليل) وبرخصة

التأخير لا يسقط الوجوب الحاصل في أول الوقت عن ذمته (فبخروج الوقت مع المعصية لا يسقط الوجوب الحاصل في الوقت عن ذمته). (جواب آخر: أن خروج الوقت لو جعل مسقطاً للوجوب لكان للمكلف أن يسقطه عن نفسه بترك فعلها حتى يخرج الوقت ألا ترى أن الفعل لما كان مسقطاً للوجوب كان للمكلف) أن يسقط الوجوب عن ذمته بإيجاد الفعل ولما لم يجز أن يقال (للمكلف أن) يسقط عن نفسه بالترك دل على أن الترك لا يسقط الوجوب. جواب آخر: أنه قد ثبت الوجوب بشرط الوقت ولا يسقط بفوات الوقت، ألا ترى أنه لو قال لله عليّ أن أتصدق يوم الجمعة بعشرة دراهم فلم يتصدق يوم الجمعة لم يسقط عنه النظر، وكان من الواجب أن يسقطه لأن شرطه عدم. 302 - دليل ثان: أن جنس الأوقات ليس بدليل على إسقاط الوجوب لأن الوجوب يبقى في الوقت الموسع وفيما لم يتعين له وقت مع عدم أوقات كثيرة فيجب أن يكون عدم الوقت المعين (غير مسقط) له أيضاً.

303 - دليل ثالث: (أنه) لو وجب القضاء بعد الوقت بأمر مستأنف لم يسم قضاء كما لم يسم في الوقت (المعين) قضاء، فلما سمى قضاء علم أنه قضاء ما وجب عليه فتركه. فإن قيل: هذا حجتنا لأنه لما تغيرت النية في القضاء (والأداء) كانا فرضين. (قيل) إن تغير النية لا يخرج الفرض أن يكون واحداً. ألا ترى أن الظهر المقصورة والمجموعة مع الظهر غير المقصورة والمجموعة تختلف نيتهما والفرض فيهما واحد، وإنما اختلفت لنية لتغير الأوقات المشروطة للفعل بأن الله تعالى أوجب العبادة من أول الوقت وجوز لنا تأخيرها إلى آخر الوقت ونهانا عن التأخير عن الوقت فكنا في وقت جواز التأخير نسمى مؤدين وبعده نسمى قاضين والفرض واحد، وعلى أنه لو كان بأمر (آخر) لكان فرضاً مبتدأ لا تعلق له بالأول. 304 - دليل آخر: أن الوقت (شرط) من شرائط العبادة وفواته لا يوجب إسقاطها، (دليله) الطهارة والستارة والتوجه وغير ذلك.

305 - دليل آخر: أن الأمر (موضوع) يتضمن إيجاب الفعل واعتقاد وجوبه. ثم بخروج الوقت لا يسقط الاعتقاد، فكان لا يسقط وجوب الفعل. 306 - دليل آخر: أن الأمر موضوع لإيجاب الفعل وإسقاط القضاء مسقط لإيجاب الفعل. فإن قيل: هو موجب للفعل في وقت مخصوص (لا) في جميع الأوقات؟ قيل: (أقررت) بإيجابه في وقت فقد ثبت في الذمة فما الذي أسقطه ثم قد بينا فيما تقدم الجواب، ولأن الحق إذا وجب في وقت لم يسقط بفوات وقته كالدين المؤجل إذا مضى زمان الأجل، والنذر إذا عين بوقت وفات. 307 - دليل آخر: أن الوقت ليس مقصوداً وإنما المقصود نفس العبادة بدليل أنها تثبت عبادة في غير وقت مخصوص/34 أولا فائدة في وقت لا عبادة فيه فيجب أن يراعى امتثال الأمر في فعل العبادة لا في مراعاة الوقت. 308 - دليل آخر: أن أوامر الشرع كلها إذا فاتت لزم

قضاؤها ولا نعلم أن أمراً ثانياً ورد بقضائها، فوجب أن يكون القضاء بالأمر الأول. فإن قيل: منها ما لا يقضي (وهو) الجمعة ورمى الجمار. قيل: لا نسلم فإن الجمعة تقضي ظهراً (ورمى الجمار يجب بتركه دم) بدل عنها. 309 - احتج الخصم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فأمر بفعلها بعد الوقت ولو كان يجب القضاء بالأمر الأول لم يحتج إلى أن يأمر ثانياً. الجواب: قد قال: "فليصلها" وهذا كناية عنها، علم أن المفعول بعد وقتها هي (ولهذا) قال "فذلك وقتها" ولأنه (قد) قصد رفع الإشكال لئلا يظن ظان أنها تسقط بخروج وقتها كما ظننتم ولهذا نص (النبي) صلى الله عليه وسلم على المعذور لأن فيه

(يقع) الإشكال (ويظن) ظان أنه (لو خرج الوقت بعذر سقطت) فأخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء فرضها وأن العذر لا يسقطها. 310 - واحتج بأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر فلم يجب فيه الفعل كما قبل الوقت. الجواب: إن أردت لم يتناوله بلفظه فصحيح، وهذا لا يمنع من إيجاب الفعل كالأمر المطلق لم يتناول بلفظه وقتاً بعينه ويجب الفعل، وإن أردت لم يتناوله بلفظه ولا بمعناه لم نسلم لأن حكم الأمر الوجوب وهو ثابت في ذمته لا يسقطه إلا بفعل المأمور به، (فإن) لم يفعله في الأول وجب أن يفعله في الثاني أو الثالث أو الرابع، وفارق هذا قبل الوقت فإنه لم يجب عليه فعل المأمور به بحال، وها هنا قد وجب في الوقت فمن ادعى إسقاطه بخروج الوقت فعليه الدليل. 311 - احتج بأن تخصيصه بالوقت كتخصيصه بالمكان، ثم لو علق الأمر بمكان بعينه فتعذر ولم يفعله في مكان آخر، كذا إذا تعذر الوقت بالفوات، جوابه أنا نقول: لِمَ جعلت تخصيصه بالوقت كتخصيصه بالمكان، وما الجامع بينهما، ثم المكان لا يفوت فأمكن الفعل فيه فلا يعدل إلى غيره بخلاف الزمان فإنه يفوت فوجب القضاء في غيره، فإن تعذر إيقاع الفعل بأن صار لجة بحرا وما أشبهه جاز الفعل في غيره.

وأجاب شيخنا بأن قال: فرق بين تعلق الأمر بزمان وبين تعلقه بمكان كما قلنا في حقوق الآدميين إذا تعلقت بزمان لم تسقط بفواته كما لو مضى وقت محل الدين، ولو تعلقت بمكان سقطت بفواته كما لو مات العبد الجاني سقطت الجناية بموته لأنه محلها، وكذلك الرهن إذا تلف سقط حق المرتهن من الوثيقة لتلف مكانها. 312 - احتج بأنه لو علق الأمر بشرط أو صفة لم يجب (مع عدمها)، كذلك إذا علقه بزمان. الجواب: (أن هذا غلط لأنا نقول) ما العلة الجامعة بين الوقت وبين الشرط والصفة ثم (مع) عدم الشرط والصفة لا يجب الفعل لأنه إذا قال: "اضرب (زيداً) الأشقر، وأعط من دخل الدار درهماً، فلما لم يجد أشقر ولا دخولاً لم يجب، فنظيره في مسألتنا أن لا يوجد الوقت فلا يجب، فأما إذا وجد الوقت فقد ثبت الوجوب (في) الذمة فإذا عصى فيه بترك الفعل قلنا له افعله في الثاني لأن الله تعالى أمرك أن تفعل هذا الفعل فلا يسقط عنك إيجاب أمره إلا بفعله، فنظيره أن يجد الأشقر فلا يضربه حال وجوده، فإنه يجب عليه ضربه بعد ذلك وكذلك إذا دخل الدار ولم يعطه وجب أن يعطيه فيما بعد.

313 - احتج بأن المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول فافتقرنا/54 أإلى دليل كالأول. قلنا: لا نسلم أنه غيره بل هو ذلك الفعل المأمور به أخره، وإنما يسمى غيره لو كان قد فعل المأمور به في الوقت الأول فكان إذا فعل مثله في الثاني كان غيره، فأما وهو لم يفعله فليس (ذلك) بغيره. 314 - احتج بأن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ولهذا وجبت الصلاة والصيام والحج في أوقات مخصوصة، وقد علمنا كون هذا الفعل (في الوقت) الأول مصلحة ولا نعلم كونه في الوقت الثاني مصلحة إلا بدليل. الجواب عنه: أن هذا يصح لو كان الأمر يختص بما فيه مصلحة وعند أصحابنا (الأمر) غير موقوت على المصلحة بل يتضمنها ويتضمن غيرها. جواب آخر: أنا نعلم كونه مصلحة (في الوقت) ونعلم أنه فيما بعده مصلحة إن (كان) تركه الوقت لعذر، وإن كان لغير عذر فهو مصلحة لإسقاط الوجوب (في الوقت) وإن

مسألة: في الأمر المطلق إذا لم يفعل المكلف مأموره في أول أوقات الإمكان هل يقتضي فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل؟

تضمن معصية لتفويت الوقت المخصص بلفظ الأمر (وهذا) كما يؤمر بقضاء دينه عند محله فلو أخره عصى ولكان يجب قضاؤه فيما بعد لإبراء ذمته. 315 - احتج بأن النهي المؤقت يسقط بفوات الوقت فكذلك الأمر المؤقت. قلنا: لا نسلم فإنا إذا نهينا عن شيء في وقت لقبحه لم يجز فعله في وقت آخر لقبحه. وإن سلمنا فلم كان كذا وما الجامع بينهما؟ ثم النهي لا يثبت في ذمته شيئاً والأمر يوجب في ذمته فعلاً فلا يسقط إلا بتأديته والله أعلم بالصواب. 316 - مسألة: في الأمر المطلق إذا لم يفعل المكلف مأموره في أول أوقات الإمكان هل يقتضي فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل؟ أما إذا قلنا: الأمر المؤقت إذا فات وقته لم يحتج قضاؤه إلى دليل فهذا أولى أن لا يحتاج فيما بعد الأول إلى دليل لأن الأمر المطلق لا يختص بالأوقات من جهة اللفظ (والأمر المقيد بالوقت يختص بذلك الوقت من جهة اللفظة) فإذا كان المختص بالوقت يجب فعله فيما بعد الوقت فالذي لا يختص بوقت أولى أن يجب فعله بعد الوقت الأول لأنه يحتمله بلفظه.

وأما إذا قلنا: في المؤقت إنه إذا فات وقته احتاج قضاؤه إلى دليل فإن المكلف إذا لم يفعل المأمور به في الأمر المطلق في أول أوقات الإمكان فإنه يجب عليه أن يفعل فيما بعد ذلك الأمر وبه قال الرازي. وقال الكرخي وغيره: يحتاج فعله في الثاني إلى دليل كالموقت سواء، ولا يختلف من قال الأمر على التراخي أن المكلف لا يحتاج فيما بعد الوقت الأول إلى دليل. 317 - دليلنا: أن قوله افعل يقتضي إيجاد الفعل في الوقت الأول أو الثاني أو الثالث أبداً وإنما قلنا يفعله في الأول لأنه لو لم يجب فيه وجاز تأخيره إلى الثاني أو الثالث أو الرابع انتقض الوجوب المستفاد بالأمر ولحق بالنوافل، فقد اجتمع في الأمر شيئان:

أحدهما: الوجوب المقتضى للفور، والثاني نفي تخصيص الأمر بالأوقات ولا يمكن الجمع بينهما في الأمر إلا إذا قلنا: المكلف إذا عصى في الوقت الأول وجب عليه (الفعل) في الثاني، فإن عصى في الثاني وجب عليه في الثالث (وينزل) منزلة قول الآمر افعل في الأول فإن عصيت ففي الثاني، فإن عصيت ففي الثالث (كذلك) أبداً. فإن قيل: الأمر وإن لم يختص بوقت معين إلا أن الوجوب الذي دل على الفور جعله مختصاً بالوقت (الأول) فصار كالمختص بوقت معين. قلنا: إنما جعلناه مختصاً بالأول ما لم تقع/35 أالمعصية، فإذا وقعت المعصية بالترك في الوقت الأول بقى مطلق الأمر في الثاني والثالث والرابع أبداً لأنا بينا (أن) الأمر المطلق لا يختص بالفعل في الأول دون الثاني والثالث وفارق المؤقت بوقت معين لأنه يتناول وقتاً واحداً فلا يتناول ما بعده، ولأن التقييد بالوقت له صفة زائدة على المطلق وإلا لم يكن لتقيده بالوقت فائدة، ولا معنى، ولا يجوز إخلاء كلام الحكيم من فائدة فثبت أن فائدته ما قلناه.

مسألة

318 - احتج الخصم بأن قال: الأمر المطلق يختص (بأول) أوقات الإمكان من جهة الوجوب والفور كما يختص المؤقت بالوقت من جهة اللفظ فإذا لم يتناول في المقيد ما بعد الوقت كذلك في المطلق لا يتناول ما بعد الوقت الأول. الجواب عنه ما مضى. 319 - مسألة: إذا أمر الله تعالى قوماً بالفعل، وعلم أن فيهم من يمنع منه فلا يخلو (إما) أن يعلم الله تعالى أن المنع يزول ويقدر الممنوع على الفعل المأمور به، أو يعلم أن منعه لا يزول. فإن علم أن المنع يزول دخل في الأمر وصار من جملة المأمورين بلا خلاف. وإن علم أن منعه لا يزول فهل يدخل في الأمر؟ يقتضي مذهب أصحابنا أنه يدخل في الأمر أيضاً وقال طائفة: يدخل في الأمر بشرط زوال المنع. وقالت المعتزلة: لا يدخل في الأمر من علم الله أنه يمنع من الفعل.

320 - وجه قولنا: أن المقصود من الأمر حصول طاعة المأمور، وطاعة المأمور تكون تارة بالفعل، وتارة باعتقاد وجوب أمر الآمر والعزم على فعل ما أمره به متى قدر، فإذا لم يمنع المكلف من الفعل وجدت طاعته بأن يفعل، وإن منع من الفعل وجدت طاعته بأن يعتقد الوجوب ويعزم على الفعل، وإن منع من الفعل وجدت طاعته بأن يعتقد الوجوب ويعزم على الفعل، فقد حصل من الممنوع مقصود الأمر فدخل في الأمر كالفاعل (لما أمر) به، والدليل على أن مقصود الأمر الطاعة أنه يقول أمرتك فأطعتني (أو عصيتني). قال الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً فيقابل الأمر بمقصوده من الطاعة أو بضد مقصوده وهو المعصية فثبت ما قلناه. (فإن قيل: إنما يقال أطاعه إذا فعل المأمور). (قلنا: ويقال: أطاعه إذا قال أنا أعتقد وجوب ذلك وأفعله أي وقت أقدرتني عليه، فيقال أطاع وإنما عجز عن الفعل). 321 - دليل آخر: أن الله تعالى (قد) كلف الكافر

الصلاة بشرط أن يؤمن مع أنه علم أنه لا يؤمن ولهذا يعاقبه على ترك الصلاة كما يعاقبه على الكفر ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الكفار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فتبين أن إدخالهم سقر لأنهم لم يصلوا. 322 - دليل آخر: لو رفع المنع التكليف لكان من منع غيره من الصلاة قد أحسن إليه لأنه قد أسقط عنه (تكليفه) من غير توجه ذم إليه. فإن قيل: إنما لم يكن محسناً لأنه منعه مما يستحق به الثواب الجزيل. قيل: عندنا لا يستحق على الله تعالى شيئاً لا ثواب ولا عقاب (ولأن الثواب قد يستحق بالاعتقاد لطاعة الآمر فما منعه من الاعتقاد). 323 - دليل آخر: لو أسقط المنع التكليف لما علم الواحد منا أنه مكلف بالصلاة قبل تشاغله بها، وذلك يسقط عنه وجوب أخذ الأهبة لها.

فإن قيل: إنما يجب عليه (أخذ الأهبة لها) لثبوت أمارة (بقائه) سالماً إلى وقتها ولهذا لزمه التحرز من ترك ما لا يأمن وجوبه. قيل أخذ الأهبة من توابع العبادة، ومن المحال أن يجب فعل التابع قبل وجوب المتبوع، (ولأنه غير عالم بالتكليف، ولا بأن الأمر توجه إليه فلم يلزمه أخذ الأهبة وهو لا يعلم هل يقدر أن يفعل أو لا). 324 - احتج المعتزلة (بأن المراد بقولنا إن الله تعالى يأمر) بالفعل بشرط زوال المنع هو أنه قال لنا افعلوه وأراده منا (أو) كان له فيه غرض مع فقد المنع ولم يرده مع وجوده/35 ب لأنه لو أراده في الحالتين لكان قد كلف إيقاع الفعل مع وجود المنع ولما كان قد أراده بشرط زوال المنع فإذا علم الله سبحانه أن المنع يحصل لا محالة فقد علم الحالة التي لا غرض له في إيقاع الفعل فيها فلم يجز أن يريده. الجواب عنه: نحن نخالفكم في هذه القاعدة ونقول ليس من شرط الأمر إرادة المأمور (به) ولا إيقاعه، وإنما من شرط

الأمر وقوع طاعة المأمور على حسب (تمكنه) من الفعل أو الاعتقاد والعزم، وقد تقدم الكلام في هذا الأصل في أول هذا الباب (ولأن الله تعالى لم يرد) من الممنوع إيقاع الفعل، وإنما أراد إيقاع الاعتقاد والعزم فلم يلزم ما (ذكرتم على وجه). 325 - احتج بأن الله تعالى (لا يجوز أن يريد) من المكلف إيقاع الفعل مع حصول المنع لأنه تكليف ما لا يطاق. (الجواب: أنا نقول: يجوز أن يكلف بشرط أن يقدر وإنما كلامنا إذا علم أنه لا يقدر هل يكلفه أم لا؟ وليس فيما ذكرت دليل عليه، وهذا التخريج هو الجواب الذي تقدمه وهو أنه يجوز تكليف ما لا يطاق من جهة العجز لا من جهة الاستحالة. ثم قد بينا أن المراد بالأمر الطاعة وهي تحصل بالاعتقاد والتزام الوجوب وإن علم احترامه قبل الفعل).

326 - احتج الآخرون أن الله تعالى يكلف المعدوم بشرط أن يوجد ويقدر، كذا يكلف الممنوع بشرط زوال المنع والقدرة على الفعل. (الجواب هو في الجواب الذي قبله وهو أنه يجوز أن يكلف بشرط أن يقدر). (وأيضاً فإنه) جمع بغير علة ثم الفرق بينهما أن المعدوم لا تتصور منه الطاعة بحال قبل وجوده، وهذا تتصور منه طاعته لامتثال الأمر باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل (فبان ما ذكرنا). 327 - احتج بأن الله تعالى (قد) كلف الكافر الصلاة بشرط أن يؤمن فكذا يكلفه ها هنا بشرط زوال المنع. قلنا: بل قد كلفه مع علمه بأنه لا يؤمن وأن الصلاة لا تصح مع الكفر. 328 - احتج بأن الواحد منا يأمر غيره بالفعل بشرط أن يقدر فكذلك في حقه تعالى يأمر بالفعل بشرط أني زول المنع. قلنا: الواحد منا لا يعلم أن المأمور (طاعة إلا أن يفعل، والله) تعالى يعلم باعتقادنا أنا مطيعون عازمون على فعل ما أمرنا

مسألة: هل يدخل الآمر في الأمر؟

به لو قدرنا وذلك مقصود (الأمر) ولأن الواحد منا لا يأمر من هو عاجز بشرط أن يزول العجز لأنه لا يعلم هل (يزول) العجز أم لا؟ والله تعالى يعلم ذلك. (ولأنا نقول: يجوز أن يكلف الله تعالى بشرط أن يقدر على ذلك ويجوز أن يكلف وهو يعلم أنه لا يقدر فما المانع من ذلك وقد يأمر الإنسان عبده فتارة يقدر على ما أمره وتارة لا يقدر والله أعلم بالصواب). 329 - مسألة: هل يدخل الآمر في الأمر؟ قال شيخنا: يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به أمته، وذكر أن من كلام أحمد رحمه الله ما يدل عليه لأنه قال في رواية الأثرم وقد سأله عن حديث أم سلمة: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من

شعره ولا من أظفاره" وحديث عائشة رضي الله عنها خلاف هذا قالت: "كان إذا بعث بالهدى وأقام لم يجتنب شيئاً وهذا إذا أراد أن يضحي في مصره لا يمس من شعره ولا من أظفاره فعارض نهيه بفعله، فلو كان لايدخل فيما نهى عنه لم يحتج بفعله عليه لأنه كان يقول نهيه خاص لأمته فلا يكون فعله مبطلاً للنهي، وأشياء عارض فيها نهيه بفعله ذكرها وجميعها لا تدل على هذه المسألة، بل تدل على أن فعله يجب أن يتبع فيه كما (أن) أمره ونهيه يتبع فيه فيتعارضان. فأما أن يدل على أنه يدخل في الأمر أو لا يدخل فلا. وهذه (المسألة) تشتمل على (فصول). 330 - (أحدها): أن يقال: هل يأمر الإنسان نفسه أم لا؟ وهذا لا يخلو أن يراد به (الإنسان يمكنه أن) يأمر نفسه بأن يقول: افعلي يا نفس كذا وكذا، فذلك ممكن لا شبهة فيه،

ولكن لا (نقول) أمراً حقيقة لأن من شرط الأمر الرتبة والاستعلاء وذلك لا يتأتى إلا بين (ذاتين تترتب إحداهما على الأخرى، ولا يحسن أيضاً لأن فائدة الأمر أن يعلم المأمور به وينظر) طاعته أو مخالفته ويؤكد/36 أالحجة عليه ويكون الآمر ممن يتقرب المأمور إليه بفعل ما أمر به (وكل) هذا لا يحسن في أمر الإنسان نفسه لأن نفسه تعلم بالأمر قبل أن يقول لها افعلي وتعرف طاعتها ومعصيتها، والنفس لا تتقرب إلى الإنسان. 331 - والآخر: إذا أمر الإنسان غيره هل يدخل في الأمر؟ لا يخلو أن يكون ناقلاً للأمر عن غيره فينظر في خطابه فإن كان يتناوله مثل أن يقول: إن الله تعالى يأمرنا بكذا فإنه يدخل فيه (ولا) يذكر عن نفسه شيئاً نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}. وقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

الأُنثَيَيْنِ} (فإنه) يدخل فيه أيضاً لأن خطاب الله تعالى يتناول كل مكلف إلا من خصه الدليل. وإن كان لا يتناوله نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} كما لم يدخل موسى عليه السلام في ذلك الأمر بدليل أنه قال في آخر القصة: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولا يظن بموسى عليه السلام أن يأمره الله تعالى بذبحها فلا يكاد يفعل. 332 - وإن لم يكن ناقلاً للأمر عن غيره، بل كان المخاطب بالأمر هو الآمر فلا يدخل في الأمر عندي، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال بعض الشافعية يدخل في الأمر. 333 - دليلنا ما تقدم أن الإنسان لا يحسن أن يأمر نفسه ولا يكون (ذلك) أمراً حقيقة. 334 - دليل آخر: أنه لا خلاف بين أهل اللسان أن

السيد إذا أمر عبده أن يسقيه (ماء) أنه لا يدخل هو في (هذا) الأمر، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أمته. 335 - دليل آخر: أن الآمر لا يجوز أن يكون مأموراً، كما لا يجوز أن يكون المأمور بالشيء آمراً به، وكذلك لا يجوز أن يكون الطالب للشيء مطالباً به ولا السائل عن الشيء مسؤولاً عنه. 336 - دليل آخر: لو جاز (دخوله في غير أمره) لجاز أن يدخل في أمره لنفسه وحده، وهو أن يقول: افعل كذا (وكذا) ولما ثبت أنه لا يجوز أن يختص بالأمر فكذلك لا يدخل في عموم الأمر. 337 - دليل آخر: أن مقصود الآمر (امتثال المأمور) سواء ضر أو نفع، ولهذا يقول المأمور: أطعت وامتثلت وفعلت، وهذا لا يكون إلا من (الغير) وكذلك الإنسان يجتنب ما يضره ويأتي ما ينفعه فلا يتصور أن يدخل فيما يضره مع كونه مجتنباً له لأنه يتناقض. 338 - دليل آخر: أن الأمر هو الاستدعاء للفعل بالقول ممن هو دونه ولا يتصور أن يكون الإنسان دون نفسه (كذا لا يجوز

أن يأمر نفسه) فلم توجد حقيقة الأمر وفيما قررنا في الأول (مغن عن) هذه الأدلة كلها. 339 - دليل آخر: (أنه) لما لم يجز أن يخبر نفسه، كذا لا يجوز أن يأمر نفسه لأنه لا فائدة فيهما ويجوز أن يخبر غيره عن نفسه ويأمر بأمره. 340 - احتجوا بأن: النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة قالوا: "أتأمرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ"؟ فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولحللت كما تحلون"، فلولا أنه يدخل معهم في الأمر لما قالوا له فلم لا تفسخ. الجواب: أن هذا ليس بأمر منه ولهذا لا يجب فسخ الحج إلى العمرة وإنما أشار عليهم بالتحلل للترفه. فقالوا: فأنت لم لا تترفه؟ فبين عذره ثم لو كان ذلك أمراً احتمل أن يكون الآمر هناك هو الله سبحانه وتعالى ليتمتع من لم يسق الهدى ليخرج هدياً فيتسع اللحم على فقراء الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى فقد حصل المقصود وأمر الله تعالى يدخل فيه كل مكلف. 341 - احتج بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن الإخبار عن

مسألة: إذا توجه الأمر إلى واحد لم يدخل غيره فيه بإطلاقه

(وجوبه) في الشرع فدخل فيه كما لو قال هذه العبادة واجبة (مشروعة). الجواب: أنا قد بينا أنه لو كان مخبراً عن الله تعالى بأنه شرع كذا وكذا دخل فيه، وليس الخلاف في هذا، (وإنما) الخلاف فيما يأمر به ابتداء من عنده أو يخبر عن الله تعالى أنه أمره أن يأمر أمته بكذا وكذا، فلا يدخل في هذا (لأنه) يتضمن الوجوب (على غيره، وأما الوجوب على الإطلاق فلا، والمعنى في الأصل أنه لفظ مطلق يقتضي الوجوب) على كل مكلف، وفي مسألتنا هو إيجاب خاص على المخاطبين فنظيره أن يقول فرضت عليكم ووجب في حقكم، ولأن في قوله هذه العبادة واجبة إخبار للغير ويجوز أن يخبر الغير عن نفسه وغيره، وها هنا أمر للغير فلا يكون أمراً لنفسه، كما أنه إذا أخبر الغير لا يكون مخبراً لنفسه والله أعلم بالصواب. 342 - مسألة: إذا توجه الأمر إلى واحد لم يدخل غيره فيه بإطلاقه، وهو اختيار أبي الحسن التميمي، (وبه قال الأشعرية وبعض الشافعية).

(وقال) شيخنا إذا خاطب الله نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمر بفعل عبادة ولم يخصه بلفظ التخصيص نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ} دخل أمته في ذلك وكذلك إذا توجه (الأمر إلى واحد) من الصحابة دخل غيره (من الصحابة في ذلك). (وهذا إن أراد به إذا سأله إنسان عن مسألة فأجابه كقوله للأعرابي لما قال: "وقعت على أهلي": "أعتق رقبة"، فذلك يلزم كل من وقع في مثلما وقع فيه، فأما قوله لما مرض: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" يدخل فيه كل الصحابة في الإمامة فلا، وكذلك قوله للرجل منهم: "قم فبارز هذا" لم يجز لغيره ذلك، وفي أن لا نقول ثبت على الغير المبارزة. وإذا حكم في حادثة بين نفسين كانت واجبة على كل أحد أن يحكم عليه بمثل ذلك إذا وجدت منه مثل تلك الحادثة فهذا ما أعلم فيه خلافاً وكذلك إذا خاطبه الله تعالى:

{قُمْ اللَّيْلَ} أو {قُمْ فَأَنذِرْ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيات. يلزم الأمة أن يخيروا أزواجهم فلا يجب). 343 - وجه (قولنا) أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الإنسان إذا قال لعبده افعل كذا (وكذا) لم يدخل بقية عبيده في ذلك، فكذلك إذا أمر الله تعالى نبيه لم تدخل فيه الأمة. 344 - دليل آخر: (أنه) لو ورد الأمر بعبادة لم يتناول بمطلقه عبادة أخرى، فكذلك إذا توجه إلى متعبد لم يدخل فيه متعبد آخر، وهذا لأن الأمر يتناول العبادة والمتعبد بها فكما لا يتعدى أحدهما لا يتعدى الآخر. 345 - دليل آخر: أن لفظ الخصوص ضد لفظ العموم، ثم لفظ العموم لا يحمل على الخصوص بمطلقه، فكذلك لفظ الخصوص لا يحمل على الاستغراق بمطلقه.

346 - (دليل آخر: أنه قد يجوز أن يكون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة له مفسدة لغيره فلا يكون أن يدخل فيه إلا بدليل). 347 - دليل آخر: أنه لو دخل أمته في لفظ الخطاب المتوجه إليه لدخلوا فيما خص به بلفظ الخصوص وهو قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وما أشبه (ذلك) ومن قال (هذا) خالف العقل والإجماع. فإن قيل: هناك خصه وأخلصه، فإذا شاركه غيره خرج عن الخلوص له بخلاف اللفظ المطلق، فإنه شرع يتناول الجميع. قلنا: لا فرق بينهما (فإنه ههنا خصه بلفظ التوحيد ولفظ التوحيد لا يصلح للجمع) لأنه يخرج (عن) أن يكون توحيداً (لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}) (ولأن هذا يفضي إلى أن يجعل لفظ الخصوص لفظ العموم ولفظ العموم للخصوص وهذا تخليط الأوضاع فلم يجز).

348 - احتج (الشيخ ومن قال بقوله وهم بعض الشافعية وبعض المالكية) بقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}. (قالوا هذا تعليل من الله تعالى لأنه ما زوجه زوجة زيد إلا لنفي الحرج عن المؤمنين إذا أرادوا أن يتزوجوا بأزواج أدعيائهم. فلو لم تدخل أمته في خطاب الله لنبيه لما علله بهذا، وبقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وبقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قالوا: فقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء أمته وبقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ/37 أالْمُؤْمِنِينَ} قالوا: لو لم تدخل الأمة معه في خطاب واحد لما احتاج إلى استثناء وتخصيص. 349 - وبقوله: أجمعنا أنتم وإيانا في رواية لنا بأن شرع من قبلنا شرع لنا مع تباعد العصر وتباين الأحكام، فلأن نقول شرع النبي صلى الله عليه وسلم مع تقارب العهد به ودنو العصر وكونه سفيراً بيننا وبين الله

تعالى وهو المتبع والمشرع، ولم يكن ذلك إلا كأمره لغيره بطاعة من الطاعات لله، فإنا أجمعنا على أنه يدخل فيها، كذلك ههنا مثله فإنه إذا أمر الله تعالى (نبيه) عليه السلام بطاعة من الطاعات دخل أمته في ذلك). 350 - (احتج بأن الصحابة كانت ترجع إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كرجوعهم في التقاء الختانين والمسح على الخفين. قلنا: رجعوا إلى ذلك بدليل آخر من رواية عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام قال: "إذا قعد بين شعبها الأربع والتقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أم لم ينزل" ولروايتهم عنه: "أنه أمرهم إذا كانوا مسافرين أن يمسحوا على خفافهم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر لا من جناية لكن من غائط أو بول". 351 - احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرني الله يأمر إلا وقد أمرتكم به ولا نهاني إلا وقد نهيتكم عنه".

مسألة: (يدخل العبيد) في مطلق خطاب صاحب الشرع

قلنا: هو حجتنا لأنه لو كان الأمر له والنهي يدخل فيه لما احتاج أن يأمرهم وينهاهم عنه، وقد صدق عليه السلام لأنه أمرهم بما شرعه وكذا نهاهم عما ليس بمشروع، وأمره أن يبلغه فنهانا وأمرنا فصار ذلك شرعاً لنا لأنها بأمره ولا خلاف في ذلك وإنما إذا قال له (قم الليل) ولم يقل لنا قوموا الليل، فإنه لا يلزمنا ونظائر هذا هو الخلاف. والله أعلم بالصواب). 352 - مسألة: (يدخل العبيد) في مطلق خطاب صاحب الشرع، وقال بعض الشافعية لا يدخلون، وحكي عن

أبي بكر الرازي أنه قال: لا يدخلون/37 أفي الخطاب المتعلق بحقوق الآدميين، فأما المتعلق بحقوق الله تعالى فيدخلون. 353 - لنا أن الخطاب مشتمل على الأحرار والعبيد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وبقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} و {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وبقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} و {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} و {إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وغير ذلك من الخطاب، فوجب (كونهم معنيين) به، إلا أن يمنع مانع عقلي أو سمعي ولا مانع (عقلي ولا سمعي) من ذلك.

فإن قيل: المانع ما ثبت من وجوب خدمة سيده في أوقات العبادات، وذلك يمنعه من العبادات. قلنا: لا يجب خدمة سيده حتى يفرغ من العبادات، لأن أوقات العبادات مستثناة لهم، فلا يجب فيها حق السيد. فإن قيل: لشمَ كان الدليل الذي أوجب خدمة السيد مخصوصاً بما دل على العبادات بأولى (من) أن يكون دليل العبادات مخصوصاً بما دل على وجوب خدمة سيده؟ قيل: لأن ما دل على خدمة السيد عمم الأمر بطاعته، وهو في حكم العام، وما دل على العبادات يتناولها بلفظ مخصوص، كآية الصلاة والصيام وغير ذلك فهو في حكم الخاص (والخاص من حقه) أن يعترض به على العام. والجواب الجيد أن يقال: أوقات العبادة مقتطعة للمالك (القديم) الذي ملكه حق، وإنما ملكنا ما خلا محل حقه في العبيد، فلهذا كان حقه المقدم. 354 - دليل ثان: أنه مكلف فجاز أن يدخل في (مطلق الأمر) كالحر، وهذا لأن الخطاب يتوجه إلى من يعقل ويصح منه الامتثال، ولهذا لا يتوجه إلى الصبي والمجنون لعدم العقل والامتثال،

والعبد صالح لذلك كالحر لاشتراكهما في العقل وصحة الفعل، فمن يزعم أن الخطاب يختص بالأحرار مع صلاح العبيد للخطاب (كان) كمن قال: إن العرب تختص بالخطاب دون العجم، وإن بنى فلان يختصون به دون بنى فلان، ولا دليل على من قال ذلك، إلا أ، يقول جماعتهم سواء في صلاح توجه الخطاب إليهم، فكانوا سواء في دخولهم فيه. 355 - دليل ثالث: لا خلاف أن العبد يشارك الحر في توجه النهي كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وغير ذلك فكذلك في الأمر. فإن قيل: لا نسلم ذلك. قيل: لا يخلو إما/37 ب أن يقولوا المنهيات (مباحات له) أو محرمة عليه، فإن قلتم بالأول خرقتم الإجماع وخالفتم الشرع، وإن قلتم بالثاني فتحريمه إما بنص ورد فيه خاص وهذا ما لا طريق لكم إليه، أو بما ذكرنا من الآيات فهو دخول في الخطاب المطلق كما بينا. فإن قيل: استفدنا تحريمه بالقياس على الحر.

قلنا: القياس من الظواهر والعموم مستنبط. 356 - دليل رابع: أنهم يدخلون في لفظ الخبر كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله تعالى: {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وغير ذلك، فوجب أن يدخلوا في الأمر المطلق لأن الخبر يلزم قبوله من الصادق كالأمر يلزم (قبوله) من الشارع. 357 - دليل خامس: "من تناوله الخطاب الخاص جاز أن يتناوله الخطاب العام كالخبر، وهذا لأنه لو لم يصلح للخطاب لم يتناوله خاص (الخطاب) كغير المكلف، فلما تناوله دل على أنه يصلح للخطاب فدخل في إطلاقه كالحر سواء. 358 - دليل سادس: أن العبيد في الأصل أحرار عقلاء وإنما (طرأ) عليهم لزوم حق، وهذا لا يسقط توجه الخطاب، (كما لو لزم العقلاء حد أو قصاص فإنه لا يؤثر في توجه الخطاب) كذلك لزوم الرق لا يمنع منه.

359 - احتج بأن أكثر الأوامر لم (يدخلوا) في إطلاقها كقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (وكقوله): {وَآتُوا الزَّكَاةَ} و {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} و {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (وغير ذلك)، فدل على أنهم لا يدخلون في الخطاب. الجواب: أنهم قد دخلوا في جميع الأوامر مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} و" فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" و {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} و {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ

أن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وغير ذلك، ولا نجد دليلاً خصهم بهذه الأشياء فدل على أنهم دخلوا فيها بعموم الخطاب. فأما ما ذكروه من الآيات فخرجوا منها بدليل، لأن الزكاة تجب على من ملك نصاباً من المال والعبد لا يملك المال (ثم ذلك لا يمنع من دخوله تحت الخطاب كما قلنا في حق الفقير الحر المسلم فإن الزكاة لا تجب عليه والخطاب متوجه نحوه). وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إنما لم يلزمه الجهاد لأن رقبته (مال)، والمالية التي فيه للسيد، (وفي الجهاد تعرض) للتلف، والسيد له حفظ ماله عن التلف، لا سيما (والجهاد) من فرائض الكفايات، وقد قام به من كفى من الأحرار، (فهو بمثابة مدين يمنعه غريمه من الجهاد) فإن تعين على العبد واحتيج إلى قتاله وجب أن يقاتل. فأما النكاح فليس من باب العبادات، ولهذا لا يجب على الحر فأولى أن لا يجب على العبد. وأما الشهادة فهو من أهلها عندنا، فإذا كانت عنده شهادة لزمه تأديتها كالحر (سواء) وأما الجمعة فتجب عليه في إحدى

الروايتين بمطلق الخطاب (وفي الأخرى) لا تلزمه (الجمعة) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجب الجمعة على مريض ولا امرأة ولا مسافر ولا عبد" فاستثناهم فدل على أنهم قد دخلوا في الخطاب كما دخل المسافر والمريض، وإنما خرجوا باستثناء الرسول صلى الله عليه وسلم. 360 - واحتج بأن رقابهم ومنافعهم مملوكة للولي فلم يجز أن يتصرفوا في شيء من ذلك إلا بإذنه فكان ذلك مانعاً من دخولهم في الأوامر الشرعية. الجواب: أن المنافع مملوكة للولي ما عدا أوقات العبادات، فإنها مستثناة بالدليل الشرعي كما استثنى أوقات العبادات في حق الزوجة (وفي حق المستأجر) وقد بينا ذلك فيما تقدم من دليلنا, جواب آخر: أنه لو صح ما قلتم لما جاز أن يدخلوا في الخطاب الخاص وقائل/38 أذلك (يفضي قوله إلى أن) الله تعالى لم يأمر العبيد المسلمين (بشيء) ولم ينههم عن شيء أصلاً وهذا خرق الإجماع.

361 - احتج بأن العبد أنقص (مرتبة) من الحر لأنه ملكه والحر مالكه، فلا يجوز أن يساويه في الخطاب فيصير مثله. الجواب: أنهما متساويان في حق الله تعالى لأنهما ملكه، ثم نقصه لا يمنعه من المشاركة كنقص العجم عن العرب، والفاسق عن العدل، ومن أسلم بعد الفتح عمن أسلم قبله، ولأنه قد ساواه في توجه الخطاب الخاص إلى كل واحد منهما وتوجه النهي إليهما، فكذلك في العام لا فرق بينهما، ولأن عدم المماثلة قد حصل من وجه آخر غير الخطاب، وهو أن العبد لا يملك وهو مال يباع (ويوهب) كسائر الأموال، ولا يقتل الحر بقتله، ولا يحد بقذفه، وغير ذلك، فأغنى عن تحقيق نقصه بإخراجه عن مطلق الخطاب. 362 - واحتج الرازي بأنه لا يملك فعل شيء من حقوق الآدميين كالعقود والإقرارات وغير ذلك فلم يدخل في الخطاب (بها). الجواب: أنه لم يملك التصرف فيها بدليل، وهذا لا يمنع من دخوله في الخطاب بها وبغيرها ثم يخص بدليل كالعموم من صيغته الاستغراق وإن جاز أن يخصص، وتخصيصه لا يبطل ما وضع له،

مسألة: هل يدخل المؤنث في جمع المذكر؟

وكذلك حقوق الله تعالى. يتوجه إليه الخطاب بها، وكثير منها لا يملك فعله ولأنه لا يملك شيئاً من حقوق الآدميين ويتوجه إليه الأمر الخاص (بها) فكذلك لا يملكها ويتوجه الأمر العام بها والله أعلم بالصواب. 363 - مسألة: هل يدخل المؤنث في جمع المذكر؟ ينظر فيه فإن كان الجمع بلفظ يختص المذكر نحو قولنا رجال، وذكور لم يدخل فيه المؤنث، وإن كان بلفظ لا يتبين (فيه) التذكير ولا التأنيث كقولنا "من" فإنه يدخل فيه المذكر والمؤنث. وإن كان بلفظ يتبين فيه علامة التذكير نحو المؤمنين والصابرين، وقاموا، وقعدوا فقد اختلفوا في ذلك فقال شيخنا: يدخل (المؤنث) في ذلك، وهو قول بعض الحنفية وأبي بكر بن داود الفقيه.

وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين لا يدخل (المؤنث) في ذلك وهو الأقوى عندي، ولكن ننصر قول شيخنا. 364 - ووجه قوله إنهن قد دخلن في أوامر الشرع (كلها)، ونواهيه بلفظ جمع التذكر كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} وغير ذلك، فدل على أن الخطاب يتناولهن.

فإن قيل: لم يدخلن بذلك، وإنما شاركن الرجال في الحكم بدليل غير اللفظ. قيل: لو كان دليل يخصهم لعلمناه فمدعيه يحتاج إلى إظهاره. 365 - دليل آخر: أن أهل اللغة اتفقوا أنه إذا اجتمع رجال ونساء وأراد الآمر أن يعبر (عن لفظ) الجمع (عبر) بلفظ (جمع) التذكير، فدل على أن ذلك (يتناولهم وأنه) وضع لهم. فإن قيل: ما الدليل على ذلك؟ قيل: يدل عليه قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}. فعبر عن آدم وحواء وإبليس والحية بلفظ التذكير. 366 - ويقول الإنسان لمن بحضرته من الرجال والنساء قوموا وانصرنفوا، ولو قال: قوموا وقمن، وانصرفوا وانصرفن لعدوا ذلك منه عيا ولكنة، فدل على ما قلناه.

فإن قيل: إنما يحمل (اللفظ على الجنسين) إذا علمنا من قصده خطاب الرجال والنساء وإن لم نعلم من قصده/38 ب ذلك حملنا قوله قوموا على الرجال فقط. قيل: لم يشرط أحد من أهل اللسان علمنا بقصد المتكلم في ذلك، (ثم) لو لم يكن اللفظ يتناول النساء لم يدخلن فيه وإن أرادهن. ألا ترى أنه لو قال: يا ذكور، أو يا رجال (ادخلوا الدار) لم يدخل فيه النساء وإن أرادهن، فلما دخلن في قوله تعالى: {وَقُومُوا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دل على أن القيام يشملهم والخطاب يعمهم. فإن قيل: لو استووا في توجه الخطاب لما غلب التذكير في اللفظ، فلما غلب دل على أنه موضوع للذكور على الانفراد، وللذكور والإناث في أصل اللغة بدليل ما بينا، ثم إنما غلب التذكير

(لقوته)، وهذا لا يمنع من تناول الخطاب لهما وإن غلب أحدهما، ألا ترى أنه إذا اجتمع من يعقل (مع من) لا يعقل غلب من يعقل، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}. وفيهم من يعقل ومن لم يعقل، وكذا إذا اجتمع الليالي والأيام غلب أحدهما واللفظ (متناول) لهما، وكذلك نقول: فلان وفلانة قائمان واللفظ يشملهما وقد غلب التذكير كذا ههنا. 367 - دليل آخر: أن لفظ الخبر يشملهم وإن كان بلفظ التذكير قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وغير ذلك فكذلك لفظ الأمر. 368 - دليل آخر ضعيف: وهو: أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال لهم: "سيروا باسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله حتى يقولوا لا إله إلا الله، لا تقتلوا امرأة ولا شيخاً كبيراً"

وذكر الخبر. فاستثنى المرأة فلولا أنها دخلت في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} لما احتاج إلى الاستثناء. وكذا قوله عليه السلام: "الجمعة لا تجب على امرأة ولا مسافر ولا عبد ولا مريض" استثناء من قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} الآية .. والاستثناء إنما هو استخراج بعض ما شمله اللفظ فدل على أن لفظ خطاب التذكير يشملهم. فإن قيل: ليس هذا استثناء وإنما هو دليل على تخصيصهم. قيل: الاستثناء والتخصيص يدلان على أنهن كن دخلن في اللفظ، وإلا فلم يخص ما لم يدخل تحت العموم. 369 - احتج بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ومعلوم أن النساء لا يدخلن في ذلك. الجواب: أنا قد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهن فدل على دخولهن في ذلك، ثم "هناك" أخرجن من ذلك بدليل الإجماع. 370 - احتج بما روى عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول

الله ما ترى الله تعالى يذكر إلا الرجال؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية. فدل على أنهن لا يدخلن في إطلاق جمع التذكير. الجواب: أنهن قلن ذلك لإرادتهن أن يذكر النساء بلفظ يخصهن. فإن قيل: لا يجوز أن يكن أردن (ذلك) فإن الرجال لم يذكروا أيضاً بلفظ الخصوص عندكم لأن جمعهم يشاركهم النساء فيه. قيل: بل علامة التذكير في جمع المذكر هي الواو والنون في أصل الوضع وعلامة التأنيث الألف والتاء فأردن أن يذكرن بما هو علامة عليهن في أصل الوضع ولا يذكرن بلفظ يغلب فيه حكم التذكير. 371 - احتج بأن الجمع هو تضعيف الواحد ومعلوم أن قام، ومؤمن يفيد الرجل فكذا قاموا ومؤمنون يفيد تضعيف هذه الفائدة وهو التذكير، وهذا عمدة قوية. الجواب: إن بعضهم قد ارتكب الممانعة، وقال يجوز أن يطلق مؤمن على الرجل والمرأة، وكذلك "قم" لأن المرأة شيء وشخص، والصحيح تسليم ذلك.

ويكون (الجواب) أنا لو أدخلنا المؤنث في/39 أالمذكر في التأحيد والجمع التبس المذكر بالمؤنث ولم (يمتز). وجواب آخر: أن لفظ الواحد لا يحتمل المذكر والمؤنث لأن واحداً لا يكون مذكراً ومؤنثاً، ولفظ الجمع يحتمل المذكر والمؤنث في الاجتماع والخطاب، ولهذا لو قصد المذكر والمؤنث في الجمع جميعها بلفظ التذكير (صح)، ولو قصد ذلك في التأحيد لم يصح (ولم) يسغ في اللغة. جواب آخر: أنه ليس يمتنع أن يدخل الشيء في الشيء في حال الجمع ولا يدخل في (حال) التأحيد، ألا ترى أن من لا يعقل يدخل في جمع من يعقل وفي حال التأحيد لا يخاطب من لا يعقل بلفظ من يعقل، وكذا في التأحيد لا يدخل اليوم في الليلة ولا الليلة في اليوم، وفي الجمع يدخل أحدهما في الآخر، فكذلك ههنا. 372 - واحتج بأن الرجال لا يدخلون في جمع النساء، فكذلك النساء يجب أن لا يدخلن في جمع الرجال.

مسألة: يدخل الكفار في الخطاب بالشرعيات

الجواب: أنه يقال لِمَ كان ذلك، ثم إنما كان كذلك لأن اللغة وردت بدخول النساء في جمع التذكير ولم ترد بدخول الرجال في جمع (التأنيث) وقد بينا ذلك، ولأن التذكير أقوى فجاز أن يغلب جمعه ولا يغلب جمع الأضعف. فإن قيل: من أين قلت التذكير أقوى؟ قيل: من حيث (إن) أهل اللسان إذا أرادوا أن يعبروا عن ذكور وإناث بكلمة غلبوا لفظ الذكورية، ولم يغلبوا لفظ الأنوثية، فلو لم يكن ذلك أقوى لما عدلوا إليه، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} ومعلوم أنه بدأ به في الخلق، ثم جعل الأنثى مخلوقة منه، فهو الأصل وهي فرعه والأصل أقوى من فرعه، والله أعلم بالصواب. 373 - مسألة: يدخل الكفار في الخطاب بالشرعيات، نص عليه أحمد رحمه الله في كتاب طاعة الرسول فقال قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} فالظاهر يقع على الأمة واليهودية والنصرانية (وغير

ذلك) وبه قال أكثر المعتزلة والأشعرية. وفيه رواية أخرى لا يتناولهم الخطاب بالشرعيات، وإنما يخاطبون بالإيمان والنواهي، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} قال في رواية حنبل في يهودي أسلم في النصف من (شهر) رمضان يصوم ما بقى ولا يقضي ما مضى، لأنه لم يجب عليه شيء من ذلك، وإنما وجبت عليه الأحكام من الصلاة والطهور بعد ما أسلم، وهو قول الجرجاني وغيره من أصحاب أبي حنيفة

وأبي حامد وغيره من أصحاب الشافعي. وقال بقية الحنفية والشافعية كالرواية الأولى. 374 - وفائدة هذه المسألة: أنا نقول أنه يعاقب على إخلاله بالتوحيد وبتصديق الأنبياء وبالشرعيات، وغيرهم لا يعاقب على ترك الشرعيات/62 أفالخلاف يظهر ها هنا حسب، وإلا فقد

أجمعت الأمة الإسلامية على أنه لا يلزمه أن يفعل العبادات في حال كفره، ولا يجب عليه القضاء إذا أسلم. 375 - لنا على الرواية الأولى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وهذا يتناول المسلم والكافر لأن كل واحد منهما من الناس لوا مانع من دخوله تحت فكان مراداً بذلك، والدليل عليه أنه لا مانع (لأنه لو كان مانعاً لكان عقلياً أو سمعياً، فالمانع العقلي هو فقد التمكن من الفعل، وهو يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإسلام، كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدم عليها الطهارة والمانع السمعي معدوم لأنه لو كان لوجد عند الطلب. (فإن قيل: المراد بالآية القادر على أداء الحج والكافر لا يقدر عليه، فلا يخاطب على ما لا يقدر عليه، ولا يصح منه. قيل: لا نسلم بل هو قادر على أدائه بأن يسلم بكلمة ويحج، فصار بمثابة المسلم المحدث، فإنه يخاطب بالصلاة، وإن كان لا يصح منه في ذلك الحال لأنه يمكنه أن يتوضأ ويصلي كذلك ههنا). 376 - دليل ثان: قوله تعالى: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ /39 ب وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وهذا صريح في أنهم أمروا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما أمروا بالإيمان. فإن قيل: إنما أمروا (بعد) أن يعبدوا الله مخلصين (له الدين) وهو الإيمان، ثم قال: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}. قيل: بل جمع الله تعالى عبادته وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بواو العطف، وهي تقتضي الجمع، وجعل (أمره منصرفاً إلى جميعها). 377 - دليل ثالث: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} وهذا يدل على أنهم يعذبون في سقر لتركهم الصلاة والزكاة. فإن قيل: المراد بالآيات لم نكن (ممن يعتقد الصلاة والزكاة). قلنا: هذا خلاف الظاهر لأن اللفظ حقيقة في فعل الصلاة، وفعل الإطعام، فلا يحمل على الاعتقاد من غير دليل.

جواب آخر: أن العقوبة (تجب) على ترك الاعتقاد، وقد علمت من قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}، فيجب أن يحمل اللفظ على فائدة أخرى. فإن قيل: الظاهر أن العقوبة تجب بمجموع هذه الأشياء لا بواحد منها. (قلنا: لو لم تكن كل واحدة منها) يستحق به العقوبة، لما وجبت العقوبة بمجموعها، ولأن بالتكذيب بيوم الدين يستحق العقوبة من غير أن ينضم إليه غيره، فكذلك بترك الصلاة وترك الزكاة يجب أن تجب العقوبة. فإن قيل: قوله تعالى: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} يجوز أن يكون إخباراً عن قوم كانوا (أسلموا)، وارتدوا بعد إسلامهم ولم يكونوا قد صلوا في حال إسلامهم، لأن قوله تعالى: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ليس يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي. قلنا: قوله تعالى: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} هو جواب المجرمين المذكورين في قوله تعالى: {يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ} وذلك عام في كل مجرم (مرتد وغير مرتد) على أن قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ

الْمُصَلِّينَ} يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي أو في زمان غير معين، ولا يفيد زماناً معيناً، كما أن قولنا: فلان عوقب لأنه لم يحج يدل على وجوب الحج في زمان غير معين، ومن يحمل الآية على المرتد يحملها على وجوب الصلاة في زمان معين. 378 - دليل رابع: قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، فذمهم على (شركهم) وإخلالهم بالزكاة. فإن قيل: ظاهر الكلام أنه ذمهم على الشرك وجعل من صفتهم أنهم لا يؤتون الزكاة: (كقول الزاني السارق إذا كان كل واحد منهما يستحق الحد على الانفراد). قلنا: بل ذمهم على الصفتين معا، لأن الشرك صفة، والإخلال بإيتاء الزكاة صفة أخرى، فصار كقول القائل ويل للسراق الذين لا يصلون، ذمهم على السرقة وترك الصلاة. فإن قيل: لو كان كذلك لم يتوجه الذم (إلا إلى الإخلال بالصفتين، وقد أجمعنا أن المشرك مذموم وإن لم يكن له مال تجب زكاته. قيل: (الذم يتوجه إلى الصفتين) مع اجتماعهما، وإلى

كل واحدة منهما على الانفراد كقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا}. فذمه على الصفتين، ويذم على المشاقة على الانفراد، وعلى ترك سبيل المؤمنين على الانفراد وكذلك (يقال): ويل للسارق الذي لا يصلي، يذم على كل (واحدة من الصفتين). 379 - دليل خامس: قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، فذمه على جميع ذلك. (فإن قيل: المراد به ترك الاعتقاد. قيل: لا يصح لأنه قد قدم الصدقة والصلاة، فدل على أن المراد الفعل دون الاعتقاد). 380 - دليل سادس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (فإذا ضوعف عليه العذاب بمجموع ذلك دل على أن/ 40 أالزنا والقتل يدخل فيه فثبت كون ذلك محظوراً) عليه.

381 - ومن الدليل على المسألة: أن الأمة مجمعة على أن الكافر (يحد) على زناه على وجه النكال، فلو لم يكن مكلفاً ترك الزنا لم يكن الزنا معصية، (ولو) لم يكن معصية (منه) لم يعاقب على فعله. فإن قيل: إنما حد لأنه لم يترك الكفر الذي بزواله يكون مكلفاً ترك الزنا. قيل: فيجب أن (يكون) إنما (حد) لأجل يهوديته، ولم يقل أحد ذلك ويلزم أن يحد قبل زناه لأنه كافر قبل الزنا. فإن قيل: إنما حد لأنه التزم أحكامنا. قيل: فمن أحكامنا أن لا يحد على المباح، فلو كان الزنا منه مباحاً (لم يحد) عليه. فإن قيل: إنما كلف الكافر ترك الزنا لأنه (مع) كفره

يمكنه تركه، وليس كذلك الصلاة والصيام لأنه لا يمكنه مع كفره فعلهما فلم (يخاطب) بفعلهما. (قيل: نحن لا نريد منه الفعل مع الكفر، إنما نريد منه الفعل بشرط أن يقدم عليه شرطه فيتصور منه أن يتقدم على شرطه ويفعله، كالمحدث يقدم الشرط الذي هو الطهارة ويفعل الصلاة). قيل: إنه لا يجوز أن يكلف ترك الزنا إلا وقد كلف أن يعلم قبحه، ولا سبيل له إلى (العلم بقبحه) إلا بشريعة الإسلام، لأن ما عداها من الشرائع قد منع (المكلفون) من الرجوع إليها، ولا يمكنه مع جحد الإسلام أن يعلم به قبح شيء، كما لا يمكنه فعل الصلاة في هذا الحال فلا فرق بينهما. فإن قيل: لا يمتنع أن يكلف العلم بقبح الزنا بأن يسلم فيستدل على قبحه فيتركه. قيل: لكم مثله في الصلاة والحج. 382 - دليل آخر: من تناوله الأمر بالإيمان، تناوله الأمر بالعبادة كالمسلم، والمسلم إنما دخل في الأمر لصلاحه له في اللغة، وهذا موجود في الكافر فوجب دخوله في الأمر، وعندي أن في العبارة خللاً لأن المسلم لا يحسن خطابه بالإسلام والإيمان، فإنه مسلم

مؤمن، كيف يقال قد تناوله الأمر بالإيمان (بل يقال هذا أمر بالتعبد دخل فيه الكافر أصله الإيمان وتصحيحه أنه حر ويعقل الخطاب مثل المسلم سواء). 383 - دليل آخر: أن نقول قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (ونحوه أمر) مطلق فدخل فيه الكفار كالأمر بالإيمان، ولأنه ليس فيه أكثر من الكفر (وهو) يقدر على إزالته، ومن قدر على شرط الفرض يخاطب بالفرض، ألا ترى أن المحدث إذا دخل عليه وقت الصلاة يخاطب بها؟ لأنه يقدر على شرطها وهو الطهارة. فإن قيل: الحدث لا ينافي صحة الصلاة، ولهذا يصلي المتيمم وهو محدث وكذلك المستحاضة. قيل: هناك ضرورة وأما الاختيار (فلا) تصح (الصلاة) مع الحدث، ثم لا يمنع (من) توجه الخطاب بها.

384 - دليل آخر: أن نقول. هو مخاطب بالإيمان وهو شرط العبادات، ومن خوطب بالشرط كان مخاطباً بالمشروط، ألا ترى أن من خوطب بالطهارة كان مخاطباً بالصلاة. 385 - والدليل على من قال: هو مخاطب بالنهي (دون الأمر أن نقول من دخل في أحد الخطابين دخل في الآخر، كالمسلم، يؤيد هذا أن النهي) أمر بالترك، والأمر (بالترك) (أمر) بالفعل، فهما سواء في المعنى (وتحريره أن هذا أحد نوعي الخطاب، وخوطب به الكافر، أصله النوع الآخر، والنهي أمر بالفعل فهما سواء في المعنى). فإن قيل: النهي لما توجه إليه تعلقت به أحكامه من الحدود وغيرها، والأمر لا تتوجه إليه أحكامه من صحة الفعل ووجوب (العقاب على الترك) والقضاء بالفوات فدل على أنه لا يتوجه إليه. قيل: أما/40 ب صحة الفعل فيصح بشرط أن يسلم فيفعل، وأما وجوب العقاب (والقضاء) فلا يتعلق بالأمر وإنما يتعلق بأمر ثان (عندي) وذلك لم يوجد فيسقط، وإن قلنا: القضاء يجب

بالأمر فسقوط القضاء لا يدل على أنه لم يتوجه إليه الخطاب بالفعل، ألا ترى أن الجمعة لا يجب على المسلم قضاؤها ويتوجه إليه الخطاب بها في الابتداء؟ كذلك ههنا. فإن قيل: النهي يصح منه امتثاله وهو الترك فدخل فيه والأمر لا يصح منه امتثاله فلم (يدخل في خطابه). قيل: يبطل بالأمر بالصلاة في حق المحدث وأنه لا يصح منه امتثاله ويتوجه (إليه). 386 - احتج الخصم: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله"، الخبر (بطوله)، فأمر أن يدعوهم إلى الإسلام، فلو كان الخطاب يتوجه إليهم بغير ذلك، لأمره أن يدعوهم إليه. وكذا كتب إلى كسرى وقيصر ودعاهما إلى التوحيد ولم يدعهما إلى غيره.

الجواب عنه: أنا نقول: أنه لم يدعهم إلى العبادات لأنه لم يصح فعلها في حال الكفر (ولأن الإسلام أسهل تناولاً من غيره لأنه يتقدم كل عبادة) فأمره أن يدعوهم إلى ما يصح فعله وهو الإيمان. 387 - (فإن احتج بأن يقول: الكافر يستحيل منه أن يفعل) الشرعيات عبادة وقربة مع كفره فلا يكلف ما لا يطيقه، كما لا يكلف الزمن أن يصلي قائماً، والحائض أن تصلي مع حيضها. الجواب عنه أن نقول: (المستحيل أن يكلف فعل العبادات) مع كفره ولم يكلف ذلك وإنما كلف بأن يقدم عليها الإسلام كما كلف المحدث فعل الصلاة لا مع حدثه، لكن بأن يقدم عليها الطهارة. فإن قيل: فكذا نقول إذا أسلم يكلف الفعل. قيل: عندكم الشرط في تكليفه تقدم الإسلام، فإن لم يسلم لم يستحق العقاب على الإخلال بالعبادات، ونحن نقول: يستحق العقاب بإخلاله بها وإن لم يسلم. فإن وافقتم في العقاب ارتفع الخلاف، فإنه لا فائدة (في الخلاف) سواه، فأما الزمن والحائض فإنه لا يمكنهما إزالة الزمانة والحيض، بخلاف الكافر فإنه يمكنه أن يسلم ويفعل.

فإن قيل: فعلى أصلكم يجوز أن يمنع الله الكافر من الإيمان فلا يمكنه فعله كما لا يمكن للزمن إزالة الزمانة، (ولا) الحائض إزالة الحيض. قيل: يجوز أن يمنعه إلا أنه ممنوع (مع) أهلية القدرة، بخلاف الزمن والحائض، فإنهما يستحيل منهما القدرة، لأن عندنا يجوز أن يكلفه العبادات ويمنعه من شروطها كما يكلفه الإيمان ويمنعه منه، ويكلفه الصلاة (ويعدمه) الماء والتراب، وهذا لأنه لا اعتراض عليه فيما يفعله ولا (فوقه تعالى من) يحظر عليه، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، ولهذا (عندكم يجوز) أن يكلف الإيمان من في علمه أنه لا يؤمن، ولا يكون ذلك عيباً ولا قبيحاً. 388 - فإن احتج بأنه لو كلف الشرعيات لأخذ بأدائها كالمسلم. الجواب عنه: أنه باطل بالإيمان بالله وبرسوله، وقد كلف فعلهما ولم يحمل على أدائهما، ولأنه إنما لم يقتل بتركهما لأنه مجتهد

(وناظر) هل يجب ذلك عليه أم لا؟ والمجتهد لا تجوز عقوبته (بخلاف المسلم فإنه بالتزام الإسلام لزمته العبادات ولا اجتهاد له في ذلك). 389 - احتج بأنه لو خوطب بالعبادات لصحت منه (في حال الكفر ولوجب عليه القضاء في حال الإسلام). الجواب عنه: أنه إنما لم تصح منه لعدم شرطها، وهذا لا يمنع من الخطاب بها، كالمحدث يخاطب بالصلاة ولا تصح منه، لعدم الشرط، وأما القضاء فهو فرض ثان يجب بغير الخطاب الأول ثم تلزم الجمعة - تجب - ولا (يلزم) قضاؤها بعينها. وعلى/41 أأن إيجاب قضائها تنفير له عن الإسلام لأنه (متى علم أنه إذا) أسلم وهو شيخ أخذ بعبادة خمسين سنة من صلاة وصيام وغير ذلك لم يسلم ولهذا المعنى قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال عليه السلام: "الإسلام يجب ما قبله" فدل

على أن الإسلام يسقط عنهم ما كان لزمهم من العبادات في حال الكفر. 390 - احتج بأنه لو كلف أداء الزكاة لوجب إذا أسلم قبل حلول الحول بيوم أن يلزمه الزكاة، لأنه قد كان مكلفاً فعلها وقد حصل عند وجوب الداء على صفة يصح معها أداؤها. والجواب عنه: أنا لا نقول: أنه كلف وهو كافر في أول الحول أن يزكي إذا أسلم قبل حلول الحول، وإنما نقول إنه كلف (الأداء في آخر الحول إذا كان مسلماً وكان معاقباً على تفويتها، بتفويت شرط انعقادها وهو الإسلام). 391 - احتج بأن الكافر لو كلف الشرعيات لكان مكلفاً ما لا يطيقه لأنه يستحيل منه فعل الشرعيات عبادة وقرية مع كفره، (ولم يكلف ذلك). الجواب عنه: أنا نقول: يجوز أن يكلف ما لا يطيقه من جهة المنع لا من جهة الاستحالة عند أصحابنا، وإن سلم فالمستحيل أن يفعلها مع كفره، ولم يكلف ذلك، وإنما كلف (أن) يقدم الإسلام ويفعل. فإن قيل: فكذا نقول.

قلنا: بل أنتم تجعلون (شرط) كونه مخاطباً بها تقدم إسلامه، ونحن نقول: يخاطب بفعلها بأن يقدم على ذلك شرطها، فإن لم يفعل عوقب عليها وعلى شرطها، كالمحدث يخاطب بالصلاة بأن يقدم الطهارة، فإن لم يفعل عوقب على الصلاة والطهارة، فإن وافقتم في ذلك زال الخلاف (فإنه لا فائدة في المسألة إلا العقاب). 392 - احتج بأن الكفر يمنع صحة العبادة ويمنع لزوم قضائها في (الثاني) فهو كالمجنون. الجواب عنه: أنه يلزم الحدث لأنه يمنع صحة الصلاة وقضائها، ثم لاي سقط معه الخطاب والمعنى في المجنون أنه غير مخاطب (بالإيمان) والنواهي بخلاف الكافر العاقل. 393 - فإن احتج: بأن خطابه بالعبادة خطاب بما لا منفعة له فيه، وتكليف المكلف ما لا منفعة له فيه لا يجوز. الجواب: نحن نكلفه على وجه ينتفع به وهو أنا نأمره بالعبادة، وبأن يقدم عليها الإيمان ثم يفعلها فينتفع بذلك، فمتى عصى عوقب على ذلك (جميعه).

مسألة: (امتثال) الأمر يدل على الإجزاء

394 - مسألة: (امتثال) الأمر يدل على الإجزاء وبه قال عامة الفقهاء (والمتكلمين)، وقال عبد الجبار، ومن (تابعه) من المعتزلة لا يدل على الإجزاء (إلا بدليل آخر). ومعنى قولنا إنها مجزية: أنها إذا فعلت بكمال شروطها، كفت وأجزأت في إسقاط التعبد بالأمر فلا يجب قضاؤها.

395 - دليلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية:"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيه أكان يجزيه؟ قالت: نعم" فعقلت (من الأداء بما وجب) الإجزاء فكان هذا أصلاً مقرراً عند النبي صلى الله عليه وسلم وعندها ولهذا ردها إليه فأقرت به. فدل على أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء. فإن قيل: فقد قالت: أفيجزيه أن أحج عنه؟ فتوقفت عن ذلك في الحج وسألت عن الإجزاء: فدل على أن الإجزاء يحتاج إلى دليل. قلنا إنما توقفت لأن الأمر لم يتوجه إليها وإنما توجه إلى أبيها، فسألت: هل يجزيء فعل عن الغير لأن عبادات/41 ب الأبدان لا يفعلها الغير عن الغير، فهذا مكان إشكال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيانه

(لها) فلما أوضحه (الرسول) (لها) ورده إلى الأصل المقرر علمته. 396 - دليل ثان: أنا نقول لا يحسن من الحكيم أن يقول لعبده افعل كذا فإذا فعلته كما أمرتك لم يجزك وعليك القضاء لما في ذلك من التناقض فلما لم يجز أن يصرح به لم يكن (معقولاً منه). 397 - دليل ثالث: أنا نقول: الفعل إنما لزمه بالأمر، فإذا فعل ذلك على حسب ما يتناوله الأمر فقد امتثل الأمر فيجب أن يجزيء لأنه خرج عن عهدة (التعبد) بالأمر وعاد كما (كان) قبل الأمر (وصار) بمنزلة السيد إذا قال لعبده افعل ففعل لم يبق عليه شيء من ناحية أمره ويحسن إذا قال له: أفعلت؟ فيقول: فعلت ويكون خبره صدقاً. 398 - دليل رابع: أنا نقول إنه لا طريق إلى الإجزاء إلا بامتثال الأمر، كما أنه لا طريق إلى كونه غير مجزيء إلا (المخالفة بترك) الامتثال، ولهذا يخبر أنه مطيع إذا فعل وبأنه عاص إذا لم يفعل

399 - دليل خامس: أنا نقول: إن قولنا يجزيء أي أنه) يكفي في إسقاط التعبد بها (ألا ترى أنه) لا فرق بين قول القائل: هذا الشيء يكفيني، وبين قوله: هذا الشيء يجزئني، والمعقول من ذلك أنه يكفي في الغرض، فكذا في العبادة أنه يكفي ويجزيء في إسقاط التعبد الذي لزم بالأمر. 400 - احتج الخصم بأن قال: قولنا لا يجزيء معناه أنه يجب القضاء، وقد يفعل الإنسان المأمور ويلزمه القضاء، ألا ترى أنه (يؤمر أن) يمضي في الحجة الفاسدة ويؤمر (بالإمساك في) الصوم الفاسد، كاليوم الذي يظن أنه من شعبان ثم تبين أنه من رمضان ويؤمر أن يصلي مع عدم الماء والتراب بغير طهارة ثم يجب قضاء جميع ذلك فدل على أن الإجزاء لا يحصل بامتثال الأمر وإنما يحصل بدليل آخر. الجواب: أنا نقول: يدل على أن فعل المأمور به يمنع لزوم القضاء، فإن القضاء للعبادة المؤقتة هو فعل يوقع بعد خروج وقتها بدلاً من فعلها في وقتها، وذلك يكون إما لأن العبادة ما فعلت أصلاً أو فعلت على وجه الفساد، وذلك غير حاصل لأنه قد فعلها في وقتها بكمال شروطها على وجه الصحة فلم يتصور لزوم القضاء. فأما قولهم في الحجة الفاسدة والإمساك (في الصوم

الفاسد) والصلاة أنه امتثل الأمر فلا نسلم، لأنه لم يأت بالمأمور على ما اقتضاه الأمر فيبقى التعبد الواجب بالأمر في ذمته بخلاف هذا، فإنه أتى بالمأمور على كماله وصحته فبرأت ذمته (منه). جواب آخر: أن فعل تلك الأشياء مع عدم شروطها (لا يجزيء) في إسقاط الأمر بها، فأما أن يجزيء في إسقاط الأمر بالحجة الصحيحة (والصوم الصحيح والصلاة الصحيحة) التي يسقط بها الفرض (فلأن) التعبد الصحيح (قد) امتثل. 401 - احتج بأن الأمر لا يدل على أكثر من الإيجاب وإرادة المأمور (به) فأما الإجزاء وسقوط الفرض فلا يدل عليه لفظ الأمر، فافتقر إلى دليل آخر. الجواب: أنا نقول: الأمر يتضمن إيجاد المأمور به وامتثاله، فإذا أوجده وامتثل ما أمر به، برئت ذمته عن حكم الأمر، فعاد إلى ما كان (عليه) قبل الأمر، فلا يجب عليه فعل غيره إلا بدليل.

مسألة

402 - احتج بأنه قد يؤمر أن يدخل مع الإمام إذا أدركه وقد رفع من الركوع، ثم لا تجزئه الركعة، وكذا يصلي مع النجاسة ويلزمه القضاء. الجواب: أنه أمر بالدخول/42 أمعه لإدراك الجماعة وقد أدرك (ذلك) وأجزأه، وكذا أمر بالصلاة لشغل الوقت وقد وجد ذلك، وذلك فرض يتعلق في تلك الحالة وهو غير الفرض الواجب عليه في الأصل، وعلى أنا نقول قد أجزأت الركعة والصلاة بالنجاسة، والقضاء وجب (بأمر) مستأنف فسقط الدليل. 403 - احتج بأن قال: عندكم قد يأمره بما لا يريده، فلم لا يجوز أن يأمره بما لا يجزيء عنده؟ الجواب عنه: أنه إذا أمره بالشيء ففعله (فقد) أراد فعله، فكذلك إذا فعله يجب أن يجزيء فعله لتصح الموازنة. جواب آخر: أنا لا نعلم بالأمر أن الشيء مجزيء، وإنما نعلم (أنه) مجزيء بالامتثال كما لا نعلم أنه مراد (ولكن) إذا فعله علمنا أنه مراد. 404 - مسألة: الأمر المطلق بالشيء (يدل) على

وجوب ما لا يتم الشيء المأمور إلا به نحو قوله للمكلف: اصعد السطح ولا يتم له الصعود إلا (أن ينصب سلما) فإنه يجب عليه نصب السلم (بمطلق الأمر بالصعود) وهو قول أكثر العلماء (والمتكلمين). وقالت طائفة: لا يجب عليه نصب السلم بمطلق الأمر بالصعود. 405 - لنا أن الأمر المطلق بالشيء يقتضي إيقاع فعل الشيء متى أمكن فعله على كل حال، بدليل ما لو قال له: (اصعد السطح، كيف أمكن في هذا الوقت لزمه الصعود على كل حال إذا أمكنه وصار كما لو قال) اشتر لي خبزاً واسقني ماء. فإن قيل: هو هناك مقيد بالأمارة، فإنه لا يطلب ذلك إلا لحاجته إليه بخلاف قوله اصعد السطح.

قلنا: لا نعلم ذلك يقيناً، وظاهره أنه يريد منه فعل ذلك كما يريد ها هنا صعود السطح (مع الإمكان وهو متمكن فصار) كما لو قال له: اصعد السطح في هذا الوقت، كيف أمكنك لزمه الصعود على كل حال إذا أمكنه ولا يجوز له التأخير حتى يخرج الوقت، وإن لم يكن في لفظ الأمر ذكر الشرط. فإن قيل: إنما لزمه لأنه خطر عليه كيف أمكن ويمكنه نصب السلم، وليس في المطلق شرط الإمكان. قلنا: والأمر المطلق يقتضي وجوب نصب السلم لأنه لو لم يقتض ذلك، بل كان مباحاً أن لا (ينصبه) لكان الآمر كأنه قال له: مباح أن لا تنصب السلم وواجب عليك مع فقد السلم وغيره الصعود، وذلك تكليف ما لا يطاق. فإن قيل: لا يخلو إما أن يكون الأمر مشروطاً بنصب السلم أو غير مشروط، فإن كان مشروطاً فهو قولنا، وإن كان غير مشروط فهو تكليف ما لا يطاق. قلنا: (بل) هو مشروط بإمكان الصعود وذلك يحصل بكون السلم منصوباً، ويكون المأمور يقدر على نصبه، وليس في ذلك تكليف ما لا يطاق، ولهذا من أمر غلامه بشراء (الخبز) وهو في

مسألة: إذا فعل زيادة على ما يتناوله الاسم من الفعل المأمور به فالزيادة على ما (تناوله) الاسم تطوع، وما تناوله الاسم واجب

407 - مسألة: إذا فعل زيادة على ما يتناوله الاسم من الفعل المأمور به فالزيادة على ما (تناوله) الاسم تطوع، وما تناوله الاسم واجب، (وهو قول الجرجاني وابن الباقلاني وأصحاب الشافعي، وقال الكرخي كل ذلك واجب)، وقال شيخنا (هو واجب) وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله لأنه استحب للإمام أن ينتظر المأموم في الركوع، فلولا أنه واجب جميعه لكان المأموم يقتدي به وهو متطوع، ولا يجوز اقتداء المفترض بالمتطوع.

وهذا (الاستنباط) غلط لأن المفترض يمنع أن يقتدي بمن هو متنفل في جميع صلاته، فأما إذا أدرك معه ما هو سنة في الصلاة فلا يكون قد اقتدى بمتنفل عند الجميع، ولهذا لو أدركه في حال الافتتاح والاستعاذة وقراءة السورة يكون قد أدركه وهو متطوع ثم لا يقول أحد إنه لا يصح اقتداؤه (به). وعلى أن عن أحمد رضي الله عنه في اقتداء المفترض بالمتنفل روايتان فكيف يحمل قوله في هذه الرواية على إحداهما دون الأخرى (ويستنبط) له (مذهب) من ذلك من غير دليل. 408 - دليلنا: أن فعله (ما يسمى) ركوعاً أو سجوداً يسقط (عنه) حكم الأمر بالركوع والسجود، فيجب أن يكون هو الفرض وما زاد عليه تطوع؟ كما أن الدينار عن أربعين (ديناراً) يسقط فرض زكاتها، فلو زاد على الدينار كان تطوعاً،

أبي بكر بن الباقلاني والجويني في قولهم) إنه ليس بنهي عن ضده، وبنوه على أصلهم، وهو أن النهي لا يكون نهياً إلا مع كراهة الناهي كذلك وذلك غير معلوم. ويفيد الخلاف أن من أمر بشيء ففعل ضده يأثم بمجرد الأمر، (وترك المأمور به وفعل الضد فيها سواء). 413 - دليلنا: أنه لا يمكنه فعل المأمور به إلا بترك ضده، وما لا يمكن فعل المأمور إلا به (صار ملازماً له وإذا تلازما كان كالعلم مع الحياة، لا يمكن وجود علم إلا مع حياة، وكذلك في

الشرعيات) (يدخل في مقتضى الأمر ألا ترى أنه) إذا أمر (بفعل الصلاة) وجب عليه فعل كل ما لا يمكن فعل الصلاة إلا به كالطهارة، واستقاء الماء لها وغير ذلك؟ وكذا جميع العبادات. 414 - دليل آخر: أن السيد إذا قال لعبده: قم، فقعد استحق (الذم) والتوبيخ، ولو لم يكن الأمر بالقيام اقتضى النهي عن ضده لما جاز لومه على القعود. قال شيخنا: وهذه الطريقة ضعيفة لأن العبد يلام على ترك القيام الذي هو مقتضى الأمر. ويمكن أن يدافع بأن يقول وينهى عن القعود ابتداء. 415 - دليل آخر: لو لم يقتض الأمر بالشيء النهي عن ضده لجاز ورود الأمر بضده، وفي ذلك تناقض، لأن الأمر بالشيء يقتضي (إيجاده). والأمر بضده يقتضي ترك فعله (وترك فعله) (يقتضي إسقاطه)، وهذا محال لا يجوز.

418 - احتج بأن النهي عن الشيء لا يكون أمراً بضده، فكذا الأمر، /42 ب بالشيء لا يكون نهياً عن ضده. الجواب عنه أنا نقول: لا نسلم ونقول: إنه أمر بضده إن كان له ضد واحد، كالنهي عن الكفر يقتضي الأمر بالإيمان، وكالنهي عن الحركة يقتضي الأمر بالسكون، وإن كان له أضداد فهو مأمور بضد من أضداده لأنه بفعل ضد واحد يترك المنهي عنه، مثاله إذا نهاه عن القيام يكون له أضداد، قعود واضطجاع ومشي، أيها فعل فقد ترك القيام. (فإن قيل: فهلا في الأمر) يكون نهيا عن ضد من أضداده إذا كان له أضداد. جوابه أنا نقول: لا يمكنه امتثال الأمر إلا بترك جميع أضداده، كما لو أمر بالقعود لا يمكنه إلا أن يترك القيام والمشي والاضطجاع بخلاف النهي، فإنه بفعل ضد يكون تاركاً له فبان ما قلنا. 419 - احتج بأن قال: الجهل ضد العلم، والعجز ضد القدرة ثم لا يكون الجهل بالشيء علماً بضده، ولا العجز عنه قدرة على ضده. جوابه أنا نقول: لم إذا كان ههنا كذا يكون في الأمر مثله. جواب آخر: هناك لا (يتنافى) لأنه يجوز أن يجهل

مسألة

الشيء وضده، ويعلمه ويعلم ضده، وكذلك يجوز أن يعجز عنه وعن ضده ويقدر عليه (وعلى ضده) وههنا يتنافى إيجاد الشيء ووجوبه مع إباحة تركه وعدمه. 420 - احتج بأن قال: لا نعلم من الإثبات النفي، كذا لا نعلم من الأمر النهي. الجواب عنه: أنه يعلم من جهة المعنى، لأن قولنا زيد ببغداد، ينفي أن يكون بخراسان، ويعقل من قوله: "في سائمة الغنم الزكاة" نفيها عن المعلوفة. 421 - احتج بأن الآمر يأمر ولا يخطر بباله قط ضد المأمور، فكيف يجعل ناهياً عما لم يخطر بباله قط. قلنا: من حيث المعنى لا من حيث اللفظ كما ينافي قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. والله أعلم بالصواب. 422 - مسألة: إذا ورد الأمر بأشياء على (وجه)

فإن قيل: بعد التكفير بها لا نقول إنها واجبة، لأن ذلك يفيد لزوم فعلها، وذلك مستحيل بعد إيجادها أن توجد، فلم يصح أن توصف بالوجوب (لا على الجمع) ولا على البدل (والتخيير) لأن البدل والتخيير إنما يصحان على المعدوم دون الموجود (والوجوب) على الجمع لا يجوز القول به. قلنا: إذا لم تصفوها بالوجوب على الجمع ولا على البدل والتخيير فلابد أن تقولوا واحد منها واجب، ولا يتعين عندنا، فإذا قلتم ذلك لزمكم أن يكون ذلك هو الواجب قبل إيجاده، لأنه إذا كان الواجب منها واحداً بعد الإيجاد فكذلك قبله، لأن ما بعد الإيجاد فرع على ما قبله ومستند إليه. فإن قيل: نقول إن جميعها واجب بعد الإيجاد على البدل، بمعنى أن كل واحدة منه مساوية لصفة الأخرى، ولمكان تلك الصفة يلزم إيجادها على التخيير. قيل: هذا مغالطة لأن الواجب على البدل ما يلزم إيجاده فيقوم مقام غيره فإذا وجد الجميع فكيف يوصف بالبدل؟ 424 - دليل ثان: لو وجدت على البدل لكان إذا أطعم في حال ما كسا لا يخلو إما أن يسقط الفرض بمجموعهما أو بكل واحد منهما أو بواحد منهما

لو سقط بمجموعهما لكانا واجبين/44 أعلى الجمع، ولو سقط بكل واحد منهما لكان قد حصل حكم واحد عن مؤثرين، وذلك غلط، وإن سقط بواحد منهما فذلك هو الواجب، وغيره ليس بواجب. فإن قيل: يسقط بكل واحد منهما، لأن ليس أحدهما بأن يسقط به أولى من الآخر، ومثل ذلك غير ممتنع، ألا ترى أن المكلف لو قتل حال ما ارتد لاستحق قتله، وهو حكم واحد لكل واحد من الردة والقتل، ولو انكشفت عورة المصلي حال ما أحدث لخرج من الصلاة بكل واحد منهما. قيل: إذا قام أحدهما (مقام الآخر) في وجه الوجوب لم يبق وجوب يقوم في وجهه الآخر، ألا ترى أن من كان عليه دينار (واحد) دينا فأعطى الغريم دينارين، لا يقال إن كل واحد منهما قضاء للدين، بل أحدهما قضاء، والآخر لا يكون قضاء، وإنما يكون هبة وغير ذلك، فأما مسألة الاستشهاد فلا تشبه مسألتنا، لأن هناك يتعلق به حكمان: حكم ردة، وحكم قصاص، وأحدهما غير الآخر، ولهذا يسقط كل واحد منهما بغير ما يسقط الآخر، ويستوفي كل واحد منهما على غير الوجه الذي يستوفي الآخر (عليه)، وكذلك الحدث والستارة حكمان كل واحد منهما غير الآخر، وفي مسألتنا الحنث واحد، فإذا جبره بالإطعام لم يبق ما يجبره بالكسوة، فلم تكن واجبة.

جواب آخر: أنه لو سقط الوجوب لكل واحد منهما لوجب أن ينوي بالإطعام والكسوة الوجوب، لأن ليس كل واحد منهما أولى بالوجوب من الآخر. 425 - دليل ثالث: أنه لوترك كل واحد من الثلاثة لم يستحق العقاب إلا على واحد منها، ولو كانت جميعها واجبة لاستحق العقاب على الجميع، لأن ليس أحدهما بإيجاب العقاب على تركه بأولى من الآخر. فإن قيل: إنما لم يعاقب على الجميع، لأنها لا تجب على وجه الجمع بينها، وإنما تجب على طريق البدل. الجواب عنه أنا نقول: لو كان الجميع واجباً لاستحق العقاب على ترك الجميع، وإن لم يجب على طريق الجمع، ألا ترى أن فروض الكفايات تجب على الجميع لا على سبيل الجمع ثم بتركها يأثم الجميع، ويفعلها يجزيء فعل البعض عن الكل، وكذلك إذا كان له ألف على رجل وضمنها الآخر وجبت الألف على كل واحد منهما على التخيير، فلو تركا جميعاً القضاء لاستحقا الإثم (فلما لم يستحق الإثم)، (إلا) على واحد (منهما) دل على أنه هو الواجب. 426 - دليل رابع: لو قال الحانث لكل فقير ملكتك هذا

الطعام (وهذه الكسوة فيكون) ذلك واجباً أو ندباً. فإن قالوا: يكون واجباً لزمهم أن يكون الجمع بين الكسوة والإطعام واجباً. وإن قالوا: ندباً لزمهم أن يكون هذا المكفر ما فعل الواجب، وإن قالوا هو واجب وندب فقد وافقونا وتركوا قولهم، ثم ليس بعضه أولى بالوجوب من بعض. 427 - دليل خامس: لو كانت كلها واجبة (لكان) إذا فعلها جميعاً أن يستحق على كل واحد منها ثواب الواجب. فإن قيل: إنما يستحق ثواب الواجب على أعظمها، لأنه لو فعله وحده أجزأه. قلنا: فلو فعل أدونها أجزأه أيضاً، فيجب أن يستحق (بذلك) ثواب الواجب أيضاً، ثم قولكم يستحق ثواب الواجب على أعظمها دون غيره تسليم منكم أن الواجب منها واحد دون غيره، لأن ما كان بعد الوجود يختص بوجه الوجوب، فإذا لم يوجد وصف بأنه الواجب. 428 - دليل سادس: لو كان كل واحد من الثلاث واجباً لوجب الجمع بينها، (إذ كل) واحد منها واجب، وإذا وجد

واحد منها لم يخرج الآخر من أن يكون إذا فعله يقع على /44 ب وجه الوجوب. 429 - دليل سابع: أنه غير ممتنع أن يقول الله تعالى: "أوجبت عليكم واحدة من الكفارات لا بعينها فافعلوا أيها شئتم"، ولو قال ذلك لوجب واحدة منها لا بعينها، فكذلك إذا خير فقال: "افعلوا هذه أو هذه أو هذه". 430 - دليل ثامن: لو اشترى (قفيزاً) من صبرة لم يقل إن العقد وقع على جميع قفزانها، وإنما يقع العقد على قفيز منها لا بعينه، وكذلك إذا طلق إحدى زوجاته لا بعينها، أو أعتق أحد عبيده لا بعينه، لا نقول: إن الطلاق وقع على الجيمع ولا العتق أيضاً. فإن قيل: يقع على الجميع على وجه البدل بمعنى أنه يختار أي نسائه شاء أو أي عبيده شاء. قلنا: هذا غلط لأنه قد سلم هذا الجماعة مثل أبي عبد الله البصري، وعبد الجبار، فلا معنى للمنع، ولأن الطلاق إذا وقع

على الجميع من المحال أن يرتفع منهن لاختياره لأنهن بالطلاق والعتاق قد ملكن أنفسهن فلا يجب (ردهن) باختياره، ولأن الطلاق والعتاق مما لا يرتفع (لا) لفظاً ولا حكماً. 431 - (دليل آخر: أنه يجوز أن يخيرنا الله سبحانه في شيئين أو أشياء ولا يجوز أن (نجمع) بينهما في حالة واحدة، كما خيرنا في تزويج إحدى الأختين، ولم يجز الجمع بينهما، وكذلك إذا خلا العصر عن إمام وهناك جماعة يصلحون للإمامة، فإنا مخيرون في بيعة أحدهم. ولا يجوز في حالة واحدة، كذلك ههنا يجوز أن الله تعالى خيرنا بين هذه الأشياء ولا يجوز أن تجتمع في حالة واحدة). 432 - د ليل تاسع: أن الحانث أمر بعتق رقبة فمن المحال (أن) يجب عتق جميع رقاب الدنيا، وكذلك لا يلزمه كل طعام في الأرض وقائل هذا يخرق الإجماع، ولهذا لو قيل: اقتل رجلاً من المشركين لم يقل إنه أوجب قتل كل مشرك، وقد ارتكبوا المنع في جميع ذلك (وهو خرق الإجماع). 433 - دليل عاشر: أن الأمر كالخبر، ثم لو قال: قد ضرب الأمير زيداً أو عمراً، لم يعقل أنه ضربهما معاً، وكذلك إذا قال: اقتل زيداً أو عمراً لم يعقل وجوب قتلهما.

434 - دليل حادي عشر: أن إيجاب خصلة من خصال لا يدل على أن جميعها واجب، فإنه تعلاى قد خير بين أشياء لا يجوز الجمع بينها، فخير بين نكاح أي الأخوات أردنا من الأجنبيات منا، ولا يجوز لنا الجمع، وخير ولي المرأة أن يزوجها بمن أراد من الأكفاء، ولا يجوز الجمع بين اثنين منهم، فكيف يقول: إنه إذا خير بين أمرين يجب الأمران، والجمع بينهما لا يجوز). 435 - احتجوا بأنه لما أمر سبحانه وتعالى بالإطعام أو الكسوة كان تقدير الآية فكفارته إطعام عشرة مساكين، أو كفارته كسوتهم، أو كفارته تحرير رقبة، فشرك بينهم في الإيجاب وحصول التكفير لا على الجمع، فدل على أنهما اشتركا في الوجوب على وجه التخيير وأن كل واحد منهما قائم مقام الآخر في باب الوجوب. الجواب: أنا لا نسلم أن تقدير الآية ما ذكرتم، بل تقديرها: إنما يحصل به التكفير، يكون في حق بعضهم إطعام، وفي حق بعضهم كسوة، وفي حق بعضهم عتق. فإن قيل: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} خطاب للكافة معناه: كل واحد منكم لا يؤاخذه الله باللغو، ثم قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}. الآية. فرجع الخطاب إلى كل واحد

منهم (أيضاً) وبين هذا أنه لا أحد يقول: إن الله تعالى قال لواحد كفر بالإطعام (ولآخر كفر بالكسوة) ولآخر بالعتق. الجواب عنه: أنا نقول: قد بينا أنه يجوز أن يكون مراده ما يحصل به التكفير وهو الإطعام أو الكسوة أو العتق، فأما كون أول الآية خطاباً للكافة فلا يمنع أن يكون (أحدها) يختص (بالبعض كما في قوله تعالى): {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (وهو) عام في كل مطلقة، ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} خاص في الرجعيات، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} خطاب للكافة، وقوله تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، خاص في المشركين. 436 - واحتجوا بأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فوجب أن يستوي في الوجوب كما لو أمر بفعلها من غير تخيير. الجواب: أن استواء الجميع في الخطاب (لا) يوجب الاستواء/45 أ (في الوجوب كما يوجب الاستواء) في المأثم على

الجميع، وفي إيجاب ثواب الواجب في الجميع، ويخالف الأصل فإن المأمور به من غير تخيير يوجب العقاب على الجميع وثواب الواجب في الجميع. جواب آخر: نحن نقول يستوي الجميع في الوجوب في حق (المكلف) على ما بينا، فيكون الإطعام واجباً على قوم، والكسوة واجبة على آخرين، (والعتق واجباً على آخرين). فإن قيل: لو صح ما ذكرتم لقال: فكفارته إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وتحرير رقبة. قلنا: قد وردت أو بمعنى الواو، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وقال: {مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} معناه: ويزيدون، وقال الشاعر: فلو كان البكاء يرد ميتا ... بكيت على زياد أو عناق على البرين إذ ذهبا جميعاً ... لشأنهما بحزن واحتراق معناه: زياد وعناق. جواب آخر: لو أتى به بلفظ الجمع أشكل، واعتقد أن

الجميع يجب على كل (من) حنث فأتى (بلفظة) أو لتخيير المكلف، ثم يوفقه لإخراج ما هو الواجب عنده. 437 - احتجوا بأن الله سبحانه وتعالى خير المسلمين كل مكلف بين الكفارات الثلاث، فلو أوجب واحدة منها (على المكلف) لا غير لكان سبحانه قد خيره بين الواجب وبين ما ليس بواجب. وفي ذلك إباحة الإخلال بالواجب. الجواب عنه: أنا نقول: إن الله تعالى (خير) بين الكفارات، وإن كان الواجب منها واحداً لعلمه أن المكلف لا يختار إلا الواجب ولا يوفق لسواه. فإن قيل: الأمة مجمعة على أن من كفر بواحدة من الكفارات لو كفر بغيرها أجزأه، فلو لم يكن ما كفر به واجباً لم يكن مجزياً. قلنا: إذا حصل التكفير بواحدة فبينا أنها هي الواجبة عند الله، وأنه ما كان يمكنه التكفير بغيرها فلا يصح هذا القول. فإن قيل: لا يخلو اختياره للواحدة إما أن يكون له تأثير في كونها مصلحة في وجه الوجوب أو لا يكون له تأثير في ذلك، فإن لم يكن له تأثير في ذلك أدى إلى أن يتفق وقوع المكلفين مع كثرتهم وطول زمانهم على المصلحة دون المفسدة، وذلك في التعذر كتعذر

اتفاق (القول) المحكم (ممن) ليس بعالم به، وفي ذلك (جواز اتفاق) تصديق أنبياء من جملة كذابين ممن لا يعلم الفرق بينهم. قيل: (إن قلنا) لا تأثير للمكلف في ذلك جاز ولا (يتعذر) في حكمة الله سبحانه أن يوفق المكلفين مع كثرتهم على ما فيه المصلحة وما هو الواجب عنده، وإن قلنا لاختيار المكلف تأثير في كون ذلك الفعل مصلحة، وهو أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل أي فعل أشار إليه، وقع اختياره عليه صادف الواجب والمصلحة. فإن قيل: فيجب إذا أشار إلى غير الكفارات الثلاث أن يكون مصلحة. قلنا: إنما أمره بالاختيار (من) من الثلاث، وجعل اختياره يصادف المصلحة بشرط أن يختار من المشروع في التكفير، فأما غيره فليس بمشروع. جواب آخر: يجوز أن نقول إنما خيره ليجتهد فيحصل له

الثواب باجتهاده في (الواجب ثم يصير) بمنزلة المجتهدين في الفتوى والإمامة (فيه)، والمطلوب واحد وهو الحق عند الله تعالى، ثم لم ينصب عليه دليلاً فنجتهد فنثاب. جواب آخر: عن أصل الدليل: أنه غير ممتنع أن يخير الله تعالى بين الواجب وغيره في (حصول) المصلحة عندكم وسقوط الفرض كما قلتم: أن القبيح يسقط به الفرض وهو فعل الصلاة في (الثوب) الحرير والغصب (والصلاة في) المواضع التي نهى عن الصلاة فيها وغير ذلك. 438 - احتجوا بأنه لو كان الواجب واحداً منها لضرب عليه دليلاً وجعل إليه سبيلاً، وميزه من بين الجميع ولم يجعل ذلك إلى اختيار المكلف إذ المكلف لا يعرف ما فيه/45 ب، المصلحة مما فيه المفسدة. الجواب: أنه يبطل بما خيره فيه بلفظ العموم، وهو إذا قال: اقتل رجلاً من المشركين، فإنه لم يجعل عليه دليلاً، ولا عينه، ولا يدل على إيجاب الجميع ويبطل بالعقاب والثواب (يجب) في أحدهما وإن لم يميزه، ولم يجعل عليه دليلا، ولأنه يجب البيان إذا كان الوجوب متعلقاً بمعين غير (مميز).

وفي مسألتنا الوجوب متعلق بغير معين (عندنا) وقد جعل المصلحة فيما نختاره منها، إذ لا يقع اختيارنا إلا على ما فيه المصلحة على ما بينا. 439 - احتجوا بأن فروض الكفايات تجب على الكافة وبفعل بعضها تسقط عن الباقين، وكذلك الكفارات والصلاة تجب في جميع الوقت وبفعلها في بعضه يسقط الوجوب في باقيه. (الجواب عنه: أنا نقول:): فروض الكفايات (حجة لنا)، لأنها لما وجبت على الجميع خوطب الجميع بفعلها (وعوقبوا) على تركها بخلاف مسألتنا. جواب آخر: لو لم تجب الكفايات على الجميع (لعول) بعضهم (على) بعض، فأدى إلى تركها، وفي مسألتنا إيجاب أحدها لا يؤدي إلى تركها فافترقا، وأما الوقت فإن الوجوب متعلق بأوله وإنما رخص في تأخيره إلى آخره، ولهذا تستقر الصلاة في ذمته بدخول (أول) الوقت حتى لو حدث عذر (في الوقت) لم يسقط وجوبها عند أصحابنا.

440 - احتجوا بأنه لو وقف الواجب منها على اختيارنا لوجب إذا أخل بالثلاث (أن لا) يستحق ذماً، لأنه (إنما يجب) عليه واحدة منها، إذا اختارها فإذا لم يخترها لم يحصل الشرط فلا يأثم لأنه لم يخل بالواجب. الجواب: أنه إذا لم يختر فاتت المصلحة فأثم وإذا (اختار أحدها) حصلت المصلحة، لأنا نقول: اختيارنا تكمل به المصلحة، (لأنه) سبب لإيجاد المصلحة. 441 - (احتجوا بأنه لو كان الواجب واحداً لا بعينه كان هذا تكليفاً مجهولاً، وفيه تلبيس وإشكال والجهالة تنافي التكليف. الجواب عنه: أنا نقول: الذي ينفي التكليف جهالة ترفع (تمكنه من الطريق إلى ما كلف). فأما في مسألتنا فالطريق إليه هو متمكن منه إذا علق ذلك على اختياره، وقيل له افعل أي قسم اخترت، فذلك إليك فلم تبق جهالة ولا ما يمنع التكليف). 442 - مسألة: الأمر يتناول المعدومين الذين علم الله

مسألة: الأمر يتناول المعدومين الذين علم الله سبحانه أنهم سيوجدون على صفة المكلفين

سبحانه أنهم سيوجدون على صفة المكلفين وبه قال الأشعرية وبعض الشافعية، وحكى الجرجاني عن المعتزلة وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنه لا يتناول المعدومين، وإنما يختص بالموجودين. ثم اختلف من قال بالأول فقال بعضهم: الأمر للمعدوم أمر إعلام، وليس بأمر إلزام. وقال بعضهم: هو أمر إلزام وهو الذي نذهب إليه، ومنهم من قال: يتناول الأمر المعدوم تبعاً.

443 - وفائدة هذه المسألة أنه إذا احتج الآن علينا بآية أو خبر لزمنا على الحد (الذي) كان يلزمنا لو كنا في عصر النبي موجودين، وعندهم لا يلزمنا ذلك إلا بدليل، إما أ، نقيس على ما كان في (عصر) النبي صلى الله عليه وسلم لاشتراكهما في العلة (أو غيره). 444 - وجه قولنا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ولا خلاف (في) أنه أريد بذلك جميع أمته فقد خاطبهم وهم معدومون. 445 - دليل آخر: قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} والمعدوم قد يبلغه إذا وجد، فدل على ما (قلنا). 446 - دليل آخر: قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} فأمر باتباعه، ولا خلاف أنه أمرنا باتباعه، ولم نكن موجودين. 447 - دليل آخر: قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فإن كان مبيناً للموجودين حسب فلم يبين لنا ونحن من الناس.

فإن قيل: في حال العدم لا نسمي ناساً. قلنا: إلا أنا إذا وجدنا نسمي ناساً (فوجب أن يكون مبيناً لنا). 448 - دليل آخر: ذكره شيخنا قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وهذا أمر للأشياء قبل وجودها، (أن تكون) بالتكوين، وفي معنى ذلك ضعف. 449 - دليل آخر: لا يخلو المنع من: (ذلك) أن يكون من جهة العقل أو من جهة السمع، فإن كان من جهة السمع فيجب أن ينقل إلينا، وإن كان من جهة العقل فيجب أن يتساوى في ذلك جميع العقلاء، ونحن نبين أن العقلاء كانوا يرجعون إلى الأوامر، لأن التابعين ومن بعدهم (إنما) كانوا يأخذون بظاهر أمر الله عز وجل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير دليل (سوى) هذا، ولأن (من) عادة الناس أن يوصوا إلى من يحدث من أولادهم بالنظر في وقوفهم، وصرفها في وجوه يعينها الواقف، وإن كان في حال الوصاية معدوماً.

فإن قيل: هناك يتصرفون لا بالوصية/46 أولكن لأن الوقف عليهم. قلنا: لو لم يستحق التصرف بالوصية (لم يكن أولى به) من غيره، ولهذا يقول: إني أوصى إلى أن أعطيك كذا، وأصرف هذا في كذا، ولهذا لو قال: وصيت أن يكون هذا الحمل إذا وضع وبلغ أن يفعل كذا (وكذا دون بقية الورثة وإذا مات هو كان ولده الذي يولد له) يصنع كذا وكذا (فإنه) وولده أحق من الباقين، فدل على أ، هـ بالوصية استفاد ذلك. 450 - دليل آخر: قد يؤمر الإنسان بالزكاة ولا مال له، بشرط أن يصير له مال، وكذلك يؤمر بالحج ولا قدرة له بشرط أن يقدر. فإن قيل: هناك هو عاقل مكلف وههنا هو معدوم. قلنا: إلا أن نأمر المعدومين بشرط الوجود، كما نأمر العاجز بشرط أن يقدر. 451 - ويدل على من قال: يتناول الأمر المعدوم تبعاً للموجود بأن (نقول): خطاب المعدوم متى استحال في حال انفراده، استحال مع (وجود غيره)، ألا ترى أن الجماد لما لم يصح خطابه منفرداً لم يصح بوجود حي معه.

452 - ويدل على من قال: هو أمر الإعلام (بأن نقول): إعلام المعدوم لا يصح إلا بشرط الوجود، فإذا وجد توجه الخطاب إليه، وأوامر الشرع في موضوعها ملزمة لا معلمة من غير إلزام. 453 - احتجوا بأن الأمر استدعاء الفعل بالقول من الدون، وذلك غير موجود فاستحال أن يكون في حقه (أمر). الجواب: أن الأمر: الاستدعاء على ما ذكرت، وقد وجد ذلك وليس من شرط الأمر إيقاع الفعل عقيبه، لأنه لو عصى المأمور ولم يفعل لم يخرج الأمر عن كونه أمراً. 454 - احتجوا بأنه يستحيل خطاب المعدوم فلم يلحقه التكليف. الجواب: أنا نحيل خطابه بإيجاد الفعل في حال عدمه، فأما إذا وجد (فكيف يكون مستحيلاً)، لأنه يفعل في حال وجوده ما أمر به متقدماً، فصح أنه غير مستحيل. 455 - احتجوا بأن المعدوم لا يقع منه فعل ولا ترك، فلم يصح كالعاجز (بالصغر والجنون).

الجواب: أنه لا يصح منه ذلك في حال العدم، فأما بعد الوجود فيصح منه الفعل، وأما العاجز فلا نسلم أنه (لا يصح أن) يؤمر، بل يصح أمره بشرط أن يزول العجز، كما يصح في مسألتنا بشرط أن يزول (العدم)، ولهذا قال أصحابنا: الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل. فإن قيل: هذا مخالف للنص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن الجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ". قلنا: المراد برفع القلم ههنا رفع المأثم ورفع الإيجاب (المضيق) بدليل أنه قرن معه النائم. 456 - احتجوا بأنه لو توجه إليه (الأمر) لحسن مدحه وذمه. الجواب أن: (المدح) يحصل بالامتثال، بإيجاب الفعل، والذم يحصل بالتفريط، والمعدوم لا (يوصف) بذلك.

فأما الأمر وصيغته الاستدعاء وقد وجد وهو أمر صحيح، والمأمور يفعله عند قدرته كالعاجز يتوجه إليه الأمر بشرط القدرة. وقد قيل إنه يلحقه المدح والذم، لأن الله تعالى مدح الأنبياء والصالحين وذم إبليس في كلامه، وهو القرآن، وذلك قبل خلق الجميع. 457 - احتجوا بأن من شرط الأمر وجود المأمور، كما أن من شرط القدرة وجود المقدور، ثم القدرة لا تكون مع عدم المقدور، فكذا الأمر (لا يكون) مع عدم المأمور. الجواب: أنا لا نسلم هذا، وهو أن القدرة صفة القادر وإن لم يوجد مقدور، والله تعالى فيما لم يزل قادراً آمراً ناهياً. 458 - احتجوا بأن تعلق الأمر بمأمور كتعلق القدرة بقادر، والفعل بفاعل ثم بعدم القادر والفاعل لا توجد القدرة والفعل، كذا مع عدم المأمور لا يوجد الآمر. الجواب:/46 ب أنكم أخطأتم الوزن لأن تعلق الآمر بمأمور كتعلق القدرة بمقدور، والفعل بمفعول، وذلك يوصف الله تعالى به قبل وجود المقدور، وإنما تعلقت قدرة (المحدث) بمقدور لا من حيث هي قدرة، (ولكن لأنه) لا يجوز بقاؤها ولا الفعل بها وهي معدومة

ووزان ما ذكره أمر من غير آمر لا يصح، وعلم من يغر عالم لا يصح. 459 - احتجوا بأن المعدوم ليس بشيء عندكم فأمره هذيان. الجواب: أنه عندكم شيء ثم عندنا يتعلق (به) بشرط أن يكون في العلم أن يوجد وهذا غير محال كما بينا، (في الوصايا)، ثم قد وجد كلام لا لمخاطب، وليس بهذيان كما قلنا في كلام الله تعالى في الأزل، كالتسبيح والتهليل والقرآن (لا يخاطب) به وهو كلام صحيح وهذا ليس بشيء.

مسائل النهي

مسائل النهي 460 - مسألة: للنهي صيغة موضوعة (في اللغة) تدل بمجردها عليه وهو قول القائل لغيره: لا تفعل على وجه الاستعلاء. وقالت المعتزلة: لا يكون نهياً لصيغة وإنما يكون لكراهة الناهي للفعل. وقالت الأشعرية: لا صيغة له كالأمر عندهم. 461 - (الدليل على ما ذهبنا إليه أنا نقول أهل) اللغة قسموا الكلام أمراً ونهياً وخبراً واستخباراً، فالأمر قولك: افعل، والنهي: (قولك لا تفعل).

462 - ودليل آخر أن السيد (إذا) قال لعبده: لا تفعل كذا عقل منه كفه عن ذلك المنهي عنه حتى إن خالفه (وفعله) استحق العقوبة، فدل على أن اللفظ وضع لذلك. 463 - احتجوا بأن هذه الصيغة ترد والمراد بها الكف عن الفعل، وترد والمراد بها الدعاء كقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا}، وترد والمراد بها التسكين كقوله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ} وترد والمراد بها التفويض كقوله تعالى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} وترد والمراد بها التهديد كقوله لعبده: "لا تفعل اليوم شيئاً". فيجب أن يتوقف فيها حتى يرد الدليل بالمراد، كما نقول في الأسماء المشتركة من العين واللون. الجواب: أن إطلاقه لا (يعقل) منه إلا الكف عن الفعل في اللغة، وإنما يحمل على غير ذلك بقرينة من شاهد الحال وغيره كالبحر موضوع للماء، ويحمل على الرجل السخي والعالم بقرينة،

مسألة: النهي يقتضي التحريم

وكالحمار ظاهر في هذه البهيمة ويحمل (على) الرجل البليد بقرينة. فأما الأسماء المشتركة فليس بعضها في اللغة أظهر من بعض، ولهذا لو قال لعبده اصبغ (ثوبي لونا)، فصبغه (أحمر أو أسود أو أصفر) لم يستحق اللوم، ولو قال: لا تقم ولا تدخل الدار (ولا تخرج) فخالف استحق العقوبة واللوم فعلم افتراقهما. والله أعلم بالصواب. 464 - مسألة: النهي يقتضي التحريم خلافاً لمن قال يقتضي التنزيه بمطلقة وخلافاً للأشعرية في قولهم. يقتضي الوقف. 465 - لنا أن الصحابة رضي الله عنهم عقلوا من النهي الكف عن الفعل والترك، فروى عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه

مسألة: النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار والدوام

قال: "كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فتركناها". ولأن السيد إذا نهى عبده عن فعل الشيء فخالفه عاقبه، ولم يلم في عقوبته، فلو لم يكن النهي يقتضي التحريم والمنع لما استحق به العقوبة. 466 - احتجوا بأن لفظ النهي يرد والمراد به التنزيه، ويرد والمراد به التحريم فحملت على أقلها أو توقف فيها. الجواب: أن إطلاقها يقتضي الترك ولهذا مخالفه يستحق العقوبة على ما بينا (ثم تلزم الأسماء المشتركة) كالبحر والأسد والحمار في شيئين ثم إطلاقه يحمل على الماء والبهيمة. والله أعلم. 467 - مسألة: النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار والدوام، وبه قال الجماعة خلافاً لأبي بكر بن الباقلاني في قوله إنه لا يقتضي ذلك.

مسألة: النهي عن الشيء أمر بضده

468 - لنا ما تقدم في باب الأمر، وأيضاً فإن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل ولا تدخل الدار اقتضى أن (لا) يفعل ذلك على الفور والمداومة وإن خالف ذلك استحق العقوبة/47 أفدل على ما ذكرنا، ولأنه لا ينهي إلا عن قبيح، والقبيح يجب اجتنابه في كل وقت، فدل على الفور والمداومة. وذهب إلى أن النهي كالأمر، والأمر لا يقتضي الفور والمداومة وقد بينا (أنه يقتضي) ذلك. ثم النهي آكد من الأمر لأنه يقتضي قبح المنهي عنه، والقبيح يجب اجتنابه، والأمر يقتضي حسن المأمور به، والحسن يكون مباحاً لا يلزم فعله، والله أعلم. 469 - مسألة: النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد، وإن كان له أضداد فهو أمر بأحدها. وقال الجرجاني: لا يكون أمراً بضده سواء كان له ضد أو أضداد. وقال بعضهم: إن كان له ضد واحد كان أمراً به، وإن كان له أضداد لم يكن أمراً بشيء منها وذكر أنه مذهب أبي حنيفة. وعن أصحاب الشافعي كالمذاهب الثلاثة.

470 - لنا أنه يتحتم ترك المنهي عنه ولا يمكنه تركه إلا بفعل ضده فيتحتم فعل ضده، وما الحتم فعله فهو مأمور به. 471 - دليل آخر: أنه لو قال (له) لا تتحرك، لا يخلو (إما) أن يكون السكون موقوفاً على الأمر أو (يكون) مأموراً به. (فإذا) كان موقوفاً جاز أن يأمر به، وإذا جاز أن يأمر به جاز أن ينهي عنه، وذلك محال لأنه يؤدي (إلى) أن ينهى عن الحركة والسكون في حالة واحدة. وإذا استحال ذلك ثبت أن (السكون مأمور به). عبارة (أخرى) قوله لا تتحرك لا يخلو إما أن يفيد وجوب السكون أو إباحته أو الوقف، لا يجوز أن يفيد إباحة السكون لأن المباح يجوز تركه، لأن حد المباح ما كان فعله وتركه سواء وإذا جاز ترك السكون جاز فعل الحركة فتحصل مخالفة النهي ولا يجوز أن يفيد التوقف لأن الحكم بالتوقف إنما يجوز فيما يصح أن يرد فيه حكمان مختلفان كإباحة وحظر ووجوب وندب، وما لا يجوز أن يرد إلا على (وجه) واحد فلا معنى للحكم بالتوقف فيه، ولأن

الموقوف يجوز أن ينهى عنه وقد (أبطلنا ذلك) (فثبت أن) السكون واجب، والواجب مأمور به. 472 - احتجوا بأن النهي (عن الشيء) يقتضي قبحه، وضده يجب أن يكون حسناً، وحسن الشيء لا يقتضي أن يكون مأموراً به كالمباحات من الأفعال، وكأفعال الله سبحانه وتعالى حسنة وليست مأموراً بها. الجواب: أنه قد يرد النهي عن الشيء لا لقبحه، وكذلك الأمر بالشيء يرد لا لحسنه، فلم يصح ما تعلقوا به، على أنا لا نجعله مأموراً به لكونه حسناً، لكن لنهيه عن ضده، ولا يمكن ترك المنهي عنه إلا بفعل ضده وما يوصل (به) إلى الواجب فهو واجب. وعلى هذا يخرج الأمر المباح فإنه لم ينه عن ضده فلم يكن مأموراً به. 473 - احتجوا بأن الإنسان منهي عن قتل نفسه، وليس بمأمور بترك قتل نفسه لأنه لا يثاب على (ترك) قتل نفسه، ولو كان مأموراً به لأثيب عليه. الجواب: أنا لا نسلم بل هو مأمور بترك قتل نفسه ويثاب على ذلك كما يعاقب على قتل نفسه.

فإن قيل: الحيوان مجبول على حفظ نفسه فلا معنى لأمره بحفظها. قلنا: فلا معنى للنهي عن قتلها أيضاً لأنه مجبول على أن لا يقتلها. جواب آخر عن أصل السؤال: (وهو) أن الثواب والعقاب غير مستحق على الأمر والنهي من طريق العقل، إنما يجب ذلك بالسمع، فلا يمنعنا أن نقول إنه مأمور بترك قتل (نفسه) ولا ثواب له على ذلك لأنه لم يرد بذلك سمع. 474 - احتجوا بأن لفظاً واحداً لا يكون أمراً ونهياً. الجواب: أنا لا نقول ذلك (بل) نقول الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى والنهي عنه أمر بضده من جهة المعنى كما (أنا) نقول إن الإنسان موجود ببغداد، معدوم بالبصرة، ولا نقول هو موجود معدوم على الإطلاق. فإن قيل: يجب إذا كان له أضداد أن يكون مأموراً بجميعها. قلنا: هو مأمور بأحدها لا بعينه لأن بفعل أحدها يمتثل النهي فما زاد عليه لا حاجة بنا إليه، وهذا كما قلنا في الأمر بالشيء لا يكون/47 ب نهياً عن جميع أضداده.

مسألة

475 - احتجوا بأنه قد يجوز أن يرد النهي مقترناً بإباحة جميع أضداده. الجواب أنا لا نسلم ذلك وقد بينا استحالته. والله أعلم بالصواب. 476 - مسألة: إذا نهى عن أشياء بلفظ التخيير مثل أن يقول: لا تكلم زيداً أو عمراً اقتضى المنع من كلام أحدهما لا بعينه خلافاً للمعتزلة في قولهم يقتضي المنع من كلام الجميع. 477 - لنا أن النهي كالأمر، ثم لو قال: تصدق بدرهم أو دينار لم يقتض الجمع بينهما كذلك هاهنا: ولأن السيد لو قال لعبده: لا تأكل هذا أو هذا اقتضى أحدهما كذلك هاهنا. 478 - احتجوا بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}. الجواب: أنا حملناه على الجميع بدليل أن الآثم والكفور يأمرون بالمعية فلا تجوز طاعتهم.

مسألة: النهي يقتضي فساد المنهي عنه

479 - احتجوا بأن أهل اللغة أجمعوا (على) أنه لو قال: لا تطع زيداً أو عمراً أنه يريدهما، معناه (اترك) طاعتهما، قلنا: لا نسلم. 480 - احتج أن ما ورد تركه بانفراده وجب تركه مع غيره. الجواب: أنه يبطل إذا قال لا تأكل تمراً إن أكلت خبزاً فإنه إن أكل خبزاً لم يجز له أكل التمر، فإن لم يأكل الخبر جاز له أكل التمر، ويبطل بالأخت إذا كانت تحت الإنسان لم يجز أن ينكح أختها، وإن لم تكن تحته جاز أن يتزوج (أختها). 481 - مسألة: النهي يقتضي فساد المنهي عنه ذكره أحمد رحمه الله في رواية جماعة منهم أبو طالب، وقد سئل عن بيع الباقلاء قبل أني حمل وهو ورد فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار

قبل أن يبدو صلاحها" هذا بيع فاسد، فبين أنه فاسد لأجل النهي، وبه قال أكثر أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك". وقال الكرخي من الحنفية وأبو بكر القفال من الشافعية: لا يقتضي فساد المنهي عنه، وهو قول عامة المتكلمين.

وقال أبو الحسين البصري كقولنا في العبادات وكقولهم في العقود والإيقاعات. 482 - دليلنا ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي لفظ:"من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" وفي لفظ (آخر): "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد". والمنهي عنه ليس عليه أمره فيجب أن يكون مردوداً. فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يستدل به على شيء من الأصول. قلنا: إلا أن الأمة قد تلقته في القبول فصار كالمتواتر. جواب آخر: إن هذا وإن كان من الأصول إلا أنه من مسائل الاجتهاد فصادر بمنزلة الفروع. فإن قيل: الرد ضد القبول وهو ما لا يثاب على فعله. قلنا: الرد يستعمل فيما ذكرتم، ويستعمل في الفساد والإبطال، ألا ترى أنه يقال: رد فلان كلام فلان إذا أفسده، ويقال في نقض كتب المخالفين: الرد على فلان، وإذا استعمل فيهما حمل عليهما.

فإن قيل: الذي ليس من ديننا هو كالزنا واللواط والغيبة (والنميمة) ونحن نقول هذا باطل مردود، وخلافنا في الصلاة على صفة مكروهة من الالتفات، والصلاة في الثوب الغصب وما أشبهه (وذلك) من الدين. قلنا: فعل الصلاة على صفة النهي ليس من الدين، ولهذا لا يثاب عليه ويحرم عليه فعله، وما لم يؤمر به ولم يبح له، فهو خارج عن الدين مردود (عليه). نحن نقول: إن ذلك ليس من الدين، وإنما يسقط به الفرض. قلنا: لا نسلم أن ما ليس من الدين يسقط به فرض الدين، ولأن الصحة والإجزاء من أحكام الدين، فإذا بطل أن يكون الفعل المنهي عنه من الدين لم يثبت له حكم يتعلق بالدين. 483 - دليل ثانٍ: أن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فسادالعقود بالنهي، من ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: لا يصح نكاح المشركات، لأن الله تعالى قال: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، واحتجاجهم على (فساد عقود الربا) بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا يداً بيدا سواء سواء".

فإن قيل: لعلهم رجعوا إلى فساد ذلك بقرينة. قلنا: لو كانت قرينة لذكرت ولاحتج بها بعضهم على بعض عند التنازع، فلما قنعوا بمجرد اللفظ وظاهره دل على أنهم عقلوا منه الفساد. 484 - دليل أن النهي ضد الأمر ونقيضه/48 أعلى إجزاء المأمور به وصحته، فيجب أن يدل النهي على نفي إجزائه وفساده وإلا لم يكن نقيضه (وضده). 485 - دليل رابع: لو كان المنهي عنه مجزياً لكان طريق إجزائه الشرع، إما أمراً أو إيجاباً أو إباحة، وكل ذلك يمنع منه النهي. فإن قيل: قد يدل عليه غير ذلك نحو أن يقول: إذا فعلتم ما نهيتكم عنه أجزأكم عن الفرض، أو يكون إجزاء ذلك الفعل معلوماً بالعقل، وكل ذلك لا يمنع منه النهي. قلنا: إذا قال ذلك، صار شرعاً وصار كأنه أخبر أن نهيه ليس على وجه الحقيقة، ولا يفيد صيغة التحريم، وإنما قلنا ذلك لأن الإجزاء وسقوط الفرض هو نفس مراد الشرع، فإذا قال: يجزيكم فعل ما نهيتكم عنه، فكأنه قال: مرادي مخالفة ما أنهاكم عنه، وقد تنزه المتعدد عن ذلك. (فأما الإجزاء بالعقل فالعقل لا يدل على الإجزاء ولا على البطلان بشيء من فروع الشريعة).

486 - دليل خامس: إن الأمر بالعبادة يقتضي إشغال الذمة بفعلها متجردة عن النهي، لأنه لا يجوز أن يكون المنهي عنه هو الذي ورد الأمر به، فإذا فعلها على الوجه المنهي عنه، فلم يأت بما أمر به على الوجه الذي أمر (به)، وإذا لم يأت بالعبادة بشروطها وقعت باطلة كمن أمر بالصلاة على طهارة، فأتى بها على غير طهارة، لا تصح وتبقى في ذمته. 487 - دليل سادس: أن المنهي لم يتناوله التعبد، وما لم يتناوله التعبد لا يسقط التعبد، والدليل على أنه (لم) يتناوله التعبد أن التعبد يتناول ما له صفة زائدة على حسنه، والنهي يتناول ما ليس بحسن يبينه أنه تعالى (لو) قال: صلوا، ثم قال: لا تصلوا بغير طهارة، فإن قوله: صلوا، يدل على حسن الصلاة، وقوله: لا تصلوا بغير طهارة يدل على قبحها، فأحدهما غير الآخر، فصح أن المنهي عنه لم يتناوله التعبد. والدليل على أن ما لم يتناوله التعبد لا يسقط الفرض أن فاعله لم يفعل ما تعبد به وفرض عليه فصار بمثابة أن يقول: (سبحانه وتعالى): صلوا بطهارة فنصلي بغير طهارة لا يسقط (عنا) التعبد ويلزمنا أن نصلي (ما بقى) الوقت، وصار بمثابة أن يأمرنا

أن نصلي فنتصدق، في أنه لا يسقط عنا فرض الصلاة إذا كنا قد فعلناه ما لم يتناوله التعبد. فإن قيل: قد يجوز أن يكون المنهي عنه مع قبحه يقوم مقام المأمور به في وجه المصلحة وإن لم يتناوله الأمر لقبحه، ألا ترى أنه لو كانت الصلاة مصلحة في رد وديعة فلان، لم يفترق الحال بين أن يصلي في دار مملوكة أو مغصوبة في أن الصلاة تكفي في رد الوديعة، ولهذا لو قال تعالى: "لا تصلوا في الدار المغصوبة فإن (فعلتم) سقط الفرض (عنكم) " جاز. قلنا: لا يجوز ذلك، وما ذكرته فإنا لا نثبته إلا بدلالة (زائدة) ومتى لم يدل دلالة على ذلك وجب نفيها كالصلاة الفاسدة يجب نفيها، فإذا قال تعالى: "إن صليتم في الدار المغصوبة سقط الفرض" فذلك دليل على إسقاط الفرض (لا يجوز) (ولا يجب أن نقول) إذا لم يقل سبحانه ذلك أن يسقط الفرض بفعل الفاسد، ولهذا لو قال تعالى: صلوا بطهارة، فإن صلتم بغير طهارة سقط الفرض، لا يدل على أنه لم يقل ذلك (لا) يجزيء

(عن) الصلاة (بغير طهارة، وكذلك لو قال صلوا فإن تصدقتم أجزأ عن الصلاة لا يدل على أنه إذا لم يقل ذلك تجزيء الصدقة عن الصلاة). 488 - احتج الخصم بأن قال: النهي يقتضي قبح المنهي عنه، وكراهة الآمر له وقبحه لا يدل على بطلانه، كالطلاق في حال الحيض، والبيع في (وقت) النداء، والصوم في يومي العيدين وأيام التشريق، والصلاة في الحرير والغصب، والوضوء بالماء الغصب، وفي آنية الذهب والفضة، والحد بالسوط الغصب وغير ذلك. (الجواب عنه: أنا نقول: قبحه لا يدل) على الفساد، وإنما المفسد كونه يدل على وجوب الامتناع عن الفعل والإخلال به، وإذا وجب ذلك علمنا أنه لم يتناوله التعبد، وإذا لم يتناوله التعبد لم يقع مجزياً على ما بينا أن (من) فعل غير ما أمر به لم يجزه عما أمر به، وإذا لم يجز وجب إعادة العبادة، دلنا ذلك على بطلانه وفساده، والمعنى في جميع ما ذكروه أنه يدل على الفساد على التدريج المذكور، إلا في الطلاق والحج، فإنما حكمنا بصحتهما لقيام الدلالة على ذلك.

أما في الطلاق فلخبر ابن عمر رضي الله عنه، وأما (في الحد فللإجماع) وليس إذا ترك ظاهر اللفظ في بعض المواضع لقيام الدليل (يدل) على بطلان مقتضاه في بقية المواضع (ألا ترى أن النهي قد يرد في بعض المواضع لا يراد به التحريم ثم لا يدل إطلاقه على أنه لا يقتضي التحريم في بقية المواضع). 489 - احتج بأن قال: لفظ /48 ب النهي (لغوي) وفساد العبادة شرعي، فلا يجوز أن يكون هذا اللفظ وضع للفساد، وهو موجود قبله. الجواب: أنا لا نقول إن لفظ النهي وضع للفساد، كما وضع لفظ العموم للاستغراق وما أشبهه، وإنما اقتضى الفساد على ما ذكرناه من (الترجيح). جواب آخر: لو قلنا إنه وضع للفساد لم يلزم ما ذكروه لأن الفساد في الفعل عندنا هو انتفاء الأغراض المقصودة به ووجوب إعادته، وذلك أمر معقول قبل الشرع فلا يمتنع أن يوضع له لفظ النهي، كما وضعوا أن هذا الفعل تجب إعادته، لأنه لا يتعلق به مقصود، وإن كان لفظاً لغوياً.

490 - احتجوا بأنه لو أفاد النهي الفساد، لكان ما لا يفسد من الأعمال القبيحة كوطء المحلل في حال الحيض، والوضوء بالماء الغصب، والطلاق في الحيض، وما (أشبه ذلك) غير منهي عنه حقيقة، وإنما يكون مجازاً، لأنه (لا) يتعلق به مدلوله، وهو الفساد والدليل لا ينفك (عن) مدلوله. الجواب: أن جميع ذلك فاسد عندنا إلا ما دل عليه دليل، وإن سلم (ذلك) فإنا لا نقول (إن) النهي في اللغة للفساد فيلزم ما ذكرتم، وإنما نقول: إنه يدل على الفساد على ما ذكرنا من (الترجيح). جواب آخر: أن النهي يقتضي التحريم والقبح والفساد، فإذا دل الدليل على عدم الفساد بقى حقيقة النهي لبقاء حكمه من التحريم والقبح، لأن المجاز ما نقل اللفظ، (عن) جميع موجبه.

491 - احتجوا بأنه ليس في اللفظ ما يوجب الإعادة فمن ادعاها احتاج إلى دليل. (الجواب عنه أنا نقول: لا نوجب الإعادة باللفظ وإنما نقول: إذا كانت العبادة مؤقتة ووقتها باق تلزم الإعادة) بالأمر بها، لأن ذمته اشتغلت بها، وفعلها على وجه النهي لا تبرأ (الذمة به) فمن ادعى ذلك لزمه أن يدل على أنا قد دللنا بأن الأمر يتناول فعل العبادة على وجه غير منهي عنه، ومن أتى بذلك فيلزمه الإعادة بمقتضى الأمر الأول. (وتحقيق هذا أن الصلاة في ملك الغير معصية قطعاً، والصلاة طاعة قطعاً، فكيف يكون الفعل الواحد طاعة معصية؟ ويؤكد هذا أن النهي يقتضي إعدام الفعل، والأمر يقتضي إيجاده، فكيف يتصور كون الواحد معدوماً موجوداً). 492 - فصل: والدليل على أنه يدل على الفساد في العقود والإيقاعات ما تقدم من (أن) الصحابة رضي الله عنهم عقلوا من ضاهر النهي الفساد للعقود بدليل ما بينا.

فإن قيل: فقد ورد نهي عن عقود لم يفسدوها مثل نهيه عن تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، والنجش وغير ذلك، وليس لقائل أن يقول إنما لم يحكموا بفساد ذلك لدليل آخر، إلا ولنا أن نقول: أفسدوا ما أفسدوا بدليل آخر. الجواب عنه: أنا نقول: إنما لم يحكموا بفساده لأنه ورد في دليل يدل على أنه (لا) يفسد وهو قوله عليه السالم: "فمن تلقى الركبان فهو بالخيار إذا دخل السوق" فدل على أن البيع صحيح. وأما بيع الحاضر للبادي والنجش، فقد قال بعض أصحابنا: إنه فاسد لأجل النهي، ومن سلم قال: ورد في ذلك دليل وهو قوله: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، والنجش أن يزيد وليس هو مشترياً فيغر المشتري وذلك يستدرك بالغبن عندنا. ولأن البيع إذا وقع على (غير) الوجه المشروع فقد أخل بشرطه، وإذا اختل شرط العقد فسد، كما لو وجد التفرق في عقد الصرف والسلم، قبل القبض يبطل، لأن شرطه القبض ليحصل التعارف من

غير لبس بينهما والاستسلام في السلام، ولأن ما ذهب إليه هذا القائل مخالف للإجماع، لأن الناس قائلان: منهم من قال: النهي يدل على الفساد في جميع الأشياء، ومنهم منق ال: لا يدل على الفساد في جميع الأشياء، ٍ فمن فرق أحدث مذهباً ثالثاً يخالف الإجماع فلم يقبل. فإن قيل: إنما يكون مخالفاً للإجماع إذا انتظم الحكمان طريقة واحدة، وما وجد ذلك، إنهم يعنون بفساد العبادات لزوم قضائها، ويعنون بفساد العقود (نفي) أحكامها، والأمر مختلف في ذلك. الجواب عنه أنا نقول: إنهما سواء لأن الفساد في الموضعين، هو أنه لا تستوفي شرائط العقد والعبادة التي يحصل معها الغرض المقصود. وقد أجاب بعضهم بأن الإجماع حصل على التسوية في الحكم دون العلة، واختلاف العلة لا يمنع من حصول الإجماع على (فساد) الحكم. 493 - احتج بأن فساد العقود إنما يرجع إلى نفي أحكامها، وليس في النهي ما يدل على نفي الأحكام لأن أكثر ما فيه أنه قبيح مكروه وذلك لا ينافي حصول الملك كالبيع/ 49 أفي وقت النداء، وأخذ المشركين أموال المسلمين بالقهر والطلاق في الحيض وما أشبه ذلك.

الجواب عنه: أنا نقول: في النهي ما يدل على (انتفاء) الأحكام، لأن أحكام العقود تتعلق بالعقود الشرعية، فإذا وقعت العقود مخالفة للشرع منهي عنها لم تتعلق أحكامها بها ووقعت باطلة. والعبادات يتعلق بها الصحة والإجزاء، وهي أحكامها إذا وقعت العبادة موافقة للشرع، فأما إذا خالفت الشرع لم يتعلق بها أحكامها فلا فرق بينهما، فأما لابيع في وقت النداء فلا نسلمه، ونقول يقع باطلاً، وكذلك أخذ المشركين أموال المسلمين لا يحصل بها الملك عندنا، ومن سلم قال ذاك خرج بدليل كما خرج من العبادات الوضوء في الدار المغصوبة، والصلاة ملفف الشعر والثياب، ولم يلد على فساد العبادات، والله أعلم بالصواب.

انتهى الجزء الأول من كتاب "التمهيد" لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني الحنبليّ المتوفي سنة 510 هـ. ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله: "مسائل العموم".

مسائل العموم

مسائل العموم 494 - الكلام في العموم: حقيقة العام: (هو) كلام مستغرق لجميع ما يصلح له كقولنا: الرجال يستغرق كل رجل، لأنه يصلح له ولا يدخل فيه غيره لأنه غير صالح لهم. 495 - وهو على أربعة أضرب: أحدها: ألفاظ الجمع المعرف كالمسلمين والمشركين والرجال والنساء. الثاني: لفظ الجنس كقولنا: الناس والإبل والحيوان، وهذا ليس بجمع لأنه لا واحد له من جنسه، وإنما يشبه لفظ الجمع.

الثالث: الأسماء المبهمة (مثل "من") فيمن يعقل "وما" فيما لا يعقل إذا كان في الاستفهام أو في الشرط والجزاء، "وأي" في الجميع، "وأين" في المكان "ومتى" في الزمان. الرابع: الاسم المفرد إذا دخل (عليه الألف واللام) مثل الإنسان والقاتل والزاني والسارق والدينار والدرهم والبيع والصيد فهذه الألفاظ إذا وردت متجردة عن القرائن دلت بصيغتها على الاستغراق، قال الإمام أحمد في كتاب طاعة الرسول قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ظاهره يدل على أن من وقع عليه اسم سارق وإن قل، فقد وجب عليه القطع، وبهذا قال جماعة الفقهاء وأكثر المعتزلة. وقال الأشعري: ليس للعموم صيغة وهذه الألفاظ المقدم

ذكرها تصلح للعموم والخصوص ولا تحمل على أحدهما إلا بقرينة تدل على مراد المتكلم بها. وقال محمد بن شجاع الثلجي وغيره: إن هذه الألفاظ تقتضي "أقل" الجمع بظاهرها ولا تحمل على ما زاد على ذلك إلا بدليل. ومن الناس من قال: هذه الألفاظ تدل على العموم في الأمر والنهي دون الخبر. 496 - فالدليل على قولنا (ما روى) أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا

وَارِدُونَ} قال عبد الله بن الزبعري: لأخصمن محمداً. وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار"؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فحمل اللفظ على عمومه وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى بين الله تعالى أنه لم يرد باللفظ العموم، وإنما أراد من لم تسبق منه الحسنى فخصه بذلك. 497 - دليل ثان: قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}. فعقل من قوله: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} جميع أهله. فبين الله تعالى أن ابنه ليس من أهله الذين أمره بحملهم لأنه عمل غير صالح وإنما أمره بحمل من أطاع من أهله.

فإن قيل: إنما حمله على العموم لأن اللفظ يصلح لذلك. قلنا: كون اللفظ يصلح له لا يجوز حمله عليه عندك من غير دليل يعلم به مراد المتكلم. جواب آخر: أن نوحاً قد قطع (بأنه أمره) بحمل جميع أهله: وابن الزبعري قد قطع على أنه يخصم محمداً عليه السلام ولا يجوز القطع بما لا يصلح لذلك ويصلح لغيره فبطل قولهم. 498 - دليل ثالث: وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، روى (أن) عمر قال لأبي بكر رضي الله عنهما لما أراد قتال مانعي الزكاة: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن/ أقاتل 49 ب الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". فلم ينكر أبو بكر رضي الله عنه احتجاجه بل قال (له أليس) قد قال عليه السلام: "إلا بحقها وحسابهم على الله"، والزكاة من حقها.

"وعن فاطمة عليها السلام أنها جاءت إلى أبي بكر عليه السلام فطالبته ميراثها من أبيها واحتجت بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} فقال لها أبو بكر: سمعت أباك يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فلم يرد العموم وإنما ذكر التخصيص". وكذلك لما اختلف عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين قال عثمان: يباح ذلك، واحتج بعموم قوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال علي: يحرم ذلك واحتج بعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}.

وكذلك لما سمع عثمان قول لبيد: "وكل نعيم لا محالة زائل. قال (له) كذبت نعيم الجنة لا يزول". وكذلك احتج من كان (يبيح) شرب الخمر من الصحابة

بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. ولم ينكر عليه الصحابة ذلك وإنما بينوا له أن هذه الآية منسوخة. وغير ذلك من الأخبار. فإن قيل: إن هذه (الأخبار) أخبار آحاد، فلا يحتج بها في الأصول. قيل: إلا أن الأمة تلقتها بالقبول، وإن اختلف في العمل بها فصارت مقطوعة على صحتها. وأجاب شيخنا أن هذه الأخبار مستفيضة بين الصحابة معلومة، غير أنها نقلت إلينا نقل آحاد، فصارت كما نقل إلينا من شجاعة عنتر وسخاء حاتم.

499 - دليل رابع: من المعنى وهو عمدة: أن الاستغراق ظاهر لكل واحد واقع في الفهم (تمس) الحاجة إلى العبارة عنه ليعلم السامع أن المتكلم أراده فلا يجوز أن يكون أهل اللغة مع سعة لغتهم، ومضى الأعصار عليهم لم يضعوا لذلك لفظاً يدل عليه، وكيف يدعي عليهم ذلك وقد وضعوا للمعنى الواحد الأسماء الكثيرة مثل الخمر والأسد والسيف وغير ذلك، أفتراهم فعلوا ذلك وعدلوا عن وضع لفظ يختص بمعنى ظاهر تدعوهم الحاجة إلى العبارة عنه (في) مصالح الدين والدنيا؟ هذا عين المحال. فإن قيل: لا يمتنع (مثل ذلك منهم) إلا أنهم لم يضعوا لفعل الحال عبارة تختصه ولا وضعوا لرائحة الكافور لفظاً يختصها من رائحة المسك وكذلك لم يضعوا للاعتماد عُلوا وسفلاً ويمنة (ويساراً) عبارة تختص بذلك. قلنا: هذه (الأسماء) غير ظاهرة ولا تمس الحاجة إلى العبارة عنها فلهذا لم توضع لها عبارات. والمخالف يمنع ذلك ويقول الحاجة (إليها) داعية كالحاجة هنا.

والجواب: أن العرب (قد) وضعت لذلك عبارة تنبئ عنها، فيقال: فعل الحال، ورائحة الكافور، واعتمد سفلاً وعلواً ويمنة ويسرة، فوضعوا عبارة مركبة مضافة تدل على جميع ذلك، وعندكم أنهم لم يضعوا عبارة تدل على الاستغراق لا مفردة ولا مركبة وهذا لا يجوز. فإن قيل: فنحن نقول أيضاً قد وضعوا لفظاً مركباً يفيد الاستغراق، وهو لفظ الكل والاستغراق، فيقول: جاءني الناس كلهم، واستغرقت أكل (الخبز). قلنا: المعروف من قولكم أن التأكيد "بكل وباستغرقت" لا يدل (إلا) على ما دل عليه قوله جاءني القوم، وأكلت الخبز، ومتى قلتم هذا فقد سلمتم المسألة لأن التأكيد لا يدل إلا على ما دل عليه المؤكد ولا يفيد إلا ما أفاده عند جميع الناس، (فإذا)، كان التأكيد يقتضي العموم فقد سلمت أن في الألفاظ ما يقتضي العموم فزال الخلاف. فإن قيل: فلا حاجة بهم إلى لفظ يقتضي الاستغراق لأنه يمكن للمتكلم أني عدد الأشخاص الذين يريد أن يعمهم بالحكم.

(قلنا): لا يمكن ذلك لأن من أراد أن يعم جميع الناس لا يمكنه أن يعددهم واحداً واحداً، ولو أراد أن يعبر عن قبيلة واحدة لشق عليه أن يعدهم (أيضاً) واحداً واحداً. فإن قيل: فقد يكون بالمتكلم حاجة إلى لفظ يحتمل الكل والبعض ليجعل السامع في شك من ذلك ثم لم يضموا لذلك لفظاً. قلنا: قد/50 أأو قوم، وأكلت خبزا، فلا يعلم (هل) أراد الكل أو البعض، ويمكن أيضاً أن يقول: جاءني (إما) كل القوم أو بعضهم، وأكلت "إما كل" الخبز أو بعضه. فإن قيل: فقد وضعوا له لفظاً يدل على الاستغراق وهو لفظ الجمع. قلنا: الإشارة لا تدل على الاستغراق بحال فلم يغنهم ذلك عن اللفظ. جواب آخر: أن وضعهم للمعنى الواحد أٍماء كثيرة يدل على أنهم لا يرجعون إلى الإشارة.

فإن قيل: يمكنهم أن يدلوا على الاستغراق بالتعليل، فلا يحتاجون إلى عبارة عنه لأنهم إذا قالوا من دخل الدار ضربته لأنه دخل الدار، علمنا أنه يعم بذلك كل من دخل الدار. قلنا: إنه ليس كل (حكم) تعرف علته فيعلل بها، ألا ترى أن الإنسان إذا أراد أن يخبر أن (كل من) في الدار آكل أو شارب أو نائم أو قائم إلى غير ذلك مما لا يحصى لم يعرف لذلك علة تعم الجميع، ثم لو عرف لذلك علة فقد تكون عللهم مختلفة، فيكون أحدهم آكلاً أو شارباً لعلة وآخر لعلة أخرى، فلا يمكن تعليلهم بعلة تشيع فيهم. فإن قيل: إنما يلزم هذا لو كانت (أصل) المواضعة من جهتهم، فأما إذا كانت الأسماء توقيفاً لم يلزم ما ذكرتموه. قلنا: وإذا كانت توقيفاً إلا أنهم إذا لم يوقفوا على وضع كلام للمعنى، واشتدت حاجتهم إلى النطق بذلك المعنى فإنهم يضعون له أسماء، ألا ترى أن من استحدث آلة من الصناع لا يعلم لها اسماً فإنه يضع لها اسماً من قبله، وكذلك من ولد له ولد، فإذا كان ذلك في الشخص الواحد فالأمم الكثيرة في الأزمان المتصلة أولى بوجوب ذلك. 500 - دليل خامس: معلوم أن أهل اللغة يلجأون في

الإخبار عن الاستغراق إلى كل وجميع ولا يلجأون إلى لفظ الجمع نحو المسلمين، فإذا كان الجميع مشتركاً بين الكل والبعض لم يلجأوا إلى لفظ دون لفظ. فإن قيل: إنما (يلجأون بما) يقترن بكل وأجمعين من شاهد الحال لأنه يراد بذلك الاستغراق. قلنا: فهلا (قرنوا) بلفظ الجمع ذلك، لأنه عندهم بمنزلة كل وأجمعين في أنه يصلح للكل والبعض. 501 - دليل سادس: معلوم أن أهل اللغة إذا قرنوا بلفظ الجمع كل وأجمعين قصدوا بذلك إيضاح مرادهم (للاستغراق) وبيانه، فلو كان مشتركاً في ذلك الكل والبعض لكان قصدهم بالتأكيد (في قوله) رأيت بني تميم كلهم أجمعين تأكيد الإلباس والإيهام، ألا ترى أ، من قال: رأيت شفقاً ثم أكد ذلك فقال: إما الحمرة (أو) البياض أو قال: رأيت جميعاً إما كل القوم أو بعضهم، ثم كرر ذلك اللفظ لم يرد بهذا التأكيد إلا إلباساً فيما رآه، وهذا المعنى وهو أن كل من دل على شيء بدلالة ثم تابع بين الأدلة عليه فإنه يتأكد المدلول، وهذا يعلم بالضرورة كونه محالاً على أهل اللغة.

فإن قيل: إنما وقع التأكيد للعموم بكل وأجمعين لأنها في العادة تستعمل في أكثر الجنس دون أقله بخلاف الناس والقوم فإنها تستعمل في الأقل والأكثر بمنزلة واحدة. قلنا: هذا لا يمنع من كونها مشتركة بين البعض والكل، فيلتبس على السامع مراد المتكلم. جواب آخر: وهو أنها إذا كانت تختص بالأكثر خرجت من أن تكون مشتركة ووجب كونها حقيقة في الأكثر دون الأقل وإن لم تكن مختصة بالأكثر، بل احتمالها للأكثر والأقل سواء سقط السؤال. جواب آخر: أنه يلزمه لفظة كل من لفظة كل مع لفظة أجمعين، فإن كل تؤكد بأجمعين ثم لا تفيد (إلا ما أفاده لفظة كل، كذلك لفظة كل تؤكد بها لفظة الناس ولا تفيد) إلا ما (أفادت لفظة) الناس. فإن قيل: بل لفظة أجمعين (أكثر) استعمالاً من لفظة كل. قلنا: ما يظهر ذلك، بل هما سواء ألا ترى أ، من قال رأيت الذي في الدار كلهم، أو رأيت (الذين) في دار أجمعين، لم

يجد السامع فصلاً بين الكلامين في كثرة ما يفهمه وقلته، وكذلك لو قال ضربت من في الدار كلهم أجمع. وأجمع كلهم، (أو) أكلت الرمان كلها أجمع أو أجمع كلها لم يجد السامع بين القولين فيما (يفهم من الكثرة) فصلاً. جواب آخر: إن كانت لفظة أجمعين تستعمل في الاستغراق أكثر فلا يخلو إما أن تكون مشتركة بين الأكثر وما دونه أو تختص بالأكثر، فإن كانت تختص فهو قولنا، وإن كانت مشتركة بين الأقل والأكثر فهي ولفظة كل ولفظة الناس والقوم على حد سواء في الالتباس على السامع فسقط السؤال. 502 - دليل سابع: أن أهل اللغة فصلوا بين (لفظ) العموم ولفظ الخصوص، فقالوا مخرج هذا الكلام مخرج العموم، ومخرج هذا مخرج الخصوص، كما فصلوا بين لفظ الأمر ولفظ النهي ولفظ الخبر ولفظ الاستخبار، فلو كان لفظ العموم يتناول (لفظ) الخصوص لم يكن لهذا التفريق والتفصيل فائدة. 503 - دليل ثامن: أن أ÷ل اللغة خالفوا بين تأكيد العموم (وبين تأكيد) الخصوص، فقالوا في تأكيد العموم: رأيت القوم

أجمعين، ولم يقولوا رأيت القوم نفسه، وقالوا في الخصوص رأيت زيداً نفسه ولم يقولوا رأيته أجمعين، فلما فرقوا بين تأكيدهما (لا بالقصد)، وجب أن يفرقوا بينهما لا بالقصد، لأن حكم التأكيد حكم المؤكد، ولا يلزم على هذه الإشارة فإن الإشارة إلى جماعة خلاف الإشارة إلى الواحد، على أن الإشارة تورد للاستراحة إليها والاستعانة بها (لا للتأكيد) وهذا يلزم من قال: إن لفظ العموم لا يفيد إلا ما أفاده لفظ الخصوص، فأما من قال لفظ الخصوص يتناول الواحد، ولفظ العموم يتناول الجميع دون الواحد فقد قال بأنهما يختلفان باختلاف تأكيدهما فلا يلزمه. 504 - دليل تاسع: أن أهل اللغة وضعوا للواحد غير صيغة الاثنين وللتثنية غير صيغة الجمع، فقالوا: رجل ورجلان ورجال، كما قالوا: فرس وحمار وبعير، فلو كان احتمال لفظ الجمع كاحتمال لفظ التثنية ولفظ الواحد لما كان لتفريقهم معنى. 505 - دليل عاشر: لو قال قائل: رأيت الناس إلا زيداً (عمرا) لكان كلاماً صحيحاً، ولو لم يدخل تحت قوله: الناس كل الجنس لم يصح استثناؤه، لأن الاستثناء يخرج من اللفظ ما لولاه لدخل تحته، ولهذا لا يصح أن يستثني من الناس البهائم، لأنها لا تدخل تحت الجنس، وكذلك لو قال من دخل داري ضربته حسن أن يستثنى من شاء من العقلاء، فلو لم يكن قد دخل تحت لفظة

"من" كل عاقل (لما صح) الاستثناء لأنه لا يستثني من الشيء إلا ما دخل تحته. فإن قيل: إنما يصح الاستثناء لصلاح اللفظ لكل واحد من الناس ومن العقلاء. قلنا: هذا لا يصح لأن الاستثناء لا يخرج إلا ما دخل تحت اللفظ لأنه إخراج جزء من كل، كذا ذكر أهل اللغة، وما يصلح لذلك ما دخل تحته. جواب آخر: لو جاز ذلك لجاز أن يقول القائل لغيره: اضرب رجالاً إلا زيداً، ويجري في الصحة (والحسن) مجرى قوله: من دخل داري ضربته إلا زيداً، لأنه يصلح دخول كل رجل تحت قوله اضرب رجالاً، فلما (قالوا: إن قوله اضرب رجالاً إلا زيداً، إلا بمعنى ليس كأنه) قال: ليس زيد منهم، وقالوا في قوله: من دخل داري ضربته إلا زيداً استثناء حقيقي دل على أن الاستثناء لا يكون لما يصلح دخوله تحت اللفظ وإنما يكون لما دخل تحت اللفظ (لا به). ويدل على أن الاستثناء أن يخرج ما لولاه (لصلح دخول) تحت اللفظ، فإنه لو حسن ذلك لجاز لقائل أن يقول:

ضربت رجلاً إلا زيداً لأن كل رجل (يصلح) دخوله تحت قوله اضرب رجلاً، وكذلك يحسن أن يقول له: على عشرة إلا واحداً، ولا يحسن أن يقول له: عليّ عشرة إلا عشرة لأنها لا تدخل/51 أتحت اللفظ وإن صلح أن تكون داخلة. فإن قيل: لو كان الاستثناء لا يخرج إلا ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ لحسن أن يقول من دخل داري ضربته إلا الملائكة والجن لأنهم (لا) يدخلون تحت لفظة من. قيل: قد ذكر أنه يصح، فإذا قلنا لا يصح فإنما يخرج الاستثناء ما لولاه لتناوله الكلام، ولم يمنع مانع من دخوله تحته، والملائكة والجن يمنع مانع من دخولهم تحت اللفظ وهو علمنا أن المتكلم قبل الاستثناء لم يردهم ولا عناهم فلم يكن في الاستثناء فائدة. جواب آخر: أنه يلزمهم مثل هذا لأن الاستثناء لو أخرج من الكلام ما لولاه لصلح دخوله لوجب إذا استثنى الملائكة والجن أن يصح، لأن دخولهم في قوله من دخل داري ضربته يصح ويصلح أن يدخلوا فيه، فكل ما يلزمنا يلزمهم (مثله). 506 - دليل حادي عشر: لو قال قائل ضربت كل من (دخل) في الدار، فقاله آخر ما ضربت كل من في الدار،

لكان ذلك مناقضة ومنافاة لخبره، ولو كانت اللفظة مشتركة بين الكل والبعض لم يتناف الخبران ولا يتناقض لأن المثبت يثبت بقوله ضرب البعض والنافي ينفي بقوله ضرب البعض. 507 - دليل ثاني عشر: أن العلم محيط بأن لفظة كل مقابلة للفظة جزء على كل حال، وذلك يمنع من أن يكون قولنا "كل" مفيداً (للجزء) على الحقيقة. 508 - دليل ثالث عشر: أن قول القائل: اضرب رجلاً يفيد ضرب رجل غير معين وقوله: لا تضرب رجلاً كالسلب له، لأنه لا يجوز له ضرب أحد من الرجال، ولو أفاد قوله: اضرب رجلاً البعض، وقوله: لا تضرب رجلاً البعض لم يتنافيا ولم يكن أحدهما سلباً للآخر. 509 - دليل رابع عشر: لو كانت لفظة "من" مشتركة بين الكل والبعض لكان السيد إذا قال لعبده: من عندك وعنده جماعة من الناس أن للعبد أن يجيبه بذكر بعضهم، فلما حسن من العقلاء لومه ومن السيد تأديبه على ذكر البعض والسكوت عن ذكر البعض دل، على أن لفظة "من" تقتضي الكل. 510 - دليل خامس عشر: لو اقتضت لفظة "من" البعض لكان للعبد أن يقول لسيده إذا قال له من في الدار: (أن) يقول له: ما أدري (من) تريد (بكلامك لأن

كلامك) مشترك بني الكل والبعض ولكان له أن يقول: عن العرب تسألني أم عن العجم؟ فإذا قال (له) عن العرب، قال (له) عن مضر تسألني أم عن ربيعة؟ (فإذا) قال عن مضر قال عن بني (تميم) (تسألني) أم عن بني سعد، ثم يتصل الاستفهام من العبد أبداً، ومعلوم ضرورة أنه ليس للعبد ذلك، ومعلوم أنه متى أخلد إلى هذا استحق العقوبة. فإن قيل: إنما لا يحسن ذلك من العبد لأنه يضطر إلى قصد السيد (على) بعض الاستفهامات. قيل: كيف يضطر إلى قصده وجميع ما يأتيه به من الألفاظ مشترك، وهل هذا إلا بمثابة أن يسمع إنسان رجلاً يقول رأيت شفقاً (لا يكرره) في أنه لا يضطر إلى أن يعلم هل هو حمرة أو بياض؟ فإن قيل: يجوز أن يضطر إلى قصده لما يقترن بكلامه من الإشارات.

قلنا: لفظة "من" ليس يقترن بها إشارة ولو اقترن في حالة (لكان) يجب أن تحسن (هذه) الاستفهامات إذا لم تقترن بها إشارة، ولأنه ليس بواجب حصول العلم عند الإشارة في كل حال. فإن قيل: فقد يحسن إذا قال له من عندك؟ أن يقول أعن العرب تسألني أم عن العجم؟ قلنا: متى لم يعرف غرض السائل أن يسأله/51 ب عن إحدى القبلتين (لم) يحسن أن يستفهمه، ومن قال: إنه يحسن أن يستفهمه من غير أن يعرف غرضه في السؤال عن إحدى القبيلتين لزمه أن يقول: إنه يحسن أن يستفهمه أبداً على الحد الذي ذكرنا لأن الاستفهام في الجميع سواء. فإن قيل: إنما يجيبه بذكر (كل) من عنده لأنه بذلك يحصل له الغرض لأنه إن أراد الكل فقد وجد، وإن أراد البعض فقد دخل تحت جوابه عن الكل. قلنا: إذا كانت اللفظة محتملة للاشتراك فليس في جوابه بالكل بلوغ غرض السائل لأنه يحتمل أن يكون سأله عن البعض ولم يرد أن يسمع بذكر (الباقين ولا يفحص) عنهم ولا يعرفهم.

جواب آخر: أن ما ذكروه يقتضي (حسن) جوابه بالكل ولا يقتضي وجوبه، وإذا لم يجب حسن أن يستفهم (وإذا بالكل ولا يقتضي وجوبه، وإذا لم يجب حسن أن يستفهم (وإذا حسن أن يستفهم) أدى إلى ما ذكرناه. 511 - احتجوا بأن صيغة لفظ (العموم) لو اقتضت الاستغراق لم يخل (إما) أن يكون علم ذلك بالعقل أو بالنقل، ولا مدخل للعقل في إثبات اللغات، وأما النقل فلا يخلو أن يكون تواتراً أو آحاداً، فلو كان تواتراً لعلمناه ضرورة كما علمتموه، وإن كان آحاداً فلا يثبت هذا الأصل، لأن طريق ثبوت الأصول العلم، ولا يقع العلم بالآحاد، فبان أنه لا طريق إلى العلم بأن ألفاظ العموم تقتضي الاستغراق. الجواب: أنه لا يخلو أن هذه الدلالة يستدلون بها على أ، لفظ العموم ما وضع للاستغراق، أو يستدلون بها على أ، لفظة العموم وضعت للاستغراق ولما دونه. فإن أردتم الأول قلنا لكم نحن نعلم ضرورة بالنقل عنهم وعند سماع كلامهم، أن لفظة كل وجميع إذا استعملت في الاستغراق لم تكن مجازاً، ونعلم أيضاً باللفظ المتواتر أنهم أضافوا إلى هذه (اللفظة) أحكاماً لا تصح إضافتها إلا إذا كانت اللفظة للعموم نحو الاستثناء والاستفهام وغير ذلك فيبطل ما ادعوه.

وإن أرادوا الثاني وهو أن لفظ العموم وضع للاستغراق وما دونه فالحجة من ذلك عليهم (لا لهم) لأنهم سلموا أن لفظة العموم تقتضي الاستغراق حقيقة وادعوا أنها تقتضي ما دونه، ونحن ننفي ذلك وتقول لو كان موضوعاً لما دونه لم يخل إما أن يكون معلوماً بالعقل ولا مجال له في ذلك، أو بالنقل وهو ينقسم تواتراً وآحاداً، ولا تواتر في ذلك ولا آحاد أيضاً، ولو كان آحاداً لم يلزم قبوله في هذا الأصل. جواب آخر (أنا بينا) ذلك باستقراء كلامهم ومعرفة مقاصدهم وما قرنوه (به) من الألفاظ الدالة على الاستغراق. 512 - احتجوا بثان: وهو أن لفظ العموم يستعمل للاستغراق وما دونه على حد سواء لأنه يقال انطلق الناس، وذهب القوم، وجمع التجار، ويراد به البعض وتارة الكل، فكما وجب أن يكون حقيقة في الاستغراق يجب أن يكون حقيقة فيما دونه. والجواب: أنكم (إن) أردتم أنها تستعمل فيهما على حد الحقيقة من غير قرينة، أو لا تستعمل (فيهما) إلا مع قرينة لم يسلم لكم الموضعان ولم يمكنكم ذلك إلا أن (تنزلوا) على أنها وضعت للاشتراك.

جواب آخر أنه يلزمكم. أن يكون قولنا بحراً حقيقة في (السخى) وكذلك قولنا أسداً حقيقة في الشجاع "لأنها" تستعمل في ذلك. فإن قيل: ليس بمستعمل كاستعماله في اجتماع الماء وفي البهيمة. قلنا: وكذلك لفظ العموم ليس استعماله في البعض كاستعماله في الاستغراق، وكل فرق لهم في ذلك يمكن مثله في مسألتنا. فإن قيل: الظاهر في اللفظة إذا استعملت في الشيء أن تكون حقيقة فيه إلا أن يمنع من ذلك مانع، وقد استعملت/ لفظة العموم في البعض فدل على أنها حقيقة فيه. قلنا: الاستعمال لا يقتضي الحقيقة، لأنهم قد يستعملون الحقيقة والمجاز في الأسماء. فإن قيل: لو لم يكن الاستعمال طريقاً إلى كون الاسم حقيقة لم يعرف الفصل بين الاسم الحقيقة والمجاز. قلنا: هذا دعوى لأنا قد بينا وجوها تعرف بها الحقيقة من المجاز.

جواب آخر: لو ثبت أنه لا طريق لنا إلى الفصل بين الحقيقة والمجاز لم يصر ذلك دليلاً على الحقيقة لأن الشيء لا يكون دليلاً على الشيء لأن غيره يفسد أن يكون دليلاً عليه، ثم ينتقض أصل السؤال بأسماء المجاز كلها كالحمار والأسد والبحر فإنها تستعمل ولا تكون حقيقة. فإن قيل: ذلك عرفناه بقصد أهل اللغة أنهم لم يريدوا بذلك الحقيقة في اسم الرجل البليد والشجاع والسخي. قلنا: وكذلك نحن نعلم باضطرار (أن) قول القائل أكلت جميع الخبز، وقد أكل بعضه أنه مجاز وكذلك قوله: ضربت كل من في الدار وقد ضرب بعضهم. فإن قيل: كيف علمتم ذلك باضطرار ونحن نخالفكم فيه. قلنا: وكيف علمتم باضطرار أن اسم الحمار (إذا وقع) على البليد مجاز، والنافون للمجاز في اللغة يخالفونكم، ويمنعون أن يكون هذا الاسم مجازاً. وجواب آخر: أن قولنا أمر يستعمل في الشأن، والقول على وجه الاستعلاء، والفعل، وليس بحقيقة في جميع ذلك ولا يمكن القول بأنا نعلم باضطرار أنه مجاز في غير القول لأن جماعة يقولون: إن ذلك حقيقة في الجميع. 513 - احتجوا بثالث وهو أنه لو أفاد لفظ العموم

الاستغراق لم يحسن منه الاستفهام لأن الغرض بالاستفهام الفهم، وطلب فهم ما قد فهم (عبث) وقد ثبت أنه إذا قال ضربت كل من في الدار يحسن أن يستفهم فيقال له: ضربتهم جميعهم أو بعضهم؟ ويقال له: ضربت زيداً فيهم؟ فدل على أنه لم يفد الاستغراق. الجواب: أن الاستفهام قد يرد لإزالة الالتباس، لأنه قد يكون المتكلم غير "حافظ" أو يكون ساهياً فيزول بالاستفهام هذا الالتباس، ولهذا قد يستفهم الإنسان بتكرار العموم (ويجاب بتكراره) نحو أن يقول: ضربت كل من في الدار، فيقال: أضربتهم كلهم؟ فيقول: ضربتهم كلهم، ولو كان يطلب الفهم لأجابه بلفظ آخر، وكذلك يستفهم في الخصوص فيقول: جاءني زيد فيقال له: جاءك زيد؟ فيقول: نعم، وكذلك يقول: رأيت الخليفة. فيقال له: رأيت الخليفة؟ فيقول: نعم وما أشبه ذلك كثير. وقد يكون الاستفهام لزيادة الفهم، لأن الفهم قد يكون علماً، وقد يكون ظناً، فإن كان علماً فهو مكتسب فيطلب بالاستفهام أن يصير ضرورياً، والضروري أقوى من المكتسب، وإن كان (علمه ظنا) فيطلب "بالاستفهام أن" يتزايد

ظنه، في قصد المتكلم، ألا ترى أنه إذا قال القائل: ضربت كل من في الدار قد يكون فيها من يعظمه المتكلم - (كأخيه وعمه فيغلب على ظن السامع أنه لم يضربه وكلام المتكلم - (كأخيه وعمه فيغلب على ظن السامع أنه لم يضربه وكلام المتكلم) يدل على أنه قد ضربه فيستفهمه لتزول الشبهة ويقوى ظن السامع (على) ضربه. 514 - احتجوا برابع وهو (أن) الاستثناء يدخل على لفظ العموم، فلو اقتضى لفظه الاستغراق لكان ذلك نقضاً له ورجوعاً عنه: لأنا نستدل على أن المتكلم لم يرد به ظاهره بل تجوز بقوله. الجواب: أنكم إن أردتم أن يقتضي الاستغراق إذا تجرد عن قرينة، فهذا لم يتجرد عن قرينة وهي الاستثناء وإن أردتم أنه يقتضي الاستغراق/ 52 ب فإن لم يتجرد (عن قرينة) لم نسلم لأن عندنا أنه لا يقتضي الاستغراق إلا إذا تجرد عن القرائن (وهذا لم يتجرد). جواب آخر: أن لفظ العموم يستغرق ما دخل عليه فإذا كان معه استثناء كان شاملاً لما عدا الاستثناء لأنه لا يدخل على المستثني، وبيان ذلك (أنه) إذا قال: ضربت كل من في الدار

إلا زيداً فإن اللفظ يعم ما عدا زيداً وهو مثل قوله له (عليّ) عشرة إلا درهماً (فإنه) يستغرق قوله ما عدا الدرهم، ولو لم يستثن استغرق العشرة، ثم لا يعد ذلك نقضاً ولا رجوعاً (كذلك في مسألتنا مثله ولا فرق بينهما). فإن قيل: أليس لو قال: رأيت زيداً وبكراً وعمراً ثم استثنى واحداً منهم كان قبيحاً ويسمى مناقضاً. الجواب عنه أنا نقول: الاستثناء يخرج بعض الجملة وكل اسم مما ذكره وسماه جملة منفردة، فإذا (استثناه فقد) استثنى جميع الجملة، فصار كما لو قال: له عليّ عشرة إلا عشرة (لا يجوز) ويعد مناقضاً. جواب آخر: لو ثبت أن ظاهر العموم الاستغراق وأن الاستثناء قد صوره مجازاً لا يكون ذلك نقضاً، ألا ترى أن قولنا: "حمار" حقيقة في البهيمة، (ثم) إذا اقترن به قرينة دلت على أن المراد به الرجل البليد لم يكن ذلك تناقضاً. فإن قيل: لو لم يكن قول القائل: ضربت كل (من) في

الدار (إلا زيداً) (لا يسمى) نقضاً ونسخاً لكان قوله ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار (لا يسمى) نقضاً (ونسخاً) ولا يعد قبيحاً. قيل: هذا لكم ألزم لأن لفظة "كل" مشتركة عندكم بين الاستغراق (والبعض) حقيقة، والاستثناء فيها دال على أنه أراد إحدى الحقيقتين فيلزم أن يكون قوله: ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار حسناً لأنه استعمل كل لفظة (في) إحدى حقيقتيها وهي البعض. ثم الفرق عندنا بين الموضوعين أن الاستثناء يجب تعلقه بما تقدمه من الكلام (لأنه لا) يستقل بنفسه، فيصير المستثني والمستثني منه كالجملة الواحدة ويدل مجموع اللفظين على استغراق ما عدا المستثنى بخلاف قوله: ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار (لأن) كل واحدة من اللفظتين جملة مستقلة بنفسها لا يجب تعلقها بالأخرى، لأن المتكلم استوفى غرضه بكل لفظة منها، فإذا كانت إحدى الجملتين تنافي الأخرى كان بقوله الثاني قد نقض الأولى، يبين (صحة) هذا أنه

يحسن العموم (المشروط) بالصفة، ألا ترى أنه يقول: ضربت كل من في الدار فيعم فلو قال: ضربت كل من (في) الدار من الطوال، عم الطوال دون غيرهم، ولا يحسن أن يقول: ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار (فاتضح الفرق بينهما). 515 - احتجوا بخامس: أنه لو كان لفظ العموم مستغرقاً لما جاز تخصيصه بدلالة متصلة ولا منفصلة، كما لا يجوز تخصيص العلة بل العموم أولى بذلك لأنه دلالة قاطعة والعلة الشرعية أمارة. الجواب: أن التخصيص بالأدلة المتصلة مثل الشرط والاستثناء والتقييد بالصفة، قد بينا أن العموم يشمل ما عداها، وأما الأدلة المنفصلة فإنما جاز (أن تخص) العموم لأنه لا يخرج بذلك عما وضع له وإنما حمل على بعض ما يقتضيه فلم يصر مجازاً فيما بقي، ألا ترى أ، هـ لو قال: له عليّ عشرة دراهم (إلا درهماً) (لم يصر) مجازاً في التسعة وهذا مثله، ولأن كلام صاحب الشرع وإن تأخر بعضه عن بعض فهو كالمجموع يجب ترتيب بعضه على

بعض (فيصير ذلك) كالاستثناء سواء، والعلة المخصصة لا تصير بتخصيصها مجازاً أيضاً. 516 - احتجوا بسادس: أنه لو كان حقيقة العموم للاستغراق لما جاز استعماله في الجاز. والجواب: أنه يبطل بالألفاظ (التي ذكرنا) من الأسد والحمار وغير ذلك، هي حقيقة وتستعمل في الرجل مجازاً، ثم ينقض بالاستثناء في العدد فإنه إذا قال: له عليّ عشرة/ 53 أإلا درهما أو كر إلا قفيزاً هو استثناء ولا نجعله مجازاً. 517 - احتجوا بسابع: أن لفظ العموم لو كان حقيقة في الاستغراق (لوجب) إذا دل الدليل على أنه (إذا) أريد به البعض أن يصير مجازاً لأنه استعمل في غير ما وضع له. الجواب: أن (المجاز) ما تجوز به عما وضع له كالأسد حقيقة في البهيمة ثم يتجوز به في الرجل الشجاع، فأما لفظ العموم فما تجوز به وإنما شمل ما عدا المستثنى فهو حقيقة فيما دخل تحته

(كقوله: له على عشرة إلا درهماً وكقوله اضرب من في الدار الطوال لا يدخل تحته) القصار، ويكون حقيقة في الطوال وكذلك يكون حقيقة في الإقرار "بتسعة". 518 - احتجوا بثامن: أن لفظ العموم لو اقتضى الاستغراق لكان تأكيده عبثاً لأن التأكيد يفيد ما أفاده المؤكد. الجواب: لم إذا أفاد ما يفيده المؤكد يكون عبثاً، وما أنكرتم من حصول فوائد في التأكيد لا يحصل مع فقده، وهو أن يكون المتكلم حكيماً يستدل بخطابه على إرادته، فإنه إذا أكد زادنا دلالة على دلالة فنزداد (به) بياناً وإيضاحاً، ولهذا كثر الله سبحانه وتعالى الأدلة على مدلول واحد لحكمة لا نعلمها بعينها. وإن كان غير حكيم فربما يظن السامع أنه قد سها في ابتداء الكلام أو نسخ، فإذا أكده زال (ظن السامع لذلك) وربما كان بعض ألفاظ العموم أقل استعمالاً في الاستغراق من بعض فيؤكدها بما هو أكثر استعمالاً، وهذه فوائد معلومة. فإن قيل: لو حسن التأكيد لما ذكرتم من ترادف الأدلة لإزالة (الإلباس) وحصول العلم الضروري لحسن أن يقول الإنسان:

استندت إلى الحائط المبني من الآجر والطين لينفي أن يكون استند إلى رجل بليد لأنه قد (يتجوز أن يسمى الرجل باسم الحائط إذا كان بليداً). الجواب عنه: أنا نقول: التأكيد يحسن اتباعاً لفعل العرب وهم أكدوا "بما" ذكرنا وليس يجب أن يؤكدوا كل شيء لأنهم أكدوا ما ذكرنا، ألا ترى أنهم سموا الشيء الواحد بأسماء كثيرة، ولم يلزمهم أن (يسموا)، وليس يجب أن يؤكدوا كل شيء بأسماء كثيرة فبان ما ذكرنا. جواب آخر: أنه يلزمهم مثل هذا في الاشتراك فإن التأكيد لا يفيد إلا ما أفاده المؤكد (من الاشتراك فيجب أن تعدوه عبثا). (جواب آخر: وهو أنه يبطل ما ذكرتموه بتأكيد الخصوص فإنه يقال: جاءني زيد نفسه). وبتأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، وكقوله: "ألف تامة". 519 - احتجوا بتاسع: وهو أنهم قالوا: لو كانت لفظة

"من" عامة في الاستفهام لكان قول القائل من عندك سؤالاً عن كل العقلاء، فكانت تجري مجرى قوله: أكل الناس عندك؟ (وكل تقتضي) أن يكون جوابها لا أو نعم. الجواب: أن قوله: من عندك استفهام عن صفة من عنده، واسمه، وهو كقوله: أخبرني عن أسماء من عندك، وصفاتهم، وذلك لا يقتضي جوابه بلا أو نعم بل يجب أن يخبره بأسماء من عنده من العقلاء وصفاتهم. جواب آخر: يلزمهم مثل ذلك فيما يقولونه من الاشتراك لأنها إذا كانت للاشتراك (بين) الكل والبعض فيجب أن يكون جوابها بلا، أو نعم، لأنه إن علم من قصد السائل (أنه استفهم بها) عن الكل فجوابه لا، أو نعم، وإن علم من قصده أنه قال له: (البعض أي) أبعض الناس عندك؟ فجوابه لا، أو نعم. جواب آخر: أن لفظة "من" عامة في الاستفهام، لكنها في كلام السائل دون المسؤول، والسائل سأل باللفظة العامة (من) لأنه لا يعلم من عند المسؤول، فأما المسؤول (فإنه) يعلم من عنده فلم يجب أن يجيبه باللفظة العامة مِنْ لا، أو نعم، بل يجيبه بمن عنده من الكل، أو البعض.

520 - احتجوا بعاشر: وهو أن لفظ "من" لو أفاد الاستغراق لاستحال جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده المجموع وليس بعد الاستغراق/53 ب شيء يفيده الجمع. وقد قال الشاعر: أتوا نارى فقلت: منون أنتم؟ فقالوا: الجن قلت عموا ظلاماً. الجواب: أن منون وإن كانت لفظة لفظ الجمع فليست بجمع حقيقة، لأنه يستفاد منه ما يستفاد من قولهم من عندنا؟ ألا ترى أن قوله من أنتم؟ استفهام عن جماعة مثل قوله: منون أنتم؟ وعند (المخالف) ألفاظ العموم تفيد الاشتراك بين الكل، والبعض، فلفظة منون مشتركة بين الكل والبعض، كلفظة "من" (فلم) تفد أكثر مما أفادته لفظة "من" عندنا وعندكم. 521 - احتجوا بالأخير: أنه لو كان لفظ العموم موضوعاً للاستغراق لما جاز تخصيصه إذا كان من القرآن بالسنة والقياس، كما لا يجوز النسخ بهما. والجواب: أن النسخ إسقاط اللفظ والمعنى فلم يجز إلا بمثله، والتخصيص بيان حكم اللفظ فجاز بما هو دونه، (وسيأتي الكلام عليه والفرق بين النسخ والتخصيص في مسائل النسخ).

522 - فصل: والدليل على أن من حمل لفظ العموم على أقل الجمع ما تقدم، ولأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم حملوا عموم القرآن والسنة على أقل الجمع ووقفوا في الباقي، بل حملوه على عمومه. فدل على أنه موضوع لذلك، ولأنه لو قال: رأيت الناس (كلهم) إلا زيداً، وعمراً، وبكراً، ومن دخل داري ضربته إلا ثلاثة: فلان، وفلان، (وفلان) لصح، ولو حمل (لفظ العموم) على أقل الجمع لما صح استثناء أقل الجمع لأن استثناء (الجميع) لا يجوز بالاتفاق ولأن الثلاثة لفظ (الجمع) خص (بها) من لفظ العموم، فيجب أن يكون لفظ العموم في الاستغراق أخص منها. 523 - احتج بأن قال: الثلاثة أقل الجمع فوجب حمل اللفظ عليه لأنه (هو) اليقين، وما زاد على ذلك مشكوك فيه. (فلا يحمل اللفظ عليه إلا بدليل). (الجواب عنه أنا نقول: قولكم ما زاد على الثلاثة، مشكوك فيه) لا نسلمه، فيجب أن تدلوا عليه، ثم الذي اقتضى الحمل

على الثلاثة، يقتضي الحمل على ما زاد (على الثلاثة) لأن لفظ العموم موضوع للثلاثة ولما زاد وضعاً واحداً فلم اختص بالثلاث دون الزيادة؟ ولأنه إن جاز حمله على الثلاثة لأجل اليقين فيجب حمله على الاثنين والواحد لأن (لفظ الجمع) يقع على ذلك، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهو سبحانه وحده المنزل. وقال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} في داود وسليمان وهما اثنان، وكتب عمر رضي الله عنه إلى سعد رضي الله عنه وقال: جهزت إليك ألف يرجل، وإنما أنفذ إليه القعقاع بن عمرو التميمي، مع ألف (رجل) وقيل عمرو

ابن معد يكرب فسمى الواحد ألفاً، ومعلوم أنه إذا ذكر لفظة الألف لا تحمل على الواحد لأجل اليقين. 524 - واحتج بأن قال: لو كان لفظ (الجمع) يقتضي العموم لوجب إذا قال لفلان عليّ دراهم أنه لا يقبل منه ثلاثة. الجواب: أن قوله: له عليّ (ثلاثة) إثبات في نكرة فلا تقتضي العموم ولو قال: لفلان عليّ دراهم قبل تفسيره بثلاثة لأنه يقترن به ما يمنعه من حمله على الجنس، وهو أنا نعلم من طريق العرف والعادة أنه لا يجوز أن يكون أراد بقوله الدراهم جنس الدراهم أو لا يجوز أن يكون قد استقرض منه كل درهم ولا أتلف عليه ما يساوي كل درهم، فلم يحمل على الجنس لذلك، وليس إذا لم يحمل اللفظ على العموم لدليل يجب أن لا يحمل إذا خلا عن دليل يبين أنه أريد به البعض. 525 - احتج بأن قال: الغالب في ألفاظ العموم أن المراد

بها البعض ولهذا قال: غلق الناس، وفتح التجار، وضربت الدراهم، أريد به البعض، وأخص البعض، ما يتيقن، وهو الثلاثة، فوجب الحمل عليه. الجواب: أنا لا نسلم لأنه إذا قال: رأيت جمعيهم، وضربت كلهم أريد به الجميع، ثم قد يستعمل الشيء غالباً في المجاز، ألا ترى أن الغائط يستعمل في النحو غالباً وهو حقيقة اسم للموضع المطمئن من الأرض، وكذلك الراوية تستعمل غالباً في المزادة، وهو حقيقة اسم الجمل الذي يحمل عليه الماء، ثم وإن كان الغالب الاستعمال في البعض إلا أن الغالب أنه لا يراد به الثلاثة بدليل ما استشهدوا به. 526 - فصل: والدليل (على) من قال: (إن) لفظ العموم يستغرق في الأمر والنهي ولا يستغرق في الخبر أنه لا يخلو أن (يكون) ذلك من جهة اللغة أو من جهة أخرى. فإن كان من (جهة) اللغة فقد بينا أن لفظ العموم وضع للاستغراق فلم يختلف باختلاف الجملة التي يدخل عليها إذ لا طريق إلى/54 أالفرق بينهما من جهة اللغة. وإن كان من جهة أخرى فعليه بيان ذلك. فإن قيل: إنما فرقنا بينهما لأنه لو لم يقتض الاستغراق في الأمر

والنهي لم يكن المكلف مزاح العلة، وليس كذلك الوعيد لأن الغرض به الزجر عن القبيح، وذلك يحصل بالخوف، والخوف (يحصل) بغالب الظن. والجواب: أن لفظ العموم إن لم يقتض الاستغراق لم يجب حمله على الاستغراق لا في الأمر ولا في الوعيد، ويجب إذا أراد الحكيم أن يزيح علة المكلف أن لا يدل على الاستغراق بلفظ العموم، بل يجب أن يدله بدليل آخر. وإن كان يقتضي الاستغراق وجب استغراقه في الخبر كما يجب في الأمر، لأن الخبر خطاب لنا والقصد به إفهامنا، ولا يجوز قصد إفهامنا بلفظ (له) ظاهر إلا وقد أراد ظاهره، وإلا كان قصد إفهامنا الشيء بخطاب لا يدل عليه. فإن قيل: الخبر لا يدخله نسخ ولا تخصيص فلم يستغرق في العموم بخلاف الأمر. قلنا: لم كان كذلك؟ ثم هذا يؤكد أن الأمر إذا دخله الاستغراق مع كونه ينسخ ويخصص فألا يدخله (النسخ) والتخصيص أولى بالاستغراق، ولأنه متحقق (فيه) لا يزول عنه.

مسألة: الألف واللام إذا دخلا على لفظ الجمع أفاد الاستغراق

فإن قيل: فالأمر لا يجوز بمجهول والبعض مجهول فحمل على العموم بخلاف الخبر فإنه يقع عن المجهول، قال الله تبارك وتعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} فجاز أن يستغرق لفظ العموم فيه. قلنا: ولم كان كذلك على أن الأمر قد يرد بمجهول قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} ولم يبين ذلك. والله أعلم بالصواب. 527 - مسألة: الألف واللام إذا دخلا على لفظ الجمع أفاد الاستغراق وإليه ذهب جماعة (من) الفقهاء وأبو علي الجبائي، وقال ابنه أبو هاشم: لا يفيد الاستغراق. 528 - (الدليل على ما ذهبنا إليه أن ما ورد في القرآن يفيد الاستغراق كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}. سؤال وهو أنهم قالوا: إنما حملناه على الاستغراق لتعليله بالبر والفجور.

قلنا: العرب لا تعرف التعليل، وإنما قالوا: (يقتضي جميعهم بمقتضى اللفظ وأنه للتعريف والتعريف للجنس يستغرق). وأيضاً فإنهم أكدوا بكلهم وجميعهم، ولو كان قولهم: "الناس" لا يفيد الاستغراق، بل يعبر به عن البعض والكل حقيقة فيهما لكان قوله: "كلهم" و"جميعهم" بياناً لأحد المحتملين لا تأكيداً، وقد أجمعوا على أنه ليس ببيان بل (هو) تأكيد. فإن قيل: من أين معكم أن الجميع اتفقوا على ذلك؟ قلنا: لأنه لو وصفه بعضهم بأنه بيان ومنع من وصفه بأنه تأكيد لنقل ذلك وعرف. فإن قيل: إنما كان تأكيداً لأن بقوله: "كلهم" علمنا أن قوله "الناس" أراد به الاستغراق، وأكدوا بكل وجميع. قلنا: فإذا العلم حصل بلفظة "كلهم" فصار بياناً لا تأكيداً، ألا ترى أنهم إذا قالوا: الشفق ثم (قالوا): الأحمر، جعلوا الأحمر وصفاً وبياناً، لا تأكيداً، لأن لفظة "الشفق" مشترك بين البياض والحمرة، وكذلك القرء، إذا قال: هو الحيض، كان ذلك بياناً لا تأكيداً، فلما علمنا أن قولهم: رأيت الناس كلهم أن كلهم تأكيد بإجماعهم دل على أن الناس يستغرق كل إنسان. 529 - دليل ثان: أنه تعين أن تستثني من قولك: رأيت

الناس، أي إنسان أشرت إليه، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه على ما بينا فيما قبل، فدل على أن قوله: رأيت الناس، يستغرق كل إنسان. 530 - دليل ثالث: أن قول القائل: رأيت ناساً، يقتضي رؤيته بعض الجنس، دون استغراقه، فلابد أن يفيد دخول الألف واللام فائدة لا (يفيدها عدمه)، ولا فائدة لدخولهما إلا حصول الاستغراق. 531 - أن لام التعريف إذا كان للعهد عمّ، فكذلك إذا كان للجنس، بيانه أنه إذا كان مع إنسان في ذكر رجال ثم قال: جاءني الرجال، عقل منه جميع من (جرى) ذكره، إذ ليس بعضهم (بأن ينصرف الاسم إليه أولى من بعض، وكذلك لام التعريف إذا كان للجنس يفيد استغراق الجنس إذ ليس بعضهم) بانصراف الاسم إليه أولى من (الباقين). 532 - احتجوا بأن الألف واللام لو أفادا الاستغراق. لكان حمله على العهد يكون مجازاً (لأنه قد أريد به بعض الجنس) وهذا لا يقوله أحد.

الجواب: أنه إذا تقدم العهد كان التعريف عائداً إليه، لأنه أعرف من الجنس عند السامع، فإذا لم يتقدم العهد انصرف التعريف إلى الجنس جميعه لأن ليس بعضه بذلك أولى من بعض ثم في الحالين لا يكون ذلك مجازاً ويجري ذلك مجرى قوله: من عندك؟ في أنه استفهام عن (كل) عاقل عنده، وإن كانوا قلة فهو استفهام عنهم، وإن كانوا كثرة فهو استفهام عنهم ولا يكون مجازاً في القلة. وإن قيل: لو حمل الاسم المعرف على العهد بقرينة هي تقدم العهد "لجعل" الاسم مجازاً لأنه اسم مخصوص. يجاب ذلك على قول من جعل العموم المخصص مجازاً. 533 - واحتجوا بأن قولنا: رجال يقتضي جمعاً من الرجال، غير مستغرق، واللام أفادت التعريف، فمن /54 ب أين جاء الاستغراق؟ الجواب: أن إفادتها للتعريف يقتضي الاستغراق لأنها متى حملت على البعض نقض ذلك التعريف، لأن البعض الذي ليس (بمعين) مجهول ولأن قولنا: رجال يقتضي جمعاً فإذا دخل الألف واللام أفاد ذلك الجمع فكان دخولها كخروجها وهذا باطل.

534 - احتجوا بأن الإنسان لو قال: جمع الأمير الصاغة لم يعقل منه استغراق صاغة الدنيا وإنما يعقل أنه جمع من هذا الجنس. الجواب: أن المعقول منه (أنه جمع) صاغة بلده لعلمنا بتعذر جمع صاغة الدنيا. جواب آخر: أنه يلزمهم أن يجوزوا جمع صاغة الدنيا لأن الاسم يحتمله، وجوابهم عن ذلك جوابنا عن الاستغراق. 535 - احتجوا بأنه لو كان قولنا فلان يلبس الثياب يفيد الاستغراق لكان معناه: فلان يلبس كل الثياب، وكان يجب أن يكون قولنا (فلان) لا يلبس الثياب (يفيد) ما أفاده قولنا: فلان لا يلبس كل الثياب. (الجواب عنه أنا نقول: هناك قرينة تدل على أنه لا يريد كل ثياب الدنيا لأنه لا يقدر على ذلك ولا يتصور فإن الخلق كلهم عليهم ثياب وهي من ثياب الدنيا، فلا يتأتى منه لبس ثيابهم، فحمل على البعض، ولهذا لو قال: ألبس الثياب كلها أو جميعها لم يحمل إلا على ذلك وهو البعض بخلاف قولنا: الناس كلهم وجميعهم والله أعلم).

536 - فصل: فإن لم يدخل على أسماء الجمع الألف واللام "فقال" قائلون يحمل على أقل الجمع وبه قال ابن الجبائي، ولنا وجه (آخر) أنه يحمل على الاستغراق وبه قال أبو علي الجبائي وعن الشافعية كالمذهبين. 537 - فالدليل على أنه لا يفيد الاستغراق أن قولنا: رجال يفيد ثلاثة بدليل أنك ترتقي من التثنية إليه فتقول: رجلان، وثلاثة رجال، ولأنك تنعته بأي جمع شئت فتقول: رجال ثلاثة، وأربعة (رجال)، فإذا معنى الجمع قائم في الثلاثة فما زاد، فمن قيل له: اضرب رجالاً: فضرب ثلاثة رجال، كان قد فعل ما يوصف بأنه ضرب رجالاً فسقط عنه الأمر، كمن قيل له: ادخل الدار: ففعل ما يسمى دخولاً.

ولأن أهل اللغة يسمون ذلك نكرة، ولو كان مقتضاه الجنس كله لم يسم نكرة، ولأن الجنس كله معروف، ألا ترى أنه إذا دخل الألف واللام لم يسم نكرة، لأنه يستغرق الجنس كله، ولأنه يصح تأكيده بلفظة "ما" الدالة على القلة والبعض، فيقول: اقتل رجالاً ما، ولو اقتضى العموم لم يحسن تأكيده "بما" لأنه لا يقال: اقتل الرجال ما، ولأنه نكرة في إثبات فلم يقتضي العموم كالاسم المفرد مثل سارق وقاتل. 538 - احتجوا بأن حمل اللفظة على الاستغراق حمل لها على جميع حقائقها فكان أولى من حملها على البعض. الجواب: أنا لا نسلم أن حقيقتها الاستغراق. فإن قيل: نريد بذلك أنها حقيقة في الجمع، والجمع يقع على الثلاثة وما زاد. قلنا: إلا أن حقيقة الجمع توجد في الثلاثة، فلا تكون حقيقة في الاستغراق لأن الحقيقة واحدة ولأن الامتثال يقع بالثلاث وما زاد مشكوك فيه، ثم لم زعمت أنه يحمل على كل ما وجدت فيه حقيقة الجمع، وما أنكرت أن يحمل على أقل الجمع لأنه متحقق. 539 - احتجوا بأنه لو حمل على البعض لكان مجهولاً لأنه لا يتميز البعض الذي يحمله عليه. الجواب: أن حمله على الثلاثة (أمر) متميز وإن كانت الثلاثة غير متعينة.

540 - احتجوا بأنه لو أراد البعض لبينه. (الجواب: أنا نقول: ولو أراد الكل لبينه أيضاً). جواب آخر: أنه يحتاج إلى البيان لو لم يدل عليه مطلق اللفظ، فبين أن مطلق اللفظ (لا) يدل عليه وقد تمت لك المسألة. 541 - احتجوا بأنه يصح استثناء كل واحد من الجنس من هذا اللفظ فدل على أنه يقتضي الاستغراق. والجواب: أنا لا نسلم ذلك في الإستثناء من أسماء الجموع (المجردة) عن الألف واللام لا يصح فإذا قال: "كلم" رجالاً إلا رجلاً لم يصح، فإن قال: كلم رجالاً إلا زيداً فمعناه كلم رجالاً ليس زيد منهم. 542 - احتجوا بأنه لو قال: اضرب رجالاً، فضرب عشرة، لا يلام، فدل على أن (أقل) الجمع لا يقتصر عليه. الجواب: أنه بضرب ثلاثة يسقط عنه حكم الأمر، فإن زاد كان ذلك جائزاً بحكم معنى الجمع في الزيادة، لا أنه يجب عليه، كمن قيل له: ادخل الدار، يكفيه دخول أولها (في الأمر)، فإن أمعن فيها لم يلم، لقيام معنى الدخول في ذلك، والله أعلم بالصواب.

مسألة: إذا دخل الألف واللام على الاسم المفرد كقوله: السارق، والزاني، والقاتل، فإنه يقتضي الاستغراق

543 - مسألة: إذا دخل الألف واللام على الاسم المفرد كقوله: السارق، والزاني، والقاتل، فإنه يقتضي الاستغراق وبه قال أبو علي الجبائي والجرجاني. وقال أبو هاشم بن الجبائي: لا يقتضي الاستغراق وإنما يكون للعهد. وعن الشافعية كالمذهبين. 544 - لنا أنه لو لم (يفد الاستغراق) قولنا الإنسان لأفاد واحداً غير معين وفي ذلك إخراجه من كونه معرفاً وقد أجمع أهل (اللغة) أن الألف واللام يفيدان التعريف. فإن قيل: (إنما) يفيدان تعريف الجنس لا تعريف الآحاد.

قلنا: هذا كان مستفاداً من الاسم قبل دخول الألف واللام عليه/ 55 ألأنك لو قلت رأيت إنساناً، لأفاد أنك رأيت واحداً من هذا الجنس، كما لو قلت: رأيت الإنسان. فإن قيل: قول القائل رأيت الإنسان لا يطلق إلا على إنسان يعرفه المتكلم والسامع، وقد تقدم ذكره لهما فيفيد ذلك الشخص بعينه. قلنا: لو صح هذا لما قال تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وليس بيننا وبينه في ذلك عهد متقدم يرجع اللفظ إليه، فدل على أن ابتداء الخطاب (به) لا يقتضي (المعهود إنما يقتضي) الجنس على ما بيننا. 545 - دليل ثان: أنه لو لم يقتض الاستغراق لما حسن الاستثناء منه بلفظ الجمع وقد قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وهذا يدل على أنه للجنس والاستغراق. فإن قيل: (هذا) استثناء من غير الجنس.

قلنا: الأصل في الاستثناء الحقيقة، وأنه إخراج ما لولاه لدخل في اللفظ، فمن ادعى (أنه) غير ذلك (احتاج) إلى دليل. 546 - دليل ثالث: أن اللف واللام إذا دخلا على لفظ الجمع من غير عهد أفادا الاستغراق فكذلك إذا دخلا على الاسم المفرد من غير عهد. فإن منعوا ذلك على قول أبي هاشم فقد تقدم الدليل عليه. 547 - دليل رابع: أن أهل اللسان أجمعوا على أن المراد بقولهم أهلك الناس الدرهم والدينار الجنس، وكذلك قولهم: هلك الشاة والبعير يراد به الجنس فدل على ما قلناه. 548 - احتج بأن قال: الألف واللام لا تدخل إلا (للعهد) قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.وأراد بالعسر المعروف المعهود، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: "لن يغلب عسر يسرين" (ويقول

دخلت) السوق فلقيت رجلاً ثم عدت (إليه) فلقيت الرجل ويريد به الذي لقيه أولا، لأنه تقدم ذكره فرجع التعريف إليه. الجواب: أنا قد بينا أنه لا يدخل إلا الجنس بدليل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}، وقوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} "وقوله": {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}. فأما ما ذكروه فإنما حمل على العهد لأنه تقدم ذكره فرجع التعريف إليه، وليس كذلك ههنا، فإنه لم يتقدم ذكره فلم يرجع التعريف (إليه ورجع) إلى الجنس. 549 - احتج بأن قال: الألف واللام لا يفيدان أكثر من تعريف النكرة، فإذا كانت النكرة من الاسم لا تقتضي إلا واحداً من الجنس، فإذا دخلا عليه وجب أن لا تقتضي إلا واحداً من الجنس. الجواب: أن الألف واللام تفيدان تعريف النكرة إذا تقدمهما نكرة، فأما إذا لم يتقدمهما (نكرة)، اقتضيا تعريف

الجنس، وفي مسألتنا لم يتقدمهما نكرة فكانا للجنس ثم يبطل ما ذكروه بالألف واللام إذا دخلا على اسم الجمع فإنهما يفيدان الاستغراق، ونكرة الجمع لا تفيد الاستغراق على ما بينا، فلو كان الألف واللام لا يفيدان أكثر من تعريف النكرة لم يفيدا إذا دخلا على الجمع الاستغراق. 550 - احتج بأن قال: الألف واللام لو استغرقا الجنس إذا دخلا على الاسم المفرد لجاز تأكيد ذلك بكل وجميع، كلفظة "من" لما أفادت الاستغراق حسن تأكيدها بكل وجميع، فتقول: من دخل داري فله درهم، وجميع من رأيته ضربته، (فلما) لم يحسن أن يقول ههنا: جاءني الرجل أجمعون، ورأيت الإنسان كلهم دل على أنهما لا يفيدان الاستغراق، وهذه حجة معتمدة في هذا الفصل. الجواب أن لفظ التأكيد هو بحسب لفظ المؤكد، ولفظ المؤكد موحد فلا يكون تأكيده بلفظ الجمع والكل، وإنما حملناه على الاستغراق بالمعنى لأنه إذا قال: إقطع السارق وحد الزاني فقد عرفه وليس هناك سارق معروف، ولا (زان) معهود، فحملنا التعريف على جميع الجنس حتى لا يقع لغواً دخوله كخروجه، ولأن ليس به ف يالجنس أولى بذلك من بعض فاستوى (الجميع) في الحكم، ولأنه (قد) حكى عن العرب،

مسألة: أقل الجمع

أنها تقول: أهلك الناس (الدرهم البيض والدينار) الصفر فنعتوا الواحد بالجمع، فيحسن ههنا أن تقول: اقطع السارق (كلهم) وحد/55 ب الزاني (جميعهم) والله أعلم بالصواب. 551 - مسألة: أقل الجمع نحو قولنا: رجال ومسلمون يفيد ثلاثة نص عليه في رواية صالح وحنبل، وبه قال أصحاب أبي حنيفة. وحكى عن أصحاب مالك وابن داود ونفطويه وابن الباقلاني وعلى بن عيسى أن أقله اثنان.

وعن الشافعية كالمذهبين. 552 - لنا ما احتج به ابن عباس على عثمان رضي الله عنهما في أن الأخوين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس فقال: (قد) قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ليس الأخوان إخوة في لسانك ولا لسان قومك، فقال عثمان: "لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأعصار"، فاتفقا على أن الاثنين لا يسميان إخوة وذكراه عن لسان قومهما، وإنما رده عثمان بالإجماع. فإن قيل: فقد خالف زيد بن ثابت وقال: الأخوان إخوة، وروى عنه أن أقل الجمع اثنان. قلنا: لم يثبت هذا عنه، فإن صح فالمراد به أنهما إخوة في حجب الأم، أو أنهما في حكم الجمع في الحجب.

553 - دليل ثان: وهو معتمد، أن قولنا: رجال وجماعة لا تنعت بالاثنين في لغة أحد، وإنما تنعت بالثلاثة، فتقول: رأيت رجالاً ثلاثة، وجاءني جماعة رجال، ولا تقول: رأيت رجالاً اثنين، وجماعة (رجلين)، فدل على أن لفظ الجمع لا يتناولهما. 554 - دليل ثالث: تقول العرب: رجل ورجلان (ورجال) فلو كان الرجال يقع على الاثنين حقيقة لم يفترق لفظ التثنية والجمع. فإن قيل: لا يمتنع أن يقع على الرجلين اسم التثنية والجمع كالأسد له اسم يخصه ويقع عليه اسم السبع. قلنا: الأسد والسبع لم يوصفا للتمييز بين شيئين وإنما أحدهما اسم للجنس (وهو السبع، والآخر اسم للنوع من ذلك الجنس)، بخلاف لفظة التثنية والجمع، لأنهما وضعا لنوعين مختلفين من العدد على وجه التمييز بينهما، فاختص كل واحد منهما بحقيقة لا يشاركه الآخر فيها كالأسد والحمار. جواب آخر: لو كان لفظ الجمع حقيقة في الاثنين لما صح نفيه، لأن الحقائق لا يصح نفيها، ولما حسن أن يقال: ما رأيت رجالاً، وإنما رأيت رجلين وما رأيت جماعة وإنما رأيت اثنين. دل على أنه ليس بحقيقة في الاثنين.

555 - احتج الخصم بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. الجواب عنه: أن المراد (بذلك) أن كل واحد من المؤمنين أخ لصاحبه، فأصلحوا بين كل أخ قاتل أخاه، ويحتمل أن (يراد) بالأخوين الطائفتين والقبيلتين، قال الشاعر: فالحق بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندف أخوان فسمى القبيلتين أخوين. 556 - واحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فأضاف القتال إليهم بلفظ الجمع. الجواب: أن الطائفة عبارة عن الجماعة بدليل قوله تعالى: {وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}. 557 - واحتج بقوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ولم يقل معكما. الجواب: أن أرادهما ومن (تبعهما) من المؤمنين.

558 - واحتج بقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. الجواب: أن الخصم يقع على الجماعة، يقال رجل خصم، وجماعة خصم، كما قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} وكانوا جماعة من الملائكة ولهذا قال تعالى: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ولم يقل بغى أحدنا على الآخر. 559 - احتج بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}. الجواب: أنه أراد بحكمهم داود وسليمان والخصوم (ويحتمل أنه أراد بحكمهم حكم أمة داود، كما يقال: هذا حكم المسلمين، ويعين المشروع لهم)، (أو) يحتمل أنه أراد (به) حكم الأنبياء، وقيل: المراد به ذكرهم على وجه التفخيم كما (قال "وكنا" وهو سبحانه وحده) لا شريك له.

560 - احتج بقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} وإنما كان يوسف وأخوه. الجواب: أن يوسف وأخاه الذي وجدت السقاية في رحله (والآخر) الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَاذَنَ لِي أَبِي}، ويحتمل أن يكون يوسف وأخاه وذريته، ويحتمل أن يكون مجازاً كقوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ}. 561 - واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وإنما لهما قلبان. الجواب: هذا غير ما نحن فيه لأن (كل) ما في (البدن) منه واحد، فتثنيته عند الفصحاء من العرب جمع، تقول: ضربت رؤوسهما، وشققت بطونهما، ومد الله في أعماركما، فأما غير ذلك مما في البدن منه اثنان، أو مما ليس ببعض للآخر فلا يكون تثنيته بلفظ الجمع، نقول: فقأ عينيهما (ولا نقول فقأ عيونهما)، وتقول خربت دارهما، ومات فرساهما.

562 - واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإثنان فما فوقهما جماعة". الجواب: أن (المراد) حكمهما حكم الجماعة في انعقاد "صلاة" الجماعة بهما بدليل ما ذكرنا، وبدليل أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يحمل على تعليم الحكم، لا على تعليم 56 أ/ اللغة التي يشاركه فيها بقية العرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الأحكام دون اللغات. 563 - احتج بعده وهو أنه قال: اشتقاق الجمع من جمع الشيء إلى الشيء وضمهما وهو موجود في الاثنين. الجواب: أنا لا نسلم ذلك، بل ضم الشيء إلى الشيء يسمى إضافة، فإذا أضاف شيئاً آخر يسمى ذلك جمعاً. جواب آخر: أن قولنا في الرجال إنه جمع ليس يريد (به) أنه من جمع الشيء إلى الشيء، فيلزم أن يقول ذلك في الاثنين، وإنما نريد بذلك أنه موضوع لجمع الثلاثة فصاعداً، ولا يلزم دخول الاثنين فيه. جواب ثالث: أن الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق، لأنهم يسمون الدابة لأنها تدب، ولا يسمون الرجل

دابة، ويسمون القارورة لأن الشيء يقر فيها ولا يسمون (كل) ما يقر فيه الشيء قارورة، ويسمون الخابية لأنها يخبأ فيها ولا يسمون الصندوق خابية لأنه يخبأ فيه. 564 - احتج بأن الاثنين يعبران عن نفسيهما بالجمع فيقولان: فعلنا كذا وأكلنا كذا. والجواب: أنهم فصلوا بين الاثنين والثلاثة في الخطاب، فقالوا واحد واثنان وثلاثة وفرقوا بين الاثنين، والجمع في فعل الغائب وفعل المواجهة، فقالوا في الاثنين ضرباً، وفي الثلاثة ضربوا، وكذلك للحاضرين ضربتما وضربتم للثلاثة، ولأنه لا يمتنع أن يكون لفظهما في الإخبار عن نفسيهما واحداً، ويختلف لفظهما في الجمع كالمذكر والمؤنث يخبران عن نفسيهما سواء، تقول المرأتان: فعلنا كالرجلين سواء، ثم جمع المذكر (يخالف) جمع المؤنث كذلك ها هنا، ثم يبطل هذا بالواحد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع ثم لا يقال: أقل الجمع واحد، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ويقول العالم: قالوا كذا، (ولنا جوابه كذا) وهو قاله وحده. والله أعلم. 565 - مسألة: إذا ورد لفظ عموم لم يجب على السامع

مسألة: إذا ورد لفظ عموم لم يجب على السامع اعتقاد عمومه والعمل به قبل أن يبحث فلا يجد ما يخصه

اعتقاد عمومه والعمل به قبل أن يبحث فلا يجد ما يخصه، وقد أومأ إليه في رواية صالح وأبي الحارث. وقال شيخنا وأبو بكر، يجب اعتقاد عمومه في الحال قبل البحث. واختلف الحنفية فقال الجرجاني: من سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم، فالجواب اعتقاد عمومه في الحال، وإن سمعه من غيره فكما قلنا أولا، وقال أبو سفيان: بالقول الثاني. وعن الشافعية كالمذهبين.

566 - وحجة الأول أن لفظ العموم (يقتضي) الاستغراق (بشرط تجرده عن قرينة تخصه ونحن لا نعلم عدم القرينة إلا أن نطلب فلا نجد). فإن قيل: الأصل عدم القرينة. قلنا: إلا أنه يجوز أن نتكون موجودة (فمتى) لم نعلم عدمها، لا نعلم تجرد لفظ العموم، فلا يجب حمله على الاستغراق. فإن قيل: فهذا يجب أن يتوقف أبداً لجواز وجود القرينة المخصصة. قلنا: بل يجب أن نجتهد ونبحث في الأصول فإذا لم نجد "حكمنا" بعدم ذلك (ولم) نتوقف لنترقب ما عساه أن يوجد كما نقول في الحاكم إذا شهد عنده اثنان بحث عن عدالتهما، فإذا لم يجد ما يسقط العدالة وجب عليه الحكم ولا يترقب أن يجد قدحا فيما بعد، وكذلك المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى شيء حكم به (أو) أفتى (به). ولا يترقب أن يختلف اجتهاده فيما بعد أو يجد ما يخالفه.

567 - حجة الثاني: أن موجب الاستغراق وجود لفظ العموم (متجردا) وقد وجد، (فوجب) اعتقاده. قلنا: لا نسلم ذلك بل الموجب للاستغراق وجود لفظ العموم متجرداً عن قرينة توجب التخصيص، وما يعلم ذلك إلا أن يبحث فلا يجد. 568 - احتج بأن كل لفظ وضع لشيء متى وجد وجب اعتقاد ذلك الشيء كالأسماء والأمر والنهي وغير ذلك. الجواب: أن جميع ذلك كمسألتنا لا يعتقد موجبه حتى نبحث عنه فلا نجد ما يصرفنا عن حقيقتها، وكذلك الأمر لا نحمله على الوجوب إلا إذا تجرد عن قرينة وكذلك النهي. وإن سلمنا أسماء الحقائق فقط فالفرق أن أسماء الحقائق لا تستعمل في غيرها إلا مجازاً فلم يجز ترك الحقيقة بغير دليل، بخلاف لفظ العموم فإنه حقيقة في العموم ما لم نجد مخصصاً، ولا يقال إنما ما وجدنا إلا أن نطلبه، ولأن (لفظ) العموم حقيقة في الخصوص والاستغراق بخلاف قولنا حمار وأسد فإنهما حقيقة في البهيمة مجاز في الرجل فلم نترك الحقيقة لجواز أن يراد بذلك المجاز. 569 - احتج بأن اللفظ عام في الأعيان والأزمان (ثم)

يجب حمله على عموم الأزمان وإن جاز أن يكون منسوخاً في بعض الأزمان. كذلك يجب حمله على عموم الأعيان وإن كان/56 ب مخصصاً في بعضها. الجواب: أنا ما يخص الزمان نسخ، والنسخ لا يرد إلا بعد ورود الصيغة (فلا) يجب التوقف لأجله، كما إذا عرف عدالة الشهود لم (يجز) أن يقف حتى يرد عليهم الفسق، بخلاف مسألتنا، فإن ما يخص الأعيان يرد معه وقبله فيجب أن نبحث فإن وجدناه خصصناه. (وإن لم نجده حكمنا بعدمه وحملنا اللفظ على شموله كالشهود) إذا لم نعلم حالهم استكشفناه. 570 - احتج بأن ما ذهبتم إليه يفضي إلى الوقف الذي قاله الأشعري، لأن الأصول غير محصورة، ويجوز أن لا نجد اليوم ونجد بعد اليوم فيقف (النص) أبداً. الجواب: أنه لا يلزمه تكرار النظر بل ينظر فيما يبلغ إليه اجتهاده من الأصول فإن وجد المخصص وإلا اعتقد العموم كالحاكم في الحادثة، وفي حكمه بالشهود ينظر النص ويبحث عن العدالة قدر الاجتهاد، ولا يتوقف أبداً ويقول: إذا لم أجد الآن فعسى أن أجد النص والقدح في الشهود فيما بعد.

وأما وقف الأشعري فلا يشبه هذا لأنه لا يحمل اللفظ على العموم إلا بدليل ولو طلب المخصص فلم يجده. ونحن نقول: إذا طلبنا فلم نجد المخصص، حملناه على الاستغراق. 571 - واحتج بأن السامع للخطاب لابد أن يعتقد، وإذا قلتم: لا يعتقد الخصوص فلا بد أن يعتقد العموم. الجواب: أنه يعتقد عمومه إن تجرد عما يخصه فلا يقطع في حال السماع بالخصوص ولا بالعموم. 572 - احتج الجرجاني بأنه إذا سمعه من الرسول على وجه بيان الحكم علمنا أنه يقتضي الشمول لأنه لو كان مخصصاً لبينه حال خطابه. الجواب: أنه يجوز أن يبينه حال الخطاب، ويجوز أن يكله إلى اجتهاد المجتهد ويجوز أن (يؤخر) البيان وسندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

باب الخصوص

باب الخصوص 573 - قولنا خاص وخصوص: عبارة عما وضع لشيء واحد. مثل قولنا: الكوفة ومكة. وقولنا: هذا الكلام مخصوص معناه أنه قصر (على) بعض فائدته، وكان غرض المتكلم به بعض ما وضع له. 574 - والفرق بين النسخ والتخصيص على ما يجيء (على) قول أصحابنا أن التخصيص تميز بعض الجملة بحكم، أو بيان المراد باللفظ العام، والنسخ رفع ما يتناوله الخطاب. والعام يصير خاصاً (في نفسه بأغراض المتكلم لأنه يستعمله في بعض ما تناوله ويقصد ذلك به، ويصير خاصاً) عندنا بالأدلة المخصصة. 5750 (والأدلة المخصصة) منها ما يتصل بلفظ العموم، كالشرط والصفة والغاية والاستثناء، ومنها ما ينفصل عنه وهو ضربان، عقلي وسمعي، والسمعي ضربان، دلالة، وهي الكتاب والسنة المقطوع بها والإجماع، وأمارة وهي خبر الواحد والقياس.

فأما التخصيص بالشرط كقوله: أكرم الحنابلة أبداً إن دخلوا دارى، لو لم يشترط دخول داره للزم إكرامهم أبدا، ولو لم يدخلوا (فيما) ذكره سقط إكرامهم مع ترك الدخول. وأما التخصيص بالصفة فكقولك: أكرم الناس الطوال لو لم يقل الطوال لزم إكرام جميع الناس. وأما التخصيص بالغاية فكقولك: أكرم بني تميم أبداً حتى يدخلوا الدار، يلزم إكرامه بالأمر الأول، فإذا دخلوا الدار سقط وجوب إكرامهم لأن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها وإلا لم يكن لذكرها فائدة.

مسائل الاستثناء

مسائل الاستثناء 576 - وأما التخصيص بالاستثناء فمن شرط صحته: أن يكون متصلاً بالكلام، أو في حكم المتصل فأما المتصل بالكلام كقوله: له علىّ عشرة إلا درهما، وأما الذي هو في حكم المتصل فبأن يكون انفصاله قبل أن يستوفي المتكلم غرضه من الكلام، (نحو) أن يسكت عن الاستثناء لانقطاع نفسه، أو لبلع ريق، أو سعال وما أشبهه، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم. وحكى عن ابن عباس أن الاستثناء المنفصل يصح (ويخص) الكلام به أبداً، وروى أن ذلك جائز إلى سنة.

وعن الحسن البصري وعطاء أنه يصح ما دام في المجلس. وقد أومأ أحمد إلى (نحو) هذا في اليمين خاصة قال في رواية أبي طالب: إذا حلف بالله ثم سكت قليلاً ثم قال: إن شاء الله، فله استثناؤه لأنه يكفرُ، والصحيح ما ذكرنا أولاً. 577 - والحجة في ذلك أن الاستثناء لغة، وقد/57 أبينت أنه غير مستعمل في عرف اللغة، (ذلك) لأن الإنسان إذا قال: رأيت الناس ثم قال بعد شهر: إلا زيداً (ثم قال): أردت به الاستثناء من الكلام الذي قلته منذ شهر قبح ذلك عندهم وعدوه لغواً. 578 - دليل ثان: أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وهو كالخبر مع المبتدأ، والجزاء مع الشرط فإنه قد ثبت أنه لو قال: زيد.

ثم قال: بعد شهر منطلق، أو قال: من دخل الدار، ثم قال بعد شهر فله درهم. لم (يحسن) ذلك (كذلك) الاستثناء. 579 - دليل ثالث: أنه لو جاز (ذلك) وصح، (لم يستقر) عقد، ولا إيقاع طلاق وعتاق، ولم يوثق بأحد في وعد ولا وعيد، لجواز أن يستثني بعد زمان ما يسقط حكم الكلام، وفي اتفاق الناس على خلاف هذا دليل (على) بطلانه. 580 - دليل رابع: أن من جوزه إلى سنة، لم ينفصل عمن جوزه إلى سنتين وأكثر، فبطل الجميع. 581 - واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشاً مرتين. ثم سكت ساعة. وقال: إن شاء الله تعالى". الجواب: أن هذا غير ثابت، ولو ثبت فليس المراد به الاستثناء، وإنما المراد به أن الأفعال المستقبلة بمشيئة الله، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.

582 - واحتج بأنه: "تخصيص عموم فجاز أن يتأخر عن العموم كالتخصيص بغير الاستثناء. قلنا: الاستثناء لغة لا يثبت بالقياس، وإن سلم قلنا: إن لفظ التخصيص (يفيد بانفراده، وكذا لفظ النسخ بخلاف لفظ الاستثناء. يوضح ذلك أن لفظ التخصيص والنسخ) يجوز أن يرد بعد سنتين بخلاف لفظ الاستثناء، فإنه مقدر إلى سنة عنده. 583 - احتج بأنه: معنى يرفع حكم اليمين فجاز أن يقع منفصلاً كالكفارة. قلنا: اللغة لا تثبت بالقياس، ثم لا نسلم أن الاستثناء يرفع حكم اليمين وإنما يوقفه على شرطه، والكفارة لا ترفع حكم اليمين، وإنما تمحص مأثم (الهتك) بالحنث. 584 - واحتج من قدره بالمجلس: بأن حال المجلس كحال اللفظ في قبض الصرف والسلم والاشتراط، فكذا في الاستثناء. قلنا: تلك أحكام اتفقنا في الشرع عليها (بعلة) وهذا (لغة) فوقف على عرف أهل اللغة كالخبر والجزاء والله أعلم بالصواب.

مسألة: لا يصح استثناء الأكثر من الجملة

585 - مسألة: لا يصح استثناء الأكثر من الجملة، وبه قال ابن درستويه ويغره من أهل (اللغة) وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: يصح ذلك. 586 - لنا: أن الاستثناء لغة ولم نسمع ذلك في اللغة، فمن ادعاه فعليه الدليل. فإن قيل: قد سمع بدليل قوله تعالى: (وهو أفصح اللغات): {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ} فاستثنى العباد من الغاوين، والغاوين من العباد، وأيهما كان الأكثر فقد استثناءه من الآخر فدل على جوازه. قلنا: هذا ليس باستثناء، وإنما (هو) تخصيص

بالصفات، والتخصيص (بالصفات) لا يراعي فيه القلة والكثرة لأن الغرض به بيان المراد، وإن من وجدت فيه تلك الصفة لا يراد باللفظ قل أو كثر ألا ترى أنه يجوز أن (يقول): اقتل من في الدار إلا البيض، فلو كان كل من في الدار أبيض لم (يحسن) (قتله)، وكذلك يجوز أن يستثني بالصفة مجهولاً من معلوم، (ومعلوماً من) مجهول ولا يجوز ذلك في الاستثناء بالعدد. بخلاف الاستثناء في العدد فإنه لو قال: اقتل العشرة الذين في الدار إلا عشرة، لم يصح الاستثناء، ووجب قتل الجميع. جواب ثان: أنه استثناء منقطع، بمعنى لكن من اتبعك، ولكن عبادك المخلصين، يدل عليه (أن) قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ} (ظاهره يعطي) أنه استثناء في السلطان، معناه إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً وهذا لا يصح لأن الغاوين لا سلطان (له) عليهم (أيضا) فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {وَقَالَ

الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} فأخبر أنه لا سلطان له على الغاوين (أيضاً) فدل على أن معناه: لكن من اتبعك من الغاوين/57 ب وإن جهنم لموعدهم أجمعين. جواب ثالث: لو ثبت أنه أريد به الاستثناء لم يدل على أن أحد الفريقين أكثر من الآخر لجواز أن يكونا سواء. جواب رابع: لو ثبت أن أحد الفريقين أكثر (من الآخر)، وأنه استثناء. لم يكن قد استثنى إلا الأقل في الموضعين لأن إبليس قال: {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني ولد آدم (فلهذا) قال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} ثم استثنى، فقال إلا عبادك منهم المخلصين وهم القليل المذكور ولهذا قيده بمنهم وقال: إلا عبادك منهم. فدل على ما قلنا. وأما الآية الأخرى فإنه قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فأضاف العباد إليه مطلقاً، وذلك يقع على كل عبد له من ملك وآدمي وجنى ثم قال: {إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ}

والغاوون من جميع العباد هم الأقل لأن الملائكة كلهم غير غاوين {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وهم أكثر الخليقة، ويضاف إليهم من آمن من الإنس والجن، فيكونون أكثر من الغاوين بغير شك فثبت ما قلنا. فإن قيل: فقد نقل (إليهم) ذلك عن أهل (اللسان) قال الشاعر: أدوا التي نقصت سبعين من مائة ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قواما قلنا: ابن فصال النحوي، قال لم يثبت هذا البيت عن العرب، وإنما هو مصنوع. ثم لو صح، فليس باستثناء لأنه لم يأت فيه بحرف الاستثناء، (وحروف) الاستثناء (معروفة) محصورة، ولأن المراد بها الاقتضاء ببقية دية المقتول كأنه قال: قد بقى عليكم أكثر الدية (وادفعوه ذكر ذلك) ابن عرفه النحوي في

كتاب الاستثناء، وذكر قبله بيتاً وهو: إن الذين قتلتم أمس سيدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ثم قال: أدوا التي نقصت .... ، يدل على ذلك ما قاله أبو إسحق الزجاج في المعاني: لم يأت المستثنى في كلام العرب إلا في القليل من الكثير، وقال ابن جني: لو قال قائل: له مائة إلا تسعون، ما كان متكلماً بالعربية وكان كلامه عيا، وذكر معنى ذلك ابن قتيبة، وابن درستويه.

587 - دليل ثان: أن الاستثناء وضع للاختصار أو للاستدراك، وليس في الحكمة وجود ذلك (في) الأكثر، ألا ترى أنه لو أراد إنسان أن يقر بدرهم (فقال) على ألف إلا تسعمائة "وتسعة" وتسعين (درهماً) لعدوه هاذياً لاغياً، وكذلك من كان عليه درهم لا يشتبه عليه ذلك بألف (درهم) حتى يقر بألف درهم ثم يستدرك تسعمائة (وتسعة) وتسعين. فإن قيل: فقد (يتفق) مثل ذلك، وهو أن يكون لزيد (عليه) درهم ولعمرو ألف درهم، فيريد أن يقر لعمرو بألف (درهم) فيقر بها لزيد، ثم يذكر فيستدرك وإلا (هلك) ماله. (قلنا: إن اتفق مثل) هذا فهو قادر لا يعلق عليه الحكم، ألا ترى أنه قد يتصور مثل ذلك في الكل بأن يكون لزيد عليه ألف (درهم) ولعمرو ألف (أخرى) وقد قضاه،

فيريد أن يقر لزيد فيقر لعمرو بما قد قضاه فيريد أن يستدرك (ذلك) لئلا تلزمه ألف فيقول: لعمرو. عليّ ألف، ثم يستدرك فيقول: إلا ألفا. ثم ذلك لا يصح بالاتفاق لأنه نادر كذلك هاهنا. 588 - احتج بأن في القرآن استثناء الأكثر بدليل قوله تعالى: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ}، قرأ بنصب وكسر الراء، وغير من حروف الاستثناء، والإربة الحاجة، فاستثنى من (التابعين) من له إربة وهم أكثر ممن لا حاجة له. الجواب: أن المراد بالآية من تبع، وأكثر الأتباع (هم) الصبيان والخصيان والشيوخ الذين لا إربة لهم في النساء، فجعل الإربة صفة للأتباع، لا استثناء، ومن نصب على الحال/58 أ (كأنه قال: هم) حال تبعهم غير أولي الإربة. جواب آخر: أنه استثناء بصفة، وذلك تخصيص يجوز في الأقل والأكثر وخلافنا في الاستثناء من الأعداد (وقد تقدم) الفرق (بينه وبين غيره).

589 - واحتج بقوله تعالى: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ} فاستثنى النصف. قلنا: قوله: "نصفه". كلام مبتدأ ليس باستثناء، وإنما الاستثناء إلا قليلاً ثم كأنه قال: قم نصفه، أو انقص منه، أو زد عليه، ثم الخرقي من أصحابنا قد أجاز استثناء النصف، وخلافنا في استثناء الأكثر. 590 - واحتج بأنه معنى يخرج له من العموم ما لولاه لدخل فيه، فجاز في الأكثر كالتخصيص. قلنا: هذا إثبات لغة بالقياس، وفيه نظر. جواب آخر: أن التخصيص يفارق الاستثناء، (بدليل أنه يجوز بجميع أدلة العقل والشرع ولا يقف على حرف مخصوص، والاستثناء) لا يجوز إلا بحروف مخصوصة، ولهذا يجوز تخصيص المعلوم من المجهول. والمجهول من المعلوم ولا يجوز ذلك في الاستثناء بالعدد. 591 - واحتج بأنه إخراج بعض ما شمله العموم أشبه الأقل. الجواب: أن الأقل لغة العرب، (والأكثر) بخلافه ثم

مسألة: لا يصح الاستثناء من غير الجنس

الأقل يحسن (استداركه) ويؤتي به على وجه الاختصار بخلاف الأكثر. والله أعلم بالصواب. 592 - مسألة: لا يصح الاستثناء من غير الجنس، وإذا ورد ذلك فهو مجاز وليس بحقيقة، ذكره الخرقي في الإقرار فقال: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلاً، وبه قال بعض الشافعية. وقال بعضهم: (يصح ويكون) حقيقة وهو قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وجماعة من المتكلمين. 593 - لنا: أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله (المستثني) منه، بدليل أنه مشتق من قولهم: ثنيت (فلاناً عن

رأيه، وثنيت عنان دابتي، إذا رددته. فيجب أن يكون الاستثناء رد بعض ما تناوله اللفظ، وقيل: إنه مشتق من تثنية) الخبر بعد الخبر عن الشيء، فكان الكلام خبراً عنه، (والاستثناء خبر عنه) أيضاً، فيجب أن يتناول ما تناوله الأول. 594 - دليل ثان: أن الاستثناء يصح أن يخرج به بعض ما تناولته الجملة، فلا يصح أن يخرج (به) ما لم تتناوله (الجملة) كالتخصيص لا يخرج من العموم ما لم يتناوله العموم، (وإن) شئت قلت، إن الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في اللفظ فلم يصح أن يكون من غير الجنس كالتخصيص. 595 - دليل ثالث: أن لفظة "إلا" لا تصح للابتداء، ولا تنفرد بنفسها، وإنما ترد متعلقة بما قيلها فإذا أدخلت على غير الجنس لم تتعلق بالمستثنى منه فصارت مبتدأة فلم تصح. 596 - دليل رابع: أن أهل اللسان يستقبحون أن يقول الإنسان جاءني الناس إلا الحمير ورأيت الناس إلا الكلاب، وما قبحوه إلا لما ذكرنا.

597 - احتجوا بأن ذلك مستعمل في اللغة، والاستعمال يدل على الحقيقة، قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. الجواب: أن أبا بكر من أصحابنا قال: إبليس من الملائكة، وحكى ذلك عن ابن عباس. وقوله: "إلا إبليس كان من الجن" فيحتمل أنه كان من الملائكة المسيحين كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} يريد الملائكة وقيل إنه كان من خزان الجنان فسمى من الجن، ويحتمل أن يكون ذلك على وجه المجاز، وفي المستثنى إضمار كأنه قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} ومن أمر بالسجود إلا إبليس. وأما الآية الأخرى فهي استثناء منفصل بمعنى لكن رب العالمين، وقد ترد (إلا) بمعنى لكن قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً}، والخطأ لا يجوز

أن يكون استثناء لأنه، يكون معناه إلا خطأ فإنه يكون له ذلك، فثبت أن معناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة (مؤمنة) ودية مسلمة إلى أهله، ولأن أهل الحجاز يقولون: ليس ذلك باستثناء، والقرآن بلغتهم نزل، ولهذا قال "إلا" إبليس بالنصب، قال ابن قتيبة في كتاب الجامع للنحو/58 ب، ما يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن" كقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ}. وقوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وقال هذا قول سيبويه، وقال الزجاج في أماليه الوجه الخامس من وجوه "إلا" أن يذكر بعدها ما ليس من جنس المذكور فتقطع مما قبلها واحتج بقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وكذلك قول النابغة:

وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أواري لأيا ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد الجواب: أن اليعافير والعيس يحصل بها (بعض) الأنس، ويحتمل أن يراد فيه وفي الآخر الاستثناء المنقطع بمعنى لكن على ما بينا، ويحتمل أن يضمر فيه (معنى) مجاز ليس فيها أنيس ولا أجد إلا اليعافير وإلا العيس. وكذلك ما بالربع من أحد ولا شيء (يرى) إلا أوارى يعني المعالف والحوض. 598 - احتجوا بأنه استثناء لا يرفع الجملة فصح كاستثناء الجنس، واستثناء العين من الورق.

الجواب: أن الاستثناء لغة، وفي إثباته بالقياس نظر، ثم (في) الجنس يوجد معناه واشتقاقه بخلاف غير الجنس، ثم يلزم العموم يخرج منه بعض ما يتناوله التخصيص، ولا يخرج منه من غير الجنس. فأما استثناء العين من الورق فلا يصح على قول أبي بكر وقال الخرقي يصح لأنهما كالجنس الواحد في كونهما ثمناً بخلاف قوله: (له) علىّ مائة درهم إلا ثوباً. فإن قيل: فمعناه إلا قيمة ثوب والقيمة دراهم فيجب أن يصح. قلنا: لو صح (هذا) لوجب إذا قال: له عليّ ثوب فقال أردت (قيمته) أن يصح. وقيل: يصح ذلك، لكن لا على وجه الاستثناء، وإنما يرجع إلى لفظ المقر وإن خالف الحقيقة، والظاهر كما (لو) قال له عليّ مائة ثم قال أردت مائة رغيف، أو مائة رمانة قبل (رجوع الاستثناء إليها) والله أعلم بالصواب.

مسألة: إذا ذكر جملا عطف بعضها على بعض، ثم عقبها بالاستثناء، رجع استثناؤه إلى جميعها

599 - مسألة: إذا ذكر جملاً عطف بعضها على بعض، ثم عقبها بالاستثناء، رجع استثناؤه إلى جميعها. مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}. رجع إلى نفي الفسق وقبول الشهادة عند أصحابنا. وقد قال أحمد رحمة الله تعالى عليه في رواية ابن منصور (في) قوله عليه السلام "لا يؤم الرجل في أهله ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" قال: أرجو أن يكون الاستثناء علىك له، وبه قال أصحاب الشافعي.

وقال أصحاب أبي حنيفة يرجع إلى أقرب مذكور. وقال عبد الجبار إذا لم يكن الثاني إضراباً عن الأول وخروجاً من قصة إلى قصة صح رجوع الاستثناء إليهما. وأجمع الجميع أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى وفي الشرط، أنه يرجع إلى كلا الكلامين. وقال الأشعرية: هو موقوف على الدليل. 600 - دليلنا: أن الاستثناء/59 أكالشرط وكالاستثناء بمشيئة الله تعالى في أنه لا يستقل بنفسه، ثم الشرط (ومشيئة الله تعالى) ترجع إلى الجميع، فكذلك لفظ الاستثناء، وبيانه لو قال: عبيده أحرار ونساؤه طوالق إن دخل الدار، رجع الشرط إلى الجميع، وكذلك (إذا) قال: والله لا كلمت زيداً ولا عمراً ولا خالداً إن شاء الله رجع إلى الجميع.

فإن قيل: إنما رجع في الشرط إلى الجميع لأن مرتبة الشرط أن يتقدم على الجزاء سواء تقدم (على) اللفظ أو تأخر، فكأنه قال: إن دخلت الدار فنسائي طوالق وعبيدي أحرار. وكذا الاستثناء بمشيئة الله لفظها لفظ الشرط فهي تجري مجراه، بخلاف لفظ الاستثناء فإنه لا يصلح تقدمه وإنما ينبني الكلام على ما يليه. قلنا: لا فرق بينهما في المعنى، ألا ترى أنه لا فرق بين قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ... إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} وبين قوله: ولا تقبلوا لهم شهادة/59 أأبداً (إن لم) يتوبوا. جواب آخر: كان يجب أن يقولوا إن الشرط وإن كان رتبته التقدم إلا (أنه يتقدم) على ما يليه فيكون (تقدير) قوله: نسائي طوالق فإن دخلت الدار فعبيدي أحرار، فلما جعلتموه يتقدم على الجميع، وجب أن يكون الاستثناء كذلك. جواب آخر: إن كان مرتبة الشرط التقدم فيجب أن يفتقر إلى الفاء ألا ترى أنه يحتاج أن يقول إذا دخلت الدار: فأنت طالق، حتى قال محمد بن الحسن إذا قال: (إن دخلت الدار أنت

طالق) يقع (الطلاق) في الحال ولا يقف على الشرط، وقد ثبت أنه يقول: أنت طالق إن دخلت (الدار) فتسقط الفاء فدل على أنه يختلف بحكم التقدم والتأخر. 601 - دليل آخر: أن (الكلام يجري مع واو العطف) مجرى الجملة (الواحدة)، لأن واو العطف في الأسماء المختلفة تقوم مقام واو الجمع في الأسماء المتماثلة، لأنه لا فرق بين أن يقول: جاءني زيد (وبكر) وخالد، وبين أن يقول: جاءني الزيدون، ثم ثبت أن الاستثناء إذا تعقب جملاً (عددية) رجع إلى الجميع مثل أن يقول: اقتلوا الزيدين إلا من دخل الدار، فكذلك إذا تعقب جملاً معطوفة كقوله اقتلوا زيداً، وبكرا، وخالدا إلا أن يدخلوا الدار. فإن قيل: فرق بين المذكور جملة وبين المعطوف، ألا ترى أنه لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة (وقع اثنتان وصح الاستثناء ولو قال أنت طالق وطالق وطالق إلا واحدة) (لم يصح الاستثناء ووقع ثلاثاً.

قيل: لا نسلم هذا ويقع اثنتين)، وقد نص أحمد رحمة الله عليه على أنه إذا قال لزوجته وهي غير مدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق يقع الثلاث كما لو قال أنت طالق ثلاثاً لأن واو العطف كواو الجمع والاشتراك. 602 - دليل آخر: أن الاستثناء يصلح عوده إلى كل واحدة من الجملتين، وليس إحداهما أولى من الأخرى، فوجب أن يرجع إليهما كالعموم لما صلح لكل واحد من الجنس دخل فيه. 603 - دليل آخر: لو قال قائل: بنو تميم (وبنو ربيعة) أكرموهم إلا الطوال. رجع الاستثناء إلى الجميع، فكذلك إذا قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال، فإنه لا فرق بين تقدم الأمر وتأخره. 604 - دليل آخر: لو رجع الاستثناء إلى ما يليه لكان إذا قال: له على خمسة وخمسة وخمسة إلا سبعة أن يلغوا الاستثناء ويلزمه خمسة عشر، فلما اجتمعنا على أنه يلزمه ثمانية دل على أن الاستثناء يرجع إلى الجميع. فإن قيل: إنما يرجع إلى ما يليه لمانع، وهو أن الاستثناء إخراج من جملة، والسبعة لا تكون جزء الخمسة فرجع إلى الجميع. قيل: هاهنا أيضاً وهو أن واو العطف تجعل الجملتين كالجملة الواحدة لأنها تقتضي الجمع والتشريك على ما بينا.

605 - احتج المخالف: بأن الصحابة رضي الله عنهم ردوا الاستثناء إلى الجملة الثانية دون الأولى في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} فشرطوا الدخول في الربائب دون أمهات النساء وحرموا أمهات النساء بمجرد العقد. الجواب: أن هذا ليس باستثناء وإنما هو صفة فلم يجب في الاستثناء ما يجب فيه لأنهم لم يجمعوا بينهما بعلة. جواب آخر: أن قوله: "اللاتي في حجوركم" نعت للربائب دون أمهات النساء لأن أمهات النساء لسن في حجورنا ولا هن من نسائنا وقوله: "اللاتي دخلتم بهن"، وإن رجع إلى النساء إلا أنه من تمام نعت الربائب، فصح أن الكلام يخرج، فمن يقيد الربائب لا يدخل فيه أمهات النساء. يؤكد هذا أن الصفة يكون العامل فيها العامل في الموصوف، والعامل في قوله "وأمهات نسائكم" الإضافة وفي قوله "من نسائكم" حرف الجر ولا يصلح أن يعمل في الصفة عاملان مختلفان فامتنع عودها إلى الله. 606 - واحتج بأن العموم قد ثبت في كل جملة من الجمل المتقدمة وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه، فلا يزول العموم المتيقن بالشك. الجواب: أنا لا نسلم/59 ب ذلك، لأن العموم إنما يثبت بوقوع السكوت عن الكلام من غير استثناء، فأما إذا اتصل به الاستثناء فلم

يثبت العموم، ولأنه يبطل بالشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى، فإن العموم قد ثبت بكل جملة وعودها إلى جميعها مشكوك فيه، ثم قد عاد إلى الجميع. 607 - احتج بأن الاستثناء لا يستقل بنفسه ولا يفيد بإفراده فوجب رده إلى ما تقدم ذكره، فإذا رد إلى ما يليه فقد استقل وأفاد فتعليقه تعليق على الزيادة يجري مجرى الكلام المستقل بغيره لا من ضرورة. الجواب: أنا لا نسلم أنا نرده إلى ما تقدم ليستقل وإنما نرده ليصلح عوده إليهما أو لأنهما كالجملة الواحدة بواو العطف ولأن ليس أحد الجملتين أولى من الأخرى. جواب آخر: أن هذا الكلام يمنع من رجوع الكلام المتقدم لأجل الاستقلال، ولا يمنع من الرجوع إليه بسبب آخر غير ذلك لأن الحكم قد يثبت بأسباب. جواب ثالث: يبطل بالشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى لأنه غيره، وبتعليقه بما يليه يفيد. ثم إذا ورد تعلق بجميع ما تقدم كذلك ها هنا. 608 - واحتج بأن الاستثناء من الجمل "كالاستثناء" من الاستثناء، بدليل أن كل واحد منهما لا يفيد بنفسه، ثم الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه دون الجملة الأولى، وكذلك الاستثناء يرجع إلى ما يليه دون الجملة الأولى، وكذلك الاستثناء من الجمل، وبيان ذلك أنه لو قال،

له عليّ عشرة إلا أربعة إلا درهمين يرجع الاستثناء أخيراً إلى الأربعة دون العشرة. الجواب: إنما لم يرجع إلى العشرة لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات. فإذا قال: له عليّ عشرة فهو إثبات. فإذا قال: إلا أربعة فهو نفي، فإذا قال: إلا درهمين فهو إثبات، فإذا رجع استثناء الدرهمين إليهما لكان استثناء إثبات من إثبات فلم يجز. جواب آخر: أنا لو رددنا استثناء الدرهمين إلى الجمع لكان استثناء درهمين من أربعة، ودرهمين من عشرة فيكون استثناء أربعة وهو إنما استثنى درهمين. جواب آخر: أن الاستثناء الأول لم يصر مع ما تقدمه كجملة واحدة بحرف عطف، فيرجع الاستثناء الثاني إليهما بخلاف قوله: (أكرم بني تميم، وربيعة، إلا الطوال). فإن قيل: (فلم) رددتموه إلى الجملة التي تليه دون الجملة الأولى. قلنا: لأنا لو رددنا قوله إلا درهمين إلى العشرة، وقد رددنا الأربعة إلى العشرة لجعلنا المتكلم قد أراد استثناء ستة من العشرة، ولو

أراد (ذلك) لقال إلا ستة أو كان يقول: إلا أربعة وإلا درهمين فيعطف بواو العطف، فلما عدل عن ذلك دل على أنه أراد عوده إلى الجملة الثانية. 609 - احتج بأن الجملة الثانية فاصلة بين الاستثناء والجملة الأولى، فلم يرجع الاستثناء إليها كما لو (فصل) بينهما بقطع الكلام وإطالة السكوت. الجواب: أنا لا نسلم أنه فصل لأنا قد بينا أنه لما عطف بالواو صارت (الجمل) كالجملة الواحدة. جواب آخر: أن الفصل بالسكوت (وقطع) الكلام لو كان بين الاستثناء وبين جملة واحدة لم يرجع الاستثناء إليها بخلاف الاستثناء مع اتصال الكلام، فإنه لو كان عقب جملة واحدة رجع إليها. ولأنه لو فصل بين الجملة والشرط بالسكوت لم يرجع، ولو فصل بين الجملة الأولى والشرط بجملة ثانية رجع الشرط إلى الجملتين كذلك الاستثناء. 610 - احتج من ذهب إلى الوقف: بأنه يجوز أن يكون عائداً إلى البعض، ويجوز أن يكون عائداً إلى الكل فوجب الوقف (فيه).

الجواب: أن عوده إلى الكل هو الظاهر، وقد دللنا عليه، ثم القول بالوقف عدول عن العلم، لأن أهل اللغة (منهم) من جعل الجملتين كالجملة الواحدة ورد الاستثناء إلى الجميع، ومنهم من قال الاستثناء يرجع إلى ما يستقل به وهو ما يليه ولم يقل أحد بالوقف (أصلاً)، فهو (إحداث) قول ثالث خارج عن قول الجميع.

باب في تخصيص العموم بالأدلة المنفصلة

باب في تخصيص العموم بالأدلة المنفصلة 611 - مسألة: يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل ذكره شيخنا/60 أ، وحكى قول أحمد فيما خرجه في محبسه على قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والأماكن القذرة، (فخص) الظاهر بالعقل، وبه قال أكثر العلماء. وقال قوم: لا يخص العموم بدليل العقل وهو ظاهر

قول من يقول: إن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل فيما يقع لي وهو مذهب (أصحاب الأشعري). 612 - والدليل على الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} لا يخلوا إما أن يعلم بالعقل أن هذا الخطاب لم يدخل فيه المجانين والأطفال أو يدخلون. فإن قالوا: نعلم بالعقل أنهم لم يدخلوا ولكن لا نسميه تخصيصاً. قلنا: وافقتم في المعنى وخالفتم في الاسم، فنرجع إلى معنى التخصيص ما هو؟ فيعلم أن معناه إخراج بعض ما تناوله الخطاب من الأشخاص. وإن قالوا: قد دخلوا فيه. قلنا: هو خطأ لأن المجانين والأطفال لا يمكنهم فهم المراد بالخطاب لا مجملاً ولا مفصلاً، وإرادة الفهم ممن لا يتمكن منه

تكليف ما لا يطاق، وقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. 613 - دليل آخر: أن أدلة العقل تقتضي بنا العلم بالكتاب والسنة المتواترة بالإجماع ثم تخصيص العموم يجوز بهذه الأدلة، كذلك تخصيصه بدليل العقل. فإن قيل: هذه الأدلة يجوز بها النسخ فجاز بها التخصيص، بخلاف العقل فإنه لا يجوز به النسخ، فلا يجوز به التخصيص. قلنا: لم كان كذلك، والنسخ والتخصيص يختلفان، فإن النسخ بيان مدة الحكم ولا مدخل للعقل في ذلك، لأن الصلاة لا تقبح في العقل (في) وقت دون وقت بخلاف التخصيص فإنه بيان مراد المخاطب وهذا يعلم بالعقل (لأنا بالعقل نعلم) أن الإنسان لا يخاطب من لا يفهم، ثم يلزم الإجماع يجوز به التخصيص، ولا يجوز به النسخ، وكذلك القياس وخبر الواحد. 614 - احتج المخالف بأن دليل العقل متقدم، والمخصص لا يكون متقدماً. قلنا: لا نسلم ونقول بل يكون متقدماً ومقارناً ومتأخراً، (إلا أن) الدليل يتقدم على مدلوله.

615 - احتج بأن التخصيص كالاستثناء، ثم الاستثناء لا يجوز تقدمه كذلك دليل التخصيص. قلنا: الاستثناء لا يستقل بنفسه، فوجب أن يتعلق بما قبله، والمخصص يستقل بنفسه، ألا ترى أنه يجوز أن (يقال خطابي للعقلاء) دون المجانين والأطفال، (فيستقل هذا الخطاب بنفسه ولا يجوز أن يقال ابتداء إلا المجانين والصبيان). ثم يخاطب فيقول: يا أيها الناس، فافترقا. 616 - احتج بأن معنا عموم كتاب الله تعالى ومعنا العقل فلم يقدم التمسك بالعقل على التمسك بكتاب الله. الجواب: أن عموم الكتاب يحتمل التخصيص، ولهذا يخصص بالخير والقياس، والعقل صريح في قبح خطاب من لا يفهم غير محتمل، فصار بمنزلة النص مع العموم فإنه يختص (به) كذلك ها هنا. 617 - احتج بأن الصبي أو المجنون يدخل في الخطاب بالزكاة وأرش الجنايات. قلنا: لا يدخل في ذلك وإنما يخاطب وليه بأن يخرج الحق (من) ماله.

مسألة: (يجوز تخصيص) (عموم) الكتاب بخبر الواحد

618 - واحتج بأنه يصح إسلامه (وظهارته) وصلاته وصومه، فدل على دخوله في الخطاب. قلنا: إنما يصح منه ذلك إذا كان ممن يعقل، ومن يعقل ويفهم يجوز أن يخاطب. فإن قيل: فإن دخل في الخطاب (فقل إنه) يجب عليه ذلك. قلنا: من أصحابنا من يوجب عليه الإسلام والطهارة إذا عقل ذلك، وكذلك في الصوم إن أطاقه. (ومن) قال: لا يجب فإنما أسقط الوجوب بدليل آخر. إما الإجماع، أو لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ" /60 ب والله أعلم بالصواب. 619 - مسألة: (يجوز تخصيص) (عموم) الكتاب بخبر الواحد، نص عليه في رواية عبد الله في الآية إذا

كانت عامة، ينظر ما جاءت به (السنة، لتكون السنة هي الدليل) على ظاهرها مثل قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} فلو كانت الآية على ظاهرها ورث كل من يقع عليه اسم ولد وإن كان يهودياً أو نصرانياً أعبداً أو قاتلاً، فلما جاءت السنة أنه لا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً ولا يرث قاتل ولا عبد، كانت دليلاً على ما أراد الله من ذلك وبه قال أصحاب الشافعي. وقال بعض المتكلمين: لا يجوز تخصيص العموم (بخبر) الواحد، وقال عيسى بن أبان ما دخله التخصيص بطريق

متفق عليه جاز تخصيصه بخبر الواحد، وما لم يدخله التخصيص لا يخص. 620 - دليلنا ما احتج به الإمام أحمد رحمة الله عليه في آية المواريث وأن السنة خصصتها وانعقد الإجماع على ذلك. وكذلك قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} في النكاح أجمعوا على تخصيصها بخبر أبي هريرة: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". واحتج أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها بخبر الواحد لما طلبت ميراثها وأمثال ذلك كثير.

فإن قيل: فقد خالف عمر رضي الله عنه ورد حديث فاطمة بنت قيس في المبتوتة. لا نفقة لها ولا سكنى وقال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة". وأراد بالكتاب قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}. قلنا: إنما رده لأنه اتهمها في الخبر ولهذا قال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها" وفي لفظ (لا نترك لقول امرأة) لا ندري أصدقت أم كذبت، وكلامنا فيما صح من الأخبار وسكنت إليه نفس المجتهد، ولأن الآية مخصصة في حق الصغير بالإجماع وعندهم ما دخله التخصيص يجوز تخصيصه بخبر الواحد، دل على أن عمر لم يرده إلا أنه لم يصح عنده.

فإن قيل: فقد (قبلوا) خبر الواحد فيما لا يجوز قبوله، ولهذا قبل أهل قباء خبر الواحد في نسخ القبلة وإن كان لا يجوز (النسخ). قلنا: قد ذكر شيخنا أنه يجوز ذلك أيضاً لأن أحمد نص عليه فقال في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد في خبر الواحد إذا كان إسناده صحيحاً وجب العمل به. ثم قال: أليس القبلة حين حولت أتاهم الخبر وهم في الصلاة فتحولوا نحو القبلة وخبر الخمر أهرقوها ولم ينتظروا غيره، فقد أخذوا بخبر الواحد فيما يخبر به (من) النسخ.

621 - دليل آخر: خبر الواحد يوجب العمل بالاتفاق، فجاز أن يخصص به العموم (كالتواتر). فإن قيل: خبر التواتر يوجب العلم وهو مقطوع به فقوى بخلاف خبر الواحد. قلنا: ألا فرقتم بهذا في باب العمل (وفي) العموم المخصوص. جواب آخر: إن لم يكن خبر الواحد مقطوعاً به، فالعمل به مقطوع به، وما يوجب المقطوع (به) يجري مجراه. 622 - دليل آخر: أن العموم معرض للتخصيص فاحتمل أن يعدل به عما تناوله، والمخصوص يتناول الحكم على وجه لا يحتمل التخصيص ولا يعدل به عما يتناوله فكان (أولى) في تناول الحكم والرجوع إليه، ولهذا قدم خصوص القرآن والسنة على عمومهما لما ذكرنا من المعنى. 623 - احتج المخالف بأن الكتاب مقطوع به، وخبر الواحد غير مقطوع به فلا يجوز ترك المقطوع (به) لغيره كالإجماع لا يترك بخبر الواحد.

قلنا: المقطوع به هو (ورود) لفظة على صيغة العموم، فأما مقتضاه فغير مقطوع به لأنه يحتمل أن يراد به غير الاستغراق ولهذا لا يجوز أن يقطع على كذب الخبر المخصص. جواب آخر: أنا نقول بذلك وأنه لا يسقط العموم بخبر الواحد وإنما يبين به المراد. ولهذا قال أحمد رضي الله عنه: فلما وردت السنة كانت دليلاً على (ما أراد الله تعالى، وهذا حقيقة التخصيص فعلى هذا بين) أن (الله تعالى) ما أراد بلفظ العموم الاستغراق، وإنما أراد ما لم يتناوله الخبر الخاص. جواب آخر: أنه يبطل بالأشياء إذا أباحها العقل أو الأصل فإنه يقطع بإباحتها بذلك، ثم بخبر الواحد يجوز تخصيصها. جواب آخر: أن الخبر وإن لم يقطع به فإن/ 61 أحكمه ثبت بأمر مقطوع به، فكان حكمه وحكم ما قطع به واحد، والمعنى في الإجماع أنه لا احتمال فيه، وخبر الواحد يحتمل النسخ فيقدم الإجماع عليه في مسألتنا، وعموم القرآن (يحتمل التخصيص)، والخبر الخاص غير محتمل فقدم ما لا يحتمل. 624 - واحتج بأنه إسقاط بعض ما يقتضيه عموم القرآن بخبر الواحد فلم يجز كالنسخ.

الجواب: أنا لا نسلم أنه إسقاط، بل هو يبين المراد (به) ثم (إن) النسخ إسقاط لموجب اللفظ فلم يجز إلا بمثله (أو بما) هو أقوى منه، والخصوص بيان ما أريد باللفظ فجاز بما دونه، ثم يلزم (عليه) القياس، يخصص به خبر الواحد ولا ينسخ به خبر الواحد. 625 - فصل: وفيما ذكرنا دلالة على عيسى بن أبان، ونزيد أن ما جاز أن يخصص به ما دخله التخصيص جاز أن يخصص به ما لم يدخله التخصيص كخبر التواتر. 626 - احتج بأن ما دخله التخصيص صار مجازاً (فقبل خبر) الواحد في تخصيصه، كما قلنا في بيان الجمل، وما لم يدخله التخصيص باق على حقيقته في الاستغراق فلم يقابله خبر الواحد لأنه يضعف عنه. الجواب: أنا لا نسلم أنه باق على حقيقته في الاستغراق إلا أن لا يرد خبر مخصص، ثم لا فرق بينهما فإن العموم وإن خص فمعناه (معقول) وامتثاله ممكن فيه لم يتناوله التخصيص حقيقة مثل الذي لم يدخله التخصيص، فيجب أن يكون حكمهما سواء

مسألة: يجوز تخصيص عموم السنة بخاص القرآن

بخلاف المجمل فإنه لا يعقل المراد منه ولا يمكن امتثاله ثم بقاؤه على حقيقته لا يمنع (من احتمال) التخصيص وبيان المراد به والله أعلم بالصواب. 627 - مسألة: يجوز تخصيص عموم السنة بخاص القرآن على ظاهر كلامه في رواية عبد الله، وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين. وخرج ابن حامد رواية أنه لا يجوز ذلك وبه قال بعض الشافعية وغيرهم. 628 - لنا قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ

شَيْءٍ} ولم يفصل، ولأن القرآن مقطوع بطريقه، فيه إعجاز وبرهان، فإذا جاز تخصيص الكتاب بالسنة فتخصيص السنة بالكتاب أولى (وأحرى لقوته وضعفها، ولأنه إذا جاز أن يخص القرآن بالقرآن فتخصيص السنة بالقرآن أولى)، ولأن التخصيص يبين المراد فإذا جاز أن يبين المراد (لنا) بالسنة، جاز أن يبين لنا المراد بكلامه. 629 - احتج المخالف بقوله سبحانه وتعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. الجواب: أنه ليس في أمره أن يبين لنا ما نزل ما يمنع أن يبين الله تعالى (لنا بكلامه) ما أنزله إلينا، وقد ذكر (سبحانه أن كتابه تبيان) لكل شيء (وأن رسوله) مبين أيضاً، ونحن نقول بالجميع. جواب آخر: أن المراد بهذا البيان الإظهار والإعلام بدليل أنه علقه على جميع الكتاب والتخصيص لا يدخل على جميع الكتاب وإنما يفتقر جميع الكتاب إلى "الإظهار والإعلام".

جواب آخر: أنا نحمله على أنه يبين ما يفتقر إلى البيان مما لم يبينه الكتاب. 630 - واحتج بأن التفسير والتبيين تابعان للمبين والمفسر، فلو خصصنا السنة بالقرآن جعلنا السنة هي الأصل والقرآن هو (الفرع) لأنه الذي يفسرها ويبينها وهذا لا يجوز. والجواب: أنه ليس كذلك، ومن يقول إن المفسر تابع والمفسر هو الأصل ألا ترى أن تخصيص القرآن بعضه ببعض وتخصيص السنة بعضها ببعض لا يدل على أن المخصص هو الأصل والمخصص تابع، وقد ورد تخصيص القرآن بعضه ببعض لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} خص بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وخص قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} بقوله: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، والسنة تخصيصها بالسنة أكثر من أن يحصى، ولأنه قد خص الآحاد بالتواتر، ولا أحد يقول إن التواتر فرع الآحاد، ولا أن الأصل هو الآحاد كذلك هاهنا.

مسألة: يجوز تخصيص العموم من الكتاب والسنة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم

والله أعلم بالصواب. 631 - مسألة: يجوز تخصيص العموم من الكتاب والسنة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. قال أحمد في رواية صالح: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} لما قالت عائشة وميمونة: "كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" في شعاره، دل أنه أراد الجماع، فخص العموم بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه قال أكثرهم. وقال الكرخي لا يجوز. 632 - لنا/61 ب: أن المسلمين أجمعوا على تخصيص قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}

"برجم" النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ولأن فعله كقوله في الدلالة، ولهذا يجوز أن تثبت به الأحكام ابتداء، فكانا في التخصيص سواء. 633 - احتج المخالف بأنه يحتمل أن يكون مخصوصاً بهذا الفعل، ويحتمل أن يكون هو وأمته سواء فيه، فلا يجوز أن يخصص بهذا الفعل المشكوك، العموم المتيقن. قلنا: لا يكون مخصوصاً بالفعل إلا أن يدل دليل على تخصيصه وإلا فالظاهر أنه وأمته سواء في الفعل فجاز أن يخصص بهذا الظاهر العموم، ولهذا لما خص في عمرة الحديبية قال للناس::انحروا هديكم وتحللوا فلم يفعلوا، حتى دخل فشكى إلى زوجته أم سلمة، فقالت: يا رسول الله: اخرج وانحر هديك ولا تكلمهم. فخرج فنحر هديه فازدحم الناس على هداياهم ينحرونها" والله أعلم بالصواب. 634 - مسألة: يجوز تخصيص العموم بافجماع، وقال بعضهم لا يجوز.

635 - لنا: أن الإجماع حجة تثبت به الأحكام فهو كالكتاب والسنة. 636 - احتج بأنه لا ينسخ به (فلم يخص به). قلنا: هذا جمع من غير علة، ثم التخصيص يبين المراد باللفظ، وهذا يجوز أن يقترن باللفظ ويجوز أن يجيء بعده، فإذا انعقد الإجماع على التخصيص علم أن المراد بذلك اللفظ العام البعض، بخلاف النسخ فإنه رفع (الحكم الثابت). والإجماع إنما ينعقد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يرتفع الحكم الثابت ولا ينسخ. والله أعلم بالصواب. 637 - مسألة: يجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب، وقال بعضهم لا يجوز. وهذا يرجع إلى إثبات دليل الخطاب هل هو حجة أم لا؟ فإذا ثبت أن حجة جرى مجرى التنبيه والنطق، وسنذكر مسائل دليل الخطاب والتنبيه فيما بعد (هذا) إن شاء الله.

638 - مسألة: يجوز تخصيص العموم بقول الصحابي على الرواية التي تقول إن قوله حجة وقد (ذكر شيخنا ذلك) وقال: نص عليه أحمد في رواية أبي الحارث وصالح، في الآية إذا جاءت يحتمل أن تكون عامة، ويحتمل أن تكون خاصة، نظرت ما عملت عليه السنة، فإن لم يكن فعن الصحابة، فإن كانوا على قولين أخذنا بأشبه القولين بكتاب الله تعالى. وهذه الرواية لا تدل على أن قول الصحابي وحده حجة يخصص به، وإنما أشار أحمد إلى جميعهم لأنه ذكرهم بالألف واللام، ولأنه قال: فإن اختلفوا على قولين أخذ بأشبه القولين (بكتاب الله تعالى) وبه قال أبو حنيفة. واختلف أصحاب الشافعي إذ جعلوا قول الصحابي حجة على القول القديم. فقال بعضهم: يخص به، وقال بعضهم: لا يخص (به).

639 - لنا: أن قول الصحابي يقدم على القياس، ثم القياس يخص به العموم، فأولى أن يخص بما تقدم عليه، ولأنه حجة فهو كالخبر. 640 - احتج بأن الصحابي يترك مذهبه للعموم بدليل أن ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة". قلنا: يترك مذهبه للنص الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما تركه (للعموم فإنه) إذا قال قولاً فهو عن دليل، إما نص، أو قياس، أو عموم، والنص والقياس يخصص بهما العموم، والعموم إذا عارض العموم لم يترك به بل يعدل إلى الترجيح. 641 - واحتج: بأن العموم حجة فلا يخص بفتياه كسائر التابعين. قلنا: قول التابعي ليس بحجة بخلاف الصحابي. 642 - مسألة: يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة بالقياس في أحد الوجهين.

وهو اختيار شيخنا وأبي بكر، وبه قال الشافعي وأبو الحسن الكرخي وغيرهما من الفقهاء والمتكلمين. والوجه الآخر (أنه) لا يخص به ولا يعارض به الظاهر، وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا وأبي إسحق بن شاقلا/ وبه قال الجبائي وغيره من الفقهاء.

وقال أكثر الحنفية: إن كان دخله التخصيص جاز تخصيصه بالقياس كما يقولون في تخصيصه بخبر الواحد. ومن الشافعية من قال: نخصه بالقياس الجلي دون (القياس) الخفي. 643 - دليلنا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تخصيصه بالقياس، فقالوا في ميراث الجد مع الإخوة: إن الجد يسقطهم قياساً على الأب وخص قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وهذه الآية عامة فيمن له (جد أو لا جد له). ومنهم من قسم بين الجد وبينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وخص الآية أيضاً فإنه لم يعط الأخت مع الجد النصف ولا أعطى أخاها ما لها كله (إذا) لم يكن لها ولد. وهذا حجة على من قال: إنه يخص بالقياس الجلي دون الخفي، لأن هذا القياس الذي استعمله الصحابة قياس شبه، لأن منهم من شبه بالأب، ومنهم من شبه الإخوة بالأغصان من الشجرة، ومنهم من شبه بالجداول من النهر.

وكذلك قالوا في (حد) العبد: إنه نصف حد الحر، بالقياس على الأمة، وخصوا قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فهو عام في الحر والعبد. وقالوا: قد قال في الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}. والعبد كالأمة في الرق، فيجب أن يكون حده نصف حد الحر. فإن قيل: فما تنكر أن يكون هناك دليل غير القياس خص به العبد ولم ينقل بحصول الإجماع عليه. قلنا: لم يوجد هناك دليل غير القياس، فلو كان (كذلك) (لذكر ونقل). فلما لم ينقل دل على أنه لم يخص إلا بالقياس. 644 - دليل ثان: هو أن القياس وإن لم يكن مقطوعاً به، فإن العمل به ثبت بدليل مقطوع به، كما ثبت العمل بالعموم، فيجب أن يجري مجراه في القوة، ألا ترى أن الرسول عليه السلام لو قال: إذا زالت الشمس فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان فهو شرعي، فإن فلاناً يجري قوله مجرى قول الرسول عليه السلام في وجوب العمل وإن كان قول الرسول مقطوعاً (به) وقول فلان

(ليس) مقطوعاً به، وإذا ثبت هذا فالقياس يتناول الحكم بخصوصه، والعموم يتناوله بعمومه فيجب أن يخص الأعم بالأخص، كما لو كان الأخص (كتاباً أو سنة). 645 - دليل ثالث: أن صيغة العموم معرضة للتخصيص محتملة له، والقياس غير محتمل للتخصيص، فجاز أن يقضي بغير المحتملة (على المحتملة)، كما يقضي بالمفسر على المجمل. 646 - دليل رابع: أن فيما قلنا جمعاً بين الدليلين، فكان أولى من إسقاط أحدهما واستعمال الآخر كالمطلق مع المقيد، واللفظ الخاص مع (اللفظ) العام. 647 - دليل خامس: أنه لفظ ينافي بعض ما شمله العموم، فصريحه يوجب أن يخص به كاللفظ الخاص، يبين (صحة) هذا أن معنى العلة معنى النطق في إيجاب العمل بكل واحد منهما، فيجب أن يتساويا في التخصيص. 648 - ويخص من قال: لا يجوز إلا بالجلي بما تقدم من أقوال الصحابة، ونزيد بأن (القياس) الخفي (دليل،

فكان) حكمه حكم الجلي، (فكان) من جنسه (في تخصيص العموم كخبر الواحد، لما كان دليلاً كان حكمه حكم الجلي) وهو أخبار التواتر في التخصيص. 649 - ويخص من قال لا يخص إلا ما دخله التخصيص بأن الباقي من المخصوص بمنزلة عموم مبتدأ والدليل عليه ما نبينه فيما بعد في العموم المخصوص هل هو حجة أم لا؟ وإذا ثبت هذا فمتى جاز تخصيصه بالقياس جاز تخصيص العموم المبتدأ بالقياس، إذ لا فرق بينهما. 650 - دليل آخر: أن ما جاز (أن) يراد به التخصيص، جاز أن يبتدأ به (في) التخصيص كالنطق. 651 - دليل آخر: إنما جاز تخصيص العموم المخصوص بالقياس لأنه يتناول الحكم، فخصوصه مقدم على العام، وهذا موجود في العموم الذي لم يدخله التخصيص، فوجب أن يقدم عليه. 652 - احتج المخالف: /62/بخبر معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: "فإن لم تجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو" فدل على أن القياس يعمل به بشرط أن لا يجد سنة. قلنا الذي خصه القياس من العموم ليس من السنة، ألا ترى أنه (قد) رتب السنة على الكتاب، ثم ما خصته السنة من الكتاب، يجعل كأنه ليس في الكتاب حكماً فكذلك في مسألتنا. 653 - احتج: بأن عموم الكتاب دليل مقطوع به، والقياس أمارة مظنونة، فلا يجوز الاعتراض بالمظنون على العموم. الجواب: أنا قد أجبنا (عن ذلك) في العموم هل يخص بخبر الواحد أم لا؟ 654 - احتج بأن التخصيص كالنسخ، لأن التخصيص إخراج بعض الأعيان، والنسخ إخراج بعض الزمان، ثم ثبت أن النسخ لا يجوز بالقياس، فكذلك التخصيص. قلنا: التخصيص يخالف النسخ، لأن خبر الواحد يخص القرآن ولا ينسخه، ولأن (النسخ) يرفع حكماً (قد استقر)، والتخصيص بيان ما لم يرد باللفظ فافترقا.

655 - احتج: بأنا نقيس (عند) الحاجة إلى القياس، فنلحق ما لمي رد فيه الحكم بغيره، فإذا كان معنا لفظ عام يشمله فلا حاجة بنا إلى القياس فيجب أن لا يعمل به. الجواب: أنا نعمل بالقياس في بيان المراد بالعموم لا فيما شمله لفظه وإذا عارضه (لفظ) آخر يتناول الحكم بخصوصه (علمنا) أنه لم يرد به الشمول. جواب آخر: أن القياس دليل يتناول الحكم صريحاً، والعموم يتناوله عموماً فقدم الصريح على العموم كما قدم اللفظ الخاص على العام. 656 - احتج: بأنه إسقاط لما تناوله العموم، فلا يجوز (بالقياس) كالنسخ وهذا صحيح فإن التخصيص إخراج بعض الأعيان، والنسخ إخراج بعض الأزمان فهما سواء. قلنا: التخصيص يفارق النسخ لأنه يجوز بخبر الواحد، ولا يجوز النسخ بخبر الواحد، ولأن التخصيص بيان المراد باللفظ، وهو جمع بين الدليلين والنسخ رفع لحكم اللفظ. 657 - احتج بأنه لا يجوز أن يستنبط من لفظ العموم علة يخصص بها ذلك العموم فكذلك لا يستنبط من غيره علة يخصص بها.

قلنا: يبطل بالتخصيص بالجلي من القياس ثم العلة المستنبطة منه كلفظه، (ثم لفظ) العموم لا يجوز أن يجعل مخصصا له، وإن جاز أن يكون لفظ غيره مخصصاً، كذلك العلة المستنبطة من غيره. جواب آخر: أن العلة المستنبطة منه تقتضي ما يقتضيه، فإذا كانت مخصصة له لم تكن علته، لأنها تخالفه، (بخلاف العلة المستنبطة من غيره، ولأن الغير يخالفه) فجاز أن تكون علته تخصه. وهذا لأن العلة تطلب من الأصل لإلحاق غيره به، والعلة التي يختص أصلها لا حاجة بنا إلى استخراجها ولأنها فرع علته فلا تخصه بخلاف (لفظ) غيره فإنها ليست (فرع علته) (فتخصه) ولهذا (لما) قال عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر" لا يجوز أن يعلل بعلة تخرج بعض البر وقد علل بعلة

تشمل الأرز والذرة وغيرهما وخص بذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. 658 - واحتج: بأن القياس فرع العموم، والفرع لا يسقط أصله. الجواب: أنا نخص به عموماً ليس بأصلاً فلا يكون إسقاط الأصل بفرعه. 659 - واحتج: بأن ما قدم عليه القياس الجلي لم يخص به العموم كاستصحاب الحال. قلنا: استصحاب الحال ليس بدليل، وإنما هو بقاء على حكم الأصل حتى ينقل عنه "بدليل"، إذا ورد العموم كان دليلاً فنقل عنه بخلاف القياس فإنه دليل يستدعى (الحكم بصريحه فقدم على ما يقتضيه بعمومه. 660 - (واحتج بأن قال: قياس الشبه مختلف فيه بين القائلين به)، فلم يخص به العموم، ألا ترى أن الخبر المرسل لما اختلف فيه لم يخص به العموم.

الجواب: أنا لا نسلم الأصل ونقول: يخص به (العموم) (وإن) سلمنا على الرواية الأخرى فنحن إنما نتكلم مع من/63 أجعل قياس الشبه حجة في الشرع، فإنه يلزمه التخصيص به. فأما من لم يجعله حجة، فالكلام عه يأتي في القياس، ألا ترى أن القياس الجلي من الناس من لم يجعله حجة أيضاً، ثم التخصيص به عندكم جائز بخلاف المرسل فإنه ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به. 661 - احتج: بأن القياس (ما اطرد) (على الأصول)، والعموم من جملة الأصول، وهو ينافيه فيجب أن لا يصح القياس معه كما لا يصح مع مخالفة الإجماع. قلنا: لا نسلم أن ما خصصه القياس كان مراداً بالعموم ولا داخلاً تحته. 662 - احتج عيسى بن أبان: بأنه إسقاط دلالة اللفظ فلم يجز بالقياس كالنسخ، ولا يلزم الزيادة في التخصيص لأن إسقاط دلالة اللفظ كانت بغير القياس. الجواب: أنه ليس بإسقاط دلالة اللفظ وإنما هو بيان مراد اللفظ وذلك جائز، ألا ترى أن خبر الواحد يخص به وإن لم ينسخ به، ثم (قد ذكر) أن ما بقى من العموم كالعموم في الحجة فيسقط ما ذكرتم. والله أعلم بالصواب.

663 - مسألة: يجوز (تخصيص العموم) إلى أن يبقى واحد. وقال أبو بكر الرازي وأبو بكر القفال يجوز التخصيص في لفظة "من" حتى يبقى واحد (ويجوز) في ألفاظ الجمع العامة مثل الرجال، والناس إلى (أن) يبقى ثلاثة. وقال أبو الحسين البصري: لا يجوز في الجميع إلا أن يبقى كثير ولم يحده إلا أنه قال: يجوز أن (يعبر) بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم له. 664 - وجه الأول: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ومنزل الذكر (هو) الله (الواحد) تعالى. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ} الآية والمراد بهذه الآية نعيم بن مسعود كذا ذكره أهل التفسير. وكذا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} وأراد به عائشة. وروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد: "قد أنفذت إليك ألفى رجل" وكان قد أنفذ إليه القعقاع مع ألف (رجل)، وقيل عمرو بن معديكرب.

وقال الشاعر: إنا ما أعنى سواى، فدل على أن استعمال لفظ الجمع والعموم سائغ في الواحد. 665 - ودليل آخر: أنه لا يخلو إما أن لا يجوز ذلك لأنه يصير به الخطاب مجازاً، ولأنه إذا استعمل في الواحد لم يكن مستعملاً في الجميع، فكان قد عدل بالخطاب عن موضوعه (والأول يوجب) أن لا يجوز دخول التخصيص بحال وقد دخل التخصيص إجماعاً والثاني يوجب أن لا يستعمل لفظ العموم في البعض لأنه موضوع في الاستغراق، والجمع تبع له فإذا لم يجز استعمال الواحد في الجمع لم يجز استعمال أقل الجمع في العموم لأنه عدول عن حقيقة موضوعه. 666 - دليل آخر: أنه لفظ من ألفاظ العموم يجوز تخصيصه إلى الثلاثة، فجاز إلى ما دونها كلفظ "من" و"ما" فإنه لو قال: من دخل (الدار) من بنى تميم فاقتلوه إلا فلانا، وفلانا، حتى يبقى واحد (أو قال): ما في الدار من الدواب فلك إلا الدابة الفلانية، والفلانية، حتى يبقى واحدة. 667 - احتج الرازي والقفال بأن اسم الجمع حقيقة في الثلاث فصاعدا، واستعماله فيما دون الثلاث إخراج له عن موضوعه فلم يجز إلا بما يجوز به النسخ.

الجواب: ما تقدم من أنه لم يجز ذلك، لأنه عدول عن الحقيقة، فيجب أن لا يجوز استعمال العموم في البعض لأنه عدول عن حقيقة موضوع العموم، وهو الاستغراق. جواب آخر: يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز، كقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} استعمل في مواضع الصلاة وكالذي بيناه من الآيات والخبر. جواب آخر: أنه يلزم عليه الاستثناء فإنه يجوز إلى أن يبقى واحد عندكم ولا يكون بمنزلة النسخ في (إسقاط) الجميع ولهذا لا يجوز استثناء الجميع، ووجه الجمع أن التخصيص إخراج بعض الجملة (كالاستثناء). فإن قيل: عندكم لا يجوز استثناء/62 ب الأكثر. قلنا: لا يجوز (استثناء الأكثر) لأنه لغة ولم (يجز) في اللغة استثناء الأكثر، فأما (لأنا نراعي) أن يبقى لفظ الجمع فلا، ولأنا قد بينا أن التخصيص أوسع من الاستثناء، ولهذا (يصح) متصلاً ومنفصلاً بخلاف الاستثناء.

668 - احتج أبو الحسين بأنه لو قال: أكلت الرمان الذي في الدار، وفي الدار ألف ومائة وقد أكل واحدة أو ثلاثة عابه أهل اللغة إلا أن يكون قد أكل معظمه، وكذلك إذا قال مات الناس، لا يجوز أن يعبر به عن الواحد إلا أن يكون قد مات الكثير. الجواب: أنه يلزم عليه الاستثناء فإن من قال: (له) عليّ ألف إلا تسعمائة (وتسعين) عابه أهل اللغة وعنده يجوز ذلك (ولأنه قد يقول) (ذلك القول وإن أكل القليل) كما يقول العليل: أكلت اللحم ويريد به القليل. وفي هذه المواضع يقول المراد به أكل الجنس فلا يلزمه. والله أعلم بالصواب. 669 - مسألة: يجوز استعمال الكلام العام في الخصوص، أمراً كان أو خبراً. (وقد) قال أحمد رحمة الله عليه في قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ

شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} في الريح التي أرسلها على عاد، فقد أتت على أشياء لم تدمرها (وهي): منازلهم ومساكنهم (والجبال). وقال في قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه. ذكر ذلك فيما خرجه في محبسه فبين أن ما ورد (بلفظ الخبر) يجوز أن يراد به الخصوص كالذي يرد في الأمر وبه قال الجمهور. وقال قوم: لا يدخل التخصيص في الخبر. 670 - دليلنا أن القرآن (قد) ورد بذلك وقد ذكرناه. وقال تعالى في قصة بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تؤت ملك سليمان وقال عليه السلام: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً في تصاوير" ثم دخلت بيتاً فيه تصاوير (تداس) فعلمنا أنه أراد التخصيص.

ويقول أهل اللغة: فلان أكل ماله بالباطل، والمراد بعضه، وفلان ماله الإبل وله مال غير ذلك، ويقول: رأيت الناس ورأيت المشركين وقد رأى بعضهم. 671 - إنه لا يخلو المانع من ذلك، أن يكون لأنه لا يمكن ونحن نعلم أنه ممكن من كل متكلم، أو لأن اللغة (لم) ترد به، وقد بينا أن اللغة (قد) وردت لأنهم يتكلمون بالعموم، ويريدون (به) الخصوص، أو تكون الحكمة منعت من ذلك والحكمة لا تمنع لأن أكثر ما فيه أن يصير العموم باستعماله في الخصوص مجازاً والحكمة لا تمنع التكلم بالمجاز، فثبت أن ذلك جائز وأنه لا مانع منه. فإن قيل: المانع من ذلك الحكمة لأن تخصيصه يوهم الكذب لأنه أراد بالعام بعضه. قلنا: لا يوهم ذلك إلا إذا اقترن به بيان المراد به ثم يلزم عليه الأمر فإن تخصيصه يوهم البداء ويجوز. 672 - احتج بأن التخصيص كالنسخ لأن هذا تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الأزمان ثم نسخ الخبر لا يجوز كذلك تخصيصه.

673 - مسألة: اختلف الناس في العموم إذا خص هل يصير مجازاً أم (هو) حقيقة؟ فقال بعضهم: يصير مجازاً سواء كان المخصص لفظاً أو غير لفظ، وسواء كان منفصلاً أو متصلاً. وقال قوم (آخرون): لا يصير مجازاً على كل حال وهو قول شيخنا وأصحاب الشافعي. وقال قوم: يصير (مجازاً) في حال دون حال، واختلفوا في الحال فقال قوم: إن خص بدليل غير منفصل لم يصر مجازاً، وإن خص (بدليل منفصل) صار مجازاً وقال (قوم) إن

خص بدليل غير لفظي صار مجازاً، وإن خص بلفظي لم يصر مجازاً وقال (قوم إن كان مخصصه شرطاً أو استثناء أو تقييداً بصفة لم يصر مجازاً) وهو قول أبي الحسن الكرخي الحنفي. 674 - ووجه قول/64 أمن ذهب إلى أنه يصير مجازاً أن حد المجاز استعمال الشيء في غير ما وضع له ولفظ العموم يقتضي الاستغراق في أصل الوضع، فإذا استعمل في البعض صار مستعملاً في غير ما وضع له فصار مجازاً، كما لو استعمل اسم الحمار في الرجل البليد، والأسد في الرجل الشجاع، والبحر في الفرس الجواد (والرجل الجواد). فإن قيل: هلا قلتم إنهم وضعوا العموم للاستغراق مع فقد القرينة، ووضعوه للبعض مع القرينة. قلنا: لا يمكن ذلك لأنه يفضي إلى رفع المجاز من الكلام، لأنه ما من لفظ إلا ويمكن أن يقال هذا فيه، ولهذا يمكن أن يقال الحمار مع الإطلاق حقيقة في البهيمة (وهو مع) القرينة حقيقة في الرجل البليد، وكذلك البحر والأسد.

جواب آخر: أن القرائن كثيرة لا تحصى فلا يمكن حصرها فيضعوا العموم مع كل قرينة لما تقتضيه. فإن قيل: أهل اللغة لم تضع (اسم) الحمار للرجل البليد حقيقة واستعملوا لفظ العموم في البعض حقيقة. قلنا هذا نفس الدعوى وفيه وقع (النزاع). 675 - دليل آخر: أن القرينة تدل على أن المتكلم استعمل لفظ العموم في البعض، فإن كانت قد دلت على أن المتكلم استعمل ذلك فيما وضع له فهو رجوع إلى قول أصحاب الوقف لأنهم يقولون: إن ألفاظ العموم وضعت في الأصل للبعض والكل وضعا واحداً فوجب التوقف، وإن كان استعمله في غير ما وضع (له) فهو المجاز. فإن قيل: هلا قلتم إن القرينة كالعهد في وجوب انصراف العموم إلى ما يقتضيه ولا يكون مجازاً؟ قلنا: لام التعريف وضعت لتفيد ما السامع به أعرف فإن كان بينه وبين المتكلم عهد فهو به أعرف فانصرف الكلام إليه، وإن لم يكن بينهما عهد فليس يعرف إلا الجنس فانصرف إليه، بخلاف المخصص فإنا لا (نعلم) أن بعض العموم غير مراد إلا بدليل، وذلك عدول عن (موضوع) العموم فكان مجازاً.

جواب آخر: أنه إذا ثبت (أن) الألف واللام تفيدان الاستغراق فإنهما لا ينصرفان إلى العهد إلا بقرينة، وهو معرفة السامع بلفظ المتكلم فجرى ذلك مجرى (جميع ألفاظ العموم) التي تعلم من قصد المتكلم أنه استعملها في الخصوص فيكون ذلك مجازاً فلا نسلم، وهذا الجواب مقدم على الذي قبله. 676 - ووجه قول شيخنا والشافعية: أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد استعمل لفظ العموم في البعض في غير موضع، فيجب أن يحمل على الحقيقة. الجواب: أنكم لا تنكرون مع هذا استعمالهم المجاز ولا تقولون إن ألفاظ العموم وضعت للكل والبعض حقيقة لأنه قول أصحاب الوقف، فثبت أن استعمالهم لفظ العموم في الاستغراق وهو حقيقة الوضع وفي البعض هو مجاز وقد بينا ذلك. 677 - احتج: بأنه إذا كان الخصوص بدليل متصل كالشرط والاستثناء فإن فوائد اللفظ تختلف بما يدخل عليها، ألا ترى أنك تقول: زيد في الدار فيكون خبراً، ثم تزيد في أوله ألفاً فيكون استفهاماً ثم تجعل مكان الألف ما فيكون نفياً، فلو كان ما يتصل باللفظ يجعل الكلام مجازاً، (لكان) غيره بالاستفهام (وبما) مجازا. ً

الجواب: أن كل جملة من تلك الجمل وضعت في اللغة بمعنى غير الآخر، وفي مسألتنا العموم وضع للاستغراق. والله أعلم. 678 - مسألة: يجوز الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما عدا المخصوص وهو (ظاهر) (قول) أحمد رحمة الله عليه في رواية عبد الله والميموني وبه قال الشافعية. وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز الاحتجاج به.

وقال أبو الحسن الكرخي: إن خص بشرط أو استثناء صح الاحتجاج به فيما عدا المخصوص. وإن خص بدليل منفصل لم يصح ذلك. وقال أبو عبد الله البصري: إن كان التخصيص منع من تعليق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به، مثال ذلك/ 64 ب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، فقامت الدلالة على (أن) اعتبار الحرز والنصاب يمنع من تعلق القطع بالسرقة ويقتضي (وقوعه) (على الحرز والنصاب الذي لا ينبئ اللفظ عنهما فلم يجز التعلق به. فأما إن كان المخصص لا يمنع من تعلق) الحكم بالاسم العام جاز التعلق به، مثاله قوله: اقتلوا المشركين فإن المنع من قتل من أعطى الجزية لا يمنع من تعلق القتل بالشرك في حق من (لم) يعط الجزية.

69 - لنا أن فاطمة عليها السلام طلبت ميراثها من أبيها عليه السلام واحتجت بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}. ولم ينكر عليها أبو بكر ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم الاحتجاج بهذه الآية، وهي مخصوصة فإن الولد الكافر والقاتل والعبد (لا يرث). وروى عن عثمان وعليّ أنهما اختلفا في الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء. وقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية وغلب أحدهما آية التحريم وغلب الآخر آية التحليل، وكل واحدة من الآيتين دخلها التخصيص، فإن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مخصوصة بالجمع في الملك، وقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} مخصوصة بالمجوسية والمرتدة لايجوز وطؤها بملك اليمين ولا بغيره. وروى عن ابن عباس أنه تعلق بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وقال: "قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير"

فإنه كان يقول: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ومعلوم أن الآية مخصوصة بأن يكون الرضاع في مدة الحولين. وهذا إجماع منهم على الاحتجاج بالعموم المخصوص وقيل ليس في القرآن عموم لم يدخله التخصيص إلا موضعين قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فعلى قولهم لا (عموم) في القرآن أصلاً. 680 - دليل آخر: أن دلالة لفظ العموم غير قائمة فيما عارضه فيه الخصوص وهي باقية فيما عدا ذلك، لأنه لا معارض لها فيه، فجاز الاحتجاج بها. فإن قيل: يجب أن تقولوا في العلة إذا خصت كذلك. قلنا: كذا نقول في أحد الوجهين لأصحابنا، ومن سلم قال إذا خصت لم تكن علة الحكم لأن شرط العلة أن يوجد الحكم بوجودها في كل موضع، فإذا خصت عدم شرطها فلم تكن علة بخلاف لفظ العموم، فإنه حقيقة في العبارة عن الكل فإذا خرج بعضه بالتخصيص لم يمنع أن يكون عبارة عن (الباقي).

681 - دليل آخر: أنه يمكن التوصل بالعموم إلى العلم بحكم ما عدا المخصوص لأن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يتناول كل مشرك في أصل الوضع لأنه لفظ عموم ووضعه للاستغراق لأن المتكلم إذا كان حكيماً فلابد من أن يريد ما (تناوله) لفظه إلا أن يدلنا على أنه ما أراده وليس كلهم سوى آحادهم فهو إذاً عبارة عن كل واحد منهم، ولهذا لو تركنا وظاهره أمكننا قتل من ارتد منا فإذا ورد عليه مخصص غير مجهول يدل على أن معطى الجزية لا يقتل بقى اللفظ متناولاً (لما) عدا المخصوص في أصل الوضع تناولا مفصلاً فوجب امتثاله والأخذ بحكمه، وسواء في ذلك المخصص المنفصل أو المتصل، وسواء سمى مجازاً أو غير مجاز، ولا يلزم عليه إذا قال: لا تقتلوا بعض المشركين لأن المخصوص مجهول، وليس كل واحد منهم أولى من الآخر بالمنع من قتله (فلم) يمكنا الأخذ بحكم العموم ونعبر عنه بأن لفظ العموم يتناول الجنس وكل واحد منهم (لأن الجنس ليس سوى آحاده) فإذا خص في بعض (ما يتناوله) بقى اللفظ متناولاً لما لم يخص (منه) كما كان متناولا

له في الابتداء، فكان حجة فيه كما (لو كان) قبل التخصيص في جميع ما يتناوله. 682 - احتج المخالف: بأنه لما خص صار مجازاً إلا أنه أريد به غير ما وضع له فخرج (من) أن يكون له ظاهر يتعلق به. الجواب عنه: أنه (إن) أراد به أنه مجاز من حيث وضع اللغة، أنه لم يرد به جميع ما يتناوله فذلك صحيح ولم يمنع الاحتجاج به فيما لم يتبين لنا أنه لم يرده لأنه متناول له على (جهة) الحقيقة شرعاً ولا يضرنا تسميته مجازاً لغة. وإن أراد أنه مجاز فيما عدا المخصوص (في وضع) الشرع فلا نسلمه، بل هو حقيقة فيه لأنه/65 أكان حقيقة في الكل، خرج منه ما خص منه، وبقى حقيقة في (الباقي) بدليل ما بينا. على أن من أصحابنا من قال: العموم حقيقة في الكل مع الإطلاق، وحقيقة في البعض مع القرينة فعلى قوله يمنع أن يكون مجازاً.

683 - واحتج بأنه عموم لم يرد به الاستغراق فلم يجز التعلق به كما لو قال: اقتلوا المشركين، ثم قال: لا تقتلوا بعضهم. الجواب: أنهم جمعوا بين التخصيص المفسر والتخصيص المجمل بغير علة، والفرق بينهما أنه في المجهول لا يمكننا قتل من (أريد منا قتله)، لأن ليس بعضهم بالترك أولى من بعض بخلاف المفسر، فإنه إذا أخرج من أعطى الجزية أمكننا قتل الباقين بالآية والأصل في ذلك أن الأشياء المعلومة إذا خرج منها أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها، وإذا خرج منها أشياء مجهولة (لم نكن) عالمين بما عداها، ألا ترى أنه إذا قال: له عليّ عشرة إلا درهما، علمنا أن له تسعة، فإذا قال: له عليّ عشرة إلا شيئا، إلا عدداً جهلنا الباقي فلم يمكنا الحكم به. والله أعلم. 684 - مسألة: إذا ورد لفظان أحدهما عام والآخر خاص وهما كالمتنافيين نظرنا فإن كانا مقترنين مثل أن يقول: اقتلوا الكفار، ولا تقتلوا اليهود، أو يقول: زكوا البقر ولا تزكوا العوامل. فإن الخاص مقدم على العام ومخصص له، وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين. وحكى عن بعضهم أنه يتعارض الخاص وما قابله من العام، ولا يقضي بأحدهما على الآخر.

685 - لنا: أن الخاص أشد تصريحاً وأقل احتمالاً فيما يتناوله من العام، ولهذا لو قال لعبده: اشتر (لي) كل ما في السوق من اللحم ولا تشتر لحم البقر، فهم منه إخراج لحم البقر مما أمره، إما على سبيل (البداء)، أو على أنه لم يرد بالكلام الأول العموم فوجب أن يقدم عليه. 686 - دليل آخر: أن هذه الأدلة وردت للاستعمال فكان الجمع بينهما في الاستعمال أولى من التوقف وإلغاء حكمها. 687 - دليل آخر: أن إجراء العام على عمومه يلغي الخاص، واستعمال الخاص وإخراج ما يتناوله من العام لا يلغي واحداً منهما، فكان أولى. 688 - أنه دليل عام قابله دليل خاص، وليس في تخصيصه إبطال له، فوجب تخصيصه أصله الخبر العام إذا ورد العقل يخصه. 689 - احتج المخالف: بأنه ليس الخاص فيما تناوله بأولى من العام فوجب التوقف. الجواب: أنا قد بينا أن الخاص يتناول الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه، والعام يتناوله بعمومه على وجه محتمل أن يكون المراد به غير ظاهره، وعمومه يوجب تقديم الأقوى منهما، كما قدمنا دليل العقل على العام لأن فيما قلنا استعمال الدليلين، وفيما قلتم إسقاطهما فكان (قولنا) أولى.

690 - فصل: فأما إن لم يكونا مقترنين فلا يخلو (إما) أن يكون الخاص متأخراً عن العام، أو متقدماً عليه، أو لا يعلم أيهما المتقدم. (فإن كان الخاص متأخراً عن العام أو لا يعلم أيهما المتقدم) فإن الخاص يقدم على العام. ويبني العام عليه في قول أصحابنا رحمة الله عليهم. وإن كان العام متأخراً عن الخاص فقال أحمد رحمة الله عليه في رواية عبد الله كلاماً طويلاً قال في آخره: "نستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به"، وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة. وقال شيخنا: الخاص مقدم بكل حال وتأول هذه الرواية على أن الخبرين خاصان فيكون الأخير أولى وبه قال أصحاب الشافعي. والله أعلم.

691 - مسألة: يقدم الخاص على العام سواء تقدم الخاص أو تأخر أو جهل التاريخ. وبه قال أصحاب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن تأخر الخاص كقولنا، (وإن) تقدم الخاص قدم العام عليه/65 ب وحكم بنسخ الخاص، وإن جهل التاريخ يتوقف فيهما، أو يرجع إلى غيرهما أو إلى ترجيح أحدهما على الآخر، وقد روى عبد الله (عن) أحمد ما يدل على هذا فقال في كلام طويل: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به إلا أن شيخنا تأوله على الخبرين إذا كان خاصين يكون الأخير أولى وفيه نظر. 692 - ووجه الأول: أن قول القائل لا تقتلوا اليهود، يمنع من قتلهم أمراً صريحاً، وقوله بعد ذلك: اقتلوا الكفار يحتمل غير اليهود ويحتمل دخول اليهود فيهم، فهو مشكوك فيه، فقدم الصريح المتيقن على المشكوك فيه وفيه ضعف لأنهم إن أرادوا أن العام هو قوله اقتلوا

الكفار إذا انفرد لم يعلم دخول اليهود تحته لم نسلم، وإن أرادوا (أنه) يعلم لأجل الخاص المتقدم ففيه ينازعون ولأنه ترك للمذهب لأنهم يقطعون بخروج اليهود ولا يشكون والأولى أن نقول: إن قوله لا تقتلوا اليهود يقتضي المنع من قتلهم أبداً صريحاً، وقوله بعد ذلك اقتلوا الكفار يفيد قتلهم من جهة الظاهر، والخاص أشد تصريحاً وأقل احتمالاً فيجب أن يقدم. 693 - دليل آخر: أنهما دليلان أحدهما عام والآخر خاص، فإذا تعارضا قدم الخاص. أصله إذا كان هو المتأخر، يبين هذا أن ما أوجب تخصيص العموم لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر كالقياس لا فرق بين أن يكون مستنبطاً من أصل متقدم أو من أصل متأخر في أنه يخصص كذلك هاهنا، بل هذا أولى لأن الخبر الخاص أقوى من القياس ولهذا يقدم عليه، فإذا (جاز) التخصيص بالقياس كان أولى ما هو أقوى منه. 694 - دليل آخر: أنه لا خلاف أن أدلة العقل تخصص العموم وإن كانت متقدمة فكذلك هاهنا. فإن قيل: دلالة العقل لا يمكن نسخها فقضى بها على العموم وإن تقدمت، والخبر الخاص يمكن نسخه بما يرد بعده من الأخبار، والعموم بعده ورد فنسخه.

قيل: الخبر الخاص لا ينسخ أيضاً إلا بما هو مثله في القوة ولا نسلم أن العام مثله (في القوة). 695 - دليل آخر: أن الخاص في اللغة لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر ولهذا لا فرق بين قوله لا تعط زيداً حقه وأعط الناس حقوقهم وبين أن يقول: أعط الناس حقوقهم ولا تعط زيداً حقه، فإنه يعقل منهما جميعاً معنى واحد فدل على ما قلناه. 696 - دليل آخر: أن تقدم الخاص على العام كالعهد بين المتكلم والمخاطب فانصرف الخطاب العام إليه وهم لا يسلمون بذلك. 697 - احتج المخالف: بأن ابن عباس كرم الله وجهه قال: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم". الجواب: أن معناه (نأخذ) بالأحدث (فالأحدث) على حسب ما يقتضيه، وما من مقتضى العموم أن ينسخ الخصوص ثم نحمله على لفظين خاصين لا يمكن استعمالهما فإنه يقدم الأخير، فأما هاهنا فيمكن استعمالهما على ما بينا. 698 - احتج بأن اللفظ العام في تناوله الآحاد ما دخل تحته يجري مجرى (ألفاظ خاصة، كل واحد منها يتناول واحداً من

الآحاد التي تناولها اللفظ العام، لأن قوله: اقتلوا المشركين يجري مجرى) (قوله) اقتلوا زيداً المشرك، (اقتلوا عمرا، اقتلوا بكراً) ولو قال ذلك بعد ما قال: لا تقتلوا زيداً لكان الثاني ناسخاً للأول فكذلك ما ذكرنا. الجواب: أنا لا نسلم ذلك، ولأنه لو كان كذلك لم يجز أن يخص بالقياس لأن القياس لا ينسخ الخبر، (والثاني أن العام) يجري في كونه متناولاً للآحاد مجرى الألفاظ الخاصة فقط، فأما أن يجري مجراها في امتناع دخول التخصيص (عليه) فلا، وهذا لأن اللفظ الخاص لا يدخل تحته أشياء فيخرج بعضها، واللفظ العام يتناول أشياء يمكن أن يراد به بعضها فصح أن يقام الدليل بتخصيصه، ولهذا إذا اقترن اللفظ الخاص باللفظ العام خصصه بالاتفاق وإن كان فيما ذكروه من تناول الآحاد سواء. 699 - احتج بأن الخاص المتقدم يمكن نسخه، والعام مما يجوز /66 أأن يرفعه، فإذا تأخر دل على أنه ناسخ له. الجواب: أنه لم إذا أمكن ذلك وجب كونه؟ وما الحجة في ذلك.

فإن قيل: تأخره. قيل: (وهل نوزعتم) إلا في ذلك، وأيضاً (فكما) يمكن كونه رافعاً للخاص يمكن أن يكون الخاص مخصصا له وإن تقدم، فوقفنا موقفاً سواء. 700 - احتج بأن تردد الخاص المتقدم بين كونه منسوخاً ومخصصاً يمنع من كونه مخصصاً لأن البيان لا يكون ملبساً. قلنا: عندنا لا يتردد، بل قد صح كونه مخصصاً بما بينا. جواب آخر: أن منع التردد من كونه مخصصاً ليمنعن التردد بين كون العام مخصصاً أو ناسخاً (في) كونه ناسخاً. 701 - احتج بأنه (لو خصص) العام بالخاص المتقدم أفضى إلى كون البيان متقدماً على المبين، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز تقدم التفسير على المفسر، والاستثناء على المستثنى منه. الجواب: أنه لا يمنع أن يتقدم البيان على المبين بدليل أن المخصص من أدلة العقل بيان ويتقدم على المبين، وكذلك إذا قال لوكيله: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً عشرة (دنانير) فأعطه إياها

بهرجة أو عدداً (أو عشرة) غير وازنة فيكون ذلك بياناً لما يأمره به في ثاني الحال. 702 - احتج بأن الخاص والعام يتضادان كتضاد الحركة والسكون، والعلم والجهل، ثم كل واحد من هذه المعاني يبطل بما يوجد بعده من أضداده، فكذلك الخصوص يبطل بما يرد بعده من العموم. الجواب: لو صح (هذا) لوجب أن يبطل العموم ما تقدمه من أدلة العقل المخصصة، ولوجب أن لا (يجتمعان ويبني) أحدهما على الآخر بحال، كالحركة (مع السكون) والعلم والجهل، ونحن نعلم أن العام يبني على الخاص إذا تقارنا (أو تقدم الخاص فيبطل) قولهم، ولأن الحركة والسكون لا يمكن اجتماعهما ويمكن اجتماع الخاص والعام في العمل والنقل والرواية فافترقا. 703 - احتج بأنهما لفظان متضادان فنسخ الثاني منهما الأول كالنصين.

قلنا: لا نسلم أنهما يتضادان والمعنى في النصين أنه لا يمكن استعمالهما بخلاف الخاص والعام فإنه يمكن استعمالهما فافترقا. 704 - فصل: ويدل على أنه إذا لم يعرف التاريخ يقدم الخاص بأنه لا يخلو أن يكون الخاص متقدماً أو متأخراً أو مقارناً، وقد بينا وجوب خروج ما يتناوله الخاص في الأحوال الثلاثة. 705 - دليل آخر: أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصون أعم الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ فدل على أنه إجماع. فإن قيل: ابن عمر لم يخص قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان". قلنا: نحن قلنا في هذه الأعصار، ثم لعله امتنع من التخصيص لدليل (آخر). 706 - دليل آخر: أنا إذا لم نعرف التاريخ وجب حملهما على أنهما وردا معاً لأن أحدهما ليس أولى بالتقديم من الآخر، وإذا اقترنا فحكم الاقتران (بناء) العام على الخاص على ما بينا، وقد وافقوا على هذا، وفيه ضعف.

707 - دليل آخر: أنا لو لم نخص العام بالخاص، لكنا قد ألغيناه، أو كنا ننسخ الخاص بالعام، وكلام الحكيم لا يجوز إلغاؤه ولا يجوز النسخ مع (جهل) التاريخ. 708 - احتج المخالف: بأنه لو خص أخص الخبرين أعمهما لخصت إحدى العلتين أعمهما. الجواب: أن ذلك قياس بغير علة، ويلزم أن لا يخص العام بالخاص المقارن أو المتأخر، ثم تخصيص العلة لا يجوز على قول أصحابنا، بخلاف العموم فإنه يجوز تخصيصه والله أعلم. 709 - مسألة: (لا يجوز تخصيص) العموم بالعادات نحو أن يكون عادة الناس شرب بعض الدماء ثم يحرم الله تعالى الدماء بكلام يعمها، فإنه لا يخص هذا العموم بالعادة، بل يجب تحريم ما جرت به العادة، خلافاً لبعضهم.

710 - لنا أن العموم دلالة فلا يجوز تخصيصه إلا بدلالة /66 ب والعادة ليست بدلالة لأن الناس يعتادون القبيح كما يعتادون" الحسن (الجميل) فإن قيل: إلا أن العادة تدل على أن الأصل إباحة ذلك فكانت حجة. قلنا: الأصل إنما يرجع إليه ما (ينقل) عنه شرع، والعموم دليل شرعي فيجب أن ينقل عنه. 711 - احتج بأنه إذا ورد حكم معلق بالدابة، فإنه نحمله على الخيل دون بقية الحيوان، ومعلوم أنا لم (نعقل) ذلك إلا لأن التعارف قد حصل بذلك وإلا فالدابة في الحقيقة عبارة عن كل ما يدب على الأرض من سائر الحيوان فدل على أنا خصصناه بالعرف والعادة.

الجواب: أنه إن سلم ذلك فلأن عرف الاستعمال مقارن للفظ فكأنه هو (اللغة) حقيقة وغيره مجاز لأن الاسم أحق بالعرف لأنه وضع للتعريف والتميز، فليس بتخصيص في الحقيقة، بخلاف مسألتنا فإن العموم قد ثبت له عرف الاستعمال، والعادة جرت استعمال بعضه فقدم العموم لأنه لفظ شرعي وله عرف الاستغراق فهو أقوى من العرف في البعض فقط. والله أعلم. 712 - مسألة: إذا ورد لفظ العموم يقصد المتكلم (به) المدح أو الذم لم يمنع من استعمال عمومه وذلك مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يمنع من التعلق بها في (الحلي) الكثير الذي يقصد به الكنز وبه قال أكثرهم، وقال بعض الشافعية: يمنع من التعلق بذلك. 713 - لنا: أن صيغة العموم قد وردت فاقتضت الاستغراق كما لو لم تتضمن مدحاً ولا ذماً.

714 - واحتج بأن القصد إلحاق الذم بمن يكنزهما وليس القصد العموم. الجواب: أنه لا يمتنع قصد ذم من كنز أن يكون اللفظ مستغرقاً (له) على موضوعه في اللغة فمن ادعى ذلك يجب أن يدل. والله أعلم. 715 - مسألة: إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص، واللفظ مستقل بنفسه، حمل على عمومه، ولم يقتصر على سببه، وذلك مثل: (قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر أيتوضأ به؟) فقال عليه السلام: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". ومثل أن يسأل عن رجل اشترى عبداً، فاستغله، فظهر على عيب فيقول: "الخراج بالضمان" فيكون ذلك في كل مشتر هذه سبيله. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة والأشعرية.

وقال مالك: يقصر على سببه وبه قال أبو ثور واختلف أصحاب الشافعي. فقال المزني والقفال والدقاق كقول مالك، وقال غيرهم كقولنا. 716 - لنا: أن اللفظ العام الصادر عن حكيم يجب إجراؤه على عمومه إلا لمانع، ولا مانع ها هنا إلا ما يدعيه المخالف وسنبين فساده.

717 - دليل آخر: الاعتبار بلفظ صاحب الشرع لا بالسبب والسؤال، ألا ترى أنه لو كان السؤال عاماً والجواب خاصاً وجب حمله على خصوصه اعتباراً باللفظ، فكذلك إذا كان السؤال خاصاً واللفظ عاماً يجب أن يحمل على عمومه اعتباراً باللفظ. 718 - دليل آخر: أنه لفظ لو تجرد عن سؤال خاص حمل على عمومه. فإذا تقدمه (سؤال) خاص حمل على عمومه، أصله إذا قالت المرأة لزوجها طلقني فقال: كل امرأة لي طالق، فإنه يقع بها وبكل زوجة له ولا "يقتصر عليها" كذلك هاهنا. 719 - دليل آخر: أن قول السائل ليس حجة فلا (يجوز أن) يخص به العموم، أصله كلام غير السائل ممن ليس قوله حجة. 720 - دليل آخر: أن العموم يخص ما يخالفه وينافيه، وأما فيما يطابقه في حكمه فلا يجوز تخصيصه به، وسؤال السائل مطابق له في الحكم، فوجب أن لا يخصه. 721 - دليل آخر: أن الخطاب قد يرد في مكان وزمان ثم لا يقصر عليهما. فكذلك (هاهنا) لا يقصر على سببه بعلة أن السبب غير الخطاب فلم يقصر عليه الخطاب كالزمان والمكان.

722 - دليل آخر: أنه لو اعتبر بخصوص السؤال لوجب أن يختص السائل حتى لا يدخل غيره معه في الحكم، وقد أجمع المسلمون على أن آية القذف في شأن عائشة رضي الله عنها عمت جميع الأمة، وكذلك آية اللعان نزلت في شأن هلال بن أمية وزوجته وعمت، وكذلك آية الظهار. 723 - دليل آخر: أنه دليل صاحب الشرع فاعتبر موضوعه كما لو ورد ابتداء/67 أ، وكما يعتبر كونه أمراً ونهياً وإباحة وندباً. 724 - احتج المخالف بأن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة بدليل أن السؤال هو المقتضي للجواب. وبدليل أن الجواب إذا كان مبهماً أحيل في بيانه على السؤال، وإذا ثبت أنهما الجملة الواحدة وجب أن (يكون) السؤال مقدراً في الجواب فيختص الحكم. الجواب: أنا لا نسلم أنهما كالجملة والحدة بل هما جملتان ولهذا يستقل الجواب بنفسه. وقولهم: (إن السؤال يقتضي الجواب) غير مسلم، لأن الجواب أعم من السؤال، فهو يشتمل على السؤال ويزيد كقوله

تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، وقوله "هي عصاي" كاف في الجواب وزاد على ذلك وكخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في ماء البحر. وقولهم: إنه يحال (بالجواب) المبهم على البيان بالسؤال لا يمنع من كونهما جملتين، كالكتاب يحال في بيانه على السنة وهما جملتان مختلفتان. جواب آخر: أن كلامنا في الجواب إذا كان مستقلاً بنفسه غير مفتقر إلى غيره في البيان كقوله في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وكقول الرجل: "كل زوجة طالق" إذا سألته زوجته طلاقها. فأما إذا لم يستقل بنفسه كقول الرجل لغيره: تغد عندي فيقول: لا والله فإنه يقصر على ذلك الغداء لأن اللفظ لا يفيد بنفسه فائدة فجعل السؤال كالتمام له. 725 - احتج: بأنه لو كان الخطاب عاماً لكان جواباً وابتداء، وقصد الجواب ينافي قصد الابتداء فلا يجتمعان. الجواب: أنه جواب عما وقع السؤال عنه، وبيان لحكم ما لم يسأل عنه، وذلك صحيح ولا يتنافى، وإنما يتنافى أنه يقصد الجواب عما سئل عنه والابتداء به خاصة.

726 - واحتج بأنه من حق الجواب أن يكون مطابقاً للسؤال، وذلك إنما يحصل المساواة. الجواب: إن أردتم بالمطابقة انتظام الجواب لجميع السؤال فذلك يحصل بالمساواة وحدها، وبالمساواة مع المجاوزة بدليل أنه قد ينتظم الجواب السؤال ويجاوزه إلى حكم غيره كقوله عليه السلام وقد سئل عن التوضي بماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه" وجاوزه إلى غيره فقال: "الحل ميتته". 727 - احتج بأن السبب كالعلة في ذلك الحكم، لأنه هو (المبين) للحكم والعلة (تقصر) على معلولها. الجواب: أنه إذا كان اللفظ مستقلاً بنفسه وهو أعم من السبب صار كعلة مبتدأة تنتظم أحكاماً، ثم هو كالعلة في مقدار ما يقابله من اللفظ وما زاد من اللفظ يعرف به حكماً ثانياً. 728 - احتج بأنه قد يكون في قصره على سببه مصلحة، لأنه لو لم يكن كذلك لم يؤخر بيانه إلى حين (السؤال) (الجواب): أنه يجب أن يقتصر على زمانه ومكانه لجواز (كون) المصلحة في ذلك وأما تأخيره فلجواز أن تكون

المصلحة في بيانه في هذه الحال، كما أخر بيان ما لم يسأل عنه وأجاب به مع السؤال كقوله في خبر (ماء) البحر، ثم يقابله بأنه لو كان بياناً لحكم السبب خاصة لبينه بجواب خاص، ولما عم (الجواب) دل على أنه قصد بيانه وبيان غيره. جواب آخر: يجوز أن يكون قد بينه فيما قبل ثم بينه الآن. 729 - واحتج بأنه جواب خرج على سؤال عام فقصر (عليه أصله إذا لم يستقل إلا بالسبب كما لو سأله أصلي في هذا الوقت؟ فقال: لا، أو نعم). (الجواب عنه أنا نقول: قد تقدم من أن)، هناك لا يستقل الخطاب بنفسه، ولا يحسن الابتداء به، بخلاف مسألتنا، فإن الخطاب مستقل بنفسه فصار كالمبتدأ به، ولأن هناك نعلم أن اللفظ (لم) يتناول غير ما وقع السؤال عنه، وها هنا هو عام فيما وقع السؤال عنه وما لم يقع. والله أعلم. 730 - مسألة: اللفظ العام إذا تعقبه تقييد بشرط أو صفة أو استثناء أو حكم، وجب حمل اللفظ على عمومه، ولم يجب تخصيص أوله بتخصيص آخره.

مثال التقييد بالصفة والشرط قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ثم قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ومعناه لعله (أن) يحدث رغبة في مراجعتهن وهذا لا يتأتى في البائن. ومثال التقييد بالاستثناء قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: والعفو لا يتأتى إلا من المالكة لأمرها وهي البالغة العاقلة. ومثال التقييد بالحكم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وهذا لا يكون إلا للرجعيات. وبهذا قال شيخنا وعبد الجبار/ 37 ب بن أحمد وأصحاب الشافعي.

وروي عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على أن أول اللفظ يخص بآخره قال في رواية أبي طالب يأخذون بأول الآية، ويدعون آخرها، وقال في رواية المروزي: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} هو علمه لأنه قال في أول الآية: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وقال في آخرها {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فجعل اللفظ العام مخصوصاً بأوله الخاص وآخره الخاص. وهو مذهب (بعض) الحنفية.

وقال أبو الحسين البصري يجب التوقف. 731 - وجه قول شيخنا: أن اللفظ العام يجب إجراؤه على عمومه إلا أن يضطرنا شيء إلى تخصيصه، وتخصيص آخره لا (يضطر) إلى تخصيصه، ألا ترى أنه لو قال: إلا أن يعفو البالغات منهن لم (يدل) ذلك على تخصيص أولها (وهذا لأن العموم ظاهر في الاستغراق تطرق إلى الشرط أو الاستثناء فحمل كل واحد منهما على مقتضاه، كجملتين عطف إحداهما على الآخر، ثم خص المعطوف بأمر يخصه من شرط أو صفة لا يقتضي عود ذلك المخصص إلى المعطوف عليه وإن اشتركا في العطف). 732 - احتج من (قال) بالتخصيص بأن الكناية ترجع إلى من تقدم ذكره، ومن تقدم ذكره هن المطلقات جميعهن

لا بعضهن فصار بمثابة قوله إلا أن يعفو النساء المطلقات، ولو صرح دل على أن النساء المذكورات في أول الكلام (هن) اللواتي يصح منهن العفو. الجواب: أن ظاهر الكناية الرجوع إلى الكل إلا أن يدل الدليل بوجوب تخصيص الكناية (به). وقد دل هاهنا وهو أن غير الجائزة الأمر لا يجوز عفوها، وهذا لا يدل على تخصيص الأول لأن الصداق يجب للبالغة العاقلة وغيرها من الصغيرة والمجنونة فلم يكن تخصيص الأخير مخصصاً للأول. 733 - احتج أبو الحسين: أن ظاهر العموم (الأول) الاستغراق، وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم، وليس التمسك بظاهر العموم والعدول عن ظاهر الكناية بأولى من التمسك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهر العموم فوجب التوقف. الجواب: أن التمسك (بظاهر العموم) أولى لأنه تمسك بظاهر اللفظ فهو أولى من التمسك بكنايته. جواب آخر: وهو أنه إذا دل الدليل على تخصيص الكناية جاز أن يستقل الدليل المخصوص بها، وجاز أن يرجع إلى ما تقدم

ذكره فهو مشكوك فيه، والاستغراق في لفظ العموم مستقر فلا ينصرف عن المستقر بالشك. 734 - مسألة: هل يجب أن يضمر في (المعطوف) جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه؟ فإذا وجب ذلك، وكان المضمر في المعطوف مخصوصاً، وجب أن يكون المعطوف عليه مخصوصاً أم لا؟ قال أصحاب أبي حنيفة بذلك كله (ولم يقل) به الشافعيون، وهو الصحيح عندي. 735 - مثاله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده". استدللنا (به) على أنه لا يقتل المسلم بالذمي. وقال الحنفية: إن النبي صلى الله عليه وسلم عطف (على) ذلك (قوله): "ولا ذو عهد في عهده" ومعلوم أن ذا العهد يقتل بالذمي

ولا يقتل بالحربي فكان (قوله): "لا يقتل مؤمن بكافر" معناه بكافر حربي لأن المضمر في المعطوف هو المظهر ما هو مظهر في المعطوف عليه فأضمروا في المعطوف ما هو مظهر في المعطوف عليه من القتل لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه. 736 - لنا أن المعطوف إذا قيد بصفة لم يجب أن يضمر فيه من المعطوف عليه إلا ما يصير به مستقبلاً، ألا ترى أن رجلاً لو قال: لا نقتل اليهود بالحديد ولا النصارى في الشهر الحرام لم يضمر فيه إلا القتل حتى يكون معناه لا تقتلوا النصارى في الشهر الحرام ولا (يحل) بحديد ولا بغيره، ولا يكون معناه لا تقتل النصارى في الشهر الحرام بالحديد وإنما (لم) يجب ذلك لأنه لما قيد المعطوف بزيادة (ليست) في المعطوف عليه، علمنا أنه أراد أن يخالف بينهما في كيفية القتل وأن يشرك بينهما في القتل حسب؛ لأن للزيادة التي في المعطوف عليه حكم آخر. فإن قيل: قوله في عهده (بمنزلة التأكيد لقوله ذو عهد وليس بزيادة حكم لأنه لو لم يقل في عهده لأفاد ذلك قوله "ذو عهد" لأنه إذا انقضى عهده فليس بذي عهد).

(الجواب عنه أنا نقول: قوله عليه السلام: في عهده) اقتضى أن النهي عن القتل بسبب ذلك، ألا ترى أنه لو قال لا يقتل مؤمن (بكافر)، ولا كافر في عهده لكان النهي تعلق بكونه (في عهده) كذلك (قوله) ولا ذو عهد في عهده. وأيضاً فإنه إذا اقتضى العطف أن يكون معناه ولا ذو عهد بكافر. ودل الدليل على أنه أراد الحربي لم يجب أن يخص اللفظ الأول العام لأن الاشتراك قد حصل في لفظ الكافر/68 أوالعطف يجوز مع الاشتراك (في) اللفظ وإن اختلفت الصفة (من اللفظ) ألا ترى أن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}. الصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة (هي) الدعاء: وإنما اشتركا في اللفظ دون المعنى. 737 - احتج بأن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكمه، وحكمه هو الذي عناه المتكلم وأراده، فلو جعلنا الكافر المذكور في المعطوف عليه عاماً وجعلناه في العطف خاصاً، لم يكن العطف مفيداً للاشتراك فيما قصده المتكلم لأنه قصد بأول الكلام العموم وبآخره الخصوص.

والجواب: أنا قد بينا أنه تعالى إذا قيد العطف بزيادة صفة علمنا أنه لم يقصد الاشتراك في الحكم. وجواب آخر: وهو أن الاشتراك في الحكم حاصل في اسم الكافر (وأما صفته) فلا يلزم الاشتراك فيها، ألا ترى أنه (لو) قال: ضربت زيداً وعمراً، وقام الدليل (على أنه) ضرب زيداً على صفة العمد بالسيف لم يجب أن يجعل ضرب عمرو بتلك الصفة لأجل العطف من غير دليل. 738 - احتج بعضهم بأن قال: ظاهر الأول (يقتضي) العموم، وظاهر العطف يقتضي أن يجعل حكم المعطوف (حكم) المعطوف عليه وهو مخصص فوجب أن يقف. الجواب: أنا قد بينا أن اشتراكهما في لفظ الكفر يستقل به العطف فلا يحتاج إلى اشتراكهما في المعنى بغير دليل. 739 - مسألة: إذا علق العموم حكماً على أشياء وورد لفظ يقيد تعليق ذلك الحكم على بعضها لم يجب انتفاء الحكم عما عدا ذلك البعض.

وحكي (أن) أبا ثور أوجب ذلك لأنه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم (في شاة ميمونة): "دباغها طهورها" يخص قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". 740 - لنا: أن لفظ العموم يقتضي الاستغراق، فلا يخص إلا بما ينافيه، ولا تنافي بين قوله: "دباغها طهورها" وبين قوله:"أيما إهاب دبغ فقد طهر" "فلم يجز" تخصيصه. فإن قيل: تعليقه الطهارة على تلك الشاة على أن ما عداها بخلافها. قيل: دليل الخطاب ليس بحجة في أحد الوجهين، وإن قلنا إنه حجة فصريح العموم أولى منه، لأن صريح العموم أولى من دليل صريحه. والله أعلم.

مسائل المطلق والمقيد

مسائل المطلق والمقيد 741 - (منها مسألة) إذا ورد لفظان أحدهما مطلق والآخر مقيد، لم يخل إما أن يكون ذلك في حكم واحد أو في حكمين مختلفين. فإن كان في حكم واحد. فلا يخلو أن يكون التعبد بهما بكونهما أمرين أو نهيين. 742 - فإن كان أمرين، مثل أن يقول سبحانه، إذا حنثتم فأعتقوا رقبة، ويقول في موضع آخر فإذا حنثتم فأعتقوا رقبة مؤمنة، فإنه يجب هاهنا حمل المطلق على المقيد لأن العتق واحد وقد اشترط الإيمان فيه. فإن قيل: لم قلتم إن العتق واحد؟ قلنا: لأنه لو لم يكن واحداً لوجب عتق رقبتين في الحنث لأن الأمر (المتكرر) يفيد تكرار المأمور به لا سيما إذا اختلفت صفته، ولا أحد قال هذا، فثبت أن المأمور به عتق واحد. فإن قيل: ألا حملتم (اشتراط) الإيمان على الندب لأجل المطلق، ولم تقيدوا المطلق لأجل المقيد.

قلنا: لأن المقيد أشد اختصاصاً بالأمر لأنه صريح فيه والمطلق أفاد الكافر بعمومه، والخاص أولى من العام. على أن هذا السؤال لا يصح إذا ورد التعبد في المقيد بلفظ الإيجاب لأن المطلق لا ينفي الإيجاب. فإن قيل: إن كان بمنزلة الخاص والعام فالخاص داخل في العام، فقل إن ما تناوله الخاص ثبت بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابت بالعام دون الخاص. قيل: (قد) تقدم الكلام في هذا في باب تخصيص العموم، على أنا متى جوزنا كافراً أسقطنا أمره بالمؤمنة، وأمره بالإيمان يقتضي الانحتام. 743 - فصل: وإن كان نهيين مثل أن يقول: إن حنثتم فلا تكفروا بالعتق، ثم يقول في موضع (آخر) إذا حنثتم فلا تكفروا بعتق كافر، فإن هذا ينبني على دليل الخطاب. فمن يقول ليس بحجة/68 ب يقول لا يجب العتق أبداً لأن النهي يفيد التأبيد ولا يخص النهي المقيد لأنه بعض ما دخل تحته، والشيء لا يخص بذكر بعض ما دخل تحته. ومن يقول بدليل الخطاب يقول: تخصيصه بالكافرة يدل على أنه يجوز أن يكفر بالمسلمة فيخص به اللفظ المطلق، ويكون كأنه

نهى في الموضعين عن الكافرة، ويجعل دليل الخطاب بمنزلة النطق في وجوب الاستعمال. 744 - فصل: وإن كان اللفظان في حكمين مختلفين لم يبن أحدهما على الآخر، سواء كان سببهما واحداً، كالكفارة فيها صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً مطلقاً, "أو" كان السبب مختلفاً مثل أن يأمره بالصلاة مطلقاً وبالصيام متتابعاً. (وقد قال): أحمد رضي الله عنه في رواية ابن منصور: إذا أخذ في الصوم فجامع في الليل استقبل فإن أطعم "فوطيء يبني" ليس هذا (من) هذا، والوجه في ذلك أن البناء في اللفظين يجب إذا كان الحكم مذكوراً في اللفظين، فأما إذا كان (الحكم مذكوراً) في أحد اللفظين غير الحكم (في) الآخر فلا تعلق

له به، فلا وجه للبناء، ألا ترى أن العام يبني على الخاص في الحكم الواحد، فأما (في) حكمين مختلفين فلا. 745 - فصل: فإن كان الحكم واحداً (والسبب) مختلفاً مثل نصه في كفارة الظهار على عتق المطلق، ونصه في كفارة القتل على عتق مقيد بالإيمان، فقد روى عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يبنى المطلق على المقيد قال في رواية أبي الحارث: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل: أليس التيمم بدلاً عن الوضوء والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنما قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}. ولم يقل إلى المرافق، وقال في الوضوء إلى المرافق، وقال في: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ومن أين يقطع السارق؟ من الكف "فظاهره أنه لم يبن التيمم المطلق على الوضوء المقيد وهو اختيار أبي إسحق بن شاقلا، وبه قال جل أصحاب أبي حنيفة. وقد روى عن أحمد ما يدل على أنه يبنى المطلق على المقيد، قال في رواية أبي طالب "أحب إليّ أن يعتق في الظهار مسلمة".

واحتج من قال بذلك: أن الله تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال تعالى في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ولم يذكر عدلاً. ولا يجوز إلا عدل، وظاهر هذا أنه يبني المطلق على المقيد من طريق اللغة، وبه قال أًحاب مالك وهو اختيار شيخنا، وقال جل أصحاب الشافعي يبني المطلق على المقيد، واختلفوا فقال بعضهم: يبني من جهة اللغة وقال بعضهم: يبني من جهة القياس (ويقوى عندي أنه لا يبنى المطلق على المقيد من جهة اللغة ويبني من جهة القياس). وبه قال أبو الحسين البصري وجل أصحاب الشافعي فالكلام في فصلين: أحدهما: أنه لا يبنى من جهة اللغة خلافاً لمالك وإحدى الروايتين واختيار شيخنا وبعض الشافعية، والثاني أنه يبنى من جهة القياس، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة والرواية الأخرى عن أحمد رحمة الله عليه.

746 - دليلنا على الأول، أن ظاهر المطلق يقتضي أن يحمل على إطلاقه، فلا يخص بالمقيد إلا أن يكون بينهما علاقة، إما من جهة اللفظ، وإما من جهة المعنى. فالعلاقة من جهة اللفظ: أن يكون المطلق معطوفاً على المقيد بحرف عطف أو إضمار وهذا غير حاصل في مسألتنا. والعلاقة من جهة المعنى: أن يتفق (العتقان) في علة التقييد، وهذا حمل بالقياس، وليس كلامنا فيه، وإذا لم يكن بينهما علاقة لم يحمل أحدهما على الآخر كما لو كانا من جنسين. 747 - دليل آخر: أنه يجوز أن يصرح الباري تعالى بالإيمان في كفارة القتل، وبالكفر في كفارة الظهار ولا تحمل إحداهما على الأخرى، كذلك إذا نص على الإيمان في كفارة القتل وأطلق في الظهار، لأنه في الموضعين لا وصلة بينهما. فإن قيل: هناك الحمل يفضي إلى إسقاط أحد النصين. (قلنا: وها هنا الحمل) يفضي إلى تخصيص العموم بغير دليل. 748 - دليل ثالث: أن اللفظ المطلق لا يتناول المقيد، فلو جاز أني جعل المطلق مقيداً لجاز أني جعل المقيد مطلقاً لإطلاق

غيره، وهذا لا يجوز/69 أكما لا يجوز أن يجعل العام خاصاً لتخصيص غيره (ولا الخاص عاماً) لعموم غيره، ولا المطلق مشروطاً للشرط في غيره، وارتكاب مثل هذا يمنع الثقة باللغة والرجوع إليها. 749 - احتج من نصر ذلك بأن (قال) حمل المطلق على المقيد لغة العرب قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} (ومعناه لله). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ}. وأراد نقصاً من (الأموال) (والأنفس والثمرات، ولكنه) لما قيد بالأموال اكتفى. وقال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني معناه أريد الخير وأتقي الشر.

وقال الآخر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف يعني نحن بما عندنا راضون فاكتفى بأحدهما عن الآخر كذا في مسألتنا. الجواب: أن جميع ما ذكروه حمل فيه المطلق على المقيد لأجل العطف، لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، يقال: رأيت زيداً وعمراً، معناه: ورأيت عمراً، فأما في مسألتنا فلا وصلة بينهما بعطف ولا غيره. جواب آخر: أنه إنما حمل هناك لأن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه، ولا يفيد فائدة فحمل على الآخر لموضع الحاجة إلى حمل الكلام على فائدة، بخلاف مسألتنا فإن كل واحد من الكلامين مفيد بنفسه، فلا حاجة بنا إلى حمله على الآخر إلا بدليل. جواب آخر: في المواضع المستشهد بها قامت دلالة لأن قوله: "والذاكرين الله كثيراً" أريد به الله تعالى لأن الكلام خرج مخرج المدح والحث على ذكر الله بدليل أنه قال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، ولا يكون ذلك إلا في ذكره تعالى. فأما بقية أنواع الذكر للناس أو الملائكة، فليس فيه هذا الثواب العظيم، وكذلك (الآية) الأخرى ذكر فيها الابتلاء وبشر الصابرين على ذلك بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وسمى كل شيء من ذلك مصيبة.

وكذلك قول الشاعر: "أريد الخير" مفهومه أن من يريد الخير لا يريد الشر. فإذا ثبت (هذا) فلم نحمله على ذلك إلا بدليل، وفي مسألتنا لا دليل في ذلك فوجب حمل أحدهما على الآخر إلا أن يكون من جهة القياس والمعنى وليس هو (من) مسألتنا. 750 - احتج: بأن الله سبحانه وتعالى قيد الشهادة في موضع بالعدالة، وأطلق في موضع، وحملنا المطلق على المقيد فلا نقبل إلا عدلاً. الجواب: أنا لم نشترط العدالة في الآية المطلقة بالتقييد في الأخرى بالعدالة وإنما بشيء آخر. جواب آخر: أنه قد قيد في الوضوء بالمرافق وأطلق في التيمم فلم نحمله عليه. وكذلك ذكر في كفارة الظهار "الإيمان" وأطلق في كفارة القتل (فلم) نحمله عليه فتقابلا. (جواب آخر: أنه قد ورد في القرآن رد شهادة الفاسق بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية فاشترط العدالة، كذلك لا نحمل المطلق على المقيد).

751 - احتج بأن قال القرآن كالكلمة الواحدة فيجب تقييد بعضه بما يفيد به البعض الآخر. الجواب: إن أردتم أنه كالكلمة الواحدة في أنه لا تناقض فيه فصحيح، (وإذا) كان صحيحاً لايتناقض، يجب تقييد بعضه (ببعض كالجنسين) المختلفين. وإن أردتم أنه كالكلمة في وجوب تقييد بعضه ببعض فهو نفس الخلاف ولهذا لم يقيد بعضه بما قيد به بعض فخالف في الحكم، ثم لو صح هذا (لوجب) أن يكون كل ما فيه عموم، (لأن فيه عموماً)، أو يجعل كل أمر فيه غير واجب لأن فيه أمراً غير واجب، أو يجعل كل إطلاق فيه مشروطاً. 752 - احتج بأنا نقول في الخبرين: أحدهما عام، والآخر خاص، يحمل العام على الخاص كذلك في المطلق والمقيد. الجواب: أنه لا فرق بينهما لأنا نقول بذلك إذا ورداً في حكم واحد وأما إذا وردا في حكمين فلا يخص العام بالخاص. 753 - فصل: (والدليل) على بناء المطلق على المقيد

من جهة القياس: (أن) المطلق يقتضي العموم، وتخصيص العموم جائز بالقياس، ولأن من منع تقييد المطلق بالقياس لا يخلو (أن يكون) منعه لأجل أن التخصيص لا يتأتى في العين الواحدة، وهذا عين واحدة، وهذا غلط لأن المطلق يشتمل على جميع صفات الشيء وأحواله/69 ب أو لأن القياس ليس بدليل أو دليل لا يخصص العموم، فالكلام (في) الأول يأتي في الدليل على القياس، والثاني قد مضى الكلام فيه، أو لأن تقييد المطلق زيادة (على) النص وهو نسخ. ونحن لا نسلم وسيأتي في باب النسخ، أو لأن الله تعالى استوفى حكم المطلق ونحن لا نسلم ذلك ونقول: الدليل على صحة علة القياس يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يستوف حكم المطلق بهذا الكلام كما قلنا في العموم. قالوا: في حمل أحدهما على الآخر قياس المنصوص على المنصوص (عليه) وذلك لا يجوز، لأنه يفضي إلى إسقاط أحد النصين، وهذا كما لا يجوز قياس القطع في السرقة على القطع في قطاع

الطرق في قطع اليد والرجل ولم يجز عندكم قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والرجلين. الجواب أن هذا قياس المسكوت (عنه) على المنطوق به، وذلك جائز ولا يفضي إلى إسقاط شيء، وأما قياس السرقة على المحاربة (والتيمم على الوضوء) في مسح الرجل والرأس فالإجماع منع منه، ومن شرط كون القياس حجة أن لا يعارضه نص ولا إجماع، وفي مسألتنا (لم يعارضه). 754 - فصل: فإن كان الحكم المطلق قد قيد في مثله بقيدين متنافيين نحو قضاء رمضان ورد قضاؤه مطلقاً، وقيد في صوم الظهار بالتتابع وفي صوم المتعة بالتفريق، فإنا نحمله على أحد التقييدين إذا كان بالقياس عليه أولى من القياس على الآخر. ومن قال: المطلق لا يحمل على المقيد (أو يحمل عليه) من جهة اللغة لا بحمله على أحد التقييدين لأن ليس عنده أحدهما أولى من الآخر، وقد مضى الكلام (في جواز ذلك) وجواز الحمل.

مسائل دليل الخطاب وفحواه

مسائل دليل الخطاب وفحواه 755 - مسألة: إذا علق الحكم بشرط مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع"، فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عداه، إلا أن يقوم دليل على تعلق الحكم بشرط آخر يقوم مقامه في تعلق الحكم به، فإذا انتفى الشرطان انتفى الحكم. فإن دل دليل على ثبوت الحكم (مع عدم) الشرط على كل حال علمنا أن ذلك ليس بشرط وأنه تجوز به، مثاله أن يقول: إن كانت المعتدة حاملاً فأنفق عليها، فإذا انتفى الحمل لم تجب النفقة. فإن قال: إن كانت المعتدة (الحامل) يملك ردها فأنفق عليها فإن النفقة تعلق بالشرط الأول وبالشرط الثاني، فإذا انتفيا

سقطت النفقة، وإن انتفى أحدهما لم تسقط، فلو قال: أنفق على المعتدة بكل حال سقط حكم شرط الحمل والرجعة. وعلم أنهما ليسا بشرط وكذلك قوله: إذا زنى المسلم وهو محصن حل دمه تعلقت الإباحة بذلك، فإن قال: وإن قتل حل دمه تعلقت إباحة دمه بشرط آخر قام مقام الأول، فلا يباح دمه مع عدم الشرطين إلا أن يعلقه (بشرط ثالث) فأما أن يباح دمه مع عدم الشروط (كلها) فذلك يبطل الشروط. وبه قال جل أصحاب الشافعي وأكثر المتكلمين وأبو الحسن الكرخي (حتى قال) لا يقبل شاهد ويمين، لأن الله تعالى شرط في الحكم الشاهد الثاني، فإذا لم يوجد لم يجز الحكم. وقال أبو عبد الله البصري وعبد الجبار بن أحمد البصري: لا يدل (الشرط) على أن ما عداه بخلافه.

756 - لنا ما روي (أن) يعلى بن أمية سأل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: "ما بالنا نقصر/ 70 أوقد أمنا"؟ فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله سبحانه بها عليكم فاقبلوا صدقته". فلو لم يعقلا من الشرط نفي الحكم عما عداه، لم يكن (لتعجبهما معنى). فإن قيل: إنما عجباً لأن الآيات أمرت بإتمام الصلاة، وإنما أباح القصر مع الخوف وبقى الإتمام واجباً فيما عداه بالآيات الدالة على التمام. قيل: ليس في القرآن آية تدل على إتمام الصلاة بلفظها خاصة ولهذا يقول المخالف: إن الأصل في الصلاة القصر ويروي عن عائشة كرم الله وجهها أنها قالت "كانت صلاة السفر والحضر ركعتين

فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر"، فدل على (أن) تعجبهما لبقاء الحكم مع عدم الشرط. جواب آخر: أنهما لم يرجعا (إلا) إلى الشرط ولهذا قال يعلي: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ وقد قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} ولم يقل والأصل هو الإتمام. فإن قيل: فالآية حجتنا لأن عدم الشرط لم يدل على عدم الحكم وهو القصر. قلنا: بل قد دل على منع القصر، وإنما قام دليل على إباحته (في موضع آخر)، (فرد) ظاهر دليل الخطاب، كما يرد دليل فيرد ظاهر العموم وظاهر النطق. جواب آخر: أنه قد يحتمل أن ذكر الشرط (يبين) أن السبب في نزول إباحة القصر كان الخوف ثم عمت إباحته كما قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فبين أن ذلك سبب الارتهان لا أنه شرط في الارتهان

فإن قيل: يحتمل أن يكون ذكر الشرط لتأكيد حال المشروط، لأنه إذا ورد مطلقاً ظن المكلف أنه لم يدخل فيه المشروط، بيانه أن يقول سبحانه وتعالى: ضحوا بالشاة وإن كانت عوراء، فيتوهم المخاطب أنه لو قال (ضحوا) بالشاة أنه لا يجوز العوراء فلما قيده بالعور بان أنه قد دخل في قوله ضحوا بالشاة. (قلنا: لم نقل) إن ما عدا الشرط (يكون) بخلافه لأنه لابد لذلك من فائدة فيبين (المخالف) هذه الفائدة. وإنما قلنا: (لأن) لفظة "إن" وضعت موضع الشرط فكأنه قال الشرط في هذا (القصر) الخوف، أو الشرط في هذا الحكم كيت وكيت، ولو قال ذلك لوقف الحكم عليه، كذلك إذا قال (إن) كان كيت وكيت فافعل الحكم. فإن قيل: لو منع الشرط من ثبوت الحكم مع فقده لكان قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} يدل على أنه لم (يحظر) الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصن.

قلنا: إنما شرط إرادة التحصن لأنهن إذا لم يردن (أن يتحصن لم تتصور كراهتهن) للبغاء، وإنما يقع الإكراه على البغاء إذا أردن (التحصن)، فصار إرادة التحصن شرطاً في الإكراه لا في الحكم. 757 - دليل آخر: (أن قوله يا زيد ادخل الدار إن دخلها عمرو). يفهم منه أن الشرط في دخولك الدار دخول عمرو، فعلم أنه لم يلزمه دخولها ما لم يدخل عمرو. 758 - دليل آخر: لو لم يقف الحكم على الشرط وجاز أن يوجد مع عدمه لجاز أن يكون كل شيء شرطاً في كل شيء حتى يقول: إن دخول (زيد) الدار شرط في كون السماء فوق الأرض، وإن وجد ذلك مع عدم الدخول لأن الشرط لا يختص به الحكم، وفي القول بهذا خروج عن اللغة والعقل. 759 - احتجوا بأنه لو وقف الحكم على الشرط، لما صح قيام الدلالة على ثبوت شرط آخر، يوجب ثبوت الحكم مع عدم الشرط الأول، ونحن نعلم أنه لو قال: إن دخل زيد الدار، فأعطه/70 ب درهماً (وإن) دخل المسجد فأعطه درهماً، فلو دخل المسجد ولم

يدخل الدار استحق الدرهم. (وإن) كان الشرط في استحقاق الدرهم دخول الدار أولا. قيل: إنما لم يمنع الشرط من قيام الدلالة على شرط آخر لأن الشرط الأول (لا يتعرض) للشرط الثاني بنفي ولا إثبات، ألا ترى أن قوله: إن دخل زيد الدار، فأعطه درهماً (أنه جعل) (من) كمال (الشرط) في عطيته دخول الدار، وذلك لا يتعرض لقوله وإن دخل المسجد فأعطه درهماً. (فإن قيل: لا يتعرض قوله إن دخل الدار) فأعطه درهماً لقوله وإن لم يدخل. قلنا: بل قوله وإن لم يدخل إبطال للشرط ورجوع عنه (لأنه يستحق) الدرهم بكل حال ولو لم يدخل قط، بخلاف قوله وإن دخل المسجد لأنه قام مقام الشرط الأول شرط ثان لا يستحق (به) العطية إلا (بكل) واحد منهما فلا تكون العطية مستحقة مع عدم الشرط الأول بكل حال لأن العطية تقف عليهما

فإن قيل: إذا لم يناف الشرط الآخر، لم يدل على أن ما عدا الحكم بخلافه. قلنا: بل يدل (على) أن ما عداه بخلافه، مع كونه لم يذكر شرطاً آخر (لأنه لو أراد شرطاً آخر) لذكره، أو دل عليه، فلما سكت وأطلق دل (على أنه) علق الحكم بهذا الشرط خاصة فلم يثبت عدمه. 760 - فصل: فأما قول الكرخي إن الشاهد الثاني شرط في الحكم، فإن أراد به أنه ذكر بلفظ الشرط، فمعلوم أنه ليس في الآية لفظ شرط، وإن أراد به أنه ذكر بلفظ الشرط (أن) الحكم لا يجوز مع فقده في حال ويجوز في حال، فهكذا نقول: إنه لا يحكم (بالشاهد) حتى تنضم إليه اليمين، وإن منع منه لأنه زيادةف ي النص، والزيادة في النص نسخ فلا نسلم أن الزيادة في النص نسخ (وسيأتي الكلام في ذلك). 761 - فصل: إذا علق الحكم بغاية وحد (منع)

ظاهرها من ثبوت الحكم بعدها لأن قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يجري مجرى قوله: صوموا صياماً غايته ونهايته الليل، لأن إلى للغاية والحد، ولو قال ذلك لم يدخل الليل في الصوم لأنه لو دخل الليل في الصوم خرج الليل أن يكون آخر الصوم ونهايته بل (جاز) أن يكون الليل وسطاً للصوم. فإن قيل: أليس يجوز أن يدل دليل على أن الليل ليس بنهاية الصوم؟ (بل) يجب صوم جزء من الليل. قلنا: إذا دل دليل على ذلك صرفنا عن الظاهر وصارت الغاية مجازاً، كأنه أراد أن الغاية (مرتبة) من نهايته وغايته، وقد تصرف عن الظاهر بل عن الحقيقة بدليل. 762 - فصل: فإن علق الحكم بعدد، دل على أن ما عداه بخلافه نص عليه أحمد في رواية محمد بن العباس وقد

سئل عن الرضاع فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" فأرى الثالثة تحرم. وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية. وقال أصحاب أبي حنيفة والمعتزلة والأشعرية وجل أصحاب الشافعي وابن داود: لا يدل على أن ما عداه بخلافه. 763 - ولنا: ما روى يحيى بن سلام في تفسيره عن قتادة لما نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ

اللَّهُ لَهُمْ}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين" فأنزل الله تعالى في سورة المنافقين {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل أن ما بعد السبعين يخالف حكم (ما قبل) السبعين. فإن قيل: الكافر لا (يغفر) له من جهة السمع، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فغير جائز أن يخالفه الرسول، وبان (أن) الخبر غير صحيح. قلنا: الخبر ثابت مشهور (لم) يختلف في صحته، فأما استغفار النبي صلى الله عليه وسلم (فكان) قبل تسميتهم كفارا، وقبل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} /71 أومغفرة الله سبحانه لا يحيلها العقل فلهذا قال ذلك. فإن قيل: فإذا كان العفو جائزاً، والاستغفار جائزاً، فإن ما زاد على السبعين بحكم ذلك لا بدليل الخطاب.

قلنا: قوله لأزيده يدل على أنه فهم الزيادة من دليل الخطاب، وأن ما زاد على السبعين بخلافها، وإلا فالمباح كله لا يخصص بعدد. فإن قيل: إنما ذكر الله تعالى السبعين على عادة العرب في مبالغتها، تقول: لا أفعل ذلك ولو سألتني سبعين مرة، ولو جئت إلى سبعين مرة ما رضيت مبالغة للنفي لا أن مرادها أنك إذا زدت على السبعين (مرة) فعلت ورضيت. قلنا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لأزيدن" يدل على أنه فهم أن الزيادة تخالفها، لأنه لو أراد ذلك لفهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه منعه من الاستغفار وحسم طمعه من العفو، فما كان يجوز له المخالفة لأنه سبحانه وتعالى قد (عصمه عن مخالفته) ووفقه لطاعته. فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد فلا يثبت به أصل. قلنا: هذا لغة وإذا اشتهرت اللغة في كتاب واحد كفى وبهذا نقبل قول الخليل وسيبويه

وابن الأعرابي والفراء وغيرهم إذا حكى الواحد منهم عن العرب على أن هذا يتضمن عملاً، وخبر الواحد يثبت به العمل. وأما قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. لما علق الإباحة بالأربع دل على أن ما زاد لا يجوز، وخصصنا به قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وكذلك عقلت الأمة من تعليق الحد في الزنا بمائة، وفي القذف بثمانين أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في أربعين من الغنم السائمة شاة" "خص به قوله" في الغنم صدقتها.

764 - دليل آخر: أنه (نيط) باللفظ ما لو اختزل منه عم فتضمن (ذلك) نفياً وإثباتاً. أصله الاستثناء وأيضاً فإن الحكم لو ثبت فيما زاد على العدد المذكور لم يكن لذكر العدد فائدة، (وكلام) الحكيم لا يجوز أن يعرى عن فائدة ما أمكن، كما لا يجوز أن يخلي ذكر الشرط والغاية والحد عن فائدة. 765 - احتج: بأن تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد ولا عما نقص لجواز أن يكون في تعليقه بذلك العدد فائدة سوى نفيه عما زاد ونقص على ما نبينه في تعليق الحكم بالصفة. الجواب: أنا قد بينا أن فائدته (في) نفي الزيادة والنقصان وما يذكره (من فائدة) يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. 766 - فصل: فإن علق الحكم باسم دل على أن ما عداه بخلافه، نص عليه وبه قال بعض الشافعية ومالك

وداود. وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين لا يدل على أن ما عداه بخلافه. 767 - لنا: أنه إذا علق الله سبحانه وتعالى الحكم على الاسم الخاص. ولم يعلقه على الاسم العام علمنا أنه غير متعلق عليه إذ لو كان متعلقاً عليه لما عدل (عنه) إلى الخاص، مثاله أن يقول: "في سائمة الغنم الزكاة" دل على أنه لا زكاة في النعم، لأنه لو كان فيها زكاة لقال: في النعم زكاة، لأنه أخص وأعم، والنبي صلى الله عليه وسلم تمدح باختصار الكلام وجمع المعاني فقال: "أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً".

(ولهذا لما قال: "فجعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهورا" دلنا على أن غير التراب منها لا يطهر). 768 - دليل آخر: أن الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره كالصفة تميز الموصوف من (غيره) ثم إذا علق على صفة دل على أن ما عداه بخلافه. وكذلك إذا علق على اسم وهذا يسلمه من خالف من الشافعية/71 ب في الاسم فإنه يوافق في الصفة، ومن منع الصفة ينتقل الكلام إليها، وكالغاية (مع) الجميع تميز ذلك الزمان من غيره. والحد يميز ذلك المكان من غيره. فإن قيل: فرق بينهما، لأنه في الصفة يذكرها مع اسم فلا تفيد إلا تخصيصه وفي الاسم (يعدل) من اسم إلى اسم كل واحد منهما يقع به التعريف فلا يوجب ذلك التخصيص. قلنا: إذا عدل من الأعم إلى الأخص، دل على أنه قصد التخصيص، ثم يلزم عليه إذا قال في السائمة الزكاة، فإنه يفيد إسقاط الزكاة عن المعلوفة، وإن لم يتقدم ذلك اسم يخصه، كذلك في الاسم.

فإن قيل: الصفة يجوز أن تكون علة، يعلق الحكم عليها والاسم لا يجوز أن يكون علة فلا يتعلق الحكم عليه. قلنا: لانسلم، وبهذا نقول في التيمم، عدل عن التراب فلم يجزه، فنجعل العلة اسمه تراباً، وقد قال أحمد يجوز الوضوء بماء الباقلاء لأنه ماء وإنما أضفته إلى شيء لم يفسده. فإن قيل: العرب تجمع بين (الأجناس) المختلفة في الحكم، فتقول اشتر لحماً وخبزاً وتمراً، ولا تقيد الاسم بصفة، وغير الصفة عندها بمنزلة الصفة. فتقول: اشتر (لي) تمراً برنيا، وغيرها البرني (عندها) سواء. قلنا: لا فرق بينهما فإنه إذا قال: اشتر لي خبزاً، لم (يجز) أن يشتري له غيره مثل الصفة، ولو قال في الصفة اشتر تمراً برنيا وطبرزذا ومعقلياً جاز. 769 - احتج الخصم بأنه لو قال: زيد أكل، لا يدل على أن عمراً لم يأكل. (الجواب عنه أنا نقول لا نسلم ونقول يدل عليه إذا علمنا أنه يريد الإخبار عنهما، مثل أن يقول: دعوت زيداً وعمراً فأكل زيد،

يدل على أن عمراً لم يأكل) ثم هذا (لا) يجوز أن يكون في الخبر، لأن الإنسان قد يكون له غرض في الإخبار عن زيد (دون عمرو، فأما المكلف الموجب إذا أراد الإيجاب على زيد) وعمرو فلا معنى لقوله: أوجبت على زيد، ويمسك عن عمرو، إلا لأنه لا يجب عليه. فإن قيل: يحتمل أن يوجبه بلفظ آخر أو دليل آخر. قلنا: فإذا لم يأت بدليل آخر في الإيجاب عليه وأمسك، دل على أنه لم يوجب عليه، إذ لو أوجب عليه لبينه أو دل عليه. 770 - احتج بأنه قال: تعليق الحكم على الاسم يسد باب القياس لأنه إذا قال: لا تبيعوا البر بالبر، يجب أن لا يقاس عليه الأرز لأن تخصيصه بالاسم يوجب أن يكون التفاضل جائزاً فيما سواه. الجواب أن الكلام في مقتضى اللغة، والقياس شرعي، فيجب أن يثبت له دليل في اللغة ويمنعه في الشرع. جواب آخر: أنا نقول يستعمل ما لمي سقط معنى اللفظ وهو القياس فإذا أفضى إلى إسقاط معنى اللفظ أطرح، كما نقول: إنه يستعمل ما لم يسقط فحوى الخطاب وهو التنبيه، فإذا أسقط التنبيه سقط، ألا ترى أنه إذا قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يدل على أن

غير التأفيف يجوز، لكن لما كان يسقط التنبيه وهو أن الضرب أكثر في الهوان (من التأفيف) أسقطنا الدليل. 771 - فصل: فإن علق الحكم على صفة، (دل) على أن ما عداها بخلافه، وبه قال جل أصحاب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتكلمين وبعض الشافعية لا يدل على المخالفة وهو اختيار أبي الحسن التميمي من أصحابنا. 772 - لنا: أنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، روى أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" فدل على اختصاصهم بذلك. وعن الأنصار أنهم احتجوا على أن التقاء الختانين لا يوجب الغسل بقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء".

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه (احتج) على الصحابة في ميراث الأخت مع البنت بقوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فأثبت للأخت الميراث مع عدم الولد، فدل على أن مع (الولد) لا ترث، وكذا قوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فدل على أنها لا تزاد وأقرته الصحابة على دليل الخطاب. وكذلك احتج بأنه لا ربا في النقد بقوله: "إنما الربا في النسيئة" ولم ينكر عليه (أحد) /72 أهذا الاستدلال، بل عارضوه، فدل على (اتفاقهم) أن دليل الخطاب حجة بمقتضى اللغة. فإن قيل: (قوله): "الأئمة من قريش" (جعل جملة الأئمة من قريش) بلام الجنس لأن اللام تقتضي الاستغراق فلا يبقى إمام في غيرهم، فلهذا احتج به أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وكذلك قوله "الماء من الماء" يقتضي ثبوت جنس الغسل،

جميعه (من) الماء فلا ينفي غسل من غير الماء الذي هو الإنزال. وكذلك قوله: "إنما الربا في النسيئة" ولفظة "إنما" للحصر، فلهذا احتج على نفي ما عداه لا من دليل الخطاب. قلنا: المخالف لا يفرق بين لام الجنس وبين الصفة، ولهذا قال (في قول) النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم" أنه احتجاج بدليل الخطاب ولم يأخذوا به، وكذلك لم يفرقوا بين "إنما" والصفة، لأنهم قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" أنه احتجاج بدليل الخطاب فلا حجة فيه. وفيه ضعف. فإن قيل: لم يرجعوا في هذه المواضع إلى دليل الخطاب، وإنما رجعوا إلى الأصل وذلك أنهم أثبتوا الميراث والغسل والربا في النسيئة بالنطق ورجعوا فيما لا خطاب فيه إلى الأصل، وهو أنه لا ميراث ولا غسل ولا ربا محرم. قلنا: لم يرجعوا إلا إلى دليل الخطاب بدليل أنهم قالوا "إنما الماء من الماء" نسخ بخبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين

ولا ينسخ إلا ما ثبت حكمه فدل على أن دليل الخطاب قد ثبت حكمه، وكذلك (عارضوا ميراث الأخت بالسنة، وكذلك في الربا) عارضوه بالسنة. 773 - دليل آخر: أن العرب فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بصفة، كما فرقوا بين المطلق والمقيد في الاستثناء (في أن) حكم (المستثنى) غير حكم المستثنى منه، كذلك تدل الصفة على أن (حكم) ما عداها بخلاف حكمها. فإن قيل: نحن نفرق بين مطلق الخطاب وبين المقيد بصفة، فنقطع على ثبوت الحكم في مطلق الخطاب، لوا نقطع على ثبوت الحكم في المقيد بصفة مع فقد الصفة. قلنا: إنما شككتم في ثبوت الحكم المقيد بصفة مع فقدها (إلا أن) الظاهر يعطي أن ما عداها بخلافها لأن قوله اشتر لي خبزاً سميذا يدل على أنه لا يريد شراء (الخبز) الخشار، ولهذا لو اشتراه حسن لومه وعقوبته، ويقول: لما أمرتك بحواري دل

على أني لا أريد (شراء) الخشار. 774 - دليل معتمد آخر: أن الحكيم إذا أتى بكلام عام لأنواع فلم يعلق به الحكم إلا بعد أن قيده بصفة تتناول بعض تلك الأنواع، علمنا أن ذلك الحكم لا يعم تلك الأنواع إذ لو عمها لم يكن لتكليف ذكر الصفة فائدة. فإن قيل: في ذكر الصفة فوائد غير انتفاء الحكم مع عدمها، والفائدة أن يكون (قد) أطلق القول لتوهم متوهم أن الصفة خارجة منه فيذكر الصفة لإزالة هذا الإيهام، مثاله أن يقول: ضحوا بشاة عوراء يعلم أنه لو قال ضحوا بشاة/72 ب توهم المخاطب أنه لا يجوز عوراء فذكر عوراء لتدخل في الجملة وتكون غير العوراء أولى بالجواز. قلنا: كلامنا في عادة العرب، وهي لا تقصد في كلامها قطع التوهم وإزالته ولهذا تكلم بالحقيقة ولها مجاز وبالمجاز وله حقيقة، وتطلق، وكذلك تكلم بالعموم مطلقاً وإن تطرق عليه توهم التخصيص. فإن قيل: الغاية (الثانية) يحتمل أن تكون الصفة قد وقع

(الابتلاء بها)، وما عداها لا يشتبه فيه، (فينص عليها) مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، وإن كان لا يجوز قتلهم بحال. قلنا: ما هذه سبيله تكون الصفة تنبيهاً على ما ليست فيه الصفة، فقد تعلق بذكر الصفة فائدة وقدم (ذلك على) دليل الخطاب لقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. جواب آخر: أن هذه الفائدة التي ذكروها لا تمنع أن يكون الظاهر من الاستعمال تخصيص الموصوف بالحكم لأن ذلك هو الأغلب في الاستعمال والحكم يتبع ذلك دون ما يجوز أن يراد به، كما يجوز أن يراد بالعموم الخصوص وإن كان الظاهر العموم. فإن قيل: والفائدة الثالثة أن تكون المصلحة أن يعلم حكم الصفة بالنص وعرف حكم ما عداها بالقياس عليها أو بنص آخر كما نص في الأجناس الستة. قلنا: الكلام في اللغة والعرب لا تعرف المصالح التي تدعونها، لأنها شرعية، ثم لو كان ذلك، لبين النص على ما لا صفة فيه أو نبه على ذلك.

فأما الأعيان الستة فقد نبه على علتها فقال: "ما كيل مثل بمثل وكذلك الميزان". جواب آخر: أنا إذا عرفنا بطلان هذه (الأقسام من) قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم الزكاة" ولم نجد دليلاً نافياً للزكاة عن المعلوفة ثم (اتفقنا) أن الزكاة لا تجب فيها فما نفينا إلا بدليل الخطاب. 775 - دليل آخر: أن تقييد الاسم بالصفة يقتضي التخصيص، لأنه لا يجوز أن يقول: أعط رجلاً طويلاً أو أبيض، والطويل والقصير والأبيض والأسود عنده سواء، فإذا ثبت هذا قلنا كل ما اقتضى تخصيص الاسم (العام)، اقتضى المخالفة بين المخصوص والمخصوص منه كالعام المخصص., 776 - دليل آخر: أنه يجب أن تدل الصفة على انتفاء الحكم عما عداها لتكون أعم لدلالتها. فإن قيل: إنما يجب ذلك إذا وضعت اللفظ لذلك الشيء، وهذه لم توضع لنفي ما عدا الصفة. قلنا: قد بينا أنها قد وضعت لذلك بما تقدم.

777 - احتج المخالف: بأنه إذا دل المقيد بصفة، على أن ما عداه بخلافه، لدل عليه إما بصريحه ولفظه، وإما بفائدته/ومعناه، وليس يدل عليه من كلا الوجهين، لأن الصريح (ليس فيه ذكر لما عدا الصفة لأن قوله أدوا الزكاة من السائمة لا ذكر فهي للمعلوفة)، والمعنى والفائدة أن يقال: لو كانت الزكاة تجب في غير السائمة، كما تجب في السائمة، لما تكلف ذكر السوم لأنه لا فائدة فيه، وقد بينا أن له فوائد غير انتفاء الحكم وهو ما (مضى) في أدلتنا، فإذا (ليس) يدل عليه. الجواب: أنه يدل عليه بصريحه وفائدته، أما الصريح فقد (بينا) أن الصحابة رضي الله عنهم فهمت من صريح اللفظ ذلك، وهم أهل اللسان، وقوله ليس فيه ذكر لما عدا الصفة يبطل بقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه ليس في لفظه ذكر الضرب، ويدل بصريحه على المنع من الضرب. وأما فائدته: فقد بينا أن الحكيم لا يذكر لفظاً لا فائدة فيه، وما ذكروه من الفوائد فقد بينا الكلام عليها ولأن الظاهر ما ذكرنا وإن جاز أن يكون ما ذكروه فائدة نادرة.

778 - احتج: بأن إثبات ذلك لا يخلو (إما) أن يكون عقلاً، أو نقلاً، فالعقل لا مدخل له في إثبات اللغة، والنقل إن كان تواتراً فيجب أن يستوي في علمه، وإن كان آحاداً، فلا يثبت به أصل. الجواب: أنه قد مضى الكلام في مثل هذا وقلنا: إنا نثبت ذلك (باستقراء) كلامهم ومعرفة مذاهبهم، وقد بينا عادة أهل اللسان وأقوال الصحابة رضي الله عنهم (وقد قال) أبو عبيد رضي الله عنه في الغريب في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتليء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" إن هذا يدل على أنها (إذا) لم تمتليء بالشعر جاز. وفي قوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" يدل على أن لي غير الواجد لا يحل عرضه وعقوبته. وهو أوثق من نقل اللغة عن أهلها وعرف

مقاصد كلام العرب وتبحر فيه وذكر ذلك في كتب اللغة، حتى لا يقال إنه كان (له اختيار) في (اللغة)، فيحتمل أن يكون هذا من اختياره. 779 - واحتج بأنه لو دل تعليق الحكم بصفة على (أن) ما عداه بخلافه، لما جاز إبطال دلالته بدليل منفصل عنه يدل على أن ما عداه مثل حكمه كما لا يجوز ذلك في اللفظين. الجواب عنه أنا نقول: تعليق الحكم بصفة، يدل على أن ما عداه بخلافه إذا علقه بالصفة فقط، (أما إذا علقه بالصفة) وبما عداها فما خص الحكم (معه) فلا يكون دلاله. فإن قيل: فيجب على هذا أن لا يستدلوا بتعليق الحكم بالصفة إلا أن (لا) يجدوا في الأصول تعليق الحكم بغيرها، وأنتم لا تفعلون ذلك. قلنا: قد ذكرنا في العموم أنه لا يحمل على الاستغراق حتى نطلب المخصص فلا نجد، فكذا نقول هاهنا. وقال شيخنا: لا نقف في العموم "على طلب" التخصيص، وكذلك هاهنا

(لأن) الظاهر/73 ب أن المتكلم لما ذكر الصفة قصد تخصيص الحكم بالصفة. جواب آخر: أنه لا يمتنع أن يكون ظاهر تعليق الحكم بصفة يدل - وإن جاز أن يرد دليل - على أن ما عداه مثله، فيخالف الظاهر كلفظ العموم ظاهره يقتضي الاستغراق ويجوز أن يرد دليل مخصص يخرجه عن الاستغراق. فإن قيل: لفظ العموم إذا خص لا تبطل دلالته فيما بقى بعد التخصيص، وهاهنا إذا وردت دلالة أن ما عدا (الصفة في) الحكم مثل الصفة، بطلت دلالته. قلنا: قد بينا أنها دلالة إذا خصص الحكم بها، فأما إذا لم يخص بها فليست دلالة. جواب آخر: أن العموم إذا خص حتى يبقى واحد، فإنه يبطل أن يكون عموماً ولا يخرجه ذلك (أن يكون) عموماً قبل التخصيص كذلك هاهنا مثله. 780 - احتج: بأنه لو قال في الخبر: زيد الطويل في الدار (لم) يدل على (أن) القصير ليس في الدار كذلك (في) الأمر.

الجواب: أنه إذا استخبر عن الأزياد (فقال) زيد الطويل، دل على أن القصير ليس في الدار فلا نسلم. جواب آخر: في الخبر قد يكون له غرض في إخباره عن واحد دون الآخر بعلمه أن الآخر متى أخبر عنه استقر، بخلاف الأمر فإنه لا غرض للأمر في تعليق الحكم بصفة وعدوله عن عموم اللفظ وهو أن يقول: "في الغنم السائمة الزكاة" وعنده أن في المعلوفة أيضاً تجب الزكاة، لأن ذلك عبث ولو بين فيه غرضاً ما فهو شاذ الظاهر ما ذكرنا. 781 - احتج بأن أهل اللغة فرقوا بين العطف والنقض فقالوا: قوله أكرم البيض والسود، عطف وليس بنقض، ولو كان دليل الخطاب صحيحاً، لكان ذلك نقضاً لأن قوله، أكرم البيض، يقتضي أن لا يكرم السود، فإذا قال: والسود نقض. والجواب: أن قد بينا أن الصفة تكون دليلاً إذا خصها بتعليق الحكم، فأما إذا ذكر مع البيض السود لم تكن الصفة دليلاً، ولأنه يبطل بالغاية فإنه لو قال: اغسل يديك إلى المرافق، يدل على أنه لا يغسل (ما فوق) المرافق، فلو قال: واغسل ما فوق المرافق سقط حكم الغاية وكذلك في الشرط (فإنه) لو قال: أعط زيداً درهماً إن دخل الدار اقتضى أن لا يعطيه (إذا) لم يدخل (الدار).

فلو قال: أعطه إن دخل (الدار) وإن لم يدخل (الدار)، جاز وسقط حكم الشرط. 782 - احتج بأنه لا يجوز أن يكون (ذلك) دليل على حكم، ويوجد ذلك الدليل عارياً عن الحكم، وقد وجدنا دليل الخطاب موجوداً، والحكم معدوم بدليل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ونحن نعلم أنه لا يجوز قتلهم مع عدم الإملاق. وأيضاً قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} والظلم لا يجوز في 74 أ/ كل الشهور، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وهو منذر لجميع الخلق. فعلمنا أن تخصيص الشيء ببعض أوصافه، لا يدل على أن ما عداه بخلاف حكمه. الجواب: قد بينا أن دليل الخطاب يثبت ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وها هنا عارضته أدلة أقوى منه من تنبيه وغيره، على أنه قد قيل في الشهور.

أراد: "لا تظلموا فيهن" يرجع إلى الإثنى عشر شهراً. جواب آخر: أن إسقاطه في بعض المواضع لا يدل على أنه ليس بدليل، ألا ترى أن العموم قد يكون غير مستغرق في مثل قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ولم تؤت مثل فرج الرجل ولحيته، وفي قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (وما) دمرت السموات والأرض (والجبال)، ومثل قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومعلوم أنه لم يخلق نفسه وصفاته، ولا يخرجه ذلك أن يكون دليلاً من جهة العموم. 783 - احتج: بأنه لو كان الخطاب دليلاً لجاز أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل، كما جاز أن يبطل حكم الدليل ويبقى حكم الخطاب ألا ترى (في) قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" يقتضي (إن كان) بإذنه (أن) لا يكون (نكاحها) باطلاً، وعندكم هو باطل بأصل الخطاب.

الجواب عنه: أن شيخنا ذكر وجهين، أحدهما أنه يجوز أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل لأنه بمنزلة الخطابين، فإذا بطل أحدهما لم يبطل الآخر. والثاني: أنه يبطل حكم الدليل ببطلان الخطاب، لأنه فرعه ونتيجته، فإذا سقط الأصل سقط فرعه ويفارق الخطابين فإنه ليس أحدهما فرع الآخر. 784 - احتج بأنه لو كان دليل الخطاب حجة، لما جاز تركه بالقياس. كما لا يجوز نسخ الخطاب بالقياس. الجواب: أن دليل الخطاب بعض مقتضى الخطاب، ويجوز ترك بعض مقتضى الخطاب بالقياس. ألا ترى أنا نترك العموم إلى الخصوص بالقياس، وكذلك نعدل (عن) الظاهر بالقياس فكذلك في دليل الخطاب. 785 - احتج بأنه لو كان دليل الخطاب حجة لما جاز تخصيصه لأنه مستنبط من الخطاب وما استنبط من اللفظ لا يجوز تخصيصه كالعلة. الجواب: أنه ليس بمستنبط من اللفظ، وإنما اللفظ بنفسه يدل عليه بمقتضى اللغة، فجاز تخصيصه كالخطاب نفسه. فإن قيل: لو كان حجة بنفس اللفظ، ما جاز استفهامه، كنفس اللفظ الصريح ومعلوم أنه لو قال أعط رجلاً أبيض، حسن أن يقال: ولا تعط أسود ولا يحسن مثل ذلك في الصريح فنقول: أعط أبيض.

الجواب: أنه يحتمل أن يقول: لا يحسن الاستفهام، ولهذا يحسن أن ينكر عليه لو أردتك/ 74 ب تعطي أسود لقلت (لك) أعط رجلاً، ولم أصفه بالبياض، ومن قال: يحسن الاستفهام يقول: إنما حسن لأنه يجوز أن يكون قد علق الحكم على أحد وصفيه، ليدل على المخالفة ويحتمل أن يكون قد خص وصفه للشرف والفضيلة فيحسن الاستفهام ليزول الاحتمال، ويخالف الصريح فإنه لا احتمال فيه، فلم يحسن الاستفهام. 786 - احتج: بأنه ليس في كلام العرب كلمة تدل على شيئين متضادين، وهاهنا (يقولون) هذه اللفظة تدل على إثبات الحكم ونفي ضده. الجواب لا نسلم فإن التعليق بالغاية يدل على إثبات الحكم فيما قبل الغاية، ونفيه عما عداها، وكذلك الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده وهما متضادان، على أن اللفظ لا يدل على الشيئين المتضادين من طريق واحد، وهاهنا دلت على الحكم (من) صريح اللفظ وعلى نفي ما عداه من دليله وفائدته. 787 - واحتج بأن الصفة جعلت للتمييز بين الأنواع فالتعليق عليها لا يدل على نفيه عما عداها (كالاسم).

الجواب: أنا لا نسلم، وقد تقدم ذلك (وبيانه). 788 - فصل: إذا علق الحكم على صفة في جنس، كقوله: "في سائمة الغنم زكاة" دل على نفيه عما عداها في ذلك الجنس خاصة، ويحتمل أن يدل على النفي فيما عداها في جميع الأجناس وهو قول بعض الشافعية وذكر شيخنا أنه ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله. 789 - لنا: أن دليل الخطاب نقيض النطق، (والنطق) لم يتناول إلا سائمة الغنم، فنقيضه يجب أن يتناول معلوفتها حسب، هذا كما نقول في التخصيص لا يتناول إلا ما دخل تحت عموم الجنس وكذلك الاستثناء (عندنا) لا يكون إلا من الجنس. 790 - احتج بأن السوم يجري مجرى العلة في تعلق الحكم به، والعلة حيث وجدت تعلق الحكم بها. الجواب: أنا لا نسلم أنه علة، وإنما هو أحد وصفي العلة، والغنم الوصف الآخر، لأن الحكم تعلق بمجموعها. فإذا انفرد أحد الوصفين، لم يجز أن يعلق الحكم عليه، لأنه بعض العلة، ألا ترى

أنه (لا) يحسن أن يقال: لا زكاة في الخيل والبغال لأنه ليست سائمة. 791 - فصل: إذا علق الحكم على لفظة "إنما" دلت على إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما (عداه) نحو قوله: "إنما الأعمال بالنيات" خلافاً لبعض المتكلمين لأنها لا تقتضي نفي الحكم عما عدا المذكور. 792 - لنا: أن المفهوم من قول القائل: إذا سئل هل في الدار رجال؟ فقال: إنما في الدار زيد. أنه ليس فيها سواه. ومثل ذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} "أي" لا إله إلا وكذا/75 أقول الشاعر: أنا الرجل الحامي الديار وإنما ... يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلي

مسألة: التنبيه دليل صحيح، مستفاد (من) فحوى الخطاب ولحنه، لا من صريحه

793 - احتجوا بأن "إنما" مركبة من "إن" و"ما" ولو أن رجلاً قال: إن زيداً في الدار لم يدل على أن غيره ليس في الدار وكذلك إذا قال ما زيد في الدار لم يعقل ذلك، فإذا اجتمعا لم يفيدا ذلك، بل يدل على تأكيد الإثبات، والإثبات لا يدل على النفي. الجواب: أنا قد بينا أن المفهوم من قولهم: إنما زيد في الدار نفي من عداه. 794 - مسألة: التنبيه دليل صحيح، مستفاد (من) فحوى الخطاب ولحنه، لا من صريحه، مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يفيد تحريم التأفيف بصريحه، (ويفيد تحريم) الضرب بفحواه ولحنه أي مفهومه، وذلك ما يظهر للسامع (من) معنى اللفظ، مأخوذ من قول أهل اللغة، فح قدرك بالأبزار أي ظهر طعمها وريحها وكذلك لحنه قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي في مفهومه وما يظهر لك بالفطنة، ويقال: تلاحن الرجلان، إذا تكلم كل واحد منهما بما يفهمه عنه صاحبه، قال الشاعر: منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الكلام ما كان لحنا

أي (ما كان) مفهوماً. وقال قوم: التنبيه ليس بدليل: قال شيخنا: سمعت أبا القاسم الجزري يحكي أنه مذهب داود، فعلى هذا يكون النهي عن التأفيف (يحرم التأفيف) لا غير. 795 - ولنا أن كل عام يفهم من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أنه قصد (به) كف الأذى (عن الأبوين)، وكذلك إذا قال القائل لعبده: لا تقل لفلان أف عقل منه نهيه عن أذاه بكل حال، وهذا أمر لا يحتمل على عاقل، فمتى صفعه (وشتمه وانتهكه)، علم أنه بالغ في خلاف الأمر وأتى بضد قوله. فإن قيل: بل ذلك عقل من قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، وقول الرجل لعبده عقل من قرينة دلته على معرفة مراده.

قيل: هذا خطأ، لأن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} عقل منه كف الأذى، وقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، أمر بالإكرام (لهما) وكف الأذى غير فعل الإكرام، وقولهم هناك قرينة دعوى (منهم). 796 - فصل: وتحريم الضرب في الآية استفيد من المعنى بطريق الأولى في التعليل وسماه الشافعي (القياس) الجلي، وزعم أنه ينقض به حكم الحاكم. وقال جماعة من المتكلمين وأهل الظاهر: تحريم الضرب استفيد في الآية من جهة اللغة فعلى قولهم: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} موضوع في اللغة لمنع الضرب وهذا غلط لأن قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ليس (في لفظه) ذكر الضرب بحال، فلا يكون موضوعاً له، كقوله كل الخبز لا (يقال إنه موضوع) لأكل التمر، وقوله اشرب الماء لا (يقال إنه موضوع) لشرب الخمر. فإن قيل: لو كان كما ذكرتم لما فهم بنفس اللفظ من غير /75 ب استنباط.

قلنا: إنما فهم لظهور معناه، لا لوضع اللفظ له والدليل على ظهوره: أن كل عاقل يعلم أنه إذا منع من يسير الأذى كان بالمد من كثيره أولى، والضرب أكثر في الأذى من التأفيف، فعلم أنه بالمنع أولى. احتجوا بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} والدينار يدخل في القنطار، فعلم أنه يؤديه بنفس اللفظ، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أن ذرتين: ذرة وذرة، فدل على ما قلنا. الجواب: أن الثوب، والزبرة من الحديد والكر من الطعام، ليس ذلك من القنطار. والمعنى يدل على أن من يؤدي القنطار الوديعة، أولى أن يؤدي ذلك وليس هو في اللفظ، وكذلك نصف ذرة لا يسمى ذرة، والله سبحانه وتعالى لا يظلمها (أيضاً).

باب الكلام في المجمل والمبين

باب الكلام في المجمل والمبين 797 - المجمل: ما أفاد جملة من الأشياء، من ذلك قولهم: أجملت الحساب إذا جمعته، فعلى هذا يجوز أن يسمى العموم مجملاً بمعنى أن جماعة من المسميات قد أجملت تحته. وقيل: المجمل مالا يمكن (معه) معرفة المراد به. وقيل: ما أفاد شيئاً من جملة أشياء، وهو متعين في نفسه، واللفظ لا يعينه. وقيل: ما لا يعرف معناه من لفظه. اختاره شيخنا. 798 - وأما البيان فيكون عاماً ويكون خاصاً. فأما العام: فهو الدلالة ألا ترى أنه يقال يبين لي فلان كذا وكذا، إذا أوضحه له ودل عليه.

وقيل البيان العام، هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح. وأما البيان الخاص، فهو في عرف الفقهاء كل كلام أو فعل دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد، ويدخل في ذلك بيان العموم. فإذا: البيان العام هو، الدلالة المطلقة، والخاص هو: الدلالة الشرعية بأدلة الشرع. 799 - فصل: وقد ألحق بالمجمل ما ليس منه، من ذلك: التحليل والتحريم المتعلق بالأعيان كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}، قال أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري: إن ذلك من المجمل فلا يصح التعلق بظاهره وهو اختيار شيخنا. ذكره في (العدة) في أصول الفقه، لأن التحريم معلق بنفس الأمهات والميتة وليس ذلك في

مقدورنا فلم يجز أن يحرم علينا: ووجب أن يكون المراد تحريم فعل من أفعالنا يتعلق بالأمهات، وليس ذلك الفعل مذكوراً في الآية، وليس فعل أولى من فعل فاحتجنا إلى بيان، ولأن الآية لو اقتضت تحريم فعل معين لكان المراد بتحريم الأعيان كلها ذلك الفعل بعينه ولا يختلف/76 أبحسب اختلاف الأعيان، وليس التحريم في الأمهات يفيد الفعل الذي (يفيد) في تحريم الميتة. والذي يقوى عندي أن ذلك ليس بمجمل، (بل) هو ظاهر من جهة العرف في تحريم الاستمتاع في الأمهات والأكل في الميتة، وهو قول الجبائي وابنه وعبد الجبار. 800 - والدليل على ذلك أن السامع لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، يفهم منه تحريم الاستمتاع لأنه هو المقصود بالتحريم المضاف (إلى النساء)، وكذلك "حرمت عليكم الميتة" يفهم منه تحريم الأكل، لأن المقصود بتحريم الطعام تحريم أكله، وهذا عرف قائم يفهم به المراد، كالعرف في الدابة (أن) المراد به الخيل لا غير فوجب حمله عليه لأجل هذا الظاهر العرفي، ولم نقل إنها مجملة لا نعلم المراد بها.

801 - فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، قال أصحاب أبي حنيفة: إنه مجمل، لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل (مسح) بعضه، يقال: مسحت يدي برأس اليتيم يحمل على البعض والكل، فإذا احتمل كل واحد منهما افتقر إلى بيان، فلما مسح النبي صلى الله عليه وسلم بناصيته كان ذلك بياناً ووجب مسح الناصية. وعندنا أن هذه الآية غير مجملة، لأن الرأس في اللغة عبارة عن جملة الرأس لا (عن) بعضه، ولهذا لا تسمى الناصية رأساً، كما لا تسمى العين وجهاً، بل هو عضو في الوجه، والباء في اللغة للإلصاق فإذا دخلت على المسح وقرنته بالرأس وجب مسح جميع العضو (المسمى) رأساً حقيقة

فلا يعدل عنه وما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ففيه زيادة أنه مسح بناصيته وعمامته، ومسح العمامة بجزيء في إسقاط الفرض، ومسحه على الناصية استحباباً، وقد عبر عن الجميع بالناصية فقال خذ بناصيتي إلى (الخير، وعنده عدة نواص) من الخيل. 802 - فصل: في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بأم الكتاب" و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي"، فأصحاب أبي حنيفة يقولون: ذلك من المجمل، لأن الفعل المنفي موجود فالنفي يرجع إلى حكم من أحكامه، وليس حكم بأولى من حكم (آخر) ويتناقض حمله على نفي الكمال ونفي الإجزاء، لأن في ضمن نفي الكمال إثبات الإجزاء، فيثبت أنه يحتاج إلى بيان المراد.

والصحيح أن هذه الأخبار غير مجملة، بل تدل بظاهرها على نفي صلاة شرعية، أو صيام أو نكاح شرعي، لأن حرف النفي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا د خل على ذلك لم يحمل إلا على معانيه الشرعية، فيقتضي ذلك نفي الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وكذلك في الصيام والنكاح، فصار ذلك شرطاً/76 ب. فإن قيل: قد تسمى الصلاة الفاسدة صلاة فينصرف إليها الخبر. قلنا: لا تسمى صلاة حقيقة وإنما ذلك مجاز، بمعنى أنها على صورة الصلاة، وكلام الرسول عليه السلام ينصرف إلى الحقيقة ما أمكن، وما ذكروه لا (يصلح لأنه) إنما ينصرف حرف النفي إلى الحكم إذا لم يمكن صرفه إلى ما أضيف إليه، وقد بينا أنه يصح صرف حرف النفي إلى ما أضيف إليه، وهو الصلاة الشرعية جميعها، والصيام والنكاح. 803 - فصل: فأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فليس بمجمل لأن المعقول من ذلك نفي إجزاء

العمل، لأن صاحب الشريعة لا ينفي المشاهد، والعمل مشاهد بغير نية، وإنما ينفي الحكم الشرعي فكأنه قال: لا عمل شرعي مجزيء إلا بنية. فإن قيل: العمل موجود بغير نية، فثبت أن النفي يتضمن إما نفي الكمال أو نفي الإجزاء، وليس أحد الحكمين أولى من الآخر، فاحتاج إلى البيان. قلنا: نفيه يدل على عدمه وعدم إجزائه، فإذا بطل عدمه بقى "أنه نفي". إجزاءه. فإن قيل: ما حمله على نفي الكمال؟ قلنا: ثبوته مجزئاً يدل على صحته وثبوته، وذلك يخالف نفيه، لأن من نفى الإجزاء، فقد نفى الكمال فكان حمله على الإجزاء "أحرى وأولى". فإن قيل: قد ورد "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" على نفي الكمال. قلنا: ذلك لدليل. 804 - فصل: قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي

الخطأ والنسيان"، يقتضي نفي ما يجب بذلك الفعل لو كان عمداً. فإن قيل: يحتمل أنه يريد نفي الإثم. قلنا: الإثم داخل في ذلك، لأنه بعض الأحكام الواجبة بذلك الفعل لو كان عمداً، ولأن الإثم لا مزية لأمته (فيه) على سائر الأمم لأن الناسي غير مكلف. 805 - فصل: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (هذا) عام في كل سارق خلافاً لأصحاب

أبي حنيفة، أنه مجمل لأنه يحتمل سارق قليل وكثير، ومن حرز ومن غير حرز. 806 - لنا: أن السارق في اللغة من أخذ الشيء في خفية، قال تعالى: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أراد إنكم أخذتم صاع الملك مستسرين بذلك فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل. فأما قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقيل إنه مجمل، لأنه يحتمل اليد من المنكب، ومن المرفق، ومن الكوع، فاحتاج إلى بيان ولأن القطع عبارة عن الإبانة وعبارة اتصال القطع باليد، يقال بري القلم (فقطع) يده: إذا جرحها، وعندنا ليست مجملة لأن اليد عبارة عن جميع اليد إلى الإبط، ولهذا لما (نزلت آية) التيمم مسحت الصحابة إلى الآباط والمناكب، ولهذا إذا قال القائل/77 أقطعت يد فلان جميعها، فهم منه قطعها من المنكب، وإنما قام الدليل على القطع من الكوع لأنه إن تناول جميع اليد حقيقة، (والكف حقيقة)، فيجب حمله أيضاً على أقل ما يقع عليه

مسألة: لا يجوز أن يراد بالاسم الواحد معنيان مختلفان

الاسم، وهو الكف، ولأنه إذا أمر الإنسان بفعل ما يقع على أشياء، والعقل يحظر فعل ذلك وجب عليه فعل أقلها، والباقي يبقى على المنع ولهذا إذا قال: اضرب رجلاً، وجب عليه ضرب شخص يسمى رجلاً. 807 - فصل: وأما قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فقال شيخنا هو مجمل. لأن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فافتقر إلى ما يميز بين البيع والربا، وعندي أنه ليس بمجمل، وإنما هو على عمومه في كل ما يسمى بيعاً إلا ما خصه الدليل، وما احتج به، فعليه لأنهم فرقوا بين البيع والربا في الاسم وإنما قالوا هو مثله في المعنى. والله أعلم. 808 - مسألة: لا يجوز أن يراد بالاسم الواحد معنيان مختلفان، حقيقيان أو حقيقة، ومجاز كالنكاح المفيد للوطء حقيقة، وللعقد كناية ومجازاً، وإنما يراد به أحدهما.

فإذا كانا حقيقيين كان اللفظ مجملاً فيهما، وبه قال أبو هاشم وأبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري. وذهب الجبائي وعبد الجبار إلى جواز ذلك، وهو اختيار شيخنا. وعن الشافعية كالقولين. وقال أبو الحسين: لا يجوز ذلك في اللغة ويجوز في الإمكان أن يرادا. 809 - لنا على أنه لا يجوز ذلك في اللغة (أن اسم الشخص يقع على الرجل وعلى المرأة حقيقة فلو قال رأيت شخصاً لا يجوز أن يعبر به عن رؤية رجل وامرأة). (كذلك) وضعوا قولهم "حمار" للبهيمة المخصوصة وحدها (حقيقة)، وتجوزوا به في البليد وحده، ولم يستعملوه

فيهما معاً بدليل أن الإنسان لو قال: رأيت حماراً لم يفهم منه أنه رأى البهيمة والبليد معاً، ولو قال: رأيت حمارين لم يعقل منه أنه رأى أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين. وكذلك قولهم: قرء وضعوه للحيض وحده وللطهر وحده ولم يضعوه لهما لأنه (لو) وضع (لهما لفهم) من قوله: قرءان، أربعة، طهرين وحيضتين، ومن ثلاثة أقراء ستة، ولوجب أن يكون المستعمل (له) في أحدهما، متجوزاً لأنه لم يستعمل اللفظ على ما وضع له على التحقيق، والأمر بخلاف ذلك فصح أن المتكلم إذا قال: للمرأة (اعتدى) بقرء لا يكون مريداً منها أن تعتد بالطهر والحيض (معاً بل) أراد أحدهما. ويفارق هذا قوله: اضرب رجلاً لأنه يضرب أي رجل شاء لأن رجلاً لم يوضع لهذا وحده، وإنما اختص بمعنى الرجولية وهو معنى واحد شائع في أشخاص الرجال، كأنه قال: اضرب شخصاً ممن اختص بمعنى الرجولية فيعلم (منه) أنه أراد منه ضرب الرجال على (البدل) بخلاف اسم القرء لأنه ليس فيد في الطهر والحيض/77 ب فائدة واحدة، فيحمل على أن المتكلم قصد تلك الفائدة، بل يفيد معنيين مختلفين فلم يحمل عليهما.

فإن قيل: أليس يجوز أن يقول الإنسان: رأيت رجلاً وإن كان قد رأى (رجلاً) بعينه، فكيف يقولون: إن رجلاً لا يختص بشخص بعينه؟ (قلنا: لا يفهم السامع منه رجلاً بعينه وإنما ساغ للمتكلم أن يقول ذلك إذا رأى رجلاً بعينه)، لأن اسم الرجل يختص بالمعنى الذي يتميز به الرجل من غيره وهو معنى الرجولية وزيادة، فصح أن يخبر الرجل عن الرجل ويترك الزيادة التي تدل على تعيين ذلك الرجل. فإن قيل: فما يقولون: إذا قال لا تعتدي بقرء، أليس يحمل على الحيض والطهر؟ ولا يحمل على واحد منهما (معين). قلنا: بل يحمل على واحد منهما، إما أن يكون أراد الحيض أو الطهر، لأنه لو أراد مجموعهما كان قد أراد ما لم يوضع له اللفظ، وإن أراد ما يسمى قراءً أو ما فيه معنى من معاني القرء، فلفظه ليس فيه ذلك، وإنما علق الحكم بالقرء ولم يقل ما يسمى قرءاً، ولا ما فيه معنى من معاني القرء.

فإن قيل: أليس لو قال (لها): اعتدى بما يسمى قرءاً ما جاز أن تعتد بالطهر، وجاز أن تعتد بالحيض، فقد أفادهما اللفظ. قلنا: إنما جاز ذلك لأنهما اتفقا في فائدة وصفنا لهما بأنهما يسميان أقراء، فالفائدة غير مختلفة في التسمية، فصار كقوله: اضرب رجلاً في أنه أمر بضرب ما يختص بمعنى الرجولية، وليس كذلك قوله اعتدى بقرء لأن (معنى القرء) الطهر، والحيض مختلف، فكل واحد منهما يفيد في صفته غير ما يفيده الآخر، فلم يدخلا في لفظ واحد. 810 - دليل آخر: لو جاز استعمال الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها، لكان قد أراد استعمالها فيما وضعت له، وأراد العدول بها عما وضعت له في حالة واحدة، وذلك يتنافى، كما يتنافى كون لفظة الأمر يراد بها الإيجاب والتهديد، واللفظة يراد بها الاقتصار على الشيء، والمجاوزة إلى غيره، وفيه ضعف، لأنهم (لا) يقولون: إنه يعدل باللفظة عما وضعت له إلى ما لم توضع له، وإنما استعمالها فيما وضعت له وفيما لم توضع له، بيانه: أنه يستعمل النكاح في الوطء والعقد معاً، وذلك لا يتنافى. 811 - دليل آخر: أن يستعمل الكلمة في حقيقتها

لا يحتاج فيها إلى (إضمار) كاف التشبيه، ومستعملها في مجازها لابد أن يضمر كاف التشبيه، ومحال أن يضمر الشيء ولا يضمره، فيقول: رأيت أسداً، ويريد به البهيمة (ورجلاً) شجاعاً كالأسد. 812 - دليل آخر: لو جاز أن يراد باللفظ الواحد معنيان، لجاز أن يراد به إكرام الرجل وإهانته، ومدحه والاستخفاف به، فلما لم يجز كذلك في مسألتنا، فإن قيل: هناك (لا) يتضادان/78 أولهذا لو صرح بهما في لفظين لم يجز، بخلاف مسألتنا. قلنا: لا يتضادان ولهذا يجتمعان (بأن يقول: أعطه) ألفاً لأنه دلني على الطريق واصفعه مائة لأنه خاطر بي، "وعز فلاناً بوالده" وهنه بالولاية (بعده). 813 - احتج المخالف بأن سيبويه قال: قول القائل (لغيره): الويل لك خبر ودعاء، فجعله مفيداً للأمرين.

الجواب: أنه ليس فيه دليل على أنه يستعمل فيهما معاً، ولا يمتنع أنه يردي به أنه موضوع للخبر ويستعمل في الدعاء مجازاً في حالة أخرى. 814 - احتج بأن ابن عمر قال: قبلة الرجل من الملامسة (فتوضأوا منه). وأجاز للجنس التيمم بقوله: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} فحمله عليهما معاً. الجواب: أنه يحتمل أنه علم وجوب التيمم على الجنب بالسنة لا بالآية. (لأن أباه لم يفهم من الآية التيمم للجنب، بدليل قصة عمار رضي الله عنه). 815 - واحتج بأن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فقيل: الحيض والطهر، لأن للمرأة تقليد من يرى الحيض، وتقليد من يرى الطهر، وأيهما فعلت فقد أراده الله منها، وكذلك قد أراد من المجتهد ما يؤديه إليه اجتهاده منهما.

الجواب: أن من يقول: (الحق) في واحد، لا يسلم أن كل واحد منهما مراد، بل المراد أحدهما، وعلى المجتهد بذل وسعه واجتهاده، فإما يصيب أو يخطئ، ومن يقول: كل مجتهد مصيب يقول: يحتمل أن يكون ذلك منقولاً من اللغة إلى الشرع بدليل، فيكون الطهر والحيض في الشرع مرادين. 816 - واحتج بأن كل معنيين جاز (إيرادهما بلفظين، جاز إيرادهما) بلفظ يصلح لهما، كالمعنيين المتفقين. الجواب: أن هذا قياس فاسد، لأن المتفقين بمعناهما واحد، وفائدتهما واحدة فلا يسميان معنيين. على أن اللفظين يجوز فيهما ما (لا) يجوز في اللفظ الواحد، ألا ترى أنه يجوز أن يتكلم بالأمر ويريد به الإيجاب؟ ويتكلم مرة أخرى ويريد به التهديد، ولا يجوز ذلك في اللفظة الواحدة، وكذلك يتكلم بالعموم ومراده الاستغراق، ويتكلم به ثانياً ومراده الخصوص ولا يجوز أن يريد بهما في حالة واحدة الاستغراق والخصوص. 817 - احتج بأن المنع من ذلك لا يخلو إما أن يكون لاستحالة اجتماعهما في الإرادة، أو لأن اللفظ (لا) يصلح لهما، لا يجوز أن يكون (الأول)، لأنه لا يستحيل أن يريد

بالملامسة (الوطء) وما دونه، ويريد بقوله: ثلاثة قروء الحيض والطهر، ولهذا يصح أن يصرح بذلك فيقول: إذا لامست باليد أو بالجماع فتطهر، واعتدى بثلاثة أقراء من الحيض أو الطهر، (ولا يجوز أن يكون لأن اللفظ لا يصلح لهما فالقرء يصلح للحيض والطهر) فلا وجه للمنع. الجواب: أن المنع من ذلك لأن اللفظ الواحد لم يستعلمه أهل اللغة في معنيين مختلفين في حالة واحدة، ولهذا لم يعقل من قولهم: رأيت حماراً أنه رأى بهيمة وبليدا في حالة واحدة، فمدعى ذلك يحتاج (إلى) أنا ينقل عنهم أنهم استعملوا ذلك/78 ب.

باب الحقيقة والمجاز

(باب الحقيقة والمجاز) 818 - باب نذكر فيه (بيان) الحقيقة والمجاز وحدهما ليعلما ونقدم حقيقة الكلام وهذا الباب يجب أن (يجعل) في أول الكتاب وقد ذكرناه هاهنا لأنه (مما) يفتقر (إلى) معرفة المجمل والمفسر. 819 - فصل: حقيقة الكلام: ما انتظم (من) حرفين فصاعداً، من الحروف المسموعة المتميزة. وبهذا الحد ينفصل الكلام مما ليس بكلام، لأنه ينفصل من الإشارة لأنها لا (تنتظم)، ومن الحرف الواحد لأنه ليس بحرفين، ومن حروف الكتابة لأنها ليست مسموعة، ومن أصوات كثير من البهائم، لأنها ليست بحروف متميزة.

وقال بعضهم: حد الكلام ما كان مفيداً، ويلزمه على هذا أن تكون الإشارة (والفعل) كلامين. وقال بعضهم: من شرط الكلام ما وقع عليه المواضعة. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما، أن أهل اللغة قسموا الكلام إلى: مهمل، ومستعمل، فجعلوا المهمل كلاماً وإن لم يوضع لشيء، والمستعمل ما وضع ليستعمل في المعاني، والآخر (أنه) يلزمه أن لا تكون الحروف المؤلفة كلاماً إذا لم يقع عليها الاصطلاح. فإذا ثبت هذا، فالكلام المستعمل على (ضربين): أحدهما: يفيد صفة فيما استعمل (فيه)، كقولنا: أسود وطويل، والآخر: لا يفيد صفة (فيما) استعمل فيه. وهو ضربان: أحدهما، فيه معنى الشمول كقولنا: شيء وضع لكل ما يصح أن يعلم. والثاني: ليس (فيه) معنى الشمول، كأسماء الأعلام كزيد وعمرو، فإن من سمى ابنه زيداً، لا يجب أن يشارك بينه وبين

غيره في الاسم، فأما اللقب فإنه يجري مجرى الإشارة، لأنه يفيد صفة مخصوصة، ألا ترى أن صفات الملقب تنقص وتزيد فلا يتغير اسمه؟ ويجوز أن يتغير لقبه فيقال: أعرج وأعمى وما أشبه ذلك. فصار الكلام المستعمل على ضربين: أحدهما لقب والآخر ليس بلقب، فاللقب لا تدخله الحقيقة والمجاز، وما ليس بلقب يدخله الحقيقة والمجاز. 820 - فصل: حد أبو الحسين الحقيقة (بأنها): "ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح (الذي وقع التخاطب فيه) وقد دخلت فيه الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية. والمجاز: ما أفيد به معنى مصطلحاً عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة. وحدها أبو عبد الله البصري وعبد الجبار بأن الحقيقة: ما أفيد بها ما وضعت له.

والمجاز: ما أفيد به غير ما وضع له. وهو أقوى من الأول لأن الأول عنده إذا قال الواضع: سموا هذا حائطاً أو قال قد سميت هذا حائطاً لا يكون قوله في تلك الحال حقيقة ولا مجازاً لأنه/79 ألم يتقدم (ذلك) مواضعة واصطلاح، وهذا خطأ لأن الكلام إذا خلا عن حقيقة ومجاز كان مهملاً، وهذا كلام مفهوم غير مهمل. فإن قيل: فحدكم يلزم عليه أن يكون من استعمل (اسم) السماء (في الأرض قد) تجوز به لأنه (قد) أفاد به غير ما وضع له. قلنا: كذا نقول، ومن سلم قال: الأرض (لا) تعقل من اسم السماء، والأسد في الشجاع يفهم إذا علمنا أنه لم يرد باللفظ الحقيقة، ولهذا لو أطلق قوله أسد جوز السامع أن يكون قد استعمله في (الشجاع)، ولا يجوز (إذا) أطلق السماء أن يكون قد استعملها في الأرض.

821 - فصل: اختلفوا في الاسم المشترك بين شيئين هل هو حقيقة فيهما مثل قولنا: قرء، هل هو حقيقة في الحيض، وحقيقة في الطهر؟ فقال أكثر الناس: هو حقيقة فيهما، ومنع الأقل من ذلك. وذكروا (أن الغرض من المواضعة) تمييز المعاني (بالأسماء) ليقع بها الإفهام، فلو وضعوا لفظة واحدة لشيء ولخلافه على البدل لم يفهم بها أحدهما، وفي ذلك نقض الغرض بالمواضعة، وهذا غلط، لأنه لا يمتنع أن تضع قبيلة سام القرء للحيض، وتضعه أخرى للطهر ويشيع ذلك، ويخفى (أن الاسم موضوع لهما من قبيلتين، ويفهم من إطلاقه الحيض والطهر على البدل لما شاع) وثبت. جواب آخر: أن المواضعة تابعة للأغراض، وغير ممتنع أن يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئاً مفصلاً تارة، ومجملاً (تارة)، (نحو أن يرى سوادا). (فيقول): يا عمر

أرى سوادا، أو يقول يا عمر أرى لونا، ولأن أهل اللغة قالوا قولنا (شفق وقرء من) أسماء الأضداد، وهو اسم مشترك. 822 - فصل: الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع حقيقة في مسمياتها، مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج، فيكون حد الاسم الشرعي: ما استفيد بالشرع وضعه للمعنى، سواء عرفه أهل اللغة أو لم يعرفوه، فإذا أطلق (الشرع) الأمر بالصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج حمل على الشرعية، وبه قال عامة المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة. وقالت الأشعرية: لم ينقل شيء من الأسماء من اللغة إلى الشرع، ولا يجوز ذلك بل الاسم باق على ما كان (عليه) في

اللغة، وضم الشرع إليه أفعالاً، فالصلاة اسم الدعاء وضم الشرع إليها ركوعاً وسجوداً وقياماً وجلوساً وذكراً، وكذلك الصيام عبارة عن الإمساك وضم الشرع إليه النية. وعن الشافعية كالمذهبين. والكلام في فصلين: أحدهما (في) جواز نقل ذلك (وحسنه). (والثاني في) أنه قد نقل. 823 - أما الأول فالدليل عليه (أنا نقول: الاسم قد يكون اسماً لمعنى) غير واجب له وإنما هو تابع للاختيار، بدليل انتفاء الاسم عن المعنى قبل المواضعة، وأنه كان يجوز أن يسمى المعنى بغير ما سمي به، نحو أن (يسمى السواد بياضاً) /79 ب إلى غير ذلك، وإذا ثبت ذلك، جاز أن يختار مختار سلب الاسم عن معناه (ونقله) إلى غيره لأنه تابع للاخيتار.

فإن قيل: لو جاز ذلك لكان فيه قلب الحقائق وذلك مستحيل. قلنا: إنما يستحيل ذلك، لو استحال انفكاك الاسم عن المعنى، (وقد بينا أن المعنى يجوز) أن ينفك عن الاسم، والاسم ينفك عن المعنى. والدليل على حسنه: أنه لا يمتنع أن يكون في (هذا) النقل مصلحة، كما لا يمتنع أن يكون في تكليف العبادة مصلحة، والمصلحة وجه حسن. 824 - دليل آخر: أن الشريعة قد جاءت بعبادات لم تكن معروفة في اللغة، فلم يكن بد من (وضع اسم) لها لتتميز به (عن) غيرها، كما وضع أهل الصنائع لكل ما استحدثوا من الأدوات أسماء تعرف بها عند الحاجة إلى ذكرها، وكذلك إذا ولد للإنسان مولود سماه ليميزه (عن) غيره. فإن قيل: نقل الاسم (عن) معناه إلى معنى آخر يقتضي تغيير الأحكام المتعلقة به، لأنه إذا أمر بالصلاة وهي الدعاء ثم نقلها إلى هذه الأفعال تغير الحكم وهذا قبيح.

قلنا: هذا لا يقبح كما لا يقبح النسخ، على أنه لو سلم فهذا في الاسم الذي تعلق به فرض، فلم منعت في الاسم الذي لم يتعلق به فرض؟ على أن فرض الدعاء لا يسقط (بأن) ينقل الله سبحانه وتعالى اسم الصلاة إلى هذه الأفعال والأقوال، ولو وجب سقوطه بذلك لأمكن أن يدلنا الله تعالى على أنه لا يسقط بأن يقول: ما كانت (أوجبته بالدعاء) فوجوبه باق عليكم. 825 - فأما الدليل على أن الشرع (قد) نقل بعض الأسماء، وهو الفصل الثاني أنا نقول: "صلاة" لم يكن مستعملاً في اللغة لمجموع هذه الأفعال الشرعية لأن أهل اللغة لم يعرفوا هذه الصلاة ولا شروطها، ثم صار اسماً لمجموعها حتى لا يعقل من إطلاقه سواه. فإن قيل: الصلاة في اللغة عبارة عن الاتباع، ولهذا يسمون الفرس مصليا إذا تبع الأول، وكذلك الطائر، فإذا تبع المأموم الإمام قيل هو مصل على ما وضع في اللغة. قلنا: فيجب أن لا تسمى صلاة (الإمام والمنفرد) صلاة، وأن من أطلق المصلى في الشرع لا يعقل منه إلا المتبع ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال السامع والمتكلم، (وإنما) يعبر به عمن أتى بهذه الأفعال.

فإن قيل: إنما سميت بذلك للدعاء الذي فيها. قلنا: إن عنيتم أن الصلاة تقع على جملة هذه الأفعال لأن فيها دعاء فقد سلمتم ما نريده من إفادة الاسم لما لم يكن يفيده في اللغة، ولا يضرنا أن تعللوا وقوع الاسم على هذه الأفعال بما ذكرتموه. وإن أردتم أن اسم الصلاة واقع على الدعاء من جملة هذه الأفعال، فذلك باطل، لأن المفهوم من قولنا: صلاة جملة الأفعال ولهذا نقول: فلان في الصلاة إذا كان في هذه الأفعال وإن لم يكن في الدعاء، وقد خرج من الصلاة إذا فرغ من أفعالها/80 أوإن كان متشاغلاً بالدعاء. (جواب آخر: أنه يجب أن لا تسمى صلاة الأخرس صلاة، لأنه لا دعاء فيها وكذلك الأمي، ولم يقل ذلك أحد). جواب آخر: أنه يجب إذا أتى بالدعاء وأخل بالقراءة والركوع والسجود أن تقولوا إنه قد صلى. وقد أتى بالصلاة ولم يقل ذلك أحد. 826 - دليل آخر: أن قولنا: صوم (كان) يفيد في اللغة الإمساك ليلاً ونهاراً، وهو يفيد في الشريعة إمساكاً مخصوصاً. وقولنا: زكاة يفيد في اللغة (النماء) تقول العرب إذا كثرت

المؤتفكات: زكا الزرع، أي (إذا) كثرت الرياح، زاد (الزرع)، ثم جعل في الشرع اسماً لإخراج جزء من المال طهرة، وذلك في الحقيقة نقصان (وليس بزيادة). وكذلك الحج القصد. ولو نوى الإحرام وهو (واقف) بعرفة صار حاجاً ولم يقصد فدل على أن الاسم منقول. 827 - دليل آخر: أن الشرع سمى إسلاماً وإيماناً لمعاني مخصوصة وكذلك سمى من رد على النبي صلى الله عليه وسلم كافراً، ومن شرب الخمر وزنى فاسقاً، وهذا مما لم يضعه أهل اللغة ولا عرفوه، ولذلك جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل فقال: "يا محمد ما الإسلام"؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وذكره. فقال: ما الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله وملائكته، وذكره. فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم." فلولا أن الاسم شرعي ما احتاج إلى بيانه لأن العرب تعرفه.

فإن قيل: إلا أن صاحب الشريعة بعث ليعلمنا الأحكام لا الأسماء. قلنا: إلا أنه إذا وضع حكماً لابد أن يضع له اسماً يعرفنا إياه، ليميزه عن غيره، فصار ذلك عائداً إلى الأحكام. 828 - احتج بأن قال: الله سبحانه خاطب نبيه بلسان العرب، وكذلك خطاب الرسول لهم بلسانهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فيجب أن يكون الاسم ما سموه. الجواب: أن الشرع إذا وضع أسماء لمعان فإن ذلك لسان العرب ولغتهم، لأنه مؤيد بالفصاحة العربية والحكمة الإلهية، ولا فرق بين أن يضع لها اسماً مبتدأ لم تعرفه العرب، وبين أن ينقل إليها اسماً من أسماء اللغة يستعمل في معنى له شبه بالمعنى الشرعي، ولا يكون بذلك تاركاً للغة العرب. 829 - احتج بأنه لو كان في الأسماء منقول، لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بينه لعلمناه كما علمتموه. (الجواب: أنه قد) بينه بياناً عاماً ظاهراً، لأنه سمى هذه الأفعال صلاة في أي موضع ذكرها، وكذلك الحج والصوم والزكاة، حتى إذا أطلقت لم يفهم السامع غيرها. جواب آخر: أنه ليس من شرط الاسم الموضوع أن يعلمه

كل أحد بدليل أسماء الآلات (التي للصناع)، وغير ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" فبين، ثم اختلفوا في إحرامه هل كان قارناً أو مفرداً؟ وفي أفعاله. 830 - احتج بما هو عمدة لهم قال: لو كان قولنا: صلاة قد نقل إلى معنى شرعي، لكان ذلك معلوماً محصلاً، وليس الأمر كذلك. فإن قلتم: إنه معلوم لأنه عبارة عن القراءة والركوع والسجود/80 ب فيجب أن تكون صلاة الأخرس ليست بصلاة ل، هـ لا قراءة فيها، وصلاة الجنازة والمريض الموميء لا ركوع فيها ولا سجود فإذا لم يكن محصلاً، علم أن الاسم ما انتقل. الجواب: أنه إذا كان يفيد ما أفاد به في اللغة (من الدعاء) لم تسم صلاة (الأخرس) صلاة، ولا صلاة الأمي لأنه لا دعاء فيها. جواب آخر: أن قولنا صلاة، نقل إلى معان مختلفة وليس ذلك يمتنع، كما لا يمتنع كون الاسم اللغوي مشتركاً بين أشياء مختلفة كالعين واللون، وإنما وضع له قولنا صلاة بالإضافة إما إلى الوقت

كقولنا:" صلاة عيد وصلاة جمعة (وصلاة ظهر) وما (أشبه ذلك) أو بإضافتها إلى المصلى وأحواله كقولنا: صلاة مقيم، (وصلاة مسافر)، وصلاة خائف، (وصلاة آمن)، وصلاة موميء، أو أخرس، وما (أشبه ذلك). 831 - احتج بأنه لو كان لصاحب الشريعة (النقل) لكان إذا خاطبنا بكلام أو علق حكماً على سام أن نتوقف فيه، لجواز أن يكون (قد) نقل ذلك الاسم من اللغة إلى الشرع. الجواب: أنا لا نتوقف، بل نحمله على (مقتضى) اللغة، إلا أن يعلمنا أنه قد نقله إلى معنى شرعي، ألا ترى أن الاسم اللغوي له حقيقة ومجاز؟ فإذا ورد مطلقاً لم نتوقف (وإنما نحمله) على الحقيقة، إلا أن يبين لنا أن المراد به المجاز وكذلك العموم نحمله على الاستغراق، إلا أن يبين لنا التخصيص.

832 - فصل: الأسماء العرفية، ما انتفل (عن) بابه (بغلبة) عرف الاستعمال عليه، لا من جهة الشرع، فيصير حقيقة فيما انتقل إليه من العرف كالغائط اسم للمطمئن من الأرض في اللغة، وهو في العرف (اسم) للنجو الخارج من الإنسان، والراوية اسم للجمل في اللغة (وهو في) العرف اسم للمزادة، والدابة اسم لما دب وهو في العرف اسم للفرس، فإذا أطلق ذلك انصرف إلى الاسم العرفي. 833 - وإنما حسن ذلك لأن في انتقاله غرضاً صحيحاً لأن الطباع (قد) تنفر عن بعض المعاني وتتجافى الناس التصريح بها، فيكنون عنه باسم ما اتصل به وقاربه في معناه، كالجماع كنى عنه باسم الملامسة. قال ابن عمر: إن الله تعالى: حيي كريم كنى عن القبيح بالحسن (الجميل)، فكنى عن الوطء

(بالملامسة)، والحاجة كنى عنها باسم المكان المطمئن من الأرض، وما تحصل فيه الغرض الصحيح فهو حسن، وقد بينا إمكان نقله بالشرع، كذلك نقله بالعرف. وكيفية انتقاله بالعرف أن تنقله طائفة من الطوائف، (لأنه يبعد أن) يتواطأ عليه (جميع) أهل اللغة مع كثرتهم، فإذا نقلته طائفة استفاضي فيها وتعدى إلى غيرها، (فيشيع على) طول الزمان (في الكل)، ثم (يفشو) القرن الثاني فلا يعرفون من إطلاق ذلك الاسم إلا ذلك المعنى الذي نقل إليه/81 أ. فأما إن تردد في فهم السامع عند إطلاق (الاسم) المعنى العرفي والمعنى اللغوي معاً كان الاسم مشتركاً فيهما على سبيل الحقيقة كالقرء والشفق. 834 - إذا ورد ماله حقيقة في اللغة وحقيقة في الشرع كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} قال شيخنا: (هي) مجملة وهو قول بعض الشافعية ويقوى عند أن

تقدم الحقيقة الشرعية، لأن الآية غير مجملة، (بل تحمل) على الصلاة الشرعية لأنه قد ثبت بما تقدم أن اسم الصلاة والزكاة (والحج) والصوم والوضوء، منقول من اللغة إلى الشرع، وأنه في الشرع حقيقة لهذه الأفعال المخصوصة، فإذا أمرنا الشرع (فظاهره) يقتضي أنه أراد (الحكم) الذي وضع له الاسم، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان ذلك، لا لبيان غيره من الأسماء، ولأن الشرع (طاريء)، فصار كالناسخ مع المنسوخ للاسم، والخاص بعد العام. قالوا: (اللفظ له) حقيقة في اللغة، وحقيقة في الشرع، فإذا ورد (ما يتناول حقيقتين) مطلقاً لم يعلم ما أراد، فصار كالقرء والشفق. الجواب: أنا قد بينا أن الشرع إذا وضع اسما لحكم ثم أمر بذلك الاسم فالظاهر أنه أمر بذلك الحكم لا غير، بخلاف القرء والشفق فإنهما حقيقيان في اللغة فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر، والشرع واللغة إذا اجتمعا قدم الشرع (لقوته) في الحكم ولأنه حادث على اللغة.

فإن قيل: فلم لا تحمل الآية على العموم؟ قلنا: لأن العموم ما يتناول شيئين فصاعداً لا مزية لأحدهما على الآخر، وهاهنا الشرع أظهر من اللغة على ما بينا ولأنه (لا) أحد قال نحمله على هذه الأفعال (وعلى الدعاء) معاً. والله أعلم. 835 - فصل: ذهب أكثر الناس إلى أن في اللغة مجازاً، ومنع قوم من ذلك. ولا يخلو منعهم أن يقولوا: إن أهل اللغة (لم يستعملوا) اسم الحمار في البليد، واسم الأسد في الشجاع، وما (أشبه ذلك) من الأسماء التي نقول إنها مجاز، فهذه مكابرة لا يكلم مرتكبها، أو يقولوا: إن أهل اللغة وضعوا اسم الحمار للبليد، واسم الأسد للشجاع، كما وضعوه للبهيمة فهذا باطل لأنا نعلم أن السابق إلى فهم من سمع قائلاً يقول: مر بي حمار، أن المار بهيمة ورأيت

أسداً. أنه بهيمة، فلو كان وضعهما سواء لما سبق إلى الفهم (أحدهما)، (ولهذا لو) قلت: هذا أسد للرجل. قيل لك بل هو رجل فتحتاج أن تقول هو كالأسد في القوة والإقدام، فصار تسميته بالأسد تشبيها، فدل على أنه مجاز. فإن قيل: فإذا كانت الحقائق تعم المسميات (فلماذا) تجوز بالأسماء (في) غير ما وضعت له؟ قلنا: لأن في المجاز من المبالغة ما ليس في الحقيقة، ولهذا إذا وصفنا البليد بأنه حمار كان أبلغ في إبانة بلادته من قولنا بليد. وقد يحصل الكلام مجازاً بضرب من الحذف طلباً/81 ب للتخفيف. فإن قيل: أهل اللغة لم يسموا البليد حماراً مجازاً، بل هو مع قرينته حقيقة. قلنا: كتب (أهل) اللغة مملوءة بالمجاز والحقيقة فأما قولهم: هو مع قرينته حقيقة غلط لأنه لو كان حقيقة لم يحتج إلى قرينة. كأسماء الحقائق المستعملة في المعاني لا تحتاج إلى قرينة. 836 - فصل: نص أحمد رحمه الله على أن في القرآن

مجازاً فيما خرجه من متشابه القرآن وبه قال عامة العلماء، وقالت طائفة من أهل الظاهر لا مجاز فيه، وقد ذهب إليه بعض أصحابنا. 837 - لنا أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، وفي لغتهم الحقيقة والمجاز على ما بيناه، فيجب أن يكون في القرآن كذلك. 838 - دليل آخر: أنه قد نزل القرآن بالمجاز فقال تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} وأراد (أهل القرية) فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ}، وعيسى ليس بقول (الحق) وإنما هو صاحب قول الحق، وقال: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} ولا إرادة للجدار، (وإنما الإرادة لله تعالى).

839 - دليل آخر: أن المجاز ما أفيد به غير ما وضع له، وذلك يحصل إما بزيادة أو نقصان أو استعارة أو تقديم أو تأخير، وقد وجد جميع ذلك في القرآن. فالزيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (والمراد ليس) مثله شيء. والنقصان كقوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} والمراد (به) أهل القرية، (وقوله): {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} أي حب الجعل. والاستعارة كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} (أراد بالصلوات) المساجد. والتقديم والتأخير كقوله تعالى: {أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} والمراد أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء.

فإن قيل: جميع ذلك ليس بمجاز وإنما هو زيادة في الكلام وحذف منه، فأما سؤال القرية والعير فيجوز أن تنطق الجمادات للأنبياء. قلنا: إلا أن الزيادة والنقصان لم توضعا في حقيقة اللغة، ولهذا (قد) صنف أهل اللغة كتباً وسموا ذلك وأشباهه مجازاً، فإن امتنعتم من الاسم مع الموافقة في المعنى فلا ضير لأنه منازعة في عبارة، والقرية المراد بها أهلها قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} (والقرية لا) تحاسب ولا تعذب، ثم قد بين أنه أراد أهلها لأنه قال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} ولم يقل لها. 840 - احتج الخصم بأن قال: المجاز لا ينبيء عن معناه بنفسه، فورود القرآن به يقتضي الإلباس، والقرآن نزل بياناً. الجواب: أنه لا إلباس (مع) القرينة الدالة على المراد. جواب آخر: أن في القرآن ما ليس بمبين قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}

وقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فلو كان كله على لفظ الحقيقة لم يحتج إلى بيان. 841 - احتج بأن العدول (عن الحقيقة) إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وذلك/ 82 أمستحيل في صفة الله سبحانه. الجواب: أنه إنما يفتضى العجز لو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة، لأن فيه زيادة فصاحة واختصار ومبالغة في التشبيه، ولو لم يكن فيه هذه المعاني، لجاز أن يكون فيه مصلحة لا نعلمها. جواب آخر: أنا قد بينا أن المراد أن يأتي بالقرآن على لغة العرب ومذاهبهم ليبين عجزهم عن الإتيان بمثله وهو على طريقتهم ولهذا (كرر): {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وما أشبه ذلك كما تفعل العرب في كلامها (لا للحاجة) - سبحانه وتعالى (عن) ذلك - ولأنه لو جاز أن يقال: كلامه بالمجاز للحاجة، (يفسر) كلامه بالحقيقة للحاجة.

فإن قيل: كلامه بالحقيقة لحاجة عباده إلى ذلك. قلنا: وكذلك كلامه بالمجاز لحاجتهم أيضاً. 842 - احتج بأنه لو كان فيه مجاز واستعارة لسمى تعالى متجوزاً ومستعيراً في (كتابه). الجواب عنه: أن إطلاق وصفه بالتجوز يوهم (التسمي) بالقبيح ولهذا (إذا قيل فلان) متجوز في أفعاله (فهم منه أنه يتسمى بالقبيح، وإطلاق وصفه بالاستعارة يوهم أنه استأذن غيره في ملكه لينتفع به وذلك) مستحيل على الله تعالى بخلاف التكلم بالمجاز فإن فصاحة وتوسع في اللغة وتحسين اللفظ. ولأن (أسماء الله) تعالى لا تثبت بالقياس والرأي، وإنما تثبت توقفاً فلو ورد الشرع بتسميته بذلك لجوزناه. 843 - احتج بأن القرآن جميعه حق، فلا يجوز أن يكون (حقاً) ولا يكون حقيقة. الجواب: لم يقال كان كذلك ونحن نعلم أن الحق هو الصدق، فأما الحقيقة فهي المستعملة فيما وضعت له سواء كان

ذلك صدقاً أو كذبا، ألا ترى (أن) قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ليس بحق وهو حقيقة فيما وضعوه وأرادوه، وكذلك قول اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ليس بحق وهو حقيقة من قولهم ووضعهم، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقاً بالقوارير" وأراد النساء، ليس بحقيقة وإنما هو استعارة، ثم هو حق فيما أراد النبي صلى الله عليه وسلم. 844 - فصل: ما (يفرق) به يبين الحقيقة والمجاز يكون بنص (من) أهل اللغة أو بضرب من الاستدلال فأما نصهم (فأن يقولوا) هذا حقيقة (وهذا مجاز، أو يقولوا إذا أريد بهذه اللفظة كذا فهو حقيقة وإذا أريد بها كذا فهو مجاز، أو يحددوا الحقيقة بحد، والمجاز بحد). وأما الاستدلال: فإن يكونوا إذا أرادوا معنى من المعاني اقتصروا على لفظة مخصوصة، وإن أرادوا بها معنى آخر لم يقتصروا على تلك

اللفظة، فعلم أن المعنى الذي اقتصروا عليه هو الحقيقة. (أو) يسبق إلى فهم السامع عند وجود اللفظة من غير قرينة معنى من المعاني فيكون ذلك حقيقتها، أو يستعمل أهل اللغة لفظة في شيء، ولا يدل دليل (آخر) على كونها مجازاً، فيعلم أنها حقيقة ويطرد الاسم في المعنى على الحد الذي استعمل فيه من غير منع شرعي فيكون حقيقة، ومتى لم يطرد كان مجازاً /82 ب كتسميتهم الرجل الطويل "نخلة" هو مجاز لأنه لا يطرد، ولهذا لا يسمى كل طويل من رمح أو شجرة وغير ذلك نخلة. 845 - فصل: في أحكام الحقيقة والمجاز. فمن ذلك أنه لا يجوز أن تكون اللفظة مجازاً في شيء، ولا تكون حقيقة في غيره. ويجوز أن تكون حقيقة في شيء ولا تكون مجازاً في غيره، وإنما كان كذلك لأن المجاز ما تجوز به عن موضوعه، وهذا تصريح أنه قد (وضع) لشيء حقيقة ثم تجوز (به) إلى غيره، فأما الحقيقة فما أفيد بها ما وضعت له. (وليس) إذا استعملت فيما وضعت له توجب أن يتجوز بها إلى ما لم توضع له.

846 - فصل ومن ذلك أن يحمل اللفظ على حقيقته إذا تجرد ولا يحمل على مجازه إلا بدليل، لأن واضع الكلام للمعنى إنما وضعه ليكتفي به في الدلالة عليه وليستعمل فيه، فكأنه قال: إذا سمعتموني أتكلم بهذا الكلام فاعلموا (أنني أعني به هذا المعنى دون) ما هو مجاز فيه. فإن قالوا: في الجاز لنا مثل ذلك. قلنا: ما يوجد فيه مثل ذلك فهو حقيقة وليس بمجاز. والله أعلم. 847 - فصل: والحقيقة قد يجوز أن تصير بالشرع أو بالعرف مجازاً فيما كانت حقيقة فيه، ويجوز أن يصير بهما المجاز حقيقة فيما كان المجاز فيه. 848 - فصل: ومن أحكام الحقيقة والمجاز، أن لا يخلو منهما كلام وضعه أهل اللغة، لأن المتكلم به إذا عني به ما (عنوه) في الأصل فهو حقيقة، وإن استعمله فيما استعملوه فيه على وجه التجوز فهو مجاز.

849 - فصل: ومن أحكامهما أنهما لا يدخلان أسماء الألقاب، لأن أسماء الألقاب لم تقع على مسمياتها المعينة بوضع أهل اللغة ولا بوضع أهل الشرع، (فلا يقال) إن مستعملها اتبع حقيقة الوضع أو حقيقة الشرع ولا (مجاز فيها).

باب المحكم والمتشابه

باب المحكم والمتشابه 850 - مسألة: في القرآن آيات متشابهات، قال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. فإن قيل: فما الفائدة في إنزال بعض القرآن متشابها؟ وقد أريد به الهدى والبيان. لا الإلباس ليضل الناس؟ قلنا: يجوز أن يكون في ذلك فائدة يعلمها الله تعالى ولا نعلمها. والثاني: يحتمل أن يكون ذلك ليبعث عباده على الاجتهاد وإعمال الفكر لتصفو أفهامهم وتتقوى بصائرهم، وتتخرج عقولهم في معاني ما أراد، فيحصل لهم العلم اليقين والثواب العظيم، ولا يتكلوا على الظاهر فيتركوا الفحص (والفكر) والتدبر، فيتركوا طريق العلم التي هي النظر والاستدلال. وقيل إنما كان كذلك، لأن العرب كانت تمنع بعضها (بعضاً) من استماع القرآن خوفاً من أن يميل إليه قلب السامع، فأنزل فيه المتشابه ليوهم/83 أمستمعهم أنه متناقض، فيطمع في نقضه وعيبه ورد الحجة به، فيستمعه لذلك، فإذا أعمل فكره فيه وتدبره، رآه معجزاً باهراً، فدعاه ذلك إلى اتباعه.

مسألة: المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. (والمتشابه: ما احتاج إلى بيان)

(وقيل: يحتمل أن يكون ليضل به من يشاء ويهدي به من يشاء). 851 - مسألة: المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. (والمتشابه: ما احتاج إلى بيان) وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابن إبراهيم، المحكم: الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون فيه موضع كذا وكذا. وقال بعضهم: المحكم ما استفيد الحكم منه. مثل الحلال والحرام والوعد والوعيد. والمتشابه: ما لا يفيد حكماً كالقصص والأمثال. وقال (قوم). المحكم ما وصلت حروفه، والمتشابه: ما فصلت كأوائل السور آلم، آلمر، آلمص، (ونون) وحم (وطسم وطس وطه وما أشبه ذلك). وقال بعضهم: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ.

852 - لنا قوله تعالى منه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وأم الشيء أصله الذي يتفرع عنه، فاقتضى أن المحكم ما كان أصلا (بنفسه) مستغنياً عن غيره (من بيان وقرينة). والمتشابه: ما يخالف ذلك فيحتاج إلى بيان، يدل عليه (ما) في سياق الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} فثبت أنه يحتاج إلى تأويل (وبيان) وأما قول من قال: المحكم ما استفيد منه حكم فغير صحيح لأنه ليس في القرآن إلا ما يصلح أن يكون دالاً على معنى وحكم. وأما قول من قال هو الناسخ. والمتشابه (هو) المنسوخ والقصص فغلط، لأن المتشابه (ما) لا يعلم معناه والقصص والمنسوخ يعلم معناه. ومن قال: هو الحروف (المقطعة) لأنها لا يعلم معناها

مسألة: ليس في القرآن غير العربية

فكانت متشابهة غلط (أيضاً) لأن غير الحروف المقطعة (أيضا قد) لا يعلم معناها. 853 - مسألة: ليس في القرآن غير العربية، وقال ابن عباس وعكرمة: فيه كلمات بغير العربية كالمشكاة والقسطاس، والسجيل والاستبرق. 854 - ولنا قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فنص على أنه ليس فيه بغير العربية، ولأن الله تعالى جعل القرآن معجزة نبيه ودلالة صدقه ليتحداهم به، فلو كان

فيه غير العربية لما صح تحديهم به، لأن الكفار يجدون إلى رده سبيل بأن يقولوا فيما أتيت به عربي، ونحن لا نقدر على الإتيان بمثل العجمية والهندية وإنما نقدر على الكلام العربي. 855 - احتج المخالف بأن المشكاة هندية، والسجيل والاستبرق فارسية، وناشئة الليل حبشية، والقسطاس رومية، وفاكهة وأباً، الأب لا تعرفه العرب، وهذا جميعه في القرآن فدل على أن فيه غير العربية. الجواب: أن جميع ذلك لغة العرب وإنما وافقتها فارس والهند والحبشة (فيها)، كما وافقتها في كثير من الكلام كالدواة والمنارة والتنور. وقوله: الأب لا (تعرفه العرب) لا يصح لأن في العربية ألفاظ يعرفها بعضهم دون بعض. قال ابن عباس: "ما كنت أعرف/83 ب كلمات من القرآن بلسان قومي. منه قوله: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ} حتى سمعت امرأة تقول: أنا فطرته أي ابتدأته فعلمت أنه أراد (به) مبتديء

السموات" والأب: هو الحشيش، وقيل (هو) الرطبة. 856 - احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الكافة، فيجب أن يكون في الكتاب المنزل عليه لسان الكافة. الجواب: أنه يجب أن يكون فيه على (قولكم جميع اللغات) من التركية والزنجية وأصناف الفارسية والأمر بخلاف ذلك. جواب آخر: يجب أن يكون فهي من هذه اللغات على قولكم ما يعلم به المراد ويقع به التبليغ، فأما هذه الكلمات الشاذة فلا تبليغ يحصل بها ولا بيان. جواب آخر: إن كان مبعوثاً إلى الكافة إلا أن قصده إعجاز العرب، لأنهم أهل الفصاحة والبيان ونظم الأشعار والخطب، فإذا ظهر عجزهم فغيرهم أعجز، فثبت صدقه في حق الجميع. وعلى هذا الترتيب بعث الله سبحانه الأنبياء فبعث موسى إلى أحذق الناس بالسحر فجعل معجزته من جنس ما يدعونه وبعث عيسى في زمان الأطباء فكانت معجزته من جنس ما يدعونه، حتى إذا

عجزوا كان غيرهم أعجز، فكذلك العرب كانوا في زمانهم أفصح الناس لساناً وأحسنهم بياناً فجعل معجزته من جنس ما يدعونه، ليبين عجزهم فيكون ذلك أظهر في الحجة، وأبين في المعجزة. 857 - فصل: يجوز تفسير القرآن على مقتضى اللغة، ذكره شيخنا وقال: قد فسر أحمد رحمه الله، قال في رواية المروزي "روح الله" إنما معناها (أنها) روح خلقها الله تعالى كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله، وقال في قوله سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} هو جائز في اللغة يقول الرجل سأجري عليك رزقاً أي سأفعل لك خيراً، وظاهره أنه فسره على مقتضى اللغة. وروي عنه الفضل بن زياد: أنه سئل عن القرآن يتمثل الرجل له بشيء من الشعر؟ فقال: "لا يعجبني". قال: "وظاهره المنع". 858 - الدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وهذا يدل على أنه إذا تحقق معنى اللفظ في اللغة حملناه عليه.

859 - واحتج من منع بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. الجواب: أنه محمول على بيان الأحكام. 860 - واحتج بقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}. الجواب: أنا لا نحتج بقولهم في الحدود والأحكام إنما يحتج بقولهم في الألفاظ ومعناها مثل السواد والبياض والإنسان، فأما أخبارهم وحكمهم فلا نقبله. 861 - فصل: يجوز أن يتعلم التأويل لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، فحث على تدبره، وروى يحيى بن سلام في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه/84 أفي الدين وعلمه التأويل". وروى أبو بكر عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا

تعلم عشراً لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن ويعمل بهن" فدل على أن التأويل مستحب. 862 - فصل: وأما تفسيره برأيه من غير لغة ولا نقل فمكروه. روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار" وعنه أنه قال: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أي في فعله حيث قال بالرأي، وعن عائشة "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آيات علمه جبريل عليه السلام إياها". 863 - فصل: ونرجع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم، ويتخرج وجه أنه لا يرجع إليهم على ما قلنا إن قولهم ليس بحجة. وجه الأول: أنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل وعلموا، فيجب أن يرجع إلى قولهم، لأنه أمارة ظاهرة. ويحتج للآخر: بأنه شخص يقر على الخطأ فهو كالتابعين وفارق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقر على الخطأ.

باب البيان

باب البيان 864 - بيان الأحكام الشرعية يحصل بالمواضعة، والمواضعة ثلاثة: الكلام، والكتابة، والعقد. فأما الكلام: فنحو قوله عليه السلام في شأن الصلاة: "توضأ كما أمرك الله ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ". وذلك كثير. وأما الكتابة: فنحو كتبه إلى عماله في الصدقات وإلى كسرى وقيصر في الدعاء إلى التوحيد. وأما العقود (في الحساب) فمعلومة. والضرب الآخر: يحصل بالإشارة وقد روى عنه عليه السلام. أنه قال: "الشهر هكذا وهكذا". ويحصل بأمارة القياس، نحو ثبوت الحكم عند صفة، ونفيه عند نفيها.

865 - ويحصل بالأفعال فيما هي بيان له (بالقول)، نحو قوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" و"صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال بعض الناس، الأفعال لا تكون بياناً لوجهين: أحدهما: أن الفعل لا ينبئ عن شيء، وإنما ينبئ عنه القول. والآخر: أن الفعل يتأخر عن الخطاب، ولا يجوز تأخير البيان عن الخطاب. ولنا: أن قولهم لا يخلو أن يريدوا به أنه لا يصح وقوع البيان بالأفعال، أو أنه لا يحسن من جهة الحكمة أن يبين بها المجمل، لأنه يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الخطاب. فالأول غلط لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للحج والصلاة أدل على صفتها وأوقع في الفهم من صفتها بالقول، لما في المشاهدة من المزية على الإخبار عن الشيء، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم الحج بفعله، وقال: "خذوا عني مناسككم" وبين الصلاة بفعله. وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وبين أصحابه الوضوء بفعلهم.

فإن قيل: هناك وقع البيان بقوله. قيل: معلوم أنه قوله: "خذوا عني مناسككم" و"صلوا كما رأيتموني أصلي"/84 ب لا تعلم منه المناسك ولا الصلاة، وإنما بان ذلك وعلم بفعله. وإن أرادوا (به) أنه لا يحسن، لأنه يؤدي إلى تأخير البيان فإن تأخير البيان جائز عند أصحابنا على ما (سنذكره) إن شاء الله. وعلى قول الباقين لا يجوز تأخير البيان عن (وقت) الخطاب، إلا أنه لا يلزم لأنه يمكن أن يتعقب الفعل القول كما يتعقب القول الفعل، وإن طال الفعل فإن القول قد يطول زماناً ثم يقع به البيان كذلك الفعل، ولأنه إذا كان في التأخير تأكيد البيان من حيث حصول المشاهدة، جاز ذلك، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن أوقات فقال (له): "صل معنا" فبين له الأوقات بالفعل في يومين ولم يعد ذلك من تأخير البيان، فصح ما قلناه. 866 - فصل: ويجوز أن يكون البيان أضعف من المبين، فيكون مظنوناً والمبين معلوماً، (ولهذا يقبل خبر الواحد في بيان القرآن ويخصصه)

وبه قال أكثرهم. وقال الكرخي: لا يكون البيان إلا مثل المبين في القوة فإن كان أضعف، لم يقبل كخبر الأوساق لا نقبله في باين قوله "فيما سقت السماء العشر" لأن ذلك أشهر من خبر الأوساق. لنا: قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن مقبول، وهو دون كلام الله تعالى في الرتبة، ولهذا جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد، لأن (لا) يمتنع تعلق المصلحة به. 867 - فصل: يجوز أن يكون المبين واجباً، وبيانه غير واجب، وقال قوم: لا يكون بيان الواجب إلا واجباً. وهذا غلط، لأن البيان لا يتضمن لفظاً يفيد الوجوب وإنما يتضمن صفة المبين، والوجوب في المبين ثبت بدليل آخر.

868 - فصل: لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم تأخير التبليغ وقال أكثر المعتزلة: يجوز أن يؤخر (التبليغ) إلى الوقت الذي يحتاج المكلف أن يؤدي العبادة (فيه). لنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والأمر على الفور، وقد تقدم الكلام في ذلك. فإن قيل: هذا الأمر إنما يفيد وجوب تبليغه على الحد الذي أمر أن يبلغ عليه من تقديم أو تأخير. قلنا: الحد الذي أمر أن يبلغ عليه هو التعجيل، (بدلالة) هذا الأمر. فإن قيل: المراد بذلك القرآن: لأنه الذي يطلق عليه الوصف بأنه منزل من الرب عز وجل. قلنا: إذا وجب تعجيل تبليغ القرآن بمطلق هذا الأمر، فكذلك ما أمر به من الأحكام ولا فصل بينهما.

مسألة

فإن قيل: لا يخلو أن تقولوا (إن) ذلك وجب بالعقل أو بالسمع. فلو كان بالعقل لاشتركنا في (معرفته)، ولو كان بالسمع لوجب ذكره. الجواب: أنا قد بينا أن ذلك وجب بالسمع في قوله: "بلغ ما أنزل إليك من ربك". 869 - فصل: لا يجوز تأخير بيان الخطاب/85 أعن وقت الحاجة لأن في ذلك إيقاع المكلف في الحيرة. وتكليفه بما لا يمكنه فعله، وقد قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. 870 - مسألة: اختلف أصحابنا في تأخير بيان (الحكم) المجمل والعموم عن وقت الخطاب. فقال ابن حامد وشيخنا: يجوز ذلك، وبه قال أكثر

الشافعية والأشعرية وبعض الحنفية. وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمي لا يجوز ذلك وهو قول المعتزلة وأهل الظاهر. وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز (تأخير) بيان المجمل ولا يجوز تأخير بيان العموم، وبه قال بعض الشافعية. وقال بعضهم: يجوز تأخير بيان العموم دون المجمل. وقال بعضهم: يجوز تأخير بيان الأمر دون الخبر، وأجاز الجميع تأخير بيان النسخ. وقال أبو الحسين البصري: (لا) يجوز تأخير بيان ما له

ظاهر مثل تأخير بيان التخصيص وتأخير بيان النسخ وتأخير بيان الأسماء المنقولة إلى الشرع، فأما ما لا ظاهر له كالأسماء المشتركة فيجوز تأخير بيانه. 871 - والدليل على (الجواز) في الجملة: قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (ومعنى جمعه) وقرآنه: ضم بعضه إلى بعض، والبيان بعد ذلك له، لأنه أتى بلفظة "ثم" وهي للتراخي والمهلة فدل على جواز تراخي البيان (عن الخطاب). فإن قيل معنى بيانه إظهاره وتنزيله، بدليل أن الكناية راجعة إلى جميع القرآن، وجمعه لا يفتقر إلى بيان. قلنا: اتباعه لقرآنه لا (يكون) إلا بعد تنزيله، فالاتباع يتعقب التنزيل، والبيان بعد ذلك بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فلا معنى لحمل البيان على التنزيل، فأما قوله: إن ذلك يعود إلى جميع القرآن وذلك (لا يحتاج) إلى بيان فغير صحيح، (لأن)

الكناية راجعة إلى (الخبر) الذي نزل (إليه) فإنه كان يقرأه مع جبريل عليه السلام مخافة أن لا يحفظه، فنهى عن العجلة بقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}. أي ضمه إلى ما سبق نزوله {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}: أي بيان ذلك الجزء الذي ينزل عليك (بعد ذلك). جواب آخر: يجوز أن يضاف البيان إلى الجملة وإن كان فيها ما لا يشكل كما يقال فسر فلان القرآن وإن كان فيه ما لا يحتاج إلى تفسير، وشرح فلان الكتاب الفلاني وإن كان فيه ما لا يفتقر إلى (الشرح) ويكون ذلك حقيقة، كذلك هاهنا. فإن قيل: المراد بجمعه وقرآنه في اللوح المحفوظ، وبيانه: نزوله إليه. قلنا: قد بينا أن قرآنه أنزلناه، لأن الاتباع لا يمكن (أن يكون) إلا بعد النزول ثم البيان بعد الاتباع. 872 - دليل آخر: قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} والمراد (به) لا تعجل ببيانه (من) قبل أن يبين لك بالوحي.

فإن قيل: الظاهر يقتضي لا تعجل بأداء نفس القرآن عقيب سماعه. قلنا: هذا غلط، لأنه/85 ب غير منهي عن أدائه عقيب سماعه، بل (هو) مأمور بذلك بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} والأمر على الفور (ولأنه عقب) ذلك يأمره بأن يدعو بزيادة العلم، والعلم هو البيان لا نفس التلاوة، فمعناه لا تعجل بالبيان (قبل أن يبين لك وقل رب زدني علماً يقع علي به البيان). 873 - دليل آخر: أنه قد وجدنا تأخير البيان في القرآن قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. فأخر بيان ذلك حتى قال ابن الزبعري: "لأخصمن محمداً". ثم قال: "أليس قد عبدت الملائكة (من دون الله) وعبد المسيح وأمه: أهم حصب جهنم؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. فكان بياناً للآية. فإن قيل: قد كان في الآية بيان، إلا أنهم لم يعقلوه، وهو أن "ما" لما لا يعقل.

قلنا: "ما" لما يعقل ولما لا يعقل بمعنى "الذي"، يدل عليه أنها تضمر من يعقل بمعنى "من" كقوله سبحانه: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أراد (به) من الإماء. (وكذا قوله سبحانه) {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} الآيات (بمعنى الذي)، وتقول ما زيد؟ فيقال (لك): إنسان، وتقول العرب: سبحان ما سبحت له يعنون الرعد، ويدل عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب وابن الزبعري شاعراً فصيحاً قالا ذلك ولم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم بما ذكرتم. 874 - دليل آخر: قوله سبحانه وتعالى لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} فلما سأله حمل ابنه قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فبين أنه أراد بأهله من كان على دينه، وهذا لم (يبينه) له وقت الخطاب، ولهذا سأل نوح إنجاء ابنه وحمله في السفينة.

وكذلك قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} ولم يستثنوا أحداً، فلما قال إبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} فبين التخصيص بعد سؤاله. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ثم بعد ذلك نزل جبريل فبين الأوقات حين صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم عند البيت في اليومين. وكذا قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم (أن ذلك بعد) سلب القاتل، وأن بني أمية وبني نوفل لا يدخلون في ذوي القربى. فإن قيل: يحتمل أني كون البيان في ذلك كان (قد) تقدم. قلنا: الأصل عدم ذلك فمن ادعاه يحتاج إلى دليل. وكذلك قوله تعالى: (لبني إسرائيل) على لسان موسى:

"إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة". ثم بين بعد ذلك صفاتها حين سألوا وكرروا. فإن قيل: البقرة المأمور (بذبحها) كانت منكرة أي بقرة كانت إلا أنهم شددوا، فشدد الله عليهم، كذا قال ابن عباس. قلنا: هذا غلط لأنهم سألوا أن يبين لهم ما هي؟ وما لونها؟ فبين أنها بقرة لا فارض ولا بكر صفراء فاقع لونها (تسر الناظرين) لا ذلول تثير الأرض، ولا تسقى الحرث، وظاهر هذه الكنايات/86 أرجوعها إلى ما أمروا بذبحه (لا) إلى تكاليف (مجددة). وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن المزابنة ثم أرخص بعد ذلك في بيع العرايا، وهي من المزانبة لأن المزابنة بيع التمر بخرصه من الرطب في (النخل). وروى أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال يكفيك آية الصف، فقال: اللهم مهما بينت فإن عمر لم يتبين، فقد أخر البيان عن وقت الخطاب.

ويدل عليه أن البيان إنما يجب ليتمكن المكلف من أداء ما كلف، والتمكن من ذلك إنما يحتاج إليه عند (الفعل) ولا يحتاج إليه عند الخطاب، ألا ترى أن القدرة لما كانت (لإيجاد) الفعل وجب كونها عند الفعل دون الخطاب. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الخطاب يجب لمعنى آخر، وهو خروج الخطاب عن أن يكون عبثاً. قلنا: إذا تعلق بالخطاب فائدة (في ثاني الخطاب) خرج عن كونه عبثاً، لأن العبث مالا يفيد شيئاً، على أ، هـ في الحال يفيد اعتقاد الوجوب والعزم (والعموم) فإن قيل: لو كان البيان لا يراد إلا للتمكن من الفعل لجاز أن يخاطب العربي بالزنجية ويكون بيانه عند الفعل. قلنا: خطاب العربي بالزنجية لا يفيد شيئاً في الحال، ولا في الثاني، إنما تحصل الإفادة بغير ذلك اللفظ، وهو تفسيره، وتفسيره يقوم بنفسه خطاباً، بخلاف بيان الخطاب المجمل، فإنه قد استفاد منه أن عليه حقاً لكن لا يعلم صفته، فالبيان بيان صفة لا بيان وجوب حق. 875 - دليل آخر: لو قبح تأخير بيان المجمل، لأن المكلف لا يفهم جميع المراد بالخطاب، لقبح تأخير بيان النسخ، وكون المكلف غير مراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه يموت قبل الفعل أو العجز، فلما لم يقبح ذلك، كذلك تأخير بيان المجمل.

فإن قيل: تأخير بيان ما ذكرتموه لا يخل بمعرفة صفة ما كلفناه في وقت الخطاب، وذلك لا يمنع من التمكن من الفعل في وقته، وليس كذلك بيان المجمل فإنه يخل بمعرفة صفة ما كلفناه، وذلك يمنع من التمكن من الفعل في وقته. الجواب عنه أنا نقول: ظاهر اللفظ الإطلاق في الأزمان، وإذا كان المراد في بعض الأزمان فقد أخل بصفة ما كلفناه، على (أن) تأخير بيان صفة العبادة عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة لا يخل بأداء العبادة في قوتها، ولو كان فيه تأخير بيان يمنع من الفعل في وقت العبادة لم يجز تأخيره. 876 - دليل آخر: أن تأخير بيان النسخ تأخير لبيان تخصيص الأزمان كما أن تأخير بيان التخصيص، تأخير بيان تخصيص الأعيان، ثم بيان النسخ يجوز تأخيره، كذلك تأخير (بيان) التخصيص. فإن قيل: لا يجوز تأخير بيان النسخ إلا مع الإشعار بالنسخ. قلنا: الإشعار لا يحصل به بيان وقت النسخ، ثم يجب أن تقولوا يجوز تأخير بيان العموم والمجمل إذا أشعرنا بالتخصيص.

فإن ارتكب ذلك مرتكب. قلنا: فإذا دل الدليل على جواز النسخ وجواز التخصيص كان ذلك كالإشعار بهما، فيجب أن يجوز تأخير بيانهما. وقيل/86 ب: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بأشياء ثم نسخها، كالقبلة وصيام عاشوراء وغير ذلك، ولم يقرن بواحد منهما إشعاراً بأنه ينسخه فيما بعد. فإن قيل: إنما جاز تأخير بيان النسخ لأنه بيان ما لم يرد (به الخطاب). قلنا: ولم إذا كان كذلك يجوز تأخيره، وعلى أن تأخير التخصيص هو (تأخير). بيان ما لم يرد بالعموم فلا فرق بينهما. فإن قيل: فرق بين النسخ والتخصيص، لأن النسخ رفع التكليف، وعلمنا حاصل بانقطاع التكليف، وليس كذلك التخصيص فإنه بخلافه. قلنا: انقطاع التكليف بالموت، خارج (عن) الخطاب المطلق بالدليل، بخلاف المنسوخ فإنه داخل في ظاهر الخطاب، فإذا جاز تأخير بيانه كذلك التخصيص.

فإن قيل: التخصيص وإن كان بيان ما لم يرد باللفظ إلا أن تأخيره يقدح في العلم فيمن أراده المتكلم، لأنا إذا جوزنا أن يكون المراد به بعض (ما) تناوله، لم نأمن في كل شخص أن لا يكون مراداً. الجواب عنه أنا نقول: إن مثل ذلك في النسخ، لأن الخطاب إذا أفاد ظاهره إيجاب الفعل في وقت، وكل واحد من المكلفين يجوز أن يموت قبل الوقت، فلا يكون مراداً بالخطاب، وفي ذلك شك في أعيان من أريد بالخطاب. 877 - دليل آخر: أنه يجوز أن يخاطب العاجز عن الفعل (بالفعل) في وقت قدرته، فيقول: إذا جاء رمضان فصم، وإن كان حين الأمر عاجزاً عن الصوم، إذا كان قادراً وقت الفعل، (كذلك في التالي). 878 - دليل آخر: لو قبح تأخير البيان، لقبح تأخيره الزمان اليسير، ولقبح البيان بالكلام الطويل. فإن قيل: إنما يحسن تأخير البيان مدة لا يخرج الكلام معها من أن يكون مترقباً يرجو فيه السامع زيادة شرط، ويفسد بصفة، وهذا حاصل في الزمان القصير والكلام الطويل إذا عطف بعضه على بعض جرى مجرى الجملة (الواحدة لا يترتب) (قلنا: .....).

879 - دليل آخر: لو قبح تأخير البيان لكان وجه قبحه (فقد) تبين المكلف، وذلك لا يقتضي قبح الخطاب، ألا ترى أنه لو بين للمكلف فلم يتبين لا يقبح الخطاب وهو كقصة عمر رضي الله عنه في الكلالة. 880 - احتج المخالف: على أن ما له ظاهر، إذا أراد خلاف ظاهره لم يجز تأخيره بيانه فإنه إذا خاطبنا بالعموم فإنما قصد إفهامنا، (ولولا ذلك لم يكن مخاطباً لنا، وإذا قصد إفهامنا) فلابد أن يخاطبنا بما نفهم مراده به، فإذا لم يبين لنا مراده فما أفاد خطابه الإفهام، فصار بمنزلة من خاطب العرب بالزنجية. الجواب: أنه قد تعلق بخطابه إفهام لنا وهو الأمر بالفعل على سبيل الاستغراق، وكذلك (في) المجمل يفهم (من) قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} الأمر بصلاة، فأما خطاب العربي بالزنجية فيحتمل أن (يجوز) إذا علم أن المخاطب حكيم لأنه يعلم، أنه قد أراد منه شيئاً ما إما أمراً وإما نهياً وأنه سيبينه له فيما بعد، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله إلى كل زنجي وفارسي وغير ذلك من اللغات وهو عربي وخاطبهم بالقرآن العربي وإن لم يفهموا ذلك في الحال.

(وإن سلم) فإن الزنجية ليس لها ظاهر عند العربي تدعوه إلى اعتقاد معنى الخطاب فلا فائدة فيه. 881 - احتج بأنه إذا أمرنا بما له ظاهر ولم يرد ظاهره فلا يخلو أن يريد منا أن نعتقد ما أراد منا أو اعتقاد ظاهر الأمر فإن أراد اعتقاد ما أراده منا فذلك ما لا سبيل لنا إليه، وإن أراد اعتقاد ظاهره فقد أراد اعتقادنا الجهل. الجواب: أنه إذا اعتقد (أن) الأمر على ظاهره ما لم يخص كان ذلك اعتقاداً موافقاً للفظ لا جهل فيه، ألا ترى أنه إذا سمع لفظ العموم فإنه يعتقده عموماً إلى أن يجد ما يخصه، وكل جواب له (عن) اعتقاد العموم إلى أن يجد المخصص هو جوابنا هاهنا إلى أن يرد البيان، وكذلك الأمر المطلق يجوز أن يرد عليه النسخ بعد ذلك فيعتقد فيه وجوب المأمور على التأبيد وإن كان بخلاف مراد الأمر. فإن قيل: لابد من إشعار النسخ فيصير كالمجمل لا يعتقد إطلاقه. قلنا: إن الدليل قد دل على جواز النسخ فلا يحتاج إلى الإشعار كذلك أيضاً اللفظ العام لما كان التخصيص يجوز فيه صار بمنزلة أن يشعره تخصيصه في اعتقاد عمومه فإذا جاء وقت البيان بينه.

882 - احتج بأنه لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص فلا يبين لنا ذلك في الحال ولا يشعرنا بأنه لم يكن لنا طريق إلى وقت الفعل الذي يقف وجوب البيان عليه لأنه لو قال: صلوا غداً جوزنا أن يكون المراد به بعد غد وما بعده أبداً لأن غداً تستعمل في ذلك على طريق المجاز ولم يبينه لنا ويتعذر مع ذلك معرفتنا بالخطاب. الجواب: أنه يجوز أن لا يعرف الوقت الذي أراد أن يفعل فيه إلا بعد ورود البيان (بصفة العبادة ولا يحصل به البيان) فإذا ورد البيان في الغد أو بعده علمنا أنه الوقت الذي أراد إيقاع الفعل فيه. فإن قيل: ورود البيان بصفة العبادة لا يحصل به البيان وقت فعلها إلا أن الوقت يجوز أن يتأخر عن بيان صفة العبادة. قلنا: إذا بين صفة العبادة وقال: افعلوها الآن من غير تأخير بحال، علمنا أن ذلك وقتها وانقطع تجويز التأخير. 883 - احتج بأن العموم يخص مرة بالاستثناء ومرة بالدليل، ثم التخصيص بالاستثناء لا يجوز أن يتأخر عن العموم فكذلك التخصيص بالدليل. الجواب: أن الاستثناء لا يستقل بنفسه ولا يفيد معنى فلم يجز تأخيره والتخصيص بالدليل يستقل بنفسه ويفيد (معنى) إذا انفرد فجاز تأخيره، يدل على هذا أن الاستثناء لو تقدم على الخطاب لم يجز، ولو تقدم الدليل الموجب للتخصيص جاز فافترقا.

884 - احتج بأن البيان مع المبين كالجملة الواحدة ألا ترى أنهما بمجموعهما يدلان على المقصود (بهما) كالمبتدأ والخبر ولا خلاف أنه (لا يحسن) تأخير الخبر عن المبتدأ بأن يقول زيد ثم يقول بعد أيام "قائم"، فكذلك تأخير البيان. الجواب: لا نسلم أنهما الجملة الواحدة/ 87 ب ولا (أنهما) يدلان على المقصود بل أحدهما وهو المبين يدل على الحق والبيان يدل على صفته. جواب آخر: أن التفريق بين الابتداء والخبر ليس من أقسام (الخطاب)، وليس كذلك إطلاق العموم والمجمل فإنه من أقسام خطابهم وأنواع كلامهم لأنهم يتكلمون بالعموم والمجمل وإن (افتقرا) إلى البيان فافترقا. 885 - احتج بأنه إذا خاطب بلفظ والمراد به غير ظاهره فقد بالغ في الإشكال عليهم وهذا لا يجوز كما (لو) قال: اقتلوا المسلمين، ويريد به المشركين. الجواب: أنه يبطل بتأخير بيان النسخ فإنه قد أتى بغير ما يقتضيه لفظه لأن لفظه يقتضي التأبيد، والنسخ يقتضي التأقيت ثم يجوز. فأما إذا قال اقتلوا المسلمين ويريد (به) المشركين فلا يجوز لأن أحدهما لا يستعمل في الآخر (بحال)، ولهذا لو فسره بذلك

لم يجز بخلاف البيان مع المبين فإنه إذا قال: اقتلوا المشركين، وقال: أردت (إلا أن) يعطوا الجزية (عن يد وهم صاغرون) أو أردت ثلاثة منهم فلاناً وفلاناً وفلاناً (حسن) ذلك، وكذلك إذا قال: آتوا حقه (يوم حصاده) يحسن أن يقول: وهو كذا وكذا فافترقا. 886 - احتج بأنه لو جاز تأخير البيان لجاز تأخير التبليغ. الجواب: أن شيخنا قد قال: يجوز تأخير التبليغ أيضاً، وهذا إنما يخرج عن الرواية التي تقول: إن الأمر على التراخي، والصحيح أنه لا يجوز لأن الله سبحانه (أمر بالتبليغ) فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (فأمر بالتبليغ) والأمر على الفور عندنا، والفرق بينهما أن التبليغ أمر به وتهدد عليه فقال: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، والبيان قيل له: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} على التراخي فلم يجز أن يجمع بينهما.

مسألة: يجوز أن يسمع الله المكلف الخطاب العام المخصوص وإن لم يسمعه الخاص

الثاني: أن تأخير الخطاب يخل أن يعتقد المكلف شيئاً بحال فيصير إهمالاً وتأخير البيان لا يخل بالاعتقاد والعزم وإشعار المكلف فافترقا، ولهذا يجوز تأخير النسخ ولا يجوز (تأخير تبليغ) المنسوخ والله أعلم. 887 - مسألة: يجوز أن يسمع الله المكلف الخطاب العام المخصوص وإن لم يسمعه الخاص وبه قال عامة العلماء وقال أبو الهذيل والجبائي لا يجوز ذلك إلا أ، هما وافقا أنه يجوز أن يسمعه العام المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم أن في أدلة العقل ما يدل على تخصيصه. 888 - لنا أن العموم المخصوص يمكن للمكلف اعتقاد تخصيصه إذا لم يسمع الدليل المخصص كما يمكنه إذا سمع فجاز إسماعه إياه لأنه ممكن فيما كلف.

فإن قيل: كيف يعتقد التخصيص إذا لم يسمع المخصص؟ قلنا: لأن الله تبارك وتعالى، يخطر بباله جواز كون المخصص في الشرع فيجوز ذلك، وإذا جوزه طلبه، وإذا طلبه ظفر به كالمخصص إذا كان عقلياً ولأنه (قد) ثبت بإجماع أهل اللسان جواز تخصيص اللفظ العام، فإذا سمع العام كان/88 أجواز تخصيصه مشعراً له بأنه يجوز أن يكون مخصوصاً (فيطلبه) كما في العقل. فإن قيل: الدليل العقلي (حاضر) عند سماعه للعموم فأمكنه (العلم) بالتخصيص. بخلاف المخصص السمعي فإنه غير (حاضر) ولا سمعه. قلنا: لا فرق بينهما فإنه يجوز أن لا يعلم المكلف أن في العقل دليلاً مخصصاً كما لا يعلم أن الشرع أتى بالمخصص وعلى هذا كثير من المذاهب لا يعلم الإنسان أن عليها دليلاً عقلياً حتى يفكر ويفحص كما لا يعلم أن عليها دليلاً شرعياً حتى يطلبه فكما جاز أن يكلف طلب أحدهما بالخاطر جاز طلب الآخر. 889 - احتج الخصم بأن قال: إذا أسمعه العام دون الخاص فقد أغراه باعتقاد الجهل وذلك لا يجوز.

الجواب: أنه يبطل (به) إذا كان المخصص عقلياً على أنه لا يفضي (إلى اعتقاد) الجهل لأن المكلف قد علم جواز تخصيص العموم فلا يعتقد عمومه إلا بعد طلب المخصص وعدمه. فإن قيل: فإذا قلتم هذا رجعتم إلى قول الأشعري في الوقف. قلنا: الأشعري يقف مع (علمه بتجرد) العموم من (القرائن) ونحن إذا علمنا تجرده لم نقف. وإنما نطلب إذا لم نعلم التجرد على قدر الاجتهاد فإذا لم نجد اعتقدنا العموم، ثم هذا يلزمه مثله في المخصص العقلي. 890 - احتج بأن المكلف يلزمه العمل بما علمه ولا يلزمه طلب مالا يعلمه ألا ترى أنه لا يلزمه أن يطلب، هل بعث الله تعالى رسولاً أم لا؟ بل يلزم ما هو عليه من دليل العقل أو الشرع. والجواب أن مقتضى هذا الدليل (يدل على جواز) أن يسمع الله المكلف العام دون الخاص ويجوز له أن يعمل على العام من

غير أن يطلب الخاص كما يعمل على ما في عقله أو شرعه من غيره (نبي). جواب آخر: أنه يلزمهم مثله في العموم إذا كان المخصص عقلياً، فأما السؤال عن بعثة نبي فإنه متى سمع أنه قد بعث نبي في بلده (لزمه) البحث عنه كما يلزمه هاهنا أن يطلب المخصص في بلده ولا يلزمه أن يجوب البلاد في طلب النبي صلى الله عليه وسلم ولا في طلب المخصص. فإن قيل: فما يقولون إذا سمع العموم المقتضى للعمل المؤقت وضاق الوقت عن طلب الخصوص. قلنا: الأشبه أن يلزمه العمل بالعموم لأنه لو لم يجز ذلك لم يسمعه الله إياه. قيل أن يمكنه (من) المعرفة بالمخصص لأنه وقت الحاجة إلى البيان، فإذا لم يبين له العمل عمل على عمومه، ومثل هذا قلنا في كفارة اليمين الواجب أحدها فإذا فعله المكلف علمنا أنه هو الذي أوجبه الله عليه، وإلا لم يوفقه لفعله وقد قال شيخنا إذا ورد لفظ العموم عمل عليه واعتقده (من) قبل أن يطلب الخصوص وهذا مع سعة الوقت، فمع ضيقه أولى ويحتمل أن يتوقف /88 ب فلا يعمل حتى

يطلب (الخصوص) كما قلنا في المجتهد إذا ضاق عليه وقت الاجتهاد لا يقلد غيره. 891 - احتج بأنه لو جاز أن يسمعه العام دون الخاص لجاز أن يسمعه المنسوخ دون الناسخ والمجمل دون المبين. الجواب: أنا كذا نقول، إنه يجوز ذلك ولا فرق بينهما. فإن قيل: لو جاز ذلك لكان قد خاطبه بما لا يفهم، وذلك لا يجوز، كخطاب العربي بالزنجية وقد تقدم الجواب عن (هذا) في المسألة الأولى.

باب الكلام في الأفعال

باب الكلام في الأفعال 892 - مسألة: نقول إننا متعبدون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في أفعاله. والتأسي: هو أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل (لأجل أنه فعل). وإنما اشترطنا الصورة لأنه لو صام وصلينا لم نكن متأسين به. واشترطنا (الوجه) الذي فعل لأنه إن نوى الفرض ونوينا النقل لم نكن متأسين (به)، وكذلك إذا فعل الفعل في زمان أو مكان وعلمنا أن في ذلك غرضاً مثل صلاة الجمعة، وصوم رمضان الوقوف بعرفة، وإن لم نعلم أن فيه غرضاً مثل أن ينقل أنه تصدق بيمينه وقت الظهر بباب مسجده، فإن التأسي يحصل بالصدقة وإن تصدق بشماله في غير باب مسجده وغير وقت الظهر. 893 - فعل هذا إذا فعل فعلاً نظرنا: فإن كان فعله على وجه الوجوب وجب أن نفعله على وجه الوجوب، وإن علمنا أنه تنفل

اعتقدنا أنه تنفل. وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة اعتقدنا أنه مباح. وقال أبو علي بن خلاد: ما تعبدنا بالتأسي به إلا في العبادات، دون غيرها من المناكح والعقود والأكل والشرب وغير ذلك. 894 - لنا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}. معناه يخاف الله، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي تخافون، وقال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل معناه لم يخف لسعها: يصف من يشتار العسل، والنوب: النحل. وهذا يدل على وجوب التأسي به. فإن قيل: الآية تدل على وجوب التأسي به وذلك يحصل بمرة واحدة في عبارة. قلنا: الإنسان لا يوصف بأنه متأس بفلان إذا تبعه في فعل واحخد، بل إذا تأسى به في كل أفعاله يقال: زيد يتأسى بعمرو معناه يقتدي به، ثم إذا ثبت وجوب التأسي به مرة في مباح ثبت قولنا. وقال تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}. وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا

يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} فأخبر أنه زوجه امرأة زيد ليدل على أنه يجوز للأمة ذلك (ولا يكون عليهم حرج في أزواج أدعيائهم الذين تبنوهم، ولأن الأمة أجمعت على الرجوع إلى أفعاله عليه السلام). ولهذا رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم، وفي الغسل من الإكسال، وفيمن أصبح (صائماً) جنباً لم يفسد صومه وفي أكله اللحم وصلاته ولم يتوضأ وفي تزويجه ميمونة وهو حلال أو محرم وغير ذلك فدل على وجوب التأسي به. 895 - واحتجوا بأن ما يفعله يجوز أن يكون مصلحة له دوننا. الجواب: أنه يجوز أن يكون مصلحة لنا أيضاً وقد أمرنا باتباعه فوجب ذلك لأن الظاهر أن المصلحة في الفعل تعمه، وإيانا، إلا

مسألة

(أن) يرد دليل بتخصيصه والله أعلم. 896 - مسألة: فإن فعل شيئاً ولم يعلم على أي وجه فعله فقد خرجه شيخنا على روايتين: إحداهما أنه يقتضي الوجوب، قال أحمد رحمه الله يجب مسح الرأٍ كله كذا جاء الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الرأس كله". وبه قال مالك. والثانية: أنه يقتضي الاستحباب، قال في رواية الأثرم: أليس ينبغي أن نقول. كما يقول المؤذن إنما روى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن قال كما يقول" فهو فضل ليس على أنه واجب (وبه) قال أصحابه أبي حنيفة فيما حكاه غنهم أبو سفيان السرخسي. قلت: وقد روى عن أحمد ما يدل على أنه يقتضي الوقف حتى يعلم على أي وجه فعل (ذلك) عن وجوب أو ندب أو إباحة.

قال في رواية إسحق بن إبراهيم الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم سوى الفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الشيء على جهة الفضل، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين، وهذا يدل على أنه جعل أمره متردداً بين الفضل وبين كونه (خاصاً)، وما هذه سبيله يوجب التوقف حتى يعلم على أي وجه فعله. وكذلك قال ... وهو قول أبي الحسن التميمي لأنه قال: انتهى إلى من قول أبي عبد الله أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تدل) على الإيجاب (إلا) أن يدل، فيكون ذلك الفعل الدليل الذي ضامه فجعل فعله موقوفاً على ما يضامه من الدليل. وحكاه عن أحمد وهو أقوى عندي وبه قال أكثر المتكلمين وعن الشافعية كالمذاهب الثلاثة.

897 - والدليل على الوقف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقع فعله واجباً وندباً ومباحاً وخصوصاً له دون - أمته، فإذا لم نعلم على أي وجه وقع لم يجز لنا الإقدام على اعتقاد أحدها لجواز أن يكون أوقعه على غير ذلك الوجه، ولا اعتقاد الجميع لأنه يتنافى فوجب الوقف وإلى هذا أشار أحمد رحمه الله في رواية إسحق بن إبراهيم. فإن قيل: إذا ورد متجرداً فهو على الوجوب/89 ب كالأمر المطلق. قلنا: هذا غلط لأن الأمر له صيغة تدل على الوجوب. ولا صيغة للفعل ولهذا بينا أن الفعل لا يسمى أمراً. جواب آخر: أنه لا خلاف أنه يجوز أن يكون أوقع فعله على الندب أو الإباحة أو الخصوص، بخلاف الأمر فإنه لا يجوز أن يأمر مطلقاً ويريد به الندب أو الإباحة أو الخصوص. فإن قيل: (ما) أمر الله سبحانه باتباعه كان الاتباع واجباً علينا سواء فعله على وجه الوجوب أو غيره. قلنا: إذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم (فعلا) على وجه الندب أو الإباحة ففعلنا على وجه الوجوب لم نكن متبعين له بل قاصدين خلافه، ألا ترى أنا لو علمنا أنه فعله مباحاً فاعتقدنا (وجوب ذلك وفعلناه) على وجه الوجوب لم نعد متأسين به ولا متبعين له، كذلك إذا جوزنا ذلك واعتقدنا الوجوب.

فإن قيل: قد يقع الاتباع، وإن اختلف قصد التابع، وقصد المتبوع إذا استويا في صورة الفعل، ألا ترى أن المتنفل إذا صلى خلف المفترض فهو تابع له وقصده يخالفه. قلنا: لا يكون التابع متأسياً بالمتبوع إذا خالفه في قصده، ولهذا لو صلى النبي صلى الله عليه وسلم وصمنا لم نكن متأسين به، فأما المتنفل خلف المفترض فإن قلنا يكون تابعاً فلأن الصلاة المفروضة تجمع قرية وإسقاط فرض، والمتنفل (متقرب فهو تابع) في القربة دون إسقاط الفرض فلهذا جوزنا أن يسمى تابعا، ألا ترى أنه لو اقتدى المفترض بالمتنفل لم يجز ولم يعد تابعاً لأنه خالف في قصده ونيته. 898 - دليل آخر: أنه لا يخلو أن يجب مثل فعله علينا باعتبار الوجه الذي أوقعه عليه فهو قولنا، أو يجب من غير اعتبار الوجه الذي أوقعه عليه فيجب أن يلزمنا مثل فعله حتماً، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة أو الندب، والإجماع ودليل (التأسي به) يمنعان من ذلك. فإن قيل: ما تنكرون أن تكون مصلحتنا أن نفعل مثل (ما فعله) إذا لم نعلم الوجه الذي أوقع الفعل عليه. فأما إذا علمنا أنه أوقعه لا على وجه الوجوب كان فعلنا له واجباً مفسدة.

قلنا: لا يجوز أن يكون ذلك مصلحة لجواز أن يكون مباحاً فنعتقده ونفعله وجوباً، فيكون ذلك ضد التأسي كما لو علمنا أنه فعله على وجه الإباحة ففعلناه وجبواً. 899 - دليل آخر: أنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على أنه كان واجباً عليه: لأنا إنما (فعلناه) تبعاً له، فإذا لم يدل على أنه كان واجباً عليه فأولى أن لا يدل على أنه يجب علينا مثله. فإن قيل: إنما يلزم هذا لو ثبت أنه لا يجوز أن يجب علينا مثل فعله إلا إذا أوقعه على وجه الوجوب وهذا نفس الخلاف. قلنا: كذا (نقول) مقتضى التأسي أن يكون/90 أفعلنا صورة ما فعل على الوجه الذي فعل. 900 - دليل آخر: أنه لو وجب علينا مثل فعله لكان على وجوبه دليل عقلي أو سمعي ونحن نبين أنه لا دليل عقلي ولا سمعي على ذلك عند ذكر أدلتك وإبطالها إن شاء الله. 901 - احتج أبو الحسن التميمي بشيئين: أحدهما، أن فعله قد يكون مصلحة له دون أمته فلا يجوز الإقدام عليه إلا بأمره. الثاني: أن الأنبياء قد يقع منهم الصغائر قال تعالى: {وَعَصَى

آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وقال عن موسى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} حين قتل القبطي، وقال (في) داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} وإخوة يوسف، وإذا كان كذلك لم يجز لنا (أخذ) أفعالهم بمجردها. 902 - دليل آخر: أنه لا يجب علينا ترك مثل ما ترك كذا فعل (مثل) ما فعل لأن الترك أحد قسمي الأفعال. 903 - واحتج من قال بالوجوب من جهة السمع بأشياء منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} والأمر اسم للفعل والقول. والجواب: أن الأمر لا يقع على الفعل وقد تقدم ذلك، ولو وقع عليه (فإن الأمر) ها هنا يراد به القول بالاتفاق فلا يجوز أن يراد به الفعل لأن اللفظة الواحدة لا يراد بها معنيان مختلفان. جواب آخر: أن الأمر هاهنا لا يتناول غير القول لأنه قال في أول الآية: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ

بَعْضاً} ثم قال {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} إذا دعاه. جواب آخر: أن مخالفة الأمر هي العدول عن مقتضاه، فيجب أن يثبت أن مقتضاه الإيجاب حتى تحرم مخالفته ويجب فعله. جواب آخر: أن المخالفة ضد الموافقة، وموافقة الفعل إيقاع مثله على الوجه الذي أوقع فثبت (أي وجه) وقع (فعله) حتى تلزم موافقته فيه. وقيل: إن قوله سبحانه: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، المراد به أمر الله تبارك وتعالى لأنه أقرب المذكورين. 904 - ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} وهو تهديد. الجواب: أن التأسي هو إيقاعه على الوجه الذي أوقع عليه وهو ما نقوله نحن. 905 - ومنها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقوله {وَمَا آتَاكُمْ} (لم) يدخل فيه الفعل.

الجواب: يقال ما معنى ما آتاكم؟ فإن قالوا: معناه أعطاكم من الشرع وجاء به إليكم. قلنا: فأثبتوا أن هذا من شرعه لأن هذه مسألة الخلاف على أن المراد به ما أمركم به ولهذا قابله {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولا نسلم (على) أن الأمر يقع على الفعل لأن (الإتيان) إنما يكون في القول لأنا يمكنا حفظه (فأما الفعل) (فلا) يتأتى فيه ذلك (وكلا). 906 - ومنها قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. الجواب: أن الطاعة موافقة مراده، والعصيان (مخالفة مراده)، وهذا إنما يكون فيما علم المراد به، ونحن لا نعلم المراد بالفعل فلا يدخل في الأمر. 907 - ومنها قوله {وَاتَّبِعُوهُ}. الجواب أن الاتباع/90 ب أن يفعل كما فعل على الوجه الذي فعل وذلك غير معلوم فيجب أن يدل عليه.

908 - (ومنها: أن عمر رضي الله عنه وقف حيال الحجر فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك فقبلتك". الجواب عنه أنا نقول: إنما فعل ذلك لقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" فكان قبوله الاتباع). 909 - ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة فخلع من كان خلفه نعالهم. الجواب: أنه قال لهم صلى الله عليه وسلم: "لِمَ، خلعتم؟ فقالوا: لأنك خلعت فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى". فأعلمهم أنه ينبغي (أن يعرفوا) الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعوه وهذا قولنا. جواب آخر: أنه يحتمل أن يكونوا لما رأوه خلع نعله مع أمره بأخذ الزينة في الصلاة، ومع قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" علموا أن خلعهما متعبد به غير مباح لأنه لو كان مباحاً ما ترك به المسنون، والكمال في الصلاة أن لا نفعل ما ينافيها، على أنه قد قيل: إنه من أخبار الآحاد فلا يقبل في إثبات أصل من الأصول.

910 - ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم في التقاء الختانين وفيمن أصبح جنباً وهو صائم وغير ذلك. الجواب: أنهم رجعوا لأنهم علموا أ، هـ فعل على وجه الوجوب بقوله، لأنها روت لهم (عنه): "إذا التقى الختانان وجب الغسل. ثم قالت: فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا"، وقصة الصائم إذا أصبح جنباً استدللنا على ذلك لأنه كان قد قال: "من أصبح جنباً فلا صوم له" فلما أصبح جنباً علمنا أنه (قد) نسخ ذلك لأنه لا يجوز له الفطر في رمضان. وكان ما روى من أفعاله عليه السلام فإنما يرجع فيها إلى دليل دل على المراد بها. 911 - احتج من جهة العقل بأشياء منها قوله: لو لم يجب اتباعه وجازت مخالفته كان ذلك تنفيراً عنه. الجواب: أنه لا يخلو (إما) أن يكون التنفير إذا فارقناه (في بعض الأفعال أو في جميعها. فالأول لا تنفير فيه لأنا قد فارقناه) في المناكح وصلاة الليل وغير ذلك والثاني بالحل (أيضاً)

لأنه لو قال إني متعبد بما أؤديه إليكم وجميع الأفعال مصلحة لكم دوني لم يكن ذلك تنفيراً، ولأنه لو حصل التنفير لحصل إذا لم يجب علينا مثل ما وجب عليه. فإذا لم نعلم أن ما فعله واجب عليه فلا تنفير (عنه). (الجواب أنه لا يخلو أن يكون النفير) إذا لم يجب علينا مخالفته، ومخالفته تحصل إذا لم نفعل ما أوجبه علينا، ونحن لا نعلم (وجوباً قبل فعله) علينا., 912 - ومنها قولهم: الفعل آكد من القول في الدلالة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق أمره بفعله كما فعل في الحج والصلاة، فإذا أفاد الأمر الوجوب فالفعل أولى. الجواب أنه: يجوز أن يكون الفعل آكد في البيان من القول لما (في) المشاهدة من (المزية) على الخبر، فأما في الإيجاب فليس الفعل وصفاً للوجوب ولا وضع له، بخلاف الأمر بالقول فإنه موضوع للوجوب في اللغة لأنهم وضعوا الأسماء للمعاني فوضعوا الأمر/91 أللوجوب والنهي للزجر والخبر للإعلام بحال المخبر عنه (والحكمة تقتضي) أن من خاطب قوماً بلغتهم فإنه يعني بخطابه ما عنوه، وهذا الطريقة غير حاصلة في الأفعال.

913 - ومنها أن الوجوب أعلى مراتب الفعل، فوجب حمله عليه للاحتياط. (والجواب عنه أنا نقول: الاحتياط) أن نحمله على ما دلت الدلالة عليه فإذا (لم تدل عليه دلالة) فنحن مع التوقف آمنون من الضرر، والخطر حاصل في اعتقاد وجوبه لأنا لا نأمن أن يكون مباحاً فيكون اعتقادنا جهلاً. 914 - ومنها (أنه) عليه السلام لا يفعل إلا حقاً وصواباً فاتباعه يوافق الحق. الجواب عنه: أنا قد بينا أنه يجوز عليه خطأ الصغائر صلى الله عليه وسلم، ثم فعله إن كان حقاً إلا أنا لا نأمن (من) الخطأ في اتباعه باعتقاد ما لم يرده. وقيل: يبطل (هذا) بما كان مخصوصاً به، ويبطل بالصلاة في حق الطاهر صواب، (وفي حق الحائض خطأ وبالحل) كذا يجوز أن يكون الفعل صواباً في حقه غير صواب في حقنا. 915 - احتج من حمله على الندب بأن الندب متيقن لأنه أقل أحوال الفعل فوجب أن يحمل اللفظ عليه.

الجواب: أن أقل أحواله الإباحة فلا يصح ما قالوه، على أنه يلزم (عليه) أن يقول، في الأمر كذلك ثم من يقول بالوجوب يقول: (أعلى) الأحوال الوجوب وفيه احتياط. 916 - فصل: في معرفة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على أي وجه وقعت؟ أما الطريق إلى كون الفعل واجباً فأشياء: منها: أني قول: هذا واجب. ومنها: أن يكون امتثالاً لدلالة تدل على وجوب ذلك الفعل. ومنها: أن يكون بياناً لكلام يدل على الوجوب. ومنها: أن (ننظر) إلى قصده أنه أوقعه واجباً. ومنها: أن يكون الفعل قبيحاً لو لم يكن واجباً نحو أن يزيد في الصلاة ركوعاً أو سجوداً وقد تقرر أنه لا تجوز الزيادة. 917 - وأما الطريق إلى أن فعله مندوب فأشياء: منها: أن يقول: إنه مندوب. ومنها: أن تدل دلالة على صفة زائدة على حسنه ولا تدل على وجوبه.

مسألة: إذا تعارضت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه أو من وجه دون وجه

ومنها: أن يكون امتثالاً لدلالة تدل على كون الفعل مندوباً (إليه). 918 - وأما الطريق إلى أن فعله مباح فأشياء: منها: أن يقول: (هو) مباح. ومنها: أن نضطر (من) قصده إلى أنه مباح. ومنها: أن تدل دلالة (على) حسنه. منها: أن يكون امتثالاً لدلالة تدل على الإباحة. 919 - وأما ما نعلم (به) أن فعله وتركه نسخ فهو أن يصدر منه قول يقتضي (تكرار) الفعل (ودوامه) ويدخل هو فيه ثم يفعل ضده أوي تركه فنعلم أن حكمه منسوخ كقوله "من أصبح جنباً فلا صوم له ثم يصبح جنباً". 920 - مسألة: إذا تعارضت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه أو من وجه دون وجه.

فإن تعارضا من كل وجه وعلمنا تقدم القول على الفعل مثل أن ينهى عن التوجه إلى بيت المقدس ويثبت دخوله في ذلك ثم رأيناه يصلي إلى بيت المقدس كان فعله ناسخاً لقوله عنا وعنه. وإن علمنا تقدم الفعل على القول، مثل أن يصلي إلى بيت / 91 ب المقدس ويثبت أن (حكم غيره). حكمه ثم قال بعد ذلك الصلاة إلى بيت المقدس غير جائزة كان ذلك نسخاً للفعل عنا وعنه. فأما إن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فالتعلق بالقول (أولى). وقال بعض الشافعية: التعلق بالفعل أولى، وذهب بعض المتكلمين إلى أنهما سواء. 921 - لنا أن القول يدل على الحكم بنفسه، والفعل لا يدل بنفسه، وإنما يستدل به على الحكم بواسطة أنه لو لم يجز (لما) فعله صلى الله عليه وسلم فكان ما دل عليه الحكم بنفسه أولى مما دل بواسطة. ولأنا إذا جوزنا أن يكون الفعل قد تقدم جوزنا (أن لا يكون قد تعدى إلينا بنفسه ولا بغيره لأن القول قد نسخه وإن جوزنا تقدم القول جوزنا تناوله لنا بصيغته وأن يكون الفعل قد نسخه فنحن نشك في تناول الفعل لنا ونقطع على تناول القول لنا فما قطعنا عليه أولى مما شككنا فيه).

922 - واحتج من قال التعلق بالفعل أولى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن مواقيت الصلاة فقال للسائل: صل معنا فبين بفعله ولم يبين بقوله. الجواب أنه بين بالفعل (ولكن لم يقنع) حتى قال (للسائل): "الوقت ما بين هذين". وكذلك جبريل عليه السلام لما بين الأوقات قال: يا محمد الوقت ما بين هذين وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني مناسككم" و"صلوا كما رأيتموني أصلي" فبان بهذا أن الفعل يحصل به البيان لكنه غير مستغن عن القول في الإيضاح والتأكيد ولأنه إن حصل البيان بالفعل إلا أ، هـ مختلف فيه، والقول غير مختلف فيه، والفعل لا يتعدى بنفسه، والقول يتعدى بنفسه فهو أقوى. وهذا الجواب عن شبهة من سوى بينهما لأن كل واحد منهما يحصل به البيان. 923 - احتج بأنه قد يبين بالفعل من الهيئات مالا يمكن بيانه بالقول، فتوقف على الغرض به فكان أولى. الجواب: أنه ليس كذلك فإن القول والصفة يتوصل بها إلى معرفة المقصود أكثر ولهذا من رأى جوهرة لا يعلم خيرها فإذا وصفت (له) علمها، وكذلك نراه يصلي على صفة فلا نعلم ما الغرض

من تلك الصفة وما (السنة) وما التجويز، فإذا وصفت له بالقول علم ما لم يكن يعلم ولهذا ما بين للسائل عن الوقت، لو لم يفعل له جاز أن يظن أن الصلاة يجوز فعلها في الوقت الأول والوقت الأخير ولا يجوز فيما بينهما فلما قال له زال الشك. 924 - فصل: (فإن) تعارض قوله وفعله من وجه دون وجه مثل نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط وجلوسه (للحاجة) على سطح بيت مستدبراً بيت المقدس فإن نهيه مخصوص بفعله، وبه قال الشافعية، وقال أبو الحسن الكرخي فعله يختص به ولا يختص به نهيه (وتوقف) عبد الجبار ابن أحمد الهمذاني في المسألة. 925 - لنا أنه لما فعل ذلك وقد أمرنا بالتأسي به والاتباع له بأن فعله مع الأمر باتباعه أخص من نهيه وأقوى فكان الرجوع إليه/92 أأولى، ولأن نهيه عليه السلام عام في البيوت والصحاري، وفعله يختص بالبيوت فكان الاعتراض به أولى كالخصوص مع العموم.

فإن قيل: إلا أن فعله لا يتعدى إلينا وقوله يتعدى إلينا فكان (أقوى). قلنا: إلا أن فعله قد قوى بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} وبقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وذلك عام فجاز أن (يخصص به) نهيه. 926 - احتج بأن قال: فعله لا ينسخ به قوله فكذا لا يخص به. الجواب: ولم كان كذلك ثم يجوز أن ينسخ قوله بفعله على ما بينا، ومن سلم قال قد يجوز التخصيص بما لا يجوز به النسخ كخبر الواحد والقياس يجوز به تخصيص عموم القرآن ولا يجوز به نسخه. 927 - احتج بأن قال فعله يجوز أن يخص به ويجوز أن نشاركه فيه، ونهيه عام والعام المتيقن أولى من الخاص المشكوك فيه. الجواب: أنه إذا شاركنا في النهي ثم فعله من غير أن يدل دليل على تخصيصه فالظاهر من إقدامه تخصيص ما فعله من جملة العموم أو نسخه إن كان مخالفاً لقوله في كل أحواله على ما تقدم.

باب النسخ

باب النسخ 928 - النسخ في اللغة: عبارة عن الرفع والإزالة تقول العرب نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثارهم إذا أزالتها. فأما قولهم: نسخت الكتاب فمعناه نقلت ما فيه وهذا مجاز، لأن النقل في الحقيقة لم يحصل وإنما كتب مثله فشبه بالنقل (وشبه النقل) بالإزالة، وإذا كان مجازاً في ذلك كان حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل في سواهما، فإذا بطل كونه حقيقة في أحدهما كان حقيقة في الآخر وإلا بطل أن يكون الاسم حقيقة في اللغة. فإن قيل: فما ذكرتم مجاز (أيضاً) لأن الله تعالى هو المزيل للظل والآثار لا الريح والشمس. قلنا: إنه لما كان الريح والشمس سببين في ذلك أضاف (أهل اللغة الفعل إليهما حقيقة). جواب آخر: أنه يحتمل أن يعتقد أهل الجاهلية بأن الريح والشمس يزيلان، فيكون الخطأ في معتقدهم لا في تسميتهم.

929 - فأما النسخ في الشرع: فإنه رفع مثل الحكم الثابت. وذهب بعض المتكلمين إلى أنه منقول من اللغة إلى الشرع كما نقل اسم الصلاة والحج، والأظهر أنه مخصوص في الشرع برفع مثل الحكم وإن كان الرفع عاماً في اللغة كما خصت الدابة بالاسم وإن كان غيرها يدب مثلها ولا يقال: إن ذلك منقول وإنما هو مخصوص بالعرف. 930 - فصل: الناسخ (هو) الناصب للدلالة الناسخة، يقال: إن الله تعالى نسخ التوجه إلى بيت المقدس فهو ناسخ ويوصف الحكم بأنه ناسخ، فيقال نسخ صوم رمضان كل صوم، ويوصف المعتقد لنسخ الحكم بأنه ناسخ فيقال: فلان ينسخ الكتاب بالسنة أي يعتقد ذلك، ويقال: القرآن ينسخ السنة. 931 - فأما الطريق الناسخ فحده كل قول صدر عن الله تعالى (أو عنه) رسوله صلى الله عليه وسلم أو فعل منقول عن رسوله عليه

السلام متراخياً يفيد (إزالة) مثل الحكم الثابت بالشرع على وجه لولاه لكان ثابتاً. وعلى هذا الحد يخرج الإجماع فإنه غير صادر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وتخرج دلالة العقل لأن (دلالة) العقل/92 ب ليس بقول أو فعل منقول، ويخرج العجز لما ذكرنا. ويخرج التقييد بشرط أو غاية أو استثناء لقولنا: متراخياً وذلك مقارناً فلا يسمى نسخاً. ولا يلزم البداء الثابت لأنه إزالة نفس الحكم الثابت بالشرع ونحن قلنا مثل الحكم. وهذا الحد يدخل فيه أخبار التواتر والآحاد. 932 - وقد حد قوم النسخ بأنه: إزالة الحكم بعد استقراره وهذا لا يصح لأن استقرار الحكم كونه مراداً فإزالته بعينه بداء.

وحدوه بأنه: إزالة مثل الحكم (إلى خلافه) (ويلزم عليه أنه إذا أزال الحكم بالعجز) أن يكون نسخاً وحدوه بأنه: نقل الحكم إلى خلافه. ويلزم عليه أن يكون نقل الحكم إلى خلافه بالشرط والغاية أو بالعجز نسخاً وحدوه بأنه: بيان مدة الحكم الذي ليس في التقدير والتوهم جواز بقائه. وهذا يلزم عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبر زيداً أنه يعجز عن الفعل وقت كذا (أن) يكون ذلك نسخاً. 933 - فصل: والفصل بين البداء والنسخ هو أن البداء الظهور، يقال: بدا لنا سور المدينة (أي) ظهر، قال الشاعر:

ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق مرارات الهوى فترق لي أي ظهر لي أنها لا تحبني، وإنما يكون الشيء ظاهراً للإنسان إذا تجلى له وصار معه على وجه يعلمه أو يظنه (ولا يجوز ذلك في صفاته تعالى فإنه يعلم ما يكون إلى يوم القيامة لا تخفى عليه خافية ثبت ذلك بالدليل القاطع في صفاته). فأما الأمر والنهي فليسا من البداء، وإنما قد يدلان عليه، وذلك أن يأمر الرجل عبده أن يشتري له شيئاً في وقت بعينه ثم ينهاه عن ذلك (بعينه) فيكون بداء لأن النهي تعلق بما تعلق به الأمر على وجه واحد، فيدل على أن الآمر بدا له من الصلاح في ذلك ما لم يكن علمه فنهى عنه، أو يكون ما خفي عنه الصلاح، لكنه قصد أن (يأمر) بالقبيح أو أن ينهى عن الحسن وكل ذلك لا يجوز على الله تعالى، فأما إن نهاه عن غير ما أمره به فلا يكون بداء، وكذلك (إذا) نهاه عن الفعل (في وقت) آخر، مثل أن يأمخره بشراء الثياب بثمنها ثم ينهاه عن شرائها بأكثر من ثمنها، وكذلك

إن نهاه عن الفعل في وقت آخر كأن قال: اشتر لي الثياب ثم قال لا تشترها في غد، أو قال صل بطهارة ثم قال: لا تصل بغير طهارة، فإن هذا تغاير بين (أمرين). يمكن أن تكون المصلحة في أحدهما والمفسدة في الآخر، والنسخ من هذا القبيل، وذلك أنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى فيما لم يزل أن الفعل من زيد مصلحة في وقت، مفسدة في وقت آخر، فيأمر بالمصلحة في وقتها وينهى عن المفسدة في وقتها فلا يكون قد ظهر له ما كان خافياً عليه (ولا أمر) بالقبيح فلا يكون ذلك بداء، والله أعلم. 934 - فصل: فأما شروط النسخ فهو أن يكون الناسخ والمنسوخ شرعيين لأن العجز يزيل التعبد الشرعي ولا توصف إزالته بأنه نسخ: وكذلك الشرع يزيل حكم العقل ولا توصف الإزالة بأنه نسخ. ومن شروطه أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، فإن كان معه مثل أن يقول: /93 أصلوا أيام الجمع إلا الجمعة الفلانية فذلك استثناء، ومثل قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فذلك تعليق بغاية، ومثل قوله: من دخل الدار فاضربه، فإذا دخل زيد فلا تضربه (فذلك) تخصيص وجميع ذلك ليس بنسخ.

مسألة: يحسن نسخ الشرائع عقلا وسمعا وهو قول عامة (الفقهاء) (والمتكلمين)

ومن شرطه أن يكون رافعاً لحكم نفس الفعل دون نفس الفعل وصورته، لأن صورة الصلاة إلى بيت المقدس لا يمكن إزالتها بالأدلة الشرعية، وإنما تدل الأدلة الشرعية على زوال وجوبها. (وقد اشترط) أصحابنا أن يكون الناسخ مثل المنسوخ أو أقوى منه ولا يكون أضعف منه كخبر الآحاد في نسخ القرآن. واشترطوا أن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معلومة بل تكون مطلقة فيقطع دوامها، فأما إن كانت معلقة بمدة معلومة ففي نسخها كلام. 935 - مسألة: يحسن نسخ الشرائع عقلاً وسمعاً وهو قول عامة (الفقهاء) (والمتكلمين). وقال أبو مسلم بن الحسين الأصبهاني لا يحسن ذلك.

واليهود على ثلاث فرق: منهم من منع (منه) عقلاً، ومنهم من منع منه سمعاً (ولم يمنع منه عقلاً) ومنهم من أجازه وحسنه عقلاً وسمعاً (هم العيسوية وأقروا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العرب لا إليهم). 936 - فالدليل على جوازه عقلاً أن الناس في التكليف على قولين: منهم من يقول: لله تعالى أن يكلف عباده ما شاء لمصلحة، (ولغير مصلحة)، ومنهم من يقول لا يكلف إلا على وجه المصلحة، فمن قال بالأول يقول: النسخ بمنزلة ابتداء التكليف لا تراعي فيه المصلحة ومن قال بالثاني قال: لا يمتنع أن يكون مثل ما يتعبد الله سبحانه به (يجوز أن يقبح) في المستقبل، فإذا قبح

حسن النهي (عنه)، إذ النهي عن القبيح حسن، ويدل على أنه يجوز أن يكون قبيحاً أنه يحسن أن يقول سبحانه تمسكوا بالسبت ما عشتم إلا السبت الفلاني، فإذا جاز ذلك في المتصل جاز في المنفصل، ويجوز أن يكون الشيء مصلحة في وقت مفسدة في وقت (آخر)، كما يجوز كون الرفق بالصبي مصلحة في وقت مفسدة في وقت (آخر)، وكما يجوز أن تكون مصلحة لزيد (دون عمرو) في وقت واحد، ألا ترى أن بعضهم يكفيه اللوم وبعضهم لا تردعه إلا (العصا) قال الشاعر: العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامة كما يجوز كون (الصحة) والمرض والغنى والفقر مصلحة في وقت دون وقت كذلك يجوز أن يكون التمسك بالسبت مصلحة في وقت دون وقت ولا فرق في العقل بين هذه المواضع. ولأن النسخ تخصيص الأزمان، وتأخير بيان المراد باللفظ العام في الأزمان وذلك يجوز، كما يجوز تأخير تخصيص الأعيان من اللفظ العام فيها، وقد

تقدم الدليل على جواز (تأخير) تخصيص اللفظ العام عن الخطاب إلى وقت الحاجة كذلك في الأزمان. فإن قيل: لو كان النسخ كالتخصيص لجاز في القرآن بخبر واحد والقياس كما قلتم في التخصيص قلنا: كلامنا في العقل، والعقل لا يوجب الفرق بينهما وإنما منع من ذلك في النسخ الشرع على ما نبينه. وأيضاً فإنه لما حسن أن ينقلنا من حال إلى حال في الخلقة فينقل من الصغر إلى الكبر ومن الضعف إلى القوة ثم من (القوة إلى الضعف ثم من) الحياة إلى الموت حسن أن ينقلنا في التكليف لأنه /93 ب لا فرق بين ما يفعله بنا وبين ما يأمرنا بفعله. وأيضاً فإن نبوة موسى عليه السلام قبل بعثه لم يجب اعتقادها وقبول قوله فلما ظهرت على يده المعجزة وجب قبول قوله فيها، فلم لا (يجوز أن) يكون الشيء واجباً في (وقت) غير واجب في وقت آخر. 937 - والدليل عليه من جهة (السمع) قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقوله تعالى:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}. ولأن نكاح الأخوات كان جائزاً في شرع آدم صلى الله عليه وسلم، ثم حرم في شرع موسى عليه السلام. وكذلك الختان لم يكن واجباً ثم وجب في شرع إبراهيم عليه السلام. وكذلك ترك الإمساك في السبت كان مباحاً قبل موسى ثم حرم في زمن موسى عليه السلام (تركه). (ولأنه لما جاز أن يطلق الأمر والمراد به إلى أن يعجز عنه بمرض أو غيره، جاز أن يطلقه والمراد به إلى أن ينسخه). 938 - احتج المخالف أن جواز النسخ يفضي (إلى) جواز البداء على الله تبارك وتعالى، وذلك مما تنزه الله عنه. الجواب: أنا قد بينا الفرق بين النسخ والبداء بما فيه كفاية، ثم ينتقض عليهم بتحريم الأخوات بعد إحلالهن وتحريم العمل في السبت بعد أن كان مباحاً. 939 - احتج بأن قال: الله تعالى إذا أمر بعبادة دل على حسنها فإذا نهى عنها دل على قبحها (ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد) حسناً قبيحاً، مصلحة مفسدة (في حالة واحدة)

الجواب: إنما يصح هذا لو كان النهي تعلق بما تعلق به الأمر. فأما إذا قلنا (إن) النهي تعلق بما لم يتعلق به الأمر لم يرد، ونحن إذا نهى عن العبادة علمنا (أنه كان أمره بها إلى ذلك الوقت وأنه في علمه) أن ينسخها بعد ذلك الوقت فلا يتعلق الأمر به كما نقول في التخصيص في الأعيان إذا قال اقتلوا المشركين (اقتضى كل مشرك، فإذا قال: لا تقتلوا من أعطى الجزية علمنا أنه يراد بالأمر الأول المشركون) ممن لم يعط الجزية ولا يكون ذلك قبحاً. 940 - احتج بأن قال: موسى عليه السلام قال (لهم): أمسكوا السبت أبداً ما دامت السموات والأرض، وهذا يمنع جواز نسخه. (الجواب عنه أنا نقول: هذا تخرص وكذب على موسى لأنه لو صح ذلك عنه لوجب أن لا يظهر معجزة لأحد بعده، ونحن نعلم أنه قد ظهرت معجزات على يد عيسى عليه السلام وثبت ذلك بالتواتر، كما ثبتت معجزات موسى، وجاء عيسى بإبطال يوم السبت فدل على أن ما نقلتموه عن موسى كذب منكم عليه)، ثم لو كان صحيحاً لوجب أن تحاجوا به عيسى ومحمداً عليهما السلام. ولما لم ينقل عمن تقدم أنهم حاجوهما بذلك بطل دعواهم، وقد ذكر أن أول من لقنهم

ذلك ابن الراوندي بأصبهان. ثم لو كان ذلك صحيحاً لكان معناه ما لم ينسخ، ألا ترى أن المخاطبين بذلك يؤمرون به ما لم يعجزوا وما داموا أحياء، كذلك (أيضاً) يجوز أن يكون معنى ذلك ما كان ذلك مصلحة أو ما لم أنسخه عنكم. فإن قيل: فهذا يؤدي إلى اعتقاد الجهل لأنه إذا أمرهم به (أبدا) (اعتقدوا كونه مصلحة أبدا) وذلك جهل فلا يجوز أن يأمرهم به. والجواب عنه: أن من الناس من يقول: لابد أن يشعرهم بالنسخ، وقد قيل إنه أخبرهم بمجيء نبي بعده وذكر ذلك في التوراة وعلى أن إطلاقه يقتضي أن يكون مشروطاً بكونه مصلحة، كما يقتضي شرطه بكونه قادراً عليه. فإن قيل: فما ذكرتموه يؤدي إلى أن يقولوا: إنه لا قدرة إلى الإخبار بتأييد شريعة وأن يقولوا في (شريعتكم): إنها غير

مسألة: يجوز نسخ العبادة

مؤبدة، وأن قوله: "لا نبي بعدي" في زمان المصلحة أو (يكون لا نبي) بعدي إلا فلان. قلنا: يجوز أن يأتي بلفظ يدل على تأبيد/94 أالشريعة بأن يقول: شريعتي باقية ما بقى التكليف لا يتطرق عليها لنسخ، أو يضطرنا الله سبحانه وتعالى إلى علم ذلك أو ينقطع الوحي، ونبينا ثبت عندنا (أنه) لا نبي بعده بقوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. وهذا يحتاج إلى كشف زائد على هذا والله المستعان فإني لم أر من حقق جواب هذا. 941 - (وأما عمر بن يحيى فيرد عليه بأنه قد ثبت نسخ تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة وثبت نسخ التوجه إلى بيت المقدس بعد أن كان واجباً، وغير ذلك، وقد دللنا بأن العقل لا يحيل ذلك وأن القرآن ورد به فلا يلتفت إلى قوله والله أعلم بالصواب). 942 - مسألة: يجوز نسخ العبادة وإن كان الأمر بها

مقيداً بلفظ التأبيد، وبه قال أكثر العلماء خلافاً لمن قال: لا يجوز. 943 - لنا أنه، إذا جاز نسخها إذا كان الأمر بها مطلقاً، وإن اقتضى ظاهره التأبيد، جاز، وإن اقترن به لفظ التأبيد لأنه لا فرق (بين ما) يدل الدليل على أن المراد به الدوام والتأبيد وبين أن يرد بلفظ الدوام والتأبيد. 944 - دليل آخر: أن العادة أن يستعمل لفظ التأبيد في المبالغة لا في الدوام، ألا ترى أنك تقول: طالب غريمك أبداً، ولازم فلاناً أبداً، وألزم السوق أبدا، ولا يراد بذلك التأبيد فكذلك ههنا. 945 - دليل آخر: أنه إذا جاز (أن يشترط) في قوله: افعل أبداً ما لم تعجز أو تمرض جاز أن يشترط ما لم أنسخه. 946 - دليل آخر: أن ذكر التأبيد في الزمان كذكر كل في الأعيان، ثم لو قال: اقتل المشركين كلهم، جاز تخصيصه، كذلك إذا قال: صم أبداً يحسن نسخه. 947 - احتج بأن قال: لو جاز النسخ مع ذكر التأبيد لم يكن إلى معرفة ما يتأبد ولا ينسخ طريق، ومن قال هذا يلزمه أن يقول إنه يجوز أن لا يكون محمد خاتم النبيين ولا يجب أن يعتقد أن شريعته مؤبدة.

الجواب: ما تقدم. 948 - احتج بأن لفظ التأبيد يفيد وجوب دوام الفعل جميع أوقات الإمكان (أبداً) فنسخه (بداء). الجواب: أنا لا نسلم أن لفظ التأبيد يفيد (دوام وجوب الفعل) في جميع الأوقات من جهة العرف. فإن قيل: فأي فائدة في التأبيد. قلنا: الفائدة فيه التأكيد في المبالغة كقولنا في تأكيد لفظ العموم نحو أن يقول: اقتلوا المشركين كلهم أجمعين فإنه لا يمنع ذلك من التخصيص كذلك أبداً لا تمنع من النسخ. 949 - احتج بأن قال: لفظ التأبيد يفيد في الخبر الدوام كذلك في الأمر. الجواب: أنه جمع من غير علة على أن (إفادة) الدوام (فيهما) لا تمنع من قيام الدلالة على أن المراد به غير ظاهره كما نقوله في جميع ألفاظ العموم ثم مطلق الخبر مثل المقيد بالتأبيد، يجب أن يكون مطلق الأمر مثل المقيد بالتأبيد، ثم مطلق الأمر يجوز نسخه فكذلك مقيده. والله أعلم بالصواب.

مسألة: يجوز نسخ العبادة لا إلى بدل، كما يجوز نسخها إلى بدل، وقال بعضهم: لا يجوز نسخ الشيء (إلا) إلى بدل

950 - مسألة: يجوز نسخ العبادة لا إلى بدل، كما يجوز نسخها إلى بدل، وقال بعضهم: لا يجوز نسخ الشيء (إلا) إلى بدل. 951 - لنا أنه لا يخلو أن يمنعوا (من) ذلك تسمية، فهو باطل لأن النسخ هو الإزالة في الأصل، ولم يدل دليل على اشتراط بدل في الاسم، أو يمنعوا لقبح ذلك (وهو باطل لأنه يجوز في العقل) أن يكون مثل المصلحة مفسدة في وقت آخر من غير أن يقوم مقامها فعل آخر، أو يمنعوا/94 ب (لأن) ذلك لم يوجد في الشرع فغلط لأن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول نسخت لا إلى بدل، والاعتداد بالحول نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشراً لا إلى بدل. 952 - احتجوا بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يدل على أنه لا ينسخ (إلا إلى بدل).

مسألة: يجوز نسخ العبادة إلى أشق منها

الجواب عنه: أنا نقول: الآية وردت في التلاوة وليس للحكم فيها ذكر، وعلى أنه يجوز أن يكون رفعها خيراً منها) في الوقت الثاني لأنها لو وجدت فيه لكانت مفسدة والله أعلم. 953 - مسألة: يجوز نسخ العبادة إلى أشق منها، وقال قوم من أهل الظاهر لا يجوز ذلك وهو قول أبي بكر بن داود. 954 - لنا ما تقدم من الدليل، وأن الله تعالى نسخ الحبس في حق الزاني بالجلد، في حق البكر، والرجم في حق الثيب، وذلك أشق من الحبس، ونسخ التخيير (بين الإطعام والصوم) بانحتام الصيام وهو أشق. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ونسخ ذلك بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، وكذلك نسخ قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} بآية السيف. 955 - احتج الخصم بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.

ومعلوم أنه لم يرد (بقوله) "بخير منها" فضيلة الناسخ على المنسوخ لأن الجميع سواء، فعلم أنه (أراد به) خيراً منها في حقكم لخفته عليكم. الجواب: أن ظاهرها أنه نسخ التلاوة، وقد يجوز أن يكون ثوابه أكثر، وقد ورد التفضيل في ثواب القرآن. (وجواب آخر وهو أن قوله: نأت بخير منها يريد به) ما كان أنفع منها وأصلح في الدين وذلك يحصل في الأِق، قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل العبادة أطولها قنوتاً" أي قياماً. 956 - واحتج بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} والأشق إرادة العسر. الجواب: أنه لو صح هذا لما جاز أن يكلف الله سبحانه عبادة فيها مشقة، وهذا لا يقوله أحد. جواب آخر: أن اليسر ما هو أصلح وأبلغ في (التجرد) من الضرر وأكثر ثواباً وذلك قد يكون في الأشق، والعسر ما كان بضد ذلك وإن كان أخف.

مسألة: يجوز نسخ العبادة قبل فعلها وبعد دخول وقتها

957 - احتج بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}. الجواب: أنه ليس فيه لفظ عموم حتى يقتضي التخفيف في كل شيء على (كل) وجه، على أن المراد (به) الأشق الذي يكون فيه الصلاح في الدين (وكثرة الثواب والبعد من المضار لأن ذلك يؤدي به إلى التخفيف في عاقبته). 958 - (احتج بأنه سبحانه ينسخ الشيء رحمة للمكلف وتخفيفاً منه فلا ينسخه إلى الأثقل. الجواب: أنه يجب أن لا يكلفه شيئاً، أو لا يكلفه ما يشق ثم الأخف ما عاد نفعه) وكثر ثوابه على ما بينا. والله أعلم بالصواب. 959 - مسألة: يجوز نسخ العبادة قبل فعلها وبعد دخول وقتها لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات مفسدة ولا فرق في (العقل) بين أن يعصي المكلف أو يطيع، فإذا جاز أن يصير مفسدة (بعد/95 أدخول الوقت الذي للفعل) جاز النهي عنه، وهذا ما لا أعلم فيه خلافاً.

960 - فأما نسخ العبادة قبل وقتها فقال ابن حامد وشيخنا يجوز ذلك وبه قال أكثر الشافعية (والأشعرية)، (وقال أبو الحسن التميمي لا يجوز، وبه قال أكثر الحنفية والمعتزلة والصيرفي من أصحاب الشافعي). 961 - وجه الأول: قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فدل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل حال. فإن قيل: المراد به محو الكتابة أو ما يكتبه الملكان من (المباحات).

قلنا: هو عام ثم يمحو ذلك إذ لا يفرق بينه وبين محو الحكم إذا شاء سواء كان قبل وقته أو بعده. 962 - دليل آخر: أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح (ولده) ثم نسخ عنه (ذلك) قيل وقت فعله بدليل وقله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. فإن قيل: من أين قلتم إنه أمره بالذبح: قلنا: من قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. فإن قيل: رؤية المنام لا تسمى أمراً. قلنا: رؤيا الأنبياء في المنام وحي وقد قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فسماه أمراً. فإن قيل: (قوله) ما تؤمر؛ أراد به في المستقبل. قلنا: لا يصح هذا لأنه وصف نفسه بالصبر على المأمور (به)، وما يؤمر في المستقبل لا يعلم هل يحتاج إلى الصبر أم لا؟

فثبت أنه أظهر الصبر على ما أمر به من الذبح (وقد) قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي انقادا إلى أمر الله تعالى ورضيا بحكم الله فيهما: (يوضح هذا أن إسحق لا يأمر أباه ولا ينهاه ابتداء، وإنما أخبر إبراهيم بأنه قد أمر بذبحه) لينظر طاعته، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي أمرت وذلك شائع قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} أي كادت. فإن قيل: الذي أمر به إبراهيم مقدمات الذبح وهو إضجاعه وتله للجبين، وقد فعله ولهذا قال تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. قلنا: المأمور به الذبح وهو الشق والفتح قال الشاعر: كان بين فكها والفك ... فأرة مسك ذبحت في سك

هذا في اللغة وهو في العرف عبارة عن قطع (مكان) مخصوص تبطل معه الحياة. والثاني: أنه قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}، وليس في المقدمات ما يحتاج إلى الصبر ولا يوصف بالبلاء المبين. الثالث: أنه قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فلو كان قد فعل المأمور (به) لم يحتج إلى الفداء، فأما قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (أي) اعتقدت امتثال الأمر وعزمت على فعله. فإن قيل: قد فعل الذبح لكنه كلما قطع موضعاً من الحلق وجاوزه وصله الله تعالى. قلنا: لو كان كذلك لكان (ذكره) أشهر وإعجازه أظهر، ولما احتاج إلى الفداء ولأن حقيقة الذبح ما تبطل معه الحياة (مع) قطع الحلق.

فإن قيل: المأمور به صورة الذبح وقد فعله لكن جعل الله على عنقه صفيحة حديد تمنع أن تعلم السكين (فيه). قلنا: هذا ما لا يجوز لأهل العلم قوله لأنه تعالى قادر على منع السكين من غير صفيحة ثم قد تقدم الجواب عنه. 963 - دليل آخر: أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة على مناجاة الرسول بقوله تعالى/95 ب: {إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ثم نسخ ذلك قبل وقت الفعل. فإن قيل: قد روى أن علياً رضي الله عنه ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم صدقة ثم نسخ بعد ذلك فوقع النسخ بعد وقت الفعل. قلنا: إن صح ذلك فلم يتعلق الأمر بواحد بل كان خطاباً لجماعة المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ} فمن لم يرد مناجاته فما وقع وقت تقديم الصدقة ف يحقه وإن كان قد حصل في حق غيره ثم نسخ عنه. 964 - دليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على رد من جاءه مسلماً من الرجال والنساء، ثم نسخ الصلح في النساء

بقوله: {إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إلى قوله- فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وهذا نسخ قبل وقت الفعل. فإن قيل: يحتمل أن يكون قد مضى زمان يمكن أن يجئن فيه (فيردهن). قلنا: الصلح وقع على ردهن إن جئن، وقبل مجيئهن لا يكون وقتاً للرد فيثبت أنه قبل الفعل. 965 - دليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فرضت الصلاة خمسين فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع (فرجع) مراراً (حتى جعلت خمسة)، وذلك نسخ قبل (وقت الفعل). فإن قيل: هذا خبر واحد فلا دليل فيما يجب أن يعلم. قلنا: هذا خبر اشتهر وتلقته الأمة بالقبول فصار كالتواتر وقد شهد له القرآن بقوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}

فإن قيل: هذا نسخ قبل علم المكلف بالمأمور به وذلك لا يجوز عندكم لأنه لابد أن يعلم المكلف فيعزم على المأمور به ويعتقد وجوبه فينسخ. والجواب عنه أنا نقول: الرسول قد علمه (وهو) أحد المكلفين. 966 - دليل آخر: لو قال تعالى: واصلوا الفعل سنة ثم نسخه بعد مضي شهر جاز وإن كان ذلك نسخاً قبل وقت الفعل في بقية السنة. فإن قيل: نسخه يدل على أنه لم يرد السنة كلها، وإنما أراد الشهر فصار ذلك بياناً للمراد بخلاف نسخ الكل قبل (وقت فعله) لأنه يكون قد نسخ ما تناوله الأمر وذلك بداء. الجواب: أن السنة لا يعبر بها عن الشهر لا حقيقة ولا مجازاً بل هي عبارة عن اثني عشر شهراً، فنسخه قبل ذلك هو النسخ قبل الوقت. جواب آخر: إن جاز أن يأمر بسنة ويريد (به) الشهر جاز أن يأمر بالعبادة ما لم ينسخها. جواب آخر: أن الأمر قد يتضمن (وجوب) الفعل

والعزم (عليه) واعتقاد الوجوب، فلما نسخ الفعل تبينا أن الأمر تناول وجوب الاعتقاد والعزم. فإن قيل: لا يصح هذا لأنه لا يأمر باعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب ولا العزم على فعل ما ليس بواجب. والجواب عنه أنا نقول: الاعتقاد فيه الوجوب ما لم ينسخه (والعزم) على فعله، كذلك (فلا) يكون اعتقاد وجوب ما لم يجب. فإن قيل: فلا فائدة (في ذلك). والجواب عنه: فيه فائدة (وهو) اختبار المكلف/96 أفي عزمه واعتقاده. فإن قيل: إنما يحتاج إلى الاختبار من لا يعلم العاقبة والله سبحانه وتعالى عالم بما يكون فلا حاجة (له) إلى اختباره. والجواب عنه أنه تعالى عالم بما يكون إلا أنه علق باختيارنا الثواب والعقاب، ولهذا قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ

مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. 967 - دليل آخر: أنه يجوز أن يأمر (بفعل الشيء) في غد ثم يعجز المكلف عنه بزمانة أو بموت، أو يكون الأمر مشروطاً بالقدرة، كذلك يجوز أن يكون مشروطاً بأن لا ينسخه. فإن قيل: لا يجوز هذا في حق الواحد أن يأمره ويعجزه فيكون (ذلك) تكليفاً بما لا (يطاق) لكنه إن أمر جماعة فأعجز بعضهم تبينا أنه أمر من لم يعجزه دون من أعجزه. والجواب عنه أنا نقول: الجماعة إذا كانوا مأمورين فكلهم كالواحد، فإذا عجز واحد منهم فقد عجز عما أمر به، وقولهم إنا نتبين أنه أراد من لم يعجزه خاصة لا يصح عندهم لأنه يكون تأخير البيان عن وقت الخطاب في العموم وذلك غير جائز عند (الخصم) وبعض أصحابنا رحمة الله عليهم. 968 - احتج الخصم بأنه إذا قال في أول النهار: إذا

(غربت) الشمس من هذا اليوم فصلوا ركعتين بطهارة، ثم قال عند الزوال إذا غابت الشمس من هذا اليوم (فلا تصلوا) ركعتين بطهارة فقد تعلق النهي بما تعلق به الأمر على وجه واحد من مكلف واحد، وفي ذلك دليل على البداء، أو القصد بالأمر القبيح، وتعالى الله عن ذلك، وربما قالوا: أمره بالصلاة عند الغروب يقتضي حسن الفعل ونهيه عنه يقتضي قبحه والفعل الواحد لا يكون حسناً قبيحاً. الجواب: أن الدليل يبطل إذا قال صلوا سنة ثم نسخ ذلك بعد شهر لأن نهيه قد تناول ما تناوله الأمر على وجه واحد، ثم لا يعد (ذلك) بداء ولا قبيحا. جواب آخر: أنه إذا نسخه تبينا أنه أراد بقوله صلوا ما لم أنسخه عنكم. فإن قيل: فما الفائدة في ذلك وهو عالم بأنه ينسخه؟ قلنا: الفائدة أن يعتقد المكلف ويوطن نفسه على الفعل فيحصل بذلك مطيعاً مثاباً كما يأمره بعبادة شهر فإذا فعلها يوماً نسخها. فإن قيل: فعل الصلاة لا يعبر به عن الاعتقاد. وتوطين النفس.

قلنا: وكذلك اليوم لا يعبر به عن الشهر، والشهر لا يعبر به عن السنة، فكل جواب لكم (عن ذلك) فهو (جواب لنا). (جواب آخر: أن الأمر بالفعل) يتضمن العزم والاعتقاد فجاز أن يعبر به عنه. 969 - واحتج بأنه لو جاز النسخ قبل وقت الفعل لحسن أن يقول: صلوا، لا تصلوا في وقت واحد. الجواب: أن هذا جمع بغير علة والفرق بينهما أن النهي إذا اتصل بالأمر لم يتعلق بالأمر فائدة، وإذا تأخر عنه إلى وقت آخر تعلق به فائدة وهو مقدمات الفعل من العزم واعتقاد الوجوب، وذلك مما يحسن تكليفه ويتعلق به الثواب وبتركه العقاب. 970 - احتج بأن مقتضى الأمر (إيجاد) الفعل، فإذا لم يرد مقتضاه كان لغواً لا يجوز منه تعالى، كما لو قال: اقتلوا وأراد به (أن) لا تقتلوا. الجواب: أنا لا نسلم أن (مقتضى الأمر) إيجاد الفعل

لأن أوامره (سبحانه) مشروطة بما يقوم عليها الدليل/96 ب من عجز ونسخ وزيادة ونقصان (فمتى قام) الدليل على النسخ علمنا أنه أراد منا اعتقاد ما أمر به فلا يعد ذلك لغوا، على أن هذا (لا) يبطل بالأمر بالصلاة سنة (إذا نسخه) بعد شهر. 971 - احتج بأن الأمر بالشيء يقتضي صلاح المكلف فلا يجوز أن ينهاه عما فيه صلاحه. الجواب: أن صلاحه فيه ما دام الأمر قائماً فإذا نهاه علمنا أن الصلاح كان إلى غاية هي النهي، ثم لو جاز أن يمنع هذا من النسخ قبل وقت الفعل جاز أن يمنع من النسخ أصلاً، وهم لا يقولون ذلك وعمدتهم هو الدليل الأول، وقد بينا جوابه. 972 - فصل: يجوز نسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الحكم دون الرسم، ونسخهما معاً. فأما الأول فمثل آية الرجم، روى عن عمر رضي الله عنه (أنه قال): "لولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن لكتبت على

حاشيته: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم" وكذلك التتابع في كفارة اليمين في قراءة عبد الله، (ثم) نسخ وبقى حكمه. وأما الثاني فمثل قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} نسخ بآية الميراث. (ومتاع الحول) نسخ بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}. وأما الثالث: فمثل آية الرضاع قالت عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن فنسخن بخمس".

مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة (بمثلها) والآحاد بالآحاد

خلافاً لمن قال: لا يجوز نسخ الحكم دون التلاوة (ولا نسخ) التلاوة دون الحكم. 973 - لنا أن الحكم والتلاوة عبادتان، فكل عبادتين فإنه يجوز نسخهما معاً ونسخ إحداهما دون الأخرى لأنه يجوز أن يصيرا مفسدتين في زمان آخر بعد أن كانا مصلحتين، ويجوز أن تصير إحداهما مفسدة دون الأخرى. فإن قيل: التلاوة دلالة على الحكم ويستحيل بقاء الدلالة مع عدم مدلولها، وثبوت المدلول مع نفي الدلالة. والجواب عنه أنا نقول: الدلالة تدل على الحكم في عموم الأوقات بشرط أن لا يعارضها ما يمنع مدلولها، كما نقوله في دلالة العموم تدل على الاستغراق بشرط أن لا تخص، كذا هاهنا تدل ما لم تنسخ، ولأن الحكم قد يثبت ولا تلاوة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقياس أو ما أشبهه، فجاز أن ينسخ أحدهما ويبقى الآخر. 974 - مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة (بمثلها) والآحاد بالآحاد.

فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقال شيخنا لا يجوز ذلك شرعاً، ويجوز عقلاً. (إلا أن) أحمد قال في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن، فظاهره أنه منع من نسخه شرعاً وعقلاً وبه قال الشافعي، وقال أكثر الفقهاء والحنفية، والمالكية وعامة المتكلمين يجوز ذلك، وهو الأقوى عندي، (وقد) قال أحمد في رواية صالح فيما خرجه في الحبس "بعث الله نبيه وأنزل عليه كتابه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصة وعامه وناسخه ومنسوخه" وهذا يدل على أنه ينسخه بقوله: إلا أن قوله في ذلك لا يكون إلا صادرا عن الوحي فيعلم به/97 أأن الله تعالى الناسخ على لسان نبيه. 975 - والدليل (على ذلك) قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} والنسخ ضرب من البيان لأنه يبين قطع المدة.

فإن قيل: المراد به التبليغ والإظهار لأن النسخ ليس ببيان وإنما هو رفع. قلنا: التبليغ استفيد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فيجب أن يكون البيان هاهنا غيره، ولأن البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، وإنما يكون ذلك بعد أن يبلغنا ويشكل علينا فيبين لنا حتى يتجلى، وقيل: هو العلم الواقع من النظر والاستدلال والتبليغ لا يحصل به ذلك، وقولهم النسخ ليس ببيان غلط، لأنه بيان (انقضاء) مدة العبادة ورفع (مثل) حكمها في المستقبل وقد تقدم الكلام في البيان. 976 - دليل آخر: أنه قول صدر من صاحب الشرع مقطوع به أو يوجب (العلم) فجاز أن ينسخ (القرآن) به كالقرآن. فإن قيل: يلزم الإجماع فإنه مقطوع به ولا ينسخ القرآن به. قلنا: إذا أجمع أهل العصر على خلاف حكم آية حكمنا بنسخها. فإن قيل: هناك يستدل على (النسخ بعد الإجماع ولهذا

لا يضاف النسخ إلى المجمعين)، (قلنا وهاهنا يستدل على) أن الله تعالى أوحى إلى نبيه بالنسخ فنسخ إلا أنه يجوز أن يضاف النسخ إلى الرسول ولا (يجوز أن) يضاف إلى الإجماع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يضاف الشرع إليه فجاز أن يضاف النسخ إليه، وإذا أجمعت الأمة على حكم لم يقل هذا شرعها، فكذلك لا يقال إنها (قد) نسخت على أن النسخ من جهة الوحي، والإجماع انعقد بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، فلهذا لم يكن ناسخاً بخلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: إن جاز نسخ القرآن بالقرآن لأنه ساواه في الإعجاز بخلاف السنة. قلنا: النسخ رفع الحكم وإزالته، ورفع الحكم يقف على أن يدل دليل على رفعه وليس من شرط الدليل أن يكون معجزاً ولهذا يكون الناسخ بعض آية مثل قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ولا إعجاز فيها، وينسخ (السنة) بالسنة ولا إعجاز فيها. فإن قيل: إلا أن ذلك مماثل ولا مماثلة بين القرآن والسنة.

قلنا: من سلم (لكم) أن الناسخ يفتقر (إلى تماثل) المنسوخ. جواب آخر: أن النسخ يتناول الحكم، والكتاب والسنة المتواترة في الحكم سواء لأن كل واحد منهما يوجب العلم ويقطع به في الحكم. فإن قيل: فخبر الآحاد والقياس (يتساويان) في الحكم وينسخ بالخبر دون القياس. قلنا: لا يساوي القياس الخبر في إثبات الحكم ولهذا إذا عارضه سقط القياس، ولهذا اختلف الناس في الأخذ بالقياس ولم يختلفوا في الأخذ بالخبر، على أن ما يوجب الظن يتزايد، فجاز أن ينسخ بالزائد دون الناقص، وما يوجب العلم لا يتزايد فكان (سواء في النسخ). 977 - دليل آخر: أن المانع من ذلك لا يخلو إما أن يكون لأنه لا يصلح في القدرة أو لأن (الحكمة تمنع) منه، لا يجوز الأول لعلمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أنواع الكلام، فلو أتى بكلام موضوع لرفع حكم لدل على ما هو موضوع له، ولا يجوز الثاني لأن (منع) الحكمة يحتاج أن يبين أن يبين ما وجهه؟

فإن قيل: وجه ذلك أن يكون منفراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وموهما أنه يأتي بالأحكام من قبل نفسه. قلنا: لو نفر ذلك لنفر إذا أخبر/97 ب أنه أوحى إليه بإزالة هذا (الأمر أو) الحكم، أو إذا نسخ السنة بالسنة، أو القرآن بالقرآن، ولهذا كان المشركون ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء إذا نسخ القرآن بالقرآن ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}. 978 - دليل آخر: أنه لا يخلو أن يكون المنع لأجل أن القرآن أكثر ثواباً، أو أن له إعجازاً. لا يجوز أن يمنع لكثرة الثواب (لأنه يجوز نسخ أكثر الآيتين ثواباً بأقلهما ولأن الثواب) يجوز أن يكون في حكم السنة الناسخة أكثر، ولا يجوز أن يمنع للإعجاز لأنه يجوز نسخ الآية التي فيها إعجاز بالآية التي لا إعجاز فيها، وإذا بطل الوجهان لم يكن للمنع وجه. فإن قيل: المانع رفع كلامه تعالى بغير كلامه. قلنا: هذا هو المسألة. ما الذي يمنع من رفع كلامه بغير كلامه؟ فإن قيل: لأنه كلامه الأصل والسنة الفرع والأصل لا ينسخ بفرعه.

قلنا: لا فرق بينهما في إثبات الحكم وفي أن كل واحد منهما (أوحى إلى الرسول به) (وقد) قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}. فإن قيل: فيجب أن يضاف النسخ إلى الوحي لا إليه. قلنا: بل يضاف إليه كما أضيفت أحكام الشرع إليه وإن كانت بالوحي. 979 - احتج الخصم بقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} فأخبر أنه يبدل الآية مكان الآية. الجواب: أنه أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وليس فيه ما يدل على أنه (لا) يبدل آية إلا بآية، وهذا كما لو قال: إذا قصدت فلاناً راكباً (تكلم) فينا الأعداء (لا يدل على) أنه أراد لا يقصده إلا راكباً، على أن ظاهر الآية

يدل على أنه أراد تبديل (لفظ) الآية لا حكمها. فإن قيل: فقد أخبر أن المشركين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} ثم أجاب عنه بقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فقطع (إيهامهم بأن الرسول عليه السلام ليس من عنده تبديل وإنما التبديل من عند الله). الجواب عنه: أن هذا لا يمنع قولنا لأن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسخ القرآن بالسنة إلا إذا أوحى إليه بذلك فقد نزله روح القدس وعليه (يدل): {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} على أن قوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} يدل على (أن) المراد به ألفاظ القرآن دون أحكامه. 980 - احتج بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فمنها أدلة):

(أحدها: أنه أخبر أنه يأتي بخير منها) وذلك يفيد أنه يأتي من جنس القرآن (وجنسه) قرآن، ألا ترى أن الإنسان لو قال: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه يقتضي ثبوت خير منه. الثاني: أنه قال: "نأت بخير منها" والسنة لا تكون خيراً من القرآن. الثالث: أن قوله: {نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يدل على أنه هو المتفرد بالإتيان. الرابع: أنه قال: {نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ناسخاً، بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به مما هو خير منها في أنه حكم آخر من (بعد) نسخ الآية ويكون الناسخ غير الآية. فإن قيل: كل من أوجب (عند) نسخ الآية الإتيان/98 أبآية أخرى قال: إنها هي الناسخة.

قيل: نحن لا نوجب ذلك ويجوز النسخ إلى غير بدل وقد تقدم الكلام (فيه). ثم الجواب عن كل دليل على التفصيل. أما قوله: "نأت بخير منها لا يكون (إلا) من الجنس فلا نسلم ذلك بل إذا قال: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه يعني آتيك بشيء خير منه لستار دار، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ولا يقتضي من جنسها. وعن الثاني أنه يريد بخير منها (أي) (يريد) خيراً منها في النفع وحصول الثواب والمصلحة وليس يجب أن يكون خيراً في كل شيء لأنه ليس بلفظ عموم. وعن الثالث: أنه إذا دلت السنة على النسخ (فإن الله) تعالى هو الناسخ لأنه هو الذي أوحى إلى نبيه بالناسخ. وعن الرابع: أن المنفرد بأن يأتي بما هو أنفع (في الحكم)

(من الكلام) المنسوخ هو الله تعالى وحده لأنه هو المختص بعلم العواقب والمصالح. 981 - واحتج بأنه لا يخلو أن تقولوا: يجوز نسخ ألفاظ القرآن بالسنة أو لا يجوز، فإن قلتم: يجوز أفضى إلى نسخ القوى بالضعيف وذلك لا يجوز كما (لا) يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، ولا يجوز نسخ (خبر) الآحاد بالقياس. وإن قلتم: لا يجوز، كما لا يجوز نسخ التلاوة بما هو أضعف منها، (كذلك) لا يجوز نسخ حكمها بما هو أضعف منها. الجواب: أنه لا يجوز نسخ التلاوة بالسنة، لأن اللفظ لا يمكن رفعه إلا أن يشاء الله فينزعه من الصدور بخلاف الحكم، ويحتمل أن يجوز ذلك وهو أن يقول الرسول عليه السلام لا تقرأوا هذه الآية، وقد روى أنه كان في القرآن: "لو أن لابن آدم واديين يجريان ذهبا لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". وقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" ومنع الرسول من قراءته، وقولهم يفضي إلى نسخ القوى بالضعيف لا يصح فإن السنة المتواترة صدرت من الوحي فلا تنسب إلى الضعف، ولهذا توجب العلم الضروري وتثبت بها الأحكام قطعاً بخلاف خبر الواحد والقياس.

982 - فصل: واختلف من قال: يجوز نسخ القرآن بالسنة هل وجد ذلك؟ فقال بعضهم: (قد) وجد ذلك، وقال بعضهم: لم يوجد (ذلك) وهو الأقوى عندي لأن الأصل عدم ذلك فمن ادعى وجوده فعليه الدليل. قالوا: (والدليل على وجوده) أشياء: 983 - منها (أن آية) الحبس في حق الزاني نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم". الجواب: أن هذه الآية شرع فيها الحبس إلى غاية بقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم (السبيل) بقوله: "قد جعل الله لهن سبيلا" وذلك لا يسمى نسخاً لأن النسخ يرد على ما كان ظاهره الإطلاق.

فإن قيل: الأحكام (المطلقة) كلها مقيدة بالنسخ أو العجز. (قلنا ذلك) يشترط فيها تجويزاً لا باللفظ لأن العبادة المقدرة بمدة (باللفظ) لا يسمى انقضاء مدتها نسخا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} /98 ب لا يجعل دخول الليل نسخاً. جواب آخر: أن الآية نسخت في الجلد بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وفي (الرجم) بقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". فإن قيل: ذلك ليس بقرآن ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في المصحف لكتبت في حاشيته، "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". قلنا: ذلك كان قرآنا ونسخ رسمه فقال عمر: لولا أن يقال زاد في القرآن الثابت الرسم لكتبت ذلك.

984 - ومنها قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} نسخها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا وصية لوارث". الجواب: أنها نسخت بآية المواريث وبيان سهام الوالدين والأقربين، كذا روى عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". 985 - ومنها قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل (وكان) متعلقاً بأستار الكعبة. الجواب: أن ذلك نسخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.

986 - فصل: (فأما) نسخ القرآن والسنة المتواترة (بأخبار الآحاد) فإنه لا يجوز شرعاً ويجوز عقلاً وهو قول أكثر العلماء. وقال بعض أهل الظاهر ويجوز شرعاً أيضاً. 987 - لنا أن الصحابة كانت تترك أخبار الآحاد في المواضع التي ترفع حكم الكتاب، قال عمر رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت". 988 - دليل آخر: أن الكتاب والمتواتر معلوم بدليل مقطوع به فلا يرفع بما هو مظنون كما لا يرفع بالقياس. فإن قيل: الحكم بأخبار الآحاد معلوم بدليل قاطع. الجواب: أن العمل بها معلوم في الجملة، فأما في الموضع الذي يرد حكم الكتاب فالعمل بها غير معلوم والإجماع يرد ذلك. 989 - احتج المخالف بأنه إذا جاز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد فكذلك النسخ.

الجواب: أن التخصيص بيان المراد باللفظ العام، والنسخ رفع (حكم) ما اقتضى اللفظ دوامه (وبقاءه)، ولهذا لا يجوز النسخ بالقياس ويجوز التخصيص بالقياس. 990 - احتج بأن ذلك قد وجد في الشرع قال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} فنسخه (بالنهي) عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير. الجواب: عن قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} معناه إلى الآن ولا يتناول ما بعد ذلك (ولا يكون نهيه عليه السلام بعد ذلك) نسخاً. على أن الآية دلت على إباحة ما عدا المذكور من طريق العموم فورد الخبر بتخصيصه. 991 - احتج بأن الله تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وورد الخبر بتحريم الجمع بين المرأة وخالتها وعمتها، فكان ذلك نسخاً.

مسألة: يجوز نسخ السنة بالكتاب وهو قول عامة الفقهاء

الجواب: أن ذلك تخصيص وليس بنسخ. (وقد قيل): إن ذلك تلقى بالقبول فجرى مجرى التواتر في جواز وقوع النسخ به. 992 - احتج بأن أهل قباء تحولوا عن القبلة بخبر الواحد. الجواب: أنه (يجوز) أن يكون قد وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: إذا جاءكم رسولي فاعلموا أن الله تعالى قد نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة فتحولوا لذلك لا لخبر الواحد. على (أن) ما ذكروه قد قيل كان (جائزاً) في صدر الإسلام ثم منع منه. وفي هذه المسألة نظر لأن دليل المخالف فيها قوى (ظاهر) والله أعلم. 993 - مسألة: يجوز نسخ السنة بالكتاب وهو قول عامة الفقهاء، خلافاً لأحد قولي الشافعي أنه لا يجوز.

994 - لنا أن القرآن دليل مقطوع به، يجوز أن ينسخ القرآن (القرآن)، فنسخ السنة به أولى لأنه أعلى مرتبة من السنة. 995 - دليل آخر: وهو ما تقدم من أنه لو امتنع ذلك لم يخل أن يكون امتناعه من حيث القدرة أو من حيث الحكمة، لا يجوز أن يكون العجز في القدرة لأن الله جل جلاله قادر على جميع أقسام الكلام، فلا يجوز خروج كلامه من أن يكون دليلاً على ما وضع له من النسخ., فأما الحكمة فبأن يقال إن ذلك ينفر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوهم بأنه لم يرض بما سنه وهذا باطل بنسخ السنة بالسنة، لأن السنة الناسخة تصدر عن الوحي بالقرآن فيوهم ذلك، وكذلك نسخ القرآن بالقرآن يوهم أيضاً. ولهذا قال الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}. جواب آخر: أن النسخ إنما يرفع الحكم بعد استقرار مثله وذلك يمنع من التوهم لأنه لو لم يرض بما سنة لم يقر عليه أصلاً. 996 - دليل آخر: أنه قد وجد نسخ السنة بالقرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق حتى مضى هوى من الليل ثم صلى فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}.

وكذلك صالح أهل مكة على أن يرد (إلى الكفار) من جاءه مسلماً (من الرجال والنساء) فنسخ (في) النساء بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وكذلك قبلة بيت المقدس صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً" ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وكذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المنافقين فنسخ (ذلك) بقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} وفيه ضعف. 997 - واحتج (الخصم) بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فدل على أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بيان، فلو نسخ خرج عن كونه بياناً وذلك لا يجوز.

الجواب: أنه ليس في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} دليل على أنه لا يتكلم بالنسخ، كما إذا قلت: دخلت الدار (لأنام لا يدل) على أنك لا تفعل فعلاً آخر. جواب آخر: أن النسخ من البيان لأنه يبين قطع العبادة. جواب آخر: أن كلامه وإن كان بيانا، أليس يجوز نسخه بالسنة فبالكتاب أولى. 998 - احتج بأن من شرط الناسخ أن يكون من جنس المنسوخ ولهذا لا ينسخ الكتاب بالعقل، قلنا: لا نسلم أن من شرط الناسخ أن يكون من جنس المنسوخ، ولهذا يجوز نسخ حكم العقل بالكتاب والسنة وهم لا يسمون ذلك نسخاً، والنسخ هو رفع وقد وجد، ثم ليس الكلام في الأسماء. 999 - احتج بأن السنة تبين القرآن، فلو قلنا: (إن) القرآن يبين السنة أفضى إلى الاختلاط لأنه يحتاج البيان (إلى بيان له يبين به). الجواب: أنه يلزم التخصيص فإن القرآن يخص السنة، والسنة تخص القرآن، والتخصيص نوع بيان، فيجب أن يمنع من ذلك، وقد قال: يجوز. والله أعلم.

مسألة: لا يجوز نسخ ما ثبت بالإجماع

1000 - مسألة: لا يجوز نسخ ما ثبت بالإجماع/99 ب لأنه لو نسخ لنسخ بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع، والإجماع إنما ينعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز بعد ذلك ورود كتاب (ولا) سنة. فإن قيل: يجوز أن تظفر الأمة بعد اتفاقها بنص كان قد خفي عليها فينسخ به. قلنا: لا يجوز ذلك (لأن الأمة لا تذهب جميعها عن الحق، ولو جاز ذلك لما كان إجماعها حجة فأما نسخه بالإجماع فلا يجوز) أيضاً لأن الإجماع (الثاني) إنما يصدر عن دليل شرعي متجدد من كتاب أو سنة وقد بطل ذلك بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يدل الإجماع الثاني (على أن الأول) كان باطلاً وذلك لا يجوز لأن مثل ذلك يتطرق من (الخصوم) على الإجماع (الثاني) فيخرج (أن يكون الإجماع حجة).

فإن قيل: أليس إذا اختلفت الأمة على قولين فقد أجمعوا على أن العامي له تقليد من شاء منهما والأخذ به، فإذا أجمعوا على أحد القولين فقد حرموا القول الآخر وهذا إجماع نسخ إجماعاً. قيل: (لا نسلم بل يجوز الأخذ بالآخر إذا ذهب إليه مجتهد وإن سلم) فذلك ليس بنسخ (لأنهم) إنما (جوزوا) الأخذ بكل واحد من القولين بشرط بقاء الخلاف، فلما أجمعوا على أحد القولين بطل حكم الخلاف فزال الشرط فلم يجز للعامي التقليد لمن يشاء منهما، ومثل ذلك لا يسمى نسخاً ألا ترى (أن) قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لما علقه بغاية (لا) يسمى ارتفاعه لوجود غايته نسخاً، كذلك هاهنا، ولا (يجوز) نسخه بقياس أيضاً لأنه إنما يقاس على أصل ثبت بكتاب أو سنة أو إجماع ولا يجوز تجدد ذلك ولا يجوز أن يكون موجوداً، وقد ذهبت عنه الأمة على ما بيناه. 1001 - فصل: ولا يجوز النسخ بالإجماع لأنه إنما

ينسخ دليلاً شرعياً من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، لا يجوز أن ينسخ الكتاب والسنة، لأن الإجماع لا ينعقد على خلافهما إذ الأمة لا تجمع على خطأ، فلو أجمعوا على خلاف النص دل ذلك على بطلان النص أو (على) أن معهم نصا نسخ ذلك (فيضاف) النسخ إلى النص لا إلى الإجماع، ولا يجوز أن ينسخ الإجماع (على ما) بينا. 1002 - فصل: ما ثبت بالقياس، لا يخلو إما أن يكون ثبت في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بنصه على العلة أو تنبيهه فيجوز نسخه بنصه أيضاً، مثال ذلك أن ينص على (تحريم) (الربا في) البر وينص على أن علة تحريمه الكيل، ويتعبد بالقياس عليه، فيجب علينا أن نقيس عليه الأرز، وكذلك إن كان شبهه على ذلك، ثم ينص بعد ذلك على إباحة الأرز ويمنع من قياسه على البر، فيكون ذلك نسخاً. وإما أن يكون (بأمر مستفاد) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا

(يصح) نسخه لأنه لا يجوز أن يتجدد بعد وفاته نص من كتاب أو سنة فيقاس عليها (ولا علة). فإن بان نص كان قد خفي أو علة خفيت هي أولى من القياس بان أن القياس لم يكن صحيحاً ولا يسمى ذلك نسخاً. 1003 - فصل: وأما النسخ بالقياس فلا يجوز. لأن ما ثبت بالنص لا يرفع بالقياس لأن النص إذا عارض القياس أسقطه والصحابة كانت تترك آراءها بالنصوص ولهذا صوب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً حيث قال: فإن لم تجد كتاباً أو سنة؟ قال: أجتهد رأيي/ 100 أفجعل الانتقال إلى رأيه عند عدم الكتاب والسنة. فإن قيل: أليس يجوز تخصيص (النص) بالقياس (فلم لا يجوز نسخه). قلنا: التخصيص يبين المراد باللفظ فجاز بالقياس، والنسخ رفع حكم اللفظ رأسا، ولأن الصحابة خصصت ولم تنسخ، وما ثبت بالقياس لا ينسخه القياس لما بينا، وكذلك ما ثبت بالإجماع لا ينسخه القياس لما تقدم.

1004 - فصل: فأما التنبيه فإنه ينسخ وينسخ به، وبه قال أكثرهم خلافاً لبعض الشافعية لنا أن التنبيه يفهم من اللفظ فجرى مجرى النص، ثم النص ينسخ وينسخ به كذلك هاهنا. قالوا: (هو) قياس فأشبه الخفي. الجواب: أنه ليس بقياس وإنما هو مفهوم الخطاب في لغة العرب ولأنا قد بينا أن القياس إذا كانت علته منصوصاً عليها، أو منبهاً عليها في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم جاز نسخه ولأن أصحاب الشافعي قالوا هو قياس جلي يجري مجرى النطق وينقض به حكم الحاكم فجرى مجراه في النسخ. 1005 - فصل: فأما دليل الخطاب فيجوز نسخه مع بقاء اللفظ لأنه لا ينقض الغرض به وهذا كما قالت الصحابة: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء" منسوخ، وإنما نسخ دليل خطابه بإيجاب الغسل من الإيلاج، وإنما يكون رفع حكم الدليل نسخاً بعد ثبوت حكمه واستقراره، ولو كان قد ورد لفظ يخالف دليل لفظ آخر لم يكن ذلك نسخاً، وإنما يكون مسقطاً لحكم دليل اللفظ لأنه يجوز

مسألة: إذا ثبت الحكم في عين من الأعيان بعلة نص عليها، وقيس عليه غيره ثم نسخ ذلك الحكم في تلك العين بطل الحكم في فروعه

استعمال اللفظ مع دليل الخطاب، وهذا كما أن لفظ العموم إذا ورد لفظ يخالف بعض ما تناوله كان تخصيصاً ولو استقر حكم العموم فيه بتأخير البيان عن وقت الحاجة ثم ورد لفظ يخالف بعض ما تناوله كان ذلك نسخاً، والله أعلم. 1006 - مسألة: إذا ثبت الحكم في عين من الأعيان بعلة نص عليها، وقيس عليه غيره ثم نسخ ذلك الحكم في تلك العين بطل الحكم في فروعه. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يبطل الحكم في فروعه وذكروا ذلك في مسألتين. إحداهما: مسألة النبيذ: فإنهم احتجوا بخبر ابن مسعود، فلما قيل (كان) ذلك نيلئاً. قالوا: علة النيء موجودة في المطبوخ فقيس عليه المطبوخ ثم نسخ النيء وبقى (حكم) المطبوخ. والأخرى: صوم رمضان بنية من النهار يجوز بالقياس على صوم عاشوراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهل العوالي أن يصوموا نهاراً،

والعلة أنه كان صوماً معيناً، ثم نسخ عاشوراء وبقى حكم النية في الصوم المعين من النهار. 1007 - لنا أن الفرع تابع للأصل، فإذا سقط حكم الأصل سقط حكم الفرع كالحكم الثابت بالنص لما تبعه إذا سقط النص زال الحكم. 1008 - دليل آخر: أن الحكم يفتقر إلى أصل وعلة ثم ثبت أن زوال العلة يوجب زوال الحكم، كذلك زوال الأصل يوجب زوال الحكم. قالوا: هذا إثبات ونسخ بالقياس (وهذا) لا يجوز. قلنا: نحن لا نقول (إن) ذلك نسخ بالقياس، وإنما هو إزالة حكم لزوال موجبه وذلك لا يسمى نسخاً، ألا ترى أن العلة إذا زالت زال الحكم تبعاً لها، ولا يقال إن ذلك نسخ. قالوا: الفرع إذا ثبت فيه الحكم بعلة صار أصلاً (فيجب أن لا يزول الحكم فيه بزواله في غيره). (قلنا: لا نسلم أنه صار أصلاً)، وإنما هو تابع لغيره، وهو الذي ثبت لجله، فمتى /100 ب زال ذلك المتبوع زال تابعه والله أعلم.

مسألة: إذا نزل النسخ على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغنا لم يكن (ذلك) نسخا في حقنا

1009 - مسألة: إذا نزل النسخ على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغنا لم يكن (ذلك) نسخاً في حقنا، ذكره شيخنا، (وقال هو) ظاهر كلام أصحابنا لأن أحمد رضي الله عنه أخذ بقصة أهل قباء لما بلغهم وبه قال عامة أصحاب أبي حنيفة. ويتوجه على المذهب أن يكون نسخاً لأنه قد قال في الوكيل (أنه) إذا عزله من غير أن يعلم العزل، وقال شيخنا (في مواضع) إن حكم الخطاب يلزم المعدوم ومن لم يوجد، وعن الشافعية كالمذهبين. 1010 - وجه الأول أن أهل قباء صلوا إلى بيت المقدس

فلما بلغهم النسخ استداروا في الصلاة، فلو كان حكم النسخ يلزمهم لوجب أن يبتدئوا في الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالنسخ قبل صلاتهم. فإن قيل: القبلة يجوز تركها بالعذر وعدم علمهم عذر. قلنا: إلا أنه إذا علم أنه إذا أخطأ القبلة تلزمه الإعادة عندكم، ثم النسخ تكليف يلزم ابتداء فلا يعتبر فيه العذر وإنما يعتبر العذر فيما لا يؤمن مثله في قضائه. 1011 - دليل آخر: إن من لا علم له بالخطاب لا يثبت الخطاب في حقه (كالمجنون). فإن قيل: النائم يخاطب عندكم وكذلك المغمى عليه ولهذا يؤمران بقضاء الصلاة والصيام وإن كانا لا يعلمان الخطاب. قلنا: هناك يؤمران بعد زوال (العذر الذي هو) النوم والمرض، ولو كان مأموراً في حال العذر لأثم وعصى كما يأثم إذا ترك في حال اليقظة والصحة. 1012 - دليل آخر: (إذا) ثبت النسخ في حقنا قبل علمنا لثبت في حق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل إليه جبريل بالنسخ (لأن كون) الناسخ مع جبريل عليه السلام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ككون الناسخ مع الرسول في حقنا ولا فرق بينهما.

1013 - دليل آخر: أنه مخاطب بالمنسوخ ولهذا لو تركه كان عاصياً فلا يجوز أن يكون مخاطباً بالناسخ لأنه يفضي إلى أن يخاطب بالشيء وضده (في) حالة واحدة. 1014 - احتج الخصم بأن قال: إسقاط حق لا يعتبر فيه رضي من يسقط عنه، فلا يعتبر فيه علمه كالطلاق والعتاق والإبراء. الجواب: أن النسخ ليس بإسقاط حق، وإنما هو تكليف، ولهذا يتعلق به الثواب والعقاب، فلا يلزم من لا يعلمه، ثم يلزم إذا كان الناسخ مع جبريل عليه السلام، والمعنى في الأصل أنه خالص حقه أسقطه، ولا يتعلق المسقط عنه. 1015 - احتج بأن الإباحة تارة من جهة الله تعالى وتارة من جهة (الآدمي)، ثم الآدمي يثبت حكم إباحته قبل العلم، وهو إذا حلف على (امرأته) لا خرجت إلا بإذني، ثم أذن من حيث لا تعلم، أو أباح ثمرة بستانه لكل من أكل منه فإنه يباح، كذلك في حق الله تعالى يجب أن يكون مثله. الجواب: أن هذا جمع من غير علة، ثم لا نسلم الإذن من جهة الآدمي فإنه إذا أذن "لامرأته" من غير أن تعلم وخرجت وقع به الحنث، وإذا أباح ماله من غير أن يعلم لم يزل الحظر في حقنا.

مسألة: الزيادة في النص ليست بنسخ

فإن قيل: (أليس) إذا عزل الوكيل ولم يعلم بعزله وقع تصرفه باطلاً؟ قلنا: لا نسلم في إحدى الروايتين ونقول يصح تصرفه وبيعه/101 أ، وكذلك إن مات الموكل ولم يعلم الوكيل. ومن سلم قال: بالفرق بينهما لأن أوامر الله تعالى يتعلق بها الثواب والعقاب فاعتبر فيها علم المأمور بخلاف تصرف الوكيل. وللخصم أن يقول وإذن الموكل يتعلق به صحة التصرف وفساده وذلك (يعتبر) فيه علم الوكيل، فلا فرق بينهما، والله أعلم بالصواب. 1016 - مسألة: الزيادة في النص ليست بنسخ، وبه قال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وأصحاب الشافعي. وقال أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري: إن

كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخاً كزيادة التغريب على الجلد يكون نسخا، وكذلك زيادة النية والترتيب في الطهارة، وإن كانت لا تغير المزيد عليه مثل أن يجب ستر الفخذين ثم يوجب ستر الركبيتين لم يكن نسخاً. وقال بعضهم: إن أفاد النص من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة، (كانت الزيادة) نسخا، نحو قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة". (فإن) دليله يفيد (أن) لا زكاة في المعلوفة، فمتى أوجبت الزيادة الزكاة في المعلوفة كانت نسخاً. وقال عبد الجبار: إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه (تغييراً شرعياً حتى صار المزيد عليه) لو فعل الزيادة على صفة ما كان يفعل قبل الزيادة كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه، كان ذلك نسخاً، (نحو) زيادة ركعة على ركعتين، ومتى كانت الزيادة لا تمنع الاعتداد بما زيد عليه نحو زيادة التغريب على الجلد لم يكن نسخاً.

وقال أبو الحسين البصري: إن كانت الزيادة أزالت حكماً ثبت بدليل شرعي كانت نسخاً وإن أزالت حكماً ثبت بالعقل لا في الشرع لم تسم الزيادة نسخاً، لكن هي في معنى النسخ، فعنده زيادة التغريب في (الحد) ليست بنسخ لأن نفي وجوب الترغيب (في الحد) ثبت من طريق العقل لا من جهة الشرع. 1017 - وفائدة الخلاف في هذه المسألة أن من لم يجعل الزيادة نسخاً فإنه يجيز إثباتها بالقياس وخبر الواحد، ومن جعلها نسخاً لم يجز ذلك إلا أن يكون طريق ثبوت الزيادة مثل طريق المزيد عليه في القوة والمعنى. 1018 - وجه القول الأول: أن النسخ هو الرفع والإزالة وبالزيادة لا يحصل الرفع ولا الإزالة، ألا ترى أن زيادة عبادة على العبادات لا يسمى نسخاً لأنه ليس برفع. فإن قيل: الجلد كان مجزياً في الحد وحده: (فلما شرع التغريب خرج وحده أن يكون مجزياً فزال حكم كونه مجزياً فكان ذلك نسخاً). (قلنا: قولنا إنه غير مجزيء وحده) هو أنه يجب ضم شيء آخر إليه لأن حكم الجلد ارتفع فعاد ذلك إلى تعليل الشيء.

وهذا الجواب عن قولهم إن الجلد قبل الزيادة كان جميع الحد فصار بعدها بعض الحد فقد أزالت الزيادة كون الجلد كمال الحد، يقال لهم معنى هذا أن قبل الزيادة لم يجب أن يضم إلى الجلد غيره، وبعدهما وجب أن يضم إلى الجلد غيره فمعنى العبارتين (واحد)، فكأنكم قلتم: إنما كانت الزيادة نسخاً لأنها زيادة على الواجب، وهذا تعليل الشيء بنفسه كما ذكرنا. ويلزم على ما ذكروه/101 ب زيادة عبادة على العبادات فإنها كانت قبل زيادة العبادة مجزية في التكليف فصارت غير مجزية وكانت جميع الواجب على المكلف فصارت بعض الواجب عليه. وقد أجيبوا بأن الجلد جميع الحد من أحكام العقل لأن ما زال على ذلك ممنوع منه عقلاً، فالزيادة أثرت في حكم العقل، والنسخ إنما يقع في أحكام الشرع. 1019 - دليل آخر: أن النسخ ما لم يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ في اللفظ (وهاهنا) إن جمع بين الزيادة والمزيد عليه صح ووجب الجمع بينهما فدل على أن ذلك ليس بنسخ. 1020 - دليل آخر: أن النسخ إخراج ما وجب دخوله (بمقتضى) اللفظ بدليل متأخر وهذا مفقود في مسألتنا لأن القياس الموجب للزيادة مقارن فلم يكن نسخاً.

ويدل عليه أنه (تجوز) الزيادة بالآحاد والقياس، فنقول ما جاز أن يثبت به الحكم المنفرد جاز أن تثبت به الزيادة في الحكم كالقرآن والتواتر. 1021 - احتج الحنفية بأن النسخ هو تغيير الحكم عما كان عليه ومعلوم أنه إذا زاد في (حد القذف) عشرين صارت الثمانين بعض الواجب بعد أن كانت جميع الواجب وصارت لا يتعلق بها رد الشهادة (بعد أن كانت يتعلق بها رد الشهادة). الجواب: أنا قد بينا أن النسخ (هو) الرفع (والإزالة)، وما ارتفع بالزيادة حكم، وإنما وجب حكم منضم إلى ذلك الحكم الثابت، ثم يبطل بزيادة عبادة على العبادات فأما رد الشهادة فلا نسلم أنها تتعلق بالجلد، ثم يبطل بالفروض إذا كانت خمساً فإنها تقف الشهادة على أدائها واعتقادها. (فإن قيل زيادة) فرض آخر لم يقف (قبول الشهادة) على أدائها (وحدها بل على أدائها) وأداء الزيادة، ثم لا يكون ذلك نسخاً.

وقيل: إنه يبطل إذا نقص من الثمانين عشرين في حد القذف بأنه قد صار الباقي (كل الواجب) وكان بعضه، (وترد به) الشهادة عندهم بعد أن لم تكن ترد به، ثم لا يكون ذلك نسخاً وهم لا يسلمون ذلك على قول عبد الجبار. 1022 - احتج بأن الزيادة إذا ثبتت صارت جزءاً من المزيد عليه (فيجب أن لا) تثبت إلا بما ثبت به المزيد (عليه). الجواب: أنه إن أراد بقوله (يصير) جزاء منه بمعنى (أنه) يجب ضمه إليه فهو مسلم، ولكن لا يجب أن يشترط في ثبوته ما شرط في ثبوت المزيد عليه، ولهذا زيادة عبارة قد صارت جزءاً من الواجب على (المكلف) ولا يجب أن يثبت بما ثبت به ما قبلها من العبادات، وإن أراد (أن) المزيد عليه ارتفع ووجب جملة أخرى تعم المزيد عليه (فلا نسلم ذلك وهو) مسألة الخلاف. 1023 - احتج بأن الأمر بمائة جلدة موضوع للمنع من الزيادة عليها فإذا وردت الزيادة رفعت المنع فكانت حقيقة النسخ كما

لو قال تعالى: "المائة جلدة وحدها مجزئة في الحد وهي كمال الحد ثم (إن زاد) على المائة فإنه يكون نسخاً، كذا هاهنا. الجواب: أن التعليق بعدد لا يفيد عندكم منع الزيادة ولا النقصان، وهو قول أبي الحسن التميمي من أصحابنا، ومن جعله مانعاً من الزيادة قال ذلك نسخ للمنع من الزيادة التي ثبتت بدليل الخطاب/102 أ، ودليل الخطاب يجوز نسخه يخبر الواحد والقياس، وكلامنا هل الزيادة ناسخة للمزيد عليه؟ وليس فيما ذكروا ما يدل على ذلك. وقيل: بأنه إذا صرح بأن المائة كمال الحد ومجزية صار (الإجزاء) حكماً شرعياً، فإزالته بالزيادة عليه تكون نسخاً للآخر، فأما إذا أوجب المائة فإنه لم (يتعرض) للتغريب بنفي ولا إثبات وإنما لا تجوز الزيادة بحكم البقاء على الأصل وإزالة حكم الأصل ليس بنسخ. 1024 - احتج بأن النقصان من المنصوص عليه يوجب النسخ، فكذلك الزيادة. الجواب: أن النقصان حجتنا لأنه لا يوجب نسخ الباقي من الحد وإنما ينسخ ما نقص، فكذلك يجب أن تكون الزيادة لا تنسخ الثابت من الحد، وإنما يضيف إليه حكماً آخر، ثم يلزم

(عليه أنه) لو أوجب عبادات ثم نسخ إحداهما كان ذلك نسخاً لما رفع حكمه، ولو زاد عليها عبادة أخرى لم تكن نسخاً (للعبادات). 1025 - احتج بأن الحكم بالشاهد واليمين ورد فيه خبر وهو ناسخ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} لأنه حكم (ما لم يشرطه). الجواب: أن الآية أفادت الحكم بالرجلين، والرجل والمرأتين، ولم تنف الحكم بما عدا ذلك فإذا ورد الخبر بالحكم بمعنى آخر ضممناه إلى ذلك (المعنى) فلا يكون (ذلك) نسخاً ثم يلزمهم زيادة النبيذ في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} بخبر الواحد. واشتراط الفقر في ذوي القربى بالقياس على اليتامى وهو زيادة في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ولم يشترط الفقر. فإن قيل: ذلك تخصيص وليس بزيادة.

قلنا: لا يجوز كونه تخصيصاً عندك لأن فيه تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا تقول به، ثم يجب أن يكون اشتراط الإيمان في كفارة الظهار تخصيصاً وكذلك اشتراط النية في الطهارة. 1026 - احتج من قال: زيادة ركعة على ركعتين يكون نسخاً بأن زيادة الركعة تجعل وجود الركعتين كعدمها لأنها توجب الاستئناف وترفع الإجزاء، ومن قبل هذه الزيادة كانت مجزية فدل على أنها نسختها. الجواب: أنه يبطل بزيادة عضو في الطهارة (أو طهارة أخرى) فإن ذلك ليس بنسخ للصلاة عنده، وإن جعل وجودها كعدمها. فإن قيل: تلك الزيادة منفصلة عن الصلاة والركعة متصلة بها. قلنا: وأي تأثير لانفصال الشرط واتصاله ونحن نعلم أن النسخ إزالة الأحكام من الإجزاء ونحوه، وقد زال الإجزاء في الموضعين. فإن قيل: إذا فرضت الصلاة ركعتين وجب التشهد عقيب الركعتين فإذا زيد فيها ركعة (صار) التشهد (عقيب) الثالثة وزال أن يكون عقيب الركعتين فكان ذلك نسخاً، فأما زيادة (عضو) في الطهارة فلا يغير فعل الصلاة لأنه يجب فعلها كما كان،

مسألة

وإنما وجب أن يقدم عليها فعلاً آخر فصار كزيادة الترغيب بعد الجلد لما لم يغير الجلد وإنما كان زيادة فعل آخر لم يكن نسخاً. فإن قيل: التشهد موضعه آخر/102 ب الصلاة وهذا لم يتغير وإنما تغير آخر الصلاة فلم ينسخ موضع الجلوس، وقولهم زيادة عضو في الطهارة لم يغير الصلاة وإنما أوجب فعلاً آخر لا يمنع من إبطال علتكم لأنهما في الموضعين منعاً من الإجزاء. جواب آخر: أن الركعة إذا زيدت على الركعتين لا تغير فعل الركعتين بل يفعلان على ما كانا عليه ويضم إليهما ركعة أخرى، وإنما يتأخر التشهد لأن موضعه آخر الصلاة الخروج منها. جواب آخر: أنه إذا زيد التغريب على الجلد فقد غير حكم الجلد لأنه (كان) بانتهاء عدد الجلد يحصل التطهير، فصار لا يجعل بذلك التطهير وكان آخر (عدد) الجلد (آخر) الحد صار ليس بآخره، فيجب أن تقول: إنه نسخ، وكذلك إذا زيد في مدة العدة (حتى) صار آخرها وسطا، فصار ما كان "آخر العدة غير آخرها" ثم لا يكون نسخاً عنده. 1027 - مسألة: نسخ شرط من شروط العبادة، أو جزء

من أجزائها ليس بنسخ لباقيها وبه قال الكرخي والبصري وأصحاب الشافعي. وقال عبد الجبار: نسخ شرط منفصل ليس بنسخ لباقيها كنسخ الوضوء لا يكون نسخاً للصلاة. فأما شرط متصل بها كنسخ التوجه إلى بيت المقدس هو نسخ. وكذلك (نسخ) جزء من أجزائها كنسخ سجدة أو ركعة. 1028 - لنا أن النسخ هو الرفع والإزالة وذلك إنما يتناول الشرط أو الجزء خاصة، فأما (ما) سوى ذلك فهو باق بحاله، والصلاة كانت تفعل إلى بيت المقدس كما تفعل الآن إلى الكعبة وإنما تغيرت القبلة فكان ذلك نسخاً للقبلة دون الصلاة، وكذلك إذا نسخ منها ركعة فما بقى من الركعات بحالها لم تزل فلم توصف بالنسخ. 1029 - دليل آخر: أن التخصيص لا يكون تخصيصاً للجميع فكذلك نسخ (بعضها) لا يكون نسخاً (للجميع)

1030 - واحتج بأنه إذا نسخت ركعة فقد كانت لا تجزيء الصلاة دون هذا المنسوخ فصارت تجزيء وكان التشهد لا يجوز قبلها وهذا (تغيير لحكم العبادة) فكان نسخاً. الجواب: أنها كانت لا تجزيء لوجوب الركعة، فلما سقط وجوب الركعة (سقطت) وبقيت بقية الصلاة مجزية على أصلها، ثم ينتقض ما ذكروه بالشرط المنفصل، كالطهارة فإن الصلاة كانت لا تجزيء بغير الطهارة فإذا نسخت الطهارة صارت تجزيء بغير طهارة فيجب أن يكون ذلك نسخاً، ولأن نسخ القبلة من بيت المقدس إلى (الكعبة) إما أن تكون نسخت صورة الصلاة أو وجوبها وكونها عبادة أو أجزاؤها وكل ذلك لم يزل فلم يكن ذلك نسخاً لها. 1031 - فصل: في معرفة طرق النسخ وكون الحكم منسوخاً، ويعلم ذلك بشيئين: أحدهما: لفظ النسخ مثل أن يقول: هذه العبادة منسوخة، أو يقول: صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء. والثاني: التاريخ مع التنافي وذلك يحصل إما بأن ينافي أحدهما الآخر كقوله سبحانه: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. فنسخ

مصابرة العشرين للمائتين بمصابرة مائة/103 أللمائتين، وكذلك قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا". فأما إن وقع التنافي من جهة المضادة نحو أن يأمر بصلاة في (وقت) مخصوص في مكان مخصوص، ثم يأمر بصلاة أخرى في ذلك الوقت في مكان آخر فيكون الثاني ناسخاً للأول (وكذلك إذا تعارض العمومان وعلم التأريخ فيهما فيكون الثاني ناسخاً للأول).

مسألة: شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يثبت نسخه

(شرع من قبلنا) 1032 - (مسألة: شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يثبت نسخه، اختاره شيخنا وأومأ إليه أحمد في رواية الأثرم وغيره، وقد سئل عن القرعة فقال في كتاب الله في موضعين: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}، و {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} وهذا شرع يونس، وهذا شرع زكريا، وهي اختيار أبي الحسن التميمي، وقول الحنفية فيما حكاه الرازي وروى عنه أنه ليس بشرع لنا، قال في رواية أبي طالب: النفس بالنفس كتب على اليهود قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولنا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وبه قال المعتزلة والأشعرية وروى عن الشافعية كالمذهبين، وروى عنهم وجهاً ثالثاً أنه متعبد بشريعة إبراهيم وقال قوم: بشريعة موسى.

مسألة: غير ممتنع في (العقل) أن يتعبد الله تعالى النبي الثاني بشريعة النبي الأول، وقال بعضهم: لا يحسن ذلك

1033 - وجه من قال ليس بشرع لنا قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}، فأخبر أن لكل نبي شرعة ومنهاجاً، فلم يكن شرع أحدهم شرعاً للآخر. 1034 - دليل آخر: أن الشريعة تضاف إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فلو كان مخاطباً بشرع من تقدمه لم يضف إليه، كما لا يضاف شرع نبينا صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه لما كان تابعاً له. 1035 - مسألة: غير ممتنع في (العقل) أن يتعبد الله تعالى النبي الثاني بشريعة النبي الأول، وقال بعضهم: لا يحسن ذلك. 1036 - لنا أنه غير ممتنع أن تكون مصلحة النبي الثاني ومصلحة أمته فيما كان مصلحة الأول، كما لا يمتنع أن يتفق زيد وعمرو فيما هو مصلحة لهما من الشرع وغيره، ولأنه لما لم يمتنع في العقل أن تكون مصلحة الثاني مع أمته مخالفة لمصلحة الأول، كذلك لا يمتنع أن تكون موافقة لمصلحة الأول لأنه لا فرق (في العقل) بين الأمرين (جميعاً). فإن قالوا: مجيء الثاني بشريعة الأول عبث لأنها قد عرفت بمجيء الأول.

مسألة): هل كان نبينا قبل بعثته متعبدا بشريعة من قبله أم لا؟

الجواب: أنه لا يفضي إلى ذلك لجواز أن تكون شريعة الأول قد درست ونسيت، فيجيء الثاني بإحيائها وإعادتها، أو يجيء الثاني بها إلى يغر من أتاه الأول من الأمم، أو يتعبد الثاني بما دعا إليه الأول، ويوحي إليه بعبادات زائدة أو شروط في العبادات لم تكن في شريعة الأول، وإذا حسن هذا بطل قولهم/103 ب: إن ذلك عبث والله أعلم. 1037 - (مسألة): هل كان نبينا قبل بعثته متعبداً بشريعة من قبله أم لا؟ قال شيخنا: كان متعبداً بشرع من قبله وبه قال أصحاب الشافعي. وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحاب أبي حنيفة: أنه لم يكن متعبداً قبل بعثته بشيء من الشرائع، وتوقف (بعض) المعتزلة وغيرهم في ذلك منهم أبو هاشم وهو الأقوى. 1038 - ووجه من قال (إنه) لم يكن متعبداً (أنه لو كان متعبداً) بشرع من قبله قبل البعث لكان يفعل ما تعبد به

الأنبياء قبله، ولو فعل ذلك لنقل ولوجب أن (يخالط) من ينقل ذلك الشرع من اليهود والنصارى وغيرهم ويفعل كفعلهم، وقد نقلت أفعاله قبل بعثته (وعرفت) أحواله ولم ينقل أنه خالط أهل الكتاب ولا فعل أفعالهم ولا سأل عن شرعهم (فاتضح) ما ذكرناه. 1039 - ووجه من قال: إنه تعبد: أنه قد كان قبل البعثة يحج ويعتمر ويصوم ويطوف بالبيت ويعظمه ويأكل المذكي ويركب البهائم ويحمل عليها وكل ذلك لا يحسن إلا شرعاً، فدل على أنه كان يتبع (شرع) من قبله. الجواب: أنه لم يثبت عنه فعل شيء من العبادات من حج أو عمرة أو صلاة أو صيام قبل البعثة بحال، وكذلك لم ينقل عنه (أنه) ذكى (ولا) أمر بالتذكية، ومن ادعى ذلك يحتاج إلى دليل عليه، وإن نقل عنه شيء من ذلك فإنما كان بعد البعث وقبل الهجرة في طول إقامه بمكة، (فأما أكل اللحم المذكي فحسن في العقل لأنه ليس فيه ضرر على أحد وفيه منفعة لمن يأكله، وأما ركوب البهائم، كذلك لا ضرر فيه عليها لأنها خلقت لذلك وفيه منفعة الراكب).

وقيل: إن ذلك حسن لأنه (ضرر) يؤدي إلى نفع أعظم منه وهو القيام بمصالحها وأقواتها، وأما تعظيم البيت فلأنه بناء الأنبياء إبراهيم، وإسماعيل، وتعظيم أماكن الأنبياء والتبرك بها حسن في العقل. ومن نصر الثاني يقول: لا مدخل للعقل في تحسين ولا تقبيح في الشرعيات فثبت أنه كان متعبداً في فعل ذلك. 1040 - ومن قال بالوقف: احتج بأنه لو تعبد لخالط أهل الملل ولسأل عن شرائعهم ولم ينقل ذلك (ولو لم) يتعبد لما طاف بالبيت وعظمه وتعبد وصام، وقد نقل عنه مستفيضاً أنه كان يتحنث بحراء الأيام المتتابعات حتى (أوحى الله إليه) وذلك لا يحسن إلا شرعاً، فدل على أنه (كان متعبداً بشرع) من قبله، وإذا تعارض الدليلان (وجب الوقف) حتى يتبين. 1041 - فصل: وهل كان متعبداً بعد (أن بعث) بشرع من قبله: وهل ذلك شرع لنا ما لم يثبت نسخه؟

فيه روايتان: إحداهما: أنه لم يكن متعبداً بذلك ولا هو شرع (لنا) وبه قال المعتزلة والأشعرية. والأخرى أنه كان متعبداًً بذلك وهو شرع لنا ما لم يثبت نسخه (وهو اختيار شيخنا، وحكى أنه أنه اختيار التميمي) وبه قال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان عن الرازي عنهم. واختلف الشافعية/104 م فروى عنهم كالمذهبين. قوال بعضهم تعبد بشرع إبراهيم عليه السلام، وقال (قوم) تعبد بشرع موسى عليه السلام.

1042 - وجه الأول قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}. ومعناهما: واحد وهو الطريق الواضح فدل على أن كلا منهم اختص بشريعة فإذا شاركه غيره (زال) الاختصاص. 1043 - دليل آخر: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأصفر وكل نبي بعث إلى قومه" فدل على أن كل نبي اختص بشرع لقومه، ومشاركتنا تمنع الاختصاص. 1044 - دليل آخر: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما فرأى بيد عمر قطعة من التوراة فغضب وقال: ما هذه؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي فأنكر النظر في التوراة وأخبر أن موسى يجب أن يتبعه لو أدركه. فإن قيل: إنما أنكر عليه (لأنها) مغيرة مبدلة، ونحن لا نرجع إليها وإنما نرجع إلى ما جاء به شرعنا منها. وجواب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (قد) جعل العلة أن قد جاء بشريعة بيضاء (نقية) لا يحتاج معها إلى غيرها وأن موسى يلزمه اتباعه لو كان حياً فبطل تأويلهم.

1045 - دليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرجع في الحوادث إلى حكم التوراة والإنجيل ولا يسأل عن شرع من قبله وإنما كان ينتظر الوحي ولهذا (انتظره) حين قذف هلال زوجته حتى نزلت آية اللعان، وكذلك حين حدث الظهار والإفك وغير ذلك. فإن قيل: فقد رجع إلى التوراة في الرجم وكذلك في القصاص (في) السن فإنه قال (في) كتاب الله القصاص، وذكر السن في القصاص إنما ذكره الله تعالى في التوراة في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ - إلى قوله- والسن بالسن}. قلنا: رجوعه إلى التوراة (في الرجم) موافقة لليهود وتعنيف لهم حين جحدوا الرجم في شرعهم، ألا ترى أنه لم يرجع في غير ذلك إليها من شرائط الرجم كالإحصان وغيره. وأيضاً (فإن) كون التوراة مغيرة يمنع من الرجوع إليها في استفادة الحكم منها، وقوله "كتاب الله القصاص" لم يرد به التوراة لأن كتاب الله إذا أطلق لم يعقل منه إلا القرآن يقال: هو أقرأنا لكتاب الله وحكمنا بكتاب الله

وحامل كتاب الله، ويراد به القرآن) لا غير، وقال في القرآن: وحامل كتاب الله، ويراد به القرآن) لا غير، وقال في القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ويحتمل أن يكون أراد حكم الله القصاص، ويحتمل أنه أوحى إليه (أن) ذلك شرع (له) فلهذا رجع إليه. 1046 - دليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "بم تحكم: فقال: بكتاب الله: قال: فإن لم تجد؟. قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله" ولو كان متعبداً بشرع/ 104 ب من قبله لأمره بالرجوع إلى ذلك. فإن قيل: فقد قال بكتاب الله، والتوراة كتاب الله. قلنا: قد بينا أنه إذا أطلق لم يعقل منه إلا القرآن وعلى أن شرع من قبلنا لا يقف على كتابهم كما أن شرعنا لا يقف على كتابنا فكان يأمره بتصفح أحوال (الأنبياء) وشرعتهم. 1047 - دليل آخر: أن الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا

واختلفوا واحتج بعضهم على بعض ولم ينقل عن أحد منهم أنه رجع إلى شرع من قبل نبينا عليه السلام في حكم من الأحكام ولا احتج به ولا سأل عنه. فإن قيل: إنما لم يرجعوا إليهم لأن خبرهم لا (يقبل) في الشرع. قلنا: إذا لم يقبل خبرهم وكتابهم مبدل فلا سبيل إلى التعبد بأحكامهم لأن طريق ثبوتها متعذر. فإن قيل: إنما نثبت من ذلك ما جاء به شرعنا. قلنا: فما ننكر أن يكون ما جاء به شرعنا (قد جعل شرعاً لنا بأمر مبتدأ ثم ليس جميع شرعهم جاء به شرعنا) فكان يجب أن يبحث أو يسأل من أسلم منهم عن ذلك فنتبعه ولا أحد فعل ذلك. 1048 - دليل آخر: أنه لو تعبد بشرع من قبله لم يضف الشرع جميعه إليه كما لا يضاف الشرع إلى بعض أصحابه وإن كان له فيه (أثر) واجتهاد (لأنه) استفاد ذلك منه عليه السلام. 1049 - دليل آخر: أن شرع من قبل موسى قد درس فلم يمكن التوصل إليه، وشرع موسى منسوخ بشرع المسيح،

ولا يجوز أن يكون متعبداً بشرع المسيح لانعقاد الإجماع على خلافه لأن الناس اختلفوا على (أقاويل) أربعة: فمنهم من قال: لم يتعبد بشرع أحد. ومنهم من قال: تعبد بشرع جميع الأنبياء، ومنهم من قال: بشرع إبراهيم ومنهم من قال: بشرع موسى، ولم ينقل عن أحد أنه (قال) تعبد بشرع المسيح صلى الله عليه وسلم أجمعين. 1050 - احتج المخالف بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} وشرعهم من هداهم فوجب اتباعه. الجواب: أنه تعالى أمره بهدى مضاف إلى جميعهم وذلك هو التوحيد والدعاء إليه والصبر على ما تلقاه في تبليغ الرسالة، ولهذا قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} فأما الشرائع فهم مختلفون فيها (فلا) يمكن الاقتداء بهم فيها (لاختلافهم في الأحكام فإن أخذ بشرع أحدهم خالف الآخر). 1051 - احتج بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} فبين أنها منزلة ليحكم بها النبيون ونبينا صلى الله عليه وسلم من جملتهم.

الجواب: أنه يحتمل أنه أراد بذلك (أن يحكم النبيون) من بني إسرائيل إذ لا يمكن حمله على جميع النبيين لأن من قبل موسى لا يحكم بها ومن بعده لا يحكم بها أيضاً، لأن عيسى ونبينا عليهما السلام قد نسخ شرعهما كثيراً منها كالسبت وغيره. جواب آخر: ظاهر الآية يقتضي أن يحكم بها جميع النبيين/105 أوبذلك يوجب حملها على الحكم بالتوحيد وتبليغ الرسالة ليدخل في ذلك الجميع، فأما الحكم في الشرائع فلا يمكن اجتماع النبيين على ما في التوراة (منها) لأن بعضهم قد نسخ بعض ما في التوراة (فثبت ما قلنا). 1052 - احتج بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}. الجواب: أن اسم الملة لا يقع إلا على أصل الدين من التوحيد والإخلاص لله بالعبادة دون الفروع ولهذا (لا) يقال: ملة أحمد وأبي حنيفة والشافعي يراد بذلك مذاهبهم، ولا يقال: ملة أحمد وأبي حنيفة مختلفة، ولهذا قال في آخر الآية "وما كان من المشركين" ولأن ملة إبراهيم انقطع نقلها فلا يجوز أن يؤمر بما لا سبيل إليه.

1053 - احتج بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} معناه (بما) أوحينا إليهم. الجواب: لا نسلم أن معناه ذلك بل (قال ذلك) ليزيل عجب من تعجب من وحي الله تعالى إليه وهذا كما يقول الإنسان (لغيره) كيف راسلني فلان؟ فيقول: كما راسلك فلان وفلان ولم يرد بما راسلك فلان وفلان على أن الآية لو دلت على أنه أوحى (إليه بما أوحى) به إلى غيره لكان المراد به من التوحيد وما يتعلق به أو يراد به أنه (تعبده) بما أوحى به إلى غيره بأمر مبتدأ. 1054 - احتج بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية. الجواب: أن الدين المراد به التوحيد والإخلاص وتبليغ الرسالة دون الفروع، ولهذا لا يقال: دين أحمد مخالف (لدين) الشافعي ويراد به مذهبه. وبهذا قال تعالى في الآية: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}

(والذي لا تقع فيه الفرقة هو ما ذكرنا من التوحيد والإخلاص، وكذلك هو الذي يكبر على المشركين) فأما بقية الأحكام فهم فيها مختلفون متفرقون نسخ بعضهم على بعض وخالف بعضهم بعضا، ثم لو دلت الآية على ما ذكروا من أنه تعبد بشرع من قبله لدلت على أنه تعبد بذلك بأمر مبتدأ أنزل في كتابه. 1055 - واحتج بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية. ولم يأمرنا باتباعها ونحن نحكم بذلك. (فثبت أنا نحكم به اتباعاً لشرعهم). (الجواب أن في الآية ما يدل على وجوب الحكم علينا بذلك) وهو قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وهذا يقتضي أنه أوجب الحكم علينا بذلك، فدل على أن الحكم (بذلك وجب) في شرعنا، ثم قلنا: إنا لم نحكم بذلك لهذه الآية وإنما حكمنا بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي

الأَلْبَابِ} وقوله: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. 1056 - احتج بأن نبينا كان متعبداً بشرع من قبله قبل بعثته فلما بعث لم يرد النسخ عنه في شرعه فدل على بقائه في حقه. الجواب: لا نسلم ذلك، وقد تقدم الكلام فيه. 1057 - احتج بأن مجيء /105 ب نبينا عليه السلام غير مناف لما تقدمه من الشرائع وكل شرع لم يرد عليه ما ينافيه وجب البقاء عليه كشرعنا. الجواب: أنه عليه السلام غير مناف لما تقدمه. ولا ملغ ماله فمن أوجب عليه التزامه يحتاج إلى دليل. 1058 - (احتج بأنه تعالى حكى شرع من قبلنا فلو لم يرد التسوية بيننا وبينهم فيه لم يكن لذكره فائدة). (والجواب عنه أنه ذكره) ليأمرنا في مواضع، وليبين نسخه وإسقاطه عنا في مواضع وهذا مما (لا) يوجب أن يكون شرعاً لنا والله أعلم./106 أ

انتهى الجزء الثاني من كتاب "التمهيد" لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510 هـ. ويتلوه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله: "باب الكلام في الأخبار"

أهم نتائج البحث بعد دراسة وتحقيق الجزء الأول من كتاب التمهيد يستطيع الباحث استخلاص النتائج التالية: أولاً: أن نسبة هذا الكتاب للمؤلف ثابتة، لا شك فيها، وقد قرر هذا من ترجم له ونقل عنه. ثانياً: أن كتاب التمهيد من أوائل الكتب التي وصلت إلينا في أصول فقه الحنابلة وهو الكتاب الثاني في المذهب بعد كتاب العدة لأبي يعلي. ثالثاً: أن الكتاب حفظ لنا جملة من الروايات المنقولة عن الإمام أحمد بن حنبل وكانت هذه الروايات مصدراً أساسياً عند أبي الخطاب في استنباطه أصول مذهبه إمامه. رابعاً: اعتنى المؤلف كثيراً بآراء شيخه وحافظ على نقلها في أغلب مسائل الكتاب سواء كان موافقاً له أو مختلفاً معه. خامساً: يعتبر الكتاب من كتب أصول الفقه المقارنة، إذ اعتنى بنقل آراء المذاهب المشهورة وفحول علماء الأصول. سادساً: ظهر في الكتاب روح الاستقلال لدى الشيخ أبي الخطاب، إذ كان يذكر الآراء ويرجح بينها ويدلل عليها ويناقش الأدلة وينتهي في كل مسألة إلى رأي يختاره ويدعمه بالدليل، وقد اختلف مع شيخه في عشرين مسألة تقريباً. سابعاً: الشيخ أبو الخطاب في الكتاب منصف لخصمه، يذكر آراءه وأدلته واعتراضاته وأجوبته، ولم يقع في الكتاب كله عبارة واحدة فيها قدح بعالم من العلماء أو تجريح لمخالف.

ثامنا: يعتني أبو الخطاب بالأدلة النقلية والعقلية ويكثر منها، ويهتم بوجوه دلالتها حتى يصل إلى الغرض المطلوب، كما أنه يهتم بالشعر وبكلام أئمة العربية ويستشهد به. تاسعاً: كتاب التمهيد من المصادر الأساسية التي اعتمد عليها مؤلفو الحنابلة المتأخرين في علم الأصول كابن قدامة والفتوحي، وآل تيمية وهم يهتمون بذكر آرائه في مسائل علم الأصول.

باب الكلام في الأخبار

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم باب الكلام في الأخبار الخبر لا يقع حقيقة إلا على قول مخصوص، فأما الإشارة (والدلالة) فلا تسمى خبراً، بدليل أن من وصف إنساناً بأنه مخبر، لم يسبق إلى فهم السامع إلا (أنه متكلم) بصيغة مخصوصة. وحد الخبر (عند أهل اللغة): كلام يدخله الصدق والكذب. فإن قيل: أليس قول القائل: محمد ومسيلمة صادقان (خبر)؟ وليس يصدق، ولا كذب.

(قيل): المراد بقولنا: يدخله الصدق والكذب: هو ما لا تحظره اللغة على من قال له: صدق أو كذب، وذلك موجود في هذا الخبر. وإنما لا يقال صدق أو كذب، لقيام الدلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكذب مسيلمة، فأما في اللغة فلا دليل على ذلك. وقيل: بأن هذا الخبر كذب، لأنه أضاف الصدق إليهما، وليس الأمر كذلك. وحد الكذب: الإخبار عن الشيء (على خلاف) ما هو به، وهذا كما لو قال كل من في الدار أسود، وفيها سود وبيض كان كاذباً. قيل: إن هذا جار مجرى خبرين متميزين، أحدهما صدق والآخر كذب، فلا يجوز أن يقال في مجموع خبرين (متميزين): إنهما صدق أو كذب.

فصل (إذا) ثبت هذا. فالصدق: (الإخبار) بالشيء على ما هو به، والكذب: الإخبار (بالشيء) على (خلاف) ما هو به. وقال الجاحظ: إن الخبر المتناول للشيء على ما هو به، من شرط كونه صدقاً أن يعتقد فاعله أو يظن أنه كذلك، (والمتناول للشيء على خلاف ما هو به من شرط كونه كذباً أن يعتقد فاعله أو يظن كذلك). ومتى لم يعتقد أو يظن أنه كذلك، لم يكن صدقاً، ولا كذباً.

ودليله على ذلك: أن زيداً إذا كان في الدار، فظن ظان أنه ليس فيها. فقال: زيد في الدار، لم يصفه أحداً بأنه صادق وإن كان قد أخبر بالشيء على ما هو به. وكذلك إذا قال: زيد "ليس" في الدار لم يصفه أحد بأنه كاذب، وإذا قال: زيد في الدار، وهو يعلم أو يظن أنه فيها، وصف بأنه صادق، ويكون كاذباً إذا أخبر أنه ليس فيها، وهو يعتقد أو يظن (أنه فيها). وهذا لا يصح لأن يهودياً لو قال: محمد ليس بنبي لم يمتنع (أحد) في وصفه بأنه كاذب، وأن خبره كذب، وإن جاز أن يعتقد أو يظن أنه ليس بنبي. ولو قال: هو نبي لم يمتنع من وصفه بأنه صادق، وأن خبره صدق، (وإن كان يعتقد أنه ليس بنبي) ولا يفسد (هذا)

بقوله تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، لأنه تعالى (يعلم) كذبهم في خبرهم عن شهادتهم (برسالته)، لا في قولهم: إنه رسول الله، فعلم أنه لا يؤثر ظن المخبر واعتقاده (في الخبر، وقد قيل إن ظن المخبر واعتقاده)، يرجع إليه لا إلى الخبر فلم يكن شرطاً في كونه صدقاً أو كذباً. قال بعض المتكلمين: الكلام في هذا الفصل كلام في عبارة، وتحقيق القول فيه: إنه متى سأل سائل عن رجل، قال: زيد في الدار؟ وهو يظنه أو يعلمه فيها، ولم يكن فيها، قلنا: يجوز وصفه بأنه كاذب، لأنه أخبر بالشيء لا على ما هو به، ويجوز وصفه، بأنه ليس بكاذب، لأنه لم يقصد الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به.

فصل ويعلم صدق الخبر بأشياء: منها كون المخبر ممن لا يجوز عليه الكذب (لحكمته كالباري) جل جلاله أو رسوله صلى الله عليه وسلم لقيام دلالة المعجزات على صدقه، أو من يشهد له الباري، أو رسوله صلى الله عليه وسلم بالصدق. ومنها: أن يكون في المخبرين كثرة يمنع (معها) أن ينتظمهم (داعي) الكذب اتفاقاً أو تواطؤا.

مسألة يقع العلم بالأخبار المتواترة. وقالت (البراهمة) لا يقع العلم بذلك، وإنما يقع بالمحسوسات فقط

ومنها: أن يخبر المخبر بحضرة من يدعي عليه العلم بصدقه، فلا ينكر خبره، مع العلم بأنه لو كان كاذب لأنكره، مثل أن يكون الذي ادعى عليه العلم نبياً، أو (يكون) جماعة داعي لهم إلى الإمساك عنه، من رغبة ولا رهبة. ومنها: أن يكون الخبر تعلم صحته ضرورة كالإخبار بعلو السماء على الأرض، وأن الخمسة أقل من العشرة. ومنها: أن يكون الخبر تعلم صحته استدلالاً بالعقل، كالخبر عن (حكمة) الله تعالى، أو بالسمع كالخبر المتواتر بالصلاة والصيام وغيرهما. مسألة يقع العلم بالأخبار المتواترة. وقالت (البراهمة) لا يقع العلم بذلك، وإنما يقع بالمحسوسات فقط.

(لنا) إنا نجد أنفسنا عالمة (بالبلدان) النائية كمكة والمدينة ومصر (وخراسان) (وغيرها)، (والسير) الماضية (كأخبار) بني أمية، وبني العباس وغير ذلك، كما نجدها عالمة بالمحسوسات والمشاهدات، ومن دفع ذلك فقد دفع ما يجده، ولا وجه [لمكالمته) ويفارق ما ترويه الآحاد، لأنا لا نجد أنفسنا عالمة بذلك. (فإن قيل): لو وقع العلم بالخبر لوقع عند الخبر الأول والثاني، كما يقع (بالحس) والمشاهدة الواحدة العلم، ولا يحتاج إلى التكرار. (الجواب عنه إنا نقول) من يقول: العلم بالخبر المتواتر ضروري، يقول:

(إن) الله تعالى اختار أن يوقع لنا العلم عند التواتر دون الآحاد، (ومن قال هو مكتسب يقول: اكتسابه حاصل في التواتر دون الآحاد)، (وبيان) هذا إن الله تعالى أجرى العادة بحصول العلم إذا تكرر المخبر به، كما أجرى (عادة الحفظ) بتكرار الإعادة والدرس، وأجرى عادة السكر عند تكرر الشرب، فأما المشاهدة فإنه أجرى العادة: أن من كمل عقله إذا رأى شيئاً علمه وتحققه، وكذلك إذا سمع شيئاً من غير أن يتكرر، فكان (طريقهما) والعلم الواقع عنهما [غير] متفق. احتج (المخالف): بأن كل واحد من الذين تواترت أخبارهم، يقدر على الكذب في حال الاجتماع، كما يقدر على الكذب في (حال) الانفراد، فإذا لم يقع العلم بخبرهم عند الانفراد لأجل (هذا) التجويز، كذلك حال الاجتماع. (الجواب): إنهم وإن كانوا كذلك، إلا أنه لا يجوز مع كثرتهم، واختلاف هممهم وأديانهم، وعدم الداعي أن (ينتظمهم

حال واحد) في (الاجتماع) على الكذب، ألا ترى أن كل واحد منهم يقدر على الزنا، والسرقة، والقتل، ثم لا يجوز أن تجمعوا على ذلك. (واحتج): بأنه (إذا) لم يقع العلم بخبر الواحد، لأنه يجوز عليه الصدق والكذب، فكذلك إذا انضم معه غيره أبداً، لأن حاله لا يتغير بانضمام غيره إليه. (الجواب): (أنه) ليس لأجل ذلك، لكن لما ذكرنا من أن الله سبحانه لم يجر العادة بوقوع العلم بخبر الواحد، كما لم يجر العادة بالحفظ (بمرة) واحدة، والسكر بجرعة واحدة، وإنما أجرى العادة بذلك مع التكرار. (وجوب آخر): أن الواحد يجوز أن (يدعوه) أمر إلى (الكذب) ولا يجوز أن يدعو الجم الغفير، والخلق العظيم

داع واحد إلى أن يكذبوا، ولا يجوز أن يتفقوا على ذلك أيضاً، ولهذا لو استدل غريب لى جامع المنصور، لم يجز أن يتفق عدد كبير على دلالته على غيره، ويجوز ذلك من الآحاد، فبان ما ذكرنا، ولأنه ليس إذا جاز ذلك على كل واحد يجوز على الجماعة. ألا ترى أن كل واحد يجوز أن يعجز عن حمل ألف رطل [و] لا تعجز الجماعة عن ذلك. احتج: (بأنه) لو وقع العلم بخبر الجماعة، لوقع العلم بخبر اليهود عن موسى: أنه قال: لا نبي بعدي، وبخبر النصارى واليهود عن عيسى: أن اليهود قتلته وصلبته، (والرافضة) عن أئمتهم. (والجواب): (إن) من شرط التواتر أن يكون رواية جماعة لا يجوز اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، وإن يستوى طرفاً (الخبر) ووسطه في ذلك، وهذا غير موجود في خبر هؤلاء، وإنما يروون عن كتب، وعدد يسير. وقيل: إن أول من أمرهم أن يقولوا ذلك ابن الراوندي

بأصبهان ويدل على ذلك أنهم (لم يحتجوا) بذلك على عيسى وعلى محمد عليهما السلام ولو كان ذلك صحيحاً لاحتجوا عليهما. (وجواب آخر): إن اليهود لم تكن (مجمعة) على هذا الخبر، ولهذا أسلم جماعة منهم بنبينا، وكذلك النصارى اختلفوا في قتل المسيح، وكذلك الرافضة. (واحتج): بأنه إذا جاز اتفاق الجماعة على الخطأ وهم (الفلاسفة، والطبائعيون)، جاز اتفاقهم على الخطأ في الخبر.

(الجواب): إن ذلك يدرك بالاجتهاد فجاز أن يغلطوا فيه والخبر طريقه السماع (أو المشاهدة)، فلا يجوز أن يتفق الخلق العظيم على الخطأ فيه. احتج: (بأنه) لو أوجب خبر الجماعة العلم، لوجب أن تقع لكل واحد العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنكم نقلتم نبوته قطعاً. (والجواب): (إنا) نثبت نبوته قطعاً، ومن قال: لا (أعلمه) فهو يدعي ذلك عناداً، كما يدعي: أنه لا يقع (له العلم) بالبلدان النائية، والأمم السالفة بالخبر، وكما يدعي أن القرآن ليس (بمعجزة)، وهو يتحدى أن يأتي بمثله فعجز، وكما شاهد الكفار معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنوا. (قيل جواب آخر): (إنا) لم نثبت نبوته قطعاً لأن المعجزات عرفت باستدلال ولم تعلم ضرورة وفيه ضعف. (واحتجوا بأنه): لو وقع العلم بخبر التواتر، لوجب إذا (تعارض خبران متواتران) أن يقع علمان متضادان، (وهذا محال).

مسألة

(والجواب): (أنه لا يجوز اتفاق خبرين متضادين) في شيء واحد، ولا وجد ذلك. (وجواب آخر هو): إن جميع ما ذكرتم يجري مجرى الشبه، والعلم بالتواتر يحصل ضرورياً فلا ينتفي بالشبه، ألا ترى أن مثل ذلك يحصل في الحسيات، وهو أن يختلف النظر فيها وتختلف الأسماع، ثم لا يوجب ذلك كون الحسيات غير موقعة (العلم). والله أعلم. مسألة اختلف الناس في (العلم) الواقع عند التواتر فقال شيخنا هو علم ضروري غير مكتسب، وهو قول

الجبائي وابنه، وأكثر الشافعية. وقال أبو القاسم البلخي وأبو الحسين البصري: إنه

مكتسب، وهو قول الدقاق من أصحاب الشافعي. والدليل عليه: إن الاستدلال (هو) ترتيب علوم يتوصل بها إلى علم آخر فكل ما وقف وجوده (على) ترتيب علوم فهو مستدل عليه، والعلم الواقع بالتواتر هذه سبيله، لأنا نعلم ما أخبرنها به، إذا علمنا أن المخبرين لم يخبروا عن رأيهم، وإنما أخبروا عن مشاهدة أو سماع، وإنه لا داعي لهم إلى الكذب فنعلم (أنهم) (لم يتعمدوا) الكذب، لعلمنا أنه لا داعي لهم إليه، وأنهم لا يتفقون مع اختلاف همسهم وتباين عقولهم على ذلك، فإذا فسد كونه كذباً ثبت كونه صدقاً، ومتى اختل شرط من هذه الشروط لم (نعلم) صحة الخبر، فثبت كونه مكتسباً. (ودليل آخر وهو): أنه لو وقع العلم به ضرورة لاشترك

الناس كلهم في إدراكه، ولما رأينا العقلان ينكرون العلم به، دل على أن العلم من جهته عن استدلال ولا يلزم ما يذكر عن (السوفسطائية) من إنكار (المشاهدات) لأنا لا نعدهم عقلاء. (ودليل آخر وهو): أن العلم لا يقع إلا على صفات تخصهم يستدل بها على صدقهم فصار كالاستدلال على (حدوث) الأجسام لما احتاج إلى صفات تعلم من حركة (وسكون) وافتراق كان (العلم) بها مكتسباً. (ودليل آخر وهو): إن خبر الله سبحانه، وخبر رسوله أقوى من أخبارنا، ثم العلم الواقع عن ذلك مكتسب من جهة الاستدلال (لا من جهة الضرورة)، فأولى أن تكون أخبار (غيرهما) كذلك. (ودليل آخر وهو): أنا نسمع الخبر من الواحد والاثنين

والثلاثة، فلا يقع لنا العلم (لتجويزنا) الكذب عليهم، حتى يبلغوا حداً لا يجوز اجتماعهم على الكذب، لا اتفاقا ولا تواطؤاً، فحينئذ نعلم هذا (من) نفس الاستدلال، فدل على أنه مكتسب. احتج من نصر الأول: أن الواحد منا يعلم وجود الصين ومصر، ولا نعلم أنه أخبره بذلك (كثرة). الجواب: أنا نعلم أنه قد أخبرنا كثرة لا يجوز عليهم الكذب لكثرتهم، (أو أخبرنا) من لا (داعي) له إلى الكذب وإن لم نعلم أعيانهم، ونعلم أيضاً أن كل من (سألناه) عن الصين ومصر يخبرنا بهما إما عن مشاهدة أو عن سماع (ممن شاهد، ونعلم) أيضاً أنه لا يجوز أن يكون لا أصل لوجود الصين ومصر وتتصل الأخبار عنهما الزمن الطويل ولا يظهر كذبها لأحد من الناس، ولا يقع في ذلك خلاف وتنازع. واحتج: (بأن) الإنسان يعلم البلاد النائية، والأمم السالفة علما لا يمكنه نفيه عن نفسه بالشك، وذلك يختص بالعلم الضروري، لأن المكتسب قد يدخله الشك.

(والجواب: أنا) لا نسلم أن هذا (يختص بالعلم) الضروري، فإن العلوم المجاورة للعلوم/ الضرورية لا تنتفي بالشبه وإن كانت مكتسبة كمعرفة الله تعالى وكالعلم بحكمة الباري وصدقه وقدرته، ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، (وعلى سائر الأنبياء). واحتج: (بأن) العوام والمراهقين، ومن ليس من أهل الاستدلال يقع لهم العلم بالبلدان، وذلك غير واقع عن نظر. (والجواب): أنه يقع لهم ذلك، كما يقع لهم بأن إلها عالماً قادراً، يحيى ويميت ورسولاً صادقاً جاء بالصدق، والزكاة وغير ذلك، وجميع ذلك مكتسب، ولأن الاستدلال يحصل للعامة بذلك، ولهذا يترتب في أنفسهم كثير من العلوم، ويحصل لهم عن ذلك علوم أخر. (واحتج بأن قال): اعتقادنا للاستغناء عن النظر في العلم بالبلدان (يصرفنا عن النظر في ذلك، فكان يجب أن لا يقع له العلم بالبلدان، والأمر بخلاف ذلك. (الجواب): أن الاستدلال على ذلك ليس أكثر من

مسألة ليس في التواتر عدد محصور، سواء قلنا: العلم الواقع به ضروري أو مكتسب

ترتيب علوم (بأحوال) المخبرين، وذلك يحصل عند سماع الخبر المتواتر، وإن لم نقصد، لعلم كثرتهم، وامتناع وقوع الكذب منهم، اتفاقاً أو تواطؤاً. ونعلم ظهور المخبر به وارتفاع اللبس فيه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر بعد ذلك. (والله أعلم). مسألة ليس في التواتر عدد محصور، سواء قلنا: العلم الواقع به ضروري أو مكتسب. وبه قال أكثرهم. وذهب قوم إلى أن خبر التواتر (يقع باثنين) كالشهادة و (عند) قوم أربعة، اعتباراً بأعلى الشهادات. وقال قوم: بخمسة (ليزيد) على أكثر عدد الشهود. وقال قوم: اثنا عشر بعدد (النقباء).

وقال قوم: عشرون لقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. وقال قوم: سبعون بعدد أصحاب موسى. وقال قوم: ثلاثمائة وكسر بهعدد أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر. لنا: أن التقدير بهذا لا دليل عليه من جهة العقل، ولا من جهة الشرع. فإن قيل: قد ورد الشرع بقبول قول الاثنين والأربعة في الشهادة في الأنفس (وهي) أشرف الأشياء. (قلنا): ذلك لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة ظن، بدليل: أنه لو وقع (بخبر) الأربعة العلم لوجب أن يقع بخبر كل أربعة، ولا يعلم الحاكم صدقهم، (ولهذا يسأل) عن عدالتهم، ولو وقع له العلم كان سؤاله (عن ذلك) باطلاً. ألا ترى أن الجماعة الذين يمتنع أن يتفق الكذب منهم

اتفاقاً أو تواطؤاً، ويكونوا فيما أخبروا به مضطرين، لا يسأل عن (حالهم) وعدالتهم إذا أخبروا. فإن قيل: لا يمتنع أن يفعل الله ذلك في الشهادة لضرب من المصلحة، (ويمتنع) العلم في الخبر الذي ليس بشهادة. (قلنا): الشهادة: هي إخبار بلفظ مخصوص، واختلاف الألفاظ لا يؤثر في وقوع العلم. ألا ترى أن الجماعة الذين يقع بهم العلم، لا فرق بين أن يأتي بلفظ الشهادة، أو بلفظ الخبر، وكذلك لا فرق بين أن يأتوا بلفظ الفارسية أو العربية في ذلك. (دليل آخر): لو اعتبر في العلم (عدد محصور)، لاعتبر صفات محصورة كما قلنا في الشهادات، وقد ثبت أنه لا تعتبر صفاتهم، من كفر، وإيمان، وفسق، وعدالة وغير ذلك. وذهب معتبروا الإعداد إلى ما ذكر من أعداد النقباء، وقوم موسى ونبينا عليهما السلام، قالوا: ولم يعتبر ذلك العدد إلا (ليخبروا) فيقع العلم. يخبرهم (لمن) وراءهم.

مسألة: شرط العلم الواقع بالتواتر

(والجواب): إن ليس معهم أن هذه (الأعداد) في المواضع المذكورة/ جعلت ليقع بخبرهم العلم، ولا دليل لهم على ذلك، ويجوز أن يكون إخبارهم لذلك ولغيره، فلم يصح قولهم. مسألة من شرط العلم الواقع بالتواتر: (أن يكون المخبرون) كثرة (يمتنع) معها اتفاق الكذب والتواطؤ عليه، وأن يكونوا (فيما) أخبروا به مضطرين، وهذا إذا قلنا العلم بذلك مكتسب، وإنما شرطنا ذلك، لأنهم إذا جاز أن يتفقوا ويتواطؤا لم نأمن أن يكونوا (كذبوا) لهذين الوجهين، وإنما شرطنا الاضطرار، لأنا لو جوزنا أن يكونوا ظانين أو مخمنين، وهم يظنون أنهم محقون، لم يقع لنا العلم، فلهذا اعتبرنا أن يكونوا أخبروا عن يقين أو مشاهدة، أو سماع، أو حس، مثل الذي يجد الإنسان في نفسه من الألم والفرح، والغم، ولأن علم السامع فرع على علم المخبر، متى كان ظناً، فعلم السامع يجب أن يكون ظناً.

مسألة ليس من شرط المخبرين في التواتر أن يكونوا مؤمنين، ولا عدولا، ويقع العلم بتواتر الكفار والفساق

مسألة ليس من شرط المخبرين في التواتر أن يكونوا مؤمنين، ولا عدولاً، ويقع العلم بتواتر الكفار والفساق. وقال بعض الشافعية: لا يقع تواتر غير المسلمين. وقال بعضهم إن لم يطل الزمان لم يعتبر الإسلام، وإن طال الزمان اعتبر ذلك، لأنه يمكن المراسلة والتواطؤ في طول الزمان. لنا: أن الخبر طريق العلم من حيث لم يكن للمخبرين داع إلى الكذب، ولا كان الحق فيه مكتسباً عليهم، (ومجموع) ذلك يمكن حصوله في الكفار، كما يمكن في المسلمين. (هذا) دليل من قال: العلم الواقع بذلك مكتسب. ومن قال: العلم (الواقع) ضروري، يقول: معلوم أن أهل بلاد الكفر يعلمون بالبلاد النائية، والأمم السالفة بتواتر أهل دينهم، كما نعلمه نحن، فدل على أنه لا اعتبار بالإسلام.

احتج: بأنه لما اختص المسلمون بالإجماع وجب أن يختصوا (بالتواتر). (الجواب): أنه جمع من غير علة، على أن الفرق: إن الإجماع إنما صار حجة بالشرع، والشرع مختص بالإسلام، فأما الخبر فيقع به العلم، لما ذكرنا من أنه لا يتفق فيه الكذب، ولا يصح التواطؤ عليه، وهذا موجود في الكفار. قالوا: لو وقع (العلم) بذلك لوقع لنا (العلم) بأخبار اليهود والنصارى بقتل المسيح وصلبه. (الجواب): أن خبرهم بذلك لم (تكتمل) فيه شرائط التواتر، من العدد الذي لا يتفق فيه الكذب في أوله ووسطه وآخره، وإنما (نقلوه) عن آحاد وكتب. مسألة لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما تحتاج إلى نقله

مسألة لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما تحتاج إلى نقله ومعرفته

ومعرفته، خلافاً للإمامية: إن ذلك يجوز لداع يدعو إليه، وعليه بنوا كلامهم في ترك نقل الجماعة النص على علي رضي الله عنه. لنا: (على) فساد هذا القول: أن كتمان ما يحتاج إلى نقله يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو (به، فلما لم يجز على الجماعة التي يصح بهم التواتر، أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به) مع علمهم بحاله، كذلك لا يجوز أن يجتمعوا على كتمان نقل ما يحتاج إليه، ألا ترى أنه لو حدث في الجامع وقت الصلاة حادثة عظيمة تظهر لجميع من حضر، لم يجز أن يترك نقلها جميع من حضر، كما لا يجوز أن يخبر عنها جميعهم بالكذب، ولا يلزم ترك نقل شرائع الأنبياء، نوح وهود وصالح وغيرهم صلى الله عليهم، لأن الحاجة (لم تدع) إلى نقل ذلك، ألا ترى أن شريعة موسى وعيسى لما دعت الحاجة إلى نقلها تتمسك قوم (بها) (نقلت). فإن قيل: قد ترك النصارى كلام عيسى في المهد فلم ينقلوه. قلنا: لأن كلامه في المهد، جار قبل ظهور أمره واتباعه).

مسألة يجوز التعبد بخبر الواحد شرعا وعقلا

احتج: بأنه قد يجوز أن تترك الجماعة نقل الشيء لتقية، أو خوف فتنة. الجواب: إنه لو جاز ذلك، لجاز أن يكذبوا، لما ذكرت، لأنهما سواء في القبح. (قال): قد تركت الصحابة نقل مسح (الخفين)، والقران، والإفراد والرجم، حتى اختلفوا بعد ذلك فنقلوا. الجواب: أنهم لم يتركوا ذلك، بل نقلوه وذكروه، لكن قوماً رجحوا القران في حكم غسل الرجلين والجلد، وكذلك القران والإفراد وقع لكل راو شبهة فيما نقل، لأن بعضهم سمعوه يلبي بالحج والعمرة، وبعضهم يلبي بالحج فقط، فنقل كل واحد ما سمع، (والله أعلم). مسألة يجوز التعبد بخبر الواحد شرعاً وعقلاً، وبه قال أكثرهم وقالت طائفة من المتكلمين: لا يجوز التعبد به. (لنا): إن العقل لا يمنع أن يتعبدنا الله سبحانه (بالعمل) بخبر الثقة في الظاهر، كما تعبدنا بقبول الشاهدين،

وكما تعبد العامي بقبول قول المفتي، وقبول قول المرأة في حيضها وطهرها، وجواز قبول قول الهدية واستجلابها. فإن قيل: هذه الأمور من أمور الدنيا، ولهذا يجوز الصلح عليها، فجاز قبول شهادة الآحاد فيها، بخلاف العبادات، فإنها مصالح للعباد، فلا يجوز (تثبيتها بخبر الواحد). (قلنا): الشهادة تجوز فيما لا يدخله الصلح كالفروج، وإراقة الدماء، وما أشاروا إليه من كونها من أمور الدنيا، فهي كأمور الدين لأن الوجوب والقبح يدخل كل واحد منهما، على أن رؤية الهلال من أمور الشرع، يلزم بها العبادة من الصوم والحج، وكذلك إقامة الحدود عبادة شرعية، وكذلك قتل المشهود عليه شرع، (وقول المفتي شرع) فلا فرق بينهما. فإن قيل: إنما علمنا بالشهادة لدليل قاطع على وجوب العلم بها، بخلاف الخبر. (قلنا): (أخبار الآحاد) إنما نقبلها إذا دل على وجوب العمل بها دليل قاطع: فلا فرق بينهما. ودليل آخر: قد ثبت جواز التعبد بالأخبار المتواترة، ولا فرق بين أخبار الآحاد وبينها في جواز التعبد، وإنما يفترقان من حيث أن (التعبد) بخبر الواحد غير معلوم، وبخبر التواتر معلوم، وهذا يلزم أن نجيز (العمل) بخبر الواحد، إذا دل دليل قاطع على وجوب

العمل به، أول تكاملت شروطه، فيعلم بتكامل الشروط وجوب العمل، إذ لا فرق بين أن يقول سبحانه: إذا غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بخبره، وبين أن (يقول) فافعلوا كذا (وكذا) في إنا نعلم (وجوب الفعل). دليل آخر: لا يمتنع في العقل أن تكون لنا فيما يخبرنا به الواحد، مع جواز الكذب عليه، ألا ترى أن من خوفنا من سلوط طريق، حسن في العقل قبول قوله، والتوقف عن سلوكه، كذلك فيما يخبرنا الواحد من أخبار الديانات. فإن قيل: فيلزمكم قبول/ (خبر) الفاسق، لجواز المصلحة، كما قلتم في أخباره عن الطريق. (قلنا): لا يمتنع من ذلك عقلاً، وإنما الشرع منع من قبول (خبر) الفاسق. فإن قيل: فيلزمكم أن تقبلوا خبر الواحد في أصول (الدين) وإثبات القرآن. (قلنا): نقبله فيما كان عملاً، فإذا أخبرنا بقراءة شاذة فيها تحليل أو تحريم أخذنا به، ولم نثبته قرآناً، لأن طريقه، وطريق

أصول الدين العلم، والعلم لا يقع به. على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. (احتج المخالف): بأن الشرائع مصالح (للمكلفين)، وخبر الواحد لا يعلم صدقه فيه، (فالعمل) به لا نأمن أن يكون مفسدة. الجواب: أنه يلزم على ذلك (عدم) قبول قول المفتي، لأنه مخبر عن الشرع، وقبول قول الشاهد. (وجواب آخر: أنه) لا يمتنع أن يكون قبول قول الواحد العدل مصلحة مع غلبة ظننا أنه صادق، كما كانت العبادات المعلقة على شروط من زوال الشمس وغروبها، ووجود نصاب وحول، فعلها عند ذلك مصلحة. فإن قيل: وجود شروط العبادات معلوم متحقق بخلاف الخبر.

(قلنا): (يجوز) تعليق ذلك على غلبة الظن من زوال الشمس وغير ذلك. وقد قيل: أن خبر العدل معلوم لنا، إذا ظننا صدقه، ولسنا نشترط صدقه. فإن: قيل: ظنكم صدق الراوي، لا يخلو أن يكون طريقاً إلى المصلحة. أو شرطاً لا يجوز أن يكون طريقاً إلى المصلحة مع جواز الخطأ فيه وإن كان شرطاً فجوزوا أن يكون ظنكم كذبه شرطاً. (قلنا): ظننا بصدق المخبر يجوز أن يكون شرطاً بحكم العقل دون كذبه، ألا ترى أنه لو أخبرنا مخبر (بسلامة طريق،

وغلب على ظننا صدقه حسن سلوكه، ولو غلب على ظننا) كذبه لم يحسن (بنا) سلوكه. واحتج: بأنه لو كان ما يخبرنا به الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة مع ظننا صدقه، جاز أن يكون ما يخبرنا الواحد عن الله تعالى من أنه أرسله مصلحة، (أو أن الله) أمر بفعل كذا مصلحة، وما الفرق بين (خبره) عن الله تعالى وعن رسوله؟ الجواب: إن الخبر نقبله ونعمل به، لأنه ورد بقبوله دليل مقطوع به، إما من قول الله تعالى، أو قول رسوله، أو إجماع الأمة. فإما قبول النبوة ممن يدعيها، فلم يرد بقبولها دليل، فلهذا لم نقبله. فإن قيل: فيجب أن تجوزوا، إذا قال نبي قد ثبتت نبوته بالمعجزة: إذا جاءكم نبي غلب على ظنكم صدقه (يجب) أن تقبلوا (منه). الجواب: أن هذا لا يجوز، لأنه يؤدي إلى مفسدة، لأن النبوة من الرياسات العظيمة، والأمور الجسيمة، فلو يجوز (قبولها) ممن يدعيها، كان ذلك سبباً إلى أن يدعيها كل راغب في رياسة، بخلاف الخبر، فإن الإنسان إذا سمع شيئاً فأداه، لا يحصل له بذلك وجوب طاعته،

وامتثال أمره، ولا تحصل له بذلك رياسة عظيمة، فجاز قبول قوله، إذا غلب على ظننا صدقه، كما قبلنا قول المفتي والشاهد والحاكم. وجواب آخر: إن تجويز كذب من يدعي النبوة من أقوى ما ينفر عنه، لأنه لا يجوز أن يكون من أكرمه الله بالرسالة كاذباً، بخلاف المخبر، فإن تجويز كذبه لا ينفر عنه، ولأن من أخبرنا عن الرسول: أنه شاهده وسمع منه كلاماً، لا يمتنع/ (قبوله) في عقولنا، لأن مثل ذلك قد جرت به العادة في حق جماعة. فإما من يخبرنا باستماع كلام الله، (ومشاهدته) من غير (بينة)، يمتنع في عقولنا قبول قوله، إلا أن يأتي (بمعجزة) تدلنا على أنه مؤيد مختار. واحتج: بأنه لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في فروع الدين، لجاز في أصوله، حتى إذا أخبرنا: بأن أهل اللغة وضعوا هذا اللفظ للعموم، وهذا للخصوص، وجب أن يقطع بقوله. الجواب: إن ما كفلنا (فيه) العلم، لا يجوز أن نأخذ فيه (بقول) من يجوز عليه الكذب، لأنه لا يقع لنا العلم بذلك، وما طريقه العمل يصح أن يقع العمل بقوله.

فإن قيل: أليس بخبر الواحد تعتقدون وجوب الفعل؟ فقد أقدمتم على الاعتقاد بخبر الواحد. (قلنا): ما أقدمنا على اعتقاد الوجوب بخبر الواحد، (ولكن) بدليل قاطع دل على وجوب قبول قول الواحد، وهو الأدلة على قبول أخبار (الآحاد). فإن قيل: فهلا جوزتم ورود دليل قاطع على قبولها في الأصول؟ (والجواب): أن المعلوم حاصل في نفسه، لا يحصل بحسب ظننا صدق الراوي، لأن من يخبرنا: أن زيدا في الدار ليس يكون في الدار، بكوننا ظانين كونه في الدار، لأن كونه في الدار أمر في نفسه (ثابت) لا يتغير بظننا وعدم ظننا، فلم يجب إذا ظننا صدق الراوي، (إذا روى): إن الله تعالى غير عالم، أو غير متكلم، أن يعتقد ذلك، وإذا كان كذلك، فلم يجز أن يرد دليل قاطع على قبوله، بخلاف العمل، فإن كونه مصلحة يجوز أن يقف على أن نفعله ونحن على صفة، وهي (كوننا) ظانين صدق الراوي، لوجوب ذلك العمل، فجاز أن (يدل) دليل قاطع على

وجوب ذلك علينا، فيجوز لنا: أن نعتقد (وجوبه) علينا. (احتج: بأنه) لو جاز التعبد بخبر الواحد في الفروع، لجاز في (نقل) القرآن. (الجواب): (أن) هذا جمع (بغير) علة ثم القرآن المنقول بالآحاد، لا يخلو أن يظهر فيه الإعجاز، أو لا يظهر فإن ظهر (فيه الإعجاز) فهو (معجزة) النبوة، ولا يكون معجزاً إلا وقد ظهر في عصره، وتحدى به جميع أهل العصر، ولا يظهر للجميع إلا وقد تواتر نقله وإن لم يكن فيه معجز جاز أن يعمل بما تضمنه من عمل، كما نفعل في قراءة ابن مسعود وغيره. واحتج: بأن أخبار الآحاد قد تتعارض، فلا يمكن العمل

مسألة يجب العمل بخبر الواحد شرعا وعقل

بها، فلو جاز التعبد بها لجاز التعبد بما لا (يمكن) فعله. الجواب: لا نسلم أن التعارض يمنع من العمل بالخبر، بل قد يعمل (به) مع التعارض على ما يترجح من أحد الخبرين على الآخر، كما يعمل المسافر في طريقه (على ما يترجح من أمارة السلامة، وأمارة الهلال، ثم يبطل ما ذكروه بالعمل بالبينات والفتاوى مع التعارض) ثم ليس كل خبر (يرد) [له] ما يعارضه، فقولوا: يجوز التعبد بما لا يعارض. مسألة يجب العمل بخبر الواحد شرعاً وعقلاً، نص عليه في رواية جماعة منهم أبو الحارث: إذا جاء خبر الواحد، وكان إسناده صحيحاً (وجب) العمل به واحتج بخبر القبلة وخبر

إهراق الخمر، وفي لفظ آخر: إذا كان الخبر صحيحاً ونقله الثقات فهو سنة يجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأى ولا قياس. وبه قال أكثر الفقهاء والمتكلمين، إلا أن منهم من يقول: (لا يجب) العمل به عقلاً ويجب العمل به شرعاً.

وقال القاشاني وابن داود والرافضة: لا يجوز العمل به. وقال قوم: يجوز ورود التعبد به، لكن لم يرد التعبد به. لنا على وجوب ذلك الشرع قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فتعبدنا بقبول خبر كل طائفة خرجت للتفقه، ثم أنذرت قومها، وهذه صفة خبر الواحد، لأن الفرقة تقع على الثلاثة، والطائفة منها واحد أو اثنان، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ

مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فأوقع على الأخوين اسم الطائفتين. وقال: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} قال محمد بن كعب القرظي: [كان هذا رجلاً واحداً] فثبت أن الطائفة تقع على الواحد. واختلف أهل التفسير، فقال بعضهم: المتفقهة هي النافرة، وقال (بعضهم): هي الباقية لا تنفر في الجهاد والأسفار، ليتفقهوا في الدين وأي ذلك كان. فالدليل منه موجود. فإن قيل: (الآية) تقتضي أن يقبل خبر طائفة من كل فرقة، ومجموع ذلك (يحصل) به التواتر. قيل: لا يجوز ذلك، لأنه قال تعالى: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} وقوم كل طائفة بقية فرقتها، لأن الفرق مختلفة غير مجتمعة، فلا يمكن رجوع جميع الطوائف إلى فرقة ليسوا من قومهم، ولا عندهم.

فإن قيل: فليس في الآية ما يدل على قبول قول (المخبر)، وإنما يدل على أن المتفقه تنذر. قيل: الله تعالى سماهم منذرين، والمنذر: المحذر، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي ليحذروا فدل على وجوب الحذر، كما قال: (لعلهم يتقون)، ولا يجب الحذر إلا إذا وجب قبول قول المخبر المحذر. فإن قيل: حذرهم، (ليسألوا) ويبحثوا عن ذلك، فإن وقع لهم صحة العلم بالخبر أخذوا (به). (قلنا): إنه أوجب الحذر بمجرد إنذار الطائفة، لا بمعنى آخر كما لو قال: "جالس الصالحين لعلك تصلح" أفاد أن مجالستهم سبب (الصلاح) لا شيء آخر. ولأن الطائفة يلزم قبول قولها قبل البحث، لأنها تخبرهم (بوجوب) فعل أو (تحريمه)، فيلزمهم المصير إلى ذلك، لأنا إن كنا نشرب النبيذ فخبرتنا الطائفة بتحريمه وجب علينا الإمساك عن شربه وذلك تحريم شربه، وإن كنا تاركين لبعض العبادات فأخبرتنا بوجوبها وجب إمساكنا عن (تركها) والإخلال بها، وذلك (هو) إيجاب (فعلها) فدل على إيجاب الرجوع إلى خبر الطائفة.

(جواب آخر) أن الإجماع وقع على (أنه لا يجب على) (أهل) الموضع الذي بلغهم خبر الطائفة: أن يخرجوا جميعهم، ويتركوا أوطانهم حتى يسمعوه من جماعة (خرجوا) فسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أن أهل القرى كانوا يخرجون جميعهم إلى الرسول عليه السلام فيسمعوا منه الخبر، وما سنه، و (ما) شرعه، ولا فعل ذلك (بعد) الرسول صلى الله عليه وسلم. (وجواب آخر): أنه لو لزم ذلك، لكان فيه من الضيق والحرج مالا يحتمل، لأنهم لا يمكنهم الاستقرار في مواطنهم، /لأن شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره كانت تحدث وقتاً فوقتاً، فكلما بلغهم خبر احتاجوا جميعهم إلى الخروج فتخرب أوطانهم، وتضيق معايشتهم، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. فإن قيل: فلا حجة في الآية، لأنها واردة في الفتوى، ولهذا قال: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيصيرون من أهل الاجتهاد، ثم لينذروا بالفتوى، والإنذار بالفتوى يجب قبوله على العامي. قلنا: كثير من (أهل) هذه الطائفة مذهبهم لا يلزم

العامي (قبول) قول الواحد في الفتوى، كما لا يلزمه في الخبر، ومن سلم ذلك لزمه مثله في الخبر، لأنه إذا أخبره عن ظنه واجتهاده، لزمه قبوله، فإذا أخبره عن عمله وسماعه أولى أن يلزمه. (وجواب آخر): أن التفقه كان في (الزمن) الأول بسماع الأخبار، وذلك نوع من التفقه، فإذا أنذره لزمه أن يقبله، سواء كان فتيا أو نقلاً، وحمله (عليهما) أولى، لأنه حمل اللفظ على عمومه في كل تفقه، ولأن الخبر يلزم العامي والمجتهد، والفتيا لا تلزم إلا العام فحمل الآية على ما يعم أولى. فإن قيل: لا يجوز الحمل على ذلك، لأن الفرقة لم يكن فيهم مجتهد، لأنه لو كان فيهم مجتهد لم يلزمهم أن ينفرقوا ليتفقهوا في الدين. (قلنا): الأحكام كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تتجدد، والنسخ يجوز، فيجب على الفرقة أن ينفر منهم من (يتعرف) ذلك، وإن كان منهم مجتهد. (ودليل آخر): قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ

فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فشرط في التثبيت والتبين على اختلاف القراءتين، كون المخبر فاسقاً، فبان من هذا أن خبر العدل لا تثبت فيه، لأنه لو كان (حالتهما) سواء، لم يكن لشرط الفسق معنى. فإن قيل: هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة (ابن أبي معيط) بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فعاد وأخبر أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، فنزلت الآية تخبره: أنه غير عدل، فلا يكون فيها حجة على مسألتنا. (قلنا): لو ثبت ورودها في ذلك، فهي حجة من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبره، وهم بغزوهم، ومن حيث أن اللفظ أعم من سببه، فلا (يقتصر) عليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} وهنا يخاف في خبر الواحد العدل، كما يخاف في خبر الفاسق. (قلنا): الجهالة تصحب خبر الفاسق، لأنه لا يقوى في الظن خبره، فأما خبر العدل، فإنه يغلب على الظن صدقه، وغلبة

الظن (ضرب) من العلم، لأن العلم: (هو) ظنون تتزايد. (دليل آخر): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى البلاد النائية ليعلمهم الأحكام، مثل ما بعث علياً ومعاذاً، وعمرو ابن حزم إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة،

ومصعب بن عمير إلى المدينة، وبعث سعاته لجباية الصدقات، وتعليم أرباب الأموال ما يجب عليهم من الزكاة. فثبت أن خبرهم مقبول، ولو كان قول الواحد لا/ (يلزم قبوله لم يبعثهم). فإن قيل: قد بعث آحاداً يدعون إلى الإسلام، ولا يقبل قول الواحد في الإسلام، فكل عذر لكم في ذلك. فهو (عذر لنا). (قلنا): دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وكلمة التوحيد، كان قد استفاض وانتشر في (الآفاق)، وتحدثت به ملوك الطوائف وقبائل العرب في أماكنها، وعلموه، وإنما بعثه عليه السلام (ليطالبهم) بالدخول في ذلك، والمصير إليه، فإن دخلوا فيها

أخبرهم بأحكامه، فإما أن يكون (الواحد) يخبرهم بالتوحيد وإثبات الرسالة فلا. على (أن) ذلك طريقة العقل عندكم، فبعث من (يثنيهم) على ما في عقولهم، وليس ذلك بدعاء إلى الإيمان. (دليل آخر): (أجمع) الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد، فقبل أبو بكر خبر المغيرة بن شعبة، ومحمد بن سلمة في توريث الجدة، وعمل عمر رضي الله عنه

(بخبر) عبد الرحمن بن عوف في المجوس، وأخذ الجزية منهم، وعمل علي رضي الله عنه (بخبر) الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وعمل بخبر

(حمل) ابن مالك بن النابغة في الغرة في الجنين، وعمل عثمان بخبر فريعة بنت مالك في سكن المتوفى عنها زوجها. وقال علي رضي الله عنه: ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، ورجع إلى خبر المقداد في المذى. ورجعت الصحابة إلى خبر عائشة في التقاء الختانين وأنه

يوجب الغسل وإلى خبر رافع في المخابرة وقال ابن عمر: كنا تخابر أربعين سنة، لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافلع بن خريج أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة. ورجع ابن عباس عن قوله: إنما الربا في النسيئة، إلى خبر أبي سعيد الخدري. ورجع أهل قباء إلى خبر الواحد في (نسخ) القبلة. ورجع جماعة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد. ورجع زيد بن ثابت إلى قول امرأة من الأنصار في ترك

الحائض طواف الوداع، وأمثال ذلك كثير فدل على إجماعهم. فإن قيل: جميع هذه الأخبار آحاد، فلا يثبت بها (أصول). قيل: هذه الأخبار وإن كان كل واحد منها خبر واحد، فجملتها متواترة، لا يجوز مع كثرتها أن يكون كلها كذباً، كما أن الأخبار عن (سخاء) حاتم وشجاعة عنترة، وحلم

الأحنف بن قيس، متواترة في الجملة، وإن نقلت إلينا نقل الآحاد، ولأنه لا يجوز أن يكون جميع ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم من (الأخبار كذباً)، كما لا يجوز أن يقال: إن الجماعة الكثيرة اتفقوا على الكذب في خبر نقلوه. فإن قيل: يحتمل أنهم عملوا بهذه القضايا لسبب آخر غير الخبر، أما لأنهم ذكروا شيئاً سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أو لاجتهاد تجدد لهم. قيل: لو كان (كذلك) لنقل، لأن العادة أن من اشتد (اهتمامه) بأمر التبس عليه ثم زال عنه (بتذكر أو اجتهاد أن) يظهر ذلك ويسر به، كما قال عمر في خبر الآذان: وعيشك لقد رأيت مثل ما رأى، ولأن سكوتهم عن ذلك وعملهم عند الخبر، يدل على أنهم أخذوا به، وإلا كان في ذلك تلبيس على الناس، وإيهام لهم ما لا يجوز، ولأن ما نقل في الأخبار يمنع من ذلك،

لأنه روي عن عمر: أنه قال في الجنين: "كدنا نقضي فيه بآرائنا"، وأبو بكر قال للمغيرة: "ائتنا معك بآخر" في ميراث الجدة، (فجاءه) بمحمد بن مسلمة. وابن عمر قال: كنا نخابر ولا نرى بأساً حتى أخبرنا رافع: بأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة فانتهينا، والأنصار رجعت إلى قول عائشة بعد أن كانوا يفتون: الماء من الماء. فإن قيل: فمن أين (نعلم) أن جميعهم عملوا بأخبار الآحاد؟ قيل: لأنهم كانوا بين عامل بها، وبين ساكت عن النكير فدل على رضاهم بالعمل بها، إذ لو كان بعضهم لا يرى ذلك، ويعتقده خطأ لأنكره، لأن الإقرار على الخطأ لا (يجوز، ولا) يحل السكوت عنه. فإن قيل: فقد (نقل) عنهم أنهم ردوا خبر الواحد في بعض الحوادث كقول عمر في خبر فاطمة بنت قيس: لا ندع

كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري أصدقت أم كذبت. ورد حديث أبي موسى في الاستئذان، حتى شهد معه. أبو سعيد، ورد أبو بكر حديث المغيرة حتى شهد معه محمد بن مسلمة. قيل: رد عمر لخبر فاطمة يحتمل أوجهاً، إما أن يكون نسخاً، والنسخ لا يجوز بخبر الواحد، أو يكون تخصيصاً وعنده لا يخص القرآن بخبر الواحد، أو يكون اتهمها، لأنها لم تكن عنده

ضابطة، ولهذا قال علي في بروع بنت راشق: لا أقبل شهادة الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد (به) أنهم لا يضبطون. أما رد خبر المغيرة، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد خبره، ولكن استظهر بمحمد بن مسلمة، ولهذا لا فرق عندنا وعند مخالفينا بين خبر الواحد والاثنين، وكذلك خبر أبي موسى. فإن قيل: فلم قبل أهل قباء خبر الواحد في نسخ القبلة، وذلك لا يجوز بالإجماع؟ قيل: (له خطأ) أهل قباء في ذلك لا يلزمنا، ثم

يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم (علم بنسخها) فأخبرهم ووعدهم أن ينفذ إليهم إذا نسخت، ولهذا قبلوه. دليل آخر: أنه إذا وجب على العامي الرجوع إلى فتوى العالم، وهي إما إخبار عن إمامه، كأحمد وأبي حنيفة، والشافعي، أو عن اجتهاده ورأيه، فلأن يرجع المجتهد إلى خبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع غلبة ظنه بصدق الراوي أولى. دليل آخر: أنه قد يجب الحكم بشهادة الشاهدين (العدلين) فيجب أن يجب العمل بخبر العدلين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما الفرق بينهما؟ وكلاهما يفيدان الظن. (دليل آخر: أنه) لا بد للأحكام الشرعية من طريق، وقد يحدث من المسائل ما ليس في كتاب ولا سنة (متواترة)، ولا إجماع، ولا قياس، فلم يبق أن يكون طريقه إلا خبر الواحد.

فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ولا يمنعون، ولا فائدة فيها. تمسكنا بحكم العقل. (قلنا): العقل ليس بطريق الأحكام الشرعيات)، (ثم) قد يحدث ما لا يدل عليه العقل. دليل آخر: ذكره شيخنا: وهو لو لم نوجب العمل لوجب الإنكار على من تشاغل بحفظه ونقله وروايته، لأنه لا فائدة فيه (إلا تضييع) الزمان به، وقد رأينا الأمة مجمعة على أن ذلك حسن، والناس يسافرون (إلى) البلدان، وينفقون الأموال عليه، فدل على أن فيه فائدة، وليس ذلك إلا العمل. فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ولا يمنعون، ولا فائدة فيها. (قلنا): بل فيها (أهم) الفوائد، لأنها أصل كلام العرب، وبها تعرف معاني (القرآن) (وكلام) الرسول صلى الله عليه وسلم ويتأدب الناس بها، فدل على ما ذكرنا.

وعندي أن فيه ضعفاً، لأن للمخالف أن يقول (فيه): فائدة وهو أن يتنبه بها المجتهد، ويبحث عن الحكم الوارد فيها، فيطلبه في معاني الكتاب أو التواتر أو في القياس، وهذا من أتم الفوائد. (احتج المخالف): بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}. (والعمل بخبر) الواحد اقتفاء لما لا نعلم، وقول بما لا نعلم، لأنه موقوف على الظن. الجواب: أنا ما اقتفينا إلا ما علمنا بالدليل القاطع الدال على وجوب العمل بخبر الواحد، وقد ذكرنا ذلك (وأوضحناه)، وكذلك لم نقل إلا ما علمناه.

(احتج): بقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}. الجواب: أنا لا نتبع خبر الواحد بالظن، بل بالدليل الموجب للعلم، وإنما ذم الله تعالى: من اتبع مجرد ظنه من غير دليل، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: {إن الظن لا يغني عن الحق شيئاً} (بمجرده) من غير دليل. احتج: بأن المخبر الواحد يجوز أن يكذب (أو يغلط)، فلا يجوز العمل بخبره. الجواب: أنه يلزم عليه خبر (الشاهدين) في الحقوق كلها، وخبر المفتي العامي، ورسول المفتي أيضاً، وقول الطبيب في المرض، والمخبر عن الطريق. احتج: بأن طريق قبوله الشرع، ولم نجد في الشرع ذلك، ولو كان لوجدناه كما وجدنا الدليل على (قبول) الشاهدين في

الحقوق والمفتي بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}. الجواب: أنا قد بينا أن الشرع قد ورد بذلك في أدلتنا بما يغني عن الإعادة. احتج: بأنا لا نقبل خبر الواحد في الأصول، (كذلك) في الفروع. (الجواب: أنه جمع بغير علة، ثم الأصول عليها دلائل توجب العلم، فلا حاجة إلى قبول خبر الواحد بخلاف الفروع)، ولأن الأصول تقف على العلم، (وبخبر) الواحد لا يحصل (العلم) بخلاف الفروع. واحتج: بأن من أخبرنا: أنه نبي، وخوفنا من مخالفته، لا يلزمنا قبول قوله من غير حجة، كذلك من أخبرنا بأحكام الشرع. الجواب: أنه جمع (بغير) علة، على أن الدليل لم يدل على قبول قول مدعي النبوة، ودل على قبول خبر الواحد في (العمل)، ولأنا قد بينا فيما تقدم: أن النبوة من

الرياسات العظيمة التي تدعو إليها النفوس، ويحمل عليها حب التعظيم والأمر والنهي، فلا يقبل قول المدعي لها بغير دليل، ألا ترى أنا لا نقبل قول من ادعى مالاً لنفسه من غير دليل، وتقبل شهادته لغيره. واحتج: بأنه (قد) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "سيكذب علي"، وهذا خبر واحد. فإن قبلتموه، فلا تقبلوا خبر الواحد، لأنه قد ثبت أن في ذلك كذباً، ولا يتميز لنا الكذب من الصدق، وإن رددتموه، فردوا جميع أخبار الآحاد. (الجواب: أنا لا نعرف هذا الخبر)، (فبينوا إسناده)، (ولو صح) فإن هذا الخبر لا يثبت الكذب، (لأنه) لا يعلم هل كذب عليه أم لا؟ وجواب آخر: أنا لم نقبل جميع الأخبار، فنكون قد قبلنا الكذب وإنما قبلنا ما رواه الثقات، وغلب على الظن صدق الراوي

فيه، (ثم قد) روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (شاهد الزور يتبوأ مقعده/ من النار). ولا يجعل ذلك سبباً لرد 113 ب (الشهادة).

فصل والدليل على قبول خبر الواحد من جهة العقل، أنه معلوم بالعقل، وجوب التحرز من المضار وحسن (اجتلاب) المنافع، فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة إن لم (تقصد)، (أو إن) لم نشرب الدواء، أو إن سلكنا في سفرنا طريقاً مخصوصاً، أو إن لم نقم من تحت هذا الحائط، لزمنا في العقل العمل على خبره، لأننا قد ظننا في التفصيل ما علمناه في الجملة من وجوب التحرز من المضار، فكذلك في الشرع إذا علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرنا به من مصالحنا، ووجوب التحرز (مما) يخبرنا: بأنه من مضارنا، (فإذا ظننا بخبر الواحد: أنه عليه السلام قد دعا إلى فعل أخبرنا: أنه مصلحة) أو نهانا عن فعل ما هو مفسدة، (فقد) ظننا تفصلا (لما) علمناه في الجملة، فوجب فعله، وهذا هو العلة، لأن الحكم يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه، ويوضح ذلك، أنا إذا علمنا في الجملة وجوب التحرز في المضار، وظننا بالخبر: أن علينا في الفعل مضرة، (ولم) يمكن العلم وجب علينا

تجنبه، لما ذكرنا من علمنا في الجملة بوجوب دفع المضار، وأن خبر الواحد (أوقع) لنا ظناً: أن في هذ الفعل مضرة، إذ لو لم نظن، أن في الفعل مضرةلم يجب علينا تجنبه، فعلم أن العلة ما ذكرنا. فإن قيل: إنما وجب قبول خبر الواحد في العقليات، لأنه من أمور الدنيا، وأمور الدنيا تدبر بالعقل، وأما الشرعيات فلا نعلم مصلحتها بالعقل، فلا تدبر بالعقل. قلنا: لا فرق بينهما، لأن التحرز من المضار الدنيوية والدينية معلوم بالشرع، والعقل واجب فيهما. فإن قيل: إنما قبلنا خبر الواحد في العقليات، لأنه يغلب على الظن وصول المضرة (عند مخالفته بخلاف خبر الواحد في الشرعيات، لأنه لا يغلب على ظننا وصول المضرة) إن لم نقبله. قلنا: لا نسلم، لأن العدل إذا أخبرنا غلب على ظننا وصول المضرة بمخالفته. فإن قيل: (قد) جرت العادة بنزول المضار فيما ذكرتم من الطريق والحائط بخلاف الشرع. (قلنا): وقد جرت عادة الشرع بإلزام العبادات، ولا يمتنع في العقل أن يكون ذلك في خبر الواحد.

فإن قيل: الفرق بينهما: أن الشرعيات يمكن التوصل إليها بطريقة تقتضي العلم، نحو الرجوع إلى الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع والبقاء على حكم العقل، فلم يجز الرجوع إلى الظن، (بخلاف العقليات من أمور الدنيا، لأنه يتعذر الرجوع فيها إلى طريقة معلومة، فجاز الرجوع فيها إلى الظن). (قلنا): إذا كان في المسألة ما ذكرتم، من الكتاب والسنة والإجماع، لم يقبل فيها خبر الواحد على ضد ذلك، إلا أن يكون مخصصاً، وكلامنا في خبر الواحد إذا لم يخالف ما ذكرتموه. فأما البقاء على حكم العقل، فإنا نتركه في العقليات بخبر الواحد، وهو فيما ذكرنا من (الدليل)، (فكذلك) نتركه في الشرعيات بخبر الواحد. واحتج: بأن الشرعيات مبنية على المصالح، فإذا لم نأمن كذب (المخبر) لم نأمن أن يكون فعلنا (ما أخبرنا) به مفسدة، بخلاف العقليات، فإنها مبنية/ على الظن، فلا (ينافيها) تجويز الكذب.

الجواب: أن المصالح وإن كانت معتبرة في الشرعيات، فالمضار والمنافع هما المعتبران في العقليات والمعاملات، لأنا إنما نقصد بما نفعله تحصيل المنافع، والخلاص من المضار، كما نقصد بالشرائع تحصيل المصالح، فإذا قام غالب الظن في المنافع والمضار العقلية مقام العلم، مع تجويز كذب المخبر، فكذلك غالب الظن بصدق المخبر في الشرعيات، (فلو جاز أن لا نقبل خبر الواحد في الشرعيات)، لجواز كذب المخبر فيكون ما (أخبر به) مفسدة، لجاز أن لا نقبل خبر الواحد في العقليات، (لجواز) كذب المخبر، فتلحقنا المضرة في اتباعه، على أن قوله: "لا نأمن أن يكون المخبر كاذباً فنكون باتباعه فاعلين المفسدة" (يوجب) أن نقول بقبح ورود (الشرع) بقبول خبر الواحد، لأن (فعل) لا يؤمن كونه مفسدة قبيح، ولم نقل ذلك. واحتج: بأن العمل على غالب الظن في دفع المضار في الدنيا، هو الأصل للعمل على العلم بدفع المضار، لأن أمور الدنيا المستقبلة غير معلومة، وإنما هي مظنونة، بخلاف أمور الدين، فإن المظنون منها لا يقال هو أصل للمعلوم.

(الجواب): إن هذا فرق غير مؤثر في جمعنا، لأنه (لا يجب) إذا (أشبه) الظن (لأمور الدين الظن) لأمور الدنيا في وجوب العمل عليها، أن يشبتها (من) كل وجه، بل لا يمتنع أن يجب العمل (عليهما) ويكون العمل على الظن في [الدنيا] أصلاً للعمل على العلم في أمور الدنيا. ويكون العمل (على الظن) في أمور الدين أصلاً بنفسه.

فصل ويقبل في العمل خبر الواحد الثقة خلافاً للجبائي: أنه لا يقبل أقل من اثنين (عن اثنين) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى عنه أنه: لا يقبل في خبر يوجب حداً في الدنيا إلا أربعة. لنا: ما تقدم من الكتاب، فإن الطائفة تقع على الواحد، والسنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله وقضاته إلى البلاد النائية آحاداً، والإجماع، فإن الصحابة رجعت إلى قول عائشة وخبر عبد الرحمن، وخبر رافع، والمعنى: بأنه إخبار عن حكم شرعي، فقبل عن الواحد كالفتوى، ولأن ما لا يشترط في الفتوى لا يشترط في الخبر كالحرية والذكورية، ولأنه طريق لإثبات الأحكام، فلم يشترط فيه العدد، كالأصل الذي يقاس عليه، ولأن اعتبار اثنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتعذر غالباً فسقط اعتباره.

احتج المخالف: بأن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يقبل قول ذي اليدين في الصلاة، حتى قال لأبي بكر وعمر أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقال: نعم. الجواب: أنا لا نقول به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول ثلاثة (وهو لا يعتبر) ثلاثة. (وجوب آخر وهو): أنه إنما لم يقبل قول واحد في السهو، لأنه (ليس أولى من ظنه، فلم يقدمه عليه، فإذا زاد آخر قبل قوله، لأنه) أقوى من ظنه، أو لأنه في التقدير كأنه خبر واحد. واحتج: بأن أبا بكر رضي الله عنه لم يقبل قول المغيرة في ميراث الجدة، حتى شهد معه محمد بن مسلمة، وعمر رضي الله عنه لم يرجع إلى خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري.

الجواب: أنهما فعلا ذلك احتياطاً واستظهاراً، ولهذا روى عن عمر: أنه قال لأبي موسى: لا أتهمك، ولكني أردت أن لا يجترئ أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا رجع وغيره إلى خبر الواحد. وجواب آخر: أنه يحتمل أن يكون الصديق لم يغلب على ظنه قول المغيرة، وكذا عمر فطلبا آخر، استظهاراً، ولهذا إذا لم (يقو) في قلب الحاكم قول الشاهدين جاز أن يلتمس شاهداً ثالثاً. واحتج: بأن الشهادة لا يقبل فيها إلا قول اثنين، كذلك الخبر، (لا يقبل فيه إلا قول اثنين). الجواب: أن الشهادة تتأكد على الخبر، ولهذا لا يقبل فيها العنعنة والإرسال، ولا تقبل شهادة النساء في الحد، والعبيد عندهم، ويقبل خبرهم، ولأن إلحاق الخبر بالفتوى أولى، لأن كل واحد منها إخبار عن حكم شرعي. (والله أعلم بالصواب).

مسألة خبر الواحد لا يقتضي العلم

مسألة خبر الواحد لا يقتضي العلم، قال في رواية الأثرم: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح فيه حكم، أو فرض عملت به، ودنت الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فقد نص على أنه لا يقطع به، وبه قال جمهور العلماء. وروى عنه حنبل: أنه قال في أحاديث الرؤية: نعلم أنها حق نقطع على العلم بها، وبه قال جماعة من أصحابنا وأصحاب الحديث وأهل الظاهر. وقال النظام: يقتضي العلم إذ اقترن به قرينة، كرجل يخبر

(بموت) ابنه ويسمع في داره الواعية (وتحضر) الجنازة. وجه الأول: أن خبر لو اقتضى العلم (لاقتضاه كل خبر واحد، سواء كان الراوي ثقة أو غير ثقة، ألا ترى أن خبر التواتر أوجب العلم)، لا فرق بين أن يرويه عدول أو فساق، ولوجب أن يقع العلم بخبر كل من يشهد على إنسان بمال أو كل من يدعي النبوة ولم (يقل) هذا أحد، ولأنه لو أوجب خبر الواحد العلم لجاز أن يعارض التواتر، وينسخ به القرآن، ولا يجوز ذلك، ولأن الواحد منا يسمع خبر الواحد، فلا يوجب له العلم، حتى أن منها ما لا يوجب سماعه غلبه الظن، ولأنه يجوز عليه الكذب والسهو الغلط، فلا يجوز أن يقع به العلم، وعكسه التواتر. ويدل على النظام: (بأنه) لا يوجب العلم بمجرده، فلم يوجبه مع القرينة، لجواز الكذب في القرينة، لأن الإنسان قد يخبر بموت ابنه، ويأمر من في داره بالصراخ، ويحضر الجنازة ليوهم السلطان موته فيخلص منه، ومن عقابه ويهرب منه،

وقد يكون في الدار مريض فيموت غيره فجأة، فيكون الصراخ لموت ذاك، لا لموت المريض أو يصيب المريض سكتة، فيظن موته، فيخبر به، ويحمل النعش إلى بابه ولم يمت، فلم تكن القرينة موجبة للعلم مع الخبر، لكنها توجب قوة الظن. احتج الأولون: بقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم أمرنا بالعمل بخبر الواحد، فثبت أن ذلك يوجب لنا العلم. الجواب: أن التعبد بخبر الواحد لا يقتضي القول على الله سبحانه بما لا نعلم، لأنه قد قام عندنا الدليل القاطع/ على وجوب العمل بخبر الواحد، وإذا علمنا به، وقلنا قد تعبدنا بذلك، فقد قلنا على الله ما نعلم، وقفينا (ما) لنا به علم، ولأن العمل لا يقف على العلم، وإنما يجب بغلبة الظن، كما يجب على الحاكم أن يحكم بالشاهدين، والعامي أن يعمل بقول المفتي، وكما يعمل بالقياس. احتج النظام: بأنه إذا جاء رسول من السلطان إلى الجيش

يخبرهم: بأنه أمرهم بالرجوع إليه، وعلمنا أن عقوبة السلطان تردعه عن الكذب، وأنه لا داعي له إلى الكذب، علمنا: أنه لم يكذب، وإذا لم يكذب، علمنا صدقه، وكذلك إذا كان مهتماً بأمر متشاغلاً به، فسئل عن غيره، فيخبر عنه في الحال، فيعلم: أنه لم يفكر فيه، فيدعوه إلى الكذب داع، علمنا صدقه، وكذلك. إذا أخبر عن نفسه بما يوجب قطعاً أو قتلاً، أو خرج مشقوق الثياب صارحاً، فأخبر بموت ابنه، وسمعنا الواعية في (داره) علمنا أنه لا يكذب في ذلك أوجب لنا العلم بصدقه. الجواب: أن جميع ذلك لا يوجب العلم، لأن رسول السلطان، قد يشتبه عليه الذي أمره به السلطان، فيخبر بغيره، وإن لم يتعمد الكذب، وقد يرغب بالمال (الكثير) (أن يفعل ذلك)، فيفعله (متوخياً) أن يعتذر بما يقبله السلطان، أو لأن السلطان لابد له منه ويحتمل أن يكون السلطان أمره بذلك، ليعرف طاعة جنده، (وربما) أمره بذلك استهزاء، وإذا احتمل ذلك لم نعلم: أنه لا غرض له في الكذب فيعلم صدقه، وكذلك

قد يكون الإنسان مهتماً بما يسأل عنه، ويظهر أنه مهتم بغيره متشاغل (بسواه) فإذا سئل عنه، تنبه كأنه كان ساهياً عنه، ليوهم: أنه لم يتعمد الكذب، وقد تعمده وراعاه، وقد يقر الإنسان على نفسه بما يوجب العقوبات، لغرض وجهل يحمله على ذلك، وقد رأينا من غرق نفسه وصلبها، وقطع ذكره وأخبر بموت ابنه ليصل إلى أمر يلتمسه ويريده، وإذا احتمل ذلك لم يقع لنا العلم. واحتج: بأنه لو لم يقع العلم بخبر الواحد، لم (يقع)، وإن انضم إليه الجماعة الكثيرة، لأن ما يجوز على الواحد يجوز على الثاني، والخامس والعاشر، ولما وقع العلم بخبر الجماعة، دل على وقوعه بالواحد. الجواب: (أنه) يقال: ولم كان كذلك؟ وما أنكرتم أن يكون العلم الواقع بالتواتر، (إن) كان مكتسباً أن تكون شروط اكتساب العلم وجدت فيه، ولم توجد في خبر الواحد، وإن كان ضرورياً فهو فعل الله تعالى؟ فما يؤمنكم أن يوقعه عند التواتر لمصلحة يعلمها، ولا يوقعه عند أخبار الآحاد؟ فبطل ما ذكرتم.

فصل فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على حكمه وتلقته بالقبول، فاختلفت الناس في ذلك. فظاهر كلام أصحابنا: أنه يقع به العلم، وهذا كحديث عائشة رضي الله عنها: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت".

ومن الناس من قال: لا يقع به العلم. وجه الأول: أنهم لا يجمعون على العمل به، إلا وقد قامت عندهم الحجة القاطعة بصحته، ولأنهم إذا تلقوه بالقبول وعملوا به/، وهم ممن لا يجوز عليهم الخطأ، (ثبت) بذلك صحته، وقد قال عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة". وجه الثاني: أن الحكم بخبر الواحد إذا وجدت فيه شرائط النقل واجب، فإذا عملوا به فقد فعلوا ما يجب بخبر الواحد، وذلك لا يقتضي وقوع العلم بصحته، ألا ترى أنه يجوز وقوع الإجماع عن الاجتهاد، وإن كان (الاجتهاد) ليس بمعلوم. الجواب: أنهم إذا أجمعوا على تلقيه بالقبول، فقد أجمعوا على صحته، وكذلك إجماعهم على الاجتهاد يدل على (صحته).

فصل فإن (عمل) بخبر الواحد أكثر الصحابة، وعابوا على من (خالفهم) مثل أخذهم بخبر أبي سعيد في تحريم بيع الدرهم بالدرهمين، وعيبهم على ابن عباس فهل يوجب العلم بصحة الخبر؟ (قال) عيسى بن أبان: يقطع (به)، لأنهم عملوا به، وعابوا على من خالفه، فدل على أنهم لم يسوغوا اجتهاده في مخالفته. وقال أكثر الشافعية: لا يقطع على صحته، لأن مخالفة الواحد

مسألة يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى

تمنع انعقاد الإجماع، ويدل على أنه لم (يصح) عنده الخبر في الحكم، فلا يحصل به العلم، وكلا القولين (محتمل). مسألة يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كمس الذكر ورفع اليدين في الصلاة. وبه قال عامة الفقهاء وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل. دليلنا: أن الصحابة رضي الله عنهم (رجعوا) في الغسل في التقاء الختانين إلى خبر عائشة رضي الله عنها، ورجعوا في المخابرة إلى خبر رافع بن خديج، ولهذا قال اب عمر: "كنا نخابر أربعين سنة، لا نرى بذلك بأساً، حتى أتانا رافع بن خديج فأخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بقول رافع"، وذلك مما تعم به البلوى.

دليل آخر: إن هذا حكم شرعي لا طريق إلى معرفته من طريق العلم فيجب فيه قبول خبر الواحد، كسائر أحكام الشرع، ولأن كل حكم ثبت بالقياس يثبت بخبر الواحد، أصله ما تعم به البلوى، يؤكد هذا: أن القياس مستنبط من خبر الواحد وفرع له؛ فإذا جاز أن يثبت به ما تعم به البلوى، فلأن يجوز بخبر الواحد الذي هو أصله أولى، ولأن وجوب العمل بخبر الواحد يثبت بدليل مقطوع (به) وعليه (فيثبت به) ما تعم به البلوى، كالقرآن (وخبر التواتر). واحتج المخالف: بأن ما تعم به البلوى كثر السؤال عنه والجواب، وإذا كثر انتشر وكثر نقله، فإذا رواه الواحد لم يقبل منه، كمن ادعى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه لا يقبل

(منه، ولا يرجع في ذلك إلى الخبر الواحد، لأنه مما يكثر السؤال عنه). والجواب: أنه يجوز أن يكثر السؤال (والجواب) ولا يكثر النقل، ألا ترى أن الأذان اختلف الناس في كلماته، وذلك مما يسمع في اليوم خمس مرات، ولم ينقل نقلاً عاماً، وكذلك حج النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم المناسك نقل إلينا آحاداً، وكذلك نقض الصلاة بالنجاسة الخارجة من غير السبيلين، وكذلك شروط البياعات من الخيار وغيره، وشروط الأنكحة ثبتت بخبر الواحد، وإن كان سؤال الناس عن ذلك (كثيراً) وكذلك رجم ماعز

وقطع سارق رداء صفوان وغير ذلك/، وكذلك وجوب الوتر، وهذا لمعنى: وهو إن كثيراً من الصحابة كانوا: لا يرون الرواية ويتشاغلون بالجهاد وغيره، قال السائب بن يزيد صحبت سعد ابن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه (حديثاً)

إلا حديث الخلطة، وكذلك رواية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قليلة، وإذا كان كذلك لم يلزمه. فأما خبر الإمامة، فإن ذلك يجب عندهم على كل أحد أن يعلمه ويقطع به، فلا يجوز أن يثبت بنقل خاص، وليس كذلك ها هنا، فإنه من مسائل الاجتهاد، فجاز أن ينفرد البعض بعلمه، ويكون فرض الباقين: الاجتهاد والتقليد. واحتج: بأن تعلق فرضه بالكافة (يفضي إلى أن يخاطب) به الكافة ويأمر بتواتر نقله، ليصل إلى من بعده وصولاً بعلمه، وإذا رواه الواحد شككنا (في قوله).

مسألة يقبل خبر الواحد في الحدود، وما يسقط بالشبهة

والجواب: إنما إشاعته إذا لزم العمل به على كل حال، وأما إذا لزمهم العمل به بشرط أن يبلغهم الخبر [وإلا) لم يلزمهم، لم تجب إشاعته، ثم يلزم على ذلك الوتر: تعم به البلوى ولم يتواتر نقل وجوبه، وكذلك الرعاف والقيء والقيح: تعم به البلوى ولم ينقل إيجاب الوضوء (منه) نقلاً متواتراً، وإن كان في ذلك تضييع فرض الصلاة. مسألة يقبل خبر الواحد في الحدود، وما يسقط بالشبهة. وحكى

أبو سفيان عن أبي الحسن الكرخي: أنه لا يقبل. لنا: أن الحدود مما يثبت بغلبة الظن، ولهذا تثبت بالشهادة، فوجب أن يقبل فيها خبر الواحد كسائر أحكام الشرع، يوضح ذلك أن خبر الواحد قد دل على وجوب العمل به دليل قاطع من الكتاب والسنة والإجماع كالشهادة فوجب أن يستويا. واحتج: بأنه لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه مما يعم فرضه، فكذلك غيره. الجواب: (إن القرآن) لم يقبل فيه خبر الواحد، لا لما ذكرتم، لكن لأنه يجب علينا (إثبات للعمل به) قطعاً ويقيناً، بخلاف هذه الأحكام، (فإن طريقها) الظن، ولهذا تثبت

بالاجتهاد والقياس، فجاز أن تثبت بخبر الواحد. احتج: بأن خبر الواحد مظنون غير مقطوع على صحته (فصار) ذلك شبهة، وقد دل عليه قوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات". الجواب: أن هذا يوجب أن لا تقبل الشهادة في الحدود، لأنه غير مقطوع على صحتها، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: مراد به غير ذلك من الشبهة في الفاعل، بأن يكون جاهلاً التحريم، أو زائل العقل، أو الشبهة في الفعل، بأن يظنها زوجته أو أمته، أو في المفعول به، بأن تكون أمة ابنه، أو أمة مشتركة، فأما الدليل المقطوع على وجوب العمل به، فلا يجوز أن يجعل شبهة مسقطة.

مسألة خبر الواحد مقدم على القياس

مسألة خبر الواحد مقدم على القياس وقد ترك أحمد رحمه الله القياس في كثير من مسائله. وبه قال: عامة الفقهاء. وقال أصحاب مالك: لا يقدم على القياس، وبعضهم حكاه عن مالك. لنا: خبر معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، ثم قال: "بم تحكم؟، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟، قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضاه رسول الله" فرتب العمل بالقياس على السنة وهذا خبر اشتهر وتلقته

للأمة بالقبول، فجرى مجرى التواتر، ولأنه إجماع الصحابة، روى أن عمر رضي الله عنه: ترك القياس لحديث حمل بن مالك، وقال: "لولا هذا لقضينا بغير هذا"، وروى: أنه كان يقسم ديات الأصابع على قدر منافعها، فلما روى له: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في كل أصبع مما هناك عشر من الإبل" رجع إلى الخبر، وترك القياس، وهذا بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكره منكر، فثبت أنه إجماع.

فإن قيل: فقد خالف ابن عباس (ما) روى له أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً"، قال: فما نصنع بمهراسنا؟: وهو حجر كبير كانوا يتوضأون منه، لا يمكن أن يقلب منه على اليد، وهذا اعتراض على الحديث بالقياس. (قلنا): هذا ليس مقياس وإنما بين أن ذلك، متعذر في المهراس، أو حمل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يرد به الوجوب، لأنه كان يشاهد الصحابة تتوضأ من المهراس فلا ينكر، فعلم: أنه أراد به الاستحباب، وهذا تأويل للخبر لا معارضة له بالقياس. دليل آخر: لو ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: نصه على علة حكم، ونصه على ذلك بخلاف العلة، قدم نصه على الحكم على علته، فأولى أن يكون نصه على الحكم مقدماً على قياس استنبطناه باجتهادنا، مثال ذلك: لو قال: "تجلد الأمة خمسين لرقها"، ثم قال: "يجلد العبد مائعة"، كان المصير إلى جلد المائة مقدماً على القياس على الأمة بعلة الرق، لأن القياس يدل على مراد صاحب الشرع كناية وظناً واجتهاداً والخبر يدل على مراده، صريحاً فكان الرجوع إلى الصريح أولى ولأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين، في علة (أصله)، وفي إلحاق الفرع بتلك العلة،

والخبر يفتقر الاجتهاد في موضع واحد: وهو عدالة راويه، فكان تقديم ما قل الاجتهاد فيه أولى، كشهادة الأصل مع شهادة الفرع، ولأن الخبر أصل بنفسه فقدم على القياس، كالقرآن والمتواتر. فإن قيل: (ذلك) يوجب العلم: بخلاف خبر الواحد. قلنا: (لا اعتبار) بوقوع العلم في ذلك، لأن هذا عمل (يلزمه بخبر) الواحد كما يلزم بخبر التواتر والقرآن، فهو سواء في ذلك، يؤكد هذا: أن القياس فرع فلا (يقدم على) أصله. احتج المخالف: بأن الخبر قول الغير، والقياس يتعلق (باستدلاله) وهو بفعله أوثق منه بفعل غيره، ولهذا قدمنا (اجتهاده) على اجتهاد غيره من العلماء فكان الرجوع إلى فعله أولى.

الجواب: أنه لا فرق بينهما، لأنه يرجع في عدالة الراوي ومعرفة صدقه إلى أفعاله التي قد شاهدها منه، كما يرجع إلى المعنى الذي ورد عن صاحب الشرع في الأصل، فنحكم به في الفرع، بل طريق معرفة العدالة أظهر، لأنه رجوع العيان والمشاهدة وطريق معرفة العلة الفكر والنظر، فكان الرجوع إلى الخبر أولى، ثم يلزم على هذا، علم الحاكم بنفسه، فإنه أقوى مما يحصل له من شهادة الشهود، وهو علم نفسه ويقينها، ثم لا يحكم به عند مالك، ورواية لنا، ويحكم بقول الشهود، وهو قول الغير. احتج: بأن خبر الواحد يوجد فيه عدة وجوه توجب الرد، منها: جواز غلط راويه وفسقه وكذبه، وأن يكون منسوخاً أو مجازاً، أو مجملاً، ولا يوجد في القياس ذلك، وإنما يوجد فيه جواز (الغلط) في علته، وذلك وجه (واحد)، فلم يقدم عليه ما يوجب رده لوجوه.

الجواب: أن الخبر المستنبط منه القياس، جميع هذه الأحوال موجودة فيه، والوجه الذي يرد به القياس، فقد زاد عليه الخبر بوجه في الرد، فيجب أن يتأخر عنه. جواب آخر: (أنه) يلزم عليه (رد) الخبر إذا عارض مقتضى العقل في براءة الذمم (فإنه يحتمل) جميع هذه (الوجوه) وبراءة الذمة بالعقل لا تقتضي الخطأ إلا من وجه واحد، ثم يقدم الخبر على مقتضى العقل. جواب آخر: أن ما يوجب الرد لا فرق فيه بين كثرة الوجوه وقلتها، ألا ترى أن المغفل لا يقبل خبره، وإن كان عدلاً ديناً، كما لا يقبل خبره مع الفسق وقلة الدين، وإنما كثرة الوجوه ترجح بها (الإثبات والصحة، وأما في الرد فلا، ثم يلزم: القرآن يجوز أن يكون منسوخاً ومجملاً ومجازاً)، ثم لا يقدم عليه القياس.

احتج: بأن الإجماع يجوز أن ينعقد على حكم القياس، ولا ينعقد على خبر الواحد، لأنه إذا انعقد عليه صار تواتراً. الجواب: أنه إذا انعقد على حكم القياس لم يلتفت إلى الناس، وصار الإجماع هو الحجة (أيضاً) لا القياس، كما يصير الخبر تواتراً في المعنى، فلا فرق بينهما.

فصل ويقدم خبر الواحد، وإن خالف الأصول، وقال أصحاب أبي حنيفة: (لا يقبل خبر الواحد إذا خالف الأصول). فيقال لهم: تريدون بذلك قياس الأصول؟ فإن أرادوا ذلك فهو مثل قول أصحاب مالك، وقد مضى الكلام معهم، ثم ناقضوا مذهبهم، فإن أبا حنيفة قال: القياس فيمن أكل ناسياً في رمضان أن يفطر، لكن ترك القياس بحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال الذي (أكل) ناسياً: (الله أطعمك وسقاك) وكذلك عمل بخبر ابن مسعود في النبيذ، وهو مخالف لقياس الأصول، وهو جميع المائعات، وكذلك نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة بخبر الواحد، وخالف القياس فيه، وكذلك في القسامة: حلف المدعي عليهم خمسين وألزمهم الدية، وذلك

مخالف لسائر الدعاوى. فإن قالوا: لا نرده لقياس الأصول، وإنما نرده لمخالفة الأصول. قلنا: الأصول: هي الكتاب، والسنة، والإجماع، وخبر الواحد إذا خالف هذه لم نقبله، وإنما تردون خبر الواحد في المصراة والتفليس والقرعة ولا شيء فيها من الأصول. فإن قيل: خبر المصراة يخالف الأصل المجمع عليه، فإن اللبن لا يضمن إلا بمثله أو بقيمته عند التعذر، وقد ضمنتم اللبن بغير مثله، ولا قيمته، وإنما ضمنتم بصاع من تمر، (وذلك خلاف) الإجماع.

(قلنا): الإجماع إنما يحصل/ في اللبن الذي أتلف، وعرف قدره، وفي المصراة لا طريق للمتعاقدين إلى معرفته، فإن اللبن يختلط في الضرع بلبن ما تناوله العقد، وهو اللبن الذي حدث على ملك المشتري، فورد الشرع بتقدير عوضه لتعذر مماثلته وتقويمه للمصلحة وقطع الخصومة، كما ورد فيمن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً بغرة عبد أو أمة، لأجل ذلك لما اشتبه الأمر فلم يعلم: هل كان حياً وقت الضربة فيضمن بكمال الدية، أو ميتاً فلا يكون له ضمان؟، ثم أكثر ما فيه أن يكون اللبن المأخوذ من (من الضرع كاللبن المأخوذ) من الإناء، والخبر ورد بخلاف (هذا) القياس، فإما أن يكون (خلاف) الإجماع فلا. قالوا: أليس القياس يخص به (عموم) الكتاب؟ فلأن يترك لأجله خبر الواحد أولى، لأنه أضعف. والجواب: أنا لا نسلم أن (القرآن) يخص (بالقياس) على رواية لنا وإن سلمنا، فإنا بالتخصيص لا نكون تاركين للعموم رأساً، وليس كذلك تقديم القياس على خبر الواحد، فإنكم تتركون الخبر رأساً، فلا يجوز ذلك.

قالوا: إذا اتفقت الأصول على شيء واحد دل على صحة العلة قطعاً (ويقيناً) فلو قبلنا خبر الواحد في مخالفته، لنقضنا علة صاحب الشرع، وهذا لا يجوز، فيجب حمل الخبر على أن الراوي سها. والجواب: أنا لا نسلم أن القياس إذا خالف النص يكون علة لصاحب الشرع، فيجب أن تثبتوا أنه علته، حتى لا نناقضها بالخبر، ثم يبطل إذا عارض (هذا القياس) نص كتاب، أو سنة متواترة، فإنه يؤدي إلى نقض علة صاحب الشرع على زعمكم، ثم يقدم ذلك على القياس، وعلى أنه متى خالف القياس (النص) زدنا فيه وصفاً، لأجل ذلك النص فيمنع من وجود النقض. فإن قيل: فيجب أن يقولوا في علل العقل: (إذا ورد الخبر بخلافها، أنا نزيد فيها وصفاً، ولا نرد الخبر. قلنا: علل العقل) لا يمكن الزيادة فيها بخلاف القياس الشرعي، والله أعلم. فصل فأما (صفة) من يقبل خبره، فأن يكون مسلماً بالغاً

عاقلاً عدلاً ضابطاً، وسواء كان رجلاً أو امرأة أو عبداً. فأما الإسلام فمعتبر بالإجماع، (لأن) الكافر لا يتحرج من الكذب على رسول وتحريف دينه. فأما اعتبار بلوغه، فلأن غير البالغ لا رغبة له في الصدق، ولا خوف عليه من الكذب، (لأن القلم عنه مرفوع، والإثم في حقه مأمون، فحاله دون حال الفاسق، لأن الفاسق يرجو الثواب) (ويخاف) العقاب، ولأنا لا نقبل خبر الصبي على نفسه، وهو إقراراه، فلأن (لا يقبل إقراره) على الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، فأما تحمله إذا كان صبياً مميزاً، وروايته بعد بلوغه فجائز، لإجماع السلف على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير،

ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهم صبيان، وقد روى البخاري عن محمود بن الربيع أنه قال: (عقلت مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهي، وأنا ابن خمس سنين)، ولأنه إذا جاز أن يتحمل الشهادة صبياً ويشهد بها بعد البلوغ فالخبر أولى، ولأن الشهادة آكد وأضيق، ولهذا لا تقبل فيها العنعنة والتدليس، وخبر شاهد الفرع مع وجود شاهد الأصل، ويجوز في الخبر جميع ذلك وكذلك (الذكورية) فلا تعتبر، لأن السلف قبلوا خبر النساء، عائشة رضي الله عنها وغيرها وكذلك لا تعتبر الحرية لأن العبيد عدول، وقد قال عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" ولأن الخبر يقبل ممن يحسن فيه الظن، والعبد كالحر في ذلك، ولأنه مما يستوي فيه المخبر والمخبر، فلا يتهم فيه. وأما العقل فإنما اشترط (ليعلم) به ما ينقل ويميز (به) بين (خبر) الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، ويعلم به قبح الكذب وحسن الصدق.

وأما العدالة فمعتبرة، لأن الله تعالى قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} فأمرنا بالتثبت في خبر الفاسق، ولأنه إذا أقدم على ارتكاب الفواحش، لم يؤمن (أن يقدم) على ارتكاب الكذب. فصل إذا ثبت هذا فالعدل: من لم يأت بكبيرة ولم يداوم على صغيرة، والكبائر روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبائر سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، ورمى المحصنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة، وروى: وعقوق الوالدين" ومثل ذلك الزنا وشرب الخمر والسرقة وقد حد أحمد رحمه الله عليه الكبائر: بما يوجب حداً في الدنيا أو وعيداً في الآخرة، فيدخل (في ذلك) شهادة الزور، ورمي المحصنات، واليمين الغموس والسحر، فأما كونه ضابطاً، فلأجل أنه متى لم يضبط غير اللفظ والمعنى، وأسقط ما يحتاج إليه وأتى بما يفسد.

فصل فأما الصغائر: فهي المستقبحات من المعاصي (والمباحات) كالتطفيف وتكرار النظر في النساء المستحسنات، والتكلم بالسفه، وكذلك الأكل على الطريق وتقبيل زوجته بين الناس، وما أشبه ذلك، وكذلك المشارط على أخذ الأجرة على الحديث أو الصلاة، قال أحمد في رواية جبيش وسلمة بن شبيب: لا يكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث، ويحدثون ولا كرامة. قال شيخنا: هذا على طريق الورع، لأن هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا غلط، لأن هذا أكثر في الدناءة من الأكل

والشرب على الطريق، ثم قد رددنا (حديث) من يكثر منه ذلك، فهذا المعنى: وهو أن من يقدم على هذه الأشياء لا يؤمن أن يقدم على الكذب، ويتسامح فيه، فيؤثر ذلك على ثقته، ولا يقوى الظن بخبره. وأما الكذب، فظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه جعله من الكبائر، قال في رواية علي بن سعيد في الرجل يكذب كذبة واحدة: لا يكون في موضع العدالة، الكذب شديد، وكذلك قال في رواية ابن منصور: يترك حديثه إذا كان الغالب عليه الخطأ، قال له: والكذب يترك من قليل وكثير؟ قال: نعم: فاعتبر كذبة واحدة في إسقاط العدالة، وهذا حد الكبيرة. ووجه ذلك ما روى إبراهيم الحربي بإسناده في كتاب النهي (عن موسى الجندي).

قال: "رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها"، ولأن من يقدم على الكذب مرة، لا يؤمن منه الكذب في كل ما يخبر به، فيؤثر ذلك في ظننا صدقه فلا يقبل قوله. وقد روى عن أحمد، ما يدل على أنه من الصغائر، قال في رواية أحمد بن أبي عبدة. في الرجل يكذب، فقال: "إن من كثر كذبه لم يصل خلفه"، فظاهرة: / أنه اعتبر الكثرة والتكرار في تفسيقه، لأنه لم يرد في الشرع، أنه من الكبائر مع ذكر الكبائر، ولو كان منها لذكر، ولأن الإنسان لا يكاد يسلم من الكذب في الغالب، فمتى رددنا لكذبة واحدة، أفضى إلى أن لا يقبل خبر أحد ولا شهادته، وخبر الرسول إن ثبت، فلعله أراد أن يجعل ذلك زجراً لينتهي الناس عن الكذب، ويجوز أن يقال: أن الكذب أغلظ الصغائر وآكدها، أو أصغر الكبائر وأخفها، فهو

فهو منفرد بنفسه، وإنما عفونا عن الصغائر إذا لم تتكرر، لأنا لو لم نقبل إلا ممن (تتحمض طاعته) لم نقبل خبر أحد أبداً، لأنا لا نجد أحداً لم يخطئ، يدل عليه أن الأنبياء عليهم السلام قد وجد منهم الخطأ، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} أي علم أنما فتناه، وقال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحد إلا عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا"، فأولى أن يكون غيرهم لا يسلم من الخطأ. فصل فأما أهل الأهواء، فمنهم من يفسق في اعتقاده، ومنهم من يكفر، فأما من يفسق في اعتقاده، مع كونه متحرجاً في أفعاله، فاختلف الناس في قبول خبرهم، فقال قوم: لا يقبل، (وقال

قوم: يقبل)، وقد روى عن أحمد رحمه الله في رواية أبي داود قال: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري إذا لم يكن داعية، وقال المروزي: كان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية. وروى عنه خلاف ذلك. فروى الأثرم: أنه ذكر له أن فلاناً أمر أن يكتب عن سعد العوني فاستعظم ذلك، وقال: ذاك جهمي امتحن فأجاب فدل على أنه لا يجوز.

ووجه الأول: أنه فسق فرد به الخبر كالفسق بأفعال الجوارح، وهذا، لأن فسق الجوارح (يرد) لكونه فسقاً لا لأنه فعل الجوارح، لأن المباحات من أفعال الجوارح فلا يرد بها، (فإذا رد بالفسق)، فقد وجد في الفسق في الاعتقاد. وجه القول الثاني وهو الأقوى عندي: أن السلف اختلفوا ووقع بينهم الفرقة في زمن الصحابة والتابعين، وقبل بعضهم أخبار بعض، فدل على أنه إجماع، ولأنه إذا كان متحرجاً يظن في اعتقاده أنه على الحق قوي، (ولم) يظن فيه إقدامه على الكذب، فقوى الظن بصدقه. (فأما الجواب) عن دليلهم: فهو [أنا] إنما رددنا من فسق بأفعال الجوارح، لأنه يفعل وهو يعلم أنه فسق ومعصية، ومن أقدم على ذلك لم يؤمن (أن يقدم) على الكذب، فأثر ذلك في قوة الظن بصدقه، (بخلاف) المعتقد، فإنه قد اشتبه عليه، وهو يظن أنه على الحق، (وله تحرج) في أفعاله، فقوى الظن بصدقه.

فإن قيل: أليس لو فسق وهو (يعلم أنه) فاسق، لم يقبل خبره؟ فكيف يقبل وقد انضم إليه خطيئة أخرى، وهو اعتقاده أن ذلك حق وغير فسق؟ قيل: لأنه إذا اعتقد الفسق وأقدم عليه علمنا أنه غير متحرج، فأما إذا لم نعلم (لم يخرجه) ذلك عن تنزهه وتحرجه عن الكذب، فقوى الظن بصدقه. فصل فأما الكفر فعلى على ضربين: كفر يخرج (به الإنسان) عن الإسلام كاليهودية والنصرانية، فإنه يمنع من قبول الخبر (للإجماع على ذلك)، ولأن الخارج/ عن الإسلام يدعوه اعتقاده إلى التحريف والكذب على الرسول، فلا يقوى الظن بصدقه. وأما الكفر بتأويل فقال عبد الجبار: لا يقبل خبره، وهو (اختيار) شيخنا، وقد أومأ إليه أحمد في رواية الأثرم، وقال أبو الحسين البصري: يقبل خبره إذا لم يخرج من أهل القبلة، وكان متحرجاً، وهو ظاهر ما روى أبو داود عن أحمد، فإنه قال: يكتب حديث القدري إذا لم يكن داعية، وعنده القدرية كفار، ووجهه أن جل أصحاب الحديث قبلوا أخبار الخوارج والقدرية مثل

قتادة وعطاء بن يسار وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، ومكحول وغندر،

وعبد الوارث، وصالح المري وغيرهم. والمرجئة: مثل: إبراهيم التيمي، وحماد بن أبي سليمان

وأبي حنيفة، ومعاوية الضرير, والشيعة (مثل) الحارث الأعور، وعطية العوفي والأعمش وأبو إسحاق

السبيعي وسلمة بن كهيل، ومنصور بن المعتمر، والحسن بن صالح ووكيع، وهشيم، وسفيان

وشعبة، وعبد الرزاق، ومعمر وغيرهم. وأكثرهم روى عنه أحمد وغيره من أئمة أصحاب الحديث مع قول أصحاب الحديث أن القدرية والخوارج كفار، وكذلك الشيعة، ولأن المتحرج

الذي أخطأ بتأويل غير تارك للتحرج والتنزه عن الكذب، فقوى الظن بصدقه. قالوا: أجمعت الأمة على رد خبر الكافر. الجواب: أنهم أجمعوا على رد خبر من كفر لا بتأويل بل ابتغاء غير الإسلام ديناً، وأما المتمسك بالإسلام، فقد سمعوا حديثهم على ما بينا. فصل فأما الداعية، فلا يقبل خبره، لأنه إذا دعا إلى بدعة، لا يؤمن أن يضع لها حديثاً يوافقه، فأثر ذلك في صدقه. فصل ولا يقتنع في عدالة الراوي بمجرد الإسلام، حتى تختبر عدالته. وقال أبو حنيفة: يقتنع بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لما شهد الأعرابي برؤية الهلال، سأل عن إسلامه، فلما عرف أنه مسلم،

قبل خبره، وكذلك الصحابة كانت تقبل أخبار من عرفت إسلامه فقط. ولنا: أن الخبر لا يقبل من الفاسق بالاتفاق، وفي المسلمين فساق وعدول، فاحتجنا إلى معرفة العدالة بمعنى زائد على الإسلام. والجواب عما ذكروه: أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت الخيانات قليلة، والقلوب صافية (والخبث) والكذب قليل، فكان الظاهر من المسلمين العدالة، فلهذا اقتنع بمجرد الإسلام، فأما زماننا فقد كثرت فيه الخيانات من المسلمين، فليس الظاهر من المسلم كونه عدلاً. أما العدالة الباطنة، فهل تعتبر في الخبر؟ (يحتمل أن تعتبر) كما اعتبرت في الشهادة، ويحتمل أن لا تعتبر، وهو

اختيار شيخنا، لأن اعتبارها يشق، لأن أكثر الناس لا يحسنون أن يستخبروا عن العدالة (ولا يدرون) ما هي، ويسمع الحديث صبي، (وأعجمي) وعامي: بخلاف الشهادة، فإ، ها تختص (بمجلس الحاكم)، والحاكم عالم يفهم الاستخبار عن (العدالة)، فلا (يشق. ذلك عليه). فصل قال أحمد رحمه الله: الناس أكفار إلا الحائك والحجام، وهو ضعيف، والعمل عليه معنى قوله وهو ضيعف على طريقة أصحاب الحديث، لأنهم يضعفون بالإرسال والتدليس، والعنعنة، وقوله: والعمل عليه، على طريقة الفقهاء، لأنهم لا يضعفون بذلك.

فصل فأما التدليس فلا يمنع من قبول الخبر. والتدليس: أن يشتهر رجل باسم فيسمع منه، فيقول: حدثني فلان، ويذكر أسماء لذلك الرجل، لم يشتهر، ولم يظهر، أو يقول: روى الزهري، وهو في زمنه، فيوهم أنه سمع منه ولم يسمع منه، لأن المقصود: أن يروي عن العدل، فإذا عرفت عدالته فلا يضر اختلاف اسمه، ويكره ذلك، لأن فيه تزييناً، قال أحمد: أكره التدليس، لأن أقل ما فيه أنه يتزين للناس. وقد قال بعض أصحاب الحديث: لا يسمع خبر المدلس، لأنه يروي عمن لم يسمع منه، فهو كما لو قال: حدثني فلان، (ولم يحدثه).

الجواب: أنه لم يكذب في ذلك، لأن الزهري إذا كان قد روى ذلك وهو محفوظ من حديث، فما كذب حيث قال: روى الزهري: بخلاف قوله: حدثني، ولم يحدثه، (لأنه) كذب. فصل إذا روى العدل عن العدل خبراً، فقال (المروى) عنه: لا أذكره أو لا أعرفه، ففيه روايتان: إحداهما لا يرد، وبه قال أكثرهم، والثانية: يرد وبه قال أصحاب أبي حنيفة. وجه الأول: أن ثقة الراوي تقتضي قبول حديثه ما أمكن، ويمكن أن يكون ها هنا صادقاً، وإن لم يذكر (المروى) عنه لنسيان، (وقد يرى أحدنا يتحدث بشيء من أمر الدنيا، ثم ينساه ويذكر فلا يذكر، أو يذكر بعد حين)، وقد روى ربيعة بن

أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح: حديث الشاهد واليمين، ثم نسيه سهيل فحدثه به ربيعة، فكان بعد ذلك، يقول: حدثني ربيعة عني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى بالشاهد واليمين" ويسمعه التابعون، فلا ينكر عليه منكر. احتج المخالف: بأن قال أنكر الأصل ذلك، فوجب أن لا يقبل كما لو قال: أعلم أني ما رويته، (وكما لو أنكر شاهداً الأصل شهادة الفرع.

الجواب: أنه لا يرد، وإن قال: أعلم أني ما رويته) وأما الشهادة فهي آكد وأضيق طريقاً من الخبر، ولهذا لا تقبل التدليس والعنعنة، وشهادة الفرع مع حضور الأصل. فصل إذا كان الراوي محدوداً في قذف فلا يخلو: أن يكون قذف بلفظ الشهادة أو بغير لفظها، فإن كان بلفظ الشهادة لم يرد خبره، لأن (نقصان) عدد الشهادة ليس من فعله، فلم يرد به خبره، ولأن الناس اختلفوا: هل يلزمه الحد أم لا؟ وإن كان بغير لفظ الشهادة رد خبره، لأنه أتى بكبيرة، (إلا أن يتوب).

فصل لا يقبل (الجرح) المطلق حتى يبين سببه، في إحدى الروايتين، وهو قول أكثرهم، وعنه يقبل من غير تفسير. وجه الأولى: أن ما يجرح به قد اختلف الناس في أسبابه، فيجب أن يذكره لننظر، هل هو مما يجرح ويفسق أم لا؟ ووجه الأخرى: أن أسباب الجرح معلومة، فالواجب حمل أمر الجارح على أنه لم يقل إلا ما علمه من السبب الصحيح. قلنا: إلا أن قوما يردون بفسق الاعتقاد، وقوما يردون بالتدليس، وتسبيل الإزار وبالعنعنة، وقوما يردون بالكذبة الواحدة في العمر، وجميع ذلك لا يرد به عند عامة العلماء. فلا يؤمن أن يكون الجارح جرحه لأحد هذه الأشياء، وكان يعتقدها دون غيره، فيجب أن يبين.

فصل يسمع الجرح من واحد، وكذلك التعديل، لأن العدد ليس (بشرط قبول) الخبر، لأن الجرح خبر، وكذلك/ التعديل: بخلاف الشهادة، فإن العدد مشروط فيها من جهة النص، ولأنها آكد على ما مضى. فصل رواية العدل عن رجل هل هي تعديل له؟ فيه روايتان، إحداهما: هي تعديل، اختارها شيخنا، والأخرى: ليس بتعديل، وهو قول الشافعية

مسألة

ووجه الأولى: أن العدل ظاهر تحرجه، أن لا يحدث عمن يعلم كذبه أو فسقه أو يظنه، لأن ذلك يفضي إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حدث ظهر لنا أنه قد عرف عدالته. (ووجه الثانية: أنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته إلا) بمجرد إسلامه، فلا يكون ذلك تعديلاً. الجواب: أن الظاهر من تحرج أصحاب الحديث أكثر من ذلك، فوجب حمل أمرهم على ذلك. (والله أعلم). مسألة اختلف الراوية عن أحمد رحمه الله في المراسيل، وهو أن يسمع من زيد عن عمرو حديثاً، فإذا رواه قال عمرو، وأضرب عن ذكر زيد، أو يقول: حدثني الثقة وما أشبهه. فروى عنه ما يدل على

قبولها، وهي اختيار شيخنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من المتكلمين، وعنه: أنه لا يقبل إلا مراسيل الصحابة، وبه قال الشافعي وطائفة من أهل الظاهر والحديث. وجه الأولى: أن الراوي (مع ثقته) وعدالته، لا يستجيز أن يخبر: النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأن فلاناً قال: إلا وله الإخبار عنه، ولا يكون الإخبار بذلك إلا وهو عالم بثقته وعدالته، لأنه ليس (له

إلزام) الناس عبادة من غير أن يعلم أو يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمها، فبان أن عدالته مستقرة عنده، وأنه يجري مجرى أن يقول: حدثني فلان وهو عدل عندي، وقد ثبت أنه إذا قال: وهو ثقة أو عدل يلزم قبول خبره، وإن لم يذكر أسباب ثقته وعدالته، فكذلك. ها هنا. فإن قيل: ذكر أسباب العدالة يشق، لأنه يحتاج أن يخبر عنه باجتناب الكبائر ولزوم ما وجب عليه في طول (أزمانه)، وذلك يتعذر: بخلاف ذكر المخبر عنه، فإنه لا يتعذر. قلنا: غلبة (الظن) بعدالة من زكاة المزكى لم تثبت بهذه المشقة، وإنما تثبت بقول المزكي هو عدل ثقة وهو نفس (ما قلنا). فإن قيل: إنما يلزم المزكى ذكر أسباب عدالة من زكاه، لأنه يخبر عن ظنه، فأما المخبر فإنه يخبر عن غيره، فوجب ذكره. (قلنا): وقد يخبر المزكى بأن فلاناً عدل بخبر غيره عن عدالته، (فلا) يكون مخبراً عن ظنه.

جواب آخر: أن المزكى طريقه إلى من زكاه معرفته بأسباب عدالته، والمخبر عن (النبي صلى الله عليه وسلم) طريقه إلى ذلك معرفة عدالة من أخبره، فلا فرق بينهما. فإن قيل: (يجب) على ما ذكرتم أن تقبلوا شهادة شهود الفرع، من غير أن تذكروا شهود الأصل. (قلنا): كذا تقتضي الدلالة، لكن منع من ذلك الإجماع، ولأن شهود الفرع لا تجوز لهم الشهادة حتى يحملهم شهود الأصل الشهادة، فيقولوا اشهدوا على شهادتنا، ويسمى ذلك الاسترعاء، والخبر تجوز روايته من غير تحمل المخبر (للمخبر) عنه (الخبر)، فيقول: حدث عني أن فلاناً حدثني، وكذلك لا يجوز شهادة الفرع مع القدرة على شهود الأصل، ويجوز كذلك في الأخبار، (فدل) / على افتراقهما، وتقدم تأكيد الشهادة في

غير موضع، من أنها يعتبر فيها العدد والحرية عندكم، وعدم التدليس: بخلاف الخبر. فإن قيل: فيجوز أن يظن عدالته، ولكن غيره يعلم ما (يجرحه) فيجب ذكره لذلك. قلنا: (وهذا) موجود فيه، إذا ذكر اسمه وعدله، لأنه يجوز أن يكون مجروحاً عند آخرين)، ولأنه كان يجب أن لا تقبلوا الخبر، وإن غلب على ظنكم صحته، لما ذكرتم من أنه لا يغلب على ظنكم عن ظن غيركم. دليل آخر: أن مراسيل الصحابة مقبولة بالإجماع، بدليل ما روى عن البراء بن عازب أنه قال: "ليس كل ما حدثناكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، غير أنا لا نكذب"، وكان أبو هريرة يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبا فلا صوم له" فلما أخبر أن عائشة أنكرت ذلك، وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً، ذكر: أن الفضل بن العباس حدثه وكذلك لما روى ابن عباس "لا ربا

إلا في النسيئة"، وأخبره أبو سعيد بحديثه في الربا، قال: هذا ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثني به أسامة، وكذلك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ثم أسنده إلى الفضل بن عباس، ولم ينكر أحد من الصحابة على هؤلاء، وكذلك يجب أن نقول في مراسيل التابعين، إذ لا فرق بينهما.

فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فلا يثبت بها هذا الأصل. (قلنا): هي في المعنى كالتواتر، ثم يجوز قبول أخبار الآحاد فيما يتوصل به إلى العمل دون العلم. فإن قيل: الصحابة ثبتت عدالتهم، والله تعالى زكاهم بقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم": بخلاف من بعدهم. (قلنا): ليس من شرط الراوي القطع (على) عدالته، بل ثبوت عدالته في الظاهر، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد زكى التابعين،

فقال: "خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وقال عليه السلام: "أمتى كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره"، ثم التابعي إذا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدثه (الصحابة)، فيجب أن يقبل خبرهم. دليل آخر: أن عادة العدل أن لا يرسل إلا إذا ثبت الحديث عنده، ومتى شك ذكر من حدثه، لتكون العهدة على غيره، وهذه عادة مستمرة (لهم)، ولهذا روى عن النخعي: أنه قال إذا

رويت عن عبد الله فأسندت، فقد حدثني (واحد)، وإذا أرسلت، فقد حدثني جماعة عنه. وقال الحسن: وقد سئل عن حديث أرسله: حدثني به سبعون بدرياً، (ونحو ذلك) عن ابن المسيب والشعبي.

دليل آخر: لو لم يجز قبول المرسل، لما جاز أن يقول: أخبرنا فلان عن فلان، لجواز أن يكون لقيه ولم يسمع منه، وقد أجمعوا على القبول. فإن قيل: الظاهر: (أنه إذا قال: قال فلان أو أحدثكم عن فلان، أنه لقيه وسمع منه). (قلنا: والظاهر) فيمن أرسل أنه حدثه به العدل الثقة، وصح عنده، ولكن يجوز في الموضعين أن يكون خلاف ذلك فلا فرق بينهما. احتج المخالف: بأن (ترك الراوي) ذكر من حدثه يتضمن جهالة عينه وعدالته، ومعلوم أنه/ لو ذكر اسمه فعرفنا عينه، ولم نعلم عدالته لم يجز قبول خبره، فأولى أن لا يقبل إذا لم يعلم عينه وعدالته. الجواب: أنا لا نسلم أنه إذا لم (يذكره فإنا نجهل)

عدالته، لأنا قد بينا أنه لو لم يصح عنده عدالته لم يجز أن يروى عنه، فيلزم الناس حكما بقول فاسق أو مجهول، فيثبت بهذا الظاهر في حق العدل أنه علم ثقته وعدالته. جواب آخر: أن جهالة صفته لا تمنع عندنا على إحدى الروايتين، إذا عرف إسلامه، وعلى هذه الرواية تقبل شهادته، وإن لم يبحث عن عدالته، لأن الظاهر من (المسلم) العدالة وانتفاء ما يوجب الفس 5 ق، والأول هو المعتمد عليه. احتج: بأن كثيراً من الثقات قد أرسلوا عمن ليس بثقة، ولهذا قال ابن سيرين: "لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبى العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث"،

وإذا ثبت هذا لم تكن روايتهم تدل على العدالة، فاحتجنا إلى ذكر المخبر عنه ليعرف. الجواب: أن من أرسل عن غير ثقة، متى عرف أنه غير ثقة (وأرسل عنه) فذلك ليس (بعدل، لأنه غربه الناس، وألزمهم حكماً لا يلزمهم، بقول فاسق فجرى ذلك مجرى قوله فيمن) ليس بعدل عنده: أنه عدل، وهذا لا يقدح في ظاهر ما ذكرنا، لأنه كما أن الظاهر أن لا يعدل من ليس بعدل عنده، (كذلك) لا يرسل عمن ليس بعدل عنده، والنادر في ذلك لا يعتد به، ومتى كان عدلاً عنده، وبأن أنه ليس بعدل، فلا يقدح أيضاً كما لو قال: هو عندي عدل، وهو يعتقد ذلك (ثم بان أنه) ليس بعدل، وهذا، لأن الغالب أنه إذا عرف عدالته على طول الزمان (أنه) كذلك عند كل أحد، فإن عرف غيره ما يوجب فسقاً فذلك نادر، والحكم للغالب، (وما ذكرتم) عن ابن سيرين لا يقبل في (حق) الحسن وأبى العالية. احتج: بأن شاهدي الفرع إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا على شاهدي الأصل من غير ذكرهما، (كذلك) في الخبر، ووجه الجمع: أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما.

(والجواب): ما مضى من الفرق بين الشهادة والخبر، وقد قيل: إن القياس يمنع من الحكم بالشهادة على الشهادة لكن خص من القياس بدليل، والمخصوص من القياس لا يجوز عليه، فلم يجز قياس المراسيل عليه. وقيل: إن الحاكم بحكم بشهادة شهود الأصل، (ولهذا) وجب ذكرهم، وفيه ضعف، فإن المخالف يقول: والحكم بلزوم العبادة، إنما هو بخبر الأول أيضاً، فلا فرق. قيل: إن شهود الفرع وكلاء شهود الأصل، لأنهم لا يشهدون على شهادتهم بنفس السماع حتى يأذنوا لهم، (فيقولوا: اشهدوا على شهادتنا) كما لا يجوز للوكيل (التصرف) إلا بإذن الموكل: بخلاف الخبر. احتج: بأنه لو جاز العمل على المراسيل، لم يكن لذكر أسماء الرواة والفحص عن عدالتهم معنى. الجواب: أن فيه معنى، وهو أن المخبر قد يشتبه عليه حال من يخبره، فلا يقدم على تزكيته (ولا على الطعن فيه) فيذكره

ليفحص غيره عنه/ ولأنه إذا ذكرهم أمكن السامع الفحص بنفسه، فيكون ما يقع له (عن اجتهاده أقوى مما يقع له) عن اجتهاد غيره، وهذا يقتضي ترجيح المسند على المرسل. احتج: بأنه لو جاز العمل بالمراسيل، لوجب إذا أرسل في عصرنا رجل حديثا أن يلزمنا العمل به. الجواب: أنا ننظر في ذلك، فإن كان الحديث معروفاً فيما دون من الأحاديث فقد عرفت رواته، وإن لم يكن معروفاً لم يقبل، لأن الأحاديث قد ضبطت (وجمعت)، فما لا يعرفه أصحاب الحديث في وقتنا، فالظاهر أنه كذب، فأما إن كان أرسل في وقت لم تكن الأحاديث مجموعة ومضبوطة فيقبل خبر المرسل، على أن الشافعي قد قبل هذا، فقال في غير موضع من كتبه أخبرني الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في موضع آخر: أخبرني من لا أتهمه، فثبت أنه قبل المرسل، وقبل مراسيل ابن المسيب. فصل لا فرق بين (المراسيل) في سائر الأعصار.

(وقال ابن أبان): تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ولا تقبل مراسيل من بعدهم، إلا أن يكون إماماً متبعاً. لنا: ما تقدم وأنه لا فرق بين عدل زماننا وعدل زمان التابعين في المسند، وكذلك في المرسل. احتج: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على القرون الثلاثة، ثم قال "ثم يفشو الكذب". الجواب: أنه محمول على خيرهم في الاتباع والزهد في الدنيا، وقلة الرياء بدليل أن العدل في زماننا، في قبول (شهادته) وخبره المسند مثل زمان التابعين، فلا فرق بينهما في الإرسال أيضاً. فصل فإن أسند الراوي الحديث وأرسله غيره، فإنه يقبل على الروايتين معاً، لأن عدالة المسند تقتضي قبول ذلك منه، وليس في إرسال (الآخر له) ما يعارض إسناده، لأنه يجوز أن يكون

أحدهما سمعه مسنداً، (وسمعه) الآخر مرسلاً، أو سمعاه جميعاً مسنداً فنسي المرسل راويه له أو علم ثقة راوية فأرسله، لإحدى هذه (الأوجه) فلا يؤثر فيه. فصل وإن أسنده ثقة في وقت ثم أرسله في وقت آخر لم يمنع من قبوله أيضاً على الروايتين (للأوجه) التي ذكرنا، فإن أسنده مرة ثم أوقفه على نفسه أخرى، لم يمنع (من قبوله أيضاً) لأنه الراوي إذا صح عنده الخبر، أفتى به تارة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرى. فصل فإن أسنده وأوقفه غيره على صحابي، لم يمنع كونه مسنداً، لجواز أن يكون هو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه آخر (معه) فرواه تارة عن النبي صلى الله عليه وسلم، (وذكره) مرة (أخرى) عن

نفسه على وجه الفتوى بعض الناس مسنده، وسمع بعضهم فتواه، فرواه كل واحد منهم على ما سمع، ويجوز أن يكونا سمعاه بسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فنسي أحدهما، فظن: أنه ذكره عن نفسه فرواه موقوفاً عليه، (والله أعلم).

باب فيما يرد به الخبر

باب فيما يرد به الخبر فصل من ذلك أن يخالف مقتضى العقل، فلا يخلو ما أن يمنع العقل من مقتضى/ الخبر بشروط أو بغير شروط، فإن منع منه بشروط نحو إيلام الحيوان، لا لمنفعة، فإنه يقبل خبر الواحد في إباحته، ونعلم أن ذلك لحكمة ومنفعة علمها صاحب الشرع، (وأن) منع منه بغير شرط نحو منعه من كونه جسماً أو زماناً، فإنه متى ورد الخبر بذلك لم يخل، إما أن يمكننا تأويله من غير تعسف، نحو تأويلنا قوله عليه السلام: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" على معاني منها، أن العرب كانت إذا أصابها الخير مدحت الدهر، وإذا أصابها (الشر) ذمت الدهر، معتقدة أنه هو الفاعل لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا فاعل ذلك، فإن الله هو الفاعل، وأنتم تسمون الدهر: خؤونا، أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله وعنى به التأويل الصحيح، وإن لم يمكنا تأويله إلا بتعسف بعيد لم يجز أن نحكم (أن) النبي

صلى الله عليه وسلم قاله، لأنه لو جاز التأويل مع التعسف بطل التناقض من الكلام، إلا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حكاه عن قوم على وجه الرد والإنكار عليهم، وذكر فيه زيادة خفيت على الراوي يخرج بها الخبر عن الإحالة. وإنما لم يقبل من الأخبار ما يحيله العقل، لأنا قد علمنا بالعقل على الإطلاق: أن الله تعالى لا يخلق نفسه، وأن ذلك مستحيل، فلو قبلنا الخبر (بخلافه) لم يخل، إما أن نعتقد صدق الرسول عليه السلام في ذلك فيجتمع لنا صدق (النقيضين)، أو لا نصدقه، فنعدل عن مدلول المعجزة، فبان بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله بحال. فصل ومن ذلك أن يدفع مقتضى خبر الواحد الكتاب أو السنة المتواترة، ولا يكون ذلك إلا إذا نفى أحدهما ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته، نحو أن يرد في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني في المكان الفلاني على الوجه الفلاني، وينهي في الآخر عن هذه الصلاة على هذا الحد فلا يقبل الخبر، لأنا قد علمنا أن الله تعالى تكلم

بالآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بما ورد به التواتر، فلو أخذنا بخبر الواحد لكنا قد تركنا ما علمنا (أن المشرع) قاله إلى مالا نعلم أن صدق، فتترك اليقين بالشك. وهذا لا يجوز. فإن قيل: هلا قلتم: إن الله تعالى أراد بالآية مقتضاها بشرط أن لا يعارضها خبر واحد؟ (قلنا): لا يجوز، لأنه تعالى عالم بمعارضة الخبر، فلا يجوز أن يأمر مطلقاً وهو يريد أن يأمر بشرط. (فإن قيل: فما تقولون، لو ورد خبر التواتر في معارضة الآية على الوجه الذي ورد خبر الواحد)؟ (قلنا): لا يجوز أن يرد ذلك، فإن ورد وجب حمله على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على وجه الحكاية عن الغير، أو مع زيادة أو نقصان ينفيان المعارضة، أو يكون أحدهما ناسخاً للآخر. فإن قيل: فهلا جمعتم بين الآية والخبر، وجعلتم أحدهما ناسخاً؟

(قلنا): يجوز ذلك في العقل، فأما الشرع فقد منع من نسخ القرآن بخبر الواحد على ما تقدم بيانه. فصل ومن ذلك معارضة خبر الواحد للإجماع، ولا يقبل، لأن الإجماع دليل مقطوع (به) ولأن خبر الواحد إذا خالف الإجماع دل على بطلان سنده، أو نسخه، لأنه لو كان ثابتاً لم يخرج عن قول (جميع) الأمة. فصل (ومن) ذلك أن يرد بما يجب على الكافة علمه ومعرفته، نحو أن يرد بأن النبي صلى الله عليه وسلم: عهد إلى أبي بكر وعلي بالخلافة، فإنه يجب رده، ولا يقبل، (لأن) خبر الواحد لا يفيد العلم، ولأن هذه الأحوال مما تشتهر وتدعو الطباع إلى نقلها، فإذا تفرد بها الواحد اتهم.

فإن قيل: فيجب أن لا تقبلوا خبر الواحد فيما تعم به البلوى. (قلنا): ما تعم به البلوى عملاً يقبل، لأن (خبر الواحد) في العمل مقبول، فأما ما تعم به البلوى في العلم فلا يقبل. فصل ومنها أن يكون الخبر ينفرد بما جرت العادة أن يتوافر الجم الغفير (على نقله)، (نحو أن يخبر): بأن جامع المدينة قد وقعت فيه فتنة عظيمة، قتل فيها جماعة عظيمة، أو أن الخطيب يوم عرفة وقع من على الجمل، وهو يخطب، فاندقت عنقه، فلا يقبل ذلك، لأن العادة جرت بتوافر على نقل ذلك، فإذا لم ينقل دل ذلك على بطلانه. فصل فأما الأسباب التي لا توجب الرد، (فنحو) أن تلحق

الراوي غفلة في وقت أو يضطرب بعض حديثه، فذلك لا يوجب الرد، لأن أحداً لا يخلو أن يسهو، أو يغفل أو ينسى بعض الحديث، لا سيما إن كان كثيراً، فلا يرد حديثه المضبوط الذي رواه في حال (يقظته لذلك). ومنها: أن ينفرد برواية الحديث، فلا يرد كذلك، لجواز أن يكون لحقته حادثة فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأفتاه فنقل وحده. فصل فإن انفرد برواية خبر (يخالفه) فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن متناولاً (له) فإن لم يكن متناولاً (له) نحو أن يكون أمراً أو نهياً لغيره، ويفعل هو ضده، (فلا) يتعارض الخبر والفعل، لأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بذلك، وبقية الأمة نهوا عنه، وقد بينا: أنه لا يدخل في أمره لغيره، وإن كان الخبر متناولاً له فإنهما يتعارضان، فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر فعل

ذلك، وإن لم يمكن، وكان أحد الخبرين ورد متواتراً والآخر آحاداً قدم المتواتر، وإن كانا جميعاً وردا آحاداً رجح بينهم، فإن (عدم) الترجيح وقفنا، ولا يجوز أن يكون متواترين. فصل إذا روى اثنان خبراً واحداً، فذكر أحدهما فيه زيادة (لم يروها الآخر)، نظرنا، فإن رويا عن مجلسين كانا خبرين: (وعمل) بالزيادة، وكانت مخصصة أو ناسخة، وإن رويا ذلك عن مجلس واحد فهو خبر واحد فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً، والذي نقل الخبر جماعة، لا يجوز عليهم الوهم، سقطت الزيادة، لأنه لا يجوز أن تسمع جماعة كلاماً واحداً فيحفظ الواحد وتنسى الجماعة، بل تطرق النسيان إلى الواحد أولى. وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة، فالزيادة مقبولة والواحد قد وهم وإن كان راوي الزيادة واحداً، وراوى النقصان واحداً قدم أشهرهما بالحفظ والضبط والثقة وإن كانا سواء في جميع ذلك فذكر شيخنا عن أحمد/ روايتين، أحدهما:

أن الآخذ بالزيادة أولى، قاله في رواية أحمد بن القاسم الميموني، وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين، والأخرى الزيادة مطرحة أومأ إليه في رواية المروزي وأبي طالب، وبه قال جماعة

من أصحاب الحديث، وليس هذه الرواية في هذه الصورة، وإنما قالها أحمد في جماعة رووا حديثاً (انفرد) أحدهم (بزيادة) (فرجح) رواية الجماعة، فأما فيما ذكرنا من هذه الصورة، فلا أعلم عنه ما يدل على اطراح الزيادة. قال أبو الحسين البصري: إن كانت الزيادة مغيرة لإعراب الكلام ومعناه، مثل أن يروي أحدهما (في صدقة الفطر: أو صاعا من بر، ويروى الآخر: أو نصف صاع من بر، تعارضاً كخبرين منفردين وإن لم تكن مغيرة للإعراب مثل: أن يروي أحدهما): صاعاً من بر ويروي الآخر: صاعاً من بريين اثنين قدمت الزيادة. لنا: أن راوي الزيادة ثقة يجب قبول خبره، ولم يعارضه ما يطعن في روايته، فيجب قبول خبره، كما لو انفرد بخبر لم يروه غيره. فإن قيل: لا نسلم، بل قد عارضه ما يوجب الطعن، لأن الراويين إذا حضرا (مجلساً) جميعاً فذكر لهما حديثاً، فذكر أحدهما أن سمع فيه شيئاً وذكر الآخر أنه لم يسمع ذلك فقد تعارضا. (قلنا): لا معارضة في ذلك، لأن أحدهما ضبط والآخر

لم يضبط، فيجوز أن يكون (لم يسمع) أو تشاغل بعطسة أو سماع كلام من ناحية أخرى، أو فكر فيما سمع أولا، فذهل عن سماع الزيادة، وإذا احتمل ذلك لم تسقط رواية الثقة الضابط. فإن قيل: لم حملتم ترك الرواية للزيادة على أحد هذه الوجوه، دون أن تحملوا رواية من رواها على أنه تصور أنه سمع تلك الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن سمعها منه؟ قلنا: لأن الإنسان قد يسهو في العادة عما (يسمعه)، ويتشاغل عن سماع ما يجري بين يديه، ولم تجر العادة بأن الإنسان يسمع ما لم يسمع، أو يقول ما (لم يتوهم) أنه قد كان. فإن قيل: ما تقولون؟ لو قال الآخر: سمعت جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس، ولم أتشاغل عنه، ولم يقل هذه الزيادة. (قلنا): احتمل أن لا يكون معارضاً أيضاً، لأنه يشهد على نفي، واحتمل التعارض، لجواز أن يكون الراوي للزيادة سمعها من غير النبي صلى الله عليه وسلم فأوهم وظن أنه سمعها منه. فإن قيل: إذا روى المعروف بالضبط الخبر، ولم يذكر الزيادة، دل على أن الراوي لها قد وهم.

قلنا: فنحن لا نقبل الزيادة إلا من ضابط ثقة، وليس إذا لم يسمع الضابط الآخر الزيادة يدل على أن غيره (ما سمعها). فإن قيل: إذا حضر جماعة مجلس السماع فروى أحدهم الزيادة ولم يروها الباقون، دل على أنه وهم، لأنها لو كانت صحيحة لم ينفرد بسماعها وحده. قلنا: قد ذكرنا أنهم إن كانوا جماعة لا يتطرق عليهم السهو، قدم قولهم على قول من روى الزيادة، وخلافنا في غير ذلك، وقد سلم أصحابنا وقالوا: يحتمل أن تكون الجماعة تفرقوا، وثبت راوي الزيادة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمعها، أو نسي الجماعة، وذكر الواحد وفيه مخالفة للظاهر. دليل آخر: أن الخبر كالشهادة، ولو شهد عشرة على رجل: أنه أقر بألف وشهد اثنان: أنه أقر بألفين ثبتت الزيادة، كذلك (ها هنا في) الخبر. دليل آخر: أنه لو لم يقبل خبر الواحد، لأجل الانفراد لوجب أن (لا يقبل) خبر أبى وابن مسعود وغيرهما، فيما (تفردوا)

بروايته من القرآن، وقد أثبت بالاتفاق. احتج المخالف: بأن ضبط الراوي يعرف بموافقة المعروفين بالضبط له، فإذا لم يوافقوه، لم يعرف ضبطه. الجواب: أنه لو لم يعرف ضبط الإنسان إلا بموافقة ضابط آخر له، أدى إلى ما لا نهاية له، ولم يعرف ضبط أحد، لأن كل ضابط يحتاج إلى موافقة ضابطين له، فعلمنا أنه قد يعرف ضبط الإنسان بغير ذلك، مما هو موجود فيمن روى الزيادة، ولأن مخالفة من يضبط له، يجوز أن تكون لأمر دخل عليه من سهو ونسيان وتشاغل، فلا يؤثر في ضبط الراوي. احتج: بأن الضابط لو وافق هذا الراوي للزيادة، لقوى بموافقته، فيجب، إذا خالفه أن يضعف. الجواب: أن إمساكه عن رواية الزيادة غير مخالف لراوي الزيادة، كما أنه بإمساكه عن رواية خبر آخر رواه هذا، لا يكون مخالفاً له.

جواب: لو اكتسب القوة بموافقته والنقصان بمخالفته، لم يوجب ذلك النقصان رد خبره، ألا ترى لو أنه روى خيراً فشاركه خمسون في روايته قوى، فلو انفرد بروايته ولم يوافقه أحد على الرواية قد نقصت قوته، ولا يرد الخبر لذلك؟ واحتج: بأن الجماعة إذا كانوا في مجلس، فنقلوا عن صاحبه كلاماً، وانفرد واحد منهم بزيادة عن الباقين مع كثرتهم وشدة تحفظهم وعنايتهم بما سمعوه، لأطرح السامعون تلك الزيادة. الجواب: أنا قد بينا أن الجماعة إذا تركت الزيادة، كانت روايتها أولى من الواحد على وجه. ومن سلم قال: (يجوز) أن يكونوا (نسوا) أو سهوا، كما قلنا: لو شهد ألف بمائة دينار وشهد اثنان بمائة وخمسين قبلت الزيادة، إن كانوا في موضع سمعوا إقراره. احتج: بأن ما اتفقوا عليه يقين (وما زاد على ذلك) مشكوك (فيه) فلا يترك اليقين بالشك. الجواب: أنه تلزم الشهادة، ويلزم إذا روى خبراً وحده،

وروى جماعة ما يعارضه على أنه قد وافقهم في الذي رووا، وزاد بزيادة انفرد بها، ولم يخالفوه فيها، فصار كأنه روى خبراً وحده. احتج: بأنه لو قوم اثنان نصاب السرقة أو الشيء المتلف بقيمة، وقومها (آخران) بأكثر من ذلك، رجع إلى قول من قوم بأنقص. الجواب: (لا نسلم) ذلك، وإن سلمنا، فالتقويم متعارض، لأن المقوم بالنقصان، يقول: أنا أعرف السلعة وسعرها، ولا تساوى إلا كذا كذا، (ويقول الآخر مثل ذلك ويزيد)، فيتعارضان في النفي والإثبات: بخلاف الخبر، فإن راوى الزيادة لم يعارضه قول من روى النقصان فافترقا. احتج: بأنه قد جرت عادة الراوي بتفسير الحديث/ فربما ظنها من (سمع) منهم (أنها من قول) النبي صلى الله عليه وسلم، فيرويها وليست من قوله. الجواب: أنه إذا أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر (من قوله) صدقه، ولو طرقنا هذا في الزيادة طرقنا هذا في كل خبر أنه يحتمل أن يكون الراوي ظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فرواه وإنما هو من قول صحابي أو تابعي، وهذا يعود ببطلان الأخبار.

مسألة تجوز رواية الحديث على المعنى

مسألة تجوز رواية الحديث على المعنى، إذا كان راويه عارفاً، وأبدل اللفظ بما يقوم مقامه وسد مسده، نحو أن يقول مكان قوله "الجالس وسط الحلقة ملعون": القاعد، ومكان (صبوا على بول الأعرابي)، أريقوا (على بول الأعرابي) نص عليه في رواية الميموني والفضل بن زياد، وأبي الحارث ومهنا

وحرب: تجوز الرواية على المعنى، وما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى. فأما إن بدله بما هو أظهر منه معنى أو أخفى، فلا يجوز، لأنه قد يجوز أن يكون مقصود الرسول أن يعرف الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أخرى، وبه قال عامة العلماء. وحكى عن ابن سيرين وجماعة من السلف، وبعض الشافعية وأبي بكر الرازي: أنه لا يجوز العدول عن لفظ العدول عن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.

دليلنا: ما روى أبو محمد الخلال، بإسناده عن ابن مسعوتد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: إنك تحدثنا حديثاً لا نقدر (نسوقه) كما نسمعه، فقال: "إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث"، وعن واثلة بن الأسقع: لا بأس إذا قدمت أو أخرت إذا أصبت المعنى، وعن عائشة نحو ذلك. دليل آخر: أنه لا يخلو أن يكون نقل الحديث، لأجل

لفظه، أو لأجل لفظه ومعناه، أو لأجل معناه فقط، لا يجوز أن يكون لأجل لفظه، لأن الإجماع يدفع ذلك، ولا لأجل اللفظ والمعنى، لأنه لو كان (كذلك) لوجب تلاوة اللفظ، ولا دليل في عقل ولا شرع يقتضي كوننا متعبدين بتلاوة لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي: أنه يجب نقله لأجل المعنى، وهذا الغرض حاصل، إذا عدل الراوي إلى لفظ يقوم مقام لفظ الرسول عليه السلام. دليل آخر: الشهادة آكد من الخبر، ثم ثبت أنه لو أقر عند الشاهدين رجل بالفارسية، جاز لهما نقل إقراره إلى الحاكم بالعربية، وكذلك الإقرار بين يدي الحاكم. ولهم أن يقولوا: الشهادة حجتنا، فإنه لو أتى بغير لفظ الشهادة، فقال: أعلم أو أعرف أن لفلان على فلان كذا وكذا لم تقبل شهادته والفقهاء يسلمون هذا، ويقوى عندي أن الشاهد إذا قال: أعلم أو أعرف أو أتحقق أو أتيقن، أن لفلان على فلان كذا، أن الحاكم يقبل ذلك لأن ظنه يقوى بذلك، كما يقوى بقوله أشهد. دليل آخر: أن يجوز نقل (عن غير) النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى، فكذلك (قول النبي صلى الله عليه وسلم) ولا فرق بينهما في الرواية، لأن الكذب محظور فيهما، والتبديل بما ليس في المعنى غلط فيهما.

فإن قيل: إلا أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم متوعد عليه بالنار. (قلنا): الكذب قبيح وفاعله مأثوم، سواء كان عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره، قال صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق إذا حدث كذب"، وقال: "ويل لمن يكذب ليضحك الناس منه ويل له ثم ويل له"، على أن أكثر ما في كون أحدهما كبيرة، وهو الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والكذب على غيره صغيرة. واحتج بقوله عليه السلام: "رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". الجواب: من حفظ المعنى فقد أدى الحديث كما سمعه، ألا

ترى أن المترجم والشاهد، يقال: أدى ما سمع وكذلك من أبلغ إنساناً رسالة فحفظ معناها. جواب آخر ذكرته: أن المراد بذلك على طريق الاحتياط في حق من لا يفهم المعنى، مخافة أن يبدله بما ليس في معناه ولهذا قال عليه السلام: "رب حامل فقه ليس بفقيه"، معناه لا يفهم معناه (فيبدله) بغيره، وكذلك: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، معناه: يفهم منه ما لا يفهمه. قيل: المراد بهذا: الاستحباب، ولهذا رغب فيه بالدعاء، ولم يتوعد كما توعد في الكذب. احتج: بأنه لفظ صاحب الشرع، فلا يجوز (بغيره)، كلفظة في الأذان والتشهد. الجواب: أنه جمع بغير علة، ثم الفرق: أنا متعبدون بألفاظ التشهد والأذان ولهذا نؤمر بحفظها، وتلاوتها، ونثاب على ذلك، ولهذا (أمرنا) أن نقول: كما يقول المؤذن، (تعبدا، أو) لأن الإعلام يحصل بذلك، وقال ابن مسعود "كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقننا

التشهد، كما يلقننا السورة من القرآن" وليس كذلك الخبر، فإن الغرض ما يتعلق به (من) الأحكام، دون لفظه، ولهذا ليس في تكرار لفظه بغير حفظ ثواب يتعلق بعينه، ثم ليس قياسكم على التشهد بأولى من قياسنا على الشهادة. واحتج: بأنه قد يكون في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم (معان) تتضح لقوم وتخفى على آخرين، ولهذا روى البراء بن عازب "سمعني النبي صلى الله عليه وسلم أقول: آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت فقال: ونبيك الذي أرسلت". الجواب: أنا إنما نجيز الرواية بالمعنى لمن أحاط علماً بمعناه، ولم

يكن مما يختلف فيه (المقصد)، كالذي بينا في أول المسألة، فأما نقل كلام الرسول في قوله: زوجتكها، فروى ملكتكها، لا يجوز لأنه يتعلق (به) (أنه) يجوز النكاح بغير لفظ التزويج والإنكاح، وأما قوله مكان نبيك رسولك، فهو جائز في باب الإخبار عنه، وإنما رد عليه ها هنا، لأن المعنى يختلف، لأن الرسالة (طرأت) على النبوة، فكان نبياً ثم أرسل، فقيل: ونبيك الذي أرسلت، ولم يكن رسولاً (وأرسل)، (وكانت) رسالته طرأت على إرساله، كما روى أن شعيباً عليه السلام أرسل إلى أصحاب مدين، وإلى أصحاب الأيكة. (والله أعلم بالصواب).

مسألة

مسألة إذا رأى سماعه في كتاب، ولم يذكر سماعه ولا قراءته، لكن غلب على ظنه (سماعه) كما يراه من خطه، فإنه يجوز له روايته، نص عليه في مواضع، فقال في رواية [أحمد بن) الحسين بن حسان: في الرجل يكون له السماع مع الرجل، فلا بأس أن يأخذه بعد سنين (إذا عرف الخط) وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يرويه، إلا أن يذكر سماعه. لنا: ما روى من إجماع الصحابة: أنها كانت تعمل على كتب النبي صلى الله عليه وسلم، نحو عملها على كتاب عمرو بن حزم، وكتب الصدقات وغير ذلك.

دليل آخر: أن (مبنى) الأخبار على حسن الظن، ولهذا تقبل من العبيد والنساء (والغلمان) ولا تعتبر فيها العدالة الباطنة، ولا ترد بالتدليس والعنعنة، فدل على خفتها، وجاز أن يخبر بها إذا رأى سماعه، وغلب على ظنه أنه سمعه. واحتج المخالف: بأنه لما لم يجز أن يؤدي الشهادة معتمداً على خطه، كذلك الحديث، لأن كل واحد منهما يحتاج فيه إلى معرفة المخبر به. الجواب: أنا لا نسلم على إحدى الروايتين، ونقول: يجوز أن يشهد إذا عرف خطه، ولم يخرج عن يده، وعلى الرواية الأخرى: لا يجوز، لتأكد الشهادة على الخبر بما بينا في غير موضع. فإن قيل: (إذا) قال: حدثني فلان، وهو لا يذكر

ذلك، فهو كذب، كما لو قال: أشهدني فلان، وهو لا يذكر. (قلنا): ليس بكذب، لأنه يخبر عن غلبة ظنه، ومعه أمارة دالة، وهو خطه الذي يعرفه، فليس ذلك بدون الضرير في معرفة الصوت، وإن جاز أن يشتبه، وقد قالوا: تجوز روايته، وكذلك الصبي يسمع صغيراً ثم يروى وهو شيخ. فصل إذا ناوله، أو أجاز له، أو كتب إليه جاز أن يقول: أخبرني مناولة أو إجازة أو فيما كتب إلي، نص عليه في رواية المروزي وأبي داود وغيرهما، وبه قال أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية بذلك.

لنا: أنه لو قرئ على المحدث الكتاب، فأقر به جاز لمن قرأه أن يرويه، ولم يوجد من المحدث أكثلر من إقراره، (وكذلك): يجوز ها هنا إذا أقر بأن هذا حديثه، وأذن له في روايته. (قلنا): إلا أنه لم يحدث حقيقة ولا وجد من جهته فعل سوى إقراره، وها هنا وجد إقراره وإذنه، ولأن أمر الإخبار على حسن الظن والظاهر، وإذا كتب خطه الذي يعرف وناوله كتابه فالظاهر أنه (حديثه) فيجب أن يقبل. احتج المخالف: بأن الشهادة على الشهادة لا تجوز بالمكاتبة والمناولة والإجازة، كذلك الإخبار. الجواب: أن الشهادة آكد، ولذا لا يجوز أن يشهد شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل، وتعتبر فيها العدالة الباطنة، وتسقط بالتدليس والعنعنة بخلاف الخبر. فصل معرفة من يقع عليه اسم الصحابي، ظاهر كلام أحمد رحمه الله، أنه يقع على كل مؤمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه متبعاً له، ولو ساعة، لأنه قال في رواية عبدوس ابن مالك العطار: أفضل

أفضل الناس القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعة، أو رآه: فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه. وقال أكثر العلماء: لا يقع هذا الاسم إلا على من أطال المكث معه على وجه التتبع له، وشرط/ الجاحظ وغيره مع ذلك أن يأخذ عنه العلم أيضاً. وجه قول أحمد رحمه الله: أن الصحابي اسم مشتق من الصحبة، فعم القليل والكثير كالضارب والشاتم يقع على من وجد منه ذلك وإن قل: والصحبة تقع على القليل والكثير. يقال: صحبت فلاناً شهراً ويوماً وساعة، وصحبته إلى موضع كذا، فدل على أن من صحبه يوماً سمي صاحبه، وقيل صحابي، قال عليه السلام "إنكن صويحبات يوسف".

ووجه القول الآخر: أن هذا الاسم لا يطلق في العرف على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أقام عنده يوماً ألا ترى أن الرسل والوفود لا يشملهم اسم الصحابة؟ وكذلك من صحب عالماً في طريق، أو جالسه يوماً، لا يقال: صاحب فلان، وإنما يقال: ذلك لمن صحبه طويلاً وأخذ عنه العلم. الجواب: إنا قد بينا أن الاسم في اللغة مشتق من الصحبة، فأما الوفود إذا كانوا مؤمنين، فإنه يقع عليهم اسم الصحابة، فأما من صحب عالماً في طريق أو جالسه ساعة، لا يسمى صاحبه، لأنه غير فاعل لذلك على وجه التتبع والاقتداء به، فأما من كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين (فقد) كانوا أتباعه. فنظير الأول من مسألتنا الكفار الذين شاهدوا الرسول، لا يسمون صحابة، ولا أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة لأنهم لم يتبعوه.

وأما أخذ العلم فليس بشرط في تسمية الصاحب، ولهذا من خدم إنساناً قيل: صاحب (فلان)، ولو لم يأخذ منه علماً (قط). فصل إذا ثبت (هذا) فطريقنا إلى معرفة كون الصحابي صحابياً من وجهين. أحدهما: يوجب العلم، وهو خبر التواتر، بأن فلاناً صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه. والثاني: يوجب غلبة الظن، وهو إخبار الثقة بذلك، إما هو، أو غيره وحكى أبو سفيان عن بعض أصحاب أبي حنيفة: أنه لا طريق إلى ذلك إلا ما يوجب العلم، إما ضرورة، أو اكتساباً. وقال بعضهم: لا يقبل منه، ويقبل من غيره، وإن كان واحداً.

لنا: أن إثبات الصحبة له خبر يترتب عليه حكم شرعي بما يوجب العمل: وهو (هل) قوله حجة في مسألة فرع؟ أو إذا قال: أمرنا أو نهينا، يحمل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخبر الثقة في الحكم الشرعي مقبول، فكذلك فيما يترتب عليه، ولأن العقل لا يمنع قبول خبر غيره في كونه صحابياً لثقته عندنا وظننا صدقه، يجب أن نقبل خبره عن نفسه (لذلك) أيضاً. فإن قيل: قوله شهادة لنفسه، ولا تقبل شهادة الإنسان لنفسه، وتقبل شهادة غيره له. (والجواب): إنه ليس بشهادة، وإنما هو خبر عن نفسه بما لا يلزم (غيره به) مضرة، ولا تلحقه فيها شبهة: بخلاف الشهادة، فإنه يلزم غيره مضرة وتلحقه في ذلك تهمة. فإن قيل: في ذلك إلزام حق الغير، لأنه إذا ثبت أنه صحابي، (ألزم غيره) أن يأخذ بقوله. (قلنا): لا يلزم غيره ذلك، لأن قوله ليس بحجة، (ثم يجب) أن لا يقبل (خبره) لأنه (يلزم) غيره حكما

(ولو لم) يشاركه في ذلك الحكم وقد غلب: أنه يقبل. واحتج بأن قولنا: (فلان) صحابي إخبار عما يوجب العلم واليقين، فلم يقبل فيه الآحاد. الجواب: إنا لا نسلم، أنه يوجب القطع والعلم، وإنما يجب عليه غلبة الظن يخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم. فصل إذا ثبت هذا فمتى قال الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وأوجب علينا كذا، وأبيح لنا كذا، (وحظر) علينا كذا، ومن السنة كذا، أفاد أن الآمر والناهي الموجب الخاطر المبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله من السنة يفيد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبه قال الشافعي، وبعض الحنفية وأبو عبد الله البصري، وعبد الجبار، وقال الكرخي والرازي، والصيرفي:

لا يضاف ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرنا ونهينا ومن السنة. لنا: إن المفهوم من (قول) من التزم طاعة رئيس إذا كان تحت طاعته، إذا قال: أمرنا أو نهينا عن كذا، أن الذي أمره هو الذي لزمته طاعته، ألا ترى أن الرجل من أولياء السلطان إذا قال في دار السلطان: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا عقل منه، إن السلطان هو الذي أمره. دليل آخر: إن غرض الصحابي بقوله ذلك: هو أن يعلمنا الشرع ويفيدنا الحكم، أو يحتج على من خالفه، فيجب أن يحمل قوله على من يصدر الشرع (من عنده)، والدليل من جهته، وهو الرسول عليه السلام، دون الأئمة والولاة، فإن الشرع لا يصدر عنهم، ولا هم المتبعون فيه. فإن قيل: (يحتمل) قوله إن الله أمرنا، فلا يحمل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

(قلنا): أمر الله تعالى لا يختص بالصحابي دون السامع منه، لأنه كلامه تعالى لا يختص (به واحد دون واحد، فثبت أن قوله: أمرنا يريد به الإخبار لمن لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم). فإن قيل: يحتمل (أن يريد) بقوله: أمرنا أن الإمام والأمة معه أمروا. قلنا: لا يجوز ذلك، لأن قوله: أمرنا إشارة إلى جميع الصحابة، وهي لا تأمر نفسها. دليل آخر: (أن قوله): أوجب علينا، وأبيح لنا، وحظر علينا، لا تجوز إضافته حقيقة إلا إلى المشرع، فأما من سواه فليس إليه إباحة، ولا حظر، ولا إيجاب، لأنه لو كان إليه ذلك لم يكن بينه وبين المشرع فرق، وهذا لا يقوله أحد، وكذلك (قوله) أمرنا، ولأن ذلك لا يضاف إلا إلى من يعلم المصالح، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويوجبه إلى الرسول عليه السلام، ومن سواهما غير عالم بذلك. احتج المخالف: بأن الأمر والنهي والسنة، لا تختص بالرسول عليه السلام بدليل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: الولاة، وقيل: العلماء، وقال عليه

السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقال: "من سن سنة حسنة كان له سنة أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"، وإذا ثبت ذلك، (جاز) أن لا ينصرف الأمر والنهي والسنة إلى الرسول، ووجب الوقف. الجواب: إنا لا نمنع من ذلك مع التقييد بأن فلاناً أمر، وفلاناً سن، فأما إذا أطلق الأمر في الشرع، وأطلقت السنة، لم يعقل منها إلا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لو قال: هذا الفعل طاعة، لا يعقل إلا طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله، وإن كان يجوز أن يطيع غيرهما من الأئمة والخلفاء. وقيل: المراد بقوله: وأولي الأمر، فيما نقلوه من أمري، وما رووه عني من السنة على سبيل المجاز.

احتج: بقول علي رضي الله عنه: (جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة)، فسمي سنة غير النبي صلى الله عليه وسلم سنة مطلقة. الجواب: أن المراد بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الزيادة على الأربعين عندنا حد ثبت بسنته عليه السلام، ولأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى فعليه حد المفتري بهذا القياس، والقياس دليل في إثبات سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرواية الأخرى أن الزيادة على الأربعين فعلها تعزيراً، وللإمام أن يعزر إذا رأى ذلك، والتعزير سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم. احتج: بأن الصحابي قد يجتهد (فيؤديه) القياس إلى حكم فيقول: هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، لأنه قاسه على أمر أمر به، كما يقول: هذا حكم الله، لا أن الله (أمر به) وقاله، وإنما أداه إليه (اجتهاده) بالقياس على حكمه تعالى. الجواب: إن الظاهر من حالهم (غير ذلك)، لأنهم

لا يطلقون السنة إلا على سنة (من) يحتذى ويتبع، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق، "أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان" فلم يطلق أن قوله من الله ورسوله، وإن كان قد اجتهد فيها شهراً. فصل فإن قال التابعي: أمرنا بكذا، ومن السنة، ففي ذلك وجهان: أحدهما يكون حجة. والثاني: لا يكون حجة، وأصل ذلك المراسي، وفيها روايتان وقد مضى الكلام في ذلك. فصل إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كالمسند: خلافاً لبعضهم أنه لا يكون كالمسند. لنا: أن الظاهر من قول الصحابي: كنا نفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يفيدنا بهذا الكلام شرعاً، ويعلمنا حكماً، ولا يكون كذلك إلا وقد علمه الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، ولأن الظاهر

أن الصحابة لا يقدمون على أمر من أمور الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إلا عن أمره، فصار ذلك كالمسند إليه. احتج المخالف: بأنهم كانوا يفعلون ما لا يعلمه، ولهذا لما قالت الأنصار لعمر رضي الله عنهم في الإكسال: "أنه لا يوجب الغسل: كنا نفعل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك؟ فقيل: لا فقال: فمه". الجواب: أن التقاء الختانين كان لا يوجب الغسل في ابتداء الإسلام/ ثم نسخ ذلك فلم يعلمه قوم، وعلمه آخرون، فكان من لم يعلم النسخ مستمراً على ذلك الحكم الذي كان في صدر الإسلام حتى تبين لهم خبر عائشة رضي الله عنها، والاستدامة على حكم عرفة الإنسان ما لم يعلم نسخه جائز، فأما الإقدام على ابتداء فعل يتعلق بالدين من غير استئذان الرسول فلا يظن بالصحابة فعله.

فصل (فإن) قال الصحابي (أو التابعي): "كانوا يفعلون"، حمل ذلك على جماعتهم، كقول عائشة رضي الله عنها: "كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه" خلافاً لمن أنكر أن يكون ذلك إجماعاً. لنا: إن الراوي لا يقول ذلك إلا ويقصد به إقامة الحجة، فيجب أن يحمل (على) من قولهم حجة، وهو الإجماع. فإن قيل: (يحتمل أن يكون أراد البعض، وهم عنده حجة، قيل: إذا علم أن البعض فعل، والبعض امتنع، فقد تعارض الفعلان، فلا يكون حجة). فإن قيل: (أو تسوغون) مخالفة هذا الأمر؟ (قلنا إنما) سوغنا خلافه، لأنا ما علمناه يقينا لأنه خبر واحد وذلك لا يفيد العلم.

فصل إذا قال الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمل على أنه سمعه منه ذكره شيخنا وبه قال الشافعية. وقالت الأشعرية: أنه لا يحمل على ذلك بل يجوز أن يكون بينهما واسطة، وهو ظاهر قول من نصر: أن المرسل حجة، ووجهه: أن يجوز أن يكون قد أخبره بذلك العدد الكثير فثبت عنده، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يخبره الثقة، فيقول بغالب ظنه، ويحتمل أن يكون سمعه منه عليه السلام، فلم يجز القطع على أنه سمعه منه. احتج: بأنه لما قطع عن الرسول صلى الله عليه وسلم (بالقول) دل على أنه سمعه منه. الجواب: ويحتمل أنه ثبت عنده بالتواتر أو بغلبة الظن، كقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملناه على أنه ثبت عنده (بالتواتر).

فصل إذا قال الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا. ونهى (عن كذا)، وأوجب كذا، كفى في إقامة الحجة. وحكى الجزري عن داود: أنه لا حجة (فيه)، حتى ينقل لفظه عليه السلام، فينظر فيه، وهو قول بعض المتكلمين. لنا: أن تصديق الراوي واجب ما أمكن، فإذا قال: أمر ونهي وأوجب يجب (أن يحمل) على أنه قال: أمرتكم ونهيتكم وأوجبت

عليكم، وقد ورد ذلك في لفظه عليه السلام، فقال للوفد (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع)، (وصار) ذلك بمثابة قول الصحابي: زنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهى، فسجد، يجب تصديقه، ويصير كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زنا ماعز فرجمته، وسهوت فسجدت، لأن الصحابة رجعوا إلى هذا اللفظ، ولهذا روى ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين عاماً، لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فانتهينا". احتج المخالف: بأن الناس اختلفوا في الأمر (فمنهم) من حمله على الوجوب، ومنهم من حمله على الندب، ومنهم من حمله على الإباحة، فوجب نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، (فكذلك) إذا قال: أوجب/ فلعله سمعه بأمر فحمله على الوجوب، ويكون أمره ندباً. الجواب: أن هذا الاختلاف موجود في قوله: أمرت ونهيت، ثم هو حجة على أن الصحابة أهل فصاحة وفقه، فإذا قالوا: أمر، علمنا أنه أتى بلفظ الأمر، وكذلك في النهي، (وإذا قالوا:

أوجب)، فهم أعلم بمعاني كلامه، فإذا لم يقطعوا على فهم ذلك (أو أنه صرح) بالوجوب (أو أمر) بلفظ لا يحتمل غير الوجوب، لم يقدموا على روايتهم عنه أنه أوجب. فصل إذا روى الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً لزم السامع العمل به من غير أن يسأل الرسول عليه السلام. وقال بعضهم: إذا قدر على سؤال الرسول عليه السلام، لم يلزمه العمل حتى يسأله (عنه). لنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته وعماله وقضاته إلى البلاد لتبليغ الشرع وبيان الأحكام، ثم يقدمون أهل البلاد أو بعضهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يسألونه عن ذلك، ولو وجب عليهم السؤال، لسألوا، ولم يقتصروا على العمل بما عرفوه من جهة السعاة والقضاة.

احتج: بأن لهم طريقاً إلى معرفة الحكم قطعاً من جهة الرسول، فلم يجز (ترك) ذلك والاقتصار على العمل على الظن. الجواب: إن ذلك غير ممتنع في أحكام الشرع، بدليل أن القائم على دجلة يجوز أن يتوضأ بما معه من الماء، وإن كان (طهارته) غير مقطوع بها، وطهارة دجلة مقطوع بها، وإنما كان كذلك، لأن الصحابة رضي الله عنهم مقطوع بعدالتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباعهم، فقال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، ليبين بذلك فضلهم، فلو كلف السؤال عما يخبرون (به)، أوقع الشك (في إخبارهم) عنه. فصل إذا قال الصحابي: هذا الخبر منسوخ، وكان (يتضمن حكماً)، قبل قوله في ذلك، وقال بعضهم: لا يقبل.

لنا: أن الصحابي مع عدالته وتحريه، لا يقول ذلك إلا وقد تيقنه وسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم (أو ثبت) عنده (عنه)، فيجب أن يقبل قوله فيه، كما لو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يستحب هذا. (فإن قيل): يجوز أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً فيظنه ناسخاً وليس بناسخ، فيجب أن ينقل اللفظ. والجواب: أنه لا يحمل أمره على أنه أقدم على ذلك إلا عن قطع ويقين، وهو أعلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ومقاصده منا، فيجب الرجوع إلى قوله. فصل تفسير الصحابي الراوي للخبر، إذا كان مجملاً أولى من غيره، وذلك مثل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء))، ثم فسر ذلك في حديث مالك

ابن أوس بن الحدثان. حين صارف طلحة بن عبيد الله، قال له لا تفارقه حتى يعطيك ورقك أو ترد عليه ذهبه، (ففسر هاء وهاء) بالتقايض في المجلس. وكذلك فسر ابن عمر: (المتبايعان بالخيار، ما لم يتفرقا)، بالافتراق عن المكان، وكان إذا باع مشى قليلاً، وكذلك فسر

قوله: (فاقدروا له) على ضيقوا (له)، فكان إذا كان في السماء علة ليلة الثلاثين صام وأمر أهله بالصيام. والوجه في ذلك: أنهم حضروا التنزيل، وعرفوا التأويل، وهم أعرف بمراد الرسول، لكونهم معه، وبحضرته، فيجب الرجوع إلى تفسيرهم. فإن قيل: فلم لم تقبلوا قول أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب: (إنه يغسل ثلاثاً)، وهو روى سبعاً، فتحملوا السبع على الاستحباب.

(قلنا): ذلك ليس ببيان، وإنما هو مخالفة للخبر، ولأن من (يقول) السبع ندب، (يقول: الثلاثة ندب)، فلا يكون ذلك بياناً. فأما تفسير التابعين للخبر ففيه روايتان، إحداهما: يقبل، لأنه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والثانية: لا يقبل، لأنه غير شاهد للحال، فصار وغيره من الفقهاء سواء. فصل إذا روى الصحابي شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، (وخالفه) لم يدل ذلك على ضعف الخبر، ولا على نسخه، (وهذا) كخبر عائشة رضي الله عنها في ولاية المرأة لعقد النكاح، وبه قال الشافعية وقال الحنفية: يسقط العمل بالحديث وعن أحمد نحوه.

لنا: أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة يجب العمل بها، فإذا ترك الراوي العمل، احتمل أن يكون (قد نسي الخبر) أو تأوله، (أو أن ذلك) قد نسخ، فوقف فعل الراوي حتى يتبين، وبقي قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجب المصير إليه. احتجوا: بأن الصحابي مع فضله لا يجوز مخالفته للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا (عمل) بخلاف الخبر دل على أنه علم نسخه. الجواب: أنه يحتمل ذلك، ويحتمل ما ذكرنا فوقف، فلا يترك ما هو حجة لغير حجة، ثم لو كان عرف ما نسخه لذكره ورواه ولو مرة في العمر، لأنه لا يظن به كتمان العلم، فلما لم يذكر دل على أنه نسيه. فصل إذا قال الصحابي ما يخالف القياس، دل على أنه توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الوجهين، (وهذا) كقول عمر رضي الله عنه فيمن فقأ عين نفسه على عاقلته دية العين، وفي عين الفرس سبع قيمته، وقول ابن عباس: فيمن نذر ذبح ولده يذبح شاة،

وقول عائشة: أبلغني زيداً: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحنفية. والوجه الآخر: لا يكون توقيفاً وهو الأقوى عندي، وبه قال أصحاب الشافعي. وجه الأول: أنه يجب (علينا) أن نحسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم، لأن الله تعالى أثنى عليهم بقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وغير ذلك، فإذا قال قولاً: لا مجال للاجتهاد فيه، فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق، وإذا لم يكن فيه مجال للاجتهاد (ثبت) أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: لو وجب حمله على التوقيف، لوجب إذا خالفه صحابي آخر، فقال ما يوافق القياس، أن لا نعتد بخلافه. (قلنا): كذا (نقول). (فإن قيل: فيجب إذا عارضه خبر متصل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتعارضا ولا يقدم المتصل عليه). (قلنا: إنما قدم المتصل (عليه)، لأنه ثبت بالنقل، فغلب فيه الظن، وقول الصحابي يكون توفيقاً من طريق الاجتهاد (والاستدلال)، فكان المتصل أولى، وعندي (أن المتصل إذا كان من واحد لا يقدم) لأنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ظناً)، وكذا هذا مثله، وعلى هذا نقول: لا يقدم المتصل على المرسل. (والله أعلم).

ووجه الآخر: قالوا: قول الصحابي ليس بقول النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة. فلا يجوز إضافته إليه بالظن والتخمين، لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. الجواب: أنا نضيفه إليه بغلبة الظن، كما نضيف إليه خبر الواحد ظناً لا يقينا، والآية وردت فيما طريقه (العلم) لا ما طريقه (الظن). (فإن قيل): لو كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك توفيقاً، لنقلوه مع قوله عليه السلام: "رحم الله من سمع مقالتي فأداها"، مع قوله: "من كتم علما يعلمه ألجم بلجام من النار". الجواب: أنه يحتمل أنهم رووه ولم يبلغنا، ويحتمل أن يكونوا كرهوا الرواية، فإن جماعة منهم كانوا يكرهون ذلك. (فإن قيل): يجوز إن الصحابي برأيه، ولا يكون عنده في ذلك خبر، بدليل أن عمر رضي الله عنه كان يفاضل في دية الأصابع، حتى أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في كل إصبع مما هناك عشر من الإبل" فرجع عن قوله، ولم يكن عنده في ذلك توقيف.

الجواب: أن عمر قال ذلك بالقياس الصحيح، وهو: أن منافع الأصابع تختلف فجعل ديتها على قدر منافعها، فلما روى له الخبر، ترك القياس وخلافنا فيما لا قياس فيه. احتج: بأ، عمر وعثمان رضي الله عنهما جعلا دية المجوسي ثمانمائة درهم، وهذا لا يقتضيه القياس، ولم يجعلوه توقيفاً، وهذا يلزم أصحاب أبي حنيفة ونحن نقول به، لأن أصحاب أبي حنيفة ناقضوه فقالوا: خبر الواحد، وإذا خالف الأصول لم يعمل به، كخبر القرعة والمصراة والتفليس، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فأولى أن يكون قول الصحابي إذا خالف الأصول لا يحتج به. فأما الجواب عن دليلهم: فيحتمل أن يكون ذهب إلى قياس فاسد، لأ، هـ ليس بمعصوم من الخطأ، ويحتمل أن يكون استحسن ذلك لعادة استدل بها، كما قدر أبو حنيفة ربع الرأس بالمسح، والنجاسة بقدر الدرهم، وليس في ذلك قياس، ولا توقيف، وهذا لا يلزمنا، لأن الأول ظاهر الروايتين والثاني لا نقول به (والله أعلم).

فصل في ترجيح أحد الخبرين على الآخر إذا تعارض الخبران، فلا يخلو أن يمكن الجمع بينهما أو لا يمكن، فإن أمكن الجمع بينهما، فلا يخلو: أن يكون ذلك في وقت واحد أو في وقتين. فأما الجمع بينهما في وقت واحد، فبأن (يحمل) أحدهما (لمكان) الآخر على المجاز، إما بالتخصيص أو بغيره. وإما في وقتين، فبأن يعلم تقدم أحدهما على الآخر، فيكون المتقدم منسوخاً (بالمتأخر). (وما لا يمكن) الجمع بينهما فذلك على ضربين: أحدهما: لا يمكن لقرينة، أو لأنفسهما. فما لا يمكن للقرينة، مثل خبر ابن عباس: "لا ربا إلا في النسيئة"، وخبر أبي سعيد: "لا تبيعوا البر بالبر"، إلى قوله: "إلا يدا بيد سواء بسواء".

(هذان) يمكن الجمع بينهما، فيحمل خبر ابن عباس على الجنسين، وخبر أبي سعيد على الجنس الواحد، ولكن الأمة اتفقوا على أن هذين الخبرين متعارضان، لكن الأكثر أخذ بخبر أبي سعيد وترك حديث ابن عباس، والأقل أخذ بخبر ابن عباس على عمومه. ومالا يمكن ذلك فيه لأنفسهما، مثل: أن يكون حكم أحدهما ضد حكم الآخر، أو يكون حكم أحدهما نفيا لحكم الآخر على وجه لا يمكن فيه التأويل السائغ، مثل: أن يتعلق كل واحد منهما بما تعلق/ به الآخر، على الحد الذي تعلق به الآخر، في الوقت الذي تعلق به ولا يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً، بل يكونان خاصين أو عامين، أو يكون كل واحد منهما خاصاً من وجه وعاماً من وجه، ولا يكون أحدهما بأن يكون مخصصاً للآخر أولى من العكس، ولا يعلم تقدم أحدهما على الآخر.

وإذا وجد التعارض على هذا الوجه فيجب الترجيح والعمل على ما ترجح به، لأنه (يقوى) بالترجيح، وتقديم الأقوى يجب. فإن قيل: التنافي في الأخبار لا يوجد، لأن ما من لفظ إلا ويمكن تأويله على موافقة غيره والجمع بينهما. (قلنا): قد يكون فيها ما لا يمكن إلا بتأويل متعسف، لا يحسن أن يريده الحكيم، وذلك مثل: ما قاله أصحاب أبي حنيفة في قوله عليه السلام: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه": إنا نحمل ذلك عليه، إذا بلغت مائعة وتسعين خاصة يكون فيها ثلاث حقاق وبنت لبون: لأن ذلك يجب عندهم في مائعة وستة وثمانين: يكون بنت لبون في ستة وثلاثين، وثلاث حقاق في مائعة وخمسين. هذا تأويل لا يجوز أن يكون الحكيم أراده، لا سيما (إذا كان) نبياً يريد بيان الشرع؛

لأنه يقول: "إذا زادت على مائة وعشرين" ويريد بالزيادة سبعين، لا غير، ويقول: "في كل أربعين بنت لبون"، ويريد بذلك ستة وثلاثين، فمثل ذلك لا يجوز حمل الخبر عليه بحال، فإذا ثبت (ما ذكرنا) فلا بد من الترجيح. فصل الترجيح على ضربين: ترجيح يرجع إلى الإسناد، وترجيح يرجع إلى المتن. فأما الترجيح (في الإسناد): فيكون بكثرة الرواة، وبأحوال الرواة. والترجيح في المتن: (بما) يرجع إلى لفظ الخبر، وبألا يرجع إلى لفظه، وسنذكر ذلك مفصلاً ومبيناً إن شاء الله. فصل يرجح بكثرة الرواة، نص عليه في رواية الميموني، ونذكر له حديث بلال بن الحارث في فسخ الحج إلى العمرة: لنا

خاصة؟ فقال: لا أعرفه، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (يروون ما يروون)، (وأين) يقع بلال بن الحارث منهم؟ وبهذا قال الشافعي، (وبعض) الحنفية، وقال بعضهم: لا يرجح بكثرة الرواة. لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى خبر ذي اليدين، حتى

استخبر أبا بكر وعمر فأخبراه بمثل ذلك، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه لما روى له المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة السدس، قال: "من يشهد لك؟ " فشهد له محمد بن مسلمة، فقبل قولهما، وكذلك عمر رضي الله عنه مع أبي موسى في الاستئذان. دليل آخر: أن الأخبار تقوى بالعدد، إذا كثر يحصل بها العلم، فكلما قارب الكثرة، كان الظن بصدقهم أقوى، لأن الغلط والسهو مع الكثرة أقل، وكذلك الكذب، لأن الإنسان يستحي أن يطلع غيره على كذبه، ولا يستحي إذا لم يشعر به أحد، وقد (بينه) الله تعالى بقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فبين أن ضبط الاثنين أكثر، وكذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: "الشيطان مع الواحد ومن الاثنين أبعد" ولأن خبر الأعلم

الأتقن أولى؛ لأنه (أوفر) ضبطاً، فكذلك الجماعة ضبطهم أكثر، ولأن الحكم إذا شابه أصولاً، كان أولى (مما) شابه أصلاً واحداً، كذلك الخبر، لأن كل واحد منهما طريق في قوة الظن. احتج المخالف: بأنه خبر يتعلق به حكم فلم يرجح بكثرة المخبرين، دليله الشهادة والفتوى. إنما ذكرناه هو الأصل نعلمه ضرورة: أن ظننا يقوى بخبر الجماعة أكثر مما يقوى بخبر الواحد، فأما الشهادة، فإنها (مقدرة) في الشرع بعدد، فإذا وجد وجب تعليق الحكم عليه، وإذا كانت مخصوصة بالشرع لم تكن فادحة في الأصل الذي ذكرناه، يؤيد ذلك أن الشهادة لا يرجح فيها بضبط الشاهد وعلمه وورعه وكثرة ملابسته (للشهادات) بل بمجرد وجود العدالة يثبت قوله: بخلاف الخبر (فإنه يرجح بهذه الأشياء، وأما الفتوى فليس طريقها الخبر، وإنما تقف على علم المفتي وصحة اجتهاده، وقد يكون الواحد أعلم من الجماعة وأقوى اجتهاداً، وقد يكون الجماعة يتبع بعضهم بعضاً في الفتوى، فلا يكون في كثرتهم زيادة في صحة اجتهادهم: بخلاف الخبر)، فإن طريقه قوة الظن

بصدق المخبر والجماعة أقوى من الواحد في ذلك، على أنه (لو رجح) بكثرة الشهود وكثرة المفتين لجاز، وقد رجح مالك (بكثرة الشهادة). فصل فأما الترجيح بأحوال الرواة، فإنه بأشياء منها: زيادة الورع (والتحري)، لأنه أبعد من الكذب والتساهل، فالظن بروايته أقوى. والثاني: العلم والضبط كما ذكرنا. والثالث: أن يكون أحد الراويين باشر القصة بنفسه كرواية أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهما

حلالان" مع رواية ابن عباس أن تزوج ميمونة، وهو محرم، قدمت رواية أبي رافع؛ لأنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان (السفير) في تزوجها، (فباشر القصة بنفسه). والرابع: أن يكون أحدهما صاحب القصة كخبر ميمونة: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان، أولى من خبر ابن عباس،

لأن العقد عليها، فهي أعرف بوقته، لاهتمامها ومراعاتها له. الخامس: أن يكون أقرب موضعاً من النبي صلى الله عليه وسلم من الآخر، كخبر ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم) أفرد الحج، قدم على حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم) قرن، لأن ابن عمر قال: كنت تحت ناقته، يسيل علي لعابها، ومن كان أقرب يكون أضبط لما سمعه.

السادس: أن يكون ممن قدمت هجرته، وكثرت صحبته، فتكون روايته أولى؛ لأنه أعرف بأحواله وأقرب إليه، ولهذا قال عليه السلام: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهي". فصل فأما الترجيح بما لا يرجع إلى لفظ الخير بأشياء منها: أن يكون أحد (الخبرين) ناقلاً عن حكم الأصل، والآخر مطابقاً له، وذلك على ضربين: إحداهما: أن يكون مطابقاً للأصل الذي يقتضيه العقل. والثاني: مطابقة الأصل من حال المروى عنه. فأما الأول مثل خبر يرد في نفي عبادة، ويرد الآخر في التعبد بها، فرواية الإثبات أولى، لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا

مالا نعلمه إلا من جهته/، لا ما نعلمه بعقولنا قبل مجيئه، ولأن الظاهر مما يطابق، أنه هو المتقدم في الرواية، لأنه جاء على مقتضى العقل، والآخر متأخر عنه، فكان (كالناسخ) له والعمل بالناسخ أولى. فإن قيل: (هلا) عملتم بالموافق للعقل، لأنه عضده دليل العقل، فصار كما لو عضده دليل (شرعي) من قرآن أو سنة. قلنا: العقل ليس بدليل، وإنما يتمسك به ما لم يرد شرع (بخلافه)، فإذا ورد شرع يخالفه، صار كأن العقل ما اقتضى نفى تلك العبادة، ولأن شرط اقتضائه قد زال، بخلاف ما يعضده من أدلة الشرع. فإن قيل: فإذا لم يرجح بالعقل، فإن الخبرين إذا كان أحدهما نفياً، والآخر إثباتاً، كانا حكمين شرعيين، فهما سواء.

(قلنا): إلا أنا قد بينا أنه لا بد أن يكون أحدهما مطابقاً لحكم (العقل) لأنه ما من فعل إلا وله حكم في العقل، إما حسن، أو قبح، فالذي نقل عن حكم العقل، في الظاهر هو المتأخر، فصار كالناسخ، فيجب تقديمه. وأما الثاني: فنحو ما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ولم يصل فيه، وأنه: لم يقبل وهو صائم، والخبر المعارض: أنه صلى في البيت أولى، لأنه أحاط من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بما لم يحط به الآخر، وكذلك رواية عائشة رضي الله عنها: أنه (عليه السلام): قبل وهو صائم، أولى، (لأنه) زيادة

عرفتها، ورواية أم سلمة: إنه لم يقبل، أخبار عن حالها، (لأنه) لم يقبلها، وقبل عائشة رضي الله عنها. فصل ومنها أن يكون أحد الخبرين مثبتاً للحد، والآخر نافياً (له)، قال شيخنا: لا يرجح المسقط، ويكونان سواء، وبه قال عبد الجبار، ويحتمل أن يكون المسقط للحد مقدماً، وعن أصحاب الشافعي كالوجهين. ووجه الإسقاط قوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"

وقوله: "ادرءوا الحدود ما استطعتم"، وقوله: "لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، ولأن تعارض البينتين في الحد إذا كان شبهة يسقط، فكذلك تعارض الخبرين. ووجه الآخر: أن الحد يثبت بالقياس وخبر الواحد، وفيهما شبهة، لأنهما مظنونان، فكذلك يجب أن يقبل الخبر فيه مع التعارض، ولقائل أن يقول: إن الأخذ بخبر الواحد إذا انفرد، وبالقياس، مقطوع (به)، فلا يكون ذلك شبهة: بخلاف التعارض، فإنه غير مقطوع (عليه، فكان شبهة). فصل ومنها: أن يكون أحد الخبرين يتضمن الحرية والآخر يتضمن الرق، فقال عبد الجبار: هما سيان، لأنهما حكمان. وقال غيره: المتضمن الحرية أولى، لأن الحرية

(لا يعترضها) من الأسباب المبطلة لها (ما يعترض) الرق، ولا يبطل الحرية بعد ثبوتها، كما يبطل الرق بعد ثبوته، فكانت الحرية آكد، وما يتضمنها أولى بالتقديم. فصل ومنها: أن يقتضي أحد الخبرين الحظر والآخر بالإباحة، فقال شيخنا: يقدم الحظر، لأن أحمد قال: إذا اختلف الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم ناسخه من منسوخه، نصير في ذلك إلى قول علي، تأخذ بالذي هو أهنأ وأهدى وأبقى. وبهذا قال الكرخي، والرازي، وقال عيسى بن أبان، وأبو هاشم: هما سواء، وعن الشافعية كالقولين. وجه الأول: أن العمل على الحظر أحوط، لأنه إن/ كان (الفعل) محظوراً فقد تجنبه المكلف، وإن كان مباحاً لم يضره

تركه: بخلاف ما إذا كان محظوراً ففعله، فإنه يكون قد أقدم على المحرم. فإن قيل: فإذا كان مباحاً منه فقد اعتقد قبح الجنس، فيكون ذلك جهلاً. (قلنا): إلا أنه بالامتناع يكون قد أتى محظوراً واحداً، وبالإقدام على فعل المحظور يكون قد أتى (محظورين): فعل المحظور، واعتقاد القبح حسناً، فكان تجنبه أولى، وإذا ثبت أن تجنب الفعل أولى من الإقدام عليه فاعتقاده حظراً عند التعارض ليس بجهل، ولا (قبح). وقد احتج شيخنا: بأنه إذا اجتمع ما يبيح وما يحظر وجب تقديم الحظر، كما نقول في المتولد بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، والجارية بين شريكين. وهذا ليس بصحيح، لأنه ملكه لبعض الأمة، واختلاط الماء (المباح بالمحظور) ليس بجهة مبيحة، وإنما المبيح ملك جميعها، وانفراد المباح بالتولد منه، ولم يحصل ذلك، فلهذا لم يجتمع في الحيوان وفي الأمة جهة إباحة (بحال): بخلاف الخبرين، فإن الخبر (مبيح) لجميع الوارد فيه، فهو بنفسه جهة إباحة.

احتج المخالف: بأن الخبرين إذا كانا متنافيين، فلابد أن يكون أحدهما متأخراً عن الآخر، فيكون العمل عليه، فإذا لم نعلمه وجب التوقف، لأن ليس أحدهما بأن يتقدم أولى من الآخر، (فصار) ذلك بمنزلة الوليين إذا زوجا ولم يعلم السابق منهما، وقف النكاحان، والغرقى، (إذا لم يعلم السابق منهما) وقف الأمر كأنهم أحياء، ولم يورث بعضهم من بعض. الجواب: أن ما ذكرتم موضع الخلاف، لأنهما إذ استويا فيما ذكرتم، كان الحاظر بالتقديم أولى، لما ذكرنا، وأما الوليان إذا زوجا ولم يعلم السابق منهما، فإنا لا نبطل النكاحين، بل يقرع بينهما فيترجح من وقعت عليه بالقرعة، وكذا الغرقى، يورث بعضهم من بعض، ولا يوقف، لأن الظاهر: (أنهم) لم (يموتوا) معاً، ومن سلم ذلك، قال: يجوز أن يتفق عقد الوليين وموت الغريقين حالة واحدة، ولا يجوز أن يتفق خبر الحظر والإباحة في حالة واحدة، بل لابد من تقديم أحدهما على الآخر، فيجب تقديم الأحوط وهو الحظر. واحتج: بأن البينتين إذا تعارضتا لم يرجح إحداهما، فكذلك الخبران. الجواب: إنما لم يرجحا، (لأنه) لا مزية لإحداهما على

الأخرى؛ لأن كل واحد يجوز أن تشهد. بالملك لمكان اليد والتصرف، ويجوز أن يكون المتداعيان متصرفين في الملك فتشهد بينته بما رأت، فأما الحظر والإباحة فلا يجوز ورودهما معاً، فلم يكن بد من تقديم إحداهما على (الأخرى)، فقدمنا الأقوى وهو الحظر (والله أعلم). فصل ومنها: أن يوافق أحد الخبرين القرآن، أو سنة أخرى ترد بلفظه ومعناه، فإنه يرجح بذلك. مثل: حديث التغليس بالصبح، قدم على حديث الأسفار بها، لأنه يوافق ظاهر قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ

رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} وفي التغليس مسارعة إلى فعل العبادة ولأنه يوافق سنة أخرى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال عند الله الصلاة في أول وقتها"، وقوله: "أول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله". فصل ومنها: أن يوافق/ أحد الخبرين القياس، مثل قوله عليه

السلام: "ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقه". مع الحديث الآخر: "في كل فرس دينار" يقدم الأول، لأن القياس يعضده، لأن الخيل لا تجب فيها زكاة السوم، ولا (زكاة) التجارة، ولا تجب في ذكورها، إذا انفردت فهي خارجة عن القياس، ألا ترى أن سائر الحيوان الزكائي تجب (في) ذكوره، إذا انفردت؟ وكذلك تجب في زكاة السوم فيؤخذ (في) بعضه، وتجب [في] زكاة التجارة ربع عشر قيمتها، وأما إيجاب الدينار عن الفرس مع اختلاف قيمتها، فغير موافق للقياس.

فصل أن يعمل بأحد الحديثين الخلفاء الأربعة (كحديث التكبيرات في العيدين)، قدمنا خبر من روى سبعاً؛ لأنه عمل به أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم على الخبر الآخر أربع كأربع الجنائز لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضواً عليها بالنواجذ". فصل فأما إذا كان أحد الحديثين قد أجمع على العمل به أهل المدينة. فقال شيخنا: لا يرجح به، وقال أصحاب الشافعي: يرجح، وهو أقوى عندي، لأن الظاهر بقاءهم على ما كان أسلافهم عليه، وهم الصحابة، فرجح بذلك. وجه الأول: أنه بلد فلم يرجح بأهله كسائر البلدان.

الجواب: أنه إن كان من البلدان (ما نزله) الصحابة، وأقاموا فيه، أخذنا بما أجمعوا عليه إلى قبل (أن وقع الخلف) وظهرت البدع، وهو ما كان في زمن الخلفاء الراشدين، مثل الكوفة والبصرة، وهذا قول الجرجاني من الحنفية، وإن كان بلد لم (تنزله) الصحابة، فلا سلف لهم (يقتدي بالأخذ عنهم): بخلاف المدينة. فصل ومنها: أن يقترن بأحد الحديثين تفسير الراوي وتعليله، كخبر جابر في العمري: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فهي للذي أعطيها، ولا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"، فقدم على الحديث الآخر: "من أعمر عمرى فهي

له ولعقبه يرثها من يرثه"، لأن جابراً قال: "إنما العمري التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى أصحابها"، وهذا بيان من الراوي قطع على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعرف بما أراد، لأنه شاهده وتفقه في قوله. ومنها: أن يكون أحد الخبرين قد استعمل نظيره في التخصيص لنظير (الخبر) الآخر، مثل حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة"،

يخص به قوله: "فيما سقت السماء العشر"، كما (خص) بقوله: "ليس فيما دون خمس أوراق من الورق صدقة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"، فيشهد القرين لقرينه، لأنه نظيره، وفيه نظر. (والله أعلم).

باب الكلام في الإجماع

باب الكلام في الإجماع الإجماع هو الاتفاق (من جماعة) على أمر من الأمور، إما فعل أو ترك. مسألة إجماع أهل العصر حجة مقطوع بها، ولا تجمع الأمة على الخطأ وهو قول عامة العلماء. وقال النظام: ليس بحجة ويجوز أن يجمعوا على خطأ.

وقالت الإمامية: ليس الإجماع حجة، ولكن فيه قول الإمام المعصوم وهو حجة. ولنا: قوله تعالى/ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، والوسط الخيار العدل، بدليل قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} معناه أعدلهم، وقال الشاعر: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ولا يجوز أن يخبر تعالى بالعدالة والشهادة مع علمه أنه يجوز أن يقدموا جميعهم على المعصية، أو يخطئوا، أو يشهدوا بغير حق. فإن قيل: المراد بهذه الآية أنهم يشهدون يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم، وهم عدول في تلك الحال.

قلنا: لو أراد ذلك لقال: سنجعلهم أمة وسطاً، فلما قال: جعلناكم بطل قولكم، ولأن هذه لم تشاهد الأمم ولا رسلهم، ولا معنى لمشاهدتهم عليهم من غير مشاهدة، ولأن معنى العدالة في القيامة موجود في سائر الأمم، لأنهم غير قادرين على المعصية، فلا معنى لتخصيص هذه الأمة بذلك. فإن قيل: ليس في قوله: لتكونوا شهداء ما يقتضي العموم، فيحتمل أنهم شهدوا على من بعدهم بتبليغ أخبار الرسول عليه السلام. قلنا: لا يصح هذا، لأنه إن أراد إخبار جميعهم، فليس يقف ذلك على العدالة، لأن العدد الذي يحصل بهم العلم لا يفتقر في ذلك إلى أن يجعلهم عدولاً، وإن أراد إخبار آحادهم فليس كل واحد من الأمة عدلاً فيصفه بذلك.

فإن قيل: يحتمل أنه أراد به أن أكثرهم عدول. قلنا: ظاهر اللفظ جعل الكل، فيجب حمله عليه، وعلى أنه إذا ثبت أن أكثرهم عدول، ثبت أن إجماعهم حجة. فإن قيل: إنما يكون الخطاب لمن نزلت الآية وهو موجود فالآية (حجة) حتى يعلم (أن) جميع من كان موجوداً حين نزلت هذه الآية، قال بذلك. قلنا: هذا لا سبيل لنا إليه فلا يجوز أن تقف الشهادة على ما لا سبيل لنا إليه، وقد أمرنا الله تعالى بأن نكون شهداء على الناس، ولأن الأمر بالشهادة يقتضي أن يكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا في حال نزول الآية. دليل ثان: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} ولو جاز عليهم أن يجمعوا على منكر، لم يكونوا ناهين عن المنكر. فإن قيل: هذا إخبار عن حال كانوا (عليها) وذلك لا يوجب (كونهم عليها) الآن.

قلنا: يحتمل أن يكون كان زائد مثل قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} ويحتمل أن يكون بمعنى وجدتم، ونصب خبر أمة على الحال. جواب آخر: لو كانت كان الخبرية بمعنى ما تقدم من الزمان لم يضر، لأن قوله: {تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} يقتضي كونهم كذلك في كل حال لأنهم لو أمروا ببعض المعروف ونهوا عن بعض المنكر في حال دون حال لما كانوا خير أمة أخرجت للناس، لأن الأمم السالفة أمروا بكثير من المعروف ونهو عن كثير من المنكر في حال دون حال ولهذا أمروا بالتوحيد والعدل، واتباع الأنبياء ونهوا عن الإلحاء وتكذيب/ الأنبياء، فثبت أن الآية تريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كله في جميع الحالات. دليل ثالث: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} فتوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فثبت أن من فعل ذلك فقد ترك واجباً فاستحق الوعيد. فإن قيل: هذا (الاحتجاج) من دليل الخطاب لأن

الوعيد علق على اتباع غير سبيل المؤمنين [فلم يوجب اتباع سبيلهم] إلا من دليله، وليس بحجة (في هذه المسألة). قلنا: بل هو احتجاج بالنطق، لأنه ليس بين سبيلهم وغير سبيلهم واسطة، فإذا توعد على اتباع غير سبيلهم هذا، وجب اتباع سبيلهم. فإن قيل: السبيل: الطريق، فلا يدخل فيه القول والفتوى. (قلنا): السبيل ما اقتفاه الإنسان وتمسك به سواء كان قولاً أو غيره يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}. وقوله: {أَهْدَى سَبِيلاً} وقوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً}.

ويقال (سبيل) المعروف، وسبيل الوقف، وسبيل المذهب، ويقال: أسلك سبيل التجار، ففيهم من ذلك اقتفاء آثارهم في المعاملة وأخلاقهم في المطالبة وذلك كثير ويدل عليه، أن من مشى في غير الطريق (الذي مشى فيه المؤمنون) لم يتوعد. فإن قيل: إنما علق الوعيد على مشاقة الرسول وترك سبيل المؤمنين. ونحن نقول: يلحق الوعيد بذلك. (قلنا): لو لم (يحرم) كل واحد منهما على الانفراد، ما علق الوعيد عليهما جال الاجتماع، ألا تىر أنه لو كان الوعيد على مشاقة الرسول خاص لم يجز أن يضاف إليها فعل شيء من المباحات، لأنه لا يحسن أن يقول: من زنا وشرب ماء عذبته، فلما توعد عليهما دل على أن الوعيد يلحق بهما بقوله تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} دل على تحريم كل واحد منهما على الانفراد والاجتماع. فإن قيل: إنما وقع التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بشرط مشاق الرسول فلا يلحق التوعد مع عدم الشرط.

(قلنا): هذا يقتضي أن (من) شاق الرسول واتبع سبيل المؤمنين فقد أحسن وأتى بما وجب عليه، فيكون من شاق الرسول وكذبه في الرسالة واتبع سبيل المؤمنين في مأموراته غير عاص، وهذا غلط، لأن من كذب الرسول وعانده لا يؤمر باتباع سبيل المؤمنين، لأن اتباع سبيل المؤمنين هو بالشرع، فمن كذب صاحب الشرع لا طريق له إلى اتباع ما أوجب الشرع، (على) أن هذا يفضي إلى تكرار من غير فائدة، لأن مشاقة الرسول بانفرادها توجب الوعيد، فيجب أن لا يجعل ذلك شرطاً في اتباع غير سبيل المؤمنين، بل يعلق ذلك بمعنى آخر. فإن قيل: إنما (يلحق) الوعيد من اتبع غير سبيل المؤمنين بعدما تبين له الهدى. والهدى بالألف واللام يقتضي جنس الهدى جميعه، فيدخل ما أجمعوا عليه في/ جملة الهدى، ويجب أن يكون بيانه قد حصل (له) بغيره قبل الإجماع بدليل آخر، كما لو قال: إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه، (يقتضي) تبين لك صدقه بشيء سوى قوله. (قلنا): الهدى الذي تبينه شرط في ثبوت مشاقة

الرسول، وإلحاق هذا الوعيد به، هو معرفة التوحيد ودلائل النبوة (دون) تبين الهدى الذي هو في الفروع، ألا ترى (أن) من عرف التوحيد وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحاد عن ذلك ورد عليه كان مشاقاً له، وإن لم يعرف أحكام الفروع الثابتة بالإجماع ولا شاق فيها، فدل على أن الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين، (ليس هو متعلق بما ذكروه، وإنما بما ذكرنا. وجواب آخر: أن تبين الهدى شرط في لحوق الوعيد بمشاقة الرسول فقط لا في اتباع غير سبيل المؤمنين) لأن الإنسان يكون مشاقاً إذا عرف الحق فعانده ورده. جواب ثالث: أن (من) حمل الآية على هذا التأويل يبطل مزية المؤمنين وتمييزهم، ومعلوم أن الآية دالة على تفضيلهم وتمييزهم (وبيانه): أن غير المؤمنين لو عرفنا أن قولاً من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول مثل قولهم، كما يلزمنا على قول المخالف في قول المؤمنين، فتبطل المزية، (فوجب) (أن ما ذكره) المخالف يبطل تخصيص اتباع سبيل المؤمنين، (لأن التوعد عنده يلحق) بترك ما تبين من الهدى، وسواء كان قول المؤمنين أو قول غيرهم (والله سبحانه ذكر اتباع سبيل المؤمنين تعظيماً لهم وتمييزاً عن غيرهم).

وجواب رابع: أن اتباع سبيل المؤمنين: هو اتباعهم بالرجوع إلى قولهم والأخذ بإجماعهم، لا مشاركتهم في قولهم بدليل آخر، ألا ترى أنا نشارك اليهود في إثبات الصانع تعالى وفي نبوة موسى عليه السلام، ولا نكون متبعين سبيلهم. جواب خامس: أن الآية تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين فإن جعل إجماعهم هدى على كل حال، فقد أوجب اتباعه على حل حال وهذا رجوع إلى قولنا، وإن (لم يجعل) هدى على كل حال (لم يوجب اتباعه على كل حال) فالآية تدل على وجوب اتباعه على كل حال. فإن قيل: اتباع سبيل المؤمنين أن ينظر في الأدلة كما نظروا واجتهدوا، فيعمل على اجتهاده، ولا يقلد غيره. (قلنا) بل اتباع سبيلهم أن لا يخالفهم في الحكم (الذي) اتفقوا عليه، فمتى خالفهم فقد اتبع غير سبيلهم، يدل عليه أنه لا يجب على المكلف النظر فيما نظروا فيه من الأدلة، ولا أن يستدل بنفس ما استدلوا به، (بل يجوز أن يستدل بدليل آخر إذا ظفر به على أنه إن لزمه أن يستدل بنفس ما استدل به الأولون) على الحد الذي استدلوا به، فإن ذلك يؤديه إلى الحكم

الذي أجمعوا عليه فيجب أن يأخذ به في الابتداء بنفس إجماعهم، (لأنه يحصل) بذلك متبعاً لسبيلهم في الحكم والاستدلال المؤدي إليه. فإن قيل: فالمؤمنون لا يعرفون بأعيانهم، فلا طريق إلى اتباع سبيلهم. (قلنا): أهل العصر إذا اتفقوا فقد دخل فيهم المؤمنون، إذ لا يجوز خلوهم من ذلك، وعلى أن المؤمنين: (كل) من أظهر الإيمان في الشرع، (وأتى) بأعماله وتسمى به، فينصرف اللفظ إليه، ولا اعتبار بالباطن، لأن الله لا يكلفنا اتباع سبيل المؤمنين إلا ولنا طريق إليه، وذلك لا يمكن إلا في الظاهر (دون الباطن). فإن قيل: المؤمنون يقتضي جميع المؤمنين، وأهل العصر ليسوا جميع المؤمنين. (قلنا): لا يجوز جميعهم في كل عصر، لأن ذلك لا يتفق في الدنيا، فلا يمكن اتباعهم فيه، وإنما يتفق إجماع كل المؤمنين في الآخرة وليس في الآخرة تكليف، فيحتاج إلى اتباع، ولأن اسم المؤمنين ينصرف في التحقيق (إلى الموجودين، لأن غير الموجود) لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ومن مات يسمى مؤمناً مجازاً.

فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين، لأنه سيدهم فيجب أن لا يؤخذ بإجماع الصحابة حتى يوجد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم موافقاً. (قلنا): النبي صلى الله عليه وسلم سيد المؤمنين، لكنه غير مراد بالآية، لأن قوله بانفراده حجة (متوعد على مخالفتها) فلا يحتاج إلى اجتماع قول غيره معه، ولأنه قد تقدم ذكر الرسول عليه السلام ومخالفته ثم ذكر سبيل المؤمنين، ليبين أنه بانفراده حجة كما بين أن قول الرسول حجة بانفراده، وتوعد من اتبع غيره فلا معنى لإدخال الرسول فيه. فإن قيل: إنما توعد على ترك اتباعهم فيما صاروا به مؤمنين وذلك هو التوحيد والتصديق. (قلنا): هذا تخصيص بغير دليل، فلا يقبل. جواب آخر: أن الإيمان والتصديق له أدلة تخصه، فلا يحتاج إلى اتباع سبيل المؤمنين، (فلا معنى) لإيجاب اتباعهم. فإن قيل: (يجب) إذا اتفق أهل عصر على فعل شيء مباح أن يلزم من بعدهم فعله، لأن سبيلهم فعله. (قلنا): إنما يجب عليه اعتقاده إباحته، فأما فعله، فلو أوجبناه مع أنهم لم يوجبوه، لكان ذلك خلاف اتباعهم سبيلهم.

دليل آخر: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} فنهى عن التفرق، فإذا (أجمعوا) على شيء لم يجز لمن بعدهم أن يترك (ذلك) القول، لأنه يحصل بذلك التفرق. فإن قيل: إنما أراد لا تفرقوا في الاعتصام بحبل الله تعالى، كما لو قال لعبيده: ادخلوا جميعاً ولا تفرقوا، كان المفهوم أن لا تتفرقوا في دخول (الدار) فيجب أن تثبتوا أن ما أجمع عليه أهل العصر الاعتصام بحبل الله، حتى يعلم أنه لا يجوز مفارقتهم. (قلنا): ظاهر قوله: ولا تفرقوا النهي عن التفرق في كل شيء وعلى كل حال. استدل بعضهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فشرط (في الرجوع) إلى الله والرسول التنازع، فإذا أجمعوا عدم الشرط، فلم يجب الرد، لأن تعليق الحكم بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه. (ولقائل: أن يقول): لا يجب الرد إذا أجمعوا (على كتاب وسنة، وعن غير كتاب ولا سنة.

(فإن) قلتم: لا يجب الرد إذا أجمعوا على كتاب وسنة فعبث (لأن طلب) الحكم من الكتاب والسنة بعد ما وجد منهما عند (الطلب) مستحيل، (وإباحة ترك المستحيل عبث من المبيح). وإن قلتم: لا يجب الرد إذا أجمعوا (على) غير كتاب ولا سنة/ جوزتم وقوع الإجماع عن غير دليل، وذلك لا يجوز، فيكون مراد الآية الرجوع إلى تدبير الإمراء فيما لا يعلم أنه خطأ، فإن ظننا أنه خطأ، ونازعناهم فيه، ورددناه إلى الله والرسول (وحدهما). دليل سادس: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وروي "لا تجتمع على خطأ" وروي

عنه عليه السلام أنه قال: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح"، وروى عنه عليه السلام أنه قال: "لم يكن الله يجمع هذه الأمة على قبح". وعنه أنه قال: "من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"، وروي: (من فارق الجماعات مات ميتة جاهلية)، وروي "عليكم بالسواد الأعظم" وروي عنه

أنه قال: "ثلاث لا يغل عليهن، قلب مؤمن إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين" روى عنه أنه نهى عن الشذوذ وقال: "من شذ شذ في النار" وروى: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"، وقال: "عليكم بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية من الغنم". وهذه الأخبار تدل على أن الجماعة لا تضل عن الحق ولا تجتمع على باطل. فإن قيل: هذه أخبار آحاد لا توجب العلم. (قلنا): هذه الأخبار مختلفة الألفاظ متفقة في المعنى

فهي تواتر من طريق المعنى، كما وردت معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم آحاداً وصارت في المعنى تواتراً، وعلة ذلك، أنه لا يجوز أن تكون هذه الأخبار مع كثرتها موضوعة كما لا يسوغ (أن تكون) كل الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم آحاداً موضوعة، إن كانت آحاداً. وجواب آخر: أن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول، ولم يطعن أحد فيها، فكانت تواتراً كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنتر. وزهد عمر. (وجواب ثالث): أنه يجوز قبول خبر الواحد في المصير إلى الإجماع، لأنه حكم شرعي طريقه طريق مسائل الفروع. (قيل): أن العقل يدل على (وجوب) قبول خبر الواحد من حيث التحرز عن المضار، لأنه لو أخبرنا من نثق به: أن الطريق الفلاني، فيه سبع أو دجال لزمنا ترك المضي فيه، إذا غلب على ظننا صدقه، (فكذا) قوله: أمتى لا تجتمع على خطأ، إذا ظننا أنه كذلك لزمنا العمل بما أجمعوا عليه.

(فإن قيل): لا حجة في الخبر، لأن قول: لا تجتمع أمتى على ضلالة، (أراد به الكفر، ونحن نقول: لا تجتمع على الكفر). (قلنا): قد روى: ولا تجتمع على خطأ، فنفى أنواع الخطأ كله، ثم الخطأ يسمى ضلالة، لأنه عدول عن الحق، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} وقوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي: من المخطئين، لا من الكافرين. فإن قيل: (أمته) كل من صدق به إلى انقطاع التكليف، فلا يجوز أن يحمل على علماء عصر واحد. (قلنا): لا يجوز حمله على ذلك، لأن جميع الأمم (لا تجتمع) من أولها إلى آخرها على خطأ، والنبي صلى الله عليه وسلم (قصد تمييز) أمته من سائر الأمم (فإنها) لا تجتمع على خطأ في

كل عصر، ولأنه لو أراد بذلك إلى انقطاع التكليف لم يكن فيه معنى، لأنه ليس بعد التكليف زمان يحتاج فيه إلى الاحتجاج/ بالإجماع، فيقع قوله عبثاً لا حجة فيه. فإن قيل: فلم إذاً كانوا لا يجتمعون على خطأ لا تجوز مخالفتهم؟ (قلنا): لأن الأمة أجمعت على أنه لا يجوز مخالفة ما هم عليه. فإن قيل: ومتى أجمعت على ذلك وفيهم من يقول: يجوز أن يجمعوا على الخطأ. (قلنا): جميع الصحابة والتابعين أجمعوا على أن الأمة لا تجتمع على خطأ، واعتقدوا: أنه لا يجوز مخالفتهم. فإن قيل: من أين لكم ذلك؟ (قلنا): من حيث أنه لو جوز بعضهم مخالفة (الإجماع)، لاشتهر ونقل، وفيه ضعف.

وقد استدل بعضهم: (بأن هذه) الأمة هي آخر الأمم، ولا نبي بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فلو جاز أن يجتمعوا على خطأ، لاحتاجوا إلى نبي يدعوهم إلى الحق، كما احتاجت غيرها من الأمم إلى ذلك، فجعل الله تعالى إجماعهم معصوماً من الخطأ والزلل، حتى لا يخرج الحق عنهم. فإن قيل: معهم القرآن والسنن. (قلنا): إذا جاز أن تعدل الجماعة عندكم عن القرآن والسنن، فليجتمعوا على خطأ لم يكن بد من أن يدعوهم إلى الحق. ولقائل أ، يقول: إن شرعنا منقطع بانقطاع التكليف كما أن شرع من قبلنا منقطع بالنسخ فدوام كل واحد من الشرعين، كدوام الآخر في المعنى، فكما لا يجوز أن يكون إجماع غير أمتنا حجة، (كذلك إجماع أمتنا). دليل آخر: أن الجماعات الكثيرة على اختلاف همهم لا يجوز أن يتفقوا على قول إلا لداع، ولا يجوز أن يكون ذلك هو التقليد، لأن كثيراً منهم يبطل التقليد، ولو دعتهم شبهة لنقلت ونقل خوضهم فيها فلما لم ينقل علمنا أنهم أجمعوا (بحجة) قاطعة

وجرى مجرى اتفاقهم على رواية ما شاهدوه في أنهم لا يجوز عليهم الخطأ فيه ولقائل أن يقول: أن العقل لا يمنع من اتفاق الجماعات الكثيرة على الخطأ من جهة الرأي، كما اتفقت بقية الأمم على الخطأ، وهم جماعات كثيرة وهممهم مختلفة، وعلى أ، هـ لا يمنع أن يكون بعضهم ذهب إلى قول (بشبهة) وتابعه الباقون تقليداً، لاستثقالهم النظر وهواهم الموافقة ذلك الشخص أو لتصويبهم التقليد، ويفارق الخبر، فإن العدد الكثير في الخبر حجة وليس هو في الإجماع حجة. احتج (المخالف): بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بسنة رسول الله" ولم يذكر (الإجماع) ولو كان حجة لذكره. الجواب: أن الإجماع ليس بحجة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، (لأن المرجع إليه دون غيره، وإنما الإجماع انعقد بعده. واحتج بما روى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفار يضرب بعضكم رقاب بعض"، وعنه أن

قال: "لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" ومن يجوز عليهم (الرجوع) إلى الكفر واتباع سنن أهل الكتاب لا يكون إجماعهم حجة ولا صواب. الجواب: أنه أراد به بعض الأمة. بدليل خبرنا: (أمتى لا تجتمع على خطأ وعلى ضلالة)، وهو أخص فيجب بناء العام عليه، ويحتمل أنه خاطب به قوماً بأعيانهم. احتج: بأن الخطأ جائز على كل واحد من الأمة، فإذا (اجتمعوا) / جاز عليهم ما جاز على آحادهم، لأنه يستحيل أن يجوز على كل واحد منهم الخطأ (ولا يجوز) على جماعتهم، كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيباً وجماعتهم غير مصيبين وأن يكون كل واحد منهم أسود وجماعتهم غير سود.

والجواب (أن المستحيل) أن يكون كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ في الحكم الذي أجمعوا عليه، ونحن لا نقول: ذلك، وإنما نقول: يجوز على الواحد الخطأ إذا انفرد، وأما إذا كان واحداً من (الإجماع، فلا يجوز عليه الخطأ في الحكم الذي أجمعوا عليه) وغير ممتنع أن يجوز عليه الخطأ بانفراده، ولا يجوز إذا كان مع الجماعة، ألا ترى أنه يجوز لكل واحد بانفراده أن يختص بمأكول مخصوص في يوم، ولا يجوز أن يجتمع جميعهم على ذلك المأكول في ذلك اليوم، ويفارق مسألة (الاستشهاد) فإن هناك قلنا: كل واحد من الجماعة (أسود) أو كل واحد من الجماعة مصيب، فكان الجميع كذلك، وفي مسألتنا لا نقول: كل واحد من المجتمعين يجوز أن يكون مخطئاً، فبان الفرق بينهما. (جواب آخر): أنه غير ممتنع أن تكون عصمة الأمة ثبتت بالشرع حال (الاجتماع)، (وأن حال) الافتراق كما قلنا: كل واحد منهم لا يقع العلم بخبره، فإذا أجمعوا (أوقع الله) العلم بخبرهم، وكذلك كل جرعة خمر لا تسكر، فإذا اجتمعت الجرع أحدث الله السكر عند ذلك، وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، ولا يشبع اليسير، كذا هاهنا.

احتج: بأن اتفاقهم لا يخلو أن يكون عن نص أو عن رأي، فإن كان عن نص لا يجمعون على كتمانه، وإن كان عن رأي فيجوز الخطأ على الرأي، (ولأنهم) مع (كثرة) عددهم لا يجوز أن يتفقوا على رأي واحد وإذا بطل الطريق لم يحصل الإجماع. الجواب: أنه يحتمل أن يكون إجماعهم عن نص، ولم ينقل اكتفاءاً بالإجماع، أو ينقل فيكون محتملاً فيغني الإجماع عن النظر فيه، ويجوز اتفاقهم عن أمارة كما جاز اتفاق جماعة كثيرة عن شبهة. احتج: بأنه لا طريق إلى معرفة أقاويل (جميع) المسلمين مع تباعد البلدان وكثرة الخلق، وما لا طريق إلى معرفته لا يجوز أن يتعبد بالرجوع إليه، وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم وكذلك نقل المروزي قال كيف يجوز للرجل، أن يقول: أجمعوا، وفي رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا.

الجواب: إن المعتبر عندنا بإجماع العلماء المجتهدين من أهل العصر، وذلك ممكن، لأن العلماء كالأعلام في سائر البلاد يعرفون، ويتوصل إلى أقوالهم ومذاهبهم بإنقاذ الإمام إلى البلاد وإحضار العلماء، أو يتعرف أقوالهم بكتبهم وإشهاد الثقات عليهم في ذلك. فإن قيل: يجوز أن يكون منهم مأسور في بلاد الشرك. (قلنا): من أسر منهم لم يخف أمره على أهل بلده، ويمكن التوصل إلى أخذ قوله، فإن تعذر لم ينعقد الإجماع ولأن الصحابة يمكن حصرهم ومعرفتهم، وليس إجماعهم حجة عنده، فبطل تعلقه بالتعذر/ إما كلام أحمد أراد به في حق من لا معرفة له بأقوال الناس ولا عناية له بالاستخبار عن المذاهب، إذا قال ذلك فهو كذب كبشر والأصم. أو قال ذلك على وجه الورع، ولهذا قال في رواية أبي طالب لا أعلم فيه اختلافاً، فهو أحسن من قوله

إجماع الناس، ولهذا نص على صحة الإجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع. احتج: بأنه اتفاق من أهل عصر، فلم يكن حجة، كاتفاق سائر الأمم. الجواب: أن الإجماع طريقه الشرع، والشرع ورد بعصمة أمتنا واتباع سبيلهم، ولم يرد ذلك في سائر الأمم، لأن سائر الأمم يجوز نسخ شريعتهم ومجيء (نبي) بعد نبيهم، فلم يحتاجوا إلى عصمة، ولا يجوز ذلك في شريعتنا، بل هي مؤبدة، فعصمت حتى لا يخرج الحق عن إجماعها، ويبقى (شرعنا) مؤبداً. على أن بعض الشافعية قد منع ذلك، وقال: سائر الأمم إجماعهم حجة، وهو فاسد لما بينا، والله أعلم بالصواب.

مسألة المعتبر في الإجماع بعلماء العصر من أهل الاجتهاد

فصل الإجماع بماذا يكون؟ يحصل باتفاق أهل العصر على فعل أو على قول، ويفعله بعضهم ويظهر الباقون الرضا، أو السكوت عن الإنكار من غير تقية، أو يجمعون على ترك شيء أو إنكاره على رجل فعله. مسألة المعتبر في الإجماع بعلماء العصر من أهل الاجتهاد، وبه قال أكثر العلماء، وقال بعضهم يعتبر في ذلك جميع الأمة، فيدخل في ذلك العوام، وقال آخرون: يعتبر بالعلماء ومن ينسب إلى العلم، كأصحاب الحديث الذين لا يعرفون أحكام الفقه والرياضة في الاجتهاد فيه، ووجوه المقاييس، وكذلك (المتكلمون) الذين لا يعرفون أحكام الفقه.

لنا: أن العامة ومن (ينتسب) يجب (عليهم) تقليد المجتهدين من العلماء، ولا يجوز لهم الانفراد عنهم برأيهم، فإذا أجمعت الأمة على شيء، كان ذلك حكما (لازماً) للعامة، فدخلوا فيه تبعاً، وصار إجماعاً لأن الإجماع إنما يكون حجة معصومة عن دليل، ولا يصح من العامة إقامة الدليل، فلا اعتبار بهم في ذلك وصاروا كالصبيان والمجانين. احتج المخالف: بقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وبقوله عليه السلام: "أمتى لا تجتمع على ضلالة"، وهم من أمته. (الجواب): إن سبيل المؤمنين ما أجمعت عليه العلماء، فإن العامة يلزمهم اتباعهم في ذلك، وكذلك من لا يعرف الفقه من أصحاب الحديث وغيرهم، ولأن الآية والخبر مخصوصان بالاتفاق، فإنه لا يعتبر في ذلك الصبيان والبله وإن كانوا من جملة الأمة والمؤمنين، ولذلك لا يعتبر بالعامة.

احتج: بأن من عرف أصول الفقه أمكنه رد فروعه إليه، وكذلك من سمع الحديث تنبيه به على الأحكام. فوجب أن يعتبر بقوله كمن عرف أصول الفرائض يعتبر بقوله في ذلك، (وإن لم يعرف من فروعها). (الجواب): أنه ليس الأمر على ذلك، لأن من لا يعرف الأحكام لا يمكنه معرفة النظير/ فيقيس عليه النظير كمن عرف، اللغة والحساب والنطق، وكذلك من لا يعرف المعاني والمقاييس، من أصحاب الحديث، لا يمكنه أن يقيس، (ولهذا) لا يجوز لهم الفتوى في الحادثة (فهم) كالعامة سواء. وفارق من عرف أصول الفرائض، فإنه يجوز له الفتوى، لأن فروعها تعرف بالحساب ومعرفة أصولها. فصل هل [يعتد] (في الإجماع) بأهل الضلال والفسق، قال شيخنا لا يعتد بهم وحكاه عن الرازي والجرجاني

وعن أبي سفيان السرخسي وجماعة من المتكلمين: أنه يعتد بهم والصحيح عندي أنه إذا كان من أهل الاجتهاد وارتكب بدعة كفر بها لم يعتد بخلافه، وإن لم يكفر بها اعتد بخلافه، وهو محكي عن الإسفراييني ولم أجد هذه المسألة في كتاب شيخنا. لنا: أن طريق الإجماع السمع، وأدلة السمع لا تتناول الكافر وتتناول (المؤمن) والفاسق الملي مؤمن على أصلنا، فدخل في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على خطأ" وهذا الاسم يشمل الفاسق ويخرج منه الكافر، ولأن الفاسق في باب الإجماع

معصوم، بدليل قوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على خطأ" وإن كان في غير الإجماع غير معصوم، ألا ترى أن الواحد (منا) يجوز عليه الخطأ في غير باب الإجماع وبكونه في الإجماع نقول: هو معصوم من الخطأ فلا يجوز عليه، وكذلك الفاسق في التواتر يسمع خبره وفي الآحاد لا يسمع (خبره)، لأنه معصوم مع الجماعة، غير معصوم وحده كذا في مسألتنا. احتج المخالف بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فجعلهم وسطا وشهوداً، والوسط العدل، والفاسق غير عدل، ولا هو من أهل الشهادة، فلم يعتد به في الإجماع. الجواب: إن الآية حتجنا، لأنه جعل الأمة جميعها وسطا، أي عدولاً على الأمم، فكل داخل (في) جملتها يجب أن يعتد بإجماعه (معها). فإن قيل: فمن أتى بما يكفر من الأمة أيضاً. (قلنا): (ذاك خرج) عن الأمة، لأن الأمة عبارة عن المؤمنين. احتج: بأن من لا تقبل شهادته في حق خاص، أو خبر خاص لم يعتد به في الإجماع. الجواب: ما ذكرنا من أن الأمر (هو) غير معصوم فيه

وهو مع الإجماع معصوم بدليل ما ذكرنا، ونزيد فتقول: الإجماع حجة يلزم بها الأحكام وقد يعصم الإنسان فيما يلزم به الحكم، (وإن لم يعصم) في غيره، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون فيما يخبرون به من الشرع، وإن جاز عليهم الخطأ في غير ذلك، (وقد) دلت الدلالة على ذلك بقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} أي علم، وقوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} وقوله سبحانه {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وغير ذلك. احتج: بأن كونهم من جملة المجمعين يقتضي مدحهم، وكونهم فساقاً يقتضي ذمهم، والمدح والذم لا يجتمعان في حالة واحدة. الجواب: أن هذا ممتنع، (لأن الفاسق الملي) مؤمن بإيمانه وهي صفة مدح، وفاسق بكبيرته وهي صفة ذم، فكذا هاهنا (وهو ممدوح لأنه من جملة المؤمنين وأهل الاجتهاد ومذموم بارتكاب كبيرة) وذلك لا يقدح في الإجماع، لأن الكبيرة مما ينفرد بها، وكونه مع الإجماع وهو معصوم فيه على (ما مضى) والله أعلم.

مسألة إجماع أهل كل عصر حجة

مسألة إجماع أهل كل عصر حجة في ظاهر كلامه في رواية المروزي وقد وصف أخذ العلم فقال: ينظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فعن أصحابه فإن لم يكن فعن التابعين، وبه قال عامة العلماء، وقال داود وجماعة من أهل الظاهر: لا يعتد بإجماع غير الصحابة وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي داود: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعن أصحابه وهو بعد

في التابعين مخير، إلا أن شيخنا قال: هو محمول على آحادهم. وجه الأول: أن أدلة الإجماع لا تخص (عصراً دون عصر) مثل قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (لأن في كل عصر مؤمنين)، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمتي لا تجتمع على خطأ" وهم أمته، ولأنه لما كان العصر الثاني كالأول في رواية الأخبار كذلك في الإجماع. واحتج المخالف: قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وهذا خطاب مواجهة يتناول الصحابة بحضورهم دون غيرهم. الجواب: أن هاتين الآيتين عامة في الكل، وليست (بخاصة) فيمن حضر نزولها ألا ترى أن من أسلم بعد نزول الآيتين وصحب الرسول عليه السلام دخل في ذلك وإن لم يكن مخاطباً عند نزولها. جواب آخر: أنه ليس يخلو أن يراد بالآيتين من حضر من الصحابة عند حدوث الحادثة، ولا يعتبر من تقدم موته، (فذلك) يدل على أنه لا اعتبار بإجماع من حضر نزول الآيتين وهو قولنا.

أو يعتبر بمن مات في الإجماع، فهذا يمنع من كون إجماع الصحابة حجة، لأن من مات منهم لا قول له في الحادثة، وهو معتبر وقد تعذر قوله فلم ينعقد الإجماع، على أن الأمة عبارة عن كل من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل أن المسلمين بأجمعهم يدعون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يريدون صحابته دون غيرهم، إلا أنا لو اعتبرنا ذلك لم يمكن الإجماع حجة من وجهين: أحدهما: أنه لا يمكن (اجتماع) كل الأمة في حادثة تحدث، لأن من سبقها قد مات قوله، ومن لم يخلق لا قول له. والثاني: إنا إذا اعتبرنا جميع المكلفين إلى انقضاء التكليف، لم يكن بعدهم تكليف يحتاج فيه إلى إقامة الحجة بالإجماع، فإذا بطل اعتبار الجميع ثبت أن المراد (إجماعهم) على الحادثة في كل عصر حدثت فيه الحادثة. (وجواب آخر): أنه لا يمتنع أن يكون خطاب خاص ويدخل فيه الكل كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وغير ذلك. واحتج: بأنه قد ثبتت عصمة الصحابة ولم تثبت عصمة غيرهم فمن ادعى لغيرهم عصمة فعليه الدليل.

والجواب: أن ما دل على عصمة الصحابة دل على عصمة أهل/ كل عصر، لأن الأدلة عامة على ما بينا. فإن قيل: ليست عامة، لأن الخطاب كان للصحابة، فقد تقدم جوابه. احتج: (بأ، الصحابة) شاهدوا التنزيل وحضروا الوحي، ولهذا قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقديتم اهتديتم". الجواب: إن هذا لا يوجب أن يكون إجماعهم حجة دون غيرهم، لأن الأدلة الموجبة تكون الإجماع حجة، ليست ما ذكرتم، فأما قوله: بأيهم اقتديتم اهتديتم، (فيتناول) آحادهم، وليس الكلام في آحادهم، على أن المراد بذلك حث العامة على قبول فتوى كل واحد منهم.

مسألة إذا أجمع أهل عصر (على الحادثة) إلا الواحد (والاثنين)، لم ينعقد الإجماع

واحتج: بأنه لو كان قول التابعين حجة لكانوا إنما صاروا إليه بنص أو أمارة، ولو كان ذلك لم يخف عن الصحابة، وإن جوزنا أن يخفى جعلنا للتابعين مزية على الصحابة، وهذا لا يجوز. والجواب: أنه إذا حدثت حادثة في زمان التابعين احتاج التابعون إلى التصفح وطلب الدلالة والنص، فإذا وجدت انعقد الإجماع عليها، ولم يكن نقض على الصحابة، لأن الحادثة ما حدثت في وقتهم، على أنها لو حدثت في وقتهم جاز أن يكونوا (لم يفحصوا أو فحصوا) يسيرا فلم (يظفروا)، فلما جاء التابعون أمعنوا في الفحص واجتهدوا في الطلب، فظفروا (بالنص أو الدلالة). مسألة إذا أجمع أهل عصر (على الحادثة) إلا الواحد (والاثنين)، لم ينعقد الإجماع، وبه قال

أكثرهم، وقال محمد بن جرير صاحب التاريخ، وأبو الحسين الخياط. والرازي: ينعقد الإجماع. وقد أومأ إليه أحمد.

وجه الأول: قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فذكره بلام الجنس، وهي تعم (جميع أهل العصر). فإن قيل: لام الجنس لا تعم إنما تقتضي الجمع. قلنا: قد دللنا على ذلك، ثم قول الثلاثة لا يجب اتباعه بالإجماع، وهذه الآية مما توجب الاتباع، فثبت أن المراد بها ما ذكرنا. ودليل آخر: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمتي

لا تجتمع على ضلالة" لا يتناول إلا جميع أهل العصر، لأن أكثرهم بعض الأمة. فإن قيل: أن الأمة تقع حقيقة. على جماعة المؤمنين، وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقول الإنسان: "لحيته سوداء" (وإن كان) فيها شعرات بيض، وكذلك يقول (الإنسان): رأيت أسود، وفيه بياض. ويقول: أكلت رمانة، وإن سقط منها حبات لم يأكلها. (قلنا): لا نسلم ذلك ألا ترى أنه يجوز النفي فنقول: هؤلاء (ليسوا) كل الأمة ولا جميع أهل العصر، فإما قوله أكلت الرمانة ولحيته سوداء، ويريد معظمها، فهو مجاز لا حقيقة، أو يريد بذلك: أنها سوداء في رأي العين، وكذلك أكلت الرمانة على ما جرت العادة في الأكل، وليس ينفك في الغالب أن يسقط منها حبات، فيكون ذلك خارجاً من وضع اللغة بالعرف، وليس إذا نقل ذلك بالعرف يجب نقل غيره. دليل آخر: أن في الصحابة رضي الله عنهم من تفرد بمسائل في الفرائض خالف عليها الجماعة ولم ينكر عليه، كتفرد ابن عباس وابن مسعود، ولو كان الإجماع انعقد دونهم. لأنكر عليهم، وكذلك الصديق رضي الله عنه خالف الصحابة في قتال مانعي الزكاة، فناظروه.

واحتج عليه عمر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:/ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، فقال قد قال إلا بحقها والزكاة من حقها، ولم يحتجوا عليه بأن إجماعهم حجة عليه. دليل رابع: أنه لا فرق في العقل بين هذه الأمة وسائر الأمم، وإنما الشرع عصم إجماعنا، فإذا وقع الاختلاف بقي على مقتضى (العقل) في أنه يجوز عليهم الخطأ. ودليل خامس: أنه لا فرق في العقل والشرع بين الاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة فلم شرطتم الاثنين؟ احتج المخالف: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم" (وجميع) أهل العصر إلا الاثنين هم السواد الأعظم. والجواب: أنا لا نسلم بل السواد الأعظم (هو المتناهي في العظم وذلك يقتضي جميع أهل العصر، لأنه لا سواد أعظم) من ذلك.

جواب آخر: أنه لو جاز حمله على الأكثر، لجاز حمله على الزائد على النصف بالواحد والاثنين. فإن قيل: فلو أراد الجميع لم يكن في العصر من يقول (له) عليكم بالسواد الأعظم، فلا يكون حجة على أحد. قلنا: يجوز أن يكون خطاباً لمن يأتي بعدهم، (ممن) لا ينعقد بهم الإجماع. احتج بقوله عليه السلام: "عليكم بالجماعة". الجواب: أنه أراد الجميع، ثم هذا يقتضي أن يتبع إذا خالف الأربعة والخمسة وأكثر. احتج: بأن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالإجماع وإن كان ما دخل فيه علي وسعد بن عبادة.

الجواب: إن من أصحابنا من قال: (خلافة أبي بكر) ثبتت بالنص الخفي، وهو تقديمه في الصلاة لا بالإجماع، ومنهم من قال: بالإجماع واعتذر بأن علياً ما خالف رضي الله عنه، (وأكثر ما قيل فيه): أنه لم يحضر ثم حضر وبايع، وأما سعد فظن أن الأمر يعقد له، فلما روى أبو بكر رضي الله عنه "الأئمة من قريش" سكت، وعلى أنه قد قيل: الإجماع على أبي بكر انعقد في زمن عمر رضي الله عنه، لأن سعداً مات في أيامه، وقيل: قتل فلم يبق مخالف، ولأن هذه أخبار آحاد فلا يثبت بها هذا الأصل. واحتج: بأن الواحد إذا خالف سمي شاذاً، وهو اسم ذم، ولهذا أنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الربا. الجواب: أنا لا نسلم أن الواحد يسمى شاذاً إلا إذا خالف بعد الوفاق، على أن الصحابة أنكرت عليه لأجل خبر أبي سعيد لا لإجماعها.

مسألة إذا حضر المجتهد من التابعين مع الصحابة في وقت الحادثة (فخالفهم) لم ينعقد الإجماع

احتج: بأن العلم يقع بخبر أهل العصر إلا الواحد والاثنين، فكذلك الإجماع. الجواب: (إن هذا) جمع بغير علة، على أن أهل بلد إذا كان جمعه كثيراً لا يتفقون على الكذب، وإن لم ينعقد الإجماع لهم، لأن الخبر يقع عن مشاهدة عصمته عن الخطأ، ولأن الأخبار تقف على غلبة الظن، (والظن يقوى بالجماعة) إلا النفر، والإجماع يقع (عن العصمة) ولا نسلم أن لغير "إجماع الكل" عصمة يؤكد ما ذكرنا، (إنا نرجح في الخبر) رواية عشرة على خمسة، ولا ينعقد الإجماع بمثل ذلك، (والله أعلم). مسألة إذا حضر المجتهد من التابعين مع الصحابة في وقت الحادثة (فخالفهم) لم ينعقد الإجماع أومأ إليه في رواية عبد الله ابنه، وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين، وقال

شيخنا وبعض الشافعية: ينعقد (الإجماع) ولا يلتفت إلى خلافه، (وقد) أومأ إليه (أحمد رضي الله عنه) في رواية أبي الحارث وغيره، وهي اختيار الخلال. وجه الأول: أن الأدلة الإجماع لا تتناولهم إلا معه، ولأنه أحد المجتهدين فجرى مجرى/ الحدث من الصحابة إذا خالف، (يؤكد هذا أن الاعتبار بالاجتهاد في الاجتهاد لا في الصحبة، ولهذا لا يعتد بمن صحب ولا يكون مجتهداً، ويقبل إجماع المجتهدين من غير

الصحابة)، وإن لم يكونوا صحبوا ولهذا (المعنى) قال صلى الله عليه وسلم: "فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وإذا ثبت هذا، فالتابعي مجتهد فاعتبر به. احتج المخالف بقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وهذا خطاب الصحابة. الجواب: أن المراد به أهل كل عصر، بدليل أنه لا يختص الصحابة بالإجماع دون بقية الأعصار، أو نحمله على رواية الأخبار بدليلنا. احتج: بأن علياً نصر الله وجهه نقض حكم شريح حين حكم في ابني عم: أحدهما أخ لأم أن المال كله للذي هو أخ، وعائشة أنكرت على أبي سلمة (بن عبد الرحمن بن عوف) حين

خالف ابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها لما قال: تعتد بأقصى الأجلين فقال هو: بل عدتها أن تضع حملها، فقالت عائشة رضي الله عنها: مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها، (وهذا) يدل على أنهم لم يسوغوا خلاف التابعين. الجواب: أنه لا خلاف أن الصحابة سوغت اجتهاد التابعين ولهذا ولى عمر شريحاً القضاء وكتب إليه ما لم تجد في السنة فاجتهد رأيك، وولاه علي أيضاً وخاصم إليه يهودياً فقضى على علي، فرضي بحكمه، وإن كان مخالفاً لرأيه (ونبه كعب بن سور

عمر رضي الله عنه في حق المرأة الشاكية لزوجها، فولاه عمر رضي الله عنه القضاء بالبصرة) وكان علي رضي الله عنه يقول لأصحاب ابن مسعود: أنتم سرج هذه القرية، سئل ابن عمر عن فريضة، قال: سلوا (سعيد بن جبير) فإنه أعلم بها مني، وسئل أنس عن مسألة فقال: سل (عنها) مولانا الحسن يعني البصري، وغير ذلك، فأما نقض علي على شريح فلم يثبت (وإن) ثبت فيحتمل أنه خالفه في الفتوى، فأخذ بفتوى علي، أو يكون الإجماع انعقد قبل كون شريح مجتهداً.

أما قول عائشة فقد خالفها أبو هريرة في قصة أبي سلمة وقال: أنا مع أخي أبي سلمة، (ثم) ليس في قولهما ما يدل على أنه لا (يعتد) بخلافه، وإنما أخبرت بصغره، أو لأنه رفع صوته على ابن عباس، (أو طلب منزلته في الفتوى ومساواته عنده) فأنكرت عليه، ثم قولها (وحدها) ليس بحجة في ذلك. احتج: بأن الصحابة أعلم بالأحكام (من التابعين)، فإنهم شاهدوا التنزيل وعرفوا المقاصد من النبي صلى الله عليه وسلم، (فصاروا) مع التابعين بمنزلة العلماء مع العامة. الجواب: (إنا نسلم أنهم أعلم بالأحكام)، ولهذا كان ابن عمر يحيل المسائل على سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وكذلك أنس يحيل على الحسن البصري، وكذلك أصحاب عبد الله ابن مسعود كانا يناظرون علياً رضي الله عنه، ولا يرجعون إلى قوله، ولا ينكر عليهم، على أن الصحبة لا يرجح به الإجماع، ألا ترى أنه لا يرجح بأكابر الصحابة الذين طالت صحبتهم على صغارهم الذين لم تطل صحبتهم، بل مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صبيان، كابن عباس وابن الزبير وغيرهما ولهذا من صحب/ فلم يحصل من أهل الاجتهاد وجب عليه تقليد العالم.

مسألة إجماع أهل المدينة ليس بحجة

مسألة إجماع أهل المدينة ليس بحجة، وقال مالك:

(إجماعهم) (وحدهم) حجة، إلا أن أصحابه اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: أراد بذلك إجماعهم فيما طريقه النقل، وقال بعضهم: أراد به ترجيح إجماعهم على إجماع غيرهم، وقال بعضهم: أراد إجماعهم في زمان الصحابة والتابعين فالدليل عليه في الجملة أو أدلة الإجماع لا تتناولهم وحدهم، لأن اسم المؤمنين واسم الأمة لا يقع عليهم بانفرادهم، ولأن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة، بدليل مكة وعندهم إجماعهم حجة ما داموا في المدينة، فإذا خرجوا منها لم يكن حجة، وهذا لا وجه له، لأن الحجة لا تختلف بالمكان والزمان كقول الله تعالى وقول رسوله. احتج المخالف: بقوله عليه السلام: "المدينة تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد"، وقوله عليه السلام "إن الإيمان ليأرز

إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"، وقوله: "الدجال لا يدخلها والملائكة تحف بها" وقوله عليه السلام: "لا يكايد أهل المدينة أحد إلا أنماع كما ينماع الملح في الماء". الجواب: أن هذه الأخبار تدل على فضل المدينة، ولا تدل على أن إجماع أهلها حجة، وقد روى عنه في مكة فضائل، منها: أنه قال: "إنك لأحب البقاع إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، "وصلاة في مسجد مكة أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"،

"وغيره مما يطول شرحه"، تم إجماع أهلها ليس بحجة، لأن الإجماع يعتبر فيه العلم، وفضيلة الرجال واجتهادهم، وأكثر علماء الصحابة رضي الله عنهم خرجوا عن المدينة مثل: (علي بن أبي طاليب) وابن مسعود وأبي موسى وعبادة بن ال صامت وعمرو ابن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وثلاثمائة ونيف انتقلوا إلى الكوفة والبصرة، ونحوهم إلى الشام، فكيف يجوز أن يعتبر إجماع من بالمدينة إذا (خالفوا) هؤلاء الذين خرجوا، وهم أكثر علماء الصحابة. احتج: بأن المدينة مهبط وهجرة الرسول وأصحابه، وموضع قبره ومجمع أصحابه، فلا يجوز خروج الحق عن (قول أهلها). والجواب: (أن جميع هذا دعوى لا يدل على أن إجماعهم حجة) وقول أهلها حق، ولهذا (في يومنا هذا) لا يقول أحد أن إجماع من فيها حجة، وهذه (المعاني موجودة)، ثم قد بينا أن مكة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومنشأه ومبعثه. وبها بيت الله والمناسك (تختص) بها، (ثم إجماع) أهلها لا يكون حجة.

مسألة اتفاق أهل البيت ليس بحجة خلافا للرافضة

احتج: بأن رواية أهل المدينة تقدم على رواية غيرهم، فكذلك قولهم في الإجماع. الجواب: (لا نسلم) ذلك، (وإن سلمنا) فهو جمع بغير علة، ثم الترجيح في الأخبار لا يدل على الترجيح في الاجتهاد، لأن رواية الجماعة تقدم على رواية الواحد، ولا يقدم اجتهاد جماعة على اجتهاد واحد، ولأن طريق الأخبار الظن وهو يقوى برواية أهل المدينة، لأن أهل البلد أعلم بما يجر فيه من غيرهم. فأما الاجتهاد: فهو نظر القلب، فيجوز أن يقوى في قلب الغائب عنها ما لا يقوى في قلب الحاضر بها، على (أن الصحابة) خرجوا عنها وتفرقوا في البلاد، وقد عرفوا الأحكام (وقولهم) حجة في الرواية/ كقول أهل المدينة أيضاً. (والله أعلم). مسألة اتفاق أهل البيت ليس بحجة خلافاً للرافضة.

لنا: أن أدلة الإجماع لا تقع عليهم، لأنهم بعض المؤمنين وبعض الأمة. احتجوا: بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} والخطأ من الرجس، (فيجب أن يكونوا) مطهرين منه. الجواب: أن المراد بالرجس: الفواحش والعار والدنس، ولهذا قال في أول الآية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} (فتبين) أن المراد بالآية النساء فإن التطهير من (رجس) الفاحشة ولا أحد (قال): أن إجماع النساء حجة ولا التطهير من الفاحشة له مدخل في الاجتهاد. واحتج: بقوله عليه السلام: "إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لم تضلوا، كتاب الله وعترتي".

الجواب: أنه لم يصح عندنا إسناده والصحيح كتاب الله وسنتي، ثم هو خبر واحد لم يتلق بالقبول، فلا يثبت به أصل. واحتج: بأن أهل بيته (هم): علي وفاطمة والحسن والحسين، أصحاب الكساء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في الكساب وقال: هؤلاء أهل بيتي، وهم بيت النبوة، والوحي في بيتهم نزل، فكانوا معصومين. الجواب: أن هذا فضل وشرف، لكنه لا يدل على العصمة في الاجتهاد، ولهذا (خولف) علي في مسائل كثيرة ونوظر عليها ولم ينكر على أحد ويقول: قولي وقول أهلي حجة عليكم، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أهله وسكنه ومقطنه، والقرآن نزل بتضعيف ثوابهن وعقابهن وسماعهن العلم أكثر من غيرهن، ثم إجماعهن ليس بحجة، فبطل قولكم، وقد روى: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

مسألة اتفاق الأئمة الأربعة ليس بحجة إذا خالف غيرهم

بعدي عضوا عليها بالنواجذ"، وقال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم"، ثم لم يجعلوا إجماعهم حجة. مسألة اتفاق الأئمة الأربعة ليس بحجة إذا خالف غيرهم، نص عليه في رواية المروزي: إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجز للرجل أن يأخذ إلا على الاختيار نظراً إلى أقرب القول إلى الكتاب والسنة وبه قال أكثرهم، وعنه ما يدل على أنه لا يجوز أن يخرج (إلى) قول غيرهم، وبه قال القاضي أبو خازم

من الحنفية، لأنه لم يسوغ قول زيد في تقديم بيت المال من المواريث على ذوي الأرحام، لأنه نقض ذلك في أيام المعتضد فقبل منه (وأمر برد) ما كان في بيت المال من المواريث على ذوي الأرحام وكتب في ذلك إلى الآفاق. وجد قولنا: أن أدلة (الإجماع) لا تتناولهم، لأنهم بعض المؤمنين وبعض الأمة، ولأن الإمامة لا تأثير لها في الإجماع، فكذلك الأربعة، وإنما التأثير (للاجتهاد) والعلم، وغيرهم في الاجتهاد بمثابتهم.

احتجوا: بقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ". أنه محمول على الفتيا أو عليه إذا أجمعوا عليه ولم يخالفهم أحد، بدليل قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فجعل الاقتداء هدى/ كما أمر باتباع سنة الخلفاء. فصل فأما قول أحدهم فليس بحجة رواية واحدة، وقال بعض الشافعية: هو حجة علينا وإن خالفه غيره من الصحابة وهو اختيار أبي حفص من أصحابنا. لنا: لو كان حجة لم يكن لمن بعده من الأئمة مخالفته، وقد خالف عمر على أبي بكر رضي الله عنهما (ففاضل) في العطاء

(فكان) أبو بكر قد سوى، وخالفه في الجد، وخالف علي لعمر في بيع أمهات الأولاد، وغير ذلك. واحتج: (بما تقدم من قوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء، وقد تقدم الجواب عنه"). فصل فإن عقد أحد الأئمة عقداً لم يجز لأحد فسخه، لأنه لو جاز فسخ عقود الأئمة لم تستقر الأحكام، وأفضى ذلك إلى الهرج، (ولهذا) لا يجوز (لحاكم) أن ينقض على من قبله بحال، إذا لم يخرج عن الإجماع.

مسألة الإجماع حجة فيما يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته

قالوا: أليس (قد خالف) (أبا بكر وعلياً عمر)؟ الجواب: أنهم لم ينقضوا وإنما حكموا بما أدى إليه اجتهادهم في وقتهم، ولم يتعرضوا لما سبق بنقض. مسألة الإجماع حجة فيما يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته، مثل الأحكام الشرعية من وجوب عبادة ونفيها، وصحة عقد وفساده، فأما ما لا تعرف صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته، فلا يحتج فيه الإجماع، مثل إجماعهم على أن الله تعالى (واحد حكيم) وأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي، وأن القرآن كلام الله. وإنما قلنا: ذلك، لأن الإجماع إنما يعرف صحته: بأن يقول الله تعالى أو رسوله عليه السلام: أن الإجماع حق وحجة معصومة ويعلم أنهما لا يقولان إلا الحق، وإنما (نعرف) ذلك إذا عرفنا الله جلت عظمته، وصفاته، وأنه واحد حكيم لا يجوز عليه الكذب، وأن محمداً مرسل معصوم بالرسالة فلا يقول إلا الصدق، وأن القرآن كلام الله فلا يكون فيه إلا الصحيح، لتكون الآيات التي فيه دالة على (أن) الإجماع من قبل الله سبحانه (وإن) كان كذلك

مسألة (لا يجوز انعقاد الإجماع) إلا عن دليل

(لم .. يجز أن يعرف) صحة الإجماع قبل معرفة الله سبحانه وحكمته، وصدق رسوله، وأن القرآن (كلامه)، لأن من حق الدليل أن يتقدم على المدلول، فأما إجماعنا على إيجاب خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وإجماعنا أن الله تعالى يرى (لا في جهة) فإنه (يعرف) الإجماع قبل (معرفة صحة ذلك، لأن الشك فيه لا يعود بالشك في دليل صحة الإجماع. مسألة (لا يجوز انعقاد الإجماع) إلا عن دليل، ولا يجوز إجماع الأمة تبخيتا، وحكي أن قوماً أجازوا حصول الإجماع بغير دليل، وإنما يوفقهم الله عز وجل لاختيار الصواب، وإن لم يكن لهم دليل.

لنا: أن الأمة ليست بآكد حال من الرسول عليه السلام، ومعلوم أنه لا يقول إلا عن الوحي، ولا يقول تبخيتا، يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فأولى أن تكون الأمة لا تقول إلا عن دليل. دليل آخر: أن فقد الدليل يتعذر معه الوصول إلى الحق بيقين أو غالب ظن. دليل آخر: لو جاز الإجماع بلا دليل جاز لكل واحد من الأمة أن يقول بلا دليل، ويكون (ذلك) توفيقاً، فلا يكون للإجماع مزية، وهذا قول مويس بن عمران صاحب النظام، فإنه (قال): يجوز للعالم أن يقول بغير دلالة. (احتجوا): بأن الإجماع حجة، فلو لم ينعقد إلا عن دلالة، لكانت الدلالة هي الحجة، ولم يكن في كون الإجماع حجة فائدة.

جواب آخر: إن الفائدة في ذلك أن يسقط عنا البحث عن الحجة، (ويسقط عنا نقل الحجة) ويحرم علينا الخلاف الذي كان سائغاً قبل انعقاد الإجماع. احتج: بأنه قد أجمعوا على بيع المراضاة وأجرة الحمام وأخذ الأجرة على القصارة من غير دليل. الجواب: لا نسلم أنهم أجمعوا فإن قوماً ينكرون المراضاة، ويقولون لا ينعقد البيع إلا بإيجاب وقبول، وكذلك الأجرة، على أن ذلك لم يقع إلا عن دليل، وقيل إن الادة جارية بذلك صارت كالقول (والله أعلم).

مسألة

مسألة إذا ثبت هذا (فنقول: يجوز) انعقاد الإجماع عن الاجتهاد، وقال محمد بن جرير وأهل الظاهر: لا يجوز ذلك. أما أهل الظاهر فبنوه على أصلهم، [أن القياس] ليس بحجة، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وأما ابن جريرة فالكلام عليه: أن القياس دليل شرعي، فجاز إجماعهم عنه، كالكتاب والسنة.

فإن قيل: المعنى في الأصل أنه مسموع يشتركون فيه بخلاف القياس، فإنه رأى واجتهاد، فلا يجوز أن تجمع الجماعة عليه، كما لا يجتمع الكل على اختيار مأكول واحد، أو انتحال كذب. (قلنا): هو وإن كان رأياً إلا أن عليه أمارات دال (وبها) يجوز اتفاق الجماعة عليه كالقبلة، الطريق إليها الرأ] والاجتهاد، ثم يجوز اتفاق الجماعة عليها، وكذلك يتفق الخلق العظيم على المصير إلى موضع الأعياد، لما تقدم من الأمارة، وهي السعادة (أن الصلاة) هناك، ولا يشبه المأكول، لأن ذلك يختلف باختلاف طبائع الناس وشهواتهم وأماكنهم، ولا يتفق ذلك بحال، وأما اتفاقهم على الكذب فلا داعي لهم إلى ذلك ولا يخطر ببالهم كلهم الشيء الواحد حتى يكذبوا فيه. دليل آخر: أن الحكم قد تكون له الأمارة فيكون داعية لجميعهم إلى حكمها، وقد تكون أمارتان أو أمارات فيستدل بعضهم بإحداهما والباقون بالأخرى، أو كل واحد بأمارة (فيتفقون في الحكم وقد وجد من ذلك إجماعهم على أمارة أبي بكر بأمارات، منهم

من قال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا حين قدمه في الصلاة، وهي عماد الدين فأولى أن نرضاه لدنيانا، ومنهم من أخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً في بدنه)، ومنهم من أخذ بقوله: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة)، ومنهم من قال: هو الشيخ والمقدم في الإسلام وأول من آمن/ وصدق، ومنهم من قال: هو أعلم الناس بالتدبير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيره وكان معه في العريش يوم بدر، وكذلك إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، لأنهم قاسوها على الصلاة (وقال أبو بكر في) مناظرته لهم: لا أفرق بين ما جمع الله، وكذلك في غزاة مؤتة لما قتل الأمراء جمعوا على تأمير خالد، فصوب النبي صلى الله عليه وسلم رأيهم، وكذلك إجماعهم على تقويم الأمة إذا أعتق منها شقصاً قياساً

على العبد، وكذلك إجماعهم على إراقة الشيرج إذا وقعت فيه فأرة قياساً علي السمن، وكذلك إجماعهم على (شحم) الخنزير قياساً على لحمه، فدل على أن الإجماع قد يقع عن الاجتهاد والقياس. فإن قيل: يجوز أن يكون ذهبوا في هذه المسائل إلى نص. قيل: قد بينا أقوالهم على أنه لو كان نص لظهر ونقل. (دليل آخر): إذا جاز أن يجتمع العدد الكبير على الشبهة، مثل اليهود والنصارى أجمعوا على قتل عيسى عليه السلام وصلبه، وعلى جحد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وهم خلق كبير، جاز أن يجتمعوا على الأمارة الصحيحة. واحتج المخالف: بأن رأي الجماعة لا يجوز (أن يتفقوا) على رأي واحد، وقد تقدم جوابه. احتج: بأن بعض الأمة ينكر الاجتهاد والقياس، فكيف يجوز (أن يحصل) الإجماع من جهة الاجتهاد.

الجواب: أن الصحابة لم تنكر الاجتهاد، ولهذا كانوا يتناظرون ويقيسون، وقياسهم في الجد مع الإخوة، وفي الأصابع مع الأسنان، وغير ذلك، ولم ينكر أحد منهم الحكم بالاجتهاد، (فإنما) حدث إنكار القول بالقياس بعد ذلك، فلم يلتفت إليه، وقد أجمعوا على خلافه. وجواب آخر: أن من يمنع الحكم بالاجتهاد، قد يناقض فيثبت الحكم به، ولهذا قد أثبت داود أحكاماً بالاجتهاد، لأنه لا طريق فيها (غيره) ثم يبطل (بخبر الواحد) والعموم، من الناس من ينكره وينعقد الإجماع عنه كذلك الاجتهاد. احتج: بأن الاجتهاد يجوز مخالفته، ولا يقطع بصحته، ولا يفسق من رده، والإجماع لا يجوز مخالفته ويفسق من رده وخالفه، ويقطع على صحته، فكيف يقع الإجماع عن اجتهاد، وهو آكد منه وينافيه أيضاً؟

الجواب: أن ما ذكروه حكم الاجتهاد ما لم تتفق الأمة عليه، فإذا اتفقت عليه لا يجوز مخالفته ويفسق من رده، ويقطع بصحته، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ، كذا قال عليه السلام. وليس يمتنع مثل ذلك، ألا ترى أن أحد الصحابة لو حكم بشيء فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فصوبه فإنه يصير ذلك الحكم معلوماً، لا تجوز مخالفته، ويقطع بصحته، وكذلك الحاكم يحكم باجتهاده فيصير حكمه لازماً لا تجوز مخالفته، وإن كان قبل الحكم تجوز مخالفته، (وكذلك) تجتمع الأمة على خبر الواحد فيصير مقطوعاً بصحته، ولا تجوز مخالفته، وإن كان قبل الإجماع ليس بهذه المنزلة. فصل إذا صدر الإجماع عن اجتهاد لم تجز مخالفته، وحكى عن الحاكم صاحب المختصر من أصحاب أبي حنيفة: أنه تجوز مخالفته. لنا: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ

الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية وهذا قد خالف سبيلهم. فإن قيل: إنما يكون متبعاً لغير سبيلهم إذا لم يؤده الاجتهاد إلى (خلافهم)، فأما إذا أداه اجتهاده إلى (خلافهم) فما اتبع غير سبيلهم، لأن خلافه من سبيلهم (أيضاً). (قلنا): هذا شرط لا دليل على إثباته، ثم لو جاز ذلك، لجاز أن يقال: فيما أجمعوا عليه عن آية أو خبر: أنه سبيلهم بشرط أن يؤدي الاجتهاد إليه، فإذا لم يؤد الاجتهاد إليه، وإنما أدى إلى خلافه فليس بسبيلهم فيبطل القول بالإجماع. دليل آخر: قوله صلى الله عليه وسلم: "كونوا مع السواد الأعظم ومن شذ شذ في النار"، و"أمتي لا تجتمع على الخطأ". احتج المخالف: بأنه قول صادر عن اجتهاد، (فجاز مخالفة) أصله ما لم يجمع عليه.

الجواب: لا نسلم العلة في الأصل، (وإنما العلة): أنه قول لم يقترن به دليل مقطوع عليه: بخلاف ما أجمع عليه، فإنه قد اقترن به دليل مقطوع عليه، وهو الإجماع. بدليل قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"، ثم نقابل فنقول: قول متفق عليه أشبه المتفق عليه من جهة النص. احتج: بأن كل واحد من المجتهدين يجوز أن يرجع عن قوله قبل أن يعلم (أن) الإجماع العقد، فكذلك جاز أن يرجع بعد أن علم أن الإجماع انعقد. والجواب: أنه جمع (بغير) علة (ثم أنه يلزم إذا) أجمعوا عن دليل من كتاب أو سنة، فإن كل واحد يجوز له الرجوع، بأن يتأول ذلك الدليل ما لم يعلم أن الإجماع العقد، فإذا علم لم يجز له ذلك. (جواب آخر): يجوز لكل واحد الرجوع بشرط أن لا يعلم أن الإجماع انعقد، فإذا علم لم يجز له الرجوع، لأنه قارن قوله دليل مقطوع (به).

فصل إذا أجمع أهل العصر على حكم جاز أن يتفق من بعدهم على متابعتهم، وهو الواجب عليهم، ويستحيل أن يتفق أهل العصر الثاني على مخالفتهم، لأن الحق لم يخرج عن قول المجمعين في الأول، فإذا أجمعوا في العصر الثاني لم يجز كون الحق معهم، لأنا قد بينا أن الحق في الإجماع الأول، فإذا لم يكن الحق معهم فهو وإجماع على خطأ وضلال، وقال عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على خطأ وضلالة" (فبطل) حصول الإجماع منها، لأن خبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع بخلاف مخبره، وقال بعضهم: لولا أن العصر الأول أجمعوا على أن من بعدهم لا يجوز له مخالفتهم لجاز أن يتفق أهل العصر الثاني على مخالفتهم، ويكون قولهم كالناسخ لقول أهل العصر الأول. وهذا خطأ، لما بينا من أنه يفضي إلى وقوع خبر الرسول عليه السلام بخلاف مخبره، قالوا: بعض أهل العصر الثاني يجوز أن يحصل منهم مخالفة (ولا) يحل هم ذلك. (وكذلك) جميع أهل العصر الثاني، إذ لا فرق.

مسألة إذا اختلف الصحابة (رضي الله عنهم في مسألة) على قولين، ثم اتفق التابعون على أحد القولين فهل يحرم الأخذ بالقول الآخر أم لا؟

الجواب: أنه لا يستحيل من بعض الأمة أن يعدل عن الحق، ويستحيل من جميعها العدول عن الحق، (ولهذا) جاز وقوع الخلاف من البعض، واستحال من الكل: (والله أعلم). مسألة إذا اختلف الصحابة (رضي الله عنهم في مسألة) على قولين، ثم اتفق التابعون على أحد القولين فهل يحرم الأخذ بالقول الآخر أم لا؟ قال شيخنا: لا يحرم (ذلك) وهو قول الأشعري، وقال أصحاب أبي حنيفة:

والمعتزلة يحرم الأخذ بالآخر، وعن الشافعية كالقولين، وجه الثانية وهو الأقوى عندي، قوله سبحانه: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، وقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على خطأ" ومن خاف إجماع التابعين فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وزعم أن إجماعهم خطأ. فإن قيل: إذا قال بما ذهب إليه بعض الصحابة لم يكن متبعاً غير سبيل المؤمنين. (قلنا): المراد بالآية: أهل العصر دون غيرهم بدليل أنه لا يراعي من يأتي بعدهم في الإجماع، ولا من كان قبلهم في حادثة حدثت في عصرهم، فأجمعوا عليها.

فإن قيل: من قال: لا يجوز الأخذ بقول الفريق الآخر من الصحابة فقد خالف إجماع الصحابة، لأنهم اتفقوا على أن الأخذ بكل واحد من القولين جائز. (قلنا): لم يتفقوا وسيأتي الكلام (عليه) في دليلكم. دليل آخر: (وهو أن إجماع) التابعين: اتفاق من أهل العصر على حكم، فلم يجز خلافه، كما لو أجمعوا على حكم في حادثة حدثت في عصرهم. الجواب: أنه أراد الجميع، ثم هذا يقتضي أن يتبع إذا خالف الأربعة والخمسة وأكثر. احتج: بأن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالإجماع وإن كان ما دخل فيه علي وسعد بن عبادة. الجواب: إن من أصحابنا من قال: (خلاف أبي بكر)

ثبتت بالنص الخفي، وهو تقديمه في الصلاة بالإجماع، ومنهم من قال: الإجماع واعتذر بأن علياً ما خالف رضي الله عنه، (وأكثر ما قيل فيه): أنه لم يحضر ثم حضر وبايع، وأما سعد فظن أن الأمر يعقد له، فلما روى أبو بكر رضي الله عنه (الأئمة من قريش) سكت، وعلى أنه قد قيل: الإجماع على أبي بكر انعقد في زمن عمر رضي الله عنه، لأن سعداً مات في أيامه، وقيل: قتل فلم يبق مخالف، ولأن هذه أخبار آحاد فلا يثبت بها هذا الأصل. فإن قيل: المعنى في الأصل: إنه اتفاق لا يؤدي إلى إبطال إجماع الصحابة، وفي مسألتنا يؤدي إلى ذلك، فلم يجز كما لو أجمع الصحابة على قول، (وأجمع) التابعون على خلافه. (قلنا): لا نسلم علة الفرع، وهو قولكم: (أنه يؤدي) إلى إبطال إجماع الصحابة لأن الصحابة لم تجمع على ما نذكره، ويفارق ما استشهدوا به، فإن الصحابة رضي الله عنهم إذا

أجمعوا على قول لم يجز أن ينعقد إجماع التابعين على خلافه ويستحيل، وفي مسألتنا يجوز انعقاد إجماع التابعين) على خلاف ولا يستحيل لأنه مخالفة لبعض الصحابة في الحقيقة. دليل آخر: أنه اتفاق عقيب اختلاف، فقطع (حكم الاختلاف)، كما لو (اختلف) الصحابة في مسألة على قولين، ثم أجمعت فيها على قول واحد. فإن قيل: لا نسلم على قول من لم يعتبر انقراض العصر في صحة الإجماع. ونقول لا يسقط الخلاف. (قلنا): لا يصح الممانعة، فإن الصحابة (اختلفوا) في قتال مانعي الزكاة حتى احتج على أبي بكر رضي الله عنهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" ثم أجمعوا بعد ذلك على قول أبي بكر، وكذلك الأنصار خالفت في الخلافة، وقالوا: "من أمير ومنكم أمير"

ثم أجمعوا، وكذلك اختلفوا في قسمة أرض السواد، ثم أجمعوا على ترك قسمتها، وزال الخلاف في ذلك جميعه حتى لا يجوز لأحد أن يذهب إليه. فإن قيل: فهناك رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى فلم يبق خلاف، وفي مسألتنا لم ترجع الصحابة الذي خالفوا (إلى قول) التابعين، فالخلاف (قائم). (قلنا): (برجوعهم) لم يزل القول الذي ذهبوا إليه، لأنه (إن كان) خبراً فما ارتفع وإن كان قياساً فهو بحاله، وإنما المعنى هناك حين رجعوا خلا العصر عن خلاف. (وكذلك) هاهنا خلا عصر التابعين عن خلاف، فلا فرق بينهما. دليل آخر: أن إجماع التابعين حجة مقطوع بها، وقول بعض الصحابة ليس بحجة مع (قيام الخلاف) بينهم، فلا يجوز ترك الحجة والأخذ بما ليس بحجة.

فإن قيل: هو حجة ما لم يتقدمه خلاف، (فأما إذا تقدمه فليس بحجة). (قلنا): تقدم الخلاف (لا يخرج الإجماع) عن كونه حجة، كما لو اختلف الصحابة في مسألة، ثم اتفقت عليها. دليل آخر: أنه لو تعارض (خبران) فأجمع أهل العصر على الأخذ بأحدهما سقط حكم الأخذ بالآخر، فكذلك اختلاف الصحابة على قولين إذا وقع الإجماع على أحدهما، بل قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمراعاة من قول الصحابة. فإن قيل: إذا أجمعوا على أحد الخبرين، علمنا أنه (منسوخ به لآخر) وللنبي صلى الله عليه وسلم أن ينسخ، أما الصحابة فليس لهم أن ينسخ (بعضهم) قول بعض. (قلنا): لا يجوز ادعاء النسخ مع الاحتمال، ويحتمل أن أحد الخبرين لم يبلغ أهل العصر الأول فأجمعوا على الذي بلغهم، ثم

بلغ أهل العصر الثاني أو يكونوا تأولوه (فلا يكن) منسوخاً، ثم قولوا هاهنا، ويحتمل أن يكون الدليل الذي ذهب إليه من اتفق على خلاف قوله كان خبراً منسوخاً بدليل الآخرين. دليل آخر: أن كل حكم لم يجز لعامة عصر التابعين العمل به لم يجز لمن بعدهم العمل به، كالمنسوخ من أحكام الشرع، ولهم معارضة هذا: (وهو أن) كل حكم جاز لعامة عصر الصحابة العمل به، (جاز) لعامة عصر التابعين العمل (به)، أصله: إذا لم يجمع التابعون على خلافه. ويجاب عن ذلك: بأن في عصر الصحابة جاز العمل به، لأن الخلاف قائم في العصر، وفي مسألتنا لا خلاف في العصر. والمعتمد ما أجمع عليه أهل كل عصر فيجب المصير (إليه). واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فشرط التنازع في وجود الرد، والتنازع قد حصل بين الصحابة. الجواب: أن هذا خطاب لأهل العصر وأهل العصر لا تنازع بينهم.

وجواب آخر: أن الرجوع إلى الإجماع رد إلى الله ورسوله، لأن الإجماع بقولهما يثبت. الجواب: أن هذا خطاب لأهل العصر وأهل العصر لا تنازع بينهم. وجواب آخر: أن الرجوع إلى الإجماع رد إلى الله ورسوله، لأن الإجماع بقولهما يثبت. واحتج: بأن الصحابة إذا (اختلفوا) على قولين فقد تضمن اختلافهم الإجماع على الأخذ بكل واحد من القولين فاتفاق التابعين على أحد القولين، وتحريم الأخذ بالآخر لا يخلو، أما أن يكون تحريماً/ في المستقبل فذلك نسخ، والنسخ لا يكون بعد ارتفاع الوحي، أو يكون تحريماً في الماضي والمستقبل فيكون مخالفاً لإجماع الصحابة، وهذا معنى قولهم هذا الإجماع لو (حرم) الخلاف في المستقبل لحرمه في الماضي. الجواب: إن القائل بأن الحق في (واحد) لا يجوز أن يحتج بهذا، لأن عنده لا يجوز للمجتهد أن يعتقد ويأخذ إلا بأحد القولين، وهو الذي يقوى عنده (أن) الحق فيه ويحكم بخطأ الآخر، وإنما يسوغ للعامي أن يستفتي، فإذا اتفق التابعون على أحد القولين لم يبق من [يفتيه] بالآخر. فحرم الأخذ به، وأما من

يقول: كل مجتهد نصيب: وإنما يقول يجوز الأخذ بكل واحد من القولين، لأن المسألة مختلف فيها، فهي من مسائل الاجتهاد، فعليه أن يبين أن بعد حصول الاتفاق: المسألة من مسائل الاجتهاد (وإلا القولين. لأن المسألة مختلف فيها، فهي من مسائل الاجتهاد، فعليه أن يبين أن بعد حصول الاتفاق: المسألة من مسائل الاجتهاد (وإلا فنحن قد بينا أن المسألة حيث أجمع عليها التابعون خرجت عن مسائل الاجتهاد)، وحرم الخلاف فيها، (لأن) أدلة الإجماع تناولت التابعين إذا أجمعوا (وعلمنا) حينئذ أن الشرط المجوز للأخذ بكل واحد من القولين، هو أن لا يحصل اتفاق على أحدهما في العصر الثاني فمتى زال الشرط زال جواز الأخذ بكل واحد من القولين، ولم يسم (ذلك) نسخاً، لأن الحكم إذا وقف على شرط يعلم زواله، فإنه لا يكون زواله بزوال شرطه نسخاً، كما أن وجوب الصيام بدخول الليل لا يسمى نسخاً، وزوال التيمم بوجود الماء لا يسمى نسخاً. (فإن قيل: لستم بأن تقولوا: جواز الأخذ بكل واحد من القولين يجوز بشرط أن لا يحصل الاتفاق على أحد القولين بأولى منا إذا قلنا: إجماع التابعين حجة ما لم يتقدمه خلاف.

قلنا: ينتقض ما قلتم بأهل العصر إذا اختلفوا ثم أجمعوا، وإذا توقفوا في الحادثة ينظرون ويفحصون ثم أجمعوا، فإنه لا يسوغ بعد الإجماع التوقف، ولا الاختلاف، على أنا قد بينا: أن المختلفين سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بالشرط الذي ذكرنا، ولم يثبتوا أن إجماع التابعين حجة بالشرط الذي ذكرتم، فكان قولنا أولى. وجواب آخر: إذا لم تجمعوا إجماع أهل العصر الثاني حجة مع كونه إجماعاً صريحاً فأولى أن لا تجعلوا إجماع أهل العصر الأول على الأخذ بكل واحد من القولين حجة، وهو غير صريح، وإنما هو مظنون وهو مع ذلك مبني على أن كل مجتهد مصيب، وفي ذلك نظر، وهذه الدلالة عمدة المسألة لهم. واحتج: بأن الإجماع إذا حصل الاختلاف يجب أن لا يزول بحدوث الإجماع بعده. والجواب: أنه لم كان ذلك؟ وما الجامع بينهما؟، على أن الاختلاف إن كان في العصر اعتبر به على قول من شرط في الإجماع انقراض العصر، وإن كان بعد العصر فهو غير حجة طرأ على حجة فلم يغيره بخلاف مسألتنا، فإن الإجماع حجة طرأت على قول بعض الصحابة، وهو غير حجة فأزالته. وجواب آخر: أن هناك يؤدي إلى إبطال الإجماع، وفي مسألتنا لا يؤدي إلى إبطال الإجماع).

احتج: بأنه لو كان اتفاقهم بعد الاختلاف حجة، لوجب إذا اختلفوا على قولين في مسألة ثم مات جميع من قال بأحد القولين، وبقي القائلون بالقول الآخر أن ينعقد إجماعاً ويحرم الأخذ بالقول الآخر. (الجواب): إنا كذا يقول: لدخول قول الطائفة الباقية تحت أدلة الإجماع، (لا أن الموت جعل قول الباقين حجة). جواب آخر: أن الفرق بينهما واضح، (وذاك): أن هناك لم يقع إجماع أهل العصر على أحد القولين، لأن من مات من أهل العصر (مخالف) بخلاف مسألتنا، فإنه وقع إجماع أهل العصر على أحد القولين فكان حجة مزيلاً لما قبله. احتج: بأن من قال قولاً من الصحابة، ومات عنه فحكم قوله باق، ولهذا ينقل ويحتج له ويؤخذ به، ولهذا لو أجمعوا كلهم على شيء ثم ماتوا، لم يجز أن يجمع التابعين على خلافه، وإذا كان كذلك لم ينعقد إجماع التابعين مع قولهم بالخلاف. الجواب: أنه لو كان حكم قولهم باقياً لجاز للعامي تقليده، والعمل به، كما لو كان الصحابي حياً ولأن حكم قوله (باق) ما لم

يقع الإجماع على خلافه، فإذا أجمع على خلافه (لم يجز الأخذ به)، وأما إذا أجمعوا كلهم على شيء وماتوا، فإن الإجماع يستحيل بعدهم على ما تقدم بيانه. احتج: بأنه لو أسقط إجماع التابعين ما تقدم من الخلاف لوجب أن ينقض كل حكم/ حكم به واحد من الصحابة وغيره يخالفه عليه، ثم وقع إجماع التابعين على خلافه. الجواب: يقال لم كان كذلك؟ ونحن نعلم (أنه) حين حكم (لم يكن هناك) دليل قاطع يرد قوله بخلاف مسألتنا، فإنه إذا أجمع التابعون ثبت الدليل القاطع، وهو الإجماع فسقط الأخذ بالآخر، (ثم هذا) يلزمكم إذا أجمع الصحابة، بعد أن اختلفوا وعمل كل واحد منهم بالخلاف. فإن قلتم: ينقض القول الذي خالف إجماعهم. قلنا: مثله (هاهنا). وإن قلتم لا ينقض. فمثله هاهنا.

احتج: بأنه لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد ذهبوا إليه بدليل خفي عن الصحابة وظهر لهم، وهذا لا يجوز. الجواب: أنه لا يجوز أن يخفي على جميع الصحابة، فأما (إن يخفي) على بعضهم فيجوز، وخلاف التابعين لبعضهم لا لجميعهم. احتج: بأن التابعين لو لحقوا بعض الصحابة، فأجمعوا على أحد القولين مع الصحابة الذين قالوا (به) لم يسقط قول الآخرين، فأولى أن لا يسقط (قولهم) بانفراد التابعين. الجواب: أنه إنما لم يسقط هناك، لأنهم بعض أهل العصر، (وليس) قولهم حجة على بقية أهله، فأما إجماعهم بعد انقراض الصحابة فهو حجة لأنهم جميع أهل العصر. (والله أعلم). فصل فإن اختلفوا في مسألة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث، نص عليه في رواية الأثرم: إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم، وقال في رواية أبي الحارث يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا.

وبه قال أكثر العلماء، وقال بعض الحنفية وأهل الظاهر: يجوز ذلك، وهو قياس قول أحمد رحمه الله في الجنب يقرأ بعض آية، ولا يقرأ آية، لأن الصحابة قال بعضهم: لا، ولا حرفاً وقال بعضهم يقرأ ما شاء، فقال هو يقرأ بعض آية. لنا: أن اختلافهم على قولين (اتفاق) في المعنى على المنع من أحداث قول ثالث، فالقائل بالقول الثالث مخالف لإجماعهم فسقط قوله، (كما) لو أجمعوا على قول واحد فخالفه.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكونوا أجمعوا على ترك ما عدا القولين، بشرط أن لا يؤدي اجتهاد غيرهم إلى قول ثالث، كما قلتم أنهم سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يقع الاتفاق من التابعين على أحدهما؟ (قلنا): جواز ما ذكرتم يؤدي إلى أن يخرج الحق من أهل العصر، وذلك غير جائز، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: إذا أجمعوا على قول واحد (يجوز) الأخذ به، ما لم يؤد اجتهاد غيرهم إلى خلافه، ويفارق الإجماع على أحد القولين فإنه لا يؤدي إلى خروج الحق عن أهل العصر، وإنما يؤدي إلى (خروجه) عن بعض أهل العصر وذلك جائز. احتج المخالف: بأن الإجماع لم/ يحصل على حكم المسألة، فجاز لمجتهد المخالفة فيها كسائر مسائل الاجتهاد. الجواب: أنا لا نسلم ذلك، ونقول: الإجماع انعقد على حكمها، لأن الصحابة اختلفوا في جدة وأخ وجد، فقال بعضهم: المال كله للجد بعد سدس الجدة، وقال بعضهم: المال بينهما نصفان بعد السدس، فإذا جاء محدث فقال: (المال) كله

للأخ فقد خالف إجماعهم، لأنهم اتفقوا أن للجد قسطاً من المال، وهذا القائل قال: لا شيء له من المال أصلاً، ولأنهم أجمعوا [على] أن الحق لا يخرج عن [قوليهم]، وهذا القائل يزعم أن الحق خرج عن القولين إلى قوله الثالث. فأما مسائل الاجتهاد فلم ينعقد فيها إجماع بحال وهاهنا (قد انعقد) بما بينا. احتج: بأن الصحابة اختلفوا في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، فقال بعضهم: للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة، وقال ابن عباس وغيره للأم ثلث جميع المال في المسألتين، فجاء بن سيرين فقال: لها ثلث ما بقي مع الزوج، وثلث جميع المال مع الزوجة، فأحدث قولاً ثالثاً لم ينكر عليه، وكذلك الثوري قال: الأكل ناسياً لا يفسد الصوم والجماع ناسياً يفسده ومن تقدمه من السلف اختلفوا فيها على قولين، فقال بعضهم: لا يفسد الصوم بهما، وقال آخرون: يفسد الصوم بهما.

الجواب: أن ما ذكروه أحداث قول ثالث في مسألة واحدة كمسألة الأخ والجد، وتلك مسألة أخرى، (لا تشبه) مسألتنا، وسنبين ذلك- إن شاء الله- على أنه لم ينقل إجماع (على هذين) القولين، (وإنما) نقل ذلك عن بعضهم، وكلامنا فيه إذا أجمعوا على القولين، ولأن ابن سيرين عاصر الصحابة فيحتمل أنه سمع من بعضهم ذلك أو خالفهم، وخلافه يعتد به إذا كان مجتهداً، فلم ينعقد الإجماع دونه. احتج: بأنه يجوز إحداث دليل لم يذكره الصحابة، فكذلك (يجوز) إحداث قول. الجواب: أن هذا جميع بغير علة، على أنهم لو أجمعوا على دليل واحد جاز لمن بعدهم إحداث دليل آخر، ولو أجمعوا على حكم لا يجوز لغيرهم إحداث حكم آخر، (ولأن الاستدلال بدليل ثالث يؤيد ما ذكروه، وإحداث قول ثالث يخالف إجماعهم، فبان الفرق). فصل فإن قالت الصحابة في مسألتين بقولين، ولم يفرقوا بين المسألتين، نظرت، فإن صرحوا بالتسوية لم يجز لأحد أن يفصل

بينهما، لأنه يخالف إجماعهم، لأن قولهم: لا فصل بينهما، ظاهر أنهما اشتركا فيما يقتضي ذلك الحكم، ولا فرق بينهما، وإن لم يصرحوا بالتسوية، لكنهم لم يفرقوا بينهما، مثل: أن تقول طائفة [في المسألتين] بالإباحة (وتقول) طائفة فيهما بالتحريم، نظرت فإن كان طريق الحكم فيهما مختلف، مثل: أن تقول طائفة: إن النية شرط (في الوضوء)، والصوم ليس بشرط في الاعتكاف، ويقول الباقون: بالعكس (إن النية لا تشترط في الوضوء ويشترط الصوم في الاعتكاف)، فإنه يجوز من بعدهم أن يقول إحدى الطائفتين (في إحدى المسألتين) ويقول الأخرى في المسألة، فتقول: النية تجب (في الوضوء)، والصوم يجب في الاعتكاف. وقد ذهب إلى ذلك أحمد، وإنما جاز ذلك، لأنه إذا كان طريق المسألتين (مختلف)، فأوجبنا التسوية أوجبنا الجمع

بين طريقتين (مختلفتين)، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يفرق بين طريق واحد، لأنه لو لزم ذلك لزم من وافق أحمد في مسالة أن يوافقه في جميع مذهبه، ويسقط عنه الاجتهاد وكذلك من وافق أبا حنيفة (والشافعي)، (والأمة مجمعة) على خلاف ذلك. وأما إن كان طريق الحكم (فيهما) متفق، مثل قولهم في زوج وأبوين وامرأة وأبوين، ومثل إيجاب النية في الوضوء والتيمم، وإسقاطها منهما، فهل يجوز أن تقول (بقول إحدى الطائفتين) في المسألة و (تقول بقول) الطائفة الأخرى في المسألة الأخرى؟ اختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: لا يجوز، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارثة، وقال بعضهم: يجوز (وهو قول الحنفية).

مسألة إذا استدل أهل العصر بدليل (وأعلوا) بعلة، فلمن بعدهم أن يستدل بدليل آخر ويعتل بعلة أخرى، خلافا لمن قال: لا يجوز ذلك

وجه الأول: أنه حصل الاتفاق على حكم (المسألتين)، وطريق الحكم (فيهما)، فمن فرق بينهما فقد خالف إجماعهم، وصار بمثابة مخالفهم إذا صرحوا بالتسوية. ووجه الثاني: إن الإجماع لم ينعقد على حكم واحد في المسألتين ولا علة واحدة، ولهذا لم يصرحوا بذلك، ولهذا خالف ابن سيرين الجماعة ولم ينكر عليه (أحد). الجواب: أن الإجماع (قد انعقد) على أنه لا فرق بين المسألتين، لأن اتفاقهم على التسوية بينهما في الحكم يدل على ذلك وإن لم يصرحوا به، وقول ابن سيرين يحتمل أنه علم في الصحابة من فرق (أو لم يثبت) عنده الإجماع، أو لأنه يعتد بخلافه مع الصحابة. مسألة إذا استدل أهل العصر بدليل (وأعلوا) بعلة، فلمن بعدهم أن يستدل بدليل آخر ويعتل بعلة أخرى، خلافاً لمن قال: لا يجوز ذلك.

دليلنا: أن الناس في كل عصر يستخرجون عللاً وأدلة، ولا ينكر عليهم فكان إجماعاً ولأن المنع من ذلك، إما أن يكون لأن فيه مخالفة الإجماع المتقدم، أو لمعنى آخر، فإن كان لمخالفة الإجماع فمعلوم أن الأمة لم (تجمع) على فساد الدليل الثاني لا نصاً ولا معنى، لأن حكمها بصحة دليلها لا يقتضي فساد غيره، إذ لا يمتنع أن يكون (على الحكم الواحد) أكثر من دليل، وإن (كان) المنع لمعنى آخر فيجب ذكره. (احتج): بأن فيه اتباع لغير سبيل المؤمنين وقد تهدد على ذلك.

الجواب: أن الأمة خرجت مخرج الذم لمن اتبع غير سبيلهم، فالمفهوم منها (التهديد) لمن اتبع ما نفاه المؤمنون وحكموا بإبطاله دون ما لم يحكموا بفساده، بل لو اتفق لهم (لجاز) أن يستدلوا به، ألا ترى أنه لو لم تحدث المسألة في العصر الأولو حدثت في العصر الثاني، جاز أن يحكم فيها أهل العصر الثاني ولا يقال: إن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين، لأن من تقدم لم يحكموا بإبطال ذلك الحكم فيها، بل لعلهم كانوا يقولون به لو حدثت في عصرهم. (احتج): بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (فدل) على أنهم يأمرون بكل معروف لأجل لام الجنس، فلو كان الدليل الثاني من المعروف لأمروا به. الجواب: أنه قال: {وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} فيقتضي أن ينهوا (عن كل منكر)، لأجل لام الجنس، فلو كان الدليل (الثاني من المنكر لوجب أن ينهوا عنه فتقابلا. احتجوا: بأنه لو جاز أن يذهب عن أهل العصر الأول الدليل الثاني) جاز [أن] يوحى الله سبحانه (إلى النبي

صلى الله عليه وسلم) دليلين على حكم واحد (فيبين) أحدهما في الدلالة على حكم دون الآخر. الجواب: أنه جمع بغير علة، على أنه إن كان أوحى إليه بدليل بعد دليل، فبين الحكم عقيب الأول جاز، لأنه لم يكن سواه (حين) بين الحكم، ويكون الثاني ورد تأكيداً، وإن كان أوحى إليه بالدليلين معاً (فلا بد من فهمهما معاً) فلا يجوز (أن يدعوه) أحدهما إلى (تبين) الحكم دون الآخر، لأن في ذلك رفضاً للآخر بخلاف الآخر. احتج: بأنه لا يجوز أن يذهب الدليل الثاني (عن) الصحابة مع تقدمها في العلم، ويظهر للتابعين. الجواب: أنه يجوز أن يذهب عنهم إذا لم (يطلبوه) لاستغنائهم (عنه) بما ظفروا به من الدليل، وأهل العصر الثاني

استغنوا عن طلب الأول، وتنبهوا عن طلب مثله، فشغلوا أفكارهم وزمانهم في طلب غيره، واستنباطه فظفروا به. فصل فأما إذا تأولت الأمة الآية بتأويل، فنظرنا، فإن نصوا على فساد ما عداه لم يجز (أحداث) تأويل سواه، وإن لم ينصوا على ذلك، فهل يجوز (أحداث تأويل ثان)؟ قال بعضهم: يجوز لأن التابعين أحدثوا تأويلات لم يذكرها السلف، ولم ينكر عليهم، ولأنه ليس في (أحداث) تأويل ثان مخالفة لهم، لأنهم لم ينصوا على إبطاله، ولا في تأويلهم الأول إبطال الثاني. وقال بعضهم: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أحداث مذهب ثالث، (ولأنه لو كان فيها تأويل آخر لكلفوا طلبه كالأول).

مسألة

مسألة معرفة الإجماع: (يعرف) بالإدراك، أما بسماع قولهم، أو نشاهدهم يفعلون فعلاً، أو ينقل لنا عنهم، والنقل يكون بالتواتر تارة، وبالآحاد أخرى وكلاهما طريق إلى معرفة الإجماع. وقال بعض الناس: إذا نقل الإجماع بالآحاد لم يعمل (به). لنا: أن الإجماع حجة وكلام صاحب الشرع حجة، ثم قول صاحب الشرع إذا نقل بالآحاد (لزمتنا الحجة به) والعمل بمقتضاه، (وكذلك) الإجماع. احتج المخالف: بأن الإجماع يوجب العلم، فلا يجوز أن يكون طريقه الآحاد، لأنه يفضي إلى وقوع العلم بخبر الواحد.

مسألة

الجواب: أن نقل الإجماع بالآحاد يلزمنا العمل به، كنقل القراءة الشاذة ونقل خبر الرسول صلى الله عليه وسلم أما العلم فلا يحصل إلا بنقل التواتر. مسألة إذا قال بعض الصحابة قولاً (وظهر) وانتشر في الباقين نظرنا، فإن صرحوا بالرضا به صار إجماعاً لا تجوز مخالفته، وإن سكتوا (ولم) يظهر منهم الرضا ولا السخط ولا نقل خلافه حتى انقرض العصر، نظرنا، فإن كان مما ليس فيه تكليف كقولهم: حذيفة أفضل من عمار وما أشبه فإن سكوت الباقين لا يدل على انعقاد الإجماع، لأنه لا حاجة (لهم) إلى إنكار (ذلك) ولا تصويبه، وإن كان من مسائل الاجتهاد التي فيها/ تكليف، فمن قال: إن الحق واحد، يقول: ذلك إجماع، لأنه لا يجوز (أن يسمعوا) الخطأ (ويقروا) عليه، من غير تقية، وقد قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب: أذهب في التكبير غداة عرفة

إلى آخر أيام التشريق إلى الإجماع، عمر وابن مسعود وابن عباس، ومعلوم أنهم ليسوا جميع الصحابة، فثبت أن قولهم انتشر فلم ينكر، فسماه إجماعاً، وبه قال أكثر الشافعية وقال بعضهم: يكون حجة، ولا يكون إجماعاً، (لأن الشافعي قال): لا ينسب إلى ساكت قول. وقال داود وأبو بكر الباقلاني (والأشعري): ليس بإجماع ولا حجة، فأما من قال: كل مجتهد مصيب فاختلفوا، فقال الجبائي: كقولنا وقال أبو هاشم: لا يكون إجماعاً لكنه

حجة، وقال أبو عبد الله البصري: كقول داود والأشعري وجه (قولنا): أنه لا يخلو حال الساكتين بعد سماعهم (القول) من (خمسة) أحوال: إما أن يكونوا لم يجتهدوا في الحادثة، وذلك لا يجوز عليهم، لأنه خلاف عادة العلماء عند النازلة، ولأن ذلك يؤدي إلى خلو العصر من حجة الله تعالى: لأنا إذا جوزنا أن يكون المجتهد أخطأ والساكت لم يجتهد، فقد خلا العصر من حجة (وقد) قال عليه السلام: "لا يخلو عصر من حجة لله تعالى". وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يرد علي". الحالة الثانية: أن يجتهدوا فلا يظهر لهم قول، وهذا يبعد من حيث العادة، لأن الدلائل ظاهرة والدواعي متوفرة، ولأنه يفضي إلى خلو العصر عن حجة وذلك لا يجوز. الحالة الثالثة: أن يكون أداهم اجتهادهم إلى (خلافه)

فلا يجوز أن يسكتوا مع اعتقادهم الخطأ في قوله، لأن تطابقهم على ترك إنكار الخطأ يجري مجرى قولهم ليس بخطأ، وذلك لا يجوز، لأن عادتهم أن ينكر بعضهم على بعض، (ويعترض بعضهم على بعض)، ولهذا قال ابن عباس: (ألا يتقي الله زيد، ومن باهلني باهلته)، (وقالت امرأة) لعمر رضي الله عنه: (يعطينا الله وتمنعنا) وغير ذلك. الحالة الرابعة: أن يكون سكوتهم تقية، فلا بد أن يظهر سببها، لأن عادة المتقي أن يظهر قوله (عند) ثقاته وخاصته، فلا يثبت القول (أن) يظهر، ولأنهم إذا سكتوا (حتى ينقرض العصر)، فلا بد أن يموت من يتقيه قلبه، فيجب أن يظهر قوله، كما قال ابن عباس في العول حين مات عمر: إن (المال لا يعول) فقيل له: (لم) لم تقل في زمن عمر؟ فقال: هبته، وكان أمراً مهيباً، أو يموت هو قبل من يتقيه فينعقد الإجماع.

والحالة الخامسة: أن يؤدي اجتهادهم إلى موافقته (ويسكتوا)، فيدل على رضاهم وإجماعهم وهو ما (قلناه). ويدل على من قال: ليس بإجماع وهو حجة، بأن سكوتهم لا يخلو أن يكون دليلاً على الرضا، فيكون (حجة) وإجماعاً (أولاً) يكون دليلاً على الرضا فلا يكون إجماعاً، وغير الإجماع ليس بحجة إلا على قول من يقول: قول الصحابي حجة والكلام يأتي فيه إن شاء الله تعالى. احتج المخالف: بأنه يحتمل أن يكون الساكت في (مهلة) النظر لم ينكشف (له) الحكم، ويحتمل أن يكون الساكت يعتقد أن كل مجتهد/ مصيب، ويحتمل أن يكون (سكت) هيبة للقائل، كما يروي عن ابن عباس أنه قال في العول لو قدموا من قدم الله وأخروا من أخر الله ما عالت فريضة أبداً فقال (له) زفر بن قيس، وقيل ابن أوس: ألا أشرت بهذا على عمر، فقال: هبته وكان امرأ مهيباً.

الجواب: أن (مهلة) النظر لا تبقى حتى ينقرض العصر، لأن طريق الحق واضحة، فمن أمعن النظر فيها أداه ذلك إلى الحق، وقولهم: (إن) كل مجتهد مصيب، فلا نسلم أنه كان في الصحابة من يعتقد ذلك، ولهذا عاب بعضهم على بعض ثم من يعتقد أن كل مجتهد مصيب ينتحل مذهباً ويخالف غيره ويناظره (عليه)، ويبين له أن ما ذهب إليه خطأ، كما نشاهد في زماننا ويبلغنا عمن تقدمنا، (أما التقية فقد تقدم الجواب فيها). احتج: (بأنه من قال): أنه حجة: (أن) الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر (في) الصحابة إذا لم (يعرفوا) له مخالفاً، ولا يجعلونه إجماعاً. الجواب: (أنا) لا نسلم أنه يحتج بذلك، من يقول: (أن قول) آحاد الصحابة ليس بحجة ثم من يحتج به يجعله إجماعاً، لأنه يقول قد انتشر (هذا) القول ولم يعرف له مخالف، فكان إجماعاً ولم (يجز) مخالفته. والله أعلم.

فصل (ولا فرق) بين أن يكون القول المنتشر حكماً أو فتوى، في أن السكوت يدل على الرضا، خلافاً لابن أبي هريرة: (أنه قال: لا يدل على الرضى في الحكم)، لأن الحكم ليس لأحد أن ينكر عليه حكمه وإن خالفه، (فلهذا) (نحضر) عند الحكام فيحكمون بخلاف (اعتقادنا) فلا ينكر عليهم. لنا: أن الحاكم يستحب له الاستشارة والسؤال أكثر مما يلزم المفتي، لأن قوله يحصل به الإلزام، (فإذا سكتوا) عنه كان رضا بحكمه، وإلا كانوا ينكرون، لأن ذلك يحصل إقرار على الظلم، وما ذكروه فلم يكن عادة الصحابة، ولهذا اعترض على أبي بكر في

توريث الجدة من قبل (الأب) وقالت امرأة لعمر: يعطينا الله وتمنعنا يا ابن الخطاب، وقال علي لعمر حين أنفذ إلى امرأة فأجهضت ذا بطنها. وأفتاه عثمان وعبد الرحمن: بأنه لا شيء عليه إن كانا نصحاك فقد غشاك، وإن كانا اجتهد فقد أخطيا. أرى عليك الدية، فأنكر حكمهما، وإنما في وقتنا (لا ينكر) لأن الخلاف قد ظهر وانتشر، ولهذا لا ينكر على المفتي، وإن أفتى بخلاف ما يعتقده، ولا يدل ذلك على أن السكوت عند الفتيا ليس يدل على الرضا، لكنا نسكت لما تقدم. من الخلاف، فأما عند حدوث الحادثة، فإنما نتكلم ويظهر الخلاف ويذهب كل واحد إلى اجتهاد فإن قال بعضنا ولم يخالفه (أحد) دل على الإجماع. فصل فإن قال الصحابي قولاً ولم ينتشر في الصحابة ولم ينقل خلافه، لم يكن إجماعاً خلافاً لبعضهم (أنه يكون إجماعاً يجب العمل به). لنا: أن المنقول إنما يكون إجماعاً إذا اتفق عليه علماء العصر في الاعتقاد ويتوصل إلى ذلك، إما بإظهارهم الرضا، أو بما يدل عليه من السكوت بعد (سماعهم)، فإذا لم يسمعوه ولم يخطر ببالهم كيف يجوز أن يدعي إجماعهم عليه.

احتج المخالف: بأنه لم يجب/ القول به، أفضى إلى أن يخلو العصر عن الصواب في المسألة. وهذا لا يجوز. الجواب: أنه إنما لا يجوز ذلك، إذا كان أقوال الأمة (ورضاها) قد اتفق في الحادثة على حكم و (إن) كان الصواب في غيره، فأما إذا بدر قول واحد ولم ينتشر في الباقين، فجائز أن لا يكون صواباً، وقد يجوز (أن لا يكون) للأمة في المسألة قول هو حق إذا لم يكن عليها فيها تكليف ألا ترى أنه ليس (لهم) قول في الحادثة التي تظهر في عصر التابعين؟ وذلك جائز، (لأنه لا تكليف عليهم فيما لم يبلغهم). فصل إذا ثبت هذا، فهل يكون ذلك القول حجة يقدم على القياس ويخص به العموم؟ على الروايتين.

إحداهما: ليس بحجة نص عليه في رواية المروزي: ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد (الجلد)، وأنا لا أجرؤ على ذلك، إنما هي أمة، أحكامها أحكام الإماء، وكذلك نقل الميموني، وقد سأله عن المسح على القلنسوة، ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، (هو) قول أبي موسى وأنا أتوقاه، كذا نقل عنه مهنا، والبغوي، وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة. والأشعرية والشافعي في الجديد والرواية الأخرى: أنه

حجة تقدم على القياس، نقل عنه أبو طالب: فيمن تسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً (فلا) شيء عليه. فقيل له: فإذا لم يعلم فهو كالناسي، فقال: كذا في القياس، ولكن عمر أكل في آخر النهار (يظنه ليلاً)، فقال: أقضى يوماً مكانه. وكذا قال في رواية أبي طالب: في أموال إذا أخذها الكفار وظهر عليها المسلمون، فما أدركه صاحبه فهو له، وإن أدركه قد قسم فلا حق له، كذا قال عمر، ولو كان القياس كان له، وهو

كثير عنه، وبه (قال) محمد بن الحسن والبردعي، والرازي، والجبائي والجرجاني. ومالك، والشافعي في القديم.

ويتصور الخلاف إذا كان مع قول الصحابي قياس ضعيف وعارضه قياس جلي، فأما إذا كان قول الصحابي لا يشهد له نوع قياس أصلاً، فإنا لا ندعي: أنه توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعارضه قياس، (إذا قلنا) قول الصحابي ليس بتوقيف. وجه الرواية الأولى: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وهذا عام. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد وقع التنازع. فإن قيل: المراد (بذلك) سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها الأمر

بالاقتداء بالصحابة، بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". (قلنا): هذا دليلكم (وسيأتي الكلام عليه). دليل آخر: الصحابي (ممن) يقر على الخطأ، فلم يكن قوله حجة أصله التابعي ومن بعده (وهذا صحيح) لأن التابعي وتابعه ساوى الصحابة (في آلة الاجتهاد) وجواز تقليد العامي له، ثم لا يجوز أن يكون قوله حجة كذلك الصحابي، ولا يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم: فإنه لا يقر على الخطأ، (فلهذا) كان قوله حجة. (فإن قيل): من أين قلتم: إنه يقر على الخطأ؟ (قلنا): لأنهما إذا اختلفا في المسألة الواحدة، فلا بد أن يكون أحدهما أخطأ وجه الدليل، ولأن الصحابة قد عملوا على اجتهادهم، ثم رجعوا عند سماع الخبر بدليل قول ابن عمر: كنا نخاير

أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)، وقال عمر وقد أفتى في مسألة: (والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ)، وقال ابن مسعودك: إن يكن صواباً فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، في قصة بروع. فإن قيل: للصحابي مزية، لأنه شاهد الرسول وحضر التنزيل فهو أعرف بمقاصد الشرع (من غيره) من التابعين. (قلنا): ما ذكرت لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يوجب قربه إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه، لأن العالم لا يجوز له تقليد من هو أعلم منه، وإن كان الأعلم أقرب إلى الصواب. (جواب آخر): أن الاعتبار بقوة الاجتهاد في الأحكام، لا بمشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم وسماع كلامه، ولهذا قال عليه السلام: "نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ولهذا

إذا كان الصحابي (من غير) أهل الاجتهاد وجب عليه تقليد التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد. (جواب آخر): أنه لو صح ما قلتم لوجب أن يتبع صغار الصحابة، ومن قلت صحبته للرسول صلى الله علي هوسلم من كبر سنه. وطالت صحيته، لأنه أعرف بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومقاصده ولا أحد يقول يجب تقليد الأكبر إذا كان الأصغر مجتهداً. دليل آخر: إن القياس دليل شرعي فلم يقدم عليه قول الصحابي، أصله الكتاب والسنة. فإن قيل: فقول الصحابي دليل شرعي أيضاً. (قلنا): لا نسلم ذلك، (لأنه) لو كان دليلاً لوجب أن يلزم الصحابة (الانقياد) له كما يلزمهم الانقياد إلى القياس، ولأن القياس إذا صحت علته (دل على أنه علة صاحب الشرع، فلم يقدم عليها قول الصحابة لعلة ضعيفة مدخولة). دليل آخر: أنه لو كان قوله دليلاً لوجب أن يلزم الصحابة اتباعه كسائر الأدلة، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإن ارتكب بعضهم ذلك فهو خطأ، لأن الإنسان لا يجب عليه اتباعه

غيره إلا لمزية يختص بها (المتبوع) لا يشاركه فيها التابع، كالرسول وجب اتباعه لاختصاصه بالعصمة، وجماعة الأمة (لزم) اتباعها (لشاهدة) الشرع لها بالعصمة، (والعالم لم يجب على العامي) اتباعه لأنه اختص بآلة الاجتهاد ومعرفة طريق الحق، فأما الصحابي مع الصحابي، والمجتهد مع المجتهد، فلا مزية لأحدهما على الآخر، فلا يجب اتباعه، ولأنه لا يجوز (للعلماء) أن يقلد بعضهم بعضا في العقليات لتساويهم في معرفتها، كذلك في الشرعيات، ولأن المجتهد لو أداه اجتهاده إلى خلاف قول من هو أعلم منه من صحابي وغيره لم يجز له اتباعه وترك رأى نفسه، فيجب أ، لا يجوز له ذلك، وإن لم يجتهد، لأنه لا يأمن لو اجته أن يؤديه/ اجتهاده إلى خلاف رأي من اتبعه. فإن قيل: فيجب أن لا يجوز للعامي تقليد العالم، لأنه لا يأمن أن لو فعل (ما يتمكن) من التفقه ثم اجتهد، أن يؤديه اجتهاده (إلى خلاف) قول العالم.

(قلنا): في إلزام (العامة) التفقه قطع للمعاش وفساد للعالم وتضييع للأحكام التي تلزمهم في عاجل الحال، لأن (زمان) التفقه يطول ويكثر وربما بلغه المتعلم، وربما لم يبلغه، بخلاف نظر المجتهد في الحادثة، فإنه قليل لا يؤدي إلى ذلك (فلهذا) لزمه، ولأنه لو جاز تقليد بعضهم لبعض، (لما كان لمناظرتهم) في المسائل فائدة، ولو وجب في كل عصر أن يقلد بعضهم بعضاً. دليل آخر: أن المجتهد متمكن من الوقوف على الحكم باجتهاده، فلم يجز له العدول (عن ذلك) إلى ما هو أنقص منه، كما لا يجوز للمتمكن من العلم العدول عنه إلى الظن، وقد منع بعضهم، وقال: يجوز للمتمكن من العلم العمل على الظن، وهذا غير صحيح، لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يعارض طريق العلم بطريق الظن، (ويترك) خبر التواتر بخبر الواحد وبالقياس، وهذا لا يجوز.

فإن قيل: يبطل ما ذكرتم بالعامي إذا أمكنه التفقه، حتى يصير مجتهداً. (قلنا): العامي غير متمكن من الاجتهاد وتفقهه؛ (لأنه) لا يدري، هل يبلغ به الاجتهاد أم لا؟ (دليل آخر: معتمد): أن عمل المجتهد على اجتهاده متعبد به، لأنه بذلك يحصل مطيعاً لله تعالى، لأنه سبحانه ما نصب الدلائل إلا وقد أراد من المكلف أن يجتهد فيها، وليس بعض المجتهدين أولى بذلك من بعض، وليس يجوز ترك هذا التعبد إلا بدليل، ولا دليل سمعي ولا عقلي (يوجب) إسقاط هذا التعبد وما يذكرون من (الأدلة) يجاب عنه. احتج المخالف: بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} وإذا كان ما يأمرون به معروفاً وجب المصير إليه. الجواب: أن هذا إخبار عن جماعتهم، وما يأمر به الجماعة يجب اتباعه والخلاف (في قول الواحد).

احتج: (بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله: "ضرب الحق على لسان عمر وقلبه". الجواب: (أنها) أخبار آحاد فلا توجب العلم بأن قوله حجة. جواب آخر: الاقتداء بهم أن يعمل كعملهم في النظر في الأدلة وطرق الاجتهاد حتى يتضح له الحق، (وهذا) يمنع من التقليد. (جواب آخر): أنه خطاب لمن في عصره من غير

أصحابه أن يتبع أصحابه، ويقتدي بهم، لأن غير أصحابه في عصره عوام، إذ لا يجوز أن يأمر علماء الصحابة، أن يتبعوا غيرهم، والخطاب خطاب مواجهة وفيه تنبيه (لأهل) كل عصر من العوام/ أن يتبعوا علماءهم. جواب آخر: أن قوله (اقتدوا) محمول على الاقتداء بما يرويه من الأحاديث بدليل أنهم إذا اختلفوا لم يجز للمجتهد أن يقتدي بأيهم أراد، وبدليل أنه لم يوجب أحد الاقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما دون غيرهما، وكذلك لا يجب (الاقتداء) بسنة الخلفاء دون غيرهم. وإنما أمر العوام باتباعهم (لعلمهم) أنهم الخلفاء من بعده حتى يطيعون ويعظموهم ويعلموا أنهم أقرب إلى الحق والصواب من غيرهم. احتج: بأن الصحابة رضي الله عنهم، كان يرجع بعضهم إلى قول بعض من غير (أن يفكروا) (أو

يجتهدوا) ولهذا رجع عمر إلى قول علي في ضمان دية التي أجهضت ذا بطنها، وبايع عثمان لعبد الرحمن على سنة الشيخين أبي بكر وعمر. الجواب: أنه لا حجة في هذا، لأن الصحابي لا يقلد الصحابي عندكم على أن (بعضاً) قد خالف بعضاً وأنكر عليه، وذلك مشتهر ثم يجوز أن يكون عمر تنبه على قول علي، ولهذا ترك قول عثمان وعبد الرحمن، ولهذا يذاكر العلماء بعضهم بعضاً ليتنبهوا على الأدلة (لا ليقلدوا) وأما متابعة عثمان على سنة الشيخين "فالمراد في سياسة الأمور" (وحماية) البيضة، ومجاهدة الأعداء، فأما في الأحكام فلا. ولهذا قضايا عثمان تخالف قضايا عمر في أشياء من الفرائض وغيرها، وكذلك قضايا عمر تخالف قضايا أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. واحتج: بأن قوله لا يخلو: إما أن يكون توقيفاً أو تأويلاً، وأيهما كان فهو أولى من اجتهادنا.

الجواب: أنه ليس الكلام فيما ظاهره التوقيف على أن الظاهر أنه لو قال ذلك توقيفاً ذكره على طول الزمان، ورواه عند من يناظره أو خالفه أو سأله. جواب آخر: أنه يجوز عليه الخطأ في تأويله واجتهاده، وقد بينا ذلك فهو بمنزلة التابعي. واحتج: بأن قول المجتهد صواب وكل صواب فجائز اتباعه. الجواب: أن من يقول: الحق في واحد لا يسلم ذلك، ومن يقول كل مجتهد مصيب هو صواب في حق نفسه (لا في حق غيره) ألا ترى أنه لو أدى المقتدي اجتهاده إلى خلاف قول المجتهد لم يجز له اتباعه، وكذلك (ما اختلف الصحابة على قولين في المسألة لم يكن للمجتهد أن يقلد أيهما كان، بل يجتهد، فبأن أنا نصوب قوله في حق نفسه لا في حق غيره. احتج: بأن من جاز تقديم قوله على القياس الصحيح، إذا كان معه قياس ضعيف جاز تقديمه، وإن لم يكن معه قياس أصله قول النبي صلى الله عليه وسلم. الجواب: أنا لا نسلم الوصف، لأنه مسألة الخلاف، ولا نسلم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم على القياس وحده، لأنه يقدم مع القياس الضعيف. احتج: بأن قوله لو انتشر أوجب العلم، فقدم بانفراده على القياس، أصله خبر الواحد.

مسألة ظاهر كلام أحمد أن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع

الجواب: أنه يبطل بقول التابعين، ويقول العالم (في كل) عصر، لو انتشر قدم ولا يقدم بانفراده، ولأنه إذا انتشر صار معصوماً، وإذا كان وحده (جاز) عليه الخطأ، ثم لو كان هذا بمنزلة الخبر الواحد إذا عارضه خبران: يتعارضا (أو ينسخ) أحدهما الآخر، على أن الخبر يقدم على القياس وقول الصحابي لا يقدم على القياس الجلي، ولأن الخبر قول من لا يقر على الخطأ بخلاف قول الصحابي (والله أعلم بالصواب). مسألة ظاهر كلام أحمد أن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع، لأنه قال في رواية عبد الله: الحجة من زعم أنه إذا كان أمراً مجمعاً، ثم افترقوا، أنا نقف على ما أجمعوا عليه، أن أم الولد كان حكمها حكماً للأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، (وخالفه) على بعد موته، وحد الخمر ضرب أبو بكر أربعين، (وعمر خالفه فزاد أربعين)، ثم ضرب علي أربعين، فبين أن بعضهم خالف بعضاً

بعد أن أجمعوا، ولو لم يشترط انقراض العصر لما سوغ لمن خالف الخلاف، وبه قال بعض الشافعية وقال عامة العلماء: ليس بشرط، وفائدة الخلاف: أن من اعتبر انقراض العصر يقول: يجوز أن يرجع الجميع عن قولهم إلى غيره، ويجوز رجوع بعضهم (فيبطل) الإجماع، وإذا أدركهم التابعون، فاجتهدوا.

وخالفوهم في المسألة، اعتد بخلافهم على الرواية التي تقول: يعتد بخلاف التابعين مع الصحابة رضي الله عنهم، ومن لم يعتبر انقراض العصر عكس ذلك، (وقال): لا يجوز رجوع الجميع، وإذا رجع البعض حاجهم الإجماع، ولا يعتد بخلاف (التابعين) في ذلك، وقد أومأ إليه أحمد. وجه ذلك: قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} فتهدد على اتباع (سبيل غير المؤمنين)، وإذا أجمعوا فخالفهم فقد اتبع غير سبيلهم، (وأيضاً) قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمتي لا تجتمع على خطأ" وروى: على ضلالة، ولم يفرق بين انقراض العصر وبقائه. فإن قيل: إذا رجع بعضهم فقد خالف بعض المؤمنين وبعض الأمة فجاز. قيل: حيث (وصل الإجماع) صار قوله وقول الجميع معصوماً، فإذا رجع فرجوعه قول واحد يجوز عليه الخطأ، فلم يلتفت إليه مع الدليل المعصوم.

فإن قيل: (لا) نسلم أن الإجماع يكون معصوماً حتى ينقرض العصر. (قلنا): أدلة الإجماع تدل على أنه معصوم، فمشترط انقراض العصر (يحتاج إلى أن يدل) على أنه شرط. دليل آخر: (وهو أنه) لا يخلو إما أن تكون الحجة انقراض العصر، أو اتفاقهم بشرط انقراض العصر، أو اتفاقهم فقط، لا يجوز الأول، لأنه لو انقرض العصر من غير اتفاق لم يكن حجة، ولا يجوز الثاني لأنه يوجب أن يكون موتهم المؤثر في كون قولهم حجة وذلك لا يجوز، كما لا يجوز أن يكون موت النبي صلى الله عليه وسلم مؤثراً في كون قوله حجة، فثبت أن الحجة اتفاقهم. فإن قيل: قد (لا يؤثر) الموت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، (ويؤثر) في الإجماع، بدليل أن الصحابة لو اختلفت على قولين في المسألة، ثم مات القائلون بأحد القولين/ صار قول الباقين حجة في المسألة، بعد أن لم يكن (حجة).

(قلنا): لا نسلم، ونقول لا يبطل قول من مات، بل يجوز أن يذهب إليه ذاهب، وإن سلمنا فالحجة هناك إجماع أهل العصر بعدهم لا موتهم، وها هنا يجعلون موتهم مؤثراً. دليل آخر: أن اعتبار انقراض العصر يمنع انعقاد الإجماع، لأنهم إذا أجمعوا، فقبل أن ينقرضوا حدث قوم من أهل الاجتهاد (اعتبر موافقتهم) إلى أن ينقرض الحادث، ويحدث آخرون (من أهل الاجتهاد) يعتبر موافقتهم، فلا يستقر الإجماع. فإن قيل: فلا يعتبر قول التابعين مع الصحابة. (قلنا): إذا حدثت الحادثة في زمن الصحابة والتابعي من أهل الاجتهاد، فلا يخلو أن تعتبر قوله، (وقد) سلمت، أو تعتبر قوله، فهو خطأ، لأنك ما اعتبرت في الإجماع اتفاق علماء العصر، فتركت حد الإجماع. فإن قيل: نسلم، ونقول: يعتبر انقراض (المجمعين في وقت الحادثة، لا من حدث بعدها. قلنا: فما اعتبرتهم إذاً انقراض العصر)؟ وإنما (اعتبرتم) من وجد وقت الحادثة، وهذا لم يقله أحد، ولأنه من

حدث يجوز له المخالفة، فإذا مات غيره لم أسقطت قوله، وما كان (يجوز له)؟ احتج من نصر القول الأول بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (ومن) منع رجوعهم جعلهم شهداء على أنفسهم. الجواب: إن هذا يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم وعلى غيرهم، لأنهم (كلهم) من الناس. جواب آخر: إنهم (إنما كانوا) شهداء على غيرهم، لأن ما يجمعون عليه صواب، ولا يجوز أن يكون صواباً في حق غيرهم، ولا يكون صواباً في حقهم. جواب آخر: أنه لو ثبت أن الآية تدل على أنهم شهداء على غيرهم، فليس فيها ما يمنع من شهادتهم على أنفسهم، بل من جهة التنبيه يقتضي أنه إذا قبل قوله على غيره، فعلى نفسه أولى، وقد ورد القرآن بالشهادة على النفس، قال تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وقال تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ويقال شهدت على نفسك بالزنا والفسق، وعلى أن الآية قيل (المراد بها): شهادة هذه الأمة على سائر الأمم في المعاد، فلا تحمل على مسألتنا.

واحتجوا: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: "لا يخلو عصر من قائم لله بحجة" فدل على أن بعض العصر يجوز أن يخلو. الجواب: أن هذا الحديث غير معروف في أصل، فإن صح، فمعناه لا يخلو وقت من الأوقات، وقد دل عليه الحديث الآخر، "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، ثم هذا إثبات شرط في الإجماع بدليل الخطاب، ولا يثبت مثل هذا بدليل الخطاب (يخالفه من) احتج بإجماع الصحابة، روى أن أبا بكر رضي الله عنه (كان يسوى في القسم)، (ولم يخالفه أحد من الصحابة، فلما ولى عمر رضي الله عنه فضل في القسم. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولو كان الإجماع (قد صح) لأنكر عليه مخالفته. روى أن علياً [قال]: كان رأيي ورأى الجماعة أن لا يبعن أمهات الأولاد، وقد رأيت الآن أن يبعن، قال له عبيدة السلماني:

رأيك (مع) الجماعة أحب إلينا/ من رأيك وحدك، فرجع عن قوله بعد الإجماع، فدل على أنه لم ينعقد. الجواب: أن عمر خالف أبا بكر في زمانه، وناظره، فقال له: أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه كمن دخل (في الإسلام) كرهاً، فقال: إن إخواننا عملوا لله، (وإنما أجرهم) على الله، وإنما الدنيا بلاغ، ذكر ذلك في الفتوح والتواريخ، ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر، بل أمسك لأنه الإمام فلما صار الأمر إليه فعله، لأنه كان رأيه في زمن الصديق، وأما خبر على فالصحيح منه أنه قال: كان رأيي (ورأي أمير المؤمنين عمر): (أن لا تباع) أمهات الأولاد، (وقد رأيت الآن أن يبعن)، فقال له عبيدة: رأيك مع رأي أمير المؤمنين أحب إلينا من رأيك وحدك، ورأيهما ليس بإجماع. فإن قيل: فإذا انتشر (ولم) يخالف (أحد) فهو إجماع.

(قلنا): قد خالف جابر بن عبد الله في زمن عمر، وكان يرى بيعهن، وكان ابن عباس يقول: والله (ما هي) إلا بمنزلة شاتك وبعيرك، وكان ابن الزبير يرى بيعهن، على أنه لو صح ما رووه، فلا حجة فيه، لأن قوله رأى، ورأي الجماعة يعني به جماعة وليس كل جماعة إجماعاً. احتج: بأن قوله عليه السلام لا يستقر إلا بعد موته، كذلك أقوال المجمعين. الجواب: إن هذا غلط، لأن قوله عليه السلام حجة في حياته لا تجوز مخالفتها، وإنما يجوز ورود النسخ (عليه ما دام حياً) (فأما إذا مات أين ورود النسخ؟) فإما أن يكون قوله ليس بحجة حتى يموت كما تقولون في الإجماع، فلا. احتج: بأن كل واحد من المجمعين ذهب إلى قوله بدليل، فإذا بان له خطؤه في الدليل فرجع فقد فعل ما لزمه من الرجوع فانحل الإجماع. الجواب: (أنه) لما دخل في الإجماع بالدليل، صار قوله

معصوماً فرجوعه، لا يجوز وإن كان قد أخطأ في الدليل على أنه كان دليله نصاً، فلا (يتغير) وإن كان تأويلاً فبان خطؤه فيه أو قياساً فبان (خطؤه) فيه، فلا يأمن من أن يكون الخطأ في التأويل الثاني، والقياس الثاني (فوقفنا) موقفاً سواء وتمسكنا بالإجماع، (لأن رجوعه) يفضي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد، وهذا لا يجوز. احتج: بأن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف في المسألة، فإذا رجعت إحدى الطائفتين إلى الأخرى، صارت المسألة إجماعاً، وبطل الإجماع في تسويغ الخلاف، ولو كان الخلاف قد استقر قبل انقراض العصر ما زال تسويغ الخلاف، وهذه طريقة جيدة. الجواب: (لا نسلم) أنها سوغت للمجتهد الأخذ بكل واحد من القولين، بل كل طائفة تقول: الحق (معنا) والأخرى مخطئة، وعلى المجتهد أن يجتهد في أحد القولين، وإنما العامي يسوغ له أن يستفتي كل واحد حتى لا يحرج ويتخير، فإذا اتفقوا لم يبق من يفتيه به، فزال القول الآخر لعدم من يفتي (به) ولو سلمنا أنها

سوغت، فما زال تسويغ الخلاف، ولهذا لو حدث (من) التابعين من يقول بالقول الذي ترك جاز وساغ، على أنها إنما أجمعت على تسويغ الخلاف في القولين بشرط أن لا يحصل/ الإجماع على أحدهما، (فإذا حصل الإجماع على أحدهما) فلا نسلم أنها سوغت الخلاف. (واحتج بما ذكرته من أن قولنا أن حد الإجماع اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة لا يحصل لنا هذا الحد إلا بانقراض العصر، فإن عصر الصحابة باق ما بقي منهم من شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وبعضهم مات الرسول وهو مجتهد، وبعضهم لم يكن مجتهداً ثم صار بعد ذلك مجتهداً، كابن عباس وابن الزبير والحسن والحسين رضي الله عنهم، وغيرهم وخلافهم على من تقدمهم حاصل معتد به، كخلاف ابن عباس في منع العول بعد اتفاق من تقدمه عليه، وكذلك قيل عنه: أن لا يحصل هذا حتى ينقرض الصحابة وهو معنى قولنا: اجتماع علماء العصر. الجواب: ما ذكرته أن المراد بقولنا: اجتماع علماء العصر نريد به من كان عالماً مجتهداً وقت وقوع الحادثة، ومن حدث له اجتهاد بعد ذلك، لا تجوز له مخالفته، فأما ابن عباس فكان في زمن عمر رضي الله عنه حين تكلموا في العول مجتهداً ورأى خلافهم

ذلك الوقت، ولم ينقل عنه وفاقهم، ولهذا لما مات عمر أظهر الخلاف، ولما قيل هل، قال: هبته وكان امراً مهيباً فدل على أنه خالف وكتم خلافه، ولا يمكن أن ينقل إجماع مقطوع من الصدر الأول على أمر، جاء ممن حدث له اجتهاد بعدهم خالفه لا من الصحابة ولا من غيرهم).

باب الكلام في القياس

باب الكلام في القياس قد ذكرنا حد القياس في باب الحدود، وأنه تحصيل حكم الأصل في الفروع لاشتباههما في علة الحكم. وقيل: هو حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل، ومعناهما سواء، وإنما حددناه بما ذكرنا، لأن المعقول في القياس أن يكون قياس شيء على شيء، ألا ترى أن (من) (قال: "قست هذا الشيء"، قيل: "علام قسته"؟)، وإنما اعتبرنا اشتباههما في علة الحكم لأنالو أثبتنا حكم الشيء في غيره ولا شبه بينهما، لكنا قد ابتدأنا بالحكم في ذلك الغير من غير أن نراعي حكم الأصل، فلا نكون قد قسمناه. فإن قيل قد سمي الفقهاء العكس قياساً، فإنه لم يثبت حكم الأصل للفرع لاشتباهما في علة الحكم، مثال ذلك أنهم قالوا: لو لم يكن الصوم شرطاً في الاعتكاف لم يشترط فيه. وإن نذره كالصلاة لما لم تكن من شرط الاعتكاف لم تكن، وإن

نذر أن يعتكف مصلياً، فالأصل هو الصلاة والحكم نفي كونها شرطاً في الاعتكاف، والفرع هو الصوم وليس يثبت فيه الحكم (وإنما يثبت نقيضه) وهو اشتراط الصوم في الاعتكاف، ولم يجتمعا في العلة، لأن العلة التي لها "لم تكن الصلاة شرطاً في الاعتكاف"، (وهي) كونها غير شرط فيه مع النذر والعلة التي [له]: (كان الصوم شرطاً) في الاعتكاف "في كونه شرطاً فيه مع النذر". (قلنا): لا يسمى ذلك قياساً لما بينا أن حكم الفرع ضد حكم الأصل وعلتهما مختلفة، فلا يجوز اختلاف حكم الفرع مع الأصل، وقد سماه بعض الحنفية مجازاً، لاستواء حكم الصوم في الاعتكاف مع النذر وعدمه، (كما استوى) حكم الصلاة فيه مع النذر وعدمه.

مسألة القياس العقلي والاستدلال، طريق لإثبات الأحكام العقلية، نص عليه، وبه قال عامة العلماء

(وقد حد) أبو الحسين البصري القياس بحد يشتمل على قياس الطرد والعكس، فقال: القياس إثبات الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره، لأن الطرد يثبت فيه الحكم في الفرع باعتبار تعليل الأصل، والعكس يعتبر فيه تعليل الأصل (لينتفي) حكمه عن الفرع لافتراقهما في العلة فيكون حد قياس الطرد (ما) ذكرنا أولاً، وحد قياس العكس: هو إثبات نقيض حكم الشيء في غيره، لافتراقهما في علة الحكم. مسألة القياس العقلي والاستدلال، طريق لإثبات الأحكام العقلية، نص عليه، وبه قال عامة العلماء، وقال قوم:

حجج العقول باطلة، والنظر حرام والواجب التقليد. ودليلنا: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، وغيرها من الآيات، والاعتبار هو قياس الشيء بالشيء، والاستدلال على حكم بنظيره. (ودليل آخر): إن في ترك ذلك إبطال معرفة الصانع ووحدانيته/ لأنا نستدل عليه بصنعته، إذ لا نرى في (الشاهد) صنعة بغير صانع وكذلك في الوحدانية؛ لأن الأمور (جارية) على الانتظام فلو كان اثنان لوقع الاختلاف، وكذلك لا طريق لنا إلى صدق النبي من كذب المتنبي إلا بالنظر والاستدلال، لأن صورة الكذب كصورة الصدق، وإنما بالنظر يعلم أن المعجزة لا يظهرها الله تعالى إلا على يد صادق غير كاذب، لأنه لا يؤيد الكذابين بالمعجزات والبراهين (فدل) على وجوبه.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون العلم بذلك يقع ضرورة بإيقاع الله سبحانه لنا. قيل: لو كان كذلك، لاشترك فيه الجميع، لأن العلم الضروري لا يختص به بعض العقلاء مع تساويهم. ونحن نرى جماعة عقلاء لم يقع (لهم) العلم بالله ووحدانيته وصحة النبوة، ولأنه لو وقع العلم بذلك ضرورة، لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى إظهار الأعلام الدالة على صدقه والمعجزات المبينة لنبوته. دليل آخر: إنا نرى في مسائل الأصول أقاويل مختلفة ومذاهب مشتبهة لا نعلم صحيحها من فاسدها إلا بالنظر، فدل على وجوبه. فإن قيل: نقلد فيها، فلا نحتاج إلى النظر. (قلنا): ليس تقليد أحدهما بأولى من تقليد الآخر، فلا بد من اجتهاد واستدلال، ولأن المقلد يجوز كذبه، فلا يمكن إدراك الحق (من جهته)، ولأن المقلد لا يخلو أن يكون

ما علمه (بالاستدلال والنظر أو أخده تقليداً من غيره)، أو علمه ضرورة، لا يجوز أن يكون علمه ضرورة (لما) بينا، ولا يجوز تقليد غيره لأن من قلده لا يخلو علمه من ذلك إلى ما لا نهاية له، فثبت أن علمه بالنظر والاستدلال. دليل آخر: أن من يمنع من ذلك لا يخلو، (إما) أن يمنعه، لأن النظر أداة إلى ذلك، فقد أقر بما منعه تقليداً، فيجب أن يقبله تقليداً (لأنه) ليس أحدهما أولى من الآخر. (ودليل آخر): أن الذي يقلد لا يخلو أن يكون معصوماً، فلا بد من دليل قاطع على عصمته من شهادة الله تعالى أو رسوله (له) أو يكون يجوز عليه الضلال، فلا يجوز تقليد من يجوز عليه، لخوف أن يوقعه في ذلك. فإن قيل: أليس قد جاز تقليد النبي صلى الله عليه وسلم؟ (قلنا): الرسول لم نقلده بل نعلم أن قوله حجة لأن الله تعالى دلنا على صدقه وعصمته بإظهار المعجزة على يده، وهذا الدليل باطل بتقليد العامة العلماء.

دليل آخر: نجد كل عاقل إذا نابته نائبة في دنياه، فإنه يفزع إلى عقله (ليتحرز) من ضرر ذلك، ألا ترى أنه لو رأى في الطريق أثر سبع امتنع من سلوكه، وإذا رأى أثر ماء في موضع وهو عطشان لزمه طلبه وقصده، لإحياء نفسه، فلولا أن الاستدلال طريق، لما فزع إليه العاقل لاجتلاب المنفعة ودفع (الضرر)، كما لا يفزع إلى آلة الشم إذا أراد السماع، ولا إلى السماع إذا أراد النظر. احتج المخالف: بأنه لو كان النظر طريقاً لمعرفة الأحكام (العقلية)، لوجب أن يثمر عند وجوده أمراً مستقراً، ألا ترى أن المقابلة في الأوزان والمكاييل والأعداد لما كان طريقاً لمعرفة المقادير، أثمر عند الاعتبار أمراً يقطع الخلف. الجواب: أن النظر الصحيح يثمر الحق الذي لا يخالفه إلا معاند، ولهذا نرى الجماعة يرجعون عند إمعان النظر عما كانوا عليه من المذاهب، وإنما لا يتضح الحق لمن قل نظره (أو قلد) في دينه أو عدم آلة الاجتهاد (إذا ارتكب الهوى في تقليده الرجال). احتج: بأنا نرى من يعتقد مذهباً عن نظر ثم ينتقل عنه إلى

مسألة يجوز التعبد بالقياس الشرعي عقلا وشرعا

غيره، (ولو) أدى النظر إلى الحق لم يقع الانتقال. الجواب: أن هذا لا يدل على فساد النظر، ألا ترى أن الإنسان يرى السراب فيحسبه ماء ثم (يتبين) له أنه ليس بماء، ولا دل ذلك على أن نظر العين ليس (بطريق) صحيح إلى المنظورات، والمشاهدات. (احتج): بأن القياس استدلال بالمشاهد على الغائب، وذلك لا يجوز، ولهذا أول من قاس إبليس، فأخطأ في قياسه وضل. الجواب: إن هذا دعوى لا برهان عليها، ولم لا يجوز قياس الغائب على الشاهد، إذا كان علته قائمة فيه، وهو في معناه؟، وقولك أول من قاس إبليس دعوى أيضاً، وما تنكره على من قال: أول من قاس الملائكة فأصابوا؟ ثم قد قمت واستدللت لأنت حملت قياس غير إبليس على قياس إبليس، فناقضت قولك، ثم يجب أن لا تصح المقابلة في الأوزان وغيرها، لأنه حمل الشيء على غيره. مسألة يجوز التعبد بالقياس الشرعي عقلاً وشرعاً، نص عليه في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: لا يستغني أحد عن القياس،

وعلى الحاكم والإمام (يرد عليه) الأمر، (أن يجمع) الناس ويقيس ويشبه، كما كتب عمر إلى شريح: قس الأمور، وقد ذكر القياس في كثير من مسائله، وبهذا قال عامة الفقهاء والمتكلمين، وذهب قوم من المعتزلة (كمحمد بن عبد الله الإسكافي) وجعفر

ابن حرب. وجعفر بن مبشر إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ويجوز شرعاً، وذهب النظام و (داود) وأهل الظاهر كالقاشاني والمغربي (وغيرهما) إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعاً،

وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الميموني فقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين، المجمل والقياس، وتأويله شيخنا: على أن المراد به استعمال القياس في معارضة السنة، والظاهر خلافه، فالدليل على (جواز) التعبد به من جهة العقل: أنا أجمعنا على أنه يحسن في العقل العمل على موجب القياس المعلومة والتعبد به، فلو قبح العمل على القياس المظنونة علته، لكان قبحه لما افترقا من حصول العلم بأحدهما والظن بالآخر، ولو كان الظن يقبح (تكليف) (العمل به) لما (ورد به) التعبد العقلي والسمعي، أما العقل فوجوب القيام من تحت حائط يخشى سقوطه لفرط ميله وإن جوزنا السلامة في القعود والهلاك في القيام، وكذلك من سافر في طلب الربح فأخبر أن في طريقه لصوصاً، وغلب على ظنه صدق المخبر لزمه ترك سلوك الطريق مع جواز أن يسلم. أما السمعي فالحكم بشهادة الشاهدين، وإن كان (قولهما) يثمر الظن دون العلم، وكذلك تولية الأمراء والحكام عند

ظن سدادهم، والتوجه إلى جهة عند ظن كون القبلة فيها، وغير ذلك، فثبت ما قلناه. دليل آخر: أنه غير ممتنع في العقل أن يقول صاحب الشرع إذا علمتم أو غلب على ظنكم أن الحكم متعلق بمعنى، فقيسوا عليه ما وجد فيه ذلك المعنى، كما قال: إذا علمتم أو غلب على ظنكم زوال الشمس فصلوا، أو طلوع لفجر فصوموا، أو علمتم أو غلب على ظنكم كون القبلة في هذه الجهة فصلوا. وأمثال ذلك. فإن قيل: يجوز أن يقع العلم والظن فيما ذكرتم، فأما في علة الحكم فلا يقع علم ولا ظن، لأنه طريق لذلك. قلنا: (هذا) غلط، لأن العلماء بأجمعهم على اختلاف مذاهبهم وكثرة أعدادهم- حتى أن العلم يحصل بخبر بعضهم يزعمون أنهم يظنون أن علة الحكم في هذه المسألة كذا وكذا، وأن هذه المسألة نظيرتها، فمنكر ذلك بمنزلة من أنكر الظن في العقليات وأنكر وجود السرور والحزن والنفور والسكون، وقولهم: لا طريق إلى ذلك غلط (أيضاً)، لأن الظن يحصل في الشيء بما يحصل في نظائره، ولهذا إذا رأينا العصير غير حرام، فإذا اشتد صار حراماً، فإذا صار خلا (عاد) حلالاً ظنناً أن علته المحرمة الشدة، فإذا وجدنا مثل تلك الشدة في النبيذ غلب على ظننا أنه محرم، ولا يقال علته

الاسم، لأنه لو طبخ لم يسم خمراً (ويحرم إذا حدثت) فيه الشدة (المطربة)، وكذلك نقنع الزبيب والتمر لا يسمى خمراً، وهو حرام عند حدوث الشدة فبطل (أن يعلق بالاسم). احتج: بأنه لما لم يجز استعمال القياس في أصول الشرع، (كذلك) في فروعه. الجواب: أنكم إن أردتم (منع جواز قياس البر في الربا على أصل قد نص على ثبوت الربا فيه، فلا نسلم، ونقول: يجوز استعمال قياس البر على ذلك الأصل) وإن أردتم (جواز) قياسه لا على الأصل، فقد ألزمتم ما لا يعقل، لأن المعقول من القياس أن يقاس شيء على شيء، فأما يقاس شيء لا على شيء (فلا يعقل) كذلك في جميع الأصول نقيسها إذا كان لها أصل ثابت.

احتج: بأنه لا يجوز استعمال القياس الظني في معرفة الله سبحانه وصفاته، فكذلك (في شرعه). الجواب: أنه جمع من غير علة، على أن ما أمكن التوصل فيه إلى العلم لا يكلف فيه الظن، ومعرفة الله سبحانه (وغيرها) مما طريقه العلم عليه أدلة توجب العلم من الصنعة والحكمة والمشاهدة، فلا ترجع فيه إلى أمارة ظنية، لأن وجود العلم في ذلك أدعى إلى عبادته وطاعته وأشد لخوفه واجتناب معصيته. فإن قيل: فهل يجوز أن تنصب عليه دلالة تؤدي إلى العلم، وتنصب أمارة تؤدي إلى الظن؟ قلنا: هذا محال، لأن جسم الإنسان دلالة على الله تعالى، وكذلك سائر مخلوقاته، فكيف يجوز أن لا تكون له دلالة (تؤديه إلى العلم؟). احتج: بأن الأحكام الشرعية إنما هي مصالح والطاف، والمصالح مما لا يتوصل إليها بالاستدلال الموجب للظن، فكيف يتعبد فيها بالقياس؟ الجواب: أنا لا نسلم، لأن الاستدلال بالنصوص موصل إلى المصالح، وكذلك القياس على النصوص.

فإن قيل: القياس الظني يخطئ ويصيب، فلا يجوز للحكيم التعبد بما يخطئ. (قلنا): لا نعتقد المصلحة بالظن، وإنما نقول: علمنا بحسب الظن هو المصلحة، وذلك معلوم بدليل قاطع، وهو دليل التعبد بالقياس، على أن (ما ذكرتم) منتقض بما تعبدنا فيه بالظن في الشرع من القبلة، والشهادة، والفتوى، والتصرف بحسب اختلاف النفع، ودفع الضرر، ولهذا تعبدنا بالأخبار الآحاد، وطريقها الظن. احتج: بأن القياس فعل القايس فلا يجوز تعلق المصلحة بفعله. الجواب: أن القياس إثبات حكم الأصل في الفرع لاستوائهما في علة الحكم، (ولابد) في إثبات ذلك بالعلة من أمارة تدل على صحة العلة في الأصل، ومن دليل (يدلنا) على وجوب إلحاق الأصل بالفرع الذي وجدت فيه علة الأصل، ونظرنا في ذلك واستدلالنا به (كاستدلالنا) بالنصوص والظواهر،

ونظرنا فيها، وذلك هو المأخوذ علينا، لأن كل علم وكل ظن قائم يتوصل إليه بالنظر وهو فعلنا. واحتج: بأن العلة في الأصل لا تخلو: إما أن تعلموها بالنص، فلسنا نخالفكم فيما نص على العلة فيه، وإما أن تعلموها بحكم العادة التي تكسب الظن، فالأحكام لا تثبت بالعادات، فثبت أنه لا طريق إلى إثباتها. والجواب: يقال: ولم لا يجوز أن تثبت علة الأصل بتنبيه الشرع وعاداته ويتعلق بذلك الظن؟، فإن الشرع قد يدل على الحكم تارة بصريحه وأخرى بتنبيه فإذا علمنا أن الحكم يثبت في الأصل عند وصف (ولا ينتفي) عند انتفائه، غلب على ظننا أنه لأجله ثبت، كما ذكرنا في الشدة في الخمر. احتج: بأنكم إذا أثبتم العلة بالظن وأخبرتم عن تعلق الحكم بها، لا تأمنون أن يقع الخبر بخلاف مخبره، وهذا التجويز يمنع من الخبر، ألا ترى أن من ظن إنساناً في الدار لم يجز أن يخبر عنه أنه في الدار. والجواب: أنه إن أراد السائل (إلزامنا) جواز الخبر عن ظننا كون زيد في الدار، فذلك جائز وهو (خبر) صدق، وإن

أراد إلزامنا الإخبار عن (كون زيد) في الدار مطلقاً، لا بحسب الظن، فذلك غير لازم، لأن من شرط الخبر المطلق القطع، والقطع في الخبر لا يكون نتيجة الظن: بخلاف العبادات الشرعية، فإنها مصالح وغير ممتنع أن يكون فعلها، ونحن نظن شبه الفرع بالأصل مصلحة لما بينا من أن التعبد قد يحصل بما طريقه الظن من أخبار الآحاد والظواهر، والحكم بشهادة الشاهدين وتولية الأمراء، والقيام من تحت الحائط المائل، وغير ذلك. واحتج: بأنه لو كانت العلل الشرعية عللاً لكانت كالعقلية في استحالة انفكاكها عن أحكامها، ألا ترى أنه يستحيل وجود الحركة بجسم غير متحرك، فلما جاز أن تنفك (عن أحكامها) قبل الشرع، ثبت أنها ليست عللاً. والجواب: أنكم جمعت بين الشريعة والعقلية بغير جامع، على (أن العلل العقلية) لا تنفك عللها من أحكامها، لأن الجسم إنما كان متحركاً لوجود الحركة به، والحركة لا تكون إلا بمحل متحرك فلم يصح انفكاك أحدهما من الآخر، بخلاف علل الشرع فإنها أمارات على الحكم في الأصل، وقد يكون الحكم تارة ثابتاً في الأصل وتارة لا يكون ثابتاً بأن ينسخ، ولهذا اختلفت شرائع الأنبياء (عليهم السلام) لحسن النسخ ولا يرد النسخ في العقل.

وقيل: (إن) العلل الشرعية أمارة على وجه المصلحة، والمصلحة تختلف باختلاف الأزمان، ألا ترى (أن) مصلحة الصبي في وقت الرفق وفي وقت العنف، وفي وقت مصلحة الإنسان الشبع، وفي وقت الجوع، فجاز أن يكون حكم العلل الشرعية مصلحة في وقت الشرع، غير مصلحة قبل الشرع. فإن قيل: بماذا تعلمون تعلق الحكم بالعلة؟ (قلنا): يتعلق صاحب الشرع، الحكم عليها، إما نصاً أو تنبيهاً كما نعلم تعليق الحكم بالاسم بتعليق النبي (عليه السلام)، وقيل الشرع لا يتعلق (الحكم) بالاسم بحال. واحتج: بأن العقل كالنص في أنه يدل على حكم الحادة، فكما لا يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بقياس يخالف النص، (فكذلك) لا يجوز أن يتعبدنا بقياس يخالف العقل، وكل حادثة فلها حكم في العقل، فلا يجوز التعبد فيها بقياس. الجواب: أنا لا نسلم أن للعقل حكماً في الشرعيات. وإن سلم فإن حكم العقل يستعمل ما لم يرد دليل شرعي، فمن أين لهم أن

القياس ليس بدليل شرعي؟ (وهل) النزاع إلا في هذا؟ على أن ما ذكروه منتقض بخبر الواحد لا يجوز (استعماله) في خلاف نص القرآن والتواتر، ويجوز أن يستعمل في خلاف العقل، ثم يجب أن تقولوا: إنا نستعمل قياساً مطابقاً لما في العقل، على أن القياس لا يقدم على النص، لأنه نتيجة النطق فلا يقدم على أصله، ولأن النص أبين من القياس، بخلاف مسألتنا. احتج: بأن القياس أدون بياناً من النص، والحكيم لا يقتصر بالمكلف على أدون البيانين دون أعلاهما. الجواب: أن هذا تسليم أن القياس يقع به البيان، وغير ممتنع أن يكون في تعريفنا الحكم بأدون البيانات مصلحة زائدة على تعريفنا ذلك (بأعلاها) وهو ما يحصل (لنا) من ثواب الاجتهاد ثم لو وجب التعبد بأعلى البيانات لوجب تعريفنا الأحكام ضرورة، والاقتصار بنا على النصوص الجلية المتواترة (دون الآحاد). (لأنها) أعلى بياناً من الخفية.

احتج: بأنه لو جاز التعبد بحسب ظننا (للأمارة)، لجاز أن نتعبد بحسب شهوتنا واختيارنا، وظننا من غير أمارة تبخيتا، لأنه جائز أن تكون المصلحة أن نعمل بحسب شهواتنا واختيارنا، ومجرد ظننا، كما أنه جائز عملنا بحسب ظننا (للأمارة). الجواب: (أن العمل بالقياس) مبني على ما تقرر في العقل من حسن التصرف في الدنيا. بحسب ظن النفع واندفاع الضرر، إذا كان الظن عن أمارة أوجبته، فأما تحمل المشاق لأجل الشهوات والاختيار والتبخيت، فقد قبحه العقل، ولذا يذم العقلاء من أقدم على فعل ما لا يأمن مضرته شهوة وتبخيتا، ولا يذمون إقدامه عليه إذا قامت (عليه) أمارة صحيحة على (اجتلاب) نفعه ودفع ضرره، وإن جاز انعكاس ذلك في حقه. احتج: بأنه (لو جاز) التعبد بالقياس لجاز أن يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضره، ويصح به النسخ. الجواب: أن جميع ذلك (مجوز) في العقل، وكلا

منافيه، وكذلك/ في الشرع يجوز تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالقياس، فأما النسخ فإنما لم يجز، لأن القياس يترك للخبر إذا كان متقدماً عليه، (فأولى) أن يترك (له) إذا تأخر عنه، وقد تقدم الكلام في تقديم الخبر على القياس. (واحتج): بأنه لو جاز أن يعلم الأحكام به لجاز أن يعلم ما يكون وما في الأرحام بالقياس. الجواب: (أنه) لا جامع بينهما (فلم) كان كذلك؟ على أنه لم تنصب لنا على ذلك أدلة، وقد نصبت لنا هاهنا أدلة نرجع إليها ونقيس عليها. احتج: بأن الأخذ بالقياس يؤدي إلى تناقض الأحكام، فإن الفرع إذا تجاذبه أصلان وجب إلحاقه بكل واحد منهما لتساويه في أخذ الشبه منهما وذلك متناقض. الجواب: أنه إذا تجاذبه أصلان ألحقناه بأكثرهما شبهاً (وأقربهما) تأثيراً، فلا يؤدي إلى التناقض، كما نقول: إذا تجاذب في العقل أصلان (فإنه) (إذا) أراد الإنسان السفر للتجارة

يحسن له ذلك العقل، من حيث (طلب) المنفعة بالربح، ويقبح له ذلك من حيث المخاطرة بماله ونفسه، فيعمل على أولاهما وأقربهما (إلى النفع) وقد قال قوم: إذا أشبه أصلين وكان فيهما سواء (فالقائس) بالخيار في إلحاقه بأيهما شاء، فثبت أن إلحاقه بأصلين لا يمنع صحة القياس (والله أعلم). فصل والدليل عليه من جهة الشرع خلافاً لأهل الظاهر والنظام، قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وحقيقة الاعتبار في اللغة: اعتبار الشيء بغيره في حكمه، أو صفته أو (قدره)، ومنه قولهم (اعتبر) السلطان الخراج في عامنا بالخراج (العام) الماضي، (واعتبر الدنانير) بالوزن، يعني بالصنجة، وهذا نفس القياس. فإن قيل: المراد بذلك الاعتبار بمن مضى من الأمم لينزجروا.

(قلنا): الاعتبار عام في كل شيء، ثم أمره باعتبار حالنا بحالهم في ترك الأقدام على ما أقدموا عليه (مخافة) العقاب نفس القياس. فإن قيل: لا يجوز أن يدخل فيه اعتبار الفرع بالأصل، ألا ترى أنه لا يحسن أن يصرح بذلك، فيقول: يخرجون بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا الفروع بالأصول يا أولي الأبصار. (قلنا): إنما لم يحسن ذلك يخرج المذكور من عموم الاعتبار، إذ ليس حالنا فرع حالهم، وإنما يذكر اللفظ العام الذي يدخل فيه السبب الذي ورد فيه وغيره، لتعم فائدته، فأما إذا خرج منه السبب كان نقصاً في الكلام. دليل ثاني: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول الله لما (يرضاه). فإن قيل: هذا حديث غير ثابت، (لأنه) رواية

الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ (عن معاذ) وهم مجاهيل. (قلنا): أصحاب معاذ مشهورون باتباعه في دينه وزهده وورعه، وذلك يثبت صحته، على أنه قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن ابن غنم (عن معاذ)، وابن غنم ثقة مشهور. فإن قيل: (فهو) خبر واحد، فلا يثبت به أصل من الأصول.

(قلنا): حديث معاذ تلقته الأمة بالقبول، فمنهم من أخذ به، ومنهم من تأوله، على أنه (يجوز) أن يثبت القياس بخبر الواحد، لأن الدليل المعلوم قد دل على خبر الواحد، ولأن خبر الواحد يثبت به الحظر والإباحة والعبادات والحدود والقتل، وهذه الأحكام هي الثابتة بالقياس فجاز أن يثبت به القياس. فإن قيل: يحتمل قوله: أجتهد رأي في طلب الحكم في الكتاب والسنة. (قلنا): هذا غلط، لأنه قال: فإن لم تجد، وهذا إنما يكون بعد الطلب، ولأن الطلب لا يضاف إلى الرأي، وإنما يضاف إلى الرأي الاجتهاد في (إلحاق) النظير بالنظير.

خبر آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره). فإن قيل: يحتمل أن يكون اجتهاده في تأويل (لفظ)، أو ترتيب لفظ على لفظ. (قلنا): هو عام. وخبر آخر: رواه أبو عبيد في أدب القضاء بإسناده عن أم سلمة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث درست فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أقضي (بينكما) برأيي

فيما لم ينزل علي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحجة فاقتطع بها قطعة ظلماً فإنما تقطع بها قطع من نار جهنم فأخبر أنه يقضي برأيه واجتهاده. وخبر آخر: (وهو) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين سأله عن القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء"؟ فشبه قبلة الصائم من غير إيلاج بالماء في الفم من غير ازدراد (وأجرى) حكم أحدهما على الآخر في نقض فساد الصوم.

وكذلك قوله ... للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين) فشبه حجها عنه بقضاء الدين عنه، فدل على أن أمر القياس متمهد في الشريعة. ودليل ثالث: إجماع الصحابة، روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: أقول في الكلالة برأيي وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى: الفهم الفهم فيما أدلى إليك، مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قسى الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال والأشباه ثم أعمل فيها بأحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، وهذا كتاب تلقته الأمة بالقبول وروى عنها أنه قال لعثمان رضي الله عنه إني رأيت في الجد رأياً فاتبعوني، فقال عثمان: أن نتبع رأيك فرأى

رشد، وأن نتبع رأي من كان قبلك فنعم ذا الرأي كان روى زادان عن (علي رضي الله عنه): أنه قال: سألني (أمير المؤمنين عمر) عن الخيار فقلت إن اختارت (زوجها) فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال ليس كذلك، ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة، وزوجها أحق بها (فتابعت أمير المؤمنين). فلما خلص (الأمر إلي) وعرفت أني أسأل عن الفروع (عدت) إلى ما كنت أرى، فقلنا والله لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين، وتركت رأيك له أحب إلينا من أمر انفردت به فضحك وقال: أما أنه أرسل إلى زيد بن ثابت وخالفني وإياه، وقال: إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي

ثلاث (وروي) عنه أنه قال: كان رأيي ورأي (أمير المؤمنين): أن لاتباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن، فقال له عبيدة (السلماني): رأيك مع رأي- أمير (المؤمنين) أحب إلينا من رأيك وحدك، وعنه أنه قال في الإخوة إنهم بمنزلة نهر انخلج منه خليجان فأحدهما أقرب إلى الآخر، (وروى) عن زيد الإخوة بمنزلة أغصان الشجرة فالغصن إلى الغصن أقرب وروى عن ابن مسعود أنه قال في قصة بروع (ابنة) واشق: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن ومن الشيطان وروى عن ابن عباس أنه قال في ديات الأسنان لما

قسمها عمر على المنافع: هلا اعتبرها بالأصابع عقلها سواء، وإن اختلفت منافعها. (وروى) عنه أنه قال: ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبا الأب أباً روى ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن لم يجد نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فإن لم يجد سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فإن لم يجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) جمع رؤوس الناس وعلماءهم واستشارهم، فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به، (قال): وكان عمر يفعل ذلك. وهذا إجماع منهم على الأخذ بالرأي والقياس نطقاً وتصريحاً.

وأما إجماعهم من جهة الاستدلال: فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في الحوادث اختلافاً متبايناً وجميعهم قالوا بالقياس فيها، ولم ينكر بعضهم على بعض من ذلك قول الرجل لامرأته أنت حرام. (قال) أبو بكر وعمر: إنها يمين مكفرة، وقال عثمان وابن عباس: هي ظهار، وقال علي وزيد: هي طلاق ثلاث، وقال ابن مسعود: طبقة واحدة، فكل منهم قال فيها برأيه وقاس؛ (لأنه) لا يخلو أن يكونوا قالوا ذلك بدليل أو بغير دليل. لا يجوز أن يكونوا قالوا بغير دليل؛ لأنهم يكونون قد أجمعوا على الخطأ، وقد أعاذهم الله تعالى (من) ذلك، ونزههم أن يقولوا في دينه

بغير دليل، فثبت أنهم ذهبوا إلى دليل لا يجوز أن يكون ذلك الدليل نصاً خفياً أو جلياً، (ولا يظهره) بعضهم لبعض حتى يرجعوا إليه، وقد كانوا يسألون عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمون مخالفته، فثبت أنهم قالوا ذلك قياساً، وقد نبهوا على ذلك، لأن من قال: هي يمين، قال: قد منح نفسه من وطئها بغير لفظ (الطلاق) فهو كالمولى. ومن قال: هو ظهار قد وصفها بصفة المحرمات عليه، وذلك ظهار، ومن قال طلاق ثلاث ذهب إلى أن التحريم غايته لا تحصل إلا بالثلاث، وقد وصفها بالتحريم. ومن قال: طلقة، قال: أقل ما يحصل به التحريم طلقة فلزمه الأقل، فهذه معاني ظاهرة، وكذلك اختلافهم في الجد، فمنهم من (أسقط به الإخوة)، ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث، ومنهم من قال: إلى السدس، ومنهم من قال غير ذلك، (وكذلك)

اختلافهم في الشركة، (وفي لفظ الخيار) فإن قيل: يحتمل أنهم قالوا ذلك عن نصوص. (قلنا): الصحابة كانوا يعظمون (نصوص) النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يكون/ بعض هذه الأقوال تخالف النص، فلو كان لأظهروه حتى يرجع المخالف إليه، ولأنه محال ومن) عدد كثير يعظمون رجلاً حتى ينقلوا من أفعاله وأقواله ما لا يتعلق به حكم شرعي ثم يهملون ما تدعو حاجتهم إليه عند الخلاف في الأحكام.

فإن قيل: (أليس) يجوز أن يجمعوا على نص ثم لا ينقلونه؟ (قلنا): لأن إجماعهم حجة فأغنى عن نقله، وأما في حال الاختلاف فليس قول (أحد منهم) حجة، فالنقل يلزمهم لتقوم به الحجة. فإن قيل: فلو ذهبوا إلى القياس لصرحوا به. (قلنا): قد صرحوا في بعضها كما بينا في الجد والمشركة، ونبهوا في بعضها، وقد يحصل الغرض بالتنبيه كما يحصل بالتصريح ولهذا قد ينبه الفقهاء من فتياهم وكلامهم على تلخيص العلة والقياس .. فإن قيل: ليس قولهم في الجد قياساً، وإنما اعتبروا القرب؛ لأن الشرع قدم الأقرب. (قلنا): ليس كذلك، فإن ابن الابن إلى عشرة يقدم على الأب والأب أقرب، وابن العم إلى خمسة يقدم على بنت البنت وهي أقرب ولأنهم لو اعتبروا القرب خاصة لسووا بين الأخ والجد بكل حال، والأمر (بخلاف ذلك).

فإن قيل: فالمشركة أعطى الإخوة لأبوين لعموم القرآن {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. (قلنا): إنما جعل الشركة للإخوة الذين لكل واحد منهم إذا انفرد السدس وظاهر الآية يدل على ذلك. فإن قيل: فقد روى عن الصحابة ذم الرأي (كقول أبي بكر) رضي الله عنه: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأي". وقول عمر رضي الله عنه: "أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار"، وقال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وروى عنه أنه كتب إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس فيه فاقض بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك أن

لا تقضي، وقول علي: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم، فليقل في الجد برأيه، وقوله: لو كان الدين بالرأي، لكان مسح باطن الخف أولى من ظاهره، وقول ابن مسعود: يذهب قراؤكم، ويتخذ الناس رؤوساً جهالاً يقيسون الأمور برأيهم، وقال ابن عباس: لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} وقال ابن عمر لا تجعل الرأي سنة للمسلمين وقال الزبرقان: نهاني

أبو وائل أن أجالس أصحاب الرأي. (قلنا): إذا ثبت عنهم بما روينا القول بالرأي، فيجب حمل ذمهم على الأخذ بالرأي، وترك الأحاديث وطلبها، ليجمع بين أقوالهم، لأن الذين روى عنهم ذم الرأي (هم الذين أخذوا به). جواب آخر: أن قول أبي بكر ورد في تفسير القرآن، وذلك لا يجوز القول فيه بالرأي، إنما يحمل على ما (توجيه) اللغة، أو ينص عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقول عمر رضي الله عنه ذم به العجلة والجرأة في الحكم في الجد، وقوله أعيتهم الأحاديث ورد فيمن ترك طلب السنة، وعمل برأيه، وإنما يؤخذ بالقياس عند عدم السنة، وقول (علي): "لو كان الدين بالرأي"، أراد جميع الدين وهو صحيح؛ لأن (الرأي) إنما يعمل به فيما لا نص فيه،

وقوله: "فليقل في الجد برأيه". (معناه الرأي) الذي لا يسند إلى كتاب أو سنة، (وإنما) يقول بما يسنح له من غير (نظر) (وكذلك قول ابن مسعود، وكذلك قول ابن عباس: أن يحكم برأيه من غير أن يقيس على أصل ثبت بكتاب أو وحي)، وكذلك قول أبي وائل. فإن قيل: فنحن نجمع بين قولهم، فنقول: من قال: أقول برأيي بما وقع لي من لفظ الكتاب والسنة أو تأولته، أوقفت على دليل العقل، وقد سمي ذلك رأياً، ولهذا يقال: فلان رأيه (العقل) وفلان رأيه الخبر وإن توصل غليهما بنص جلي أو خفي، أو دليل عقل، ومن ذم الرأي فمعناه من أخذ بالقياس والشبه. (قلنا): هذا غلط، لأن قول القائل: قلت هذا برأيي، فإنه لا يعقل منه أنه قال بنص جلي ولا خفي، وإنما يفهم أنه قاله استنباطاً واستخراجاً بما يراه من النظائر والأمارات، ولهذا لا يقال: حرم المسلمون الميتة بآرائهم ولا أثبتوا الربا في الأعيان الستة بآرائهم ولا يقال للجيش إذا أطاعوا أميرهم في فعل رآه: فعلوه بآرائهم، ويقال

للإنسان: أقلت هذا برأيك أو بكتاب الله أو بسنة رسوله؟ فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر، ومخالفنا يذم أصحاب الرأي، ولا يريد به من ذهب إلى نص، فثبت أن (قول) من قال: "أقول برأيي". أراد قوله بالأمارات المظنونة والقياس، فأما ما ذكروه فإنه يقال: رأي فلان "العدل"، معناه اعتقاده (ونحلته)، (ولهذا يقال: تحريم الميتة والربا رأى المسلمين، ولا يقال: حرموا الربا والميتة برأيهم) ولهذا أخبار الصحابة: أقول برأي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني وغير ذلك، فبطل ما قالوه. دليل رابع: (وهو أنا قد تعبدنا) بالأمارات المظنونة على جهة القبلة عند الاشتباه والعمل بحسبها، (وكذلك) في بقية (الحوادث). فإن قيل: أمارات القبلة عقلية، وأمارات الشرع ليست بعقلية. (قلنا): إذا جاز الأخذ في الأحكام الشرعية (بالأدلة

الشرعية)، وبعضها ظنون، مثل أخبار الآحاد، والعموم، والظاهر، جاز بالأمارات الظنية وهي القياس، ولأنه لا فرق بينهما، فإن أمارات القبلة وإن كانت عقلية فما تكسبنا إلا الظن دون العلم، فكذلك (أمارات الشرع) ولا فرق بينهما. فإن قيل: [لم إذا] تعبدنا بالأمارات المظنونة في وضع يجب في كل موضع؟ (قلنا): لأنا لما عدمنا (في) القبلة ما يوجب لما العمل نقلنا إلى الظن، (فكذلك) يجب في بقية الأحكام. فإن قيل: (لا نسلم) أنا فقدنا (العلم) بحكم (الحادثة) لأنا نجعل الطريق إلى ذلك العقل. (قلنا): ما الذي يدل على أن العقل طريق في الأحكام الشرعية؟ ولأن في الأحكام ما لا دليل في العقل عليه، مثل لفظ

الحرام ومثل/ اختلاف المتابيعين في قبض الثمن أولاً أو العوض وغير ذلك من الأحكام. دليل خامس: كل حادثة فلا بد لها من حكم ولا بد لذلك الحكم من دليل، وكثير من الحوادث لا نص فيها، ولا ظاهر (ولا إجماع) وليس بعد ذلك إلا القياس، فلو لم يكن حجة خلت الحوادث من طريق إلى الحكم. فإن قيل: جميع الحوادث عليها نصوص ظاهرة أو خفية، مثل العموم والتنبيه. (قلنا): لو كان كذلك لما افتقر أهل الظاهر في كثير من الحوادث إلى استصحاب الحال، (وحكم أدلة العقل). فإن قيل: (فنرجع) إلى استصحاب الحال (وحكم العقل). (قلنا): لا نسلم أن ذلك دليل في الشرع. جواب آخر: أن الحوادث في عصر الصحابة لم يرجعوا فيها إلى استصحاب الحال ولا أدلة (العقل) وإنما رجعوا إلى القياس على ما بينا، فدل على أن ذلك لا يجوز.

واحتج المخالف: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفي العمل بالقياس (تقديم)، لأنه حكم بغير قولهما، وكذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وفي الحكم بالقياس قول بما لا يعلم. الجواب: إنا لا نسلم أن الحكم بالقياس هذه سبيله، بل هو حكم بما (أمرنا) الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحكم بما يعلم، لأن (الأدلة) القاطعة على صحة القياس دلتنا على ذلك "وهو علم الاستنباط من قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. واحتج: بقوله تعالى: {أَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} وبقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (وبقوله): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.

وبقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. الجواب: أن الحكم بالقياس حكم بما أنزل الله، ورد إلى الله والرسول، وقد بينا ذلك، وقوله ما فرطنا في الكتاب من شيء، فصحيح لكن المراد به ما ورد به الكتاب غير مفرط فيه، ولهذا نرى حوادث ليست في الكتاب فعلم أن المراد به أن القياس ثبت بالكتاب، كما أن (الإخبار) والإجماع دل (عليهما) الكتاب ثم يعارض ذلك قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} معناه فيما أمركم به، ثم قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (المراد به) القياس على قولهما وإلا لو أراد إلى ظاهر قوليهما أفضى إلى التكرار، لأنه قد تقدم في الآية وكذلك يعارض بقوله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (والاستنباط) هو القياس. (واحتج): بقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} وقوله {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}

الجواب: أن المراد به الظن الذي هو تخمين وحدس، بدليل أن حكمنا بأخبار الآحاد والعموم واستصحاب الحال هو ظن، وكذلك حكمنا يقول الشاهدين، وأخذنا بقول المقومين في القطع، وغيره. وقبول قول المرأة في حيضها وطهرها وغير ذلك، على أن ردهم (القياس) إنما هو بالظن، لأنه ليس في رده دلالة معلومة. واحتج: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون/ الأمور برأيهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال". الجواب: أنه غير معروف، ولو صح فهو خبر واحد غير مشهور، فلا يحتج به في الأصول: ثم يحمل ذلك على الذين يقيسون مع وجود الكتاب والسنة، بدليل ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأضلوا. ومعناه إذا تركوا الكتاب وأخذوا بالرأي.

واحتج: بأن إثبات القياس لا يخلو (إما) أن يكون بالعقل أو النقل، لو كان بالعقل لاشتركنا فيه، ولو كان بالنقل لكان إما تواتراً فنعلمه (كلنا) أو آحاداً فلا يقبل في الأصول. الجواب: أنه يثبت بالعقل وقد دللنا عليه، (وبالنقل) وقد نقلنا أخباراً تلقتها الأمة بالقبول وإجماع الصحابة، وهو دليل يقع به العلم، على أنه يثبت عندنا بما يثبت الأحكام لأنه ليس يثبت سوى الأحكام، ثم نقلب عليهم، فنقول: (نفى) القياس لا يخلو من التقسيم الذي ذكرتم، فجوابكم عن ذلك هو جوابنا.

واحتج: النظام: بأن الله سبحانه دلنا بوضع الشريعة على المنع من الأخذ بالقياس لأنه (فرق) بين المتفقين وجمع بين (المتفرقين)، فأباح النظر إلى وجه المرأة وحرم النظر إلى صدرها (والوجه أحسن) وأباح النظر إلى (شعر) الأمة الحسناء، وحرم النظر إلى شعر الحرة الشوهاء، وأوجب الغسل من المنى ولم يوجبه من البول وهو أنجس، وأوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، وهما متفقان وغير ذلك. والجواب: أن القياس يقتضي الجمع بين الشيئين في الحكم واختلافهما (فيه) إذا اشتركا (أو افترقا) في علته لا في الصورة، ولم يبين النظام أنهما قد اشتركا (فيما ذكر) في علة التحريم (أو الإباحة) (وورد) الشرع بالتفرقة بينهما

فإن قيل: لو حظر في الشريعة النظر إلى شعر الحرة، وأمسكت عن شعر الأمة لقلتم: إنما حظر في ذلك خوف الفتنة، وذلك قائم في شعر الأمة وهذا أقوى قياس لكم (في الشريعة)، فلما وردت الشريعة بخلاف ذلك دل على منع القياس. (قلنا): علل الشرع أمارات وقد يكون الشيء أمارة، وقد لا يكون، لأنه ليس من شرط الأمارة أن تدل هي وأمثالها على الحكم بكل حال، وإنما يشترط ذلك في الأدلة، ألا ترى أنا نجد غيماً رطباً في وسط الشتاء ولا يكون عنه المطر ولا يمنع ذلك من كون الغيم الرطب في ذلك الزمان أمارة المطر في الغالب (وكذلك) في مسألتنا، لا يخرج القياس أن يكون أمارة، إذا ورد الشرع بخلافه في موضع. فإن قيل: الأكثر من أمارتكم يرد الشرع بخلافها، بخلاف الغيم الرطب فإن الأكثر من حاله المطر، فلهذا كان أمارة. (قلنا): هذا دعوى (منك لا سبيل لك) إلى البرهان عليها، بل أكثر أمارات الشرع يتعلق بها الحكم ويطابقها الشرع.

وجواب آخر: أنه قد قيل ما افترق حكم مشتبهين إلا لافتراقهما في المعنى، ولا استوى حكمهما/ إلا لاستوائهما في المعنى، فإن النظر إلى وجه (المرأة) إنما جاز لأن الحاجة تدعو إلى ذلك في الشهادة والمعاملة، ولا حاجة بنا إلى النظر إلى صدرها (وكذلك) سقطت الصلاة عن الحائض، لأنها تكثر فتشق عليها، وتصوم ما تركت من رمضان في جميع السنة فلا يشق (ذلك)، وإيجاب الغسل من المنى، لأنه يلتذ به في جميع البدن، ولهذا يوجد الخدران في جميعه، بخلاف البول، (لأنه يتكرر دفعات في اليوم والليلة، فإيجاب الغسل يوجب الحرج بخلاف الجنابة من المنى، فإنه لا يتكرر) وشعر الحرة ستر لشرفها، وكونها غير مبتذلة بخلاف الأمة. جواب آخر: لو منع ما ذكره من القياس لمنع من القياس العقلي فإنه قد تختلف فيه الأشياء المتفقة وتتفق الأشياء المختلفة، ألا ترى أن قطع العرق تارة يكون حسناً وتارة يكون قبيحاً (والرفق بالصبي تارة يكون حسناً وتارة يكون قبيحاً) وإن كانا متفقين، وكذلك يكون الرفق به وضربه حسنين وهما مختلفان (لمعين أوجب ذلك).

واحتج: بأن صاحب الشرع لو ذكر حكماً ونص على علته لم يكن لنا أن نلحق به غيره، فما تستنبط علته أولى أن لا يقاس عليه، يدل على ما ذكرنا: أن رجلاً لو قال لوكيله أعتق عبدي فلاناً، لأنه أسود لم يجز له أن يعتق كل عبد له أسود كذلك ما نص (على علته) صاحب الشرع. الجواب: إنا لا نسلم هذا ونقول: ما نص على علته صاحب الشرع القياس عليه أولى، (لأن الشرع) قد تعبدنا بالقياس، ولهذا لو قال (صاحب الشرع): "لا تأكلوا العسل، لأنه حلو"، حرم علينا كل حلو، فأما من أمر وكيله بعتق عبد له أسود لا يجوز له عتق غيره، لأنه لم (يأمره) بالقياس، فنظيره أن يقول (له): "إذا أمرتك بشيء لعلة فقس عليه (كل شيء من مالي وجدت فيه تلك العلة"، ثم قال: "أعتق عبدي فلان لأنه أسود، فعتق كل عبد له أسود) صح ذلك. فإن قيل: فيجب إذا قال الرجل عتقت عبدي، لأنه أسود يعتق كل عبد له أسود، لأنه مالك وقد علل.

(قلنا): إنما لم يعتق كل عبد له أسود لأن علته يجوز أن تنتقض (ويجوز أن تطرد) بخف صاحب الشرع، فإنه لا يجوز أن تتناقض علته فوجب طردها. واحتج: بأن القياس إن جاز التعبد به، (فإن ثبوت التعبد به) موقوف على ثبوت الحاجة إليه، والحوادث كلها قد تتناولها النصوص الخاصة والعامة، فلا حاجة بنا إليه فلم نكن متعبدين به. والجواب: إن قولكم الحوادث كلها قد تناولتها النصوص دعوى، ولهذا الصحابة اختلفوا فلم يكن عندهم نص يحتج (به) بعضهم على بعض، ولهذا نفاة القياس يعدلون في أكثر المسائل إلى الاستدلال بالبقاء على حكم الأصل، ودلائل العقل، ثم أي نص في أن قتل الزنبور يجوز في الحل والحرم غير القياس على قتل العقرب، وكذلك السنور إذا ماتت في السمن لا نص فيها إلا

القياس على الفأرة، وكذلك الفأرة إذا ماتت في الدبس لا نص فيها وإنما يقاس على موتها في السمن، وكذلك إذا ترك الصلاة عامداً يجب عليه القضاء، (ولا نص فيها) إلا القياس على تركها/ ناسياً وأمثال (ذلك كثير). واحتج: بأن ما من شيء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من (إلحاقه) بالآخر، ولا يمكن الجمع بينهما فوقف القياس. والجواب: أنا نلحق الفرع بالأصل إذا اتفقا في علة الحكم، (ولا يضرنا الافتراق) في غير علة الحكم، كما تقول في القياس العقلي: "نلحق الفرع بالأصل في علة الحكم، وإن فارقه في غيرها". واحتج: بأن الأحكام مأخوذة من صاحب الشرع، وهو خاطبنا بلغة العرب، والعرب لا تعقل (إلا ما دل عليه اللفظ)،

(فأما العلة) فلا تعقلها، لم تكن مخاطبين بها، وكان الحكم مقصوراً على ما يقتضيه الخطاب. (الجواب: أنا لا نعلم أن العرب لا تعرف معنى الخطاب) ولهذا يعقل من قول الإنسان لعبده: "إياك أن تكلم فلاناً"، المنع من (ضربه) وشتمه، ولهذا لو ضرب رجل أحد ابنيه، فقيل له: "لم ضربته"؟ فقال: "لأنه شتم زوجته"، قيل له: " (فالآخر) شتم زوجته أيضاً، (فإذا) لم يأت بعذر في هذا بأن نقضه وسقط كلامه، وهذا هو القياس، (ثم العرب ما كلفت الحكم في الحوادث). واحتج: بأن القول بالقياس يؤدي إلى نفيه، لأن من قال: لما ثبت الحكم في الأصل يجب في الفرع مثله اعتباراً بالأصل، لم

ينفصل عمن قال: لما لم يثبت الحكم في الأصل إلا بالنص يجب أن لا يثبت في الفرع إلا بالنص ليكون مثله. (والجواب): أن يقال: لم كان كذلك؟ ثم هذا قياس (منكم) على أن هذا لا يجوز أ، يكون طريقاً في إبطال القياس الشرعي، كما لم يكن طريقاً في إبطال القياس العقلي، فإذا قسنا العقلي على الضروري، فالقائل أن يقول: لنا الضروري يثبت (بالحس) فيجب أن يكون العقلي يثبت بالحس ليكون مثله، وهذا لا يقوله أحد. (وجواب آخر): أن الحكم في الأصل ثبت بالنص، فإذا عرفنا علة النص عديناها إلى الفرع، فأثبتنا الحكم فيه لاشتراكهما في العلة التي عقلناها من النص، فقد ثبتا بمعنى واحد إلا أن الأصل حصل فيه النطق، فلو اشترطنا في الفرع النطق صار أصلاً، (وبطل) القول بالقياس، والدلالة القاطعة قد دلت على استعماله، فلا يلتفت إلى شبهة توقف عنه. فإن قيل: لو ثبت حكم الفرع بما ثبت به (حكم) الأصل لوجب، إذا نص الشرع على حكم فقسنا عليه غيره، ثم نسخ الشرع ذلك الحكم أن يكون ذلك نسخاً للحكم في

مسألة

(فرعه) (وعندكم نسخ بعض ما تناوله النص لا يوجب جميعه. قلنا: يحتمل أن نقول: يثبت النسخ في فروعه) وإن سلمنا، فإنما لم ينسخ الحكم في فروعه، لأنها ثبتت بعلة الأصل، وعلة الأصل لا يمكن نسخها، على أن بعض ما تناوله النص إذا ورد فيه نص بعد الأول كان تخصيصاً لا نسخاً، فلا يصح ما ذكروه (والله أعلم). مسألة ولا فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته في أنه كان يجوز له أن يجتهد ويحكم بالقياس من جهة العقل، وقال بعضهم: لا يجوز ذلك عقلاً لنا.

لنا: أنه إذا جاز أن يتعبد غيره بالنص تارة، وبالاجتهاد أخرى جاز أن (يتعبده عليه السلام بذلك)، وليس في العقل ما يحيله في حقه ويصححه في حقنا، ولهذا أوجب علينا وعليه العمل على اجتهادنا في مضار الدنيا ومنافعها. فإن قيل: فرق بيننا وبينه/ عليه السلام من وجهين أحدهما: أنه إذا علم أنه يلزم الأحكام باجتهاده نفر عنه، (والثاني): أنه إذا قال في الحكم باجتهاده (كان) لغيره من العلماء أن- يخالفه، وإذا قلده العامي جاز تقليده، وذلك أبلغ الأشياء في التنفير عنه. الجواب: أنه لا ينفر في إثباته الحكم بالاجتهاد، لأنه المجتهد ليس يثبت (الحكم) من جهة نفسه، لكنه (يثبت ما يعتقد) أن الله تعالى حكم بذلك، (وأنه نبه) عليه بوجود العلة والأمارة الشرعية التي نصبها الله تعالى، فأي تنفير في الاستدلال على (مراد الله تعالى)؟ وأما مخالفة العالم والعامي له فلا يجوز وإن حكم عن اجتهاده

(كما لا يجوز مخالفة الإجماع وإن انعقد عن اجتهاد)، (لأنه) يصير معلوماً بعصمة الإجماع، كذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم يصير معصوماً بعصمته وإن صدر عن الظن. فإن قيل: الإجماع (إذا) حصل على علة صارت معلومة، (فلا) يجوز مخالفتها وليس كذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن علة الأصل عنده مظنونة (فجاز مخالفتها. قلنا: قد يقع الإجماع على الحكم الواحد عن أمارات مختلفة وقعت للمجتهدين، فقال كل واحد منهم بأمارة هي مظنونة) في حقه وإجماعهم على الحكم صار معلوماً. جواب آخر: أنه لا يمتنع إذا غلب ظنه صحة العلة بالأمارة، صارت معلومة لصحة نظره وقوة اجتهاده في الأمارات المؤدية إلى الحق. جواب آخر: (أنه) يجوز أن يجب عليهم اتباعه في ذلك، ولا يجوز مخالفته، كما يجب اتباع أقوى الأمارتين إذا قويت عند المجتهد، (ولا تجوز) له مخالفتها. قالوا: لو جوزنا أن يجتهد

لوجب القطع على العلة التي استخرجها هي علة الحكم، (لوجوب) حكمنا بها، ولا يقطع هو عليها، لأنه مجتهد، ومحال أن نقطع نحن على ذلك دونه، مع كوننا متبعين له، ومع (أننا) إنما قطعنا على ذلك، لعلمنا بكونه نبياً، وهو يعلم من ذلك (وألا نعلمه). والجواب: أن يجوز أن يكون بعد تكامل اجتهاده نعلم أنها علة الحكم، كما أنا نظن صدق المخبر إذا أخبر وحده)، (وإذا) انضم إليه غيره حتى صار خبره تواتراً، حصل لنا العلم بصدقه، بعد أن كان ظناً، وكذلك المجتهد كان يجوز له الرجوع عن اجتهاده وترك الأمارة الواقعة (له)، فإذا انعقد على قوله وأمارته الإجماع لم يجز له تركه ومخالفته. وقيل: أنا لا نقطع نحن ولا هو على علة حكم الأصل، وإن جاز أن نقطع على علة حكم الفرع، كما إذا ورد خبر واحد بحكم أصل وعلته، ثم أجمع الناس على أن هذه العلة في الفرع صارت علة الفرع معلومة وعلة الأصل مظنونة.

فصل إذا ثبت هذا فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بالاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع. اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: (قد) كان متعبداً (بذلك) وهو قول أبي يوسف وأكثر الشافعية، وقال بعضهم لم يكن متعبداً

بذلك وهو قول الجبائي وابنه وبعض الشافعية، وقال عبد الجبار: يجوز ذلك ولا أقطع به، لأنه ليس في العقل ولا في السمع ما يدل على أنه تعبد بذلك، ولا أنه/ (لم يتعبد به). وجه (القول) الأول: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وهو أعلاهم (رتبة) في ذلك، وقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فأخبر تعالى أنهما حكماً بالاجتهاد، وفهمها لسليمان، (وكان) ذلك شرعاً في حق جميع الأنبياء، وروى أبو عبيد (القاسم ابن سلام) في أدب القضاء بإسناده عن الشعبي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنزل به القضية وينزل القرآن بعد ذلك (يغير ما قضى

فيترك ما قضى على حاله) ويستقبل ما نزل به القرآن، وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن ظاهر القرآن يشهد له، ألا ترى أنه (عوتب) في أخذ الفدية في أساري بدر، فقيل له: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} إلى قوله {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وكذلك إذنه في غزوة تبوك حتى قيل له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ولو كان وحياً (ما عوتب) عليه، فدل على كونه حجة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "لا يختلي خلاها"، فقال له العباس: "إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا) فقال عليه السلام: "إلا الإذخر"، ومعلوم أنه لم ينتظر الوحي في ذلك، فدل على أنه تنبه على العلة بقول العباس، ولأن القياس دليل شرعي لأمته فكان له دليله كسائر الأدلة ما عدا الإخبار عنه فإنها لا تتصور أن يكون دليله.

دليل آخر: أن الاجتهاد طاعة وزيادة ثواب، فلا يجوزك أن يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم ويمنع منه كسائر الطاعات. دليل آخر: أن العمل بالقياس معلوم بالعقل والنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في ذلك سواء، ولأنه سوغ لمن كان عالماً وعدم النص (الاجتهاد) ليعرف حكم الحادثة، (والنبي صلى الله عليه وسلم) أولى الناس بذلك، ولأن السنن مضافة إليه، وحقيقة الإضافة تقتضي أنه سنها باجتهاده، ألا ترى أن ما حكم فيه بنص القرآن لا يقال هو سنته. واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ولا يقال لما (يصدر) من جهة المجتهد: أنه (يصدر) عن وحي. الجواب: أن الحكم بالقياس ليس عن الهوى، وإنما هو رد إلى الوحي، (أو هو) من الوحي، لأن القياس (قد) ورد به القرآن.

جواب آخر: أن (لفظ) النطق (منصرف) إلى قوله، فمن أين أن فعله عن وحي يوحى؟ (جواب آخر: ذكر الإمام أحمد: أن الآية وردت في القرآن، فإن كفار قريش قالت: فدعوى محمد وما يأتي به من القرآن من تلقاء نفسه، وقد أخبر عنهم، أنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} فأقسم الله تعالى بنجوم القرآن ونزوله في أوقاته أنه وحي يوحى. واحتج: بأنه لو جاز له الحكم بالاجتهاد لما انتظر في الحوادث نزول الوحي ولا يمكنكم نقل ذلك. والجواب: أنه لم ينتظر في الحوادث نزول الوحي، ولا يمكنكم نقل ذلك. واحتج: بأنه يمكنه بالقطع وهو الوحي، فلم يجز له الرجوع إلى الظن.

والجواب: أن النص من الله تعالى غير واقف على إرادته وقت الحادثة على أنه يجوز أن يحكم باجتهاده، وإن كان يوحى إليه كما أن داود على نبينا وعليه السلام حكم باجتهاده، وإن كان نبياً يوحى إليه). واحتج: بأن الاجتهاد (لا يوجب) مخالفته الكفر، ومن خالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكم به (قد) كفر، فثبت أنه لا يقول شيئاً عن اجتهاده. الجواب: أنه ليس كل قول عن اجتهاد مخالفته لا (توجب) الكفر، لأن رد الإجماع (يكفر) به، وإن جاز أن يكون انعقاده عن اجتهاده.

مسألة

جواب آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد (في حكم)، وأقر عليه فلا يكون قوله إلا صواباً، لأنه لا يقر على الخطأ، فلهذا أوجبت مخالفته الكفر، ولأن في رده تكذيباً له، واستخفافاً بحرمته، وفي الإقرار على ذلك تنفيراً عنه، فلهذا كفر من رد حكمه وخالفه. فإن قيل: هل يجوز اجتهاده في تأويل آية؟ (قلنا): يجوز (ذلك) بل هو أولى، لأن الاستدلال على ذلك (يكون) بدلالة لا بأمارة، فكان أولى (والله أعلم). مسألة من غاب عن/ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه يجوز له أن

يجتهد في الحوادث، وقال بعضهم: لا يجوز (ذلك). لنا: خبر معاذ، ولأنه لا فرق في العقل بينهم وبين (من لم يعاصر) النبي صلى الله عليه وسلم ثم أولئك يجوز لهم الاجتهاد (كذلك) هؤلاء. واحتج المخالف: بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي فلم يجز لهم الاجتهاد، كما لو كانوا بحضرته. الجواب: ما نذكره في الفصل (الذي) بعده، (والله أعلم). فصل فأما من كان حاضراً بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم (أو في) موضع يمكنه سؤاله في الحادثة قبل ضيق وقتها، فيجوز له هل الاجتهاد بشرط أن يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، أو يسمع حكمه فيقره عليه، وهو قول

الحنفية، وقال الجبائي وابنه وغيرهما: لا يجوز الاجتهاد. وقال أكثر الشافعية: يجوز أن يجتهد ولم يشترط الإذن.

(وعلم النبي صلى الله عليه وسلم) به، وهو اختيار شيخنا. لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إلى عمرو بن العاص قضية، فقال: أجتهد يا رسول الله وأنت حاضر؟ فقال: نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأ فلك أجر. فوجه الدليل: أنه كان قد استقر بينهم أنه لا يجوز الاجتهاد وهو حاضر، (وكذلك) لما طلب بنو قريظة أن يحكم فيهم سعد ابن معاذ، (فأمره) النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يحكم فيهم، ثم صوب حكمه، فقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله (من فوق سبعة أرقعة) "، (وكذلك) لما قال أبو بكر رضي الله عنه لماعز: "إن أقررت أربعاً رجمك" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره على ذلك،

لأن العقل، يمنع من ذلك لجوازان يكون ما يؤديه (إليه اجتهاده) مفسدة، ويجوز أن يكون مصلحة وهو قادر على علم المصلحة بيقين، بأن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فصار. كرجل في برية لا يدري أين يذهب، لا يجوز له سلوكها باجتهاده إذا كان هناك خبير بها يمكنه أن يسأله فيدل على طريقه، (وإذا ثبت) أنه لا يجوز ذلك في العقل لم يجز تركه إلا بأمر شرعي، فإذا أذن الرسول عليه السلام أو صوب انتقلنا عن حكم العقل إلى حكم الشرع، كما يفعل في براءة الذمم وغير ذلك. احتج: (من أجاز) ذلك مطلقاً بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. (الجواب): إنما نعتبر إذا لم يمكنا اليقين، فأما مع وجود اليقين فلا يجوز القياس، كمن وجد النص لا يجوز له العدول إلى القياس. واحتج: بأن ما جاز له الرجوع (إليه) في غيبته عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاز له الرجوع مع حضوره كالقرآن. الجواب: (أن) في الغيبة تدعو الحاجة إليه. لأنه

لا يمكنه سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن أخر الحادثة إلى وقت (لقائه) بطل الحكم وضاع الناس، بخلاف- إذا كان حاضراً، فإنه لا حاجة به (أما القرآن الحكم به يقين، بخلاف الاجتهاد، فإنه ظن يجوز عليه الخطأ ولا حاجة به إليه)، فلم يجز الحكم به، كما لا يجوز الحكم بالقياس مع وجود النص. واحتج: بأن أكثر ما فيه أنه ترك اليقين (وحكم) بالظن، فصار كمن يحكم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ويمكنه أن يسأله (فلا يسأله)، (وكمن حكم بإذنه) أو بغير إذنه/ وأخبره فأقره. الجواب: أنه يبطل بمن ترك نص القرآن بخبر واحد أو قياس، والحكم بخبر واحد عن الرسول، ويمكنه سؤاله مثل مسألتنا، (فأما) إذا أذن له أو أقره فقد أمنا الخطأ في ذلك، وصار كأنه حكم بالقطع، لأنه الظاهر أنه لا يأذن إلا وقد علم صحة حكمه بالوحي ولا يقر على خطأ بخلاف مسألتنا. واحتج من منع من ذلك رأساً: بأنه حكم بالظن فلا يجوز مع قدرته على العلم.

مسألة النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس بها

الجواب: أنه إذا أذن أو أقر صار ذلك كالمعلوم، لأنه لا يقر على الخطأ. مسألة النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس بها، (وبه) قال النظام والقاشاني والكرخي والرازي، وأكثر الشافعية: فيجب حيث وجدت العلة المنصوص عليها، أن يتعلق. الحكم بها وسواء كان ذلك قبل ورود التعبد بالقياس أو بعده. قال شيخنا: وقد أشار أحمد إلى ذلك، وقال الجعفران

وبعض أهل الظاهر وبعض الحنفية: لا يكفي ذلك في التعبد بها حتى يرد التعبد بالقياس، وهو اختيار الإسفراييني، وغيره من الشافعية. وجه الأول: أن الله تعالى (لو قال): أوجبت أكل السكر في كل يوم، لأنه حلو، (لكان ذلك) تعليلاً لوجوبه في كل يوم، ولعلمنا أن الحلاوة فقط وجه المصلحة. في الوجوب في كل يوم، لأنه قصر التعليل عليها مع اختلاف أحوالنا، ولا يجوز حصول وجه الوجوب ولا يكون مؤثراً، كما لا يجوز حصول الفعل ظلماً، ولا يكون قبيحاً، وكذلك لا يجوز أن يكون قدر من الرفق يصلح الصبي

(ولا) يصلحه مثله متى كان على تلك الصفة، وإذا ثبت ذلك علمنا أن الحلاوة هي المؤثرة في المصلحة في كل موضع، (فوجب) أكل العسل (لذلك). دليل آخر: (وهو) أنه لو لم يجز القياس على العلة المنصوص عليها لم يكن للنص عليها فائدة. فإن قيل: فيه فائدة، وهو أن يعلمنا أنها علة، والعلم نفسه فائدة. (قلنا): فيجب أن يكون الأمر لا يفيد الوجوب أو الاستحباب، وكذلك النهي لا يفيد التحريم أو الكراهة، وإنما تكون فائدته أن يعلم أنه أمر أو نهي وكذلك سائر أقسام الكلام، على أنه لا فائدة في معرفة العلة إلا لتعرف المصلحة فيها، وإذا عرف المصلحة لزمه العمل عليها (أين) وجدت، وإلا فذلك الحكم قد استفدناه بالنص، فلا فائدة في معرفة علته.

جواب آخر: أنه يجب إذا ورد الأمر بالقياس أن لا يتعبد بهذه العلة، لجواز أن يكون المراد تعريفنا علة هذا الحكم أن هذه العلة، فيكفي ذلك في فائدة نصه عليها، وينصرف الأمر بالقياس إلى غيرها من العلل المستنبطة، وأحد لم يقل هذا، فكذلك لا يقال إذا لم يرد التعبد. احتج المخالف: بأن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين، (ويجوز) أن تكون المصلحة إذا نص على إيجاب أكل السكر، لأنه حلو يختص بالسكر دون غيره مما وجد فيه حلاوة، ألا ترى أن من أكل رمانة لأنها حامضة، لا يقتضي ذلك أن يأكل كل رمانة حاضمة، ولا كل (شيء) حامض، وكذلك من يتصدق على رجل، لأنه فقير، لا يجب أن يتصدق على كل فقير، فكذلك ها هنا. الجواب: (أنه إذا كانت العلة) هي وجه المصلحة في الموضع المنصوص وجب تعلق الحكم بها أين ما وجدت، لجواز أن تكون المصلحة أيضاً فيكون الإخلال بفعله مفسدة. وجواب آخر: أنه لو وجب أكل السكر، لأنه حلو، وقلنا: إن حلاوته هي وجه المصلحة، ثم قلنا: لا يجب أكل كل حلو، لم يجب أكل السكر، لكونه حلواً، ولا لأن في حلاوته مصلحة، وإنما يكفي أن يأكله لأن أكله واجب، فتخرج الحلاوة أن تكون علة

ومصلحة، وهذا تناقض، فوجب أن تكون الحلاوة التي هي وجه المصلحة داعية إلى أكل كل حلو، لأن من يفعل فعلاً لداع يلزمه أن يفعل ما ساواه في ذلك الداعي، (إلا أن يقابل) ذلك الداعي صارف أو يؤدي إلى ما لا نهاية له. فأما أكل الرمانة، إنما لم يدع (إلى) أكل أخرى، أو أكل (كل) حامض، لأن شهوته للحموضة قد زالت أو تناقصت، وكذلك قصده بالفقير الثواب، وقد حصل، وليس قصده كل ثواب، بخلاف مسألتنا، فإنه. تعالى إذا نص على أكل السكر لحلاوته فالظاهر أن حلاوته هي وجه المصلحة من غير شرط، فلم يجز حصول حلاوته إلا وهي داعية إلى ما دعت إليه حلاوة السكر. احتج: بأن الإنسان لو قال: أعتقت عبدي لأنه أسود، أو قال لوكيله: أعتق عبدي، لأنه أسود، أو قال: والله لا أكلت السكر، لأنه حلو لم يلزمه، ولا لوكيله عتق كل عبيده السود، ولا يحنث بأكل حلاوة غير السكر.

الجواب: أن كل من قال ذلك، فلكل عاقل أن يناقضه. (فيقول): فلم لم تعتق (بقية) عبيدك، لأنهم سود؟ ولم أكلت العسل وهو حلو، (إلا أنه يعرف) مع كونه أسود بشروط أخر تخصه دون بقية العبيد، وكذلك مع السكر شرط (يخصه)، وكذلك (إذا) أمر وكيله نوقض أيضاً إنما لم يصح عتق الوكيل، لأن الشرع (منعه من الإقدام على التصرف) والإتلاف فيما لم ينص عليه، لأن الموكل تجوز عليه (المتناقضات) والبداوات والله سبحانه منزه عن ذلك، ألا ترى أنه إذا أمر (وكيله) بالقياس لم يجز له عتق كل عبيده، لجواز البداء

عليه، وعندي أنه يجوز أن يعتق كل العبيد، إلا أن يقول الموكل كنت رجعت في قولي، وإلا فالأصل عدم البداء في حقه، ثم النسخ يجوز أن يرد من الباري تعالى في الحكم المنصوص عليه، كما يرد البداء (من الآدمي) ثم لم يمنع (جوازه)، ورود النسخ في القياس، كذلك جواز البداء في حق الموكل. واحتج: بأن العلة لا توجب الحكم بنفسها، لأنها (قد) كانت موجودة قبل الشرع، فلم يتعلق بها الحكم، وإنما صارت موجبة بجعل الشرع فوجب أن تكون علة حيث جعلها دون الموضع الذي لم يجعلها. الجواب: أنه يلزم جميع العلل، فإنها (كانت) موجودة قبل (الشرع) ولم يتعلق عليها الحكم، ثم لما ورد الشرع تعلقت بها الأحكام. ثم لو صح ما ذكرتم لوجب أن لا تكون/ علة إلا في الزمان الذي جعلها علة فيه، (لأنه) لم يجعلها علة في غيره من الأزمنة ولما لم يقصر بجعله على الزمان، كذلك لا يقصر على العين التي نص عليها. واحتج: بأنه لو وجب أن ثبتت العلة في كل حلو لوجب،

إذا قال: "أوجهت أكل السكر لكونه حلواً، وحرمت العسل وبقية الحلاوات"، أن يعد ذلك مناقضة ولا يجوز. الجواب: أن من قال: لا يجوز تخصيص العلة، (كذلك) يقول، ومن قال: يجوز تخصيصها لا يلزمه، لأنه يوجب الطرد ما لم يخص، (ويمكن) أن يعتذر عن ذلك على المذهبين. فيقال: إذا قال حرمت السكر، لأنه حلو، فالظاهر أن الحلاوة جميع العلة، فإذا قال: وأحللت العسل (دلنا) (على) أنه جعل العلة الحلاوة مع الجنسية وهي السكر، وليس يمتنع أن يترك الظاهر بدليل، ثم (لا يدل) على أنه لا تأخذ بالظاهر في موضع تجرد الظاهر عن معارض، ثم يلزم على هذا ورود التعبد بالقياس، فإنه يجوز أن نقول ذلك، ولا يمنعنا من التعبد بالقياس. فصل وكل مقيس على الأصل (المنصوص) بعلته المنصوصة

فهو مراد بالنص خلافاً لبعضهم: أنه لا يحكم له بأنه مراد بالنص. وجه الأول: أنه إذا قاس على علة مجتهد فيها كان فرعها مراداً بالاجتهاد، فإذا قاس على علة منصوص عليها يجب أن يكون فرعها مراداً بالنص، لأن الأصل مستتبع لفرعه لابد منه، ألا ترى أن الإجماع الصادر عن اجتهاد ينعقد (مجتهداً) فيه، والإجماع عن النص منعقد عن النص، ولأنه إذا قال: كل السكر لأنه حلو علمنا أن الحلاوة هي العلة، وفيها المصلحة، وأن أكل السكر مراد بالنص، لأجل الحلاوة فإذا (وجدت في العسل) علمنا أنه مراد بالنص أيضاً، لوجود العلة المنصوص عليها. فإن قيل: متى أراد الله تعالى من المكلف حكم الفرع ونص عليه؟

مسألة

قيل: عند نصب الدلالة على القياس مع نصه على علة الحكم في الأصل ووجودها في الفرع، ويحتمل أن نقول أراد عند النص على حكم الأصل وعلته فقط، وقد بينا أن ذلك كاف في التعبد بالقياس. ووجه القول الآخر: أن النص لا يتناول إلا حكم الأصل، وليس فيه ذكر لحكم الفرع، ولو كانت (الفروع) معلومة. بالنصوص، لأنه لا بد منها، لكانت العقليات المكتسبة (معلومة) بالإدراك، لأنه لا بد منه في العلم بها. الجواب: أن يقال: لم كان كذلك؟ على أن المدركات علتها، الإدراك، وبالاستدلال لا يحصل الإدراك، وحكم الأصل علة إرادة الشرع له وجود العلة فيه، وهي بعينها موجودة في الفرع. مسألة نقول: إنا متعبدون بالقياس على الأصل وإن لم ينص (لنا) على القياس عليه، ولا أجمعت الأمة على تعليله، وبه قال أكثرهم. وقال بشر (بن غياث) المريسي: لا يجوز

القياس على أصل لم تجمع الأمة على تعليله .. وقال أبو هاشم: "لا يقاس إلا على أصل قد ورد النص به في الجملة، فيقاس في التفصيل، مثل ميراث الأخ مع الجد ثبت بالقياس، لأن ميراث الأخ ورد النص به في الجملة، فورث مع الجد بالقياس، (وهو تفصيل)، ولم ينص. لنا على القياس (عليه). ولنا: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وهو عام في كل أصل، وكذلك قول معاذ: "أجتهد رأيي". دليل آخر: (وهو) أن الصحابة قاست على أصول لم يتقدمها إجماع على تعليل تلك الأصول، (ولا نص فيها) ولهذا

قاس كل واحد منهم على غير الأصل الذي قاس صاحبه، ولا نص لهم على القياس على أصل منها، لأنه لو نص (لهم) على ذلك، (لاحتج) بعضهم على بعض في إيجاب القياس على ذلك الأصل. دليل آخر: أنه إن (كان) ذلك الأصل قد نص على علته، فقد بينا أن ذلك تعبد بالقياس عليه، وإن لم يرد التعبد بالقياس، وإن كان مستنبطاً، (فقد) بينا (مثل) ذلك في العلل المستنبطة أن العقل يقتضي القياس عليها، كالأمارات العقلية، ولأنه لما (أمكن) استخراج علة الأصل، ورد الفرع إليه لم يعتبر الاتفاق فيه كخبر الواحد متى أمكن أنه يستفاد منه حكم حمل عليه، وإن لم يتفق على قبوله. احتج المخالف: بأنه لما كان (في الأصول) معلل وغير معلل، وجب أن يكون طريق التفريق بينهما الإجماع (الدال) على تعليل الأصل، وعدمه في الأصل الآخر.

الجواب: أن الأصول كلها معللة، وإنما تخفى علينا العلة في النادر منها، فلا يؤثر ذلك لشذوذه، أو لأن ذلك (خفي) علينا لقصور علمنا. واحتج: بأنه لما لم يجز القياس في الصلوات بعضها على بعض في عدد الركعات، لأجل أنه لا إجماع على تعليلها، ولا نص في التعبد بالقياس فيها، (فكذلك) غيرها. الجواب: أنا لم نمتنع لأجل ذلك، لكن لأن في قياس بعضها على بعض (في عدد الركعات) (مخالفة) النص والإجماع، بخلاف بقية الأصول، فإنا إذا قسنا لم نخالف بذلك نصاً ولا إجماعاً. فصل لا يجوز التعبد بالقياس في جميع الشرعيات، لأن ذلك لا يخلو، أن نقيس جميع الشرعيات أو لا يقاس جميعها، فإن لم يقس جميعها انتقض كونها مقيسة، وإن قيست، فإما أن تقاس على غيرها، وإما أن يقاس بعضها على بعض، بأن يقاس الفرع على أصل، ويقاس ذلك الأصل على فرعه، وذلك لا يجوز، لأنه يقيس الشيء بنفسه، وإذا قيست على غيرها، فذلك الغير إما شرعي أو

عقلي، لا يجوز أن يكون شرعياً، لأنا قد فرضنا الكلام أن يكون [جميعها] مقيسة ليس فيها منصوص عليه، ولا يجوز أن يكون عقلياً فإن الشرع لا يقاس [على] العقل على قول أصحابنا، ومن قال باعتبار الحسن والقبيح، أو باعتبار أمارات عقلية مستندة إلى عادات عرفية، فلا يمكنه، [لأنا لم نجد] في العقل أصلاً لوجوب الصلاة وإعداد الركعات والأوقات، ولا أصلاً لوجوب الحج وأفعاله، وكذلك ليس في العادات دليل على وجوب الشيء ولا حظره، وإنما تدل العادة على حدوث المطر عند وجود الغيم الندى في الشتاء، أو تدل مقدار شيء لقيمه المتلف يقوم بما جرت العادة أن يشتر يمثله، وليس في وجوب الصلاة وعدد ركعاتها مما يستخرج من هذين، فبطل أن يقاس عليها، ولا أمارة العادات لو دلت على الأحكام الشرعية لم يحتج إلى الشرع، بل كان مصالحنا وأحكامنا نعرفها بالعادة، وذلك لا يجوز قوله، فثبت أن جميع الشرعيات لا تثبت بالقياس ولا بد أن يكون منها ما ثبت بالنص، فكذلك يجوز بالقياس. قيل: لم كان كذلك مع أن تعبدنا في جميعها بالنص ممكن أن ينص الله ورسوله على حكم؟ فأما تعبدنا بالقياس في جميعها فقد بينا أنه لا يصح).

مسألة يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع، وقال بعض الشافعية: لا يجوز إلا على ما ثبت بكتاب أو سنة

مسألة يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع، وقال بعض الشافعية: لا يجوز إلا على ما ثبت بكتاب أو سنة. لنا: أن الإجماع أصل ثبت به أحكام الشرع فجاز القياس على ما ثبت به، أصله الكتاب والسنة. (ودليل آخر): (إذا جاز القياس بما يثبت بخبر الواحد)، وهو يوجب الظن، فما ثبت بالإجماع وهو يوجب العلم أولى بالقياس عليه. احتج المخالف: بأن الأمة لا تشرع، وإنما إجماعها عن دليل فيجب طلب ذلك الدليل، فإنه ربما كان نطقاً يتناول الفرع فيغني عن القياس، وربما كان معنى لا يتعدى الحكم الذي ثبت بالإجماع، فلا يجوز القياس عليه. الجواب: أن ما ثبت (به الإجماع) إن كان نطقاً يتناول الفرع لم يمنع القياس، بل يقويه وإن كان معنى (لا يتعدى) لا يمنع أن يكون هناك معنى آخر يتعدى إلى الفرع فيقاس عليه.

مسألة ما ثبت بالقياس على أصل يجوز عليه

وإذا ثبت أن ليس ها هنا ما يمنع وجب القياس على الحكم المجمع عليه، إذا عرفنا علته، ولم يحتج إلى النظر في دليل الإجماع (والله أعلم). مسألة ما ثبت بالقياس على أصل يجوز عليه، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية، وقال الكرخي (من أصحاب أبي حنيفة): لا يجوز، وهو قول بعض الشافعية. لنا: أن الفرع إذا كان مقيساً على علة منصوصة، صار مراداً بالنص، وقد بينا ذلك فجاز القياس كالأصل الثابت بالنص.

مسألة المخصوص من جملة القياس بالنص، يجوز القياس عليه، ويقاس على غيره في أحد الوجهين

ولأنه لما ثبت الحكم في الفرع صار أصلاً في نفسه فجاز أن يستنبط منه علة، ويقاس عليه غيره كالنص نفسه. احتج: بأن العلة المثبتة (للحكم في الفرع) هي العلة المنتزعة من الأصل، وهي غير موجودة في الفرع الثاني، أو موجودة، (فإن كانت موجودة فيقاس الفرع الثاني على الأصل الأول، لأنه ثبت بالنص، وإن كانت غير موجودة) في الفرع الثاني لم يجز قياسه على الأول، لأن علة الأول علة الأصل، فلا يجوز أن يكون له علة أخرى. الجواب: أنها إن كانت موجودة، فإنه يجوز له أن يقيس على كل واحد من الفرع والأصل، وإن لم تكن موجودة فلا يمنع أيضاً، لأنه يجوز أن يكون للحكم الواحد علتان يثبت بهما، وسيأتي الكلام عليه (والله أعلم). مسألة المخصوص من جملة القياس بالنص، يجوز القياس عليه، ويقاس على غيره في أحد الوجهين، وبه قال أصحاب الشافعي

وبعض الحنفية وقال بقية أصحاب أبي حنيفة: لا يجوز ذلك إلا أن يرد الخبر به معللاً، كقوله عليه السلام في الهرة: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات". فيقاس عليه سائر الحشرات، والأصل أنها كسائر السباع أو يكون مجمعاً على جواز القياس عليه، مثل الاختلاف في الإجارة، أما في الأجرة أو المدة، أجمعوا على التحالف فيها، قياس على البيع إذا اختلفوا في قدر الثمن والسلعة قائمة، وذلك مخالفاً لقياس الأصول، لأن الأصول أن اليمين على (المنكر) لا التحالف، وما عدا ذلك لا يجوز (القياس)

عليه، مثل (نقض) الوضوء (من القهقهة) في الصلاة (لا يقاس عليه) (القهقهة) في صلاة الجنازة، وهو الوجه الآخر لأصحابنا، ولهذا لا نقيس على لحم الجزور غيره من اللحوم في نقض الوضوء، وغير ذلك من أصولنا، ووجه الأول: أنهم وافقوا (أن المخصوص) من العموم بخبر الواحد يجوز القياس عليه، وكذلك المخصوص من القياس بخبر الواحد. بل عموم الكتاب أقوى، لأنه مقطوع بطريقه، وقياس الأصول غير مقطوع عليه، لأنه مقيس على العموم بأمارة مظنونة، ثم العموم لا يمنع، فأولى أن لا يمنع المقيس عليه، ولأنه لو نص الخبر على تعليله جاز القياس عليه، (فكذلك) إذا استنبطت علته وقام عليها

(دليل) أنها علته، لأنها بذلك الدليل تصير بمنزلة المنصوص عليها، ولأن ما ثبت بالخبر أصل بنفسه، وما ثبت بالقياس أصل، (فليس رد هذا الفرع إلى أحدهما) بأولى من رده إلى الآخر، ولا منع أحدهما بالقياس على الآخر بأولى من منع الآخر من القياس عليه، (ويؤكد هذا)، أن كل واحد منهما يوجب ظناً فيهما سواء. (احتج الآخر بأن) القياس على الأصول المعلومة له حظ (من) القوة من حيث كان (الحكم) أصله معلوماً، وهذا القياس مظنون، (لأن أصله وهو خبر الواحد مظنون)، (فلا) يجوز ثبوته مع المعلوم، كما لا يثبت حكم خبر الواحد في مقابلة ما ثبت بالتواتر. (والجواب عنه: أن) هذه المزية لا تمنع من القياس على خبر الواحد إذا كان منصوصاً على علته، فكذلك ما قام الدليل على

علته، وكذلك المخصوص من عموم القرآن بخبر الواحد يجوز القياس عليه، وإن كان فيه تقديم المظنون على المقطوع به وهو القرآن. (وكذلك) يقدم القياس الشرعي على القياس العقلي/، والشرعي مظنون، والعقلي معلوم. احتج: بأن قياس الأصول ينافي ما ورد به الخبر (وإذا) قاس عليه لم يجد أمارة تدل على (علة ذلك القياس) لأن القياس الأصول كلها تنافيه، والعلة إذا لم تقم عليها دلالة لم يصح القياس عليها. الجواب: أنا نعكس هذا، فنقول: القياس على الخبر (الوارد) بخلاف قياس الأصول يمنع القياس على الأصول، ويمنع من أن تدل أمارة على علة حكم ذلك، ثم إذا جاز أن يدل على علة هذا القياس النص، فيقدم على قياس الأصول، جاز أن يدل عليه دلالة غير النص. (فإن) قيل: لا يجوز أن تساوي أمارة هذا القياس في القوة أمارة قياس الأصول. (قلنا): هذا دعوى، وما أنكرتم أن يكون الخبر الوارد

مسألة يجوز إثبات الكفارات والحدود، والمقدرات بالقياس إذا علم علة ذلك ولم يمنع منه مانع

بخلاف قياس الأصول قد غير الحكم الذي دلت عليه الأصول من قبل؟، ولأنه لما كان معلوماً صار أصلاً في نفسه، (فلا) يمتنع أن يقع التنبيه على علته ويكون (ذلك) التنبيه أقوى (وأظهر من التنبيه على) علة الأصول، (ولأنه إذا جاز أن يدل عليها النص، وتكون أقوى من علة الأصول) جاز أن يدل عليها تنبيه النص، ويكون أقوى من دلالة علة الأصول. مسألة يجوز إثبات الكفارات والحدود، والمقدرات بالقياس إذا علم علة ذلك ولم يمنع منه مانع، أومأ إليه (أحمد رضي الله عنه)،

وبه قال أصحاب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت جميع ذلك بالقياس إلا ما يحكى عن أبي يوسف. (دليلنا): (خبر) معاذ، وقوله: أجتهد رأيي، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستثن شيئاً من الأحكام، (ولأنه إجماع الصحابة) فإن عمر رضي الله عنه جمع الناس، فقال: إن الناس قد تتابعوا في الخمر واستحقروا حدها، فما ترون؟ فقال علي رضي الله عنه: "أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي، وإذا هذى افترى، فيحد حد المفتري" فأجمعت الصحابة على إلحاقه بالقاذف في الحد قياساً، ولأن ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس أصله سائر الأحكام، يوضح هذا أن القياس (دليل شرعي) يوجب الظن كخبر الواحد، ثم الحد يثبت بخبر الواحد، كذلك القياس. دليل آخر: (وهو) أنهم أوجبوا الكفارة على الأكل في

رمضان قياساً على الوطء، (وكذلك) أوجبوا الحد في المحاربة على (الردء) قياساً في استحقاق الغنيمة. فإن قيل: لم يثبت ذلك بالقياس، وإنما (ثبتت) بالاستدلال على الحكم، لأن المجامع إنما لزمته الكفارة لإفساد صوم رمضان مع ضرب مخصوص من المأثم، وهذا موجود في الأكل فيه فلزمته الكفارة. (قلنا): (فهذا) هو القياس، لأنك استنبطت علة الأصل، ثم عديتها إلى الفرع. فإن قيل: الفرق بين الاستدلال وبين القياس، أن في القياس لا يحتاج إلى استدلال على وجود العلة في الفرع، لأنه إذا ثبت أن (الكيل) علة في البر (تعدى) إلى سائر المكيلات وفي الاستدلال يحتاج إلى إثبات الإثم المخصوص في/ الجماع، وفي الأكل أيضاً بالاستدلال. (قلنا): هذا لا يخرجه عن كونه قياساً، ألا ترى أن

القياس قد يكون حكماً يحتاج إلى إثباته في الأصل والفرع؟ مثل أن يقول: (القياس) من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم، ومن صح منه البيع صح منه النكاح كالرجل، فيحتاج إلى إثبات صحة الطلاق، (وإثبات صحة البيع) في الأصل والفرع بالدليل، على أن ما افتقر فيه إلى الاستدلال، هو أخفى مما علم ضرورة، فإن لم تثبت الكفارة (بالأجلى) فأولى أن لا يثبت بالأخفى. فإن قيل: إثبات الكفارة في حق الأكل والحد (في حق الردء إثبات لموضع الكفارة، وموضع الحد دون الكفارة والحد) لأنه قد ثبت دخول الكفارة في إفساد صوم رمضان بالنص، وكذلك الحد على المفسدين في الأرض ثبت بالنص فأثبتنا موضعهما بالقياس. (قلنا): النص لم يرد في ذلك مجملاً، إنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة على الذي أفسد صومه بجماع، وأوجب الله سبحانه (الحكم) على المحارب والساعي بالفساد، وليس الآكل (والردء) ممن شملهم هذا الاسم نطقاً، وإنما أثبتم لوجود المعنى في الأكل (والرداء) وهذا هو القياس.

فإن قيل: لم نوجب ذلك بالقياس، وإنما أوجبناه بالتنبيه، لأن مأثم الآكل أكثر من مأثم الجماع، فإذا وجبت الكفارة، كان وجوبها في الأكل أولى. (قلنا): لا نسلم أن مأثم الأكل أكثر، ثم مأثم (الردء) ليس (بأكثر) من مأثم المباشر، فلم أوجبت عليه الحد؟، ثم يجب أن نقول: أن الحد يجب على اللائط، لأن مأثمه أكثر من مأثم الزاني، لأنه فرج لا يستباح بحال. (واحتج المخالف: بأن الحد لا يثبت مع الشبهة، والقياس هو إلحاق الفرع بأشبه الأصلين، وذاك يثبت فيه الشبهة. (الجواب: أنه) يبطل بخبر الواحد، (فإنه يجوز عليه الخطأ، ويثبت به الحد، (وكذلك) شهادة الشهود يجوز عليهم الكذب، ويثبت بهم الحد، على أنا (إنما) نوجب الحد إذا ترجح شبهة بأحد الأصلين، وقام على ذلك دليل، فيبطل تعلقه (بالآخر)، فتنتفي الشبهة، ثم يبطل بحد (الردء) وكفارة الأكل.

مسألة تثبت الأسماء اللغوية قياسا

(واحتج): بأن الحد شرع للردع، والزجر (عن) المعاصي، ويتعلق به تكفير المأثم، وذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، (وكذلك) الحكم (بمقدار) معلوم في الصلاة والزكاة والمياه لا يعلمه إلا الله تعالى، فلم يجز الإقدام عليه القياس. (والجواب: أنه) لو كان هذا طريقاً في نفس القياس في الحدود والكفارات، لكان طريقاً في سائر الأحكام، لأن نفاة القياس سلكوا ذلك، فقالوا: أن الأحكام شرعت لمصالح المكلفين، والمصالح لا يعلمها إلا الله سبحانه فلم يجز الإقدام عليها بالقياس، ولما لم يكن ذلك طريقاً في سائر الأحكام، كذلك في مسألتنا. وجواب آخر: وهو أنا إنما نقيس إذا علمنا علة الأصل، وثبت ذلك عندنا بالدليل فيصير بمنزلة التوقيف، فأما إذا لم نعلم بأعداد الركمات، أو منع الإجماع كإيجاب صلاة سادسة فلا نقيس هناك والله أعلم). مسألة تثبت الأسماء اللغوية قياساً، وبه قال أكثر

الشافعية، وقال الأثرم لأحمد رضي الله عنه: كل نبيذ غير (العقل) فهو خمر؟ قال: نعم، وقال الحنفية وأكثر المتكلمين: لا تثبت قياساً، (وهو الأقوى عندي). ووجه ذلك: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وقيل في الخبر: (أنه علمه حتى القصعة والقصيعة)، فلم يبق ما يثبت بالقياس/ من الأسماء. فإن قيل: يجوز أن (يكون) علمه البعض بالنص، والبعض بالتنبيه.

(قلنا): إن الظاهر أن التعليم واحد فمدعي (اختلافه) (يحتاج إلى دليل). فإن قيل: (فلعله علمه نصاً)، ونحن (نعلمه) قياساً. (قلنا): إنما علمه ليعلم، ولهذا قال تعالى: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}. دليل آخر: وهو أنه إنما يثبت بالقياس في اللغة، إذا ثبت أن وضع اللغة وضعها على المعنى، ثم أذن في القياس عليها، وهذا ما لا سبيل إلى إثباته، فلم يجز القياس. (فإن) قيل: قد علمنا وضعهم ذلك على المعنى في استقراء كلامهم ومرهم على طريقة واحدة، لأنا نجدهم يسمون كل مرفوع فاعلاً، وكل منصوب مفعولاً (به) [ويصغرون الثلاثي] ولا يصغرون ما دونه فعلمنا قصدهم إلى ذلك.

(قلنا:) (لا نعلم) ذلك، لأنهم قد يسمون (جميلاً) من هو قبيح، ويسمون عامراً من هو محرباً، ويسمون محمداً من هو مذمم، فأما ما استشهدوا به فإن (النحويين) الذين وضعوا النحو قالوا: كل فاعل مرفوع وكل مفعول به منصوب، وكل ثلاثي يصغر، وهذا موجود في كتبهم، فوضعوا ذلك الاسم للجنس جميعه، (ولا يمكنهم) أن يقولوا: إنهم قالوا: لفاعل واحد أنه مرفوع فقس عليه كل فاعل. دليل آخر: (أنهم) قد فرقوا في الأسماء مع اتفاق المعنى فسموا القارورة، لأن الشيء يقر فيها، ولم يسموا الصندوق والخابية والجرة: قارورة وكذلك سموا الفرس الأسود أدهم، ولم يسموا الصندوق والخابية والجرة: قارورة وكذلك سموا الفرس الأسود أدهم، ولم يسموا (الحمار الأسود) أدهم، وسموا الفرس الأبيض أشهب، (ولم يسمو الرجل) الأبيض أشهب، وسموا الخل لحموضته، (ولم يسموا) اللبن الحامض خلا، وقالوا (للفرس) إذا اجتمع

فيه (لونان) أبلق (والآدمي أبرصاً) (والحلل) (ملمعا) فدل ذلك على أنهم لم يضعوا على القياس. فإن قيل: إنما لم يقيسوا (هناك)، لأنهم جعلوا العلة ذات وصفين: الجنس والصفة، (فلما وجدت الصفة)، وهو ما يقر ولم يوجد الجنس الذي هو الزجاج، وكذلك سموا الفرس الذي هو أبيض أشهب، والآدمي ليس بفرس. (قلنا): فهذا الذي دل على أنه لا قياس في اللغة، لأن ما من شيء يوافق غيره في معنى إلا ويفارقه في معنى آخر، ولهذا النبيذ يوافق (الخمرة) في الشدة والصد عن ذكر الله، ولكن يخالفه في أنه ماء وتمر، والخمر عصير عنب، واللواط يوافق الزنا في أنه وطء في فرج (حرام)، (ولكن يخالفه في أنه وطء في فرج ذكر)، وهذا وطء في فرج أنثى، فيجب أن لا يسمى باسمه، (ثم يجب ألا يسموا القدح والزجاج، والبرنبة قارورة، لأنه قد وجد الوصفان).

فإن قيل: (فامنع) من القياس في الشرعيات لأجل ما ذكرت. (قلنا): الشرعيات (أحكام). فإن وجدنا بعض صفات الأصل لها تأثير في الحكم، ووجدنا تلك الصفة موجودة في الفرع (علقنا) الحكم عليها في الفرع بخلاف الاسم، (لأنه يثبت) باللغة، (واللغة قبل الشرع، فلا يجوز أن تكون الشريعة الواردة بعدها علة في الاسم الثابت) قبلها، ألا ترى أنا نعلل تحريم الربا في البر بأنه مكيل جنس، لأن للكيل تأثيراً (في تحريم) بيع بعضه ببعض، متفاضلاً، ثم نلحق به الأرز (في ذلك)، ولا نعلل (بذلك) في الاسم ونلحق

به الأرز في الاسم، لأن الاسم ثبت لهما (قبل مجيء الشرع)، فلا تأثير للشرع فيه، وهذا، لأن العلة ثبتت الحكم في الأصل، ثم تعديه إلى الفرع، ومعلوم/ أن اسم الزنا لم تسم العرب به، لأنه وطء بمحض التحريم لأنها لا تعرف التحريم. فكيف يسمى به اللواط لأجل ذلك. دليل آخر: أنه ليس من شيء إلا وله اسم في اللغة، فلا يثبت له اسم آخر بالقياس، ألا ترى أن الشيء إذا ثبت له حكم بالنص لم يجز أن يثبت له حكم آخر بالقياس، وفيه ضعف، لأن الأحكام تتنافى، ولهذا لا يجوز أن يرد الشرع بحكمين متنافيين في عين واحدة، ويجوز أن ترد اللغة بأسماء، كالخمر والسيف والأسد. دليل آخر: أن الأسماء على ضربين، أسماء ألقاب، وأسماء غير ألقاب، ثم لا يجوز إثبات (أسماء) الألقاب بالقياس، فكذلك غيرها. فإن قيل: الألقاب لم توضع على المعنى، وإنما وضعت (اصطلاحاً) بخلاف الأسماء المشتقة فإنها وضعت على المعنى، فجاز أن يقاس عليها. (قلنا): أنقلوا أن أهل اللغة وضعوها على المعنى،

وقاسوا لتثبت دعواكم، (والطريق إلى) ذلك متعذر. واحتج المخالف: بأن (قال): رأينا أهل اللغة سموا أعياناً بأسماء (كالإنسان) والفرس (والحمار) والأبيض والأسود وغير ذلك، ثم انقرضت تلك الأعيان، (وانقرض) أهل اللغة، واتفق الناس بعدهم على تسمية أمثالها بتلك الأسماء، فدل على أنهم قاسوا على المسموع. الجواب: إن هذا ليس من جملة القياس، وإنما هو من جملة الوضع، لأنهم وضعوا هذه الأسماء لهذه الأجناس جميعها، وهذا يعلم ضرورة، لأنهم لما سموا إنساناً ثم حدث بعده مثله، فسموه (إنساناً) ثم ولد كل واحد منهم فسموه بذلك، علم أنهم وضعوا ذلك الاسم للجنس، وليس يجوز أن يكون أهل اللغة رأوا عيناً واحدة فسموها باسم، ثم لم يحدث أمثالها، حتى انقرضوا، ولا يمكن نقل ذلك، وإنما نعلم بعقولنا حدوث الحيوان شيئاً بعد شيء، (وتناسله) من غير انقطاع، فثبت ما ذكرنا.

احتج: بأن أهل اللغة (سموا) ما وجد فيه معنى الشيء باسمه، فسموا البليد حماراً والشجاع أسداً، والسخى بحراً، (وكذلك سمي النبيذ) خمراً، واللواط زنا لوجود معنى ذلك فيه. (والجواب: إنما) سموا ذلك مجازاً على وجه الاصطلاح، لأنهم تجوزوا بذلك عما وضع له، ولهذا لو قال: رأيت حماراً وبحراً لم يسبق إلى (فهم السامع) أنه رأى بليداً، أو سخياً، وإنما يسبق إلى فهمه أنه رأى البهيمة والماء الكثير المجتمع، فدل على ما ذكرنا. احتج: بأن الطريق الذي يعلم به الحكم من جهة القياس، وهو تعليق الحكم على معنى (يوجد) بوجوده، ويعدم بعدمه، وهذا موجود في الاسم، (فإذا) رأينا عصير العنب لا يسمى خمراً، فإذا حدثت فيه الشدة (المطربة) سمي خمراً، فإذا زالت عنه (لم يسمى خمراً، فدل على أن علة الاسم الشدة (المطربة)

وذلك موجود في النبيذ، فسمي خمراً، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: الخمر ما خامر العقل. (والجواب: أنا) لا نسلم أن الخمر سمي خمراً للشدة فقط، وإنما سمي لأنه عصير العنب المشتد، ولهذا يقول القائل: أمعك نبيذاً وخمر؟ فيقول: ليس معي (نبيذ، وإنما معي خمر). فإن قيل: (ولم) يعدم الاسم لعدم الشدة ويوجد بوجودها؟ (قلنا): لأن الشدة شرط في العلة، فلا يؤثر مع عدمه، ألا ترى أن الخل يسمى خلا عند وجود الحموضة، ولا يسمى خلا عند عدمها، لكنه ليس علة تسميته خلا الحموضة، ولهذا نجد حوامض كثيرة، ولا تسمى خلا، فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم "الخمرة هاتين النخلة والكرمة"، وقول عمر

رضي الله عنه: "الخمر ما خامر العقل" فإنما سميا بذلك مجازاً، لأنه يعمل كعملها (من وجه). قال الشاعر: فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمها بلبانها فنفى أن يكون النبيذ خمراً، ولهذا قال الأخفش وغيره من أهل اللغة: الأسماء تؤخذ توقيفاً، (كذا قال أهل اللغة).

(واحتج: بأنهم سموا من وجد فيه البياض أبيض، فإذا زال عنه البياض لم يسموه أبيض، فدل على أن كل من وجد فيه البياض، يجب أن يسمى أبيض وذلك هو القياس. (والجواب عنه): أنا قد أجبنا عن مثل هذا) فيما قبل: على أن هذا ليس بقياس، وإنما (هذا) تسمية من جهة الاشتقاق، لأنهم اشتقوا الأبيض والأسود من السواد، والقياس ليس بمشتق، فلا يشبه ذلك.

فصل في القياس هل يسمى ديناً ومأموراً به أو لا؟ أما كونه مأموراً به بمعنى أن الله سبحانه بعثنا على فعله بالأدلة فصحيح، وأما كونه مأموراً به بصيغة افعل، فصحيح أيضاً (بما) ذكرنا في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (وغيره) من ألفاظ (الأمر) أما (من) وصفه بأنه (دين) فلا شبهة فيه، لأن ما تعبدنا الله سبحانه به فهو دين، وقد امتنع أبو الهذيل من إطلاق اسم الدين عليه، والدليل عليه أننا متعبدون بما دل عليه الدليل، (ولأن) من نزلت به حادثة، (وكان) فيها قاض أو مفت أو مجتهد لنفسه، وضاق عليه الوقت، وجب عليه أن يقيس وينظر، وإذا لم يضق الوقت استحب له ذلك ليعد الجواب لوقت الحاجة والواجب والمستحب من الدين.

انتهى الجزء الثالث من كتاب "التمهيد" لأبي الخطاب محفوظ ابن أحمد الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510 هـ. ويتلوه الجزء الرابع إن شاء الله وأوله: "باب في شروط القياس وما يصححه وما يفسده".

باب في شروط القياس وما يصححه وما يفسده

باب في شروط القياس وما يصححه وما يفسده فصل لابد (للقياس) من علة، ولابد من طريق إلى العلة. أما اشتراط العلة: فإن القياس الشرعي، لابد (فيه) من أصل وفرع يثبت فيه حكم الأصل (بعلته)، وقد قال أحمد (رضي الله عنه) في رواية أحمد بن الحسين بن حسان: القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله، في كل أحواله، (فأما إذا) أشبهه (في حال) وخالفه في حال، وأردت أن تقيس عليه، فهذا خطأ، (وقد) خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض (أحواله). فإذا كان مثله في كل أحواله، فأقبلت به وأدبرت به، فليس في نفس منه شيء، فحد القياس بأنه: قياس (الشيء

على الشيء) واشترط أن يكون مثله في كل أحواله، فدل على أنه اشترط وجود علته فيه، وحكى عن بعض الحنفية: أنه يكفي في القياس ضرب من الشبه، ولا يحتاج إلى علة مؤثرة. لنا: أن القياس لا يخلو أن يثبت الحكم في الفرع تبعاً لثبوته في الأصل، أو لا يثبته تبعاً له، فإن لم يثبته تبعاً للأصل، كان مبتدياً بالحكم غير قائس، وإن أثبته تبعاً، (فإن لم) يعتبر تبعاً بينهما لم يكن بأن يتبع الفرع هذا الأصل بأولى أن لا يتبعه إياه، أو يتبعه غيره، وإن لم يكن لذلك المعنى) تأثير في الحكم، [لم يكن] القائس بأن يعتبر ذلك (المعنى) بأولى من أن لا يعتبره ويعتبر شبها آخر بين الفرع وبين (أصل) آخر، أو لا يعتبر شبهاً (أصلاً). فإن قيل: أليس تقيسون على ما لم يدل على وجوب القياس عليه؟، فِلمَ لا يجوز أن يقيس على شبه لم يدل الدليل على كونه علة؟. (قلنا): لا نقيس الفرع إلا على أصل قد دلت الدلالة

على وجوب القياس عليه، لأنه إذا دلت الدلالة على علة حكم الأصل وعلمنا وجودها في الفرع، فقيام الدلالة العقلية أو السمعية على التعبد بالقياس، يدل على وجوب قياس الفرع على ذلك الأصل، (ولأنه لو كفى) مجرد الشبه، لاشترك العامي والعالم في القياس، (ولما) احتاج إلى تفكر واجتهاد، وقيام الإجماع يدل على خلاف ذلك، (ولأن) القياس العقلي لابد فيه. من معنى مؤثر، (فكذلك) الشرعي، لأن كل واحد منهما يوجب الحكم. (واحتج المخالف): بأن (قال): الصحابة رضي الله عنهم لم يعتبروا في القياس أكثر من مجرد الشبه، ولهذا كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى: قس الأمور واعرف الأشباه، ولم ينص على معنى. الجواب: أنا لا نسلم بل اعتبروا المعنى المؤثر، ولهذا قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: "رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ولا نرضاك لدنيانا" وقال علي رضي الله عنه في شارب الخمر: "إذا

شرب هذي، وإذا هذى افترى، وإذا افترى فعليه حد المفترى، وقال عبد الرحمن رحمه الله لعمر لما أنفذ إلى امرأة فأجهضت ذا بطنها، إنما أنت مؤدب فلا شيء عليك، فاعتبروا المعاني المقتضية للحكم (المؤثرة) فيه، وقول عمر (رضي الله عنه): اعرف الأشباه، يدل على أنه أراد معرفة معناها، لأن من جهل المعنى لا يسمى عارفاً (بها). فصل فأما طريق العلة الشرعية فلا يكون إلا الشرع، لأن طريقها [هو] كيفية ثبوت حكمها، وتأثيرها فيه حتى تثبت بثبوتها، وتنتفي بنفيها، ومعلوم أن الحكم الشرعي موقوف على الشرع، لا يعرف بغيره، فكذلك كيفية ثبوته بحساب العلة لا يعرف إلا بالشرع. فإن قيل: فلِمَ لا نتوصل إلى العلة بالعادات كما نتوصل إلى جهة القبلة بأمارات من جهة العادات؟، وكذلك يتوصل إلى قيم المتلفات. (قلنا) إنما ساغ ذلك في القبلة (لأنه) قد عرف

كونها في بعض الجهات، وعرف كون الشمس في بعض الجهات، وكذلك الرياح والنجوم، فأمكن أن يستدل ببعض ما هو (في جهة) على جهتها، (وكذلك) القيم يتوصل إلى قيمة المتلف (باعتبار ثمن نظيره، لأن العادة جارية ببيع الأشياء التي هي من جنس المتلف)، بخلاف العلل الشرعية، فإنها أحكامها شرعية لم تثبت بالعادات، فتعلم علتها بكيفية ثبوتها في العادات. فإن قيل: أليس بعقولنا نستدل على أن الحكم إذا ثبت عند صفة وارتفع (بزوالها) أنها مؤثرة فيه. (قلنا): (إنا) لا نتمكن من التوصل إلى الأمارات إلا بعقولنا، ونحن لا ننكر (أن نعرف) الأدلة بالعقول، فإنما ننكر أن تكون الأمارة الشرعية طريقها أمارة عقلية. فصل إذا ثبت هذا فالدلالة على العلة من وجوه النص، والتنبيه والإجماع، والأمارة الموجبة، فأما النص: فمثل قوله: أوجبت عليك

كذا لعله كذا، أو لأجل كذا، أو لأنه (كذا)، قال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الاستئذان من أجل البصر"، "وإنما منعتكم من أجل الدافة"، وقال لابن مسعود حين أتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة وقال: "إنها ركس"، وما أشبه ذلك من الألفاظ كثير.

فإن قيل: قد يقول الإنسان: صلِّ للتقرب إلى الله عز وجل، ولا يكون التقرب علة في وجوب الفعل. (قلنا): لأنه لم يعلل الوجوب بالتقرب، وإنما علل (الفعل للصلاة) بالتقرب، ونحن نقول: علة فعل الصلاة، والباعث عليه التقرب. وأما التنبيه فضروب منها أن يكون في الكلام (لفظ) غير صريح في التعليل، فيعلق الحكم على علته بلفظ الفاء (وهو) على ضربين. أحدهما: أن تدخل الفاء (على السبب) والعلة، ويكون الحكم متقدماً (كقوله) صلى الله عليه وسلم في المحرم حيث (وقصته) ناقته: "لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيباً، فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً"، (وكقوله) في قتلى أحد: "زملوهم بكلومهم،

ودمائهم، فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دماء". والآخر: أن تدخل الفاء على الحكم مع تقدم العلة، (كقوله) تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فدل على أن علة إملاه (وليه)، أن لا يستطيع أن يمل هو، (كقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم): "زنا ماعز فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم، (وسهى) النبي فسجد".

ومنها: أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم (عن شيء) ويذكر السائل وصفا (لذلك الشيء)، يجوز أن يكون علة (لذلك الشيء) مؤثرة في حكمه، (كقول) الأعرابي: وقعت على أهلي، وأنا صائم فقال (له) النبي صلى الله عليه وسلم "اعتق رقبة"، فيعلم أن الكفارة وجبت لأجل الوقوع على أهله في صيام رمضان، إذ لو لم تكن علة، لما أوجبت الكفارة عند سماعه، كما لا يوجبها لو قال: تكلمت أو صليت. ومنها: التقرير على وصف الشيء المسؤول عنه، (كقوله) عليه السلام:"أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً"، فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع لم يكن

(لتقريره) عليه فائده، وهذا يدل على العلة من حيث الجواب بالفاء أيضاً. ومنها: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على حكم ما يشبه المسؤول عنه، ويذكره على وجه الشبه، (كقول) النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، وقد سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ "، (فعلم) أنه لما لم يفسد (الصوم) بالمضمضة من غير ازدراد الماء. فلا يحصل (بالقبلة) من غير إنزال المنى، لأن نزول الماء (إلى) الحلق كنزول المنى من الفرج. ومنها: أن لا يكون (لذكر) الوصف فائدة لو لم يكن علة، مثل دخوله على قوم وامتناعه (من) قوم، فقيل له لِمَ امتنعت من آل فلان؟ قال: لأن عندهم كلباً، قيل له: فعند آل فلان هر، فقال: "ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم

والطوافات"، فلو لم يكن لطوافها تأثير، لم يكن لذكره عقيب حكمه فائدة. ومنها: تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين شيئين لوصف، (فيعلم) أنه لو لم يكن علة لم يكن لذكره في الفرق فائدة، نحو قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" مع تقدم أمره للقاضي أن يقضي، فيعلم، أنه نهاه لأجل الغضب، فيكون الغضب علة لا سيما وللغضب تأثير، لأنه يمنع من الوقوف على الحجة، ويشغل الأذهان. ومنها: أن يمنع لعلة، نحو قوله: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر" فعلم أن الثيوبة علة في منع الإخبار). ومنها: أن يفرق (بلفظة تجري) مجرى الشرط، كقول

(النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" مع نهيه عن بيع المكيل بالمكيل متفاضلاً، فدل على أن اختلاف الجنسين علة في جواز البيع. ومنها: أن يقع التفريق بالغاية، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فلو اقتصر على ذلك دل على تعلق الإباحة بالطهر وإلا لم يكن لذكره فائدة، (أو يكون) التفريق بالاستثناء كقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ}، (أو يكون) التفريق (بالاستدراك)، كقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} فدل على أن التعقيد مؤثر في المؤاخذة، وهذه الأقسام، وإن كانت مؤثرة في الحكم فإنه لا يمتنع أن يؤثر (العلل)، مثل: (أنه يعلل بالغضب، بأنه) يشغل الذهن، ولا يمتنع أن يكون لها شروط، (ولكن)

إذا دل الدليل على أنها غير مشروطة، أو (إذا) أطلقت ولم تدل دلالة على الشرط، حكم بأنها مطلقة غير مشروطة، ومن ذلك النهي عن فعل شيء يشغل عن الواجب، كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، فأوجب السعي ونهي عن البيع، فعلمنا أن نهيه عنه، لأنه يشغل عن الواجب، ومثل قوله: {وَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فنهى عن ذلك، لأنه مناف لقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} فعلم أن نهيه عنه لكونه ينافي الإكرام والإعظام، ودل من جهة الأولى على المنع من ضربهما وشتمهما. وقد اختلف الناس: هل المنع من ضربهما معقول من جهة اللفظ، أو من جهة قياس الأولى، قال شيخنا وكثير من الحنفية: أن المنع من ضربهما معقول من (جهة) اللفظ، وقال أبو الحسن الخرزي (من أصحابنا) هو معقول من قياس الأولى، وهو مذهب الشافعية وبعض المتكلمين وهو الأقوى

عندي، لأن الضرب والشتم ليس بموجود في اللفظ، وإنما هو في معناه، لأنه تعالى حرم التأفيف لما فيه من الأذى والهوان المنافي للإكرام والضرب فيه ذلك وزيادة، فثبت أنه يمنع منه (بالمعنى) لا باللفظ، وهذا صحيح، (لأن) الإنسان إذا سمع قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إلى قوله {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} علم أن الله سبحانه وتعالى أمر بإعظامهما وإكرامهما، لا سيما مع ما تقرر في الطباع من وجوب إكرامهما، فعلم أن التأفيف ينافي التعظيم، وإنما نافاه لكونه أذى، وإذا ثبتت هذه العلة، لم يجز للحكيم أن ينهى عن الشيء لعلة، (ويرخص) فيما فيه تلك العلة وزيادة. فإن قيل: إن لم يكن الضرب موجوداً (في اللفظ إلا أن عرف) أهل اللغة أن هذا اللفظ وضع لمنع الأذى، كما يقول الإنسان لعبده: لا تنظر إلى فلان، معناه لا تتعرض له بضرب أو غير ذلك، ويقول: ما له عندي حبة واحدة، (يريد به) (ما زاد) وما نقص عنها. (قلنا): يجب أن تنقلوا أن أهل اللغة وضعوا ذلك للمنع من الضرب، ولا طريق لهم إلى ذلك، وما ذكروه من قوله

(لعبده)، لا تنظر إليه، فهو من قياس الأولى (أيضاً)، لأنه إذا منعه من النظر الذي يسوءه، وهو أقل من كل فعل، فما زاد عليه (ففيه) ذلك وزيادة، فهو أولى بالمنع، وقوله: ماله عندي حبة (واحدة) يمنع من الزيادة ولا ينفى عما دون الحبة، وكذلك قوله: فلان لا يملك حبة، ينفي كونه (مالكاً) لأكثر منهما، لأن ذلك جبة وزيادة، ولا ينفى ما دونها، (لكنه) لا يوصف الإنسان بأنه (مالكه)، فأما قوله: فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً، فالمراد به من جهة العرف أنه لا يملك شيئاً، لأن النقير ما (ظهر) في ظهر النواة، والقطمير (ما) في شقها، وكذلك الفتيل، فإذا قال: لا يملك ذلك (فلا شيء) أقل منه يملك ويحتمل أن يقال: إذا نفى ملكه لأقل القليل فأولى أن ينفيه لما هو أكثر منه فيستفاد من جهة التعليل أيضاً. وجواب آخر: أن الكلام لا ينقل إلى العرف من اللغة (إلا) إذا لم يمكن سواه، وقد بينا أنه قد أمكن سوى ذلك.

فإن قيل: لو علم ذلك بالقياس، لجاز أن يعلم ذلك إلا من يحسن القياس من العلماء. قلنا: إنما علم ذلك) لأن مقدمات هذا القياس واضحة، لا تحتاج إلى فكر وفحص، لأنه قد استقر في قولب الناس إكرام الأبوين، وعرفوا أنهم إذا نهوا عن قليل (الأذى)، لأنه منافي (التعظيم)، (فكثيره أولى أن ينبهوا عنه). فإن قيل: لو علم ذلك بالقياس لصح أن لا يعلم العاقل (المنع) من ضربهما إذا نهاه الله عن القياس الشرعي. (قلنا) لا يحسن المنع (عن مثل هذا القياس)، مع إيضاح علته، لأنه لا يحسن من الحكيم (أن يقول): "لا تمنعوا مما وجد فهي علة المنع وزيادة"، ألا ترى أنه لو قال: "لا تقل لهما أف"، فإنه فيه أذى وتركا للإكرام، لكن اضربهما واصفعهما كان ذلك مناقضة للتعليل، وإن لم يكن مناقضاً في اللفظ، وكذلك نهيه عليه السلام عن التضحية (بالعوراء) (يمنع التضحية بالعمياء)،

لأن فيه ذهاب العين وزيادة، وكذلك قوله: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، فإن معنى ذلك أن غضبه يمنعه من التثبت في الحكم (والتبين) له، وفي معناه إذا كان حاقنا أو جائعاً، أو خائفاً وكذلك قوله في الفأرة تموت في السمن: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها"، (وكلما) كان جامداً من الأدهان وغيرها في معنى السمن، وكذلك قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}، اقتضى ذلك لرقها فالعبد كذلك، وأمثال ذلك (كثير). فصل ومما يدل على صحة العلة الإجماع، فإذا أجمعوا على علة في حكم فوجدت في غيره، وجب أن يعلق عليه (مثاله) ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، أجمعوا على أن علة ذلك اشتغال قلبه عن النظر والتفكير في الدليل والحكم وتغيير طبعه عن السكون والتثبت للاجتهاد، فكان (كل داخل) على قلب الإنسان من خوف (وحزن)، وعطش، وجوع، ومرض، بمنزلة ذلك، وينهى القاضي أن يقضي معه وقد

(تقدم الدليل على جواز) القياس على المجمع عليه، وذكر شبهة المخالف. فصل ومما يدل على صحتها أن تجمع (الأمة) على تعليل أصل، ويختلفون في علته، فيبطل جميع ما قالوه إلا علة واحدة، فتعلم صحتها، لأنها لو فسدت لخرج الحق عن أقاويل الأمة. فصل فإن لم تجمع الأمة على تعليل الأصل لكن علله بعضهم، واختلف من علله (فمنهم من علله) بعلة وعلله الآخر بأخرى، فهل إذا فسدت إحداهما يدل على صحة الأخرى؟، قال بعض المتكلمين: إذا أفسد علة خصمه، وجب بذلك صحة علته، لأن الدليل على وجوب التعبد بالقياس ينوب عن الإجماع، فيصير الأصل كأنه أجمع على تعليله ووجوب القياس عليه، فإذا (أفسد ما عدا) علته دل على صحة علته كالمجمع (عليه) سواء،

وقال بعضهم لا يدل ذلك على صحة علته، لأنها لو كانت صحيحة، لوجد دليل على صحتها، وليس في حكمنا بفسادها خروج الحق عن جميع الأمة، (بخلاف) المجمع على تعليله، فإن إفساد غير علته والحكم بفساد علته أيضاً خروج الحق عن أقاويل الأمة. فصل فإذا اختلف حنبلي وشافعي في علة الربا، فأفسد الحنبلي علة الشافعي لم يكن ذلك تصحيحاً لعلته، لأن من الفقهاء (من علل) بغير علتهما جميعاً، كتعليل مالك بالفوت، و (تعليل) غيره بالجنس خاصة، إلا أن ذلك يكون طريقاً في إبطال مذهب خصمه، إلزاماً له تصحيح علته. فإن قال قائل: إذا أجمعنا على فساد ما عدا علتي وعلتكم، ثم قام الدليل على فساد علتكم، اقتضى ذلك صحة علتي. (قلنا): هذا لا يدل على صحة العلة، لأن إجماعنا ليس بحجة، فإذا أجمعنا على فساد علل من خالفنا لم يدل على فسادها، وإذا لم يثبت فسادها، جاز أن تكون صحيحة، فيبطل كون (علته) صحيحة (بالتقسيم).

فصل ومما يدل على صحة العلة السلب والوجود، وهو أن يوجد الحكم لوجود وصف، يزول لزواله، مثل الشدة المطربة يثبت الحكم بثبوتها، ويزول بزوالها، فيعلم أنها العلة، وكذلك تنصيف الحد في حق العبد علته الرق، لأنه إذا كمل بالعتق كمل حده، فلو استرق بعد الحرية، مثل أن يكون نصرانياً فينقض العهد ويلحق بدار الحرب، ثم (نسبيه فنسترقه)، فإنه ينتصف الحد عليه، فدل على أن العلة هي الرق، وحكى عن الكرخي أنه قال: لا يكون ذلك دليلاً على صحة العلة. (دليلنا) أن السلب والوجود دليل على صحة العلل العقلية (وهي) موجبة، فأولى أن يكون ذلك دليلاً على صحة

العلل الشرعية، وهي أمارة تدل على ذلك، (لأنا) إذا رأينا المحل أسود (لوجود السواد ثم ارتفع السواد ولم يكن أسود)، علمنا أن (علة) كونه أسود (أو وجود السواد)، وكذلك إذا رأينا رجلاً جالساً فدخل عليه رجل/ 165 ب فقام عند دخوله فلما جلس ذلك الرجل جلس (الرجل) فلما قام قام لقيامه، وتكرر ذلك منه، علمنا أن قيامه لقيام ذلك الرجل. فإن قيل: فما تنكر على من قال: (إن) علة الخمر الاسم، لأنه لما اشتد سمى خمراً، فإذا زالت الشدة زال اسم الخمر؟ قلنا: لا يصح، لأنه لو طبخ زال عنه اسم الخمر، والتحريم (باق) لبقاء الشدة، ثم إذا جعلتم العلة الاسم، (أليس لأن) التحريم يزول (بزوال الاسم، ويثبت بثبوته؟ فدل على أن السلب والوجود يصحح العلة.

فإن قيل: لو كان هذا صحيحاً لوجب إذا كان (للأصل) وصف آخر وجد الحكم بوجوده، وينتفي بنفيه أن يكونا علتين صحيحتين. (قلنا): لا يصح أن ينتفي الحكم عند انتفاء كل واحد (من الوصفين)، فإن وجد ذلك (جاز أن تصح العلتان). (واحتج المخالف: بأن تكفير المستحل للخمر يوجد بوجود الشدة، وينتفي بانتفائها، ولا يدل على أنها العلة في التكفير. (قلنا): التكفير لا يوجد وينتفي بما ذكرتم، وإنما باعتقاد مخالفة الشرع وتكذيبه، ولهذا لو اعتقد تحريم الماء، وتحليل (الخمر) أو الخنزير كفر (لما) ذكرنا لا للشدة، ولأن التكفير طريقه العلم، وبالقياس لا يحصل العلم، والتحريم طريقه الظن، وبالقياس يحصل ذلك. فهذا غير ممتنع ألا ترى أن خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم؟

احتج: (بأنه لو كان) السلب والوجود (يدل) على صحة العلة، لوجب (أن لا تصح) علل جميع (المعللين) في الربا، لأن ما منهم من يمكنه أن يثبت (وجود) الحكم بوجود علته (وينفيه) بانتفائها، ولا خلاف (أن جميع عللهم) غير صحيحة. (قلنا): كل من بين ذلك دل على صحة علته، ما لم يمنع مانع، أو يرد فساد، ونحن نزعم أن جميعها ما عدا علتنا يرد عليها الفساد، والمناقضة على ما نبينه (هناك). فصل فأما شهادة الأصول، فهل تدل على صحة العلة؟

اختلفوا (في ذلك)، فقال شيخنا وبعض الشافعية يدل على صحتها، وذلك مثل قولنا في الخيل: إذا لم تجب الزكاة في ذكورها إذا انفردت، فلا تجب في الذكور والإناث، والدليل عليه الأصول، فإن الإبل والبقر والغنم تجب الزكاة في ذكورها إذا انفردت، وتجب في ذكورها وإناثها، والبغال والحمير والصيود، لا تجب (الزكاة) في ذكورها إذا انفردت، ولا تجب في ذكورها وإناثها إذا اجتمعت. والدليل على ذلك: أن هذا يشبه السلب والوجود، وقد بينا ذلك، ومثل هذا (قولنا) في ظهار الذمي من صح إطلاقه صح ظهاره، لأن المسلم (العاقل) يصحان منه، والصبي والمجنون لا يصحان منهما فصار كالسلب والوجود.

احتج المخالف: بأن استواء (انفراد) الذكور مع كونها مع غيرها (في) بعض الأصول (لعلة أو دليل) لا يدل على أنه يجب أن يستوي في غيره إلا أن يبين وجود تلك العلة (فيه)، أو دليل يدل عليه. والجواب: إن) علل الشرع أمارات ظنية، فإذا رأينا الزكاة ركناً في الشرع اتفق المخرج فيه حتى إن الذهب والفضة/166 أيجب في مضروبه ومكسوره على الانفراد (إذا) اجتمعنا، والحبوب يجب فيها (بمعنى) واحد، وكذلك الحيوانات لا يفرق بين ذكورها وإناثها في باب الوجوب وعدمه، غلب على ظننا تعلق الحكم بذلك، وصار كما لو (تقرر) من عادة إنسان (أنه) إذا أعطى ولده شيئاً أعطى أولاده مثل ذلك، متى رأيناه أعطى ذلك الولد ديناراً غلب (في) ظننا أنه أعطى بقية أولاده (مثل ذلك).

مسألة

مسألة الطرد هو جريان العلة في معلولاتها، وسلامتها من النقض، أو أصل يردها من كتاب، (أو سنة أو إجماع، ليس بدليل على صحة العلة، وبه قال أكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال بعض الشافعية كأبي بكر الصيرفي وغيره هو دليل على صحتها. دليلنا: أن الطرد فعل القائس، لأنه يزعم أنه يطرد ذلك حيث وجد ولا يناقض، وفعله لا يدل على أحكام الشرع. فإن قيل: لا يستدل بفعله، وإنما يستدل بأنها لما اطردت لم يكن لها مانع شرعي يمنعها من جريانها، فدل على صحتها.

(قلنا): عدم المانع لا يدل على الصحة على (أن) كونها لا دليل عليها مانع شرعي من جريانها، لأن العلة إذا دل عليها الدليل وجب أن يجري في معلولاتها، فإذا لم يدل على صحتها، كان ذلك مانعاً من إجرائها مخافة أن يكون إجراؤها مفسدة. دليل آخر: أن (المستدل بالطرد) على صحة العلة في الأصل، يقال له: إذا قلت علة تحريم التفاضل الطعم، وعديته إلى كل (مطعوم) مأكول. (قيل لك: أيسوغ) أن لا يتبعها (الحكم) في موضع ما؟ فإن قال: نعم، قيل له: فاترك ما يسوغ لك مخالفته. وإن قال: لا يسوغ ذلك. (قلنا): ولِمَ لا يسوغ؟ فإن قال: لأنها علة الحكم في الأصل. قيل: لِمَ قلت: إنها علة الحكم في الأصل؟ فإن قال: لأنها تطرد في كل مأكول.

(قلنا): أنت تستدل على أنها على الحكم في الأصل بالجريان، وتستدل على الجريان بأنها علة الحكم في الأصل، وهذا ظاهر الفساد، لأنك تجعل ثبوت (الطعم علة) في البر، لأنه ثابت في الكمثرى والتفاح، وغير ذلك، وثبوت الطعم (علة) في الكمثرى والتفاح، لأنه ثابت في البر، وصار (هذا) بمثابة شاهدين شهدا عند التقاضي، (بحق) فلم يعرف عدالتهما، فجاء آخران فشهدا بعدالتهما (وتزكيتهما)، وهو لا يعرف عدالة المزكين، فشهد الشاهدان الأولان بتزكية المزكين، فإنه لا يثبت (ذلك) عند القاضي، ولا يحكم بالحق، وصار (هذا) أيضاً بمثابة من جلس في موضع، فسرق ثوبه، فقيل له: أين سرق ثوبك؟ فقال: في الموضع (الفلاني) الذي جلست فيه، فقيل (له)، وأي موضع جلست (فيه)، (فقال): في الموضع الذي سرق فيه ثوبي.

دليل آخر: (لو دل الطرد) على صحة العلة، لم يحتج القياس إلى أصل، لأنه إذا ذكر العلة وكانت مطردة فقد ثبتت بذلك كونها علة، فلا حاجة به إلى أصل، وقد جعل الأصل والفرع سواء، لأن كل واحد منهما العلة مطردة فيه، فلا معنى لكون أحدهما أصلاً والآخر فرعاً. دليل آخر: (وهو) أن الطرد زيادة في الدعوى/166، 74 ألأنه ادعاء العلة في الأصل، فلما طولب (بصحتها) دل عليها بأنها علة في الفرع، (وحيث) وجدت فلم يزد إلا دعوى على دعوى، فصار بمثابة من ادعي على رجل ديناراً، فقيل له ألك بينة، فقال: بينتي أني أستحق عليه ديناراً (آخر)، فإن ذلك زيادة في (دعواه)، لا يثبت بها شيء. دليل آخر: (وهو) أن العلة هو المعنى المقتضى للحكم المؤثر فيه في الشرع، مأخوذ من قولهم في المريض به علة، لأنها تؤثر (في المريض وتغير حاله، ولا يعلم كونها مقتضية للحكم بمجرد الطرد،

لأنه قد يطرد) مع الحكم ويجري معه ما ليس بعلة، كقولهم: [في الخل] مائع لا تبني عليه القناطر [ولا تعقد] الجسور، [ولا يصاد] فيه السمك، فلم يجز إزالة النجاسة به كالدهن، وقولهم في السعي: إنه سعى بين جبلين فلم يكن ركناً في الحج، كالسعي بين جبلي نيسابور، وقولهم في وطء الثيب: لا يمنع الرد بالعيب، لأنه شروع في نافذ أشبه الشروع في الزقاق، وقولهم في ذلك: أدخل العضو في المدخل أشبه إذا أدخل رجله في الخف، وقولهم في القهقهة: اصطكاك الأجرام العلوية، (فأشبه) الرعد، وفي مس الذكر: مس آلة الحرث أشبه مس الفدان، (أو طويل) مشوق فأشبه البوق فهذه كل مطردة غير منتقضة، وهي علل فاسدة. فإن قيل: هذه العلل دل الإجماع على فسادها بخلاف هذه العلل، فإنه لم يقسم الدليل على فسادها، فدل على صحتها.

(قلنا): لا يكفي في صحة العلة عدم الدليل على فسادها، بل يحتاج إلى دليل على صحتها، وقد بينا أن الطرد ليس بدليل، لأنه يوجد مع الفساد. واحتج المخالف: بأن العلة إذا اطردت وسلمت مما يردها (أو ينقضها) دل على صحتها، وقد نبه الله تعالى على ذلك فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}، فدل على أ، العلة إذا لم يوجد فيها اختلاف فهي من عند الله، وما كان من عند الله فهو صحيح. (والجواب): أن عدم الدليل على صحتها (يدل على أنها غير صحيحة، فالمدعي حقاً على غيره، لا يقول: بينتي أنه ليس معك ما يدل على فساد دعواى، فدل على صحتها)، بل نقول: إن لم تقم البينة فدعواك باطلة، قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} فأثبت كذبهم لعدم البينة، ولهذا لو ادعى إنسان النبوة، فقال: الدليل على صحة قولي عدم ما يفسده. قلنا: بل عدم ما يصحح دعواك دال على فسادها، فأما

الآية فإنها تدل على أن ما فيه اختلاف وتناقض ليس من عند الله تعالى، ونحن نقول بذلك، فأما أن يدل على أن ما ليس فيه تناقض يكون (من عند الله) فلا، لا سيما إذا (كان) عدم التناقض (راجعاً) إلى فعل المخلوق وهو القائس الذي تطرد علته. احتج: بأن عدم الطرد يفسدها، فثبت أن وجوده يصححها كالتأثير لما كان عدمه يفسد العلة، (كان وجودها) مصححاً لها. (والجواب): أن من يقول بتخصيص العلة يمنع هذا، ومن لا يقول به. يقول: إن الطرد شرط في صحة العلة، وليس إذا كان (عدم) الشرط يمنع الصحة/167 أيقتضي أن يكون وجوده يوجب الصحة، ألا ترى أن عدم الطهارة يمنع صحة الصلاة ووجودها لا يوجب صحة الصلاة، وكذلك عدم الإحصان يمنع وجوب الرجم، ووجوده لا يوجب الرجم. (وجواب آخر): أن عدم الطرد وجه من (وجوه)

الفساد حصل في العلة، فدل على فسادها، (وليس) إذا قلنا): ما حصل فيه وجه فساد: فهو فاسد يلزم منه أن ما ليس فيه وجه فساد فهو صحيح، (وإنما يلزم منه أن ما ليس بفاسد فليس فيه وجه من وجوه الفساد، بين هذا): (أن قولنا): الإنسان حيوان (لا يلزم منه أن ما ليس بإنسان بحيوان)، وإنما يلزم أن ما ليس بحيوان فليس بإنسان، ولهذا لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: زيد (ليس) في الدار، بطل قولنا: (إنه في الدار)، ولا يجب إذا لم يقل ذلك، أن نقول: (إنه في الدار، كذلك هاهنا، (ومعنى) هذا أن الشيء يجوز (أن يثبت) لمعنى، ولا يثبت ضده لعدم ذلك المعنى، ألا ترى أن الحكم يثبت صحته بالإجماع، (ثم لا يثبت فساده لعدم الإجماع).

فإن قيل: أليس تنفون وجوب صلاة سادسة لعدم الدليل، فجوزوا نفي فساد العلة، لعدم (الدليل) على الفساد. (قلنا): بل ننفي ذلك، لأنها لو وجبت لدلنا الله (عز وجل) على ذلك، كما دلنا على الصلوات الخمس. فإن قيل: فقولوا في العلة لو لم تكن صحيحة لأعلمنا الله عز وجل بذلك. قلنا: إنما قلنا هناك ولم نقل (هنا)، لأنه يكفي في النفي فقد دلالة الإثبات، ولا يكفي في الإثبات فقد دلالة النفي، وإنما كان كذلك، لأن الأصل نفي وجوب الصلاة، فلا ينتقل عن الأصل إلا بدليل، كما أن الأصل أنا غير معتقدين لصحة العلة، فلا ننتقل عن ذلك إلا بدليل، ولهذا نقول: يكفي في براءة الذمة أن لا نجد ما يشغلها، ولا يكفي في شغلها أن لا نجد ما يدل على خلوها. فإن قيل: لِمَ لا يدل عجز الخصم عن إفساد العلة على صحتها؟ (قلنا): (إنّ) الخصم قد يعجز عن إفساد

الفاسد، وأكثر ما في عجزه أنه لم يجد ما يفسدها، وليس في كونه لم يجد ما يدل على الصحة (لجواز أن يجد غيره). (واحتج المخالف): بأن الطرد والجريان هو الاستمرار على الأصول من غير أن يرده أصل، وهذا (شهادة) من الأصول لها بالصحة، فوجب أن تدل على صحتها. (والجواب: أن) هذا دعوى بل ذلك فعل القائس، لأنه اتبعها الحكم أين وجدت، وفعله لا يدل على الصحة، بخلاف شهادة الأصول، فإن الأصول موضوع الشرع، ألا ترى أن ما ذكرنا من العلل الفاسدة تطرد، ولا يدل ذلك على صحتها. احتج: (بأنه) إذا عدم ما يفسدها (دل) على صحتها، لأنه ليس بين الصحيح والفاسد قسم آخر. (الجواب): (أنا) لا نسلم أن عدم المفسد مصحح، ولا نسلم أنه قد عدم هاهنا ما يفسدها، فإن عدم

ما يصححها أحد ما يفسدها على ما بينا، وليس بأن (نقول): "عدم المفسد مصحح" (بأولى) من قولنا: "عدم (المصحح) مفسد" لأنه ليس بين الصحيح والفاسد قسم آخر.

باب الكلام في حكم الأصل

باب الكلام في حكم الأصل فصل يجوز أن يعلل الحكم في الأصل بصفة (ذاتية) مثل قولنا: شدة مطربة ومطعوم جنس وولا ذو تعصيب، وما أشبه ذلك أو يعلل بصفة شرعية مثل قولنا: كفارة وطهارة، أو يعلل بالأسماء المشتقة، مثل قولنا: زان وسارق فأما الاسم العلم، مثل قولنا ماء وشراب فهو يجوز أن يعلل به؟ ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه جواز ذلك (لأنه) قال في رواية الميموني: يجوز الوضوء بماء الباقلاء، والحمص، لأنه ماء، وإنما أضفته إلى ما لا يفسده، وبه قال أكثر الفقهاء من

الحنفية والشافعية. وحكى عن بعض أهل العلم: المنع من التعليل بالاسم سواء كان علماً أو مشتقاً. لنا: أن علل الشرع أمارات موضوعة لإثبات الحكم الشرعي، فإذا قام الدليل على كون الاسم علة وجب الحكم بذلك، كما لو نص عليه صاحب الشرع، فقال: حرمت التفاضل في البر لكونه برا، فإنه يحرم كذلك إذا دل على الاسم دليل غير النطق من تنبيه (أو تأثير أو شهادة) الأصول. دليل آخر: ما جاز أن يرد به الشرع نطقاً في العلة جاز أن يكون مستنبطاً كالصفة والمعنى في (الحكم) (يؤيد هذا)، أن الصفة تراد لتمييز الأعيان، والاسم قد يحصل به ذلك (وزيادة)، فجاز أن يعلق به الحكم.

احتج المخالف: بأن الألقاب لا تفيد معنى، وإنما هي مواضعة (بين) أهل اللغة، فلا تكون علة (كما لم تكن علة) في العقليات. الجواب: يقال لهم: (ولم) إذا كانت مواضعة لا تكون علة) إذا (أثرت) وقام عليها دليل؟، ولِمَ إذا لم تكن علة في العقليات، وعلل العقليات يجب كونها موجبة، لا يجب أن تكون عللاً في الشرعيات، وعلل الشرعيات أمارات وعلامات، والاسم يقع به (الأمارة والعلامة)، والتمييز بين الأشياء؟، ثم يلزم إذا علل به صاحب الشرع نطقاً فإنه يكون علة، وإن كان ما ذكرتم موجوداً. احتج: بأن الأسماء لا يمكن استنباط المعاني منها، وتدخلها الحقيقة والمجاز وتثبت قبل الشرع، فلا يجوز (أن تجعل علة الشرع). والجواب: أن هما (مجرد) دعوى، (لم) يلزم (على ما ذكروا) إذا نص صاحب الشرع عليها، ولأن الصفات

مسألة

(سابقة) للحكم أيضاً، لأن الشدة (قامت) في الخمر قبل الشرع، ثم جعلت (علة في الشرع)، فبان ما ذكرنا على أنه قد قيل ما من اسم إلا وتحته معنى، ينبيء عن صفات هو عليها ومعاني (تختص به) فجاز تعليق الحكم به كالصفات سواء. مسألة (قال: أصحابنا يجوز) أن يكون الحكم علة إثبات حكم آخر، كقولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، وكل جنس لا تجب الزكاة في ذكوره المنفردة، لا تجب في ذكوره وإناثه، (أو مايع) لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجس. وقال بعض المتأخرين: لا يجوز أن يكون علة، وإنما هو قياس دلالة لا علة فيه، (وهو الصحيح عندي ولكن ننصر قول أصحابنا). لنا: أن علل الشرع أمارات تقتضي (غلبة) الظن،

فإذا وجدنا حكماً دالاً على (وجود) حكم آخر، كان أمارة لوجوده، وإذا كان أمارة لوجوده جاز أن يكون علة فيه، وهذا صحيح فإنه قد سلم (أن صحة) الطلاق منه تدل على صحة ظهاره، (ولا) معنى لتسميته قياس دلالة ولا علة فيه تعدى إلى الفرع، (ولأن الدليل يستقل بنفسه، وإنما العلة هي التي يحتاج إلى إثباتها في الأصل ليتعدى إلى الفرع). (ودليل): أن الحكم يجوز أن يد عليه أحد الدلائل التي تثبت بها العلل، ألا ترى أنه يجوز أن يقول صاحب الشرع: من صح طلاقه صح ظهاره، (أو ما كان) في دار الإسلام فهو ربا في دار الحرب، كما قال: "من يدل دينه فاقتلوه"، وكما قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. احتج المخالف: بأن قولنا ما كان ربا في دار الإسلام، كان ربا في دار الحرب لا يقتضي أنه إنما كان ربا في دار الحرب، لكونه ربا في دار الإسلام، وإنما كان ربا لوجود التفاضل (في) الجنس

الواحد الذي حرم الشرع/168 أفيه التفاضل، وذلك هو العلة (فيهما)، وكذلك طلاقه لا يكون علة في ظهاره، وإنما صح طلاقه، لأنه زوج مكلف، (وذلك) علة الظهار أيضاً، فبطل كون الحكم علة (في ظهاره). والجواب: إن أردت أن ذلك ليس (بعلل) (موجبة)، (وليس غرض الحكم)، فهذا حكم جميع العلل الشرعية، ألا ترى أنها تعلل (الربا) في أربع المنصوص (عليها) بالجنس والكيل، ويعللها الشافعي بالجنس والطعم، وليس كونه قليلاً أو مطعوماً (غرضاً) (موجباً) يعلم به تحريم (الزيادة) في بيع بعضه ببعض، وإنما ذلك أمارة شرعية على التحريم، وكذلك نحن نعلم أن (الأسماء) ليس فيها معنى يدل

على غرض الحكم، وإنما جعلناها عللاً بدليل شرعي، وهذا، لأن الربا في دار الإسلام يتضمن العلة الموجبة للربا، (فصح) وصفه بأنه علة للربا فيدار الحرب، كما أن الشدة في الخمر لما كان (فيها) المعنى الموجب للتحريم، وهو الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وإيقاع العداوة والبغضاء، جعلنا السدة علة في الخمر، لأنها تتضمن العلة الموجبة، وكذلك المشقة لما كانت (علة الترخص)، وهي مختلفة، جعلنا علة (الترخص) وجود السفر، وكذلك نقض الطهارة لما كان بالحدث الخارج جعلنا النوم علة (للنقض)، لأنه يتضمن الخارج في الغالب، وكذلك جعلنا مس الذكر، ومس النساء علة النقض، (لأنه) (يتضمن خارجاً) في الغالب، (وذلك مثل قولنا في الاستجمار يعتبر فيه العدد، لأنه حكم يتعلق بالأحجار ويستوي فيه الثيب والأبكار، فاعتبر فيه العدد كرمي الجمار، وهذا غير مؤثر في الأصل، فاستوى الثيب والأبكار كرجم المحصن، ومعلوم أن رجم المحصن لم يسقط فيه العدد، لأنه لم يستو فيه الثيب والأبكار، ولا ذلك علته، ولا بعضها، وإنما الغرض بالرجم قتل الزاني بأي حجر كان).

واحتج: بأنكم عللتم ثبوت التحريم في القليل من البر، فقلتم: ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله، كالدراهم والدنانير، ولو كان (هذا) قياس علة، لكان خلافاً لجميع القائسين، لأنهم أجمعوا على علة الربا في الأربع المنصوص عليها واحدة فلو كان (ما ذكرتم) علة لكان فيها علتان. الجواب: أن العلة في تحريم الزيادة واحدة، فأما التسوية بين القليل والكثير، فحكم آخر ثبت بهذه العلة التي ذكرناها، فإذا كانا حكمين مختلفين جاز أن يثبت (أحدهما) بعلة غير الحكم (الآخر). فصل (ويجوز) أن تجعل العلة في نفي صفة، أو سام على قول أصحابنا، كقولهم: ليس بمكيل ولا موزون (ليس بتراب، ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، وما أِبه ذلك، وقال بعض الشافعية، لا يجوز).

لنا: (أنه) إذا جاز أن تكون الأحكام تارة إثباتاً وتارة نفياً، جاز أن تكون (عللها) تارة إثباتاً وتارة نفياً، لأن الأحكام تترتب (على العلل)، ولأنه إذا جاز أن ينص عليه في التعليل جاز أن يستنبط بالدليل، ويعلق الحكم عليه (كالإثبات)، ولأن العلل العقلية مع كونها موجبة، يجوز أن تكون فياً فأولى أن تكون العلل الشرعية نفي وهي موجبة للظن. احتج المخالف: بأن الذي يوجب الحكم (وجود معنى)، (فأما) عدم المعنى، فلا يجوز أن يوجب الحكم، والنفي عدم المعنى. والجواب: أن هذا مجرد دعوى، فلم لا يجوز؟ على أن كل نفي يتضمن إثباتاً فيكون ذلك الإثبات علة في إثبات الحكم. احتج: بأن العلة ما اشترك فيها الأصل والفرع، والنفي لا يصح (أن يشتركا) فيه. الجواب: أنا لا نسلم، فإن (الاشتراك) يحصل في النفي، كما يحصل في الإثبات فلا فرق.

فصل ويجوز أن يجعل الاتفاق والاختلاف علة، أما الاتفاق عند أصحابنا نحو قولهم في المتولد بين الظباء والغنم: أنه متولد من حيوان تجب الزكاة فيه بالاتفاق، فأشبه المتولد (من) بين الغنم والغنم، وأما الاختلاف كقول أصحاب أبي حنيفة (في الكلب): أنه مختلف في إباحة لحمه، فلم يجب العدد في ولوغه كالسباع، وهو قول أكثرهم، وقال بعض العلماء: لا يجوز ذلك، لأن الاختلاف والاتفاق حادث، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلة أمارة شرعية تحتاج إلى نصب (صاحب) الشرع، (ووجه) قول أصحابنا أن هذا وإن كان حادثاً

مسألة

فيجوز أن تكون أمارة دالة، كما (كان) الإجماع حادثاً وكان دليلاً معلوماً. فإن قيل: الإجماع إنما كان دليلاً، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال):"أمتي لا تجتمع على ضلالة". قيل: وكذلك (نحن) (لا نجعل) هذا علة حتى يقوم عليه دليل شرعي كغيره من العلل، على أن الاختلاف يتضمن خفة حكم اللحم، وذلك (بمعنى) موجود فيه قبل الاختلاف، (وكذلك) الاتفاق يدل على قوة الزكاة، وتأكدها قبله (والله أعلم). مسألة إذا كانت العلة ذات أوصاف، وفي (الوصاف) وصف لا تأثير له، لو عدم في الأصل (لم يعدم الحكم بعدمه)، لم يجز أن تجعل العلة مجموع تلك الأوصاف بل يجب

أن يطرح ذلك الوصف، وقال بعض الشافعية: إذا دخل (ذلك الوصف) للاحتراز حتى لا ينتقض (بفرع) من الفروع، جاز أن يجعل من جملة العلة، (وذلك مثل قوله في الاستجمار يعتبر فيه العدد، لأنه حكم يتعلق بالأحجار يستوي فيه الثيب والأبكار فاستوى فيه العدد كرمي الجمار، وهذا غير مؤثر في الأصل والاحتراز، فاستوى فيه الثيب والأبكار، ورجم المحصن، فلم يسقط فيه العدد، لأنه يستوي فيه العدد، ولا دليل عليه وإنما الغرض بالرجم قتل الزاني بأي حجر كان)، (ولا يطرح الأصل ولا الفرع). لنا: أن العلة يجب أن تعلم في الأصل ثم تعدى إلى الفرع، وإنما يعلم ذلك إذا كان الوصف مؤثراً في الأصل يوجد الحكم بوجوده، ويعدم بعدمه، فأما إذا لم يؤثر لم يدل على الحكم، فلم يكن علته، ووجب إسقاطه كسائر الأوصاف التي لا تحتاج إليها. فإن قيل: هذا الوصف بنا حاجة إليه للاحتراز من النقض. (قلنا: الاحتراز من النقض) لا يؤثر في حكم الأصل وما لا يؤثر في حكم الأصل، لا يجوز أن يكون من جملة علته، وإذا لم يكن من (جملة) علته وجب إسقاطه، وإنما ذكره (لتطرد)

العلة، وليس الطرد (دالاً) على صحة العلة، وقد تقدم الدليل (على ذلك). فإن قيل: دفعه النقض يدل على أنه من العلة. (قلنا): لا يدل على أنه (من العلة)، ألا نرى أنه لو علل بأنه يجوز إزالة النجاسة باللبن، لأنه مائع مشروب فأشبه الماء، (ودفع) ذلك النقض بالدهن، (ولا يقال): إن كونه مشروباً من العلة، (لأن) المؤثر في المائع كونه منقياً (في موضع). فإن قيل: هو وإن لم يؤثر إلا أنه لا يضر أن يضاف (إلى مؤثر). قيل: لو جاز أن يثبت في العلة ما لا يضر دخوله لجاز أن يدخل فيها، مالا نهاية (له) من الأوصاف، وهذا فاسد. احتج المخالف: بأن الأوصاف يحتاج إليها للتأثير والاحتراز، فلما جاز تعليق الحكم على المؤثر جاز تعليقه على المحترز به.

الجواب: أنا لا نسلم أنها تحتاج إليها للاحتراز (لكونه) مؤثراً، فأما إذا كان للاحتراز فقط لم يحصل به التأثير فوجب إسقاطه. فصل إذا ذكر أوصافاً غير مؤثرة في الأصل، لكنها مؤثرة في موضع من الأصول، لم تكن علة يعلق الحكم عليها، وبه قال أصحاب/169 أأبي حنيفة، واختلف الشافعية، (فمنهم) (من قال مثل هذا)، ومنهم من قال: إذا أثرت في موضع من الأصول فهي علة صحيحة، واختاره أبو الطيب، وأبو إسحاق الفيروزابادي، وذلك مثل (قولهم) في المرتد: يجب عليه قضاء الصلوات، لأنه ترك الصلاة لمعصية فأشبه إذا تركها بالسكر. فيقول المعترض: لا تأثير للوصف في الأصل، فإن السكران

لو لم يكن عاصياً به مثل: أن يكره على الشرب، فإنه يفضي الصلاة أيضاً، فيقول المستدل: للمعصية تأثير في إسقاط القضاء (في موضع)، لأنه لو شرب دواء ليزول عقله، فزال لم يسقط عنه القضاء، ولو زال عقله بعلة سقط القضاء. لنا: أنها إذا لم تؤثر في الأصل لم تكن علة (الأصل)، وإذا لم تثبت علة الأصل لم يجز أن يقاس عليها الفرع، لأن رد الفرع إلى الأصل بغير علة لا يجوز. فإن قيل: لا نسلم هذا، فإنها إذا أثرت في موضع من الأصول دل على أنها علة الأصل، لأنها لا يجوز أن تكون علة في موضع دون موضع، لأن من شرط العلة اطرادها على الأصول، لكن ربما لم يظهر تأثيرها في الأصل (لاجتماعها) مع علة أخرى، ألا ترى أن (الوطء) في الحيض إذا صادف الإحرام أو الصوم لم يظهر (تأثير) تحريم الوطء به، وإن كان الحيض علة لتحريم الوطء. (قلنا): لو كانت مؤثرة في الأصل لأمكن أن يظهر

تأثيرها فيه يوجد، ألا ترى أن ما استشهدوا به من الحيض يمكن بيان تأثيره: بأن يزول الإحرام والصوم، (ويبقى) تحريم الوطء، لأجله، فأما هاهنا، فلا يمكن بيان (تأثيره بحال). فنقول: السكران وجب عليه القضاء، لأن عقله زال بمعصية، إذ لا فرق فيه أن يكون (بمعصية) أو (بغيرها)، مثل أن يكره على الشرب، فيجب أن تسقط المعصية، وإذا سقط وصف المعصية بقى ترك الصلاة، فلزمه القضاء. فينتقض ذلك بالجنون والمغمى عليه، والكافر الأصلي، فيبطل أن يكون علة، فأما (قوله) (الأصول) يجب أن (تطرد)، فمن يقول بتخصيص العلة يمنع من ذلك، (ويقول): العلة مختصة بالوضع الذي أثرت فيه دون ما لم تؤثر فيه، ومن لا يقول بالتخصيص، يقول: هو علة في هذا الأصل، لكن لا يقاس عليه، لأنه بمنزلة الفرع المختلف فيه، لأن تعلق الحكم بهذه العلة فيه ثبت بأصل آخر، وهو الأصل الذي كان فيه تأثير الوصف، والفروع لا يقاس بعضها على بعض لأنه ليس أحدهما بأن يقاس على الآخر

(بأولى) من أن يقاس الآخر عليه. (ودليل) آخر: أنه لو كان تأثيرها في بعض الأصول يكفي في تعلق الحكم بها لم يحتج إلى ذكر الأصل، فإن ذلك (الأصل) يثبت صحتها بوجود التأثير فيه، (وتعلق حكم الفرع) به، ولم يقل ذلك أحد. دليل آخر: أنه إذا ذكر وصفين ولم يؤثر أحدهما في الأصل وجب إسقاطه، لأنه حشو، فإذا (أسقطه) انتقضت العلة (وبطلت). احتج المخالف: بأن العلة المنصوص عليها، لا تفسد بعدم التأثير في الحكم الذي ذكرت فيه، كذلك المستنبطة. والجواب: أن المنصوص عليها لا يجوز أن تكون غير مؤثرة، لأن (النص) عليها (يوجب) زوال الحكم بزوالها، بخلاف المستنبطة. واحتج: بأن (للتأثير) (دليلا) على صحة العلة

فحينئذ، وجد (ما دل) على كونها علة في هذا الحكم، وإن لم (تؤثر) في الأصل. والجواب: أن المطالبة بالتأثير نوع فساد للعلة، وليس بمطالبة بالدليل على صحتها، على أ، هـ لو كان مطالبة بالدليل، (لم يكن صحيحاً، لأنه ليس يتعين أن يدل على هذا الحكم بالتأثير، بل يجوز أن يدل بدليل غيره، وها هنا يلزمه بيان التأثير دل على أنه ليس له مطالبة) بالدليل على صحة العلة، على أنا قد بينا أن التأثير يجب أن يكون في الأصل الذي علق عليه الفرع، فأما في غيره فلا يفيد. (والله أعلم). فصل في تعليل حكم الأصل بعلتين، فإن لم تكن واحدة من العلتين هي الدليل على حكم الأصل، بل كان الدليل عليه (نصاً أو إجماعاً)، جاز أن يصحا جميعاً لأن العلة إن كانت أمارة فجائز أن تدل على الحكم الواحد أمارتان، وإن كانت مصلحة

فجائز أن يكون الشيء صلاحاً من وجهين، ويبين (صحة) هذا: أنه قد يستحق قتل (الإنسان) لردته، و (لأنه قتل) أو زنا، ويحرم وطء المرأة لحيضها، وإحرامها وصيامها، وتفسد الصلاة بالحدث والكلام إذا وجدا معا، وأما إن كانت (إحداهما دليلاً) على حكم الأصل دون الأخرى مثل قولنا في: الطلاق قبل النكاح: أنه لا ينعقد، لأن من لا ينفذ طلاقه المباشر لا ينعقد له صفة الطلاق. دليله الصبي فيقول الحنفي: العلة في الصبي أنه يغر مكلف، وهذا الرجل مكلف أضاف الطلاق إلى ملكه. فيقول الحنبلي: إنا نقول بالعلتين: بإنه غير مكلف، (وإنه) لا يقع طلاقه المباشر وهما غير متنافيين.

(اختلف) الناس في ذلك فقال بعضهم: يجوز تحليل الأصل بالعلة التي لا تدل على حكم الأصل: وهي امتناع وقوع طلاقه المباشر. (قال): لأن العلة التي ثبتت بها حكم الأصل هي طريق في حكم الأصل، (فصارت) كالنص الدال على حكم الأصل. ومعلوم أن ذلك لا يمنع أن ننظر بعض أوصاف الأصل المنصوص على حكمه، (فإذا وجدنا له تأثيراً في ذلك الحكم جعلناه علة، وقسنا بها، ما وجدت العلة فيه من الفروع، كذلك ما ثبت حكمه لعلة من العلل، لا يمنع أن ننظر بعض أوصافه)، فإذا وجدنا له تأثيراً في ذلك الحكم جعلناه علة، (وقسنا) عليه (الفروع)، ومن الناس من قال: لا يجوز تصحيح العلة التي لم

مسألة

يثبت بها حكم الأصل، لأن هذه العلة لا يمكن أن تدل على أن مكانها (ثبت حكم) الأصل بأن يبين (أن) بثبوتها ثبت حكم الأصل، وبانتفائها عن الأصل انتفى الحكم، لأنها لو وجدت وحدها في الأصل من غير العلة الأخرى لم يمكن أن يثبت حكم الأصل (بها)، فدل على أنها غير صحيحة، وأنها لا تثبت في الأصل، (والأول أشبه) بأصولنا، (والله أعلم). مسألة اختلفت (أقاويل) الناس في العلة الشرعية القاصرة، كالتعليل في الذهب والفضة بالثمنية مع الجنس، هل هي صحيحة أو لا؟، فقال أصحابنا رضي الله عنهم وأصحاب أبي حنيفة: هي باطلة إلا أن ينص عليها صاحب الشرع، وقال

الشافعي (وأصحابه) وبعض المتكلمين: هي صحيحة. والدليل على صحتها: أنها لو (نص) عليها صاحب الشرع كانت علة صحيحة، فإذا استنبطت كانت صحيحة كالعلة المتعدية. فإن قيل: المنصوص عليها بيان (لعلة) المصلحة التي لأجلها أباح الشرع وحظر، وعلل المصالح لا يعلمها إلا صاحب الشرع، ولهذا جاز أن ينص عليها، (فأما) العلة المستنبطة فهي مستخرجة، فإذا لم تكن متعدية، فلا حاجة بنا إليها. (قلنا): (فلما) جعل الشرع علة المصلحة قاصرة غير متعدية (إلا) والعلل يجوز أن تكون قاصرة ومتعدية،

(وقولك) أن المستخرجة (وإن) لم تكن متعدية، فلا فائدة فيها غلط، لأن فيها فائدة: وهو أن يعلم علة الحكم، ويعلم هل (علته) قاصرة، أو متعدية (والعلم) (من أعظم) أبواب الفوائد. فإن قيل: إنما تفيد معرفة علة الحكم، إذا (كانت تتعدى) إلى غيره، وإلا (إذا) كانت قاصرة على الحكم فقد استفدنا/170 أالحكم بالنص، فطلب علته عبث، لأنها لا تفيدنا ثبوت حكم الأصل، ولا يتعدى إلى فرع. (قلنا): لو كان طلب العلة الواقفة عبثاً، لكان نص الشرع عليها (عبثاً) أيضاً، لأنها لا تفيد حكم الأصل، (ولا تتعدى) إلى فرع. (وجواب): (أن) أكثر ما يقولون: إنا في غنى (عنهما)، ووقوع الغناء عن الشيء لا يفسده، ألا ترى أنا نستغني بالقرآن في بعض الأحكام (عن) أخبار الآحاد

والقياس، ولا يوجب ذلك فسادها، ثم قد بينا أن معرفة الشيء بعد جهله من أكبر الفوائد، فسقط (قولهم)، (ولأن) النفوس الشريفة تتشوق إلى معرفة علل الأشياء، وذلك فائدة، وربما كان في معرفتها فائدة أخرى، وهي أن يمتنع من (قياس) فرع على أصل علته قاصرة، وفائدة أخرى، وهي أنه ربما حدث جنس آخر يجعل ثمناً، فتكون (تلك) علته. ودليل آخر: أن العلة الشرعية أمارة، (فجاز أن تكون) خاصة وعامة، دليله النص. فإن قيل: النص يفيد في الموضوعي، والعلة لا تفيد إلا إذا كانت متعدية. (قلنا): قد يبق الجواب (عن هذا). (ودليل آخر): إن العلل العقلية آكد من العلل الشرعية، (ولهذا) (توجب) حكمها بوجودها وينتفي

بعدمها، وليس من شرط (العلة) الشرعية العكس، ثم العقلية تصح واقفة ومتعدية، فالشرعية أولى، بيان ذلك: (أنه) يقال لا تسلك طريقاً يحصل فيه الهلاك إلا أن يكون لك فيه نفع في الآخرة، ومثل الجهاد، فهذه علة قاصرة، والمتعدية، مثل قوله: لا تظلم، (فإن) الظلم قبيح، فهذه تتعدى إلى كل قبيح. دليل آخر: أن إفساد القاصرة: إما أن تكون لأنها (قد) خلت (من) الدليل عليها، أو لأنها لا تطرد، (أو لأنها) لا تتعدى إلى فرع والأول لا يصح، فإنا لا نجعلها علة إلا أن يدل عليها دليل، من تنبيه أو تأثير، أو شهادة أصول، والثاني: لا يصح، لأنها مطردة، والثالث: باطل، لأنه ليس على ذلك دليل معقول، وأنها إذا كانت (قاصرة بطلت). ودليل آخر: أنه لا يخلو أن تكون العلة أمارة على الحكم، أو وجه المصلحة، فإن كانت (أمارة) فالأمارة لا تفسد بكونها

خاصة أو عامة (كسائر) الأدلة، وإن كانت (للمصلحة)، (فالعلة) (القاصرة) إذا قامت عليها أمارة (غلب على) ظننا أنها وجه المصلحة كالمتعدية سواء، فدل على صحتها. احتج المخالف: بأن العلة الشرعية (أمارة) (على شيء)، ولا يتصور أمارة، أو دلالة (لا تكشف عن حكم أصل ولا فرع، فلم تكن أمارة، وإذا لم تكن أمارة) لم تكن علة. (والجواب: أنه) إذا دلت دلالة صحيحة على كون الوصف علة، قضينا (بأنه) وجه المصلحة، أو بأنها أمارة توجب الظن كالمتعدية سواء، ثم يبطل ما ذكروه بالعلة القاصرة المنصوص عليها، فإنها لا تكشف عن حكم أصل ولا فرع، وهي صحيحة. وجواب آخر: أنا قد بينا فوائدها بغير ذلك.

واحتج: بأن العلة إذا لم تكن طريقاً إلى حكم، لم يكن فيها نفسها فائدة، وما لا فائدة فيه لا يجوز أن ينصب الله تعالى عليه أمارة، وكل علة لا أمارة عليها فهي باطلة. (والجواب): (أنه) يبطل بالعلة القاصرة المنصوص عليها، فإنها لا تفيد حكماً على زعمكم، وقد نص الله تعالى، ولم يجعلها فاسدة، على أنا إذا وقفنا على علة الشيء صرنا عالمين، أو/170 ب ظانين بما كنا جاهلين به، ولا فائدة أكثر من العلم، ثم يلزم خبر الواحد مع القرآن، فإنه لا فائدة فيه في الحكم، لأنه قد ثبت بأعلى حالات الثبوت، ثم لا نقول: هو فاسد. فإن قيل: الخبر مع الآية لا يسقط أحدهما مع الآخر، بخلاف القياس مع النص، فإنه يسقط، إذا عارضه فلم يثبت معه، وهذا (المعنى) وهو أن (الشيء) إذا ثبت بالأقوى (نفي حكم الأضعف) بدليل البينة مع الإقرار لا تثبت، لأن الإقرار أقوى منها. (والجواب: أنه) لا فرق بينهما فإن خبر الواحد إذا (عارض) نص القرآن سقط إلا أن يكون القرآن عموماً والخبر

خاصاً، فنخصصه، ومثله القياس يخصص عموم القرآن على (ظاهر) قول أكثر أصحابنا، ومن منع منهم (منع من) أن يخصص بالخبر والقياس، فأما البينة، فلا تلغوا مع الإقرار، ولهذا قال أصحابنا رضي الله عنهم فيمن قامت عليه البينة بالزنا فأقر بالزنا (لا يسقط) عنه الحد، بل يؤكد الحد خلافاً، لأصحاب أبي حنيفة، (فكذلك ها هنا)، (ولأنه) لا خلاف أن الحكم إذا نص عليه، واقتضاه القياس ثبت (بهما) معاً، (فأما البينة) فإنه إذا أقر لا يحتاج إلى البينة، لأن من شرط (إقامة) البينة أن تثبت حقاً لم يكن ثابتاً، وليس

مسألة

(ذلك) من شرط الحكم الشرعي، ولهذا يثبت بالقرآن وبالخبر (وبالقياس)، ولا نقول: إذا ثبت بأحدها فسد غيره. (والله أعلم). مسألة اختلف أصحابنا رضي الله عنهم في العلة المستنبطة المخصوصة: هل هي حجة فيما عدا المخصوص (أم لا)؟ فقال بعضهم: (هي) حجة فيه، وبه قال

(مالك) وأصحاب أبي حنيفة. وقال بعضهم: تكون باطلة منتقضة فلا يحتج بها، وبه قال أصحاب الشافعي، وكلام أحمد رضي الله عنه يحتمل القولين معاً، فأما العلة (المنصوصة)، فمن قال بتخصيص العلة يقول بتخصيصها، ومن منع من تخصيص العلة المستنبطة، اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: يجوز تخصيصها.

وقال بعضهم: لا يجوز، ومتى وجدناها مخصصة علمنا أنها بعض العلة. حجة القول الأول: إنها أمارة شرعية فتخصيصها لا يبطل كونها حجة فيما عد المخصوص كالعموم. فإن قيل: العموم (طريق) كونه دليلاً، أنه قول صاحب الشرع، فإذا (خص) بعضه لم يخرج باقيه أن يكون دليلاً، لأنه (طريق باقيه) بخلاف العلة المستنبطة، فإن طريق صحتها اطرادها (وجريانها)، في معلولها، فإذا لم تجر فيها أثبتنا أنها ليست علة. (والجواب: أنا) لا نسلم أن طريق صحة العلة الجريان لما تقدم (من أن اطرادها ليس) (بدليل) على صحتها، على أنه لا فرق بينهما، لأن العموم (قول) صاحب الشرع، والعلة معنى قول صاحب الشرع، وكل واحد منهما يجب شموله بأصل الوضع، إلا أن يمنع مانع، فإذا منع مانع خرج عن حقيقة

وضعه وصار كالمجاز، فأما (مذهب) من قال: (المجاز) لا يحتج به، أو يكونان حجة على مذهب الأكثرين. ودليل آخر: أن العلة الشرعية أمارة، (والأمارة لا يجب) وجود حكمها معها على كل حال، وإنما الواجب أن يكون (حكمها) مواصلاً لها في الغالب والأكثر ألا ترى أن الغيم الرطب في الشتاء أمارة على وجود المطر؟. فإن وجد (ولم يمطر) لم /171 أيخرجه ذلك عن (كونه) أمارة على المطر. وكذلك إذا رأينا مركوب القاضي على باب الأمير كان ذلك أمارة على كونه عند الأمير، وإن جاز أن لا يكون عنده، (ويكون) مركوبه مستعاراً، وهذا عمدة المسألة. فإن قيل: إذا وجدت أمارة ولم يوجب ما دلت عليه وجب أن

يجعل عدم ذلك المعنى مضموماً إليها فيكون الجميع. هو الأمارة. (فنقول) وجود مركوب القاضي على باب الأمير دليل على كونه عند الأمير ما لم يستعر. (قلنا): لا أحد من العقلاء يمنع من وقوع الظن لمن رأى مركوب القاضي على باب الأمير أن القاضي عنده إذا كان الأغلب أن القاضي لا يعبر مركوبه، وإن جاز أن يعيره، كذلك لا يمنع من وقوع الظن بأن هذه العلة الحكم وإن لم يوجد الحكم في موضع ثم هب أنك تدعي هذا في المركوب، فالغيم (ما تشترط فيه حتى) يكون أمارة؟ (دليل آخر: أنه إذا جاز أن يوجد الحكم لوجود علته) ثم تزول العلة ويبقى الحكم، مثل السعي شرع لإظهار الجلد للمشركين، وزال ذلك المعنى وبقى السعي، وكذلك حرم الخمر، لأنها توقع العداوة والبغضاء) وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وذلك لا يوجد في الفطرة، والتحريم حاصل، (وكذلك شعر الخنزير إذا غمس في الماء نجس لأجله، ثم تزال الشعرة والنجاسة

بحالها)، فلم لا يجوز أن يزول الحكم وتبقى العلة؟ وهذا يشير إلى معنى صحيح وهو أن الحكم لا تجب ملازمته للعلة، ولا يشترط وجود كل واحد منهما في صحة الآخر، لما بينا من أن العلة تنفك عن الحكم فلا يبطل الحكم كذلك إذا انفك الحكم عن العلة يجب أن لا تبطل العلة. ودليل آخر: أن العلة المنصوص عليها لا تخلو: (إما) أن يجيز المخالف تخصيصها، أو لا يجزيه، فإن لم يجزه فهو غلط من أوجه: أحدهما: أنه تحجر على صاحب الشرع، ومعلوم أنه لو قال: حرمت التفاضل في البر لكونه مطعوم جنس، ثم قال: أبحت أن تباع رمانة برمانتين لم يجز الاعتراض عليه. (والثاني): أن المنصوص عليها قول صاحب الشرع كالعموم، ثم تخصيص العموم لا يبطله كذلك تخصيص العلة. (والثالث): أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش في دم الاستحاضة: "إنه دم عرف فتوضئي لكل صلاة" فخصصتم هذه العلة، وقلتم: الدم الخارج من العضد

وغيره لا ينقض الوضوء، وإن كان دم عرق، وكذلك قال لبريرة: ملكت بضعك فاختاري فخصصتم (علته)، وقلتم: إذا عتقت تحت (حر) قد ملكت بضعها ولا (تختار). (والرابع): أنكم منعتم من تخصيص المستنبطة، لأن طريقها الجريان والتخصيص يبطل ذلك، وليس طريق المنصوص عليها الجريان (فتبطل) بالتخصيص، (وإن) قلتم (يجوز) تخصيصها. قيل: إذا جاز تخصيصها، وهي أمارة وعلة شرعية جاز مثله في المستنبطة، لأن ما يجوز على الشيء أو تستحيل فهي لا يختلف باختلاف طرقه، ولأن المنصوصة قوله والمستنبطة تنبيه (قوله) فما يجوز في إحداهما يجوز في (الأخرى) (كتعلق) الحكم بكل واحدة منهما. (فإن قيل: من شرط المستنبطة الجريان فتخصيصها يبطل الجريان). (قلنا): ونحن فلا نسلم أن طريق المستنبطة الجريان وإنما طريقها دلالة الشرع كالمنصوصة سواء.

دليل آخر: أن العلة الشرعية جعلت أمارة على الحكم (بجعل جاعل) فجاز أن نجعلها أمارة في مكان دون مكان، كما أن خبر الواحد لما كان أمارة، (جاز أن نجعله في موضع دون موضع، فيكون أمارة مع [عدم نص] القرآن والتواتر، ولا يكون أمارة معهما. (ودليل آخر): أن أكثر ما في التخصيص وجود العلة ولا حكم وهذا جائز في العلل الشرعية، ولهذا كانت موجودة قبل الشرع ولا حكم، (وتوجد بعد النسخ ولا حكم) فكذلك جاز أن توجد في الموضع المخصوص ولا يوجد حكمها. فإن قيل: العلة قبل الشرع ما كانت طريقاً إلى الحكم وبعد الشرع صارت طريقاً إلى الحكم، فلا يجوز أن تكون طريقاً في حكم ولا تكون طريقاً في نظيره. (قلنا): هي طريق إلى الحكم في الموضع الذي جعلت فيه دون غيره، لأنها أمارة وليست موجبة، فجاز أن نجعلها أمارة في الحكم دون حكم، كما جاز أن نجعلها أمارة للحكم في وقت دون

وقت، وهذا صحيح، فإنه لا فرق بين رفع جميع حكمها بالنسخ، وبين رفع بعضه بالتخصيص بل رفع حكمها جميعه مع بقائها أكثر من رفع بعضه. دليل آخر: أنهم قد أجازوا تخصيص العلة، لأن عندكم أن الطعم والجنس علة في تحريم التفاضل في الكيل، ثم جوزتم بين العرايا في خمسة أوسق فما دون، ولم تعتبروا التساوي في الكيل، وجوزتم ذلك بالخير، وهذا تخصيص. فإن قيل: (الخرص) يحصل به التقدير في الكيل. (قلنا): لو كان كذلك لجاز ببيع ما زاد على خمسة أوسق، ولجاز بيع الرطب على الأرض بالتمر بتقدير الكيل. فإن قيل: إنما جاز في العرايا لموضع الحاجة بالظن وفي غيرها لا حاجة بنا، فاعتبرنا التساوي في المكيل يقينا دون الظن. (قلنا): فهذا تخصيص (بدليل)، لأنكم عدلتم عن التساوي يقيناً إلى الظن بدليل الحاجة، ثم كان يجب أن يقولوا فيمن حاجته داعية إلى أكثر من خمسة أوسق أنه يجوز، ومن لا حاجة به إلى أكثر من وسق لا يجوز له بيع الرطب بالتمر في خمسة أوسق، فلما لما تعتبروا ذلك دل على

أنكم (أخذتم) في الخمسة أوسق (للخبر) لا غير وهو تخصيص. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}، فجعل وجود الاختلاف دليلاً على أنه ليس من عند (غير) الله، وإذا وجدت العلة من غير حكم فقد وجد الاختلاف، (فدل) على أنها ليست من عند الله. (والجواب: أنا) لا نسلم أن تخصيص الحكم بدليل اختلاف، ثم لو كان ذلك اختلافاً، لكان تخصيص العموم، على أنا نقابل هذه الآية بقوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}، ومعلوم أن أحدهم أبوه أيضاً شيخ كبير فدل على أن التخصيص جائز. واحتج: بأنها علة مستنبطة (دل الدليل على تعلق الحكم بها)، فكان (تخصيصها) (نقضاً لها) كالعلة العقلية. (والجواب: أنا) لا نسلم أن العقلية لا يجوز تخصيصها، لأن علة هبوط الحجر ثقله، ثم قد لا ينهبط (في موضع) لمانع فلا يدل على أن الثقل ليس بعلة، وإذا سلمنا فلم

يمنع من تخصيصها لما ذكرتم، وإنما لأن العقلية موجبة لأحكامها، فلهذا لم يجز تخصيصها: بخلاف الشرعية فإنها أمارة، والأمارات قد يتبعها حكمها، وقد لا يتبعها، بدليل ما بينا، ثم يلزم المنصوص عليها، دل الدليل على تعلق الحكم بها، ويجوز تخصيصها إن سلم. واحتج: بأن الشرعية مع الشرع كالعقلية مع العقل، فإذا لم يجز تخصيص إحداهما لم يجز تخصيص الأخرى. (والجواب: أن) هذا جمع/172 أبغير علة، فإن قالوا: وجه الجمع أن الدليل دل على تعلق الحكم بكل واحد منهما. قلنا: هذا هو الدليل الذي قبله وقد تقدم جوابه. واحتج: بأنه لو جاز وجود العلة في فرع ولا يتبعها فيه حكمها لم يكن بعض الفروع (بذلك) أولى من بعض، (فكان) يجب أن يحتاج في تعليق الحكم عليها في كل فرع إلى دليل، لأن كونها علة ليس يقتضي تعلق الحكم بها في كل موضع. (والجواب: أن) قولكم ليس بعض الفروع أولى من بعض في أن الحكم لا يتبع العلة فيه لا نسلم، (لأن الفرع) المختص بما يمنع من تعلق الحكم بالعلة فيه لا نسلم، (لأن الفرع) فيه من فرع لم يوجد فيه (ما يمنع) من تعلق الحكم

بالعلة، على أنا قد بينا أن العلة أمارة، (والأمارة) يتبعها حكمها في الأغلب، ولهذا كانت طريقاً إلى الظن لا إلى القطع والأصل فيها أن يتبعها (حكمها ما لم يمنع مانع، فإذا وجدت في موضع وحكمها لا يتبعها) فثم مانع يجب أن يدل عليه دليل كما نقول في العموم فالعلة المنصوصة. واحتج: بأن العلة أمارة على الحكم، فإذا وجدت ولم يوجد الحكم لم تكن أمارة عليه يبين ذلك، أنا إذا علمنا أن علة تحريم الله بيع الذهب بالذهب متفاضلاً: هي كونه موزوناً، ثم علمنا إباحة بيع الرصاص متفاضلاً مع أنه موزون، فلابد أن يعلم ذلك بعلة أخرى تدل على إباحته نحو كونه أبيض أو غير ذلك (من أوصافه) أو بنص، فإن علمنا بعلة مثل البياض، فلابد أن تشرط في (تحريم) بيع الحديد متفاضلاً. فنقول: موزون غير أبيض، لأنا لو شككنا في بياضه لم نعلم قبح بيعه متفاضلاً، فخرج الوزن أن يكون بنفسه علة في تحريم التفاضل، وثبت أن كونه موزوناً غير أبيض هو العلة. وإن علمنا (إباحة) (بيع) الرصاص بنص (غير) معلل فلا نعلم تحريم بيع الحديد متفاضلاً إلا إذا علمنا أنه موزون غير رصاص، فلم يكن الوزن فقط علة، وهذه عمدتهم وقد يخص بعضهم هذه

(الطريقة)، فقال: وجود التخصيص في العلة يدل على أن (المستدل) (لم يذكر) الوصف الذي علق (عليه) الشرع الحكم، لأنه لو ذكره لتبعه الحكم، (وإذا) لم يكن ذلك الوصف الذي علق عليه الشرع لم يكن علة (ثبت) أنه بعض العلة فيجب أن يضم إليه وصف الفرع الذي خصص. (والجواب: أن) هذا إشارة إلى أن الاطراد دليل على صحة العلة، وقد بينا أنه لا يدل الطرد على صحتها، وإنما يدل على صحتها ما ذكرنا في النطق والتنبيه والتأثير وشهادة الأصول. وجواب آخر: أن العلة الشرعية أمارة والأمارات غير موجبة (فلا) يكون مفارقة الحكم لها في موضع مخرجاً لها عن كونها أمارة. وجواب آخر: أنه يلزم العلة المنصوصة إذا لم يرد التعبد بالقياس، (فإنها صحيحة، وإن لم تتعدد إلى سائر الفروع، ويلزم تخصيص العلة المنصوصة مع التعبد) بالقياس. وجواب آخر: وهو أن العلة أمارة على الحكم في الأغلب ما بينا من وجود الغيم الندى في الشتاء.

وأما أن تشترط لكونها أمارة أن تكون لا يتخلف عنها حكمها فلا نسلم ذلك). وجواب آخر: أن العلة تفتقر إلى تأثير مأخوذة من المرض يسمى علة، لأنه أثر، وليس من شرط تسمية المرض علة أن يعم جميع الأمراض، كذلك إذا أثرت هذه العلة في أحكام، وخرج (بعض) أحكامها عنها لدليل لا (يخرجها) عن كونها علة، وقد قيل في الجواب: أنا لا نسلم أن البياض وكونه غير رصاص شرط في تحريم التفاضل لكن (لا) نجعله (شرطاً) في العلة نجعل الإحصان شرطاً/172 ب في الرجم، ولكن لا يكون بعض العلة، بل يقال علة الرجم الزنا، لأن ماعزاً (زنا) فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم، والمخالف يقول: إذا شرطت البياض في تحريم التفاضل، ولم تفصل بينه وبين غيره من الأوصاف فقد أقررت أنه جزء من العلة، (ولأنك) (أقررت): أنه شرط، فإذا قلت الوزن وحده هو العلة (أوهمت أنه) شرط لها، فلابد من ذكره، وكذلك نقول في الإحصان. واحتج: بأن العلة طريق إلى إثبات الحكم في الفرع، لأنا إذا علمنا أن الوصف علة الأصل ودل الدليل على التعبد بالقياس،

(وإن) الوصف يكون طريقاً إلى إثبات الحكم في الفرع، فإذا اختص هذا الطريق (بفرعين) لم يجز كونه طريقاً إلى العلم أو (الظن بأحدهما دون الآخر، لأن الطريق في أشياء لا يختلف كالدليل والإدراك كما كانا طريقين (في) الأشياء لم يختلف فيما كانا طريقين إليه. (والجواب: أنه) ليس العلة في الأدلة وإدراكات ما ذكرتم (في) كونهما طريقين، (بل) لأن دلالتهما، إما أن تكون موجبة (كدلالة) الحياة في الحي على كونه مدركاً، أو كعلمنا أنه (لولا المدلول) ما كانت الدلالة (كدلالة) العقل على كونه فاعلة قادراً، بخلاف الأمارة فإنها غير موجبة (وتعد في) مدلولها، فتكون أمارة على أن المدركات يحصل عندها العلم فهي موجبة: بخلاف الأمارة فإنها غير موجبة، فأما الدليل فهو كقولنا: ولهذا من أخبره زيد (وهو بعيد عن الكذب) بأن بكراً في الدار غلب على ظنه (أن بكراً في الدار) فإذا قيل له: بم ظننت؟، قال: لأن زيداً أخبرني بذلك، ومع ذلك فقد يخبر زيد بأن خالداً في

الدار فلا يغلب (في) ظنه كونه (في الدار) إذا أخبر من هو أصدق من زيد أن خالداً في السوق ثم لا يخرج إخبار زيد عن بكر أنه في الدار من أن يكون أمارة على كونه في الدار، لأن الأمارة لا تخرج عن كونها أمارة إذا أخطأت في موضع كذلك العلة لا تخرج عن كونها أمارة، وإن تخلف عنها حكمها في موضع. (واحتج): بأن وجود العلة مع عدم حكمها يدل على أن المعلل لم يستوف شروطها، لأنه لو استوفى شروطها لم يتخلف عنها حكمها، والعلة إذا لم يستوف شروطها كانت باطلة. (والجواب: أنا) لا نسلم أن تخلف حكمها يدل على أنه لم يستوف شروطها، وهل هذا (إلا) مسألة الخلاف؟، ثم يبطل بالعلة (المنصوصة) إذا لم يرد التعبد بالقياس وبالعلة المنصوصة المخصصة مع ورود التعبد بالقياس. واحتج: بأن وجود العلة مع عدم حكمها مناقضة وهو آكد ما تفسد به العلة. (والجواب: أنا) إنما نخصها إذا دل دليل شرعي على موضع التخصيص وذلك لا يسمى مناقضة. (وجواب آخر): (وهو أن ما نقول): هب أنه سمى مناقضة فلم زعمتم أنه يفسد العلة؟

فإن قيل: لأن العقلاء عدوا ذلك مناقضة مفسدة، حتى أنهم يناقضون من قال: "سامحت فلاناً؛ لأنه دخل على داري"، إذا دخل غيره عليه فلم يسامحه. (فيقولون): سامحت فلاناً لدخوله عليك، فلِمَ (لم) تسامح فلاناً وقد دخل، عليك؟ (قلنا): هذا صحيح غير أن هذا الإنسان لو اعتذر بأن فلاناً عدوى، فلم أسامحه، حسن ذلك، وكان عذراً صحيحاً. فإن قيل: العقلاء يلزمونه أو يشترط ذلك في علته. فيقول: دخل علي فلان داري ولم يكن عدوى فسامحته. قلنا: لا نسلم أنه يلزمه اشتراط/173 أذلك (في علته) وادعاؤك على العقلاء لا برهان عليه، لأن خصومك من العقلاء وهم يخالفونك (عليه). فإن قيل: لو لم تفسد العلة بتخصيصها لم تفسد (لمعارضة النص لها). قلنا: إن عارضها النص في بعض فروعها فهو التخصيص فلا تفسد عندنا، وإن عارضها في جميع فروعها تبينا) أنها علة قاصرة، وهي صحيحة عندنا أيضاً في الأصل الذي أثرت في حكمه ومن لم يقل بالعلة القاصرة. (يقول): ليست علة من حيث

كانت قاصرة لا من حيث كونها مخصصة ثم هذا باطل بالعلة المنصوصة قبل التعبد بالقياس وبالمنصوصة المخصصة. واحتج: بأن القول بتخصيص العلة يفضي إلى تكافيء الأدلة، لأن من (يحل يشرب) النبيذ، يقول: مائع يشتهي شربه فكان حلالاً كالماء، ويقول الخمر (مخصوصة) من العلة. ويقول خصمه: مائع يشتهي شربه فكان حراماً كالخمر، والماء وسائر الأشربة مخصوصة من القياس. (والجواب: أن) هذا يلزم من (يدل) على صحة العلة في الأصل بالطرد، فأما نحن نقول: لابد أن يدل على العلة دليل في الأصل يتميز به الصحيح من الفاسد، إما من نص أو تنبيه أو تأثير فإن التأثير لا يجوز أن يوجب العلة في الحكمين جميعاً، وإنما يؤثر في أحدهما دون الآخر. واحتج: بأن التخصيص سد لباب النقض، لأنه (كلما) أرى خصمه العلة مع ارتفاع حكمها. قال (له): هي مخصوصة في ذلك الحكم. (والجواب: أنه) ليس كذلك، لأن مدعى العلة يحتاج إلى (تبيين) ما يدل عليها في الأصل، ويبين أن الموضع الذي

مسألة

خص دلت عليه دلالة صحيحة منعت من (تعلقه) على العلة، فأما إذا لم يبين ذلك ووجدت علته مع عدم حكمها فهي منتفضة فاسدة لا تحتج بها. (والله أعلم). مسألة قد أطلق (إمامنا) أحمد رضي الله عنه القول بالاستحسان في مواضع، قال في رواية الميموني: "استحسن أن يتيمم لكل صلاة، والقياس أنه بمنزلة الماء حتى يحدث (أو يجد الماء) " (وقال) في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضاً وزرعها: "الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا شيء بموافق للقياس، ولكن استحسن أن يدفع إليه نفقته"، وقال في رواية المروزي: "يجوز شراء أرض السواد، ولا يجوز بيعها"، فقيل له كيف يشتري ممن لا يملك؟، فقال: "القياس كما نقول ولكن (هو)

استحسان". وغير ذلك، وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وروي

(عن) أبي طالب أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا، وندع القياس فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه". قال شيخنا: هذا يدل على إبطال بالاستحسان، وعندي أن أنكر عليهم الاستحسان (من) غير دليل، (ولهذا قال): (يتركون) القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان فلو كان الاستحسان (عن) دليل ذهبوا إليه لم

يكره: لأنه حق أيضاً، وقال: "أنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس" معناه، (أني أترك) القياس بالخير، هذا هو الاستحسان بالدليل، وقد أنكر أصحاب الشافعي القول بالاستحسان، فالكلام يقع في فصول أحدها في العبارة، وأن تسمية (الاستحسان) وجه صحيح. (والثاني): في حد الاستحسان. والثالث: في (معنى الاستحسان)، والمراد به. والرابع: في (إبطال) ما تستحسنه النفس من غير دليل. فصل (أما) الكلام/173 ب في تسمية الاستحسان وأن لذلك وجها صحيحاً، فهو أن الاستحسان وإن وقع (عن) الشهوة والاستحلاء، إلا أنه قد يقع على العلم بحسن الشيء فيقال فلان يستحسن المذهب الفلاني، ويذهب إليه، ويقع على اعتقاد المجتهد

حسن (الشيء) بالأمارة الدالة عليه، فيقول: استحسنت هذا الحكم فاعتقدته وقد ورد الشرع (بذلك) وحصل الاتفاق عليه، (قال الله تعالى): {فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء" ومثله عن ابن مسعود. وأما اتفاق العلماء فروى عن إياس بن معاوية (أنه) قال: فبينوا القضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا.

وكتب مالك (مشحونة) بالاستحسان، وقول (أبي حنيفة وأحمد) قد عرف في ذلك، وقال الشافعي: استحسن في المتعة بقدر ثلاثين درهماً. فدل على صحة (هذه) التسمية (وحسنها). فصل فأما (حد) الاستحسان فقد اختلف فيه فقال بعضهم: هو ترك (قياس) إلى قياس هو (أقوى منه)، وهذا باطل، لأنهم إذا تركوا القياس لنص أو تنبيه كان ذلك استحساناً، وحده بعضهم: بأنه ترك طريقة الحكم إلى (أخرى) أولى منها لولاها لوجب الثبات على الأولى.

وحده الكرخي: بأنه العدول عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها لوجه هو أقوى من (الأولى) يقتضي العدول عن (الأولى). وهذا معنى الذي قبله، ويلزم (عليهما) أن يسموا العدول عن العموم إلى التخصيص استحساناً، ويلزم (عليه أن يكون العدول عن الاستحسان إلى القياس استحساناً). وحده شيخنا: بأنه ترك حكم إلى حكم هو أولى منه. وهذا ليس بشيء، لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض ولا (بعضها) أقوى من بعض، وإنما القوة (للأدلة)، (لأنها) (تترتب) في الشرع، (ويقدم بعضها على بعض الذي يقتضيه كلام صاحبنا: أن يكون حد الاستحسان: العدول عن موجب القياس) إلى دليل هو أقوى منه لأنه لم يرد (لفظه

إلا في) أنه يترك القياس (للاستحسان) فإما في ترك دليل آخر فلم يرد خلافاً لما ذكره الكرخي، والذي يبطل قولهم أنهم أجازوا استصناع الخف والنعل، ولم يجيزوا استصناع الثوب وسائر الأمتعة، قالوا: لأن العامة تفعل ذلك، ومعلوم أن فعل العامة ليس بدليل، لأن الإجماع اتفاق علماء العصر لا العامة، فترك القياس لما ليس بدليل، وقالوا: في أربعة شهدوا على رجل بالزنا وأضاف كل واحد منهم الفعل إلى زاوية من البيت غير الذي أضاف الآخر إليها أن القياس أن لا يجب الحد لكن استحسن أن يرجم، لأنه يجوز أن يكون كل واحد نسبه إلى زاوية لقربه منها في زاويته، وهذا غلط،

لأنه لا يظن بالعقلاء أن ينظروا إنساناً في موضع واحد فينسبه كل واحد (منهم) إلى زاوية (غير الذي ينسبه إليها الآخر) فدل على أن الأفعال اختلفت، على أ، هذا قد يدل به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) وهذا شبهة، (لأنه) يجوز أن يكون (فيها) فعل (غير) الفعل الذي رآه الآخر في الزاوية الأخرى، ولأنهم يقولون في مسألة واحدة فيها قياس واستحسان، ويجيزون الأخذ بكل واحد منها، ولو كان حد الاستحسان العدول (إلى الأقوى لم يجز ترك الاستحسان الأقوى والأخذ بالقياس الأضعف كما نقول نحن: متى خص القياس دليل أقوى لم يعدل إلى القياس. فإن قيل: إذا كان الاستحسان هو الانتقال إلى دليل، فإذا) انتقلنا من دليل إلى القياس فهو انتقال إلى دليل.

قلنا: (إلا) أنه لا دليل أضعف من القياس، وقد شرط أن يكون انتقال إلى دليل أقوى من المنتقل عنه، لأن الأدلة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فهو أضَعفها. فصل فأما معنى الاستحسان والمراد به، فهو أن بعض الأمارات قد تكون/174 أأقوى من القياس فيعدل إليها من غير أن يفسد القياس، وهذا راجع إلى تخصيص العلة، وقد تقدم القول في ذلك وشيخنا يمنع من تخصيص العلة، وينصر القول بالاستحسان ولا أعرف لقوله وجهاً. فصل وأما استحسان النفس (الشيء) من غير دليل فلا يليق

بأهل العلم الأخذ به، لأنه لا يخلو إما أن يكون حكماً بالشهوة أو بأول خاطر أو بالظن من غير أمارة، وذلك (جميعه) يتأتى من العامي والصبي كما يتأتى من العال، فكان ينبغي جواز ذلك من هؤلاء، (وكان) يجب أن لا يلام من حكم بذلك، ولأن هذه الأشياء قد تتناول الحق والباطل تناولاً واحداً فلا يتميز الحق من الباطل. فإن قيل: فما الفرق بين ما استحسنه الإنسان شهوة، وبين ما استحسنه (عن دليل). (قلنا): (لأن ما استحسنه عن دليل يقع عن نظر واستدلال) وما يستحسنه عن شهوة يقع عن طبع (وهوى) وفرق بينهما، لأن الأول يختص به العلماء. والثاني: يشترك فيه العالم والجاهل والعاقل والمسودن، ولهذا (يوصف) الشيء بأنه حسن عند الله تعالى: (ولا (يوصف) بأنه مشتهر عند الله سبحانه (والله أعلم).

باب الاعتراضات على القياس

باب الاعتراضات على القياس وهي عشرة أوجه من ذلك. فصل في الاعتراض من جهة نفاة القياس في جميع الأحكام، مثل أن يسأل الحنبلي عن مسألة فيدل بقياس، فيقول الداوودي: القياس ليس بحجة في دين الله تعالى فللحنبلي أن يقول: القياس عندي حجة، فإن منعت نقلنا الكلام إلى إثبات القياس، فإن منع (ذلك) دل عليه بأحد الأدلة المثبتة للقياس، وقد تقدم ذكرها.

فإن قال الخصم: هذا انتقال عن المسألة إلى مسألة أخرى لم تسأل عنها. قلنا: هذا الحكم إنما يثبت عندنا بالقياس (فلابد) (لي) من إثبات كون القياس حجة، فإذا ثبت احتججت به. فإن قال: (فكان) ينبغي أن تبتدي بالدليل على صحة القياس، ثم تبني عليه الاستدلال. قلنا: إنما (طلبت) منا الدليل على الحكم (فذكرنا) ما هو (عندنا) دليل عليه، ويجوز أن تسلمه ويجوز أن (تمنعه) فلما منعت (احتجنا) إلى الدلالة عليه. فإن قيل: أليس لو استدل بالعموم، فقال السائل: هذا مخصوص بالقياس، فقال المستدل: القياس ليس بحجة عندي، (أو قال): العموم لا يخص بالقياس لم يكن للسائل أن يقول: القياس عندي حجة، وأنا أدل عليه، أو عندي (أن) القياس يخص به العموم، وأنا أدل عليه لأنه انتقال إلى مسألة أخرى، كذلك ههنا.

(قلنا): الفرق بينهما: أن السائل معترض فليس له أن يعترض على المستدل (بما) ليس بحجة عنده، ولا له أن ينقل الكلام (إلى الدليل على إثبات القياس أو التخصيص، لأنه لم يسأل عن ذلك في الاستدلال، وإنما سئل عن الحكم فليس له أن ينقل) إلى (غير) ما حصل سؤاله (عنه، لأنه) ترك لما سئل عنه، بخلاف المستدل، فإنه يجيب عما سئل، ويلزمه أن يدل عليه ويصحح دليله وليس الخيار إليه في السؤال والسائل مجيب في السؤال، فلا يجوز له ترك ما سئل عنه. (والله أعلم). فصل فأما الاعتراض من (جهة) مثبتي القياس فمثل: أن يستدل في إثبات المقدرات والكفارات والإبدال بالقياس فيقول الحنفي: هذه الأشياء لا تثبت بالقياس. (والجواب عنه): أن يقول: ذلك مما يثبت بالقياس عندي، فإن طلب الدليل عليه دللنا ببعض ما تقدم ذكره هناك

(ومن) ذلك استدلال الشافعية بأن بسم الله الرحمن الرحيم آية (من) كل سورة (بها) تكتب في المصاحف بالخط والرسم (الذي) كتب به بقية السور، فكانت منها كبقية آيات السور، فيقول أصحابنا: هذا إثبات/174 ب مواضع الآي بالقياس، وذلك مما: يجب إثباته قطعاً وعلماً، فلا يجوز إثباته بالقياس، فهذا اعتراض صحيح (فإن) أجاب عنه المحتج بأن علة الأصل توجب العلم، لأنهم لما أجمع الصحابة على كتب آيات السور (في المصحف علمنا أنها منها، وهذه العلة موجودة في البسملة). قلنا: لا نسلم أنا علمنا بقية الآيات من السور) لما ذكرتم من كتبها في المصاحف، لكن لغير (ذلك) من أخبار السلف للخلف قرناً بعد قرن أن ذلك من القرآن. جواب آخر: أنكم إن احتججتم بكتب الصحابة لها فهو احتجاج بالإجماع وذلك موجود في البسملة فيجب إثباتها بالإجماع،

(وذلك) دليل مقطوع به ولا يحتاج إلى إثباتها بالقياس المظنون، وجرى ذلك مجرى من سئل عن بيع التمر بعضه ببعض متفاضلاً، فقال: لا يجوز، لأنه مكيل جنس أشبه البر. فقيل: لا نسلم الحكم في الأصل فقال: الدليل عليه قوله: "لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل". (فقيل) له: النص على التمر كالنص على البر فلا حاجة لك في قياس أحدهما على الآخر. فإن قيل: فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم بيع البر بالبر، وذلك عام في جميعه، ثم قستم قليله على كثير في التحريم. (قلنا): هناك وقع الاختلاف في القليل، (وقالت) الحنفية النص يتناول ما يمكن كيله في العادة، لأنه قال في الخبر: (إلا كيلا بكيل)، فاستثنى من البر ما يكال.

وقلنا نحن: اللفظ شامل للقليل والكثير، لأن اللفظ يشمل الجنس (الذي يتأتى كيله)، فخرج القليل من النص إلى الظاهر فجاز قياسه على النصوص عليه وهو الكثير. فصل فإن اعترض على القياس بأنه يوجب زيادة (على) النص والزيادة (على) النص نسخ، ولا يجوز النسخ بالقياس،

وذلك مثل إيجاب النية في الوضوء بالقياس فيقول (أصحاب أبي حنيفة): نص القرآن ورد بغسل الأعضاء، ولم يأمر بغيرها، فمن شرطها فقد زاد في نص (القرآن)، وذلك نسخ، لأن اللفظ يقتضي أجزاءها بغير نية، ومن شرط النية، فقد منع أجزاءها دونها، فقد نسخ القرآن بالقياس. (والجواب): أن يبين المستدل أن ذلك ليس بنسخ، لأن النسخ هو الرفع والإزالة، وإيجاب النية زيادة، وضم حكم إلى حكم، (فلا) يكون رفعاً ثم يناقض (أبو حنيفة) باشتراط الفقر في ذوي القربى، فإن الله تعالى علقه بمجرد القرابة، واشترط أبو حنيفة الفقر بالقياس على اليتامى.

فصل فإن اعتراض (أنه) يخالف نص كتاب الله أو سنة أو إجماع، كان على المستدل بالقياس أن يبين أنه غير مخالف لذلك، (وإن) اعترض بأنه يخالف قول الصحابي. أجاب: بأن القياس (مقدم) على قول الصحابي في رواية، (وإن) قال بالرواية الأخرى تأول قول الصحابي، وإن اعترض: بأن هذا القياس (ابتديء) به تخصيص اللفظ العام، كما قال الشافعية في امرأة الصغير إذا وضعت بعد موته، لا تنقضي عدتها، لأنه حمل منتفٍ عنه قطعاً، فأشبه الحادث بعد موته، فقال الخصم: هذا تخصيص لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، فيقول المحتج عندي يجوز أن (يبتديء) التخصيص/175 أبالقياس، لأنه (إنما) جاز أن

لأنه تعلق الحكم بصريحه والعموم اشتمل عليه بظاهره، وهذا المعنى موجود في الابتداء، ويمكن أن يبين أن اللفظ مخصوص في (الحمل) الحادث بعد الموت، فلم يكن ما ذكره ابتداء تخصيص، وكذلك إن كان المعترض لا يرى التخصيص بالقياس. أجاب: بأنه يجوز ذلك، لأن القياس دليل شرعي خاص في الحكم، فخص به العموم كخبر الواحد. فصل فإن استدل شافعي بأن الحامل تحيض بالقياس بأن (قال): وجود دم في عمر مخصوص وقدر (مخصوص) يعد طهر صحيح أشبه دم الحامل. (فاعترض) عليه: بأن طريق إثبات الحيض الوجود فلا مدخل للقياس في ذلك. (فهو) اعتراض صحيح، لأن ما يرجع فيه إلى العرف (يتعذر القياس فيه) كالإحراز

والقبوض والقيم. وله بأن يجيب بأنه يجوز أن يحمل الله ذلك أمارة على الحيض، فكذلك جاز أن يجعله بالاستنباط. فصل فإن اعترض على الأصل: بأنه لا يقاس عليه مثل: قياس أصحاب أبي حنيفة في جواز صوم رمضان بنية من النهار على صوم عاشوراء. فيقول الخصم: صوم يوم عاشوراء لم يكن واجباً وخلافنا في صوم واجب فلا يقاس على النفل فإن بين المستدل (أنه كان واجباً، كان للخصم أن يقول: إن كان واجباً فقد نسخ فلا يجوز

القياس عليه، وللخصم أن يبين إنما نسخ وجوبه دون إجزاءه بنية من النهار، ومن ذلك أن يقيس على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: نكاح فانعقد بلفظ الهبة، كنكاح النبي صلى الله عليه وسلم. فيقول الخصم: النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بذلك فلا يجوز أن يقاس. عليه، والدليل على تخصيصه قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وللمستدل أن يبين أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته واحد، ولهذا يجب علينا الاقتداء به في أفعاله، ويبين أن الآية وردت في إسقاط (العوض)، ويكون الكلام في ذلك، ومن ذلك قياس الحنبلي في الإحرام: أنه لا يبطل بالموت على الذي وقصت به ناقته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. فيقول الخصم: إن ذلك المحرم كان مخصوصاً بذلك، فلا يقاس عليه، ويدل على التخصيص، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (تخصيصه) (بنص) (صحيح)

صريح، فأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم (أنه يبعث ملبياً) فهو حكم كل من (كان) على صفته كقوله في قتلى أحد: "زملوهم بقلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك" فكان الحكم باقياً ف يكل شهيد بعدهم، ولم يقل أحد: إنهم خصوا (بذلك)، ومن ذلك أن يقيس على وضع الخلاف فيه كالخلاف في الفرع مثل قياسنا الخنزير على الكلب في وجوب العدد. فيقول المخالف: أنا أخالفك في الكلب كما أخالفك في الخنزير. فيجيب (المسؤول): بأن الكلب عندي هو الأصل، لأن الخبر ورد في (ولوغ الكلب)، (فإذا) نازعتني دللت

بالخبر عليه (فإن) لم يكن في الأصل/175 ب دليل يخصه، فلا يصح القياس إذا كان الخلاف فيه كالخلاف في فرعه، (فإن) قال الخصم: قست على موضع الاستحسان، (وموضع الاستحسان) لا يقاس عليه. فللمستدل أن يقول: عندي يجوز القياس على كل أصل يوجد فيه الحكم بعلته، وقد (قاس) أبو حنيفة جماع الناسي في صوم رمضان على أكل الناسي في أنه لا يفسد الصوم، ومعلوم أن الأكل لم يفسد استحساناً، ومن ذلك أن يقول: قست على

أصل متأخر عن الحكم، والعلة لا يتقدم حكمها عليها مثل قياس أصحابنا الوضوء على التيمم في إيجاب النية. فيقول الخصم: الوضوء شرع قبل التيمم فلا يجوز أن ينتزع حكمه من التيمم. (والجواب): أن ها لا يمتنع، لأن الحكم الشرعي يجوز أن يجعل له أمارة وأمارتين وثلاثة وأكثر من ذلك فيكون بعضها مع شروعه، وبعضها متأخر عنه ومثل هذا يجوز في الدلائل المعلومة كالمعجزات، فإن منها ما قارن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما تأخر عنها وكل واحد منها يجوز أن يستدل (بها) على نبوته.

فصل ومن ذلك أن يعلل تضاد علة صاحب الشرع كتعليل الحنفي بيع الرطب بالتمر: بأنه مكيل جنس بيع بعضه ببعض على وجه يتساويان حال العقد فصح كبيعه البر بالبر. فللخصم أن يقول: هذه (علة) تضاد علة صاحب الشرع، فإنه قال: "أينقص الرطب إذا جف؟، فقيل: نعم، قال: فلا إذن" فاعتبر النقص في الثاني، ومنع من (البيع) لأجله، وللمستدل أن يتكلم على الخبر بطعن أو تأويل إن أمكن لتصح علته. فصل ومن ذلك أن لا يصرح بالحكم مثل: أن يقول (الحنبلي) في وجوب القصاص بالمثقل: بأنه آلة [يقتل] بها غالباً، فأشبهت المحدد. فيقول الخصم: إنك لم تصرح بالحكم الذي أردته بالعلة، وإنما شبهت المثقل بالمحدد، فاحتجت إلى أصل تقيس عليه فيقول الحنبلي: إنما أردت التشبيه في الحكم الذي اختلفنا فيه،

(فكان) ذلك بمنزلة النطق به، ولهذا لو صرحت (به) فقلت، (فتعلق به وجوب القصاص كالمحدد أمكن ذلك، ومن ذلك أن يعلل أصحابنا في وجوب النية في) الطهارة: بأنها. طهارة فاستوى جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة. فيقول الخصم: هذا فاسد (لأن حكم الأصل ضد حكم الفرع)، لأن حكم الأصل سقوط النية، وحكم الفرع (وجوبها). (وللمستدل) أن يقول: قصدت التسوية بين المايع والجامد، وهذا الحكم موجود في الفرع والأصل، وإذا ثبت حكم التسوية ثم وافقت أن التيمم بالجامد تلزم فيه النية (لزمتك) النية فيما سواه. فصل فإن قال: جعلت العلة اسماً (لقولنا): تراب أو كلب، أو قال: جعلت (العلة) نفياً، أو جعلت الاختلاف علة أو الاتفاق، وكل ذلك لا يجوز. والجواب: أنا قد بينا جواز ذلك، فإن (أبيت) نقلنا الكلام إليه.

الوجه الثاني: من الاعتراض على القياس: هو الممانعة: و (ذلك) يشتمل على أربعة فصول: ممانعة علة الأصل، وممانعة حكم (الأصل) (وممانعة على الفرع)، وممانعة العلة في الأصل والفرع (جميعاً). فصل فأما ممانعة العلة في الأصل فمثل: استدلال أصحابنا في الوضوء/176 أ: بأنها عبادة يبطلها الحديث فكانت الموالاة واجبة فيها كالصلاة. فيقول الخصم: لا أسلم أن الصلاة يبطلها الحدث، وإنما الحدث يبطل الطهارة، (فتبطل الصلاة لعدم الطهارة. فيجيب أصحابنا: بأنه إذا سبقه الحدث بطلت طهارته).

ولم تبطل صلاته، في قول الخصم ورواية لنا، فإذا تعمد الحدث بعد ذلك بطلت الصلاة، فقد صح الوصف، ويمكن أن يقال: (إن) الحدث إذا (وجد) أبطل الطهارة، وبطلان الطهارة يتضمن إبطال الصلاة، كأن المعلل يريد بذلك: أن الحدث إذا وجد في الصلاة بطلت في الجملة، وذلك مسلم، ومن ذلك أن يستدل (الحنفي): بأن الفطرة تجب لأجل العبد الكافر، لأن كل زكاة وجبت على العبد المسلم وجب إخراجها عن العبد الكافر كزكاة التجارة. فيقول الخصم: لا أسلم أن زكاة التجارة تجب (على) العبد وإنما تجب عن قيمته، فللمستدل (أن يدل) على أنها تجب عن العبد، بأن الذي في ملكه العبد دون قيمته، ولهذا لو تلف العبد سقطت. وللخصم أن يقول: إن العبد له قيمة توجد بوجوده، وتعدم بعدمه، وإن لم يتعين ملكه عليها، وذلك لا يمنع وجوب الزكاة لأجلها كالدين يملكه ويزكي عنه، وإن لم يتعين ملكه (عليه).

فصل وقد بين الخصم أن المستدل لا يقول بالعلة في الأصل مثل قول أصحاب أبي حنيفة في فرقة اللعان: إنها فرقة تختص بالقول، فلم يتأبد تحريمها كالطلاق. فيقول الخصم: عندك الطلاق لا يختص بالقول، فإنه يقع بالكتابة مع النية، والكتابة فعل. وللمستدل أن يقول: الكتابة كالقول لأنها حروف مجموعة تنبيء عن المراد. وللخصم أن يقول: لو كانت كالقول لوقعت بالصريح كما يقع الطلاق بصريح القول من غير نية.

فصل فأما ممانعة الحكم في الأصل فمثل: استدلال أصحابنا في الترتيب: بأنها عبادة يفسدها الحدث، فكان الترتيب (فيها واجباً) كالصلاة. فيقول الخصم: لا أسلم أن الصلاة يجب فيها الترتيب، لأنه لوترك أربع سجدات من أربع ركعات جاز أن يأتي بها في آخر (صلاته) متوالية. فللمستدل أن يبين موضعاً مسلماً مثل أن (يقول): أريد في الأصل ترتيب السجود على الركوع، وذلك لا خلاف في وجوبه. (والثاني) أن يدل على أن الصلاة يستحق فيها الترتيب بقوله عليه السلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم ينقل (عنه) أنه صلى إلا مرتباً، فدل على وجوب الترتيب.

ومن ذلك أن يستدل على أن من أحرم بالحج نفلاً وعليه فرضه، (أنه) ينعقد فرضاً: بأنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوقع عن (فرضه)، كما لو أحرم مطلقاً. فيقول المخالف: لا أسلم الأصل، فإن الحسن بن زياد روى عن أبي حنيفة: أنه لا يقع (عن) فرضه. (فللمستدل) أن يقول: الرواية الصحيحة تسليم ذلك، لأن الكرخي ذكرها في كتابه، وضمن أن لا يذكر إلا الصحيح، ولم يذكر رواية الحسن بن زياد، وليس أبو حنيفة ممن يقول بالقولين معاً، فلابد من تقديم إحدى الروايتين على الأخرى، فيجب تقديم الصحيحة وإثبات مذهبه بها. ومن ذلك أن يستدل أصحابنا/176 ب في مسألة العيوب في النكاح

تثبت الخيار، لأن العيب يمنع معظم المقصود، فأثبت الخيار كالجب والعنة. فيقول الخصم: لا أسلم أن الجب والعنة تثبت الخيار، وإنما المثبت للخيار عدم استقرار المهر. فيقول المستدل: هذا غلط، لأن الخيار حاصل بوجود الجب والعنة في الزوج، (وكون) الجب يتضمن معنى لأجله تعلق الحكم به لا يمنع تعليق الحكم (عليه)، ألا ترى أن رخص السفر تعلق عليه، وإن كان الموجب للترخيص المشقة التي يتضمنها السفر وكذلك جواز المسح تعلق على الخف لما يتضمن من مشقة الخلع بنزعه، كذلك يتعلق هنا بالجب والعنة لما يتضمن من عدم استقرار المهر. فصل فإن موانع الحكم في الأصل بغير لفظه مما لا تتناوله الممانعة

كقول أصحاب أبي حنيفة في الإجارة أنه عقد على منفعة، فبطل بالموت، كالنكاح. فيقول الحنبلي: لا أسلم أن النكاح يبطل بالموت، (وإنما) تنقضي (مدته)، لأنه معقود إلى الموت، ولهذا يستقر بالموت جميع العوض. فيقول الحنفي: أريد بقولي يبطل: أنه يزول ويرتفع، وهذا مسلم. وللمعترض أن يقول: زوال الحكم (بتمامه) لا يسمى بطلاناً في اللغة، ولا في الشرع، ألا ترى أنه لا يقال في الإجارة إذا انقضت مدتها قد بطلت، ولا في الصلاة إذا فرغ منها قد بطلت. فصل فإن اعترض على حكم الأصل بأني لا أعرف مذهب صاحبي، فإن أمكن المستدل أن يبين مذهب صاحبه، وإلا دل عليه،

وكذلك إن قال (لي) في الأصل روايتان أو وجهان، فإن أمكن أن يبين له أن صاحب المذهب رجع عن إحدى الروايتين (أو يبين أن أحد الوجهين هو الصحيح، لأنه قياس المذهب) وإلا دل على ذلك على (ما بيناه). فصل فإن قال المعترض: (حكم الأصل) لا يتعدى إلى الفرع، كقول أصحابنا: في ضم الذهب إلى الورق (في الزكاة)، أنهما مالان زكاتهما ربع العشر فوجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة كالصحاح والمكسرة. فيقول الخصم: في الأصل يضم بالأجزاء وفي الفرع يضم بالقيمة، فليس يتعدى حكم الأصل إلى الفرع. فيقول أصحابنا: بل تضم بالأجزاء، فنقول: عشرة دنانير ومائة درهم نصاب، وإنما يلزم ما ذكرتم الحنفية، (ولهم) أن

يقولوا: إنما ألحقت (حكم) الفرع بالأصل في وجوب الضم، ولا يلزمني أن تستوي صفة الضم، ألا ترى أنك تقيس الطهارة على الصلاة في وجوب النية وإن اختلفا، وتقيس الكفارة على الزكاة وإن اختلفا. فصل فأما ممانعة علة (الفرع) فمثل: (أن) يستدل الحنفي (بأن) لعان الأخرس لا يصح، لأنه معنى يفتقر إلى لفظ الشهادة، فلا يصح من الأخرس كالشهادة. فيقول الخصم: لا أسلم أن اللعان يفتقر إلى لفظ الشهادة، فيحتاج المستدل إلى أن يبين أن مذهب صاحب المقالة أنه يفتقر إلى لفظ الشهادة، أو يدل على أنه يفتقر إلى لفظ الشهادة، ومثل أن يستدل الحنفي (أيضاً) في القارن إذا قتل الصيد: أنه أدخل النقص على إحرامين/177 أ (فلزمه جزاءان، كما لو قتل الصيد في إحرام الحج، وقتل آخر في إحرام العمرة. فيقول أصحابنا: لا نسلم أنه أدخل النقص على

إحرامين) لأن إحرام القارن واحد، وإن تضمن شيئين، كمن باع ثوبين (فالعقد) واحد، كذلك عقد الإحرام واحد وإن تضمن شيئين. فصل فأما ممانعة العلة في الأصل والفرع، فمثل قول الحنفية في المتمتع إذا ترك الصوم في الحج أنه يسقط، لأنه بدل مؤقت فوجب أن يسقط بفوات وقته كالجمعة. فيقول المعترض: لا أسلم أن الجمعة بدل، ولا أسلم في الفرع أن الصوم مؤقت، فيحتاج المستدل أن يبين تسليمه أوي دل على ذلك في الأصل والفرع ليصح دليله. فصل ويلحق بذلك التردد بين منع الأصل وبين أن يقول الخصم بخلاف أصله كاستدلال الشافعية في الشعر بأنه متصل بذي روح ينمي بنمائه، فنجس بنجاسته بموته، فقال أصحابنا قولكم بموته

لا يخلو، أما أن (تريدوا) به بموت الشعر، فلا نسلم أنه يموت أو تريدوا (بموت المتصل به) فقط، لأن (عندكم) الشعر ينجس بموته، ومفارقة الروح كما ينجس العضو بمفارقة الروح (له) لا بموت غيره. الوجه الثالث (من الاعتراض): المطالبة بتصحيح العلة: وقد تقدم الكلام في ذلك وبينا ما يدل على صحة العلة من النطق والتنبيه والاستنباط وشهادة الأصول، وإنما وجب أن يدل على صحة العلة، لأنها شرعية، والأصل عدمها، فافتقرت إلى الدليل كالحكم الشرعي، وفارق العلة العقلية، (فإنها) تثبت بأنفسها. والوجه الرابع: الاعتراض بعدم التأثير: وذلك سؤال صحيح يلزم الجواب عنه وهو وجود الحكم مع

عدم العلة ويبين ذلك عدم العلة ويبين ذلك في الأصل (أو في الفرع) أو فيهما. فأما بيانه في الأصل فمثل أن يستدل الشافعي في المرتد أنه يلزمه قضاء الصلوات، لأنه ترك الصلاة بمعصية فأشبه السكران. فيقول أصحابنا: لا تأثير لقولك بمعصية في الأصل، لأن السكران لو أكره على الشرب لم يكن عاصياً، ويلزمه قضاء الصلوات، فمن الشافعية من أجاب بأن للمعصية تأثيراً في إسقاط القضاء في الجملة، وذلك (لو أنه) شرب دواء ليزول عقله فزوال لم يسقط عنه فرض القضاء، ولو زال عقله بشربه للتداوي لم يلزمه القضاء، وقد بينا أنه لا يجري هذا حتى يبين تأثيره في الأصل المقيس عليه، لأنه متى لم يكن للوصف تأثير في الأصل فليس بعلة فيه، ولهذا لا يمكن تعليله به.

فيقول: إنما وجب على السكران القضاء، لأنه ترك الصلاة بمعصية، لأنه لو ترك (الصلاة) بغير معصية لزمه القضاء، ولا يجوز أن يعلل الأصل بوصفين لا يحتاج الأصل إلى وجودهما في ثبوت حكمه، لأنه تطويل لا يفيد فيجب أن يعلل الأصل بعلة تعم الإكراه وعدمه. فيقول: ترك الصلاة (بسكره)، لأن القضاء يتعلق بذلك مختاراً كان أو مكرهاً، ومن ذلك أن يعلل في بيوع الأعيان الغائبة بأنه باع عيناً لم يرها، لوا شيئاً منها، فلا يصح بيعه كما لو باع النوى في التمر، واللبن في الضرع. فيقول الخصم: لا تأثير لقولك لم ير شيئاً منها في الأصل، فإنه لو رأى بعض النوى لم يجز البيع أيضاً. فيقول المستدل بتأثيره في الصبرة فإنه إذا رأى شيئاً منها،

ولو ظاهرها صح البيع، وهذا لا يصح، فإن العلة في الصبرة/177 ب أنها متساوية الأجزاء فرؤية ظاهرها تقوم مقام رؤية جميعها، فأما النوى في التمر فرؤية بعضه (لا تقوم مقام رؤية جميعه إلا أن ينفصل وتكون صبرة وهو متساو، فيكون رؤية ظاهره تجزيء كالصبرة، فأما إن اختلف فرؤية بعضه) لا تجزي كرؤية بعض الثياب لا تجزيء عن رؤية جميعها، (فصار المؤثر في صحة البيع رؤية الجميع، والمؤثر في الفساد عدم رؤية الجميع)، وصارت العلة مختلفة فيهما، لأن العلة فيما يستوي أجزاؤه، (عدم) رؤية ظاهره، وفيما تختلف أجزاؤه (عدم) رؤية جميعها، فلا يقاس على أحد الأصلين لعلة الآخر. فصل فإن (ادعى) المعترض: (أنه لا تأثير) للعلة في الأصل، فبين المستدل أن العلة (في الأصل تؤثر) على مذهبه خاصة كفى في الجواب، وذلك مثل أن يستدل (حنبلي) في

المنع من نكاح الثيب الصغيرة: بأنها حرة سليمة موطوءة في القبل، فلا يجوز إجبارها على النكاح كالبالغ. فيقول المخالف: لا تأثير لقولك موطوءة في القبل، فإن البالغ لا تجبر ولو لم توطأ في القبل. فيقول الحنبلي: لا أسلم فإن عندي إذا كانت بكراً أجبرت على النكاح، فيسقط عنه الاعتراض، فإن طالبه بتصحيح علة الأصل في هذا القياس، فاستدل بتأثيرها عنده لم يكن ذلك حجة، لأن مذهبه ليس بحجة على خصمه، فصار كمن قيل له: ما بينتك على دعواك فقال: لأني ادعيت دعوى أخرى، وكانت صحيحة، ولكن يجب أن يدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للثيوبة تأثيراً، فقال: الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن ففرق بينهما، فدل على أن العلة الثيوبة (وتؤثر) في إسقاط الإجبار. فصل ومن ذلك أن تكون العلة منصوصاً عليها فلا تحتاج إلى التأثير

كقول أصحابنا في ردة المرأة [أنها] كفر بعد إيمان (فأوجبت) القتل، أصله ردة الرجل. فيقول الخصم: لا تأثير لقولك (كفر) بعد إيمان، فإن كفر الرجل الأصلي يوجب القتل، وإن لم يكن (كفراً) بعد إيمان. فيقول المستدل: الكفر بعد الإيمان منصوص عليه: قال (النبي صلى الله عليه وسلم): "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس" والتأثير يراد ليتوصل به إلى معرفة علة الشرع بالاستنباط، فإذا نص عليه صاحب الشرع ثبت كونه علة، فاستغنى عن تعريف ذلك بالاستنباط. فصل فأما طلب التأثير في (الفرع)، فإذا ثبت أن العلة في

الأصل مؤثرة (أو ثبتت) علة الأصل بدليل آخر غير التأثير فقد ثبت ذلك في الفرع، فإن أثرت العلة في الفرع ولم تؤثر في الأصل لم يكن ذلك حجة، لأنه يكون على مذهب المعلل، لأنه يخالف في الحكم، ومتى أثرت العلة في الفرع لم يجز أن يكون في الفرع علة، فإذا بقى الحكم مع زوالها قائماً، فإنما يكون لوجود معنى آخر يعلق به الحكم، وإنما كان كذلك، لأن الفرع تابع في ذلك (للأصل)، فإذا (ثبتت) علة الأصل (ثبتت) علة الفرع، وإذا لم تثبت علة الأصل لم تثبت العلة (في) الفرع. فصل فأما ما إذا كان الوصف غير مؤثر في الأصل ولا في موضع آخر، وإنما يحترز به من النقض. لم يكن ذلك من جملة العلة، وقد تقدم ذكر ذلك في الدلالة على صحة العلل، وذلك مثل قول

(بعض) أصحابنا في الاستجمار إنها عبادة تفعل بالأحجار لم تتقدمها معصية فاعتبر فيها العدد، كرمي الجمار. فيقال (له): لا تأثير لقولك لم يتقدمها معصية في الأصل ولا في (الفرع)، فإنه لا فرق في رمي الجمار بين أن يتقدمه معصية أو لا يتقدمه معصية وكذلك لا فرق في الاستنجاء بين أن يتقدمه معصية (أو لا يتقدمه) معصية. فيقول المستدل: تأثيره في الرجم (للمحصن)، (أنه) يتقدمه معصية لم/178 أيكن مقدراً. فيقول المعترض: ليس (الموجب) لعدم التقدير في الرجم تقدم المعصية، ولا علله بذلك أحد (من أهل العلم)، وإنما سقط التقدير في الرجم، لأن الغرض به قتل الزاني فبأي عدد حصل ذلك جاز، وإنما يحصل التأثير للوصف (إذا) زال

(الحكم) بزواله، وثبت لثبوته كالشدة المطربة في الخمر بزوال التحريم بزوالها، (ويعود) بعودها. فصل إذا جعل الوصف تخصيصاً (للحكم)، كقول أصحابنا في تخليل الخمر أنه (مايع لا يطهر بالكثرة)، (فلا يطهر) (بصنعة) آدمي كالخل النجس. فيقول المعترض: لا تأثير لقولك فلم يطهر بصنعة آدمي في الأصل، فإن الخل [النجس] لا يطهر بصنعة آدمي ولا بغير ذلك فقد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: هذا سؤال صحيح، لأنه جعل قوله بصنعة آدمي) وصف حصل به تمام العلة، والحكم إنما هو الطهارة خاصة وإذا كان وصفاً في العلة وجب بيان تأثيره.

وقال آخرون: لا يصح السؤال، لأن التأثير يطلب في العلة ليدل على كونها صحيحة (جالبة للحكم)، (فأما) في الحكم فلا يطلب التأثير، ومن ذلك قول أصحابنا في إزالة النجاسة (أنها) طهارة فلم (تجز) بالخل كالوضوء. فيقال: لا تأثير لقولك فلم تجز بالخل، فإنها لا تجوز بماء الورد أيضاً. فيقال: هذا مطالبة بالتأثير في الحكم، والتأثير يطلب في العلة. فصل إذا كان في العلة زيادة وصف لا تنتقض العلة بإسقاطه، مثل: أن (يعلل) لصحة الجمعة من غير إذن الإمام بأنها صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كسائر الصلوات. فيقول المعترض: لا تأثير لقولك مفروضة، فإنك لو قلت صلاة أطردت العلة وصحت، (فقولك) مفروضة حشو في

العلة، لا يحتاج إليه، فمن الناس من قال: لا يحتاج إلى هذا الوصف، ودخوله (لا يضر)، لأنه يقصر العلة بعد أن كانت تامة، لأنه (قولنا) صلاة يعم جميع الصلوات نقلها وفرضها، فإذا قال: مفروضة أخرج النوافل، وكأنه أوهم أن لها حكماً آخر، فوجب إسقاطه؛ لأن علة الحكم تستقل بدونه، فلا تجب الزيادة عليها، ومن الناس من (يقول) هذه الزيادة لا تضر، لأنها تنبه أن غير الفرائض أولى أن لا يحتاج إلى إذن الإمام هذا الوصف (يفيد) تقريب الوصف (من) الأصل، لأنه يكثر (ما يجتمعان) فيه من الأوصاف، فالأولى ذكره.

فصل (فإن) زاد وصفاً للتأكيد كقول الشافعي في المتولد بين الظباء والغنم: (إنه) متولد من بين جنسين لا زكاة في أحدهما بحال، فلا تجب فيه الزكاة. فيقول المعترض: لا تأثير لقولك بحال. فإنك لو اقتصرت على قولك لا زكاة في أحدهما كفى. فيقول المستدل: هذا ذكرته للتأكيد، (وتأكيد) الألفاظ لغة العرب، فلا (يعد حشوا)، ولهذا قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فأكد ثم أكد ولم يعد حشواً. (وللمعترض) أن يقول: لو جاز هذا لجاز أن يزيد في العلة كل وصف لا يضر دخوله، ثم يقال: هذا يقرب وهذا يؤكد، وهذا ينبه، وهذا يمنع النقص، وذلك لا حاجة بنا إليه في إثبات الحكم، لأن علة الحكم مستقلة بدون ذلك. فصل (فإن) كانت الزيادة للبيان مثل قول الشافعي في

التحري (في الأواني): جنس يدخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر، فدخله إذا استويا كالثياب. فيقول الحنفي: لا تأثير لقولك: إذا كان عدد المباح أكثر، فإنه يكفي قولك جنس يدخله التحري. (فيقول المستدل: هذا بيان لما تقتضيه العلة، لأن لو قلت جنس يدخله التحري، لكان معناه إذا كان عدد المباح أكثر، وإلا لم يسلمه الخصم، وبيان ما يقتضيه اللفظ لا يعد حشواً. (والوجه الخامس): /الاعتراض من النقض وهو وجود العلة ولا حكم، وهذا (لا يفسد) العلة على قول من يرى تخصيص العلة، لأن ذلك كتخصيص اللفظ العام لا يبطل التخصيص دلالته، كذلك تخصيص العلة، وهذا إنما يجوز إذا كان التخصيص بدليل، فأما إذا (أخل) من العلة بوصف

فانتقضت، كانت فاسدة عنده في هذا الموضع، وذلك مثل أن يعلل ثبوت الربا في المكيل: بأنه مكيل يحرم فيه التفاضل، دليله البر (فينتقض عليه) ببيع الجنسين، وإن ذلك مكيل ولا يحرم التفاضل، فيكون ذلك نقضاً صحيحاً) (لأنه) ذكر بعد العلة، فأما من (لا يقول) بتخصيص العلة فإن النقض عنده مفسد لها بكل حال، والعلة عنده على ضربين: علة وضعت لجنس الحكم، وعلة وضعت للعين، فالموضوعة للجنس تجري مجرى الحد، (فيجب) أن تطرد وتنعكس، وتفسد بأن ينتقض طردها وعكسها، وذلك مثل أن يقول: الشركة هي الموجبة للشفعة والعمد المحض هو الموجب للقود، فمتى تعلقت الشفعة بغير الشركة في موضع، أو ثبت القود في غير العمد المحض بطلت العلة، كذلك لو قال: المبيح للدم الردة، كان ذلك منتقضاً؛ لأنه يستباح بغيره من زنا المحصن والقتل، وغير ذلك، فأما إن كانت العلة للأعيان نظرت، فإن كانت العلة وجوب (حكم) فمتى وجدت العلة دون حكمها كانت منتقضة، مثل أن يقول الحنفي: إن الوضوء طهارة فلا تفتقر

إلى النية كإزالة النجاسة، فينتقض ذلك بالتيمم، لأنه طهارة تفتقر إلى النية بإجماعنا. فصل فإن كان التعليل لإثبات حكم مجمل لم ينتقض إليه بالنفي المجمل، فإما (بالنفي) في موضع فلا ينتقض، وذلك كقول الحنفي في قتل المسلم بالذمي أنهما محقوناً الدم (على التأبيد) فجرى بينهما القصاص كالمسلمين. فيقول المعترض: تنتقض العلة إذا قتله المسلم خطأ لا يجري القصاص، فهذا ليس بنقض، لأنه علل (يجريان) القصاص في الجملة، فلا ينتقض بانتفائه في موضع آخر ولكن إن نقض عليه بالأب مع الابن كان نقضاً، لأنه لا يقتص مع الأب بكل حال. فصل فإن كان التعليل لنفي حكم مجمل انتقض بإثبات حكم في موضع، مثال ذلك أن يعلل (نفي) القصاص في الأطراف (بين) العبدين.

فيقول: مملوكان فلم يجر بينهما القصاص كالصغيرين فينتقض عليه بجريان القصاص بينهما في النفس فذلك نقض صحيح، لأنه نفي أن (يجري) القصاص بينهما في موضع (فأرى) موضعاً يجري فيه القصاص، فبطل تعليله، لأنه (لم) يصدق تعليله بأنه لا قصاص بينهما. فصل فإن كان التعليل (للنفي) المفصل (لم ينتقض) بالإثبات المجمل، مثله: أن يقول: (محقوناً) الدم فلم يجر بينهما القصاص في الخطأ. فيقول المعترض: ينتقض بوجوب القصاص بينهما في العمد، فإن ذلك ليس بنقض، لأن ثبوت القصاص بينهما في الجملة لا يمنع من انتفائه عنهما في بعض المواضع. فصل فإن كان التعليل للإثبات المفصل فإن ينقض بالنفي المجمل مثاله: أن يقول المعلل في الأب مع الابن: أنهما محقوناً الدم فوجب بينهما القصاص في القتل العمد، فينتقض (عليه) بالحر مع

العبد لا يثبت بينهما قصاص في الجملة، فيكون نقضاً صحيحاً، لأن الانتفاء على الإطلاق يزيل ثبوت القصاص في بعض المواضع. فصل فإن أنكر المعلل مسألة النقص، لم يكن للمعترض (عليه) أن يدل على إثبات الحكم لنقض علته به، لأنه انتقال عما سأل عنه إلى غيره، فلم يجز كما لو أراد الانتقال من دليل إلى دليل، ومن مسألة إلى مسألة أخرى. فصل فإن نقض بمسألة فقال المستدل: لا أعرف الرواية (فيها) كفى ذلك في دفع النقض. فإن قال المعترض: فيجب أن لا تحتج بهذه العلة لجواز أن تكون مسألة النقض مسلمة، فتكون العلة منتقضة. قيل للمستدل أن يقول: هذه العلة صحيحة بالدليل عليها فهي حجة ما لم أعلم ما يفسدها من مذهبي فيكون جواباً صحيحاً. فصل فإن قال المستدل: أنا أحمل هذه المسألة على مقتضى

القياس، وأقول فيها كالقول في مسألة الخلاف. فإن كان صاحب المذهب ممن يرى تخصيص العلة، (لم يجز قول ذلك، لأنه لا يجب الطرد عنده، وإن كان ممن يرى التخصيص). احتمل أن يجوز ذلك، لأنه طرد علته، واحتمل أن لا يجوز، لأنه يجوز أن يكون صاحب المذهب علل مسألة الفرع بغير علته، فلا يثبت له مذهباً بالشك وهذا هو الأظهر عندي. فصل فإن أنكر المعلل الاسم الشرعي في النقض مثل: أن يعلل حنفي بأن الأجرة لا تستحق بمطلق العقد. فيقول: إنه عقد على منفعة، فلم يستحق العوض بمطلق العقد كالمضاربة. فيقول المعترض: ينتقض ذلك بالنكاح. فيقول المستدل: لا أسلم أن النكاح عقد على منفعة وإنما هو عقد على الحل والإباحة. فيقول المعترض: الحاصل للزوج بعقد النكاح هو المنفعة والعوض يقابلها، والحل والإباحة حكم الشرع فلا يستحق عليهما عوضاً، وإنما يحصل الحل والإباحة بملك المنفعة كان ذلك بياناً للنقض، لا من جهة الدلالة عليه فجاز ذلك.

فصل فأما إن دفع المعلل النقض: بأنه لا يتنازله الاسم العرفي المذكور (في العلة) مثل أن يستدل شافعي بأن الرجعة لا تحصل بالوطء، لأنه فعل من قادر على القول فلم تحصل به الرجعة كالضرب. فيقول المعترض: ينتقض بقوله: أرجعتك إلى نكاحي، فإنه فعل اللسان، وتصح به الرجعة. فيقول المعلل: لقول: لا يسمى فعلاً عرفاً بل يفرق بين الأقوال والأفعال. (فيقال): هذا قول وهذا فعل، فلم يصح هذا النقض، كان ذلك دفعاً صحيحاً. فصل فإن فسر المعلل لفظه بما يدفع النقض نظرت فإن فسره بما هو ظاهر اللفظ ومقتضاه كفى ذلك في دفع النقض، مثاله: أن يعلل

الشافعي في المتولد بين الظباء والغنم: فإنه متولد من جنسين لا زكاة في أحدهما، فلا زكاة (فيه) كما لو كانت الأمهات من الظباء فيقول الحنفي: ينتقض ذلك بالمتولد بين المعلوفة والسائمة. فيقول المعلل: المعلوفة تجب الزكاة في أعيانها بحال، وهي إذا كانت سائمة وأنا أردت بقولي: لا زكاة في أحدهما مجال. فصل فإن فسره بما هو عدول عن ظاهر اللفظ لم يقبل، مثل أن يفسر اللفظ العام بالخصوص (مثاله) أن يعلل في الربا، فيقول: مكيل محرم فيه التفاضل كالبر. فيقول المعترض: ينتقض بالجنسين. فيقول: أردت بقولي إذا كان جنساً واحداً، فلا يقبل ذلك، لأن تعليله عام (في الجنس والجنسين)، فإذا خصه بزيادة يذكرها لم يقبل. فإن قيل: أليس يجوز أن يأتي صاحب الشرع بلفظ عام، ثم يخصه؟، فلِمَ لا يجوز ذلك في حق المعلل؟

(قلنا): أما من يقول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. فيقول: لا يجوز أن يرد لفظ عام إلا ومعه قرينة التخصيص، أما بأن يكون (المخصص) سابقاً أو يرد ومعه، ومن قال: يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب/179 أ، فقال لأن وقت الخطاب ليس هو وقت الحاجة، فإذا جاء وقت الحاجة لا يجوز تأخير البيان. فأما المعلل فذكره العلة هو وقت حاجته، فلا يجوز له تأخير تخصيصها، وهو بيانها لأنه تأخير عن وقت الحاجة. وجواب آخر: أن صاحب الشريعة يفارق المعلل ولهذا (أن ينسخ) ذلك الحكم، لوه ذكر بعض العلة وأن يكل الباقي إلى اجتهاد المجتهد، وهذا لا يجوز للمعلل القاصد (إثبات) الحكم بعلته. فصل فإن قال المعلل: عللت لما سألتني عنه فيجعل سؤاله من تمام العلة، ويخصص به لفظه فهو فاسد، لأن العلة يجب أن تكون مستقلة بنفسها (لا تحتاج إلى قرينة ولا تنبيه، لأنها دليل بنفسها مستقلة)، ومتى افتقرت إلى غيرها يطلب دلالتها، (ومثال)

ذلك أن يستدل شافعي في إيجاب المهر للمكرهة على الزنا بأنه ظلمها بإتلاف ما (يتقوم)، فلزمه الضمان. فيقول الحنفي: يبطل بالحربي إذا وطئها مكرهة، فإنه لا ضمان عليه. فيقول: إنما عللت لمن سألتني عنه، ممن يضمن وهو المسلم أو الذمي، فإن ذلك لا يصح لما ذكرنا. فإن قال: (قولي) ظلمها هنا الكناية ترجع إلى المسلم فلا ينتقض بالحربي، كما لو قلت ظلمها المسلم بإتلاف ما يتقوم، (وهذا) لا يصح، لأن العلة ما أظهره المعلل (دون ما يضمره)، ولأن السائل سأل عن امرأة أكرهت على الزنا، هل يسقط مهرها (أو) يجب؟ فهنا الكناية ترجع إلى كل ظالم/105 أظلمها، ولهذا قد احترز بعضهم بقوله، وهو من أهل الضمان في حقه. فصل فإن انتقضت علة المستدل فزاد فيها وصفاً فقد انقطعت

حجته التي ابتدأ بها، وكان ذلك (تفريطاً) منه وانتقالاً عما احتج به، (وقال) بعضهم: إذا كان الوصف معهوداً في العلة جاز أن يزيده، لأنه أخل به سهواً، فهو (معذور) بخلاف (ما) إذا كان الوصف غير معهود، لأنه قد قصر في العلة، فكانت باطلة. فصل فإن علل بعلة عامة فنقضت عليه بحكم كان ثم نسخ مثل أن يقول: تكلم في صلاته بكلام الآدميين فأشبه (إذا) تكلم عامداً. فيقول المعترض: يبطل بالصلاة في صدر الإسلام، فإنه تكلم فيها لم تبطل فقد اختلف في ذلك. قال بعضهم: تنتقض العلة، لأنها عامة فيجب إثبات حكمها في جميع ما عمته، فإذا انتقضت بموضح فلم تعم، (بطلت).

وقال بعضهم: لا تنتقض، لأن العلة وضعت لإثبات الحكم فلا تنتقض إلا بما يضادها من الأحكام، وما نسخ ليس بحكم، ولا تشتمل العلة عليه، ولا تنتقض بخروجه عنها، وكذلك إن نقض العلة بما خص به النبي صلى الله عليه وسلم. مثل أن يقول: عقد بغير لفظ (النكاح) والتزويج فلا ينعقد كما لو عقد بلفظ الإحلال. فيقول المعترض: ينتقض بنكاح النبي صلى الله عليه وسلم فالخلاف في ذلك على ما (ذكرناه). فصل فإن كان التعليل للجواز لم ينتقض بأعيان المسائل كقولنا في الزكاة في مال الصبي: بأنه حر مسلم فجاز أن تجب الزكاة في ماله كالبالغ. فقال المعترض: ينتقض إذا (كانت) (إبله) معلوفة

أو عوامل أو ماله دون (النصاب)، فإن ذلك ليس ينقض، لأن المعلل أثبت بالجواز حالة واحدة وانتفاء الزكاة في حالة لا يمنع وجوبها في حالة أخرى. فصل فإن علل (بالنوع) لم ينتقض بغير مسألة كما قال أصحابنا في أكل لحم الجزور أنه ينقض الوضوء، لأنه نوع عبادة تفسد/180 أبالحدث ففسدت بالأكل، أصله الصلاة، (فقيل) ينتقض بالطواف، فإنه يفسد بالحدث، ولا يفسد بالأكل فقالوا عللنا (لنوع) هذه العبادة التي تفسد بالحدث (فلا ينتقض)

بأعيان المسائل، لأن الطواف بعض نوعها فإذا لم يوجد الحكم فيه وجد في بقية النوع. فصل فإن دفع المعلل النقض بالتسوية (بين) الأصل والفرع فذلك جائز على قول من ذهب إلى أن العلة المخصصة صحيحة، ولأن أكثر ما في ذلك أن (يريه) وجود العلة، ولا حكم، وذلك غير مفسد عنده، (ولأنه) ليس من شرط صحة العلة عنده الطرد والجريان (فأما من لا يقول بالتخصيص ويقول: من شرط العلة الطرد)، فلا يصح أن تكون التسوية على قوله مانعة من النقض خلافاً لشيخنا (رحمة الله عليه) في قوله: إن التسوية تمنع النقض، مع قوله: إن من شرط العلة الطرد، وذلك مثل استدلاله في جواز المسح على العمامة بأنه عضو يسقط في التيمم (فجاز المسح) على حائله كالقدم، فينتقض (عليه) بالرأس في الطهارة الكبرى، فإنه يسقط في التيمم ولا يمسح على حائله.

فيقول: يستوي الأصل والفرع، لأن القدمين لا يمسح على حائلهما في الطهارة الكبرى أيضاً، (ومثل) ما استدل الحنفي في نكاح المحرم بأن من صح قبوله في البيع صح قبوله في النكاح كالحلال. فقيل له: ينتقض بمن تحته أربع نسوة يصح قبوله للبيع، ولا يصح قبوله للنكاح. فقال: قصدت التسوية بين المحرم والحلال، و (الحلال) كذلك أيضاً، وهذا لا يدفع النقض، والدليل على ذلك أن النقض وجود العلة، ولا حكم وهذا المعنى موجود، وإن استوى الفرع والأصل.

فإن قيل: النقض هو ما ذكرتم بشرط أن يستوي الفرع والأصل. (قلنا): هذا غلط، لأن القايس يجب عليه أن ينظر العلة في الأصل فإذا صحت عداها إلى الفرع، وهي في الأصل غير صحيحة، لأن شرطها [(وهو الاطراد)] (وهو) معدوم، فكيف يصح إذا عداها إلى (الفرع)؟ بيان ذلك: إنا إذا قلنا: ما علة جواز المسح على حائل الرجل دون الوجه واليدين؟. قال: لأن الرجل لا تدخل في التيمم بخلاف الوجه. فيقال له: (فالرجل) لا تدخل في التيمم في الجنابة، ثم لا يجوز المسح على حائلها (في الجنابة) (فانتقض) عليك فمعلوم أنه إذا قال: أنا (أعدي) ذلك إلى الرأس، والرأس لا يدخل في التيمم، ثم يجوز المسح على حائله في الطهارة الصغرى دون الكبرى.

قلنا (له): فنحن نقضنا عليك علتك في الرأس فقلت في الأصل كذلك فلما بينا (لك) أن علة الأصل منتقضة عدت تستدل على صحة الأصل بأنه يساوي الفرع هذا ظاهر الفساد، لأن العلة منتقضة في الأصل والفرع، (فقد) صار النقض نقضين. وجواب آخر: أن العلة والحكم هو ما يلفظ به المعلل دون ما أضمره، وهو إنما يلفظ باشتباه الرأس بالرجل في المسح على حائلهما لا غير، ولم يشترط شرطاً آخر، فإذا رأى أنه لا يجوز المسح على حائلهما مع ما ذكره من العلة فقد انتقض ما صرح به، (ولا) ينفعه ما يضمره من اشتراط أن لا يستوي الفرع مع الأصل. وجواب آخر: أن النقض ما (ذكرناه)، (لأنه) يبطل بشرط العلة وهو الطرد فمن ادعى أنه يشترط (فيه) شرطاً آخر حتى يصير نقضاً يحتاج أن يدل (عليه).

ودليل آخر: (وهو أنا نقول): ما أفسد إذا لم تمكن التسوية، أفسد وإن أمكن التسوية كالممانعة وعدم التأثير. فإن قيل: إذا لم يمكن التسوية لم تكن علة، لأنها لا تجري في معلولها، (وإذا) أمكن التسوية/180 ب (جرت) في بعض معلولها. (قلنا): هذا غلط، لأنها في الموضعين تجري في بعض (المعلول، ولهذا العلة المخصصة تجري في بعض) معلولها دون بعض، ولأن عندك يجب جريانها في جميع المعلول وإلا كانت باطلة، لأن من شرطها عندك (الاطراد)، فكيف تقول: إنها إذا أمكن التسوية جرت في بعض معلولها فصحت، هذا تناقض ظاهر. دليل آخر: أن من نقض عليه الفرع، فقال: الأصل مساوية فقد أقر النقض (في الأصل والفرع)، فكيف يكون ذلك مانعاً للنقض. فإن قيل: إذا كان قصده التسوية بين الأصل والفرع، فذلك لا يبطل قصده، بل يزيده شبها، ألا ترى أن من قال: زيد أبيض كعمرو، (فقيل) له: فعمرو أخوك أصلع، فقال: زيد كذلك أخوك أصلع. كان ذلك تأكيداً في الشبه.

(قلنا): هذا غلط، لأن الغرض إلحاق الفرع بالأصل بعلة الحكم التي صرح بها، فإذا كانت منتقضة بطلت أن تكون علة، لأن من شرطها الطرد، ولم يوجد، (وإذا) (بطلت) علة الحكم لم ينفع استواء الأصل والفرع في حكم آخر. بيان ذلك: أنه قصد بعلته جواز المسح على الحائل، ولم يقصد أن يستوي الرأس والرجل في غير ذلك. (وجواب آخر: إن كان قصده التسوية بين الرأس والرجل) فيجب أن يقيسهما على أصل آخر يستوي فيه حكمهما ويفارق ما ذكروه، فإنه مجرد شبه، (ولا يقصد) به إثبات حكم، (وهاهنا) يقصد إثبات حكم بعلة شرطها الاطراد فإذا لم تطرد عدم شرطها، فلم تكن علة. وجواب آخر: لو كان القصد التسوية بين الأصل والفرع لجاز أن يجعل الفرع أصلاً، والأصل فرعاً، لأنه إذا نقض عليه علة المسح على حائل الرجل قاسه على الرأس، وإذا نقض (عليه)

علة المسح على حائل الرأس قاسه على الرجل بعلة التسوية بينهما، وهذا ظاهر الفساد. (واحتج المخالف: بما تقدم من قصد التسوية، وقد بينا فساده). (واحتج) (بأن الكسر كالنقض)، لأن الكسر ينقض المعنى، كما أن النقض (يبطل) اللفظ، ثم التسوية (في الكسر) ترفع الكسر (كذلك) في النقض. وبيانه: (أنه) يستدل فيمن وطيء في كفارة الظهار ليلاً أنه لا يفسدها، (لأنه) وطء لم يفسد صوم الكفارة، فلم يقطع التتابع، أصله الوطء في كفارة القتل ليلاً. فيقول المعترض: لا يمتنع أن لا يفسد الصوم، ويقطع التتابع كما

لو نوى في أثناء الكفارة، (صوم) قضاء أو نذر أو نفل، فإن الصوم صحيح، والتتابع يبطل. فيقول المستدل في كفارة القتل. مثل ذلك ينقطع التتابع فيها إذا صام (نفلاً أو نذرا)، ولا يبطل التتابع بالوطء فيها ليلاً. قال: فيكون هذا (جواباً سديداً) كذلك في النقض. والجواب: أن الكسر ليس بسؤال لازم على قول بعضهم، لأنه الزائد على بضع العلة المصرح بها، (وإن) سلمنا أنه لازم، فإنا لا نسلم أن التسوية تكون في ذلك جواباً بحال، لأن المعترض قصده أن يبين أن قطع التتابع لا يقف على فساد الصوم، ولا هو علته في كفارة الظهار، وكفارة القتل، (ولهذا) صوم النذر والقضاء لم يفسد الصوم (فيهما)، وقطع التتابع، (وكذلك) الوطء جاز (أن لا يفسد) (صومه) كفارة الظهار، ويقطع (التتابع)، فلا يصح أن يجاب بأن كفارة

القتل يفسد التتابع بصوم النذر (فيها) ولا يفسد/ 181 أالتتابع بالوطء (لأن) غرض المعرض أن لا يكون بفساد الصوم غيره في قطع التتابع وقد تم غرضه. والجواب: الصحيح عن هذا الكسر أن يفرق المستدل بين الصوم المذكور، والوطء ليلاً بأن صوم القضاء والنذر لم يفسد الصوم في الجملة فقد بطل أن يكون صوم كفارة، لأن شرط صوم الكفارة تعيين النية للتكفير (فإذا نوى غيره فقد أخل بالشرط، فلم يصح صوم التكفير) بفعله، فبطل التتابع، فأما الوطء ليلاً فإنه لم يبطل (صوم) التكفير بحال، فلا (يقطع) التتابع (والله أعلم). فصل فإن استدل بعلة فعارضه السائل بعلة فنقضها المستدل بأصل نفسه لم يجز ذلك، خلافاً للجرجاني (من

الحنفية) وبعض الشافعية في قولهم: يجوز ذلك. لنا: أن علة السائل حجة على المستدل في مسألة النقض كما هي حجة عليه في المسألة التي يسأل عنها، وتكلما فهيا، ثم لا يجوز أن (ينقض علة) بمسألة الخلاف، كذلك ها هنا. وبيان ذلك: أن يستدل حنفي (أن) التسمية في المهر إذا كانت فاسدة، وثبت مهر المثل لم يتنصف بالطلاق، بأن عقد النكاح خلا عن تسمية صحيحة فوجب أن تجب المتعة بالطلاق

كالمفوضة، فيعارضه الشافعي: بأن هذا مهر وجب قبل الطلاق فتنصف بالطلاق قبل الدخول) كالمسمى الصحيح في العقد. فيقول الحنفي: هذا ينتقض بأصلي، وهو أن المفوضة إذا فرض لها قبل الطلاق، ثم طلقها قبل الدخول، فإنه لا ينتصف ذلك. فيقول الشافعي: هذا القياس حجة عليك في الموضع الذي نقضت به، كما هو حجة عليك في مسألتنا فلو جاز لك إبطال القياس بذلك الموضع لجاز لك أن تبطله بالمسألة التي تكلمنا فيها، ولأن قياس المعترض حجته، فلا يجوز إبطال (الحجة) بالدعوى كما (لو) استدل خبر، فقال: أنا لا أقول بهذا (الخبر) في هذا الموضع، وفي موضع آخر، فإنه لا تبطل

الحجة من الخبر بدعواه، كذلك ههنا، يبين هذا أن قوله: ينتقض القياس بأصلي معناه: أني لا أقول به في هذا الموضع، وفي موضع آخر، (وهذا) لا يسقط (به القياس). احتج المخالف: بأن العلة التي عارضه بها السائل (ليست) حجة عند المستدل لانتقاضها على أصله فكان له ردها كما لو عارضه بدليل الخطاب وليس هو عند المستدل حجة. والجواب: أن القياس حجة عند المستدل وإنما تركه في مسألة النقض ومسألة الخلاف لدليل هو أقوى منه عنده، فيجب أن يظهره لتسقط عند المعارضة، وإلا فهي لازمة لهف ي الموضعين بخلاف دليل الخطاب، (فإنه) ليس بحجة عنده، فلهذا كان له رده. احتج: بأنه لما جاز للمستدل في الابتداء أن يبني على أصله، ويقول للسائل: إن سلمت هذا الأصل بينت علته، وإلا دللت (عليه) كذلك جاز أن ينقض بأصله، ويقول: (إن) سلمت (مسألة) النقض: انتقضت علتك وإن منعتها دللت عليها. والجواب: أنه في الابتداء يجوز له ذلك، لأنه لم (يلتزم) الكلام في موضع بعينه، وفي مسألتنا التزم الكلام في موضع

بعينه، ولزمه (نصرته)، (ولا) يجوز أن ينتقل منه إلى غيره، كما لا يجوز أن ينتقل من دليل إلى دليل، وإن كان في الابتداء يجوز له أن يستدل بأي دليل (شاء) من أدلته. فإن قيل: فههنا به حاجة إلى ذلك، لأنه يجوز أن يكون ليس له طريق إلى رد هذا القياس الذي عورض به إلا بنقضه، فإذا منع من ذلك (انسد) عليه باب الكلام. (قلنا): فيجب أن (نقول) (له): أن ينقض بمسألة الخلاف لأجل ذلك، وله أن يقول: هذه الحجة/181 ب، لا أقول بها في هذا الموضع، لأجل ما قلت من الحاجة وهذا (لا يقال). واحتج: بأنه يجوز أن ينقض علة السائل بمسألة يقول بها السائل وحده، كذلك يجوز أن ينقضها بمسألة يقول بها هو وحده. والجواب: أنه إذا نقض علة السائل (بأصله) فقد بين له أنها فاسدة عند السائل، فلا يجوز أن يحتج بما هو (فاسد) عنده بخلاف هذا، فإنه نقض بأصله، والقياس حجة عليه في

موضع النقض، وموضع الخلاف، فيجب عليه أن يتكلم عليه بما يفسده أو يسقطه في الموضعين، ليسلم له دليله الأول. فصل لا يجوز للسائل أن يعارض المستدل علة منتقضة على أصله، خلافاً لبعض الشافعية: أنه يجوز. لنا: أنه استدل على خصمه بعلة منتقضة، فلم يجز كالمسؤول إذا استدل بعلة منتقضة، فإنه لا يجوز، (وهذا)، لأن العلة إذا كانت منتقضة على أصله، فهو يعتقد بطلانها، ومن يعتقد بطلان دليل لا (يجوز أن) يطالب غيره، أن يعمل به، كما لا يجوز أن يكلف نفسه العمل به، وكما لا يجوز إلزامه العمل بسائر الأدلة التي لا يقول بها، مثل دليل الخطاب (والقياس). احتج المخالف: بأنه إذا جاز أن ينقض علة المستدل بمسألة لا يقول بها السائل جاز أن يعارضه بعلة لا يقول بها. والجواب: أن (الناقض) قصد إفساد علة خصمه، فإذا تبين فسادها عند المستدل بها فقد تم قصده بخلاف مسألتنا، فإن قصد المعلل إثبات الحكم من جهته فلا يجوز أن يبنيه بما يعتقد بطلانه.

واحتج: بأن السائل لا مذهب له، لأنه مسترشد، فلا يعتبر بفساد ما عنده. والجواب: أنه إذا استدل فقد جاوز رتبة المسترشد وصار في رتبة المستدل، فلا يجوز أن يستدل بما يعتقد فساده، ثم إذا كان مسترشداً فلا يجب أن يسأل إلا عما اشتبه عليه، فأما ما يعتقد (فساد) فلا يجوز أن يلزم خصمه (ولا يسأله عنه). فصل إذا دفع النقص بشرط ذكره في الحكم، مثل أن يقول حران مكلفان محقونا الدم، فوجب أن يثبت بينهما القصاص في العمد، كالمسلمين، فقد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: الاحتراز في الحكم، اعتراف (بالنقض) لأن المعلل حكم بأن (علتهما) كونهما حرين مكلفين محقوني الدم فقط، ثم قال:

فوجب بينهما القصاص فإذا قال في العمد دون الخطأ، فقد أقر: بأن العلة وجدت في موضعين (فتبعها) (حكمها) في أحدهما دون الآخر، فإن كان ذلك المعنى اختص به أحد الموضعين، فينبغي أن يذكر ذلك المعنى في جملة العلة، لأن له تأثير في إيجاب القصاص، وإن كانت العلة تؤثر في الحكم في أحد الموضعين (دون الآخر) لا لآمر افترق فيه الموضعان فقد أقررت بأن العلة اقتضت الحكم في موضع دون موضع وإن كانت موجودة فيهما على سواء، وقال بعضهم: ذلك احتراز صحيح، لأن الشرط المذكور في الحكم كان متأخراً (في) اللفظ، فهو متقدم في المعنى، وهذا جائز في اللغة، ألا ترى أن يجوز أن يقولوا: ضرب زيداً عمرو؟ فيكون (عمرو هو) الضارب ورتبة الفاعل التقدم على المفعول، ثم هو متأخر في اللفظ، فإذا ثبت هذا، فكان القياس أنهما حران مكلفان قتل أحدهما صاحبه عمداً، فوجب/182 أالقصاص، وهذا هو الصحيح عندي، لأن قتل العمد له تأثير في إيجاب القصاص، فيقتضي أن يكون من جملة العلة وإن ذكر في الحكم.

فصل (فإن) نقض علته بموضع، فقال: (ذاك) موضع استحسان فلا يناقض به، مثل استدلال أصحابنا في الكلام ناسياً: أن ما أبطل العبادة عمده أبطلها سهوه كالمحدث. فقال المعترض: (ينتقض) بالأكل في الصوم، فإنه يفسد عمده ولا يفسد سهوه. فقلنا: (ذاك) موضع استحسان فلا يناقض به. قيل: هذا (دفع) يحتمل وجهين، أحدهما أن

يقال: القياس كذلك يقتضي هناك، لكن ترك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أطعمك وسقاك" فخرج من جملة القياس، وبقى الكلام والحدث، وغير ذلك على حكم القياس. والوجه (الآخر): إنه ليس بجواب، لأنه (يقال) علتك انتقضت بمسألة، فقلت: تلك المسألة نص عليها الشرع، فكانت آكد في النقض. فصل فإن احترز بحذف الحكم مثل: أن يذكر المعلل العلة، ثم يقول: فأشبه كذا (وكذا)، فإذا نقص (علته) قال: إنما (أردت) التسوية، ولم أصرح بالحكم، فيقول: قد وجدت العلة، ولا حكم، فلم تنتقض علتي، وهذا ليس باحتراز صحيح، لأن التسوية بين الأصل والفرع هو حكم، وإذا كان حكم احتاج إلى أصل.

يقاس عليه مثاله: أن يقول (أصحاب أبي حنيفة) في الإحداد على المطلقة بأنها بائن أشبه المتوفى عنها زوجها، فينتقض (عليه) بالصغيرة والذمية، فيقول: (قصدت) التسوية بين المطلقة والبائن والمتوفى عنها زوجها (فيقال له: إذا قصدت التسوية فكأنك قلت: المطلقة والمتوفى عنها زوجها) بائنتان فزلمهما الإحداد، فيحتاج إلى أصل يقيسهما عليه. الوجه السادس من الاعتراض: (الكسر): وهو وجود معنى العلة ولا حكم (فكأنه) نقض المعنى، وقد اختلف في

ذلك، فقال بعضهم: (إنه) ليس من الأسئلة اللازمة على العلة. وقال آخرون: هو لازم ويجب على المعلل الجواب عنه. (فالدليل) الأول: أن الكسر (إنما هو) إلزام على بعض العلة، لأنه إنما يتم التزامه بأن يسقط لفظاً من العلة وينقض الباقي أو يغير لفظاً منها بلفظ يظنه في معناه، وإذا كان كذلك فليس بملزم على العلة، لأن ما أسقطه أو غيره هو الفرق بين مسألة الكسر (ومسألة) المستدل.

وبيان ذلك: أنا إذا استدللنا في بيع العين الغائبة بأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد، فلم يصح العقد عليه أصله: إذا قال: بعتك ثوباً. فقال الحنفي: ينكسر بالنكاح، فإن المعقود عليه وهي المرأة مجهولة الصفة عند العاقد، ويصح العقد عليها، فيكون قد أسقط قوله: مبيع، وألزمه على الوصف الآخر، وهو قوله مجهول الصفة عند العاقد (وهذا) غير مستقيم، لأن علتنا الجالبة للحكم ذات وصفين، فإذا أسقط أحدهما لم تكن علة الحكم وجرى مجرى قولنا: مكيل جنس فلم يجز التفاصل فيه كالبر. فيقول المعترض: ينكسر بيع الجنس بالجنس، فإنه مكيل ولا ربا فيه، فيكون ذلك فاسداً، لأنه إلزام على غير علة حكم، كذلك ههنا. فإن قيل: النكاح في معنى البيع، لأن كل واحد منهما عقد معارضة، فجاز أن يلزم في أحدهما ما يلزم في الآخر. (قلنا): إلا أن علته أنه مبيع لا أنه عقد معاوضة وقوله مبيع أخص من قوله عقد معاوضة، (فإذا لزمه النكاح بمعنى أنه عقد معاوضة)، فقد لزمه على غير علته. فإن قيل: قوله مبيع لا معنى له في الحكم، لأن /182 ب المبيع والمستأجر (والموهوب) سواء.

(قلنا): فيجب أن يطالبه بتصحيح العلة، أو يبين أنه لا تأثير لقوله: مبيع، فإن ذلك أقوى في الإلزام وقطع الحجة من الكسر، لأن الكسر يكفيه أن يفرق بينه وبين مسألة الخلاف بالوصف الذي غير أو أسقط من العلة، وعجزه عن بيان التأثير لوصفه، فوجب إسقاط ذلك الوصف، وإذا أسقطه بطلت العلة من أصلها، وكذلك عجزه عن الدلالة على صحة علته فيبطل أن يكون حجة فيجب التشاغل بهما عن الكسر. وجواب آخر: أنه إذا ثبت أنه لا معنى لقوله مبيع فيجب أن يلزمه النكاح نقضاً، لأن لا اعتبار (بقوله) مبيع، ولما لم يجز ذلك، كذلك لا يجوز إلزامه الكسر بما ليس بمبيع على (أنه مبيع)، لأنه إلزام على غير علته، (والله أعلم). فصل إنما نلزمه بعض المعنى حتى يفزع إلى أن يبين أن لفظ علته يمنع من ذلك، فإذا فعل ذلك بينا له أنه لا تأثير للفظ العلة، وأن الكسر لازم له.

(قلنا): هذا غلط في الجدل، لأنك أخرت ما وجب تقديمه وقدمت ما يجب تأخيره، لأن المعلل صرح بلفظ العلة فسلمت له صحته، ولم تعترض، (وعدلت) إلى الاعتراض على معناه، فلما دفع اعتراضك بلفظه الأول. عدت تعترض على اللفظ بعد أن سلمته وهذا لا يجوز. وجواب آخر: (وهو) أنك إذا عدت تعترض على لفظه فعليه تصحيحه، فإذا صححه بطل اعتراضك بالكسر ووجب الكلام في الاعتراض على اللفظ، إما بالتأثير أو بالمطالبة بالتصحيح، فلا يكون للاعتراض بالكسر فائدة فيجب إسقاطه، وجرى ذلك مجرى رجل ادعى حقاً عند الحاكم وأقام شاهدين على ذلك. فقال المشهود عليه: لا تقبل أيها الحاكم هذين الشاهدين، لأنك لم تقبل شهادة شاهدين آخرين مثلهما شهدا عندك. فيقول الحاكم: إنما رددت شهادة الشاهدين اللذين ذكرتهما، لأنه ثبت عندي جرحهما. فيقول المشهود عليه: فهذان الشاهدان مجروحان أيضاً. فيقول الحاكم: ثبت جرحهما وقد أخطأت تطويلك، لأنك كنت تتشاغل بجرح شاهدي المدعي عليك، ولا يحتاج إلى (ذكر) غيرهما.

دليل آخر: (هو) أن الكسر يتوجه على جميع العلل، (وإن) كانت منصوصاً عليها أو مدلولاً على صحتها، لأن الفرع لابد أن يكون له شبه في الأصول يقاربه في المعنى) ولو كان سؤالاً قادحاً في العلة لم يتوجه على (كل) العلل توجها واحداً كبقية الأسئلة. (فإن قيل ما المانع من ذلك؟ قلنا: المانع أنها إذا دل على صحتها ثبت الحكم بها ولا يلتفت إلى الكسر، فإيراد سؤال يكلف الفرق بينهما وبين ما يظن أنه في معناها لا يحتاج إليه لا سيما ولفظها المدلول على صحته هو الفرق، فإعادته هو عناء لا يفيد). فإن قيل: يلزم المطالبة بتصحيح العلة، فإنه يتوجه على كل علة. (قلنا): المطالبة ليست بسؤال مفسد، وإنما هو دعاء إلى تصحيح علته وثبوتها حتى تكون حجة بخلاف الكسر، فإنه مفسد على وجه واد وفرق بينهما، ألا ترى أن كل شاهد عند الحاكم يتوجه للخصم المطالبة بثبوت عدالته، ولا يجوز أن يحرج (في) كل شاهد جرحاً واحد؟

فإن قيل: فالكسر يفسد أيضاً إلا علة لا يوجد فيها بين مسألة الكسر ومسألة الفرع فرقاً فرق. (فأما ما ليس) بينهما فرق فلا يفسدها. (قلنا): إلا أنه يورد الكسر على العلة الصحيحة المدلول عليها، فيحتاج أن يكلف المعلل فرقاً بعد ثبوت علته، ربما تعذر على المعلل الفرق، ألا ترى أن القايسين أجمعوا على تعليل الربا، مع اختلافهم في العلة، وكلها فاسدة على قول من يلتزم الكسر، يبين ذلك: أن أصحاب الشافعي/183 أورواية لنا (لو) قالوا في البطيخ أنه مطعوم جنس (فجرى) فيه الربا كالبر، فقال الكاسر: أكثر ما في الطعم أنه منفعة، وذلك لا يوجب ثبوت الربا فيه، ألا ترى أن الملبوس تحصل به المنفعة، ويجب للمملوك على سيده وللزوجة على زوجها، وللقريب على قريبه، كما يجب المأكول، ثم لا يتعلق بالملبوس الربا؟ كذلك المطعوم فإنه لا يكون للمعلل فرق بينهما بمعنى تضمنته العلة فإن قال الفرق بينهما: إن الطعم الحاجة إليه أشد والمنفعة (به) أكثر، لم يصح، لأن عنده لا فرق بين ما يقتات وبين ما يتحلى

به، أو يتفكه به (أو يتداوى به)، وليس الحاجة إلى ذلك أكثر من (الحاجة إلى) الملبوس، ولهذا لا يجب (في مؤنة) الزوجة والقريب (والمملوك، ويجب الملبوس، وهذا يبطل الفرق ويبقى الكسر باللبس، فإن دل) على العلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل" فقد دل على صحة العلة، ولم يجب عن الكسر وكذلك إذا استدل أصحابنا والحنفية: بأنه مكيل جنس أشبه البر. قال الكاسر: كونه قليلاً ليس فيه أكثر من معرفة المقدار، وذلك لا يوجب ثبوت الربا، كالعدد (والذرع والوزن)، أيضاً فإنه ليس (بعلة في الكيل، فإن كان يعرف به المقدار، كما يعرف بالكيل وليس) في العلة ما يتضمن فرقاً بينهما. فإن قال: أدل على العلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الصاع بالصاعين".، وغير ذلك من الأخبار، كان ذلك دلالة على صحة العلة، ولم يكن فرقاً بين المكيل وبقية المقادير في المعنى،

وإذا كان الدليل على صحتها مسقطاً للكسر، فكل العلل مدلول على صحتها، وإلا لم تكن علة فيسقط الكسر، إذاً فلا يلزم على العلة. واحتج من قال: بأن الكسر سؤال لازم بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دعاه قوم فأجاب ودعاه آخرون فلم يجب، فقالوا: يا رسول الله دعاك قوم فأجبتهم ولم تجبنا، قال: عندكم كلب-فقالوا فعندهم سنور. فقال: السنور ليس بنجس، وهذا معنى الكسر، لأنه علل في الامتناع بأن عندهم كلب فعارضوه بالسنور فلم ينكر عليهم بل التزمه، وفرق بينهما: بأن قال: السنور ليس بنجس. (والجواب): أن ما يعلل به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز (إيراد) النقض عليه، لأنه لا يجوز أن يذكر بعض العلة، ويكل باقيها إلى الاجتهاد، فكيف يجوز أن يرد عليه الكسر؟ لكن كان قصدهم (رضي الله عنهم) أن يعلموه أن عند الآخرين

سنورا (ليعرفوا) حكم السنور، هل يمتنع لأجلها كما امتنع لأجل الكلب أو لا؟ لأنهم ظنوا أنه لم يعلم، (وإلا فالصحابة أتقى لله) أن يعترضوا على (النبي صلى الله عليه وسلم) في قول أو فعل (فاعرف ذلك). واحتج: بأن العلة تفسد بنقض لفظها، وهو غير مقصود فنقض معناها وهو مقصود أولى (بالفساد). (والجواب): إنا قد بينا أنها لا تفسد بنقض اللفظ في باب تخصيص العلة، ثم الفرق بينهما أن نقص اللفظ يرد على ما أظهره المعلل وصرح به وجعله جالياً (للحكم)، فإذا أراه (المعترض) تلك العلة بعينها ولا حكم، فقد بين له أن قضيته غير صحيحة، بخلاف الكسر، فإنه لا يمكنه إلزامه إلا بأن يسقط لفظاً من العلة، أو يبدله بغيره وينقض ذلك، فيكون إلزامه على غير ما استدل به/ 183 ب المعلل وجعله جالياً للحكم، ويوضح هذا: أنه لا يقبل من المعلل في باب نقض اللفظ فرقاً، لأنه يكون زيادة على ما استدل به، ويقبل منه في الكسر الفرق بما أسقطه الكاسر من العلة، فبان الفرق بينهما. (وجواب آخر): أن النقض وبقية الأسئلة إذا

(وردت) على العلة كانت لازمة بأنفسها، بخلاف الكسر، فإنه يرد غير لازم للمعلل، لأنه إذا لزم النكاح على البيع قال له: وما الجامع بينهما فيحتاج الكاسر أن يجتهد في الجمع بينهما (بأنهما) سواء، وإن قولنا: بيع لا تأثير له (وإذا) قدر على ذلك جاء منه المطالبة بتصحيح العلة، وبيان التأثير، فعلم أنه لا قدح له في العلة بحال (والله أعلم). فصل فإن التزم المعلل الكسر، فإنه يلزمه أن يجيب عنه يفرق تضمنته علته نطقاً (أو معنى)، خلافاً لمن قال: يكفي الفرق سواء (ضمنه) في علته أو لم يضمنه في علته. لنا أن الكسر (هو) نقض المعنى، كما أن النقض نقض (معنى) اللفظ، ثم لا يكفيه في النقض أن يدفع إلا بما تضمنته علته حتى أنه إذا أراد لفظاً يدفع النقض (أو أراد) تفسيراً لا تقتضيه علته، لم يقبل منه (ذلك) وفسدت العلة، كذلك في الكسر، ولا فرق بينهما، ومثال ذلك أنه إذا نقض العلة التي ذكرنا بالنكاح ففرق بينهما بأن كونه مبيعاً يقتضي في الشرع انتفاء الجهالة، ولهذا لا يلزم مع الجهالة، ويخبر المشتري عند الرؤية، بخلاف النكاح،

فإنه لا ينافي الجهالة في الشرع، ولهذا يقع لازماً مع الجهالة، ولا يثبت فيه خيار الرؤية، كان ذلك كافياً، لأنه بين تأثير البيع في الشرع (بأنه) ينافي الجهالة، بخلاف النكاح، فإن فرق بينهما بأن النكاح يصح مع فساد عوضه، بخلاف البيع، لم يكفه، (لأن ذلك مما لم تتضمنه علته، ويوضح ذلك: أن الكسر يرد نائباً عن عدم التأثير) لأن الكاسر يدعي أن أحد الأوصاف لا يؤثر، حتى يمكنه (إلزام) مسألة الكسر، فيجب أن يكون دفع ذلك بأن يبين أن علته غير موجودة في مسألة الكسر، فأما إذا بين فرقاً لا تضمنه علته فقد أقر بنقصان علته وأنها احتاجت إلى تمام، فيكون ذلك مفسداً لها. فإن قيل: الغرض للمعلل أن يبعد بين مسألة الكسر ومسألة الخلاف، فبأي شيء باعد جاز. (قلنا): نعم الغرض أن يبعد، (ولكن) بما أودعه علته. فإما بما ليس فيها، فلا يبعد به، لأجل أنه ضمن أن تكون (علته) التي ذكرها كافية في جلب الحكم، فإذا احتاج إلى غيرها فما كفت في جلب الحكم فيبطل غرضه.

فصل فإن كانت مسألة الكسر يقول بها المعلل دون المعترض جاز، ولم يكن للمعلل أن يقول للمعترض: أنت لا تقول بذلك، لأن الكسر نقض (للمعنى)، كما (أن) النقض هو (نقض اللفظ)، ثم يجوز للمعترض أن ينقض علة المستدل بمسألة لا يقول بها المعترض، (كذلك) يجوز له أن ينقض (معنى) علته وهذا، (لأن الغرض أن يبين المعترض لمعلل) أن ما عللت به فاسد عندك، فكيف تدعو إلى الأخذ به وليس للمعترض أن يلزم المعلل ما لا يقول به: أعنى المعترض، إلا النقض والكسر على قول من التزمهما، فأما بقية الأدلة، مثل المرسل ودليل الخطاب والقياس وقول الصحابي، فلا يجوز (له) أن يلزمه ذلك وهو يعتقد فساده. فصل فإن قال ملتزم الكسر: الأصول متعارضة فيما ألزمت، لأن جهالة الصفة لا تمنع صحة النكاح، وتمنع صحة السلم، فلا يلزم ذلك على علتي، لم يكف ذلك، لأنه كسر الكسر، وقد بينا أن الكسر: هو نقض المعنى، فيكفي نقض مسألة واحدة، كما يكفي

في نقض اللفظ، ولا يكفي أن يقول في النقض/184 أفقد اطردت العلة في فروع أخر، كذلك في الكسر. فصل و (قد) ذكر شيخنا (أبو يعلي): فساد الكسر ولم يسمه كسراً، فقال في باب الأسئلة الفاسدة: (اعتراض خامس): وهو أن يبدل لفظ العلة بغيره ثم يفسده نحو قولنا في الصائم إذا أكره على الأكل (والشراب): أن ما لا يفسد الصوم سهوه، لا يفسده إذا كان مغلوباً عليه كالقيء. فيقول المعترض: ليس في كونه مغلوباً عليه أكثر من كونه معذوراً، والمعذور قد يفطر، بدليل المريض إذا أكل (أو شرب)، لمرضه، ثم قال: وهذا فاسد، لأن العذر غير الغلبة، ألا ترى أن العذر بالمرض لا يسلب الاختيار؟، (ولهذا لو استقاء القيء للمرض أفطر، والغلبة تسلب الاختيار)، ولهذا لو غلبه القيء (لم يفطر)، ولأنه نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر، ثم أفسده، وهذا ليس بفساد (للعلة)، وهذا هو نفس الكسر، لأنه كسر علته بالمرض، ثم قد بين أنه فاسد.

فصل (ومما) يشبه الكسر (من) الأسئلة الفاسدة، قوله: لو كان هذا علة في كذا (لكان هذا علة في كذا)، كقول (بعضهم) لمن علل بأنه لم ير شيئاً منه: لو كان عدم الرؤية مانعاً من صحة البيع، لكان مانعاً من صحة النكاح، (أو كما) قيل لمن قال: العلة الطعم: لو كان الطعم علة في الربا، لكان علة في الزكاة، وهذا فاسد، لأنه غير ممتنع أن يكون الشيء علة في (حكم) دون حكم، لأنه يكون في أحد الحكمين نص يعارضه فيسقطه (ولا يكون في الآخر ذلك أو تكون العلة في أحد الحكمين منتقضة دون الآخر) فلا يعترض بمثل ذلك. فصل (ومما) يشبه ذلك قولهم: أنك أخذت النفي من الإثبات (أو الإثبات) من النفي، وهذا لا يجوز، (وذلك مثل

قول بعضهم فيمن وطئت مكرهة أو نائمة: بأن ما أفطرها مع العمد لم يفطرها) إذا كانت مغلوبة عليه كالقيء. فيقول: أنك أخذت نفي إفطارها بالغلبة من إثبات إفطارها بالعمد، وهذا لا يجوز. والجواب: أن مثل ذلك جائز، لأن حكم العمد يضاد حكم الإكراه، لأن هذا يصدر عن اختيار، وهذا يصدر عن عدم الاختيار، فجاز إذا تعلق بالاختيار الفطر، أن (لا يتعلق بعدم الاختيار فطر)، ولهذا يجوز أن يقول صاحب الشرع عليه السلام: "ما تعلق بالعمد لا يتعلق بالإكراه"، وإذا جاز جاز التعليل به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا وصية لوارث"، (فكأنه) لما أثبت له الميراث، نفي عنه الوصية، وكذلك جعل استحقاق خمس الخمس لقرابته مانعاً من استحقاق الزكاة، فجعل الإثبات سبباً في النفي. فصل ومن ذلك أن يجمع المعلل بين الفرع والأصل بعلة،

فيفرق المعترض بينهما بما لا يقدح في العلة. مثال ذلك: قولنا في النبيذ: شراب فيه شدة مطربة أشبه الخمر. فيقول الحنفي: فرق بينهما، لأن الخمر يكفي مستحله ويفسق شارب (قليله)، بخلاف النبيذ، وهذا فاسد، لأن افتراقهما فيما ذكر لا يقدح في العلة، وقد يجوز [مقارنة] الشيء بالشيء في الحكم ويفارقه في غيره، فأما اجتماعهما في علة الحكم فيوجب كونهما سواء (في ذلك الحكم). فصل ومن ذلك أن يقولوا: هذا (استدلال) بالتابع على المتبوع، وذلك لا يجوز، (مثاله): قول أصحابنا في

النكاح الموقوف: أنه نكاح لا يتعلق به شيء من أحكامه المختصة (به)، فكان باطلاً كنكاح المعتدة. فيقول: الأحكام تابعة والعقد متبوع، (فلا) يجعل انتفاء (التابع دالاً على (انتفاء) المتبوع، بل يجعل [انتفاء] المتبوع (دالاً) على انتفاع التابع، وهذا فاسد، لأن الشرع قد استقر على أن النكاح إذا كان صحيحاً ثبت فيه الحل وجميع الأحكام، بدليل سائر الأنكحة، فإذا وجدنا هذا لا تثبت فيه أحكامه ومقاصده، (دل على أنه غير صحيح، ولأنهم قد ناقضوا، وقالوا: ظهار الذمي ويمينه لا يصح، لأن تكفيره لا يصح، والتكفير فرع اليمن).

(الاعتراض السابع) على القياس: القول بموجب العلة. فصل القول بموجب العلة يسقط الاحتجاج بها، لأنها حجة على المخالف فيما ينكره، لا فيما يقول به، العلة على ضربين: أحدهما: أن يستدل بها على إثبات مذهبه. والثاني: أن يستدل بها على إبطال مذهب خصمه، فالأول نوعان: تعليل عام، والثاني تعليل للجواز. فأما التعليل العام: فيكون نفياً وإثباتاً، فأما النفي فكقول أصحابنا في مسألة إزالة النجاسة [بالخل] أنه مائع لا يرفع الحدث، فلم يطهر النجس كالدهن (والمرقة).

فيقول الحنفي: أقول بموجبه في المائع النجس. (قلنا: هذا) ليس بصحيح، لأن التعليل يقتضي نفي (تطهير الخل) للنجاسة بكل حال، فلا يجوز القول بموجبه في حال دون حال، لأن قول ببعض الموجب، والعلة حجة في بقيته (وأما) الإثبات فكعلة أصحابنا في إيجاب القيام على المصلي في السفينة بأن القيام فرض يلزم المصلي في غير السفينة فلزمه (في السفينة) كسائر الفروض. فيقول الحنفي: أقول بموجبه إذا كانت السفينة واقفة، فهذا في الفساد كالذي قبله، لأن العلة ثابته في حال السير والوقوف، فلا يصح القول ببعض موجبها. أما التعليل للجواز: فكقول الحنفي في الزكاة في الخيل: إنه حيوان تجوز المسابقة عليه، فجاز أن يتعلق به وجوب الزكاة كالإبل. (فيقول) المعترض: أنا أقول به، (لأنه يتعلق)

(به) زكاة التجارة. فيقول المستدل: الألف واللام يستعملان للعهد، والذي سألت عنه زكاة الصوم، فالحكم ينصرف إليه. (فقيل): هذا غير صحيح، لأن العلة يجب أن تكون مستقلة بألفاظها غير مبنية على غيرها، (لأنها) حجة في إثبات المذهب، لا تختص بسؤال السائل. وقيل: إن ذلك صحيح، لأنه تفسير لقوله الزكاة، والمعروف المعهود في زكاة الخيل زكاة الصوم، وعنها وقع السؤال. فإن قال: (فالألف) واللام لاستعراق الجنس إذا لم يكن عهداً، فاقتضت العلة إيجاب أنواع الزكاة في الخيل وذلك زكاة الصوم وزكاة التجارة. فقيل في الجواب: إن لام الجنس تقتضي الجنس، ولا يمكن القول به ههنا، فإن أنواع الزكاة كلها لا تجب في الخيل، لأن زكاة العين لا تجب، (وكذلك) زكاة الثياب، فثبت أن الواجب فيها نوع من الجنس فإذا قال به في زكاة التجارة قال بموجب العلة. فصل (وأما) الضرب الثاني: وهو التعليل لإبطال مذهب

خصمه، فكقول أصحابنا في الحج: لا يجب ببذل الطاعة، لأنها عبادة تراد لنفسها، فلا تجب ببذل الطاعة كسائر العبادات. فيقول (الشافعي): أقول بموجب العلة، لأنها (لا) تجب ببذل الطاعة، (وإنما) تجب بالاستطاعة، لأنه لو علم أنه إذا أمره أطاعه لزمه الحج، وإن كان لم يبذل له الطاعة. فيقول أصحابنا: هذا رجوع في السؤال: لأنك سألتني هل يجب الحج ببذل الطاعة أم لا؟ (وهذا) (إقرار) بأن الوجوب يتعلق بالبذل للطاعة، (ثم إذا علم أنه متى أمره أطاعه، فقد علم أنه باذل للطاعة، ولأنه إنما صار مستطيعاً ببذل الطاعة)، فيجب أن يتعلق الوجوب بالبذل.

فصل ومن ذلك أن يستدل على إبطال سبب الحكم عند خصمه مثل قول أصحابنا في الإجارة: لا تبطل بالموت، أكثر ما فيه أن الموت معنى يزيل التكليف، فلا يبطل الإجارة مع سلامة المعقود عليه كالجنون. فيقول الخصم: أنا أقول بموجبه، لأنها لا تبطل وإنما تبطل بانتقال الملك، ولهذا لو أجر دار/185 أغيره بوكالة ومات لا تبطل. فيقول المستدل: هذا رجوع في السؤال، لأنك سألتني هل تبطل الإجارة بالموت؟ والثاني: أن تعليلي أن لا تبطل به، ولا يكون سبباً فيه، (فعندك) وإن لم تبطل بالموت إلا أن الموت سبب فيه، لأن به ينتقل الملك، فيبطل العقد. والثالث: أنه لو بطل بانتقال الملك لوجب إذا أجر (العين) المؤجرة أن تبطل الإجارة. فصل فإن قال المعترض: أنا أقول بموجب العلة في الأصل لم يصح، لأن التعليل وقع لإثبات حكم في غير الأصل، لأن الأصل ثبت

الحكم فيه، بدليل آخر، ولأنه لو صح تسلم (العلة). فصل فإن قال: أقول بموجب العلة. فقال المستدل: أقيس على الموضع الذي قلت فيه بموجب العلة (وتسقط) عني عهدة ذلك، لم يستقم ذلك، لأن أصله، قاس عليه، وما عدا ذلك فرع، فإذا قال بموجبه سقطت الحجة من العلة. الاعتراض الثامن: فساد الاعتبار. ويقع ذلك من جهة النص ومن جهة الأصول، فالذي من

جهة النص مثل: أن يعتبر حكماً بحكم، قد ورد (النص بالتفرقة) بينهما وذلك مثل قول أصحاب أبي حنيفة في يسير الدم الخارج من غير السبيلين أنه (ينقض) لأنه دم خارج من البدن فنقض الوضوء أصله الكثير. فيقول أصحابنا: اعتبرت يسيره بكثيره، وقد ورد النص بالتفرقة بينهما، قال عليه السلام: "ليس الوضوء في القطرة والقطرتين من الدم، وإنما الوضوء في كل دم سائل". وكذلك قياسهم بول الغلام على الجارية في وجوب الغسل.

يقال: هذا اعتبار فاسد، لأن النص فرق بينهما، قال عليه السلام في حديث أبي السمح: "كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بحسن أو بحسين، فبال عليه، فجئت لأغسله، فقال: يغسل بول الجارية ويرش بول الغلام". والجواب: عن مثل هذا: أن يبين صحة اعتباره ويتكلم على الخبر، ليسلم له (اعتباره)، (وهذا) معنى قولهم: هذا

قياس المنصوص على المنصوص، فيفضي إلى إسقاط أحدهما. فصل وقد ألحق الحنفية بذلك: حمل المطلق على المقيد، كما قسنا كفارة الظهار في اشتراط الإيمان على كفارة القتل، وهذا غير صحيح، لأن هناك لم يفرق بينهما النص، بل أوجب الإيمان في كفارة القتل، ولم يذكره في الظهارة، فقسنا ما لم يذكره على (ما ذكره) وصرح به. فصل وأما الذي من جهة الأصول فمثل: أن (نعتبر) حكماً بنى على التوسعة، بحكم بنى على التضييق وبالعكس، وذلك مثل: اعتبار الكفارة في رمضان بالقضاء، (ومثل): اعتبار القطع في السرقة/185 بضمان المال، (أو نعتبر) قليل النجاسة بكثيرها، فنقول الأصول: فرقت بين القليل والكثير بدليل العمل في الصلاة.

والجواب: على طريقين: أما من يوجب الدليل على صحة العلة (في الأصول)، ولا يكتفي فيها بالطرد، ولا سلامتها على الأصول، وهو الصحيح عندنا، فلا يلزمه الجواب عن ذلك، لأن الدلالة إذا دلت على صحة العلة في الأصل، (وكانت) موجودة في الفرع وجب اجتماعهما في الحكم، وما ذكره من التوسعة والتضييق واختلاف القليل والكثير (فذلك) حكم آخر، لم (توجد) علة ذلك الحكم فيه فلم يضر. وأما الطريق الثاني: على قول من يدل على صحة العلة بطردها وسلامتها، فيجيب عن ذلك: بأن الأصول منقسمة منها ما يستوي فيه حكم القليل والكثير، وما بني على (التضييق) مع ما بنى على التوسعة، ويبين ذلك، فيسلم له اعتباره. فإن قيل: العلة إذا خالفت بعض الأصول كفى في (فسادها) وإن وافقت بعضها، ألا ترى أن العلة تنقض بمسألة وإن كانت جارية في غير تلك المسألة. (قلنا): النقض يمنع كون الوصف (من) علة

الحكم، على قول من جعل من شرط العلة الطرد، ومن لم يجعل من شرطها الطرد، فلا يسلم ذلك، فيسقط السؤال، بخلاف هذه العلة، فإنه يفسد اعتبارها إذا خالفت جميع الصول، فأما ما إذا وافقت بعضها فلا يضرها مخالفة بعضها. فإن قيل: إلا أنه إذا خالف بعضها وجب تقديم المخالفة كما يقدم الجرح على التعديل. قلنا: إنما قدم الجرح، لأن ما يوجب الجرح (يستتر به) في العادة، وما يوجب (التعديل) له يظاهر به، فمن شهد بالجرح، فقد شهد بمعنى خفي على من شهد بالعدالة، بخلاف هذا، فإنه فرع قيس على أصل بمعنى صحيح، (فليس) كل الأصول ترد ذلك المعنى، فلم يكن ما خالفه مؤثراً فيه. فصل فإذا اعتبر فرعاً بأصل، وهما مختلفان في نظائر الحكم كاعتبار الصبي بالكبير في إيجاب الزكاة، وهما مختلفان في الصلاة والصوم والحج، وكاعتبار (المرأة بالرجل) في القتل بالردة، وهما مختلفان في القتل في الكفر الأصلي. فجواب ذلك أن يبين أن ما ألزمه (ليس) نظيرا

(للحكم)، بل نظير ذلك ما (ذكرناه)، وهما يتفقان فيه. فصل فإن قال: اعتبر المتقدم بالمتأخر، وهذا لا يجوز، كاعتبار أصحابنا الوضوء بالتيمم في إيجاب النية. فيقول الحنفي: التيمم شرع بعد الوضوء، والنية واجبة في الوضوء قبله، فلا يجوز أن يعتبر به، ويؤخذ (حكمها) منه. والجواب: أن علل الشرع أمارات وأدلة، ثم (الأدلة) يجوز أن يتأخر (بعضها) عن المدلول، ولهذا استدللنا بأفعال الله

سبحانه وتعالى المحدثة على قدمه تعالى، واستدللنا بالمعجزة المتأخرة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكذلك لما وجدنا الله سبحانه (وتعالى): شرح التيمم وهو طهارة حدث، ومن شرطه النية، دلنا على (أنه) شرع الوضوء كذلك. فصل فإن قال: اعتبرت الفرع بأصل آكد منه، كاعتبار أصحابنا الاستنجاء في وجوب الإزالة (بسائر) البدن، (إذا كان عليه نجاسة)، فيقال لهم: (نجاسة بسائر) البدن آكد حكماً، ولذا يجب إزالتها بالماء بخلاف موضع الاستنجاء. والجواب (عنه): أن العلة الموجبة للإزالة يشترك فيها الأصل والفرع، فوجب اعتباره به، وتأكد الأصل في حكم آخر، لا يمنع القياس، لأن (الأصل) (يكون) أقوى من (الفرع)، فإنه يثبت بالنص، أو يقع الإجماع على حكمه، ولا يمنع ذلك القياس عليه.

الاعتراض التاسع: فساد الوضع: وهو أن يعلق على العلة ضد ما (تقتضيه)، ويعرف ذلك من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من جهة الأصول فأما ما عرف من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم (فمثل): (قول) أصحابنا في تنجس أسآر السباع: إنه سبع ذو ناب فكان سؤره نجساً كالكلب والخنزير. فيقول الشافعي: كونه سبعاً جعل في الشرع علة في الطهارة بدليل ما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعى إلى دار قوم فأجاب، ودعى إلى دار قوم فلم يجب، فقيل له: دعاك فأجبت ودعا فلان فلم تجب، قال: في دار فلان كلب، قيل له: ففي دار فلان هرة، فقال: الهرة سبع، فجعل كون الهرة سبعاً علة (للطهارة) فلا يجوز أن يجعله علة للنجاسة.

والجواب: أن يبين/186 ب المستدل أن هذه الزيادة لا تعرف، والدلالة على ضعفها: أنه تناقض، لأن الكلب والخنزير سبعان أيضاً، وفي الجملة يتكلم على الخبر بما يسقطه، ليسلم له صحة وضع العلة. فصل (وأما) ما عرف من جهة الأصول. فكقول أصحابنا في قتل العمد: أنه معنى أوجب القتل، فلا يوجب الكفارة كالردة. فيقول الخصم: علقت على العلة ضد المقتضى، فإن كونه موجباً للقتل (سبب للتغليظ)، فلا يجوز أن يجعل سبباً للتخفيف بإسقاط الكفارة. والجواب: أن يبين (المستدل) أن ما علق عليه هو وفق المقتضى، لأن العمد إذا تغلظ بإيجاب القصاص وهو (الغاية) في العقوبة، لم يجز أن يتغلظ بمعنى آخر، ألا ترى أن الردة لما أوجبت القتل لم تتغلظ بمعنى آخر؟ وكذلك الزنا في الإحصان على

قولهم، وعلى رواية لنا، ولا يجوز أن يقال في جواب هذا يبطل بالأصل، وهو الردة، فإنه لما تغلظ بالقتل لم تجب الكفارة، لأن الخصم لم يعلل بأن وجوب القتل (موجب للكفارة)، فيبطل عليه بالردة، وإنما قال: (إن) العمد سبب للتغليظ بالإيجاب، فلا يجوز أن يعلق عليه التخفيف بالإسقاط. (والاعتراض) العاشر: أن يقال هذه العلة (يعترض) على أصلها، فلا يصح، وذلك مثل: أن يعلل الحنفي في انعقاد التحريم بلفظ التعظيم، لأنه لفظ يقصد به التعظيم، فانعقد به تحريم الصلاة كلفظ التكبير. فيقول المعترض: هذه العلة تعود على أصلها بالإبطال، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "تحريمها التكبير" فحصر انعقاد تحريمها بلفظ التكبير، فمتى اخترنا غيره أسقطنا حصره (للأصل) بالتكبير (فأسقطنا) العلة وراعينا النص.

وجواب هذا (وما أشبه): أن يتكلم على الخبر بأن (يثبت) أنه لا يقتضي الحصر، لتبقى علته. الاعتراض الحادي عشر: القلب: وهو في الحقيقة معارضة إلا أنه (تميز من بين) المعارضات بهذا الاسم، لأنه عارضه بعلته في أصله فجعل علة المستدل التي كانت حجة عليه حجة له، وهذا قلب المعنى الذي قصده المستدل، بخلاف بقية المعارضات، فإنه يقابل العلة بعلة أخرى، خلافاً لبعض الشافعية في قوله: القلب إفساد، وليس بمعارضة، /187 أفيفيد ذلك، أن لا نتكلم عليه، بما نتكلم على العلة المبتدأة.

دليلنا: أن القالب ذكر العلة الصالحة (لحكمه) التي دل على صحتها أحد الدلائل على صحة العلة، فكان معارضاً كما لو بدأ بعلة لحكمه ذلك، (أو ابتدأ) بتلك العلة قبل أن يعلل بها خصمه، وإذا ثبت هذا جاز أن يتكلم عليها (بما يتكلم به) على العلل المبتدأة. واحتج المخالف: بأن العلة الواحدة لا يجوز أن يتعلق عليها حكمان (متضادان، فإذا وجدنا ها هنا قد تعلق عليها، ذلك دل على أنها فاسدة). والجواب: أنه لا يجوز أن يكون القلب لحكمين متضادين من كل وجه، وإنما يكون لحكمين، لا يمكن الخصم أن يجمع بينهما لمعنى آخر. مثال ذلك: أن يحتج شافعي على حنفي في مسح الرأس: بأنه عضو من الأعضاء من أعضاء الطهارة (فلم يتقدر) بالربع كسائر الأعضاء لم يصح، لأنهما حكمان متضادان في الأصل من كل وجه، لأنه لا يجوز أن يكون الأصل يتقدر بالربع، فأما أن قلب بأن قال: (فلا يجزي عليه) ما يقع عليه الاسم كسائر

الأعضاء صح، لأن الأصل قد اجتمع فيه، أنه لا يتقدر بالربع ولا يجزي فيه ما يقع عليه الاسم، ولا يمكن أحدهما أن يجمع بين الحكمين، فكانت الحجة مشتركة بينهما، ولابد أن يكون لتعلق أحد الحكمين (بهذه العلة)، (ترجيح) على الآخر فيرجح به، فتكون علته متقدمة، أو متوجه على أحدهما في (جلب حكمها) إفساد، وتسلم (علة) الآخر، كما نقول في العلتين المتعارضتين سواء. فصل إذا ثبت هذا فهي معارضة صحيحة يلزم جوابها. وقال بعض الشافعية: ليست صحيحة ولا يلزم جوابها. لنا: أن القالب احتج على المستدل بعلة في حكم، لا يمكن المستدل أن يجمع بينه وبين حكمه، (فلزمه) الجواب (عنه) كما لو عارضه بعلة من أصل آخر.

(ودليل آخر): إذا جاز أن يستدل المسؤول بلفظ (آخر عن الرسول) عليه السلام، ثم يشاركه السائل في الاحتجاج بذلك (اللفظ جاز أن يستدل بعلة، ويشاركه السائل في الاحتجاج بها)، بيان (ذلك) أن الحنفي: استدل في مسألة الساجة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وفي نقض (بنيانه) ضرر فوجب أن يمنع النقض.

فقال أصحابنا: ففي منع المغصوب من أخذ عين ماله مع بقائه وهو الساجة ضرر وإضرار (أيضاً)، فيجب أن يمكن من الأخذ، فإن ذلك احتجاج صحيح لكل واحد منهما في الخبر، كذلك في العلة (أيضاً)، وقلبها. واحتج المخالف/187 ب: بأن القلب لا يمكن إلا بفرض مسألة على المستدل، وليس للسائل فرض مسألة على المستدل، وإنما للمستدل أن يفرض مثاله: أن يقول الحنفي في الاعتكاف بغير صوم: لبث في مكان مخصوص فلا يكون بمجرده قربة أصله الوقوف بعرفة. فيقول الخصم: أقلب، فأقول: فلم يكن من شرطه الصوم، (أصله الوقوف، فالمستدل فرض الكلام بقلبه في الاعتكاف ليس من شرطه الصوم). فالأول فرض في إبطال مذهب خصمه. والثاني (فرض في صحة مذهبه، وأنه) ليس من شرط الاعتكاف الصوم، وهذا لا يجوز. والجواب: أنه يبطل بالمشاركة في دلالة الخبر على ما بينا، فإنه جائز وهو مسألة على المستدل.

وجواب آخر: أن هذا ليس بغرض مسألة، ولكنه مشاركة في علته، وأصله في معنى الحكم الذي فرض (فيه)، ألا ترى أنه لا يمكنه أن يجمع بينه وبين حكمه؟، وذلك يوجب نفي حكمه، فإذا انتفى ثبت الحكم الآخر بالعلة، بيان ذلك أنهما اتفقا على أن غير الصوم من العبادات - لا يشترط في صحة الاعتكاف، وذلك إجماع، فإذا نفى القالب بقلبه وجوب الصوم، (واشتراطه) في الاعتكاف لم يبق إلا أن يكون الاعتكاف قربة بنفسه، لأنه عبادة ورد الشرع بها، (فقد صار) كأنه أثبت كونه بانفراده قربة، فانتفى قول المستدل، فلم يكن بانفراده قربة وصار ذلك كما لو عارضه بعلة أخرى، حكمها ضد حكمه، فإنه يلزمه الكلام، فإن عجز بطل استدلاله، ولا يكون ذلك فرض مسألة على المستدل. فإن قيل: فلو كان كما ذكرت لما صح القلب، لأن الحكم وضده لا يجتمعان في (أصل) واحد وعلة واحدة. (قلنا): إنما لا يجتمع الشيء وضده إذا صرح به، مثل أن يقول أحدهما: فكان من شرطه الصوم. ويقول الآخر: فلم يكن من شرطه الصوم، لأن النفي والإثبات لا يجتمعان، فأما حكمان مختلفان، فإنه يجوز اجتماعهما،

وإن كان (أحدهما) يؤدي إلى نفي الآخر بضرب من الاستدلال على ما تقدم بيانه. فصل إذا ثبت هذا (فهو) يتنوع ثلاثة أنواع أحدها: القلب بحكم مقصود غير حكم المعلل، ومثاله ما ذكرنا، وجوابه: أن يتكلم عليه بكل ما يتكلم على المعلل من وجوه الإفساد/188 أ، ويكثر فيه أن يقول هذه الأوصاف غير مؤثرة، لأنك لو قلت: فعل فلم يكن من شرط صحته الصوم كسائر الأفعال من القيام والقعود، والمشي وغير ذلك كفى. فصل والنوع الثاني: قلب التسوية، وذلك مثل أن يقول الحنفي في طلاق المكره: أنه طلاق من مكلف صادف ملكه، فوجب أن يقع كالمختار. فيقول المعترض: أقلب (وأقول): فوجب (أن لا يستوي) حكم إيقاعه وإقراره كالمختار، فقد اختلف القائلون بصحة القلب في هذا.

فقال بعضهم: إنه صحيح، وقال بعضهم: ليس بصحيح، فالدلالة على صحته: إن المبتديء بالعلة منهما لا يمكنه الجمع بين حكمه وحكم القالب، فصار كما لو كان مصرحاً بالحكم. (ودليل آخر): أن الأصل والفرع في الحكم المعلق (على العلة) سواء لأن الحكم: التسوية بين الإيقاع والإقرار دون صحته وفساده، وهذا حكم صحيح يجوز أن ينص عليه صاحب الشرع، فيقول: الإيقاع والإقرار يستويان فكل موضع صح في أحدهما صح الآخر، وكل موضع فسد أحدهما فسد الآخر، ويدل عليه: أنه لو صرح بالحكم لصح القياس وإن كان حكم الأصل مخالفاً لحكم الفرع في التفصيل، (فكذا) هاهنا إذا اتفق الأصل والفرع في حكم العلة يصح، وإن اختلفا في التفصيل. واحتج المخالف: بأن حكم الفرع مخالف لحكم الأصل، لأن الاستواء في الفرع يريد به في عدم الصحة، وفي الأصل في الصحة، فحكم الأصل والفرع متضادان، فلم يجز ذلك. والجواب: أن حكم الأصل: هو التسوية، وقد وجد ذلك في الفرع، وإنما يختلفان في كيفية التسوية، وكيفية التسوية حكم غير التسوية، يدلك عليه: (وهو) أن يجوز أن يرد الشرع بوجوب

التسوية بين الإيقاع والإقرار فينقطع (منه) حكم الاجتهاد، لكن يبقى الاجتهاد في كيفية التسوية، هل هي في الصحة أو في البطلان أو فيهما فبان أن الكيفية غير التسوية، فلا يلزم استواء الأصل والفرع في الكيفية. واحتج: بأن المقصود من القلب معارضة المستدل ومساواته في الدليل، وقلب التسوية لا يساوي القالب فيه للمستدل، لأن المستدل صرح بالحكم، والقالب أبهم الحكم، والمصرح به أولى من المهم أبداً. والجواب: أن هذا مع إبهامه لا يمكن المستدل أن يجمع بينه وبين حكمه، فنافاه، وصار كالحكم المصرح به في النوع الأول من القلب، فإذا ثبت هذا - فالجواب أن يتكلم عليه بكل ما يتكلم به على العلل والذي يختص به (أن يقول): لا يجوز التسوية بين الإيقاع والإقرار، لأن الإقرار يدخله الصدق والكذب، بخلاف الإيقاع، فإنه إذا وجد وقع. فصل والنوع الثالث من القلب: يصح أن يجعل المعلول علة

والعلة معلولاً: كقول أصحابنا في ظهار الذمي: من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم. فيقول الحنفي: أجعل المعلول علة والعلة معلولاً، فأقول: المسلم إنما صح طلاقه، لأنه صح ظهاره، ومتى كان الظهار علة الطلاق لم يثبت ظهار الذمي بثبوت طلاقه فقال أصحابنا رضي الله عنهم: هذا لا يمنع الاحتجاج بالعلة وهو قول أكثر الشافعية. وقال قوم: لا يصح أن يكون علة، وهذا قول الحنفية بوضع المتكلمين. (فالدلالة) على صحة ذلك: أن علل الشرع أمارات على الأحكام بجعل جاعل ونصب ناصب، وهو صاحب الشرع عليه السلام، وغير ممتنع أن يقول صاحب الشرع: من صح طلاقه فاعلموا أنه يصح ظهاره، ومن صح ظهاره فاعلموا أنه يصح طلاقه فأيهما ثبت منه صحة أحدهما حكمتا بصحة الآخر منه، وجرى هذا مجرى ما أمر به من التسوية بين الأولاد في العطاء، وبين النساء في القسم، فإذا رأينا المسلم المتحري لدينه قد أعطى أحد ولديه شيئاً، (دل على) أنه أعطى الولد الآخر (مثله)، فإذا بات عند امرأة دل على أنه بات عند الأخرى، فيكون (وجود) ذلك في حق أحدهما أمارة على وجوده في حق الآخر، كذلك ها هنا.

فإن قيل: هذا هو الحجة عليكم، لأن الدفع إلى الأول علة في الدفع إلى الثاني، وليس الدفع إلى الثاني علة في الدفع إلى الأول، وكذلك في القسم، فبان: أنه لا يجوز أن يكون كل واحد منهما علة الآخر، وأنتم تجعلون هاهنا كل واحد منهما علة الآخر. (قلنا): نقول في مسألتنا: إذا ثبت صحة الطلاق من شخص ثبت صحة ظهاره، وإذا ثبت صحة الظهار (من شخص) ثبت صحة طلاقه، فيكون السابق في الثبوت علة الآخر. واحتج المخالف: بأنه إذا جعل كل واحد منهما (علة الآخر، وقف ثبوت كل واحد منهما على ثبوت الآخر، فلا يثبت واحد منهما)، كما لو قال: لا يدخل زيد الدار حتى (يدخله) بكر، ولا (يدخله) حتى يدخل زيد، فلا يمكن دخول واحد منهما، كذلك ها هنا. (والجواب): أن هذا يعتبر في العلل العقلية، لأن الحكم (لا يثبت) في العقل بأكثر من علة واحدة، فإذا جعل كل واحد منهما علة الآخر، وقف كل واحد منهما على الآخر فاستحال ثبوتها، فأما في (الأحكام الشرعية)، فإنه يجوز أن يثبت

الحكم الواحد بعلل، فإذا جعل كل واحد منهما علة (للآخر)، لم يقف ثبوت أحدهما على الآخر، بل يثبت بطريق آخر، فيستدل به على الحكم الآخر، ألا ترى أن ما ذكروه من دخول زيد وبكر لما لم يجعل لكل واحد منهما طريق غير دخول الآخر، امتنع دخولهما، (فلو) قال: إن دخل زيد فليدخل (بكر)، وإن دخل (بكر) فليدخل زيد، متى دخل أحدهما بسبب، كان دلالة على دخول الآخر، كذلك (ها هناك). فإن قيل: العلل وإن كانت أمارات إلا أنها بمنزلة العلة العقلية، ولهذا لا يجوز تخصيصها، كما (لا) يجوز تخصيص الألفاظ، وبهذا فارق عطية الأولاد والنساء، فإنها تثبت من جهة العادة لا من جهة العلة. (والجواب): أنها أمارة ويجوز تخصيصها عندنا، فسقط ما ذكرت. واحتج: بأنكم إذا جعلتم كل واحد منهما علة في الآخر، جعلتم الموجب للحكم موجباً بالحكم، وهذا لا يصح. والجواب: أنا لا (نجعل) كل واحد منهما موجباً بالآخر،

وإنما نجعله أمارة على الآخر، وذلك جائز، ألا ترى أنه يجوز أن يصرح الشرع به، وقد بينا ذلك، ولأنه إذا كان طريق ثبوتهما واحداً جاز أن يكون أحدهما أمارة على الآخر، ولهذا من له ولد أن يدل ثبوت الإرث لأحدهما على ثبوته للآخر، لأن طريق ثبوتهما الولادة، كذلك الطلاق والظهار طريق ثبوتهما واحد وهو النكاح فجاز أن يجعل أحدهما علماً على الآخر. وجواب آخر: وهو أن علتنا تتعدى، فتفيد حكماً وهو/189 ب ظهار الذمي، وعلة السائل لا تتعدى وغير المتعدية باطلة عند بعضهم، وعند الجميع المتعدية أولى منها فكانت علتنا أولى بالتقديم. (والجواب آخر): أن الطلاق سابق للظهار، لأنه كان موجوداً قبل الشرع، فجاز أن يجعل علة في الظهار، والظهار ثبت حكمه في الشرع فهو متأخر، فلا يجوز أن (يؤخذ) منه حكم الطلاق، كما قالوا: (أنه) (لا يؤخذ) حكم الوضوء في النية من التيمم، لأن التيمم متأخر عن الوضوء، على أنه إذا علل: بأن من صح ظهار صح طلاقه لم يؤثر، فإن الذمي لا يصح ظهاره وطلاقه صحيح. فصل ومما يلحق بالقلب، وليس بقلب، وإنما هو معارضة:

أن يستدل أصحابنا في جواز تقديم الكفارة (على الحنث)، بأنه كفر بعد اليمين أشبه إذ كفر بعد الحنث. فيقول الخصم: أقول: كفر قبل الحنث أشبه إذا كفر قبل اليمين. وجواب هذا: أن يتكلم عليه بكل ما يتكلم به على المعارضات. الاعتراض الثاني عشر، وهي على ضربين: معارضة بنطق، ومعارضة بعلة.

فأما النطق: فهو الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابة على ما بينا من الاختلاف. والجواب: أن يتكلم على هذه المعارضة بما (ذكرنا) من الاعتراضات على هذه الأدلة، ليسلم له قياسه. فأما المعارضة بعلة: فهي على ضربين، معارضة بعلة مبتدئة

من غير أصل المعلل، مثل: (قولنا): طهارة فلا (تصح) بالخل كالوضوء. فيقول المخالف: أعارض بأنها عين أمر بإزالتها، لأجل (عبادة) فجاز إزالتها بالخل كالطيب في ثوب المحرم. فللمستدل أن يتكلم عليها بأحد الوجوه المفسدة للعلل لتبقى علته، أو يرجح علته بما (سيأتي) ذكره من الترجيحات في العلل إن شاء الله. وأما الضرب الثاني: فهو أن يعارضه بعلة من أصله وهو الفرق، فلا يخلو أن يعارضه بعلة واقفة، وعلة المستدل

جارية مثل تعليل أصحابنا ظهار الذمي: بأنه شخص يصح طلاقه فصح ظهاره كالمسلم. فيقول الحنفي المعنى في (المسلم): أنه يصح منه التكفير بالصوم. فيقول المستدل: هذه علة واقفة، وهي لا تصح/190 أ، وإن كان ممن يصحح العلة الواقفة. قال: لا يصح عندك. وأما أنا أقول بالعلتين في الأصل لأن حكم هذه العلة لا ينافي علتي، فلا يمنع تعليق الحكم بها، بل يعلق الحكم بكل واحد منهما في الأصل، وتكون علتي متعدية إلى الفرع المختلف، فيثبت الحكم فيه، وغير ممتنع أن يثبت الأصل بعلتين، والفرع بعلة واحدة منهما. فإن قيل: إذا أقررت بأن الحكم في الأصل يجوز أن يتعلق (بعلة) (لا توجد) في الفرع، فلا يثبت الحكم (للفرع). (قلنا): ولِمَ؟ وليس من شرط العلة العكس، فيجوز أن

يثبت الحكم بعلة، ويثبت في عكسها وذلك الحكم بعلة أخرى. فإن قيل: قد أقررت بصحة علتي، والحك يستقل بها، (فإن) ادعيت علة أخرى فثبتها بالدليل. قيل: هذا مطالبة بتصحيح العلة وكان يجب تقديمه فإذا عارضت، ثم عدت تطالب، خرجت عن مقتضى الجدل، وتركت الاعتراض المعارضة إلى سؤال آخر وكذلك إذا استدل أصحابنا في الجديد: أنه موزون جنس، فلا يجوز التفاضل فيه، أصله الذهب والفضة. فيقول المخالف: الذهب) ثمن وهذا بخلافه، فيقول: أنا أقول أن الأصل يثبت بعلة (الوزن) وبعلة الثمنية غير أن أحدهما تعدى دون الآخر. وأما إن عارضه بعلة متعدية، فلا يخلو أن يكون متفقاً عليها، مثل أن يستدل أصحابنا في الطلاق قبل النكاح، بأن من لا يملك الطلاق المباشر لا ينعقد له صفة الطلاق كالمجنون. فيقول الحنفي: المعنى في الأصل: أنه غير مكلف، وهذا مكلف أضاف الطلاق إلى ملكه. والجواب عن هذا: أن يقابل علة الأصل بمثلها في التأثير في الحكم، وذلك أن نقول: إن كان في الأصل لم يصح منه، لأنه

غير مكلف، فهذا غير مالك، ولا فرق في الأصول بين غير المكلف وبين غير المالك، ألا ترى أن من لا يملك البيع كمن هو غير مكلف في أن بيعهما لا ينفذ؟. والثاني: أن يبين أنه في الحكم كالمجنون، ألا ترى أنهما في الطلاق المباشر يستويان، فإن كانت العلة التي (عارض) بها (مختلفاً) فيها؟، مثل أن يستدل أصحابنا في الأشنان بأنه مكيل جنس فأشبه البر. فيقول الشافعي: المعنى في البر أنه مطعوم جنس، وهذا ليس بمطعوم جنس. والجواب (عن هذا): أن يبين أن الطعم لا يجوز أن يكون علة/190 ب، لأنه لا يوجد الحكم بوجوده، ويعدم بعدمه، وهو صحة العقد، فإذا وجد التساوي في الكيل صح العقد وإن وجد التفاضل في الطعم، وإذا عدم التساوي في الكيل بعلل العقد، وإن وجد التساوي في الطعم ولأن التعليل بالطعم يعود على أصله بالإبطال وما أشبه ذلك لتسلم علته.

فصل فإن كان الفرق بحكم من أحكام الفرع، مثل أن يقول الحنفي في سجود التلاوة: أنه سجود يجوز فعله في الصلاة، فكان واجباً (كسجود الصلاة). فيقول الحنبلي: المعنى في سجود الصلاة: أنه لا يجوز فعله على الراحلة من غير عذر، (بخلاف سجود التلاوة، فإنه يجوز فعله على الراحلة من غير عذر، فهو) كسجود النفل فيتكلم على هذا بكل ما يتكلم على العلل في الأصل والفرع، وإن شاء بين: أنه إنما جاز فعله على الراحلة، لأن سببه وجد على الراحلة بخلاف سجود الصلاة، فإن سببه لم (يوجد) على الراحلة، فكذلك لم يجز فعله على الراحلة. فصل فإن عارضه بعلة معلولها داخل في معاول علته، لم يصح، وذلك مثل: أن يعلل أصحابنا في حرمان ميراث الصبي بالقتل: بأنه قاتل فأشبه البالغ. فيقول الحنفي: البالغ متهم بالقتل في استعجال الميراث، فقد

عارضه بعلته وزيادة، لأنه يعلل بأنه متهم بالقتل، (ولا يكفي) مجرد التهمة، ألا ترى أنه لو حفر بئراً ليقع فيها (إنسان)، فلم يقع)، ومات بسبب آخر، لم يحرم الميراث؟ ومثل قولهم أيضاً في كفارة الظهار: أنه لا يجوز دفعها إلى فقير واحد، بأنه فقير استوفى قوت (يومه) من الكفارة، فلا يجوز أن يدفع إليه مع وجود (المساكين)، كما لا يجوز في اليوم الأول. فيقول الحنفي: في اليوم الأول استوفى قوت يومه، وفي اليوم الثاني لم يستوف قوت يومه، فهذه العلة داخلة في علة أصحابنا: أن يومه المعرف داخل في اليوم المنكر، فلا تصح المعارضة، ومثل أن يعلل مالك بالقوت في (الربوي). فيقول الشافعي: القوت داخل في علتي وهي الطعم. فصل لا تحتاج علة الأصل إلى أصل ترد إليه، لأن حكم الأصل ثبت بالنطق، والعلة المستنبطة منه، فإن كان الأصل ثبت فيه الحكم

بالقياس في قول من أجاز القياس على الثابت بالقياس/191 أ، فإنما نقيس علته بغير العلة التي أثبت حكمه بها، وتكون علة الأصل التي أثبت (حكمه) بها جارية مجرى النطق فيه، لأن القياس دليل شرعي، فجرى مجرى النطق، فإن قاس (عليه) بالعلة التي ثبت الحكم في الأصل بها لم يكن صحيحاً، لأن القياس يجب أن يكون على أصل تستخرج منه العلة دون أفرع من فروعه، لأن الذي قيس عليه مقاس على الأصل الذي انتزعت منه العلة، فلا يكون (أحدهما) فرعاً للآخر بأولى من أن يكون الآخر فرعاً له، فلهذا لم يصح، فأما علة الفرع فلابد لها من أصل يقاس عليه، لأن الفرع ما ثبت حكمه بغيره. فصل وليس من شرط صحة المعارضة أن يعكسها في الفرع،

ويجوز أن يذكر علة في الأصل، ويذكر في الفرع علة أخرى، وقال بعضهم إن لم يعكسها في الفرع لم يحصل الفرق، لأنه يمكنه أن يقول بالعلتين في الأصل، وهذا فاسد، لأن العلة التي ذكرها في الأصل لا يجوز وجودها في الفرع، لأنه منع إلحاق الفرع بالأصل، فلا يكون (فرعاً) للأصل إذا لم توجد علته فيه، ثم يذكر علة الفرع وليست موجودة في الأصل، فلا يكون أصلاً له، فقد حصل الفرق، فإما أنه يمكنه القول بها في الأصل، فليس بصحيح، لأن علة الأصل التي لم يعكسها يجوز أن تكون منتقضة على أصل المعلل، لأنها تتعدى إلى فرع لا نقول بها، وإنما (يصح) ذلك في العلة الواقفة، ولأن المعارض لابد أن تكون العلة منعكسة على أصله، وإنما يعدل عن عكسها في الفرع، (لأن المستدل لا يسلم له حصول العكس في الفرع) وذلك يكون في العلة إذا كانت صفة شرعية، أو حكماً شرعياً، وبيان ذلك: أن يعلل حنفي في طهارة جلد الكلب

بالدباغ: بأنه حيوان يجوز الانتفاع في حال الحياة، فطهر جلده بالدباغ كالشاة والبعير والفهد، فيقول المعنى (في الأصل) أنه يجوز بيعه في حال الحياة، وهذه العلة منعكسة عند المعارض، إلا أن المستدل لا يسلمها فيحتاج أن يعلل بعلة أخرى. فيقول: بخلاف الكلب فإنه/ 191 ب نجس العين في حال الحياة، لأنه لو قال: بخلاف الكلب: فإنه لا يجوز بيعه لم يسلم الحنفي أنه لا يجوز بيعه، لأن عنده يجوز بيعه، وإنما لم يشرط العكس في العلة، لأنها إذا (قامت) عليها الدلالة بما ذكرنا من الكتاب، والسنة، والإجماع والتأثير، وشهادة الأصول على صحتها لم يضرها أن لا تنعكس، حتى إن العلة العقلية لا يشترط فيها الانعكاس، وإنما يحتاج في الحدود إلى الانعكاس، لأن الحدود جامعة مانعة بخلاف العلل فإنها تبني على ذلك. والله أعلم (بالصواب).

باب ترجيح المعاني

باب ترجيح المعاني الترجيح: تقوية إحدى العلتين على الأخرى، ولا يصح الترجيح بينهما إلا أن تكون كل واحدة منهما طريقاً للحكم لو انفردت، لأنه لا يصح ترجيح طريق (على) ما ليس بطريق. والفائدة بالترجيح: تقوية الظن الصادر عن إحدى العلتين عند تعارضهما، فإذا ثبت هذا، فالترجيح يحصل بوجوه منها: أن تكون إحداهما موافقة لعموم كتاب الله، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو قول الصحابي، فأما موافقتها لكتاب الله، فمثل تعليل أصحابنا في العاقلة: أنها لا تحمل بدل العبد، بأن العبد (مال) يجب بإتلافه قيمته، فلا تحمله العاقلة، كسائر الأموال.

ويعلل الخصم: بأنه يتعلق بقتله القصاص، والكفارة فهو كالحر، فترجع علتنا لموافقتها (قوله تعالى): {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ويرجحون علتهم بأن رد العبد إلى الحر أولى، لأنه من جنسه وشكله، فيكون ترجيحنا أولى، لأن عموم القرآن أولى من السنة، ولأن الجناية أبداً تتعلق بمن صدرت منه، ولكن جعل في دية الحر على العاقلة لإطفاء الثائرة. فصل (وأما) موافقتها للسنة، فكتعليل أصحابنا لاعتبار التساوي في حال الادخار في بيع الرطب بالتمر: بأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض كيلا، على وجه ينقص أحدهما في حال ادخاره، فلم يجز، أصله بيع المبلولة باليابسة (والمقلية) بغير المقلية،

ويعللون/192 أ،: بأنهما تساويا في الكيل حال العقد أشبه الحديثة بالعتيقة فتكون علتنا أولى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا يبس، قال نعم. قال: فلا، إذا" فاعتبر حال الأدخال لا حال العقد. فصل أما موافقتها لقول الصحابي: فيرجح به، لأن قوله يصدر عن تعليله إذا لم يكن توقيفاً، وعلته أقوى، لأنه شهد التنزيل، وعرف التأويل، فهو أعلم بتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقع كلامه. فصل ومنها أن يكون أصل (إحداهما) ثبت بدليل مقطوع به والأخرى بدليل غير مقطوع به، أو يكون أصل (إحداهما) منصوصاً عليه، وأصل (الأخرى) ثبت بالتنبيه أو بالعموم أو بدليل الخطاب، فيكون المقطوع به، والمنصوص عليه أولى، لأنه أقوى، والفرع يقوى لقوة أصله.

فصل ومنها أن يكون حكم (إحداهما) يوجد معها، وحكم الأخرى موجوداً قبلها، (فالتي) حكمها معها أولى، لأنه يدل على تأثيرها في الحكم، وذلك مثل تعليل أصحابنا في البائن: أنه لا نفقة لها، ولا سكنى، بأنها أجنبية منه، فأشبه المنقضية العدة، (وتعليل) الخصم: (بأنها) معتدة عن طلاق أشبه الرجعية فتكون علتنا أولى، لأن الحكم وهو سقوط النفقة وجد بوجودها، وقبل أن تصير أجنبية كانت واجبة، وعلتهم غير مؤثرة، لأن وجوب النفقة والسكنى يجب للزوجة قبل أن تصير معتدة عن طلاق، (فلا يؤثر قوله معتدة عن طلاق،) فوجب لها النفقة والسكنى. فصل ومنها: أن تكون (إحداهما) موصوفة بما هو موجود في

الحال والأخرى موصوفة بما يجوز وجوده في الثاني، وذلك مثل تعليل أصحابنا في رهن المشاع: أنه عين يصح بيعها، فصح رهنها كالمفرد، وتعليل الخصم: بأنه (قارن) العقد معنى يوجب استحقاق رفع يده في الثاني، لأن علتنا متحققة الوجود، وما ذكروه يجوز أن يوجد، ويجوز أن لا يوجد، فكانت علتنا أولى. فصل ومنها أن تكون إحدى العلتين صفة ذاتية، والأخرى حكمية، فقال بعضهم: الذاتية أولى وهو اختيار شيخنا، وقال آخرون: الحكمية أولى. ووجه ذلك: /192 ب أن المطلوب: هو الحكم الشرعي، فالدلالة الشرعية أدل على الحكم الشرعي؛ لأنها أشد مطابقة له من الدلالة الذاتية، فكانت أولى، ولأن الذاتية قد كانت ولم يتعلق بها الحكم، وذلك قبل الشرع، والصفة الحكمية لا توجد إلا والحكم متعلق بها، فكانت أخص بالحكم وأولى.

واحتج الخصم: بأن الصفة الذاتية كالعلة العقلية، والعلة العقلية أولى، لأنها موجبة للقطع، فكانت أولى مما (توجب الظن). والجواب: أن العقلية أقوى في طلب أحكام العقل، فأما أحكام الشرع فعلة الشرع أخص بها، ولهذا يقدم (ما ورد في) خير الواحد - وإن أوجب ظناً - على ما ثبت بعلة العقل من فراغ الذمة (وغيره). واحتج: بأن الذاتية توجد في الأصل دالة بنفسها لا تفتقر إلى غيرها، والصفات الشرعية تفتقر إلى إثباتها في الأصل بغيرها، وهو نطق الشرع، فكان ما ثبت بنفسها أولى. والجواب: وإن افتقرت إلى غيرها إلا أنها إذا ثبت بذلك الغير: وهو الشرع صارت أدل على الأحكام وأخص بها من غيرها، ولهذا لا تنفك عنها بحال، والذاتية تنفك عن الحكم قبل ورود الشرع، فبان: أن الشرعية أخص بالأحكام الشرعية. فصل ومنها: أن تكون إحدى العلتين منتزعة من أصول، والأخرى

منتزعة من أصل (واحد)، فالمنتزعة من الأصول أولى، وقال بعض الشافعية: هما سواء. لنا: أن بكثرة الأصول يقوى الظن، لأن الأصول شواهد الصحة، فكانت أولى. واحتج: بأن العلة إذا كانت واحدة، فلا عبرة بكثرة الأصول، ألا ترى أن العلة إذا فسدت في الأصول كلها كما تفسد في أصول واحد؟ فكانا سواء. والجواب: أن مع الفساد لا عبرة بالكثرة (والقلة)، وإذا صحت اعتبر بالكثرة، ألا ترى أن شهود الزور لا عبرة بكثرتهم؟، لأنهم يشهدون على باطل، وشهود الحق يقوى الظن بالاثنين أكثر من الواحد. (وإن كان) كل واحد منهما بينة (بنفسه)، وكذلك بالثلاث والأربع، ثم يبطل إذا عاضد (إحدى) العلتين

عموم، (فإنه مع الفساد في العلة) غير نافع، ومع صحتها يرجح بمعاضدته، والله أعلم. فصل ومنها: أن تكون (إحدى) العلتين أعم من الأخرى (فهل) (يرجح) بها أم لا؟ قال أصحاب أبي حنيفة، وبعض الشافعية، وشيخنا: لا يرجح بذلك، وقال بعض الشافعية: يرجح بذلك، وهذا كالتعليل بالطعم وهو أعم من التعليل بالكيل. (ووجه) الأول: أن العمومين إذا اشتمل أحدهما على مسميات أكثر مما اشتمل عليه الآخر، لم يكن الأعم أولى، فكذلك في العلتين.

فإن قيل: لو كانت (كالعمومين)، لكان الخاص منهما (مقدماً). قيل: إنما قدمنا الخاص، لأنه بان لنا أن المراد بالعام ما عدا المخصص، واللفظ يحتمل ذلك، فأما العلتان، فإنه لا يبين فيهما ذلك، فاستعملت كل واحدة منهما فيما اقتضته، ولم تقدم (إحداهما) على الأخرى. ووجه (الثانية): أن عموم أحدهما يفيد من الفروع ما لا يفيد (الآخر)، والغرض إفادة الأحكام، فكل ما أفاد حكماً كان أولى، ولأن كثرة الفروع يجري مجرى شهادة الأصول فيجب أن يرجح بها. والجواب: أن كثرة المسميات هي فروع، ولم يرجحوا بها ولأنكم عللتم بالثمنية، وعلة الوزن أكثر فروعاً، وهذا مناقضة، والقول الثاني أشبه عندي، وما ذكروه من العموم لا يشبه مسألتنا، لأن اللفظ الخاص والعام، إذا تعارضا أمكن بناء أحدهما على الآخر. ولا يمكن ذلك في العلتين (فقدم) أكثرهما فائدة.

فصل ومنها أن تكون إحدى العلتين أقل أوصافاً من الأخرى فتكون أولى، خلافاً لبعض الشافعية: أنهما سواء. لنا: إن ما قلت أوصافه شابه العلة العقلية في القوة، فكان أولى، ولأنه أجرى على الأصول وأسلم من الفساد وأسهل على المجتهد وأكثر للفائدة، أنه تكثر فروعه، فكان أولى. واحتج: بأن كل واحدة منهما مساوية للأخرى في إثبات/193 ب الحكم إذا انفردت، فكانا سواء عند التعارض. (والجواب: أنه يلزم على ذلك القياس مع الخبر يتساويان في إثبات الحكم، ثم يقدم الخبر عند التعارض). فصل إذا كانت إحدى العلتين تقتضي العتق، والأخرى تقتضي الرق

احتمل كونهما سواء، وبه قال الشافعية، واحتمل أن تقدم التي تقتضي العتق، وبه قال بعض المتكلمين. (لنا): إن كل واحد من العتق والرق، (حكم شرعي) فلا يقدم عليه كسائر الأحكام. واحتج الخصم: بأن العتق (أقوى، لأنه) إذا وقع لا يلحقه الفسخ، وإذا بُعض سرى، فكانت علته أقوى. والجواب: أنه أقوى إذا وقع، فأما قبل وقوعه فهو حكم شرعي بالقياس، كما أن الرق حكم شرعي (بالقياس)، فلا فرق بينهما في ذلك فكان سواء. فصل ومنها أن تقتضي إحداهما إسقاط الحد، وتقتضي الأخرى إثباته

احتمل أن تكون المسقطة أولى، وبه قال أبو عبد الله البصري، واحتمل أن يكونا سواء، وبه قال بعض الشافعية، وقال عبد الجيار: المثبتة للحد أولى، وهو محتمل أيضاً. وجه الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وقوله: "ادرءوا الحدود ما استطعتم" (فلأن) يخطيء الإمام في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة، ولأن المسقطة تقتضي حظره، (والأخرى) تقتضي إباحته (فالحاظرة) أولى ووجه الاستواء أن الشبهة لا تؤثر في إيجاب الحد في الشرع، ولهذا توجبه بخبر الواحد

والقياس مع وجود الشبهة، فإذا ثبت هذا صار بمثابة سائر الأحكام، وسائر الأحكام إذا تعارض فيها علتان لن ترجح إحدهما بحكمها كذلك هاهنا. ووجه الإثبات: أن الحد حكم شرعي، فما يثبته أولى مما ينفيه كالخبرين إذا كان أحدهما مثبتاً والآخر نافياً، (ولأنا) لو قدمنا العلة النافية أسقطنا الحد عن جملة الشريعة، وما ذكر من الأخبار إنما ورد في إسقاط الحد عن الأعيان لا عن الجملة والأوجه محتملة. فصل إذا كانت إحدى العلتين تقتضي الحظر والأخرى تقتضي الإباحة/194 أاحتمل أن يقدم الحظر، (وبه قال الكرخي)، واحتمل أن يكونا سواء، وعن الشافعية كالوجهين. وجه الأول: أن التعارض إذا (حصل) اشتبه الحكم عليه، ومتى اشتبه المباح بالمحظور غلب الحظر، كالأمة بين الشريكين،

وذكاة المجوسي والمسلم، وإذا اختلطت أخته [بأجنبيات]، ولأن تغليب الحظر (أحوط)، لأن ارتكاب المحظور فيه إثم، وترك المباح لا إثم فيه. ووجه الثاني: بأن تحريم المباح كإباحة المحظور، فلم يكن أحدهما أولى من الآخر. والجواب: أن الأمر على ما ذكرت إلا أن أحدهما يأثم بفعله، والآخر لا يأثم بتركه، فكان اجتناب الإثم أحوط وأولى. فصل ومنها: أن تكون (إحداهما) (مقيسة) على أصل نص على القياس عليه، كقياسنا الحج: (في أنه) لا يسقط (بالموت) على الدين، أولى من قياسهم على الصوم والصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين في خبر الخثعمية،

فنص على قياسه على الدين ومنها: أن يكون إحداهما أكثر (أصولاً) كقياسنا الوضوء في إيجاب النية على سائر العبادات، بأن ما افتقر بدله إلى النية افتقر مُبدله إلى النية كسائر العبادات أولى من قياسهم على النجاسة. فصل ومنها أن يكون لفظ (إحداهما) [إثباتاً ولفظ (الأخرى) نفياً، كقياسنا في الأشنان بأنه مكيل جنس أشبه البر، والشعير أولى من قولهم ليس بمطعوم جنس ولا ثمن، لأن الإثبات مجمع على جواز التعليل به، والنفي مختلف في جواز التعليل به. فصل ومنها: أن تكون (إحداهما)] ناقلة عن الأصل، أو (فيها) احتياط، والأخرى مبقية (على الأصل)، فالأولى

أولى، وقال بعضهم: هما سواء، وهذا كقياسنا في إيجاب الوضوء من الملامسة، وقياسهم في إسقاطه، فيكون قياسنا أولى لأن فيه زيادة حكم واحتياط للتعبد، وما أفاد حكماً شرعياً أولى، ولأنهما دليلان تعارضا فقدم الناقل منهما كالخبرين. (واحتج الخصم): بأن المبقية قد أفادت ما لم يكن في الأصل، لأن البقاء على استصحاب حال الأصل، لا يخصص به والعلة تخصص فساوت الناقلة في إفادة حكم.

والجواب: أنه يلزم على ذلك الخبر أن إذا تعارضا، ولأن الناقلة شاركتها/194 ب فيما ذكرت وزادت بإفادة حكم شرعي، لم يكن قبل ذلك. فصل ومنها: أن تكون إحداهما توجب والأخرى تندب، أو تكون تندب والأخرى تبيح، فالأولى أولى، لأن الإيجاب يفيد الندب وزيادة، وذلك الندب ينتج الإباحة وزيادة حكم، وما أفاد زيادة حكم أولى). فصل ومنها: أن تكون إحداهما تطرد وتنعكس والأخرى لا تنعكس، كقياسنا تزويج الأخ والعم الصغيرة: بأن من لا يملك التصرف في مالها بنفسه لا يملك التصرف في بعضها، كالأجنبي أولى من قياسهم: أنه من أهل ميراثها (أشبه) الأب، لأن قياسنا ينعكس، (فإن الأب لما ملك التصرف في مالها بنفسه ملك التصرف

في بضعها)، وقياسهم لا ينعكس، فإن الحاكم ليس من أهل ميراثها، ويزوجها عندهم، وإنما (قدمت المنعكسة) (لأنها) تشابه الحدود، فقويت، ولأن العكس (يدل) على صحة العلة. فصل ومنها: أن تكون إحداهما متعدية، (فإنها) أولى من الواقفة، (كتعليلنا) في الذهب والفضة بالوزن، وتعليلهم بالثمنية، وإنما كان كذلك، لأن المتعدية مجمع على صحتها، والواقفة مختلف فيها، ولأن المتعدية به أكثر فروعاً وفائدة من الواقفة.

فصل ومنها: أن تكون إحداهما لا ترجع على أصلها بالتخصيص والأخرى ترجع (كتعليلنا) في الربا: بأنه مطعوم جنس، ويدخل فيه القليل (والكثير) مع تعليل الحنفي: بأنه مكيل جنس، (ويخرج) من ذلك (القليل) ولا يلزم على تعليلنا: بأنه مكيل، لأنا لا نخرج منه القليل، (اطراد واضح).

فصل ومنها: أن تكون إحداهما تستوعب معلولها، كقياسنا في جريان القصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف: بأن من جرى القصاص بينهما في النفس جرى بينهما في الأطراف كالحربي أولى من قياسهم: بأنهما (مختلفان) في بدل النفس، فلا يجري القصاص بينهما في الأطراف كالمسلم مع المستأمن، لأنه لا تأثير لقولهم: فإن العبدين لو تساويا في القيمة، لا يجري القصاص بينهما في الأطراف عنده. ومنها: أن تكون إحداهما مفسرة والأخرى مجملة، كقياسنا في الأكل في رمضان: أنه لا كفارة فيه، لأنه إفطار بغير مباشرة، فأشبه إذا ابتلع الحصاة: أولى من قياسهم: أفطر (بمسوغ) /195 أجنسه، لأن المفسر في الكتاب والسنة يقدم على المجمل (وكذلك) في المستنبط (منهما).

فصل ومنها: أن تكون أقل أوصافا من الأخرى كقولنا في إزالة النجاسة: أنه مائع لا يرفع الحدث، (فلا) يزيل النجس مع قولهم مائع طاهر مزيل للعين يحتمل أن تكون القليلة الأوصاف أولى، لأنها أسلم، وبذلك قال أكثر الشافعية، ولأنها تجري مجرى المعقولات، فكانت أولى وهذا دعوى، لأن (كليهما) (سواء في السلامة)، ويحتمل أن تكون الكثيرة الأوصاف أولى، لأنها أشبه بأصلها، وعندي أنهما سواء، لأن كل واحد منهما من جنس الأخرى، وهي مفيدة بحكمها سالمة عن الفساد (فهما) كالمتساويتين. فإن قيل: استواؤهما في إثبات الحكم، لا يدل على استوائهما في القوة كالخبر مع القياس. قلنا: بل يدلان على الاستواء، إذا كانا (من) جنس فأما الخبر فهو من غير جنس القياس، لأن دلالته من حيث النطق والقياس من حيث المعنى، فجاز أن يتفاضلا في القوة.

فصل ومنها أن يكون وصف إحداهما إسماً ووصف الأخرى صفة، فالصفة أولى، لأنها مجمع عليها، والاسم مختلف في جوز التعليل به). ومنها: أن تكون إحدى العلتين ترد الفرع إلى ما هو من جنسه، كرد كفارة إلى كفارة، والأخرى ترد إلى ما ليس من جنسه كرد الكفارة إلى الزكاة وما أشبه، فيكون مارد إلى جنسه أولى، وهو قول الكرخي، وكأثر الشافعية، لأن الشيء أكثر (شبها) بجنسه منه بغير جنسه، والقياس يتبع الشبه (فكثرته) تقوى الظن. احتج من منع (من) ذلك: بأن قياسه على جنسه ليس بعلة وإنما هو شبه، (فكثرة) الشبه لا يرجح به. والجواب: أنا لا نسلم بل رد الشيء إلى ما هو أكثر شبهاً به أولى وهذا معقول.

فصل ومنها: أن تكون إحداهما أكثر فروعاً من الأخرى فيحتمل أن تكون الكثيرة الفروع أولى، وقال بعضهم: لا يرجح بذلك، وهو الأشبه عندي. ووجه ذلك: أن كثرة الفروع ترجح إلى كثرة ما خلقه الله تعالى مما توجد فيه العلة، وليس ذلك أمراً شرعياً فيجرح به، ولأنه لو كان أعم العلتين أولى بالأخذ، لكان أعم الخطأ بين أولى العمل، ولأن العلة إنما تصح وتثبت إذا شهد على صحتها دليل أو أمارة، وإذا تساويا في ذلك لم يلتفت إلى قلة الفروع وكثرتها. واحتج الأولون: بأن ما كثر فروعها (فوائدها أكثر) فكانت أولى. والجواب: إنما تكون أولى إذا كانت فوائدها شرعية، (فأما كثرة) الفروع فهي راجعة إلى ما خلق الله تعالى من الأنواع التي تختص تلك العلة، وليس ذلك بأمر شرعي./195 ب واحتج: بأن ما كثرت أصولها [تقدم] (فكذلك) ما كثرت فروعها.

والجواب: أنه جمع من غير معنى، ثم الفرق: أن أصولها شهود لها، وكثرة الشهود تقوى الظن، والفرع لا يشهد للعلة، بل حكمه تابع لها، فلم يرجح به. والله أعلم. واحتج: بأن العلة المتعدية أولى من الواقفة لكثرة فروعها، فكذلك (في مسألتنا). والجواب: أنا لا نسلم، (وإن) سلمنا، فالواقفة مختلف في صحتها، (وما قلت فروعها لا يختلف في صحتها، فهي) وما كثرت فروعها سواء. والله أعلم. (وفيما ذكرنا كفاية). فصل واعلم أنه إذا آل أمر المتناظرين إلى الترجيح (فرجح) كل واحد منهما دليله أو (تأويله)، وجب على المبتديء منهما أن يسقط ترجيح خصمه أو يزد في ترجيحه، (وإذا) لم يفعل أحد الأمرين، فهو منقطع، لأنه كالمبتديء بالشيء ويعجز عن تمامه، والانقطاع: هو العجز عن إتمام (مقصوده)، ونصرة ما شرع

فيه، يقال: انقطع في السفر إذا عجز عن السير، وبلوغ قصده، وانقطع حبل الوصل، إذا لم يبلغ غايته وتمامه. فصل يعرف انقطاع السائل خاصة بأشياء خمسة أن يعجز عن بيان السؤال، أو طلب الدليل، أو طلب وجه الدليل أو الطعن في دليل المستدل، أو المعارضة (بالدليل)، ويعرف انقطاع المسؤول خاصة بأشياء خمسة. أن يعجز عن بيان الجواب وإقامة الدليل، وتقرير وجه الدليل، ودفع ما اعترض به على الدليل، وإسقاط ما قوبل به من المعارضة، ويعرف انقطاع كل واحد منهما (بسبعة) يجحد ما عرف من مذهبه، والعجز عن إتمام ما شرع فيه، من دليل، أو جواب، أو ترجيح، أو بيان، وجحد ما ثبت بنص أو إجماع، وبتخليط كلامه على وجه لا يفهم، أو يسكت سكوت الحيرة من غير عذر، أو يتشاغل بحديث أو شعر، أو قصص لا يتعلق بالنظر ولا يفيد، (أو يغضب) في غير موضع الغضب، أو يقوم في

مسائل في استصحاب الحال

غير موضع القيام، أو يسفه على خصمه، فكل ذلك علاقة الانقطاع. (والله أعلم). مسائل في استصحاب الحال مسألة استصحاب حكم الأصل دليل، مثل: أن يسأل عن الوتر فيقول/196 أ: ليس بواجب، لأن الأصل براءة الذمة، وطريق وجوب ذلك.

فيها الشرع، (ولم أجد في الشرع) دليلاً على إشغالها، كانت على البراءة، ذكره شيخنا، وحكاه عن عامة الفقهاء من الحنفية والشافعية، وغيرهم، وذكره أبو سفيان، وقال: عدم الدليل دليل، وقد قال أحمد رضي الله عنه فيمن أكل في رمضان: لا كفارة عليه. وقال بعض المتكلمين ليس بدليل، وحكاه أبو سفيان عن بعض الفقهاء أيضاً.

وجه الأول: أنه الحكم الشرعي، إنما يلزم المكلف إذا تعبده الله به، ولا يجوز (أن يتعبده) به من غير أن يدله عليه، (وإذا) كان كذلك وجب أن يكون عدم الدليل على لزومه (دليلاً) على أن الله تعالى (لم) يتعبدنا به، وهذا كما تقول فيمن ادعى النبوة من غير معجزة: لا يلزمنا قبول قوله، لأن الله تعالى لا يجوز عليه أن يبعث رسولاً يلزمنا قبول قوله من غير أن يؤيده بمعجزة، فلما عدمت المعجزة في حق هذا المدعي، كان دليلاً على أنه ليس ينبي. فإن قيل: فما تنكر أن يكون الدليل موجوداً، وقد أخطأت في طلبه، (أو عدلت) عن طريقه. قيل: لا يجب علينا أكثر من الطلب والاجتهاد، وقد فعلنا ذلك فلم نجد، فبقينا على براءة الذمة، وصار بمثابة أن يحتج بعموم. فيقول الخصم: (ما تنكر) أن يكون مخصصا وقد خفي عليك ذلك، أو (مستدلاً) بآية؟

فيقول (الخصم): فما تنكر أن تكون منسوخة؟ فيكون الجواب: أنا قد طلبنا المخصص بجهدنا فلم نجده، فلزمنا البقاء على العموم، إلا أن تجيئنا أنت بالدليل المخصص والناسخ كذلك هاهنا، إذا لم نجد دليلاً شرعياً يشغل الذمة بقينا على دليل العقل المقتضي لبراءة الذمة، (أو دليل) (الشرع) من قبلنا، ومدعى (المشغل) يجب عليه إيراده وهذا الجواب دليل بنفسه معتمد. فإن قيل: فإذا لم تجد أنت الدليل المشغل للذمة وجوزت أن يجده غيرك، فلا تجعل عدمك دليلاً على خصمك وتدعوه إليه. والجواب: أن دليل العقل يشملني وإياه كالعموم،/196 ب فإذا لم يأت بما يشغل لزمه البقاء على دليل العقل، كما يلزم مدعي (التخصيص ولم يأت به البقاء على حكم العموم). والله أعلم. فصل فأما استصحاب حال الإجماع في موضع الخلاف ليس بدليل في أحد الوجهين وبه قال (جماعة) من المحققين من الفقهاء

والمتكلمين، (وقال) أبو ثور، والمزني، وداود والصيرفي، هو دليل، وهو الوجه الآخر لأصحابنا، اختاره

أبو إسحاق بن شاقلا، ومثال ذلك: أن يقول المستدل في المتيمم إذا رأى الماء (وهو) في الصلاة: أنه (يلزمه استعماله) لأنه كان قبل أن يدخل في الصلاة يلزمه استعماله بالإجماع. فإذا دخل في الصلاة فنحن على ذلك حتى ينقلنا عنه دليل، وهذا باطل، لأنه (إن) شرك بين الحالين في وجوب الوضوء للإجماع، فليس بموجود بعد الدخول في الصلاة، وإن شرك بينهما في الدليل (الموجب) للوضوء الذي صار المجمعون إليه، فليس ذلك باستصحاب حال الإجماع المختلف فيه.

(دليل آخر): إن حكم الإجماع ثبت في حالة، وقد تغيرت تلك الحالة لأنه كان غير مصل فصار مصلياً. (فإن) احتج: بأن حكم (الحالين) واحد، فهو جمع من غير علة ولا دليل، وليس هو بأن يجمع أولى ممن يفرق، ولأن الإجماع حصل في أحدهما ولم يحصل (في الآخر)، فلا يجوز أن يحتج به (فيهما) كلفظ الشرع إذا تناول حالة لم يجز أن يحتج به في حالة لم يتناولها. فإن قيل: ما حدث ها هنا إلا الصلاة، والصلاة (لم) تغير الحكم كما لا تغير سائر الحوادث، من حدوث ليل عن نهار أو غيم على صحو وما أشبه. والجواب: أنه قد تختلف المصالح (باختلاف) الحوادث، ولهذا يجوز أن يرد النص بإسقاط الوضوء عمن رأى الماء في الصلاة، وبإيجابه على من ليس في صلاة، لهذا حصل الاختلاف بين الأمة. فإن قيل: فلو لم يتعد الحكم من حالة إلى حالة، لوجب قصره على الزمان الواحد.

قيل: ذلك يجب (إلا أن) يكون دليل الحكم وعلته قد عم الأزمنة، ولأن المحتج باستصحاب حال الإجماع يؤدي قوله إلى تكافيء الأدلة، لأن كل موضع من الخلاف (يستصحب) فيه حال الإجماع فخصمه يشاركه فيأتي بمثله، بيان ذلك: إذا قال: أجمعنا/193 أعلى أنه إذا رأى الماء في غير الصلاة وجب عليه استعماله، فكذلك في الصلاة. فلخصمه أن يقول: أجمعنا على صحة تحريمته (بهذا) التيمم، فمن زعم (أن) برؤية الماء تبطل، فعليه الدليل، (فلا) يكون التعلق بأحد الإجماعين أولى من التعلق بالآخر، وكذلك إذا احتج من في ملكه صيد، ثم أحرم: بأنه (لا يزول) ملكه، لأن ملكه ثابت قبل إحرامه، فمن ادعى زواله بالإحرام فعليه الدليل، (وقال له خصمه: على أن إحرامه ينافي تملك الصيد ابتداء، فمن زعم: أنه لا ينافيه استدامة فعليه الدليل) وكذلك من احتج في بيع أمهات الأولاد، بأنه يجوز بيعهن قبل الولادة بالإجماع، فمن ادعى: أنه زال بالولادة، فعليه الدليل.

ولخصمه أن يقول: أجمعنا أنها في حال العلوق لا يجوز بيعها، فمن ادعى جوازه بعد الوضع، فعليه الدليل، وأشباه ذلك كثير، فإذا أدى إلى هذا، وجب اطراحه. فصل (احتجاج) الخصم (وهو قوله) تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} فدل على أن ما ثبت بالإجماع لا يجوز نقضه. والجواب: أن الآية لا تقتصر المنع من نقض ما ثبت، (فبينوا) (في) موضع الخلاف أنه ثبت الحكم فيه بإجماع أو غيره حتى يمتنع من نقضه ومخالفته. واحتج: بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيخيل إليه أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً

أو يجد ريحاً". (فأوجب) استدامة الحكم. والجواب: أنا لا نمنع من استدامة الحكم من حال إلى أخرى لدليل، فأما من غير دليل فنمنع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ها هنا هو دليل شرعي، فأما استدامة حال الإجماع إلى حالة الخلاف (لأجل الإجماع) فلا دليل عليه. واحتج: بأن ما ثبت بالإجماع يقين، والخلاف شك، فلا يترك له اليقين أصله: من يتقن الطهارة، وشك في الحدث لم (يترك) اليقين بالشك. والجواب: أنه جمع من غير علة، ثم إنا نقول: إن اليقين لا يزال بالشك، غير أنه يجب أن نبين: أن في موضع الخلاف يقينا، بخلاف الطهارة فإنا أثبتناها في موضع الشك بدليل: وهو خبر الرسول وقوله: فلا ينصرفن حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً".

وقيل: إن الأصل في العقل (أن) لا وضوء، فإذا لم يرد في وجوبه على الشك دليل شرعي، فالواجب البقاء على حكم الأصل وليس ذلك وجوب الوضوء/197 ب على من رأى، لأنه ليس هو (في) حكم العقل حتى يلزم البقاء عليه مع عدم دلالة شرعية على خلافه. (وجواب آخر): أن الطهارة علمنا يقيناً وجودها في حقنا، والشك لا يزيل علمنا بوجودها، بخلاف مسألتنا، فإن الإجماع الذي ثبت الحكم تقينا زواله، فكيف (يحكم) ببقاء حكمه. واحتج: بأنكم أثبتم الإجماع باستصحاب حال العقل في براءة الذمة، فألحقتم حالة قبل وروده بحالة بعد وروده، فكذا يجب أن يلحق حالة الخلاف بحالة الإجماع. والجواب: أنا لم نلحق حالة بحالة، وإنما وجدنا دلالة العقل في براءة الذمة قائمة في حال ورود الشرع، ما لم يشغلها الشرع فأخذنا به، فيجب أن توجدوا الإجماع في حال الخلاف لنأخذ به، ولا سبيل إلى ذلك لاستحالته. واحتج: بأن الإجماع دليل شرعي، كما أن قول صاحب الشريعة) دليل شرعي، ثم ثبت أن قول صاحب الشريعة لا ينتقل عن حكمه إلا بالنسخ، وما أشبه، كذلك الإجماع.

والجواب: أن قول صاحب الشريعة إنما يكون حجة في بقاء الحكم إذا عم سائر الأحوال، فأما إذا كان خاصاً في حالة (لم يدل على ثبوت الحكم) في حالة أخرى، فهو كالإجماع لما كان خاصاً في حالة) يجب أن لا يثبت حكمه في حالة أخرى، (وهي) حالة عدم الإجماع. واحتج: بأن الحكم المجمع عليه لا يجوز عليه الغلط، والحكم المختلف فيه يجوز عليه الغلط، فلا يجوز تركه به، كما لا يجوز ترك (التواتر بالآحاد والإجماع والقياس. والجواب: أن الحكم المجمع عليه إنما هو في موضع) الإجماع، فأما موضع الخلاف فهو غير ثابت فيه، فيجب أن يدل على ثبوته في موضع الخلاف بالإجماع، ولا طريق إليه، فإن دللت بما انعقد لأجله الإجماع، فنحن قائلون به، وليس ذلك موضع الخلاف، على أنه يجب على هذا أن لا يقبل الخبر والقياس في معارضة استصحاب حال الإجماع، لأن ما ثبت بالإجماع لا يدخله الغلط، وهذا لا يقوله أحد والله أعلم بالصواب.

مسألة النافي للحكم يلزمه الدليل، كالمثبت له

مسألة النافي للحكم يلزمه الدليل، كالمثبت له، ذكره شيخنا أبو الحسن التميمي في مسألة أفردها، واختاره شيخنا أبو يعلي، وقال بعضهم: لا يلزمه دليل، وقال آخرون: إن كان الحكم عقلياً فعلى النافي الدليل، وإن كان شرعياً لم يكن عليه دليل. وجه الأول: وهو اختيار عامة العلماء (قوله تعالى): {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فذمهم على النفي من غير علم يدلهم.

دليل آخر: أن من نفي الشيء إما يقيناً أو ظناً، يجب أن يكون/198 ألما ادعاه من ذلك طريق يدل عليه حتى صار إليه، فإذا طولب به لزمه بيانه، لأن قد أثبت اليقين أو الظن بأن ذلك الحكم (منتف)، فهو كمثبت سائر الأحكام. دليل آخر: وهو أن من نفي (قدم) الأجسام، (لا خلاف أنه) يلزمه الدليل كمن أثبت قدمها، كذلك في سائر الأحكام ولأن النافي للحكم لا يخلو أن ينفيه بعلم أو بجهل، فإن نفاه بجهل لم (يلتزم) كلامه فضلاً أن يكون مستدلاً بذلك، وإن نفاه بعلم لم يخل أن يكون ضرورياً أو مكتسباً، ولو كان ضرورياً لاشتركنا فيه، وإن كان مكتسباً فلابد من دليل عليه، فإذا عدم ذلك بقى مجرد دعوى ولأن الأمور الشرعية والعقلية لابد لها من دليل، فإذا لم يظهره المستدل فقد عجز من إقامة دليله. واحتج الخصم: بأن من أنكر النبوة لا دليل عليه، لأنه ناف، وإنما الدليل على من يدعي النبوة، لأنه مثبت. والجواب: أنه لا فرق بينهما، لأنه إن قال: أعلم وأوقن أنك لست بنبي، فإنه يجب عليه الدليل على ذلك، وطريق دليله أن يقول: لو كنت نبياً لأيدك الله بالمعجزة، لأنه لم يبعث رسولاً إلا بمعجزة، فلما لم يؤيدك (الله)، (بها) دل على أنك غير

نبي وأما إن شك، وقال: ما أعلم أنك نبي ويجوز أن تكون، ويجوز أن لا تكون، فهذا شاك، والشاك لا دليل عليه فنظيره أن يقول المسؤول: لا أعلم هذا الحكم ثابت أو غير ثابت، ويجوز أن يكون ثابتاً ويجوز أن لا يكون، فهذا (لا يطلب) منه دليل على ذلك، على أ، القائل بالشك، يقال له: (إن شككت) فيه بطريقة أدتك إلى الشك فيجب أن تبينها لنا، وإن كنت شككت لأنك لم تنظر، ولم تستدل فلست بأهل أن يكون (لك) مذهب تناظر عليه. واحتج: بأن الشرع جعل البينة في جنبة المدعي، (لأنه يريد الإثبات) ولم يجعلها على المنكر، لأنه ناف. والجواب: أنه ليس كذلك، لأن المنكر، إن ادعى عليه عيناً في يده فيده بينة، وإن ادعى عليه ديناً فدليل العقل له بينة على براءة ذمته، حتى يظهر ما يشغلها، وهو يحلف مع ذلك تقوية لدليله حتى يجوز له (أن يدعو الحاكم) إلى الحكم بثبوت العين له

دون المدعي وبراءة ذمته من الدين، (فكذلك) النافي للحكم/198 ب لا يجوز له أن يدعو الناس إلى قوله ومذهبه إلا بطريقة، فأما إذا قال: لا أعلم أن هذا الحكم ثابت فاتبعوني، لم يلتفت إليه، كما لا يلتفت الحاكم إلى من قال: هذه العين لي فاحكم لي بها، وأشار إلى عين في الطريق ليست في يده ولا يد غيره، فإن الحاكم لا يحكم (له)، بل يقول: ما بينتك على ذلك. واحتج: بأنه (من) (ادعى) صلاة سادسة أو صوم شهر آخر، لم يكن عليه دليل، (كذلك) هاهنا.

والجواب: أنه لابد من دليل، (وهو قوله: الأصل براءة الذمة من ذلك وطريق إشغالها الشرع، ولم أجد في الشرع دليلاً) على ذلك، فبقيت على دليلي، وهو الأصل المستقر. فصل فأما الاستدلال بأقل ما قيل، فهو ضرب من الاستصحاب حال براءة الذمة، وهو دليل صحيح، وقال بعضهم: ليس بصحيح.

ومثاله: قولنا في إحدى الروايتين إن دية الكتابي ثلث دية المسلم، لأن ذلك متفق عليه، (وما زاد) لو كان واجباً لدل عليه الشرع، فلما تصفحنا أدلة الشرع، فلم نجد على الزيادة دليلاً، ثبت أنها غير واجبة، وإن شئت قلت: الأصل براءة الذمة من الزيادة فمن أشغلها فعليه الدليل: فإن قيل: اتفقنا على (اشتغال) الذمة بالجناية، فمن (ادعى) براءتها (بهذا) فعليه الدليل. قيل: إنما اتفقنا على اشتغال الذمة بجناية موجبها ثلث الدية فأما اشتغالها بما زاد فلا يثبت إلا بدليل.

مسألة

(واحتج الخصم): بأن إيجاب أقل ما قيل استدلال بمجرد النفي، لأنك تقول: لا أجد على الزيادة دليلاً، كقول النافي للحكم: لا أجد عليه دليلا. والجواب: أنا لا نستدل بهذا الطريق، وإنما نقول: الأصل براءة الذمة من الزيادة إلا أن يرد دليل شرعي (متفق عليه) يشغلها بذلك، وينقلنا عن الأصل، أو نقول: أقل ما قيل متفق عليه والزيادة حكم شرعي، ولم يدل عليها دليل، فلم يثبت. (والله أعلم بالصواب). مسألة اختلف أصحابا رضي الله عنهم في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع، فقال أبو الحسن التميمي: إنها على الإباحة حتى يرد الشرع بحظرها، وقد أومأ إليه أحمد رضي الله عنه في رواية أبي طالب، وقد سأله عن قطع النخل. فقال: لا بأس به لم نسمع في قطع النخل شيئاً. قيل: فالسدر، قال: ليس فيه حديث صحيح، وما يعجبني، لأنه قد ورد فيه على حال، والنخل لم يجيء فيه شيء،

فدل على أنه استدام الإباحة في قطع النخل، لأنه لم يرد الشرع بحظره، وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، رحمه الله والجبائي وابنه أبو هاشم وجماعة من المعتزلة البصريين، وقال ابن حامد: هي على الحظر، وبه قال معتزل البغداديين، واختاره شيخنا، وقال أبو الحسن الخرزي من أصحابنا، وأراه أقوى

على أصل من يقول: أن العقل لا مدخل له في الحظر والإباحة، وهو مذهب أكثر أصحابنا: (هي) على الوقف، وبه قال الأشعرية وعن الشافعية كالمذاهب الثلاثة، وهذه المسألة ذكر قوم: أن الكلام فيها تكلف وعناء لا فائدة، لأن الأشياء قد عرف حكمها واستقر أمرها بالشرع، وقال قوم: ما أخلا الله زماناً من شرع، لأنه أول ما خلق آدم أمره ونهاه، فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، وأهبطه إلى دار التكليف، فأمره ونهاه، ولم تزل الرسل تترى في ولده فلا يتصور (أن نقول): كيف الحكم قبل ورود الشرع؟، وقد أومأ (إليه أحمد) في رواية عبد الله، فقال

فيما أخرجه في محبسه: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"، فأخبر أن كل زمان لم يخل من رسول أو عالم يقتدي به، وهذه المسألة (يتصور) في قوم لم تبلغهم الدعوة، وعندهم ثمار وغيرها، هل يباح لهم تناولها، أو تحرم عليهم؟ وفي موضع آخر، وهو أن (نقول): هذه الأشياء لو قدرنا خلو شرع عن حكمها ما ينبغي أن يكون حكمها؟، ويفيد أيضاً في الفقه: أن كل من حرم شيئاً أو أباحه، قال قد طلبت في الشرع دليلاً على ذلك فلم أجد، فبقيت على حكم الأصل (وهو العقل). فإن قيل: (في حكم العقل) نقل الكلام إلى ذلك الأصل، فيدل الآن على أنها على الإباحة في العقل بأشياء. أحدهما: أن الانتفاع بهذه الأشياء منفعة ليس فيها وجه من وجوه القبح، وكل ما (هذا) سبيله، فالعقل يدعو إليه ويسوغه، إذ هو غرض صحيح، فدل على إباحته.

فإن قيل: لِمَ قلتم: إنه منفعة لا قبح فيه؟ قلنا: لأن أكل الفاكهة على وجه لا يضر وفيه (نعرض الكلام) وفيه (منفعة) /199 ب ولذة (للآكل) لا شبهة في ذلك، وكونه لا قبح فيه بوجه معلوم، (من حيث) أنه لا ينسب فاعله إلى الجهل والكذب وكفر النعمة، ولا مضرة فيه على الآكل ولا على غيره، (فثبت) حسنه، وأقل أحوال الحسن إباحته. فإن قيل: جواز كونه مفسدة يغني في قبحه كما يغني جواز كون الخبر كذباً في قبحه. الجواب: أنه قد قيل: إن الأصل في النفع أن يكون حسناً إذا لم (يعلم) فيه مضرة (أو وجه) قبح، ومتى لم يعلمنا الله تعالى: بأن الفعل مفسدة، وجب أن نقطع على أنه ليس بمفسدة، لأنه يجب في (الحكمة) إعلامنا المفاسد لنتجنبها، بخلاف الخبر، فإنه ليس الأصل فيه كونه صدقاً.

وجواب آخر: أنا لا نسلم أن تجويز المفسدة عليه يكون قبيحاً، والأصل في العقل والشرع: أن النفع حسن، وكذلك (الخبر) لا يكفي في قبحه تجويز كونه كذباً، والأصل في الثقات الصدق. وجواب آخر: أنه لو قبح الإقدام على المنافع [لتجويز] كونه مفسدة لقبح الامتناع منها، لتجويز كون ذلك مفسدة وفي ذلك وجوب الانفكاك منهما، وذلك وجوب ما لا يطاق، فبطل أن يكون في تجويز كون الفعل مفسدة وجه قبح. عبارة أخرى نقول: إن النفع يدعو إلى الفعل ويقتضي حسنه، إذا خلا من وجوه القبح، وخلا من أمارة الضرر والمفسدة، (والانتفاع) بأكل الثمار وشرب المياه (هذه) سبيله في العقل، فكان حسنا، والدليل على أن المعتبر هو أمارة الضرر والمفسدة، أن العقلاء يلومون (من امتنع) من الفعل لتجويز الضرر بلا أمارة، يعذرونه إذا كانت فيه أمارة، ولهذا يلومون من هرول تحت حائط صحيح مستقيم، لجواز أن يقع عليه، ويلومون من (ترك أكل)

طعام يشتهى لذيذ، لجواز أن يكون مسموماً، ولا (يلومون) إذا هرول من تحت حائط مائل منفطر، (أو امتنع) من أكل طعام شهي لأمارة (دلت على) أنه مسموم، ويعلمون الانتفاع بهذه الأشياء من الثمار (والماء) /200 أ، ويستبعدون كونها مفسدة أو مضرة، كاستبعادهم كون الطعام مسموماً، وأن الحائط الصحيح المستقيم يسقط على من مر تحته. طريقة أخرى: أن الأشياء كلها لله تعالى الحيوان وغيره، ومعلوم في العقل أن حياة الحيوان وصلاحه (بتناول) المآكل والمشارب، ويتركها يتلف، ويقبح في العقل إهلاك الملك (مع القدرة على حفظه بمنفعة في الملك) حتى تركت هلكت وفسدت، ألا ترى أنه لو كان له عبيد وعنده طعام لم يحسن أن يترك العبيد يهلكون جوعاً والطعام (حتى يتلف ويفسد؟). فإن قيل: إنما يباح ذلك لأجل الضرورة كما يباح طعام الغير لذلك.

(قلنا) والضرورة لِمَ كانت مبيحة؟ فإن قيل: لأن الشرع أباحها. قلنا: تصوير المسألة قبل ورود الشرع، فكيف يقاس على حكم الشرع، فبطل ذلك، وعلم أن الإباحة حصلت بحسن ذلك في العقل. دليل آخر: أن الله تعالى (قد) أحوج العاقل إلى الانتفاع بما قد (أظهره) من المنافع وأحضرها إياه، ولم (يمنعه) عنها مانع فكانت مباحة مأذوناً فيها، كمن أحضر قوماً جياعاً محتاجين مائدة عليها ألوان الأطعمة ولم يضع هناك مانعاً، فإن ذلك يدل على (أنه) (أباحهم) تناولهما، كذلك ها هنا. فإن قيل: فهذا المعنى موجود في الخمر والخنزير قيل: فذلك مباح قبل ورود الشرع، وإنما ورد الشرع بمنعه لمصلحة رآها والشرع جهة (الحظر). (ودليل آخر): أن هذه المنابع لا يخلو أن يكون

الله تعالى خلقها لينتفع هو بها، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، لأنه لا تلحقه المنافع، ولا المضار، أو يكون خلقها ليضر بها خلقه، فذلك قبيح، لأنه لم يكن في حال خلقه إياها من يستحق العقاب، فثبت أنه خلقها لنفع خلقه. فإن قيل: يحتمل أن يكون خلقها ليمتحن بها عباده بالكف عنها ويثيبهم على ذلك، أو يكون خلقها ليستدل بها على خالقها. والجواب: أنه لو خلقها للامتحان لنصب على ذلك دليلاً يبين لهم ذلك، ولأن الامتحان عندهم بالشرع، وكلامنا فيما قبله. وأما قولهم: أنه خلقها للاعتبار، فلا يصح لوجوه أحدها: أنه لو كان كذلك/200 ب لوجب أن يقتصر على خلق الجواهر والإعراض التي تتضمنها الأكوان، والاجتماع والافتراق دون الطعوم، لأن الاستدلال يتم بهذه الأشياء، ويتم باعتبار خلق الإنسان ونقله من حال إلى حال. والثاني: أن هذه حجتنا، (لأنه) إذا كان الغرض الاستدلال فلا يمكن الاستدلال بما في هذه الجواهر من الطعوم، (والمحببات) الحسية إلا بإدراكها وإدراكها لا يحصل إلا بالتناول، فالتناول مباح. والثالث: أن المستدل بهذه الأشياء لا يمكنه (ذلك) إلا بعد قوام (بنية)، وبنيته لا تقوم إلا بهذه الأشياء، فلو منع منها

أدى إلى هلاكه، فيبطل الغرض بخلقها. والرابع: أنه لا يمتنع أن نقول: خلقها للأمرين وهو الانتفاع والاعتبار. فإن قيل: فيلزم على الدليل ما خلقه الله (سبحانه) وحرمه من الخمر والخنزير، فإنه لا يخلو أن يكون خلقه لنفعه أو لنفع غيره، أو لضره والقسمان باطلان، ثم هو محرم فانقلب الدليل عليكم. والجواب: أنا نقول خلقه الله سبحانه للنفع، وهو مباح في العقل، وإنما الشرع منع من ذلك لمصلحة في التعبد رآها، كما أوجب أن يمتنعوا عن الطعام وغيره في الصوم، ومن الكلام في الصلاة، وغير ذلك، ولهذا جعل قتل الإنسان إياه في العقل قبيحاً وهو في الشرع حسن إذا قتله لردته وزناه. (وجواب آخر): أن تحريم الشرع لهذه الأشياء يدل على أنها كانت في الأصل مباحة، ولو كانت محرمة في الأصل كان تحرميها لا يفيد فائدة. ودليل آخر: أنه قد يحسن من الإنسان التنفس في الهواء والحركة من جانب إلى جانب، والعلة في ذلك أنه انتفاع

لا (يعلم) فيه مفسدة، ولا مضرة وهذا قائم في مسألتنا. فوجب أن يكون حسناً. فإن قيل: (إنما) جاز ذلك، لأن فيه إطفاء الحرارة عن قلبه، وفي ذلك بقاء الحياة، وفي تركها إهلاكها. والجواب: أنه كان يجب أن يتقدر ذلك بما يحتاج إليه الحياة، ولا (تجوز) الزيادة على ذلك، ومن رام بقدر ذلك تقدير ما تحتاج إليه الحياة (عدة العقلاء) مجنوناً. (وجواب آخر): (وهو) أن الكف عن التنفس وإن تلف الإنسان فليس بقبيح عندهم، لأنه ليس يجب على الإنسان (أن يصلح) ملك غيره، وإنما يجب أن لا يتلفه، وليس في الكف عن التنفس إتلافه، وإنما فيه ترك مصلحته، وترك (التعرض) للتصرف/201 أفي الهواء، لأنه ملك الله سبحانه وتعالى ولم يأذن فيه.

دليل: (وهو) إن خلق الله سبحانه وتعالى الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها، (يقتضي) أن يكون في خلقها غرض يخصها، وإلا كانت عبثاً، ويستحيل أن يعود (إليه) ذلك الغرض بنفع أو ضرر، (لاستحالتهما) عليه سبحانه، ولا يجوز أن يضر غيره بذلك، لأنه قد لا يكون فهيا ضرر، ولأن الضرر إنما يوجد بإدراكها فدل على أ، هـ يبيح إدراكها لتدرك، (فيقع) ذلك الضرر، ولأنه لا يحسن الإضرار الخالص، لمن لا يستحق الإضرار، فوجب أن يكون الغرض بخلقها نفعاً يعود إلى خلقه، إما بأن يلتذ بها، أو بأن يمتنع عنها بعد إدراكها فيحصل له الثواب، بتجنب ما تدعو النفس إليه وهذا قبل الإدراك لا يوجد، وكذلك لا يوجد الاعتبار بها إلا بعد تناولها فوجب أن يكون تناولها مباحاً على كل الوجوه. فإن قيل: يحتمل أن يكون مخلوقة لمن يأتي بعدهم كما خلق نعيم الجنة لمن يأتي لا للملائكة والجن الذين وجدوا.

والجواب: أنه لو كان ذلك لبينه ودل عليه كما ذكر في نعيم الجنة، ثم لو كان كذلك (لما) أباحه لنا، وبين أنه خلقه لنا بما ذكره من الآيات فقال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، وقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ} وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}، وقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}. فثبت أن ذلك مخلوق لنا ومباح أيضاً إلى أن يرد الوحي بتحريمه. واحتج من قال: بأنها على الحظر: بأن الأشياء (كلها) (ملك الله) سبحانه، (لأنه) أوجدها، فالتصرف فيها بغير إذنه قبيح، ألا ترى أن ملك الآدمي يقبح أن يتصرف فيه بغير إذنه؟.

والجواب: أن يقال: ما معنى الملك في حقه سبحانه وفي حقنا حتى ننظر (أيتفقان أو يختلفان في المعنى). فإن قيل: معناه (في حقه وحقنا) أن المالك أحق بالتصرف في ملكه من غيره، وأن غيره لا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه. قلنا: هذا دعوى تحتاج إلى دليل، ولأن هذا تعليل الحكم بنفسه. (وجواب آخر): أن الآدمي إنما يكون/201 ب أحق بالتصرف في الشيء من غيره بالشرع، لأن عندكم العقل لا يبيح التصرف في شيء أصلاً، وكلامنا (فيما) ثبت بالعقل، فلا يصح القياس على ملك الآدمي. (وجواب آخر): أنه إنما يقبح التصرف في ملك الغير على وجه يلحقه بذلك ضرر، مثل أن يتلف منفعته عليه، أو يمنعه من التصرف فيه، فأما ما لا ضرر على مالكه فيه كالاستظلال بحائطه أو ساباطه، والقعود في ضوء سراجه والأنس به في طريقه، والنظر في

مرآته إذا علقها على باب دكانه، والتقاط ما يتناثر من حيه، وغير ذلك، فلا يقبح التصرف فيه مع وجود الملك، فدل على أن المنع من التصرف ليس لمجرد الملكية. (وجواب آخر): أنه يقابل بأن في الامتناع عن هذه الأشياء إضرار بالنفس وهي ملك لله (تعالى)، فيجب (عدم) الإقدام على الإضرار بها أيضاً. (واحتج): بأن في الإقدام على الانتفاع بهذه الأشياء (خطراً)، (لأنا) (لا نأمن) أن نعاقب على ذلك، وليس في ترك المباح خطر وغرر، فكان الامتناع أولى. والجواب: أنا نقول: ليس كذلك، بل (إنما) كان الضرر في الترك أعظم، لأنه يؤدي إلى إتلاف الأنفس، والحكيم لا يمنع من استصلاح ماله بماله.

(وجواب آخر): إنه لو كان ما ذكرتم طريقاً صحيحاً (لوجب) أن يفعل الإنسان كل قربة وعبادة، لجواز أن يرد الشرع بوجوب ذلك، (ولا أحد قال): إن ذلك يلزم قبل الشرع. (وجواب آخر): أنه يجب أن يقال: إنه لا يجوز (له) التنفس في الهواء، والتحرك من جانب إلى جانب، لجواز أن يكون ذلك محظوراً. (وجواب آخر): إن تجويز الإقدام عليها (لجواز) كونها مفسدة، كتجويز الامتناع عنها، لجواز كونها مفسدة، وفي ذلك وجوب الانفكاك عن الفعلين، وهذا تكليف ما يستحيل، فوجب إطراحه، والرجوع إلى أن الله تعالى لما خلقنا منتفعين، وخلق هذه المنافع، ولم نعلم فيها أمارة ضرر، ولا مفسدة أن تكون مباحة. (وجواب آخر): أنه ما لم يرد الشرع، فنحن آمنون من الضرر، لأن الله تعالى قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. واحتج: بأنه (لا يأمن) العاقل أن يكون فيما يقدم عليه سما يهلكه.

والجواب:/202 أأنه إذا لم يقدم فلا يأمن الهلاك أيضاً، على (أنا) نجد البهائم تقدم على ذلك، (ولا) تهلك. واحتج بعضهم: بأن العقل لا ينفك من شرع، لأنه لو (انفك) عنه لم يحسن الإقدام على المنافع، ولا الإحجام عنها، لجواز كون كل واحدة منهما مفسدة، ولم يقبح الإقدام والإحجام معاً، لاستحالة الانفكاك منهما، وهذا يفضي إلى المحال، فثبت أنه لا ينفك العقل من شرع، وإذا لم ينفك فالشرع قد يمنع من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فدل على أن العقل كذلك. والجواب: أن كلامنا في هذه المسألة إذا انفرد العقل من الشرع، ما حكمه؟، ثم يقال: إذا لم ينفك العقل من شرع، فقد ثبت في العقل إباحة ذلك، فالشرع مطابقة إذا، وهذا صحيح، فإنا قد بينا أن ما لا ضرر على مالكه إذا انتفع به مباح في الشرع. وجواب آخر: أن انفكاك العقل من شرع لا يؤدي إلى المحال الذي ذكروا، لأن المكلف يقول: "إن لي إلهاً حكيماً، ولا يجوز أن يحرم على المنافع والأحجام، لجواز أن يكون في الأمرين مفسدة، لأن الانفكاك عن ذلك (يستحيل مني) ولا يجوز أن يكون أحدهما

حسناً، ولا (يثبته) لي بدليل عقلي أو شرعي، فإذا لم ينفرد أحدهما بالحسن، ولم يجتمعا في القبح، ثبت أنهما يجتمعان في الحسن". وجواب آخر: لو كان انفكاك العقل من شرع يؤدي إلى هذا المحال، فما يصنع الناظر عند ابتدائه بالنظر قبل وصوله إلى النظر في النبوات. فصل ونخص من قال: إنها على الوقف بأن نقول: هل (يتصور) عندكم انفراد عقل عن شرع أم لا؟ فإن قالوا: لا يتصور. فقد بينا ذلك في رأس المسألة وإن قالوا: يتصور (ولكن) لم يوجد. (قلنا): فكلامنا فيما لو انفرد العقل (عن) الشرع، هل كان يحسن منا الإقدام على هذه المنافع أم لا؟ فإن قلتم: لا يحسن، فقد قلتم بالحظر، وإن قلتم يحسن

فقد قلتم بالإباحة، وإن قلتم منها ما يحسن، فقد قلتم: بأن هناك (أصلاً) يدل على إباحة المباح وحظر المحظور، فلا وجه للتوقف. فإن قيل: نقول: إن العقل لا يحسن ولا يقبح. (قلنا): فالعاقل لا يمكنه الانفكاك عن (الفعل) أو الترك، فهل يذم في الأمرين أو لا يذم فيهما؟ فإن قالوا: لا يذم فقد قالوا: بالإباحة، وإن قالوا: يذم فقد ألزموا الإنسان/202 ب الذم بما لا يمكنه الانفكاك عنه، وإن قالوا لا ندري، فقد جوزوا الذم على ما لا يمكن الانفكاك (منه)، ومعلوم بطلان ذلك، ثم يقال: بماذا علمت أن العقل لا مجال له في إباحة ولا حظر؟ إن كان بالشرع فبين، ولأن كلامنا في عقل منفك عن شرع. أو قال: علمت بالعقل فقد أقر بأن العقل يقدر الحكام ويدل عليها. دليل آخر: يقال لهم: هل تعلمون إباحة الوقف أم لا؟. فإن قالوا: لا نعلم. قلنا: فلِمَ أقدمتم عليه؟ وهلا أقدمتم على سائر المنافع كما أقدمتم على الوقف؟

وإن قالوا: نعلم إباحته. قيل لهم: بماذا علمتم؟ فإن قالوا: بالعقل فقد استباحوا أشياء بعقولهم، وإن قالوا: بالشرع فكلامنا فيما قبل الشرع، (وقبل معرفة دليل الشرع). دليل آخر: إن الأشياء لا يجوز خلوها من إباحة أو حظر، إذ اجتماعهما لا يمكن، لكونهما نقيضين، ونفيهما عن الأشياء لا يمكن، لأنه يجعل الأشياء (عبثاً) وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}، ولأنا لا نعقل فعلاً لا مباحاً ولا محظوراً. فإن قيل: أقول إنها لا تخلو من ذلك، ولكن لا أعلمه فأقف. قلنا: فمن أين علمت أن حكم الله الوقف؟، فلعل الوقف حرام أيضاً. (واحتج الخصم) بأن الحظر في اللغة المنع والإباحة الإذن وفي الشرع الحظر ما علق الشرع على فعله العقاب، والإباحة ما لم يجعل فيها ثواباً ولا عقاباً، ولم يوجد واحد منهما فوجب الوقف. والجواب: أن بعض مخالفيك لا يسلم ما ذكرت، ويقول:

المباح هو الحسن الذي لا يترجح فعله على تركه، والحظر هو القبيح. وقيل: ما فعله وتركه سواء في باب المدح والذم، فيحتاج إلى الدليل على ما ذكرت، ثم هب أن هذا حده في الشرع فما حده في العقل؟، وكلامنا في العقل قبل ورود الشرع، على أنك علمت أن العقل لا يحظر ولا يبيح [إلا] (بالشرع) فقبل ورود الشرع من أين علمت: أنه لا يحظر (ولا يبيح)؟. (وجواب آخر): إذا لم تجد دليل الإباحة والحظر، فمن أين قلت (بوجوب) الوقف؟ فإن قال:/203 أبدليل وجب ذكره، وإن قال: لأنه إذا عدم الإباحة والحظر لم يبق إلا الوقف.

قلنا: لا نسلم، (وكيف) يكون عدم دليل حكم دالاً على إثبات حكم آخر. فإن قال: المجتهد إذا تعارض عنده الدليلان في الحادثة وجب عليه أن يقف حتى يتبين له. قيل: نعم. غير أنه لا يقول: حكم الله في هذه الحادثة الوقف، وإنما يقول: إلى الآن لا أعلم الحكم فيها فقولوا: لا نعلم حكم الأعيان والانتفاع بها قبل ورود الشرع، (مع اعترافكم) أن حكمها إما الحظر، وإما الإباحة، ولا تقولوا: حكمها الوقف. وجواب آخر: أنه قد اجتمع العقلاء على أن للعاقل أن يتنفس في الهواء ويسد رمقه، ويتحرك في الأماكن ولا يمتنع منه لعدم الشرع، فيجب أن يقولوا في بقية المنافع كذلك. فإن قيل: كذلك نقول: ولسنا نمنعه من الانتفاع (بكل المنافع). (قلنا): فهذا معنى ما نقول، لأنه إذا لم يكن ممنوعاً منه ولا مأثوماً عليه فهو مباح. واحتج: بأنه لو كان العقل يوجب في هذه الأعيان حكماً لما جاز أن يرد الشرع بخلاف (ذلك، لأن الشرع لا يرد بخلاف) مقتضى العقل.

والجواب: أن ما ثبت بالعقل ينقسم قسمين فما كان منه واجباً لعينه كشكر المنعم، والإنصاف، وقبح الظلم، فلا يصح أن يرد الشرع بخلاف ذلك، وما كان وجب لعلة أو دليل، مثل مسألتنا هذه، فيصح أن يرفع الدليل والعلة، فيرتفع ذلك الحكم، وهذا غير ممتنع كفروع الدين كلها تثبت بأدلة، ثم تنسخ الأدلة فيرتفع الحكم، وكذلك اجتهاد الأنبياء يثبت (ثم يرد النص من الله تعالى بغير ذلك، وهذا المعنى، وهو أنه قد يكون الشيء في وقت) مصلحة للمكلفين ولطفاً بهم، فيباح، ثم يصير في وقت آخر مفسدة في التكليف، فيحرم، وقد قال الشيخ أبو الحسن التميمي: لا يجوز أن يرد الشرع في الأعيان بما يخالف حكمها في العقل إلا بشرط منفعة تزيد في العقل أيضاً على ذلك الحكم، نحو ذبح الحيوان أباحه الشرع لما فيه من المنافع الزائدة على (إيلامه)،

وكذلك (إيلامنا) بالفصد، والحجامة، وما أشبه، فعلى قوله (يمنع) أصل الدليل، وقد قيل: إن الشرع (يرد) بما لا يقتضيه العقل، إذا كان العقل لا يحيله/203 ب كتكليف ما لا يطاق وإن الله سبحانه يريد جميع أفعال العباد حسنها وقبيحها، ويعاقبهم في القبيح، وغير ذلك، ثم يبطل هذا بالوقف، فإنه قد ثبت عندكم، ثم يجوز مجيء الشرع بخلافه. واحتج: بأن الشرع ورد بتحليل أشياء وتحريم أشياء، فلو كانت جميعها مباحة لما ورد إلا بالتحريم، إذ وروده بالإباحة لا يفيد، وكذلك لو كانت جميعها محظورة لما ورد دالاً بالإباحة كما ذكرنا، فثبت أنه لا حكم لها في العقل. والجواب: أن هذا دعوى (من قال): أنه إذا ثبت في العقل شيء (لا يرد الشرع به)، ويكون فائدة ذلك تأكيده، ومعاضدته، وهل يرد الشرع إلا بمطابقة العقل، ولهذا (قد) ذكرتم في الدليل قبل هذا: إنه لا يجوز أن يرد الشرع بما يخالف العقل، وهذا مناقضة، ولهذا وردت الآيات بإباحة هذه الأعيان، وقد تقدم ذكرها.

واحتج: بأن هذه الأعيان ملك الله تعالى، له أن يمنع من الانتفاع (بها) وله أن يوجب الانتفاع بها، وقبل مجيء الشرع لا مزية لأحد الوجهين على الآخر (فوجب) الوقف. والجواب: أنا قد بينا أن للانتفاع مزية وحسنا، ثم يجب أن نقول: حكم الله فيها إما الإباحة أو الحظر، ولا نقول حكم الله تعالى فيها الوقف، ثم يبطل عليك هذا بتنشق الهواء والتحرك في الأماكن وسد الرمق، فإنك قد أبحت الانتفاع به قبل إذن المالك. (واحتج) بعضهم بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فأنكر على من حلل وحرم بغير إذنه. والجواب: (أن هذا إنكار) على من حرم، لأنه لما أنزل (لنا) رزقاً كان مباحاً فتحريمه افتراء، ثم هذا إنكار على من فعل ذلك برأيه من غير دليل، ونحن نقول: هذا فعله بدليل عقلي، ولأن القائل بالوقف لم يأذن الله له سبحانه، فهو داخل في جملة المنكر عليهم (والله أعلم).

واحتج بعضهم: (أن) العقل لا مجال له في الحظر والإباحة وإنما ذلك إلى الشرع. والجواب: أن ذلك غير مسلم، ومن سلم قال: إنما علمنا: أن العقل لا يحظر (ولا يبيح) بعد ورود الشرع، فأما قبل وروده فلا نعلم (ذلك)، ثم يلزم عليه الوقف، فإن العقل لا مدخل/204 أله (عندهم) في إيجاب الوقف وقد أثبتوه فبطل قولهم. والله أعلم. فصل واختلف أصحابنا رضي الله عنهم، هل في قضايا العقل حظر وإباحة، وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا، فقال أبو الحسن

التميمي رحمه الله تعالى: في قضايا العقل ذلك، حتى قال يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجباً كشكر المنعم والعدل والإنصاف، وأداء الأمانة ونحو ذلك، ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والجناية، وما أشبه ذلك، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين، وعامة الفلاسفة، وقال شيخنا: ليس في قضايا العقل ذلك، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلق بقول أحمد رضي الله عنه في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع، وهذه الرواية إن صحت عنه فالمراد بها الأحكام الشرعية التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم وشرعها، وبهذا القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة وهم.

الجهمية، وهذا يخرج وجوب معرفة الله تعالى، هل هي واجبة بالشرع حتى لو لم يرد لم يلزم أحداً أن يؤمن بالله ولا يعرف وحدانيته، ووجوب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع، يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع، ومن قال بالأول، قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له. وجه ذلك: أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله تعالى لا يكذب خبره، ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة، إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكم قبل الخبر عندهم، وإذا كان كذلك لم يأمن العاقل كون كل خبر ورد عليه أنه كذب، وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بها الكذاب المتخرص وفي ذلك يمنع الأخذ بخبر السماء (والأنبياء وبمعجزات) النبوة الدالة على صحتها، ولما وجب اطراح هذا القول (والاعتقاد) بأن الله جلت عظمته/204 ب منزه عن الكذب ومتعال عن تأييد المتخرص بالمعجز، ثبت أن ذلك إنما (قبح في العقل) وامتنع في الحكمة. ودليل آخر: أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه، ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه إذ لو كانا قادرين على ذلك، لكان

هو أيضاً قادراً، وكانا يقدران على خلق غيره وهو يعلم أنهما لا يقدران، فيعلم أن له خالقاً من غير جنسه، وخلق أبويه، ثم يرى إنعامه عليه (بإكماله)، وتسخير ما (يسخر له) من المآكل والمشارب والأنعام، وغير ذلك، وأقداره عليهم، ويخطر له: (أنه) إن لم يعترف له بذلك ويشكره، أنه يعاقبه، وإذا جوز ذلك، وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب، بالتزام الشكر. فإن قيل: كم يجوز أن يخطر (له) ما ذكرتم، يجوز أني خطر له أن له خالقاً. أنعم عليه، وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه، ويخاف متى تكلف له ذلك أن يسخط عليه، ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر، وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟، وما أصنع (يشكر) مثلك؟ ونحو ذلك، وفي هذا ما يمنعه عن التزام شيء من جهة عقله. والجواب: أن العاقل مع اعترافه بحكمة خالقه لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له، وتضرع إليه، وإن كان غنياً عن ذلك، لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى (شكره)، ولا أن شكره يقوم بإزاء النعمة عليه فيمتنع لعلمه

بغناه عن ذلك، وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل والتعظيم للمنعم في بداية العقول، (والحكيم) لا يسخط ما هذه سبيله، فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه، فوجب في عقله توخي ذلك، وصار مثال ذلك، أن يقال للعاقل في الطريق مفسدون يأخذون المال، ويقتلون النفس، (وسباع) تفترس الآدمي، ولا يقال له: أنت ما معك قليل (نزر)، والمفسدون قد استغنوا (عنك) بما قد أخذوا فلعلهم لا يعرضون لك (أنفة من قلة متاعك، والسباع قد افترست جماعة قد شبعت، فلعلها لا تعرض لك) فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك (ذلك) الطريق، لا الإقدام عليه، كذلك ها هنا. ودليل ثالث: أنه لو (لم) يكن في قضايا العقول (إلزام وحظر) لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلاً، لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه، فلم يسمع الخطاب كما أخبر/205 أ (الله

سبحانه وتعالى) عن قوم نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} فلا يلزمه شيء فلما علمنا أنه يجوز في عقله (أن) يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته، وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه (ودماره)، ثبت أن في عقل وجوب الإصغاء إلى الخبر وحظر الإعراض عنه ذلك قضية العقل (لا السمع). (ودليل رابع): أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة، وكفران النعمة، وحسن العدل والإنصاف، والصدق، وشكر المنعم، من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها، ولهذا (نرى) الدهرية، وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان بل أكثر (فدل) على أنهم استفادوا ذلك من العقل، لا من الأنبياء عليهم السلام، (فإذا) ثبت أن فيها تحسيناً وتقبيحاً، ثبت أن فيها حظراً وإباحة، وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه

نفسه على القبائل. (دليل آخر هو الخامس): أنا نجد الحمد على الجميل، والذمي على القبيح يلزمان مع وجود العقل، ويسقطان مع عدمه فلولا أنه مقتضى للقبيح والحسن لم يكن (لتخصيص العاقل) بالذم على القبيح، والمدح على الحسن معنى، وإذ قد وجدنا (ذلك) دل على أن في العقل حظراً وإلزاماً. ودليل سادس: (وهو) أن التكليف محال إلا مع العقل، ولهذا لا يكلف الشرع شيئاً إلا بعد كمال عقولنا فدل على أن السمع يعلم بالعقل، وإذا كان معلوماً به والعقل متقدم عليه، لوا تقف معرفته على الشرع، استحال أن يقال: طريق معرفته (تعالى) السمع، وكيف يتصور ذلك، ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول، ولا نعلم أنه رسول حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة، ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله

تعالى، (ولا نعرف التأييد من الله) حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة، ولا نعرف ذلك إلا بنور العقل الذي هو نوع من العلوم الضرورية، فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل. ودليل سابع: لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله سبحانه أن ينهى عن معرفته، وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب، كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات، ويوجب ما كان قد نهي عنه، فلما لم يجز ذلك دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع، وإنما ثبت بالعقل/205 ب الذي لا يتغير، ولا يجوز (نسخه ولا قلبه)، (وأيضاً يدل على ذلك عبارة ملخصة أن من وجد نفسه مؤثراً بآثار الصنعة مستغرقاً في أنواع النعم لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه وتولي تدبيره، وأنعم عليه، وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له والالتزام لشكره يموت على ما أغفل من النظر، وضيع من الاعتراف بالشكر، فإن العقل سبيل إلى إلزامه النظر لا محالة إذ لا شيء أقرب له إلى الإيمان من النظر فدل على وجوبه بالعقل. ودليل آخر: أن الله سبحانه وتعالى وهب العقل وجعله كمالا للآدمي، فإذا أغفل النظر فقد ضيع العقل إذ لم يقتبس منه خيراً وإذا

كان لا يقبح شيئاً ولا يحسنه، فوجوده وعدمه سواء، وهذا لا يقوله عاقل). واحتج الخصم: بظواهر الآي كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولم يقل حتى نجعل عقولاً وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ولم يقل بعد العقل، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} وغير ذلك من الآيات فجعل الحجة والعذاب متعلقاً بالرسل، فثبت أنه لا تثبت بالعقول حجة ولا عذاب. والجواب: أن الله تعالى بعث الرسل صلوات الله عليهم يأمرون بالشرائع والأحكام، وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال، ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعم ومزيدها في دار الخلود ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد، (ويكونون) شهوداً على أعمالهم، وقد قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}، وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وهذا بعد أن

يعرفوا الله سبحانه بعقولهم، ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل والتشبه بالحكمة التي جعلها الله فيهم، والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل، وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق والرسول لعله متخرص متحرف لم يخرج ذلك من قلبه، الرجوع إلى الآيات والسنة وهو يتوهم ما ذكرنا، وإنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد، وصدق الرسول، وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب، وعرف محكم الكتاب من متشابهه وعرف طريق الأخبار وما يجب فيها فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله. فإن قيل: فهذا تهوين (لأمر) الرسل، وجعلهم لا يعنون في التوحيد شيئاً، وإنما يفيد بعثتهم في الفروع، وإنه لا فائدة (في الآيات) التي ذكر فيها/206 أالتوحيد والدعوة إليه. والجواب: أنا نقول لهم في الأصول أعظم فائدة، لأنهم ينبهون العقول الغافلة، ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر ليسهل سبيل الوقوف عليها، كما يسهل من يقرأ الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز، ويبين له مواضع الحجة والفائدة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته، وأيضاً (فإن بعثتهم لتأكيد) الحجة، (فإنهم يؤكدون) الحجة على العباد كيلا يقولوا خلقت

لنا الشهوات وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر (بعقلنا) فقطع الله سبحانه حجتهم بالرسل، ألا ترى (أنه تعالى) قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر، ثم النذير (للبينة)؟. واحتج: بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر لوجب أن يكون (لمعرفة) الحسن والقبيح (أصل) في أوائل العقل، يترتب عليه ما سواه، ألا ترى أن (للعدم) والحدوث فيها (أصلاً)؟، ولو كان ذلك كذلك لكان من ينكر الحسن (والقبح) (متمسكاً بما يعقله) مغالطاً نفسه، لأنه جاحد ما ثبت في البداية مكابر. والجواب: أن (للحسن) والقبيح (أصلاً) في

بداية العقل وهو علمنا بحسن شكر المنعم، والإنصاف والعدل، وقبح الكذب والجور والظلم، ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء (إلا من العقلاء) من قال: لا أعرف ذلك بضرورة العقل، وإنما أعرفه بالنظر والخبر، فذلك مقر بالحسن والقبيح، ومدعى غير طريق الجماعة فيه (فيتكلم) في ذلك، ويبين له أن الجاهلية/136 أوعبدة الأصنام، ومن لم تبلغه الدعوة، يعلم ذلك كما (تعلمه) أهل الأديان، فسقط أن يكون طريقه إلا العقل وعلى أن القدم والحدوث (لهما) (في بداية العقل أصل) ثم الخلف في ذلك واقع، ولا يقال: إن مخالفنا مكابر لعقله. واحتج: بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاماً وحظراً على أنه لا يلزم، ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه، فإذا ثبت هذا، قلنا: يجب أن يكون ذلك التنبيه خبر الشرع لا الخواطر، لأن الخواطر/206 ب يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان، ومن ثوران المرة، وما أشبه ذلك، وإذا (كان كذلك) فيها لم يلتفت إلى تنبيهها، والتفتنا إلى

ما يوثق به، وهو خبر الشرع، (فإذا عدم) خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام، ولا حظر في ذلك. والجواب: أنه تنبيه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله، (من) منعم قصد الإحسان إليه، فإنه إذا خطر له نعمة عليه على ما ذكرنا ألزم عقله الشكر لا محالة، سواء تنبه على ذلك بوسوسة أو إلهام، وكذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحه، ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سبباً لهلاكه وعقابه، وأن يكون (ضده) سبباً لنجاته، فإنه يلزمه النظر في ذلك، سواء كانت الخطرة من الملك أو الشيطان، فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء، ثم يلزم الحدوث والقدم لا يكون تنبيه، ثم ذلك خاطر عقلي، ولا يقال: يقف عليه تنبيه الشرع. واحتج: بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ، وليس العقل موقوفاً على ذلك من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلاً، وإنما ذلك (عقله) قبل بلوغه، فبان أن العقل لا يوجب شيئاً ولا يحظره. والجواب: أن الموقوف من التكاليف على البلوغ وهو تكليف الشرعيات خاصة فأما الأحكام المستفادة بالعقل (فإنها تلزم) الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفصل به بين الحسن والقبيح فلا يسلم ما ذكروه.

باب الاجتهاد ومسائله وصفة المجتهد

باب الاجتهاد ومسائله وصفة المجتهد مسألة الحق في قول المجتهدين في أصول الدين في واحد وما عداه باطل، نص عليه إمامنا أحمد رضي الله عنه في مواضع، وبه قال عامة العلماء، وحكى عن عبيد الله بن المحسن العنبري: أن المجتهدين في الصول من أهل القبلة جميعهم مصيبون مع اختلافهم.

لنا: أن معنى قولنا مصيب مأخوذ من إصابة مقصده، فإن كان من أفعال الجوارح فالمراد به (أن فاعله أصاب ما كلف، مأخوذ من إصابة الرامي بسهمه الغرض وإن كان من حيز الاعتقادات فالمراد به) أن معتقده أصاب به الحق. وقيل: أصاب به الحسن، وإن كان من باب الخبر، فتعلق القول بالمخبر عنه على ما هو به، وإذا/207 أثبت هذا لم يجز أن يقال: إن اعتقاد الإنسان أن الله تعالى يرى في حال واعتقاد الآخر أنه لا يرى (بحال صوابان، لأنهما يتنافيان، وكذلك القول في كل) اعتقادين ضدين، وكذلك الإخبار عن نفي وإثبات لا يجوز أن يكون كل واحد منهما متناولاً للشيء على ما هو به، لأنهما يتنافيان. فإن قيل: المراد بذلك أنهما حسنان، لأن المكلف (أصاب) (بكل) واحد منهما ما كلف. قيل: هذا غلط، لأنه إذا أخبر أحدهما، بأن العالم قديم، والآخر بأن العالم محدث، فأحدهما متناول للشيء (لا) على ما هو به، وذلك جهل وكذب، والجهل قبيح، والكذب قبيح، والقبيح لا يتناوله التكليف.

فإن (قيل): ما تنكر أن يكون كل واحد منهما كلف أن يظن ما أداه اجتهاده إليه، فإذا ظن ذلك كان مصيباً لما كلف.؟ قلنا: إنما يكلف الظن فيما يتعذر عليه فيه العلم، والعلم غير (متعذر) في مسائل الأصول، ولهذا يدعي كل واحد منهم: أنه عالم بما ذهب إليه يقيناً لا ظناً، ثم نلزمهم (أن يجوزوا قول) اليهود والنصارى، ويقول: أنهم كلفوا ما يغلب على ظنهم مع شبههم، ويكونون مصيبين في ذلك، وهذا فرق الإجماع والخروج عن الإسلام. دليل آخر: (أن) كل قولين لا يجوز (ورود) الشرع بصحة كل واحد منهما، لم يجز أن يكونا (صوابين) كقول المسلمين بالتوحيد، وقول غيرهم (بالتثنية)، وقول النصارى بالتثليث. (واحتج الخصم): (أنه) إذا جاز أن يكون كل مجتهد مصيباً في الفروع جاز مثله في الأصول.

والجواب: أنا لا نسلم الأصل، ثم هو جمع من غير علة، ولأن الفرق بينهما بأن الفروع ليس عليها أدلة (قاطعة)، ويجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين فيها في حق شخصين كالصلاة، (تحرم) على الحائض وتجب على الطاهر، فجاز القول فيها: بأن كل مجتهد مصيب لخفتها بخلاف الأصول فإن عليها أدلة قاطعة، ولا يجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين/207 ب فيها، فلم يجز الحكم فيها، بأن كل مجتهد مصيب. فصل الحق من قول المجتهدين في الفروع في واحد، وعليه أمارة، وعلى المكلف الاجتهاد في طلبه حتى يعلم أنه وصل إليه في الظاهر دون الباطن نص عليه في رواية بكر بن محمد، فقال: إذا اختلفت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطيء، (فبين) (أن) الحق

في واحد، وأنه لا يقطع على خطأ مخالفه، لأن عليه أمارة تكسب المجتهد (غلبة ظن) لا قطعاً ويقيناً، ولهذا قال في أثناء الرواية، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يدري أصاب أو أخطأ. معناه يجتهد في طلب الحق بذلك الدليل وهو لا يوجب القطع على إصابته، وبه قال المروزي، وأبو علي الطبري، وقال الأصم، وابن عُلية.

والمريسي: الحق واحد وعليه دليل كلف المكلف إصابته، (فإذا) أداه اجتهاده (إليه علم) أنه وصل إليه يقيناً وينقض به حكم من خالفه، وحكاه بعضهم عن الشافعي، واختاره

أبو الطيب الطبري، وأبو إسحاق الإسفراييني، وقد أومأ عليه أحمد في رواية بكر بن محمد في حاكم حكم (في) المفلس: أنه أسوة بالغرماء، يرد حكمه، فبين: أنه يقطع على خطأ خصمه ونقض حكمه، وقال أبو الهذيل وأبو علي، وأبو هاشم: إن كل مجتهد مصيب في الاجتهاد، وفي الحكم الذي أداه إليه اجتهاده (وما كلف غير الاجتهاد)، وليس على الحق دليل مطلوب. وحكى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله، وحكاه ابن

الباقلاني عن أبي حسن الأشعري، (واختاره)، وقال الكرخي: مذهب أصحابنا جميعاً: إن كل مجتهد مصيب لما كلف من حكم الله تعالى، والحق عند الله في واحد، وهو الأشبه الذي لو نص على الحكم لنص عليه، ولا شك أن ذلك واحد إلا أن

المكلف لم يكلف إصابته، وحكاه بعضهم (عن الشافعي) أيضاً، (وحكى رواية) عن الجبائي)، والكلام في المسألة في فصول أربعة أحدها: هل الحق في واحد أم لا؟ والثاني: هل (عليه) دليل أم لا؟ والثالث: هل ذلك الدليل يوجب القطع أو الظن. والرابع: الكلام في الأشبه المطلوب، ونحن نذكر الأدلة في كل فصل إن شاء الله تعالى. فالدليل على أن الحق في واحد: قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فنص على أن الحق في واحد، وأنه فهمه سليمان عليه السلام، لو كانا مصيبين في الحكم، لم يكن سليمان مختصاً بفهمها، لأن داود عليه السلام قد فهم أيضاً حكمه وأصاب فيه.

فإن قيل: يحتمل أن يكون الحكم الذي حكم به داود كان هو الحكم في شرعهم، ثم نسخ ذلك، فعلم بالنسخ سليمان ولم يعلم به داود فحكم فأصاب. قيل: إنما يوصف بالفهم من سمع الشيء المشتبه الغلق ففهمه بفكره في أمارات الصواب فيه، فأما من أخبر بالحكم وأعلم به، ولم يعلم به غيره لا يقال: فهم دون غيره، وإنما يقال: سمع وأخبر دون غيره. وجواب آخر: أن هذا التأويل خطأ، لأن داوود عليه السلام كان النبي والوحي (ينزل عليه)، وسليمان بعده صار نبياً، ولهذا قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فكيف يعلم (بالوحي) من ليس بنبي، ولا ينزل (عليه)، ولا يعلم به من أنزل عليه. فإن قيل: فالآية حجتنا، لأنه قال: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} لو كان داود وقد أخطأ لم يصفه بأنه آتاه حكماً وعلماً،

فثبت أن اجتهاده كان صواباً (وعلماً). قيل: الله تعالى لم يقل: إنه آتاه حكماً وعلماً في هذه (القضية) والحكومة، فيحتمل: أنه آتاه في غيرها، أو يكون: {كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام، ثم إن أحدهما فهم هذه الحكومة، والآخر لم يفهمها. فإن قيل: كيف يجوز الخطأ على الأنبياء عليهم السلام. (قلنا): يجوز عليهم، ولا يقرون عليه، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله. فإن قيل: فيحتمل أن يكون ذلك في شرع داوود، فأما شرعنا فليس الحكم فيه/208 ب كذلك. (قلنا): شرع من قبلنا إذا أخبرنا الله به، ولم يقرنه بنسخ فهو شرع لنا، على (أنا) نقول: (إن) داوود كلف ما أدى اجتهاده إليه، وكذلك نقول: الحكم في شرعنا مثله. ودليل آخر: روى عن عمرو بن العاص، وابن عمر وأبي هريرة، غيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله

أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وهذا الخبر، وإن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول وأجمعوا على صحته، فصار بمنزلة المتواتر، ووجه الحجة منه: أنه بين أن المجتهد (يصيب) ويخطيء، فدل على أن الحق في واحد يصيبه المجتهد تارة ويخطئه أخرى. فإن قيل: المراد به: أنه أخطأ نصاً لو ظفر به لوجب عليه (حكمه). (قلنا): إن كان المجتهد قد استقصى طلب النص، فلم يمكنه الظفر به فهو يصيب عندكم، وعند غيركم في الاجتهاد والحكم، لأنه لا يلزمه أن يحكم بما لم يبلغه من النصوص، ولا سبيل له إليه ولا يسمى مخطئا، كما (لا يسمى) من لم تبلغه شريعة الرسول بأنه قد (أخطأ)، وإن لم يستقص النظر في طلب النص فهو مخطيء في الحكم والاجتهاد، ولا يستحق عندكم الأجر، بل هو مذموم. فإن قيل: إنما جعل ثواباً لاجتهاد، فدل على أنه أصاب باجتهاده ما كلف.

(قلنا): الخطأ لا يثاب عليه، وإنما يثاب على قصده إلى الصواب واجتهاده في طلب الحق، وهو قولنا. فإن قيل: المراد بهذا (الخبر) خطأ الأشبه. (قلنا): لا معنى للأشبه الذي تذكرون، وسنبين ذلك إن شاء الله. خبر آخر: روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا بعث جيشاً قال لهم في وصيته: "فإذا حاصرتم حصناً أو مدينة، فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله، فلا تنزلوهم، فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم"، وهذا يدل على أن لله حكماً في الحارثة، وأنه ليس هو ما يؤدي إليه الاجتهاد قطعاً ويقيناً. فإن قيل: أراد بذلك مخافة أن يحكموا فينزل الله تعالى حكماً غير (ذلك الذي حكموا به). (قلنا): فهذا يدل على أن لله حكماً، قد يدركه

المجتهد، وقد يخطئه،/209 أولأنه لو كان الحكم في حقهم الاجتهاد لم ينه عنه مخافة أن يتغير الاجتهاد، كما ينهى عن العبادات مخافة أن تنسخ وتغير، بل يؤمر بها. (والله أعلم). ودليل آخر: أن المسألة إجماع الصحابة روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال: "أقول في الكلالة برأي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان"، وعن عمر رضي الله عنه: أنه قال لكاتبه: اكتب: "هذا ما رآه عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر"، وكذلك قال في قضية قضاها: "والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ"، ذكره أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه، وقال علي رضي الله عنه لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبد الرحمن رضي الله عن الجميع: فقالا: لا شيء عليك، فإنما أنت مؤدب: إن يكونا اجتهدا فقد أخطيا، وإن كانا ما اجتهدا فقد غشاك، عليك الدية، فرجع عمر إلى رأيه، (ولم ينكر عليه تخطئتهما)، وقال علي أيضاً في إخراج الخوارج:

لقد عثرت عثرة لا تنجبر ... سوف أكيس بعدها وأستمر [أرفع من ذيلي ما كنت أجر] ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وقال ابن مسعود رضي الله عنه (في قصة بروع بنت واشق): أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا يتقي زيد يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا؟، وقال: من شاء باهلته في العول، وقالت عائشة رضي الله عنها: أبلغني زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. وغير ذلك مما روى عنهم، وهذه الأخبار يحصل بها التواتر من طريق المعنى لكثرتها، واختلاف طرقها مع اتفاق معناها. فإن قيل: لعل (بعضهم) نسب بعضاً إلى التقصير في النظر، (فهذا خطأه. قلنا: هذا سوء ظن في الصحابة رضي الله عنهم، وأنهم فرطوا وقصروا في النظر) (وأفتوا بالخطأ) من غير اجتهاد على أن الواحد منهم كان ينسب الخطأ إلى نفسه مع استقصائه في الاجتهاد،

ولهذا بقي ابن مسعود في مسألة المفوضة التي مات (زوجها) عنها قبل/209 ب أن يفرض لها مهراً، ثم قال: أقول فيها (برأيي، الخبر). فإن قيل: معنى قوله أخطأ أي: أخطأ حكماً لو حكم به كان ثوابه أكبر. (قلنا) قد أضافت الصحابة الخطأ إلى الشيطان، ولا يجوز أن يكون العدول عما ثوابه أكثر إلى ما ثوابه أقل من الشيطان، ولأن إطلاق الخطأ هو العدول عما كلفه الإنسان، ومتى لم يرد ذلك استعمل مقيداً فقيل أخطأ في كذا وكذا. فإن قيل: فكيف يحكم بالثواب على الخطأ؟ (قلنا): الثواب ليس على الخطأ، وإنما هو على الاجتهاد في إصابة (الصواب)، (فإذا) لم يوفق له عذر في ذلك، وأثيب في اجتهاده.

فإن قيل: فهذا إغراء بترك الاستقصاء في الاجتهاد، لأنه يقول أكثر ما في ذلك الخطأ وأنا مأجور عليه. قيل: ليس كل من علم أنه لا مضرة عليه في الفعل كان إغراء، ألا ترى أن من بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لا يخشى ضرر النار وليس هو مغرى بالمعصية؟، على أن المجتهد لا يكون مغرى، لأنه لا يعرف المرتبة التي إذا انتهى إليها في النظر غفر له تركه للنظر فيما بعد، وإنما علم ذلك عند الله سبحانه. فإن قيل: فقد (صرحوا بالخطأ وعندكم أنه لا يخطيء خصمه. قلنا: لم يصرحوا بيقين الخطأ، لكن) قالوا: إن يكن خطأ وإن يكن صواباً، فلم يقطعوا، (ومن) خطأ خصمه، (فلأنه) يعتقد (أن) الحق في واحد، وأن خصمه مخطيء (إما ظناً وإما يقيناً). فإن قيل: فقد روى أن الصحابة اختلفوا (وسوغ) بعضهم لبعض الاجتهاد، ولم يذم بعضهم بعضاً، ولا منع من حكمه

والاقتداء به، فدل على أنهم علموا أن جميعهم على الحق، ويدل على ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما بعث إلى زيد بن ثابت يسأله عن زوج وأبوين، فقال: (للأم) ثلث الباقي، فقال ابن عباس: أتجد في كتاب الله ثلث الباقي، فمن أعطى ثلث جميع المال (مخطيء)؟، فقال زيد: لم يخطيء ولكنه شيء رأيناه وشيء رآه. وقال عمر في (المشركة)، وقد قضى بالتشريك (وكان) في العام الماضي لم يقضي (به): تلك على ما قضيناه وهذه على ما قضينا، وروى فرضنا، (وولى) أبو بكر زيداً القضاء، وكان يخالفه في الجد، وكذلك (ولى) عمر ابن أبي كعب وشريحا، وكانا يخالفانه.

والجواب: أنا قد رويا تخطئة بعضهم بعضاً في قصة التي أجهضت ذا بطنها، وفي قول ابن عباس: ألا يتقي الله زيد، وغير ذلك، وإنما لم ينكر بعضهم على بعض، ويمنع من الاقتداء به، لأن الشرع جعل المخطيء موضوعاً خطأه مثاباً عليه، ولأن هذه الأحكام لا يعلم الخطأ فيها يقينا، وإنما هو (غلبة) ظن، ولأن الإنكار ونقض الأحكام يقضي إلى التشاجر والفتنة والتضييق على العوام، لأن كل واحد منهم يقول: اقتد بي ولا تقتد بفلان،/210 أولا يعلم العامي أيهما يقلد ولا من المصيب، وكذلك في نقض الأحكام يقضي إلى أن لا يستقر حق، لأن كل قاض رأى من قبله قد خالفه (فنقض) حكمه، فلا يستقر لأحد ملك ولا حق، وهذا لا يجوز، فلهذا أمسكوا. ودليل آخر: (ولأنه لو) كان جميع المختلفين مصيبين لم يكن لمناظرة بعضهم لبعض فائدة، لأن كل واحد منهم يعتقد أن الآخر قد أدى ما كلف وأصاب في فعله، فلما رأينا (المتكلمين) أجمعوا على حسن النظر، وعلمنا أن كل واحد منهم يناظر صاحبه ليرده عما هو عليه، علمنا أن الحق في واحد وإلا فالمسلم لا يناظر المسلم بقصد أن يرده عن الصواب الذي هو عليه.

فإن قيل: إنما يتناظرون، لأن كل واحد منهم يعتقد أن أمارته أقوى من أمارة خصمه، فهو يناظره ليريه ذلك. ومتى أظهر أحدهم أن أمارته أقوى (يلزم) خصمه الرجوع إليها وصارت هي فرضه. قلنا: وما الفائدة لمُبين أمارته أنها أقوى أن يغير فرض خصمه وينقله مما هو صواب وحق عنده إلى ما هو صواب وحق أيضاً؟، وهل هذا إلا عبث، فبان: أنه يقصد أن يرده إلى الأمارة الأقوى التي هي علامة على الحق المطلوب (وتنزه عن كونه على) الخطأ الذي ليس بمطلوب. ودليل آخر: أن كل مسألة من مسائل الاجتهاد لا يخلو أن يكون فيها أمارة هي أقوى من غيرها، أو يكون فيها أمارتان متكافئتان، على قول من يذهب إلى تكافيء الأدلة، فإن (كانت) فيها أمارة هي أقوى، فقد كلف المجتهد طلبها والحكم بها، ومتى كان فيها أمارتان متكافئتان، فقد كلف معرفة تكافئهما والتخيير بين (حكميهما)، وإنما قلنا (أنه) يكلف ذلك، لأن المجتهد طالب ومعلوم أنه لا يطلب الأمارة الأضعف فثبت أنه يطلب الأقوى، وهذا ما نقوله أن المجتهد يكلف طلبه. ودليل آخر: أن المجتهدين إذا اختلفا في بيع، فقال أحدهما: إنه صحيح، وقال الآخر: إنه باطل، أو اختلفا (في مسكر)

(فقال/210 ب أحدهما حلال، وقال الآخر: حرام، لم يخل أن يكون قولهما فاسداً أو صحيحاً أو أحدهما (صحيحاً) والآخر (فاسداً)، لا يجوز أن يكون قولهما فاسداً، لأنه يؤدي إلى إجماع الأمة على الخطأ، (وهذا لا يجوز)، (ولا يجوز) كونهما صحيحين فإنهما يتنافيان، (فإن صحيحاً وفاسداً) (حلالاً حراماً) (لا يجوز)، لأنه) محال، لم يبق إلا أن أحدهما صحيح والآخر فاسد. فإن قيل: إنما يتنافى الحلال والحرام والصحيح والفاسد في حق واحد، فأما في حق اثنين فيصح اجتماعهما، لأن أحدهما يغلب على ظنه فساده، وكذلك النبيذ يغلب على ظن بعضهم، أنه حلال وعلى ظن بعضهم: أنه حرام، وهذا جائز كالميتة حرام على غير المضطر حلال للمضطر وكذلك فعل الصلاة واجب على الطاهر حرام على الحائض. قلنا: المجتهد لا يغلب على ظنه الإباحة والتحريم والصحة والفساد ف يحقه خاصة، وإنما عنده أنه كذلك في حق الكل، وعند الله سبحانه

وتعالى، ويخالف (الحكم في حق) الطاهر والحائض فإنه مختلف، لاختلاف الخطاب فأمرت (الطاهرة) ونهيت الحائض، وكذلك في الميتة فأما في مسألتنا (الخطاب) في حق الكل واحد، والأمارة عامة في حق الجميع، فلا يجوز أن يثبت بها في حق أحدهما الإباحة وفي حق الآخر الحظر، وفي حق (أحدهما) الصحة، وفي حق (الآخر) الفساد. فإن قيل: يجوز، (ذلك) لأن أحدهما يغلب على ظنه أمارة الإباحة، والآخر أمارة التحريم، والإنسان مكلف بما غلب (على ظنه) لا غير. (وقلنا): لا يجوز أن يكون المثبت للأحكام (غلبة) الظن، (وإنما) تثبت الأحكام بالدليل أو الأمارة، ونحن (نتكلم) على ذلك في فصل بعد هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

دليل آخر: (وهو أنه) لا يخلو المجتهد أن يكون مكلفاً (بطلب) الحكم أو (بطلب) الاجتهاد، أو ليصير مجتهداً، لا يجوز أن يقال كلف طلب الاجتهاد، فإن الطلب (هو الاجتهاد) نفسه، (والشيء) لا يكون طريقاً لنفسه ولا يجوز أن يقال: كلف الاجتهاد ليصير مجتهداً، فإن الاجتهاد يراد لغيره، لا لنفسه فثبت (أن يقال): كلف طلب الحكم/ 211 أباجتهاد، وثبت أن هناك حكماً مطلوباً. فإن قيل: إنما كلف الاجتهاد ليغلب على ظنه أن الحكم بهذه الأمارة أولى من الحكم بغيرها. (قلنا): الأمارة إنما تكون على حكم موجود حال الطلب، فأما تكليف حكم ربما حدث بعد الطلب، وربما لم يحدث، لا يجوز طلبه، والحكم بأن عليه (أمارة)، وعندهم أن الظن والحكم أمر يحدث بعد الطلب. فإن قيل: (نقول): كلف طلب الأشبه.

(قلنا): إن كان الأشبه ما ذكره الكرخي، وهو الذي لو نص الله تعالى على الحكم لنص عليه، فهو وفق قولنا، لأن هناك شيء مطلوب، وما عداه باطل وذلك هو الحق إلا أنه مخالف في الاسم فسماه (الأشبه)، وإن أردتم الأشبه الذي يقوله أبو هاشم، وهو الحكم بما هو أقوى في (ظنه)، فسيجيء الكلام (عليه)، (وعلى) أن الظن لا يدل بنفسه على الحكم فيما بعد إن شاء الله تعالى. (واحتج الخصم) بقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فأخبر أن القطع والترك (بأمر الله تعالى) فهما صوابان مع كونهما ضدين. (والجواب): أنها وردت على سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرقها، فقالت بنو النضير: إنك كنت

تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك قطعت نخلنا وحرقته، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فأخبرهم أن قطعها وتركها (بأمر الله تعالى)، ونحن لا نمنع أن يرد الحكم من الله تعالى بالتخيير في الأشياء كما ورد في التخيير في كفارة اليمين، وإنما نمنع أن يكون الحكم من المجتهد وضده من مجتهد آخر كلاهما (صوابين). واحتج: (بقول النبي صلى الله عليه وسلم):"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فدل على أن كل واحد منهم على الصواب في اجتهاده. والجواب: أن المراد به أن العامي يقلد من أراد منهم أو بأيهم اقتديتم اهتديتم في (روايته) عني أو في أن قوله حجة إذا انفرد بدليل ما ذكرنا. فإن قيل: إذا ثبت أن العامي يقلد من شاء، (دل على أن الحق ليس في واحد بل كل منهم على الحق. قلنا: إنما جوزنا تقليد من شاء)، ولم يشترط عليه تقليد من معه الحق، لأنه لا طريق (له) إلى ذلك، إلا بأن

يتعلم الفقه، وفي إيجاب ذلك على كل واحد مشقة تقضي إلى الفساد والحرج. واحتج: بأنه لو كان الحق في واحد لنصب الله عز وجل عليه دليلاً حتى يفسق من خالفه ويأثم وينقض حكمه. والجواب: (أنه قد نصب تعالى عليه) دليلاً، لكنه في موضع مقطوع عليه، كنص القرآن والسنة المتواترة والإجماع، فمن خالفهما فسق وأثم ونقض حكمه، وفي موضع جعل الدليل أمارة توجب الظن كخبر الواحد والقياس وشهادة الأصول، وفيه يقع اجتهاد المجتهدين فلا يفسق من خالفنا، ولا ينقض حكمه، لأن ذلك الحكم غير مقطوع به. فإن قيل: فلو كان الحق ف يواحد لوجب أن ينصب عليه دليلاً مقطوعاً به كما ينصب في مسائل الأصول. (قلنا): الجواب: من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن الله تعالى قد نصب على الحكم دلالة قاطعة، وإن لم يدلنا بدلالة قاطعة على أن العلة هي علة حكم الأصل، وإنما كلفنا العمل بأولى العلتين، (وأقواهما)، (وأولى الأمارتين) وجعل لنا طريقاً

نعرف به أن إحدى العلتين أولى أن يتعلق الحكم بها، وأنها موجودة في الأصل والفرع، وأنه يجب علينا العمل بها في الفرع، وذلك الطريق هو الترجيح الذي تقدم ذكره، فإذا وجدناه أو أكثره في إحدى العلتين دلنا على أنها على الحكم وتارة يكون ذلك الترجيح معلوماً. مثل أن تكون العلة مؤثرة، يوجد الحكم بوجودها، وينفي بنفيها، كعلة الخمر دون الأخرى، وتارة يكون ذلك الترجيح مظنوناً، لكثرة شبه إحدى العلتين بالأصول دون الأخرى، مثال الأولى: كون الغيم الأسود الكثيف في الشتاء يكون أمارة على المطر دون الغيم الأبيض. ومثال الثانية: أن يكون غيمين كثيفين أو خفيفين وأحدهما أكثف من الآخر، (فتكون) أمارته أولى في الظن من الآخر، وإن جاز أن يمطر الخفيف، ولا يمطر الكثيف. والوجه الآخر في الجواب: أنه قد كلف الحكم (وجعله) واحداً، وإن لم يقم على ذلك دليلاً/212 أمقطوعاً عليه بدليل أنه حكم بشاهدين، وألزم الحكم بهما، وقولهما يوجب (غلبة) ظن لا قطعاً، وكذلك (ألزمنا) التوجه إلى القبلة والدليل (عليها) ظناً لا قطعاً، وعلى كلا الوجهين لا يوجب التفسيق والتأثيم لغموض

طريق الدليل، (ولكوننا) لا (نصل) إلى الحق قطعاً، ولأن طريق التأثيم والتنسيق الشرع، وقد ورد بالعفو عن المخطيء وتحصيل الأجر له، وأجمعت الصحابة على أن المخطيء لا يفسق [ولا يؤثم] مع كونها صرحت بالخطأ لمخالفها (ولأنفسها)، وأما نقض الحكم فلا نقول به لما ذكرنا من أن الطريق غير مقطوع به، وأن فعل ذلك يفضي إلى الهرج، وإلى أن لا يستقر لأحد حق ولا ملك، وفي ذلك ما يوجب تركه. واحتج: بأنه لو كان الحق في واحد ما أجمع على التسويغ للعامي تقليد من شاء من المجتهدين، فلما أجمعوا على ذلك دل على أن كل مجتهد مصيب. والجواب: قد تقدم عن مثل هذا بما فيه كفاية على أنهم (أجمعوا): (أنه) ليس على الحكم دليل (مقطوع به)، وإلا فلو كان مع أحدهما دليل مقطوع به لجاز أن (نقول): من أفتاك بخلاف هذا فلا تقبله ولا يسوغ (التقليد) لمن أراد. ولأنهم أجمعوا على أن المجتهد وإن أخطأ فالمقلد له قد سقط فرضه، وهو مصيب في تقليده، فلهذا لم يمنع.

واحتج: بأنه لو أداه اجتهاده في وقت إلى جواز شيء، ثم أداه اجتهاده في وقت آخر إلى حظره، يجب أن لا يجوز له أن يحكم بالثاني، لأن عنده أن ذلك خطأ حيث حكم بالأول. والجواب: (أن) عنده أنه خطأ ظناً لا علماً، وفي هذه الحال قد بان له أنه صواب أيضاً بالظن، وأن الأول خطأ فحكم في كل حال بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وصار كالحكم في مسألتين. واحتج: بأن اختلاف الفقهاء في الحكم كاختلاف القراء، ثم كل من (قرأ) بحرف نقول: هو مصيب (وصاحبه مصيب) أيضاً كذلك ها هنا. والجواب: أن هذا جمع بغير علة، ولِمَ كان كذلك؟، ثم اختلاف القراء يرجع إلى نقل متواتر، وإعلام الشرع (بأن) القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ولا يناقض بعضه بعضاً، ولهذا كل واحد من (القراء) له أن (يقرأ) /212 ب بحرفه وحرف غيره في حالة واحدة بخلاف مسألتنا، فإنه ليس للمفتي أن يفتي بالشيء وضده في حالة واحدة، لما ذكرنا من التناقض فافترقا.

واحتج: بأن حمل الناس على مذهب واحد يضيق، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فيجب أن يحكم بأن الحق في الجميع ليتسع (على الناس). والجواب: أنا لا نحملهم على مذهب واحد، لأنا لا نقطع بأن ذلك الحق المطلوب في هذا المذهب ثم يجب أن يقال فيما ورد به النص وأجمع عليه الناس: أنه تضييق ويجب أن يخالف ليتسع على الناس، ولأن كون الحق واحداً لتتوفر الدواعي على طلبه، ويكثر الاجتهاد فيعظم الثواب أولى من أن يقال: كل من ظن شيئاً بأدنى اجتهاد كفاه فيما كلف فيسقط البحث والاجتهاد في علل الشرع وحكمته، ثم يجب أن يقال مثل ذلك في أصول الدين طلبا للتوسعة على الناس. فصل ولله تعالى على الأحكام دليل من كتاب أو سنة أو قياس خلافاً لمن قال: لا دليل على الحكم سوى ظن المجتهد لنا: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فرد إلى الكتاب والسنة ولم يرد إلى الظن. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟، قال: بسنة رسول الله.

قال: فإن لم تجد؟، قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله". فذكر: أن الحكم بالكتاب ثم بالسنة ثم القياس، ولم يذكر الظن، وأيضاً فإن الناس (مجمعون) على (أنهم) يفزعون عند نزول الحادثة إلى الكتاب والسنة والقياس عند اجتهادهم وتناظرهم (بعضهم بعضاً) بذلك، ولا يقال: بعضهم لبعض هذه ليست بأدلة على الأحكام، وإنما الدليل هو الظن الذي يوجد عند الاجتهاد وأيضاً فإن الناس أجمعوا على أنه لا يجري المجتهد بظنه بأول خاطر حتى يبالغ في الاجتهاد، ويستفرغ وسعه، (فيغلب) على ظنه قوة الأمارة على غيرها من الأمارات، ويجب عليه العمل بها لا بما ظنه بأضعف الأمارات والخواطر، فدل على أن المطلوب طريق الحكم وهو الأمارة لا الظن، (وأن على الحكم أمارة)، وأيضاً فإنه/213 ألو كان لدليل هو الظن لاستوى العلماء والعوام في ذلك، لأن فرض كل واحد منهم ما ظنه كما يكون فرض كل واحد منهم ما علمه فيما يشترك العالم و (الجاهل) في معرفته من غير مسائل التقليد، وهذا لا يقوله أحد وأيضاً فإن الظن للحكم إنما يصدر عن أمارة، فلا

يجوز أن يكون هو الأمارة، لأنه يفضي إلى أن يكون الشيء أمارة نفسه، ألا ترى أنا برؤية الغيم الكثيف في الشتاء نظن مجيء المطر؟، ثم لا نقول: ظننا بمجيء المطر هو الأمارة على مجيء المطر، وأيضاً فإنا قد دللنا على أن (الحق) عند الله في واحد من المحال أن يكون قد كلف الناس ذلك الحكم، ولم يجعل إليه طريقاً. فإن قيل: إليه طريق وهو ظن المجتهد. (قلنا): ظن المجتهد لابد أن يحدث عن أمارة، وتلك الأمارة لابد أن تكون متعلقة بالحكم، وتعلقها به كونها طريقا إليه (وعلامة) عليه. (واحتج الخصم): بأنه لو كان عليه أمارة معلومة من كتاب أو سنة أو قياس، لوجب إذا نظر المجتهد فيها أن تؤديه إلى ما أدت إليه خصمه، (فمن) سلك طريقاً إلى مقصد، كل من سلكه أداه إلى المقصد. والجواب: أنها تؤديه إليه كما أدت إليه خصمه إذا كان قوتهما سواء، والتزام كل واحد منهما شروط الآخر ورتب الأدلة ترتيبه، فأما وأحدهما يجوز أن ينقص اجتهاده عن صاحبه، ويجوز أن يخل بشرط اعتمده خصمه، فلا يجب ذلك، ولهذا نعلم أن أصول الدين عليها

أدلة قاطعة، ثم ينظر فيه كل واحد من الخصمين، فلا (تؤديه) إلى ما أدت صاحبه لما ذكرنا من الإخلال بترتيب الأدلة أو الشروط أو ضعف (العلة) والقوة. واحتج: بأنه لو كان عليه دليل لفسق مخالفه ونقض حكمه. والجواب عن ذلك: ما تقدم، ولأن الدليل عندنا مظنون لا مقطوع، فلهذا لا يفسق به. واحتج: بأنكم تحكمون بالقياس وهو ظن المجتهد، فدل على أن الأمارة هي الظن. والجواب: أن القياس نتيجة الكتاب والسنة، لأن (العلة) تثبت في أصله بالأدلة المقطوع عليها ثم نجدها في (الفرع فنحكم بهذا، ولهذا إذا ترتب لنا شروط القياس وخلا عن معارضة ما هو أقوى منه، أحدث لنا قوة الظن بالحكم، فدل على أن القياس غير ظن الحكم. والله أعلم. فصل والدليل على أن (ذلك) الدليل غير مقطوع (به)

خلافاً لمن قال: هو مقطوع به: أن قولهم على الحكم في الفروع دليل مقطوع به (لا يخلو أن تريدوا بذلك أن أعيان الفروع تناولتها نصوص مقطوع بها)، (أو تعنون) أن الأمارات المتناولة للفروع عليها أدلة قاطعة توجب العمل بها، فإن أرادوا الأول فهو غلط، لأن أكثر الفروع لا نص فيها من القرآن، ولا من السنة المتواترة، ولا إجماع وإنما يتناولها أخبار (آحاد)، وقياس مظنون العلة، وما فيها قد تناوله آيات، فتلك الآيات قد قابلها أخبار آحاد ومقاييس خصصتها فصارت دلالة الآيات مظنونة أيضاً، ولهذا صارت تلك الفروع من مسائل الاجتهاد، وساغ الخلاف فيها، فصح أنه لا دليل قاطع فيها، وإن أرادوا الثاني فهو قولنا وزال الخلاف. (ودليل آخر): أنه لو كان عليها دليل مقطوع به لوجب أن يفسق مخالفه ويأثم، وينقض حكم من خالفه كمن حكم بما (خالف) نص كتاب أو تواتر أو إجماع، فلما لم يحكم بذلك، دل على أن دليلها أمارة مظنونة لا يلحق (مخالفها) ذلك. فإن قيل: إنما (لم) يؤثم (ويفسق) لغموض الطريق.

(قلنا): فيجب (أن يقولوا): مثل ذلك في الأصول، فلا يفسق المخالف فيها، ولا نؤثمه لغموض طريقه وما قلنا ذلك، بل (أثمنا) أو فسقنا، لأن أدلتها مقطوع عليها فثبت ما قلنا. (دليل آخر): أنا نعلم أن الحق في حق المدعي والجاحد مع أحدهما، ثم الدليل الذي نصب على ذلك أمارة مظنونة، وهي قول الشاهدين أو الشاهد واليمين، وكذلك القبلة واحدة، (ثم الدليل) عليها مظنون (في) الرياح والمياه والشمس والقمر والنجوم، فثبت أن الحق يجري في ثبوته الأمارة المظنونة دون الأدلة القاطعة. ودليل آخر: أن الناس أجمعوا أن المجتهد في الحادثة إذا حكم فيها بحكم ثم جاءته مثلها، أنه لا يقتنع بذلك الاجتهاد بل يجتهد ثانياً، ولو كان عليها دليل قطعي/214 أ، لما احتاج إلى ذلك كما لا يحتاج من عرف نبوة نبي بالمعجزات [أن يجتهد] في ذلك ثانياً، وكذلك من عرف صحة التوحيد وفيه نظر. (واحتج الخصم): بأن من الأحكام ما عليه نص القرآن

والسنة، أو الإجماع أو علة مؤثرة تشبه العقلية، (فيثبت) الحكم بثبوتها ويرتفع بارتفاعها، كعلة الخمر وغير ذلك، (في هذه) كلها أدلة قاطعة لا تخلو الأحكام عنها. والجواب: أنا قد بينا أن الأحكام لا يوجد في أكثرها ذلك وما يوجد (فيه) فدلالته مظنونة لموضع تخصيصه بأخبار (آحاد) ومقاييس، وأما العلة المؤثرة فأكثر ما تفيد (غلبة) الظن؛ وإلا فيجوز أن يكون الخمر (حرام) لغير الشدة المطربة، ولغير تسميته خمراً، وكون الحكم يوجد بوجودها، وينتفي بنفيها، لا (يدل) على القطع واليقين، ولهذا يثبت الحق على المنكر بالبينة وينتفي ثبوته بعدمها (ثم) لا يقال: البينة مقطوع بها، وكذلك أمارات القبلة. واحتج: بأن الحق في الأصول عليه أدلة قاطعة، فكذلك في الفروع، لأنها كلها أحكام الشرع.

والجواب: أنا قد بينا فساد ذلك فيما تقدم). واحتج: بأنه لو كان الحكم بالأمارة (لاحتاجت الأمارة) إلى أمارة تقويها، واحتاجت الأمارة التي تقويها إلى أمارة أخرى، إلى ما لا نهاية فسقط أن يكون الذي على الحق أمارة، وإنما هو دليل مقطوع به. والجواب: أن الأمارات التي تتعلق بها الأحكام عليها شواهد معقولة، وأدلة معلومة يتبعها الظن، (ويقوى) بها فيجوز الحكم عند ذلك، ولا يحتاج إلى معنى آخر ولهذا إذا رأينا الغيم الأسود (الكثيف) الندى في زمان الشتاء (قوى) ظننا: أنه ماطر، حسن ذلك، وكذلك إذا رأينا حائطاً منفسخ الأساس (متشقق) بالعرض ظننا وقوعه، وحسن الهرولة من تحته، وكذلك إذا رأينا (كثرة كمال التصرف) عند البلوغ حسن أن ينفك الحجر بالبلوغ، وكذلك إذا رأينا الشرع حرم الخمر عند وجود الشدة، ورفع التحريم عند ارتفاعها وأعاد التحريم عند عودها، قوى ظننا بالحكم بأنها هي العلة، وكذلك ما ثبت لنا بتنبيه النص كضرب

الوالدين وشتمهما، وكذلك قبول خبر من علمنا صدقه وتدينه وتنزهه، يحسن ولا يقبح، كذلك في مسألتنا (والله أعلم). فصل فأما من قال في الحادثة: أشبه ولكن المجتهد لم يكلف إصابته، وإنما كلف ما أدى إليه اجتهاده فلا معنى لقوله، لأنه/214 ب لا يخلو إما أن (يقولوا) الحق والمصلحة للمكلف في ذلك الأشبه أو الحق (والمصلحة) فيه، وفي غيره على البدل، أو لا مصلحة فيه، فإن قالوا: لا مصلحة فيه. (قلنا): فما وجه طلبه وليس بمصلحة؟، ولأنه إذا لم يكن (حقاً) (ولا مصلحة)، فكيف تقولون لو نص الله سبحانه لنص عليه، ولأنه إذا لم تكن مصلحته هذا، فما وجه مصلحته؟، فإن قالوا: مصلحته أن (يحكم) بأشبه الأمارات وأقواها. قيل (لهم): أكلفه الله الحكم بذلك أم لا؟

فإن قالوا: لم يكلفه. (قلنا): فما وجه طلبه ما لم يكلفه الله تعالى (طلبه). وإن قالوا: قد كلفه (الله تعالى) ذلك. قيل لهم: فمن لم يصب ذلك فقد أخطأ ما كلف، فكيف قلتم: كل مجتهد مصيب لما كلف؟، فإن قالوا: كل أمارات المجتهدين تتساوى في القوة. قيل لهم: فقد بطل أن يكون هناك أشبه مطلوب، ويجب بالحكم بالتخيير في المسائل كلها، وهذا لم يقله أحد، ولأنا نعلم قطعاً أن كل الأمارات في جميع الأحكام لا تكون متساوية ولهذا اختلف الناس، فقال بعضهم: لا يجوز أن تتساوى أمارتان بحال، ومنهم من قال: يجوز وذلك يتفق في قليل من المسائل، فمن قال: تتساوى الأمارات في جميع المسائل فقد خرق الإجماع، (ولا) يلتفت إلى قوله، وبطل هذا القسم. فإن قالوا: نقول: أن مصلحة المكلف في كل مسألة ذلك الحكم وغيره على البدل. قيل، فإذا الحكم في كل مسألة هو التخيير ويجب أن يكون هو المطلوب المتعبد به، ولم يقل ذلك أحد، ولأنه

يفضي إلى تكافؤ الأدلة في كل مسألة وهو خلاف الإجماع على ما بينا، وبطل هذا القسم أيضاً. فإن قالوا: فنقول: أن الحق والمصلحة للمكلف في ذلك الأشبه. قيل لهم: أكلفه الله تعالى إصابته والوصول إليه أم لا؟ فإن قالوا: لم يكلفه ذلك. (قلنا): فقد أباحه العدول عن الحق وعن مصلحته إلى المفسدة، وذلك غير جائز في الحكمة. فإن قيل: فقد كلفه إصابته. (قلنا): فهذا قولنا فيجب أن يكون مكلفاً لإصابته، فمن لم يصبه فقد أخطأ ما كلف، فكيف (تقولون): أنه مصيب لما كلف؟، ولأنه إذا كلفه إصابته يجب (أن يجعل) له طريقاً إلى ذلك، إما دلالة، وإما أمارة، وقد بينا: أنه ليس على أعيان الفروع دلالة قطع، فثبت أنها أمارة، والأمارة ضعيفة/215 أ، وقوية وليس يجوز أن يكون الطريق إلى ذلك، الأمارة الأضعف، لأن المكلف إذا عرض له أمارتان، ضعيفة وقوية، لم يجز له ترك القوية الأخذ بالضعيفة، فثبت أنه كلف أقوى الأمارتين، وأنها هي طريق

الحق وعليها علامات من التأثير والترجيح، والأدلة على ما بينا، فمتى ترك ذلك فقد أخطأ، وعندهم لا يخطيء، وتلخيص هذا: إنكم إذا قلتم: هناك أشبه، فلا يجوز ترك طلبه، لأن ترك طلبه ترك لطلب الحق والمصلحة، وذلك لا يجوز فإذاً قد كلف طلبه، وإذا كلف طلبه (فقد طلبه) ولم يكلف إصابته، فلا معنى للطلب ما لم يكلف إصابته، لأنه يكون عبثاً، فثبت أنه كلف إصابته فإذا ثبت تكليف إصابته، فلا شك أن عليه أمارة، لأنه لو لم يكن عليه أمارة لم يكن إليه (طريق)، والحكيم لا يكلف ما لا طريق إليه، وإذا ثبت أن عليه طريقاً فمتى عدل عنها فقد أخطأ ما كلف إصابته، وذلك ما نقول نحن، ولأنا قد دللنا أن الحق في واحد وأن غيره مخطيء في الظاهر بما فيه كفاية. واحتج (الخصم): بأن مطلوب المجتهد في القبلة القبلة، ولا يكلف إصابتها، وكذلك مطلوب مخرج الزكاة الفقراء ولا يجب إصابتهم، لأنه لو خرج من أعطاه الزكاة غنياً أجزأته، وكذلك مقصود الحاج يوم عرفه، ولا يجب إصابته، وكذلك مطلوب المجتهد الأشبه ولم يكلف إصابته. والجواب: نه قد كلف الإصابة في جميع المسائل، لكن لا بطريق القطع، لأنه لا سبيل (إليه)، وإنما (يطلب) ذلك

بالأمارة القوية، (ومتى لم يصب ذلك. قلنا قد أخطأ لكن خطأ موضوع عنه بالشرع، كما نقول في مسألتنا، وأنتم تقولون: لا يخطيء بل هو مصيب لما كلف، ويبين ذلك: أن طريق) ثبوت القبلة الاجتهاد، (وثبوت) خطئها مع الغيبة بالاجتهاد أيضاً، والاجتهاد لا ينقض الاجتهاد، وكذلك الفقر والغنى طريقهما الاجتهاد، وأما عرفة، فلأنه لا يأمن مثل ذلك في القضاء ولأنه يشق، وغير ذلك من أدلة الشرع، (ولهذا) عفى عن ذلك، ومثله نقول في مسألتنا: أنه إذا بان له الخطأ بالاجتهاد الثاني لا ينقض الأول، وجملة ذلك أن نقول: أنه خطأ مرفوع عنه، (فقولوا): إنه يجب طلب الأشبه/215 ب، فإن لم يصبه كان مخطئاً، ولكن يرفع عنه الخطأ ليقع الاتفاق بيننا، (ولأنه يقابله) أن الشرع قد أوجب على المجتهد الإعادة، وهو من توضأ بماء اجتهد في طهارته، ثم بان أنه كان نجساً، أو صلى في ثوب (وبانت) نجاسته أو صلى مجتهداً في الوقت، وبان أنه صلى قبله، وغير ذلك، فلو كان ما كلف سوى اجتهاده لم تجب الإعادة في جميع ذلك. والله أعلم.

مسألة

مسألة لا يجوز أن تعتدل الأمارتان في المسألة عند المجتهد، فلا (تترجح) إحداهما على الأخرى، وبه قال الكرخي، وأبو سفيان السرخسي، وأكثر الشافعية، وقال الجبائي وابنه يجوز ذلك، ويكون المجتهد مخيراً في الأخذ بأي الحكمين شاء، وإليه ذهب الرازي، والجرجاني من الحنفية. وجه الأول: (أنه) لو جاز ذلك أدى إلى حصول الشك في الحكم الشرعي، وذلك لا يجوز، وبيان تأديه إلى الشك: (أن) المخبرين المتساويين في الصدق، لو أخبرنا أحدهما بأن

الرسول صلى الله عليه وسلم دخل البيت في وقت عينه، وكنت معه لم أفارقه، ولم أغفل عن مشاهدته إلى أن خرج منه، ولم أره يصلي فيه، وأخبرنا الآخر: أنه رآه يصلي فيه، فإنا نشك هل صلى فيه أو لم يصل، ولا يجوز أن نظن (صدق) أحدهما ولا كل واحد منهما، وإنما لا يظن (كذب) أحدهما، لأن الظن: هو تغليب أحد المخبرين على الآخر، وذلك لا يحصل إلا بأمارة ترجح أحد المخبرين على الآخر وقد عدم ذلك، فإن كل واحد من المخبرين حاله في الثقة كحال الآخر، وكذلك في تجويز الخطأ عليه، وإنما لم يظن صدق كل واحد منهما لما بينا من أن الظن يحتاج إلى أمارة يرجح بها، فإذا كان في كل واحد منهما أمارة ترجحه على الآخر، (فيكون الآخر ناقصاً عنه، وهذا تناقض، لأنه يؤدي إلى أن يكون كل واحد منهما زائداً على الآخر)، وكل واحد منهما (ناقصاً) عنه، وهذا محال، فلم يبق إلا الشك ولا يجوز أن يحكم بالشك بحال. فإن قيل: نقول: أنه يحكم بالأحوط. (قلنا): هذا رجوع إلى قولنا، لأن الأحوط لا يظهر إلا بنوع ترجيح، فإذاً لا تخلو إحدى الأمارتين من ترجيح. فإن قيل: نقول: إنه يحكم بالتخيير إذا تعادلت الأمارتان، كما

تقولون في الكفارة، وكما تقولون في زكاة مائتين من الإبل. أنه مخير بين أربعة حقاق، وخمس بنات لبون. قيل: لا يجوز ذلك، لأنه أخذ بحكم كل واحد من الأمارتين مع (تجويزنا) أن يكون كل واحد منهما غير أمارة، وذلك (يمنع) وجود الظن الذي يسوغ معه الحكم، ألا ترى أنه إذا تعادلت الأمارات الدالة على أن الكيل علة الربا، مع الأمارات الدالة على أن الطعم علة لم يحصل لنا الظن بأن أحدهما علة؟ ولا بأن كل واحد منهما علة ومع انتفاء الظن [يكون] الوصف علة، لا يجوز تعليق الحكم به. (وجواب آخر): وهو أن التخيير بين الحظر والإباحة والواجب وغير الواجب حكم بالإباحة، لأنه إذا قيل له: "إن شئت فافعل", وإن شئت فلا تفعل، فقد أبيح له الفعل، ولم يصح أن يكون محظوراً، ولا واجباً فبطل الحكم بالتخيير بين الحظر والإباحة، والواجب (وغير الواجب). فإن قيل: فرق بين هذا وبين الإباحة، لأن الإباحة: هو تخيير بين الفعل والترك على الإطلاق، وفي مسألتنا يقال: "للمكلف افعل إن اعتقدت كون الفعل مباحاً، ولا تفعل إن اعتقدت كونه

محظوراً، وكذلك يلزمك الفعل إن اعتقدت الوجوب ولا يلزمك إن اعتقدت الإباحة". (قلنا): إنما يكون الاعتقاد عن دليل أوجب العلم أو الظن فما الذي أوجب الاعتقاد ها هنا؟ فإن قيل: الأمارة التي قام الدليل على وجوب الحكم بها. (قلنا): ففي القول الآخر مثل هذه الأمارة سواء، وقد قام الدليل على وجوب الحكم بها أيضاً، ثم كيف يجوز أن تقولوا: الطريق إلى العلم بالإباحة (ما ذكرتم، وعندكم يجوز أن يعتقد الحظر، ولا يعتقد الإباحة؟ فإن قيل: الطريق إلى العلم بالإباحة)، وإلى العلم بالحظر، أن يختار المكلف اعتقاد أحدهما. (قلنا): لا يجوز أن يكون اختيار الإنسان أن يعتقد شيئاً دليلاً على صحة معتقده، لأنه لو جاز ذلك، لجاز أن يختار الاعتقادات في كل الأحكام، ويصير (باختياره) عالماً،

(ولأنا نرى) الإنسان يختار الفاسد كما يختار (الصحيح)، فكيف يجوز أن يكون اختياره مع هذا مصححاً لمعتقده؟، ولأنه ليس مع الاختيار من الدلالة ما يختص أحد الاعتقادين دون الآخر، فبطل قولهم، ولأن حسن الاختيار تابع لحسن الاعتقاد، لأنه يحسن اختياره إذا اختار ما هو حسن في نفسه، وحسن الاعتقاد تابع لصحة المعتقد، لأنه إنما يحسن معتقده، إذا اعتقد ما هو صحيح في نفسه، فالاختيار تابع لما هو تابع لصحة المعتقد، فكيف تجعلونه مصححاً للمعتقد؟ فإن قيل: فيلزم على ما ذكرتم: العامي إذا سأل مجتهدين فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة، فإن ذلك الفعل يصير له مباحاً، لأن له أن يقلد أيهما شاء، ومع ذلك فقد جوزتموه. (قلنا): لا نسلم في أحد (القولين)، (ونلزمه) الاجتهاد في أعيان المفتين، فيقلد أعلمهما وأدينهما عنده، وذلك مما لا يتعذر عليه، فيسقط السؤال، وإن سلمنا على الآخر، فإن الفعل يكون مباحاً للعامي، لأنه مقلد مستبيح، ولا علم عنده في الحكمين فيجتهد فيهما بخلاف المجتهد، فإن عنده (أمارتين) قد

تساوتا، إحداهما موجبة للحظر والأخرى للإباحة، فإذا صار الحكم في حقه مباحاً، فقد ثبت حكم إحدى الأمارتين، وبطل حكم الأخرى مع تساويهما، وهذا لا يجوز. (فإنه) ليس حكم الإباحة (بأولى) من الحظر، ولا يشبه هذا ما ذكروه من التخيير في الكفارة وزكاة الإبل، لأن الله تعالى نص على التخيير بين الأشياء الثلاثة في الكفارة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم (قال): في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه/. فنص على كل واحد من الفرضين، وقد (دخل في المائتين)، فلهذا يتخير، ولي بين الحكمين تعارض، ولا تضاد، ولهذا يجوز ورود الشرع باعتقاد إيجاب الكل/217 أعلى المكلف في حالة واحدة، وفي مسألتنا بين الحظر والإباحة تضاد، (ولهذا) لا يجوز ورود الشرع باعتقاد الحظر والإباحة في حكم واحد لمكلف واحد. دليل آخر: (وهو) أن مساواة الأمارتين تقتضي إثبات (حكميهما) إما على الجمع وذلك غير ممكن، وإما على التخيير،

والأمة مجمعة على أن مسائل الاجتهاد ليس المجتهد يتخير فيها، ولا (تلزم) الكفارة والإبل في الزكاة، لأنها ليست من مسائل الاجتهاد، (وإنما) يتبع فيها نص الشرع، ولأن المسألة مبنية على أن الحق من قول المجتهدين في واحد، وما عداه خطأ، وقد دللنا عليه، وإذا ثبت ذلك، بطل أن تتكافأ الأمارات، لأن مع التكافؤ لا (نعلم) الحق من الخطأ، وقد تعلق بعض من نصر هذه المسألة: بأنه لما لم يجز تعادل الدليلين، كذلك (لم يجز) تعادل الأمارتين، وهذا ليس بالقوى، لأن الفرق بينهما ظاهر وهو أن الدليل يجب (أن يكون) مدلوله على ما دل عليه، لأنه يوجب العلم والقطع، ومحال أن يكون ما دل على الشيء وعلى نفيه متساويين فيكون الدليل على أن الله تعالى لا يستحيل عليه الرؤية، والدليل على أنه يستحيل عليه الرؤية سواء، وكذلك الدليل على [حدوث]

العالم والدليل على قدمه سواء، بخلاف الأمارة فإنه لا يجب أن يكون مدلولها على ما دلت عليه قطعاً، بل قد توجد الأمارة (الأقوى)، (ولا) يتبعها مدلولها كالغيم الكثيف الرطب في الشتاء لا يتبعه المطر، ويتبع المطر الأمارة الضعيفة، وهو الغيم الخفيف الرقيق، فليس في تساوي الأمارتين ما يوجب حصول مدلولها، فجاز أن يوجد. ويمكن أن يقال، (بل) في ذلك ما يدل على صحة علة الإيجاب وفي الأخرى ما يدل على صحة نفيه، وقد أمرنا بتعليق الحكم على العلة، فيجتمع الشيء ونقيضه في حق شخص واحد، وهذا لا يجوز في الشرع. (واحتج الخصم): بأن ليس في العقل ولا في الشرع ما يمنع من تساوي الأمارتين والتخيير في الحكم، ألا ترى أنه قد يخبرنا إنسان (بشيء) (ويخبرنا) (الإنسان) الآخر بضده، (وتتساوى) عندنا عدالتهما وصدق لهجتهما فثبت أنه غير مستحيل في العقل، وأما في الشرع فقد تتعارض الأمارات/217 ب في جهات القبلة حتى تتساوى فيصلي الإنسان إلى أي الجهات شاء، فثبت جواز ذلك.

مسألة لا يجوز للمجتهد أن يقول في الحادثة قولين متضادين في وقت واحد

والجواب: أنا قد بينا أن الحكم بذلك، إما أن يكون حكماً والشك أو بالإباحة، وذلك غير جائز في الشرع، فأما القبلة فلا يجوز أن (تتساوى) الأمارات عنده، ومتى وجد ذلك جعلناه بمنزلة الأعمى يقتدى بغيره فيها، ولا يتخير أي الجهات شاء، كما يقول في مسألتنا، إذا تساوت عنده وقف حتى يذاكر غيره، (أو يفكر) (فتترجح) عنده إحدى الأمارتين ولا يتخير، وإن سلم التخيير في جهات القبلة فلأن حكم القبلة أخف، ولهذا يجوز ترك الصلاة إليها، مع العلم بها في حال المسابقة وفي النافلة، بخلاف حكم الحادثة فإنه لا يجوز للمجتهد العدول عن حكم الأقوى من الأمارتين إلى الأضعف، فدل على الفرق بينهما (والله أعلم بالصواب). مسألة لا يجوز للمجتهد أن يقول في الحادثة قولين متضادين في وقت واحد، وهو قول عامة (العلماء) وأطلق الشافعي القولين

في الحادثة في وقت واحد، ذلك مذكور في كتبه، قال بعض أصحابه وهو القاضي أبو حامد: (لا نعرف) عنه ما هذا سبيله إلا ستة عشر أو سبعة عشر مسألة. (ودليلنا): أن الصحابة رضي الله عنهم تكلمت في الفقه، (وفرعوا) (مسائل) حتى قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: " (أرأيت) لو رأيت رجلاً على فاحشة أكنت تقيم عليه الحد؟. فقال: لا، حتى يكون معي غيري"، وهذا تفريع، ثم

لم يحك عن واحد منهم في المسألة قولان، فمن أحدث هذا فقد خالف الإجماع، وأيضاً إن قوله: في المسألة قولان لا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين، أو أحدهما (صحيحاً)، ولا يجوز أن يكونا صحيحين، لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون حلالاً حراماً، ولا نفياً إثباتاً، وقد ذكر أصحابه أن لحق عنده في واحد، وأن الأدلة والأمارات لا يجوز أن تتكافأ، فبطل ذلك/218 أ، ولا يجوز كونهما فاسدين، لأنهما لو كانا عنده كذلك ما حكاهما، وأثبتهما في كتبه ولوجب أن يبين وجه فسادهما، ولأنه يخرج أن يكون في المسألة حكم لله، إذا كانت لا تحتمل سوى القولين، فبطل هذا أيضاً، ولا يجوز أن يكون عنده أحدهما صحيحاً، لأنه لو كان كذلك لذكره أو رجحه بنوع ترجيح، أو قال: هذا أحوط أو (أحب) إليّ، ولأنه

لا يخلو أن يكون يعلم الصحيح أو لا يعلمه، فإن علمه فلا يظن به أنه كتمه مع علمه بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار"، وإن جهله ولم يعلمه، بطل أن يكون عنده كون أحدهما صحيحاً، وإذا بطل هذا لم يكن لذكر القولين وجه صحيح. فإن قيل: لذلك وجوه صحيحة، منها: أن (تتكافأ) عنده (أمارتا) القولين، فيقول بهما على التخيير، والآخر أن يكون عنده الحق في أحد هذين القولين دون غيرهما من الأقوال، ولكنه ليس يترجح عنده في هذه (الحال) فأثبته لينظر في ذلك فاخترمه الموت.

والثالث: أن يكون قد قويا (عنده) قوة فيها نظر، فيقول (فيهما): قولان قويا عندي على ما سواهما. والرابع: أن يكون ذكرهما لينبه أصحابه على (طرق) الاجتهاد وإن من لم يترجح عنده الطرق يجب أن يقف ويتفكر، ولا يعجل ولا يقطع من يغر بلوغ النهاية في الفحص والبحث كما فعلت، فهذه أوجه كلها سائغة فيما ذكر فيه قولان، في حالة واحدة، وهو قليل، وإلا بقية أقواله (فيها) قديم وجديد، فيكون الجديد ناسخاً للقديم، وفيها ما (نبه) فيه، وفيها ما قد فرع عليه، وترك تفريع الآخر، فعلم أن مذهبه ما فرع عليه، ومنها ما يسوغ حمله على اختلاف حالين، ومنها نقل في وقتين كالروايتين لأبي حنيفة رحمه الله ومالك وأحمد رحمهما الله وغير ذلك من الأوجه. والجواب: أن تكافؤ الأمارتين قد بينا فساده عنده وعندنا/218 ب إذا كانا إثباتاً ونفياً، وأما تكافؤهما فيما ليس بنفي وإثبات: نحو الاعتداد بالأطهار والحيض فقد كان يجب أن يقول بالتخيير، كما نقول في التكفير في اليمين، (إذ أن) ذلك قول واحد، وهو اعتقاد التخيير لا غير، ألا ترى أن التخيير في كفارة اليمين لا يقال، فيه

ثلاثة أقوال أحدها: أن يكفر بالإطعام والآخر بالكسوة، والآخر بالعتق، بل هو قول واحد؟، فسقط هذا. وأما الوجه الثاني والثالث: فهو شك منه في القولين ومن شك في شيئين، وجوز كل واحد منهما بدلاً من الآخر، فلا يجوز أن يكون له قول في المسألة فضلاً (عن) أن يكون له (فيها) قولان وعلى أنه قد قال قولين (نفيا وإثباتاً) لا متوسطة بينهما، فلا يمكن أن يقال: قد أفسد ما عداهما، فتوقف لينظر الصحيح (منهما) وذلك مثل (قوله) فيما استرسل من اللحية عن الوجه قال: فيه قولان. أحدهما: يجب غسله في الوضوء. والآخر: لا يجب غسله. وغير ذلك، وعلى من يكون عنده الحق في أحد القولين لا يجوز له أن يطلق بهما، بل يقول: الحق في أحد هذين، وأنا أنظر في ذلك أولى فيهما نظر، فلما قال: في ذلك قولان علم أنه قول فاسد.

وأما (القول) الرابع: وأنه ذكرهما لينبه أصحابه على (طرق الاجتهاد)، فلو كان كذلك لحكي جميع الخلاف، (لأننا) نعلم أن في مسائل أكثر من قولين، وثلاث وأربع، ثم بين طرقها، وما يصح وما يفسد، وما يترجحه ليكون أبلغ في إيضاح الاجتهاد (والتنبيه)، (ولأن) من قصد ذلك لا يجعل كتابه مذهباً، بل يجعله كتاب أصول (وجدل)، وبين (فيه ذلك) على وجه الأمثلة، فلما جعله في الكتب المصنفة الجامعة لمذهبه بطل ما ذكروه. (واحتج الخصم): يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن وليتم أبا بكر وليتم ضعيفاً في بدنه قوياً في أمر الله تعالى وإن وليتم عمر وليتم قوياً في بدنه قوياً في أمر الله تعالى" (فذلك) قولان ولم ينص على أحدهما، وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد منهما بعينه.

والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم/219 ألم يقل: ولوا فلانا، وإنما قال: إن وليتم فلاناً فهو كذا، وإن وليتم فلاناً فهو كذا، فنبه على صفتهما، وكذلك عمر رضي الله عنه لم يقل: إن الإمام فلان (وفلان وفلان)، وإنما قال: لا أدري أحق بهذا الأمر من أحد هؤلاء الستة؟ فنظيره (لو) قال الشافعي: الحق في أحد هذين القولين، فلما قال: في المسألة قولان: أحدهما: يجب، والآخر لا يجب، ثبت الفرق بينهما. (واحتج): (بأن المعلوم) أن الحق في واحد عند الشافعي، فذكره للقولين لا على أنهما مذهب له، لأنه لو كان كذلك لقال: مذهبي القولين أو اعتقادي، فلما قال في المسألة قولان مطلقاً (دل) على أنه حكاهما على (أنه) فيها قوله وقول غيره، (أو لأن) الحق لا يخرج عنهما.

والجواب: أنه إذا قال: في المسألة قولان: أحدهما يجب والآخر: لا يجب، فالظاهر أنهما قوله (أوهما قول غيره أو أحدهما قوله) فإن كانا قول غيره، فال مذهب له في المسألة فما وجه ذكرها في مذهبه؟، لأن جميع أصحابه يحكونها مذهباً له، ومنهم من يختار أحدهما، ومنهم من يختار الآخر، فبطل، وإن كان أحدهما قوله، (فكان يجب) أن يذكره وينبه عليه على ما تقدم من قولنا فيه، وإن كانا قوله فقد بينا: أنه لا يجوز كون الشيء عند شخص واحد حلالاً حراماً، فثبت أنه لا عذر فيه، وأنه غلط. فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد كذلك في المرأة إذا أخرت الصلاة إلى آخر وقتها، ثم حاضت قبل خروج الوقت: فيها قولان: أحدهما لا قضاء عليها، والقول الآخر: أن الصلاة (قد) وجبت عليها بدخول وقتها. قيل: (وتمام) الراوية: (والقضاء) أعجب القولين إليّ، فنص على مذهبه ولم يطلق ويمسك، كما فعل الشافعي وكذلك إن اعترضوا برواية أبي داود عنه في البكر إذا استحيضت عندنا فيها قولان: أن تقعد أدنى الحيض يوماً ثم تغتسل وتصوم وتصلي،

مسألة

أو تعقد غالب حيض النساء ستا أو سبعاً، فصرح بالقولين في حالة واحدة. قيل له: تمام الرواية، فقلت له: فما تختار أنت قال: من قال: يوماً فهو الاحتياط، (فبين) أن مذهبه اختياره أن تجلس يوماً وعلل بالاحتياط، فما قال الشافعي فيه مثل ذلك، فلا اعتراض عليه (فيه). والله أعلم (بالصواب). مسألة إذا نص في مسألة على حكم وعلل بعلة توجد في مسائل أخر، فإن مذهبه في تلك المسائل مذهبه في المسألة المعللة سواء قلنا بتخصيص العلة أو لم نقل، ومثاله: إذا قال: النية واجبة في التيمم، (لأنه) طهارة عن حدث.

قلنا: (مذهبه) أن النية تجب في الوضوء وغسل الجنابة والحيض، لأنه اعتقد وجوب النية لكونها طهارة عن حدث فيجب أن يشمل ذلك طهارة عن حدث، إذا لم نقل بالتخصيص، وإن (قلنا) بالتخصيص، فإنما تخصص العلة إذا قام على تخصيصها دليل، فإن لم يتم فهي على عمومها كلفظ العموم، يدل على الشمول ما لم يخصه دليل. فصل فإن نص على حكم في مسألة وكانت الأخرى تشبهها شبهاً يجوز أن يخفي على بعض المجتهدين لم يجز أن تجعل الأخرى مذهبه، لجواز أن لا تخطر المسألة بباله ولم يتناولها لفظه ولا تنبيه، ولا معناه، ولعلها لو خطرت (له) لصار فيها إلى حكم آخر. فإن قيل: فلِمَ إذاً علل مسألة وجدتم علتها في الأخرى ألحقتموها بها، وإن كان يجوز أن يحكم فيها بحكم آخر. (قلنا): لما (ذكرت) من (أن) التعليل (يعم)، وإن الله تعالى من (دأبه) أن يعلق الحكم على العلة إذا نبهنا عليها، فكذلك المجتهد إذا نبهنا على علة (ما نص عليه).

فإن قيل: فلِمَ إذا نص صاحب الشرع على حكم مسألة ورأي بعض المجتهدين مسألة أخرى تشبهها يلحقها بحكمها قياساً؟ (قلنا): لأن صاحب الشرع تعبدنا أنه إذا حكم في مسألة ونبهنا على علتها أن تجري حكمها أين وجدت إلا أن يرد ما يخصها، والعالم (لم) يدلنا على ذلك، ويجوز أن يذهب إلى فرق فيخطيء، وصاحب الشرع لا يجوز عليه ذلك فافترقا. فصل إذا نص العالم في مسألة على حكم ونص في غيرها (تشبهها) على حكم آخر لم يجز نقل جواب إحداهما على الأخرى، وقال بعض الشافعية: ينقل جوابه من إحداهما إلى الأخرى/220 أ، فيكون في كل واحدة منهما قولان. لنا: أن المذهب إنما يضاف إلى الإنسان إذا قاله أو دل عليه (ما) يجري مجرى القول، من تنبيه وغيره، فإذا عدم ذلك

لم يجز إضافته إليه، ولأن الظاهر أن مذهبه في إحداهما غير مذهبه في الأخرى، لأنه نص فيهما على المخالفة، فلا يجوز الجمع بينهما في قوله. واحتج الخصم: بأنه إذا نص في إحدى المسألتين على حكم وفي نظيرتها على غيره، (وجب حمل إحداهما على الأخرى) ألا ترى أن الله تعالى لما نص في كفارة القتل على الإيمان وأطلق في الظهار قسنا إحداهما على الأخرى وشرطنا الإيمان فيهما؟، كذلك في مسألتنا. والجواب: أن في الكفارة صرح في إحداهما وسكت في الأخرى (فقسنا) المسكوت على المنطوق، بخلاف مسألتنا، فإنه صرح في كل واحدة من المسألتين بخلاف الأخرى، فلا يجوز حمل إحداهما على الأخرى (كما قلنا)، (لما) نص في (صوم) الظهار على التتابع وفي صوم التمتع على التفريق لم نلحق إحداهما بالأخرى.

واحتج: بأنه لو قال: الشفعة لجار الدار وجبت لجار الدكان، لأنه لا فرق بينهما، فقد نقلنا حكم المسألة إلى نظيرتها. والجواب: أن نظير مسألتنا أن نقول: ولا شفعة في الدكان، فلا ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى، فأما إذا لم يصرح في الأخرى بحكم، فالظاهر حملها على نظيرتها. فصل إذا روى عنه في مسألة (روايتان مختلفتان) وصح نقلهما، فقد بينا أنه لا يجوز أن يقولهما في حالة واحدة، ولا نقل عنه ذلك (إلا) وبين مذهبه في إحداهما، فإن قالهما في حالتين فلا يخلو أن يعلم أيهما قال أخيراً، أو لا يعلم، فإن لم يعلم اجتهدنا في الأشبه بأصوله الأقوى في الحجة، فجعلناها مذهباً له، وكنا في الأخرى شاكين، وإن علمنا الأخيرة فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من لم يجعل الأولى مذهباً له/220 ب، فقال: رجع عنها فلا تضاف إليه، ومنهم من قال: تكون مذهباً له إلا أن يصرح بالرجوع عنها، وقد ذكروا ذلك في مسألة رؤية (المتيمم) الماء في الصلاة.

وجه الأولى: أنهما قولان متضادان، (فالثاني) منهما ترك (للأول) كالنصين المتضادين من صاحب الشرع، ولأنه إذا (أفتاه) بإباحة شيء ثم عاد وأفتاه بتحريمه، فالظاهر أنه رجع عن الأول، لأن الحق عنده في واحد، فلا يجوز أن ينسب إليه. وجه الثاني: أن قوله أولا بالاجتهاد. والثاني (كذلك)، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولهذا روى عن عمر رضي الله عنه: أنه لما قضى في المشتركة بأن لا يرث ولد الأم، ثم جاءته بعد عام فقضى بذلك، فقيل له: هب أن أباهم كان حماراً أليس قد ولدتهم الأم؟ حكم بالتشريك، وقال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا، فلم يبطل الأول (بالثاني). والجواب: أنا لا نقول: إنه إذا حكم في حق قوم ونفذ الحكم يرجع، لأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يفضي (إلى) أن لا يستقر حكم، وإلى وقوع الشغب بين الناس، ولهذا لا يسوغ للحاكم أن ينقض حكم من قبله إذا خالفه، فأما في مسألتنا فهو مذهب الإنسان لم يتعلق به حق غيره، فإذا قال شيئاً ثم عاد فقال

ضده، علمنا أنه تبين له الحق فرضيه وترك الأول فنسيناه إليه دون المتروك (والله أعلم). فصل (فإن) نص في مسألة على حكم، ثم قال: ولو قال قائل: لو ذهب ذاهب إلى كذا (وكذا) حكم يخالف ما نص عليه (وكان مذهباً: لم يجعل ذلك مذهباً له، وقال بعضهم: يجوز أن يجعل مذهباً له. لنا: أن مذهبه ما نص عليه) أو نبه (أو شملته) (علته) التي علل بها، فأما قوله: ومن قال كذا فقد ذهب مذهباً، فهو إخبار عن كون المسألة من مسائل الاجتهاد فلا يجوز أن تجعل مذهبه، كما لو قال: وقد ذهب آخرون إلى كذا/221 أ، ضد ما نص عليه، فإنه لا يجعل مذهباً (له) كذلك ها هنا. واحتج الخصم: بأن قوله: لو قال قائل: كذا، كان مذهباً

مسألة

يحتمل أني أقوله أنا، ويحتمل أن غيري قاله، والظاهر أنه إذا سئل أجاب بمذهبه فإذا قال ذلك فالظاهر أنه مذهبه. والجواب: أنه إذا احتمل لم ينسب إليه المذهب بالشك والذي هو مذهبه قد صرح به، وإنما (بين): إنه يسوغ فيها الاجتهاد. مسألة اختلف الناس: هل يجوز أن يفوض الله سبحانه وتعالى إلى المكلف أن يوجب، ويبيح، ويحرم باختياره، ويقول له: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق، فقال أكثر العلماء: لا يجوز ذلك وهو

الأشبه عندي بالمذهب، لأن (المذهب عندنا أن الحق عند الله واحد) وقد نصب الله تعالى عليه أمارة، فكيف يجوز الحكم بغير طلب تلك الأمارة (لتدل) على ذلك الحق، وحكى عن الجبائي أنه قال: ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإليه ذهب شيخنا، وروى أن الجبائي رجع عن القول بذلك، وقال مويس بن عمران صاحب النظام: يجوز ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإليه ذهب شيخنا، وروى أن الجبائي رجع عن القول بذلك، وقال مويس بن عمران صاحب النظام: يجوز ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من العلماء، وحكى عن الشافعي: أنه قال في الرسالة: لما علم الله تعالى من نبيه أن الصواب يتفق منه، جعل ذلك إليه، ولم يقطع عليه بل (جوزه) (وجوز غيره)، ورأيت بعض المحققين من أصحابه

ينكر ذلك أن يكون مذهباً (له) وتأول ما قاله في الرسالة: أنه جعل إليه أن يجتهد لما علم أن الصواب يتفق منه/221 ب، فقيل له قد جعل الاجتهاد لغيره من العلماء، وإن لم يتفق (منهم) الصواب فأجاب بأن (الاجتهاد) (إذا كان من) النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجوز خلافه، (واجتهاد غيره يجوز خلافه، وإنما لا يجوز خلافه) إذا كان كل اجتهاده صواباً، وفي هذا من جوابه نظر. ووجه الأول: أن الحق واحد ولا يجوز أن يتفق للمكلف إصابة ذلك الواحد أبداً بمجرد اختياره من غير اجتهاد، كما لا يجوز أن يتفق أن يخبر الإنسان بأخبار (لم) يسمعها، ولا علم (له) بها، فتوافق الصواب والصدق في أخباره أبداً، ولو جاز ذلك خرجت الأخبار عن الغيوب من أن (تكون) دلالة على صحة (نبوات)

(الأنبياء) إذا وجدت على ما قالوا، ولجاز أن يكلف تصديق النبي دون من ليس ينبي من غير علم بذلك، ولجاز أن (لا) تقع الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم، فلما لم يجز جميع ذلك أن يقع (باختياره) من غير علم كذلك في مسألتنا. فإن قيل: يجوز في مسألتنا أن يتفق له إصابة الحق (أبدا) لقول الله تعالى: (احكم) فإنك لا تحكم إلا بالصواب. (قلنا): إنه لا يجوز أن يقول الله سبحانه (له) ذلك، كما لا يقول (له) أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصواب، وافعل فإن أفعالك كلها تكون محكمة، ولأن في تجويز ذلك ما يؤدي إلى إبطال دلالة الأنبياء بأخبارهم عن الغيوب، ولأنه

لو جاز ذلك أن يقوله للنبي لجاز قوله للعالم، ولو جاز قوله للعالم لجاز قوله للعامي وأن يتعبده أن يحكم باختياره، وهذا خرق للإجماع. فإن قيل: الأنبياء والعلماء خصهم الله تعالى بذلك/222 أ (لفضلهم)، وإكرامه لهم بخلاف العامي. قيل: إمكان اتفاق الصواب في العامي)، كإمكانه من النبي والعالم، فلم جوزنا أن (يقول): لأحدهما دون الآخر؟، ولأنهم إنما يفضلون، ويكرمون بالعلم ومعرفة الأدلة فأما بمجرد الاختيار فلا. ودليل آخر: أنه لو جاز ذلك لم يكن لتكليف الاجتهاد معنى، لأنه يختار الصواب من غير فكر واجتهاد، فلما كلف الاجتهاد بالإجماع ثبت أن ذلك غير جائز. فإن قيل: إنما كلف الاجتهاد ليكثر ثوابه بذلك. (والجواب): أن الاجتهاد لا يراد لعينه، وإنما يراد (لتبيين) الصواب والحق، (والثواب) بذلك يحصل، فإذا كان (اختياره) يحصل الثواب فلا فائدة في الاجتهاد،

وما لا فائدة فيه فلا يثاب عليه، ولا يكلفه، وذكر بعضهم دليلاً آخر، فقال: الأحكام كلها ألطاف ومصالح، فإذا جعلت إلى اختيار المكلف، وهو يجوز أن يختار المصلحة، ويجوز أن يختار المفسدة لم يجز أن يجعل ذلك إليه. فإن قيل: لا يجوز أن يختار المفسدة مع قول الله (تعالى له): فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فقد تقدم الجواب. فإن قيل: فما تنكر أن تكون مصلحته أن يختار؟، كما جعل مصلحته ما يذهب إليه، ويحكم به بخبر الواحد أو القياس، وإن لم يتفق أن يكون ذلك صواباً يتضمن المصلحة أبداً. (قلنا): لو كان مصلحته ما يختار لسقط التكليف عنه، لأنه إن شاء فعل (وإن شاء) لم يفعل، وهذا صفة الإباحة لا صفة التكليف، (ويخالف الخبر والقياس، فإن القول بموجبهما لا يؤدي إلى إسقاط التكليف)، لأنه لا يفعل بما (شاء) من ذلك، ولكن بما يقتضيانه.

فإن قيل: لا يؤدي إلى إسقاط/222 ب التكليف، لأنه يجب عليه أن لا يخلو من الفعل (والإخلال به). قيل: هذا لا يمكن الإنسان الخلو منه، وما لا يمكن الإنسان الخلو منه لا يحسن تكليفه إياه. دليل آخر: لا يخلو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد أوجب (عليه) المصلحة بين الفعل وتركه، من غير أن يعينه له، فيكون تكليف ما لا يطاق، أو يكون قد خيره بينه وبين غيره، مما ليس بمصلحة فيكون قد خيره بين (المصلحة والمفسدة)، لأنه قال: "افعل أيهما شئت"، والتخيير بين المصلحة والمفسدة لا يجوز في الحكمة، فبطل أن يكون مفوضاً إليه الاختيار.

واحتج المخالف: بأشياء: منها ما يدل على ورود التعبد بذلك، ومنها: ما يدل على جواز التعبد بذلك، ومنها: ما يدل على جواز استمرار (اختيار) الصواب دون الخطأ. فأما ما يدل على ورود التعبد (فذلك) قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}. والجواب: أن الآية تشهد أن كل الطعام كان حلاً (لبنيه)، وإسرائيل ليس (بداخل) في بنيه. وجواب آخر: أنه يجوز أن يكون (حرم) على نفسه بالاجتهاد، أو بالنذر، أو باليمين، وكان في شريعتهم إثبات التحريم بالنذر واليمين، كما ثبت في شريعتنا الإيجاب بالنذر، والتحريم

باليمين على اختلاف، ويحتمل أن يكون قد (حرم) بدليل (وأضيف) إليه، كما تضاف الأحكام إلى المجتهدين. فيقال: هذا قول الشافعي/223 أ (في قول)، واختيار أحمد (واختيار أبي حنيفة). (واحتج): بأن السنة مضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الإضافة تقتضي أنها من قبله. والجواب: أنها أضيفت إليه، لأنه هو السفير والمخبر بها، وبقوله أوجبت، ولهذا تضاف إليه جميع السنن، ومعلوم أن جميعها ليس باختياره، لأن منها ما نزل (به الوحي). واحتج: بأنه قال في مكة: "لا يختلي خلاها"، فقال

العباس: "إلا الإذخر"، فقال (عليه السلام): "إلا الإذخر" ومعلوم أن الوحي لم يرد في تلك الحال. والجواب: أنه قد روى الواقدي في المغازي: أنه لما قال العباس: "إلا الإذخر"، سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ساعة)، ثم قال: إلا الإذخر، فدل على أنه لم يقل باختياره، وإنما يجوز أن يكون أوحى إليه أو اجتهد في الأشبه. وجواب آخر: أنه قد قيل: إن الإذخر ليس من الخلاء، وإنما استثناه العباس تأكيدا، ثم يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد استثناء، فسبقه العباس (إلى سؤاله). واحتج: بأنه لما سئل (النبي صلى الله عليه وسلم) عن الحج: يجب في كل عام؟، فقال: لو قلت: نعم لوجبت.

والجواب: إنه كذلك حيث كان قوله دليلاً على الوجوب، وليس في الكلام ما يدل على أن قوله عن اجتهاد أو اختيار، أو وحي (ولا) حجة فيه. واحتج: بقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) فبين أن أمره موقوف على اختياره. والجواب: أنه يحتمل لأمرتهم على طريق (التكليف)، ولا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلمه: [أنه لا ينبغي] أنه (يأمرهم) به، لأجل المشقة، ويحتمل أن يكون خشي، أني فرض عليهم إذا ندبهم إلى المداومة عليه، كما روى أنه ترك المداومة على صلاة التراويح، وقال: (خشيت أن تفرض عليكم)، ويحتمل

أن يكون لأمرتهم (عن) اجتهاد، لأنه تنظيف وتطهير، ولكن (تركته) للمشقة. واحتج: بأن موسى أثبت جميع الأحكام من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله تعالى عليه. والجواب: أنا لا نعلم ذلك، ولا يثبت، ولو علمنا، لم نعلم هل أوحى إليه أو اجتهد، أو قال باختياره في جميع الأحكام. واحتج: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق". والجواب: أنه أضاف العفو إلى نفسه، لأنه هو (الذي يأخذها) وهو الذي يتركها، وإن كان ذلك بأمر الله تعالى، على أن هذا كلها أخبار آحاد، ولايحتج بها في مثل هذا الأصل، ثم

تعارض هذه الأخبار بأصرح منها يدل على قولنا، (وهو) ما رواه الواقدي بإسناده عن عبيد بن عمير قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك نبي حتى يؤمه رجل من قومه" فلما كان يوم الاثنين، صلى أبو بكر رضي الله عنه بالناس، وكان لا يلتفت، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فصلى بصلاة أبي بكر، فلما قضى صلاته جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له، فقال: (إنكم والله لا تمسكون عليّ بشيء: إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت محمد، ويا صفية بنت عبد المطلب: اعملا لما عند الله، لا أملك لكما من الله شيئاً). وروى أيضاً بإسناده عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه فاستوى على المنبر، فكان أول ما تكلم به، وذكرت الخبر، إلى أن قال: سدوا هذه الأبواب الشوارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر، فإن آمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذاً في النسا خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلا

ولكن أخوة الإسلام ومودته، (وذكرت) الخبر حتى قالت: (واعترض) له رجل، فقال يا رسول الله ما بال أبواب أمرت بها أن تفتح، وأبواب أمرت بها أن تغلق؟ فقال: ما فتحتها (عن أمري)، ولا سددتها/224 أعن أمري فثبت أن أفعاله كلها كانت بأمر الله تعالى. واحتج: بأن (الصحابة) رضي الله عنهم، كانوا يحكمون، (ويقولون: إن كان خطأ فمنا ومن الشيطان، ولو كان حكمهم عن دليل لم يقولوا: ذلك، ولأنهم كانوا يحكمون بالشيء) (ثم يتركونه) إلى غيره، فدل على أن حكمهم بالرأي. والجواب: أنه لو كان الحكم مفوضاً إليهم، وهم مصيبون فيما يحكمون لم يقولوا: إن أخطأنا، ولم يحكموا بالشيء ويتركوه إلى غيرها أيضاً على أنا (نحن نقول): الحق في الواحد والمجتهد يجوز أن يصيبه، ويجوز أن يخطئه، فلا يلزمنا السؤال.

(واحتج): على جواز التعبد بذلك، بأنه إذا جاز أن يفوض الله تعالى إلى المكلف أن يختار واحداً من الكفارات جاز أن يفوض إليه الحكم بواحد من الأحكام. والجواب: أن عند المخالف كلها واجبة ومصلحة، فلا يصح منه هذا الدليل، وعندنا كلها صواب، وليس فيها خطأ بخلاف الأحكام، فإن فيها (صواب) ومصلحة، وفيها خطأ ومفسدة، وباختياره لا يجوز أن يوافق الصواب، دائماً على ما بينا. جواب آخر: أن الكفارات تخالف مسألتنا، لأن العامي يجوز أن يختار إحدى الكفارات، ولا يجوز أن يفوض إليه اختيار ما شاء من الأحكام. فإن قيل: يجوز أن يتخير إذا أفتاه فقيهان بحكمين (ضدين) أيهما شاء، ويتعين ذلك باختياره. والجواب: أنه ينبغي (أن يجوز) أن يفوض إليه أن يختار (أي) الحكمين شاء من غير استغناء برأيه، (ولأن عند) المخالف كل واحد من المجتهدين مصيب، فهو مخير بين صوابين، بخلاف مسألتنا، وأما عندنا فالحق في واحد، والعامي معذور فيه،

(وإن) أخطأ كما (نقول:) المجتهد معذور وإن أخطأ، فأما أن (نقول): باختياره يحصل له الصواب فلا، وعلى أن فرض العامي تقليد المجتهد فإذا قلد أحدهما فقد فعل ما وجب عليه، بخلاف مسألتنا فإن المأخوذ عليه طلب الحق، وذلك لا يحصل إلا بالاجتهاد في الأدلة، فأما /224 ب مجرد الاختيار فلا. (واحتج): بأن الواجب في التكليف (أن يحصل) (المكلف) طريقاً إلى ما كلف، إما على الجملة أو على التفصيل لنأمن الخطأ فيما (نفعل)، فإذا قال سبحانه وتعالى للمكلف: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فقد جعل له طريقاً يقطع به على صحة الحكم. والجواب: أنا قد بينا أنه لا يجوز أن يقول سبحانه ذلك، لأنه لو قاله كان (مخيراً) بين المصلحة والمفسدة أو إباحة في كل الأحكام. واحتج: بأنه إذا جاز للإنسان أن يكلف العمل على الأمارات مع كونها تخطيء وتصيب، جاز أن يكلف العمل على اختياره، وإن كان يخطيء في اختياره ويصيب.

والجواب: أن عمله على الأمارات لا يفضي إلى إسقاط التكليف، لأنه يجتهد فيها وينظر أقربها شبهاً بالحق فيحكم بخلاف اختياره، فأنا قد أفسدنا أن يكون موصلاً للصواب برأيه. واحتجوا على جواز استمرار اختيار الصواب: بأنه إذا جاز أن يتفق اختيار الأنبياء على الصغائر دون الكبائر أبداً دائماً، وإن لم يكن (لهم) على عينها دليل جاز اختيارهم للصواب دون الخطأ، وإن لم يكن (لهم) على (عينه) دليل. والجواب: أن الأنبياء قد لا يقع (منهم) صغيرة أصلاً وإن كانت تجوز فإنما جازت لقلتها، ثم لا يقرون عليها، فأما الكبائر، فإنه كان عليه السلام يعلمها، ولهذا ذكر الكبائر وعدها وقد تقدم ذلك. والله أعلم.

فصل في صفة المجتهد الذي يجوز له الفتوى ويحرم عليه التقليد من (شروط) المجتهد في الأحكام الشرعية: أن يكون عالماً (بطرق) الاجتهاد، وهو أن يعرف الأدلة الشرعية، وكيفية الاستدلال بها. والأدلة الشرعية على ضربين .. منها ظاهر، ومنها استنباط. فالظاهر: خطاب صاحب الشرع وأفعاله. وأما الاستنباط: /225 أفهو القياس والاستدلال. فأما الخطاب فيحتاج أن يعرف طريق نقله، فإن كان تواتراً فلا

حاجة به إلى الفحص عن عدالة الرواة (على خلاف ذكرناه)، وإن كان نقله بالآحاد افتقر إلى الفحص عن عدالة الرواة وضبطهم، فإذا ثبت ذلك احتاج إلى معرفة ما وضع له الخطاب في اللغة، وفي العرف، (وفي الشرع)، ليحمله عليه، ويعرف مجازه ليعدل (عند) انضمام القرينة إليه، وذلك كالنسخ والتخصيص، وما أشبه ذلك مما يصرف اللفظ عن حقيقته إلى (المجاز) ويعرف حكم أفعاله صلى الله عليه وسلم وحكم ما اقترب بها من الأمارات، ويعرف من حال المخاطب ما يثق معه إلى حصول مدلول خطابه، كمعرفته بأن الله سبحانه وتعالى حكيم عالم غني قادر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن الخطأ فيما يشرعه وأن إجماع الأمة (معصوم)، ولا يصح معرفته بذلك من حال الباري سبحانه إلا بمعرفته بذاته وصفاته. ولا تصح معرفته بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته إلا بعد معرفته بكونه نبياً، ولا تصح) معرفته بعصمة الأمة، حتى (يعلم) (أن إجماعهم يستحيل عليه الخطأ)، ولا تصح

معرفة القرائن حتى يعرف ما النسخ وما التخصيص، وما المطلق، وما المقيد، (وما المفسر وما المجمل)، وقد تقدم بيان ذلك. وما الاستنباط فيحتاج أن يعرف القياس: وهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم، ومن شرط المستدل بالقياس/225 ب [أن يكون عن غير عالم بحكم الفرع]، ويكون عارفاً بالأصل وبحكمه وظاناً لعلته، ثم يعلم أو يظن بثبوتها في الفرع فيلحق حينئذ الفرع بالأصل في الحكم لاجتماعهما في العلة، ولابد أن يعرف تعبده بالقياس ويعرف شروط القياس، ليستعمل من الأقيسة ما اختص بتلك الشروط، ويتوقى ما لم توجد فيه، فإن كان استنباطه لا على وجه القياس، وإنما ذكر استدلالاً فلا يخلو، إما أن يكون استدلالاً بأمارة أو علة فيحتاج أن يدل عليها، وإن كان استدلالاً بشهادة الأصول من غير علة على قول من يصحح ذلك، فإنه يفتقر إلى معرفة الأصول، ومعرفة حكمها، ولا يعرف حكم الفرع حتى يلحقه بها، كما ذكرنا في القياس، إلا أنه لا يفتقر إلى الدلالة على العلة فإذا عرف الإنسان ذلك كله، وكان ثقة عدلاً في دينه وجب عليه الاجتهاد، ولم يجز له التقليد، وجاز أن يفتي من استفتاه إلا أن يتعين عليه الفتوى، ويجب أن يفتي من استفتاه.

فصل فإن كان عالماً بالمواريث وأحكامها دون بقية الفقه جاز له أن يجتهد فيها، ويفتى غيره دون بقية الأحكام، لأن المواريث لا تبتني على غيرها، ولا تستنبط من سواها إلا في النادر، والنادر لا يقدح الخطأ فيه في الاجتهاد، ألا ترى أنه قد يخفي على المجتهد [يسير] من النصوص، ويغمض عليه [قليل] من الاستنباط، ولا يقدح ذلك في كونه مجتهداً.

فصل في كيفية فتوى المفتي إذا سئل المجتهد عن الحكم لم يجز أن يفتي بمذهب غيره، لأنه سئل عما عنده، فإن سئل المجتهد عن مذهب غيره جاز له أن يحكيه، لأن العامي يجوز له حكاية قول غيره، ولا يجوز له أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء، أو بما يفتيه به فقيه، وإذا سئل المفتي عن مسألة، فإن كان قد تقدم له فيها اجتهاد وقول وهو ذاكر لطريق الاجتهاد والحكم جاز له أن يفتي بذلك، وإن لم يكن قد تقدم له فيها اجتهاد لم يجز أن يفتي حتى يجتهد، فإن ذكر الحكم، ولم يذكر طريق الاجتهاد لزمه أن يتذكر طريق الاجتهاد، ويعيد النظر في ذلك فإن أداه اجتهاده إلى ذلك الحكم أفتى به، وإن أداه إلى غيره أفتى به، فإن أفتى باجتهاده، ثم تغير اجتهاده، فإن كان المستفتي قد عمل بما أفتاه لم يلزم المفتي أن يعرفه اجتهاده، ولا يلزم المستفتي نقض ما عمله، وإن كان لم يعمل بما أفتاه لزم المفتي تعريفه ذلك إن أمكنه، لأن العامي يعمل بذلك الحكم، لأنه قول ذلك المفتي، ومعلوم أنه ليس هو قوله في تلك الحال، فإن لم يعمل ومات المفتي، فهل: يجوز للمستفتي العمل بما أفتاه؟ يحتمل أن لا يجوز، لأنه لا يدري أنه لو كان حياً كان قائلاً بذلك الحكم وذاكراً لطريقة الاجتهاد فيه أم لا؟ ويحتمل أن يجوز، لأن الظاهر أنه قول ذلك الفقيه إلى أن مات، وموته قد أزال عنه التكليف فأمن أن يعيد الاجتهاد فيرجع عن ذلك الحكم.

باب التقليد وما يجوز أن يقلد فيه وما لا يجوز

باب التقليد وما يجوز أن يقلد فيه وما لا يجوز التقليد: مشتق من تطويق المقلد للمقلد، وما يتعلق بذلك الحكم من خير وشر كتطويق قلادته، وخص بذلك، لأن القلادة ألزم الملابس لعنق الإنسان، ولهذا يقال للشيء اللازم هذا عنق فلان - أي - لزومه له كلزوم القلادة، قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قيل في التفسير هو خيره وشره، وإنما سمى بذلك، لأن المقلد يقبل قول المقلد بغير حجة، فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر وعلى هذا لا يسمى الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً أو الإجماع مقلداً، لقيام الدلالة على أن قول الرسول والإجماع حجة، فلا شر في الأخذ به، لأنه معصوم من الخطأ والمفسدة، والمفتي غير معصوم من الخطأ والفساد والتقليد في الحقيقة، إنما هو تقليد الشر، فأما الخير فلا يحتاج فيه إلى التقليد، فهذا هو الفرق بينهما والله أعلم، وإلا فهما سواء من حيث يجب على العامي الرجوع إلى العالم، كما يجب على العالم الرجوع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الإجماع.

فصل إذا ثبت هذا فالعلوم على ضربين: منها: ما لا يسوغ التقليد فيها وهو معرفة الله ووحدانيته ومعرفة صحة الرسالة، وبه قال عامة العلماء، وقال بعض الشافعية: يجوز للعامي التقليد في ذلك. لنا: أن المكلف قد أخذ عليه العلم بذلك (وبالتقليد) لا يحصل له العلم، لأنه يجوز خطأ من يقلده. دليل: مقدم وهو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. فضمنوا لهم أعلى مراتب التقليد وهو حمل الخطايا فرد الله سبحانه عليهم قولهم وكذبهم في ذلك، فدل على أنه لا يصح التقليد، ولأنه لا يختلف الشافعية، أنه ليس للمكلف المسلم أن يقلد في وجوب الصلاة والصيام عليه، وإعداد ذلك،

فأولى أن لا يجوز له التقليد في الوحدانية والنبوة. واحتج الخصم: بأن العامة يضعفون عن ترتيب الأدلة مراتبها حتى تثبت لهم المعرفة بها، فإذا منعوا من التقليد أفضى ذلك إلى القول بضلالهم وهم أكثر الأمة، وهذا لا يجوز، ويوضح هذا: أنك لو رجعت إليهم في الطريق الذي منه أخذ التوحيد والنبوات لم يقوموا ببيان ذلك، ولا يتهيأ لهم، فوجب أن يجوز لهم التقليد، كما يجوز في فروع الشريعة لهذه الأمة. والجواب: أنه ليس كذلك، بل العامة يشاركون العلماء في معرفة الله، وطرق التوحيد والنبوات، لأنها أمور يدركها الإنسان بحسه، ويتفكر فيها بعقله، فيعلم بما يدركه من صنائع الله سبحانه من خلف السموات بغير عمد، وما جعل فيها من الشمس والقمر والنجوم وسيرها، وسطح الأرضين على الماء مع كون البناء لا يثبت على الماء وخلق الإنسان من النطفة وتنقله في الأحوال حتى صار عالماً ربانياً يدير الأمور، ويقيس المقاييس، ويصنع الصنائع، ولو تعطل منه أنملة زال كماله، ولو انقطعت منه شعرة لم يمكنه ردها، إن لها صانعاً يخلقها في كل أحوالها متقدماً عليها في الوجود مستغني عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود، ذلك هو الله رب العالمين، ويعلم أيضاً أنه واحد لا شريك له بما يراه من انتظام الأمور واتساق الأحوال في المخلوقات، ولو كان له سبحانه وتعالى شريكاً أو معه مدير لفسد

النظام، ووقع الاختلاف، كما يشاهد في ملوك الدنيا إذا كانوا جماعة أو اثنين، ويعلم بظهور المعجزات التي لا يقدر البشر على مثلها إلا بالتأييد الإلهي من القرآن المعجز النظم المخبر عن الغيوب الجامع للحكم، وغيره من انشقاق القمر، وحنين الجذع وإطعام العالم الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا وهو بحاله، وغير ذلك من إحياء الموتى، وتنزيل المائدة من السماء، وقلب العصا حية، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء، إن الذي أيد بذلك رسول صادق، لأن مثل ذلك لا يجوز أن يؤيد الله سبحانه به الكذابين، وإذا ثبت عنده صدقه لزمه اتباعه فيما جاء به عن ربه تعالى، وهذا كل أحد يعقله ويعلمه، وإن لم يقدر العامي على أن يعبر عنه بالألفاظ الكلامية لا يضره ذلك في معرفته، لأن ذلك عجز عن العبارة، لا عن المعنى المحصل للمعرفة، ويخالف فروع الدين على ما نبينه بعد هذا. فصل وكذلك أصول العبادات كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت والزكاة، فإن الناس أجمعوا على أنه لا يسوغ فيه التقليد؛ لأنه ثبت بالتواتر وثقلته الأمة خلفاً عن سلف، فمعرفة العامي توافق معرفة العالم فيها، كما تتفق معرفة الجميع فيما يحصل بأخبار التواتر من البلدان النائية والقرون الماضية.

فصل وأما الضرب الثاني: وهو فروع الدين وأحكامه كالبيوع والأنكحة والعتاق وأحكامها والحدود والكفارات ونحوها، فيجوز للعامي تقليد العالم فيها وبهذا قال أكثر العلماء، قوال بعض المعتزلة البغداديين: لا يجوز له تقليده في الحكم حتى يتبين له طريق الحكم وما يثبت به، فإذا عرفه عمل بالحكم. لنا: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فدل على أنه يرد الحكم إلى أهل الاستنباط، وأيضاً أن الإجماع على جواز ذلك قد حصل قبل وجود المخالف، فإن الصحابة، ومن بعدهم من التابعين كانوا يسألون عن الأحكام فيفتون، ولا يعرفون السائل طريق الحكم، ولا أدلته، ولا نهي بعضهم عن ذلك إذ قال: سلوني عن الكلالة، فلم يلتفت إلى قول المخالف. ودليل آخر: أن الإجماع منعقد على أن العامي إذا نزلت به حادثة، فإنه يلزمه فيها حكم شرعي، وذلك الحكم لا يخلو أن

يتوصل إليه بالتقليد كما قلنا، أو بالاستدلال كما قلتم: لا يجوز القول بأنه يتوصل بالاستدلال، لأنه لا يخلو أن يقال: إنه يلزمه التعليم، عند كمال عقله حتى يصير من أهل الاجتهاد، فيعلم حكم الحادثة، أو يسأل عنه وجود الحادثة عن أدلة الحكم فيها، فيجتهد حينئذ في ذلك لا يجوز الأول، لأنه قول يوجب تعلم العلم على كل المكلف، والإجماع منعقد على أن التفقه فرض على الكفاية، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، ولأن في إيجاب ذلك إهمال لأمور الدنيا وإفساد حالها، وما أحد أوجب ذلك ولأنه ليس كل من تفقه صار من أهل الاجتهاد على ما نجد عليه كثيراً من أهل زماننا، وأيضاً فما يصنع إذا نزلت به حادثة في حال تعلمه قبل أن ينتهي إلى حال الاجتهاد؟ وما الجواب إن فرط فلم يتعلم ثم نزلت به حادثة في عباداته أو نكاحه أو طلاقه، ابتدأ بالتفقه وحدثت الحادثة؟ ولا يجوز الثاني، لأنه إذا سأله عن الأدلة ليستدل بها، فإنه لا يمكنه ذلك إلا بعد أن يعرف وضع الخطاب في اللغة والشرع، وكيفية الاستدلال به، وأنه خال عن نسخ وتخصيص وغير ذلك، ويعرف القياس

وشروطه، فإن رجع إلى العالم في ذلك فقد [قلده]، فإن فحص عن الأخبار [ووجوه] المقاييس وترتيب الأدلة، لم يتمكن من ذلك إلا في زمان طويل يضيق عنه زمان الحادثة، وقد لا يمكنه إذا فحص وعرف ذلك أن يجتهد ويرجح، وكثير من أهل الحديث يعرفون الأحاديث صحيحها وسقيمها، ثم لا يمكنهم الاجتهاد. فإذا بطل طريق الاستدلال لم يبق للعامي طريق إلا التقليد. ودليل آخر: أن العالم يجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحاً أو فاسداً، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع، فأولى أن لا يجوز للعامي تقليد العالم لوجهين: أحدهما: أن العالم أقوى على ذلك من العامي، لأنه قد تعود الرياضة في معرفة العلوم وحفظها. والثاني: أن تعلم ذلك أيسر من تعلم الفقه وترتيب أدلته. واحتج الخصم: بأنه لما لم يجز للعامي التقليد في الأصول كذلك في الفروع. والجواب: أنه جمع بغير علة، على أن مسائل (الفروع) يطلب فيها ما يغلب على ظنه أنه الحق، وذلك يحصل للعامي بقول المفتي كما يحصل للعالم بخبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وجواب آخر: أن مسائل الأصول من التوحيد والنبوات طرقها

عقلية يحتاج الإنسان فيها إلى تنبيه يسير، فلا ينقطع عمر الإنسان ومعاشه فيها، بخلاف الفروع فإنها تكثر وتتجدد والاجتهاد فيها لا يتم إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها ومعرفتها إلا بطول يفضي إلى ما ذكرنا. واحتج: بأنه لا يأمن المستفتي أن يكون المفتي لم ينصحه في الاجتهاد فيكون فعله مفسدة، فيحتاج أن يفهم دليله الذي ذهب إليه ليزول شكه. والجواب: أن ينتقض بخبر الواحد، فإن العالم لا يأمن أن يكون المخبر قد كذبه، فيكون بامتثاله ما في الخبر فاعلاً للمفسدة، ثم يلزمه ذلك. فإن قيل: لأن مصلحة العالم أن يعمل بحسب الخبر وإن كان كذباً. قيل: ومصلحة العامي أن يعمل بحسب الفتوى، وإن كان خطأ. وجواب آخر: أنا قد بينا إن إعلامه بالدليل لا يفيد، لأنه لا يعرف وضعه وطريقه وشرطه وترتيبه، فلا فائدة له في ذلك. والله أعلم.

فصل في شروط الاستفتاء لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا من يغلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان العلماء، وأخذ الناس عنه واجتماعهم على سؤاله وما يتلمحه منه من سمات الدين والستر، وإنما أخذ عليه ذلك من الظن، لأنه ممكن في حقه، كما يمكن في حق العالم الاجتهاد في الأدلة، فأما من يراه مشتغلاً بالعلم أو يرى عليه سيما الدين، فلا يجوز له استفتاءه بمجرد ذلك. فصل وإذا غلب على ظنه في حق جماعة أنهم من أهل الاجتهاد فله أن يقلد من شاء منهم، قال في رواية الحسين بن يسار المخرمي

وقد سأله عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل حنث فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان - يعني أنه لا يحنث - فقال تعرف حلقة المدنيين؟ حلقة بالرصافة - فقال له: إن أفتوني به حل؟ فقال: نعم. وهذا يدل على أن العامي مخير في المجتهدين، وقال بعضهم العلماء يلزمه أن يجتهد في أعيانهم: أيهم أعلم، وقد أومأ الخرقي إلى نحو ذلك فقال: وإذا اختلف اجتهاد رجلين ولم يتبع أحدهما صاحبه، واتبع الأعمى أوثقهما في نفسه فأوجب عليه اتباع الأوثق. ووجه ذلك أن طريق ذلك غلبة الظن، والعامي يمكنه أن

يستخير عن ذلك ويبحث حتى يقوى ظنه أو أحدهما أعلم فصار كقوة ظن المجتهد في المسائل. ووجه الأول: أن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة ترك النظر في أحوال العلماء، فدل على أنه إجماع، ولأن ذلك مما لا يمكنه معرفته بالاستخبار، لأن كل واحد من العلماء لا يخلو ممن يفضله على غيره، فيقع العامي في حيرة. فصل فإن اجتهد في العلماء فاستوى عنده علمهم، وكان أحدهم أدين وجب عليه تقديم الأدين على أحد الوجهين، لأنه الثقة به أقوى. وعلى الوجه الآخر: هما سواء، لأن أهل العلم لا ينكرون على العامة ترك ذلك. فصل فإن استووا عنده في العلم والدين كان مخيراً في الأخذ بأي أقاويلهم شاء، لأنه ليس بعضهم بقبول قوله أولى من بعض،

فإن كان أحدهما أعلم والآخر أدين فقال بعضهم هما سواء، وقال بعضهم: يقلد الأعلم. ووجهه: أن المبتغي في التقليد الأعلم، لأن الأعلم أقرب إلى إصابة الصواب، لقوته في العلم. ووجه الأول: أن الدين يرجح به كما يرجح بالعلم فاستويا. فصل فإن استويا عنده في جميع الأحوال، وأفتاه أحدهما بالأشد والآخر بالأخف، فهو مخير على ظاهر رواية الحسين بن يسار، لأن له أن يقلد أيهما شاء في الابتداء قبل الفتوى، فكذلك له أن يختار قول أيهما شاء بعد الفتوى. وقال عبد الجبار وبعض الشافعية: ليس له أن يختار الأخف.

واحتجوا: بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء"، فدل على أنه الحق في الأشد. والجواب: أنه من أخبار الآحاد، ويقابله قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة، وقوله: إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يؤخذ بعزائمه. واحتج: بأنه إذا جاز أن يختار الإباحة حتى شاء أسقط حكم الخطر. وصار الفعل مباحاً في حقه، فلا يجوز أن يعتقد حظره.

مسألة لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدا غيره سواء في ذلك ضيق الزمان وسعته

والجواب: أنه ليس كذلك، بل نقول أن المفتين إذا استويا عنده، صار الأخف رخصة لا عزيمة يجب فعلهما. والله أعلم. مسألة لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً غيره سواء في ذلك ضيق الزمان وسعته، نص عليه في رواية الفضل بن زياد: أن أحمد قال له: يا أبا العباس. لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. وفي رواية ابن الحارث: لا تقلد أمرك أحداً وعليك بالأثر، وبهذا قال أبو يوسف والشافعي، وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم أن يقلد من هو أعلم منه، أما مثله فلا. وعن أبي حنيفة روايتان.

إحداهما: جوازه، والأخرى المنع منه. واختلف الشافعية: فروى عن ابن سريج مثل قول محمد وروى عنه: أنه يجوز ذلك مع ضيق الوقت لامع سعته وقال الصيرفي وابن أبي هريرة: مثل قولنا. وقال بعضهم: إن لم يجتهد فله أن يقلد على الإطلاق، وإن اجتهد فلا يجوز له التقليد. وحكى أبو إسحاق الشيرازي: أن مذهبنا جواز تقليد العالم للعالم، وهذا لا نعرفه عن أصحابنا وقد بينا كلام

صاحب مقالتنا. لنا: الأدلة الموجبة للنظر الدالة على فساد التقليد في الأصل، وأيضاً قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} والرد إليهما لا يمكن، فثبت أنه يلزم الرد إلى دلالة خطابهما. فإن قيل: تقليد العالم حكم الله، لأنه حكم بما غلب على ظنه. والجواب: أنه إذا لم يجتهد فيأخذ بما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنة فما رد إلى حكم الله ورسوله، وإنما رد إلى رأي غيره، فلم يجز، وأيضاً قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وإذا قلد غيره فقد أخذ بما لا علم له به وأيضاً قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، ولم يقل إلى عالم يقلده، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اجتهدوا فكل ميسر لما خلق" ولم يفصل،

وأيضاً فإن الصحابة كانوا يتناظرون في الحكم، ولا يقلد بعضهم بعضاً، ولو جاز التقليد لم يكن لمناظرتهم معنى، ولقائل أن يقول: إنما يتناظرون، لأن العمل على الاجتهاد أولى من التقليد. قلنا: الدليل الذي جعل الاجتهاد أولى من التقليد هو الذي منع من التقليد. ودليل آخر: أن المجتهد يمكنه التوصل إلى الحكم باجتهاده لتكامل الآلة، فلم يجز له أن يقلد غيره كما نقول في العقليات (لما) تمكن منها بنفسه لا يمكن تقليده. فإن قيل: المطلوب في العقليات العلم، والعلم لا يحصل بالتقليد، والمطلوب في مسألتنا: العمل التابع للظن، وذلك يحصل بتقليد العال. قلنا: إلا أن المأخوذ عليه طلب الحق بظنه، ولا يحصل ذلك إلا بنظره في الأدلة الموجبة له غلبة الظن، فأما تقليد غيره فلا يحصل له ذلك، ولأن المأخوذ عليه إحاطة علمه بظنه، ولا يحصل ذلك بتقليد غيره.

ودليل آخر: أن المجتهد لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى خلاف قول من هو أعلم منه، لم يجز ترك رأيه والأخذ برأي ذلك الغير، فوجب أن لا يجوز وإن لم يجتهد، لأنه لا يأمن لو اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ذلك القول. فإن قيل: فيلزم العامي، فإنه لا يأمن لو تفقه أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ما أفتاه العالم، ويجوز له الأخذ بفتياه في هذه الحالة. قلنا: العامي ليس معه آلة الاجتهاد، وإلى أن يتعلمها زمان يضيق عن وقت الحادثة، وينقطع عن صلاح دنياه وربما وصل، وربما لم يصل بخلاف العالم. ودليل آخر: أن المجتهد متمكن من معرفة الحكم باجتهاده، فلم يجز العدول عن ذلك إلى ما هو أنقص منه، كما لا يجوز للمتمكن من العلم العدول عنه إلى الظن، وهذا صحيح، فإنه يحيط بظنه يقيناً إذا اجتهد، ولا يحيط بظن غيره يقينا. ودليل آخر: أن المجتهد متعبد باجتهاده وعمله بحسبه، يدل على ذلك أنه بذلك يكون مطيعاً لله تعالى، ويدل عليه أن الله سبحانه ما نصب الأمارة إلا وقد أراد من المجتهد أن يجتهد فيها، وليس بعض المجتهدين أولى بذلك من بعض، فلا يجوز إثبات يدل لهذا المراد المتعبد به إلا بدلالة عقلية أو سمعية، ولا دليل ها هنا على البدل بهذا الاجتهاد من التقليد فيجب أن لا يجوز إثباته. ودليل آخر: أنه لا خلاف أنه يجوز ترك قول الأعلم باجتهاده، ومن جاز ترك قوله باجتهاده لم يجز ترك اجتهاده لقوله

كالذي هو وسيلة، وكالمجتهد في القبلة، ولا يلزم قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول الإجماع لأنه لا يجوز تركه باجتهاده. فإن قيل: يلزم العامي [أن لا يتبع] مثله، ويتبع العالم. قيل: إنما لم يتبع مثله، لأنهما استويا في عدم الأدلة المؤدية إلى الحكم، واتبع العالم لتحققه بآلة الاجتهاد دونه في مسألتنا لا خصيصة له عليه، وهو من ظن نفسه على يقين، ومن ظن غيره على شك فلم يجز اتباعه، يؤكد هذا: أن العامي يجب اتباع العالم، ولا يجب على المجتهد اتباع من هو أعلم منه، بل له أن يخالفه في اجتهاده، فافترقا، ولأن الأصل أن لا يتبع الإنسان قول غيره، وإنما جوزنا للعامي لقيام الدليل، وبقى العالم على الأصل. احتج الخصم: بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وهذا قبل اجتهاده لا يعلم حكم الحادثة. والجواب: إنها حجتنا، لأنه شرط أن لا يعلم، والمجتهد عالم بطرق الاجتهاد، وبطرق الأدلة. وجواب آخر: أن المراد بها العامة بدليل أنه أمرنا بالسؤال، والمجتهد لا يجب عليه السؤال، وإنما يجب على العامي، وعين أن يكون المسؤول من أهل الذكر، فاقتضى أن يكون السائل من غير أهل الذكر، وإلا كان مأموراً بسؤال نفسه، لأنه من أهل الذكر، فيكون السائل هو المسؤول.

واحتج: بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يفصل. والجواب: أن المراد الطاعة في الغزوات والسرايا، وإقامة الحدود وغير ذلك، ولهذا خص أولي الأمر، ولهذا تجب طاعة الأمراء في ذلك بمقتضى الأمر، ولا يجب على العالم تقليد غيره، وله مخالفته باجتهاده ولو كانت الآية تناول مسألتنا وجب علينا قبول قولهم، ولم يجز لنا مخالفتهم. واحتج: بأن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إلى التقليد بدليل أن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان وعليا رضي الله عنهم إلى سنة الشيخين رضي الله عنهما، فأجاب عثمان فبايعه. وهذا هو التقليد. والجواب: أن ابن عمر جعله عمر في المشورة، وذكر الخبر: أن عبد الرحمن سارهما ثم صفق على يد عثمان، قال فمن أخبرك أنه علم ما قال لهما فقد كذب. وهذا يدل على أنه لا يعلم هل بايع له لأجل ذلك أم لا؟

وجواب آخر: إن صح فمحمول على أنه أراد سنة الشيخين في السيرة والاجتهاد في الفتوح، وتجهيز الجيوش والقناعة بيسير الرزق ولمي رد الأحكام، يدل على ذلك أن أبا بكر وعمر اختلفا في كثير من المسائل فكيف يمكنه اتباعهما في حكمين متضادين، وعثمان أيضاً خالفهما في مسائل ولم يقل له: اترك اجتهادك لقولهما، ويدل على ذلك أنه لا أحد قال: يجب على العالم تقليد من هو أعلم منه، وخبر الشورى يقتضي أن عبد الرحمن (يرى) ذلك، حتى أن علياً لما لم يجبه إلى التقليد لم يبايعه، فدل على أنه لم يرد به الأحكام، وإلا كان مخالفاً للإجماع، ولأن تقليد الميت لا يجوز فكيف يحمل خبر عبد الرحمن أنه بايع عثمان على تقليد أبي بكر وعمر وهما ميتان. واحتج: بأن عمر رضي الله عنه قال: إني رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فرأى رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذا الرأي، وروى أنه رجع إلى رأي على لما أنقذ إلى امرأة أجهضت ذا بطنها، وروى أنه سأل ابن مسعود عن الصرف، فقال: لا بأس به. فقال عمر: لكني أكره، فقال ابن مسعود كرهت إذ كرهته. وهذا تقليد. والجواب: أن هذا لا يدل على التقليد، لكن يدل على أ، بعضهم تنبه على الدليل بقول بعض، وهذا كما يتردد الإنسان بين

رأيين في الحرب لم يصمم على أحدهما، فيقول له قائل: ليس هذا بصواب بل الصواب كذا وكذا، فيقول له صدقت، فيعلم الحاضرون لذلك، إنما صدقه ليتنبه على وجه الرأي والمصلحة، لأن قول ذلك عنده أصوب من رأيه وقول عمر في الجد اتبعوني يعني اتبعوا دليلي، كما يدعو أحدنا الآخر في النظر إلى الأخذ بدليله لا إلا تقليده. فقال له عثمان رأيك رشيد في هذا الدليل، ورأي أبي بكر في دليله نعم الرأي، ولهذا عثمان وعبد الرحمن قالا لعمر: إنما أنت مؤدب لا شيء عليك ولم يتبعهما واتبع قول علي، فدل على أن اجتهاده أداه إلى قول علي في هذه المسألة وكذا قول ابن مسعود بان لي إذ كرهت وجه الكراهة فكرهت ذلك أيضاً. واحتج: بأنه حكم يسوغ الاجتهاد فيه فجاز التقليد فيه، كما لو كان المستفتي عامياً. والجواب: أن العامي عادم للآلة المؤدية إلى الحكم باجتهاده، [فجاز له التقليد، أما العالم] فلم يجز له التقليد كالعامي في العقليات من التوحيد والنبوة وغير ذلك، ولأن العامي لما جاز له التقليد وجب عليه التقليد وترك مخالفة من قلده، والعالم لا يجب عليه التقليد ويجوز له مخالفة من قلده إلى اجتهاده فافترقا. واحتج: بأنه يجوز للعالم أن يقلد الرسول ويقلد الصحابي ويترك اجتهاده وكذلك يجوز أن يقلد من هو أعلم منه أو مثله. والجواب: أن ما سمعه لا يسمى فيه مقلداً، بل هو الحجة.

الواضحة في الشرع، لأنه إن كان عن وحي فهو مقطوع بصحته أيضاً، لأنه لا يخطيء مما شرعه وما يجوز عليه الخطأ فيه لا يقر عليه فإذا لا يأمن فيه الخطأ ومعه طريق إلى الحكم يوجب أن يجتهد في ذلك، وأما الصحابي فلا يجوز للعالم تقليده في إحدى الروايتين وهو الأقوى عندي، ومن سلمها قال: إن قول الصحابي حجة في الشرع بخلاف المفتى من غير الصحابة يوضح صحة ما ذكرنا أنه يجب على العالم ترك اجتهاده والأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وبقول الصحابي على قول من جعل حجة، ولا يجب عليه تقليد غيره، فبان ما ذكرنا. واحتج: بأن العالم يجوز أن يأخذ بخبر الواحد في الحكم ويقلد راويه وإن جاز عليه الخطأ، فيجوز أن يأخذ أيضاً بقول العالم في الحكم. والجواب: أنه جمع من غير علة، ثم العالم في باب الأخبار وأسانيدها مع المحدث بمنزلة العامي من العالم، لأنه عادم لطريق معرفة الرجال وسماع الحديث، ولو طلب ذلك فربما تعذر عليه بموت راوي الحديث، أو يتعذر عليه الطريق بينهما، فسقط عنه ذلك للمشقة، كما سقط عن العامي طلب طريق الفقه في حال نزول الحادثة، بخلاف مسألتنا، فإن آلة الاجتهاد موجودة على ما بينا فافترقا، ولأن خبر الواحد ظهر من غير نظر، وأسند إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم فلزم قبوله، بخلاف مسألتنا، فإن الحكم مختلف فيه، ولا يأمن الخطأ على المفتي ومعه آلة الاجتهاد التي يجوز [أن يؤديه] إلى غير ما أفتاه به، فلم يجز تقليده.

واحتج: بأن الاجتهاد من فروض الكفايات، فجاز أن يتكل فيه البعض على البعض كالجهاد يتكل على البعض الذين تقع الكفاية بهم في رد العدو وإذلاله. والجواب: أنا لا نسلم أنه مع وجود آلة الاجتهاد وحصول الاختلاف في الحكم يكون من فروض الكفايات، بل يجب على كل مجتهد النظر في ذلك الحكم إذا نزل به، ويصير نظيره من الجهاد نزول العدو بكل فريق من المسلمين، فإنه يجب على الكل الجهاد. واحتج محمد: بأن الأعلم له مزية لكثرة علمه وبصيرته بطريق الاجتهاد، وأخذ الإنسان باجتهاد نفسه له مزية، وإحاطته بظن نفسه وثقته باجتهاده، وليس من اجتهاد الأعلم على ثقة، فإذا اجتمعا تساويا فتخير بينهما. والجواب: إن هذا يبطل باجتهاد من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم مع اجتهاد من لم تطل صحبته، فإن للطويل الصحبة مزية بكثرة سماعه من الرسول وقوة معرفته بمقاصده وأنسه) بكلامه، ثم لا يجوز لمن لم تطل صحبته تقليده لأجل ذلك إذا تساويا في العلم لم يقلد أحدهما الآخر، وإن كان الصحابي له مزية الصحبة (والمحاضرة للرسول صلى الله عليه وسلم - وسماع التنزيل).

وجواب آخر: إن معرفة الإحاطة لا يوازيها زيادة علم الآخر لأنه على يقين من نفسه واجتهاده على شك من الأعلم هل استعمل حقيقة اجتهاده، ومنتهى بحثه أم لا؟ والشك لا يوازي اليقين. فصل الدليل على أنه لا يجوز للعالم التقليد مع ضيق الزمان والوقت أيضاً خلافاً لابن سريج ما تقدم في المسألة، وأيضاً أنه مجتهد فلم يجز له التقليد، كما لو لم يخف فوت الوقت وأيضاً من لم يجز له التقليد إذا لم يخف الفوت، (كذلك) وإن خاف الفوت، دليله سائر المكلفين في العقليات، فإن المكلف لو خشي أن يموت لم يجز له التقليد في معرفة الله والواحدانية وغير ذلك، كما لا يجوز إذا لم يخف الموت، ولأن اجتهاده شرط في الحادثة، فلم يسقط بخوف فوت الوقت كسائر الشروط في العبادة، مثل الطهارة والستارة (في الصلاة) ولأن فرض العامي التقليد كما أ، فرض المجتهد الاجتهاد، ثم العامي لا يسقط عنه فرض التقليد والسؤال (بخوف) فوت الوقت، كذلك لا يسقط عن العالم الاجتهاد لخوف الفوت. واحتج الخصم: بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ

لا تَعْلَمُونَ} وقد بينا الجواب وأن المراد به لا تعلمون طرق الاجتهاد، لأنه ذكر البينات والزبر وهما طرق الاجتهاد، وهذا العالم يعلم طرق الاجتهاد فلم يجز له السؤال. واحتج: بأنه لا يمكنه أداء فرضه باجتهاده، فكان فرضه التقليد كالعامي. (والجواب): أنا لا نسلم الوصف، لأن فرضه يؤديه بعد اجتهاده، والمعنى في العامي أنه لا يعرف طرق الاجتهاد، بخلاف العالم، (ويوضح هذا أن العامي يجوز له التقليد مع سعة الوقت بخلاف العالم). واحتج: بأنه محتاج إلى التقليد، لأنه إذا اجتهد فاتته العبادة بخروج وقتها وذلك لا يجوز. والجواب: أنه إن كانت العبادة مما يجوز تأخيرها للعذر جاز ها هنا، لأن اجتهاده عذر له في التأخير، وإن كانت مما لا يجوز تأخيرها كالصلاة وغيرها، فإنه يفعلها على حسب حاله، ثم يعيد إذا تبين فلا ضرورة به إلى التقليد، وهذا كما (نقول) فيمن عدم الماء يصلي على حسب حاله ويعيد، وكذلك من حبس في موضع نجس

يصلي ويعيده (والله أعلم).

انتهى الجزء الرابع من كتاب "التمهيد" لأبي الخطاب محفوظ أحمد الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510 هـ. وبتمامه تم الكتاب

§1/1