التمسك بالسنن والتحذير من البدع
الذهبي، شمس الدين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فإن الإتباع، والابتداع، أمران لهما أثرهما في صحة عقيدة المرء أو فسادها، وفي قبول العمل أو رده. وقد أمرنا الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك آية محبته فقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} 1، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2. وأوصى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمته باتباع سنته وسنة الخلفاء المهديين من بعده فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 3. فأرشد صلى الله عليه وسلم أمته إلى سبيل نجاتها عند وقوع الاختلاف، وهو الإتباع والتمسك بالسنن، وحذرها من الضلالة والبدعة والإحداث في الدين.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة متضافرة، في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف، من الصحابة، والتابعين، وأئمة السلف في كل عصر. ولا يزال أهل الحق والسنة، من علماء هذه الأمة، يدعون إلى ما دعا الله عز وجل إليه في كتابه، وإلى ما دعا إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوالهم في ذلك مدونة مسطورة، وآثارهم مشهورة، في سيرهم وأخبارهم، ولبعضهم مؤلفات خاصة في ذلك. ولقد وقفت على مؤلف لطيف في هذا الشأن، لإمام من أئمة أهل السنة والإتباع، ذلكم هو الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي رحمه الله. وما إن انتهيت من مطالعته وقراءته، حتى عزمت على إخراجه، لما حواه مع لطافته وصغر حجمه، من فوائد عزيزة، وتأصيلات في هذا الشأن مفيدة، صاغها الإمام الذهبي رحمه الله بأسلوب مميز فريد، تلمس فيه صدق النصح لهذه الأمة، والحرص على هداية من انحرفت به السبل منها، في رفق ولين، مع غيرة على السنة والدين. ولئن كانت النسخة التي وقفت عليها خلت من ذكر اسم هذا المؤلَّف وعنوانه، إلا أن موضوعه، يدور حول الإتباع والتحذير من الابتداع، مما جعلني أرجح أن يكون هو كتاب "التمسك بالسنن " الذي ورد ذكره ضمن مؤلفات الإمام الذهبي1. وقد جعلت العمل فيه في قسمين: القسم الأول: دراسة عن المؤلف، والكتاب، في تمهيد ضم فصلين. الفصل الأول: في التعريف بالمؤلف تضمن:
أولاً: اسمه. ثانياً: نسبته. ثالثاً: مولده. رابعاً: طلبه العلم وارتحاله إليه. خامساً: مكانته العلمية وثناء الناس عليه. سادساً: مصنفاته. سابعاً: جهوده في الدعوة إلى السنة ومحاربة البدعة. ثامناً: وفاته. الفصل الثاني: في التعريف بالكتاب ووصف النسخة الخطية، وعملي في الكتاب، على النحو التالي: * التعريف بالكتاب. أولاً: اسمه. ثانياً: توثيق نسبته للمؤلف. ثالثاً: موضوع الكتاب. * وصف النسخة المعتمدة في التحقيق. * عملي في الكتاب. القسم الثاني: تحقيق الكتاب. وقد بينت عملي فيه في الفقرة المشار إليها قبل. وإذ أقدم هذا الكتاب لأرجوا الله مخلصاً أن ينفع به من اطلع عليه، وأن يجعل عملي المتواضع فيه خالصاً لوجهه تعالى، وأن يصلح العمل والنية، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه/ د. محمد باكريم محمد باعبد الله 2/9/1415هـ
التمهيد
التمهيد ... تمهيد في التعريف بالمؤلِّف والكتاب الفصل الأول: التعريف بالمؤلِّف. الفصل الثاني: التعريف بالكتاب ووصف النسخة المعتمدة وعملي في الكتاب.
الفصل الأول: التعريف بالمؤلِّف: أولا: اسمه. ثانيا: نسبته. ثالثا: مولده. رابعا: طلبه العلم ورحلاته. خامسا: مكانته العلمية وثناء الناس عليه. سادسا: مصنفاته. سابعا: جهوده في الدعوة إلى السنة ومحاربة البدعة وأسلوبه في ذلك. ثامنا: وفاته.
الفصل الأول التعريف بالمؤلِّف بعد الدراسة الضافية والموسعة، التي قدَّمها الدكتور بشار عوّاد عن الإمام الذهبي بعنوان: "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام "1؛ لا أجدني بحاجة إلى تقديم دراسة وافية عن حياة الإمام الذهبي، وسأكتفي بتدوين ترجمة موجزة للمؤلف تتضمن الأمور التالية: أولاً: اسمه: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، ابن الشيخ عبد الله التركماني، الفارقي2 ثم الدمشقي الشافعي3، ويكنى بأبي عبد الله. ثانياً: نسبته: اشتهر رحمه الله بـ "الذهبي " أو "ابن الذهبي "، نسبة إلى صنعة أبيه، حيث كان أبوه قد برع في صنعة الذهب، وتميز بها فعرف بالذهبي. قال د. بشار: "ويبدو أنه- أي صاحب الترجمة- اتخذ صنعة أبيه مهنة له في أول أمره، لذلك عُرف عند بعض معاصريه بـ "الذهبي "، مثل: الصلاح الصفدي، وتاج الدين السبكي، والحسيني، وعماد الدين ابن كثير "4.
قلت: ويدل لذلك قول سبط ابن حجر في ترجمته: "وتعلَّم صناعة الذهب كأبيه وعرف طرقها"1. لذا نجد الذهبي يعرِّف نفسه في الغالب بـ "ابن الذهبي "2 وأحيانا بـ " الذهبي" 3. ثالثاً: مولده: ولد الإِمام الذهبي في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة4 في مدينة دمشق5. قال تلميذه الصفدي: "وأخبرني- أي الذهبي- عن مولده فقال: في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة"6. رابعاً: طلبه العلم ورحلاته: بدأ الذهبي رحمه الله في طلب العلم في سن الثامنة عشرة من عمره 7، وكانت عنايته متجهة إلى علم القراءات، وعلم الحديث، وقد بلغ في علم القراءات شأواً عالياً، فبرع في هذا الفن حتى إن شيخه شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبد العزيز الدمياطي، أقعده مكانه في حلقته في الجامع الأموي في أواخر سنة 692، أو أوائل 693 حينما أصابه المرض الذي توفى فيه8، وألف في هذا الفن كتابه القيِّم "طبقات القُرَّاء".
أما علم الحديث فقد شغف به، وأولاه جل عنايته، فسمع ما لا يحصى من الكتب، ولقي الكثير من الشيوخ وأخذ عنهم، وأصيب بالشَّرَهِ في سماع الحديث وقراءته حتى إنه كان يسمع من أناس قد لا يرضى عنهم، كما قال في ترجمة: علاء الدين أبي الحسين بن مظفر الاسكندراني: "ولم يكن عليه ضوء في دينه، حملني الشره على السماع من مثله، والله يسامحه"1. وقد رحل الإمام الذهبي في طلب العلم، فسمع بدمشق، وبعلبك، وبالقرافة، وبالثغر، ومكة، وحلب، ونابلس2، وحمص، وطرابلس، والرّملة، وبلبيس، والقاهرة، والإسكندرية، والحجاز، والقدس وغير ذلك3. خامساً: مكانته العلمية وثناء الناس عليه: برع الإِمام الذهبي رحمة الله عليه في علم الحديث ورجاله، والتاريخ وله تمكن في علم القراءات، مع مشاركة قوية في مختلف علوم الشريعة، وعلوم الآلة من نحو وصرف وأدب. وقد تبوّأ رحمه الله مكانة علمية عالية في حياته، وكان جديراً بتولي مشيخة بعض المدارس والدور العلمية في عصره. فتولى مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح، وهي من أكبر دور الحديث بدمشق, كما تولى بعد ذلك مشيخة دار الحديث الظاهرية. وتولى تدريس الحديث بالمدرسة النفيسية، ومشيخة الحديث بدار
الحديث والقرءآن التنكزية، ودار الحديث الفاضلية، ودار الحديث العُروّية1. عرف منزلة الذهبي هذه، ومكانته، أفاضلُ أهل العلم من تلاميذه الذين أخذوا وتلقوا عنه، ومعاصريه الذين أدركوا فضله ومكانته، ومن جاء بعده من أهل العلم والفضل، فذكروه بخير، وأثنوا عليه بالجميل. فقال تلميذه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في ترجمته: " ... أبو عبد الله الذهبي، حافظ لا يجارَى، ولافظ لا يبارَى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإيهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبته وانتماؤه، جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثَر من التصنيف، ووفر بالاختصار مؤونة التطويل في التأليف ... اجتمعت به وأخذت عنه، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه، ... له دُربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة من السلف، وأرباب المقالات، وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواة، وهذا لم أر غيره يعاني هذه الفائدة فيما يورده"2. وقال ابن ناصر الدين: " ... كان آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح والتعديل، عالماً بالتفريع والتأصيل، إماماً في القراءات، فقيهاً في النظريات، له دُربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائماً بين الخلف، ينشر السنة ومذهب السلف ... " 3. وقال عنه السيوطي: " ... وطلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وعني بهذا الشأن، وتعب فيه وخدمه، إلى أن رسخت فيه
قدمه، وتلا بالسبع، وأذعن له الناس، -قال-: "وحكي عن شيخ الإِسلام أبي الفضل ابن حجر أنّه قال: "شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ". والذي أقوله إن المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر"1. هذا بعض ما قيل في هذا الإمام العظيم الشأن، وما تركت أكثر، وهو بعض ما يستحقه رحمة الله عليه. أمّا هو فكان يقلل من شأن نفسه، ويتواضع تواضع العلماء الربّانيين فيقول في ترجمته لنفسه: " ... وجمع تواليف- يقال مفيدة - والجماعة يتفضلون ويثنون عليه، وهو أخبر بنفسه، وبنقصه في العلم والعمل، والله المستعان، ولا قوة إلاّ به، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي"2. يقول هذا عن نفسه، وهو من عرفنا في العلم والإمامة والفضل، فهل يعي هذا الجانب طلبة العلم؟، فإن لهم والله في سيرة هذا الإمام وأمثاله لقدوة، وأسوة. سادساً: مصنفاته: ذكر الدكتور بشّار للإمام الذهبي مائتين وأربعة عشر مصنفاً، وأشار في مقدمته إلى أنه عني بذكر آَثار الذهبي من المختصرات، والانتقاءات والتآليف، والتخاريج، مما ذَكَرتْه المصادر، أو وقف عليه, سواء أكانت مفقودة أم مخطوطة أم مطبوعة3.
وأشار أيضاً إلى أنه لم يُعْنَ باستقصاءِ طبعات الكتب ولا نُسَخِها في جميع خزائن العالم1. وقد بذل جهداً متميزاً في دراسته للإمام الذهبي وكتابه "تاريخ الإسلام " بوجه عام، وفي اعتنائه بتتبع مؤلفاته ومحاولة استقصائها. ومع ذلك فقد فاته ذكر بعض مصنفات الإمام الذهبي، التي لم يقف عليها أو على ذكر لها، ذكر منها الأستاذ: قاسم علي سعد ثمانية وثلاثين مصنفاً2. وفاته هو أيضاً ذكر بعض مصنفات الإمام الذهبي. وفي هذا دلالة على أن النقص وعدم الكمال من طبيعة عمل البشر، إذ أبى الله أن يتم كتاباً غير كتابه عز وجل. ولمّا كان عمل الباحثين في فن من الفنون يكمل بعضه بعضاً، ويبدأ الآخر من حيث انتهى الذي قبله وهكذا حتى تتظافر الجهود على البلوغ بالبحث إلى أقصى ما يمكن للبشر من الاستيعاب والإتقان. فإني من هذا المنطلق لم أشأ أن أعدد مصنفات الذهبي، التي ذكرها د. بشار أو الأستاذ قاسم علي سعد، لأنه تكرار لا موجب له، ورأيت أن أكتفي ببعض الإضافات التي وقفت عليها، سواء في أسماء المصنفات والمؤلفات، أو في ذكر نسخ خطية أخرى لبعضها، أو في الإشارة إلى طبع ما تم طبعه منها، وإن كان الدكتور بشار لم يلتزم باستقصاء الطبعات، ولا النسخ إلاّ أنه لو وقف على شيء من ذلك لذكره، وحيث إن في ذكر ذلك ما يفيد الباحثين، وطلاب العلم رأيت أن لا غضاضة في ذكر ما وقفت عليه أو بلغه علمي من نسخ أخرى لبعض هذه المؤلفات، أو طبعات لبعضها، أو زيادة توثيق لمصنفات ذكرها د. بشار، ولاسيما إذا كان هذا التوثيق من كلام الإمام الذهبي.
وهذا العمل ليس استدراكا على الباحثين الكريمين، ولا يقلل بحال من عملهما وإنما هو إضافة أطمع أن تكون مكملة لعملهما، مفيدة للباحثين وطلاب العلم. وهذا أوان تفصيل ذلك: أولاً: مؤلفات لم يذكرها د. بشار، أو الأستاذ قاسم: 1- أسماء الذين راموا الخلافة. ورقة واحدة طبعت بتحقيق د. صلاح الدين المنجد. 2- الإمامة العظمى. رسالة اختصر فيها كلام ابن حزم في ذلك، لها نسخة مصورة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 3- مختصر الجهر بالبسملة لأبي شامة: له نسخة في الظاهرية ضمن مجموع رقم (55) الذي فيه "ذكر الجهر بالبسملة مختصراً" الذي اختصره الذهبي من تصنيف في هذا الموضوع للخطيب البغدادي، ذكره د. بشار برقم (133) . 4- مسائل في طلب العلم وأقسامه. يوجد له نسخة في الظاهرية برقم (3216) وهو غير كتاب: "بيان زغل العلم" الذي ذكره د. بشار برقم (119) ،وأشار إلى نشره. وقد طبع كتاب المسائل، بتحقيق: جاسم الدوسري. 5- مشيخة محمد بن يوسف بن يعقوب: ذكره الذهبي في "المشتبه"1.
6 - العزة للعلي العظيم. ذكره الذهبي في السير (11/ 291) ويحتمل أن يكون هو "العلو للعلي العظيم ". ثانياً: ذكر نسخة أو نسخ خطية لبعض مؤلفات الذهبي، لم يشر إليها د. بشار. 1- بيان زغل العلم. ذكره د. بشار برقم (119) وذكر له نسخة برلين. قلت: عُثر له على نسختين أخريين: أولاهما: في مكتبة الأحقاف بتريم، وعنها صورة في معهد المخطوطات في الكويت تحت رقم (181) . والأخرى: في إحدى مكتبات اليمن، وعنها صورة في قسم المخطوطات في عمادة شئون المكتبات في الجامعة الإسلامية تحت رقم (254) . 2- ذيل دول الإسلام. ذكره د. بشار برقم (64) ، ولم يذكر له نسخاً خطية. قلت: له نسخة خطية في مكتبة "تشستربتي " برقم (4100) ، بعنوان "ذيل تاريخ الإسلام". 3- الرخصة في الغناء بشرطه. ذكر له د: بشار نسخة الظاهرية رقم (7159) في 54 ورقة. قلت: له نسخة أخرى في مكتبة "تشستربتي" في إيرلندا، تحت رقم (5356) في 57 ورقة. 4- مختصر مناقب سفيان الثوري. ذكره د. بشار برقم (163) ، وقال: ولا نعرف اليوم منه نسخة.
قلت: له نسخه في دار الكتب المصرية برقم (382 مجاميع طلعت) . 5- المعجم المختص بمحدثي العصر. ذكره د. بشار برقم (84) ولم يذكر له نسخة. وقد وجد له نسختان خطيتان الأولى في المكتبة الناصرية بالهند تحت رقم (154) ، والثانية في مكتبة آزاد ذخيرة سبحان الله، الجامعة الإسلامية في عليكره برقم (212 ع 297) /2. 6- المقتنى في سرد الكنى. ذكره د. بشار برقم (169) ، وذكر له ثلاث نسخ، الأولى في الأحمدية بحلب، والثانية في مكتبة فيض الله في استانبول، والثالثة في مكتبة الأوقاف ببغداد. قلت: له نسخة رابعة في دار الكتب المصرية برقم (2786 ب) . ثالثاً: ذكر بعض مصنفات الذهبي التي طبعت, ولم يشر إليها د. بشار إما لأنها طبعت بعد انتهائه من مؤلفه، أو لم يقع له علم بذلك. 1- أحاديث مختارة من الموضوعات من الأباطيل للجوزقاني. [125] 1 طبع بتحقيق: د. محمد حسن الغماري، بعنوان "مختصر الأباطيل والموضوعات". نشرته دار البشائر الإسلامية سنة 1413 هـ. 2- الأربعين في صفات رب العالمين. [13] طبع بتحقيق: جاسم سليمان الدوسري، نشرته الدار السلفية في الكويت، سنة 1408 هـ. كما طبع أيضاً بتحقيق: عبد القادر بن محمد عطا صوفي، نشرته
مكتبة العلوم والحِكَم بالمدينة المنورة، سنة 1413هـ. 3- تَشَبُّه الخسيس بأهل الخميس. [29] طبع بتحقيق: علي حسن عبد الحميد، نشرته دار عمار، بالأردن، سنة 1408 هـ. 4- ذكر الجهر بالبسملة مختصراً. [133] طبع بتحقيق: جاسم سليمان الدوسري، نشرته الدار السلفية في الكويت، سنة 1408 هـ. 5- ذكر من اشتهر بكنيته من الأعيان. [61] طبع بتحقيق: جاسم سليمان الدوسري، نشرته الدار السلفية في الكويت، سنة 1408 هـ. 6- المجرد في أسماء رجال كتاب سنن الإمام أبي عبد الله ابن ماجة سوى من أخرج له منهم في أحد الصحيحين. [78] طبع بتحقيق: جاسم سليمان الدوسري، نشرته الدار السلفية في الكويت، سنة 1408هـ. 7- مختصر مناقب سفيان الثوري. [163] طبع بتحقيق: قسم التحقيق بدار الصحابة للتراث بطنطا، سنة 1413هـ. 8- معجم الشيوخ الكبير. [81] طبع بتحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، نشرته مكتبة الصديق بالطائف، سنة 1408 هـ. 9- المعجم الصغير. [83] طبع بتحقيق: جاسم سليمان الدوسري، نشرته الدار السلفية في الكويت، سنة 1408هـ. باسم " المعجم اللطيف ".
10- المعجم المختص بمحدثي العصر. [84] طبع بتحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، نشرته مكتبة الصديق بالطائف، سنة 1408 هـ. 11- المقتنى في سرد الكنى. [169] طبع بتحقيق: محمد صالح المراد، نشره مركز البحث وإحياء التراث الإسلامي في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة، سنة 1408 هـ. 12- الموقظة في علم مصطلح الحديث. [11] طبع بعناية: عبد الفتاح أبي غدة، نشرته مكتبة المطبوعات الإِسلامية في حلب، سنة 1405 هـ، وأعادت طبعه سنة 1412 هـ. رابعاً: توثيق نسبة بعض مؤلفات الذهبي من كلامه في بعض مؤلفاته الأخرى. اعتمد د. بشار في توثيق نسبة بعض المؤلفات للإِمام الذهبي على ذكر بعض المترجمين للإِمام الذهبي لها، مع أن الإمام الذهبي ذكرها في بعض كتبه، ولعل الدكتور بشار لم يقف على ذلك، ووثق نسبة بعضها من كلام الذهبي نفسه في بعض كتبه، ثم وقفت على توثيقها من كلامه أيضا في بعض كتبه فرأيت إثبات ذلك أيضا للفائدة. فمن ذلك: 1- ترجمة محمد بن الحسن الشيباني [105] ذكره الذهبي أيضاً في: السير: 13/233. 2- سيرة الحلاج. [108] ذكره الذهبي أيضاً في السير: 16/265، وقال: "وقد جمعت بلاياه في جزئين "، وفي كلام الإِمام الذهبي هذا إجابة على قول د. بشار: "وهو من كتب الذهبي الغريبة لأنه لم يكن من الذين يعتقدون
الحلاج ومبادئه"- ثم قال: "ولعله اهتم به لشهرته ولشدة خطورة سيرته وما قام به و ... ". قلت: وإنما جمعها الإِمام الذهبي للتحذير منها، وبيان فسادها ومخالفتها للشرع. 3- طرق أحاديث النزول [8] وثقه د. بشَّار من كلام ابن تغري بردى، وسبط ابن حجر، وابن العماد. وقد ذكره الذهبي نفسه في كتابيه " العلو ص 73"1 و"الأربعين في صفات رب العالمين. ص70"2. 4- كتاب مسألة دوام النار. [23] وثقه د. بشار أيضاً من كلام المذكورين في الذي قبله. وقد ذكره الذهبي نفسه في السير: 18/126. 5- كتاب معرفة آل منده. [85] ذكره الذهبي أيضاً في السير: 17/38. 6- كسر وثن رتن. [163] ذكره الذهبي أيضاً في السير: 12/367. 7- الكلام على حديث الطير. [5] ذكره الذهبي أيضاً في السير: 13/233.
سابعا ً: جهوده في الدعوة إلى السنة ومحاربة البدعة وأسلوبه في ذلك: الإمام الذهبي من أئمة أهل السنة، وأعلامهم في عصره، له في الدعوة إلى السّنة والذبِّ عنها، ومحاربة البدعة والتحذير منها، جهود مشكورة، وآثار مذكورة مشهورة. فمؤلفاته المفيدة، في التاريخ، والتراجم، كتاريخ الإِسلام، وسير أعلام النبلاء، وتذكرة الحفاظ، وميزان الاعتدال، تحمل في طياتها كثيراً من أقواله في الحضِّ على التمسك بالسنة، والثناء على أهلها، والتحذير من البدع وأهلها، وله في ذلك مصنفات متخصصة في كثير من مسائل الدين، عقيدة، وعبادة، بيَّن فيها منهج أهل السنة والسلف الصالح الواجب اتباعه، وردّ على أهل البدع من الفرق والطوائف الحائدة عن سواء الصراط. فمن هذه المصنفات: 1- كتابه القيم: العلو للعلي الغفار1. وهو من أهم الكتب المصنفة في مسألة العلو, جمع فيه النصوص من الكتاب، والسنة، وآثار السلف والأئمة في إثبات علو الله عز وجل على عرشه، والرد على النفاة والمؤولة لهذه الصفة. 2- الأربعين في صفات رب العالمين2. أورد فيه أربعين حديثاً في عدد من صفات الله عز وجل.
3- كتاب رؤية الباري، عز وجل. وهو من كتبه التي لم تصل إلينا. 4- كتاب مسألة الوعيد. ولم يصل إلينا أيضاً. 5- كتاب في مسألة دوام النار. ولم يصل إلينا أيضاً. 6- تشبه الخسيس بأهل الخميس. وهو في بيان بدعة التشبه بالنصارى في أعيادهم1. 7- التمسك بالسنن. وهو كتابنا هذا. وقام رحمه الله باختصار بعض المؤلفات التي ألفّها بعض أهل العلم في الردّ على بعض الفرق والطوائف وأهل البدع، فله: 1- مختصر الرد على ابن طاهر لابن المجد، وهو في بيان مسألة السماع، ردّ فيه على من جوزه 2 ولم يصل إلينا. 2- مختصر كتاب القدر للبيهقي. قال د. بشار: "ولا نعرف اليوم نسخة منه ولا من أصله". قلت: أما أصله، فقد عثر على نسخة منه، في المكتبة السليمانية في استانبول، تحت رقم (1488) 3. 3- المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال4. اختصر فيه كتاب منهاج السنة، لشيخ الإِسلام ابن تيمية. وله تآليف عديدة، ومختصرات في هذا الباب مفيدة. وكان رحمه الله شديد الحذر والتحذير من البدع، يخشى على نفسه وغيره من الوقوع فيها، فكان يدعو ربه عز وجل ويسأله السلامة من البدع والثبات
على السنة. ويقول: "يا مصرف القلوب، ألهمنا سنة نبيك وجنّبنا الابتداع والتشبه بالكفار"1. ويقول: "اللهم أحيي قلوبنا بالسُّنُّةِ المحضة، وأمددنا بتوفيقك ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اهدنا الصراط المستقيم، وجنبنا الفواحش والبدع ما ظهر منها وما بطن ... "2. وُيحَذِّر رحمه الله من البدع وإلْفِها وخطورة ذلك، فيقول: "فمتى تعودت القلوب بالبدع وألفتها لم يبق فيها فضل للسنن" 3. وفي ذلك موت القلوب وهلاكها وضلالها، وفي "اتباع السنن حَياة القلوب وغذاؤها"4. وهذه النقول من كلامه رحمه الله تدل على مدى حُبّه للسنة، وحرصه عليها، وحذره من البدعة والوقوع فيها. وكان من منهجه رحمه الله في دعوة أهل البدع: سلوك طريق الرفق واللين إذا كان المبتدع جاهلاً، لأن ذلك أحرى باستجابته وإقلاعه عن بدعته، فيقول: "فليكن رفقك بالمبتدع والجاهل حتى تردهما عما ارتكباه بلين، ولتكن شدتك على الضال الكافر"5. ويقول: "والجاهل يعذر ويبين له برفق "6. ونلمس أحيانا في أسلوبه شيئاً من الشدة والحدَّة ولاسيما مع من بُيِّن له الحق بدليله ولم يرعو عن بدعته وغيِّه.
فنراه يقول بعد أن ذكر نقولاً عن أئمة السلف في باب الصفات: "وقد طولنا في هذا المكان، ولو ذكرنا قول كل من له كلام في إثبات الصفات من الأئمة لاتسع الخرق، وإذا كان المخالف لا يهتدي عن ذكر ما أتت نقول الإِجماع على إثباتها من غير تأويل، أو لا يصدقه في نقلها فلا هداه الله، ولا خير والله فيمن رد على مثل: الزهري، ومكحول والأوزاعي ... "1. ثامناً: وفاته: توفي الإِمام الذهبي رحمة الله عليه ليلة الاثنين، ثالث ذي القعدة، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ودفن في مقابر باب الصغير. وكان رحمه الله قد أضَرّ قبل موته بأربع سنين أو أكثر2. وقال الحسيني: " ... أضر في سنة إحدى وأربعين، ومات في ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، بدمشق. . "3
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب ووصف النسخة المعتمدة وعملي في الكتاب. * التعريف بالكتاب. 1- اسمه. 2- توثيق نسبته للمؤلف. 3- موضوع الكتاب. * وصف النسخة المعتمدة في التحقيق. * عملي في الكتاب.
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب والنسخة المعتمدة. * التعريف بالكتاب ويتضمن الجوانب التالية: أولاً: اسمه: لم يدون اسم الكتاب على غلاف النسخة، ولم يذكره المؤلف في مقدمته. وسجل الكتاب في فهارس قسم المخطوطات في عمادة شؤون المكتبات في الجامعة الإسلامية بعنوان: "رسالة في البدعة". ويبدو أن المفهرس أخذ هذه التسمية من قول المصنف رحمه الله في مقدمته بعد ذكر حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم: "اعلم أن البدعة مذمومة في الجملة". ومع بحثي في تراجم الإمام الذهبي ومؤلفاته فإني لم أجد من ذكر له مؤلفاً باسم " البدعة ". لكن ذكر من مؤلفاته كتاب "التمسك بالسنن " ولم أقف على ذكر له مخطوطا ولا مطبوعاً. وقد بحثت طويلاً في مؤلفات الذهبي لعلي أجد نقولاً من هذا الكتاب أسترشد بها وأقارن بينها وبين ما جاء في الكتاب الذي بين أيدينا فلم أظفر بشيء. لكن موضوع كتاب "التمسك بالسنن " ذو صلة وثيقة ببيان البدع والتحذير منها.
وفي كتابنا هذا نجد الإمام الذهبي رحمه الله يجمع بين بيان السنن والحض عليها، وبين بيان البدع والتحذير منها. فيقول في أول الرسالة: "فاتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أصل ونور، ومخالفته ضلالة ووبال، وابتداع ما لم يأذن به ولا سَنَّةُ مردود"1. ويقول: "فلابدّ من العلم بالسنن "2. ويقول: "فعلى العالم أن يفتش على المسألة النازلة في كتاب الله، فإن لم يجد فتش السنن، فإن لم يجد نظر في إجماع الأمة ... "3. ويقول في بيان ضرورة اتباع السنن والاقتصار عليها، ونبذ البدع والبعد عنها: "وشرع لنا نبينا كل عبادة تقربنا إلى الله، وعلّمنا ما الإيمان وما التوحيد، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، فأيُّ حاجة بنا إلى البدع في الأقوال والأعمال والأحوال والمحدثات، في السنة كفاية وبركة، فيا ليتنا ننهض ببعضها علماً وعملاً وديانة، واعتقاداً ". ويقول في ص 48: "لكن الخير كله في الاتباع واجتماع الكلمة". وهل كلام الذهبي هذا، وما يماثله في هذا الكتاب، إلاَّ دعوة إلى اتباع السنن، وحضٌّ على التمسك بها، ولا يتم ذلك إلا ببيان البدع والتنفير منها والحضِّ على الابتعاد عنها. ولهذا أجدني شديد الميل إلى أن يكون كتابنا هذا هو كتاب (التمسك بالسنن) المذكور في مؤلفات الذهبي، ولذلك أثبته عنوانا للكتاب، ووضعت بين قوسين عبارة "والتحذير من البدع " لتضمن الكتاب الكلام عن البدع والتحذير منها.
ثانياً: توثيق نسبته للمؤلف: يدل على صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الذهبي أمور منها: 1- قول ناسخ هذه النسخة في نهايتها: "وكتبت هذه النسخة من خط مؤلفها الحافظ الذهبي وقوبلت على خطه ". 2- ما سبق ذكره من الميل الشديد إلى كون هذا الكتاب هو كتاب " التمسك بالسنن " المذكور في مؤلفات الذهبي، كما ذكره، ابن تغرى بردى1، وسبط ابن حجر2، وابن العماد3. 3- جرى الإِمام الذهبي رحمة الله عليه في كثير من كتبه، أنه إذ ورد ذكر السنة، واعتقاد السلف الصالح، سأل الله: الثبات عليه والتوفيق إليه4. وإذ ورد ذكر فتنة في دين أو دنيا، ذيّل كلامه عليها، بالالتجاء إلى الله عز وجل وسؤاله السلامة منها5. وإذ ذكر بدعة في عقيدة، أو عبادة، ذيل كلامه عنها بالتعوذ منها وسؤال الله المعافاة والسلامة منها، والثبات على السنة، والتمسك بها6. وإذا ذكر معصية، أو سوء سلوك، في ترجمة عَلمٍ، ذيل كلامه بالدعاء له ولصاحبها بالصلاح7.
وهذا المنهج والأسلوب نلمسه في كتابنا هذا في أكثر من موضع، فنراه لمّا ذكر أن اتباع غير سبيل المؤمنين بالهوى وبالظن وبالعادات المردودة مقت وبدعة، يدعو لنفسه فيقول: " اللهم اصرف قلوبنا إلى طاعتك "1. ولمّا ذكر ما أنعم الله به على هذه الأمة المحمدية من وضع الإصر والأغلال عنها، وإباحة طيبات كثيرة حرمت على أهل الكتاب يذيل كلامه بقوله: "فلله الحمد على دين الإِسلام الحنيفي، فإنه يسر، ورفق، ورحمة للعالمين"2. ولمّا ذكر البدع وتنوعها تعوذ منها في قوله: "فبدع العقائد تتنوع أعاذك الله وإيانا منها" 3. ونحو ذلك في مواطن من الكتاب. وهذا هو أسلوب الذهبي في كتبه ومؤلفاته، وهو قرينة قوية على صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإِمام الذهبي رحمة الله عليه، والله أعلم. ثالثاً: موضوع الكتاب: بدأ المؤلف كتابه ببيان أن البدعة مذمومة في الجملة، وأَنها تشريع في الدين لم يأذن به الله. وبيَّن أنّ اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أصلٌ ونور وأنَّ مخالفته ضلال ووبال. ثم أورد النصوص الداعية إلى اتباع السنة، والمحذرة من الابتداع. ثم تكلم على تحديد مفهوم السنة والبدعة، ومنشأ النزاع في البدعة وأنه نشأ من جهة قوم ظنوا أن البدعة هي ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعون أو لم يقولوه.
ثم بين أن طريقة أهل الأثر التفريق بين البدعة الشرعية، والبدعة اللغوية. ونقل كلام الإِمام الشافعي في تقسيم البدعة. ثم بيّن خطأ قول من قال إن البدعة هي: "ما نهي عنها لعينها، وما لم يرد فيه نهي لا يكون بدعة ولا سنة"، وبين ما يلزم هذا القول من تعطيل معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة". وأشار إلى بداية ظهور البدع وأن أولها بدعة الخروج، ثم الرفض والطعن في الصحابة، وبدعة القدر، والجبر، والجهمية، والتشبيه، ثم ذكر بدعة الخُرَّميَّة، والقرامطة وتعطيل الشرائع وأن بدعة هاتين الطائفتين من البدع المكفرة. ثم بيَّن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة ... " وذكر أمثلة للسنة الحسنة، وأخرى للسنة السيئة، وذمّ من لم يفرق بينهما. وأوضح المراد من قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة" ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" وأنه ليس معناه كلّ ما سمي بدعة ولابد من التفريق بين البدعة الشرعية واللغوية. وبيّن كمال الدين، واستدل على ذلك، وأنه لا حاجة بالأمة بعد إكمال الدين إلى البدع في الأقوال، أو الأعمال. وأنّ اتباع الشرع متعين، واتباع الهوى والعادات بدعة ممقوتة. ثم ذكر بعض الأمور التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بها في عهده لانتفاء شرط الفعل ووجود مانعه كقتال أهل الردة، والمجوس والترك والخوارج، وكأمره بإطاعة أمراء الجور والصلاة خلفهم فإذا فعلت هذه الأشياء عند وجود المقتضي لها فلا تعد بدعة لأنها إنما فعلت بأمره وإن لم تفعل في عهده. وأشار إلى أن إحداث ما بالناس إليه حاجة لتنظيم أمورهم الدنيوية، كتمصير المدن وإحداثها، ووضع الدواوين وخزائن الأموال لا يدخل في
مسمى البدعة المذمومة، وقد فعل الخلفاء والأئمة شيئاً من ذلك عند الحاجة. ثم بين المنهج الذي ينبغي أن يسلكه العالم عند النوازل، وأَنه ينبغي أن يفتش أولاً في كتاب الله عز وجل، ثم في السنن، فإن لم يجد نظر في إجماع الأمة. وبين بعد ذلك أن فعل ما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن فعله أو الأمر به، أو الندب إليه، مع قيام المقتضي في عهده، ليس بحسن ولا بر. وما أُحدث بعده وكان بنا إليه حاجة فحسن، كفرض عمر للصحابة وغيرهم وجمع الناس في التراويح، وجمع الناس على مصحف. ونبَّه إلى أَنه قد كثر المنكر والمحدَث، وأنه ينبغي النهي عن ذلك بنيّة خالصة، وحذر من الغضب والفرقة. وأشار إلى أنه قد وقع التفريط في مسمى السنة حتى أخرج عنها بعض مسماها، واُدخل فيها ما ليس منها، وكذا الشرع أيضاً. ونبه إلى يسر هذا الدين وسماحة الشريعة المحمدية وأنه ينبغي حمد الله على دين الإسلام فإنه دين يسر ورفق ورحمة للعالمين. وذكر أموراً كانت محرمة على الأمم قبلنا أباحها الله لهذه الأمة، كالعمل يوم السبت، وإباحة الغنائم، والتطهر بالتراب والصلاة في الأرض إلا المقبرة والحمام، وغير ذلك. ثم بين تنوع البدع وتفاوتها في الشر مع كونها كلها ضلالة وأن شرها ما أخرج صاحبها من الإسلام وأوجب له الخلود في النار كبدع النصيرية، والباطنية، وادعاء نبوة علي. ثم ذكر بعد ذلك بدع الخوارج، وغلاة الروافض، والجهمية، ثم بدع القدرية، والشيعة المفَضِّلة لعلي مع محبة الشيخين. ثم ذكر بدع العبادات والعادات، وأن الخطب فيها أيسر منه في غيرها، كصلاة النصف من شعبان، وتلاوة جماعة بتطريب وأشباه ذلك. وذيل ذلك بأن الخير كله في الإتباع واجتماع الكلمة.
*وصف النسخة المعتمدة في التحقيق: اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسخة فريدة، أصلها محفوظ في: مكتبة الاسكوريال برقم 707/5. لها صورة فلمية، محفوظة في قسم المخطوطات في عمادة شئون المكتبات في الجامعة الإسلامية تحت رقم (7955) . وهي نسخة منقولة من خط المؤلف، ومقابلة عليه، كما أثبت ذلك الناسخ في آخر الكتاب. عدد لوحاتها: تقع هذه النسخة في ست لوحات. ضمن مجموع تبدأ من (53/ آ-58/ ب) . عدد الأسطر: يبلغ عدد الأسطر خمسة وعشرين سطراً في كل وجه من لوحات المخطوط. عدد الكلمات: متوسط عدد الكلمات في كل سطر: عشر كلمات. نوع الخط ووصفه: كتبت هذه النسخة بخط نسخي جيد، منقوط، ولم تخل النسخة من الأخطاء، وبعض الكلمات غير المقروءة. ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ. *عملي في الكتاب: 1- اجتهدت في قراءة النص ونسخه حسب القواعد الإملائية الحديثة، وضبطت بالشَّكْل ما يحتاج إلى ضبط خاصة ما قد يُشْكِل على القارئ. وحاولت قدر الطاقة إخراج النص على أقرب صورة تركه عليها المؤلف. 2- قمت بعزو الآيات القرآنية إلى سورها، فأشَرْتُ في الحاشية إلى اسم السورة ورقم الآية.
3- خرَّجت الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن السلف، وربما ذكرت كلام أهل العلم في الحكم على بعض الأحاديث. 4- ترجمتُ للأعلام الوارد ذكرهم في النص ترجمة موجزة. 5- عرَّفت بالفرق الوارد ذكرها في النص. 6- شرحت ما يحتاج إلى شرح من الألفاظ الغريبة. 7- أشرت إلى بداية كل صفحة من المخطوط بوضع خط مائل في النَّصَ والإشارة أمامه في الحاشية إلى رقم اللوحة والوجه, بين قوسين على الشكل الآتي (2/ ب) فالرقم يشير إلى رقم اللوحة والحرف يشير إلى أحد وجهي اللوحة. 8- جعلت بعض العنواين بين قوسين مربعين داخل النصر المحقق. 9- قمت بتحرير دراسة موجزة، عرّفت فيها بالمؤلف، والكتاب. 10-صنعت بعض الفهارس التفصيلة التي تسهل على القارئ والباحث الوصول إلى بغيته من الكتاب بيسر وسهولة, على النحو التالي: * صنعت فهرساً للآيات القرآنية الواردة في النص المحقق. * وفهرساً للأحاديث والآثار. * وفهرساً آخر للأعلام الوارد ذكرهم في النص. * وفهرساً للفرق والطوائف والأمم والجماعات. * وفهرساً للأمكنة والبقاع. * وفهرساً للألبسة والأطعمة والمراكب. * وفهرساً للمراجع والمصادر. * وأخيراً فهرساً للموضوعات.
مقدمة المؤلف
مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. [ذم البدعة] *1 اعلم أن البدعة مذمومة في الجملة، قال تعالى: {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} 3، "قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 4. فاتِّبَاع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أصلٌ ونورٌ , مخالفته ضلال ووبال, وابتداع ما لم يأذن به ولا سَّنهُ، مردودٌ. [روى] 5جعفر بن محمد6، عن أبيه7 عن جابر8 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
خُطبته: "إنَّ أصدق الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهُدى هُدَى محمد، وشَرَّ الأمور محدثاتُها، وكُلّ بدعةٍ ضلالةٌ" 1. وفي رواية ابن المبارك2عن الثوري3 عن جعفر: "وكل محدثة بدعة، وكل ضلالة في النار" 4. وحديث العرباض5، وصححه الترمذي، قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: "يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1. ورُوِيَ عن غُضَيف بن الحارث2 مرفوعاً: "ما ابتدع قوم بدعة إلاّ تركوا من السنة مثلها" 3. وجاء في الأثر: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة" 4.
تفسير هذه الإطلاقات: فإن النزاع يقع في أشياء هل هي [محبوبة] 1 أو هي مذمومة؟. فطائفة ذَمَّتْهَا؟ لأنها بدعة، وأخرى لا تَذُمُّ، ويقولون: "مِنَ البدع حسنٌ وسيئُ، وهذه من الحسن". وقد تَعُدُّ طائفةٌ الشيء بدعةً ولا تشعر بأنَّه جاء فيه أَثَرٌ. وكذلك عامةُ الطوائف تَدَّعي أَنَّها أهل السُّنة، وتُبَدِّعُ مَنْ خالفها. [تعريف السنة] فنقول: السُّنَّةُ التي هي مقابلة البدعة، هي الشرعةُ المأثورةُ، من واجب ومندوب/، وصنَّفَ خلائقُ من المحَدِّثين كُتباً في السُّنَّة، والعقائد، على طرائق أهل الأثر، وسمى الآجري2 كتابَه: (الشريعة) 3. [تعريف البدعة] فالبدعة على هذا: ما لا يأمر الله به ولا رسوله، ولم يأذن فيه، ولا في أصله. فعلى هذا: كُلّ ما نهى الله ورسوله عنه فهو من البدعة. أما المباحُ المسكوتُ عنه فلا يُعَدُّ سنةً ولا بدعةً، بل هُما مِمَّا عفا الله عنه.
وفي السنن لسلمان1 مرفوعاً: "ما سكَت الله عنه فهو مما عفا عنه"2. حديث أبى ثعلبة3 مرفوعاً: "وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"4. فكل ما سكت الشارع عنه هل يسمى حلالاً أو عفوا؟، فيه قولان للعلماء. فالبدعة المذمومة، لابُدَّ أن تندرجَ في القسم المذموم محرمة كانت أو مكروهة. كما أن السنة المحبوبة مندرجة في القسم المحمود. [منشأ النزاع في تحديد مفهوم البدعة] وإنما نشأ النزاع من جهة قوم ظَنُّوا أن البدعة هي ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، أو لم يقولوه.
والرسول صلوات الله عليه يتَحتَّمُ اتِّبَاعُه، فلا يمكن أن يكون قوله أو فعله بدعة ًقط، بل هو سنة، فتراهم تارة يقتصرون في البدعة على ما لم يصدر عنه، وتارة يَضُمُّونَ إليه الخلفاء الأربعة، وتارةً يَضُمون إليه البدرييّن، وتارة الصحابة، وتارةً الأئمةَ، وتارة السَّلف. [فما من أحدٍ] 1 من هؤلاء إلاّ مَن هو متبوع في شيءٍ، لأنه من أُولي الأمر. فإذا كان متبوعاً إِمَّا شرعاً، وإِمَّا عادةً، احتاج إيجاد البدعة إلى أن يُخْرَجَ ما يتبع فيه عن أن يكون بدعة. ثم لمّا اعتقد هذا خلق صاروا يتنازعون بعد2 في بعض هذه الأمور التي لم يفعلها المتبوع. [البدعة كلها سيئة] فقوم يرونها كلَّها سيئة، أخذاً بعموم النص في قوله: "كل بدعة ضلالة", فهؤلاء وقفوا مع النص؛ لأنّه3 لابد لمن سلك هذا أن يقول: "ما ثبت حسنه من هذه البدع فقد خص من العموم، أو يفرق بين البدعة اللغوية والبدعة الشرعية". وهذه الطريقة أغلب على الأثريَّةِ، وذلك أشبه بكلام أحمد ومالك. لكن قد يُغَلِّظُون4 في مسمى البدعة.
باب تقسيم البدع الى الأحكام الخمسة
باب تقسيم البدع الى الأحكام الخمسة ... وقوم قسموها إلى: محرم، ومكروه، ومباح، ومستحب، وواجب، وذكروا
قول عمر: "نعمت البدعة"1، وقول الحسن2: "القصص بدعة، ونعمت البدعة، كم فيها من أخ مستفاد، ودعاء مستجاب"3. وقال الشافعي4: "البدعة بدعتان، بدعة: خالفت كتاباً، أو سنة، أو إجماعاً، أو قول صاحب، فهذه ضلالة، وبدعة: لا تخالف ذلك فهذه حسنة"5. قالوا: وثبت بالإِجماع استحباب ما يسمى بدعة كالتراويح، وذكروا حديث: "من سن سنة حسنة"6.
لكنهم لا يكادون يضبطون الفرق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة، فهذا يَسْتَحسِنُ ما يَذُمُّه الآخر. [القول بأن البدعة هي ما نهي عنه لعينه وبيان ما يلزمه] وبعضهم قال: "البدعة هي: ما نهي عنها لعينها1، وما لم يرد فيه نهي لا يكون بدعة ولا سنة". فلازم قولهم: تعطيل معنى قوله: "كل بدعة ضلالة" حيث قابلوا2: التعميم بالتقسيم، والإثبات بالنفي، ولم يبق فائدة لقوله: "كل محدثة بدعة"، بل يبقى بمنزلة قوله: كُلُّ ما نهيتكم عنه ضلالة. لكن عمدتهم ما يقوم من الأدلة على حُسْنِ بعض ما سَمَّوْهُ بدعة، من إجماع، أو قياس. وهذه طريقة مَنْ لم يتقيَّد بالأثر إذا رأى حقا ومَصلحةً، مِنْ مُتَكَلِّمٍ وفقيهٍ وصُوفي، فتراهم قد يَخْرُجُونَ إلى ما يخالف النَّصَّ، ويتركون واجباً ومُستحبًّا، وقد لا يَعرفون بالنَّص، فلا بد من العلم بالسُّنَن. أمّا ما صحّ فيه النهيُ فلا نزاع في أنّه منهيٌ عنه، وأنه سيّئ كما أن ما صَحّ فيه الأمر فهو شرع وسُنة. وأما من خالف باجتهاد، أو تأويل، فهذا ما زالَ في الأعصار.
فأوَلُ ذلك بدعةُ الخوارج1، حتى قال أولهم2 للنبي: صلى الله عليه وسلم: "اعدل"3. فهؤلاءِ يُصَرِّحُون بمخالفة السنة المتواترة، ويقفون مع الكتاب، فلا يرجمون الزاني، ولا يَعتبرون النَصَابَ في السّرقة4، فبدعتهم تخالف السنن المتواترةَ. وغالب من يخالف مذاهب السلف في الأُصول والفروع، إنّما يُخالفها لاعتقاده أن ذلك مخالف للنُّصوص والعقل.
قال الإمام أحمد: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"1. وبعض الصحابة ردَّ حديث: "الميِّتُ يُعذَّب ببكاء أهله عليه"2، وحديث: مخاطبة أهل قليب بدر3، وحديث: [بروع بنت واشق] 4 في مهر المُفَوِّضة5،
وحديث: بنت قيس في عدم السُّكْنى والنَّفَقة للمَبْتُوتة1. وظهر في خلافة علي بدعة الخروج2، والرفض3، وطعن الصحابة بعضهم في بعض، وذلك خلاف الكتاب والسنة.
[بدعة القدر والجبر ومخالفتهما للكتاب والسنة] ثم ظهر في حدود السَّبْعين بدعةُ القدر1، كذبوا بالعلم، أو بالمشيئة العامّة، وذلك مخالف للكتاب والسنة. وجاءت الجَبريَّة2 فجعلوا العبد مجبوراً لا حكم عليه، فهذه أيضاً بدعة مخالفة لما في الكتاب من الأمر والنَّْهي، والوعد والوعيد، وإثابة المُحْسِن، وعقوبة الظالم. فالأوَّلُون كذَّبوا بخروج العصَاة من النّار3، وأحاديث الشفاعة، ومن الأخيرين يقولون: لا عذاب، وإن الإيمان لا يتفاوت. [بدعة الجهمية] ثم وجدت بدعة الجهّمِيّة4، والكلام في الله، فأنكروا الكلام والمحبَّة، وأن يكون كَلَّمَ موسى، أو اتخذ إبراهيم خليلا، أو أنَه على العرش استوى، وذلك مخالف للنصوص.
[بدعة التشبيه] فنشأ من شَبَّه الباري، وجعل صفاته كصفاتنا، فخالفوا الكتاب والسُّنَّة. [البدع الكفرية] ثم حدث في دولة المأمون1 ما هو من البدع الكفرية، كالخُرَّميَّة2، والقرامطة3، وتعطيل الشرائع، وأن ذلك رموز، فلم يرتَبْ مُسْلِم في كفرهم. فالمُتَّبعُ ضد المُبتَدِعَ، لأن المتَّبِع [لم يخرج] 4 من حدود متبوعه. [و] 5 المبتدع أحدث أمراً على غير مثال، قال الله تعالى:/ {بَدِيعُ السَّمَاوَات} 6 أي:"مبدع"، وقيل: "بديع سماواته وأرضه، ومنه: بديع الجمَال، وكلام بديع أي: لم يعهد له نظير".
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يَنْهَ عن كل أمر ابتدأه مبتدئ، وأحدثه محدث. كمن1 مَرّ إلى فَسَقَةٍ، أو كُفَّارٍ فدعاهم، ووعظهم، بل هو المَعْنِيُّ بقوله عليه السلام: "من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من اتَّبعه"2 الحديث.، وبقوله: "من سَنَّ سُنَّة حسنة"3. وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 4. وليس المراد بقوله: "من سَنَّ سُنَّة" أنه يبتدع عبادة أو قولاً لم يأذن الله به.
باب تقسيم السنة إلى حسنة وسيئة من حيث اللغة
باب تقسيم السنة إلى حسنة وسيئة من حيث اللغة ... [السنة الحسنة والسنة السيئة] ومن السُّنة الحسنة؛ ما فعله عمر بن عبد العزيز5 من رد المظالم، وأخذه من الأمراء أموالا6. ومن السُّنَّةِ السَّيِّئَةِ؛ ما فعله الحجَّاجُ7 من أَيمان البيعة، وجرأته على الدِّمَاءِ بمُجَرِّدِ شبهة، فإنه أحدث أموراً قبيحة.
ولهذا عَظَّمَ العلماء من قدر الشافعي، وأحمد1، والجنيد2، وأمثالهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم سَنُّوا في الإسلام سنَّةً حسنة، وأماتوا بدعاً سيِّئَة. قال عليه السلام: "إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها" 3. فمن لم يُفرِّق بين ما ابتدعه الجعد4، وغيلان5، والجهم6، وبين
ما أحياه عمر بن عبد العزيز1، والحسن2، وأيوب3، والأوزاعي4، لم يفقه. وإن كان الكُلُّ في اللغة قد ابتدعوا وشرعوا. بل كًلّ نبيٍّ له شِرْعَة ومنهاج بإذن ربه، وإنَما ذمَّ الله مَنْ شرع ديناً لم يأذن به الله. [المراد بقول عمر: نعمت البدعة] ومن ذلك قول عمر: "نِعْمت البدعة"5؛ لأنها بدعة في اللغة لا في العُرف الشَّرعي. ومن بدعة اللًّغة: جَمْعُ المصحف، وشَرَح الله لذلك صدرَ عمر، وزيد6، وأبي بكر، ثم عثمان. [المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"] فقوله: "كُلًّ بدعة ضلالة" ليس المراد كل ما سمي في اللغة بدعة، ويوضحه قوله: "وشَر الأمور محدثاتُها" 7 فكلاهما في العرف صار لما يذَمّ.
[كمال الدين وعدم الحاجة إلى الابتداع] وديننا بحمد الله تام كامل مرضيٌّ، قالت تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1, وقوله عليه السلام: "ما تركت من شيء يُقرِّبكم إلى الجنَّة ويبعدكم عن النار إلاّ وقد حدَّثْتُكُمْ به" 2. فأيُّ حاجة بنا بعد هذا إلى البدع في الأعمال والأقوال؟ قال ابن مسعود: "اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدعوا فقد كفيتم"3. واتِّبَاع الشرع والدين متعيِّن، واتّباع غير سبيل المؤمنين بالهوَى وبالظَّنِّ وبالعادات المردودة مَقْتٌ، وبِدْعة. اللهمَّ اصرف قلوبنا إلى طاعتك.
قيل: إن أويساً القَرَني1 قال لهَرم بن حَيّان2: "سَلِ الله أن يُصلح قلبك ونِيَّتَك، فإنّي ما عالجتُ شيئاً عليَ أشد من صلاح قلبي ونِيَّتي"3. وفي مُسْلم4 عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نَبيٍّ إلا كان له من أُمَّتِه حواريون، وأنصار يستَنُّونَ بسُنَّتِه، ويَتَّبعون هديَه، ثم يَخْلُف من بعدهم خُلُوفٌ5 يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن6، ليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خردل".
وفي البخاريّ1 حديث: "من عَمِل عملاً ليس عليه أَمرُنا فهو رَدّ" ولو كانت البدعة مُستَحَبَّةً لكانت مَقبولة. وقد أَمَرَ بأشياء لم تكن على عهده صل ى الله عليه وسلم، أو لم تُعمل لعدم الحاجة إليها، أو لانتفاء شرط الفعل، ووجود مانعه، مثل: قتال أهل الرِّدةِ2، وقتال المجوس3، والتُّرْك4، وياج5، والخوارج6، وكأمره بإطاعة أمراء الجور،
والصلاةِ خلفَهم1، وكشروط عمر عَلىَ الذِّمَّةِ2، وكانَ عليه السلام أَقرَّ يهود خيْبَر لفِلاَحَتِها بلا جَزية، ثمَّ أجلاهم عمر، وضرب عليهم الجزية3. وكذا نزول ابن مريم حكما عدلاً، فيكسر الصَّليب، ويقتُل الخنزير، ويضع الجزية4، وإنَّما يفعل ذلك بأمر نبينا صلى الله عليه وسلم5. وكذلك ما يفعله المؤمنون في اليوم الطويل، زمَنَ الدَّجَّال في كثرة الصلوات في قوله: " [اقدروا] 6 له قدره"7.
وكذلك أمْرهُ بالقعودِ في يوم الفتنة، وبالفرار إلى الجبَال في غَنَمِه1ِ، وباتِّخاذِ سيف من خشب2. وكُلُّ ذلك بحسب الأحْوالِ، على ما دَلَّتْ عليه النُّصُوص والعُمُومَات. ومن ذلك: إذْنُه في دُخول حمَّاماتِ الأعاجم للرجل بمِئْزَرٍ، ومَنع المرأة منه، إلاَّ المريضة، والنُّفَسَاء3، فََلاَ يُقَالُ: دُخُولُ الحمَّام بَدعة، فما كان في الحجاز حَمَّامٌ4. وكذلك المطاعم، والملابس، والدور، والزّيُّ5، قال الله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} 6، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 7.
ولمَّا عَافَتْ نفسه الزْكِيَّةُ أكْلَ الضَّبِّ ما حرَّمَه، واعتذر بأنْ لم يَكُنْ بأرض قومه1، وكان يُحبُّ الحلوى2، والحُلُوَ البَارد3، واللَّحْم4، وأكَلَ الدّجَاج5، والرُّطَبَ، والقِثَّاءَ6، والطَّيِّبَاتِ التي بأَرضه، وتَزَوَّجَ ببضعِ عشْرةَ امرأة، ولَبسَ القميصَ7، والعِمَامَةَ8 والجُبَّةَ الضيِّقَة9، وركبَ الفرس10،
والنَّاقةَ1، والحِمَار2، والبَغْلَةَ3، ولا كان مع ذلك يُكْثِرُ من التَّنَعُّمِ والرَّفاهِيَة، وما خُيِّر بين اثنين أمرين إلاّ اختار أيسرهما4 صلوات الله عليه وسلامه. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} 5. وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 6. فاحْذَرِ الورَعَ الفاسِدَ، ولا تَكُنْ عَبْدَ شَهَوَاتِكَ. وكان يَمْرَضُ ويَتَداوَى، ويَحرص على أدْويةٍ نافعة، وعلى الحِجَامَةِ7. ومما أًحْدِثَ: تَمْصِيُر الكوفةِ8، والبصْرة9، والمناير10، ووضْعُ الدَّواوين11، وخزائن الأموال12، وأمثال ذلكَ مما فعله الخلفاء الراشدون، والأئمة، أو الأمَّةُ كلُّها.
و [إن] 1استدَلَّ مُتَكَلم على من أَنكر عليه بعض حجاجه، ومسائله، بأنَه بدعة؛ لأنَّ السلف لم ينقَل عنهم نهيك عن هذا، فلابُدَّ أن تجيبه بأن السًلفَ ما احتاجوا إلى النَهي، ودَلَتِ النُّصُوصُ على النَّهْىِ، فالنَهْي حَسَنٌ. وأيضاً فإذا كان الَفعل بدعة، والبدعة ضلالةٌ، فهذا تناقض. فالفعل إن ثبت حُسْنُه بأدلَّةٍ شَرعيَّةٍ، فالنَّهْيُ عنه بِدعةٌ، وإن لم يَدَّل عليه الشرع فهو بدعة، والنَّهْي عنه سُنَة. ورُبمًا كان فَصْلُ الخطاب، أنَّ بعض الفعل حَسَن، وبَعْضُه سيّئ، مثاله: النَظَر والمُنَاظَرَةُ، فالجدالُ بالحسنى حَسَنٌ، ومِنْه مَذْمُومٌ، قال الله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} 2، وقال تعالى يجمع الأمرين: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} 3 فمن جادل في الحق بعد ما تبين فهو مَذْمُوم، سواء قصد نصر إمَامِه، أو هَوَاه، وجادل بلا علم. ومنه قوله عليه السلام في السُّنَنِ: "القُضاةُ ثلاثة: قاضيان في النَّارِ وقاضٍ في الجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الحق فقَضَى به فهو في الجنَّةِ، ورجلٌ قَضَى على جهلٍ فَهو في النارِ، ورَجُلٌ عَلِمَ الحَقَّ فقَضَى بخلافه، فهو في النَار" 4
وكذلك الْمُفْتِي، والشَّاهد، والمفتي1، والمصنِّف، والمحدِّث، فمن تكلم بلا علم فجاهل، أو حَادَ عن الحقِّ فظالم، أو تكلم بعلم فله أجران إنْ أَصابَ، أو أجرٌ إِنْ أخطأ. فمن جادل الخَصْمَ بحُجَجٍ صَحِيحة دَلَّ عليها النَّصُّ أو الإِجماع عند الحاجَةِ فَهُو مُحْسِنٌ إن صَلحت نِيَّتُه، وذلك من فُروض الكفايات والنّهْي عنه عدوان. ومن جادل بلا حُجج، وأعرض عن النُّصُوص، ومَشَى مع رأيِهِ وهواه كما يفعله كثير من المتكلّمين، فهو من المذمومين لاسيَّما إذا أوقعه2 حِجاجُه في التزام ما3 يخالف الكتابَ والسُّنَّة، ونَهْيُه سُنَّةٌ حسنةٌ، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 4، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5.
[ما ينبغي للعالم فعله تجاه النوازل من المسائل] فعلى العالِمِ أن يُفَتِّشَ على المسألة النازلة في كتاب الله، فإن لم يجد فَتَّشَ السًّنَن، فإن لم يجد نَظَرَ في إجماع الأمَّةِ. وهذا هو المجتهد المطلق، وأَنَّى يُوجدَ ذلك. [الاستدلال بتركه، أو إقراره مع علمه صلى الله عليه وسلم] ومن الدّليل على مسائل عِدَّة: تركُهُ، أو إقرَاره مع علمه عليه السلام بالمسألة كما يُسْتَدل بتركه الزكاة في الخضروات التي بالمدينة على عدم الوجوب1، وبتركه نَْهيَه للحَبَشَة عن الزَّفْن2 في المسجد على الرُّخْصةِ3، وبترك التأذين في العيد والكسوف، والاستسقاء على عدم الاستحباب4، وأنه ليس بدين فما أمسك عن فعله، أو5 الأمر به والنَّدْب, مع قيام المقتضي دَلَّ على أنه ليس بَحَسَن ولا بِرٍّ.
وما أُحدِثَ بعده، وكَانَ بنا إليه حاجَةٌ فحَسَنٌ كفرض1 عمر للصحابة وغيرهم2، وكالتراويح3، وجَمْعِ الناس على مُصحف4. ثم خَلَف قومٌ اعْتَدوا في الجُوع، والسَّهَرِ، والرَّهْبَانِيَّةِ، وفي المسائل، والسماع، وفي بَذْلِ بُيوت الأموال لمَن شاءوا، ومَنْعِ المستحق، وتعدَّوا في العقوبات، والجور، واحْتَالُوا على الرِّبا، وبالغوا في نفيِّ الصِّفَات، أو في إثْبَاتها، وتَنَطَّعُوا، وزيّدوا5، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله. وقد يَفْعَلُ المُسْلِمُ بعضَ الأمور بنَوْعِ تَأْويلٍ فيخطئ، والله يغفر له، وقد يتوبُ، وينقاد للحق، أو له حَسَنات مَاحية. وقد كَثُر المنكر والمُحْدَث، فَليَنْهَ6 الفقيهُ عَمَّا أمْكَنَ من البدع بنِيَّةٍ خالصة، وليحذر7 الغضبَ، فإن الفُرقة هَلَكَةٌ والجماعة رحمة. ويروى "أنه ما ابتدع قوم بدعة إلاّ رفع منهم من السنة مثلها". [المشروع في استماع القرآن وأقسام من أعرض عنه] شَرَعَ الله استماع القرآن، ونَدَبَ إليه، وذَمَّ من يُعرضُ عنه. فأعرض قوم
عن حقيقته وفَهْمِه الذيَ يخشع له القلب، ثم صاروا لونين: لوناً1: فتنوا واقتصروا على ظاهره، وعلى تلاوتِه أمانيّ كأهل الكتاب. ولوناً: طلبوا رقَّةَ قلوبهم بسماع غيره كالرُّهبان. وكُلٌ من الطائفتين يقول للأخرى: لستم على شيء. ولا رَيْبَ مع كل منهما نوع من المشروع. [وقوع التفريط في مسمى السنة والشرع] وكذا وقع التفريطُ في مُسَمَّى السُّنَّةِ، حتى أخرج عنها بعضُ مسمَاها2 وعُدَّ بدعة، وأُدخل فيها ما ليس منها بخبر منها قول شاذ. وكذلك الشّرع أدخل في مُسَمَّاه أشياء في العبادات، والمعاملات، والأنكحةِ، والعقوبات، وغير ذلك مما فيه اختلاف فصار الشرع عند العَامِّي عبارة عَمَّا يحكم به قاض وإن كان جاهلا. أمَّا الشَّرْعُ المُنَزَّل فما ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. وأما الشرع المُبَدَّل، كما يصدر من جهة الحًكَّام، والوكلاء3، فالمنزَّل واجب، والثاني شائع4، والثالث منهيُ عنه. الطيّبَات، أحلها الله لنا وحَرَّمَ الخبائث. فأما اليهود فبِظُلمٍ منهِم حَرَّم الله عليهم طيبات، وحمل عليهم آصارا ً كما
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ} 1 الآية. فالمُحَرَّمُ خبيث: كالدِّم، والميْتَةِ، وأكْلِ مالٍ بالظُّلمِ، كالرِّبا، والقِمَار، وأكْلِ السم، والسِّبَاع، والرَّخَم، وكُلِّ حيوان خبيث الغِذَاء، إذ الاغتذاء به يورث الطبع بغيا، واعتداء. وكذا الدَّم هو الحامل للاغتذاء به، يورث الطبع بغياً واعتداء، لقوة الشّهوة، والغضب، وكذا الخمر، فالمحرمات تَضرّ المزاجَ والدِّينَ أو أحدهما. [حد المعروف والمنكر] وكذا من أكل فوق عادته يتضرر به، فالمعروف2: كل صلاح وعدل وخير، والمنكر: كل فساد وبغي وظلم وفحش. [حد الطيب والخبيث] والطيب: كل حلال مريّ هنيّ، من كسب طيب. والخبيث: كل حرام وبيِّ نكدٍ مؤذٍ، من كسب مُحَرَّم، قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ3 أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 4 وفي الحديث:
"الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو مما عفي" 1. [سماحة شريعتنا ورفع الآصار والأغلال عن هذه الأمة] ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث بالحنيفيّةِ السَّمحةِ، وبوضعِ الآصار والأغلالِ، وبإباحة طيبات كثيرة حُرِّمت على أهل الكتابين، فلله الحمد على دين الإسلام الحنيفي، فإنّه يسر، ورفق، ورحمةٌ للعالمين. فأباح الله لنا الغنائم2، ولَحْمَ الإبل3، ومواكلةَ الحائض4، وأَباح لنا
العمل في السَّبْت1، وأربعاً من الزوجات، وعِدَّة من السراري2، والعفو عن أثر الغائط3، والتطهير بالتراب، والصلاة في الأرض إلا المقبرة والحمام4، ولطف بنا في أشياء كثيرة، ووعدنا بإجابة الدعاء5، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 6. وشرع لنا نبينا كُل عبادة تقربنا إلى الله، وعلّمنا ما الإِيمان، وما التوحيد.
وتَركنا على البيضاء ليلها كنهارها، فأيُّ حاجةٍ بنا إلى البدع في الأقوال، والأعمال، والأحوال، والمحدثات. ففي السنة1 كفاية وبركة، فيا ليتنا نَنْهَضُ ببعضها علماً وعملاً، وديانة، ومعتقداً. [تفاوت البدع في الشر والخبث] فَشَرُّ البدع وأخبثُها ما أخرجَ صاحِبَها من الإِسلام، وأوجبَ له الخلود في النَّار، كالنُصيْرِية2، والباطِنِيَّةِ3، ومن ادّعى4 نُبَوَّةَ عَليٍّ، ثم بعدهم غلاة الرافضة5، وغلاة الجهمية6، والخوارج7، وهؤلاء مُتَرَدَّدٌ في كفرهم. وكذا مَنْ صرّح بخلقِ القرآن، أو جَسَّم، أو جحد الصفات، أو شَبَّه الله بخلقه.
فهل يصح بعد ذلك أن يشيد بانتقال النصيرية أو بعضهم إلى عقائد الإمامية، ويعدُّ ذلك خطوة في طريق تصحيح عقائد النصيرية، وهل هذا منهم إلا انتقال من غلو مقيت إلى غلو مثله، أو هو إضافة غلو إلى ما عندهم من الغلو. وينبغي أن يتنبه إلى أن للمؤلف في هذه الطبعة الثانية إضافات في مواضع أخرى على ما في الطبعة الأولى، زلّ فيها قدمه - عفا الله عنا وعنه -، فندّها فضيلة شيخنا الدكتور علي بن محمد بن ناصر فقيهي في الدراسة التي أعدّها فضيلته عن طبعتي الكتاب وما وقع فيه المؤلف من مجانبة للحق فيما زاده في الطبعة الثانية في مواضع، نشرت هذه الدراسة في العدد (101-102) من مجلة الإسلامية سنة 1414-1415. 3 الباطنية: لقب اصطلاحي تندرج تحته اتجاهات لطوائف وفرق مختلفة، القاسم المشترك فيما بينها، أو الصفة العامة التي تجمعها: تأويل النص الظاهر بالمعنى الباطن. قال الغزالي:" إنما لقّبوا بالباطنية لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللّب من القشر، وذكر لهم ألقاب أخرى. انظر في شأنها: البغدادي: الفرق بين الفرق: 181، والشهرستاني: الملل والنحل: 1/192، والغزالي: فضائح الباطنية: 11، واليافعي: ذكر مذاهب الفرق اثنتين وسبعين: 89، والاسفرائيني: التبصير في الدين:140، وصابر طعيمه: دراسات في الفرق: 75. 4 في الأصل: "الدعى"وهو خطأ. 5 تقدم التعريف بهم: (103) وفي الأصل (الرفضة) . 6 تقدم التعريف بهم: (104) . 7 تقدم التعريف بهم ص: (101) .
ثم دونهم: القدرية1، ودعاة المعتزلة2، ومَنْ ينقص3 بأبي بكر وعمر4، ثم من تنقّص بعثمان، وعلي، وعمّار، وعائشة رضي الله عنهم5. ثم دونهم الشيعة الذين يُحبّون الشيخين، وُيفَضِّلون علياً عليهما6، والزيدية7. فبدع العقائد تَتَنَوَّع أعاذك الله وإيَّانا منها. وخلائق من كبار العلماء رحمةُ الله عليهم بَدَّعَ بعضُهم بعضاً، من الشافعيةِ، والحنفيةِ، والحنابلةِ، وأهلِ الأثرِ، وأهل الكلامِ، ومثبتةِ الصفات 1 وهم القائلون بنفي القدر وأن الله لم يقدر أفعال العباد ولم يخلقها، وتقدم أن روَّادَ هذا القول هم: سنسويه، ومعبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ثم تبنَّاه المعتزلة ولُقِبوا بالقدرية لذلك. انظر ص (104) . 2 المعتزلة: سمّوا بذلك نسبة إلى الاعتزال وهو: الاجتناب، وسبب تسْميتهم بذلك أن مقدمهم واصل بن عطاء (80-131هـ) لما أحدث القول بأن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر وأنه في منزلة بين المنزلتين، اعتزل مجلس شيخه الحسن البصري (110هـ) وأخذ يقرر مذهبه هذا ويدعو إليه، فسمّي هو ومن اعتزل معه بالمعتزلة انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/48. وزهدي جار الله، المعتزلة: ص 2. 3 كذا بالياء. 4 وممن يتنقّص منهم الرافضة، فلهم فيهما أقوال شائنة أدناها تأخيرهما عن مرتبتهما، وأعلاها القول بتكفيرهما وبذلك تغلظت بدعتهم. 5 وهم الخوارج انظر: السجزي، الرد على من أنكر الحرف والصوت: ص 218. 6 وهؤلاء هم المفضِّلة إحدى طواف الشيعة قال. شيخ الإسلام ابن تيمية: عن شيعة علي: "كانوا ثلاث طوائف: طائفة: غلت فيه كالتي ادّعت فيه الألوهية، وهؤلاء حرَّقهم بالنار. وطائفة: كانت تسبّ أبا بكر, وكان رأسهم عبد الله بن سبأ، فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب. وطائفة كانت تفضّله على أبي بكر وعمر، قال - أي علي رضي الله عنه -: "لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدَّ المفتري". الفتاوى: 4/407. 7 الزيدية: إحدى فرق الشيعة. قال الأشعري: "وإنما سمُّوا"زيدية" لتمسكهم بقول"زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،..... وكذا زيد بن علي يُفضّل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور". المقالات: 1/136.
القرآنية لا الخبرية1، ومثبتةِ السبع2 دون غيرها، ومثبتةِ ما ثبت من3 الأخبار دون ما حَسُن، على اختلاف آرائهم، ومبالغة بعضهم في التنزيه، والتأويل، أو مبالغة بعضهم في الإقرارِ والإمرارِ، وذَمِّ التأويل، فبَيْنَ هؤلاء نزاع، وخلاف شديد مع إيمانهم الكل4 بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث، والقدر، والانقياد5 للكتاب، والصحاح، والإِجماع، وتعظيم الرّب، وإجلاله، ومراقبته، والانقيّاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والخضوع له، والمحافظة على الفرائض، والطهارة، والابتهال إلى الله في الهدى والتوفيق، مع الذكاء والعلم. وبعضهم يتعجّب من بعض كيف خالف في تأويل6 الصفات، كما يتعَجَّبُ الآخر منه ومن سعة علومه كيف جمد على إثباتها وأَقَرَّهَا. وبعضهم يتعْجَّبُ مِنْ هؤلاء ومِن هؤلاء كيف لم يسكتُوا كما سكت الجمهور، وفوّضوا ذلك إلى الله ورسوله، حتى إن التلميذَ يتعجَّب من شيخه، والمفضولَ منهم مِنَ الأفضل، ونحن نرجو للجميع العفو والمغفرة، ويعد خطأهم7 مع بذل
الوسع، وحسن النية في الأصول والفروع شيئاً واحداً1، أعني أرباب هذا النوع، الذين لا مَحِيْدَ لهم عن الكتاب والسًّنة. [بدع العبادات والعادات] وأمَّا بدَعُ العبادات، والعادات، فخطبها يسير، وكتلاوة2 جماعة بتطريب3، وأذانهم4، وصلاة النصف5، والحلاوة فيه، وأمثال ذلك من الشعارات، والهيئات، والنِّيَّات، والحوادث وأشباه ذلك، ولكنّ الخير كله في الإتّباع واجتماع الكلمة.
إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرّهها السلف، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول - أي المانعين- إنما تتناول هذا الوجه". انظر: زاد المعاد: 1/484-493. 4 التطريب في الأذان: هو التغني به بحيث يؤدي إلى تغيير كلماته وكيفياتها، ونقص بعض حروفه، أو زيادة فيها محافظة على توقيع الألحان. فهذا - بدعة - لا يحلّ إجماعاً. والأذان الجماعي: هو المعروف بالأذان السلطاني، وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك، ولا خلاف في أنه مذموم مكروه لما فيه من التلحين والتغني وإخراج كلمات الأذان عن أوضاعها العربية وكيفياتها الشرعية. انظر: علي محفوظ، الإبداع في مضار الابتداع: ص 176. 5 لعل مراد المؤلف: صلاة النصف من الشعبان. وهي من البدع التي أحدثت، وقد رويت أحاديث في فضل هذه الصلاة كلها موضوعة. انظر: ابن الجوزي، الموضوعات: 2/127. وراجع عن هذه البدعة: الطرطوشي، الحوادث والبدع: 261-267. ورسالة "التحذير من البدع" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: ص 11-16.
[مشابهة أهل الذمة في أعيادهم وحكم ذلك] أما مشابهة الذِّمة في الميلاد1، والخميس2، والنيروز3، فبدعة وحشة. فإن فَعلها المسلم تديُّناً فجاهل، يزجر وُيعَلَّم، وإن فعلها حُبّاً [لأهل الذِّمة] 4 وابتهاجاً بأعيادهم فمذموم أيضاً، وإنْ فعلها عادةً ولعباً، وإرضاءً لعياله، وجبراً لأطفاله فهذا محل نظر، وإنما الأعمال بالنيَّات، والجاهل يُعذر ويبين له برفق، والله أعلم. وكتبت هذه النسخة من خط مُؤلِّفها الحافظ الذهبي وقوبلت على خطِّه.
والنيروز: أول أيام السنة الفارسية، ويستمر خمسة أيام بعده. ويحتفل أقباط مصر بالنيروز، وهو أول سنتهم، وهو المعروف بعيد شم النسيم. قال المؤلف رحمه الله في رسالة "تشبه الخسيس بأهل الخميس" ص 46: "فأما النيروز، فإن أهل مصر يبالغون في عمله، ويحتفلون به، وهو أول يوم من سنة القبط، ويتخذون ذلك عيداً، يتشبه بهم المسلمون وهو أول فصل الخريف". راجع عن هذا اليوم: الخطط للمقريزي:1/494. والأزمنة والأمكنة، للمرزوقي: 2/288. ومقدمة عبد السلام هراس لكتاب النيروز لأبى الحسين أحمد بن فارس، ضمن كتاب: نوادر المخطوطات: 2/4 وما بعدها. 4 في الأصل العبارة هكذا: (حبّا لله ذمه ... ) .